مجلة تعنى بالأبحاث التخصصية في الحوزة العلمية
نصف سنوية تصدر عن المدرسة العلمية (الآخوند الصغرى) في النجف الأشرف
العددان التجريبيان الثاني والثالث
ذو القعدة 1433ﻫ
ص: 1
رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1614 لسنة 2011
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾
التوبة: 21
ص: 3
1- ترحب المجلة بإسهامات الباحثين (من رواد المدرسة العلمية "الاخوند الصغرى"ما دام الاصدار تجريباً) في مختلف المجالات التي تهم طالب الأبحاث العليا في الحوزة العلمية, من الفقه والأُصول والرجال والحديث ونحوها.
2- يُشترط في المادة المُراد نشرها أُمور:
أ- أنْ تكون مستوفية لأُصول البحث العلمي على مختلف المستويات (الفنية والعلمية), من المنهجية والتوثيق ونحوهما.
ب- أن تكون الأبحاث مكتوبة بخط واضح أو (منضَّدة).
ت- أنْ توضع الهوامش في أسفل الصفحة.
ث- أنْ يتراوح حجم البحث بين (12) الى (60) صفحة من القطع الوزيري بخطٍ متوسط الحجم, وما زاد عن ذلك يمكن تقسيمه الى أكثر من حلقة شريطة أن تتسلَّمَ المجلةُ البحثَ كاملا.
ج- أنْ لا يكون البحث قد نُشر أو أُرسل للنشر في مكان آخر.
ح- أنْ يُذيَّلَ البحث بذكر المصادر التي اعتمدها الباحث.
3- يخضع البحث لمراجعة هيئة استشارية (علمية), ولا يُعاد إلى صاحبه سواء نُشر أم لم يُنشر.
4- للمجلة حق إعادة نشر البحوث التي نشرتها.
5- يخضع ترتيب البحوث المنشورة في المجلة لإعتبارات فنية لا علاقة لها بمكانة الكاتب أو أهمية الموضوع.
6- ما يُنشر في المجلة لا يعدو كونه مطارحات علمية صرفة, ولا يُعبر بالضرورة عن رأي المجلة.
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قيل قديماً عن النجاح في الأهداف الطموحة لغير الأفراد: (إنَّه ثمرة تعاون الأيدي)، وهذا هو السر في تنامي الشُّعور بالثقة والأمل بمواصلة السعي في العمل الدؤوب في أعداد مجلة (دراسات علمية).
وقد بدا هذا التعاون من قبل الكتاب وهيأتي الإدارة والتحرير واللجنة العلمية . وكلهم من نسيج حاضرة الحوزة العلمية المباركة في النجف الأشرف - يتبلور في أعداد لفتت انتباه المختصين والمهتمين فأشاروا بالتقدير إلى الجهد النوعي المبذول فيها.
ويبدو أن ذلك الاهتمام قد انعكس في الأوساط العلمية في الرغبة في زيادة كمية النسخ المطبوعة من أ ن أعداد المجلة حتى تكرّر الطلب بعد نفاد النسخ فلم يسعنا إِلَّا أَنْ نعيد طباعتها ثانيةً مع تصحيح ما فاتنا في الطبعة الأولى من أخطاء طباعية.
وكلنا أمل في أن تقع موضع الرضا من عين القارئ اللبيب ونكون قد وافينا المتشوق لما تطلع إليه من مضمونها.
إدارة مجلة (دراسات علمية)
ص: 5
1- الكلمة الافتتاحية
هيأة إصدار المجلة ................................................................................... 7
2- مشروعية البرلمانات في ظل الأنظمة السياسية المعاصرة
الشيخ حيدر السهلاني ............................................................................ 11
3- القتل العمد بين الفقه الإسلامي وقانون العقوبات العراقي
الشيخ يحيى السعداوي ........................................................................... 57
4- سقوط الأذان عند الجمع بين الفريضتين
الشيخ جاسم الفهيد ................................................................................ 115
5- قبح العقاب بلا بيان والاحتياط العقلي
السيد علي البعاج ...................................................................................145
6- حديث الحجب
الشيخ منذر الخزاعي ...............................................................................193
7- توصيف رجال الطوسي (قدس سره)
الشيخ نجم الترابي ...................................................................................245
8- تحقيق وإخراج: قطعة من أقدم نص فقهي إمامي معتبر:
(شرائع الإسلام)
الشيخ كريم مسير والشيخ شاكر المحمدي .............................................. 305
ص: 6
وسط مناخ من الارتياح والرضا جاءت به عبارات الثناء وإشارات الإمضاء من أهل العلم والفضل للعدد الأول من مجلتنا (دراسات علمية) واصلنا عملنا بمعونة المساهمين من أهل الهمة والعمل من طلبة حوزتنا (حرسها الله تعالى) بعد معونة الله سبحانه وتعالى لنُخرج العددين التجريبيين الثاني والثالث منها وفيهما شذرات من بحوث الفقه والأصول والرجال أبدعتها قرائح الباحثين الكرام متيمنين بحسن طالع التجربة ومؤمنين بما يصبو إليه الجميع من ضرورة إخراج الجهد التفاعلي في مجتمعنا العلمي إلى صفحة النشر والتدوين, وأنه علامة على رغبة أتباع هذه المدرسة وإصرارهم على إظهار تمازج البحث العلمي القديم والحديث في هيئة حديثة تقترب من لمس النتائج المرجحة.
كما سيجد القارئ الفاضل مستراحه في ما عقده ثلّة من الباحثين من التحقيق في مخطوطة لنصّ يُعدّ من أقدم النصوص الفقهية لأصحابنا (رضوان الله تعالى عليهم) في رسالة عُرفت في الأوساط العلمية ب- (رسالة ابن بابويه (قدس سره) ) طالما ارتبط ذكرها بالكتاب المعروف ب- ( فقه الرضا (علیه السلام) ) ليخرجوا علينا بنتائج نترك تلمسها لجهد القارئ في تتبعها في ذلك التحقيق.
ومن الأمور التي نجدها تُلقي بظلالها على عملنا وأحببنا التنويه عليها ولفت أنظار من نتطلّع نحوهم في الكتابة والإفادة أن تصرف وجوه بحوثهم نحو التوسعة في أفق المعالجة لموضوعاتهم من زوايا لم تترجم لها بحوث وعناوين سابقة إنْ كان البحث في موضوعات معروفة قد سبق أن بحثها علماؤنا, أو تثري جانبا في الموضوعات المستجدة والمبتكرة لم تجرِ نحوها قدم أو ندر ما تناولها قلم, فنكون بذلك قد سعينا لمواطن أدلتها
ص: 7
وفتحنا الباب لخطة مبتكرة في مداركها, ولأنه بذلك فقط تجد البحوث طريقها نحو الهدف المنشود الذي من أجله أنشئت المجلة وقامت عليها سيرة المجلات في مختلف الاختصاصات.
وأذان منا لأهل القرائح البكر من طلبة المدرسة العلمية أن لا يفوّتوا فرصة البحث وولوج ميدان التفكير والكتابة فكم من دارس مثلهم اغتنم الفرصة ورصد فكرةً أو موضوعاً وتتبعه فلما استتم عزمه أسعفه التوفيق وخرج بنتائج طيبة وبحوث قيّمة خدم بها دينَه وأضاف لنهر المسيرة العلمية جدولاً ورفع لمذهبه علماً.
ولم نرَ مَن عاد من محاولته نادما والله سبحانه وعد الساعين للعلم بالنصرة والمعونة فلا نرى بعد ذلك لتردد البعض مسوغا.
كما ونَرْبَأُ بالبعض أن يظهر بهذا العمل لونا غير ضروري في البحث العلمي, إذ لا يتوقف عالم أو فاضل في عَدّ الكتابة والنشر ركنين مهمين يتعيّن على كل مدرسة فكرية الاعتناء بهما وترويجهما باللغة العلمية الميسرة التي تلامس الأذهان ولا ينثلم بها الجوهر العلمي الرصين لأن رسالة العلم في كل عصر هي رسالة للعالم وللمتلقي الذي تخاطبه ولا زلنا نرى شريحة كبيرة لم يصل إليها الخطاب المبني على الأسس العلمية والمكتوب بشكل منتظم في نوع من الانتقاء والموضوعية.
والذي يعزز الحاجة إلى هذا النوع من الكتابة أن العالم حولنا اليوم يعيش جوا مفتوحا وأُفقاً رحبا في التعبير عن الأفكار والعلوم وبأساليب مختلفة فأصحاب كل طريقة ومذهب يحاولون إثبات رصانة منهجهم وصحة أدلتهم ويبتكرون ذرائع لترويج بضاعتهم وسبب ذلك تقارب المسافات بين المجتمعات والدول واحتكاك العقول والمعتقدات مع الثورة العلمية التي ولدت مفاهيم جديدة لا يكون لبعضها واقعٌ
ص: 8
تأصيلي ولا تعدو كونها انتزاعاً من تراكم تنوع ألوان المعيشة والاتساع في أسبابها في ظل المدنية الحديثة المتطورة فاختلطت المفاهيم الثابتة بالمتغيرة واتسع الجدل والنقاش في كل شيء واختلط الصائب بالعاطب من الآراء في مشهد معقد ومتداخل لدرجة يُضطر معها صاحب العلم إلى الاستدلال على أشياء ومعانٍ كانت في ما مضى من الواضحات أو الضروريات وأصبح صاحب الغاية العلمية مسؤولاً ومعنياً بتحوير أدواته وتطويرها وتصريف لغة علمه وتدويرها وإعادة إنتاج منظومته المعرفية وتخريج براهينها على الأسلوب والصبغة التي اصطبغت بها أفكار الناس وألفوها.
ولا يسعفنا مثالاً لِما نتكلم عنه إلا ظهور علم النحو وقواعده على يد أمير المؤمنين (علیه السلام), فانه لمّا كانت سليقة العربي في الكلام ولسانه لا يميلان إلى اللحن لم يكن بحاجة لأنْ يدون له قواعد لغته, ولكن لمّا تلبلبت الألسن للأسباب المعروفة ألقى الإمام (علیه السلام) أوليات النحو لأبي الأسود الدؤلي وأمره بالنحو على ذلك, ثم ما زالوا من بعده يضيفون ويقننون ويضبطون إلى يومنا هذا.
هذا, واللغة وإن اتسمت بالحركة والحياة إلا أن التغيرات الطارئة عليها تستغرق أعصاراً, فكيف بتبلبل الأفكار ونزوع النفس البشرية لكل جديد وحادث في هذا الوقع المتسارع الذي يحتاج في كل آونة إلى تصحيح مسار سلوكه الفكري والعملي بتقرير قواعده وتحرير أصوله على منهج الشريعة الإلهية والحكمة المعنوية لرسالة الإسلام وبطريقة مستنبطة أو مبتكرة في طور يشبه تقويم لسان نطقه بقواعد مستنبطة أو مستحدثة.
نسأل الله تعالى أن يكتب التوفيق للباحثين, ويأخذ بأيدي غيرهم ممن ندعو لأنْ يحذوا حذوهم وما توفيقنا إلا بالله السميع العليم.
هيأة إصدار المجلة
ص: 9
ص: 10
دراسة تبحث في مدى شرعية سلطة البرلمان في عصر الغيبة وفي ظل غياب الدولة الدينية.
ومَن الذي أعطى لتلك السلطة هذا الدور من تشريع القوانين مع العلم أن أغلب أعضاء تلك المجالس ليسوا أهل اختصاص في تشريع وسن القوانين.
ص: 11
ص: 12
بسم الله الرحمن الرحیم
لا يخفى أن البرلمانات أو مجالس الشعب من الأمور المستحدثة في بناء الدولة, وليس لها تأسيس شرعي يحددها ويضع أسس التعامل معها من الناحية الشرعية الإسلامية, فظهورها مع ظهور تجربة الديمقراطية في الحكم, وتعني حكم الشعب نفسه بنفسه ومن خلال البرلمانات المنتخبة, وقد أسس الغرب لهذه التجربة, واعتمدها في بناء الدولة وجعلها قاعدة ثابتة في الدستور, وسارت على هذا النهج بعض الدول الإسلامية التي اعتمدت الديمقراطية في بناء الدولة ومنها تجربتنا البرلمانية في العراق.
فما مدى مشروعية قيام تلك السلطة في ظل غياب الدولة الدينية ؟
ومَن الذي أعطى لتلك السلطة هذا الدور من تشريع القوانين مع العلم أن أغلب أعضاء تلك المجالس ليسوا أهل اختصاص في تشريع وسن القوانين ؟
هذه الدراسة تجيب عن تلك الأسئلة ضمن مبحثين:
مشروعية الدولة في عصر الغيبة إذا لم تكن الدولة دينية بل دولة مدنية.
اتخذ علماء الإمامية (أعلى الله شأنهم) من شكل الحكومة وسلطتها على الفرد والمجتمع في عصر الغيبة اتجاهين:
الاتجاه الأول: عدم مشروعية إقامة الحكومة في عصر الغيبة, بمعنى أن أي دولة لا يمكن إعطاؤها صفة الشرعية من الفقيه, وأن الشارع المقدس أبقى الدولة منوطة
ص: 13
بالإمام الغائب صاحب الزمان (عجّل الله فرجه), ولهذا قال بعض علماء الامامية بتحريم إقامة السلطة من قبل السلطان وبعدم مشروعيتها تحت عنوان أنها غصبية(1).
وهذه الرؤية صرح بها أبو الحسن الأشعري (ت 330 ﻫ): (وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت حتى يظهر لها الإمام الغائب وحتى يأمر بذلك)(2).
وسبب رؤية فقهاء الامامية في هذا الاتجاه بعدم التصدي هو رؤية دينية (أن إقامة نص الحكومة الإسلامية هو حق خاص بالإمام المعصوم (علیه السلام) فلا ولاية للفقيه على الحكم ولا شورى للأمة)(3).
ولأن حقيقة السلطة قائمة على أساس العدل والمساواة, والمتصدون لها أمناء عليها بعدم التجاوز على تلك الحدود, فلا بد أن تتوافر في المتصدي العصمة (وأعلى وسيلة يمكننا تصورها في حفظ هذه الحقيقة - السلطة - وأداء هذه الأمانة, الورع عن الارتكابات الشهوية, والاستئثارات الاستبدادية هي العصمة العاصمة)(4).
وبما أن هذه المَلكة غير متوافرة في المتصدين فالنعت بالغصبية يصح في حقهم.
وأمّا الروايات الواردة والحاثة على الرجوع إلى الفقهاء منها:
أولا: مقبولة عُمر بن حنظلة:
ص: 14
روى الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين, عن محمد بن عيسى, عن صفوان بن يحيى, عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله الصادق (علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاء أيحل ذلك ؟ فقال: (مَن تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً, وإن كان حقه ثابتاً, لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يُكفر به) قلتُ: فكيف يصنعان؟ قال: (ينظران إلى مَن كان منكم ممن قد روى حديثنا, ونظر في حلالنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما, فاني قد جعلته عليكم حاكما, فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه, فإنما استخف بحكم الله, وعلينا ردّ, والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله)(1).
فالظاهر من الرواية ثبوت الولاية للفقهاء وذلك من خلال لفظ (الحاكم) وليس المراد به (القاضي) الذي يفصل بين الخصومات فقط لان هذا المنصب من تعيين الحاكم أصلا.
ثانياً: مشهورة أبي خديجة, سالم بن مكرم الجمال:
روى الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب, عن أحمد بن محمد, عن الحسين بن سعيد, عن أبي الجهم عن أبي خديجة قال: بعثني أبو عبد الله (علیه السلام) إلى أصحابنا فقال: (قل لهم, إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري – أي تدافع في الخصومة - بينكم في شيء من الأخذ والعطاء, أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق, اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا وحرامنا, فإني قد جعلته قاضياً وإياكم أن
ص: 15
يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)(1).
فظاهر الرواية أن الشارع المقدس جعل للفقيه الجامع للشرائط منصب الفقهاء, وهذا المنصب يوجب منحه جميع صلاحية الولاية العامة, وذلك من خلال المقابلة بأن تلك الوظائف كانت لسلاطين الجور فما كان من شأن سلاطين الجور فهو ثابت للفقيه العادل في زمن الغيبة.
ثالثاً: التوقيع الصادر من الإمام الحجة صاحب الزمان (عجّل الله فرجه):
عن الشيخ الطوسي, (قال: أخبرني جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه, وأبي غالب الرازي وغيرهما, عن محمد بن يعقوب, عن إسحاق بن يعقوب, قال: سألت محمداً بن عثمان العمري (وهو النائب الثاني لإمام العصر في عصر الغيبة الصغرى) أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل, فورد التوقيع بخط مولانا صاحب العصر, وفيها: (.. وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)(2).
وهذه الرواية كسابقتها من حيث جعل الفقيه ذا ولاية لأنهم أصحاب حجة.
وقد ناقش جلّ الفقهاء في تلك الروايات وغيرها ولم يحملوها على منح الولاية العامة للفقيه بل هي تشير بالرجوع إلى الفقيه في الأمور الحسبية المقيّدة كرعاية القاصر وحفظ مال السفيه والنظارة على الأوقاف والقضاء والفتوى وغيرها
ص: 16
وليست في مقام إثبات الولاية لهم.
قال السيد الخوئي (ت 1413 ﻫ): (لا تثبت الولاية للفقهاء في عصر الغيبة بأي دليل, وإن الولاية تختص بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام) وما يمكن إثباته من الروايات أن للفقهاء أمرين هما: نفوذ القضاء وحجية الفتوى, وليس لهم حق التصرف في أموال القاصرين وغيرهم من شؤون الولاية إلا في الأمور الحسبية التي لهم الولاية فيها)(1).
الاتجاه الثاني: مشروعية السلطة وإقامة الدولة في عصر الغيبة:
وهذا الاتجاه يؤمن بالنظريات التي تؤسس لشرعية الدولة في عصر الاجتهاد, ويجعل عدة نظريات أو أنظمة تجمع بين الاجتهاد والنظام النيابي, ويؤسس لعلاقة بين المجتهد والبرلمان, والفقهاء ينظّرون لقيام تلك الدولة على أساس تنظيرين:
التنظير الأول: الدولة الدينية(2), وليس المراد منها الدولة الدينية التي تكون حكومتها الثيوقراطية ونظامها السياسي المستند على التفويض الإلهي الخارج عن إرادة البشر, حيث يختار الله الرؤساء مباشرة لحكم الشعب, وإنما المراد ﻫو النظام السياسي الذي يكون على رأس سلطته الفقيه الجامع للشرائط.
وللمرجعية الشيعية عدة نظريات(3) أشهرها نظرية ولاية الفقيه, وهي النظرية التي
ص: 17
منحت الفقيه الجامع لشرائط الفتوى أن يكون نائباً من قبل الأئمة (علیهم السلام) في حال الغيبة ليس في الأمور الحسبية المقيدة, بل في جميع ما للنيابة من أمور.
وقد نظّر لهذه النظرية الشهيد الأول محمد بن مكي (ت 786 ﻫ) حينما قال بنيابة الفقيه عن الإمام في صلاة الجمعة في زمن الغيبة(1)
ويُعد المحقق الثاني الكركي (ت 940 ﻫ) أول فقيه يتقلّد منصب النيابة العامة فعلياً والمصدر الرئيس لإمضاء الشرعية على السلطة(2).
وتحولت هذه الولاية من كونها موقفاً فقهياً إلى نظرية سياسية فقهية متكاملة على يد المحقق أحمد النراقي (ت 1244ﻫ) (3), والشيخ صاحب الجواهر (ت 1266ﻫ) أبرز رموزها حيث أثبت أن كل ما كان للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من الولاية فهو ثابت للفقيه(4) وتصبح الولاية في عصر الغيبة من البديهيات وخاصة عند السيد الخميني (ت 1410ﻫ) الذي أثبت أنها من الأمور التي لا يحتاج إثباتها إلى برهان(5).
ولا نريد الدخول في مناقشات الأدلة النقلية والعقلية إثباتاً أو نفياً, بل الأمر موكول إلى محله(6) بقدر ما أريد ذكره, أن الدولة في عصر الغيبة المعتمدة على نظام (ولاية
ص: 18
الفقيه) أقرّت مشروعية الفصل بين السلطات الثلاث, ومنحت المشروعية لسلطة البرلمان والحق في سنّ القوانين وتشريعها على أساس مشروعية الدولة.
التنظير الثاني: الدولة المدنية:
وللمرجعية الدينية أيضاً عدة نظريات عالجت فيها قضية السلطة في عصر الغيبة عندما لا يكون على رأسها الولي الفقيه, ولكنهم في نفس الوقت أمضوا عمل السلطات بما فيها السلطة التشريعية (البرلمان) ومنها:
أولاً: نظرية الحكومة المشروطة بإذن الفقهاء.
شهدت بدايات القرن الرابع الهجري حركة تطالب بالدستور وسميت هذه الحركة ب-(المشروطة) التي يعتبر العلامة الميرزا محمد حسين النائيني (قدس سره) (ت 1355ﻫ) مفكر الحركة المشروطة والمنظّر لها في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملّة) والذي جمع فيه عشرات الأدلة على مشروعية الحكومة المشروطة ورد إشكالات المعارضين لها.
وهي أول عمل نظري ومعمق في مجال الحياة السياسية الدستورية الشعبية وفي تأهيل المجتمع الإسلامي لتقبل الديمقراطية.
وهي مرحلة من مراحل بروز الأسس النظرية للنظام الإسلامي والقول به والخروج من مرحلة القول بالتقية, بل يؤسس فيها لحكومة إسلامية شرعية تعتمد القانون أو الدستور أساسا لعملها, ولو على نحو البديل البشري الاضطراري لمقام العصمة لغاية رفع الاستبداد وإنشاء حكومة عادلة (لما كان الأمران كلاهما - العصمة والحكمة الفردية - غير متيسرين ولا مطردين, فان البديل الممكن هوإيجاد وسائل أخرى تساعد على توفير الحدّ المقبول من الصفات في الحاكم والسلطة) (1).
ص: 19
ومن الوسائل التي تساعد على رفع الاستبداد وإنشاء حكومة عادلة عنده توجد ضمانتان:
الضمانة الأولى: الدستور, وهو مجموعة من القوانين التي تحدد طبيعة السلطة وواجباتها وتميّز السلطات الثلاث, وتؤسس لعدم التعدي والتجاوز على حدودها.
وبما أن لفظ الدستور مصطلح غربي حديث على مسامع العامة ومثير للشبهات والتشكيكات الخاصة أورده الشيخ لجهتين:
الجهة الأولى: تقريبية للعامة, لبيان أن منزلة هذا الدستور ومكانته أشبه بالرسائل العملية حتى يكون العامة على علم بحرمة مخالفة بنوده.
الجهة الثانية: تحليلية, وتتكفل الرد على الاتهامات التي سجلت على نظريته.
وقد جعل الميرزا النائيني (قدس سره) عدداً من اللوائح ضمن الدستور الغاية منها مقاومة الاستبداد وهي:
1- الفصل بين السلطات الثلاث: القضائية والتنفيذية والتشريعية, (بحيث تتميز الوظائف التي يلزم السلطات بإقامتها عن المجالات التي لا يحق له التدخل فيها والتصرف بها)(1).
2- الأخذ بمبدأ الشورى(2):
والأخذ بهذا المبدأ يكون مقتضاه الأخذ برأي الأكثرية, لأن الأخذ من لوازم الشورى وبه يتحقق النظام العام وهو حفظه وتحقق
ص: 20
الحرية والمساواة.
الضمانة الثانية: أمّا البرلمان, فهو الجزء الثاني والمهم في مقارعة الاستبداد وتصحيح عمل السلطة بشروط, منها: أن يكون البرلمان مكوّناً من مجموعة من المجتهدين أو من ينوب عنهم.
وبهذا نقل الشيخ النائيني (قدس سره) الخطاب الدستوري الشيعي من الانحسار في المشروعية السياسية إلى المشروعية المدنية المستمدة من الدين, وذلك من خلال نظريته بتشكيل حكومة عدل نسبية تتم عن طريق الانتخاب والبرلمان والدستور, مقابل عجزنا عن التمتع بحكومة العدل المطلق للمعصوم(1).
وهذا النقل للخطاب الديني لا يعني تخلي النائيني (قدس سره) عن القول بولاية الفقيه, بل هو تخلٍ عن الثابت فيها, وﻫو أنه يمكن أن تنفك عن الفقيه الجامع للشرائط وأن تكون لغيره, ولو لم يكن فقيهاً ولكن تحت إشرافه وإمضائه.
ثانياً: نظرية ولاية الأمة على نفسها, وهي النظرية التي أسس لها الشيخ محمد مهدي شمس الدين (ت 1401ﻫ) حيث استدل على نظريته بعدة أدلة اعتبرها أصلا أولياً
ص: 21
سواء على مستوى الأدلة العقلية أو النقلية وهو عدم ولاية أحد على أحد: (أن الأصل الأولي العقلي والنقلي في قضية السلطة على البشر من قبل أي شخص كان هو عدم المشروعية, فلا ولاية لأحد على أحد, ولا ولاية لأحد على جماعة, أو مجتمع ولا ولاية لجماعة أو مجتمع على أحد)(1).
ولكن هذا الأصل يجعل إمكانية إعماله في زمن الغيبة دون زمن حضور المعصوم (علیه السلام) لوجود النص, كقوله تعالى: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾(2), وقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾(3).
وأن آية: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ (4) وسّعت من مفهوم (الولاية) لتشمل معنى التدبير السياسي وعدم الاقتصار على النصر والمعونة؛ لأن الأمة في مطلق الأحوال معنية بتدبير نفسها, لأنه لا يُعقل ترك الأمة من دون تدبير, وعلى هذا يحق للأمة من خلال ممارستها للسلطة إنشاء المؤسسات الإدارية وتعيين الأشخاص الذين يمارسون السلطات على الأنفس والأموال من دون أن يتوقف ذلك على فتوى الفقيه لعدم وجود دليل قطعي من الكتاب أو السنة يمنحان الفقيه سلطات المعصوم في حقل التشريع والسياسة نحو الحاكمية(5).
ومن الأدلة الأخرى التي اعتمد عليها الشيخ شمس الدين أصل ثابت عند فقهاء
ص: 22
المذاهب والإمامية وهو وجوب الشورى أو المشاورة وجعله أصلاً آخراً على مشروعية ولاية الأمة (مبدأ الشورى في الشؤون العامة من أهم المبادئ الدستورية السياسية على الإطلاق عند جميع المسلمين: عند الشيعة الامامية في عصر المعصوم (علیه السلام) وعند أهل السنة وسائر المسلمين منذ وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ولا تستقيم شرعية أي حكم سياسي لحاكم غير معصوم ولا تستقيم شرعية أي تصرف في الشؤون العامة للمجتمع دون أن يكون قائماً على الشورى)(1).
وإذا كان القرآن الكريم قد بيّن ضرورة إجراء الشورى في زمن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بقوله: (وشاورهم في الأمر)(2)
فإن الناس أحوج ما يكونون إلى ذلك في عصر غياب الإمام (علیه السلام) .
ثالثاً: نظرية إرادة الأمة(3), ويمكن قراءة هذه النظرية من خلال ثنايا البحوث الفقهية والأصولية والفتاوى التي تعالج الوضع السياسي وخاصة الوضع العراقي بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003م حيث أوجب على المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف الإلقاء بثقلها للإرشاد إلى نوع الحكم الذي يصلح للمحافظة على المصالح العليا وأهمها رفع الظلم وتحقيق العدل والمساواة وضمان إمرار دستور وتشريعات روحها المحافظة على الهوية الدينية للأغلبية المسلمة وضمان حقوق الأقليات.
وهذا يكشف عن أنها تقول بالولاية ولكن ليست الولاية المطلقة فهي تمسك عصا الولاية من المنتصف, ومحلها الولاية العامة التي تكون بين المطلقة وبين الأمور الحسبية
ص: 23
في أدنى درجاتها, وبالنسبة إلى الولاية العامة فإنها تميّز ما بين (الولاية العامة) و(الولاية في الأمور العامة).
والولاية العامة تكون ثابتة في المواضيع التي لا يتوقف عليها حفظ النظام, بل تكون أحكاماً أولية قائمة على أساس المصالح والمفاسد في ذوات الأشياء, ويلحظها الشارع المقدس ويصدر حكمه فيها ويكون طريق إيجادها بالرجوع إلى الولي, بينما الولاية في الأمور العامة التي توجب تدخّل الفقيه المنتخب من قبل الفقهاء وبحسب تصديه في تلك الأمور التي يتوقف عليها حفظ النظام من باب الأحكام الولائية, ويعلّل فعل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في قلع نخلة سَمرة بن جندب وبناء قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) عليها بأن يكون فعله في قلع النخلة ولائياً بلحاظ ولايته في الأمور العامة, لأنها صارت وسيلة للإضرار, وقلعُها من الأمور العامة التي يتوقف عليها حفظ النظام(1) وليس من باب الولاية العامة, لأنه لا يجوز التصرف في مال أحد بدون إذنه.
بل الحكم الولائي ينشؤه الولي على أساس المصالح العامة لحفظ النظام والملاكات الأهم التي يدركها الحاكم الشرعي وفقاً لمقتضيات المصلحة ويُعلن إنشاء تطبيق لا من جهة تنجيز الواقع, بل من جهة إنشاء تكليف واقعي على المجتمع.
ومن خلال التمييز بين الولايتين لا يمكن اكتشاف رأي المرجعية الدينية العليا وأنها تقول بالولاية العامة أو لا تقول بها, فلعلّها تقول بها ولكن لا تعمل بها لوجود موانع منها تعدد أطياف الشعب العراقي ممّن لا يعترف بها أصلا, وإرادة الأمة تنافي فرض واقع علمي أو عملي عليها.
ص: 24
مباني نظرية إرادة الأمة:
يمكن قراءة هذه النظرية لتتضح معالمها من خلال ثلاثة أسس(1):
الأساس الأول: الالتزام بالعهود والمواثيق, حتى يحقّق الإنسان إرادة نفسه ويكون مُلزماً لنفسه بفعل أو ترك نحو الغير, ويجعل على المخالفة حكماً جزائياً مقابل التزام الغير له, فلا بدّ لتحقيق إرادته من الالتزام بالعهود والمواثيق التي يجعلها على نفسه انطلاقا من حقيقة أولوية كل أحد بالنسبة إلى نفسه وما يعد من شؤونه, والأصل عدم وجود ولاية لأحد على أحد, وهذا الحق بالإلزام والالتزام, وما يترتب عليه من الأحكام قد يمارسه الإنسان بنفسه, وقد يفوضه للغير من قبيل إعطاء ولاية الحكم في مقام التحكيم.
ومن هذا التفويض تستمد شرعية الحكم من فئة من الشعب للشعب وينسجم مع الأصول التشريعية للمسلمين وتشمله أدلة ﴿وأوفوا بالعقود﴾(2), و(المؤمنون عند شروطهم إلا شرطاً محلا للحرام أو محرّماً للحلال) ولكي لا تكون هذه الولاية في عَرض ولاية الله سبحانه الثابتة له في الحكم لا تكون الأحكام الصادرة بموجب تلك الولاية محلّلة للحرام ومحرّمة للحلال, أي لا تتصادم مع التشريع الإلهي في الوقائع في مرحلة سنّ القوانين, كما تكون في طول عدم إمكان ثبوت الولاية من الله سبحانه للفقيه الجامع للشرائط.
ص: 25
الأساس الثاني: تغليب رأي الأكثرية, (أي الشورى).
والشورى في النظام الديمقراطي تعني وجوب الأخذ بمبدأ الأكثرية, وهي موافقة للشورى الإسلامية من جهة وجوب العمل بها لا من جهة وجوب الأخذ بمبدأ الأكثرية, وقد جعلت المرجعية الدينية العليا كلا الوجوبين - إمكانية العمل بها- معتمدة ومراهنة على إرادة الأمة, والمتمثلة بالشعب العراقي ذي الغالبية - الأكثرية - المسلمة, فمن المؤكّد أنهم سيختارون من خلال مجالسهم الشوروية نظاماً يحترم الشريعة الإسلامية مع حماية الأقليات.
ولهذا جعل الشورى أحد الأسس التي يجب أن يقوم عليها عراق المستقبل (مبدأ الشورى والتعددية والتداول السلمي للسلطة في جنب مبدأ العدالة والمساواة بين أبناء البلاد في الحقوق والواجبات, وحيث إن أغلبية الشعب العراقي من المسلمين فمن المؤكد أنهم سيختارون نظاما يحترم ثوابت الشريعة الإسلامية مع حماية الأقليات) (1).
ومبدأ هذا الأساس موجود في الأساس الأول بمقتضى ولاية الإنسان على نفسه في تفويض الحكم للغير وإنما اعتمد رأي الأكثرية لكونه من الناحية العقلية موضع رضا الجميع وملزماً لهم باعترافهم والتزامهم ويحصل التصالح به بين جميع الفئات.
وهذا التفويض لاختيار الأكثرية لا مانع منه في مجال تشريع القوانين مادامت الأكثرية مسلمة, ولم تختر ما يصدم ثوابت المسلمين, ويكون الشرط والعقد الذي يحصل بموجبه أصل التفويض أو تحكيم الأكثرية في التفويض لمن له الحكم والتنفيذ لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالا.
ص: 26
الأساس الثالث: الأخذ بمبدأ الانتخاب.
الانتخاب: لغة بمعنى الاختيار(1), وفي القانون بأنه: (تدبير قانوني يتم من خلاله اختيار شخص أو عدة أشخاص من بين مرشحين لمنصب ما, ويجري التصويت عليه بواسطة أوراق تحمل أسماء المرشحين, وتودع في صندوق الاقتراع, ليصار عند انتهاء فرزها إعلان نتيجة الاقتراع) (2).
ولمّا كان المكلف بحاجة إلى مَن يُعينه في إدارة شؤونه العامة, أو ما تدعو إليه الضرورة لاستنقاذ حق أو دفع باطل كان بإمكانه وتبعا لإرادة نفسه أن يفوّض أو ينيب غيره من الأكفاء على إدارة المﻫمة بآلية الانتخاب في مجال تشريع القوانين وغيرها.
وعليه يمكن اعتماد مبدأ الانتخاب مبدأ تعويضياً عن البيعة, منح فيه المكلف ممارسة حقه بحسب ولايته على نفسه من جهة, ومن جهة أخرى قبول المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف بحق الانتخاب على وفق مبدأ الأكثرية - الديمقراطية - كآلية عمل من خلال ممارسة الأمة لدورها وتقبلها أيضاً كمصطلح وافد من الغرب, ليُلزم الآخر ويرغمه على تنفيذها خصوصا بعد معارضة القوى السياسية الانتخابات معارضة شديدة بحجج واهية استطاعت المرجعية الدينية العليا إبطالها.
وقد جعلت فتاوى الانتخاب كحق معبّر عن إرادة الأمة, لأن لهم الولاية على أنفسهم في اختيار شكل الحكومة ومَن يمثلهم, وجاءت تلك الفتاوى من قبل المرجعية
ص: 27
الدينية العليا لتؤكد على ذلك الحق, كما في فتوى 29/حزيران/ 2003م بوجوب الانتخابات للمجلس التشريعي لكي يكتب الدستور, وأنه لا بديل عن إجراء انتخابات عامة لكتابة الدستور واختيار أعضاء المؤتمر الدستوري(1), وأن الانتخابات هي الطريقة المثلى لتمكين الشعب العراقي من تشكيل حكومة ترعى مصالحه(2),
وأكد مكتب المرجعية الدينية العليا مراراً على ضرورة أن تكون الحكومة العراقية ذات سيادة منبثقة من انتخابات حرة ونزيهة يشارك فيها أبناء الشعب العراقي بصورة عامة (3),
وكذلك أوجب المكتب التحقق من إدراج أسماء الناخبين المؤهلين بصورة صحيحة للتصويت من الذكور والإناث في سجل الناخبين(4).
وكل هذا وغيره في سبيل أن يشارك أبناء الشعب مشاركة واسعة ويعبّرون فيها عن إرادتهم وولايتهم على أنفسهم.
هذه أهم النظريات التي تؤسس لمشروعية الدولة في ظل الأنظمة الوضعية المعاصرة, وأن ما يميّز هذه النظريات الثلاث التي اتفقت في النتيجة من حيث جعل الشورى أساساً للحكم في عصر الغيبة وإن اختلفت المباني, حيث جعل الميرزا النائيني (قدس سره) ولاية الأمة من الأمور التي تحتاج إلى إمضاء من الفقيه في الأمور الحسبية الراجعة إليه, بينما وسّع الشيخ شمس الدين (قدس سره) حق ممارسة السلطة من دون الرجوع إلى الفقيه وولايته.
ص: 28
ويمكن القول إن نظرية المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف جمعت بين الإمضاء من قبل الحاكم الشرعي للسلطة التي ذهب إليها الميرزا النائيني (قدس سره), وبين ولاية الأمة على نفسها التي قال بها الشيخ شمس الدين (قدس سره), ولكن وفق رهان الإرادة المعبّرة عن ضمير الأمة على أساس ثوابت الشريعة الإسلامية, ولهذا أوجبت تلك الإرادة تدخّل الفقيه في الأمور العامة للأمة, خصوصاً إذا ما تجاوزت الأمة حدودها وانحرفت إرادتها في اختيار نظام الحكم.
والبحث يميل إلى النظريات البديلة عن ولاية الفقيه, التي متى ما تحققت عند زوال المانع من إقامتها كانت لها الصدارة في قيادة الأمة ويمكن - بالإضافة إلى ما تقدم من مبانٍ للنظريات الثلاثة - اعتماد عدد من الأدلة التي توجب تقدم النظريات البديلة على نظرية ولاية الفقيه, وهي:أولا: الإطلاقات والعمومات, نحو قوله تعالى: ﴿وأوفوا بالعقود﴾(1), وقوله تعالى: ﴿وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا﴾(2).
فهذه الإطلاقات والعمومات الفوقانية توجب على المسلم الوفاء بالشرط بمقتضى العقد الاجتماعي إلا ما خالف كتاب الله عز وجلّ أو سنة رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم), وهذا واضح في نظرية إرادة الأمة كما مر الإيعاز إليه.
ثانياً: دليل العقل, حيث يحكم بوجوب حفظ النظام وقبح الفوضى, ويمكن تحقيق هذا الغرض حتى على أساس النظريات غير الشرعية فضلا عن نظرية ولاية الفقيه, لكن لا شرعية لمَن لا شرعية له, وولاية الفقيه غير ثابتة عند مَن يقول بكفاية أدلة
ص: 29
الولاية المطلقة, ويعضد هذا الدليل اللابدية العقلية المروية عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر) (1).
ثالثاً: قاعدة السلطنة, ومفادها أن العقل العملي مثلا حكم بقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): (الناس مسلّطون على أموالهم) (2),
ولا يحق لأحد التصرف به إلا عن طيب نفسه, فمن الأولى أن تكون له السلطة على نفسه, فليس لأحد أن يحدّ من حرياته إلا إذا كان هناك تفويض من قبله في التصرف, وهذا التفويض هو الانتخاب نفسه الذي أشارت إليه النظريات المتقدمة.
رابعاً: قاعدة التزاحم, والمراد منه ليس التزاحم المصطلح بين واجبين يعجز عن الجمع بينهما, بل قيام دستور يحكم البلاد تكون له الأولوية في إدارة شؤون حكم الدولة وقيامها, وهو يزاحم قيام دولة يحكم فيها المستبد ويكون أهلها عرضة لمطامع الظالمين.
خامساً: العناوين الثانوية, كتقديم المرجوح على الراجح أو تقديم الفاسد على الأفسد وغيرها من العناوين المبتنية على المصالح الناشئة عن الظروف الجديدة في إعطاء الأمة حقها الدستوري لتقرير ما يحقق لها المصلحة, وحفظ السلطة في عصر الغيبة كما يظهر من ثنايا نظرية ولاية الأمة, فقد أباح الميرزا النائيني (قدس سره) هذا الحق الدستوري حتى مع افتراض المغصوبية لمقام الإمام (علیه السلام) في زمن الغيبة(3).
وعلى هذا فإن الأخذ بنظرية الشورى أو ولاية وإرادة الإنسان على نفسه والتنازل عن نظرية (ولاية الفقيه) وامتناع إعمال هذه الولاية لجهات خارجية يوجب على الأمة
ص: 30
العمل بها ما دام لم يكن هناك نص خاص خلاف ما تقدم من نظريات.
(للأمة صلاحية ممارسة أمورﻫا عن طريق الشورى ما لم يرد نص خاص خلاف ذلك)(1),
فيصح الأخذ بمبدأ الشورى عند الإمامية خصوصاً بعد ما ميّزوا بين عصر المعصوم (علیه السلام) وعصر الاجتهاد.
ص: 31
أدلة شرعية إقامة المجالس النيابية - البرلمان - من غير الفقهاء.
بعد فرض تمكين الحاكم بالانتخاب وغيره للنظم السياسية المعاصرة وإضفاء الصفة الشرعية لتوليه السلطة, وهو بالأخير يعكس مشروعية السلطات الثلاث, خصوصاً السلطة النيابية المتولّدة عن التمثيل النيابي بالانتخاب لإدارة شؤون الأمة.
وعليه فهل يمكن الاستدلال على أصل مشروعية إنشاء المجالس النيابية أو قيامها بدليل شرعي أو عقلي أو عُرفي بما يفرضه واقع التجربة الميدانية خلال مسيرة الأمم وقد أمضاه الشارع المقدس وهذا ما يجيب عليه هذا المبحث.
فبعد أن أثبتنا مشروعية المجالس النيابية والبرلمان بالتفويض ممّن كان لهم الحق في التفويض للغير في الحكم وصحة الالتزام بين الناخبين والمنتخبين ونفوذه حتى في عرض القول بولاية الفقيه العامة ووجود الدليل عليها ولكن في حال عدم القدرة على إقامتها لأسباب خارجية قاهرة أو عدم ثبوت أصل الولاية العامة للفقيه وقصور الأدلة عن إثباتها أو إثبات مجلس فقهاء منتخب يقع الكلام في أدلة شرعية إقامة تلك المجالس وصحة تصرفاتها وتشريعاتها الملزمة والتي تكون موضوعا لأحكام شرعية بعدم جواز مخالفتها, وهي:
الدليل الأول: العمومات والاطلاقات, كقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود﴾(1), وقوله تعالى: ﴿وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا﴾(2).
ص: 32
وجه الدلالة فيهما أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوفاء بالعقود والعهود, وهما كلمتان عامتان تشملان كل عقد مسمّى أو غير مسمّى, والأمر بالوفاء دليل على مشروعيتهما, وكل شرط شَرَطه الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل يلزم به, والتعامل مع إنشاء المجالس النيابية وقيامها بواسطة نوابها يمكننا ومن خلال تلك العمومات الفوقانية الإلزام والالتزام بموجبها, وقد تقدم شطر من الكلام حول الاستدلال بالآية في المبحث السابق.
الدليل الثاني: أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإن الدخول في مجالس النواب يمكن أن يكون من باب ما لأفراد المجتمع من دور فعال وكبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو وجوب عيني(1)
في بعض مراتبه يوجب على كل فرد يشعر بأن هذا الواجب ملقى في عاتقه التصدي والامتثال له في موارده ﴿كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾(2), ومن جملة تلك الموارد الدخول في تلك المجالس من باب أداء الوظيفة العامة في رقابة الأمة على الشأن العام السياسي والاجتماعي, لأن الرقابة وظيفة عامة كفائية بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمنع استبداد الحاكم والقوى التنفيذية, وإصدار القوانين الجائرة والمخالفة لتعاليم الدين والدستور, ولمّا كان دخول الجميع متعذراً, أمكن النيابة عنهم للبعض في توليف شؤون الأمة وتوكيلهم في ما أقرّ الدستور لما لهم من أعمال وصلاحيات, فتخير لهم المكنة على إتيان هذا العمل على أساس إحياء هذه الشعيرة.
ص: 33
قال تعالى: ﴿الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾(1).
والتمكين في اللغة - كما قال الراغب - المكان عند أهل اللغة, الموضوع الحاوي للشيء, ويقال مكنته وتمكنت منه فتمكن(2).
وأمّا القدرة على التمكين – المكنة– فالآية الكريمة المتقدمة لا توجب الاختصاص بالحاكم السياسي, بل الأمر بالحكم يختص بجميع الأفراد, وذلك من عدة وجوه:
الوجه الأول: إطلاق أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الوجه الثاني: ما ذكره علماء الأصول من أن الوصف لا مفهوم له(3),
فالتقييد بالمكنة وحصره بالحاكم السياسي ترجيح بلا مرجح.
الوجه الثالث: وجوبية وعينية(4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع عدم وجود الحاكم العادل على كل فرد من الأفراد المكلفين ولكن يؤدى بقدر الاستطاعة.
والنظرية الإسلامية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة على أساس أن الحق واحد والعدل واحد, لا على أساس التعددية في رغبات الناس وميولهم ومصالحهم الخاصة, حيث إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد, فقد يختار الإنسان الأشياء على خلاف مصلحته ومصلحة الجماعة إذا كانت رغبته ذلك, كما في قضية تحريم الخمر في أمريكا من سنة 1918 حيث حرّم الكونغرس الأمريكي الخمر بقرار؛ لأن مصلحة
ص: 34
الحكومة والناس أن لا يتناولوا الخمر واستمر التحريم حتى سنة 1931, وبعد ذلك تبيّن أن القرار بعد تلك المدة على خلاف إرادة الناس ورغباتهم اتخذ الكونغرس مرة أخرى قرارا بإلغاء التحريم(1).
وقد جوّز الفقهاء المشاركة مع السلطان العادل على نحو الاستحباب أو الوجوب, قال الشيخ الطوسي (ت 460ﻫ): (تولي الأمر من قبل السلطان العادل, الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, الواضع الأشياء ومواضعها جائز مرغوب فيه, وربّما بلغ حدّ الوجوب لما في ذلك من التمكين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ووضع الأشياء مواضعها) (2).
واستدلوا لهذا الوجه بعدة روايات, مضافاً لحاكمية العقل, وسيرة العقلاء(3).كما لا شبهة في تحريم التولي والتصدي للأمور من قبل السلطان الجائر, بل مطلق الارتباط به (وهي صيرورته واليا على قوم منصوبا من قبله)(4).
وهذه الرتبة من الولاية حكم الفقهاء بالجملة(5),
وبلا خلاف(6),
بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه(7)
بالحرمة, لكونها إعانة للظالم موجبة لتقويته, وإعلاء لشانه
ص: 35
وشوكته, ويدل على ذلك العقل والنقل:
أمّا العقل فوضوحه يكمن في أن الظلم مثلما هو في حدّ ذاته قبيح عقلا, فتقوية الظالم قبيحة أيضاً.
وأمّا النقل فمن الكتاب فقد وردت عدَّة من الآيات, كقوله تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار﴾(1), ذكر في الكشاف أن النهي الوارد في الآية (متناول للانحطاط في هواهم والاندفاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم والتشبّه بهم والتزيّن بزيهم, ومدّ العين إلى زهرتهم, وذكرهم بما فيه تعظيم لهم, وتأمل قوله ﴿ولا تركنوا﴾ فإن الركون هو الميل اليسير وقوله "إلى الذين ظلموا" إلى الذين وجد منهم الظلم ولم يقل إلى الظالمين) (2).
وقال في مجمع البيان: (الركون إلى الشيء هو السكون إليه بالمحبة له, والإنصات إليه ونقيضه النفور عنه)(3).
وأمّا الروايات الواردة في المقام فكثيرة, فقد عقد صاحب الوسائل لها باباً خاصا في أبواب ما يكتسب به(4) وهي مسألة الولاية من قبل الجائر.
ومنها: خبر سليمان الجعفري, (قال: قلت لأبي الحسن الرضا (علیه السلام): ما تقول في أعمال السلطان ؟ فقال: يا سليمان الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم
ص: 36
عديل الكفر, والنظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحق بها النار)(1).
ومنها: خبر السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه, (قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين أعوان الظلمة ؟ ومن لاق بهم دواة أو ربط كيساً أو مدّ لهم مدة قلم فاحشروهم معهم)(2).
وبالمقابل هناك من الروايات الدالة والحاثة في بعض الأحيان على جواز التولي للمؤمنين من قبل السلطان وإن كان جائراً, ولكن قيّدت بشروط تكفلتها طوائف من الروايات منها(3):
الطائفة الأولى: ما دلّ على الجواز من دون شرط.
الطائفة الثانية: ما يدلّ على الجواز بشرط إذن من الأئمة (علیهم السلام) .
الطائفة الثالثة: ما دلّ على دخالة النية والقصد في ذلك الأمر.
الطائفة الرابعة: ما يدلّ على الجواز بشرط الاحتجاز من الظلم.
الطائفة الخامسة: ما يدلّ على الجواز في صورة الاضطرار.
الطائفة السادسة: ما دلّ على الجواز بشرط الاتقاء من أموال الشيعة.
الطائفة السابعة: ما دلّ على الجواز بشرط نفع المؤمنين.
الطائفة الثامنة: ما يدلّ على الجواز بشرط كون القصد هو إدخال المكروه على عدوهم.
ص: 37
فهذه الطوائف من الروايات المعتمدة مع غيرها تدل على جواز الولاية من قبل السلطان الجائر, ولسنا في مقام محاكمة الروايات متناً وسنداً ودلالة, وذكر تفاصيل تلك الولاية وشروطها, بقدر ما نحن بصدد تصحيح عمل المجالس بنية الأمر بالمعروف ودفع الفساد والمنكر مع ملاحظة جميع الأقوال في شرعية قيام الدولة مع غياب الفقيه على رأسها, وحتى على تقدير كون مثل هذه الدولة جائرة بالاصطلاح الفقهي.
وقد أوجد الفقهاء صيغة جمع بين تلك الروايات المانعة والمجوّزة من جهة, وحمل المجوّزة أو تصحيحها في حالتين وهما:
الحالة الأولى: جواز الدخول للقيام بمصالح المؤمنين وعدم ارتكاب ما يخالف الشرع المبين, ويدخل في ذلك ما ذكره جماعة(1)
من توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوسط العام على التوالي والاستمرار وهي كثيرة:
فمنها: ما رواه الصدوق عن علي بن يقطين قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام), (إن لله تبارك وتعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه)(2).
ومنها: وما رواه الصدوق عن الصادق (علیه السلام), (قال: كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان)(3).
ومنها: ما رواه زياد بن أبي سلمة, (قال: دخلت على أبي الحسن موسى (علیه السلام), فقال لي: يا زياد إنك لتعمل عند السلطان, قال: قلت: أجل قال لي: ولم؟ قلت: أنا رجل لي مروءة وعليّ عيال وليس وراء ظهري شيء, فقال لي: يا زياد لئن
ص: 38
أسقط من حالق فأتقطع قطعة قطعة أحب إليّ من أن أتولى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم إلا لماذا ؟ قلت: لا أدري جُعلت فداك, قال: إلا لتفريج كربة عن مؤمن, أو فك أسره, أو قضاء دينه, يا زياد إن أهون ما يصنع الله عز وجل بمن تولّى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله من حساب الخلائق, يا زياد فإن وليت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة, والله من وراء ذلك, يا زياد أيّما رجل منكم تولى لأحد منهم عملا ثم ساوى بينكم وبينه فقولوا له أنت منتحل كذاب, يا زياد, إذا ذكرت مقدرتك على الناس, فاذكر مقدرة الله عليك غداً, ونفاد ما أتيت إليهم عنهم وبقاء ما أبقيت إليهم عليك)(1).
الحالة الثانية: جواز الدخول مع الإكراه والتقية وعدم ترتب مفسدة مع الترك أهم من القبول.
ووفق تلك الحالتين أوجد الفقهاء أوجه جمع بين الأخبار الصحيحة:
1 - قال صاحب مفتاح الكرامة في معرض جمعه لتلك الأقسام, فقد اختار أقساماً ثلاثة للجمع اشتمل القسم الثالث على وجهين من تلك الطوائف من الأخبار:
(الثالث: أن لا قصد له إلا محض فعل الخير أما ليقوم بما لزمه من إقامة الأحكام التي نصب لها من الإمام, كان يكون فقيها أو ليتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهما واجبان عليه إذا لم يكن فقيها, ولا غرض له غير ذلك من مال أو جاه أو لولده أو أقاربه. وقد يكون المراد من أخبار هذا القسم انه بفعل ذلك كله مع الاضطرار إلى الدخول في عملهم تقية, وعلى هذين الوجهين يحمل دخول علي بن يقطين, ومحمد
ص: 39
بن إسماعيل بن بزيع, والنجاشي وكذلك علم الهدى, والخواجة نصير الدين الطوسي وابنه أصيل الدين والمحقق الثاني والبهائي والمجلسي ونحوهم "رحمهم الله" كل بحسب حاله)(1).
وأيدّ هذا الجمع أيضاً السيد الخميني (قدس سره) (2).
2 - وذكر صاحب الجواهر جمعاً آخر: (والأحسن منه الجمع بحمل نصوص المنع على الولاية على المحرمات أو الممزوجة بالحرام والحلال, ونصوص الجواز على الولاية على المباح كجباية الخراج ونحوه مما جوز الشارع معاملة الجائر فيه معاملة العادل, وأمّا نصوص الترغيب فعلى الدخول للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وحفظ أنفس المؤمنين وأموالهم وأعراضهم وإدخال السرور عليهم)(3).
ولعلّ من جملة الأسباب في حفظ كيان الشيعة وتقويته هي اتصال مجموعة من رجال الشيعة بجبابرة زمانهم والدخول في أعمالهم وقبول المناصب من قبلهم, ومن المعلوم أن تقلّدهم للوزارة وتصديهم لأمور الدولة لم يكن كله بدون إذن ورضا من الأئمة (علیه السلام) .
فقد تقلّد الوزارة من قبل السفاح أول ملوك بني العباس أبو سلمة الخلال الكوفي الهمداني, وبعده محمد بن إسماعيل بن بزيع من قبل المنصور, وعلي بن يقطين وجعفر بن محمد بن أشعث الخزاعي من قبل هارون الرشيد, وكان الفضل بن سهل ذو الرئاستين وأخوه وزيرين للمأمون, وجعفر بن محمود الاسكافي وزيراً للمعتز والمهتدي.
وتصدى للوزارة من جانب المعتصم آخر ملوك بني العباس أبو طالب محمد بن
ص: 40
أحمد العلقمي, وتقلد هو منصب الوزارة بعد انقراض العباسيين لهولاكو المغولي(1).
وقد روى الكشي في ترجمة محمد بن إسماعيل بن يزيع عن مولانا الرضا (علیه السلام): (أن لله تعالى بأبواب الظالمين من نور الله به البرهان, ومكّن له في البلاد, ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله تعالى به أمور المسلمين لأنهم صلحاء المؤمنين.. إلى أن قال: أولئك المؤمنون حقا أمناء الله في أرضه, أولئك نور الله في رعيتهم, يوم القيامة يزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الكواكب الزهرية لأهل الأرض, أولئك من نورهم نور القيامة تضيء, خلقوا والله للجنة, وخلقت الجنة لهم فهنيئا لهم ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله, قال: قلت بماذا جعلني الله فداك؟ قال: يكون معهم فيسروا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد)(2).
كما أن منهم مَن تقلّد الإمارة أو الكتابة أو الخزانة كإمارة آل أبي فراس الشيباني وإمارة عبد الله النجاشي على الأهواز وفارس, وقيادة طاهر بن الحسين الخزاعي وأولاده من جانب المأمون. وكان عبد الله بن سنان خازنا للمنصور والهادي للمهدي, وهو من ثقات أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام) .
إذاً مسألة تسلّم منصب أو وظيفة نائب في المجالس البرلمانية أمر جائز, وعلى هذا تتشكل المجالس النيابية لغرض إدارة شؤون الأمة بعد عدم تصدي الحاكم الشرعي لسبب أو لآخر من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الدليل الثالث: ولاية عدول المؤمنين أو ثقاتهم, حيث يمكن استفادة تشكيل المجالس النيابية من باب وصول النوبة بالولاية إلى ولاية عدول المؤمنين من بعد عدم
ص: 41
تصدي الولي الشرعي أو الحاكم لتلك المهمة إلى ولاية عدول المؤمنين, وقد استدل لها بوجهين:
أولا: ما عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص, فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله, وكان الرجل خلف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري, فباع عبد الحميد المتاع, فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن إذ لم يكن الميت صير إليه وصيته, وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهن فروج, قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر, وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا, ولا يوصي إلى أحد, ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا فيبيعهن, أو قال: يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج, فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: (إذا كان القيم به مثلك ومثل عبد الحميد(1)
فلا بأس)(2).ومن المعلوم أن جو الرواية يوحي بالانتقال الترتيبي إلى القاضي المنصوب من قبل الحاكم الرسمي للعباسيين وليس من قبل ولي الفقيه الإمام, لأنه لم تكن له اليد المبسوطة في الحكم.
ص: 42
ثانياً: أن تلك الولاية متضمنة للوثاقة والأمانة وذلك من خلال كلام
الإمام (علیه السلام) لابن بزيغ بعدم البأس إذا كان القيام بهذه المهمة - القيمومة - لمثلك أو مثل عبد الحميد يحتمل منه أن القيم مثلك عدة احتمالات:
(1) التماثل في المذهب.
(2) العدالة.
(3) الفقاهة لكون محمد بن إسماعيل بن بزيغ من الفقهاء ومن مشايخ ابن شاذان.
(4) مجرد الوثاقة.
ولا سبيل إلى الأول لأن القيام بهذه المهمة أحد طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يثبت ذلك لمن كان مؤمناً, كان الإيمان بالمعنى الأعم أو الأخص.
كما لا سبيل إلى الثاني العدالة بمعناها الاصطلاحي وهي (الملكة) فإن العمل على أساس ذلك المعنى يوقف الكثير من الأعمال, والعُرف لا يساعد على ذلك.
وهكذا الثالث لعدم اعتبار الفقاهة مجردة عن غيرها العدالة أو الوثاقة.
فيبقى الاحتمال الأخير وأن المراد من المثلية هو المثلية في الوثاقة, فالعُرف يرى أن المراد بتلك العدالة: الاستقامة والوثوق, لعدم الدليل على غيرهما, وأكّد هذا المعنى السيد السبزواري (قدس سره): (ولا دليل على تعيين العدالة, والمنساق العُرفي من الوثاقة والأمانة وإتيان العمل على طبق الوظيفة الشرعية) (1).
وتدل على ذلك صحيحة علي بن رئاب (قال: سألت أبا الحسن موسى, عن رجل بيني وبينه قرابة, مات وترك أولاداً صغاراً وترك مماليك وله غلمان وجواري ولم يوصِ,
ص: 43
فما ترى في من يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد ؟ ما ترى في بيعهم؟ قال: فقال: إن كان لهم ولياً يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم وكان مأجوراً فيهم, قلت: فما ترى في من يشتري منهم الجارية فيتخذها أم ولد؟ فقال: لا بأس بذلك إذا أنفذ ذلك القيم لهم الناظر في ما يصلحهم, وليس لهم أن يرجعوا في ما صنع القيم لهم الناظر في ما يصلحهم) (1).
فالصحيحة تحدد من خلال (الناظر في ما يصلحهم) عمله, وتقتضي وظيفته الشرعية كفاية الوثاقة والأمانة.
وأيضا تدل على الوثاقة: موثقة زرعة(2) عن سماعة (قال: سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية, وله خدم ومماليك وعقد(3)
كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا باس)(4).
وهذه الموثقة تدل صراحة على كفاية الوثاقة والأمانة في تصرف المتصدي لتلك الأعمال وهو الناظر, فتتشكل مجالس النواب من ثقات الأمة لحل قضاياها.
ص: 44
الدليل الرابع: دفع الأفسد بالفاسد.
وبهذه الأولوية يمكن تصحيح عمل المجالس النيابية التشريعية ضمن مقارنة بين أفضلية الحكم الدستوري بالحكم الاستبدادي, وتكون الدرجة الكسبية للحكم الدستوري الفساد عند مقارنته بحكومة الأنبياء مطلقا, أو حكومة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) خصوصاً(1).
وكما تدل عليه الآيات في ضمن مجموعات ثلاث:
المجموعة الأولى: ما تنص على وجوب إطاعة الرسول محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) مطلقا مثل قوله تعالى: ﴿ومَن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتولّ يعذبه عذاباً أليماً﴾(2).
المجموعة الثانية: الآيات التي توبّخ وتحذّر الذين يسلكون طريق عصيان الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) كقوله تعالى: ﴿ومَن يعصِ الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله
ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين﴾(3).
المجموعة الثالثة: الآيات التي تصرح بأن قضاء النبي الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وإطاعته أمر واجب في ظل حكومته وقضائه, نحو قوله تعالى: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا﴾(4).
ص: 45
أو مقارنتها - أي الحكومة الدستورية - بحكومة (أولي الأمر) في القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾(1).
فقد دلّت مصادر علماء الشيعة على أن (أُولي الأمر) هم الأئمة الاثنا عشر (علیهم السلام), أي الإمام علي وأبناؤه المعصومين (علیهم السلام) .
وبالإضافة إلى مفاد الآية فقد وردت آيات وروايات كثيرة في تفسير الآية كلها تثبت أن هذا التفسير نحو آية التصدق بالخاتم بقوله تعالى: ﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾(2), وغيرها من الآيات والروايات التي توافر عليها صاحب الميزان في تفسيره(3) والدالة على الولاية بمعنى الرئاسة والتصرف والقيادة المادية والمعنوية.
والأفسد من ذلك - أي من الحكومة الدستورية – حكومة الطواغيت والاستعباد والاستبداد المبني على الهوى والتحكم الشخصي في السلطة حيث يكون البديل الأفضل من حكومة الاستبداد هي الحكومة الدستورية المبنية على حلّ معضلة مشروعية الحاكم من خلال إيجاد دستور يحدد وظائف السلطان وكيفية إقامتها وعدم التدخل في غير ما يحدده الدستور إليه من وظائف, مضافاً إلى إنشاء هيأة مراقبة تراقب وتحاسب عمل السلطان عند انحرافه عن جادة الصواب.
ص: 46
وقد نبّه الميرزا النائيني (قدس سره) على تلك الصورة - دفع الفاسد بالأفسد - في معرض كلامه عن الظالم أو المستبد باعتلائه منصب الحكم حيث تكون المغصوبية لذلك المقام وفق منظورين:
أولاً: غصب مقام الإمامة حسب التصور الامامي, لأن هذا المنصب الرئاسي لا يشغله إلا إمام أو نائب للإمام.
ثانياً: غصب حقوق الآخرين وعدم إطلاق حرية الآخرين في الاعتراض, وإبداء الرأي ربما يحقق العدالة بين الناس بينما في ظل الحكومة الدستورية - المشروطة - تكون الغصبية لمقام الإمامة فقط.
قال (قدس سره): (وغاية ما يمكن إيجاده ونهاية ما يمكن تصوره اطراده كبديل بشري طبيعي عن تلك العصمة العاصمة – حتى مع مغصوبية المقام – هو حل يكون بمثابة المجاز عن تلك الحقيقة وظل تلك الصورة, ويتوقف الحل على أمرين)(1), وهما إيجاد دستور وأحكام المراقبة والمحاسبة.
الدليل الخامس: الحسبة, ويمكن استفادة تشكيل المجالس النيابية وشرعية ممارسة أعضائها من خلال أدلة الأمور الحسبية, والحسبة هي: (كل معروف عُلم إرادة وجوده في الخارج شرعاً من غير موجد معين)(2).
و(المعروف) الوارد في التعريف لا يراد منه المعروف الذي كان متعلقاً بالواجبات والمستحبات والمحرمات أو ما يتعلق بقضايا الأشخاص(3)
من قبيل القاصرين باليتم
ص: 47
أو الجنون, حيث دلّت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بأدلة خاصة أوجبته ووجهت المكلف إلى تلك الأمور بل المعروف المراد به في هذا المقام هو (الأمور التي يتوقف عليها انتظام حياة الجماعة والمجتمع, بحيث يعم أثرها إذا وجدت, ويعم ضرر فقدانها ولم يتوجه التكليف بها إلى شخص معين أو جماعة معينة, وإنما كلّف بالقيام لها من الأمة, ولو فقد القادرون والمؤهلون لوجب إعدادهم وتأهيلهم من باب الحسبة, ومن باب وجوب حفظ النظام)(1).
وهذا التكليف الموجه إلى الفرد أو الجماعة قائم حتى مع وجود المعصوم, إلا أن تطبيقه معلّق لأنه هو الحكم السياسي الفعلي, أما مع عصر الغيبة والقول بها, ذهب الشيخ شمس الدين (ت 1415ﻫ) من خلال أن ولاية الأمة على نفسها توجب للإنسان عادلا كان أم فاسقاً, ومن باب الحسبة التدخل في ما يتعلق بقضايا النظام العام في المجتمع, لأنها من الولايات الأصلية غير المتفرعة عن ولاية أحد إماماً كان أو فقيهاً أو غيرهما.
فتكون الحسبة شاملة لكل مورد فيه إيجاد للمعروف بمعناه المتقدم, وهي درجة تصل النوبة إليها مع تعذّر الحاكم العادل على رأس السلطة, أو كان موجوداً ولكن يتعذّر الوصول إليه حتى يرجع إليه.
والحسبة ثابتة مواردها بالكتاب والسنة والإجماع والعقل:أمّا من الكتاب فالعمومات نحو قوله تعالى: ﴿وأحسنوا إن الله يحب المحسنين﴾(2),
ص: 48
وقوله تعالى: ﴿ما على المحسنين من سبيل﴾(1), بعد معلومية التصدي من قبل نواب الأمة على أن عملهم هذا إحسان.
وأمّا من السنة فما دلّت عليه روايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتكون الحسبة داخلة تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن (المعروف) ما كان بالمعنى الثاني.
مضافاً إلى أن مشروعية الحسبة قد دلّ عليها الإجماع بقسميه - المحصّل والمنقول --, بل وبضرورة العقل الحاكم بوجوب حفظ النظام(2).
وعلى هذا تكون الحسبة مشروعاً آخر لتشكيل المجالس النيابية على غرارها, واختلفوا في المحتسب هل يكون من أهل الاجتهاد الشرعي أو العُرفي؟ على وجهين:
(أن يكون من أهل الاجتهاد العُرفي دون الشرعي, والفرق بينهما أن الاجتهاد الشرعي ما روعي فيه أصل ثابت ثبت حكمه بالشرع, والاجتهاد العُرفي ما ثبت حكمه بالعُرف لقوله تعالى: ﴿خذ العفو وأمر بالعُرف(3)﴾)(4).
قال الماوردي عن عمل المحتسب: (هو منصوب لإزالتها - أي المنكرات - واختصاصها بمعروف بيّن هو مندوب إلى إقامته, لأن موضوع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها)(5).
ص: 49
بل استطاع الميرزا النائيني (قدس سره) من خلال الحسبة التأسيس لمشروعية السلطة في عصر الغيبة إضافة إلى سلطتها, حيث عدّ الحسبة من الواجبات الكفائية التي لا تسقط في أي حال حتى لو لم يتمكن الفقيه - باعتباره نائباً عن الإمام (علیه السلام) - منها أو عدم قيامه بها, خصوصاً عناصرها المهمة مثل حفظ نظام الأمة وحفظ بيضة الإسلام فإن هذه واجبات لا تسقط عن بقية المسلمين(1).
هذا أهم ما يمكن الاستدلال به لمشروعية إقامة المجالس النيابية من غير الفقهاء بالأدلة العامة بعد أن كان هذا النظام مستحدثاً في أنظمة بناء الدولة الحديثة.
ص: 50
1- القرآن الكريم.
2- أجوبة المسائل الحاجبية, الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد (قدس سره) ت (413ﻫ)، تحقيق: على اكبر الخراساني، مجمع البحوث الاسلامية: بيروت، الطبعة الاولى: 1414ﻫ.
3- الاحكام السلطانية والولايات الدينية، علي بن محمد بن حبيب الماوردي ت (450ﻫ)، دار الكتب العلمية: بيروت، الطبعة الأوّلى.
4- اساس الحكومة الاسلامية، السيد كاظم الحائري: مطبعة الطهور: ايران، الطبعة الثانية: 1427ﻫ.
5- الاسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر (قدس سره): مؤسسة الهدى الدولية للنشر، ايران، الطبعة الاولى: 1421ﻫ.
6- اصول الفقه، الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره) ت (1388ﻫ)، مؤسسة النشر الاسلامي: قم المقدسة.
7- الأصول من الكافي, الشيخ ابي جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الرازي الكليني (قدس سره): ت (329ﻫ)، تحقيق: علي اكبر الغفاري، مطبعة: حيدري، الطبعة الخامسة: طهران: 1363ش.
8- اكمال الدين واتمام النعمة، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق (قدس سره) ت (381ﻫ)، تحقيق: علي اكبر الغفاري، 1405ﻫ، نشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.
ص: 51
9- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره)، مطبعة ستارة: قم، ط1، 1428ﻫ.
10- بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي (قدس سره) ت (111ﻫ), مؤسسة الوفاء: بيروت، الطبعة الثانية: 1983م.
11- بلغة الفقيه, السيد محمد بحر العلوم (قدس سره) ت (1326ﻫ)،، تحقيق السيد حسين بحر العلوم (قدس سره)، منشورات مكتبة الصادق، طهران، الطبعة الرابعة: 1403ﻫ.
12- تأريخ الشيعة.
13- التبيان في تفسير القرآن، ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) ت (460ﻫ)، مطبعة مكتب الاعلام الاسلامي: قم المشرفة الطبعة الأولى: 1409ﻫ.
14- التقريرات الأصولية لسماحة السيد محمد باقر السيستاني دامت إفاداته (الدورة الأولى: مخطوط).
15- تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة، الميرزا النائيني (قدس سره), تعريب: عبد الحسن ال نجف، تحقيق: عبد الكريم ال نجف، مطبعة سبهى، ط1، 1419ﻫ.
16- التنقيح في شرح العروة الوثقى, الشيخ علي الغروي (قدس سره), كتاب الاجتهاد والتقليد، تقريرات بحث آية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي (قدس سره)، الناشر: دار الهادي للمطبوعات: قم، الطبعة الثالثة: 1410ﻫ.
17- تهذيب الاحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد (قدس سره)، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) ت (460ﻫ)، مطبعة خورشيد: طهران، الطبعة الرابعة: 1406ﻫ.
18- جامع الرواة وازاحة الاشتباهات عن الطرق والاسناد، الشيخ محمد بن علي الاردبيلي ت (1101ﻫ): منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1403ﻫ.
ص: 52
19- جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام (الجواهر)، الشيخ محمد حسن النجفي (قدس سره) ت (1266ﻫ): دار الكتب الاسلامية: طهران، الطبعة الثانية: 1407ﻫ.
20- الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني (قدس سره) ت (1186ﻫ)، مطبعة دار الأضواء: بيروت، الطبعة الثالثة: 1993ﻫ.
21- الحقوق والسياسة في القرآن, الشيخ مصباح يزدي، دار التعارف للمطبوعات: بيروت، الطبعة الاولى: 1421ﻫ.
22- الحكومة الاسلامية, السيد روح الله الخميني (قدس سره) ت (1410ﻫ)، الطبعة الرابعة، قم المقدسة.
23- رسائل الكركي، المحقق علي بن الحسين الكركي (قدس سره) ت (940ﻫ), تحقيق الشيخ محمد الحسون، اشراف: السيد محمود المرعشي، الطبعة الاولى، 1409ﻫ، مطبعة: الخيام، الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي: قم.
24- رياض المسائل، السيد علي الطباطبائي (قدس سره)، ت (1231ﻫ): مطبعة دار الهادي: بيروت، الطبعة الاولى: 1992ﻫ.
25- الشافي في الامامة، السيد المرتضى (قدس سره), تحقيق: السيد عبد الزهرة الخطيب، مطبعة شريعت: طهران، ط2: 1426ﻫ.
26- شرائع الاسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقق نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي (قدس سره)، ت (676ﻫ): مطبعة أمير: قم المقدسة، الطبع الثانية: 1409ﻫ.
27- عوائد الايام, الشيخ احمد بن محمد النراقي (قدس سره) ت (1245ﻫ), تحقيق مركز الابحاث والدراسات الاسلامية، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي، الطبعة الاولى: 1417ﻫ.
ص: 53
28- الغيبة، محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) ت (460ﻫ)، تحقيق: الشيخ عبد الله الطهراني، الطبعة الاولى، 1411ﻫ، المطبعة: بهمن، نشر: مؤسسة المعارف الاسلامية: قم المقدسة.
29- الفقيه والدولة, فؤاد ابراهيم، دار احياء التراث: بيروت، ط1: 2010م.
30- في الاجتماع السياسي, الشيخ محمد مهدي شمس الدين (قدس سره)، دار الهادي: بيروت، الطبعة الثانية، 1419ﻫ.
31- قاعدة لا ضرر ولا ضرار, السيد علي السيستاني (دام ظله العالي), مطبعة: مهر، قم المقدسة، ط1، 1414ﻫ.
32- القاموس القانوني الثلاثي, موريس نحلة، روسي البلجيكي، صلاح مطر: منشورات الحلبي الحقوقية: بيروت، الطبعة الاولى: 2002م.
33- كتاب معالم القربة في احكام الحسبة, محمد احمد القرشي ت (1329ﻫ)، تحقيق: د. محمد محمود شعبان واحمد المطبعي، المطبعة المصرية العامة: مصر، الطبعة الاولى: 1976.
34- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التأويل، جار الله محمود الزمخشري ت (538ﻫ)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي: مصر: 1966م.
35- لسان العرب، جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور ت (711ﻫ)، دار الكتب العالمية: بيروت، الطبعة الاولى: 2005م.
36- مجمع البيان في تفسير القرآن, الطبرسي (قدس سره) .
37- مستند الشيعة في احكام الشريعة, الشيخ احمد بن محمد النراقي (قدس سره) ت (1244ﻫ)، مطبعة ستارة: قم المقدسة، الطبعة الاولى: 1415ﻫ.
ص: 54
38- مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، محمد جواد الحسيني العاملي (قدس سره) ت (1226ﻫ)، مطبعة مؤسسة النشر الاسلامي: قم المقدسة، الطبعة الاولى: 1419ﻫ.
39- المفردات في غريب القرآن (المفردات)، ابي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني ت (502ﻫ)، الناشر: دفتر نشر الكتاب، قم، الطبعة الثانية: 1404ﻫ.
40- مقاربات استدلالية في الفقه المقارن, د. عبد الامير زاهد، دار الضياء للطباعة والنشر: النجف الاشرف، الطبعة الاولى، بلا.
41- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين, علي بن اسماعيل الاشعري ت (324ﻫ)، دار نشر فرانز ستانيز: قيسبادان، الطبعة الثالثة: 1400ﻫ.
42- المكاسب المحرمة، السيد روح الله الخميني (قدس سره)، ت (1410ﻫ): مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر: قم المشرفة، الطبعة الثالثة: 1410ﻫ
43- المكاسب المحرمة، الشيخ مرتضى الانصاري (قدس سره) ت (1281ﻫ), مطبعة باقري: قم المقدسة، الطبعة الاولى: 1415ﻫ.
44- ملكية الدولة, جعفر الحكيم واحمد الماحوزي, محاضرات الشيخ محمد السند، دار الغدير: قم، الطبعة الاولى: 1423ﻫ.
45- مهذب الاحكام في بيان الحلال والحرام، السيد عبد الاعلى السبزواري ت (1414ﻫ): مطبعة الآداب: النجف الاشرف، 1977م.
46- الميزان في تفسير القرآن, السيد محمد حسين الطباطبائي (قدس سره) .
47- النصوص الواردة عن سماحة السيد السيستاني (دام ظله العالي) في المسألة العراقية، حامد الخفاف, دار المؤرخ العربي: بيروت، ط1، 2006.
ص: 55
48- نظام الحسبة في الاسلام بين التنظير والتطبيق, موسى نصار، مطبعة دار الهادي: بيروت، الطبعة الاولى: 1423ﻫ.
49- نظام الحكم والادارة في الاسلام، الشيخ مهدي شمس الدين (قدس سره)، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر: بيروت، الطبعة السابعة: 1420ﻫ.
50- نظرية الحكم في الفقه الشيعي, محسن لكديفر، ترجمة دار الجديد: بيروت، الطبعة الاولى: 2000م.
51- نظرية الدولة الاسلامية الحديثة, علي المؤمن: كتاب النكاح، كتاب المنهاج مجموعة من الباحثين: الدين والسياسة، الغدير للطباعة والنشر، الطبعة الاولى: 1424ﻫ.
52- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى (النهاية)، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره)، ت (460ﻫ): مطبعة قدس محمدي: قم المقدسة.
53- نهج البلاغة, خطب الامام علي ت (40ﻫ)، شرح الشيخ محمد عبده مطبعة النهضة: قم المقدسة، الطبعة الاولى: 1412ﻫ.
54- وسائل الشيعة في تحصيل الشريعة (الوسائل)، محمد بن الحسن الحر العاملي (قدس سره) ت (1014ﻫ)، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لأحياء التراث: قم المقدسة، الطبعة الثانية: 1414ﻫ.
55- ولاية الفقيه العامة في الميزان, محمد جميل العاملي، مطبعة مركز العترة للدراسات والبحوث: بيروت، الطبعة الاولى: 1424ﻫ.
ص: 56
دراسة مقارنة بين المذاهب الفقهية الإسلامية وقانون العقوبات العراقي الخاص.
يمكن أن تُعرّفنا بالتشريع الجنائي الإسلامي ومدى مواكبته مع المستحدثات ووقائع العصر, وتبيّن مدى ارتكاز قانون العقوبات العراقي عليه أو مفارقته بالكامل.
كما ويتضح من خلالها إنْ كان قانون العقوبات العراقي قد جعل التشريع الجنائي الإسلامي مصدراً اساسياً في تشريعاته, ليكون مطابقاً لما نص عليه الدستور العراقي الجديد في م/2 أم لا؟
ص: 57
ص: 58
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الذي أنار للمؤمنين سبل دينه, ووفق الصالحين للسير على منهاج شريعته, والصلاة والسلام على أفضل سفرائه وخاتم أنبيائه وأشرف بريته محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وعترته (علیهم السلام) بما أجزلوا من أنوارهم بإكمال الدين بالشريعة الإسلامية السمحاء التي شرعت للفرد المسلم كلّ ما يحتاج إليه في عباداته ومعاملاته وسائر تروكه وأفعاله برؤية إسلامية لتحقيق السعادتين الدنيوية والأخروية.
فاختص علم الفقه بتشريع الأحكام لجميع ما يحتاج إليه الإنسان حتى أصبح الفقه أبوابا عديدة ومتنوعة من العبادات لتنظيم علاقة الفرد بربِّه والمعاملات لتنظيم علاقة الفرد بغيره بالعقود والإيقاعات والحدود والديات لتنظيم المجتمع وفرض العقوبات على من خالف وارتكب المحرمات.
وحينما كنت أدرس الجزء التاسع من اللمعة الدمشقية في الحوزة العلمية في كتاب الحدود والديات رأيت أن هذا الكتاب يصلح أن يكون قانونا ينظم شؤون المجتمع الإسلامي ويحد من ارتكاب الجرائم الخطيرة التي تحصل في المجتمع, من خلال فرض عقوبات قاسية على مرتكبيها, إلا أنه يحتاج بعض اللمسات الفنية القانونية لإخراجه بما يتلائم ومصطلحات القانون الحديث ويواكب التطور الحاصل في المجتمعات العصرية.
ولأجل هذا وغيره انقدح في نفسي حدساً أن الممازجة والتركيب والمقارنة بين
ص: 59
الدراستين يمكن أن يكون تشريعا اسلامياً إن لم يكن أفضل من التشريعات التي بين أيدينا فهو مساوق لها بالإضافة إلى كونه خطوة متقدمة ورصيداً حضارياً للعلوم الإسلامية وغير منقول من العلوم الأخرى ولا مستنداً إلى شرائع أُخَر غريبة عن المسلمين بل إنه يرتكز على الشريعة الإسلامية الموحاة منه تعالى.
ويعدّ أيضاً خطوة إلى الأمام لمن أراد البحث والتطوير في جنبة من جنبات الفقه الإسلامي مهمة في الدراسات القانونية, ألا وهي القتل العمد, كونه أقدم الجرائم التي ارتكبها الإنسان حيث ارتكبها قابيل ضد أخيه هابيل منذ بدء الخليقة وهو من أبشع الكبائر في جميع الشرائع السماوية والوضعية, وكان القاتل قديماً عرضة للعقوبات القاسية, وإن اختلفت رؤاها من حيث تحديد جريمته وما يستحق من القصاص، سواء كان ذلك في الشريعة الإسلامية أم في ما تقدمها كشريعة حمو رابي أو الشرائع الفرعونية أو القانون الروماني.
فاختياري لموضوع (القتل العمد) على أنه دراسة مقارنة بين المذاهب الفقهية الإسلامية وقانون العقوبات العراقي ما هو إلا مثال لما ذكرته آنفاً.
ثم انه يمكن أن يعرّفنا بالتشريع الجنائي الإسلامي ومدى مواكبته مع المستحدثات ووقائع العصر, ويبيّن مدى ارتكاز قانون العقوبات العراقي عليه أو مفارقته بالكامل.
كما يتضح من خلاله إنْ كان قانون العقوبات العراقي قد جعل التشريع الجنائي الإسلامي مصدراً اساسياً في تشريعاته, ليكون مطابقاً لما نص عليه الدستور العراقي الجديد في م/2 أم لا؟
وكلّ ذلك ضمّنته من خلال تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة, وكلّ فصل يتكون من ثلاثة مباحث, والمباحث تتضمّن موضوعات على النحو الآتي:
ص: 60
1- التمهيد: حيث وضّحت فيه (القتل) لغةً وشرعاً وقانوناً, ثمَّ معنى (العمد) لغةً وشرعاً وقانوناً, ثمَّ معنى (القتل العمد) لغةً وشرعاً وقانوناً.
2- الفصل الأول: (القتل العمد) في المذاهب الفقهية الإسلامية.
3- الفصل الثاني: (القتل العمد) في قانون العقوبات العراقي الخاص.
4- الفصل الثالث: المقارنة بين (القتل العمد) في المذاهب الفقهية الإسلامية وقانون العقوبات العراقي الخاص.
5- الخاتمة: ذكرتُ فيها النتائج التي توصلتُ إليها من خلال البحث.
وسيجد القاريء في هذا العدد من المجلة الحلقة الأولى من ثلاث حلقات قسّمتُ البحثَ بفصوله إليها.
هذا, وأدعو إخواني الباحثين إلى الإهتمام ببحثي وتطويره إلى ما يسدّ به كلّ خلّة فيه, وأعتذر إلى الله تعالى أولاً, وإلى أساتذتي في الفقه ثانياً, عن كلِّ تقصيرٍ فيه.
هذا واللهَ سبحانه وتعالى أسأل أنْ أكون قد وُفقتُ في بحثي هذا مِنْ تحقيق الغاية المرجوة منه, وأسأله تعالى أن يبارك لي في هذا المجهود المتواضع, وأن يخرجني من ظلمات الوهم, ويدخلني في نور الفهم, ويمنّ علينا بظهور محيي الشريعة قائم العصر والزمان الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) ليجمع بهداه شتاتنا ويوحّد مذاهبنا ويؤلف بين قلوبنا فننتصر على أعداء الله أعدائنا أعداء الإنسانية إنه اللطيف المنان, والحمد لله رب العالمين.
ص: 61
الدراسات المقارنة عادة ما تنقّح المصطلحات قبل الخوض في غمار المسائل وتحقيقها, وذلك لأهميته في التفريق بينها وكشف حقيقتها ودقة معانيها, ونحن في بحثنا عن (القتل العمد) في الفقه الإسلامي وقانون العقوبات العراقي نحتاج إلى معرفة المقصود منه عند كلا الفريقين, ليتسنى لنا دراستهما والمقارنة بوضوح بينهما.
ولأجل ذلك سوف نبحث في (القتل) لغةً واصلاحاً, و(العمد) لغةً واصطلاحاً, ثمَّ نبحث عن المقصود من (القتل العمد) عند الفريقين تمهيداً للخوض في مسائله وموضوعاته وأنواعه وتقسيماته:
أ- القتل معروف(1)
قتله قتلاً وتقتالاً وقتله قتلة سوء.
استقتل, أي: استمات, وامرأة قتول, أي: قاتلةٌ.
قال الشاعر:
قتول بعينيها رمتك وإنما *** سهام الغواني القاتلات عيونها
والموت أعم من القتل؛ لأنه أحد أسبابه: والموت ما بحتف الأنف, أي الموت
الطبيعي, وهو مفارقة الروح للجسد, والقتل هو خلافه وسبب منه.
ص: 62
قتلهِ- قتلاً- وتقتالاً أماته فهو قاتل والجمع قاتلون وقَتَلة- وقتال يقال قتل بأخيه أي قتله منتقماً لأخيه.
والمزهِقٌ: القاتل.
والمزهَقٌ: المقتول.
زهقت نفسه تزهق زهوقاً أي خرجت(1).
قتله أذا أماته بضرب أو حجر أو سم.
ب- القتل معروف(2)
قَتَله يقتله قَتْلاً وتَقتالاً.
القتل في الاصطلاح (تارة) في الاصطلاح الفقهي, (وأخرى) في الاصطلاح القانوني, وسوف نبحث في المصطلحين على النحو الآتي:
أ- القتل في المصطلح الفقهي:
الفقه الإمامي الجعفري يذهب إلى أن القتل هو إزهاق الروح(3),
ويصدق على إزهاق النفس الإنسانية عند قتل إنسان أو إزهاق النفس الحيوانية عند قتل حيوان.
ومعنى إزهاق النفس, هو: إخراجها من ما تعلّقت به وهو البدن؛ لأن النفس تتعلّق بالبدن تعلق تدبير أي تدبّر أموره جميعها فهي كلّ القوى الموجودة في البدن.
وأمّا بقية المذاهب فالظاهر أن القتل عندهم هو إفاضة النفس سواء عند مالك أم غيره من أئمة المذاهب, وذلك عند تعريفهم للقتل العمد (يضربه حتى تفيض
ص: 63
نفسه) (1).
الظاهر أن إفاضة النفس وإزهاق الروح يؤديان نفس المعنى في الاصطلاح الفقهي, وإن كان في فن المعقول اختلافٌ بين معنى النفس ومعنى الروح بالدقة الفلسفية, إلا أن المشهور أيضاً عندهم هو أن النفس والروح بمعنى واحد والاختلاف بينهما رتبي, وأما عند الفقهاء فإنهما بنفس المعنى؛ وذلك لأنهم يعبّرون بالنفس أو بالروح ويقصدون الموجود المعنوي الذي بخروجه يفقد البدن الحياة, وتخرج منه الروح أو النفس؛ وذلك لأن معنى الإفاضة والإزهاق هو الخروج كما في اللغة العربية, وزهقت نفسُه تزهق زهوقاً: أي خرجت(2)
وزهقت نفسه تزهق زهوقاً وزهقت, لغتان: خرجت وزهقت هلكت والمزْهِق: القاتل والمزْهَقُ: المقتول(3)وفاض الرجل يفيضُ فيضاً وفيوضاً: مات وكذلك فاضت نفسه: أي خرجت روحه(4).
وفاضت نفسه تفيض فيضاً خرجت(5).
ومن هنا نعرف أنه لا فرق بين قول الإمامية (إزهاق الروح) وقول بقية المذاهب (تفيض نفسه), فمعنى الازهاق والإفاضة في اللغة هو الخروج، ومعنى النفس والروح في فن المعقول - على المشهور- نفس الموجود مع وجود فارق عند بعضهم(6), ونحن
ص: 64
هنا نريد ما هو المقصود من (القتل) عند الفقهاء, وليس ما عند الفلاسفة, وعليه فالتعريفان يؤديان نفس المعنى, ولذلك نرى بعضهم يعرّف (القتل) في الشريعة الإسلامية وهو هنا ناظر إلى المذاهب الأربعة مع قطع النظر عن المذهب الجعفري - أي أنه ناظر إلى قولهم (تفيض نفسه)- ورغم ذلك فإنه يقول: (يعرّف القتل في الشريعة.. أي أنه إزهاق روح آدمي بفعل آدمي آخر)(1).
فالنتيجة: أن معنى (القتل) عند الطائفتين هو إزهاق الروح كما في اللغة.
ب- القتل في اصطلاح القانون العراقي:
قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 وتعديلاته لم يُشِر إلى معنى القتل وما المقصود به عندهم إلا أن الأمر ليس فيه صعوبة من هذه الناحية.
إن قانون العقوبات لم يبيّن نوع هذا الفعل ولم يحدد صفاته فهو إذاً قد يكون فعلاً أو امتناعاً لا نعلم ذلك؛ لأن القانون العراقي ساكت عنه, وهو فعل غير محدد, لا بطبيعته, ولا بوسيلته.
إلا أننا لو رجعنا إلى شرّاح قانون العقوبات العراقي أو غيره لوجدناهم يعبّرون عن القتل بأنه: (إزهاق الروح), بل ادعى بعضهم الإجماع على ذلك.
يقول بعضهم: (إذن يكفي في قصد القتل.. أن يكون إزهاق الروح هو الغاية.. فالإقدام على الفعل مع العلم اليقين بأنه يرتب النتيجة إزهاق الروح)(2).ويقول آخر: (فالإجماع على أن كل إزهاق لروح إنسان.. يدعى قتلاً)(3).
ص: 65
ويقول ثالث: (أمّا عن القَتْل كفَعْل, فهو: كل إزهاق للروح)(1).
ومن هنا نعرف أن القتل في المصطلح القانوني يُقصد به (إزهاق الروح) كما يصطلح عليه في الفقه.
فالنتيجة: أن معنى (القتل) متطابق لغة وشرعاً وقانوناً.
وعمدت للشيء أعمده عمداً: قصدت له(2),
أي: تعمدت, وهو نقيض الخطأ, وفعلت ذلك عمداً على عين وعمد عين أي بجد ويقين, فالعمد في اللغة هو القصد, والقصد هو استقامة الطريق فهو قاصد.
وهو أيضاً على نحوين, الأول في المصطلح الفقهي, والآخر في المصطلح القانوني:
الشهيد الثاني (قدس سره) (1) ومن تبعه, حيث قال: (وينبغي قيد"العاقل" ايضاً)(2).
وذهب السيد الخوئي (قدس سره) الى أنه: (يتحقق العمد بقصد البالغ العاقل)(3).
والفريق الأوفق للغة هو ما ذهب إليه بعض الفقهاء, حيث ذهب إلى أن العمد هو القصد من دون اعتبار القيدين: البالغ والعاقل, كالمحقق (قدس سره) (4),
الذي يعد (العمد) متقوماً ب-(القصد) سواء صدر من البالغ أم الصبي, من المجنون أم العاقل, والقصد يصدر من الصبي والمجنون, وأما كونهما غير مشمولين بالقصاص فهذا أمر آخر, فنحن هنا نبحث عن معنى العمد, لا العمد الموجب للقصاص.
إذن فمع قطع النظر عن القصاص يكون معنى (العمد) هو (القصد), وأما إضافة (البالغ) أو (البالغ العاقل) فذلك لأجل القصاص وإخراج الصبي والمجنون, حيث إنهما غير مشمولين بالقصاص لأن عمدهما وخطأهما واحد؛ لما ورد عن أمير المؤمنين
(علیه السلام) حيث جعل عمد المجنون وخطأه سواء, كما في خبر إسماعيل بن زياد عن أبي عبد الله (علیه السلام): (إن محمداً بن أبي بكر كتب إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) يسأله عن رجل مجنون قتل رجلاً عمداً, فجعل الدية على قومه وجعل خطأه وعمده سواء) (5).
ولما ورد عن
ص: 67
الإمام الصادق (علیه السلام) في صحيح ابن مسلم عنه (علیه السلام): (عمد الصبي وخطؤه واحد) (1).
والنتيجة: أن معنى (العمد) - مع غض النظرعن كونه موجباً للقصاص- عند
بعض الإمامية هو (القصد) وبذلك يوافق اللغة.
وأما بقية المذاهب: فالظاهر أن معنى (العمد) عندهم هو (القصد) كما في اللغة.
قانون العقوبات العراقي لم يذكر نصاً خاصاً بمعنى كلمة (العمد) الواردة في نصوصه ولكنه في المادة (33) عقوبات(2) عَرّف القصد الجرمي, والقصد الجرمي هو الركن الأساسي والمعنوي للقتل العمد, فالقصد الجرمي هو الذي يحدد كون هذا القتل عمداً أو خطأً, فإذا تحقق القصد الجرمي تحقق القتل العمد, ومن هنا يمكن استفادة معنى (العمد) من تعريف القصد الجرمي والقصد الجنائي الذي يعدّ هو المدار في كون الجريمة عمدية أو لا؟
المادة (33) عقوبات: (القصد الجرمي: هو توجيه الفاعل إرادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة هادفاً إلى نتيجة الجريمة التي وقعت أو أية نتيجة جرمية أخرى) (3).
وكذلك القصد الجنائي الذي هو القصد الجرمي لا تعريف له إلا ما ذكرته المادة (33) عقوبات أعلاه, حيث إن القصد الجنائي ينقسم إلى عام وخاص, والعام هو إرادة السلوك الإجرامي ونتيجته والعلم بهما, وهذه العناصر هي التي يتقوّم بها العمد في
ص: 68
الجرائم العمدية, وبتوفر هذه العناصر - وهي إرادة السلوك الإجرامي ونتيجته والعلم بهما- يتكون القصد الجنائي العام وهو العمد في جرائم العمد سواء القتل أم الضرب أم الجرح أم هتك العرض.
فالعمد في (القتل العمد) هو توفر هذه العناصر, وما لم تتوفر هذه العناصر لا يتحقق العمد, وعليه فالقصد الجنائي العام هو العمد(1), والقصد الجنائي هو القصد الجرمي, وعليه فتعريف القصد الجرمي هو تعريف للعمد ولكن ليس مطلقاً, بل العمد الذي يصدق عليه في الجريمة, وعليه ف-(العمد) مع قطع النظر عن الجريمة هو (القصد) سواء كان جنائياً أم جرمياً أم غيره.
ويمكن استنتاج ذلك من خلال تعريفات القانون العراقي لأقسام وأنواع القصد حيث ذكر في المادة 33 فقرة 4 سبق الإصرار: (ويتحقق سبق الإصرار سواء كان قصد الفاعل من الجريمة موجهاً إلى شخص معين أو إلى أي شخص غير معين وجده أو صادفه وسواء كان ذلك القصد معلقاً على حدوث أمر أو موقوفاً على شرط)(2).
ويعرّفه قانون العقوبات العراقي بأنه: (التفكير المصمم..)(3).
أي يتوقف تحقق سبق الإصرار على القصد, بينما يعرّفون القصد البسيط بأنه اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الواقعة المحرمة مع علمه بذلك.
ولذلك ترى أن قانون العقوبات العراقي م/33 فقرة 2 يقسّم القصد: (القصد قد
ص: 69
يكون بسيطاً أو مقترناً بسبق الإصرار) (1).
وعليه يمكن القول بأن قانون العقوبات العراقي مسلّم بأن (العمد) هو (القصد), ولذلك يلجأ إلى تقسيم (القصد) إلى (بسيط) و(مع سبق الإصرار والترصد).
ونحن نريد (العمد) بغض النظر عن الجريمة العمدية, فنقول: إن (العمد): هو (القصد) كما في اللغة بحسب ما يظهر من تعريفات قانون العقوبات العراقي.
فالنتيجة: أن معنى (العمد) واحد في اللغة والفقه الإسلامي والقانون العراقي, وكذلك (القتل).
فهل (القتل العمد) أيضاً كذلك أو لا؟
سوف يأتي تفصيل ذلك في المبحث الآتي.
المواضيع السابقة بيّنت لنا معنى (القتل) في اللغة والشرع والقانون, وأن المقصود به عند الجميع واحد, وهو (إزهاق الروح) أو (إفاضة النفس) بمعنى إخراجها مما تعلقت به, ثم بيّنا أنَّ المقصود من معنى كلمة (العمد) واحد في اللغة و الشرع و القانون, فإنه يأتي بمعنى (القصد) وهذا ليس هو المقصود بذاته وإنما هو مقدمة للبحث عن معنى (القتل العمد) أي اقتران الكلمتين ليعطيا معنى واحداً ومقصوداً فارداً, فهل معناهما مقترنين هو معناهما نفسه مفترقين أم أن معناهما يختلف عند اقترانهما أو انه في اللغة واحد وفي غيره مختلف أو انه كذلك؟
فالبحث يعتمد على معرفة المقصود منهما مقترنتين, لا متفرقتين, فما يترتب من
ص: 70
القصاص على (القتل العمد) ما يشمله هذا المصطلح من مصاديق وما يصدق عليه من موارد, وكذلك ما يترتب عليه من عقوبات في قانون العقوبات العراقي, فلابد من البحث الدقيق في المقصود ب-(القتل العمد) سواء في اللغة أم في الفقه أم في القانون إلا أننا سوف ندقق فيه من الناحية الفقهية والقانونية فحسب ليتسنى لنا المقارنة بينهما على نحو أوسع وعلى النحو الآتي:
القتل (المصدر), القتل العمد: ما كان مقصوداً(1).
القتل الخطأ: ما كان غير مقصود.
وعليه فإزهاق الروح أو مفارقة الروح للجسد إذا كان مقصوداً فهو (القتل العمد), وإذا كان غير مقصود فهو (القتل الخطأ), ف-(القتل العمد): هو إزهاق الروح بقصدٍ, سواء صدر من بالغ أم صبي وسواء كان مجنوناً أم غافلاً وسواء كان بسبق الإصرار أم بدونه فهو قتل عمد.
و(القتل الخطأ) هو إزهاق الروح بغير قصد, سواء كان من بالغ أم صبي مجنون أم عاقل. وذلك لأن هذه الأمور خارجة عن اختصاص اللغة.
الفقه الإسلامي يختلف بحسب اختلاف المذاهب الفقهية الإسلامية في اجتهاداتها وأدلتها ورؤاها, ومن هنا كان لزاماً أن نتعرف على المقصود ب-(القتل العمد) عند أشهر المذاهب الفقهية الإسلامية, وهي الإمامي والمالكي والحنفي والشافعي والحنبلي,
ص: 71
ونكتفي بذكر المقصود عند هؤلاء على أنهم يمثلون الفقه الإسلامي عند عامّة المسلمين من جهة, وعلى أنهم مرجع في الأحكام القضائية الإسلامية من جهة أخرى, وكما يأتي:
الفقهاء في المذهب الإمامي يعرّفون (القتل العمد) بأنه: إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً وعدواناً(1).
هذا هو التعريف المشهور عندهم, في حين يذهب بعض آخر إلى أن (القتل العمد) هو قتل النفس المحترمة المكافئة عمداً وعدواناً(2).
والفرق بين التعريفين واضح, وهو أن التعريف المشهور هو الأول يذكر تعريف القتل بقوله (إزهاق النفس) بينما التعريف الثاني يقول (قتل النفس), ولا فرق حينئذ بين التعريفين سواء عُبِّر ب-(القتل) أم (إزهاق النفس) فكلاهما نفس المعنى؛ لأن (القتل) كما قلنا في اللغة والفقه والقانون يعني (إزهاق الروح), فهذا الفرق ليس اختلافاً بين التعريفين, وإنما يعدان شيئاً واحداً؛ لأنهما عبارة عن الكلمة وتعريفها الذي يحل محلها.
الجهة الثانية: جاء في التعريف الأول التعبير ب-(النفس المعصومة), وفي التعريف الثاني التعبير ب-(النفس المحترمة).
والعصمة أوضح من الاحترام للنفس وإن كانا يؤديان المعنى نفسه, وهو عدّ النفس التي لا يجوز الاعتداء عليها, إلا أن المعصومة مأخوذ من العصم, وهو المنع, بمعنى أنه لا يجوز أو أنه يمنع إتلافها وسلبها الحياة, فتخرج النفس غير المعصومة عند
ص: 72
المسلمين كالكافر الحربي والمحارب واللص ونحوها, والمعصومة ما لا يباح إزهاقها للكل, فغير المعصومة أعم من أن تكون بالأصل كالكافر الحربي أو بالعرض كما في حالات القصاص وغيره, وهذا المعنى يمكن أنْ يُؤدى بقولك المعصومة أو المحترمة التي تقابل مهدور الدم, فالمحترمة هي المحقونة الدم في مقابل غير المحترمة كنفس المرتد والزاني واللائط وغيرهم ممن هدر دمه. وعلى هذا فمعنى المعصومة يساوق معنى المحترمة, وبالتالي عدم جواز قتلها والمنع منه, فلا فرق واضحا بين التعبيرين.
ولذلك سوف نركّز في الفصل الأول عند توضيحنا لفقرات التعريف على تعريف المشهور وهو التعريف الأول.
التعريف المشهور عند المذاﻫب أن القتل العمد (هو أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه المعصومة المكافئة الحية الآدمية على وجه العدوان)(1).
وهذا القيد الأخير - وهو على وجه العدوان- معتبر عند مالك وأما بقية القيود في التعريف فهي موضع وفاق إلا أن الخلاف وقع في تحققها.
فمثلاً قوله (المكافئة) ترى المذاهب أنها تتحقق بالحرية والإسلام, أما قيد (المعصومة) فانه يتحقق بالإسلام والأمان عند مالك والشافعي وأحمد وأما أبو حنيفة فعنده العصمة هي عصمة الدار ومنعة الإسلام والأمان.
والفرق هو أن الدار إذا كانت دار حرب فلا عصمة فيها, وإذا كانت دار سلم فالعصمة فيها.
ص: 73
ونكتفي بهذا القدر من التعريف ب-(القتل العمد), ولنا جولة أخرى لتوضيح فقراته في الفصل الأول إن شاء الله تعالى.
قانون العقوبات العراقي لم يعرّف القتل العمد في نصوصه ولكنه ذكر عقوبته مباشرة, وهذا لا يثير أية صعوبة في التعريف لأننا نرى أن المشرّع العراقي يعدّ القتل العمد من المسلّمات, بل ادعى بعض الشرّاح: أن تعريف القتل العمد مجمع عليه, فقال: (فالإجماع على أن كل إزهاق لروح إنسان تعمداً يدعى قتلاً عمداً)(1).
والظاهر أن هذا التعريف ليس مجمعاً عليه عند شرّاح القانون العراقي فحسب, بل ترى شرّاحاً آخرين لقانون العقوبات القسم الخاص لبلدان أخرى يعرّفونه بالتعريف نفسه أيضاً, فيقولون: (القتل العمد هو إزهاق روح إنسان حي عمداً بفعل إنسان آخر وبدون وجه حق)(2).
في حين يذكر القانون الفرنسي في مادته 295- تعريفاً للقتل العمد ضمن نصوصه (إزهاق الروح المرتكب ارادياً يوصف بالقتل العمد) (3).
باعتبار أن القصد هو توجّه الإرادة نحو الشيء .
ويعلّق على هذا النص أحدُ الشراح, فيقول: (فهذا تعريف دقيق للقتل العمد (الاعتداء الارادي والباغي على حياة الإنسان بفعل إنسان آخر))(4).
ص: 74
ومن هنا نستطيع القول: إن المشرع العراقي لم يذكر تعريفاً خاصاً بالقتل العمد ولكنه ذكر الأركان الأساسية المكوّنة للقتل العمد بقوله م 405: (من قتل نفساً عمداً يعاقب بالسجن المؤبد أو المؤقت)(1).
فيلزم لقيام جريمة القتل العمد ثلاثة أركان, وهي:
1- وقوع عمل مادي هو فعل القاتل باتخاذ الوسائل المؤدية إليه.
2- أن هذا الفعل المادي وقع على إنسان حي (نفساً) وهو محل الجريمة.
3- وجود القصد الجنائي لدى الفاعل وهو قوله (عمداً) وهو تعمد إزهاق الروح.
ويمكن القول إن المشرّع العراقي أطلق القتل العمد ولم يقيّد بنصّ خاص؛ وذلك لأنه يريد إدخال صدق الامتناع أو القصد الاحتمالي فيه وغير ذلك, ونكتفي بهذا القدر من التعريف ونوكل التعليق والتوضيح إلى الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
ص: 75
القتل العمد من المسائل الفقهية التي اهتم بها المشرّع الإسلامي, لأنها تتعلق بحق الإنسان في الحياة وشدّد الشارع المقدّس العقوبة على مرتكبه, لتكون عقوبتة في الدنيا بحرمان القاتل منها, وعذاباً أليماً في الآخرة.
والنص الإلهي واضح في مسألة القتل العمد وعقوبته ومع ذلك فقد اختلف في بعض تفصيلاته ومسائله بين المذاهب الفقهية الإسلامية وإن اتحدت مداركهم واختلفت مناهج اجتهاداتهم, ولأجل الاطلاع على ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه سوف نتطرّق في هذا الفصل إلى تقسيمات القتل العمد, وتوضيح حدوده عندهم, ثم ذكر العقوبات المقرّرة لذلك, وبيان أسباب اختلافاتهم في ذلك ومناقشتها, فيكون الفصل الأول في ثلاثة مباحث:
الأول: أنواع القتل وتقسيماته والتعريف بالقتل العمد وتوضيحه.
الثاني: أركانه وتطبيقاته.
الثالث: العقوبات المقررة في المذاهب الفقهية.
ص: 76
القتل في الشريعة الإسلامية له أنواع تختلف العقوبة باختلافها, وهي كما يأتي:
الأول: القتل الحق:
وهو القتل أو إزهاق الروح تنفيذاً للحكم الشرعي, كالقصاص وقتل المرتد والكافر الحربي وغيرهم, فهؤلاء وإنْ صدق على قتلهم أنه قتل عمد إلا أنه بوجه حق, لا عدوان فيه, أو أنه وقع على نفس غير معصومة؛ لان الشارع جوّز إتلافها, وربما أوجب إتلافها؛ ولذلك ترى بعض الفقهاء يقول: (قتل القاتل فإنّ قتله ليس عدواناً وإن كان عمداً؛ لأنه بحق)(1).
وقال ثانٍ: (وذكر المعصوم الدال على أن يكون القتل عدواناً لإخراج مَن أباح الشارع دمه كالحربي أو المقتول دفاعاً أو قصاصاً)(2).
وقال ثالث: (وقتل بحق وهو كل قتل لا عدوان فيه كقتل القاتل والمرتد)(3).
الثاني: القتل بغير حق:
وهو كل قتل محرم لم يُجزه الشارع, وكان بقصد العدوان, ويستحق مرتكبه العقوبات المقرّرة شرعاً, وهذا النوع من القتل له تقسيمات اختلف فقهاء المسلمين فيها بحسب أدلتهم ورؤاهم, وذكر في كتابات متعددة نذكر منها ما يأتي:
ص: 77
قال بعضهم: (هوالقتل بغير حق ولذا أخرج المقتول قصاصاً)(1).
وقال آخر: (والقتل في الشريعة أصلا على نوعين: قتل محرّم, وهو كل قتل عدوان)(2).
اختلف الفقهاء في الشريعة الإسلامية في هذه التقسيمات, والسبب في اختلافهم يعود إلى ما اعتمدوا عليه من أدلة, ولكن يمكن القول بأن أشهر المذاهب الإسلامية الفقهية اتفقت على تقسيم القتل المحرم إلى ثلاثة أقسام, فهذا التقسيم هو المشهور في الشريعة لاتفاق أربعة مذاهب عليه وهي المذهب الإمامي والحنفي والشافعي والحنبلي, ولكن أنكر مالك شبه العمد, وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ. كما ذكر صاحب الجواهر ذلك, بقوله: (فلا خلاف عندنا في أن الأقسام ثلاثة خلافا لمالك)(3).
فالتقسيم المشهور عند المذاهب الفقهية الإسلامية الذي اتفقت عليه كلماتهم هو تقسيم القتل المحرّم إلى ثلاثة أقسام, وهي:
الأول: القتل العمد.
الثاني: القتل الشبيه بالعمد أو الخطأ الشبيه بالعمد أو العمد الشبيه بالخطأ.
الثالث: القتل الخطأ المحض.
والحقيقة أن الاختلاف ليس في جميع الأقسام, وإنما الاختلاف في عدم إقرار المذهب المالكي بالقسم الثاني وهو القتل الشبيه بالعمد حيث إنه يقسّم القتل إلى قسمين:
ص: 78
الأول: القتل العمد.
الثاني: القتل الخطأ.
والسبب كما يذكره أن هذين القسمين ورد ذكرهما في القرآن, فهذه حجته.
وأما بقية المذاهب فقد ذكرت روايات عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يُذكر فيها هذا القسم من القتل, وأما المذهب الإمامي فقد ذكر بالإضافة إلى النبوي ما جاء عن أئمتهم (علیهم السلام), وفي بحثنا هذا تطرقنا استطراداً لهذه التقسيمات لمعرفة القتل العمد كونه من القتل المحرم بغير حق؛ لأن التعريف يعتمد على هذه التقسيمات وكونه بقصد العدوان وغير ذلك.
وأما ما اختلفوا فيه فهو ليس مدار البحث, ونكتفي بهذا القدر من التوضيح لتقسيمات القتل المحرم.
اختلفوا في تعريف القتل العمد بين الفقه الإسلامي وبين قانون العقوبات العراقي, ولذلك سوف نقوم بتوضيح المقصود من القتل العمد في الفقه الإسلامي من خلال بيان فقرات التعريف والمقصود بها عند المذاهب الإسلامية على أننا سوف نذكر تعريف كل مذهبٍ ثم بيان المقصود من هذه الفقرات متفرقاً تارة ومجتمعاً أخرى على النحو الأتي:
الأول: تعريف (القتل العمد ) عند المذهب الجعفري الإمامي:
القتل العمد هو: (إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً عدواناً) (1).
ص: 79
وقد بيّنا في التمهيد أن هناك تعريفاً ثانياً للقتل العمد عند الإمامية, ولكنه يؤدي المعنى نفسه وإن اختلفت الألفاظ, وقد وعدنا ببيان التعريف المشهور في هذا الفصل وعلى النحو الآتي:
1- قوله (إزهاق النفس) قال الجوهري في صحاحه(1):
(وزهقت نفسه تزهق زهوقاً أي: خرجت, والمزهِق القاتل, والمزهَق المقتول) أي: إخراج النفس من البدن ومفارقتها له وهي متعلقة به تعلُّق تدبير, أي: أنها مدبّرة لحركاته وسكناته وجميع أجهزته مِن جوارحه وأعضائه وقواه, وبخروجها تتعطل جميعها, ويصبح البدن جثة هامدة, فالإخراج تعبير مجازي, والحقيقة: هو قطع تعلّقها به, فإزهاق النفس: هو إخراجها مما تعلقت به, وليس هو إخراجاً حقيقياً.
وقول الإمامية في التعريف (إزهاق النفس) يشمل كلّ ما يؤدي إلى إزهاق النفس, سواء كان فعلاً أم امتناعاً مادياً أم معنوياً ضرباً أم خنقاً أم سماً بما يقتل غالباً أم نادراً, أي: أن القتل غير محدد, لا بطبيعته, ولا بوسيلته.
2- قولهم (المعصومة) هي النفس التي منع الله قتلَها, أي: حرّم قتلها وإتلافها.
والعصمة (في اللغة): المنع, كما في الصحاح(2).
والعصم يعني المنع, أي: منع الله قتلها, وعليه يكون غير المعصوم أعم من كونه بالأصل كالحربي, أو بالعارض كالقاتل على وجه يوجب القصاص.
وإذا كانت المعصومة بهذا المعنى فما فائدة قيد (عدوانا) في التعريف, باعتبار أن قيد
ص: 80
(معصومة) أخرج هذه الأفراد من الحربي والقاتل وغيرهما؟
أجابوا عن ذلك: بأن قيد (معصومة) في التعريف يعني ما لا يباح(1)
إزهاقها للكل, فالقاتل لا يباح دمه للكل, وإنما لولي المقتول فقط أو من ينوب عنه أو يوكله, فلا يكون معصوماً لغير ولي الدم, فإخراجه يحتاج إلى قيد, وهذا القيد هو (عدوانا), فيخرج ما يباح دمه لبعض دون بعض, أو تقول إن قيد (عدوانا) لإخراج فعل الصبي والمجنون(2),
باعتبار أن عمدهما وخطأهما واحد, فلا عدوان فيه, وإذا كان إخراج الصبي والمجنون بقيد (العمد) لأن قتلهما لا عمد فيه فيبقى قيد (عدوانا) لا فائدة منه, وفيه كلام يأتي إن شاء الله.
3- (المكافئة): ورد في الصحاح(3): والكفيء: النظير وكذلك الكفء والكفوء, والمصدر الكفاءة, وكل شيء ساوى شيئاً حتى يكون مثله فهو مكافىء له.
والتكافؤ الاستواء, يقال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فيكون المعنى هو النفس المساوية والنظيرة لنفس القاتل, والمسلم كفء المسلم كما ورد في الحديث النبوي, فالإسلام يكافئ بين المسلمين ويساوي بينهم, وكذلك الحرية تكافئ بين الأحرار, والرقية تكافئ بين العبيد, فالمكافئة تكون بالإسلام والحرية(4).
4- (عمداً) تقدم أن معنى العمد في اللغة هو القصد, وكذلك في الشرع, والعمد
ص: 81
هنا قيد لإزهاق الروح(1), أي إزهاق الروح قصداً, بمعنى توجه إرادة الفاعل إلى ذلك الفعل أو الامتناع لإخراج الروح, والقصد يكفي في صدق القتل العمد على مورده, أما كونه موجباً للقصاص أم لا؟ فبالتأكيد إن العمد بمعنى القصد فقط لا يوجب القصاص ما لم يصدر من بالغ عاقل, إلا إذا قلنا إن العدوان في التعريف يُخرج الصبي والمجنون عن موجب القصاص, فحينئذ يكون معنى العمد هنا هو القصد فقط من دون التقييد بالبالغ والعاقل, حيث عرّفوا العمد بأنه قصد البالغ العاقل لإخراج الصبي والمجنون بقولهم(2), والعمد يحصل بقصد البالغ إلى القتل بما يقتل غالباً وينبغي قيد العاقل أيضاً.
فإذا تم إخراج الصبي والمجنون بقيد (عدواناً) فلا حاجة لتقييد معنى (العمد), أي (القصد), بالبالغ العاقل؛ لعدم الفائدة حينئذ.
وعلى هذا فإما أن تقول إن معنى (العمد) هو (قصد البالغ العاقل) فيكون معنى (العدوان) هو (بغير حق).
وإما أن يكون معنى (العمد) هو (القصد فقط), من دون اعتبار القيدين المذكورين, فيكون معنى (العدوان) هو (الظلم المحرم), فلا يعدّ فعل الصبي والمجنون عدواناً؛ لعدم التكليف(3),
فيخرجا بقيد (العدوان).
ويمكن الجمع بين معنيي (العمد) بأنه (القصد), ومعنى (العدوان) بكونه بغير
ص: 82
الحق, ولكن لابد من قيد آخر نضيفه إلى التعريف فنقول: (القتل العمد)(1),
هو (إزهاق البالغ العاقل النفس المعصومة ...الخ).
وبما أن التعريف وارد كموجب للقصاص فالأوفق بالعبارة أن يكون معنى (العمد) هو (قصد البالغ العاقل) لتصريح الروايات(2) الواردة عن أهل
البيت (علیهم السلام) بذلك, بأن عمد الصبي وخطأه واحد, وعلى هذا فحتى لو صدق عمد الصبي في القتل, وصدق عليه القتل العمد الموجب للقصاص, لا ينفذ عليه؛ لأن عمده هذا يجعل قتله خطأً بحسب الروايات الواردة عن أهل بيت الرحمة (علیهم السلام) بقولهم: (عمد الصبي وخطؤه واحد) (3).
ويمكن أن نقول: إن القتل العمد هو هذا وهو حكم عام وضابطة كلية وهو شامل للصبي والمجنون إلا أن القصاص لا يشملهما لخروجهما بالدليل كما في الروايات في أعلاه وغيرها.
وعلى هذا يكون التعريف بحقيقة القتل العمد بغض النظر عن كونه موجبا للقصاص, ولكن ينبغي رفع بقية القيود التي ذكرت كون القتل العمد موجب للقصاص, كقيد المعصومة والمكافئة والعدوان, والمفروض أن تعريف القتل العمد يكون بغض النظر عن كونه موجباً للقصاص أم لا؟
ولكن جرت أقلامهم على هذا, وعليه فإذا ذكرت بقية القيود فلابد من قيدٍ يُخرج الصبي والمجنون.
ص: 83
ومن يذكر القيود ولا يخرج الصبي والمجنون باعتبار الجمع بين معنى (العمد) كونه (القصد) ومعنى (العدوان) كونه (بغير الحق) فيشملهما تعريف القتل العمد الموجب للقصاص, ولكن خروجهما عن تنفيذ القصاص بحقهما بالتخصيص؛ لورود دليل خاص باستثنائهما, كما تقدّم؛ ولذلك نلاحظ الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي يقول: (فإنّ قتلهما للنفس لا يوجب عليهما القصاص).
5- قيد (عدوانا) قد تبين مما سبق أن (العدوان) إما أن يكون بمعنى (بغير حق) أو (الظلم المحرم) فيوافق اللغة كما في الصحاح(1), فالعدوان: الظلم الصراح, إلا أن المعنى الأول أوسع؛ حيث يشمل كل قتل لم يجوّزه الشارع المقدس؛ لأن ما يجوّزه الشارع المقدس هو حق, كقتل المرتد, والقاتل والحربي, ونحوهم.
أما (الظلم المحرم) فهو أقل مصاديق من المعنى الأول؛ حيث إنه يشمل فقط ما صدق عليه أنه ظلم محرم, فيبقى القتل المكروه غير داخل ضمنه؛ فهو ليس بعدوان, سواء أجازه الشارع أم لم يجزه.
وبهذا المعنى لا نحتاج إلى ذكر قيد (العدوان)؛ لأنه إن كان المقصود منه (بغير حق) ليخرج القصاص والحربي والمرتد فإنهم قد خرجوا بقيد (المعصومة) لأنها أنفس غير معصومة أباح الشارع إتلافها, وإن كان (الظلم المحرم) ليخرج الصبي والمجنون فإنهما خرجا بقيد (العمد), أو تخصيصاً, وعلى هذا فقيد (العدوان) لا حاجة له, ولهذا ترك المحقق الحلي (قدس سره) في النافع قيدَ (العدوان) استغناء عنه بقيد (المعصومة)(2).
ص: 84
وأمّا ما ذكر [من أن (المعصومة) يخرج بها ما لا يباح إزهاقها لكل مسلم, وأنّ المقتول قصاصاً أو دفاعاً عن النفس لا يباح للكل وإنْ أبيح قتله بالنسبة للورثة وولي الدم, فلا يخرجا بقيد المعصومة, وإنما خرجا بقيد (العدوان), ويخرج بقيد (المعصومة) المرتد والحربي اللذان هما مباحان للكل] فهذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأن الشارع المقدّس عندما منع المسلم بحكم شرعي فيكون هذا الحكم أمراً كلياً وليس أمراً جزئياً.
فالمقتول قصاصاً نفسه مباحة من الشارع, وغير معصومة بالنسبة لكل ولي دم ووريث, وكذلك المقتول دفاعاً عن النفس فنفسه مباحة غير معصومة لكل من يواجهه, فهذان الحكمان لا يمكن القول إنهما لبعض المسلمين, وإنما هما لكل مسلم يتعرض لمثل هاتين الحالتين, فكل مسلم يُقتَل فقاتله مباح الدم لوليه, وهكذا مَن يهجم على المسلمين فدم المهاجم مباح له, وعليه فمَن يتصف بالقاتل يحق لولي الدم قتله, وكذلك الحربي والمرتد فهما مباحا الدم لكل مسلم ولكن بشرط تحقق الوصفين, فالمسلم الذي لم يتحقق من الارتداد لا يحق له قتل المرتد وهكذا.
ولأجل ذلك لا فائدة من قيد (عدواناً) إلا في حالة أن يكون (العمد) بمعنى (القصد فقط), ولم يقيّد بالبالغ العاقل, فنحتاج إلى قيد (عدواناً).
أقول: لا حاجة إلى قيد (العدوان), بل لا حاجة حتى إلى (المعصومة) و(المكافئة) أصلا في تعريف (القتل العمد), على أنها قيود للقتل العمد الموجب للقصاص, وتعريف القتل العمد شيء وكونه موجباً للقصاص شيء آخر.
ونحن بصدد تعريف (القتل العمد) مع غض النظر عن كونه موجباً للقصاص أم لا, حيث إن (القتل العمد) نفسَه خطيئة كبيرة أمام الله تعالى, وقد وضع الشارع له
ص: 85
عقوبات, من ضمنها القصاص, وهو أقسى عقاب, فيكون القتل العمد الموجب للقصاص فرداً من أفراد القتل العمد, فتعريف (القتل العمد) بكونه: (القتل العمد الموجب للقصاص) تعريف بالأخص, وهو غير كافٍ في التعريف, فمن أجل هذا يكون تعريف القتل بأنه (إزهاق النفس الإنسانية عمداً).
فإذا انطبق هذا التعريف على مورد وأردنا عقاب القاتل تطبق عليه شروط القصاص وكون النفس التي قتلها معصومة أم لا؟ مكافئة أم لا؟ وهذا الإزهاق بعدوان أم لا؟ وأما مسألة الصبي والمجنون, فالمجنون لا يتحقق منه (العمد), ولا (القصد), باعتباره مسلوب الإرادة, ولا يمكنه توجيه إرادته للفعل, وعدم إدراكه نتيجة فعله.
وأما الصبي فيمكن تحقق (العمد) منه, إلا أن الشارع المقدس يعدّه ناقص الإدراك وإن كان قادراً على توجيه إرادته وبمحض فعله, إلا أنه رفع عنه القلم, فلا يعدّه مرتكباً للمعصية, ولا يُحاسب عليها, وليس عليه القصاص؛ لأنه وردت فيه روايات كما ذكرنا, فأصبح مخصصاً بها باعتبار أن عمده وخطأه واحد.
الثاني: تعريف (القتل العمد) عند بقية المذاهب الإسلامية:
تعرّف بقية المذاهب الإسلامية (القتل العمد) بأنّه: (هو أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى يفيض نفسه, المعصومة, المكافئة, الحيّة, الآدمية, "على وجه العدوان" عند مالك)(1).
وهذا التعريف يمثل تعريف المذاهب الأربعة, إلا أن مذهب مالك أضاف قيد (على وجه العدوان), وتقدّم عند تقسيم (القتل) أنّ مالكا يقسّم القتل إلى قسمين,
ص: 86
وليس إلى ثلاثة كما هو مشهور.
لعل هذا هو السبب في اختلاف التعريف عن بقية المذاهب, كما أنه سببٌ لاختلافه في صدق (القتل العمد) على موارده, وباعتبار أن التعريف ضابطة كلية, والمفروض أنها جامعة مانعة, ولذلك أضاف (على وجه العدوان) ليدخل جميع أفراد القتل العمد, و لنفصّل التعريف بتوضيح فقراته وقيوده على النحو الآتي:
1- قولهم: (أن يعمد الرجل إلى الرجل), (العمد) هو (القصد) كما تقدم معناه, و(الرجل) يعني (الذكر البالغ), فيكون المعنى: أن يقصد الذكر البالغ إلى الذكرالبالغ.
فيكون هذا التعريف غير شامل لقتل الذكر البالغ للصبي, ولا قتل الصبي للذكر البالغ, ولا قتل الأنثى - سواء كانت بالغة أم صغيرة - للذكر البالغ, ولا العكس, ولا قتل الأنثى الأنثى سواء كانتا بالغتين أم صغيرتين أم مختلفتين, وهذا ظاهر من قولهم (الرجل إلى الرجل).
ولكن مقصودهم ليس هذا المعنى يقيناً, وإلا خرج أكثر أفراد القتل العمد, ولم يبق إلا فرد واحد, وهو قتل الرجل الرجل.
والظاهر أنهم استعملوا التعريف بالمثال, فذكروا مثالاً للقتل العمد وهو ضرب الرجل للرجل, ومنه يتضح معنى القتل العمد, والدليل: أنهم ذكروا في القيود (الحية, الآدمية) والحياة للإنسان تبدأ بعد تمام الولادة, وعليه ف-(القتل العمد) يشمل قتل الطفل الذي خرج من بطن أمه حياً, فكيف لا يشمل الصبي؟
وأما المجنون فهو داخل في التعريف, إلا إذا قلنا انه فاقد للقصد, فلا عمد للمجنون, فيخرج بقولهم: (أن يعمد).
ص: 87
2- قوله (فيضربه) ضَربه يَضربه ضَرباً(1), أي: فعل الضرب, ويعدّ هذا الركن الأول للقتل العمد, وهو الركن المادي فيه, وهو فعل الجاني الناتج بالضرب.
وظاهر التعريف أنه يشمل القتل العمد الناتج من الضرب فقط, وهذا ليس مراداً لهم قطعاً؛ بدليل صدق القتل العمد عندهم على الغرق والحرق والتسمم وغيرها, ولذلك نقول أن ذكر الضرب في التعريف هو مثال للركن المادي, وليس مصداقاً له ومنحصراً فيه, فالضرب ذكر في التعريف لأنه الغالب في القتل العمد عادة, والضرب كناية عن كل فعل, ولذلك لا يشترط مالك شروطاً خاصة في الفعل القاتل أو في أداة القتل- والمهم عند مالك هو (قصد العدوان) كما ذكرنا في التعريف, ولذلك يقول: (وإن هناك أشياء يتعمّد الإنسان فعلها مثل الرجلين يصطرعان فيصرع أحدهما صاحبه أو يتراميان بالشيء على وجه اللعب, فيسقط فيموت من هذا كله فﻫذا هو القتل الخطأ, ولا يكون قتلاً عمداً؛ لأن الجاني تعمده على وجه اللعب, فإذا تعمده على وجه القتال والغضب فصرعه فمات أو أخذ برجله فسقط فمات فهو قتل عمد)(2).
ولم يحدد مالك نوع الضرب بل كل ضرب سواء كان بلطمة أم بعصا أم بحجر أم بعمود أم بقضيب وما شابه ذلك كله بما أنه بعمد وسبّب وفاة المجني عليه فهو قتل عمد, ولذلك يقول: (إن كل ما تعمّده الإنسان من ضربة بلطمه أو بلكزه أو ببندقية أو بحجر أو بقضيب أو بغير ذلك كل هذا قتل عمد إذا مات فيه المجني عليه)(3).
ص: 88
وسواء كان الفعل أو الأداة مما يقتل غالباً أو لا فهو قتل عمد؛ وذلك لأن مالكاً عنده القتل إما عمد أو خطأ ولا ثالث لهما.
إلا أن بعض المالكية حددوا ذلك بقولهم(1): (إن القتل العمد إتلاف النفس بآلة تقتل غالباً أياً كان نوعها أو بإصابة المقتل كعصر الأنثيين وشدّة الضغط والخنق).
وأما الشافعي وأحمد(2), فإنهما يشترطان في كون القتل مما يقتل غالباً وإلا لا يكون قتلاً عمداً.
وأما أبو حنيفة(3), فإنه يشترط كونه مما يقتل غالباً, وأن تكون الأداة مما تعدّ للقتل.
1- قولهم (حتى تفيض نفسه). وفاض الرجل يفيض فيضاً وفيوضاً: مات, وكذلك فاضت نفسه, أي: خرجت روحه(4),
فافاضة النفس هو خروجها من البدن, وهو مجاز, أي: قطع تعلقها به وتعطيل جميع جوارحه ومدركاته وقواه وأجهزته وحصول الموت.
ولكن قولهم (حتى) يوحي باستمرارية الضرب لحين حصول الوفاة, وهذا ليس شرطاً في صدق القتل العمد؛ لأنه يكفي أن تكون الضربة سبباً للوفاة سواء استمر على الضرب حتى مات أم ضربة واحدة فمات على أثرها.
ص: 89
4- قولهم (المعصومة) وهي كون النفس غير مهدورة الدم, أي: محقونة الدم. والعصمة تأتي من العصم, أي: المنع(1), أي: منع الله قتلها أو إتلافها.
وذكر بعضهم, وقال: (والعصمة أساسها في الشريعة: الإسلام والأمان, ويدخل تحت الأمان عقد الجزية والموادعة والهدنة, وعلى هذا يعدّ معصوماً المسلم والذمي ومن بينه وبين المسلمين عهدٌ أو هدنة ومَن دخل ارض الدولة بأمان ولو كان منتمياً لدولة محاربة ما دام الأمان قائماً, فهؤلاء جميعهم معصومون, أي: لا تباح دماؤهم ولا أموالهم.. وهذا رأي مالك والشافعي وأحمد)(2).
وأما أبو حنيفة فيرى أن العصمة ليست بالإسلام, وإنما يعصم المرء بعصمة الدار ومنعة الإسلام وبالأمان, فأهل دار الإسلام معصومون بوجودهم في دار الإسلام وبمنعة الإسلام المستمدة من قوتهم وجماعتهم, وأهل دار الحرب غير معصومين لأنهم محاربون, وإن كان فيهم مسلم فلا يعصمه إسلامه حيث لا منعة له ولا قوة)(3).
والفرق واضح؛ حيث أن الأئمة الثلاثة يرون أن العصمة بالإسلام سواء كان المسلم في دار حرب أم دار إسلام فهو محقون الدم ولا يباح دمه.
وأما أبو حنيفة فإنه يرى أن العصمة هي عصمة الدار فإن الكافر بوجوده في دار الإسلام محقون الدم, والمسلم بوجوده في دار الحرب مهدور الدم.
وعليه إذا كانت العصمة بالإسلام والأمان فتزول بزوال أحدهما؛ حيث أن المسلم
ص: 90
يصبح مهدور الدم بالارتداد, والمستأمن يصبح مهدور الدم بانتهاء أمانه.
وكذلك المسلم الذي يرتكب جريمة ينص الشارع على هدر دمه لبعض دون بعض, كالقاتل والزاني المحصن وغيرهما فإنهما لا عصمة لهما بعد ذلك.
وقت العصمة:
اختلفوا في وقت العصمة فمالك والشافعي وأحمد يقولون أن وقتها الفعل ووقت الموت, وأبو حنيفة يرى أن وقت العصمة هو وقت الرمي.
5- المكافئة: والكفئ: النظير, وكذلك الكفء والكفوء, والمصدر الكفاءة, وكل شيء ساوى شيئاً حتى يكون مثله فهو مكافئ له, والتكافؤ الاستواء, كما ورد عن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم): (المسلم كفء المسلم), وكذلك قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): (المسلمون تتكافأ دماؤهم), وعليه فالمكافئة كما يذهب مالك والشافعي وأحمد أن يكون المجني عليه مكافئاً للجاني إذا لم يفضله الجاني بحرية أو أسلام(1), فإذا تساويا في الحرية والإسلام فهما متكافئان, فإذا تساويا بالحرية والإسلام فلا عبرة بالفروق الأخرى بينهما, سواء سلامة الأعضاء أم الشرفية أم الفضيلة أم غيرها.
واختلفوا في الذكورية والأنوثة, بمعنى أن الرجل إذا قتل المرأة يقتل بها أم لا؟ وبالعكس.
فالمذاهب الأربعة لا يرون اعتباراً بالذكورية والأنوثة, فالرجل يُقتل بالمرأة, والمرأة تُقتل بالرجل, ولا فرق بينهما.
وهناك رأي آخر, يقول: إن الرجل لا يُقتل بالمرأة, وإذا أرادوا قتله عليهم دفع
ص: 91
نصف الدية.
وأما أبو حنيفة(1), فانه يرى التكافؤ بالإسلام فقط, ولا يرى الحرية, فالعبد يُقتل بالحر, والحر يُقتل بالعبد, ويُستثنى من ذلك قتل السيد عبده, فلا يُقتل به.
هذه شروط التكافؤ بالنسبة للمجني عليه, وأما بالنسبة إلى الجاني فإنه يُقتل إذا قتل مسلماً سواء كافأه أم لا؟
6- قولهم (الحية الآدمية): يشترط لتحقق القتل العَمد أن يكون المجني عليه
آدمياً, أي: إنساناً من بني آدم.
وهنا ملاحظة, وهي: أنه لو كان انساناً من غير نسل آدم, أي: إنساناً جاء من كواكب غير كوكب الأرض, وليس من نسل آدم, فلا يصدق القتل العمد عندهم بخلاف رأي الإمامية, حيث عبّرت بالنفس مطلقاً, سواء كان من بني آدم أم غيرهم.
وعلى كل حال فمقصودهم إخراج قتل الحيوان, فلا يُعتبر قتلاً عمداً, ويشترطون شرطاً آخر, وهو: كون هذا الإنسان حياً, أي: فيه الحياة, وليس ميتاً أو جنيناً لم يخرج للحياة بعد, فالإنسان الحي يصدق من بعد تمام ولادته حياً حتى مماته, فإذا مات لا يصدق عليه (إنسان حي).
فمن يقتل جنيناً يُعدّ قاتل نفس, لكنه ليس قتلاً عمداً, وإنما جريمة أخرى, هي: الإجهاض.
فالإنسان الحي هو مَن نزل حياً بعد تمام ولادته حتى تفارق روحه الحياة, فإذا فارقت روحه الحياة فهو ليس انساناً حياً, وأما إذا كان في النزع والرمق الأخير من
ص: 92
عمره فهل يعدّ انساناً حياً؟
الجواب: نعم, يعدّ حياً, وقاتله قاتل عمد.
هذه القيود التي ذكرها الأئمة الأربعة كما بيّناها, ويبقى قيد واحد انفرد به مذهب مالك, حيث أضاف على تلك القيود قيدَ (على وجه العدوان) بل جعله هو الفيصل والمدار والمعيار في صدق القتل العمد, فكل قتل بأي وسيلة وبأي حالة وقعت إذا كان بقصد العدوان فهو قتل عمد وأي حالة وبأي وسيلة حصلت إذا كان بقصد التأديب أو اللعب فهو ليس بقتل عمد.
7- قوله (على وجه العدوان). معنى (العدوان) في اللغة: الظلم الصراح(1),
ولكن مالكاً يريد إخراج ما تعمدّه على وجه اللعب أو التأديب فحينئذ يكون الغضب وثورته من وجه العدوان وقصده.
ولذلك لا يشترط مالك أن تكون الآلة مما تقتل غالباً, بل الضابط والمدار عنده أن يكون الضرب على وجه العدوان, فإن لم يكن على وجه العدوان وكان على وجه اللعب أو التأديب فهو خطأ, فالقتل عنده إما عمد أو خطأ ولا ثالث لهما سواء قصد القتل أم لم يقصده.
وأما بقية المذاهب فإنهم قسّموا القتل إلى ثلاثة: العمد وشبهه والخطأ, ويفرقون بين العمد وشبهه بقصد القتل, فإن قَصَده فهو عمد, وإن لم يقصده فهو شبه العمد.
وحيث أن القصد أمر داخلي في السرائر ولا يطلع على السرائر إلا الله تعالى فكيف يمكن معرفته والتفريق بين أنواع القتل؟
يمكن الاستدلال على القصد من خلال الوسيلة التي استعملها والآلة التي
ص: 93
استخدمها في ارتكاب الجريمة باعتبارها تعبّر عن نية الجاني وقصده.
وحسب المتعارف أن الذي يريد قتل إنسان يضربه بما يقتل غالباً أو عادة, كالآلات القاطعة أو الجارحة أو النارية أو ما شابه ذلك وبالعكس.
واختلفوا في الآلة هل يشترط فيها أنها مما يقتل غالباً أم أن تكون معدة للقتل؟
الشافعي وأحمد ذهبا إلى كفاية أنها تقتل غالباً.
وأما أبو حنيفة فإنه لا يكتفي بكونها تقتل غالباً, بل يشترط شرطاً آخر وهو كونها معدّة للقتل, وعلى هذا فإذا قتل شخص آخر بآلة تقتل غالباً كالحجر ولكنها غير معدّة للقتل فعند الشافعي وأحمد أنه قتل عمد, وعند أبي حنيفة أنه ليس من القتل العمد.
والفرق واضح بينهم فالسكين والحجر وإن كانت تقتل غالباً إلا أنها غير معدّة للقتل, بخلاف الطلق الناري والسيف فإنهما يقتلان غالباً ومعدان للقتل.
وملخّص ما تذهب إليه المذاهب الأربعة هو أن القتل العمد يحتاج إلى فعل مادي كالضرب, وقع على إنسان حي بقصدٍ وتعمدٍ, ويلحق بذلك أن هذا الإنسان قد توفي بسبب ذلك الفعل المادي, وأن يكون انساناً محقون الدم مسلماً أو مأتمناً, مكافئاً لنفس الجاني بالحرية والإسلام, وأن يكون بقصد العدوان عند مالك.ثانياً: مناقشة التعريفين والفرق بينهما:
تقدّم بيان التعريف الذي ذهب إليه فقهاء المذهب الجعفري الإمامي للقتل العمد وهو المشهور عندهم, ثمّ بيّنا تعريف المذاهب الأربعة للقتل العمد, وقد وُضِّح المقصود بكل تعريف, والآن نريد أن نناقش هذين التعريفين بشكل موجز, ونجمل ذكر الفرق بينهما, فنقول:
إن المذاهب الفقهية الإسلامية اتفقت في هذين التعريفين على ما يأتي:
ص: 94
أولاً: أن القتل هو إزهاق الروح إلا أن تعريف الإمامية عبّر عنه صريحاً ب-(ازهاق النفس), ويعني إخراجها كما بيّنا ذلك في توضيح التعريف الخاص بالفقه الإمامي, في حين أن المذاهب الأخرى عبّرت عنه بقولهم (حتى تفيض نفسه) ويؤدي نفس معنى الإزهاق, وهو خروج الروح أيضاً.
وعليه يمكن القول أن المذاهب الفقهية الإسلامية متفقة على أن القتل العمد لا يحصل إلا بمفارقة الروح للبدن وخروجها منه, فصدق القتل العمد لا يتحقق إلا بحصول الإخراج للنفس الإنسانية, أي: حصول الوفاة, فالمذاهب الفقهية اتفقت على هذا المعنى وإن اختلفت الألفاظ.
ويعدّ هذا المعنى ركناً من أركان القتل العمد, وهو حصول الوفاة بفعل أو بامتناع, كما يشير إلى ذلك تعريف الإمامية, وكذلك بقية المذاهب وإن لم تُشر إلى ذلك صريحاً.
ثانياً: أن تكون هذه النفس التي وقعت عليها الوفاة (معصومة), تتفق المذاهب الإسلامية في هذا القيد لفظاً, وبيّنا في توضيح التعريف ما يقصدونه من هذه الكلمة, حيث أن الإمامية يعنون بها ما لا يباح ازهاقه للكل, والمعصومة من العصم, بمعنى المنع, أي: النفس التي منع الله إتلافها, فقيد (المعصومة) يُخرج الكافر الحربي والمرتد والقاتل, سواء كانت بالأصل مباحة كالكافر الحربي أم بالعارض كالمرتد والقاتل.
فالمعصومة تخرج ما أباح الشارع إتلافها بالأصل أو بالعارض للكل أو للبعض.
وأما بقية المذاهب, فيعنون بالمعصومة أنها محقونة الدم وغير مهدورة الدم, وقال بعض مَن كتب في التشريع الإسلامي(1): إن أساسها عندهم الإسلام والأمان, ويدخل تحت الأمان عقد الجزية والموادعة والهدنة, فلا تباح دماء هؤلاء ولا أموالهم,
ص: 95
وهذا ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد, وأما أبو حنيفة فيرى أن العصمة ليست بالإسلام, وإنما يعصم المرء بعصمة الدار ومنعة الإسلام وبالأمان.
فأهل دار الإسلام معصومون بوجودهم في دار الإسلام وبمَنعَة الإسلام المستمدة من قوتهم وجماعتهم, وأهل دار الحرب غير معصومين لأنهم محاربون, وإن كان مسلماً فلا يعصمه إسلامه حيث لا منعة له ولا قوة.
وهنا يخالف أبو حنيفة ولا يعدّ الإسلام اساساً للعصمة, وهذا خلاف ما ذكره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من أن دم المسلم وماله وعِرضه حرام على المسلم, وهذه الرواية مطلقة, لم تُقيَّد, لا بدار الإسلام, ولا بدار الحرب, وهي صريحة في حقن دماء المسلمين أينما كانوا.
وأما الأمان فالمذاهب الأربعة تتفق على كونه اساساً للعصمة, إلا أن الإمامية وإن قالوا به وادخلوه في معنى العصمة لكنهم لا يوجبون القصاص فيه على المسلم إذا قتل مستأمناً, فالمسلم إذا قتل الذمي لا يقاد به.
وهذا ما ادعى الشهيد الثاني (قدس سره) عليه الإجماع, تعليقاً منه على ما ذكره المحقق الحلي (قدس سره): (فلا يقتل مسلم بكافر, ذمياً كان أو مستأمناً أو حربياً, ولكن يعزر ويغرم دية الذمّي)(1).
حيث علّق عليه الشهيد الثاني (قدس سره), بقوله: (أجمع الأصحاب على أن المسلم لا يقتل بالكافر مطلقاً, ذمياً كان أم غيره؛ لقوله تعالى: [ولن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلاً] (2), وإثبات القصاص لوارث الكافر إذا كان كافراً سبيلٌ واضح, ولم يقل أحد
ص: 96
بالفرق بين الوارث الكافر والمسلم, ولقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): (لا يُقتل مؤمن بكافر)(1),
الشامل للذمي وغيره, ولا يخصصه الخبر المحذوف في قوله: (ولا ذو عهد في عهده)(2),
أي: بكافر, حيث كان مخصوصاً بالحربي, لمنع الافتقار إلى الخبر أولاً, ومنع اشتراط المساواة من كل وجه لو سلم التقدير) (3).
ويمكن الاستدلال أيضاً بما جاء عن أهل البيت (علیهم السلام) عن أبي عبد الله (علیه السلام), قال: (قلت: رجل قتلَ رجلاً من أهل الذمة, قال: لا يُقتل به إلا أن يكون متعوداً للقتل)(4), وهذا الفرق بين المذهب الجعفري الإمامي وغيره يرجع في الحقيقة إلى موجب القصاص, حيث إن الذمي والمستأمن لا يجوز لهما إتلاف نفسيهما لشمولهما بقيد (المعصومة), وأما أن قتلهما لا يوجب القصاص على المسلم لخروجهما عن موجب القصاص بقيد (المكافئة) لأن الذمي ليس كفء المسلم فلا يقاد به.
فالإمامية تذهب إلى عصمة نفس المستأمن, ولكن لا توجب قتل المسلم به, إلا إذا تعود المسلم على قتلهم, ولا يعني أن الإمامية لا يوجبون عقوبة أخرى كالتعزير والدية.
فالمذاهب الإسلامية مختلفة في المقصود بقيد (المعصومة) حيث تذهب الإمامية إلى عدم جواز إتلاف النفس فتشمل حتى الحيوان, وأما الشافعي والمالكي وأحمد فيذهبون إلى أنها بالإسلام والأمان وأساسها ذلك, وأبو حنيفة ذهب إلى أنها عصمة الدار ومنعة
ص: 97
الإسلام والأمان.
أقول: إن (العصمة) لا يكون أساسها الاسلام؛ لأن ظاهر كلماتهم أن العصمة هي أنْ لا يباح دمه ولا أمواله, وحينئذ لا نحتاج أن نقيّد ذلك بقولنا بالإسلام؛ لأن غير المسلم أيضاً لا يباح دمه كالذمي والمستأمن وغيره, بل حتى الحيوان المملوك لا يباح قتله لأنه نفس محترمة.
نعم عدم إباحة دم الإنسان سببه الإسلام والأمان باعتبارهما أكثر المصاديق, ولكن هذا لا يعني أن كل ما لا يباح دمه فهو مسلم أو مستأمن, فالكافر غير الحربي والملحد غير الحربي ومن لم يعلن حربه على الإسلام لا يباح دمه ونفسه محترمة, فلا ينبغي حصر سبب العصمة في الإسلام والأمان والمفروض إطلاقها كما فعلت الإمامية.
وإذا كانت العصمة بالإسلام والأمان فالمكافأة ماذا تعني؟ وما الفائدة المترتبة على قيد (المكافئة) فعدم التقييد بالإسلام والأمان أولى.
وكون العصمة ما لا يباح دمه ليكونَ قيَّد المكافئة بالإسلام وبغيره.
بالإضافة إلى أن المسلم القاتل أباح الشارع قتله رغم أنه مسلم فكيف نقول أن الإسلام والأمان أساسان للعصمة مع أن الإسلام لا يعصم كثيراً من مرتكبي الجرائم كالقاتل والزاني بالمحصنة وهو محصن والزاني بالمحارم وغيرها .
فالعصمة عدم إباحة الدم وعدم جواز إتلاف النفس, وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فيشكل عليه بأن قول الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) مطلق, غير مقيد, لا بدار الإسلام, ولا بدار الحرب, فالمسلم محقون الدم, وكونه في دار الحرب لا يبيح دمه, بل ربما يوجب الشك في كونه مباح الدم أم لا؟ ويجب الاحتياط بالدماء, فنتوقف فيه, ولا يُحكم بجواز قتله.
ص: 98
3- قولهم (المكافئة): المشهور بين المذاهب أن التكافؤ يكون بالإسلام والحرية, ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة, حيث ذهب الى أن التكافؤ بالإسلام فقط, وأما الحرية فلا؛ لأن الحرّ يُقتل عنده بالعبد وبالعكس.
وأمّا الشافعي وأحمد ومالك فهم يتفقون مع الإمامية في قيد التكافؤ, وأنه بالإسلام والحرية, فالمسلم كفء المسلم, والحر كفء الحر, والعبد كفء العبد, ولا يقتل الحر بالعبد سواء كان سيداً أم لا.
4- قولهم (الحية الآدمية): يعني أن القتل يقع على نفس إنسان حي, وتصدق الحياة عندهم بعد تمام الولادة حتى الموت, أي: بعد نزول المولود وخروجه من بطن أمه وانفصاله عنها يصدق أنه حي, فيكون ما قبل تمام الولادة غير مشمول بذلك سواء كان في أثناءها أم قبلها, فله حكم خاص كالإجهاض, فلا يشمل هذا قتل الجنين ولا الميت .
وأما الإمامية فإن تعريفهم يشمل الجنين الذي ولجته الروح, على أنه نفس معصومة لا يجوز إتلافها, فيصدق على قتله قتل عمد, ولكنه لا يوجب القصاص عندهم وإنما يوجب الدية, أي: أن الجنين بعد ولوج الروح مشمول بتعريف القتل العمد, ولكن عقوبته الدية وليست القصاص, وكذلك الجنين قبل ولوج الروح عقوبته الدية, ولكن التعريف لا يشمله؛ لعدم صدق النفس عليه.
ولذلك قالوا في دية الجنين: (في النطفة إذا استقرت في الرحم عشرون ديناراً.. وفي العظم.. ثمانون ديناراً, وفي التام الخلقة قبل ولوج الروح فيه مائة دينار, ذكراً كان.. أو أنثى.., ولو ولجته الروح فدية كاملة للذكر, ونصف للأنثى)(1).
ص: 99
وهذا التعريف للإمامية دقيق بحيث يشمل قتل الجنين, ولكن عقوبته الدية, لا القصاص, فلا يكون موجباً للقصاص, ويصلح هذا إشكالاً على التعريف؛ لأنهم عرفوا (القتل العمد) بكونه موجباً للقصاص, ولم يذكروا فيه (الحي الآدمي) كما ذكرته المذاهب الأربعة, إشارة إلى أن (القتل العمد) يشمله, ولكن القصاص بشروطه يُخرج قتل الجنين حتى مَنْ ولجته الروح.
فأخرجوه من القصاص وذكروه ضمن الدية, والحياة عندهم تبدأ بعد تمام الولادة, فالقتل العمد الموجب للقصاص ولو كان الطفل مولوداً في الحال, أي بعد تمام الولادة, فلا يشمل الجنين بعد ولوج الروح كما بيّنوه بقولهم (القول في شرائط القصاص وهي خمسة فمنها التساوي في الحرية أو الرق لعموم الآية سواء تساويا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض والقوة والضعف والكبر والصغر أم تفاوتا أشرف المريض على الهلاك, أو كان الطفل مولودا في الحال)(1).
ولكن المذاهب الأخرى تعرّف (القتل العمد) بأنه عمد الرجل إلى الرجل, أي: يخرج ما دون البالغ من الذكور, أي: لا يصدق العمد لو قتل غير البالغ؛ لأنه عبّر بالرجل, وهو البالغ من الذكور.
فكيف يجتمع قولهم (الرجل) وقولهم (تبدأ الحياة بعد تمام الولادة؟).
والجواب: أن هذا التعريف هو بالمثال, حيث ذكر مثالاً للقتل العمد, وهو عمد الرجل إلى الرجل بالضرب, وأما التفاصيل فكما ذكروها في مسائله.
5- (على وجه العدوان): هذا القيد أضافه مالك, وتذهب إلى أخذه الإمامية في تعريفهم بقولهم (عدواناً), دون المذاهب الثلاثة الأخرى, باعتبار أن المدار في القتل
ص: 100
العمد هو قصد القتل, وهو أمر داخلي يمكن معرفته من خلال الآلة المستعملة فإن كانت مما يقتل غالباً فهو قتل عمد.
ويضيف أبو حنيفة (أنها معدّة للقتل), ولا يكفي كونها تقتل غالباً, وأما مالك فانه يرى أن المدار والضابط ليس هو (قصد القتل) وإنما (قصد العدوان), ويمكن معرفته من خلال الآلة أيضاً إذا كانت مما تقتل غالباً.
أما الإمامية فإنهم اشترطوا في ازهاق النفس أن يكون (عدواناً), وقلنا هناك أنهم يقصدون بغير حق أو الظلم الصراح, وذكرنا عدم الحاجة إلى هذا القيد, وميّزنا بين تعريف القتل العمد وحقيقته, مجردة عن ايجابه القصاص, وتعريفه كونه موجباً للقصاص.والإمامية بحسب الظاهر يرون أن القتل العمد يتحقق بقصدالقتل, سواء كان ذلك بما يقتل غالباً أم عادة أم لا يكون قاتلاً غالباً إذا ترتب القتل عليه, بل أن استعمال ما يقتل عادة يُحقّق القتل العمد وإن لم يقصد القتل ابتداء.
فانتقاء قصد القتل لا ينفي القتل العمد, فتتفق الإمامية مع الشافعي وأحمد في قصد القتل وتختلف معهم في الآلة, حيث إنهما يشترطان كونها مما تقتل غالباً, والإمامية لا تشترط ذلك, ومن هنا قالوا: (ويتحقق العمد بقصد البالغ العاقل القتل ولو بما لا يكون قاتلاً غالباً)(1).
ويمكن القول: إن تعاريف المذاهب الإسلامية للقتل العمد بكونه موجباً للقصاص, وهذا ليس تعريفاً لحقيقة القتل العمد مجردة, فالقتل العمد له حقيقة بمعزل
ص: 101
عن القصاص, وأما كونه موجباً للقصاص فهذا أمر آخر لاحق به, حيث إن القتل العمد كبيرة من الكبائر, والقصاص حدّ من حدود الله تعالى, والقتل العمد موضوع للقصاص, فإذا تحقق موضوع القصاص وجب عند توفر شروطه, وإذا لم تتوفر صدق القتل العمد ولا يقام القصاص لتخلف أحد شروطه .
ص: 102
من خلال ما تقدم من التفاصيل في مناقشة فقرات التعريف للقتل العمد يمكننا أن نذكر أركان القتل العمد المقوّمة له, التي بوجودها يتحقق القتل العمد, سواء كان موضوعاً للقصاص أم لم يكن.
فأركان القتل العمد عند الإمامية بحسب الظاهر ثلاثة:
الأول: الفعل المادي, أو الامتناع المؤدي إلى إزهاق الروح.
الثاني: وقوع الفعل المادي على محل القتل العمد, وهو نفس معصومة مكافئة عدواناً.
الثالث: القصد الجنائي, وهو الركن المعنوي, وهو قصد القتل, أو ما يظهره كاستعمال آلة قاتلة عادة أو غالباً.
هذا ما يمكن استظهاره من كلمات فقهاء الإمامية..
وأما أركان القتل العمد عند المذاهب الأخرى فهي (ثلاثة أيضاً):
الأول: أن يكون المجني عليه آدمياً حياً, وهذا هو محل الجريمة.
الثاني: الفعل المادي المؤدي إلى القتل, وهذا هو الركن المادي.
الثالث: القصد الجنائي, وهو قصد الجاني إحداث الوفاة, وهذا الركن الثالث هو الركن المعنوي في القتل العمد, وينبغي أن نضيف إلى محل الجريمة ما ذكر من أوصاف في التعريف, وهي كونها معصومة مكافئة.
ص: 103
هو كل آلة محددة جارحة أو طاعنة لها مور في البدن, أي تفرق أجزاء الجسم, ولا يشترط أن يكون المحدد من مادة معينة, فيصح أن يكون من الحديد أو النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضة أو الزجاج أو الخشب أو القصب أو العظم أو غير ذلك, ومثله السكين والرمح والبندقية والمسلة والسهم والقنبلة والسيف.
وهذه الآلات بطبيعتها قاتلة غالباً بل معدّة للقتل, والذي عند الإمامية أن هذه الآلات إذا استعملت يتحقق القتل العمد, سواء قُصد القتل ابتدءاً أم لم يقصد.
ولذلك يقول السيد الخوئي (قدس سره): (ويتحقق العمد بقصد البالغ العاقل القتل, ولو بما لا يكون قاتلاً غالباً فيما إذا ترتب القتل عليه, بل الأظهر تحقق العمد بقصد ما يكون قاتلاً عادة, وإن لم يكن قاصداً القتل ابتداءاً) (1).
ويستدل على ذلك بصحيحة الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (إذا ضرب الرجل بالحديدة فذلك العمد), والحديدة من المحدد.
ويعلّق السيد الخوئي (قدس سره) على هذه الرواية بقوله: (فإنها تدل على أن الضرب بالحديدة التي يترتب عليه القتل عادة من القتل العمدي وإن لم يقصد الضاربُ القتل ابتداءاً).
وتتفق المذاهب الأربعة مع الإمامية في أن القتل بالمحدد قتل عمد(2),
لتحقق أركانه.
ص: 104
وهو ما ليس له حدّ كالعصى والحجر, فالإمامية يشترطون فيه التكرار والاستمرار إذا لم يقصد القتل, فيتحقق القتل العمد بالتكرار والاستمرار, وأما إذا قصد القتل فهو عمد وإن لم يستمر بالضرب بالمثقل.
ولذلك قال السيد السبزواري (قدس سره): (إذا ضربه بآلة واستمر على ضربه بها حتى مات, أو شدّد في الضرب بما لا يتحمله فمات, أو كان لا يتحمل أصل الضرب لعارض فيه فمات بأصل الضرب, كل ذلك من العمد), - لصدق تعمد القتل في ذلك عرفاً - (وأما إذا ضربه بعودٍ خفيف, أو رماه بحصاة فاتفق موته لم يتحقق به موجب القصاص)(1).
ويتفق مع الإمامية مالكُ والشافعي وأحمد في أن الضرب بالمثقل قتل عمد(2),
بخلاف أبي حنيفة حيث يعدّه قتلا ً شبه عمد.
فقهاء الإمامية يفرّقون بين ما إذا كان المجني عليه متمكناً من التخلص أو الفرار ولكنه لم يفر ولم يتخلص تكاسلا ً فلا عمد, وبين ما إذا ألقاه في المهلكة ولم يمكنه الفرار أو التخلص, كما لو كتّفه وألقاه فهو عمد.
ويقول السيد السبزواري (قدس سره): (لو ألقاه في منجم فحم مهلك, أو في حقل كهربائي خطر, أو في محل فيه حية قاتلة أو سبع كذلك, أو نحوها من المهالك, فإن أمكنه الخلاص أو الفرار ولم يفر أو لم يتخلص تكاسلاً فلا قود ولا دية), لأنه أقدم على قتل نفسه باختياره فيكون دمه هدراً.
ص: 105
(وإلا) أي إذا لم يمكنه التخلص ولا الفرار (ففيه القصاص) وكذا لو كتفه وألقاه في المهلكة) (1),
يذهب مالك إلى أنه - على كل حال - قتل عمد.
وأما أحمد فيعدّه عمداً إذا فعل به السبع فعلاً يقتل مثله, وأمّا الشافعي فهو يفرّق بين الصبي والبالغ, وبين كون السبع ضارياً أم لا, وعنده القتل شبه عمد.
وأما أبو حنيفة فلا يرى مسؤولية على الجاني في كل الصور المحتملة.
وهما الإلقاء في الماء, سواء كان نهراً أم بحراً أم غيرهما، وأما الإلقاء في النار فهو الإحراق, سواء كانت كبيرة أم صغيرة, والإمامية يميّزون في هاتين الواقعتين بين حالة تمكن المجني عليه من التخلص وعدمها, حيث يقول السيد السبزواري(2)
(قدس سره), في ذلك: (إذا طرحه في النار أو ألقاه في البحر فأعجزه عن الخروج حتى مات, أو منعه عن ذلك فمات قُتل به,
لصدق التعمد إلى قتله بذلك, فيشمله إطلاق أدلة القتل العمدي).
فظاهر كلامه (قدس سره) أن منشأ صدق القتل العمد على هاتين الحالتين هو إعجاز المجني عليه ومنعه من الخروج, وإلا فإذا كان غير عاجز عن الخروج ولم يمنعه منه فلم يصدق عليه القتل العمد, ويتفق الشافعي وأحمد مع الإمامية في التفصيل المتقدم, ويعدّاه عمداً في حالة عدم إمكان التخلص, ومع إمكانه فلا مسؤولية, وأما مالك فيعدّه قتلاً عمداً سواء أمكنه التخلص أم لا, وأما أبو حنيفة فيراه قتل عمد إذا كان الإحراق مما يقتل غالباً فهو قتل عمد وإلا فهو شبه عمد, وأما الإغراق فهو شبه عمد دائماً.
ص: 106
والمقصود به منع خروج النَّفَس بأي وسيلة, سواء شنق الجاني المجني عليه بحبل, أو خنقه بيده, أو بحبل, أو غمه بوسادة, أو بأي شيء وضعه على فيه أو أنفه.
والخنق عند الفقهاء الإمامية مما يقتل غالباً, فيكون مصداقاً للقتل العمد وركناً مادياً له, وعلى هذا فهو عندهم يُثبت القتل العمد.
ويقول السيد الخوئي(1): (قدس سره) (ومن هذا القبيل ما إذا خنقه بحبل ولم يرخه عنه حتى مات.. فهذه الموارد وأشباهها داخلة في القتل العمدي, وملاكُ العمد في القتل هو إيجاد عمل يقصد به القتل أو يترتب عليه الموت غالباً, وهو متحقق في جميع هذه الموارد).
وكذلك يقول السيد السبزواري(2) (قدس سره): (فلو خنقه بحبل ولم يرفعه عنه حتى مات.. أو غير ذلك من الأسباب المختلفة, كل ذلك من العمد يكون فيه القود, ولا فرق في ذلك كله بين أن يموت بنفس هذا العمل بلا تخلل زمان أو مات موتاً مستنداً إليه) لصدق استناد الموت إلى فعله عرفاً مع كون الفعل مما يقتل وان تخلل زمان بينهما غالباً.أي أن الخنق مصداقٌ للعمد حتى لو تخلل زمان بينه وبين الموت.
والشافعي وأحمد يفرّقان بين ما إذا كان الخنق لمدّة يموت في مثلها فهو قتل عمد وبين ما إذا كانت مدّة لا يموت في مثلها فهو شبه عمد, وأمّا مالك فعنده الخنق عمد في كل الأحوال, وأما أبو حنيفة فيعدّ الخنق في كل الأحوال شبه عمد.
ص: 107
الظاهر إجماع الإمامية على أن هذا المورد من موارد القتل العمد؛ لصدق تعمد القتل عرفاً, والى هذا أشار السيد الخوئي(1) (قدس سره), بقوله: (أو حبسه في مكان ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات.. فهذه الموارد وأشباهها داخلة في القتل العمدي).
ويضيف إلى ذلك قوله: (وملاك العمد في القتل هو إيجاد عمل يقصد به القتل أو يترتب عليه الموت غالباً وهو متحقق)(2).
وكذلك السيد السبزواري (قدس سره) حيث قال(3):
(لو منعه عن الطعام والشراب مدّة لا يتحمل مثله فيها عن ذلك عادة فمات فهو عمد لصدق تعمد القتل عرفاً), فاشترط السيد السبزواري لذلك عدم التحمل لتلك المدّة, وعليه فإذا كانت المدّة التي منع عنه الطعام والشراب تتحمل عادة فهنا يفرقون بين حالتين أيضاً, وهما حالة كون الجاني قاصداً للقتل ولو رجاءاً فيكون عمدا(4), والأخرى حالة عدم قصد القتل فهو شبه العمد.
ويتفق الشافعي وأحمد مع الإمامية في أن المدّة التي منع عنها إذا كان يموت في مثلها فهو عمد وإلا فلا, وأما مالك فيعدّها عمداً على كل حال, وأما أبو حنيفة فلا يرى مسؤولية الجاني أصلاً.
ص: 108
الإمامية يفرقون بين عدّة صور للتسميم, حيث أنهم يفرقون بين علم الآكل وجهله, وكذلك بين كون السم مما يقتل عادة وما لا يقتل عادة, ويمكن جعلها أربع صور على النحو الآتي:
1- أن يكون السم مما يقتل عادة, والآكل على علم به وكان مميزاً ومع ذلك أكله, فلا يتحقق القتل العمد؛ وذلك لان الآكل أعان على نفسه.
2- أن يكون السم مما يقتل عادة, وكان الآكل لا يعلم به ومميزاً, فيتحقق القتل العمد.
3- أن يكون السم مما يقتل عادة, وكان الآكل يعلم به ولكنه غير مميز, فيتحقق القتل العمد.
4- أن يكون السم مما يقتل عادة, والآكل لا يعلم به وغير مميز, فيتحقق القتل العمد أيضاً, وهذه الصور أشار إليها السيد الخوئي (قدس سره) بقوله(1):
(لو أطعمه عمداً طعاماً مسموماً يقتل عادة فإن علم الآكل بالحال وكان مميزاً ومع ذلك أقدم على أكله فمات فهو المعين على نفسه فلا قود ولا دية على المُطعم, وإن لم يعلم الآكل به أو كان غير مميز فأكل فمات فعلى المطعم القصاص بلا فرق بين قصده القتل به وعدمه), لصدق القتل العمدي وإن لم يكن القتل مقصوداً له ابتداءاً.
وهنا أمور يمكن الإشارة إليها إجمالاً وهي: أن الإمامية تُميّز بين ما إذا قال الجاني للمجني عليه (إن فيه سماً غير قاتل) وبين قوله (إنّ فيه سماً), أي: بين علم المجني عليه بأوصاف السم وإطلاقه, لاعتبار أن قول الجاني (غير قاتل) تغرير بالمجني عليه.
ص: 109
والفقهاء الإمامية يعدّون وضع السم غير القاتل مع قصد القتل - ولو احتمالاً - عمداً, ويتفق معهم مالك بأن التسميم قتل عمد إلا إذا علم المجني عليه, وكذلك أحمد والشافعي فهما يفرّقان بين المميز وغيره وكون السم مما يقتل عادة أو لا, وأما أبو حنيفة فلا يعدّه قتلاً عمداً ويعزّر الجاني عنده.
الفقهاءالإمامية يعدّون الخوف والرعب وغيرهما مما يُعد من الوسائل المعنوية التي ليست لها واقعية قتلاً عمداً, سواء كانت تقتل غالباً أم لا.
والى ذلك أشار السيد الخوئي (قدس سره) بقوله (1):
(كما لو سحره فتراءى له أن الأسد يحمل عليه فمات خوفاً كان على الساحر القصاص), ويقول: (ليس للسحر حقيقة موضوعية بل هو إرائة غير الواقع بصورة الواقع).
ويتفق معهم مالك في أن القتل بوسيلة معنوية قتل عمد, وأما أحمد فيعدّه قتلا ً شبه عمد, والشافعي يتفق مع أحمد في ذلك, وكذلك أبو حنيفة فإنّه يراه قتلاً شبه عمد.
وذلك عندما يشهد شخص أمام القاضي على أن فلانا مرتد أو زَنا بالمحصنة أو غير ذلك فيحكم عليه بالقتل فيقتل, ثمّ يتضح كذب الشهود بعد تنفيذ الحكم عليه, فهل يعدّ عمداً أم لا؟
وكذلك الحاكم, فالحاكم إذا حكم بالإعدام على شخص ظلماً وهو عالم بذلك ومتعمد له عُدّ قاتلاً للمحكوم عليه عمداً.
وكذلك ولي الدم إذا قتل المحكوم عليه بالقصاص ظلماً وهو عالم أنه مظلوم يعدّ قاتلاً له عمداً.
ص: 110
وإلى هذا المعنى أشار السيد السبزواري (قدس سره) بقوله(1):
(العمد أعم من المباشرة والتسبيب), لتحقق موضوع العمد في كل منهما عرفاً, فيشمله إطلاق الأدلة قهراً, ويقول (قدس سره): (لو تمت الشهادة عند الحاكم على ثبوت موجب القتل على شخص من ارتداد أو زنا بمحصنة أو نحوهما وبعد استيفاء الحد ظهر أن الشهود كانوا زوراً فالضمان على الشهود دون الحاكم والمأمور), إجماعاً ونصوصاً, كما في معتبرة ابن محبوب عن الصادق (علیه السلام): ( في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ثم رجع أحدهم بعدما قتل الرجل, فقال: إن قال الرابع: وهمتُ ضُرِب الحد وغرم الدية وإن قال: تعمدتُ قُتِل)(2).
ويقول السيد السبزواري(3) (قدس سره): (لو علم الولي بأن الشهادة شهادة زور وباشر القصاص كان عليه القود), لتحقق السبب بالقتل عدواناً من غير غرور في البين, ولا فرق في العالم بالتزوير أو بفسق الشهود بين الولي الشرعي للقصاص أو الحاكم, لجريان عموم دليل القصاص في كل منهما, والمذاهب الأربعة جميعاً يعتبرون الشاهد قاتلاً عمداً(4),ولكن أبا حنيفة لا يرى فيه القصاص وكذلك الحاكم وولي الدم.
والسؤال المتوجه: هل أن رضا المجني عليه بالقتل يجعل الجريمة مباحة أم لا؟
ص: 111
المذهب الإمامي يفرّق بين البالغ العاقل وغيره, وعنده أن الإذن بالقتل لا يبيح القتل, وتبقى الحرمة, أي أن رضا المجني عليه ليس ركناً في القتل, بخلاف السرقة حيث إن رضا المجني عليه ركنٌ فيها, والى ذلك أشار السيد الخوئي (قدس سره) بقوله(1):
(لو قال: اقتلني, فقتله, فلا ريب في أنه قد ارتكب محرماً) فإن حرمة القتل لا ترتفع بإذن المقتول.
وكذلك السيد السبزواري (قدس سره) بقوله(2):
(لو قال بالغ عاقل لشخص آخر اقتلني وإلا أقتلك) يحرم عليه قتله, ولا يجوز له ذلك, للإجماع, ولأن الإذن لا يرفع الحرمة الشرعية في الدماء, أما العقوبة المقرّرة لذلك فهل هي ثبوت القصاص أو الدية أو التعزير؟
الظاهر عند الإمامية وجهان:
الوجه الأول: ما اختاره المحقق وهو الأشهر - عدمُ ثبوت القصاص واستدلوا على ذلك بأن الآمر قد أسقط حقه بالإذن فلا يتسلط عليه الوارث, ومورد كلام المحقق وان كان هو الإكراه إلا أن تعليله يعم صورة الاختيار, بحسب ما نسبه إليه السيد الخوئي(3)
(قدس سره), ويذكر السيد السبزواري (قدس سره) مورد الاختيار بقوله: (وأما لو قتله بمجرد الإيعاد يكون آثماً وفي ثبوت القصاص أو الدية إشكال بل منع)(4),
أمّا الإثم
ص: 112
فلأصالة بقاء الحرمة من غير دليل حاكم عليها, وأما عدم القصاص والدية فللشك في ثبوتهما في المقام الذي أذن فيه الشخص بقتل نفسه وهتك حرمتها, فيرجع إلى أصالة البراءة عنهما ولا يجوز التمسك بإطلاق دليلهما لأنه تمسك بالدليل في الموضوع المشكوك.
الوجه الثاني: ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره), بقوله: (وهل يثبت القصاص عندئذٍ أو لا؟ الأظهر ثبوته, هذا إذا كان القاتل مختاراً أو متوعداً بما دون القتل)(1),
فإن الإنسان غير مسلط على إتلاف نفسه ليكون إذنه بالإتلاف مسقطاً للضمان كما هو الحال في الأموال, فعمومات أدلة القصاص محكمة, ويتفق معهم أبو حنيفة في أن الإذن بالقتل لا يبيح القتل فيعدّه قتلاً عمداً(2),
وكذلك مالك(3),
وفي رأي للشافعي أنه عَمد ولكن عليه الدية لا القصاص, وأما أحمد فيرى أنْ لا عقاب على الجاني وهو يتفق مع رأي آخر للشافعي(4).
بأنْ يشترك اثنان أو أكثر بقتل شخص أو أكثر فيقول السيد السبزواري (قدس سره) (5):
(إذا اشترك اثنان أو أكثر في قتل واحد اقتص منهم الولي إن شاء مع ردّ ما فضل من دية المقتص منه) للعموم والإطلاق والاتفاق وقاعدة (نفي الضرر).
وصحيح الفضيل بن يسار قال: ( قلت لأبي جعفر (علیه السلام) عشرة قتلوا رجلاً, قال:
ص: 113
إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعاً وغرموا تسع ديات, وإن شاءوا تخيروا رجلاً قتلوه وأدى التسعة الباقون إلى أهل المقتول الأخير عشر الدية كل رجل منهم, ثم الوالي بعد يلي أدبهم وحبسهم(1).
ويقول السيد السبزواري(2)
(قدس سره): (الاشتراك في القتل على قسمين: الأول: أن
يفعل كل منهم ما يقتل لو انفرد مثل أن يجرحوه بجراحات كل واحدة منها تكفي في القتل أو يلقوه في النار أو من شاهق أو في البحر أو نحو ذلك من المهالك), لتحقق السببية بالنسبةإلى كل واحد منهم, ويصح إسناد القتل إلى كل واحد منهم عرفاً, فيجري حكم القصاص بالنسبة إلى الجميع, فيُخيّر ولي الدم بين قتلهم جميعاً ودفع ديات تسعة منهم بينهم بالسوية, أو يختار بعضهم فيدفع دية الزائد والباقون يدفعون إلى المقتص منهم بالنسبة.
والثاني: الشركة في السراية مع قصد الجناية, فلو اجتمع عليه جمع فجرحه كل واحد منهم بما لا يقتل منفرداً ولكن سرت الجميع فمات بسبب السراية فعليهم القود بالنحو المتقدم, لتحقق التسبب إلى القتل بالسراية مع قصده الجناية والسراية توجب الموت وإزهاق الروح.
هذه التطبيقات جميعها تحقق أركان القتل العمد باعتبارها الفعل المادي أو المعنوي المؤدي إلى إزهاق الروح مع تحقق القصد الجنائي أو استعمال ما يقتل غالباً أو عادة, وبتحقق أركان القتل العمد جميعها يتحقق موضوع القصاص فيوجِب القود عليهم.
ص: 114
ومن المتفق عليه بين المذاهب الأربعة أن تعدد الجناة لا يمنع من الحكم عليهم بالقصاص ما دام كل منهم قد باشر الجناية(1), وقد اختلفوا في حالة الإعانة على القتل أو التحريض عليه.
ولا خلاف في أن القاتل في الحالتين – أي: حالة التوافق وحالة التوافق السابق- يقتص منه ولو تعدد المباشرون سواء كان اجتماعهم على القتل نتيجة اتفاق سابق أو توافق غير منتظر.ولكن الخلاف(2),
في حكم مَن اتفق ولم يحضر القتل أو أعان عليه ولم يباشر, فأبو حنيفة والشافعي وأحمد يرون القصاص من المباشر فقط وتعزير مَن لم يباشر, ومالك يرى قتل مَن حضر ولم يباشر ومَن أعان ولم يباشر, أما من اتفق ولم يحضر فعليه التعزير في الراجح, وأما من أمسك رجلاً وقتله آخر فإن أمسكه بقصد القتل فعلى المباشر القصاص, وأما الممسك فمالك يرى قصاصاً, ويرى أبو حنيفة والشافعي تعزير الممسك ولو امسكه بقصد القتل, وأحمد يرى القصاص من الممسك على رأي.
وأما من أمر آخر بالقتل, فإن كان المأمور صبياً غير مميز أو مجنوناً فيرى مالك والشافعي وأحمد القصاص من الآمر لأنه هو المتسبب, ولا يرى أبو حنيفة القصاص من الآمر, وأما إذا كان المأمور بالغاً عاقلاً ولا سلطان للآمر عليه فمالك والشافعي وأحمد يرون القصاص من المأمور, وأما الآمر فعليه التعزير, ويرى مالك القصاص من الآمر أيضاً إذا حضر القتل.
وأما إذا كان المأمور بالغاً عاقلاً وكان للآمر سلطان عليه بحيث يخشى أن يقتله لو
ص: 115
لم يطع, فيقتص من الآمر والمأمور معاً عند مالك, ويتفق احمد مع مالك والشافعي, وأما أبو حنيفة فعنده يقتص من الآمر في حالة الإكراه فقط.
وإلى هنا بيّنا آراء الفقهاء المسلمين في هذه الجرائم وأنها تحقق أركان القتل العمد عندهم بحسب ما ذكرناه من كونها أفعال مادية أو معنوية تؤدي إلى الوفاة وبقصد القتل.
ص: 116
1- القرآن الكريم .
2- الأنوار لأعمال الأبرار في فقه الإمام الشافعي, العلامة يوسف الاردبيلي.
3- التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي, عبد القادر عودة, ط أولى, مطبعة الكاتب العربي – بيروت.
4- تفسير شبر, السيد عبد الله شبر, دار أحياء التراث العربي بيروت لبنان, ط ثالثة 1377ﻫ 1977م.
5- تنوير الحوالك على موطأ مالك, جلال الدين السيوطي.
6- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة, ملا صدر الدين محمد الشيرازي, ط رابعة 1410ﻫ - 1990م, مط دار أحياء التراث العربي بيروت لبنان.
7- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية, زين الدين بن علي العاملي الشهيد الثاني, ط أولى, مطبعة ثامن الحجج.
8- الزبدة الفقهية في شرح الروضة البهية, السيد محمد حسن ترحيني العاملي, ط4 مط دار الهادي بيروت لبنان.
9- شرح شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام, السيد عبد الزهراء الحسيني, ط أولى.
10- شرح قانون العقوبات الجديد, حميد السعدي, مط المعارف 1976م – 1967م.
11- شرح قانون العقوبات العراقي وتعديلاته, د. عباس الحسني, مطبعة العاني, بغداد.
ص: 117
12- الصحاح, الجوهري, نديم مرعشلي وأسامة مرعشلي, ط أولى.
13- قانون العقوبات القسم الخاص, أ.د. واثبة داود السعدي, بغداد 1988م – 1989م.
14- قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 م وتعديلاته, القاضي نبيل عبد الرحمن حياوي, ط ثانية 2006م مط المكتبة القانونية بغداد.
15- القسم الخاص في قانون العقوبات, د. رمسيس بهنام, ط أولى 1988م, مط دار المعارف في مصر.
16- الكتب الأربعة (الكافي – من لا يحضره الفقيه – التهذيب - الاستبصار) تنظيم برزكر بفروبي ط أولى 1424ﻫ 2003م مط تكي – قم .
17- المبادئ العامة في قانون العقوبات الجديد, أ.د. علي حسين خلف و أ.م.د. سلطان عبد القادر الشاوي, مط المكتبة القانونية بغداد.
18- مباني تكملة المنهاج, زعيم الحوزة العلمية السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي, مط الآداب, النجف الاشرف.
19- مسالك الأفهام في تنقيح شرائع الإسلام, زين الدين بن علي العاملي الشهيد الثاني, ط أولى 1419ﻫ, مطبعة باسدار إسلام قم.
20- المغني, ابن قدامة موفق الدين أبو محمد عبد الله بن احمد المقدسي, ط 1425ﻫ - 2004م, مطبعة دار الحديث القاهرة.
21- المنجد في اللغة, لويس اليسوعي, ط تاسعة 1937 مط الكاثوليكية بيروت.
22- مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام, السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري, مط الآداب, النجف الاشرف سنة 1986م – 1406ﻫ.
ص: 118
23- وسائل الشيعة إلى مسائل تحصيل الشريعة, الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي, الطبعة الخامسة (الاسلامية), دار احياء التراث العربي.
ص: 119
ص: 120
استعرض الفقهاء (قدِّست أسرارهم) عدَّة مواطن لسقوط الأذان, وقد عُدَّ منها حالة الجمع بين فرضي الصلاة, إلاّ أنَّ هذا وقع مثاراً للاختلاف بين الأقوال والكلمات.
وقد جاءت هذه الدراسة للبحث عن تلك الأقوال وبيان مستند كلٍّ منها, مع اختيار الأقرب بحسب ما توصل إليه البحث من نتائج.
ص: 121
ص: 122
بسم الله الرحمن الرحیم
مِنَ الثابت في الشريعة الإسلامية المقدَّسة استحباب الجمع بين الصلاتين في عدَّة مواطن, كظهري يوم عرفة, وعشائي المزدلفة, وظهر يوم الجمعة لمن صلَّى الجمعة؛ وذكر الأَعلام (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) أنَّ الأذان الثاني في هاتين الصلاتين يسقط عن الاستحباب، إلَّا أنَّه هل يسقط الأذان الثاني في موارد الجمع غير المستحب - كما في الجمع في الفرائض اليومية أو الجمع في يوم الجمعة لمن صلى الظهرين (على قول)- ؟
وقع خلاف بين الأَعلام في السقوط وعدمه, وقد اختار جمعٌ سقوط ذلك الأذان, ثُمَّ وقع الخلاف في أنحاء هذا السقوط, فهل هو على نحو العزيمة- أي يحرم الإتيان به- أو على نحو الرخصة؟ وهذا ما سوف يقع مداراً لبحثنا, ثم بعد ذلك نبحث في حقيقة الجمع أو بماذا يتحقق التفريق، وسوف نقسم البحث إلى ثلاثة مقامات.
في سقوط الأذان الثاني عند الجمع بين الصلاتين جمعاً غير مستحب.
وسنسلّط الضوء في هذا المقام على ثلاثة محاور:
1- ما ذكره أبو الصلاح الحلبي (قدس سره), قائلاً: (وإذا اختل شرط من شروط الجمعة المذكورة سقط فرضاً وكان حضور المسجد الجامع لصلاة النوافل وفرض الظهر والعصر مندوباً إليه ... فإذا زالت الشمس صلاهما وأذن لنفسه وأقام وصلى الظهر كسائر الأيام فإذا سلَّم بهما عقَّب وعفَّر ونهض فصلى فريضة العصر بإقامة من غير أذان)(1).
2- ما ذهب إليه الشيخ الطوسي (قدس سره), وقد صرَّح به في أكثر من مصدر:
أ- فقد جاء عنه (قدس سره) في الخلاف: (مَنْ جمع بين صلاتين,
ينبغي أنْ يؤذن للأُولى ويُقيم للثانية, سواء كان ذلك في وقت الثانية أو الأولى, وفي أي موضع كان..., دليلنا إجماع الفرقة, وأيضاً روي عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنَّه جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين, وهذا نصٌّ).(2)
وهذا الكلام صريح في إناطة السقوط بالجمع, لا بخصوص مكان أو زمان.
ب- وقد جاء عنه (قدس سره) في المبسوط: (مَنْ جمع بين صلاتين, أذن وأقام للأولى منها ويقيم للأُخرى بلا أذان, سواء جمع بينهما في وقت الأولى أو الثانية)(3).
ت- كما جاء عنه (قدس سره) في النهاية: (ولا يجوز الأذان لصلاة العصر يوم الجمعة, بل ينبغي إذا فرغ من فريضة الظهر أنْ يُقيم للعصر ثم يصلي, إماماً كان أو مأموماً)(4).
ولا أجد اختلافاً في هذه العبارة عن سابقاتها, مِنَ الدلالة على سقوط الأذان الثاني
ص: 124
في الجمع غير المستحب.
ولكن الشيخ ابن إدريس (قدس سره) ادعى خلاف ذلك, واستظهر منها الاختصاص بيوم الجمعة عند الجمع بين صلاة الجمعة والعصر, فقال (قدس سره): (وقد يشتبه على كثير من أصحابنا المتفقهة هذا الموضع لما يقفون عليه فيما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه الله في نهايته في باب الجمعة من قوله -وذكر العبارة السابقة- وهذا عند التأمل لا درك على المصنف, ولا اشتباه, وهو أنَّ الإمام إذا فرغ من صلاة الظهر يوم الجمعة وصلى الجمعة يقيم للعصر من غير أذان له, والذي يدلك على ما قلناه: أن المسألة أوردها في باب الجمعة, لا الجماعة, لا أن مقصود المصنف كل من صلاها أربعاً)(1)
ولا يخفى أنَّ ما ذكره (قدس سره) بعيد جداً, لما هو الظاهر من (بل) التي تفيد الإضراب إذا أُتي بعدها بجملة, (فتارة) تكون بمعنى الإبطال, (وتارة) للانتقال من غرض لآخر، ومثال الأول قوله تعالى: [أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ](2), ومثال الثاني قوله تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا](3), والظاهر من عبارة الشيخ في النهاية هو الانتقال من غرض لآخر, والغرض الأول هو بيان وظيفته تجاه الأذان الثاني إذا صلى الجمعة, والغرض المنتقل إليه بعد (بل) هو بيان وظيفته تجاه الأذان الثاني إذا صلى الظهر.
وقد يقال: وإنْ سلَّمنا أنَّ معنى (بل) هو ما ذُكر من الانتقال إلى غرض آخر, إلاّ أنَّ إفادة المعنى الثاني هو بيان اشتراك الحكم بين المأموم والإمام.
ص: 125
فيُجاب: بأنَّ هذا ليس غرضا آخر, بل لا يحتاج فيه إلى الاستدراك, لإمكانه أنْ يقول: (لا يجوز أنْ يؤذن لصلاة العصر إماماً كان أو مأموماً في يوم الجمعة).
وقد ذكر العلامة (قدس سره) كلام ابن إدريس (قدس سره) ولم يرتضه, قائلاً: (وحَمْل ابن إدريس الظهر على الجمعة باطل, لعدم الدليل)(1).
3- ما قاله ابن البرَّاج (قدس سره): (مَنْ جمع بين صلاتين, جاز له أنْ يُؤذن ويقيم للأولى, ثم يقيم للثانية)(2).
وهذا الكلام ظاهره موافقته لكلام الشيخ المتقدِّم من تعليق الترك على الجمع.
4- ما ذكره المحقق (قدس سره) في المعتبر, قائلاً: (يجمع يوم الجمعة بين الظهرين بأذان وإقامتين, كذا قال الثلاثة وأتباعهم؛ لأنَّ الجمعة تجمع صلواتها وتسقط ما بينها من النوافل إلاَّ في رواية، قال الشيخ في المبسوط ... ووجه ذلك أنَّ الأذان إعلام بدخولِ الوقتِ فإذا صلى في وقت الأولى أذن لوقتها, ثم أقام للأخرى؛ لأنَّه لم يدخل وقت يحتاج إلى الإعلام به, ولو جمع بينهما في وقت الثانية أذن لوقت الثانية, ثم صلى الأولى؛ لأنَّها مترتبة عليها, ثم لا يعاد للثانية)(3).
وما ذكره (قدس سره) ظاهر في عدم اختصاصه بمَن صلّى الجمعة, بل يشمل مَنْ صلّى الظهرين أربعاً أيضاً, كما في عبائر الشيخ (قدس سره) المتقدمة.
نعم, ذَكَر أنَّ السقوط في المقام في يوم الجمعة, إلَّا أنَّ مناط السقوط في عبارته ليس هو الزمان, بل المناط هو الجمع, وعلى أساس هذا المناط تشمل مقام عدم استحباب الجمع.
ص: 126
وكذلك هذا هو ظاهر عبارته (قدس سره) في الشرائع, إذْ قال: (ويُصلّى يوم الجمعة الظهر بأذان و إقامة والعصر بإقامة), لإطلاق قوله(الظهر).
هذا هو القول الأول المدعى عليه الشهرة بين الأعلام(1).
وهو مختار جمع من المتأخرين:
1- ما ذكره صاحب المدارك (قدس سره), قائلاً: (وقال ابن إدريس إنَّما يسقط أذان العصر عمَّن صلّى الجمعة دون من صلّى الظهر, ونقل عن ابن البرَّاج والمفيد في الأركان أنَّهما استحبا الأذان لعصر يوم الجمعة كغيره من الأيام, وهو اختيار المفيد في المقنعة على ما وجدته فيها, فإنَّه قال بعد أنْ أورد تعقيب الأولى: ثم قم فأذن للعصر وأقم الصلاة؛ وإلى هذا القول ذهب شيخنا المعاصر سلمه الله, وهو المعتمد؛ لإطلاق الأمر الخالي من التقييد)(2)
2- عبارة الشيخ المفيد (قدس سره) في المقنعة, ولم أعرضها عند نقل كلمات الأعلام ممن اختاروا القول الأول, وأجلّتُ عرضها إلى هذا الموضع؛ لوجود اختلاف في النُسَخ, حيث قال في بحث صلاة الجمعة: (ثم قم فأذن للعصر وأقم), وهي كما نقلناها آنفاً عن السرائر والمدارك، وعلى هذا فقد وافق المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك قدس سرّهما.
ولكن وردت في نسخة أخرى -وهي المذكورة في التهذيب-: (ثم قم فأقم
ص: 127
للعصر)(1),
ويظهر من هذه النسخة موافقته لقول المشهور.
ويضاف إلى هذا كله ما نقله صاحب الجواهر (قدس سره), حيث قال: (وما عن بعض نسخ المقنعة من التعبير بالأذان مراد منه الإقامة, بقرينة ما عن نسخة أخرى, وعدم إردافه بالإقامة في النسخة المزبورة)(2).
وما نقله صاحب الجواهر (قدس سره) هنا مخالفٌ لما ذُكر في النسختين المتقدِّمتين؛ حيث أَنَّها ذَكرت الأذان لصلاة العصر دون الإقامة, فهي إمَّا نسخة أُخرى أو سهو من قلمه الشريف, ولا مرجح لإحدى النسخ على الأخرى.
3- ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره): (إن ما اختاره صاحب المدارك تبعاًُ للمحقق الأردبيلي من عدم السقوط لدى الجمع مطلقاً سواء أكان في عصر الجمعة أم غيرها, وسواء صلى صلاة الجمعة أم الظهر هو الصحيح)(3).
هذا هو القول الثاني الذي اختار عدم سقوط الأذان الثاني عند الجمع بين الصلاتين.
ويمكن التمسك بإطلاق مجموعة من الروايات للدلالة على الاستحباب.
وهي ما رواه الشيخ, عن الحسين بن سعيد, عن الحسن أخيه, عن زرعة, عن سماعة, قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام) لا تصلِّ الغداة والمغرب إلا بأذان وإقامة, ورخَّص
ص: 128
في سائر الصلوات بالإقامة, والأذان أفضل)(1).
وقيد (أخيه) في السند لم يرد في الاستبصار, وعلى هذا فقد يكون الحسن المذكور في السند هو ابن فضال الثقة, إلَّا أن الشيخ محمد استقرب كونه ابن سعيد, وعلى كلٍ فالرواية معتبرة.
وهذه الرواية صريحة الدلالة في رجحان الأذان في جميع الفرائض, ومطلقة من جهة التفريق والجمع بين الصلاتين.
وهي ما رواه الشيخ, عن محمد بن أحمد بن يحيى, عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال, عن عمرو بن سعيد, عن مصدق بن صدقة, عن عمار الساباطي, عن أبي عبد الله (علیه السلام), قال: (إذا قمت إلى صلاة فريضة فأذن وأقم, وافصل بين الأذان والإقامة بقعود أو بكلام أو تسبيح)(2).وفي سند هذه الرواية مصدق بن صدقة, الذي وثقه الكشي في ترجمة محمد بن سالم بن عبد الحميد, فقال: (قال أبو عمرو: هؤلاء كلّهم فطحية من أجلة العلماء والفقهاء العدول, وبعضهم أدرك الرضا (علیه السلام), وكلهم كوفيون).(3)
وأمَّا دلالتها, فهي لا تختلف عن الأولى في استفادة الإطلاق, من حيث الجمع والتفريق بين الصلاتين.
ص: 129
ما رواه الشيخ, عن محمد بن علي بن محبوب, عن أحمد بن الحسن, عن عمرو بن سعيد, عن مصدق بن صدقة, عن عمار, قال: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (لا بُدَّ للمريض أن يؤذن ويقيم إذا أراد الصلاة ولو في نفسه إنْ لم يقدر على أنْ يتكلم به سئل, فإنْ كان شديد الوجع؟ قال: لابد أن يؤذن ويقيم؛ لأنه لا صلاة إلا بأذان وإقامة)(1).
ودلالتها - كسابقاتها - ظاهرة في الدلالة على رجحان الأذان في كل فريضة, بل نفت حقيقة الصلاة عند عدم الأذان, وهي كذلك مطلقة من جهة الجمع والتفريق.
ما رواه الشيخ, عن الحسين بن سعيد, عن فضالة, عن معاوية بن وهب أو ابن عمار, عن الصباح بن سيابة, قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): لا تدع الأذان في الصلوات كلها, فان تركته فلا تتركه في المغرب والفجر, فإنَّه ليس فيهما تقصير)(2).
وسند هذه الرواية ضعيف بالصباح بن سيابة, فإنَّه لم يُذكر بتوثيق, لا خاص, ولا عام, إلا كونه ممن روى عنه أصحاب الإجماع كأبان وحماد ابني عثمان(3).
ودلالتها - كسابقاتها - ظاهرة في ثبوت الرجحان في حالة الجمع وحالة التفريق.
هذا تمام الكلام في المحور الثاني, الذي اتضح من خلاله أنَّ الأصل ثبوت الإطلاق.
إنَّ الأذان إعلام بدخول الوقت, فإذا أذن في وقت الأولى لم يحتج إلى أذان جديد إذا
ص: 130
صلى الثانية في وقتها, وكذلك إذا صلى الأولى في وقت الثانية فإنَّه يؤذن للثانية, والإعلام يتحقق في الوقت دون خارجه وبه يسقط الأذان الثاني(1).
إن قلت: إنْ كان أصل شرعية الأذان لأجل الإعلام بدخول الوقت, فكيف استحب في القضاء مع فوات وقت الأداء؟
فيُجاب: إن استحباب الأذان في القضاء ثابت لورود النص.
أقول: إنّ ما ذكر في هذا الاستدلال وإنْ دلَّت عليه مجموعة من الروايات, (منها) رواية عبد الله عن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث, قال: (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول لبلال: إذا دخل الوقت يا بلال اعل فوق الجدار وارفع صوتك بالأذان)(2), وغيرها.
إلا أنَّه قد ورد في قبالها مجموعة من الروايات دلَّت على مشروعية الأذان للصلاة, كما أشرنا إلى بعضها في المحور الثاني, وغيرها كثير(3),
وقد ذُكرت عدَّة مواقف للتعامل مع هاتين الطائفتين من الروايات:
الموقف الأول: إنَّ علَّة الأذان هو الصلاة, والإعلام تابع له.
الموقف الثاني: إنَّ للأذان علَّتين, هما الصلاة والإعلام.
الموقف الثالث: إنَّ الأذان على نوعين:
النوع الأول: أذان الإعلام.
النوع الثاني: أذان الصلاة.
ص: 131
وهذا مذهب المتأخرين, وهو الظاهر من الروايات, وبين النوعين عموم وخصوص من وجه, فربَّما يتداخلان في أذان واحد, وقد يفترقان, وعليه فبناء على ما ذكره المحقق (قدس سره) من أذان الإعلام ساقط؛ لأنه مختص بالوقت يبقى أذان الذكر والصلاة, بل يبقى استحباب الأذان الثاني حتى عند ما يلتزم بالموقف الأول، ويضاف إليه كيف يدعى انه للإعلام مع إمكان إتيانه سرا(1),
وعليه فالظاهر من بعض الروايات التي حثَّت عليه, وشدَّدت على الإتيان به في كل صلاة, هو أذان الصلاة, كما جاء آنفاً في موثقة عمار الساباطي: (سئل فان كان شديد الوجع, قال: لابد أنْ يؤذن ويقيم؛ لأنَّه لا صلاة إلا بأذان).
وهي ما رواه الشيخ, بإسناده عن الحسين بن سعيد, عن ابن أبي عمير, عن عمر بن أذينة, عن رهط (منهم) الفضيل و زرارة, عن أبي جعفر (علیه السلام): (إنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين, وجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين)(2).
ولا إشكال في سند الرواية, ولكن يطول الكلام في دلالتها, وتقريب الدلالة: بأنَّ تَرْك الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) الأذان في حال الجمع بين الفرضين كاشفٌ عن سقوطه؛ لأنَّ الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لا يترك المستحب.
وقد أُشكل على هذه الرواية, بعدم ظهورها في سقوط الأذان بحيث يستوجب تخصيصاً في أدلة مشروعيته, وإنما هو لأجل التخفيف والتوسيع(3).
ص: 132
ويُمكن أنْ يُجاب بأنَّ الظهور على خلاف ما أَشكل؛ لأنَّه لو كان المناط هو التخفيف والتوسيع لما اختص بحال الجمع, ولَشَمِلَ حال التفريق أيضاً, ولعلَّ هذا ما يظهر من التكرار المذكور في كلام الإمام (علیه السلام) الذي لا داعي له إلا التأكيد على أنَّه ساقط عن الاستحباب حال الجمع.
وبكلمة: إنَّ الغرض لو كان هو التسهيل فإنَّه ليس بالضرورة أنْ يتحصَّل بترك الأذان, بل هو حاصل بمجرد الجمع, إذ يُفهم من الرواية أنَّ لخصوصية الجمع مدخلية في الترك بالإضافة إلى فهم استمرار الترك من تكرار الفعل.
ولكن يمكن أنْ يقال: إنَّ الجمع بين الفرضين ليس بعدم الفاصلة بينهما بنافلة أو بوقت طويل أو بكليهما كما سوف يأتي, بل الجمع حصل بالأذان, أي أنَّه (صلی الله علیه و آله و سلم) شرَّك بينهما بأذان وإقامتين, ويكون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل, والباء بمعنى الاستعانة, وعليه فيكون مدخولها آلة الجمع, وعلى هذا فلا تفيد الرواية جواز ترك الأذان الثاني سواء جمع بين الفرضين أم فرّق بينهما, ولا يكون له دلالة إلا إرادة التخفيف والتوسعة بترك الأذان.
فيجاب:إنَّ ما ذُكر يلغي ظهور (بينهما) في الظرفية, وهو ثابت, وعلى هذا يكون الظرف هو الصلاتين, ولكن لا بد من صرف معنى الباء إلى الملابسة -أي بمعنى (مع)-, فيكون المعنى أنَّه (صلی الله علیه و آله و سلم) جمع في ما بين الصلاتين مع إتيانه بأذان واحد, وهذا كما تلاحظ لا يدُّل على سقوط الأذان الثاني؛ لأنَّ الرواية ستكون مسوقة لبيان جواز الجمع, لا لبيان سقوط الأذان.
لكن الصحيح أنَّّ (الباء) هنا قد استُعملت للاستعانة والآلية, وما بعدها آلة للجمع, ولكن مع معطوفه, وبالتالي يمكن استفادة اشتراك الفرضين بأذان واحد حال
ص: 133
الجمع, بمعنى أنَّ الباء ومدخولها مع معطوفه متعلِّقان بالفعل، وهذا ما اختاره المحقق القمي (قدس سره) (1).
وهو صحيح عبد الله بن سنان, عن الصادق (علیه السلام): (أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين, وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علَّة بأذان واحد وإقامتين)(2).
وطريق الصدوق إلى ابن سنان صحيح.
أمَّا الدلالة: فمن جهةٍ هي لا تختلف عن الرواية السابقة, من حيث أنَّ (الباء) للآلية, وما بعدها ومعطوفه آلة الجمع.
إلَّا أنَّ في هذه الرواية قيداً إضافياً, ألآ وهو (في الحضر من غير علَّة), ولعلَّ هذا القيد يمنع ما ذُكر من أنَّ ترك الأذان علَّته في الروايات هو التسهيل والتخفيف؛ لأنَّ ظروف الاختيار متوفرة في المقام, وهو الحضر وعدم المرض, ولعلَّ هذا الحال هو المناسب لإتيان التكليف بأفضل صورة.
إنْ قلتَ: إنَّ الترك هنا لبيان الجواز, لا التشريع, فإنَّه كما بيّن جواز الجمع من دون علَّة كذلك بيَّن جواز الترك.(3)
وأجيب: بأَنَّ ترك المعصوم للمستحب غير ثابت بعد إمكان بيانه بالقول.(4)
ص: 134
ولكن أقول: بأنَّه قد تكرر منهم (علیهم السلام) بيان الجواز بالفعل, كما في حكاية فعله (صلی الله علیه و آله و سلم) بترك التفريق بين الصلاتين, كموثق زرارة عن الصادق (علیه السلام): (إنَّما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ليتسع الوقت على أمته)(1),
وخبر عبد الملك القمي عن أبي عبد الله (علیه السلام), قال: (قلت له: أجمع بين الصلاتين من غير علَّة ؟ قال (علیه السلام): قد فعل ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم), أراد التخفيف عن أُمته)(2),
لكن مع ذلك يفهم من الرواية استفادة التشريع بدلالة التكرار لعدم وجود الداعي بعد إمكان بيانه بفعل واحد, كما فعل في رواية عبد الله القمي.
وبالإضافة إلى هذا يُقال: لو كان الحديث يدل على بيان الجواز ما الداعي لإناطته بالجمع, لاسيما وأنَّ الإمام في مقام بيان التشريع, لا نقل واقعة.
وإنْ أبيت فيقال: إنَّ صحيح عبد الله بن سنان ما دام قد قيِّد (في الحضر من غير علةٍ) فهذا ظاهر في نفي المشروعية؛ لأنَّ الترك الذي يمكن أنْ يكون لجهات عديدة مجمل الدلالة, فلا يستكشف منه أنَّ المتروك يترك رخصة والاستحباب باق.
وبعبارة أوضح: إنَّ الترك لأنحاء عديدة (فتارة) يترك الشيء لأنَّه غير مشروع (وتارة أخرى) يُترك الشيء لبيان الجواز, وعلى ذلك فيتردد المراد من هذا الترك فيكون مجملاً, وهذا يكفي في رفع الاستحباب.
وأجاب السيد الحكيم (قدس سره) بأنَّ الاستدلال على بيان الجواز ليس بالترك, بل بواسطة التعليل, والتعليل صريح في كون الترك للدلالة على نفي الوجوب, لا المشروعية, ولعلَّ ما ذكره واضح؛ لأنَّ المتروك رخصة خلاف الأصل, فيحتاج لبيان
ص: 135
العلَّة دون من ترك لأصل التشريع, فانه لا يحتاج(1).
ولكن يمكن الجواب: بأَنَّ التعليل الذي أشار إليه إنْ كان المقصود به هو ما ذُكر في خبر عبد الملك القمي وموثق زرارة المتقدِّمَين, فإنَّه من البعيد منه (قدس سره) جلب هذا التعليل الذي سبق في بيان علَّة الجمع؛ لأن التفريق ثابت استحبابه, فالعدول عنه مما يحتاج إلى بيان علَّة وسبب, ومقامنا هو بيان ترك الأذان كما هو ظاهر الصحيحة, فإنَّها مسوقة لذلك، وإنْ كان ما ذكر من قيد في الرواية (في الحضر من غير علة) إشارة إلى العلّية المذكورة في الروايات, أي أنَّه ترك الأذان اختياراً للتوسعة, فانه كذلك غير صحيح, لأنَّ هذه الإشارة والقيد إنَّما ذكر بعد الجمع بين الفرضين،(جمع... من غير علة), فلو كان هذا القيد للجمع والترك لذكر بعد نهاية الجملة هكذا: (جمع... بأذان وإقامتين من غير علَّة) ليصحَّ عود القيد إلى الترك, ولكن ذكر بعد الجمع فإنَّا عندما نذكر علَّة مثلا هكذا نقول:
(الخمر حرام لأنَّه مسكر), ولا نقول: (الخمر لأنه مسكر حرام) لأنَّ التعليل للحكم.
الدليل الرابع: ما رواه الكليني, عن علي بن محمد, عن سهل بن زياد, عن احمد بن محمد بن أبي نصر, عن عبد الله بن سنان, قال: (شهدت المغرب ليلة مطيرة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فحين كان قريباً من الشفق نادوا وأقاموا الصلاة فصلوا المغرب, ثم أمهلوا بالناس حتى صلوا ركعتين, ثم قام المنادي في مكانه في المسجد فأقام الصلاة فصلّوا العشاء, ثم انصرف الناس إلى منازلهم، فسألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن ذلك, فقال: نعم, قد كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عمل بهذا)(2).
ص: 136
أمَّا سند هذه الرواية (ففيه) علي بن محمد, وهو الرازي (خال الكليني), وهو ثقة, (وفيه) سهل بن زياد وهو كذلك ثقة على المختار؛ لتوثيق الشيخ (قدس سره) في رجاله, وعدم وجود معارض سوى ما ذُكر عن القميين الذين يضعفون فاسدي المذهب ومن يروون عن الضعفاء, وقد فصّلنا الكلام في ذلك في رسالة مستقلة ليس هذا موضع بحثه؛ لأنَّه طويل الذيل.
ومن هذا كلِّه يظهر أنَّ هذه الرواية معتبرة.
أمَّا دلالتها: فيمكن دعوى دلالتها على المطلوب, فإنَّ الإمام (علیه السلام) أخبر بأنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يؤذن للمغرب ويترك أذان العشاء- بقوله فأقام الصلاة- عند الجمع بين الصلاتين.
وإن ادعي: أنَّ الناس قد تنفَّلوا فلا دلالة على تركه الأذان حال الجمع؛ لأنَّ النافلة مانعة للجمع, ومحقِّقة للتفريق.
فيُجاب: بأنَّها ظاهرة في تنفل المأموم, لا الإمام, ولا يوجد ما يدل على أنَّ الإمام قد تنفل, مضافاً إلى ما سيأتي من أنَّ الإتيان بالنافلة لا يكون مانعاً عن الجمع.
وقد أشكل السيد الحكيم (قدس سره) بأنَّه لا يظهر أنَّ تركه للأذان كان بسبب الجمع بين الفرضين ليدل على قدح النافلة, لجواز أن يكون لأجل الاستعجال والمطر مما اقتضى ترك أذان المغرب أيضاً(1).
ويجاب على هذا:
1- إنَّ ما ذكره (قدس سره) من أنَّ الرواية دالة على ترك أذان المغرب فإنَّه غير واضح من الحديث, بل الحديث ذكر (نادوا) وهذا ليس فيه دلالة على الترك,؛ لأنَّ المنادي إنْ كان
ص: 137
خارج المسجد فلا ينادي بغير الأذان, وإنْ كان المنادي داخل المسجد فلا يمكن أنْ نعرف أداة النداء, فقد يكون بالأذان وقد يكون بحثِّهم على الحضور أو بقولهم الصلاة الصلاة, وعلى أقل التقادير يتحقق في العبارة الإجمال, ولا يدل على تركه لأذان المغرب.
بالإضافة إلى أنَّه ليس من المعهود منهم (علیهم السلام) ترك أذان المغرب لما سمعت فيما تقدَّم من شدَّة التأكيد عليه دون غيره من باقي الفروض, فكيف يتركه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟! فلا ظهور في الرواية على ترك أذان المغرب.
2- أمَّا ما ذكره (قدس سره) (مِنْ أنَّ ترك أذان العشاء ليس لأجل الجمع, لجواز أنْ يكون لأجل المطر) وإنْ كان محتملاً إلا أنَّ الظاهر من الحديث أنَّ الترك كان لأجل الجمع, بقرينة أنَّه لو كان الترك لأجل المطر الشديد, وكانت المحافظة على الوقت مرغوباً فيها، فإنَّ هذا لا يناسب إمهال الناس الإتيان بركعتين, حتى لو فرضنا أنَّ النافلة كانت عندهم شديدة الأهمية, كما يظهر مِنْ بعض مَنْ نراهم الآن, بحيث لا يترك الغفيلة بالرغم من تركه الأذان, إلا أنَّ هذا لا يمنع من إمكان الإتيان بكلا الأمرين مع عدم التجاوز على الوقت, لإمكان أنْ يُؤذن المنادي حال تنفّلهم, كما هو حاصل اليوم.
إذن في الرواية المذكورة دلالة على ترك الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لأذان العشاء حال الجمع, إلَّا أنَّها غير دالّة على أنَّ تركه على نحو المشروعية والاستمرار.
وقد يُقال: إنَّ (كان) التي عبَّر بها الإمام يمكن أنْ تدل على الاستمرار, كما في قوله تعالى: [كانَ اللهُ سَميعاً](1) حيث أنَّها دالة على استمرار الصفة.
ويمكن أنْ يُجاب هذا: بأنَّ ما ذُكر في الآية الكريمة مختص به تعالى؛ لوجود القرينة, أمَّا في غيره فلا تكون (كان) ظاهرة في الاستمرار, إلاّ إذا دخلت على الفعل المضارع
ص: 138
من جهة الاستعمال والعرف, لا من حيث الوضع, حيث قال في المحلى في شرح جمع الجوامع: (وقد تستعمل (كان) مع المضارع للتكرار, وعلى ذلك جرى العرف)(1), وقال الشوكاني في نيل الأوطار: (إنَّه قد تقرر في علم الأصول أنَّ (كان) تفيد الاستمرار وعموم الأزمان)(2).
هذا تمام الكلام في المقام الأول, حيث تحصَّل دلالة الأخبار على سقوط الأذان الثاني حال الجمع.
ص: 139
بعد أنِ استُظهر مِنَ الأخبار سقوط الأذان الثاني حال الجمع, نعقد البحث في هذا المقام في أنَّ هذا السقوط هل هو على نحو العزيمة أم الرخصة؟
والكلام في جهات:
1- ما ذكره الشهيد الثاني (قدس سره): (الظاهر تحريم الأذان فيما لا إجماع على استحبابه)(1).
2- وتبعه صاحب الحدائق (قدس سره): (الأظهر عندي ما رجحه شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) من التحريم)(2).
3- عبارة الشيخ (قدس سره) في النهاية: (لا يجوز الأذان لصلاة العصر يوم الجمعة, بل ينبغي إذا فرغ من فريضة الظهر أن يقيم للعصر)(3), وقد اختلف في دلالة هذه العبارة, فاستظهر منها كاشف اللثام الحرمة(4), في حين استظهر بعض الأعلام الكراهة(5),
وهو الصحيح بقرينة ما ذكره الشهيد الثاني (قدس سره), قائلاً: (لا قائل هنا بتحريم الأذان الثاني)(6).
ص: 140
ما ذكره المحقق الكركي: (قدس سره) (لو جمع الحاضر والمسافر بين الصلاتين في وقت إحداهما, فالمشهور بين الأصحاب أنَّ أذان الثانية يسقط, صرَّح بذلك كثير منهم؛ لأنَّ الأذان إعلام بدخول الوقت, وقد حصل بالأذان الأول؛ ولما روي صحيحاً عن الباقر (علیه السلام) ..., والمراد بسقوط الثانية: أنَّه إذا جمع بينهما في وقت الأولى كان مختصاً بها؛ لأنها صاحبة الوقت, وإذا كان الجمع في الثانية أذن أولاً لصاحبة الوقت, أعني الثانية, وأقام لكل منهما، ويظهر من الذكرى عدم السقوط لأذان الثانية, فإنَّه قال: يسقط أذان الإعلام ويبقى أذان الذكر والإعظام, وما ذكر غير ظاهر؛ لأنَّ الأذان واحد وأصل شرعيته لغرض الإعلام بدخول الوقت, وهو منتف هنا, وكيف قلنا فالأذان للثانية جائز)(1).
وهذا ظاهر في أن السقوط رخصة, لا عزيمة.
2- ما ذكرنا من عبارة الشيخ في النهاية من الدلالة على الكراهة.
ذكرنا فيما سبق أنَّ هناك مجموعة من الروايات المعتبرة دلَّت على ثبوت استحباب الأذان لكل فريضة, بحيث كان تأكيد الأئمة (علیهم السلام) شديداً حتى وصل الكلام إلى إتيانه ولو في نفسه, بل حتى لو كان يتألم ويتوجع كثيراً, (منها) قوله (علیه السلام): (لا صلاة إلا بأذان), (ومنها) قوله (علیه السلام): (إذا قمت لصلاة فريضة فأذن), حيث أنَّها عامَّة بلحاظ الفرائض, ومطلقة بلحاظ حال الجمع وحال التفريق.
ص: 141
إلا أنَّه ورد في قبال هذه المجموعة من الروايات أدلة خاصة دلَّت على ترك المعصوم (علیه السلام) للأذان الثاني حال الجمع بين الصلاتين, وأنَّ إسقاطها لا للتسهيل والتخفيف, بل للتشريع كما تقدَّم في المقام الأول, وعلى هذا الأساس فهل تحمل المطلقات على الروايات المقيّدة, بحيث يُجمع بينهما جمعاً عرفياً, فتكون صحيحة الرهط مقيّدة للإطلاق بقوله (لا صلاة إلا بأذان)؟
وأجيب: بأنَّ حمل المطلق على المُقيَّد في باب المستحبات لا يصح.
ولكن يرد على هذا: أنَّه وإنْ صحَّ ما قيل من عدم صحة حمل المطلق على المقيَّد في باب المستحبات, إلا أنَّه ليس هذا دائماً كما تقرر عندهم من أنَّ المقيّد إذا كان نافياً لبعض الموارد للمطلق لابد من حمل المطلق عليه لحصول التنافي, وفي المقام يظهر من صحيحة الرهط أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ترك الأذان الثاني حال الجمع بين الفرضين, وهذا نفي لبعض أفراد المطلق وهو يوجب حمل المطلق عليه ويؤدي إلى اختصاص الاستحباب بحالة التفريق وعدم مشروعية الأذان الثاني حال الجمع، وهذا نظير ما ذكر من حمل المطلقات (لا صلاة إلا بأذان) في باب الأداء والقضاء على الأدلة المقيدة, مثل صحيحة محمد بن مسلم (وتقيم في البقية) فاختص الأذان بحال الأداء, وعدم ثبوته في كل فرض حال القضاء.
إنْ قلت: إنَّ ما ذكر من مقيّدات لا ينافي المطلقات, لإمكان ترك المستحب للمعصوم فتبقى المطلقات على حالها.
أقول: إنَّ هذا مصادرة؛ لأنَّه مبني على ترك المستحب على نحو الرخصة, وهو أول الكلام, ولا دلالة في المقيّدات على أنَّ الترك على نحو العزيمة أو الرخصة.
وعلى كلٍ فالمطلقات تكون مقيّدة بما ذُكر من الروايات, وتدل على الحرمة
ص: 142
والسقوط عزيمة.
ولعلَّه لهذا أشار الشهيد الثاني (قدس سره) بقوله: (من أنَّها عبادة توقيفية, ولا نصَّ عليه بخصوصه, والعموم مخصوص بفعل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ) (1).
ص: 143
اختلف الأصحاب في بيان حقيقة الجمع, وبماذا يتحقق التفريق إلى عدَّة أقوال:
(منها) ما ذكره ابن إدريس (قدس سره), وتبعه غيره, من أنَّ الإتيان بالنافلة هو الذي يحقق التفريق, وهذا القول قيل به اعتماداً على الأخبار.
(منها) ما اختاره المحقق السبزواري (قدس سره), وصاحب الرياض (قدس سره) (1),
وهو اختيار ترك النافلة مع صدق الجمع عرفاً, ولعلَّ هذا لأصالة عدم السقوط مع عدم حذف النافلة.
(ومنها) الفصل الطويل بمثابة لا يصدق عنوان الجمع عرفاً, وهو مختار صاحب العروة (قدس سره) .
وفي المقام ذكرت مجموعة من الروايات:
1- ما رواه الكليني, عن محمد بن يحيى, عن سلمة بن الخطاب, عن الحسين بن سيف, عن حماد بن عثمان, عن محمد بن حكيم, عن أبي الحسن (علیه السلام), قال: سمعته يقول: (إذا جمعت بين الصلاتين فلا تطوّع بينهما)(2).
2- علي بن محمد, عن محمد بن موسى, عن محمد بن عيسى, عن ابن فضال, عن حماد بن عثمان, قال: حدثني محمد بن حكيم, قال: سمعت أبا الحسن (علیه السلام) يقول: الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوع, فإذا كان بينهما تطوع فلا جمع)(3).
ص: 144
وفي سند كلتا الروايتين ضعف.
أمَّا الرواية الأولى (ففيها): سلمة بن الخطاب, الذي قال في حقه النجاشي: ضعيف في حديثه(1).
وحكم السيد الخوئي (قدس سره) بأنَّه تضعيف صريح(2).
إلا أنَّ هذا ليس بتضعيف صريح بحيث يمكن لنا الاعتماد عليه في ردّ ما يرويه؛ لعدم استكشاف ضعفه في نفسه مما ذكر, وليس لهذا معنى إلا أنَّه يروي عن الضعفاء ويعتمد على المراسيل.
ولكن لا يوجد هناك طريق لتوثيقه, إلا إذا بنينا على وثاقة رجال كامل الزيارات, حيث ورد في إسناده بواسطة حكيم بن داود.
(وفيها) أيضاً: الحسين بن سيف, وهو لم يذكر بتوثيق ولا تضعيف, إلا أنَّه ورد في إسناد كامل الزيارات بواسطة محمد بن حكيم، وقد حكم السيد الخوئي (قدس سره) وقال: إنَّه ممدوح, لرواية الكشي في المعجم.(3)
وأمَّا الرواية الثانية: فهي أيضاً ضعيفة سنداً؛ لوجود محمد بن موسى فيها, حيث أنَّه مردد بين شخصين, وهما خورا الثقة, والهمداني الضعيف, والأول يعرف برواية حميد عنه, والثاني يعرف برواية علي بن محمد، والأرجح أنَّ المذكور في الخبر هو الثاني؛ لرواية علي بن محمد, كما استظهر ذلك السيد البروجردي (قدس سره), وقد روى عنه في عدَّة
ص: 145
مواطن(1), وعلى هذا فالروايتان غير نقيتي السند.
أمَّا من حيث الدلالة:
فقد أشكل السيد الخوئي (قدس سره) عليهما, وقال: إنَّهما ناظرتان إلى أنَّ الجمع المقرون بالنافلة هو تفريق تنزيلاً, والتفريق له أثران:
(الأول): سقوط الأذان.
(الثاني) استحباب التفريق في نفسه.
والثاني هو أظهر الأثرين، ويكون المعنى أنَّ الإتيان بالنافلة هو الذي يحقق ثواب التفريق, أمَّا أنَّه يسقط الأذان فلم يعلم أنَّ هذا التفريق التعبدي هو الذي يسقط الأذان(2).
ويجاب:
1- إنَّ ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) إنْ كان بلحاظ الرواية الثانية فهو غير ظاهر؛ لأنَّ الجمع يختلف عن التفريق من حيث الآثار, فإنَّ الثاني آثاره ما ذكر, والأول آثاره هو حرمة الأذان عند الجمع, وعلى هذا فإنَّ ما ذكر في كلامه (قدس سره) وإنْ كان ظاهراً من الشق الثاني من الخبر, لكن الشق الأول غير ظاهر منه, إذ قال (علیه السلام): (الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوع), ويظهر من هذا أنَّ الرواية مسوقة لبيان حقيقة الجمع, وهو بمثابة قوله: (الجمع يتحقق بترك النافلة), لا لتنزيل الجمع مع النافلة منزلة التفريق, نعم لو قدّم الشق الثاني وأصبح أولا لكان لما ذكر وجه.
ص: 146
وعليه, فلا بُدَّ من حمل الشق الثاني على الأول, وعدّه مفسراً له, لما ذكر من أنَّه إذا تردد التصرف بين كلامين في سياق واحد يتعيَّن التصرف في الثاني؛ لأنَّ الأول بعد استقراره في الذهن يكون الكلام اللاحق جارياً عليه.
2- لو سلمنا أنَّ الحديث يراد منه تنزيل الجمع مع النافلة منزلة التفريق إلَّا أنَّه ليس من الواضح كون أثر الاستحباب هو الأبرز بحيث ينصرف إليه الذهن عند التنزيل, كما في: (زيد كالأسد) بحيث ينصرف إلى شجاعته، ولعلَّ الإطلاق يكفي في ثبوت كلا الأثرين.
3- إنَّ التنزيل هو عبارة عن عملية عنائية تحتاج إلى لسان خاص يكشف عنها, كما في (الفقَّاع خمر) أو (الصلاة طواف)، أو غيرها, وهو مفقود في المقام.
4- لمَّا كان التنزيل عملية عنائية, فقد تنزَّل بلحاظ جميع الآثار, وقد تنزَّل بلحاظ بعض الآثار, ولمَّا كانت الآثار في المقام على نسق واحد, ولا امتياز, ولا ترجيح لأحدهما, فالتنزيل بلحاظ جميع الآثار أخف مؤنة من تنزيله بلحاظ البعض؛ لأنَّ تخصيصه يحتاج لمؤونة فيثبت الإطلاق.أمَّا الرواية الأولى فهي لا تختلف عن الثانية في دلالتها على منافاة التطوع للجمع بين الصلاتين.
بقي شيء: هل أن التطوع ينافي الجمع عرفاً أو شرعاً؟
الظاهر هو الثاني؛ لأنَّ الإتيان بالنافلة التي لا تستوعب فصلاً طويلاً, فلا يُعدُّ عرفاً تفريقاً.
وما ادعاه السيد الحكيم (قدس سره) من منافاة النافلة للجمع عرفاً غير ظاهر.
ص: 147
3- موثقة الحسين بن علوان.
عن عبد الله بن جعفر الحميري, عن الحسن بن ظريف, عن الحسين بن علوان, عن جعفر بن محمد (علیهم السلام)، قال: (رأيت أبي وجدّي القاسم بن محمد يجمعان مع الأئمة المغرب والعشاء في الليلة المطيرة, ولا يصليان بينهما شيئاً)(1).
وتقريب الدلالة: أنَّها دالَّة على ترك النوافل حال الجمع بين الصلاتين دائماً, بدلالة الفعل المضارع الدال على الاستمرار.
ويجاب على هذا: أنَّ ترك النوافل هل جاء بسبب الجمع أو بسبب المطر للتخفيف على الناس؟ وكلا الاحتمالين موجود, ولا معيِّن لأحدهما, وعليه فلا يصح الاستدلال بالموثقة لإجمالها.
4- صحيحة منصور بن حازم, عن أبي عبد الله (علیه السلام), قال: (صلاة المغرب والعشاء بجُمَع بأذان واحد وإقامتين, ولا تصلِِّ بينهما شيئاً, هكذا صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) )(2).
وتقريب الدلالة: بأنَّ هذا النهي إنَّما يكون إرشاداً لمانعية النافلة للجمع, فتدل على أنَّ مناط التفريق يتحقق بالنافلة.
ويجاب:
1- إنَّ ما ذكر وإنْ كان محتملاً, إلَّا أنَّ في قباله احتمال آخر, وهو أنْْ يكون هذا النهي كراهتي لبيان مرجوحية الإتيان بالنافلة بعد المغرب, ولا معيِّن لأحدهما.
2- الظاهر من الصحيحة ليس ما ذكر, بل لبيان أنَّ وقت النوافل هو بعد صلاة العشاء في مزدلفة, ويدل على هذا حديث عنبسة, قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن
ص: 148
الركعات التي بعد المغرب ليلة المزدلفة, فقال: صلّها بعد العشاء الآخرة)، وحديثه الآخر, قال: (صلِ المغرب والعشاء, ثُمَّ صلِ الركعات بعد)(1).
ولكن هذا الاحتمال يبتني على أنَّ المراد بالنهي هو عن الرواتب، وعليه فلا دلالة في الصحيحة على تعيّن الإرشاد.
5- صحيح أبان بن تغلب, قال: (صلَّيت خلف أبي عبد الله (علیه السلام) المغرب بالمزدلفة, فقام فصلى المغرب, ثم صلّى العشاء الآخرة, ولم يركع فيما بينهما, ثم صليت خلفه بعد ذلك سنة, فلما صلى المغرب قام فتنفل بأربع ركعات, ثم أقام فصلى العشاء الآخرة)(2).
وتقريب الدلالة: أنَّ هذه الصحيحة دالَّة على أنَّه في مزدلفة ترك أذان العشاء عند جمعها مع المغرب, وجاء بالنوافل فيما بينهما, فلو كانت النافلة مفرقة لما ترك أذان العشاء, وعليه فهذه الرواية دالة على عدم مفرقيَّة النافلة وإلا لما جاء بها الإمام (علیه السلام) .
وعلى هذا فكيف يمكن أنْ تجمع بين هذه الصحيحة وصحيحة منصور المتقدمة، وفيها عدَّة فروض:
1- نحن فيما سبق ذكرنا عدَّة احتمالات في صحيحة منصور, (منها) أنْ تكون ارشاداً للمانعية لكل نافلة, وفي هذا الفرض (تارة) نقول أنَّ صحيح أبان مختص بالرواتب اعتماداً على قرينة أو انصراف, فيحمل المطلق على المقيّد, ويختص المانع بالتطوع، (أو) يدعى العكس في صحيح أبان, بأنَّها منصرفة للتطوع, فالنتيجة كذلك من حمل المطلق على المقيد, ويختص المانع بالرواتب, (وأخرى) يدعى في صحيح أبان
ص: 149
الإجمال فينهدم المطلق ويسقط عن الحجية.
2- أنْ يفرض في صحيحة منصور النهي لبيان الكراهة لكل نافلة فإنَّ جميع الفروض في صحيح أبان لا تؤدي إلى التفريق.
3- أنْ يفرض أنَّ صحيحة منصور مختصَّة بالرواتب, والنهي إرشاد للمانعية، وصحيح أبان (تارة) نفترض أنَّه مختصّ بالرواتب, وعليه فيؤدي إلى أنَّه ترك مستحبين: (الأول) الجمع المستحب في مزدلفة (والثاني) أذان العشاء, فهذا وإنْ كان ممكنا ولكنه بعيد، (وتارة) نفرض أنَّ صحيح أبان مختص بالتطوع, فلا منافاة (وأخرى) يفرض في صحيح أبان الإجمال, وعليه يحمل المجمل على المبيّن, ويكون المراد بصحيح أبان هو الاختصاص بالتطوع.
4- أنْ تكون صحيحة منصور ظاهرة في بيان مشروعية النوافل بعد العشاء كما هو المختار، وصحيح أبان (تارة) يفرض الاختصاص بالتطوع فلا منافاة, (وتارة) يفرض فيه الإجمال, فيتعين حينئذ بالتطوع, (وتارة) يفرض الاختصاص بالنوافل كما هو الصحيح؛ لأنَّ الواقعة الجزئية التي لا يعقل فيها السعة لتشمل جميع الموارد ووجد فرد شائع فتحمل عليه, فإنَّ ذلك هو المنساق عند عدم القرينة، فحينئذ يحمل على الجواز الحكمي, ومقتضاه بقاء الاستحباب والمشروعية بدرجة ضعيفة, وهذا ما اختاره جمعٌ من العلماء(1).
5- أنْ تكون صحيحة منصور دالة على المانعية, وصحيح أبان مجمل, من جهة أنَّه غير ظاهر في أنَّ النافلة تنافي الجمع أو أنَّه فرَّق في صلاته؛ لأنَّها قضية في واقعة, وحينئذ
ص: 150
يحمل المبين على المجمل وتكون صحيحة أبان مختصة بحال التفريق, ولعل هذا ما تبناه السيد الحكيم (قدس سره), حيث قال: (لكن لإجماله لأنَّه حكاية عن واقعة لا تصلح لمعارضة ما سبق)(1).
ولكن هذا الفرض - كما تلاحظ - مختص باستظهار دلالة صحيح منصور في الإرشاد للمانعية, وهو خلاف ما استظهرناه منها فلاحظ, وصحيح أبان محتمل في التفريق(2).
هذا تمام الكلام في روايات المقام, وقد تبيَّن من خلالها عدم إمكان الاعتماد على شيء منها, إمَّا من جهة السند وإمَّا من جهة الدلالة, وعليه فلا يوجد ما يدل على كون النافلة مفرقة, فيُرجَع إلى العرف لبيان ضابط الجمع والتفريق, والظاهر أنَّه يتحقق بطول الزمن وإنْ لم يؤت بالنافلة, والله العاصم والعالم.
ص: 151
1- القرآن الكريم.
2- تهذيب الأحكام, الشيخ الطوسي (قدس سره), ط النجف الأشرف.
3- جواهر الكلام, الشيخ محمد حسن النجفي (قدس سره), ط النجف الأشرف.
4- الحدائق الناضرة, الشيخ يوسف البحراني (قدس سره), ط جماعة المدرسين.
5- رجال النجاشي (قدس سره), ط جماعة المدرسين.
6- الروضة البهية, الشهيد الثاني (قدس سره), ط مجمع الفكر الاسلامي.
7- السرائر, ابن ادريس الحلي (قدس سره), ط جماعة المدرسين.
8- غنائم الأيام, الميرزا القمي (قدس سره), ط دار الهادي.
9- الكافي, الشيخ الكليني (قدس سره), ط دار الحديث.
10- كفاية الأحكام, المحقق السبزواري (قدس سره), ط جماعة المدرسين.
11- مدارك الأحكام, السيد محمد العاملي (قدس سره), ط مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
12- مستمسك العروة, السيد الحكيم, ط مؤسسة التأريخ العربي.
13- مستند الشيعة, المحقق النراقي (قدس سره), ط مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
14- مستند العروة الوثقى, السيد الخوئي (قدس سره), ط مؤسسة الإمام الخوئي (قدس سره) .
15- المعتبر, المحقق الحلي (قدس سره), ط مؤسسة التأريخ العربي.
16- معجم رجال الحديث, السيد الخوئي (قدس سره), الطبعة الثانية, ط النجف الأشرف.
ص: 152
17- مفتاح الكرامة, السيد محمد جواد العاملي (قدس سره), ط جماعة المدرسين.
18- من لا يحضره الفقيه, الشيخ الصدوق (قدس سره), ط النجف الأشرف.
19- وسائل الشيعة, الحر العاملي (قدس سره), ط مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
ص: 153
ص: 154
هذا البحث مقابلة بين مسلك مشهور الأصوليين من قبح العقاب بلا بيان وبين مسلك حق الطاعة والذي بنى عليه بعض محققي المتأخرين (الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) )(1).
هذا, ولم يكن البحث سوى إثارة علمية لعرض أدلة المسلَكَين وفهم كلمات القائلين بهما بما ينسجم والارتكازات التي تبتني عليها كلٌ منهما, سائلاً الله جلَّ شأنه التوفيق والسداد.
ص: 155
ص: 156
بسم الله الرحمن الرحیم
يقع الكلام في القسم الثاني من البحث في مدى صحة حكم العقل بحق الطاعة وحدوده, من خلال عرض الأدلة التي أفادها السيد صاحب البحوث (قدس سره) في الاستدلال على مسلكه، وما يُلاحَظ عليها من القائلين بمسلك قُبح العقاب بلا بيان (أي: البراءة العقلية), علماً أن المسلكين يشتركان في الانطلاق من واحدة من مصادرات العقل العملي, وهي حكم العقل بوجوب طاعة المولى, وإنْ كانا يفترقان في حدود هذه الطاعة ودائرتها, فالقائل بالبراءة العقلية يرى وجوب الطاعة في التكاليف المعلومة وعدم منجّزية احتمال التكليف بأحد البيانات المذكورة في محلها، بخلاف القائل بهذا المسلك فإنّه يرى شمول وجوب الطاعة للتكاليف المحتمَلة أيضاً.
وبُغية فهم مسلكه (قدس سره), وما يمكن أن يرد عليه, ينبغي الإشارة - إجمالا - إلى النظرية العامة في الحكم, ومَن له حق الجعل, وما يترتب عليه من وجوب الطاعة وحرمة المعصية, وتتضح هذه النظرية برسم ثلاثة أمور:
أن الأحكام التكليفية أمور اعتبارية تصدر من منطلق خاص, ولهذا تختلف عن السؤال والالتماس ونحوهما, وقد اختلف الأصوليون في المُنطلق الذي يستند إليه الحكم:
فالمشهور يرون أن المُنطلق هو العلو أو الاستعلاء, وفي المقابل يميل سيدُنا الأستاذ (دامت إفاضاته)(1) إلى أن منطلق الحكم التكليفي حق يراه الآمر لنفسه, فهو يُصدر
ص: 157
الحكم انطلاقاً من حقه في تحميل مطلوبه على الآخرين, ولا تبعد كلمات متأخري الأصوليين - لُبّاً - عن إرادة ما ذُكِر.
ولهذا الحق ثلاثة أنحاء بحسب مناشئه:
أولها: الحق الفطري الثابت بمقتضى القانون الفطري, إما لكون الآمر مُنعماً وخالقاً وهو حق منحصر بالله تعالى, وإما لكون الآمر عالماً حكيماً مُطّلعاً على المبادئ اللازمة للتشريع على أساس قدرته على تشخيص المصالح والمفاسد.
وهذا الحق ينتقل إلى حكماء الأمة بعد غياب تشريع الباري (جل جلاله) أو مَنْ نصّبه للتشريع.
ثانيها: الحق الجعلي, سواء كان الجاعل ممَّن يحق له مثل هذا الجعل بحسب القانون الفطري مثل ثبوت هذا الحق للنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وأئمة أهل البيت (علیهم السلام) عند الإمامية ولولاة الأمر عند العامة, أم كان ممَّن لا يحق له ذلك نظير ما يحصل في النظم الانتخابية, إذْ يثبت للمجالس التشريعية حق الأمر إمّا على أساس الميثاق الاجتماعي الثابت للشخص بمقتضى التزام الغير تجاهه - كما قد خرَّجه بعض الأعاظم (دام ظله العالي) (1)
- فالشعب تارة يُعمل حق الولاية على النفس بإيجاب المواثيق بنفسه، وأخرى يفوّضه إلى الآخرين بالانتخاب لتعيين السلطة في جميع شؤونها مجتمعة، أو على أساس (كل على انفراد) بأن ينتخبوا أشخاصاً للسلطة التقنينية (التشريعية) وأشخاصاً للسلطة القضائية وشخصاً للسلطة التنفيذية، وإلا فالأصل أنْ لا ولاية لأحد على أحد.
وإمّا على أساس حق التشخيص للأمة بمعنى انتخاب مَنْ يُؤمَن على إدراك القانون الفطري ومتمماته وتنفيذه - على تخريج السيد الأستاذ (دامت إفاضاته) - من دون أن يرجع إلى إلزام الشخص بما التزم به, فيكون هذا تخريجاً للنظم الانتخابية على أساس
ص: 158
فطري فيدخل في النحو الأول (الحق الفطري).
ثالثها: الادعاء الشخصي, بأن يدّعي شخص أنه أحق بالملك من عامة الناس على أساس قوته مثلا، ومن هذا النحو ما يكون في الحكومات المستبدة، وما يجري من القوانين والأعراف في المجتمعات القبلية.
وتمثّل هذه الأنحاء للحق أُسساً وتخريجاً لمنشأ الأحكام في العالم البشري، والذي يجري في الأحكام الشرعية بل العقلائية هو الحق الفطري والحق الجعلي بمناطاتهما, ويترتب على مخالفتهما استحقاق العقوبة.
أن الحكم باستحقاق العقوبة لابدّ أن يرجع إلى حكم العقل بالتحسين والتقبيح، فيكون مرجع ما ذُكِرَ من الحقوق إلى كون تلك الحقوق مُنقّحات لصغرى موارد حكم العقل بالاستحقاق, فأساس الاستحقاق على النحو الأول بمناطه الأول - وهو كون الآمر مُنعماً وخالقاً - إما من باب هتك الشخصية أو من باب استحقاق العقوبة المجعولة قانوناً ممَّن له حق جعل العقاب على قولين يأتيان في الأمر الثالث الآتي.
وعلى المناط الثاني منه - من كون الآمر حكيما مُطّلعاً - فاستحقاق العقاب يكون من باب اقتضاء التربية الاجتماعية ورعاية الصلاح العام.
وأساس الاستحقاق على النحو الثاني من الحق هو مخالفة الحق المجعول سواء أكان مجعولا ممَّن له حق الجعل بحسب القانون الفطري أم لا(1).
ص: 159
أن النحو الأول من الحق - أي الحق الفطري - هو الذي ينطبق على ما نحن بصدده في الكلام حول الأحكام الشرعية, لأن حقّه تعالى في التشريع في هذا الباب يكون مناط الخلق والإنعام, ومن هنا كان في منشأ استحقاق العقاب بمخالفته تعالى قولان:
هتك الشخصية, وهو السائد بين الأصوليين من أن الله تعالى ربط التشريع بحقه العظيم وذاته المقدسة بحيث يكون المأمور به داخلا في حيطة الآمر بنحو من التوسعة الاعتبارية لشخصيه الآمر, ولهذا حكموا باستحقاق العقوبة عقلا على المخالفة لكونها هتكاً للمولى وظلما له, وهو ما عبّر عنه بعض الأعاظم (دام ظله العالي) ب- (ربط الشخصية).
وقد يُقرر هذا القول بما أفاده سيدنا الأستاذ (دامت إفاضاته) من أن مرجع هذا الربط إلى نحو توسّع في الحماية للقيم بإضافتها إلى ذاته المقدسة, نظير موقف الأب الشفيق على ابنه فإنّه يتمسك بحق الأبوة في كل ما يكون فيه مصلحة للابن، فيأمره وينهاه من منطلق جعل حقه حماية لأوامره.
ولهذا يستحق الابن درجة من اللوم عند العقلاء في ما لو خالف نفس الحكم، ولكنه يستحق درجة من اللوم أكثر من الحد الطبيعي إذا خالف الحكم مع حماية الأب له بحقه.
وهكذا حال الباري (عزّ وجلّ) فإنه تعالى قد حمى القيم والأحكام في الحياة من منطلق حبه - بالمعنى المتصور الثابت عنه بالأدلة الشرعية - لها وحمايةً لها لا من منطلق ما يقع من السلاطين والمستبدين من رعايتهم للمصالح الشخصية.
وقد يُضاف إلى ذلك أن تحمّس الآمر وتعلّقه بما يأمر به يجعلان المأمور المتحمَّس
ص: 160
له مرتبِطاً بشخصية الآمر وحقّه بشكل تلقائي, حتى لو لم يَربط شخصيته بهذا العمل لا أنه يكون ربطاً اعتبارياً مُتعمَداً.
تنجّز الوعيد المجعول, وهو ما بنى عليه بعض الأعاظم (دام ظله العالي) من اشتمال الأحكام التكليفية على أحكام جزائية بنحو من الاندماج, فالحكم الإلزامي يتكون من عنصرين:
1 - عنصر شكلي وهو الطلب والإلزام أنفسهما, فإنّ الزاجر والمحرّك الأساس إنما يكمن في الحكم الجزائي.
2 – عنصر معنوي وهو الوعيد على الترك, وهو المحرّك والزاجر الأصلي.
واستناداً على ما تقدَّم تكون الأحكام التكليفية اعتبارات تمهيدية للأحكام الجزائية بحيث لا يبقى لها أيّ معنى في ما لو انفصلت عنها, فمخالفة الحكم الإلزامي ليست إلا مخالفة الوعيد الكامن في الأحكام الجزائية, فاستحقاق العقاب من جهة تنجّز الوعيد المجعول بالمخالفة من قِبله تعالى.
ولهذا بنى (دام ظله العالي) على أن الله تعالى انطلق في تشريعه للأحكام من حيثية كونه حكيماً وما تقتضيه الحكمة من الموازنة بين المصالح والمفاسد, ولم ينطلق تعالى في تشريعاته من ربط الشخصية حتى تكون مخالفة تشريعاته هتكاً له تعالى, لأن الإنسان لا يتمكن من هتك حرمته تعالى, فقد أفاد في ما حُكِي عنه:
(لا يمكن الموافقة على هذا المبنى:
أولا: لأن الالتزام بأن الإنسان يتمكن من هتك حرمة الله تعالى وإيراد الظلم عليه بمخالفة أحكامه تعالى ضعيفٌ, لأن من عَرف عظمة الرب وخضوع ما في السماوات
ص: 161
والأرض له طوعاً وكرهاً يظهر له أنه بمخالفته له تعالى إنما يهتك نفسه, ولا يكون إلا كاشفاً عن ضعف عقله, وإبراز ما في نفسه من ملكات رذيلة.
ثانياً: أنّ في كثير من الآيات الشريفة تصريحاً بأن مخالفة الإنسان لأحكام الله تعالى ليس فيها ظلم بالنسبة إليه تعالى, بل يُعَدُّ ظلماً بالنسبة إلى نفسه قال تعالى: [ومَن يتعدّ حدود الله فقد ظَلم نفسه](1).
بل يلزم من هذا القول عدم تفاوت الأحكام في العقوبة وتكون كلها على نحو واحد, ومن الواضح أن لدينا معاصي كبيرة ومعاصي صغيرة, فللعاصي درجات كما أن للمطيع درجات) اﻫ.
وأجاب سيدُنا الأستاذ (دامت إفاضاته) بإمكان أن يقال:
أولا: أن المقصود بالهتك هو الهتك بالمعنى المصدري الأعم, أي سوء الأدب معه وعدم مراعاته وليس المراد من الهتك - أي بالمعنى الاسم المصدري - عروض شيء من النقصان على الذات المقدسة.
وعليه فإنْ كان المراد من الهتك الموجب لاستحقاق العقوبة هو المعنى الأول فهو وإن كان غير متحقق في شأن الله تعالى إلا أن انحصار ملاك استحقاق العقوبة به لا يخلو عن تأمل, بخلاف ما إذا كان المراد منه هو المعنى الثاني فلا وجه للمنع عن ذلك.
ثانياً: أن الظلم قد ورد في جملة من الآيات الشريفة بشأن الباري (جل جلاله) من دون ذكر المظلوم لما فيه من إيحاء سلبي, كقوله تعالى: [يا بُنيّ لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم](2), وهذا لا ينافي ما ورد في جملة من الآيات كما في قوله تعالى: [وما ظلمونا
ص: 162
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون](1) فالمراد أنه تعالى لم ينقص منه شيء.
ثالثاً: أنّ ما أورِد من عدم تفاوت الأحكام في العقوبة غير لازم, فإنّ الحكم كما يمكن أن يكون مختلفا شدة وضعفاً فكذلك الارتباط بالشخصية فإنّه يمكن أن يكون حالة مشككة فيكون مستوى الطلب مختلفاً شدة وضعفاً, والانتهاك للشخصية أيضاً يتفاوت بحسب شدة الربط وضعفه.
هذه هي الأمور التي ترسم ملامح النظرية العامة - إجمالا - للحكم ولِمَن يتصدى لجعله وما يترتب عليها من استحقاق العقوبة على المخالفة.
وإذا اتضح ما تقدم فإنّ ما استدل به السيد صاحب البحوث (قدس سره) على مسلكه يرجع إلى بيان أصلي وإلى وجوه بعضها مؤيدة لمسلكه وبعضها مُنبّهة - حسب بعض تعابيره - على فساد القول بالبراءة العقلية, وسنذكر أولا البيان الأصلي وما أورد عليه من النقض والإبرام ثم نعقبها بما ذكره (قدس سره) من المؤيدات والمُنبِّهات.
انطلق السيد صاحب البحوث (قدس سره) في استدلاله على أصل مولوية المولى وسعتها من إحدى مصادرات العقل العملي - كما تقدّم - التي هي قضايا قبلية لا تقبل البرهنة, كما صرّح بها في دروسه من أننا: (نؤمن في هذا المسلك بأن المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختص بالتكاليف المقطوعة, بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالا، وهذا من مدركات العقل العملي, وهي غير مبرهنة فكما أن أصل حق الطاعة للمُنعم والخالق مدرَك أولي للعقل العملي غير مبرهَن فكذلك حدوده سعة وضيقاً.
ص: 163
وعليه فالقاعدة العملية الأولية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجاد في ترك التحفظ على ما تقدم في مباحث القطع)(1).
وأوضحها في بحوثه قائلا: (لأن المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات، كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية، ولكن حق الطاعة له مراتب وكلما كان الملاك آكد كان حق الطاعة أوسع.. وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك, بأن كانت منعميته بدرجةٍ يترتب عليها حق الطاعة حتى في المشكوكات والمحتمَلات من التكاليف, فهذا بحسب الحقيقة سعة في دائرة المولوية، إذن فالحجية ليست شيئاً منفصلاً عن المولوية وحق الطاعة، ومرجع البحث في قاعدة قُبح العقاب بلا بيان إلى البحث عن أن مولوية المولى هل تشمل التكاليف المحتمَلة أو لا؟
ولا شك أنه في التكاليف العقلائية عادة تكون المولوية ضيقة ومحدودة بموارد العلم بالتكليف، وأمّا في المولى الحقيقي فسعة المولوية وضيقها يُرجع فيها إلى حكم العقل العملي تجاه الخالق سبحانه, ومظنوني أنه بعد الالتفات إلى ما بيّناه لا يبقى مَن لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حتى التكاليف الموهومة)(2).
ويبتني هذا الاستدلال - مع مزيد تقريب - على مقدمتين:
أن حق الطاعة ذو مراتب وحق الله تعالى هو بأقصى الدرجات, حيث إنّ نعمته تعالى آكد فيكون حقه آكد.
أن مرتبة الحق تؤثر في درجة لزوم مراعاة الحكم, فقد يكون حق
ص: 164
الآمر بدرجة توجب الاعتناء بالتكاليف المعلومة، وقد تكون بدرجة أعلى بحيث توجب مراعاة التكاليف المحتمَلة فضلاً عن غيرها.
وعليه يكون لأهمية المحتمَل - بلحاظ العناوين الطارئة عليه في مرحلة معلولات الأحكام من قبيل عنوان الطاعة - تأثير على فاعلية الاحتمال, كما أن أهميته بلحاظ ذات المحتمَل وملاكاته في مقام علل الأحكام - كما في باب الأعراض والأموال - تَجبر ضعف الاحتمال وتقّوي قيمته.
وهذه المقدمة تبتني على اللحاظ الأول للمحتمَل, فإذا كان الحكم المحتمَل - على فرض وجوده - حكماً صادراً ممَّن له حق عظيم ترتب على ذلك الإتيان به، وذلك لاحتمال المطلوبية التي تمثّل أمراً مهماً بمقتضى حقه العظيم كما في المقدمة الأولى.
وبعبارة أخرى: إذا كان الطالب ذا حق عظيم انعكس ذلك على أهمية مطلوبه في الرتبة اللاحقة للحكم، لا في الرتبة السابقة عليه التي تمثل مرتبة علل الأحكام.
فأهمية المحتمَل في ما نحن فيه لم تنبعث عن أهمية الحكم ولا عن مقام الملاك في حدّ نفسه، بل باعتبار أن الإتيان به يكون طاعة لهذا الحاكم لأن شخصيته ودرجة حقه تنعكسان على مطلوبه, فيكون المحتمَل مُهماً فيلزم الاعتناء به عقلا.
ومنه يظهر أن السيد صاحب البحوث (قدس سره) قد بنى مسلكه على القول الأول المذكور في الأمر الثالث من ربط الأوامر والأحكام بالشخصية بنحو يوجب توسعة الشخصية ليشمل المأمور به، فالمأمور به داخل في حيطة شخصية الحاكم بحيث يؤثر في الطاعة وما يترتب عليها في الرتبة اللاحقة للحكم.
هذا وقد أورِد على هذا المسلك بعدة إيرادات مبنوية وبنائية:
أمّا الإيراد المبنوي فهو ما حُكِيَ عن بعض الأعاظم (دام ظله العالي), وحاصله:
ص: 165
أن هذا المسلك مبتنٍ على أنّ ما يصدر من العبد عند المخالفة إنما يُعَدُّ ظلماً وهتكاً له تعالى فيستحق العقوبة عليه بحكم العقل, نظراً إلى أن حق المولى يقتضي إطاعته في ما يأمر به، وهذا المبنى غير صحيح إذ لا يتمكن الإنسان من هتك حرمة الله تعالى وإيراد الظلم عليه بمخالفة أحكامه, بل لا يكون الإنسان حينئذٍ إلا ظالماً لنفسه.
وقد مَرَّ في ما تقدم الكلام فيه.
ما عن بعض الأعلام المعاصرين (دام عِزّه)(1) من أنه على فرض التسليم بقضاء العقل الدقيق بلزوم الاحتياط في المشكوكات، فإنّه إنما يصحّ الاعتماد عليه في ما إذا كان الحكم - لزوم إطاعة المولى في المظنونات والمشكوكات - أمراً واضحاً عند أكثر العقول، فعلى المولى أن يعتمد على قضاء عقل العبد في ذلك المجال، وأمّا إذا كان حكمه مغفولاً عنه عند العامّة حيث اعتاد الناس على أن الامتثال رهن البيان, وقد عرفتَ أن السائد بين العقلاء في ما يرجع إلى الرئيس والمرؤوس هو ذاك، فاعتماد المولى على هذا الحكم الخفيّ على أكثر الناس غيرُ صحيح.
ويمكن أن يُجاب عنه بأن هذا التقرير بظاهره غيرُ مناسب مع ما هو المفروض في كلام السيد صاحب البحوث (قدس سره) من اختصاص التقريب بحق الشارع دون عامة العقلاء.
إلا أن يكون المنظور في الإيراد هو عقلاء المتشرعة من أرباب الأديان.
وحينئذٍ يُجابُ عنه بأنّ عدم التفاتهم إمّا أن يكون من باب غفلتهم عن عِظَم الحق,
ص: 166
فهو - مع بُعده - يكفي في دفعه تنبيهُ النصوص الشرعية عليه, وإمّا أن يكون من باب عدم التفاتهم إلى أهمية المحتمَل - الناشئة في المرتبة اللاحقة للحكم - مع الالتفات إلى عظم الحق, فهو تفكيك بين الحق والحكم المحتمَل بما هو مطلوب من ذي حقٍ عظيم وهذا غير محتمل, فإنّ مَنْ التفت إلى عِظَم حق شخص عليه واحتمل طلبه لَزِمه الإتيان به لأن عِظَم الحق يُعطي ثقلا للمطلوب - ولو كان محتملا - في الرتبة اللاحقة للطلب.
ويمكن أن ينقدح إيراد على أصل البيان في ضوء هذا الجواب بأن عِظم حق الطالب وإن أوجب ثقلا ما على مطلوبه المحتمَل ولكنه لا يستلزم الإتيان به عقلا بحيث لو لم يأتِ به المُكلف عُدَّ عاصياً مستوجباً للعقاب, فيكون التفكيك بينهما - في الجملة - معقولاً.بيانُ ذلك: أن تحميل المطلوب على الغير ممَّن له حق يقتضي ثبوت موقف واضح له, واحتمال المطلوبية إنما يقتضي حُسن الانقياد لا وجوب الإتيان, ففرقٌ ما بين تحميل المطلوب من الآخرين على نفسه وبين تحميل المطلوب من الطالب على الآخرين لا سيّما في رتبة معلولات الأحكام, فلو اقتضى احتمال المطلوبية الإتيانَ به عقلا لكان هذا الحكم مشهوداً عند عامة العقلاء, بحيث تكون تلك الشهادة على سبيل المُنبّهية لإدراك العقل ذلك, فإنّ من البعيد أن يُطْبِق العقلاء على أمر مخالف لمقتضى أحكام العقل.
ما أورده السيد الأستاذ (دامت إفاضاته) من أن الطاعة أدب متقوّم بجانب نفسي وجانب خارجي, فلا يتحقق سوء الأدب في حال عدم تحقق الواقع المخالف.
بيانُ ذلك: أن حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية نوع من الأدب الواجب الذي لا يتحقق إلا في حالات العلم بمعنى أنه لا يبلغ حدّ الوجوب إلا في
ص: 167
حالات العلم، لا بمعنى أن مراعاة الأدب مع شخص بتحقيق مطلوبه لا تُعقل إلا مع العلم بالمطلوب, وذلك لأن الشحنات والمناسبات الأدبية لا تبلغ حدّ الذروة المؤدي إلى الوجوب إلا مع تنامي الحالة الإدراكية إلى مستوى العلم, فلا يكون هناك هتك بدون العلم.
وليس في هذا إنكار لوجود أدب مستحب في حالة الاحتمال فإنّه لا مانع من البناء عليه إذ هو معنى حسن الانقياد حقيقةً.
والسيد صاحب البحوث (قدس سره) لا يخالف بقية الأصوليين في أن مقتضى الأدب مراعاة الحكم المحتمَل وهو ما يُعبّر عنه حسن الاحتياط، ولكن الخلاف بينهما في أن تأكّد الحق هل يوجب أن تكون مراعاة الحكم غير المعلوم من قبيل الأدب الواجب, وعدم مراعاته من الهتك المحظور أو لا؟
فالسيد صاحب البحوث (قدس سره) لا يرى أثراً أساسياً للعلم في تحقق الأدب الواجب، وهو محل تأمل.
ما عن السيد الأستاذ (دامت إفاضاته) أيضاً من معارضة حيثية الطاعة بالنسبة للأحكام الإلزامية مع احتمال اعتناء الشارع بالترخيص وفق تخطيطه العام، فإننا كما نحتمل أن الشارع ألزمنا بمراعاة الحكم المحتمَل فكذلك نحتمل أن يكون قد رخّص لنا في عدم مراعاته, فالترخيص قد يكون اقتضائياً بأن يكون فيه ملاك يقتضي الترخيص, وقد لا يكون اقتضائياً بأن يكون منشؤه جعل الحرية للإنسان مقابل العمل من دون أن يكون فيه ملاك يقتضي الإلزام أو الترخيص.
وهذا لا يعني تساوي احتمالي الترخيص والوجوب في الشحنة, بل احتمال الوجوب في كل مورد شخصي أقوى شحنة من احتمال الترخيص, ولهذا مجرد اختلاط
ص: 168
الحلال بالحرام في موارد العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة لا يسوّغ إيقاع المزاحمة بين الحليّة الاقتضائية وبين الوجوب المعلوم بالإجمال, بل يكون هذا الوجوب مهيمناً على الموقف, هذا في المحاسبة الفردية.
ولكنْ قد يقال: إن تأمل موارد الاحتمال الإلزامية بالنظر الجَمعي مع ملاحظة الواقع العملي في الفقه الإسلامي يُعطي أن الحال قد لا يكون على حدّ المحاسبة الفردية, بمعنى أننا نحتمل أن يكون اهتمام الشارع بالترخيص في الأمور المحتمَلة محل عناية له, وذلك بتجميع الشحنات الترخيصية بما لا يقل عن قيمة الوجوب المحتمَلة, ويؤيده ما ورد في الأخبار من أن الله تعالى يُحِبُّ أنْ يُؤخَذ برُخَصه كما يُحِبُّ أن يُؤخَذ بعزائمه.
وحينئذٍ لو كان احتمال الوجوب والحرمة في بضعة موارد مع وجود نصوص تشريعية كافية في الموارد الباقية بحيث لا تصل النوبة إلى الأصول العملية, لكان للالتزام بمسلك حق الطاعة وجهٌ, ولكن موارد احتمال الحكم التي نفتقد فيها الأمارة الكافية تشمل مساحة واسعة في الفقه, فلهذا أصبح مسلك حق الطاعة يمثل تضييقاً كبيراً على المكلف.
وبناءً عليه يحصل ترديد في الموازنة, ويقع التساؤل عن أن الشارع يعتني بحرية المكلف في هذه الدائرة الواسعة عناية أدنى من عنايته بالأحكام الإلزامية المحتمَلة فيها؟
والأمر يكون مختلفاً عمّا هو موجود في الموازنة الفردية لأن المساحة واسعة بحيث تمثّل منهجاً لا حالات محدودة, فإنّ قوانين الحياة مبتنية على حِكَم وموازنات بين الحدود المُرخَّص فيها بالتشريع وبين الحدود الإلزامية حتى لو قلنا بمراعاة الأدب, ولا ينبغي تأمل زاوية الأدب من جهة الأحكام الإلزامية دون غيرها لجواز أن تستبطن الأحكام
ص: 169
الترخيصية في مساحتها المجموعية مساحة إلزامية, بمعنى أن الشخص لابد أن يعيش نحواً من الحرية ومنه قد نُحرِز أن الشارع لا يريد الاعتناء بالآداب إلى هذا المستوى.
ويؤيده أنه (قدس سره) لو لم توجد لديه البراءة الشرعية التي تُلغي الآثار الميدانية للاحتياط العقلي الذي التزم به لَمَا كان قد التزم بمسلك حق الطاعة، فلو افترضنا أنه لا يرى تمامية البراءة الشرعية, إمّا للمناقشة في الأدلة السمعية بالخدش في أسانيدها, وإمّا للمناقشة في سيرة المسلمين فإنّ البراءة العقلية سوف يتأتى لها أن تكون فاعلة في ساحة الفقه, كما في موارد فقدان الأمارات والإطلاقات والعمومات, وحينئذٍ يلزم التوقف في كل مورد تُحتمل فيه الحرمة, والإتيانُ بكل شيء يُحتمل فيه الوجوب, ولظهر بهذا أن هذا المنهج غير عملي.
هذا مُحصل إيراده (دامت إفاضاته).
وعليه, فلا يتوجه على هذا الإيراد ما أفاده بعض الأعلام (دام عزه) من نقده للاعتراض الذي أورده على مسلك حق الطاعة - وهو قريب من إيراد السيد الأستاذ - من أننا: (في موارد الشكّ في التكليف كما نحتمل أن يكون الحكم الواقعي حكماً تكليفياً مشتملاً على ملاك اقتضائي للإلزام، كذلك نحتمل أن يكون حكماً ترخيصياً مشتملاً على ملاك اقتضائي للإباحة، فلو كان الاحتمال الأول مقتضياً لحكم العقل بالبناء على الإلزام، لضمان الحفاظ على الملاك الإلزامي المحتمَل على فرض وجوده، لكان الاحتمال الثاني أيضاً مقتضياً لحكم العقل بالبناء على الترخيص لضمان الحفاظ على الملاك الترخيصي المحتمَل على فرض وجوده، لأن كليهما من الملاكات ذوات الأهمية عند المولى على فرض وجودها، ولا وجه لترجيح الأول على الثاني ما لم نُحرز كونه أهمّ منه عند المولى إلى درجة تقتضي تقديم ضمان حفظه على ضمان حفظ الثاني عند التزاحم
ص: 170
بينهما في مقام الحفظ).
وأجاب عنه بجوابين ثانيهما: أن مصبّ حق الطاعة هو التكليف لا مطلق الحكم, بعد أن فرّق بين الحكم والتكليف وجَعَلَ الإباحةَ من أقسام الحكم لا التكليف فلا موضوع للطاعة, ثُمَّ اعترض على نفسه بالتسليم بكون الإباحة الإقتضائية ليست من أقسام التكليف, وأجاب عنه - وهو محل الشاهد - بما لفظه:
(قلتُ: إن الغرض من جعل الإباحة الاقتضائية يتلخّص في أمرين:
الأول: اعتقاد المكلّف بكون حكم اللّه تعالى في هذا المورد هو الإباحة لا غير، وهذا هو المسمّى بالموافقة الإلتزامية، فلو كان الحكم - أي الإباحة - معلوماً بالتفصيل وجب الاعتقاد بإباحته تفصيلاً، وإن لم يكن معلوماً بالتفصيل كما في المقام كفى الاعتقاد بصحّة ما جاء به النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في هذا المورد إجمالاً، كلّ ذلك بناءً على وجوب الموافقة الإلتزامية.
الثاني: ترخيص المكلّف على الصعيد العملي من جانب الشارع دون أن يكون هناك إلزام, فإذا كان المطلوب من جعل الإباحة الإقتضائية هو الترخيص بما هو هو فهذا حاصل غير منتفٍ، إذ ليس من جانب المولى أي إيجاب أو تحريم بل حكم بالتسوية بين الفعل والترك، ولكنّه لا ينافي أن يتعلّق إلزام بالفعل المباح القطعي فضلاً عن المحتمَل، لأجل انطباق عنوان آخر)(1).
ووجه عدم توجهه: أنه - على فرض التسليم بالجواب - إنما يتم في حال المحاسبة الفردية دون الجمعية التي تستبطن الإلزام بجعل الإنسان حراً مطلق العنان, ومعه لا يستقيم ما أفاده من الجواب في دفع الاعتراض.
ص: 171
بقي هنا شيء وهو أنه قد يظهر من بعض كلمات السيد صاحب البحوث (قدس سره) أن الخلاف بينه وبين المشهور - في ما نحن فيه - في قيمة الاحتمال وعدمها يشمل أهمية المحتمَل سواء كان في مقام ذوات الأحكام بلحاظ درجة تأكّدها أم في مقام معلولات الأحكام كما هو محل الكلام في المقام, فقد ذكر في المعالم الجديدة:
(والصحيح في رأينا هو أنّ الأصل في كل تكليف محتمل هو الاحتياط, نتيجة لشمول حق الطاعة للتكاليف المحتمَلة, فإنّ العقل يُدرك أن للمولى على الإنسان حق الطاعة لا في التكاليف المعلومة فحسب بل في التكاليف المحتمَلة أيضاً ما لم يثبت بدليل أن المولى لا يهتم بالتكليف المحتمَل إلا التي تدعو إلى إلزام المكلف بلا احتياط .. ويُخالف في ذلك كثير من الأصوليين إيماناً منهم بأن الأصل في المكلف أن لا يكون مسؤولاً عن التكاليف المشكوكة ولو احتمل أهميتها بدرجة كبيرة)(1).
ومثله ما أفاده في الدروس, إلا أنه قال في بيان مسلكه أنه:
(يجب أن نعرف حدود حق الطاعة الثابت لله تعالى, فإذا كان هذا الحق يشمل التكاليف المشكوكة التي يحتمل المكلف أهميتها بدرجة كبيرة - كما عرفنا - فلا يكون عقاب الله للمكلف إذا خالفها قبيحاً لأن بمخالفتها يُفرّط في حق مولاه ويستحق العقاب...)(2),
وقد تكرر منه هذا المعنى في غير موضع(3).
وللمناقشة فيه مجال فإنّ الظاهر أنّ لزوم مراعاة الحكم المحتمَل في ما لو كانت الأهمية في مقام ذات الأحكام مما لا كلام فيه بين القوم, إلا أنهم اختلفوا في تخريجه
ص: 172
بحسب ما يظهر من كلماتهم في لزوم مراعاة الحكم المحتمَل لمنجّزية الاحتمال فقط من دون وجود حكم آخر وهو المناسب لما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية من أن حقيقة الحكم الطريقي مجرد تنبيه على أهمية المحتمَل ومقتضاه تنجز حكم العقل بلا حاجة إلى تشريع جديد.
أو أن العقل في حالات إدراكه لأهمية المحتمَل يستكشف وجود ايجاب احتياط بالملازمة بملاحظة كون هذا الإدراك في رتبة علل الأحكام كما يظهر ذلك من كلمات المحقق النائيني (قدس سره) .
هذا كله في البيان الرئيس لهذا المسلك وما يمكن أن يُلاحظ عليه.
وأمّا سائر الوجوه التي ذكرها السيد صاحب البحوث (قدس سره) كمؤيدات لمسلكه أو مُنبّهات لبطلان القول بالبراءة العقلية فهي خمسة:
محاولة إيجاد عمق تاريخي لمسلكه (حق الطاعة) تخفيفاً منه (قدس سره) لوطأة إنكار البراءة العقلية, حيث أن تسالم العلماء عليها منذ عصور يمثّل حالة وجدانية, ومؤشر على صحتها, وقد أفاد (قدس سره) في وجه ذلك في أول بحث أصالة الاحتياط العقلي وذلك بما ذكره في أول بحث أصالة الاحتياط العقلي بقوله: (أمّا المرحلة الأولى وهو إثبات الاحتياط العقلي فقد ذُكر في تقريبه قديماً أن الأصل في الأشياء الحظر إذا لم يسبق الجواز, والشيخ الطوسي (قدس سره) في العدة قد استشكل في أصالة الحظر وبدّله إلى أصالة الوقف وكأنّه نظر إلى مقام الفتوى... وقد ذكر الشيخ الطوسي (قدس سره) أنه لا نخرج عن التوقف إلا بما يرد من الأئمة (علیهم السلام) عن الترخيص على خلافه، وظني أن هذه الكلمات ناظرة إلى ما قلناه وعبّرنا عنه في مسألة البراءة العقلية من لزوم الاحتياط في الشبهات
ص: 173
مراعاةً لحق المولى...)(1).
ويُلاحظ عليه ملحظان:
أولهما: ما تقدم ذكره في مقدمة البحث من أن كلمات القدماء في مسألة أصالة الحظر والإباحة كانت تنطلق من استيجاب احتمال الضرر للحظر أو لا قبل ورود السمع, فالمسألة مسوقة لبيان الموقف عند عدم ورود التكليف في شيء من قبل الشارع - كما هو مورد أصالة البراءة -, والقائلون بأصالة الحظر أو الإباحة كانوا يُركّزون على ما يوجبه ملاك التكليف من الحظر أو الإباحة, ولم يركّزوا على مراعاة الحكم المحتمَل.
وهذا يعني أنهم قد فرغوا من أن التكليف المحتمَل في حدّ نفسه لا يوجب شيئا, ويشهد له كلام السيد المرتضى (قدس سره) الذي هو من القائلين بالإباحة - في المسألة - في ما لو لم توجد أمارة المفسدة في البين, وهذا يعني الحكم بالإباحة مع احتمال التكليف بما يحتمل المفسدة.
وبعبارة أخرى: إن قدماء علمائنا لم ينطلقوا في إيجاب الاحتياط من احتمال الحكم على أساس حق المولى، بل كان كلامهم يرتكز على منهج محاسبة المصالح والمفاسد ووجوب التوقّي عن الضرر ونحوه، فكان تأملهم في ملاكات علل الأحكام، وكأنّهم فرضوا أن الملاكات التي يراعيها الشارع في أحكامه إنْ كانت ملاكات تستوجب التوقف فالمفروض التوقف, وإنْ لم تكن تستوجبه جاز للمكلف الارتكاب.
فمسلكه (قدس سره) بالنتيحة ليس بتلك المعهودية, مضافاً إلى أنه غير مطروح في كلمات القدماء.
ص: 174
ثانيهما: ما أورده سيدنا الأستاذ (دامت إفاضاته) في ما نحن فيه من أن سيرة عامة المسلمين والفقهاء جارية على عدم الاعتناء بالحكم بمجرد احتماله من غير انتظار براءة شرعية إلا إذا كان الاحتمال قوياً أو كان الحكم المحتمَل مُهماً في حدِّ نفسه، ومن البعيد أن تكون هذه السيرة مستندة إلى البراءة الشرعية، فهذه الأدلة بين ما لا دلالة له وبين ما هو ضعيف، على أن جملة من الإخباريين لم يستسيغوا الاحتياط في مورد الشبهة الوجوبية.
وقوع الخلاف في حدود البراءة العقلية من قِبل جملة من الأصوليين, وقد جعله (قدس سره) مُنبِّها على عدم فطريتها, قال في البحوث:
(ثم بعد ذلك في العصر الثالث من علم الأصول تبلورت البراءة العقلية بعنوان قُبح العقاب بلا بيان, ثُمَّ شكك جملة منهم في جريانها في الشبهات المفهومية؛ لأن البيان العُرفي قد يكون تاماً فيها على تقدير شمول المفهوم, وإن كان غير تام عند الشاك, ورُدَّ من قبل الآخرين بأنّ المراد من البيان العلم عند المكلف نفسه فلابدّ من تمامية البيان عند الشاك, كما أنه ذهب بعضهم إلى عدم جريانها في الشبهات الموضوعية, لأن المولى ليس من وظيفته بيان الموضوعات وتعيين..., وكل هذه التشكيكات توحي بأن القاعدة ليست فطرية ومسلمة).
وفيه: - مضافاً إلى أن التشكيك في حدود القاعدة لا يعني الشك في وضوح وفطرية القاعدة, فإنّ كثيراً من الأحكام العقلية يكون أصلها واضحاً ولكن يقع الشك في حدودها - أنّه يتوجه عليه ما أفاده السيد الأستاذ (دامت إفاضاته) من أن ما ذهب إليه بعضهم من عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية قد يكون نتيجة تأمل المسألة من جهة التعبير السائد ب-(قُبح العقاب بلا بيان), فلا تقبح العقوبة في الشبهات
ص: 175
الموضوعية لعدم بيان للمولى فيها, وهكذا الأمر بالنسبة للاختلاف في الشبهات المفهومية.
وقوع الخلط عند الأصوليين بين مقام الحجية ومقام المولوية, فقد ذكر في البحوث:
(ومنشأ هذا التفكير ما أشرنا إليه في مباحث القطع من أن المحققين من علماء الأصوليين قد فصّلوا بين أمرين:
أحدهما: مولوية المولى وحق طاعته, واعتبروا المولوية وحق الطاعة كلياً متواطئاً لا يقبل الزيادة والنقصان وليس ذا مراتب, وهي عبارة عن حق طاعة كل تكليف يصدر عن المولى واقعاً إذا تمت الحجية والبيان.
والثاني: ميزان الحجية والمنجّزية, فقالوا إن البحث في أصل المولوية موضعه علم الكلام, وأمّا البحث عن ميزان الحجية فهو وظيفة البحث الأصولي, وفي هذا المجال بيَّنوا قاعدتين:
إحداهما: حجية القطع وأن كل حجة لا بدّ من أن ترجع إلى القطع, والحجية ذاتية للقطع.
والثانية: انتفاء الحجية بانتفاء القطع لأنه من مستلزمات كون الحجية ذاتية للقطع, وهذا هو قاعدة قُبح العقاب بلا بيان .. مع أنه لا فصل بين الحجية والمولوية, بل البحث عن الحجية بحث عن حدود المولوية بحسب الحقيقة لأن المولوية عبارة عن حق الطاعة, وحق الطاعة يُدركه العقل بملاك من الملاكات كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية, ولكن حق الطاعة له مراتب, وكلما كان الملاك آكد كان حق الطاعة أوسع .. ومظنوني أنه بعد الالتفات إلى ما بيّناه لا يبقى مَن لا يقول بسعة مولوية
ص: 176
المولى الحقيقي بنحو تشمل حتى التكاليف الموهومة, ومن هنا نحن لا نرى جريان البراءة العقلية)(1).
كما أنّ له كلاماً في مبحث القطع يتحد مضمونه مع كلامه المتقدم, من:
(أن الأصوليين لم ينتبهوا إلى تفرّع الظلم على وجود الحق في مرحلة سابقة بعد حكمهم بكون مخالفة المولى عند القطع بحكمه ظلماً له, بل تصوّروا أن الظلم بنفسه عنوان رئيس للعقوبة, وعليه فلم يربطوا بين حجية القطع وحق المولى)(2).
ويمكن أن يلاحظ عليه ملحظان:
ما عن بعض الأعلام (دام عزّه) من عدم وجود ملازمة بين مولويته تعالى النابعة من كونه تعالى خالقاً ومنعماً وبين المنجّزية, فأفاد في بيان ذلك:
(يمكن أن تكون مولويته وسيعة، لكن يكون حقّ الطاعة مضيّقاً، وذلك لأن سعة المولوية تابعة لسعة ملاكها, وهو كونه سبحانه في عامة الحالات خالقاً موجداً للعبد من العدم إلى الوجود فهو مولى العباد في جميع الأحوال, وأمّا سعة الطاعة وضيقها فليسا تابعين لسعة المولوية وضيقها، بل تابعين لصحّة الاحتجاج على العبد عقلاً وعدمها, وقد عرفت اختصاصها بصورة وجود موضوع الطاعة.
وبعبارة ثانية: إن جعل سعة الطاعة وضيقها مترتبين على سعة المولوية وعدمها غير صحيح، فإنّ السعة والضيق في مجال الطاعة تابعان لصحّة الاحتجاج وعدمها، فإنّ قلنا بأنه يصحّ الاحتجاج على العبد في كلّ الأحوال الثلاثة: القطع والظن والشك، وجب على العبد الطاعة من دون حاجة إلى ملاحظة سعة مولويته أو ضيقها.
ص: 177
وأمّا لو قلنا بعدم صحّة الاحتجاج على العبد إلاّ في ما تمّت الحجّة فيه على العبد، فلا يصحّ الاحتجاج في صورة الظن والشكّ، وإن كانت مولويته وسيعة.
والشاهد على ذلك: أنه ربما تفترق المولوية عن حقّ الطاعة والتنجيز في صورة القطع بالخلاف، فالمولوية ثابتة حتّى مع الجهل المركب ولا يمكن سلبها عن العباد لكونها نابعة من أمر تكويني ذاتي، دون حقّ الطاعة أو التنجيز، بل هو مرتفع لكون القطع بالخلاف مانعاً من التنجّز، وليكن الجهل بالواقع كالقطع بالخلاف مانعاً، لا لقصور في المقتضي بل لوجود المانع...
على أن تخصيص المشهور التنجّزَ بصورة البيان الواصل ليس لغاية التبعيض في حق الطاعة، لافتراض أنه أمر واقعي نابع من خالقيته أو منعميته بل تخصيصه بصورة وجود البيان لأجل وجود القصور في ناحية المطيع، لجهله بالحكم وعدم علمه بالوظيفة، فالمقتضي للطاعة وإن كان موجوداً، لكن المانع غير مفقود)(1).
واُجيب عنه: بأن هذا الإيراد ليس بوارد, لأن كلام السيد (قدس سره) ليس في المولوية التكوينية لله تعالى بل في مولويته التشريعية التي هي نفس حق الطاعة - كما صرّح به (قدس سره) - ويدركه العقل بمناط الخالقية أو المنعمية ونحوه.
نعم, المولوية التكوينية لله تعالى تستتبع حقاً, وهذا الحق هو المولوية التشريعية, وعِظَمُ المولوية التكوينية ينعكس على عظم الحق (المولوية التشريعية), وهو يستوجب لزوم مراعاة مطلوب المولى حتى لو كان محتملا, لانعكاس شخصية صاحب الحق وعِظَم حقه على الطلب نفسه في الرتبة اللاحقة للطلب.
ص: 178
على أن بالإمكان أنْ يُلاحظ على ذيل كلامه - من أن تخصيص المشهور التنجُزَ بصورة البيان إنما هو لوجود قصور من ناحية المُطيع لجهله بالحكم مع وجود مقتضٍ للطاعة - إنْ كان مراده (دام عزه) من جهل المطيع بالحكم هو جهله بكونه واصلاً بحجة معتبرة فمجرد الجهل لا يوجب قصوراً في المُطيع للتحرك من خلال الاحتمال فإن الاحتمال إنما يكون فاعلاً ومحركاً بعد افتراض أهمية المحتمل, وإنْ كان مراده هو الجهل بالحكم من رأس فلا مقتضي للطاعة إذ لم يقل أحد بوجوب طاعة الحكم غير الواصل ولو احتمالاً.
ما أورده سيدُنا الأستاذ (دامت إفاضاته) من أن كون الظلم تجاوزاً للحق وتفرّعه على وجود الحق له تعالى مما لا يخفى على المشهور, بل يكفي قولهم إن المخالفة عند القطع بالحكم ظلم, ببيان أن له حقاً وإن لم يصرحوا به, بل إنهم حيث جعلوا التجاوز ظلماً له فقد شخّصوا طبيعة هذا الحق ولأجله حكموا بصدق الظلم عند تجاوزه, وقد نبّهوا في مبحث التجري صريحاً على أن الحق الثابت لله تعالى باعتبار الأدب الثابت له.
فإنّ كان السيد (قدس سره) يعترف بربط الأصوليين حجية القطع مع الظلم على المولى, فمن البعيد القول إنهم فصّلوا بين الحجية والمولوية والحق, لأنّ في نفس جعل مخالفة الحكم المقطوع به ظلماً دلالة إلتزامية واضحة على وجود تجاوز لحقٍ في البين.
تعميم الاستدلال - مُشيراً به إلى وقوع خلط - على البراءة في كلمات الأصوليين للمولوية العقلائية, لتشمل مولوية الباري عزّ وجلّ, فهم أثبتوا مولوية الباري تعالى بالمولوية العقلائية, وقد أفاد هذا المعنى بقوله:
(الجهة الثانية: اُستدل على قاعدة (قُبح العقاب بلا بيان) بوجوه عديدة:
ص: 179
الأول: الإحالة إلى الوجدان العرفي والعقلائي في باب المولويات العقلائية, إذْ نرى أنهم لا يؤاخذون على ارتكاب مخالفة التكليف الواقعي في موارد الجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي ولا الظاهري الإلزامي فيكون منبّهاً عقلاً على قاعدة (قُبح العقاب بلا بيان) وعقليتها.
وهذا الوجه غير تام لأنه مبني على أن يكون حق الطاعة والمولوية أمراً واحداً... وبذلك يظهر أن التقريب المذكور قد وقع فيه الخلط بين المولويات الاعتبارية المجعولة والمولوية الحقيقية الذاتية)(1).
وفيه:
أولا: ما عن سيدنا الأستاذ (دامت إفاضاته) من أننا لا نجد في كلمات الأعلام كالشيخ الأنصاري وصاحب الكفاية والمحققين الثلاثة والسيد الخوئي (قدست أسرارهم) أيَّ ذكر لهذه الجهة, فلا شاهد على وقوع مثل هذا الخلط في كلماتهم.
بل كثير منهم لم يستشهد بالمولوية العرفية, وما ذُكر في كلمات الشيخ الأعظم (قدس سره) من استشهاده على البراءة العقلية بالمولى العرفي(2)
إنما هو لجعل الواقع وجدانياً من خلال هذا الاستشهاد, فاحتمال الغفلة عن المولى الحقيقي في كلامهم ضعيف.
فذكرهم للموالي العرفيين وسيرتهم مع مواليهم إنما هو استشهادات ومُنبِّهات على حكم العقل بالبراءة العقلية وليس على حدّ الدليل واستظهار البراءة العقلية منها, وقد
ص: 180
مرَّ عن بعض الأعلام المعاصرين (دام عزّه) ما قد يشير إلى أن هذه السيرة في الموالي عامة فتكشف عن حكم عقلي فطري بعدم المؤاخذة على ترك ما شُكَّ في مطلوبيته للمولى.
صلاحية مسلك حق الطاعة للقول بتنجّز الحكم في موارد العلم الإجمالي, بخلافه على قول المشهور بالبراءة العقلية فلا يستقيم البحث بناءً عليه, وقد ذكر السيد (قدس سره) كلاماً في مبحثي القطع والعلم الإجمالي يتضمن تشنيعاً وتهكماً على مسلك المشهور, وإنما أورَدَ هذا الكلام ليكون في قوة المُنبِّه على صحة مسلكه وفساد القول بالبراءة العقلية, قال في مبحث القطع:
(أن البحث عن أصل منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة إنما يتجه على مسلك المشهور, من افتراض قاعدة (قُبح العقاب بلا بيان) العقلية إذْ يُبحث عن أن العلم الإجمالي هل يصلح لأن يكون بيانا أو لا؟
وأمّا بناءً على مسلكنا القائل بالاحتياط العقلي على أساس حق الطاعة فسوف يكون احتمال التكليف منجّزاً بحسب افتراض هذا المسلك, فكيف بالعلم به؟)(1).
وقال في موضع آخر من البحوث عند الكلام في منجّزية العلم الاجمالي, بعد ذكر مسالك القوم:
(وهكذا يثبت أن عدم منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بناءً على قبول قاعدة (قُبح العقاب بلا بيان) على جميع المسالك في حقيقة العلم, وهذا من النتائج الغريبة المترتبة على هذا المبنى المشهور لدى الأصوليين والتي لا يقبلها العقل السليم)(2).
كما أنه ذكر هذا المعنى في المباحث, وزاد فيها:
ص: 181
(أنها من فضائح القول بقاعدة قُبح العقاب بلا بيان, ونشوء هذه المسالك إنما كان بسبب التمسك بهذه القاعدة التي خلقها الأصوليون وقدّسوها)(1).
وقد أورد عليه سيدنا الأستاذ (دامت إفاضاته) بعدة إيرادات - مبنوية وبنائية - في ضمن مناقشة تفصيلية سنذكرها بلفظها مقتصرين على أهم ما جاء فيها:
(أنّ الذي يظهر من مجموع كلماته في المقام أمران:
أحدهما: عدم إمكان تخريج تنجّز الحكم في موارد العلم الإجمالي في جميع الأطراف على غير مسلك حق الطاعة.
ثانيهما: صلاحية مسلك حق الطاعة لتخريج تنجّز الحكم في هذه الموارد على وجه كافٍ ومُغنٍ عن حديث منجّزية العلم الإجمالي، أو مبطل له أصلاً.
أمّا الأمر الأول فقد صرح به في غير موضع من كلماته إذْ بنى على كاشفية العلم الإجمالي عن الجامع وتنجيزه إياه فقط، مدعياً عدم وجود سبيل إلى إيجاب الموافقة القطعية لو قيل بالبراءة العقلية على هذا المسلك - أي كشف الجامع - بل على المسالك الأخرى - من الواقع والفرد المردد - وجعل ذلك من شناعة القول بالبراءة العقلية(2).والواقع أن هذا الكلام ليس كما ينبغي فإنّه لا يخلو عن مبالغة وإفراط، ولم يكن
ص: 182
يتوقع صدور مثله منه (طاب ثراه), وما يتوجه عليه ملاحظ عديدة:
الملحظ الأول: - إجمالي - وهو أنّ في نفس استشناع تجويز المخالفة الاحتمالية للعلم الإجمالي ما يقتضي تأثيره في إيجاب المخالفة القطعية، إذ مبنى الاستشناع هو أن الوجدان يقضي بوجوب الطاعة القطعية في موارد العلم الإجمالي شهادةً لا نشهد مثلها ولا بمستواها في الشبهة البدوية!
فلماذا لا يكون هذا بنفسه منبّهاً على خصوصية للعلم الإجمالي أو الاحتمال المُقوّم به؟ وإلا لكان الحال في ما يزيد على المعلوم بالإجمال حال الشبهة البدوية، أليس هذا أدل على الخلاف؟
ولكنه (قدس سره) حيث تلقّى موافقة السيد الخوئي (قدس سره) أو لِما فهم من كلامه – عدم صلاحية العلم الإجمالي للتنجيز في ما وراء الجامع، ورأى عدم تمامية التوجيه الذي جرى عليه، أيقن أن من المستحيل تحصيل تخريج فني لوجوب الموافقة القطعية، إذ ليس إلا العلم الإجمالي وهو لا يصلح إلا لتنجيز الجامع, ومن ثَمَّ استخلص من ذلك شاهداً على مدعاه من مسلك حق الطاعة.
ولكنّ الواقع أن مثل هذه الظنون ينبغي عدّها ضرباً من الشبهة في مقابل البديهة، لانطواء المصادرة الوجدانية المعترَف بها على إثبات امتياز للمقام، فكيف أراد تفسير ذلك بعنصر مشترك بين ما نحن فيه وبين الشبهة البدوية!
الملحظ الثاني: لابدّ من وجود عنصر آخر صالح لتنجيز الحكم في حدّ الموافقة القطعية لدى العقلاء، لوضوح عدم عموم حق الطاعة في التكاليف العقلائية.
اللهمّ إلا أن يُنكر تنجّز الحكم عندهم في الأطراف, وإنما يتنجّز في حدّ الجامع فحسب، ولعله مراده (قدس سره) .
ص: 183
ولكن هذا الإنكار على الإجمال مصادم للبديهة العقلائية، كما أنه منافٍ للموازين التحليلية القاضية بوجود قيمة للعلم الإجمالي عندهم في الجملة، لأن قيمة العلم الإجمالي - كما تنبّه له في بعض كلماته - تبتني على مقدار اقتضاء ملاكات الأحكام المعلومة بالإجمال، ومن ثَمّ كان الاحتمال مع أهمية المحتمَل منجّزاً حتى في الشبهة البدوية.
وعليه فمن الطبيعي أن تكون جملةٌ من ملاكات الأحكام العقلائية مستوجبة لمراعاتها في حال العلم الإجمالي بها باشتباه موردها بأمور مباحة لا أهمية للإباحة فيها حسب مقتضيات التزاحم الحفظي - على حدّ تعبيره - بين تلك الملاكات ومصلحة التسهيل.
وعلى هذا فلا مجال لاحتمال عدم تنجّز الحكم المعلوم بالإجمال لدى العقلاء إلا في حدّ الموافقة الاحتمالية، بل لا شك في لزوم موافقته القطعية، مع أن منجّزية الاحتمال من جهة حق الطاعة غير جارية عندهم بإذعانه، فما هو السبيل إليه لولا وجود منجّز خاص في الحكم من جهة العلم الإجمالي.
الملحظ الثالث(1): أن بالإمكان إثبات تنجز الحكم المعلوم بالإجمال في جميع الأطراف بالعلم الإجمالي نفسه, وتعلقُه بالجامع الفاني في الواقع لا يقتضي تنجيزه للجامع بنحو الموضوعية, بل بنحو المرآتية المقتضية لتنجزّ الواقع.
على أنه إذا فرضنا تعذّر تنجيز العلم الإجمالي نفسه للحكم المعلوم بالإجمال أمكن التوصل إلى تنجّز الحكم من خلال احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه, كما سيأتي من السيد الأستاذ (مدّ ظلّه).
ص: 184
علماً أن الذي يُستظهر من مجموع كلماته في مباحث العلم الإجمالي البناء على الاقتضاء العقلائي للموافقة القطعية, ومن ثَمّ ادّعى منجّزية العلم الإجمالي وجعله في طول تعارض الأصول وتساقطها في الأطراف, وعليه بنى عدم تنجيزه في حال قيام الحجة على الحكم في بعض الأطراف وإلى غيره من الحدود العامة لمنجّزية العلم الإجمالي.
ولكنّ الواقع أن القول بالاقتضاء كذلك لا يكفي أيضاً لأنه يوجب كون تلك الحدود جميعاً حدوداً شرعية لا عقلية ولا عقلائية, وهو غير وارد.
وأمّا الأمر الثاني - وهو صلاحية مسلك حق الطاعة لتخريج تنجّز الحكم في موارد العلم الإجمالي وآثار ذلك - فهو أيضاً غير تام, وذلك أن الآثار التي يمكن أن تُدّعى لمسلك حق الطاعة اثنان:
الأول: صلاحية تنجيز الحكم في جميع الأطراف بأحد نحوين: إمّا من دون الحاجة إلى منجّزية العلم الإجمالي ولو في الجامع, أو مع الاعتماد على منجّزية العلم الإجمالي في الجامع.
الثاني: مع البناء عليه فلا محل للبناء على تنجّز الحكم بالعلم الإجمالي في حدّ الجامع أو في حدّ الموافقة القطعية, أو أنه أمر مستغنى عنه لا حاجة للحديث عنه.
أمّا الأثر الأول فيتوجه عليه ملحظان:
الملحظ الأول: ما عرفتَه من عدم جدوى حق الطاعة في تخريج تنجّز الحكم في موارد العلم الإجمالي في الأحكام العقلية والعقلائية, فلا تتم الصلاحية المدعاة فيه فضلاً عن الاستغناء, وهذه نكتة مهمة لم يُعتد بها في هذا التوجيه, مما أدّى إلى محدودية الأفق المنظور به.
ص: 185
الملحظ الثاني: أن العلم الإجمالي إذا لم يكن منجّزاً للحكم أصلاً جرت البراءة الشرعية عن الحكم بحسب إطلاق أدلتها ولم يكن هناك مانع عن جريانها, وبذلك تحول عن تنجّز الحكم من جهة حق الطاعة, كما بنى عليه في الشبهة البدوية.
والمقصود بالبراءة: إمّا البراءة عن الحكم المحتمَل في كل من الطرفين في نفسه, كما هو النحو المتعارف من جريان البراءة, أو البراءة عن الحكم المعلوم بالإجمال المحتمَل في كل من الطرفين, بناءً على أن النحو الأول لا يؤمّن من جهة الحكم المعلوم بالإجمال.
هذا وإن كان العلم الإجمالي منجّزاً للحكم بمقدار الجامع لم يكن هناك مانع من جريان أصالة البراءة في الجامع الآخر, فإنّ الجامع كالطبيعي يتعدد بتعدد الأطراف, وإذا لوحظ أحدهما تفصيلياً وقابلاً للانطباق على أي واحد منهما كان الآخر كذلك, فلا مانع من جريان البراءة الشرعية في الأحد الكلي الآخر.
وتوهمُ عدم شمول العموم للأحد الانتزاعي مندفعٌ بأن العموم هنا يشمل الشك في الأحد الكلي, والشكُ نفسه ليس أمراً انتزاعياً ولكنه يتعلق به, وقد أذعن العلم المذكور (قدس سره) في بحث العام المُخصَّص وفي مباحث الاشتغال بشمول العموم للأحد الانتزاعي.
وبناءً عليه فعدم جريان البراءة الشرعية في خصوص موارد العلم الإجمالي يقتضي بناء الشارع على قيمة العلم الإجمالي بخصوصه, ولو إمضاءً لقيمته عند العقلاء, حسب ما يُذعن به في الجملة.
اللهمّ إلا أن يدعي أن الوجه في عدم جريانها هو انصراف دليل البراءة عن مورد العلم الإجمالي، وهو لا يقتضي الاعتناء بالعلم الإجمالي, بل ربما كان من باب الاعتناء باحتمال الطاعة في هذا المورد.
ص: 186
ولكنّ هذه الدعوى غير واردة كما لا يخفى.
بيانُ ذلك: أن في حقيقة هذا التفصيل من الشارع بين الشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي في مقام إجراء الأصل الشرعي توجيهين:
الأول: ما بنى عليه العلم المذكور (قدس سره) من أن مرجع ذلك إلى التفصيل في قيمة الاحتمال البدوي بين الموردين من غير اكتراث بالعلم الإجمالي, ومُحصَّل دليل الأصل الشرعي هو الترخيص في عدم رعاية احتمال التكليف الإلزامي في ما لم يقترن بالعلم الإجمالي، من دون إعطاء قيمة للعلم الإجمالي أصلا، بل القيمة العامة للاحتمال بموجب حق الطاعة, واستثنى منه الاحتمال في مورد الشبهة البدوية.
والثاني: ما نراه من أن مرجع ذلك إلى إلغاء قيمة احتمال التكليف في نفسه وثبوت الاعتبار للعلم الإجمالي، فلا يكون هناك تفصيل في قيمة الاحتمال بل بين الاحتمال والعلم الإجمالي.
وهذا التوجيه هو المتعين، وذلك لخمسة أمور:
الأول: أن هذا هو المناسب للموضوع في نفسه، فالاحتمال البدوي كاشف أدنى من العلم الإجمالي درجةً واعتباراً، فإذا اعتدّ الشارع بالحكم المعلوم بالإجمال بخصوصه دون مطلق الحكم المحتمَل فإنّ المناسب مع ذلك أنه لم يعتنِ بالاحتمال المحض مطلقاً وإنما اهتم بالعلم الإجمالي، لا أنه فصّل في الاعتناء بالاحتمال بين حال وجود العلم الإجمالي وعدمه، فإن هذا يعني كون محور الاعتبار هو الاحتمال لا العلم الإجمالي, غايته أن وجوده قيد في الاعتناء بالاحتمال، وهذا غير مناسب كما هو ظاهر.
الثاني: أن هذا هو المناسب لإلقاء الخطاب إلى العقلاء، فإنّه (قدس سره) يُذعن بأن العقلاء يميّزون في شأن غير الأحكام الشرعية بين الشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم
ص: 187
الإجمالي.
كما يُذعن (قدس سره) أيضاً بأن هذا التمييز مبني على أنّ شخصية أي مشرِّع - غير الباري تعالى - لا تقتضي الاعتناء بمطلوبه أكثر من اقتضاء غرضه، والأغراض
المحتمَلة احتمالاً بدوياً لا تستوجب الاهتمام.
اللهمّ إلا إذا كانت من قبيل الدماء وأخواتها من الأمور المهمة للغاية, بينما الأغراض المعلومة إجمالا تستوجب الاعتناء، لأنها أهم مع مورد الترخيص المشتبه بها.
ويصرح (قدس سره) بأن الاعتناء بالأغراض المعلومة إجمالا يوجب قيمة العلم الإجمالي لدى العقلاء - لا الاحتمال في مورد العلم الإجمالي - وفي ذلك يقول:
(أن الأغراض الإلزامية في التكاليف بحسب النظر العقلائي لا يرفع اليد عن ما أُحرز منها لمجرد غرض ترخيصي آخر محتمل أو معلوم مشتبه معه، إذ الأغراض الترخيصية في ارتكاز العقلاء لا يمكن أن تبلغ درجة تتقدم على غرض إلزامي معلوم، ومن هنا يكون الترخيص في تمام الأطراف بحسب أنظارهم كأنّه تفويت لذلك الغرض الإلزامي ومناقض معه، وهذا هو نفس الارتكاز الذي كان يشعر به بعضُ الأعلام بحسب إحساسه العقلائي والوجداني, وقد جعله كاشفاً عن حكم عقلي بعليّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة)(1).
وعليه فهو وإن كان يرى أن الأمر لا يختلف عند الشارع من جهة حق الطاعة, فأهميةُ امتثال حكمه لا تنبعث من أهمية الغرض نفسه بل من أهمية حقه على العبد إلا أنه من خلال دليل الأصل الشرعي المرخص - كالبراءة الشرعية - تجاوزَ عن حقه وأجرى البراءة عن الحكم المحتمَل.
ص: 188
ولا يخفى أن مقتضى هذا بعد التأمل فيه أن الشارع جرى في رعاية أحكامه مجرى العقلاء في عدم الاعتناء باحتمال الحكم, والاعتناء بالعلم الإجمالي رعاية لمقتضى أغراضه متجاوزاً عن مقتضى حقه, لطفاً منه وحكمة حيث كان غرضه تعالى حماية الملاكات بحقه العظيم دون ما يزيد على ذلك فرخَّص في مورد قصور مقتضاها تسهيلاً ومنّة ً على العباد.
فدعوى أنه اعتنى باحتمال التكليف في مورد العلم الإجمالي لا بالعلم الإجمالي غيرُ مناسبة جداً، فإنّ اعتنائه بالاحتمال يعني تمّسكه بحق الطاعة له بأوسع مما يقتضيه الغرض، مع أنه لا يطالب فعلا بما يزيد على مقتضى غرضه لطفاً منه وجرياً منه على ما يجري عليه العقلاء, فتأمّل تعرف.
الثالث: أن ذلك هو المناسب أيضاً مع مبادئ الحكم، فإنّ مسألة جريان الأصل المرخِّص في أطراف العلم وعدمه تبتني على التزاحم الحفظي - على حدّ تعبيره - بين ملاكات الأحكام الواقعية الإلزامية والتسهيلية, كما هو الحال في جعل سائر الأحكام الظاهرية.
ومراعاةُ الملاكات الواقعية تعتمد على قوة الكاشف والمُنكشَف, فيعتمد في مورد الأمارات على قوة الكاشف, وفي مورد الأصول العملية على حال المحتمَل, فإنّ كان المحتمَل الترخيصي أهم رخّص فيه, وإن كان الإلزامي أهم اعتنى به, وإن كان هناك تفصيل كما في الاستصحاب فصّل بحسبه.
ومنه يُعلم أن المناسب في مورد العلم الإجمالي رعاية الملاك المنكشف إجمالاً بما هو كذلك - لا بما أنه محتمل - وذلك في مقام التزاحم الحفظي.
ومن المعلوم - كما أذعن به (قدس سره) غير مرة بل بالغ فيه في غير مقام - أن نسق الحكم
ص: 189
يتناسب مع نسق الملاك, اللهمّ إلا إذا كان هناك ما يقتضي اختيار نسق آخر, فإذا كان الملاك المعلوم بالإجمال هو المهم فلِمَ لا يكون هناك اعتناء بأهمية الكاشف - أي العلم الإجمالي - فيلاحظ مجرد الاحتمال.
الرابع: أن ذلك هو المناسب مع النكتة المانعة عن شمول أدلة الأصول المرخِّصة لأطراف العلم الإجمالي مع إطلاقها, إذ أهم ما يمكن أن يقال في عدمها إن هذه الأدلة ليست ناظرة إلى إلغاء قيمة العلم الإجمالي المتركّز في نفوس العقلاء بمجرد إطلاقها، فإنّ بيان مثله يحتاج إلى مؤونة زائدة، ولا يكاد يفي بها الإطلاق. وعلى ما يرجع إلى هذا المعنى عوّل (قدس سره) (1).
ولا يخفى أن هذا البيان يستبطن إذعاناً ضمنياً من الشارع بقيمة العلم الإجمالي حسب ما عليه العقلاء، لا سيما أن هذا البيان إنما يقتضي إخراج موارد العلم الإجمالي المنجّز لدى العقلاء لا مطلق موارده، ومن ثَمّ فلا مانع من شموله لمورد العلم الإجمالي غير المنجّز، كما لو قامت الحجة في بعض أطرافه, وإذا كان يرتكز على هذا الأساس فتوجيهه بما لا يبتني عليه تكلّف ظاهر.
الخامس: ملاحظة حال الحجج الإجمالية - غير العلم - فإنّ ثبوت الحجية لها مما لا شك فيه، كما أذعن بذلك في بحث العلم الإجمالي بالحكم الظاهري من تنبيهات الاشتغال.
على أن ذلك أمر غاية في الوضوح، فلا يتأتى إنكار ثبوت الحجية لها في حال
ص: 190
الإجمال ليقتصر أثرها على إسقاط البراءة الشرعية في الأطراف، إذ لا تكاد تسقط البراءة إن لم تثبت لها الحجية الجعلية، فإنّ مبنى سقوطها:
إمّا بدعوى انصراف أدلة البراءة عن النظر إلى إسقاط الحجج الإجمالية ولو كانت جعلية، أو بدعوى أن مقتضى الجمع بين الدليلين تقدم دليل حجية الأمارة ونحوها على دليل الأصل الشرعي المرخِّص كالبراءة الشرعية.
وعلى كل حال فلابد من عموم دليل حجية هذه الحجج لحال إجمالها, ولولاه لم تسقط الأصول المرخِّصة في الأطراف.
وعليه فهل يُعقل أنْ لا يكون للعلم الإجمالي اعتبار زائد, ويكون منجّزاً في حقه مجردُ الاحتمال ولكن يكون للحجة الإجمالية اعتبار زائد طارد للأصل المرخص؟
وأمّا الأثر الثاني - وهو عدم منجّزية العلم الإجمالي بعد تنجزّ احتمال التكليف في نفسه كما هو مساق كلامه المتقدم - فيتوجه عليه عدم المانع من البناء على منجّزية العلم الإجمالي مضافاً إلى منجّزية الاحتمال, بل لا محيص عنه حسب ما تقدم في الأحكام العقلية والعقلائية بل الشرعية منعاً لجريان البراءة الشرعية في الأطراف)(1).
هذا جملةٌ مما أفاده (دامت إفاضاته) في مناقشة السيد صاحب البحوث (قدس سره), وإنما نقلنا جُلَّها؛ نظراً لِما تحويه من نكات تحليلية على وفق الارتكازات العقلية والعقلائية لفهم كلمات القوم, ولما تضمّنته من إلفات النظر إلى مواطن الضعف في مسلك حق الطاعة.
ص: 191
يقع الكلام في حدود البراءة العقلية بمقدار ما يتعلق بإيضاح نكتتها وملاكها من خلال هذه الحدود, وتحوي هذه الخاتمة قسمين:
ما يتعلق بالحدود التي تتفرع على طبيعة النكتة المُعتمَدة في البراءة العقلية وتفصيلها.
وهو يتضمن أربعة أمور:
اختصاص البراءة العقلية بالأحكام الإلزامية في موارد الشك وعدم جريانها في الأحكام غير الإلزامية, وهذا واضح لكون مؤداها قُبح العقاب على المخالفة بلا بيان والأحكامُ غير الإلزامية لا عقوبة على مخالفتها مقطوعة كانت أو مشكوكة.
أن البراءة العقلية لا تجري في موارد الشكّ في التكليف المقرون بالعلم الإجمالي, وذلك لأن العلم الإجمالي يكون بياناً سواء بُني على القول بالعليّة كما هو واضح, أم بُني على القول بالاقتضاء لأن غاية هذا القول إمكان الترخيص من قِبل الشارع على خلافه, وإلا فلو خُلّي وطبعه كان بياناً.
ومن هذا يتضح أن البيان المأخوذ في موضوع البراءة العقلية هو الأعم من التفصيلي والإجمالي.
لا شكَّ لدى الأصوليين في عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الحُكمية قبل الفحص, ولكنْ وقع الخلاف بينهم في أن ذلك لقصور ملاكها في حدّ نفسه أو لوجه آخر من قبيل العلم الإجمالي أو أدلة وجوب التعلّم, وعلى التقدير الأول فما هو الوجه لقصور البراءة العقلية؟ فهنا جهتان:
ص: 192
أن المشهور عندهم قصور ملاك البراءة العقلية قبل الفحص عن الحجة, ولكن ذهب بعض الأصوليين إلى جريان ملاكها, منهم السيد الحكيم (قدس سره) إذْ أفاد في وجهه: (عدم صحة الاحتجاج في نظر العقلاء بوجود الحجة واقعاً مع عدم وصولها إلى المكلف وجهله بها، ومجردُ كونه قادراً على رفع جهله لا يُصحِّح العقاب كما هو الحال في الشبهات الموضوعية أيضاً)(1).
والصحيح ما عليه المشهور، فإنّ الظاهر أنّ المولى متى ما لم يكن مُتعهداً بإيصال الحجة إلى المكلف فعلاً وأن وظيفته جعلها في معرض الوصول, كان على المُكلف البحث عن الحجة وعلى هذا تجري سيرة العقلاء.
أن في وجه عدم جريان البراءة العقلية وجوهاً لخّصها السيد الحكيم (قدس سره) في الحقائق, وفرّق بين هذه الاحتمالات من حيث مقتضياتها, ورجّح الثالث منها, إذْ قال:
(أن توقف العقل عن حكمه بالبراءة قبل الفحص واليأس أحد أمور:
(الأول) كون احتمال التكليف بياناً ومنجّزاً عند العقلاء كسائر الحجج العقلائية.
(الثاني) كون البيان الذي عدمه موضوع لقُبح العقاب هو الحجة الواقعية, فمع احتمال وجود الحجة لا يُحرز موضوع القاعدة فلا حكم للعقل للشك في موضوعه.
(الثالث) كون البيان المذكور هو الحجة الواصلة لولا تقصير المكلف بترك الفحص, فقبل الفحص لا يُحرز عدم مثل هذه الحجة لجواز وصولها إلى المكلف بالفحص, فلا حكم للعقل بقُبح العقاب.
ص: 193
ويترتب على الأول حسنُ العقاب على مخالفة الواقع قبل الفحص وإن لم تكن عليه حجة في الواقع لتحقق الحجة عليه وهي الاحتمال، وليس كذلك الأخيران.
ويترتب على الثاني حسنُ العقاب إذا كان حجة على التكليف في الواقع وإن لم يمكن أن يعثر عليها بعد الفحص, وليس كذلك الأخير فإنّ حُسن العقاب عليه مشروط بأمرين: وجود حجة على الواقع وكونها مما يعثر عليها بعد الفحص.
ولو قلنا بأن المراد بالبيان هو الحجة الواصلة فعلا جاز الرجوع إلى البراءة العقلية قبل الفحص بمجرد الشك لعدم وصول الحجة حينئذٍ, والأول غريب وليس له نظير.
وتوهمُ وجود النظير له - وهو الشك في الفراغ - قد عرفتَ ما فيه سابقا وأن المنجّز ليس هو الشك بل هو العلم المستمر حال الشك في الفراغ, والثاني أضعف منه يظهر ذلك مما عرفت من لازمه والثالث قريب)(1).
وقد ذهب السيد الخوئي (قدس سره) إلى الوجه الثالث, فأفاد أن: (موضوع حكم العقل بقُبح العقاب بلا بيان إنما هو عدم البيان، فما لم يُحرز ذلك بالفحص لا يستقل العقل بقُبح العقاب، إذ ليس المراد من البيان إيصال التكليف إلى العبد قهراً، بل المراد منه بيانه على الوجه المتعارف، وجعله بمرأى ومسمع من العبد، بحيث يمكن الوصول إليه، فلو كان التكليف مبيّناً من قبل المولى ولم يتفحص عنه العبد، صحّ العقاب على مخالفته، ولا يكون عقابه بلا بيان)(2).
وبناءً عليه تكون البراءة العقلية في نفسها قاصرة عن الشمول لِما قبل الفحص, لأن موضوعها عدم البيان وهو لا يُحرَز إلا بالفحص فلا مقتضي لها قبله.
ص: 194
وأمّا مقدار البحث الواجب فهو اليأس عن الظفر بالدليل فيما إذا بُحث عنه في مظانه.
اختلف الأصوليون في جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية في موضعين:
ما يتعلق بأصل جريان البراءة العقلية, وفي كون ملاك البراءة العقلية هو شأنية البيان من المولى فلا تجري حينئذٍ, أو عدم العلم فتجري بلا إشكال, قولان:
ما ذهب إليه السيد البروجردي (قدس سره) (1) من عدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية, وذلك نظراً إلى أخذ البيان في موضوع البراءة العقلية, فإنّ وظيفة المولى هي بيان الأحكام الكلية وجعلها في معرض الوصول.
وأمّا بيان الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية وبيان الصغريات من كون هذا الشيء من أفراد الموضوع الكذائي فليس من وظيفة الشارع، والكبرى المجعولة الشرعية في الشبهات الموضوعية تكون قد وردت ووصلت إلى المكلف وحصل العلم بها، وإنما تكون الشبهة في الصغرى، فلا مجال للتمسك بقاعدة (قُبح العقاب بلا بيان) بل ينبغي التمسك بقاعدة الاشتغال، لأن العلم باشتغال الذمة بالكبرى المجعولة المعلومة الواصلة يقتضى العلم بالفراغ عقلا، وهذا لا يحصل إلا بالتجنّب عن موارد الشبهة.
ما عليه سائر الأصوليين من جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية, وقد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) في بيان ذلك أن (مجرد العلم بالكبريات
ص: 195
المجعولة لا يكفي في تنجّزها وصحة العقوبة على مخالفتها ما لم يعلم بتحقق صغرياتها خارجا، فإنّ تنجّز التكليف الذي عليه تدور صحة العقوبة إنما يكون بعد فعلية الخطاب، وفعليةُ الخطاب إنما تكون بوجود موضوعه خارجاً في التكاليف التي لها تعلّق بالموضوعات الخارجية)(1).
على تقدير جريان البراءة العقلية, ففي كون جريانها مشروطاً بالفحص أو عدمه, قولان أيضاً:
ما هو المشهور بين الأصوليين من عدم اشتراط جريان البراءة بوجوب الفحص في الشبهات الموضوعية لعدم جريان البيانات المذكورة في الشبهات الحُكمية هنا.
ما بنى عليه المحقق النائيني (قدس سره) من التفصيل بين الموضوعات التي لا يتوقف العلم بها عادة على نظر فلا يجب الفحص, وبين التي يتوقف العلم بها وانكشافها للمكلف على إعمال نظر, فإنّه: (لولا الفحص يلزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيراً, ومن البعيد تشريع الحكم على هذا الوجه، فيمكن دعوى الملازمة العُرفية بين تشريع مثل هذا الحكم وبين إيجاب الفحص عن موضوعه، فإطلاق القول بعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية لا يستقيم، بل الأقوى وجوب الفحص عن الموضوعات التي يتوقف العلم بها غالباً على الفحص...)(2).
ما يتعلق ببيان الفرق بين مفاد البراءة العقلية ومفاد البراءة الشرعية, أما العقلية منها فهي عبارة عن المُعذّرية وعدم المؤاخذة على المخالفة على التكليف
ص: 196
المحتمَل على تقديره, وهي تختلف بمفادها عن مفاد البراءة الشرعية سواء كان مفاد الشرعية أنها بنفسها حكم كلي شرعي - كالترخيص - على المشهور, أم كان مفادها إحراز عدم أهمية المحتمَل على ما بنى عليه بعض الأعاظم (دام ظله العالي).
بيان ذلك: أنّ في البراءة الشرعية مسلكين:
ما ذهب إليه المشهور من أنها ترخيص ظاهري مجعول, وقد أفاد المُحقق النائيني (قدس سره) في بيان الفرق بينها وبين البراءة العقلية بأن: (الوظيفة الشرعية إنما هو الترخيص لا الحكم بعدم استحقاق العقاب, وإنما يثبت عدم الاستحقاق بالتبع والملازمة, وهذا بخلاف حكم العقل فإنّ ادراكه إنما يتعلق بعدم الاستحقاق وهو الذي يستقل به ويلزمه الترخيص في العمل بالتبع, وإلا فالترخيص ليس من شأن العقل ومدركاته)(1).
ما بنى عليه بعض الأعاظم (دام ظله العالي) من أنها إرشاد إلى عدم أهمية المحتمَل, فلا يكون لها مفادٌ برأسه مقابل البراءة العقلية, وذلك لأن البراءة العقلية منوطةٌ بأهمية الاحتمال والمحتمَل - على ما بنى عليه -, ولولا البراءة الشرعية لجرت بمناط عدم إحراز أهمية المحتمَل, وأمّا البراءة الشرعية منها فهي إحراز لعدم أهمية المحتمَل, والفرق بينهما ظاهر.
وحينئذٍ قد يقال: ما فائدة البراءة الشرعية بعد جريان البراءة العقلية ؟
يمكن أن تكون الفائدة أحد أمور على سبيل منع الخلو:
أن البراءة الشرعية أقوى ضماناً وأشد تأميناً للمكلف من العقوبة المحتمَلة عند احتمال التكليف من البراءة العقلية، وذلك لأن مفاد البراءة العقلية قُبح
ص: 197
العقاب بلا بيان ومفاد البراءة الشرعية بيان عدم العقوبة لقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): (رُفع عن أمتي ما لا يعلمون)، ومن الواضح أن قُبح العقاب مع البيان على عدمه أشدّ من قُبحه مع عدم البيان.
أن البراءة الشرعية تستبطن حيثية الامتنان بمعنى أن الشارع كان له أن يأمر بمراعاة الحكم المحتمَل حيث إن مقتضي الإلزام - في الجملة - في بعض الموارد تام, ومع هذا رخّص الشارع فيه امتناناً منه وتسهيلا على المكلف, وأمّا البراءة العقلية فهي مبنية على عدم العلم بمقتضي الإلزام.
أنها مجعولة على نحو القضية العامة, ومواردها غير محصورة بالبراءة العقلية, ويكفي في صحة جعل الحكم العام بنحو القضية الحقيقية وجودُ الأثر في بعض موارده, كما في مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين لشبهة الغرض أو الأصل المثبت على بعض المباني.
قد يقال إن جعل البراءة الشرعية يرفع شوائب الشك والترديد اللذين قد يقعان في الحكم العقلي, فإن هناك مَنْ يُنكر البراءة العقلية فلم يبقَ له إلا البراءة الشرعية.
والجواب عنه: أن رفع الترديد والشك يقتضي الإرشاد إلى حكم العقل لا أنه يقتضي جعلاً شرعياً على وفقه على حدّ بيان الشارع لكثير من الأحكام بلسان الإرشاد كقُبح الكذب ونحو ذلك.
ص: 198
تجدر الإشارة إلى النتائج المستخلصة من البحث, وهي سبع:
تبيّن من خلال المقدمة في ما يتعلق بتاريخ البراءة العقلية أمران:
أولهما: وجود عُمق تأريخي للبراءة العقلية في كلمات قدامى الأصوليين في الجملة, وهذا لا ينفي كون الغالب في الاستدلال بها في تلك المرحلة على وجه الأمارية قطعية كانت أو ظنية, وذلك نظراً إلى أنّ فكرة الأصل العملي لم تكن بذلك الوضوح آنذاك.
ثانيهما: أن فكرة الأصل العملي إنما تبلورتْ بنحو واضح في عصر محمد أمين الاسترابادي (قدس سره) بعد حملة التشكيكات التي أوردها على مناهج الاستنباط العقلي والظني لدى الأصوليين, وازدادت وضوحاً بعده حتى استقرت أسسها في عصر الشيخ الأعظم (قدس سره) وانفصلت عن مبحث الظنون, ومنه يظهر ما في كلام السيد صاحب البحوث (قدس سره) في كلٍ من الأمرين.
أن محل الكلام في البراءة والاحتياط العقليين هو في مدى استيجاب احتمال الحكم بنفسه وظيفة عقلية أو كشفه عن وظيفة شرعية ثانوية من قبيل وجوب الاحتياط, فإنّ للبراءة العقلية مستويين:
المستوى الأول: قُبح العقاب بلا محرّك أصلا, بمعنى أن مجرد جعل الحكم الواقعي من دون محرّك في البين لا يُسوّغ العقوبة, وهذه المصادرة مسلّمة بين المسلكين.
المستوى الثاني: قُبح العقاب عند احتمال التكليف, وهو ينطوي على كبرى متمثّلة بالبراءة بالمستوى الأول, وصغرى وهي أن مجرد الاحتمال ليس مُحرِّكا ذاتاً ولا كاشفاً تلقائياً عن وظيفة شرعية.
ص: 199
ومحل الكلام فيما نحن فيه هو هذا المستوى من البراءة, فيكون مرجع النزاع بالدقة إلى أن الاحتمال ليس حجة عقلا ولا كاشفاً عن حكم شرعي.
الظاهر تمامية مذهب المشهور من حكم العقل بالبراءة العقلية (قُبح العقاب بلا بيان) بأحد التقريبات المذكورة, وإن اختلفت تلك التقريبات في النكتة التي ترتكز عليها:
ففي التقريب الأول أبرز المحقق النائيني (قدس سره) نكتة عدم فعلية التكليف مع عدم الوصول الذي يرجع إلى القصور في اقتضاء الحكم للطاعة في حال عدم وصوله.
وفي التقريب الثاني ركّز المحقق الأصفهاني (قدس سره) على نكتة عدم كون الحكم حقيقياً مع عدم الوصول وهو يرجع إلى قصور في مستوى الحكم.
وفي التقريب الثالث ركّزَ بعض الأعاظم (دام ظله العالي) على نكتة اقتضاء الموازنة العقلائية - على البيان الأصلي - عدم لزوم مراعاة المحتمَل ما لم تثبت أهميته في مورد ضعف الاحتمال, أو اقتضائها ذلك من حيث إن كمالَ التشريع إيصالُ المولى مراداته الاحتمالية - في ما لو كانت بدرجة من الأهمية توجب مراعاتها ولو في ظرف الاحتمال - بطرق قطعية كما عليه سيدُنا الأستاذ (دامت إفاضاته).
الظاهر عدم تمامية مسلك حق الطاعة وذلك لأمور عدّة:
الأول: ابتناء المسلك على الملازمة بين عِظَم حق المولى وإضفاء شخصية ذي الحق على المطلوب وبين لزوم الإتيان بالمطلوب المحتمَل, إذْ يمكن التفكيك بينهما في الجملة.
الثاني: أن الطاعة أدبٌ متقوّم بجانب نفسي, والجانب النفسي لا يبلغ حدّ الذروة بمجرد الاحتمال.
الثالث: معارضة حيثية الطاعة بالنسبة للأحكام الإلزامية مع احتمال اعتناء الشارع
ص: 200
بالترخيص بالنظر الجَمعي لموارد الاحتمال الإلزامية مع ملاحظة الواقع العملي في الفقه، فإننا كما نحتمل أن يكون الشارع قد ألزمنا بمراعاة الحكم المحتمَل فكذلك نحتمل أن يكون قد رخّص لنا في عدم مراعاته.
وحينئذٍ يحصل ترديد في الموازنة, وأن الشارع هل يعتني بحرية المكلف في هذه الدائرة الواسعة بدرجة أدنى من عنايته بالأحكام الإلزامية المحتمَلة فيها, وعليه فربما تستبطن الأحكام الترخيصية في مساحتها المجموعية مساحة إلزامية ولا ينبغي تأمل زاوية الأدب فقط بالنسبة للأحكام الإلزامية.
أن ما ذكره السيد صاحب البحوث (قدس سره) من الاستشهادات والمُنبّهات على عدم تمامية البراءة العقلية وبطلان القول بها غير تام:
أمّا استشهاده بوقوع الخلاف في حدودها من بعض الأصوليين فلوضوح أن إنكار بعض حدود الأمر الواضح في نفسه لا يعني سريان الشك في أصله.
وأمّا استشهاده بوقوع خلطٍ عند الأصوليين بين مقام المولوية وبين مقام الحجية وأنهم فصّلوا بينهما, ففيه أنهم لم يغفلوا عن هذه الجهة, وما حكمُهم بكون المخالفة ظلماً للمولى وهتكاً له إلا اعترافاً منهم بحقه, بل حكمُهم هذا يقتضي تشخيصهم للحق في الرتبة السابقة ولأجله حكموا بكون مخالفته ظلماً وهتكاً.
وأمّا استشهاده بتعميم المولوية العرفية لمولوية الباري (عزّ وجلّ) فلأنّه لو وجِد فهو استشهاد بحالة واضحة الحكم وجداناً لإلفات النظر إلى حالة قد يعتريها غموض ما ليكون مثيراً ومنبّهاً لحكم العقل.
وأمّا ما ذكره من منبّهية انسجام مسلك حق الطاعة مع وجوب الموافقة القطعية في مبحث العلم الإجمالي فيلاحظ عليه أن هذا المسلك لا يُفسِّر لزوم مراعاة الأحكام
ص: 201
العقلية أو العقلائية بقطع النظر عن الشرع.
وأمّا بالنسبة إلى الأحكام الشرعية فإنّه بالتأمل يُنتج عكس ما يريده (قدس سره) فإنّ المناسب مع اعتداد الشارع بالحكم المعلوم بالإجمال دون مطلق الحكم المحتمَل هو اعتناؤه بالعلم الإجمالي لا بالاحتمال المحض مطلقاً، لا أنه فصّل في الاعتناء بالاحتمال بين حال وجود العلم الإجمالي وعدمه.
قد تبيّن فيما يتعلق بحدود البراءة العقلية:
أولا: اختصاص البراءة العقلية بالأحكام الإلزامية في موارد الشك, وعدم جريانها في الأحكام غير الإلزامية, لأن الأحكام غير الإلزامية لا عقوبة على مخالفتها مقطوعة كانت أو مشكوكة.
ثانياً: عدم جريان البراءة العقلية في موارد الشك بالتكليف المقرون بالعلم الإجمالي سواء على القول بالعلية أم بالاقتضاء, لأن جريانها منوط بعدم البيان الأعم من التفصيلي والإجمالي.
ثالثاً: أن المشهور عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الحُكمية إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل, خلافاً للسيد الحكيم (قدس سره), والمشهور في سِرِّ عدم جريانها هو عدم جريان ملاكها قبل الفحص واليأس عن الظفر بالحجة.
رابعاً: وجود موضعين للخلاف في جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية:
أولهما: أصل جريان البراءة العقلية فيها, والمشهور أنها تجري بلا إشكال لجهل المكلف وعدم علمه, خلافاً للسيد البروجردي (قدس سره) الذي ذهب إلى عدم جريانها في الشبهات الموضوعية, فإن شأن المولى بيان الأحكام لا الموضوعات.
ثانيهما: على تقدير جريانها في الشبهات الموضوعية - كما هو المشهور, فالمشهور
ص: 202
جريانها حتى قبل الفحص, خلافاً للمحقق النائيني (قدس سره) الذي بنى على التفصيل بين الموضوعات التي لا يتوقف العلم بها عادة على نظر فلا يجب فيها الفحص, وبين التي يتوقف العلم بها وانكشافها للمكلف على إعمال النظر الذي لولاه لوقع في مخالفة الواقع.
أن مفاد البراءة العقلية هو المُعذّرية وعدم المؤاخذة, وأمّا مفاد البراءة الشرعية فالمشهور أنه ترخيص ظاهري مجعول, وبنى بعض الأعاظم (دام ظله العالي) على أنها إرشاد إلى عدم أهمية المحتمَل, فلا يكون لها مفاد في مقابل البراءة العقلية غير إحراز عدم أهمية المحتمَل.
ثُمَّ إن البحث في البراءة العقلية لا يُغني عن البحث في البراءة الشرعية, وذلك لأسباب متعددة:
الأول: كون البراءة الشرعية أشد تأميناً للمكلف من العقوبة المحتمَلة عند احتمال التكليف من البراءة العقلية، وذلك لأن مفاد البراءة العقلية قُبح العقاب بلا بيان, ومفاد البراءة الشرعية بيان عدم العقوبة.
الثاني: استبطان البراءة الشرعية حيثية الامتنان والتسهيل على المكلف بالترخيص مع وجود مقتضٍ للإلزام.
الثالث: أنها مجعولة على نحو القضية العامة, ومواردها غير محصورة بالبراءة العقلية, كما في مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين على بعض المباني.
إلى هنا تَمَّ البحث, والحمد لله أولاً وآخِراً.
النجف الأشرف
10 شوّال / 1432 ﻫ
ص: 203
1- أجود التقريرات للمحقق الشيخ محمد حسين النائيني (قدس سره) .
2- الانتصار للسيد المرتضى (قدس سره) طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- بحوث في علم الأصول للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) .
4- الخلاف للشيخ الطوسي (قدس سره) طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
5- دروس علم الأصول للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) .
6- الرافد في الأصول للسيد علي الحُسيني السيستاني (دام ظله العالي).
7- رسائل ومقالات للشيخ السبحاني (دام عزه).
8- السرائر للشيخ لابن إدريس الحلي (قدس سره) طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
9- العلم الإجمالي حقيقته ومنجزيته عقلاً للسيد محمد باقر السيستاني (دامت إفاضاته).
10- فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (قدس سره) طبعة مجمع الفكر الإسلامي .
11- فوائد الأصول للمحقق الشيخ محمد حسين النايئني (قدس سره) .
12- مباحث الأصول للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) .
13- مصباح الأصول للسيد الخوئي (قدس سره) .
14- المقالات للمحقق الشيخ آغا ضياء الدين العراقي (قدس سره) .
15- المُقنع للشيخ الصدوق (قدس سره) طبعة مؤسسة الإمام الهادي (علیه السلام) .
16- منتقى الأصول للسيد الروحاني (قدس سره) .
17- نهاية الأفكار للمحقق الشيخ آغا ضياء الدين العراقي (قدس سره) .
18- نهاية الدراية للمحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سره) .
ص: 204
إذا كان النزاع في مسألة البراءة قد حُسم تقريباً لصالح القائلين بها, فإنَّ البحث لا زال جارٍ بينهم حول الدليل على ذلك, وإذا كانت بعض الأدلة عليها باتت شبه متفق عليها فإنَّ الكلام لا زال على أشدّه في البعض الآخر بين النافين والمثبتين له.
ومن الأدلّة التي وقع البحث في تماميتها (حديث الحجب), وفيما يأتي محاولة لتسليط الضوء على ما جرى من البحث حوله بين الأصوليين.
ص: 205
ص: 206
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
اختلفت كلمات الأصحاب حول حديث الحجب لفظاً وسنداً ودلالةً, فمنهم من رواه مشتملا على لفظة (علمه), ومنهم من رواه بدونها, وثالث رواه مزيدا في أوله (كل) وفي آخره (حتى يُعرّفهموه), كما أن منهم من ذهب إلى تماميته سنداً, وآخر عدّه ساقطا من حيث السند, وبعضهم ذهب إلى عَدِّه من أدلة البراءة, بل من خير ما يُستدل به عليها من الأخبار, وعدَّه بعض آخر أجنبيا عنها.
وعليه فالكلام يقع في مقامات ثلاث:
المقام الأول: في لفظ الحديث.
المقام الثاني: في سند الحديث.
المقام الثالث: في دلالة الحديث.
ص: 207
ورد الحديث في كتب الأصحاب الحديثية والفقهية والعقائدية بألفاظ ثلاث:
ما رواه الصدوق (قدس سره) في توحيده, حيث قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار عن أبيه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن فضال عن داود بن فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (علیه السلام), أنَّه قال: (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)(1).
كما رواه بهذا اللفظ في اعتقاداته(2) مرسلا عن أبي عبد الله (علیه السلام) .
ونقله عنه بهذا اللفظ غير واحد من المتأخرين, منهم الفيض الكاشاني (قدس سره) في الأصول الأصيلة(3), والحر العاملي (قدس سره) في الوسائل(4) وفي الفصول المهمة في أصول الأئمة(5).
كما نقله الحر العاملي (قدس سره) في فصوله أيضاً عن الكافي بهذا اللفظ بقرينة الحديثين السابقين عليه, فقد نقلهما عن الكليني
(قدس سره) عن محمد بن يحيى, كما أنه بعد نقل حديث التوحيد في الوسائل, قال: (ورواه الكليني في الكافي عن محمد بن يحيى).
ص: 208
ولكن لم نجده بهذا اللفظ في ما راجعناه من نسخ الكافي المطبوعة والمخطوطة, كما لم ينبّه عليه محققوا الكافي في طبعته الأخيرة, وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
وممن نقله عن التوحيد الفاضل التوني (قدس سره) في الوافية, حيث قال: (وذكر في باب التعريف والحجة والبيان: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن فضال عن داود بن فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (علیه السلام) )(1).
وساق الحديث متضمنا لفظة (علمه) ولا شك أن في سند الحديث سقطا؛ لأن أحمد محمد بن يحيى العطار مضافاً إلى أنه لا يروي عن أحمد بن محمد بن عيسى مباشرة فقد روى هذا الحديث عن أبيه كما تقدم.
ثم أنه بعد أن نقل حديث التوحيد بلفظه المذكور قال: (وهذه الرواية في الكافي في باب حجج الله على خلقه) من غير تنبيه على اختلاف اللفظ.
ما رواه الكليني (قدس سره) في الكافي – غير مشتمل على لفظة (علمه)- عن محمد بن يحيى العطار أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن فضال عن داود بن فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (علیه السلام), قال: (ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم)(2).
ما رواه في تحف العقول مزيدا في صدره وذيله, ومجردا عن لفظة (علمه), عن الصادق (علیه السلام) قال: (كل ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم حتى يُعرفهموه)(3).
ص: 209
هذا ما عثرنا عليه من لفظ الحديث, والعمدة هما الصيغتان الأولى والثانية, لما في مصدر الصيغة الثالثة من إرسال، والبحث فيهما يقع في نقطتين:
الأولى: في أن ما نقلاه (قدهما) هل هو حديث واحد أم حديثان؟
الثانية: على تقدير كونهما حديثا واحدا, فهل حصلت زيادة في رواية التوحيد أم أن هناك سقطا في رواية الكافي ؟
النقطة الأولى: الظاهر أن اللفظين حديث واحد وذلك لوحدة السند ابتداء من محمد بن يحيى العطار إلى الإمام (علیه السلام)، وتطابقُ الألفاظ تماما لولا لفظة (علمه), وعدم التنبيه من قبل نقلة الحديث على ذلك مع وصوله إليهم، ولم أقف على من قال إنهما حديثان إلا ما حكاه البعض(1) عن ضوابط الأصول من غير أن يذكر وجهه, ولعله من جهة وجود لفظة (علمه) في أحدهما دون الأخر وليس ذلك مما يوجب القول بالتعدد مع جميع هذه القرائن.
النقطة الثانية: فلأجل ترجيح أحد الأحتمالين على الأخر لا بد أولاً من معرفة مصدر الخلل، والمقبول من الاحتمالات اثنان:
الأول: أن تكون لفظة (علمه) قد سقطت من قلم الشيخ الكليني (قدس سره) سهواً.
الثاني: أن تكون لفظة (علمه) قد أضافها الصدوق (قدس سره) أو شيخه أحمد بن محمد (قدس سره) غفلة, بناء على أنه أكثر من شيخ إجازه بل كان له أثر حقيقي في وصول الحديث الى الصدوق (قدس سره) كما سياتي.
وقد يقال بترجيح نقل الصدوق (قدس سره) على نقل الكليني (قدس سره) بناء على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة.
ص: 210
ولكن يمكن أن يقال: إن المقام ليس من موارد الأصل المذكور على ما يتحصل من كلمات جملة من الأعلام في موارد متفرقة حتى لو تم الأصل المذكور في نفسه.
وتوضيح ذلك:
أن من الأصول المقررة عند العقلاء أصالة عدم الغفلة في القول والفعل, بمعنى أن الأنسان إذا قال شيئا أو فعل شيئا فإنه لا يلتفت الى احتمال صدوره منه غفلة, بل يبنى على أن يكون قد قاله أو فعله عن قصد والتفات, ومنشأ هذا الأصل أن الغفلة والسهو في الفعل والقول خلاف طبيعة الإنسان، إذ الإنسان بطبعه يفعل ما يفعل عن التفات، ويقول ما يقول عن التفات، ولذا استقر البناء من العقلاء على عدم الإعتناء باحتمال الغفلة.
وهناك أصلان يرجعان الى هذا الأصل العام, وهما: أصالة عدم النقيصة, وأصالة عدم الزيادة في النقل, أو قل: أصالة عدم النقيصة غفلة, وأصالة عدم الزيادة غفلة, ومورد الأول احتمال وجود نقص في النقل دون احتمال الزيادة, ومورد الثاني احتمال وجود زيادة في النقل دون النقيصة.
ولكن قد يحصل أحيانا ورود كلا الاحتمالين - أي الزيادة أو النقيصة- في المنقول, وذلك إذا اختلف النقل في الزيادة والنقيصة مع وحدة المنقول بحيث يحرز خطا أحد النقلين وأن أحدهما هو الواقع دون الأخر, وقد ادعي التسالم على تقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة, فيُقدّم النقل المشتمل على الزيادة على الآخر.
والذي ينبغي أن يقال بعد كون الأصول المتقدمة أصول عقلائية لا تعبد فيها وإنما منشؤها نكتة ارتكازية, هي استبعاد الغفلة والسهو وغلبة الالتفات, فإن ما يُقدّم ينبغي أن يكون هو الأبعد وقوعا من جهة الغفلة عند العقلاء, فتكون العبرة بحصول الوثوق
ص: 211
بأحد الطرفين, ولا عبرة بالأصل المذكور مع كون احتمال النقيصة معتدا به عند العقلاء.
وحصول الوثوق بعدم الزيادة يتوقف على أمور متعددة:
الأول: شخصية القضية المنقولة, فإنه تارة تحرز شخصية القضية المختلف في نقلها, وأخرى يحتمل التعدد, كما اذا كان أحد الكلامين صدر في قضية والأخر صدر في قضية أخرى ومورد الأصل هو الأول دون الثاني, فإنه لو لم تكن القضية واحدة أمكن أن يتعدد المروي, تارة مع الزيادة, وأخرى بدونها, كما ادعي ذلك في حديث (لا ضرر) على أساس أنه تكرر من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) في أكثر من مناسبة, وحينئذ فلا تنافي بين ما يشتمل على الزيادة وما لا يشتمل عليها.
الثاني: أن لا تكون الزيادة جملة تامة, لا يؤثر حذفها على معنى الرواية وإنْ كان مؤثرا على عموم المعنى وشموله.
كما إذا كان الزائد بمثابة العلّة للمذكور, فإن ما اشتمل على العلّة والمُعلَّل لا ينافي ما اشتمل على المعلَّل وحده, ومثاله جملة (لا ضرر ولا ضرار) المعلَّل بها الحكم في قضية سمرة مثلا في بعض الروايات, فلا يكون حذفها مؤثرا على معنى بقية الرواية، لكنه مؤثر على عموم المعنى المعلَّل بها, ومن الواضح أنه لاتنافي بين ماتضمن ذكر العلّة والآخر الخالي عن ذكرها.
أو كانت الزيادة معنى إضافيا لا ربط له بالمعنى الأول, كما إذا قال المولى (يستحب في ليلة الجمعة زيارة الحسين (علیه السلام) وقراءة دعاء كميل) فنقل شخص المقطع الأول دون أن يكون لكلامه إطلاق مقامي, ونقل الأخر تمام الكلام.
الثالث: أن لا يكون في المقام خصوصية تقضتي زيادة احتمال الغفلة من جهة الزيادة، لأن منشأ حجية هذين الأصلين في حد أنفسهما ليس تعبديا صرفا كما عرفت،
ص: 212
بل هو من باب بناء العقلاء وأبعدية الغفلة من جهة الزيادة بالنسبة الى الغفلة من جهة النقيصة.
ومن الخصوصيات التي تقتضي ذلك ما يلي:
الأولى: أن تكون الزيادة من المعاني المأنوسة والأمور المألوفة لسبب ما, كارتكاز الأشباه والنظائر مما يقرب احتمال الوقوع في الغفلة، مثلا قد تكون زيادة (في الأسلام) في حديث (لا ضرر) بسبب ارتكازية نظائره نحو (لا رهبانية في الأسلام)، و(لا مناجشة في الأسلام)، و(لا اخصاء في الأسلام).
الثانية: أن تكون الزيادة من المعاني القريبة من الأذهان بحسب مناسبات الحكم والموضوع الأرتكازية، بحيث ينساق إليها الذهن عند التلقي ثم انعكاسها في مقام النقل فان مثل هذه الزيادة لا يكون احتمال خطأ الراوي في نقلها أبعد من احتمال خطأ الراوي الأخر في ترك نقلها.
الثالثة: تعدد الراوي من جانب النقيصة مع وحدة الراوي من جانب الزيادة، لأن غفلة المتعدد أبعد من غفلة الواحد, فلو حضر ثلاثة اشخاص مجلس الإمام (علیه السلام) ونقلوا جميعا كلاما واحداً له, ولكن اثنين منهم نقلوه بلا زيادة والثالث نقله مع زيادة, فإن احتمال غفلة الإثنين عن النقيصة أبعد عن احتمال غفلة الواحد عن الزيادة.
وكذلك التعدد الطولي للنقل في جانب الزيادة, كما اذا حضر شخصان مجلس الإمام (علیه السلام) ونقل أحدهما لنا مباشرة كلاماً للامام (علیه السلام) بلا زيادة, ونقل لنا شخص عن آخر عمّن حضر ذلك المجلس الكلام نفسه مع الزيادة, فإن التعدد الطولي في النقل يزيد من احتمال الغفلة خلافا للنقل المباشر.
الرابعة: أن يكون أحد الراويين أضبط من الآخر المزيد, بحيث تكون غفلته أبعد
ص: 213
من غفلة الآخر, مثلا المعروف أن الكليني (قدس سره) أضبط من الشيخ (قدس سره) في النقل, ومعه لا يحصل الوثوق بأصالة عدم الزيادة في نقل الشيخ لتقدّم على أصالة عدم النقيصة في نقله.
الخامسة: أن لا يكون النقل بالمعنى, إذ معه يحتمل أن تكون الزيادة عن عمد من الناقل تفصيلا للكلام, كما يحتمل أن تكون النقيصة إجمالاً من الآخر.
وبناء عليه نقول: إن احتمال الزيادة في نقل الصدوق (قدس سره) ليس بأبعد عن الغفلة من احتمال النقيصة في نقل الكليني (قدس سره) وذلك لاجتماع ثلاثة أُمور:
الأول: التعدد الطولي في النقل من جانب الزيادة يرفع من احتمال حصول الغفلة, فإن الكليني (قدس سره) نقل الحديث عن محمد بن يحيى العطار مباشرة, ونقله الصدوق (قدس سره) عنه بواسطة ابنه أحمد.
الثاني: أوثقية الكليني (قدس سره) على أساس ما عرف به من دقّة في النقل وضبط للأحاديث, قياسا بأحمد بن محمد بن يحيى الذي لم يعرف عنه ذلك, وإنْ قيل بوثاقته في نفسه, وقياسا بالصدوق (قدس سره) لما عرف عنه من قوة الحافظة التي لاشك في اعتماده عليها أحيانا, ولعل المورد منها.
الثالث: أن لفظة (علمه) نفسها تقوي احتمال ذلك فإنها مقتضى المناسبات, بل لعلها من دلالة الاقتضاء على أساس أن حجب الأحكام إنما يكون بحجب العلم بها, وحينئذ قد يكون الصدوق (قدس سره) قد ذكر هذا العنصر المقدّر في الكلام سهوا بسبب انعكاس انطباعه عن الحديث وفهمه له في مقام النقل والرواية.
هذا كله بناء على عدم ثبوت لفظة (علمه) في الكافي.
ولكن قد يقال باختلاف نسخ الكافي في ذلك, وتقريبه:
أن الفاضل التوني (قدس سره) قد نسب عين رواية التوحيد إلى الكافي, حيث قال في
ص: 214
عبارته المتقدمة:
(وذكر - أي الصدوق (قدس سره) - في باب التعريف والبيان والحجة: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد بن عيسى..) إلى أن قال – بعد ذكر تمام الرواية المتضمنة لفظة (علمه) –: (وهذه الرواية في الكافي باب حجج الله على خلقه) (1).
كما أن الحر العاملى (قدس سره) قال في الوسائل بعد نقل حديث التوحيد (ورواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى..)(2), وظاهر قوله (ورواه) أن رواية الكافي عين رواية التوحيد وإلاّ كان يقول (ونحوه) مثلا, بل قال في الفصول المهمة (3- وعن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن فضال عن داود بن فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ما حجب الله علمه)(3).
علما أنه نقل الحديث الأول عن الكليني (قدس سره) عن محمد بن يحيى وغيره, ونقل الحديث الثاني عن الكليني (قدس سره) عن العطار مما يدل بوضوح على أنه بصدد نقل رواية الكافي محل الكلام.
والحاصل: أن كلام الفاضل التوني وصاحب الوسائل (قدهما) يدل بوضوح على ثبوت لفظة (علمه) في نسختي الكافي التي اعتمدا عليها، واحتمال أن يكون مقصود الفاضل التوني (قدس سره) وجود الحديث إجمالاً في الكافي أو أنه لم يلتفت الى خلوه من لفظة (علمه) إن تم فلا يتم في نقل صاحب الوسائل (قدس سره) بعد نقله له عن الكافي في اكثر من موضع من كتبه, بل صرح أن نقله عن الكافي بدون اللفظ المذكور غير صحيح كما في
ص: 215
فوائده(1) في مقام الرد على من استدل بالحديث على البراءة الأصلية.
ولكن مع كل هذا فإن عدم نقل أحد غير العلمين اللفظ المذكور عن الكافي بما فيهم بعض معاصريهم كالمولى المازنداني في شرحه(2) والمولى رفيع الدين النائيني في حاشيته, وعدم وجود اللفظ المذكور في شيء من نسخ الكافي المتوفرة بأيدينا, مخطوطة ومطبوعة, كما لم ينبّه عليه في طبعة دار الحديث يوجب الوثوق بأن الصحيح ما في الكافي المطبوع.
والخلاصة من جميع ما ذكرناه: أن كلا من الكليني والصدوق (قدهما) نقلا حديثا واحدا, لا أكثر, وأن لفظة (علمه) ثابتة في النص على الأرجح لو ثبت اختلاف نسخ الكافي, وإلاّ فلا وثوق بثبوت اللفظ المذكور في متن الحديث.
ص: 216
وأمّا من حيث السند, فرجال السند هم:
وهو محل بحث معروف, فمنهم من اعتمد عليه, ولعلَّه الأكثر على ما في المعجم(1), ومنهم من لم يعتمد عليه.
وقد يصحح الاعتماد على الحديث من جهته وإنْ لم تثبت وثاقته على أساس ما ذكره بعض أساتيذنا (دام عزه) في شرح (المسالة 143) من مناسك الحج في مقام تصحيح طريق الشيخ الى كتاب أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري, من أن: (أحمد بن محمد بن يحيى العطار وإن لم يوثّق في كتب الرجال, إلا أن الظاهر أنه كان من شيوخ الإجازة الذين ليس لهم دور حقيقي في نقل الروايات، وإنما دوره شكلي محض، لئلا تنقطع سلسلة الأسانيد, فلا يضرّ عدم إثبات وثاقته بالاعتماد على الرواية المنقولة عن طريقه).
وكلامه (دام عزه) في هذا الموضع وإن كان مطلقا, إلا أنه قال (دام عزه) في شرح (المسالة 78) من المناسك - بعد أن نقل عن السيد بحر العلوم (قدس سره) كلاما في شيخوخة الإجازة بالنحو المتقدم - ما حاصله: أنه يمكن الاستغناء عن وثاقة شيخ الإجازة بشرطين:
الأول: أن لا يكون شيخ الإجازة صاحب كتاب يحتمل اشتماله على الأحاديث
ص: 217
المروية, كما لو كان كتابه في العقيدة مثلا وروى أحاديث في الفروع عن صاحب كتاب, فإنه لايحتمل أن تكون تلك الأحاديث من كتابه هو.
الثاني: أن يكون أصل الكتاب بالإجازة مشهورا, ونسخه كثيرة التداول بحيث
يضعف احتمال الدس في النسخة الواصلة للراوي.
ولكنّ بين الموردين فرقاً واضحاً, فحتى لو تمَّ هذا الوجه في نفسه فإنّه لا ينفع في الاعتماد على روايات أحمد بن محمد بن يحيى العطار في ما نحن فيه ونظائره حتى مع مراعاة هذين الشرطين؛ وذلك لأن الرجل لم يكن مجرد شيخ إجازة بالنسبة الى الصدوق (قدس سره) بل كان له أثر حقيقي في وصول الرواية, توضيحه:
إن الصدوق (قدس سره) كثيرا ما يبدأ النقل عنه بقوله: (حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار), ومن ذلك الحديث المبحوث عنه, فقد تكرر منه قوله: (حدثني أحمد بن محمد بن يحيى العطار, قال: حدثني سعد بن عبد الله..) كما في التوحيد (ص123 و128 و141 و286) والأمالي (ص183 و119 و158) وغيرها من الموارد, وقوله: (حدثني أحمد بن محمد بن يحيى العطار قال حدثني أبي) كما في التوحيد (ص305 و338), وهكذا في الأمالي (ص187 و85) وفي كثير من الموارد الأخرى.
والتعبير المذكور ظاهر عرفا في السماع, والأكثر استعمالها عند أهل الفن في التلقي عنه بطريق السماع, بل عدّها بعضهم أقوى دلالة على ذلك من (سمعت) كما ذكره علماء الدراية(1).
بل إنَّ الصدوق (قدس سره) صرَّح بتلقيه عنه عن طريق السماع, حيث قال: ( قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: قد روي هذا الخبر بغير هذا اللفظ إلا أن مسموعي ما قد
ص: 218
ذكرته)(1), وهذا صريح في التلقي عن طريق السماع.
وحينئذ يكون للرجل دور حقيقي في روايات الصدوق (قدس سره), لا أن دوره شكلي محض, ولا أقل من الظن بذلك.
هذا من جهة.. ومن جهة اخرى لا يمكن أن نحرز أنّ الصدوق (قدس سره) في ما نحن فيه أخذ الحديث من كتاب مشهور كثير النسخ بحيث يضعف حصول الدس فيه مع أن جميع المذكورين في السند أصحاب كتب يحتمل ورود الحديث فيها, كنوادر محمد بن يحيى العطار, ونوادر أحمد بن محمد بن عيسى وتوحيده, وكتاب داوود بن فرقد الذي نجهل موضوعه.
فلا بد إذاً من البحث عن وثاقة الرجل, وعمدّة ما يستدل به على وثاقته ما اختاره (دام عزه) من أن الترضي من مثل الصدوق (قدس سره) على شخص آية الجلالة والوثاقة, حيث قال عند البحث عن وثاقة عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيشابوري العطار:
(والذي أراه تامّا منها – اي من طرق توثيقه – هو أن الصدوق (رضوان الله عليه) ترضى عليه في بعض المواضع من كتبه, واستعمال الترضي في كلمات القدماء كان مختصا بحق العظماء والأجلاء, وهو وإن كان بحسب مدلوله اللغوي دعاء ولكنه تحوّل الى لفظ تعظيم وتكريم في لسان المتشرعة, ونظير ذلك لفظ ( (علیه السلام) ) الذي لا يطلق عند عموم المسلمين إلا في حق النبي (صلی الله علیه و آله و سلم), ولا يطلق عندنا إلا في حق الأئمة (علیهم السلام) ومن يدانيهم في الرتبة كالعباس (علیه السلام) وبعض الشهداء وإن كانت بحسب المدلول اللغوي لا تحمل هذه الخصوصية)(2).
ص: 219
وقد ترضى الصدوق على أحمد بن محمد بن يحيى العطار في كثير من الموارد, منها عند نقل هذا الحديث عنه, ومنها في الفقيه (ج4 ص528) في طريقه الى أمية بن عمرو, وفي (ج4 ص508) في طريقه الى عمرو بن سعيد الساباطي(1).
على أن البحث عن وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى يمكن الاستغناء عنه في ما نحن فيه بطريق الكليني (قدس سره) .
قال النجاشي: (محمد بن يحيى أبو جعفر العطار القمي شيخ أصحابنا في زمانه, ثقة, عين, كثير الحديث, له كتب, منها كتاب مقتل الحسين, وكتاب النوادر)(2).
وقال الشيخ في الرجال في من لم يروِ عنهم: (محمد بن يحيى العطار روى عنه الكليني قمي كثير الرواية)(3).
قال النجاشي: (.. وقال ابن نوح: .. أحمد بن محمد بن عيسى.. أبو جعفر رحمه الله شيخ القميين ووجههم وفقيههم غير مدافع .. وله كتب .. فمنها كتاب التوحيد, كتاب فضل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم), كتاب المتعة, كتاب النوادر - وكان غير مبوب فبوّبه داود بن كورة -,
ص: 220
كتاب الناسخ والمنسوخ, كتاب الأظلة, كتاب المسوخ, كتاب فضائل العرب, قال ابن نوح: رايت له عند الدبيلي كتابا في الحج)(1).
وقال الشيخ في أصحاب الرضا (علیه السلام): (أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي, ثقة, له كتب)(2).
وقال في الفهرست: (أحمد بن محمد بن عيسى .. وأبو جعفر هذا شيخ قم, ووجهها, وفقيهها, غير مدافع, وكان أيضاً الرئيس الذي يلقى السلطان بها, ولقي أبا الحسن الرضا (علیه السلام), وصنف كتبا, منها كتاب التوحيد, كتاب فضل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم), كتاب المتعة, كتاب النوادر - وكان غير مبوب فبوّبه داود بن كورة-, وكتاب الناسخ والمنسوخ)(3).
قال عنه الشيخ في أصحاب الكاظم (علیه السلام): ( ثقة, له كتاب..)(1).
وقال عنه النجاشي: (كوفي ثقة.. قال ابن فضال: داود, ثقة, ثقة, له كتاب)(2).
وهذا الرجل هو نقطة الاشكال في سند الحديث, فهو مشترك بين عدَّة أشخاص من أصحاب الصادق (علیه السلام), ذكر الشيخ (قدس سره) أربعة منهم في من روى عنه (علیه السلام), هم(3):
(73- زكريا بن يحيى الكلابي الجعفري كوفي) و(79- زكريا بن يحيى النهدي [في المعجم ج8 ص299: الهندي] مولاهم كوفي) و(82- زكريا بن يحيى الحضرمي الكوفي أسند عنه) و(105- زكريا بن يحيى وكان يحيى نصرانيا).
وذكر النجاشي: (زكريا بن يحيى الواسطي)(4).
هذا ولم يوثق من المذكورين إلا الأخير, فقد وثقه النجاشي قائلاً:
(زكريا بن يحيى الواسطي, ثقة, روى عن أبي عبد الله (علیه السلام), ذكره ابن نوح، له كتاب)(5).
ومن ثَمَّ فقد حكم غير واحد بضعف السند؛ لاشتراك الرجل بين الثقة وغيره.
ولكن وثقه صاحب جامع الرواة على أساس أنه الواسطي الثقة، إذ قال:
(زكريا بن يحيى الواسطي, ثقة, روى عن أبي عبد الله (علیه السلام), ذكره ابن نوح [صه. نجش]
ص: 222
والذي في [ق] و[ست]: (زكار), وقد تقدم (مح)، له كتاب روى عنه: إبراهيم بن محمد بن إسماعيل [جش] [س]. داود بن فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (علیه السلام) في [في] في باب حجج الله على خلقه في أخر كتاب التوحيد. بكر بن صالح عن زكريا بن يحيى عن أبي الحسن (علیه السلام) في باب الفقاع)(1). إلا أنه لم يكشف عن سر ذلك.
كما لم يذكر السيد الشهيد (قدس سره) - الذي وصف سند الحديث بأنَّه تام(2)- وجهاً لذلك, بعد ما عرفت من اشتراك العنوان, ولكن احتمل بعض أعلام تلامذته(3) أنه على أساس انصراف (أبو الحسن زكريا بن يحيى) إلى زكريا بن يحيى التميمي أوالواسطي, وكلاهما ثقة, ثُمَّ ناقش فيه على أساس مانعية الكنية إذ لعل قول الراوي (ابو الحسن) لتمييزه من الواسطي والتميمي.
ولكن دعوى الانصراف – في نفسها- محل تأمل.
أما من جهة زكريا بن يحيى التميمي فممنوعة جداً؛ لأنه ليس من الرواة عن الصادق (علیه السلام) أصلا, وإنما يروي عنه بوساطة مثل الحارث بن عمران(4), وعبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله(5), ويحيى بن العلاء البجلي(6), ويوسف بن يعقوب(7) بقرينة
ص: 223
رواية ايراهيم بن سليمان الخزاز عن زكريا بن يحيى عن المذكورين في كتبهم وزكريا بن يحيى الذي يروي عنه ابراهيم بن سليمان الخزاز هو التميمي, كما صرح به النجاشي في ترجمة زكريا بن يحيى التميمي(1).
فالرجل ممن لا يروي عنه (علیه السلام) مباشرة, بل لم يرو عن أحد من الأئمة (علیهم السلام) مباشرة, فلا مقتضي للانصراف إليه في المقام كي يتمسك بمانعية الكنية.
وأما دعوى الانصراف إلى الواسطي فقد يتأمل فيها بأن الرجل ليس من أصحاب الإمام (علیه السلام) المشهورين بالرواية عنه كي تتم دعوى الأنصرف, بل لعل الرجل ليس بمشهور اصلا, لا في الأسانيد, ولا في كتب الرجال.
أما في أسانيد الروايات فإنه لم تعهد له أيَّة رواية في ما وصل الينا عن الإمام الصادق (علیه السلام), وغاية ما يوهم ذلك موردان:
الأول: ما في الوسائل: (محمد بن يعقوب, عن عدة من أصحابنا, عن أحمد بن أبي عبد الله, عن محمد بن عيسى أو غيره, عن عبد الرحمن بن حماد, عن
زكريا, عن أبي عبد الله (علیه السلام) )(2).
ولكن الظاهر: أن في السند تصحيفاً, فإن ما في الكافي (عن عبد الرحمن, عن حماد بن زكريا, عن أبي عبد الله ( (علیه السلام) (3), وهو الموافق لما في المحاسن المطبوع, وإنْ كان الصحيح كما يظهر من متابعة أسانيد المحاسن (عن أبي عبد الرحمن عن حماد بن زكريا) فقد جاء فيه رواية أبي عبد الرحمن بن قتيبة بن مهران النخعي, عن حماد بن زكريا وعن
ص: 224
أبي عبد الرحمن, عن حماد بن زكريا وعن قتيبة بن مهران, عن حماد بن زكريا(1).
فالظاهر أن الراوي عن الإمام (علیه السلام) هو حماد بن زكريا, والراوي عنه هو أبو عبد الرحمن قتيبة بن مهران النخعي, كما فصلّه صاحب المحاسن أولاً, ثُمَّ اكتفى بالكنية تارة, وبالاسم أخرى, كما يشهد له وحدة الراوي - وهو محمد بن عيسى اليقطيني أو غيره في الجميع – والمروي عنه, ولكن وقع الخلل تارة في الكافي إذْ ذكر: ( عن عبد الرحمن عن حماد بن زكريا), وأخرى في الوسائل إذْ ذكر: (عن عبد الرحمن بن حماد عن زكريا..), بل لعل الخلل حتى في المحاسن, حيث جاء فيه: (عن أبي عبد الرحمن بن قتيبة بن مهران النخعي عن حماد بن زكريا), في حين ذكر غير مرة: (عن محمد بن عيسى أو غيره عن قتيبة بن مهران عن حماد بن زكريا).
وكيف كان, فالظاهر أن الراوي عن الإمام (علیه السلام) هو حماد بن زكريا.
الثاني: ما في الوسائل أيضاً(2): (وعن محمد بن علي, عن أحمد بن الحسن الميثمي, عن زكريا, عن أبي عبد الله (علیه السلام), قال: عليكم بالسواك فإنه يجلو البصر).
ولا دلالة فيه على أنه الواسطي, كما لا يخفى.
وأما في كتب الرجال فلم يذكر (زكريا بن يحيى الواسطي) إلا ابن نوح, كما هو ظاهر عبارة النجاشي المتقدّمة, حيث قال:
(زكريا بن يحيى الواسطي, ثقة, روى عن أبي عبد الله (علیه السلام), ذكره ابن نوح).
إذْ يظهر أن النجاشي لم يعثر على من عدّه في أصحاب الصادق (علیه السلام) غير شيخه ابن نوح, ولو كان الرجل مشهورا بحد يقتضي الإنصراف إليه لتكرر ذكره في كتب الرجال
ص: 225
أو ارسل ارسال المسلمات, واما ما ذكره النجاشي بعد ذلك من أن له كتاباً وذكر طريقه اليه فهو لايقتضي أن يكون مشهوراً.
بقي شيء وهو أن صاحب جامع الرواة كما حكم باتحاد أبي الحسن زكريا بن يحيى مع الواسطي, حكم أيضاً بانه زكريا بن يحيى الذي يروي عنه بكر بن صالح, والظاهر انه زكريا بن يحيى الشعيري الراوي عن الحكم بن عيينة والذي روى عنه جميل بن دراج ولكن وقع فيه الكثير من التصحيف, تارة في اسمه, واخرى في لقبه, وثالثة في من يروي عنه, كما نبّه عليه السيد الخوئي (قدس سره) في المعجم(1), وكيف كان فالرجل هو زكريا بن يحيى الشعيري.
وقد يقرّب ما ذكره في جامع الرواة من أنه أبو الحسن زكريا بن يحيى على أساس أن أحمد بن الحسن الميثمي قد روى عن زكريا عن عن ابي عبد الله (علیه السلام), كما في الحديث المتقدم عن الوسائل, كما روى عن أبي الحسن الشعيري في طريقه إلى الأصبغ بن نباتة, كما في توحيد الصدوق(2), وزكريا بن يحيى الشعيري من طبقة أصحاب الصادق (علیه السلام), بقرينة روايته عن الحكم بن عيينه ورواية جميل بن دراج عنه كما في الفقيه(3).
ولكن هذا الوجه لا يزيد على كونه احتمالاً لا سبيل الى الاطمئنان به.
ص: 226
تقرب دلالة الحديث على البراءة عادة بأن حرمة (كذا) غير معلومة لنا, فهي محجوبة عنا, وما كان محجوبا عن العباد فهو موضوع عنهم, فيدل الحديث على نفي الكلفة ووجوب الاحتياط.
الأيراد على الاستدلال:
وقد أورِد على الاستدلال بالحديث على البراءة بما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سره) – وتبعه عليه غير واحد منهم المحقق الخراساني والمحقق النائيني والسيد الخوئي (قدس سره) في أحد تقريرات بحثه الشريف - ولفظه:
(إن الظاهر من (ما حجب الله علمه) ما لم يبيّنه للعباد, لا ما بيّنه واختفى عليهم بمعصية من عصى الله تعالى في كتمان الحق وستره, فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (علیه السلام): (إن الله حدّ حدودا فلا تعتدوها, وفرض فرائض فلا تعصوها, وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم)(1).
وتوضيحه: أن ما يصدق عليه أنه محجوب عنا على ثلاثة أقسام:
الأول: ما اختص الله تعالى بعلمه, ولم يطلع عليه أحدا, حتى أنبيائه ورسله عليهم وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام.
ص: 227
الثاني: ما أوحاه تعالى الى نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم), ولكن لم يامره بتبليغه الى الناس.
الثالث: ما بلغه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الى المؤمنين, ولكن خفي علينا بسبب ظلم الظالمين ونحوه.
ومقصود الشيخ (قدس سره) ومن تابعه أن الحديث ظاهر في القسم الأول وحده أو مع الثاني, وغير ناظر الى القسم الثالث, وحينئذ لا يكون في الحديث ما يدل على البراءة المتنازع عليها بين الأخباريين والأصوليين, فإن محل الكلام بينهم هي الأحكام المحجوبة بعد بيانها من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأوصيائه (علیهم السلام) بسبب ظلم الظالمين ونحوه, لا ما لم يؤمر ببيانه أصلا, وبحسب تعبير المحقق العراقي (قدس سره): (مورد النزاع إنما هي الأحكام المجهولة التي نقطع بفعليتها على تقدير ثبوتها..)(1).
ومنشأ الظهور المدعى في كلام الشيخ (قدس سره) ومن تابعه عدّة أمور:
ما نسبه بعض الأعلام (قدس سره) في المنتقى الى صاحب الكفاية (قدس سره) من دعوى عدم صحة نسبة الحجب الصادر من العباد ظلماً وعدواناً إليه تعالى ثبوتا, قال: (أحدهما: ما أشار إليه صاحب الكفاية (قدس سره) من أن الجهل بالحكم بالنحو الثاني – أي ما كان حكما فعليا بلغ إلى الناس ولكنه خفي علينا بسبب ظلم الظالمين ونحوه – لم يكن سبب خفائه الله تعالى إذ هو أمر بتبليغه وقد بلغ وإنما نشأ من إخفاء الظالمين للأحكام ومنعهم من انتشارها وتدليس المدلسين وغير ذلك من الأسباب الخارجية, بخلاف الجهل بالنحو الأول فانه ناشىء من عدم أمر الله تعالى بتبليغه وبيانه. وعليه فلا يصح نسبة الحجب إلى الله سبحانه بلحاظ النحو الثاني, ويصح بلحاظ النحو الأول من الأحكام)(2).
ص: 228
وقد أجاب عنه (قدس سره) بقوله: (أما إذا كان سبب الخفاء هو الفعل الاختياري للعبد فتصح نسبته إلى الله تعالى بلحاظ ما هو المذهب الحق من الالتزام بالأمر بين الأمرين, فإن الفعل الصادر من العبد كما تكون له نسبة إلى العبد تكون له نسبة إلى الله سبحانه بملاحظة أن بيده وجود العبد, كما حقق في محله)(1).
وما ذكره في الجواب واضح لو كان التقريب بالنحو المذكور, ولكن في نسبة هذا الوجه إلى المحقق الخراساني (قدس سره) تأمل, وذلك لأنّ عبارته المنظورة هي قوله: (ربما يشكل – على الاستدلال بالحديث على البراءة – بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته –تعالى- بمنع إطلاع العباد عليه لعدم أمره رسله بتبليغه حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه)(2).
والظاهر أن مراده بقوله (لما صح إسناد الحجب) هو عدم صحة إسناده إليه تعالى عرفا بلا قرينة على أن الإسناد بنحو المجاز.
وبتعبير آخر: أن كلام صاحب الكفاية في مقام التمسك بقرينة اثباتية, لا ثبوتية, وأن الممنوع حينئذ هو صحة الأستعمال عرفا, وإلاّ لو كان مراده عدم صحة نسبة خفاء ما اختفى من الأحكام بسبب الظلم والعصيان ونحوهما إليه تعالى عقلا لتمسك بالقرينة القطعية - أي عدم صحة النسبة - على منع ظهور الحديث في ما يدل على البراءة, لا الاستناد إلى (دعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع إطلاع العباد عليه), مضافا إلى أنه من البعيد تمسك مثل الأخوند (قدس سره) بمثل هذا الوجه بعد وضوح موقف الإمامية اعزهم الله تبعاً للأئمة (علیهم السلام) من مسألة نسبة أفعال العباد إلى
ص: 229
الله (جل جلاله) .
فالظاهر أن مقصوده (قدس سره) هو عين الوجه الرابع الآتي.
ما يمكن أن يقال من أن ظاهر ذيل رواية تحف العقول (حتى يعّرفهموه) نظر الحديث إلى ما لم يبين من الأحكام, وتقريبه:
أن المتفاهم العرفي من تعريفه تعالى لأحكامه بحسب المرتكز من طريقة المشرع في بيان أحكامه والمعروف من سنته في إبلاغ مراده لخلقه هو ما كان بواسطة أنبيائه وأوصيائه صلوات الله عليهم, وكون التعريف بأمره تعالى لرسله وأوصيائه بالبيان والتعريف, ومقتضى ذلك أن الحكم المغيى هو ما لم يؤمر الرسول وأوصيائه صلوات الله عليهم ببيانه وإبلاغه إلى الناس, لا ما خفي علينا بعد البيان.
والجواب عنه ظاهر بعد سقوط الحديث باللفظ المذكور سندا.
ما يظهر من أجوبة جملة من الأعلام(1) من ظهور الجمع المعرف (العباد) في العموم المجموعي أو العموم الأستغراقي, مما يعني نظر الحديث إلى الأحكام المحجوبة عن مجموع العباد أو جميعهم, وما ذلك إلا الأحكام التي لم تبيّن لهم؛ لأن الأحكام التي حجبت بعد بيانها غير محجوبة عن مجموع العباد أو جميعهم فيكون الحديث ظاهر في ما ذكره الشيخ (قدس سره) .
وقد أجاب عنه السيد الخميني (قدس سره) بأن:
(الظاهر من حجب العلم عن العباد ليس هو الحجب عن مجموع المكلفين أو جميعهم على وجه الاستغراق, بل الظاهر: إن كل من كان محجوبا عن الحكم فهو
ص: 230
موضوع عنه ولو كان معلوما لغيره)(1).
وبعبارة اخرى: أن الظاهر أن العموم انحلالي راجع الى وضع التكليف عن كل من حجب عنه.
أقول: أما ظهور الجمع المعرف بالأداة في العموم المجموعي فهو بعيد في نفسه وذلك لما تقرر في محله من مباحث الألفاظ من أن الجمع المعرف بالأداة ظاهر في العموم الاستغراقي لأفراد الطبيعة, كما بنى عليه (قدس سره) في مباحث الألفاظ.
واما العموم الانحلالي فهوفرع دلالة الحديث على البراءة, وليس قرينة على تلك الدلالة ولا أقل من عدم ظهوره بغير قرينة.
وأما ظهوره في العموم الاستغراقي فهو مقتضى ما ذكروه في مباحث الألفاظ,
ولا سبيل الى رفع اليد عنه إلا بقرينة.
أن ظاهر الإسناد اليه تعالى عرفا هو صدور الحجب منه بأمره وإرادته, قال في المنتقى:
(الوجه الأخر: أنه وإن صحّ نسبة الحجب إليه تعالى, لكن الظاهر العرفي من إسناد الحجب إليه تعالى هو إرادة ما إذا كان الإخفاء بأمره, إذ لا يسند الحجب إليه عرفا إذا كان الإخفاء على خلاف أمره, بل كان بواسطة الظلم المحرم المبغوض إليه)(2).
وهذا الوجه هو العمدة في انكار دلالة الحديث على البراءة, لذا اعتنى بالجواب عنه جملة من الأعلام, والجواب عنه يكون جوابا عن الوجه الثاني أيضاً, ويمكن تقسيم هذه الأجوبة على قسمين:
ص: 231
القسم الأول: ما يعترف في الجملة بنظر الحديث إلى الأحكام التي لم يؤمَر بإبلاغها إلى الناس.
القسم الثاني: ما ينكر ذلك مشددا على نظر الحديث إلى الأحكام المبلغة فعلا ثم خفيت.
ويمكن أن تُصنّف تحت هذا القسم ثلاث محاولات:
ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) بقوله:
(إن ما أفيد من عدم فعلية الأحكام مع السكوت عنها إنما يتم في فرض السكوت عنها بقول مطلق حتى من جهة الوحي الى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم), وأما في فرض إظهارها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)
بتوسيط خطابه ووحيه فيمكن دعوى كونها من الأحكام الفعلية, إذ لا نعني بالحكم الفعلي إلا ما تعلقت الإرادة الأزلية بحفظه من قبل خطابه, حيث إنه يستكشف من تعلّق الإرادة بإيجاد الخطاب فعليةالارادة بالنسبة إلى مظمون الخطاب ولو مع القطع بعدم إبلاغ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إياه إلى العباد إما لعدم كونه مأمورا بإبلاغه أو من جهة اقتضاء بعض المصالح لإخفائه).
إلى أن قال (قدس سره) بعد دفع ما قد يوهم عدم فعلية هذا النحو من الأحكام:
(وحينئذ بعد كفاية هذا المقدار في فعلية الخطاب نقول: إن رواية الحجب وإن لم تشمل هذا النحو من التكاليف المجهولة التي كان السبب في خفائها معصية من عصى الله تعالى ولكن بعد شمول إطلاقها إلى الأحكام الواصلة إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بتوسيط خطابه إليه التي لم يؤمر من قبله سبحانه بإبلاغها إلى العباد بملاحظة صدق إسناد الحجب فيها إليه سبحانه يمكن التعدي إلى غيرها من الأحكام المجهولة التي كان سبب حفائها الأمور الخارجية بمقتضى عدم الفصل بينهما بعد صدق التكليف الفعلي على مضامين
ص: 232
الخطابات المنزلة على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ولو مع عدم الأمر بإبلاغها إلى العباد) (1).
ويمكن تلخيص جوابه (قدس سره) في نقطتين:
إن الأحكام التي تظهر للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بتوسيط الوحي والخطاب من الأحكام الفعلية شأنها شان الأحكام المبلغة وإن لم يؤمر بإبلاغها إلى الناس, وليست أحكاما إنشائية محضة.
إن الحديث وان كان ناظرا إلى الأحكام المنزلة التي لم يؤمر ببيانها, إلا أنه يمكن تعديته إلى الأحكام المجهولة- بعد بيانها- بسبب الأمور الخارجية, وذلك بمقتضى عدم الفصل بين هذين النحوين من الأحكام بعد صدق التكليف الفعلي على كل منهما.
ويمكن المناقشة في النقطة الثانية من كلامه (قدس سره) وذلك بأن يقال:
إن كون الأحكام التي تظهر للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بتوسيط الوحي والخطاب من الأحكام
الفعلية شأنها شأن الأحكام المبلغة, ولا موجب للفصل بين هذين النحوين من الأحكام بعد صدق التكليف الفعلي على كل منهما إنما يتم لو كان عنوان الحكم الفعلي مأخوذا في لسان الدليل أو أن نلتزم بأن درجة الإرادة من حيث الشدة والضعف فيهماعلى حد واحد.
ولا سبيل إلى أيٍ منهما, أما الأول فواضح, وأما الثاني فلأن الإرادة المتعلقة بمضامين الخطابات المبلغة إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) التي لم يؤمر ببيانها للناس قد لا ترقى إلى درجة الإرادة المتعلقة بالتكاليف المبلغة إلى الناس, وذلك لاحتمال أن يكون عدم الأمر
ص: 233
بالتبليغ لضعف المقتضي وعدم تمامية الملاك في تلك الأحكام وبلوغ المصلحة الكامنة فيها الدرجة المفروضه في الأحكام الألزامية – كما احتمله هو (قدس سره) - مما يوجب ضعفا في الإرادة المتعلقة بها.
بل احتمال ضعف الإرادة واردٌ حتى لو كان عدم الأمر بالتبليغ لأجل وجود المانع, كعدم توفر الظروف الموضوعية المناسبة لنشر تلك الأحكام وإبلاغها إلى الناس حتى على تقدير كون إرادته لها ورغبته فيها من حيث هي لا تقل عن إرادته ورغبته في الأحكام المبلغة, فإن الإرادة الحكيمة المنزهة عن الانفعالات النفسية ونحوها لا تكون على مستوى واحد في ظرف وجود المانع وعدمه, إذ قد يرغب شخص في شيء من حيث هو تمام الرغبة ولكن رغبته تقل وتضعف إذا لاحظه في ظرف معين أو وضع معين، فقد يرغب الأب في أن يجدّ ولده في دراسته كي يبلغ أعلى المراتب كما أنه يرغب في أن يزور أرحامه ويتواصل مع أصدقائه وتكون كلتا الرغبتين من حيث هما عنده بالدرجة نفسها, إلا أنه تضعف إرادته المتعلقة بزيارة أرحامه وأصدقائه عندما يلاحظ ما يقتضيه تحقيق رغبته هذه من جهد نفسي وجسدي من قبل ولده حال اشتغاله بالدراسة فتضعف رغبته فيها.
وهذا التفاوت المحتمل – في الأقل – في قوة الإرادة وضعفها يوجب فرقا بين هذين النحوين من الأحكام – المبلغة وتلك التي لم يؤمر ببيانها - بما يسوّغ الفصل بينهما وعدم جر الموقف من أحدهما إلى الأخر, فقد لا يرضى المشرّع بتفويت المصلحة الكامنة في الأحكام المبلغة للناس عند الشك بها لسبب أو لآخر في حين يتساهل في ما لم يبلّغ لهم أصلا.
ص: 234
ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) في المصباح بعد أن التزم بورود الإشكال في الدراسات إذ قال:
(وهذا الإشكال أيضاً مدفوع: بأن الموجب لخفاء الأحكام التي بيّنها الله تعالى بلسان نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم) وأوصيائه
(علیهم السلام) وان كان هو الظالمين, إلا انه تعالى قادر على بيانها بأن يأمر المهدي (علیه السلام) بالظهور وبيان تلك الأحكام فحيث لم يأمره بالبيان لحكمة لا يعلمها إلا هو صح إسناد الحجب إليه تعالى, هذا في الشبهات الحكمية، وكذلك الحال في الشبهات الموضوعية, فإن الله تعالى قادر على إعطاء مقدمات العلم الوجداني لعباده, فمع عدم الإعطاء صح إسناد الحجب إليه تعالى)(1).
ويمكن المناقشة في ما ذكره (قدس سره) من وجوه:
أن ما ذكره (قدس سره) من أن عدم أمر المهدي (علیه السلام) بالظهور وعدم إعطاء مقدمات العلم الوجداني يصحح إسناد الحجب إليه تعالى لو تم فإنما يتم في مقام تصحيح إسناد الحجب إليه تعالى, ولكنك عرفت أن المهم هو ظهور نسبة الحجب إليه تعالى عرفا في صدوره منه بإرادته وأمره, كما في تقريبه هو (قدس سره) للإشكال في الدراسات إذْ قال: (فان المراد مما حجب الله علمه على ما هو ظاهر إسناد الحجب إلى الله خصوص ما لم يبيّن من الأحكام)(2).
ولكن يمكن أن يقال: إن مقصوده (قدس سره) أن ما ذكره يكفي في صدق الحجب المنسوب إليه تعالى عرفاً على ما نحن فيه.
ص: 235
إن ما ذكره (قدس سره) من عدم الأمر بالظهور والبيان وعدم إعطاء مقدمات العلم الوجداني لو كان يكفي مسوغا لنسبة الحجب إليه تعالى عرفا لساغ كذلك أن ننسب اليه كل مظلمة وهتك حرمة لقدرته على رفع الظلم وصون الحرمات ولكنه لم يفعل, مع ما يثيره هذا الكلام من حزازة واستهجان لدى العرف, فكيف يصح نسبة الحجب الصادر من العصاة والظلمة إليه سبحانه في نظر العرف؟!
أن مقصوده (قدس سره) بقضية ظهور الإمام (علیه السلام) إن كان هو الظهور الكبير لإقامة دولة العدل والحق فهو رهن بشروطه الخاصة التي قد لا تكون متوفرة في هذا الزمان, وإن كان مقصوده منها ظهوره لبعض الأصحاب ليظهره على ما خفي من أحكام فإنّه قد يكون مزاحما بمصلحة أهم تمنع منه, وقد يكون ما روي عن آخر السفراء –رض – من أنه من ادعى المشاهدة فهو كذّاب تعبيرا عنها.
وعلى كلا التقديرين فإن عدم أمره بالظهور يكون لوجود المانع, ومعه لا يصح نسبة الحجب الصادر من الظلمة إليه تعالى عرفاً؛ لعدم إمكان الأمر بالظهور والبيان, فإن من الواضح أن من يمنعه مانع من رفع حيف لا ينسب اليه ذلك الحيف عرفا.
ما قد يقال من الاستدلال بالحديث على البراءة مع التسليم في الجملة بما ذكروه من ظهور الحديث في النظر إلى الأحكام الإنشائية, وتوضيحه بذكر مقدمتين:
إن نسبة الحجب إلى الله تعالى ظاهرة عرفا في صدوره منه بأمره وإرادته, ويقع تحت هذا العنوان أحكام عدَّة:
الأول: الأحكام التي أنزلت على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ولكن لم يؤمَر ببيانها مطلقاً.
الثاني: الأحكام التي قام النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ببيانها إلى الناس على نحو الإجمال لحكمة
ص: 236
اقتضته.
الثالث: الأحكام التي قام (صلی الله علیه و آله و سلم) ببيانها للناس ولكنها خفيت علينا بسبب آفة سماوية أو ارضية.
الرابع: الأحكام التي بلّغها (صلی الله علیه و آله و سلم) للمسلمين ولكنها خفيت علينا بسبب توهمات الرواة الثقات أو اشتباههم.
فهذه الأحكام جميعا مما يجوز نسبة حجبها إلى الله تعالى, أما الثلاثة الأولى فواضح, وأما الأخير فلأن الخفاء فيه كان نتيجة أمره تعالى بالأخذ بخبر الثقة فتامل!
أن نتمسك بقرينة مناسبات الحكم والموضوع لإدخال الأحكام محل الكلام, بأن يقال من مناسبة الحكم والموضوع يفهم أن الحجب لا بتقصير من المكلف بل بأمر غير اختياري يكون تمام الموضوع لرفع الحكم.
ويمكن أن تُصنّف تحت هذا القسم عدَّة محاولات:
ما ذكره السيد الخميني (قدس سره) من أن ظاهر الحديث النظر إلى الأحكام المجعولة دون الأحكام الإنشائية بقرينة قوله (علیه السلام) (موضوع عنهم):
(الظاهر في أن الموضوع حكم مجعول وفعلي قبل الوضع عنهم).
وتأتي مناقشة هذه الدعوى في جواب المحقق الروحاني (قدس سره) .
والمهم في المقام ما ذكره (قدس سره) في آخر كلامه بقوله: (مع أن نسبة مطلق الأفعال إلى الله تعالى قد شاعت في الكتاب والسنة بحيث صارت من المجازات الراجحة التي كأنه لا يعد ارتكابها مخالفة بنظر العرف فلا تصادم الظهورات الأخر)(1).
ص: 237
ويمكن مناقشة ما ذكره (قدس سره) بوجهين:
إن دعوى بلوغ نسبة مطلق الأفعال إلى الله تعالى حدّ المجاز المشهور لو تمت فإنما تتم في مثل أفعال الخير والصلاح مما أمر الله تعالى به أو أحرز رضاه بها, لا في مثل أفعال الظلم و العصيان التي منها اخفاء أحكام الله تعالى وكتمانها.
وإن شئت فاعتبر بما يثيره نسبة المعاصي الى الله تعالى من حزازة واستهجان قد يشعر المؤمن معها إلى الحاجة إلى الأستغفار والتوبة وما ذلك إلا لشعوره الوجداني بصدورها منه تعالى عند نسبتها إليه.
إن كان مقصوده بما ذكره (قدس سره) من بلوغ تلك النسبة حدّ المجاز المشهور بلوغها ذلك في زماننا هذا او ما يقرب منه فإنه لا يجدي نفعا, إذ العبرة بدلالات الألفاظ وظهوراتها في زمان النص, وان كان مقصوده بلوغها ذلك في زمان النص – كما هو الظاهر - فهو ممنوع بشهادة الروايات الحاكية لسؤال البعض عن نسبة التوفي إلى الله تعالى تارة, والى غيره أخرى, كما في قوله تعالى: [الله يتوفى الأنفس حين موتها](1), وقوله تعالى: [قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم](2), وقوله تعالى: [الذين تتوفاهم الملائكة](3), فلو كانت نسبة الأفعال مطلقا إلى الله تعالى قد بلغت حدّ المجاز المشهور بحيث لا يعد ارتكابها خلاف الظاهر لما وقع السؤال عنها إلى حدّ توهم البعض وقوع الاختلاف في القرآن, كما توهمه ذلك الزنديق(4) حتى جاء يحاجج
ص: 238
به أمير المؤمنين (علیه السلام), مع أن الرجل من أهل زمان النص, وكان يسعى لإثبات بطلان عقيد الكثرة من المسلمين وهم أهل اللسان والمحاورة وجاء يناظر زعيمهم فلا شك أنه كان يشعر باستناده إلى حجة قوية.
كما وقع السؤال عن هذه الأيات في زمان الإمام الصادق (علیه السلام), وهو زمان حديث الحجب, مما يكشف عن أن الأمر لم يبلغ هذا الحدّ في ذلك الزمان, قال في الفقيه:
(وسئل الصادق (علیه السلام) عن قول الله عّز وجلّ: [الله يتوفى الأنفس حين موتها](1), وعن قول الله عزّ وجلّ: [الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم](2), وعن قول الله عز ّوجلّ: [توفته رسلنا](3), وعن قول الله عزّ وجلّ: [ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة](4), وقد يموت في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلا الله عز ّوجلّ فكيف هذا ؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح بنزلة صاحب الشرطة له أعوانا من الأنس يبعثهم في حوائجه فتتوفاهم الملائكة ويتوفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو, ويتوفاهم الله (جل جلاله) من الملائكة)(5).
فالسائل ذكر أمرين:
أحدهما: نسبة التوفي (تارة) إلى الله تعالى, (وأخرى) إلى غيره.
ص: 239
ثانيهما: كثرة المتوفين بما لا يحصيه إلا الله (جل جلاله) مما يوجب استغراب تصدي غير الله تعالى لقبض الأرواح.
وقد أجابه (علیه السلام) عن كلا الأمرين بجواب واحد, ولو لم يكن منظوره ما ذكرناه لم يكن لذكر الأيات دخل في السؤال, بل كان يكفي ذكر آية نسبة التوفي إلى ملك الموت وتفريع السؤال عليها ومحل الشاهد هو الأمر الأول.وبالجملة: إن تكرر السؤال عن هذه الآيات واعتناء الأئمة (علیهم السلام) بالجواب عليها, وتقريب الفكرة إلى حدّ الاستعانة بوسائل الإيضاح كالتمثيل, يكشف عن أن نسبة الأفعال إلى الله تعالى ظاهرة عرفا في صدورها منه سبحانه حتى في ذلك الزمان.
ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) (1), وقرّبه السيد الشهيد (قدس سره): بأن الحديث ظاهر في نسبة الحجب الى الله تعالى بما هو خالق, لا بما هو مشرّع, والحجب المنسوب إليه تعالى بما هو كذلك يصدق على الحجب الصادر من العباد تمردا وعصيانا, ومنشأ هذا الظهور أمران:
الأول: دعوى ظهور لفظ الجلالة في التركيز على صفة الخالقية دون صفة المشرّعية والحاكمية.
الثاني: ان الحجب الصادر من الله تعالى بما هو مشرع لا مجال لتوهم المسؤلية تجاهه كي يخبر الإمام (علیه السلام) بانه موضوع عن العباد فأن إخباره حينئذ يكون مستهجنا عرفا, وانه من قبيل الأخبار بثبوت أحد الضدين لانتفاء الآخر وهذا بنفسه يبعد احتمال ملاحظته تعالى بما هو مشرع.
ص: 240
قال (قدس سره): (والصحيح في دفع الشبهة أن الحجب اذا أضيف الى الله تعالى بما هو خالق لا بما هو مولى مشرع يكون صادقا على عدم الوصول الى المكلف؛ لأن الأحتجاب عنه أيضاً مضاف اليه بما هو خالق كل شيء, بل يشمل على هذا حتى الشبهات الموضوعية؛ لأن حجب الموضوع أيضاً يضاف إليه بما هو خالق، ويمكن تعيين أن المضاف اليه هو ذلك, تارة بدعوى ظهور اسم الجلالة فيه, وأخرى باعتبار أن ارادة حجب الشارع بما هو شارع في نفسه غير مناسب مع سياق الحديث, إذ ما يكون الشارع نفسه في مقام إخفائه من التكاليف لا يكون في معرض توهم مسؤلية العباد عنها ويكون عرفا مناقضا مع فرض المسؤلية والإدانة فيكون مفاد الحديث على هذا كأنه الأخبار عن ثبوت الضد بانتفاء الآخر وهو مستهجن عرفا, وهذا بنفسه يبعد هذا الأحتمال ويعيّن أن تكون الإضافة اليه بما هو خالق) (1).
ويمكن المناقشة في ما ذكره (قدس سره) من جهات:
الأولى: أن ما ذكره (قدس سره) من ظهور الحديث في نسبة الحجب اليه تعالى بما هو خالق, لا بما هو مشرع, لا يحل المشكلة, إذ لنا أن نقول:
هب أن الحجب أسند اليه تعالى بما هو كذلك, ولكن هل يقتضي ذلك ظهور إسناد الحجب اليه في صدوره منه بإرادته واختياره المباشرين أم أنه يكون ظاهرا في الحجب الصادر بتوسط ارادة العباد واختيارهم؟ إذ المدعى ظهور الأسناد في الأول دون الثاني.
وبعبارة أخرى: إنا نمنع صدق الحجب المسند اليه تعالى -حتى بما هو خالق- على الحجب الصادر من العباد إلا بنحوالمجاز, ولا قرينة عليه.
ص: 241
الثانية: إن دعوى ظهور لفظ الجلالة في الخالق دون المشرع غير واضحة, لا لغة, ولا عرفا:
اما لغة: فإن هذا الاسم الشريف علم على الذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الجلال والكمال.
واما عرفا: فإن ظهوره في صفة معينة من صفات الذات المقدسة منوط بالمناسبات والقرائن الحافة بالكلام, فظهوره في التركيز على صفة الخالقية -مثلاً– في قوله تعالى: [كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم اليه ترجعون](1) لقرينة الحديث عن الموت والحياة والكفر والإيمان, وظهوره في التركيز على صفة المشرعية في قوله تعالى: [الذين ينقضون عهد الله بعد ميثاقه ويقطعون ما امر الله به أن يوصل](2) لقرينة الحديث عن العهد والأمر المرتبطين بصفة التشريع, ولا نشعر بالفرق بين الموردين.
وهكذا فإن هذا الاسم الشريف ظاهر في صفة الرحمة إذا جاء في سياق الحديث عنها, وفي صفة الشدّة إذا جاء في سياق الحديث عنها, وفي صفة القدرة إذا جاء في سياق الحديث عنها.. الخ, ولا يكاد يكون له ظهور عرفا في صفة معينة.
نعم, قد يكون كذلك بنحو الاستئناس الخارج عن حاق اللفظ.
الثالثة: أن ما ذكره (قدس سره) من أنه لا موهم للمسؤلية تجاه هذا النحو من الأحكام, وبالتالي يعد الإخبار بوضعها عن العباد تناقضا عرفا, يمكن جوابه نقضا وحلا:
ص: 242
أما نقضا: فبأن هذا الحديث ليس وحيدا في بابه – أي النظر الى الأحكام غير المبلغة – إذ يقف الى جانبه جملة احاديث من طرق العامة والخاصة لا اشكال في دلالتها على المدعى.
فمما ورد من طرق الخاصة مرسلة الفقيه والعوالي وعيون الحكم والمواعظ عن أمير المؤمنين (علیه السلام) من أن الله تعالى ( سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم)(1).
وقريب منه لفظا ما في النهج (وسكت لكم عن أشياء لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها)(2).
ونحوه ما في أمالي المفيد (قدس سره) بسنده عن أمير المؤمنين (علیه السلام), قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)
إن الله تعالى حدّ حدودا فلا تعتدوها, وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها, وسن لكم سننا فاتبعوها, وحرّم عليكم حرمات فلا تنتهكوها, وعفا لكم عن أشياء رحمة منه لكم من غير نسيان فلا تتكلفوها)(3).
ومرسلة القطب الراوندي (قدس سره) عن الصادق (علیه السلام), قال: (قال علي (علیه السلام): إن الله حدّ حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقضوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها)(4).
ومن هذا الباب مرسلة الشيخ (قدس سره) في الخلاف (وروي عنهم (علیهم السلام): اسكتوا عما
ص: 243
سكت الله)(1) ومثلها مرسلة السرائر(2).
ومن هذا الباب قول أبي جعفر الثاني (علیه السلام) في رواية ابن الحريش: (لا يحلّ لك أن تسأل عن هذا).
وأما من طرق العامة فروايات كثيرة, نذكر منها رواية سلمان (رض), قال:
(سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن السمن والجبن والفراء فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنكم)(3).
ورواية أبي الدرداء (قال سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: إن الله افترض فرائض فلا تضيعوها, وحدّ حدودا فلا تعتدوها, وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم)(4).
وفي روايته الأخرى (ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها, وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم)(5).
وقريبة منها رواية ابي ثعلبة, قال (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)(6).
ص: 244
وكثرة هذه الروايات من طرق الفريقين مرسلة ومسندة مع تقارب ألفاظها مما يوجب الاطمئنان بصدور بعضها, فلا مجال لأن يقال إن روايات الأصحاب أكثرها مرسلة وروايات العامة لا يعتمد عليها.
وعليه كيف يمكن أن يقال: إن الأخبار بوضع هذه الأحكام يعد تناقضا عرفا.
وأما حلّاً: فبأحد وجهين:
الأول: أن يحمل الحديث على ما حملت عليه تلك الروايات من النظر إلى البراءة الأصلية, أو يكون الحديث واردا للنهي عن الاشتغال بالبحث عن أمور القضاء والقدر التي شاعت بين المسلمين في تلك الفترة, فهو على حد ما روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (هذه غرة شعبان وشعب خيراته: الصلاة، والصوم، والزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والقرابات، والجيران، وإصلاح ذات البين، والصدقة على الفقراء والمساكين، تتكلفون ما قد وضع عنكم، وما قد نهيتم عن الخوض فيه، من كشف سرائر الله، التي من فتش عنها كان من الهالكين)(1).
الثاني: أن يقال لا يبعد حصول توهم المؤاخذة على هذا النحو من الأحكام فعلا, بسبب ما ذكرته بعض المدارس الفكرية من صحة معاقبة المطيع وإخلاده في النار, وإثابة العاصي وإخلاده في الجنة, فكيف بمن يخالف هذه الأحكام خصوصا إذا كان عدم بيانها بسبب وجود المانع, فلعل ما ذكره (علیه السلام) دفعا لهكذا توهمات.
ما ذكره بعض الأعلام (قدس سره) في المنتقى, من ظهور بعض فقرات الحديث في النظر الى الأحكام الفعلية بدرجة توجب رفع اليد عن ظهور إسناد الحجب اليه تعالى في النظر إلى الأحكام الإنشائية, وذلك لقرينتين:
ص: 245
الأولى: أن الحجب في الحديث تعلق بالعلم الظاهر في أن المحجوب له نحو تقرر وثبوت في الواقع, وما ذلك إلا الحكم الفعلي.
الثانية: أن قوله (علیه السلام)
(موضوع عنهم) مقابل للوضع عليهم, فلا يجري إلا في الأحكام القابلة للجعل عليهم وتكليفهم بها. والحكم الإنشائي لا يقبل الجعل على المكلّفين حال حجبه وعدم العلم به بإيجاب الاحتياط تجاهه, بل هو لا يقبل الجعل على المكلّفين حتى على تقدير العلم به كما أنه لا موهم لذلك, وحينئذ لا يصح أن يقال عنه (موضوع عنه) وهذا بخلاف الحكم الفعلي فإنه قابل لأن يجعل عليهم حال الشك به عن طريق إيجاب الاحتياط تجاهه.
قال (قدس سره): (ولكن يمكن أن ينحل الأشكال بأن ظاهر قوله (علیه السلام) (ما حجب الله علمه) هو ثبوت الحكم في نفسه في الواقع, إذ الحجب متعلق بالعلم به, فإنه ظاهر في أن الحكم له تقرر وثبوت في الواقع, فيراد من الموصول هو الحكم الثابت المجهول.
كما أن ظاهر قوله (علیه السلام) (فهو موضوع عنهم) أنه في مقابل الوضع عليهم, وحينئذ يختص بالأحكام التي تكون قابلة للوضع على العباد, فوضعها الله تعالى عنهم إرفاقا بهم.
والحكم القابل للوضع على العباد هو الحكم الفعلي الصادر المبيّن لبعض الناس وإن خفي علينا بعد ذلك, فإنه قابل للوضع الظاهري في حال الجهل به بإيجاب الاحتياط، أما الحكم الإنشائي المختص بعلم الله تعالى أو مع علم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام) الذي لم يبيّن لأحد لمصلحة تقتضي ذلك فليس هذا بقابل للوضع على العباد ليرفع عنهم ولا موهم لوضعه عليهم بعد فرض عدم تبليغه وبيانه لقصور في مقتضيه أو غير ذلك, ولذا لو تعلّق العلم به فرضاً لا يجب امتثاله وطاعته, بل قد لا يسمى حكما لدى العرف, فلا
ص: 246
يكون الكلام لديهم ظاهرا في كونه هو المنظور به.
ومع هذا الظهور لا مجال لدعوى الظهور السابق – أي ظهور إسناد الحجب إليه تعالى في صدوره منه – الذي أريد به دفع دلالة الحديث على البراءة)(1).
ويمكن المناقشة في كلا القرينتين اللتين ذكرهما (قدس سره):
أما القرينة الأولى: فبأن يقال إن ما اوحاه الله تعالى الى نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم) له أيضاً نحو تقرر وثبوت في نفسه, فقد أنزل على الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وأبلغه إلى الأئمة (علیهم السلام), فما الفرق بينه وبين ما بلّغ للناس ليكون للأخير نحو تقرر وثبوت يصحح التعبير عن اخفائه بحجب علمه دونه, وانكار التقرر للحكم الإنشائي – كما هو مبناه (قدس سره) - غير ضائر في ما نحن فيه, فإن مدعاه عدم مناسبة التعبير بحجب العلم.
هذا فضلا عن عدم ثبوت لفظة (علمه) في الحديث كما تقدم عند البحث عن لفظ الحديث, ولكن يمكن أن يقال: إن التعبير بالحجب وحده كاف في إفادة مراده كما هو ظاهر.
وأما القرينة الثانية: فلعل الأصل فيها ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) بقوله:
(مع إمكان دعوى شمول الموصول في (ما حجب الله) للأحكام المبينة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أو الوصي (علیه السلام) المجهولة بسبب الأمور الخارجية).
الى أن قال: (كما يؤيده لفظ (موضوع عنهم) الظاهر في وضع الأحكام الفعلية عند الجهل بها عن العباد بعدم إيجاب الاحتياط في ظرف الجهل)(2).
ولكن المؤيد الذي ذكره (قدس سره) يختص بالأحكام المبيّنة دون الأحكام غير المبيّنة,
ص: 247
ومعه لا وجه لدعوى التعميم على تقدير تمامية هذا المؤيد.
ولعله من أجل ذلك عدل من جاء بعده عن دعوى الشمول الى دعوى الأختصاص بالأحكام الفعلية المجعولة على المكلفين, قال السيد الخميني (قدس سره):
(كما أن الظاهر من قوله (موضوع عنهم) أن الحكم المجعول بحسب الواقع موضوع عن الجاهل)(1), من دون أن يقرّب وجه الظهور, كما فعل السيد الروحاني (قدس سره) .
وأيّاً كان فقد يناقش ما ذكره صاحب المنتقى (قدس سره) بوجوه:
أن يقال بمنع دعوى اختصاص صيغة (موضوع عنهم) برفع ما كان قابلا للجعل, قال في نهاية الدراية - بعد ان ذكر الوجه المذكور بعنوان (إن قلت)-: (قلت: ليس الوضع بمعنى الرفع بل الوضع بمعنى الجعل والأثبات، فان تعدى بحرف الأستعلاء كان المراد منه جعل شئ على شئ واثباته عليه، وان تعدى بحرف المجاوزة كان المراد صرفه عنه إلى جانب، فقد يكون ثابتا حقيقة فصرفه عنه يكون مساوقا للرفع، وقد لا يكون ثابتا بل مقتضيه ثابت فيتمحض في الصرف والجعل عنه إلى جانب، فإذا كان مقتضى جعل الحكم مقتضيا لاثباته على العباد ولكن مصلحة التسهيل أو مصلحة أخرى منعت من أمره بتبليغه وتعريفه فقد صرف عنهم وجعل عنهم إلى جانب..)(2).
وحاصل مراده أن هذا التعبير كما يحتمل أن يكون بمعنى الرفع يحتمل أن يكون بمعنى الصرف, ولا مرجح لأحدهما على الآخر و يشهد لما ذكره (قدس سره) استعمال صيغة (موضوع عنهم) ونحوها في التعبير عن عدم التكليف بما لا يطاق, وهو مما لا يقبل
ص: 248
الجعل كما في خبر محمد بن علي الحلبي عن الصادق (علیه السلام), قال: (ما أمر العباد إلا بدون سعتهم, فكل شي أمر الناس بأخذه فهم متسعون له, وما لا يتسعون له فهو موضوع عنهم, ولكن الناس لا خير فيهم)(1), على ما استظهره صاحب الحاشية على المعالم. ونحوه في تفسير العياشي [عن الحلبي] عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم, عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام).
ومرسل تحف العقول عن الحسين (علیه السلام): (قال (علیه السلام): ما أخذ الله طاقة أحد إلا وضع عنه طاعته، ولا أخذ قدرته إلا وضع عنه كلفته)(2).
ولكن يمكن أن يقال إن المتفاهم العرفي من الوضع المتعدي بحرف التجاوز هو ما يساوق الرفع المقتضي للثبوت والأستقرار في رتبة سابقة, غايته أن الثبوت تارة يكون ثبوتا حقيقيا شرعا اوعرفا, وحينئذ يكون استعمال الصيغة المذكورة ونظائرها بلا عناية, كما في الكثير من نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: [ويضع عنكم اصركم والأغلال], وقوله تعالى: [ووضعنا عنك وزرك], وكما في خطبة الزهر عليها السلام: (ثم قبض الله نبيه صلى الله عليه [وآله] قبض رأفة واختيار، رغبة بأبي صلى الله عليه [وآله] عن هذه الدار، موضوع عنه العبء والأوزار)(3), والكثير من النصوص الأخرى.
وتارة يكون الأستعمال بنحو من العناية لثبوت مقتضي الجعل مثلاً كما في قضية الجواد (علیه السلام) مع يحيى بن أكثم, حيث قال: (وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي
ص: 249
العمد عليه المآثم، وهو موضوع عنه في الخطأ)(1), أو لتوهم الثبوت كما في كلام أمير المؤمنين (علیه السلام): (هذه غرة شعبان وشعب خيراته: الصلاة، والصوم، والزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والقرابات، والجيران، وإصلاح ذات البين، والصدقة على الفقراء والمساكين، تتكلفون ما قد وضع عنكم، وما قد نهيتم عن الخوض فيه، من كشف سرائر الله، التي من فتش عنها كان من الهالكين)(2), ونحو ذلك من المناسبات.
وأما الخبران المذكوران فالظاهر أن الأول ناظر الى قاعدة نفي الحرج بقرينة الأية التي عقّب بها (علیه السلام)، (وقال: وما أمروا إلا بدون سعتهم، وكل شئ أمر الناس به فهم يسعون له، وكل شئ لا يسعون له فهو موضوع عنهم، ولكن أكثر الناس لا خير فيهم)، ثم قال: [ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله (فوضع عنهم) ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم.. الآية] فوضع عنهم لأنهم لا يجدون)(3).
وأما مرسلة التحف فبعناية سبق الطاقة والقدرة.
والحاصل: أن التعبير بالوضع المتعدي بحرف المجاوزة إنما هو بمعنى الرفع بعد الثبوت حقيقة أو مجازا وكونه بمعنى الصرف غير واضح.
نعم, مما تقدّم يظهر الجواب عمّا ذكره صاحب المنتقى (قدس سره) من ترجيح ظهور
ص: 250
(موضوع عنهم) على ظهور (ما حجب الله), وأنها تمثّل قرينة على التجوّز في الإسناد, فإنّ العكس هو الأقرب, وذلك لوقوع التعبير بهذه الصيغة عن عدم التكليف مع وجود المقتضي للجعل أو توهم المسؤلية تجاه هذه الأحكام, هذا كله من غير حزازة أو استهجان عرفا. بخلاف نسبة كتمان أحكام الله تعالى عصيانا وتمردا الى المولى سبحانه فإنه مما لا يكاد يراه العرف لائقاً بعد قبحه ولو مع القرينة.
وبالجملة: فإن ظهور إسناد الحجب إليه تعالى في صدوره منه بإرادته وأمره أكثر وضوحا وأشد استحكاما من ظهور (موضوع عنهم) في الأحكام الفعلية فيصلح لأن يكون قرينة عليه دون العكس على تقدير التصادم بين الظهورين ولا أقل من الإجمال.
أن يقال: إنه يمكن أن يكون استعمال صيغة (موضوع عنهم) في التعبير عن عدم تكليفهم بالمحجوب لتوهم البعض بأن الناس قد يكونون مطالبين بهذا النحو من الأحكام خصوصاً إذا كان عدم تبليغهم بها لوجود المانع ولا ينبغي استبعاد هذا التوهم بعد رواج بعض المدارس الفكرية التي لا تستنكر محاسبة الله تعالى لعبده على مثل هذه المخالفات ولا تستقبح معاقبة المطيع وإثابة العاصي.
بل لا ينبغي لمثل هذا المحقق (قدس سره) خاصة إنكار وجود الموهم للمسؤولية إزاء تلك الأحكام بعد ما ذكره في بحث قاعدة قبح العقاب بلا بيان من أنه لا أساس لها وأن ملاك العقوبة الأخروية غير محرز, وأن الله تعالى يعاقب عباده المطيعين في الدنيا رغم طاعتهم فضلاً عن مخالفتهم عن جهل, قال (قدس سره) في بحث قاعدة قبح العقاب بلا بيان: (المقام الثاني: في صحة مؤاخذة المولى الشرعي في النشأة الدنيوية .. أما بين المولى الحقيقي ومخلوقاته فلا يتصور أن للعبد حقا خاصا على مولاه إذ هو ملكه ومخلوقة يتصرف به ما يشاء يفقره ويمرضه ويهمه وغير ذلك مع علم العبد بالمخالفة وجهله بل
ص: 251
مع طاعته لمولاه وخضوعه لأوامره ونواهيه. ولا يتنافى ذلك مع بناء العقلاء كما لا يتنافى مع القوة العاقلة).
الى أن قال: (المقام الثالث: في صحة مؤاخذة المولى لشرعي في النشأة الأخروية.. وعليه فمن المحتمل ثبوت الملاك – أي ملاك العقوبة الأخروية – في مورد المخالفة فكيف يُدّعى منافرته للقوة العاقلة أو أنه مع بناء العقلاء لأجل حفظ النظام)(1).
فمع عدم تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدم إحراز ملاك العقوبة الأخروية ومع معاقبة المولى عبده مطلقا في هذه الحياة كيف يأمن العبد لو خلّي وعقله من احتمال مسائلته عن تلك الأحكام التي هي في الأخير مرادات المولى ومحبوباته وإن لم تسمَ عرفا أحكاما.
أن ما ذكره (قدس سره) من ظهور قوله (علیه السلام): (موضوع عنهم) في الاختصاص بالأحكام الفعلية – لو تم – لا يصادم ظهور إسناد الحجب اليه تعالى في صدوره منه بإرادته وأمره وإنما يصادم ظهور الموصول (ما) في الأطلاق الشامل للأحكام غيرالمبلغة الى الناس وغاية ما يقتضيه ذلك رفع اليد عن هذا الأطلاق وتخصيصه بالأحكام المبلغة فيكون المعنى حينئذ أن: الأحكام الفعلية التي حجبها الله تعالى عن العباد - دون ما حجبه الظالمون – موضوعة عنهم وعليه لا سبيل للاستدلال بالحديث – بنفسه – على البراءة ما لم تضم اليه مقدمة أخرى من مناسبات الحكم والموضوع ونحوها.
ص: 252
1- أجود التقريرات, تقريرات الشيخ النائيني (قدس سره) للسيد الخوئي (قدس سره), نشر: مؤسسة مطبوعاتي ديني – قم.
2- الاحتجاج للشيخ الطبرسي (قدس سره), تحقيق السيد محمد باقر الخرسان, نشر: دار النعمان.
3- الأصول الأصيلة للفيض القاساني (قدس سره) نشر: سازمان جاب دانشكاه.
4- الاعتقادات في دين الامامية للشيخ الصدوق (قدس سره) .
5- الأمالي للشيخ الصدوق (قدس سره), نشر: مؤسسة البعثة.
6- أنوار الهداية, مطبعة مؤسسة العروج, الطبعة الثانية.
7- بحوث في شرح مناسك الحج للسيد محمد رضا السيستاني.
8- بحوث في علم الاصول للسيد محمد باقر الصدر (قدس سره), مطبعة فرودين, الطبعة الثالثة.
9- تحريرات في الأصول السيد مصطفى الخميني (قدس سره), نشر: مطبعة مؤسسة العروج.
10- تحف العقول لابن شعبة الحراني, نشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
11- التوحيد للشيخ الصدوق (قدس سره) تحقيق السيد هاشم الحسيني الطهراني, نشر: جماعة المدرسين - قم.
12- جامع الرواة للشيخ محمد الاردبيلي الغروي الحائري (قدس سره), نشر: مكتبة المحمدي- قم.
ص: 253
13- الخلاف للشيخ الطوسي (قدس سره), نشر: مؤسسة النشر الاسلامي, الطبعة الاولى 1417 ﻫ.
14- دراسات في علم الأصول, مطبعة محمد, الطبعة الأولى.
15- رجال الطوسي (قدس سره) تحقيق جواد القيومي, نشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
16- رجال النجاشي, تحقيق السيد موسى الشبيري الزنجاني, الطبعة الخامسة, نشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
17- رسائل في دراية الحديث
18- السرائر لابن ادريس الحلي (قدس سره), نشر: جماعة المدرسين.
19- شرح الكافي للشيخ محمد صالح المازندراني (قدس سره) .
20- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للشيخ الصدوق (قدس سره), الطبعة الاولى نشر: مؤسسة الاعلمي للمطبوعات – بيروت.
21- فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (قدس سره), نشر: مجمع الفكر الإسلامي.
22- الفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي (قدس سره) تحقيق محمد القائيني, نشر: مؤسسة معارف اسلامي امام رضا (علیه السلام) .
23- فقه القرآن لقطب الدين الراوندي, تحقيق السيد احمد الحسيني, نشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي (قدس سره) .
24- الفهرست للشيخ الطوسي (قدس سره) تحقيق مؤسسة الفقاهة – الشيخ جواد القيومي, نشر: مؤسسة نشر الفقاهة.
25- الفوائد الطوسية للحر العاملي (قدس سره), مطبعة العلمية الطبعة الثانية.
ص: 254
26- الكافي للشيخ الكليني (قدس سره) .
27- كفاية الأصول للشيخ الآخوند (قدس سره), نشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
28- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق (قدس سره), نشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
29- مباحث الاصول (القسم الثاني) للسيد محمد باقر الصدر (قدس سره), نشر: دار البشير, الطبعة الثانية.
30- مجمع الزوائد للهيثمي, نشر: دار الكتب العلمية, بيروت لبنان.
31- المحاسن للبرقي, تحقيق السيد جلال الدين الحسيني, نشر: دار الكتب الاسلامية.
32- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل, للمحقق النوري (قدس سره), نشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
33- مصباح الاصول تقريرات بحث السيد الخوئي (قدس سره) بقلم السيد محمد سرور (قدس سره), نشر: مكتبة الداوري = قم.
34- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (قدس سره), عني بتصحيحه الشيخ علي أكبر غفاري, نشر: انتشارات اسلامي.
35- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره), الطبعة الخامسة 1413ﻫ.
36- مقباس الهداية, مطبعة نكارش, الطبعة الأولى.
37- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (قدس سره) تحقيق الشيخ علي أكبر غفاري, نشر: جماعة المدرسين.
38- منتقى الأصول, تقريرات بحث السيد الروحاني (قدس سره) بقلم السيد عبد الصاحب الحكيم (قدس سره), مطبعة الهادي (علیه السلام), الطبعة الثانية.
ص: 255
39- مواقف الشيعة للاحمدي الميانجي, نشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
40- نهاية الأفكار للشيخ العراقي (قدس سره), نشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
41- نهاية الدراية للسيد حسن الصدر, تحقيق الشيخ ماجد الغرباوي, نشر: نشر المشعر.
42- نيل الأوطار للشوكاني, نشر: دار الجليل = بيروت.
43- الوافية للفاضل التوني (قدس سره), تحقيق السيد محمد حسين الرضوي الكشميري, نشر مؤسسة مجمع الفكر الاسلامي - قم.
44- وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي (قدس سره) .
ص: 256
بعد أن قمنا بتحليل مقدّمة الشيخ لكتابه أولاً, ثم متابعة ما في الكتاب بالمقارنة مع ما جاء فيها, عرضنا مجموعة أمور رئيسة:
(منها) موضوعه, (ومنها) المنهج العام الذي اعتمده الشيخ في تصنيفه, (ومنها) أهم الإشكاليات التي وجُهت إليه, (ومنها) الجرح والتعديل فيه, (ومنها) نُسَخ هذا الكتاب, (ومنها) تأخره عن الفهرست وتقدّمه على كتاب الاختيار..
ص: 257
ص: 258
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله وبه نستعين, والصلاة والسلام على محمد وآله الميامين.
ويقع الكلام في مقدمة وفصول وخاتمة:
كتاب رجال الطوسي (قدس سره) من الأصول الرجالية, وحتى تتجلى أهميته لابد من البحث مقدمةً عن الأصول الرجالية, وهو بحث عام يقع قبل الدخول في توصيف الأصول الرجالية, ونذكره في أمور خمسة:
المصنفات المرتبطة برواة الأحاديث متعددة الأنواع كما ستأتي الإشارة إليها, والتصنيف المناسب – كما هو مذكور في كلمات الأعلام(1)- هو أن تعرض الأبحاث الرجالية في فنون ثلاثة على الترتيب:
1- علم تمييز المشتركات.
2- علم طبقات الرواة.
3- علم الجرح والتعديل.
ص: 259
والوجه في اختيار هكذا تصنيف وترتيب هو ما تقتضيه كيفية التعامل مع المعلومة الرجالية وصولاً إلى تشخيص اعتبار السند وعدمه, لأنّه إذا لم يكن كل واحد من رواة السند متميّزاً ومتعيّناً لا يتسنى لنا تحديد طبقته والإطلاع على وثاقته أو عدمها, وبعد تمييزه إذا كان مشتركاً فإنّه لا قيمة لوثاقة رواته إذ قد يكون هذا السند الذي ظاهره الاتصال والعنعنة ليس كذلك واقعاً بل هناك انقطاع وإرسال, واستكشاف ذلك إنما يكون عن طريق تشخيص طبقات رواته(1) ومن ثمّ يأتي أثر تحديد وثاقة رواته وعدمها.
فظهر أنّه حتى نصل إلى اعتبار السند أو عدمه لابد من طي مراحل ثلاث في فنون ثلاثة(2) على الترتيب.
ولا يخفى أن الحاجة إلى تميز المشتركات ليست دائمية, بخلاف تحديد الطبقات وتوثيق الرواة.
هذه الفنون الثلاثة لها مبادئ مشتركة ولكلٍ منها مبادئ خاصة, فالمبادئ المشتركة من قبيل:
1- الحاجة إلى علم الرجال وما يرتبط به.
2- منابع المعلومة الرجالية.
ص: 260
3- المعايير في قبول وحجيّة قول الرجالي.
4- أحكام التعارض بين الرجاليين, وهذا يختلف عن التعارض في الروايات التي بشأن الرجال كما في كتاب اختيار معرفة الرجال, فانه يتعامل معها بقواعد التعارض التي في علم الأصول.
5- المعايير في اعتبار ما نصل إليه نحن بالتتبع وتجميع القرائن, لا من جهة قول الرجالي, وفيه يذكر القطع والاطمئنان والظن في خصوص المعلومة الرجالية, وقد تؤخذ بعض هذه كأصول موضوعه من علم الأصول.
إلى غير ذلك من المبادئ المشتركة .
والوجه في كون هذه من المبادئ المشتركة هو دخولها في هذه الفنون الثلاثة وعدم اختصاصها بأحدها.
منابع المعلومة الرجالية – واعني بالمعلومة الرجالية مسائل الفنون الثلاثة المذكورة آنفاً وغيرها كمسائل الفهارس والمشيخة وتاريخ علم الرجال – والتي هي من المبادئ المشتركة وتتمثل في أربعة أمور:
1- الأصول الرجالية:وأعني بها الكتب والنصوص المتعلقة بأحوال الرواة من الجهة المنظورة للرجالي, وإنما ذكرت النصوص لأنها قد لا تكون كتاباً مستقلاً بل نصوص موجودة في كتب أخرى, وهي تصلح للمرجعية وأن تكون أصلا وإن لم تكن الكتب المشتملة عليها كذلك.
ص: 261
2- الأصول التحديثية:
وقد أكد على الاستفادة منها في علم الرجال وتحليل المعلومة الرجالية السيد
البروجردي(1) (قدس سره) كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
3- المصنفات الفقهية والأصولية التي يحتمل وصول بعض المصادر الرجالية الحديثة والقديمة إليها أو كانت تصلح للمرجعية كالعدّة وكتب الشيخ الطوسي وابن إدريس والشهيد الأول ونحوها.
4- كتب السير والتراجم والتأريخ القديمة إذ أنَّ علم الرجال أحد علوم التأريخ والسير والتراجم.
وهنا – أي في الأمر الثالث – جهات ينبغي الالتفات إليها:
يتضح وبأدنى تتبع لفهرستي النجاشي والشيخ ورجاله أنهم يعتمدون على المصنفات الرجالية للمتقدمين من العامة والخاصة وكذا كتب السير والتاريخ والتراجم, وتجدر الإشارة إلى أنّ المناسب تشخيص مصادر الشيخ والنجاشي (قدهما), فإن لها بالغ الأثر في تقييم هذه الكتب والاستفادة منها.
سعة الاعتماد على هذه المنابع يعتمد من جهة على المبنى في حجية قول الرجالي أو قل بعبارة أوسع الحجية في المعلومة الرجالية حتى لو لم تؤخذ من الرجالي, فمثلاً الذي يرى الحجية من باب حجية مطلق الظنون فدائرة استفادته من هذه المنابع واسعة, والذي يرى الحجية من باب مطلق الاطمئنان أقل سعة والذي يراها من باب كون الرجالي من أهل الخبرة والتثبيت تكون أوسع, والذي يراها من باب أخبار الثقة أيضاً تكون دائرة استفادته وسيعة وهكذا .
ص: 262
أصحاب الأصول الرجالية وإن كانوا قد اعتمدوا مثل هذه المنابع الأربعة كما نوهنا, إلا إن أكثرها كان الأول – كما سيأتي في بيان منهج الشيخ في رجاله – أما من جاء بعدهم فبنسب متفاوتة كان بعضهم يرى التعاون بين المنبعين الأولين كالشيخ حسن العاملي في منتقى الجمان, والأردبيلي في جامع الرواة وغيرهما, فلم يقتصروا على الأول وإن كان الأكثر اعتماداً ولم يعرضوا عن الثاني بل زاوجوا بينهما في أبحاثهم الرجالية, ولما كان أكثر الاعتماد على المنبع الأول صار محلاً للنقد من قبل متأخري المتأخرين كالسيد البروجردي (قدس سره) وتلامذته والمتأثرين به من انه لابد مع ذلك وبدرجة أكبر الاستفادة من المنبع الثاني فذكروا بعض نقائص الاقتصار على المنبع الأول ومزايا المنبع الثاني.
أما نقائص الاقتصار على المنبع الأول فهي:
1- عدم تلبيته لما يحتاجه الباحث لأن الأصول الرجالية لم تترجم لجميع الرواة الذين تضمنتهم الأسانيد في الكتب الحديثية, بل أهملت الكثير منهم, والحال أن كتب الرجال تمثل معّرفاً للرواة مما يقتضي المطابقة بان تترجم لجميع الرواة المذكورين في الأسانيد(1) .
2- ومَنْ تُرجِمَ له من الرواة لم يتعرضوا في ترجمته لبيان طبقته ومشايخه الذين روى عنهم وتلامذته الذين تحملوا عنه, نعم بعضهم في بعض الرواة ولكن لم يذكروا تمام مشايخه وتلامذته(2).
ص: 263
3- يمثل تقليداً لأقوال أصحاب الأصول الرجالية وتعبداً بكلماتهم لا أنه اطلاع مباشر على أحوال الرواة(1).
2- لا يكون لها الأثر الكبير في تشخيص بعض العلل التي تحصل في الأسانيد من القلب والتصحيف والزيادة والنسخ ونحوها.
وأما مزايا الاعتماد على المنبع الثاني فهي في الجملة ما نتلافى بها النقائص السابقة .
وتوضيحه:
(تارة) ننظر إلى تتبع الأسانيد وبقطع النظر عن متونها وما فيها من دلالات من حيث خصوصيات الراوي, (وأخرى) ننظر إلى المتون من جهة ألفاظ المتون وعددها وغير ذلك. واستشفاف مالها من دلالات على مستوى خصوصيات الراوي.
أما بالنظر إلى الأسانيد فقط فانه:
1- بمتابعة تمام الأسانيد التي ذكر فيها الراوي وقياس بعضها ببعض نحصل على نتائج تمثل اطلاعاً مباشراً على أحوال الراوي لا تقليداً وتعبداً بما يقولهُ الرجاليون .
2- الاطلاع على جميع مشايخ الراوي وتلامذته هذا إذا نظرنا إلى مقطع من السند لا إلى تمامه, أما إذا نظرنا إلى تمامه فيمكننا معرفة مشايخه ومشايخ مشايخه وهكذا, وبالتالي تمام أسانيد هذا الراوي وأسانيد مشايخه ومشايخ مشايخه إلى الإمام (علیه السلام) .
3- استكشاف الحلقات المفقودة في سلسلة السند من خلال قياس بعض الأسانيد ببعضها, وكذلك تحصيل الحل لبعض العلل من التصحيف والقلب والنقص والزيادة إذ أنَّ بعض الأسانيد يكون دليلاً على الآخر(2).
ص: 264
4- الاطلاع على بعض خصوصيات الراوي من قبيل مكانته العلمية ووثاقته ونحوهما, من خلال جلالة تلامذته وإكثارهم الرواية عنه(1).
وأما بالنظر إلى المتون فإن (الرجوع إلى متون أحاديث الراوي المبعثرة على الأبواب واعتبارها لفظاً ومعنى وكماً وكيفاً, فيفهم منها الراوي هل متضلعاً في علم الفقه أو التفسير أو غيرهما من المعارف, أو لم يكن له مهارة وحذاقة في شيء منها, يفهم ذلك كله إذا قيست رواياته بعضها ببعض وبما رواه الآخرون في معناها, ويلاحظ انه قليل الرواية أو كثيرها وانه ثبت ضابط فيما يرويه أو مخلط مدلس) (2).
ولأجل هذه المزايا يمثل المنبع الثاني منبعاً غزيراً لا غنى للباحثين عنه, ولكن مع ذلك امتنع المحصلون من الاعتماد عليه لسببين:
الأول: تمثل الأسانيد آلة لملاحظة المتون وليست ملحوظة بالأصالة, وهذا يقلل من شأنها ومن ثم الاهتمام بها.
الثاني: تفرق أسانيد كل راو بسبب اختلاط الروايات بعضها ببعض إذ أنها تجمع في باب واحد على أساس وحدة متونها لا على أساس وحدة الرواة فترى للراوي الواحد رواية في باب الطهارة وأخرى في الخمس وثالثة في التجارة ورابعة في الإرث وهكذا, مما يجعل جمعها أمراً صعباً والتأمل على هذا التشتت متعذراً (3).
أقول: مع ما للمنبع الثاني من المزايا التي ذٌكرت إلا إن للمنبع الأول مزايا قد لا يعطيها المنبع الثاني.
ص: 265
(منها) اطلاع أصحاب الأصول الرجالية – أعني الشيخ والنجاشي – على كتب الرجاليين القريبي العهد من الرواة والتي لم تصل إلينا, وهذا لا يعني أن تمام مصادر المتقدمين كانت تحت أيديهم, بل غير قليل منها قد تُلفت ولكن مع ذلك كان الكثير منها تحت أيديهم, ولا بأس بتعداد بعضها:
فمن كتب الفهارس:
فهرس سعد بن عبد الله الاشعري, وعبد الله بن جعفر الحميري, وحميد بن زياد النينوائي, ومحمد بن جعفر بن بطة, وابن الوليد وابن قولويه, والصدوق وابن عبدون وغيرهم .
ومن كتب الرجال:
الحسن بن علي بن فضال, وسعد بن عبد الله الأشعري السابق الذكر, وأبو العباس بن عقدة وابن الوليد وابن نوح والعقيقي(1).
وهناك من ليس لديهم كتب في الفهارس والرجال لكن لديهم آراء في الرجال تمكن أصحاب الأصول الرجالية من الاطلاع عليها كالفضل بن شاذان.
(ومنها) هناك بعض المعلومات حول الأشخاص والمصنفات تنقل بالمشافهة من معاصري الرواة أو قريبي العهد منهم عن طريق المشايخ إلى أصحاب الأصول أو أصحاب الكتب التي اعتمد عليها أصحاب الأصول الرجالية. وغيرها من المزايا التي تمثل معرفة بالرواة قد لا تعكسها لنا الكتب التحديثية خصوصاً للرواة قليلي الرواية.
فظهر مما ذكرنا إن الأصول الرجالية من أهم المبادئ المشتركة لفنون علم الرجال
ص: 266
الثلاثة وغيرها بحيث لا يمكننا الدخول فيها – أي الفنون الثلاثة هذه – إلا بعد التحقيق في هذه الأصول, إذ أننا ننطلق منها وإليها نعود.
في عدد الأصول الرجالية:
ذكر السيد البروجردي (قدس سره) إن الكتب الموضوعة في هذا الباب لا تتجاوز عدةً:
(كتاب رجال الشيخ وفهرسته ورجال الكشي وفهرست النجاشي)(1), وذكر في مقدمته على ترتيب أسانيد التهذيب إن الشيخ الطوسي ألف كتاب الفهرست وكتاب الرجال وبذلك يعدّ كالمؤسس فنياً لهذين الفنين, أما النجاشي فصنف فهرسته بعدهما(2).وذكر المحقق التستري (قدس سره) في الفصل السادس عشر: (المعروف من مدارك هذا الفن أربعة: معرفة رجال الكشي - أي اختيار الشيخ منه فانه الذي وصل إلينا - ورجال الشيخ وفهرسته, وفهرست النجاشي ... ومن مدارك الفن – غير المعروفة – رجال البرقي وفهرست ابن النديم, وكتاب ضعفاء ابن الغضائري, ورسالة أبي غالب, ومشيخة الفقيه, وتاريخ بغداد, ومعجم الأدباء للحموي, وغيبة الطوسي, واختصاص المفيد وإرشاده ورسالته العددية) (3).
وفي معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): (وهذه الأصول خمسة:
ص: 267
1- رجال البرقي.
2- رجال الكشي.
3- رجال الشيخ.
4- فهرست الشيخ.
5- رجال النجاشي.
وهذه الكتب – عدا رجال البرقي – من الكتب المعروفة التي تناولتها الأيدي طبقة بعد طبقة ولا يحتاج لثبوتها إلى شيء ... وأما الكتاب المنسوب إلى ابن الغضائري فهو لم يثبت(1).
وتجدر الإشارة إلى إمكان توسعة دائرة الأصول الرجالية أو النصوص التي تصلح للمرجعية في المعارف الرجالية في بعدين:
احدهما: توسعتها للمصنفات المتأخرة عن الشيخ مثل مصنفات ابن
شهر آشوب, ومنتجب الدين وغيرهما بالنظر إلى أمكانية اطلاعها على المصادر التي كانت في عصر الشيخ لقرب عهدهما من عهده, وذكر ذلك السيد الخوئي (قدس سره): (ومما تثبت به الوثائق أو الحسن أن ينص على ذلك أحد الأعلام المتأخرين بشرط أن يكون من أخبر عن وثاقته معاصراً للمخبر أو قريب العصر كما يتفق ذلك في توثيقات الشيخ منتجب الدين أو ابن شهر آشوب)(2).
ثانيهما: وصول بعض المصنفات المتقدّمة على الشيخ - والتي ينقل منها أو نقل
ص: 268
القليل أو نقل وسقط من كتبه - إلى المتأخرين كابن طاووس والعلامة وابن داود.
في أنواع هذه الأصول الرجالية:
ذكر المحقق التستري (قدس سره) إن (كتب فن الرجال العام على أنحاء:
1- منها بعنوان الرجال المجرد.
2- ومنها بعنوان معرفة الرجال.
3- ومنها بعنوان تاريخ الرجال.
4- ومنها بعنوان الفهرست.
5- ومنها بعنوان الممدوحين والمذمومين.
6- ومنها بعنوان المشيخة.
ولكل واحد موضوع خاص, ويمكن إن يقال الأصل في الثاني والخامس واحد, وإنما يختلفان بالتعبير, ويمكن يعبر بدلهما بعنوان الجرح والتعديل(1).
ويجدر الإلتفات إلى أمور:
1- إن هذه الأسماء ليست مجرد كتب بل هي علوم واجدة لمقومات العلم بمعناه الفني, والقدماء بل وبعض المتأخرين عنهم كانوا يلتزمون بهذه العناوين في مصنفاتهم, وبذلك يصح الاستدلال من العنوان على المعنون كما في القاموس ووسائل الإنجاب الصناعية للسيد الأستاذ دامت بركاته(2), بخلاف المتأخرين فأنهم لا يعتنون بعلاقة
ص: 269
العنوان المعروف مع المعنون ولذا لا يصح الاستدلال به عليه.
2- المقصود من عنوان الرجال المجرد ما كان مبتنياً على الطبقات كرجال البرقي والطوسي, أما عنوان معرفة الرجال أو الممدوحين والمذمومين ما كان على أساس الجرح والتعديل, وعنوان تاريخ الرجال بيان لسيرة الرواة من دون جرح وتعديل وما يتعلق بقبول الرواية وردها, أما عنوان الفهرست فهو لذكر أسماء المصنفين وكتبهم ووصفها كفهرستي الطوسي والنجاشي (قدهما), سواء ذكر فيها الطرق إلى أصحاب المصنفات أم لا, في قبال من يرى أن ذكر الطرق من صميم الفهارس علماً إن معالم العلماء وفهرست منتجب الدين من الفهارس مع انه لم تذكر فيها الطرق و عنوان المشيخة فيراد به ههنا بيان الطرق إلى رواة الأحاديث سواء كانوا أصحاب كتب أم لا, وينبغي الالتفات إلى أن المشيخة قد تطلق على كتب الحديث كمشيخة الحسن بن محبوب كما أشار إلى ذلك سيدنا الأستاذ دامت بركاته بقرينة نقل ابن إدريس عنها في مستطرفاته.
3- أصولنا الرجالية الأربعة كما هو ظاهر من عناوينها ومحتواها بعضها في الطبقات وهو رجال الطوسي, وأما فهرسته فلذكر أصحاب المصنفات وكذا ما يطلق عليه رجال النجاشي كما صرح بذلك في بداية جزئه الثاني, وأما اختيار الشيخ من رجال الكشي ففي الجرح والتعديل(1).
أما الفصول فتقع في توصيف رجال الشيخ الطوسي.
والبحث منهجياً ينبغي أن يُعقد في المؤلِف والمؤلَف, ولكن لما كان المؤلف (شيخ الطائفة المحقة, ورافع أعلام الشريعة, إمام الفرقة بعد الأئمة المعصومين– صلوات الله
ص: 270
عليهم أجمعين –, عماد الشيعة الإمامية في كل ما يتعلق بالمذهب والدين, محقق الأصول والفروع, ومهذب فنون المعقول والمسموع, شيخ الطائفة على الإطلاق, ورئيسها الذي تلوى إليه الأعناق) (1). فلا حاجة للكلام عن شخصه وجلالة شأنه, كما أن المقصود لنا ههنا أولاً وبالذات هو المؤَلَّف .
وقبل الدخول في البحث تجدر الإشارة إلى أن آلية البحث ستكون من خلال تحليل مقدمة الشيخ لكتابه أولاً, ثم متابعة ما في الكتاب إذ العلاقة بين المقدمة ومحتويات الكتاب أن أحدهما بمثابة القرينة على الأخرى وبالتالي يمثل مضمون الكتاب تأكيداً لما في المقدّمة والتزاماً بها أو أن المقدمة تفسر ما في المضمون أو بالعكس أو يكون عدولاً عما في المقدمة كما صنع الشيخ في التهذيبين أو نسياناً لما التزم به أو نحو ذلك. أما غير المذكور في المقدمة فطريق اكتشافه أما الاستقراء المفيد للاطمئنان أو البناء على فرضية نستكشف صحتها من قدرتها على تفسير الظواهر المنظورة لها أو أو ...
ذكر الشيخ (قدس سره) في مقدمته لرجاله أنه أجاب إلى (جمع كتاب يشتمل على أسماء الرجال الذين رووا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم), وعن الأئمة (علیهم السلام) من بعده إلى زمن القائم (علیه السلام), ثم اذكر بعد ذلك من تأخر زمانه من رواة الحديث أو من عاصرهم ولم يرو عنهم), في هذا المقطع أمران:
ص: 271
ذكرنا ان عنوان الرجال المجرد يشير إلى أن الكتاب موضوعه ترتيب طبقات الرواة, وهكذا كتابنا هذا ويشهد لذلك أيضاً هذا المقطع من المقدمة ومضمونه, ويعجبني نقل كلام بعض الفضلاء الباحثين في مجلة تراثنا لكن بتصرف (الشواهد على إن كتاب الرجال هو على الطبقات:
أولاً: ترتيب الكتاب على الأبواب المعنونة بأسماء المعصومين (علیهم السلام) بحيث جعل لكل معصوم باباً خاصاً به أدرج فيه أسماء الرواة عنه وهذا هو ترتيب الطبقات والشيخ صرح بان رجال البرقي اسمه الطبقات وهو مرتب على السياق الذي ذكرناه.
ثانياً: الشيخ الطوسي في هذا الكتاب يؤكد على أمور لا ثمرة لها الا تعيين الطبقة ويستعمل أساليب وألفاظ خاصة بكتب الطبقات واليك نماذج:
1- تعيين الإمام المروي عنه ولو كان أكثر من واحد, فكثيراً ما يقول في أصحاب الباقر (علیه السلام) مثلاً انه روى عنه وعن أبي عبد الله (علیهما السلام) . مع أنه عقد باباً خاصاً بأصحاب الصادق (علیه السلام) إلا انه للتأكيد على طبقة الراوي يستعمل مثل هذا الأسلوب أحياناً.
2- في مواضع يلجأ أحياناً إلى ذكر من روى عن الراوي, هذا في قسم من روى عن أحدهم, أما في قسم من لم يرو فهذا يمثل منهجاً عاماً للشيخ.
3- تحديد وفيات كثير من الرواة وسني أعمارهم أو من لقوا ومن لم يلقوا من الأئمة (علیهم السلام) .
4- يستعمل ألفاظاً خاصة بأصحاب الطبقات مثل لحق, أدرك, عاصر, لقي, بل صرح الشيخ بلفظ الطبقة في مورد من كتابه.ولا يخفى ان هذا الترتيب يمثل أحد المسالك في طبقات الرواة, وقد اعترض عليه
ص: 272
من قبل متأخري المتأخرين وخصوصاً السيد البروجردي (قدس سره) (1), ومحله الفن الثاني الخاص بطبقات الرواة بما لا مجال لتفصيله ههنا.
في بيان المقصود من هذا المقطع.
قسَّم الشيخ (قدس سره) كتابه إلى قسمين:
الأول: يشتمل على أسماء الذين رووا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم), والذين رووا عن الأئمة (علیهم السلام) من بعده إلى القائم (علیه السلام) .
الثاني: ويندرج تحته صنفان:
1- من تأخر زمانه عن المعصومين من رواة الحديث .
2- من عاصر أحد المعصومين ولكن لم يرو عنه .
الكلام في القسم الأول:
ذُكرت ثلاثة أقوال في من يندرج تحت هذا القسم:
أحدها: أن يكون راوياً عن أحدهم (علیهم السلام) بالمباشرة ولو رواية واحدة فيندرج تحته من كانت تمام رواياته بالمباشرة أو بعضها, أما من كانت تمام رواياته بالواسطة أو كان معاصراً وملاقياً للمعصوم من دون أي رواية حتى بالواسطة فهو خارج عن القسم الأول, هذا, واختار هذا القول بعض منهم السيد الخوئي (قدس سره) (2).
ثانيها: المعاصر الملاقي الراوي بالمباشرة ولو رواية واحدة أو من ليست له رواية أصلاً حتى مع الواسطة هو من يندرج في القسم الأول هذا, وذهب إليه المحقق
ص: 273
التستري وصاحب سماء المقال(1) .
ثالثها: يندرج في هذا القسم من كانت تمام روايته بالمباشرة أو بعضها, أو تمام روايته أو أكثرها بالواسطة وذهب إليه المحقق الداماد(2).
ولا يخفى أن من كانت أكثر روايته بالواسطة يعني أن له روايات بالمباشرة فيجتمع مع القول الأول, أما إذا كانت تمام روايته بالواسطة فانه يفترق عن الأول والثاني ويكون توسعه من جهة أخرى, وعليه في هذا القول شقان على الثاني يكون قولاً برأسه.
والكلام يقع أولاً في بيان أن من يندرج في القسم الأول هو الراوي بالمباشرة اما تمام روايته أو بعضها دون من كان تمام روايته بالواسطة أي في قبال القول الثالث في شقه الثاني.
ويقع ثانياً في بيان أن من يندرج خصوص الراوي دون المعاصر الملاقي من دون أيةِ رواية بالمباشرة أي مقابل القول الثاني في شقه الثاني.
ولإثباته نذكر وجوهاً ثلاثة:
ذكر المحقق التستري في الفصل الخامس(3) انه يُفرَّق بين قولهم (فلان عن فلان) وقولهم (روى فلان عن فلان) فإن الأول يستلزم الرواية بلا واسطة وأما الثاني فأعم, والشيخ الطوسي (قدس سره) أحياناً يجعل (روى عن) في قبال (أسند عن) كما في ترجمة غياث بن ابراهيم إذ قال: (اسند عنه وروى عن أبي الحسن (علیه السلام) ) وأخرى يجعلها بمعنى واحد كما في جابر بن يزيد الجعفي ومحمد بن إسحاق حيث قال: (اسند
ص: 274
عنه وروى عنهما) وأحياناً يقول: (سمع منه وروى عنه) والعطف في الأصل يقتضي التغاير كما في ترجمة سعيد بن المسيب, وفي ترجمة اسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: (روى عنه وسمع إياه (علیهما السلام) ) بهذا يتضح أن عبارة: (روى عن فلان) تستعمل في الأعم من المباشرة والواسطة ولكن أكثر استعمالاتها والظاهر منها هو الرواية بالمباشرة إلا إذا قامت قرينة على الخلاف كما فهم ذلك المحقق التستري (قدس سره) (1)من قول النجاشي من أن ابراهيم بن محمد الأشعري قد روى عن الكاظم والرضا (علیهما السلام) انه يقصد الرواية بالمباشرة ولذا اعترض عليه أنه ليس له رواية عن أحدهما ولا غيرهما من الأئمة مع أن له روايات بالواسطة عن الباقر والصادق والكاظم (علیهم السلام), ويشهد لذلك انسباق هذا المعنى من هذه الكلمة فهو الظاهر منها بلا فرق في كون الانسباق حاقياً أم لا, إذ لا ندعي أنها موضوعة للرواية بالمباشرة .
قد يقال حتى لو تم ما ذكرتم الا أن الشيخ استبدل كلمة (روى عن) بكلمة (أصحاب الإمام) بل في المقدمة نفسها ذكر كلمة رجال الأئمة (علیهم السلام), وهذا قد يشير إلى عدوله أو أن مقصوده من (روى عن) هو الأعم من أصحاب الرواية والإسناد كما ذهب إلى تفسير الأصحاب بذلك المحقق الداماد في رواشحه .
ولكن هذا ليس بتام إذ المحقق الداماد يوسع دائرة الرواية بالواسطة حتى إلى من لم يدرك عصر المعصوم وسيأتي في الوجه الثاني .
يلزم من اندراج من يكون تمام روايته مع الواسطة في أصحاب أحدهم (علیهم السلام) أن يكون جميع من يقع في سند الروايات إلى احدهم ممن لم يتأخر عن زمان
ص: 275
العسكري (علیه السلام) في أصحابهم .
الألفاظ التي تستعمل في تحديد الطبقة وكذا الأوصاف وان كانت نافعة إلا أنه لا تتم هذه المنفعة ولا يتحقق هذا الغرض إلا إذا كان التحديد بالرواية المباشرة إذ أن أهم أغراض تحديد الطبقات الاطلاع على الاتصال والإرسال ولا ينفع في ذلك المعاصرة أو الملاقاة فضلاً عن الرواية بالواسطة خصوصاً إذا تعددت الوسائط إلا مع التنبيه وهذا غير حاصل في رجال الشيخ.
إلى هنا ظهر انه لاندراج احدهم في أصحاب احدهم (علیهم السلام) لابد له من الرواية بالمباشرة ولو لمرة واحدة .
للتوسعة التي ادعاها أصحاب القول الثاني تُذكر وجوه:
التعبير بالأصحاب – ولعل التعبير بالرجال أيضاً – والتي فسرها المحقق التستري وصاحب سماء المقال(1) بالمعاصر الملاقي سواء روى بالمباشرة أو بالواسطة أو لم يرو أصلاً غايته أن تكون تمام روايته بالواسطة يخرج بما ذُكر في القسم الثاني .
ويجاب عليه: تستعمل مفردة (الأصحاب) بتراكيب متعددة مثل(أصحاب الباقر مثلاً), (أصحابنا),(الأصحاب), (أصحاب الإمام) ونحو ذلك, ويدعى الاستفادة منها في جهات:
الأولى: في الجرح والتعديل كما في الرواشح وغيرها(2).
الثانية: بلحاظ الاعتقاد والتصنيف كما في مقدمة فهرستي الشيخ والنجاشي .
ص: 276
الثالثة: في المقام من أن المقصود بها هل مطلق المعاصرة واللقاء أو خصوص الرواية المباشرة أو الأعم منها ومن الرواية بالواسطة – أي تمام روايته بالواسطة .
وليس أي من هذه الجهات يمثل معناها اللغوي أو العرفي, وكذا ليس لها معنى اصطلاحي, وإنما يحدد المقصود منها بحسب القرائن الحافة بها .
وفي المقام يمكن أن يدعى وجود قرائن على أن المراد بها بمعنى (روى عن) وهي:
1- ما ذكرنا في أولاً في المقصود من (روى عن) فتحمل كلمة الأصحاب عليها.
2- الشيخ (قدس سره) ذكر في ترجمة أحمد بن إدريس القمي لحقه
(علیه السلام) ولم يرو عنه, وفي ترجمة الحسين بن الحسن بن أبان أدرك (علیه السلام) ولم اعلم انه روى وكذا في ترجمة سعد بن عبد الله(1), فلو كان مقصود الشيخ الأعم من الرواية والمعاصرة واللقاء لما كان وجه لهذا التصريح .
لا يقال: إن هذا التصريح للإشارة إلى العدول إذ انه جاء متاخراً جداً, ولعله بهذا يظهر عدم تمامية ما قد يقال أن الشيخ عدل عما ذكره في المقدمة من خلال استقراء المذكورين في أصحابهم وان بعضهم عاصر الإمام ولاقاه لكن من دون رواية أصلاً إذ لا يكون وجه لهذا التصريح, وكذلك يظهر عدم تمامية ما قد يقال أن تعبيره في الباب الخاص بأصحاب الإمام الحسن (علیه السلام) بالأصحاب بعد ما كان يعبر ب-(روى عن) أشارة إلى العدول .
إن قلت: الشيخ في موارد كثيرة عند ترجمة احد أصحاب المعصوم المخصص الباب لأصحابه يذكر انه (روى عنه) (2) فلو كان بانياً على الرواية لما كان وجه لهذا
ص: 277
التصريح .
وأجيب أن الشيخ أنما يصنع أمثال هذا للتأكيد في تعيين الطبقة .
أقول: وان كان الفارق بين موارد النقض هذه وما ذكرناه في هذه القرينة من جهة تصور التأكيد فيها دون موارد النقض, إلا أن هذه تمثل أحد الإشكالات على الكتاب إذ أنه:
أ- إذا كان قد عقد الأبواب لخصوص من روى عن المعصوم فلماذا يذكر من صرح انه لم يرو عنه أصلاً كأحمد بن إدريس ؟ ولماذا ذكر من لم يعلم أنهم رووا عن المعصوم ؟
ب- بالنسبة لموارد النقض فانه لا معنى لهذا التصريح بعد عقد الأبواب لذكر أصحابهم كما أن هناك كثيراً ممن على هذه الحال ولم يصرح بذلك في ترجمتهم, وأما التأكيد فلا يغفر الخروج عن المنهجة والاقتصار على بعض دون الأخر .
ذكر المحقق التستري (قدس سره) (1) انه يمكن أن يعد الرجل في أصحابهم لكونه معاصرهم ويعده في باب من لم يرو عنهم لكونه لم يرهم ولم يرو عنهم ومثله في كتابه كثير أي بالاستقراء والتتبع يظهر ذلك.
يظهر الجواب عليه مما ذكرناه في الكلام الأول, ثم أن الاستقراء مقابله استقراء آخر, ولعل المحقق التستري ناظر للوجه الثالث.
الوجه الثالث: يمثل اعتبار المعاصرة واللقاء في هذا القسم احد أركان الفرضية التي تحل إشكال التكرار في باب من روى عن احدهم (علیهم السلام) ومن لم يرو, وحلها دليل
ص: 278
صحتها الكاشف عن صحة هذا الركن فيها.
وسيأتي بيان عدم تمامية هذا التوجيه في البحث المعقود لإشكال التكرار هذا.
فظهر أن من يندرج تحت القسم الأول هذا خصوص الراوي بالمباشرة ولو رواية واحدة, وما يذكر من نقص يمثل إشكالاً على الكتاب إذ لم يثبت العدول ولم يثبت أي من القولين الآخرين .
في مقدمة الشيخ (ثم اذكر بعد ذلك من تأخر زمانه من رواة الحديث) وهذا ظاهر في أن بداية زمان ولادتهم أو سن تحملهم للحديث يكون بعد الإمام العسكري (علیه السلام) وفي الغيبة الصغرى وما بعدها, وعليه طبقاتهم محصورة بين هذا التاريخ أي النصف الثاني من القرن الثالث إلى زمان الشيخ الطوسي أي بداية النصف الثاني من القرن الخامس (460) ﻫ .
وهذا الصنف من رواة الحديث فلا مكان لغيرهم فيه, ولتأخر زمانهم لا تتصور لهم رواية بالمباشرة عن واحد من الأئمة (علیهم السلام), فإذا كانت لهم رواية عنهم فبالواسطة .
عنوان هذا الباب كما ذكره الشيخ (من لم يرو عن واحد من الأئمة (علیهم السلام) ).
وقد عرفنا أن المعنى الظاهر من (روى عن) هو الرواية بالمباشرة فهي المنفية دون الرواية بالواسطة إذ نفي الأخص وهي الرواية بالمباشرة لا يستلزم نفي الأعم أي مطلق الرواية حتى لو كان بالواسطة فلا تنافي بين كونهم من رواة الحديث وبين من لم يرو عن واحد من الأئمة (علیهم السلام) .
إن قلت: ذكرتم أن معنى (روى عن) تعني الرواية بالمباشرة وعليه في المقدمة ذكر أن هذا الباب يشتمل على رواة الحديث, وفي عنوان الباب نفى الرواية بالمباشرة وهذا
ص: 279
تناقض واضح.
قلت: وان كان الظاهر من رواة الحديث هو الرواية بالمباشرة لكن بقرينة (من تأخر زمانه) نحملها على الرواية بالواسطة فلا تنافي بين المقدمة وعنوان الباب .
إلى هنا ظهر أن هذا الصنف هم الرواة بالواسطة عن المعصومين (علیهم السلام) .
عبارته المقدمة (من عاصرهم ولم يرو عنهم) وعنوان الباب (من لم يرو عن واحد من الأئمة (علیهم السلام) ) .
ظهر مما سبق أن الظاهر كون المنفي هو الرواية بالمباشرة أما مع الواسطة فلا ينفيها ولا يثبتها أي من هاتين العبارتين إلا أن يقال أن سياق المقدمة من التركيز على رواة الحديث إذ أنَّ ذكر هذه العبارة خمس مرات, وكذا كون مقطع المقدمة في سياق رواة الحديث مما ينبه على أن المنظور هو رواة الحديث فيكون المنفي المباشر فتبقى مع الواسطة, وكذا مناسبة طبقات الرواة للرواية دون المعاصرة وغيرها, وهذا كله قرائن على أن مقصود الشيخ من هذا الصنف هم المعاصرون الرواة مع الواسطة أي تمام روايتهم.
أن القسم الأول هم الرواة بالمباشرة ولو رواية واحدة وان كان بعضهم بالواسطة. أما القسم الثاني فالرواة مع الواسطة أي تمام روايتهم سواء كانوا معاصرين للائمة (علیهم السلام) ولم يرووا عنهم بالمباشرة أصلاً أو تأخر زمانهم عنهم (علیهم السلام) .
ص: 280
ذُكر لذلك مسلكان:
يذهب إلى أن منهج الشيخ يعتمد على كتب الحديث فحيثما وجد رواية لراو عن واحد من الأئمة (علیهم السلام) اثبت اسم ذلك الراوي في باب أصحاب ذلك الإمام (علیه السلام) باعتبار روايته عنه وحاول أن يشخصه بما يعرِّفه من مشخصات ومميزات, ويترتب على هذا توفير فرضيات لحل بعض الإشكاليات والظواهر التي تواجهنا في كتاب الرجال هذا, وان هذه الفرضيات لا يمكن الحصول عليها إلا بالرجوع إلى كتب الحديث التي كانت عند الشيخ (قدس سره) إذ انه منها انطلق وإليها رجع.
واختار هذا المسلك سيدنا الأستاذ دامت بركاته وآخرون (1), فبعض الباحثين ذكر انه أحرز هذا المنهج بالتتبع في كتب الحديث المختلفة للخاصة والعامة فوجد فيها أسماء من ذكرهم الشيخ في الرجال بينما لا ذكر لهم في أي كتاب رجالي أخر .
منهج الشيخ (قدس سره) نقل كلمات الرجاليين كما هي, ولهذا يذكر الشخص الواحد بأكثر من عنوان لأجل انه كذلك في كتب الرجاليين المتقدمين, وقد يظهر ذلك من السيد الأستاذ دامت بركاته وان لم يكن واضح الظهور فذكر(2) (ولكن من المعلوم لدى الممارس كثرة وقوع التكرار في رجال الشيخ فانه (قدس سره) كان مقيداً بإيراد
ص: 281
جميع العناوين المذكورة في المصادر من الفهارس وأسانيد الروايات التي كانت تحت يده, ولم يكن يعتني بتوحيد ما ينطبق منها على شخص واحد إلا ما كان واضحاً جداً, وقد صنع نظير ذلك في كتابه الفهرست ولذلك وقع فيه من التكرار ما لم يقع في رجال النجاشي) ويناسب هذا المسلك كلام صاحب منهج المقال في ترجمته لحسان بن مهران(1), وما في تكملة الرجال للشيخ عبد النبي الكاظمي(2) وآخرين.
ويجدر الإيعاز إلى أن المقصود في هذين المسلكين ما يمثل المنهج العام عند الشيخ فلا ينافي الاستفادة من كلا المنهجين اعني الرجوع إلى الكتب الحديثية والرجالية. ولكن أيهما المنظور له اساساً فيكون الآخر ثانوياً وتبعياً ويحتمل أن يكون بدرجة متقاربة.
وكل من المسلكين ذكر لمدعاه شواهد, فذكر للمسلك الأول:
1- عند الرجوع إلى الكتب الحديثية من العامة والخاصة نجد فيها الأسماء التي ذكرها الشيخ (قدس سره) في كتابه, وبعضها بنفس العبارة بلا زيادة ولا نقصان.
2- بعض المذكورين في رجال الشيخ (قدس سره) لا ذكر لهم في أي كتاب رجالي آخر وهذا يعني انه إستفادها من الكتب الروائية.
3- لما لم يكن عند الأصحاب في هذا الباب إلا مختصرات فلا مناص من الاستفادة من الكتب الحديثية والا فمن أين استقى معلوماته؟
4- الشيخ كان في مقام بيان رأيه ومعتقده في طبقات الرواة وهذا يحتم عليه الرجوع إلى الكتب الحديثية مضافاً إلى الغاية من البحث الرجالي هو الاستفادة منه في
ص: 282
الأبحاث الروائية فلا بد أن يكون نظرة إلى الكتب الحديثية ولا يصح أن يكون بمعزل عنها.
5- الالتزام بهذا المسلك يوفر الفرضية القادرة على حل بعض الإشكالات والظواهر في هذا الكتاب في حين لا يقدر على حلها المسلك الأخر, وهذا يكشف عن صحة هذا المسلك, من قبيل تكرار الشخص الواحد في الباب الواحد بأكثر من عنوان إذ انه رأى هذه العناوين في الأسانيد فذكرها كما هي, إلى غير ذلك من الشواهد.
أما للمسلك الثاني فذكر:
1- ديباجة الكتاب تفيد أن مصادر الشيخ الكتب الرجالية إذ قال (ولم أجد لأصحابنا كتاباً جامعاً في هذا المعنى إلا مختصرات قد ذكر كل إنسان طرفاً منها, إلا ما ذكر ابن عقدة من رجال الصادق (علیه السلام) فانه قد بلغ الغاية ...).
فمن مصادره رجال ابن عقدة, وجمع هذه المختصرات في كتاب جامع, ويشهد لذلك تتبع ما في الكتاب فان التوصيفات التي فيه تناسب الكتب الرجالية دون الحديثية .
إن قلت: لما كانت هذه المصادر مختصرات فمن أين استقى هذه المعلومات؟ ليس إلا من كتب الحديث.
قلت: يبدو أن مقصوده أن هذه المصادر في نفسها مختصرات ولم تكن مستوعبة, لكن بجمعها تمثل كمية كبيرة من المعلومات هي التي دونها الشيخ في كتابه هذا ويشهد لذلك ما ذكره الشيخ في فهرسته مع انه ذكر في مقدمته انه ليس للأصحاب كتاب مستوفى في هذا الباب ذكر أكثر من 900 شخصاً, ومثله النجاشي وذكر 1269 شخصاً, مع العلم أن موضوع الفهارس لا يتصور فيه الاستفادة من كتب الحديث
ص: 283
فضلاً عن أن كتب الطبقات يمكنها الاستفادة من كتب الفهارس والجرح والتعديل والمشيخة, وأيضاً يظهر اعتماد الشيخ على بعض كتب العامة ككتب ابن حبان وابن قتيبة وغيرها .
2- النسبة بين ما ذكره الشيخ في رجاله وما ذكره في الأسانيد العموم والخصوص من وجه, فلو كان نظره للأسانيد في الكتب الحديثية لكان ما في الأسانيد مساوياً أو اعم مطلقاً مما في رجال الشيخ.
1- ترديد الشيخ في بعض الموارد(1) بقوله: (لم اعلم انه روى عنه) لا معنى له إذا كان يرجع إلى كتب الحديث إذ بإمكانه التأكد من ذلك.
4- أيضاً توفير فرضية لحل بعض الإشكالات الكاشف – هذا الحل – عن صحة هذه الفرضية المستدعي لتمامية هذا المسلك.
أقول: أما دعوى كل منهما توفير فرضيات لحل بعض هذه الإشكالات فستأتي في محلها لكن موجزاً أقول: أن تكرار الأسماء في أصحاب واحد من الأئمة (علیهم السلام) أكثر من سبعين مورداً كما ستأتي منها ثمانية موارد بعين العنوان كما لو كان المنظور تكرر العناوين في كتب الأسانيد لكانت أكثر من ذلك بكثير إذ من ذكر له عنوان واحد في رجال الشيخ له عنوانان أو أكثر في أسانيد الروايات, ومن ذكر له عنوانان له أكثر من ذلك ويمكن مراجعة معجم رجال الحديث فانه بلغ الغاية في ذلك.
وأما ذكر الأسماء في الكتب الحديثية بنفس العبائر بلا زيادة ولا نقصان فاعم من المدعى وان صح فانه يصح جزئياً لا كلياً وكون هذه الموارد الجزئية تورث الاطمئنان
ص: 284
بهذا المسلك مستبعداً جداً.
وأما بعض المذكورين في رجال الشيخ لا ذكر لهم في أي كتاب رجالي أخر فمن أين لنا الجزم بذلك مع عدم توفر المصادر التي كانت عند الشيخ (قدس سره) ؟
وأما بيان رأيه ومعتقده فلا يلزم منه الرجوع إلى الكتب الحديثية كما هو المشاهد في كثير من المصنفات الرجالية التي تعتمد على الأصول الرجالية هذه من دون الرجوع إلى كتب الحديث.فاتضح أن المنهج العام للشيخ (قدس سره) هو الاعتماد على المصادر الرجالية التي كانت متوفرة عنده. وفي ذيل هذا الفصل أبحاث نعرض عنها الآن.
ص: 285
التكرار, المقصود من اسند عنه, ومجهول, ومولى, توثيق شخص في مورد وعدم توثيقه في مورد آخر, ذكر الشخص في أصحاب احد الأئمة (علیهم السلام) وفي ترجمته يقول انه روى عنه أو روى عنه وعن إمام آخر, ونحوها, إشكالات وجهت إلى رجال الشيخ (قدس سره) .
وسنقصر البحث على بعضها فيقع الكلام في جهات:
التكرار واحد من الإشكالات التي تواجه الأصول الرجالية(1), وأكثر موارد التكرار في كتابنا المبحوث عنه هذا. وهو في أربع نواح:
الناحية الأولى: التكرار في أصحاب معصوم واحد.
الناحية الثانية: التكرار في باب من لم يرو.
الناحية الثالثة: التكرار في البابين من روى عن أحدهم (علیهم السلام) ومن لم يرو.
الناحية الرابعة: التكرار في أصحاب إمامين أو أكثر.
الناحية الرابعة هذه لا مشكلة فيها من جهة التكرار, وإنما المشكلة في عدم تمامية هذا المسلك بلحاظ فن طبقات الرواة وليس هنا محل بيانه.
والناحية الأولى والثانية حسابهما واحد, ولذا الكلام يقع في الناحيتين الأولى والثالثة,وأكثر الناظرين إنما اهتموا بالناحية الثالثة دون الأولى إلا بنحو الإشارة مع أن النظر فيها يلقي بظلاله على الناحية الثالثة.
ص: 286
عدد الموارد المكررة أكثر من سبعين مورداً . ثمانية منها تكررت بعين عبارتها, وخمسة منها الفارق بينهما مثل (كوفي والكوفي) وما الفارق بينهما مفردة واحدة فقط من لقب أو كنية أو غيرهما ثمانية عشر مورداً والبقية اختلافها أكثر من هذا بقليل والفرضيات التي ذكرت أو يمكن أن تذكر لحل هذا الإشكال هي:
الغفلة عن العنوان الأول والاشتباه والخطأ.
واختار هذه الفرضية القهبائي (قدس سره) في مجمعه (1)إذ قال (أو فيها وفي (لم) أيضاً على الاشتباه) وذكر(2) أن منشأ هذا الاشتباه هو العجلة الدينية.
واختارها أيضاً السيد الخوئي (قدس سره) (3) قائلاً (فان الشيخ لكثرة اشتغاله بالتأليف والتدريس كان يكثر عليه الخطأ),واعتبرها المحقق التستري (قدس سره) (4) أحد مناشئ التكرار .
فإذن الشيخ لأجل العجلة الدينية حيث كان مرجعاً لأهل زمانه من العامة والخاصة والعام والخاص, أكثر من التصنيف في العلوم الدينية المختلفة من فقه وحديث ورجال وأصول وكلام وتفسير وغيرها, بحيث لو قسمت مدة حياته على تأليفاته لكانت حصة كل منها ساعات محدودة, هذا كله إلى جنب أعماله الأخرى من التدريس والإفتاء والقضاء (5) ونحوها.
ص: 287
والشاهد عليه أن مثل هذه الأخطاء حصلت في كتبه الأخرى كالفهرست والتهذيبين, وان التكرار في كتاب الرجال هذا بنواحيه الأربعة يمثل 2% من مجموعه وهو نسبة مألوفة من الخطأ والغفلة.
وأجيب(1) عنه بوجوه اذكر بعضها بتصرف:
1- الشواهد قائمة على دقة الشيخ (قدس سره) في هذا الكتاب والتفاته الكامل لما وضع فيه.
2- بعض الموارد لا تتصور الغفلة من الشيخ فيها مما يكشف عن أن له غرضاً علمياً.
3- وجود الفرضية التي تحل مثل هذه الإشكالية.
ولكن لا تنافي بين الغفلة والدقة, نعم كلما ازدادت الدقة قلت نسبة الخطأ والغفلة, وكما اشرنا أن نسبة التكرار بنواحيه الأربعة تمثل 2% وهي مألوفة إذ العصمة لأهلها والنسيان فطرة ثانية للإنسان, وأما أن بعض الموارد لا تتصور الغفلة فيها أو وجود فرضية تحل هذه الإشكالية فانه لا يتم في قبال التكرار بعين العبارة .
ما اختاره السيد البروجردي (قدس سره) قائلاً كما في المنهج الرجالي(2):
(الظاهر انه – أي رجال الشيخ – كان بصورة المسودة وكان غرض الشيخ الرجوع إليه.
ثانياً: تنظيمه وترتيبه وتوضيح حال المذكورين فيه, كما يشهد لذلك الاقتصار في بعض الرواة على ذكر اسمه واسم أبيه مجرداً من دون أن يعرض لبيان حاله من حيث الوثاقة وغيرها.
ص: 288
وكذا ذكر بعض الرواة مكرراً كما يتفق فيه كثيراً على ما تتبعنا, هذا وأمثاله مما يوجب الظن الغالب بكون الكتاب لم يبلغ إلى حد النظم والترتيب والخروج بصورة نهائية) ثم ذكر أن منشأ ذلك ما ذكرناه في الفرضية الأولى .
ويجاب عليه:
1- عرفنا أن عنوان الرجال المجرد أنما يتكفل تحديد طبقات الرواة دون ما يتعلق بالجرح والتعديل, نعم الاقتصار على اسم الراوي واسم أبيه قد لا يعينه والذي لابد منه في تحديد طبقته. إلا أن يكون مشهوراً معروفاً في عصرهم فلا يحتاج أكثر من هذا, ولكن ان تم ففي موارد قليلة مع انه في زرارة ومحمد بن مسلم لم يقتصر على اسمه واسم أبيه .
2- أشار السيد الأستاذ دامت بركاته(1) إلى أن الإضافة على الكتب بعد الانتهاء من تأليفها أمر متداول بين المؤلفين, ومنهم الشيخ الطوسي (قدس سره) وذكر شواهد لذلك, هذا بالنسبة لأصل المراجعة والإضافة عند الشيخ, وأما في خصوص الرجال والفهرست ذكر (انه يحتمل أن يكون بعض الاختلافات بين نسخ الفهرست وكذلك بين نسخ الرجال في الاشتمال على بعض الفقرات من التوثيق أو غيره – مما أُشير إليه في الطبعات المحققة من الكتابين – ناشئاً من إدخال الشيخ (قدس سره) بعض الإضافات عليها بعد الانتهاء من تأليفها وانتشار نسخهما فتدبر) انتهى كلام الأستاذ دامت إفاداته.
ولما كانت هكذا مراجعات متحققة فان هذا يبعد بقاءها مسودة.ولكن المراجعة والإضافة لا تنافي بقائها مسودة – بمعنى أنها تحتاج إلى المراجعة
ص: 289
والتحقيق – إذ قد تكون لبعض الموارد دون تمام الكتاب وهو الذي ينسجم مع أعماله الجسيمة. فضلاً عن أن بعض الأمور فيه يناسب كونها مسودة من قبيل الذكر بالعبارة نفسها إذ المسودة لا يرعى فيها الدقة كما في النسخة النهائية ومن قبيل ذكره للراوي في أصحاب احدهم (علیهم السلام) ومع ذلك يذكر في ترجمته انه روى عنه, أو روى عنه وعن أبي عبد الله مثلاً, مع انه عقد باباً لأصحاب أبي عبد الله (علیه السلام) . وهذا الأخير لا يناسب الغفلة بل المسودة ويكون مرجحاً لها, نعم لا مانع من كونه مسودة ومشتمل على الغفلة.
عدم تفطنه للاتحاد بسبب اختلاف تعبيرهم وتغير لفظ العنوان أو كون صاحب هذه الكنية صاحب ذاك الاسم, ذكره المحقق التستري (قدس سره) على انه احد مناشئ التكرار.
وهذا لا مانع منه في الجملة لا بالجملة إذ كيف يفسر تكرار الاسم بعين العبارة.
عادة الشيخ النقل من المصنفات الرجالية كما هي وان احتمل الاتحاد.
ولكن ينقض عليها بتكرار الاسم بعين العبارة فانه يناسب الاطمئنان بالاتحاد.
منهج الشيخ الاعتماد على الكتب الحديثية فيذكر الاسم كما هو وان لزم التكرار, وقد ظهر الجواب عنه مما مضى.
ويبدو أن الجواب الصحيح كمنهج عام دائر بين الفرضية الأولى والثانية, وفي الكتاب ما يؤيد كل منهما, نعم فرضية المسودة تشمله الغفلة أيضاً مع التساهل تجاه الأمور الفنية والمنهجية, وكأن ظاهرة المسودة عند الشيخ (قدس سره) – بمعنى أنها تحتاج إلى المراجعة والتحقيق – تمثل تفسيراً عاماً يلجأ إليه الباحثون في تراث الشيخ (قدس سره) كما في
ص: 290
المقام واختيار الكشي(1). ولا يخفى أنّه لا يمنع أن تكون الفرضية الثالثة منشأ للتكرار في بعض الموارد أيضاً .
التكرار في بابي: من روى عن أحدهم (علیهم السلام), ومن لم يرو عنهم (علیهم السلام) .
وهنا أمران:
الأول: في بيان أن المقطع المذكور في ديباجة الشيخ (قدس سره) على التفسير المختار بل على الاحتمالات الثلاثة يستلزم التناقض فيما لو تكرر الراوي في كلا البابين. إذ على الاحتمال الأول يلزم اجتماع الرواية بالمباشرة وكون تمام الروايات بالواسطة.
وعلى الاحتمال الثاني يلزم اجتماع المعاصرة والملاقاة بدون أي رواية بالمباشرة أو بالواسطة وكون تمام الروايات بالواسطة.
أما على الاحتمال الثالث فيلزم اجتماع الرواية بالمباشرة أو بالواسطة وعدم الرواية أصلاً.
الثاني: عدد المذكورين في كلا البابين 66 مورداً, وهذا العدد كان مع الأخذ بنظر الاعتبار النسخ المختلفة فليس عليه اتفاق في تمام النسخ, هذا ومن جهة أخرى أن ابن داود (قدس سره) في رجال صرح مراراً أن عنده نسخة من رجال الشيخ بخط الشيخ نفسه لم يذكر فيها بعض ما كرر في البابين, وهذا يعني أما انه من إضافات الشيخ كما عرفنا ولم تكن مذكورة في النسخة التي عند ابن داود أو من النساخ أو من أخطاء ابن داود كما هو المعروف عن رجاله.
ص: 291
وتجدر الإشارة إلى أن تحديد عدد المذكورين في البابين يساعد على اختيار الفرضية المناسبة لحل هذه الإشكالية كما لا يخفى.
ولرفع هذا التناقض ذُكرت فرضيات عدة نذكر أهمها:
الالتزام بتعدد الراوي وذهب إليها ابن داود في ترجمة القاسم بن محمد الجوهري (1) إذ قال: (...فالظاهر انه غيره والأخير ثقة) وذكر في ترجمة حمدان بن سليمان(2) (... وهذا – أي ذكره في باب لم – مناقض لكونه روى عن الهادي والعسكري (علیهما السلام) إلا أن يكون غيره) فكأنه لم يستظهر التعدد بل ذكر قضية تعليقية لا غير, وفي ترجمة أحمد بن عمر الخلال(3) استظهر التعدد إذ قال (... فابن الخلال بالمعجمة ضا والذي بالمهملة لم) .
يبدو أن ابن داود اعتمد في ترجمة القاسم بن محمد الجوهري لإثبات التعدد على ظاهرة كلام الشيخ إذ تباين البابين يقتضي تغاير المذكورين فيهما, ولكن لا يظهر انه اعتمد هذا الوجه كتوجيه مطرد وإلا لاعتمده في الآخرين, نعم في أحمد بن محمد الخلال وان كان يبدو أن استظهار التعدد لأجل اختلاف اللقب إلا انه من المحتمل أن الالتزام باختلاف اللقب لأجل ظاهر كلام الشيخ (قدس سره), لكنه لم يلتزم بالتعدد في حمدان بن سليمان.
أياً كان هذه الفرضية لا يمكن الالتزام بها كلياً للقطع أو الاطمئنان بعدم تعدد بعض المذكورين في كلا البابين.
ص: 292
الالتزام بوحدة الراوي فهي على عكس الفرضية الأولى – وهكذا سائر الفرضيات الأخرى أي أنها ترى وحدة الراوي – ويكون التكرار لاختلاف الاعتبار فمن جهة كون الراوي معاصراً لأحدهم (علیهم السلام) يذكر في أصحابه, ومن جهة انه لم يلقه ولم يرو عنه بالمباشرة بل تمام روايته بالواسطة يذكر في باب من لم يرو عنهم, ويترتب على هذه الفرضية أن مجرد ذكر الشيخ لراوٍ في أصحاب احدهم (علیهم السلام) لا يعني روايته عنه – أي بالمباشرة – بل اعم منها ومجرد المعاصرة, نعم إذا لم يذكر في باب من لم يرو فانه يعني روايته عنه بالمباشرة, وهذا يستدعي أن المعاصر لأحدهم غير الراوي أصلاً – بالمباشرة والواسطة – لا يذكر في أصحابهم ولا في باب من لم يرو عنهم, واختار هذه الفرضية المحقق التستري(1) وآخرون.
ويجاب عن هذه الفرضية بوجوه:
الأول: مضى في الأمر الثاني من الفصل الأول أن الصحيح فيما يذكر في القسم الأول هو الرواية بالمباشرة فبدونها لا مكان للراوي فيه.
الثاني: الشيخ (قدس سره) كما اشرنا ذكر بعض المعاصرين للائمة (علیهم السلام) وصرح بعدم روايتهم عنهم أي بالمباشرة, فمن اللازم التصريح أيضاً في هذه الموارد لوحدة الاعتبار إذ الجميع معاصر غير راو بالمباشرة.
الثالث: بعض المذكورين في البابين له روايات بالمباشرة عنهم (علیهم السلام) في حين ترى هذه الفرضية أن هؤلاء تمام رواياتهم بالواسطة, مثل احمد بن عمر الخلال, وبكر بن
ص: 293
محمد الأزدي وآخرين.
الالتزام أيضاً بوحدة الراوي ولكن لتنوع رواياته إلى روايات مع الواسطة وأخرى بدونها, فيذكر بالاعتبار الأول في باب من لم يرو, وبالاعتبار الثاني في أصحاب أحدهم (علیهم السلام), وذهب إلى هذه الفرضية الفاضل المامقاني (قدس سره) قائلاً (أن الرجال أقسام:
1- فقسم منهم يروي عن الإمام دائماً بغير واسطة.
2- وقسم منهم لم يرو عن إمام أصلاً إلا بالواسطة لعدم دركه أزمنة الأئمة (علیهم السلام) أو عدم روايته عنهم.
3- وقسم منهم له روايات عن الإمام بلا واسطة وروايات عنه بواسطة غيره فالذي يذكره الشيخ في باب من روى عن أحدهم (علیهم السلام) تارة, وفي باب من لم يرو عنهم أخرى يشير بذلك إلى حالتيه ..) (1)
ويجاب عنها بوجوه:
الأول: مضى أن ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) أن من كانت له رواية واحدة بالمباشرة لزم ذكره في القسم الأول فحسب أي باب من روى عن احدهم (علیهم السلام) وان كانت له روايات بالواسطة أما باب من لم يرو فالمذكور فيه من كانت تمام روايته بالواسطة.
الثاني: لازم هذه الفرضية أن يعد جل أصحابهم
(علیهم السلام) -إنْ لم نقل كلهم- في من لم يرو عنهم لأنهم كذلك رووا عن غيرهم من باقي أصحابهم(2).
ص: 294
الغفلة والمسودة, وعدم تفطنه للاتحاد كما مضى.
ويبدو أن الصحيح هو نفس ما ذكرناه في الناحية الأولى.
أورد الشيخ (قدس سره) في عدة موارد بعد ذكر شخص في أصحاب الباقر والصادق والكاظم والرضا والهادي (علیهم السلام) وصفاً بجملة (اسند عنه) وقد اختلف في المراد فيها وفي هيئتها فقرئت بصيغة المعلوم وأخرى بصيغة المجهول, وكذا اختلف في أنها مدح أو ذم, ونحن سنذكر في جملة واحدة المهم من الفرضيات التي قيلت في بيان المقصود منها, وكذا ما قيل بإفادة بعض هذه الفرضيات المدح أو الذم تجنباً عن التكرار.
تقرأ الجملة بصيغة المعلوم ويكون الضمير في (عنه) راجعاً إلى المعصوم (علیه السلام) ويكون المراد منها أن من قيلت في حقه قد روى عن المعصوم (علیه السلام) مع الواسطة فهو من أصحاب الرواية بالإسناد, وذهب إليها المحقق الداماد في رواشحه(1) وتبعه آخرون, ولما اختلف في فهم كلامه فالمناسب ذكره لنرى المقصود منه, قال (...قد أورد الشيخ في أصحاب الصادق (علیه السلام) جماعة جمة أنما روايتهم عنه (علیه السلام)
بالسماع من أصحابه الموثوق بهم, والأخذ من أصولهم المعول عليها, ذكر كلاً منهم وقال: (اسند عنه) فمنهم من لم يلقه ولم يدرك عصره (علیه السلام) ومنهم من أدركه ولقبه ولكن لم يسمع منه رأساً أو إلا شيئاً قليلاً).
وقد ذكر فهمان لكلامه هذا:
ص: 295
الأول: أن أصحاب الرواية بالإسناد تمام روايتهم عن المعصوم بالواسطة.
الثاني: أن لهم روايات بالواسطة وأخرى بالمباشرة.
والصحيح هو الفهم الأول لمكان الحصر وتوصيفهم بأنهم لم يلقوا الإمام ولم يسمعوا عنه فضلاً عمن لم يدرك عصره (علیه السلام) . وأما قوله (أو الا شيئاً قليلاً) فهو ملحق كما يومئ إليه كلامه.
أياً كان فقد ذكر السيد الخوئي (قدس سره) (1) أن هذا المعنى هو الظاهر في نفسه وهو الذي تعارف استعماله فيه فيقال: روى الشيخ الصدوق بإسناده عن حريز مثلاً, ويراد به انه روى عنه مع الواسطة.
ولكن هذه الفرضية ليست تامةً من وجوه:
الأول: ظهر مما سبق أن القسم الأول لذكر من يروي عن أحدهم بالمباشرة ولو رواية واحدة أما من تكون جميع روايته عنهم (علیهم السلام) مع الواسطة فمكان القسم الثاني لا الأول, ولو تنزلنا وقلنا أن من يذكر في القسم الأول ويوصف بجملة اسند عنه تكون بعض روايته بلا واسطة وبعضها مع الواسطة أو قلنا جميع روايته مع الواسطة فانه يلزم الأول ذكر هذا الوصف لكثير من الرواة إذ لهم روايات مع الواسطة وأخرى بدونها, وأما الثاني فهو يتنافى مع كون عدد من هؤلاء له روايات كثيرة بالمباشرة كالحسين بن أبي حمزة الليثي والحسين بن عثمان شريك وغيرهم.
الثاني: ساوى الشيخ بين تعبير الإسناد والرواية في بعض هذه الموارد كجابر بن يزيد الجعفي ومحمد بن إسحاق إذْ قال (اسند عنه وروى عنهما) أي الباقر والصادق (علیهما السلام),
ص: 296
وقد يقال أن مثل هؤلاء لهم روايات مع الواسطة وأخرى بدونها, ولذا عبر الشيخ هكذا, أما من وصفه بجملة اسند عنه فقط فجميع روايته مع الواسطة, إلا أن هذا التفكيك لم يذهب إليه احد ويظهر الجواب عنه بما ذكرنا.
تُقرأ بالمجهول ويكون الضمير في (عنه) راجع إلى الراوي ويكون المراد منها أن صاحب الترجمة قد روى عنه الشيوخ واعتمدوا عليه فيكون بمنزلة التوثيق وذهب إليه العلامة محمد تقي المجلسي (قدس سره) كما في فوائد الوحيد البهبهاني(1) المطبوعة في آخر رجال الخاقاني.
ولكن ما أفاده لا يمكن المساعدة عليه.
أما من جهة المقصود من هذه الجملة فلأنه:
1- لا توجد قرينة تعين هذه القراءة والمعروف انه إذا دار الأمر في لفظ بين قرائتين أحدهما أخف على اللسان من الأخرى فان بناء أبناء المحاورة على القراءة الأخف ما لم تكن قرينة على الثانية, ومن الواضح أن صيغة المعلوم أخف على اللسان من صيغة المجهول حتى قيل أنها ظاهر اللفظ في نفسه.
2- يلزم ذكر هذا الوصف للكثير من أصحاب الصادق (علیه السلام) وغيره لانطباق هذا المعنى أي ممن روى عنه الشيوخ فلماذا خصه بهؤلاء دون غيرهم.
وأما من جهة أنها كالتوثيق ففي إفادتها التوثيق احتمالان:
الأول: إن وصف (الشيوخ) للذين رووا عمن وصف بجملة (اسند عنه) يفيد المدح أو التوثيق لهم كما هو احد الأقوال فيه, وبالتالي يكون توثيقاً من معلوم الوثاقة
ص: 297
وان كان مجهول الشخص.
الثاني: إن من وصف بجملة (اسند عنه) روى عنه الشيوخ حتى ظهرت واتضحت وثاقته لبعد اتفاقهم الاعتماد على من ليس بثقة أو بعد الاتفاق على كون جميعهم ليسوا بثقات .
وكلا الاحتمالين لا يفيد التوثيق:
أما الأول فلعدم إفادة وصف الشيخ المدح أو التوثيق من دون إضافة كشيخ الطائفة مثلاً مضافاً إلى أن أهم الاتجاهات في إفادة اعتماد الشيخ على شخص والرواية عنه التوثيق أو المدح هي:
أما انه لا يفيد التوثيق أو المدح أصلاً أو يفيده لكن إذا حُمِلَ هذا الشيخ على بعض الخصوصيات ككونه يشترط وثاقة المروي عنه أو يطعن في الرواية عن المجاهيل وأنى لنا أثبات هذه الخصوصيات لهؤلاء الشيوخ مع كون أشخاصهم مجهولة لنا .
وأما الاحتمال الثاني فهو يقتضي معروفية ومشهورية الموصوفين بجملة اسند عنه مع أن بعضهم من المجاهيل وغير المعروفين.
ذكر المحقق التستري: (.. وحققنا أن المراد به –أي اسند عنه– الراوي الذي ينتهي السند إليه بلا شريك له, ويأتي في عنوان مسلم بن خالد..)(1) .
وفي ج10 (2) في عنوان مسلم بن خالد (...أقول: روى الكنجي الشافعي ميلاد أمير المؤمنين
(علیه السلام) بإسناده قائلاً تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ) وذكر أيضاً (...ولابد أن مراد الشيخ في الرجال بقوله (اسند عنه), احد أخباره) .
ص: 298
ومحصله: أن مراد الشيخ بقوله (اسند عنه) أي روي عنه احد الأخبار التي تفرد بها ولم يروها غيره, ومن البعيد أن يكون مقصوده التفرد بالسند بل التفرد بالرواية.
لكن في ج9(1) قال: (...ثم يمكن أن يكون مراد الشيخ في الرجال بقوله (اسند عنه) رواية العامة...) .
أقول: في مجموعة كلماته هذه احتمالات:
1- أن نحمل بعضها على بعض فيكون مقصوده أن من وصف بجملة (اسند عنه) روى العامة عنه حديثاً أو أحاديث تفرد بها.
2- انه عدول عما ذكره في ج1 إلى ما ذكره في ج9, وعندما جاء ج10 نسي ما ذكره في ج9.
3- تذبذب بين ما ذكره في ج1 وج10 وما ذكره في ج9.
1- ما ذكره في ج9 كان مجرد احتمال بقرينة قوله: (ثم يمكن) وأما ما يراه فهو ما ذكره في ج1 وج10.
أياً كان فقد ظهر أن صيغة المجهول أثقل من صيغة المعلوم, ثم أن ما ذكره من قرائن سواء في ترجمة مسلم بن خالد أو في ترجمة محمد بن مروان لا تحصِّل الاطمئنان بهذه الفرضية في هذين العنوانين فضلاً عن جميع من وصف بجملة (اسند عنه).
تُقرأ بصيغة المعلوم ويرجع الضمير في (عنه) إلى الراوي, وفاعل اسند هو احمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة, وهذا يعني أن هذا الراوي ذكره ابن عقدة في رجاله الموضوع لذكر أصحاب الصادق (علیه السلام) .
ص: 299
فقد ذكر العلامة في الخلاصة(1): (له كتب ...منها: كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق (علیه السلام) أربعة آلاف رجل واخرج لكل رجل الحديث الذي رواه).
وهذا المقدار في تفسير هذه الجملة اتفق عليه المحدث النوري(2),ومعاصره السيد الصدر(3) الذي ذكر بياناً في مقدمات أربع كان نتيجتها هذا التفسير.
ولكن ذهب الثاني إلى أنها – أي هذه الجملة – لا تفيد المدح والتوثيق, أما الأول فذكر أن كتاب ابن عقدة هذا موضوع لذكر الثقات من أصحاب الصادق (علیه السلام), ولما كان من مصادر الشيخ (قدس سره) كما في مقدمته فقد أورد كل شخص ذكره ابن عقدة في كتابه ووصفه بجملة (اسند عنه) فيكون موثقاً بتوثيق ابن عقدة.
وهذا الذي ذكر لا يمكن الاعتماد عليه, أما من جهة المقصود بهذه الجملة فانه:
1- لا قرينة على كون فاعل اسند هو ابن عقدة, وذكر الشيخ إياه في المقدمة لا يسوغ الرجوع إليه كما هو واضح.
2- من وصفهم الشيخ بهذه الجملة في أصحاب الإمام الصادق لا يزيد عددهم عن (305) شخص, والحال أن كتاب ابن عقدة كما وصفه الشيخ في المقدمة قد بلغ الغاية في ذلك ولم يكن من المختصرات,وظاهر الشيخ انه يذكر جميع من ذكرهم ابن عقدة, وهذا يعني أن عددهم أكثر من ذلك بكثير.
وقد أجيب كما في نهاية الدراية أن من ذكرهم الشيخ هم من كانت روايتهم عن الصادق (علیه السلام) مسنده من ابن عقدة, وأما البقية من أصحاب (علیه السلام) فلم يرو عنهم ابن
ص: 300
عقدة في كتابه بل أورد رواياتهم مرسلة.
وهذا الجواب ليس بتام, إذ من أين لنا العلم أن ابن عقدة هكذا صنف كتابه أي ذكر فيه روايات مرسلة وأخرى مسندة منه, فضلاً عن انه ذكر في ترجمته انه روى جميع كتب أصحابنا وصنف لهم وذكر أصولهم وكان حفظةً, ويُحكى عنه انه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها واذاكر بثلاثمائة ألف حديث, ومع هذا لم تكن له روايات مسنده إلا عن هذا العدد المحدود من أصحاب الصادق (علیه السلام), فهذا مطمئن بل مقطوع بخلافه.
وأما من جهة افادتها التوثيق: فانه لا دليل على تخصيص ابن عقدة رجاله هذا بذكر الثقات من أصحاب الصادق (علیه السلام) وسيأتي ذكره في البحث المعقود للجرح والتعديل في رجال الشيخ (قدس سره) .
تُقرا بصيغة المعلوم ويكون فاعل (اسند) هو الراوي, والضمير في (عنه) يرجع إلى الإمام, ويكون المقصود أن هذا الراوي روى عن الإمام حديثاً أو ازيد مسنداً إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أو الإمام علي (علیه السلام). حكى هذه الفرضية وأوضحها السيد الأستاذ دامت بركاته عن مجلس سيد مشايخنا السيد السيستاني مد ظله(1) .
والدليل على تمام هذه الفرضية يتألف من مقدمات ثلاث:
وهي من شقين:
أ- قرائتها بصيغة المعلوم وان فاعل أسند هو الراوي ورجوع الهاء في عنه إلى الإمام, وقد مضى ما يؤيد ذلك.
ص: 301
ب- استعمال هذا التعبير في اسند عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أو الإمام علي (علیه السلام) .
ذكر السيد الأستاذ دامت بركاته(1): أن الفعل (اسند) متعدياً بحرف الجر (عن) مما يتداول استخدامه في كلمات الجمهور والذي لاحظته بالتتبع أنه على ثلاثة أنحاء:
النحو الأول: أسند فلان عن فلان ويراد به روى عنه بالمباشرة ومن هذا القبيل ما ورد بشان صحابة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كقولهم ( اسند عبد الله بن زيد عن رسول الله هذا الحديث).
النحو الثاني: أسند فلان عن فلان ويراد به أنه روى عنه مسنداً لا مرسلاً وذلك حينما يكون بينهما فاصلة بطبقة أو أزيد كقولهم (اسند البخاري ومسلم عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ).
النحو الثالث: أسند فلان عن فلان ويراد به روى عنه حديثاً أو أكثر مسنداً إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أو إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) أو إلى بعض الصحابة. ولعل من ذلك قول بعضهم ولا اعلم أحداً من رواة الموطأ عن مالك اسند عنه هذا الحديث) ويقصد حديث (لا يمنع نقر بئر) فانه قد ورد هذا الحديث في الموطأ عن عمرة بنت عبد الرحمن عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو مرسل لان عمرة لم تدرك النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) .
هذا المعنى – أي الرواية عن الإمام مسنداً إلى النبي أو الإمام علي – حاصل في جملة ممن وصف بعبارة (اسند عنه) من قبيل محمد بن الإمام الصادق ومحمد بن ميمون التميمي الزعفراني, وحفص بن غياث, ومحمد بن مسلم بن رباح وغياث بن ابراهيم الاسدي, وموسى بن ابراهيم المروزي ويزيد بن الحسن وآخرين.
ما اتضح في المقدمتين يحتمل أن يكون هو مقصود الشيخ من تعبير (اسند عنه) ويحتمل أن يكون اتفاقاً وصدفة, وهنا نعتمد حساب الاحتمالات إذ كلما
ص: 302
ازداد العدد بالقياس إلى 361 كان استبعاداً للصدفة وفي جنب هذه الفرضية والعكس بالعكس, وهذا يحتاج إلى استقصاء ومتابعة.
ذكر السيد الأستاذ دامت بركاته أن هذه الفرضية هي الأحرى بالقبول وان كان يصعب الاطمئنان إليها أيضاً أي كباقي الفرضيات.
وصف الشيخ في رجاله بعض الرواة ب-(المجهول) فما مقصوده منه ؟
وصف المجهول له معنى لغوي وآخر اصطلاحي, ويوصف به الخبر والراوي.
وهذا الوصف مر بمراحل وإطلاقات(1) والمهم معناه عند الشيخ في رجاله, والاحتمالات ثلاثة:
الأول: مجهولية الصحبة أو الرواية.
لا يمكن قبوله, أما كونه مجهول الصحبة فيستلزم أنه مجهول الرواية بالمباشرة إذ نفي الأعم يستلزم نفي الأخص فلا يصح ذكره في القسم الأول, وأما كونه مجهول الرواية بالمباشرة فانه لا يكفي لذكره في القسم الأول إذ ظاهر كلام الشيخ احراز الرواية بالمباشرة, زيادة على أنه صرّح في مثل هذه الموارد انه لم يرو عن الإمام أو لا يعلم انه يروي عنه فما المبرر لاختلاف التعبير؟
الثاني: مجهولية الحال من غير الوثاقة والضعف والصحبة والرواية.
ويرده أن الأحوال الأخرى غير الطبقة ليست مقصودة للشيخ في هذا الكتاب إلا للتعيين والتمييز, وبعض من الموصوفين بهذا الوصف متعين بالمقدار نفسه المذكور لتعيين كثير من أوردهم الشيخ (قدس سره) في رجاله, فلماذا أشار إلى ذلك في خصوص هؤلاء دون غيرهم.
ص: 303
مضافاً إلى ان من المطمئن به أن معظم الذين أوردهم في كتابه لا يعرف أحوالهم فلماذا لم يصفهم بهذا الوصف.
الثالث: المجهولية من جهة الوثاقة والضعف فيكون احد ألفاظ الجرح والذم. واختاره المحقق التستري (قدس سره) والسيد الأستاذ دامت بركاته(1).
وقد يقال أن ألفاظ الجرح والتعديل مع إفادتها تينك الصفتين فأنها قد تفيد حيثيات أخرى وهنا نسأل: لماذا عبَّر بهذه الكلمة دون بقية التعابير والتي هي أكثر استعمالاً في هذه الموارد وماذا يحوي هذا التعبير؟
أجاب السيد الأستاذ دامت بركاته انه لا يبعد إن يكون المراد ب-(المجهول) هو الذي تتضارب بشأنه مؤشرات الوثاقة والضعف ولذلك لا يمكن البناء على وثاقته ولا على ضعفه أي من المؤكد إن الشيخ لا يعرف كثيراً ممن أوردهم في كتابه وبهذا يندفع ما قد يقال إن الجهل بالوثاقة والضعف كالجهل بالأحوال الأخرى فلماذا خص هؤلاء بهذا الوصف دون غيرهم.
والفارق بين الاحتمال الثاني والثالث ان الأخير يصلح للمعارضة فيما إذا ورد توثيق للموصوفين بالمجهول دون الثاني.
ص: 304
رجال الشيخ موضوعه طبقات الرواة وليس الجرح والتعديل إلا أنه ذكر أحياناً ما يتعلق به, وحاول البعض استفادة ذلك من تعابير ليست ظاهرة في الجرح والتعديل كجملة (اسند عنه) و(مجهول) وبعض آخر حاول استفادة توثيق عام لأصحاب الصادق (علیه السلام) وما يمكن إن يطرح في هذه الجهة الخاصة بالجرح والتعديل أبحاث:
الأول: في ألفاظ الجرح والتعديل التي وردت في كتاب الرجال هذا ودلالاتها وما يتعلق بها ولكن لما لم يكن للشيخ في رجاله أو بقية كتبه اصطلاح خاص في ألفاظ الجرح والتعديل فلا يصلح أن يكون بحثاً خاصاً برجاله أو مبدءاً مشتركاً لمصنفاته الرجالية بل هو من المباحث العامة لعلم الجرح والتعديل, ولعل المناسب أن يذكر معجماً تعدد فيه هذه الألفاظ ويبحث عن دلالاتها وحدودها.
الثاني: في اعتبار توثيقات الشيخ وتضعيفاته, وهذا البحث لعل المناسب ذكره في عموم المعلومة الرجالية المستفادة من الشيخ سواء كانت في الجرح والتعديل أو الطبقة أو تمييز المشتركات أو غيرها, ويذكر معه حيثيات أخرى من قبيل ان اخباره عن حس أو حدس وغيرها فيكون بحثاً عاماً ومبدءاً مشتركاً يتطرق له قبل الدخول في خصوصيات مصنفاته الرجالية الثلاثة.
الثالث: وثاقة جميع أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) في رجال الشيخ.
إلى غيرها من الأبحاث.
ص: 305
ويقع الكلام في هذا الفصل عن وثاقة أصحاب الأمام الصادق (علیه السلام) في رجال الشيخ, ويمكن أن يذكر لذلك وجهان:
ويتألف من مقدمتين:
الأولى: كتاب الرجال لابن عقدة والذي ذكر فيه من روى عن أبي عبد الله (علیه السلام) يشتمل على (4000) راو جميعهم ثقات.
الثانية: أصحاب الصادق في رجال الشيخ ليس إلا المذكورين في كتاب ابن عقدة لا غير.
فتكون النتيجة ان أصحاب الصادق ثقات بتوثيق ابن عقدة.
دليل المقدمة الأولى كلام الشيخ المفيد (قدس سره) في الإرشاد وتفسير ابن شهر آشوب في المناقب له من انه يقصد كتاب ابن عقدة هذا, ويجدر الالتفات إلى إن كلام ابن شهر آشوب يمكن أن يكون في نفسه – لا من جهة انه تفسير لكلام المفيد – دليلاً على هذه المقدمة فان توثيقاته وتضعيفاته عن حس لا عن حدس كما ذكر ذلك السيد الخوئي (قدس سره) .
ودليل المقدمة الثانية ما ذكره الشيخ في مقدمته إذ قال (...وأنا اذكر وأورد بعد ذلك ما لم يذكره ) وهو نص على ذكره في باب أصحاب الصادق (علیه السلام) جميع ما في رجال ابن عقدة, وقوله: (أورد بعد ذلك ...) أي من رجال باقي الأئمة (علیهم السلام) (1).ولكن لا يمكن المساعدة على كلتا المقدمتين:
أما الأولى فقد تكفلت اثبات:
ص: 306
1- أن الشيخ المفيد يقصد من كلامه ابن عقدة ولذا فسره في المناقب بذلك.
2- أن ابن شهر آشوب يخبر بذلك بقطع النظر عن كونه تفسيراً لكلام الشيخ المفيد وهو محتمل الإخبار الحسي في حقه.
3- أن رجال ابن عقدة متوفر على أمرين: العدد وهو (4000) راو, ووثاقتهم جميعاً.
أما الأول فلا دليل عليه.
وأما الثاني فليس إلا حدساً واجتهاداً من ابن شهر آشوب بشهادة إن الشيخ لم يذكر هذا العدد مع إن المناسبة تقتضي ذلك جداً إذْ وصف المصنفات الرجالية لأصحابنا بالمختصرات إلا كتاب ابن عقدة فانه بلغ الغاية فكان ذكر العدد مناسب جداً خصوصاً إذا كان بهذه المعروفية التي ادعى إشارة المفيد إليها وتصريح ابن شهر آشوب بها.
مضافاً إلى إن النجاشي مع انه أكثر النقل عن ابن عقدة لم يشر إلى هذا الأمر فضلاً عن أنهم لم يذكروا ذلك في ترجمة ابن عقدة.
وأما الثالث والذي هو بعد التنزل عن الأولين فانه لا يمكننا الوثوق بهذه الدعوى, أما العدد فان ما ذكر في رجال الطوسي لا يزيد على (3236) على أكثر التقارير – بل في الفائق في أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) للشبستري والذي جمع حتى غير المذكورين في رجال الشيخ فلا يزيد العدد عن (3759) – مع أن من مصادره رجال ابن عقدة مع زيادات ابن نوح عليه التي وصفها النجاشي بالمستوفى(1), والشيخ
ص: 307
في الفهرست(1) انه زاد على ما ذكره ابن عقدة كثيراً ومصادر أخرى كثيرة فهو بمثابة جمع الجوامع في ذلك, وتعهد الشيخ في المقدمة بالاستيفاء وبذل الجهد بحيث لا يشذ إلا النادر فكيف يكون عدد رجال ابن عقدة (4000)؟ بل هو أقل من هذا بكثير.
أما بالنسبة للوثاقة فالمقصود أما أن جميع أصحاب الصادق هم (4000) وجميعهم ثقات, وأما أنهم أكثر من ذلك لكن الثقات منهم (4000).
ويرد على الأول أنَّ الشيخ ضعّف ووثق بعض المذكورين في أصحاب الصادق (علیه السلام) وهذا لا ينسجم مع بنائه على إن المذكورين جميعهم موثقون بتوثيق ابن عقدة إذ المناسب اكتفائه بتوثيق ابن عقدة وعدم وجود ضعيف بينهم.
وعلى الثاني لا فائدة منها بعد عدم وجود ما يشخص الثقات منهم.
فالحاصل إن المقدمة الأولى لا يمكن قبولها.
وأما المقدمة الثانية فحق العبارة هكذا (فانا ما ذكر ابن عقدة من رجال الصادق (علیه السلام), وأورد من بعد ذلك ما لم يورد ابن عقدة).
قوله (من بعد ذلك) ضمير ذلك إلى ماذا يرجع بحسب القواعد العربية؟
إما يرجع إلى البعيد لأنه اسم إشارة للبعيد, أو يرجع إلى مصب الكلام ومحوره, وكلام المحدث النوري يتم إذا رجع إلى رجال الصادق (علیه السلام) والحال انه قريب لا بعيد, كما إن مصب الكلام يناسب أن يكون هكذا (وأورد من بعد ما ذكره ما لم يورده) شاملاً لأصحاب الصادق (علیه السلام) وغيرهم.
وعليه ما رامه المحدث النوري (قدس سره) ليس صحيحاً.
ص: 308
ما ذكره الحر العاملي (قدس سره) في أمل الآمل كما في المستدرك(1), ويتألف من مقدمتين:
الأولى: أخذ كلام المفيد في نفسه ومن دون إرجاعه إلى انه يريد كتاب ابن عقدة فيكون مقصوده إن الثقات من أصحاب الصادق (علیه السلام) (4000) أما أنهم تمام أصحابه أو بعضهم فمسكوت عنه.
الثانية: الموجود في رجال الشيخ أقل من هذا العدد بل حتى مع إضافة المذكورين في المصادر الأخرى كما نقلناه عن الفائق.
فتكون النتيجة أن تمام أصحاب الصادق (علیه السلام) هم ذاك العدد بذاك الوصف. وهذا الوجه أيضاً ليس بتام.
أما بالنسبة للمقدمة الأولى فيأتي فيها ما ذكرناه بالنسبة للوثاقة في الوجه الأول.
وأما بالنسبة للمقدمة الثانية فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود, كما إن ظاهر عبارة المفيد أن العدد أكثر من (4000) لكن الثقات منهم (4000) وفي أعلام الورى ان الأربعة ألآف هؤلاء من مشهوري أهل العلم لا مع غير المشهورين.
فالحصيلة النهائية انه لا دليل على وثاقة أصحاب الصادق (علیه السلام) في رجال الشيخ.
ص: 309
وههنا جهات ثلاثة:
الأولى: ذكر المحقق التستري(1) (قدس سره) وآخرون إنه لم يصل إلينا شيء من رجال الشيخ وفهرسته وفهرست النجاشي نسخة مصححة, نعم وصلت إلى ابن طاووس والعلامة وابن داود بل صرح الأخير في مواضع بكون الفهرست ورجال الشيخ عنده بخط الشيخ, وأما بعدهم فلا حتى زمن التفرشي والميرزا بدليل اختلافهم في النقل عنها ووو...
والاطلاع على النسخ الخطية لرجال الشيخ وغيره يحتاج إلى متابعة الفهارس الخاصة بالمخطوطات, وبالنسبة لرجال الشيخ كان أقدم مخطوطة يرجع تاريخها إلى 533 ﻫ, وقد اعتمدت في تصحيح المطبوع أخيراً من كتاب الرجال.
الثانية: المصادر التي توفرت على كتاب الرجال مما يمكن عدّها نسخاً للكتاب هي على الإجمال الخلاصة والإيضاح ورجال ابن داود ومنهج المقال ونقد الرجال.
بالالتفات إلى ما ذكرناه عن القاموس يكون ما اتفق عليه العلامة وابن داود هو الأصل والصحيح كما صرح به حتى لو كانت نسخنا خالية عنه, أما ما لم يذكر في كلامهما ونقله المتأخرون كمنهج المقال والنقد عن الشيخ فلا عبرة به, هذا كله إذا لم يدل دليل من الخارج على الخلاف.
ص: 310
ولكن لابد من إثبات أن النسخ المصححة وصلت إلى العلامة وابن داود ولم تصل إلى ما بعدهما ؟
أما ابن داود فقد صرح مراراً إن رجال الشيخ وفهرسته كانت عنده بخط الشيخ نفسه, أما العلامة فنحتاج إلى متابعة أكثر ليست وقتها الآن.
أياً كان فيمكن إن يقال:
بالنسبة لمنهج المقال ونقد الرجال فصحيح إن طول المدة المفضية إلى نسخ الكتاب وما يرافق النسخ من الخطأ والوهم وتصرف النساخ يجعل احتمال الخطأ في النسخ الواصلة إليها اكبر من تلك الواصلة إلى ابن داود والعلامة, ولكن هذا لا يمنع وصول النسخ التي اعتمد عليها العلامة وابن داود بل وقبلها أيضاً كما في وصول النسخة المخطوطة المشار إليها إلينا.
مضافاً إلى إن الفاصلة بين الخلاصة ورجال ابن داود وبيننا طويلة جداً مما يجعل نسخها في أنفسهما عرضة للخطأ وتصرف النساخ, نعم إذا وصلت إلينا بخطهما كان لما ذُكر مجالاً.
فالصحيح إن المنهج فيما اختلفوا فيه هو حساب الاحتمالات وملاحظة القرائن حتى يحصل الوثوق بأحد الاحتمالات, نعم ما في النسخة المخطوطة والخلاصة ورجال ابن داود أكثر قيمة احتمالية لا أنها تقدم مطلقاً .
الثالثة: الاختلاف بين النسخ بالزيادة والنقيصة لا تعني تصرف النساخ وإسقاطهم بل هذا احد الاحتمالات في المسألة, وأما الاحتمال الأخر وهو قوي في رجال الشيخ وفهرسته إن هذه الزيادات من إضافات الشيخ أو ابنه أو احد تلامذته بعد الانتهاء من تأليفهما وانتشار نسخهما إذ الإضافة على الكتب بعد الانتهاء من تأليفهما آمر متداول بين
ص: 311
المؤلفين كما هو المشاهد الآن عند إعادة طبعات الكتاب, وقد بين ذلك السيد الأستاذ دامت بركاته فراجع(1).
ص: 312
أما بالنسبة لرجال الشيخ مع فهرسته فهنا احتمالان:
الأول: تزامنهما في التأليف بدليل الإرجاع في الرجال إلى الفهرست الكاشف عن تقدم الفهرست, وذكره لكتاب(1) الرجال في الفهرست المستدعي لتقدم الرجال ورفعاً للتناقض يصار إلى التزامن.
ويرد عليه احتمال أن ذلك الإرجاع وهذا الذكر هو من الإضافات اللاحقة عليهما إذ كما أشرنا إلى أن الإضافة على الكتب بعد الانتهاء من تأليفها أمر متداول بين المؤلفين, ولا يمكن البناء على أي من هذين الاحتمالين إلا بمرجح مضافاً إلى ذلك ما سنذكره في الاتجاه الثاني من الاحتمال الثاني. فهذا الاحتمال لا يمكن قبوله.
الثاني: تأخر الرجال عن الفهرست, وهنا اتجاهان:
احدهما: تأخر الرجال بالجملة أي بكل ما ورد فيه عن الفهرست واختاره كثيرون والدليل عليه الإرجاع المذكور.
ويرد عليه:
1- ما ذكرناه في الاحتمال الأول من أنه ذكر كتاب الرجال في الفهرست, فلا يتم ما رامه إلا بإثبات إن هذا الذكر من الإضافات اللاحقة على الفهرست وسيأتي في الاتجاه الثاني.
ص: 313
2- يحتمل أن هذه الإرجاعات مما أضافه الشيخ لاحقاً كما في خاتمة مشيخة التهذيب إلى الفهرست مع أن من المقطوع به أن الفهرست متأخر عن التهذيب.
ثانيهما: تأخر الرجال في الجملة عن الفهرست واختاره السيد الأستاذ دامت بركاته(1). فههنا دعويان: أصل التأخر, وأنه في الجملة لا بالجملة.
أما أصل التأخر فلما ذكره الشيخ (قدس سره) في ترجمة زرارة بن أعين في الفهرست(2) إذ قال: (ولهم أيضاً روايات عن علي بن الحسين والباقر والصادق (علیهم السلام) فذكرهم في كتاب الرجال إن شاء الله تعالى) فان هذه العبارة واضحة الدلالة على انه لم يكن قد ألف كتاب الرجال آنذاك وإنما كان من قصده تأليفه لاحقاً.
أقول: هذه العبارة كما تحتمل ما ذكر تحتمل أيضاً أن كتاب الرجال موجود ولكن الفعل المضارع وان شاء الله أنما لذكرهم فيه, ولكن مع ذلك بملاحظة تجميع القرائن يحصل الوثوق إن الرجال في الجملة متقدم وهي بالإضافة إلى ما ذكر من أصل الإرجاع وما في ترجمة زرارة, كثرة الإرجاع في الرجال إلى الفهرست إذ بلغت 28 مرة وقد ذكر الإرجاع بالفعل الماضي.
وأما في الجملة فلأن الإضافة على الكتب بعد الانتهاء من تأليفها أمر متداول بين المؤلفين, وقد حصل للشيخ في كتبه كما بين ذلك السيد الأستاذ دامت بركاته(3).
وقد يقال ما الفائدة المرجوة من تحقيق أيهما المتأخر؟
الجواب انه عند تعارض المتقدم والمتأخر يقدم المتأخر أو يصار إلى التساقط على
ص: 314
المبنى في حجية قول الرجالي وبيانه:
إذا بنينا على إن حجية قول الرجالي من باب حجية رأي أهل الخبرة نظير الفتوى في الفقه, فلابد من الالتزام بتقديم المتأخر ولا عبرة بالمتقدم ولا يحكم بتساقطهما والرجوع إلى الغير.
أما إذا بنينا على أنه حجة من باب حجية خبر الثقة في الموضوعات فهنا صورتان:
الأولى: حصول الوثوق باشتباهه في خبره الأول, فهنا لابد من تقديم المتأخر بعد سقوط المتقدم عن الحجية للوثوق بأخطائه.
الثانية: عدم حصول هكذا وثوق, عندئذ يقع التعارض بين المتأخر والمتقدم.
إن قلت: التأخر الزماني يصلح إن يكون مرجحاً, فيقدم المتأخر.
قلت: عند مراجعة سيرة العقلاء التي هي الملاك في حجية خبر الثقة لا تعتبر التأخر الزماني مرجحاً بل تتحير فيهما وتراهما متعارضين.
أما إذا بنينا على انه حجة من باب حصول الوثوق والاطمئنان فلا يكفي التأخر الزماني بل المدار هو الوثوق والاطمئنان.
أما بالنسبة لرجال الشيخ مع اختياره.
فمع إن الشيخ (قدس سره) في فهرسته(1) ذكر الاختيار في عداد كتبه عند ترجمته لنفسه, وهذا يستدعي تقدمه على الفهرست فالرجال أو المزامنة في التأليف, إلا أنه من الواضح إن هذا من الإضافات اللاحقة للكتاب بشهادة أمور:
الأول: ما ذكره السيد ابن طاووس (قدس سره): (فأما ما ذكرنا عنه في خطبة اختياره
ص: 315
لكتاب الكشي, فهذا ما وجدناه: أملى علينا الشيخ الجليل الموفق أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي وكان ابتداء إملائه يوم الثلاثاء السادس والعشرين من صفر سنة 456 في المشهد الشريف الغروي على ساكنه السلام. قال: هذه الإخبار اختصرتها من كتاب الرجال لأبي عمرو محمد بن عبد العزيز واخترت ما فيها ...)(1) .
وهذا التاريخ يقرب من تاريخ وفاة الشيخ 460 فيكون تأليفه للاختيار في أخريات حياته.
ولكن هذا تاريخ إملاء الكتاب على تلامذته لا تاريخ تصنيفه, إلا أن يقال إن ما اختاره في هذا الإملاء يمثل تصنيفه له, وليس ببعيد.
الثاني: النجاشي(2) عند ترجمته للشيخ لم يذكره في عداد كتبه.
ولكن النجاشي لم يكن في مقام استقصاء كتبه بل ذكر بعضها كما هو صريح عبارته إذ قال (له كتب منها ...).
الثالث: كيفية اختيار الشيخ من أصل رجال الكشي, إذ انه حذف الطبقات وأسامي الكتب والمصنفات مما يفيد الظن الغالب أنه اعتمد في ذلك على الرجال والفهرست واقتصر في الاختيار على الجرح والتعديل.
ص: 316
يقيّم الكتاب من جهات متعددة:
منها: مؤلفه من حيث اختصاصه ورتبته في ذاك الاختصاص.
ومنها: مؤلفه من حيث مشايخه وأفكاره ورؤاها.
ومنها: مصادره من حيث النوع والكم.
ومنها ومنها ..
وشيخ الطائفة (قدس سره) مع موسوعيته وشموليته إلا أنه يحسب على الفقهاء والمتكلمين ويمثل هذا أحد مبررات عدم التزامه بالأساليب المنهجية والفنية في الحديث والرجال, كما أن البعض قدم النجاشي عليه عند المعارضة لمكان تخصصه – أي النجاشي – بالأنساب وتمحضه في علم الرجال, ولأجل اختصاص النجاشي ببعض الرجاليين كابن الغضائري, ولمكان اعتماد الشيخ على فهرست ابن النديم ورجال الكشي أكثر من النجاشي ووو.وليس هنا محل هذا البحث إذ انه يحتاج إلى تتبع واستقصاء وإنما مقصودنا الإشارة إلى هذه الجهة وما يترتب عليها من آثار.
والحمد كل الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على خير الخلق المصطفى وآله الطاهرين
تم الفراغ من تسويده في 8 شوال 1432 ﻫ
الذكرى الأليمة لتهديم قبور أئمة البقيع (علیهم السلام)
ص: 317
1- اكليل المنهج في تحقيق المطلب للشيخ محمد جعفر الخراساني الكلباسي (قدس سره), تحقيق السيد جعفر الحسيني الأشكوري.
2- تكملة الرجال للشيخ عبد النبي الكاظمي (قدس سره), تحقيق محمد صادق بحر العلوم (قدس سره), أفسيت مطبعة أنوار الهدى.
3- تنقيح المقال للشيخ عبدالله المامقاني (قدس سره), ط حجرية.
4- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال للعلامة الحلي (قدس سره), تحقيق جواد قيومي, نشر مؤسسة نشر الفقاهة.
5- رجال ابن داود, تحقيق السيد محمد صادق بحر العلوم (قدس سره), طبعة النجف الأشرف.
6- رجال الخاقاني, تحقيق محمد صادق بحر العلوم (قدس سره) .
7- رجال السيد بحر العلوم (قدس سره) طبعة النجف الأشرف.
8- رجال الشيخ الطوسي (قدس سره), طبعة: نشر مكتبة الكتبي, النجف الأشرف, تحقيق السيد محمد صادق بحر العلوم (قدس سره), وطبعة: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين, تحقيق جواد قيومي.
9- رجال الكشي (قدس سره), تحقيق مصطفوي, طبعة القاهرة.
10- رجال النجاشي (قدس سره) تعليق السيد موسى الشبيري الزنجاني, طبعة مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
11- الرواشح السماوية في شرح الاحاديث الامامية للعلامة المير محمد باقر الحسينى المرعشي الداماد (قدس سره), طبعة دار الحديث.
ص: 318
12- سماء المقال لابي الهدى الكلباسي (قدس سره), تحقيق السيد محمد الحسيني القزويني, طبعة مؤسسة ولي العصر للدراسات الاسلامية.
13- شرح مناسك الحج للسيد محمد رضا السيستاني دامت إفاداته, الطبعة الاولى النجف الأشرف.
14- عدّة الرجال للسيد محسن الحسيني الاعرجي الكاظمي (قدس سره), تحقيق مؤسسة الهداية لإحياء التراث.
15- فهرست الطوسي (قدس سره), طبعة: المكتبة المرتضوية في النجف الأشرف تحقيق السيد محمد صادق بحر العلوم (قدس سره), وطبعة: مؤسسة نشر الفقاهة تحقيق الشيخ جواد قيومي.
16- قاموس الرجال للمحقق التستري (قدس سره), طبعة مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
17- كليات في علم الرجال للشيخ جعفر السبحاني, طبعة مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
18- مجلة تراثنا.
19- مجمع الرجال للقهبائي (قدس سره), تصحيح وتعليق السيد ضياء الدين الشهير بالعلامة, طبع اصفهان 1384ﻫ.
20- مستدرك وسائل الشيعة للشيخ النوري (قدس سره), نشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.
21- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره), الطبعة الثانية في النجف الأشرف, والطبعة الخامسة.
ص: 319
22- مقدمة ترتيب أسانيد الكافي, تأليف محمود درياب النجفي .
23- مقدمة ترتيب أسانيد كتاب التهذيب, تأليف محمود درياب النجفي .
24- منتهى المقال لمحمد بن اسماعيل الحائري المازندراني, طبعة مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لتحقيق التراث.
25- المنهج الرجالي للسيد البروجردي (قدس سره)
للسيد محمد رضا الجلالي, طبعة دار الحديث.
26- منهج المقال للميرزا محمد بن علي الاستربادي تحقيق مؤسسة آل البيت.
27- نهاية الدراية للسيد حسن الصدر تحقيق ماجد الغرباوي.
28- وسائل الانجاب الصناعية للسيد محمد رضا السيستاني, طبعة دار المؤرخ العربي, الاولى 1425ﻫ.
ص: 320
للفقیه الأقدم الشیخ علی بن الحسین بن موسی بن بابویظ القمی
رضوان الله علیه المتوفی سنة 329 ﻫ.
و.. رسالة إلی ولده الشیخ الصدوق رحمة الله
و تمثل أقدم نصٍّ فقهي معتبر للإمامية الإثني عشرية
بقی إلی هذا العصر
تحقيق
الشيخ كريم مسير * الشيخ شاكر المحمدي
ص: 321
ص: 322
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد الله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الميامين.
وبعد, ستتعرَّف أخي القارئ الكريم في ما يأتي إليك من شرح مفصَّل – في هذه المقدّمة – على مطالب عدَّة, وقد جمعناها تحت أبواب ثلاثة, وهي كالآتي:
الباب الأول: سيرة المصنِّف (رحمة الله) .
الباب الثاني: دراسة عن الرسالة.
الباب الثالث: فيما يتعلَّق بالتحقيق.
وفيه مطلبان:
المطلب الأوّل: سيرته الشخصيّة.
المطلب الثاني: سيرته العلميّة.
ويتضمَّن:
أوّلاً: نسبه وكنيته وولادته.
ثانياً: أسرته وأولاده.
ثالثاً: عصره ومعاصروه.
رابعاً: وفاته.
ص: 323
هو عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه(1)، ويكنّى ب- (أبي الحسن)(2).
ويطلق عليه في كتب الحديث والرجال كلّ من العناوين التالية: (عليّ بن بابويه)(3)، و (عليّ بن الحسين بن بابويه)(4)، و (أبو الحسن ابن بابويه)(5).
يعبّر عنه مع ولده الشيخ الصدوق معاً ب- (ابني بابويه)(6)، و(الصدوقين)(7).
وأطلق عليه الشهيد الثاني (عليّ بن الحسين الصدوق بن بابويه)(8).
ووصفه المحقّق الداماد ب- (الصدوق) أيضاً(9).
اختلفت أنظار الأعلام فی تحدید سنة معینة لولادته، و من تتبع المصادر المتوفرة-القدیمظ منها والمتأخرة-التی عنیت بترجمته وجد أنها علی نحوین:
الاول: أنها لم تحدد تأریخاً معیناً لولادته، إما أنها ترکت التعرض لها بالأساس (10)،
ص: 324
أو أنها تعرضت لها من دون أن تحددها بالضبط(1).
الثانی أنها حدّدت - ولو التزاماً - سنة معینة لولادته، منها: أنها سنة (230 ﻫ) (2)، أو (260 ﻫ) (3).
تُعدّ أسرة (آل بويه) من الأسر العلميّة الشهيرة التي لها مقام اجتماعيّ كبير في مدينة قم المقدّسة، فضلاً عن تخصّص ذويها بالفقه والحديث، ووجود كثير من العلماء في الأسرة الواحدة هو ما دعا بعض العلماء المتتبّعين(4) إلى جمع أسمائهم وتعدادهم وذكر أحوالهم في رسالة مستقلّة خاصّة بهم.
وتعدّ هذه الأسرة من كبار البيوت العلميّة في تلك المدينة، كما أنَّ أولاد بابويه كثيرون جدّاً، كثيرٌ منهم علماء أجلاّء(5).
أمّا آباء الشيخ المترجَم له: فقد ذُكر أنَّ بابويه هو جدّ الأسرة الأعلى، وبين موسى – جدّ الشيخ – وبين بابويه أسامٍ كثيرة، وأمّا جدّه (موسى) فقد وُصف بأنّه من ثقات الرواة (6).
ص: 325
وأمّا أبوه (الحسين بن موسى)، فقد وُصف بأنّه من المشايخ الكبار(1).
ذكرت المصادر المتعدّدة أنّهم ثلاثة أولاد – يأتي ذكرهم –، كما ذكرت أنَّ ولادتهم – على ما يظﻫر من تلك المصادر – تمّت ببركة دعاء الإمام المهدي (علیه السلام) (2)، إذْ لم يكن للشيخ المترجَم له أولادٌ في ذلك الوقت، وكان قد قدم العراق، واجتمع مع أبي القاسم الحسين بن روح (رضوان الله علیه) وسأله مسائل، ثمَّ كاتبه بعد ذلك على يد عليّ بن جعفر بن الأسود، يطلب بمكاتبته أنْ يوصل له رقعة إلى الإمام المهدي (علیه السلام) يسأله فيها الولد، فكتب إليه (علیه السلام): (قد دعونا الله لك بذلك، وسترزق ولدين خيّرين)(3)
وأمّا أولاده الثلاثة فهم:
1 – أبو جعفر محمّد، المعروف باسم (الشيخ الصدوق) (ت 381 ﻫ)، ويعدّ حلقة الوصل بين عدد كبير من المشايخ الذين لقيهم وحمل عنهم، وبين العدد الكبير من الرواة الذين أخذوا عنه العلم والحديث(4)
2 – الحسن، وهو الأوسط، مشتغل بالعبادة والزهد، ولا يخالط الناس، ولا فقه له(5).
3 – أبو عبد الله الحسين، المعروف ب- (أبي عبد الله القمّيّ)(6), وهو أصغر أولاد الشيخ
ص: 326
المترجَم له.
ووصف الأوّل والثالث بأنّهما فقيهان ماهران في الحفظ، ومن دعائم العلم والدين.
قضى الشيخ المترجَم له أكثر زمان اشتهاره بالعلم في فترة حساسة من التاريخ، ولعلَّ أبرز ما فيها أنّها شهدت مسرحاً لأكبر حادثة ابتنت عليها واحدة من أهمّ عقائد الشيعة الإماميّة، التي كان لها أعمق الأثر في تاريخهم، ألاَ وهي غيبة الإمام الثاني عشر (علیه السلام) ؛ إذ إنَّ المترجَم له عاصر زمن الغيبة الصغرى, وقد كان له أثر فاعل في ملء الفراغ الحاصل بغيبة الإمام (علیه السلام)، من جوانب عدّة، ومنها جانب الغيبة نفسها، التي شهدت بروز مشاكل اجتماعيّة وفكريّة بين الطائفة، فتصدّى الشيخ علي بن الحسين للأزمة بحزم, هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: كانت تلك الفترة تشكّل بالنسبة إلى الشريعة فترة "تحديد النصوص"، وذلك بانتهاء عصر مصادر التشريع المباشرة – الأئمّة المعصومون (علیهم السلام) – وحلول موعد غيبة الإمام (علیه السلام) .
وقد أُرجع أمر الشريعة في هذه الفترة – التي زامنت عصر الغيبة الصغرى– إلى رواة الحديث، وقد تمّ نصبهم بصورة رسميّة بالروايات الكثيرة ومنها التوقيع الشريف الصادر عن صاحب الأمر (علیه السلام): (وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله)(1)، فكان لهم الاعتماد على اجتهادهم ومحاولاتهم الخاصّة لكشف الحكم الشرعيّ، وكان الشيخ ابن بابويه من روّاد هذه المهمّة، فقد كان من أعمدة الحديث، ومشايخ رواته، وثقات حملته .
ص: 327
بناءً على أنَّ ولادته لم تحدّد بالضبط – كما تقدّم آنفاً –، ومن المقطوع به أنّه عاصر زمان الغيبة الصغرى، التي غاب بها الإمام الحجّة (علیه السلام) سنة (260) ﻫ، وعيّن الوكلاء الأربعة نواباً خاصّين له، ووسائط بينه وبين الناس إلى سنة (329) ﻫ، عام انقطاع النيابة (السفارة الخاصّة)، وغاب غيبته الكبرى .
هذا وقد اتفق أصحاب التراجم على أن الشيخ ابن بابويه قد عاصر السفراء الثلاثة الأخيرين, وهم:
1 – أبو جعفر محمّد بن عثمان العمري (رضوان الله علیه) (ت 305 ﻫ).
2 – أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي (رضوان الله علیه) (ت 326 ﻫ).
3 – أبو الحسن عليّ بن محمّد السمري (رضوان الله علیه) (ت 329 ﻫ) (1).
وتعدّ طبقة الشيخ ابن بابويه هي بعينها طبقة الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني، وأحمد بن داود القمي, وأحمد بن جعفر بن سفيان البزوفري, وأحمد بن زياد بن جعفر الهمداني, وأحمد بن ابراهيم بن المعلى بن أسد, وأحمد بن محمد بن يحيى العطّار, والحسن بن علي بن أبي عقيل العماني, والشيخ أبي القاسم الحسين بن روح ثالث السفراء الأربعة (رضوان الله علیه), وعلي بن محمّد السمري رابع السفراء الأربعة (رضوان الله علیه), ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد, ومحمد بن عمر الكشي, ومحمد بن قولويه, ومحم بن مسعود العياشي, وأضرابهم(2).
ص: 328
يعدّ الشيخ ابن بابويه شيخ مشايخ المتقدّمين، وقدوة أهل الفقه والحديث أيضاً، وقد خالط اسمه في الحوزات العلميّة الشيعيّة بهذين العلِمين بفضل كتبه المعروفة التي سيأتي الإشارة إليها مفصّلاً.
ولوفاة الشيخ بن بابويه حديثٌ غريبٌ، ودلالة على عظم شأنه ومكانته لدى الناحية المقدّسة، فلا بأس بذكره على ما سطّره الشيخ الطوسي (قدس سره)، إذْ قال: (أخبرني جماعة عن أبي عبد الله الحسين بن بابويه، قال حدّثني جماعة من أهل قم، قالوا حضرنا بغداد في السنة التي توفّي بها أبي، عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه، وكان أبو الحسن عليّ بن محمّد السمري، يسألنا كلّ قريب، عن خبر عليّ بن الحسين .. حتّى كان اليوم الذي قبض فيه، فسألنا عنه؟ فذكرنا له مثل ذلك فقال لنا: آجركم الله في عليّ بن الحسين، فقد قبض في هذه الساعة، قالوا: فأثبتنا تاريخ الساعة واليوم والشهر، فلما كان بعد عشرين يوماً – أو ثمانية عشر يوماً – ورد الخبر أنّه قبض في ﻫذه الساعة التي ذكرﻫا الشيخ أبو الحسن (رضوان الله علیه) ..)(1).
وتسمّى السنة التي توفّي فيها الشيخ ابن بابويه ب- (سنة تناثر النجوم)؛ إذْ قُبض فيها كلّ من السفير الرابع عليّ بن محمّد السمري، وثقة الإسلام الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني – على رواية –، فضلاً عن الشيخ المترجَم له(2).
وقد ذكرت المصادر أنّه ختم حياته الكريمة بالسفر إلى بغداد سنة (328 ﻫ)، ورجع إلى مدينة قم المقدّسة، حيث مات في سنة (329 ﻫ)(3)، وقبره بها يزار إلى يومك هذا.
ص: 329
ويتضمّن:
أوّلاً: أساتذته ومشايخه.
ثانياً: تلامذته والرواة عنه.
ثالثاً: مرجعيّته الدينيّة، ومكانته العلميّة والاجتماعيّة.
رابعاً: مؤلّفاته.
خامساً: أقوال العلماء فيه.
يعدّ المترجَم له أوّل مَنْ نبغ واشتهر من أسرة بابويه، والمشهور أنه أوّل مَنْ سلك طريق الاستنباط من الروايات، وقام بتدوين الفقه على نمط جديد، فأخرج المسائل الفقهيّة من متون الروايات مع إيراد أسانيدها إلى صورة الفتوى فطلع لون جديد في الكتابة والفتيا، وهو الإفتاء بمتون الروايات مع حذف أسانيدها، والكتابة على هذا النمط مع إعمال النظر والدقّة في تمييز الصحيح من السقيم، فخرج الفقه – في ظاهره – عن صورة نقل الرواية، واتّخذ لنفسه شكل الفتوى المحضة.
وتأسّى به الآخرون وفي طليعتهم ولده الشيخ الصدوق (ت 381 ﻫ) في كتابي المقنع والهداية، ثمَّ الشيخ المفيد (ت 413 ﻫ) في كتاب المقنعة، وأعقبه شيخ الطائفة الطوسي (ت 460 ﻫ) في كتابه النهاية(1).
لقد كان الشيخ ابن بابويه مرموقاً لدى عامّة أهل قم المقدّسة، وفي طليعة
ص: 330
أعلامهم ذائعي الصيت الذين اقترنت أسماؤهم بآيات التعظيم والثناء(1).
تتلّمذ الشيخ ابن بابويه على مشايخ عدّة، وأساتذة الفقه والحديث، وروى عنهم، وإحصاؤهم يتوقّف على تصفّح أسانيد الأخبار، ومتون التراجم والإجازات، ونذكر منهم:
1 – محمّد بن الحسن الصفّار (ت 290 ﻫ)(2).
2 – أبو القاسم سعد بن عبد الله الأشعري (ت 299 أو 300 أو 301 ﻫ)(3).
3 – أبو عليّ أحمد بن إدريس الأشعري القمّي (ت 306 ﻫ)(4).
4 – أبو الحسن عليّ إبراهيم بن هاشم القمّي (كان حيّاً سنة 307 ﻫ)(5).
5 – أبو جعفر محمّد بن عليّ الشلمغاني، المعروف ب- (ابن أبي العزاقر) (ت322 ﻫ)(6).
6 – أبو العبّاس عبد الله بن جعفر الحميري (ت 297 ﻫ)(7).
7 – أبو جعفر محمّد بن يحيى العطّار (ق 3 ﻫ).
8 – إبراهيم بن عمروس (عبدوس) الهمداني(8) .
ص: 331
9 – أحمد بن عليّ التفليسي(1).
10 – أبو عليّ أحمد بن محمّد بن مطهّر(2).
11 – أيوب بن نوح(3).
12 – حبيب بن الحسين التغلبي الكوفي(4).
13 – الحسن بن أحمد الأسكيف(5).
14 – الحسن بن أحمد المالكي(6).
15 – الحسن بن عليّ بن الحسن (الحسين)(7) العلوي الدينوري(8).
16 – الحسن بن قالو لي(9).
17 – الحسن بن محمّد بن عبد الله بن عيسى(10).18 – أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عامر بن عمران بن أبي بكر الأشعري(11).
ص: 332
20 – عبد الله بن الحسن المؤدّب(3).
21 – عليّ بن الحسن بن عليّ بن عبد الله بن المغيرة الكوفي(4).
22 – عليّ بن الحسين بن سعدك الهمداني(5).
23 – أبو الحسن علي بن الحسين السعد آبادي(6).
24 – أبو الحسن عليّ بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين الزراري(7).
25 – عليّ بن محمّد بن قتيبة(8).
26 – عليّ بن موسى بن جعفر الكمنداني(9).
27 – القاسم بن محمّد النهاوندي(10).
28 – محمّد بن أبي عبد الله(11).
ص: 333
29 – محمّد بن أبي قاسم ماجيلويه(1).
30 – أبو الحسن محمّد بن أحمد بن عليّ بن أسد الأسدي(2).
31 – محمّد بن أحمد بن عليّ بن الصلت(3).
32 – محمّد بن أحمد بن هشام(4).
33 – محمّد بن اسحاق بن خزيمة النيسابوري(5).
34 – محمّد بن عليّ بن أبي عمران الهمداني(6).
35 – محمّد بن معقل القرميسيني(7).
36 – أبو القاسم فرات بن إبراهيم الكوفي(8)(9) .
37 – الحسين بن سعيد الأهوازي(10).
ص: 334
روى عن الشيخ المترجَم له جماعة من الأعلام، منهم:
1 – أبو الحسن سلامة بن محمّد بن إسماعيل الأرزني (ت 339 ﻫ)، له كتاب الغيبة وكشف الحيرة(1).
2 – أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمّيّ صاحب كتاب كامل الزيارات (ت 368 ﻫ)(2).
3 – ابنه أبو جعفر محمّد المعروف ب- (الشيخ الصدوق) (ت 381 ﻫ)، إذْ أكثر الرواية عن أبيه حتّى عدّ (راوية أبيه)(3)، وكان يبتدئ الحديث عنه بقوله: (أبي) من دون أنْ يسبقه بلفظ من ألفاظ التحمّل من: (حدّثنا)، أو (حدّثني) ونحوهما، وهذا ما لم نجد الشيخ الصدوق يستعمله مع أحد من شيوخه الآخرين على كثرتهم.
4 – أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري (ت 385 ﻫ)، وله إجازة بجميع ما يرويه عن ابن بابويه(4).
5 – ابنه أبو عبد الله الحسين، ويروي عن أبيه إجازة فقط(5).
ص: 335
6 – أبو الحسين أحمد بن داود بن عليّ، صحب الشيخ المترجَم له، وله كتاب النوادر(1).
7 – أحمد بن الفرج(2).
8 – أحمد بن عليّ بن أحمد القميّ(3).
9 – الحسين بن الحسن بن محمّد بن موسى بن بابويه (ابن أخت الشيخ المترجَم)(4).
10 – زيد بن محمّد بن جعفر، المعروف ب- (ابن أبي إلياس الكوفي)(5).
11 – محمّد بن الحسن بن بندر القمّي(6).12 – أبو الحسن العبّاس بن عمر بن محمّد بن عبد الملك بن أبي مروان الكلوذاني، المعروف ب- (ابن مروان)(7)، وأكثر رواياته عن الشيخ المترجَم(8).
مرجعيّته الدينيّة: من ميزات عصر الشيخ ابن بابويه اعتماد منهجيّة (المحدّثين) الرافضين لكلِّ المحاولات العقليّة، والتي تعتمد الخروج عن ظاهر الروايات، على أساس المقارنة بينها، وميزة الشيخ المترجَم له التي اختصّ بها هي المرجعيّة العامّة، التي تمتّع بها
ص: 336
في فترة الغيبة الصغرى، وتقدّم آنفاً أنه اعتمد (الاجتهاد) طريقاً في الوصول إلى الأحكام الشرعيّة، وبذلك يكون من روّاد الاجتهاد في تاريخ الفقه الشيعيّ.
وإذا لاحظنا أقوال العلماء في حقّه نجد مدى ما وصل إليه من مقام سام مختصّ به، وهو موجودٌ في مدينة قم المقدّسة الزاخرة بالمحدّثين آنذاك، ويتّضح مدى ما كان يتمتّع به من مكانة مرموقة لدى الطائفة.
والمتتبّع لحياة الشيخ ابن بابويه يشخّص جملة حوادث وأمور حدثت إبّان مرجعيّته الدينّية منها:
اتّصاله بالنائبين الأخيرين (الحسين بن روح وعلي بن محم السمري رضوان الله تعالى عليهما)(1)، وتصدّيه للمنحرفين في العقيدة بسبب غيبة الإمام (علیه السلام)، التي ذكرنا أنّها أهمّ ما وقع في عصره، وقد حامت حولها المناقشات الطويلة، ولعلّ موقفه مع الحسين بن الحلاّج(2)، ومناظرته مع محمّد بن مقاتل الرازي في الإمامة(3)، وجداله الحادّ مع الحسين بن حمدان الخصيبي حول إمامة الإمام الحجّة (علیه السلام) (4)، وكتاب (الإمامة والتبصرة من الحيرة) الذي ألّفه خير شاهد على ذلك.
مكانته العلميّة والاجتماعيّة:
أوّلاً: مكانته العلميّة: للشيخ ابن بابويه أياد بيضاء، وخدمات مشكورة في مجال تأليف الكتب – على ما سيأتي في بيان مصنّفاته – أسهمت بشكل فاعل ومؤثّر في تطوير
ص: 337
المجال العلميّ، وظلّت مقرونةً باسمه للأجيال الباقية، ومن المهمّ بمكان أنْ نشير إلى بعض خطواته العلميّة التي أهلّته لأنْ يحتل – بجدارة – ذلك المقام العلميّ الرفيع:
1 – جهوده العلميّة في الفقه: يعدّ الشيخ ابن بابويه من أوائل من طرح فكرة الاعتماد على الاستنتاج الفقهيّ من الروايات، وعلى أساس المقارنة بينها وبين النظائر، والجمع والتوفيق بين المتعارضات(1).
2 – جهوده في الحديث: كان الشيخ ابن بابويه واحداً ممَّنْ تنتهي إليه طرق الرواية، ولعلَّ للظرف الزمانيّ والمكانيّ أثر في ذلك؛ إذْ أنّه عاش في عصر الغيبة، وكذلك تواجده في مدينة قم المقدّسة العامرة بالمشايخ ومعقل الحديث والمحدّثين في ذلك العصر(2)، وعلى هذا يُعدَّ الشيخ ابن بابويه من المشايخ الكبار الذين إليهم تنتهي الإجازات(3).
3 – جهوده في الكلام: تقدّم آنفاً أنْ الشيخ ابن بابويه تصدّى لمقالات المنحرفين، ولم تكن جهوده منحصرةً في الفقه والحديث، بل خاض معركة عقائديّة وفكريّة مع أهل الزيغ والانحراف، فقد وقف سدّاً منيعاً لمواجهتهم، نظريّاً من خلال تأليف جملة من المصنّفات في هذا الموضوع، وعمليّاً من خلال مناظراته معهم، حتّى عدَّ المدمّر لأساس المنحرفين، والمعظّمً من مشايخ الشيعة(4).
ثانياً: مكانته الاجتماعيّة: إنَّ مكانة الشيخ ابن بابويه الاجتماعيّة أظهر من
ص: 338
الشمس في رائعة النهار، وقد ساعدت في ذلك عوامل منها: كونه من كبار الفقهاء المعترف بمقامهم العلميّ البارز، ومن الأجلاء المجمع على وثاقتهم، بل وعظم شأنﻫم، فضلاً عن لانتمائه إلى أسرة بابويه العريقة، وغيرها من العوامل، التي آلت – وبلا شكّ – لأنْ يحتل مقاماً ومركزاً اجتماعيّاً بارزاً وكبيراً ومهمّاً.
لا يخفى ما كان عليه الشيخ ابن بابويه من ثراء علميّ ضخم، فلا حاجة إلى الإطناب بعد أنْ قرأنا ونقرأ أنّه صنّف في شتى العلوم، وسطّر قلمه الشريف أكثر من مؤلَّف، وجادت قريحته بمدونات أصبحت فيما مضى ولا يزال بعضها مصدراً ومرجعاً ينهل منه طلاّب العلوم الشرعيّة علوم آل محمّد (علیهم السلام)، ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما خطّه من تراث أثرى به المكتبة الإسلاميّة عموماً والمكتبة الإماميّة على وجه الخصوص:
1 – كتاب التوحيد.
2 – كتاب الوضوء.
3 – كتاب الصلاة.
4 – كتاب الجنائز.
5 – كتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة(1).
6 – كتاب الإملاء (النوادر).
7 – كتاب المنطق(2).
ص: 339
8 – كتاب الإخوان.
9 – كتاب النساء والولدان.
10 – كتاب الشرائع، وهو رسالته إلى ابنه الشيخ الصدوق (الكتاب الذي بين أيدينا).
11 – كتاب التفسير.
12 – كتاب النكاح.
13 – كتاب مناسك الحجِّ.
14 – كتاب قرب الإسناد.
15 – كتاب التسليم.
16 – كتاب الطبّ.
17 – كتاب المواريث.
18 – كتاب المعراج(1).
نحن في غنى عن سرد ما قيل من كلمات بحقِّ الشيخ ابن بابويه، فهو أعظم من أنْ يوصف بقول، أو يسطّر بقلم، إلاّ أنّه حري بنا أنْ نذكر بعض ما قيل فيه، وإنْ كان لا يتناسب ومقامه وشأنه العلميّ الرفيع.
ص: 340
فقد وصفه ابن النديم بأنّه من فقهاء الشيعة وثقاتهم(1).
وقال النجاشي والعلامة الحلّي فيه: بأنّه شيخ القميّين في عصره، ومتقدّمهم، وفقيههم، وثقتهم(2).
وأطرى عليه شيخ الطائفة الطوسي بأنّه الفقيه، الجليل، الثقة(3).
وأثنى عليه ابن داود بقوله: (الفقيه الجليل المعظّم الثقة الورع المصنِّف)(4).
وذكره المحدّث النوريّ بأنّهّ شيخ الشيعة وعين الإماميّة(5).
وأخيراً وإنْ تكن هذه الترجمة هي يسيرة في حقّ الشيخ عليّ بن الحسين بن بابويه، ولكن عسى أنْ نكون قد ذكرنا نزراً منها ونزراً من حقّه، وإلاّ فمقامه لا يسعه هذا القرطاس، ومن أراد المزيد فليراجع كتب الرجال والحديث ونحوهما فقد فصّلوا فيه القول بما يتناسب ومقامه السامي.
ص: 341
وسوف نعرض في هذه الدراسة ثلاثة مطالب وخاتمة, وهي:
المطلب الأول: فيما يظهر من الاختلاف الحاصل بين الشيخ والنجاشي في عدّ كتاب الرسالة وكتاب الشرائع كتاباً واحداً أو كتابين.
ثم نختم المطلب بذكر العلماء الذين صرحوا أن لديهم نسخة من الرسالة - أو أنهم اطلعوا عليها - أو يظهر ذلك منهم، وذلك في مقابل العلامة النوري (قدس سره) - وغيره - الذي صرّح بعدم وجودها، من عصر الشهيد إلى عصره.
المطلب الثاني: في أهمية الرسالة وتتمثّل تلك الأهمية:
أولاً: في تعامل الفقهاء - قديماً وحديثاً - مع الرسالة معاملة النصوص.
ثانياً: في كونها أقدم نصّ فقهي معتبر.
المطلب الثالث: في كون الرسالة ابتكاراً لنوع جديد من الطرح الفقهي لم يعهد من قبل، كما حُكِي ذلك عن نجل الشيخ الطوسي (قدس سره) .
وندرج المطلب الثاني والثالث تحت عنوان (مميزات الرسالة).
والخاتمة تتناول المقارنة بين الفقه الرضوي والرسالة.
ص: 342
هل أن رسالة علي بن بابويه إلى ابنه هي نفسها كتاب الشرائع أم لا؟ قال النجاشي في معرض ذكر مصنفات الشيخ علي بن بابويه: (كتاب الشرائع وهي الرسالة إلى ابنه . ) (1)، وتبعه مشهور العلماء.
وفي المقابل فإن ظاهر الشيخ الطوسي : نقل في الفهرست هو التغاير بين الكتابين، حيث قال: (.. كتاب الشرائع، كتاب الرسالة إلى ابنه محمد بن علي..)(2). وقد تبعه في ذلك ابن شهر آشوب في معالم العلماء، قائلاً: (.. الشرائع، الرسالة إلى
ابنه محمد بن علي رضي الله عنهما ..)(3)
قال العلامة النوري قال : (.. ولكن الشيخ في الفهرست، وابن شهر آشوب في معالم العلماء عداهما اثنين والثاني تبع الأول، والنجاشي أتقن وأضبط)(4). وأقول: قد يُدعى أن متابعة ابن شهر آشوب للشيخ غير مؤكدة لعدم اتفاق نسخ
معالم العلماء على اللفظ المتقدم ولكن هذه الدعوى غير واضحة كما سيأتي. فالصحيح أنه تابعه في مغايرة الرسالة للشرائع، كما تابعه في ذلك السيد حسن الصدر في نهاية الدراية، حيث قال في معرض كلامه في تعريف الحديث: (ويرد: على عكسه النقض بالحديث المنقول بالمعنى ... وعلى طرده بكثير من عبارات الفقهاء كالشيخ في النهاية، وعلي بن بابويه في "الشرائع" و "الرسالة")(5).
ص: 343
وأما احتمال أن يكون (و) في كلامه مصحف (أو) - كما في هامش الطبعة الحديثة من نهاية الدراية - فهو في غير. محله، لأنه لا وجه للعطف ب- (أو) هنا إلَّا إذا كان لغرض بيان اتحاد المسمى بالشرائع والرسالة، ولكنه قاصر عن إفادة ذلك كما لا يخفى. وبالجملة: ظاهر كلام السيد حسن الصدر هنا هو متابعة الشيخ نقل في مغايرة الرسالة للشرائع، ولعله من جهة بنائه على تقديم قول الشيخ الطوسي في مقام التعارض مع النجاشي كما صرح به في بعض المواضع (1). إلا أن الذي صرح به في بعض مؤلفاته الأخرى هو كون الشرائع هو رسالته التي كتبها لابنه، حيث قال في رسالة فصل القضاء: (إن الكتاب المعروف عند المتقدمين بكتاب التكليف لمحمد بن علي الشلمغاني" المعروف بابن أبي العزاقر صنعه أيام استقامته وكانت الطائفة تعمل به وترويه عنه وأخذه منه شيخ القميين علي بن موسى بن بابويه وجعله الأصل لرسالة "الشرائع " التي كتبها لابنه الصدوق) (2). وحيث أنه ألف كتاب النهاية في عام 1314 ه- كما ورد في خاتمته (3) في حين ألف رسالة فصل القضاء في عام 1323 ه- كما ورد في آخرها (4) يتبين أنه كان يتبنى المغايرة بين الشرائع والرسالة أولاً ثم بنى على الاتحاد.
ص: 344
هذا، والملاحظ أن الشيخ الصدوق نقل قد أكثر (1) النقل عن رسالة والده في الفقيه، والمقنع، والهداية، والعلل، والخصال، وثواب الأعمال.
وفي أغلب تلك الموارد لم يعبر إلا ب- (رسالة والدي أو أبي) وقد عبر ب- (الوصية) في أربعة موارد في المقنع (2) ومورد واحد في ثواب الأعمال (3) ولم يذكر في شيء من الموارد أن اسم الرسالة أو الوصية هو (الشرائع).
وكذلك من بعده من الفقهاء ممن ذكر الرسالة أو نقل عنها كالسيد المرتضى تكتل في رسائله (4) والشيخ الطوسي تكلل في ثلاثة موارد في التهذيب(5) وابن إدريس في "السرائر " (6)، والمحقق الحلي في "المعتبر" (7)، والعلامة الحلي في "مختلف الشيعة "(8) و "تحرير الأحكام" (9) و "التذكرة " (10) وغيرها من مؤلفاته، وابنه في "إيضاح الفوائد" (11)،
ص: 345
والفاضل الآبي في كشف الرموز (1) ... فهؤلاء كلهم لم يشيروا إلى أن رسالة ابن بابويه تسمى بالشرائع.
وأول من يظهر منه ذلك ممن كانت عنده الرسالة ونقل عنها هو الشهيد الأول نقل في الذكرى، حيث ذكر في أوائله (2) أنه كان الأصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرائع أبي الحسن ابن بابويه عند إعواز النصوص، ثم حكى عن رسالة ابن بابويه بهذا العنوان في عدة مواضع (3)، وظاهره وحدة المراد بالعنوانين فتأمل.
ومهما يكن فإن في المقام احتمالين:
1. أن (الرسالة) مغايرة لكتاب الشرائع كما ورد في النسخ الواصلة إلينا(4) من فهرست الشيخ الطوسي مثال .
2. أن (الرسالة) هي الشرائع - كما نص على ذلك النجاشي . والسبب في تعدد التسمية هو أن علي بن بابويه سمّى كتابه بالشرائع ولكنه لما كان رسالة منه إلى ولده الصدوق ذكر على ألسنة الحاكين عنه بهذا العنوان حتى غلب على التسمية الأصلية وصار يعرف برسالة ابن بابويه كما نجد نظير ذلك في كثير من الحالات.
وقبل أن نذكر ما يرجح به أحد الوجهين على الآخر نشير إلى أن أسامي مؤلفات علي بن بابويه المذكورة في فهرست الشيخ ورجال النجاشي - التي تقرب من عشرين مؤلفاً - متطابقة حتى في الترتيب إلا في عدة أشياء:
ص: 346
أحدها: أن الشيخ عد من كتبه (كتاب الحج) وقال (لم يتمه)، والمذكور بدله في كتاب النجاشي (كتاب المعراج)، ولعل أحدهما تصحيف الآخر.
ثانيها: عد الشيخ من كتبه (كتاب النوادر) ولكنه غير مذكور في رجال النجاشي، نعم ورد فيه لفظ (نوادر) قبل ذكر (كتاب المنطق)، ويبدو أنه كان في الأصل (كتاب النوادر) فسقط بعضه وحشر في هذا الموضع.
ثالثها: أن الشيخ عد من كتبه (كتاب الإخوان والالف) و(كتاب التسليم والتمييز)، ولكن المذكور في رجال النجاشي (كتاب (الإخوان) و (كتاب التسليم) فقط. رابعها ما تقدم من أن المذكور في فهرست الشيخ كتاب الرسالة إلى ابنه محمد بن علي) بعد ذكر (كتاب الشرائع)، في حين أن المذكور في رجال النجاشي قوله (وهي الرسالة إلى ابنه) بعد ذكر (كتاب الشرائع).
إذا علم ما تقدم فنقول:
أنه قد يرجح الوجه الأول - أي ما يظهر من فهرست الشيخ من مغايرة الرسالة للشرائع . من جهة تقديم قول الشيخ على قول النجاشي عند التعارض بينهما كما عليه عدد من الأعلام كالتقي المجلسي (1) وغيره.
كما أنه قد يرجح الوجه الثاني - أي ما هو عليه النجاشي من اتحاد الرسالة مع الشرائع - من جهة تقديم قول النجاشي على قول الشيخ عند التعارض بينهما، كما عليه جمع آخر من الأعلام، وقد صرح به في المقام العلامة النوري فيما سبق من كلامه.
ص: 347
ولكن الصحيح هو أنه لا يوجد ما يقتضي تقديم قول أحدهما على الآخر بصورة عامة بل لابد من ملاحظة كل مورد على حده والتحقق مما يقتضي تقديم أحد القولين على الآخر فإن لم يوجد بني على تساقطها كما هو الحال في الموارد المشابهة. ويمكن ترجيح الوجه الأول من جهة أن الظاهر أن الشيخ قد أخذ أسامي مؤلفات علي بن بابويه من فهرست ولده الصدوق - الذي كان من مصادره حين تأليف الفهرست كما يظهر للمتتبع - فإنه قد رواها عن الشيخ المفيد والحسين بن عبيد الله عن أبي جعفر بن بابويه، وهذا هو السند الذي يروي به سائر ما ورد في فهرس ست الصدوق.
ولا شك في أن الصدوق أدرى من غيره بكتب أبيه ولا سيما الرسالة التي ألفها له. وأما احتمال أن تكون كلمة (وهو) ساقطة بين قوله (كتاب الشرائع) وقوله (كتاب الرسالة إلى ابنه محمد بن علي) أي أنه كان مثل قوله في ترجمة ابن خانبة (له كتاب التأديب وهو كتاب يوم وليلة فهو احتمال لا شاهد له، ومن هنا لا يمكن البناء عليه. هذا ما يمكن أن يرجح به الوجه الأول، وفي المقابل يمكن أن يرجح الوجه الثاني بالنظر إلى عدة أمور:
الأول: أنه قد نص غير واحد من الأعلام أن النجاشي كان ناظرا إلى فهرست الشيخ حين تأليفه له، قال السيد بحر العلوم في رجاله وحكى - أي النجاشي - في كثير من المواضع عن بعض الأصحاب وأراد به الشيخ)، وقال أيضاً (وهذان الكتابان - أي الفهرست ورجال الشيخ - هما من أجل ما صنف في هذا العلم... وقد لحظها النجاشي رحمه الله في تصنيفه، وكانا له من الأسباب الممدة والعلل المعدة)(1)، ومثله ما ذكره
ص: 348
الكلباسي في رسائله الرجالية(1)، وحكي أيضاً عن السيد البروجردي أنه قال (إن فهرست النجاشي كالذيل بالنسبة لفهرست الشيخ الطوسي) (2)(3).
وقد مر أن النجاشي ذكر كتب علي بن بابويه مطابقاً في الترتيب لما أورده الشيخ في الفهرست - إلا في مورد واحد لا يبعد وقوع الخطأ فيه . وحيث لا يحتمل بموجب حساب الاحتمالات حصول ذلك بالمصادفة فلابد فيه من أحد أمرين: إما أن النجاشي أخذ تلك الأسماء من فهرست الشيخ أو أنه أخذها من مصدر آخر كان معتمداً على ما اعتمد عليه الشيخ وهو فهرست الصدوق كما سبق.
وعلى التقديرين فإن اشتمال ما ذكره النجاشي على لفظة (وهي) بعد قوله (كتاب
ص: 349
الشرائع) يقرب احتمال سقوطها عن فهرست الشيخ فيما وصل إلينا من نسخه، فليتأمل. الثاني: إن المحقق السيد محمد رضا الجلالي قد طبع مؤخراً معالم العلماء لابن شهرآشوب معتمداً على عدة نسخ مخطوطة قديمة وذكر (1) أن ظاهر واحدة منها فقط هو تعدد الرسالة والشرائع وحيث أن معالم العلماء قد صرح مصنفه بأن الأصل فيه هو فهرست الشيخ وأنه بمثابة التتمة له(2) ولا يحتمل التصحيح القياسي على رجال النجاشي في النسخ الأخرى الظاهرة في وحدة المسمى بالشرائع والرسالة فلا محالة يترجح احتمال سقوط لفظة (وهو) من نسخ الفهرست الواصلة إلينا.
ولكن يمكن المناقشة في هذا البيان بأن معالم العلماء طبع أيضاً مؤخراً بتحقيق مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث وعدد من النسخ التي اعتمدها السيد الجلالي هي مما اعتمدها محقق طبعة آل البيت كذلك ومنها النسختان المرعشيتان برقم (6877) ورقم (3112) ولم يرد في طبعة آل البيت الإشارة إلى وجود اختلاف في نسخ الكتاب في هذا الموضع (3).
ولم يعرف الوجه فيما ذكره السيد الجلالي من أن ظاهر إحدى النسخ فقط هو التعدد فليراجع. الثالث: إن الشيخ علي بن بابويه قد ذكر في مقدمة الرسالة ما لفظه (وأمرك أن تؤثر من العلوم المآثر التي هي ملاذ للدين والدنيا .. ومرجئة الفضل في البدوى(4) والعقبى،
ص: 350
(شرائع) دينه القيم، وحدود طاعته من الصلاة والزكاة والصوم ....
ويقوى في النظر أن يكون ذكره لكلمة (شرائع) إشارة إلى اسم الكتاب كما هو طريقة القدماء في ذلك وقد وضع الشيخ آقا بزرك الطهراني طاب ثراه كلمة (الشرائع) بين قوسين عند إيراده مقطعاً من المقدمة في كتابه الذريعة (1) إشارة إلى هذا المعنى. الرابع: إن العنوان الموجود على نسخة الأصل عندنا في التحقيق هو (كتاب رسالة ابن بابويه القمي في شرائع الإسلام ويلوح منه أنه جمع بين الاسمين أي الرسالة والشرائع، ولكن اللافت للانتباه أنه لم ترد كلمة (الإسلام) في أي مصدر من المصادر في اسم هذا الكتاب بل المذكور في الجميع لفظ (الشرائع) فقط والملاحظ أنه كان لبعض المتقدمين كتباً بهذا الاسم أي (الشرائع) كيونس بن عبد الرحمن وعلي بن إبراهيم القمي، فمن القريب جداً أن علي بن بابويه كان قد سمّى رسالته إلى ابنه بالشرائع أيضاً، وليس في العنوان الموجود على نسخة الأصل دلالة ظاهرة على تسمية الكتاب ب- (شرائع الإسلام) فإنه لو كان المذكور (رسالة شرائع الإسلام لابن بابويه القمي) لكان دالاً على ذلك، وأما قوله (رسالة ابن بابويه القمي في شرائع الإسلام) فهي نظير قولنا (كتاب العلامة الحلي في رجال الحديث) فهو إنما يدل على موضوع الكتاب لا على اسمه فليتأمل. وفي ضوء ما تقدم يترجح في النظر أن تكون رسالة ابن بابويه إلى ابنه هي كتاب الشرائع المعدود في مؤلفاته، كما يترجح كون عنوانه هو الشرائع) المذكور في فهرست الشيخ ورجال النجاشي وكلام الشهيد الأول في الذكرى دون (شرائع الإسلام) الذي ربما يوحي به ما على نسخة الأصل المعتمدة في التحقيق.
ولذلك آثرنا ونحن نعيد نشر هذه الرسالة مع بعض الإضافات والتصحيحات
ص: 351
أن تنشرها باسم (الشرائع) بعد أن نشرناها لأول مرة في المجلة باسم شرائع الإسلام. وبقي هنا شيء، وهو: أنه قد مر أن الصدوق علل قد نقل بعض الموارد عن وصية والده (1) والمراد بها هي الرسالة لا غيرها.
ويبدو أنه عبر عنها بالوصية لما ورد في خطبة الرسالة إذْ قال: (وأوصيك بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب (إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)). ويشهد لاتحاد الوصية والرسالة أن السيد ابن طاووس نقل قال في بعض كتبه: ( وجدت جماعة ممن تأخر زمانهم عن ا لقائه قد أوصوا برسائل إلى أولادهم، دلوهم بها على مرادهم. منهم أحمد بن محمد الصفواني، ومنهم علي بن الحسين بن بابويه)(2). فإن قوله تثل (أوصوا برسائل إلى أولادهم ظاهر في أن الوصية والرسالة كتاب واحد.
ويؤكد أن المراد بالوصية هو الرسالة أنه لم يذكر أحد ممن تعرض لمؤلفات ابن بابويه أن له كتاباً باسم (الوصية).
كما أن الصدوق نقل تعامل معها تعامل رسالة أبيه. إذ وزعها على الأبواب الفقهية المناسبة لها. ومن تلك الموارد ما قاله في المقنع : قال والدي (ره) في وصيته إلي... فلو أن رجلاً أعطته امرأته مالاً، وقالت اصنع به ما شئت فأراد الرجل أن يشتري جارية يطؤها لما جاز له، لأنها أرادت مسرته فليس له أن يعمل ما ساءها) (3).
ص: 352
وهذا الذي نقله عن الوصية هو مفاد رواية الحسين بن المنذر نفسها التي نقلها في الفقيه: (قال قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): دفعت إليّ امرأتي مالا أعملُ به ما شئت فأشتري من مالها الجارية أطؤها ؟ قال: لا إنما دفعت إليك لتقر (عينها) (1)
وأنت تريد أن تسخن عينها)(2).
وأوضح من جميع تلك القرائن في الدلالة على المطلوب ما نقله الصدوق (قدس سره) في المقنع عن الوصية إذْ قال: (قال والدي (ره) - في وصيته إليّ: إعلم يا بني أن أصل الخمر من الكرم، إذا أصابته النار أو غلا من غير أن تصيبه النار فيصير أسفله أعلاه، فهو خمر لا يحل شربه، إلا أن يذهب ثلثاه ويبقى (ثلثه)(3)،
فإن نشّ من غير أن تصيبه النار، فدعه حتى يصير خلا من ذاته، من غير أن تُلقي فيه ملحا أو غيره حتى يتحول خلا)(4).
فإن هذا الذي نقله عن الوصية نقل نحوه في الفقيه، لكن نسبه إلى الرسالة، وهذا كالصريح في كون الرسالة هي نفسها الوصية .
إذْ قال: (وقال أبي رضي الله عنه في رسالته إليّ: إعلم أن أصل الخمر من الكرم إذا أصابته النار أوغلا من غير أن تمسه النار فيصير أسفله أعلاه فهو خمر ولا يحل شربه
ص: 353
إلا أن يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، فإن نشً من غير أن تمسه النار فدعه حتى يصير خلا من ذاته من غير أن تلقي فيه شيئاًً) (1).
ثم أنه وصل بنا الكلام إلى معالجة نقطة مهمة أثارها العلامة النوري (قدس سره) في خاتمة المستدرك إذْ قال: (وليس لهذه الرسالة في هذه الأعصار وما قبلها إلى عصر الشهيد أثر .. وقد ضاع كما ضاع – لقلة الهمم – سائر مؤلفاته)(2).
ونحن في المقابل سنحاول التعرض لذكر العلماء الذين صرحوا بأن لديهم نسخة من الرسالة - أو أنهم أطلعوا عليها - أو يظهر ذلك منهم من عصر الشهيد وإلى يومنا هذا.
قال الكلباسي (قدس سره): (قيل كانت رسالة علي بن الحسين بن بابويه عند قدماء الأصحاب وعند الفاضل الهندي, والسيد محمد مهدي النجفي, والشيخ أسد الله الكاظمي من المتأخرين)(3).
أقول: أما الفاضل الهندي فلم أعثر على تصريح له بذلك، وأما ما نقله عن رسالة علي بن بابويه - في كشف اللثام - فلم أجد أيضاً أنه نقل نصاً لم ينقله من سبقه، ففي جميع ما تابعته من نقله عن الرسالة سبق أن نقله غيره كالصدوق أو المحقق الحلي، أو العلامة الحلي، أو الشهيد، وفي كثير من تلك الموارد يقول: (كما حكي عن علي بن بابويه)(4)، وفي موارد تعارض النقل عن الرسالة - كما في وقوع الحيَّة في الإناء حيث اختلف ما نقله
ص: 354
العلامة عما نقله المحقق في "المعتبر"، وتعجب من ذلك صاحب المعالم - لم يتصدّ صاحب كشف اللثام لترجيح أحد النقلي