الهيأة العلمية
نخبة من أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف
رئيس التحرير
السيد جواد الموسوي الغريفي
هيأة التحرير
السيد علي البعاج
الشيخ محمد الجعفري
الشيخ قاسم الطائي
- دراسات علمية -
العنوان: مجلة دراسات علمية / العدد السّابع عشر
الطبعة: الأولى
تاريخ الطبع: 2020 م -- 1441 ﻫ. ق
الكمية: 2000 نسخة
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1614 لسنة 2011
صورة الغلاف: أنموذج من المخطوط المطبوع في هذا العدد بخط الشیخ محسن (رحمة الله) حفید المؤلف (شیخ الشریعة قدس سره).
دراسات علمية
مجلة نصف سنونية تصدر عن المدرسة العلمية الاخون الصغرى في النجف الأشرف
تعنى بالابْحَاتِ التَّخَصُصِيَة في الحوزة العلمية
العدد السّابع عشر. ذو الحجة 1441 ﻫ.
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
التوبة 122
ص: 3
1. ترحّب المجلَّة بإسهامات الباحثين الأفاضل في مختلف المجالات التي تهمّ طالب الأبحاث العليا في الحوزة العلميّة من الفقه والأُصول والرجال والحديث ونحوها.
2. يُشترط في المادّة المُراد نشرها أُمور:
أ . أنْ تكون مستوفية لأُصول البحث العلميّ على مختلف المستويات (الفنّيّة والعلميّة) من المنهجيّة والتّوثيق ونحوهما.
ب . أنْ تكون الأبحاث مكتوبة بخطّ واضح أو (منضَّدة).
ت . أنْ توضع الهوامش في أسفل الصّفحة.
ث . أنْ يتراوح حجم البحث بين (12) و(50) صفحة من القطع الوزيريّ بخطٍّ متوسّط الحجم، وما يزيد على ذلك يمكن جعله في حلقتين أو ثلاث - بحسب نظر المجلَّة - شريطة استلام البحث كاملاً، ويمكن للمجلّة في ما زاد عن ذلك أن تنشره مستقلّا ً مع نشر قسمٍ منه في بعض أعدادها.
ج . أنْ لا يكون البحث قد نُشر أو أُرسل للنّشر في مكان آخر.
ح . أنْ يُذيَّلَ البحث بذكر المصادر التي اعتمدها الباحث.
3. يخضع البحث لمراجعة هيئة علميَّة ولا يُعاد إلى صاحبه سواء أنُشر أم لم يُنشر.
4. للمجلَّة وحدها حقّ إعادة نشر البحوث الّتي نشرتها.
5. يخضع ترتيب البحوث المنشورة في المجلَّة لاعتبارات فنّيّة لا علاقة لها بمكانة الكاتب أو أهميّة الموضوع.
6. ما يُنشر في المجلَّة لا يعدو كونه مطارحات علميّة صرفة، ولا يُعبّر بالضّرورة عن رأي المجلَّة.
ص: 4
السّنة التّاسعة - العدد السّابع عشر
كلمة العدد
هيئة التّحرير ............................................................................................... 7
سنّ البلوغ في الأنثى/1
الشّيخ وسام عبد الرّسول (دام عزه)........................................................................11
وجوب صلاة العيدين وشرط حضور المعصوم (علیه السلام)
الشّيخ فاضل الحسّانيّ (دام عزه) ..............................................................................65
استثناء الواقف المنافع لنفسه/1
الشّيخ أمجد رياض (دام عزه) .................................................................................. 143
القرائن المعنويّة العامّة وأثرها في الدّلالة (مناسبة الحكم والموضوع أنموذجاً)/1
الشّيخ عليّ الجزيريّ (دام عزه) ................................................................................ 189
السّيرة العقلائيّة / 2
الشّيخ نجم التّرابيّ (دام عزه) .................................................................................. 247
رجال الجواهر/ 3
الشّيخ عليّ الغزّيّ (دام عزه) ................................................................................... 301
ص: 5
قاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ) للفقيه الكبير الشّيخ فتح الله الأصفهانيّ المعروف بشيخ الشّريعة (قدس سره)
تحقيق: الشّيخ قاسم الطّائيّ (دام عزه) ...................................................................... 369
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربِّ العالمين والصّلاة والسّلام على محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين.
كنجمة الصّباح عندما تُطالعها في موضعها كلّ صباح لتطلّ عليك في كلّ الأحوال، لا يؤخّرها عن مطلعها تقلّب الأرض والإنسان في حوادث الدّهر وتغيّر الأزمان، هكذا هي أعداد مجلّة دراسات علميّة، تسير في نسقها وتتهادى في فَلكِها بعمل المشتغلين فيها والكاتبين في موضوعاتها، ثمَّ لمّا تصل إلى مطلعها من الشُّهور تُضيء في سماء النّشر والتّحقيق، باعثة ضياء نتاجها في أرجاء وأروقة محالّ صدورها، فتستريح لرؤيتها النّفوس، وتستأنس بمطالعة موضوعاتها وتحقيقاتها الأذهان المتشوّقة للأنوار المتفتّحة من أكمام قرائح الباحثين فيها.
إنَّ ما يميّز هذا العدد السّابع عشر من المجلّة أنَّه يخرج في وضع محلّيّ وعالميّ غير مسبوق، إذ أطبق الوباء العالميّ لمرض كورونا (كوفيد- 19) على البلدان ولم يستثنِ كبيرها ولا صغيرها.
ص: 7
ولمّا كان المسبِّب لذلك الوباء كائناً من صنف الفايروسات يدق عن أن يُحصَر أو يُشاهَد، ولا سبقت لأهل الاختصاص خبرة في معالجة أعراضه وتتبّع آثاره القاتلة لبعض النّفوس - رغم معرفة الأطباء والمختصّين في الكائنات الدّقيقة بنمط وبائيتها وانتشارها بين النّاس - اقتضت حكمتهم - وهم البصيرون بأساليب محاصرة أشباهه ونظائره - أن يتباعد النّاس ويهجعوا ويظلّوا في بيوتهم ويعزلوا
أجسادهم عن أماكن المخالطة والتّجمعات؛ لمحاصرة الوباء وتقليل فرص انتشاره السّريع بين البشر، فانشلّت الأعمال وتعطّلت الأسفار، وساد أغلب البلدان ركود وكساد كبير.
وقد ألقى هذا الوضع بظلاله على عمل المجلّة أيضاً، وأعاق العزلُ الاجتماعيّ من إنجاز بعض مهام إعدادها، ورغم ذلك كان الإصرار والعزم على إنجازها بموعدها، متحدّياً الظّروف المحيطة والحالة العامّة باعتماد طرق وآليات مستحدثة.
ومن حيث إنّ أغلب أعداد هذه المجلّة تقع في أيدي المختصّين بهذه العلوم الّتي تهتمّ بنشرها فللمجلّة دعوة مستمرّة للفضلاء والباحثين إلى الكتابة والتّحقيق في مختلف المجالات الّتي ترعاها من الفقه وأصوله، والحديث ورجاله ودرايته، بالإضافة إلى تحقيق التّراث المخطوط ممّا له صلة بهذه الموضوعات، فإنّ ما يدور في أذهان جملة من الباحثين والمهتمّين هو زاد هذه المجلّة ونميرها، وما تدبّجه يراعات ثلّة من اليقظين النّشطين في مضمار التّحقيق في التّراث والتّعدين في منابع الفكر الفقهيّ والأصوليّ لهو الفصوص الّتي فيها يسلك عقدها، ولكتابات هؤلاء النخبة في كلّ الأحوال عائدة مهمّة ومحصول واضح. فعلى مستوى ذاتهم أنّهم أقاموا أنفسهم على جادّة ينفتح منها أفق لمستقبل أيّامهم، ما كانوا يستشرفونه لولا محاولاتهم ومجاهداتهم هذه، كما أنّهم صاروا بذلك نفسه سبباً لتحريك الأنهار الرّاكدة وتنسيم الأجواء الخاملة، وهذه فائدة عامّة وعائدة مهمّة لها أثر إيجابيّ على الأجواء البحثيّة في المؤسّسات العلميّة.
ص: 8
ومن هنا نحثُّ الأفاضل والمتقدّمين في سعيهم العلميّ ليدخلوا الباب الّذي فتحته المجلّة، ويخوضوا هذه التّجربة بتنوّعها وثمارها المختلفة، ولا يكتفوا بالنّظر إلى فيء ظلال أقرانهم، وليلحقوا بهذا المضمار، فإن كرهوا مشقّته فقد نكره شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً، وقد علَّمت التّجاربُ أصحابَها أنَّ عوائدها رهائن النّيّات والعزائم .
وتتصدّر هذا العدد من المجلّة ثلاثة بحوث فقهيّة، الأوّل في تحديد سنّ البلوغ في الأنثى ويستعرض الباحث فيه مفصّلاً الأقوال وأدلّتها، ثمّ محاكمتها. أمّا البحث الثّاني فيدور حول مناقشة الشهرة العظيمة على اشتراط وجود الإمام المعصوم (علیه السلام) في وجوب صلاة العيدين. وفي البحث الثّالث يتناول الباحث مسألة استثناء الواقف منافع الوقف لنفسه من حيث صحّة ذلك الاستثناء وعدمه بعد احتمال منافاة ذلك الاستثناء لمفهوم الوقف.
ثمَّ يستعرض هذا العدد - بعد الفقه - بحثين في أصول الفقه، الأوّل صغرويٌّ في تحديد سعة وضيق موضوع الحكم الشّرعيّ بلحاظ المناسبة الارتكازيّة مع نفس طبيعة ذلك الحكم، وهو من مباحث الألفاظ الرّاجعة إلى أساسيّات الفهم العرفيّ وكيفيّة تلقّي فهم مدلولات الألفاظ من الأدلّة بعد صبّها في وعاء الحكم.
ثمَّ يطالعنا البحث الثاني في حلقته الأخرى، وهو بحثٌ كبرويٌّ في حجّيّة السّيرة العقلائيّة كأحد مصادر الإثبات الأصوليّ لحجج الفقه، ولا يخفى ما في هذا الموضوع من الأهمّيّة نظراً إلى غياب الاستدلال بهذا الدّليل عند السّابقين وكونه من التفاتات متأخّري المتأخّرين.
ثمَّ إنّ المجلّة مستمرة في نشر حلقات شيّقة يتتبّع بعضُ الباحثين فيها المنهج الّذي على أساسه بنى الفقيه العظيم صاحب كتاب الجواهر في الفقه في مجلّداته الكثيرة جرحه وتعديله لرجال الحديث ومصادره، لتنقيح اعتبار الرّوايات الّتي تعتبر أهمّ مستند
ص: 9
لمسائل الفقه، وفي هذا العدد ننشر الحلقة الثّالثة والأخيرة من ذلك البحث.
وأخيراً، وكما في كلّ عدد نختم بمسكٍ من تراث العلماء، فمسك هذا العدد يتضوّع من مخطوطة بقلم الفقيه الكبير شيخ الشّريعة الأصفهانيّ (قدس سره) الّذي يؤاتي إحياء واحد من مؤلّفاته في هذا العدد الذّكرى المئويّة الميلاديّة للثّورة العراقيّة الكبرى (ثورة العشرين) المدوّية ضد الإنكليز إبّان احتلالهم للعراق، فلا يكاد يُذكر التاريخ المعاصر لهذا البلد والحوادث الّتي جرت فيه منذ احتلال الإنكليز له وحتّى اندلاع ثورة العشرين إلّا واسم هذا الشيخ العظيم بارز في حركة الجهاد ضد الاحتلال وقيادة الثّورة.
والمخطوطة الّتي احتفى بها العدد حول قاعدة اعتنى بها أهل المعقول وناقشها المهتمّون من الأصوليّين بالفلسفة ونسجوا حولها بعض المباحث الأصوليّة، وهي قاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد)، تناول المخطوطة قلم التّحقيق في المجلّة لأحد الفضلاء ليخرجها من أدراج الانتظار إلى فضاء النّشر والتّحقيق، لتأخذ مكانها في الكتب والمصادر الأصوليّة.
ونودّ أن نقدّم عبارات العرفان للّجنة العلميّة الموقّرة لصبرها ومطاولتها في تتبّع البحوث طيلة هذه السّنين والأعداد المتوالية من غير كلل ولا ملل، فزاد الله في توفيقهم ونفع بعلمهم، كما نتقدّم بالشّكر إلى كلّ المساهمين في تحرير ومراجعة وتصحيح بحوث المجلّة والسّاهرين عليها لتخرج بأحسن صورة، ومن الله سبحانه نستمدّ العون والتّوفيق، وما توفيقنا إلّا به عليه توكّلنا وإليه ننيب.
هيئة التّحرير
النّجف الأشرف / ذو الحجّة 1441 ﻫ
ص: 10
إنّ البلوغ هو بداية تحمّل الإنسان مسؤوليّة التكليف - الّذي هو تشريف من الله جلّ علاه للإنسان - فإذا لم يبلغ يكون غير ملزم بفعل أو ترك، ولا يستحقّ أيّ عقوبة في الآخرة. والبلوغ أيضاً مبدأ زوال الحجر عن الإنسان في تصرّفاته المعامليّة فغير البالغ محجور عليه.
ومن ثَمَّ شرعنا في تحرير بحث سنّ البلوغ في الأنثى لأهميته؛ لأنّ السنّ هو العلامة الأبرز في تحديد البلوغ، وأيضاً للاختلاف الواقع فيه بين الفريقين، بل حتّى داخل الفريق الواحد خصوصاً في العصور المتأخّرة.
ص: 11
ص: 12
بسم الله الرحمن الرحیم
لا شكّ أنّ أهمّ المراحل العمرية الّتي يمرّ بها الإنسان هي مرحلة البلوغ والتكليف، ومن أهمّ العلامات الّتي تذكر في بحث البلوغ هو تحديد البلوغ بالسنّ، وغالب الناس تعتمد عليه؛ لأنّه أكثر ضبطاً من غيره، ولمّا كان سنّ البلوغ لدى الأنثى مثار بحث واختلاف خصوصاً في العصور المتأخّرة، لذا شرعنا في كتابة بحث حول سنّ البلوغ لدى الأنثى. ونوقع البحث في عدّة محاور.
محاور البحث
1. الأقوال في المسألة.
2. الأدلّة وكيفيّة الجمع بين الروايات والترجيح بينها والعمومات الفوقانية.
3. التنبيهات.
4. نتائج البحث.
ص: 13
اختلف علماء الإمامية في تحديد سنّ البلوغ للإناث بالسنين على أقوال:
قال الشيخ الطوسي في الخلاف: (يراعى في حدّ البلوغ في الذكور بالسنّ خمس عشرة سنة، وبه قال الشافعي، وفي الإناث تسع سنين)(1).
وقال في النهاية: (وحدّ الجارية الّتي يجوز لها العقد على نفسها أو يجوز لها أن تولّي مَن يعقد عليها تسع سنين فصاعداً)(2).
وقال ابن البرّاج في المهذّب: (وإذا بلغت المرأة تسع سنين، جاز تصرّفها في مالها، وكان أمرها فيه ماضياً على سائر الوجوه، إلّا أن تكون أيضاً ناقصة العقل، أو سفيهة، فإنّها لا تمكّن من ذلك)(3).
وقال ابن زهرة الحلبي في الغنية: (وحدّ السنّ في الغلام خمس عشرة سنة، وفي الجارية تسع سنين، بدليل الإجماع المشار إليه)(4).
ص: 14
وقال ابن إدريس في السرائر: (والمرأة تعرف بلوغها من خمس طرائق: إمّا الاحتلام، أو الإنبات، أو بلوغ تسع سنين)(1).
وقال العلّامة في التذكرة: (فالذكر يعلم بلوغه بمضيّ خمس عشرة سنة، والأنثى بمضيّ تسع سنين عند علمائنا)(2).
وقال في المختلف: (الحكم ببلوغ المرأة لتسع سنين، وهو المشهور، وقد روي عشر سنين، لكنّ الأشهر ما قاله [أي ابن الجنيد])(3).
وقال المحقّق السبزواري في الكفاية: (وبلوغ الأنثى.. وبتسع على الأقرب المشهور بين الأصحاب، ويدلّ عليه موثّقة ابن سنان السابقة، ورواية يزيد الكناسيّ وغيرهما، وقد روي أنّه يحصل بعشر سنين)(4).
وقال صاحب الرياض: (ويستفاد من مجموع الروايات المتقدّمة أنّ الإدراك في الأنثىٰ ببلوغ تسع سنين، وعليه الإجماع في الغنية والسرائر والخلاف والتذكرة والروضة، وهو حجّة أخرى)(5).
قال الشيخ الطوسي في المبسوط: (وأمّا البلوغ فهو شرط في وجوب العبادات
ص: 15
الشرعية، وحدّه.. والمرأة تبلغ عشر سنين)(1).
وقال ابن سعيد في الجامع: (وبلوغ المرأة والرجل بالاحتلام، وإنبات العانة، وتختصّ المرأة بالحيض، وبلوغ عشر سنين، والرجل بخمس عشرة سنة)(2).
وقال ابن حمزة في الوسيلة: (وبلوغ المرأة بأحد شيئين: الحيض، وتمام عشر سنين)(3).
نعم، قال في كتاب النكاح: (وبلوغ المرأة يعرف بالحيض، أو بلوغها تسع سنين فصاعداً)(4).
وقد ذهب إلى هذا القول الشيخ محمّد آصف محسني (رحمة الله)، ففي أحد كتبه الفقهية - بعد ذكره معتبرة ابن أبي عمير الّتي تدلّ على أنّ حدّ البلوغ في المرأة تسع سنين، ثُمَّ موثّقة عمّار الّتي تدلّ على أنّه إذا أتى على المرأة ثلاث عشرة سنة فقد وجبت عليها الصلاة، وجرى عليها القلم - قال: (ومقتضى الجمع بينهما حمل الحديث الأوّل على الاستحباب)(5).
ص: 16
قال الفيض الكاشاني: (والتوفيق بين الأخبار يقتضي اختلاف معنى البلوغ بحسب السنّ بالإضافة إلى أنواع التكاليف، كما يظهر ممّا روي في باب الصيام أنّه لا يجب على الأنثى قبل إكمالها الثلاث عشرة سنة إلّا إذا حاضت قبل ذلك، وما روي في باب الحدود أنّ الأنثى تؤاخذ بها، وهي تؤخذ لها تامّة إذا أكملت تسع سنين، إلى غير ذلك ممّا ورد في الوصية والعتق ونحوهما أنّها تصحّ من ذي العشر)(1).
اختلف العامّة أيضاً في تحديد البلوغ بالسنين بين مَن يقول خمس عشرة سنة وبين مَن يقول سبع عشرة سنة.
قال ابن قدامة: (في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمّد، وقال داود لا حدّ للبلوغ من السنّ.. وهذا قول مالك، وقال أصحابه سبع عشرة أو ثماني عشرة، وروي عن أبي حنيفة في الغلام روايتان.. والجارية سبع عشرة بكلّ حال)(2)، وقال صاحب بدائع الصنائع: (وقد اختلف العلماء في أدنى السنّ الّتي يتعلّق بها البلوغ، قال أبو حنيفة ثماني عشرة سنة في الغلام، وسبع عشرة في الجارية. وقال أبو يوسف ومحمّد والشافعي خمس عشرة سنة
ص: 17
في الجارية والغلام جميعاً)(1).
وقال النووي: (وأمّا السنّ فقد اختلف في تحديده فقيل يقدّر بخمسة عشر عاماً في الذكر والأنثى، وهذا هو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمّد بن الحسن من الحنفية، وابن وهب وابن الماجشون من المالكية. قال أبو حنيفة: تقدر بسبعة عشر عاماً في الجارية وبثمانية عشر في الغلام؛ لأنّ النماء في الإناث أقوى من النماء في الذكور. وقال مالك: المعتبر سنّ لا يبلغها شخص إلّا وقد احتلم)(2).
ص: 18
أمّا الأدلّة فهي الإجماع والروايات.
قد ادّعي الإجماع على أنّ حدّ بلوغ الأنثى هو تسع سنين، كما في كلمات غير واحد من الأعلام، منهم الشيخ في الخلاف حيث قال: (يراعى في حدّ البلوغ في الذكور.. وفي الإناث تسع سنين.. دليلنا: إجماع الفرقة، و أخبارهم قد أوردناها في الكتاب الكبير)(1).
إلّا أنّ الاستدلال بالإجماع يواجه مشكلتين:
الأولى: أنّه لم يثبت الإجماع بعد مخالفة الشيخ الطوسي في المبسوط وابن حمزة في الوسيلة وابن سعيد في الجامع، حيث ذهبوا إلى أنّ حدّ البلوغ هو عشر سنين، كما تقدّم(2).
الأخرى: أنّ الإجماع على بلوغ الأنثى بتسع سنين مدركي أو محتمل المدركية، وهو غير حجّة.
ص: 19
ويمكن جعلها على طوائف سبع:
وفيها روايتان:
عن رجل، عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)، قال: قلت: الجارية ابنة كم لا تستصبى، أبنت ستّ أو سبع؟ فقال: (لا، ابنة تسع لا تستصبى، وأجمعوا كلّهم على أنّ ابنة تسع لا تستصبى إلّا أن يكون في عقلها ضعف، وإلّا فإذا بلغت تسعاً فقد بلغت)(1).
والكلام عن هذه المرسلة يقع في جهتين:
لا إشكال في السند إلّا من جهة الإرسال حيث إنّ ابن أبي عمير رواها عن رجل، وقد وقع الكلام في حجّيتها على رأيين.
ويمكن التجاوز عن ذلك بناءً على الكبرى المعروفة بينهم من (أنّ المشايخ الثلاثة - ابن أبي عمير والبزنطي وصفوان - لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة)(2).
نعم لو رفضنا الكبرى المذكورة فلا يمكن الحكم بحجّية هذه الرواية حينئذٍ.
إنّ ذيل الرواية صريح في تحقّق البلوغ بسنّ التاسعة، وصدر الرواية أيضاً ظاهر في أنّ مَن بلغت تسع سنين، تخرج عن الصبا وتكون امرأة، وهذا هو البلوغ.
ص: 20
نعم قد يقال: إنّه لم يظهر من السؤال والجواب أنّ السؤال عن بلوغ الجارية شرعاً؛ ليكون الجواب بالتسع دليلاً على البلوغ به، بل الظاهر أنّ السؤال عن جواز نكاح الصغيرة، وهي غير مخدوعة، بحيث لا يكون لها حقّ الفسخ بعد ذلك، أي: السؤال عن رشد الجارية عقلاً بحيث لا تكون مخدوعة، فأجاب الإمام بأنّها إذا بلغت تسع سنين، فلا تكون كذلك إلّا أن يكون في عقلها ضعف، ممّا يعني أنّ السنّ المذكور ليس له خصوصية، بل الموضوع هو الرشد العقلي والفكري، وإنّما السنّ طريق لذلك، فلا بُدَّ من مراعاة الكمال العقلي - كمراعاة الكمال البدني في الدخول بها - للعقد عليها، ويشهد بذلك قوله (علیه السلام): (إلّا أن يكون في عقلها ضعف)، وقوله (علیه السلام): (وأجمعوا كلّهم على أنّ ابنة تسع لا تستصبى)، فإنّ المراد من الإجماع هو إجماع عامّة الناس ورأيهم وتصوّرهم للموضوع(1).
ويلاحظ على ذلك بعدّة أمور:
فيه احتمالان:
الأوّل: أن لا تعدّ صبيّة، فيكون المراد بالسؤال: متى تكون الجارية امرأة؟
الآخر: أن لا تخدع، فيكون المراد بالسؤال: متى لا تكون الجارية مخدوعة؟ فليس لها فسخ العقد.
ذكر الأعلام كلا الاحتمالين في كلماتهم، قال المجلسي الأوَّل (رحمة الله): (واستصباها:
ص: 21
خدعها)(1)، وقال الفيض الكاشاني: (لا تستصبى، أي: لا تعدّ صبيّة أو لا تستخدع، يقال: تصبّاها، وتصاباها: خدعها)(2)، وقال المولى محمّد باقر المجلسي: (قوله: لا تستصبى، أي: لا تعدّ صبيّة، بل تعدّ بالغة، وقيل: أي: لا تخدع، قال الفيروزآبادي: تصبّاها: خدعها وفتنها، والأوّل أصوب)(3).
والاحتمال الآخر إن لم يكن ظاهراً فهو احتمال معتدّ به، وقد ذكره أهل اللغة، قال ابن منظور: (وتصبّاها أيضاً: خدعها وفتنها)(4)، وقال الزبيدي: (وتصبّاها وتصاباها: إذا خدعها وفتنها)(5)، ويشهد لهذا الاحتمال جواب الإمام مقيّداً بحصول الرشد، حيث قال: (إلّا أن يكون في عقلها ضعف)، ومن المستبعد جدّاً تقييد سنّ البلوغ بالرشد، وعليه فيكون البلوغ والرشد كلاهما قيداً في عدم خداعها.
وعلى كلا الاحتمالين يتمّ الاستدلال بالرواية.
أمّا على الاحتمال الأوّل فالاستدلال بالرواية واضح، فإنّ المرأة تخرج عن الصبا بالبلوغ تسع سنين.
وأمّا على الاحتمال الآخر فيستفاد من الرواية أنّ الجارية لا تخدع بشرطين: أن تكون بالغة؛ لقوله (علیه السلام): (فإذا بلغت تسعاً فقد بلغت)، فهو صريح في حصول
ص: 22
البلوغ إذا بلغت تسع سنين، وأن تكون رشيدة، وهو ما أشار إليه الإمام بقوله: (إلّا أن يكون في عقلها ضعف).
وفيه بحثان:
هل الإجماع منقول في الرواية من الإمام (علیه السلام) أو من الراوي؟
قد يقال: إنّ كلمة (أجمعوا) إلى آخر الحديث إضافة من ابن أبي عمير، أو من ثقة الإسلام الكليني، واحتمال كونها من كلام الإمام وإن كان قائماً، لكنّه بعيد(1)؛ ولعلّه من جهة التعبير، فكلمة (أجمعوا) لا تناسب عبارات الأئمّة (علیهم السلام)، بل لم تعهد منهم هكذا تعبيرات، فيكون من تعبيرات غيرهم.
وعلى كلّ حال، لا يضرّ هذا الاحتمال بالاستدلال؛ لأنّ الصدر يكفي وحده في الاستدلال.
على فرض أنّ الإجماع المنقول هو من كلام الإمام، فما هو المراد به؟
يحتمل أن يكون المراد به إجماع العامّة على ذلك، أو إجماع الإمامية، أو إجماع عامّة الناس وتصوّراتهم(2).
أقول: أمّا الاحتمال الأوّل - وهو إجماع فقهاء العامّة - فمستبعد؛ لأنّ فقهاء العامّة مختلفون، بل لم يذكر أحد منهم أنّ البلوغ يكون بتسع سنين، كما تقدّم في نقل أقوالهم.
ص: 23
وأمّا الاحتمال الثالث - وهو إجماع عامّة الناس وتصوّراتهم - فمستبعد أيضاً؛ إذ لو كان الناس مجمعين فلِمَ وقعت محلَّاً ومثاراً للسؤال في زمان الأئمّة (علیهم السلام) ؟ بل نفس سؤال السائل يكشف عن عدم إجماع الناس في ذلك الوقت، ولم يذكر في كلامه احتمال حصول البلوغ بتسع سنين، حيث قال: (قلت: الجارية ابنة كم لا تستصبى، أَبنت ستّ أوسبع؟) مع أنّ إجماع الناس في تحديد موضوع الحكم الشرعي - أي البلوغ أو الرشد - لا ينفع بعد تحديد الموضوع من قبل الشارع.
إذن يتعيّن الاحتمال الثاني.
وممّا تقدّم يظهر تمامية الاستدلال بالرواية.
عن غير واحد عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)، قال: (حدّ بلوغ المرأة تسع سنين)(1).
والكلام يقع - أيضاً - في جهتين: السند، والدلالة.
والكلام فيه من جهة كونها مرسلة لابن أبي عمير، فمع البناء على الكبرى - من أنَّ ابن أبي عمير لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة - تكون الرواية معتبرة.
وأمّا لو أنكرنا الكبرى المذكورة فيمكن أن ترد مناقشتان:
أنّ محمّد بن أبي عمير روى عمّن يقارب الأربعمائة شخص، ونصف هؤلاء تقريباً لم يوثّقوا في علم الرجال أو لم تثبت وثاقتهم، بل منهم من
ص: 24
ضعّفه الرجاليون، وحينئذٍ فمن أين لنا الوثوق بأنّ واحداً من الثلاثة ثقة؟ بناءً على أنّ المراد من غير واحد ثلاثة فصاعداً على ما هو المعروف بينهم(1).
ودعوى أنّ ثلاثة أشخاص إذا رووا رواية يبعد احتمال كذبهم أو خطئهم واشتباههم فيها جميعاً، فنطمئن بصدق الرواية وصدورها، دعوى بلا دليل؛ لأنَّ المفروض عدم العلم بحالهم من حيث الوثاقة والضبط والأمانة(2).
ويمكن جواب المناقشة:
أوّلاً: بأنّ طريقة حساب الاحتمال ينبغي أن تكون بعدِّ الروايات، وليس بعدِّ الرواة فقط(3)، فينبغي حينئذٍ أن نعدَّ الروايات الصحيحة إلى ابن أبي عمير، ثُمَّ نميّز منها ما كان عن مجهول، وما كان عن ثقة، وبعد ذلك نخرج النسبة الاحتمالية للرواية عن ثلاثة مجاهيل.
مثلاً: لو كان يروي عن أربعة رواة فقط، ولا يروي عن غيرهم، وكان أحدهم لم تثبت وثاقته، وكان عدد رواياته عن الثقات الثلاثة تسعاً وتسعين رواية، وعدد رواياته عن الّذي لم تثبت وثاقته رواية واحدة، فلو أرسل هذا الراوي عن راوٍ لم
ص: 25
يصرّح باسمه، فاحتمال أنّه غير الثقة هو واحد بالمائة مع افتراض عدم وجود داعٍ لإخفاء اسمه.
وثانياً: لو تنزّلنا عمّا تقدّم يمكن الجواب عن ذلك بأنّه يمكن الاطمئنان بحجّية الرواية من خلال حساب الاحتمالات، وذلك من خلال ثلاثة تطبيقات لبديهة الاتّصال:
التطبيق الأوّل: احتمال اجتماع مجهولية أو ضعف ثلاثة رواة = 17/100 تقريباً.
بيان ذلك:
المعادلة: احتمال اجتماع مجهولية ثلاثة رواة = احتمال مجهولية الراوي الأوّل × احتمال مجهولية الراوي الثاني على فرض مجهولية الأوَّل × احتمال مجهولية الراوي الثالث على فرض مجهولية الراويين الأوّل والثاني.
احتمال مجهولية الراوي الأوّل = 223/400 لأنّ عدد المجهولين والضعفاء والمختلف فيهم(1) 223 حسب الفرض(2) وعدد جميع الرواة 400.
احتمال مجهولية الراوي الثاني على فرض مجهولية الأوّل = 222/399 تمّ انقاص واحد من البسط والمقام؛ لأنّه من الاحتمالات غير المستقلّة.
احتمال مجهولية الراوي الثالث على فرض مجهولية الراويين الأوّل والثاني = 221/398
فيكون احتمال اجتماع مجهولية ثلاثة رواة = 221/398 × 222/399 × 223/400 = 10940826/63520800 وهو
ص: 26
يساوي تقريباً 17/100
إذن احتمال اجتماع ثلاثة مجاهيل أو ضعفاء أو مختلف فيهم هو 17/100
التطبيق الثاني: هو حساب احتمال كذب ثلاثة مجاهيل معاً على فرض أنّ احتمال كذب المجهول هو 1/2
احتمال كذب ثلاثة مجاهيل معاً = احتمال كذب المجهول الأوَّل × احتمال كذب المجهول الثاني × احتمال كذب المجهول الثالث(1).
احتمال كذب ثلاثة مجاهيل معاً = 1/2 × 1/2 × 1/2 = 1/8 وهو = 12.5/100
إذن احتمال اجتماع كذب ثلاثة مجاهيل هو اثنا عشر ونصف بالمائة.
التطبيق الثالث: وهو حساب اجتماع ثلاثة مجاهيل مع كذبهم جميعاً.
احتمال اجتماع ثلاثة مجاهيل مع كذبهم = احتمال اجتماع ثلاثة مجاهيل معاً × احتمال كذب ثلاثة مجاهيل
احتمال اجتماع ثلاثة مجاهيل مع كذبهم = 17/100 × 12.5/100 = 212.5/10000 = 2/100 تقريباً
إذن احتمال مجهولية ثلاثة رواة من مشايخ ابن أبي عمير مع كذبهم هو اثنان بالمائة، وهو احتمال ضئيل.
هذا كلّه لو كان حساب الاحتمال على أساس حساب عدد الرواة كما تصوّر المستشكل، وليس على أساس حساب عدد الروايات، وكذلك على فرض أنّ عدد مشايخ ابن أبي عمير 400 راوٍ وأنّ المجهولين والمختلف فيهم والضعفاء عددهم 223.
ص: 27
نعم لو فرض أنّ الواسطة المجهولة اثنان فقط(1) يكون احتمال عدم حجّية الرواية هو 8/100
وهذا يمكن بيانه من خلال تطبيقات ثلاثة:
التطبيق الأوّل احتمال اجتماع مجهولين = احتمال مجهولية الأوَّل × احتمال مجهولية الثاني على فرض كون الأوّل مجهولاً
احتمال اجتماع مجهولين = 223/400 × 222/399 = 49506/159600 = 31/100 تقريباً.
التطبيق الثاني حساب احتمال كذب المجهولين معاً = احتمال كذب المجهول الأوّل × احتمال كذب المجهول الثاني
احتمال كذب المجهولين معاً = 1/2 × 1/2 = 1/4
التطبيق الثالث حساب احتمال مجهولية اثنين مع كذبهم = احتمال اجتماع مجهولين × احتمال كذبهما معاً
احتمال مجهولية اثنين مع كذبهما = 31/100 × 1/4 = 31/400 = 8/100 تقريباً، ومعه لا يمكن حصول الاطمئنان باعتبار الرواية.
أنّ هذه الرواية يحتمل أن تكون عين مرسلته السابقة؛ لوحدة السند، وتقارب ذيل الرواية السابقة مع متن هذه الرواية، ومع هذا الاحتمال يلزم تردّد المرسل عنه بين (رجل) و(غير واحد)، الأمر الّذي يسقط الاستدلال بالرواية
ص: 28
والاستفادة من الإرسال بغير واحد(1).
وفيه: أنّ احتمال اتّحاد الروايتين ينشأ من استبعاد تكرّر الواقعة، مثلاً: أنّ الراوي نفسه يسأل السؤال نفسه مع أنّ المسؤول واحد، ويأتي الجواب نفسه، فهنا يقوى احتمال الاتّحاد، بل يحصل الاطمئنان به لاتّحاد الخصائص بين الروايتين؛ لأنّ اتّحاد الخصائص بين الروايتين صدفة أمرٌ بعيد.
ولكن في المقام ما هو متّحد من الخصائص بين الروايتين قليل، وبالتالي يضعف معه احتمال الاتّحاد، خصوصاً أنّ الراوي المباشر عن الإمام في الروايتين غير معلوم من هو.
الرواية صريحة في بلوغ الجارية بتسع سنين.
لكن قد يقال: يحتمل أن تكون الرواية في بيان حدّ البلوغ التكويني والطبيعي للمرأة، وهو تسع سنين آنذاك، أي: أنّها قبل التاسعة لا تكون امرأة؛ لأنّها لا تحيض، وبهذا تكون هذه الرواية مطابقة لمضامين الروايات الّتي دلّت على أنّ الجارية قبل التسع لا تحيض، فلا يجوز الدخول بها، ولا عدّة عليها.
وبعبارة أخرى: أنّ الرواية بصدد بيان الحدّ الأدنى من حيث السنّ للبلوغ بالحيض، وأنّه قبل تسع سنين لا تبلغ بالحيض وإنّما تبلغ بعدها(2).
ويرد عليه:
ص: 29
أوّلاً: أنّ الرواية لم تذكر الحيض أصلاً.
وثانياً: أنّ الظاهر من الرواية كونها في مقام بيان الحدّ بصورة مطلقة وغير مقيّدة بتكليف محدّد، وأمّا قوله: إنّها (بيان الحدّ الأدنى) فهو غير ظاهر من الرواية، وكذلك لم تظهر مطابقة هذه الرواية لمضامين الروايات الّتي دلّت على أنَّ الجارية قبل التسع لا تحيض، أو لا عدّة عليها.
وتتضمّن عدّة روايات..
قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) قلت له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة وتقام عليه ويؤخذ بها؟ قال: (إذا خرج عنه اليتم وأدرك). قلت: فلذلك حدّ يعرف به؟ فقال: (إذا احتلم، أو بلغ خمس عشرة سنة، أو أشعر، أو أنبت قبل ذلك أقيمت عليه الحدود التامّة، وأخذ بها وأخذت له). قلت: فالجارية متى تجب عليها الحدود التامّة وتؤخذ بها ويؤخذ لها؟ قال: (إنّ الجارية ليست مثل الغلام، إنّ الجارية إذا تزوّجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع، وأقيمت عليها الحدود التامّة وأخذ لها بها). قال: (والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم، أو يشعر، أو ينبت قبل ذلك)(1).
ص: 30
والكلام في هذه الرواية تارة في السند، وأخرى في الدلالة.
ويشكل برجلين:
عبد العزيز العبدي، وقد ضعّفه النجاشي(1)، وذكره ابن إدريس بعنوان: (عبد العزيز القندي)(2)، وهذا العنوان مجهول لم يترجم له، ولعلّه تصحيف، خصوصاً مع تقارب الاسمين في رسم الخطّ.
نعم ذكرت عدّة محاولات لقبول الرواية من جهة عبد العزيز العبدي:
ما في مصابيح الظلام، حيث قال: (النجاشي وإن نقل ضعفه عن ابن نوح وأسنده إليه، إلّا أنّه قال: له كتاب يرويه جماعة، وقد ذكرنا في التعليقة أنّ مثل هذا دليل الاعتماد عندهم سيّما عند النجاشي، ثُمَّ ذكر أنّ الحسن بن محبوب ممّن يرويه، والحسن من جملة مَن أجمعت العصابة على قوله)(3).
ويرد عليه:
أوّلاً: أنّ التضعيف من أبي العبّاس ابن نوح يشمله دليل حجّية قول الرجالي.
وثانياً: أنّ الظاهر من النجاشي قبول التضعيف المذكور فلم يعترض عليه، ونقله في كتابه يكشف عن قبوله التضعيف المذكور.
والشاهد على ذلك: أنّ النجاشي لو لم يقبل التضعيف لعلّق عليه كما في استثناء
ص: 31
ابن الوليد لمحمّد بن عيسى من رواية كتاب نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى(1).
وثالثاً: أنّ عبارة النجاشي (كتابه يرويه جماعة) لا تدلّ على الوثاقة والاعتماد عليه.
ويؤيّد ذلك: أنّ النجاشي قال في ترجمة المعلّى بن خنيس: (ضعيف جدّاً، لا يعوّل عليه. له كتاب يرويه جماعة)(2)، وقال في ترجمة وهب بن وهب: (وكان كذّاباً، وله أحاديث مع الرشيد في الكذب.. له كتاب يرويه جماعة)(3)، وقال في ترجمة صالح بن الحكم النيلي الأحول: (ضعيف.. له كتاب، يرويه عنه جماعة)(4).
ورابعاً: أنّ رواية الحسن بن محبوب عنه - بناءً على تمامية كبرى وثاقة من روى عنه أصحاب الإجماع - ستجعله من موارد تعارض الجرح والتعديل.
ما ذكره السيّد السبزواري (قدس سره) بقوله: (وهذا الصحيح من محكمات أخبار الباب، ومبيّناتها، وممّا يشهد متنه بصحّة سنده كما لا يخفى على أهله، ولا بُدَّ من ردّ غيره إليه أو طرحه عند المعارضة)(5).
ويرد عليه: أنّه لا خصوصيّة في متن الرواية تقتضي قبول الرواية غير عمل المشهور بها، وهو غير تامّ في الجارية؛ لأنّ الرواية دلّت على حصول البلوغ بتسع سنين بشرط الزواج والدخول.
ص: 32
أنّ رواية جماعة من الأجلّاء عنه - كالحسن بن محبوب السرّاد(1) وعبد الرحمن بن أبي نجران(2) - تكشف عن وثاقته، وإن لم يكن غير مصرّح بها(3).
ويرد عليها:
أوّلاً: أنّ رواية الأجلّاء عنه لا تفيد الوثاقة ما لم يحصل كثرة للرواية عنه من الأجلّاء.
ويؤيّد ذلك: أنّ غالب الأجلّاء يروي عن الضعفاء كرواية جميل بن دراج عن يونس بن ظبيان(4)، ورواية أبان بن عثمان عن كثير النواء(5)، ورواية ابن بكير وجميل ابن درّاج عن صالح بن الحكم النيلي الأحول كما في رجال النجاشي(6).
وثانياً: لو تحقّق الإكثار(7)، فمع وجود التضعيف، لا ينفع في حصول الوثاقة.
حمزة بن حمران، الّذي لم يذكر في حقّه توثيق صريح، ولكن يمكن توثيقه لرواية ابن أبي عمير وصفوان عنه(8). وما ذكره السيّد السبزواري (قدس سره) في توثيق عبد العزيز العبدي يأتي هنا، ويرد عليه ما تقدّم.
ص: 33
وعلى كلّ حال فالرواية ضعيفة بالعبدي.
أمّا الدلالة فالظاهر من الرواية أنّ حصول البلوغ وترتيب آثاره معلّق على عدّة أمور بنحو المجموع، وهي بلوغ تسع سنين، والزواج، والدخول، فإذا انتفى أحدهما لا يحصل البلوغ بتسع سنين.
ويمكن أن يناقش فيه:
أوّلاً: بأنَّ المقصود من فرض تزويجها والدخول بها هو التأكُّد من تحقُّق بلوغها التسع، لا أنَّه شرط لبلوغها(1).
وثانياً: أنَّ الزواج والدخول وذهاب اليتم من الأمور المترتِّبة على البلوغ ومن آثاره، وليس شرطاً في البلوغ(2).
جواب المناقشتين.
ويرد عليه: أنّ الظاهر من كلام الإمام (علیه السلام) أنّ الزواج والدخول شرط، قال (علیه السلام): (إنّ الجارية إذا تزوّجت ودخل بها ولها تسع سنين)، وأمّا الجزاء فهو: (ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع، وأقيمت عليها الحدود التامّة وأخذ لها بها).
إذن الرواية ظاهرة في الشرطيّة، ولها مفهوم وشرطها هو: (الجارية إذا بلغت تسع سنين وتزوّجت ودخل بها الزوج)، وجزاؤها هو: (ذهاب اليتم) وغيرها من
ص: 34
آثار البلوغ.
المناقشة الثالثة: لم يقل بهذا أحد من الفقهاء، فتكون الرواية مهجورة، وهجر الأصحاب للرواية يكون مانعاً من الاستدلال بالرواية، كما ذكر في محلّه(1).
قد يقال: إنَّ ابن الجنيد الإسكافي عمل بالرواية في الجملة، قال العلّامة في المختلف: (قال ابن الجنيد: الصبيّة إذا تزوّجت ولها تسع سنين أيضاً لم يحجر عليها، وكان زوجها الرشيد قيّماً بمالها)(2)، ولكنّه التزم بجزء من مفاد الرواية، ولم يلتزم بها في المقام. وعلى كلّ حال فالرواية ضعيفة، لا يمكن الاستدلال بها.
الرواية الأخرى: رواية بريد أو يزيد(3) الكناسيّ.
قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): متى يجوز للأب أن يزوّج ابنته ولا يستأمرها؟ قال: (إذا جازت تسع سنين، فإن زوّجها قبل بلوغ التسع سنين كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنين). قلت: فإن زوّجها أبوها ولم تبلغ تسع سنين فبلغها ذلك، فسكتت ولم تأبَ ذلك، أيجوز عليها؟ قال: (ليس يجوز عليها رضى في نفسها، ولا يجوز لها تأبّي ولا سخط في نفسها حتّى تستكمل تسع سنين، وإذا بلغت تسع سنين جاز لها القول في نفسها بالرضا والتأبّي، وجاز عليها بعد ذلك وإن لم تكن أدركت مدرك النساء). قلت: أفتقام عليها الحدود، وتؤخذ بها وهي في تلك الحال، وإنّما لها تسع سنين، ولم
ص: 35
تدرك مدرك النساء في الحيض؟ قال: (نعم، إذا دخلت على زوجها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها، وأقيمت الحدود التامّة عليها ولها)(1).
والكلام يقع في جهتين:
ولا كلام فيه إلّا من جهة يزيد أو بريد الكناسيّ، فلم تثبت وثاقته(2).
ودلالة هذه الرواية كدلالة الرواية السابقة فلا نعيد.
وهذا الاستدلال حسب نقل الشيخ(3) من جعل الزواج والدخول شرطاً، ولكن حسب نقل الشيخ الكليني في الكافي لا يتمّ الاستدلال؛ لأنّ الزواج والدخول أثر من آثار البلوغ تسعاً، وإليك ووواليك نصّ الرواية: عن يزيد الكناسيّ، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليتم، وزوّجت وأقيمت عليها الحدود التامّة عليها ولها..)(4).
ص: 36
ولا يبعد أن تكون الرواية الّتي نقلها الشيخ في الاستبصار والتهذيب هي عين الرواية الّتي نقلها الكليني في الكافي كما صرّح بعض الأعلام(1)؛ لوحدة السند ووحدة الإمام المنقول عنه ووحدة المضمون باستثناء شرط الزواج، فالزواج في رواية الشيخ شرط، وفي رواية الكليني أثر من آثار البلوغ، نعم على كلا النقلين يكون سنّ التاسعة لدى الجارية هو سنّ البلوغ: إمّا مطلقاً، أو بشرط الدخول، فتأمّل.
وتتمثّل برواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)، قال: (إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة، وكتبت عليه السيئة، وعوقب، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك؛ وذلك أنّها تحيض لتسع سنين)(2).
والكلام في هذه الرواية أيضاً يقع في جهتين:
وثاقة كلّ مَن روى عنه المشايخ الثلاثة(1).
لو كنّا نحن وهذه الفقرة: (وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك)، لكانت واضحة الدلالة على مدّعى المشهور، ولكن ذيل الرواية ظاهر في أنّ علّة الحكم بالبلوغ لتسع سنين هو حيضها في ذلك السنّ.
والظهور الأوّلي منها هو الحيض الفعلي، لا إمكان الحيض؛ لأنّ إمكان الحيض فيه مؤنة زائدة تحتاج إلى بيان زائد.
ولكنّ الحيض الفعلي قد يستبعد بقرينة ما ذكر في كلماتهم من أنّ حصول الحيض في سنّ التاسعة أمر قليل الحصول، والغالب هو حصول الحيض بعد ذلك(2)، قال صاحب كتاب الموسوعة العربية العالمية: (يبدأ الحيض عند معظم الفتيات بين سنّ العاشرة والسادسة عشرة)(3)- حسب السنين الميلادية كما هو المتعارف في الكتب العلمية - وعليه فيكون التعليل الوارد في الرواية (وذلك أنّها تحيض لتسع سنين) - لو كان المراد به الحيض الفعلي - غيرَ منسجم؛ ولذا يمكن حمل الحيض في الرواية على إمكان الحيض .
ص: 38
وتتمثّل بموثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)، قال: سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ فقال: (إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة، أو حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة، وجرى عليها القلم)(1).
وسند الرواية لا إشكال فيه؛ لأنّ الرواة كلّهم ثقات وإن كان فيهم فطحية، نعم انفرد بها عمّار الساباطي، ولكن لا يؤثّر ذلك على الاستدلال بها(2).
أمّا الدلالة فهي ظاهرة في حصول البلوغ بثلاث عشرة سنة، بل بمفهوم الشرط
ص: 39
تدلّ على عدم حصول البلوغ قبل ثلاث عشرة سنة، إلّا إذا حصل الحيض لديها.
إن قيل: (إنّ مضمونها لا يوافق المدّعى؛ لأنّها تضمّنت كون المعيار ثلاث عشرة سنة إلّا إذا حاضت قبل ذلك، فعلى ذلك يجب تغيير العنوان بالنحو التالي: (حدّ البلوغ هو ثلاث عشرة سنة إلّا إذا حاضت قبل ذلك))(1).
قلت: إنّ مضمونها يوافق المدّعى؛ لأنّ البلوغ ثلاث عشرة سنة هو أحد العلامات، والحيض علامة أخرى، فإن حصل أحدهما حصل البلوغ.
إن قيل: إنّ المشهور أعرض عن الرواية، فلا يمكن الاعتماد عليها(2).
قلت: يشترط في الإعراض الكاسر للرواية - بناءً على تمامية الكبرى - أن يكون غير مستند إلى حدس واجتهاد كما ذكر في محلّه(3)، وفي المقام المشهور رجّح روايات التسعة؛ لكثرتها وشهرتها فهو يعتمد على أصل اجتهادي(4).
وهي رواية واحدة، رواها الشيخ بإسناده عن ابن فضّال، عن العبدي، عن الحسن بن راشد، عن الإمام العسكري (علیه السلام)، قال: (إذا بلغ الغلام ثماني سنين، فجائز أمره في ماله، وقد وجب عليه الفرائض والحدود، وإذا تمّ للجارية سبع سنين،
ص: 40
فكذلك)(1).
وتقريب الاستدلال بها واضح، فإنّه إذا تمّ للجارية سبع سنين، وجبت عليها الفرائض والحدود، وهو تعبير واضح عن حصول التكليف وترتيب آثاره.
والكلام عن هذه الرواية يقع - كذلك - في جهتين:
حيث عُبِّر عنها في روضة المتّقين وملاذ الأخيار بالقويّ والموثّق(2)، ولكن وقع النقاش فيه:
أوّلاً: في طريق الشيخ إلى ابن فضّال كما أشار إليه بعض الأعلام(3).
وثانياً: في العبدي، ويمكن أن يقال بأنّ العبدي تصحيف العبيدي، كما أشار إلى ذلك غير واحد، منهم المجلسي في ملاذ الأخيار قائلاً: (الحديث الثالث عشر مجهول أو موثّق على الظاهر؛ إذ الظاهر العبدي تحريف العبيدي)(4).
ويؤيّد ذلك: رواية ابن فضّال عن العبيدي في موارد عديدة(5)، وكذلك رواية
ص: 41
العبيدي، عن الحسن بن راشد في موارد عديدة(1)، ومع التقارب في الخطّ لا يبعد حصول التصحيف، بل في بعض نسخ التهذيب العبيدي نقلاً عن السيّد الخوئي (قدس سره)، حيث قال: (روى عنه - الحسن بن راشد - العبدي التهذيب ج9، ح736 كذا في الطبعة القديمة أيضاً، وفي بعض النسخ العبيدي، وهو الصحيح، كما يظهر من سائر الروايات)(2).
وثالثاً: أنَّ رواية الحسن بن راشد(3) عن الإمام العسكري (علیه السلام) غير معهودة في كتب الحديث مع أنّه لم يعدّ في أصحاب الإمام العسكري (علیه السلام) . نعم هو من أصحاب الإمامين الجواد والهادي (علیهما السلام) (4).
ولكن يمكن أن يقال: إنّ الحسن بن راشد روى عن الإمام العسكري (علیه السلام) في موارد(5)، ولا يبعد أن يكون المقصود بالعسكري (علیه السلام) في الموارد المذكورة هو الإمام
ص: 42
الهاديّ (علیه السلام)؛ لأنَّه يلقّب بالعسكري أيضاً، وهو مناسب لطبقة الحسن بن راشد. وعليه تكون الرواية معتبرة.
والكلام فيها في نقطتين أيضاً:
في نسخة السبع، ففي بعض النسخ تسع بدل سبع كما ذكر السيّد البروجردي (قدس سره) في جامع أحاديث الشيعة(1)، وفي نسخة صاحب الجواهر - التي اعتمد عليها - تسع بدل سبع(2)، ومع الاختلاف في النسخ لا يمكن الاعتماد على نسخة السبع، بل يقوى في النفس أنّ السبع تصحيف لتقارب الرقمين في الكتابة.
ويؤيّد ذلك - كما أشار السيّد الخوئي (قدس سره) (3) - اتّحاد هذه الرواية مع رواية سليمان ابن حفص المروزي عن الرجل (علیه السلام)، قال: (إذا تمّ الغلام ثمان سنين فجائز أمره، وقد وجبت عليه الفرائض والحدود، وإذا تمّ للجارية تسع سنين فكذلك)(4).
ص: 43
لو سلّمنا أنّ نسخة السبع هي النسخة الوحيدة، هل يمكن الاعتماد على الرواية؟
ما يمنع من التمسّك بالرواية أمران:
أحدهما: أنّ هجر الأصحاب للرواية يمنع من التمسّك بها(1).
والآخر: أنّ صدر الرواية لا يمكن قبوله، وهو بلوغ الذكر بثماني سنين، فإن أمكن التفكيك في الحجّية في النصّ الواحد الّذي له مداليل متعدّدة فحينئذٍ لا يؤثّر سقوط صدر الرواية عن الحجّية بالاستدلال بذيل الرواية(2).
وعلى كلّ حال، فالاستدلال بالرواية غير تامّ بسبب الاختلاف في النسخ.
وهي روايتان:
وهي ما رواه الكليني، عن حميد بن زياد، عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن صفوان بن يحيى، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (لا يدخل بالجارية حتّى يأتي لها تسع سنين، أو عشر سنين)(3).
ص: 44
وهي ما رواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن عبد الكريم بن عمرو، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (لا يدخل بالجارية حتّى يأتي لها تسع سنين، أو عشر سنين)(1).
والكلام في هاتين الروايتين يقع في جهتين:
أورد الحديثين الصدوق والشيخ في الفقيه والتهذيب وغيرهما(2)، وهما رواية واحدة كما يظهر ذلك من وحدة النصّ والإمام المنقول عنه، ولكن بطريقين: في الطريق الأوّل موسى بن بكر، ولا توثيق صريح له. نعم يمكن توثيقه لرواية صفوان عنه بطريق صحيح، كما في هذه الرواية بناءً على القبول بكبرى أنّ المشايخ الثلاثة لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة. وفي الآخر سهل بن زياد، ولم تثبت وثاقته.
إنّ الترديد في الحدّ الشرعي من قبل الإمام (علیه السلام) غير معقول؛ لأنّه خلاف وظيفته من كونه في مقام بيان(3)، ومن ثَمَّ ذكرت عدّة احتمالات في توجيه هذا الترديد:
ص: 45
أنّ الترديد من الراوي وليس من الإمام(1)، فلا يمكن الاستدلال بها على قول المشهور بسبب الإجمال الناشئ من الترديد في سمع الراوي، فيحتمل أنّ الإمام (علیه السلام) قال: (عشر)، ويحتمل أنّه قال: (تسع).
وفيه: أنّ هذا الاحتمال مستبعد، ووجه الاستبعاد: أنّ متن الرواية منقول بسندين، واحتمال الترديد في السماع من كلا الراويين بعيد. مضافاً إلى أنّ الشيخ الصدوق (قدس سره) نقل الرواية في الخصال، وأضاف إلى نصّها: (وقال: أنا سمعته يقول، تسع، أو عشر)(2)، والظاهر منها أنّ زرارة يقول: سمعت الإمام (علیه السلام) يذكر الترديد، وليس الترديد من عندي(3).
وما قيل من أنّ فاعل قال هو (موسى بن بكر)(4) خلاف الظاهر؛ وذلك من نفس تأكيد زرارة من أنّه سمع الإمام يقول كذا أو كذا، فالترديد من الإمام (علیه السلام)، وكأنّ زرارة يدفع توهّم أنّ الترديد منه، فهو يقول إنَّه ليس منّي.
قد يقال: إنّ نقل الكافي هو الأصحّ والأصوب(5).
ولعلّ الوجه في تصويب ذلك: أنّ الرواية مذكورة في كتب الحديث بدون الذيل المذكور، فلو كان الذيل موجوداً فعدم نقله خلاف الوثاقة الّتي تقتضي الضبط في
ص: 46
النقل.
ولكنّه ليس بتامّ؛ وذلك لأنّ عدم نقل فقرة من الرواية إذا كان لا يؤثّر في المعنى لا يخالف الوثاقة والأمانة في النقل، فإنّ المقطع المذكور مع حذفه لا يؤثّر على المعنى؛ لأنّ المتبادر الأوّلي منه أنّ الترديد في كلام الإمام (علیه السلام) . مضافاً إلى أنّ الذيل مذكور في بعض نسخ التهذيب على ما قيل في ملاذ الأخيار(1).
أنّ الترديد من جهة الاختلاف في كبر الجثة وصغرها وقوّة البنية وضعفها(2)، أو قل اختلاف النساء في تحمل الوطء(3)؛ إذ قد يتضرّرن بالجماع قبل العشر(4)، وكأنّ الموضوع ليس هو السنّ وإنّما هو قدرة النساء البدنية على التحمّل، والتحديد بالسنّ هو مجرّد طريق لاستكشاف ذلك(5).
لكن لا شاهد على هذا الاحتمال لا من نفس الرواية ولا من غيرها.
ظاهر الترديد هو بمعنى إكمال تسع سنين والدخول في العاشرة(6).
ولكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر من الرواية، ولا شاهد عليه.
ص: 47
حمل الأكثر على الاستحباب، وهو إكمال عشر سنين(1).والمقصود هو استحباب تأخير الدخول إلى سنّ العاشرة، وجواز الدخول في التاسعة.
وهذا الحمل مبني على نكتة أساسية وهي أنّ التخيير في الحدّ أمر غير معقول(2)، وكأنّ الإمام يقول: يجوز الدخول بالأنثى إذا بلغت تسعاً أو عشراً، وبما أنّه يجوز الدخول بالتاسعة، فلا بُدَّ من حمل الدخول في العاشرة على الاستحباب.
ولكنّ التحديد بالسنّ أوّل الكلام، فقد ذهب بعض إلى أنَّ تحديد البلوغ لا يكون بالسنّ بل بعلامات أُخر كالحيض(3)، أو بالحيض والسنُّ صالحٌ للحيض الّذي يختلف حسب الظروف الطبيعية والمناخية والزمانية(4)، وكذلك وقع نفس الكلام لدى العامّة حيث ذهب بعضهم إلى تحديد البلوغ بالحيض وليس بالسنّ، قال ابن قدامة: (وقال ابن داود لا حدّ للبلوغ من السنّ)(5)، وقال النووي: (وقال مالك المعتبر سنّ لا يبلغها شخص إلّا وقد احتلم)(6).
ص: 48
اللهم إلّا أن يقال: إنّ ذكر السنّ لو كان طريقاً إلى شيء آخر كان على الإمام (علیه السلام) أن يبيّن ما هو تمام الموضوع لحصول البلوغ. خصوصاً وهو في مقام بيان موضوع جواز الدخول بالأنثى.
هذا كلّه لو تمّت الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ، ومع عدم تمامية الملازمة لا تنفع الرواية في المقام؛ ولذا ينبغي البحث في الملازمة المذكورة.
وعمدة ما يمكن الاستدلال به على الملازمة أدلّة:
قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾(1).
بيان وجه الاستدلال: أنّ بلوغ النكاح فيه ثلاثة معانٍ محتملة:
المعنى الأوَّل: بلغ الحدّ الّذي يستطيع معه الغلام أن يَنْكَح، والحدّ الّذي تستطيع به الأنثى أن تُنْكَح، ولا شكّ شرعاً، بل ادّعى بعضهم الضرورة على أنّ السنّ الّذي تصلح معه الأنثى أن تُنْكَح هو بلوغ تسع سنين(2). وقد تقدّم بعض الأخبار الّتي تشير إلى ذلك، وسيأتي مزيد منها.
المعنى الثاني: هو بلوغ الزواج، وهو في السنّ الأكثر من البلوغ الشرعي، ويشهد له قوله تعالى في ذيلها: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾.
ص: 49
فإنّه لا يطلق (الكبير) على البالغ تسعاً وخمسة عشر، ويؤيّده أنّه إذا تزوّجت أو تزوّج، فكأنّه يخرج من اليتم، ويتقوّى بالمصاهرة، فلا تخونه يد الخونة(1).
ولعلّ هذا هو الظاهر البدوي منها حيث نسب البلوغ إلى نفس النكاح مع أنّ الاحتمال الأوّل يحتاج إلى تقدير كلمة (حدّ)، ويؤيّد ذلك موثّقة العيص بن القاسم عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)، قال: سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال: (إذا علمت أنّها لا تفسد ولا تضيّع). فسألته إن كانت قد تزوّجت؟ فقال: (إذا تزوّجت فقد انقطع ملك الوصي عنها)(2).
المعنى الثالث: هو الاحتلام حيث ورد في تفسير القمّي ما يفسّر البلوغ بمعنى الاحتلام، حيث قال: (وأمّا قوله: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ قال: من كان في يده مال اليتامى فلا يجوز له أن يعطيه حتّى يبلغ النكاح، فإذا احتلم وجب عليه الحدود وإقامة الفرائض، ولا يكون مضيِّعاً ولا شارب خمر ولا زانياً، فإذا أنس منه الرشد دفع إليه المال وأشهد عليه، وإن كانوا لا يعلمون أنّه قد بلغ فإنّه يمتحن بريح إبطه أو نبت عانته، فإذا كان ذلك فقد بلغ، فيدفع إليه ماله إذا كان رشيداً، ولا يجوز أن يحبس عليه ماله ويعلّل أنّه لم يكبر..)(3).
ص: 50
ويؤيّد ذلك: موثّقة داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال: سألته عن يتيم قد قرأ القرآن وليس بعقله بأس وله مال على يدي رجل، فأراد الرجل الّذي عنده المال أن يعمل بمال اليتيم مضاربة، فأذن له الغلام في ذلك، فقال: (لا يصلح أن يعمل به حتّى يحتلم ويدفع إليه ماله، قال: وإن احتلم ولم يكن له عقل لم يدفع إليه شي ء أبداً)(1).
ولکن يمكن أن يقال: إنّ ما ورد في تفسير القمّي ليست رواية عن إمام معصوم، بل هو تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي كما يبدو، بل لعلّه اختصار من تفسيره؛ لأنّ التفسير الموجود هو اختصار لتفسير القمّي مع إضافات من مؤلّفه(2).
أمّا الموثّقة فلم يعلم أنّها تفسير للرواية، ولعلّها تطبيق لبلوغ النكاح، وأنّ بلوغ النكاح أعمّ من ذلك، فقد يحصل بالاحتلام أو الحيض أو بغير ذلك.
وأمّا المعنى الثاني فيمكن استبعاده بما دلّ على دفع المال إلى اليتيم بشرط الاحتلام والرشد، فلو كان الزواج شرطاً في دفع المال، كان على الإمام (علیه السلام) أن يبيّن ذلك، فالإطلاق يدلّ على عدم دخالة الزواج - النكاح - في الحكم بدفع المال إلى اليتيم، ومن الروايات الدالّة على ذلك: موثّقة داود بن سرحان المتقدّمة، وصحيحة هشام عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)، قال: (انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام وهو أشدّه وإن احتلم
ص: 51
ولم يؤنس منه رشد وكان سفيهاً أوضعيفاً فليمسك عنه وليّه ماله)(1).
وموثّقة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)، قال: سأله أبي وأنا حاضر عن قول اللّه عزّ وجلّ ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾(2). قال: (الاحتلام)، قال: فقال: يحتلم في ستّ عشرة وسبع عشرة سنة ونحوها؟ فقال: (لا، إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات، وكتبت عليه السيئات، وجاز أمره إلّا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً). فقال: وما السفيه؟ فقال: (الّذي يشتري الدرهم بأضعافه). قال: وما الضعيف؟ قال: (الأبله)(3).
ورواية سعد بن إسماعيل عن أبيه(4)، قال: سألت الرضا عن وصيّ أيتام تدرك أيتامه، فيعرض عليهم أن يأخذوا الّذي لهم، فيأبون عليه كيف يصنع؟ قال (علیه السلام): (يردّه عليهم، ويكرههم على ذلك)(5).
ومرسلة محمّد بن عيسى عمّن رواه عن أبي عبد اللّه (علیه السلام): في رجل مات وأوصى إلى رجل، وله ابن صغير فأدرك الغلام وذهب إلى الوصيّ، فقال له: ردّ عليّ مالي لأتزوّج، فأبى عليه، فذهب حتّى زنى، قال: (يلزم ثلثي إثم زنى هذا الرجل ذلك
ص: 52
الوصي؛ لأنّه منعه المال ولم يعطه فكان يتزوّج)(1).
تدلّ هذه الأخبار على عدم دخالة الزواج في دفع مال اليتيم، وتكون مفسّرة ومبيّنة للآية الكريمة، بل حتّى موثّقة العيص بن القاسم - عن أبي عبد اللّه (علیه السلام) قال: سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال: (إذا علمت أنّها لا تفسد ولا تضيّع). فسألته إن كانت قد تزوّجت. فقال: (إذا تزوّجت فقد انقطع ملك الوصيّ عنها)(2) - والّتي هي مؤيّدة للاحتمال الثاني، يمكن أن يدّعى أنّ صدرها يؤكّد عدم دخالة الزواج، وإنّما الدخيل هو الرشد، كما هو ظاهر.
نعم في ذيل الرواية افترض الراوي أنّ اليتيمة زوّجت نفسها، والمفروض أنّها هي الّتي تزوّجت(3) فتكون مدركة؛ ولذا لا خصوصيّة للزواج، وإنّما الخصوصية للإدراك.
وأمّا نسبة البلوغ إلى نفس النكاح وإن كان يوجب ظهوراً بدوياً في أنّ الشرط هو نفس الزواج، ولكن بعد مراجعة الروايات والقرائن المتقدّمة يمكن أن يقال إنّ الظهور الحجّة هو الحدّ الّذي يكون معه الإنسان صالحاً للنكاح، مع أنّ الثابت أنّه حتّى لو كانت متزوّجة وهي غير بالغة، لا يدفع المال إليها أو إلى زوجها.
وأمّا عدم صدق الكبر على من بلغ خمس عشرة سنة أو تسعاً فهو أوّل الكلام،
ص: 53
فإنَّ البلوغ هو الخروج من الصغر إلى الكبر.
صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه (علیه السلام)، قال: قال: (إذا تزوّج الرجل الجارية وهي صغيرة فلا يدخل بها حتّى يأتي لها تسع سنين)(1).
ولا کلام فی السند، وإنّما الكلام في الدلالة، ولتحديد المراد من الرواية لدينا احتمالان:
أنّ قوله (علیه السلام): (حتّى يأتي لها تسع سنين) بيان حدّ انتهاء الصغر، فتدلّ الرواية على الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ؛ لأنّ المستفاد من الرواية أمران:
1. لا يجوز الدخول بالصغيرة حتّى تبلغ وتخرج من الصغر، وهذا مستفاد من منطوق الرواية مع تسليم الاحتمال الأوّل.
2. إنّ غير الصغيرة - الكبيرة البالغة سنّ التاسعة - يجوز الدخول بها، وهذا مستفاد من مفهوم الجملة الشرطية في الرواية.
أنّ قوله (علیه السلام): (حتّى يأتي لها تسع سنين) بيان حدّ جواز الدخول فلا تدلّ الرواية على الملازمة؛ لأنّ المعنى سيكون: أنّ الجارية الصغيرة إذا بلغت تسع سنين يجوز الدخول بها، وهذا مستفاد من مفهوم الجملة الشرطية، وأنّ الجارية الصغيرة إذا لم تبلغ تسع سنين لا يجوز الدخول بها، وهذا مستفاد من المنطوق.
ولا يبعد أن يكون الاحتمال الآخر هو الظاهر من الرواية.
ص: 54
وإن أبيت أن تكون الرواية ظاهرة في هذا الاحتمال فهي مجملة من هذه الجهة. اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ المستظهر من الرواية أنّ المناط في حرمة الدخول هو الصغر.
رواية أبي أيّوب الخزّاز، (قال: سألتُ إسماعيل بن جعفر متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين. قلت: ويجوز أمره؟ قال: فقال: إنّ رسول اللّه دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يدخل بالجارية حتّى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره وجازت شهادته)(1).
والدلالة واضحة، فقوله: (ليس يدخل بالجارية حتّى تكون امرأة) يدلّ على عدم جواز الدخول بالجارية إذا لم تكن امرأة - أي: كانت صغيرة - فيدلّ على الملازمة بينهما.
لكنّ هذه الرواية غير حجّة؛ لأنّها مروية عن غير المعصوم - كما ذكر صاحبا الوافي والوسائل -، مع ما فيها من بلوغ الذكر بعشر سنين، أو قياس الذكر بالأنثى، فلا بُدَّ من التفكيك بين فقرات الرواية، وسيأتي مزيد كلام في الرواية في الطائفة السابعة.
وهي عدّة روايات:
رواية غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (علیه السلام)، قال: (لا توطأ جارية لأقلّ من عشر سنين، فإن فعل فعيبت فقد ضمن)(2).
ص: 55
والكلام يقع في جهتين: السند والدلالة.
وفيه محمّد بن أبي خالد، وهو مجهول. نعم في بعض نسخ الوسائل (محمّد بن خالد)، وهو البرقي الثقة.
وقد عبّر السيّد الخوئي (قدس سره) عنها بالمعتبرة(1)، ولكنّه بيَّن إرسال الرواية في معجمه قائلاً: (محمّد بن أبي خالد: روى عن ابن أبي عمير، وروى عنه الشيخ مرسلاً، التهذيب: الجزء7، باب السنّة في عقود النكاح، الحديث 1638، وروى عن محمّد بن عيسى، وروى عنه الشيخ مرسلاً الحديث 1641 من الباب، وروى عن محمّد بن يحيى، وروى عنه الشيخ مرسلاً الحديث 1639، و1640 ]وهذا الحديث هو محلّ بحثنا[ من الباب المتقدّم أيضاً)(2).
وفي ملاذ الأخيار(3) جعل تعليق السند على الحسين بن سعيد، فتكون الرواية معتبرة مع احتمال رجوع الضمير إلى محمّد بن أبي خالد، واحتُمل أيضاً التصحيف والصحيح: (محمّد بن خالد)(4).
ص: 56
ولكي يتّضح المطلب نبيّن ترتيب الروايات في التهذيب(1) في الحديث (رقم: 1637) ابتدأ الشيخ (قدس سره) السند بالحسين بن سعيد، وفي الحديث الّذي بعده - رقم 1638- ابتدأ السند بمحمّد بن أبي خالد، ثُمَّ الأحاديث الّتي بعدها - رقم 1639، 1640، 1641 - كانت معلّقة عليه عن محمّد بن يحيى، وعنه عن محمّد بن عيسى.
وبما أنّ الراوي الّذي ابتدأ به الشيخ (محمّد بن أبي خالد) مجهول، ولم يترجم له، ولم يذكر في كتب الحديث إلّا في الموضع المشار إليه احتمل المجلسي في ملاذ الأخيار أنَّ التعليق على (الحسين بن سعيد)، واحتمل أيضاً أنَّ (محمّد بن أبي خالد) تصحيف (محمّد بن خالد) ومقصوده (البرقي)، وكلاهما يروي عن (محمّد بن يحيى(2)) الوارد في الروايتين: (1639، 1640) وكلاهما يمكن أن يروي عن (محمّد بن عيسى)(3) الوارد في الرواية: (1641).
فاحتمال التعليق على (الحسين بن سعيد) على خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من الرواية هو التعليق على (محمّد بن خالد) فتكون الرواية ضعيفة سنداً؛ لأنّه ليس للشيخ الطوسي طريق إليه في المشيخة، وطريقه إليه في الفهرست ضعيف بأبي المفضّل وابن بطّة فتكون الرواية غير معتبرة.
ص: 57
يتوقّف الاستدلال بالرواية على الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ، وقد تقدّم الكلام فيها.
هذا، وقد ذكرت في كلماتهم توجيهات سوف نتعرّض لها بعد إيراد روايات العَشرة؛ لأنّ التوجيهات عامّة لكلّ روايات العشرة.
رواية أبي أيّوب الخزّاز المتقدّمة، قال: (سألت إسماعيل بن جعفر متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين. قلت: ويجوز أمره؟ قال: فقال: إنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله و سلم) دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يدخل بالجارية حتّى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره وجازت شهادته)(1).
والكلام يقع في جهتين:
والإشكال فيها من جهة أنّها موقوفة على إسماعيل، وليست قول إمام معصوم كما ذكر صاحبا الوافي(2) والوسائل، فلا يمكن الاستدلال بها. نعم استدلال إسماعيل - مع جلالة قدره - يشعر أنّ دخول النبيّ
(صلی الله علیه و آله و سلم) بعائشة أمر مسلّم به.
ومن جهة العبيدي - محمّد بن عيسى - الّذي استشكل فيه غير واحد(3)، وأنّ
ص: 58
الإشكال إمّا في نفس العبيدي - كما فهم النجاشي(1) -، أو من جهة رواية العبيدي عن يونس - كما فهمه بعض الأعلام(2) -، والسبب في الإشكال هو عبارة ابن الوليد بأنّه لا يعتمد أحاديث العبيدي عن يونس، ولعلّه اجتهاد من ابن الوليد والشيخ الصدوق - كما قيل(3) -، وإن كان الأرجح وثاقته ولا يسع المقام تحقيق ذلك، فنوكله إلى مقام آخر.
إنّ الاستدلال بها يتوقّف على ثبوت الملازمة بين جواز الدخول والبلوغ، وقد تقدّم الكلام فيها، ويتوقّف على التفكيك في الحجّية؛ لأنّ في الرواية فقرات لا يمكن الالتزام بها.
فإنّ استدلال إسماعيل (رحمة الله) مبنيّ على مقدّمتين:
المقدّمة الأولى: دخول النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بعائشة وهي بنت عشر سنين.
المقدّمة الأخرى: إذا جاز الدخول فتكون امرأة وليست صغيرة.
ص: 59
أمّا المقدّمة الأولى فغير بعيدة عن الرواية نفسها بعد وثاقة الرواة، واحتمال خطأ إسماعيل بنقل حادثة تاريخية ترتبط بجدّه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بعيد، خصوصاً أنّ التعليل يكون بأمر مركوز في الأذهان، مضافاً إلى قربه من المعصومين (علیهم السلام) واتّصاله بهم.
ولكنّها تبقى حادثة تاريخية قد نقلها لنا، فلا يمكن الجزم بأنّ سنّ العاشرة له خصوصية في جواز الدخول، بل يحتمل حصول البلوغ من جهة حصول علامة أخرى، وسيأتي مزيد بيان عند التعرّض لتوجيهات رواية العشرة.
رواية محمّد بن مسلم، قال: سألته عن الجارية يتمتّع منها الرجل؟ قال: (نعم إلّا أن تكون صبيّة تخدع)، قال: قلت: أصلحك اللّه، فكم حدّ الّذي إذا بلغته لم تخدع؟ قال: (بنت عشر سنين)(1).
والكلام أيضاً يكون في جهتين:
أمّا السند ففي طريق الشيخ الصدوق زكريا المؤمن، ولم تثبت وثاقته، وفي طريق الشيخ الطوسي إبراهيم بن محرز الخثعمي، وهو ممّن لم تثبت وثاقته أيضاً.
أمّا الإضمار فلا يضرّ بعد أن كان السائل محمّد بن مسلم.
وأمّا الدلالة فهي تشابه رواية ابن أبي عمير الأولى، وتقدّم الكلام فيها في
ص: 60
التعبيرين: (مَن لا تخدع) أو (لا تستصبى)، فلا نعيد. نعم استظهر الميرزا القمّي(1) أنّ الظاهر من الرواية بيان الرشد لا البلوغ.
نعم يمكن أن يقال: إنّ الرشد يلازم البلوغ؛ لأنّ الرشد الّذي يترتّب عليه الأثر يكون بعد البلوغ، ولو حصل الرشد قبله لا يكون له أثر، وبما أنّ المقصود بالرواية هو الرشد الّذي يترتّب عليه أثر، فلا بُدَّ من كونه مسبوقاً أو مقارناً لبلوغ سنّ التكليف؛ ولذا أقصى ما تفيد الرواية أنّ البلوغ: إمّا مقارن للعشرة، أو قبلها.
ولمّا كانت رواية العشرة مخالفة لروايات التسعة ذكر العلماء توجيهات عديدة، ولكنّها مخالفة للظاهر، ولعلّ منشأ هذه التوجيهات هو أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.
ص: 61
التوجيه الأوّل: أنّ المراد الدخول في العشرة لا إتمام عشر سنين(1).
وهذا التوجيه خلاف الظاهر، فلماذا لا تحمل روايات التسع على الدخول في التسع، وليس على إتمام التسع؟!
التوجيه الثاني: استحباب تأخير الدخول إلى سنّ العاشرة(2).
ولكنّ الرواية الأولى والثالثة - لو تمّتا - تأبيان الحمل على الاستحباب؛ لأنّهما في مقام بيان الحدّ الّذي لا تخدع به، أو لبيان حدّ جواز الدخول.
التوجيه الثالث: أنّ هذه الأخبار شاذّة لا يعمل بها(3).
ولكن تقدّم وجود القائل بحصول البلوغ بتمام عشر سنين(4). نعم هذا القول خلاف المشهور.
أقول: روايات الطائفة السابعة الدالّة على حصول البلوغ بعشر سنين كلّها ضعيفة سنداً، لا يمكن الاعتماد عليها، خصوصاً أنّه لا جابر لها بعمل المشهور.
هذا ما أردنا عرضه في هذه الحلقة من بحث سنّ البلوغ لدى الأنثى، ويقع الكلام - إن شاء الله تعالى - في الحلقة الأخرى في كيفية الجمع بين الروايات،
ص: 62
والمرجّحات، والعمومات الفوقانية، والتنبيهات، ونتيجة البحث.
والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين وسلّم تسليماً.
* * *
ص: 63
ص: 64
يحظى البحث عن صلاة العيدين بأهمّيّة خاصّة؛ ذلك للاختلاف الواقع بين المسلمين في استفادة أصل وجوبها من الكتاب أو السّنّة من جهة، وللخلاف بين علمائنا في وجوبها في عصر الغيبة من جهةٍ أخرى.
وما بين يدي القارئ الكريم محاولة لاستجلاء الموقف تجاه هذا الاختلاف من خلال عرض الأدلّة ومناقشتها على وفق أحدث النظريات في الفقه والأصول والرجال.
ص: 65
ص: 66
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين.
وبعد، لا زالت الفروع الفقهية التي لها نحو ارتباط بالإمام المعصوم (علیه السلام) مثاراً لاهتمام العلماء؛ ذلك لتفاوت أحكامها في الجملة بين زمن الحضور وزمن الغيبة، ومن ثَمَّ اختلف فقهاؤنا في أنّ الحكم الثابت لها في زمن الحضور هل هو مستمر إلى زمن الغيبة أو ينقطع فيختص بزمن الحضور؟ كما في سهم الإمام (علیه السلام) من الخمس، وتطبيق الحدود الشرعية، وغير ذلك.
ومن هذه الفروع صلاة العيدين، فإنّ المشهور بين فقهائنا وجوبها في زمن الحضور، واستحبابها في زمن الغيبة، ولكن يظهر من بعض فقهائنا السابقين (قدس سرهم) القول بوجوبها في زمن الغيبة كما هو الحال في زمن الحضور.
ثمَّ من قالوا بوجوبها في زمن الحضور دلّلوا عليها (تارةً) بالكتاب العزيز، (وتارة) بالسنّة المباركة، (وثالثة) بالإجماع، مع ذهاب جملة منهم فيما يظهر من كلماتهم إلى عدم صحّة الاستدلال عليها بالكتاب العزيز أو بالإجماع.
ص: 67
هذا مضافاً إلى وجود تفاصيل دقيقة في شروط وجوبها أو استحبابها، وكيفية أدائها قد توزّعت في بطون الكتب ضمن أبحاث الفقهاء، ولم يفرد لها تأليف مستقلّ ممّا استدعى تحريرها مستقلَّاً بما يتلاءم وطبيعة هذه التفاصيل.
والبحث في صلاة العيدين له مقامات متعدّدة ولكن سنقتصر على البحث في مقامين:
المقام الأوّل: في أصل وجوب هذه الصلاة.
المقام الآخر: في شرائط تحقّق هذا الوجوب.
ص: 68
وقد استُدلّ له بجملة أمور:
والمنظور منه آيتان:
1 - قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾(1).
2 - قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾(2).
فإنّ جمعاًَ من المفسّرين ذكر أنّ الآيتين شرّعتا صلاة العيدين، أمّا الأولى فقالوا إنّ المراد من الزكاة هي زكاة الفطرة، والمراد بالصلاة هي صلاة العيد، وممّن ذكر ذلك عليّ بن إبراهيم القمّي (قدس سره)
في التفسير المنسوب إليه(3)، والطبرسي (قدس سره) على سبيل الاحتمال(4)، ومثله فعل بعض مفسّري العامّة(5).
وأمّا الآية الأخرى فقد استدلّ بها جماعة من فقهاء الجمهور(6)، وبعض فقهائنا،
ص: 69
منهم الطبرسي والراوندي(1)، والمحقّق الحلّي(2)، والعلّامة(3) (قدس سرهم)، والشيخ الطوسي (قدس سره) ذكره على سبيل الاحتمال(4).
ويمكن تقريب الاستدلال في الآية الأولى بما ذكره الراوندي (قدس سره) بقوله: (قوله ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ إشارة إلى صلاة العيد، وذلك لأنّ إخراج الفطرة يجب يوم الفطر قبل صلاة العيد على ما بدأ الله به في الآية. وقال العلماء والمفسّرون: كلّ موضع من القرآن يدلّ على الصلوات الخمس وزكاة الأموال فذكر الصلاة فيه مقدّم، كقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ﴾، وقدّم الزكاة في هذه الآية على الصلاة، فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ إعلاماً أنّ تلك الزكاة زكاة الفطرة، وأنّ تلك الصلاة صلاة العيد)(5).
ولكن اعتُرض على أصل الاستدلال بالآيتين على إرادة صلاة العيدين منهما، حيث إنّ المعروف أنّهما مكّيتان، وصلاة العيدين وزكاة الفطرة شرّعتا في المدينة، فكيف يراد من الآيتين صلاة العيدين وزكاة الفطرة!
وقد حاول الطبرسي والراوندي الردّ على هذا الاعتراض في خصوص سورة الأعلى بأنّه يحتمل أن يكون نزل أوائلها بمكّة وختمت بالمدينة(6).
ص: 70
ولكن نوقش(1): بأنّه يصعب اعتبار كون بعضها مكّياً والآخر مدنياً، خصوصاً وأنّ بعض الروايات تذكر بأنّ كلّ مجموعة من المسلمين حينما يصلون المدينة كانوا يقرءون هذه السورة لأهل المدينة(2).
وأمّا سورة الكوثر فقد قيل باحتمال نزولها مرّتين: مرّة في مكّة، ومرّة في المدينة(3)، أو يجاب بأنّ هناك من ذكر أنّ سورة الكوثر مدنية(4).
وبغض النظر عن ذلك فإنّنا نرجع إلى الروايات التي فسّرت الصلاة والنحر بصلاة العيد ونحر الأضحية في سورة الكوثر، وفسّرت الزكاة والصلاة في سورة الأعلى بزكاة الفطرة وصلاة العيد إن وجدت تلك الروايات، ونرى هل هي تامّة سنداً ودلالةً أو لا؟
أمّا سورة الكوثر فلم أجد في رواياتنا - فيما تتبّعت - روايةً واحدةً ولو كانت ضعيفة السند تفسّر الصلاة والنحر فيها بصلاة العيد ونحر الأضحية، بل مجموعة منها فسّرت النحر بأنّه رفع اليدين حذاء الوجه(5)، وبعضها فسّرته بالاعتدال في القيام، روى الشيخ (قدس سره) بسنده عن الحسين بن سعيد، عن النضر، عن ابن سنان، عن
ص: 71
أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾(1) قال: (هو رفع يديك حذاء وجهك)(2)، وجاء في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن حمّاد، عن حريز، عن رجل، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قلت له: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾؟ قال: (النحر الاعتدال في القيام أن يقيم صلبه ونحره)، وقال: (لا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس، ولا تلثّم ولا تحتفز، ولا تقع على قدميك، ولا تفترش ذراعيك)(3).
ومنه يتّضح الخدش فيما ذكره الفيض (قدس سره) حيث قال: (قال اللَّه عزّ وجلّ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾، وقال سبحانه: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾. بيان: قد ورد في الأخبار أنّ الآية الأولى نزلت في زكاة الفطر، وصلاة عيد الفطر، والثانية نزلت في صلاة عيد الأضحى، ونحر الهدي والأضحية)(4)، فلم يتبيّن وجود أخبار دالّة على نزول آية سورة الكوثر في صلاة عيد الأضحى، وربّما يكون قد نظر في ذلك إلى مرسلة الصدوق عن الإمام الصادق (علیه السلام) الآتية، أو إلى ما ورد في مثل ذلك من طرق العامّة.
ولكن حتّى في روايات العامّة لم يجعلوه التفسير الوحيد للآية، بل الموجود في كتبهم آراء مختلفة، وقد ذكر ذلك الطبري في تفسيره(5)، هذا بالنسبة إلى ما جاء في
ص: 72
سورة الكوثر.
وأمّا سورة الأعلى فلم أعثر بحسب التتبّع على رواية تفسّر قوله تعالى: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ بصلاة العيد إلّا ما جاء في تفسير القمّي من أنّ المراد بها صلاة الفطر والأضحى(1) إذا اعتبرناه روايةً مرسلة، وما رواه الصدوق (قدس سره) مرسلاً من أنّه سُئل الصادق (علیه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾. قال: (من أخرج الفطرة)، فقيل له: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾. (خرج إلى الجبّانة فصلّى)(2)، بتقريب أنّ المراد من الخروج إلى الجبّانة والصلاة هو صلاة العيد بقرينة زكاة الفطرة وكلمة (خرج)، ويبدو من إدراج الصدوق (قدس سره) لهذه الرواية في باب استحباب أداء زكاة الفطرة ثمّ الخروج إلى الصلاة أنّه فهم منها صلاة العيد.
وفي الاستدلال بهذه المرسلة تأمّل واضح من حيث الإرسال، ومن حيث الدلالة على الوجوب؛ فإنّ المنساق من قوله تعالى: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ هو المدح ليس إلّا، وليس فيه دلالة على الوجوب.
وأمّا قرينة زكاة الفطرة وأنّها واجبة، فتكون الصلاة أيضاً واجبة فغير تامّة؛ لأنّ وجوب زكاة الفطرة قد ثبت بروايات أخر، وليس من نفس هذه الرواية، مضافاً إلى أنّه لا يلزم من العطف على شيء واجب أن يكون المعطوف واجباً أيضاً.
وأمّا ما ذكره الراوندي من تقريب الاستدلال فيرد عليه: أنّ مجرّد تقديم ذكر الزكاة على الصلاة في الآية لا يعدّ قرينة كافية على تعيين كون المراد من الصلاة صلاة
ص: 73
العيد دون غيرها من الصلوات، فربّما كان تقديم الزكاة بداعي الاهتمام بها في خصوص المورد بلحاظ المناسبات الحافة بالكلام.
والنتيجة أنّ الاستدلال بالآيتين الكريمتين ليس تامّاً، وإنّما هو تفسيرٌ يصلح للتأييد، لا للاستدلال، ومنه يظهر الردّ على كلّ من استدلّ بالكتاب العزيز في محلّ الكلام(1).
وقد استدلّ به السيّد في الانتصار(2)، والشيخ في الخلاف(3)، والسيّد ابن زهرة في الغنية(4)، والشيخ عليّ في جامع الخلاف والوفاق(5)، ويدعم ذلك أنّه لا يوجد - فيما تتبّعتُ - فقيه واحد من فقهاء الإمامية يقول بالاستحباب مطلقاً - أعني حتّى مع توفّر الشروط المعروفة - وهذا يكشف عن تلقّي هذا الحكم من المعصومين (علیهم السلام) .
وفيه: أنّ الإجماع الحجّة هو إجماع الفقهاء المعاصرين للأئمّة، أو المقاربين لعصرهم (علیهم السلام)، مع ملاحظة عدم وجود نصّ من آية أو رواية نحتمل احتمالاً معتدّاً
ص: 74
به استنادهم إليه(1)، وفي المقام توجد نصوص نحتمل أنّهم استندوا إليها، بل قد نجزم بذلك.
قال المحقّق في المعتبر: (ولأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فعلهما مواظباً، فتجب لقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): صلّوا كما رأيتموني أصلّي)(2).
وقد نقل المؤرّخون أنّ أوّل صلاة عيد فطر صلّاها النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) كانت بعد الهجرة، قال الطبري: (حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول: استقبل النبيّ
(صلی الله علیه و آله و سلم) بيت المقدس ستة عشر شهراً فبلغه أنّ اليهود تقول: والله ما درى محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم، فكره ذلك النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عزّ وجلّ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ الآية، قال أبو جعفر: وفي هذه السنة فرض فيما ذكر صوم شهر رمضان، وقيل إنّه فرض في شعبان منها، وكان النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) حين قدم المدينة رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم فأخبروه أنّه اليوم الذي أغرق الله فيه آل فرعون، ونجّى موسى ومن معه منهم، فقال نحن أحقّ بموسى منهم، فصام وأمر الناس بصومه، فلمّا فرض صوم شهر رمضان لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه. (وفيها): أمر الناس بإخراج زكاة الفطر، وقيل: إنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) خطب الناس قبل الفطر بيوم أو
ص: 75
يومين، وأمرهم بذلك، (وفيها): خرج إلى المصلّى، فصلّى بهم صلاة العيد، وكان ذلك أوّل خرجة خرجها بالناس إلى المصلّى لصلاة العيد)(1).
وأمّا صلاة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في عيد الأضحى، فقد نقل ابن الأثير عند ذكره غزوة بني قينقاع ما نصّه: (ثمّ انصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وحضر الأضحى، وخرج إلى المصلّى، فصلّى بالمسلمين، وهو أوّل صلاة عيد صلّاها، وضحّى فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بشاتين، وقيل: بشاة، وكان أوّل أضحى رآه المسلمون، وضحّى معه ذوو اليَسَار، وكانت الغزاة في شوال بعد بدر، وقيل: كانت في صفر سنة ثلاث، وجعلها بعضهم بعد غزوة الكدر)(2)، وقال في غزوة الكدر: (قال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة اثنتين، وقال الواقدي: كانت في المحرّم سنة ثلاث)(3).
ويمكن أن يقال في ردّ هذا الدليل: إنّ مداومة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) على عبادةٍ لا تعني أنّها واجبة؛ لأنّ مداومته أعمّ من الوجوب والاستحباب. وأمّا قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)(4) فالمراد به الإتيان بالصلاة بنفس الكيفية التي كان (صلی الله علیه و آله و سلم) يقيم بها الصلاة من اشتمالها على الأجزاء والشرائط، وليس المراد بها لا بدّية الإتيان بتلك الصلاة المخصوصة.
إن قلت: الأمر مختلف هنا؛ حيث توجد قرينة على أنّ فعله (صلی الله علیه و آله و سلم) ليس أعمّ، لأنّ
ص: 76
النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يأمر بها أصحابه، ويصلّيها جماعة، وهذا الأمر بها قد استمرّ في سنيّ حياته الشريفة كلّها بعدما شرّعت، فمن البعيد جدّاً أن يستمرّ الحثّ عليها بهذا النحو وهي ليست واجبة.
قلتُ: هذه القرينة لا تكفي للحكم بالوجوب؛ لأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) قد يواظب على المستحبّ لعدّة دواعي وخصوصاً في صلاة العيدين، ومن الدواعي أنّه كقائد يناسبه أن يجتمع بالناس، ويخطب بهم، ومن الدواعي الأخر الحثّ على الفعل المستحبّ لأهمّيته، ولا يلزم تركه مرّةً ليعلم أنّه مستحبّ؛ لعدم انحصار بيان كونه مستحبّاً بهذه الطريقة، بل توجد طرقٌ أخر كثيرة لبيان استحبابه، كالتصريح بالاستحباب، والسكوت عن عقوبة الترك.
ثمّ إنّه لم يثبت أمره (صلی الله علیه و آله و سلم) لجميع الناس بها من خلال نصّ مرويّ عنه.
وبذلك يتبيّن ضعف ما استدلّ به العلّامة
(قدس سره) في التذكرة، حيث قال: (ولأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)
داوم عليها، ولم يخلّ بها في وقت من الأوقات، ولو كانت تطوّعاً لأهملها في بعض الأوقات، ليدلّ بذلك على نفي وجوبها)(1).
ويردّه: أنّه لم ينقل في التاريخ والكتب الفقهية للفريقين أنّه قد توعّد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) تاركيها بالعقاب. نعم، لو ثبت وجوبها من دليل آخر كان أمر قتال تاركيها راجعاً إلى الإمام - كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي عند توفّر شرائطها(1) - أو الفقيه المبسوط اليد لو قلنا بوجوبها في زمان الغيبة.
ومن الجدير بالذكر أنّي لم أعثر - بعد التتبّع - لهذا الدليل من عين ولا أثر في كلمات أعلامنا ممّن تأخّر عن العلّامة
(قدس سره) (2).
ما جاء في الفقيه من قول الصدوق (قدس سره): (روي عن جميل بن درّاج، عن الصادق (علیه السلام) أنّه قال: (صلاة العيدين فريضة، وصلاة الكسوف فريضة)، يعني أنّهما من صغار الفرائض، وصغار الفرائض سنن لرواية حريز)(3).
وسندها صحيح، حيث قال (قدس سره) في المشيخة: (وما كان فيه عن محمّد بن حمران وجميل بن درّاج فقد رويته عن أبي (رضی الله عنه)، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن محمّد بن حمران وجميل بن درّاج)(4).
والكلّ ثقات. نعم، لو قيل: إنّ هذا الطريق يختصّ بما يرويه عن كليهما، ولا يشمل ما رواه عن أحدهما، فلا تكون تامّة السند.
ص: 78
ودلالتها على الوجوب تامّة إلى هذا المقطع، ولكنّ الذيل - كما هو واضح - من الصدوق (قدس سره)، حيث عبّر عن الصلاتين بأنّهما من صغار الفرائض كوجهٍ من وجوه الجمع بينها وبين الرواية التي تصرّح بأنّها سنّة، كما سيأتي الكلام في ذلك.
ما رواه الشيخ الطوسي (قدس سره) بسنده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير وفضالة، عن جميل، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن التكبير في العيدين. قال: (سبع وخمس) وقال: (صلاة العيدين فريضة)، سألته ما يقرأ فيهما؟ قال: (والشمس وضحاها، وهل أتاك حديث الغاشية، وأشباههما)(1).
أمّا رجال السند فالحسين بن سعيد وابن أبي عمير في غاية الوثاقة، وأمّا فضالة فهو ابن أيّوب؛ فإنّه الذي يروي عنه الحسين بن سعيد، كما أشار إلى ذلك النجاشي والشيخ(2)، وقد وثّقه كلّ منهما(3).
ولو قيل: إنّ هناك تأمّلاً في رواية الحسين بن سعيد عن فضالة؛ حيث إنّ النجاشي حكى عن أبي الحسن البغدادي السورائي البزّاز قوله: (قال لنا الحسين بن يزيد السورائي: كلّ شيء تراه (الحسين بن سعيد عن فضالة) فهو غلط، إنّما هو الحسين، عن أخيه الحسن، عن فضالة، وكان يقول: إنّ الحسين بن سعيد لم يلق فضالة، وإنّ أخاه الحسن تفرّد بفضالة دون الحسين)(4).
ص: 79
ولكن لا مجال لهذا التأمّل؛ فإنّ النجاشي نفسه علّق على ذلك بقوله: (ورأيت الجماعة تروي بأسانيد مختلفة الطرق: الحسين بن سعيد عن فضالة، والله أعلم)(1)، وقد تصدّى السيّد الخوئي (قدس سره) إلى إحصاء تلك الموارد، فبلغت تسعمائة واثنين وعشرين مورداً(2)، وغير ذلك من القرائن التي ذكرها السيّد الخوئي (قدس سره) (3)، فلا سبيل لإنكار روايته عنه، بل لو فرض تنزّلاً توسّط الحسن بن سعيد بينه وبين فضالة فهو لا يضرّ في اعتبار السند؛ لوثاقة الحسن بن سعيد.
وأمّا جميل فهو ابن درّاج - الذي هو غاية في الجلالة ومن وجوه الطائفة، كما في رجال النجاشي(4) -؛ لأنّه الذي يروي عنه ابن أبي عمير في الغالب، ويقترن اسمه مع اسمه، فإذا ذكر جميل من دون ذكر اسم الأب ينصرف إلى ابن درّاج، مضافاً إلى قرينة عطف فضالة على ابن أبي عمير، وفضالة يروي عن جميل بن درّاج أيضاً، وله روايات أخر يعطف اسمه مع ابن أبي عمير، ويرويان عن جميل بن درّاج(5)،وعلى كلّ حال من المطمأن به أنّ المراد بجميل هنا هو ابن درّاج .
ص: 80
وعلى فرض كون المراد به جميل بن صالح فإنّه لا يضرّ؛ لأنّه أيضاً ثقة(1). مضافاً إلى أنّ ابن أبي عمير لا يروي إلّا عن ثقة(2).
وللشيخ (قدس سره) طريقان إلى كتب الحسين بن سعيد:
ما ذكره في الفهرست بقوله: (أخبرنا بكتبه ورواياته ابن أبي جيد القمّي، عن محمّد بن الحسن، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد ابن حمّاد بن سعيد بن مهران، قال ابن الوليد: وأخرجها إلينا الحسين بن الحسن بن أبان بخطّ الحسين بن سعيد، وذكر أنّه كان ضيف أبيه)(3).
وقد يناقش في تمامية هذا الطريق من جهتين:
الجهة الأولى: أنّ ابن أبي جيد القمّي - و هو أبو الحسين عليّ بن أحمد - لم يوثّق.
الجهة الأخرى: أنّ الحسين بن الحسن بن أبان لم يوثّق أيضاً.
أمّا الجهة الأولى فقد استُدلّ لوثاقة ابن أبي جيد بأمور:
أنّه من مشايخ الإجازة، ووثاقتهم ظاهرة لا تحتاج إلى بيان، وقد بنى على ذلك الكثير من أعلامنا الماضين (قدس سرهم) (4).
وناقش في ذلك السيّد الخوئي (قدس سره) بما حاصله: أنّ فائدة الإجازة هي صحّة
ص: 81
الحكاية عن المجيز لا غير، وهي قضية شرفية، ولا تدلّ على الوثاقة، فكما لو روى الثقة عن شخص فإنّه لا يدلّ على وثاقة ذلك الشخص فكذلك لو روى الطوسي - مثلاً - عن شيخه الذي أجازه، فإنّه لا يدلّ على وثاقة المجيز، وأمّا أنّهم مستغنون عن التوثيق فهذا مردود بمن هو أعلى شأناً منهم، وهم أصحاب الإجماع، ومع ذلك تعرّضت الكتب الرجالية لتوثيقهم(1).
أقول: شيخوخة الإجازة لا تفيد في حدّ نفسها الوثاقة، ويمكن القول بالتفصيل بين حالات:
قد يكون شيخ الإجازة ممّن أكثر بعض الأعلام المعروفين بالعلم والوثاقة النقل عنه في عدّة كتب، بحيث يكاد يقرن المستجيز به لكثرة ما نقله عنه من كتب، وهنا تكون مشيخة الإجازة مفيدةً للاطمئنان بوثاقة الناقل؛ لأنّه من البعيد أن يكثر العالم الثقة الورع الاستجازة من شخص غير ثقة، فذلك يعرّضه للتهمة، والسمعة غير الطيّبة، وبالتالي لا تؤخذ منه الرواية.
الحالة الثانية(2): أن يجيز شيخ الإجازة كتاب غيره حال كون الكتاب مشتهراً معروف النسبة عنواناً ونسخةً إلى مصنّفه من غير أن تكون هناك كثرة استجازة منه من قبل الأعلام الموثوقين، وفي هذه الحالة لا تكون مشيخة الإجازة مفيدة للوثاقة بنحوٍ يطمئنّ بوثاقة شيخ الإجازة، ولكن وقوع شيخ الإجازة في السند لا يؤثّر على
ص: 82
صحّته في هذه الحالة؛ لأنّ دوره شرفيٌ لأجل اتّصال السند فحسب، ويكون حاله حال الشخص الذي يجيز لتلميذه - في زماننا هذا - الرواية من الكافي للشيخ الكليني (قدس سره)، فكما لا تؤثّر مجهولية هذا المجيز على سند الروايات فكذلك ما فرضناه في هذه الحالة.
أن يجيز شيخ الإجازة كتاب غيره حال كون النسخة غير معلومة الانتساب إلى مصنّف الكتاب، ولا تكون هناك كثرة استجازة منه من قِبل بعض الأعلام الموثوقين، وفي هذه الحالة لا تفيد مشيخة الإجازة التوثيق، وتؤثّر مجهولية شيخ الإجازة على تمامية السند؛ لأنّه لا يعلم صحّة انتساب الكتاب إلى مصنّفه إلّا من قبل شيخ الإجازة.
أن يجيز كتاب نفسه، مع عدم إكثار بعض الأعلام الموثوقين الاستجازة منه، وفي هذه الحالة لا بدّ أن تثبت وثاقته مسبقاً كي يتمّ السند، ولا تنفع مشيخة الإجازة في التوثيق كما في الحالة الثالثة؛ لأنّه في هذه الحالة يكون حاله حال أيّ راوٍ، فيحتاج إلى التوثيق كي يؤخذ بروايته.
وفي محلّ كلامنا نرى أنّ ابن أبي جيد ممّن أكثر النقل عنه الشيخ الطوسي (قدس سره)، فقد أحصيت ما يقرب من (100) مورد نقل فيها عنه(1)، وجعله واسطة بينه وبين ابن الوليد. هذا مضافاً إلى ترحّمه عليه(2)، ممّا يدلّ على الاعتماد عليه؛ فإنّه وإن لم يندرج في الحالة الأولى من الحالات الأربعة المتقدّمة بشكل واضح ولكنّ الاهتمام بإكثار النقل عنه يورث الاطمئنان بالاعتماد عليه، ولكن يبقى السؤال بأنّه لماذا لم
ص: 83
يُذكر لشيخ الإجازة توثيق؟
وجوابه: ليست هناك ملازمة بين كون الراوي وشيخ الإجازة ثقة وبين وجوب ذكر توثيقه في الكتب الرجالية، وليست هناك ضابطة معيّنة، فمثلاً إبراهيم بن هاشم لم يتعرّضوا لتوثيقه مع أنّ السيّد الخوئي (قدس سره) حكم بوثاقته. هذا مضافاً إلى عدم وصول الكتب التي تعنى ببيان حال الرجال إلينا، وما وصل منها ليس الغرض الأساسي منه بيان حال الراوي من حيث الوثاقة والضعف، بل هي في الغالب كتب فهارس.
وأمّا الجهة الأخرى وهي عدم توثيق الحسين بن الحسن بن أبان الواقع في سند الرواية فيمكن القول بعدم توقّف الأخذ بالرواية على إثبات وثاقته؛ وذلك لأحد أمرين(1):
أحدهما: أن يقال: إنّه كان من مشايخ الإجازة الذين لم يكن لهم كتب، وكان دورهم في نقل الأحاديث شرفياً بحتاً، أي إنّهم كانوا مجرّد وسائط في إجازة كتب الآخرين، فعدم ثبوت وثاقتهم لا يضرّ بصحّة السند.
والآخر: يمكن الالتزام بصحّة ما رواه ابن الوليد عن الحسين بن الحسن بن أبان عن الحسين بن سعيد؛ وذلك لأنّ الشيخ لمّا أورد في الفهرست أسامي كتب الحسين ابن سعيد، ورواها عنه عن طريق ابن الوليد عن الحسين بن الحسن بن أبان حكى عن ابن الوليد أنّه قال: (أخرجها إلينا الحسين بن الحسن بن أبان بخطّ الحسين بن سعيد، وذكر أنّه كان ضيف أبيه) أي إنّ ابن الوليد روى كتب الحسين بن سعيد عن خطّه، وليس بتوسّط الحسين بن الحسن بن أبان، فلا يضرّ عدم ثبوت وثاقته.
ص: 84
(وأخبرنا بها عدّة من أصحابنا، عن محمّد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه ومحمّد بن الحسن ومحمّد بن موسى بن المتوكّل، عن سعد بن عبد الله والحميري، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد).
وهو تامّ، وبالتالي تكون هذه الرواية تامّة السند.
صحيحة جميل، عن أبي عبد الله (علیه السلام): (صلاة العيدين فريضة وصلاة الكسوف فريضة)(1).
وقد علم ممّا تقدّم تمامية سندها، كما أنّ دلالتها واضحة وصريحة في وجوب صلاة العيدين.
خبر أبي أسامة، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألته عن التكبير في العيدين؟ قال: (سبع وخمس)، وقال: (صلاة العيدين فريضة وصلاة الكسوف فريضة)(2).
ولكن سندها غير تامّ؛ من جهة أبي جميلة.
ومهما يكن فقد حصلنا على ثلاث روايات - بناءً على صحّة رواية جميل بطريق الصدوق (قدس سره) - تصرّح بالوجوب، مضافاً إلى تطابق آراء فقهائنا على الوجوب وإن اختلفوا ببعض الشرائط، ممّا يقوّي احتمال تلقّي ذلك من أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم أجمعين.
ص: 85
وفي مقابل ذلك توجد روايتان قد يُفهم منهما الاستحباب:
إحداهما: ما علّق به الصدوق (قدس سره) على رواية جميل بن درّاج عن الصادق (علیه السلام): (صلاة العيدين فريضة، وصلاة الكسوف فريضة)، فقد قال (قدس سره): (يعني أنّهما من صغار الفرائض، وصغار الفرائض سنن؛ لرواية حريز)(1).
ولم أجد من روى (صغار الفرائض سنن) غير الصدوق الذي طبّقها على صلاة العيدين.
والأخرى: ما رواه (قدس سره) بسنده عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (صلاة العيدين مع الإمام سنّة، وليس قبلهما ولا بعدهما صلاة ذلك اليوم إلى الزوال)(2)، بناءً على أنّ المفهوم من قوله: (سنّة) هو النافلة، فلا تكون واجبة.
وطريق الصدوق إلى زرارة في المشيخة هو: (وما كان فيه عن زرارة بن أعين فقد رويته عن أبي (رضی الله عنه)، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، والحسن بن ظريف، وعليّ بن إسماعيل بن عيسى كلّهم عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة بن أعين)(3)، ولا يهمّنا الآن الخلاف في وثاقة محمّد بن
ص: 86
عيسى بن عبيد، ولا في وثاقة عليّ بن إسماعيل بن عيسى وأنّه السندي أو غيره؛ لأنّ الحميري روى عن ثلاثة أحدهم الحسن بن ظريف، وهو ثقة(1)، فالسند تامّ؛ لكون بقية السلسلة ثقات.
ورواها الشيخ الطوسي (قدس سره) بطريقين:
أحدهما: ما جاء في التهذيب والاستبصار، وهو: (سعد بن عبد الله، عن أبي جعفر، عن عليّ بن حديد وعبد الرحمن بن أبي نجران، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة)(2).
والآخر: ما جاء في التهذيب فقط، وهو: (إبراهيم بن إسحاق الأحمري، عن البرقي، عن محمّد بن الحسن بن أبي خلف، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة)(3)، ولكن مع زيادة، وهي: (فإن فاتك الوتر في ليلتك قضيته بعد الزوال).
والطريق الأوّل تامّ إلّا من جهة عليّ بن حديد؛ فقد ضعّفه الشيخ في موضع من الاستبصار(4)، ولكن لا يضرّ وجوده في السند؛ لعطف عبد الرحمن بن أبي نجران عليه، وهو ثقة(5).
ص: 87
وأمّا الطريق الآخر فللشيخ إلى إبراهيم بن إسحاق الأحمري - الذي هو أبو إسحاق النهاوندي - طريقان:
الطريق الأوّل: (أخبرنا بكتبه ورواياته أبو القاسم عليّ بن شبل بن أسد الوكيل، قال: أخبرنا بها أبو منصور ظفر بن حمدون بن شدّاد البادرائي، قال: حدّثنا إبراهيم ابن إسحاق الأحمري)(1).
الطريق الآخر: (وأخبرنا بها أيضاً الحسين بن عبيد الله، عن أبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري، قال: حدّثنا أبو سليمان أحمد بن نصر بن سعيد الباهلي المعروف بابن أبي هراسة، قال: حدّثنا إبراهيم الأحمري بجميع كتبه)(2).
أمّا الطريق الأوّل فيبدأ بأبي القاسم عليّ بن شبل الوكيل، وهو على ما يبدو من مشايخ النجاشي(3)، فقد يقال بوثاقته بناءً على القول بوثاقة مشايخ النجاشي(4)، وأمّا ظفر بن حمدون فقد ذكره النجاشي ولم يوثّقه(5)،
ومثله الشيخ (قدس سره) وإن ذكره تحت عنوان (ظفر بن محمّد البادرائي) ولكن من الواضح أنّه تصحيف(6)، بل ضعّفه ابن الغضائري بقوله: (في مذهبه ضعف)(7) إن فهم من هذه العبارة الخدش في وثاقته،
ص: 88
فهذا السند غير تامّ.
وأمّا الطريق الآخر فلا مشكلة فيه إلّا من جهة أحمد بن نصر بن أبي هراسة، وقد يقال بوثاقته لكونه من مشايخ الإجازة، حيث أجاز هارون بن موسى التلعكبري الذي هو عظيم المنزلة، عديم النظير، كما عبّر عنه الشيخ
(قدس سره) (1)، و(وجهاً في أصحابنا)(2)، كما قال عنه النجاشي، حيث إنّ صاحب هذه المنزلة الرفيعة قد يقال: إنّه يبعد استجازته من شخص غير ثقة، وهذه الإجازة ذكرها الشيخ في ترجمة ابن أبي هراسة(3).
وعلى كلّ حال حتّى لو تمّ هذا الطريق فإنّه يبقى الإشكال من جهة إبراهيم بن إسحاق الأحمري، فقد ضعّفه النجاشي والشيخ (4)، ومن جهة محمّد بن الحسن بن أبي خلف، فإنّه مجهول.
إذاً، اتّضح ممّا تقدّم أنّ الرواية تامّة من حيث السند وإن كان بعض طرقها غير تامّ.
ومعه يقع ما ظاهره التنافي بين الروايتين الدالّتين على كون صلاة العيدين فريضة، وبين الرواية الدالّة على أنّها من السنن، وهل يمكن الجمع بينهما أو لا يمكن؟
أقول: يمكن الجمع بينهما بأحد وجوه:
ص: 89
تفسير كلمة (السُنّة) الواردة في الرواية بما ثبت فرضه من قبل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في مقابل الفريضة الثابتة في القرآن، وهذا الوجه أشهر الوجوه في التخلّص من التنافي، وهو ما يظهر من الشيخ الصدوق (قدس سره) في الفقيه(1) إذا لم نفهم منه أنّه قول مختلف، فقد يشير إلى وجود رواية تصرّح بأنّ صغار الفرائض سنن، وصرّح الشيخ الطوسي (قدس سره) في الاستبصار(2) والتهذيب(3) بأنّ المراد من السنّة في الرواية هو ما ثبت فرضه من النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، وتبعه في ذلك المحقّق الحلّي في المعتبر(4)، والعلّامة في منتهى المطلب(5)، والشهيد الأوّل في الذكرى(6)، وتبنّاه غيرهم من الأعلام.
ولكن ينبغي تتبّع موارد استعمال الشارع كلمة (السنّة)، فقد أطلقت في لسانه على عدّة معان:
الأوّل: الفريضة الثابتة من خلال أمر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في مقابل ما ثبت وجوبه من الكتاب العزيز، مثل ما جاء عن الكاظم (علیه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران، وغيرها: (غُسل الجنابة فريضة وغُسل الميت سُنّة)(7) ومن الواضح أنّ غسل الميت
ص: 90
واجب، وعبّر عنه في هذه الرواية بالسُنّة؛ لأنّه لم يثبت من خلال القرآن بينما ثبت غُسل الجنابة في القرآن، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾(1)، ومثل ما جاء عن الباقر (علیه السلام) في صحيحة زرارة في أجزاء الصلاة: (القراءة سُنّة والتشهّد سنّة والتكبير سُنّة ولا تنقض السُنّة الفريضة)(2)، فالقراءة واجبة في الصلاة، ووصفت بأنّها سُنّة، والتشهّد واجب في الصلاة وأطلق عليه سُنّة، وشبيه به ما جاء في أعداد الفرائض في صحيحة أخرى لزرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (وفوّض إلى محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) فزاد النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في الصلاة سبع ركعات، وهي سنّة ليس فيها قراءة، إنّما هو تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء)(3)، ومثل ما جاء في الزكاة، كما في صحيحة الفضلاء، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام)، قالا: (فرض الله عزّ وجلّ الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنّها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في تسعة أشياء، وعفا عمّا سواهن
في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعفا عمّا سوى ذلك)(4)، فأطلقت السُنّة على زكاة الذهب والفضة مع أنّها واجبة، ومثل ما جاء في رواية الأعمش في الحجّ: (والوقوف بالمشعر فريضة، والهدي للمتمتع فريضة، فأمّا الوقوف بعرفة فهو سنّة واجبة، والحلق سنّة، ورمي الجمار سنّة)(5) وغيرها من الروايات بهذا المعنى، فوصف
ص: 91
الوقوف بعرفة بأنّه سُنّة وصرّح بوجوبه، وكذا الحلق ورمي الجمار وصفها بالسنّة، مع وضوح كونها واجبات، ومثلها ما رواه الكليني بسنده عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الفرض في الصلاة، فقال: (الوقت والطهور والقبلة والتوجّه والركوع والسجود والدعاء)، قلت: وما سوى ذلك؟ قال: (سنّة في فريضة)(1)، فمن الواضح جدّاً استعمال الإمام (علیه السلام) لفظة (السنّة) بمعنى الفريضة التي شرّعها النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث إنّ أغلب بقية أجزاء وشروط الصلاة واجبة، وتبطل الصلاة بالإخلال بها عمداً.
وبعض هذه الروايات وإن كان ضعيفاً سنداً ولكن إطلاق السنّة في لسان الشارع على الواجب الثابت بأمر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) معروفٌ ومطمأنّ بصدوره منهم (علیهم السلام) .
الثاني: السُنّة في مقابل البدعة، وهذا كما جاء في الخطبة المروية في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (وما أحدثت بدعة إلّا تركت بها سنّة، فاتّقوا البدع)(2)، و(أحيوا السُنّة وأماتوا البدعة)(3). ومثل ما رواه الصدوق (قدس سره): (ثمّ نزل (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو يقول: قليل في سنّة خير من كثير في بدعة)(4) وروى مثله الشيخ الطوسي (قدس سره) في الاستبصار(5) والتهذيب (6).
ص: 92
الثالث: السُنّة في مقابل المكرمة، وهذا مثل ما رواه الصدوق (قدس سره) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) من أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (والختان سُنّة واجبة للرجال ومكرمة للنساء)(1)، وروى مثل هذا المعنى الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب(2) بدون كلمة (واجبة).
ولكن قد يقال: بأنّ هذا الاستعمال يندرج في المعنى الأوّل؛ حيث إنّ الختان ممّا فرضه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو في المعنى الخامس الآتي.
الرابع: السُنّة بمعنى المستحبّ في مقابل الفريضة بمعنى الواجب سواءٌ ثبت وجوبه من القرآن أو من النبيّ
(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذا المعنى جاء في كثير من الروايات:
1- ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): السنّة سنّتان: سنّة في فريضةٍ الأخذ بها هدى، وتركها ضلالة، وسنّة في غير فريضةٍ الأخذ بها فضيلة، وتركها إلى غيرِ خطيئة)(3).
2- ما رواه الصدوق (قدس سره) بسنده عن المفضّل بن عمر من أنّ الصادق (علیه السلام) قال: (وعليكم بالسواك فإنّها مطهّرة وسُنّة حسنة، وعليكم بفرائض الله فأدّوها، وعليكم بمحارم الله فاجتنبوها)(4). فالمنساق من قوله: (سنّة حسنة) الاستحباب.
ص: 93
3- ما رواه الشيخ (قدس سره) بسنده عن يونس عن بعض رجاله، عن الصادق والباقر (علیهما السلام): (الكفن فريضة للرجال ثلاثة أثواب، والعمامة والخرقة سُنّة)(1).
4- وروى (قدس سره) فيما يخصّ الوتر بسنده عن أبي أسامة، عن الصادق (علیه السلام) أنّه قال: (سنّة ليست بفريضة)(2).
5- وروى (قدس سره) في التهذيب والاستبصار عن هشام بن سالم، عن الصادق (علیه السلام) أنّه قال عن التسبيح في الركوع والسجود: (تقول في الركوع سبحان ربّي العظيم، وفي السجود سبحان ربّي الأعلى، الفريضة من ذلك تسبيحة، والسنّة ثلاثة، والفضل في سبع)(3).
6- وروى الصدوق (قدس سره) بسنده عن حمّاد بن عيسى، عن الصادق (علیه السلام) في المساجد السبعة: (فهذه السبعة فرض، ووضع الأنف على الأرض سنّة، وهو الإرغام)(4)، وروى ما يقرب منه في الخصال والفقيه(5)، وروى الشيخ مثله في التهذيب(6).
ويوجد غير ذلك من الروايات(7) جاءت فيها كلمة (السُنّة) بمعنى المستحبّ.
ص: 94
الخامس: السنّة بمعنى المسنون والمقرّر شرعاً، وهو أعمّ من الوجوب والاستحباب، ولعلّ من ذلك:
1 - ما جاء في رواية عمر بن يزيد، عن الصادق (علیه السلام): ( يا عمر، إنّ من السنّة أن تصلّي على محمّد وعلى أهل بيته في كلّ يوم جمعة ألف مرّة، وفي سائر الأيام مائة مرّة)(1).
2 - ما رواه في الكافي عن أبي داود المسترق، عن بعض رجاله، عن الصادق (علیه السلام) أنّه حكى عن رسول الله
(صلی الله علیه و آله و سلم) قوله: (فمن رغب عن سنّتي فليس منّي)(2).
أي إنّ الصلاة على محمّد وأهل بيته (علیهم السلام)، والزواج ممّا هو ثابت ومقرّر ومسنون في الشريعة الإسلامية.
3 - ولعلّ من ذلك أيضاً ما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) من قوله: (إنّ أبا جعفر (علیه السلام) سئل من مسألة فأجاب فيها، فقال الرجل: إنّ الفقهاء لا يقولون هذا. فقال له أبي: ويحك إنّ الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة المتمسّك بسنّة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) )(3).
فالفقيه يتمسّك بالسنّة، أي بكلّ ما جاء عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) سواء كان مستحبّاً أو واجباً، ويجتنب المحرّم، والمكروه، وبمعنى جامع هو من يلتزم بكلّ مقرّر شرعي.
ص: 95
السادس: السنّة في مقابل التطوّع، فهناك طريقة أوضحتها الشريعة وسمّتها وأكدت عليها، وهناك ما لم تعيّنه الشريعة، ولكن يجوز التطوّع به، ولعلّ من ذلك ما يلي:
1- روى الكليني (قدس سره) بسنده عن أبي الحسن موسى (علیه السلام) قال: سمعته يقول: (السنّة في حمل الجنازة أن تستقبل جانب السرير بشقّك الأيمن، فتلزم الأيسر بكتفك الأيمن، ثمّ تمرّ عليه إلى الجانب الآخر، وتدور من خلفه إلى الجانب الثالث من السرير، ثمّ تمرّ عليه إلى الجانب الرابع ممّا يلي يسارك)(1).
2 - وروى الكليني (قدس سره) أيضاً بسنده عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (السنّة أن يحمل السرير من جوانبه الأربع، وما كان بعد ذلك من حمل فهو تطوّع)(2).
السابع: السنّة في مقابل ما لا يجوز فعله أعمّ من كونه حراماً مبتدعاً أو غير مبتدع، ولعلّ من ذلك ما رواه الشيخ (قدس سره) بسنده عن الصادق (علیه السلام)، قال: (إنّ من السنّة أن لا يخرج الإمام من منى إلى عرفة حتّى تطلع الشمس)(3).
الثامن: السنّة بمعنى العمل، والفعل، والصنيع، والطريقة، والعادة الجارية، والقانون، وقد جاء هذا المعنى في الآيات والروايات:
أمّا الآيات فمثل قوله تعالى: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾(4)، وقوله
ص: 96
عزّ وجلّ: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾(1)، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾(2)، وغير ذلك من الآيات(3).
وأمّا الروايات فمثل ما رواه الصدوق بسنده عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: (والذي بعثني بالحقّ نبيّاً وبشيراً لتركبن أمّتي سنن من كان قبلها حذو النعل بالنعل)(4).
وربّما تدخل بعض الروايات المذكورة سابقاً تحت معنى آخر من المعاني المتقدّمة.
وبعد أن عرفنا موارد استعمالات الشارع لكلمة (السُنّة) فهل الجمع المتقدّم بحمل (السُنّة) على ما ثبت وجوبه بأمر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) تامٌّ أو لا؟
وجوابه: قد يقال: بأنّه تامّ، وتوجيه ذلك أن يقال: إنّ الروايات التي وصفت صلاة العيدين ب-(الفريضة) يراد بها الفريضة النبوية، وهي صريحةٌ ونصّ في الوجوب، وآبية عن التخصيص، وأمّا الرواية التي وصفتها بالسُنّة فغاية ما يقال فيها إنّها يحتمل أن يراد بها الاستحباب، فيصرف هذا الظهور الاحتمالي إلى الوجوب بقرينة الرواية الصريحة فيه، حيث لا مانع من استعمال السُنّة بمعنى الفريضة الثابتة بأمر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .
ص: 97
وممّا يعزِّز هذا الوجه، ويجعله أرجح وجوه الجمع روايةٌ تكاد تكون صريحة في أنّ المراد بالسنّة في قوله (علیه السلام): (صلاة العيدين مع الإمام سنّة) ما فرضه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهي ما رواه الكليني (قدس سره) بسنده عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): (فرض الله الصلاة، وسنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عشرة أوجه: صلاة الحضر، والسفر، وصلاة الخوف على ثلاثة أوجه، وصلاة كسوف الشمس، والقمر، وصلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء، والصلاة على الميت)(1)، فإنّك ترى أنّ الإمام (علیه السلام) قد قابل بين ما فرضه الله عزّ وجلّ، وبين ما سنّه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وصرّح بأنّ صلاة العيدين ممّا سنّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد ثبت وجوبها بصريح الروايتين المتقدّمتين، وأنّها فريضة، فيصبح لدينا ظهور واضح بأنّ (السنّة) في الرواية هي الفريضة النبوية، ولا نحتاج إلى قرينة السياق لنثبت أنّ صلاة العيدين واجبة، كي يناقش فيها، ولم أجد في حدود ما تتبّعت أحداً من الأعلام قد ذكر هذه الرواية في بحثه معزّزاً بها هذا الوجه المشهور، مع أنّها شبه الصريحة في أنّ صلاة العيدين فريضة نبوية، وسندها تامّ، وقد رواها الصدوق في الخصال بسند تامّ أيضاً(2).
إن قيل: إنّ من استدلّ على وجوب صلاة العيدين بالكتاب العزيز يعترف ضمناً بأنّها ممّا ثبت فرضه فيه، ومعه لا يسعه القول بأنّ المراد من (صلاة العيدين مع الإمام سنّة) أنّها ممّا ثبت فرضه من قبل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)؛ للتنافي الظاهر بين القولين.
ص: 98
قلت: ظاهر من قال بأنّها فريضة قرآنية الاعتراف بأنّ أصل التكليف بها ممّا ثبت فرضه في الكتاب العزيز، وأمّا لزوم الإتيان بها مع الإمام فهو تكليف ثبت فرضه من قبل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلا تنافي في البين.
وقد حاول الشهيد (قدس سره) الإجابة على هذا الإشكال، فقال: (فإن قلت: فقد ذكرت أنّ الكتاب دالّ عليها. قلت: ليست دلالة قطعية، بل ظاهرة، وبالسنّة فعلاً وقولاً علم القطع)(1).
وفيه: أنّه لا يشترط في الفريضة القرآنية أن تكون الآية الدالّة عليها قطعية الدلالة، بل يكفي الظهور.
ما يخطر في الذهن من أنّ هذه الرواية مجملة في حدّ نفسها بسبب استعمال كلمة (السُنّة) في عدّة معانٍ في لسان الشارع مع عدم وجود قرينة على إرادة معنىً معيّن من المعاني المتقدّمة، فتبقى الرواية الصريحة في الوجوب على حالها من دون معارض، وهذا الوجه أولى من الوجه المتقدّم.
ووجه الأولوية أنّ من تبنّى ذلك الوجه يحتمل احتمالاً معتدّاً به بأنّ الظهور الأولي للفظ (السنّة) في الرواية محلّ البحث في الاستحباب، ثمّ يحاول صرف هذا الظهور بقرينة الرواية التي تصرّح بالوجوب، مع أنّه من الصعوبة القول بظهور كلمة (السُنّة) فيها في الاستحباب مع استعمالها في روايات أخر بمعان مختلفة، هذا مضافاً إلى الإشكال المتقدّم، فما ذكرناه أولى.
ص: 99
اللهم إلّا أن يقال: إنّها إذا ذكرت في لسان الشارع من دون قرينة فإنّها تنصرف إلى المستحبّ.
ما عن الفيض الكاشاني (قدس سره) في الوافي، و تبنّاه آخرون، حيث قال - ردّاً على تفسير الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي (قدس سرهما) للصحيحة بأنّ (السُنّة) ما ثبت فرضه من طريق النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) -: (أقول: هذا لا يستقيم مع الحديث الآتي في تفسير الآية، بل الصواب أن يقال: إنّ المراد بقوله (علیه السلام) (إنّها مع الإمام سنّة) أنّ السنّة في فرضها أن تكون مع الإمام، فمن صلّاها بدون الإمام معتقداً وجوبها فقد خالف السنّة، وهذا بعينه معنى سائر الأخبار أنّه لا صلاة إلّا بإمام)(1).
ولعلّ المقصود بقوله: (لا يستقيم مع الحديث الآتي ... إلخ) الحديث الذي رواه الصدوق (قدس سره) عن الصادق (علیه السلام): سئل الصادق (علیه السلام) عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾(2)، قال: (من أخرج الفطرة). فقيل له: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾(3). قال: (خرج إلى الجبّانة فصلّى)(4).ويرد عليه:
أوّلاً: عدم إمكان الاعتماد على الرواية؛ لمكان الإرسال فيها.
ثانياً: مع التنزّل عن ذلك فإنّ تفسير الإمام (علیه السلام) للصلاة في قوله تعالى: ﴿وَذَكَرَ
ص: 100
اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ بالخروج إلى الجبّانة والصلاة هو من باب التطبيق، ولم تُذكر صلاة العيد في القرآن بعنوانها حتّى يقال إنّها ثابتة في الكتاب المجيد أيضاً. مضافاً إلى ما تقدّم من عدم دلالة المدح للمصلّي والمزكّي على لزوم الإتيان بالصلاة.
أن يقال: لو بنينا على انصراف كلمة (السُنّة) إلى المستحبّ في حالة عدم وجود قرينة على خلاف ذلك، فسوف يكون المراد: في حال حضور الإمام (علیه السلام) وعدم غيبته، وإقامته لصلاة العيد، مع إعطاء الإذن لآخرين من نوّابه وأصحابه في إقامتها أيضاً يكون الحضور معه في نفس الصلاة التي يقيمها (علیه السلام) مستحبّاً لا واجباً وإن كان الإمام ليس معصوماً فلا يكون الحضور معه واجباً، بل يكفي الإتيان بها فرادى.
نعم، أداء الصلاة واجب، ولكن لا يشترط أن يكون الأداء مع شخص الإمام المعصوم، بل يكفي أداؤها مع المأذون من قبله (علیه السلام)، وهذا هو الظاهر من قوله (علیه السلام) إنّها: (مع الإمام سُنّة)، فالمعية مع الإمام لا تتسنّى لكلّ أحد، خصوصاً مع تباعد الأمكنة وقلّة وسائل النقل في ذاك الزمان، فوجوب هذه الصلاة ثبت بالأدلّة المتقدّمة، وأمّا استحباب كونها مع شخص الإمام فقد ثبت من خلال هذه الرواية، فلا يوجد تعارض من الأساس.
ولم أجد - حسب التتبّع - من ذكر هذا الوجه، ولعلّه موجود في كلماتهم ولم أتنبّه له.
ما ذكر من أنّه من الممكن أن يراد الاستحباب، ولكنه مخصوص بزمان الأئمّة (علیهم السلام) الذين عاصروا الطغاة، ولا يمكنهم إقامتها بسهولة، فتحمل هذه
ص: 101
الرواية على حالة عدم استجماع الشرائط(1).
وفيه: أنّه لا قرينة على هذا الوجه، فضلاً عمّا تقدّم من الإشكال.
ما ذكر من حمل هذه الرواية على التقيّة، لكون الرأي السائد لدى فقهاء العامّة هو الاستحباب، فعبّر عنها الإمام (علیه السلام) بالسُنّة إيهاماً للآخرين بالاستحباب حال كونه قاصداً بأنّها من الواجبات التي سنّها النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) (2).
ويرده: أنّ فقهاء العامّة مختلفون فيما بينهم، فمنهم من يقول بالوجوب، ومنهم من يقول بالاستحباب(3)، والرواية صدرت من الإمام الباقر (علیه السلام) وليس من الواضح أنّ الرأي السائد عند العامّة آنذاك هو الاستحباب حتّى يقال بالتقيّة.
أن نحمل السُنّة في قوله (علیه السلام): (مع الإمام سنّة) على ما يقابل البدعة، فلعلّه هناك من يعتقد أنّ اشتراط صلاة العيدين بالجماعة في أصل تشريعها بدعة، فجاءت هذه الرواية لتبيّن أنّها شرّعت مع الإمام لا منفرداً، وهي سُنّة، وليست بدعة، وقد احتمل هذا الوجه الشيخ الهمداني (قدس سره) (4).
أقول: هذا الوجه قريب من الوجه الثالث المتقدّم، ويرد عليه نفس ما ذكرته في الإشكال الثالث على الوجه المشار إليه.
أن نحمل السُنّة في هذه الرواية على المسنون، والمقرّر شرعاً أعمّ
ص: 102
من الوجوب والاستحباب، ولا مانع حينئذٍ من القول بوجوب صلاة العيدين بقرينة تصريح الروايتين المتقدّمتين بأنّها فريضة، وبذلك يرتفع التنافي.
ومهما يكن فالوجوب ثابت بالشروط التي ستأتي، وقد عبّر عنه الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: (لا ريب في أصل الوجوب)(1).
ص: 103
الشرط الأوّل - كما ذكروا -: حضور الإمام المعصوم (علیه السلام) أو منصوبه.
هذا هو المشهور والمعروف في كلماتهم، وقد يستظهر من الفقه الرضوي حيث قال: (واخرج إلى المصلّى وابرز تحت السماء مع الإمام، فإنّ صلاة العيدين مع الإمام مفروضة، ولا تكون إلّا بإمام وبخطبة)(1)
فإنّ تعريف كلمة (إمام) مع التأكيد أنّها مع الإمام مفروضة قد يقال بظهوره في المعصوم، وقد يستفاد ممّا أفتى به الصدوق (قدس سره) في المقنع، حيث قال: (اعلم أنّ صلاة العيدين ركعتان .. ولا يصلّيان إلّا مع إمام في جماعة، ومن لم يدرك مع الإمام في جماعة فلا صلاة له)(2) فإنّ قوله: (إلّا مع إمام في جماعة) يفهم منه شرطية الإمام المعصوم؛ لأنّه لو أراد منها إمام الجماعة لكان شبه اللغو، إذ الجماعة لا تصحّ من دون إمام، اللهم إلّا أن يريد التأكيد، بينما إرادة المعصوم من هذه الكلمة تفيد معنى جديداً هو المرتكز في عرف المتشرّعة. هذا مضافاً إلى أنّ وضع كلمة (في) بين كلمة (إمام) النكرة وكلمة (الجماعة) تشعر بمغايرة هذه الإمامة عن إمامة الجماعة.
وأوضح منه كلامه في ثواب الأعمال، فقد قال (قدس سره) بعد ذكره لثواب من صلّى
ص: 104
أربع ركعات يوم الفطر بعد صلاة الإمام: (أقول في ذلك وبالله التوفيق: إنّ هذا الثواب هو لمن كان إمامه مخالفاً لمذهبه، فيصلّي معه تقيّة ثمّ يصلّي هذه الأربع ركعات للعيد، فأمّا إذا كان الإمام إماماً من الله عزّ وجلّ واجب الطاعة على العباد فصلّى خلفه صلاة العيد لم يكن له أن يصلّي بعد ذلك صلاة حتّى تزول الشمس، وكذلك من كان إمامه موافقاً لمذهبه إن لم يكن مفروض الطاعة صلّى معه العيد لم يكن له أن يصلّي بعد ذلك صلاة حتّى تزول الشمس، والمعتمد أنّه لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام فمن أحبّ أن يصلّي وحده فلا بأس)(1)، فقوله: (والمعتمد أنّه لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام) بعد ذكره (مفروض الطاعة)، وذكره للروايات التي تشترط الإمام، واضح الدلالة على اشتراط حضور المعصوم.
ولعلّ أظهر منه ما جاء في كلام المفيد (قدس سره) في المقنعة، حيث قال: (وهذه الصلاة فرض لازم لجميع من لزمته الجمعة على شرط حضور الإمام، وسنّة على الانفراد عند عدم حضور الإمام)(2)، فالتعبير ب-(حضور الإمام) ظاهرٌ في الإمام المعصوم، ومنشأ هذا الظهور تداول استعمال الأعلام لهذه الكلمة في المعصوم خاصّة، وجاء في كلامه (قدس سره) أيضاً: (ولا بأس أن تصلّي العيدين في بيتك عند عدم إمامها، أو لعارض مع وجوده)(3) فإضافته كلمة (إمام) إلى الضمير العائد على صلاة العيدين يشعر باختصاص وجوبها بإمام خاصّ، وليس بمطلق إمام الجماعة، وليس هو إلّا
ص: 105
المعصوم (علیه السلام)، وكذلك قوله: (لعارض مع وجوده) يشير إلى ذلك.
وبذلك يتّضح عدم صحّة ما استظهره صاحب الحدائق (قدس سره) من كلام المفيد، وأنّه لا يشترط حضور الإمام المعصوم في الوجوب، قال (قدس سره): (قال شيخنا المفيد في المقنعة في باب صلاة العيدين: وهذه الصلاة فرض لازم لجميع من لزمته الجمعة على شرط حضور الإمام، سنّة على الانفراد عند عدم حضور الإمام .. وقد عرفت مذهبه في الجمعة وشرطها عنده إنّما هو إمام الجماعة .. وقوله هنا على شرط حضور الإمام.. إلخ أراد به بيان التفرقة بين الجمعة والعيدين بحصول الاستحباب في هذه دون تلك، فجعل مدار الوجوب والاستحباب على حضور الإمام وعدم حضوره، فمتى صلّى مع الإمام فهي واجبة عيناً، ومتى تعذّر الصلاة معه فهي مستحبّة فرادى بخلاف الجمعة فإنّه مع عدم الإمام تسقط بالكلّية. والمراد بالإمام في كلامه هو إمام الجماعة الذي تقدّم تصريحه به في صلاة الجمعة)(1).
فإنّه يرد على هذا الاستظهار:
أوّلاً: لا ينحصر تعليل قوله: (على شرط حضور الإمام) بإرادة التفرقة بين صلاة الجمعة وصلاة العيدين بما ذكره (قدس سره)، بل هذا مجرّد احتمال لا يصل إلى حدّ الظهور، بل الظهور على خلافه، كما عرفت ممّا تقدّم.
ثانياً: يمكن أن يقال بأنّ تعبيره (على شرط حضور الإمام) قرينة على المغايرة بين شرط الإمامة في صلاة الجمعة، وشرط الإمامة في صلاة العيدين؛ إذ لو كانت الإمامة بمعنى واحد لكان من المناسب له جدّاً أن يعبّر بالعطف على شروط الجمعة،
ص: 106
ويقول إنّ أمرهما واحد، وما شابه ذلك من الألفاظ كما فعل ذلك جمعٌ من الأعلام، ولكنّه لم يفعل ذلك.
ويظهر اشتراط حضور الإمام المعصوم من السيّد المرتضى (قدس سره) كما جاء ذلك في الناصريات، حيث قال: (الذي يذهب إليه أصحابنا في صلاة العيدين أنّها فرض على الأعيان، وتكامل الشروط التي تلزم معها صلاة الجمعة من حضور السلطان العادل، واجتماع العدد المخصوص إلى غير ذلك من الشرائط)(1)، ويظهر منه أيضاً في جمل العلم والعمل، حيث قال: (صلاة العيدين فرض على كلّ من تكاملت له شرائط الجمعة التي ذكرناها)(2) فإنّه (قدس سره) ذكر في صلاة الجمعة ما لفظه: (صلاة الجمعة فرض لازم مع حضور الإمام العادل)(3).
ويظهر ذلك من أبي يعلى الديلمي في المراسم العلوية، بل هو شبه الصريح، حيث قال: (شرط وجوب صلاة العيدين شرط وجوب صلاة الجمعة)(4)، وقال في صلاة الجمعة: (صلاة الجمعة فرض مع حضور إمام الأصل، أو من يقوم مقامه)(5) فقد صرّح باشتراط المعصوم من خلال قوله إمام الأصل.
وهذا ما يظهر من الشيخ (قدس سره) في المبسوط، فقد قال: (صلاة العيدين فريضة عند
ص: 107
حصول شرائطها، وشرائطها شرائط الجمعة سواء في العدد والخطبة وغير ذلك، وتسقط عمّن تسقط عنه الجمعة)(1)، وقال فيما يخصّ صلاة الجمعة: (فأمّا الشروط الراجعة إلى صحّة الانعقاد فأربعة: السلطان العادل أو من يأمره السلطان)(2)، ويظهر منه ذلك أيضاً في الاستبصار، حيث قال: (ونفرد باباً أنّه لا تجب إلّا بحضور الإمام)(3)، وقال في النهاية: (صلاة العيدين فريضة بشرط وجود الإمام العادل، أو وجود من نصبه الإمام للصلاة بالناس، وتلزم صلاة العيدين كلّ من تلزمه جمعة)(4).
وهذا ما يظهر من ابن البرّاج(5)، وابن زهرة في الغنية(6)، وابن إدريس في السرائر(7)، وصريح كلام ابن أبي المجد الحلبي في إشارة السبق، حيث جعل شروطها شروط الجمعة(8)، والكيدري في إصباح الشيعة(9)، والمحقّق الحلّي في المختصر النافع(10)،
ص: 108
وادّعى في المعتبر أنّه مذهب علمائنا أجمع(1)، وصرّح في الشرائع أنّها واجبة مع وجود الإمام (علیه السلام) (2)، بل عليه إطباق فقهاء الشيعة إلّا ما ندر، كما سنبيّن ذلك إن شاء الله تعالى.
ولكن في مقابل ذلك هناك مَن يُفهم من كلامه عدم اشتراط حضور الإمام المعصوم (علیه السلام)، بل بعضهم استشكل بذلك صراحةً، ومنهم أبو الصلاح الحلبي (قدس سره) في الكافي، حيث يفهم من كلامه أنّه لا يشترط ذلك في عصر الغيبة، قال: (صلاة يوم الفطر ويوم الأضحى واجبة بشرط تكامل شروط الجمعة لها على كلّ من تجب عليه الجمعة)(3)، وقال في صلاة الجمعة: (لا تنعقد الجمعة إلّا بإمام الملّة، أو منصوب من قبله، أو بمن تتكامل له صفات إمام الجماعة عند تعذّر الأمرين)(4)، وهذا يعني أنّه يرى وجوب صلاة العيدين في عصر الغيبة.
وممّن صرّح بوجوبها في عصر الغيبة المحقّق السبزواري (قدس سره) في الكفاية، قال: (وإنّما تجب على من تجب عليه الجمعة، والظاهر وجوبها في زمان غيبة الإمام بشروط وجوب الجمعة جماعة)(5)، وقال في الذخيرة: (إنّي لم أعثر على تصريح لواحد منهم
ص: 109
بذلك)(1)، يعني باشتراط حضور المعصوم، واستشكل في هذا الشرط صاحب المدارك (قدس سره)، كما سنوضح ذلك عند الاستدلال بالروايات، وقال: (عندي في ذلك نظر)(2).
وجعل المحدّث الكاشاني في الوافي والمفاتيح نصوص المسألة من المتشابهات(3)، وصرّح العلّامة المجلسي (قدس سره) في البحار بأنّه لا مانع من القول بوجوبها في عصر الغيبة(4)، ويبدو ذلك من صاحب الوسائل أيضاً من خلال عنوان الباب(5).
ومهما يكن فلا بدّ من البحث في النصوص لتحقيق المطلب، وقد استدلّ عليه بمجموعة من الروايات:
ما رواه الشيخ الكليني (رضی الله عنه)، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): (ليس في يوم الفطر والأضحى أذان ولا إقامة، أذانهما طلوع الشمس، إذا طلعت خرجوا، وليس قبلهما ولا بعدهما صلاة، ومن لم يصلّ مع إمام في جماعة فلا صلاة له، ولا قضاء عليه)(6).
ص: 110
ولا إشكال في سندها إلّا من جهة إبراهيم بن هاشم؛ فإنّه لم يوثّق.
ولكن السيّد بحر العلوم (قدس سره) ذكر أنّه في أعلى درجات الوثاقة(1)؛ حيث نشر حديث الكوفيين في قم، ولا يسمح لأحد بفعل ذلك إلّا من كان في غاية الوثاقة والمنزلة العلمية الرفيعة، كما هو المعروف عن مدرسة قم المتشدّدة، وقد رواها الشيخ الصدوق (قدس سره) بسند تامّ في ثواب الأعمال(2)، ونقلها الشيخ الطوسي (قدس سره) في التهذيب عن الكافي بنفس سند الكليني(3)، ولكن فيه ابن أبي عمير عن زرارة، ولم يذكر ابن أذينة، ومن الواضح أنّه سقط؛ لأنّ زرارة من الطبقة الرابعة، وابن أبي عمير من الطبقة السادسة، ومثله لا يروي عن زرارة مباشرةً.
وقد استدلّ بها أغلب الأعلام الذين اشترطوا الحضور، منهم العلّامة في التذكرة والمنتهى(4)، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة(5)، وأشار إليها المحقّق القمّي في الغنائم(6) والمحقّق النراقي في المستند(7)، والشيخ محمّد حسن في الجواهر(8)، وغيرهم من فقهائنا المتأخّرين والمعاصرين.
ص: 111
ولم أجد في كلماتهم تقريباً للاستدلال غير دعوى الظهور.
وربّما كان ذلك استناداً إلى انصراف كلمة (الإمام) عند الإطلاق إلى المعصوم ما لم تنصب قرينة على الخلاف، والسرّ في هذا الانصراف كثرة استعمال الأئمّة (علیهم السلام) لهذه الكلمة في المعصوم(1)، والتشديد على أنّها لا تطلق على كلّ أحد، بل تطلق على من يحمل مواصفات معيّنة مصداقها الأمثل هو المعصوم.
ولكن قد يقال إنّه لا مجال لدعوى ظهور كلمة (إمام) في خصوص المعصوم (علیه السلام) حيث يجد المتتبّع أنّها كثيراً ما أطلقت في كلمات المعصومين (علیهم السلام) على إمام الجماعة، ولو لم يستظهر ذلك من كلماتهم يكون المعنى المراد منها مجملاً لتردّده بين المعنيين.
ولعلّه لهذا استظهر السيّد في المدارك أنّ المراد بالإمام في هذه الرواية إمام الجماعة لا إمام الأصل، كما يشعر به تنكير الإمام ولفظة الجماعة(2).
وممّا يجدر الالتفات إليه أنّ الشيخ الطوسي
(قدس سره) نقل هذه الرواية نفسها في الاستبصار بتعريف كلمة (إمام)، قال: (من لم يصلّ مع الإمام في جماعة يوم العيد فلا صلاة له، ولا قضاء عليه)(3).
ومن البعيد أن تكون روايةً أخرى بهذا السند نفسه والتقارب في الألفاظ، وبذلك لا يتمّ ما أشكل به من أنّ لفظ الإمام نكرة، ولكن في الوقت نفسه لا يطمأنّ بكون اللفظ الصادر من الإمام (علیه السلام) معرّفاً باللام؛ وذلك لتعارض النقلين، ولا
ص: 112
ترجيح لأحدهما على الآخر؛ لعدم تمامية ترجيح أصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة على أصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة إذا لم نقل بترجيح نقل الكليني (قدس سره) .
روى الكليني (قدس سره) عن الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن حمّاد بن عثمان، عن معمر بن يحيى، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (لا صلاة يوم الفطر والأضحى إلّا مع إمام)(1).
وسندها لا يخلو من إشكال من جهة معلّى بن محمّد، ومن جهة الوشّاء، أمّا الأوّل فقد قال عنه النجاشي: (مضطرب الحديث والمذهب)(2)، وابن الغضائري: (حديثه يعرف وينكر)(3)، والاضطراب في الحديث يومئ عرفاً إلى عدم التثبّت في النقل، وهو ممّا ينافي الاطمئنان بنقله. وأمّا الآخر فهو ممن لم يوثّق في كتب الرجال، وأمّا باقي رجال السند فهم ثقات(4).
وروى مثلها الشيخ الصدوق (قدس سره) في ثواب الأعمال(5)، عن معمّر بن يحيى وزرارة، وسنده تامّ، ورواها في الفقيه مرسلة(6)، ورواها الشيخ الطوسي (قدس سره) في
ص: 113
التهذيب بنفس سند الكليني(1)، ولكنّه رواها في الاستبصار بتعريف كلمة (إمام)(2)، ويبدو أنّه من خطأ النسّاخ.
ووجه الاستدلال بها شبيه بما تقدّم في الرواية الأولى، والإشكال هو الإشكال.
ما رواه الصدوق (قدس سره) بسنده عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (لا صلاة يوم الفطر والأضحى إلّا مع إمام عادل)(3).
وطريق الصدوق إلى زرارة في المشيخة تامّ(4).
والملاحظ عدم وجود كلمة (عادل) في بعض النسخ، كما أشير إلى ذلك في الهامش، ولكن صاحب الوسائل ذكر هذه الكلمة، فإذا كانت موجودة فقد يتوهّم انصراف الإمام العادل إلى المعصوم، وإذا لم تكن موجودة فوجه الاستدلال كما تقدّم.
وفيه: إذا كانت كلمة (عادل) موجودة فانصرافها إلى مطلق إمام الجماعة واضح، وإذا لم تكن موجودة فيرد الإشكال المتقدّم نفسه.
ما رواه الشيخ الطوسي (قدس سره) بسنده عن الحسين بن سعيد، عن
ص: 114
صفوان، عن العلا، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما (علیهما السلام)، قال: سألته عن الصلاة يوم الفطر والأضحى، فقال: (ليس صلاة إلّا مع إمام)(1).
وسندها تامّ، والمراد بصفوان هو ابن يحيى بقرينة الراوي والمروي، والمراد ب-(العلا) العلاء بن رزين بقرينة المروي عنه، والكلام فيها هو الكلام.
ما رواه الصدوق والطوسي (قدس سرهما) بسنديهما عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله (علیه السلام): (لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام، فإن صلّيت وحدك فلا بأس)(2).
وفي سندها كلام من جهة (عثمان بن عيسى)؛ حيث إنّه واقفي، بل وصفه النجاشي (قدس سره) بأنّه: (شيخ الواقفة ووجهها وأحد الوكلاء المستبدّين بمال موسى بن جعفر (علیه السلام) )(3)، ولكن هذا لا يقدح بالوثاقة على الأصحّ.
وقد يناقش في وثاقته، من جهة عدم ورود توثيق صريح له في كتب الرجال.
وجوابه: أنّه يمكن إثبات وثاقته بأحد أمرين:
الأوّل: ذكره الشيخ الطوسي (قدس سره) في العدّة من ضمن الواقفة المتحرّجين في الرواية، وأنّه من الذين عملت الطائفة بأخبارهم(4).
ص: 115
الآخر: أنّه ممّن روى عنه صفوان بن يحيى وابن أبي عمير(1)، وهما لا يرويان ولا يرسلان إلّا عن ثقة(2).
وأمّا الاستدلال بها فقد يوجّه بأنّ الإمام (علیه السلام) نفى تحقّق صلاة العيدين بدون الإمام الذي جاء معرّفاً بالألف واللام العهدية، وليس هو سوى المعصوم (علیه السلام) .
وجوابه: لا يشترط أن يكون المعهود هو الإمام المعصوم (علیه السلام)، بل يمكن أن يكون إمام الجماعة، وخصوصاً مع وجود قرينة على ذلك، وهي قوله (علیه السلام): (فإن صلّيت وحدك) الذي يناسب المقابلة لصلاة الجماعة، ويحمل نفي جنس الصلاة على نفي الكمال، كما أجاب بذلك بعض الأعلام(3)، فيكون حاله حال (لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد)، و إلّا فيكفينا إجمال الرواية.
وهنا تقريبات ثلاثة لكون المراد من (الإمام) فيها هو الإمام المعصوم:
وهو للمحقّق الحائري (قدس سره) إذ قال ما لفظه: (فإنّ حمل الإمام في هذه الرواية على مطلق إمام الجماعة ينافي قوله (علیه السلام) بعد ذلك: (فإن صلّيت وحدك فلا بأس) للزوم التناقض.
فإن قلت: يمكن رفع التنافي بحمل النفي على نفي الكمال لا الحقيقة، كقوله (علیه السلام): (لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد).
قلت: ليس النفي في مثل قوله (علیه السلام): (لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد)
ص: 116
وأمثاله راجعاً إلى الكمال في الاستعمال اللفظي ليكون معنى القضية المذكورة: (لا صلاة كاملة). وإنّما النفي راجع إلى حقيقة الصلاة، ولمّا علم من الخارج بدليل آخر صحّة الصلاة في غير المسجد لجاره حمل النفي في القضية المذكورة على النفي ادّعاءً، وكما أنّه قد تحمل حقيقة على غير مصداقها الواقعي ادّعاءً، كقولنا: زيد أسد؛ لظهور أظهر آثاره فيه، كذلك قد تنفى حقيقة عن مصداقها الواقعي بواسطة عدم ظهور آثارها المترقّبة فيه، فقوله (علیه السلام): (لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام) لو كان المراد الواقعي نفي الكمال فلا بدّ أن تكون الصلاة الواقعة مع غير الإمام - أعني الفرادى - بمنزلة العدم، بمعنى أن يكون الملحوظ في تلك القضية أنّ صلاة الفرادى ليست مصداقاً للصلاة ادّعاءً، فلا يناسب عقيب هذه القضية بتلك الملاحظة قوله بلا فصل: وإن صلّيت فرادى فلا بأس)(1).
وحاصل مرامه ببيان منّي: أنّ النفي في قوله (علیه السلام): (لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد) لا يراد منه مجرّد التحسين اللفظي الذي لا يمسّ المضمون الحقيقي، كي تكون هناك فرصة لحمله على نفي الكمال، بل يراد منه نفي حقيقة الصلاة، أي انتفاؤها كلّياً لو لم يصلّها جار المسجد في المسجد؛ لأنّ (لا) هنا نافية للجنس، فلا يراد نفي الحقيقة ادّعاءً ومجازاً. نعم، لا مجال لأن يقال إنّه لا يصحّ بلاغةً أن تنفى الحقيقة ادعاءً، بل ذلك سائغٌ، وحاله حال إثبات وحمل حقيقة - كالأسد - على مصداقها الواقعي الادّعائي على طريقة المجاز العقلي عند السكاكي، وهو الرجل
ص: 117
الشجاع، كما تقول: زيد ٌ أسد، والمسوّغ لهذا الحمل هو توفّر أظهر صفات الأسد، وهي الجرأة والشجاعة في زيد، وكذلك نفي الحقيقة ادّعاءً، فمثلاً تقول في رجلٍ جبان: عمرو ليس رجلاً، فتنفي عنه الرجولة ادّعاءً؛ لعدم توفّر أظهر آثار الرجولة فيه، وهي الشجاعة.
وعليه يقع السؤال: كيف يحمل قوله (علیه السلام): (لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد) على نفي الكمال مع ظهورها في نفي الحقيقة؟
وأجاب (قدس سره): بأنّ الذي سوّغ هذا الحمل هو الدليل الخارجي الدالّ على صحّة صلاة جار المسجد في غير المسجد لو صلّاها عامداً، وبمساعدته عرفنا أنّ الشارع لمّا نفى حقيقة الصلاة خارج المسجد لجاره ظاهراً أنّه لا يريد ذلك واقعاً، وإنّما أراد أنّ أظهر صفات وخصائص الصلاة تتوفّر وتتحقّق حينما تصلّى في المسجد.
والأمر في ما نحن فيه كذلك؛ إذ المراد من قوله (علیه السلام): (لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام) نفي صلاة العيدين ادّعاءً عمّن صلّاها فرادى، فإنّها ليست مصداقاً لها، ومعه لا يناسب عرفاً أن يردفه (علیه السلام) بقوله: (وإن صلّيت وحدك فلا بأس)؛ لأن معنى ذلك أنّ الصلاة الفرادى مصداق لصلاة العيدين حال كونه (علیه السلام) مُلاحظاً أنّه قد نفى كونها مصداقاً للصلاة ادّعاءً من غير فاصلٍ في كلامه.
ثمّ استشعر (قدس سره) إشكالاً قد يرد على مدّعاه، فقال: (فإن قلت: على أيّ شيء تحمل هاتين القضيتين اللتين صورتهما التناقض. قلت: تحمل القضية الأولى على نفي الحقيقة واقعاً بحسب الجعل الأوّلي، والقضية الثانية على المجعول الثانوي، أي بعد عدم التمكّن من إتيان ما هو المقصود أوّلاً، وحاصل المراد - والله أعلم - أنّ الصلاة
ص: 118
الواجبة من الله تعالى أوّلاً في العيدين هي الصلاة التي يؤتى بها مع الإمام المنصوب من الله تعالى، وإن لم تتمكّن - كما هو الغالب في المخاطب في زمان صدور هذه الرواية وصلّيت منفرداً - فلا بأس، يعنى أنّها مشروعة مستحبّة)(1).
وحاصل مرامه (قدس سره) أنّ رفض النفي الادّعائي بالتقريب المتقدّم لم يحلّ مشكلة التنافي الظاهر بين (لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام) و(إن صلّيت وحدك فلا بأس)، حيث إنّ الأولى بناءً على ما تقدّم تدلّ على أنّ صلاة العيدين فرادى ليست مصداقاً للصلاة حقيقةً، والأخرى تدلّ بظاهرها على أنّ صلاة العيدين فرادى مصداق حقيقي للصلاة.
ومعه لا محيص من كون الجملة الأولى مسوقة لبيان الجعل الأوّلي من اشتراط وجوب صلاة العيدين بكونها مع الإمام المعصوم (علیه السلام)، وهي دالّةٌ على أنّ صلاة العيدين فرادى ليست مصداقاً لها. وأمّا الجملة الأخرى فهي مسوقة لبيان أنّ صلاة العيدين فرادى بدل طولي للصلاة مع الإمام المنصوب من قبل الله تعالى في حال عدم تمكّن المكلّف من الصلاة معه لأيّ سبب كان.
ويلاحظ على ما ذكره (قدس سره):
أوّلاً: أنّه (قدس سره) لم يبيّن الوجه في عدم التناسب بين النفي الادّعائي لمصداقية فرد لطبيعةٍ ما، وتعقيبه بإثبات مصداقيته لهذه الطبيعة نفسها بنحو الحقيقة، بل ربّما يقال إنّ ذلك من قبيل المجاز المستساغ، وهو نظير التخصيص المتّصل، حيث تقول مثلاً:
ص: 119
(لا تكرم كلّ نحوي إلّا أن يكون من مدرسة الكوفة)، فإنّه يفهم قبل التلفظ ب-(إلّا) وما بعدها: النهي عن إكرام أيّ نحوي مهما كان، ولكن بعد الإتيان بأداة الاستثناء يتغيّر الظهور إلى ظهور آخر مستقرّ.
وما نحن فيه قريب من ذلك؛ حيث يُفهم بدواً بحسب ظهور (لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام) أنّه لا تصحّ صلاة العيدين ولا تتحقّق إلّا مع إمام الجماعة، ولكن بعد قوله: (وإن صلّيت وحدك فلا بأس) ينقلب هذا الظهور، ويفهم من مجموع الكلام التأكيد على أهمّية وعلوّ مرتبة صلاة العيدين جماعةً، وفضلها على صلاة العيدين فرادى؛ حيث إنّه من الواضح جدّاً تأكيد الشارع المقدّس على الإتيان بالصلوات الفرائض جماعةً، وتصريحه بفضلها العظيم، وتقدّم رتبتها على الفرادى.
وممّا يؤيّد هذا المعنى أكثر وجود تركيب (لا بأس) في الرواية نفسها؛ حيث إنّه يستعمل في لسان الشارع كثيراً كناية عن عدم المنع التحريمي، أي أنّه مباح(1)، فيستشعر منه المرتبة الدنيا باعتبار أنّ الإباحة بالمعنى الأعمّ تشمل الإباحة بالمعنى الأخصّ والواجب والمستحبّ، وجملة (وإن صلّيت وحدك فلا بأس) بمقابلتها لقوله (علیه السلام): (لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام) لا تدلّ إلّا على الإباحة بالمعنى
ص: 120
الأخصّ.
ويؤيّد تفاوت المرتبة الكمالية أيضاً ما جاء في صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام): (من لم يشهد جماعة الناس في العيدين فليغتسل وليتطيّب بما وجد، وليصلّ وحده كما يصلّي في الجماعة).
وجه التأييد: أنّ تشبيهه (علیه السلام) لصلاة العيدين فرادى بصلاتها جماعة، يعطي - مضافاً إلى اتّحاد ماهية الصلاتين من حيث عدد الركعات - اشتمالها على بعض خصائص صلاتها جماعة، وليس ذلك إلّا لتعدّد مراتب صلاة العيدين وتفاوتها، فصلاتها جماعة تحتوي على كمال المرتبة، وصلاتها فرادى أقلّ مرتبة.
وبعد كلّ ما تقدّم تصحّ دعوى حمل نفي جنس الصلاة في قوله (علیه السلام): (لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام) على نفي الكمال في الفرادى، ولا يلزم الحمل على إرادة الإمام المعصوم (علیه السلام) .
وثانياً: لو تنزّلنا عن تقريب حمل النفي على الكمال، وقبلنا بما قاله (قدس سره) من عدم مناسبة أن يثبت الإمام (علیه السلام) ما نفاه ادّعاءً، فلازم ذلك القول بأنّ إشكال التناقض بين الجملتين يكون أشد على مختاره (قدس سره)؛ فإنّ عدم قبوله بالنفي الادّعائي معناه القول بأنّ كلَّاً من النفي والإثبات في (لا صلاة في العيدين إلّا مع الإمام) و(إن صلّيت وحدك فلا بأس) حقيقي، ولذا اضطرّ أن يحمل الأولى على الجعل الأوّلي، والأخرى على المجعول الثانوي كي يتخلّص من إشكال التناقض. وعدم المناسبة في الحمل على نفي الكمال أخف إشكالاً من إشكال التناقض، فكان الأولى اختياره.
وثالثاً: أنّ ما ذكر للتخلّص من التناقض بين القضيتين يتأتّى حتى على القول بأن المراد من (الإمام) إمام الجماعة مع فارق هو أن يقال: إنّ الجعل الأوّلي لوجوب
ص: 121
صلاة العيدين هو أن تكون جماعةً بغض النظر عن كون إمام الجماعة هو المعصوم أو غيره ممّن تتوفّر فيه شروط إمامة الجماعة.
ورابعاً: مع التنزّل عن جميع ما سبق يمكن القول بإجمال الرواية من جهة عدم وضوح المراد من لفظ (الإمام)؛ لتردّده بين الإمام المعصوم وبين مطلق إمام الجماعة، فلا تصلح للاستدلال بها من هذه الجهة.
أن يقال: بأنّ لازم القول بنفي الكمال في صلاة العيدين فرادى هو استحباب صلاة العيدين جماعة، وهو خلاف النصّ المصرّح بوجوبها في زمن الحضور جماعةً، وخلاف فتوى الأعلام كذلك(1).
وهذا الكلام بظاهره تامّ، ولكنّه لا يجعل الرواية دليلاً حتى على اشتراط حضور الإمام المعصوم في وجوب صلاة العيد؛ إذ لو قلنا بأنّ ظاهر قوله (علیه السلام): (وإن صلّيت وحدك فلا بأس) هو التخيير بين صلاتها مع الإمام سواء كان المراد به المعصوم أو مطلق إمام الجماعة، وبين صلاتها فرادى، فيشكّل ذلك قرينة على كلّ الروايات الأخر، فلا بدّ من حمل تلك الروايات أيضاً على استحباب الجماعة مع المعصوم أو غيره.
ولكن يمكن أن يجاب على ذلك:
أوّلاً: بردّ علمها إلى أهلها؛ لأنّ ظهورها في التخيير مخالف للإجماع المحقّق باشتراط الجماعة في وجوب صلاة العيدين في عصر الحضور.
وثانياً: يمكن أن يقال: إنّها وإن كانت ظاهرة في التخيير ولكن اشتراط الوجوب
ص: 122
بالجماعة أظهر أو شبه الصريح، فيحمل هذا الظهور على الأظهر أو شبه الصريح، فتبقى الرواية دالّة على الوجوب، ولا يلزم من القول ببقاء الوجوب ثبوت شرطية الإمام المعصوم؛ فإنّ استفادة الوجوب تنسجم حتّى مع القول باشتراطه بمطلق إمام الجماعة.
ما ذكر في مهذّب الأحكام من أنّه: (إن كان المراد مطلق إمام الجماعة لزم التناقض بين صدر قوله (علیه السلام) وذيله، فإنّ محصولها يصير هكذا: لا تصحّ العيدين إلّا بالجماعة، وتصحّ فرادى أيضاً. ولا ريب في كونهما متناقضين إن كان مثل هذه الأخبار مسوقة لبيان شرطية الجماعة مطلقاً مع مطلق الإمام. نعم، إن كان المراد بالإمام الإمام المعصوم فلا تنافي بينهما حينئذٍ؛ إذ المعنى يصير هكذا: إنّ الوجوب مشروط بالجماعة، وتصحّ فرادى أيضاً.
إن قلت: نقول بعين ذلك في الإمام غير المعصوم أيضاً، فيكون الوجوب مشروطاً بالجماعة وتصحّ فرادى أيضاً.
قلت: لا ريب في بطلانه؛ لأنّه مستلزم لتعلّق وجوب الجماعة على إرادتها، فتكون مع إرادتها واجبة، ومع إرادة الفرادى غير واجبة.
كما لا وجه لحمل النفي على نفي الكمال، أي: لا صلاة كاملة إلّا مع الإمام، وتصحّ فرادى أيضاً، كما (لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد)؛ لاستلزامه استحبابه جماعة حتّى مع الإمام المعصوم (علیه السلام)، وتصحّان فرادى أيضاً، مع أنّ تعريف الإمام بالألف ولام العهد قرينة عرفية على الإشارة إلى إمام مخصوص، وليس إلّا المعصوم (علیه السلام) .
فخلاصة مفاد الأخبار: أنّ صلاة العيدين الواجبة من الله تعالى أوّلاً هي التي يؤتى بها مع المنصوب من قبله تعالى، ومع عدم التمكّن منه كما في أزمنة صدور
ص: 123
الأخبار تكون مشروعة، بل مندوبة فرادى أيضاً)(1).
ويلاحظ عليه:
أوّلاً: أنّ ما ذكر من استلزام تعلّق وجوب الجماعة على إرادتها لو كان المراد من (الإمام) الإمام المعصوم غير واضح؛ فإنّه من دون قرينة.
إن قلت: القرينة هي عدم معقولية أن يكون وجوب الجماعة فعلاً اختيارياً للمكلّفين لكي يتحقّق وجوب الجماعة، فمردّ اشتراط الوجوب بالجماعة إلى الوجوب عند إرادة الجماعة، بينما لو كان المراد الإمام المعصوم فإنّه يعقل ذلك، فالشارع هو من أوجب حضور الإمام المعصوم، وعندما يحضر يدعو الناس كي يصلّوا معه فيتحقّق وجوب صلاتها.
قلت: عدم المعقولية غير مسلّم؛ فإنّه يشترط في انعقاد صلاة العيدين وصلاة الجمعة العدد، وحضور هذا العدد في البداية اختياري منوط بإرادتهم، فإذا حضروا مع الإمام تحقّق الوجوب، وإذا امتنعوا كلّهم أو أحدهم لم يتحقّق الوجوب.
وثانياً: الإشكال بأنّه يلزم القول باستحباب صلاتها جماعة باقٍ لوجود قرينة في هذه الرواية بالذات تمنع من حملها على المعصوم حتّى مع تجنّب القول بنفي الكمال، وهي جملة (وإن صلّيت وحدك فلا بأس) الظاهرة في التخيير، كما تقدّم بيان ذلك.
وثالثاً: يمكن أن يكون المراد هو اعتبار الجماعة في المتعلّق، وليس في الحكم، أي يجب أن تصلّى جماعة لا أنّ وجوبها مشروط بالجماعة، فلا يرد إشكال استلزام تعلّق
ص: 124
الوجوب بالإرادة، فهي نظير قوله (علیه السلام): (لا صلاة إلّا بطهور)(1)، فالصلاة مشروطة بالطهارة، لا أنّ وجوبها مشروط بها.
ورابعاً: يمكن أن يكون المعنى هو الآتي: مع وجود إمام جماعة وإمكانية إقامتها جماعةً بالشروط المعتبرة تجب جماعةً، وإن لم يوجد فلا بأس أن تصلّى فرادى، فلا يلزم توقّف الوجوب على الإرادة.
وخامساً: يكفي الإجمال لردّ الاستدلال بها، وما ذكره (قدس سره) في آخر كلامه من كون الألف واللام قرينة على تعيّن إرادة الإمام المعصوم من لفظ (الإمام) قد تقدّم الجواب عنه.
وهي ما رواه الشيخ الطوسي (قدس سره) بسنده عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله (علیه السلام): قلت له متى يذبح؟ قال: (إذا انصرف الإمام)، قلت: فإذا كنت في أرضٍ ليس فيها إمام فأصلّي بهم جماعة؟ فقال: (إذا استقلّت الشمس)، وقال: (لا بأس بأن تصلّي وحدك، ولا صلاة إلّا مع إمام)(2).
ولعلّ هذه الرواية هي أهمّ ما يستدلّ به على اشتراط الوجوب بحضور المعصوم، وقد أكّد على ذلك جمعٌ من الأعلام (قدس سرهم) (3)، وهي من حيث السند تامّة.
ص: 125
ووجه الاستدلال بها أن يقال: إنّ هنا ثلاث قرائن تدلّ على كون المراد من لفظ (إمام) في الرواية الإمام المعصوم (علیه السلام):
القرينة الأولى: إتيان الإمام (علیه السلام) بكلمة (إمام) معرّفة بالألف واللام بعدما سأله السائل عن وقت الذبح، وهو ملائم لأن يكون المنصرف منه هو المعصوم (علیه السلام) .
القرينة الثانية: أنّ السائل افترض نفسه في أرض ليس فيها إمام، ومن البعيد أن لا يوجد من يؤتمّ به لو كان المراد مطلق إمام الجماعة.
القرينة الثالثة: أنّ السائل أراد أن يكون هو إمام الجماعة، ولكنّ الإمام أعرض عن ذلك، وقال له: لا بأس أن تصلّي وحدك، فلو كان المراد بلفظ (إمام) إمام الجماعة لم يكن مانع من سماح الإمام (علیه السلام) له بإمامة الجماعة.
ويرد عليه: أمّا القرينة الأولى فقد تقدّم النقاش فيها، وأمّا الثانية وما بعدها - وهما الأهمّ - فيحتمل أن يكون المراد بلفظ (إمام) الإمام الراتب؛ لأنّه في أرضٍ نائية، كما يشعر بذلك الإتيان بكلمة (أرض) نكرة، ويشعر بذلك أيضاً تنكير كلمة (إمام) في قوله: (ليس فيها إمام)، وأمّا القرينة الثالثة فغير ظاهرة؛ إذ الإمام (علیه السلام) لم ينه السائل عن إمامة الجماعة، وإنّما رجع وأكّد على أنّه لا صلاة - أي لا صلاة كاملة - بدون إمام.
ثمّ إنّ في الرواية نوع اضطراب، فلا نعرف ما دار من حوار بين السائل والإمام (علیه السلام) حينما قال له: (إذا استقلّت الشمس) وإن حاول بعض الأعلام تبرير ذلك بقوله: (بقي الكلام في مناسبة قول الإمام (علیه السلام) إذا استقلّت الشمس جواباً لسؤاله، فإن كنت في أرض ليس فيها إمام فصلّ بهم، ويمكن أن يقال: إنّ السائل فهم من كلام الإمام (علیه السلام) إذا انصرف الإمام في جواب سؤاله (متى نذبح) أنّ
ص: 126
انصرف(1) الإمام له دخل في الذبح، ولذا قال: (وإذا كنت في أرض ليس فيها إمام فأصلّي بهم جماعة)، يعنى يصحّ أن أصلّي بهم، ليتحقّق وقت الذبح بانصرافي عن الجماعة، وجوابه (علیه السلام) ردع لهذا التوهّم، وبيان أنّ انصراف الإمام إشارة إلى الوقت المخصوص الذي ينطبق على انصراف الإمام من صلاة العيد، وهو استقبال الشمس. وأمّا صلاة العيد فهي ليست إلّا مع إمام، ولا بأس أن تصلّي وحدك)(2).
وعلى كلّ حال استفادة شرطية حضور المعصوم منها مشكل.
روى الشيخ الطوسي (قدس سره) بسنده عن الحسين بن سعيد، عن النضر، عن عاصم، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: (قال الناس لأمير المؤمنين (علیه السلام): ألا تخلّف رجلاً يصلّي في العيدين؟ فقال: لا أخالف السنّة)(3)، ورواها البرقي (قدس سره) في المحاسن بزيادة: (يصلّي بضعفاء الناس)(4).
وبغضّ النظر عن سندها يمكن أن يقال في توجيه الاستدلال بها: إنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يستجب لطلب المسلمين بجعل نائبٍ عنه في إمامة جماعة العيدين، وجعل (علیه السلام) ذلك مخالفاً للسنّة، ممّا يدلّ على عدم صحّتها وجوباً إلّا بإمامة المعصوم.
وفيه: أنّه لا يمكن حملها على عدم الصحّة مطلقاً؛ إذ من الواضح أنّ للإمام (علیه السلام) تنصيب إمام للجماعة للعيدين أو لغيرها، وليس في الرواية تعرّض إلى شرطية
ص: 127
حضور الإمام، ثمّ إنّها قضية خارجية، فلا بدّ من أن تحمل على محامل أخر.
روى الشيخ الكليني (قدس سره) بسنده عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن حنان بن سدير، عن عبد الله بن دينار، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قال: (يا عبد الله، ما من عيد للمسلمين، أضحى ولا فطر إلّا وهو يجدّد لآل محمّد فيه حزناً)، قلت: ولم ذاك؟ قال: (لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم)(1).
ورواها الشيخ الصدوق في العلل بسنده إلى عبد الله بن دينار(2)، وفي الفقيه رواها مرسلة(3)، وفي بعض النسخ (عبد الله بن سنان) بدل (عبد الله بن دينار)، وفي موضع آخر عن عبد الله بن ذبيان(4)، وهو تصحيف دينار؛ إذ لا وجود لراوٍ باسم (عبد الله بن ذبيان) يروي عنه حنان بن سدير، وبقرينة رواية الكليني يكون الأمر أوضح.
وأمّا وجه الاستدلال فهو أن يقال: بأنّ الظاهر منها أنّ منصب إمامة جماعة العيدين من مختصّات آل محمّد (صلوات الله عليهم أجمعين)، فلا يقيمها إلّا المعصوم أو نائبه الخاصّ.
ويرد عليه: أنّ الاختصاص مجرّد دعوى، وكونهم يرون حقّهم في يد غيرهم لا يعني أنّه لا يجب على شيعتهم إقامتها، وهم الذين يحثّون على ذلك، فكثير من
ص: 128
الواجبات يختصّ وجوب إقامتها بهم - كصلاة الجمعة والخمس - ولكن هذا لا يعني أنّها لا تصحّ من غيرهم سيّما شيعتهم.
ثمّ لا يتعيّن أن يكون لفظ (حقّهم) في الرواية يراد به مثل صلاة العيدين، بل يحتمل احتمالاً معتدّاً به أن يراد به حقّهم في خلافة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي سلبه منهم الظالمون.
نعم، هل هو على نحو الوجوب أو لا؟ هذه مسألة أخرى.
وهناك روايات أخر قد يستدلّ بها(1)، ولكن ما ذكرناه هو أهمّ ما يستدلّ به على الاشتراط.
ومن ذلك يظهر أنّه لا يوجد دليل واضح على اشتراط وجوب صلاة العيدين بحضور المعصوم (علیه السلام)، وحينئذٍ هل يبنى على الوجوب في عصر الغيبة، كما بنى على ذلك جمعٌ من الأعلام؟
إنّ العمومات والمطلقات الدالّة على وجوب هذه الصلاة كما تقدّم ذلك غير قاصرة الدلالة عن شمولها لعصر الغيبة.
ويؤيّد ذلك عدم تصريح رواية واحدة ضعيفة - فضلاً عن صحيحة - بشرطية حضور المعصوم (علیه السلام)، ومن البعيد جدّاً أن يكون عدم التصريح بسبب التقية، لكن مع ذلك يبقى القول بالوجوب بدون هذا الشرط محتاجاً إلى القائل من فقهائنا
ص: 129
القدامى، ولا يوجد تصريح بالوجوب في عصر الغيبة سوى ما يظهر من أبي الصلاح الحلبي (قدس سره)، وقد عرفت قول الشيخ الصدوق، والمفيد، والمرتضى، وآخرين ممّا يضعف القول بالوجوب، والله العالم.
هذا ما تيسّر لي من بحث لهذا الشرط في هذه العجالة، وهو قابل للتوسعة.
والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على محمّد وآله الطاهرين.
* * *
ص: 130
القرآن الكريم
1. الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ )، النّاشر: دار الكتب الإسلامية، ط 1، 1390ﻫ ق.
2. إشارة السبق إلى معرفة الحقّ، للشيخ أبي الحسن عليّ بن الحسن بن أبي المجد الحلبي (قدس سره) (ت ق6)، تحقيق: الشيخ إبراهيم بهادري، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ط1، 1414ﻫ.
3. إصباح الشيعة بمصباح الشريعة، لقطب الدين محمّد بن حسين الكيدري (قدس سره) (ت610ﻫ)، تحقيق: الشيخ إبراهيم بهادري مراغي، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ط1، قم - إيران، 1416ﻫ.
4. الأمالي، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي (قدس سره) (ت381ﻫ)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة - قم، الناشر: مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، ط1، 1417ﻫ.
5. الأمالي، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ )، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسّسة البعثة، الناشر: دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع - قم، ط1، 1414ﻫ.
6. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الناشر: مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)، مكان الطبع: قم المقدّسة، تاريخ الطبع: 1421 ﻫ.ق، ط1.
ص: 131
7. الانتصار في انفرادات الإمامية، للشريف المرتضى عليّ بن حسين الموسوي (قدس سره) (ت436ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة النّشر الإسلاميّ التّابعة لجماعة المدرّسين، ط1، قم - إيران، 1415ﻫ.
8. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، للشيخ محمّد باقر المجلسي (قدس سره) (ت1110ﻫ)، الناشر: مؤسّسة الوفاء - بيروت - لبنان، ط2، 1403ﻫ.
9. بحوث في شرح مناسك الحجّ، تقرير أبحاث السيد محمّد رضا السيستاني (دامت برکاته)، بقلم الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف، المطبعة: دار المؤرّخ العربي - بيروت لبنان، ط2، تاريخ الطبع: 1437ﻫ.
10. تاريخ الطبري، لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري، الناشر: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت لبنان، ط4، 1403ﻫ.
11. التبيان في تفسير القرآن، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ )، تحقيق: الشيخ أحمد حبيب قصير العاملي، نشر وطباعة: مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، 1409ﻫ.
12. تذكرة الفقهاء، لأبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (قدس سره) (ت726ﻫ )، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، ط1، 1414ﻫ ق .
13. تفسير السمرقندي، لأبي الليث السمرقندي (ت383ﻫ)، تحقيق: محمود مطرجي، الناشر: دار الفكر - بيروت.
14. تفسير القمّي، لأبي الحسن عليّ بن إبراهيم القمّي (قدس سره) (ت 329ﻫ)، تصحيح وتعليق: السيّد طيّب الموسوي الجزائري، الناشر: مؤسّسة دار الكتاب للطباعة
ص: 132
والنشر - قم، ط3، 1404.
15. تهذيب الأحكام، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ)، تحقيق: السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران، المطبعة: خورشيد، ط3، 1364ش.
16. ثواب الأعمال، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي ابن بابويه القمي (قدس سره) (ت381ﻫ)، تقديم: السيد محمّد مهدي الخرسان، الناشر: منشورات الشريف الرضي - قم، المطبعة: أمير - قم، ط2، 1368ش.
17. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت 310ﻫ)، تقديم: خليل الميس، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، سنة الطبع: 1415ﻫ.
18. جامع الخلاف والوفاق بين الإمامية وبين أئمّة الحجاز والعراق، للشيخ عليّ بن محمّد القمّي السبزواري (قدس سره) (ت ق7ﻫ)، تحقيق: الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، الناشر: انتشارات زمينه سازان ظهور إمام عصر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، المطبعة: باسدار إسلام - قم، ط1.
19. جمل العلم والعمل، للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي (قدس سره) (ت436ﻫ)، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني، المطبعة: مطبعة الآداب في النجف الأشرف، ط1، سنة الطبع: 1378ش.
20. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، للشيخ محمّد حسن النجفي (قدس سره) (ت1266ﻫ)، تحقيق: الشيخ عباس القوجاني، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران، المطبعة: خورشيد، ط2، 1365ﻫ.
ص: 133
21. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، للشيخ يوسف البحراني (قدس سره) (ت1186ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قم.
22. خاتمة مستدرك الوسائل، للشيخ حسين النوري الطبرسي (قدس سره) (ت1320ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، المطبعة: ستارة - قم، ط1، 1415ﻫ.
23. الخصال، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي ابن بابويه القمّي (قدس سره) (ت 381ﻫ)، تصحيح وتعليق: الأستاذ علي أكبر الغفاري، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قم، سنة الطبع: 1403ﻫ.
24. الخلاف، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، تحقيق: جماعة من المحقّقين، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - قم، سنة الطبع: 1407ﻫ.
25. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي (ت911ﻫ)، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.
26. دعائم الإسلام، لأبي حنيفة النعمان بن محمّد التميمي المغربي (ت363ﻫ)، تحقيق: آصف بن علي أصغر فيضي، الناشر: دار المعارف - القاهرة، سنة الطبع: 1383ش.
27. ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد، للمحقّق ملّا محمّد باقر السبزواري (قدس سره) (ت1090ﻫ)، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
28. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، للشيخ محمّد بن جمال الدين مكّي العاملي الجزيني المعروف ب-(الشهيد الأوّل) (قدس سره) (ت786ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، المطبعة: ستاره - قم، ط1، 1419ﻫ.
ص: 134
29. رجال ابن الغضائري، لأحمد بن الحسين بن عبيد الله الواسطي البغداديّ (قدس سره) (ت ق5)، تحقيق: السيّد محمّد رضا الجلالي، الناشر: دار الحديث، المطبعة: سرور، ط1، 1422ﻫ.
30. رجال الطوسي (الأبواب)، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، 1415ﻫ.
31. فهرست أسماء مصنّفي الشيعة المشتهر ب-(رجال النجاشي)، لأبي العبّاس أحمد بن علي بن أحمد بن العبّاس النّجاشي الأسدي الكوفي (قدس سره) (ت450ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط5، 1416ﻫ.
32. روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه، للشيخ محمّد تقي المجلسي (قدس سره) (ت1070ﻫ)، علّق عليه وأشرف على طبعه: السيّد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي، الناشر: بنياد فرهنك إسلامي حاج محمّد حسين كوشانيور.
33. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، للشيخ أبي عبد الله محمّد بن إدريس العجلي الحلّي (قدس سره) (ت598ﻫ)، تحقيق: السيّد محمّد مهدي الموسوي الخرسان، الناشر: العتبة العلوية المقدّسة، ط1، 1429ﻫ.
34. سنن الدارمي، لأبي محمّد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت255ﻫ)، المطبعة: مطبعة الاعتدال - دمشق، سنة الطبع: 1349ﻫ.
35. شرائع الإسلام، لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن المعروف ب-(المحقّق الحلّي) (قدس سره) (ت676ﻫ)، تعليق: السيّد صادق الشيرازي، انتشارات استقلال -
ص: 135
طهران، المطبعة: أمير - قم، ط2، 1409ﻫ.
36. الشرح الكبير، لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي (ت 682ﻫ)، الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.
37. صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي (ت256ﻫ)، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، سنة الطبع: 1401ﻫ.
38. العدّة في أصول الفقه، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد مهدي النجفي، نشر وطبع: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) للطباعة والنشر.
39. علل الشرائع، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي ابن بابويه القمّي (قدس سره) (ت381ﻫ)، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، الناشر: منشورات المكتبة الحيدريّة - النجف الأشرف، سنة الطبع: 1385ش.
40. عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي ابن بابويه القمّي (قدس سره) (ت381ﻫ)، تصحيح وتعليق: الشيخ حسين الأعلمي، نشر وطبع: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، سنة الطبع: 1404ﻫ.
41. غنائم الأيام في مسائل الحلال والحرام، للميرزا أبي القاسم بن محمّد حسن القمّي (قدس سره) (ت1231ﻫ)، تحقيق: الشيخ عباس تبريزيان، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، ط1، 1417ﻫ.
42. غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، للسيّد حمزة بن عليّ بن زهرة الحلبي (قدس سره) (ت585ﻫ)، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، المطبعة: اعتماد - قم، ط1، 1417ﻫ.
ص: 136
43. فتح العزيز شرح الوجيز، لأبي القاسم عبد الكريم بن محمّد الرافعي (ت623ﻫ)، الناشر: دار الفكر.
44. فتح الوهّاب بشرح منهج الطلّاب، لزكريّا بن محمّد بن أحمد بن زكريّا الأنصاري (ت936ﻫ)، الناشر: منشورات محمّد عليّ بيضون - دار الكتب العلميّة، ط1، 1418ﻫ.
45. الفروق اللغوية، لأبي الهلال العسكري (ت395ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، 1412ﻫ.
46. فقه القرآن، لقطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي (ت573ﻫ)، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني، الناشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفي، ط2، 1405ﻫ.
47. الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (علیه السلام)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرّفة، الناشر: المؤتمر العالمي للإمام الرضا (علیه السلام) - مشهد المقدّسة، ط1، 1406ﻫ.
48. الفهرست، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، الناشر: مؤسّسة نشر الفقاهة، ط1، 1417ﻫ.
49. الفوائد الرجالية، للسيّد محمّد مهدي بحر العلوم الطباطبائي (قدس سره) (ت1212ﻫ)، تحقيق: السيّد محمّد صادق بحر العلوم - السيّد حسين بحر العلوم، الناشر: مكتبة الصدوق - طهران، المطبعة: آفتاب، ط1، 1363ش.
50. قاموس الرجال، للشيخ محمّد تقي التستري (ت 1415ﻫ)، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، 1419ﻫ.
ص: 137
51. قبسات من علم الرجال، أبحاث السيد محمّد رضا السيستاني (دامت برکاته)، جمعها ونظمها السيّد محمّد البكاء، ط1 محدودة التداول، سنة الطبع: 1436ﻫ.
52. الكافي، للشيخ أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (قدس سره) (ت329ﻫ)، تصحيح وتعليق: الأستاذ علي أكبر الغفاري، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران، المطبعة: حيدري، ط5، 1363ﻫ.
53. الكافي في الفقه، للفقيه أبي الصلاح الحلبي (قدس سره) (ت447ﻫ)، تحقيق: الشيخ رضا أستادي، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) العامّة - أصفهان.
54. الكامل في التاريخ، لعزّ الدين أبي الحسن علي بن محمّد المعروف ب-(ابن الأثير) (ت630ﻫ)، نشر وطباعة: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر، 1386ﻫ.
55. كتاب الصلاة، للشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره) (ت1355ﻫ)، نشر وطباعة: مكتب التبليغ الإسلامي - قم، سنة الطبع: 1362ش.
56. الكشف والبيان عن تفسير القرآن ( تفسير الثعلبي )، لأبي محمّد بن عاشور (ت 427ﻫ)، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظير الساعدي، طبع ونشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط1، تاريخ الطبع: 1422ﻫ - 2002م.
57. كفاية الأحكام، للعلّامة محمّد باقر السبزواري (قدس سره) (ت1090ﻫ)، تحقيق: الشيخ مرتضى الواعظي الأراكي، نشر وطباعة: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، سنة الطبع: 1423ﻫ.
58. كمال الدين وتمام النعمة، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (قدس سره) (ت381ﻫ)، تصحيح وتعليق: الأستاذ علي أكبر الغفاري،
ص: 138
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، سنة الطبع: 1405ﻫ.
59. مباني منهاج الصالحين: للسيد تقي الطباطبائي القمّي (قدس سره) (ت 1438ﻫ)، تحقيق وتصحيح: الشيخ عباس حاجياني، الناشر: منشورات قلم الشرق، ط1، مكان الطبع: قم إيران، تاريخ نشر: 1426ﻫ ق.
60. المبسوط في فقه الإماميّة، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي (قدس سره) (ت460ﻫ)، تصحيح وتعليق: السيّد محمّد تقي الكشفي، الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، المطبعة: المطبعة الحيدريّة - طهران، سنة الطبع: 1387ﻫ.
61. المبسوط، لأبي بكر محمّد بن أبي سهل السرخسي (ت483ﻫ)، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، سنة الطبع: 1406ﻫ.
62. مجمع البيان في تفسير القرآن، للشيخ أبي عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي (قدس سره) (ت548ﻫ)، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت، ط1، 1415ﻫ.
63. مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، للمولى أحمد بن محمّد المشهور ب-(المقدّس الأردبيليّ) (قدس سره) (ت993ﻫ)، تحقيق: الحاج آغا مجتبى العراقيّ - الشيخ علي پناه الأشتهارديّ - الحاج آغا حسين اليزديّ الأصفهانيّ، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين - قم.
64. المجموع، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت676ﻫ)، الناشر: دار الفكر.
65. المحاسن، للشيخ أبي جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ (قدس سره) (ت274ﻫ)،
ص: 139
تحقيق: السيّد جلال الدين الحسيني، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران، سنة الطبع: 1370ﻫ.
66. المختصر النافع في فقه الإماميّة، للشيخ المحقّق أبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي (قدس سره) (ت676ﻫ)، الناشر: قسم الدراسات الإسلاميّة في مؤسّسة البعثة - طهران، ط3، 1410ﻫ.
67. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، للسيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي (قدس سره) (ت1009ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، المطبعة: مهر - قم، ط1، 1410ﻫ.
68. المراسم العلوية في الأحكام النبويّة، للشيخ أبي يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي (قدس سره) (ت448ﻫ)، تحقيق: السيّد محسن الحسيني الأميني، الناشر: المعاونيّة الثقافيّة للمجمع العالمي لأهل البيت (علیهم السلام)، المطبعة: أمير - قم، 1414ﻫ.
69. مستند الشيعة في أحكام الشريعة، للشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي (قدس سره) (ت1245ﻫ)، الناشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط1، 1415ﻫ.
70. مصباح الفقيه، للشيخ آغا رضا بن محمّد هادي الهمداني (قدس سره) (ت1322ﻫ)، الناشر: منشورات مكتبة الصدر - طهران.
71. المعتبر في شرح المختصر، للشيخ المحقّق أبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي (قدس سره) (ت676ﻫ)، تحقيق: عدّة من الأفاضل، الناشر: مؤسّسة سيد الشهداء (علیه السلام) - قم، المطبعة: مدرسة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، سنة الطبع: 1364ش.
72. معجم رجال الحديث، للسيّد أبي القاسم الموسوي الخوئي (قدس سره) (ت 1413ﻫ)، ط5، 1413ﻫ.
ص: 140
73. المغني، لأبي محمّد عبد الله بن أحمد بن محمّد بن قدامة (ت620ﻫ)، النّاشر: دار الكتاب العربي، 1392ﻫ .
74. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمّد بن أحمد الشربيني (ت977ﻫ)، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، سنة الطبع: 1377ﻫ.
75. مفاتيح الشرائع، للملّا محمّد محسن بن مرتضى بن محمود المعروف ب-( الفيض الكاشاني) (قدس سره) (ت1091ﻫ)، النّاشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفي، ط1.
76. المقنع، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي ابن بابويه القمّي (قدس سره) (ت381ﻫ)، تحقيق: لجنة التحقيق التابعة لمؤسّسة الإمام الهادي (علیه السلام)، الناشر: مؤسّسة الإمام الهادي (علیه السلام)، المطبعة: اعتماد، سنة الطبع: 1415ﻫ.
77. المقنعة، للشيخ أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المفيد (قدس سره) (ت413ﻫ)، نشر وتحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط2، 1410ﻫ.
78. من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي ابن بابويه القمّي (قدس سره) (ت381ﻫ)، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة.
79. منتهى المطلب، لجمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر المعروف ب-(العلّامة الحلّي) (قدس سره) (ت762ﻫ)، تحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية، نشر وطباعة: مؤسّسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدّسة، ط1، 1412ﻫ.
80. المهذّب البارع في شرح المختصر النافع، لجمال الدين أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي (قدس سره) (ت841ﻫ)، تحقيق: الشيخ مجتبى العراقي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، سنة الطبع: 1407ﻫ.
ص: 141
81. مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام، للسيّد عبد الأعلى الموسوي السبزواري (قدس سره) (ت1414ﻫ)، الناشر: مكتب السيّد السبزواري (قدس سره)، المطبعة: فروردين، ط4، 1413ﻫ.
82. الناصريات، للسيّد علي بن الحسين بن موسى الشريف المرتضى (قدس سره) (ت436ﻫ)، تحقيق: مركز البحوث والدراسات العمليّة، الناشر: رابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة مديريّة الترجمة والنشر، المطبعة: مؤسّسة الهدى، سنة الطبع: 1417ﻫ.
83. النهاية في مجرَّد الفقه والفتاوى، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره) (ت460 ﻫ)، الناشر: انتشارات قدس محمّدي - قم.
84. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لمحمّد بن أحمد بن حمزة المشتهر ب-(الشافعي الصغير) (ت1004ﻫ)، الناشر: دار إحياء التراث العربي - مؤسّسة التاريخ العربي - بيروت، ط3، سنة الطبع: 1413ﻫ.
85. نهج البلاغة، تحقيق: صبحي صالح، ط1، 1387ﻫ.
86. الوافي، للشيخ محمّد محسن بن مرتضى بن محمود المعروف ب-( الفيض الكاشاني) (قدس سره) (ت1091ﻫ)، تحقيق: السيّد ضياء الدين الحسيني، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السلام) العامّة - أصفهان، المطبعة: طباعة أفست نشاط أصفهان، ط1، 1406ﻫ.
87. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (قدس سره) (ت1104ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرّفة، المطبعة: مهر - قم، ط2، 1414ﻫ.
ص: 142
إنّ من المؤمنين من يريد أن يقف بعض أملاكه ولكن لا يرغب أن يستغني عن منافعه في حياته، فلديه رغبة شديدة في أن يكون له صدقة جارية تبقى له ذخراً لآخرته، ولكن يريد أن ينتفع بما يروم وقفه طوال حياته أو في جزء منها، هل يجوز ذلك أو لا؟
هذا ما سنتناول البحث عنه من جميع جوانبه، بدءاً بتاريخ الوقف وحقيقته، والأقوال في هذه المسألة بالخصوص، ثمّ نستعرض الأدلّة والمناقشة فيها، وخاتمة في الحدود المتعلّقة بهذه المسألة.
ص: 143
ص: 144
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
لم يكن الاهتمام بالوقف مختصّاً بالمسلمين، بل هو ثقافة سائدة في المجتمعات، وهي متجذّرة ترجع إلى عصور سابقة، ففي عصر الفراعنة كانت هناك أراضٍ تعدّ عندهم وقفاً، وهي تحت سلطة الكهنة، وكانت لهم حصّة من وارداتها(1). وكذا في الفقه الروماني، حيث جاء في مدونة جوستنيان: (الأشياء المقدّسة والأشياء الدينية والأشياء الحرام لا يملكها أحد؛ إذ ما كان لله فلا يملكه إنسان)(2)، ثمّ يفصّل بعد
ص: 145
ذلك في هذه العناوين وبيان أحكامها.
وكذلك الحال في القوانين الهندوسية القديمة، فقد ورد في كتاب منوسمرتي عند الكلام عن الإرث: (لا تقسّم الثياب ولا المركبة ولا الحلية ولا الطعام المطبوخ ولا الماء ولا كلّ ما قد أوقف على أعمال الخير والإحسان أو على التقدمات ولا أرض المرعى)(1). وكذلك كان الحال عند الجرمانيين والفرنسيين وكذا في النظام الإنجلو - أمريكي(2).
ومن الغريب ما ذكره الشافعي قائلاً: (ما علمنا جاهلياً حبس داراً على ولد ولا في سبيل الله ولا على مساكين، وحبسهم كانت ما وصفنا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بإطلاقها، والله أعلم)(3). وقال في موضع آخر: (ولم يحبس أهل الجاهلية - في ما علمته - داراً ولا أرضاً تبرّراً بحبسها، وإنّما حبس أهل الإسلام)(4).
وجه الغرابة أنّ الوقف والحبس من الأمور المألوفة لدى العرب قبل الإسلام،
ص: 146
منها الوقف الذرّي للمقابر، ووقفهم للمعابد ونحو ذلك، قال الدكتور جواد عليّ (رحمة الله): (وقد كانت المعابد أوقاف حبست عليها، ولها موظفون لجباية غلّتها، هي أوقاف قديمة سجلت اسم المعابد منذ كان الكهّان المكربون يتولّون أمور الحكم، وأوقاف كان يحبسها الأغنياء الأتقياء في حياتهم أو بعد وفاتهم على المعابد قربة إلى الآلهة .. وكان أهل الجاهلية يحبسون السوائب والبحائر والحوامي وما أشبهها، فلا يعتدي عليها ولا يستغلها أحد .. وكانوا في الجاهلية يحبسون مال الميت ونساءه .. وكانوا يحبسون الأرض والنخل والكروم وغير ذلك على أصنامهم، ويجعل بعضهم غلّتها على أبناء السبيل. وذكر أنّ الحبس يقع على كلّ شيء وقفه صاحبه وقفاً محرّماً لا يورث ولا يباع من أرض ونخل وكرم ومستغل)(1).
وأمّا بعد الإسلام فأوّل من وقف هو رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد ذكر البلاذري: (وكان مخيريق حبراً عالماً، فقال يوم أحد لليهود: والله إنّكم لتعلمون أنّ محمّداً نبيّ وأنّ نصره حقّ عليكم. فقالوا: إنّ اليوم يوم سبت. فقال: لا سبت، وأخذ سلاحه وقاتل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقتل. وكان حين خرج للقتال قال: إن أصبت فأموالي لمحمّد يضعها حيث أراه الله، فجعلها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)
صدقة)(2).
وذكر الماوردي(3) أنّ صدقات النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) محصورة في ثمانية:
ص: 147
1 - أرض مخيريق، وهي سبعة حوائط وهي: المبيت، والصافية، والدلال، وجسني، وبرقة، والأعراف، والمسربة.
2 - أرضه في أموال بني النضير بالمدينة.
3، 4، 5- ثلاثة حصون في خيبر الكتيبة والوطيح والسلالم.
6 - النصف من فدك.
7 - الثلث من أرض وادي القرى.
8 - موضع سوق بالمدينة يقال له مهروذ.
وقد انتشرت الأوقاف انتشاراً واسعاً بين المسلمين، وقد غطّت عدّة مجالات من احتياجات المسلمين، فمضافاً إلى المساجد والحسينيات والمراكز الدينية فقد كان لها دور كبير في توفير موارد لليتامى والمساكين والفقراء.
وقد ورد في سبب نزول قوله تعالى:﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(1) أنّها بشأن قضيّة أبي الدحداح، فقد ذكر الطبرسي: (قال الكلبي في سبب نزول هذه الآية: إنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: (من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة)، فقال أبو الدحداح الأنصاري - واسمه عمرو بن الدحداح -: يا رسول الله، إنّ لي حديقتين إن تصدّقت بإحداهما، فإنّ لي مثليها في الجنة؟ قال: (نعم). قال: وأمّ الدحداح معي؟ قال: (نعم). قال: والصبية معي؟ قال: (نعم). فتصدّق بأفضل حديقتيه، فدفعها إلى رسول الله. فنزلت الآية، فضاعف الله له صدقته ألفي ألف، وذلك قوله: ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ .. فقال النبيّ:
ص: 148
(كم نخلة متدلٍّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنة))(1)، وهي ظاهرة في الوقف، فالتصدّق بالأرض أو البستان ظاهر في وقفها.
ونصوصنا قد استفاضت في الحثّ على الصدقة الجارية - التي هي من مصاديق الوقف - ففي معتبرة الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: (ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وصدقة مبتولة لا تورث، أو سنّة هدىً يعمل بها بعده، أو ولد صالح يدعو له)(2). ومثلها معتبرة إسحاق بن عمّار، ومعتبرة معاوية بن عمّار، وغيرهما(3).
وفي معتبرة أيّوب بن عطيّة الحذّاء، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (قسّم نبيّ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الفيء فأصاب عليّاً (علیه السلام) أرضاً، فاحتفر فيها عيناً فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير، فسمّاها ينبع، فجاء البشير يبشّر، فقال (علیه السلام): بشّر الوارث، هي صدقة بتّة بتلاً في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله، لا تباع ولا توهب ولا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)(4).
ومعتبرة عجلان أبي صالح، قال: أملى أبو عبد الله (علیه السلام): (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به فلان بن فلان وهو حيّ سويّ بداره التي في بني فلان
ص: 149
بحدودها، صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض، وأنّه قد أسكن صدقته هذه فلاناً وعقبه، فإذا انقرضوا فهي على ذي الحاجة من المسلمين)(1).
ومعتبرة عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: أوصى أبو الحسن (علیه السلام) بهذه الصدقة: (هذا ما تصدّق به موسى بن جعفر، تصدّق بأرضه في مكان كذا وكذا كلّها، وحدّ الأرض كذا وكذا، تصدّق بها كلّها ونخلها وأرضها وقناتها ومائها وأرجائها وحقوقها وشربها من الماء، كلّ حقّ هو لها في مرتفع أو مطمئن أو عرض أو طول أو مرفق أو ساحة أو أسقية أو متشعّب أو مسيل أو عامر أو غامر، تصدّق بجميع حقوقه من ذلك على ولد صلبه من الرجال والنساء يقسّم، وإليها ما أخرج الله عزّ وجلّ من غلّتها بعد الذي يكفيها ..)(2).
هذا، ومن جملة المسائل الابتلائية المهمّة هو وقف العين مع استثناء الواقف المنافع لنفسه؛ فإنّ جملة ممّن يرومون الوقف لا يرغبون أن يستغنوا عن منافعه في حياتهم، إذ تجتمع عندهم رغبتان: رغبة في أن يكون لديهم صدقة جارية تبقى لهم ذخراً لآخرتهم، ورغبة في أن ينتفعوا ممّا يرومون وقفه في حياتهم، بل لعلّ الكثير منهم عند الالتفات لذلك يرغبون بالوقف مع استثناء المنافع لهم مدّة حياتهم، فيعتبر
ص: 150
مثل هذا الاستثناء مشجّعاً لأن يجعلوا أموالهم صدقات جارية تخدم المجتمع، وبالخصوص من لا يكون لديه عائلة تنتفع بما يتركه لها، وكذا بالنسبة إلى البلدان التي لديها قيود معيّنة تجاه الإرث، فلذا البناء على جواز انتفاع الواقف ممّا يستثنيه من المنافع في حياة الواقف ممّا يفتح باباً واسعاً في هذا المجال.
فوقع بحث في أنّه هل يجوز أن يستثني الواقف جملة من منافع الوقف أو الانتفاع منه - سواء كان لمدّة محدّدة كسنة مثلاً، أم غير محدّدة كمدّة حياته - أو لا؟
ونتيجة لتجاوز البحث الحدّ الأقصى من الصفحات المسموح به لكلّ بحث في المجلّة سيكون على حلقتين، نسأل الله التوفيق فيه.
وقبل الولوج في البحث عن صحّة هذا الاشتراط لا بدّ من ذكر أمور ..
قد ذكر اللغويون أنّ المراد من الوقف هو حبس الشيء وتمكّثه، قال الصاحب ابن عبّاد: (وقفت الدابّة والكلمة أقفها وقفاً: إذا حبستها في سبيل الله تعالى)(1)، وقال ابن فارس: (وقف أصل واحد يدلّ على تمكّث في شيء، ثمّ يقاس عليه، منه وقفت أقف وقوفاً ووقفت وقفي)(2) وقال ابن سيده: (وقف الشيء، أبو عبيد: وقفت الدابّة والأرض وكلّ شيء، فأمّا أوقفت فهي رديئة .. ثعلب: وقفْت وقْفاً للمساكين .. وقفْت أنا وقفاً ووقوفاً إذا احتبسْتَ راكباً ولا يكون ذلك للماشي)(3)،
ص: 151
وقال ابن منظور: (وقَف الأرض على المساكين - وفي الصحاح للمساكين - وقْفاً: حبسها، ووقفْتُ الدابّة والأرض وكلّ شيء)(1)، وقال ابن درستويه: (وأمّا قوله: وقفت الدابّة أقفها فمعناه: حبست الدابّة عن السير. وكذلك وقفت وقفاً للمساكين أي حبسته عليهم. وكذلك وقفت أنا، أي احتبست عن الشيء أو المضي، وثبت في مكاني قائماً)(2).
هذا، وقد ورد في مرسل العوالي، عن النبيّ
(صلی الله علیه و آله و سلم) في الوقف: (حبس الأصل وسبل الثمرة)(3)، وهو مروي في روايات الجمهور بعدّة نصوص في قضيّة عمر(4)، ولا يبعد أن يكون هو الأصل لمرسل العوالي؛ فإنّه رواه بطريقه عن فخر المحقّقين (قدس سره) كما ذكر في مقدّمة الباب الثاني(5)، وفي الأغلب أنّه أخذها من مصادر الجمهور.
ونظراً لاستخدام التحبيس والتسبيل للتعبير عن الوقف فمن المناسب أن نوضح معناهما:
قال الخليل (رحمة الله): (احتبستُ الشيء أي خصصته لنفسي خاصّة)، وقال: (الحبيس الفرس يجعل في سبيل الله)(6)، وقال الجوهري: (الحبس ضد التخلية، وحبسته
ص: 152
واحتبسته بمعنى. واحتبس أيضاً بنفسه يتعدّى ولا يتعدّى. وتحبس على كذا أي حبس نفسه على ذلك .. وأحبست فرساً في سبيل الله أي وقفت، فهو محبس وحبيس)(1)، وقال ابن فارس: (يقال حبسته حبساً، والحبس ما وقف، يقال: أحبست فرساً في سبيل الله)(2).
وأمّا التسبيل فقد قال ابن فارس: (سبل السين والباء واللام أصل واحد يدلّ على إرسال شيء من علو إلى سفل، وعلى امتداد شيء، فالأوّل من قيلك أسبلت الستر أسبلت السحابة ماءها وبمائها، والسبل المطر الجود، وسبال الإنسان من هذا لأنّه شعر منسدل)(3).
ونظراً لما تقدّم في النبويّ المرسل فقد عرّفه الشيخ (قدس سره) بقوله: (الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة)(4)، ووافقه على ذلك ابن إدريس، والكيدري، والمحقّق الحلّي في بعض كتبه، وابن سعيد، والعلّامة الحلّي في بعض كتبه (قدس سرهم)، وقد وافقهم السيّد السيستاني (دام ظله العالی) (5).
ص: 153
وقال الفيض الكاشاني (قدس سره): إنّه (تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة)(1)، ومثله السيّد الحكيم(2)والسيّد الخوئي(3) (قدس سرهما) .
وقال صاحب الحدائق (قدس سره) في توضيح المراد من الوقف: (المراد بتحبيس الأصل المنع من التصرّف فيه كالتصرّف في الأملاك بالبيع والهبة والصدقة ونحوها، بحيث يكون ناقلاً للملك. وتسبيل الثمرة إباحتها للموقوف عليه بحيث يتصرّف فيها كتصرّفه في أملاكه)(4).
ولا أهمّية للفرق بين الثمرة والمنفعة، إذ مقصودهم منها ما يعمّ ثمرة الأشجار؛ ليشمل كلّ منفعة كماء البئر والسكن في الخان وغير ذلك من المنافع، ولعلّهم إنّما عبّروا بالثمرة تقيّداً بما ورد في المرسل المتقدّم.
وقد عدل جمع من التسبيل إلى الإطلاق فقال: (الوقف تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة)، منهم المحقّق الحلّي في بعض كتبه، والفاضل الآبي، والعلّامة الحلّي في بعض كتبه، والشهيد الأوّل، والمقداد، وابن فهد، والمحقّق الكركي، وصاحب العروة (قدس سرهم) (5).
ص: 154
ونبّه غير واحد(1)على أنّ العدول من التسبيل إلى الإطلاق لأنّ الإطلاق أظهر في المراد منه، فيكون أظهر في مقابلة التحبيس، ويكون معناه إباحتها للجهة الموقوف عليها بحيث يتصرّف كيف شاء كغيره من الأملاك.
ولكن اعترض الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره) قائلاً: (لكنّ في الصحاح: سبّل فلان ضيعته أي جعلها في سبيل الله تعالى، ومن هنا كان التعبير بالتسبيل أولى بناءً على إرادة ذلك من الإطلاق القابل للتحبيس - كما هو مقتضى إبداله بذلك في المتن وغيره - لإشعاره باعتبار القربة حينئذٍ وأنّه من الصدقات)(2).
وعلى كلّ حال فالخلاف بينهم في تعريفه ليس ذا قيمة - كما نبّه غير واحد(3)- بعد أن كان من المعلوم أنّه ليس تعريفاً حقيقياً، بل المقصود منه التمييز في الجملة ولو بذكر بعض خواصه.
ص: 155
هذا، وقد اختلف في حقيقة الوقف فهل هو حقيقة واحدة أو يختلف باختلاف أقسام الوقف؟
ذهب جمع منهم السيّد الحكيم (قدس سره) إلى أنّه حقيقة واحدة قائلاً: (إنّ الوقف بجميع أقسامه نوع من الصدقة، وذلك بجعل الموقوف صدقة مؤبّدة، فتكون وقفاً لا يجوز بيعها ولا تمليكها ولا غيرها ممّا ينافي تأبيد كونها صدقة كما عرفت، فالوقف إذاً هو الصدقة المؤبّدة، فتخرج العين عن ملك المالك، ولا تدخل في ملك مالك، كما لا يجوز التصرّف فيها بالتمليك ونحوه ممّا ينافي تأبيد التصدّق بها)(1).
في حين خالف آخرون منهم الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2)، فذهبوا إلى أنّ الوقف على نحوين: (أحدهما) ما لا يكون ملكاً لأحد، بل يكون فكّ ملك، نظير التحرير كما في المساجد والمدارس. (ثانيهما) ما تكون منفعته مملوكة للموقوف عليهم سواء كانت جهة عامّة أو خاصّة. ومثله السيّد السيستاني (دام ظله العالی) (3).
وذهب جمع ثالث كالعلّامة (قدس سره) (4) إلى أنّه على ثلاثة أنحاء، فإنّه إن كان مسجداً ونحوه فهو فكّ ملك، وإن كان وقفاً على معيّن فهو تمليك منفعته للجهة الموقوف عليها، وإن كان على جهة عامّة فهو ملك لله تعالى.
وعلى اختلافهم في ما ذكرنا إلّا أنّهم يتّفقون جميعاً على أنّ الوقف هو إخراج
ص: 156
الموقوف عن ملك الواقف وانقطاعه عنه، والاختلاف بينهم في العلاقة بين الموقوف وبين الموقوف عليهم أو المنظورين في الوقف.
والذي يهمّنا في المقام هو البحث عن دخالة المنفعة في حقيقة الوقف، وهل أنّه يتقوّم بها أو لا؟ لما لذلك من تأثير في بعض ما يستدلّ به في المسألة المبحوث عنها.
والأوّل هو ظاهر تعبيرهم بأنّ الوقف هو تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة أو تسبيلها، كأستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) في غير وقف المساجد والمشاهد، حيث قال: (الوقف عبارة عن إخراج العين عن ملك مالكها وتحبيسها من أجل استيفاء منفعتها أو نمائها مع تسبيل تلك المنفعة أو النماء وبذلهما لجهة معيّنة عامّة أو خاصّة)(1).
والثاني هو ظاهر الشهيد الثاني، وصريح الآخوند الخراساني، والمحقّق الأصفهاني والسيّد الخوئي في بعض كلماته (قدس سرهم) (2)، وكذا ما ذكره السيّد السيستاني (دام ظله العالی) (3).
قال الشهيد الثاني (قدس سره): إنّ (الوقف فكّ ملك وإخراج عن ملكيته - أي ملكية الواقف - وتسليط الغير عليه).
وقال الآخوند (قدس سره): إنّ الوقف (أمر واحد يتعلّق بالعين ابتداءً، ويظهر أثره في المنفعة والثمرة تبعاً كما هو التحقيق).
وقال المحقق الأصفهاني (قدس سره): (الوقف هو الحبس المساوق للسكون والإسكان،
ص: 157
في قبال الجريان في أنحاء التقليبات والتقلّبات).
وقال السيّد الخوئي (قدس سره): إنّ الوقف (عبارة عن الحبس والسكون مقابل الحركة، فليس مفهومه إلّا متقوّماً بالإيقاف والسكون وعدم توارد البيع والشراء والهبة والإجارة عليه بحيث يبقى طبقة بعد طبقة وجيلاً بعد جيل).
والظاهر من مجموع ما ذكره اللغويون في معنى الوقف والتحبيس - وكذلك الصدقة كما سيأتي في كلام المحقّق الأصفهاني (قدس سره) - هو المعنى الثاني، أي أنّه تحبيس الملك على أمر ومنع التصرّف فيه كالتصرّف في الأملاك ببيعه وإيجاره ورهنه ونحو ذلك، وأمّا المنفعة فهي من آثار الوقف وثمراته التي لا تنفكّ عنه عادة، ولكنّها ليست من مقوّماته.
وقد صرّح بذلك أستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) في وقف المسجد قائلاً: (ما كان متقوّماً بحفظ عنوان خاصّ من دون نظر إلى موقوف عليه تعود المنفعة إليه، وهو وقف المسجد، فإنّه يتقوّم بعنوانه من دون نظر إلى منفعة خاصّة ترجع لموقوف عليه خاصّ، والانتفاع به للمصلّين ونحوهم من توابع العنوان المذكور لا من مقوّماته)(1).
إذاً، حتّى لمن ذهب إلى دخالة المنفعة في بعض أقسام الوقف لم يبنِ على اطّرادها في جميع أقسامه ممّا يعني عدم دخالتها في نفس الوقف، وإنّما هي من خصوصيات بعض أنحاء الموقوف.
ص: 158
والحاصل أنّه لا يتقوّم الوقف بشكل عامّ إلّا بالتحبيس لموقوف معيّن، ومنع المالك من التصرّف فيه بتصرّفات المالك من البيع والشراء والإيجار والرهن ونحو ذلك، والمنفعة إنّما هي من التوابع والآثار. نعم، لا بدّ في بعض أقسام الوقف من موقوف عليه كما في الوقف الذرّي ونحوه.
وقد يستدلّ على ذلك أيضاً بما ذكره المحقّق الأصفهاني (قدس سره) قائلاً: (ويشهد له إضافة الوقف بنفس العين، وكذلك مفهوم التصدّق المذكور في باب الأوقاف، مع أنّه مقتضى مفهوم الوقف، فإنّه ليس إلّا الحبس وما يساوقه مفهوماً، وليس ما ينسب إليه إلّا ما يطابق مفهومه الإنشائي، ولذا كان (وقفت) من الألفاظ الصريحة دون غيرها)(1).
وقد أجاب (قدس سره) عن القول بدخالة المنفعة في حقيقة الوقف استناداً إلى النبويّ المرسل وتعريف الفقهاء قائلاً: (أمّا ما أفيد من كون الوقف حقيقة مركّبة فيمكن أن يقال: إنّ التعاريف الفقهية كما هو المرسوم من باب الرسوم غالباً، لا أنّها حدود حقيقية، ومن البيّن أنّ لازم قصر العين ملكاً على أحد تملّك المنافع من دون قصر فيها، فإطلاق المنافع وتسبيلها لازم اختصاص الحبس الملكي بالعين)(2).
وما ذكره في الجواب في محلّه.
هذا، وقد اختلف في حقيقة الوقف من جهة أخرى وأنّه هل هو عقد أو إيقاع؟ وهل هو كذلك في جميع أقسام الوقف أو في بعضها؟
ص: 159
فذهب جمع منهم ابن إدريس، والمحقّق، والعلّامة، والمحقّق الكركي، والسيّد البجنوردي (قدس سرهم) (1) إلى أنّه عقد على تفصيل في تحقّق القبول في الوقف العامّ، ووقف المساجد، ونحوها، في حين ذهب آخرون، منهم السيّد الخميني، والسيّد الروحاني (قدس سرهما)، وأستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) (2) إلى أنّه إيقاع.
ولا يهمّ البحث هنا عن هذه الجهة بعد أن لم يكن لها تأثير معتدّ به في ما هو المهمّ من بحثنا.
محلّ النزاع في هذه المسألة يعمّ جميع أنواع المنفعة:
منها: الانتفاع من ريع الوقف بشكل مباشر، سواء كان مالياً كبدل الإيجار للمباني، أو كان عينياً كالصوف واللبن من الدواب، والثمر من الشجر، والماء من البئر، ونحو ذلك.
ومنها: الانتفاع من خدمات الموقوف من قبيل السكن في الدار، أو إشغال الدكان، أو استعمال المركبة.
ومنها: أن يتمّ رفع بعض الالتزامات التي على الواقف، من قبيل أداء ديونه، أو
ص: 160
الإنفاق على أولاده وزوجته وضيوفه وغيره من متعلّقيه، ومن ذلك أداء العبادات التي بذمّته كالحجّ.
فالنزاع يكون في أن يشترط الواقف في نفس الوقف بقاء بعض أو تمام منافع الوقف مدّة محدّدة أو غير محدّدة، أو أن يستثني من وقفه ذلك.
والبحث يشمل وقف العين المستأجرة قبل انتهاء مدّة الإجارة وسيأتي التنبيه على ذلك عند الحديث في حدود المسألة، ولعلّ الظاهر عدم شمول البحث للمنفعة الموجودة فعلاً كالثمرة واللبن الموجودين كما سيأتي التنبيه عليه أيضاً.
ولا يبعد جريان البحث أيضاً في الصدقات حيث يتصدّق أحد على فقير بدار مسلوبة المنفعة مدّة حياة المتصدّق مثلاً، أو مع إيجارها لمدّة طويلة.
إنّ هذه المسألة مطروحة في ما يبدو في العصور السابقة، وقد نقل للجمهور أقوال فيها - كما سيأتي - ولكن لم تبلغنا فيها رواية عن الأئمة (علیهم السلام) . وأمّا فقهاء أصحابنا فأوّل من عثرت عليه ممّن تعرّض لهذه المسألة هو ابن الجنيد (قدس سره) فيما حُكي عنه: (ولا بأس أن يشترط الواقف تطوّعاً لنفسه ولمن يولّيه بعده صدقته الأكل لثمرتها أو لقيمتها إذا لم يجعل له تغيير أصلها وجنسها، وكان آخرها إلى أبواب البرّ من المساكين وغيرهم. وجماعة من أصحابنا منعوا من عود نفع الوقف إلى الواقف وقالوا: لا يجوز له أن يشترط إدرار مؤنته ولا الانتفاع به، لأنّها صدقة، فلا يجوز عود نفعها إليه؛ للأحاديث الدالّة على المنع منه)(1)، ولعلّ ظاهر العبارة أنّ المنع كان متقدّماً عليه،
ص: 161
ولم أعثر على من منع من السابقين عليه، وأيضاً يستفاد من عبارته أنّ مستند المنع هو الأحاديث.
والأقوال في المسألة أربعة:
الجواز، وهو ما ذهب إليه ابن الجنيد (قدس سره) - كما تقدّم - وغيره من المتأخّرين، قال الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره): (ولكنّ الظاهر عدم اقتضائها - أي اقتضاء قاعدة أنّ الوقف يقتضي نقل الملك والمنافع عن نفسه - بطلان اشتراط ذلك - أي اشتراط المنافع لنفسه - على جهة الاستثناء له من التسبيل الذي قصده بالوقف؛ لقاعدة المؤمنون والوقوف وغيرهما ..)(1).
وقال السيّد صاحب العروة (قدس سره): (إذا استثنى في ضمن إجراء الصيغة من منافع الوقف مقدار مؤنته ما دام حيّاً، أو استثنى نحو ذلك ممّا يعود إليه نفعه، فالظاهر عدم الإشكال فيه)(2).
وقال السيّد الخوئي (قدس سره): (بل لا يبعد صحّة وقف العين مع اشتراط بقاء منافعها على ملكه مدّة معيّنة كسنة، أو غير معيّنة مثل مدّة حياته)(3)، ومثله بعض تلامذته (قدس سرهما) (4).
وقال السيّد السيستاني (دام ظله العالی): (إذا استثنى في ضمن إجراء الوقف بعض منافع العين الموقوفة لنفسه صحّ؛ لأنّه يعدّ خارجاً عن الوقف لا من الوقف على نفسه
ص: 162
ليبطل، فيصحّ أن يوقف البستان ويستثني السعف وغصون الأشجار وأوراقها عند اليبس، أو يستثني مقدار أداء ديونه سواء أكان بنحو التوزيع على السنين كلّ سنة كذا، أو بنحو تقديم أداء الديون على الصرف من مصارف الوقف)(1).
المنع من استثناء الواقف المنافع لنفسه، وأوّل من عثرت على كلامه هو ابن إدريس (قدس سره) قائلاً: (والذي يقوى عندي أنّ الواقف لا يجوز له الانتفاع بما وقفه على حال)(2).
ومن بعده المحقّق الحلّي (قدس سره) قائلاً: (وكذا لو وقف على غيره وشرط قضاء ديونه أو إدرار مؤنته لم يصحّ)(3)، ووافقه الشهيد الأوّل، والمحقّق الكركي، والشهيد الثاني، والمحقّق السبزواري، وصاحب مفتاح الكرامة، وصاحب الرياض (قدس سرهم) (4).
وقال العلّامة (قدس سره): (ولو شرط قضاء ديونه أو إدرار مؤنته أو الانتفاع به بطل الوقف، بخلاف ما لو وقف على الفقهاء وهو منهم، أو على الفقراء فصار فقيراً فإنّه يشارك)(5).
ص: 163
وقال صاحب المناهل (قدس سره): (لو وقف مسكناً وشرط لنفسه السكنى فيه بطل كما صرّح به الحلّي في ما حكي عنه، وكذا صرّح به العلّامة في التحرير وتذكرة الفقهاء .. وبالجملة: لا يجوز للواقف أن يشرط الانتفاع بما وقفه بأي نحو كان، فلو شرط بطل الشرط .. بل الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه إلّا من الإسكافي على ما حكي، وهو ضعيف)(1).
ووافقه على ذلك السيّد الحكيم (قدس سره) قائلاً: (وأمّا إذا وقفها واشترط بقاء منافعها على ملكيته مدّة معيّنة كسنة، أو غير معيّنة مثل مدّة حياة ففي صحّته إشكال، لاحتمال رجوعه إلى الوقف على النفس، لأنّه الوقف على نحو يرجع بعض منافعه إليه، والأظهر البطلان)(2)، ومثله أستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) (3).
ما ذهب إليه كاشف الغطاء (قدس سره) من التفصيل، فبنى على عدم الجواز في حياة الواقف وجوازه بعد وفاته، فقال (قدس سره): (ولو شرط عوده إليه في وقف أو عند الحاجة أو وفاء ديونه أو الانتفاع به مدّة أو إعطاء نفقة زوجته أو مملوكه بطل، ويقوى عدم البأس في العمودين. ولو شرط أكل أهله صحّ. ولو شرط إجارة عبادة تجوز عن الأحياء وكان حيّاً كزيارة وحجّة ونحوهما قوي البطلان.
ص: 164
ولو شرط ردّ مظالم عنه أو صدقة أو عبادة أو أداء ديون لزمته في حياته ونحو ذلك قوي القول بالصحّة، وكذا لو وقف على مصارف الأموات فمات. ويمكن إلحاق ذلك بتبدّل الجهات، ويمكن أن يقال بتبدّل الموضوع بذهاب الحياة)(1).
صحّة الوقف وبطلان خصوص الشرط، وهو ما بنى عليه السيّد البجنوردي (قدس سره) (2)، واحتمله صاحب المناهل (قدس سره) (3)، والكلام في هذا القول سيأتي عند الكلام في حدود المسألة. هذا كلّه بالنسبة إلى فقهائنا.
وأمّا فقهاء الجمهور فقد قال ابن قدامة: (إنّ الواقف إذا اشترط في الوقف أن ينفق منه على نفسه صحّ الوقف والشرط، نصّ عليه أحمد .. وقال القاضي: يصحّ الوقف رواية واحدة، لأنّ أحمد نصّ عليها في رواية جماعة، وبذلك قال: ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف والزبير وابن شريح، وقال مالك والشافعي ومحمّد بن الحسن: لا يصحّ الوقف، لأنّه إزالة الملك فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه)(4). ولم يجز جمهور المالكية ذلك إلّا إذا كان ما استثناه من منفعة الوقف شيئاً يسيراً بحيث لا يتّهم بأنّه أراد حرمان الورثة(5).
ص: 165
قد استدلّ على كلّ من القولين الأوّل والثاني - ومنه تتبين أدلّة القول الثالث - تارة بمقتضى القاعدة، وأخرى بالأدلّة الخاصّة:
أ - أمّا القول الأوّل وهو جواز استثناء منافع الوقف لنفسه فقد استدلّ عليه غير واحد(1)بالأدلّة العامّة وهي ثلاثة:
1 - عموم ما دلّ على أنّ الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها.
2 - عموم المؤمنون عند شروطهم.
3 - عموم لزوم الوفاء بالعقود.
ب - وأمّا الأدلّة الخاصّة فهي ثلاثة أيضاً:
1 - رواية أبي الجارود.
2 - ما روي من وقف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) والصرف على أضيافه.
3 - ما روي من استثناء أمير المؤمنين (علیه السلام) نفقة بعض عمّاله وأهاليهم من منافع أوقافه.
أ - أمّا الأدلّة العامّة على القول الأوّل فهي:
1 - عموم ما دلّ على أنّ الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها، وهو ما رواه المشايخ الثلاثة من توقيع العسكري (علیه السلام): (الوقوف [تكون.فقيه] على حسب ما يوقفها
ص: 166
[يقفها.كا] أهلها إن شاء الله [تعالى.فقيه]).
فقد رواه الكليني(1) عن محمّد بن يحيى، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمّد (علیه السلام)، ورواه الصدوق قائلاً: (كتب محمّد بن الحسن الصفّار (رضوان الله تعالی علیه) إلى أبي محمّد الحسن بن عليّ (علیهما السلام) في الوقوف وما روي فيها عن آبائه (علیهم السلام)، فوقّع (علیه السلام) ..)(2)، ورواه الشيخ أيضاً قائلاً: (وكتب محمّد بن الحسن الصفّار إلى أبي محمّد (علیه السلام) في الوقوف وما روي فيها، فوقّع (علیه السلام) ..)(3).
ولا غبار على سند الصدوق والشيخ، لوثاقة الصفّار صاحب المكاتبة وسندهما إليه معتبر(4)، وقد ذكر الصدوق(5) أنّ مكاتبات الصفّار مع العسكري (علیه السلام) بخطّه موجودة عنده.
ص: 167
وأمّا سند الكليني فقد يقال: إنّه صحيح أيضاً؛ إذ شيخه محمّد بن يحيى العطّار ثقة، وظاهره أنّه قد اطّلع على المكاتبة بشكل مباشر وعرف صحّة انتساب الخطّ إلى الإمام (علیه السلام) . ولعلّه لذا بنى المجلسي (رحمة الله) (1) على صحّة السند.
ولكن قد يشكل على ذلك بأنّه لا يعدو كونه قد جزم بما كتبه بعض أصحابنا من دون جزم بخطّ الإمام وصحّة المكاتبة، إلّا إذا كان قد علم بكون البعض هو الصفّار، فتأمّل.
وحاصل الاستدلال بهذا النصّ أنّ المقصود من قوله (علیه السلام): (الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها) هو الإلزام بالعمل بمقتضى الوقف بحسب ما يوقفه أهله، وعمومه يفيد العمل بمقتضاه بجميع كيفياته وأنحائه، والشرط من جملة الأنحاء والكيفية، فيجب العمل بمفاده.
وقد يناقش في ذلك - بنظير ما أفاده أستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) في مقام آخر(2)-: أنّه لم يتّضح صدق الوقف مع عدم انقطاع الواقف عن الموقوف؛ لقرب كون الوقف من سنخ الصدقة المبنيّة على حرمان النفس وإيثار الغير، فلا يحرز صدقه عرفاً في المقام، ليتمسّك لصحّته بإطلاق أدلّته المقامية أو اللفظية لو كانت.
ويمكن التأمّل فيه بأنّه إذا كان المقصود هو انقطاع ملكية الواقف عن رقبة الموقوف فمن الواضح تحقّق ذلك في المقام، إذ هو قد حرم نفسه ممّا وقفه وقام بإيثار الغير. وأمّا إذا كان المقصود هو انقطاعه عن الموقوف انقطاعاً تامّاً أصلاً ومنفعة
ص: 168
وعلى شكل الدوام فهو ممّا لا شاهد على اشتراطه فيه، كما هو الحال في الصدقة، فقد تقدّم آنفاً في حقيقة الوقف أنّه ليس إلّا تحبيس الأصل، وأمّا تسبيل منافعه كلّها فهو ليس من مقوّماته، بل هو ممّا يقتضيه إطلاقه، فلا ينافي الوقف استثناء المنفعة من قبل الواقف لنفسه مدّة من الزمن حتّى لو كانت كلّ المنافع فضلاً عمّا إذا كان البعض منها.
وإلّا فماذا يقال في وقف العين واشتراط وفاء ديونه الشرعية أو غيرها بعد وفاته من وارداتها، وقد أفتى أستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) بصحّة ذلك(1)؟!
2 - وأمّا عموم (المسلمون عند شروطهم)، أو (المؤمنون عند شروطهم) فقد وردت في معتبرة عليّ بن رئاب(2)، ومعتبرة منصور بن بزرج(3)، ومعتبرة الحلبي(4)، ومعتبرة سليمان بن خالد(5)، وغيرها من الروايات المعتبرة، فيمكن أن يقال: إنّها مستفيضة عنهم (علیهم السلام) .
وحاصل الاستدلال بهذا العموم هو أنّ هذا التعبير كغيره من الجمل الخبرية
ص: 169
التي تقوم مقام الإنشاء، ويكون مفاده نفوذ الشرط، وأنّ المؤمنين أو المسلمين ملزمون بالوفاء بالشروط مطلقاً، وشرط بقاء المنافع للواقف من جملة هذه الشروط، فهو نافذ.
ولا فرق في ذلك بين البناء على كون الوقف عقداً أو إيقاعاً؛ فإنّ النصّ شامل لكلّ شرط سواء كان في العقد أو الإيقاع، بل قال البعض: إنّه شامل للشروط الابتدائية.
وقد منع أستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) (1) من شمول دليل نفوذ الشروط للمقام، من جهة أنّه ظاهر في نفوذ الشرط للمشروط له على المشروط عليه، ولا مشروط عليه في المقام.
وقد يناقش في ما ذكره بأنّه ليس المراد من الشرط في النصّ المذكور غير الإلزام والالتزام - كما ذكره اللغويون(2)-، ولا دخالة في وجود مشروط عليه في تحقّقهما كما هو واضح.
اللهم إلّا أن يقال: إنّ مفاد الروايات المتعلّقة إنّما هو لزوم الوفاء بالشرط، ومن يصحّ أن يكون مخاطباً بذلك هو المشروط عليه، فلا بدّ من افتراض وجوده.
ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنّ المتفاهم العرفي من دليل لزوم الوفاء بالشرط هو المفروغية عن نفوذ الشرط، وإنّما كان الإمام (علیه السلام) بصدد بيان وجوب أن يفي المشروط عليه للمشروط له بشرطه، فليتأمّل.
مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ المشروط عليه في المقام هو متولّي الوقف أو
ص: 170
الموقوف عليهم، فيلزمهم تمكين الواقف من المنافع المستثناة وعدم الاستحواذ عليها، فلا إشكال في شمول دليل نفوذ الشرط لمحلّ الكلام.
ونظير ذلك ما ورد في مضمرة حمران(1)- التي استدلّ بها (مد ظله) في بعض كلماته(2)- قال: سألته عن السكنى والعمرى؟ فقال: (إنّ الناس فيه عند شروطهم، إن كان شرطه حياته سكن حياته، وإن كان لعقبه فهو لعقبه كما شرط، حتّى يفنوا، ثمّ يردّ إلى صاحب الدار)، حيث يلاحظ أنّ الإمام (علیه السلام) عبّر بقوله: (الناس فيه عند شروطهم) مع أنّ السكنى والعمرى كالوقف من الإيقاعات، والمشروط عليه فيهما - إن كان - فليس هو سوى من يجعل له الإسكان أو ما بحكمه، فلِم لا يكون في الوقف الموقوف عليهم؟!
هذا، وقد يقال - كما تقدّم نظيره -: إنّ من الأمور المعتبرة في صحّة الشرط هو أن لا يكون منافياً لمقتضى العقد وإلّا لم يصحّ(3)، وفي المقام شرط استثناء المنافع منافي لمقتضى الوقف - كما سيأتي عن المانعين - فلا يصحّ.
والجواب عنه: أنّه لا منافاة في البين، وإنّما الثابت هو منافاة هذا الشرط لإطلاق الوقف، ولا ضرر في ذلك؛ فإنّ المعتبر في صحّة الشرط هو عدم منافاته لمقتضى العقد لا لإطلاقه، وسيأتي التفصيل في ذلك.
ولو شكّ في منافاة الشرط لمقتضى الوقف فما هو المرجع؟
ص: 171
ذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1) أنّ المرجع عند الشكّ في مخالفة الشرط لمقتضى العقد هو أصالة عدم المخالفة، فيشمله عموم (المؤمنون عند شروطهم)، فإنّه وإن كان الخارج عن هذا العموم هو الشرط المخالف لمقتضى العقد واقعاً لا ما علم مخالفته، إلّا أنّ البناء على أصالة عدم المخالفة يكفي في إحراز عدمها واقعاً كما في سائر مجاري الأصول.
وقد وافقه على ذلك الميرزا حبيب الله الرشتي والآخوند (قدس سرهما) (2)، قال الثاني: (ومع عدم ثبوت المنافاة صحّ التمسّك بعموم (المؤمنون عند شروطهم) بضميمة أصالة عدم كون الشرط ممّا وقع بينه وبين مقتضى العقد المنافاة، ومثله باقٍ تحت العموم).
ولكن يمكن أن يورد على ما ذكروه بأمرين:
الأوّل: ما ذكره المحقّق الأصفهاني (قدس سره) (3) من أنّ هذا الأصل من الأصول المثبتة؛ وذلك لأنّ منافاة الشرط لمقتضى الوقف ليست بحكم شرعي ولا موضوع له، وقد ذكر في محلّه أنّه لا يكون مجرى للاستصحاب إلّا الحكم الشرعي أو موضوعه، وإنّما يجرى الأصل هنا لإحراز شمول (المؤمنون عند شروطهم) له.
الثاني: ما أفاده السيّد الخوئي (قدس سره) في مبحث مخالفة الشرط للكتاب والسنّة(4)
ص: 172
- ووافقه عليه السيّد الروحاني (قدس سره) (1)- على القول بعدم صحّة استصحاب العدم الأزلي من أنّه لا حالة سابقة لمورد الأصل المدّعى كي تستصحب؛ وذلك لأنّ وصف المنافاة أو عدمها لازم للشرط من حين حدوثه، وليس للشرط حالة سابقة كي تستصحب، فجريان هذا الأصل يبتني على مسألة جريان استصحاب العدم الأزلي، وهو محلّ بحث في علم الأصول.
3 - وأمّا إطلاق قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فالمراد بالعقد مطلق العهد - كما فسّر به في معتبرة ابن سنان(2)- أو ما يسمّى عقداً لغة وعرفاً وهو شامل لكلّ عهد أو عقد كان مع الناس أو مع الباري عزّ وجلّ كالنذر والوصية ومنها الوقف، والمراد بوجوب الوفاء هو العمل بما اقتضاه هذا الالتزام في نفسه بحسب دلالته اللفظية، وعليه يحرم بإطلاق الآية جميع ما يكون نقضاً لمضمون الوقف الذي تضمّن شرط بقاء المنفعة للواقف.
ص: 173
فسواء قلنا إنّ الوقف من العقود - كما ذهب إليه جمع - أو إنّه من الإيقاعات الملزمة - كما ذهب إليه آخرون - فالآية شاملة له، لما ذكره غير واحد من أنّ المقصود بالعقد فيها ما يعمّ العقود والإيقاعات والشروط والالتزامات.
قال الشيخ الطوسي (قدس سره): (العقود جمع عقد، وأصله عقد الشيء بغيره وهو وصله به كما يعقد الحبل إذا وصل به شيئاً. يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقداً فهو يعقده. قال الحطيئة:
قَوْمٌ إِذا عَقَدوا عَقْداً لجارِهمُ *** شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقَه الكَرَبَا
وذلك إذا واثقه على أمر عاهده عليه عهداً بالوفاء له بما عاقده عليه من أمان أو ذمّة أو نصرة أو نكاح أو غير ذلك(1))(2)، ثمّ ذكر عدّة أقوال وعلّق قائلاً: (وأقوى هذه الأقوال ما حكيناه عن ابن عبّاس أنّ معناه أوفوا بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها في ما أحل لكم وحرّم، وألزمكم فرضه، وبيّن لكم حدوده. ويدخل في جميع ذلك ما قالوه إلّا ما كان عقداً على المعاونة على أمر قبيح، فإنّ ذلك محظور بلا خلاف)(3).
وقد منع أستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) (4) من الاستدلال بعموم نفوذ العقود بدعوى أنّ الوقف ليس عقداً، ولكن قد تبيّن أنّ العقد في الآية يعمّ العقود الاصطلاحية
ص: 174
والإيقاعات والالتزامات بشهادة اللغة والنصّ.
ب - وأمّا الأدلّة الخاصّة فقد استدلّ على صحّة استثناء المنافع أو اشتراط بقاء بعض المنافع للواقف ..
1 - بما رواه الكليني والشيخ، عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): (لا يشتري الرجل ما تصدّق به، وإن تصدّق بمسكن على ذي قرابته فإن شاء سكن معهم، وإن تصدّق بخادم على ذي قرابته خدمته إن شاء)(1)، فإنّه قد ذكر غير واحد منهم الشيخ (قدس سره) (2) بأنّ المستفاد منها جواز أن يسكن الإنسان داراً أوقفها مع من وقفها عليه، وذلك لا يكون إلّا بوجوه محدّدة، منها أن يكون عنوان الموقوف عليهم منطبقاً عليه، أو يجعل نفسه هو الناظر على الوقف وقد اشترط في الوقف أن يكون للمتولّي حقّ الانتفاع من الوقف، أو يكون قد استثنى بعض المنافع لنفسه، ولم يمنع الإمام (علیه السلام) من أيّ من هذه الوجوه، فيثبت المطلوب.
ولكن يمكن المناقشة في دلالة الرواية:
أوّلاً: أنّه ليس من المعلوم أنّ ما تصدّق به كان على نحو الوقف، بل يحتمل أن
ص: 175
يكون على نحو السكنى مدّة من الزمن أو العمرى(1)، أو أنّ ذلك يكون بإذن الموقوف عليه(2)، فلا يكون له علاقة بمحلّ الكلام.
ولكن لا يحمل التصدّق على السكنى ونحوها إلّا مع القرينة، فالمتبادر من الصدقة هو الوقف أو نحوه ممّا يوجب نقل الملكية والتأبيد، ولا يوجد في المقام قرينة على السكنى ونحوها.
وقد يقال: إنّ نفس جواز السكن معهم مع أنّ المنصرف من تصدّقه بالمسكن هو التصدّق بتمامه، وكذا قرن التصدّق بالمسكن بالتصدّق بالخادم مع بقائه في خدمته أيضاً، قرينة على أنّ المراد هو السكنى ونحوها، فليتأمّل.
نعم، حمل الرواية على إذن الموقوف عليهم لا يخلو من بعد، فهو بلا شاهد.
وقد يقال: إنّ الضمير في (إن شاء) يرجع إلى الموقوف عليهم أو قرابته، وهو يدلّ على لزوم موافقتهم على ذلك.
ولكنه ليس بصحيح؛ إذ الضمير راجع إلى الواقف نفسه كما هو واضح.
وكيف ما كان فالظاهر أنّ المنظور في الرواية أنّه يجوز للرجل أن يسكن مع ذي قرابته، ويجوز أن يستخدم خادمه من جهة أنّه من شؤونهم حسب طبيعة الحياة من سكن الأقارب معاً، وخدمة العبد المملوك لهم جميعاً.
ص: 176
وقد قيّده بذي قرابته، ولو أراد استثناء بعض منافعه لنفسه لم يقيّده بذلك، على أنّه كان يسعه أن يكتفي بأن يقول: (إن تصدّق بمسكن على ذي قرابته واشترط السكن معهم فإن شاء سكن معهم).
وثانياً: أنّ سند هذه الرواية غير معتبر، لأنّ أحمد بن عديس لم يوثّق.
وأمّا أبو الجارود فقد وقع الكلام في وثاقته فبنى على وثاقته الفاضل الخاجوئي والمحقّق النراقي والسيّد الخوئي (قدس سرهم) (1) والسيّد السيستاني (دام ظله العالی) وأستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) (2)، وضعّفه آخرون، منهم المحقّق الحلّي والفاضل الآبي والعلّامة الحلّي وصاحب المدارك والمجلسي الأوّل في بعض كلماته والشيخ الأنصاري والمحقّق الداماد (قدس سرهم) (3)، في حين بنى جمع على وثاقته قبل تغيّره وانتحاله مذهباً فاسداً، منهم المجلسي الأوّل في بعض كلماته(4)واحتمله بعض أساتيذنا (دامت برکاته) (5).
وقد ذكروا عدّة وجوه للبناء على وثاقته:
ص: 177
الوجه الأوّل: ما ذكره المفيد (قدس سره) (1) في ضمن رسالته في الردّ على أصحاب القول بالعدد في شهر رمضان قائلاً: (وأمّا رواة الحديث بأنّ شهر رمضان شهر من شهور السنة يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً فهم فقهاء أصحاب أبي جعفر محمّد بن عليّ وأبي عبد الله جعفر بن محمّد وأبي الحسن موسى بن جعفر وأبي الحسن عليّ بن موسى وأبي جعفر محمّد بن عليّ وأبي الحسن عليّ بن محمّد وأبي محمّد الحسن ابن عليّ بن محمّد (صلوات الله عليهم)، والأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم، وهم أصحاب الأصول المدوّنة، والمصنّفات المشهورة .. وقد فصّلت أحاديثهم بذلك في كتابي المعروف ب-(مصباح النور في علامات أوائل الشهور)، وأنا أثبت من ذلك ما يدلّ على تفصيلها إن شاء الله .. وروى محمّد بن سنان عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ ..).
ومثل هذه التعابير: (فقهاء أصحاب أبي جعفر ..)، و(الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام)، و(الذين لا يطعن عليهم)، و(لا طريق إلى ذمّ واحد منهم) تدلّ بوضوح على علوّ شأنهم - ومنهم أبو الجارود - ووثاقتهم واعتبار رواياتهم.
ولكن قد يشكل عليه بأنّه - بالرغم من وجود كبار الأصحاب فيهم كأبي الصباح الكناني، ومنصور بن حازم، وابن أبي يعفور، وهارون بن حمزة الغنوي، والفضل بن عبد الملك، وأبي أيّوب الخزّاز، ومحمّد بن عليّ الحلبي - من المعلوم أنّ هذه الأوصاف
ص: 178
لا تنطبق على جميع من ذكر؛ فإنّ بعضهم ممّن رموا بالضعف والغلوّ كمحمّد بن الفضيل الصيرفي، وبعضهم من أصحاب المذاهب الباطلة كعمّار بن موسى الساباطي وكرّام الخثعمي وأبي الجارود، وبعضهم كان ممّن رمي بالتخليط كجابر الجعفي، وبعضهم لم يرو إلّا روايات محدودة، وبعضهم كان مجهولاً .. إلى غير ذلك من العلل المانعة من انطباق هذه الأوصاف عليهم، فهل يصحّ أن يقال عن هؤلاء: (الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام) و(الذين لا يطعن عليهم) و(لا طريق إلى ذمّ واحد منهم)؟!
فلذا علّق التستري (قدس سره) (1) قائلاً: إنّ الشيخ المفيد كان قد عدّهم من غير مراجعة، فعدّ جمعاً ممّن قد اتّفقوا على الطعن فيهم.
إن قيل: إنّ ما ذكره إنّما هو ما تولّد من قناعته بهم، وقد خالفه آخرون، وليس بعزيز اختلافهم في توثيق رجل.
قيل: ليس مؤدّى ما ذكره الشيخ المفيد (قدس سره) في رسالته مجرّد التوثيق كي يقال ذلك، بل تعدّى ذلك ليصفهم بالرؤساء والأعلام وليس عليهم من مطعن ونحو ذلك، وهذا لا يجتمع مع الصفات المذكورة فيهم.
فلعلّ الأولى أن يقال - كما ذكره بعض أساتيذنا (دامت برکاته) -: (إنّ ما ذكره مبنيّ على ضرب من التغليب، وربما بغرض مزيد من التأكيد على بطلان القول بالعدد)(2)؛ فإنّه لا تعدّ مثل هذه الكلمات توثيقاً أو اعتداداً بالرواة أنفسهم، وإنّما هي طرق
ص: 179
لإثبات مقبولية هذه الروايات لا غير.
نعم، قد يقال: إنّه خلاف الظاهر؛ إذ ظاهر كلامه (قدس سره) أنّه يريد توثيقهم ولا سيما أنّه قد عدّ جملة من أسماء الرواة من غير أن يذكر رواياتهم، وحمله على ما ذكر يحتاج إلى القرينة.
ولكن يجاب عن ذلك بأنّه لا غاية له من عدّ الرواة في كتاب جوابات أهل الموصل إلّا الإشارة إلى الروايات التي أوردها في كتابه مصباح النور - الذي ذكره عدّة مرّات -، فمحلّ كلامه هو الروايات وأنّها معتبرة، وليس مقصوده توثيق هؤلاء الرواة.
إلّا أنّه يبقى أنّ عباراته صريحة في التوثيق كقوله: (الذين لا يطعن عليهم)، وكذا قوله: (لا طريق إلى ذمّ واحد منهم) وهي صريحة في أنّهم جميعهم كذلك. نعم، (الأعلام الرؤساء) يمكن حمله على الأغلب.
هذا، ومن الملفت للانتباه أنّ الشيخ المفيد (قدس سره) قد روى عن أبي الجارود في هذه الرسالة من طريق محمّد بن سنان في حين قال عنه ابن الغضائري: إنّ (أصحابنا يكرهون ما رواه محمّد بن سنان عنه) الظاهر في عدم اعتمادهم رواياته من هذا الطريق، فلعلّ ذلك يشهد بأنّ الشيخ المفيد إنّما قصد الرواة والروايات في الجملة لا بالجملة.
الوجه الثاني: ظهور كلام ابن الغضائري في وثاقته واعتماد رواياته، حيث قال: (زياد بن المنذر أبو الجارود .. وأصحابنا يكرهون ما رواه محمّد بن سنان عنه، ويعتمدون ما رواه محمّد بن بكر الأرحبي)(1).وقد استفاد منها غير واحد وثاقة نفس أبي الجارود وقبول رواياته، إذ كان
ص: 180
الأصحاب يعتمدون على ما رواه، وإنّما يكرهون ما رواه عنه محمّد بن سنان لعلّة فيه.
ولكن ذكر بعض أساتيذنا (دامت برکاته) أنّه (يمكن يناقش هذا الكلام أوّلاً: بأنّ أقصى ما يدلّ عليه اعتماد الأصحاب على روايات الأرحبي عن أبي الجارود هو أنّ أبا الجارود لم يكن من الضعفاء جداً الذين لا يعتدّ بشيء من رواياتهم أصلاً - بل كان مقبول الرواية في الجملة -، وأمّا كونه ثقة فلا دلالة في ما ذكر عليه، فليتدبّر.
وثانياً: أنّه يحتمل أن يكون الوجه في ما ذكره ابن الغضائري من التفريق بين ما رواه الأرحبي عن أبي الجارود، وما رواه ابن سنان عنه هو اختلاف حال أبي الجارود نفسه، فقد قال النجاشي: إنّه (روى عن أبي عبد الله (علیهم السلام) وتغيّر لما خرج زيد (رضی الله عنه) )(1) في الإشارة إلى صيرورته زيدياً وتزعّمه فرقة من فرق الزيدية، وهي الجارودية.
فلعلّ كراهة أصحابنا لما كان يرويه محمّد بن سنان عنه هي من جهة أنّه أدركه بعد تغيّره، بخلاف محمّد بن بكر الأرحبي إذ كانت روايته عنه قبل ذلك، فليتأمّل)(2).
وقد ذكر (دامت برکاته) في وجه التأمّل أنّ الشيخ ذكر في رجاله أنّ محمّد بن بكر الأرحبي مات سنة إحدى وسبعين ومائة وله سبع وسبعون سنة، وخروج زيد كان سنة (118 ﻫ)، فيستبعد أن تكون رواية الأرحبي عن أبي الجارود قبل تغيّره خاصّة.
الوجه الثالث: وروده في أسانيد كامل الزيارات، وهذا على مبنى من يرى وثاقة كلّ من جاء في أسانيد رواياته كأستاذنا السيّد الحكيم (مد ظله) (3)، وقد خالفه سيّد
ص: 181
أساتيذنا السيستاني (دام ظله العالی) (1)، بل عدل عنه السيّد الخوئي (قدس سره) (2).
وقد فصّل البحث عنه بعض أساتيذنا (دامت برکاته) (3)بما يغني عن الحديث عنه، ومحصّل ما أفاده أنّه لا يفي بوثاقة كلّ من وقع في أسانيده.
الوجه الرابع: وقوعه في أسانيد تفسير القمّي، وذلك على مبنى من يرى وثاقة من يقع في أسانيده، كما هو مسلك السيّد الخوئي (قدس سره) (4).
وقد ناقش بعض أساتيذنا (دامت برکاته) (5)- تبعاً للسيّد السيستاني (دام ظله العالی) - في هذا الوجه صغرى وكبرى، فهو يشكّك في صحّة نسبة هذه العبارة إلى عليّ بن إبراهيم القمّي، مضافاً إلى عدم استفادة التوثيق منها.
والحاصل: أنّ القدر المتيقّن ممّا ذكره ابن الغضائري هو أنّه يمكن الاعتماد على أبي الجارود في الجملة، والاقتصار على ما رواه الأرحبي عنه، وفي مقامنا الراوي عنه ليس هو الأرحبي بل هو أبان، فلذا لدينا علّتان في هذا السند: عدم وثاقة أحمد بن عديس وأبي الجارود.
2 - وقد يستدلّ أيضاً على جواز أن يستثني الواقف المنافع لنفسه بما روي من أنّ
ص: 182
الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) كان ينفق على أضيافه ممّا أوقفه، وهو ما رواه الحميري، عن أحمد ابن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: وسألته - أي الرضا (علیه السلام) - عن الحيطان السبعة، قال: (كانت ميراثاً من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقف، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يأخذ منها ما ينفق على أضيافه، والنائبة تلزمه، فلمّا قبض جاء العبّاس يخاصم فاطمة (علیها السلام) فشهد عليّ (علیه السلام) وغيره أنّها وقف، وهي: الدلال، والعواف، والحسنى، والصافية، ومال أم إبراهيم، والميثب، والبرقة)(1).
وروى الكليني عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن أبي الحسن الثاني (علیه السلام) قال: سألته عن الحيطان السبعة التي كانت ميراث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لفاطمة (علیها السلام) فقال: (لا، إنّما كانت وقفاً، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه، والتابعة يلزمه فيها، فلمّا قبض جاء العبّاس يخاصم فاطمة (علیها السلام) فيها فشهد عليّ (علیه السلام) وغيره أنّها وقف على فاطمة (علیها السلام)، وهي: الدلال، والعواف، والحسنى، والصافية، ومال أم إبراهيم، والميثب، والبرقة)(2)، ومثله ما رواه الصدوق والشيخ مرسلاً(3). ومن القريب اتحاد الروايتين.
وإسناد الحميري معتبر، وأمّا إسناد الكليني فقد يشكل بالإرسال؛ لأنّ الظاهر أنّ أحمد بن محمّد هو البزنطي بقرينة إسناد الحميري المتقدّم، ولا يروي محمّد بن يحيى عنه إلّا بواسطة، لأنّ محمّد بن يحيى من الطبقة الثامنة، والبزنطي من الطبقة السادسة،
ص: 183
ومثله لا يروي عن مثله مباشرة.
ولكن قد يجاب عن ذلك بأنّه وإن كان محمّد بن يحيى لا يروي عن ابن أبي نصر إلّا بواسطة، ولكن الوسائط بينهما أحد ثلاثة: أحمد بن محمّد بن عيسى، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، وسهل بن زياد، والأخير لم يتوسّط إلّا في سند واحد من بين ما يقارب (50) رواية، فاحتمال توسّطه في سند الرواية ضعيف لا يعتدّ به، والأوّلان كلاهما ثقة، فيكون السند معتبراً.
ولا يبعد أن يكون الوسيط هو أحمد بن محمّد بن عيسى كما في سند الحميري المتقدّم، وقد نبّه السيّد الخوئي (قدس سره) على حذف اسم أحمد بن محمّد بن عيسى في عدّة موارد(1)، ولا يبعد حذفه هو أو أحمد بن محمّد بن أبي نصر اشتباهاً.
وقد تقدّم(2) أنّ هذه الأرض كانت لمخيريق، وأنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أوقفها بعد مقتله، ويمكن الاستدلال بها على محلّ الكلام، فإنّ رسول الله إنّما يأخذ منها ما ينفق على أضيافه وهي وقف، فلا بدّ أنّه استثنى بعض المنافع لنفسه كي ينفق منها على أضيافه أو بعض الأمور الأخرى.
قال صاحب الحدائق (قدس سره): (وظاهر الخبر المذكور أنّه (صلی الله علیه و آله و سلم) وقف هذه الحوائط في حياته على فاطمة (علیها السلام) وشرط الإنفاق منها على أضيافه وما ينوبه، وهو المشار إليه بالتابعة أي ما يتبع الإنسان ممّا يهمّه ويعينه)(3).
ص: 184
ولا فرق في الوقف بين أن يكون وقفاً في سبيل الله، أو وقفاً على الزهراء (علیها السلام) - كما في معتبرة ابن أبي نصر -؛ فإنّ المنفعة المستثناة في كليهما ممّا تعود إلى الواقف.
وقد يقال: إنّ العنوان الذي تمّ الوقف عليه يشمل ما يصرف على الضيوف ونحوه، فلا يكون لأجل استثناء المنافع للواقف، فالصدقة لا تختصّ بالفقراء، بل يمكن أن تكون في مطلق وجوه البرّ. مع أنّه يمكن أن يقال: إنّه (صلی الله علیه و آله و سلم) قد استأذن من الزهراء (علیها السلام) في ذلك، فليتأمّل(1).
3 - ولعلّه يمكن أن يستدلّ بما صنعه أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصيته في أمواله، كما في معتبرة عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: بعث إليّ أبو الحسن موسى (علیه السلام) بوصية أمير المؤمنين (علیه السلام)، وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله عليّ ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنّة، ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عني يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه: أنّ ما كان لي من مال بينبع - يُعرف لي فيها وما حولها - صدقة ورقيقها، غير أنّ رباحاً وأبا نيزر وجبيراً عتقاء ليس لأحد عليهم سبيل، فهم موالي يعملون في المال خمس حجج، وفيه نفقتهم ورزقهم وأرزاق أهاليهم .. وما كان لي بديمة وأهلها صدقة غير أنّ زريقاً له مثل ما كتبت لأصحابه ..)(2).
ص: 185
وفي خبر عبد الرحمن، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: (أوصى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: إنّ أبا نيزر ورباحاً وجبيراً عتقوا على أن يعملوا في المال خمس سنين)(1).
وفي معتبرة أبي العبّاس، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألته عن رجل قال: غلامي حرّ وعليه عمالة كذا وكذا سنة. قال: (هو حرّ، وعليه العمالة). قلت: إنّ ابن أبي ليلى يزعم أنّه حرّ وليس عليه شيء. قال: (كذب، إنّ عليّاً (علیه السلام) أعتق أبا نيزر وعياضاً ورياحاً وعليهم عمالة كذا وكذا سنة، ولهم رزقهم وكسوتهم بالمعروف في تلك السنين)(2).
والمستفاد من هذه النصوص أنّ كلَّاً من أبي نيزر ورباح أو رياح وجبير أو عياض كانوا من الموالي الذين اعتقوا بشرط أن يستمرّوا بالعمل لسنين محدّدة، ولهم نفقتهم وأهليهم من منفعة هذا الوقف.
فيمكن أن يقال: إنّ هؤلاء الموالي في فترة عملهم ليسوا أحراراً بل هم موالي حتّى يتمّوا ما اشترط عليهم، ومن ثَمّ فنفقتهم ونفقة أهاليهم في هذه الفترة على مولاهم وهو أمير المؤمنين (علیه السلام)، فاستثناء هذه النفقة إنّما هو استثناء لما تعود منفعته للواقف، فيمكن الاستدلال بها في المقام.
ولكن قد يقال: إنّ ما استثناه أمير المؤمنين (علیه السلام) إنّما هو أجرهم على عملهم وليس نفقتهم، فتكون أجنبيّة عن محلّ الكلام.
ويجاب عن ذلك: بأنّ عمل المولى في الأرض إنّما هو ملك لمولاه ما دام لم يعتق،
ص: 186
فلا يكون له في مقابله أجر، إلّا إذا أراد المولى أن يجعل له على ذلك أجراً. وممّا يؤيّد عدم كون ذلك أجراً في قبال عملهم أنّه لم تذكر نفقتهم ولا نفقة أهاليهم في خبر عبد الرحمن المتقدّم.
ولكن هناك كلام في أنّ نفقة زوجة المولى في فترة المكاتبة هل تكون على زوجها أو على السيّد، هذا فيما إذا لم تكن أمة للسيّد، وإلّا فإنّ نفقتها على مولاها، ولا يعلم حال المذكورين في زمن الإمام (علیه السلام)، وهل كانت زوجاتهم وأهاليهم مملوكين للإمام (علیه السلام) أو لا؟ وهل كانت مكاتبتهم مشروطة أو مطلقة؟ فليتأمّل.
هذا، ولا وجه لتأييد ما ذكر من استثناء الواقف المنافع لنفسه بما رواه الصدوق والشيخ، عن مهران بن محمّد، قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) أوصى أن يناح عليه سبعة مواسم، فأوقف لكلّ موسم مالاً ينفق [فيه.فقيه])(1). فإنّه لا يبعد أن يكون المراد من الوقف هنا بمعنى الجعل والتحديد، فيكون مؤدّى الرواية هو الوصية لا غير.
هذا ما أردنا التعرّض له في هذه الحلقة، وستأتي بقية الكلام في الحلقة اللاحقة إن شاء الله تعالى.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* * *
ص: 187
ص: 188
يتناول هذا البحث مفردة هامّة من مفردات الفقه الحديث، لها حضور واسع في كلمات علمائنا الأعلام (رضوان الله تعالى عليهم) منذ عصر الفقيه الهمداني (قدس سره) حتّى يومنا هذا، وهي (مسألة مناسبات الحكم والموضوع).
وقد حاولنا من خلاله استنطاق كلمات العلماء في موارد توظيفهم لهذه المناسبات، وما تنطوي عليه هذه الكلمات من فوائد وفرائد علميّة كثيرة لها دورها البارز في استنباط الحكم الشرعيّ من مظانّه المقرّرة، وما ذاك إلّا من أجل رسم حدود القاعدة وأبعاد المسألة، وإعطاء القانون وتأصيل الضابطة.
ص: 189
ص: 190
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
وبعد، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع عند بعض العلماء من القرائن المهمّة التي يعوّل عليها الفقيه في كثير من المقامات، ولكنّها عند بعضهم من الأدلّة المستقلّة، ولو فتّشت في بحوث علمائنا المعاصرين لعلّك لن تجدَ - في الجملة - فقيهاً واحداً لا يعمل بهذه المناسبات في أبحاثه الفقهية والأصولية، ويعبّرون عنها غالباً بأنّها قرائن عرفية ارتكازية من قبيل القرائن اللبّية المتّصلة التي تصرف الكلام عن ظاهره.
ومن خلال هذا البيان الموجز لطبيعة مناسبات الحكم والموضوع نكون قد وضعنا أناملنا على الوجه الصناعي لحجّيتها، فهي ترجع وفق رأي بعض العلماء إلى نحوٍ من أنحاء الظهور، وإذا كان الظهور حجّة فلا يفرّق فيه بين مناشئ تحقّقه. وأمّا من يسمّي حكمة التشريع باسم مناسبة الحكم والموضوع فليس الوجه في حجّيتها عنده منحصراً في رجوعها إلى الظهور، بل ربّما رجع إلى حجّية القطع، أو حجّية
ص: 191
الاطمئنان. وهناك رأي آخر لبعض العلماء يرى أنّ مناسبة الحكم والموضوع دليلٌ مستقلّ؛ ولذا يمكن الاعتماد عليها حتّى في الأدلّة اللبّية كالإجماع مثلاً، والقائل بذلك هو المحقّق الأصفهاني (قدس سره)، وسيأتي التعرّض لكلامه مفصّلاً، ومن الواضح أنّ تفسيره لهذه المناسبات لا يستند إلى حجّية الظهور، فيحتاج أن يُلتمس لها دليل آخر.
هذا، وللسيّد الصدر (قدس سره) جهود مشكورة في رسم أبعاد هذه المسألة - وإن كانت مبعثرة في فقهه وأصوله - حيث سعى في هذه المواضع المختلفة لتقنين هذه المسألة من خلال تحليل طبيعة هذا الارتكاز الموجود عند العرف، وأنّه عبارة عن خبرة مشتركة، وذهنية موحّدة بين أفراد المجتمع، تشكّل أساساً لمرتكزات عامّة وذوق مشترك في مجالات عديدة بما فيها المجال التشريعي والتقنيني، وعلى ضوئها يفهم الفقيه بأنّ الشيء الذي يناسب أن يكون موضوعاً لحكم من الأحكام أوسع نطاقاً من الأشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظية، وعبّر عن هذه الظاهرة ب-(الفهم الاجتماعي للنصّ)، وهي تختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنصّ الذي يعني تحديد الدلالات الوضعية والسياقية للكلام(1) وإن كنّا نرى أنّ هذا ليس تفسيراً لما يعتمد عليه الفقهاء باسم (مناسبة الحكم والموضوع)، بل هو بيان لقرينة عامّة يسمّيها هو مناسبة الحكم والموضوع.
وكيفما كان فقد تخلّص (قدس سره) من خلال هذا المنظور من مشكلة تواجه الفقيه عند
ص: 192
استنباط الحكم الشرعي، وهي أنّ كثيراً من الأحكام بيّنت عن طريق الجواب على أسئلة الرواة، ولم تبيّن بصورة ابتدائية وبلغة تقنينية، فكيف نتعدّى عن هذه الحالات الخاصّة إلى جعل تقنين عامٍّ؟
وأجاب عنه بأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأنّ بيان الأحكام على تلك الحالات الخاصّة لم يكن في جميع الموارد نتيجة لاختصاصها بها، وإنّما نشأ عن اختصاص السؤال بتلك الحالات(1).
كما أنّه في بحوثه الفقهية والأصولية سلّط الضوء كثيراً على طبيعة مناسبات الحكم والموضوع، وحاول استكناه حقيقة هذه القرينة، والحدود التي يمكن أن نعتمد فيها عليها، فهو يؤكّد في بحوثه في شرح العروة الوثقى على أنّ مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية لمّا كانت ليست بنفسها موضوعاً للحجّية، وإنّما هي منشأ لإيجاد الظهور في الدليل اللفظي بوصفها من القرائن اللبّية المتّصلة به، وهذا الظهور هو موضوع الحجّية، فلا يتصوّر جريانها في الأدلّة اللبّية.
وقد أبدى (قدس سره) إعجابه بالتفصيل الذي جاء به (العلّامة مغنية) في كتاب (فقه الإمام الصادق (علیه السلام) )، وحاصل هذا التفصيل: أنّه لا يمكن الاعتماد على مناسبات الحكم والموضوع في استنباط الحكم من النصّ إذا كان النصّ مرتبطاً بالعبادات؛ وذلك لأنّ نظام العبادات نظام غيبي لا تحكم عليه الارتكازات الاجتماعية، ولا صلة لها به، وأمّا إذا كان النصّ مرتبطاً بمجال حياتي اجتماعي من قبيل المعاملات
ص: 193
فيجيء دور الفهم الاجتماعي للنصّ(1).
هذا، والملاحظ أنّ الفقهاء يتمسّكون بمناسبة الحكم والموضوع كثيراً حتّى في أبواب العبادات المحضة، كالصلاة والصوم وغيرهما، وهذا يدعونا لإعادة النظر في حقيقة هذه المناسبة وحدودها، خصوصاً أنّها في بعض المساحات الضيّقة قد تشتبه بالقياس المردوع عن اشتمام رائحته في الشرع، وحيث إنّهم لم يفردوا لها عنواناً بالبحث، ولم يحرّروا حقيقتها بشكل تركن إليه النفس، مسّت الحاجة إلى إعادة النظر في موارد اعتمادهم عليها؛ لنستخرج بذلك ضابطةً نستطيع الاعتماد عليها في ممارساتنا الفقهية الاستدلالية.
وهذه الرسالة تسعى لمعالجة هذه القضية بمقدار ما يقتضيه المقام، أسأل الله تعالى بنيّة صادقة أن لا يحرمني أجرها، ويعمّ على جميع المحصّلين نفعها وخيرها.
ص: 194
القرائن المعنوية العامّة وأثرها في الدلالة
(مناسبة الحكم والموضوع أنموذجاً)
قد يقوم الدليل اللفظي على حكمٍ ما بأن نجد آية أو رواية تثبت الحكم، فإنْ كانت النسبة بين دلالة مفردات الآية أو الرواية، وبين الحكم الذي يفتي به الفقيه، هي التساوي، وكان الدليل بحسب ما تفيده ألفاظه مطابقاً للفتوى، فلا بحث.
ولكنّ الدليل بحسب دلالة مفرداته لا يتطابق دائماً مع فتوى الفقهاء، بل قد يكون اللفظ الوارد في الدليل أعمّ من الحكم الذي يثبته الفقيه، وقد يكون لفظ الدليل أخصّ ولكنّ الفقيه يفهم من الدليل الذي لفظه عامّ معنىً خاصّاً، أو يفهم من الدليل الذي لفظه أو مورده خاصّ معنىً عامّاً من دون أن يكون في الدليل قرينة لفظية يستند إليها الفقيه في حمله اللفظ العامّ على المعنى الخاصّ، أو في حمله اللفظ الخاصّ على المعنى العامّ.
وقد وقع كثير من الناس في أخطاء فاحشة لغفلتهم عن أثر القرائن غير اللفظية، فظنّوا ما ليس بعامّ عامّاً، ومن أعظم ما ترتّب على هذه الغفلة اتّهام أهل القبلة بالشرك؛ لتوهّم أنّ كلّ آية منعت من دعاء غير الله تعالى يراد بها المنع عن مطلق الدعاء، وأنّ كلّ آية عدّت الاستعانة بغير الله تعالى شركاً، فالمقصود بها مطلق الاستعانة، ومن الوهم الآتي من هذا الباب أيضاً ما بني عليه من ردّ الرواية التي
ص: 195
فيها: (حُبّ عليّ بن أبي طالب حسنة لا يضرّ معه سيّئة)(1).
وربّما يظنّ أنّ الفقهاء يحملون النصّ الشرعي على غير ما أريد به اتّباعاً للهوى، أو استحساناً، أو تبرّعاً من دون موجب للحمل، أو تحكّماً من دون دليل.
ولكن هذا الظنّ ليس في محلّه؛ فإنّ العلماء قد تنبّهوا لأثر القرائن المعنوية (غير اللفظية) في دلالة الكلام منذ عهد بعيد، فقالوا: (لفظه عامّ ومعناه خاصّ)، وقالوا: (عامّ أريد به الخاصّ)، وهذا يعني أنّهم أدركوا أنّ اللفظ العامّ محفوف بقرينة معنوية دلّت على أنّ المراد به الخاصّ.
وقد اختلفت عبارات العلماء في تسمية هذه القرينة المعنوية، وتخريج مثل هذا الفهم، ليس في الفقه فقط، بل في التفسير، وفي شرح الحديث، وغيرها.
والمهمّ عندنا هي وجوه التخريج التي جاءت على لسان الفقهاء، وهي عديدة، كمفهوم الموافقة، والأولوية، وقياس المساواة، والجزم بالخصوصية أو بعدمها، والحمل على المثالية، وتنقيح المناط، والانصراف، وحكمة التشريع، والقرينة الحالية (شهادة الحال)، والقرينة المعنوية، والقرينة العقلية، وفهم العرف، والارتكاز العرفي، والارتكاز العقلائي، والذوق السليم، وشمّ الفقاهة، ومعرفة لحن القول ومعاريضه، والمخصّص العقلي، والمخصّص المعنوي، وعدم تعقّل الفرق، والأنسب بالحكم، والأقرب إلى الاعتبار، والورود في مورد الامتنان، وأقرب المجازات، والمخصص اللبّي، والجميع يشترك في أنّها قرائن معنوية (غير ملفوظة).
ص: 196
ولعلّك تجد بينها عبارات متعدّدة لمعنىً واحد، وربّما كان بعضها تطويراً لبعض وتحسيناً له.
ولعمري إنّ تأثير القرائن غير الملفوظة على دلالة الكلام أكبر وأكثر من تأثير القرائن الملفوظة، بل لا نكاد نجد جملةً تخلو من قرينة أو أكثر من القرائن المعنوية (غير الملفوظة)، سواء أكان ذلك في اللغة العربية، أم في غيرها من اللغات.
قال المحقّق البحراني (قدس سره) عن أثر بعضها: (ولو خُصّت الأحكام بموارد الأخبار وإن لم تعلم الخصوصية لضاقت الشريعة، ولزم القول بجملة من الأحكام من غير دليل، وهو ظاهر البطلان)(1)، وقال عن بعض القرائن المعنوية: (فإنّه لا يخفى أنّ جُلّ الأحكام الشرعية التي صارت عند الأصحاب قواعد كلّية إنّما استفيد حكمها من جزئيات السؤالات المخصوصة، وخصوص وقائع جزئية)(2)، وهو كما قال.
وإذا كان هذا مبلغ أثر قرينة واحدة من القرائن المعنوية فكيف بتأثيرها بأجمعها؟!
ولعلماء أصول الفقه وعلوم القرآن كلمات جيّدة في إيضاح بعض القرائن، لكنّي لم أجد تحريراً مستوعباً لهذه القرائن وأنواعها، ومقدار أثرها على الدلالة، وشروط تأثيرها.
ص: 197
وكان حريّاً بعلم الأصول أن يعقد لهذه القرائن مسائل عديدة لدراستها؛ فإنّها جديرة بالبحث.
ولسنا نقول: إنّ العلماء قد غفلوا عن هذه القرائن، أو غفلوا عن أثرها على الدلالة؛ فإنّ كلّ عارف بالكلام يعرف أثر القرائن المعنوية، حتّى لو كان طفلاً صغيراً ولو كان في الخامسة من عمره. لكن علم الأصول لم يوضع للتنبيه على القواعد التي يغفل عنها الناس، بل الغرض منه عصمة استنباط الأحكام عن الخلل، حاله حال علم المنطق الذي دوّنت فيه قواعد يجري عليها كلّ عاقل، حتّى الأطفال. وحال علم النحو الذي كتبت فيه قواعد يجري عليها المتكلّم الفصيح بالعربية وإن كان صغيراً.
لكن العلماء وضعوا المنطق لصيانة التفكير عن الخطأ، والنحو لصيانة اللسان عن اللحن. فكذلك علم الأصول، وضع لصيانة صناعة الاستنباط عن الخطأ، ببيان القواعد التي تراعى فيه، وبيان شروطها، وحدود ما تثبته.
فينبغي أن يدخلوا بحث: (القرائن المعنويّة) في علم أصول الفقه، لصيانة استنباط الأحكام عن الخلل الناشئ من الغفلة عن القرائن غير الملفوظة، أو الغفلة عن شروطها، أو عن مقدار أثرها، وحدوده.
ولا يخفى أنّ القرائن المعنوية كثيرة، وربّما غفل أهل المحاورة عن بعضها، ولكنّهم لا يغفلون عن أثرها. لكن القرائن العامّة منها قليلة، ويمكن أن تدخل في علم الأصول لمعرفة: ضوابطها، وشروطها، ومقدار تأثيرها.
وحيث إنّنا أشرنا إلى حجّة من رمى أهل القبلة بالشرك، بسبب غفلته عن أثر
ص: 198
القرائن في تقييد المطلقات، فيحسن بنا أن ننبّه على كلام بعض أسلافه في ذلك، وأهل مذهبه، فإنّه بالقبول منهم أحقّ، وبالأخذ عنهم أرجى.
قال الشافعي (ت 204ﻫ) في باب (بيان ما نزل من الكتاب عامّ الظاهر يراد به كلّه الخاصّ) من الرسالة: (وقال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾(1) .. ولم يكونوا هم الناس كلّهم .. وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾(2). قال: فمخرج اللفظ عامّ على الناس كلّهم، وبيّنٌ عند أهل العلم منهم أنّه إنّما يراد بهذا اللفظ العامّ المخرج بعض الناس دون بعض)(3).
وقال ابن عبد البرّ (ت 463ﻫ) في كتاب التمهيد لما في الموطّأ: (ومعروف من كلام العرب الإتيان بلفظ العموم والمراد به الخصوص، ألا ترى إلى قول الله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾، وهذه الإشارة في الناس إنّما هي إلى رجل واحد أخبر أصحاب محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أنّ قريشاً جمعت لهم، وجاء اللفظ كما ترى على العموم. ومثله: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾، ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ﴾ ومثل هذا كثير لا يجهله إلّا من لا عناية له بالعلم)(4).
ص: 199
وقال أبو حيان الأندلسي (ت 745ﻫ) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾: (إطلاق العامّ ويراد به الخاصّ لا يحتاج إلى دليل لكثرته)(1).
وقال الطاهر بن عاشور (ت 1393ﻫ) في التحرير والتنوير: (لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص، ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأنّ ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد، أو إلى إبطاله من أصله وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنّهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين، فوضعوها على المسلمين، فجاؤوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب)(2).
ثمّ إنّ القرائن العامّة وإن كانت لها آثار مختلفة على دلالة الكلام، فقد تفيد تخصيص العامّ، وقد تفيد تعميم الخاصّ، وأنّ الخاصّ مذكور من باب المثال، وقد تفيد أنّ العنوان المذكور في الكلام ليس له موضوعية، لا عموماً ولا خصوصاً، بل هو عنوان مشير، وقد تفيد غير ذلك، ولا غنى لطالب الفقه عن دراسة القرائن المعنوية العامّة، وآثارها المختلفة على دلالة الكلام، إلّا أنّ أكثر موارد القرائن المعنوية العامّة هي المطلقات.
ولعلّك لو فتحت أيّ كتاب حتّى القرآن الكريم لن تجد ثلاثة أسطر تخلو عن قرينة معنوية تقيّد مطلقاً، ولو سألت أيّ عارف باللغة عن المراد بها لأجابك: إنّ
ص: 200
إطلاقها غير مقصود.
والقرائن المعنوية العامّة كثيرة، وأثرها في الدلالة عظيم، واختلاف الفقهاء في فهم الروايات والآيات في كثير من مواضع الاختلاف ينشأ عن القرائن العامّة، فمنهم من يثبتها في موردٍ ما، ومنهم من ينفيها، وكما يختلفون في إثباتها ونفيها، فإنّ المثبتين لها يختلفون في تشخيصها، وتحديد مقتضاها. وليس أثر القرينة المعنوية بالذي يحتاج إلى مزيد توضيح، فإنّ أثرها من المسلّمات، وهو في وضوحه لا يقلّ عن أثر القرينة اللفظية، وإنّما أردنا أن نجعل الحديث عن أثر القرائن المعنوية تمهيداً ومدخلاً لما نحن بصدده من الحديث عن (القرائن المعنوية العامّة).
ولأنّ هذا البحث لم يحرّر في علم الأصول تجد العلماء يحاولون توجيه ردّهم لما فهمه عالم آخر بعبارات لا تخلو من نظر.
ومن الطريف أنّ بحث القرائن العامّة وإن كان من لواحق بحث الدلالة وما يؤثّر فيها، إلّا أنّه لا يخصّ اللغة العربية، فإنّ أكثر القرائن المعنوية العامّة والتي تؤثّر على دلالة الكلام موجودة في عامّة اللغات. ومن هنا قد نجد فقيهاً غير عربي أجود فهماً للنصّ العربي من فقيه عربي، وما ذاك إلّا لأنّه تفطّن للقرينة غير اللفظية، وأثرها على دلالة النصّ، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنّ أثر التفطّن للقرائن المعنوية على الدلالة في فهم الكلام أعظم من أثر الدقّة في تحديد مدلول المفردات. على أنّ تشخيص معاني المفردات يتيسّر بالرجوع إلى المعاجم اللغوية، وكتب الغريب، والاستعمالات الفصيحة في القرآن الكريم، والنصوص الفصيحة، وهو أمر ميسور لغير العربي،
ص: 201
فيسعه أن يعوّض ما ينقصه من الوجدان اللغوي الذي يمتاز به العربي. وأمّا التنبّه للقرينة غير الملفوظة، وتشخيص مقدار أثرها فليس ثمّة ما يعوّضه، ويجبر النقص الذي يحدث بفقده.
نعم، لمعرفة الكنايات والمجازات العربية أثر بالغ في فهم الكلام العربي زيادة على أثر معرفة معاني المفردات مادّةً وهيئة، ومعرفة هيئات الجمل، وما يسمّى ب-(التراكيب الكلامية)، ولكن الطريق إلى معرفة كل ذلك معبّد، وقد وضعت علوم متعدّدة لخدمة ذلك الغرض، كالنحو والصرف والبلاغة والمعاجم، فإذا لم نعرف المراد بمادّة من الموادّ رجعنا إلى المعاجم، وإذا أشكل علينا معنى هيئة رجعنا إلى كتب الصرف، وهكذا.
وأمّا القرائن العامّة فلم يوضع لدراستها علم، ولم تحرّر مسائلها في شيء من العلوم التي تعنى بدراسة الدلالات اللغوية فيما نعلم.
ومن هنا عددنا أثر القرائن العامّة في فهم الكلام أعظم من أثر غيرها؛ لأنّها عامل لم يخدم، وما سواه من عوامل الدلالة قد خدم، إلّا بعض هيئات الجمل، ومن هنا قد يمتاز غير العربي في فهم الكلام العربي على العربي، وكم رأينا في الفقهاء ممّن لسانه فارسي أو تركي وفهمه أقرب إلى العرف.
ولست أريد المفاضلة بين الفقيه العربي وغيره، فإنّ التفطّن للقرائن غير اللفظية يحصل للعربي وغيره، وربّما كان العربي أفطن، وربّما كان غيره أفطن، والغالب أنّ من كان للقرائن المعنوية العامّة أفطن كان للفهم الصحيح أقرب.
والمقصود: أنّ للقرائن غير الملفوظة سهماً كبيراً في دلالة الكلام، خصوصاً في تقييد الإطلاقات، وأنّ جهة البحث فيها ليست خاصّة بلغة بعينها.
ص: 202
فمن القرائن كون الأمر مسبوقاً بالنهي، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾(1)، وهذه القرينة تغيّر دلالة الأمر على الطلب، وتجعله دالَّاً على رفع الحظر، والعربي وغيره سواء في التنبّه لأثر هذه القرينة.
ومن القرائن رواج نقد معيّن في البلد، فإذا قال البائع: بعتك الدار بعشرة آلاف، فلا يحتاج إلى ذكر تمييز هذه العشرة آلاف، ولو جاءه المشتري بعشرة آلاف حصاة محتجّاً بأنّ البائع قد أطلق كلامه كان فعله مضحكاً، ولو طلب البائع عشرة آلاف سبيكة ذهب لم يكن قوله مقبولاً؛ لأنّ قوله ظاهر في إرادة نقد البلد، والقرينة على ذلك معنوية غير ملفوظة، والعربي وغيره سواء في التنبّه لأثر هذه القرينة.
ولو أسقطنا أثر القرائن المعنوية العامّة في تقييد المطلقات لأفادت معاني لا تخطر ببال سامع أو قارئ، وإليك بعضها:
1 - قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾(2).
فإنّ (المغضوب عليهم) ليس في الكلام ما يقيّده، ولو كان إطلاقه مقصوداً لم يوجد له مصداق، فإنّك لا ترى أحداً إلّا وله من هو غاضب عليه، حتّى الأنبياء، فإنّ لهم خصوماً وأعداءً غاضبين عليهم. ولكنّنا نجزم أنّ هذا الإطلاق غير مقصود، بل المقصود مقيّد، والقرينة عليه ظاهرة، ولم يخفَ ذلك حتّى على أعداء الدين.
2 - قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
ص: 203
يُنْفِقُونَ﴾(1).
فإنّ كلمة (الغيب) في الآية ليس لها لفظ يقيّدها، ولو كان إطلاقها مقصوداً لاقتضت الإيمان بغيب كثير، فما أدّخره في بيتي غائب عن غيري، وما في بيوتهم غائب عنّي، وما في البحار غائب عنّي، والأمم الماضية وما جرى لها غائب عنّا، والأمم الآتية وما سيجري عليها غائب عنّا، فهل توهّم أحد حسن الإيمان بذلك الغيب؟!
3 - قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾(2).
فإنّ كلمة (المجالس) ليس في الآية لفظ يقيّدها، ولو أريد إطلاقها لاقتضى الوعد بالثواب (يفسح الله لكم) حتّى لمن فسح في مجالس اللهو والقمار.
4 - قال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾(3).
فإنّ كلمة (من في الأرض) ليس في الآية لفظ يقيّدها، ولو كان إطلاقها مقصوداً لدلّت على أنّ الملائكة يستغفرون حتّى لفرعون وهامان وسائر الكفّار والمعاندين.
5 - قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾(4).
ص: 204
ألا يخاف المؤمن بربّه من ظلم المتجبّرين، ورهق المرض؟
6 - قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1).
فهل فهم أحد من هذه الآية أنّ الذين ينفقون أموالهم في القمار والميسر وغيرهما من المحرّمات أيضاً لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم؟! وهل فهم أحد منها أنّ الذين ينفقون أموالهم في الخيرات لا خوف عليهم مطلقاً، حتّى من عدوان المتجبّرين من بني جنسهم؟! وأنّهم لا يحزنون مطلقاً، حتّى لو فقدوا عزيزاً؟!
7 - قال سبحانه: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾(2).
فهل رأيت أحداً فهم منه الاستعاذة من شرّ الأنبياء والملائكة؟!
فهذه أمثلة قليلة لظاهرة كبيرة في اللغة، لا نقصد اللغة العربية خاصّة، بل جميع اللغات، وهي على الإجمال ظاهرة يدركها حتّى الأطفال، وقد تنبّه العلماء لهذه الظاهرة، فعبّروا عن المطلقات التي لا يراد إطلاقها: (عامّ أريد به الخاصّ). ومن هؤلاء العلماء الشيخ المفيد (قدس سره)، قال في المسألة الثامنة من المسائل السروية: (فصل في أصناف أحاديث الأئمّة (علیهم السلام) . وفي الجملة، إنّ أقوال الأئمّة (علیهم السلام) كانت تخرج على ظاهر يوافق باطنه الأمن من العواقب في ذلك. ويخرج منها ما ظاهره خلاف باطنه للتقيّة والاضطرار. ومنها ما ظاهره الإيجاب والإلزام، وهو في نفسه ندب ونفل واستحباب. ومنها ما ظاهره نفل وندب، وهو على الوجوب. ومنها عامّ يراد به
ص: 205
الخصوص، وخاصّ يراد به العموم، وظاهر مستعار في غير ما وضع له حقيقة الكلام، وتعريض في القول للاستصلاح والمداراة وحقن الدماء.
وليس ذلك بعجيب منهم ولا ببدع، والقرآن الذي هو كلام الله عزّ وجلّ وفيه الشفاء والبيان قد اختلفت ظواهره، وتباين الناس في اعتقاد معانيه، وكذلك السنّة الثابتة عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، فالعلماء على اختلافٍ في معنى كلامه (علیه السلام) فيها، ومع ذلك كلّه فالناس ممتحنون في الأخبار وسماعها: فساه في النقل، ومتعمّد فيه الزيادة والنقصان، ومبدع في الشريعة، متصنّع لحسن الظاهر يقصد به إضلال العباد. والله موفّق للصواب)(1).
وقال السيّد المرتضى (قدس سره) في رسائله: (المخصوص من جهة الخطاب الذي أريد به بعض ما يقتضيه ظاهره)(2).
وقال قطب الدين الراوندي (قدس سره) في الخرائج: (وقوله: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فيه أجوبة:
أحدها: أنّ فيه إضماراً، أي إن رأيت لكم مصلحة في الدين، وقد صرّح به في قوله: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾.
والثاني: أنّ الدعاء هو العبادة، أي اعبدوني بالتوحيد أجزكم عليه، يدلّ على ذلك قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾.
ص: 206
والثالث: أن يكون اللفظ عموماً والمراد به الخصوص، وهذا في العرف كثير)(1).
وقال العلّامة الحلّي (قدس سره) في القواعد: (قاعدة: مبنى اليمين على نيّة الحالف، فإذا نوى ما يحتمله اللفظ انصرف الحلف إليه، سواء نوى ما يوافق الظاهر أو يخالفه، كالعامّ يريد به الخاصّ، كأن يحلف: لا آكل كلّ لحم، وينوي نوعاً معيّناً، وكالعكس مثل أن يحلف: لا شربت لك ماء من عطش، ويريد به قطع كلّ ما له فيه منّة. وكالمطلق يريد به المقيّد، وكالحقيقة يريد بها المجاز، وكالحقيقة العرفية يريد بها اللغوية، وبالعكس)(2).
وقال فخر المحقّقين (قدس سره) في إيضاح الفوائد: (لا يجوز أن يخاطب بالعامّ ويريد به الخاصّ من غير قرينة)(3).
وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في الروضة: ((و) الوصية (للفقراء تنصرف إلى فقراء ملّة الموصي)، لا مطلق الفقراء وإن كان جمعاً معرّفاً مفيداً للعموم، والمخصّص شاهد الحال الدالّ على عدم إرادة فقراء غير ملّته، ونحلته)(4).
وقال في الفوائد الملية: (وعن الصادق (علیه السلام): الصلاة خلف العالم بألف ركعة، وخلف القرشي بمائة، وخلف العربي خمسون، وخلف المولى خمس وعشرون. والمراد بالعالم هنا العالم بالعلوم الدينية والأحكام الشرعية كالعلم بالله تعالى وبكتابه وسنّة
ص: 207
نبيّه، وما يتوقّف عليه من المقدّمات، والعلم بكيفية طهارة القلب، وتزكية النفس مع استعمالها على وجهها، لا مطلق العالم، كما نبّه عليه (صلی الله علیه و آله و سلم) في قوله: علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل، فإنّ العلماء لا يشبهون الأنبياء إلّا على الوجه الذي ذكرناه، وقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): العلماء ورثة الأنبياء، فإنّ الأنبياء لم يورّثوا مجرّد الرسم، وغير من ذكر من العلماء لا تعلّق لهم بوراثة الأنبياء، بل هم إلى خلافة أضدادهم أشبه، وإليهم أميل. وأوضح دلالة في ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾ حصر الخشية فيهم على وجه العموم، وهو يدلّ على أنّ العلم الذي لا يوجب القرب إلى الله تعالى والخشية منه لا يكون علماً على الحقيقة، وظاهر أنّ مطلق العلم لا يوجب ذلك، إنّما يوجبه ما ذكرناه، بل القسم الأخير منه، وأمّا ما قبله فهو من شرائطه ومقدّماته)(1).
وقال في حاشيته على الشرائع: (قوله: ولو وقف على المسلمين انصرف إلى مَن صلَّى إلى القبلة - أي من اعتقد وجوب الصلاة إليها حيث تكون الصلاة واجبة - والمراد انصرافه إلى مَن دان بالشهادتين، واعترف بما علم من الدين ضرورة، ومنه الصلاة إليها وإنْ لم يصلّ، حيث لا يكفر بذلك. ويلحق به أطفاله ومجانينه تبعاً.
قوله: ولو وقف على المؤمنين انصرف إلى الاثني عشرية، وقيل: إلى مجتنبي الكبائر، والأوّل أشبه.
الإيمان يطلق على معنيين: عامّ وخاصّ، فالعامّ هو التصديق القلبي بما جاء به النبيّ، والإقرار باللسان كاشف عنه، وهو أخصّ من الإسلام، وهذا المعنى هو المراد حيث يُطلق المؤمنون في القرآن. والخاصّ قسمان:
ص: 208
أحدهما: أنّه كذلك مع العمل الصالح، بمعنى كون العمل جزءاً منه، وصاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وهذا مذهب الوعيدية.
والآخر: هو اعتقاد إمامة الأئمّة الاثني عشر، وهذا هو المعنى المتعارف بين الإمامية.
فإذا وقف واقفٌ على المؤمنين وأطلق فإنْ كان من الإمامية انصرف الوقف إلى الاثني عشرية؛ لأنّه المعروف عنده من هذا الإطلاق، وإنْ كان من غيرهم فظاهر المصنّف والأكثر كونه كذلك. وهو مشكل؛ لأنّ ذلك غير معروف عنده، ولا قصده متوجّه إليه، فكيف يحمل عليه؟! وليس الحكم فيه كالمسلمين في أنّ لفظه عامّ فينصرف إلى ما دلّ عليه اللفظ وإنْ خالف معتقد الواقف، كما قرّرناه من إطلاقه على معانٍ تختلف بحسب المصطلحين، والمعنى الذي اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى الأوّل، فلو قيل: نحمله عليه إذا كان الواقف غير إمامي كان حسناً، أو يقال: نحمله على المعنى الذي يعتقده الواقف بشهادة الحال. والأصحّ أنّه لا يشترط اجتناب الكبائر، خلافاً للشيخ رحمه الله)(1).
بل قال الحرّ العامليّ (قدس سره) في الفصول المهمّة: (بل تواترت الأخبار عن الأئمّة (علیهم السلام) بأنّ في القرآن عامّاً وخاصّاً، وأنّ فيه ما لفظه عامّ ومعناه خاصّ، وما لفظه خاصّ ومعناه عامّ)(2).
هذه بعض عبارات العلماء، وقد تبيّن لك منها تفطّنهم للقرائن المعنوية،
ص: 209
والتفاتهم إلى ظاهرة الاعتماد على القرائن غير الملفوظة.
ولكنّهم سكتوا عن بيان طرق معرفة المعنى الخاصّ، وتشخيص المقدار المقصود من اللفظ العامّ، إلّا نادراً.
وطريق معرفة ذلك هو: القرائن المعنوية، ومن تلك القرائن قرينة مناسبة الحكم والموضوع.
لا يخفى عليك أنّ ما بات يعرف ب-(مناسبة الحكم والموضوع) أخذ مساحةً واسعة في العصور المتأخّرة في فضاء البحث الفقهي، فلا تكاد ترى كتاباً في الفقه المستدلّ إلّا وترى فيه هذه العبارة.
وعلى الرغم من كثرة اعتمادهم عليها إلّا أنّها كسائر القرائن المعنوية لم تعطَ حقّها في علم الأصول، بل صارت كالذي يسمّى في العربية: (سرّ المهنة)، وفي الفارسية: (فوت كوزه كري).
فما هو المراد بها؟ وما وجه حجّيتها؟ وما هي شروط الاحتجاج بها؟ وما هو مقدار أثرها؟ كلّ ذلك يحتاج عقد بحث تأصيلي، وتحرير مسألة له في علم أصول الفقه، ليجاب فيها عن هذه الأسئلة وغيرها.
إنّ البحث عن (مناسبة الحكم والموضوع) بحث مهمّ، ويندرج تحت بحث: (القرائن المعنوية العامّة)، ومحلّه علم أصول الفقه.
ويمكننا القول إنّ علم أصول الفقه إن كان قد اكتشف نصفه بعد انفتاح البحث
ص: 210
عن الأصول العملية فإنّ بحث القرائن إن لم يكن أكثر من مباحث الألفاظ المدوّنة، فليس بأقلّ منها أهمّية ولا سعة.
وهذا الواقع يدعو إلى دراسة مناسبة الحكم والموضوع في بحثٍ تأصيلي، وإدراجه في القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي، والتي يبحث عنها في علم أصول الفقه، فدراستها تدعو إلى تحرير مسألة جديدة في مسائل أصول الفقه.
لكن البحث عنها باعتبار أنّها قرينة معنوية عامّة تؤثّر على دلالة الكلام يجرّنا إلى تحرير مسائل متعدّدة تشابهها، وهذا يدعونا إلى فتح فصلٍ جديد في علم أصول الفقه، وهو فصل القرائن المعنوية العامّة. وإذا نظرنا إلى (مناسبة الحكم والموضوع) باعتبارها من القرائن، وفتحنا فصلاً باسم القرائن، أي ما يؤثّر على دلالة الدليل، فيلزمنا أيضاً أن نفتح قسماً جديداً للأدلّة، وهي أربعة، فناسب إفراد كلّ واحدٍ منها بباب يخصّه.
وعلى هذا فاللازم أن نرسم هيكلاً جديداً لمباحث الأدلّة، فنجعل لها أبواباً أربعة:
الأوّل: الكلام.
الثاني: السكوت.
الثالث: الأفعال.
الرابع: التروك.
وفي الباب الأول وهو البحث عن دلالة الكلام يجعل البحث في فصول، ومن
ص: 211
هذه الفصول بحث (القرائن)، ثم تقسّم القرائن إلى: عامّة وخاصّة، والقرائن الخاصّة أكثر من أن تحصى، وليست لها ضابطة عامّة، فتترك، ونبحث عن القرائن العامّة فقط.
ثمّ تقسّم القرائن العامّة إلى: لفظية وغير لفظية.
وكما أنّ دلالة الألفاظ تتأثّر بما يوجب تضييقها، أو تغييرها، أو توكيدها، بالقرينة اللفظية، فإنّها أيضاً تتأثّر بما يوجب ذلك من القرائن غير اللفظية.
وقد جعل علماء الأصول الأدلّة الأربعة موضوعاً لعلم الأصول، وأكثرها اعتماداً هو السنّة. وعرّفوا السنّة بأنّها قول المعصوم، أو فعله، أو تقريره. لكنّهم اقتصروا على دراسة مسائل متّصلة بدلالة القول فقط، وكان ينبغي أن يحرّروا مسائل تدرس دلالة فعل المعصوم، وأخر تدرس دلالة تقريره.
ولعلّ عذرهم أنّ دلالة التقرير واحدة، بخلاف دلالة الكلام، فإنّها تتعدّد بعدد أنواع التركيب، وأساليب البيان، فوجب عقد مسائل لدراسة دلالات الألفاظ دون دلالة التقرير.
ولكن لو قبلنا هذا العذر عن دراسة التقرير، فما هو عذرهم في ترك تحرير مسائل لدراسة دلالات الفعل، خصوصاً أنّ الأفعال مختلفة، ودلالتها مختلفة. لا أقول إنّها في كثرتها وتنوّعها كالأقوال، لكنّها ليست نوعاً واحداً كالتقرير.
ومن هنا يظهر أنّ علم الأصول لم يستوفِ الحديث عن الأدلّة؛ لأنّه درس دلالة الألفاظ، وكان اللازم أن يدرس أيضاً دلالة السكوت، ودلالة الأفعال والتروك. ففي الحقيقة نحن ندرس شيئاً قليلاً ممّا يلزم أن يدرس.
وقد تنبّه العلماء لتأثّر الدلالة بالقرائن المعنوية من قديم الزمن، سواء أكانوا من
ص: 212
علماء أصول الفقه، أم من علماء التفسير، أم من علماء البلاغة، فإنّ من يرجع إلى كتبهم يجدهم قد تنبّهوا إلى أنّ بعض القرائن غير الملفوظة تؤثّر على دلالة اللفظ، بل يجدهم صنّفوا القرائن إلى أصناف، فتراهم يصطلحون على بعض القرائن بالقرائن المعنوية، وعلى بعضها بالقرائن العقلية، وعلى ثالثة بالقرائن الحالية.
بل نجد العلماء - والفقهاء منهم خاصّة - قد استندوا إلى عدّة قرائن معنوية عامّة، كامتناع الإطلاق، والورود في مورد الامتنان، وغيرها ممّا تقدّم.
وإذا كانت كلّ هذه القرائن تؤثّر في دلالة الألفاظ، فأين موضعها من البحث التأصيلي؟ وأين انعكاسها في علم الأصول؟ ولماذا لم يبحث عنها في علم الأصول مع كونها من القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم؟
إذن فنحن بحاجةٍ إلى استيعاب القرائن اللفظية وغير اللفظية المؤثّرة في الكلام، ثمّ التعرّض لأقسام هذه القرائن، ومقدار دلالتها. وللأسف لم يبحث شيء من ذلك في مباحث الأصول، فلم يترجم التفاتهم إلى هذا الطيف الواسع من القرائن إلى تحرير بحث تأصيلي في علم الأصول لدراسة القرائن وأنواعها ودلالتها.
والاعتذار عن ذلك بصعوبة الضبط كما صنع عبد الملك الجويني، الملقّب بإمام الحرمين (ت 478ﻫ) في البرهان في أصول الفقه، حيث قال: (ولو رام واجد العلوم ضبط القرائن ووصفها بما تتميّز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فكأنّها تدِقُّ عن العبارات، وتأبى على من يحاول ضبطها بها)(1).
كما أنّ الاحتجاج بأنّ نطاق النطق يضيق عن التعبير عنها، كما احتجّ القاءاني
ص: 213
الحنفي (ت 775ﻫ)(1)، غير مقبول؛ فإنّ العلم إنّما وضع لأجل أن توصف به المسائل والقواعد، وكما يقول عمرو بن معدي كرب:
إذا لم تستطع أمراً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع
وربّما اعتذر بأنّ القرائن في غاية الكثرة، ولا يمكن حصرها، والعلوم إنّما تكتب فيها القواعد التي يمكن حصرها وضبطها.
ويجاب عنه: بأنّ القرائن وإن كانت كذلك، إلّا أنّ لكلّ فنّ قرائن عامّة كثيرة الدوران فيه، بل يوجد في القرآن الكريم قرائن كثيرة الدوران فيه، وكذلك في الروايات الشريفة. ومع ذلك لم تمنع كثرة القرائن اللفظية العامّة وصعوبة ضبطها عن أن يُحرّر في علم الأصول جملة منها، فلا مجال للقول: إنّ كثرة القرائن العامّة غير اللفظية هي التي حالت دون تحريرها في علم الأصول، وليكن حال ما لم يذكر منها في علم الأصول ممّا يظهر بمعرفة ما يذكر منها، فهذا ليس بعذر.
علم ممّا تقدّم أنّ مسألة (مناسبة الحكم والموضوع) تندرج في بحث القرائن العامّة غير اللفظية على فرض أنّها قرينة عامّة، كما هو أحد التفسيرات فيها، ولعلّه الأشهر. وأمّا على تقدير أن تكون دليلاً مستقلَّاً فموضعها في مسائل الأصول أظهر.
نعم، على تقدير أن تكون من موجبات الاطمئنان بحكمة التشريع أو اليقين بها، فيصعب تصنيفها في مسائل أصول الفقه.
ص: 214
لكن دخولها في مسائله على أحد الأقوال فيها، بل على أحد المحتملات كافٍ، فلا حاجة إلى إتعاب النفس في توجيه دخولها على جميع التقديرات.
وقد ذكر العلماء تعريفات متعدّدة للمسألة الأصولية، وهي متقاربة، كما أنّها قريبة للصواب، منها: أنّ المسألة الأصولية هي ما يستنبط منه الحكم، أو الوظيفة الشرعية أو العقلية تجاهه. وهذه الضابطة تنطبق على مناسبة الحكم والموضوع، ولو على بعض الأقوال فيها؛ فإنّها إذا كانت قرينة على المراد بالكلام، فهي تقع في طريق استنباط الحكم.
إذا عرفت هذا فالكلام في مناسبة الحكم والموضوع يقع في جهات:
الجهة الأولى: في إشارة إجمالية لتاريخ المسألة.
الجهة الثانية: في مفادها ومضمونها.
الجهة الثالثة: في الدليل على اعتبارها، ومقدار حجّيتها، وموارد جريانها.
الجهة الرابعة: في الفرق بينها وبين القياس.
الجهة الخامسة: في ذكر جملة من موارد تطبيقها.
وسيدور البحث في هذه الحلقة عن الجهتين الأوّليين، ونرجئ البحث عن الباقي إلى الحلقة اللاحقة إن شاء الله تعالى.
ص: 215
إنّ المتتبّع لكتب علوم اللغة يجد بوضوح أنّ للحديث عن ظاهرة المناسبة والتناسب في كلماتهم مواضع متعدّدة، ومسائل متفرّقة، فالنحاة يشترطون: (مراعاة التناسب بين المعطوف والمعطوف عليه)، و(التناسب بين السؤال والجواب)(1)، و(التناسب بين المضاف والمضاف إليه)(2). ومنها قولهم: إنّ الكسرة مناسبة للياء، والفتحة للألف، والضمّة للواو، وأمثال ذلك. ومن ذلك قول ابن هشام في مغني اللبيب في معاني حرف (لو) من أنّها: (تدلّ على ثلاثة أمور: عقد السببية والمسببية، وكونهما في الماضي، وامتناع السبب، ثمّ تارةً يعقل بين الجزئين ارتباط مناسب، وتارةً لا يعقل)(3).
ومنه أيضاً قولهم في وجه اختصاص المثنّى بالألف وجمع المذكّر السالم بالواو، أنّ ذلك: (لمناسبة الألف بخفّته لقلّة عدد المثنّى، والواو بثقله لكثرة عدد الجمع)(4). وقول الرضي الاسترآبادي (رضوان الله علیه) (ت 686ﻫ) في العلل المانعة من الصرف: (أنّ قول النحاة: إنّ الشيء الفلاني علّة لكذا لا يريدون به أنّه موجب له، بل المعنى أنّه شيء
ص: 216
إذا حصل ذلك الشيء ينبغي أن يختار المتكلّم ذلك الحكم؛ لمناسبة بين ذلك الشيء وذلك الحكم. والحكم في اصطلاح الأصوليين: ما توجبه العلّة، وإيّاه عنى المصنّف بقوله: وحكمه أن لا كسر ولا تنوين)(1).
وقال القاضي الأحمد نگري (ت ق 12ﻫ) في دستور العلماء إنّ العِلَّة عند النحاة: (ما ينبغي أَن يختار المتكلّم عند حُصُوله أمراً يناسبه وذلك الأمر المناسب حكمه وأثره، لا بِمَعْنى المُوجِب)(2).
ومنها: ما ذكره البلاغيون من محسّنات الوصل بعد وجود المصحّح من تناسب الجملتين في الاسمية والفعلية، وتناسب الجملتين الفعليتين في المضيّ والمضارعة(3). وقولهم في وجه تسمية السجع بذلك: (إنّما سمّي السجع سجعاً لاشتباه أواخره، وتناسب فواصله)(4). وقولهم في موارد متعدّدة، كالمدح والذمّ: (الأنسب للمقام كذا).
ومنها: في كتب اللغة، ما جاء في مجمع البحرين في مواضع متعدّدة:
الأوّل: في مادة (كير)، قال: (في حديثٍ: الحجّ والعمرة ينفيان الفقر كما ينفي الكير خبث الحديد(5). الكير: كير الحدّاد، وهو زقّ أو جلد غليظ ذو حافات ينفخ
ص: 217
فيه، وأمّا المبنيّ من الطين فكور لا كير، وجمع الكير كيَرَة كعِنَبة، وأكيار وكيرات. قال بعض الشارحين: يروى مضمومة الخاء ساكنة الباء، وعلى الأوّل يعني ما تبرزه النار من الجواهر المعدنية التي تصلح للطبع، فيخلّصها على تميّزه عنها من ذلك، وعلى الثانية يعني به الشيء الخبيث، والمعتدّ به هو الأوّل؛ لأنّه أكثر وأشبه بالصواب؛ لمناسبة الكير ولمصادفته المعنى المراد فيه)(1).
الثاني: في مادّة (غمر)، قال (قدس سره): (قوله تعالى: ﴿فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا﴾ أي في منهمك من الباطل، وقيل في غطاء وغفلة، والجمع غَمَرَات، مثل: سجدة وسجدات. والغَمْرَةُ: الشدّة، والجمع غُمَر، مثل: نوبة ونوب. قوله: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾، أي: في حيرتهم وجهلهم. وفي الدعاء: الحمد لله الذي من خشيته تموج البحار ومن يسبح في غمراتها. قيل عليه غَمَرَاتُ الموت شدائده. والغَمْرُ: الماء الكثير، ولا مناسبة لحمله على المعنى الأوّل، والمناسبة حمله على المعنى الثاني، لكنّه لم يجمع على غمرات فربّما وقع تصحيف فيه)(2).
الثالث: في مادّة (سوك)، قال: (في الحديث: الاسْتياكُ بماء الورْد. وكأنّ الباء للمصاحبة. وظاهره جواز صحّة استعماله في المضمضة المستحبّة. ودونها خرط القتاد. ولعلّ الإضافة لأدنى ملابسة. وفي بعض النسخ: (الاستيال) باللام بدل الكاف. وعليها الاستيال بمعنى التسوّل، وهو التزيّن مطاوع للتسويل، وهو تحسين الشيء وتزيينه. يعني به هنا الأغسال التي هي للنظافة والتزيين كغسل الجمعة
ص: 218
والإحرام. قال: وأمّا بالكاف بمعنى التمصمص بالمهملتين، ومعناه الاغتسال من الدنس للتنظيف والتطهير. وأصله من مصمص إناه: إذا غسله وجعل فيه الماء وحرّكه. وأمّا جعله بمعنى التمضمض بالمعجمتين من مضمضة الوضوء لمناسبة السواك كما تكلّفه فرق من المتكلّفين، فمن ضعف التحصيل وقلّة البضاعة - انتهى، وهو كما ترى)(1).
ص: 219
ومنها: في تفسير القرآن، ما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾(1)، بأنّه على وجه الهزء والسخرية؛ فإنّ المفسّرين لم يأخذوا بالمدلول الحرفي لكلمتي العزيز والكريم، لجزمهم بأنّ المراد بهما في الآية الشريفة ليس المدح ولا التبجيل؛ لأنّه خطاب لمن يُلقى في جهنّم، وأيّ إذلال أعظم من ذلك، فمناسبة المقام قرينة على إرادة التهكّم.
وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ﴾(2): (اختلف المفسّرون في أنّ قوله: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ خطاب لمن؟ فقال الأكثرون إنّه خطاب للأولياء. وقال بعضهم: إنّه خطاب للأزواج، وهذا هو المختار، الذي يدل عليه أنّ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ جملة واحدة مركّبة من شرط وجزاء، فالشرط قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، والجزاء قوله: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾. ولا شكّ أنّ الشرط وهو قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ خطاب مع الأزواج، فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ خطاباً معهم أيضاً، إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية: إذا طلّقتم النساء أيّها الأزواج فلا تعضلوهن أيّها الأولياء، وحينئذٍ لا تكون بين الشرط وبين الجزاء مناسبة أصلاً، وذلك يوجب تفكّك نظم الكلام، وتنزيه كلام الله عن مثله واجب، فهذا كلام قويّ متين في تقرير
ص: 220
هذا القول)(1).
وقال في موضع آخر: (وإنّما حسن تفسير لفظ معيّن لشيء معيّن إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة. أمّا إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسداً، فإذا فسّرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر، وجب أن نبيّن أنّ لفظ العدل يناسب ذلك المعنى، ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى، فلمّا لم نبيّن هذا المعنى كان ذلك مجرّد التحكّم، ولم يكن جعل بعض تلك المعنى تفسيراً لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس)(2).
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾(3)، وهل هو في كلّ من كتم، أو في اليهود خاصّة؟ قرّب العموم، واحتجّ له بوجوه:
(ثانيها: أنّه ثبت أيضاًَ في أصول الفقه أنّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علّة لذلك الحكم لا سيّما إذا كان الوصف مناسباً للحكم، ولا شكّ أنّ كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى، وإذا كان هذا الوصف علّة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف)(4).
ومنها: في علوم القرآن، ما قاله الزركشي (ت 794ﻫ) في النوع الثاني من علوم
ص: 221
القرآن تحت عنوان: (معرفة المناسبات بين الآيات)، قال: (واعلم أنّ المناسبة علم شريف، تحرز به العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول.
والمناسبة في اللغة: المقاربة، وفلان يناسب فلاناً، أي يقرب منه ويشاكله، ومنه النسيب الذي هو القريب المتّصل، كالأخوين وابن العمّ ونحوه وإن كانا متناسبين بمعنى رابط بينهما، وهو القرابة. ومنه المناسبة في العلّة في باب القياس: الوصف المقارب للحكم؛ لأنّه إذا حصلت مقاربته له ظنّ عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم؛ ولهذا قيل: المناسبة أمرٌ معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتمها، ومرجعها - والله أعلم - إلى معنىً ما رابط بينهما عامّ أو خاصّ، عقلي أو حسّي أو خيالي وغير ذلك من أنواع العلاقات. أو التلازم الذهني، كالسبب والمسبّب، والعلّة والمعلول، والنظيرين، والضدّين، ونحوه. أو التلازم الخارجي، كالمرتّب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر.
وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء. وقد قلّ اعتناء المفسّرين بهذا النوع لدقّته؛ وممّن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. وقال بعض الأئمّة: من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض، لئلا يكون منقطعاً. وهذا النوع يهمله بعض المفسّرين، أو كثير منهم، وفوائده غزيرة.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتّى تكون كالكلمة الواحدة متّسقة المعاني منتظمة المباني، علم عظيم لم يتعرّض له إلّا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثمّ فتح الله عزّ وجلّ لنا فيه، فلمّا لم
ص: 222
نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه. وقال الشيخ أبو الحسن الشهراباني: أوّل من أظهر ببغداد علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسيّ إذا قرئ عليه الآية: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة)(1).
وقد أفرد ما سمّاه الزركشي بعلم (مناسبة الآيات والسور) العلّامة أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيّان بالتأليف في كتاب سمّاه: (البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن)، وكذلك صنع الشيخ برهان الدين البقاعي في كتاب سمّاه: (نظم الدرر في تناسب الآي والسور)، وكتاب السيوطي الذي صنعه في أسرار التنزيل كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات، مع ما تضمّنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد لخّص منه مناسبات السور خاصّة في جزء لطيف سمّاه: (تناسق الدرر في تناسب السور)(2).
وقال بعض المختصّين في علوم القرآن من المعاصرين: (من الضروري لزوم رعاية المناسبة القريبة بين عنوان المسند إليه وفحوى مدلول المسند، وذلك فيما إذا تعنون المسند إليه بوصفٍ خاصّ، فإنّه يجب حينذاك من مراعاة ما بين هذه الصفة والحكم المترتّب على ذي الصفة من علاقة سببية أو شبهها، وهي التي لاحظها علماء
ص: 223
الفنّ فيما أثر منهم: (مناسبة الحكم والموضوع). وهذا كقولنا: (العلماء باقون ما بقي الدهر)، حيث كانت خاصّية صفة العلم وآثاره البنّاءة هي التي تستدعي الخلود للعلماء، ومن ثَمّ قد يستشم نوعية المخبر به من نفس عنوان المخبر عنه، قبل أن ينطق بالمخبر به، كما في قول الشاعر:
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعزّ وأرفع
فقد لمسنا عظمة المخبر به ورفعة شأنه من عنوان (سامك السماء) الذي جاء في الموضوع)(1).
وأمّا عند الفقهاء فتعدّ مسألة (مناسبة الحكم والموضوع) من أبرز القرائن العامّة المعنوية، وهي مسألة جديدة الظهور نسبياً، ولعلّ أوّل من تنبّه لها هو الفقيه الهمداني (قدس سره) (ت 1322ﻫ).
نعم، في عدّة الأصول للشيخ الطوسي (قدس سره) قال: (هذا، وذهب بعض أصحاب الشافعي كالجويني والغزّالي في المنخول دون المستصفى إلى التفرقة بين الصفة المناسبة مع الحكم، كقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): في سائمة الغنم زكاة، فقالوا فيه بالمفهوم، وبين الصفة التي لا توجد فيها مناسبة الحكم كقول القائل: الأبيض يشبع إذا أكل، فقالوا فيه بعدم المفهوم)(2).
وقد فصّل الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك في حكم الأمة المتزوّجة لو طلّقت، ثمّ أعتقت في العدّة بين المطلّقة رجعياً فتكمل عدّة الحرّة؛ لأنّ الرجعية زوجة، وبين
ص: 224
المطلّقة البائنة فتكمل عدّة الأمة، ثمّ نقل روايتين مطلقتين: في إحداهما تعتدّ عدّة الحرّة، وفي الأخرى تعتدّ عدّة المملوكة، ثمّ قال: (والجمع بينهما بحمل الأوّل على الرجعي والثاني على البائن؛ لمناسبة الحكم)(1).
وسواء أكان الفقيه الهمداني (قدس سره) هو مكتشف هذه القرينة، أم سبقه غيره باكتشافها، فإنّه لا شكّ أنّه أكثر من استحضرها، فلا تجد لهذا التركيب الثلاثي قبله عيناً ولا أثراً(2).
وسرعان ما شاع هذا التعبير على لسان العلماء وانتشر في أروقة الحوزة، حتّى عند معاصري الفقيه الهمداني (قدس سره)، وهذا شيءٌ ملفت للنظر، فنجد مثلاً السيّد محمّد آل بحر العلوم (قدس سره) (ت 1326ﻫ) - وهو معاصر للفقيه الهمداني (قدس سره) - في كتاب بلغة الفقيه يوظّف هذا التعبير في بعض الموارد(3)، وقد كثر الاعتماد على هذه المناسبة عند المحقّقين من علمائنا بعد ذلك كالمحقّقينَ: النائيني والأصفهاني والعراقي (قدس سرهم)، فإنّك تجدهم يعملونها باطّراد، ولعلّهم يستعملون هذا التعبير في غير مناسبة الحكم والموضوع من القرائن غير اللفظية، وهذا لا يعني أنّهم يسمّون كلّ قرينة غير لفظية بمناسبة الحكم والموضوع، ولكنّك تكاد تفهم منهم في بعض المقامات أنّهم يقصدون بذلك الاستعمال القرينةَ المعنوية، لا خصوص مناسبة الحكم والموضوع.
ص: 225
وقد يُظنّ أنّ لمناسبة الحكم والموضوع - كمفردة قانونية - بعداً زمنياً أعمق من زمن الفقيه الهمداني (قدس سره)؛ اعتماداً على ما نقله المحقّق الشيخ حسين الحلّي (قدس سره) في أصول الفقه عن أستاذه المحقّق النائيني (قدس سره)، حيث قال: (وإنّما قيّدنا المناسبة بكونها عرفية احترازاً عمّا ذكره الشهيد (قدس سره) في الأخبار الدالّة على إرث الزوجة مطلقاً، والأخبار الدالّة على عدم الإرث، بحمل الأُولى على ذات الولد، والثانية على غير ذات الولد، من جهة مناسبة الحكم للموضوع المستفادة من التعليل الوارد في بعض أخبار المنع، بأنّها تدخل عليهم من لا يحبّون، فإنّه يستفاد منه كون غير ذات الولد قدراً متيقّناً، وإنّما احترزنا عنه لأنّ هذه المناسبة ليست مناسبة عرفية يطّلع عليها كلّ أحد، فلا تكون موجبةً لكون موردها قدراً متيقّناً في مقام التخاطب، كي يكون نصّاً فيها)(1).
ولعلّه استفاد ذلك من عبارة الشهيد الثاني
(قدس سره) (ت 966ﻫ) في رسالته المفردة في إرث الزوجة، حيث قال: (ووجه الجمع حمل تلك الأخبار على غير ذات الولد، وهذه على ذات الولد؛ لمناسبة كلّ واحدة لحكمها دون العكس)(2). وقال في المسالك في مسألة التفرقة بين الأطفال وأمهاتهم: (وجمع جماعة بين الروايات بحمل السبع على الأنثى، والحولين على الذكر، لمناسبة الحكمة في احتياج الأنثى إلى تربية الأمّ زيادةً على الذكر)(3). وفيه أيضاً في مسألة الأمة لو أعتقت ثُمّ طلّقت: (والجمع
ص: 226
بينهما بحمل الأوّل على الرجعي والثاني على البائن؛ لمناسبة الحكم)(1).
وقال الفاضل الهندي (قدس سره) (ت 1137ﻫ) في مسألة مزاحمة صلاة الليل للفريضة: (فلا اضطرار إلى ما في التهذيب والاستبصار من أنّ من أدرك أربعاً من صلاة الليل جاز له أن يتمّها قبل فريضة الصبح، والأفضل التأخير. ولا إلى ما في المنتهى من ترجيح الخبر الأوّل بعدم الإضمار، وباعتضاده بعمل الأصحاب، وبمناسبة الحكم من حيث المحافظة على السنن)(2).
ولكنّ التأمّل يعطي خلاف ذلك؛ فإنّ ما جاء في هذه الكلمات من باب المناسبة بين العلّة والحكم المرتّب عليها، ومنه: (مناسبة الحكمة للحكم)، وهي قاعدة فقهية مقرّرة عندهم(3)، وقد مثّل لها المقداد السيوري (قدس سره) (ت 826ﻫ) بالنجاسة في وجوب الغسل؛ فإنّها مستقذرة طبعاً، فناسب ذلك وجوب الإزالة بالغسل وشبهه، والزنا في وجوب الحدّ؛ لأنّه مؤدّ إلى اختلاط الأنساب، فيقع التقاطع والتدابر، فناسب وجوب الحدّ الرادع عنه، والقتل عمداً للمكافي في وجوب القصاص؛ فإنّه سبب في زهاق الأنفس المطلوب بقاؤها للقيام بعبادة الله، فجعل الرادع عنه القتل ليكون سبباً في بقاء الحياة، كما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾(4).
ص: 227
وأمّا السبب في اصطلاحهم (مناسبة الحكمة للحكم) فلا يظهر فيه مناسبة وإن كان مناسباً في نفس الأمر كما بيّن في الأصول، مثاله الدلوك وباقي الأوقات للصلوات، والحدث الموجب للوضوء والغسل، والاعتداد مع عدم الدخول، واستئناف العدّة في المسترابة بعد التربّص، والهرولة في السعي، ورمي الجمار، فإنّ العقل لا يهتدي إلى وجه الحكمة المقتضية لنصب هذه الأشياء أسباباً دون غيرها، أو شروطاً، أو موانع. فالحكمة الظاهرة فيها مجرّد الإذعان والانقياد.
والسبب في انتشار هذه القرينة قد يُعزى إلى اعتماد صاحب الكفاية (قدس سره) عليها في بعض المواضع، كمبحث حجّية قطع القَطّاع(1)، وفي البحث الذي عقده تحت عنوان (تتمّة) لبيان اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب، وأنّ المناط في الاتّحاد هو النظر العرفي(2)، وحيث إنّ كتابه من الكتب الأصولية المهمّة التي تدرّس في المنهج الدراسي في الحوزة العلمية، وما من طالب علمٍ إلّا ويقف على هذا الكتاب، فلعلّ هذا ساعد على انتشار الاعتماد على هذه القرينة أكثر ربّما من الدور الذي قام به الفقيه الهمداني، الذي لعلّه يُعدّ مكتشف هذه القرينة.
بل ربّما كان صاحب الكفاية (قدس سره) هو المؤسّس لها، وأخذها الفقيه الهمداني منه وإن كان أكثر استناداً لها، وهذه مسألة تاريخية، والأمر فيها سهل، وإنّما تذكر تشويقاً.
ص: 228
إنّ تحقيق مراد العلماء المتأخّرين في الفقه والأصول الذين يستندون إلى هذه القرينة، بعد أن تركوا بيان ذلك بنحوٍ ينضبط به المقصود منها، وأغفلوا بيان وجه صلاحيتها للاحتجاج، يقطع علينا السبيل للجزم بمعرفة مرادهم، إلاّ بملاحظة موارد استفادتهم منها. ويكون تطبيق هذا المنهج في تحديد المقصود من هذه القرينة مجمعاً بين التأصيل والتطبيق. كما أنّ لذكر تطبيقاتهم وموارد توظيفهم لهذه القرينة مآرب أخر غير ملاحظة الخصوصيات في الاستفادة، منها: استذكار جملة متفرّقة من الفروع الفقهية في الأبواب المختلفة.
وسيأتي عليك أنّ الذي يظهر من أكثر كلمات الأعلام: أنّ مناسبة الحكم والموضوع، قرينة تبيّن المراد بالكلام الذي تحتفّ به.
ص: 229
مرّ عليك في تاريخ المسألة أنّ الفقيه الهمداني (قدس سره) له السبق في توظيف (مناسبة الحكم والموضوع) بهذا التركيب الثلاثي في المباحث الفقهية والأصولية، وأنّ أصل المسألة كان لها حضور في أذهان أرباب العلوم قبله، فإنّ الحديث عن المناسبة والتناسب شائع في العلوم، وقد تكرّر في عبارات النحويين، والمفسّرين، وعلماء البلاغة، وغيرهم من أرباب العلوم في مواضع متعدّدة؛ فإنّهم إذا نظروا إلى عبارة مجملة تحتمل وجوهاً من المعاني، ورجّحوا منها معنى على آخر، قالوا: إنّ ذلك المعنى أنسب بالحكم من غيره. وغير خفيّ عليك أنّ هذا من باب الترجيح بالتناسب بين الحكم والموضوع، وإن لم يصرّحوا بذلك.
وللوقوف على حقيقة مناسبة الحكم والموضوع ينبغي علينا أوّلاً أن نوضّح المقصود الدلالي من الكلمات المأخوذة في عنوان المسألة في اللغة، ومن ثمّ نحاول الوصول إلى مقصود العلماء من هذه العناوين في الاصطلاح.
أمّا المعنى اللغوي لكلمة (المناسبة) فهي بمعنى القرابة والمشاكلة(1)، يقال: فلانٌ يناسب فلاناً فهو نَسِيبُه، أي: قريبه. ويقال: فلان نَسيبي، وهم أنسبائي، وقد
ص: 230
ناسبوني. وتقول: ليس بينهما مناسبة، أي: مشاكلة(1). ومن المجاز: بين الشيئين مُناسبةٌ وتَناسُبٌ. وكذا قولهم: لا نِسْبَةَ بينَهمَا، وبينهما نِسْبَةٌ قَريبة(2). ونَسَبَ الشاعر بالمرأة، إذا شَبَّبَ بها، سمّي نسيباً؛ لأنّه قريب من المرأة.
وهذه الاستعمالات فيها ضرب من ضروب التنزيل والتوسعة، والذي يعنينا أنّها بأجمعها تدخل في الاستعمالات اللغوية، ولا يعنينا التصنيف المصطلح عند علماء البلاغة، وهل هي حقيقة أو مجاز؟
وقد ذهب ابن فارس إلى أنّ جميع هذه الكلمات ترجع إلى معنى واحد، وهو الاتّصال والقرابة، قال في معجم مقاييس اللغة في مادّة (نسب): (النون والسين والباء كلمةٌ واحدة قياسُها اتّصال شيءٍ بشيء، منه النسَب، سمِّي لاتّصاله وللاتّصال به، تقول: نَسَبْتُ أنْسِبُ،. وهو نَسِيبُ فلانٍ، ومنه النسيبُ في الشعر إلى المرأة، كأنّه ذِكْرٌ يتَّصِل بها، ولا يكون إلَّا في النساءِ، والنسيبُ: الطريق؛ لاتّصال بعضِه من بعض)(3).
ص: 231
هذا كلّه في معنى كلمة (المناسبة).
ولا يخفى أنّ معنى المناسبة بحسب العرف، واستعمالات أبناء العربية في زماننا يساعد على ما ذكره ابن فارس؛ لأنّهم يقصدون بالمناسبة: الملاءمة، والمواءمة، والانسجام، وإن لم يتضمّن مشابهة، بل يرون مناسبة بين الضدّين، كما في الألوان، فإنّ المختّصين بتناسق الألوان في الجدران أو الثياب أو الأثاث، يجمعون بعض الألوان مع بعض، ولا يرضون بوضع بعض آخر، ويقولون: هذا مناسب لهذا، وذاك غير مناسب له.
ومرادهم: أنّ الذوق يستحسن الجمع بينهما.
قال الشاعر في يتيمته:
فالوجهُ مثل الصبح مُبيَضُّ *** والشعرُ مثل الليلِ مُسوَدُّ
ضدّانِ لمّا استَجْمَعا حَسُنا *** والضدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضدُّ
وعلماء البلاغة والمختّصون بعلوم القرآن يعدّون الأذُن مناسبة للموعظة مع أنّه لا مشابهة بينهما؛ فإنّ الموعظة كلام مسموع، وهو عَرَض، والأذُن آلة، وهي جوهر، لكنّهم يقولون: الموعظة مناسبة للأذُن.
وإذا جعلنا كلام أهل البلاغة وعلوم القرآن شاهداً على المعنى العرفي فالمناسبة عند العرف هي الصلة والارتباط، وهو ما قاله ابن فارس.
وأمّا كلمة (الحكم) و(الموضوع)، فهي تعني ما يسمّيه علماء النحو بالمسند والمسند إليه.
ص: 232
وأمّا المعنى المصطلح عند علمائنا عندما يعبّرون بمناسبة الحكم والموضوع - وهو الذي يهمّنا في المقام - ففيه احتمالات:
وهذا الاحتمال مدفوع؛ لأنّ الأحكام في الغالب من الاعتباريات، وموضوعاتها موجودات عينية خارجية، ولا يمكن القول: إنّ هذا الموجود العيني مشابه لذلك الأمر الاعتباري، ومثال ذلك: (الدم نجس)؛ فإنّ النجاسة حكم اعتباري تشريعي والدم موجود عيني، فأين التشابه بينهما؟ ولذا لا يمكننا تفسير مقصودهم من التناسب بين الحكم والموضوع بالتشابه بينهما.
ويدفعه أنّ لازمه أن يتحكّم العرف في حدود موضوع الحكم الشرعي، وأنّه الذي يفرض على الشارع أنّ هذا الموضوع أقرب من ذاك إلى حكمك، وأليق به، وأحقّ من ذلك الموضوع العامّ. فلو قال المولى: (يجب إكرام المؤمن)، فيتصرّف العرف فيه، ويقول: إنّك تعني بالمؤمن هنا خصوص المؤمن التقي، لكونه أليق بالإكرام من غيره من المؤمنين؟ إلّا أن يقال: إنّ المراد باشتراط التناسب هو الجزم بعدم ثبوت الحكم للأفراد الذين لا يناسبهم الحكم، فالتناسب هو اللياقة، ولكن ليس التناسب شرطاً، بل عدم التناسب مانع، والمراد بعدم التناسب هو التنافر، فقول المولى: (أكرم المؤمن) يحمل على (غير المتهتّك) مثلاً؛ لأنّ المتهتّك غير لائق بوجوب الإكرام. وبعبارةٍ أخرى: لا بدّ أن يكون الإطلاق غير مقبول عند العرف.
ص: 233
لكنّه يقلب القرينة من (مناسبة الحكم والموضوع) إلى (منافرة الحكم للموضوع)، وهذا تفسير لكلامهم بمعنى بعيد.
لأنّنا لا نحتمل أنّهم يريدون القرب المكاني أو الزماني؛ لأنّ الحكم قد لا يكون أمراً مكانياً ولا زمانياً، مثل الأحكام الاعتبارية فإنّ الوجوب والتحريم والطهارة والنجاسة أمور تشريعية اعتبارية، وليست موجودات زمانية ولا مكانية. وإنّما المحتمل أن يراد ضرب من القرب المعنوي.
ووجه هذا القرب المعنوي بين الحكم والموضوع هو قوّة احتمال إرادة الحكم الخاصّ عند إثباته لموضوع معيّن، فهذا هو الراجح في معنى التناسب بين الحكم والموضوع.
وكأنّنا نقول: إنّ المقصود بالحكم المثبت لهذا الموضوع هو هذا الحكم على الأرجح، والمقصود بالموضوع الذي أثبت له الحكم هو هذا الموضوع على الأرجح، إمّا توسعةً أو تضييقاً أو غير ذلك من التغييرات التي يحدثها هذا الترجيح، وسيأتي التعرّض لها مفصّلاً في الأبحاث اللاحقة، وعلى هذا فمآل مناسبة الحكم والموضوع هو الظنّ، وأنّ المظنون إرادة هذا المعنى.
ولكن هذا المعنى لا يتناسب مع ما نعرفه من علمائنا الأبرار من رسوخهم وتمكّنهم في العلم، وثبات قدمهم فيه، مع وضوح أنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، فلا بدّ أن لا يكون هذا محلّ كلامهم، ولا هو المقصود من مناسبة الحكم والموضوع عندهم.
ص: 234
وعليه فمقصودهم من هذه المناسبات هو حصول اليقين أو الاطمئنان عندهم بإرادة حصّة خاصّة في موارد تقييد موضوع الحكم مثلاً، أو إرادة عدم خصوصية العنوان المذكور في مواضع التعميم، وأمثال ذلك بنحوٍ يعود ما يريدونه من مناسبة الحكم والموضوع إلى ما هو حجّة عندهم، لا إلى الظنّ الذي ليس بحجّة، ولا تقوم به حجّة.
وهذا التفسير لمرادهم من المناسبة بين الحكم والموضوع يرجع إلى أمرٍ شخصيّ، ويخرجه عن القرائن العامّة. إلّا أنّهم مع ذلك يعبّرون عن هذه المناسبات ب-(العرفية) و(الارتكازية)، وهذه العبارات تعطي أنّ مناسبة الحكم والموضوع معنى يقوم بالآخرين، لا بأنفسهم خاصّة.
ويمكن أن يكون مقصودهم بالتعبير ب-(العرفية) و(الارتكازية) بيان أنّ الجزم الذي استندوا إليه في تحديد موضوع الحكم ليس أمراً ذاتياً، بل هو أمر موضوعيّ.
فإن قلت: قد وقع الخلاف بين العلماء في الاطمئنان الذي هو حجّة، أهو الاطمئنان النوعي أم الاطمئنان الشخصي؟ فكيف ترجعون (مناسبة الحكم والموضوع) إلى الاطمئنان بحدود الموضوع المقصود بالعنوان المذكور في لسان الدليل إلى الاطمئنان النوعي، والحال أنّ بعض العلماء - كالسيّد الخوئي ممّن يتمسّك بهذه المناسبة(1) - لا يرى الاطمئنان النوعي حجّة، فإنّه قد تمسّك بمناسبة الحكم والموضوع كثيراً، مع أنّه لا يرى الاطمئنان النوعي حجّة، بل لا يرى القطع النوعي
ص: 235
حجّة؟!
قلنا: قد يكون ذلك لاعتقاد أنّ مناسبة الحكم والموضوع شيء آخر غير الاطمئنان بالمراد، أو يكون المقصود سدّ باب الطعن عليهم، كمن يرى الحجّة هو الظهور الواصل إلى درجة الاطمئنان بإرادته، فإنّك تجده أحياناً في البحث الفقهي يقول: العرف يفهم من هذا التعبير هذا المعنى، فيسند هذا الفهم إلى العرف، لا لأجل بيان جهة الحجّية والاعتبار عنده، فإنّ جهة الحجّية هي اطمئنانه الشخصي، بل قصده من دعوى الظهور العرفي سدّ باب الطعن عليه؛ ليقول: إنّ هذا الاطمئنان ناشئ من أسس موضوعية، وليس اطمئناناً ذاتياً. وقد يكون ذلك من جهة أنّ الحجّة عنده هو الاطمئنان الشخصي الموضوعي، فلهذا العمل مخارج متعدّدة.
إذا نظرنا إلى عبارة (مناسبة الحكم والموضوع) وحدها - ومع قطع النظر عن موارد تطبيقها، وما يستظهرونه في كلّ مورد بالاعتماد عليها - فإنّ تحليلها يقودنا إلى أنّ مرادهم بها هو علم السامع بعدم ثبوت الحكم للطبيعي على سعته وإن لم يُذكر قيد لفظي في الكلام.
وأمّا منشأ علم السامع بذلك فيختلف من مورد لآخر، فقد يكون علمه بذلك ناشئاً من استحالة ثبوت الحكم للطبيعي استحالة ذاتية، وقد يكون ناشئاً من استحالة ثبوته للطبيعي من جهة امتناع ذلك على الحاكم، ويظهر الفرق بين العلم الناشئ من هذا السبب عن سابقه فيما لو جاء مثل هذا الحكم عن غير هذا الحاكم في
ص: 236
صفته الموجبة لامتناع الإطلاق في حقّه. وقد يكون ناشئاً من بيان المتكلّم حكم حصّة من ذلك الطبيعي، وأنّها بخلاف الحكم المطلق. وهذا يدخل في التخصيص بالمنفصل، سواء أكان المخصّص متأخّراً أم متقدّماً. وقد يكون ناشئاً من معرفته بغرض المتكلّم من جعل الحكم، وعلمه بخلوّ بعض حصص الطبيعة من ذلك الغرض، والعلم بالغرض إن حصل من طريق العقل فهو راجع إلى السبب الأوّل أو الثاني، وإن حصل من طريق الارتكاز العرفي أو المتشرعي كان في قبالهما.
ومناسبة الحكم والموضوع بهذا التفسير ترجع في بعض مواردها إلى (القرينة العقلية) كما في السبب الأوّل والثاني، بل والثالث من وجه، وترجع في بعضها إلى (قرينة المقام) كما في العلم بالغرض.
لكنّ الذي لاحظناه في أكثر موارد اعتماد الفقهاء على مناسبة الحكم والموضوع أنّهم يريدون بهذا المركّب المؤلّف من الكلمات الثلاث: تنقيح المناط، واستكشاف حكمة التشريع، أو استنباط علّة الحكم بدرجة يطمئنون بكونها علّةً للحكم.
فمرادهم من كلمة (المناسبة) معنى ينسجم مع المعنى الذي يقصدونه بهذا المركّب، وهو تنقيح المناط، فما هو معنى (مناسبة) الذي يتوافق مع إرادة (تنقيح المناط)، و(غرض التشريع) من قولهم (مناسبة الحكم والموضوع)؟
لعلّ ذلك المعنى هو علاقة بين الحكم والموضوع، وارتباط بينهما، وأنّ العرف يدرك هذا الارتباط بينهما، لأنّه يرى الغرض من هذا الحكم قائماً بهذه الحصّة خاصّة والغرض من ذلك الحكم قائماً بتلك الحصّة خاصّة، وهكذا.
والأقرب في توجيه تسمية هذه القرينة بالمناسبة: أنّ المناسبة بمعنى الصلة
ص: 237
والارتباط، وحيث إنّ الحكم تشريع اعتباري، والموضوع ربّما كان أمراً واقعياً، وليست بينهما صلة، فكيف عدّوا الصلة بينهما قرينة؟
والجواب: أنّ التشريع الاعتباري له ملاك يصحّحه، والملاك قائم بالموضوع، وهذا الملاك هو الصلة بين الحكم وموضوعه، والحكم يتبع الملاك في أصل وجوده، وفي حدوده وقيوده، فإذا كان الملاك في الطبيعة على سعتها، فيشرع الحكم للطبيعة كذلك، وإذا كان الملاك في حصّة خاصّة من الطبيعة، فيجب تخصيص الحكم بتلك الحصّة، ولا مصحّح لتشريع حكم يتعلّق بما وراء الحصّة التي فيها الملاك.
ولعلّك تقول: هذا التوجيه إنّما يتمّ في الأحكام التكليفيّة، فإنّها تابعة لملاك قائم بمتعلّقاتها، وأمّا الأحكام الوضعية فليس له مجال فيها؛ لأنّ ملاكاتها فيها نفسها، لا في متعلّقاتها، فهو توجيه ناقص، بل إنّ أكثر موارد استناد الفقهاء إلى مناسبة الحكم والموضوع هو الأحكام الوضعية، بل قسم خاصّ من الأحكام الوضعية، وهي المعاملات.
والجواب: أنّ أحكام المعاملات لا تخلو من ملاكات في موضوعاتها، فالحكم بلزوم البيع مثلاً ناشئ من ملاك في البيع، لا في اللزوم، ولو كان البيع مثل الربا لاستوى لزوم البيع ولزوم الربا، فيصير الترجيح بلا مرجّح.
والحاصل: أنّ المناسبة هي الصلة، ومناسبة الحكم للموضوع هي كون الحكم معلولاً للموضوع، وكون الموضوع علّة للحكم، والمراد بكونه علّة كونه مصحّحاً لتشريعه، وذلك باشتمال الموضوع على الملاك.
فإذا قال: إذا لمست كلباً فطهّر يدك، وقلنا: إنّ مناسبة الحكم والموضوع تقيّد
ص: 238
ذلك بكونه برطوبة مسرية، فالمقصود: أنّ الناس يمكنهم معرفة الملاك الموجب لتطهير اليد، وهو سراية القذارة من الكلب الممسوس إلى اليد الماسة، وهذه السراية خاصّة بما إذا كان المسّ برطوبة، فالحكم بالانفعال خاصّ بذلك.
كل هذا من أجل التوفيق بين ما تدلّ عليه كلمة (مناسبة) وبين ما يستفاد من استدلالات الفقهاء، لكن الأمر في هذا سهل؛ لأنّ عبارة (مناسبة الحكم والموضوع) لم ترد في نصّ شرعيّ، وإنّما هي من إنشاء العلماء، فإذا علمنا أو حصلت لنا الثقة بأنّهم يريدون بها (الغرض) أو (تنقيح المناط) مثلاً فلا غضاضة إن لم تكن كلمة (مناسبة) منسجمة مع مقصودهم، فإنّ غاية ذلك أن يكونوا قد تسامحوا في استعمال كلمة (مناسبة) هنا.
إنّ بيان التشخيص التفريقي بين مناسبة الحكم والموضوع وبين كلّ واحدة واحدة من القرائن المعنوية العامّة يطول، ولكنّنا نكتفي بذكر طريقة التمييز بينها وبين ما هو قريب لها من القرائن المعنوية، وبه تعرف المائز بينها وبين سائر القرائن المعنوية.
أمّا الانصراف فقد ذكر العلماء له مناشئ، منها: كثرة الوجود، ومنها: كثرة الاستعمال، ومنها: خفاء الصدق. وجميع هذه المناشئ أمور مطّردة في مختلف الأحكام التي تحمل على تلك الطبيعة، وعليه فيسهل التشخيص التفريقي للانصراف، وذلك بتغيير الحكم في القضية، فإذا غيّرنا الحكم ووجدنا الدلالة على الخاصّ باقية على حالها علمنا أنّ القرينة الدالّة على إرادة الخاصّ هي الانصراف.
ص: 239
هذا مجاراة للعلماء، وإلّا فالأنسب أن ندرس كلّ واحد من المناشئ التي ذكروها باعتباره قرينة معنوية مستقلّة، وننظر في نتيجة دراستنا لها، أيّها قرينة معنوية حقّاً؟ وأيّها قرينة وهمية؟ ثمّ ندرس شروط قرينية ما ثبت منها أنّه قرينة حقّاً.
وأمّا الغرض فيمكن تبديل الحكم بحكم لا نعرف غرضه، وننظر إن بقيت الدلالة على التقييد. نعم، لا بدّ من بيان طريق معرفة الغرض، فإنّ الغرض أمر غيبي، ولا يعرف إلّا ببيان صاحبه، أو بمشاهدة حاله.
وأمّا مناسبة الحكم والموضوع فإذا أخذنا بما يقتضيه لفظها فهي قرينة مستفادة من خصوصية الحكم في القضية، وهذا يعني أنّا إذا غيّرنا الحكم فسوف تذهب الدلالة بتغيير الحكم، فإذا شككنا أنّ القرينة في موردٍ ما هي مناسبة الحكم والموضوع نغيّر الحكم وننظر، فإن استفدنا العموم بعد تغيير الحكم فنستكشف أنّ الحكم هو الذي دلّنا على القيد، وإن بقي الكلام مفيداً لإرادة الخاصّ فنعلم أنّ القرينة على التقييد شيء آخر غير الحكم.
وإذا احتملنا أنّ الحكم البديل يشارك الحكم الأصلي في مناسبته للخصوصية، فنجرّب حكماً ثالثاً، ورابعاً، حتّى تحصل الثقة بأنّ الخصوصية لم تأتِ من ناحية الحكم.
وتوضيح الجواب ببيان أمثلة للقرائن المعنوية:
فالأب قد يطلب من ولده الماء، فيقول له: (أحضر لي بعض الماء)، فيأتي بلفظ (الماء) مطلقاً خالياً من أيّ قرينة لفظية، والماء المطلق يصدق على البارد والمغلي، لكن حال الأب يدلّ على غرضه من طلب الماء، فإن كان الأب عطشاناً فهو يريد الماء ليشربه، وهذا الغرض يقوم بالماء البارد، وإن كان الأب يشرب الشاي واشتكى
ص: 240
من شدّة تركيز الشاي وغلظته، فهو يريد الماء ليخفّف به غلظة الشاي، وهذا الغرض يقوم بالماء المغلي، وإن كان قد وقع شيء على ثوبه، فهو يريد الماء لينظّف به ثوبه، وهذا الغرض يقوم بالماء الفاتر.
فالغرض قد يقيّد المطلق بهذه الحصّة، وقد يقيّده بتلك، وقد يبقيه مطلقاً.
أمّا كيف علمنا بالغرض؟
فالجواب: أنّ الغائب ليس له طريق لمعرفة غرض الأب من الماء، وإنّما يعرف غرضه من كان عنده، فإن رآه قادماً من الطريق، ووجده يلهث من العطش، عرف أنّ غرضه شرب الماء، وإن رآه جالساً وأمامه كوب الشاي عرف أنّ غرضه إضافة الماء للشاي.
ومن هنا يتّضح أنّ هذه القرينة ذات وجهين؛ لأنّها تعتمد على مقدّمتين، إحداهما حسّية، وهي الرؤية، والأخرى عقلية، فالعقل يحكم بأنّه إنّما طلب الماء لهذا الغرض، فمن نظر للجانب الحسّي فيها سمّاها: (شاهد الحال)، ومن نظر للمقدّمة العقلية فيها سمّاها: (الغرض).
واعتبر بانفعال الكرّ بوقوع النجاسة، فإنّه يشترط فيه تغيّر أحد أوصافه بالملاقاة، فلا ينفعل إذا تغيّرت حرارته أو برودته بالنجس، ولا إذا تغيّرت رائحته بالمجاورة.
وفي المسالك: (قوله: والاستمناء، هو طلب الإمناء، والمراد به حصول الإمناء به، لا مطلق طلبه وإن كان الطلب محرّماً، لكنّه لا يوجب الكفّارة بدون حصوله)(1).
ص: 241
فما هو الدليل على ذلك؟
وهذا هو الأقرب لما نفهمه من تطبيقاتهم، وموارد اعتمادهم على مناسبة الحكم والموضوع وإن لم يصرّحوا بإرادة استظهار الغرض وحكمة التشريع.
ولعلّ أصرح عبارة في ذلك، ما قاله الشيخ لطف الله الصافي (مد ظله) في مجموعة الرسائل من: (أنّ الأحكام الشرعية على قسمين:
قسم منها الأحكام العبادية المتعلّقة بما بين العبد وبين الله تعالى، والوظائف التي يتقرّب بها كلّ فرد إلى الله تعالى، ويستكمل بها الكمالات الإنسانية، ويحضر بها مشاهد القرب، ويتشبّه بها بالملائكة الروحانية، ويرتفع بها إلى الحضور في عالم القدس والأنس.
وهذه الأحكام وإن كانت أساس السعادات الدنيوية والأخروية، والجسمية والروحية، وروح جميع الأنظمة الشرعية، إلّا أنّ الغرض الأوّل والأسنى من تشريعها إيصال العباد إلى المقامات المعنوية، والتوجّه إلى خالقهم الحقيقي، والمنعم عليهم، وجلوسهم على بساط الشكر وحصول حال التعبّد والتسليم والانقياد للحقّ في نفوسهم وغير ذلك. فهذه أحكام تعبّدية صرفة لا يطّلع على ما فيها من الحكم بالتفصيل إلّا الأوحدي من الناس ممّن أكرمه الله تعالى بالاطّلاع على ذلك، ولا يتحقّق الغرض الأصلي منها إلّا بامتثالها بقصد الإطاعة والتعبّد الخالص، فلو اطّلع العبد على بعض ما فيه من الفائدة والحكمة غير ما يتحقّق بالعبادة والإتيان به تعبّداً، فأتى به لتحصيل هذه الفائدة والحكمة لم يكن ممتثلاً لها، ولا يستحقّ بها ما يستحقّ عباد الله المخلصون.
ص: 242
والقسم الثاني: الأحكام المشروعة لنظم أمور الدنيا، وسياسة المدن، وإدارة المجتمع، وروابط الأفراد بعضها مع بعض في الأموال وغيرها، ففي مثل هذه الأحكام بملاحظة الأحكام وموضوعاتها والمناسبة بينهما، يفهم العرف في الجملة غرض الشارع، وما يحقّقه وما يرتبط به، ويكون لهذا الفهم دخل في استظهار مراده من كلامه من العموم والخصوص وغيرهما، وتكون هذه المناسبات التي يفهمها العرف من القرائن الحالية أو المقالية الدالّة على ما أراده المتكلّم من كلامه)(1).
وإنّما قلنا: أكثر عباراتهم؛ لأنّه تظهر من بعض العبارات معانٍ أخر:
فقد فسّر المحقّق العراقي (قدس سره) في نهاية الأفكار مناسبة الحكم والموضوع بأنّها ارتكاز الترابط بين الحكم والموضوع في أذهان العرف، قال (قدس سره): (فإنّ للعرف نظرين:
أحدهما: من حيث كونه من أهل المحاورة، ومن أهل فهم الكلام، وبهذا النظر يحدّد الموضوع الدليلي في فهم المرادات، ولو بواسطة القرائن الحافة بالكلام، فيفرّق بين قوله: الماء المتغيّر ينجس، وبين قوله: الماء إذا تغيّر ينجس، من حيث فهمه الموضوع في الأوّل هو (الماء المتغيّر) بما هو متغيّر، وفى الثاني ذات (الماء) وكون التغيّر جهة تعليلية لثبوت النجاسة للماء.
وثانيهما: بما هو المرتكز في ذهنه من المناسبة بين الحكم وموضوعه ولو على خلاف ما هو المتفاهم من الكلام، فيرى أنّ موضوع النجاسة حتّى في مثل قوله: (الماء المتغيّر ينجس) ذات الماء وأنّ التغيّر واسطة في ثبوت النجاسة ومن الجهات
ص: 243
التعليلية؛ لما هو المرتكز في ذهنه من أنّ النجاسة من عوارض الماء، لا من عوارض الماء والتغيّر وإن كان بحسب نظره الدليلي خلاف ذلك، فيفهم أنّ موضوع النجاسة في المثال هو الماء بوصف تغيّره)(1).
والمحقّق الأصفهاني (قدس سره) عدّ معنى كلمة (الماء) واحداً، ولكنّك إذا قلت: ما هو تعريف الماء؟ فتقصد بها مفهوم الماء، وإذا قلت: اسقني الماء، فتقصد بها مصداقه، كما عدّ معنى كلمة (التمليك) واحداً، لكنّك إذا قلت: ملّكتك الكتاب بشرط أن تخيط ثوبي، فمرادك به السبب، وإذا قلت: ملّكتك الكتاب، فلك أن تقرأه أو تبيعه، فمرادك به المسبّب، قال: (فيفهم التمليك الإنشائي في الأوّل، والتمليك الحقيقيّ في الثاني بمناسبة المقام)(2).
وظاهره أنّ مرجع مناسبة الحكم والموضوع إلى القرينة المقامية.
و قال السيّد الحكيم (قدس سره)
في حقائق الأصول: (كما أنّ الظاهر ممّا دلّ على حجّية خبر الثقة من تلك النصوص اعتبار كونه ثقةً في خصوص ذلك الخبر، ولا يعتبر كونه ثقةً في نفسه، وكأنّ الوجه في ذلك مناسبة الحكم لموضوعه، وإلّا فإطلاق الثقة يقتضي كونه ثقة مطلقاً، فقرينة المناسبة المذكورة - ولا سيّما بملاحظة الارتكاز العقلائي - أوجبت كون الظاهر ما ذكرنا، ولأجل ذلك استقرّ بناء الأصحاب على العمل بأخبار الضعفة مع اقترانها بما يوجب الوثوق بصدورها ولو كان ذلك مثل عمل المشهور أو الأساطين بها، كما لا يبعد أن يكون المراد من الوثوق الوثوق
ص: 244
النوعي، جرياً على مقتضي الارتكاز العقلائي)(1).
نعم، يبقى أنّه ربّما فهم من عبارة: (تنقيح المناط) أنّ الأمر يستند إلى فهم شخصيٍ للناظر إلى الحكم، فكأنّه يعبّر عن اجتهادٍ شخصي، واستنباط فردي، وأمّا مناسبة الحكم والموضوع فيقصدون بها أنّ استنباط علّة الحكم ليس مستنداً إلى أمرٍ شخصي، بل إلى ارتكازٍ عرفي.
ولعلّ الذي حداهم على هذا التعبير هو الخروج عن سُبّة القياس المنهي عنه شرعاً، كيف وقد بلغت الروايات المانعة عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريباً؟!
ولو لاحظنا تاريخ القرائن، واعتماد العلماء على غير اللفظية منها بالخصوص، ونظرنا في موارد سمّاها علماء البلاغة والتفسير وأصول الفقه القدماء ب-(القرينة العقلية)، لوجدنا أنّ جملةً منها هي التي تسمّى في اصطلاح المتأخّرين بمناسبة الحكم والموضوع.
وإذا عرفنا السبب الذي دعا علماءنا المتأخّرين للنأي عن التعبير بتنقيح المناط، فهذا يجرّنا إلى البحث عن السبب الذي دعاهم للعدول أيضاً عن التعبير بالقرائن العقلية. ولعلّ سبب عدولهم عن هذه التسمية القديمة الموروثة مع شيوعها، هو أنّ القرينة العقلية تشعر بأنّ حمل الكلام على خلاف ما تعطيه القرينة غير معقول.
فقد تقول: في مثل (عليك بهذا الجالس) إنّ عنوان الجلوس عنوان مشير، لا موضوعية له، والقرينة على ذلك عدم معقولية دخل الجلوس في حجّية القول.
ص: 245
إلّا أنّ المتأخّرين حيث تقرّر عندهم أنّ الأحكام الشرعية أمور جعلية اعتبارية، والاعتبار وإن كان لا ينافي العقل؛ لأنّه خفيف المؤونة، إلّا أنّه يشترط فيه وجود المصحّح، وهو تحقّق الملاك، وقد تقرّر في محلّه أنّ ملاكات الأحكام مخفية عنّا، فلا يسعنا الحكم بكون الجلوس دخيلاً في موضوع الحكم، ولا بكونه غير دخيل ما لم نطّلع على الملاك، فليس لنا أن نأتي من طريق العقل، ولذلك التمسوا طريقاً آخر غير القرينة العقلية، وهو أنّ العرف لا يرى للجلوس دخلاً في حجّية القول، وبه خرجوا عن هذه القلاقل، ودفعوا اعتراض المعترض عليهم بأنّ العقل لا شأن له بالأحكام الشرعية.
ومن هذا يتّضح لك سبب كون أكثر موارد الاعتماد على مناسبة الحكم والموضوع قرينةً كانت أم دليلاً في أبواب المعاملات والطهارة خاصّة، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هذه الأحكام ليست تعبّداً صرفاً، فلحديث التناسب بين الحكم والموضوع فيها مجال.
هذا ما أردنا التعرّض له في هذه الحلقة، وسيأتي في الحلقة اللاحقة التعرّض للجهات الأخر.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* * *
ص: 246
لا غنىً عن البحث في السيرة العقلائية في الفقه والأُصول؛ كونها تعدّ جذراً استدلالياً لمباحث وقواعد مهمّة كمباحث الطهارة والمعاملات، وحجّية الأمارات، إلى غير ذلك من الموارد.
والبحث الذي بين يديك - عزيزي القارئ - يسلّط الضوء على طرق إثبات السيرة، والاستدلال بها وشروطه، ومدلولها وحدوده.
ص: 247
ص: 248
بسم الله الرحمن الرحيم
تناول البحث (السيرةَ العقلائية) في ستة فصول وخاتمة. وكان الفصل الأوّل منها في تقسيمات السيرة بعد مقدّمة في تحديد المراد من هذا الاصطلاح، وتعقّبه الفصل الثاني في طريقة الاستدلال بها وشروطه، وهي ستٌ: أوّلها في ثبوت موقف من الشارع المقدّس تجاه السيرة، وثاني الشروط الاطّلاع على هذا الموقف إن كان.
كلّ هذا تقدّم في الحلقة الأولى، وأمّا باقي الشروط ومحاور البحث فهو ما نتكفّل به في هذه الحلقة.
إنّ صدور موقفٍ من المشرّع الإسلامي - سواء كان هذا الموقف على سبيل المقتضي للحجّية أو على نحو المانع - تجاه السيرة العقلائية يستدعي معاصرتها له، وإلّا كيف يصدر الموقف تجاه السيرة مع فاصل زمنيّ بينهما، وهذا يفضي إلى البحث عن الطرق التي نثبت بها معاصرة السيرة التي في زماننا لزمان وجود المعصوم المتمثّل بالنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمّة (علیهم السلام) .
ص: 249
قد يقال: (تارة)بأنّه لا حاجة لهذا الشرط من أصلٍ، و(ثانية) بأنّ المعاصرة حاصلة في جميع الأزمنة، و(ثالثة) بأنّه لا ملازمة بين اتّخاذ الموقف من المعصوم ومعاصرة السيرة لزمانه.أمّا الأولى(1) فمن جهة أنّ العقلاء في تقدّم ونضج وتزايد خبراتهم الفكرية والاجتماعية والقانونية؛ ولأجل ذلك ظهرت حقوق مستجدّة كثيرة للإنسان، والحيوان، والبيئة، ودراسات قانونية مختلفة، ممّا يعني فعلاً تطوّر الجانب العقلي والعقلائي في الإنسان.
وفيه: لو سلّمنا ما قيل(2) فإنّ ما حكم العقل بلزوم اتّباعه إنّما هو حكم الله تعالى وليس حكم العقلاء، كما أنّه لم تثبت الملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشارع.
إن قلت: تقدّم أنّ الأصل مطابقة عقلائية العقلاء لعقلائية الشارع ومولويته، وعلى أساسها قيل بالملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشارع.
قلت: إنّ هذه الملازمة معلّقة على عدم صدور موقفٍ رادع من الشارع على سبيل السالبة بانتفاء المحمول، لا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، ولذا اشتُرط إمكان الردع عقلاً وعرفاً؛ لأنّه في حال امتناعه - أي الردع - فإنّه وإن لم يكن ردع في البين
ص: 250
ولكن لا يصحّ استكشاف الإمضاء والرضا منه كما لا يخفى، ومع عدم المعاصرة لا يتحقّق الإمكان المذكور.
وأمّا الثانية(1) - من كون المعاصرة حاصلة في كلّ زمان - فلوجود صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه، وعليه تكون كلّ سيرة عقلائية في أزمنتنا المتأخّرة هذه معاصرة لوجود المعصوم (علیه السلام)، فيدلّ سكوته تجاهها على إمضائه لها.
وهذا ما كان يستند عليه قدماء أصحابنا كالسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ (قدس سرهما) (2) في حجّية الإجماع والسيرة؛ لأنّ السيرة تاريخياً كانت تُصنّف على أنّها أحد أنحاء الإجماع، ويعبّر عنها ب-( الإجماع العملي)(3).
والجواب: أنّ ما تقدّم من الوجوه الخمسة(4) لإثبات أنّ السكوت دالّ على
ص: 251
الإمضاء - من كونه مكلّفاً بإظهار الحقّ وإزاحة الباطل، أو أنّه آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، أو إمضاء أصل الاتّحاد في العقلائية بين الشارع والبشر، أو الحفاظ على الأغراض المولوية، أو تعليم الجاهل وتربية الإنسان تربية ربّانية - افتُرض فيها الوضع الطبيعيّ، وهو حضور المعصوم والمشرّع الإسلامي.
وأمّا في حال الغيبة فلأنّه غير مكلّف بهذه الأمور، فلا يدلّ سكوته تجاه سيرةٍ على إمضائه أو ردعه عنها.
وأمّا الثالثة - من عدم الملازمة بين اتّخاذ موقف من المعصوم (علیه السلام) وبين معاصرة السيرة - فلوجهين:
ما عن بعض الأكابر (قدس سرهما) في معرض الكلام عن جواز الرجوع إلى المجتهدين في أزمنتنا هذه مع الاختلاف الكبير عن اجتهاد أصحاب الأئمّة (علیهم السلام)، فقال ما لفظه: (إنّ النبيّ الأكرم والأئمّة من بعده عارفون بحال أمّته، وما يجري عليهم في مختلف الزمان ومرور الدهور من غيبة وليّ الدين وإمامه، وحرمان الأمّة عن الوصول إليه، وإنّ الأمّة بمقتضى ارتكازهم من لزوم رجوع الجاهل إلى العالم سوف يرجعون إلى علمائهم الذين لا محيص لهم من الرجوع إلى أخبارهم وآثارهم التي دوّنها أربابها، باذلين جهدهم مستفرغين بالهم في استنباط الحكم، فلو لم تكن هذه السيرة مرضيّة لكان عليهم الردع، ومنع الأمم الجائية عن التطرّق بهذا الطريق، وإرجاعهم إلى طريق آخر. وقد أخبروا عن كثير من الأمور التي لم يكن يوم ذاك عنها عين ولا أثر، كيف وقد أمروا أصحابهم بضبط الأحاديث والأصول معلّلين بأنّه سيأتي زمان هرج ومرج، ويحتاج إلى كتبهم، كلّ ذلك يرشدنا إلى كون السيرة
ص: 252
مطلقاً ممضيّة بلا إشكال)(1).
ومحصّله: أنّ المعصومين (علیهم السلام) لمّا كانوا عالمين بالغيب فهم يعلمون غيبة الإمام الحجّة (علیه السلام) بنحو لا تستطيع الأمّة الرجوع إليه كما كانت ترجع إلى غيره من المعصومين (علیهم السلام) .
كما أنّهم عليهم السلام يعلمون أنّ الأمّة سوف تتحرّك وفق ما تقتضيه قرائحهم ومرتكزاتهم العقلائية والتي منها رجوع الجاهل إلى العالم، فيرجعون إلى الفقهاء والمجتهدين من أهل زمانهم الذين يختلفون عن الفقهاء والمجتهدين من أصحاب الأئمّة بحدٍّ كبير.
فلو لم يكن مثل هكذا رجوع مرضيّاً عندهم (علیهم السلام) لردعوا عنه ولوصل إلينا، ولمّا لم يصل إلينا هكذا ردع فهذا يعني أنّهم أمضوا هذه السيرة بجميع مراتبها.
إن قلت(2): هذا إعمال للغيب، والمعصومون (علیهم السلام) إنّما يحافظون على الأحكام الشرعيّة بالطرق الاعتيادية، وليس بإعمال الغيب.
قلت: إنّهم (علیهم السلام) أخبروا عن كثير من الأمور التي لم يكن في زمانهم منها عين ولا أثر، فكيف بما كان بعض مراتبها موجوداً في زمانهم، ومن جملة الأمور التي أخبروا عنها أنّه سيحصل في الأمّة هرج ومرج، واختلاط الحقّ بالباطل، ولذا أمروا أصحابهم بضبط الأحاديث والأصول التي ستكون هي المرجع لهم في تلك الحال.
وأجاب السيّد الأُستاذ (دامت افاداته) عن أصل البيان المذكور بما لفظه: (إنّ الملاكات
ص: 253
المولويّة على درجات متفاوتة، وتختلف بحسب ذلك درجة ما تستدعيه من الاهتمام بتبليغها إلى المكلّفين، والأحكام المتعلّقة بالأمور المستحدثة في عصر الغيبة إذا لم يصل الردع عمّا استجدّ من بناء العقلاء من قبل الشارع المقدّس يجوز أن يكون الوجه فيه اعتماد الشارع في حكمه المخالف للبناء المستجدّ على ما تقتضيه العمومات والإطلاقات وما بحكمها(1).
ويمكن أن يكون من جهة عدم كون الملاك الكامن في الحكم بمرتبة من الأهمّية تقتضي التسبيب في إيصاله إلى المكلّفين بأيّ نحوٍ كان، وعلى هذا لا يمكن التأكّد من موافقة الشارع المقدّس لما هو مقتضى البناء العقلائي فيه المعاصر للمعصومين (علیهم السلام) )(2).
يضاف إلى ذلك ما يمكن التعبير عنه بحدود اعتماد المشرّع الإسلامي في تشريعاته على الغيب، فإنّ اطّلاع المشرّع الإسلامي على الغيب هو ما يميّزه عن المشرّع البشري، وقد أعمله في تشريع الأحكام من حيث اطّلاعه على الملاكات الواقعية التي على أساسها كانت الأحكام الشرعية.
ولكن هل استعمله كمنهج عامّ - لا على سبيل الحالات الاستثنائية - في تبليغ الأحكام إلى الناس والحفاظ عليها في حال تعرّضها إلى الخطر أم لا؟
وجهان، بل قولان:
ص: 254
أحدهما: ما يناسب كلام السيّد الخمينيّ (قدس سره) في المقام(1)، وكذلك السيّد
الأُستاذ (دامت افاداته) .
ثانيهما: ما لعلّه السائد في هذه الأزمنة، وقد ذكر المحقّق النائينيّ (قدس سره) مكرّراً: (أنّه ليس للشارع في تبليغ أوامره طريق خاصّ، بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري بين الموالي والعبيد العرفية من دون أن يكون له طريق مخترع)(2)، وذكر في بحث حجّية الظهور: (أنّه ليس للشارع طريق خاصّ في بيان مراداته، بل يتكلّم على طبق تكلّم العقلاء)(3).
وقد تقدّم عن السيّد الشهيد (قدس سره) (4) من أنّ الأئمّة (علیهم السلام) يتحفّظون على الأحكام بالطرق الاعتيادية لا بإعمال الغيب.
أن يقال(5): إنّ عدم تصدّي الشارع لبيان أحكامٍ وتأسيس تشريعات في أبواب متعدّدة من الحياة ممّا للعقلاء شأن فيه يُفهم منه أنّه قد تركها إليهم، وأحال على ارتكازاتهم، فيكون هذا إمضاءً إجمالياً لما ينعقد عليه بناؤهم إلّا ما ثبت في بعض الموارد من عدم متابعة الشارع لهم فيه وردعهم عنه.
إذاً، عدم التصدّي المذكور يستلزم الإمضاء بصورة كلّية للسيَر العقلائية بما فيها
ص: 255
السيَر المستحدثة، فلا ملازمة بين لزوم موقفٍ شرعي تجاه السيرة وبين معاصرة السيرة لذاك الموقف.
والمناقشة تارة في الملزوم، وأُخرى في اللازم:
أمّا الملزوم فلأنّه لم يثبت عدم تصدّي الشارع بدرجة معتدّ بها لبيان أحكام السيَر العقلائية التي كانت بمرأى ومسمع منه، بل بيّن أحكامها، وصدر منه ما يحتمل كونه في مقام بيانها ولو بنحو العموم أو الإطلاق وكقاعدة كلّية. وعدم كثرة ذلك يمكن أن يكون ناتجاً عن عدم كثرة الاستثناءات لتلك القواعد الكلّية.
ومثل هذه البيانات مذكورة في باب الاجتهاد والتقليد وخبر الواحد، وعدد غير قليل من القواعد الفقهية ذات الجذور العقلائية.
وأمّا اللازم - على تقدير تمامية الملزوم - فإنّ سكوت الشارع إنّما يدلّ على إمضاء السيرة بنحو القضيّة الخارجية، أي للسيَر العقلائية المنعقدة بالفعل في عصره، وليس فيه تقرير لأكثر من ذلك، فلا يمكن استكشاف إمضاء عامّ من السكوت لمطلق السيَر العقلائية بنحو القضيّة الحقيقية، فليس حال السكوت حال دلالة الكلام في العمومات والمطلقات الظاهرة في إرادة القضيّة الحقيقية.
ويبدو أنّ القائل لم يرد استفادة هذه الدلالة من مجرّد السكوت، بل بإضافة قرينة إليه، وهو الملزوم.
ولكن مع ذلك فالقدر المتيقّن من الملزوم هو إمضاء السيَر العقلائية القائمة بالفعل في زمانه، لا مطلق السيَر العقلائية.
فتحصّل ممّا تقدّم أنّه لا بدّ في اعتبار السيرة العقلائية من إثبات معاصرتها لزمان حضور المعصوم (علیه السلام) .
ص: 256
طرق إثبات معاصرة السيرة لزمان حضور الشارع المقدّس.
ذكر السيّد الشهيد (قدس سره) (1) طرقاً خمسة لإثبات المعاصرة، ويمكن ضبطها بأن يقال: إنّ السيرة العقلائية مؤلّفة من ارتكازٍ عقلائي، وسلوك عامّ، ومورد لذاك السلوك، فإثبات المعاصرة (تارة) من جهة خصوصية الارتكاز، و(ثانية) من جهة خصوصيّة السلوك العامّ، و(ثالثة) من حيث خصوصية مجرى السلوك، و(رابعة) من جهة أمور خارجة عن مكوّنات السيرة ككونها حادثة تاريخية، وذلك من جهة إرادة إثبات أنّ السيرة المتحقّقة في زماننا معاصرة لزمانِ ما قبل (260ﻫ)، وهي سنة استشهاد الإمام العسكريّ (علیه السلام) - أي يبعد عنها على أفضل التقادير (1180) سنة - ومثل هكذا سيرة تمثّل حادثة تاريخية بالنسبة لنا، فإذا أردنا إثبات وجودها في ذاك الزمان فينبغي أن نذهب إلى ما ينقل لنا الحوادثَ التاريخية.
أمّا من جهة الارتكاز فلأجل كونه قريحة عقلائية مودعة في فطرة الإنسان، وهي موجودة عند كلّ إنسان - ومنه إنسان الفترة المعاصرة لحضور المعصوم -، وحيث إنّ هذا الارتكاز علّة لهذا السلوك فهذا يعني أنّ السلوك موجود مع هذه القريحة أينما وجدت.
وأمّا من جهة خصوصيّة نفس السلوك العامّ فلأجل أنّ تبدّل السلوك العامّ إلى آخر إن لم يكن ممتنعاً فهو صعب، وبعيد الحصول.
ص: 257
وأمّا من جهة خصوصية مورد السلوك فكما لو لم تكن السيرة منعقدة على هذا المورد لكان له بديل يشكّل ظاهرة مهمّة وخطرة لا تقتضي العادة أن تمرّ بدون تسجيل، وكما لو كان ما يقابل مورد السلوك ليس من الواضحات عند المتشرّعة، فلو لم تكن السيرة منعقدة على مورد السلوك هذا، بل على مقابله مع كونه مسألة ابتلائية لكثر السؤال والجواب، ووصل إلينا بعضها، ولمّا لم يكن كذلك فالسيرة منعقدة على مورد السلوك.
هذا مجمل هذه الطرق الخمسة وإليك تفصيلها:
إنّ السيرة المعاصرة لزمان حضور المعصوم تمثّل حادثة تاريخية، فيمكن الاطّلاع عليها من خلال ما ينقل لنا الحوادث التاريخية، وهي إمّا كتب التاريخ العامّ، أو المختصّة بنقل التاريخ السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الثقافي للمسلمين، أو المختصّة بنقل تاريخ الأئمّة (علیهم السلام) ونحو ذلك.
ويندرج تحت هذا الطريق ملاحظة الروايات الفقهية؛ فإنّها تعكس جوانب من الحياة الاجتماعية لعصر الرواة، فتكشف إثباتاً ونفياً عن الارتكاز والسيرة آنذاك.
وكذلك يندرج تحت هذا الطريق ملاحظة فتاوى العامّة خصوصاً في نطاق المعاملات باعتبارها منتزعة - أحياناً - من الوضع العامّ المرتكز عقلائياً آنذاك، فتكشف عن نوع التعامل الخارجي في زمان المعصومين (علیهم السلام) .
وهذه الأخيرة وإن كانت موارد جزئية لا ضابط لها إلّا أنّها تدخل في نواقل الحوادث التاريخية مطابقة، أو بالضمن، أو الالتزام.
ما يمكن أن يستفاد ممّا تقدّم في ضبط هذه الطرق من أنّ السيرة
ص: 258
العقلائية معلولة لقرائحهم الارتكازية، وهي - أي القريحة الارتكازية - واحدة وموجودة عند الكلّ ومنهم عقلاء عصر الأئمّة (علیهم السلام)، وعليه فإذا أحرزنا أنّ السيرة الموجودة في زماننا نابعة من قريحة العقلاء فلا بدّ أن تكون هذه السيرة موجودة في جميع الأزمنة، ومنها زمن النصّ تبعاً لعلّتها الموجودة عند كافّة العقلاء.
وهناك سبيلان لإحراز كون السيرة نابعة وناشئة من قريحة العقلاء:
استقراء حالة العقلاء في مجتمعات مختلفة الظروف والأزمنة، فإذا تطابقت في السلوك الخارجيّ مع اختلاف تمام الظروف فلا بدّ أن يكون هذا السلوك معلولاً للقريحة العقلائية.
المراجعة التحليلية الوجدانية، بمعنى عرض المسألة على وجدان الشخص ومرتكزاته العقلائية، فإذا توفّرت الشروط الآتية قد نطمئن بأنّ ما وصلنا إليه نابع من قريحة العقلاء.
وهذه الشروط هي:
1 - أن يرى الملاحظ أنّ وجدانه منساق إلى اتّخاذ موقف موافق للسيرة.
2 - أن يجد أنّ هذا الموقف واضح في وجدانه، لا أنّه مجرّد ميول أو إرهاص ونحوه.
3 - أن يتأكّد أنّ هذا الموقف غير مرتبط بالظروف المتغيّرة من حال إلى حال ومن عاقل إلى عاقل.
ويلاحظ على هذا البيان:
أوّلاً: أنّ قريحة العقلاء - عادةً - تمثّل مقتضياً للسلوك الخارجي، وليست علّة تامّة، ومن ثَمّ تمثّل هذه الظروف المتغيّرة شرائط لها الدخالة في حصول السلوك
ص: 259
الخارجي، فلا يكفي مجرّد الاشتراك في القريحة العقلائية للبناء على الاشتراك في السلوك الخارجي.
ونذكر مثالاً لدخالة الظروف المتغيّرة في تحقّق السلوك الخارجي، وهو ما يعبّر عنه ب-(الملكية الفكرية) كحقّ التأليف، فإنّه إلى ما قبل اختراع المطبعة لم يكن للعمل الفكري قيمة مالية في نظر العقلاء والمقنّنين، وإنّما القيمة المالية كانت للعمل المادّي، ولكن بعد ظهور المطابع ونحوها كان لها الدخالة في حصول سلوك خارجي وبناء عقلائي على قيمة العمل الفكريّ؛ لأنّه صار بحيث يترقّب منه الربح المادّي من خلال تكثيره وبيعه.
وثانياً: أنّ ما ذُكر في السبيل الأوّل يمثّل برهاناً إنيّاً يكشف لنا عن أصل وجود العلّة دون خصوصيتها من أنّها القريحة المشتركة أو ظرف مشترك أو ظروف مختلفة تكون بمثابة العلل المتعدّدة للسلوك الخارجي، كما في حال وجود الحرارة حيث يُحتمل أنّها معلولة للنار، ويُحتمل أنّها معلولة للشمس، ويُحتمل أنّها معلولة لتفاعل كيميائي.
وثالثاً: أنّ السبيل الثاني على الرغم من أنّه حالة وجدانية شخصية لا تصلح للتعليم المدرسي، فإنّه مبتلىً بمجموعة من الصعوبات يذكرها البعض في مباحث علم النفس(1).
وحدّه الأوسط أنّ السيرة المنعقدة على شيء وإن لم يمتنع - عادة - تحوّلها إلى سلوك آخر ولكنّه صعب وبعيد جدّاً؛ وذلك لأنّ السيرة تمثّل سلوكاً
ص: 260
اجتماعياً لنوع العقلاء، فليس حالها حال السلوك الشخصي الّذي يسهل فيه تحوّل الشخص من سلوك إلى آخر.
وعليه فإذا كانت السيرة العقلائية في زماننا منعقدة على شيء فإنّه على الأساس المتقدّم ينبغي لنا أن نبني على أنّها متحقّقة في عصر المعصومين (علیهم السلام) أيضاً، ووصلت إلينا يداً بيد، وإلّا لكان من انقلاب السيرة الممتنع عادة، ولو فُرض أنّه حصل تغيير لنقل إلينا؛ لأنّه يعدّ من الأمور الغريبة.
ويلاحظ عليه:
أوّلاً: أنّ التحوّل الفجائي للسيرة هو الممتنع عادة، وأمّا التحوّل التدريجي فلا مانع من حصوله، والتأمّل في المجتمعات قديماً وحديثاً شاهدٌ على مثل هكذا تحوّلات.
وثانياً: أنّ هذا الطريق لا يُحدّد مبدأ حصول السيرة، ولمّا كان حصولها تدريجياً ونتيجةً لتوفّر عواملها فلعلّه حصلت بعد زمان حضور المعصوم (علیه السلام)، أو قلْ في زمان الغيبة، فلا يمكن إحراز معاصرتها لزمان المعصوم.
أن يكون هناك سلوكٌ بديل للسلوك الذي يراد إثبات كونه عامّاً للمعاصرين للأئمّة (علیهم السلام)، بحيث لا بدّ من كون السلوك والسيرة قائمة إمّا على ما نريد إثباته أو على البديل، ويعتبر في هذا البديل أن يكون ظاهرة اجتماعية فريدة ومهمّة عند الناس، فلو كان الثابت في زمان النصّ هذا البديل لسُجِّل وانعكس في الروايات، ووصل إلينا قسمٌ منها، فإذا بحثنا ولم نجد مثل ذلك فلا بدّ أن تكون السيرة منعقدة على ما نريد إثباته؛ لأنّ الأمر منحصر بينه وبين هذا البديل.
ص: 261
ومثاله من الأبحاث الأصولية دعوى انعقاد السيرة على الأخذ بظهور الكلام، فإنّه لو لم يكن هذا هو الطريق لِفهم كلام الشارع لكان هناك طريق بديل، وهو - أي هذا الطريق البديل - يشكّل ظاهرة اجتماعية فريدة، فلا بدّ أن تسجّل وتنقل إلينا ولو بعضها، ولمّا لم نجد مثل ذلك فنعلم أنّ السيرة منعقدة على فهم مراد الشارع من خلال ظهور كلامه.
وهو من سنخ الطريق الرابع حيث يكون على أساس النظر إلى خصوصية مورد السيرة، وهنا نقول:
إنّ الأمر دائر بين السلوك الذي نريد إثباته وسلوك آخر، وهذا السلوك الآخر ينبغي أن يكون بنحو لو كانت السيرة منعقدة عليه لكثر السؤال والجواب، ووصل إلينا ولو بعضها، وهذا إنّما يحصل فيما لو كانت المسألة عامّة البلوى، وكان السلوك الآخر غير واضح عند المتشرّعة، وكان ممّا لا يقتضيه الطبع ونحوه من الدواعي المشجِّعة للسلوك، وعليه فلو كان السلوك الآخر هو القائم بين المتشرعة آنذاك لكثر بخصوصه السؤال والجواب، ولمّا كانت دواعي النقل موجودة، ومبرِّرات الإخفاء مفقودة، فلا مناص من وصول بعضها إلينا، وحيث لم يصل إلينا من ذلك شيء فهذا يعني أنّ السيرة غير منعقدة على هذا السلوك الآخر، بل على السلوك الذي نريد إثباته.
وبهذا تنتهي الطرق الخمسة التي أفادها السيّد الشهيد (قدس سره) .
وأقول: تقدّم أنّا اشترطنا في سيرة العقلاء جري المتشرّعة على وفق النكتة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية وبدرجة واسعة، والمفروض أنّ السيرة المتشرّعية هذه قد وصلت إلينا، فعلى تقدير أنّها معاصرة لزمان الحضور فإنّه يعني عدم الردع
ص: 262
عنها، فلا يبقى إلّا إحراز أنّها معاصرة للنصّ، وأنّها لم تحصل بعد زمانه. ومادام المتشرّعة يجرون عليها في دائرة الأحكام الشرعية في زماننا فإنّه ينبغي الفحص عمّا يمكن أن يكون سبباً لحصولها بعد زمان الحضور، وهو أحد ثلاثة احتمالات لا غير:
الأوّل: الانسياق وراء النكتة العقلائية، بأن لم تكن الظروف مؤاتية في زمان الحضور للظهور على شكل سلوك عامّ، وحصلت تلك الظروف بعد ذلك.
الثاني: فتاوى الفقهاء المتأخّرين عن زمان الحضور.
الثالث: السلطة وفقهاؤها، فإنّ الإمكانيات الموجودة عندها تساهم في تكوين، بل تخلق ارتكازات وسيرة متشرّعية، وجوّاً عامّاً تجاه موقف معيّن.
وموقع الطرق الخمسة المتقدّمة هي هذه الاحتمالات الثلاثة، والأخير يضعف إذا قصرنا النظر على متشرّعة الإمامية الملتزمين بأخذ أحكامهم في زمان الحضور عن أئمّتهم (علیهم السلام)، وفي زمان الغيبة عن الفقهاء.
وأمّا الأوّل فإذا فتّشنا ولم نجد ما يمكن أن يكون ظرفاً مؤثّراً في حدوث السيرة وحصولها مؤخّراً فإنّ هذا الاحتمال يتضاءل.
ومثاله اختراع المطابع الذي أدّى إلى حدوث بناء عقلائي على قيمة العمل الفكري مادّياً، ولذا كانت مثل هذه السيرة مستحدثة وليست معاصرة لزمان حضور المعصوم (علیه السلام) .
وأيّاً ما كان فالمهمّ أنّ الفحص والتفتيش إذا أدّى إلى تضاءل هذه الاحتمالات الثلاثة فإنّه قد يحصل الوثوق بالمعاصرة والحجّية للسيرة.
وبهذا ننهي الكلام في الشرط الثالث.
ص: 263
إنّ معظم ما يرتبط بهذا الشرط اتّضح فيما تقدّم من أبحاث الشرطين الأوّلين، ولعلّه ينبغي الإشارة إليها وترتيبها، وهنا آراء ثلاثة:
ما جرى عليه السيّد الشهيد (قدس سره)، ونذكره في نقطتين:
الأولى: أنّه (قدس سره) قسّم السيرة العقلائية بالمعنى الأعمّ بلحاظ الامتداد وعدمه إلى السيرة العقلائية بالمعنى الأخصّ، وهي ما لم يحصل فيها الامتداد بالفعل، ولكنّها في معرض الامتداد. وإلى السيرة المتشرّعية بالمعنى الأعمّ، وهي ما حصل فيها الامتداد بالفعل(1).
وينبغي أن يكون المقسم هو السيرة العقلائية بلحاظ الأحكام الظاهرية؛ لأنّ السيرة العقلائية بلحاظ الأحكام الواقعية دائماً هي ممتدّة على دائرة الأحكام الشرعية(2).
إذاً، اختلاف الموقف بحسب الامتداد إلى دائرة الأحكام الشرعية وعدمه إنّما يكون بلحاظ السيَر العقلائية الجارية في مرحلة الظاهر دونما إذا كانت في مرحلة الواقع.
الثانية: في حال عدم امتداد السيرة العقلائية الظاهرية - إن صحّ التعبير - إلى دائرة
ص: 264
الأحكام الشرعية وإنّما هي في معرض الامتداد فإنّنا نحتاج إلى الشرطية الأولى والثانية، أعني: لو لم يرضَ لردع، ولو ردع لوصل.
وأمّا في الامتداد - والتي اصطلح عليها (قدس سره) ب-(سيرة المتشرّعة بالمعنى الأعمّ) - فقد تقدّم الكلام في الحلقة الأولى من البحث أنّها عنده على نحوين(1):
1- إنّ المتشرّعة إنّما جروا على وفق السيرة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية بعد استئذانهم من الشارع المقدّس، وهنا لا حاجة للشرطية القائلة (لو لم يرضَ لردع)، أي لا نحتاج في استكشاف الإمضاء والرضا من خلال عدم الردع؛ إذ نفس السلوك يكشف عن الإذن والرضا كشفاً إنيّاً، وموقف الشارع صريح في إجراء ما تقتضيه النكتة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية.
ومن الواضح أيضاً أنّه في هذا النحو لا نحتاج إلى الشرطية الثانية القائلة (لو ردع لوصل).
2- إنّ المتشرّعة جروا على السيرة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية بلا استئذان من الشارع المقدّس، فهنا نحتاج إلى الشرطية الأولى (لو لم يرضَ لردع)، ولكن لا نحتاج إلى الشرطية الثانية (لو ردع لوصل)(2).
دخيل في تحقّق الملازمة في الشرطيتين(1) - أي لو لم يرضَ لردع، ولو ردع لوصل -.
ما هو المختار، وتوضيحه من خلال نقطتين:
1- أنّه لا بدّ من الامتداد الواسع لسيرة العقلاء إلى دائرة الأحكام الشرعية، ولا يكفي كونها في معرض الامتداد، وهذا ممّا يستدعيه تحقّق الملازمة في الشرطية الأولى، أعني (لو لم يرضَ لردع) كما مرّ في الحلقة الأولى(2)، وكذلك لا بدّ من الامتداد الواسع كي تتحقّق الملازمة في الشرطية الثانية، أعني (لو ردع لوصل).
2- رجّحنا أنّ الأصل اتّفاق عقلائية العقلاء مع عقلائية الشارع، وأنّ الأصل اتّفاق عقلائية الشارع مع مولويته، وبهذا يكون الأصل الملازمة بين عقلائية العقلاء ومولوية الشارع، ولكن لكلّ من الأصلين شرط:
أمّا شرط الأصل الأوّل فهو أن نحرز أنّ السلوك أو الحكم العقلائي ناشئ من قريحة العقلاء وفطرتهم.
وأمّا شرط الأصل الثاني فهو أن نحرز امتداد السلوك بصورة واسعة إلى دائرة الأحكام الشرعية؛ لأنّه في هذه الحال نطمئنّ أنّه لو تعرّضت أغراض المولى للخطر لأعمل مولويته للحفاظ عليها كما مرّ في الحلقة الأولى(3)، وفي هذه الحالة يكفي عدم إحراز الردع، ولا نحتاج إلى إحراز عدم الردع.
ص: 266
وبما ذكرناه يتّضح عدم تمامية ما أوردناه هناك(1)؛ فإنّ الردع وعدمه من شؤون مولوية المولى، ولا محرز لإعمالها إلّا مع الامتداد الواسع.
وبهذا ننهي الكلام في الشرط الرابع.
وأمّا اعتبار الشرط الخامس والسادس - أعني إمكان الردع عقلاً وعرفاً، واحتمال الارتداع - فواضح؛ فإنّه مع امتناع الردع عقلاً أو عرفاً لا يكون كاشفاً عن إرادة الرضا والإمضاء، وهو يشابه في كثير من حيثياته مع ما ذكرناه في المقدّمة الثالثة من بحث الدلالة الإطلاقية.
ص: 267
ذكرنا في الحلقة الأولى أنّ لهذا الفصل جانبين:
وهنا مراتب ثلاثة:
المرتبة الأولى: أن يكون بحدود السلوك الخارجي، وهو القدر المتيقّن.
المرتبة الثانية: أن يكون بحدود النكتة الارتكازية المتأطّرة ببعض حيثيات السلوك الخارجي.
المرتبة الثالثة: أن يكون بحدود النكتة الارتكازية بحدّها وتمامها، لا بحصّة منها.
ولنبيّن الفارق بين المرتبتين الثانية والثالثة من خلال مثال.
فأقول: إنّه يُبحث في كتاب البيع عن المناشئ الأوّلية للملكية الاعتبارية، فيقال: إنّها عبارة عن الحيازة والعمل، وأنّ كلّ ما عداهما يتفرّع عليهما، وهذا ليس على أساس أنّه تأسيس من قبل الشارع، وإنّما هي أمور عقلائية أمضاها الشارع، فالعمل بحسب المرتكزات العقلائية يمثّل سبباً لملكية العامل لنتيجة عمله.
ومثله في الحيازة أيضاً، فالعقلاء بقريحتهم يرون أنّ مَن حاز شيئاً يكون مالكاً له وأولى به من غيره، فكون الحيازة سبباً للملكية أيضاً نكتة ارتكازية وفطرة عقلائية.
هذا بالنسبة لأصل النكتة الارتكازية، وقد ذكرنا آنفاً أنّ المقدار الممضى قد يكون بحدودها، وهي المرتبة الثالثة، وقد يكون بحدود أوسع من السلوك الخارجي
ص: 268
المعاصر لحضور المعصوم (علیه السلام)، وأضيق من حدود النكتة الارتكازية وذلك فيما إذا تأطّرت ببعض حيثيات السلوك الخارجي، وهي المرتبة الثانية، فمثلاً في عصر حضور المعصومين (علیهم السلام) كان العمل يمثّل معالجة للأمور المادّية، وفي الأزمنة المتأخّرة وجدِت أعمال تمثّل معالجة فكرية لا مادّية - كالتأليف -، وقد قيل: (إنّ العلاجات المعنوية الفكرية لم يكن في زمان المعصوم ارتكاز امتلاكها من قبل مؤلّفيها أو مبدعيها، وكان السبب في عدم الارتكاز هو عدم الشعور بحاجة إلى اعتبار ملكية من هذا القبيل؛ إذ لم يكن مجال لاستغلال ذاك الأمر التجريدي المصنوع، إذ لا طباعة وقتئذٍ، وبسبب حصول الطباعة ونحوها حصل للعقلاء ارتكاز الملكية للأمر التجريدي المعنوي بصنعه وعلاجه، وفيما سبق لم يكن الارتكاز إلّا على مملّكية العلاج في الأمور المادّية)(1).
ويمكن أن يقال مثل ذلك في الحيازة بأنّها كانت في عصر المعصومين (علیهم السلام) بالآلات اليدوية، وأمّا في هذه الأزمنة فالحيازة بالآلات الصناعية الحديثة، وسندات الملكية ونحوها، فتأطير العمل بوصف المادّية، والحيازة بعنوان الآلات اليدوية، يمثّل المرتبة الثانية(2).
ص: 269
ويمكن دعوى أنّ الراجح هو المرتبة الثالثة؛ وذلك لعدّة أمور:
الأوّل: إنّ الصحيح من الوجوه الخمسة المتقدّمة في الفصل الثاني(1) هو الوجه الثالث، وهو مع الوجه الخامس يقتضيان المرتبة الثالثة، وأمّا باقي الوجوه فتناسب المرتبة الأولى؛ لأنّه بالعمل الخارجي ينقض الغرض، وهو الذي قد يكون منكراً وباطلاً، لا مجرّد الارتكاز المعاصر للمعصوم (علیه السلام) .
الثاني: إنّ العنصر الأهمّ في السلوك الخارجي هو المقتضي له والعلّة والذي يتمثّل بالارتكاز؛ لأنّ الظروف الخارجية ليست إلّا متمّمة لتأثير المقتضي لأثره، فإذا أُمضي السلوك فهو في الحقيقة إمضاء لنكتته الارتكازية.
الثالث: إنّ المقارنة بين أنحاء الدليل اللفظي والسيرة العقلائية تفضي إلى ذلك، وتوضيحه:
إنّ الدليل اللفظي الذي هو طرف المقارنة على نحوين:
أحدهما: فيما لو كان وارداً في قضيّة جزئية، أي قضيّة في واقعة.
ثانيهما: فيما لو كان وارداً في حال السؤال عن أمر يُستكشف من ورائه وجود ارتكاز عند السائل.
ففي النحو الأوّل يدلّ السكوت وترك الاستفصال على ثبوت الإطلاق، إمّا مطلقاً أو بلحاظ الحالات الشائعة آنذاك، مع أنّ هذه الحالات ليست من شؤون الحصّة المذكورة، ولكن يحتمل بدرجة معتدّ بها الوقوع فيها، فعدم التصدّي لبيان
ص: 270
حكمها يكون إغراءً بالجهل(1)، ولذا يثبت الإطلاق بلحاظها.
أمّا النحو الثاني فالسكوت والاقتصار على إجابة ما ورد في السؤال يدلّ على إمضاء ذاك الارتكاز الذي يجري عليه الأعلام في الموردين.
هذا كلّه بالنسبة إلى الدليل اللفظي.
أمّا بالنسبة إلى السيرة الناشئة من قريحة العقلاء وارتكازاتهم والتي تكون بمسمع ومرأى من الإمام (علیه السلام) ففيها عناصر ثلاثة:
1- السلوك الخارجي.
2- الارتكاز الذي يمثّل العلّة لذلك السلوك.
3- سكوت الإمام (علیه السلام) وعدم ردعه في هذه الحال.
والآن نأتي للمقارنة:
فالسلوك الخارجي بمثابة السؤال، فدوره دور السؤال؛ إذ يمثّل طلباً ومحفّزاً لاتّخاذ الموقف تجاهه على تقدير تعريضه أغراض المولى للخطر.
وأمّا الارتكاز الذي وراء السلوك فهو بمثابة الارتكاز في حال سؤال السائل، فالسؤال يكشف عن ذلك الارتكاز، وكذلك السلوك الخارجي يكشف عنه.
والأنحاء الأخرى من حصص الارتكاز والسلوك غير المعاصرة للمعصوم بمثابة الحالات الأخرى فيما لو كان الدليل قضيّة في واقعة؛ فإنّ الارتكاز الأوسع من السلوك الخارجي لمّا كان مقتضياً لأنحاءٍ أُخر من السلوك فيما إذا توفّرت الشرائط، فإنّه يحتمل الوقوع فيها، فينبغي بيان حكمها لئلّا يكون إغراءً بالجهل.
ص: 271
وعلى هذا ينبغي أن يكون سكوت الإمام (علیه السلام) دالّاًَ على ارتضائه لذاك السلوك والارتكاز الذي وراءه بنفس ملاك دلالة السكوت في نحوي الدليل اللفظي المتقدّم.
وقد يحتمل - كوجه فارق بين الحالين - أنّ الاقتصار على استفادة الإمضاء من السكوت في السيرة إنّما هو لمكان دلالة الاقتضاء والخروج عن اللغوية، فاستفادة أكثر من ذلك يكون بلا مسوّغ، ومثل هذا الكلام لا مجال له في الأدلّة اللفظية لوجود البيان الدالّ على أصل الحكم الذي هو بمثابة الإمضاء، فيكون للسكوت دلالة أخرى، وهي الإطلاق للحالات الأخرى، وإمضاء الارتكاز الذي وراء السؤال(1).
وأيضاً قد يحتمل أنّ الفارق هو وجود أصل البيان، وكون المتكلّم في مقام البيان.
ولكن في كلا الفرقين نظر:
أمّا الأوّل فإنّه قد يصحّ ما ذُكر لو لم يكن هناك دوالّ أخرى بالإضافة إلى دلالة الاقتضاء، بل هي تغني عنها، وهي الوجوه الخمسة المتقدّمة.
وأمّا الثاني فكون المتكلّم في مقام البيان أصل عقلائي عامّ، فلا مانع من ثبوته في مورد السيَر، وأمّا أصل وجود الكلام في الأدلّة اللفظية مع عدم وجوده في السيرة العقلائية فإنّه لا يؤثّر؛ إذ المهمّ هو الدالّ، ويتكفّل به السكوت وعدم الردع في هذه الحال.
فتحصّل أنّ القدر المتيقّن هو المرتبة الأولى، ولكن قد يحصل الوثوق في أنّ المقدار
ص: 272
الممضى من السيرة هو المرتبة الثالثة، والله العالم.
إنّ مدلول السيرة يتحدّد (تارة) من خلال النظر إلى السلوك الخارجي للمتشرّعة، و(أخرى) من خلال النظر إلى ما وراء السلوك.
أمّا الأوّل ففيه صور ثلاث:
أن يكون السلوك الخارجي خالٍ من أيّ داعٍ من الدواعي كالطبع، والأعراف، والعادات، ونحوها، وفي هذا الحال تدلّ السيرة المنعقدة على فعلٍ على جواز ذاك الفعل، وعدم حرمة الإتيان به.
ولمّا كان يبعد التزام الكلّ أو الأغلب بأمرٍ من دون داع ٍ للالتزام به فإنّ السيرة تدلّ على مطلوبية الفعل، ولكن هل تقف المطلوبية عند الاستحباب أم تصل إلى الوجوب؟
إذا تأمّلنا حال المتشرّعة في دائرة المستحبّات المحضة الخالية من الدواعي غير أمر الشرع ولم نجد التزام الأكثر ببعضها صحّ لنا القول بدلالة السيرة على الوجوب، ولكن الأمر ليس كذلك، إذ أقصى ما تدلّ عليه في تلك الحال هو الاستحباب في جانب الفعل، والكراهة في جانب الترك.
هذا بالنسبة للحكم التكليفي.
وأمّا بالنسبة للحكم الوضعي - كما لو كان الفعل ممّا يترقّب منه أن يكون شرطاً أو جزءاً أو مانعاً - فالسيرة المنعقدة على فعل شيءٍ تدلّ على عدم كونه مانعاً، وهل تدلّ على جزئيته أو شرطيته من جهة التزام الكلّ أو الأكثر بالفعل من دون داع للالتزام به؟
ص: 273
الكلام فيه عين الكلام السابق.
أن يكون السلوك مكتنفاً بدواعٍ مشجّعة على السلوك، والحديث في هذه الصورة عين الحديث المتقدّم في الصورة الأولى إلّا من جهة استفادة المطلوبية؛ فإنّ وجود الدواعي المشجّعة على الفعل تضعف دلالة السيرة على المطلوبية شرعاً.
أنّ يكون السلوك مكتنفاً بدواعٍ منافية للسلوك، وأيضاً الكلام عين الكلام المتقدّم في الصورة الأولى. نعم، الدلالة على المطلوبية أقوى من الصورة الأولى، واستفادة الوجوب لا تكون مجازفة، ومثله في جانب الحكم الوضعي.
هذا كلّه في حال النظر إلى السلوك الخارجي وما يحفّ به.
وأمّا الثاني - النظر إلى ما وراء السلوك الخارجي - ففي بعض الموارد نستفيد من السيرة أكثر من الجواز المتقدّم في الصورة الثانية، فالسيرة المنعقدة على العمل بخبر الثقة - مثلاً - تدلّ على جواز العمل بمفاد الخبر، في حين أنّ العمل بمفاد الخبر واجب، وأنّه منجّز ومعذّر، فكيف استفدنا الوجوب من السيرة؟
ومثله الكلام في الظهور، فالسيرة قائمة على كاشفية الظهور لمراد المتكلّم، ومن ثَمّ جواز العمل بهذه الكاشفية، والحال أنّه يجب الأخذ بهذه الكاشفية، وتكون منجّزة ومعذّرة.
وكذلك الأمر في السيرة الثابتة في مورد الحيازة، فهي إنّما تفيد جواز تصرّف الحائز بما يحوزه، فكيف استفدنا الملكية؟
نذكر تخريجين لذلك:
ص: 274
الأوّل: ما أفاده الشيخ المظفّر (قدس سره) بقوله: (والغرض أنّ السيرة بما هي سيرة لا يستكشف منها وجوب الفعل ولا استحبابه في سيرة الفعل، ولا يستكشف منها حرمة الفعل ولا كراهته في سيرة الترك. نعم، هناك بعض الأمور يكون لازم مشروعيتها وجوبها وإلّا لم تكن مشروعة؛ وذلك مثل الأمارة كخبر الواحد والظاهر، فإنّ السيرة على العمل بالأمارة لمّا دلّت على مشروعية العمل بها، فإنّ لازمها أن يكون واجباً؛ لأنّه لا يشرع العمل بها ولا يصلح إلّا إذا كانت حجّة منصوبة من قبل الشارع لتبليغ الأحكام واستكشافها، وإذا كانت حجّة وجب العمل بها قطعاً؛ لوجوب تحصيل الأحكام وتعلّمها، فينتج من ذلك أنّه لا يمكن فرض مشروعية العمل بالأمارة مع فرض عدم وجوبه)(1).
ومحصّل كلامه (قدس سره) أنّ جواز الأخذ بالظهور أو بخبر الثقة يستلزم وجوب الأخذ بهما؛ وذلك لأنّ معنى جواز الأخذ أنّها حجّة منصوبة من قبل الشارع، وإذا كانت حجّة فيجب العمل بها.
ولا يخفى عدم وضوح الملازمة بين جواز الأخذ بظاهر الكلام وبين كونه حجّة عند الشارع بحيث يجب الأخذ بها. مضافاً إلى أنّ الكلام بصورة عامّة حتّى عند الموالي العرفية، وليس مختصّاً بالشارع.
الثاني: ما أفاده السيّد الشهيد (قدس سره) (2) من أنّ الممضى ليس هو العمل الخارجي
ص: 275
الصامت، وإنّما هي النكتة الارتكازية، ونعني بها المفهوم العقلائي المرتكز عن العمل، وبهذا المفهوم قد يثبت حكم تكليفي أو حكم وضعي.
فالنكتة الارتكازية العقلائية كما تفيد التوسعة في الجانب الأوّل كذلك تفيد خصوصيات مورد السيرة.
ص: 276
وهي تحصل فيما لو ثبتت الأمور الستة المتقدّمة في الفصل الثاني بطريق معتبر في نظر الشارع:
أمّا بالنسبة للأمرين الأوّل والثاني - أعني صدور موقف من الشارع، واطّلاعنا عليه من خلال قضيّة: (لو ردع لظهر وبَان) - ففيه مناهج متعدّدة:
الأوّل: الفحص في مظانّه من الأخبار عمّا يمكن أن يكون رادعاً عن السيرة، فإذا حصل عندنا الاطمئنان أو القطع بعدم وجود رادع ٍ فهذا يعني أنّ الموقف الشرعي هو عدم الردع، ومن ثَمّ إمضاء السيرة؛ لما تقدّم في الشرطية الأولى.
وهذا المنهج مبتنٍ على أنّ الإمضاء مقتضٍ للحجّية، ويندرج فيه رأي المحقّق العراقي، والسيّد الشهيد (قدس سرهما)، والسيّد الأستاذ (دامت افاداته)، مع فارق بينهم، وهو أنّ الأوّلين يشترطان عدم الامتداد إلى مجال الأحكام الشرعية، والأخير يشترط الامتداد بصورة واسعة.
الثاني: إنّه يكفي في الفحص عدم حصول القطع أو الاطمئنان بوجود دليل رادع، وهذا بالنسبة لمن يرى أنّ الإمضاء وعدمه في رتبة المانع لا مقتضٍ للحجّية.
الثالث: إنّه يكفي جري المتشرّعة في زماننا خصوصاً إذا كان بصورة واسعة على وفق السيرة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية، فإنّ هذا لا يجتمع مع الردع، ومن ثَمّ لا حاجة للفحص والبحث. نعم، لا بأس به للتأكيد.
ص: 277
وينبغي الالتفات إلى أنّ المراد بالمتشرّعة في السيرة العقلائية هو المتشرّعة بعينهم في سيرة المتشرّعة البحتة، وهم الملتزمون بأحكام الشريعة، لا مجرّد المتسمّين بالمسلمين أو الشيعة.
وأمّا بالنسبة إلى الأمر الثالث - وهو معاصرة السيرة للشارع المقدّس - فلا بدّ من إحرازها بالقطع أو الاطمئنان بلا أيّ فرق. نعم، لو كان إثبات المعاصرة بالنقل التاريخي وقلنا إنّ حجّية خبر الثقة ليس من باب إفادته الاطمئنان، فإنّه يكفي في حجّية النقل أن يكون الناقل ثقة وإن لم يحصل الاطمئنان من نقله، ولا يخفى أنّه ينبغي إثبات حجّية الاطمئنان وخبر الثقة بغير السيرة حتّى لا يلزم الدور.
وهنا كلام في خصوص النقل التاريخي للمعاصرة بخبر الثقة، وهو أنّه مندرج تحت حجّية خبر الثقة في الموضوعات الخارجية أو لا؟
ولمّا كنّا نرى أنّ حجّية خبر الثقة في الأحكام والموضوعات الخارجية من باب إفادته الاطمئنان فلا حاجة للخوض في هذه التفاصيل.
وأمّا بالنسبة إلى الأمر الرابع - امتداد السيرة إلى دائرة الأحكام الشرعية - فعلى القول بشرطيته في حجّية السيرة يكون إحرازه واضحاً من خلال إحراز جري المتشرّعة في زماننا على ذلك، وإحراز معاصرة السيرة لزمان حضور النصّ.
وقد تقدّمت بعض حيثيات الامتداد في الفصل الأوّل والثاني.
وأما بالنسبة إلى الأمر الخامس - إمكان الردع عقلاً وعرفاً - فهو حاصل قطعاً إزاء السيرة العامّة؛ فإنّه لا يحتمل أن تكون ظروف التقيّة موجودة باستمرار ولا ترتفع في أحيان كثيرة.
ص: 278
ومثله الأمر السادس - احتمال الارتداع عند الردع - فهو حاصل قطعاً؛ لأنّ الامتداد المفروض إنّما هو عند المتشرّعة الملتزمين بأحكام الشريعة.
ص: 279
الأدلّة المتوافقة مع السيرة العقلائية (تارة) تكون سيرة المتشرّعة، و(أخرى) روايات خاصّة.
أمّا بالنسبة إلى سيرة المتشرّعة فينبغي أن يراد بها المتشرّعة الذين يجرون وفق النكتة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية، وليس سيرة المتشرّعة البحتة؛ لأنّها إنّما تكون في المسائل الشرعية البحتة، فلا يعقل اجتماعها مع السيرة العقلائية المستدعية لوجود نكتة عقلائية.
وهنا قولان:
ما ذهب إليه المحقّق العراقي والسيّد الشهيد (قدس سرهما) في مبحث حجّية الظهور وحجّية خبر الواحد(1) من أنّه عندنا دليلان وسيرتان.
وقد تقدّم الكلام على هذا القول أنّ السيرة العقلائية مأخوذة بشرط لا عن الامتداد بالفعل إلى دائرة الأحكام الشرعية، وإنّما تكون في معرض الامتداد، وأمّا إذا امتدت بالفعل فهي تختلف عن سيرة العقلاء في ملاك الحجّية، حيث تكون بمثابة سيرة المتشرّعة البحتة، فلا تكون بحاجة إلى الإمضاء، بل تكشف عن الموقف
ص: 280
الشرعي كشف المعلول عن علّته، فلا يعقل فيها احتمال الردع، فمع أنّ السيرة عادةً وثبوتاً أمر وحداني ولكن لمكان أنّها في مرحلة حدوثها عقلائية وفي مرحلة امتدادها متشرّعية فإنّه يترتّب على ذلك إثباتاً أنّهما سيرتان ودليلان للاختلاف في ملاك الحجّية بين هذين المقطعين. نعم، على مستوى الحدود فبحدود السيرة العقلائية.
- وهو الصحيح - أنّه ليس هناك في ما نحن فيه إلّا دليل واحد، وهو سيرة العقلاء، وأمّا جري المتشرّعة فهو: إمّا كاشف ابتداءً عن عدم وصول الردع، بل وصول عدم الردع؛ لأنّه لو كان ردعٌ لما وصلت إلينا السيرة المتشرّعية، وبذلك يكشف عن الإمضاء. وإمّا كاشف عن الإمضاء ابتداءً(1).
وأمّا بالنسبة للروايات الخاصّة المتوافقة مع السيرة العقلائية فهناك ثلاثة وجوه، بل أقوال:
الأوّل: ما ذهب إليه غير واحد، منهم السيّد الأستاذ (دامت افاداته) حيث أفاد(2): أنّ الخطاب الشرعي متى ما ورد في مورد الحكم العقلي أو العقلائي فإنّه لا ينعقد له إطلاق بأوسع من دائرة ذلك الحكم وإن لم يكن في الخطاب ما يقتضي التضييق بحسب المدلول اللّغوي.
وطبّق (دامت افاداته) هذه الفكرة في موارد:
منها: أنّ الأدلّة اللّفظية لجواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم مطلقة لمِا إذا كان الفقيه مجتهداً في جميع المقدّمات التي يبتني عليها اجتهاده واستنباطه، ولما إذا كان
ص: 281
يصدق عليه أنّه فقيهٌ وإن لم يكن مجتهداً في المقدّمات البعيدة؛ إذ من الواضح عدم توقّف صدق عنوان الفقيه على كونه مجتهداً في المقدّمات البعيدة أيضاً.
ولكن لمّا كانت سيرة العقلاء في زمان المعصومين (علیهم السلام) منعقدة على رجوع الجاهل إلى العالم المعتمد على نفسه في جميع المقدّمات لم يصحّ الأخذ بإطلاق الأدلّة اللفظية، بل لا بدّ من تنزيل حدودها على حدود السيرة العقلائية.
ومنها: ما أفاده (دامت افاداته) (1) من أنّ حديث (رُفع ما لا يعلمون) وإن كان مطلقاً لمِا إذا كان التكليف غير المعلوم محرز الأهمّية، أو كان احتمال ثبوته قوّياً وإن لم يبلغ الاطمئنان إلّا أنّه لا يمكن الأخذ بهذا الإطلاق؛ لوجود حكم عقلي يرى الاحتياط في هذين الموردين وقبح العقاب في غيرهما من موارد احتمال التكليف، فيكون رفع ما لا يعلمون تأكيداً لحكم العقل هذا وبحدوده، فلا ينعقد له الإطلاق بأوسع من حدود حكم العقل.
الثاني: ما يمكن استظهاره من بعض الأعلام (مد ظله) (2) من التفصيل بين الدليل اللفظي الظاهر في إمضاء السيرة العقلائية والدليل اللفظي الذي ليس له مثل هذا الظهور، فالأوّل يكون بحدود السيرة العقلائية دون الثاني.
والدليل اللفظي الظاهر في إمضاء السيرة العقلائية (تارة) يكون مدلوله أضيق من السيرة، و(أخرى) يكون أوسع منها.
ص: 282
فإذا كان أضيق من السيرة العقلائية ومراداً للشارع لكان من اللازم الردع عن حدود السيرة التي هي أوسع من الدليل اللفظي، وإلّا سيكون عدم الردع تغريراً بالجهل؛ لأنّ المكلّف بحسب طبعه يجري وفق ارتكازاته.
وأمّا إذا كان الدليل اللفظي أوسع من السيرة فلعلّ الوجه في كونه لا بدّ أن يكون بحدود السيرة هو أنّ هذا مقتضى الإمضاء، وإلّا سيكون الدليل المطلق مع أنّه دليل واحد يدلّ على الإمضاء وعلى التشريع التأسيسي فيما وراء الإمضاء، وهو كما ترى.
الثالث: إنّ الدليل اللفظي شارح لحدود السيرة العقلائية المشكوكة لا أنّه ينزّل على القدر المتيقّن من السيرة.
والصحيح هو الوجه الأوّل؛ لأنّ السيرة العقلائية بما هي عقلائية مؤلّفة من جزئين: النكتة العقلائية الارتكازية، والسلوك الخارجي المعلول لها.
وهذه النكتة العقلائية تكون بمثابة القرينة المتّصلة، وتصنّف على مناسبات الحكم والموضوع، ومن ثَمّ لا ينعقد للدليل اللفظي مدلول أوسع أو أضيق من هذا الارتكاز، ولا يشترط في ذلك أن يكون الدليل اللفظي وارداً مورد الإمضاء للسيرة؛ لأنّ الارتكاز والطبع العقلائي الراسخ ملابسة حاضرة في النفس، مؤثّرة في مقام فهم الأدلّة قهراً، فلو لم يكن ذلك مراداً للشارع لردع عن هذا الارتكاز، فإذا لم يردع لا يبعد أن يكون نفس هذا الدليل كاشفاً عن الإمضاء.
ص: 283
ونذكر أوّلاً ما يشتركان فيه، ثُمّ نذكر ما يختلفان فيه:
أنّهما من الكواشف عن السنّة(1)، وأنّ حجّيتهما من جهة انطباق الحجج العامّة عليهما - أعني القطع أو الاطمئنان -، فليس هما من الأمارات التي قام الدليل على حجّيتها بالخصوص. نعم، قد يكفي نقل خبر الثقة وإن لم يفد الاطمئنان فيما لو كانت بالنقل التاريخي كما تقدّم في إحدى طرق إثبات المعاصرة.
يشتركان في اشتراط المعاصرة فيهما، وطرق المعاصرة المتقدّمة كلّها يمكن أن تجري في سيرة المتشرّعة البحتة ما عدا الطريق الثاني .
ووجه الحاجة إلى المعاصرة في السيرة العقلائية لأجل أنّ اعتبارها منوط بموقف من الشارع، وهو يستدعي المعاصرة، ومثله سيرة المتشرّعة، فهي معلولة للتلقّي من الشارع مباشرة؛ لأنّها في عرض الكواشف عن موقف الشارع لا في طولها.
يشتركان أيضاً - على الصحيح - في لزوم جري المتشرّعة في دائرة الأحكام الشرعية. نعم، على رأي المحقّق العراقي والسيّد الشهيد (قدس سرهما) في أنّ السيرة
ص: 284
العقلائية بشرط لا عن الامتداد - لكن بشرط أن تكون في معرض الامتداد - يكون هذا الجانب من موارد الاختلاف.
في طريقة الكشف عن موقف الشارع، فقد تقدّم أنّه لا بدّ من أمور ست في سيرة العقلاء، وأمّا كشف سيرة المتشرّعة فبأن يقال: المدّعى أنّ سيرة المتشرّعة وليدة لموقف الشارع ومعلولة له؛ لأنّ ما يمكن أن يكون سبباً لنشوء السيرة المتشرّعية البحتة، والسلوك العامّ من قبل المتشرّعة الملتزمين بأحكام الشريعة عدّة محتملات:
1- وجود نكتة عقلائية قد تكون هي وراء ذاك السلوك العامّ، وهذا المحتمل منتفٍ لفرض الكلام في مسألة شرعية بحتة ليس لها جذور عقلائية.
2- إنّ هذا السلوك حصل غفلة(1) من قبل المتشرّعة من دون أن يتلقّوا ذلك من الشارع، وهذا المحتمل بعيد جدّاً بحساب الاحتمالات؛ لأنّه يستدعي:
أوّلاً: الغفلة عن أصل الفحص والسؤال في أنّ هذا السلوك العامّ ناشئ من الشارع أو مرضيّ عنده، وهذه الغفلة وإن كانت معقولة من كلّ شخص شخص في حدّ نفسه، ولكن غفلة الجميع في قضيّة حسّية غير معقولة ومنتفية بحساب الاحتمالات.
وثانياً: تطابق الغفلات على نتيجة واحدة - وهو هذا السلوك -، وهذا منتفٍ بحساب الاحتمالات أيضاً.
3- إنّ هذا السلوك العامّ حصل من فتاوى فقهاء الشيعة آنذاك، فلم يكن كاشفاً
ص: 285
عن موقف الشارع في عرض فتاويهم، فإنّ الإجماع والسيرة في عرض واحد.
وهذا المحتمل ضعيف؛ لأنّه وإن أمكن حصول ارتكاز وسيرة متشرّعية من فتاوى فقهاء الإمامية إلّا أنّه لا يكون مع حضور الأئمّة (علیهم السلام) بحيث يكون تأثيرهم بمعزل عن تأثير الأئمّة (علیهم السلام) .
4- أن يكون هذا السلوك المتشرّعي العامّ بتأثيرٍ من العامّة سلطةً وفقهاءً، فالإمكانيات الموجودة عندهم تخلق ارتكازات، وسير متشرّعية، وجوّاً عامّاً تجاه موقفٍ معيّن.
وهذا المحتمل مندفع من جهة أنّ المراد بالمتشرّعة هم الإمامية الملتزمون بأخذ أحكامهم من الأئمّة (علیهم السلام)، وعلى هذا من البعيد جدّاً أن لا يسألوا الأئمّة (علیهم السلام) عن هذا السلوك العامّ من أنّه مرضيّ عندهم أو مردوع عنه.
5- فلا يبقى إلّا أن يكون هذا السلوك متلقىً من الشارع، أو كان أصله من العامّة ولكنّه ممضى من قبل الأئمة (علیهم السلام)، وإلّا لما وصلنا السلوك العامّ هذا.
تختلف سيرة العقلاء عن سيرة المتشرّعة البحتة في أنّ الحكم الثابت بسيرة العقلاء من الأحكام الإمضائية لما عند العقلاء، وأمّا الحكم الثابت بسير ة المتشرّعة فهو من الأحكام التأسيسية. نعم، قد يكون متلقىً من الشارع مباشرة، أو أنّه إمضاء لسيرة المتشرّعة العامّة.
إنّ الكاشف في سيرة العقلاء هو جري العقلاء في أمورهم غير الشرعية لكن في معرض الامتداد إلى مجال الأحكام الشرعية، فتختلف عن سيرة المتشرّعة من أنّه جري للمتشرّعة وفي دائرة الأمور الشرعية.
ص: 286
وأمّا إذا قلنا إنّ سيرة العقلاء لا بدّ فيها من الامتداد فيكون الجري للعقلاء بما هم عقلاء في دائرة الأحكام الشرعية، وللمتشرّعة بما هم متشرّعة في دائرة الأحكام الشرعية، فالاختلاف في منشأ السلوك في مجال الأحكام الشرعية.
ص: 287
إنّ هذه السيرة لا تثبت حكماً شرعياً ولا تنفيه مباشرة كما كانت السيرة التي هي موضوع الفصول المتقدّمة، وإنّما تتعرّض لأجزاء المادّة القانونية الأخرى من موضوع الحكم ومتعلّقه ذاتاً ووصفاً، وقد تتعرّض لغيرهما كملاك الحكم، ويتبع ذلك طبعاً ثبوت الحكم أو نفيه.
وتنفع هذه السيرة في المسائل المستحدثة، وتمثّل إحدى أشكال التغيّر فيما يعرف بالمتغيّر والثابت في أحكام الشريعة، وكذلك إحدى أشكال تأثير الزمان والمكان والأعراف ونحوها في الأحكام الشرعية كما سيتّضح ذلك.
ونوقع الكلام في جهتين:
ما أفاده السيّد الشهيد (قدس سره) (1) من انقسام السيرة هذه إلى ما تكون بلحاظ مرحلة الثبوت، وإلى ما تكون بلحاظ مرحلة الكشف والإثبات.
أمّا القسم الأول فتكون السيرة العقلائية فيه منشئة ومكوّنة لفرد حقيقي لموضوع الحكم أو متعلّقه، كما لو ورد من المولى: (عظّم العالم)، وخلقَ السلوكُ الاجتماعي العقلائي أشكالاً من التعظيم لم تكن موجودة في زمان صدور النصّ، أو
ص: 288
أنواعاً من العلم والعالم، فإنّ إطلاق هذا الخطاب يشمل هذه الأنحاء من التعظيم وتلك الأفراد من العالم.
ومن أمثلة هذا القسم قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(2)، فالمعروف يراد به ما هو الشائع والمستساغ عند العرف، فإذا اقتضت السيرة والتعارف بحسب الأوضاع الفكرية والاقتصادية والاجتماعية أن يكون المعروف مختلفاً عمّا كان عليه في زمان النصّ بأن أصبحت فيه - مثلاً - عناصر جديدة كالسفر للسياحة والترفيه أو نحو خاصّ من السكن والملبس والطعام، فإنّه يكون واجباً ومشمولاً لإطلاق الآيتين الكريمتين، ولا تكفي المراتب التي كانت كافية في زمان صدورهما، وهذا - كما هو واضح - تدخّل من السيرة في تكوين موضوع الحكم ثبوتاً توسعةً أو تضييقاً.
ومن هنا يتّضح موضع تأثير الزمان والمكان وما فيهما من الأعراف والعادات، ومن ثَمّ التغيّر في الأحكام، فإنّ التأثير والتغيّر إنّما هو أصلاً في دائرة موضوع الحكم أو متعلّقه، وبتبعه يتغيّر الحكم.
وأمّا القسم الثاني فتكون السيرة فيه منقّحة للموضوع والمتعلّق إثباتاً بأن تكشف عن وجوده، لا أنّها مكوّنة له ثبوتاً.
ومن أمثلة هذا القسم البناء على ثبوت الشروط الضمنية والارتكازية وإن لم يُصرّح بها، كثبوت خيار الغبن في بعض الموارد، فإنّه - كما يبحث في محلّه - يرجع إلى
ص: 289
خيار تخلّف الشرط، وبعض الشروط صريحة وبعضها ضمنية وارتكازية، والأخيرة هذه قد يكون الكاشف عن وجودها سيرة العقلاء، ولمّا كان ظاهر حال كلّ إنسان أنّه يتحرّك ويتّبع العقلاء ومقاصدهم، فهذا يعني أنّه يشترط تلك الشروط، وبحسب قضيّة (المؤمنون عند شروطهم) إذا تخلّف أيّ منها يكون له حقّ فسخ المعاوضة، وعدم تنفيذها .
ويمكن أن يُخرّج على هذا القسم قضيّة حقوق الطبع، فإنّه في هذه الأزمنة يدّعى انعقاد مثل هكذا سيرة، فالمؤلّفون والناشرون بحسب ظاهر حالهم - بل تصريحهم من خلال العبارة التي تكتب على ظهر مطبوعاتهم (حقوق الطبع محفوظة للمؤلف والناشر) - أنّهم يشترطون ذلك فبحسب (المؤمنون عند شروطهم) يثبت لهم خيار الفسخ، وتفصيله في محلّه.
ويفترق هذان القسمان في أنّه في الثاني إذا خالف الشخص هذه السيرة - بأن رضي بمثل هكذا معاوضة مع تخلّف الشرط فيها - فإنّه يرتفع ما ترتّب على السيرة؛ لأنّ دور السيرة كان مجرّد الكشف عن قصده
وشرطه، وقد تنازل عنه، فلا يثبت ما ترتب على السيرة، وهذا بخلاف القسم الأوّل فإنّه حتّى لو خالف يبقى الحكم ثابتاً في حقّه؛ لأنّ انعقاد سيرة العقلاء من دونه قد أوجد فرداً حقيقياً من الموضوع، ومخالفته لا تمنع من كونه من أفراد الموضوع، وهذا الفرق يؤثّر في كيفية استنباط الحكم الشرعي؛ إذ في القسم الأوّل لا بدّ من البناء على ثبوت الحكم على ذاك الفرد الجديد، وأمّا في القسم الثاني فيثبت الحكم عند عدم التنازل، ويرتفع عند التنازل عن الشرط.
ص: 290
انقسام السيرة إلى ما تكون محدثة لفردٍ جديد، وإلى ما تكون محدثة أو نافية لوصفٍ جديد، والأوّل كبعض أمثلة قسمي التقسيم الأوّل، والثاني كوصف الانتفاع العقلائي المحلّل بالنسبة للدم، ففي زمان حضور المعصوم (علیه السلام) كان الانتفاع منه في مثل الأكل والشرب، والدم نجساً كان أو طاهراً لا يجوز شربه أو أكله، فليس فيه منفعة عقلائية محلّلة، فلا يجوز بيعه أو شراؤه.
وأمّا في هذه الأزمنة فحيث يستفاد منه في غير الأكل والشرب، وأنشئت بنوك لذلك، فأصبحت له منفعة محلّلة، فجاز بيعه وشراؤه، فمع أنّه وجود واحد ولكن اختلف وصفه وعنوانه، فاختلف حكمه تبعاً لذلك.
ولكي يزول الحكم - في هذا القسم الثاني - بتتبع زوال الوصف المنوط به الحكم الثابت في موضوعه - أي موضوع الحكم - ويثبت محلّه حكم آخر لا بدّ أن تكون موضوعية الموضوع مأخوذة حدوثاً وبقاءً، وإلّا لو كانت حدوثاً فقط لم يحصل التبدّل في الحكم.
إنّ حجّية هذه السيرة غير متوقّفة على الأمور الستة المتقدّمة في الفصل الثاني، والمعتبرة في حجّية السيرة العقلائية الحكمية - إذا جاز التعبير -؛ وذلك لأنّ الأحكام الشرعية مجعولة على سبيل القضايا الحقيقية التي يُؤخذ فيها الموضوع مقدّر الوجود، فيعمّ الأفراد الحاصلة بالفعل في زمان صدور القضيّة التشريعية، والأفراد التي ستحصل في المستقبل.
وكون القضيّة التشريعية على سبيل القضيّة الحقيقية ممّا يستدعيه التشريع، فهي
ص: 291
من القضايا التي قياساتها معها؛ لأنّ القضيّة الخارجية لا تصلح لتشريع القوانين الكلّية؛ لمكان كونها قضيّة شخصية في نهاية المطاف.
والقضيّة الحقيقية موضوعها المفهوم الكلّي والوصف العنواني، وله علاقتان:
إحداهما: بالحكم المحمول عليه.
والأخرى: بأفراده .
أمّا علاقة الموضوع بالحكم فإنّ الحكم يترتّب على الموضوع ترتّب المعلول على علّته، وهذا في مرحلة الفعلية لا الإنشاء، وقد تقدّم أنّه يكفي في هذا الترتّب أحياناً حدوث الموضوع، وأحياناً أخرى لا بدّ منه حدوثا ً وبقاءً .
وأمّا علاقة موضوع الحكم بأفراده فهي علاقة تكوينية، ويكون انطباق الموضوع على فرده الخارجي قهرياً، وبتبعه يثبت الحكم لذاك الفرد أو ينتفي بانتفائه(1).
ومنه يتّضح أنّه لا حاجة لأيّ من الأمور الستة لإثبات حجّية هذا النوع من السيرة.
نعم، يُعتبر في هذه الحجّية أمور ثلاثة:
الأوّل: الالتفات إلى نحو أخذ العنوان في موضوع الحكم هل أنّه أُخذ حدوثاً وبقاءً، أم حدوثاً فقط.
الثاني: أن لا يكون الموضوع والمتعلّق من الأمور التوقيفية، وإنّما من الأمور العرفية.
ص: 292
الثالث: إثبات أنّ الإطلاق والعموم ونحوهما يشمل الأفراد المستحدثة، ولا يكون مقصوراً على الأفراد الموجودة في زمان النصّ، وهذا يكفي فيه كون القضيّة التشريعية على سبيل القضيّة الحقيقية.
ويمكن أن تُذكر بعض الوجوه لإثبات المحدودية المذكورة:
منها: اختصاص الخطاب بمن قصد إفهامه كما يُذكر في بحث حجّية الظهور.
ومنها: الانصراف إلى الأفراد المتعارفة في زمان النصّ.
ومنها: كون هذه الأفراد هي القدر المتيقّن في مقام التخاطب.
ومنها: أنّ الإطلاق والعموم يتوقّف على تصوّر القيود، سواء قلنا إنّهما جمع القيود أو رفضها، والقيود التي لا عين لها ولا أثر في زمان النصّ لا يمكن تصوّرها في الوضع الطبيعي، وقد يرجع هذا الأمر إلى واحدة من مقدّمات الدلالة الإطلاقية، وهي إمكان الإطلاق والتقييد عقلاً وعرفاً، فيشكّك في حصوله في مثل هذه الموارد.
وجميعها غير تامّة كما هو موضّح في محلّه.
ص: 293
1- يعتبر في السيرة العقلائية التي يراد من خلالها إثبات حكم شرعي أو نفيه أن نحرز للشارع موقفاً تجاه السيرة ولو من جهة الأصلين، أعني: اتّفاق عقلائية العقلاء مع عقلائية الشارع. واتّفاق عقلائية الشارع مع مولويته.
وكذلك أن نحرز الامتداد الواسع إلى دائرة الأحكام الشرعية في زمان حضور الإمام (علیه السلام)، ولا يكفي أن تكون في معرض الامتداد، ومن هنا لا يصحّ ما صنعه السيّد الشهيد (قدس سره) من تعدّد السيرة إلى عقلائية ومتشرّعية - أي بالمعنى الأخصّ -، كما استدلّ بهما على حجّية الظهور وحجّية خبر الثقة.
2- إنّ الأصلين المتقدّمين يفضيان إلى ثبوت الملازمة بين حكم العقل والعقلاء وبين حكم الشارع المقدّس.
نعم، هذه الملازمة اقتضائية تعليقية، وليست تنجيزية، والأصل الأوّل مشروط بأن يكون حكم العقل والعقلاء نابعاً من قريحتهم وفطرتهم الخالصة، والأصل الثاني - بمعنى إعمال المولى لمولويته، وإلّا فالتطابق بين عقلائية المولى ومولويته غير مشروطة بشرط بل هي مطلقة - مشروط بأن يجري المتشرّعة في زمان الحضور بصورة واسعة على ما تقتضيه القريحة العقلائية في دائرة الأحكام الشرعية.
وبهذين الأصلين يمكن دعوى إحراز عدم الردع على الرغم من كفاية عدم إحراز الردع، فليتدبّر.
ص: 294
3- إنّ المنهج الذي يتّبعه المشرّع الإسلامي في مقام تشريعاته يتوافق مع عقلائية البشر الخالصة النابعة من قرائحهم التي أودعها الله فيهم، ولكن هذا لا يعني التطابق التامّ، بل للشارع أغراضه الخاصّة التي لا تدركها عقول البشر لقصورها، أو لاكتنافها بما يشوبها من الأفكار والعواطف.
4- إنّ المقدار الممضى هو النكتة الارتكازية بتمامها، وهو يناسب كون الأصل هو الاتّفاق في العقلائية، وكذلك يناسب أنّ المنهج الذي يسلكه الشارع المقدّس في مقام جعله للأحكام يتوافق مع عقلائية البشر الخالصة النابعة من قرائحهم وفطرتهم، فهذه حلقات ثلاث لمنظومة واحدة.
والحمد كلّ الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين، وأكمل بلطفه عقولنا، وعصمها ممّا يشوبها.
* * *
ص: 295
القرآن الكريم.
1. الاجتهاد والتقليد، السيّد محمّد سعيد الحكيم (دام ظله)، الناشر: مؤسّسة الحكمة للثقافة الإسلامية، ط2، 1428ﻫ -2007 م.
2. الأصول العامّة للفقه المقارن، السيّد محمّد تقيّ الحكيم (قدس سره)، الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (علیهم السلام)، ط2، 1427ﻫ.
3. أصول الفقه، العلّامة الشيخ محمّد رضا المظفّر (قدس سره)، تحقيق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري، الناشر: مؤسّسة بستان كتاب، ط12، 1434ﻫ.
4. اقتصادنا، السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (ت1400ﻫ)، الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر، ط2، مطبعة شريعت - قمّ، 1431ﻫ.
5. بحوث فقهية، السيّد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته)، الناشر: دار المؤرّخ العربي، ط 1، 1427ﻫ- 2007م.
6. بحوث في شرح العروة الوثقى، السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (ت1400ﻫ)، الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدس سره)، ط2، 1429ﻫ.
7. بحوث في شرح مناسك الحجّ، السيّد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته)، بقلم الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف، نسخة أوّلية محدودة التداول 1435 ﻫ.
8. بحوث في علم الأصول، السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (ت1400ﻫ)، بقلم السيّد محمود الهاشمي، الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية، المطبعة:
ص: 296
فروردين، ط2، 1417ﻫ.
9. التنقيح في شرح العروق الوثقى (ضمن موسوعة الإمام الخوئي (قدس سره) )، السيّد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) (ت 1413ﻫ)، بقلم الشيخ عليّ الغروي، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1418 - 1998، شركة التوحيد للنشر.
10. تهذيب الأصول، السيّد روح الله الخميني (قدس سره) (ت1410ﻫ)، بقلم الشيخ جعفر السبحاني، النّاشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، 1405ﻫ.
11. دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى والثانية)، تأليف السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (ت1400ﻫ)، الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر، ط6، مطبعة شريعت - قمّ المقدّسة، 1431 ﻫ.
12. الذريعة إلى أصول الشريعة، السيّد أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى) (قدس سره) (ت436ﻫ)، تصحيح وتعليق: الشيخ أبو القاسم كرجي، المطبعة: دانشگاه - طهران، 1346ش.
13. الرافد في علم الأصول، محاضرات السيّد عليّ الحسيني السيستاني (دام ظله)، بقلم السيّد منير السيّد عدنان الخبّاز، الناشر: مكتب السيّد السيستاني، المطبعة: مهر - قمّ، ط1، 1414ﻫ.
14. الرسائل الأصوليّة، الشيخ محمّد باقر البهبهاني (قدس سره) (ت 1205ﻫ)، تحقيق ونشر مؤسّسة العلّامة المجدّد الوحيد البهبهاني، المطبعة أمير، ط1، 1416ﻫ.
15. العدّة في أصول الفقه، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره)
ص: 297
(ت460ﻫ)، تحقيق: الشيخ محمّد رضا الأنصاري القمّي، المطبعة: ستاره - قمّ، ط1، 1417ﻫ.
16. العلم الإجمالي حقيقته ومنجّزيته عقلاً، السيّد محمّد باقر السيستاني (دامت افاداته)، طبعة أوّلية محدودة التداول.
17. علم النفس، جميل صليبا، الناشر: دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، ط2، 1984م.
18. فقه الشيعة، السيّد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) (ت1413ﻫ)، بقلم السيّد محمّد مهدي الموسوي الخلخالي، ط3، 1418ﻫ - 1997م.
19. فقه العقود، السيّد كاظم الحائري (دام ظله)، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، ط2، 1423ﻫ.
20. فوائد الأصول، الميرزا محمّد حسين النائيني (قدس سره) (ت1355ﻫ)، بقلم الشيخ محمّد عليّ الكاظمي مع تعليقات المحقّق العراقي (قدس سره)، طبع ونشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين قمّ المقدّسة، 1404 ﻫ.
21. قبسات من علم الرجال، أبحاث السيّد محمّد رضا السيستاني (دامت افاداته)، جمعها ونظمها السيّد محمّد البكاء، ط1 محدودة التداول، 1436ﻫ.
22. الكافي في أصول الفقه، السيّد محمّد سعيد الحكيم (دام ظله)، الناشر: المؤسّسة الدولية للدراسات والنشر، ط3.
23. كفاية الأصول، الشيخ محمّد كاظم الخراساني الآخوند (قدس سره) (ت1329ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، المطبعة: مهر - قمّ،
ص: 298
ط1، 1409ﻫ.
24. مباحث الأصول، السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) (ت1400ﻫ)، بقلم السيّد كاظم الحائري، الناشر: دار البشير، المطبعة: شريعت - قمّ، ط2، 1425 ﻫ.
25. مباني الأصول، السيّد محمّد باقر السيستاني (دامت افاداته)، بقلم الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف، ط1، نسخة أوّلية محدودة التداول.
26. مجلّة دراسات علميّة العدد 16، مجلّة نصف سنويّة تصدر عن المدرسة العلمية (الآخوند الصغرى) في النجف الأشرف، ط1.
27. مجلّة دراسات علميّة العدد 5، مجلّة نصف سنويّة تصدر عن المدرسة العلمية (الآخوند الصغرى) في النجف الأشرف، ط1.
28. المحكم في أصول الفقه، السيّد محمّد سعيد الحكيم (دام ظله)، الناشر: مؤسّسة المنار، ط2، 1418ﻫ - 1997م.
29. مقالات الأصول، الشيخ آقا ضياء الدين العراقي (قدس سره) (ت1361ﻫ)، تحقيق: الشيخ مجتبى المحمودي - السيّد منذر الحكيم، المطبعة: شريعت - قمّ.
30. منتقى الأصول، السيّد محمّد الروحاني (قدس سره) (ت1418ﻫ)، بقلم السيّد عبد الصاحب الحكيم (قدس سره)، المطبعة: الهادي، ط2، 1416 ﻫ.
31. نهاية الأفكار، الشيخ آقا ضياء الدين العراقي (قدس سره) (ت1361ﻫ)، بقلم الشيخ محمّد تقيّ البروجردي، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين قمّ المقدّسة، ط4، 1422ﻫ.
32. نهاية الدراية، تأليف الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدس سره) (ت1361ﻫ)،
ص: 299
تحقيق: مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، ط1، 1418ﻫ - 1998م.
33. نهج البلاغة، نشر دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1432ﻫ.
ص: 300
إنَّ من القيم المعرفيّة المهمّة هو إحياء آثار العلماء الماضين من خلال تسليط الضوء على جواهر علومهم المنبثّة في ثنايا كلماتهم وسطورهم، والتعرّف على مسالكهم ومبانيهم في ما استندوا إليه في استنباط الأحكام الشرعيّة في موسوعاتهم الفقهيّة.
وفي هذا الضوء يأتي البحث الماثل بين يديكم في ثلاث حلقات هادفاً لبيان المباني الرجاليّة لصاحب الجواهر (قدس سره)، وتطبيقاتها على الرواة في مقام إعماله للجرح والتعديل، والّتي استند إليها في موسوعته الفقهيّة (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام).
ص: 301
ص: 302
بسم الله الرحمن الرحیم
القسم الثالث من رجال الجواهر معقود لذكر من تعرّض لهم المصنّف (رحمة الله)، وذكر فيهم كلاماً من حيث الجرح أو التعديل أو سلامة العقيدة أو التمييز، وهم نيّف وسبعون راوياً، وأمّا مَن ذكره (رحمة الله) ولم يذكر فيه شيئاً من ذلك فلا نقف عنده، إمّا لكونه منصوصاً على وثاقته مع عدم المعارض لها كالحسن بن زياد العطّار(1)، أو منصوصاً على ضعفه كأحمد بن محمّد السيّاري(2)، أو مجهولاً كإبراهيم الكرخي(3).
ولكنْ لمّا كان البحث في الرواة المذكورين يزيد على المقدار الممكن عرضه في المجلّة بكثير، وقع الاختيار على عشرة منهم ليتمّ عرضهم في هذا العدد على أن يأتي
ص: 303
البقية - إنْ شاء الله تعالى - في ما يطبع كتاباً من رجال الجواهر، وفي ما يلي أسماؤهم بحسب الترتيب الألفبائي:
أبان بن عثمان الأحمر، البجلي مولاهم، أبو عبد الله، أصله كوفي، كان يسكنها تارةً، والبصرة أخرى، وقد أخذ عنه أهلها: أبو عبيدة معمّر بن المثنى، وأبو عبد الله محمّد بن سلام، وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيّام، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى (علیهما السلام) . له كتاب حسن كبير يجمع المبتدأ والمغازي والوفاة والردّة(1).
عدّه الكشّي في فقهاء أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) الّذِين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، قائلاً: (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقرّوا لهم بالفقه، من دون أولئك الستّة الّذِين عددناهم وسمّيناهم، ستّة نفر: جميل بن درّاج، وعبد الله بن مسكان، وعبد الله بن بكير، وحمّاد بن عيسى، وحمّاد بن عثمان، وأبان بن عثمان)(2).
وروى عن (محمّد بن مسعود، قال: حدّثني محمّد بن نصير وحمدويه، قالا: حدّثنا محمّد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ بن يقطين، عن إبراهيم بن أبي البلاد،
ص: 304
قال: كنت أقود أبي وقد كان كفّ بصره، حتّى صرنا إلى حلقة فيها أبان الأحمر، فقال لي: عمّن تحدّث؟ قلت: عن أبي عبد الله (علیه السلام)، فقال: ويحه، سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: أما أنّ منكم الكذّابين، ومن غيركم المكذِّبين)(1).
وعن (محمّد بن مسعود، قال: حدّثني عليّ بن الحسن، قال: كان أبان من أهل البصرة، وكان مولى بجيلة، وكان يسكن الكوفة، وكان من الناووسية)(2).
وعلى ضوء ذلك اخْتُلف فيه على ثلاثة أقوال:
أنّه ضعيف، واختاره المحقّق(3)، وابن فهد(4)، والظاهر أنّ الوجه فيه هو عدم النصّ الصريح على وثاقته مع فساد عقيدته المنصوص عليها في كلام ابن فضّال المتقدّم؛ فإنّ الناووسية فرقة لم تسلّم بموت الإمام الصادق (علیه السلام)، وقالوا: إنّه المهدي، ولم يمتْ، وسمّوا بذلك إمّا نسبة إلى رجل كانوا يتبعونه اسمه ناووس، أو إلى قرية ناووسا(5).
الأوّل(1)، والثاني(2)، والوجه فيه هو البناء على وثاقته؛ لإجماع العصابة على تصديقه والإقرار له بالفقه، وفساد مذهبه المنصوص عليه في كلام ابن فضّال. قال العلّامة: (إنّ أبان وإن كان ناووسياً إلّا أنّه كان ثقة. وقال الكشّي: إنّه ممّن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ نقله عنه. والإجماع حجّة قاطعة، ونقله بخبر الواحد حجّة)(3). وقال الشهيد الثاني: (أبان بن عثمان فقد اتّفقت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، فلا يقدح الطعن في مذهبه)(4).
لم يثبت قول ابن فضّال المذكور؛ إذ في بعض النسخ: (كان قادسياً)، بدل (كان ناووسياً)، قال المحقّق الأردبيلي: (وفي كتاب الكشّي الّذي عندي قيل كان قادسياً أي من القادسية فكأنّه تصحيف)(1). مضافاً إلى عدم صراحة كلام ابن فضّال (في فساد عقيدته بعد احتمال أن يراد به أنّه من قوم ناووسية، لا أنّه ناووسي العقيدة)(2).
وصاحب الجواهر (رحمة الله) بنى على وثاقة أبان بن عثمان، والظاهر أنّ الوجه فيه هو كونه من أصحاب الإجماع؛ إذ بنى على استفادة قبول رواياتهم من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، قائلاً: (وإنْ كان فيهم من هو من أصحاب الإجماع وممّن أقرّ له بالفقه، ولكنّ ذلك ونحوه لقبول روايتهم لا آرائهم)(3).
ودعوى أنّ (حكاية إجماع العصابة لم يعتبرها الشيخ في كتبه أصلاً، ولا النجاشي - مع كونه أضبط الكلّ في الرجال - ولا ابن الغضائري، بل الكشّي أيضاً لم يحكم بها، بل نقله عن بعض مشايخه)(4).
مدفوعة عند صاحب الجواهر (رحمة الله) (لحجّية الإجماع المنقول وإنْ لم نعلم به إلّا من جهة النقل.. سيّما بعد عدالة حاكيه)(5).
وأمّا إماميته فمنشأ الإشكال فيها هو نسبته إلى الناووسية في كلام ابن فضّال
ص: 307
المتقدّم، لكن قال فيه صاحب الجواهر (رحمة الله): (عدم تحقّق ناووسية أبان، بل عن بعض الأفاضل أنّه أطنب في بيان حسن حاله، بل عن الأردبيلي أنّ الموجود في نسخة الكشّي الّتي عنده كان من القادسية: قرية معلومة لا من الناووسية: الفرقة المطعونة، على أنّ ناووسيته قد أخبر بها ابن فضّال الّذي هو مثله في فساد العقيدة، فإن قبل خبره فيه مع فساد عقيدته قبلنا خبره هنا مع فساد عقيدته، على أنّه معارض بما عن الكشّي من أنّ العصابة قد أجمعت على تصحيح ما يصحّ عنه والإقرار له بالفقه بناءً على ظهور ذلك في كونه إمامياً، وإلّا فالجمع بينهما يقتضي كونه موثّقاً، وهو حجّة)(1).
وتوضيحه:
الظاهر أنّ المقصود بقوله (رحمة الله): (بل عن بعض الأفاضل أنّه أطنب في بيان حسن حاله)، هو صاحب الرياض، حيث قال: (ضعف الراوي [أي أبان بن عثمان] لعدم ثبوته إلّا بإخبار من يضاهيه في فساد العقيدة، فإن ثبت بإخباره قُبل روايته؛ إذ كما لا يمنع فساد العقيدة في المخبر كذا لا يمنع في المخبر عن حاله، مع عدم صراحة خبره في فساد عقيدته بعد احتمال أن يراد به أنّه من قوم ناووسية، لا أنّه ناووسي العقيدة، ولو سلّم جميع ذلك فقول عليّ بن الحسن معارض بقول الكشّي إنّ العصابة قد اجتمعت على تصحيح ما يصحّ عنه والإقرار له بالفقه، وهو أعدل من الجارح، فليقدّم عليه. ولو سلّمنا الجمع بينهما أفاد كونه موثّقاً كما هو المشهور، أو قويّاً على الأقوى، بناءً على عدم ظهور دعوى الإجماع في التوثيق وإنْ جعلوها صريحةً فيه، أو
ص: 308
ظاهرة)(1).
المناقشة في ما دلّ على فساد عقيدة أبان بن عثمان من ثلاث جهات:
عدم ثبوت قول ابن فضّال في كون أبان ناووسياً؛ إذ الموجود في نسخة الأردبيلي - وقد تقدّمت عبارته - هو (كان من القادسية) وهي قرية معروفة(2)، وليس (من الناووسية) الفرقة المطعونة.
أنّ كون أبان ناووسياً خبر وصلنا عن ابن فضّال، وهو فطحيّ(3)، فلو كان فساد العقيدة مانعاً من قبول الخبر، إذن فلا يقبل خبر ابن فضّال في كون أبان ناووسياً، وإنْ كان فساد العقيدة لا يمنع من قبول الخبر، إذن فلتكن أخبار أبان حجّةً مقبولةً حتّى مع فساد عقيدته.
أنّ إخبار ابن فضّال بناووسية أبان معارض بما نقله الكشّي من إجماع العصابة على أنّ أبان من ضمن الجماعة الّذين أقرّوا لهم بالفقه والتصديق بما
ص: 309
يقولون، فيدلّ على كونه ثقةً، والثقة في مصطلح الرجال كون الراوي ضابطاً إمامياً(1).
نعم قد يقال: إنّ الإجماع المنقول في كلام الكشّي لم يلحظ سلامة العقيدة بشهادة عَدّه من جملتهم مَن هو معروف بفساد العقيدة كعبد الله بن بكير(2).
لكنّ ذلك لا يضرّ؛ إذ ضمّ وثاقته الحاصلة من الإجماع إلى فساد عقيدته المستفاد من كلام ابن فضّال ينتج أنّ أبان موثّقٌ، وأنّ رواياته من قسم الموثّق، وهو حجّة.
يظهر من صاحب الجواهر (رحمة الله) أنّه لم يبنِ على إمامية أبان بن عثمان بشهادة تعليقها على أمر غير متحقّق، وهو دلالة الإجماع على إمامية المذكورين فيه، ونسب وصف روايته ب-(الصحيحة) إلى ال-(قيل)، حيث قال: (وموثّقة أبان بن عثمان - أو صحيحته كما قيل - عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سئل عن الفأرة تقع في البئر لا يعلم بها إلّا بعد أن يتوضّأ منها، أيعاد الوضوء؟ فقال: لا)(3).
والظاهر أنّ الوجه فيه هو البناء على كون أبان ناووسياً أخذاً بما ذكره ابن فضّال، وذلك لوجهين:
أنّ خبر ابن فضّال من الموثّق، وهو حجّة عند صاحب الجواهر (رحمة الله) كما ذكر ذلك في عبارته المذكورة، ونوّه عليه في غير موضع من الكتاب، منها قوله: (إنّ الموثّق حجّة عندنا)(4).
ص: 310
أنَّ مبنى صاحب الجواهر (رحمة الله) في الجرح والتعديل على الظنون الاجتهادية كما صرّح بذلك غير مرّة، منها قوله: (التزكية من الظنون الاجتهادية)(1). وإخبار ابن فضّال بفساد عقيدة أبان بن عثمان إن لم يثبتها فهو يمنع من حصول الظنّ بسلامة عقيدته.
وأمّا ما ذكره المحقّق الأردبيلي (رحمة الله) من أنّ نسخته (كان من القادسية) فاحتمال التصحيف فيها وارد، خصوصاً مع ندرة نسخته، وعدم العثور عليها عند غيره، وأنّ المشهور هو ما وصلنا من نسخة الكشّي المثبتة لكونه (ناووسياً).
لم أقف في كلام صاحب الجواهر (رحمة الله) ومَن سبقه من الأعلام على ملاحظة رواية إبراهيم بن أبي البلاد المتقدّمة الّتي يظهر منها بدواً القدح في أبان بن عثمان، بل صريح المحقّق السبزواري حصر ما يمكن أن يكون قادحاً ب-(أبان) نسبته إلى الناووسية في كلام ابن فضّال، حيث قال: (ولا طعن فيه إلّا ما نقل الكشّي عن محمّد بن مسعود عن ابن فضّال أنّه ناووسي، ولم يذكر ذلك غيره)(2).
ولا يبعد أن يكون الوجه في عدم اهتمامهم بها هو جهالة والد إبراهيم بن أبي البلاد، وهو يحيى بن أبي سليمان (سليم)، فإنّه ذكره النجاشي في ترجمة ابنه (إبراهيم) ووصفه بما لا يقتضي وثاقته أو حسنه، قائلاً: (إبراهيم بن أبي البلاد، واسم أبي البلاد يحيى بن سليم، وقيل ابن سليمان مولى بني عبد الله بن غطفان … وكان أبو البلاد ضريراً، وكان راوية الشعر، وله يقول الفرزدق (يا لهف نفسي على عينيك من
ص: 311
رجل)، وروى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام) )(1).
إبراهيم بن هاشم، أبو إسحاق، القمّي، أصله من الكوفة وانتقل إلى قم، وهو أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم(2)، وقيل: إنّه لقي الإمام الرضا (علیه السلام)، وقال الشيخ: إنّه من تلاميذ يونس بن عبد الرحمن(3)، ونقله النجاشي عن الكشّي وتنظّر فيه(4).
ولم يرد في حقّه توثيق صريح، ولذا كان ظاهر العلّامة (قدس سره) في بعض كتبه البناء على جهالته(5)، إلّا أنّ المشهور بنى على قبول روايته، واختاره صاحب الجواهر (رحمة الله) استناداً إلى قرائن ذكرها بقوله: (إبراهيم بن هاشم مع أنّه من مشايخ الإجازة فلا يحتاج إلى توثيقه - في وجه عدم نصّهم على توثيقه - لعلّه لجلالة قدره وعظم منزلته، كما لعلّه الظاهر، ويشعر به ما حكاه النجاشي عن أصحابنا أنّهم كانوا يقولون: إنّ
ص: 312
إبراهيم بن هاشم هو أوّل من نشر أحاديث الكوفيين بقم بعد انتقاله من الكوفة، فإنّه ظاهر - إنْ لم يكن صريحاً - في كونه ثقةً معتمداً عند أئمّة الحديث من أصحابنا؛ إذ نشر الأحاديث لا يكون إلّا مع التلقّي والقبول، وكفى بذلك توثيقاً سيّما بعد ما علم من طريقة أهل قم من تضييق أمر العدالة، وتسرّعهم في جرح الرواة والطعن عليهم وإخراجهم من بلدة قم بأدنى ريبة وتهمة، حتّى أنّهم غمزوا في أحمد بن محمّد بن خالد البرقي - مع ظهور عدالته وجلالته - بروايته عن الضعفاء، واعتماده المراسيل، وأخرجوه من قم، فلولا أنّ إبراهيم بن هاشم بمكان من الوثاقة والاعتماد عندهم لما سلم من طعنهم وغمزهم بمقتضى العادّة، ويؤيّده زيادة على ذلك: اعتماد أجلّاء الأصحاب وثقاتهم وإكثار الكليني من الرواية عنه، وعدم استثناء محمّد بن الحسن ابن الوليد إيّاه من رجال نوادر الحكمة في مَن استثنى كما قيل، وكونه كثير الرواية جدّاً، وقد قال الصادق (علیه السلام): (اعرفوا منازل الرجال ]منّا[ بقدر روايتهم عنّا)، وممّا يزيد ذلك كلّه تصريح العلّامة في الخلاصة بأنّ الأرجح قبول روايته، وتصحيحه جملة من طرق الصدوق المشتملة عليه، كطريقه إلى كردويه وإلى ياسر الخادم، وقد عدّ بعض أصحاب الاصطلاح الجديد أخباره من الصحاح منهم العلّامة)(1).
وحاصل ما ذكره في استفادة وثاقة إبراهيم بن هاشم القمّي أمران، دليل ومؤيّد:
أمّا الدليل فهو كون إبراهيم من مشايخ الإجازة، وصاحب الجواهر (رحمة الله) وإنْ لم يبنِ على كفاية مشيخة الإجازة في إثبات وثاقة الراوي؛ لقوله: (القصور في السند
ص: 313
بعبد الواحد وعليّ اللذَيْنِ لم ينصّ على توثيقهما، وكونهما شيخي إجازة لا يستلزمها)(1)، إلّا في حال توفّر ما يدلّ على أنّهم لم ينصّوا عليه بتوثيق لظهور وثاقته كما في مورد الكلام، وذلك لنقل النجاشي والشيخ عن الأصحاب قولهم: (إنّ إبراهيم بن هاشم هو أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم)(2)، وهذا القول (ظاهر - إنْ لم يكن صريحاً - في كونه ثقةً معتمداً عند أئمّة الحديث من أصحابنا)(3).
والوجه في هذا الظهور هو أنّ (نشر الأحاديث لا يكون إلّا مع التلقّي والقبول)(4)، وقبول الأصحاب لأحاديث إبراهيم لا يكون إلّا لوثاقته عندهم، خصوصاً وأنّ مَن قَبِلَ أحاديثه هم القمّيون المعروفون بتشدّدهم في أمر الأخبار، وإخراجهم من قم مَن يتّهمونه بالغلوّ والكذب(5)، وقد أخرج أحمد بن محمّد بن عيسى سهل بن زياد وأبا سمينة من قم؛ لاتّهامهما بذلك(6)، وأخرج البرقي مع وثاقته؛ لأنّه لا يبالي عمّن يأخذ الأحاديث(7)، ومع ذلك كلّه قبلوا أحاديث إبراهيم الّتي نقلها لهم عن الكوفيين، ممّا
ص: 314
يدلّ على وثاقته عندهم، وأنّه لم يتوفّر فيه ما يقتضي ترك حديثه.
وأمّا المؤيّد فهو عدّة أمور:
والوجه في كونه مؤيّداً: هو أنّ رواية الأجلّاء لا تقتضي وثاقة الراوي عند صاحب الجواهر (رحمة الله)؛ إذ لعلّ روايتهم عنه كانت استناداً إلى قرائن اقتضت الوثوق بإخباره.
أنّ الشيخ الكليني أكثرَ من الرواية عن إبراهيم بن هاشم(1) في كتابه الكافي الّذي صرّح في مقدّمته ب-(أنّ جميع ما فيه من الروايات الصادرة عن الصادقين (علیهم السلام) )(2)، حيث قال في بيان الطلب الّذي وجّه إليه في تأليفه: (وقلت: إنّك تحبّ أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلّم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين (علیهم السلام) والسنن القائمة الّتي عليها العمل، وبها يؤدّى فرض الله عزّ وجلّ، وسنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله و سلم) .. وقد يسَّر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت)(3)، ممّا يدلّ على أنّ روايات إبراهيم بن هاشم الكثيرة في الكافي هي من الآثار الصحيحة عن الصادقين (علیهم السلام)، وذلك مدح معتدّ به يدلّ على حسن حاله(4).
نعم يحتمل أنّ إكثار الكليني عنه لكونه شيخ إجازة وحسب، أو لوثوقه بأخباره بقطع النظر عن حاله؛ لصحّتها بقيام القرائن عليها كشهرة الكتاب المنقول عنه الخبر(5)؛
ص: 316
فإنّ الصحّة عند القدماء تجتمع مع ضعف السند(1)، ولذا كان مؤيّداً. ولم نقف لصاحب الجواهر (رحمة الله) على اعتماده على إكثار الكليني ولو بنحو التأييد إلّا في هذا المورد.
أنّ إبراهيم بن هاشم ممّن روى عنه محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري في كتابه نوادر الحكمة(2)، ولم يستثنه محمّد بن الحسن بن الوليد بعد أن قيّم رواته وأخرج ما كان فيه من غلوّ أو تخليط. إلّا أنّ صاحب الجواهر (رحمة الله) لم يبنِ على كفاية عدم الاستثناء في إفادة وثاقة أو حُسن الراوي؛ للنصّ على ضعف بعض مَن لم يُستثنَ كمحمّد بن سنان، ولذا جعله مؤيّداً.
أنّ إبراهيم بن هاشم كثير الرواية جدّاً (حتّى أنّه لا يوجد في الرواة - على اختلاف طبقاتهم - من يدانيه في ذلك)(3)، ممّا أوجب أن يكون ذلك له حُسناً، لما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): (اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر روايتهم عنّا)(4)، الدالّ على مدح الراوي بكونه ذا منزلة عندهم (علیهم السلام) لكثرة روايته عنهم.
والظاهر لضعف الخبر سنداً، وإكثار بعض مَن ثبت ضعفهم جعله مؤيّداً.
موقف العلّامة من إبراهيم بن هاشم متمثّلاً في ثلاثة أمور:
1. تصريح العلّامة في الخلاصّة في ترجمة إبراهيم بن هاشم بأنّ (الأرجح قبول
ص: 317
قوله)(1)، ولذا عدّه في القسم الأوّل منها(2).
2. عَقد العلّامة في آخر الخلاصة خاتمة ذكر فيها عشر فوائد رجالية، وكانت الثامنة منها في بيان حال طرق الصدوق والشيخ في مشيختيهما، وقد وقع إبراهيم بن هاشم في جملة من طرق الصدوق صحّح العلّامة طريقين منها، وهما:
طريق الصدوق إلى كردويه الّذي قال فيه: (وما كان فيه عن كردويه الهمداني فقد رويته عن أبي (رضوان الله علیه) عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن كردويه الهمداني)(3)، وقد صحّحه العلّامة قائلاً: (وعن كردويه الهمداني صحيح)(4).
طريق الصدوق إلى ياسر الخادم الّذي قال فيه: (وما كان فيه عن ياسر الخادم فقد رويته عن أبي (رضوان الله علیه) عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ياسر خادم الرضا (علیه السلام) )(5)، وقد صحّحه العلّامة أيضاً قائلاً: (وعن رفاعة بن موسى النخّاس صحيح، وكذا عن زياد بن سوقة، وكذا عن حمّاد بن عثمان، وكذا عن ياسر الخادم)(6).
ص: 318
3. إنّ العلّامة قد وصف بعض الروايات الّتي ورد في أسانيدها إبراهيم بن هاشم ب-(الصحيحة)، كقوله في المختلف: (بما رواه عيص في الصحيح، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن رجل مات وهو جنب، قال: يغسل غسلة واحدة بماء، ثمّ يغسل بعد ذلك)(1)، وقد رواها الشيخ في التهذيب عن (إبراهيم بن هاشم، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن عيص، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ..)(2).
ولم يقتصر الأمر على العلّامة بل جملة من الأعلام الّذِين بنوا على التقسيم الرباعي للخبر وصفوا أيضاً بعض روايات إبراهيم بال-(صحيحة)، كقول صاحب الحدائق(3)، والرياض(4)، والمستند(5): (صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إذا افتتحت الصلاة فارفع كفّيك ثمّ ابسطهما بسطاً ثمّ كبِّر ثلاث تكبيرات..)، وقد رواها الكليني عن (عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد ابن عثمان، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله (علیه السلام) )(6).
هذا، والظاهر أنّ الوجه في وصف صاحب الجواهر (رحمة الله) موقف العلّامة بأنّه (ممّا يزيد ذلك كلّه)، أي يزيد في قيمة ما تقدّم من الدليل والمؤيّد هو أنّ موقف العلّامة
ص: 319
وجملة من الأعلام (رحمهم الله) يمثّل اعترافاً عملياً بكفاية ما تقدّم في إحراز وثاقة إبراهيم بن هاشم. مضافاً إلى اعتماده (رحمة الله) على خلاصة العلّامة في معرفة أحوال الرواة، وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في مطلع البحث.
ثمّ إنّ بناء صاحب الجواهر (رحمة الله) على وثاقة إبراهيم(1)، إنّما هو بمعنى كون (إبراهيم بن هاشم، وهو بمرتبة من العدالة)(2)، تقتضي حسن الخبر من جهته؛ لعدم نصّهم الصريح على وثاقته، ولذا وصف جملة من رواياته ب-(حسن أو حسنة أو حسن كالصحيح) قائلاً: (حسن سعيد الأعرج بإبراهيم بن هاشم)(3)، و(ورواه الكليني والشيخ أيضاً في الحسن بإبراهيم بن هاشم عن زرارة)(4)، و(حسنة زرارة بإبراهيم ابن هاشم)(5)، و(حسنة زرارة وأخيه بكير بإبراهيم بن هاشم)(6)، و(حسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم)(7)، و(بطريق حسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم)(8).
ص: 320
داود بن كثير بن أبي خلدة (خالد)(1)، الرقّي، أبو سليمان، مولى بني تميم، له كتاب المزار والإهليلجة، روى عن الأئمّة الصادق والكاظم والرضا (علیهم السلام)، توفّي بعد المائتين بعد وفاة الإمام الرضا (علیه السلام) بقليل(2).
تعارض فيه الجرح والتعديل، فنصّ النجاشي على ضعفه، قائلاً: (ضعيف جدّاً، والغلاة تروي عنه. قال أحمد بن عبد الواحد: قلّما رأيت له حديثاً سديداً)(3). وقال ابن الغضائري: (كان فاسد المذهب، ضعيف الرواية، لا يلتفت إليه)(4).
ويدلّ على توثيقه أمور:
نصّ الشيخ على وثاقته في رجاله، قائلاً: (داود بن كثير الرقّي، مولى بني أسد، ثقة)(5).
قول الكشّي: (يذكر الغلاة أنّه من أركانهم، وقد يروى عنه المناكير من الغلوّ، وينسب إليه أقاويلهم، ولم أسمع أحداً من مشايخ العصابة يطعن فيه، ولا
ص: 321
عثرت من الرواية على شيء غير ما أثبته في هذا الباب)(1).
نقل الكشّي فيه عدّة أخبار تدلّ على جلالة قدره، واختصاصه بأهل البيت (علیهم السلام)، وهي:
1. ما رواه عن (حمدويه وإبراهيم ومحمّد بن مسعود، قال: حدّثني محمّد بن نصير، قالوا: حدّثنا محمّد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: أنزلوا داود الرقّي منّي بمنزلة المقداد من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) )(2).
2. ما رواه عن (عليّ بن محمّد، قال: حدّثني أحمد بن محمّد، عن أبي عبد الله البرقي، يرفعه قال: نظر أبو عبد الله (علیه السلام) إلى داود الرقّي، وقد ولّى فقال: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أصحاب القائم (علیه السلام) فلينظر إلى هذا. وقال في موضع آخر: أنزلوه فيكم بمنزلة المقداد (رحمة الله) )(3).
3. ما رواه عن (محمّد بن مسعود، قال: حدّثني عليّ بن محمّد بن عيسى، عن عمر بن عبد العزيز، عن بعض أصحابنا، عن داود بن كثير الرقّي، قال، قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): يا داود إذا حدّثت عنّا بالحديث فاشتهرت به فأنكره)(4).
4. ما رواه عن (طاهر بن عيسى، قال: حدّثني الشجاعي، عن الحسين بن بشّار، عن داود الرقّي، قال: قال لي داود: ترى ما تقول الغلاة الطيّارة وما يذكرون
ص: 322
عن شرطة الخميس عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وما يحكي أصحابه عنه فذلك والله أراني أكبر منه، ولكن أمرني أن لا أذكره لأحد. قال: وقلت له: إنّي قد كبرت ودقّ عظمي أحبّ أن يختم عمري بقتل فيكم، فقال: وما من هذا بُدّ إن لم يكن في العاجلة يكون في الآجلة)(1).
قول الشيخ المفيد: (روى النصّ على الرضا عليّ بن موسى (علیهما السلام) بالإمامة من أبيه والإشارة إليه منه بذلك، من خاصّته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته: داود بن كثير الرقّي..)(2).
وعلى ضوء ذلك اختلفت كلمات الأعلام في شأنه، فبنى جماعة على وثاقته كالعلّامة في الخلاصة قائلاً: (والأقوى قبول روايته لقول الشيخ الطوسي وقول الكشّي أيضاً)(1)، والشهيد الثاني(2)، والمحقّق الأردبيلي(3).
وأخرى ظاهرها التوقّف في شأنه كالمحقّق السبزواري(4).
وثالثة على ضعفه كالمحقّق في المعتبر(5)، وصاحب المدارك(6). ومنهم صاحب الجواهر (رحمة الله) قائلاً: (سيّما بعد الطعن في سند الأولى بداود الرقّي بأنّه ضعيف جدّاً كما في رجال النجاشي، بل فيه أيضاً قال: أحمد بن عبد الواحد: قلّما رأيت له حديثاً سديداً. وعن ابن الغضائري: أنّه كان فاسد المذهب ضعيف الرواية لا يلتفت إليه، وعن الكشّي أنّه يذكر الغلاة أنّه من أركانهم)(7)، و(وأمّا مرسل الصدوق فهو مع عدم كونه حجّةً كخبر داود الرقيّ)(8)، كما وصف روايته ب-(الخبر)(9).
ص: 324
والظاهر أنّ الوجه فيه هو تقدّيم الجرح على التعديل؛ لأنّ الجارح غالباً يطّلع على ما لم يطّلع عليه المعدِّل(1).
مضافاً إلى عدم تمامية بعض الوجوه المذكورة في حدّ نفسها، فإنّ الروايات المتقدّمة كلّها ضعيفة السند. ورواية الأجلّاء - مع أنّها لا تقتضي اعتبار الراوي لوحدها - لم تبلغ حدّاً من الكثرة كمّاً وكيفاً بحيث يمكن أن تشكِّل قرينة تسهم في الكشف عن اعتباره.
والملاحظ من كلامه (رحمة الله) أنّه جعل قول الكشّي فيه: (يذكر الغلاة أنّه من أركانهم، وقد يروي عنه المناكير من الغلوّ، وينسب إليه أقاويلهم) من قرائن ضعفه معتمداً فيه على ما نقله من أنّ الغلاة تدّعيه من غير ملاحظة لعدم اعتقاد الكشّي به حيث قال: (ولم أسمع أحداً من مشايخ العصابة يطعن فيه ولا عثرت من الرواية على شيء غير ما أثبته في هذا الباب)، ولعلّ الوجه فيه هو: أنّه لم يلاحظ كلام الكشّي بتمامه، واعتمد على ما نقل منه ويشهد له استعماله صيغة (عن الكشّي).
سهل بن زياد، أبو سعيد، الآدمي، الرازي، من أصحاب الأئمّة الجواد والهادّي والعسكري (علیهم السلام)، اختلف القدماء في ضعفه وتوثيقه، فقد انفرد الشيخ في رجاله بتوثيقه قائلاً: (ثقة)(2)، ولكن ضعّفه الأكثر، فقد روى الكشّي عن القتيبي عن الفضل
ص: 325
ابن شاذان أنّه كان (لا يرتضي أبا سعيد الآدمي، ويقول: هو الأحمق)(1)، ونقل النجاشي والشيخ استثناء ابن الوليد القمّي له من رواة كتاب نوادر الحكمة(2)، وضعّفه ابن الغضائري قائلاً: (كان ضعيفاً جدّاً، فاسد الرواية والدين. وكان أحمد ابن محمّد بن عيسى الأشعري أخرجه من قم، وأظهر البراءة منه، ونهى الناس عن السماع منه، والرواية عنه. ويروي المراسيل، ويعتمد المجاهيل)(3)، وقال النجاشي: (كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمدٍ فيه. وكان أحمد بن محمّد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ والكذب، وأخرجه من قم إلى الري، وكان يسكنها)(4)، كما ضعّفه الشيخ نفسه في الفهرست قائلاً: (ضعيف)(5)، وفي الاستبصار: (وهو ضعيف جدّاً عند نقّاد الأخبار، وقد استثناه أبو جعفر ابن بابويه في رجال نوادر الحكمة)(6).
واختلف فيه المتأخّرون أيضاً فذهب جملة منهم إلى ضعفه كالفاضل الآبي(7)، والعلّامة(8).
ص: 326
وبنى آخرون على (أنّ الأمر في سهلٍ سهل) كالوحيد(1)، وصاحبي الرياض(2)، والمستند(3)، ووافقهم صاحب الجواهر (رحمة الله) قائلاً: (المناقشة.. بأنّ في سنده سهلاً، مدفوع ب-..أنّ الأمر في سهلٍ سهل)(4)، و(إمكان اعتبار سنده؛ لسهولة الأمر في سهلٍ، بل ربّما قيل بوثاقته)(5)، و(المنجبر ضعفه بسهلٍ مع سهولته بالشهرة)(6).
والظاهر أنّ الوجه فيه أمران:
توثيق الشيخ لسهل بن زياد في كتاب الرجال، وهو متأخّر عن الفهرست الّذي ضعّفه فيه، بشهادة إحالته على الفهرست في الرجال في غير موضعٍ منها قوله: (الحسن بن محمّد بن سماعة.. له كتب ذكرناها في الفهرست)(7)، و(أحمد ابن محمّد بن سعيد.. المعروف بابن عقدة.. له تصانيف كثيرة، ذكرناها في كتاب الفهرست)(8)، و(أحمد بن محمّد بن سليمان.. وله مصنّفات ذكرناها في الفهرست)(9).
ص: 327
حمل التضعيف الّذي ورد فيه على أنّه تضعيف لحديثه؛ لروايته المراسيل واعتماده على المجاهيل، أو لعقيدته لما وجده نقّاد الأحاديث من الغلوّ والتخليط في رواياته، وهما لا يقتضيان ضعفه في نفسه وأنّه كذّاب يضع الأحاديث، خصوصاً بعد تصريح جملة منها بقدحه من الجهتين المذكورتين.
وذلك نظير ما بنى عليه (رحمة الله) في البرقي قائلاً: (وفي طريقه محمّد بن خالد البرقي، وعن النجاشي: (أنّه كان ضعيفاً في الحديث)، وعن ابن الغضائري: (حديثه يعرف وينكر، يروي عن الضعفاء كثيراً، ويعتمد المراسيل إلى آخره). ولا ينافي ذلك ما حكي من توثيق الشيخ والعلّامة إيّاه؛ لأنّ الطعن المذكور إنّما هو في رواياته لا فيه نفسه، والفرق بينهما واضح)(1)، فإنّ ضعف حديثه يدلّ على ضعفه في طريقته في نقل الأخبار، وعدم مداقّته في أسانيدها ومضامينها، فيروي عن الضعفاء، والمراسيل، وما كان من الأخبار فاسد المضمون في نظر نقّاد الأخبار كدلالتها على الغلوّ، ولعلّه من هنا وصفه ابن شاذان بالحمق من دون أن يكون سهل كاذباً في ما رواه، أو أنّه وضعه على غيره، ولو كان ضعيفاً من هذه الجهة لضعّف بها مع كثرة تعرّضهم لحاله؛ نظراً إلى كثرة رواياته، بل ولَما نصّ الشيخ على وثاقته كما تقدّم.
وأمّا ما نقله النجاشي عن أحمد بن محمّد بن عيسى من أنّه كان (يشهد عليه بالغلوّ والكذب وأخرجه من قم إلى الري، وكان يسكنها)(2) - فبعد ما هو معروف
ص: 328
من تشدّد القمّيين في أمر الغلوّ حتّى قال الصدوق (رحمة الله): (كان شيخنا محمّد بن الحسن ابن أحمد بن الوليد (رحمة الله) يقول: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) )(1)، وأنّه كان عازماً على (تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، والردّ على منكريه)(2)، و(ما علم من طريقة أهل قم من تضييق أمر العدالة، وتسرّعهم في جرح الرواة والطعن عليهم وإخراجهم من بلدة قم بأدنى ريبة وتهمة)(3)، - فلا يبعد جدّاً أن تكون نسبة الكذب لسهل لما وجده من الغلوّ الشديد في نظره في مضامين رواياته.
ويؤيّد وثاقة سهل بن زياد جملة أمورٍ أيّد بها صاحب الجواهر (رحمة الله) وثاقة إبراهيم ابن هاشم(4)، وهي:
الأمر الأوّل: رواية الأجلّاء والثقات عنه كمحمّد بن يحيى العطّار(5)، ومحمّد بن
ص: 329
الحسن الصفّار(1)، وعليّ بن إبراهيم(2)، وأحمد بن إدريس(3)، وسعد بن عبد الله الأشعري(4)، والحسن بن متيل(5).
الأمر الثاني: أنّ الشيخ الكليني أكثرَ من الرواية عن سهل بن زياد في كتابه الكافي الّذي صرّح في مقدّمته: (أنّ جميع ما فيه من الروايات الصادرة عن الصادقين (علیهم السلام) )(6)، وقد تقدّمت عبارته، ممّا يدلّ على أنّ روايات سهل بن زياد الكثيرة في الكافي هي من الآثار الصحيحة عن الصادقين (علیهم السلام)، وذلك مدح معتدّ به يدلّ على حسن حاله.
الأمر الثالث: أنّ سهل بن زياد كثير الرواية جدّاً؛ إذ بلغت رواياته المئات في الكافي وحده، ممّا أوجب أن يكون ذلك له حسناً؛ لِما روي عن الإمام الصادق (علیه السلام): (اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر روايتهم عنّا)(7)، الدالّ على مدح الراوي بكونه ذا منزلة عندهم (علیهم السلام) بكثرة روايته عنهم.
نعم لمّا كان توثيق سهل بن زياد مقترناً بضعف حديثه اقتضى ذلك أنْ يعدّ صاحب الجواهر (رحمة الله) أحاديثه في الحسان، كقوله: (وقول الصادق (علیه السلام) في الحسن:
ص: 330
(للجنب أن يمشي في المساجد كلّها ولا يجلس فيها إلّا المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ))(1)، فقد رواها الكليني عن (عليّ بن محمّد ومحمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد الله (علیه السلام) )(2).
إلّا أنّه وصف بعض أسانيده ب-(الموثّق) فقال: (موثّق إسحاق بن عمّار المروي في الكافي والتهذيب عن الصادق (علیه السلام)، قال: (الزوج أحقّ بامرأته حتّى يضعها في قبرها))(3)، فقد رويت في الكافي عن (سهل بن زياد، عن محمّد بن أورمة، عن عليّ ابن ميسرة، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) )(4)، وعنه في التهذيب(5)، لكنّه لا يتمّ؛ لأنّ في سنده عليّ بن ميسرة، وهو مجهول.
ثمّ إنّ صاحب الجواهر (رحمة الله) لمّا كان في مقام شرح كلام المحقّق الحلّي (رحمة الله) في الشرائع، وبناؤه على ضعف سهل - كما نصّ على ذلك في المعتبر(6)، والرسائل التسع(7)، بل صرّح به في الشرائع نفسها، قائلاً: (وفي رواية إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام): (إذا كان الورثة ملاء اقتسموه، فإن جاء ردّوه عليه) وفي إسحاق قول،
ص: 331
وفي طريقها سهل بن زياد، وهو ضعيف)(1) - صرّح بضعف سهل في توضيحه لعبارة الشرائع قائلاً: (لكنْ ومع ذلك كلّه قال المصنّف: (وفي المستند ضعف) سنداً ودلالة.. وفي طريقها سهل بن زياد، وضعفه مشهور، ومحمّد بن الحسن بن شمّون، وهو غال ضعيف جدّاً، وعبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ، وهو ضعيف وليس بشيء)(2)، وقوله: (لكن (الأخيرة ضعيفة الطريق إلى مسمع) بسهل بن زياد، ومحمّد ابن الحسن بن شمّون الغالي الملعون، وبعبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ الضعيف الغالي أيضاً الّذي هو من كذّابة أهل البصرة (فهي إذن ساقطة))(3)، ولم يحاول بيان سهولة الأمر في سهل لتماميّة ضعف السند بغيره، ولذا عالج الأوّل بوجود الجابر له(4)، بل في الغالب لا يهتمّ لبيان حال سهل بن زياد فيما لو كانت الأحاديث ضعيفة من غير جهته أو مرسلة أو ورد إلى جنبه الأخبار الصحيحة(5).
النجاشي: (عامّي، روى عن جعفر بن محمّد (علیهما السلام) . ذكره أصحاب الرجال. له كتاب يرويه جماعة يختلف برواياتهم)(1)، وقال الشيخ في الفهرست: (له كتاب، وهو عامّي المذهب، إلّا أنّ كتابه معتمد)(2)، وفي الرجال في أصحاب الإمام الباقر (علیه السلام): (بتري)(3)؛ ولفساد مذهبه عدّه العلّامة في القسم الثاني من الخلاصة الّذي جعله لذكر الضعفاء ومَن يُرَدُّ قولهم أو يتوقّف فيهم(4)، وقال في المنتهى: (إنّ طلحة بن زيد عامّي فلا تعويل على روايته)(5)، وقال المحقّق في المعتبر: (وطلحة بن زيد بتري، وحفص بن غياث عامّي فلا عمل على روايتهما)(6)، وقال الشهيد الأوّل: (إلّا أنّ الطريق ضعيف بطلحة بن زيد)(7)، والشهيد الثاني: (إنّ طلحة بن زيد بتري، والبترية فرقة من الزيدية، وقال الشيخ في الفهرست والنجاشي: إنّه عامّي)(8)،
ص: 333
والمحقّق الأردبيلي: (ضعيفة بطلحة بن زيد البتري)(1)، والسيّد صاحب المدارك: (وهذه الرواية ضعيفة السند، فإنّ راويها - وهو طلحة بن زيد - عامّي على ما نصّ عليه النجاشي وغيره)(2)، والمحقّق السبزواري: (وليس في طريق هذا الخبر من يتوقّف في شأنه إلّا طلحة بن زيد وهو غير موثّق في كتبالرجال مع أنّه بتري عامّي إلّا أنّ الشيخ ذكر في الفهرست: أنّ كتابه معتمد)(3)، وسيّد الرياض: (مع كون الراوي له طلحة بن زيد، العامّي بنصّ الشيخ والنجاشي)(4).
لكنْ وصف المحقّق القمّي رواية لطلحة بن زيد ب-(القويّة)، قائلاً: (قويّة طلحة ابن زيد)(5).
ص: 334
وقال المجلسي في مرآة العقول: (الحديث الرابع: ضعيف إلّا أنّه كالموثّق؛ لأنّهم ذكروا في طلحة أنّ كتابه معتمد)(1)، وذكر له الوحيد البهبهاني وجهين آخرين قائلاً: (طلحة بن زيد: حكم خالي بكونه كالموثّق، ولعلّه لقول الشيخ كتابه معتمد، ويروي عنه صفوان بن يحيى، وباقي الكلام مرّ في إسماعيل بن أبي زياد؛ إذ لا يخفى أنّه أيضاً من جملتهم)(2).
وأشار إلى ذلك صاحب الجواهر (رحمة الله) قائلاً: ((تعويلاً على رواية) محمّد بن يحيى عن (طلحة بن زيد).. (و) لكن (هو) أي طلحة بن زيد (بتري).. بل قيل: إنّ الظاهر عدّ حديث طلحة من القويّ أو الموثّق؛ لأنّ كتابه معتمد، وداخل تحت إجماع العدّة، وأنّ صفوان يروي عنه)(3).
وتوضيحه: أنّه ذكرت ثلاثة وجوه للبناء على اعتبار طلحة بن زيد:
أنّ قول الشيخ المتقدّم في حقّ طلحة بن زيد: (أنّ كتابه معتمد)، هو كالتوثيق له، إذ لا وجه للاعتماد على كتابه بعد فساد عقيدته إلّا وثاقته في نقل الأخبار.
لكن يظهر من الوحيد البهبهاني التأمّل في ذلك قائلاً: (قولهم: (معتمد الكتاب) وربّما جعل ذلك مقام التوثيق كما سنشير إليه في حفص بن غياث مع التأمّل فيه)(4).
ولعلّ الوجه في التأمّل: هو أنّ الاعتماد على الكتاب لا يزيد شأناً عن شهرة
ص: 335
الرواية أو الحكم بصحّتها عند القدماء اللذَينِ يجتمعان مع ضعف الراوي.
رواية صفوان بن يحيى عن طلحة بن زيد(1)، وقد قال الشيخ في حقّ صفوان بأنّه لا يروي ولا يرسل إلّا عن ثقة موثوق به(2).
لكن تقدّم عدم بناء صاحب الجواهر (رحمة الله) على وثاقة من روى عنهم المشايخ الثلاثة.
أنّ الشيخ قال في العدّة: (فأمّا إذا كان مخالفاً في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمّة (علیهم السلام) نظر فيما يرويه: فإنْ.. لم يكن من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه، ولا يعرف لهم قول فيه، وجب أيضاً العمل به، لِما روي عن الصادق (علیه السلام) أنّه قال: (إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها في ما رووا عنّا فانظروا إلى ما رووه عن عليّ (علیه السلام) فاعملوا به) ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح بن درّاج، والسكوني، وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا (علیهم السلام) )(3). وطلحة بن زيد وإنْ لم يكن مذكوراً في ضمنهم صريحاً إلّا أنّه يشمله عموم قول الشيخ: (إذا كان مخالفاً في الاعتقاد لأصل المذهب).
لكن يمكن أنْ يلاحظ عليه: أنّ صاحب الجواهر (رحمة الله) وإنْ بنى على استفادة التوثيق من عبارة الشيخ المذكورة كما تقدّم البحث فيها، إلّا أنّ ذلك في ما علم دخولهم تحتها من المصرّح بأسمائهم، وأمّا غيرهم فلا سبيل للبناء على وثاقتهم لمجرّد
ص: 336
احتمال شمولها لهم.
ولضعف الوجوه الثلاثة نسبها صاحب الجواهر (رحمة الله) في عبارته المتقدّمة إلى ال-(قيل)، فهو لا يبني على وثاقته، ولذا وصف حديثه في غير موضع ب-(الخبر)(1).
وهنا أمور ثلاثة:
أنّ وصف المحقّق القمّي لرواية طلحة بن زيد ب-(القويّة) أراد به (الموثّق)؛ لأنّ وصف القويّ يستعمل بمعنيين(2):
أحدهما: ما كان من رواته إمامياً مسكوتاً عنه، بأن لم يذكر بجرح أو تعديل، مع وثاقة الآخرين.
والآخر: الموثّق، وهو ما كان من رواته فاسد العقيدة، لكن نصّ الأصحاب على وثاقته، مع وثاقة الآخرين أيضاً.
ولمّا كان طلحة بن زيد فاسد العقيدة فيكون وصف حديثه ب-(القويّ) مندرجاً تحت المعنى الآخر.
أنّ قول الوحيد البهبهاني: (وباقي الكلام مرّ في إسماعيل بن أبي زياد، إذ لا يخفى أنّه أيضاً من جملتهم). أراد به ما تقدّم من عبارة الشيخ في العدّة،
ص: 337
والّتي ذكر فيها إسماعيل بن أبي زياد السكوني صريحاً، وأنّ طلحة بن زيد من جملة العامّة المشمولين بها.
قال الكشّي: (البترية هم أصحاب كثير النوا، والحسن بن صالح ابن حيّ، وسالم بن أبي حفصة، والحكم بن عيينة، وسلمة بن كهيل، وأبو المقدام ثابت الحداد. وهم الّذين دعوا إلى ولاية عليّ (علیه السلام)، ثُمَّ خلطوها بولاية أبي بكر وعمر، ويثبتون لهما إمامتهما، وينتقصون عثمان وطلحة والزبير، ويرون الخروج مع بطون ولد عليّ بن أبي طالب، يذهبون في ذلك إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويثبتون لكلّ من خرج من ولد عليّ (علیه السلام) عند خروجه الإمامة)(1).
وقد اختلفت كلمات الأعلام فيه على أربعة أقوال:
أنّه مجهول؛ لعدم ذكره في الأصول الرجالية، مع عدم كفاية مشيخة الإجازة للبناء على وثاقته، واختاره صاحب المدارك في موضع منها(1)، والمحقّق الأردبيلي، قائلاً: (وسندها غير واضح؛ لعدم العلم بحال عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس، ومجرّد كونه شيخاً لأبي جعفر الصدوق وروايته عنه بلا واسطة، لا يدلّ على التوثيق)(2).
أنّه على تقدير جهالته لا يضرّ وجوده في اعتبار السند؛ لأنّ وجوده فيه من أجل اتّصاله؛ إذ لم يكن من المصنّفين، وقد أشار إلى ذلك المحقّق السبزواري بقوله: (إنّ الظاهر أنّه من مشايخ الإجازة من(3) المصنّفين والنقل من كتاب بعض الرواة المتقدّمة عليه فلا يتوقّف الاعتماد على الرواية على حسن حاله)(4).
أنّه إماميّ غير ممدوح ولا مذموم؛ ولذا وصفوا حديثه ب-(القويّ)(5). والظاهر أنّه استُفيد ذلك من كونه شيخاً للصدوق، وقد أكثرَ الرواية
ص: 339
عنه، قال صاحب الرياض: (نعم ذكر شيخنا في المسالك وغيره أنّه شيخ الصدوق، وهو قد عمل بها، فهو في قوّة الشهادة له بالثقة، ومن البعيد أن يروي الصدوق عن غير الثقة بلا واسطة. أقول: وفي إفادة ذلك التوثيق بالمعنى المصطلح بين المتأخّرين مناقشة واضحة. نعم غايته إفادة القوّة، فلا وجه للحكم بالصحّة)(1).
أنّه ثقة؛ لكونه من مشايخ الصدوق، ومن البعيد أن يروي مثل الصدوق عن غير الثقة، خصوصاً وأنّه أكثرَ من الرواية عنه مترضّياً عليه تارةً، ومترحِّماً أخرى، ولأنّ العلّامة حكم بصحّة روايته في بعض كتبه، قال الشهيد الثاني: (وإنّما ترك المصنّف العمل بها؛ لأنّ في سندها عبد الواحد بن عبدوس النيسابوري، وهو مجهول الحال. مع أنّه شيخ ابن بابويه وهو قد عمل بها فهو في قوّة الشهادة له بالثقة، ومن البعيد أنْ يروي الصدوق (رحمة الله) عن غير الثقة بلا واسطة. واعلم أنّ العلّامة في التحرير في باب الكفّارات شهد بصحّة الرواية، وهو صريح في التزكية لعبد الواحد)(2).
وقال المحقّق القمّي: (والتأمّل في عبد الواحد - كما قال في المختلف أنّه لا يحضره الآن حاله، ولو كان ثقة لكانت الرواية صحيحة يتعيّن العمل بها - لا وجه له، مع ملاحظة كونه معتمد الصدوق وشيخه، وروى عنه بلا واسطة، وقال بعد ذكره:
ص: 340
(رضوان الله تعالى عليه)؛ إذ لا يحصل الظنّ بالتوثيق من عدل أزيد ممّا يحصل من ذلك)(1).
وظاهر صاحب الجواهر (رحمة الله) اختيار الأوّل، وأنّه مجهول؛ لعدم ذكره بمدح أو ذمّ، وعدم كفاية مشيخة الإجازة في إثبات الوثاقة عنده، وهو (رحمة الله) وإن لم نقف له في مجموع كلامه على موقفه من دلالة الترضّي والترحّم على وثاقة الراوي أو حسنه، لكنّ الظاهر منه في المقام أنّ شأنهما شأن شيخوخة الإجازة في عدم استلزامها شيئاً من ذلك، قال (رحمة الله): (القصور في السند بعبد الواحد وعليّ اللذَينِ لم ينصّ على توثيقهما، وكونهما شيخي إجازة لا يستلزمها)(2)، وقال أيضاً: (ما في المدارك من أنّ في طريق هذه الرواية عليّ بن محمّد بن قتيبة، وهو غير موثّق بل ولا ممدوح مدحاً يعتدّ به، وعبد السلام بن صالح الهروي، وفيه كلام، فيشكل التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل، وإن أمكن مناقشته بأنّ العلّامة في المحكي عن تحريره قد حكم بصحّتها، وفي المختلف أنّ عبد الواحد بن عبدوس النيشابوري لا يحضرني الآن حاله، فإن كان ثقةً فالرواية صحيحة يتعيّن العمل بها، وظاهره عدم التوقّف فيها إلّا من عبد الواحد الّذي هو من مشايخ الصدوق المعتبرين الّذِين أخذ عنه الحديث، وقد أكثر في الرواية عنه في كتبه، كما أنّ ابن قتيبة قد قيل: إنّه من مشايخ الكشّي، وقد أكثر النقل عنه في كتابه، فلا أقلّ من أن يكونا هما من مشايخ الإجازة المتّفق بينهم - كما قيل - على عدم احتياجهم التوثيق.. وبالجملة: يمكن تصحيح الخبر
ص: 341
المزبور بناءً على الظنون الاجتهادية، إلّا أنّه مع ذلك لا يخلو من دغدغة)(1).
عليّ بن أبي حمزة - واسم أبي حمزة سالم - البطائني، أبو الحسن، مولى الأنصار، كوفي، وكان قائد أبي بصير يحيى بن القاسم، روى عن الصادق والكاظم (علیهما السلام)، وصنّف كتباً عدّة، منها: كتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب التفسير وأكثره عن أبي بصير، وكتاب جامع في أبواب الفقه(2)، وقال الشيخ: له أصل(3).
وعن عليّ بن أبي حمزة البطائني أنّ الإمام الكاظم (علیه السلام) قال له: (يا عليّ، أنت وأصحابك أشباه الحمير)(4)، وبعد استشهاد الإمام الكاظم (علیه السلام) وقف عليه، ولم يعتقد بإمامة الرضا (علیه السلام) حتّى صار من عُمد الواقفة.
وروي في سبب وقفه عن (يونس بن عبد الرحمن، قال: مات أبو الحسن (علیه السلام) وليس من قوّامه أحد إلّا وعنده المال الكثير، فكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته، وكان عند زياد القندي سبعون ألف دينار، وعند عليّ بن أبي حمزة ثلاثون ألف
ص: 342
دينار، قال: فلمّا رأيت ذلك، وتبيّن الحقّ وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا (علیه السلام) ما علمت، تكلّمت ودعوت الناس إليه، قال: فبعثا إليّ وقالا لي: ما يدعوك إلى هذا، إنْ كنت تريد المال فنحن نغنيك وضمنا لي عشرة آلاف دينار، وقالا لي: كفّ، فأبَيتُ، وقلت لهم: إنّا روينا عن الصادقين (علیهم السلام) أنّهم قالوا: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه فإنْ لم يفعل سلب منه نور الإيمان، وما كنت لأدع الجهاد في أمر الله على كلّ حال، فناصباني وأضمرا لي العداوة)(1).
وروى الكشّي عن ( محمّد بن مسعود، قال: حدّثني عليّ بن الحسن، قال: عليّ بن أبي حمزة كذّاب متّهم. قال: روى أصحابنا أنّ الرضا (علیه السلام) قال بعد موته: أقعد عليّ بن أبي حمزة في قبره، فسُئل عن الأئمّة، فأخبر بأسمائهم حتّى انتهى إليّ فسُئل، فوقف، فضرب على رأسه ضربة امتلأ قبره ناراً)(2).
ص: 343
ولم يستحلّ ابن فضّال الرواية عنه قائلاً: (ابن أبي حمزة كذّاب ملعون، قد رويت عنه أحاديث كثيرة، وكتبت تفسير القرآن كلّه من أوّله إلى آخره، إلّا أنّي لا أستحلّ أن أروي عنه حديثاً واحداً)(1).
وفي قبال ذلك كلّه صرّح الشيخ في العدّة بأنّ الطائفة عملت بأخباره لكونه متحرّجاً في روايته موثوقاً في أمانته، قائلاً: (وإنْ كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه، وجب أيضاً العمل به إذا كان متحرّجاً في روايته موثوقاً في أمانته وإنْ كان مخطئاً في أصل الاعتقاد، ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره، وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران، وعليّ بن أبي حمزة، وعثمان بن عيسى)(2).
وقد بنى صاحب الجواهر (رحمة الله) على ضعفه لِما تقدّم من الأخبار الذامّة، وتصريح ابن فضّال بكذبه، قائلاً: (وما في سند هذه الرواية من عليّ بن أبي حمزة وأنّه واقفي قد أكل أموال الكاظم (علیه السلام) ظلماً وعدواناً منجبر بما سمعت - أي من الشهرة -)(3)، (وخبر أبي بصير، مع أنّ في سنده عليّ بن أبي حمزة البطائني الكذّاب المتّهم الّذي هو وأصحابه أشباه الحمير، وأجلس في قبره فضرب بمرزبة من حديد امتلأ منها قبره ناراً)(4)،
ص: 344
و(في سندها عليّ بن أبي حمزة البطائني المعلوم حاله)(1).
والظاهر أنّ الوجه في عدم اعتداده بما تقدّم عن الشيخ هو معارضته بنصّ ابن فضّال على كذبه واتّهامه مع تقدّيم قول الجارح، ومن ثَمَّ وصف حديثه في غير موضع من كتابه ب-(الخبر) أو (الرواية)(2).
وناقش في سندٍ لاشتراك (عليّ بن سالم) بين البطائني وغيره قائلاً: (الطعن في سند.. الثالثة بعليّ بن سالم باشتراكه بين المجهول والضعيف)(3).
نعم عمل (رحمة الله) بجملة من أخباره بعد اعتضادها بالشهرة لكفايتها في جبر الخبر الضعيف عنده، منها قوله المتقدّم: (وما في سند هذه الرواية من عليّ بن أبي حمزة، وأنّه واقفيّ قد أكل أموال الكاظم (علیه السلام) ظلماً وعدواناً منجبر بما سمعت - أي من الشهرة -)(4).
محمّد بن إسماعيل، شيخ الكليني، وقد أكثر من الرواية عنه في الكافي بما يقارب ستمائة مورد(5)، منها زهاء أربعمائة مورد عنه عن الفضل بن شاذان، وقد وقع الكلام
ص: 345
في تمييزه، ووثاقته، فهنا جهتان:
إنّ المسمّى ب-(محمّد بن إسماعيل) عدّة رواة ذُكر ثلاثة منهم في تعيين المبحوث عنه، وهم:
الأوّل: محمّد بن إسماعيل بن بزيع، أبو جعفر، مولى المنصور، الكوفي، قال النجاشي: (كان من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم، كثير العمل)(1)، والشيخ في رجاله: (ثقة، صحيح)(2)، وعدّه من أصحاب الأئمّة الكاظم والرضا والجواد (علیهم السلام) (3).
وأشار الوحيد إلى من اختار ذلك بقوله: (وتوهّم بعض كونه ابن بزيع؛ لأنّ الإطلاق ينصرف إليه، وأنّه وجد في بعض الأسناد التصريح به)(4).
لكنّ احتمال كون محمّد بن إسماعيل المبحوث عنه هو ابن بزيع ضعيف؛ لأمرين:
أحدهما: أنّ المبحوث عنه يروي عن الفضل بن شاذان كثيراً كما مرّت الإشارة إليه، بينما يروي ابن شاذان عن ابن بزيع كما في العيون(5)؛ بل صرّح به الكشّي، قائلاً: (والفضل بن شاذان (رحمة الله) كان يروي عن جماعة، منهم: محمّد ابن أبي عمير، وصفوان
ص: 346
ابن يحيى، والحسن بن محبوب، والحسن بن عليّ بن فضّال، ومحمّد بن إسماعيل بن بزيع..)(1).
والآخر: أنّ الكليني يروي عن المبحوث عنه مباشرةً، وفي موارد عديدة تقدّمت الإشارة إليها، بينما لا يروي عن ابن بزيع كذ