دراسات علمیة - 18 : مجلة نصف سنوية تعنى بالأبحاث التخصصية في الحوزة العلمية

هویة الکتاب

الهيأة العلمية

نخبة من أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف

رئيس التحرير

السيد جواد الموسوي الغريفي

هيأة التحرير

السيد علي البعاج

الشيخ محمد الجعفري

الشيخ قاسم الطائي

- دراسات علمية -

العنوان: مجلة دراسات علمية / العدد الثّامن عشر

الطبعة: الأولى

تاريخ الطبع: 2021 م -- 1442 ﻫ. ق

الكمية: 2000 نسخة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1614 لسنة 2011

صورة الغلاف: أنموذج من المخطوط المطبوع في هذا العدد بخط الفقیه الکبیر الشیخ حسین الحلی (قدس سره)

ص: 1

اشارة

دراسات علمية

مجلة نصف سنونية تصدر عن المدرسة العلمية الاخون الصغرى في النجف الأشرف

تعنى بالابْحَاتِ التَّخَصُصِيَة في الحوزة العلمية

العدد الثامن عشر. شعبان المعظم 1442 ﻫ.

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾

التوبة 122

ص: 3

الأُسس المعتمدة للنّشر

1. ترحّب المجلَّة بإسهامات الباحثين الأفاضل في مختلف المجالات التي تهمّ طالب الأبحاث العليا في الحوزة العلميّة من الفقه والأُصول والرجال والحديث ونحوها.

2. يُشترط في المادّة المُراد نشرها أُمور:

أ. أنْ تكون مستوفية لأُصول البحث العلميّ على مختلف المستويات (الفنّيّة والعلميّة) من المنهجيّة والتّوثيق ونحوهما.

ب. أنْ تكون الأبحاث مكتوبة بخطّ واضح أو (منضَّدة).

ت. أنْ توضع الهوامش في أسفل الصّفحة.

ث. أنْ يتراوح حجم البحث بين (12) و(50) صفحة من القطع الوزيريّ بخطٍّ متوسّط الحجم، وما يزيد على ذلك يمكن جعله في حلقتين أو ثلاث - بحسب نظر المجلَّة - شريطة استلام البحث كاملاً، ويمكن للمجلّة في ما زاد عن ذلك أن تنشره مستقلّا ً مع نشر قسمٍ منه في بعض أعدادها.

ج. أنْ لا يكون البحث قد نُشر أو أُرسل للنّشر في مكان آخر.

ح. أنْ يُذيَّلَ البحث بذكر المصادر التي اعتمدها الباحث.

3. يخضع البحث لمراجعة هيئة علميَّة ولا يُعاد إلى صاحبه سواء أنُشر أم لم يُنشر.

4. للمجلَّة وحدها حقّ إعادة نشر البحوث الّتي نشرتها.

5. يخضع ترتيب البحوث المنشورة في المجلَّة لاعتبارات فنّيّة لا علاقة لها بمكانة الكاتب أو أهميّة الموضوع.

6. ما يُنشر في المجلَّة لا يعدو كونه مطارحات علميّة صرفة، ولا يُعبّر بالضّرورة عن رأي المجلَّة.

ص: 4

المحتوی

السّنة التّاسعة - العدد الثّامن عشر

كلمة العدد

هيئة التّحرير............................................................................................... 7

التّطوّع بالصّلاة النّافلة في وقت الفريضة

الشّيخ مرتضى المشرفاويّ (دام عزه)...........................................................................11

سنّ البلوغ في الأنثى/ 2

الشّيخ وسام عبد الرّسول (دام عزه)..........................................................................69

استثناء الواقف المنافع لنفسه/2

الشّيخ أمجد رياض (دام عزه).................................................................................. 113

دلالة الفعل على الزّمان

الشّيخ محمّد رضا الأحمديّ (دام عزه)......................................................................... 167

القرائن المعنويّة العامّة وأثرها في الدّلالة (مناسبة الحكم والموضوع أنموذجاً)/2

الشّيخ عليّ الجزيريّ (دام عزه)................................................................................227

رسالتان في الكرّ من إفادات الفقيه المتألّه آية الله الميرزا مهديّ الأصفهانيّ (قدس سره)

تحقيق: مجلّة دراسات علميّة............................................................................. 297

ص: 5

ص: 6

کلمة العدد

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين والصّلاة والسّلام على النّبيّ الأمين محمّدٍ وآله الطّاهرين.

وبعد، دأبنا في الأعداد السّابقة للمجلّة على أن نوافي مجتمع قُرّائها والمهتمّين بموضوعاتها بأفضل ما تجود به أقلام أفاضل المشتغلين بالتّأليف والبحث في دائرة اهتمام المجلّة من البحوث والدّراسات في العلوم الشّرعيّة، وفي هذا العدد نواصل تتبّع ذلك في ظلّ أجواء ترزح فيها معظم بلدان العالم تحت وطأة وباء كورونا الّذي ما زالت آثاره السّيّئة تجهد صحّة كثيرٍ من الأفراد وتقيّد حركات عموم المجتمع وتغيّر أسلوب الحياة والنّشاط في جميع محافظات البلاد للعام الثّاني على التّوالي، وإنْ كنّا نظنّ أنّ بعض الأنشطة الّتي تتطلّب تفرّغاً وركوداً في الحركات اليوميّة وشواغلها قد تؤتي أُكلَها وتتبلور للعيان في مثل هذه الظّروف، فكم من فكرةٍ لباحثٍ يبحث عن فراغٍ من وقتٍ ليتابعها، وبوادر أقلام تنتظر فسحةً من الزّمان لتتّصل بخوافيها وتنتظم في سلك موضوعها، فيؤتي ظرف الانقطاع عن النّشاط العامّ إنجازها وإكمالها.

ص: 7

ولا زالت المجلّة تحثّ في كلّ مناسبة وفرصة روّاد الكتابة ليكونوا من فرسانها، ومن يحدّثون أنفسهم لاقتحام ميدانها على استباق الفرصة لأقرب أعدادها؛ فإنّ الصّوارف عن جميل الأعمال لطالما حرمت أصحابها من عوائدها بعدما طال وقوفهم على التّهيّؤ لها دون المبادرة إليها، وإنّ الرّغبة تنادي بالعمل فإنْ أجابها وإلّا نسختها الصّوارف وارتحل العمل.

وفي هذا العدد الثّامن عشر تطالعنا خمسة بحوث وخاتمة في تحقيق مخطوطٍ لأحد الأعلام، ثلاثة منها في الفقه، الأوّل في التّطوّع بالصّلاة النّافلة في وقت الفريضة، والثّاني والثّالث تتمّة لما تقدّم في العدد السّابق في سنّ البلوغ الشّرعيّ لدى الأنثى وفي استثناء الواقف لمنافع العين الموقوفة من الوقف واستبقائها لنفسه.

والبحثان الآخران في علم الأصول، أحدهما دلاليّ يتناول دلالة الفعل على الزّمان بحسب المشهور بين النّحويّين ومناقشة الأصوليّين فيه، والآخر حلقة ثانية تتناول الدّلالة غير اللّفظيّة لبعض القرائن المعنويّة الحافّة والمتّصلة بالكلام مثل ما اعتاد الفقهاء على تسميته بقرينة (مناسبة الحكم والموضوع) الارتكازيّة.

وهذا العدد، وإن خلا من بحثٍ في مسألةٍ رجاليّةٍ، فإنّه لم يخلُ من ذكر واحدٍ من رجالات العلم والتّعريف به من خلال نشر أحد آثاره الفقهيّة المخطوطة محقّقاً في خاتمة العدد، وهو الفقيه المتألّه الميرزا مهديّ الأصفهانيّ (قدس سره) - أحد تلامذة المحقّق الكبير النّائينيّ (قدس سره) وأستاذ جملة من أعاظم العصر أشهرهم المرجع الأعلى السّيّد عليّ الحسينيّ السّيستانيّ (دام ظله العالی) - الّذي عُرف بموقفه المتصلّب من الاعتماد على علمي الفلسفة والعرفان في مقابل ما يُستفاد من منابع الوحي المتمثّلة في تُراث أهل البيت (علیهم السلام).

وفي الختام نشكر الله تعالى على ما ساعد عليه التّوفيق طيلة هذه السّنوات لنرى مجلّة دراسات علميّة تَتابع في الإصدارات حتّى وصلت إلى هذا العدد، فلولا ذلك

ص: 8

التّوفيق وهمّة رجال فضلاء تتبّعوا شؤون إصدارها وتذليل الصّعاب المعترضة أمام المداومة والاستمرار في تعاهدها لما أمكن أن نكون هنا اليوم، ومن أولئك المخلصين فضيلة الشّيخ محمّد الماجديّ (رحمة الله) الّذي فجعنا قُبيل صدور هذا العدد برحيله إذ لم يمهله وباء كورونا كثيراً حتّى التحق بالرّفيق الأعلى. وقد كانت للفقيد مساهمة فاعلة في ضبط ومتابعة الجانب اللّغويّ لأعداد المجلّة لمدّة تزيد على نصف عمرها، فعلى الله أجره ومع النّبيّ وآله حشره ومقرّه.

ولا يُنسى أيضاً فضل اللّجنة العلميّة - مشكورةً - بأعضائها الّذين لا يزالون يرعون هذا المشروع ويرتفعون بمستوى البحوث الّتي فيه إلى درجةٍ تليقُ بمؤسّسةٍ عريقةٍ مثل الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف.

نسأل الله تعالى أن يظلّل على جميع المشتغلين بالرّحمة ويمدّهم بالرّغبة ويوفّقهم للعلم والعمل، فهو وليُّ النّجاح والتّوفيق.

هيئة التّحرير

النّجف الأشرف / شعبان المعظّم 1442 ﻫ.

ص: 9

ص: 10

التّطوّع بالصّلاة النّافلة في وقت الفريضة - الشّيخ مرتضى المشرفاويّ (دام عزه)

اشارة

تناط أهمّيّة البحث حول مسألة من المسائل بقدر ما لها من مساس بوظائف المكلَّف وابتلاءاته وما تعكسه من تأثير على حياته العمليّة.

والبحث الذي بين يديك - عزيزي القارئ - يسلِّط الضوء على مسألة حكم التطوّع بالصلاة في وقت الفريضة والّتي لها توجيه عمليّ مباشر على حياة المكلَّف، وقد سلكت فيه مسلك العرض والنقد والترجيح لآراء فقهائنا في المسألة، متكئاً على ما جادت به قرائح الأعلام (قدس سرهم) من القدماء والمتأخّرين من الأقوال في المسألة والأدلّة عليها.

ص: 11

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد، فإنّ البحث في المسائل ذات الطابع العملي في بعض جوانبها يحظى بمجال من الأهمّية لا سيّما مع تكرّر الابتلاء بها بشكل يومي في حياة بعض المكلّفين، ومن هذا القبيل مسألة التطوّع بالنافلة في وقت الفريضة، فإنّ القول فيها جوازاً أو منعاً ذو تأثير مباشر على سلوك الإنسان في هذا المجال.

والنظر المتفحّص في حدود ما حضرني من مصادر لكلمات فقهائنا المتقدّمين يفضي إلى عدم العثور على مصرّح منهم بالمنع وإن لاح من بعض كلمات القاضي ابن البرّاج، حيث قال: (وإذا زالت الشمس وصارت بعد الزوال على قدمين، ولم يكن المكلّف صلّى من نوافل الظهر شيئاً فينبغي أن يؤخّرها ويبدأ بالفريضة، وهكذا ينبغي أن يفعل في نوافل العصر مع فريضته إذا صار الظلّ بعد الزوال على أربعة أقدام)(1).

ص: 13


1- المهذّب: 1/72.

نعم، يظهر من بعض كلماتهم المنع في خصوص قضاء النافلة في وقت الفريضة، فقد قال الشيخ المفيد (قدس سره) : (وتقضى فوائت النوافل في كلّ وقت ما لم يكن وقت فريضة)(1)، وذكر الشيخ نحو هذه العبارة في النهاية(2)، وقال في المبسوط: (ومن فاته شيء من النوافل المرتّبة قضاه أيّ وقت ذكره ما لم يكن وقت فريضة)(3)، وقال في الوسيلة: (وأمّا قضاء النوافل فمستحبّ ما لم يكن وقت فريضة أو لم يلزمه قضاء فريضة)(4)، وقال في السرائر: (ومن فاته شيء من صلاة النوافل فليقضها أيّ وقت شاء من ليل أو نهار ما لم يدخل وقت فريضة)(5).

وعلى الرغم من حكاية جواز التنفّل لمن عليه فائتة عن الشيخ الصدوق، وابن الجنيد (رحمهما الله)، فقد قال السيّد في المدارك: (واختلف الأصحاب في جواز التنفّل لمن عليه فائتة، فقيل بالمنع.. وقيل بالجواز، وهو اختيار ابن بابويه، وابن الجنيد)(6).

وأوّل من وجدته مصرّحاً بالمنع، بل ومدّعياً عليه الإجماع هو المحقّق الحلّي (قدس سره) حيث قال: (وتصلّى الفرائض أداءً وقضاءً ما لم تتضيّق الحاضرة، والنوافل ما لم يدخل وقت الفريضة، وهو مذهب علمائنا.. وأمّا النوافل فلما روينا من الأحاديث

ص: 14


1- المقنعة: 212.
2- يلاحظ: النهاية: 62.
3- المبسوط:1/128.
4- الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 84.
5- السرائر : 1/ 203.
6- مدارك الأحكام:3/ 89 - 90.

المانعة من النافلة في وقت الفريضة)(1).

وتبعه عليه العلّامة (قدس سره) ، حيث قال: (لا يجوز لمن عليه صلاة فريضة أن يأتي بالنافلة قضاءً ولا أداءً)(2).

هذا، ولعلّ أوّل من فتح الباب لتبنّي القول بجواز النافلة في وقت الفريضة هو الشهيد الأوّل في الدروس والذكرى، وقد تابعه على ذلك المحقّق الثاني في جامع المقاصد(3)، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة(4) وجملة من متأخّري المتأخّرين.

قال في الذكرى: (اشتهر بين متأخّري الأصحاب منع صلاة النافلة لمن عليه فريضة، وقد قدّمنا أخباراً تشهد بجواز ذلك)(5) ثمّ إنّه بعد أن ذكر مستنده على الجواز من الأخبار، ذكر أدلّة المانعين وأجاب عنها بقوله: (والجواب: لمّا تعارضت الروايات وجب الجمع بالحمل على الكراهية في هذا النهي، وبنفي الصلاة الكاملة في الخبر الثاني)(6)، ويقصد به قوله (علیه السلام) : (لا صلاة لمن عليه صلاة)(7).

وعلى كلّ حال المهمّ هو النظر في أدلّة المسألة لنرى أيّ القولين حريّ بالاختيار.

ص: 15


1- المعتبر: 2/60.
2- تذكرة الفقهاء: 2/364.
3- يلاحظ: جامع المقاصد: 2/23 - 24.
4- يلاحظ: مجمع الفائدة والبرهان: 2/42.
5- ذكرى الشيعة: 2/402.
6- المصدر السابق: 2/403.
7- أورده الشيخ مرسلاً في المبسوط والخلاف، يلاحظ: المبسوط: 1/127، الخلاف: 1/386.

وقبل الشروع في البحث نذكر تمهيداً نافعاً في تحديد محلّ النقض والإبرام في كلمات الأعلام.

تمهيد

ونتناول فيه ثلاثة أمور:

1 - ذكر الفقهاء (رضوان الله علیهم) بأنّ وقت الظهرين ما بين الزوال والمغرب، ويختصّ الظهر بأوّله بمقدار أدائها بحسب حاله، ويختصّ العصر بآخره كذلك. وما بين المغرب ونصف الليل وقت للمغرب والعشاء، ويختصّ المغرب بأوّله بمقدار أدائه، والعشاء بآخره كذلك. وما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس وقت الصبح.

ووقت فضيلة الظهر من الزوال إلى بلوغ الظلّ الحادث بعد الانعدام، أو بعد الانتهاء مثل الشاخص، ووقت فضيلة العصر من المثل إلى المثلين على المشهور، ووقت فضيلة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشفق - أي الحمرة المغربية -، ووقت فضيلة العشاء من ذهاب الشفق إلى ثلث الليل، ووقت فضيلة الصبح من طلوع الفجر إلى حدوث الحمرة في المشرق(1).

2 - لا إشكال في جواز أداء النوافل المرتّبة اليومية عند دخول وقت الفريضة ما لم يتضيّق وقت فضيلتها، وإنّما الكلام في جواز الإتيان بالنوافل غير المرتّبة من المبتدأة وذوات الأسباب قبل الإتيان بالفريضة التي حضر وقتها، وكذا يدخل في محلّ الكلام صورة مزاحمة النافلة الراتبة اليومية للفريضة التي تضيّق وقت فضيلتها.

ص: 16


1- يلاحظ: العروة الوثقى: 2/ 248 وما بعدها.

فالمراد بالنافلة في الروايات المستدلّ بها في محلّ الكلام إمّا خصوص الراتبة كما يشهد له الأمر بقضائها في جملة منها(1) أو الأعمّ منها ومن المبتدأة.

ومع هذا يكون المراد بوقت الفريضة في تلك الروايات بحسب الظاهر هو وقتها الذي أمر فيه بأن يبدأ بالفريضة ويترك عنده النافلة، وهو بالنسبة إلى الظهرين بعد الذراع والذراعين، فالمستفاد من الروايات أنّ التطوّع قبل الذراع والذراعين خارج عن موضوع الأخبار الناهية عن التطوّع في وقت الفريضة.

3 - المقصود بالنهي عن التطوّع في وقت الفريضة هو النهي عنه ما دامت الذمّة مشغولة بالفريضة لا مطلقاً؛ ضرورة أنّه يجوز التطوّع في وقت الفريضة بعد أدائها نصّاً وفتوىً، فالوقت في حدّ ذاته صالح للتطوّع ولكن اشتغال الذمّة بالفريضة أثّر في المنع عنه(2).

ثمّ إنّ الظاهر من كلمات بعض من تعرّض للمسألة من فقهائنا أنّ النزاع ومحلّ الأخذ والردّ هو الحكم التكليفي، كما ينادي بذلك لسان القائلين بالجواز، فقد حمل الشهيد في الذكرى(3) أخبار المنع من النافلة لمن عليه قضاء فريضة على الكراهة، كما أنّ هذا هو المناسب للسان الأدلّة، فإنّ الأصل في الأوامر والنواهي الواردة في لسان

ص: 17


1- كما في رواية نجبة عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قلت له: تدركني الصلاة أو يدخل وقتها فأبدأ بالنافلة؟ قال: فقال: (لا، ولكن ابدأ بالمكتوبة، واقض النافلة)، تهذيب الأحكام: 2/ 178، ح662. وكذلك ما رواه الشيخ الصدوق (رضوان الله علیه) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في حديث الأربعمائة وسيأتي ذكره.
2- يلاحظ: مصباح الفقيه: 9/ 320 - 321.
3- يلاحظ: ذكرى الشيعة: 2/403.

الشارع هو حملها على المولوية وتأسيس الحكم التكليفي، كما ربّما هذا هو مراد المانعين من النافلة في وقت الفريضة، حيث استدلّوا بالأدلّة الآمرة بالبدء بالفريضة إذا دخل وقتها مدّعين بأنّه يدلّ على النهي عن النافلة عند دخول وقت الفريضة، ومن القريب جدّاً أن يكون مرادهم التمسّك بالملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.

ثمّ لا يخفى أنّ ثبوت النهي التكليفي عن العبادة يستلزم النهي الوضعي؛ للتلازم بين النهي عن العبادة وفسادها، فلا تستغرب من تعبير بعض الفقهاء بأنّ (تقديم الفريضة شرطاً في صحّة النافلة، كما هو من لوازم مذهب المانعين)(1) أو (إنّ تفريغ الذمّة شرطاً تعبّدياً لصحّة النافلة)(2).

ص: 18


1- مصباح الفقيه: 9/325
2- كتاب الصلاة (السيّد جمال الدين الكلبايكاني): 1/ 113.

الأقوال في المسألة

اشارة

وقد انقسمت أقوال علمائنا في مسألة التطوّع بالصلاة في وقت الفريضة على قولين رئيسيين:

القول الأوّل

عدم الجواز، وهو للمحقّق(1)، والعلّامة في جملة من كتبه(2)، وجماعة من المتأخّرين(3)، ونسبه في المدارك والحدائق إلى الشيخين(4)، وقد صرّح المحقّق بأنّه مذهب علمائنا(5)، كما صرّح الشهيد الثاني بأنّه المشهور بين المتأخّرين(6).

القول الآخر

الجواز، وهو مذهب الشهيدين(7)، وقد صرّح في الدروس بأنّه الأشهر(8).

ص: 19


1- يلاحظ: المعتبر: 2/ 60.
2- يلاحظ: نهاية الإحكام: 1/ 325، قواعد الأحكام: 1/ 247، تذكرة الفقهاء: 2/ 364.
3- يلاحظ: الحدائق الناضرة: 6/ 258، رياض المسائل: 2/ 62.
4- يلاحظ: مدارك الأحكام: 3/ 88، الحدائق الناضرة: 6/ 255.
5- يلاحظ: المعتبر: 2/ 60.
6- يلاحظ: روض الجنان: 2/ 36.
7- يلاحظ: الدروس: 1/ 142، روض الجنان: 2/ 38.
8- يلاحظ: الدروس: 1/ 142.

أدلّة القول الأوّل

اشارة

وقد استُدلّ لعدم الجواز بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما ورد بلسان الأمر بالبدء بالفريضة عند دخول وقتها

ويتمثّل ذلك بروايتين:

الأولى: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: سألته عن ركعتي الفجر قبل الفجر أو بعد الفجر؟ فقال: (قبل الفجر، إنّهما من صلاة الليل، ثلاث عشرة ركعة صلاة الليل، أتريد أن تقايس، لو كان عليك من شهر رمضان أكنت تتطوّع؟ إذا دخل عليك وقت الفريضة فابدأ بالفريضة)(1).

وقد قرّب السيّد الخوئي (قدس سره) الاستدلال بها بأنّ الأمر بالبدأة بالفريضة بعد دخول وقتها كالصريح في النهي عن التطوّع في وقت الفريضة، ثمّ إنّ المنع عن صوم النافلة لمن عليه صوم فريضة منع تحريم، فيكون المنع هنا كذلك.

لكنّه (قدس سره) ردّه بقوله: (إنّها وإن كانت ظاهرة في المنع إلّا أنّ موردها خصوص نافلة الفجر، لا مطلق التطوّع، وحيث قد دلّت نصوص أُخر على جواز الإتيان بها بعد طلوع الفجر - حسبما تقدّم في محلّه - فلا جرم يحمل النهي فيها على الكراهة ومجرّد المرجوحية؛ جمعاً بين النصوص. إذاً فلا يمكن الاستدلال بها على المنع حتّى في موردها فضلاً عن التعدّي إلى سائر الموارد.

هذا، ولا يبعد أن يكون قوله (علیه السلام) : (أتريد أن تقايس) إلخ مسوقاً لتعليم زرارة

ص: 20


1- تهذيب الأحكام: 2/ 141- 142، ح513.

كيفية الجدل والمناظرة مع خصومه من أبناء العامّة الذين يرون جواز الإتيان بالنافلة بعد طلوع الفجر مع التزامهم بحجّية القياس، وبما هو الصواب من عدم جواز التطوّع بالصوم ممّن عليه فريضته، بالنقض عليهم بالصوم جرياً على مسلكهم، لا أنّه بصدد الاستدلال بالقياس المعلوم عدم كونه من مذهبنا، فإنّه لا سبيل للاستدلال بما هو واضح البطلان في الشريعة المقدّسة)(1).

ومن النصوص التي أشار إليها (رضوان الله علیه) الدالّة على جواز الإتيان بالنافلة بعد طلوع الفجر صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : (صلّهما بعدما يطلع الفجر)(2).

وقد وافقه أحد الأعلام المعاصرين (دام ظله) على الجمع بينهما بحمل النهي الوارد في صحيحة زرارة على الكراهة؛ تطبيقاً لحمل الظاهر على النصّ(3).

ويمكن حمل ما دلّ على الإتيان بها قبل الفجر على أفضلية ذلك وإن دلّت نصوص أخر على جواز الإتيان بها بعد الفجر، كما في صحيحة ابن الحجّاج؛ دفعاً لتوهّم تعيّن الإتيان بها قبل الفجر الناشئ من وجود روايات تدلّ على أنّ وقتها قبل طلوع الفجر، كما في صحيحة زرارة المتقدّمة.

ويمكن ترجيح الحمل الثاني بأنّ الوارد في صحيحة زرارة: (قبل الفجر)، أي أنّ وقت ركعتي الفجر قبل الفجر، والوارد في صحيحة ابن الحجّاج: (صلّهما بعدما

ص: 21


1- موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 323 -333.
2- تهذيب الاحكام: 2/ 143، ح523.
3- يلاحظ: المباحث الفقهية (أوقات الصلاة): 3/ 289.

يطلع الفجر)، فيستقرّ التعارض بينهما، ولا يرتفع على الحمل الأوّل، إلّا إذا قلنا بأنّ المقصود من الفجر في صحيحة ابن الحجّاج هو الفجر الأوّل، والمراد منه في صحيحة زرارة هو الفجر الثاني، وهذا المعنى غير منظور لأصحاب الحمل الأوّل.

الأخرى: موثّقة زياد بن أبي غياث، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: سمعته يقول: (إذا حضرت المكتوبة فابدأ بها، فلا يضرّك أن تترك ما قبلها من النافلة)(1).

وهذا الحديث يعدّ من الموثّق، بناءً على أنّ الموجود في السند هو زياد بن أبي غياث الذي وثّقه النجاشي(2)، وأمّا لو كان الموجود هو زياد أبو عتاب - كما في بعض نسخ التهذيب(3) - فهو مجهول، ما يعني الخدشة في سند الرواية، إلّا أنّ ممّا يرجّح النسخة الأولى هو أنّ الراوي عن زياد بن أبي غياث هو ثابت بن شريح الصائغ الأنباري الذي وثّقه النجاشي(4)؛ فهو الراوي لكتاب زياد بن أبي غياث، كما هو واضح من طريق الشيخ والنجاشي إلى كتاب زياد(5)، وهذا مطابق للطريق في روايتنا، مضافاً إلى أنّ الشيخ قد نقل الرواية نفسها في الاستبصار(6) وفيها زياد بن أبي غياث، ممّا يرجّح أنّ (أبي عتاب) من سهو النسّاخ، فلا إشكال في سند الرواية.

ص: 22


1- تهذيب الأحكام: 2/ 265، ح984.
2- يلاحظ: رجال النجاشي: 171-172.
3- كما في ظاهر النسخة التي نقل عنها في الوسائل، يلاحظ: وسائل الشيعة: 4/ 227.
4- يلاحظ: رجال النجاشي: 116.
5- يلاحظ: رجال النجاشي: 171 - 172، الفهرست: 132.
6- يلاحظ: الاستبصار: 1/ 253، ح907.

إلّا أنّ فيها قصوراً من ناحية الدلالة، فإنّ أقصى ما تدلّ عليه هو مرجوحية النافلة في وقت الفريضة، واستحباب الابتداء بالفريضة، فلا يمكن حمل الأمر بالابتداء بالمكتوبة على الوجوب؛ إذ من المقطوع به عدم وجوب المبادرة بالفريضة في أوّل وقتها، وأنّ ترك النافلة قبل الفريضة غير قادح في صحّتها، فلا دلالة فيها على المنع، بل على هذا يكون الأولى الاستدلال بها على الجواز لا على المنع، فإنّ لسانها لسان المشروعية والجواز، كما نبّه على ذلك المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) (1).

الوجه الثاني: ما دلّ على النهي عن التطوّع في وقت الفريضة

وهو جملة من الروايات:

1- ما رواه الشهيد في الذكرى، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) : (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتّى يبدأ بالمكتوبة)(2).

وهذه الرواية واضحة الدلالة على المطلوب، إلّا أنّ الإشكال فيها من ناحية السند، فلم تنقل في كتب الحديث، ولم نظفر بسندٍ لها لينظر تماميته وإن وصفها الشهيد بالصحّة، وظاهره أنّ له إليها طريقاً معتبراً عنده، إلّا أنّه لا ملازمة بين الصحّة عنده وبين الصحّة عندنا؛ لاحتمال استنادها إلى حدسه واجتهاده بحيث لو وصلنا مدركه لناقشنا فيه، فهي بالإضافة إلينا مرسلة، كما صرّح بذلك بعض الأعلام المحقّقين (قدس سره) (3).

ص: 23


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 329.
2- ذكرى الشيعة: 2/ 422.
3- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 325.

2 - ما رواه في الذكرى، عن زرارة أيضاً، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) : أصلّي نافلة وعلَيّ فريضة أو في وقت فريضة؟ قال: (لا، إنّه لا تُصلّى نافلة في وقت فريضة، أرأيت لو كان عليك من شهر رمضان أكان لك أن تتطوّع حتّى تقضيه؟)، قال: قلت: لا، قال: (فكذلك الصلاة)، قال: فقايسني وما كان يقايسني(1).

وقد احتمل في الجواهر(2) - وتبعه بعض المحقّقين(3) - أنّها صحيحة زرارة المتقدّمة في الطائفة الأولى بعينها، وقد رووها بالمعنى، كما يومئ إليه عدم ذكر هذا النصّ في الكتب الأربعة، وعلى تقدير كونها رواية أخرى فلا يمكن الاعتماد عليها؛ لنفس الإشكال السندي المتقدّم.

3 - ما رواه في السرائر نقلاً عن كتاب حريز بن عبد الله، عن زرارة، قال: قال أبو جعفر (علیه السلام) : (لا تصلّ من النافلة شيئاً في وقت الفريضة، فإنّه لا تقضى نافلة في وقت فريضة، فإذا دخل وقت فريضة فابدأ بالفريضة)(4).

وتقريب دلالتها أنّ النهي عن النافلة فيها شامل بعمومه لمحلّ الكلام.

ولكن من الواضح أنّ موردها النوافل الرواتب؛ لوضوح اختصاص القضاء بها، ولا إشكال في جواز أداء الرواتب عند دخول وقت الفريضة، فلا يمكن التمسّك بعموم النهي عن النافلة فيها، فيختصّ النهي الوارد في الرواية بقضاء

ص: 24


1- ذكرى الشيعة :2/ 424.
2- يلاحظ: جواهر الكلام: 7/ 248.
3- يلاحظ: مصباح الفقيه: 9/ 318.
4- السرائر: 3/ 586.

النافلة في وقت الفريضة.

وأمّا من ناحية السند فهذه الرواية أيضاً لا يمكن الاعتماد عليها؛ لمجهولية طريق ابن إدريس إلى كتاب حريز.

ولكن قد يقال: بأنّ كتاب حريز من الكتب المشهورة المعروفة الانتساب إلى أصحابها، فلا نحتاج إلى تصحيح طريق الشيخ ابن إدريس إليه، ويدلّ على شهرته ما ذكره الشيخ الصدوق (قدس سره) في مقدّمة الفقيه حيث قال: (وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع، مثل كتاب حريز بن عبد الله السجستاني)(1).

وورد في صحيحة حمّاد بن عيسى أنّه قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام) يوماً : (تحسن أن تصلّي يا حمّاد؟) قال: قلت: يا سيّدي، أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة، قال: فقال (علیه السلام) : (لا عليك قم صلّ)(2).

وذكر المجلسي الأوّل (قدس سره) بأنّه: (يفهم من عدم منعه (علیه السلام) عن العمل به جواز العمل به؛ لأنّه لو كان فيه باطل لمنعه عن العمل.. قال: فقال (علیه السلام) لا عليك) أي لا بأس عليك في العمل به، لكن (قم فصلّ) عندنا حتّى يحصل لك العلم، أو لا بأس عليك في الصلاة عندنا وإن كنت حافظاً لكتابه، والأوّل أظهر لفظاً، والثاني معنىً)(3).

ص: 25


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 3.
2- من لا يحضره الفقيه: 1/ 300، ح915.
3- روضة المتّقين : 2/ 262.

ويمكن الخدش فيما ذكر: بأنّ أقصى ما يدلّ عليه ذلك هو شهرة الكتاب إلى زمان الشيخ الصدوق (قدس سره) والزمان المقارب له، وبينه وبين زمان ابن إدريس (قدس سره) فاصل طويل لا نحرز فيه بقاء شهرة الكتاب بين الأصحاب، خصوصاً مع تأليف المجاميع الحديثية المبوّبة من قبل المحمّدين الثلاثة (قدس سرهم) التي اعتمدها الأصحاب، واهتموا بها، ونتيجة لذلك قلّ اهتمامهم بالأصول الأربعمائة ونسخها، بل إنّ كلَّاً من الشيخ الطوسي والنجاشي حينما ترجما له لم يذكرا أنّ كتبه من الكتب المشهورة وإن ذكرا أنّها من الأصول(1).

ودعوى أنّ ابن إدريس (قدس سره) لمّا لم يكن عاملاً بأخبار الآحاد فاعتماده عليها كاشف عن وصولها إليه بطريق متواتر أو بما هو كالمتواتر في كونه مورثاً للقطع بالصدور، ومعه كان إخباره بمثابة الإخبار عن حسٍّ، فتكون رواياته عن حريز وأضرابه في حكم المسانيد لا المراسيل.

قد أجاب عنها السيّد الخوئي(2)

(قدس سره) بأنّ أقصى ما يترتّب على هذه الدعوى هو أنّ ابن إدريس كان معتقداً اعتقاداً باتّاً بأنّ ما وصل إليه باسم كتاب حريز كان هو كتابه حقّاً، لكن من الواضح أنّ اعتقاده حجّة له بخصوصه، ولا ينفع غيره ممّن لا يعتقد ذلك، فهو المأمور بالعمل به لا غير، ومن الضروري أنّ مجرّد قطعه بذلك الناشئ عن القرائن الحدسية الاجتهادية لا يستوجب عدّ خبره من الإخبار عن حسٍّ لتشمله أدلّة حجّية الخبر.

ص: 26


1- يلاحظ: الفهرست: 118، رجال النجاشي: 145.
2- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 327.

مضافاً إلى أنّ الشيخ ابن إدريس (قدس سره) كان قد أورد هذه الرواية في جملة الروايات التي رواها من كتاب حريز، ولا قرينة على عمله بها، ومن الواضح أنّه لا تنافي بين رواية خبر الواحد وبين عدم العمل به.

4 - رواية نجبة، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) : تدركني الصلاة أو يدخل وقتها فأبدأ بالنافلة؟ قال: فقال: (لا، ولكن ابدأ بالمكتوبة، واقض النافلة)(1).

وقد ناقش المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) في سندها باعتبار أنّ الشيخ (قدس سره) قد رواها عن الطاطري، عن محمّد بن مسكين، عن معاوية بن عمّار، عن نجبة، لا كما نقلها في الوسائل عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن محمّد بن مسكين، فإنّ هذا سهو من قلمه الشريف، وطريق الشيخ إلى الطاطري ضعيف(2).

إلّا أنّ الشيخ (قدس سره) قد رواها في موضع آخر من التهذيب(3) عن معاوية بن عمّار عن نجبة. وطريق الشيخ إلى معاوية بن عمّار صحيح، وهو كما ذكره في الفهرست: (أخبرنا بذلك جماعة عن أبي جعفر ابن بابويه، عن ابن الوليد، عن الصفّار، عن محمّد ابن الحسين بن أبي الخطّاب، عن ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى، عنه)(4)، كما أنّ معاوية بن عمّار ثقة(5).

ص: 27


1- تهذيب الأحكام: 2/ 178، ح662.
2- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 19/ 330.
3- يلاحظ: تهذيب الأحكام:2/ 264، ح983.
4- الفهرست: 166.
5- يلاحظ: رجال النجاشي: 411.

اللهم إلّا أن يقال: بأنّ الطريق المذكور طريق إلى اسم الكتاب والعنوان الكلّي، لا أنّه طريق الى إثبات الروايات المدونة في الكتاب.

وأمّا نجبة فالظاهر أنّه نجبة بن الحارث، وقد حكى الكشّي، عن حمدويه، عن محمّد بن عيسى، أنّه شيخ صادق كوفي صديق عليّ بن يقطين(1).

وأمّا من ناحية الدلالة فإنّ الأمر بقضاء النافلة قرينة على إرادة النافلة المرتّبة من لفظ النافلة الوارد فيها؛ لاختصاص القضاء بها دون غيرها من النوافل، ومن الواضح مشروعية النافلة المرتّبة، وصحّتها في وقت الفريضة، بل هو الوقت المرسوم لها، ولا يمكن الالتزام بمدلول النهي الوارد فيها حتّى مع حمله على الكراهة؛ لوضوح استحباب النافلة المرتّبة قبل الفريضة. نعم، نافلة المغرب غير مشروعة قبل فريضتها، إلّا أنّ الإتيان بها بعد الفريضة لا يعدّ قضاءً، فإنّ وقتها بعد الفريضة، ومن هنا تكون الرواية مجملة(2)، ولا بدّ من ردّ علمها إلى أهلها.

5 - رواية أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: (إذا دخل وقت صلاة مفروضة فلا تطوّع)(3).

وهذه الرواية ليس في سندها من يتوقّف فيه إلّا أبا بكر الحضرمي؛ فإنّه لم ينصّ على وثاقته، إلّا أنّ ابن شهرآشوب كان قد عدّه من خواصّ أصحاب الإمام

ص: 28


1- يلاحظ: اختيار معرفة الرجال: 2/ 748.
2- يلاحظ: المباحث الفقهية (أوقات الصلاة): 3/ 301.
3- تهذيب الأحكام: 2/ 177، ح660.

الصادق (علیه السلام) (1)، وهو مذكور في كامل الزيارات(2)، وتفسير عليّ بن إبراهيم(3).

فلا بدّ من البناء على صحّة الرواية عند من يقول بالاعتماد على كلّ من ورد اسمه في كتاب ابن قولويه، أو في كتاب عليّ بن إبراهيم (قدس سرهما) (كما هو مبنى السيّد الخوئي)(4).

وأمّا دلالتها فإنّ إطلاق النفي فيها يدلّ على نفي مشروعية النافلة في وقت الفريضة.

إلّا أنّ السيّد الخوئي (قدس سره) قد استقرب بأنّ المنهيّ عنه فيها هو التنفّل في وقت فضيلة الفريضة، لا الأعمّ منه ومن وقت الإجزاء؛ لأنّ المنصرف من التطوّع في مثل هذه الأخبار هو النوافل المرتّبة، وهي ممّا يقطع بجواز الإتيان بها بعد دخول وقت الفريضة وقبل الإتيان بها، فهي - إذاً - أخصّ من المدّعى(5).

6 - معتبرة إسماعيل الجعفي، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: (أتدري لمَ جعل الذراع والذراعان؟) قلت: لا، قال: (حتّى لا يكون تطوّع في وقت مكتوبة)(6).

وإسماعيل المذكور في سندها مردّد بين إسماعيل بن جابر الجعفي، وإسماعيل بن

ص: 29


1- يلاحظ: مناقب آل أبي طالب: 4/ 281.
2- يلاحظ: كامل الزيارات: 8.
3- يلاحظ: تفسير القمّي: 1/ 162.
4- يلاحظ: معجم رجال الحديث: 1/ 49 - 50.
5- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 331.
6- وسائل الشيعة:4/ 229، الباب 35 من أبواب المواقيت، ح11

عبد الرحمن الجعفي، والأوّل له كتاب(1)، وهو أكثر رواية من الثاني، فينصرف الإطلاق إليه، وقد وثّقه الشيخ في رجاله(2).

ودلالة الروايات المتقدّمة هي أنّها بإطلاقها تنفي مشروعية النافلة في وقت الفريضة بألسنتها المختلفة من النهي والنفي المتعلّقين بصلاة النافلة والتطوّع في وقت الفريضة، ومقتضى إطلاق النفي والنهي الواردين في لسان الشارع هو التحريم.

7 - موثّقة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: (قال لي رجل من أهل المدينة: يا أبا جعفر، ما لي لا أراك تتطوّع بين الأذان والإقامة كما يصنع الناس؟ قال: فقلت: إنّا إذا أردنا أن نتطوّع كان تطوّعنا في غير وقت فريضة، فإذا دخلت الفريضة فلا تطوّع)(3).

وهي على قراءة ما بعد (لا) فعلاً تكون ظاهرة في الحرمة، أمّا لو قرئ اسماً فهي تدلّ على نفي المشروعية، ثمّ إنّ هذا التركيب يدلّ على العموم، كما هو مقرّر في علم الأصول(4).

8 - ما رواه الشيخ الصدوق (قدس سره) في حديث الأربعمائة عن عليّ (علیه السلام) ، قال: (لا يصلّي الرجل في وقت فريضة إلّا من عذر، ولكن يقضي بعد ذلك إذا أمكنه القضاء، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ يعني الذين يقضون ما فاتهم من

ص: 30


1- يلاحظ: رجال النجاشي:33.
2- يلاحظ: رجال الطوسي: 124.
3- تهذيب الأحكام: 2/ 177- 178، ح661.
4- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 46/ 305 وما بعدها.

الليل بالنهار، وما فاتهم من النهار بالليل، لا تقضي النافلة في وقت فريضة، ابدأ بالفريضة ثمّ صلّ ما بدا لك)(1).

ودلالتها واضحة، وأمّا من ناحية السند فقد قال الشيخ الصدوق (قدس سره) حدّثني أبي، قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدّثني محمّد بن عيسى اليقطيني، عن القاسم بن یحیی، عن الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: حدّثني أبي، عن جدّي، عن آبائه (علیهم السلام) أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) علّم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب ممّا يصلح للمسلم في دينه ودنياه...إلخ).

والقاسم بن يحيى لم يرد فيه توثيق صريح بالرغم من أنّه معنون في كتب الرجال، بل قد ضعّفه ابن الغضائري(2)، إلّا أنّه قد يقال بوثاقته - بغض النظر عن هذا التضعيف - لوجهين:

الأوّل: رواية الأجلّاء عنه، حيث روى عنه أحمد بن محمّد بن عيسى، وإبراهيم ابن هاشم، ومحمّد بن عيسى اليقطيني، كما في هذه الرواية، بل هؤلاء الثلاثة كلّهم من رواة كتابه، كما يظهر من طريق الصدوق(3) والشيخ(4)، والنجاشي(5) إليه.

الآخر: ما ذكره السيّد الخوئي (قدس سره) من: (أنّه لا يبعد القول بوثاقة القاسم بن

ص: 31


1- الخصال: 628.
2- يلاحظ: رجال ابن الغضائري: 86.
3- يلاحظ: من لا يحضره الفقيه:4/ 490.
4- يلاحظ: الفهرست: 202.
5- يلاحظ: رجال النجاشي: 316.

يحيى؛ لحكم الصدوق بصحّة ما رواه في زيارة الإمام الحسين (علیه السلام) ، عن الحسن بن راشد، وفي طريقه إليه: القاسم بن يحيى، بل ذكر أنّ هذه الزيارة أصحّ الزيارات عنده رواية(1) مع أنّ في جملة الروايات الواردة في الزيارات ما تكون معتبرة سنداً، ومقتضى حكمه مطلقاً بأنّ هذه أصحّ رواية يشمل كونها أصحّ من جهة السند أيضاً)(2).

وعلى تقدير ثبوت وثاقته إلّا أنّها معارضة بتضعيف ابن الغضائري، وبناءً على الأخذ بتضعيفات ابن الغضائري(3)، يقع التعارض، ويتساقطان، فلا يبقى دليل على الوثاقة.

نعم، لو قلنا بعدم ثبوت تضعيفاته - باعتبار التشكيك في صحّة نسبة الكتاب المتداول إلى ابن الغضائري(4) - فلا بدّ من الأخذ بالتوثيق.

ولكن الظاهر أنّ تضعیفات ابن الغضائري ثابتة(5)، فيمكن الأخذ بها.

وأمّا الحسن بن راشد فالظاهر أنّه هنا أبو محمّد مولى بني العبّاس بقرينة رواية القاسم بن يحيى عنه؛ لأنّه حفيده ويروي عنه كثيراً(6)، وهو من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) (7)، وفي هذه الرواية روى عن المتقدّمين من أصحاب الإمام (علیه السلام) ، ولا

ص: 32


1- يلاحظ: من لا يحضره الفقيه: 2/ 595 - 598، ذيل ح3200.
2- معجم رجال الحديث: 15/ 68.
3- يلاحظ: رجال ابن داود: 25.
4- يلاحظ: بحار الأنوار: 1/ 41.
5- يلاحظ: قبسات من علم الرجال: 2/ 88.
6- يلاحظ: معجم رجال الحديث: 5/ 312 - 313.
7- يلاحظ: رجال الطوسي: 181.

يحتمل أن يراد به الحسن بن راشد البغدادي الثقة(1)؛ باعتبار أنّه من أصحاب الإمامين الجواد والهادي (علیهما السلام).

والحسن بن راشد لا نصّ على وثاقته، بل ضعّفه ابن الغضائري(2).

نعم، ما تقدّم من الشيخ الصدوق (قدس سره) شامل للحسن بن راشد أيضاً، ومن هنا يقع التعارض بينه وبين تضعيف ابن الغضائري، فيتساقطان.

9 - رواية أديم بن الحرّ، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (لا يتنفّل الرجل إذا دخل وقت فريضة) قال: وقال: (إذا دخل وقت فريضة فابدأ بها)(3).

وقد نوقش في دلالتها: بأنّ الأمر بالابتداء بالفريضة في ذيلها ليس للوجوب قطعاً، بل هو إرشاد إلى إدراك فضل الوقت، فكذا يكون النهي للإرشاد، فحيث يكون الأمر للاستحباب فكذلك النهي المقابل له للكراهة، حيث إنّ المستفاد من مجموعها هو الاهتمام بالفريضة والإرشاد لإدراك فضل وقتها، فالنهي عن النافلة يكون لعدم تفويت وقت الفضيلة، لا لمفسدة في أصل النافلة(4).

ولكنّ الظاهر أنّ الأمر ورد بخطاب مستقلّ، فلا يمكن جعله قرينة على صرف النهي عن ظهوره الأوّلي.

10 - التمسّك بإطلاق ما أرسله الشيخ المفيد، عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : (لا صلاة لمن

ص: 33


1- يلاحظ: معجم رجال الحديث: 5/ 313.
2- يلاحظ: رجال ابن الغضائري: 49.
3- تهذيب الأحكام: 2/ 178، ح663.
4- يلاحظ: كتاب الصلاة (السيّد جمال الدين الكلبايكاني): 1/ 113.

عليه صلاة)(1)، وقد رواه الشيخ الطوسي(2) أيضاً، وبما ورد في نهج البلاغة من قوله (علیه السلام) : (لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض)(3) فهي تدلّ بعمومها على المنع من النافلة في وقت الفريضة، خرجت منها الرواتب اليومية بالدليل، فيبقى الباقي داخلاً تحت العموم.

وفيه: أمّا النبويّ فهو مرسل ولا جابر له، وأمّا رواية نهج البلاغة فغير واضحة الدلالة؛ لأنّ الإضرار إنّما يصدق إذا كان الإتيان بالنافلة موجباً لفوت الفريضة.

الوجه الثالث: ما ورد بلسان النهي عن التطوّع لمن عليه قضاء فريضة

كما في صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور، أو نسي صلاة لم يصلّها، أو نام عنها، فقال: (يقضيها إذا ذكرها في أيّة ساعة ذكرها من ليل أو نهار، فإذا دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت، وهذه أحقّ بوقتها، فليصلّها، فإذا قضاها فليصلّ ما قد فاته ممّا قد مضى، ولا يتطوّع بركعة حتّى يقضي الفريضة كلّها)(4).

وهي بعد أن دلّت على النهي عن التطوّع لمن عليه قضاء فريضة فدلالتها على النهي عن التطوّع لمن عليه فريضة أدائية بطريق أولى(5).

ص: 34


1- عدم سهو النبيّ: 28.
2- يلاحظ: الخلاف: 1/ 386.
3- نهج البلاغة: 475.
4- تهذيب الأحكام: 2/ 285، ح1059.
5- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 324.

وفيه: أنّ الأولوية ممنوعة - خصوصاً على القول بالمضايقة في القضاء كما هو رأي جملة من الأعلام(1) - فالمذكور في الرواية حكم تعبّدي، فلا يمكن القطع بالأولوية في المقام، حتّى يستكشف منها الحكم الشرعي.

الوجه الرابع: الإجماع الذي ادّعاه المحقّق بظاهر عبارته في المعتبر

حيث قال: (تصلّى الفرائض أداءً وقضاءً ما لم تتضيّق الحاضرة، والنوافل ما لم يدخل وقت الفريضة، و هو مذهب علمائنا، وأمّا الفرائض فعليه إجماع أهل العلم)(2).

ولا يخفى أنّ الإجماع المدّعى محتمل المدركية إن لم يكن مدركياً.

ويمكن إبراز احتمال أنّ سبب ذهاب القدماء إلى القول بالحرمة هو التزامهم بمنع تأخير الفريضة عن وقت الفضيلة اختياراً، كما هو المعروف من مذهب الشيخين في المقنعة(3) والمبسوط(4).

ص: 35


1- يلاحظ: المقنعة: 211، المبسوط: 1/ 127، ونسبه في الحدائق الناضرة: 6/ 336 إلى الأكثر.
2- المعتبر: 2/ 60.
3- يلاحظ: المقنعة: 94.
4- يلاحظ: المبسوط: 1/ 72.

أدلّة القول الثاني

اشارة

وقد استُدلّ للجواز بستّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما دلّ على جواز التطوّع وقت الفريضة ما لم يخف فوات وقت فضيلتها

وهذا ما ورد في موثّقة سماعة، قال: سألته عن الرجل يأتي المسجد وقد صلّى أهله أيبتدئ بالمكتوبة أو يتطوّع؟ فقال: (إن كان في وقت حسن فلا بأس بالتطوّع قبل الفريضة، وإن كان خاف الفوت من أجل ما مضى من الوقت فليبدأ بالفريضة، وهو حقّ الله (قدس سره) ، ثمّ ليتطوّع بما شاء، ألا هو موسّع(1) أن يصلّي الإنسان في أوّل دخول وقت الفريضة النوافل إلّا أن يخاف فوت الفريضة، والفضل إذا صلّى الإنسان وحده أن يبدأ بالفريضة إذا دخل وقتها ليكون فضل أوّل الوقت للفريضة، وليس بمحظور عليه أن يصلّي النوافل من أوّل الوقت إلى قريب من آخر الوقت)(2).

فقد استدلّ بها القائلون بالجواز بعد حمل قوله (علیه السلام) : (إن كان في وقت حسن) على وقت متّسع، وقوله (علیه السلام) : (وإن كان خاف الفوت) على خوف فوت وقت الفضيلة، بقرينة ما ذكره في الحدائق(3)، وقبله في الحبل المتين(4) من أنّ في قوله: (وقد صلّى أهله) نوع إيماء إلى أنّه لم يمض من وقت صلاتهم إلى وقت مجيء ذلك الرجل

ص: 36


1- في الوافي: 7/ 362، (الأمر موسّع).
2- الكافي: 6/ 74 - 75، باب التطوّع في وقت الفريضة..، ح3.
3- يلاحظ: الحدائق الناضرة: 6/ 264.
4- يلاحظ: الحبل المتين: 153.

إلّا زمان يسير؛ فإنّ (قد) تقرّب الماضي من الحال، فالرواية دالّة على المطلوب في أكثر من فقرة من فقراتها، أوّلها في قوله (علیه السلام) : (إن كان في وقت حسن فلا بأس بالتطوّع قبل الفريضة).

ثمّ إنّ قوله: (الأمر موسّع..) صريح في جواز الإتيان بالنافلة في وقت الفريضة، كما أنّ قوله (علیه السلام) : (والفضل إذا صلّى الإنسان وحده..) صريح في كون الابتداء بالفريضة وترك النافلة فضلاً لا واجباً.

وبهذا يظهر أنّ ما احتمله في الجواهر(1) - من كون قوله: (والفضل..) من عبارة الكليني (رضوان الله علیه) مع مخالفته للظاهر - غير قادح في الاستدلال؛ فإنّ ما تقدّمه كافٍ في إثبات المطلوب، فإنّه كالصريح في جواز التطوّع في وقت الفريضة ما لم يخف فوتها.

ثمّ إنّ هذه الزيادة موجودة برواية الشيخ لهذا الحديث من كتاب العطّار(2).

وقد قرّب المحقّق الهمداني (قدس سره) دلالتها بقوله: (نعم، لو كانت هذه الفقرة من تتمّة الحديث - كما هو الظاهر - لكان لها نحو حكومة على الأخبار التي ورد فيها الأمر بالبدأة بالفريضة وترك النافلة عند حضور وقتها، مع ما فيها من الإشارة إلى علّة الحكم واختصاصه بما إذا لم يكن الراجح تأخيرها لانتظار الجماعة، كما أنّ في

قوله (علیه السلام) في الفقرة السابقة: (وهو حقّ الله) إشارة إلى أنّ الأمر بالبدأة بالفريضة عند خوف فواتها لأجل أهمّيّتها من النافلة، لا عدم صلاحيّة الوقت من حيث هو للنافلة،

ص: 37


1- يلاحظ: جواهر الكلام: 7/ 243.
2- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 2/ 283، ح1051.

أو كون تقديم الفريضة شرطاً في صحّتها، كما هو من لوازم مذهب المانعين)(1).

إلّا أنّ المحقّق البحراني كان قد أجاب عن الاستدلال بهذه الرواية بأنّ: (إمعان النظر في معنى الرواية وسياقها صريح في إرادة النوافل الراتبة خاصّة، فأجاب الإمام (علیه السلام) بأنّه إن كان إتيانه في وقت حسن - يعني يسع الراتبة ولو مخفّفة - فلا بأس بالتطوّع بها قبل الفريضة، وإن كان يخاف فوت الوقت - أي وقت فضيلة الفريضة لو اشتغل بالنافلة لما مضى من الوقت - فليبدأ بالفريضة)(2).

ولكن من الواضح أنّ هذا الحمل لا شاهد له من الرواية، إلّا أن يقال بانصراف إطلاق النافلة للراتبة التي تتكرّر يومياً، لا سيّما مع دخول لام التعريف عليها، إلّا أنّ هذا الانصراف ناشئ من استعمال اللفظ في الفرد المتعارف، ولكن اللفظ المطلق يشمل الفرد النادر كشموله للمتعارف.

الوجه الثاني: ما دلّ على جواز التطوّع في وقت الفريضة غير أنّ الابتداء بالفريضة أفضل

وهو صحيحة محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) : إذا دخل وقت الفريضة أتنفّل أو أبدأ بالفريضة؟ فقال: (إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة وإنّما أخّرت الظهر ذراعاً من عند الزوال من أجل صلاة الأوّابين)(3).

فإنّها ظاهرة في جواز التطوّع في وقت الفريضة غير أنّ الابتداء بالفريضة عند

ص: 38


1- مصباح الفقيه: 9/ 325.
2- الحدائق: 6/ 264.
3- الكافي: 6/ 76، باب التطوّع في قوت الفريضة..، ح5.

دخول وقتها من باب الاستحباب، إلّا في الظهرين فإنّ وقت نافلة الظهر من الزوال إلى الذراع والعصر إلى الذراعين، كما نصّت الروايات(1)، وعليه المشهور(2).

وقوله (علیه السلام) : (وإنّما أخّرت الظهر) يحتمل أن يكون مسوقاً لدفع التنافي بين استحباب البدأة بالفريضة عند حضور وقتها، واستحباب التنفّل قبلها في أوّل الوقت ببيان تأخّر وقتها عن أوّل الوقت بمقدار الذراع لمكان النافلة.

ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود بيان أنّ الظهر متأخّرة عن وقتها الأصلي بمقدار ذراع، فلا ينبغي تأخيرها أزيد من ذلك.

ويحتمل أيضاً أن يكون استدراكاً عمّا تقدّمه بأن يكون المراد بالرواية بيان أنّ الفضل إنّما هو بالبدأة بالفريضة حين حضور وقتها، أي المسارعة إلى فعلها في أوّل الوقت، ولكن أخّرت الظهر بمقدار ذراع عن أوّل وقتها لأجل صلاة الأوّابين، التي هي لدى الشارع كالفرائض من المهمّات التي لا يجوز تركها، وقد صرّح بذلك كلّه المحقّق الهمداني (قدس سره) (3).

وقد جعل السيّد الخوئي (قدس سره) هذه الصحيحة شاهداً على حمل النصوص المتقدّمة الناهية عن التطوّع في وقت الفريضة على الكراهة والمرجوحية، أو على حمل النهي المتعلّق بالتنفّل في وقت الفريضة على الإرشاد إلى اختيار أفضل المتزاحمين، بعد أن كان كلّ من التطوّع والفريضة متزاحمين وكانت مصلحة أوّل الوقت أهمّ وأقوى من

ص: 39


1- يلاحظ: وسائل الشيعة: 4/ 141.
2- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 238.
3- يلاحظ: مصباح الفقيه: 9/ 326.

مصلحة التنفّل(1).

الوجه الثالث: ما ورد من الترخيص في التنفّل بعد دخول وقت الفريضة لمن ينتظر الجماعة

كما في موثّقة إسحاق بن عمّار، قال: قلت: أصلّي في وقت فريضة نافلة؟ قال: (نعم، في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة)(2).

حيث يفهم من التفصيل بين المنفرد والمقتدي صلوح الوقت للتطوّع والفريضة مع أفضلية الابتداء بالفريضة، غير أنّ انتظار الجماعة لمّا اشتمل على مصلحة أرجح من مصلحة الوقت ارتفعت المزاحمة، وتنكير النافلة يومئ إلى أنّ المراد منها غير الراتبة.

الوجه الرابع: ما ورد من تفسير الوقت الممنوع فيه التطوّع بالوقت الذي يأخذ المقيم فيه في الإقامة

فقبله لا مانع، كما في صحيحة عمر بن يزيد، أنّه سأل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرواية التي يروون أنّه لا ينبغي أن يتطوّع في وقت كلّ فريضة ما حدّ هذا الوقت؟ فقال: (إذا أخذ المقيم في الإقامة)، فقال له: إنّ الناس يختلفون في الإقامة؟ قال: (المقيم الذي يصلّي معه)(3).

وقد ذكر المحقّق الهمداني (قدس سره) أنّ هذه الصحيحة حاكمة على الأخبار الناهية عن التطوّع في وقت الفريضة ومفسّرة لها، وظاهرها كون النهي المتعلّق به بصيغة (لا ينبغي) الظاهرة في الكراهة، ومقتضى تحديد ذلك الوقت بما إذا أخذ المقيم في الإقامة

ص: 40


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 336.
2- تهذيب الأحكام: 2/ 283، ح1052.
3- من لا يحضره الفقيه: 1/ 385، ح1136.

اختصاص المنع بهذه الصورة، وهذا ربّما ينافيه بعض تلك الأخبار ممّا هو نصّ في شمول المنع للمنفرد الذي لا يصلّي جماعة، فلا يبعد أن يكون المراد بهذه الصحيحة تحديد ذلك الوقت بالنظر إلى من ينتظر الجماعة، لا مطلقاً.

ويمكن إبقاء هذه الصحيحة على ظاهرها، وتنزيل الأخبار الدالّة على المنع في حقّ المنفرد على الإرشاد إلى ما هو الأصلح، كما ربّما يستشعر ذلك من بعض عبائرها، لا على الكراهة أو الحرمة، فليتأمّل.

وكيف كان فهي نصّ في جواز التطوّع بعد دخول وقت الفريضة في الجملة ولو لخصوص من ينتظر الجماعة(1).

مع أنّ أصل الرواية بلفظ (لا ينبغي) أو ما في معناه، وهو مشعر بعدم الحرمة، كما أنّ التحديد ب-(إذا أخذ المقيم في الإقامة) - وهو غير منضبط كما اعترف به السائل - لا يتلاءم مع الحكم بالحرمة التي لا تنسجم مع التسهيل.

الوجه الخامس

الوجه الخامس(2): التمسّك بإطلاق ما دلّ على أنّ النافلة (هدية) أو (متى شئت فأت بها) أو (في أيّ ساعة من النهار تريد أن تأتي بها) فإنّها بإطلاقها تشمل وقت الفريضة، وكذا إطلاق أدلّة تشريع أصل النوافل، كما في رواية عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: (اعلم أنّ النافلة بمنزلة الهديّة متى ما أتي بها قبلت)(3)، وصحيحة محمّد بن عذافر، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : (صلاة التطوّع بمنزلة الهديّة

ص: 41


1- يلاحظ: مصباح الفقيه: 9/ 326.
2- يلاحظ: كتاب الصلاة (السيّد جمال الدين الكلبايكاني): 1/ 112.
3- الوسائل: 4/ 232، الباب37 من أبواب المواقيت، ح3.

متى أتي بها قبلت، فقدّم منها ما شئت، وأخّر منها ما شئت)(1)، ونحوها رواية عبد الأعلى مولى آل سام(2)، ورواية القاسم بن الوليد الغسّاني، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: قلت له: جعلت فداك صلاة النهار صلاة النوافل في كم هي؟ قال: (ستّ عشرة، في أيّ ساعات النهار شئت أن تصلّيها صلّيتها، إلّا أنّك إذا صلّيتها في مواقيتها أفضل)(3)، ونحوها مرسلة عليّ بن الحكم(4)، ورواية عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (علیهما السلام)، قال: (نوافلكم صدقاتكم، فقدّموهن أنّى شئتم)(5).

ولسان هذه الروايات يقتضي عدم كون النوافل من المؤقّتات، فتكون معارضة لما دلّ على تحديد أوقات النوافل، أو ما ورد من الأمر بقضائها، ولا سبيل إلى طرح هذه الأخبار سنداً بعد استفاضتها، ومقتضى الجمع هو حمل الروايات المؤقّتة على الأفضلية، كما تشهد له رواية القاسم بن الوليد المتقدّمة، إلّا أنّ المشهور لا يلتزمون بمشروعية النوافل قبل وقتها، فلا بدّ من التقيّد بذلك، مع الالتفات إلى أنّ غالب هذه الروايات لا إشارة فيها إلى النوافل اليومية، فيمكن حملها على النوافل المبتدأة.

الوجه السادس

الوجه السادس: الدليل العقلي(6)، فإنّ العقل يمنع من الحكم بالحرمة على

ص: 42


1- تهذيب الأحكام: 2/ 287، ح1066.
2- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 2/ 286، ح1065.
3- تهذيب الأحكام: 2/ 286، ح1063.
4- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 2/ 286، ح1064.
5- وسائل الشيعة: 4/ 234، الباب37 من أبواب المواقيت، ح9.
6- يلاحظ: كتاب الصلاة (السيّد جمال الدين الكلبايكاني): 1/ 117.

خصوص الصلاة في وقت الفريضة مع تجويز الإتيان بسائر المباحات، بل والمكروهات في ذلك الوقت مع أنّ الصلاة من أفضل القربات.

إلى هنا يتبيّن أنّ ما تمّ سنداً من روايات المنع هو رواية أبي بكر الحضرمي في وجه، وموثّقة محمّد بن مسلم، وصحيحة زرارة، وموثّقة نجبة إلّا أنّ الأخيرة لم تتمّ دلالتها.

وأمّا أدلّة الجواز فتمّ منها صحيحة محمّد بن مسلم، وموثّقة إسحاق بن عمّار، وصحيحة عمر بن يزيد.

وأمّا ما استدلّ به للمنع مثل ما رواه في الذكرى من رواية زرارة الأولى والثانية، وما ذكره في السرائر من رواية حريز، وما رواه الشيخ الصدوق (قدس سره) في حديث الأربعمائة، ورواية أديم بن الحرّ، والنبويّ الذي أرسله الشيخ المفيد (قدس سره) ، فهذه كلّها وإن سلّمت دلالتها إلّا أنّها غير نقية سنداً، ولكنّها بمجموعها قد تشكّل نوع استفاضة، فينبغي أن يؤخذ هذا في الحسبان.

ص: 43

طرق الجمع بين الروايات

اشارة

وبعد ذكر أدلّة الطرفين لا بدّ من البحث عن محمل للخروج به عن حالة التعارض بين هذه الروايات، وقد ذكرت عدّة محاولات للجمع بن هاتين الطائفتين من الروايات.

منها: أنّ مقتضى صناعة الإطلاق والتقييد هو تقييد الأخبار الدالّة بإطلاقها على جواز النافلة في وقت الفريضة - ومنها الأخبار الدالّة على تشريع النوافل - بالأخبار المانعة، فتكون النتيجة هو جواز النافلة ومشروعيتها إلّا في وقت الفريضة، فلا مشروعية لها، فيكون تفريغ الذمّة عن الفريضة شرطاً تعبّدياً لصحّة النافلة(1).

ومن الواضح أنّ هذا الوجه من الجمع يتمّ في خصوص النوافل المبتدأة دون النوافل الراتبة، وقد عرفت شمول الأحاديث لها.

ومنها: ما ذكره الشيخ الطوسي (قدس سره) من حمل ما تضمّنته الأخبار من أنّ الصلاة في أوّل الوقت أفضل على الوقت الذي يلي وقت النافلة؛ لأنّ النوافل إنّما يجوز تقديمها إلى أن يمضي مقدار قدمين أو ذراع، فإذا مضى ذلك فلا يجوز الاشتغال بالنوافل، بل ينبغي أن يبدأ بالفرض، ويكون ذلك الوقت أفضل من الوقت الذي بعده(2).

وأمّا ما تضمّنته الأخبار من أنّه لا تطوّع في وقت الفريضة فمحمول على أنّه لا تطوّع في وقت فريضة تضيّق وقتها، أو في وقت فريضة لم يسغ فعل النافلة فيه،

ص: 44


1- يلاحظ: كتاب الصلاة (السيّد جمال الدين الكلبايكاني): 1/ 113.
2- يلاحظ: الاستبصار: 1/ 253، 255.

على ما بيّناه من أنّه إذا مضى من الزوال قدمان أو قدم ونصف فلا نافلة، وينبغي أن يبدأ بالفريضة.

ومنها: تقييد المطلقات الدالّة على حرمة التطوّع في وقت الفريضة بما إذا كان المصلّي منفرداً، وأمّا إذا كان مأموماً ينتظر حضور الإمام فيجوز له أن يتنفّل إلى أن يحضر الإمام(1).

ويدلّ على هذا الحمل موثّقة إسحاق بن عمّار(2)، وتؤيّده صحيحة عمر بن يزيد المتقدّمة أنّه سأل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرواية التي يروون أنّه لا يتطوّع في وقت فريضة، ما حدّ هذا الوقت؟ قال (علیه السلام) : (إذا أخذ المقيم في الإقامة)، فقال له: إنّ الناس يختلفون في الإقامة، فقال: (المقيم الذي يصلّي معه).

ولكن هذا لوحده غير صالح لتقييد تلك الروايات الكثيرة، كما أنّه لا يحلّ مشكلة التعارض، فإنّ التعارض على حاله بين باقي الروايات، فإنّ بعض الروايات قد تكون ظاهرة في المنفرد إن لم تكن نصّاً فيه، وقد ذكر السيّد الحكيم (قدس سره) أنّ مناسبة الحكم والموضوع لعلّها تساعد على حمل النهي على كونه عرضياً من جهة فضيلة الجماعة في أوّل الصلاة، لا ذاتياً ولا إرشادياً إلى نفي المشروعية ولا إلى نقصٍ في الماهية(3)، كما أنّه على التسليم به لا بدّ من تقييد حرمة التطوّع بالنسبة للمنفرد بما إذا تضيّق وقت فضيلة الفريضة، كما دلّت عليه الروايات الأُخر.

ص: 45


1- يلاحظ: كتاب الصلاة (السيّد جمال الدين الكلبايكاني): 1/ 116.
2- تهذيب الأحكام: 2/ 283، ح1052.
3- يلاحظ: مستمسك العروة الوثقى: 5/ 136.

ويعضد ما ذكرنا تصريح الرياض بأنّه لا قائل بهذا التفصيل وإن احتمله بعضهم(1) في مقام الجمع بين الأخبار المختلفة(2).

ومنها: حمل الروايات الدالّة على تعجيل الفريضة أوّل الوقت على الاستحباب والفضل للقرائن الصارفة، وحمل الروايات المانعة على من يصلّي النافلة، فإنّ التنفّل جائز حتّى يصير الفيء ذراعاً، فإذا بلغ ذلك صلّى الظهر وترك النافلة، ولذا استثنى بعض فقهائنا من أفضلية أوّل الوقت مواضع، منها ما ذكره ابن فهد الحلّي (قدس سره) من تأخير الظهرين للمتنفّل حتّى يأتي بنافلتها، وتأخير الصبح حتّى يأتي بركعتي الفجر إن لم يكن قدّمها قبله(3).

ويدلّ على ذلك ما رواه أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي في جامعه، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: (كان حائط مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قامة، فإذا مضى من فيئه ذراعاً صلّى الظهر)(4).

وربّما يعترض عليه فيما لو وجدت رواية مطلقة مسوقة لبيان تحديد الوقت بلا نظر فيها إلى مقام الامتثال.

والأولى أن يجاب بأنّ المدار على مضي مقدار ما هو وظيفته الفعلية.

ص: 46


1- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 2/ 265 - 266.
2- يلاحظ: رياض المسائل: 2/ 65.
3- يلاحظ: المهذّب البارع: 1/299.
4- يلاحظ: الكافي: 3/ 295، باب بناء مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ح1.

ومنها: ما ذهب إليه في الجواهر(1) من حمل النهي الوارد في الروايات على الكراهة بالمعنى المناسب للعبادة، بمعنى أقلّية الثواب، وحمل الأمر الوارد فيها على الندب، فيكون حاصل الأخبار ترجيح مراعاة أوّل الوقت للفريضة الذي فضله على آخر الوقت كفضل الآخرة على الدنيا؛ لوجود قرائن متّصلة ومنفصلة على عدم إرادة الحرمة من النهي، وإنّما هو إرشاد إلى إدراك فضيلة الوقت، ويشهد لذلك تحديد النوافل بوقت غير منضبط، فهو لا يصلح لإرادة الحرمة؛ لأنّها لا تنسجم مع التسهيل، لعدم اعتيادهم (علیهم السلام) على أمثال ذلك في الحرمة، وكما تشير إلى ذلك رواية إسماعيل الجعفي، عن أبي جعفر (علیه السلام) : (أتدري لم جعل الذراع والذراعان؟) قلت: لا، قال: (حتّى لا يكون تطوّع في وقت مكتوبة)، فإنّ ظهور نصوص المنع أو أكثرها في إرادة وقت الفضيلة من وقت الفريضة لا ما يشمل وقت الإجزاء مضعّف آخر لدلالتها على التحريم.

والقرائن المنفصلة هي الأخبار الدالّة على جواز إيقاع النافلة في وقت الفريضة كما سمعتها.

فالمتحصّل من الجمع الدلالي هو مرجوحية النافلة في وقت الفريضة؛ فإنّ الأخبار المرخّصة صريحة في إرادة الفضل من الابتداء بالفريضة، كما في صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة، بينما الأخبار المانعة ظاهرة في الحرمة، فتحمل على الكراهة جمعاً بين الأدلّة، فإنّ الالتزام بالحرمة عملاً بالنصوص المانعة يقتضي طرح النصوص

ص: 47


1- يلاحظ: جواهر الكلام: 7/ 250، وقال بمضمونه المحقّق العراقي، يلاحظ: شرح تبصرة المتعلّمين: 1/ 384.

المجوّزة أو ما هو كالطرح، بخلاف العكس فإنّ الكراهة مجاز شائع.

ولعلّ قول القدماء بالحرمة ناشئ من قولهم بمنع تأخير الفريضة عن وقت الفضيلة اختياراً، كما هو مذهب الشيخين في المقنعة(1) والمبسوط(2).

ولا يخفى أنّ الراجح هو الحمل الذي ذكره في الجواهر من حمل النهي على الكراهة، والأوامر الواردة في الأخبار على الندب؛ فإنّ الأمر - كما ذكر المحقّق العراقي (قدس سره) (3)- يدور بين تخصيص النواهي بالنوافل الخاصّة الواردة في وقت الفريضة، وتخصيص مطلقات النوافل الأخر بصورة عدم كونها في وقت الفريضة ولو قضاءً، كما هو صريح بعض النصوص، أو حمل النهي المزبور على دفع توهّم تأكّد الرجحان أو المرجوحية العبادية، والالتزام ببقاء مشروعيتها على حالها.

ثمّ ذكر بأنّه لا يبعد المصير إلى الجمع الأخير بعد تخصيص النوافل اليومية منها جزماً، وربّما يشهد له قوله في بعض النصوص من: إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة، وفي آخر تحديد عدم التطوّع وقت الفريضة بأخذ المقيم في الإقامة الذي تصلح معه الدلالة على عدم المنع عنها قبل الإقامة، ومعلوم أنّ مثل هذا المنع لمحض درك الفضيلة المناسب لكون النهي تنزيهياً كما لا يخفى.

هذا، ولا أقلّ من قرب احتماله ولو لبعد اختصاص النهي بخصوص النوافل من الصلوات، مع جواز غيرهن في الوقت المذكور.

ص: 48


1- يلاحظ: المقنعة: 94.
2- يلاحظ: المبسوط: 1/ 72.
3- يلاحظ: شرح تبصرة المتعلّمين: 1/ 384.

ثمّ هل يمكن التعدّي من النوافل إلى غيرها من المباحات، فنحكم بكراهة الإتيان بالمباحات في وقت الفريضة؟

يمكن أن يقال: بأنّ لازم حكم الفقهاء(1) بتوسعة وقت أداء الصلاة لجميع الوقت المضروب لها هو جواز الإتيان بالمباحات في وقت الفريضة ما دام موسّعاً، وقد يقال: إذا حكمنا بكراهة النافلة في وقت الفريضة مع كونها راجحة في نفسها فلا بدّ من الحكم بكراهة المباح في وقتها بطريق أولى.

ولكنّك عرفت أنّ الكراهة في المقام بمعنى أقلّية الثواب في النافلة مع بقائها على ما هي عليه من الرجحان الذاتي والمطلوبية النفسية، وهي منتفية في المباحات؛ لانتفاء موضوعها أو موصوفها، فلا رجحان فيها من الأساس، مضافاً إلى أنّه على القول بأنّ الحرمة في العبادات تشريعية لا ذاتية، بمعنى أنّ الإتيان بها بقصد الأمر تشريع محرّم - كما ذهب إليه بعض الأعلام المعاصرين(2) - لا يأتي هذا الكلام حتّى على القول بتحريم النافلة في وقت الفريضة؛ إذ لا تشريع في البين.

وممّا يتفرّع على مسألتنا هو صحّة تعلّق النذر بالنافلة في وقت الفريضة، وصحّة الإجارة على النافلة في وقتها، والكلام فيهما مختصراً:

الفرع الأوّل: في صحّة نذر النافلة وقت الفريضة

اشارة

لا شبهة في صحّة النذر وجواز الإتيان بمتعلّقه في وقت الفريضة بناءً على صحّة التنفّل في وقت الفريضة، سواء كان المنذور مطلقاً أو مقيّداً بوقت الفريضة. وأمّا بناءً

ص: 49


1- يلاحظ: العروة الوثقى: 2/ 248 وما بعدها.
2- يلاحظ: المباحث الفقهية (أوقات الصلاة): 3/ 329.

على عدم المشروعية فينبغي أن يقع الكلام في ما إذا كان متعلّق النذر مطلقاً، وفي ما إذا كان مقيّداً بوقت الفريضة، فالكلام يقع في صورتين:

الصورة الأولى: فيما إذا كان متعلّق النذر مطلقاً

وهنا لا ينبغي الإشكال في الصحّة؛ لأنّ متعلّقه - وهو طبيعي النافلة - راجح شرعاً، ومقدور للناذر عقلاً وشرعاً، ولا مانع من الإتيان بالنافلة بعدئذٍ في وقت الفريضة؛ إذ إنّها بالنذر تخرج عن الاستحباب، وتتّصف بالوجوب، فلا تشملها الروايات الناهية عن التطوّع في وقت الفريضة.

ولو قيل: بأنّ نذر مطلق النافلة وإن كان صحيحاً في نفسه إلّا أنّ النافلة في وقت الفريضة خارجة عنه؛ لعدم صلاحية النذر للتعلّق بهذه الحصّة، لكونها مرجوحة بحسب الفرض.

أمكن أن يقال: بأنّ النذر إنّما تعلّق بطبيعة الصلاة، وهي إنّما تتحقّق بصرف وجود الفرد في الخارج، وكانت قد خرجت بالنذر من الاستحباب إلى الوجوب، وبالتالي فالإتيان بها في وقت الفريضة يكون من باب تقديم الفرض على الفرض.

وأمّا إشكال كونه حراماً قبل النذر فقد أجاب عنه المحقّق الهمداني (قدس سره) بأنّه لا يوجب صرف النذر إلى ما عداه من الأفراد؛ إذ لا يشترط في صحّة النذر المتعلّق بالطبيعة إلّا تمكّن المكلّف من إيقاعها في ضمن فرد سائغ، ومتى انعقد النذر لا يجب عليه إلّا الإتيان بتلك الطبيعة في ضمن أيّ فردٍ أحبّ ممّا لا مانع عنه شرعاً، والمفروض ارتفاع المانع عن هذا الفرد بعد صيرورته مصداقاً للواجب(1).

ص: 50


1- يلاحظ: مصباح الفقيه: 9/ 348.
الصورة الأخرى: فيما إذا كان متعلّق النذر مقيّداً بوقت الفريضة
اشارة

وهذا يتصوّر على نحوين:

النحو الأوّل

أن يكون الوقت الذي قيّد به المنذور أوسع من وقت الفريضة بحيث يتمكّن من الإتيان به في زمان تكون الذمّة فارغة عنها.

وذكر المحقّق السيّد الخوئي (قدس سره) بأنّه لا مانع من أن تكون النافلة منذورة في هذه الحالة، وبعد انعقاد النذر والحكم بصحّته ساغ الإتيان بها حتّى قبل تفريغ الذمّة عن الفريضة(1).

إن قيل: حيث إنّ الوقت كان متعلّقاً للنذر في هذه الصورة فلا بدّ فيه من الرجحان، ولا رجحان في البين، فانعقاد النذر محلّ إشكال.

يمكن أن يقال: إنّ المتعارف كون المتعلّق للنذر هو ذات المقيّد بنحو وحدة المطلوب، والزمان وإن كان من المشخّصات إلّا أنّه إنّما يكون مشخّصاً بعرضه العريض الواقع بين الحدّين الشامل لتمام حدوده وآناته، فيصلح للانطباق على فترتين: (الأولى) منهيّ عن التطوّع فيها، وأمّا (الأخرى) فلا، وهي الواقعة بعد أداء الفريضة.

ولكن هنا يمكن أن يقال بأنّ هذه الحصّة المنهيّ عنها - وهي النافلة في وقت الفريضة قبل أداء الفريضة - خارجة عن النذر؛ لمكان النهي، فلا يمكن أن يأتي بها المكلّف أداءً للنذر.

ص: 51


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 347.

ويجاب: بأنّ الأدلّة ظاهرة في العناوين الفعلية للأفعال، فالنهي إنّما تعلّق بما هو تطوّع بالحمل الشائع وبوصفه العنواني بحيث يكون صدوره خارجاً بداعي التطوّع، ومتّصفاً بالاستحباب في ظرف العمل، ولا شبهة في زوال هذا العنوان بعد النذر، وتحول الفعل من الاستحباب إلى الوجوب بالنذر، فيتّصف الفعل بالوجوب بالعرض حينئذ، فيكون الإتيان بالمنذور قبل الفريضة تقديم للفرض على الفرض، فيكون خارجاً عن أدلّة النهي موضوعاً.

النحو الآخر

أن يكون المنذور مقيّداً بالوقت المجعول للفريضة بحيث لا يسعه إلّا الإتيان به قبل تفريغ الذمّة عنها، كما إذا نذر - مثلاً - أن يصلّي صلاة جعفر في أوّل المغرب.

ففي هذه الحالة اختار بعض الأعلام عدم الانعقاد(1)؛ مراعاةً لاعتبار الرجحان في متعلّق النذر، وهو مفقود في المقام على القول بالنهي عن التطوّع في وقت الفريضة.

وفي المقابل هناك من ذهب الى انعقاد النذر، منهم السيّد صاحب العروة(2)، والسيّد الخوئي (قدس سرهما) ، وقد استدلّ الأخير(3) لقوله بأنّ الصلاة راجحة في حدّ ذاتها، وأنّ المرجوحية إنّما نشأت من أجل تعنونها بعنوان التطوّع في وقت الفريضة، وبما أنّ هذا العنوان متقوّم بالإتيان بما لا إلزام فيه، والمفروض انقلابه بسبب النذر إلى الإلزام المزيل لذلك العنوان، فلا مانع بعد ارتفاع المانع من الالتزام بصحّة النذر،

ص: 52


1- يلاحظ: جواهر الكلام: 7/ 256، مصباح الفقيه: 9/ 349.
2- يلاحظ: العروة الوثقى: 2/ 22.
3- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 348 - 349.

وكونه مشمولاً لإطلاقات أدلّة الوفاء به.

ولكن غير خفي أنّ أصل انعقاد النذر مرهون برجحان المتعلّق، والعنوان الذي تعلّق به النذر مرجوح بحسب الفرض، وما ذكره (قدس سره) يمكن أن يكون علاجاً في مرحلة الامتثال، فإنّه به يخرج المتعلّق من كونه غير مقدور شرعاً إلى كونه مقدوراً بعد انعقاد النذر، إلّا أنّ الكلام في نفس انعقاد النذر، وقد عرفت عدم انعقاده لو تعلّق بغير المشروع.

اللهم إلّا أن يقال: بأنّ المعتبر في متعلّق النذر أن يكون راجحاً شرعاً حين العمل لا حين الإنشاء، وهو بعيد؛ لدلالة صحيحة أبي الصباح الكناني عن الإمام أبي عبد الله (علیه السلام) على ذلك، حيث قال : (ليس من شيء هو لله طاعة يجعله الرجل عليه إلّا ينبغي له أن يفي به، وليس من رجل جعل لله عليه شيئاً في معصية الله إلّا أنّه ينبغي له أن يتركه إلى طاعة الله)(1) وقد ادّعى في الشرائع ذهاب المشهور إلى عدم تعلّق النذر بالمحرّم والمكروه، بل ولا بمتساوي الطرفين(2).

لا يقال - كما لعلّه يلوح من عبارة المحقّق الخراساني في الكفاية(3) - من أنّه يكفي في صحّة النذر كون متعلّقه راجحاً ولو بنفس النذر، كما في نذر الإحرام قبل الميقات، والصوم في السفر؛ فإنّه مع لزومه الدور مخالف لصريح النصوص الواردة في المقام، ففي صحيحة أبي الصباح الكناني، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل

ص: 53


1- تهذيب الأحكام: 8/312.
2- يلاحظ: شرائع الإسلام: 3/164.
3- يلاحظ: كفاية الأصول: 225.

قال: عليّ نذر، قال: (ليس النذر بشيء حتّى يسمّي شيئاً لله صياماً أو صدقة أو هدياً أو حجّاً)(1)، وأمّا ما ذكره من الموردين فقد خرج عن مقتضى القاعدة بالنصّ وقياس المقام به قياس مع الفارق؛ إذ لا نصّ في المقام.

وهل يلحق العهد واليمين بالنذر في هذه الأحكام؟

قد يقال بعدم الإلحاق، بمعنى أنّه على القول بالمنع من التطوّع في وقت الفريضة يبقى المنع على حاله من دون تأثير للعهد واليمين في ذلك، أي لو كان متعلّق العهد أو اليمين مطلقاً وغير مقيّد بوقت الفريضة، أو مقيّداً بوقت أوسع من وقت الفريضة بحيث يتمكّن من الإتيان بالمنذور في زمانٍ تكون الذمّة فارغة عنها، فلا مانع من انعقاده، ولكن هل للمكلّف الإتيان بالمتعلّق في وقت الفريضة؟

يحتمل الإيجاب؛ لأنّها تخرج بالعهد واليمين من النفل إلى الفرض، فيكون تقديمها على الفريضة من باب تقديم الفرض على الفرض. ويحتمل السلب؛ للنهي عنها في ذلك الوقت.

وأمّا إذا كان متعلّق العهد أو اليمين مقيّداً بوقت الفريضة بحيث لا يسعه إلّا الإتيان به قبل تفريغ الذمّة عنها، فلا إشكال هنا في انعقاد العهد أو اليمين، بناءً على عدم اشتراط الرجحان في متعلّقهما؛ لأنّهما يشتركان في أن يجعل الإنسان نفسه ملزمة بشيء غاية الأمر أنّه يجعل الله سبحانه كفيلاً وشاهداً على ما التزم به، فالعهد هو عبارة عن معاهدةٍ وإقرار نفساني فيما بينه وبين الله تعالى. وأمّا اليمين فهو إنشاء التزام بشيء مربوط بالله تعالى، فهما ليسا كالنذر، فإنّ الناذر يجعل الله سبحانه طرفاً

ص: 54


1- الكافي: 7/ 455، باب النذور، ح2.

لجعله، بأن يجعل الناذر على نفسه شيئاً لله سبحانه.

ولكن المحقّق (قدس سره) في الشرائع بنى على عدم انعقاد اليمين فيما إذا كان متعلّقها مرجوحاً شرعاً. وأمّا العهد فالمعتبر فيه أن لا يكون مرجوحاً شرعاً مع كونه راجحاً بحسب الأغراض الدنيوية العقلائية، أو مشتملاً على مصلحة دنيوية شخصية(1).

وعليه يكون العهد واليمين ملحقاً بالنذر في الحكم المتقدّم.

الفرع الآخر: في صحّة الإجارة على النافلة في وقت الفريضة

والإشكال المطروح في المقام هو أنّه على القول بحرمة التطوّع في وقت الفريضة فلا بدّ من البناء على بطلان الإجارة؛ لوقوعها على أمر محرّم شرعاً، ومعها يخرج هذا الفعل عن سلطنة الأجير، فلا يكون مالكاً له شرعاً، فيكون أكل الثمن في مقابله أكلاً للمال بالباطل.

وقد أجيب عن ذلك بأنّ الصحيح هو صحّة الإجارة؛ لعدم الحرمة لا على الأجير ولا على المستأجر، أمّا الأجير فإنّه يكون أجيراً على الإتيان بنافلة الغير في وقت فريضته، والنهي إنّما تعلّق بالإتيان بنافلة نفسه في وقت فريضته، وأمّا المستأجر فأيضاً هو منهيّ عن الإتيان بنافلته بنفسه في وقت الفريضة، ولم يتعلّق النهي باستئجار الغير لأن يتنفّل عنه، ولذا ذكر بعض الأعلام بأنّ: (الظاهر عدم البأس بالتطوّع عند اشتغال الذمّة بصلاة عرض لها الوجوب بإجارة أو نذر وشبهه؛ فإنّ لفظ الفريضة - التي نهي عن التطوّع في وقتها - بحسب الظاهر منصرف عمّا كان وجوبها بالعناوين الطارئة لا بعنوان كونها صلاة، هذا مع خروج مثل الفرض عمّا

ص: 55


1- يلاحظ: شرائع الإسلام: 2/ 152.

هو المفروض موضوعاً في معظم تلك الأخبار، كما لا يخفى)(1)(2).

ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ من جملة ما تمسّك به القائلون بمنع التطوّع في وقت الفريضة هو الروايات الآمرة بالبدء بالفريضة، والأجير مشمول لها، ويعتبر في صحّة الإجارة تمكّن الأجير من العمل الذي استؤجر عليه، وهو غير حاصل في محلّ الكلام، فالأجير غير متمكّن شرعاً من أداء العمل، فتبطل الإجارة.

وعلى هذا فلا بدّ من أن يلتزموا بعدم صحّة الإجارة.

وأمّا إذا لم نفهم الوجوب من الأمر الوارد فيها، ولا المنع من التطوّع في وقتها فنحن في سعة من هذه الجهة.

ص: 56


1- مصباح الفقيه: 9/ 347.
2- قد أورد الإشكال والجواب عنه السيّد جمال الدين الكلبايكاني في كتاب الصلاة: 1/ 126 - 127.

تذنيب: حكم التطوّع بالنافلة لمن عليه قضاء صلاة الفريضة

ذكروا بأنّ المشهور(1) هو المنع من التطوّع لمن عليه قضاء فريضة، واستدلّ لذلك بعدّة أدلّة:

منها: النبويّ المرسل المتقدّم، وهو قوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : (لا صلاة لمن عليه صلاة)، ورواية نهج البلاغة: (لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض).

وقد تقدّم النقاش في سند النبويّ، وأمّا رواية النهج فتقدّم أنّ الإضرار إنّما يتحقّق في ما إذا كان الإتيان بالنافلة موجباً لفوت الفريضة مطلقاً، ولا يستفاد من الرواية الحرمة في غير هذه الصورة، مع ظهور الروايتين في الصلاة الأدائية.

ومنها: صحيحة يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتّى تبزغ الشمس، أيصلّي حين يستيقظ، أو ينتظر حتّى تنبسط الشمس؟ فقال: (يصلّي حين يستيقظ)، قلت: يوتر أو يصلّي ركعتين؟ قال: (بل يبدأ بالفريضة)(2).

فإنّ الأمر بالبدأة بالفريضة ظاهر في عدم مشروعية النافلة ممّن عليه الفريضة القضائية.

وناقش فيها السيّد الخوئي (قدس سره) بأنّ موردها إنّما هو صلاة الغداة، والتعدّي عنها

ص: 57


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 337.
2- الاستبصار: 1/ 286، ح1047.

إلى غيرها بعد احتمال الاختصاص بها يحتاج إلى دليل، وإذ لا دليل فلا سبيل إلى الاستدلال بها على عدم المشروعية بقول مطلق، كما هو المدّعى(1).

ومنها: ما رواه في الذكرى، عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) : أصلّي نافلة وعليّ فريضة أو في وقت فريضة؟ قال: (لا، إنّه لا تصلّى نافلة في وقت فريضة، أرأيت لو كان عليك من شهر رمضان أكان لك أن تتطوّع حتّى تقضيه؟) قال: قلت: لا. قال: (فكذلك الصلاة). قال: فقايسني، و ما كان يقايسني(2).

وتقدّمت المناقشة في سندها، وأنّها بحكم المرسلة بالنسبة إلينا.

ومنها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور، أو نسي صلاة لم يصلّها، أو نام عنها، فقال: (يقضيها إذا ذكرها في أيّة ساعة ذكرها من ليل أو نهار، فإذا دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت، وهذه أحقّ بوقتها، فليصلّها فإذا قضاها فليصلّ ما قد فاته ممّا قد مضى، ولا يتطوّع بركعة حتّى يقضي الفريضة كلّها)(3).

وذكر السيّد الخوئي (قدس سره) بأنّها أهمّ ما استدلّ به في الباب؛ لصحّتها سنداً، وصراحتها دلالةً، إلّا أنّه ذكر بأنّ النهي عن التطوّع لم يكن حكماً مستقلَّاً جديداً، وإنّما هو متفرّع على الأمر بالقضاء وثبوت التضييق فيه، فإنّ من توابعه المنع من التطوّع، فإذا كان الأمر المزبور محمولاً على الاستحباب، كما هو مقتضى القول

ص: 58


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 340.
2- ذكرى الشيعة :2/ 424.
3- تهذيب الأحكام: 2/ 285، ح1059.

بالمواسعة - وهو الصواب - فلا جرم كان النهي المذكور محمولاً على التنزيه، فتصحّ النافلة وإن كانت مكروهة.

بل الأمر كذلك حتّى على القول بالمضايقة؛ إذ لا يكاد يستفاد من الصحيحة شرطية الفراغ عن القضاء في صحّة النافلة بوجه، بل غايته المزاحمة بينهما، ولزوم تقديم القضاء، فلو خالف وقدّم النافلة أمكن تصحيحها بالترتّب وإن كان عاصياً في التأخير، فهي إذن مشروعة ومحكومة بالصحّة على كلّ تقدير(1).

ولكن ما ذكره من تفرّع النهي عن التطوّع على الأمر بالقضاء ليس ظاهراً من الصحيحة، ومن هنا ذكر بعض الأعلام المعاصرين بأنّ: (الظاهر أنّ النهي إرشاد إلى أنّ صحّة الإتيان بالتطوّعية مشروط بفراغ الذمّة عن القضاء؛ إذ لا يمكن أن يكون النهي نهياً مولوياً، وذلك من باب أنّ العبادة لا يمكن أن تكون محرّمة ذاتاً، والنتيجة أنّه لا بأس بدلالة الصحيحة على المدّعى)(2).

ثمّ ذكر أنّه لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور، وحمل النهي الوارد فيها على الإرشاد إلى قلّة الثواب في هذه الحالة، بقرينة النصوص الدالّة على مشروعية الإتيان بالنافلة قبل الفريضة. واحتمال الخصوصية للصلاة الأدائية - فلا يكون اشتغال الذمّة بها مانعاً عن الإتيان بالنافلة - دون الصلاة القضائية غير محتمل، بل الأمر بالعكس جزماً، فإذا لم يكن اشتغال الذمّة بالأدائية الواجبة مانعاً عن صحّة الإتيان بالنافلة

ص: 59


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 11/ 343.
2- المباحث الفقهية (أوقات الصلاة): 3/ 328 وما بعدها بتصرّف.

لم يكن اشتغال الذمّة بالقضاء مانعاً عن صحّة الإتيان بالنافلة بطريق أولى عرفاً.

وفي المقابل فقد استدلّ القائل بالجواز بعدّة أدلّة:

منها: موثّقة أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: سألته عن رجل نام عن الغداة حتّى طلعت الشمس؟ فقال: (يصلّي ركعتين، ثمّ يصلّي الغداة)(1).

وهي صريحة في الدلالة على المطلوب، إلّا أنّ موردها صلاة الغداة، ومن الجائز اختصاص الحكم بها، إلّا أنّه لا قائل بالفرق.

ومنها: ما رواه عليّ بن موسى بن طاووس في كتاب (غياث سلطان الورى)، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: قلت له: رجل عليه دين من صلاة قام يقضيه فخاف أن يدركه الصبح ولم يصلّ صلاة ليلته تلك؟ قال: (يؤخّر القضاء، ويصلّي صلاة ليلته تلك)(2).

وهي واضحة الدلالة إلّا أنّ فيها إشكالاً سندياً؛ إذ لم نعثر على طريق ابن طاووس إلى حريز.

ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: سمعته يقول: (إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) رقد فغلبته عيناه، فلم يستيقظ حتّى آذاه حرّ الشمس، ثمّ استيقظ، فعاد ناديه ساعة، وركع ركعتين، ثمّ صلّى الصبح، وقال: يا بلال، ما لك؟ فقال بلال: أرقدني الذي أرقدك يا رسول الله، قال: وكره المقام، وقال: نمتم بوادي

ص: 60


1- تهذيب الأحكام: 2/ 285، ح1057.
2- وسائل الشيعة: 4/ 286، الباب 61 من أبواب المواقيت، ح9.

الشيطان)(1).

وما تضمّنه هذا الحديث من حكاية نوم النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) عن الفريضة، والتصريح باستناد ذلك إلى الشيطان لا يمكن التمسّك به؛ لمنافاته للعصمة، فإنّ العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد.

وقد حمل الشيخ (قدس سره) ركعتي النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) قبل الفريضة على صورة انتظار اجتماع الناس لصلاة الجماعة، إلّا أنّه لا إشعار فيه بذلك.

ومنها: ما رواه الشهيد في الذكرى، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : (إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتّى يبدأ بالمكتوبة)، قال: فقدمت الكوفة، فأخبرت الحكم بن عتيبة وأصحابه، فقبلوا ذلك منّي، فلمّا كان في القابل لقيت أبا جعفر (علیه السلام) ، فحدّثني: (أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عرّس في بعض أسفاره وقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا، فنام بلال، وناموا حتّى طلعت الشمس، فقال: يا بلال، ما أرقدك؟ فقال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفاسكم، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : قوموا فتحوّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة، وقال: يا بلال، أذّن، فأذّن، فصلّى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ركعتي الفجر، وأمر أصحابه فصلّوا ركعتي الفجر، ثمّ قام فصلّى بهم الصبح، ثمّ قال: من نسي شيئاً من الصلاة فليصلّها إذا ذكرها، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾)، قال زرارة: فحملت الحديث إلى الحكم وأصحابه، فقال: نقضت حديثك الأوّل، فقدمت على أبي

ص: 61


1- تهذيب الأحكام: 2/ 285، ح1058.

جعفر (علیه السلام) ، فأخبرته بما قال القوم، فقال: (يا زرارة، ألا أخبرتهم أنّه قد فات الوقتان جميعاً، وأنّ ذلك كان قضاء من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) )(1).

وهذه الرواية تصلح محملاً للجمع بين الروايات؛ فإنّها قد فصّلت بين الأداء والقضاء، ففي صورة الأداء تنهى الرواية عن النافلة في وقت الفريضة، بينما هي تنقل فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) للنافلة قبل الفريضة في الصلاة القضائية، وهو يدلّ على جواز تقديمها عليها.

ولكنّ الظاهر أنّه لا قائل بالفرق بين المسألتين، كما صرّح به في الرياض(2)، كما أنّ هذا الجمع لا يحلّ المشكلة مع صحيحة يعقوب بن شعيب؛ فإنّها ظاهرة في من يصلّي منفرداً، بل لا يبعد أن يكون موردها ذلك، وهي ظاهرة في عدم مشروعية النافلة ممّن عليه الفريضة القضائية.

إلّا أنّ ما ذكر يمكن المناقشة فيه بأنّ الثابت أنّ كلّ من قال بالجواز في المسألة الأولى قال بالجواز في المسألة الثانية، والرواية أثبتت القول بالمنع في المسألة الأولى دون الثانية، وأمّا صحيحة يعقوب بن شعيب فإنّها مبتلاة بالمعارض في موردها، فهي معارضة بموثّقة أبي بصير، ولا بدّ من حمل الصحيحة على كراهة التنفّل لمن عليه قضاء فريضة، فالأمر بالبدأة بالفريضة فيها محمول على استحباب المبادرة والمسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب؛ فإنّ الموثّقة نصّ في الجواز.

ص: 62


1- وسائل الشيعة: 4/ 285، الباب61 من أبواب المواقيت، ح6.
2- يلاحظ: رياض المسائل: 2/ 67.

وهذا هو سبيل الجمع بين الروايات المتعارضة، وعلى هذا لا بدّ من حمل التفصيل في رواية زرارة - التي نقلها في الذكرى - على أنّ تقديم النافلة على الفريضة الأدائية أشدّ كراهةً من تقديمها على الفريضة القضائية، ولعلّ هذا لأجل تفويت وقت الفضيلة في الأوّل دون الثاني(1).

والله العالم بحقائق الأمور، وله الحمد أوّلاً وآخراً.

* * *

ص: 63


1- يلاحظ: مستمسك العروة الوثقى: 5/ 139.

مصادر البحث

القرآن الكريم.

1. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ )، النّاشر : دار الكتب الإسلامية، ط 1، 1390ﻫ ق.

2. بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمّة الأطهار، الشيخ محمّد باقر المجلسي (ت 1111ﻫ)، الناشر: مؤسّسة الوفاء، ط2، 1403ﻫ.

3. تفسير القمّي، عليّ بن إبراهيم القمّي (ت 329ﻫ تقريباً)، تصحيح: السيّد طيّب الجزائري، الناشر: مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر، ط3، 1404ﻫ.

4. تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ)، تحقيق: السيّد حسن الموسوي الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران، المطبعة: خورشيد، ط3، 1364ش

5. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمّد حسن النجفي (قدس سره) (ت1266ﻫ)، تحقيق: الشيخ عبّاس القوجاني، الناشر: دار إحياء التراث العربي، 1404 ﻫ ق، ط 7، بيروت - لبنان.

6. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف البحراني (ت 1186 ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط3، 1405ﻫ.

7. الخلاف، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، تحقيق: جماعة من المحقّقين، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قم، سنة الطبع: 1407ﻫ.

8. الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشيخ محمّد مكّي العاملي المعروف ب-(الشهيد

ص: 64

الأوّل) (ت 786ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في قم، ط 2، 1417ﻫ.

9. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأوّل محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي الجزيني (قدس سره) (ت786ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، المطبعة: ستاره - قم، ط1، 1419ﻫ.

10. رجال ابن داود، الشيخ الحسن بن عليّ بن داود الحلّي (ت 740ﻫ)، تحقيق وتقديم: السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم، منشورات الشريف الرضي.

11. رجال الشيخ الطوسي (الأبواب)، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، 1415ﻫ.

12. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، الشيخ زين الدين العاملي المعروف ب-(الشهيد الثاني) (ت 966ﻫ)، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي، ط 1، 1422ﻫ.

13. روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمّد تقي المجلسي (ت1070)، تحقيق وتصحيح: السيّد حسين الموسوي الكرماني، الشيخ عليّ پناه الاشتهاردي، السيّد فضل الله الطباطبائي، الناشر: مؤسّسة كوشانبور الإسلامية الثقافية، ط 2، قم - إيران، 1406 ﻫ ق.

14. رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدلائل، السيّد عليّ الطباطبائي (ت 1231ﻫ)، نشر وطبع: دار الهادي، ط 1، 1412ﻫ.

15. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، الشيخ محمّد بن إدريس الحلّي (ت 598ﻫ)،

ص: 65

الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين - قم، ط 2، قم - إيران، 1410ﻫ.

16. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، جعفر بن الحسن بن سعيد المعروف ب-(المحقّق الحلّي) (ت 676ﻫ)، تعليق: السيّد صادق الشيرازي، المطبعة: ستارة، ط 1، 1427ﻫ

17. شرح تبصرة المتعلّمين، الشيخ ضياء الدين العراقي (ت 1361ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد الحسّون، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرّسين - قم، ط 1، 1414ﻫ.

18. العروة الوثقى، السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (ت1337)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قم، ط 1، 1419ﻫ.

19. فهرست أسماء مصنّفي الشيعة، الشيخ أبو العبّاس أحمد بن عليّ النجاشي (ت 450ﻫ)، تحقيق السيّد موسى الشبيري الزنجاني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ب (قم المشرّفة)، ط5، 1416ﻫ.

20. الفهرست، شيخ الطائفة الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي (ت460)، تحقيق: الشيخ جواد القيّومي، طبع ونشر: مؤسّسة نشر الفقاهة، المطبعة: مؤسّسة النشر الإسلامي، ط 1، 1417ﻫ.

21. الكافي، ثقة الإسلام الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني (ت 329ﻫ)، تحقيق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث - قم المقدّسة، الناشر: دار الفكر، ط 1، 1423 ﻫ.ق.

22. كتاب الصلاة، السيّد جمال الدين الكلبايكاني (ت 1377ﻫ)، تحقيق ونشر:

ص: 66

مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) ، ط 1، 1439ﻫ.

23. المباحث الفقهية (أوقات الصلاة)، تقرير أبحاث الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض (دام ظله) ، بقلم: الشيخ عادل هاشم، ط 1، المطبعة: سرمدي، الناشر: دار الكوخ.

24. المعتبر في شرح المختصر، الشيخ المحقّق أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي (قدس سره) (ت676ﻫ)، تحقيق: عدّة من الأفاضل، نشر: مؤسّسة سيّد الشهداء (علیه السلام) - قم، المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، سنة الطبع: 1364ش.

25. المقنعة، الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف ب-(المفيد) (قدس سره) (ت413ﻫ)، نشر وتحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط2، 1410ﻫ.

26. من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمّد بن عليّ ابن بابويه القمّي المعروف ب-(الصدوق) (قدس سره) (ت 381ﻫ)، تحقيق: الشيخ عليّ أكبر الغفّاري، الناشر: جماعة المدرّسين - قم إيران، ط 2، 1413ﻫ.

27. مناقب آل أبي طالب، مشير الدين أبو عبد الله محمّد بن عليّ بن شهرآشوب (ت 588ﻫ)، الناشر: مؤسّسة انتشارات علّامة.

28. موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت 1413ﻫ)، الناشر: مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره) ، ط1، مكان الطبع: قم - إيران، 1418ﻫ.

29. نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، الشيخ الحسن بن يوسف بن المطهّر المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (قدس سره) ، الناشر: مؤسّسة إسماعيليان - قم، ط 2، 1410ﻫ.

30. نهج البلاغة، الشريف محمّد بن الحسين الموسوي المعروف ب-(الشريف الرضي) (قدس سره)

ص: 67

(ت 406ﻫ)، تحقيق: الدكتور صبحي الصالح، الناشر: دار الكتاب اللبناني، ط1، مكان الطبع: بيروت - لبنان، 1387ﻫ.

31. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (قدس سره) (ت1104ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرّفة، المطبعة: مهر - قم، ط2، 1414ﻫ.

ص: 68

سنّ البلوغ في الأنثى (الحلقة الثانیة) - الشّيخ وسام عبد الرّسول (دام عزه)

اشارة

إنّ البلوغ هو بداية تحمّل الإنسان مسؤوليّة التكليف - الّذي هو تشريف من الله جلّ علاه للإنسان - فإذا لم يبلغ يكون غير ملزم بفعل أو ترك، ولا يستحقّ أيّ عقوبة في الآخرة. والبلوغ أيضاً مبدأ زوال الحجر عن الإنسان في تصرّفاته المعامليّة فغير البالغ محجور عليه.

ومن ثَمَّ شرعنا في تحرير بحث سنّ البلوغ في الأنثى لأهمّيته؛ لأنّ السنّ هو العلامة الأبرز في تحديد البلوغ، وأيضاً للاختلاف الواقع فيه بين الفريقين، بل حتّى داخل الفريق الواحد خصوصاً في العصور المتأخّرة.

ص: 69

ص: 70

بسم الله الرحمن الرحیم

تقدّم الكلام في الحلقة الأولى من بحث سنّ البلوغ في الأنثى في المحاور التالية:

1. الأقوال في المسألة.

2. أدلّة المسألة.

وتقدّم عرض بعض ما يتناوله هذا المحور من الأدلّة، وهو الإجماع والروايات الخاصّة، وكانت على طوائف سبع، ووصل الكلام إلى..

كيفيّة الجمع بين الروايات

الجمع الأوّل: اختلاف مراتب البلوغ حسب اختلاف نوع التكليف

اشارة

قال الفيض الكاشاني: (والتوفيق بين الأخبار يقتضي اختلاف معنى البلوغ بحسب السنّ بالإضافة إلى أنواع التكاليف، كما يظهر ممّا روي في باب الصيام: أنّه لا يجب على الأنثى قبل إكمالها الثلاث عشرة سنة إلّا إذا حاضت قبل ذلك، وما روي في

ص: 71

باب الحدود: أنّ الأنثى تؤاخذ بها، وهي تؤخذ لها تامّة إذا أكملت تسع سنين، إلى غير ذلك ممّا ورد في الوصيّة والعتق ونحوهما: أنّها تصحّ من ذي العشر)(1).

توضيح ذلك: أنّ التكليف يحصل على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى

إذا بلغت تسع سنين تطبّق عليها الحدود والقصاص وما شابه ذلك من الأحكام، فهي تعامل معاملة البالغة من هذه الجهة اعتماداً على روايتي حمران أو حمزة بن حمران، وبريد أو يزيد الكناسيّ - روايات الطائفة الثانية - المتقدّمتين(2).

المرحلة الثانية

إذا بلغت عشر سنين تثبت لها الحقوق المالية من الوصيّة والعتق وغيرهما، اعتماداً على روايات عديدة في الوصيّة والعتق، منها معتبرة زرارة، قال: (إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنّه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على وجه معروف وحقّ، فهو جائز)(3)، وغيرها من الأخبار(4).

المرحلة الثالثة

إذا بلغت ثلاث عشرة سنة تجب عليها التكاليف العبادية - كالصوم والصلاة والحجّ وما شابه ذلك - اعتماداً على موثّقة عمّار الساباطي المتقدّمة في الطائفة الرابعة(5).

ص: 72


1- مفاتيح الشرائع: 1/ 14.
2- يلاحظ: العدد السابق : 30، 35.
3- تهذيب الأحكام: 9/ 181، باب وصيّة الصبيّ والمحجور عليه، ح729، وسائل الشيعة: 19/ 362، كتاب الوصايا، باب44، ح4.
4- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 9/ 181، باب وصيّة الصبيّ والمحجور عليه، ح726 وما بعده من الأخبار.
5- يلاحظ: العدد السابق: 38.

ويرد على هذا الجمع:

أوّلاً: أنّ روايات الطائفة الثانية - رواية حمران أو حمزة بن حمران، ورواية بريد أو يزيد الكناسيّ - ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها.

وثانياً: أنّ رواية حمران أو حمزة بن حمران تثبت بها الحقوق المالية أيضاً حيث ورد فيها: (ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع)، وكذلك رواية الكناسيّ: (وذهب عنها اليتم ودفع إليها أموالها).

فينبغي لو عملنا بالروايتين أن تثبت عليها الحدود التامّة، وتثبت لها كافّة الحقوق المالية، وليس التفصيل بينهما.

وثالثاً: أنّ الروايات الدالّة على جواز العتق والوصيّة من ذي عشر سنين خاصّة بالغلام كما هو مصرّح به في الروايات، مع أنّه لا يمكن التعدّي منه إلى غيره، ولو تمّت لا يمكن التعدّي من الوصيّة والعتق إلى كلّ المعاملات الماليّة، لعدم نفوذ تصرّفات الصبيّ في ماله بنحو الاستقلال ما لم يبلغ، كما ذكر في محلّه(1).

ورابعاً: أنّ هذا الجمع مخالف..

أوّلاً: لمعتبرة عبد الله بن سنان المتقدّمة في الطائفة الثالثة من أنّ الجارية إذا بلغت تسعاً تكتب لها الحسنة وتكتب عليها السيئة، والظاهر منها كون ذلك في جميع التكاليف، ولو كان الحكم هو التفصيل بين أنواع التكاليف لكان على الإمام أن يبيّن ذلك؛ لأنّه في مقام بيان سنّ التكليف لدى الذكر والأنثى.

وثانياً: لمعتبرة الحسن بن راشد المتقدّمة في الطائفة الخامسة، حيث المستفاد منها

ص: 73


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) : 36/ 299.

ثبوت الفرائض في سنّ التاسعة - بناءً على أنّ الوارد فيها تسعٌ، كما في بعض النسخ - لو تمّ الاستدلال بها.

الجمع الثاني: هو أنّ الأنثى إذا بلغت ثلاث عشرة سنة فقد بلغت

اشارة

إلّا إذا حاضت قبل ذلك وبعد التاسعة - لأنّ الدم قبل التاسعة لا يكون حيضاً - أو تزوّجت ودخل بها بعد سنّ التاسعة(1).

وهذا الجمع يعتمد على نقطتين أساسيتين:

النقطة الأولى

أنّ موثّقة عمّار تدلّ على حصول البلوغ بثلاث عشرة سنة، إلّا إذا حاضت قبل ذلك.

قال في فقه العقود: (وممّا يؤيّد أيضاً عدم بلوغ البنت بمجرّد وصول سنّها إلى تسع سنين ما عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا إبراهيم (علیه السلام) عن الجارية الّتي لم تدرك، متى ينبغي لها أن تغطّي رأسها ممّن ليس بينها وبينه محرم؟ ومتى يجب عليها أن تقنّع رأسها للصلاة؟ قال: (لا تغطّي رأسها حتّى تحرم عليها الصلاة)(2)، بناءً على الملازمة بين تغطية الرأس وباقي التكاليف، ولا يقبل الحديث التقييد بما قبل تسع سنين؛ لأنّ البنت لا تحيض قبل تسع سنين، ولا التقييد بمن شكّت في مبلغ عمرها فلا تدري هل أكملت التسع سنين أو لا؟ ثُمَّ حاضت، فنجعل الحيض علامة على إكمال التسع سنين، فإنّ هذا تقييد بفرض نادر)(3).

ص: 74


1- يلاحظ: فقه العقود: 2/ 120.
2- الكافي: 5/ 533، باب متى يجب على الجارية القناع، ح2، وسائل الشيعة: 20/ 228، أبواب مقدّمات النكاح، باب: 126، ح2.
3- فقه العقود: 2/ 121.
النقطة الأخرى
اشارة

إذا تزوّجت ودخل بها بعد التاسعة قبل الثلاث عشرة سنة، تكون بالغة كما يظهر من رواية حمران أو حمزة بن حمران المؤيّدة برواية الكناسيّ.

ويؤيّد ذلك: (ما ورد بسند تامّ عن إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن ابن عشر سنين يحجّ؟ قال: (عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت)(1)، بل لعلّ هذا الحديث صريح في عدم كفاية إكمال تسع سنين في بلوغ البنت؛ لأنّ سؤال السائل كان عن ابن عشر سنين، والإمام (علیه السلام) عطف عليه في الجواب الجارية، وهذا يعني الجارية بنت عشر سنين)(2).

ويمكن أن يناقش في هذا الجمع بمناقشتين:

المناقشة الأولى

أنّ روايات الطائفة الثانية الدالّة على التقييد بالدخول والزواج، قد تقدّم الكلام فيها، أمّا رواية الكناسيّ ففي بعض نسخ الرواية المنقولة جعل الزواج والدخول شرطاً، وفي بعض النسخ أثر من آثار البلوغ، يضاف إلى ذلك أنّها غير تامّة السند(3)، وأمّا رواية حمران أو حمزة بن حمران فقد تقدّم الكلام في سندها أيضاً(4).

المناقشة الأخرى

أنّ تقييد روايات التسع بحصول الحيض استناداً إلى موثّقة عمّار الساباطي يلزم منه تخصيص الأكثر؛ لأنّ الغالب من النساء لا يحصل الحيض لها

ص: 75


1- من لا يحضره الفقيه: 2/435، ح2898، وسائل الشيعة: 11/45، أبواب وجوب الحجّ، باب12، ح1.
2- فقه العقود: 2/ 122.
3- يلاحظ: العدد السابق: 36.
4- يلاحظ: العدد السابق: 36.

في سنّ التاسعة، فالأكثر والغالب عند النساء يحصل لها الحيض بعد ذلك، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك. نعم، لو كان التقييد بالحيض أو الزواج والدخول، لم يلزم تخصيص الأكثر خصوصاً في أزمنة الأئمّة (علیهم السلام) الّتي يكون فيها الزواج مبكّراً.

بل بعض روايات التسع تأبى التخصيص، كمعتبرة ابن أبي عمير الثانية (الرواية الثانية من الطائفة الأولى).

الجمع الثالث: الحمل على استحباب ترتيب آثار البلوغ في سنّ التاسعة وحصول البلوغ فعلاً بثلاث عشرة سنة

قال الشيخ آصف محسني (رحمة الله) : (ومقتضى الجمع بينهما ]أي معتبرة ابن أبي عمير الثانية وموثّقة عمّار الساباطي[ حمل الحديث الأوّل على الاستحباب)(1).

ويمكن المناقشة فيه:

أوّلاً: ما معنى استحباب البلوغ، هل يستحبّ ترتيب آثار البلوغ جميعها الّتي منها أنّها تملك التصرّف في مالها، وعليها الحدود؟

ولكن لا معنى لاستحباب البلوغ في هذه الأمور، فهي إمّا أن تثبت وإمّا أن لا تثبت.

لا يقال: باستحباب الأمور العبادية على من بلغت تسع سنين دون بقية الأمور المرتبطة بالبلوغ.

فإنّه يقال: إنّ معتبرة ابن أبي عمير مطلقة شاملة لجميع الآثار.

وثانياً: أنّ معتبرة ابن أبي عمير تأبى الحمل على الاستحباب، بل هي في مقام بيان الحدّ الّذي يحصل به البلوغ، الّذي هو موضوع لتمام التكليف.

ص: 76


1- الفقه ومسائل طبّية: 1/ 204.

المرجّحات

اشارة

بعد عدم تماميّة وجوه الجمع لا بُدَّ من الرجوع إلى المرجّحات:

إنّ المرجّحات ثلاثة فقط، وهي: الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة، ولا ترجيح بالأحدثية وبصفات الراوي استناداً إلى مقبولة عمر بن حنظلة على ما ذهب إليه بعض الفقهاء.

المرجّح الأوّل: الشهرة

إنْ كانت الشهرة المرجّحة في باب التعارض هي الشهرة الفتوائية - كما ذهب إليه بعض الأعلام(1) - فهي مع روايات التسعة كما تقدّم، وإن كانت الشهرة المرجّحة في باب التعارض هي الشهرة الروائية - كما يظهر من مقبولة عمر بن حنظلة(2) - فروايات التسعة هي الأكثر والأشهر من رواية الثلاث عشرة سنة.

بيان ذلك: أنَّ روايات الطائفة الأولى والثانية والثالثة ومعتبرة الحسن بن راشد - الّتي هي الطائفة الخامسة بناءً على نسخة التسع - والروايات الدالّة على جواز الدخول بتسع سنين - بناءً على الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ - كلّها تدلّ في الجملة على البلوغ بتسعٍ وإن كان بعضها ضعيفاً.

ص: 77


1- التعادل والترجيح (السيّد الخميني (قدس سره) ): 175، حيث جعل الخبر المخالف للشهرة الفتوائية ليس بحجّة، فهي من باب تميّز الحجّة عن اللا حجّة.
2- تهذيب الأحكام: 6/ 303، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، ح845، وسائل الشيعة: 27/ 107، أبواب صفات القاضي، باب9، ح1.

المرجّح الثاني: موافقة الكتاب

قد يقال: إن الموثّقة موافقة للكتاب بخلاف روايات التسعة، فهي غير موافقة له؛ ولذا ترجّح موثّقة عمّار الساباطي على غيرها.

تقريب ذلك: توجد آيات قد يستظهر منها أنّ الموثّقة موافقة للكتاب:

الآية الأولى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾(1).

الآية الثانية: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾(2).

ولا يصدق غالباً على البنت البالغ عمرها تسع سنين أنّها بلغت الحلم أو بلغت النكاح إلّا إذا تزوّجت ودخل بها، فعندئذ يصدق ذلك إمّا حقيقة، أو بمسامحة مقبولة(3).

أقول: الظاهر أنّ المقصود بالحلم هو خروج ماء الشهوة بشروط مذكورة في محلّها سواء كان في يقظة، أو نوم في الذكر أو الأنثى(4)، وهذا المعنى لا يكون مرجّحاً لروايات التسع، أو لرواية العشر، أو لروايات الثلاث عشرة كما هو واضح، ولا يفرّق فيه بين المتزوّجة وغيرها، فصدقه على الجميع بنحو واحد.

وأُشكل على الاستدلال بالآية الأولى بأنّ بلوغ النكاح في النساء معناه قابليتها لأنْ تُنْكَح، ولا شكّ أنّ المرأة لها قابلية ذلك إذا بلغت تسع سنين(5)، وتدلّ عليها

ص: 78


1- سورة النساء: 6.
2- سورة النور: 59.
3- يلاحظ: فقه العقود: 2/ 125.
4- يلاحظ: مسالك الأفهام: 4/ 143، رياض المسائل: 9/ 239، جواهر الكلام: 26/ 11.
5- يلاحظ: فقه العقود: 2/ 127.

أخبار كثيرة قد تقدّم بعضها، فتكون الآية مرجّحاً لروايات التسع.

وقد تقدّم الكلام عن ذلك في الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ(1)، فلا نعيد.

المرجّح الثالث: مخالفة العامّة

والظاهر أنّ كلا القولين - تسع سنين وثلاث عشرة سنة - مخالف للعامّة، ولم يلتزم أحد من فقهاء العامّة بأحد القولين.

نعم قد يقال(2): إنّ موثّقة عمّار الساباطي الّتي تدلّ على حصول البلوغ ببلوغ الأنثى ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك، وروايات الطائفة الثانية - وهما روايتا حمران أو حمزة بن حمران وبريد الكناسيّ - الّتي تدلّ على حصول البلوغ بتسع سنين بشرط الزواج والدخول أقرب إلى العامّة من روايات التسع، ولذا تطرح الموثَّقة وروايات الطائفة الثانية؛ لأنّ فيها ميلاً واقتراباً إلى أقوال العامّة، إذ يبدو أنّ العامّة لا يفتون بالبلوغ في البنت بإكمال التسع سنين، بل يتراوح سنّ البلوغ في البنت عندهم بين الخمس عشرة سنة إلى سبع عشرة أو تسع عشرة سنة.

والوجه في الطرح استناداً إلى ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة: (فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد)، فقلت: جُعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: (ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالآخر)(3).

ص: 79


1- يلاحظ: العدد السابق: 49.
2- يلاحظ: فقه العقود: 2/ 124.
3- تهذيب الأحكام: 6/ 303، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، ح845، وسائل الشيعة: 27/ 107، أبواب صفات القاضي، باب9، ح1.

فإنّه يقال:

أوّلاً: أنّ هذا المرجّح لا يتمّ إلّا بعد فقدان تمام المرجّحات بناءً على الترتيب بينها؛ ولذا لو تمّ مرجّح شهرة الرواية لا نصل إلى هذا المرجّح.

وثانياً: أنّ الظاهر من المقبولة أنّ الخبرين المختلفين إذا كان كلاهما موافقاً للعامّة، وكان أحد الخبرين موافقاً لحكّام العامّة وقضاتهم يطرح الخبر الموافق للحكّام دون الخبر الآخر الّذي هو أيضاً موافق لبعض فقهاء العامّة من غير الحكّام وقضاتهم، فيكون معنى الميل في الرواية هو الموافقة في القول، وليس أن يكون أحد الخبرين فيه قرب إلى فقهاء العامّة، ومفروض الكلام أنّ كلتا الطائفتين مخالفة للعامّة.

وثالثاً: أنّ روايات الطائفة الثانية غير تامّة سنداً كما تقدّم(1)، ورواية الكناسيّ مختلف في نقلها، ففي نقل الشيخ الزواج والدخول شرط، وفي نقل الكليني أثر من آثار البلوغ كما تقدّم(2).

ص: 80


1- يلاحظ: العدد السابق: 31.
2- يلاحظ: العدد السابق: 36.

العمومات الفوقانية

اشارة

لو فرض عدم وجود جمع عرفي وعدم وجود مرجّح فلا بُدَّ من الرجوع إلى العمومات الفوقانية، وما يمكن أن يستدلّ به عدّة وجوه:

الوجه الأوّل

عمومات الخطابات القرآنية الّتي توجّه التكليف إلى الناس، مثل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾(1)، ولا شكّ أنّ عنوان الناس يشمل الجميع، والخارج من هذا الحكم غير المميّز ذكراً كان أو أنثى - لعدم شموله بالخطاب -، والصبيّ المميّز - بسبب الأدلّة الدالّة على البلوغ بخمس عشرة سنة لو تمّت -. وأمّا الصبيّة المميّزة فيمكن توجيه الخطاب لها، وحديث الرفع لا يشملها إلّا بنفي الخصوصية عن الصبيّ، وهو أمر يحتاج إلى جزم، فيحتمل أنّ اهتمام الشارع بالأعراض أوجب عليها أموراً لا تجب على مَن كان في سنّها من الذكور.

ويمكن التعميم إلى بقية العبادات من جهة نفي الخصوصية عن الحجّ، فيستبعد وجوب الحجّ دون غيره من العبادات.

ولكن يمكن المناقشة في ذلك: بأنّ الآية الكريمة لها مخصّص من غير الروايات المتعارضة، وهي الرواية الدالّة على عدم وجوب الحجّ على الجارية ما لم تطمث، كمعتبرة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن ابن عشر سنين يحجّ؟ قال: (عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت)(2). فهي

ص: 81


1- سورة آل عمران: 97.
2- من لا يحضره الفقيه: 2/ 435، ح2898، وسائل الشيعة: 11/ 44، أبواب وجوب الحجّ، باب12، ح1.

تدلّ بالمفهوم على عدم وجوب الحجّ ما لم تطمث.

الوجه الثاني

التمسّك بقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾(1).

وجه الاستدلال: التمسّك بإطلاق الآية فتشمل البالغ وغيره - كما تقدَّم في الآية السابقة - ويخرج من تحت الإطلاق كلّ ما تقدّم غير المميِّز ذكراً أو أنثى، والصبيّ المميِّز، وتبقى الصبيّة المميِّزة تحته.

ولكن يمكن المناقشة: بأنّ الآية الكريمة ليست في مقام البيان من هذه الجهة - أي شمولها حتّى للصغيرة والصغير - وإنّما بعض الآيات في مقام بيان تأسيس أصل وجوب الصلاة، وبعضها من باب الحثّ والتأكيد على الصلاة فلا إطلاق فيها.

الوجه الثالث

الاستدلال بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(2)، فلا خصوصية للمؤمنين في الآية الكريمة، فتشمل المؤمنات، ولا شكّ في صدق المؤمنة على مَن كانت صبيّة مميِّزة، ولو تمّ الاستدلال بها لأمكن تعميم الوجوب إلى الصلاة من جهة استبعاد وجوب الصوم عليها دون الصلاة، ولكن التعميم إلى بقيّة الواجبات - كالحجّ وغيره - صعب؛ لأنّ احتمال الخصوصية موجود.

الوجه الرابع

الاستدلال بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(3) بالبيان المتقدّم في الوجه الثالث، ولكن لا يمكن التعميم إلى غيرها من الحدود

ص: 82


1- سورة البقرة: 43، 83، 110، وغيرها من الآيات القرآنية.
2- سورة البقرة: 183.
3- سورة المائدة: 1.

والقصاص.

إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ التصرّف المالي يتوقّف على أمرين هما البلوغ والرشد - كما عليه المشهور(1) - أو الرشد فقط - كما عليه بعض الأعلام(2) - ومعه لا يمكن إمضاء عقوده وتصرّفاته المالية ما لم يعلم حصول البلوغ والرشد، أو الرشد؛ لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية(3).

فالوجوه الأربعة تثبت التكليف، ولكن ما تمّ منها إنّما يتمّ في بعض موارد التكليف، وهي الصلاة أو الصيام، وأمّا باقي الواجبات - غير ما يرتبط بالمعاملات - فتدخل تحت الأصل النافي للتكليف، وهو استصحاب عدم الحجّ - مثلاً - لأنّه يتيقّن عدم وجوب الحجّ قبل ذلك، ويشكّ في التكليف بعد حصول التمييز، فيستصحب عدم وجوب الحجّ حتّى يحصل يقين بوجوب الحجّ.

ص: 83


1- يلاحظ: جواهر الكلام: 22/ 260.
2- نُسب إلى المقدّس الأردبيليّ عدم اشتراط البلوغ في نفوذ تصرّفات الصبيّ إذا كان رشيداً. يلاحظ: جواهر الكلام: 22/ 260. أقول: لعلّ هذا يظهر من مجمع الفائدة والبرهان: 8/ 152.
3- العامّ المقصود به هو الآية السادسة من سورة النساء الّتي تقدّم الكلام فيها - العدد السابق: 49- ولم نبحث دخالة البلوغ في موضوع الحكم أو أنَّ الرشد هو تمام الموضوع خوفاً من الإطالة.

إشكال عامّ على روايات البلوغ بالسنّ

اشارة

إنّ روايات علامية الحيض على البلوغ لو تمّت في نفسها(1) فقد يقال إنّها تعارض روايات البلوغ بعد إكمال سنّ التاسعة.

بيان ذلك بتقريبين:

التقريب الأوّل

اشارة

(جعل البلوغ بالسنّ المذكور يعني لغوية جعله بالحيض؛ لتأخّره عنه، كما أنّ جعله بالحيض يعني عدم العبرة بالسنّ وعدم كونه سبباً للبلوغ، وإلّا لكان الجعل المذكور لغواً أيضاً؛ لتقدّم السنّ المذكور على الحيض)(2).

ويكفي في دفع اللغوية أن يقال: إنّ الحيض علامة لمن تجهل سنّها أو تشكّ فيه(3).

وقد ذكر إشكالان على هذا الجواب:

الإشكال الأوّل

أنّ تقييد روايات الحيض بمن شكّت أو جهلت سنّها تقييد بالفرد النادر(4).

والجواب عنه: بأنّه في السنين المتأخّرة من النادر أن تجهل أو تشكّ المرأة في سنّها، أمّا في الأزمنة السابقة فلا يعلم ذلك، بل شهدنا بعض كبار السنّ في عصرنا

ص: 84


1- لم أقف على البحث، ولذا افترضت تماميّة أدلّة علامية الحيض، وليس غرضي التشكيك في علامية الحيض.
2- مجلّة الاجتهاد والتجديد: العدد السابع/ 203.
3- يلاحظ: مدارك الأحكام: 1/ 316، الحدائق الناضرة: 3/ 170، وغيرهما.
4- يلاحظ: فقه العقود: 2/ 121.

لا يعلم سنّه، وإنّما قدّر له عُمر وكتب في السجلات الرسمية على أساس التقدير، مع أنّ المراد ليس تقييد علامية الحيض بذلك، بل المراد بيان الثمرة المحتملة من جعل الحيض علامة.

الإشكال الآخر
اشارة

(مع الجهل بالسنّ لا يعلم بحصول الحيض شرعاً، فما قبل التسع ليس حيضاً حتّى إذا جهل تاريخه بالنسبة لعمر المرأة.

وبعبارة أخرى: إنّ التمسّك بروايات الحيض في مجهولة السنّ تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، وهو غير صحيح)(1).

ويجاب عن هذا الإشكال بجوابين:

الجواب الأوّل

أنّ حصول الحيض في الغالب يكون في سنّ متأخّر عن التاسعة - كما تقدّمت الإشارة إليه - فخروج الدم بصفات الحيض قد يوجب حصول اليقين ولو عند أكثر النساء ببلوغها سنّ التاسعة؛ ولذا قال الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء: (مع حصول العلم أو الاطمئنان، أمّا بدونه فالحكم بالحيضيّة مشكل، وعدّ الحيض من علائم البلوغ إنّما هو بهذا الاعتبار)(2).

الجواب الآخر
اشارة

وهو أنَّه ينبغي النظر إلى الروايات النافية للحيض عمّن لم تبلغ

ص: 85


1- مجلّة الاجتهاد والتجديد: العدد السابع/ 204.
2- العروة الوثقى (المحشّاة): 1/ 529، ويلاحظ في نفس الصفحة تعليق السيّد الخميني والمحقّق أغا ضياء العراقي، ووافقهم السيّد الشهيد الصدر (قدس سره) في الفتاوى الواضحة: 247، قائلاً: (وأمّا إذا رأت الدم وهي تشكّ في إكمالها لتسع سنين، فإن أدّت رؤيتها هذه إلى اليقين بأنّها قد أكملت تسع سنين - نظراً إلى أنّ البنت لا ترى دماً عادة قبل التاسعة - اعتبرت ذلك الدم حيضاً).

تسع سنين، هل نفي الحيض فيها نفي واقعي؟ فتكون الرواية إخباراً عن أمر واقعي، وهو أنّ الأنثى لا ترى الحيض واقعاً قبل التسع، فيكون حصول الحيض لها كاشفاً عن بلوغها هذا السنّ، أم هو نفي الحيض شرعاً، بمعنى عدم ترتيب آثار الحيض شرعاً لو وقع لها الحيض قبل التاسعة، فيكون حصول الحيض طبّيّاً(1) في مشكوكة السنّ لا يكشف عن حصول السنّ المذكور(2)؟

وفي المقام ذكر الأعلام روايتين:

الرواية الأولى

عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: قال أبو عبد اللّه (علیه السلام) : (ثلاث يتزوّجن على كلّ حال: الّتي لم تحض ومثلها لا تحيض)، قال: قلت: وما حدّها؟ قال: (إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين، والّتي لم يدخل بها، والّتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض)، قلت: وما حدّها؟ قال: (إذا كان لها خمسون سنة)(3).

ولكن في طريقها سهل بن زياد، وهو ممّن لم تثبت وثاقته.

الرواية الأخرى

معتبرة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) ، قال: (إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة، وكتبت عليه السيئة وعوقب، وإذا بلغت

ص: 86


1- الحيض الطبّيّ: هو خروج الدم والخلايا من رحم الأنثى الّتي تحدث بسب تمزق بطانة الرحم بعد عدم تخصيب البويضة وموتها، ويحدث ذلك غالباً ما بعد (12- 16) يوم من إنتاج البويضة. يلاحظ: الموسوعة العربية العالمية: 9/ 634، سلسلة الصحّة - متاعب المرأة الشهرية وطرق علاجها: 12.
2- يلاحظ: مصباح المنهاج (كتاب الطهارة): 4/ 40.
3- الكافي: 6/ 85، باب طلاق التي لم تبلغ والتي يئست من المحيض، ح4، وسائل الشيعة: 22/ 179، أبواب العدد، باب2، ح4.

الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك أنّها تحيض لتسع سنين)(1).

تقدّم الكلام في هذه الرواية(2)، وتقدّم أنّ المقصود بها إمكان الحيض، لا الحيض الفعليّ(3)؛ لأنّ حصول الحيض في سنّ التاسعة أمر نادر أو قليل(4).

والظاهر من كلتا الروايتين: أنّ نفي وقوع الحيض قبل التاسعة واقعي، فتدلّان على عدم وقوع الحيض قبل التاسعة.

قد يقال(5): إنّ الحيض الطبّيّ قد وقع فعلاً قبل التاسعة، فلا يمكن الإخبار عن عدم وقوعه؛ لأنّه خبر مخالف للواقع، فتكون قرينة على أنّ المراد هو نفي الحيض الشرعيّ بلسان نفي موضوعه وعدم ترتيب آثاره الشرعيّة لو وقع قبل التاسعة(6).

فإنّه يقال: وقوعه في حالة نادرة لا يضرّ ذلك، فالرواية ناظرة إلى الأفراد المتعارفة، وتخبر عنها كما لو قيل: إنّ الطفل يفتح عينه ويرى بعد الساعة الفلانية من الولادة، فهو إخبار عن الحالة المتعارفة، فلا يرد عليه أنّ البعض لا يستطيع الرؤية أصلاً؛ لأنّ المتكلّم كان نظره إلى غالب الأفراد.

ولكن بما أنّ الحيض الطبّيّ يمكن أن يقع لبعض النساء قبل بلوغ تسع سنين ولو

ص: 87


1- الكافي: 7/ 68، باب الوصيّ يدرك أيتامه فيمتنعون من أخذ مالهم ومن يدرك ولا يؤنس منه الرشد وحدّ البلوغ، ح7، وسائل الشيعة: 19/ 365، كتاب الوصايا، باب44، ح12.
2- يلاحظ: العدد السابق: 38.
3- يلاحظ: مجلّة فقه أهل البيت (علیهم السلام) : العدد الثالث/ 83.
4- يلاحظ: مصباح المنهاج (كتاب الطهارة): 4/ 41.
5- يلاحظ: مصباح المنهاج (كتاب الطهارة): 4/ 42.
6- لمزيد من الملاحظة يراجع مصباح المنهاج (كتاب الطهارة): 4/ 40 وما بعدها.

كان نادراً، فلو حصل الحيض الطبّيّ عند من تجهل عمرها أو تشكّ فيه فلا يكون كاشفاً عن بلوغها تسع سنين. نعم، لو حصل الاطمئنان ببلوغها تسعاً بسبب حصول الحيض - ولو لندرة وقوع الحيض الطبّيّ قبل بلوغ الأنثى تسع سنين - فهو يكفي؛ لحجّية الاطمئنان، إلّا أنّ هذا هو الجواب الأوّل المتقدّم وليس غيره(1).

التقريب الآخر

أنّ روايات الحيض لها مفهوم يدلّ على عدم حصول التكليف قبله، فيعارض إطلاق روايات البلوغ بالسنّ.

مثلاً: معتبرة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن ابن عشر سنين يحجّ؟ قال: (عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت)(2).

فإنّه يستدلّ على نفي وجوب الحجّ ما لم تطمث الجارية من مفهوم المعتبرة. وهذا يرجع إلى البحث الأصولي المعروف، وهو التعارض بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم.

بيان ذلك: أنّ إطلاق مفهوم المعتبرة يدلّ على عدم بلوغ الأنثى ما لم تطمث سواء بلغت تسع سنين أم لا، وأدلّة البلوغ بسنّ التاسعة تدلّ على حصول البلوغ بتسع سنين سواء حاضت في سنّ التاسعة أم لم تحض.

فبين إطلاق الدليلين عموم وخصوص من وجه، ومادّة الاجتماع والتعارض هي من بلغت تسع سنين ولم تطمث، فدليل علامية الحيض يدلّ على عدم البلوغ، ودليل البلوغ بالسنّ يدلّ على حصول البلوغ، ومادّة افتراقهما موردان: مَن لم تطمث

ص: 88


1- يلاحظ: العدد السابق: 38.
2- من لا يحضره الفقيه: 2/ 435، ح2898، وسائل الشيعة: 11/ 44، أبواب وجوب الحجّ، باب12، ح1.

وهي دون التاسعة فإنّه لا شكّ في عدم بلوغها، ومَن طمثت وهي بلغت تسع سنين أو أكثر فلا شكّ في بلوغها.

ويمكن أن يقال: بتقييد مفهوم كلٍّ من الشرطيتين - إذا بلغت تسع سنين فقد بلغت، وإذا حاضت فقد بلغت - ب-(أو) كما ذكر في محلّه(1) فيكون كلاهما - إكمال تسع سنين والحيض - سبباً مستقلّا ً لحصول البلوغ(2).

وما قيل(3) في الجواب عن هذا الوجه من أنّ الحيض: إمّا متأخّر عن التسع أو مقارن فيستحيل جعل الحيض علامة على البلوغ لأنّه لغو، تقدّم الجواب عنه في التقريب الأوّل(4).

وإن لم يتمّ التقييد المذكور يحصل التعارض بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم ويصل الأمر إلى التساقط، والمرجع بعد ذلك العمومات الفوقانية على مبنى السيّد الخوئي(5)؛ لأنّ الإطلاق يثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدّمات الحكمة، وهو خارج مدلول اللفظ، فلا يرجع إلى المرجّحات.

أمّا على المسلك المشهور فيرجع إلى مرجّحات باب التعارض.

المرجّح الأوّل: الشهرة الروائية

وهنا يقال: إنّ كلتا الطائفتين مشهورة، فلا يمكن الترجيح بالشهرة.

ص: 89


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) (محاضرات في أصول الفقه): 46/ 251.
2- يلاحظ: مجلّة الاجتهاد والتجديد: العدد السابع/ 204.
3- يلاحظ: المصدر نفسه والموضع السابق.
4- يلاحظ: العدد السابق: 16.
5- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) (مصباح الأصول): 48/ 516.

المرجّح الثاني: موافقة الكتاب

يمكن أن يقال: إنّ البلوغ بالتسع موافق لقوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾(1) بالبيان المتقدّم في بحث الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ(2).

نعم، لو كان المراد ببلوغ النكاح في الآية الكريمة النكاح الّذي يكون منه الولد - كما قيّد بعض الأعلام(3) - فتكون الرواية مرجّحة لروايات الحيض؛ لأنّ النكاح الّذي يكون منه الولد في الأنثى لا يكون إلّا بعد الحيض، والحيض غالباً متأخّر عن التاسعة.

ولكنّ هذا التقييد لا دليل عليه - كما أشار إلى ذلك الشهيد الثاني في المسالك(4) - فالآية الكريمة ليس فيها إلّا بلوغ النكاح، فهي مطلقة، وصلاح المرأة للنكاح بعد إكمال سنّ التاسعة كما دلّت عليه الأخبار، فتكون مرجّحة لروايات التسع على روايات الحيض.

المرجّح الثالث: طرح الموافق للعامّة والتمسّك بالمخالف لهم

إنّ روايات البلوغ بالحيض موافقة للعامّة، وروايات البلوغ بتسع سنين مخالفة للعامّة، فلا بُدَّ من طرح الموافق، فترجّح روايات البلوغ بتسع سنين على روايات البلوغ بالحيض.

أمّا موافقة روايات الحيض للعامّة فيتّضح ذلك من قول ابن قدامة في المغني:

ص: 90


1- سورة النساء: 6.
2- يلاحظ: العدد السابق: 49.
3- يلاحظ: الحدائق الناضرة: 20/ 344، وغيره.
4- يلاحظ: مسالك الأفهام: 4/ 142.

(والحيض علم على البلوغ في حقّ الجارية لا نعلم فيه خلافاً)(1)، وقال النووي: (فأمّا الحيض فهو بلوغ)(2)، وقال ابن عابدين: (والجارية بالاحتلام والحيض والحبل)(3).

وأمّا مخالفة العامّة لروايات البلوغ بالسنّ فقد تقدّم الكلام فيه في المحور الأوَّل من البحث.

ص: 91


1- المغني: 4/ 515.
2- المجموع: 13/ 360.
3- ردّ المحتار على الدرّ المختار شرح تنوير الأبصار: 9/ 226.

المحور الثالث: التنبيهات

التنبيه الأوّل

اشارة

هل البلوغ يحصل بإكمال تسع سنين أو يكفي الدخول فيها؟

ذهب المشهور بل ادّعي عليه الإجماع بإكمال تسع سنين.

قال الشهيد الثاني في المسالك: (ويعتبر إكمال السنة الخامسة عشرة، والتاسعة في الأنثى، فلا يكفي الطعن فيها، عملاً بالاستصحاب، وفتوى الأصحاب)(1).

وقال صاحب الرياض: (ثُمَّ إنّ مقتضى الأصول المتقدّمة وظاهر النصوص والعبارات الحاكمة - بالبلوغ بالتسع والخمس عشرة سنة بحكم التبادر والصدق عرفاً وعادة - إنّما هو السنتان كاملة، فلا يكفي الطعن فيهما بالبديهة، وبه صرّح جماعة، كالمسالك وغيره، وظاهره - كغيره - أنّ ذلك مذهب الأصحاب كافّة)(2).

وخالف البعض وقال بكفاية الدخول، ولم نعلم من هو القائل، فقد نسب إلى البعض، أو إلى بعض الأجلّة، قال صاحب الرياض: (فمناقشة بعض الأجلّة في ذلك ]أي إکمال التسع[ واحتماله الاكتفاء بالطعن ]أي الدخول بالتسع[ عن الكمال، واهية)(3).

وقال صاحب المناهل: (وفي التسع الّذي هو سنّ الإناث - على المختار - الطعن فيهما كما عن بعض، أو لا بل يعتبر كمالهما، الأقرب الثاني)(4).

ص: 92


1- مسالك الأفهام: 4/ 144.
2- رياض المسائل: 9/ 245.
3- نفس المصدر والموضع.
4- المناهل: 84.

والمهمّ هو التعرّض إلى الأدلّة والوقوف عليها:

الدليل الأوّل

استصحاب عدم البلوغ الثابت قبل الدخول في التاسعة عند الشكّ فيه بعد الدخول في التاسعة(1).

الدليل الثاني

لا يصدق البلوغ إلّا لمن أكملت التسع كما في معتبرة أبي بصير(2) (لا يدخل بالجارية حتّى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين)، بناءً على تماميّة الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ، وكذلك الروايات الدالّة على عدم جواز الدخول بأقلّ من تسع سنين (فلا يدخل بها حتّى يأتي لها تسع سنين)، كما في صحيحة الحلبي(3) بناءً على الملازمة.

الدليل الثالث
اشارة

أنّ ظاهر التعبير ب-(بلوغ الشيء) هو خروج الشيء الّذي جعل غاية، نعم لو عبرّ ب-(البلوغ إلى الشيء) يكون معناه الوصول إليه، فيكفي الدخول في التاسعة(4).

ولكن بعد مراجعة مصادر اللغة واستعمال القرآن الكريم لهذه الكلمة، نجد أنّ لها ثلاثة معان:

المعنى الأوّل

هو الوصول إلى الشيء، قال في الصحاح: (بلغ بلغت المكان بلوغاً: وصلت إليه)(5)، وقال ابن فارس: (بلغ: الباء واللام والغين أصل واحد،

ص: 93


1- يلاحظ: مجلّة الاجتهاد والتجديد: العدد السابع/ 205.
2- وسائل الشيعة: 20/ 101، أبواب مقدّمات النكاح، باب45، ح2.
3- نفس المصدر، ح1.
4- يلاحظ: المناهل: 84.
5- الصحاح: 4/ 1316.

وهو الوصول إلى الشيء، تقول: بلغت المكان، إذا وصلت إليه)(1)، وقال ابن منظور: (البلاغ: ما يتبلّغ به ويتوصّل إلى الشي ء المطلوب)، ثُمَّ قال: (وبلغت المكان بلوغاً: وصلت إليه)(2).

ومن الاستعمالات القرآنية قوله تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾(3).

المعنى الثاني

هو المشارفة بمعنى قريب إلى الوصول، قال في الصحاح: (وكذلك إذا شارفت عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، أي: قاربنه)(4).

وقال الراغب: (وربّما يعبّر به عن المشارفة عليه، وإن لم ينته إليه)(5)، وغيرهما(6).

وفي الاستعمال القرآني قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾(7).

المعنى الثالث

هو الوصول إلى الحدّ الأعلى والمرتبة المنتهى(8)، قال الراغب: (البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، مكاناً كان أو زماناً، أو أمراً من الأمور المقدّرة)(9)، وقال في تاج العروس: (بلغ المكان، بلوغاً، بالضمّ: وصل إليه

ص: 94


1- معجم مقاييس اللغة: 1/ 301.
2- لسان العرب: 8/ 419.
3- سورة المائدة: 95.
4- الصحاح: 4/ 1316.
5- مفردات ألفاظ القرآن: 144.
6- يلاحظ: شمس العلوم: 1/ 624، تاج العروس: 12/ 7، لسان العرب: 8/420.
7- سورة الطلاق: 2.
8- يلاحظ: التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 1/ 334.
9- مفردات ألفاظ القرآن: 144.

وانتهى)(1)، وفي الاستعمال القرآني قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾(3).

أمّا المعنى الأوّل والثاني فيناسب الدخول في التاسعة، وأمّا المعنى الثالث فيناسب إكمال التاسعة والدخول في العاشرة، ومع الإجمال لا يمكن الاستدلال.

فالعمدة هو الدليل الأوّل والثاني.

التنبيه الثاني

لا شكّ أنّ المراد من السنين هو السنين الهلالية كما عليه فقهاء الإسلام(4).

التنبيه الثالث

اشارة

قد يقال: إنّ جعل التكليف على مَن بلغت تسع سنين هو جعل للتكليف على القاصر، وهو مخالف للقانون المدني ولحقوق الإنسان.

قلت: يمكن تنبيه المستشكل على أمور عديدة:

الأمر الأوَّل

أنّ القانون يجعل عقوبة قانونية بالحبس على الحدث - وهو من أتمّ السابعة من عمره ولم يتمّ الثامنة عشرة من عمره(5) - إذا ارتكب جناية أو جنحة(6).

ص: 95


1- تاج العروس: 12/ 7.
2- سورة البقرة: 234.
3- سورة الإسراء: 37.
4- يلاحظ: المناهل: 86.
5- راجع تعريف الحدث في المادّة (66) من قانون العقوبات العراقي.
6- في الجناية مدّة الحبس من سنة إلى خمس سنوات راجع المادّة (73).

وليس ذلك إلّا لأنّ المشرّع القانوني يرى أنّ التمييز يبدأ من سنّ السابعة ثُمَّ يزداد بشكل تدريجي حتّى يصل إلى مرحلة الرشد.

الأمر الثاني

أنّ تكليف البالغ شرعاً مقيّد بعدم حصول الضرر والحرج، فكلّ حكم شرعي ضرري أو حرجي منفيّ، فلو كان الصوم أو الحجّ ضررياً أو حرجياً فهو منفيّ عن البالغ.

الأمر الثالث
اشارة

الّذي لعلّه هو منشأ الإشكال هو ما يعبّر عنه حسب القانون ومنظمة الصحّة العالمية بزواج القاصرات، وهذا يمكن الجواب عنه بعدّة أجوبة:

الجواب الأوَّل

جواب نقضي، وهو أنَّ أكثر دول العالم تسمح بالزواج المبكّر وفقاً لدراسة أجراها صندوق الأمم المتّحدة للسكان، ففي عام 2010م ذَكَرت دراسة أجريت في 158بلداً أنّ ثمانية عشر عاماً هو الحدّ الأدنى للسنّ القانونية لزواج النساء دون موافقة الوالدين أو موافقة من السلطة المختصّة. ومع ذلك يسمح قانون الدولة أو القانون العرفي في 146بلداً للفتيات الّلاتي تقلّ أعمارهن عن ثمانية عشر عاماً بالزواج بموافقة الوالدين أو السلطات الأُخر، وفي 52بلداً يمكن للفتيات تحت سنّ خمسة عشر عاماً الزواج بموافقة الوالدين. وفي المقابل فإنَّ ثماني عشرة سنة هو السنّ القانوني للزواج دون موافقة بالنسبة للذكور في 180بلداً. ولكن في 105بلداً يمكن للذكور دون هذا السنّ الزواج بموافقة أحد الوالدين أو السلطة المختصّة، وفي 23 بلداً يمكن للفتيان تحت سنّ خمس عشرة سنة الزواج بموافقة الوالدين(1).

ص: 96


1- يلاحظ: ويكيبيديا (الموسوعة الحرّة).

وقيل أيضاً: (بالرغم من أنّ السنّ القانوني للزواج في معظم الدول هو ثمانية عشر عاماً، إلّا أنّ أغلب السلطات القضائية تسمح باستثناءات للشباب القاصر مع موافقة قضائية للآباء، ومثل تلك القوانين يتمّ سنّها أيضاً في الدول النامية)(1).

وقيل أيضاً: (سنّ الزواج في الولايات المتّحدة على عكس معظم الدول الغربية، ورغم تحديد الولايات الاثنين والثلاثين حدّاً أدنى منصوصاً عليه للزواج يتراوح ما بين أربعة عشر وثمانية عشر عاماً، لم تحدّد الولايات المتّحدة الأمريكية الثمانية عشر عاماً حدّاً أدنى قانونياً، إلّا إذا تمّ استيفاء شروط قانونية أُخر حيث يمكن للأفراد الّذين تصل أعمارهم ثماني عشرة سنة الزواج في الولايات الأمريكية باستثناء ولايتي نبراسكا (تسع عشرة سنة) ومسيسيبي (واحد وعشرين سنة). بالإضافة إلى ذلك، تسمح جميع الولايات باستثناء ولايتي ديلاوير ونيوجيرسي للقاصرين بالزواج في ظروف معينة، بناءً على موافقة الوالدين أو الموافقة القضائية، أو الحمل، أو مزيج من هذه الحالات. فيما تسمح معظم الولايات للأفراد البالغين ستّ عشرة سنة وسبع عشرة سنة بالزواج بموافقة الوالدين فقط، كما يمكن في معظم الولايات زواج الأطفال تحت سنّ ستّة عشر عاماً أيضاً.

وعلى الرغم من غياب تشريع قانوني للحدّ الأدنى لسنّ الزواج، فإنّ عرف القانون العامّ حدّد الحدّ الأدنى التقليدي في هذه الولايات بأربع عشرة سنة للبنين واثنتي عشرة سنة للبنات، والّذي تمّ تأكيده من قبل السوابق القضائية في بعض الولايات)(2).

ص: 97


1- المصدر السابق.
2- يلاحظ: المصدر السابق تحت عنوان (سنّ الزواج في الولايات المتّحدة).
الجواب الثاني

أنّ الديانات السماوية تسمح بالزواج المبكّر - وإن حصل الاختلاف في مقداره -، أمّا المسلمون فواضح، إذ هو محلّ اتّفاق بينهم.

أمّا عند اليهود فالأب له أن يزوّج الولد - ذكراً كان أو أنثى - قبل البلوغ، بل حتّى قبل سنّ التمييز(1). نعم، لو بلغ الذكر ثلاث عشرة سنة والأنثى اثنتي عشرة سنة ونصف تكون لهما الولاية على نفسيهما في التزويج عند اليهود الربّانيين، أمّا اليهود القرائين فالولاية تحصل للذكر والأنثى إذا حصلت علامات البلوغ الطبيعية الّتي تحصل بالتغيّرات الجسمانية(2).

أمّا المسيحيون فالأب له أن يزوّج ولده برضاه - ذكراً كان أو أنثى - إذا كان مميّزاً، ولو كان غير مميّز يقع الزواج باطلاً حتّى لو كان بموافقة ولي الصغير والصغيرة(3).

نعم، وقع خلاف بينهم في سنّ ولاية الولد على نفسه بالتزويج بدون حاجة إلى رضا الولي، فذهب الكاثوليك إلى أنَّ هذه الولاية تكون عند سنّ ستّة عشر عاماً في الذكر وأربعة عشر عاماً في الأنثى، وذهب الإنجيليون إلى أنّها ثمانية عشر عاماً في الذكر وستّة عشر عاماً في الأنثى، وذهب الأرثوذكس إلى أنّها تكون في سنّ الواحد والعشرين في كليهما(4).

الجواب الثالث
اشارة

انتفاء الدواعي والأسباب الّتي منعت من زواج القاصرات.

ذكرت منظمة الصحّة العالمية أسباباً عديدة للمنع من زواج القاصرات:

ص: 98


1- يلاحظ: نظام الزواج في الشرائع اليهودية والمسيحية: 138.
2- يلاحظ: المصدر السابق: 140.
3- يلاحظ: المصدر السابق: 139.
4- يلاحظ: المصدر السابق: 140.
السبب الأوَّل

أنَّ (زواج الأطفال يجعل الفتيات أكثر عرضة بشكل كبير للمخاطر الصحّية الشديدة للحمل والولادة المبكّرين - وكذلك بالنسبة لأطفالهن - فيكوننّ أكثر عرضة للمضاعفات المرتبطة بالمخاض الباكر(1).

حيث إنّ نسبة وفاة الحامل - سواء كانت صغيرة أو لا - في الدول المتقدّمة تمثّل واحد بالمائة من معدلات وفيات الحوامل، وأنّ نسبة 99 بالمائة من وفيات الحوامل - سواء كانت صغيرة أو لا - في الدول غير المتقدّمة بسبب ضعف الإمكانيات والموارد الطبّية والفقر(2).

ولا شكّ أنَّ الشارع المقدّس لا يرضى بالضرر الّذي يقع على الفتيات، وهذا يختلف حسب جسم المرأة ووضعها الصحّي، ولا يحقّ للزوج إجبار زوجته على الإنجاب مع احتمال الضرر العقلائي(3)، فلها أن تستخدم موانع الحمل، وما ذكرته منظمة الصحّة هو يبيِّن خطورة الولادة في سنين مبكّرة، وليس خطورة الزواج، فيمكن للإنسان أن يتزوّج بدون حصول حمل في السنين الأولى للزواج لو كان الحمل يشكّل خطراً على حياة الزوجة.

ولذا نُقل في المقال نفسه في موقع منظمة الصحّة العالمية: (أنَّ مضاعفات الحمل والولادة هي السبب الرئيسي للوفاة بين الفتيات في الفئة العمرية خمس عشرة سنة إلى تسع عشرة سنة. والفتيات اللائي يتزوّجن في وقت لاحق ويؤخرن الحمل إلى ما بعد سنّ المراهقة تتاح لهنّ فرصة أكبر للتمتّع بصحّة أوفر، وتحصيل تعليم أعلى، وبناء

ص: 99


1- يلاحظ: موقع منظمة الصحّة العالمية: تحت عنوان: (الآثار الضارّة للزواج المبكّر للأطفال).
2- يلاحظ: موقع منظمة الصحّة العالمية: تحت عنوان: (حمل المراهقات).
3- يلاحظ: قاعدة لا ضرر ولا ضرار (تقريرات السيّد السيستاني (دام ظله العالی) ): 149.

حياة أفضل لأنفسهنّ ولأسرهنّ)(1).

السبب الثاني

(الفتيات الصغيرات اللائي يتزوّجن قبل الثمانية عشر عاماً هنّ الأكثر عرضة للوقوع ضحايا لعنف الشريك الحميم مقارنة باللائي يتزوّجن في سنّ أكبر)(2).

وهذا أيضاً ليس بسبب الزواج، بل بسبب قلّة الوعي، وثقافة العنف، والشارع المقدّس يحرّم العنف وضرب الزوجة، وهذا ممّا لا شكّ فيه.

السبب الثالث

تأثير الزواج المبكّر على ترك التعليم.

لا شكّ أنَّ الزواج لا يؤثّر على التعليم، إذ يمكن للمرأة أن تتعلّم وتقرأ وتدرس وهي متزوّجة، ويمكن أن تشترط الزوجة أو وليها في العقد أن لا يمنعها الزوج من التعليم والدراسة.

وأخيراً أقول: إنّ الشارع المقدّس لا يوجب الزواج أو التزويج على البنت البالغة تسعاً أو أزيد، وإنّما يترك الأمر للمرأة ووليها بما يريانه من المصلحة، فللأب أن لا يزوّج ابنته لظروف يراها مناسبة كما لو كانت بُنيتها الجسدية ضعيفة، أو يراها غير قادرة على تحمّل مسؤولية الزواج وتكوين أسرة في مثل هذا السنّ، وكذلك المرأة هي أيضاً لها حقّ عدم القبول بالزواج، إذ لا زواج إلّا برضاها، إذن فهناك فسحة في التشريع وهو يوافق العقل والفطرة.

ص: 100


1- يلاحظ: موقع منظمة الصحّة العالمية: تحت عنوان: (حمل المراهقات).
2- موقع منظمة الصحّة العالمية.

المحور الرابع: نتائج البحث

1. الرأي السائد والمشهور لدى الإمامية هو بلوغ الأنثى بسنّ التاسعة، ولم يخالف إلّا الشيخ في المبسوط، وابن حمزة في الوسيلة والفيض الكاشاني وبعض المعاصرين.

2. إنّ أدلّة البلوغ بسنّ التاسعة تعارض موثّقة عمّار الساباطي الدالّة على البلوغ بسنّ ثلاث عشرة سنة.

3. لا جمع عرفي بين الروايات، ولكن تتقدّم أدلّة البلوغ بتسع سنين بسبب المرجّحات.

4. إنّ روايات علامية الحيض - لو تمّت في نفسها - تعارض روايات البلوغ بتسع سنين، ولكن تتقدّم الثانية على الأولى بسبب المرجّحات.

5. إنّ البلوغ يحصل بإكمال تسع سنين هلاليّة، ولا يكفي الدخول في سنّ التاسعة.

والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

* * *

ص: 101

مصادر البحث

القرآن الكريم.

1- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (ت460ﻫ )، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة، ط. الأولى، 1390ﻫ.

2- أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق: تقرير بحث الشيخ مسلم الداوري، بقلم الشيخ محمّد عليّ صالح المعلّم، الناشر: مؤسّسة المحبّين للطباعة والنشر، ط. الأولى، 1426ﻫ.

3- بدائع الصنائع: الشيخ علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (ت587ﻫ)، الناشر: دار الكتب العلمية، ط. الثانية، 1424ﻫ.

4- البلوغ حقيقته علامته وأحكامه: الشيخ جعفر السبحاني، مطبوع مع رسالة في تأثير الزمان والمكان على استنباط الأحكام، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) ، ط. الأولى.

5- تاج العروس من جواهر القاموس: السيّد محمّد بن محمّد بن محمّد بن عبد الرزاق المعروف ب-(السيّد المرتضى الزبيدي (ت1205ﻫ)، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط. الأولى، 1414ﻫ.

6- التحقيق في كلمات القرآن الكريم: الشيخ حسن المصطفوي، الناشر: مركز الكتاب للترجمة والنشر، ط. الأولى، 1402ﻫ.

7- تذكرة الفقهاء: الشيخ أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (ت726ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)

ص: 102

لإحياء التراث، ط. الأولى، 1414ﻫ.

8- تفسير القمّي: الشيخ عليّ بن إبراهيم القمّي (ق3)، تحقيق: السيّد طيّب الموسوي الجزائري، الناشر: دار الكتب، ط. الثالثة، 1404ﻫ.

9- تهذيب الأحكام في شرح مقنعة الشيخ المفيد: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (ت460ﻫ)، الناشر: دار الكتب الإسلامية، ط. الرابعة، 1407ﻫ.

10-جامع أحاديث الشيعة: السيّد حسين الطباطبائي البروجردي (ت1380ﻫ)، الناشر: منشورات فرهنك سبز، ط. الأولى، 1386 ﻫ ش.

11-الجامع للشرائع: الشيخ يحيى بن سعيد الحلّي (ت690ﻫ)، الناشر: مؤسّسة سيّد الشهداء العلمية، قم، ط الأولى، 1405ﻫ.

12-جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمّد حسن النجفي (ت1266ﻫ)، دار إحياء التراث العربي، ط. السابعة، 1404ﻫ.

13-الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: الشيخ يوسف بن أحمد البحراني (ت1186ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد تقي الإيرواني والسيّد عبد الرزاق المقرّم، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط. الأولى، 1405ﻫ.

14-الخصال: الشيخ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين ابن بابويه المعروف ب-(الشيخ الصدوق) (ت381ﻫ) تحقيق: الشيخ عليّ أكبر الغفّاري، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، مطبعة مؤسّسة النشر الإسلامي، ط. الثامنة 1429ﻫ.

ص: 103

15-الخلاف: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (ت460ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط. الأولى، 1407ﻫ.

16-رجال ابن داود: الشيخ حسن بن عليّ بن داود الحلِّي (ت707 ﻫ)، الناشر: منشورات جامعة طهران، 1383ﻫ.

17-ردّ المحتار على الدرّ المختار شرح تنوير الأبصار: الشيخ محمّد أمين الشهير بابن عابدين (ت1252ﻫ)، الناشر: دار الكتب العلمية، ط. الثانية، 2003م - 1423ﻫ.

18-روضة المتَّقين في شرح من لا يحضره الفقيه: المحدّث المولى محمّد تقي المجلسي المعروف ب-(المجلسي الأوَّل) (ت1070ﻫ)، تحقيق: السيّد حسين الموسوي الكرماني، السيّد فضل الله الطباطبائي، الشيخ عليّ بناه اشتهاردي، الناشر: مؤسّسة الثقافة الإسلامية - كوشانبور، ط. الثانية، 1406ﻫ.

19-رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل: السيّد عليّ الطباطبائي (ت1231ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد بهره مند، الشيخ محسن قديري، الشيخ كريم الأنصاري، الشيخ عليّ مرواريد، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط. الأولى، 1418ﻫ.

20-السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: الشيخ محمّد بن منصور بن أحمد المعروف ب-(ابن إدريس الحلِّي) (ت 598ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط. الثانية، 1410ﻫ ق.

21-سلسلة الصحّة - متاعب المرأة الشهرية وطرق علاجها: نخبة من الأطباء

ص: 104

الاختصاصيين، الناشر: الدار الدولية للنشر والتوزيع، ط. الأولى 1996م.

22-سند العروة الوثقى (كتاب النكاح): الشيخ محمّد السند، الناشر: مكتبة فدك، ط الأولى، 1429 ﻫ.

23-سؤال وجواب فقهي: السيّد محمّد باقر الشفتي (ت1260ﻫ)، تحقيق: السيّد مهدي الشفتي، الناشر: مركز التحقيقات في الحوزة العلمية - أصفهان، ط. الأولى، 1429 ﻫ.

24-شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم: نشوان بن سعيد الحميري (ت573ﻫ)، الناشر: دار الفكر المعاصر، ط. الأولى، 1420ﻫ ق.

25-الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حمّاد الجوهري (ت393ﻫ) تحقيق: أحمد عبد الغفور العطّار، الناشر: دار العلم للملايين، ط. الأولى، 1410ﻫ.

26-العروة الوثقى المحشّاة: السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (ت1337ﻫ)، تحقيق: أحمد محسني السبزواري، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط. الأولى، 1419ﻫ.

27-غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام: الميرزا أبو القاسم بن محمّد حسن الشفتي المعروف ب-(المحقّق القمّي) (ت1231ﻫ)، الناشر: مكتب التبليغات الإسلامية للحوزة العلمية، في قم، ط. الأولى، 1417ﻫ.

28-غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع: السيّد حمزة بن عليّ المعروف ب-(ابن زهرة الحلبي) (ت 585ﻫ)، مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) ، ط. الأولى، 1417ﻫ.

ص: 105

29-الفتاوى الواضحة وفقاً لمذهب أهل البيت (علیهم السلام) : السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (ت1400ﻫ)، الناشر: دار التعارف للمطبوعات، ط. الثامنة، 1403ﻫ.

30-فقه العقود: السيّد كاظم الحسيني الحائري، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، المطبعة: خاتم الأنبياء، ط. الثالثة، 1428ﻫ.

31-الفقه ومسائل طبّية: الشيخ محمّد آصف محسني (ت 1440 ﻫ)، ط. الأولى، المطبعة: ياران.

32-فهرست أسماء مصنّفي الشيعة (رجال النجاشي): الشيخ أبو العبّاس أحمد بن عليّ بن أحمد بن العبّاس النجاشي (ت450ﻫ)، تحقيق: السيّد موسى الشبيري الزنجاني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط. التاسعة، 1419ﻫ.

33-قاعدة لا ضرر ولا ضرار: محاضرات سماحة السيّد عليّ الحسيني السيستاني (دام ظله العالی) ، بقلم: السيّد محمّد باقر السيستاني، الناشر: مكتب السيّد السيستاني (دام ظله العالی) - قم، المطبعة: مهر، ط. الأولى 1414ﻫ.

34-قبسات من علم الرجال: أبحاث السيّد محمّد رضا السيستاني، جمعها ونظمها السيّد محمّد البكّاء، دار المؤرّخ العربي، ط. الأولى، 1437ﻫ.

35-الكافي: الشيخ أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني (ت329ﻫ)، تحقيق: الشيخ عليّ أكبر الغفّاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية، ط. الرابعة، 1407ﻫ.

36-كتاب البيع: السيّد مصطفى الخميني (ت1398ﻫ)، الناشر: مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، ط. الأولى، 1418ﻫ.

ص: 106

37-كتاب النوادر: الشيخ أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري القمِّي (ق3)، الناشر: مدرسة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، ط. الأولى، 1408ﻫ.

38-كفاية الفقه المشتهر ب-(كفاية الأحكام): المحقّق الشيخ محمّد باقر السبزواري (ت1090ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط. الأولى، 1423ﻫ.

39-لسان العرب: محمّد بن مكرم ابن منظور (ت722 ﻫ)، تحقيق: أحمد فارس صاحب الجوائب، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دار صادر، ط. الثالثة، 1414ﻫ.

40-المبسوط في فقه الإمامية: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت460ﻫ)، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، ط. الثالثة، 1387ﻫ.

41-مجلّة الاجتهاد والتجديد: العدد السابع - صيف 2008م - 1428ﻫ تصدر من مركز الدراسات الفقهية المعاصرة في بيروت.

42-مجلّة فقه أهل البيت (علیهم السلام) : ط. الثالثة - العدد الثالث، ط. الثانية - العدد الحادي والثلاثين.

43-المجموع شرح المهذّب: الشيخ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676ﻫ)، الناشر: دار الكتب العلمية، ط. الأولى، 1423ﻫ.

44-مختلف الشيعة: أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (ت726ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط. الثانية، 1414ﻫ.

ص: 107

45-مدارك الأحكام في شرح عبادات شرائع الإسلام: السيّد محمّد بن عليّ الموسوي العاملي (ت 1009ﻫ)، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط. الأولى، 1411ﻫ.

46-مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: الشيخ محمّد باقر بن الشيخ محمّد تقي المجلسي المعروف ب-(المجلسي الثاني) (ت1110ﻫ)، تحقيق: السيّد هاشم رسولي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، ط. الثانية، 1404ﻫ.

47-مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: الشيخ زين الدين بن عليّ العاملي المعروف ب-(الشهيد الثاني) (ت911ﻫ)، الناشر: مؤسّسة المعارف الإسلامية، ط. الأولى، 1413ﻫ.

48-مستمسك العروة الوثقى: السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1390ﻫ)، الناشر: مطبعة الآداب في النجف الأشرف، ط. الثالثة، 1390ﻫ.

49-مستند الشيعة في أحكام الشريعة: الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي (ت 1245ﻫ)، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط. الأولى، 1415ﻫ.

50-مشايخ الثقات: الميرزا غلام عرفانيان اليزدي، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، ط. الثالثة، 1419ﻫ.

51-مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع: الشيخ محمّد باقر بن محمّد أكمل المعروف ب-(الوحيد البهبهاني) (ت1205ﻫ)، الناشر: مؤسّسة المجدِّد الوحيد البهبهاني، ط. الأولى، 1424ﻫ.

52-مصباح المنهاج (كتاب الطهارة): السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم،

ص: 108

الناشر: مؤسّسة المنار.

53-معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة: السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت 1413ﻫ)، الناشر: مركز نشر الثقافة الإسلامية، ط. الخامسة، 1413ﻫ.

54-معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي المعروف ب-(ابن فارس ت395ﻫ)، الناشر: مكتب الدعاية الإسلامية للحوزة العلمية في قم، ط. الأولى، 1404ﻫ.

55-المغني على مختصر الخرقي: الشيخ موفق الدين أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن محمّد بن قدامة (ت620ﻫ)، الناشر: دار الكتاب العربي، 1972م 1392ﻫ.

56-مفاتيح الشرائع: الملا محمّد بن مرتضى بن محمود المعروف ب-(الفيض الكاشاني) (ت1091ﻫ)، الناشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفي، ط. الأولى.

57-مفردات ألفاظ القرآن: الشيخ حسين بن محمّد المعروف ب-(الراغب الأصفهاني) (ت502ﻫ)، تحقيق: صفوان عدنان داودي، الناشر: دار العلم - الدار الشامية، ط. الأولى 1412ﻫ.

58-ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي المعروف ب-(المجلسي الثاني) (ت1110ﻫ)، الناشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفي، ط. الأولى، 1406ﻫ.

59-من لا يحضره الفقيه: الشيخ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين ابن بابويه المعروف ب-(الشيخ الصدوق) (ت381ﻫ)، تحقيق الشيخ عليّ أكبر الغفّاري، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط.

ص: 109

الثانية، 1413 ﻫ.

60-المناهل: السيّد محمّد المجاهد الطباطبائي الحائري (ت1242ﻫ)، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط. الأولى.

61-منهاج الصالحين: السيّد عليّ الحسيني السيستاني (دام ظله العالی) ، دار المؤرّخ العربي، ط. عشرون، 1440ﻫ.

62-مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام: السيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري (ت1414ﻫ)، الناشر: مؤسّسة المنار، ط. الرابعة، 1413ﻫ.

63-المهذَّب: القاضي عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي (ت481ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إعداد مؤسّسة سيّد الشهداء، 1406ﻫ.

64-موسوعة الإمام الخوئي: تقرير لأبحاث السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت1413ﻫ)، الناشر: مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره) ، المطبعة: نينوى، ط. الرابعة، 1430ﻫ.

65-الموسوعة العربية العالمية، الناشر: مؤسّسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، ط. الثانية، 1999م - 1419ﻫ.

66-نظام الزواج في الشرائع اليهودية والمسيحية: الأستاذ الدكتور محمّد شكري سرور، الأستاذ في جامعة القاهرة، دار الفكر العربي، 1979م.

67-النهاية في مجرَّد الفقه والفتاوى: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (ت460 ﻫ)، دار الكتاب العربي، ط. الثانية، 1400ﻫ.

68-الوافي: الشيخ محمّد بن مرتضى بن محمود المعروف ب-(الفيض الكاشاني) (ت

ص: 110

1091ﻫ)، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، ط. الأولى، 1406ﻫ.

69-وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ (ت1104ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط. الثالثة، 1429ﻫ.

70-الوسيلة إلى نيل الفضيلة: الشيخ محمّد بن عليّ الطوسي المعروف ب-(ابن حمزة) (ق6)، الناشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفي، ط. الأولى، 1408ﻫ.

المواقع الإلكترونية

1- موقع منظمة الصحّة العالمية.

2- موقع ويكيبيديا (الموسوعة الحرّة).

ص: 111

ص: 112

استثناء الواقف المنافع لنفسه (الحلقة الثانیة) - الشّيخ أمجد رياض (دام عزه)

اشارة

إنّ من المؤمنين من يريد أن يقف بعض أملاكه ولكن لا يرغب أن يستغني عن منافعه في حياته، فلديه رغبة شديدة في أن يكون له صدقة جارية تبقى له ذخراً لآخرته، ولكن يريد أن ينتفع بما يروم وقفه طوال حياته أو في جزء منها، هل يجوز ذلك أو لا؟

هذا ما سنتناول البحث عنه من جميع جوانبه، بدءاً بتاريخ الوقف وحقيقته، والأقوال في هذه المسألة بالخصوص، ثمّ نستعرض الأدلّة والمناقشة فيها، وخاتمة في الحدود المتعلّقة بهذه المسألة.

ص: 113

ص: 114

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.

وبعد، فقد تعرّضنا في الحلقة السّابقة لأدلّة القول الأوّل - وهو جواز استثناء منافع الوقف لنفسه -، ووصل الكلام إلى أدلّة القول الثاني، فنقول:

ما يستدلّ به على عدم صحّة الوقف مع استثناء الواقف للمنفعة

اشارة

وأمّا ما يستدلّ به على القول الثاني - وهو عدم صحّة الوقف مع استثناء المنفعة - فعدّة وجوه:

1 - إنّ المقام من قبيل الوقف على النفس وهو ممنوع.

2 - اقتضاء الوقف.

3 - رواية عليّ بن سليمان.

4 - رواية طلحة بن زيد.

ص: 115

1 - أمّا الوجه الأوّل فقد عوّل جمع عليه، ولعلّ منهم السيّد الحكيم (قدس سره) (1).

والجواب عنه بأنّه إذا لم يجعل الواقف نفسه من ضمن الموقوف عليهم فهو ليس من الوقف على النفس في شيء وإن اشترط استثناء بعض المنافع لنفسه، بل هو إخراج لتلك المنافع من دائرة الوقف، فكيف يكون من الوقف على النفس؟

وسيأتي بعض الكلام في الوقف على النفس لاحقاً.

2 - وأيضاً قد استدلّوا بقاعدة أنّ الوقف يقتضي نقل الملك والمنافع عن نفسه، فإذا شرط بقاء المنافع لنفسه أو نحوه فقد اشترط ما ينافي مقتضى الوقف فلا يصحّ.

قال الشهيد الثاني (قدس سره) : (قاعدة: مذهب الأصحاب اشتراط إخراج الوقف عن نفسه بحيث لا يبقى له استحقاق فيه من حيث إنّ الوقف يقتضي نقل الملك والمنافع عن نفسه، فإذا شرط الواقف قضاء ديونه أو إدرار مؤنته أو نحو ذلك فقد شرط ما ينافي مقتضاه، فيبطل الشرط والوقف معاً. ولا فرق بين أن يشترط قضاء دين معيّن وعدمه، ولا بين اشتراط إدرار مؤنته مدّة معيّنة ومدّة عمره. ومثله شرط الانتفاع به مدّة حياته أو مدّة معلومة، وسواء قدّر ما يؤخذ منه أو أطلقه، لوجود المقتضي في الجميع)(2).

وكأنّه (قدس سره) يشير إلى اتّفاق الأصحاب على عدم انتفاع الواقف من الوقف، بل عبّر صاحب الرياض (قدس سره) عن ذلك بقوله: (وبه قطع الأصحاب كما في المسالك،

ص: 116


1- منهاج الصالحين: 2/ 246.
2- مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: 5/ 363. ومثله ما ذكره المحقّق الكركي في جامع المقاصد في شرح القواعد: 9/ 27.

مؤذناً بدعوى الإجماع عليه)(1).

ويمكن أن يناقش في ما ذكروه من القاعدة - مضافاً إلى أنّه لم يثبت الإجماع على ذلك، ولو ثبت فلن يكون حجّة بنفسه بعد أن لم يكن كاشفاً عن قول المعصوم (علیه السلام) ، بل ولا كاشفاً عن موقف الأصحاب في زمنهم (علیهم السلام). ولو كان كذلك فيقتصر فيه على القدر المتيقّن، وهو مورد الوقف على النفس - بأنّه لا منافاة بين الوقف وبين اشتراط استثناء بعض المنافع أو كلّها للواقف لمدّة معيّنة أو غير معيّنة بعد ما تقدّم من أنّ الوقف ليس إلّا تحبيس الأصل أو تحريره، فإنّ نفس الوقف لا يقتضي نقل المنافع كما ذكره (قدس سره). بل حتّى لو قيل بأنّ الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة فإنّه لا يقتضي نقل تمام المنفعة، فهو نظير البيع مع استثناء المنافع لمدّة معيّنة، حيث إنّ البيع ليس إلّا النقل والانتقال، وأمّا المنافع فهي من اللوازم التي تثبت للمبيع في حال الإطلاق وعدم الاستثناء والاشتراط.

ولا غرابة في حصول الوقف من دون منافع لمدّة من الزمن كما في محلّ كلامنا، ونظيره وقف العين التي ليست لها منافع فعلية، كوقف الشجرة قبل أن تثمر أو الدابّة الصغيرة قبل أن تقوى للركوب أو الحمل عليها.

قال صاحب مفتاح الكرامة (قدس سره) : (ولا يعتبر فيه - أي الوقف - كونه - أي النفع - في الحال، بل يكفي الانتفاع المتوقّع كالفلو والعبد الصغيرين، والزمن الذي يرجى زوال زمانته ونحو ذلك، ولم نجد مخالفاً ولا متأمّلاً في ذلك)(2)، ولا يوجد خلاف

ص: 117


1- رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل: 9/ 295.
2- يلاحظ: مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة: 21/ 641.

عند المتأخّرين في ذلك(1).

نعم، الوقف مع الاستثناء المذكور ينافي إطلاق الوقف، وهذا لا محذور فيه بعد أن لم يطلق الواقف، فإطلاق الوقف يقتضي تسبيل تمام المنفعة، فاشتراط الواقف استثناء المنافع لا ينافي مقتضى الوقف وإن كان ينافي مقتضى إطلاقه.

ومن هنا قال الآخوند (قدس سره) : (وأمّا إذا كان الوقف على خصوص غيره وكان الشرط سبباً لبقاء مقدار أداء ديونه من المنفعة على ملكه فلم يعلم منافاته لمقتضاه بذاته؛ لقوّة احتمال أن يكون الوقف إنّما كان مقتضياً لذلك بإطلاقه - إلى أن قال - مع إمكان أن يقال - بل قيل -: إنّ الشرط على هذا لا يكون منافياً إلّا لمقتضى إطلاقه أيضاً، وإنّ اشتراط ذلك على جهة الاستثناء له من التسبيل الذي قصده بالوقف لا ينافي ما هو قضيته؛ ضرورة أنّه تعلّق حينئذٍ بغير ما شرطه لنفسه من المنفعة.

وبالجملة: لم يعلم أنّ اشتراط ذلك ينافي إلّا إطلاقه - إلى أن قال - فانقدح أنّ تملّك الموقوف عليه تمام المنفعة إنّما هو قضية إطلاقه لا قضيته بذاته، فليس تسبيل تمام الثمرة من قوامه ولا من لوازمه. ولا وجه لتوهّم لزوم إخراج النفس عن الثمرة بالمرّة كالعين الموقوفة إلّا لزوم تسبيل كلّها ابتداءً أو بتبع وقف العين، وقد عرفت عدم لزومه أصلاً، وإنّه لازم إطلاق الوقف لا قضية ذاته)(2).

ص: 118


1- يلاحظ العروة الوثقى: 6/ 311، منهاج الصالحين (السيّد الحكيم): 2/ 250، منهاج الصالحين (السيّد الخوئي): 2/ 240، منهاج الصالحين (السيّد السيستاني): 2/ 403، منهاج الصالحين (السيّد محمّد سعيد الحكيم): 2/ 305.
2- قطرات من يراع بحر العلوم (كتاب الوقف): ق1/ 41.

إذاً، لا منافاة بين القاعدة المذكورة وبين اشتراط الانتفاع، وإنّما المنافاة بين إطلاق الوقف وبين الاشتراط، وهذا لا محذور فيه بعد أن لم يكن الواقف يريد هذا الإطلاق، أي أنّ مفهوم الوقف ليس إلّا حبس العين وتسبيل الثمرة، والواقف إنّما أنشأ هذا المفهوم، وهو أعمّ من أن يكون مشروطاً وغيره. نعم، إطلاق الوقف يقتضي تسبيل تمام المنفعة، فاشتراط الواقف لا ينافي مقتضى الوقف وإن كان ينافي مقتضى إطلاقه.

وعلى ذلك فمحلّ الكلام خارج عن مقتضى هذه القاعدة كما ذكر صاحب الجواهر (قدس سره) (1) - ووافقه عليه صاحب العروة (قدس سره) (2) - فإنّ المستفاد من القاعدة أنّ الوقف المطلق التامّ من غير اشتراط يقتضي قطع العلقة بين الواقف وبين الموقوف، وأمّا محلّ كلامنا فهو الوقف الذي تستثنى منه بعض منافعه، فيكون محلّ القاعدة في خصوص ما لم يستثن من الوقف، وأمّا ما استثني فلم يقع تحت ما وقف أصلاً ليكون محلَّاً لجريان القاعدة.

قال صاحب العروة (قدس سره) : (إذا استثنى في ضمن إجراء الصيغة من منافع الوقف مقدار مؤنته ما دام حيّاً أو استثنى نحو ذلك ممّا يعود إليه نفعه، فالظاهر عدم الإشكال فيه؛ إذ على هذا يكون خارجاً عن الوقف - إلى أن قال - وبالجملة: انتفاع الواقف بالعين الموقوفة على الفقراء أو غيرهم بنحو الاستثناء ليس وقفاً على نفسه، ولا انتفاعاً بالوقف بما هو وقف).

ص: 119


1- يلاحظ: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 28/ 68.
2- يلاحظ: العروة الوثقى: 6/ 302.

وقد تقدّم الكلام في ما لو شكّ في منافاة الشرط لمقتضى الوقف، فراجع(1).

3 - هذا، وقد ذكر صاحب الحدائق (قدس سره) (2): أنّ (الأولى أن يجعل هذا الكلام - منافاة القاعدة لاستثناء الواقف المنافع لنفسه - توجيهاً للنصّ، والعلّة الحقيقية إنّما هي النصّ، وهذا الكلام ممّا يصلح توجيهاً له وبياناً للحكمة في ذلك). وقد تقدّم أنّ ظاهر عبارة ابن الجنيد (رحمة الله) أنّ مستند المنع هو الأحاديث.

ولذلك عدل أستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) عن الاستدلال بالقاعدة المذكورة إلى الاستدلال بالنصوص قائلاً: (بل هو مقتضى إطلاق قوله (علیه السلام) في المكاتبة: (فإن أكلت منها لم تنفذ..)؛ لظهور أنّه يصدق الأكل ممّا تصدّق به..)(3).

والنصّ المذكور هو ما رواه الكليني(4) عن محمّد بن جعفر الرزّاز، عن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن سليمان، قال: كتبت إليه - يعني أبا الحسن (علیه السلام) -: جعلت فداك ليس لي ولد ولي ضياع ورثتها من [عن. فقيه] أبي وبعضها استفدتها، ولا آمن الحدثان، فإن لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك، [لي.كا] أن أوقف [أقف.فقيه] بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين، أو أبيعها وأتصدّق بثمنها في حياتي عليهم؟ فإنّي أتخوّف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي، فإن أوقفتها [وقفتها. فقيه] في حياتي فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟ فكتب (علیه السلام) : (فهمت

ص: 120


1- يلاحظ: العدد السابق: 171 وما بعدها.
2- العروة الوثقى: 6/ 302.
3- مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 395.
4- الكافي: 7/ 37، باب ما يجوز من الوقف والصدقة.. ح 33.

كتابك في أمر ضياعك، وليس [فليس.يب] لك أن تأكل منها [ولا.فقيه] من الصدقة، فإن أنت أكلت منها لم ينفذ(1). إن كان لك ورثة فبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك، وإن [فإن.فقيه] تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك مثل ما صنع أمير المؤمنين (علیه السلام) ).

ورواها الصدوق عن (محمّد بن أحمد بن يحيى، عن العبيدي، عن عليّ بن سليمان ابن رشيد)(2). ورواها الشيخ(3) عن الكليني.

وقد اُستدلّ بها في الجملة(4)، وذلك في مقطعين منها:

الأوّل: (فإن أكلت منها لم ينفذ).

الثاني: (وإن تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك مثل ما صنع أمير المؤمنين (علیه السلام) ).

أمّا المقطع الأوّل ففيه تقريبان:

التقريب الأوّل

التقریب الاول(5): الاستدلال بإطلاقه على عدم جواز استثناء المنافع لنفسه، إذ يصدق على استثناء المنافع أنّه أكل ممّا تصدّق به، كما لو وقف على نفسه بلا فرق. ولا سيّما أنّ الفرق بينهما ممّا يغفل عنه عرفاً.

ص: 121


1- في الوسائل (19/ 177): (لم تنفذ)
2- من لا يحضره الفقيه: 4/ 238، باب الوقف والصدقة والنحل ح 5570.
3- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 9/ 129، باب الوقوف والصدقات ح1.
4- يلاحظ: ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: 14/ 396، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: 23/ 63.
5- يلاحظ: مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 395.

وبعبارة أخرى: أنّ الواقف في محلّ كلامنا - من استثناء بعض المنافع أو كلّها لمدّة - إنّما قد تصدّق بالأصل فهي صدقة، وعندما يستثني المنافع منها فهو يأكل ممّا تصدّق به، ولا فرق في ذلك بين أن يتصدّق بالأصل والمنفعة أو يتصدّق بخصوص الأصل ويستثني المنفعة، إذ الأكل من الصدقة يشمل أكل المنفعة المستثناة من الأصل الذي تصدّق به، أو الأكل من المنفعة المتصدّق بها.

وممّا يقوّي هذا الإطلاق والشمول لصورة استثناء المنافع أنّه يغفل عرفاً عن الفرق بين الوقف على النفس وبين استثناء المنافع، إذ لا فرق يظهر عرفاً بينهما في حياة الواقف.

وقد أجاب غير واحد(1) عن الاستدلال بهذا المقطع بأنّه لا يشمل محلّ الكلام.

وتوضيحه: أنّ المنساق من سؤال عليّ بن سليمان: (فإن أوقفتها [وقفتها.فقيه] في حياتي فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟) هو أنّ مورده خصوص ما إذا أوقف ضياعه من دون أن يتعرّض لاستثناء منافعها لنفسه أيّام حياته، فيسأل هل له في هذه الحالة أن يأكل من واردها ما دام حيّاً أو لا؟ وعلى هذا لا يستفاد من جواب الإمام (علیه السلام) المنع من ذلك في صورة استثناء المنافع كما هو محلّ الكلام.

والحاصل: أنّ جواب الإمام (علیه السلام) إنّما هو بصدد بيان عدم صحّة انتفاع المالك ممّا يتصدّق به أو يوقفه، لأنّه ليس ملكه. وأمّا محلّ الكلام فهو في خصوص الانتفاع من المنفعة الباقية على ملكه دون أصل العين التي هي موقوفة، فلا محلّ للاستناد إلى الرواية في ما نحن فيه.

ص: 122


1- يلاحظ قطرات من يراع بحر العلوم (كتاب الوقف): ق1/ 43، والعروة الوثقى: 6/ 299.

وممّا يؤيّد عدم شمول الرواية لمحلّ الكلام تعبيره (علیه السلام) في الجواب: (لم ينفذ)، فإنّ المقصود به بوضوح هو عدم صحّة الوقف، وانتفاعه ممّا أوقفه لا يؤدّي بطبيعة الحال إلى عدم صحّة وقفه، بل إلى حرمة تصرّفه ذلك، وأقصى ما يترتّب عليه هو الضمان.

نعم، إذا كان المراد من الأكل هو الكناية عن تضمين صيغة الوقف ما يؤدّي إلى الأكل من قبيل الوقف على النفس أو استثناء المنافع فإنّه يمكن أن يوجّه القول بعدم نفوذه، ولكن يكون مراده من قوله: (إن أكلت منها لم تنفذ) أي (إن وقفت على نفسك أو استثنيت المنافع لم يصحّ الوقف)، ولا يخفى بُعد ذلك وحاجته إلى القرينة، وهي مفقودة في المقام.

التقريب الثاني

ما ذكره أستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) قائلاً: (إنّ الظاهر أنّ المراد من قوله (علیه السلام) في المكاتبة: (وإن أكلت منها لم تنفذ..) ليس مجرّد الأكل بعد تمامية الوقف، فإنّ ذلك لا يوجب بطلان الوقف بعد صحّته، غاية الأمر أنّه يوجب حرمة الأكل تكليفاً لمخالفته لمقتضى الوقف. بل المراد ابتناء الوقف على أكل الواقف منه بحيث يؤخذ ذلك عند إنشاء الوقف؛ إمّا لاختصاص الوقف بالواقف، أو قصد العموم له مع غيره)(1).

ولكن قد يلاحظ عليه أنّ المعنى المذكور - مضافاً إلى بُعده عن ظاهر المكاتبة بل كونه تأويلاً بلا شاهد - محلّ تأمّل؛ إذ إنّ مجرّد ابتناء الوقف على أكل الواقف منه بحيث يؤخذ ذلك عند الإنشاء ممّا لا يوجب بطلان الوقف، كما إذا أوقف حسينية

ص: 123


1- مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 396.

لأهالي بلده في كربلاء، ولاحظ حين الوقف أن يكون هو من ضمن من يسكنون الحسينية ويستفيدون منها في أيّام الزيارة، أو أوقف مكتبة عامّة في مدينته قاصداً حين الوقف أن يكون هو ممّن يدخل المكتبة ويستفيد منها.

وبالجملة: مجرّد ابتناء الوقف على أكل الواقف من وارده واستفادته منه لا يوجب البطلان، بل ما يوجبه هو الوقف على النفس، وكما لا يصدق ذلك في المثالين المذكورين لا يصدق فيما إذا استثنى المنافع لنفسه مدّة من الزمن.

هذا، وقد احتمل العلّامة المجلسي(رضوان الله تعالی علیه) (1) أنّ المقصود بأنّه لم تنفذ لأجل عدم القبض، فالأكل منها يشهد على عدم قبضها، فتكون أجنبية عن مقامنا أصلاً.

ولعلّ ما ذكره أقرب ممّا ورد في التقريب المتقدّم.

واحتمل (قدس سره) أيضاً أنّ المراد من قوله (علیه السلام) : (إن كان لك ورثة) هو: أنّه (مع عدم الورثة يمكنه أن يأكل منها ويوصي بوقف ما يبقى بعد وفاته، فإنّه يمضي بناءً على القول بأنّه إذا كان الوارث الإمام (علیه السلام) ينفذ في الكلّ، أو مطلقاً؛ إذ الوارث حينئذٍ هو الإمام وقد أنفذ)(2).

ولكن هذا الوجه بعيد.

وأمّا المقطع الثاني - أي قوله (علیه السلام) : (وإن تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك) - فقد استدلّ أستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) بظهوره في انحصار الجمع بين الغرضين: الانتفاع بماله ووقفه بإبقاء بعض ضياعه على ملكه يتقوّت به، ووقف الباقي.

ص: 124


1- يلاحظ: مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: 23/ 63.
2- ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: 14/ 396.

ثمّ قال: (ودعوى حمل الفقرة المذكورة على ما يعمّ إمساك بعض منافع العين الموقوفة للواقف واستثنائها من الوقف غريبة جدّاً، إذ هي كالصريحة - ولا سيّما بملاحظ السياق - في إرادة إمساك بعض الضياع وعدم وقفها)(1).

وقد صرّح بالدعوى المذكورة صاحب الجواهر وصاحب العروة (قدس سرهما)(2)، قال صاحب العروة (قدس سره) : (إنّ المراد من قوله (علیه السلام) : (وإن تصدّقت أمسكت لنفسك ما يقوتك) أنّه إذا وقف وأراد أن يأكل منه مدّة حياته فليجعل في ضمن إجراء الصيغة شيئاً منه ليقوّت به، وحينئذٍ فيدلّ على الجواز).

وقد أيّد صاحب الجواهر (قدس سره) دعواه بعنوان الباب في الوسائل، حيث قال(3): (باب إن شرط الوقف إخراج الواقف له عن نفسه فلا يجوز أن يقف على نفسه ولا أن يأكل من وقفه، وله أن يستثني لنفسه شيئاً).

وحاصل ردّ هذه الدعوى: أنّ المفهوم عرفاً من الإمساك هو إبقاء بعض الضياع وعدم التصدّق بها، وحمله على التصدّق بالضياع وإبقاء بعض المنافع خلاف الظاهر، ولو أريد التعميم لذلك لنبّه (علیه السلام) ؛ إذ هذا المعنى لا يخطر في ذهن غالب الناس.

قال العلّامة المجلسي (قدس سره) في توضيح المراد من الإمساك: (أي تبقى على ملكيتك ما يقوتك ويكفي لقوتك، وتوقف البقية)(4).

ص: 125


1- مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 395.
2- يلاحظ: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 28/ 68 - 69، العروة الوثقى: 6/ 299.
3- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 19/ 176.
4- ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: 14/ 397.

ولكن قد يقال في توجيه دعوى صاحب الجواهر (قدس سره) بأنّه لا مانع من شمول قوله (علیه السلام) للصورتين: صورة عدم التصدّق ببعض الضياع وبقاؤها على ملكه، وصورة التصدّق بالضياع والإمساك ببعض منافعها له؛ إذ الإمساك كما يستعمل في إبقاء الأعيان كذلك يستعمل في إبقاء المنافع. كما أنّ استثناء المنافع وإن كان بعيداً عن أذهان الناس في زماننا ولكنّه لا يعلم أنّه كان كذلك عند صدور النصّ خصوصاً وأنّ المسألة مطروحة في زمانهم (علیهم السلام) كما يظهر ممّا تقدّم نقله عن فقهاء الجمهور، فليراجع.

هذا، وأمّا قوله (علیه السلام) : (مثل ما صنع أمير المؤمنين (علیه السلام) ) فهو مجمل، فهل أمير المؤمنين (علیه السلام) وقف بعض ما له من ضياع وترك الباقي ليقتات به؟ وهو فيما لو استفيد من الرواية أنّ هذا ما أراده الإمام (علیه السلام) في جوابه لعليّ بن سليمان. ويمكن أن يقال إنّه أراد بذلك ما ذكره في وصيّته من استثناء بعض المنافع لنفقة بعض مواليه وأهاليهم كما تقدّم.

هذا كلّه مع أنّ الرواية المبحوث عنها في المقام غير معتبرة سنداً؛ لعدم وثاقة عليّ ابن سليمان بن رشيد. ولكن بنى على اعتبارها صريحاً المجلسي الأوّل (رحمة الله) (1)، وأستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) (2)، استناداً إلى وثاقة عليّ بن سليمان، لرواية محمّد بن أحمد بن يحيى عنه من غير استثناء القمّيين له.

وقد وافق على كبرى أنّ عدم استثناء القمّيين ممّن يروي عنهم محمّد بن أحمد بن

ص: 126


1- يلاحظ: روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: 11/ 152.
2- يلاحظ: مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 387.

يحيى يدلّ على وثاقته - سواء كان له دلالة تامّة على الوثاقة أو جزء دلالة - الوحيد البهبهاني، والمحدّث النوري، والمحقّق السبزواري، وصاحب الجواهر، والسيّد الحكيم (قدس سرهم) ، وأستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) ، وغيرهم(1).

قال الوحيد البهبهاني: (ومنها: أن يروي عن رجل محمّد بن أحمد بن يحيى ولم يكن من جملة من استثنوه - إلى أن قال - فإنّه أمارة الاعتماد عليه، بل وربّما يكون أمارة لوثاقته على ما يشير إليه التأمّل - إلى أن قال - وعلى كونه أمارة لاعتماد غير واحد من المحقّقين مثل الفاضل الخراساني وغيره)(2).

وأصل هذه الكبرى ما ذكره النجاشي في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى: (كان ثقة في الحديث إلّا أنّ أصحابنا قالوا: كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمّن أخذ، وما عليه في نفسه مطعن في شيء. وكان محمّد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمّد بن موسى الهمداني - إلى أن قال -

ص: 127


1- يلاحظ: مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع: 6/91، تعليقة على منهج المقال: 30 و44و56و61و100و104، وغيرها، خاتمة مستدرك الوسائل: 4/ 189و272و366، 8/ 220، ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد: 1ق2/ 233 وق3/ 442، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 7/ 421، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة: 5/ 346 و486،20/ 38، مستمسك العروة الوثقى: 5/ 224 و310، 8/80، مصباح المنهاج (كتاب الطهارة): 1/ 206. ويلاحظ أيضاً ما ذكره السيّد حسن الصدر (رحمة الله) في نهاية الدراية في شرح الرسالة الموسومة بالوجيزة: 425.
2- تعليقة على منهج المقال: 30.

قال أبو العبّاس ابن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه، وتبعه أبو جعفر ابن بابويه (رحمة الله) على ذلك إلّا في محمّد بن عيسى..)(1).

وما ذكره الشيخ في ترجمته: (محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري القمّي، جليل القدر كثير الرواية له كتاب نوادر الحكمة - إلى أن قال - وقال أبو جعفر ابن بابويه: إلّا ما كان فيها من غلوّ أو تخليط، وهو الذي يكون طريقه محمّد بن موسى الهمداني..)(2).

والقمّيون جروا على ذلك أيضاً، فكانوا يردّون رواية من استثني منهم.

قال ابن الغضائري في ترجمة أحمد بن محمّد بن سيّار: (استثنى شيوخ القمّيين روايته من كتاب نوادر الحكمة)(3)، وفي ترجمة محمّد بن موسى بن عيسى السمّان: (تكلّم القمّيون فيه بالردّ فأكثروا، واستثنوا من كتاب نوادر الحكمة ما رواه)(4)، وفي ترجمة محمّد بن أحمد الجاموراني: (ضعّفه القمّيون واستثنوا من كتاب نوادر الحكمة ما رواه)(5)، وفي ترجمة يوسف بن السخت: (ضعيف مرتفِع القول، استثناه القمّيون من نوادر الحكمة)(6).

ص: 128


1- رجال النجاشي: 348 - 349.
2- فهرست الشيخ الطوسي: 221 - 222.
3- رجال ابن الغضائري: 40.
4- رجال ابن الغضائري: 95.
5- رجال ابن الغضائري: 97.
6- رجال ابن الغضائري: 103.

فاستفاد جمع - كما تقدّم - من ذلك أنّ كلّ من استثنى القمّيون روايته ممّن روى عنه محمّد بن أحمد بن يحيى هو من الضعفاء، وكلّ من لم يستثن فهو من الثقاة، في حين خالف آخرون في كلا الشقين، فلا يدلّ الاستثناء على الضعف، ولا عدم الاستثناء على الوثاقة.

أمّا عدم دلالة الاستثناء على التضعيف - وهو ما ذهب إليه ابن صاحب المعالم، والكرباسي، والسيّد الخوئي (قدس سرهم) (1) - فلأنّ سبب الاستثناء ليس دائماً هو الضعف بل هناك عدّة أسباب، منها الغلوّ والتخليط والإرسال والجهالة عند المستثني والتوقّف بشأنه، ومن المعلوم أنّه قد يختلف في أنحاء الغلوّ والتخليط فقد يؤدّي بعضه إلى الضعف دون بعض. وكذا معرفة الراوي فقد تحرز عند بعضهم دون غيرهم، فلذا خالف جمع فوثّقوا من تمّ استثنائهم كمحمّد بن عيسى اليقطيني، وكذا اللؤلؤي.

وكذلك عدم الاستثناء فإنّه لا يدلّ على الوثاقة بعد أن كان سبب الاستثناء ما تقدّم، إذ أقصى ما يدلّ عليه أنّه من لم يستثنهم لم يثبت لدى المستثني وجود هذه الأسباب فيهم، فلم يثبت لديهم أنّهم غلاة أو مخلّطين أو نحو ذلك.

بل قد يقال: إنّ الاستثناء إنّما هو لروايات هؤلاء بعد أن لم تثبت صحّتها لدى ابن الوليد ومن تابعه، وأمّا ضعف أو وثاقة الرواة فليس كذلك؛ فإنّه لا ملازمة - كما هو واضح - بين صحّة الرواية وعدم صحّتها وبين وثاقة الراوي وضعفه.

قال السيّد الخوئي (قدس سره) : (إنّ اعتماد ابن الوليد أو غيره من الأعلام المتقدّمين

ص: 129


1- يلاحظ استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار: 4/ 231، إكليل المنهج في تحقيق المطلب: 183، المستند في شرح العروة الوثقى (كتاب الصلاة): 12/ 334.

فضلاً عن المتأخّرين على رواية شخص والحكم بصحّتها لا يكشف عن وثاقة الراوي أو حسنه؛ وذلك لاحتمال أنّ الحاكم بالصحّة يعتمد على أصالة العدالة، ويرى حجّية كلّ رواية يرويها مؤمن لم يظهر منه فسق، وهذا لا يفيد من يعتبر وثاقة الراوي أو حسنه في حجّية خبره.

هذا بالإضافة إلى تصحيح ابن الوليد وأضرابه من القدماء الذين قد يصرّحون بصحّة رواية ما، أو يعتمدون عليها من دون تعرّض لوثاقة رواتها. وأمّا الصدوق فهو يتبع شيخه في التصحيح وعدمه كما صرّح هو نفسه بذلك)(1).

ولكن خالف في ذلك بعض أساتيذنا (دامت برکاته) فبنى على دلالة الاستثناء على الضعف، علماً أنّه بنى على أنّ عدم الاستثناء لا يدلّ على الوثاقة.

فقال في الشقّ الأوّل: (لا ينبغي الشكّ في أنّ المستفاد من كلام ابن الوليد هو ضعف من استثنيت رواياتهم من رجال نوادر الحكمة، ولذلك عقّب عليه ابن نوح بقوله: (قد أصاب شيخنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه، وتبعه أبو جعفر ابن بابويه إلّا في محمّد بن عيسى بن عبيد، فلا أدري ما رابه فيه لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة)، فإنّ استغرابه من استثناء ما رواه محمّد بن عيسى لأنّه كان على ظاهر العدالة والوثاقة دليل قاطع على أنّه فهم من كلامه الطعن في وثاقة المذكورين.

وهكذا فهمه الآخرون كالنجاشي الذي وافق ابن نوح على كلامه المتقدّم، ومثله الشيخ (قدس سره) - إلى أن قال - والنتيجة: أنّه لا ينبغي المناقشة في أصل دلالة الاستثناء على

ص: 130


1- معجم رجال الحديث: 1/ 70 - 71.

ضعف من استثنيت رواياتهم ممّا رواه محمّد بن أحمد بن يحيى)(1).

وقال في الشقّ الثاني: (إنّ الاستثناء يدلّ على الضعف، وأمّا عدم الاستثناء فلا يدلّ على الوثاقة، أقصى الأمر عدم ثبوت ضعف غير المستثنين عند ابن الوليد ومن وافقه)(2).

ويمكن أن يناقش في ما ذكره في الشقّ الأوّل بأنّ ما ذكروه من استثناء: (أو يرويه عن رجل.. أو يقول: وروي.. أو يقول: وجدت في كتاب ولم أروه..)، يناسب أن يكون المراد هو استثناء الروايات لما هو أعمّ من الضعف، بل يكفي وجود خلل في سندها بما تقدّم من خلط أو إرسال أو ضعف الرواة أو نحو ذلك، وليس الأمر محصوراً في التضعيف.

نعم، يمكن أن يستفاد التضعيف في خصوص الاستثناء في حال الانفراد كما في اللؤلؤي ومحمّد بن عيسى على ما ذكره الشيخ.

وأمّا ما ذكره ابن نوح فمؤدّاه هو أنّ الأسباب التي تمّ الاستثناء بلحاظها تامّة إلّا في خصوص العبيدي، ومن الواضح أنّه استفاد التضعيف في شأن العبيدي، فهل الأمر كذلك بالنسبة لغيره، أو لخصوصية ما ذكره ابن الوليد في ما استثناه من روايات العبيدي؟

فقد اختلف ما استثناه ابن الوليد من روايات العبيدي بحسب نقل الشيخ والنجاشي، فالأوّل ذكر (بإسناد منقطع ينفرد به)، ولعله استفاد منه التضعيف لمكان

ص: 131


1- قبسات من علم الرجال: 1/ 495.
2- قبسات من علم الرجال: 1/ 213.

الانفراد - كما تقدّم -، والثاني ذكر خصوص الإسناد المنقطع، والمراد به هو عدم الاتّصال في سلسلة السند.

هذا، وقد فهم ابن نوح من استثناء ابن الوليد إشارة إلى ضعفه، فلذا قال: (ولا أعرف ما الذي أوجب الريبة في حديثه بعد أن كان على ظاهر العدالة والثقة).

نعم، إذا كانت عبارة ابن نوح هي: (فلا أدري ما رأيه فيه) أو (ما رأى فيه) - كما في بعض النسخ - فلا تكون فيها دلالة على التضعيف، لأنّه مجرّد تساؤل عن رأي ابن الوليد في العبيدي مع شهادته هو بوثاقته.

ولذا قال ابن صاحب المعالم (قدس سره) : (إنّ كلام ابن نوح في قوله: (فما أدري ما رأيه فيه) يدلّ على أنّه لم يعلم من الاستثناء إرادة الضعف)(1).

وقال في موضع آخر: (وهذا يقتضي أنّ ابن نوح فهم من الاستثناء التضعيف، إلّا أن يقال: إنّ ابن نوح ظنّ كما ظنّ الشيخ، واحتمال غير الضعف موجود. والحقّ أنّ كلام ابن نوح لا يقتضي فهم القدح فيه بالتضعيف، بل حاصله: أنّه لا يدري وجه الاستثناء، مع أنّ محمّد بن عيسى على ظاهر العدالة، وإن كانت العبارة من ابن نوح تعطي الاحتمال)(2).

فلا يكاد يستفاد من عبارته تضعيف كلّ من استثناه ابن الوليد.

ومن هنا يتّضح الجواب عن الاستدلال بعدم الاستثناء على الوثاقة، فإنّه حتّى

ص: 132


1- استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار: 2/ 110.
2- استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار: 4/ 232.

لو قيل بأنّ الاستثناء يدلّ على ضعف المستثنى إلّا أنّه أقصى ما يدلّ عليه عدم الاستثناء هو عدم ثبوت الضعف، فضلاً عمّا لو قيل: إنّ أصل الاستثناء لا يدلّ على الضعف بل على وجود خلل في رواياتهم لا غير.

4 - هذا، وقد استدلّ غير واحد(1) أيضاً على عدم جواز استثناء الواقف المنافع لنفسه بما رواه الشيخ عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن المغيرة، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله، عن أبيه (علیهما السلام): أنّ رجلاً تصدّق بدار له وهو ساكن فيها. فقال: (الحين أخرج منها)(2).

وذلك بتقريب أنّ الإمام (علیه السلام) بعد أن كان الوقف صحيحاً أمره بالخروج من الدار مباشرة، وأنّه لا يجوز أن ينتفع بها بأيّ وجه من وجوه الانتفاع، ولو كان يجوز استثناء الواقف المنافع لنفسه لكان ينبغي أن يستفصل (علیه السلام) إن كان قد استثناها أو لا.

وقد يشكل الاستدلال بهذه الرواية:

أوّلاً: لعدم اعتبار سندها، فإنّه - مضافاً إلى عدم وثاقة عليّ بن محمّد بن الزبير الذي وقع في طريق الشيخ إلى عليّ بن الحسن بن فضّال في المشيخة - لم تثبت وثاقة طلحة بن زيد.

ص: 133


1- يلاحظ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: 22/ 158، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة: 21/ 457، رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل: 9/ 295، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 18/ 68، العروة الوثقى: 6/ 299.
2- تهذيب الأحكام: 9/ 138- 139، باب الوقوف والصدقات ح 29، الاستبصار في ما اختلف من الأخبار: 4/ 103، باب من تصدّق بمسكن على غيره.. ح2.

ولكن تصدّى للجواب عن ذلك مفصّلاً بعض أساتيذنا (دامت برکاته) (1) بما يفي بالإجابة عن ذلك، وملخّصه:

أمّا بالنسبة إلى طلحة بن زيد فيمكن البناء على وثاقته بطريقين:

الأوّل: إنّ الشيخ (قدس سره) قد وصف كتابه بأنّه معتمد، وهذا لا يكون عادة إلّا مع كون صاحب الكتاب ثقة.

الثاني: رواية صفوان بن يحيى عنه، وصفوان أحد الثلاثة الذين ثبت أنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة كما تعرّض له في بحث مفصّل(2).

وأمّا بالنسبة إلى عليّ بن محمّد بن الزبير فيمكن الاستغناء عن اعتبار الطريق - كما ذكر السيّد السيستاني (دام ظله العالی) ) - لشهرة كتب ابن فضّال وكثرة نسخها وتداولها في عصر الشيخ كما تدلّ عليه الشواهد، فهي كالكتب الأربعة في زماننا هذا، وإنّما يحتاج إلى اعتبار السند في خصوص الكتب غير المشهورة لا التي يكثر تداولها ففي مثلها يستغنى عن السند.

كما يمكن البناء على اعتبار ما رواه الشيخ عن ابن فضّال بلحاظ طريق آخر معتبر(3) اعتمده في ما أسنده في بداية كتاب التهذيب إلى ابن فضّال، وهذا الطريق يصلح أن يكون طريقاً إلى ما ابتدأ به من روايات ابن فضّال في بقية أبواب التهذيب.

وكذلك يمكن الاطمئنان بوثاقة عليّ بن محمّد بن الزبير من إطباق علماء الجرح

ص: 134


1- يلاحظ قبسات من علم الرجال: 1/ 323، 2/ 266 وما بعدها.
2- يلاحظ قبسات من علم الرجال: 1/ 45 وما بعدها.
3- يلاحظ مثلاً: تهذيب الأحكام: 1/ 106.

والتعديل من الجمهور على توثيقه، واعتماد علمائنا على روايته في نقل أصولنا ومصنّفاتنا، فإنّ هذين الأمرين يورثان الظنّ القويّ بل الاطمئنان بأنّه كان جليل القدر معتمداً عليه في رواية الكتب والأحاديث.

وثانياً: بأنّه لا دلالة في هذه الرواية على ما وقع محلَّاً للخلاف في مقامنا، إذ أقصى ما تدلّ عليه الرواية هو صحّة ما تصدّق به الرجل، ولزوم خروج الواقف من الدار بعد وقفها، وهو ممّا لا خلاف فيه، إذ لا يجوز لغير الموقوف عليهم أن ينتفعوا من الوقف، ولم يثبت أنّه استثنى بعض المنافع له.

وأمّا عدم استفصال الإمام (علیه السلام) فلأنّ التصدّق ينصرف إلى التصدّق عيناً ومنفعة إلّا إذا ثبت خلافه، ولم يثبت في المقام.

والحاصل: أنّه يمكن البناء على صحّة استثناء الواقف المنافع لنفسه.

بقي هنا التعرّض لأمرين:

الأمر الأوّل: في حدود المسألة

اشارة

وهي ضربان:

الضرب الأوّل: بعض ما يتفرّع على القول بالجواز

منها: أنّه فرّق السيّد البجنوردي(1) بين اشتراط بقاء المنفعة وبين استثنائها فإذا (استثنى مقداراً من منافع العين الموقوفة أو من نفس العين لنفسه فالظاهر أنّه ليس من الوقف على النفس، بل هو إخراج عن أصل الوقف، فيرجع إلى أنّه لم يقف تمام هذه العين أو لم يسبّل تمام منافعه، فلا إشكال فيه أصلاً)، وأمّا إن شرط إدرار مؤنته

ص: 135


1- القواعد الفقهية: 4/ 267.

أو أداء ديونه من منافع الوقف (فيكون وقفاً على النفس، من جهة أنّ المراد من الوقف على النفس هو أن يرجع تمام الثمرة والمنفعة أو بعضها إلى الواقف وما نحن فيه كذلك، فيكون هذا الشرط فاسداً).

وهو محلّ تأمّل بل منع؛ فإنّ ما استدلّ به على عدم الصحّة إنّما هو الوقف على النفس ومؤدّاه هو عود المنفعة للواقف - كما ادّعاه - فما الفرق إن كان عود المنفعة بالاستثناء أو باشتراط بقاء المنفعة، إذ في كليهما يكون الأصل موقوفاً وتعود منفعة هذا الموقوف له. ولو قلنا بعدم عودها في الاستثناء لأنّه لم يقفها أصلاً فكذلك الحال في اشتراط بقاء المنفعة إذ هو لم يقفها أصلاً.

وعلى كلّ حال لا وجه لما ذكره؛ إذ قد تقدّم ما يفي بصحّة الشرط أو الاستثناء، وليس هو من الوقف على النفس في شيء، بل هو من الوقف على الغير والمنفعة المستثناة أو التي اشترط بقاؤها إنّما هي باقية على ملك الواقف.

ومنها: ما ذكره السيّد الحكيم (قدس سره) (1) وغيره من صحّة الوقف فيما إذا وقف على جيرانه واشترط عليهم نفقة أهله وأولاده.

ووافقه أستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) (2) بدعوى عدم تعلّق الشرط بالواقف، ومجرّد كون المذكورين من شأن الواقف الإنفاق عليهم لا يمنع من الوقف عليهم فضلاً عن اشتراط الإنفاق عليهم.

ولعلّه يمكن التأمّل في ما ذكره وفق ما اعتمد عليه في تفسير مكاتبة عليّ بن

ص: 136


1- يلاحظ: منهاج الصالحين: 2/ 245.
2- يلاحظ: مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 392.

سليمان، حيث إنّه عمّم ما ذكر فيها من (أكل الواقف) لما إذا اشترط على الموقوف عليهم وفاء ديونه من مالهم أو اشترط عليهم وفاء ديونه من وارد الوقف.

قال (قدس سره) في عدم صحّة اشتراط وفاء ديون الواقف من مال الموقوف عليهم: (إنّ التأمّل في مكاتبة عليّ بن سليمان يشهد بالمنع من ذلك أيضاً - إلى أن قال - حيث يناسب ذلك عدم خصوصية الأكل منها، بل تعذّر الجمع بين الغرضين - سد حاجته ووقفها - بأيّ وجه كان)(1).

وقال أيضاً في عدم صحّة اشتراط وفاء الديون من الوقف: إنّ (الأولى الاستدلال له بصدق كونه قد أكل ممّا تصدّق به الذي تضمّنت المكاتبة مانعيته من نفوذ الصدقة، ومجرّد كونه بتوسّط الموقوف عليه لا يمنع من ذلك)(2).

وفي ضوء ذلك يمكن أن يقال: إنّه إذا أمكن تعميم الأكل لما إذا لم يكن من وارد الوقف مباشرة بل بعد دخوله في ملك الموقوف عليهم أو من سائر أموالهم فلماذا لا يعمّم الأكل لما إذا لم يكن من قبل الواقف بشخصه بل من قِبل مَن هم في كفالته وعيلولته؟ فإنّ حاجتهم تعدّ حاجة له من وجه آخر، فإذا كانت المكاتبة بصدد المنع من الجمع بين الغرضين - سد حاجته ووقف الضياع - بأيّ وجه كان، فينبغي أن يبني على عدم صحّة الوقف على الغير إذا اشترط عليه تأمين نفقة من هم واجبو النفقة عليه من زوجته وأقربائه. ولا يقاس هذا بما إذا جعل ضياعه وقفاً على زوجته وأولاده كما هو واضح.

ص: 137


1- مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 390 - 391.
2- مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 392.

نعم، هذا البيان لا يأتي فيما إذا اشترط على الموقوف عليه نفقة غير واجبي النفقة عليه، كما إذا اشترط أن ينفق على زوجته وولده بعد وفاته، فليتأمّل.

ولو استدلّ (قدس سره) على مرامه بما تقدّم من إنفاق النبيّ1 على ضيوفه ممّا أوقفه لكان أولى، ولكنّه لم ينبّه على ذلك.

وعلى كلّ حال فمكاتبة عليّ بن سليمان - مع عدم اعتبارها - لا تعلّق لها بالمقام بعد ما تقدّم من كون المراد هو عدم اجتماع الأكل منها مع وقفها، ومحلّ الكلام هو استثناء المنفعة من الوقف لتبقى على ملك الواقف.

الضرب الثاني: بعض ما يتفرّع على القول بعدم الجواز

ومنها: أنّه ظهر ممّا تقدّم أنّ القائلين بعدم صحّة اشتراط بقاء المنافع على ملك الواقف إنّما يقولون ببطلان الوقف والشرط معاً، ولكن الأمر يختلف باختلاف مباني الفساد.

فإذا كان الدليل على عدم صحّة هذا الشرط هو مكاتبة عليّ بن سليمان لمكان قوله (علیه السلام) : (لم ينفذ) فمن الواضح أنّه يقتضي بطلان الوقف، لظهوره في ذلك.

وأمّا إذا كان الدليل هو مخالفة الشرط لمقتضى الوقف، (فتارة) يقع الحديث في مقتضى القاعدة في استتباع فساد الشرط لفساد المشروط بشكل عامّ، و(أخرى) في خصوص فساد الشرط المنافي لمقتضى العقد:

أ - أمّا مع فساد الشرط بشكل عامّ فقد فصّل في ذلك الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1) قائلاً: إنّه (تارة) يوجب الشرط الفاسد الجهالة فيفسد العقد، وكذا لو كان الاشتراط موجباً لمحذور آخر في أصل البيع.

ص: 138


1- المكاسب: 6/ 91 - 92.

وإنّما الإشكال في ما كان فساده لا لأمر مخلّ بالعقد، فهل يكون مجرّد فساد الشرط موجباً لفساد العقد أو يبقى العقد على الصحّة؟ وذكر أنّه هناك قولان في المسألة:

الأوّل: عدم استتباع فساد الشرط لفساد العقد، وهو المحكيّ عن الشيخ والإسكافي وابن البرّاج وابن سعيد (قدس سرهم).

الثاني: استتباعه لذلك وهو ما ذهب إليه العلّامة والشهيدان والمحقّق الثاني وجماعة ممّن تبعهم (قدس سرهم).

ثمّ حكى بعد ذلك قولين بالتفصيل، فظاهر ابن زهرة (قدس سره) في الغنية التفصيل بين الشرط الغير المقدور وبين غيره من الشروط الفاسدة، فادّعى في الأوّل عدم الخلاف في الفساد والإفساد. وربّما ينسب إلى ابن المتوّج البحراني التفصيل بين الفاسد لأجل عدم تعلّق غرض مقصود للعقلاء به فلا يوجب فساد العقد كأكل طعام بعينه أو لبس ثوب كذلك، وبين غيره.

وقد ذُكرت عدّة وجوه للقول بالبطلان:

منها: أنّ المقصود بالعقد هو المجموع من العقد والشرط. وأصل العقد مجرّداً عن الشرط غير مقصود، فيكون باطلاً؛ لأنّ العقود تابعة للقصود، فما كان مقصوداً غير صحيح وما كان صحيحاً غير مقصود.

ومنها: أنّه عند الشكّ في صحّة العقد تجري الأصول النافية من قبيل أصالة عدم النقل والانتقال وغيرها.

وأيضاً قد ذكرت عدّة وجوه للقول بالصحّة: منها: الإجماع، وعموم لزوم الوفاء بالعقود ونحوه، وبعض النصوص الخاصّة الواردة في النكاح وغيره، ولزوم

ص: 139

الدور؛ لأنّ لزوم الشرط وصحّته فرع صحّة البيع، فلو كانت صحّة البيع موقوفة على صحّة الشرط لزم الدور.

وكلّ ذلك وقع محلَّاً للنقاش والاختلاف(1).

ب - وأمّا مع فساد الشرط لمخالفته لمقتضى العقد بالخصوص فقد صرّح جمع ببطلان العقد، منهم المحقّق النراقي (قدس سره) في خصوص ما كان مخالفاً لذات العقد(2)، ومنهم السيّد اليزدي (قدس سره) (3)، وأستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) (4).

وقد ذكروا عدّة وجوه للبطلان:

منها: أنّ الشرط المخالف لمقتضى العقد يرجع إلى عدم قصد مضمون العقد.

ومنها: أنّ وجود الشرط يستلزم عدم المشروط لفرض التنافي، وعدم المشروط يستلزم عدم الشرط؛ لأنّه التزام ضمني، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.

ومنها: أنّ نفوذ العقد والشرط ملزوم لوجوب الوفاء، وحيث إنّ الوفاء بالمتنافيين مستحيل فيستحيل إيجابه، فلا بدّ من الحكم بتساقطهما، وعدم وجوب الوفاء بهما لعدم المرجّح للعقد على الشرط، إلّا إذا قيل بأنّ العقد مقصود بالذات والشرط تابع.

ومنها: أنّه يحصل التعارض بين عمومات الوفاء بالشرط وأدلّة صحّة هذا

ص: 140


1- يلاحظ على سبيل المثال ما ذكر في مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة: 14/ 728.
2- يلاحظ: عوائد الأيّام: 152.
3- يلاحظ: حاشية المكاسب: 2/ 135.
4- يلاحظ: منهاج الصالحين: 2/ 90.

العقد، فيرجع إلى أصالة فساد العقد وعدم لزوم الوفاء بالشرط.

ووقعت كلّ هذه الوجوه محلَّاً للنقاش في كلماتهم.

وحيث إنّه قد تبيّن أنّ الصحيح هو صحّة هذا الاشتراط وعدم منافاته لمقتضى الوقف فلا نطيل الكلام في هذه الوجوه، فالغاية فقط الإشارة إليها.

الأمر الثاني: في صور أخرى لها علاقة بهذه المسألة

اشارة

فقد تقدّمت في بداية هذا البحث صور المسألة التي وقع النزاع فيها وأنّه لا فرق في المنفعة التي يصحّ استثناؤها من الوقف أو اشتراط بقائها على ملك الواقف بين أن تكون هذه المنفعة وارداً مالياً ينتفع منه الواقف بنفسه أو يصرف على بعض مصارفه ونفقاته، وسواء كانت هذه النفقات خاصّة به أو كانت من شؤون متعلّقيه المنتسبين إليه كأولاده وزوجته وضيوفه، وسواء كانت ممّا ينفق في معيشته أو وفاءً لديونه.

والأدلّة المذكورة وافية بصحّة الوقف وفق هذا الشرط في جميع الصور.

ولكن هناك صور أخرى نتعرّض لها للإحاطة بالمسألة وتفريعاتها:

الصورة الأولى

الوقف على النفس، وقد صرّح الفقهاء(1) ببطلانه، قال الشهيد الثاني (قدس سره) : (لا خلاف بين أصحابنا في بطلان وقف الإنسان على نفسه)(2)، وقال

ص: 141


1- يلاحظ: الخلاف: 3/ 549، غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع: 297، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: 3/ 155، إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: 346، شرائع الإسلام: 2/ 449، قواعد الأحكام: 2/ 389، الدروس الشرعية في فقه الإمامية: 2 / 267، غيرهم.
2- مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: 5/ 361.

السيّد محمّد العاملي (قدس سره) : (هو المستفاد من تتبّع كلماتهم جميعاً)(1)، بل ادّعى ابن إدريس (قدس سره) الإجماع عليه(2).

وقد استدلّوا على بطلانه بوجوه، كالإجماع، وأنّ الوقف تمليك ولا يصحّ أن يملّك الإنسان نفسه ما هو ملك له، وبعض ما تقدّم من الروايات كمكاتبة عليّ بن سليمان، ورواية طلحة بن زيد، وغيرهما.

هذا بالنسبة إلى فقهائنا، وأمّا عند فقهاء الجمهور فقد وقع الخلاف بينهم، فذهب الشافعي إلى بطلانه، في حين ذهب إلى صحّته ابن أبي موسى، وابن عقيل، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبي يوسف، وابن شريح(3).

الصورة الثانية
اشارة

أنّه من موارد الانتفاع من الوقف فيما لو كان عنوان الوقف شاملاً للواقف أو بعض احتياجاته، كما لو كان قد وقف مدرسة وكان هو طالب علم يدرس فيها، أو وقف منزلاً للمسافرين وهو منهم، وهكذا.

وقد اختلفوا في ذلك على أقوال:

القول الأول: جواز انتفاع الواقف مطلقاً

قال الشيخ (قدس سره) : (إذا وقف وقفاً عامّاً مثل أن يوقفه على المسلمين جاز له الانتفاع به بلا خلاف، لأنّه يعود إلى أصل الإباحة فيكون هو وغيره سواء)(4). ومثله

ص: 142


1- مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة: 21/ 457.
2- يلاحظ: السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: 3/ 157.
3- يلاحظ المغني: 6/ 196 - 197.
4- المبسوط في فقه الإمامية: 3/ 299.

الكيدري، ويحيى بن سعيد، والمقداد السيوري (قدس سره) (1)، وغيرهم.

القول الثاني: المنع من ذلك مطلقاً

قال ابن إدريس (قدس سره) : (لو وقف على نفسه لم يصحّ، فأمّا إذا وقف شيئاً على المسلمين عامّة فإنّه يجوز له الانتفاع به عند بعض أصحابنا - إلى أن قال - والذي يقوى عندي أنّ الواقف لا يجوز له الانتفاع بما وقفه على حال، لما بيّناه وأجمعنا عليه من أنّه لا يصحّ وقفه على نفسه، وأنّه بالوقف قد خرج عن ملكه ولا يجوز عوده إليه بحال)(2).

القول الثالث: التفصيل في ذلك

فيجوز ذلك في مثل وقف المساجد ونحوها والتفصيل في غير ذلك، فقد ذكر العلّامة (قدس سره) : (أنّ الوقف إن انتقل إلى الله تعالى كالمساجد فإنّ للواقف الانتفاع به كغيره من الصلاة فيه وغيرها من منافع المسجد. وإن انتقل إلى الخلق لم يدخل سواء كان مندرجاً فيهم وقت الوقف كما لو وقف على المسلمين أو على الفقهاء وهو منهم أو لم يكن كما لو لم يكن فقيهاً وقت الوقف ثمّ صار منهم)(3).

وكذا أستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) (4) حيث فصّل بين ما إذا كان الوقف متمحّضاً

ص: 143


1- يلاحظ: إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: 346، الجامع للشرائع: 373، التنقيح الرائع لمختصر الشرائع: 2/ 331.
2- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: 3/ 155 - 156.
3- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة: 6/ 297 - 298.
4- يلاحظ: مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 396 - 398.

في جعل العنوان الخاصّ من دون أخذ الانتفاع بالعين في حاق الوقف كوقف المساجد والمشاهد، ومثله ما كان مبتنياً على مجرّد تسبيل منفعة العين الموقوفة من دون نظر إلى موقوف عليه خاصّ أو عامّ كحفر الآبار واستنباط العيون، وبين ما إذا لاحظ الواقف موقوفاً عليه عامّ أو خاصّ، فالأوّل يجوز للواقف الانتفاع من وقفه دون الثاني.

وقال السيّد السيستاني (دام ظله العالی) : (يجوز انتفاع الواقف بالعين الموقوفة في مثل وقف المساجد والوقف على الجهات العامّة، وكذا الوقف على العناوين الكلّية إذا كان الواقف داخلاً في العنوان أو صار داخلاً فيه في ما بعد، وكان الوقف عليه - إلى أن قال - وأمّا إذا كانت المنافع ملكاً للموقوف عليهم على سبيل الإشاعة فلا إشكال في عدم جواز أخذه حصّة منها، بل يلزم أن يقصد من العنوان المذكور حين العقد من عدا نفسه ويقصد خروجه عنه. وأمّا إذا كانت المنافع في ملك الموقوف عليهم بتمليك المتولّي وإقباضهم إيّاها ففي جواز دخول الواقف في العنوان وأخذه حصّة من المنافع إشكال - لا سيّما إذا كان مقتضى الوقف توزيع المنافع على الموقوف عليهم على نحو الاستيعاب - فلا يترك مقتضى الاحتياط في ذلك)(1).

وقد اختلفوا في التفصيلات تبعاً للدليل المعتمد في المسألة، فالمحذور المنظور: إمّا هو عدم الوقف على النفس، سواء في كلّ الموقوف أم في جزء منه، والوقف في بعض أقسامه تمليك فإذا كان الواقف من ضمن الموقوف عليهم كان التمليك يعمّه فيكون من الوقف على النفس. وإمّا هو شمول مكاتبة عليّ بن سليمان لهذه الصورة،

ص: 144


1- منهاج الصالحين: 2/ 485 - 486.

فيكون من انتفاع الواقف بالوقف، وقد استظهر منها - على كلام تقدّم - عدم صحّة الوقف كذلك.

وهذه المسألة ليست مؤثّرة في مقام بحثنا بعد أن تبيّن أنّ المنفعة المستثناة تبقى على ملك الواقف، فلا إشكال في انتفاعه منها بعد أن لم تكن موقوفة أصلاً.

الصورة الثالثة: وقف العين المستأجرة قبل انتهاء مدّة الإجارة

ذكر العلّامة (قدس سره) في التحرير(1) أنّه لا يجوز وقف العين المستأجرة، ولكنّه ذكر في التذكرة(2) أنّه لا بأس بذلك إذا قبضها بإذن المستأجر، وإلّا لم يصحّ القبض، ولا يثمر لزوم الوقف.

وقال المحقّق الكركي (قدس سره) : (وعبارة المصنّف هنا تحتمل أن يريد بها: عدم صحّة وقف المستأجر من المالك. لكنّه يشكل بأنّه لا يقع فاسداً، غاية ما في الباب أنّه لا يتمّ إلّا بالقبض)(3).

وقد وافقه المتأخّرون على ذلك، بل جعلوها من طرق بقاء المنافع على ملك الواقف، قال السيّد اليزدي (قدس سره) : (الأولى لمن أراد أن ينتفع بالوقف ما دام حيّاً كلَّاً أو بعضاً أن يؤجّر العين التي يريد وقفها مدّة معيّنة كعشر سنين كلَّاً أو بعضاً، ويجعل لنفسه خيار الفسخ، ثمّ بعد إجراء الصيغة والإقباض يفسخ الإجارة، فترجع المنافع إليه في تلك المدّة، ويكون الوقف مسلوب المنفعة إلى تلك المدّة كلَّاً أو بعضاً، ولا

ص: 145


1- يلاحظ: تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية: 3/ 314.
2- يلاحظ: تذكرة الفقهاء: 2/ 423.
3- جامع المقاصد في شرح القواعد: 9/ 57.

بأس به)(1)، ومثله السيّد الخوئي (قدس سره) والسيّد السيستاني (دام ظله العالی) (2).

نعم، خالف السيّد الحكيم (قدس سره) (3) في رجوع المنفعة بعد الفسخ للواقف، فبنى على رجوعها للموقوف عليهم تبعاً للعين، كما توقّف في ذلك أستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) (4).

إذاً لا إشكال في وقف العين المستأجرة. نعم، لا بدّ من القبض.

الصورة الرابعة: شمول البحث للمنافع الموجودة

قد اتّفق الفقهاء على أنّ الوقف شامل للمنافع المستجدة إلّا إذا استثنى الواقف ذلك، فقد اختلفوا في صحّة هذا الاستثناء كما تقدّم، ولكن هل الأمر كذلك في المنافع الموجودة حين الوقف كما لو وقف بستاناً وكان فيه ثمار فعلاً، أو وقف شاة وكان هناك حليب في ضرعها أو نحو ذلك؟

يمكن أن يقال: إنّ هناك جهتين للبحث في المنافع الموجودة فعلاً:

الأولى: في شمول الوقف لها أصلاً.

الثانية: بعد شمولها هل يصحّ استثناءها كاستثناء المنافع المستجدة أو لا؟

أمّا الكلام في الجهة الأولى فقد بنى العلّامة (قدس سره) على شمول الوقف ابتدءاً للمنافع الموجودة إلّا إذا استثنى الواقف ذلك، حيث قال: (إذا وقف شاة دخل فيه الصوف

ص: 146


1- العروة الوثقى: 6/ 303.
2- يلاحظ: منهاج الصالحين: 2/ 236. منهاج الصالحين: 2/ 485.
3- يلاحظ: منهاج الصالحين: 2/ 245.
4- يلاحظ: منهاج الصالحين: 2/ 301.

واللبن الموجودان حالة الوقف ما لم يخرجه عنه بالاستثناء)(1). ووافقه على ذلك جملة ممّن تأخّر عنه(2).

في حين خالفه آخرون وأنّ الوقف لا يشمله إلّا إذا نصّ على ذلك حين وقفه، قال السيّد الحكيم (قدس سره) : (الثمر الموجود على النخل أو الشجر حين إجراء صيغة الوقف باقٍ على ملك مالكها ولا يكون للموقوف عليه، وكذا الحمل الموجود حين وقف الدابّة واللبن والصوف الموجودان حين وقف الشاة)(3).

ومثله جملة ممّن تأخّر عنه منهم السيّد الخوئي (قدس سره) (4)والسيّد السيستاني (دام ظله العالی) (5).

وقد وافقه أستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) (6)، وبرّر ذلك بأنّ الوقف إنّما يقتضي استحقاق الموقوف عليه للمنافع المتجدّدة بعده دون السابقة عليه، وأنّها بنفسها لا تصلح للوقف بعد أن كان الانتفاع منها باستهلاكها لا بنمائها. نعم، المنصرف من الوقف رفع يد الواقف عنهما وإعطاؤهما للموقوف عليه تبعاً للنماء المتجدّد وإلحاقاً به؛ لظهور الإطلاق في قطع الواقف علاقته بالعين الموقوفة وتوابعها. ولكن نبّه على أنّ هذا الانصراف لا يكون ملزماً للواقف.

ص: 147


1- تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية: 3/ 291.
2- يلاحظ: اللمعة الدمشقية: 88، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 3/ 168، النجعة في شرح اللمعة: 6/ 434.
3- منهاج الصالحين: 2/ 257 - 258.
4- يلاحظ: منهاج الصالحين: 2/ 247.
5- يلاحظ: منهاج الصالحين: 2/ 501.
6- يلاحظ: مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 488 - 490.

وقد أيّد السيّد اليزدي (قدس سره) صحّة استثناء المنافع المستجدّة بصحّة استثناء المنافع الموجودة فعلاً قائلاً: (فهو نظير ما لو وقف شاة واستثنى صوفها الموجود عليها حال إجراء الصيغة، وما إذا وقف بستاناً واستثنى ثمره الموجود أو ثمرة سنة واحدة ونحو ذلك)(1).

وقد أشكل أستاذنا السيّد الحكيم (قدس سره) عليه قائلاً: (إنّ المتيقّن ابتناء الوقف على تسبيل المنفعة والنماء المتجدّدين بعد الوقف - إلى أن قال - وأمّا النماء المتّصل الموجود حين الوقف - كالثمرة والصوف واللبن الموجود في الضرع ونحوها - فهل هو مشمول للوقف بالأصل، أو غير مشمول.. وإنّما يتسامح الواقف في التنازل عنه تبعاً؟ فعلى الأوّل يشكل استثناؤها كما يشكل استثناء المعدوم حين الوقف لما سبق. وعلى الثاني لا يكون استثناؤه ممّا نحن فيه حيث يرجع إلى عدم التنازل عنه تبعاً، فلاحظ)(2).

ولعلّه يمكن الجواب بأنّ المقصود هو الفرض الأوّل من شمول الوقف له بالأصل في حال عدم استثناء الواقف له كما هو الحال في المنافع المستجدّة حيث يشملها الوقف إذا لم يستثنها الواقف، فكما يجوز استثناء المنافع الموجودة بأن لا تكون موقوفة أصلاً فكذلك المنافع المستجدّة بأن لا يشملها الوقف.

نعم، في الفرض الثاني فكما ذكر (قدس سره) يختلف الوجه في الاستثناء ولا يصحّ التنظير؛ إذ مرجع استثناء المنافع الموجودة إلى عدم التنازل عنها تبعاً للأصل، وليس

ص: 148


1- العروة الوثقى: 6/ 302.
2- مصباح المنهاج (كتاب الوقف): 395 - 396.

الأمر كذلك في المنافع المستجدّة.

وعلى كلّ حال فما ذكر من أدلّةٍ تفي بصحّة استثناء المنافع المستجدّة التي هي محلّ البحث، وأمّا المنافع الموجودة فلا يشملها الوقف من أوّل الأمر.

* * *

والحمد لله أوّلاً وآخراً، قد تمّ البحث في يوم الاثنين الموافق للثاني عشر من شهر شعبان من عام 1441 هجرياً بجوار حرم الإمام المرتضى (صلوات الله عليه)، وقد تمّت مراجعته في يوم الخميس الموافق للثاني والعشرين من شهر شعبان من العام نفسه.

ص: 149

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1 - أحكام الخلل في الصلاة، الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (ت 1281ﻫ)، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم - قم 1413ﻫ.

2 - الأحكام السلطانية والولايات الدينية، عليّ بن محمّد البغدادي الماوردي (ت 450ﻫ)، نشر توزيع: دار التعاون للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1386ﻫ.

3 - أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، الدكتور محمّد عبيد الكبيسي، مطبعة: الإرشاد - بغداد 1397ﻫ.

4 - الاستبصار في ما اختلف من الأخبار، الشيخ الطوسي محمّد بن الحسن (ت 460ﻫ)، نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، تحقيق وتعليق: السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الثالثة.

5 - استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار، الشيخ محمّد بن الحسن بن الشهيد الثاني (ت 1030ﻫ)، طبع: ستارة - قم، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولى 1419ﻫ.

6 - إرشاد الأذهان في أحكام الإيمان، العلّامة الحليّ الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف الحليّ، (ت 726 ﻫ)، تحقيق: الشيخ فارس الحسّون، نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، إيران - قم، الطبعة الأولى 1410ﻫ.

7 - إصباح الشيعة بمصباح الشريعة، الشيخ قطب الدين البيهقي الكيدري، نشر:

ص: 150

مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، إيران - قم، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، إشراف: الشيخ جعفر السبحاني، الطبعة: الأولى 1416ﻫ.

8 - أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، (ت 279ﻫ) طبع: مطابع دار المعارف بمصر، تحقيق: الدكتور محمّد حميد الله 1959م.

9 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (ت 587ﻫ)، نشر المكتبة الحبيبية - باكستان، الطبعة: الأولى 1409ﻫ.

10 - تاج العروس من جواهر القاموس، محبّ الدين أبو فيض السيّد محمّد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي، دراسة وتحقيق: عليّ شيري، نشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1994م / 1414ﻫ.

11 - تاريخ مدينة دمشق، أبو القاسم عليّ بن الحسن المعروف ب-(ابن عساكر) (ت 571ﻫ)، دراسة وتحقيق: عليّ شيري، مطبعة: دار الفكر، لبنان: بيروت 1415ﻫ.

12 - تاريخ القانون في مصر: يواقيم ميخائيل طبع بمطبعة مصر بالفجالة عام (1899 م).

13 - التبيان في تفسير القرآن، الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت 460ﻫ)، طبع ونشر: مكتب الإعلام الإسلامي، تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي، الطبعة الأولى 1409ﻫ،

14 - تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف الحلّي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (ت 726 ﻫ)، نشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) ، إيران - قم، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، إشراف:

ص: 151

الشيخ جعفر السبحاني، الطبعة الأولى 1420ﻫ.

15 - تذكرة الفقهاء، الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف الحلّي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (ت 726 ﻫ)، من منشورات المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

16 - تصحيح الفصيح وشرحه، أبو محمّد عبد الله بن جعفر (ابن المرزبان) (ت 347ﻫ) تحقيق: الدكتور محمّد بدوي المختون، نشر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عام (1419 ﻫ) القاهرة.

17 - تعليقة على منهج المقال، الشيخ محمّد باقر الوحيد البهبهاني (ت 1205 ﻫ) نسخة مكتبة أهل البيت (علیهم السلام).

18 - تفسير العياشي، الشيخ محمّد بن مسعود العياشي (ت 320 ﻫ)، تحقيق: الحاج السيّد هاشم الرسولي المحلاتي، نشر المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.

19 - تفسير القمّي: الشيخ عليّ بن إبراهيم القمّي (ت: القرن الرابع الهجري)، نشر مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر - إيران: قم، تصحيح وتعليق وتقديم: السيّد طيّب الموسوي الجزائري، الطبعة الثالثة 1404ﻫ.

20 - تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت 1104ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرّفة، الطبعة الثانية 1414ﻫ.

21 - التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، الشيخ جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي (ت 826ﻫ)، نشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفي العامّة، تحقيق: السيّد عبد اللطيف الحسيني الكوه كمري، مطبعة الخيام - قم 1404ﻫ.

ص: 152

22 - تهذيب الأحكام، الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت 460ﻫ)، نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، تحقيق وتعليق: السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الثالثة.

23 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الشيخ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت 310ﻫ)، ضبط وتوثيق وتخريج: صدقي جميل العطّار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1415ﻫ/ 1995م.

24 - الجامع للشرائع، الشيخ يحيى بن سعيد الحلّي (ت 690ﻫ)، نشر: مؤسّسة سيّد الشهداء، تحقيق وتخريج: جمع من الفضلاء بإشراف الشيخ جعفر السبحاني، المطبعة العلمية - قم 1405ﻫ.

25 - جامع المقاصد في شرح القواعد، الشيخ عليّ بن الحسين الكركي المعروف ب-(المحقّق الثاني) (ت 940ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، طبع: المهدية - قم، الطبعة الأولى 1408ﻫ.

26 - جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية، الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد النعمان المعروف ب-(الشيخ المفيد) (ت 413ﻫ)، نشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، تحقيق: الشيخ مهدي نجف، الطبعة الثانية 1414ﻫ.

27 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمّد حسن النجفي (ت 1266ﻫ)، نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، تحقيق وتعليق: الشيخ عبّاس القوجاني، مطبعة خورشيد، الطبعة الثانية 1365ش.

28 - حاشية المكاسب، الشيخ محمّد كاظم الآخوند الخراساني (ت 1329ﻫ)، تصحيح وتعليق: السيّد مهدي شمس الدين، الطبعة الأولى 1406ﻫ.

ص: 153

29 - حاشية المكاسب، الشيخ عليّ الإيرواني الغروي (ت 1354ﻫ)، طبع في طهران بمطبعة رشدية بالأوفست، الطبعة الثانية 1379ﻫ.

30 - حاشية المكاسب، الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (ت 1361ﻫ)، صف وإخراج: دار المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم) لإحياء التراث، تحقيق: الشيخ عبّاس محمّد آل سباع، المطبعة العلمية، الطبعة الأولى 1419ﻫ.

31 - الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني (ت 1186ﻫ)، طبع ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، إيران - قم.

32 - خاتمة مستدرك الوسائل، الشيخ حسين النوري الطبرسي (ت1320ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم، الطبعة الأولى 1415ﻫ.

33 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي المعروف ب-(الشهيد الأوّل) (ت 786 ﻫ)، طبع ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، إيران - قم، الطبعة الثانية 1417ﻫ.

34 - دروس في علم الرجال، محاضرات ألقاها السيّد الأستاذ محمّد باقر السيستاني وهي مخطوطة.

35 - ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، الشيخ محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري (ت1090ﻫ)، طبعة أوفست على طبعة حجرية لمؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم.

36 - الرجال، الشيخ أبو الحسين أحمد بن الحسين بن عبيد الله الواسطي البغدادي المعروف ب-(ابن الغضائري)، توفي القرن الخامس الهجري، نشر: دار الحديث

ص: 154

للطباعة والنشر، تحقيق: السيّد محمّد رضا الجلالي، مطبعة: سرور، الطبعة الأولى 1422ﻫ.

37 - رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنّفي الشيعة)، الشيخ أبو العبّاس أحمد بن عليّ بن أحمد النجاشي (ت 450 ﻫ)، طبع ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، إيران - قم، تحقيق: الحجّة السيّد موسى الشبيري الزنجاني، الطبعة الخامسة 1416ﻫ.

38 - الرسائل الفقهية: الشيخ محمّد إسماعيل بن الحسين المازندراني الخاجوئي (ت 1173ﻫ)، نشر: دار الكتب الإسلامي - قم، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، مطبعة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، الطبعة الأولى 1411ﻫ.

39 - رسائل المحقّق الكركي، الشيخ عليّ بن الحسين الكركي المعروف ب-(المحقّق الثاني) (ت 940ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد الحسّون، مطبعة الخيام، الطبعة الأولى 1409ﻫ.

40 - الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، الشيخ زين الدين بن عليّ العاملي المعروف ب-(الشهيد الثاني) (ت965ﻫ)، نشر: منشورات جامعة النجف الدينية، مطبعة أمير - قم، الطبعة الأولى 1410ﻫ.

41 - روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمّد تقيّ المجلسي (ت 1070ﻫ)، نشر: بنياد فرهنك إسلامي حاج محمّد حسين كوشانبور، نمّقه وعلّق عليه: السيّد حسين الموسوي الكرماني، والشيخ عليّ بناه الاشتهاردي.

42 - رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل، السيّد عليّ بن محمّد بن عليّ الطباطبائي (ت 1231ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة

ص: 155

لجماعة المدرّسين، إيران - قم، الطبعة الأولى 1412ﻫ.

43 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، الشيخ أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (ت 598ﻫ)، طبع ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، إيران - قم، الطبعة الثانية 1410ﻫ.

44 - السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458ﻫ)، الطبعة الأولى طبع مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد تصوير دار الفكر سنة (1356 ﻫ).

45 - السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني النسائي (ت 303ﻫ)، تحقيق: عبد الغفّار سليمان البنداري وسيّد كسروي حسن، دار الكتب العلمية لبنان - بيروت، الطبعة الأولى 1411ﻫ.

46 - شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، الشيخ أبو القاسم نجم الدين جعفر ابن الحسن (المحقّق الحلّي) (ت 676ﻫ)، انتشارات استقلال طهران، مطبعة أمير - قم، الطبعة الثانية 1409ﻫ.

47 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حمّاد الجوهري (ت 393ﻫ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطّار، نشر دار العلم للملايين، لبنان - بيروت، الطبعة الرابعة، 1407ﻫ/1987م.

48 - العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام، السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (ت 1337ﻫ)، تحقيق وطبع: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى 1417ﻫ.

49 - عوائد الأيّام، الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي (ت 1245ﻫ)، نشر: مركز

ص: 156

النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى 1417ﻫ.

50 - عوالي اللآلئ العزيزية في الأحاديث الدينية، الشيخ محمّد بن عليّ بن إبراهيم الأحسائي المعروف ب-(ابن أبي جمهور)، تحقيق: الحاج مجتبى العراقي، مطبعة سيّد الشهداء إيران - قم، الطبعة الأولى 1403ﻫ.

51 - العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175ﻫ)، نشر: مؤسّسة دار الهجرة، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، الطبعة الثانية - إيران 1409ﻫ.

52 - غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، السيّد حمزة بن عليّ بن زهرة الحلبي (ت 585ﻫ)، نشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) ، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهاردي، الطبعة الأولى - قم 1417ﻫ.

53 - فقه الإمامية، تقرير بحث الشيخ حبيب الله الرشتي (ت 1312ﻫ) بقلم السيّد كاظم الخلخالي (ت 1336 ﻫ)، نشر: مكتبة الداوري، مطبعة: سيّد الشهداء، الطبعة الأولى 1407ﻫ.

54 - الفهرست، الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت 460ﻫ)، نشر: مؤسّسة نشر الفقاهة، تحقيق: الشيخ جواد القيّومي، مطبعة مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى 1417ﻫ.

55 - قاموس الرجال، الشيخ محمّد تقيّ بن محمّد كاظم التستري (ت 1415ﻫ)، طبع ونشر وتحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، إيران - قم، الطبعة الثالثة 1425ﻫ.

ص: 157

56 - القاموس المحيط، مجد الدين محمود بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817ﻫ)، طبع ونشر: مؤسّسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسّسة الرسالة، إشراف: محمد نعيم العرقسوسي، الطبعة الثامنة 1426ﻫ.

57 - قبسات من علم الرجال، السيّد محمّد رضا السيستاني، نشر: دار المؤرّخ العربي، بيروت - لبنان، جمع وتنظيم: السيّد محمّد البكّاء، الطبعة الأولى 1437 ﻫ.

58 - قرب الإسناد، الشيخ أبو العباس عبد الله بن جعفر الحميري (ت 304 ﻫ)، طبع ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم، الطبعة الأولى 1413ﻫ.

59 - القواعد الفقهية، السيّد محمّد حسن البجنوردي (ت 1359ﻫ)، طبع ونشر: مطبعة الهادي قم - إيران، تحقيق: مهدي المهريزي ومحمّد حسين الدرايتي، الطبعة الأولى 1419ﻫ.

60 - قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن ابن يوسف الحلّي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ، الطبعة الأولى 1413ﻫ.

61 - قطرات من يراع بحر العلوم، الشيخ محمّد كاظم بن حسين الآخوند الخراساني (ت 1329ﻫ)، نشر: محمّد المهدي الكاظمي، مطبعة الولاية - بغداد 1331ﻫ.

62 - لباس المصلي، تقرير أبحاث السيّد عليّ الحسيني السيستاني بقلم السيّد مرتضى المهري.

63 - لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم المصري المعروف ب-(ابن منظور) (ت 711ﻫ)، نشر: أدب الحوزة قم - إيران 1405ﻫ.

ص: 158

64 - اللمعة الدمشقية، الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي المعروف ب-(الشهيد الأوّل) (ت 786ﻫ)، نشر: دار الفكر، مطبعة القدس - قم، الطبعة الأولى 1411ﻫ.

65 - الكافي، ثقة الإسلام الشيخ أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت 328/329ﻫ)، نشر دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة 1388ﻫ.

66 - كتاب الأم، أبو عبد الله محمّد بن إدريس الشافعي (ت 204ﻫ)، نشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1403ﻫ.

67 - كتاب البيع، السيّد روح الله الخميني (ت 1410ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طبع: مؤسّسة العروج، الطبعة الأولى 1421ﻫ.

68 - كتاب الصلاة، تقرير أبحاث المحقّق الداماد (ت 1388ﻫ) بقلم الشيخ عبد الله الجوادي الطبري الآملي، نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ، الطبعة الثانية 1416ﻫ.

69 - كشف الرموز في شرح المختصر النافع، الشيخ أبو عليّ الحسن بن أبي طالب بن أبي المجد اليوسفي المعروف ب-(الفاضل الآبي) (ت 690ﻫ)، نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ، طبع: 1408ﻫ.

70 - كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت 1228ﻫ، نشر: مركز انتشارات دفتر تبليغات إسلامي، مطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى 142ﻫ.

ص: 159

71 - كفاية الفقه (كفاية الأحكام)، الشيخ محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري (ت 109 ﻫ)، نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ، تحقيق: الشيخ مرتضى الواعظي الأراكي، الطبعة الأولى 1423ﻫ.

72 - المبسوط في فقه الإمامية، الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت 460ﻫ)، نشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، إيران - طهران، تصحيح وتعليق: السيّد محمّد تقيّ الكشفي، المطبعة الحيدرية 1387ﻫ.

73 - مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548ﻫ)، منشورات مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان: بيروت، الطبعة الأولى 1415ﻫ/1995م.

74 - المجموع في شرح المهذّب، أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت 676 ﻫ)، نشر دار الفكر.

75 - المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن عليّ بن إسماعيل المرسي المعروف ب-(ابن سيده) (ت 458ﻫ)، نشر: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، تحقيق: الدكتور عبد الحميد هنداوي، الطبعة الأولى 1421ﻫ.

76 - المحيط في اللغة، الصاحب بن عبّاد (إسماعيل بن عبّاد) (ت 385ﻫ)، نشر: عالم الكتب، لبنان - بيروت، تحقيق: الشيخ محمّد حسن آل ياسين، الطبعة الأولى 1414ﻫ.

77 - المختصر النافع في فقه الإمامية، الشيخ أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن (المحقّق الحلّي) (ت 676ﻫ)، نشر وتوزيع مؤسّسة البعثة - قم، الطبعة الثالثة - طهران 1410ﻫ.

ص: 160

78 - المخصّص، أبو الحسن عليّ بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المعروف ب-(ابن سيده) (ت 458ﻫ)، نشر وتحقيق: دار إحياء التراث العربي، لبنان: بيروت.

79 - مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف الحلّي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ)، تحقيق نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ، الطبعة الأولى 1412ﻫ.

80 - مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، السيّد محمّد بن عليّ الموسوي العاملي (ت 1009ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، طبع: مهر - قم، الطبعة الأولى 1410ﻫ.

81 - مدونة جوستنيان في الفقه الروماني، جوستنيان (ت 565م)، دار الكاتب المصري، ترجمة: عبد العزيز فهمي، الطبعة الأولى 1946م.

82 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، الشيخ محمّد باقر المجلسي (ت 1111ﻫ) نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، تصحيح: السيّد هاشم الرسولي، الطبعة الثانية 1404ﻫ.

83 - المرتقى إلى الفقه الأرقى (كتاب الخيارات)، تقرير لأبحاث السيّد محمّد الحسيني الروحاني (ت 1418ﻫ)، بقلم السيّد عبد الصاحب الحكيم، نشر: دار الجلي، مطبعة ستارة، الطبعة الأولى 1420ﻫ.

84 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، الشيخ زين الدين بن عليّ العاملي المعروف ب-(الشهيد الثاني) (965ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأولى 1413ﻫ.

ص: 161

85 - مستمسك العروة الوثقى، السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1390ﻫ)، منشورات مكتبة السيّد المرعشي النجفي إيران: قم (1404ﻫ)، الطبعة الرابعة 1391ﻫ.

86 - مستند الشيعة في أحكام الشريعة، الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي (ت 1245ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - مشهد، الطبعة الأولى 1415ﻫ.

87 - مسند الحميدي، أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي (ت 219ﻫ)، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، تحقيق: الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى 1409ﻫ.

88 - مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع، الشيخ محمّد باقر الوحيد البهبهاني (ت 1205ﻫ)، نشر وتحقيق: مؤسّسة العلّامة المجدّد الوحيد البهبهاني، طبع 1424ﻫ.

89 - مصباح الفقاهة، تقرير أبحاث السيّد أبو القاسم الخوئي (ت 1413ﻫ)، بقلم محمّد عليّ التوحيدي التبريزي، نشر: مكتبة الداوري، طبع المكتبة العلمية، الطبعة الأولى.

90 - مصباح المنهاج، السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم، طبع ونشر وتوزيع: دار الهلال، الطبعة الثانية 1440ﻫ/2019 م.

91 - المعتبر في شرح المختصر، الشيخ أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن (المحقّق الحلّي) (ت 676ﻫ)، مطبعة مدرسة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، نشر: مؤسّسة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، تحقيق: عدّة من الأفاضل بإشراف الشيخ ناصر

ص: 162

مكارم الشيرازي.

92 - معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت 1413ﻫ)، الطبعة الخامسة 1413ﻫ/ 1992م.

93 - معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395ﻫ)، طبع ونشر: مكتبة الإعلام الإسلامي، تحقيق: عبد السلام محمّد هارون، سنة الطبع: 1404ﻫ.

94 - المغازي، محمّد بن عمر بن واقد (ت 207ﻫ)، نشر: دانش إسلامي تحقيق: الدكتور مارسدن جونس، 1405ﻫ.

95 - المغني، عبد الله بن قدامة (ت 620ﻫ) نشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع بيروت - لبنان.

96 - ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، الشيخ محمّد باقر المجلسي (ت 1111ﻫ)، تحقيق: مهدي الرجائي، مطبعة الخيام - قم 1406ﻫ.

97 - المكاسب، الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (ت 1281ﻫ)، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الأولى 1415ﻫ.

98 - مفاتيح الشرائع: الشيخ محمّد محسن الفيض الكاشاني (ت 1091ﻫ)، نشر: مجمع الذخائر الإسلامية، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، مطبعة الخيام 1401ﻫ.

99 - مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة، السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي (ت 1226ﻫ)، نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ، تحقيق: محمّد باقر الخالصي، الطبعة الأولى 1419ﻫ.

100 - المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد عليّ (ت 1987م)،

ص: 163

ساعدت جامعة بغداد على نشره، الطبعة الثانية 1976م - بيروت.

101 - المناهل، السيّد محمّد بن عليّ الطباطبائي (ت 1242ﻫ)، طبعة مكتبة أهل البيت (علیهم السلام).

102 - منتهى المطلب في تحقيق المذهب، الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف الحلّي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (ت 726ﻫ)، نشر وتحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية مشهد - إيران، طبع: مؤسّسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدّسة، الطبعة الأولى 1412ﻫ.

103 - من لا يحضره الفقيه، الشيخ أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي (ت 381ﻫ)، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية - قم المقدّسة، صحّحه وعلّق عليه: الشيخ عليّ أكبر الغفّاري، الطبعة الثانية.

104 - منهاج الصالحين، السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1390ﻫ)، مع تعليقات السيّد محمّد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات - بيروت، سنة طبع: 1410ﻫ.

105 - منهاج الصالحين، السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت 1413ﻫ)، نشر: مدينة العلم، مطبعة: مهر - قم، الطبعة الثامنة والعشرون 1410ﻫ.

106 - منهاج الصالحين، السيّد عليّ الحسيني السيستاني، طبعة مصحّحة ومنقّحة، سنة الطبع: 1439ﻫ.

107 - منهاج الصالحين، السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم، الطبعة السابعة 1433ﻫ.

108 - منوسمرتي (كتاب الهندوس المقدّس)، ترجمة وشرح وتعليق: إحسان حقّي،

ص: 164

دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر.

109 - المهذّب البارع في شرح المختصر النافع، الشيخ جمال الدين أبو العبّاس أحمد ابن محمّد بن فهد الحلّي (ت 841ﻫ)، نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم، تحقيق: الشيخ مجتبى العراقي.

110 - النجعة في شرح اللمعة، الشيخ محمّد تقيّ التستري (ت 1416ﻫ)، نشر مكتبة الصدوق بطهران، تصحيح: الشيخ عليّ أكبر الغفّاري، الطبعة الأولى 1406ﻫ.

111 - نهاية الدراية في شرح الرسالة الموسومة بالوجيزة، السيّد أبو محمّد حسن صدر الدين بن هادي بن محمّد عليّ (ت 1354ﻫ)، نشر: المشعر، تحقيق: ماجد الغرباوي، مطبعة: اعتماد - قم.

112 - نهج الفقاهة، السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1390ﻫ)، نشر: انتشارات 22 بهمن - قم.

113 - نيل الأوطار من أحاديث سيّد الأخيار، محمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني (ت 1255ﻫ)، طبعة: دار الجيل - بيروت 1973م.

114 - الوافي، الشيخ محمّد بن مرتضى بن محمود المعروف ب-(الفيض الكاشاني) (ت 1091ﻫ)، نشر: مكتبة أمير المؤمنين (علیه السلام) العامّة - أصفهان، تحقيق: السيّد ضياء الدين الحسيني الأصفهاني، الطبعة الأولى 1406ﻫ.

115 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة، الشيخ أبو جعفر محمّد بن عليّ الطوسي المعروف ب-(ابن حمزة) (ت 560ﻫ)، نشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفي، تحقيق: الشيخ محمّد الحسّون، مطبعة الخيام - قم، الطبعة الأولى 1408ﻫ.

ص: 165

ص: 166

دلالة الفعل على الزّمان - الشّيخ محمّد رضا الأحمديّ (دام عزه)

اشارة

إنّ مسألة دلالة الفعل على الزمن ذات الجذور النحوية، واستعار دلالته عليه قدامى الأصوليين من النحاة، وهو ما كان محلّ مناقشة ونكران من متأخّري الأصوليين الذين بسطوا البحث فيه، فاتّسعت دائرته بما له صلة بالبحث الفلسفي والكلامي، ولا سيّما في الحواضر الشيعية التي عمّقت البحث في مسائل عدّة لها صلة بالجوانب اللغوية وغيرها.

وكنّا نتمنّى أن تنال هذه المسألة في ثوبها الأصولي اهتمام الدارسين المحدثين لما تضمّنته من تحليل عقلي يتمتّع بالدقّة والعمق.

وهذا البحث الماثل بين يديك - مع ما فيه من محاولة تقديم رؤية خاصّة - هو امتداد ذلك العطاء الوارف والوافر.

ص: 167

ص: 168

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

إنّ مسألة دلالة الفعل على الزمن ذات جذور نحوية، واستعار دلالته عليه قدامى الأصوليين من النحاة، وهو ما كان محلّ مناقشة وإنكار من متأخّري الأصوليين الذين بسطوا البحث فيه، فاتّسعت دائرته بما له من صلة بالبحث الفلسفي والكلامي، ولا سيّما في الحواضر الشيعية التي عمّقت البحث في مسائل عدّة لها صلة بالجوانب اللغوية وغيرها.

وكنّا نتمنّى أن تنال هذه المسألة في ثوبها الأصولي اهتمام الدارسين المحدثين لما تضمّنته من تحليل عقلي يتمتّع بالدقّة والعمق.

وهذا البحث الماثل بين يديك - مع ما فيه من محاولة تقديم رؤية خاصّة - هو امتداد ذلك العطاء الوارف والوافر.

ص: 169

تمهيد

اتّفق النحاة على أنّ الفعل يدلّ على الزمان، ولذلك أخذوا الدلالة على الزمان في تعريفه بحسب ما نقل عنهم المحقّق الشريف، حيث قال: (وفي اصطلاح النحاة ما دلّ على معنىً في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة)(1)، وهذا التعريف يشتمل على بندين:

البند الأوّل: (ما دلّ على معنى في نفسه)، والظاهر في هذا البند أنّ الضمير في (نفسه) يرجع إلى المعنى؛ إذ لو رجع إلى (ما) الموصولة يعني ذلك أنّ المعنى في نفس الكلمة الدالّة، وكون المعنى في نفس الكلمة حاصل في كلّ كلمة حتّى الحرف، مع أنّهم عرّفوه ب-(ما دلّ على معنىً في غيره)، فلا بدّ من إرجاع الضمير إلى المعنى في تعريف الفعل، فيكون معناه شيئاً في نفسه - أي: مستقلَّاً في ذاته - وإرجاع الضمير في تعريف الحرف إلى المعنى أيضاً، فيكون معناه شيئاً في غيره - أي: غير مستقلّ في ذاته - فبالبند الأوّل يخرج الحرف عن تعريف الفعل.

البند الآخر: (مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة)، وتوضيح هذا البند يتوقّف على بيان نقطتين:

النقطة الأولى: أنّ المعنى الحدثي في الفعل له نسبتان:

الأولى: نسبته إلى ما يقوم به، وهو الفاعل.

الأخرى: نسبته إلى ما يقع فيه وهو الظرف.

ص: 170


1- التعريفات (الشريف الجرجاني): 72.

النقطة الأخرى: الزمان الذي يكون مراداً للنحاة في تعريف الفعل هو مقدار حركة الفلك، كما كان معروفاً عند القدماء، وهذا الزمان ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- الحال: وهو الزمان الذي أنت فيه.

2- الماضي: وهو الزمان الذي انقضى قبل زمان الحال.

3- المستقبل: وهو الزمان الذي يُترقّب وجوده بعد زمان الحال.

وبما أنّ هذه الأقسام الثلاثة أقسامٌ للزمان الطبيعي بالمعنى المتقدّم فتكون أزمنة حقيقية، فبهذا البند يخرج الاسم من تعريف الفعل؛ إذ إنّهم عرّفوه ب-(ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة).

وبعد أن عرفت هاتين النقطتين نقول: إنّ النحاة اتّفقوا على أنّ الفعل يدلّ على أحد الأزمنة الثلاثة، وبما أنّ للفعل مادّة وهيئة، فبمادّته يدلّ على الحدث، وبهيئته يدلّ على النسبة الزمانيّة، وبما أنّ الفعل بهيئته يدلّ على النسبة الزمانيّة، فدلالته عليه تكون دلالة تضمّنية، وبما أنّ وقوع الحدث في الزمان لا بدّ له بحسب الخارج من فاعل يسند إليه لوقوعه منه، فينتقل الذهن منه إلى النسبة الفاعلية إلى ذاتٍ ما، فيدلّ عليها التزاماً، فتكون دلالة الفعل على النسبة الزمانيّة دلالة تضمّنية، ودلالته على النسبة الفاعلية التزامية بالالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ.

وبعد هذا التوضيح للبندين في تعريف الفعل يتبيّن أنّ دلالة الفعل على اقتران الحدث بأحد الأزمنة تكون بالوضع؛ لكونه مدلولاً لهيئته.

فإن قيل: إنّ دلالة الفعل بهيئته على النسبة الزمانيّة تكون التزامية؛ لأنّ الفعل بهيئته يدلّ على نسبة الحدث إلى من يقوم به، وهو الفاعل، وبما أنّ وقوع الحدث من

ص: 171

الفاعل الزمانيّ لا يحصل إلّا في الزمان، فتدلّ بالالتزام على النسبة الزمانيّة.

فنقول: إنّ دلالة الفعل على النسبة الزمانيّة من جهة وقوع الحدث من الفاعل الزمانيّ تكون على وقوعه في زمانٍ ما من دون تعيين، وهذا النحو من الدلالة على النسبة الزمانيّة لا تكون مقصود النحاة؛ إذ قصدوا من (أحد الأزمنة الثلاثة) واحداً من تلك الأزمنة بعينه.

وبعد التوضيح حول تعريف النحاة للفعل لا بدّ من القول بأنّ الزمان المدلول للفعل عند النحاة يتميّز بخصائص أربع:

الأولى: أنّ زمان الفعل هو مدلول هيئة الفعل لا مادّته.

الثانية: أنّ الزمان المدلول للفعل يكون مدلولاً تضمّنياً، وبالتالي يكون فصلاً مقوّماً للفعل بحيث يوجد الفعل عند وجوده، وينعدم عند عدمه، كما أنّه يقسّم الكلمة إلى قسمين: عند وجوده تكون فعلاً، وعند عدمه اسماً أو حرفاً، فصارت الدلالة على الزمان فصلاً منطقياً.

الثالثة: أنّ زمان الفعل هو مصداق الزمان الذي يقترن به الحدث لا مفهومه.

الرابعة: أنّ الزمان المدلول عليه بالفعل هو الزمان الطبيعي الذي ينقسم إلى الأزمنة الثلاثة وهي أزمنة حقيقية، كما تقدّم تعريفها.

وهذه الخصائص الأربع متّفق عليها بين النحاة.

ص: 172

موقف الأصوليين من مذهب النحاة

اشارة

قد ردّ الأصوليون على مسلك النحاة في دلالة الفعل على الزمان بردود عدّة:

الردّ الأوّل

أنّ وضع الفعل انحلالي، فالمادّة فيه موضوعة للدلالة على نفس الحدث، والهيئة فيه موضوعة للدلالة على النسبة بين الحدث وفاعلٍ ما، ومجموع المادّة والهيئة موضوع للدلالة على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما، فلم يبقَ في الفعل ما يدلّ على الزمان حتّى يكون جزء مدلوله، وهذا الردّ جاء في الكفاية على نحو الإشارة عندما أنكر دلالة فعل الأمر والنهي على الزمان؛ لأنّ إنكار دلالتهما عليه مبنيّ على انحلالية الوضع في الأفعال مطلقاً، فلذلك يكون الردّ المتقدّم موجباً لنفي دلالة الأفعال على الزمان.

وهذا الردّ تبيّن دفعه ممّا تقدّم في بيان كلام النحاة؛ فإنّ المادّة موضوعة للدلالة على الحدث، وأمّا الهيئة فغير موضوعة للدلالة على النسبة الفاعلية حتّى يقال: لم يبقَ شيء للدلالة على الزمان، بل الهيئة موضوعة للدلالة على النسبة الزمانيّة، فتدلّ على وقوع الحدث في زمان معيّن من الأزمنة الثلاثة، والهيئة الدالّة على هذا الوقوع تدلّ على الزمان، ولمّا كان وقوعه في الزمان لا بدّ له بحسب الخارج من فاعل يستند إليه، فالذهن ينتقل إلى فاعلٍ ما، فتكون الدلالة على النسبة الفاعلية دلالة التزامية بالالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ.

الردّ الثاني

ما ورد في كفاية الأصول(1) من أنّ فعلي الأمر والنهي لا يدلّان إلّا

ص: 173


1- يلاحظ: كفاية الأصول (تعليقة المشكيني): 1/ 228.

على طلب وجود الفعل أو طلب تركه؛ فإنّ المادّة فيهما تدلّ على نفس الحدث، والهيئة فيهما تدلّ على طلب وجوده في الأمر، وعلى طلب تركه في النهي، أو تدلّ على البعث إليه في الأمر أو الزجر عنه في النهي، ولا دلالة لهما على عنصر الزمن.

ومن قال من النحاة بأنّ الأمر والنهي يدلّان على زمان الحال ردّ عليه الآخوند وتلميذه العلّامة المشكيني (قدس سرهما) (1) بما حاصله: أنّ زمان الحال المدلول لهما وضعاً:

إمّا أن يكون ظرفاً لإنشاء الطلب المدلول للصيغة فيستلزم أن تدلّ الجملة الاسمية على زمان الحال وضعاً أيضاً؛ لكونه ظرفاً للإخبار عن النسبة الخبرية، إذ إنشاء الطلب فعل اختياري للمتكلّم، ويقع في زمان الحال، فكذلك الإخبار عن النسبة الخبرية في الماضي أو الحال أو المستقبل أيضاً فعل اختياري للمتكلّم يقع في زمان الحال، فلو كانت الصيغة فيهما دالّة على زمان الإنشاء لكانت الجملة الخبرية أيضاً دالّة على زمان الإخبار مع أنّ الجملة الاسمية لا تدلّ وضعاً على زمان الحال.

وعليه لا يعقل أن يكون زمان الحال - الذي هو ظرف للإنشاء - مدلولاً عليه.

أو أن يكون ظرفاً للمطلوب المدلول للصيغتين فيستلزم التكليف بغير المقدور، أو التجريد والمجاز.

والوجه في ذلك: أنّه بانتهاء المتكلّم من النطق بالصيغة ينقضي زمان الحال، ومع انقضائه إمّا لا تُجرّد صيغة الأمر والنهي عن زمان الحال فيكون فعل المأمور به وترك

ص: 174


1- يلاحظ: كفاية الأصول (تعليقة المشكيني): 1/ 228 - 229.

المنهيّ عنه مطلوباً في الزمان الذي قد انقضى، وهذا تكليف بغير المقدور، وطلبه قبيح لا يصدر من الآمر الحكيم، وإمّا تجرّد عن زمان الحال، وتستعمل في طلب وجود الفعل أو تركه، فحينئذٍ تستعمل الصيغة في جزء معناه، فيكون الاستعمال مجازياً مع أنّ العرف يستعملها دون لحاظ أيّ علاقة بين المستعمل فيه للصيغتين ومعناهما الحقيقي، مضافاً إلى أنّ دخل زمان الحال في الموضوع له مع التجريد عنه دائماً حين الاستعمال خلاف حكمة الوضع.

وهذا الردّ متين لا غبار عليه.

الردّ الثالث

اشارة

يتضمّن هذا الردّ مجموعة من النقوض على مسلك النحاة، ونحن نقتصر على النقوض التي أوردها الآخوند (قدس سره) :

النقض الأوّل
اشارة

أنّه لو كان الزمان جزءاً من مدلول الفعل للزم التجريد عند الإسناد والمجاز فيما إذا كان الفاعل زماناً ك-(مضى الأمس) و(يأتي الغد)، ففي المثال الأوّل أُسند (المضي، أي: السبق) إلى (الأمس)، والأمس زمان، وفي المثال الآخر أُسند (الإتيان، أي: اللحوق) إلى (الغد)، والغد زمان، فلو كان الزمان جزءاً لمدلول (مضى) و(يأتي)، للزم أن يقع سبق الأمس في زمان سابق، ولحوق الغد في زمان لاحق، فيكون الزمان واقعاً في زمان، فيستلزم التسلسل، والتسلسل محال.

فلا بدّ من تجريده من الزمان المأخوذ فيه، وعليه يكون الاستعمال مجازياً، والمجاز يحتاج إلى لحاظ العلاقة، ولا نرى في أنفسنا عند إسناد الفعل إلى الزمان أيّ لحاظ للعلاقة في استعماله.

وقد رُدّ على هذا النقض بوجهين:

ص: 175

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الأصفهاني (قدس سره)

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الأصفهاني (قدس سره) (1).

وحاصله: أنّ ملاك التقدّم والتأخّر الزمانيّين هو عدم اجتماعهما في الوجود، وعدم الاجتماع قد يكون ذاتياً، كتقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض الآخر، مثل اليوم والغد والسنة الحالية والسنة المقبلة وهكذا، وقد يكون عرضياً، كتقدّم بعض الزمانيّات على البعض الآخر، كدرس اليوم ودرس الغد، فإنّهما لا يجتمعان؛ لوقوع أحدهما في الزمن السابق - وهو اليوم - ووقوع الآخر في الزمن اللاحق - وهو الغد -.

والنحاة الذين ذهبوا إلى دلالة الفعل على الزمان أرادوا منه التقدّم الزمانيّ الذي هو أمر واقعي انتزاعي يحصل للزمان بالذات وللزمانيّات بالعرض، وليس مقصودهم من الزمان هو مقدار حركة الفلك، حتّى يقع مضي الأمس وإتيان الغد فيه، وبالتالي يكون للزمان زمان، فلذلك في مثل (مضى الأمس) فعل (مضى) يدلّ على سبق الأمس بالذات على اليوم، لا على وقوع سبقه في زمان سابق، بينما (مضى الكلام) يدلّ (مضى) على سبق الكلام بالزمان الماضي، وهكذا في مثل (يأتي الغد) فعل (يأتي) يدلّ على لحوق الغد بالذات على اليوم، لا على وقوع لحوقه في الزمان اللاحق بينما في مثل (يأتي الكلام) فعل (يأتي) يدلّ على لحوق الكلام في الزمان اللاحق.

وهذا الردّ يخالف ما قلناه في الخصوصية الرابعة من أنّ مقصود النحاة من الزمان هو الزمان الطبيعي - وهو مقدار حركة الفلك - لا السبق واللحوق الزمانيّان

ص: 176


1- يلاحظ: نهاية الدراية: 1/ 177.

حتّى يعمّم إلى ما بالذات وإلى ما بالعرض.

وبالنتيجة يكون هذا الكلام وجهة نظر جديدة غير ما هو المشهور بين النحاة، وبهذا الكلام لا يدفع هذا النقض على ما ذهب إليه النحاة.

الوجه الآخر: ما أفاده بعض المعاصرين

وحاصله: أنّ السبق واللحوق من المفاهيم الانتزاعية التي تنتزع من الموجودات المتعدّدة من دون الحاجة في انتزاعهما إلى ملاحظة شيء آخر يرسم الزمان بحركته مثل الفلك، وأذكر فرضاً واحداً لتصوير هذا الانتزاع من كلامه، وهو: (لو فرض أنّ الله - تبارك وتعالى - أوجد زيداً ثمّ أعدمه ثمّ أوجد عَمراً بحيث لم يقترن وجودهما وما بينهما بأيّ كائن متغيّر راسم للزمان، فإنّ وجود زيد يوصف بأنّه أسبق من وجود عمروٍ)(1).

فيُلاحظ أنّ السبق واللحوق هنا يُنتزعان من الوجودات المتعدّدة إذا قيس بعضها إلى بعض بغضّ النظر عن الزمان.

وعليه فالفعل الماضي يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما المتّصفة بالسبق والتقدّم، والفعل المضارع يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما المتّصفة باللحوق والتأخّر، سواء أسند الحدث إلى الزمان، مثل (مضى الأمس) و(يأتي الغد)، أو أسند إلى الزمانيّ، مثل (مضى الكلام) و(يأتي الكلام).

والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق أنّ الوجه السابق كان مبنياً على أنّ السبق

ص: 177


1- مباني الأصول: 4/ 121.

واللحوق يكونان بحسب الزمان، إمّا بالذات إذا أسند الفعل إلى الزمان، أو بالعرض إذا أسند إلى الزمانيّ، وأمّا هذا الوجه فمبنيّ على أنّ السبق واللحوق يكون لشيء عندما يقاس إلى شيءٍ آخر بغضّ النظر عن الزمان.

ويلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ التقدّم والتأخّر لا ينتزعان من شيء بلا مصحّح، وهذا المصحّح يسمّى بالملاك، وهو أمر مشترك بين المتقدّم والمتأخّر، فيحصل للمتقدّم قبل حصوله للمتأخّر، ولا يحصل للمتأخّر إلّا بعد حصوله للمتقدّم، فالمتقدّم يكون سابقاً لحصول الملاك فيه قبل حصوله للمتأخّر، والمتأخّر يكون متأخّراً لحصول الملاك فيه بعد حصوله للمتقدّم.

وبيان وجود هذا الملاك في المتقدّم والمتأخّر يتوقّف على ذكر الأقسام السبعة للمتقدّم(1).

1- المتقدّم بالطبع: وهو أن يكون المتقدّم محتاجاً إليه المتأخّر في الوجود، مثل العلّة الناقصة بالنسبة إلى المعلول، والملاك فيه هو الوجود، فإنّه أمر مشترك بين المتقدّم والمتأخّر، ولا يوجد في المتأخّر إلّا بعد وجوده للمتقدّم، فما به التقدّم هو الوجود، وما فيه التقدّم هو العلّة الناقصة؛ لأنّها تتقدّم على المعلول بالوجود، فالوجود يحصل لها أوّلاً، ويحصل للمعلول آخراً.

2 - المتقدّم بالرتبة: وهو أن يكون المتقدّم أقرب من غيره إلى مبدأ محدود،

ص: 178


1- يلاحظ: شرح المنظومة (الحكيم السبزواري ط حجرية): 83.

والتقدّم في هذا القسم على نوعين:

إمّا بحسب الطبع فيما إذا كان ترتّب المتأخّر على المتقدّم طبعياً، كالأجناس البعيدة مثل الجسم المطلق والجسم النامي، والجنس القريب كالحيوان بالنسبة إلى مبدأ محدود، فإنّك إذا جعلت الجوهر مبدأً كان الجسم المطلق والجسم النامي متقدّماً على الحيوان؛ لقربهما إلى الجوهر، وإن جعلت الإنسان مبدأً، يكون الحيوان أقرب إليه من الجسم المطلق والجسم النامي.

وإمّا بحسب الوضع فيما إذا كان ترتّب المتأخّر على المتقدّم مكانياً، كالإمام وصفوف المأمومين بالنسبة إلى مبدأ محدود، فإنّك إذا جعلت المحراب مبدأً، يكون الإمام متقدّماً على صفوف المأمومين؛ لقربه إلى المحراب وبُعد المأمومين عنه، وإذا جعلت الباب مبدأً ينعكس الحال، والملاك في هذا التقدّم هو النسبة إلى المبدأ، فإنّها أمر مشترك بين المتقدّم والمتأخّر، ولا تحصل للمتأخّر إلّا بعد حصولها للمتقدّم، وبما أنّ الملاك في هذا القسم هو النسبة المكانية إلى المبدأ - بمعنى نسبة المتقدّم والمتأخّر من حيث مكانهما إليه - وبحسب هذه النسبة يكون المتقدّم قريباً من المبدأ، والمتأخّر بعيداً عنه، وعليه يكون التقدّم والتأخّر باعتبار الوصول إليهما، فالمتحرّك - كالنملة مثلاً - عندما يتحرّك من المحراب إلى خارجه يصل إلى الإمام أوّلاً، ثمّ يصل إلى صفوف المأمومين لو جعلنا المحراب مبدأ، وليس الملاك هو مجرّد نسبة المتقدّم والمتأخّر إلى المبدأ، حتّى يقال إنّ: النسبة للأقرب حاصلة في الآن نفسه الذي حصلت فيه النسبة للأبعد، فلا تفاوت بينهما من هذه الجهة.

وعلى كلّ حالٍ ما به التقدّم هو النسبة إلى المبدأ المحدود، وما فيه التقدّم هو الإمام مثلاً؛ لأنّه يتقدّم على المأمومين بهذه النسبة، وهذه النسبة تحصل له أوّلاً،

ص: 179

وتحصل للمأمومين آخراً.

3 - المتقدّم بالعلّية: وهو أن يكون المتقدّم علّة موجبة لوجود المعلول، وهي العلّة التامّة - بمعنى جميع ما يتوقّف عليه وجود المعلول - والملاك في هذا التقدّم هو وجوب الوجود، وهو أمر مشترك بين العلّة والمعلول، فيحصل للعلّة أوّلاً، ويحصل للمعلول آخراً، فما به التقدّم هو وجوب الوجود، وما فيه التقدّم هو العلّة التامّة؛ لأنّها تتقدّم على المعلول بوجوب الوجود، فوجوب الوجود يحصل لها أوّلاً، ويحصل للمعلول آخراً.

4 - المتقدّم بحسب الزمان: وهو أن لا يكون كلّ من المتقدّم والمتأخّر موجوداً في فرض وجود الآخر، وهذا القسم من المتقدّم والمتأخّر لا يجتمعان في الوجود؛ لأنّه لا يوجد المتأخّر إلّا بعد انقضاء المتقدّم، والتقدّم إمّا في نفس الزمان، كتقدّم الأمس على اليوم، فيكون التقدّم وصفاً بالذات للزمان، وإمّا في الزمانيّ - وهو الواقع في الزمان - كتقدّم موسى على عيسى (علیهما السلام)، فإنّ موسى (علیه السلام) لذاته لا يتقدّم على عيسى (علیه السلام) ، بل يتقدّم عليه بالزمان؛ لأنّه وُجد في زمان ثمّ انقضى زمانه بموته، وجاء زمان آخر، ووُجد فيه عيسى (علیه السلام) ، فصار تقدّم موسى على عيسى (علیهما السلام) بالزمان، والملاك في هذا التقدّم هو النسبة إلى الزمان باعتباره امتداداً طولياً من الأزل إلى الأبد، فقطعة منه هي الأمس تتقدّم على قطعة أخرى منه وهي اليوم؛ لأنّ النسبة إلى ذلك الكلّ الممتدّ تدريجي الحصول تحصل أوّلاً للأمس، وتحصل آخراً لليوم، فما به التقدّم هو النسبة إلى الزمان ككلّ، وما فيه التقدّم هو الزمان كجزء، فإنّ هذه النسبة تحصل للجزء الأوّل من الزمان أوّلاً، وتحصل للجزء الآخر آخراً، هذا بالنسبة إلى التقدّم والتأخّر في نفس الزمان، وأمّا بالنسبة إلى الزمانيّ كموسى وعيسى (علیهما السلام)، فإنّ

ص: 180

موسى له نسبة إلى زمان سابق، وعيسى (علیه السلام) له نسبة إلى زمان لاحق، فصار تقدّم أحدهما على الآخر بالعرض، فما به التقدّم هو النسبة إلى زمان معيّن، وما فيه التقدّم هو الزمانيّ.

5 - المتقدّم بالتقدّم السرمدي: وهو أن لا يكون كلّ من المتقدّم والمتأخّر موجوداً في فرض وجود الآخر، وهذا القسم من المتقدّم والمتأخّر لا يجتمعان في الوجود؛ لإشغال كلّ منهما مرتبة من المراتب الطولية للوجود، فلا يكون أحدهما في مرتبة الآخر، كتقدّم وجود الله تبارك وتعالى على العالم، أي ما سواه، وكلّ مرتبة غير المرتبة الأخرى.

وأمّا ما قيل من أنّهما يجتمعان في مرتبة المتأخّر وجوداً، وإلّا كان العالم موجوداً ولم يكن الله كذلك!

فيرد عليه: أنّ القول ب-(كان العالم موجوداً ولم يكن الله كذلك) هو تالٍ للمقدّم - وهو: (إن لم يكن الله في مرتبة المتأخّر) - فإن قُصد منه وجود العالم وعدم وجوده تعالى مطلقاً، لا في المرتبة المتقدّمة ولا في المرتبة المتأخّرة فهذا التالي باطلٌ، ولكنّه ليس لازماً للمقدّم؛ لأنّ نفي الخاصّ - وهو نفي وجوده في مرتبة المتأخّر - أعمّ من نفي العامّ، وهو نفي وجوده في المرتبة المتقدّمة والمتأخّرة، والأعمّ لا يلزم الأخصّ، فإذا لم يكن لازماً للمقدّم فلا يبطل ببطلانه.

وإن قصد منه وجود العالم وعدم وجود الله في مرتبته، فهذا التالي هو المطلوب، وليس بباطلٍ حتّى يؤدّي إلى بطلان المقدّم؛ إذ وجود المتقدّم لا يجتمع مع وجود المتأخّر في مرتبته، وإلّا استلزم أن يكون المتقدّم متأخّراً، وهذا خُلفٌ، إلّا أنّ وجود المتقدّم يكون مع المتأخّر مقوّماً له من دون التجافي عن مرتبته المتقدّمة، فاجتماعه

ص: 181

تعالى مع المتأخّر في مرتبته يعني أن يكون وجوده معه في تلك المرتبة، وهذا محال، وأمّا كونه مقوّماً للمتأخّر، يعني أنّ وجوده في مرتبته المتقدّمة قوام له من دون أن يتجافى عن مرتبته، وهذا واجب، وإلّا استلزم أن يكون المتأخّر قائماً بنفسه، وهو خُلف كونه قائماً بغيره.

والجدير بالذكر أنّ عدم اجتماع المتقدّم والمتأخّر في الوجود خصوصية مشتركة بين التقدّم بالزمان والتقدّم السرمدي، وليس ملاكاً فيهما، بل الملاك في التقدّم بالزمان ما ذُكر آنفاً، والملاك في هذا التقدّم هو الوقوع في عالم العين والخارج، فإنّه أمر مشترك بينهما إلّا أنّه حاصل للواجب تعالى أوّلاً، ويحصل لما سواه آخراً، فما به التقدّم هو الوقوع في عالم العين، وما فيه التقدّم هو الذي يملأ عالم العين، فإنّ الوقوع في عالم العين يحصل للمرتبة الأولى من عالم الوجود أوّلاً، ويحصل للمرتبة الأخرى آخراً.

والفرق..

أوّلاً: بين التقدّم بالزمان والتقدّم السرمدي هو أنّ التقدّم السرمدي في المراتب الطولية للوجود، بينما التقدّم في الزمان في مرتبة واحدة من الوجود، وهي عالم المادّة،

وثانياً: الفرق بين التقدّم بالعلّية والتقدّم السرمدي أنّ السابق واللاحق في المتقدّم بالعلّية يجتمعان في الوجود، وتقدّم أحدهما على الآخر يكون بحكم العقل، فيقال: تحرّكت اليد فتحرّك المفتاح، بينما في التقدّم السرمدي السابق واللاحق لا يجتمعان في الوجود، فالسابق في مرتبة واللاحق في مرتبة أخرى.

6 - المتقدّم بالتجوهر: وهو أن يكون المتقدّم محتاجاً إليه المتأخّر في قوام ذاته، كتقدّم الجنس والفصل على النوع، مثل الحيوان الناطق على الإنسان؛ لأنّ الإنسان لا

ص: 182

تتمّ ذاته إلّا بالحيوان والناطق، والملاك في هذا التقدّم هو التقرّر الماهوي، فإنّه أمر مشترك بين المتقدّم والمتأخّر، فيحصل أوّلاً للمتقدّم ويحصل آخراً للمتأخّر؛ لأنّ المتأخّر لا تقوّم لذاته إلّا بقوام ذات المتقدّم، فما به التقدّم هو التقرّر الماهوي، وما فيه التقدّم هو المتقوّم بذاته، فإنّ التقرّر الماهوي يحصل للمتقوّم بذاته أوّلاً، ويحصل للمتقوّم بغيره آخراً.

وفي هذه الأقسام الستّة لا يتّصف المتقدّم بالسبق على المتأخّر إلّا بلحاظ أوّلية حصول الملاك فيه، ولا يتّصف المتأخّر باللحوق إلّا بلحاظ آخرية حصول الملاك فيه.

7 - المتقدّم بالشرف: وهو أن يكون للمتقدّم زيادة كمالٍ عن المتأخّر في أمر مشترك بينهما، كتقدّم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على سائر الأنبياء (علیهم السلام) ، والملاك في هذا التقدّم هو الفضائل والمقامات، فإنّها أمر مشترك بين النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله و سلم) وسائر الأنبياء (علیهم السلام) إلّا أنّ نبيّنا (صلی الله علیه و آله و سلم) يتّصف بزيادة الفضائل والمقامات التي هي مفقودة في سائر الأنبياء (علیهم السلام) ، وفي هذا القسم لا يحصل الأمر المشترك في المتقدّم أوّلاً وفي المتأخّر آخراً، بل يحصل في المتقدّم بزيادة ويحصل في المتأخّر بنقيصة، ولذلك عدل العلّامة الطباطبائي (رحمة الله) في بيان ملاك التقدّم إلى بيان آخر، وهو أنّ الملاك في المتقدّم أكمل منه في المتأخّر(1)، ونحن اعتمدنا على البيان المعروف لملاك التقدّم.

وبيت القصيد في هذه المقدّمة الطويلة هو أنّ السبق واللحوق لا ينتزعان من الكائنات عندما نقيس بعضها إلى بعض باعتبار عدم الاجتماع في الوجود، فلا بدّ من

ص: 183


1- يلاحظ: نهاية الحكمة: 3/879.

أمر آخر عندما نقيس شيئاً إلى شيء آخر، وهو أنّ في الشيء الأوّل ما به التقدّم وفي الشيء الآخر ما به التأخّر، وهو الملاك.

وعلى أساسه لا وجه لما قاله صاحب المباني (دام عزه).

وأمّا ما ذكره من شاهد: (لو فرض أنّ الله تعالى أوجد زيداً، ثمّ أعدمه، ثمّ أوجد عمراً، بحيث لم يقترن وجودهما وما بينهما بأيّ كائن متغيّرٍ راسمٍ للزمان، فإنّ وجود زيد يوصف بأنّه أسبق من وجود عمرو)(1)، فيقصد منه تجريد وجود زيد ووجود عمرو من الزمان، وأيضاً تجريد ما بينهما - وهو العدم - من الزمان، وذلك بغضّ النظر عنه؛ حتّى يقول: إنّ مفهوم السبق يُنتزع من وجود زيد، ومفهوم اللحوق من وجود عمرو؛ لعدم اجتماعهما بتخلّل العدم بينهما من دون لحاظ كائن متغيّر يرسم الزمان بتغيّره.

ولكن يلاحظ عليه أنّ السبق لا يُنتزع من وجود زيد نفسه بالقياس إلى وجود عمرو، كما أنّ اللحوق أيضاً لا يُنتزع من وجود عمرو نفسه بالقياس إلى وجود زيد، وإلّا لصحّ أن ينتزع السبق واللحوق من أيّ شيءٍ يلحظ بالنسبة إلى شيءٍ آخر، كالإنسان عندما يلحظ بالنسبة إلى الحجر مثلاً، فلا بدّ من أمرٍ زائد عليهما، وهو لا يخلو من احتمالات:

الأوّل: هو العدم الفاصل بينهما، وهذا الاحتمال غير صحيح؛ لأنّ فصل عدم زيد بين وجوده ووجود عمرو لا يصحّح انتزاع السبق من وجوده، واللحوق من

ص: 184


1- مباني الأصول: 4/ 121.

وجود عمرو، بل يصحّح عدم اجتماع وجود زيد بوجود عمرو، فيقال: (وجود زيد لا يجتمع بوجود عمرو)؛ لكونه معدوماً عند وجود عمرو.

الثاني: عدم اجتماع وجود زيد بوجود عمرو، وصاحب المباني (دام عزه) ناظر إلى هذا الاحتمال.

وهو غير صحيح أيضاً؛ لأنّ عدم الاجتماع متساوي النسبة إلى وجوديهما، فكما لا يجتمع وجود زيدٍ مع وجود عمرو كذلك وجود عمرو لا يجتمع مع وجود زيد، وعلى أساس هذا الأمر المساوي إليهما لا ينتزع السبق من وجود زيد، واللحوق من وجود عمرو، فلماذا لا يكون الأمر بالعكس، ما دام عدم الاجتماع متساوي النسبة إليهما؟

وردّ عليه بأنّه يأتي في تقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعضٍ مثل (الأمس) و(اليوم)؛ إذ (الأمس) متقدمٌ على (اليوم) من جهة عدم اجتماعه ب-(اليوم).

وهذا الردّ غير مقبولٍ:

أوّلاً: لأنّ ملاك تقدّم (الأمس) على (اليوم) ليس عدم الاجتماع، حتّى ينقض الردّ المتقدّم على الاحتمال الثاني بتقدّم (الأمس) على (اليوم)، بل ملاكه هو نسبتهما إلى الزمان ككلٍّ تدريجي الحصول، فهذه النسبة ل-(الأمس) تحصل قبل حصولها ل-(اليوم)،

وثانياً: على فرض التسليم بهذا النقض على الردّ على الاحتمال الثاني، فإنّه ردٌّ نقضي، والردّ النقضي يزيد المشكلة ولا يحلّها، فإذا كان الملاك في التقدّم والتأخّر هو عدم الاجتماع في الوجود فيأتي الردّ عليه بأنّه متساوي النسبة إلى المتقدّم والمتأخّر،

ص: 185

فلماذا يكون أحدهما متقدّماً والآخر متأخّراً؟

وهذا الإشكال وارد على ما تفضّل به صاحب المباني (دام عزه) من شاهد، ووارد أيضاً على تقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض، وبذلك يظهر أن ما رأى المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) - من أنّ الملاك هو عدم الاجتماع في الوجود - غير صحيح، حيث قال: (إذ ملاك التقدّم والتأخّر الزمانيّين عدم مجامعة المتقدّم والمتأخّر في الوجود)(1)، وقال في مورد آخر: (لما عرفت من أنّ ملاك السبق الزمانيّ عدم مجامعة المتأخّر مع المتقدّم في الوجود)(2)، فلا بدّ من بيان مِلاكٍ آخر لتقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض، وهو ما تقدّم منّا، فإنّه موجودٌ في تقدّم أجزاء الزمان وغير موجودٍ في الشاهد المذكور.

الثالث: نسبة وجود زيد إلى زمان سابق، ونسبة وجود عمرو إلى زمان لاحق، وهذا الاحتمال هو الصحيح، والوجه في ذلك يتوقّف على بيان نقطةٍ:

وهي أنّه لا ميز بين الأعدام من حيث العدم، فإنّ عدم العين وعدم الأُذن من حيث كونهما عدماً لا ميز بينهما، وإنّما يحصل الميز بينهما من حيث الإضافة، ولذلك نجد أنّه في فقدان العين يعلم الأعمى مقاصد الآخرين بلمس كتابتهم، وفي فقدان السمع يعلم الأخرس مقاصد الآخرين بقراءة كتابتهم، وهذا يعني أنّ هناك ميزاً بين العدمين، حتّى يترتّب على كلٍّ منهما غير ما يترتّب على الآخر، وقد حصل هذا الميز

ص: 186


1- نهاية الدراية: 1/177.
2- نهاية الدراية: 1/178.

بالإضافة، وبما أنّ هذا العدم ليس له ما بإزائه في الخارج، فلا بدّ أن يكون هناك موجود في الخارج يُنتزع منه هذا العدم، وبالتعبير المعروف لا بدّ أن يكون هناك شيء راسم له.

وبناءً على هذه النقطة، ما تقدّم فرضه من أنّ الله تبارك وتعالى أعدم زيداً ثمّ أوجد عمراً، يأتي فيه سؤال، وهو ما هو الراسم لعدم زيد فيه؟

فإمّا أن يكون الراسم له وجود عمروٍ فيكون هذا الفرض صحيحاً؛ لكون وجوده راسماً لعدم زيد، إلّا أنّه لا يكون فاصلاً بين وجوديهما؛ لانطباقه على وجود عمرو.

وإمّا أن يكون الراسم له هو عالم الوجود على سطح هذا الكوكب الممتدّ زمانيّاً بين وجود زيد ووجود عمرو، وهذا الفرض صحيح أيضاً، وما دام هذا العدم يُنتزع منه فينطبق عليه، فيكون فاصلاً بين وجوديهما، وبذلك يثبت أنّ العدم زمانيّ، فلا يصحّ القول بأنّ العدم بينهما لا يقترن بأيّ كائن متغيّر راسم للزمان، والعدم الزمانيّ لا يكون فاصلاً إلّا بين وجودين زمانيّين، فيكون وجودهما واقعاً في الزمان، فيُنتزع السبق من وجود زيد؛ لنسبته إلى زمان سابق، ويُنتزع اللحوق من وجود عمرو؛ لنسبته إلى زمان لاحق.

وبالنتيجة مصحّح انتزاع السبق من وجود زيد هو نسبته إلى زمان سابق، ومصحّح انتزاع اللحوق من وجود عمرو هو نسبته إلى زمان لاحق، فصار السبق واللحوق زمانيّين كما قال المشهور، لا أنّهما يُنتزعان من وجوديهما بمجرّد ملاحظة أحدهما إلى الآخر بغضّ النظر عمّا هو المتغيّر الذي يرسم الزمان بتغيّره.

ص: 187

فحينئذٍ لا فرق بين ما أتى به من شاهد وما مثّلنا في المتقدّم بحسب الزمان من تقدّم موسى (علیه السلام) على عيسى (علیه السلام) ، فعدم موسى (علیه السلام) زمانيّ فاصل بين وجوديهما، فتقدّم موسى (علیه السلام) على عيسى (علیه السلام) يكون بالزمان.

وقد أورد صاحب المباني (دام عزه) على نفسه إشكالاً حاصله: أنّ عدم اجتماع شيءٍ مع شيءٍ آخر لا يبرّر انتزاع السبق من الأوّل واللحوق من الآخر وإلّا فلماذا لا يكون الأمر عكس ذلك بحيث يُنتزع السبق من الآخر واللحوق من الأوّل؟! فلا بدّ أن يكون هناك مصحّح لهذا الانتزاع(1).

وردّ على هذا الإشكال بما حاصله: أنّ السبق واللحوق من الحيثيات الانتزاعية التي تتّصف بها الأشياء عندما يلاحظ بعضها إلى بعضٍ، ككون الإنسان مثلاً أقصر من النخلة، وككون السقف فوق الطاولة، فإنّ الأقصرية تنتزع من الإنسان عندما يلحظ إلى النخلة، وتنتزع الفوقية من السقف عندما يلحظ إلى الطاولة، ولو لم يكن قياس أحد الشيئين إلى الآخر كافياً لانتزاع السبق من أحدهما واللحوق من الآخر لتوجّه السؤال إلى الزمان نفسه عندما يُقاس الأمس إلى اليوم لماذا يُنتزع السبق من الأمس واللحوق من اليوم؟

وهذا الردّ غير صحيح؛ إذ انتزاع المفاهيم الثانوية يحتاج إلى مصحّح مثل انتزاع الإمكان من الإنسان باعتبار نسبته إلى الوجود والعدم في قولنا: (الإنسان ممكنٌ)، وانتزاع الفوقية من السماء باعتبار نسبتها إلينا في قولنا: (السماء فوقنا).

ص: 188


1- يلاحظ: مباني الأصول: 4/ 121 - 122.

لكن انتزاع مفهوم السبق واللحوق لا بدّ فيه من مصحّح، وهو ملاحظة الشيء إلى ما به التقدّم وما به التأخّر - وهو الملاك - وهذا يجري في كلّ الأقسام الستّة للمتقدّم والمتأخّر.

وفي مقام البحث ينتزع مفهوم السبق واللحوق من قطعات الزمان باعتبار نسبتها إلى الزمان ككلّ سيّال من الأزل إلى الأبد، وانتزاعهما من الزمانيّات باعتبار نسبتها إلى قطعات الزمان، ولا يمكن انتزاعهما من قطعات الزمان بقطع النظر عن الزمان السيّال الذي يحصل فيها على نحو التدريج، ولا يُمكن انتزاعهما من الزمانيّات بقطع النظر عن نسبتها إلى قطعاته.

وأمّا ما قاله بالنسبة إلى الأقصرية فغير صحيحٍ؛ إذ إنّها لا تنتزع من شيء بمجرّد قياسه إلى شيءٍ آخر، بل لا بدّ من مصحّحٍ له، وهو اشتراكهما في الطول، وعندما يلاحظ أنّ هذا الطول في أحدهما أقلّ من الآخر تنتزع الأقصرية من الأقلّ طولاً والأطولية من الأكثر طولاً.

وما قاله بالنسبة إلى الفوقية أيضاً غير صحيحٍ؛ إذ إنّها لا تنتزع من شيء بمجرّد قياسه إلى شيءٍ آخر، بل لا بدّ من مصحّحٍ وهو اشتراكهما في النسبة إلى المركز بتعبير القدماء - وهو الأرض - وعندما يُلاحظ أنّ هذه النسبة إلى أحدهما أبعد من الآخر تنتزع الفوقية من الأبعد والتحتية من الأقرب.

والحاصل المصحّح لانتزاع السبق واللحوق من أجزاء الزمان هو نسبتها إلى الزمان ككلّ سارٍ في الأزمنة، والمصحّح لانتزعهما من الزمانيّات هو نسبتها إلى أجزاء الزمان كظرفٍ لها، فليس مفهوم السبق واللحوق مثل مفهوم الشيء والوجود الذي

ص: 189

ينتزع من شيء بقطع النظر عن أيّ أمر زائد عليه.

وبهذا البيان يظهر الردّ على السيّد الروحاني (رحمة الله) (1) الذي جعل ملاك انتزاع السبق واللحوق من شيء عدم اجتماع شيء على فرض وجود شيء آخر؛ إذ مجرّد ذلك لا يكفي لانتزاعهما، بل لا بدّ من ملاحظة الشيء إلى ما به التقدّم والشيء الآخر إلى ما به التأخّر - وهو الملاك - كما تقدّم.

وثانياً: هذا الوجه صار قولاً آخر وهو دلالة الفعل على السبق واللحوق، وهذا القول يختلف عمّا قاله النحاة من أنّ الأفعال تدلّ على أحد الأزمنة الثلاثة، وبهذا الوجه لا يدفع نقض الآخوند (رحمة الله) عليهم.

النقض الثاني
اشارة

أنّه لو كان الزمان جزءاً من مدلول الفعل للزم تجريده عن الزمان في ما لو أُسند الفعل إلى الذات المقدّسة، كما في قولك: (علم الله) و(يعلم الله)، ولازم تجريده عن الزمان استعماله في غير ما وُضع له، وكلّ استعمال مجازي لا بدّ فيه من لحاظ العلاقة، ونحن نرى من أنفسنا أنّه لا فرق بين قولنا: (علم الله) و(علم زيد)، وبين (يعلم الله) و(يعلم زيد)، وهذا يعني أنّ إسناد الفعل بمعناه الحقيقيّ إلى الذات المقدّسة حقيقي، كما أنّ إسناده إلى الزمانيّ يكون بمعناه الحقيقيّ، وبذلك يثبت أنّ دعوى جزئية الزمان للفعل باطلة.

وقد ردّ على هذا النقض بوجهين:

ص: 190


1- يلاحظ: منتقى الأصول: 1/ 338.
الوجه الأوّل
اشارة

ما أفاده المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) (1)، وبيانه يتوقّف على عدّة مقدّمات:

المقدّمة الأولى

أنّ علم الله تبارك وتعالى بما سواه في مرتبتين:

المرتبة الأولى: مرتبة الذات.

المرتبة الأخرى: مرتبة الفعل.

وتوضيح ذلك: أنّ العلم هو حضور شيء لشيء، والذات المقدّسة حاضرة لدى ذاته بوجدان ذاته لذاته، وعدم غيبة ذاته عن ذاته، وبتبع حضور ذاته لذاته تحضر مصنوعاته من باب وجدانه لها؛ إذ معطي الشيء لا يفقده، فالله تبارك وتعالى معط الوجود لما سواه، فلا بدّ أن يكون واجداً له بنحو أعلى وأشرف، فصار حضور ما سواه له بتبع حضور ذاته لذاته، وهذا العلم يكون علماً في مرتبة الذات.

وهناك علم في مرتبة الفعل، فإنّ ما سواه بنفسه حاضر لديه حضور المعلول في العلّة؛ إذ المعلول هو عين الربط بالعلّة، وهذا الربط بالعلّة هو نحو حضور عندها، ويكون الفرق بين العلم والمعلوم في كلتا المرتبتين بالاعتبار، فما سوى الله في نفسه في مرتبة الذات المقدّسة معلومٌ، وباعتبار حضوره لدى الذات المقدّسة بتبع حضور الذات علم، وما سوى الله في الخارج معلوم، وباعتبار كونه عين الربط بالباري تبارك وتعالى علم، والعلم في مرتبة الذات عُبّر عنه بالرواية (عالم إذ لا معلوم)(2)؛ إذ

ص: 191


1- يلاحظ: نهاية الدراية: 1/ 177 - 178.
2- التوحيد: 57.

ليس المعلوم بالذات إلّا نفس الذات، وأمّا ما سواه في هذه المرتبة معلوم بتبعه.

المقدمة الثانية

أنّ فعل الله هو الوجود المنبسط الذي يتّحد مع الوجودات الخاصّة التي تنتزع منها: السماء والأرض والحيوان والنبات والإنسان وما إلى ذلك، فيكون الفرق بين الوجود المنبسط الذي هو الفعل الإطلاقي لله تبارك وتعالى والوجودات الخاصّة هو الإطلاق والتقييد.

وبعبارة أخرى: الفرق بينهما باللا بشرط وبشرط شيء، فإنّ الوجود المنبسط لا بشرط عن الحدود الكذائية، والوجود الخاصّ بشرط الحدود الكذائية، فلذلك الموجودات في العالم تكون لها حيثيتان:

الأولى: بما هي محدودة بحدّ كذائي، وبهذا الوجه يكون فاعلها - بمعنى ما به الوجود - هو عللها الفاعلية.

الأخرى: بما أنّها وجود، وبهذا الوجه يكون فاعلها - بمعنى ما منه الوجود - هو الله تبارك وتعالى، فالموجودات الخاصّة من حيث كونها وجوداً فاعلها هو الله، ومن هذا الحيث ليست بزمانيّة، والموجودات الخاصّة من حيث كونها محدودة فاعلها العلل الفاعلية، ومن هذا الحيث زمانيّة.

وبناءً على هذه المقدّمة فالموجودات الخاصّة من جهة كونها وجوداً إطلاقياً - وهو فعل الله - لا تكون زمانيّة، ومن جهة كونها محدودة تكون زمانيّةً، فلا وجه لما استشكل به بعض المعاصرين على المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) - الذي قال بأنّ فعل الله لا يقع في الزمان - حيث قال: (ولكن قد يشكل فيه بأنّ الفعل المادّي من شؤون عالم المادّة فلا مانع من وقوعه في الزمان، كيف؟ ومطلق الكائنات مفاضة من الباري

ص: 192

جلّ وعلا)(1)، إذ حصل له الخلط بين كون الكائنات مفاضة من الباري جلّ وعلا من حيث الوجود بما هو وجود؛ فإنّه تعالى مفيض الوجود لها، والكائنات بهذا الوجه لا زمان لها، وبين كونها محدودة بحدود كذائية معلولةً لعللها الطبيعية؛ إذ هي مجرى لوجوداتها المحدودة، والكائنات بهذا الوجه واقعة في الزمان.

المقدمة الثالثة

الفعل الذي يسند إلى الله على قسمين: إمّا من صفاته الذاتية كالعلم، والمعلوم بهذا العلم: إمّا أن يكون ما فوق الزمان ك-(علم الله بما سواه)، أو أن يكون زمانيّاً ك-(علم الله بقتل فلان)، وإمّا من صفاته الفعلية كالخلق، والمخلوق بهذا الخلق إمّا أن يكون ما فوق الزمان ك-(خلق الله ما سواه)، أو أن يكون زمانيّاً(2) ك-(خلق الله هذا الطفل).

وبعد هذه المقدّمات يرى المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) أنّ الفعل الماضي يدلّ على سبق نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما، والفعل المضارع يدلّ على لحوق نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما، وعليه:

إذا أسند الفعل إلى الله تعالى وهو من الصفات الذاتية مثل (علم الله)، فإذا كان المعلوم ما فوق الزمان ك-(علم الله بما سواه) فإنّ سبق العلم على المعلوم يكون سبقاً بالذات؛ لأنّ ملاك السبق الزمانيّ هو عدم إمكان اجتماع السابق واللاحق في الوجود بحسب تعبير المحقّق الأصفهاني (قدس سره) ، وهذا الملاك كان موجوداً في قسمين من

ص: 193


1- مباني الأصول: 4/ 123.
2- من خلال البحث يظهر أنّه زمانيّ بالعرض.

السبق: السبق الزمانيّ والسبق السرمدي، وهذا الملاك في السبق السرمدي حاصل بين العلم والمعلوم؛ لأنّ الله يعلم ما سواه في مرتبة الذات، والذات في المرتبة الأولى من المراتب الطولية للوجود، وما سواه - الذي هو المعلوم - في مرتبة أخرى منها، وهذا لا يعني أنّه غير موجود في الصقع الربوبي بنحو الإجمال والبساطة؛ إذ الذات المقدّسة واجدة له بنحو أعلى وأشرف، ولا يعني أيضاً أنّه تبارك وتعالى غير موجود فيما سواه كمقوّم له.

وبالنتيجة لا يمكن اجتماع ما سوى الله مع العلم الذاتي، فيكون اتّصاف علمه بالسبق اتّصافاً بالذات.

وإذا كان المعلوم زمانيّاً ك-(علم الله بقتل فلان): فإن كان العلم في مرتبة الذات يكون عين ذاته، وذاته مقوّمة للوجود السابق للقتل، فيكون علمه سابقاً مع السابق وهو القتل، وإذا تعلّق علمه الذاتي بالزمانيّ في المستقبل ك-(يعلم الله قتل فلان)، فيكون عين ذاته، وذاته مقوّمة للوجود اللاحق للقتل، فيكون علمه لاحقاً مع اللاحق وهو القتل.

وإن كان العلم في مرتبة الفعل فهو عين فعله ك-(علم الله بقتل فلان)، فالفعل السابق بما له من وجود معلوم، وبما أنّ وجوده عين الربط علم، فيكون هذا العلم الفعلي سابقاً بسبق القتل، وك-(يعلم الله قتل فلان)، فالفعل اللاحق بما له وجود معلومٌ، وبما أنّ وجوده عين الربط علمٌ، فيكون هذا العلم الفعلي لاحقاً بلحوق القتل.

ففي فرض كون المعلوم زمانيّاً وكون العلم في مرتبة الذات يكون سبقه من جهة

ص: 194

معيّته القيّومية مع السابق ولحوقه من جهة معيّته القيّومية مع اللاحق، فحينئذٍ اتّصاف علمه سبحانه بالسبق واللحوق الزمانيّ يكون بالعرض، وفي فرض كون المعلوم زمانيّاً وكون العلم في مرتبة الفعل يكون سبقه من جهة اتّحاده مع السابق ولحوقه من جهة اتّحاده مع اللاحق، فحينئذٍ اتّصاف علمه سبحانه بالسبق واللحوق الزمانيّ يكون بالعرض.

هذا كلّه إذا كان الفعل المسند إليه من صفاته الذاتية.

وأمّا إذا كان الفعل المسند إليه تعالى من صفاته الفعلية مثل (خلق الله):

فإذا كان الفعل ما فوق الزمان ك-(خلق الله ما سواه)، فيكون الفرق بين الخلق والمخلوق كالفرق بين الإيجاد والوجود، وبحسب الترتّب العقلي يكون الوجود متأخّراً عن الإيجاد، فيُقال أوجد الشيء فوجد، ولذلك الخلق باعتبار هذا الترتّب العقلي يكون سابقاً، وما سوى الله لاحقاً، فحينئذٍ اتّصاف خلقه سبحانه بالسبق يكون بالذات؛ لتقدّمه على المخلوق عقلاً.

وإذا كان الفعل زمانيّاً ك-(خلق الله هذا الطفل)، و(يخلق الله طفلاً في عائلة فلانٍ)، فيكون الوجود الإطلاقي - الذي هو فعل الله - متّحداً مع الوجود الخاصّ للطفل، وبما أنّ الوجود الخاصّ حصل في الزمان السابق أو في الزمان اللاحق يكون الوجود الإطلاقي الذي هو فعل الله متّحداً معه، فالوجود الإطلاقي الذي هو فعل الله يكون سابقاً مع السابق ولاحقاً مع اللاحق، لا أنّه بنفسه وقع في الزمان السابق واللاحق، فحينئذٍ اتّصاف فعله سبحانه بالسبق واللحوق يكون بالعرض.

هذا توضيح كلام المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) بحسب فهمي القاصر، وهذا التحليل

ص: 195

مبنيّ على أنّ الفعل الماضي يدلّ على تحقّق النسبة سابقاً والفعل المضارع يدلّ على تحقّق النسبة لاحقاً، والمقصود من السبق واللحوق هو الزمانيّ، ونجد في هذا البيان أنّ المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) عمّم:

أوّلاً: السبق واللحوق إلى ما بالذات وإلى ما بالعرض حتّى يشملان الفعل المسند إلى الزمان والزمانيّ.

وثانياً: السبق إلى الزمانيّ والسرمديّ، وذلك بأخذ السبق الزمانيّ في الفعل بمِلاك عدم اجتماع السابق واللاحق في الوجود؛ حتّى يشمل الفعل المسند إلى الزمانيّ وما فوق الزمان.

وثالثاً: السبق واللحوق الزمانيين إلى ما يضاف إلى زمان النطق وإلى غيره، وتفصيل ذلك يأتي لاحقاً فانتظر.

وهذا الوجه - وهو وجهة نظر جديدة - لا يدفع نقض الآخوند (رحمة الله) على النحاة القائلين بدلالة الفعل على الزمان.

الوجه الآخر
اشارة

ما أفاده بعض المعاصرين(1) من أنّ السبق واللحوق يعقلان في الموجود الواحد بلحاظ امتداده الطولي سواء كان هذا الموجود قارّاً، كالجواهر وبعض الأعراض كالعلم والبخل، فالجسم بلحاظ امتداد بعض أجزائه المفروضة سابق على البعض، وهكذا العلم بلحاظ امتداد بعض أجزائه المفروضة سابق على البعض الآخر، أم غير قارّ، كالحركة ومقولة الفعل والانفعال، فإنّ حركة الإنسان

ص: 196


1- يلاحظ: مباني الأصول: 4/ 124 - 125.

من مكان إلى آخر بلحاظ امتدادها بعض أجزائها المفروضة سابق على البعض الآخر، ومقولة الفعل هي التأثير التدريجي للفاعل في المنفعل كالنار، فهي تسخّن الماء، فلها ما دامت تسخّن حالة غير قارّة، وهي التأثير التسخيني، وهذا التأثير التدريجي بلحاظ امتداده يكون بعض أجزائه المفروضة سابقاً على البعض الآخر، ومقولة الانفعال هي التأثّر التدريجي للمنفعل من الفاعل كالماء، فهو يتسخّن بالنار، فله ما دام يتسخّن حالة غير قارّة وهي التأثّر التسخّني، وهذا التأثّر التدريجي بلحاظ امتداده يكون بعض أجزائه المفروضة سابقاً على البعض الآخر.

فتصوير السبق واللحوق مبنيّ على لحاظ الامتداد الطولي، والامتداد الطولي وصف للوجود الذي يعبّر عنه بالبقاء، وصفة البقاء صفة عامّة سارية في كلّ الموجودات سواء كانت مادّية مثل ما مثّلنا أو مجرّدة، والله تبارك وتعالى يوصف بالبقاء، فيكون أزلياً وأبدياً، وبالتالي يوصف بالامتداد، ووصفه بالامتداد لا يقتضي تعدّداً فعلياً في ذاته ولا تغيّراً؛ فلذلك الله تبارك وتعالى بسيط ثابت مع كون وجوده ممتدّاً.

وعليه يكون هذا الوصف مصحّحاً للنظر إلى جهة من هذا الوجود الممتدّ دون جهة أخرى، فإذا قيل: (علم الله)، فإنّ وجوده سبحانه وتعالى ممتدّ من الأزل إلى الأبد، وهذا الوجود الممتدّ من جهة الامتداد إلى الزمان الحاضر سابق، ومن جهة الامتداد من الحاضر إلى الأبد لاحق، فإذا لوحظ علمه سبحانه وتعالى من جهة امتداده من الأزل إلى الحاضر يكون العلم سابقاً، ويُقال: (علم الله)، وإذا لوحظ علمه سبحانه من جهة امتداده من الحاضر إلى الأبد يكون العلم لاحقاً، ويقال:

ص: 197

(يعلم الله).

وهذا النحو من اللحاظ لا يوجب تقطيعاً فعلياً في ذاته تعالى، حتّى يُقال: إنّه محال بالنسبة إليه، بل يكفي النظر إلى بعض امتداده الوجودي من الأزل إلى الأبد.

وبهذه الطريقة حلّ صاحب المباني (دام عزه) مشكلة دلالة الفعل على الزمان عندما يسند إلى المجرّدات.

وهذا الوجه غير معقول، وتوضيحه يتوقّف على نقطتين:

النقطة الأولى

الامتداد هو وجود شيء على نحو يمكن فرض أجزاء مشتركة في حدٍّ، والحدّ المشترك هو ذو وضع يكون نهاية لأحدهما وبداية للآخر، كالنقطة على الخطّ، فإنّها ذات وضع تقسّم الخطّ إلى جزئين، بحيث تكون هي بداية لأحدهما ونهاية للآخر، والممتدّ ينقسم إلى قسمين:

1 - ممتدّ قارّ: وهو ما اجتمعت أجزاؤه المفروضة في الوجود كالخطّ، فإنّ أجزاؤه المفروضة مجتمعة في الوجود، والسطح فإنّ أجزاؤه المفروضة مجتمعة في الوجود، وهكذا الجسم.

2 - ممتدّ غير قارّ: وهو ما لا يمكن اجتماع أجزائه المفروضة في الوجود كالزمان، فإنّ جزءاً منه لا يجتمع مع الجزء الآخر، فإنّ اليوم لا يمكن أن يجتمع في الوجود مع الأمس، فإنّه لا يحصل إلّا بعد انقضاء الأمس.

وللزمان مجالان:

الأوّل: الزمان الخاصّ، وهو لكلّ موجود مادّي ترسمه حركته الجوهرية، وهو مقدار امتداد وجوده المتحرّك في جوهره، مثل فرد من الإنسان، فإنّ مقدار امتداد

ص: 198

وجوده يمثّل البعد الطولي له، كما أنّ الطول والعرض والعمق تمثّل البعد العرضي له، ولذلك تكون للأجسام أبعاد أربعة، وعلاقة هذا الزمان بالزمانيّ هي علاقة اللازم بالملزوم، فإنّ الجسم متحرّك بجوهره، والزمان مقدار هذه الحركة، والفرق بين هذه الحركة الجوهرية والزمان فرق المبهم والمعيّن، كالجسم الطبيعي والجسم التعليمي.

الآخر: مقدار الحركة الأينية للأرض حول الشمس وحول نفسها التي تتمثّل بالأيّام، ويؤخذ مقياساً لتقدير الحركات الأخر في الموجودات المادّية والحوادث، فتطبّق تلك الموجودات والحوادث على ما يؤخذ لهذا الزمان من الأجزاء كالسنين والشهور والأسابيع والأيّام والساعات والدقائق والثواني وغير ذلك، وعلاقة الحركات المتمثّلة بالموجودات المادّية والحوادث الكونية بهذا الزمان علاقة المقارنة التي يعتبرها العرف العامّ علاقة المظروف بالظرف.

النقطة الأخرى

البقاء يأتي لعدّة معانٍ:

1 - وجود بعد الوجود: وهذا البقاء يكون في مقابل الحدوث؛ إذ هو وجود بعد العدم، ويمكن أن يقال إنّ هذا المعنى هو المعنى الأصولي للبقاء؛ إذ كثيراً ما يفسّر البقاء في الأصول بهذا المعنى، خاصّة في بحث الاستصحاب.

2 - سلب العدم اللاحق للوجود، والبقاء بهذا المعنى يكون في مقابل الفناء، وهذا المعنى هو المعنى الكلامي للبقاء؛ إذ يوصف الله تبارك وتعالى بالبقاء، عند البحث عن صفاته تعالى.

3 - استمرار وجود شيء في أكثر من زمان بعد الزمان الأوّل: وهذا المعنى في مقابل الانقطاع بعد الزمان الأوّل، وهذا المعنى هو المعنى اللغوي للبقاء؛ إذ فسّر

ص: 199

اللغويون البقاء بالدوام، كما في المعجم الوسيط: (بقي الشيء بقاءً: دام وثبت)(1)، وفي أقرب الموارد (بقي يبقى ل بقاءً وبقي ض بقياً (يائيٌّ) دام وثبت)(2)، وفسّروا الدوام بالاستمرار، كما في أقرب الموارد حيث قال: (دام الشيء سكن واستمرّ)(3)، ولذلك قال في مجمع البحرين: (في الخبر كان عمل رسول الله صلّى الله عليه وآله ديمة، أي دائماً غير منقطعٍ)(4).

وبذلك يثبت أنّ البقاء لغةً هو الاستمرار في مقابل الانقطاع.

وبعد أن عرفت هاتين المقدّمتين نقول:

أوّلاً: اتّصاف الله تبارك وتعالى بالبقاء لا يوجب أن يكون لله تعالى امتداد طولي بحيث يمكن فرض تقدّم وتأخّر في ذاته تبارك وتعالى بالقياس إلى الزمان الحاضر؛ إذ البقاء إذا كان بالمعنى الأصولي الذي هو في مقابل الحدوث يستلزم أن يكون الله تدريجي الحصول كالممتدّ غير القارّ، وهذا بديهي البطلان، وإذا كان البقاء بالمعنى الكلامي الذي كان في مقابل الفناء، يكون وجوده غير ملحوق بالعدم، وهذا يعني أنّه لا يفنى، وعدم الفناء لا يستدعي أن يكون الموجود ممتدّاً بحيث يمكن فرض جزء متقدّم على الزمان الحاضر، وجزء متأخّر عنه؛ إذ إنّه مفهوم عدمي انتزاعي من جهة ومن جهة أخرى إنّ الله صرف الوجود.

ص: 200


1- المعجم الوسيط: 1/ 66.
2- أقرب الموارد: 1/ 191.
3- أقرب الموارد: 2/ 254.
4- مجمع البحرين: 6/ 65.

وبعد هاتين الجهتين لو لوحظ صرف الوجود من دون لحاظ أي شيء آخر ينتزع منه أنّه لا يفنى وإلّا استلزم اجتماع النقيضين، فاتّصاف صرف الوجود بعدم الفناء لا يستدعي شيئاً آخر كالامتداد.

وإذا كان بالمعنى اللغوي الذي كان في مقابل الانقطاع، فالاستمرار يكون بمعنى الثابت وجوده في أزمنة متعاقبة في مقابل الانقطاع لا في مقابل التغيّر، وهذا يعني أنّ الوجود لا ينقطع في الأزمنة المتعاقبة بعد الزمان الأوّل، والباقي بهذا المعنى: إمّا أن يكون موجوداً زمانيّاً، فحينئذٍ للباقي بهذا المعنى خصوصيتان:

الأولى: علاقته بالزمان علاقة المقارنة على نحو يطبّق على مقاطعه.

الأخرى: يصحّ عليه الفناء.

فمن جهة الخصوصية الأولى بقاؤه يقتضي أن يكون ممتدّاً بالامتداد الطولي بحيث تُفرض له أجزاء يكون بعضها متقدّماً على الزمان الحاضر، وبعضها الآخر متأخّراً عنه؛ إذ لو كانت علاقة الموجود بالزمان علاقة المقارنة بحيث يُطبّق على مقاطعه، فالزمان له امتداد طولي فلا بدّ أن يكون ما يطبّق عليه أيضاً ممتدّاً بالامتداد الطولي.

ومن جهة الخصوصية الأخرى يكون بقاؤه بالغير حيث ينتهي.

وإمّا أن يكون موجوداً فوق الزمان، فحينئذٍ للباقي بهذا المعنى خصوصيتان:

الأولى: علاقته بالزمان علاقة تقويم.

وتوضيح ذلك: أنّ المقوّم لشيءٍ هو ما يقوم به الشيء، والشيء: إذا كان قائماً بذاته عليه يكون المقوّم ذاتياً كالإنسان، فإنّه بذاته قائمٌ على الحيوان والناطق، فهما

ص: 201

مقوّمان لذاته. وإذا كان قائماً بوجوده عليه يكون المقوّم وجودياً كالمعلول، فإنّه قائمٌ بوجوده على العلّة، فهي مقوّمةٌ لوجود المعلول، فالعلاقة بين المقوّم والمتقوّم تكون علاقة تقويم.

الأخرى: لا يصحّ عليه الفناء.

فمن جهة الخصوصية الأولى بقاؤه لا يقتضي امتداده الطولي؛ إذ إنّه تعالى وإن كان يُضاف إلى الأزمنة المتعدّدة عقلاً، لكن هذه الإضافة في الخارج إضافة إشراقية، وهذا يعني أنّ علاقته بالزمان علاقة تقويم لا علاقة مقارنة.

وتوضيح ذلك: أنّ الموجودات المادّية التي يكون الزمان من لوازم وجودها متقوّمةٌ بالله تبارك وتعالى في وجودها، فالزمان الذي يكون لازماً لها متقوّمٌ به تعالى تَبعاً، وعليه تكون الأشياء في جميع الأزمنة من الأزل إلى الأبد بالقياس إليه تبارك وتعالى حاضرة لديه حضور المعلول للعلّة، كالحاضر في زمان واحد، فلا يكون لها مضيّ وحضور واستقبال بالقياس إليه تعالى، فلا يكون الله ممتدّاً بالامتداد الطولي بحسب امتداد الزمان، وإلّا فلا يعقل؛ إذ الأشياء ليس لها امتداد بالقياس إليه تعالى، فكيف يتّصف بالامتداد بالإضافة إلى ما لا امتداد له بالقياس إليه تعالى؟!.

ومن جهة الخصوصية الأخرى يكون بقاؤه بالذات حيث لا يفنى، ومن هذه الجهة الباقي بهذا المعنى يرجع إلى المعنى الكلامي، فيكون وجود الله تبارك وتعالى باقياً، أي مستمرّاً إلى غير نهاية.

وثانياً: على فرض أنّ البقاء يقتضي امتداداً طولياً، فإنّه في وجود الله تبارك وتعالى محال؛ لأنّ الامتداد - كما قلنا في النقطة الأولى - هو كون الوجود بحيث يمكن

ص: 202

فرض أجزاء مفروضة مشتركة في حدٍّ واحد، والعقل لا يُجوّز ذلك على الله؛ إذ القسمة إلى الأجزاء مستحيلة في حقّه تعالى، لا قسمة فعلية ولا قسمة فرضية مطابقة للواقع، إلّا إذا قصد صاحب المباني (دام عزه) بالأجزاء الفرضية الأجزاء التصوّرية (أي الوهمية)، فيرد عليه: أنّه لا تبرّر وقوع وصف علم الله في جزءٍ مفروضٍ قبل زمان النطق؛ لأنّ هذا الجزء موجودٌ بتصوّر الإنسان لا في الواقع، مع أنّ علمه موجودٌ في الواقع، فكيف يقع العلم الواقعي لله في جزئه التصوّري في ذهن الإنسان؟!

وقد أكّد أنّ الامتداد الطولي لوجود الله تبارك وتعالى لا يقتضي الأجزاء الفعلية، ولكنّه اعترف بالأجزاء الفرضية حيث قال: (وهذا النظر لا يقتضي تقطيعاً فعلياً لهذا الوجود حتّى يقال بأنّه لا يعقل في شأن الله سبحانه، بل يكفي فيه النظر إلى بعض امتداده الوجودي)(1)، وبقوله: (بل يكفي فيه النظر إلى بعض امتداده الوجودي) اعتراف بأجزائه الفرضية.

وما ذكرهُ مستغرب منه، وعلى كلّ حال هذا الوجه لا ينبغي الالتفات إليه.

النقض الثالث

أنّ النحاة ذهبوا إلى أنّ المضارع مشترك معنوي بين الحال والاستقبال.

ويعيّنه للحال:

1 - لام التوكيد، كقوله تعالى: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾(2).

ص: 203


1- مباني الأصول: 4/ 125.
2- سورة يوسف: 13.

2 - و(ما) النافية، كقوله تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾(1).

3 - و(إن) النافية، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾(2).

4 - الآن، كقولك: (زيد يضرب الآن).

ويعيّنه للاستقبال:

1 - السين، كقوله تعالى: ﴿سَيَصْلَى نَارًا﴾(3).

2 - و(سوف)، كقوله تعالى: ﴿سَوْفَ يُرَى﴾(4).

3 - و(لن)، كقوله تعالى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾(5).

4 - و(أنْ)، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾(6).

5 - و(إنْ)، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ (7).

6 - و(لعلّ)، كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(8).

وليس المقصود بذلك أنّ المضارع يدلّ على مفهوم (زمان غير الماضي) الشامل

ص: 204


1- سورة لقمان: 34.
2- سورة الأنبياء: 109.
3- سورة المسد: 3.
4- سورة النجم: 40.
5- سورة الأعراف: 142.
6- سورة البقرة: 184.
7- سورة النساء: 129.
8- سورة البقرة: 183.

للحال والمستقبل؛ وذلك لأمرين:

1- عدم أخذ ذلك المفهوم في معنى المضارع.

2 - أنّ ذلك يخالف الخصوصية الثالثة المسلّمة، وهي أنّ الزمان المأخوذ في الفعل هو مصداقه لا مفهومه، فحينئذٍ إن وُضع لكلّ واحد من الحال والاستقبال بوضع على حدة غير وضع الآخر يلزم الاشتراك اللفظي، وإن وُضع لأحدهما دون الآخر يلزم أن يكون حقيقةً في أحدهما ومجازاً في الآخر، وكلّ منهما منافٍ للاشتراك المعنوي، فلا يتمّ الاشتراك المعنوي في المضارع إلّا على أن يكون المضارع دالَّاً على خصوصية في نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما التي تنطبق على النسبة الخارجية الواقعة في الحال مرّة، وفي الاستقبال مرّة أخرى بحسب القرائن المتقدّمة في كلام النحاة، وهذه الخصوصية - بحسب تلميذ الآخوند (رحمة الله) العلّامة المشكيني (رحمة الله) (1) - هي الترقّبية، فالفعل الماضي يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما بالنسبة التحقّقية، وهذه الخصوصية تقتضي وقوع الحدث في الزمان الماضي، وفعل المضارع يدلّ على نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما بالنسبة الترقّبية، وهذه الخصوصية تقتضي وقوع الحدث في زمان الحال أو الاستقبال، وإذا صحّ ذلك فلا فرق بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية؛ لأنّ جملة (زيد ضارب) تدلّ على النسبة الاتّحادية بين الموضوع والمحمول، وهذه النسبة تنطبق على النسبة الخارجية سواء كانت في الماضي ك-(زيد ضارب أمس)، أو الحال ك-(زيد ضارب اليوم)، أو الاستقبال ك-(زيد ضارب غداً) مع عدم دلالتها وضعاً على واحد منها، فتكون الجملة الفعلية المشتملة على الفعل المضارع مثلها، غاية الأمر

ص: 205


1- كفاية الأصول (مع تعليقة العلّامة المشكيني): 1/ 231.

دائرة انطباق معنى الجملة الاسمية أوسع من دائرة انطباق معنى الفعل المضارع؛ إذ يدلّ على زمان الحال أو الاستقبال بالقرينة لا بالوضع.

وقد رُدّ هذا المورد من قبل تلميذه المحقّق العراقي (رحمة الله) بقوله: (وحينئذٍ ففي فعل المضارع قبال الماضي أخذ عدم السبق، فدلالة المضارع على أحد الزمانين من الحال أو الاستقبال إنّما هو من لوازم طبع نسبته التصديقية المأخوذة فيه لا جهة زائدة، وإنّما الجهة الزائدة دلالتها على عدم سبق وجود المبدأ قبال الماضي المأخوذ فيه جهة سبقه)(1).

وتوضيح كلامه أنّ المادّة في الأفعال موضوعة للدلالة على نفس الحدث، والهيئة فيها موضوعة للربط القائم بالحدث، وهذا الربط يُحلّل إلى ربطين:

1 - ربط له بالنسبة إلى ما يقوم به، وهو الفاعل.

2 - ربط له بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه.

فمن جهة ربطه بما يقع فيه تدلّ الهيئة في الفعل الماضي عليه من حيث سبقه، فيكون السبق زمانيّاً فيما لو انتسب إلى الزمانيّات ك-(ضرب زيد)، وذاتياً فيما لو انتسب إلى نفس الزمان ك-(مضى الأمس)، ورتبياً فيما لو انتسب إلى المجرّدات ك-(علم الله بما سواه)، فإنّ علمه تعالى لا يسبق ما سواه بحسب الزمان، بل يسبقه بالرتبة؛ لتقدّمه عليه تقدّم العلّة على المعلول.

والهيئة في فعل المضارع تدلّ على عدم سبقه - أي لحوقه -، فيكون اللحوق زمانيّاً لو انتسب إلى الزمانيّات، ك-(يضرب زيد)، وذاتياً فيما لو انتسب إلى نفس الزمان

ص: 206


1- مقالات الأصول: 1/ 175.

ك-(يأتي الغد)، ورتبياً إذا انتسب إلى المجرّد ك-(وجدت العلّة فيوجد المعلول) مع وضوح عدم تأخّر المعلول عن علّته بحسب الزمان، بل يتأخّر عنها رتبة، والنسبة بخصوصية اللحوق تشمل النسبة في الحال والاستقبال، فتدلّ الهيئة بالالتزام على زمان الحال وزمان الاستقبال.

وهذا الردّ لا يكون ردّاً على نقض الآخوند (رحمة الله) ؛ إذ الآخوند (رحمة الله) من خلال القول بالاشتراك المعنوي يريد أن ينفي الدلالة الوضعية للفعل المضارع على الحال والاستقبال، والمحقّق العراقي (رحمة الله) أيضاً ينفي الدلالة الوضعية للفعل المضارع عليهما، وبما أنّ أستاذه (رحمة الله) لم يعيّن الخصوصية في النسبة المدلولة لفعل الماضي والمضارع التي تقتضي الوقوع في الزمان الماضي، أو الوقوع في زمان الحال أو الاستقبال يمكن تفسيرها بالتحقّقية في الماضي، والترقّبية في المضارع، كما قال تلميذه العلّامة المشكيني (رحمة الله) ، ويمكن تفسيرها بالسبق في الماضي واللحوق في المضارع، كما قال تلميذه الآخر المحقّق العراقي (رحمة الله) ، وعلى كلّ حال هذا المورد ينفي الدلالة الوضعية التضمّنية للفعل المضارع على الزمان.

وفي الأخير لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما أفاده الآخوند (رحمة الله) في ذيل كلامه من مقارنة الجملة الفعلية بالجملة الاسمية لا وجه له؛ إذ قلنا في توضيح هذه المقارنة: إنّ مفاد الجملة الاسمية هو النسبة الاتّحادية، وهي في الخارج تنطبق على النسبة الخارجية في الماضي والحاضر والمستقبل، فلا محدودية لهذه النسبة بزمان معيّن، بينما مفاد الجملة الفعلية هو النسبة التحقّقية في الماضي والنسبة الترقّبية في المضارع.

فصارت النسبة في الأفعال محدودة بزمان معيّن، وهو الماضي في فعله، وبزمان الحال أو الاستقبال في الفعل المضارع، ومع هذا الفرق لا تصحّ مقارنة الجملة

ص: 207

الفعلية بالجملة الاسمية، فلذلك الجملة الاسمية لا تدلّ على أحد الأزمنة لا تضمّناً ولا التزاماً، بينما الجملة الفعلية تدلّ على أحدها التزاماً باعتبار الخصوصية المأخوذة في النسبة المدلولة لها لو أسند إلى الزمانيّ بشرط الإطلاق بحسب مبنى الآخوند (رحمة الله) ، ويأتي توضيحه بعد قليل عند الحديث عن الفرق بين الماضي والمضارع من وجهة نظره الشريف.

النقض الرابع
اشارة

إنّ الفعل إذا كان مقيّداً بالإضافة إلى شيء آخر فإنّ الزمان الماضي في صيغة (فعل) لا يكون ماضياً حقيقةً، بل مستقبلاً حقيقة، وكذلك صيغة (يفعل) لا يكون حالاً أو استقبالاً حقيقةً، بل ماضياً حقيقةً، ويتّضح ذلك من خلال هذين القولين:

الأوّل: قولك: (يجيئني زيد بعد شهر، وقد نجح في الامتحان قبله بأيّام)، فإنّ فعل النجاح مقيّد بكونه قبل المجيء، وهو يحصل في المستقبل، فالزمان الماضي في (نجح) في الحقيقة زمان مستقبل، ولا يكون ماضياً إلّا بالإضافة إلى مجيء زيد الحاصل بعد شهر.

الثاني: قولك: (جاءني زيد قبل شهر وهو يضرب غلامه في ذلك الوقت أو فيما بعده)، فإنّ فعل الضرب مقيّد بكونه عند المجيء، وهو حاصل في الماضي، فالزمان الحال والاستقبال في (يضرب) في الحقيقة زمان ماضٍ، ولا يكون حالاً واستقبالاً إلّا بالإضافة إلى مجيء زيد، فلو كان الزمان جزءاً من مدلول الفعل للزم تجريده من الزمان، فيكون الفعل الماضي والمضارع في هذين القولين قد استعملا مجازاً؛ لأنّ المضي والاستقبال فيهما ليس بالنسبة إلى زمان النطق، بل إلى زمان المجيء، والاستعمال المجازي يحتاج إلى لحاظ العلاقة، ولا نرى في أنفسنا لحاظ علاقة في هذا

ص: 208

الاستعمال، وبذلك يثبت أنّ الزمان ليس جزءاً من مدلول الفعل.

ويرد عليه: أنّه يمكن أن يكون مقصود النحاة من اقتران الفعل بالزمان هو المضي والاستقبال الإضافيان مطلقاً، سواء كانت الإضافة إلى زمان النطق، فيكون الزمان الماضي والحال والاستقبال حقيقياً، أو كانت الإضافة إلى غيره، فتكون تلك الأزمنة إضافية، فإذا أسند على نحو الإطلاق - أي من دون تقييد - ك-(ضرب زيد)، و(يضرب عمرو) يقتضي كونه مضافاً إلى زمان النطق، فيدلّ (ضرب زيد) على الماضي الحقيقي، و(يضرب عمرو) على الحال أو الاستقبال الحقيقيين، وإذا أسند على نحو التقييد ك-(يجيئني زيد بعد شهر وقد نجح قبله بأيّام)، فإنّ تقييد (نجح) بقبل المجيء قرينة على إرادة الماضي الإضافي، وك-(جائني زيد قبل شهر وهو يضرب غلامه في ذلك الوقت أو فيما بعده)، فإنّ تقييد الضرب بذلك الوقت أو بعده قرينة على إرادة الحال أو الاستقبال الإضافيين، ولأجل احتمال أن يكون المراد من الأزمنة الثلاثة هو الأزمنة المضافة مطلقاً، سواء كانت مضافة إلى زمان النطق أو إلى غيره، قال الآخوند (رحمة الله) : (وربّما يؤيّد ذلك: أنّ الزمان الماضي في فعله، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع، لا يكون ماضياً أو مستقبلاً حقيقة لا محالة..)(1).

وفي المحصلة: بما ذكره صاحب الكفاية (رحمة الله) من الردود على مسلك النحاة في دلالة الفعل على الزمان، يظهر أنّه لا إشكال في عدم دلالة الفعل على الزمان.

فحينئذٍ يطرح سؤال: بأنّه إذا لم يكن الفعل دالَّاً على الزمان فما هي جهة الفرق

ص: 209


1- كفاية الأصول: (مع تعليقة العلّامة المشكيني): 1/ 232.

الوجداني بين الفعل الماضي والمضارع؛ إذ من الواضح أنّه لا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر؟

وقد بيّن الآخوند (رحمة الله) جهة الفرق هذه بقوله: (نعم، لا يبعد أن يكون لكلّ من الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع، فيما كان الفاعل من الزمانيّات)(1)، وبحسب كلام الآخوند (رحمة الله) إنّ لكلّ من الفعل الماضي والمضارع خصوصية بحسب معناه تختلف عنها في الآخر، تلازم هذه الخصوصية في الفعل الماضي الوقوع في الزمان الماضي، وفي الفعل المضارع الوقوع في الحال أو الاستقبال فيما لو أسندا إلى الفواعل الزمانيّة، ولم تكن قرينة على الخلاف، وتلك الخصوصية هي جهة الفرق بين الفعلين.

وقد وقع الخلاف بين تلامذة الآخوند (رحمة الله) حول حقيقة هذه الخصوصية، فذُكرت عدّة تفسيرات:

التفسير الأوّل
اشارة

أنّ هيئة الفعل الماضي تدلّ على النسبة التحقّقية، وخصوصية التحقّق تقتضي وقوع الحدث في الزمان الماضي إذا أسند إلى الزمانيّ ولم تكن هناك قرينة على خلافه ك-(ضرب زيد)، فإنّ هيئة (ضرَب) تدلّ على تحقّق النسبة بين الحدث وفاعلٍ ما، وبما أنّ زيداً زمانيّ - أي واقع في الزمان - ففعله زمانيّ أيضاً، فيحتاج إلى الزمان، فضربه المتحقّق لا بدّ أن يقع في الزمان الماضي، وأمّا إذا كان هناك قرينة على خلافه، فلا تحصل النسبة التحقّقية في الزمان الماضي، كما تقدّم في مثل (يجيئني زيد

ص: 210


1- المصدر السابق: 1/ 230.

بعد شهر، وقد نجح في الامتحان قبله بأيّام)، فإنّ هيئة (نجَحَ) تدلّ على النسبة التحقّقية، وهي لا تقتضي وقوع النجاح في الزمان الماضي، بل يقع في المستقبل بقرينة (يجيئني زيد بعد شهر). وهيئة الفعل المضارع تدلّ على النسبة الترقّبية، وخصوصية الترقّب تقتضي وقوع الحدث في الزمان الحال أو الاستقبال إذا أسند إلى الزمانيّ ولم تكن هناك قرينة على خلافه ك-(يضربُ عمروٌ)، فإنّ هيئة (يضرب) تدلّ على ترقّب النسبة بين الحدث وفاعلٍ ما، وبما أنّ عَمراً زمانيّ، ففعله زمانيّ أيضاً، فضربه المترقّب لا بدّ أن يقع في الزمان الحال أو الاستقبال.

وأمّا إذا كانت هناك قرينة على خلافه فلا تحصل النسبة الترقّبية في الزمان الحال أو الاستقبال، كما تقدّم في مثل (جاءني زيد قبل شهر وهو يضرب غلامه في ذلك الوقت أو فيما بعده)، فإنّ هيئة (يضرب) تدلّ على النسبة الترقّبية، وهي لا تقتضي الوقوع في الحال أو الاستقبال، بل وقع في الماضي بقرينة (في ذلك الوقت أو فيما بعده)، وعليه الفعل يدلّ على الزمان التزاماً بشرطين:

الأوّل: إذا أسند إلى الزمانيّ.

والآخر: الإطلاق، أي عدم التقييد بزمان آخر.

وبعبارة أخرى: إذا لم تكن هناك قرينة على خلاف ما تقتضيه تلك الخصوصية، فإذا لم يتحقّق الشرط الأوّل بحيث أسند إلى الزمان مثل (مضى الأمس)، أو أسند إلى ما هو فوق الزمان مثل (علم الله)، فالنسبة التحقّقية لا تقتضي الوقوع في الزمان الماضي، وهكذا الفعل المضارع مثل (يأتي الغد)، و(يعلم الله)، فالنسبة الترقّبية لا تقتضي الوقوع في الحال أو الاستقبال.

ص: 211

وبالنتيجة الآخوند (رحمة الله) بحسب بعض تلامذته مثل العلّامة المشكيني (رحمة الله) (1) والفقيه السيّد الأصفهاني (رحمة الله) (2) يرى أنّ خصوصية نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما في الفعل الماضي هي التحقّق، وخصوصية نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما في الفعل المضارع هي الترقّب، فاختلف سنخ معنى الماضي عن سنخ معنى المضارع، واختار هذا التفسير السيّد الخوئي (رحمة الله) (3) أيضاً.

وقد ردّ هذا التفسير بعض المعاصرين(4) بوجهين:

الوجه الأوّل

أنّ خصوصية التحقّق في الفعل الماضي توجب شمول مدلوله للحال، وخروجه عن المضارع؛ لأنّ النسبة في المضارع للحال نسبة تحقّقية، مثل (يضرب زيد الآن)، فيكون (يضرب) فعلاً ماضياً، وهذا خلاف الوجدان بوضوح، وخصوصية الترقّب في الفعل المضارع لا تعقل في المضارع للحال مثل (يضرب زيد الآن)، لأنّ الترقّب بمعنى الانتظار، والانتظار لا يُعقل فيما يحصل في الزمان الحاضر، بل الانتظار يتعلّق بما يحصل في المستقبل، وهذا البند من الإشكال لم يطرحه كما طرحناه، بل طرحه بهذا التعبير: (وإنّما ينشأ الإشكال في المثال من أنّ المفهوم من (أترقّب) - مثل (أرجوا وآمل وأحذر وأخاف وأعلم..) وما يشابهها - هو الزمان الحاضر، ولا معنى للترقّب فيما أفيد حصوله في الزمان الحاضر).

ص: 212


1- يلاحظ: كفاية الأصول (تعليقة العلّامة المشكيني): 1/ 231.
2- يلاحظ: وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول: 1/ 141.
3- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي: 43/ 268 - 269.
4- يلاحظ: مباني الأصول: 1/ 112.

وتوضيحه: أنّ الفعل المضارع لو كان (أترقّب) في مثل (أترقّب سفر زيدٍ) فالترقّب في هذا الفعل كالرجاء في (أرجو)، والأمل في (آمل)، والحذر في (أحذر)، والعلم في (أعلم)، والخوف في (أخاف)، كلّ هذه المعاني حاصلة في الزمان الحاضر، فلو كان المضارع المأخوذ من هذه الموادّ دالَّاً على الترقّب يعني ذلك أنّ ما هو حاصلٌ في الزمان الحاضر يترقّب حصوله، وذلك غير معقولٍ، وهذا البيان يتعلّق بالمضارع في مادّة معيّنة، وهي (الترقّب).

وأمّا بياننا فيتعلّق بالمضارع في أيّة مادّة كانت.

الوجه الآخر

أنّ خصوصية الترقّب لا تناسب مدلول المضارع في جملة من الموارد، كموارد صرف المضارع إلى المستقبل ب-(السين)، و(سوف)؛ إذ المصروف إليه هو الحدث دون الترقّب، ومورد ما لو قيل (إنّي أترقّب أن يسافر زيد)، فإنّه لا معنى لاشتمال الفعل في مثل المثال على خصوصية الترقّب؛ إذ يكون المعنى معه (إنّي أترقّب ترقّب سفر زيد)، وهو غير مقصود بلا كلام، وهذا المورد الأخير ذكره تبعاً للسيّد الروحاني (رحمة الله) (1).

وعليه فلا بدّ من تجريد الفعل المضارع من خصوصية الترقّب، واستعماله في تحقّق النسبة فقط، وبذلك يكون هذا الاستعمال مجازاً، وفي الاستعمال المجازي لا بدّ من ملاحظة العلاقة بينه وبين النسبة الترقّبية، والحال أنّ العرف لا يلاحظ أيّ علاقة في استعمال المضارع في هذين الموردين، وهذان الوجهان للردّ على التفسير المتقدّم وجيهان.

ص: 213


1- يلاحظ: منتقى الأصول: 1/ 337.
التفسير الثاني
اشارة

أنّ المادّة في الفعل الماضي تدلّ على الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود، والمادّة في الفعل المضارع تدلّ على الحدث الذي لم يخرج من العدم إلى الوجود سابقاً، بل يخرج بعده، والخصوصية الأولى - وهي الخروج من العدم إلى الوجود - تقتضي وقوع الحدث في الزمان الماضي بشرطين:

الأوّل: الإسناد إلى فاعل زمانيّ.

الآخر: الإطلاق وعدم التقييد بزمان آخر غير الزمان الماضي كما تقدّم.

والخصوصية الأخرى - وهي عدم الخروج من العدم إلى الوجود سابقاً - تقتضي وقوع الحدث في الحال أو الاستقبال بالشرطين المتقدّمين، وهذا التفسير اقترحه تلميذ الآخوند (رحمة الله) السيّد الحكيم في حقائق الأصول(1).

وقد ردّ هذا التفسير بعض المعاصرين(2) بوجهين:

الوجه الأوّل

أنّ خصوصية الخروج تنسجم مع الحال كالماضي، ففي (يضرب زيد الآن) خرج الضرب من العدم إلى الوجود، فلو بني عليه لزم شمول مدلول الماضي للحال، وخروجه عن المضارع، وهذا خلاف الوجدان بداهة.

الوجه الآخر

أنّ الخروج لو عبّر بالفعل الماضي (خرج الحدث من العدم إلى الوجود) يستلزم الدور؛ لأنّ معرفة مدلول الفعل الماضي تتوقّف على معرفة معنى (خرجَ)، ومعرفة معناه تتوقّف على معرفة الفعل الماضي، وإن عبّر بالاسم (خروج

ص: 214


1- يلاحظ: حقائق الأصول: 1/ 102.
2- يلاحظ: مباني الأصول: 4/ 110.

الحدث من العدم إلى الوجود) يكون هذا الخروج أعمّ من أن يحصل في الماضي أو غيره، فلا يحدّد معنى الفعل الماضي، وبالتالي لا يكون نافعاً.

ولكن هذا الردّ غير مقبول؛ إذ يمكن أن يقال إنّ المقصود من الخروج في الفعل الماضي هو تمامية الخروج، ومن عدم الخروج في الفعل المضارع عدم تماميته، وعلى هذا المعنى يدفع الوجه الأوّل بأنّ خروج الحدث من العدم إلى الوجود غير حاصل في الفعل المضارع للحال؛ إذ الخروج لم يتمّ فيه، فلا يدخل المضارع للحال في الفعل الماضي، ويدفع الوجه الآخر أيضاً؛ إذ يعبّر عن الخروج بالاسم، وهو تمامية الخروج، وهي لا تعمّ المضارع للحال.

وأمّا ما قيل من أنّه لا بدّ من ذكر شواهد تساعد على استظهار ما رُدّ به، وإلّا كانت دعوى مجرّدة، فغير مقبولٍ:

أوّلاً: لوجود شاهد على ذلك حيث قال: (وخصوصية المضارع أنّ الحدث المدلول عليه به لم يخرج في الماضي من القوّة إلى الفعل، بل يخرج بعده)، ففي هذا النصّ الذي يتحدّث عن خصوصية المضارع إشارتان:

الأولى: في قوله: (لم يخرج في الماضي من القوّة إلى الفعل)، فإنّه يشير إلى أنّ في الفعل الماضي الذي هو في مقابل المضارع خرج الحدث من القوّة إلى الفعل في الماضي، وهذا يعني أنّ الخروج مفروغ عنه، وهذا يساوق التمامية.

الأخرى: في قوله: (بل يخرج بعده)، فإنّه يشير إلى أنّ في الفعل المضارع يخرج الحدث من القوّة إلى الفعل بعد الماضي، وهذا يعني أنّ الخروج ليس مفروغاً عنه، وهذا يساوق عدم التمامية.

ص: 215

وثانياً: على فرض التسليم بعدم الشاهد في كلام القائل، فإنّ مجرّد احتمال أن يكون المقصود من الخروج هو تماميته، ومن عدمه هو عدم تماميته كافٍ لدحض الردّ المتقدّم، فلا حاجة إلى شاهد على ذلك؛ إذ الردّ على كلام الخصم بمثابة الاستدلال على بطلانه، فإذا جاء في كلامه احتمال قصد ما ينقض الردّ يبطل الردّ، من باب إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

ولكن المشكلة في هذا التفسير للسيّد الحكيم (رحمة الله) أنّه لا يصدق على الفعل المسند إلى ما فوق الزمان، مثل (علم الله) و(يعلم الله)؛ لأنّ العلم في الله تبارك وتعالى ليس معدوماً حتّى يتصوّر فيه الخروج من العدم إلى الوجود أو عدم خروجه من العدم إلى الوجود، والحال أنّ إسناد الفعل إلى الزمانيّ مثل (علم زيد)، و(يعلم زيد) كإسناده إلى ما فوق الزمان، وعليه فلا بدّ من بيان خصوصية أخرى غير ما ذكر في التفسير الأوّل والثاني.

التفسير الثالث
اشارة

ما أفاده المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) (1)، وحاصله أنّ النسبة الثبوتية بين الحدث وفاعلٍ ما هي مدلولة الفعل إلّا أنّها ليست مطلقة، بل مقيّدة بالسبق في الفعل الماضي بحيث يكون القيد خارجاً والتقييد داخلاً.

وبعبارة أخرى: الحصّة من النسبة الثبوتية - وهي المقارنة بالسبق - مدلولة للفعل الماضي، وتلك النسبة تكون مقيّدةً باللحوق في الفعل المضارع بحيث يكون القيد خارجاً والتقييد داخلاً، وذهب إلى هذا النحو من أخذ السبق واللحوق في الفعل:

ص: 216


1- يلاحظ: نهاية الدراية: 1/ 181.

أوّلاً: حتّى لا يستشكل أنّهما من المعاني الاسمية، فكيف أخذا في مدلول الهيئة في الفعل؟!

وثانياً: مقصوده من السبق واللحوق هو السبق واللحوق بمِلاك أنّ المتقدّم والمتأخّر لا يجتمعان في الوجود، وهما بهذا الملاك يشملان السبق واللحوق الزمانيّين والسرمديّين، وتقدّم توضيحهما آنفاً، ففي كليهما لا يجتمع المتقدّم والمتأخّر في الوجود، وارتكب هذا التعميم لتصحيح السبق فيما لو أسند الفعل إلى الباري سبحانه ك-(علم الله بما سواه)، وقد تقدّم توضيح ذلك في الردّ على النقض الثاني.

وثالثاً: مقصوده من السبق واللحوق الزمانيّين هو الأعمّ من أن يكونا بالذات أو بالعرض، وارتكب هذا التعميم:

أوّلاً: لتصحيح السبق واللحوق فيما لو أسند الفعل إلى الزمان ك-(مضى الأمس)، و(يأتي الغد)، كما تقدّم في الردّ على النقض الأوّل.

وثانياً: لتصحيح السبق واللحوق فيما لو أسند الفعل إلى الباري سبحانه ك-(علم الله بقتل فلان)، و(يعلم الله بقتل فلان) فلو كان المقصود من العلم هو العلم في مرتبة الذات لكان علمه سابقاً ولاحقاً بالعرض لمعيّته القيّومية للسابق واللاحق، وإذا كان المقصود من العلم هو العلم في مرتبة الفعل فيكون علمه سابقاً ولاحقاً بالعرض لاتّحاده مع السابق واللاحق كما تقدّم في الردّ على النقض الثاني.

ورابعاً: مقصوده من اللحوق هو الحصول بالنسبة إلى السابق فيكون اللاحق ما يوجد بعده، وهذا المعنى يعمّ الحال والمستقبل في الزمان والزمانيات لكونهما بعد الماضي وارتكب هذا التعميم للردّ على النقض الثالث.

ص: 217

وخامساً: مقصوده من السبق واللحوق الزمانيّين هو الأعمّ من أن يكونا مضافين إلى زمان النطق حتّى يكون السبق واللحوق حقيقيّين أو إلى غيره، حتى يكونا إضافيّين، وارتكب هذا التعميم للردّ على النقض الرابع، وبارتكاب هذه التعميمات الأربعة ردّ المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) على نواقض أستاذه الآخوند (رحمة الله).

والفرق بين ما ذُكر من التفسيرين من قِبل العلّامة المشكيني (رحمة الله) والسيّد الحكيم (رحمة الله) للخصوصية التي اقترحها الآخوند (رحمة الله) وبين هذا التفسير، أنّه بحسب التفسيرين الفعل الماضي يدلّ على خصوصية التحقّق أو الخروج من العدم إلى الوجود مطابقةً، ويدلّ على الزمان الماضي التزاماً، والفعل المضارع يدلّ على الترقّب أو عدم الخروج مطابقةً، ويدلّ على زمان الحال أو الاستقبال التزاماً، بينما على التفسير الثالث الذي اختاره المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) يدلّ الفعل الماضي على نسبة خاصّة، وهي النسبة السابقة، فيدلّ على السبق تضمّناً؛ لأنّه قيد لمدلوله، ويدلّ المضارع على نسبة خاصّة، وهي النسبة اللاحقة، فيدلّ على اللحوق تضمّناً؛ لأنّه قيد.

هذا ما صرّح به تلميذه السيّد الروحاني (رحمة الله) بقوله: (فيكون السبق أو الزمان مدلولاً ضمنياً للفعل، بخلافه على الأوّل فإنّه مدلول التزاميّ)(1).

ولكنّنا لا نوافق السيّد الروحاني (رحمة الله) في هذا الكلام، بل نستفيد من كلام المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) أنّ الفعل يدلّ على السبق في الماضي واللحوق في المضارع التزاماً؛ لأنّه يقول بأنّ تقييد النسبة بالسبق واللحوق داخل في مدلول الهيئة، والقيد خارج،

ص: 218


1- منتقى الأصول: 1/ 338.

ونصُّ كلامه: (إنّ هيئة الماضي موضوعة للنسبة المتقيّدة بسبق الزمانيّ على ما أضيفت إليه - بالمعنى المتقدّم من السبق - بنحو يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً)(1) ومع خروج القيد كيف يكون مدلولاً تضمّنياً.

وحينئذٍ يكون الفرق بين كلام الآخوند (رحمة الله) بحسب التفسيرين الأوّل والثاني، وبين كلام المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) هو أنّ الزمان يكون مدلولاً التزامياً بشرطين على حسب التفسيرين لأخذ خصوصية في معنى الفعل، بينما السبق واللحوق الزمانيّان يكونان مدلولين التزاميين على قول المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) مطلقاً لأخذهما قيداً في معناه.

واستشكل السيّد الروحاني (رحمة الله) في هامش المنتقى على التفسير الثالث بإشكالين:

الإشكال الأوّل

(أنّ أخذ التقيّد بالسبق أو بالزمان في مدلول الفعل يستدعي لحاظ الطرفين تفصيلاً.. ومن الواضح أنّه عند استعمال الفعل لا يلحظ السبق أو الزمان تفصيلاً، والمفروض أخذ أحدهما طرفاً للتقيّد والنسبة)(2).

وفي هذا الإشكال يقول السيّد (رحمة الله) لو كان السبق قيداً لمدلول الفعل - وهو نسبة الحدث إلى فاعلٍ ما - للوحظ هذا المعنى عند سماعه، والحال أنّه لم يلحظ السبق من سماع الفعل.

وهذا الإشكال غير مقبول؛ لأنّ المحقّق الأصفهاني (رحمة الله) لم يقل: إنّ مفهوم السبق

ص: 219


1- نهاية الدراية: 1/ 181.
2- منتقى الأصول: 1/ 339.

أو اللحوق أخذا قيداً لمدلول الفعل حتّى يلحظ مفهومهما عند سماعه، بل قال: إنّ النسبة مع خصوصية السبق أو اللحوق أخذت في مدلول الفعل، ويعني ذلك أنّ النسبة المندمجة مع السبق أو اللحوق مدلولة، والتي تُحلّل إلى نسبة وسبق في الفعل الماضي، ونسبة ولحوق في الفعل المضارع، فلم يلحظ مفهومهما، بل يتبادر إلى الذهن النسبة بخصوصية السبق أو اللحوق.

الإشكال الآخر

(أنّ اختلاف نسبة المضارع والماضي إذا كانت بالتقيّد كان مقتضى ذلك جواز استعمال أحدهما موضع الآخر مجازاً كما لا يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية، مع بداهة غلطية قولنا (يجيء زيد أمس)، و(جاء زيد غداً)، فيكشف ذلك عن اختلاف مفهوميهما سنخاً وحقيقةً، وهو ما التزمنا به)(1)، وفي هذا الإشكال يقول السيّد (رحمة الله) إنّ اختلاف معنى الماضي والمضارع إذا كان بالقيد والمعنى متّحداً فكلاهما يدلّان على النسبة الثبوتية، غاية الأمر تلك النسبة في الماضي مقيّدة بالسبق، وفي المضارع مقيّدة باللحوق لجاز استعمال أحدهما مكان الآخر، والحال أنّه لا يجوز حتّى مجازاً، فلا يقال: (جاء زيد غداً) لا حقيقةً ولا مجازاً، وهكذا لا يقال: (يجيء زيد أمس) لا حقيقةً ولا مجازاً، وهذا يعني أنّ المعنى للفعلين مختلفان سنخاً.

وهذا الإشكال غير مقبول؛ لأنّ الاستعمال المجازي لا يصحّ إلّا بلحاظ العلاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي، وعليه نتساءل أنّ (جاء) في مثل (جاء زيد غداً) هل استعمل في النسبة الثبوتية المقيّدة باللحوق بقرينة (غداً)؟ فحينئذٍ لا علاقة

ص: 220


1- المصدر السابق.

بين هذا المستعمل فيه ل-(جاء) ومعناه الحقيقي، وهو النسبة الثبوتية المقيّدة بالسبق؛ للتضادّ بينهما، فلا يكون الاستعمال مجازاً، أو استعمل في النسبة الثبويتة فقط، ولكن قيد اللحوق استفيد من (غداً)؟ فحينئذٍ:

إمّا أن يكون هذا الاستعمال بعلاقة الخاصّ - وهو النسبة الثبوتية المقيّدة بالسبق - والعامّ - وهو النسبة الثبوتية - فهذا الاستعمال لا يصحّ إلّا مع المناسبة المصحّحة، وإلّا لجاز استعمال كلّ لفظٍ موضوعٍ لشيءٍ في ما هو أعمّ منه.

وإمّا أن يكون هذا الاستعمال بعلاقة الكلّ - وهو النسبة المقيّدة بالسبق - بالجزء - وهو النسبة الثبوتية - فهذا الاستعمال لا يصحّ على مسلك السكاكي في المجاز إلّا بتنزيل الجزء منزلة الكلّ، وهذا التنزيل لا يتحقّق في ما نحن فيه؛ إذ لا معنى لتنزيل ذات المعنى بمنزلة المعنى بقيد السبق، ولا يصحّ على المسلك المشهور في المجاز إلّا إذا كان الكلّ كلَّاً عينياً، والجزء من الأجزاء المهمّة بحيث يعبّر به عن الكلّ، كالرقبة من الإنسان في نحو تحرير رقبةٍ (أي: عبدٍ) وكالرأس من الإنسان في نحو جاء رأسٌ منهم (أي: فردٌ منهم) وكالروح من الإنسان في نحو استهدف روح فلانٍ (أي: شخص فلانٍ) ففي مثل قولك: (رأيت زيداً) وقصدت رؤية وجهه قد استعملت زيداً في وجهه، وهو جزءٌ منه، ويكون هذا الاستعمال مجازاً؛ لتوفّر الشرطين، وأمّا في مقام البحث معنى (جاء) ليس كلَّاً عينياً فإنّه النسبة الثبوتية والتقيّد بالسبق، وهذا المعنى كلٌّ ذهنيٌ تحليليٌ، فلا يجوز استعمال (جاء) في النسبة الثبوتية مجازاً، فعلى كلا المسلكين لا يجوز استعمال (جاء) مجازاً في النسبة الثبوتية فقط، واللحوق مُستفادٌ من (غداً)؛ لعدم العلاقة المصحّحة للاستعمال المجازي، وبالنتيجة لا يصحّ استعمال

ص: 221

(جاء زيدٌ غداً) على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز، والكلام نفسه يجري في المثال الآخر، وهو (يجيء زيد أمس).

وبكلّ ما تقدّم نرى أنّ أرجح الأقوال في مسألة دلالة الأفعال على الزمان هو قول المحقّق الأصفهاني (رحمة الله).

* * *

ص: 222

مصادر البحث

القرآن الكريم.

1. أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، سعيد بن عبد الله الخوري الشرتوني (ت 1331 ﻫ)، الناشر منظمة الأوقاف والشؤون الخيرية، دار الأسوة للطباعة والنشر، طهران - إيران، 1416 ﻫ.

2. البحث النحوي عند الأصوليين، السيّد مصطفى جمال الدين (رحمة الله) (ت 1416 ﻫ)، الناشر: دار الهجرة، قم - إيران، الطبعة الثانية، 1405 ﻫ.

3. بحوث في الأصول، العلّامة الأصفهاني (رحمة الله) (ت 1361 ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1409 ﻫ.

4. بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي (رحمة الله) (ت 1400 ﻫ)، أشرف على طبعه: السيّد محمّد البكّاء، الناشر: دار الهدى، قم - إيران، الطبعة الثانية، 1426 ﻫ.

5. التعريفات، المحقّق الشريف الجرجاني (ت 816ﻫ)، الناشر: ناصر خسرو، طهران - إيران، الطبعة الرابعة، 1370 ﻫ ش.

6. تعليقة على معالم الأصول السيّد عليّ الموسوي القزويني (رحمة الله) (ت 1297 ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي، قم - إيران، الطبعة الأولى، 1427 ﻫ.

7. تعليقه بر شرح منظومه حكمت سبزواري، الحكيم ميرزا مهدي آشتياني (رحمة الله) (ت 1372 ﻫ)، الناشر: مؤتمر العلّامة الآشتياني، قم - إيران، 1390 ﻫ ش.

8. حقائق الأصول، السيّد محسن الحكيم (رحمة الله) (ت 1390 ﻫ)، الناشر: مؤسّسة

ص: 223

بصيرتي، قم - إيران، الطبعة الخامسة، 1408 ﻫ.

9. درر الفوائد (تعليقة على شرح المنظومة للسبزواري)، الشيخ محمّد تقي الآملي (رحمة الله) (ت 1391 ﻫ)، الناشر: مؤسّسة إسماعليان للطباعة والنشر، قم - إيران.

10. شرح المنظومة، الحكيم الملا هادي بن مهدي بن هادي السبزواري (قدس سره) (ت 1289ﻫ)، ط حجرية.

11. فرهنك علوم عقلي، سيّد جعفر سجادي – أنجمن إسلامي حكمت وفلسفة إيران، مؤسّسة النشر الإسلامي.

12. كفاية الأصول، المحقّق الشيخ محمّد كاظم الخراساني (رحمة الله) (ت 1329ﻫ)، تعليق: العلّامة المشكيني (قدس سره) (ت 1358ﻫ)، تحقيق: الشيخ السامي الخفاجي، الناشر: دار الحكمة، ط3، المطبعة: غدير، تاريخ الطبع: 1427ﻫ.

13. مباني الأصول، تقرير أبحاث السيّد محمّد باقر السيستاني، بقلم: الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف، نسخة محدودة التداول.

14. مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي (ت 1085ﻫ)، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني الأشكوري، نشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية - طهران، 1375 ﻫ ش.

15. موسوعة الإمام الخوئي (رحمة الله) ، محاضرات في أصول الفقه، تقرير أبحاث السيّد الخوئي (رحمة الله) (ت 1413ﻫ)، تقرير الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض، الناشر: مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، تاريخ النشر: 1422ﻫ.

16. معجم النحو، عبد الغني الدقر، بإشراف أحمد عبيد، الناشر: مطبعة محمّد هاشم الكتبي، دمشق - سوريا، الطبعة الأولى، 1395 ﻫ.

ص: 224

17. المعجم الوسيط، مَجمع اللغة العربية، الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث، قام بإخراجه: إبراهيم مصطفى وأحمد حسن الزيّات وحامد عبد القادر ومحمّد عليّ النجّار، الناشر: دار الدعوة - استانبول، 1989م.

18. منتقى الأصول، تقرير أبحاث السيّد الروحاني (رحمة الله) (ت 1418 ﻫ)، السيّد عبد الصاحب الحكيم (قدس سره) ، المطبعة: الهادي، ط2، تاريخ الطبع: 1416ﻫ.

19. مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي (رحمة الله) (ت 1361 ﻫ)، بقلم الشيخ محمّد تقي البروجردي، منشورات: مجمع الفكر الإسلامي، 1420 ﻫ.

20. نهاية الأفكار، تقرير أبحاث الشيخ ضياء الدين العراقي (رحمة الله) (ت 1361 ﻫ)، بقلم الشيخ محمّد تقي البروجردي، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي، 1405 ﻫ.

21. نهاية الحكمة (المحشّى بتعليقة غلام رضا الفياضي)، السيّد محمّد حسين الطباطبائي (رحمة الله) (ت 1402 ﻫ)، مركز انتشارات الإمام الخميني، قم - إيران، الطبعة الرابعة، 1386 ﻫ ش.

22. نهاية الدراية في شرح الكفاية، المحقّق الشيخ محمّد حسين الغروي الأصفهاني (رحمة الله) (ت 1361ﻫ)، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، المطبعة: ياران، ط1، تاريخ الطبع: 1414ﻫ.

23. وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير أبحاث السيّد أبو الحسن الأصفهاني (رحمة الله) (ت 1365 ﻫ)، بقلم الميرزا حسن السيادتي، نشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1419ﻫ.

ص: 225

ص: 226

القرائن المعنويّة العامّة وأثرها في الدّلالة (مناسبة الحكم والموضوع أنموذجاً) (الحلقة الثانیة) - الشّيخ عليّ الجزيريّ (دام عزه)

اشارة

يتناول هذا البحث مفردة هامّة من مفردات الفقه الحديث، لها حضور واسع في كلمات علمائنا الأعلام (رضوان الله علیهم) منذ عصر الفقيه الهمداني (قدس سره) حتّى يومنا هذا، وهي (مسألة مناسبات الحكم والموضوع).

وقد حاولنا من خلاله استنطاق كلمات العلماء في موارد توظيفهم لهذه المناسبات، وما تنطوي عليه هذه الكلمات من فوائد وفرائد علميّة كثيرة لها دورها البارز في استنباط الحكم الشرعيّ من مظانّه المقرّرة، وما ذاك إلّا من أجل رسم حدود القاعدة وأبعاد المسألة، وإعطاء القانون وتأصيل الضابطة.

ص: 227

ص: 228

بسم الله الرحمن الرحیم

تقدّم في الحلقة الأولى كثرة اعتماد العلماء المتأخّرين على قرينة مناسبة الحكم والموضوع، وحيث إنّهم لم يبيّنوا مرادهم بها وجب علينا سلوك طريقين لذلك:

الطريق الأوّل: هو المدلول اللغوي لكلمة (المناسبة).

والطريق الآخر: هو تحليل مستندهم في الموارد التي اعتمدوا فيها على هذه القرينة.

وقد تقدّم الكلام في الحلقة الأولى عن الطريق الأوّل ضمن جهتين كانت الجهة الأولى منهما في إشارة لتاريخ المسألة، والأخرى في تحديد المفاد اللغوي لمناسبة الحكم والموضوع.

ويقع الكلام في هذه الحلقة عن الطريق الآخر ضمن جهات ثلاث:

ص: 229

الجهة الأولى: في الدليل على اعتبار مناسبة الحكم والموضوع ومقدار حجّيتها وموارد جريانها

خرّج بعض العلماء حجّية مناسبة الحكم والموضوع باندراجها في كبرى حجّية الظهور.

واعلم أنّه ربّما فهمت لمناسبة الحكم والموضوع تفسيرات خمسة:

الأوّل: أنّها قرينة غير لفظية(1).

الثاني: أنّها ارتكاز يكشف حكمة التشريع(2).

الثالث: تنقيح المناط(3).

الرابع: الجزم بنفي الخصوصية توسعةً، والجزم بإرادتها تضييقاً.

الخامس: الانصراف، وإنّما تفسّر به المناسبة المضيّقة.

وإنّما تدخل مناسبة الحكم والموضوع في باب الظهورات بناءً على تفسيرها بأنّها قرينة على المراد، أو تفسيرها بالانصراف، دون تفسيرها بالارتكاز، أو تنقيح المناط، أو الجزم بالخصوصية أو بعدمها.

ص: 230


1- موسوعة السيّد الشهيد الصدر: 9/ 346.
2- نهاية الدراية في شرح الكفاية (ط قديمة): 3/ 276.
3- سيظهر هذا المعنى وما بعده عند ذكر موارد استعمال مناسبة الحكم والموضوع في كلمات الأعلام.

أمّا على تفسيرها بالارتكاز الكاشف عن حكمة التشريع فمن الواضح أنّه لا صلة لها بالظهور أصلاً؛ لأنّ الارتكاز لا يمسّ دلالة الكلام ولا يغيّرها، فلو قال المشرّع: (أيّما رجل ذكر أخاه بعيب في غيبته فكأنّما أكل لحمه)، بقي لفظ (رجل) على دلالته، ولا نقول إنّ المراد به: (إنسان). ولكنّنا نستكشف بالارتكاز أنّ هذا الحكم تطبيق لحكمٍ عامّ، وهو (أيّما إنسان رجلاً كان أم امرأة)، فلا نقول إنّه بهذا الخطاب أراد تحريم الغيبة مطلقاً حتّى على النساء، بل نقول إنّه أراد بيان تحريم الغيبة على الرجال خاصّة، ولكنّنا استكشفنا أنّ هذا التحريم لم يكن تشريعاً مستقلَّاً، بل هو تطبيق لتشريع أوسع، وهو تحريم الغيبة مطلقاً.

وأمّا على تفسيرها بتنقيح المناط فهي أيضاً أجنبية عن الظهور؛ إذ هي داخلة في حجّية القطع أو الاطمئنان؛ باعتبار أنّ مرجع تنقيح المناط إلى القطع أو الاطمئنان بعلّة الحكم، والغرض من تشريعه.

وأمّا على تفسيرها بالجزم بالخصوصية، أو بعدم الخصوصية فكونها أجنبية عن الظهور واضح أيضاً.

والفرق بين هذا التفسير وسابقه هو أنّ الأوّل يدّعي العلم بعلّة الحكم من طريق موضوعي، وهو الارتكاز أو الترابط بين الحكم والموضوع، وقد لا يدّعي النظر إلى علّة الحكم، بل يدّعي العلم بحكمٍ أوسع، كما في مثال تحريم الغيبة، وأمّا هذا فيدّعي العلم بعلّة الحكم علماً ذاتياً.

ومن هذا البيان يظهر لك وجه التفصيل الذي ذكره بعض العلماء(1) من جريانها

ص: 231


1- موسوعة السيّد الشهيد الصدر (قدس سره) : 9/ 66 - 67.

في خصوص الأدلّة اللفظية دون اللبّية؛ فإنّها على تقدير كونها صغرى لحجّية الظهور تختصّ بالأدلّة اللفظية، ولكنّها على تقدير آخر لا تأبى أن تجري في الأدلّة اللبّية.

ومنه أيضاً يظهر لك وجه التفصيل بين المعاملات والعبادات المشوبة بغير التعبّد، فتجري فيها، وبين العبادات المحضة، فلا تجري فيها، فإنّها إذا كانت ترجع إلى حكمة التشريع، أو تنقيح المناط فإنّما يصحّ الاعتماد عليها في باب المعاملات والعبادات غير المحضة خاصّة؛ لأنّ حكمة تشريعها معلومة، ومناطها معروف، ولا تجري في العبادات المحضة؛ لأنّ العالم بحكمة تشريعها وبمناطها هو الله تعالى، ومن أظهره على ذلك من طريق الوحي.

وعلى ذلك فهل التعبير عنها بتنقيح المناط، أو إلغاء الخصوصية، أو الانصراف من سهو القلم، أو لاعتقاد وحدة المراد؟

الجواب: أنّ الأصل في العبارات المختلفة هو اختلاف المراد، فينبغي التأمّل لاستخراج ما يميّز مسألتنا عن هذه المسائل.

وممّن صرّح بأنّ مناسبة الحكم والموضوع أجنبية عن الظهور السيّد الأستاذ (قدس سره) في منتقى الأصول، حيث قال: (الأمر الثالث: العرف، والمراد به ما يفهمه العرف بحسب مرتكزاته من قياسات الأحكام والموضوعات، في قبال ما يفهمه بحسب متفاهم الألفاظ وفي مقام المحاورة الذي هو مفاد تحكيم الدليل، فقد يفهم العرف بحسب لفظ الدليل كون الموضوع للحكم هو الأمر الكذائي، ولكن بحسب مرتكزاته من مناسبة الحكم وموضوعه يرى عدم تبدّل الموضوع عند زوال بعض صفاته المقوّمة بحسب الدليل، وأنّ الحكم ثابت للأعمّ، فهو يرى بحسب الدليل أنّ

ص: 232

الحنطة هي موضوع الحلّية، ولكنّه بحسب مرتكزاته يرى أنّ عروض الحلّية لا يختصّ بالحنطة، بل يعمّها ويعمّ الدقيق، كما يرى بحسب مرتكزاته أنّ موضوع النجاسة هو ذات الماء وأنّ التغيّر يؤثّر فيه بنحو العلّية.

ويشترط أن لا يكون الفهم العرفي المذكور من القوّة بحيث يكون من القرائن المتّصلة أو المنفصلة الموجبة لانقلاب ظهور اللفظ من معناه وانعقاده في المفهوم العرفي، أو المانعة عن حجّيته في ما هو ظاهر فيه، وإلّا رجع الأمر الثاني، أعني لسان الدليل)(1).

ص: 233


1- منتقى الأصول: 6/ 365.

الجهة الثانية: في الفرق بينها وبين القياس

إنّ الفرق بينها وبين القياس يستدعي النظر في حقيقة القياس وأقسامه، لمعرفة الأحكام المترتّبة على ذلك، وهل كلّ قياس عندنا باطل في الشريعة أو لا؟

فأقول: للقياس إطلاقان:

الأوّل: ما يعدّونه دليلاً ومستنداً.

والآخر: الاستناد وعمل الشخص الذي يقيس.

والأوّل: هو الظنّ بمساواة محلّ لآخر في علّة حكمه، والآخر: هو إثبات حكم الأصل للفرع؛ لظن اشتراكهما في العلّة الموجبة للحكم.

ودعوى اشتراك الأصل والفرع في العلّة مبنيّ على تخمين المستدلّ بالقياس وظنّه لاعتقاده التشابه بينهما، ولو كان أهل القياس يدّعون حصول العلم بالعلّة لكان ذلك عذراً لهم، ولكنّهم لا يدّعون ذلك.

والقياس باطل عندنا؛ لأنّه ليس للعباد طريق لمعرفة علل الأحكام وملاكاتها، إلّا بيان الشرع، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.

وأمّا مناسبة الحكم والموضوع فقد عرفت أنّ الذي يظهر من تطبيقات الفقهاء لها هو أنّها اطمئنان الفقيه بحكمة التشريع، فالقياس ظنّ بالعلّة، والمناسبة اطمئنان بها.

ص: 234

واعلم أنّه يظهر من ملاحظة الروايات التي تذمّ القياس معنى آخر غير ما اصطلح عليه علماء أصول الفقه بالقياس، والذي يظهر من الروايات هو إعمال الرأي، ونسبة الحكم للشرع اقتراحاً.

وكيفما كان، فالمهمّ أنّ هذه الكلمة التي بقيت في تراثنا بسبب النصّ الروائي قد طرأ عليها تغيّر في المفهوم بسبب المعنى الاصطلاحي، فلا ينبغي إغفال ذلك.

ص: 235

الجهة الثالثة: موارد اعتماد العلماء على مناسبة الحكم والموضوع

اشارة

تقدّم منّا أنّ الاعتماد على مناسبات الحكم والموضوع قد بلغ في زماننا هذا بل وقبله مبلغاً عظيماً، فلا بأس أن ننظر في بعض المواضع التي اعتمد العلماء فيها على هذه القرينة، لنصل إلى فهم حقيقة مرادهم، فنقول مستعينين بالله:

الأوّل: موارد اعتماد المحقّق آغا رضا الهمداني (قدس سره) (ت 1322ﻫ)

المورد الأوّل

تعرَّض المحقّق الهمداني (قدس سره) في عقد الفضولي للاستدلال بعموم وجوب الوفاء بالعقود لإثبات كفاية رضا المالك في صحّة العقد مطلقاً، وقال إنّه يثبت المطلوب إذا كان المراد بالعقود في الآية الشريفة: (كلَّ عقد عن كلّ أحد متعلّق بماله)، فيكون معناه أنّه يجب على المالك الوفاء بكلّ عقد تعلّق بماله سواء كان العاقد نفسه أو غيره، وغاية ما في الباب تخصيص ذلك العموم بدليل طيب النفس بما لا يكون المالك راضياً بالعقد مطلقاً.

ولكنّه لم يرتضِ هذا المعنى محتجّاً بأنّه خلاف ظاهر الآية، فالظاهر منها بضميمة مناسبة الحكم والموضوع أنّه يجب الوفاء على كلّ شخص يكون من شأنه الوفاء بكلّ عقد صدر منه، لا عنه وعن غيره مطلقاً؛ إذ المناسب للحكم بوجوب الوفاء إنّما هو كونه صادراً عنه، كما أنّه لو قيل: (أوفِ بالعهد) ينصرف إلى عهود نفسه، لا كلّ عهد وقع في الدنيا، ولو كان مرتبطاً إليه [ظ: به]، كما لو تعاهد شخصان أجنبيان عليه

ص: 236

شيئاً، ومعلوم أنّ عموم هذا الأمر لا يشمل هذا المورد من أوّل الأمر، فعلى هذا فليس مفاد الآية إلّا كمفاد قوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا﴾، في أنّ الوفاء إنّما تعلّق بما عاهد، فمفاد الآية أنّه يجب على العاقد الوفاء بعقده(1).

فأثر مناسبة الحكم والموضوع في هذا المورد هو تضييق موضوع الحكم، وقد صرّح في عموم وجوب الوفاء بالعهد بأنّ الحكم ينصرف إلى عهد نفسه، ولكن لا يسعنا الآن - ونحن في بداية المسير - أن نحكم بأنّ ما يريده المحقّق الهمداني من مناسبة الحكم والموضوع في كلّ مورد اعتمد فيه على هذه القرينة هو موجبات الانصراف.

المورد الثاني

في عدم وجوب غسل موضع النجو إذا كان الظاهر لم يتلوّث بالنجاسة، قال: (واحتمال وجوب الغسل تعبّداً كما عن ظاهر المنتهى لإطلاقات الأمر بالغسل ضعيف في الغاية؛ لأنّ الأوامر المطلقة منزّلة على الغالب، كما يدلّ عليه - مضافاً إلى الفهم العرفي الناشئ من مناسبة الحكم وموضوعه، أعني وجوب الغسل ونجاسة موضع النجو بمقتضى العادة - جعل النقاء وإذهاب الغائط حدّاً للاستنجاء في حسنة ابن المغيرة، وموثّقة يونس بن يعقوب المتقدّمتين)(2).

وهذا يمكن إرجاعه إلى تشخيص الغرض من تشريع وجوب الغسل، ويمكن إرجاعه أيضاً إلى الانصراف إلى الغالب.

ص: 237


1- يلاحظ: حاشية كتاب المكاسب (للمحقّق الهمداني (قدس سره) ): 190- 191.
2- مصباح الفقيه: 2/ 76.
المورد الثالث

في التمسّك بمناسبة الحكم والموضوع لتعميم موضوع حرمة مسّ الجنب ما عليه لفظ الجلالة في موثّقة عمّار عن الصادق (علیه السلام) ، قال: (لا يمسّ الجنب درهماً ولا ديناراً عليه اسم الله). فلا يختصّ الحكم بلفظة (الله)، بل يعمّ كلّ اسم من أسمائه سبحانه وتعالى المختصّة به من أيّ لغة كانت. وكون المتعارف في أزمنة الأئمّة (علیهم السلام) نقش لفظ خاصّ على الدينار والدرهم لا يقتضي قصر الحكم عليه، خصوصاً مع وضوح مناطه، بل المتبادر من اسم الله تعالى في الرواية - ولو لأجل وضوح المناسبة بين الحكم وموضوعه - مطلق ما أنبأ عن الذات المقدّسة، سواء كان بالوضع أو بانضمام القيود والقرائن، فيعمّ الأوصاف المختصّة والمشتركة، بل مطلق الألفاظ العامّة، وصفاً كان أم غيره بشرط احتفافها بما يعيّن إرادة الذات المقدّسة منها، ك-(العالِم بكلّ شيء) أو (خالق كلّ شيء)(1).

وهذا التعميم لا يمكن إرجاعه إلى الانصراف؛ فإنّ الانصراف تضييق للمطلق، ومنشأ التعميم هنا هو معرفة الغرض من تشريع الحكم جزماً، فإنّ الغرض منه هو تعظيم الله جلّ شأنه، وهذا الغرض لا يختصّ بلفظ الجلالة، كما أنّ مناسبة الحكم والموضوع في هذا المقام توجب تضييقاً من جهة أخرى، فإنّ موضوع الحكم في الموثّقة هو الدينار والدرهم الذي عليه اسم الله، لكن ينبغي رفع اليد عن إطلاق الدينار والدرهم، وتقييده بموضع اسم الله فيهما، فيجوز له أن يمسّ أطرافهما ممّا ليس فيه هذه الكتابة، ويجوز في جانب التضييق أن يكون المراد بمناسبة الحكم

ص: 238


1- يلاحظ: مصباح الفقيه: 3/ 292 - 293.

والموضوع معرفة غرض التشريع جزماً، ويجوز أن يكون المراد بها الانصراف.

المورد الرابع

في إلحاق الأمة والزوجة المنقطعة بالزوجة الدائمة في جواز تغسيل كلّ منهما للآخر، فقد استفاد (قدس سره) حكمهما من الأخبار الدالّة على جواز تغسيل كلّ من الزوجين صاحبه، بتقريب: أنّ موضوع الحكم في تلك الأخبار وإن كان الزوجين، والمتبادر منهما لدى الإطلاق غير الأمة وسيّدها، لكنّ المناط الذي يتعقّله العرف منشأً للجواز ليس إلّا المعنى القائم بالزوجين، الموجود بين الأمة وسيّدها من حلّية النظر واللمس والاستمتاع، فلا يتعقّل العرف من الزوجة في مثل المقام - ولو لأجل المناسبة بين الحكم وموضوعه - إلّا ما يعمّ الأمة والمنقطعة كالدائمة، مع أنّ المتبادر منها لدى الإطلاق ليس إلّا الأخيرة(1).

وهنا يريد بمناسبة الحكم والموضوع معرفة الغرض من تشريع هذا الحكم.

المورد الخامس

في حرمة تمكين الغير وبعثه على ارتكاب ما حرّمه الله على عباده وإن كان ذلك الغير صبيّاً أو مجنوناً أو غافلاً، هذا إذا لم يكن عنوان البلوغ أو العقل أو العمد والاختيار مأخوذاً في الأدلّة السمعية قيداً لمتعلّق التكليف، ولو من حيث الانصراف الناشئ من المناسبة بين الحكم وموضوعه أو غير ذلك من الأمور المقتضية للصرف، وإلّا فلا تأمّل في أنّه لو كان مفاد الدليل السمعي الدالّ على حرمته أنّه يحرم على العاقل أو على البالغ أو الملتفت أو نحو ذلك، لا يحرم تمكين من لم يندرج في موضوع متعلّق الحكم، وبعثه على ذلك الفعل(2).

ص: 239


1- يلاحظ: مصباح الفقيه: 5/ 78.
2- يلاحظ: مصباح الفقيه: 10/ 325.
المورد السادس

في صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها)(1).

وهل يختصّ جواز الاقتصار على فاتحة الكتاب بحصول المشقّة بقراءة السورة؟ قولان: اختار المحقّق الهمداني (قدس سره) اختصاصها بحصول المشقّة؛ لأنّ المنساق إلى الذهن من المريض في مثل هذه الموارد بواسطة المناسبات المغروسة فيه ليس إلّا المريض الذي يشقّ عليه إطالة الصلاة، ويطلب تخفيفها(2).

واعترض عليه السيّد الخوئي (قدس سره) بأنّ المريض بأيّ مرحلة فرضناه - حتّى المصلّي مستلقياً - لا مشقّة عليه غالباً في التكلّم بسورة يسيرة كالتوحيد مثلًا. نعم، ربّما تفرض شدّة المرض بمثابة يشقّ عليه ذلك أيضاً لاقترانه بثقل في لسانه، أو شدّة المرض بحيث تصعب عليه حتّى تلك التلاوة اليسيرة، لكنّه فرض نادر جدّاً لا يمكن حمل الإطلاق عليه، فالأقوى في النظر تعميم السقوط لصورتي المشقّة وعدمها، عملاً بإطلاق الدليل بعد امتناع حمله على الفرد النادر(3).

ومناسبة الحكم والموضوع التي اعتمد عليها المحقّق الهمداني (قدس سره) يحتمل أن تكون من باب الاعتماد على حكمة التشريع؛ لأنّ تشريع كفاية الفاتحة للإرفاق، والذي يناسب الإرفاق هو من يشقّ عليه ذلك، ويحتمل أن يكون مراده الانصراف.

ص: 240


1- الكافي: 3/ 314، باب قراءة القرآن، ح9.
2- يلاحظ: مصباح الفقيه: 12/ 193.
3- يلاحظ: شرح العروة الوثقى: 14/ 286.

ولنقتصر على هذه الموارد من كلامه رفع الله في الخلد مقامه؛ لأنّنا نريد فهم مراد سائر العلماء بمناسبة الحكم والموضوع، وليس مقصودنا فهم خصوص مراده؛ لأنّ هذا المصطلح ربّما طرأ عليه من التطوّر في الدلالة ما يستحقّ الوقوف عليه، فلا بدّ أن ننظر أيضاً في موارد توظيف هذه القرينة في كلمات من تلاه من العلماء. وقد تحصّل لنا أنّ مراده (قدس سره) من هذه القرينة - مع سبقه في اكتشافها وتوظيفه لها - مجمل، فيحتمل أن يريد بها ما يوجب الانصراف، ويحتمل أن يريد بها معرفة ملاك الحكم وحكمة التشريع، وهو ما يعبّر عنه بالعلّة المستنبطة بيقين، هذا فيما إذا استند إليها في تضييق موضوع الحكم، وأمّا الموارد التي استند فيها إلى هذه القرينة لتوسعة موضوع الحكم فلا مجال للانصراف، بل يكون مراده منها مردّداً بين معنيين آخرين، وهما حكمة التشريع، وإلغاء الخصوصية.

الثاني: موارد اعتماد المحقّق النائيني (قدس سره) (ت 1355ﻫ)

اشارة

يعتبر المحقّق النائيني (قدس سره) من المكثرين لتوظيف هذه القرينة في الأبحاث الفقهية المختلفة، وقد أبرزت كلماته جوانب مهمّة في تشخيص المقصود منها، فهو يصرّح بأنّ مناسبات الحكم والموضوع وحدها لا تكفي؛ فإنّها بنفسها ليست دليلاً ما لم توجب انعقاد ظهور الدليل على خلاف ما كان ظاهراً فيه لولا المناسبة، فلا يمكن الركون إليها في الموارد التي لا يكون هناك دليل توجب المناسبة انعقاد ظهوره في مورد المناسبة؛ لأنّها من سنخ القرائن التي تؤثّر في دلالة الكلام(1).

ص: 241


1- يلاحظ: كتاب الصلاة (تقرير الشيخ محمّد عليّ الكاظمي (قدس سره) ): 2/ 325 - 326.

ومن خلال بيانه هذا نستفيد أنّ الوجه في حجّيتها راجع إلى حجّية الظهور.

وبالرغم من أنّ بحث القرائن لم يحرّر في علم الأصول ببحثٍ مستقلّ، إلّا أنّه (قدس سره) قد أحاط بأبعاده وخصوصياته، وشروط تطبيقه، مع أنّه غير مسبوق بتحليل الفارق بين الدليل والقرينة، ولم يكتفِ بذلك بل سجّل اعتراضاً على من يستند إلى مناسبة الحكم والموضوع وحدها من دون وجود دليل تصرّفت في دلالته؛ لأنّ دور مناسبة الحكم والموضوع كغيرها من القرائن يقتصر على تغيير ظهور الكلام(1).

ولكن النظر في موارد توظيفه لهذه القرينة لا يوجب جزمنا بالمقصود منها؛ فإنّ المراد بها في ثنايا كلامه يحتمل وجوهاً شتّى، وهذه الوجوه تختلف من مورد إلى آخر، فتارةً تحتمل الانصراف، وتارة تحتمل تنقيح المناط، وأخرى تحتمل الجزم بنفي الخصوصية.

والآن فلنقف على بعض الموارد التي اعتمد فيها على هذه القرينة، لنستكشف

ص: 242


1- وللمحقّق الشيخ حسين الحلّي (قدس سره) في أصول الفقه: 11/ 94 كلام نقله عن أستاذه المحقّق النائيني (قدس سره) يظهر منه أنّه يجري هذه المناسبة حتّى في الأدلّة اللبّية، قال (قدس سره) : (لو كان الدليل لبّياً كالإجماع أو العقل كان الرجوع أيضاً إلى القرينة المذكورة.. وتكون تلك القرينة - أعني مناسبة الحكم والموضوع - موجبة للتصرّف في دليل الاستصحاب أعني (لا تنقض)، وحاكمة بصدقه على المورد. والحاصل: أنّه ليس الرجوع هنا إلى الفهم العرفي بواسطة هذه القرينة رجوعاً إلى الفهم العرفي من لسان الدليل؛ إذ ليس في البين دليل لفظي، ولا أنّ العرف يكون شارحاً لحال القيد، وأنّه علّة في الحكم لا قيد في موضوعه، لأنّه لا مسرح للعرف في ذلك، بل هو رجوع إلى العرف في صدق (لا تنقض) على المورد، وحينئذٍ يكون المقام من الشبهة الصدقية لا المصداقية).

قاعدة عامّة تأصيلية يمكن الركون إليها في سائر أبواب الفقه. وقبل الخوض في ذلك لا بأس أن نشير إلى بعض الأمور التي أشار إليها في كلماته المختلفة ممّا له ربط بالمسألة، وهي تحظى بأهمّية خاصّة في الفقه والأصول؛ لما اشتملت عليه من بيان أبعاد قد تكون غائبة عنّا في معرفة حقيقة هذه القرينة.

الأمر الأوّل

أنّ مناسبة الحكم والموضوع، بل القرائن بشكل عامّ، قد تقتضي ثبوت الحكم الثابت لعنوان خاصّ لذاتِ المعنون ولو مع زوال عنوانه، كما في الحلّية الثابتة لعنوان الحنطة مثلاً؛ حيث إنّ العرف يفهم من الدليل الدالّ عليها حلّية الدقيق والخبز من دون التماس دليلٍ آخر، فلا يكون الحكم تابعاً للعنوان، ولا يدور مداره بقاءً.

وقد تقتضي ثبوته للمعنون بما هو كذلك، فيحكم بارتفاعه عند ارتفاعه، كما في النجاسة الثابتة للعذرة؛ فإنّ العرف يراها ثابتةً لنفس العذرة، فلا يحتملون بقاءها عند تبدّلها حيواناً، وفي مثل ذلك يدور الحكم مدار تحقّق عنوان موضوعه(1).

وتوضيح ذلك أنّ العرف بحسب ما هو المرتكز في ذهنه من مناسبة الحكم والموضوع يرى أنّ العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام تختلف باختلاف الموارد، ولا بأس أن نذكر مثالين ذكرهما في مواضع متعدّدة من كلامه:

الأوّل: لو قال الشارع: (يجب إعطاء الزكاة للفقير) سواء أُخذ الفقر في لسان الدليل عنواناً أو وصفاً أو شرطاً؛ فإنّ العرف يرى عنوان الفقر مقوّماً للموضوع، فيدور الحكم مداره، وذلك بواسطة مناسبة الحكم والموضوع فإنّها تقضي بأنّ عنوان

ص: 243


1- يلاحظ: فوائد الأصول: 4/ 585.

الفقر له دخل في وجوب إعطاء الزكاة، فيرتفع موضوع الحكم عرفاً إذا صار الفقير غنياً. وهذا بنظر العرف من باب ارتفاع الموضوع وتبدّله إلى موضوع آخر، بحيث لو قام دليل على جواز إعطاء الزكاة لمن زال عنه وصف الفقر كان ذلك بنظر العرف تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

الآخر: لو قال الشارع: (الماء المتغيّر نجس)، فإنّ مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأنّ عنوان التغيّر حيثية تعليلية من دون أن يكون له دخل في الموضوع عرفاً؛ فإنّ النجاسة بنظر العرف من الأعراض القائمة بذوات الأشياء، فيكون موضوع النجاسة ومعروضها ذات الماء، لا الماء المتغيّر، بل التغيّر إنّما يكون عرفاً علّة لعروض النجاسة على الماء، فيكون الموضوع محفوظاً عرفاً عند زوال التغيّر عن الماء، بحيث لو قام دليل على طهارته كان ذلك بنظر العرف من رفع الحكم عن موضوعه، لا رفع الحكم بارتفاع موضوعه.

الأمر الثاني

أنّ مناسبة الحكم والموضوع ربّما تختلف باختلاف الموارد، فقد يكون المأخوذ في موضوعات أحكام متعدّدة عنواناً واحداً، لكن العرف يرى دخله في موضوع بعضها، فيحكم بارتفاعه عند ارتفاعه، ولا يرى دخله في موضوع بعضها الآخر، ومثّل لذلك بما ورد في خيار العيب من جواز ردّ المعيب إذا كان قائماً بعينه، وما ورد في التفليس من أنّ الغريم يرجع ماله إذا كان قائماً بعينه، مع أنّ الفقهاء حكموا في باب الخيار أنّ مجرّد تغيّر العين ولو بأدنى تغيّر يوجب المنع عن الردّ، وهذا بخلاف التفليس فإنّهم حكموا فيه بجواز الرجوع ولو مع تغيّرها بتلك التغيّرات، وليس الاختلاف في الأبواب إلّا من جهة اختلاف مناسبات الأحكام مع

ص: 244

موضوعاتها(1).

الأمر الثالث
اشارة

أنّ المتّبع في بقاء الموضوع هو ما تقتضيه مناسبات الحكم والموضوع، ولا عبرة بظاهر الدليل بعدما كان المرتكز العرفي على خلاف ما يقتضيه ظاهر الدليل ابتداءً، فإنّه بعد الالتفات إلى المرتكز العرفي وما تقتضيه المناسبة المذكورة لم يبقَ للدليل ظهور على خلاف المرتكز العرفي، فإنّ مفاد الدليل يرجع بالآخرة إلى ما يقتضيه نظر العرف؛ لأنّه يكون قرينة متّصلة صارفة عمّا يكون الدليل ظاهراً فيه ابتداءً، فلو كان الدليل ظاهراًَ بدواً في قيدية العنوان، وكانت مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدمه، فاللازم هو العمل على ما تقتضيه(2).

ولنرجع إلى ما كنّا بصدده من تطبيقات هذه القرينة في كلام المحقّق النائيني:

المورد الأوّل

في تعميم حكم الشكّ في عدد الركعات في النافلة إلى الشكّ في الأفعال، بتقريب أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم الالتفات إلى الشكّ في الأفعال، ولكنّه اعترض على ذلك بأنّ مناسبة الحكم والموضوع وحدها لا تكفي، فإنّها بنفسها ليست دليلاً ما لم توجب انعقاد ظهور الدليل على خلاف ما كان ظاهراً فيه لولا المناسبة.

والحاصل: أنّ مناسبة الحكم والموضوع إنّما نقول بها فيما إذا كان هناك دليل توجب المناسبة انعقاد ظهوره في مورد المناسبة، وإلّا فهي بنفسها ليست من الأدلّة.

ص: 245


1- يلاحظ: أجود التقريرات: 2/ 410 - 411.
2- يلاحظ: فوائد الأصول: 4/ 586.

وفي المقام بعدما كان دليل نفي السهو مختصّاً بالشكّ في عدد الركعات، فلا دليل في الأفعال حتّى يتشبّث بمناسبة الحكم والموضوع، فالتمسّك بها في المقام يكون أشبه شيءٍ بالقياس(1).

ويظهر منه أنّ الرجوع إلى مناسبة الحكم والموضوع هنا مردّه إلى تشخيص الغرض من التشريع ومعرفة علّة الحكم، ولكن رفضه لهذا التقريب مبنيّ على ردّ القياس مطلقاً، وقد عرفت قريباً أنّ منصوص العلّة وما تستنبط علّته بيقين من القياس الحجّة.

المورد الثاني

أنّ من أسباب خروج الملك عن كونه طلقاً صيرورة المملوكة أمّ ولد لسيّدها، وهل يختصّ المنع عن التصرّف فيها بخصوص البيع، أو يعمّ مطلق المعاوضة، أو مطلق النقل ولو لم يكن معاوضة كالهبة؟

أقوال، والمحقّق النائيني قوّى الأخير، حيث قال: (إنّ الأحكام المترتّبة على العقود تارةً يستفاد من نفس أدلّتها أو من مناسبة الحكم والموضوع أنّها مختصّة بالبيع، ولا تجري في غيره كخيار المجلس والحيوان، وأخرى يستفاد أنّها جارية في مطلق المعاوضة بيعاً كانت أو صلحاً أو إجارةً كتلف المبيع قبل قبضه.. وثالثةً يستفاد أنّها جارية في مطلق النقل والانتقال ولو لم يكن معاوضة، كالهبة ونقل أمّ الولد، فإنّه لا يجوز نقلها عن ملك سيّدها ولو بالهبة، فإنّ من مناسبة الحكم والموضوع يستفاد أنّ الاستيلاد مانع عن التصرّفات الناقلة)(2).

ومراده من قوله: (يستفاد من نفس أدلّتها أو من مناسبة الحكم والموضوع)، أنّ

ص: 246


1- يلاحظ: كتاب الصلاة (تقرير الشيخ محمّد عليّ الكاظمي): 2/ 325 - 326.
2- منية الطالب في حاشية المكاسب: 1/ 355.

الدليل قد يكون دالَّاً بمفرده، وقد يكون دالَّاً بضميمة مناسبة الحكم والموضوع، فلا يرد عليه أنّ مناسبة الحكم والموضوع قرينة وليست دليلاً. والمراد من مناسبة الحكم والموضوع في هذا المقام وإن لم يذكره صراحةً أنّ الغرض من تشريع المنع من بيع أمّ الولد هو استبقاؤها في ملك من استولدها حتّى يموت، فتصير من سهم ولدها منه، فتنعتق، وهذا الغرض - أي حرّية أمّ الولد - ينتقض بكلّ تصرّف ناقل لا بخصوص البيع، فلو صالح من استولدها شخصاً فنقلها إليه انتقض هذا الغرض، وهو وصولها الى الحرّية بعد الموت.

المورد الثالث

في تخصيص خيار الحيوان بالحيوان الذي يقصد منه حياته، مع أنّ ظاهر النصّ والفتوى شموله لكلّ ذي حياة، بدعوى أنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع اختصاص هذا الخيار بالحيوان المقصود منه حياته لا لحمه، فالصيد المشرف على الموت والسمك والجراد اللذان يقصد منهما اللحم نوعاً وإن قصد نادراً حياتهما خارجة عن هذا العموم(1).

ومناسبة الحكم والموضوع هنا يستفاد منها تضييق موضوع الحكم، وهذا يحتمل فيه دعوى الانصراف من وجه، ويحتمل تنقيح المناط من وجه آخر، لكنّه بتنقيح المناط أشبه.

المورد الرابع

ما ذكره (قدس سره) في خيار الحيوان، وحاصله: أنّ خيار الحيوان لمن انتقل إليه بائعاً كان أو مشترياً أو كليهما، دون من انتقل عنه؛ لعدم الدليل على ثبوته له إلّا صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: (المتبايعان بالخيار ثلاثة أيّام

ص: 247


1- يلاحظ: منية الطالب في حاشية المكاسب: 2/ 31.

في الحيوان، وفيما سوى ذلك مِن بيع حتّى يفترقا)(1)؛ فإنّه بإطلاقه يشمل ما إذا كان الثمن أو المثمن أو كلاهما حيواناً، ولكن يمكن تقييده بصحيحه الآخر عنه (علیه السلام) ، قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : البيّعان بالخيار حتّى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيّام)(2). فيصير المراد من المتبايعين بعد التقييد بصاحب الحيوان من انتقل إليه الحيوان، فيحمل على مورد يكون الثمنان حيوانين.

ثمّ أورد على التقييد بأنّ اتّحاد السياق يقتضي أن يكون ثبوت الخيار في بيع الحيوان وغيره - الذي ثبت فيه خيار المجلس - على نهجٍ واحد، وخيار المجلس أمر قائم بالمتبايعين بالنسبة إلى الثمن والمثمن، فخيار الحيوان لو كان للمنتقل إليه خاصّة، يلزم أن يرتكب شبه استخدام في قوله: (المتبايعان بالخيار)، أي يراد منه تعلّق الخيار بالنسبة إلى غير الحيوان بالثمن والمثمن، وبالنسبة إلى الحيوان بأحدهما.

وأجاب عنه بأجوبة عدّة منها: أنّ هذه الصحيحة الدالّة بإطلاقها على ثبوت الخيار لهما معارضة مع رواية قرب الإسناد الصريحة في عدم ثبوت الخيار للبائع إذا كان المبيع حيواناً، ولا سيّما التعليل الوارد فيها بقوله (علیه السلام) : (الخيار لمن اشترى نظرة ثلاثة أيّام)(3)؛ فإنّ العلّة وإن كانت حكمة التشريع، وهي لا تقتضي الاطّراد، إلّا أنّه

ص: 248


1- تهذيب الأحكام: 7/ 23 - 24، باب عقود البيع، ح16.
2- الكافي: 5/ 170، باب الشرط و الخيار في البيع، ح5.
3- قرب الإسناد (ط الحديثة): 167. عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد، عن أحمد وعبد الله ابني محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل اشترى جارية، لمن الخيار، للمشتري، أو البائع، أو لهما كليهما؟ قال: فقال: (الخيار لمن اشترى ثلاثة أيّام نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيّام فقد وجب الشراء).

بمناسبة الحكم والموضوع يستكشف مناط جعل الخيار، وأنّه للمنتقل إليه دون المنتقل عنه(1).

أقول: مناط جعل الخيار في الحيوان هو النظر والاختبار، فإنّ الحيوان قد يكون مريضاً ولكن يعرضه النشاط والصحّة، فقد تشتري حيواناً من السوق وتراه حين المعاملة سليماً، وتذهب به إلى البيت فيسقط، وقد يعطى بعض الحيوانات ما يوجب نشاطه، فيذهب به المشتري إلى البيت فيسقط، وإذا كان هذا هو حال الحيوانات فيعطى من انتقل إليه الحيوان مهلةً، فيجعل له الخيار إلى ثلاثة أيّام، فالمناط من جعل خيار الحيوان يوجب أنّ الخيار قد جعل لمن انتقل إليه الحيوان دون من انتقل عنه، فضلاً عن أن يكون لمن انتقل عنه خاصّة.

ومراده من مناسبة الحكم والموضوع هنا هو معرفة مناط جعل الحكم، أي: تنقيح مناط الحكم بيقين، واستكشاف علّة جعله، ولكن هذه العلّة المستنبطة لا تجعل من هذا الاستدلال قياساً في الشرع؛ لأنّ القياس ما كانت علّته مستنبطة بظنّ، وهذا الاستنباط مستند إلى قياس مستنبط العلّة بيقين، وهو المعبّر عنه بتنقيح المناط.

المورد الخامس

تنقيح متن رواية: (لا ضرر ولا ضرار)؛ فإنّه قد وردت في هذه الرواية زيادتان في بعض كتب الحديث، وحاول المحقّق النائيني توظيف قرينة مناسبة الحكم والموضوع لمعالجة هذا الأمر.

وبيان ذلك: أنّ الشيخ الصدوق (قدس سره) في كتاب من لا يحضره الفقيه، روى الحديث عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بزيادة كلمة: (في الإسلام)، إلّا أنّ هذه الزيادة حيث لم تثبت

ص: 249


1- يلاحظ: منية الطالب في حاشية المكاسب: 2/ 33.

في شيء من مسانيد أصحابنا فلا عبرة بها أصلاً(1).

وفي الكافي جاء هذا الحديث بزيادة كلمة (على مؤمن)(2)، إلّا أنّ المحقّق النائيني ردّ هذه الزيادة لوجهين مع ورودها في الكافي، وشدّة اعتماده عليه، حتّى أنّه عدّ المناقشة في أسانيده حرفة العاجز(3)، أي العاجز عن فقه الرواية، وقال في بيان ذلك أنّ الرواية المشتملة عليها وإن كانت من طرقنا، ويكفي في ثبوتها وجودها في الكافي،

ص: 250


1- يلاحظ: من لا يحضره الفقيه: 4/ 334، ح5718، وسائل الشيعة: 26/ 14، ح32382.
2- الكافي: 10/ 485 - 486، باب الضرار، ح8: عن عليّ بن محمّد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن عبد الله بن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: (إنّ سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري، فقال له الأنصاري: يا سمرة، لا تزال تفاجئنا على حال لا نحبّ أن تفاجئنا عليها، فإذا دخلت فاستأذن، فقال: لا أستأذن في طريق، وهو طريقي إلى عذقي). قال: (فشكاه الأنصاري إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فأرسل إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فأتاه، فقال له: إنّ فلاناً قد شكاك، وزعم أنّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل. فقال: يا رسول الله، أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : خلّ عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا، فقال: لا، قال: فلك اثنان، قال: لا أريد، فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذاق، فقال: لا، قال: فلك عشرة في مكان كذا وكذا، فأبى، فقال: خلّ عنه ولك مكانه عذق في الجنة، قال: لا أريد، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن). قال: (ثمّ أمر بها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فقلعت، ثمّ رُمي بها إليه، وقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : انطلق فاغرسها حيث شئت).
3- حكى السيّد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 1/ 81 أنّه سمع ذلك من المحقّق النائيني (قدس سره) في مجلس الدرس.

إلّا أنّ استفاضة هذا الحديث بدون هذه الزيادة من طرق الفريقين توجب وهناً فيها.

وهذا لا شأن لنا به؛ لعدم دخله فيما هو المهمّ في المقام.

والوجه الآخر لردّ هذه الزيادة أنّه يحتمل أن يكون الراوي الواحد زادها من جهة المناسبة بين الحكم والموضوع، لا خيانةً، وأنّ المؤمن هو الذي تشمله العناية الإلهية، ويستحقّ أن يُنفَى عنه الضرر امتناناً(1).

فمناسبة الحكم والموضوع هنا تدخّلت في معرفة الحكمة من تشريع (نفي الضرر)، وهو الامتنان، والامتنان لا يناسب غير المؤمن، فدور مناسبة الحكم والموضوع هنا بعد تشخيص غاية التشريع وحكمته تنقيح متن الخبر، وأنّ هذه الزيادة من الراوي لهذه المناسبة.

المورد السادس

ما بيّنه المحقّق النائيني (قدس سره) في معرض كلامه عن الصلاة على الراحلة من أنّ الوصف العنواني الذي يؤخذ في موضوع دليل الحكم: (تارةً: بمناسبة الحكم والموضوع يكون المتفاهم منه عرفاً أنّ للوصف العنواني دخلاً في موضوع الحكم حدوثاً وبقاءً، كما في قوله: (أعطِ الزكاة الفقير)؛ فإنّ العرف يرى بمناسبة الحكم والموضوع أنّ لوصف الفقر دخلاً في الحكم بإعطاء الزكاة، فلو زال الفقر يكون من باب زوال الموضوع، وكذلك قوله: (قلّد المجتهد العادل)، وأمثال ذلك ممّا يكون للوصف في نظر العرف دخل في الحكم.

وأخرى لا يرى العرف للوصف العنواني دخلاً في الموضوع بحسب مرتكزاته وما يراه من مناسبة الحكم والموضوع، بل يرى الوصف معرّفاً ومن قبيل العلّة

ص: 251


1- يلاحظ: منية الطالب في حاشية المكاسب: 3/ 365.

للحكم لا أنّه جزء موضوع له، كقوله: (الماء المتغيّر نجس)، فإنّ العرف يفهم أنّ معروض النجاسة إنّما هو جسم الماء لا وصف التغيّر، وإنّما أخذ التغيّر علّة لعروض هذا الحكم على نفس الماء(1)، ومن هنا يرى النجاسة باقية ببقاء الماء وإن زال التغيّر، بحيث لو فرض حكم الشارع بالطهارة عند زواله يرى من باب ارتفاع الحكم عن موضوعه مع بقائه، لا ارتفاعه بارتفاعه(2).

ومناسبة الحكم والموضوع في (أعطِ الفقير الزكاة) تنقّح لنا حكمة التشريع، ومناط جعل الحكم، أي: العلّة المستنبطة بيقين، فإنّ الغاية من إعطاء الفقير الزكاة هي الإعانة، فإذا صار غنياً فلا معنى لإعانته ومساعدته لانتفاء الموضوع، فالحكم يدور مدار تحقّق وصف الفقر حدوثاً وبقاءً، وهذا أمرٌ يفهمه العرف، وكذلك يفهم العرف بضميمة مناسبة الحكم والموضوع أنّ موضوع جواز التقليد هو عنوان الاجتهاد حدوثاً وبقاءً.

وأمّا تغيّر الماء بالنجاسة فإنّ مناسبة الحكم والموضوع تنقّح لنا أنّ عنوان التغيّر حيثيّة تعليليّة في الحكم لا دخل لها في الموضوع عرفاً؛ فإنّ النجاسة بنظر العرف من الأعراض القائمة بذوات الأشياء، فيكون موضوع النجاسة هو ذات الماء، ويكون الموضوع محفوظاً عرفاً عند زوال التغيّر عن الماء، بحيث لو قام دليل على طهارته

ص: 252


1- تعبيره (قدس سره) بأنّ التغيّر علّة لعروض الحكم على نفس الماء، موهم لإرادة الواسطة في العروض، ومقصوده أنّه واسطة في الثبوت؛ فإنّ الواسطة في العروض جزء من الموضوع، بخلاف ما نحن فيه، فإنّه حيثية تعليلية.
2- يلاحظ: كتاب الصلاة (تقرير الشيخ محمّد عليّ الكاظمي): 1/ 173.

كان ذلك بنظر العرف من ارتفاع الحكم مع بقاء موضوعه، لا رفع الحكم بارتفاع موضوعه، وهذا منبّه وجداني.

المورد السابع

ما ذكره في مسألة اشتراط الستر في جميع أجزاء الصلاة وأكوانها حتّى السكنات المتخلّلة، فإنّ الظاهر من اعتبار الستر في الصلاة بحسب استظهاره هو اعتباره في جميع الصلاة حتّى في الهيئة الاتّصالية، هذا مع أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي ذلك، حيث إنّه لا يناسب الوقوف بين يدي الجبّار مع كونه مكشوف العورة، ولو في آنٍ من الآنات(1).

والذي يظهر من كلامه أنّ مناسبة الحكم والموضوع هنا دليل وليست قرينة، فلا يوجد دليل تصرّفت هذه المناسبة في ظاهره، حتّى نحكم بأنّها قرينةً، فلعلّه ذكر هذا الوجه من غير ملاحظة هذه الجهة مع أنّها تكرّرت في كلماته فقهاً وأصولاً، ولعلّه يفهم ممّا دلّ على اعتبار الستر في الصلاة إرادةَ الستر في جميع أجزاء الصلاة وأكوانها المتخلّلة من خلال هذه المناسبة فتكون قرينة، ولكن عبارته لا تعطي هذا المعنى.

المورد الثامن

ما ذكره في وجه عدم بطلان النافلة بالشكّ من أنّه يمكن أن يكون ذلك لأجل مناسبة الحكم والموضوع، والتوسعة في النافلة بما لا يوسّع في الفريضة(2).

المورد التاسع

ما ذكره في بعض فروع صلاة الجماعة، وقال أنّه يظهر من كلام السيّد اليزدي في العروة(3) من أنّ إدراك الركوع ليس شرطاً في إدراك الركعة، بل

ص: 253


1- يلاحظ: كتاب الصلاة (تقرير الشيخ محمّد عليّ الكاظمي): 1/ 393.
2- يلاحظ: كتاب الصلاة (تقرير الشيخ محمّد عليّ الكاظمي): 2/ 290.
3- يلاحظ: العروة الوثقى: فصل في الجماعة، مسألة 24.

آخر ما يدرك به الركعة هو الركوع، ويكفي في إدراك الركعة إدراكه قبل الركوع ولو لم يدرك الركوع، ولكن خصّ ذلك بالركعة الأولى، ولم يعتبر في سائر الركعات إدراك شيءٍ أصلاً.

وقال في الاعتراض عليه: (إطلاق ما تقدّم من الأخبار على اعتبار إدراك الركوع في إدراك الركعة يقتضي اعتبار ذلك في كلّ ركعة؛ إذ الحكم في إدراك جنس الركعة قد علّق على إدراك الركوع وإن كان مورد تلك الأخبار هو الركعة الأولى في اتّباع الصلاة، إلاّ أنّ الخصوصية الموردية ممّا لا دخل لها، مضافاً إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي ذلك أيضاً؛ إذ مقتضى المناسبة الحكمية هو اعتبار إدراك المأموم لشيءٍ من ركعة الإمام، وعلى كلّ حال يكفي عدم قيام الدليل على كفاية إدراك الركعة الأولى في اعتبار ذلك في كلّ ركعة، فتأمّل جيّداً)(1).

ومنه يظهر أنّ إلغاء الخصوصية يختلف عن مناسبة الحكم والموضوع. كما أنّ ظاهر كلامه يُوحي بأنّ مناسبة الحكم والموضوع دليلٌ، وهو خلاف ما صرّح به.

الثالث: موارد اعتماد المحقّق الحائري (قدس سره) (ت 1355ﻫ)

المورد الأول

ما قاله في صلاة المسافر من أنّ: (السفر في معصية الله أو لغاية محرّمة من جهة عدم صلاحية صدوره عن العباد أوجب الله فيه إتمام الصلاة والصوم، ولم يستوجب المكلّف السائر بهذا السير الموجب لسخط الشارع الإرفاق الملحوظ لسائر المسافرين في السفر المباح، ويدلّ على ذلك مضافاً إلى مناسبة الحكم

ص: 254


1- كتاب الصلاة (تقرير الشيخ محمّد عليّ الكاظمي): 2/ 367 - 375.

والموضوع في المقام تعليل لزوم التمام في بعض الأخبار بأنّه مسير باطل.. إلى آخر كلامه(1).

ويظهر من كلامه أنّه يعدّ مناسبة الحكم والموضوع دليلاً مستقلَّاً وليس قرينة، كما أنّه اعتمد على مناسبة الحكم والموضوع في العبادات المحضة.

المورد الثاني

ما قاله في صلاة المسافر أيضاً من أنّ المتردّد ثلاثين يوماً يتمّ، قال: (وهو أيضاً مقتضى المناسبة بين الحكم والموضوع بحسب الارتكاز العرفي حيث إنّ المركوز في أذهانهم أنّ المسافر إذا أقام مدّةً في بلدةٍ يسلب عنه اسم المسافر، فحدّد الشارع تلك المدّة بمضي ثلاثين يوماً، وهذه المناسبة الارتكازية أيضاً تقتضي كون المناط في الإتمام مضي ثلاثين يوماً دون الشهر وإن وقع في أكثر الروايات التعبير به؛ لأنّ ظاهر التحديد أنّ القاطع طول الزمان وكثرة الأيّام من دون خصوصيته في الشهر وما بين الهلالين)(2).

ولا يخفى أنّ موضوع الحكم بوجوب القصر هو السفر، ومن تردّد ثلاثين يوماً في بلدة سلب عنه اسم المسافر، فعدم وجوب القصر لعدم تحقّق الموضوع، وهو عنوان المسافر، فأين هذا من مناسبة الحكم والموضوع المعدود قرينةً ارتكازية، فإنّه يكفي في بيان مقصوده أن يقول إنّ المتردّد ثلاثين يوماً في بلدةٍ لا يصدق عليه عنوان المسافر، فلا يجب عليه القصر، فلا نحتاج إلى إقحام شيء غير بيّن ولا مبيّن، مع أنّ الاستدلال يستقيم من دونه. ثمّ إنّه ذكر أنّ العرف يرى أنّ المتردّد في بلدة (مدّةً

ص: 255


1- يلاحظ: كتاب الصلاة (المحقّق الحائري): 610.
2- كتاب الصلاة (المحقّق الحائري): 642.

طويلة) لا يصدق عليه عنوان المسافر، ثمّ تدخّل الشرع في تحديد هذه المدّة التي يرتفع معها عنوان المسافر بثلاثين يوماً، كما تدخّل في تحديد المسافة في السفر بخمسة فراسخ أو مسير يوم.

نعم، قد ورد في أكثر الروايات عنوان الشهر، إلّا أنّ المراد به ثلاثون يوماً، ولا عبرة بما بين الهلالين؛ وذلك لأنّ الشهر في تلك النصوص بيان للمدّة الطويلة، وبمناسبة الحكم والموضوع نفهم أنّ عنوان المسافر يزول بالعدد الكثير، لا بوقوع هذه المدّة ما بين هلالين.

ولكن من الواضح أنّ ما بين الهلالين مدّة، وطول المدّة وقصرها أمرٌ نسبيّ يختلف في نظر العرف من مورد لآخر بلحاظ أغراض الناس وأثر هذه المدّة فيها، فإذا كان العرف يرى أنّ الثلاثين يوماً مدّة طويلة فما بين الهلالين كذلك، فالمدّة هي هي، غايته أنّ الثلاثين يوماً مدّة منضبطة بخلاف الشهر، وهذا الاختلاف لا يؤثّر في الحكم الشرعي، ويدلّ على ذلك وجوب الصيام فيما بين هلالين، فلا يقال: إنّ موضوع الحكم غير منضبط، فلا يصحّ تعلّق التكليف الشرعي به؛ لأنّ التكاليف الشرعية يجب أن تكون موضوعاتها منضبطة؛ لأنّه يقال: إنّ هذا المقدار من عدم الانضباط مع وجود علامات مبيّنة للموضوع يرفع المحذور في تعلّق التكليف به، فما عدّه مناسبة بين الحكم والموضوع غير واضح.

المورد الثالث

ما قاله من أنّه: لا ريب في اشتراط التوالي بين الأيّام؛ للمناسبة بين الحكم والموضوع، بل وظهور نفس القضية في اعتباره كما لا يخفى(1).

ص: 256


1- يلاحظ: كتاب الصلاة (المحقّق الحائري): 642.

والذي يظهر من كلامه أنّ مناسبة الحكم والموضوع هنا دليلٌ لإثبات الحكم، وإن أمكن تأويل كلامه، وذلك بأن نحمل كلامه على أنّ الروايات المبيّنة لحكم المتردّد ثلاثين يوماً ظاهرة بمناسبة الحكم والموضوع في إرادة ثلاثين يوماً متوالية، فتكون قرينة لا دليلاً.

ولكنّ هذا التأويل محلّه إذا جزمنا بأنّ مناسبة الحكم والموضوع عنده قرينة، فيسهل علينا التأويل، ولكن المشكل أنّ ظاهر عبارته الاستدلال بمناسبة الحكم والموضوع، وهو لم ينقّح حقيقة هذه المناسبة حتّى نستفيد من كلامه أنّها قرينة، فلا قرينة تعيننا على تأويل كلامه، وحمله على خلاف ظاهره.

الرابع: موارد اعتماد المحقّق الأصفهاني (قدس سره) (ت 1361)

المورد الأوّل

في تقرير دلالة آية النبأ على حجّية خبر الواحد، قال: (نعم، كلّ ذلك مبنيٌّ على تسليم ظهور الآية بمناسبة الحكم والموضوع في علّية الفسق للحكم، لا للتنبيه على فسق المخبر، وهو الوليد في خصوص المورد)(1).

فمناسبة الحكم والموضوع هنا جعلت الحكم يدور مدار فسق المخبر، مع قطع النظر عن كون المفهوم من مفهوم الوصف أو اللقب أو الشرط، فالآية كقوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : (مطل الغني ظلم)(2).

وقد ردّ الشيخ المظفّر (قدس سره) استدلال من أثبت حجّية مفهوم الوصف مطلقاً

ص: 257


1- نهاية الدراية في شرح الكفاية: 3/ 203.
2- من لا يحضره الفقيه: 4/ 380، وعدّه من ألفاظ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الموجزة التي لم يسبق إليها. وفي لسان العرب: 11/ 624 المطل: التسويف والمدافعة بالعدة والدين.

بالجمل التي ثبتت دلالتها على المفهوم كهذا الحديث، بأنّه لا مانع من دلالة التقييد بالوصف على المفهوم في بعض الموارد لوجود قرينة، وفي خصوص المثال نجد القرينة على إناطة الحكم بالغنى من جهة مناسبة الحكم والموضوع، فيفهم أنّ السبب في الحكم كون المدين غنياً، فيكون مطله ظلماً، بخلاف المدين الفقير؛ لعجزه عن أداء الدين، فلا يكون مطله ظلماً(1). وكذلك مفهوم اللقب فإنّه لا دلالة فيه على المفهوم، لكنّهم ذكروا أنّ بعض الجمل اللقبية ظاهرة في الانتفاء عند الانتفاء، لمناسبة الحكم والموضوع.

المورد الثاني

في أنّ الأمر بالوفاء العقدي في قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، قد يدّعى أنّه إرشاد إلى اللزوم الوضعي، فهو معقول في حدّ ذاته، ويمكن تقريبه بأن يقال: إنّ الأوامر والنواهي وإن كانت ظاهرة في التكليف والمولوية، لكنّها في باب المعاملات ظاهرة في الإرشاد، كما يقال بظهورها في باب الأجزاء والشرائط في التكليفات في الإرشاد إلى الجزئية والشرطية، فيكون للأوامر والنواهي ظهوراً ثانوياً في الإرشاد في بابي المعاملات والأجزاء والشرائط.

لكنّه (قدس سره) ردّ هذا التقريب بأنّ المسلّم من ذلك لو تعلّق الأمر والنهي بنفس المعاملات، مثل: (لا تبيعوا ولا تشتروا)، لا مثل الأمر بالوفاء والنهي عن النقض، فإنّه فيها على ظاهره الأوّلي في المولوية كما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع، ويشهد به مدح المؤمنين بالوفاء، وذمّ المنافقين على النقض.

قال (قدس سره) في مقام تقريب المولوية في مثل الأمر بالوفاء: (إنّ مناسبة الحكم

ص: 258


1- يلاحظ: أصول الفقه: 1/ 136.

والموضوع فيه تقتضي مولوية الأمر والنهي؛ فإنّ الآيات الواردة في باب الوفاء والنقض والنكث، وتوصيف المؤمنين بالوفاء بالعهد والميثاق، وتوصيف غيرهم بأنّه لا عهد لهم، ولا يمين لهم، كلّها شاهدة على أنّ مساقها مساق التكليف لا الإرشاد، فالأظهر كون الأمر بالوفاء والنهي عن النقض مولوياً، وحينئذٍ يشكل استفادة اللزوم الوضعي منه، بل يدلّ الأمر والنهي المولويان على خلافه، للزوم تعلّقهما بالمقدور في وعاء الامتثال، فيدلّان على أنّ العقد قابل للحلّ)(1).

وهذا المورد من الموارد التي لم يكن دور مناسبة الحكم والموضوع فيها التعميم أو التخصيص، بل دورها تبديل الظهور الثانوي للأوامر والنواهي الواردين في المعاملات في الإرشاد، وردّه إلى الظهور الأوّلي في الأوامر والنواهي، فإنّهما بالظهور الأوّلي ظاهران في المولوية، فالأمر والنهي وإن وردا في معاملة، إلّا أنّهما ظاهران في المولوية لمناسبة الحكم والموضوع.

ولعلّ وجه دلالة مناسبة الحكم والموضوع في كلامه على المولوية، هو أنّ الوفاء فعل من أفعال العباد الاختيارية، والذي يناسبه من الأحكام هو الوجوب أو الحرمة، كما أنّ النقض من أفعالهم الاختيارية، ويناسبه البعث أو الزجر، بخلاف الاعتبارات، فإنّ الذي يناسبها هو الإرشاد إلى الحكم الوضعي، فلو ورد (بيعوا أو لا تبيعوا)، فحيث إنّنا نجزم بأنّ متعلّق الأمر أو النهي ليس هو التسبّب إلى البيع، بل هو الاعتبار المعاملي، وأعني به: (المعتبَر الجعلي)، وهذا يناسبه الإرشاد إلى الحكم الوضعي، وأنّ هذا الاعتبار مُمضى أو غير ممضى.

ص: 259


1- يلاحظ: حاشية كتاب المكاسب: 1/ 146 - 147.
المورد الثالث

في أنّ الصبيّ يضمن بالإتلاف، فقد ذكر أنّ حديث رفع القلم لا يجري في المقام؛ لدعويين:

الأولى: أنّ حديث رفع القلم واردٌ مورد الامتنان، فإذا كان رفع القلم امتناناً على الصبيّ وخلاف الامتنان على صاحب المال المتلَف فلا يجري؛ إذ لا ترجيح له عليه، وبنظيره نقول بثبوت الضمان في الإتلاف خطأً ونسياناً، وعدم رفعه بحديث رفع الخطأ والنسيان.

وهذا ليس موضع كلامنا.

والأخرى - وهي التي تهمّنا في هذا الموضع -: أنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع كون المرفوع عنه هو كلّ أثر يناط ترتّبه على الفعل بالعقل وكماله واستشعار الفاعل، فهو مرفوع عن المجنون والصبيّ والنائم؛ لفقد العقل في الأوّل، وفقد كماله - نوعاً - في الثاني، وفقد الشعور في الثالث، والضمان مترتّب على مجرّد الإتلاف لا على كون المتلِف عاقلاً(1).

وهنا يحتمل أن يكون مراده بمناسبة الحكم والموضوع الانصراف، ويحتمل أن يكون المراد هو معرفة حكمة التشريع، ويحتمل أن يراد تنقيح المناط.

المورد الرابع

في خيار العيب إذا زال العيب قبل العلم به، قال: وأمّا قاعدة نفي الضرر فمقتضى مناسبة الحكم والموضوع وإن كان دوران الخيار مدار الضرر وجوداً وعدماً إلّا أنّ غايته عدم الدلالة على بقاء الحكم بعلّية الضرر، لا عدم بقائه رأساً ولو بعلّة أخرى، فإنّ العلّية أمر، وكونها منحصرةً أمر آخر، ومناسبة الحكم والموضوع

ص: 260


1- يلاحظ: حاشية كتاب المكاسب: 2/ 23.

وعدم الإطلاق لدليله لا يقتضي إلّا الأوّل دون الآخر، فيبقى مجال لاستصحاب الخيار(1).

وفي هذا المورد ربّما رجعت مناسبة الحكم والموضوع إلى الانصراف، وربّما رجعت إلى التقييد العمدي.

المورد الخامس

وهو من الكلمات المهمّة في هذا الباب، فإنّنا نظرنا في كلمات الأعلام قبل المحقّق الأصفهاني (قدس سره) فوجدنا كلماتهم عامّةً تعطي أنّ مناسبة الحكم والموضوع من القرائن المؤثّرة على دلالة الكلام تضيّق تارةً موضوع الحكم، وتوسّعه أخرى، ولم نجد ضابطةً في كلماتهم لتعريف مناسبة الحكم والموضوع، وأمّا الذي وجدناه في كلامه هذا، فهو خارج عن كلّ هذه السياقات، فإنّه في بحث اشتراط وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة في جريان الاستصحاب، وأنّ العبرة ببقاء الموضوع على نظر العرف، جاء في ذلك الموضع ببيان يختلف عن بيانات سائر العلماء لمناسبة الحكم والموضوع، بل يختلف عن بياناته نفسه في مواضع أخر، حيث نفى كون مناسبة الحكم والموضوع قرينةً، وعدّها طريقاً لاكتشاف موضوع الحكم بشكل مباشر، وبتعبير آخر جعل مناسبة الحكم والموضوع دليلاً مستقلَّاً.

قال (قدس سره) : (إنّ للعرف نظرين:

أحدهما: بما هو من أهل المحاورة، ومن أهل فهم الكلام، وبهذا النظر يحدّد الموضوع الدليلي، ويستفيد من الكلام، فيرى أنّ الموضوع في قوله: (الماء المتغيّر نجس) هو الماء المتغيّر بما هو متغيّر.

ص: 261


1- يلاحظ: حاشية كتاب المكاسب: 4/ 518.

وثانيهما: بما ارتكز في ذهنه من المناسبة بين الحكم وموضوعه على خلاف ما هو متفاهم الكلام، فيرى أنّ الموضوع في المثال المزبور ذات الماء، وأنّ التغيّر واسطة في ثبوت النجاسة؛ لما ارتكز في ذهنه من أنّ النجاسة من عوارض الماء، لا من عوارض الماء والتغيّر، وأنّ النجاسة من عوارض جسم الكلب، لا من عوارض جسمه ونفسه الحيوانية وإن كان المفهوم من الكلب المجعول موضوعاً في لسان الدليل هو الحيوان الخاصّ، وحينئذٍ فمنشأ الشكّ في بقاء النجاسة: هو أنّ التغيّر كما أنّه واسطة في حدوث النجاسة لذات الماء، هل هو واسطة لها بقاءً أم لا؟ وأنّ الحياة واسطة في حدوث النجاسة لجسم الكلب، فهل هي واسطة لها بقاءً أيضاً أم لا؟

ولا يخفى عليك أنّ ما ارتكز في ذهن العرف من المناسبة أو غيرها، لا بدّ من أن لا يكون من القرائن الحافّة بالكلام، بحيث يمنع من انعقاد الظهور في ما هو مدلول اللفظ لولاه، ولا من القرائن المنفصلة المتّبعة في رفع اليد عن الظهور المستقرّ، فإنّه على التقديرين يكون محدّداً للموضوع الدليلي، لا موضوعاً في قبال الموضوع الدليلي، كما هو محلّ الكلام)(1).

وبيان مرامه (قدس سره) أنّ للعرف نظرين في تحديد موضوعات الأحكام:

الأوّل: أن يفهم العرف بما هو من أهل المحاورة، ومن أهل فهم الكلام، أنّ موضوع حكم الشرع بالنجاسة في قوله مثلاً: (الماء المتغيّر نجس) هو الماء المتغيّر بما هو متغيّر، فللسامع حينئذٍ أن ينسب كون موضوع الحكم هو الماء المتغيّر بوصف التغيّر للمتكلّم.

ص: 262


1- نهاية الدراية في شرح الكفاية (ط مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) ): 5/ 231 - 232.

والآخر: أن يرى العرف أنّ النجاسة ليست من عوارض الماء المتغيّر بما هو متغيّر، بل هي من عوارض نفس الماء، والتغيّر حيثية تعليلية لثبوت الحكم، وكذلك لو قال الشارع: (الكلب نجس)، فإنّ النجاسة من عوارض جسم الكلب، لا من عوارض نفسه الحيوانية، وهذا تصرّف في الموضوع سوّغته تلك المناسبات الارتكازية، فالكلب - بحسب الدلالة الكلامية - هو الحيوان الخاصّ المؤلّف من جسم وروح، ولكن عندما تقول: (الكلب نجس) لا يفهم العرف أنّ روح الكلب نجسة، وما ذلك إلّا بسبب أنّهم يرون بحسب ارتكازهم أنّ النجاسة ممّا تعرض الأجسام لا الأرواح، فالعرف يتصرّف في موضوع الحكم وإن لم يتصرّف في الدلالة اللغوية، فمفهوم الكلب المجعول موضوعاً في لسان الدليل باقٍ على ما هو عليه قبل قيام هذه المناسبة الارتكازية، وظهور كلمة الكلب المستعملة في قوله: (الكلب نجس) في معناها الحقيقيّ مستقرّ لم ينهدم، فلا الحجّية تغيّرت ولا الإرادة الجدّية على خلاف الإرادة الاستعمالية.

وحاصل كلامه: أنّ الطريق الأوّل في تحديد الموضوع الدليلي هو الكلام سواء كان بدلالته الوضعية فحسب، أو بالدلالة الوضعية مع القرينة كما في الاستعمالات المجازية، والقرينة قد تكون متّصلة، وقد تكون منفصلة توجب رفع اليد عن الحجّية مع بقاء الدلالة، لكن كلّ هذا مرتبط بالموضوع الدليلي، ويوجد طريق آخر لتحديد موضوع الحكم غير البيان الشرعي، وهو الارتكاز العرفي الذي منه مناسبة الحكم والموضوع، وهو لا يغيّر من دلالة الألفاظ، فلذا لا ينسب العقلاء فيه تحديد موضوع الدليل للمتكلّم، فلا يقولون قال المتكلّم كذا، أو أراد كذا، بل يقولون موضوع حكمه في صفحة التشريع هو هذا الحكم.

ص: 263

وهذا البيان دعوى لا بيّنة ولا مبيّنة.

ويجدر بنا في هذا المقام الإشارة إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع في كلمات الأعلام تقترن غالباً بكلمة الارتكاز، وقد رتّب المحقّق الأصفهاني (قدس سره) على ذلك ما عرفته منّا من أنّ مناسبة الحكم والموضوع دليل مستقلّ؛ لأنّها مرتبطة بالارتكاز فهي أجنبية عن الدلالات اللفظية الكلامية. وبعبارة أخرى تكون مرتبطة بمرحلة الثبوت لا مرحلة الدلالة والإثبات. وعليه فالعرف يرى بمقتضى مرتكزاته مع قطع النظر عن أيّ لسان يتحدّث به، وأيّ بيانٍ بيّن به هذا الحكم سواء كان لفظياً، أم لبّياً، أنّ الموضوع لهذا الحكم كذا، والموضوع لذاك الحكم كذا، فالمسألة ترتبط بالارتكاز بين الموضوع والحكم مع قطع النظر عن الدلالة.

الخامس: موارد اعتماد السيّد الخوئي (قدس سره) (ت 1411ﻫ)

اشارة

وسنقتصر هنا على استقصاء بعض الموارد التي اعتمد فيها السيّد الخوئي (قدس سره) على مناسبة الحكم والموضوع، أو تعرّض لاعتماد أحد من العلماء عليها، قاصرين النظر على العبادات الصرفة، للتأكيد على أنّ الفقهاء يجرون هذه المناسبات الارتكازية في أبواب العبادات، مع أنّها يمكن أن ترجع إلى حكمة التشريع أو تنقيح المناط، ولذلك أكثروا من الاعتماد عليها في باب المعاملات والطهارة دون العبادات، ومع أنّ الموارد التي اعتمد فيها السيّد الخوئي على مناسبة الحكم والموضوع في الفروع المختلفة من الأبواب الفقهية لا تحصى، لكنّنا آثرنا ترك موارد اعتماده عليها في كتاب الطهارة؛ لأنّه لا يرى الطهارة تعبّداً صرفاً، كما تركنا موارد اعتماده عليها في المعاملات؛ لأنّها ليست تعبّدية، وصنيعنا هذا لهذه النكتة التي أسلفناها.

ص: 264

المورد الأول

في توسعة وقت صلاة الليل في الليالي القصار، وقد دلّت صحيحة ليث المرادي على أنّه يجوز أن يقدّمها المكلّف على الانتصاف، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الصلاة في الصيف في الليالي القصار صلاة الليل في أوّل الليل، فقال: (نعم، نِعم ما رأيت، ونِعم ما صنعت)(1). إلّا أنّ الكلام وقع في أنّ جواز التقديم أو التوسعة بالإضافة إلى المصلّي في الليالي القصار، هل هو مطلق، أو مقيّد بما إذا خاف الفوات، أو بما إذا صعب عليه القيام في آخر الليل؟ وأجاب عن ذلك بأنّ: (مقتضى الأخبار الواردة في المقام هو الإطلاق.. إلّا أنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع أو القرينة العرفية هو اختصاص الحكم بما إذا خاف الفوات على تقدير تأخيرها إلى وقتها، أو صعب عليه القيام في وقتها، وذلك لأنّه مقتضى كون الليل قصيراً، وإلّا فأيّة خصوصية لطول الليل وقصره، فلا خصوصية للقِصَر غير كونه موجباً لأحد الأمرين المذكورين)(2).

وهو كما ترى لم يجزم بأنّ القرينة التي اعتمد عليها في المقام هي مناسبة الحكم والموضوع، بل ردّد بينها وبين ما سمّاه بالقرينة العرفية، ولم يبيّن نوع هذه القرينة التي يدور الحكم بالتقييد مدارها على نحو الترديد، واحتمال كونه عطف بيانٍ غيرُ وارد؛ لأنّه لم يقدّم القرينة العرفية على مناسبة الحكم والموضوع، ليقال إنّه عطف بيان.

والقرينة التي استند إليها هنا أوجبت جزمه بعدم الخصوصية؛ إمّا لمعرفة مذاق الشرع والأحكام الشرعية المكتنفة بهذه المسألة، أو دعوى أنّ العرف لا يرى خصوصية

ص: 265


1- من لا يحضره الفقيه: 1/ 478، تهذيب الأحكام: 2/ 119، باب كيفيّة الصلاة..، ح214.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى (كتاب الصلاة): 1/ 401 - 403.

لقصر الليل.

المورد الثاني

قال السيّد اليزدي (قدس سره) : (إذا طلع الفجر وقد صلّى من صلاة الليل أربع ركعات أو أزيد أتمّها مخفّفة). واعترض عليه السيّد الخوئي بأنّه لم يقم على ذلك أيّ شاهد، والمستفاد من الرواية موضع الاستدلال أنّها إنّما تدلّ على استحباب إتمام صلاة الليل على النحو المتعارف، وكما كان يأتي بها قبل طلوع الفجر، فالتخفيف يحتاج إلى دليل، ولعلّ اعتباره من جهة مناسبة الحكم والموضوع، حيث إنّ التطوّع في وقت الفريضة محرّم أو مرجوح، فإذا أثبتنا جوازه بتلك الرواية تخصيصاً فيما دلّ على النهي عن التطوّع في وقت الفريضة، فالمناسب والأولى أن يؤتى بها مخفّفة حتّى لا تتحقّق مزاحمة الفريضة بكثير(1).

فقد جمع السيّد الخوئي (قدس سره) بين أمرين:

الأوّل: الاعتماد على مناسبة الحكم والموضوع، ولم يبيّن مراده منها.

والآخر: الاعتماد على قواعد باب التزاحم، وأنّ الأمر يدور بين تحصيل مصلحتين ندبيّتين غير إلزاميّتين: الأولى مصلحة التعجيل والمبادرة إلى الفريضة. والأخرى مصلحة صلاة الليل مع الأناة.

لكن مصلحة أوّل الوقت أرجح من مصلحة الأناة في صلاة الليل. وهذا الكلام بهذا المقدار يحتاج إلى معالجة مسألتين:

الأولى: إثبات رجحان أصل صلاة الليل بعد طلوع الفجر على مصلحة أوّل الوقت الندبية.

ص: 266


1- يلاحظ: التنقيح في شرح العروة الوثقى (كتاب الصلاة): 1/ 426.

والأخرى: إثبات أنّ مصلحة التعجيل في الفريضة أرجح من مصلحة الأناة في صلاة الليل.

مع أنّه طالما أكّد على أنّ ملاكات الأحكام لا سبيل إلى معرفتها إلّا من خلال الأوامر والنواهي الشرعية، وهنا لم يقتصر على معرفة الملاك، بل تعدّاه إلى تعيين الراجح من الملاكين، وهو الذي اعترض على الشيخ الأنصاري (قدس سره) ، بأنّ تنقيح المناط أشبه شيء بالقياس، بل هو هو بعينه؛ وذلك لعدم علمنا بمناطات الأحكام وملاكاتها(1)، وذلك عندما اعتمد الشيخ الأعظم على تنقيح المناط لإلحاق مسألة وجود اللاصق ببعض مواضع الوضوء بمسألة الجبيرة، مع أنّ أخبار الجبائر مختصّة بالجراحة والقرحة والكسر، بدعوى أنّ المناط في أحكام الجبائر ليس هو وجود الجرح والخرقة عليه، وإنّما المناط عدم تمكّن المتوضّئ من إيصال الماء إلى بشرته.

ونحن هنا لا نريد أن ندخل في مناقشة كلماته (قدس سره) في الفرع الفقهي، وإنّما المقصود هو تحديد مراد العلماء من مناسبة الحكم والموضوع، وأمّا كون اعتمادهم على مناسبة الحكم والموضوع في هذا المورد أو ذاك صحيح أو لا، فلا يعنينا في هذا المقام.

المورد الثالث

ذهب مشهور العلماء إلى كراهة الصلاة في الطرق وإن كانت في البلاد ما لم تضرّ بالمارّة، ومستند الحكم روايات عديدة، وقد أفاد السيّد الخوئي (رحمة الله) أنّ هذه النصوص ظاهرة في الحرمة، لكنّها محمولة على الكراهة؛ لأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأنّ النهي لم يكن لأجل منقصةٍ ذاتيةٍ في الطريق مانعة عن صحّة

ص: 267


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي: 6/ 173.

الصلاة، وإنّما هو لأحد أمرين على سبيل منع الخلو: إمّا المزاحمة للمارّة، أو لكونه معرضاً للخطر وتوجّه الضرر، فلو أَمِن المصلّي من كلا الأمرين لم يكن محذور في البين(1).

ويبدو أنّه (قدس سره) اعتمد على علمه الخارجي بأنّ الطريق ليس فيه مفسدة ذاتية، وأنّ الصلاة في الطريق بعنوانها الأوّلي ليست أمراً مرجوحاً مانعاً من صحّة الصلاة، ولم يعتمد على مناسبة الحكم والموضوع، فما عدّه مناسبةً بين الحكم والموضوع في المقام، وبموجبه صرف الظهور الأوّلي في هذه الروايات من الحرمة إلى الكراهة، هو الجزم بأنّ الصلاة في الطريق بالعنوان الأوّلي ليست محرّمة، ولا مبطلة للصلاة. وإذا كان الأمر كذلك فلا داعي لإقحام قرينة مناسبة الحكم والموضوع في الاستدلال؛ لأنّ الجزم وحده كافٍ في إثبات المطلوب.

مضافاً إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع قضية عرفية تحتفّ بالكلام، بحيث إنّه لو قيل لأعرابي حديث عهد بالإسلام: (لا تصلّ في الطريق)، لفهم منه أنّ النهي عن الصلاة في الطريق ليس بسبب وجود حزازة مانعة من صحّة الصلاة في الطريق، بل لأجل الكراهة. ومن أين يفهم هذا الأعرابي الحرمة والكراهة، حتّى يفهم أنّ المناسبة بين الحكم والموضوع تقتضي الكراهة؟!

المورد الرابع

ما ذكره في اشتراط الذكورة في أذان الإعلام؛ لقصور دليله عن الشمول للنساء؛ نظراً إلى أنّ المطلوب في هذا الأذان رفع الصوت، بل في صحيح زرارة: (كلّما اشتدّ الصوت كان الأجر أعظم)(2). وبما أنّ المطلوب من المرأة خفض

ص: 268


1- يلاحظ: موسوعة الإمام الخوئي: 13/ 192وما بعدها.
2- يلاحظ: وسائل الشيعة: 5/ 410، ب16 من أبواب الأذان والإقامة، ح2.

صوتها وإن لم يكن عورة، فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي انصراف النصوص إلى الرجال وعدم شمولها للنساء(1).

ويلاحظ على هذا المورد: أنّه (قدس سره) اعتبر مناسبة الحكم والموضوع قرينة موجبة لرفع اليد عن الإطلاق، بل عدّها من أسباب الانصراف، مع أنّ كلماته في الفقه والأصول تنادي بأعلى صوتها بأنّ الضابط في الانصراف المانع من التمسّك بالإطلاق، هو الانصراف الناشئ من خفاء الصدق، وأمّا الانصراف البدوي الناشئ من التعارف الخارجي من قبيل غلبة الوجود أو قلّته فلا يكون منشأً للانصراف ما لم يوجب أنس الذهن بحيث لا ينسبق إليه غير المنصرف إليه عند الإطلاق، بحيث يعدّه العرف قرينةً متّصلة موجبة لظهور المطلق في قسم خاصّ، أو يكون صالحاً للقرينية وموجباً للإجمال.

والحاصل: أنّه بناءً على ما ذكره (رحمة الله) في حقيقة الانصراف القادح في التمسّك بالإطلاق لا يتحقّق الانصراف بمجرّد الشيوع والغلبة، ولا ملازمة بين الأمرين، فإنّ العبرة بالظهور العرفي، فإذا كان الكلام مطلقاً وغير ظاهر في المنصرف إليه فالتمسّك بالانصراف لا يعدو الاستحسان العقلي المحض(2).

ص: 269


1- موسوعة الإمام الخوئي: 13/ 328.
2- يلاحظ كلماته في شرح العروة الوثقى: 4/ 55، 5/ 93، 13/ 115، 14/ 145، 15/ 216، 20/ 120، 23/ 309، 27/ 75، 29/ 193، 31/ 512، والجدير بالذكر أنّ بحث الانصراف - كبحثنا هذا - من البحوث التي لم تحرّر في علم الأصول، وحقّه أن يفرد بالبحث، وأن تفرد له مسألة في علم الأصول.

ويمكن تقريب اختصاص هذا الاستحباب بالرجال دون النساء بالقول: إنّ الغرض من تشريع أذان الإعلام هو إعلام الناس بدخول وقت الصلاة، وهذا الغرض لا يحصل إلّا برفع الصوت، والمرأة مندوبة لخفض صوتها، فهي غير مخاطبة به، فمن خلال حكمة التشريع علمنا أنّ المطلوب هو الأذان مع رفع الصوت، وهذا علمناه من مناسبة الحكم والموضوع. وأمّا أنّ المرأة مندوبة لخفض صوتها فقد علمناه من الشرع بدليل آخر غير مناسبة الحكم والموضوع.

وربّما عنى بكلامه هذا أنّ مفهوم الأذان في اللغة هو الإعلام، ففي صحيح البخاري ومسلم أنّ عليّاً (علیه السلام) دفن فاطمة ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر(1). أي: لم يعلمه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾(2)، يعني إعلام وإعلان، فمفهوم الأذان بضميمة مناسبة الحكم والموضوع لا يتحقّق إلّا مع رفع الصوت، فهذه المناسبة لا توجب انصراف النصوص إلى الرجال، وإنّما هي موجبة لانصراف الأذان في أخبار الإعلام إلى ما كان مع الصوت المرتفع.

والحاصل: أنّه يحتمل أن ترجع مناسبة الحكم والموضوع في مقامنا إلى حكمة التشريع، وأنّ الغرض من أذان الإعلام لا يحصل إلّا بهذه الحصّة من الأذان، وهو الأذان بالصوت المرتفع، ويمكن إرجاعه إلى الانصراف ولو بدعوى الشكّ في صدق الأذان فيما لو قرئت فصوله من دون رفع الصوت؛ لأنّ الأذان في اللغة هو الإعلام، فلا نحرز صدق عنوان الأذان على هذه الفصول من دون رفع الصوت.

ص: 270


1- يلاحظ: صحيح البخاري: 2/ 186، صحيح مسلم: 3/ 1380.
2- سورة التوبة: 3.
المورد الخامس

في استحباب جهر الإمام بتكبيرة الإحرام إذا كبّر سبعاً، دون الستّ فإنّه يستحبّ له الإخفات بها، مع أنّ النصوص الكثيرة تضمّنت استحباب جهر الإمام بواحدة وإخفات الستّ، ولم يصرّح بتكبيرة الإحرام في شيءٍ من تلك الأخبار، وإنّما ذكر الجهر بواحدة، لكن القرائن الداخلية والخارجية سيّما مناسبة الحكم والموضوع تقضي بإرادتها منها، وتعيّنها فيها. مضافاً إلى ما ورد أنّ الإمام يجهر بكلّ ما يتلفّظ به، ويسمع المأمومين كلّ ما يقوله في الصلاة(1).

ووجه مناسبة الحكم والموضوع هنا يحتمل فيه أمور عديدة، وهذا يحوجنا إلى استحضار بحث الجهر في تكبيرة الإحرام، وهو يطول.

المورد السادس

في صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: (إذا افتتحت صلاتك بقل هو الله أحد وأنت تريد أن تقرأ بغيرها فامضِ فيها ولا ترجع، إلّا أن تكون في يوم جمعة فإنّك ترجع إلى الجمعة والمنافقين منها)(2).

والكلام في المراد بالصلاة المستثناة عن هذا الحكم، أعني جواز العدول في يوم الجمعة لمن افتتح بالتوحيد، هل هو خصوص صلاة الجمعة، أو الأعمّ منها ومن الظهر كما عليه المشهور، أو بزيادة العصر؟ وجوه بل أقوال: اختار السيّد الخوئي (قدس سره) ما عليه المشهور، ونفى شمول هذا الاستثناء لصلاة العصر في يوم الجمعة؛ لأنّ الوجه في جواز العدول ليس استحباب قراءة الجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة وظهرها، كي يسري إلى العصر لثبوت الاستحباب فيه أيضاً، بل الوجه في ذلك شدّة

ص: 271


1- موسوعة الإمام الخوئي: 14/ 150.
2- تهذيب الأحكام: 3/ 242، باب العمل في ليلة الجمعة ويومها، ح32.

الاهتمام وتأكّد العناية بقراءتهما في صلاة الجمعة بالمعنى الأعمّ الشامل للظهر بحيث كاد أن يكون واجباً، كما يفصح عنه التعبير بكلمة (لا ينبغي) في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) في حديث طويل يقول: (اقرأ سورة الجمعة والمنافقين فإنّ قراءتهما سنّة في يوم الجمعة في الغداة والظهر والعصر، ولا ينبغي لك أن تقرأ بغيرهما في صلاة الظهر يعني يوم الجمعة إماماً كنت أو غير إمام)(1). ثمّ قال في آخر كلامه: (وعليه، فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي اختصاص الحكم بصلاة الجمعة بالمعنى الأعمّ، ولأجل ذلك ينصرف الإطلاق في صحيحة الحلبي إليها؛ فإنّ الاستحباب وإن كان ثابتاً في العصر أيضاً كما ذكر في هذه الصحيحة، إلّا أنّ تلك العناية والاهتمام خاصّة بالظهر، لاختصاصها بالتعبير ب-(لا ينبغي)، أي: لا يتيسّر)(2).

ويلاحظ على ما ذكره: أنّه ليس من قبيل المناسبات العرفية بين الحكم والموضوع، وإنّما هو أمر يعلم ببيان الشرع.

المورد السابع

في صحيحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) : قال: قلت له: أدنى ما يجزي المريض من التسبيح في الركوع والسجود؟ قال: (تسبيحة واحدة)(3).

ونتيجة ذلك أنّ المريض يمتاز عن غيره باجتزائه بالتسبيحة الواحدة مطلقاً وإن كانت هي الصغرى.

قال (قدس سره) : (نعم، قد يقال بأنّ موردها المريض.. فلا دليل على التعدّي إلى مطلق

ص: 272


1- علل الشرائع: 2/ 355 - 356.
2- شرح العروة الوثقى: 14/ 359 - 360.
3- الكافي: 3/ 329، باب أدنى ما يجزئ من التسبيح..، ح4.

الضرورة. وفيه ما لا يخفى؛ لوضوح أنّ المريض المأخوذ في النصّ لا خصوصية فيه كي يكون ملحوظاً على وجه الصفتية والموضوعية، فيسأل عن حكمه بما هو كذلك، وإن كان قادراً على الثلاث الصغريات، فإنّ ذلك أظهر من أن يحتاج إلى السؤال سيّما من مثل معاوية بن عمّار، بل مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأنّ ذكره من باب المثال، وأنّ موضوع السؤال مطلق من يشقّ عليه الثلاث، إمّا لمرض أو لغيره من سائر الضرورات)(1).

والحاصل: أنّ مناسبة الحكم والموضوع هنا تقضي بأنّ ذكر المريض من باب المثال، وأنّ موضوع السؤال يعمّ سائر موارد الضرورة أيضاً، ولعلّ مراده بالموضوع هو المتعلّق، وهو الذكر في الركوع والسجود، والحكم هنا هو الاجتزاء بتسبيحة صغرى واحدة، وإعفاء المصلّي من تكرارها، فحاصل دعواه (رحمة الله) أنّ العرف يتلقّى هذا الخطاب، وهو قوله: (المصلّي إذا كان مريضاً يجزيه في الذكر تسبيحة صغرى واحدة)، بأنّ ذكر المريض لا موضوعية له، وأنّ موضوع الحكم هو المعذور الذي يشقّ عليه أن يأتي بالتسبيحات الثلاث. ودعوى أنّ هذا من العرف حتّى لمن كان جاهلاً بالأحكام الشرعية محلّ تأمّل.

المورد الثامن

وقد جعله (قدس سره) شاهداً للمورد السابق، وهو في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾(2)، إذ لا يحتمل سقوط الصوم عن

ص: 273


1- مستند العروة الوثقى (كتاب الصلاة): 4/ 68.
2- سورة البقرة: 184.

مطلق المريض ولو كان علاجه الإمساك طول النهار، أو فرض امتناعه عن استعمال المفطرات خلال اليوم بطبعه صامه أم لم يصمه، فالمراد من المريض هنا بمناسبة الحكم والموضوع من يشقّ عليه الصوم، ولا خصوصية لعنوان المريض بما هو مريض(1).

المورد التاسع

في أنّ وجوب السجود فوريّ على من قرأ إحدى العزائم الأربع أو سمعها أو استمع لها، وهل يشمل الحكم من سمع السجدة في الأوقات التي تكره الصلاة فيها، أي بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وكذا قبل الغروب، أو أنّ السجدة في هذه الأوقات تؤخّر إلى ما بعد خروج الوقت؟

قال السيّد الخوئي (قدس سره) : إنّه قد يتخيّل الثاني استناداً إلى موثّقة عمّار عن أبي عبد الله (علیه السلام) : في الرجل يسمع السجدة في الساعة التي لا يستقيم الصلاة فيها قبل غروب الشمس، وبعد صلاة الفجر، فقال: (لا يسجد)(2).

وناقشه (قدس سره) بإيرادين، ثمّ قال ما حاصله: أنّه يمكن أن يقال: إنّ الموثّقة خاصّة بغير العزيمة، وذلك بقرينة قوله: (لا تستقيم الصلاة فيها..)، فإنّ المراد بهذه الصلاة إنّما هي النافلة؛ إذ هي التي يتوهّم أنّها لا تستقيم، وإلّا فلا شكّ في استقامة الفريضة؛ لامتداد وقتها من الفجر إلى طلوع الشمس، ولا يحتمل خفاء مثل هذا الحكم الواضح على مثل عمّار، فبمناسبة الحكم والموضوع يكون المراد من السجدة هي المستحبّة(3).

ص: 274


1- يلاحظ: مستند العروة الوثقى (كتاب الصلاة): 4/ 69.
2- تهذيب الأحكام: 2/ 293، باب كيفيّة الصلاة وصفتها..، ح33.
3- يلاحظ: المستند في شرح العروة الوثقى: 15/ 203.

ولم يتعرّض (قدس سره) في كلامه الأخير عن وضوح حكم السجود قبل الغروب على مثل عمّار؛ لأنّه ربّما قيل بأنّ الظاهر من قبل الغروب هو قبيله بيسير، وإذا بنينا على أنّ الغروب يتحقّق بدخول الليل بعد ذهاب الحمرة المشرقية، فيحمل كلامه على أنّه بعد استتار قرص الشمس، وقبل ذهاب الحمرة، فيمكن أن يكون هذا الوقت ممّا لا تستقيم الصلاة فيه. وأمّا بعد صلاة الفجر، فلا يمكن الحمل على أنّ الفريضة لا تستقيم في هذا الوقت؛ لأنّ الفريضة تستقيم حتّى تطلع الشمس. بل هو في غنىً حتّى عن هذا الجواب؛ لأنّ الظاهر من قوله: (بعد صلاة الفجر) أنّه أدّى الفريضة.

هذا، ولكن الكلام في أنّ المقيّد هل هو علمنا بعدم إرادة السجدة الواجبة ولو لأجل وضوح الحكم على مثل عمّار، أو ما سمّاه بمناسبة الحكم والموضوع؟ وهل سيفهم العرف لو ألقي عليه مثل هذا الكلام أنّ الحكم مختصّ بالنافلة، فإنّه من الواضح أنّ مناسبة الحكم والموضوع لا يختلف الحال فيها بين الفقيه وغيره، ومن الصعب جدّاً البناء على أنّ العرف يتلقّى الكلام بالنحو الذي قرّره (قدس سره).

المورد العاشر

في صحيحة حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام، قال: (يقضي عنه أولى الناس بميراثه)(1). فهل بوسعنا أن نأخذ بإطلاق هذه الصحيحة، ونحكم بأنّه يجب على الولي قضاء ما فات الميت من الصلاة عمداً؟

أفتى السيّد اليزدي (قدس سره) في العروة بأنّه يجب على وليّ الميت أن يقضي عنه ما فاته من الصلاة لعذر، فلا يشمل صورة ما لو ترك الصلاة عمداً، وفي مقام بيان مدركه

ص: 275


1- الكافي: 4/ 123، باب الرجل يموت وعليه من صيام شهر رمضان وغيره، ح1.

في هذه المسألة قال السيّد الخوئي (قدس سره) : (وما يقال من أنّ العامد يستحقّ العقاب فلا يجديه القضاء من الوليّ، لكونه بمثابة الكفّارة، وهي بمناسبة الحكم والموضوع تختصّ بالمعذور. فهو وجه استحساني لا يركن إليه لإثبات حكم شرعي، ولا يقاوم الإطلاق)(1).

وسواء كان هذا مراد السيّد اليزدي أو لا، فإنّ لازم هذا القول أنّ العرف يرى أنّ تشريع وجوب الكفّارة على من أفطر عمداً في نهار شهر رمضان للنصوص الدالّة على ذلك مصادمٌ لمناسبة الحكم والموضوع، فيرونه بحسب مرتكزاتهم تشريعاً غريباً يتصادم مع ما هو مغروس في أذهانهم، هذا مع أنّ الظاهر في الكفّارة كونها عقوبة دنيوية؛ لأجل التخفيف عنه في الآخرة كي لا يؤخذ بعقاب أشدّ، فكيف تكون مختصّة بالمعذور؟

ثمّ إنّ مراده (رحمة الله) من الاستحسان الذي لا يركن إليه في إثبات حكم شرعي هو الصغرى، أعني دعوى أنّ مناسبة الحكم والموضوع في المقام تقتضي اختصاص الكفّارة بالمعذور، لا كبرى الاعتماد على مناسبة الحكم والموضوع في تقييد المطلق، وهو واضح.

المورد الحادي عشر

ورد في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) : في رجل صلّى ركعتين من المكتوبة، فسلّم وهو يرى أنّه قد أتمّ الصلاة، وتكلّم، ثمّ ذكر أنّه لم يصلّ غير ركعتين، فقال: (يتمّ ما بقي من صلاته، ولا شيء عليه)(2).

صرّح غير واحد بظهور هذه الصحيحة في عدم وجوب سجود السهو للتكلّم

ص: 276


1- موسوعة الإمام الخوئي: 18/ 343.
2- تهذيب الأحكام: 2/ 191 - 192، باب أحكام السهو في الصلاة..، ح58.

ساهياً، بتقريب أنّ المنفيّ في قوله (علیه السلام) : (ولا شيء عليه) لا يحتمل أن يكون هو الإثم؛ لعدم احتماله في مورد السهو، ولا الإعادة؛ لأنّ الأمر بالإتمام يلازم الصحّة، والحمل على التأكيد خلاف الأصل، وليس ثمّة أثر يتوهّم ترتّبه كي يتصدّى لنفيه عدا سجدتي السهو.

لكنّه (رحمة الله) اعترض عليهم بأنّ: (المنسبق إلى الذهن والمتفاهم العرفي من مثل هذه العبارة هو التأكيد، كما لعلّه الدارج المتعارف في الاستعمالات في عصرنا الحاضر، فنجيب عن نظير المسألة بأنّه يتمّ صلاته ولا شيء عليه، ونعني به نفي الإعادة تأكيداً لما ذكر أوّلاً. وأولوية التأسيس من التأكيد ليست قاعدة مطّردة وضابطاً كلّياً، بل يختلف ذلك حسب اختلاف الموارد وخصوصياتها ومناسبات الحكم والموضوع، فربّما يكون التأكيد هو الظاهر من الكلام كما في المقام(1).

السادس: موارد اعتماد شيخنا الأستاذ الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظله)

اشارة

وقد تمسّك (دام ظله) بمناسبة الحكم والموضوع في مواضع كثيرة في الفقه والأصول، ونذكر بعض هذه المواضع ممّا جاء في بحث الخيارات من كتاب (بغية الراغب):

المورد الأوّل

قال في تصحيح الاستدلال بقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾(2): (إنّه لا بدّ من ملاحظة مناسبة الحكم للموضوع؛ فإنّ المناسبة المذكورة من القرائن الارتكازية العقلائية العرفية الحافّة بالكلام، وهي قد توسّع دائرة الموضوع وقد

ص: 277


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 18/ 343.
2- سورة المائدة: 1.

تضيّقه..)(1).

وهذا تعريف مكتمل الأركان لمناسبة الحكم والموضوع، وليس هو في مقام الحصر والاستقصاء من جهة آثار هذه القرينة، وإنّما المقصود من ذكر هذين الأثرين بالخصوص هو أنّ هذه القرينة ليست دائماً مضيّقة للموضوع، كما أنّها ليست دائماً موسّعة له.

المورد الثاني

في أنّ المراد من الحيوان في خياره، هل هو خصوص ما يقصد بقاؤه، أو مطلق ما فيه الحياة؟ ذهب المحقّق النائيني (قدس سره) إلى الأوّل، واستدلّ عليه بمناسبة الحكم والموضوع، وبيّنه شيخنا الأستاذ بأنّ الإطلاق إنّما ينعقد في صورة عدم القرينة على انصراف موضوع الحكم إلى حصّة منه، ومن موجبات صرف الطبيعة إلى بعض الحصص مناسبة الحكم والموضوع(2).

لكنّ السيّد الخوئي (قدس سره) تعقّب المحقّق النائيني (قدس سره) بأنّ ما يقيّد الموضوع هو العلّة، وأمّا الحكمة فلا تمنع من الإطلاق، ولا تكون سارية في جميع الأفراد، وبعبارةٍ موجزة: إنّ الحكمة لا تطّرد، ومعنى هذا أنّ السيّد الخوئي (قدس سره) فسّر مناسبة الحكم والموضوع الواردة في كلام المحقّق النائيني (قدس سره) بحكمة التشريع، واعترض عليه بأنّ الحكمة لا تطّرد(3).

ودافع شيخنا الأستاذ (دام ظله) عن المحقّق النائيني (قدس سره) فذكر أنّ الذي أفاده السيّد الخوئي (قدس سره) (غير مرتبط بما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) من الاستدلال؛ فإنّه لم يستند إلى

ص: 278


1- يلاحظ: بغية الراغب: 1/ 99.
2- بغية الراغب: 2/ 121.
3- يلاحظ: مصباح الفقاهة: 6/ 176، التنقيح في شرح المكاسب: 3/ 150.

الحكمة، وإنّما إلى مناسبة الحكم والموضوع، وبينهما فرق؛ فإنّ الأولى وإن كانت لا تعمّم ولا تخصّص إلّا أنّ الثانية توجب التعميم والتخصيص، فلو سئل عن ملاقاة البول للثوب وكان الجواب هو الحكم بالنجاسة، فإنّ مناسبة الحكم والموضوع - أي الانفعال بالنجاسة والملاقاة - تقتضي عدم الفرق بين الموضوعات، وعدم الاختصاص بالثوب وإن كان السؤال عنه، وهكذا الكلام من جهة التخصيص؛ فإنّ تناسب الحكم والموضوع ممّا يقيّد الموضوع)(1).

وهذا تصريح منه بأنّ مناسبة الحكم والموضوع ليست هي حكمة التشريع.

المورد الثالث

في أنّ خيار الغبن على الفور أو التراخي، اختار الشيخ الأعظم (قدس سره) القول بالفور مستدلَّاً بالاستصحاب، وناقشه المحقّق النائيني (قدس سره) في ذلك بتفصيل مبنيّ على مناسبة الحكم والموضوع، وحاصل هذا التفصيل أنّه قد يحرز بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع أنّ المدار في موضوع الحكم هو الحدوث، ومثال ذلك النجاسة التي تعرض الماء الكثير عند تغيّره بوصف النجاسة، فإنّه لو زال التغيّر من تلقاء نفسه فالنجاسة باقية؛ لأنّ العرف بارتكازه يرى أنّ موضوع الحكم بالنجاسة هو حدوث التغيّر على الماء، فالموضوع للنجس الذي يحكم العرف بأنّه نجس هو الماء، والتغيّر بنظر العرف علّة لثبوت النجاسة للماء، فإذا ارتفع التغيّر فالموضوع باقٍ؛ لأنّ الماء موجود، والنجاسة باقية لعدم وجود الرافع لها.

وقد يحرز العرف أنّ موضوع الحكم هو الشيء مع وصفٍ، بحيث يكون ذلك الوصف حيثية تقييدية، فإذا زال الوصف فقد ارتفع الموضوع، مثاله الفقر والفقاهة،

ص: 279


1- بغية الراغب: 2/ 122.

فموضوع الزكاة مثلاً هو الإنسان الفقير، يعني ما دام فقيراً، فإذا ارتفع الفقر ارتفع الموضوع، وإن كان الإنسان باقياً، وكذلك موضوع التقليد والاتّباع، فإنّ الموضوع هو الفقيه ما دام هذا الوصف ثابتاً له.

وقد يكون الموضوع مردّداً، أي لا يحرز أنّه من هذا القبيل أو ذاك.

هذا محصّل كلام المحقّق النائيني (قدس سره) ، والشيخ الأستاذ (دام ظله) لم يناقش في هذه الكبرى، أي أنّ هذا التقسيم الثبوتي صحيح عنده(1).

المورد الرابع

في أنّ مورد خيار الرؤية خصوص المشتري، أو الأعمّ منه ومن البائع، وقد أفاد الأستاذ (دام ظله) في هذه المسألة: أنّ المستند في هذا الخيار إن كان صحيحة جميل بن درّاج التي قال فيها: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل اشترى ضيعة، وقد كان يدخلها ويخرج منها، فلمّا أن نقد المال صار إلى الضيعة فقلبها، ثمّ رجع فاستقال صاحبه فلم يقله، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) : (لو أنّه قلب منها، أو نظر إلى تسع وتسعين قطعة منها، ثمّ بقي منها قطعة ولم يرها لكان له في ذلك خيار الرؤية)(2). فالتعميم للبائع في غاية الإشكال؛ لاختصاصها بالمشتري، والتعدّي إلى البائع يحتاج إلى الدليل.

ثمّ ذكر أنّ العلماء ذكروا وجهين للتعدّي منه، أوّلهما: إلغاء خصوصية المشتري وإن كان هو موضوع الحكم، وأردفه بقوله: (وبما أنّ إلغاء الخصوصية على خلاف الأصل ذكروا لاختياره سببين:

ص: 280


1- يلاحظ: بغية الراغب: 3/ 340.
2- تهذيب الأحكام: 7/ 26، باب عقود البيع، ح29.

الأوّل: تنقيح المناط.

والآخر: مناسبة الحكم للموضوع عرفاً، بحيث يكون حجّة في الفقه.

أمّا تنقيح المناط فما لم يصل إلى حدّ القطع فلا يفيد؛ لعدم تجاوزه القياس الظنّي، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، وحصول القطع مع خفاء مناطات الأحكام نفس الأمرية علينا لا طريق له عند أهل الفنّ. وأمّا مناسبة الحكم والموضوع [فهي] وإن كانت تقتضي إلغاء الخصوصية عرفاً في بعض الموارد - كما في الحكم بتنجّس الثوب بملاقاته للنجاسة؛ فإنّه يتعدّى إلى غيره مع كون الموضوع خاصّاً؛ لأنّ مناسبة الحكم للموضوع تقضي بكون العبرة بانفعال الملاقي للنجاسة بها، ولا يختصّ الانفعال بالثوب - إلاّ أنّها لا توجب التعميم في المقام؛ لكون المناسبة فيه هي الإرفاق فقط(1).

أقول: ظاهره أنّ المراد بمناسبة الحكم للموضوع هو حكمة التشريع، مع أنّه في المورد الثاني اعترض على السيّد الخوئي لمّا حمل مناسبة الحكم والموضوع في كلام النائيني على حكمة التشريع. وتقييده مناسبة الحكم للموضوع بحيث يكون حجّة في الفقه يوحي بأنّه ربّما ادّعيت مناسبة الحكم والموضوع لمجرّد الظنّ بالمناسبة، أو احتمالها، وهذا القيد منه يعطي بأنّه قد وجد بعض الفقهاء قد استندوا إلى مناسبة الحكم والموضوع في مورد لا ينبغي الاستناد إليها فيه، ويؤخذ منه أيضاً أنّ مناسبة الحكم والموضوع عنده غير تنقيح المناط.

المورد الخامس

في مسقطات خيار الرؤية، وهناك بحث مسألة الإسقاط قبل الرؤية، وتعرّض للإشكال في الإسقاط على القول بعدم كاشفية الرؤية، وفي ثنايا

ص: 281


1- يلاحظ: بغية الراغب: 4/ 220.

كلامه تعرّض لمرجعية العرف، وأنّها منحصرة في أمرين:

الأوّل: في تعيين مفاهيم الألفاظ. ويقصد به الأعمّ من مفاهيم الألفاظ وظهورات الجمل التركيبية.

الآخر: في مناسبة الحكم للموضوعات، مثلاً عندما يُسأل عن حكم ملاقاة البول للثوب، فيأتي الجواب: طهّره بالماء، فإنّ الثوب وإن كان هو موضوع الحكم في السؤال، ولكن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم الخصوصية لمورد السؤال، وأنّ التأثير والتأثّر بالنجس عامّ(1).

المورد السادس

ما ذكره في مسقطات خيار العيب، فقد ناقش ما اعتمده المحقّق الأصفهاني (قدس سره) من أنّ المستفاد من النصوص المتعدّدة في الأبواب المختلفة أنّ غرامة إزالة البكارة عشر قيمة الجارية بأنّ إسراء ذلك الحكم من هذه الموضوعات إلى ذلك الموضوع لا يصحّ إلّا بأحد طريقين: الأوّل إلغاء الخصوصية، والآخر تنقيح المناط.

وفيما يتعلّق بإلغاء الخصوصية ذكر أنّها مشروطة بوجود مناسبة بين الحكم والموضوع تقتضي الإلغاء، وإلّا فمقتضى الأصل هو خصوصية العنوان المأخوذ في الموضوع، بمعنى أنّ الأصل احترازية القيود، وبهذا أمكن إلغاء الخصوصية في موارد إحراز العرف عدمها، كما لو ورد: (اغسل ثوبك من الدم)؛ فإنّ الحكم يتعدّى إلى غير الثوب؛ لأنّ العرف يحرز أنّ المدار في مثل هذا على الانفعال بالنجس بسبب

ص: 282


1- يلاحظ: بغية الراغب: 4/ 276.

الملاقاة للدم(1).

ولكن من أين يحرز العرف عدم الخصوصية في الأحكام التعبّدية؟ فهذا البيان له مجال في الأحكام غير التعبّدية، كالأحكام المرتبطة بأبواب المعاملات والطهارة، فإنّ الفقهاء يصرّحون بأنّ الطهارة ليست تعبّداً صرفاً، بل لوحظ فيها جهة القذارة، ومن ثَمَّ حكموا بجملة من الأحكام في باب الطهارة، مثل اعتبار الرطوبة المسرية وأمثال ذلك من الأمور؛ استناداً إلى كون الطهارة ليست تعبّداً صرفاً، فيكون للعرف مسلك للدخول في مثل هذه الأحكام بأن يقول: إنّ هذا الحكم ثابت لهذا الموضوع من جهة عامّة، ولا خصوصية فيه.

ولكن إذا كان معنى مناسبة الحكم والموضوع هو جزم العرف بعدم دخل هذه الخصوصية في موضوع الحكم فلا بدّ أن لا نستعين بمناسبة الحكم والموضوع في باب الصلاة مثلاً، وكذا غيرها من الأمور التعبّدية الصرفة، والحال أنّهم يتمسّكون بمناسبة الحكم والموضوع في سائر الأبواب الفقهية.

* * *

ص: 283


1- يلاحظ: بغية الراغب: 4/ 477.

نتائج البحث

والذي تلخّص من ملاحظة كلمات جملة من العلماء في ما يتعلّق بهذه المسألة هو أنّ العلماء قد اختلفوا في أنّها قرينة أو دليل، وأنّ من عدّها قرينة - وهي التي لها أثر على الدليل فتغيّر من دلالته سعةً وضيقاً - رتّب على ذلك جملةً من الآثار التالية:

الأثر الأوّل: توسعة الحكم أو موضوعه، ومن ذلك مسألة تولّي الزوج تغسيل زوجته، فإنّ مناسبة الحكم والموضوع توسّعه إلى المتمتّع بها والأمة. ومسألة تحريم بيع أمّ الولد، فإنّها توسّع الحكم إلى أنّها لا توهب ولا تنقل بالصلح وغيره. ومنها حرمة مسّ الجنب اسمَ الله، فإنّها توسّع الموضوع إلى كلّ ما أنبأ عن ذاته تعالى. ومنها كفاية التسبيحة الواحدة للمريض، فإنّها توسّعه إلى من ضاق الوقت عليه. ومنها غسل الثوب من الدم، فإنّها توسّعه إلى غيره.

الأثر الثاني: تضييق الحكم أو موضوعه، ومن ذلك وجوب الوفاء بالعقود، فقد خصّته هذه المناسبة بالعقد الصادر من العاقد نفسه، لا كلّ عقدٍ وقع في الدنيا. ومنه الأمر بغسل موضع النجو، فقد خصّته بما إذا تلوّث ظاهره. وحرمة مسّ الجنب ديناراً عليه اسم الله، فقد خصّته بموضع الكتابة. ومنه خيار الحيوان للمشتري، فقد خصّته بما يقصد استحياؤه، والخيار في بيع الحيوان، فقد خصّته بالمشتري دون البائع. ومنه مبطلية الشكّ للصلاة، فقد خصّته بالفريضة، والقصر للمسافر، فقد خصّته بالسفر المباح، والإتمام للمتردّد، فقد خصّته بالتوالي، واستحباب الأذان، فقد خصّته بالرجال، وتقديم صلاة الليل إذا كان الليل قصيراً، فقد خصّته بمن خاف الفوت،

ص: 284

والجهر بتكبيرة واحدة من السبع، فقد خصّته بتكبيرة الإحرام، وجواز العدول إلى سورة الجمعة يوم الجمعة لمن بدأ بالتوحيد، فقد خصّته بصلاة الجمعة. ومنه إفطار المريض، فقد خصّته بمن شقّ عليه الصيام.

الأثر الثالث: حمل الأمر على الاستحباب والنهي على الكراهة.

الأثر الرابع: حمل الموضوع على كونه حيثية تعليلية للحكم، فيثبت الحكم عند حدوث الموضوع، ويبقى ولو ارتفع الموضوع. ومنه نجاسة الماء الكثير بتغيّر أوصافه؛ فإنّ التغيّر بحدوثه علّة لطروّ النجاسة على الماء، فإذا زال التغيّر من تلقاء نفسه بقيت النجاسة.

الأثر الخامس: حمل الموضوع على كونه حيثية تقييدية للحكم، فيكون الحكم تابعاً للموضوع حدوثاً وبقاءً، ومنه: (أطعم الفقير)، و(قلّد الفقيه).

الأثر السادس: حمل الأمر أو النهي على التأكيد لا التأسيس خلافاً للأصل.

الأثر السابع: حمل العنوان المذكور في النصّ على المرآتية، بأن يكون عنواناً مشيراً على خلاف الأصل الأوّلي من احترازية العناوين، وأنّ للعناوين المذكورة موضوعية.

وبهذا أختم الحديث في مناسبة الحكم والموضوع، حامداً، مصلّياً، مسلّماً، مستغفراً، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، محمّد وعترته المعصومين. ونسأل الله تعالى بعد المغفرة أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم بمنّه وكرمه.

ص: 285

مصادر البحث

القرآن الكريم.

1. الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي (ت911ﻫ)، تحقيق: سعيد المندوب، الناشر: دار إحياء الكتب العربيّة، الطبعة الأولى، 1416ﻫ.

2. أجود التقريرات، تقرير بحث المحقّق الميرزا محمّد حسين الغروي النائيني (قدس سره) (ت1355ﻫ)، تأليف: السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت1413ﻫ)، طبع: مؤسّسة صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، الناشر: مكتبة مصطفوي - قم المشرّفة، الطبعة الثانية، 1368 ش.

3. أساس البلاغة، جار الله الزمخشري (ت538ﻫ)، الناشر: دار ومطابع الشعب - القاهرة، 1960م.

4. أصول الفقه، الشيخ محمّد رضا المظفّر (قدس سره) (ت1388ﻫ)، تقديم: الشيخ محمّد مهدي الآصفي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة.

5. أصول الفقه، المحقّق الشيخ حسين الحلّي (قدس سره) (ت1394ﻫ)، الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة - قم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1432 ق.

6. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، فخر المحقّقين الشيخ أبو طالب، محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (قدس سره) (ت771ﻫ)، تعليق: السيّد حسين الموسوي الكرماني، الشيخ عليّ بناه الاشتهاردي، الشيخ عبد الرحيم

ص: 286

البروجردي، المطبعة العلميّة بقم، الطبعة الأولى، 1387ﻫ.

7. بحوث في شرح العروة الوثقى، الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (ت 1400ﻫ)، مطبعة الآداب - النجف الأشرف، الطبعة الأولى، 1391ﻫ.

8. البرهان في أصول الفقه، إمام الحرمين الجويني (ت478ﻫ)، تحقيق: الدكتور عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء - مصر، الطبعة الأولى، 1412ﻫ.

9. البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمّد بن عبد الله الزركشي (ت794ﻫ)، تحقيق: محمّد إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربيّة، الطبعة الأولى، 1376ﻫ.

10. بغية الراغب في مباني المكاسب، تقرير بحث الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظله) ، تأليف: الشيخ نزار آل سنبل القطيفي، الناشر: مدرسة الإمام باقر العلوم (علیه السلام) - قم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1435ﻫ.

11. بلغة الفقيه، السيّد محمّد بحر العلوم (قدس سره) (ت1326ﻫ)، تحقيق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم، وابنه السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم، الناشر: مكتبة الصادق (علیه السلام) - طهران إيران، الطبعة الرابعة، 1403ﻫ.

12. تاج العروس من جواهر القاموس، محبّ الدين السيّد محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي الحنفي (1205ﻫ)، تحقيق: عليّ شيري، الناشر: دار الفكر - بيروت لبنان، 1414ﻫ.

13. تفسير البحر المحيط، أبو عبد الله، محمّد بن يوسف بن عليّ بن يوسف بن حيّان الأندلسي الجياني المشهور ب-(أبي حيان الأندلسي) (ت745ﻫ)، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ عليّ محمّد معوّض، طبع ونشر: دار الكتب

ص: 287

العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1422ﻫ.

14. تفسير التحرير والتنوير، الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور (ت1394ﻫ)، الناشر: الدار التونسيّة للنشر - تونس، 1984م.

15. التمهيد في علوم القرآن، الشيخ محمّد هادي معرفة (ت1427ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، الطبعة الثالثة، 1410ﻫ.

16. التمهيد، أبو عمر، يوسف ابن عبد البر النمري الحافظ الأندلسي (ت463ﻫ)، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمّد عبد الكبير البكري، 1387ﻫ.

17. التنقيح في شرح المكاسب، تقرير بحث السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدس سره) (ت1413)، تأليف: الشهيد الشيخ ميرزا عليّ الغروي، الناشر: مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة الرابعة، 1431ﻫ.

18. تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، حقّقه وعلّق عليه: السيّد حسن الموسوي الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثالثة، 1364ش.

19. الجامع الصحيح، مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري (ت261ﻫ)، دار الفكر - بيروت لبنان.

20. جامع العلوم في اصطلاحات الفنون (دستور العلماء)، القاضي عبد النبيّ بن عبد الرسول الأحمد نگري (ت1173ﻫ) الناشر: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت، الطبعة الثانية - 1395ﻫ

21. حاشية شرائع الإسلام، الشيخ زين الدين بن عليّ بن أحمد العامليّ الجبعيّ،

ص: 288

المعروف ب-(الشهيد الثاني) (قدس سره) (ت965ﻫ)، تحقيق: مكتب الإعلام الإسلامي بقم المشرّفة، قسم إحياء التراث الإسلامي، الطبعة الأولى، 1422ﻫ.

22. حاشية كتاب المكاسب، الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدس سره) (ت1361ﻫ)، تحقيق: الشيخ عبّاس محمّد آل سباع القطيفي (رحمة الله) ، إخراج: دار المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم) لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1418ﻫ.

23. حاشية كتاب المكاسب، آقا رضا بن محمّد هادي الهمداني (قدس سره) (ت1322ﻫ)- تحقيق: الشيخ محمّد رضا الأنصاري القمّي، المطبعة: ستاره - قم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1420ﻫ.

24. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف البحرانيّ (قدس سره) (ت1186ﻫ)، حقّقه وعلّق عليه: الشيخ محمّد تقي الإيرواني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قم المشرّفة إيران، الطبعة الأولى، 1409ﻫ.

25. حقائق الأصول: السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره) (ت1390ﻫ)، الناشر: مكتبة بصيرتي - قم المشرّفة إيران، الطبعة الخامسة، 1408ﻫ.

26. الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي (ت573ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة الإمام المهدي (علیه السلام) - قم المقدّسة، الطبعة الأولى، 1409ﻫ.

27. الرسالة، الشيخ محمّد بن إدريس الشافعي (ت204ﻫ)، تحقيق وشرح: أحمد محمّد شاكر، دار الكتب العلميّة - بيروت - لبنان.

28. رسائل الشريف المرتضى، السيّد عليّ بن الحسين الموسوي (قدس سره) (ت436ﻫ)، تقديم: السيّد أحمد الحسيني، إعداد: السيّد مهدي الرجائي، الناشر: دار القرآن

ص: 289

الكريم - قم (مدرسة السيّد الكلبايكاني)، طبع: مطبعة سيّد الشهداء - قم، 1405ﻫ.

29. الرواشح السماوية، المير داماد محمّد باقر الحسيني الاسترآبادي (قدس سره) (ت 1041ﻫ)، تحقيق غلام حسين قيصريه ها، ونعمة الله الجليلي، قم - دار الحديث، مؤسّسة دار الحديث الثقافية، الطبعة الأولى، 1422ﻫ.

30. الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية، الشيخ زين الدين الجبعيّ العاملي (الشهيد الثاني) (قدس سره) (ت965ﻫ)، تحقيق وتعليق: السيّد محمّد كلانتر (قدس سره) ، منشورات جامعة النجف الدينية، الناشر: مطبعة الداوري - قم المقدّسة، الطبعة الأولى، 1410ﻫ.

31. شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الاسترآبادي (ت686ﻫ)، تصحيح وتعليق: يوسف حسن عمر، الناشر: جامعة قاريونس، 1398ﻫ.

32. شرح المغني في أصول الفقه، الشيخ منصور بن أحمد القاءاني (ت775ﻫ)، تحقيق: سامي بن عبد العزيز المبارك، رسالة ماجستير في كلّية الشريعة بالرياض، جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية، عام 1416ﻫ.

33. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربيّة، إسماعيل بن حمّاد الجوهري (ت393ﻫ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطّار، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة، 1407ﻫ.

34. صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفيّ (ت256ﻫ)، طبعة بالأوفست عن طبعة دار الطباعة العامرة بإستانبول، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1401ﻫ.

35. العدّة في أصول الفقه، شيخ الطائفة أبو جعفر، محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره)

ص: 290

(ت460ﻫ)، تحقيق: محمّد رضا الأنصاري القمّي، الناشر: ستاره - قم المقدّسة، الطبعة الأولى، 1417ﻫ.

36. العروة الوثقى، السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس سره) (ت1337ﻫ)، تعليق عدّة من الفقهاء العظام (قدس سرهم) ، تحقيق وطبع: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1417ﻫ.

37. علل الشرائع، الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي (قدس سره) (ت381ﻫ)، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، الناشر: المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف الأشرف، 1385ﻫ.

38. الفصول المهمّة في أصول الأئمّة (تكملة الوسائل)، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104ﻫ)، تحقيق وإشراف: محمّد بن محمّد الحسين القائيني، الناشر: مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا (علیه السلام) - قم المشرّفة، المطبعة: نكين - قم، الطبعة الأولى، 1418ﻫ.

39. فوائد الأصول، تقرير بحث المحقّق الميرزا محمّد حسين الغروي النائيني (قدس سره) (ت1355ﻫ)، تأليف: الشيخ محمّد عليّ الكاظمي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، 1404ﻫ.

40. الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة، الشيخ زين الدين بن عليّ بن أحمد العامليّ الجبعيّ، المعروف ب-(الشهيد الثاني) (قدس سره) (ت965ﻫ)، تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة، قسم إحياء التراث الإسلامي، المحقّق محمّد حسين مولويّ، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي بقم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1420ﻫ.

ص: 291

41. القاموس المحيط، الشيخ مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت817ﻫ)، دار العلم للجميع بيروت - لبنان.

42. قرب الإسناد، الشيخ الجليل أبو العبّاس، عبد الله بن جعفر الحميري (من أعلام القرن الثالث الهجري)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1413ﻫ

43. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، الشيخ جمال الدين، أبو منصور، الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (قدس سره) (ت726ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي بقم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1419ﻫ.

44. الكافي، ثقة الإسلام الشيخ أبو جعفر، محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (قدس سره) (ت329ﻫ)، صحّحه وعلّق عليه: الشيخ عليّ أكبر الغفّاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران، إيران، الطبعة الثالثة، 1388.

45. الكافي، ثقة الإسلام الشيخ أبو جعفر، محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (قدس سره) (ت329ﻫ)، تحقيق: قسم إحياء التراث مركز بحوث دار الحديث، الناشر: دار الحديث - إيران، الطبعة الأولى، 1387ﻫ ش.

46. كتاب الصلاة، الشيخ عبد الكريم اليزديّ الحائري (قدس سره) (ت1355ﻫ)، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي - قم المشرّفة، إيران، 1362ش.

47. كتاب الصلاة، تقرير بحث الميرزا محمّد حسين الغروي النائيني (قدس سره) (ت 1355ﻫ)، تأليف: الشيخ محمّد عليّ الكاظمي الخراساني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1411ﻫ.

48. كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175ﻫ)، تحقيق: الدكتور مهدي

ص: 292

المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي، الناشر: مؤسّسة دار الهجرة، الطبعة الثانية في إيران، 1409ﻫ.

49. كشف اللثام عن قواعد الأحكام، الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسن الأصفهاني (قدس سره) المعروف ب-(الفاضل الهندي) (ت1137ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1416ﻫ.

50. كفاية الأصول، الأستاذ الأعظم الآخوند الشيخ محمّد كاظم الخراساني (قدس سره) (ت1329ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1409ﻫ.

51. لسان العرب، أبو الفضل، جمال الدين، محمّد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، الناشر: نشر أدب الحوزة، قم - إيران، 1405ﻫ.

52. مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي (قدس سره) (ت1085ﻫ)، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني، الطبعة الثانية، 1408ﻫ.

53. مجموعة الرسائل، الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني (دام ظله) ، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهدي (علیه السلام) ، 1404ﻫ.

54. مختصر المعاني، سعد الدين التفتازاني (ت792ﻫ)، الناشر: دار الفكر - قم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1411ﻫ.

55. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، الشيخ زين الدين بن عليّ الجبعي العاملي المشهور ب-(الشهيد الثاني) (قدس سره) (ت965ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة المعارف الإسلامية - قم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1413ﻫ.

56. المسائل السرويّة، الشيخ المفيد، محمّد بن محمّد بن النعمان ابن المعلّم، أبو عبد

ص: 293

الله العكبري البغدادي (قدس سره) (ت413ﻫ)، تحقيق: صائب عبد الحميد، الطبعة الثانية، 1414ﻫ.

57. مستمسك العروة الوثقى، السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره) (ت1390ﻫ)، الناشر: مطبعة الآداب - النجف الأشرف، الطبعة الرابعة، 1404ﻫ.

58. مصباح الأصول، تقرير بحث السيّد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) (ت1413ﻫ)، تأليف: السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، الناشر: مكتبة الداوري - قم إيران، الطبعة: الخامسة، 1417ﻫ.

59. مصباح الفقاهة، تقرير بحث السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدس سره) (ت 1413)، تأليف: الشيخ محمّد عليّ التوحيدي التبريزي، مكتبة الداوري - قم المشرّفة، المطبعة العلميّة، الطبعة الأولى المحقّقة.

60. مصباح الفقيه، المحقّق آقا رضا الهمداني (قدس سره) (ت1322ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد الباقري، الشيخ نور عليّ النوري، الشيخ محمّد الميرزائي، الناشر: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث - قم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1417ﻫ.

61. معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ت395ﻫ)، تحقيق: عبد السلام محمّد هارون، الناشر: مركز النشر - مكتب الإعلام الإسلامي، 1404ﻫ.

62. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، أبو محمّد، عبد الله بن يوسف ابن هشام الأنصاري المصري (ت761ﻫ)، تحقيق: محمّد محي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر، مطبعة المدني - القاهرة، 1404ﻫ.

63. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق أبو جعفر، محمّد بن عليّ بن الحسين بن

ص: 294

موسى بن بابويه القمّي (قدس سره) (ت381ﻫ)، صحّحه وعلّق عليه: الشيخ عليّ أكبر الغفّاري، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الثانية، 1404ﻫ.

64. مناقب الخوارزمي، الموفّق بن أحمد بن محمّد البكري المكّي الخوارزمي (ت568ﻫ)، تحقيق: الشيخ مالك المحمودي، مؤسّسة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الثانية، 1411ﻫ.

65. منتقى الأصول، تقرير أبحاث السيّد محمّد الحسيني الروحاني (قدس سره) ، الشهيد السيّد عبد الصاحب الحكيم (قدس سره) ، المطبعة: الهادي، الطبعة الثانية، 1416ﻫ.

66. منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث الميرزا محمّد حسين الغروي النائيني (قدس سره) (ت1355ﻫ)، تأليف: الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الأولى، 1418ﻫ.

67. موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) ، تقرير أبحاث السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدس سره) (ت1413)، الناشر: مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة الأولى، مكان الطبع: قم المشرّفة، 1418ﻫ.

68. موسوعة السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (ت1400ﻫ)، إعداد: المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر - لجنة التحقيق، الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر - قم المشرّفة، 1434ﻫ.

69. نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية، الشيخ مقداد بن عبد الله السيوري

ص: 295

الحلّي المشهور بالمقداد السيوري (ت826ﻫ)، تحقيق: السيّد عبد اللطيف الكوهكمري، الناشر: مكتبة السيّد المرعشي، طبع: مطبعة الخيام - قم، التاريخ: 1403ﻫ.

70. نهاية الأفكار، آغا ضياء الدين العراقي (قدس سره) (ت1361ﻫ)، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة - إيران تاريخ النشر: 1405ﻫ.

71. نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدس سره) (ت 1361ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - بيروت لبنان، الطبعة الثانية، 1429ﻫ.

72. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104ﻫ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرّفة، الطبعة الثانية، 1414ﻫ.

ص: 296

رسالتان في الكرّ من إفادات الفقيه المتألّه آية الله الميرزا مهديّ الأصفهانيّ (قدس سره) - مجلّة دراسات علميّة

اشارة

رسالتان في الكرّ

من إفادات

الفقيه المتألّه آية الله

الشیخ الميرزا مهديّ الغروی الأصفهانيّ (قدس سره)

(1303 - 1365 ﻫ)

رسالة بقلمه الشریف

و أخری بقلم تلمیذه آیة الله

الشیخ هاشم القزوینی (قدس سره)

(1309 - 1380 ﻫ)

تحقيق

مجلّة دراسات علميّة

ص: 297

ص: 298

مقدّمة التّحقيق

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.

وبعد، فإنّ من المسائل الّتي أشبعها الفقهاء بحثاً وتحقيقاً هي معرفة حدّ الكرّ؛ لما لها من أهمّيّة - كسائر مسائل الفقه - باعتبار تعلّقها بتصحيح عبادات المكلّفين.

وهذه الرّسالة وإن تناولت الموضوع ذاته - حدّ الكرّ - إلّا أنّ أهمّيّتها تكمن في ما خَلُص إليه مؤلّفها ممّا لم يكن مطروحاً في كلمات المتأخّرين - كما ستعرف - حيث إنّ المعروف بينهم أنّ لتحديد الكرّ طريقين: الوزن والحجم، فتناولوا بحث كلٍّ منهما مع الاختلاف في مقداره، وكيفيّة التّوفيق بين الكرّ الوزنيّ والكرّ الحجميّ، بينما مؤلّف هذه الرّسالة ينكر فيها تحديد الكرّ بالوزن أصلاً، فمن هنا رجح في النّظر أن نقدّمها للمختصّين والمهتمّين عسى أن نكون بذلك قد ساهمنا في رفد المكتبة الإسلاميّة بما هو نافع ومفيد.

ومن الجدير بالذّكر أنّ ما بين يديك - عزيزي القارئ - يضمّ بين دفّتيه رسالتين

ص: 299

للميرزا مهديّ الأصفهانيّ (قدس سره) حول مسألة الكرّ، الأولى بقلمه المبارك، والأخرى بقلم تلميذه الشّيخ هاشم القزوينيّ (قدس سره) تقريراً لما ضبطه عنه في مجلس الدّرس، وهي وإن لم تختلف كثيراً في مضمونها عن الرّسالة الأولى إلّا أنّ الّذي دعانا لنشرها أنّها هي الّتي أرسلها الميرزا مهديّ الأصفهانيّ إلى شيخه الميرزا النّائينيّ(1) (قدس سرهما) واطّلع عليها الشّيخ حسين الحلّيّ وجملة من تلامذته (قدس سرهم).

المؤلّف في سطور

اشارة

يُعدُّ الميرزا مهديّ الغرويّ الأصفهانيّ (قدس سره) من مشاهير علماء الإماميّة في القرن الهجريّ الرّابع عشر، وقد أثنى عليه وأشاد بمكانته العليا في العلم والدّين كبار المراجع والأعلام، فقد وصفه الميرزا النّائينيّ (قدس سره) بقوله: (العالم العامل، والنّقيّ الفاضل، العلم العلّام، والمهذّب الهُمام، ذو القريحة القويمة، والسّليقة المستقيمة، والنّظر الصّائب، والفكر الثّاقب، عماد العلماء، وصفوة الفقهاء، والورع التّقيّ، والعدل الزّكيّ..)(2)، ووصفه الشّيخ عبد الكريم الحائريّ (قدس سره) بقوله: (العالم الفاضل، المحقّق المدقّق، زبدة العلماء الرّاشدين، وقدوة الفقهاء والمجتهدين..)(3).

اهتمّ (قدس سره) في بداية مشواره العلميّ بدراسة الفلسفة، ثُمّ العرفان، وظلّ مشتغلاً بهما لسنوات عديدة، باحثاً جادّاً مثابراً، وألّف فيهما رسائل عديدة، ثُمّ انطلق بنظرة

ص: 300


1- يلاحظ: نقباء البشر في أعلام القرن الرّابع عشر: 5/ 417.
2- في إجازته بالاجتهاد.
3- في إجازته بالاجتهاد.

معرفيّة جديدة تستند كلّيّاً إلى مصادر الوحي، وتدعو إلى فكّ الارتباط بين الشّريعة ومعارف الدّين، وبين سائر العلوم الأُخر، ومنها العلمان المذكوران - الفلسفة والعرفان المبتني عليها - لما تُلقيه تلك العلوم من ظلالها في فهم النّصّ الدّينيّ، فبذلك تكون المعرفة المستفادة من النّصّ الدّينيّ دينيّة صافية ليس فيها شوائب أو تأثيرات علوم أُخر. وهذا ما يُعرف اليوم ب-(مدرسة التّفكيك) ويُراد بها التّنقية والتّأصيل كما عرفت، ورائدها الميرزا مهديّ الأصفهانيّ (قدس سره) الّذي عكس معالم هذه المدرسة بوضوح في ما وصلنا من تراثه.

وقد أُلّف في ترجمته والتّعريف بفكره ومنهجه العديد من الكتب، ولذلك سنكتفي هنا بذكر سطور من حياته الشّريفة(1):

· هو الميرزا محمّد مهديّ(2) نجل الميرزا إسماعيل الأصفهانيّ الغرويّ.

· ولد (قدس سره) في شهر محرّم الحرام سنة (1303ﻫ) في مدينة أصفهان.

· درس المقدّمات والسّطوح لدى والده وبعض علماء أصفهان (قدس سرهم).

· توفّي والده وهو في سنّ التّاسعة من عمره، وتولّى رعايته آقا رحيم أرباب (قدس سره) (وهو من علماء أصفهان).

ص: 301


1- استفدناها من جملة من المصادر، أهمّها: نقباء البشر في القرن الرّابع عشر: 5/ 417 - 418، مستدرك سفينة البحار: 10/ 517 - 520، مكتب تفكيك (فارسيّ)، متألّه قرآنيّ، زندگى نامه ميرزا مهديّ أصفهانيّ، ميرزا مهديّ الأصفهانيّ رائد التّفكيك في المعرفة الدّينيّة: 53 - 80.
2- وقّع (قدس سره) بقلمه الشّريف في كثير من إجازاته باسم (محمّد مهديّ)، كما أنّه سمّى نفسه في مقدّمة جملة من آثاره منها أبواب الهدى: (محمّد المدعو بالمهديّ).

· هاجر (قدس سره) إلى كربلاء المقدّسة سنة (1315ﻫ) لإكمال دراسته في حوزتها العلميّة، وتولّى رعايته العلميّة والعمليّة هناك السّيّد إسماعيل الصّدر (قدس سره) (ت 1338ﻫ) بتوصية من آقا رحيم أرباب (قدس سره).

· ثُمّ هاجر (قدس سره) إلى النّجف الأشرف بأمر أستاذه السّيّد إسماعيل الصّدر (قدس سره) (ت 1338 ﻫ) للتّزوّد من أعلام حوزتها العلميّة، وحضر أبحاث الفقه لدى السّيّد محمّد كاظم الطّباطبائيّ اليزديّ (قدس سره) (ت 1337ﻫ)، وأبحاث الأصول لدى الشّيخ محمّد كاظم الآخوند الخراسانيّ (قدس سره) (ت 1329ﻫ)، وخصّه الميرزا محمّد حسين النّائينيّ (قدس سره) (ت 1355ﻫ) بالبحث الفقهيّ والأصوليّ بمفرده لفترة من الزّمن قبل أن ينظمّ إليه السّيّد جمال الدّين الگلپايگانيّ (قدس سره) ومن بعده خمسة آخرون في دورته الأولى الخاصّة، ودرس الفلسفة لدى الشّيخ مرتضى الطّالقانيّ (قدس سره) ، كما حضر لدى السّيّد أحمد الكربلائيّ (رحمة الله) (ت 1332ﻫ) والشّيخ محمّد بهاريّ (رحمة الله) (ت 1325ﻫ) في العرفان، وشهد له أوّلهما ببلوغه مقام معرفة النّفس ومرتبة التّجريد، وهو ما يُعرف بخلع البدن.

· أجازه بالاجتهاد أعلام عصره وأساطين الحوزات العلميّة، فقد حرّر الشّيخ الميرزا محمّد حسين النّائينيّ (قدس سره) إجازة للمترجم له بتأريخ شهر شوّال لسنة (1338ﻫ)، وأيّدها بالتّذييل والتّوقيع عليها الشّيخ آقا ضياء الدّين العراقيّ (ت 1361ﻫ) والسّيّد أبو الحسن الأصفهانيّ (ت 1365ﻫ) والشّيخ عبد الكريم الحائريّ (ت 1355ﻫ) (قدس سرهم).

ص: 302

· ثمّ عاد إلى إيران مستوطناً مدينة مشهد المقدّسة سنة (1340ﻫ)(1) أو (1344ﻫ)(2) أو (1345ﻫ)(3) على خلاف في ضبط سنة عودته، وذلك بعد مروره بمدينة بروجرد، ولقاء السّيّد حسين البروجرديّ (ت 1383ﻫ) (قدس سره) قبل انتقاله إلى قم المشرّفة، ومروره - أيضاً - بمدينة أراك، وحضوره بعض دروس الشّيخ عبد الكريم الحائريّ (ت 1355ﻫ) (قدس سره).

وفي بداية وصوله إلى مشهد شرع بتدريس تقريرات أستاذه النّائينيّ (قدس سره) في الفقه والأصول في حلقة خاصّة، ثُمّ بعد ذلك أصبح الدّرس عامّاً، فأخذ يتطرّق لبيان آرائه الشّخصيّة، وبدأ بطرح البحوث المعرفيّة ضمن دروسه الفقهيّة والأصوليّة، ثُمّ بعد ذلك بدأ بتدريس المعارف العقائديّة بشكلٍ مستقلٍّ، وإلى جنب ذلك عقد درساً عامّاً في أيّام الخميس والجمعة يحضره مختلف طبقات المجتمع يتناول فيه مزيجاً من المعارف العقائديّة والبحوث الأخلاقيّة.

تلامذته

تلمذ عليه الكثير، نذكر منهم:

1. السّيّد حسين الحائريّ الكرمانشاهيّ (قدس سره) (ت 1366 ﻫ).

2. الشّيخ محمّد حسن البروجرديّ (قدس سره) (ت 1369 ﻫ).

ص: 303


1- يلاحظ: مكتب تفكيك: 219، نگاه حوزة: 5/ 6.
2- يلاحظ: نقباء البشر في أعلام القرن الرّابع عشر: 5/ 417.
3- يلاحظ: متألّه قرآنيّ: 411، زندگى نامه ميرزا مهديّ أصفهانيّ.

3. الشّيخ عليّ أكبر النّوغانيّ (قدس سره) (ت 1369 ﻫ).

4. الشّيخ عليّ محدّث الخراسانيّ (قدس سره) (ت 1370 ﻫ).

5. السّيّد صدر الدّين الصّدر (قدس سره) (ت 1373 ﻫ).

6. الشّيخ غلام حسين المحامي بادكوبه اي (قدس سره) (ت 1373 ﻫ).

7. الشّيخ زين العابدين الغياثيّ التّنكابنيّ (قدس سره) (ت 1376 ﻫ).

8. الشّيخ غلام عليّ الفائقيّ (قدس سره) ( ت 1377 ﻫ).

9. الشّيخ هاشم القزوينيّ (قدس سره) (ت 1380 ﻫ).

10. الشّيخ محمّد رضا المحقّق النّيشابوريّ (قدس سره) ( 1382 ﻫ).

11. الشّيخ مجتبى القزوينيّ (قدس سره) ( ت 1386 ﻫ)

12. الشّيخ محمّد رضا الخدائيّ الدّامغانيّ (قدس سره) (ت 1397 ﻫ).

13. السّيّد إبراهيم الرّبّانيّ التّربتيّ (قدس سره) (ت 1398 ﻫ).

14. الشّيخ محمّد كاظم المهدويّ الدّامغانيّ (قدس سره) (ت 1401 ﻫ).

15. السّيّد مرتضى العسكريّ الطّباطبائيّ (قدس سره) (ت 1404 ﻫ).

16. الشّيخ عليّ النّمازيّ الشّاهروديّ (قدس سره) (ت 1405 ﻫ).

17. الأستاذ محمّد تقي الشّريعتيّ مزينانيّ (قدس سره) (ت 1407 ﻫ).

18. السّيّد محمّد باقر ابن السّيّد عبد الحيّ الطّباطبائيّ النّجفيّ اليزديّ (قدس سره) (ت 1407 ﻫ).

19. الشّيخ محمّد الحفيظيّ الإيوَقيّ (قدس سره) (ت 1408 ﻫ).

20. الميرزا جواد آقا الطّهرانيّ (قدس سره) (ت 1409 ﻫ).

21. الشّيخ عبد الله واعظ اليزديّ (قدس سره) (ت 1412 ﻫ).

ص: 304

22. الشّيخ محمّد رضا المحقّق الطّهرانيّ (قدس سره) (ت 1415 ﻫ).

23. الشّيخ محمّد باقر المحسنيّ الملايريّ (قدس سره) (ت 1416 ﻫ).

24. الشّيخ محمود الحلبيّ التّولّائيّ (قدس سره) (ت 1418 ﻫ).

25. الشّيخ محمّد باقر الملكيّ الميانجيّ (قدس سره) (ت 1419 ﻫ).

26. الشّيخ عبد النّبيّ الكجوريّ (قدس سره) (ت 1419 ﻫ).

27. الشّيخ أبو القاسم يگانه (قدس سره) (ت 1421 ﻫ).

28. الشّيخ إسماعيل معتمد الخراسانيّ (قدس سره) (ت 1421 ﻫ).

29. الشّيخ عليّ أكبر الصّدر زاده الدّامغانيّ (قدس سره) (ت 1424 ﻫ).

30. الشّيخ ​​حسن عليّ المرواريد (قدس سره) (ت 1425 ﻫ).

31. السّيّد عليّ رضا القدّوسيّ (السّيّد رضا عليّ شاه الحسينيّ) (قدس سره) (ت 1429 ﻫ).

32. الشّيخ آقا جلال المرواريد (قدس سره) (ت 1435 ﻫ).

33. الشّيخ حسين وحيد الخراسانيّ (دام ظله).

34. السّيّد عليّ الحسينيّ السّيستانيّ (دام ظله).

مؤلّفاته

1. معارف القرآن، في أصول العقائد.

2. أبواب الهدى، يُعدّ خلاصة لكتاب (معارف القرآن).

3. أنوار الهداية.

4. القضاء والقدر والبداء.

5. رسالة في القرآن والفرقان المشهور ب- (تبارك).

ص: 305

6. إعجاز نامه (إجابة لأسئلة شاهزاده أفسر حول القرآن الكريم).

7. معراج القرب (أو: غاية المُنى ومعراج القُرب واللّقاء)، حول الصّلاة.

8. الصّوارم العقليّة على تأويل الأحاديث المرويّة والمقامع العلميّة على مفارق الشّيخيّة.

9. الطّبيعيّات، وبعض الرّسائل الأُخر حول خلقة العالم وخلق الإنسان والعوالم السّابقة.

10. الأصول الوسيط.

11. مصباح الهدى، في أصول الفقه.

12. المواهب السّنيّة والعنايات الرّضويّة، في شرح المعاريض والتّورية الواردة في الكتاب والسّنّة.

13. الاجتهاد والتّقليد، في بيان حقيقة الإفتاء والتّقليد.

14. رسالة أخرى في الاجتهاد والتّقليد(1).

15. رسالة في الكرّ، وهي هذه الرّسالة الّتي بين يديك عزيزي القارئ.

ص: 306


1- قال الشّيخ آقا بزرگ الطّهرانيّ بعد تعداده للمؤلّفات: (وقد وجدتُ هذه الأربعة الأخيرة مع رسالة الكرّ عند السّيّد عليّ السّيستانيّ، وللسّيّد السّيستانيّ تعليق على المواهب السّنيّة سمّاه بالإفاضات الغرويّة)، يلاحظ: نقباء البشر في القرن الرّابع عشر: 5/ 418. أقول: والمقصود برسالة الكرّ هي الرّسالة الثّانية (التّقرير)، فإنّها هي الموجودة - حسبما علمنا - عند سماحة السّيّد السّيستانيّ (دام ظله العالی) ، وقد استنسخها من نسخة المرحوم الشّيخ صدرا البادكوبيّ (قدس سره) الّذي كان قد استنسخها من نسخة الشّيخ الحلّيّ (قدس سره).

وبعض الرّسائل الأُخر الفقهيّة، بالإضافة إلى مجموعات مدوّنة بقلمه الشّريف سُمّيت الواحدة منها ب- (فهرست)، وهي محاور علميّة كتبها (قدس سره) لنفسه قبل البدء بإلقاء الدّروس، ومنها (فهرست معارف)، و(فهرست أصول).

تقريرات دروسه

وقد قرّر دروسه بعضُ تلامذته، وأبرزها هو التّقرير الّذي كتبه المرحوم الشّيخ محمود الحلبيّ (قدس سره) ، ويشتمل على سلسلة في الأصول، ودورة في المعارف، ومن خصائص هذا التّقرير أنّ الميرزا الأصفهانيّ كان قد اطّلع عليه، وأجرى بعض الإصلاحات الضّروريّة في نصّه. وهناك ثمّة تقريرات أُخر، منها: تقرير الشّيخ محمّد حسن البروجرديّ، وتقرير الشّيخ عليّ النّمازيّ، وتقرير الشّيخ محمّد باقر الملكيّ الميانجيّ.

وقد عنيت في يومنا هذا مؤسّسة معارف أهل البيت (علیهم السلام) في قم المشرّفة بتحقيق ونشر تراث أعلام مدرسة التّفكيك، وفي طليعتهم الميرزا مهديّ الأصفهانيّ (قدس سره).

وفاته

فاضت روحه الطّاهرة في التّاسع عشر من ذي الحجّة الحرام من سنة (1365ﻫ) في مدينة مشهد المقدّسة، وحُمل نعشه الطّاهر على أكتاف المشيّعين بعد أن صلّى عليه السّيّد يونس الأردبيليّ (قدس سره) ، ووري جثمانه الثّرى في دار الضّيافة في حرم الإمام الرّضا (علیه السلام) ، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يُبعث حيّاً.

ص: 307

المقرِّر في سطور

اشارة

يُعدُّ الفقيه العارف الزّاهد الشّيخ هاشم القزوينيّ (قدس سره) من كبار علماء وأساتذة الحوزة العلميّة في مدينة مشهد المقدّسة، وكان متميّزاً ببراعة البيان وتسلّطه على المطالب، فحضر دروسه الكثير من الطّلبة حتّى عُرف ب-(المدرّس)، وقد ارتقى منبر التّدريس سطحاً عالياً وخارجاً لحدود أربعين سنة، وقد أُلّف - أيضاً - في ترجمته العديد من الكتب والمقالات، فسنكتفي هنا بذكر سطور عن حياته الشّريفة(1):

· هو الشّيخ محمّد هاشم نجل الحاجّ محمّد مهديّ القزوينيّ الأفشاريّ (قدس سره) (2).

· ولد حدود سنة (1309ﻫ) في قرية (قلعة هاشم خان) إحدى قرى مدينة قزوين الإيرانيّة والّتي تُعرف اليوم باسم (بوئين زهرا).

· درس المقدّمات والأدب والسّطوح في قزوين لدى أساتذة معروفين، منهم الملّا عليّ الطّارميّ والآخوند ملّا عليّ أكبر (قدس سرهما) ، كما درس الفلسفة (الإشراقيّة والمشّائيّة) لدى السّيّد موسى الزّرآباديّ القزوينيّ (قدس سره) (ت 1353ﻫ).

ص: 308


1- استفدناها من جملة من المصادر، أهمّها: نقباء البشر في القرن الرّابع عشر: 5/ 573، فقيه آزادگان (فارسيّ)، احياگر حوزة خراسان (فارسيّ)، تاريخ حكما وعرفاى متأخّر (فارسيّ)، مكتب تفكيك (فارسيّ)، مجلّة كيهان فرهنگي العدد 95 (فارسيّ)، مجلّة نگاه حوزة العدد 6 (فارسيّ)، أبواب الهدى (المقدّمة)، ميرزا مهديّ الأصفهانيّ رائد التّفكيك في المعرفة الدّينيّة.
2- كذا وقّع (قدس سره) بقلمه الشّريف في ذيل بعض آثاره، كتقريره لأبحاث الشّيخ موسى الخوانساريّ، وكما نقل عنه آقا بزرگ الطّهرانيّ أنّه حدّثه بذلك.

· هاجر إلى أصفهان، وبقي فيها ستّ سنوات؛ لإكمال دراسته، فتلمذ في الفقه والأصول لدى السّيّد محمّد باقر الدّرچه اي (ت 1342 ﻫ) والشّيخ عبد الكريم الجزّيّ (ت 1339ﻫ)، والشّيخ محمّد إبراهيم الكلباسيّ (ت 1362ﻫ)، والشّيخ محمّد حسين الفشاركيّ (ت 1353ﻫ) (قدس سرهم) ، وتلمذ في الفلسفة لدى الملّا محمّد الكاشانيّ (ت 1333 ﻫ) والميرزا جهانگير خان القشقائيّ الأصفهانيّ (ت 1328ﻫ) (قدس سرهما) ، وفي خلال هذه الفترة رجع إلى قزوين، فأقام بها فترة قصيرة، كما هاجر خلالها - أيضاً - إلى النّجف الأشرف، وبقي فيها سنتين ونيّف؛ للتّزوّد من أعلام حوزتها، فحضر أبحاث الميرزا النّائينيّ(1) (ت 1355ﻫ) والسّيّد أبو الحسن الأصفهانيّ (ت 1365ﻫ) والشّيخ ضياء الدّين العراقيّ (ت 1361ﻫ) (قدس سرهم).

· ثمّ هاجر إلى مدينة مشهد المقدّسة حدود سنة (1340ﻫ)، وحضر الأبحاث العالية لدى السّيّد عليّ السّيستانيّ (ت 1340ﻫ) والشّيخ موسى الخوانساريّ (ت 1363ﻫ) والسّيّد حسين القمّيّ (ت 1366ﻫ) والميرزا ​​محمّد آقا زاده الخراسانيّ (ت 1356ﻫ) - نجل الشّيخ الآخوند الخراسانيّ - والميرزا ​​مهديّ الأصفهانيّ (ت 1365 ﻫ) (قدس سرهم) ، وغيرهم.

· أجازه بالاجتهاد الأعلام الثّلاثة الأواخر من أساتذته في مشهد، وأيّدها ووقّع عليها السّيّد أبو الحسن الأصفهانيّ (قدس سره) (ت 1365 ﻫ) بقوله (صدر عن أهله

ص: 309


1- يلاحظ: شيخ ناشناخته (فارسيّ): 20.

في محلّه)، كما أجازه الميرزا النّائينيّ (قدس سره) (ت 1355ﻫ) بعد أن اطّلع - بواسطة الشّيخ محمّد كاظم الدّامغانيّ (قدس سره) (ت 1401 ﻫ) - على تقريراته لدرس الشّيخ موسى الخوانساريّ (قدس سره) (ت 1363ﻫ) في اللّباس المشكوك.

·وقد أعجبته كثيراً آراء ومباني أستاذه الميرزا مهديّ الأصفهانيّ (قدس سره) ، فلازمه إلى آخر عمره، ولم يفارقه إلّا أيّام الإقامة الجبريّة الّتي فُرضت عليه من السّلطة جرّاء حادثة الهجوم على جامع گوهرشاد، وكان في غاية الأدب والحبّ والاحترام معه، حتّى أنّه جاء عنه في مطلع بعض مكاتيبه إليه قوله: (فداك أبي وأمّي)، وقد تتلمذ عنده دورة تقريرات الميرزا النّائينيّ، وكذلك المعارف الإلهيّة، وبعض علوم أخر قد خصّه الميرزا الأصفهانيّ بها.

·ترك من الآثار تقريرات الأصول للميرزا مهديّ الأصفهانيّ (قدس سره) بقلمه الشّريف، وتقرير مسألة الكرّ - الّتي بين يدينا -، كما قرّر مبحث اللّباس المشكوك للشّيخ موسى الخوانساريّ (ت 1363ﻫ) (قدس سره). وجميع مخطوطات مؤلّفاته أهداها لخزانة مكتبة العتبة الرّضويّة.

·زاول تدريس السّطوح العالية والبحث الخارج في مدينة مشهد المقدّسة لسنين طويلة ناهزت الأربعين، حتّى لقّب ب-(المدرّس)، وقد عرف بسلاسة التّعبير وحسن البيان، فكان يبيّن المطالب العلميّة الصّعبة بأبسط العبارات وأوضحها، فصار يضرب به المثل في جودة بيانه ممّا سَبَّبَ في صيرورة درسه من أهمّ الدّروس في الحوزة العلميّة في مشهد المقدّسة.

ص: 310

من تلامذته

حضر دروسه في السّطوح العالية والخارج جمع غفير، منهم:

1. الميرزا مهديّ النّوغانيّ (قدس سره) (ت 1411 ﻫ).

2. الميرزا محمّد باقر الملکيّ الميانجيّ (قدس سره) (ت 1419 ﻫ).

3. المیرزا حسن عليّ مروارید (قدس سره) (ت 1425 ﻫ).

4. السّيّد حسين شمس الخراسانيّ (قدس سره) (ت 1441 ﻫ).

5. السّيّد عليّ الحسينيّ السّيستانيّ (دام ظله).

6. السّيّد عليّ الحسينيّ الخامنه اي (دام ظله).

7. الأستاذ محمّد رضا الحکیميّ.

· بالإضافة إلى مهامه الدّرسيّة في الحوزة كان مهتمّاً بالنّشاط التّبليغيّ حيث كان يذهب كلّ سنة في شهر رمضان إلى قريته في قزوين، ويقيم هناك مجالس الوعظ وإرشاد النّاس وقضاء حوائجهم.

· كان من جملة الأعلام الّذين اعترضوا ضدّ شاه إيران في مسألة إلزام النّساء بنزع الحجاب، وكان من جملة المجتهدين الثّمانية الّذين أرسلوا برقية إلى رضا شاه الپهلويّ، وحذّروه من قراره لكشف الحجاب قبل حادثة الهجوم على جامع گوهرشاد، فقامت السّلطة في 12 ربيع الآخر سنة (1354ﻫ) بجلبه مع بقيّة الأعلام، وإيقافهم في الحبس المؤقّت لمدّة أسبوع، وبعد ذلك أرسلوهم إلى طهران ليلاً مغلولي الأيدي، ولم يسمح لهم بالرّجوع إلى مشهد، فبقي في المنفى بقيّة أيّام رضا شاه.

ص: 311

· في سنة 1360ﻫ - بعدما عزل رضا شاه عن السّلطة - رجع إلى مشهد بطلب من أعلام حوزة مشهد المقدّسة، وفي طليعتهم أستاذه الميرزا مهديّ الأصفهانيّ.

· فاضت روحه الطّاهرة - بحسب ما مثبت على صخرة القبر الطّاهر - 22 ربيع الآخر سنة (1380ﻫ)، ودفن عند مدخل المرقد الرّضويّ المقدّس في رواق دار الضّيافة، على الجانب الشّماليّ من صحن آزاديّ، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يُبعث حيّاً.

ص: 312

وصف نسخ الرّسالتين
الرّسالة الأولى
اشارة

وقد اعتمدنا في تحقيقها على ستّ نسخ، وهي:

النّسخة الأولى

بخطّ تلميذه المرحوم الشّيخ محمّد رضا المحقّق النّيشابوريّ (قدس سره) ، وتاريخ نسخها (27 ربيع الآخر 1356ﻫ) أي قبل وفاة المؤلّف (قدس سره) بتسع سنوات، وهي بخطّ نستعليق، ومؤلّفة من (12) صفحة، بمعدل (18) سطراً في كلّ صفحة، وتحمل عنوان (رسالة الكرّ).

مصوّرة هذه النسخة محفوظة لدى مؤسّسة معارف أهل البيت (علیهم السلام).

وقد جعلناها نسخة الأصل في التّحقيق.

النّسخة الثّانية

بخطّ تلميذه السّيّد محمّد باقر ابن السّيّد عبد الحيّ الطّباطبائيّ النّجفيّ اليزديّ (قدس سره) ، وتاريخ نسخها (11 ذي القعدة 1362ﻫ) أي قبل وفاة المؤلّف (قدس سره) بثلاث سنوات، وهي بخطّ النّسخ، ومؤلّفة من (12) صفحة، بمعدل (16) سطراً في كلّ صفحة، وتعلو جميع أوراقها الاستعانة بصاحب الزّمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف).

وقد نشر النّاسخ (السّيّد محمّد باقر الطّباطبائيّ) مصوّرتها منضمّة إلى مصوّرات أُخر للمؤّلف - مع مقدّمة مفصّلة باللّغة الفارسيّة في ترجمة المؤلّف وبيان موقف الأعلام من الفلسفة والعرفان - في مجلّد واحد عبر مطبعة سعيد بتاريخ (مهر ماه 1363 ﻫ.ش).

وقد رمزنا لهذه النّسخة بالحرف (ط).

النّسخة الثّالثة

بخطّ تلميذه المرحوم الشّيخ عليّ أكبر الصّدر زاده (قدس سره) ، بلا تاريخ نسخ، وهي بخطّ نستعليق، ومؤلّفة من (20) صفحة، بمعدل (15) سطراً في

ص: 313

كلّ صفحة، وتحمل عنوان (وجيزة في الكرّ).

أصل هذه النّسخة محفوظ لدى نجل الفقيد آقا محمّد الصّدر زاده، ومصوّرتها محفوظة لدى مؤسّسة معارف أهل البيت (علیهم السلام) تحت تسلسل (2013).

وقد رمزنا لهذه النّسخة بالحرف (ص).

النّسخة الرّابعة

بخطّ تلميذه المرحوم السّيّد مرتضى العسكريّ (قدس سره) ، بلا تاريخ نسخ، وهي بخطّ النّسخ، ومؤلّفة من (11) صفحة، بمعدل (20) سطراً في كلّ صفحة.

أصل هذه النّسخة محفوظ في خزانة مخطوطات العتبة الرّضويّة المقدّسة، ومصوّرتها محفوظة لدى مؤسّسة معارف أهل البيت (علیهم السلام) تحت تسلسل (2012).

وقد رمزنا لهذه النّسخة بالحرف (ع).

النّسخة الخامسة

بخطّ تلميذه السّيّد رضا عليّ شاه الحسينيّ (قدس سره) ، وبلا تاريخ نسخ، وهي بخطّ نستعليق، ومؤلّفة من (11) صفحة، بمعدل (19) سطراً في كلّ صفحة.

مصوّرة هذه النسخة محفوظة لدى مؤسّسة معارف أهل البيت (علیهم السلام).

وقد رمزنا لهذه النّسخة بالحرف (ش).

النّسخة السّادسة

نسخة العتبة الرّضويّة المقدّسة، بلا تاريخ نسخ، وهي بخطّ النّسخ، ومؤلّفة من (10) صفحات، بمعدل (22) سطراً في كلّ صفحة.

أصل هذه النّسخة محفوظ في خزانة مخطوطات العتبة الرّضويّة بتاريخ (1362 ﻫ. ش) بواسطة المرحوم الميرزا عليّ رضا ابن الميرزا مهديّ (قدس سره) ، ومصوّرتها محفوظة لدى مؤسّسة معارف أهل البيت (علیهم السلام) تحت تسلسل (1184).

وقد رمزنا لهذه النّسخة بالحرف (أ).

ص: 314

الرّسالة الأخرى

بخطّ الشّيخ حسين الحلّيّ (قدس سره) ، وتاريخ نسخها (17 صفر 1349ﻫ) عن نسخة مصنّفها، وهي بخطّ النّسخ، ومؤلّفة من (8) صفحات، بمعدل (21) سطراً في كلّ صفحة، والّتي هي محفوظة - مع مجموع تراث الشّيخ الحلّيّ (قدس سره) - في خزانة مكتبة معهد العلمين للدّراسات العليا في النّجف الأشرف.

ص: 315

عملنا في التّحقيق

1. صف الحروف، وضبطها بمطابقتها مع الأصل.

2. مقابلة النّسخ، وإثبات الاختلاف بينها في الهامش.

3. ضبط النّصّ وفق القواعد الإملائيّة والنّحويّة واللّغويّة، ووضع علائم التّرقيم من دون الإشارة إلى جميع ذلك.

4. تشكيل النّصّ وتقطيعه بما يفضي إلى فهمه بشكلٍ واضح.

5. جعل الإضافات بين معقوفين، وما لم نذكر مصدره فهو منّا لاقتضاء السّياق إليه.

6. تخريج الأقوال الواردة في النّصّ من مصادرها.

7. وضع فهرس لبيان المصادر المعتمدة في التّحقيق.

وفي الختام نتقدّم بالشّكر الجزيل لكلّ من ساهم في إنجاز هذا العمل لا سيّما مؤسّسة معارف أهل البيت (علیهم السلام) لتوفيرهم النّسخ الّتي أشرنا إليها من الرّسالة الأولى، وفضيلة (الشّيخ محمّد جواد إسلاميّ فر) لما تفضّل به من ترجمة النّصوص محلّ الحاجة من اللّغة الفارسيّة إلى العربيّة، فلهم منّا جميعاً عظيم الامتنان، ونسأله تعالى أن يتقبّل بلطفه وكرمه هذا القليل، وله الحمد أوّلاً وآخراً.

وكتب الرّاجي عفو ربّه الغنيّ

جواد الموسويّ الغريفيّ

النّجف الأشرف / 22شعبان المعظّم 1442 ﻫ

ص: 316

صورة

الصّفحة الأولى من الأصل للرّسالة الأولى

ص: 317

صورة

الصّفحة الأخيرة من الأصل للرّسالة الأولى

ص: 318

صورة

الصّفحة الأولى من النّسخة (ط) للرّسالة الأولى

ص: 319

صورة

الصّفحة الأخيرة من النّسخة (ط) للرّسالة الأولى

ص: 320

صورة

الصّفحة الأولى من النّسخة (ص) للرّسالة الأولى

ص: 321

صورة

الصّفحة الأخيرة من النّسخة (ص) للرّسالة الأولى

ص: 322

الصّفحة الأولى من النّسخة (ع) للرّسالة الأولى

ص: 323

صورة

الصّفحة الأخيرة من النّسخة (ع) للرّسالة الأولى

ص: 324

صورة

الصّفحة الأولى من النّسخة (ش) للرّسالة الأولى

ص: 325

صورة

الصّفحة الأخيرة من النّسخة (ش) للرّسالة الأولى

ص: 326

صورة

الصّفحة الأولى من النّسخة (أ) للرّسالة الأولى

ص: 327

صورة

الصّفحة الأخيرة من النّسخة (أ) للرّسالة الأولى

ص: 328

صورة

الصّفحة الأولى من الرّسالة الأخرى

ص: 329

صورة

الصّفحة الأخيرة من الرّسالة الأخرى

ص: 330

رسالة في الكرّ - الشیخ الميرزا مهديّ الغروی الأصفهانيّ (قدس سره)

اشارة

تألیف

الفقيه المتألّه آية الله

الشیخ الميرزا مهديّ الغروی الأصفهانيّ (قدس سره)

(1303 - 1365 ﻫ)

تحقيق

مجلّة دراسات علميّة

ص: 331

ص: 332

بسم الله الرحمن الرحیم(1)

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين، والسّلام على محمّد(2) وآله المعصومين الطّاهرين أجمعين، واللّعنة على أعدائهم أبد الآبدين(3).

أمّا بعدُ، فهذه رسالة في أنّ الكرَّ المحدّد(4) للماء العاصم في الشّريعة المقدّسة الختميّة ليس بنفسه من الأوزان، ولا متعيّناً بها بالتّبع، بل كيلٌ مدوّرٌ سعتُهُ ثلاثة

ص: 333


1- في (ع): لم ترد البسملة.
2- في (ص) زيادة: (صلّى الله عليه).
3- ورد الحمد والصّلاة والسّلام في (ط) بالصّيغة التّالية: (الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين أجمعين، واللّعنة على أعدائهم من الآن إلى قيام يوم الدّين). وفي (ش): (الحمد لله الّذي خلق الماء بقدرته، وجعله طاهراً برحمته، ومطهّراً لعباده برأفته، والصّلاة والسّلام على نبيّه المصطفى وعبده المجتبى، المبعوث على كافّة الجنّ والإنس، ليزكّيهم من كلّ دنس ورجس، وعترته المنتجبين، عاصم من اعتصم بهم، وهالك مَنْ تخلّف عنهم، هم دعائم الإسلام، وعليهم من الله ألف ألف صلاة وسلام.
4- في (ع، ص): (المحدود) بدل (المحدّد).

أشبارٍ ونصفٍ في عمقٍ(1) كذلك(2)، وهي مشتملةٌ على مقدّمة ومقصدين وخاتمة:

أمّا المقدّمة ففي بيان أمور

الأمر الأوّل

أنّ من نظر إلى بدء تكامل كلّ(3) أمّة وارتقائهم في المدنيّة يشاهدُ اختلاف الأشياء كيلاً(4) وعدداً، وأنّ ما كان مكيلاً(5) قد ينقلب بالتّدريج(6) موزوناً، وقد لا ينقلب، بل يبقى مكيلاً(7) ولو في حال(8) عزّة وجوده، فما قيل من أنّ الوزن أصل في(9) الكيل؛ لأنّه أضبط(10) كلامٌ(11) خالٍ عن التّحصيل، وذلك يظهر

ص: 334


1- في (ش): (وعمق) بدل (في عمق).
2- في (ع): (كذا) بدل (كذلك).
3- في (ص) لم يرد: (كلّ).
4- في (ش) لم يرد: (كيلاً).
5- في (ش) زيادة: (إمّا).
6- في (ش) زيادة: (ويصير).
7- في (ش) زيادة: (على حاله).
8- في (ط): (حالة) بدل (حال).
9- في باقي النّسخ لم يرد: (في).
10- يلاحظ: المكاسب: 4/ 223، وقد حُكي أصل القول في مصادر متعدّدة، منها: غاية المرام في شرح شرائع الإسلام: 2/ 82، الدّروس الشّرعيّة في فقه الإماميّة: 3/296، الرّوضة البهيّة في شرح اللّمعة الدّمشقيّة: 3/ 266.
11- في (ط، ص) لم يرد: (كلام).

بالرّجوع إلى أهل الصّحاري، والبراري البعيدة عن المدن، فمن نظر نظراً تامّاً كاملاً في ارتقائهم، وتتبّع تواريخ(1) الأمم المختلفة، وكيفيّة ارتقائهم وسيرهم في أمور معاشهم ومدنيّتهم(2)، وتدريجيّة تكاملهم يُصدِّق من غير ريبٍ بأنّ الكيل أصل الوزن فإنّه بعد ارتقاء أمّة، وعزّة الشّيء قد يصير المكيل(3) موزوناً، ويوجد الوزن من حيث الموضوعيّة، ويخترع باختلاف مراتبه حتّى يخترع وزن لا اختلاف في أصله(4)، ولا مسامحة فيه ولو يسيراً، كما هو المتعارف الآن في أوزان الغربيّين.

الأمر الثانی

الأمر(5) الثّاني: بعد ما عرفت أنّ لبعض المكيلات سيراً طبيعيّاً في طيّ مدارج ارتقاء الأمم وتكاملهم، ظهر(6) أنّ هذا السّير الطّبيعيّ جارٍ بعينه في ألفاظ مكاييلهم في معاملاتهم ومعاشراتهم حذو النّعل بالنّعل، فتتدرّج الألفاظ الموضوعة للمكاييل خاصّة، فيطلق(7) على وزن ما يُكال بها طريقاً إلى قدر المكيال، ثُمّ ينقلب إطلاقها من حيث الطّريقيّة إلى الموضوعيّة بحيث لو أطلق لفظ منها على نفس الكيل يؤخذ طريقاً إلى الوزن، بل ربّما يُطلق على نفس الصّنج-[-ة](8) وما يوزن به.

ص: 335


1- في (ط): (تاريخ) بدل (تواريخ).
2- في (ع، ش، أ): (مدينتهم) بدل (مدنيّتهم).
3- في (ش) فوق (المكيل): (الكيل)، بلا شطب الأولى.
4- في (ط): (فيه) بدل (في أصله).
5- في (ط) لم يرد: (الأمر).
6- في (ط): (يظهر) بدل (ظهر).
7- في (ش) فوق (فيطلق): (ويطلق)، بلا شطب الأولى.
8- في (ط): (الصّاع) بدل (الصّنج). والصّنجة: صَنْجَة الميزان، ما يوزن به كالأوقيّة والرّطل، معرّب (سنگه) بالفارسيّة، ونقل الأزهريّ عن الفرّاء أنّها بالسّين (سنجة) ولا تُقال بالصّاد، وعَكَس ابن السّكّيت وابن قتيبة فقالا (صَنْجَة) بالصّاد ولا تُقال بالسّين، وفي نسخة من التّهذيب أنّهما لغتان والسّين أفصح. يلاحظ: المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير: 151 (س ن ج)، أقرب الموارد في فصح العربيّة والشّوارد: 2/ 726 (س ن ج).
الأمر الثّالث

الظّاهر، بل المقطوع أنّ الكُرّ من المكاييل، وأنّه(1) كان كيلاً لأهل العراق يكيلون به الطّعام، وصرّح بهذا جماعة من اللّغويّين كالهرويّ(2)، والقاموس(3)، والنّهاية(4)، والمجمع(5)، والبرهان القاطع(6)، وغياث اللّغة(7)، وجماعة من الفقهاء كالمحقّق ناقلاً عن اللّغة(8)، وكاشف الغطاء(9)، وبعض مشايخ صاحب الحدائق(10)، والمحقّق التّستريّ(11) (قدّس الله أسرارهم)، ومن الأدباء نجم

ص: 336


1- في حاشية (ش): (فإنّه)، بلا شطب (وأنّه).
2- يلاحظ: تهذيب اللّغة: 9/ 327، باب الكاف والرّاء.
3- يلاحظ: القاموس المحيط: 2/ 126، فصل الكاف من باب الرّاء.
4- يلاحظ: النّهاية في غريب الحديث والأثر: 4/ 162، مادّة (كرر).
5- يلاحظ: مجمع البحرين: 3/ 472، مادّة (كرر).
6- يلاحظ: البرهان القاطع: 3/ 1608.
7- غياث اللّغات (ط. حجريّ): 409 (باب كاف عربيّ).
8- يلاحظ: المعتبر في شرح المختصر: 1/ 47.
9- يلاحظ: كشف الغطاء عن مبهمات الشّريعة الغرّاء (ط. ق): 186.
10- يلاحظ: الحدائق النّاضرة في أحكام العترة الطّاهرة: 1/ 233، 266، 12/ 115.
11- يلاحظ: مقابس الأنوار ونفائس الأسرار: 75.

الأئمّة (قدس سره) ، فإنّه قال: (وما يُعرف به قدر المكيل(1) كالقفيز والكرّ)(2).

وأمّا الرّطل فهو أيضاً اسم لكيلٍ معيّن، والظّاهر: أنّه كان كيلاً يسع نصف المنّ من الخمر، كما في كتب اللّغة القديمة [الّتي] رأيناها في العتبة المقدّسة الرّضويّة، ففي مجمل اللّغة: (رطل: الّذي يُكال به)(3)، وفي ترجمان اللّغة: (رِطل ورَطل پيمانه نيم من)(4)(5)، وفي إجمال اللّغة: رطل(6): (جام شراب وپيمانه است)(7)، وفي غياث اللّغة: (رطل پيمانه نيم من وكاهى لفظ رطل بمعنى پياله شراب آيد)(8) وفي البرهان القاطع: (رطل گران: كنايت از پياله وپيمانه بزرگ باشد)(9)، وفي دائرة المعارف: (المُدّ مكيال، وهو رطلان عند أهل العراق، ورطل وثلث عند أهل الحجاز)(10)،

ص: 337


1- في سائر النّسخ (الكيل) بدل (المكيل)، وما أثبتناه من المصدر.
2- يلاحظ: شرح الرّضي على الكافية: 2/ 56.
3- مجمل اللّغة: 2/ 382، باب الرّاء والطّاء وما يثلثهما.
4- ترجمان اللّغة: 2/ 853، باب الطّاء، وفيه: (رطل - بفتح وكسر أوّل - دوازده أُوقيّة است). وترجمة ما ورد في المتن أعلاه: (رِطل ورَطل: كيل نصف المَنّ).
5- في (ط) أخّر نقل ما عن (مجمل اللّغة) و(ترجمان اللّغة) إلى ما بعد ما نقله عن (غياث اللّغة).
6- في (ع) لم يرد: (رطل).
7- عنه: مستدرك سفينة البحار: 4/ 165. وترجمته: (الرّطل: كأس الخمر و الكيل).
8- غياث اللّغات (ط. حجريّ): 234 (باب راء مهملة). وترجمته: (الرّطل: كيل يزن نصف المَنّ وبعض الأحيان يأتي لفظ الرّطل بمعنى کأس الخمر).
9- البرهان القاطع: 2/ 954. وترجمته: (رطل گران - باهظ الثّمن -: هو كناية عن كأس أو كيل كبير).
10- دائرة معارف القرن العشرين: 8/ 489 (مدّ).

وفي دستور اللّغة: (الرّطل نصف من القبّان)(1)، وقال الفاضل الخبير السّيّد عليّ خان الكبير(2) ناقلاً عن المغرب(3): (الرّطل - بالفتح والكسر - الّذي يوزن به أو يُكال [به])(4)، وفي الحدائق نقلاً عن مشايخه: (أنّ الكُرّ والرّطل مكيال)(5)، وفي رواية الكلبيّ النّسّابة في باب الأنبذة عن الصّادق (علیه السلام) - إلى أن قال: - فقلتُ: بأيّ الأرطال؟ فقال (علیه السلام) : (أرطال مكيال العراق)(6)، أو (العراقيّ)(7) على نسخةٍ.

نعم، لا تبعد صيرورته في الأزمنة المتأخّرة عن الصّادقَين حقيقة في الوزن كما يظهر من بعض اللّغويين والأدباء(8) حتّى نقل بعضهم أنّه موضوعٌ للصّنجة(9).

وممّا ذكرنا ظهر حال الصّاع، والمدّ وأنّهما من المكاييل، ففي دائرة المعارف:

ص: 338


1- يلاحظ: دستور اللّغة العربيّة (كتاب الخلاص): 1/ 516.
2- في (ش): فوق (الخبير) حرف (نون).
3- في (ط) زيادة: (اللّغة).
4- يلاحظ: الحدائق النّديّة في شرح الفوائد الصّمديّة: 332. وما بين المعقوفين من المصدر.
5- يلاحظ: الحدائق النّاضرة في أحكام العترة الطّاهرة: 12/ 115.
6- يلاحظ: الكافي: 12/ 729 - 732 ح 3، تهذيب الأحكام: 1/ 220 ح 12، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 16 ح 12.
7- لم أعثر على هذه النّسخة إلّا أنّها نُقلت كذلك في المجاميع الفقهيّة، يلاحظ: مقابس الأنوار ونفائس الأسرار: 41، رياض المسائل (ط. ق): 5، مصباح الفقيه: 1/ 128.
8- يلاحظ: جمهرة اللّغة: 2/ 373، المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير: 2/232، تاج العروس من جواهر القاموس - نقله عن ابن الأعرابيّ -: 14/ 284، وغيرها.
9- يلاحظ: شرح التّصريح على التّوضيح: 396.

(المدّ مكيال - إلى أن قال: - الصّاع والصّواع: المكيال)(1).

(والظّاهر أنّ المدّ عبارة عن مدّ اليدين فيملأ كفّيه طعاماً كما في كتب اللّغة(2))(3).

ويظهر من العلّامة (قدس سره) في التّذكرة: أنّ الصّاع المحدّد للفطرة كيل، وقُدّر بالوزن؛ لأنّه أضبط(4).

الأمر الرّابع

بعد وضوح أنّ المُراد من أسماء المكاييل الدّائرة في لسان الشّريعة ليس أمراً مخترعاً، فلا مناص عن حملها على معانيها الحقيقيّة إلى أن تقوم قرينة على خلافها، فالكرُّ يُحمل على معناه اللّغويّ، وما ورد في كمّ الكُرّ من أنّه ثلاثة أشبار ونصف(5)، أو ستّمائة رطل(6) يكون شارحاً لقدره، كما أنّ ما ورد في تعيين الأوزان إمّا شارحاً لوزنٍ مضبوط، أو تقدير للكيل(7) وزناً؛ لأنّه أضبط في الأعصار المتأخّرة كما في تقدير الصّاع، والرّطل، والمدّ وزناً في الفطرة كما ستعرف إن شاء الله تعالى(8)(9).

ص: 339


1- دائرة معارف القرن العشرين: 8/ 489 (مدّ)، 5/ 584 (صوع).
2- يلاحظ: النّهاية في غريب الحديث والأثر: 4/ 308، لسان العرب: 3/ 400.
3- في (ش) قبل ما بين القوسين: حرف (ن).
4- يلاحظ: تذكرة الفقهاء (ط. ح): 5/ 389.
5- يلاحظ صفحة (345).
6- يلاحظ صفحة (345).
7- في (ص): (لكيل) بدل (للكيل).
8- في (ص، ش) لم يرد: (تعالى).
9- يلاحظ صفحة (342).
الأمر الخامس

تحديد الماء ب-(الكُرّ) و(الصّاع) و(المدّ) في أبواب الطّهارات(1) إمّا يرجع إلى التّحديد [بها](2) أوّلاً وبالذّات ويؤخذ بما أنّها مكاييل محدّدة للمياه أو يرجع إلى التّحديد(3) بما يسعها، أو بما يُكال بها وزناً، فعلى الأوّل تكون الأشبار والأرطال المحمولتان على الكرّ، والأمداد المحمولة على الصّاع في الطّهارة الحدثيّة شارحات ومعرّفات لقدرهما أوّلاً وبالذّات، وعلى الثّاني سواء رجع التّحديد إلى التّقدير بما يُكال بها(4) من الطّعام، أو بما يسعها وزناً من الماء لا يخفى ما فيه؛ لأنّه يلزم:

أوّلاً: أن لا يكون التّحديد تحديداً، وهو الخلف، والمناقضة؛ إذ الأطعمة مختلفة بحسب الحجم، حتّى بالنّسبة إلى طعامٍ واحدٍ في قرية واحدة باختلاف المزارع، والسّنين كالمياه، فالتّحديد بما تسعه المكاييل من الطّعام أو(5) الماء وزناً خلفٌ واضح.

وثانياً: تحديد الماءُ وزناً في غاية الغرابة، سيّما في الشّريعة المحمّديّة(6) الختميّة الباقية إلى يوم القيامة الّتي بنيت قوائمها وأساسها (7) على الفطرة(8)؛ إذ ليس الماء في صقع من الأصقاع موزوناً، حتّى في البلاد الواقعة تحت خطّ الاستواء، والبلاد

ص: 340


1- في (ص): (الطّهارة) بدل (الطّهارات).
2- ما بين المعقوفين لم يرد في الأصل، وقد ورد في باقي النّسخ.
3- في (ط) لم يرد: (بها أوّلاً وبالذّات... إلى التّحديد).
4- في (ط): (بهما) بدل (بها).
5- في (ش): (و) بدل (أو).
6- في (ط، ع، ص، ش، أ) لم يرد: (المحمّديّة).
7- في (ط، ع، ص، ش، أ): (أساسها وقوائمها) بدل (قوائمها وأساسها).
8- في حاشية (ش): (الفطريات)، بلا شطب (الفطرة).

الحارّة الشّديدة الحرّ.

وهل يرضى أحدٌ أن ينسب إلى النّبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أو(1) إلى أحد من الأئمّة (علیهم السلام) أو الصّحابة و(2) العلماء (قدّس الله أسرارهم) توزين المياه عند التّطهيرات والاستعمالات، وهل سمع من(3) أحدٍ من المسلمين حتّى الوسواسيّين إلى الحال أنّه كان يزن الماء في وقتٍ من الأوقات أو عند قضيّة من القضايا؟! وتحديد الموضوع الشّرعيّ بما يكون على خلاف عامّة العقلاء وفطريّاتهم من لدن آدم (علیه السلام) إلى يومنا هذا غريبٌ جدّاً، بل مستهجن قطعاً.

وثالثاً: يلزم أن يكون التّحديد بالكُرّ لغواً محضاً؛ إذ تحديد الماء أوّلاً بالكُرّ كما هو لسان الأخبار الصّادرة عن(4) النّبيّ والمعصومين(5) (صلوات الله عليهم أجمعين) من حيث ما يسعه وزناً، ثُمّ ضبطه بالأرطال كي تكون هي المحدّدات في الحقيقة لغوٌ وعبث نظير الأكل من القفا وهو واضح، وكذلك الكلام في تحديد ماء الوضوء والغُسل بالصّاع والمُدّ(6) طابق النّعل بالنّعل(7).

ص: 341


1- في (ع): (و) بدل (أو).
2- في (ط): (أو) بدل (و).
3- في الأصل لم يرد: (من)، وقد ورد في باقي النّسخ.
4- في (ط): (من) بدل (عن).
5- في (ط): (والأئمّة المعصومين الأطهار) بدل (والمعصومين).
6- في (ط): (بالمُدّ والصّاع) بدل (بالصّاع والمُدّ).
7- في (ص) لم يرد: (بالصّاع والمُدّ طابق النّعل بالنّعل).

وممّا ذكرنا ظهر الكلام(1) في التّحديدات الواردة بالصّاع(2) في الفطرة؛ لأنّ التّحديد به أوّلاً وبالذّات من حيث ما يُكال به وزناً خلفٌ، وضبطه بالأمداد والأرطال وزناً أكلٌ من القفا، بل الظّاهر من الرّوايات أنّ الصّاع الّذي [هو] من المكاييل محدّدٌ أوّلاً وبالذّات فيها، والأمداد الّتي [هي] مكاييل أيضاً شارحة لقدره، وقدّر الصّاع وزناً توسعةً وتسهيلاً؛ لأنّه أضبط حيث إنّ الفطرة من الموزونات، قال العلّامة (قدس سره) في زكاة التّذكرة: (الأصل في الإخراج الكيل، وقدّره العلماء بالوزن؛ لأنّه أضبط، فيجزيه الصّاع من جميع الأجناس سواء كان أثقل، أو أخفّ. فلو(3) أخرج(4) بالوزن فالوجه الإجزاء وإن نقص عن الكيل)(5).

الأمر السّادس

بعد وضوح تحديد الماء العاصم من حيث(6) الكثرة - كما يظهر من الرّوايات(7)؛ لاشتمالها على القِربة، والجَرَّة، والحُبّ، والرّاوية، وسائر أوعية الماء، والقلّتان، والحوض الكبير، والماء الكثير، والذّراعين، والكرُّ، والأشبار، لا من

ص: 342


1- في (ش) لم يرد: (الكلام).
2- في (ط): (في الصّاع) بدل (بالصّاع).
3- في (ش): (ولو) بدل (فلو).
4- في (ع): (خرج) بدل (أخرج).
5- يلاحظ: تذكرة الفقهاء (ط. ح): 5/ 389.
6- في (ط) لم يرد: (حيث).
7- مضافاً إلى ما سيأتي ذكره في المقصدين الأوّل والثّاني، يلاحظ: وسائل الشّيعة: 1/ 158 وما بعدها، الباب 9، 10، 11.

حيث الثّقالة كما يظهر إن شاء الله تعالى، فضلاً عن غيرها من الأوصاف - الظّاهر حصر التّحديد من حيث الكثرة بالكُرّ؛ إذ الرّوايات الواردة في التّحديد بغيره: إمّا مشتملة على تقدير ينطبق على قدر الكُرّ فتكون(1) كمصحّحة إسماعيل بن(2) جابر - كما ستعرف إن شاء الله(3)(4) - فلا إشكال فيها، أو مشتملة على ما [لا](5) ينطبق عليه فتكون معرضة عنها، أو مشتملة على ما لا يعلم انطباقه عليه - كروايات الأوعية - فلا حجّيّة لها من تلك الجهة؛ للجهل بموضوعاتها(6).

إذا(7) تمهّدت هذه الأمور فيقع الكلام في المقصدين:

ص: 343


1- في (ط) زيادة: (معرضة عنها).
2- في (ش) لم يرد: (بن).
3- في (ط) لم يرد: (إن شاء الله).
4- يلاحظ صفحة (354).
5- ما بين المعقوفين لم يرد في الأصل، وقد ورد في باقي النّسخ.
6- في (ش): (موضوعاتها) بدل (بموضوعاتها).
7- في (ط): (وإذا) بدل (إذا).

المقصد الأوّل

اشارة

في أنّ المحدّد للماء العاصم في الشّريعة المقدّسة هو الكُرّ الّذي [هو] مكيال أوّلاً وبالذّات، لا ما يُكال به وزناً ومساحةً(1) كي يكون التّقدير به(2) بالتّبع وثانياً وبالعرض، والدّليل على ذلك(3) أمورٌ:

الأوّل

ظهور الأدلّة في التّقدير بنفس الكُرّ، فإنّ لسان الرّوايات (إذا بلغ الماء قدر كرٍّ) أو (كرّاً)(4) وهكذا، وظهورها في التّقدير [بنفس الكُرّ](5) أوّلاً وبالذّات بعد وضوح أنّه من المكاييل أوضح من أن يخفى.

الثّاني

فهم الرّواة بأجمعهم تقدير الماء بالكُرّ نفسه لسؤالهم عن الكُرّ وقدره، كما هو صريح الرّوايات، وعدم سؤال أحدٍ عن وزن ما يسعه الكرّ أو مساحته(6)، فضلاً

ص: 344


1- في (ع، ص): (ومسامحة) بدل (ومساحة).
2- في (ص، ش) لم يرد: (به).
3- في (ط) زيادة: (مضافاً إلى ما مرّ).
4- يلاحظ: الكافي: 5/ 10 ح 1، 11 ح 2، 12 ح 4، من لا يحضره الفقيه: 1/ 5 ح3، 9 ح 12، تهذيب الأحكام: 1/ 39 - 40 ح 46، 47، 48، 226 ح34، 414 – 415 ح27، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 6 ح 1، 2، 3، 6، 20 ح 7، وغيرها.
5- ما بين المعقوفين لم يرد في الأصل، وقد ورد في باقي النّسخ.
6- في (ع): (مسامحته) بدل (مساحته).

عن وزن ماء الكُرّ، أو مساحته حتّى لو تعرّض أحدٌ منهم للماء لا يسأل إلّا عن قدر الكُرّ، كما في رواية أبي بصير، قال: (سألتُ أبا عبد الله صلوات الله عليه عن الكُرّ من الماء: كم يكون قدره؟ الخبر)(1) حيث إنّه لم يسأل عن ماء الكُرّ كم يكون قدره.

الثّالث

حمل الأئمّة (علیهم السلام) الأرطال والأشبار على الكُرّ، وقدره بقولهم(2) (علیهم السلام) : (أنّ الكُرُّ ستّمائة رطل)(3)، (والكُرُّ ستّمائة رطل)(4)(5)، و(الكُرُّ من الماء ألف ومائتا رطل)(6)، ولم يقل (علیه السلام) ماء الكُرّ ألف ومائتا رطل.

وكذلك: في رواية صالح الثّوريّ: قلتُ: كم الكُرُّ؟ قال (علیه السلام) : (ثلاثةُ أشبار ونصفٌ عمقُها في ثلاثة أشبارٍ ونصفٍ عرضها)(7) الخبر.

وفي رواية إسماعيل بن جابر: فقلتُ وما الكُرُّ؟(8) قال (علیه السلام) : (ثلاثةُ أشبارٍ في

ص: 345


1- يلاحظ: الكافي: 5/ 13 ح 5، تهذيب الأحكام: 1/ 42 ح 55، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 10 ح 3.
2- في (ط) لم يرد: (بقولهم).
3- تهذيب الأحكام: 1/ 43 ح 58، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 11 ح 5.
4- تهذيب الأحكام: 1/ 414 - 415 ح 27، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 11 ح 6.
5- في (ع) لم يرد: (والكُرُّ ستّمائة رطل).
6- الكافي: 5/ 13 – 14 ح 6.
7- الكافي: 5/ 12 ح 4، تهذيب الأحكام: 1/ 408 ح 1، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 33 ح 9.
8- في (ش) لم يرد: (قال (علیه السلام) : (ثلاثةُ أشبار ونصف.. وما الكرّ؟).

ثلاثةِ أشبارٍ)(1).

وفي رواية أبي بصير، قال: سألتُ أبا عبد الله(2) (علیه السلام) عن الكُرّ من الماء: كم يكونُ قدرُهُ؟ قال (علیه السلام) : (إذا كان [الماءُ] ثلاثةَ أشبارٍ ونصف) إلى أن قال (علیه السلام) : (فذلك الكُرُّ من الماء)(3)، ولم يقل (علیه السلام) : (فذلك ماء الكُرّ)، فحمل الأرطال والأشبار على الكُرّ وقدره في كلامهم (علیهم السلام) صريحٌ في كون(4) المحدّد هو الكُرّ نفسه، فإنّها(5) شارحة لقدره، لا لما يسعه من الطّعام أو الماء.

الرّابع

ما مرّ مشروحاً(6) من أنّه يجب التّحديد بنفس الكُرّ؛ لأنّ عدم التّحديد به، والتّحديد بما يسعه إبطال للتّحديد وخلف ومناقضة(7) (8).

الخامس

ما فُصّل سابقاً من أنّ التّحديد بما يسعه في غاية الغرابة والاستهجان(9).

ص: 346


1- يلاحظ: الكافي: 5/ 14 – 15 ح 7، تهذيب الأحكام: 1/ 37 - 38 ح 40، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 10 ح 2.
2- في (ط) زيادة: (الصّادق).
3- يلاحظ: الكافي: 5/ 13 – 14 ح 5، تهذيب الأحكام: 1/ 42 ح 55، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 10 ح 3.
4- في (ش) زيادة: (الكرّ).
5- في باقي النّسخ: (وأنّها) بدل (فإنّها).
6- في (ش) لم يرد: (مشروحاً).
7- في (ش) لم يرد: (ومناقضة).
8- يلاحظ صفحة (340).
9- يلاحظ صفحة (340).
السّادس

ما ذُكر أيضاً من أنّه يجب التّحديد بالكُرّ نفسه؛ إذ التّحديد بما يسعه، ثُمّ ضبطه بالأرطال لغوٌ وعبثٌ نظير الأكل(1) من القفا، وهو قبيحٌ جدّاً(2)(3).

فالوجوه الخمسة الأخيرة من الشّواهد القويّة الّتي تُوجب صرف أقوى الظّهورات، فكيف إذا كانت مؤكّدة لها؟! والحمد لله، وحينئذٍ(4) يجب الأخذ بظهور الرّوايات، بل صراحتها؛ لقيام هذه الشّواهد عليها، فلا مجال لتوهّم تحديد الماء العاصم من حيث الوزن؛ لأنّه لا خلاف ظاهراً في أنّ الكُرّ كيلٌ لا يُطلق على الوزن، إنّما الكلام في أنّ الأرطال الّتي حملت عليه، وفسّر بها هل هي من الأوزان، أو المكاييل؟ وقالع مادّة النّزاع هو الرّجوع إلى اللّغة والرّوايات:

أمّا اللّغة فقد عرفتَ أنّها تُنادي بأعلى صوتها أنّ الرّطلَ كيلٌ.

وأمّا الرّوايات فلا إشعار فيها على خلافها، بل صرّح الصّادق (علیه السلام) - كما في الكافي في رواية الكلبيّ النّسّابة الّتي عرفتها - بأنّه(5) مكيال(6).

نعم، روايتان ربّما يتوهّم دلالتهما على كونه من الأوزان:

إحداهما: رواية سليمان بن حفص المروزيّ المرويّة عن الكاظم (علیه السلام) إلى أن قال:

ص: 347


1- في (ط): (وأكل) بدل (نظير الأكل).
2- في (ط) لم يرد: (جدّاً).
3- يلاحظ صفحة (341).
4- في (ش): (فحينئذ) بدل (وحينئذ).
5- في (ط): (بأنّها) بدل (بأنّه).
6- يلاحظ صفحة (338).

(وصاعُ النّبيِّ (صلی الله علیه و آله و سلم) [خمسة أمداد، والمُدُّ] وزنُ(1) مائتين وثمانين(2) درهماً، والدّرهمُ وزنُ ستّةِ دوانيق)(3) الخبر.

بتقريب: أنّ الصّاعَ قد فُسّر في بعض الأخبار بأنّه ستّة أرطال، ورواية سليمان المذكورة دلّت بأنّ الصّاعَ وزن، فيستفاد من المجموع أنّ الرّطل أيضاً من الأوزان حتّى في باب المياه؛ إذ الرّواية المزبورة واردة في باب الوضوء.

ولكنّها مطروحة؛ لأنّ كون الصّاع بوزن مائتين وثمانين درهماً ممّا لم يقل به أحد من الأصحاب، فهي معرض عنها، فلا وثوق بصدورها.

وثانيتهما: ما رواه الشّيخ في التّهذيب: عن إبراهيم بن محمّد الهمدانيّ، عن العسكريّ (علیه السلام) في الفطرة، قال: اختلفت الرّواية في الفطرة فكتبتُ إلى أبي الحسن صاحب العسكر(4) (علیه السلام) أسأله عن ذلك، فكتب إليّ: (الفطرة صاع من قوتك(5)) إلى أن قال: (تدفعهُ وزناً ستّة أرطال برطل المدينة، والرّطل مائة [وخمسة](6) وتسعون درهماً، تكون الفطرة ألفاً ومائة وسبعين درهماً)(7) الخبر.

ص: 348


1- في (ص) لم يرد: (وزن).
2- في (ط) لم يرد: (وثمانين).
3- تهذيب الأحكام: 1/ 136 ح 65، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 121 ح 3. وما بين المعقوفين من المصدر
4- في (ع، ش): (العسكريّ) بدل (العسكر).
5- كذا في سائر النّسخ، وفي المصدر: (قوت بلدك) بدل (قوتك).
6- ما بين المعقوفين لم يرد في الأصل، وورد في المصدر وباقي النّسخ.
7- تهذيب الأحكام: 4/ 79 ح 1، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 2/ 44 ح 5.

ووجه التّمسّك واضح، ولكنّها على المكياليّة أدلُّ، وذلك لأنّه - مضافاً إلى أنّ استعمال الرّطل في هذه الرّواية، ولو بنحو الحقيقة لا يلازم كونه مستعملاً فيه حقيقة في العصر السّابق عنه (علیه السلام) ، بل يمكن استعماله فيه في باب الأطعمة ولو مجازاً، ثُمّ بالتّدريج وغلبة الاستعمال صار حقيقةً فيه - (1) الرّواية مشتملة على قرينةٍ تظهر منها مكياليّة الصّاع والرّطل؛ لأنّه (علیه السلام) قال: (تدفعه وزناً)، ولو كان الصّاعُ وزناً لما كان للإتيان بلفظة (وزناً) وجهٌ، كما أنّها قرينة على ظهور الرّطل في حدّ نفسه في الكيل الخاصّ أيضاً؛ لأنّه مع تصريحه(2) (علیه السلام) في ذيل الرّواية بأنّ الرّطل والفطرة كذا وكذا درهماً قال: (تدفعه وزناً)، فلو كان(3) الرّطل(4)(5)ظاهراً في الوزن لاستغنى (علیه السلام) بها عن لفظةِ (وزناً) كما لا يخفى، وهذا بخلاف ما إذا كان ظاهراً في الكيل فإنّه لا بُدّ من قوله (وزناً) لإظهار المقصود كما هو واضح.

وتشهد على ذلك رواية أخرى مرويّة عن جعفر بن إبراهيم بن محمّد الهمدانيّ المذكور، فعنه(6) قال: كتبتُ إلى [أبي](7) الحسن (علیه السلام) على يد أبي، إلى أن قال: فكتب (علیه السلام)

ص: 349


1- في سائر النّسخ زيادة: (أنّ).
2- في (ع): (التّصريح) بدل (تصريحه).
3- في (ط، ص، ش، أ): (كانت) بدل (كان).
4- في (ص) لم يرد: (الرّطل).
5- في (ط، ص، ش، أ) زيادة: (الرّواية).
6- في (ط): (ففيه) بدل (فعنه).
7- ما بين المعقوفين لم يرد في الأصل، وورد في المصدر وباقي النّسخ.

إليّ: (الصّاع ستّة أرطال بالمدنيّ - إلى أن قال - وأخبرني: (أنّه يكون بالوزن ألفاً ومائةً وسبعين وزنةً(1))(2) الخبر؛ إذ بعد تعيّن(3) الصّاع بالأرطال لو كانت ظاهرة في الوزن لما كان للإتيان بلفظة (الوزن) في ذيل الرّواية وجهٌ، فقوله بعد نقل الأرطال ب-(الوزن [كذا](4)) قرينةٌ على ظهور الرّطل - بلا قرينة - في الكيل، لا في الوزن.

فبعدما ظهرت مكياليّة الرّطل من الرّوايات المرويّة عن العسكريّ (علیه السلام) (5) حتّى في عصره، فضلاً عن الرّوايات المرويّة عن الصّادق (علیه السلام) في نفس الباب؛ لاشتمالها على حمله على الكُرّ بأنّه ستّمائة رطل(6)، والكُرّ الّذي من المكاييل ليس من الأوزان قطعاً، ولا يُطلق على الوزن اتّفاقاً، فحملُه على الكُرّ دليل على المكياليّة، مضافاً إلى تصريح اللّغويين، وتنصيصه (علیه السلام) بذلك في رواية الكلبيّ، لا ينبغي(7) التّأمّل في عدم

ص: 350


1- فسّر العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) الوزنة بالدّرهم؛ إذ روى الشّيخ هذه الرّواية عن إبراهيم بن محمّد الهمذانيّ على وجه أبسط، وفيها: (تكون الفطرة ألفاً ومائةً وسبعين درهماً). يلاحظ: مرآة العقول: 16/ 418 ح9، تهذيب الأحكام: 4/ 79 ح 1.
2- الكافي: 7/ 660 – 661 ح 9، من لا يحضره الفقيه: 2/ 176 ح 2063، تهذيب الأحكام: 4/ 83 - 84 ح 17، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 2/ 49 ح 2.
3- في (ط): (تعيين) بدل (تعيّن).
4- ما بين المعقوفين لم يرد في الأصل، وورد في سائر النّسخ.
5- يلاحظ صفحة (348).
6- يلاحظ صفحة (345).
7- في (ط، ش): (فلا ينبغي) بدل (لا ينبغي).

تحديد الماء في الشّريعة من حيث الوزن، ومع الغضّ عن ذلك كلّه لا أقلّ من إجمال الرّطل في باب المياه؛ لعدم وضوح المُراد منه، ولا يصلح للقرينيّة؛ لعدم اتّصاله بروايات التّحديد بالكُرّ، فيجب الأخذ بصراحة الأدلّة المحدّدة بالكُرّ نفسه بعد تعيين الشّارع قدره بالأشبار؛ لعدم الخلاف في أنّه مكيال، ولا تجوز الفتوى بأنّ الماء محدّد بالوزن الخاصّ الّذي فُسّر به الرّطل في باب الفطرة.

ص: 351

المقصد الثّاني: في كيف الكُرّ وكمّه

اشارة

فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في كيفيّته من حيث المدوّريّة وعدمها
اشارة

والظّاهر أنّه مدوّر لا مربّع، وتدلُّ عليه - مضافاً إلى ظهور ألفاظ المكاييل في المدوّر؛ لأنّه مقتضى الطّبيعة الأوّليّة(1) بحيث لا يخطر ببال غيره(2)، خصوصاً مع نقل بعض قدماء اللّغويّين كما وجدناه في العتبة المقدّسة(3) بأنّه يُطلق على البئر، فعن قانون اللّغة: (وچاهى كه دست به آبش برسد)(4)؛ لوضوح عدم صحّة إطلاقه على البئر الّتي هي مدوّرة إلّا إذا كان مكيالاً مدوّراً - وجوهٌ:

الوجه الأوّل

إطلاق أخبار الأشبار كما هو المعترف به عند كثير ممّن تعرّض لتلك الجهة(5)، فبعد شمولها للمدوّريّ يجب الانحصار به؛ لأنّ تلك الأخبار تكون

ص: 352


1- في (ع): (الأولويّة) بدل (الأوّليّة).
2- في باقي النّسخ: (غيره بالبال) بدل (ببال غيره).
3- في (ط) زيادة: (الرّضويّة (صلوات الله على ساكنها)).
4- لم نعثر عليه. وترجمته: (البئر الّذي تصل اليد إلى ماءه).
5- يلاحظ: الحاشية على مدارك الأحكام: 1/ 97، روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه: 1/ 39، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرّسول: 13/ 12، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 1/ 175، وغيرها.

في مقام التّحديد كما أشار إليه الشّيخ وغيره من الفقهاء (قدّس الله أسرارهم) (1).

وردّه بأنّه خلاف الإجماع(2) سيأتي اندفاعه(3).

الوجه الثّاني

عدم التّعرّض للطّول في الرّوايات، مع التّعرّض للبعدين من العرض والعمق(4)، والعدول عن العرض أيضاً إلى لفظة السّعة في بعضها(5)، فإنّ الظّاهر من السّعة أن يكون ذو السّعة من أيّ جهة فرُض بتلك السّعة(6)، وذلك لا يتصوّر إلّا في المدوّر؛ إذ المربّع ليس من جميع الجهات ثلاثة أشبار ونصف كما هو واضح لمن كان له أدنى ربط بالهندسة.

الوجه الثّالث

اشتمال كلّ واحد من الرّوايات على خصوصيّة تدلُّ على المدوّريّة:

منها: رواية صالح الثّوريّ عن أبي عبد الله(7) (علیه السلام) ، قال: (إذا كان الماء في الرَّكِيِّ كرّاً لم ينجّسهُ شيء)، فقلتُ: كم الكُرّ؟ قال: (ثلاثةٌ أشبارٍ ونصفٌ عمقُها في ثلاثةِ

ص: 353


1- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 1/ 41، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 10، الحاشية على من لا يحضره الفقيه: 52، روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه: 1/ 40، ذخيرة المعاد: 1/ 123، معتصم الشّيعة: 2/ 143، الحدائق النّاضرة في أحكام العترة الطّاهرة: 1/ 273، وغيرها.
2- يلاحظ: غنية النّزوع: 46، المعتبر في شرح المختصر: 1/ 46.
3- يلاحظ صفحة (356).
4- تلاحظ الرّوايات المذكورة في الوجه التّالي.
5- كما في مصحّحة إسماعيل بن جابر، يلاحظ صفحة (354).
6- في (ط): (الجهة) بدل (السّعة).
7- في (ط) زيادة: (الصّادق).

أشبارٍ ونصفٍ عرضها)(1) الخبر؛ إذ الرَّكِيّ عبارة عن البئر الصّغيرة(2)(3)، ومن الواضح أنّ البئر مدوّرة، لا مربّعة، ويسأل الرّاوي في هذه الرّواية بقوله كم الكرّ فيجيب (علیه السلام) ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها، ولو كان المُراد مربّعيّة الكُرّ لوجب التّصريح عليه؛ إذ المقام مشتملٌ على خصوصيّة توجب ظهور الكلام في خلاف مقصود المتكلّم، مع أنّه (علیه السلام) عبّر في المقام بما عبّر(4) به في الأخبار الأُخر.

ومنها: رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: فقلتُ: وما الكُرّ؟

قال (علیه السلام) : (ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار) (5) الخبر.

فإنّ اقتصاره (علیه السلام) بثلاثة أشبار(6) في ثلاثة ظاهر في المدوّر، وإلّا لكان عليه أن يقول: (ثلاثة في ثلاثة في ثلاثة).

ومنها: مصحّحة(7) إسماعيل بن جابر قال: فقلتُ: لأبي عبد الله (علیه السلام) الماء الّذي

ص: 354


1- يلاحظ صفحة (345).
2- في (ط): (الصّغير) بدل ( الصّغيرة).
3- الرَّكِيُّ جمع الرَّكِيّة، أو جنسها والجمع رَكايا، والرَّكِيَّة هي البئر. يلاحظ: الصّحاح (تاج اللّغة وصحاح العربيّة): 6/ 2361، النّهاية: 2/ 261، مادّة (ركا)، كتاب أمثال الحديث: 140.
4- في (ع) لم يرد: (في المقام بما عبّر).
5- تقدّمت في صفحة (345).
6- في باقي النّسخ لم يرد: (أشبار).
7- في (ش): (صحيحة) بدل (مصحّحة).

لا ينجّسهُ شيء؟ فقال:( ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته)(1).

وقد عرفتَ ظهور لفظة السّعة في المدوّر.

ومنها: رواية عبد الله بن مغيرة، قال: قال (علیه السلام) : (الكُرّ من الماء نحو حُبِّي هذا)(2).

فإنّ تشبيه الكُرّ من الماء لا ماء الكُرّ بالحُبّ المدوّر لا يناسب إلّا مع المدوّريّة كما لا يخفى.

ومنها: رواية أبي بصير الّتي توهّموا دلالتها على ما نُسب إلى المشهور من مربّعيّة الكُرّ فهي أيضاً ظاهرة فيما ذكرنا أو أظهر؛ لأنّه (علیه السلام) قال: (إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفاً في مثله ثلاثة أشبار ونصف(3) في عمقه)(4) الخبر، فإنّ لفظة (مثله) إن كانت ثابتة كما هو الأقوى(5) بناءً على النّسخة المقروءة على المجلسيّ (قدس سره) تكون ظاهرة في ما ادّعيناه؛ لأنّ قوله ثلاثة أشبار ونصف بعد لفظة (في مثله) يكون بياناً لها، لا مبايناً لها.

نعم، لو كانت بعد هذه اللّفظة لفظة (في) لكانت الرّواية ظاهرة في ما ادّعوه.

وأمّا إذا لم تكن لفظة (مثله) ثابتة كما احتمله جماعة(6) يكون أظهر، وفي سياق سائر

ص: 355


1- تهذيب الأحكام: 1/ 41 ح 53، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 10 ح 1.
2- الكافي: 5/ 15 ح 8.
3- في (ط) لم يرد: (ونصف).
4- الكافي: 5/ 13 ح 5، تهذيب الأحكام: 1/ 42 ح 55، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 10 ح 3.
5- في (ط): (أقوى) بدل (الأقوى).
6- لم نعثر عليه.

أخبار الباب.

وأمّا الإجماع المدّعى في المقام - مضافاً إلى عدم حجّيّة منقوله كما قرّر في محلّه(1) - إنّه ادّعاء في محلّ الخلاف؛ لأنّ كلمات القدماء خالية عن ذكر الأشبار، والمسألة معركة للآراء(2) بين النّعمانيّ(3) (4) ومن تبعه(5) وبين غيرهم(6)، حتّى من المخالفين للنّعمانيّ مَن هو قائلٌ بكفاية عشرة أشبار(7)، وجماعة من الفقهاء قد اختاروا سقوط الأنصاف(8)، وما نختاره من ثبوت الأنصاف يكون أكثر من المربّع، ولو على المدوّريّة بناءً على سقوط الأنصاف؛ لأنّ حاصل ضربها على المدوّريّة كما عن

ص: 356


1- يلاحظ: كشف القناع عن وجوه حجّيّة الإجماع: 232 - 438.
2- في (ط، ع، ص، أ): (الآراء) بدل (للآراء)، وفي (ش): كما في المتن أعلاه وقد كتب فوقها (الآراء)، بلا شطب الأولى.
3- في باقي النّسخ: (العمانيّ) بدل (النّعمانيّ).
4- حيث ساوى ابن أبي عقيل النّعمانيّ (العمانيّ) بين الكثير - الكرّ - والقليل في التّأثّر بالنّجاسة وعدمه، يلاحظ: مختلف الشّيعة 1/ 176.
5- يلاحظ: مفاتيح الشّرائع: 1/ 82.
6- يلاحظ: المسائل النّاصريات: 67، الخلاف: 1/ 194، غنية النّزوع: 46، مختلف الشّيعة: 1/ 176، المهذَّب البارع: 1/ 79، وغيرها.
7- كذا في الأصل، ولعلّ المقصود (عشرة أشبار ونصف)، وهو ما نُسب إلى القطب الرّاونديّ حيث اكتفى بجمع المقادير الثّلاثة الواردة في الخبر بناءً على كون (في) بمعنى (مع)، يلاحظ: مختلف الشّيعة: 1/ 184.
8- يلاحظ: المقنع: 31، مختلف الشّيعة: 1/ 184، مجمع الفائدة والبرهان: 1/ 261، وغيرها.

المجلسيّين ثلاثة وثلاثون شبراً ونصف الشّبر وثمنه ونصف الثّمن تقريباً(1)، فكيف يكون ما ذكرنا(2) خلاف الإجماع؟!

فتلخّصَ(3) أنّ هذه(4) الرّوايات ظاهرةٌ في المدوّريّة، والصّارف منتفِ فوجب الأخذ بالظّهور، كما هو المقرّر في محلّه.

المقام الثّاني: في كمّيّة الكُرّ وقدره الّتي هي المسؤول عنها في الرّوايات

ولا إشكال في أنّ الكُرّ مكيال تكون سعته ثلاثة أشبار ونصف في عمق كذلك(5)، ولا إشعار في الرّوايات على خلافها، إنّما الكلام في رفع التّعارض وعلاجه بين الأخبار المثبتة فيها الأنصاف وبين المسقطة هي عنها.

والعلاج واضح، إذ مع الغضّ عن احتمال كون الرّوايات المسقطة عنها الأنصاف مشيرة إلى القضيّة المعهودة - ومضافاً إلى قوّة(6) احتمال السّقوط خصوصاً في الكتب دون الزّيادة بعد مسير المعظم والمشهور إلى ثبوت الأنصاف -: أنّ موافقة

ص: 357


1- يلاحظ: مرآة العقول في شرح أخبار آل الرّسول: 13/ 12، ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: 1/ 185، وفيهما: (فيبلغ مكسّره ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان شبر ونصف ثمن شبر) والمعنى واحد. ولم أعثر على مصدر قول المجلسيّ الأوّل.
2- في (ش): (ذكر) بدل (ذكرنا).
3- في (ع): (فتخلّص) بدل (فتلخّص).
4- في باقي النّسخ لم يرد: (هذه).
5- في (ع): (كذا) بدل (كذلك).
6- في (ش) لم يرد: (قوّة).

الرّوايات المثبتة فيها الأنصاف(1) مصحّحة(2) إسماعيل بن جابر - الدّالّة بأنّ الماء الّذي لا ينجّسه شيء ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته؛ لوضوح أنّ الذّراع أزيد من الشّبرين(3) بيسير حسّاً، ولعلّه لهذه الدّقيقة(4) عدَلَ (علیه السلام) عن ذراع ونصف إلى ذراع وشبر مربّعاً كان الكرّ(5) أو مدوّراً دون الطّائفة الأخرى الّتي لم يذكر فيها الأنصاف؛ لوضوح عدم انطباقها على المربّع والمدوّر مع سقوط الأنصاف - توجب تعيّن(6) الأخذ بها، دون الرّوايات الغير المشتملة على الأنصاف.

ص: 358


1- في باقي النّسخ زيادة: (مع).
2- في (ش): (صحيحة) بدل (مصحّحة).
3- في (ط): (الشّبر) بدل (الشّبرين).
4- في (ط): (الدّقّة) بدل (الدّقيقة).
5- في (ط) لم يرد: (الكرّ).
6- في باقي النّسخ: (تعيين) بدل (تعيّن).

خاتمة

ينبغي التّنبيه على أمرين:

الأوّل: بعدما عرفتَ أنّ المحدّد للماء المعصوم هو الكُرّ المدوّر نفسه، وقدره ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف ظهر أنّه بمعزلٍ عن الضّرب وحاصله، وكيف يليق بالشّريعة السّمحة السّهلة تحديد الماء أوّلاً وبالذّات بأمرٍ لا تناله إلّا المهرة من أصحاب الهندسة، سيّما على المدوّريّة.

الثّاني: بعد ما عرفت أنّ روايات الأشبار شارحة لقدر الكُرّ(1) تكون القضيّة خارجيّة؛ لوحدة الكُرّ، وعدم الاختلاف في مصاديقه، والأشبار الشّارحة محمولة على الأشبار المتعارفة لأهل عصرهم (صلوات الله عليهم أجمعين)، فمع(2) اختلاف الأشبار المتعارفة في عصرهم مع المتعارفة في عصرنا - بناءً على ما قيل من اختلاف أعضاء الإنسان بمرور الأزمنة والأعوام - فلا بُدّ من الاحتياط كما لا يخفى(3).

والحمد لله أوّلاً وآخراً(4)، وصلّى الله على أشرف أنبيائه وخاتم رسله وأهل

ص: 359


1- في (ص، ش، أ) زيادة: (نفسه).
2- في (ص، ش، أ) زيادة: (احتمال).
3- إلى هنا انتهت النّسخة (ص).
4- إلى هنا انتهت النّسخة (ط)، وفي ذيلها: (وقد فرغتُ من الاستنساخ في أوّل ليلة مولد مولانا وإمامنا وسيّدنا ثامن أئمّة الهدى، وضامن الغرباء سلطان الدّين والدّنيا عليّ بن موسى الرّضا (صلوات الله عليه وعلى آبائه الطّاهرين)، ونرجو الله أن ينفعنا ببركة جواره من فضله وإحسانه. الأحقر محمّد باقر بن عبد الحيّ الطّباطبائيّ. ليلة 11 ذي القعدة الحرام سنة 1362).

بيته(1) الطّاهرين المعصومين(2).

كتبه الأحقر محمّد مهديّ الأصبهانيّ(3)

* * *

وقد فرغت من استنساخ هذه النّسخة الشّريفة في السّابع والعشرين من ربيع الثّاني من شهور سنة 1356 في أيّام اشتغالي وقراءتي على حضرة الأستاذ الأعظم (دام بقاؤه) وأنا الأحقر محمّد رضا المحقّق النّيشابوريّ.

ص: 360


1- إلى هنا انتهت النّسخة (ع).
2- إلى هنا انتهت النّسخة (ش)، وفي ذيلها: (إلى ههنا جفّ قلمه الشّريف المبارك، كتبه الأحقر السّيّد رضا عليّ شاه الحسينيّ).
3- إلى هنا انتهت النّسخة (أ).

رسالة في الكرّ - الشیخ هاشم القزوینی (قدس سره)

اشارة

من إفادات

الفقيه المتألّه آية الله

الشیخ الميرزا مهديّ الغروی الأصفهانيّ (قدس سره)

(1303 - 1365 ﻫ)

تألیف آیة الله

الشیخ هاشم القزوینی (قدس سره)

(1309 - 1380 ﻫ)

تحقيق

مجلّة دراسات علميّة

ص: 361

ص: 362

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة على أشرف خلقه محمّد وآله المعصومين، واللّعن على أعدائهم أجمعين.

أمّا بعد، فهذه رسالة ألّفت لإيضاح أنّ الكُرّ المحدّد للماء العاصم في الشّريعة المقدّسة ليس بنفسه من الأوزان، ولا متعيّناً بها بالتّبع، بل هو كيلٌ مدوّر سعته ثلاثة أشبار ونصف في عمقٍ كذلك، وهي مشتملة على مقدّمة ومقصد [وخاتمة]:

أمّا المقدّمة ففي بيان أمور

الأمر الأوّل

أنّ الكيل ليس طريقاً إلى الوزن دائماً كما يوهمه بعض العبائر(1)، بل الواقع من هذا أنّ الكيل قد يكون منظوراً مستقلّا ً وموضوعاً منفرداً في باب المعاملات

ص: 363


1- يلاحظ الهامش التّالي.

والتّجارات من غير نظرٍ إلى كاشفيّته عن الوزن، وقد يكون طريقاً إليه كما إذا كان الوزن منظوراً وموضوعاً وجُعل الكيل إليه دليلاً.

وما قيل: إنّ الوزن أصل الكيل؛ لأنّه أضبط(1)، غير مفيد.

ويظهر بالرّجوع إلى أهل الصّحاري، والبراري البعيدة عن المدن، ومن نظر إلى تاريخ الأمم المختلفة وارتقائهم، وكيفيّة ارتقائهم وسيرهم في أمور معاشهم وتدريجيّة تكاملهم يُصدِّق من غير ريب أنّ الكيل أصل الوزن، فإنّه بعد حصول العزّة للشّيء يصير المكيل موزوناً بالتّدريج، ويوجد الوزن ويخترع باختلاف مراتبه حتّى يخترع وزن لا اختلاف في أصله ولا مسامحة فيه ولو يسيراً كما هو المتعارف في أوزان الغربيّين.

الأمر الثّاني

قد عرفت أنّ المعنى يمكن أن يختلف من جهة انضباطه التّامّ وعدمه، وأنّ الشّيء من حيث القدر ليس تامّ الانضباط، ثُمّ بالتّدريج يصير تامّ الانضباط، كما في المكيلات والموزونات، فإنّ الأولى منهما غير تامّ الانضباط، ثُمّ بارتقاء الأمّة وحصول العزّة للشّيء يصير كيلهم محدّوداً، ثُمّ يندرج تحت الأوزان العرفيّة، ثُمّ الدّقيّة الّتي لا تختلف بوجهٍ من الوجوه، كذا اللّفظ له هذا السّير الطّبيعيّ، فإنّ اللّفظ الدّالّ على الكيل بكثرة استعماله وإرادة الوزن الخاصّ منه يصير

ص: 364


1- يلاحظ: المكاسب: 4/ 223، وقد حُكي أصل القول في مصادر متعدّدة، منها: غاية المرام في شرح شرائع الإسلام: 2/ 82، تذكرة الفقهاء (ط.ح): 5/ 389، الدّروس الشّرعيّة في فقه الإماميّة: 3/296، الرّوضة البهيّة في شرح اللّمعة الدّمشقيّة: 3/ 266.

حقيقةً في الوزن، بل ربّما يصير [حقيقة] بالصّنجة(1)، أعني ما به الوزن.

الأمر الثّالث

الظّاهر بل المقطوع [به] أنّ الكرّ من المكاييل، وأنّه كان كيلاً لأهل العراق يكيلون به الطّعام، وصرّح بهذا جماعةٌ من اللّغويين - كالهرويّ(2)، والقاموس(3)، والنّهاية(4)، والمجمع(5)، والبرهان القاطع(6)، وغياث اللّغة(7)، وقانون اللّغة(8) - كما وجدنا في العتبة [الرّضويّة] المقدّسة، وجماعة من الفقهاء كالمحقّق في المعتبر ناقلاً عن اللّغة(9)، والمحقّق التّستريّ(10) وكاشف الغطاء(11)

ص: 365


1- الصّنجة: صَنْجَة الميزان، ما يوزن به كالأوقيّة والرّطل، معرّب (سنگه) بالفارسيّة، ونقل الأزهريّ عن الفرّاء أنّها بالسّين (سنجة) ولا تُقال بالصّاد، وعَكَس ابن السّكّيت وابن قتيبة فقالا (صَنْجَة) بالصّاد ولا تُقال بالسّين، وفي نسخة من التّهذيب أنّهما لغتان والسّين أفصح. يلاحظ: المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير: 151 (س ن ج)، أقرب الموارد في فصح العربيّة والشّوارد: 2/ 726 (س ن ج).
2- يلاحظ: تهذيب اللّغة: 9/ 327، مادّة (ك ر).
3- يلاحظ: القاموس المحيط: 2/ 126، فصل الكاف من باب الرّاء.
4- يلاحظ: النّهاية في غريب الحديث والأثر: 4/ 162، مادّة (كرر).
5- يلاحظ: مجمع البحرين: 3/ 472، مادّة (كرر).
6- يلاحظ: البرهان القاطع: 3/ 1608.
7- غياث اللّغات (ط. حجريّ): 409 (باب كاف عربيّ).
8- لم نعثر عليه.
9- يلاحظ: المعتبر في شرح المختصر: 1/ 47.
10- يلاحظ: مقابس الأنوار ونفائس الأسرار: 75.
11- يلاحظ: كشف الغطاء عن مبهمات الشّريعة الغرّاء (ط. ق): 186.

وبعض مشايخ صاحب الحدائق (قدّس الله أسرارهم)(1)، ومن الأدباء نجم الأئمّة قال: (وما يعرف به قدر الكيل كالقفيز والكرّ)(2).

الأمر الرّابع

أنّ الرّطل أيضاً اسم لكيل معيّن.

نعم، لا يبعد صيرورته في الأزمنة المتأخّرة عن الصّادقَين حقيقة في الوزن، والظّاهر أنّ الرّطل كان كيلاً يسع نصف المنّ من الخمر، كما في كتب اللّغة القديمة [الّتي] رأيناها في العتبة المقدّسة الرّضويّة، ففي مجمل اللّغة: (رطل: الّذي يُكال به)(3)، وفي ترجمان اللّغة: (رِطل ورَطل پيمانه نيم من)(4)، وفي [كتاب] لغة آخر لعلّه إجمال اللّغة: (جام شراب وپيمانه است ورطل گران پيمانه وپياله بزرگ است)(5)، وفي برهان اللّغة: (رطل گران كنايت از پياله وپيمانه بزرگ باشد)(6)، وفي دائرة المعارف: (المدُّ مكيال، وهو رطلان عند أهل العراق، ورطل وثلث عند أهل الحجاز)(7)، و: (الرِّطل المصريّ كذا أو اثنتي عشر أوقيّة)(8)، [و]: (الصّاع(9)

ص: 366


1- يلاحظ: الحدائق النّاضرة في أحكام العترة الطّاهرة: 1/ 233، 266، 12/ 115.
2- يلاحظ: شرح الرّضي على الكافية: 2/ 56.
3- مجمل اللّغة: 2/ 382، باب الرّاء والطّاء وما يثلثهما.
4- ترجمان اللّغة: 2/ 853، باب الطّاء، وفيه: (رطل - بفتح وكسر أوّل - دوازده أُوقيّة است).
5- نقل المقطع الأوّل عنه: مستدرك سفينة البحار: 4/ 165.
6- البرهان القاطع: 2/ 954.
7- دائرة معارف القرن العشرين: 8/ 489 (مدّ).
8- يلاحظ: دائرة معارف القرن العشرين: 4/ 260 - 261 (الرِّطل).
9- في الأصل: (الصّواع)، وما أثبتناه من المصدر.

والصُّواع: المكيال، وهو عند أهل العراق ثمانية أرطال)(1)، وفي غياث اللّغة: (رطل پيمانه نيم من)(2)، وفي دستور اللّغة: (الرّطل نصف من القبّان)(3)، وقال الفاضل الخبير السّيّد عليّ خان الكبير ناقلاً عن المغرب: (الرّطل - بالفتح والكسر - الّذي يوزن به أو يكال [به])(4)، وفي الحدائق نقلاً عن مشايخه: (أنّ الكرّ والرّطل مكيال)(5)، فراجع.

وفي رواية الكلبيّ النّسّابة في باب الأنبذة عن الصّادق [ (علیه السلام) ] إلى أن قال: فقلت: بأيّ الأرطال؟ فقال (علیه السلام) : (أرطال مكيال العراق)(6)، (أو العراقيّ)(7) على نسخةٍ.

وظهر ممّا ذكرنا حال المدّ والصّاع أيضاً، فإنّهما ليسا من الأوزان لغةً وإن صارا بكثرة الاستعمال حقيقةً فيه، نظير ما مرّ في الأرطال.

إذا عرفت تلك الأمور فيقع الكلام في المقصد، وفيه أبحاث:

ص: 367


1- دائرة معارف القرن العشرين: 5/ 584 (صوع).
2- غياث اللّغات (ط. حجريّ): 234 (باب راء مهملة).
3- يلاحظ: دستور اللّغة العربيّة (كتاب الخلاص): 1/ 516.
4- يلاحظ: الحدائق النّديّة في شرح الفوائد الصّمديّة: 332. وما بين المعقوفين من المصدر.
5- يلاحظ: الحدائق النّاضرة في أحكام العترة الطّاهرة: 12/ 115.
6- يلاحظ: الكافي: 12/ 729 - 732 ح 3، تهذيب الأحكام: 1/ 220 ح 12، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 16 ح 12.
7- لم أعثر على هذه النّسخة المُشار إليها إلّا أنّها نُقلت كذلك في المجاميع الفقهيّة، يلاحظ: مقابس الأنوار ونفائس الأسرار: 41، رياض المسائل (ط. ق): 5، مصباح الفقيه: 1/ 128.

البحث الأوّل

لا شبهة في أنّ الماء العاصم محدود ومقدّر بالكرّ، كما يظهر لك بعد الرّجوع إلى روايات الباب، فلا بدّ من التّأمّل في أنّ الماء محدودٌ ومقدّر بنفس الكرّ، أو ما يكال به وزناً أو مساحة، فنقول:

قد عرفت أنّه كيل، ولا يطلق على الوزن أصلاً، ولا خلاف فيه ظاهراً، وإنّما الكلام في أنّ الأرطال الّتي حملت عليه هل هي من المكاييل ليكون التّحديد بالكرّ من حيث نفسه، أو من الأوزان حتّى يكون التّحديد به من حيث ما يكال به، والرّجوع إلى اللّغة والرّوايات رافع للنّزاع، وأمّا اللّغة فقد عرفت بأنّها تنادي بأعلى صوتها بأنّها كيل، وأمّا الرّوايات أيضاً فلا إشعار فيها على خلافها بل صرّح الصّادق (علیه السلام) في رواية الكلبيّ النّسّابة - الّتي عرفتها - بأنّه مكيال(1).

نعم، روايتان توهم دلالتهما على أنّها من الموازين:

إحداهما: رواية سليمان بن حفص المروزيّ عن الكاظم (علیه السلام) إلى أن قال: (وصاع النّبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وزن [خمسة أمداد، والمُدُّ وزن] مائتين وثمانين درهماً، والدّرهم وزنُ ستّة دوانيق)(2) إلخ.

ص: 368


1- يلاحظ صفحة (338).
2- تهذيب الأحكام: 1/ 136 ح 65، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 121 ح 3. وما بين المعقوفين من المصدر

بتقريب: أنّ الصّاع قد فُسّر في بعض الأخبار بأنّه ستّة أرطال أو غيرها، [و] رواية سليمان المذكورة دلّت بأنّ الصّاع وزن، فيستفاد من المجموع بأنّ الرّطل أيضاً من الأوزان، حتّى في باب المياه؛ إذ الرّواية واردة في باب الوضوء.

لكنّها غير تامّة؛ إذ كون الصّاع بوزن مائتين وثمانين درهماً ممّا لم يقل به أحدٌ من الأصحاب، فهي معرضٌ عنها، فلا وثوق بصدورها.

وثانيتهما: الرّواية الواردة عن العسكريّ (علیه السلام) في زكاة الفطرة بأنّ الرّطل وزن كذا وكذا من الطّعام(1) ، فتدلّ بأنّ الرّطل من الأوزان.

وفيه: - مع الإغماض عن نصّ الإمام الصّادر منه التّعريف بالأرطال وتصريح اللّغويين، ومضافاً إلى عدم لزوم استعمال الرّطل في هذه الرّواية ولو بنحو الحقيقة كونه مستعملاً فيه حقيقةً في العصر السّابق عنه (علیه السلام) بل يمكن استعماله فيه في باب الأطعمة ولو مجازاً، ثُمّ بالتّدريج وغلبة الاستعمال صار حقيقةً فيه - أنّ الرّطل ولو كان حقيقةً في الوزن لا بدّ أن يراد منه الكيل ويُصرف عن ظاهره في باب الكرّ لجهات:

الأولى: من الواضح أنّ الرّوايات الواردة في باب تحديد الماء العاصم كلّها راجعة إلى حدّ الكرّ، وما تكون مخالفة - كالجَرّة والقلّتان والحُبّ ونحو ذلك - لابدّ إمّا أن يرجع إليه، أو يطرح؛ إذ على القولين بلزوم الكرّيّة في عصمة الماء وعدمه تكون ملغاة وغير محدّدة، وحينئذٍ إمّا أن يراد من قدر الكرّ في أخبار الباب بلوغ الماء قدر نفس الكرّ، وإمّا أن يراد بلوغ الماء قدر ما يكال بالكرّ وزناً من الطّعام أو الشّراب،

ص: 369


1- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 4/ 79 ح 1، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 2/ 44 ح 5.

وإن كان الأوّل مراداً فلا بدّ أن يراد من الرّطل الكيل؛ لأنّ الأوزان لا تحمل على الكيل كما هو واضح لكلّ أحد. وأمّا على الثّاني فيمكن أن يكون الرّطل وزناً، ويصير الحاصل: إذا بلغ الماء قدر ما يكال بالكرّ - وهو وزن ستّمائة رطل - لا ينجّسه شيء، لكنّه غير تامّ وفاسد قطعاً؛ لأنّه خلاف الظّاهر:

أوّلاً: إذ الظّاهر أنّ الماء قدّر وحدّد بنفس الكرّ لا بما يكال به، والأرطال محمولة وشارحة لنفس الكرّ لا لما يكال به، كما أنّ الأشبار محمولة وشارحة لقدر الكرّ وكمّه.

وثانياً: يلزم أن لا يكون التّحديد تحديداً؛ إذ الأطعمة مختلفة الأوزان بحسب الحجم حتّى طعام واحد باختلاف السّنين والمزارع كالمياه باختلاف الأمكنة، وضبط ما يكال بالكرّ بالأرطال يكون نظير الأكل من القفا، ولا يصدر من الحكيم.

وثالثاً: يلزم منه الاستهجان في الشّريعة الّتي بُني أساسها وقوامها على الفطرة؛ إذ الماء ليس في صقع من الأصقاع وزيناً، حتّى في البلاد الواقعة تحت خطّ الاستواء، والبلاد الحارّة - الشّديدة الحرّ -.

وهل يرضى أحد أن ينسب إلى النّبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أو إلى أحد الأئمّة (علیهم السلام) أو إلى أحد من الصّحابة أو العلماء أنّهم عند وضوءاتهم وتطهيراتهم كانوا يزنون الماء؟

وهل سمع من أحدٍ من المسلمين حتّى الوسواسيّين إلى الحال أنّه كان يزن في مقام الحاجة والاستعمالات؟!

وتحديد الموضوع بما يكون على خلاف عامّة العقلاء وفطريّاتهم من لدن آدم إلى يومنا هذا غريب جدّاً بل مستهجن قطعاً خصوصاً في الشّريعة الختميّة الباقية إلى يوم القيامة.

ص: 370

ورابعاً: يلزم أن يكون التّحديد بما يكال وزناً لغواً محضاً؛ بداهة أنّه بعد التّحديد بالأشبار لا يختار توزين الماء إلّا من كان من السّفهاء، فالتّحديد من حيث الوزن يكون لغواً وعبثاً كما هو أوضح من أن يخفى.

فهذه الإشكالات - مضافاً إلى أنّ الأشبار والأرطال حملت على الكرّ لا على ما يكال به، وإلى فهم الرّواة بأنّهم يسألون غالباً ما الكرّ؟ وما قدر الكرّ؟ وكم الكرّ؟ فالمحدّد نفس الكرّ - توجب الظّهور التّامّ بل القطع بأنّ الماء قُدّر وحُدّد بنفس الكرّ، لا بما يكال به وزناً أو مساحة.

مع أنّ الرّواية واردة في زكاة الفطرة - وهي مقدّرة بالصّاع وزناً من الأطعمة - وهي موزونة، مع كون قوله (تدفعه وزناً) قرينة على إرادة الوزن لا يوجب أن يكون المراد من الرّطل وزناً في ما يكون التّحديد بالوزن فيه مخالفاً للحكمة وخُلفاً ومستهجناً عند العقلاء، ولو أغمضنا عن ذلك فلا أقلّ من عدم وضوح المراد من الرّطل في باب المياه، فلا يجوز الفتوى بأنّ الماء محدود من حيث الوزن؛ لأنّ ظاهر الأدلّة التّحديد والتّقدير بنفس الكرّ وهو مكيال، وحمل الأرطال على الكرّ، والأشبار على قدر الكرّ يوجب قوّة الظّهور في التّقدير به، وحيث لا يكون محفوفاً بما يصلح للقرينيّة يجب الأخذ بظاهرها.

وبما ذكرنا ظهر أنّ المحدّد هو نفس الكرّ لا شيء آخر من الجرّة والقلّة ووزن ما يكال بالكرّ من الأطعمة والأشربة.

ص: 371

البحث الثّاني

في أنّ الكرّ كيل مدوّر أو مربّع؟

وهنا وجوه تدلّ على أنّه مدوّر:

منها: مضافاً إلى تصريح اللّغويين بإطلاقه على البئر(1) الّذي تصل اليد إلى مائه وهو مدوّر قطعاً.

ومنها: إطلاق أخبار الأشبار كما هو المعترف به عند كثير ممّن تعرّض لتلك الجهة(2)، فبعد شمولها للمدوّريّ يجب الانحصار به؛ لأنّ تلك الأخبار في مقام التّحديد كما أشار إليه الشّيخ وغيره من الفقهاء (قدّس الله أسرارهم) (3).

وردّه بأنّه خلاف الإجماع(4) سيأتي اندفاعه(5).

ص: 372


1- يلاحظ: تاج العروس من جواهر القاموس: 7/ 441.
2- يلاحظ: الحاشية على مدارك الأحكام: 1/ 97، روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه: 1/ 39، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرّسول: 13/ 12، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 1/ 175، وغيرها.
3- يلاحظ: تهذيب الأحكام: 1/ 41، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 10، الحاشية على من لا يحضره الفقيه: 52، روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه: 1/ 40، ذخيرة المعاد: 1/ 123، معتصم الشّيعة: 2/ 143، الحدائق النّاضرة في أحكام العترة الطّاهرة: 1/ 273، وغيرها.
4- يلاحظ: غنية النّزوع: 46، المعتبر في شرح المختصر: 1/ 46.
5- يلاحظ صفحة (356).

ومنها: عدم ذكر الطّول في الأخبار رأساً، بل المذكور في أكثرها العرض والعمق(1).

ومنها: ذكر السّعة(2)، فإنّ الظّاهر من السّعة أن يكون ذو السّعة من أيّ جهة فرض بتلك السّعة، وذلك لا يتصوّر إلّا في المدوّريّ، فإنّ المربّع ليس من جميع الجهات ثلاثة أشبار ونصف كما هو واضح لمن كان له أدنى ربط بالهندسة.

ومنها: رواية صالح الثّوريّ: ( إذا كان الماء في الرّكيّ كرّاً لا ينجّسه شيء)(3) إذ الرّكيّ عبارة عن البئر الصّغيرة(4)، ومن الواضح أنّ البئر مدوّر لا مربّع، ويسأل الرّاوي في هذه الرّواية كم الكرّ؟ ويجيب الإمام (علیه السلام) : (ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها) (5)، ولو كان المراد مربّعيّة الكرّ لوجب التّصريح عليه؛ إذ المقام مشتمل على خصوصيّة يوجب ظهور الكلام في خلاف مقصود المتكلّم، مع أنّه (علیه السلام) عبّر في المقام بما عبّر به في الأخبار الأُخر.

وأمّا رواية أبي بصير الّتي توهّموا دلالتها على ما نسب إلى الأكثر من مربّعيّة الكرّ تكون ظاهرة فيما ذكرنا أو أظهر؛ لأنّه (علیه السلام) قال: (إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه)(6) إلخ، فإن كانت لفظة (مثله) ثابتة في متن

ص: 373


1- تلاحظ الرّوايات المذكورة في الوجه التّالي.
2- كما في مصحّحة إسماعيل بن جابر، يلاحظ صفحة (354).
3- يلاحظ صفحة (345).
4- الرَّكِيُّ جمع الرَّكِيّة، أو جنسها والجمع رَكايا، والرَّكِيَّة هي البئر. يلاحظ: الصّحاح (تاج اللّغة وصحاح العربيّة): 6/ 2361، النّهاية: 2/ 261، مادّة (ركا).
5- يلاحظ صفحة (345).
6- الكافي: 5/ 13 ح 5، تهذيب الأحكام: 1/ 42 ح 55، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: 1/ 10 ح 3.

الرّواية كما هو الأقوى - بناءً على النّسخة المقروءة على المجلسيّ (قدس سره) - تكون ظاهرة في ما ادّعينا؛ لأنّ (ثلاثة أشبار ونصف) المذكورة بعد لفظة (في مثله) بيان لها، لا أن تكون شيئاً مبايناً لها.

نعم، لو كانت بعد لفظة (في مثله) لفظة (في) لكانت الرّواية ظاهرة في ما ادّعوه.

وأمّا إذا لم تكن لفظة (مثله) ثابتة - كما احتمله جماعة - تكون أظهر، وفي سياق سائر أخبار الباب.

ومنها: رواية إسماعيل بن جابر، قال: (ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار)، ولم يقل (علیه السلام) : (ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار)(1).

وأمّا الإجماع المدّعى في المقام - مضافاً إلى عدم حجّيّة منقوله كما قرّر في موضعه (2) - فإنّه ادّعاء في محلّ النّزاع؛ إذ كلمات الأصحاب خالية عن ذكر الأشبار، والمسألة معركة الآراء بين العمانيّ(3) ومن تبعه(4) وبين غيرهم(5)، حتّى من المخالفين للعمانيّ

ص: 374