دراسات علمیة - 1 : مجلة نصف سنوية تعنى بالأبحاث التخصصية في الحوزة العلمية

هویة الکتاب

دراسات علمیة

مجلَّة نصف سنويَّة تعنى بالأبحاث التَّخصُّصيَّة في الحوزة العلميَّة

تصدر عن المدرسة العلميَّة (الآخوند الصغرى) في النَّجف الأشرف

العدد التَّجريبي الأوَّل

ذو الحجّة 1432هجري

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1614 لسنة 2011

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»

التوبة 122

ص: 3

الأسس المعتمدة للنشر

1- ترحب المجلة بإسهامات الباحثين (من رواد المدرسة العلمية "الآخوند الصغرى"ما دام الاصدار تجريبيّاً) في مختلف المجالات التي تهم طالب الأبحاث العليا في الحوزة العلمية, من الفقه والأُصول والرجال والحديث ونحوها.

2- يُشترط في المادة المُراد نشرها أُمور:

أ . أنْ تكون مستوفية لأُصول البحث العلمي على مختلف المستويات (الفنية والعلمية), من المنهجية والتوثيق ونحوهما.

ب . أن تكون الأبحاث مكتوبة بخط واضح أو (منضَّدة).

ت . أنْ توضع الهوامش في أسفل الصفحة.

ث . أنْ يتراوح حجم البحث بين (12) إلى (60) صفحة من القطع الوزيري بخطٍ متوسط الحجم, وما زاد عن ذلك يمكن تقسيمه إلى أكثر من حلقة، شريطة أن تتسلَّمَ المجلةُ البحثَ كاملاً.

ج . أنْ لا يكون البحث قد نُشر أو أُرسل للنشر في مكان آخر.

ح . أنْ يُذيَّلَ البحث بذكر المصادر التي اعتمدها الباحث.

3- يخضع البحث لمراجعة هيئة استشارية (علمية), ولا يُعاد إلى صاحبه سواء أنُشر أم لم يُنشر.

4- للمجلة حق إعادة نشر البحوث التي نشرتها.

5- يخضع ترتيب البحوث المنشورة في المجلة لاعتبارات فنية لا علاقة لها بمكانة الكاتب أو أهمية البحث.

6- ما يُنشر في المجلة لا يعدو كونه مطارحات علمية صرفة, ولا يُعبر بالضرورة عن وجه نظر المجلة.

ص: 4

مقدِّمة الطَّبعة الثَّانية

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قيل قديماً عن النجاح في الأهداف الطموحة لغير الأفراد: (إنَّه ثمرة تعاون الأيدي)، وهذا هو السر في تنامي الشُّعور بالثقة والأمل بمواصلة السعي في العمل الدؤوب في أعداد مجلة (دراسات علمية).

وقد بدا هذا التعاون من قبل الكتاب وهيأتي الإدارة والتحرير واللجنة العلمية . وكلهم من نسيج حاضرة الحوزة العلمية المباركة في النجف الأشرف - يتبلور في أعداد لفتت انتباه المختصين والمهتمين فأشاروا بالتقدير إلى الجهد النوعي المبذول فيها.

ويبدو أن ذلك الاهتمام قد انعكس في الأوساط العلمية في الرغبة في زيادة كمية النسخ المطبوعة من أ ن أعداد المجلة حتى تكرّر الطلب بعد نفاد النسخ فلم يسعنا إِلَّا أَنْ نعيد طباعتها ثانيةً مع تصحيح ما فاتنا في الطبعة الأولى من أخطاء طباعية.

وكلنا أمل في أن تقع موضع الرضا من عين القارئ اللبيب ونكون قد وافينا المتشوق لما تطلع إليه من مضمونها.

إدارة مجلة (دراسات علمية)

ص: 5

محتویات العدد

الافتتاحية

إدارة المجلة ........................................................................................ 7

بيع الرصيد في خدمات الاتصال بالآجل.

الشيخ عمار الأسدي (دام عزه) ..................................................................... 11

استثناء الدين من الربح قبل تخميسه.

السيد محمد الحسيني (دام عزه) ................................................................ 57

المناسبة الذاتية بين اللفظ ومعناه.

السيد جواد الموسوي الغريفي (دام عزه) ........................................................ 73

قبح العقاب بلا بيان والاحتياط العقلي.

السيد علي البعاج (دام عزه) ....................................................................... 103

الغلو والغلاة بين الرجاليين والرواة.

السيد محمد البكاء (دام عزه) .................................................................... 149

تحقبق وإخراج: أول رسالة صُنِفَت في مفطرية

التتن: (حرمة الغليان في شهر رمضان).

تحقيق: الشيخ محمد الكرباسي والشيخ حيدر الكرباسي (دام عزه) ........... 229

ص: 6

افتتاحية العدد

بسم الله الرحمن الرحیم

كثيرٌ مِن العاكفين على الدَّرس الحوزوي، والواردين على هذا المنهل، حدَّثته نفسه بإطلاق عنان قلمه في ميدان ما سعى زمناً في تحصيله يؤلّف بين متفرقاته، أو يعبّر عن موضوع بمنظار فهمه، أو يتناول مسألةً ويتابعها بمرآة فكره، وقد لا يسعده جَدُّه أو انشغاله بدرسه في متابعة ما أمَّله ويتأبَّى عليه ما رامه، ويَزيدُ في إحجامه غيابُ صحيفةٍ أو مدَّونةٍ يُسطِّر فيها ما جال في خاطره، فإنَّ في وجود صحيفةٍ أو مجلَّةٍ تنتظم الرؤى والأبحاث في ثنايا صفحاتها خيرُ باعثٍ لأصحاب هذه الغايات في تجميع شوارد أفكارهم وتتميم ظهور إفاضات قرائحهم.

كما أنَّ سعي المجتمعات العلميَّة والمراكز الفكريَّة اليوم إلى تدوين ونشر خلاصات تجاربها، ورؤوس نتائج جهدها وعملها الفكريّ لم يكن نتيجة نزعةٍ من نزعات العصر الحاضر، إلَّا لعلمهم – وكما لا يخفى على غيرهم – بدور هذا النَّوع من العمل واللَّون من النَّشاط في ترويج حبّ العلم وسمو غاية الفكر، فإنَّ تعطيله يؤدي إلى الرُّكود، وتباعُد معاقد عُرى موضوع مسائل علمهم الَّذي يحومون حوله.

ولأجل ذلك عرف قديماً شغف المشتغلين بالعلوم في التَّصنيف والتَّدوين. وهم لم يألفوا ما نألف اليوم من تنوّع المصادر، وتذليل أدوات البحث، وسعة دائرة النَّشر، وتيسّر أدواته، وكثرة قرّائه، وتواصل مدارس العلوم فيما بينها.

ص: 7

فإذا كان الحال قديماً على ما وصفنا وهم – برغمه – على ذلك الإقبال فجديرٌ بروّاد العلم في عصرنا أنْ يضاعفوا ذلك النَّوع من العمل مع توفر تلك الدَّواعي ورواج الأسباب، ويُقبِلُوا على الكتابة والنَّشر بموازين علميَّة معروفة، وأنْ يساعدوا في ظهور تلك البيئة وهذا المناخ؛ فإنَّه صحّيٌّ بالتأكيد.

فلم نجد بعد التأمّل في ما ذكرنا عائقاً أو عذراً في أنْ ننهض بهذا المشروع إذا لم يكن انضواؤنا في كنف هذه الحوزة العريقة في النَّجف الأشرف عاملاً آخر يجعل هذا العمل في دائرة المنجزيّة، ومانعاً عن التّفكير بالمعذريّة. فعَزمنا على إصدار هذه المجلَّة خدمةً لتلك الغاية ووسمناها ب- (دراسات علميَّة).

وقد وفق الله في استجابة عدد من الدّارسين والباحثين ليعينونا بأبحاثهم وكتاباتهم في هذا العدد، فجاء متنوّعاً بين الفقه والأصول وعلم الرجال، كما كان لتحقيق بعض المخطوطات من تراث أكابر علمائنا، وإخراجها بحلَّة التَّحقيق رافدٌ وركنٌ في هذا العدد، وفي الأعداد المقبلة إنْ شاء الله تعالى، فجاء هذا العدد بحمد الله تعالى ليعكس صورةً عن جزءٍ ممَّا يدور في أروقة الحوزة العلميَّة من بحثٍ ودرسٍ، ثُمَّ لم يألُنا غير مَنْ ذكرنا جهده ممَّن حمل نفسه سابقاً على الإفادة، وراجعها على الكتابة، ولم يجد لزنده قادحاً فإذا البابُ أمامَه مشرعةٌ فسوَّغَنا مشكورا جُهودَهُ وهي تحت التَّرتيب والنَّظر لإعدادها للنشر في الأعداد المقبلة بإذن الله تعالى.

وحَريٌ بنا أنْ نُشير إلى أنَّ نهجنا في هذه المجلَّة أنْ نُقدِّم فيها كلّ ما وصل إليه البحث الفقهيّ والأصوليّ والرّجاليّ، وما له صلة بها من نظريات وآراء واستدلالات لا تخرج عن الأسس العامَّة الَّتي ينتهجها علماؤنا، وصارت شعاراً لهذه المؤسَّسة العلميَّة، الَّتي برغم ذلك تسمح للباحث في البحث بهامشٍ عريضٍ، كما أنَّنا نولي عناية خاصَّة

ص: 8

للأبحاث الَّتي تدور حول موضوعات جديدة، أو ما يسمّى بمستحدثات المسائل؛ لأنَّها تُبرِزُ الجانب المتطوّر والفعّال من فقهنا، وقدرته على مسايرة واستيعاب تنوّع ميادين الحياة وتقلّبات أحوال أفعال المكلَّفين في النَّشاط الإنساني السَّريع، وتُحَقِّقُ قيام قواعده، ومتانة مباني أصوله بمهمّة تحديد الحكم الشَّرعي المناسب لها.

كما ننظر عن كثبٍ ظهور أبحاثٍ ودراساتٍ تعنى بالموضوعات، أو المسائل الّتي جاءت في أبحاث علمائنا ومدوّناتهم، كأنَّها غيرَ مستدلَّة، أو غيرَ مُسَوَّرةٍ لأسباب لا تخفى، أو بُحِثَت إلى غايةٍ محدودة، فألقى توسّع البحث العلميّ في مسألةٍ ما بظلاله عليها، أو نوّه الوقع الحياتيّ أو التَّفاعل الثَّقافيّ والعلميّ مع مدارس أخرى على أهميَّة ابرازها وتحقيقها.

على أنَّ ذلك لا يقلّل من الحاجة إلى متابعة البحث في عناوين المسائل المبحوثة قديماً، أو الَّتي نقَّح علماؤنا "قدَّس الله أسرار الماضين منهم وحفظ الباقين" جوانب البحث فيها فقهيّة كانت أو أصوليّة أو غيرها، لأنَّ لتغيُّر أساليب البحث، وصيغة العرض الّتي قد يتمتع بها الباحث، أو الجهة الّتي يصرف إليها بحثه أو رؤيته مدخليةً في إعادة رسم ملامح المسألة ممّا قد يظهر جوانب النقد في أدلّتها، أو يعزّز نقاط القوّة فيها.

ولعلَّ نظرةً فاحصةً ويسيرةً إلى طريقة القدماء، وبعض المتأخّرين في الاستدلال على المطالب، ومقارنتها بدقّة مسلك المحقّقين في العصر المتأخّر عنهم، وصرامة أدواتهم الّتي هذّبوها طيلة هذه السنين تُظهِر لك الفارق الكبير في طريقة تدوين المسألة والاحتجاج على النَّتيجة فيها بالدَّليل.

هذا وأنَّنا نحسب هذه التَّجربة رائدة أو تُقارب، وتحتاج إلى عناية مجتمعنا العلميّ. فإن رأوا في هيئتها أو مادّتها خللاً نوّهوا بتصويبه بما لا يفتّ في عضد مَنْ لم يقم صلب

ص: 9

عمله بعد، ونظروا بعين الصَّديق الشَّفيق أو الوالد الرَّفيق، بل لم نجرؤ على ركوب أخطارها إلّا بالظَّنّ البالغ غاية الحُسن في نيّات النّاقدين. وقد لمسنا عوناً واهتماماً من كثيرٍ من أهل الفضلِ والعلمِ لحسن ظنّهم بنا، فجزى الله الجميع عنَّا خير جزاء المحسنين ولا خيّب الله ظنَّهم وظنَّ القارئ الكريم.

هيئة إصدار المجلَّة

ص: 10

بیع الرصید فی خدمات الاتصال بالآجل - الشيخ عمار الأسدي (دام عزه)

اشارة

ص: 11

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحیم

المقدّمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

فهذه أربع مسائل في ما بات يعرف في عصرنا الراهن ببيع الرصيد، تناولت فيه اِلمسألة من حيث الموضوع والحكم الشرعي له بالتصويرات الممكنة، وهي من المسائل التي اختلفت فيها أنظار الفقهاء وفتاواهم من الخاصّة والعامّة.

وقد تجنّبت الخوض في مؤدّى تلك الفتاوى، واكتفيت ببحث المسألة بحسب القواعد العامة للفقه، والأدلة المناسبة التي يمكن أن تدخل هذه المسألة تحتها بحسب المعروف من فقه المعاملات، وبالوجوه الصالحة لتحديد الحكم الشرعي لهذا الموضوع الغائم بعض الشيء، فاستلزم في جانب كبير منه البحث في ربا المعدود؛ لدخول مسألتنا على بعض الوجوه صغرى لكبراها، وفرداً من كلّيها، في شيء من الاستطراد لم أجد منه بُدّاً.

وملخص موضوع المسألة، أنّه بعد انتشار الهواتف النقالة في العصر الراهن، واعتماد تفعيل المكالمات فيها والخدمات الأخرى التي تبذلها شركات الاتصال المشغلة لهذه الهواتف على كارتات التعبئة، برز موضوع لمسألة شرعية يدخل في دائرة ابتلاء المكلفين من جهة الحكم الشرعي في التعاملات التجارية بهذه البطاقات، وهي بطاقات تصدرها تلك الشركات بأرقام يؤدي تلقيمها على الهاتف والاتصال بواسطتها الى تعيين مبلغ خاص من المال للمشترك في الخدمة يسمونه (الرصيد) لتضمن استيفاء أُجور الخدمات التي تقدمها على شبكتها من الاتصال بالجهات الميسرة له، وغيرها من

ص: 13

الخدمات على نحو الاقتطاع التدريجي بحسب أُجور المكالمات والخدمات المفترضة مسبقاً من قبل الشركة، على أن يتم تأمين غطاء هذا الرصيد بالمال الذي يدفعه المشترك في شراء نفس تلك البطاقات.

والبحث هنا يقع في المعاملات الشرعية التي تتداول بها هذه البطاقات من البيع العاجل المنجّز، والمؤجّل بنوعية من تأجيل الثمن المسمى (نسيئة) أو المثمن المسمى (السلف) وغيرها، والمحاذير المتصورة التي تشكل عائقاً دون إنجاز بعض أنواع المعاملات فيها.

وفي البحث أربع مسائل

اشارة

المسالة الأولى: بيع الرصيد نقداً (يداً بيد).

المسالة الثانية: بيع الرصيد نسيئةً (تأجيل الثمن).

المسالة الثالثة: بيع الرصيد سلفاً (تعجيل الثمن وتأجيل المثمن).

المسالة الرابعة: تحويل الرصيد بين المشتركين.

هذا، وأنّ غالب البحث وقع في تفصيل المسألة الثانية لأنّها موضع الإشكال والبحث.

ص: 14

توطئة

اشارة

تظهر بين الحين والآخر موضوعات تقع مورداً لأسئلة شرعية لتعلق أفعال المكلفين بها، وخصوصاً على مستوى المعاملات الدائرة بين الناس، نظراً لتطور الواقع العام للحياة، وتنوّع أساليب التجارة والعمل، ممّا يفرز خصوصيات تلحق بعض الموضوعات المعروفة بأحكامها الشرعية بشكل عام، إلّا أنّ الخصوصية أضفت حيثيّة على الموضوع جعلته يأخذ منحىً آخر في مناط الحكم الشرعي له، فيجدر بالباحث عن الحكم الشرعي لتلك الموضوعات مع تلك الخصوصية أن يجد المدرك المناسب لها، ويؤطرها بحدودها الشرعية رافعاً اللبس والابهام الذي تلبس به ذلك الموضوع.

ومن الموضوعات التي حامت حوله الشبهة موضوعاً وحكماً، ما يسمى ب- (بيع الرصيد) المُمثّل ببطاقات شاع التعامل بها بظهور خدمة الهاتف النقال، وأُثير معها إشكال بيع الرصيد الممثل بتلك البطاقات الذي هو مقدار من المال بالعملات المتداولة الورقية، حاصله: أنّ المعاوضة على تلك البطاقات هل هي معاوضة على نفس المال الذي تغطيه تلك البطاقة، أو أنّها شيء وراء ذلك؟

فقيل: إنّ الشركة المصدرة لتلك البطاقات إنّما تتعهد وتلتزم بالمنفعة المتحققة بخدمة الاتصال قبال ما تأخذه من ثمن تلك البطاقات، محسوبة بتعرفة معينة ك- مائة دينار للدقيقة الواحدة للاتصال الداخلي، وأربعمائة دينار للدقيقة الواحدة للاتصال الخارجي - مثلاً -. فتصير الشركة ملتزمة - على ضوء ذلك - ب- مائة دقيقة للبطاقة الواحدة من فئة عشرة آلاف دينار.

وسنرى في هذا البحث، محاولة لتحقيق المعاملة الصحيحة التي يمكن أن تُنزَّل

ص: 15

عليها معاملات الناس على هذه الأرصدة بحسب واقع تعاملات شركة الاتصال وطريقة أدائها للخدمة، والقواعد المناسبة في الأدلّة الشرعية، وفقه المعاملات لتحديد الحكم الشرعي على ضوء معطيات الواقعين، ولمختلف تقلّبات المعاملات من البيع النقدي والآجل - النسيئة - وتحويل الرصيد بين المشتركين.

ص: 16

المُكوِّنات الاعتبارية لرصيد الأموال

تفتق الذهن البشري عن مجموعة من الاعتبارات، وراجت في معاملاته المالية تلبيةً لحاجات التطور العصري في سرعة إنجاز المعاملة، وتأمين الأموال للمشاريع وعلى نطاق واسع. وقد ساهم تنوع المنتجات وزيادة الاستهلاك البشري، وتنوّع الحاجات تبعاً لذلك في الدعوة والترويج لتلك الاعتبارات. ونَعدّ منها الأوراق النقدية، والسندات وبطاقات الائتمان (Credit Cards)، والكمبيالات، وبطاقات الشحن لأرصدة الاتصال المستعملة في أجهزة الاتصال النقالة وغيرها.

وتتراوح المذكورات بين ما يعتبر أموالاً، كماليَّة النقدين الذهب والفضة في العصور السابقة، وبغض النظر عن اعتباريتها وكونها بذاتها خالية من المنفعة التي يقصدها لأجلها العقلاء وينتزعون صفة الماليّة عنها لولا ذلك الاعتبار، وبين ما لا يُعدّ كذلك. فالأوراق النقديّة من قبيل النوع الأول لم تكن لذاتيتها وهيئتها سبب لرغبة الناس في اقتنائها والتنافس عليها، بحسب مقاصدهم النوعيّة والشخصيّة الأوليّة. وإنّما جاءت الرغبة فيها والتنافس عليها وعدّها أموالاً بعد الالتزام المؤكّد بتعبيريتها عمّا تغطيه من الأموال الأصلية كالذهب والفضة والمعادن الأخرى كالنفط أو التعاملات التجارية في ميزان المال العالمي. وبعد تأكُّد هذا الاعتبار والالتزام في الأذهان تكون تلك الأوراق هي المقصودة بالذات وعليها يقوم ميزان المال في التعاملات، ولا يوجد في نفس المتعاملين بها أي عناية اتجاه منشأ ماليّتها الأول ولو بالارتكاز.

وبتبع ذلك لا تكون الأوراق النقدية موضوعا لحكم شرعي كالزكاة حتى لو علم أن منشأ انتزاع تلك المالية عين الذهب، كما لا تكون موضوعاً لحكم (وجوب الخُمس)

ص: 17

بلحاظ عنوان المعدن لو كان منشأ اعتبارها التعبير عن قيمته. وهكذا جميع الأحكام الشرعية التي أُخذت في عناوينها أصول ذلك الاعتبار لا تنطبق على الأوراق النقدية، بل هي مال جديد قائم برأسه، وتدخل موضوعاً للأحكام الشرعية بلحاظ ذاتها وعنوانها، ففي حكم الربا مثلاً لا تُعد الأوراق النقدية من دينار أو دولار أو جنيه وغيرها موضوعاً لحرمة الربا لو بيعت بمثلها؛ لعدم كونها مما يكال أو يوزن في التعاملات، ولا ربا إلّا فيما يُتداول بتلك الصفتين في ربا البيع كما ورد النص الشرعي به - مثلاً -. ويتعامل على ماليّتها بالعدد ولا يتعامل بها وزناً أو كيلاً.

وأمّا بقية المذكورات في الإصدارات الاعتبارية آنفاً، فهي وثائق على الأموال، ولا يتعامل بها العقلاء - الذين هم أسسوا اعتباريتها - معاملة الأموال بالذات كالأوراق النقدية، وإذا أجروا المعاملات الماليّة عليها فإنّما ينظرون لعين المال المدّون فيها، ولا قيمة لها من دون تحصيل ذلك المال. ومن هنا كان بيع السندات والكمبيالات - مثلاً - بيعاً

للديون التي تعبر عنها وكتبت فيها، وبالتالي فلا موضوعيّة لها في الأحكام الشرعية في فقه المعاملات إلّا بموضوعيّة نفس الأموال المدوّنة فيها. ولا تكون أعيان تلك السندات أو البطاقات معنية بالمعاملة، وإنّما هي كالمفاتيح لتلك الأموال التي ربّما هي ديون في ذمم آخرين.

ولذا نرى في السندات - مثلاً - أنّ الناس لا تدفع أعواضاً لشراء نفس أوراق السندات في التعاملات القائمة عليها، وإنّما يُقدِمون على معاملة متعلقة بنفس المال الذي يدفعونه ببيعه أو إقراضه، ثم يستعملون السند المعطى لهم في تلك المعاملة وثيقة على الأموال التي صارت لهم في ذمم الآخرين ممّن حرّروا تلك السندات كوثيقة على قبضهم للمال شراءً أو اقتراضاً علاوة على الزيادات على الأموال المدفوعة. ومن هنا

ص: 18

كانت تلك الوثائق تحتمل وجهين من المعاملة، فيحتاج إلى معرفة قصود المحرّرين ليتضح أنّهم يدفعون تلك السندات إلى المشترين وفيها فوائد ربويّة - لو كان ما أخذوا منهم من الأموال إزاءها قروضاً - ، أو فيها تسجيل لأموال بيعت في الذمة مع أرباحها الآجلة - لو كان ما أخذوا إزاءها أثماناً معجَّلة لتلك الأموال -. فهذا يكشف عن عدم تعلق المعاملة بنفس السند.

كما يكشف عنه وضوح عدم كون إعطاء هذه الأوراق المالية للدائنين لتمكينهم من ديونهم إقباضاً للمال الذي دُوِّن فيها، ولا تبرأ ذمة المدين ما لم يقبض المستفيد منها نفس المال الذي كانت وثيقة عليه.

بطاقات التعبئة (شحن الرصيد)
اشارة

وقد حاول البعض(1) الاستفادة من هذه المزية للأوراق المالية في تنزيل بطاقات شحن الرصيد على كونها سنداً على ضمان المنفعة محسوبة بالدقائق، تلتزم بها شركة الاتصال – على ما سيأتي بيانه – مقابل الثمن الذي تبيع البطاقة به، نافياً قيامها مقام السند على بيع مال معلوم من العملة الدارجة، بذريعة أنّ الشركة لو كانت تقصد بيع المال المسجّل على وجه البطاقة لصحّ دفع البطاقة ثمناً لشراء حاجة معينة، أو وفاءاً لدين يوازي المكتوب عليها، ولمّا لم يصحّ ذلك دلّ على عدم التزام مصدِّرها بالمبلغ المالي النقدي الذي تحمله.

وفي الحقيقة ينبغي أن يُعدَّ ما ذكر دليلاً على عدم تقوُّم اعتبارية البطاقة بذاتها بالقيمة النقدية، ولم يقُم الاعتبار المصحّح للعمل بها على إعطائها صفة الماليّة النقديّة،

ص: 19


1- ذكر ذلك بعض علماء العامة حينما جعلوا بيع الرصيد بيعا للمنفعة .

بل هي وثيقة على مال آخر. فمن هنا لا يعد القابض لها قابضاً لنفس المال الذي تمثله، ولا تقع بذاتها ثمناً لشيء آخر، إلاّ بلحاظ منفعتها.

إلاّ أنّ ما ذُكر لا يلازم أيضاً انتفاء سنديّتها على القيمة النقدية، ويجتمع مع عدها وثيقة أو مفتاحاً للوصول لمال نقدي آخر. وذلك راجع إلى نوعية وغرض المعتبر من اعتباره.

التوجيه الأول لماليّة بطاقة الشحن
اشارة

وبعد هذه المقدمة في تصوير السند المالي لمختلف الاعتبارات القانونيّة التجاريّة التي يصدرها المجتمع العقلائي على هيئات وسندات مختلفة، يقع الكلام في تصوير الغرض الذي من أجله أصدرت بطاقات الشحن في خدمة الاتصال على الهاتف المحمول وغيره، وحقيقة الأصل المالي الذي تمثله والذي سيكون موضوع الأحكام الشرعية للتعاملات التجارية الواقعة عليها.

والتصوير الأول قائم على كون المعاوض عليه في تلك البطاقة أو (الرصيد) هو المنفعة التي تلتزم بها الشركة المصدِّرة لها، والخدمة المقدرة مقابل ثمن البطاقة، تكتبه على وجه البطاقة، كعشرة آلاف دينار، أو عشرة دولارات، فهي ملزمة مقابل المال الذي تقبضه إزاء ها أن تؤدي خدمة اتصال لساعتين - مثلاً - أو أكثر محسوبة عندها بمعدل مائة دينار للدقيقة الواحدة مثلاً، وبذلك تكون الشركة قد باعت أو آجرت منفعتها بهذه الطريقة المسماة عندهم (بالدفع المسبق)، والمعروف بالشرع الإسلامي ب-(السَلَم) بتقديم الثمن مع ضمان المثمن في الذمة لوقت محدّد.

ولا يخفى ما في هذه الطريقة من التسهيل في استيفاء أجور المكالمات اعتماداً على الأرقام السرية في سطوح البطاقات بدلاً من العلاقة مع المستفيد مباشرة.

ص: 20

ولكن هل المقصود للشركة فعلاً هو ذلك؟ وأنّ موضوع بطاقة الشحن هو المنفعة بلسان المبلغ النقدي؟ وهل يصحّح المُشرِّعُ الإسلامي، وقواعد باب المعاملات السَلَم في المنافع أو بيع المنفعة ؟

يمكن أن يقال: إنّه لو كان بناء الشركة في بذلها للمنفعة على نهج واحد، بأن تكون الدقيقة الواحدة من خدمة الاتصال - وبأي جهة كانت من القرب والبعد، والمحلي والدولي - بنفس المالية في العوض، أمكن أن تقصد من بطاقاتها دقائق أو ساعات معينة من الخدمة ما دامت المنفعة المبذولة واحدة.

وبالتالي يمكنها أن تقصد في البطاقات ماليّة منفعة محدّدة بالساعات والدقائق. ولكن لا يمكن بيع هذه المنفعة ببيع البطاقة؛ لأنَّ المنافع لا تقع مثمناً في البيع وإن صحَّ أن تقع أثماناً. ويرجع هذا التحديد إلى اعتبار العقلاء نفسه، فهم جعلوا الأعيان تُنقل بالبيع والمنافع مورداً للنقل بالإجارة. وهذا بنفسه كاشف عن عدم صحة وقوع المنافع مورداً للبيع، والمفروض أنّ الشارع لم يردع عن هذا البناء منهم وأمضاه بأدلة الإمضاء.

وبيع السَلَم مورده الأعيان، فلا مجال للمنافع فيه. ومن الطريف تعبير البعض عن الرصيد ببيع الدقائق. ولا معنى له، لان الدقائق ليست أموراً عينيّة لكي يقع عليها البيع، و المنفعة المحسوبة بها ليست موضوعاً للبيع.

التصوير الشرعي لتعجيل دفع أجرة المنفعة

وهل هناك مجال للمعاوضة على المنفعة بتعجيل ثمنها وتأجيل استيفائها؟

والجواب: نعم، ويقوم الشرط في الإجارة بتكفل الإلزام بأخذ الأجرة مقدمة على استيفاء المنفعة، فيكون شراء الرصيد في الحقيقة دفعاً مسبقاً لأجور وقت محدد من خدمة الاتصال تلتزم الشركة بالوفاء بها بترقيم الرقم السري على شبكتها، والدفع

ص: 21

المسبق مشروط على المشترك بمقتضى علمه بطريقة عمل الشركة عندما تعاقد معها على شراء خط من خطوطها ووافق عليه. ولكن هذا التصوير يواجه مشكلة تتعلق بمجهولية نوع وكم المنفعة التي يُراد استيفاؤها من الشركة كما لا يخفى. فإنّ التعامل قائم على أن يكون هذا الرصيد غطاءً لكل ما يمكن أن يستفيده المشترك من خدمات شركة الاتصال التي قد يستجد بعضها حتى بعد شراء رصيده الذي لم تكن تلك الخدمة الخاصّة منظورة فيه قطعاً. كما ويعارض هذا التصوير ظاهر بناء الشركة المعاملي والتزامها، وسيأتي الكلام عن ذلك.

طريقة الجُعالة والإباحة بالعوض

وتفادياً لمجهولية المنفعة التي يفترض أن تكون معلومة في الإجارة قد يُصار الى بناء المعاملة على الرصيد على إيقاع الجُعالة، من حيث سعته واحتماله للجهالة في العمل المعاوض عليه. فقد يخطر في البال عَدُّ ما تبذله الشركة من منفعة الاتصال مقابل قيمة الرصيد نوعاً من جعل المنفعة في الذمة لمن يبذل مالاً معيناً معلوماً من طريق فئة البطاقة التي يصدرها الجاعل، فيكون نظير ما ذكره بعض الفقهاء في جعل منفعة الدار جُعلاً لمن يبذل الدراهم(1).

كما قد يقال بتنزيل المعاملة على (الإباحة بالعوض)، فتبيح الشركة منفعة الاستفادة من شبكتها مشروطة بالمال المبذول إزاء البطاقة. ولكن ذلك مبتلى أيضاً ببعض المحاذير المشار إليها بطريق الإجارة كما يظهر بالتأمل.

هذه هي الطرق الشرعية المتصورة في المعاوضة على منفعة الاتصال عن طريق ما

ص: 22


1- مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة ص79.

يسمى ب-(الدفع المسبق)، أو شراء الرصيد في بطاقة الشحن، بإجراء المعاملة على المنفعة مباشرة من دون توسيط معاملة ماليّة أخرى.

المناقشة في وفاء المعاملات المذكورة بمقصود صاحب المنفعة

ومع التأمل في طريقة تعامل شركات الاتصال مع المستفيدين منها، والغاية التي من أجلها أصدرت بطاقات الشحن هذه، تضعف الحلول المذكورة من الإجارة والجُعالة وغيرها عن القيام بطريقة عمل الشركات وتحقيق غاياتها في العمل.

ونركز ذلك في نقاط:

1- إنّ أول داع لشركة الاتصال لأن تبني منفعتها على طريقة الرصيد والدفع المسبق هو تعدّد خدماتها، وتباين قيمها وتفاوتها، فإنها تريد أن تأخذ قيماً ماليّة على دقائق الاتصال الخارجي ضعفي أو ثلاثة أضعاف قيمة الدقيقة من الاتصال الداخلي، (وتارة) تؤدي خدمة الاتصال بالمكالمات الصوتية. (وأخرى) بنقل بيانات الإنترنت المحسوبة بالكيلو بايت أو الميكا بايت. (وثالثة) بتأدية خدمات أخرى من قبيل المعلومات. كما تتقدم إبتداءً واقتراحاً على المشترك بخدمات جديدة كمّاً أو نوعاً، كتحميل النغمات أو تحميل الصور وما شابه ذلك من خدماتهم التي تتسع يومياً، لتخصم أجورها ممّا فرضته من الرصيد مسبقاً إزاء ما دفعه المشترك.

ولا يمكن وحال الخدمة هذه، أن يكون المال الذي استوفته الشركة لقاء البطاقة هو ما اُدعي من كونه يمثّل ساعتين من وقت الاتصال بمنفعة معلومة، ليصُحَّ تنزيل المعاملة على الإجارة كما هو واضح، فإنَّ من أركان عقد الإجارة فقهياً أن تكون المنفعة معلومة ومضبوطة ومع هذا التفاوت والتعدد، والابتكار والاقتراح للخدمة أحياناً من

ص: 23

دون التباني عليها قبل العقد أو البذل للمال، كيف يصح عد ذلك من الإجارة مع مجهولية ما يستوفيه المشترك من طبيعة الخدمة ونوعها!

وعلى هذا لا يمكن جعل قيمة البطاقة أُجرة منجّزة لمنفعة مجهولة، بخلاف ما لو كان الاستيفاء الفعلي للخدمات من جهة المشترك مُبرزاً في كل مرة لمعاملة معاطاتيّة تتقاضى الشركة عوضها من مالٍ مُسبق الدفع في ذمة الشركة، فتكون المنفعة وعوضها معلومين مقصودين حين إنشاء التبادل بينهما ولو معاطاةً.

إلاّ أنّ سؤالاً يبرز هنا عن وجه اشتغال ذمة الشركة بالمال الذي تخصم منه أُجور خدماتها في كل مرة طلبت منها الخدمة بأنواعها والمسمى بتداولها (بالرصيد)؟

ما دام لم يقع أجرة مقدّمة عن منفعة معلومة في الذمة، أو عملاً ببذل المال، أو إباحة لمال مُعوَّض. وسيأتي التوجيه المناسب لذلك.

2- وأمّا الجُعالة ببذل المنفعة لمن يبذل ويعطي قيمة البطاقة، على أن يكون الجُعْل هو منفعة الاتصال، والعامل هو مَن بذل قيمة البطاقة؛ لتقوّم الجُعالة بتقدّم العمل، والخدمة متأخرة في مقامنا عن البذل المسبق، فالبذل هو الواقع موقع العمل، فذلك وإن كان يُتخلَّص به عن إشكال مجهولية المنفعة في الإجارة لكونها مغتفرة في الجُعالة، خصوصاً من جهة الجُعل لا العمل لكونه معلوماً هنا - وهو بذل مال محدد -، إلّا أنّها تواجه عدة صعوبات:

منها: ما مرَّ من عدم انضباط خدمة الشركة كمّاً ونوعاً، واختلاف قيمها بنظرها، ومثل هذه الخدمة لا يمكن بناء الشركة على بذلها بعوض واحد، أو جعلها في الجُعالة ببذل عوض ثابت وهي تريد تعرفتها وتجزئتها بحسب قيمها، وإنّما يصحّ في المنافع التي لا يقصد باذلها كونها مقابل العوض جملة واحدة وإن تفاوتت في القيمة بحسب عمود

ص: 24

الزمان أو لم تكن متفاوتة بنوعها بحسبه.

ومنها: إنّ البائع للبطاقة المأخوذة من الجاعل من دون الاستفادة منها – لقيام هذه الخدمة على تداول البطاقات ابتداءً من وكلاء الشركة وصولاً إلى المستفيد النهائي – إنّما يقوم ببيع حقه على الشركة بالانتفاع مقابل عمله ببذل المال إزاء البطاقة التي جعلت الشركة له منفعة الاتصال جعلاً قبال عمله هذا. والمشهور كما تقدّم عدم جواز بيع المنفعة كما لا يصحّ إيجار المنافع المملوكة المجهولة كمَّاً ونوعاً، إلاّ أن يكون نقل البطاقة من الحائز لها إلى الآخر، هو جعالة أخرى بجعل المنفعة على ذمة الشركة عوضاً وجعلاً لعمل الآخذ لها ببذل قيمتها.

وعلى ذلك فلا تُمثِّل القيمة المكتوبة على البطاقة - ك- عشرة آلاف دينار - مالاً فعلياً في ذمة الشركة، بل منفعة مبذولة تتوصل الشركة لتحديد قيمتها وحدودها بهذه الطريقة، ولتمكّن المستفيد بالتالي من معرفة حدود وطريقة استهلاكه لمنفعته، فإذا أجابه المجيب الآلي بأنّ (رصيدك أصبح ثمانية آلاف دينار) فهو بالحقيقة يُعلمه بنقصان المنفعة التي له على الشركة بموجب الجعالة بوحدة قياسية معلومة مقدارها الدينار من دون أن يكون له على الشركة ثمانية آلاف دينار حقيقة.

وهذه التوجيهات مخالفة لظاهر مقصود المتعاملين بإيقاع المعاملة على نحو البيعيّة، لو ثبت أنّ الشركة تبذل المنفعة مقابل المال فعلاً.

ومنها: إنَّ الرصيد الافتراضي المذكور في النقطة السابقة لا يناسب ظاهر التزام الشركة المسجَّل في المجيب الآلي عند تعبئة الرصيد في جهاز النقال، أو عند معرفة الرصيد، أو عند الاشتراك في خدمة معينة، فإنَّ ظاهر معنى أنّ رصيدك كذا، أو حسابك كذا هو وجود مال مملوك للمشترك عند الشركة، تُستقطع منه أجور خدماتها، ولا

ص: 25

يمكن فهم هذا الحساب على جُعالة المنفعة، أو إباحتها بالعوض، لأنّ المنفعة غير الحساب، فلابُد من وجود نوع آخر من المعاملة أوجبت هذا الرصيد في ذمة الشركة.

ومنها: لو تأملنا في طريقة عمل الشركة لشككنا كثيراً في صدق كون أدائها للمنفعة عوضاً كما صورناها في الجعالة؛ ذلك أنّ الشركة لا ترى نفسها تؤدي خدمة أو منفعة مدينة بها مسبقاً، بل هي تقوم ابتداءً بتلبية الخدمة بحسب طلب المُشترِك، كما تعرض وتتعاطى مع المشترك على خدمات جديدة، من دون سبق التعاقد عليها في معاملة سابقة ولا كانت ملتزمة ببذلها ضمن خدماتها، فإذا وافق المشترك في الثانية، أو بذلت ما طلب المشترك قامت باستيفاء أجورها من المال الذي له في ذمتها بموجب شرائه للرصيد منها.

3- ما يُستأنس له من النمط العام العالمي في التعامل ببطاقات الدفع المسبق ومنها بطاقات الائتمان (Credit Cards)، إذ إنّ المصدِّر لهذه البطاقة يستخدم الغطاء المالي لصاحبها الموجود في البنك داعماً لها ليغطي مشترياته من المتاجر التي يشتري منها، فإذاً هي قائمة على أن يكون غطاؤها المالي باقياً على ملك المستفيد من البطاقة، ومنه تستقطع أجور المشتريات، وهذا يدعم فكرة قيام بطاقات الشحن على رصيد فعلي حقيقي مملوك للمشترك، لا مجرد رصيد افتراضي اعتبر لأجل حساب حدود المنفعة مقابل قيمة نقديّة معيّنة يدفعها المشترك لشراء البطاقة.

فتحصّل من جميع ما مرّ ضعف احتمال قيام الدفع المسبق في بطاقات الشحن (الرصيد) على إباحة المنفعة مقابل العوض ولو بعنوان الجُعالة، وبُعد افتراضيّة واعتباريّة الرصيد، وكونه آلة لحساب منفعة الخدمة المقدّمة من الشركة.

ص: 26

التوجيه الثاني لماليَّة بطاقة الشحن

وهو قائم على أن يكون المال المدفوع من المشترك لشراء بطاقة الشحن (الرصيد) هو بالحقيقة ثمن شراء عملة نقديّة، وهي المرقومة على سطح البطاقة بنحو عشرة آلاف دينار أو عشرة دولارات، والغاية من شراء هذا المبلغ النقدي اتخاذ رصيد للمشترك عند الشركة وتأمين غطاء وحساب له عندها ترجع عليه لتخصم منه أجور خدماتها بمختلف تعريفاتها وأنواعها.

وهذا هو التوجيه المناسب لواقع إخبار المجيب الآلي الذي تضعه الشركة دالاً على الحساب الفعلي، وهو المُشترى بقيمة البطاقة المشتراة ، والمعوَّض بالعوض المدفوع.

وبه نخرج عن الإشكالات المارّة الذكر، ويقع التطابق مع ظاهر التزام الشركة، ومعنى الدفع المسبق المستعمل في مثل هذه التعاملات.

ولكن مع ذلك تحتاج هذه المعاملة المالية التي آلت إلى شراء مبلغ معين من عملة رائجة إلى تتميم - بعد وضوح أنها آلة يتوصل بها إلى دفع أجور خدمات شركة الاتصال -؛ فإنّه مع هذا القصد من الطرفين، المشترك والشركة لابد أن تقيد المعاملة بشرط يوجّه عدم مطالبة المشتري بنفس المال المشترى، وعدم إلزام الشركة بتوفية المبيع بعنوانه.

ويمكن أن يعالج ذلك بالشرط المبنيّة عليه المعاملة، وحاصله: كون المال المبيع باقياً عند البائع، تُحوَّل عليه كُلَفُ المكالمات وباقي الخدمات مسبوقة الدفع، لا بعنوان توفية المنفعة المملوكة مسبقاً – بمقتضى التصوير الأول – كما توحيه عبارة (مسبق الدفع)، وإنّما تستقطع بعد تعاطي كل جزء من أجزاء الخدمة من هذا المال المسمى بسبب هذا الشرط ب-(الرصيد). فهو مال مُشترى ليكون رصيداً، نظير المال المودع في

ص: 27

البنك ليكون رصيداً لبطاقة الائتمان تستقطع منه قيم المشتريات بتلك البطاقة.

وبعبارة أوضح: إنّ مقتضى هذا الشرط إلزام المشتري بعدم المطالبة بالمال المشترى وإن كان تسليم المبيع ممّا يقتضيه إطلاق العقد في كل معاملة بيع، إلاّ أنّ هذا الشرط مقيد لذلك الإطلاق ، فلا يحق للمشترك المطالبة بالرصيد إذا قرر مثلاً التوقف عن الاتصال واستخدام خدمة الشبكة.

وأمّا استيفاء أجور خدمة الاتصال من ذلك المال فيمكن أن يكون شرطاً في معاملة شراء الخط من تلك الشركة، ويكون ذلك الشرط مقصوداً من الطرفين، إذ كان عمل الشركة مبنياً على تلك الطريقة في استيفاء الأجر، فمشتري الخط ملزم بدفع أجور المكالمات من رصيد يشتريه بعد ذلك، وبنظام الاستقطاع الذي تتكفل به أجهزة الشركة.

وبذلك يتضح: أنّ تنزيل امتلاك المشترك في شبكات الاتصال للرصيد المالي على شراء مبلغ من المال في ذمة الشركة بتلك الشروط، هو الأقرب لمقصود الطرفين، ولأهداف هذه المعاملة.

وبعد ذلك يقع البحث في شرعية المعاملات الواقعة على هذا الرصيد في أربع مسائل والمعاملات الشائعة هي:

1- بيع الرصيد نقداً (يداً بيد).

2- بيع الرصيد بثمن مؤجل (نسيئة).

3- بيع الرصيد مؤجلاً بثمن معجّل (بيع السَلَم).

4- تحويل الرصيد بين المشتركين.

ص: 28

المسالة الأولى : بيع الرصيد نقداً (يداً بيد)

لمّا تبين أنّ الرصيد هو مال نقدي بالعملة الورقية، فمعاملات البيع والشراء على بطاقات الشحن الدارجة تكون من نوع بيع الأوراق النقدية بجنسها متفاضلاً لو كان الرصيد فيها والثمن المشتراة به متحداً - كالدينار العراقي أو الدولار الأمريكي - أو أي عملة أخرى، ولا إشكال في هذه المعاملة مع فرض وقوعها نقداً من دون تأجيل الثمن ولا المثمن، فإنّ الجنس هنا وإن كان واحداً مع الزيادة عادة في طرف الثمن - فتشترى البطاقة من فئة عشرة آلاف دينار ب- أحد عشر ألف أو أكثر - إلاّ أنّ المعاملة ليست مورداً للربا، بعد أن لم يكن المبيع مكيلاً ولا موزوناً، ولا ربا إلاّ في مكيل أو موزون كما جاء في النص، ففي صحيح عبيد بن زرارة, عن الإمام الصادق (علیه السلام) : (لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن) (1)، وبنفس النص صحيح زرارة(2).

وإذا اُستشكل في المعاملة على غير المكيل والموزون نسيئة، بأن يؤجل الثمن من نفس جنس المعدود - وهو كل ما لا يكال ولا يوزن - فإنّما اُستشكل من جهة الربا في النسيئة؛ لورود بعض النصوص بالنهي عنه، وسيأتي الحديث فيه، إلّا إنّه لم يستشكل أحد في جواز بيع المعدود بالمعدود نقداً (يداً بيد).

ففي صحيح زرارة عن الباقر (علیه السلام) : (البعير بالبعيرين، والدابة بالدابتين يداً بيد ليس به بأس... الحديث)، وفي موثّق سُماعة سألته: عن بيع الحيوان اثنين بواحد؟ فقال:

ص: 29


1- وسائل الشيعة (طبعة آل البيت) ج 18ص 133 ح3.
2- وسائل الشيعة (طبعة آل البيت) ج 18ص 132 ح1.

(إذا سُميت الثمن فلا بأس)(1).

ولم تنقل المخالفة عن العلماء إلّا عن المفيد في المقنعة، وأبي علي الإسكافي (ابن الجنيد) وسلّار، فقد حكي عنهم أن حكم المعدود حكم المكيل والموزون، فلا يجوز التفاضل في المتجانسين مطلقاً نقداً ونسيئة. ولكن بعد دلالة النصوص وصراحتها، ومخالفة من عداهم، ومنهم الشيخ، والعلاّمة، والمحقّق، وغيرهم، وإمكان حمل كلامهم على النسيئة لتصريح المفيد في المقنعة بالجواز، كل ذلك لا يبقي مجالاً للشك في الجواز.

المسألة الثانية: بيع الرصيد بثمن مؤجل (نسيئةً)

اشارة

بأن يقبض المشتري الكارت أو بطاقة الرصيد، ويكون ثمنه مؤجلاً إلى شهر - مثلاً - أو أكثر، وهي الصورة المشكلة، والتي وقع الكلام في جوازها وعدمه، والإشكال من جهتين:

الأولى: إنّ بيع الرصيد بثمن مؤجّل هو بيع لمال من فئة معينة - تمثّل الرصيد - بمال آخر، إن كان من جنسه فهو داخل تحت مسألة بيع المعدود بجنسه نسيئة مع التفاضل بينهما؛ لأنّ المال هنا هو العملة المتداولة الورقيّة وهي من المعدود. والمشهور وإنْ كان على جواز بيع المعدود نسيئة، إلّا أنّه خالف جماعة في ذلك؛ لظهور بعض الأخبار في المنع لعلة الربا في المعدود الذي هو ظاهر جماعة من القدماء. وسيأتي تفصيله.

الثانية: في حال لم يكن الثمن المشترى به الرصيد من جنس العملة التي ضرب بها الرصيد، كما لو كان الرصيد بالدولار والثمن بالدينار العراقي، فهنا لا يوجد محذور أو إشكال بيع المعدود بجنسه، لاختلاف جنس العُملتين. نعم, يأتي إشكال الربا في النسيئة

ص: 30


1- وسائل الشيعة (طبعة آل البيت) ج 18ص 159ح15.

مع اختلاف الجنس في المعدود. ويدلّ عليه بعض الأخبار.

كما يبرز إشكال آخر وهو:

إنّ الرصيد الذي تبيعه الشركة في ذمتها يمثِّل ديناً عليها لمن يملك بطاقة الرصيد، فإذا أراد بيع هذه البطاقة بالثمن الآجل كان داخلاً في مسألة بيع الدين بالدين المجمع على عدم جوازه، وسيأتي الكلام فيه. أمّا كون الثمن ديناً فواضح؛ لأنّه يبيع بثمن مؤجل، وأمّا كون المبيع ديناً، فلأنَّ البائع للرصيد يبيع مالاً ديناً على ذمَّة الشركة بمقتضى إصدارها لهذه البطاقات كوثائق على بيعها للمال الكلي في ذمتها كغطاء لها حين إصدارها.

وهذا نظير من يريد بيع مائة ألف دينار عراقي له – مثلاً – في ذمة زيد حالّة بمائتي الف دينار عراقي، أو من فئة أخرى مؤجلة، فإنّه من بيع الدين بالدين الذي جاء النص بتحريمه. وهذا الإشكال مشترك الورود في حالتي بيع الرصيد بالآجل من جنسه ومن غيره.

بحث الجهة الأولى في المسألة الثانية
اشارة

وتفصيل القول في هذه الجهة من المسألة، أنّ في بيع المعدود بجنسه متفاضلاً قولين:

1- القول المشهور: وهو جواز بيع المعدود بجنسه متفاضلاً نسيئةً كبيع ثوب بثوبين وبيضة ببيضتين وبعير ببعيرين.

2- القول الثاني: ما ذهب إليه جماعة من حرمة ذلك اعتماداً على بعض الأخبار، وهو ما ذهب إليه الشيخ المفيد، وابن الجنيد، وسلّار، والشيخ الطوسي في بعض كتبه، وابنا حمزة وزُهرة.

ص: 31

قال الشيخ الطوسي (قدس سره) : (أمّا ما لا يكال، ولا يوزن فلا بأس بالتفاضل فيه يداً بيد والجنس واحد، ولا يجوز ذلك نسيئة مثل ثوب بثوبين، ودابة بدابتين، ودار بدارين، وعبد بعبدين)(1).

وفي الوسيلة لابن حمزة (قدس سره) : (يجوز التبايع فيه – يعني المعدود– متماثلاً ومتفاضلاً نقداً لا نسيئة، إذا كان من جنس واحد مثل بيضة ببيضتين، وجوزة بجوزتين وحُلّة بحُلّتين، فإنْ اختلف الجنس، جاز التفاضل فيه نقداً ونسيئة...)(2).

أمّا ابن زُهرة فقال في كتابه الغُنية: (ويجوز بيع الحيوان بالحيوان متماثلاً أو متفاضلاً سواء كان صحيحاً أو كسيراً نقداً، ولا يجوز ذلك نسيئةً في الظاهر من روايات أصحابنا، وطريقة الاحتياط تقتضي المنع منه)(3).

ويمكن عدُّ ثقة الإسلام الكليني (قدس سره) من المائلين الى الحرمة، إذ نقل كلاماً لعلي بن إبراهيم – شيخه الذي يروي عنه كثيراً في كتابه – نصَّ فيه على الكراهة، ولم يعلِّق عليه. والكراهة بلسان القدماء كلسان الروايات ظاهر في عدم الجواز، إلّا أن يخرج عنه بقرينة.

وفي مقابل هؤلاء ذهب الأكثر إلى جواز بيع المعدود بمثله نسيئة مع التفاضل، وللشيخ الطوسي (قدس سره) كلامٌ في كتابه الخلاف يمنع فيه بيع الثياب والحيوان ببعضه نسيئة ولو مع عدم التفاضل. ثم ذكر كلاماً بعده يصرّح فيه بجواز بيع المعدود متفاضلاً نسيئة نافياً كونه من الربا.

ص: 32


1- كتاب النهاية للشيخ الطوسي ص 375.
2- كتاب الوسيلة ص 254.
3- غنية النزوع ص 226.

قال: (الثياب بالثياب والحيوان بالحيوان لا يجوز بيع بعضه ببعض نسيئة متماثلاً ولا متفاضلاً، ويجوز ذلك نقداً. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يجوز ذلك نقداً ونسيئة)(1).

ثم قال: (دليلنا أنّا اجمعنا على جواز ذلك نقداً، ولا دليل على جوازه نسيئة. وطريقة الاحتياط تقتضي المنع منه) ثم قال بعد كلام له: (وقد بيّنا أنّه لا ربا إلاّ فيما يكال أو يوزن)(2).

ثم ذكر: (لا ربا في المعدودات، ويجوز بيع بعضها ببعض متماثلاً ومتفاضلاً، نقداً ونسيئة، وللشافعي فيه قولاًن)(3).

ثم قال: (دليلنا الآية، وأيضاً الأصل الإباحة، والمنع يحتاج إلى دليل، وأيضاً عليه إجماع الفرقة، وأخبارهم تدلّ على ذلك).

ولم يوافق ابن إدريس ولا الشهيد الأول في الدروس الشيخَ في كلامه الأول، فاعتبر ابن إدريس اختيار الشيخ الجواز في بيع نسيئة المعدود بمثله متفاضلاً، رجوعاً عن فتواه في النهاية بعدم الجواز، وقال: إنّ الحكم بالكراهة هو الحق اليقين. بينما اعتبر الشهيد حكم الشيخ في الخلاف بعدم الجواز في الثياب والحيوان بأنّه مبالغة.

قال (قدس سره) في الدروس: (وفي ثبوت الرباء في المعدودات قولان أشهرهما الكراهية لصحيحة محمد بن مسلم، وزرارة. والتحريم خيرة المفيد، وسلّار، وابن الجنيد. ولم نقف لهم على قاطع – أي دليل قاطع –. ولو تفاضل المعدودان نسيئة ففيه الخلاف.

ص: 33


1- الخلاف ج 3 ص46.
2- كتاب الخلاف ج 3 ص46.
3- كتاب الخلاف ج 3 ص50.

والأقرب الكراهية. وبالغ في الخلاف حيث منع من بيع الثياب والحيوان بالحيوان نسيئة متماثلاً ولا متفاضلاً)(1).

وكيف كان فهناك دعوى الإجماع على أنّ المعدود لا يدخل في الربويّات، وقد سمعت قول الشيخ في الخلاف بالنفي وكذلك ابن إدريس, وصرّح العلّامة في التذكرة وفي القواعد، وفي المختلف بذلك، وتبعه الكركي في جامع المقاصد.

قال العلامة (قدس سره) : (وهل يثبت الربا مع التقدير بالعدد؟ الأصحّ: المنع عملاً بالأصل، ولقول الصادق (علیه السلام) : لا يكون الربا إلاّ فيما يُكال أو يوزن)(2).

وقال في إرشاد الأذهان: (وما لا يدخله الكيل والوزن فلا ربا فيه كثوب بثوبين ودابة بدابتين، ودار بدارين، وبيضة ببيضتين، وقيل يثبت الربا في المعدود)(3).

ولكنّ القول الآخر بتحقق الربا في المعدود هو ظاهر المنع عن بيع المعدود ببعضه متفاضلاً نسيئة، كما ورد في بعض الروايات، فلذا تجد كلمات الشيخ الطوسي (قدس سره) مختلفة في كتبه، وحتى العلّامة الذي حكم بانحصار الربا في المكيل والموزون في التذكرة، والقواعد، احتمل تحقّقه في المعدود في بعض كتبه وجعله قولاً، كما رأيت آنفاً.

والظاهر أنهم اعتمدوا على الحصر الوارد في كلام الإمام الصادق (علیه السلام) في الرواية السابقة .

وكيف كان فالظاهر أن القدماء القائلين بتحقق الربا في المعدود من ظاهر منعهم لبيع المعدود ببعضه نسيئة مع التفاضل بينهما اعتمدوا على بعض الأخبار، والظاهر أن

ص: 34


1- الدروس الشرعية ج 3 ص 295.
2- التذكرة ج 10 ص 194.
3- إرشاد الأذهان ج 1 ص 379.

الحق معهم كما سيظهر من البحث القادم في الروايات.

موقف الجمهور من بيع الأجناس بنفسها متفاضلة نسيئة
اشارة

وننقل هنا ما حصلنا عليه من آرائهم كما جاء في كتاب المغني لابن قُدامة، لما في ذلك من مدخلية في الجمع بين رواياتنا في هذا الموضوع، قال:

((اختلف الرواية في تحريم النساء في غير المكيل والموزون على أربع روايات:

الأولى: لا يحرم النساء في شيء من ذلك سواء بيع بجنسه أو بغيره، متساوياً أو متفاضلاً، إلّا على قولنا أنّ العلّة الطعم، فيحرم النساء في المطعوم، ولا يحرم في غيره وهذا مذهب الشافعي، واختار القاضي هذه الرواية لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله

(صلی الله علیه و آله و سلم) أمر أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذه في قِلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة.

وروى سعيد في سننه عن ابن معشر، عن صالح بن كيسان، عن الحسن بن محمّد أنّ علياً باع بعيراً له يقال له (عصيفير) بأربعة أبعرة إلى أجل.

ولأنّهما مالان لا يجري فيهما ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالعَرَض بالدينار.

وقال ابن قدامة في شرح قول الماتن: (وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يداً بيد ولا يجوز نسيئة): إنَّه لا خلاف في جواز

التفاضل في الجنسين نعلمه، إلاّ عن سعيد بن جبير. وعلّل الحكم بروايتهم عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بغير خلاف يُعلم: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد.

الثانية: ونسب القول بحرمة النسيئة في كلّ مال بيع بجنسه، كالحيوان بالحيوان والثياب بالثياب إلى أبي حنيفة، ونسبوا كراهية بيع الحيوان بالحيوان نساءً إلى عبد الله بن

ص: 35

عمرو وعطاء وعكرمة بن خالد وابن سيرين والثوري، ورووا عن سمرة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) نهيه عن بيع الحيوان نسيئة وصحّحه الترمذي.

الثالثة: لا يحرم النساء إلّا فيما بيع بجنسه متفاضلاً، ورووا عن جابر عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) : (الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نساءً ولا بأس به يداً بيد) وصححه الترمذي.

الرابعة: يحرم النساء في كلّ مالٍ بيع بمالٍ آخر، تساوى الجنس أو اختلف. ووصفت هذه الرواية بالضعف.))(1).

هذا وقد وصف ابن قدامة أنّ العلّة في تحريم الربا في خصوص المطعوم من المكيل أو الموزون دون مطلق المطعوم، وكونها قول أكثر أهل العلم.

وقال في بدائع الصنائع: (ويجوز بيع المعدودات المتقاربة من غير المطعومات بجنسها متفاضلاً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف بعد أن يكون يداً بيد، كبيع الفلس بالفلسين)(2).

ويلاحظ على هذه الأقوال:

1- ذكَرَ ابن قدامة: إنّ أصحَّ الروايات الأولى، ونقل عن أحمد بن حنبل أنّ الأحاديث المخالفة لها غير معتمدة، وهي ما بين الإرسال، والزيادة في بعضها كلمة (نَساء) من الراوي الذي وصف بالواهي الحديث وإن كان صَدوقاً.

2- إنّ القول بالتحريم في النسيئة ببيع مطلق الأجناس بجنسها متفاضلاً لم يصدر إلّا من أبي حنيفة وأتباع مدرسته، مع أنّ الرواية الّتي رووها عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في النهي

ص: 36


1- المغني لابن قدامة ج 4 ص 131.
2- بدائع الصنائع ج 5 ص 185.

جاءت في خصوص بيع الحيوان بجنسه، وهي الّتي صحّحها الترمذي، وهي معارضة في موردها بما ذهب إليه الأكثر من الجواز اعتماداً على ما نقلوه عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلي (علیه السلام) ممّا مرَّ في القول الأوّل. وهو قول الأكثر وإنْ كان بعضهم قائلاً بالكراهة.

3- علّل الجمهور حكمهم بالجواز بما رووه عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) – كما جاء في القول الأوّل –: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد. فيظهر منهم أنّهم غير عاملين بمفهوم الوصف؛ لأنَّ الرواية فيها قيد (يداً بيد). وهم يجوّزون بيع مطلق الأصناف متفاضلاً حتى نسيئة.

وكيف كان فينبغي استعراض الأخبار في المسألة لمعرفة ما تدلّ عليه:

ويمكن تقسيمها إلى طوائف خمسة:

الطائفة الأولى: تدل على جواز بيع المعدود بجنسه متفاضلاً مطلقاً

1- موثّق منصور بن حازم سأل الإمام الباقر

(علیه السلام) : (عن البيضة بالبيضتين؟ قال: لا بأس، والثوب بالثوبين قال: لا بأس، والفرس بالفرسين؟ قال: لا بأس، ثمّ قال: كلّ شيء يُكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد، فإذا كان لا يكال ولا يوزن فليس به بأس اثنان بواحد)(1).

2- موثّق زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) : (لا بأس بالثوب بالثوبين)(2).

3- صحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله

(علیه السلام) : (لا بأس بالثوب بالثوبين إذا وصفت الطول فيه والعرض)(3).

ص: 37


1- التهذيب ج 7 ص 119.
2- التهذيب ج 7 ص 119.
3- التهذيب ج 7ص 119.
الطائفة الثانية: تدل على جواز بيع المعدود بجنسه متفاضلاً نقداً

1- ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن جميل عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) : (البعير بالبعيرين، والدابة بالدابتين يداً بيد ليس به بأس)(1).

وسند الجميع ينتهي إلى صفوان، وابن أبي عمير عن جميل...الخ، لكن الفقيه زاد بعد الرواية, وقال: (لا باس بالثوب بالثوبين يداً بيد ونسيئة إذا وصفتهما)(2).

2- صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله المروي في التهذيب: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن العبد بالعبدين، والعبد بالعبد والدراهم؟ قال: (لا بأس بالحيوان كله يداً بيد)(3).

الطائفة الثالثة: تدل على الجواز نسيئة

وتنحصر في رواية واحدة هي رواية الشيخ الصدوق لصحيح زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) المذكورة في الطائفة السابقة على تقدير كون ما ذكره بقوله: (وقال: (لا بأس بالثوب بالثوبين يداً بيد ونسيئة إذا وصفتهما)), زيادة على الرواية السابقة. وعلى تقدير كون هذه الزيادة رواية أخرى عطفها على الرواية الأولى، فهي مرسلة.

فقد جاء في الفقيه هكذا - بعد ذكر سنده إلى جميل بن دراج عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) -: (البعير بالبعيرين والدابة بالدابتين يداً بيد ليس به بأس). وقال: (لا بأس بالثوب بالثوبين يداً بيد ونسيئة إذا وصفتهما)(4).

ص: 38


1- الكافي ج 5ص 190، التهذيب ج 7 ص 118.
2- الفقيه ج 3 ص 279.
3- الكافي، التهذيب ج 7 ص 118.
4- الفقيه ج 3 ص 279.
الطائفة الرابعة: تدل على عدم جواز بيع المعدود متفاضلاً بجنسه نسيئة

1- صحيح سعيد بن يسار الذي رواه المشايخ الثلاثة، فبطريقٍ صحيحٍ في التهذيب عن سعيد عن أبي عبد الله (علیه السلام) : سألتُ أبا عبد الله (علیه السلام) عن البعير بالبعيرين يداً بيد ونسيئة، فقال: (نعم, لا بأس إذا سميت الأسنان جذعين وثنيين، ثم أمرني فخططت على النسيئة)(1).

وفي الفقيه زاد بعد الرواية: (لأنّ الناس يقولون لا، وإنّما فعل ذلك - أي: الأمر بالخط - للتقيّة).

2- صحيحة الحلبي بسند الشيخ عن الحسين بن سعيد، عن صفوان عن ابن مُسكان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ما كان من طعام مختلف أو متاع أو شيء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يداً بيد، فأمّا نظرة فلا يصلح)(2).

وهذه الرواية قد تُذكر في عداد الروايات الدالّة على النهي عن التفاضل في بيع الأجناس ببعضها نسيئة في حال اختلاف الجنسين، لقوله (علیه السلام) : (ما كان من طعام مختلف)، فحملت المعطوفات على تلك العبارة على صورة الاختلاف أيضاً. ولكن يمكن القول بأنّه لا دليل على كون المقصود بالمعطوف حالة الاختلاف أيضاً، بل هي مطلقة. والقرينة على ذلك أنّ ذكر الاختلاف بالنسبة للطعام من جهة خصوصية في الطعام، وهي معروفية اشتراط اتّحاد الجنس في تحقّق الربا في ما يكال منه، كالحبوب مثل الحنطة والشعير، فسيق البيان للتنبيه على استثناء صورة النسيئة من الحكم بعدم الربا عند اختلاف الجنسين.

ص: 39


1- التهذيب ج 7 ص 118، الفقيه ج 3 ص 281.
2- التهذيب ج 7 ص 93.

أما باقي المذكورات فلم يعلم كونها من المكيل أو الموزون، ولا يحتمل ذلك أيضاً ليقيّد عدم الجواز فيها بالاختلاف في الجنس، فلا خصوصيّة للاختلاف فيها ليحمل الحكم عليه، كما أنّه من البعيد التفصيل بين صورة التفاضل في المعدود مع الاختلاف فينهى عنه، وبين صورة الاتّحاد لكي يحتمل جوازه. ولم يذهب أحد إلى هذا التفصيل.

فهذه الرواية يمكن عدّها من الروايات الدالّة على النهي عن بيع المعدود بالمعدود نسيئة مع التفاضل مطلقاً، اختلف الجنس أو اتفق، وفساد ذلك البيع.

الطائفة الخامسة : تدل على عدم جواز بيع المعدود متفاضلاً بجنسه مطلقاً

1- ما رواه الشيخ الطوسي في التهذيب عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الثوبين الرديئين بالثوب المرتفع، والبعير بالبعيرين، والدابّة بالدابّتين. فقال: (كره ذلك علي (علیه السلام) فنحن نكرهه إلّا أن يختلف الصنفان)، قال: وسألته عن الإبل والبقر والغنم أو أحدهن في هذا الباب قال: (نعم نكرهه)(1).

2- صحيح ابن مُسكان عن أبي عبد الله (علیه السلام) : سئل عن الرجل يقول عاوضني بفرسي فرسك وأزيدك؟ قال: (فلا يصلح، ولكن يقول: أعطني فرسك بكذا وكذا وأعطيك فرسي بكذا وكذا)(2).

ص: 40


1- التهذيب ج 7 ص 120.
2- التهذيب ج 7 ص 120.
مناقشة الروايات في المسألة

أما روايات الطائفة الخامسة وهي من أدلّة القائلين بجريان الربا في المعدود، كالمفيد وسلّار وغيرهم، والتعبير فيها تارة بالكراهة وأخرى بعدم الصلاحية ظاهر في الحرمة والفساد في المعاملة، فلا تنهض حجّة على عدم جواز التفاضل في المعدود مطلقاً حتى نقداً، وإنْ كانت ظاهرة في ذلك، وذلك لنصّ الطائفة الثانية على جواز التفاضل في الجنس الواحد نقداً. فتصلح لتقييد إطلاق الطائفة الخامسة وحملها على صورة النسيئة.

كما أنّ الطائفة الرابعة صالحة لتقييد إطلاق الطائفة الأولى الظاهرة في جواز المعاوضة على الجنس الواحد متفاضلاً مطلقاً، وحمله على صورة النقد، لنصها على ذلك، وظهورها في عدم الجواز في خصوص النسيئة المفهوم من التعبير ب- (عدم الصلاح).

فإنّ التعبير ب-: (لا يصلح)، وإنْ ورد في بعض الموارد وأريد به مطلق المرجوحيّة الأعم من الحرمة، إلّا إنّه في غالب استعمالات الروايات جاء وأريد به المعنى المساوق لعدم الجواز خصوصاً في المعاملات لظهوره في الإرشاد إلى فساد المعاملة.

ولكنه لا يأبى الحمل على الكراهة الاصطلاحيّة بالقرينة، ومن هنا أمكن القول بكون روايات الطائفة الأولى الناصَّة على جواز بيع المعدودات بجنسها مع التفاضل قرينة على حمل الكراهة وعدم الصلاح الواردة في الطائفة الخامسة على الكراهة الاصطلاحية. وهي المرجوحيّة المجتمعة مع الجواز، بقرينة نصوصيّة الطائفة الأولى على الجواز.

ولكن ما ذكرنا من الجمع بين الطائفة الأولى والرابعة أولى بعد إمكان تقييد الحكم في الطائفة الأولى، وتقييده في الطائفة الخامسة مع المحافظة على ظهوره، فإنّ الجمع

ص: 41

العرفي يقدّم الخاص على العام، والمقيّد على المطلق قبل الجمع في ظهور نفس الحكم.

وبذلك تصلح الطائفة الرابعة لتقييد إطلاق الطائفة الأولى في حدود بيع المعدود بجنسه متفاضلاً نقداً فقط، وأما النسيئة فخارجة عن الحكم بالجواز بالتخصيص المستفاد من الطائفة الرابعة.

كما لا معارض للطائفة الرابعة، وإنْ نصَّت الطائفة الثالثة على الجواز بنقل الشيخ الصدوق (قدس سره) لذيل صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) : وقال لا بأس بالثوب بالثوبين يداً بيد، ونسيئة اذا وصفتهما. وذلك لأنّ هذه الزيادة لم تثبت لعدم وجودها في نقل الكافي، ولا في نقل الشيخ، مع أنّهما روياها بنفس الإسناد بطرقهما عن صفوان وابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) ، ولا يحتمل تعدّد الرواية مع وحدة السند والراوي.

نعم, يحتمل أنّ الشيخ الصدوق أشار بهذا إلى صحيحة محمّد بن مسلم التي نقلناها ضمن الطائفة الأولى. فقد جاء فيها بأنه لا بأس ببيع الثوب بالثوبين إذا وصفت الطول والعرض. فإنّ تعليق الإمام للجواز على الوصف كناية عن وقوع البيع نسيئة، فهو المحتاج الى الوصف لوضوح أنّ التقابض يداً بيد لا يحتاج إلى ذلك. لكن ذلك ليس واضحاً، فيمكن أن يجتمع فرض الوصف مع النقد أيضاً، لدخالة الوصف في البيع وعدم تحقّق الغرر في المعاملة، ولذا جُعل حق الخيار لمن تخلّف وصف مبيعه.

فيظهر من ذلك أنّ الطائفة الثالثة لا وجود لها حقيقة، أو لم تثبت بحجّة معتبرة، وإنّما ذكرناها في طوائف الروايات لنستوفي النقل في ذلك.

ومن العجيب ما أورده صاحب الجواهر (قدس سره) في ذيل صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله التي ذكرناها في الطائفة الثانية، فقد نقلها وفيها النص على جواز التفاضل في

ص: 42

بيع الحيوان بالحيوان (نسيئة). ولم أجد كلمة (نسيئة) في مصادر الحديث، ولا في نقل صاحب الحدائق، فإنّ الوارد في كتب الحديث (لا بأس بالحيوان كلّه يداً بيد) من دون كلمة (ونسيئة)، ولعلَّ الزيادة من سهو قلمه، أو كانت النسخة من المصدر الذي اعتمده في نقل الرواية فيه هذه الزيادة. وفي بالي أنَّه حدث مثل هذا للشيخ صاحب الجواهر (قدس سره) في موضعٍ من كتاب الحج أيضاً.

ومن هنا جعل (قدس سره) هذه الرواية - بالزيادة المذكورة - دليلاً على حمل الروايات الناهية عن النسيئة في الطائفة الرابعة على الكراهة، جمعاً بين ظاهر النهي ونصوصيّة الجواز. وقد عرفت عدم ثبوت الزيادة في الرواية وبالتالي بطلان الحمل المذكور.

فنتيجة الجمع استفادة الحكم بعدم جواز بيع المعدود بجنسه متفاضلاً نسيئة من الطائفة الخامسة بعد تقييدها وحملها على خصوص هذه الصورة.

النص على عدم جواز بيع المعدود بجنسه نسيئة

استفدنا من الجمع بين الروايات استبعاد احتمال عدم جواز التفاضل في المعدود نقداً, وأمَّا حكم النسيئة فيمكن استفادة عدم جواز التفاضل فيه - بالإضافة لما مرَّ - من صحيحة سعيد بن يسار، وصحيحة الحلبي في الطائفة الرابعة، كما يمكن استفادته من تقييد الحكم في الطائفة الثانية بالنقد (يداً بيد).

أمَّا الأولى، فيستفاد الحكم منها بعدم الجواز في النسيئة من أمر الإمام (علیه السلام) الراوي - سعيد بن يسار - بالخط على النسيئة - وظاهره الشطب على النسيئة الواردة في كلام السائل، لئلا يتوهّم شمول الجواز في الجواب لها - ، وهذا الفعل منه (علیه السلام) ظاهر في تقييد الحكم بالنقد الحال، وعدم الجواز في النسيئة.

ص: 43

وما ورد في ذيل الرواية من تعليل الخط بأنَّه من أجل التقيّة من المخالفين في رواية الصدوق، فالظاهر أنَّه من الشيخ الصدوق

(قدس سره) نفسه بتفسير منه، كما هو دأبه في بعض مواضع كتابه الفقيه، والذي حمله على ذلك، ذهاب العامَّة إلى عدم الجواز، وإلّا فالرواية بنقل الكليني والشيخ (عليهما الرحمة) خالية من هذا الذيل.

وعلى تقدير كون الزيادة من الراوي بنقل الصدوق فلا يمكن البناء عليه، إذ لا أصل عقلائي في موارد تعارض الزيادة في النقل مع النقيصة يساعد على إثبات هذه الزيادة، فإنّ أصالة عدم الزيادة لا تتقدّم على أصالة عدم النقيصة. كما أنَّ العامَّة – كما مرَّ عند نقل أقوالهم – قائلون بالجواز في بيع المعدود بجنسه متفاضلاً نسيئة، إلّا أبا حنيفة، ومن تبعه من مدرسته، وقد مرَّت روايتهم عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين بالقول بالجواز. وهكذا نسب الشيخ الطوسي إلى العامَّة القول بالجواز(1).

وعلى هذا لا وجه لحمل أمر الإمام بالخط على النسيئة على التقيّة، كما صنع الشيخ الصدوق، وتبعه صاحب الحدائق (قدس سره) . هذا حال الصحيحة الأولى.

وأما الصحيحة الثانية في الطائفة الرابعة، صحيحة الحلبي بسند الشيخ عن الحسين بن سعيد، فقد تقدَّم استفادة الحكم منها بعدم جواز بيع المعدود بجنسه نسيئة من التعبير الوارد فيها: (فأمَّا نظرة فلا يصلح) فإنَّه ظاهر في عدم الجواز، بل الفساد - كما مرَّ - ولا يُصغى إلى القول بظهورها في الكراهة.

بل الصحيحة توسّع دائرة عدم الجواز في النسيئة إلى المختلف من الأجناس في المعدود، ولا معارض لها من الطوائف الأخرى، أو مِنْ صحيح سعيد بن يسار في نفس

ص: 44


1- كتاب الخلاف ج 3 ص 46.

الطائفة، وإنْ نصَّ على قصر الحكم بعدم الجواز في النسيئة على تساوي الجنس، لأنَّ الحكمين مثبتان، ولا معارضة بينهما إلّا مع اتحاد موضوع الحكم، والحكم هنا انحلالي على المختلف بالجنس والمتّحد فلا معارضة.

يبقى الكلام عن الطائفة الثانية في دلالتها على عدم الجواز في النسيئة، فإنْ قلنا بظهور القيد في الاحتراز بقاعدة الاحترازية في القيود، أو ما يعبّر عنه بالمفهوم من المرتبة الثانية، إشارة إلى مفهوم الوصف كمرتبة أولى من المفهوم، والذي لم يثبت ظهوره من الوصف، فالظاهر أنَّ الحكم بالجواز لا يشمل النسيئة، لأنّ القيد ظاهر في الاحتراز عن ثبوت الحكم لطبيعي الموضوع على إطلاقه وسريانه، وإلّا كان ذكر القيد لغواً، وبلا مبّرر، فيكون نتيجة تقييد الحكم بجواز المعاوضة على المعدود بجنسه متفاضلاً بكونه نقداً المفهوم من قوله (علیه السلام) : (يداً بيد) هو عدم جواز المفاضلة في البيع في حال تأجيل الثمن في النسيئة، بل الحكم مقيّد بحال النقد المعبّر عنه ب-(يداً بيد).

أما احتمال كون القيد جيء به للإشارة إلى الحالة الغالبة كما في قوله تعالى: ﴿وربائبكم اللاتي في حجوركم﴾ فيحتاج إلى قرينة، وهي مفقودة هنا.

وتؤيّد هذا التقييد الطائفة الرابعة بعد عطف الحكم بعدم الصلاح في التفاضل نسيئة على الجواز يداً بيد، كما في صحيحة الحلبي.

والنتيجة:

لا يوجد في الروايات المتعرّضة لبيع المعدود بجنسه متفاضلاً ما يظهر منه الجواز في صورة النسيئة، بل ظاهر بعضها عدم الجواز بظاهر التعبير ب-(لا يصلح) أو (نكرهه) وغيره، أو بقاعدة احترازية القيود. والظاهر من سياقها تحقّق الربا في بيع المعدود بجنسه أو بغيره متفاضلاً، نسيئة.

ص: 45

نعم, لو ثبتت الزيادة التي يرويها الصدوق في بيع الثياب بجنسها نسيئة لدلَّ على الجواز، وكان قرينة على حمل الروايات المانعة على الكراهة، ولكن حتى لو ثبت ذلك فهو في خصوص الثياب.

وعلى ذلك فلا مبالغة من الشيخ في كتابه الخلاف – على ما وصف الشهيد في الدروس ونقلناه سابقاً – عندما حكم بالمنع من بيع الثياب بالثياب، والحيوان بالحيوان نسيئة مع التفاضل. نعم المنع منه في حال عدم التفاضل لا دليل عليه.

كما أنَّ اعتماد العلامة (قدس سره) في كتابه التذكرة في الحكم بالكراهة - تبعاً للمشهور - على إطلاق قول الصادق (علیه السلام) : (لا يكون الربا إلّا فيما يكال أو يوزن)، وعلى الأصل في المسألة, ويقصد به الأصل اللفظي كإطلاق قوله تعالى: ﴿أحَلَّ الله البيع﴾، و: ﴿تجارة عن تراض﴾، لا يمكن الاعتماد عليه بعد ورود الروايات المخصّصة في المنع من النسيئة، وظاهرها تحقّق الربا فيه.

ولعله من هنا ذكر ابن زهرة – على ما مرَّ النقل عنه في الغنية –: (ولا يجوز بيع الحيوان بالحيوان متماثلاً ومتفاضلاً نسيئة في الظاهر من روايات أصحابنا) فإنَّه استفاد عدم الجواز في النسيئة من الروايات. وعلى هذا فإذا لم يكن القول بعدم جواز بيع المعدود بجنسه متفاضلاً نسيئة هو مقتضى النص في المسألة، فلا ريب أنَّه موافق لمقتضى الاحتياط، بعد ورود الأخبار به، وإن استشكلنا في دلالتها، وعمل الأصحاب المتقدمين عليه، كما احتاط صاحب الشرائع بقوله: (وفي النسيئة تردد والمنع أحوط) وكذلك الفقيه ابن زهرة.

ص: 46

ثمرة البحث في ربا المعدود

تقدَّم في صدر البحث عن حكم بيع الرصيد بالآجل إنَّه داخل في كبرى حكم بيع المعدود متفاضلاً نسيئة مع اتّحاد الجنس فيه. وعلى هذا فإنْ كان الرصيد متّحد الجنس مع عوضه المشترى به كالدينار العراقي, أو الدولار, فقد باع كلّيّاً معدوداً في الذمة بأكثر منه مؤجلاً – نسيئة –. فإنْ بنينا على فتوى المشهور بالكراهة جازت هذه المعاملة وصحّت, وإنْ قلنا بالفساد، للنهي عنها في بعض الأخبار، أو احتطنا في المسألة تبعاً لمن احتاط كالمحقّق وابن زهرة رعاية لبعض الوجوه فيكون المنع من هذه المعاملة أحوط.

وأما مع اختلاف جنس الرصيد عن عوضه, فقد عرفت دلالة صحيحة الحلبي، وكذلك إطلاق صحيحة محمّد بن مسلم في الطائفة الخامسة على عدم الجواز، ويبقى الإشكال من جهة أخرى كما سيأتي بحثها في الجهة الثانية من هذه المسألة.

شبهة القرض الربوي

يُذكر في مسألة بيع الأوراق النقدية إشكال مفاده: إنَّ المعاملة بها نسيئة تكون قرضاً بصورة البيع، فمن باع مائة ألف دينار مقبوضة نقداً ب- مائة وخمسين ألف مؤجلة, فهو في الحقيقة يقرض المائة ألف بزيادة خمسين ألف، ومن هنا يمنع الفقهاء هذه المعاملة مع اتحاد الجنس.

والجواب عنها: ما ذكره غير واحد من الفقهاء من أنَّ هناك فارقاً بين البيع والقرض في معناهما, فالبيع تمليك مال بعوض، والقرضُ تمليكُ مالٍ مع ضمان مثله في الذمّة, والضمان غير المبادلة بالعوض، فهما مختلفان عرفاً وحقيقةً. وإذا اعتبرت المغايرة

ص: 47

بين الثمن والمثمن في البيع دون القرض كفى في كون أحد العوضين كلياً في الذمّة والآخر عيناً شخصيّة, فإنّ وعاء الاعتبار غير الخارجيّ الشخصيّ, وفي بيع الأوراق النقدية كون المعوض كلياً في الذمّة في مغايرته للثمن من ناحية كون الثاني مشخّصاً خارجيّاً والأوّل اعتبارياً. ومن هنا اعتبروا بيع عشرين كيلو من الحنطة شخصيّة أو كليّة بعشرين كيلو مؤجلة من الربا المحرّم مع أنَّه لو كان قرضاً لم يكن ربوياً، لتقوّم القرض بالمثليَّة, وصدق الزيادة في الكلّيّ المؤجّل بالبيع.

بحث الجهة الثانية في المسألة الثانية

تقدَّم في عنوان المسألة الثانية وهي بيع الرصيد بثمن مؤجّل (نسيئة) أنَّ هناك جهتين من الإشكال. الجهة الأولى تقدَّم الكلام فيها تفصيلاً. وأمَّا الجهة الثانية فهي دخول بيع الرصيد بعملة من غير جنسه نسيئة تحت مسألة بيع الدين بالدين والمشهور عند الفريقين حرمته.

نعم, وقع الكلام في شمول كبرى الحكم للدين الذي تحقّق بنفس العقد ولم يكن سابقاً عليه، كما هو فرض مسألتنا، باعتبار أنّ ثمن بطاقة الرصيد المبيعة بالآجل صار ديناً بعقد البيع، ولم يكن سابقاً عليه. نظير ما لو باعه ثمانمائة دولار ديناً في ذمة شخص آخر بمليون دينار كلّيّة ومؤجّلة إلى شهر أو أكثر, فهذا المليون دين بعقد البيع ولم يكن سابقاً عليه, فبعد تحقّق عقد البيع أصبحت المليون مضمونه على المشتري في ذمّته مؤجّلة. فدخول هذه الصورة في كبرى الحكم بالبطلان وإطلاقه محلّ كلام بين الأعلام.

والصورة المتيّقنة للحكم المذكور، هي ما إذا كان لكلِ واحدٍ من المتبايعين دين بذمّة شخص ثالث، أو كان دين أحدهما في ذمّة شخص رابع، فباع أحدهما دينه الذي في

ص: 48

ذمّة المدين للآخر، فكلا الدينين قبل عقد البيع، وهذه هي الصورة المتيّقنة من بطلان بيع الدين بالدين.

وأصلُ الحكم بفساد بيع الدين بالدين وبطلانه ثابت من طرقنا بما رواه طلحة بن زيد عن الإمام الصادق (علیه السلام)

قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : (لا يُباع الدين بالدين)(1).

وقد تلقّى الأصحاب الرواية بالقبول ولا يوجد في السند من يقدح فيه سوى طلحة بن زيد الراوي عن الإمام (علیه السلام) فهو بتري فاسد المذهب، إلّا أنّ الشيخ الطوسي قال: (إنّ كتابه معتمد). والظاهر أنَّ الاعتماد عليه جاء من وثاقة صاحبه، فيعدّ ذلك توثيقاً للراوي، فضلاً عن أنَّه من مشايخ صفوان بن يحيى المعروف بأنَّه لا يروي إلّا عن ثقة. فلا إشكال من جهة السند. كما وأنَّ الحكم مجمع عليه.

وأمَّا العامَّة فقد رووا عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنَّه قال: (لا يجوز بيع الكالي بالكالي). والكالي فُسِّر بالنسيئة وبالدين. وإنَّما الكلام في شمول الحكم لصورة ما إذا كان أحد الدينين ثابتاً بالعقد، ولم يكن سابقاً عليه .

وهل مثل هذه المعاملة مشمولة بحرمة بيع الدين بالدين؟

ذهب المشهور والأكثر - كما في تعبير بعضهم - إلى الحرمة، وأنَّها مشمولة

للحديث, ومنع جماعة من ذلك كالمحقّق في الشرائع، والشهيد الثاني في المسالك في كتاب الدين(2)، وفي الروضة، وهكذا بعض المتأخّرين كالأردبيلي(3)

(قدس سره) ,

ص: 49


1- الكافي ج 5ص 100.
2- مسالك الإفهام ج 3 ص 433.
3- مجمع الفائدة ج 9 ص 95.

والسبزواري(1) (قدس سره) ، وهكذا يستفاد من بعض كلمات العلّامة الحلّيّ (قدس سره) وإنْ يظهر منه القول بالحرمة في التذكرة(2)، والمختلف(3).

وأكثر المتأخرين على الحرمة لشمول النصّ لصورة تحقّق الدين بالعقد. وغاية ما قيل في عدم الشمول ما ذكره الشهيد الثاني

(قدس سره) في المسالك وفي الروضة، وحاصله:- إنّ الدين الممنوع منه ما كان عوضاً حال كونه ديناً بمقتضى تعلّق الباء به, والمضمون عند العقد ليس بدين وإنّما يصير ديناً بعده, فلم يتحقّق بيع الدين بالدين.

وقد استجود هذا الكلام السيّد الطباطبائي (قدس سره) في الرياض(4)، وكذلك صاحب الحدائق وإنْ لم يجزم بالمسألة(5).

إلّا أنَّ الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره)

ردَّ على ذلك بأنَّه: ليس المراد من النصّ بأنْ يكون الدينان قبل العقد، لأنَّ تعلّق الباء أعمّ, فهي لا تقتضي أزيد من كون العوض حين جعله عوضاً ديناً, ولا يلزم في هذا الإطلاق كونه ديناً سابقاً.

فيمكن أنْ يُراد بالدين مقابل العين والحال - أي الكلّيّ الحال مقابل الكلّيّ المؤجّل الذي هو الدين المقصود - أي لا تبع الدين بهذا الصنف من البيع, فأل التعريف للإشارة إلى هذا القسم من البيع المعهود في الذهن, دون البيع بالكلّيّ الحال الذي لا يسمّى ديناً عرفاً, فلا يصحّ النقض به(6).

ص: 50


1- كفاية الأحكام ج 1ص 535.
2- تذكرة الفقهاء ج 11ص 338.
3- مختلف الشيعة ج 5ص 371.
4- رياض المسائل ص 8.
5- الحدائق ج 20ص 18.
6- جواهر الكلام ج 24ص 347.

قال الفقيه اليزدي (قدس سره) في حاشيته على المكاسب: بيع الدين بالدين أقسام ثلاثة:

أحدها: أنْ يبيع الكلّيّ المؤجّل بالكلّيّ المؤجّل، وهو بيع الكالئ بالكالئ.

الثاني: أنَّه يبيع ديناً سابقاً على العقد بعد حلوله أو قبله، بدين كذلك.

الثالث: أنَّه يبيع ديناً سابقاً بكلّيّ مؤجّل أو بالعكس. وكلّ هذه الأقسام باطلة لقول الصادق (علیه السلام) في خبر طلحة بن زيد: قال رسول (صلی الله علیه و آله و سلم) : لا يباع الدين بالدين(1).

فتحصَّل من ذلك: أنَّ ثمن بطاقة الرصيد المبيع بالآجل هو دين تحقّق بنفس عقد بيع الرصيد، والمُثمن الذي بُذل بإزائه هذا الثمن دين كلّيّ في ذمّة الشركة لبائع البطاقة، فهو مشمول لإطلاق ما دلّ على النهي عن بيع الدين بالدين وفساده، على حسب رأي الأكثر، وهو الأحرى بالقبول.

المسألة الثالثة: بيع الرصيد مؤجلاً بثمن معجّل (بيع السَلَف أو السَلَم)

السَّلف أو السَّلم هو بيع كلّيّ مؤجل بثمن حال مقبوض، على عكس النَّسيئة، ويعتبر فيه أنْ يكون الأجل مضبوطاً والمبيع مقدَّراً بمقدار من دون جهالة توجب الغرر، وأن يُقبض الثَّمن قبل التفرُّق من مجلس البيع, وإلّا بطل البيع.

ثم إنَّ إطلاق النهي عن بيع المعدود بجنسه متفاضلاً يشمل الزيادة في طرف المُثمن كما ورد في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله

(علیه السلام) : (ما كان من طعام مختلف أو متاع أو شيء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يداً بيد، فأمَّا نظرة فلا يصلح).

والمؤيَّد برواية الشيخ (قدس سره) لحديث زياد بن أبي غياث بإسناده عن الحسن بن محمَّد بن سماعة، عن صالح بن خالد وعبيس بن هشام، عن ثابت بن شريح عنه عن

ص: 51


1- حاشية المكاسب ج 2 ص 174 (الطبعة القديمة).

الصادق (علیه السلام) : (ما كان من طعام مختلف...), وهو بنفس المتن السابق، ولكن في ذيله: (فأمَّا نسيئة فلا يصلح) بدلاً من قوله (علیه السلام) : (فأمّا نظرة فلا يصلح).

وكذا إطلاق ما دلّ على كراهتهم (علیهم السلام) لبيع الأجناس ببعضها مع الزيادة في صحيح محمّد بن مسلم الوارد في الطائفة الخامسة من الروايات الآنفة.

وفي مرسلة علي بن إبراهيم الطويلة: (وما عدّ عدّاً، أو لم يُكل ولم يوزن، فلا بأس به اثنان بواحد يداً بيد, ويكره نسيئة).

والكراهة في لسان الروايات خصوصاً في المعاملات ظاهرة في الفساد، لا الكراهة التنزيهيّة.

والحاصل قد دلّت الروايات الصحيحة وغيرها على النهي عن بيع المعدود وغيره - ممّا لا يكال ولا يوزن - متفاضلاً مع تأجيل أحد العوضين, وهو قانون واحد سواء في النسيئة بتأجيل الثمن، أو في السلف بتأجيل المُثمن مع الزيادة, وتقدَّم أن ظاهر هذا النهي هو التحريم المؤيَّد بفتوى القدماء كالمفيد، وسلّار، وابن الجنيد وابن البرّاج، والشيخ في بعض كتبه. نعم، على فتوى المشهور في بيع المعدود نسيئة وسلفاً الحكم هو الكراهة لا غير. فبيع الرصيد سَلَماً مع تعجيل الثمن بزيادة لو لم يكن غير جائز فتوىً فمقتضى الاحتياط المنع منه.

المسالة الرابعة : تحويل الرصيد بين المشتركين

تقوم شركات الاتصال بتوفير بعض الخدمات لمشتركيها، ومنها ما يُسمّى بتحويل الرصيد، وذلك بخصم مقدار مالي مِنْ رصيد مَن يطلب تلك الخدمة وإضافته إلى رصيد مشترك آخر ليتمكن من إتمام مكالماته، وتتمّ تلك العملية مجّاناً من الواهب،

ص: 52

وتأخذ الشركة من رصيد المعطي جزءاً لقاء قيامها بذلك التحويل، ويمكن أنْ يبيع مالك الرصيد ذلك المقدار المحوّل إلى غيره لقاء عوض مالي نقداً أو نسيئة، أو حتّى سلفاً.

ويمكن تصوير الحكم الشرعي لتقاضي الشركة مبلغاً من رصيد المحوّل لإتمام عملية التحويل، على أنَّه جُعالة من المحوِّل المعطي، أو أجرة على عمل الشركة بالتحويل، وأمَّا امتلاك المحوَّل إليه للرصيد في ذمة الشركة، فهو جائز بعملية بيع، أو هبة يقوم بها المحوِّل لجزءٍ من المبلغ الكلّيّ للرصيد الذي له في ذمة الشركة، فتنتقل ملكيته إلى المستفيد الآخر المحوَّل إليه، فهو بيع للمملوك في ذمَّة الغير، أو هبة.

ولا إشكال في صحَّة المعاملة حالة البيع مع كون الثمن نقديّاً من جنسه كالدينار العراقي بمثله، وفي حال كون الثمن مؤجلاً من نفس جنس الرصيد يأتي إشكال الربا في النسيئة السابق بمقتضى المنع عن المعاوضة بين الأجناس بالتفاضل آجلاً، أو الكراهة على فتوى المشهور.

هذا، ويمكن إتمام المعاملة بين الباذل للرصيد والمستفيد المحوَّل إليه عن طريق (الهبة المشروطة بالعوض) من المستفيد، والأرجح عدم جريان حكم الربا فيها، وإنْ كان العوض من جنس الرصيد كالدينار أو غيره، إذ لا يكون العوض المشروط في الهبة المشروطة عوضاً عن نفس المال الموهوب، وإنَّما هي – على الرأي الصحيح – هبة مجّانية مقابل هبة أخرى، والعوض المشروط شرط في التمليك وليس في مقابل المال الموهوب.

قال الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) : (وأمَّا الهبة المعوّضة - والمراد بها هنا: ما اشترط فيها العوض - فليست إنشاء تمليك بعوض على جهة المقابلة، وإلّا لم يعقل تملّك أحدهما

ص: 53

لأحد العوضين من دون تملّك الآخر للآخر، مع أنَّ ظاهرهم عدم تملّك العوض بمجرّد تملّك الموهوب الهبة، بل غاية الأمر أنَّ المُتهب لو لم يؤدّ العوض كان للواهب الرجوع في هبته، فالتمليك في الهبة المعوّضة مستقل كما في الهبة غير المعوّضة، فإنَّ حقيقة المعاوضة غير مقصودة)(1).

وقال الفقيه اليزدي (قدس سره) في معنى الهبة: (إنَّ الهبة تمليك مجاني صرف لم يلاحظ فيه خصوصيّة وعنوان آخر، ولا تخرج الهبة المعوّضة عن التعريف؛ لأنَّها أيضاً مجّانيّة إذ العوض فيها ليس في مقابل المال الموهوب، بل هو شرط في التمليك، ففي الحقيقة هبة مجّانيّة في مقابل هبة مجّانيّة أخرى، هذا إذا اشترط العوض، وإلّا فلو لم يشترط التمليك لكن المُتَّهب عوَّض عنها، فعدم خروجها عن التعريف أوضح)(2).

وقال في حاشيته على المكاسب: (في جواز هبة المُصحف بالهبة المعوّضة: يمكن الجواز فيها من جهة أنّ العوض إنَّما هو في مقابل الهبة لا المُصحف)(3).

ووافق المحقق النائيني (قدس سره) على كلام العلمين المتقدِّم كما في منية الطالب(4).

ويلاحظ أنَّ إتمام معاملة المعاوضة على الرصيد بطريقة الهبة المعوَّضة لا تتحقّق مع قصد البيع، فلا تفي هذه الطريقة إلّا في الحالات التي تناسب قصد الهبة وإنْ كان مع شرط التعويض. كما يمكن الفرار بها من إشكال الربا في البيع، كما مرّ المنع منه أو الاحتياط فيه.

ص: 54


1- كتاب المكاسب ج 3 ص 13.
2- العروة الوثقى ج 6 ص 19.
3- حاشية المكاسب ج 1 ص 31.
4- منية الطالب ج 1 ص 91.

مصادر البحث

1- القرآن الكريم.

2- الوسيلة: ابن حمزة.

3- النهاية: الشيخ الطوسي (ت 460ﻫ)، انتشارات قدس محمّدي.

4- التهذيب: الشيخ الطوسي محمّد بن الحسن, انتشارات قدس محمّدي.

5- المختلف: العلّامة الحلّيّ (ت 726)، مؤسسة النشر الإسلامي.

6- شرائع الإسلام: نجم الدين بن سعيد المحقّق الحلّيّ (ت 676).

7- التذكرة: العلّامة الحلّيّ (ت 726)، مؤسسة آل البيت.

8- المقنعة: الشيخ المفيد محمّد بن النعمان (ت 587)، مؤسسة النشر الإسلامي.

9- بدائع الصنائع: أبو بكر الكاشاني (ت 587)، المكتبة الحبيبيّة باكستان.

10- المغني: ابن قدامة عبد الله (ت 620)، دار الكتاب العربي - بيروت.

11- غنية النزوع: ابن زهرة (ت 585)، مؤسّسة الإمام الصادق.

12- الخلاف: الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، مؤسّسة النشر الإسلامي.

13- الدروس الشرعيَّة: محمّد بن مكي الشهيد الأوّل (ت 786)، مؤسسة النشر الإسلامي.

14- إرشاد الأذهان: مؤسّسة النشر الإسلامي.

15- مجمع الفائدة والبرهان: المقدَّس الأردبيلي.

16- الكافي: محمَّد بن يعقوب الكليني (ت 329ﻫ) دار الكتب الإسلامية - طهران.

17- من لا يحضره الفقيه: محمّد بن علي بن بابويه (ت 381)، مؤسسة النشر الإسلامي.

ص: 55

18- وسائل الشيعة: محمّد بن الحر العاملي مؤسسة آل البيت.

19- السرائر: ابن أديب الحلّيّ (ت 598)، مؤسسة النشر الإسلامي.

20- جواهر الكلام: محمّد بن الحسن الجواهري (ت 1226)، دار الكتب الإسلامية - طهران.

21- العروة الوثقى: السيد كاظم اليزدي (ت 1337)، مؤسسة النشر الإسلامي.

22- حاشية على المكاسب: السيد كاظم اليزدي.

23- منية الطالب: تقريرات الخوانساري للنائيني في المكاسب (ت 1355)، مؤسسة النشر الإسلامي.

ص: 56

استثناء الدین من الأرباح قبل تخمیسها - السَّيّد محمّد الحسينيّ (دام عزه)

اشارة

ص: 57

ص: 58

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين والصّلاة على خير ِخلقه محمّد وآله الميامين.

إذا حلَّ رأس السنة الخمسية للمكلَّف فوجد نفسه مديناً بمبلغ كألف دينار - مثلاً - فهنا سؤالان:

الأوَّل: إذا كان لديه من أرباح سنته ما يوازي دينه، فهل يحسب ذلك في مقابل الدين ويعفى عن إخراج خمسه أو لا؟

الثاني: إذا لم يكن لديه ما يوازي الدين من الربح ليُستثنى من الخمس أو قيل بعدم الاستثناء في مورد، فهل له أن يؤدي الدين من أرباح السنة اللاحقة قبل تخميسها أو لا؟

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأوَّل: في استثناء مقدار الدين من أرباح سنة حصوله

والدين على قسمين: فإنّه إمّا أنْ يكون ما يقابله مصروفاً، أو مستخدماً في مؤنة السنة، أو يكون غير ذلك، وفي القسم الثاني إمّا أنْ يكون له ما يقابله أو لا، فهنا صور:

الصورة الأولى: أنْ يكون ما يقابل الدين مصروفاً أو مستخدماً في المؤنة، كما لو اشترى نفقته من الطعام والشراب وغيرهما بالدين أو اقترض مالاً وصرفه في نفقته.

والمعروف بين المحقّقين استثناء مقدار الدين في هذه الصورة من أرباح تلك السنة.

وقد ذكر السيد الخوئي (قدس سره) في وجهه بيانين:

ص: 59

أحدهما: أنّ الخمس إنّما يتعلّق بالربح ولا يصدق الربح عند العقلاء على ما كان واقعاً في قبال الدين، فإنّ العبرة عندهم في إطلاق الربح أو الخسران بملاحظة مجموع السنة، فإنْ زاد في آخرها على رأس المال شيء لم يصرف في المؤونة فهو الربح وإلّا فلا.

وعليه فهم لا يعتبرون الربح - الذي بإزائه دين للمؤونة - ربحاً حقيقة وإنْ كان كذلك صورة، بحيث لو سُئل بعد انقضاء السنة: هل ربحت في سنتك هذه؟ لكان الجواب منفيّاً، إذ لا يرى شيئاً يزيد على رأس ماله بعد اضطراره إلى الصرف في أداء الدين.

ثانيهما: أنّه لو سلّم صدق الربح على ما يقابل الدين إلّا أنّه لا يجب إخراج الخمس من كلّ ربح بل من خصوص الربح الفاضل على مؤونة السنة بموجب النصوص الدالّة على ذلك.

والطريقة الّتي جرى عليها العرف - خلفاً عن سلف - في احتساب الربح الفاضل على المؤونة هي ملاحظة ما صرف من عين الربح، أو ممّا يقابله من الدين، أو من الأموال الأخرى في المؤونة، لا خصوص ما صرف من عين الربح.

فالعبرة في المؤونة المستثناة عن وجوب التخميس وإنْ كانت بما يصرف - ولذلك لو قتَّر الشخص على نفسه لم يستثن له بذلك المقدار - ولكن لا يشترط في الصرف أنْ يكون من عين الربح بل يكفي - بموجب ما جرى عليه العرف - الصرف من الدين المقابل للربح، أو الأموال الأخرى المخمّسة، أو غير الخاضعة للخمس.

وبالجملة: أن الصرف في المؤونة من الدين أو المال غير الخاضع للخمس ينزَّل عند العرف منزلة الصرف من الربح فيختلف عمَّا إذا قتَّر الشخص على نفسه في مؤنته.

وإذا كانت هذه هي الطريقة العرفيّة التي جرى عليها الناس متّصلاً بعصر

ص: 60

المعصومين (علیهم السلام) في كيفيّة احتساب المؤنة فلا محيص من أنْ تنزَّل عليها النصوص الدالّة على كون الخمس بعد المؤنة(1).

(أقول): البيان الأوَّل غير تامٍ، فإنّ النصوص الدالّة على ثبوت الخمس في الفوائد والأرباح لم تخصّ ذلك بالفوائد والأرباح السنويّة بهذا العنوان لكي يُقال إنّ الربح السنوي هو ما يزيد على رأس المال، وإنّما دلّت على ثبوت الخمس في كلّ ربح، ولا أثر للمؤنة المتجدّدة في صدق الربح على ما سبق ظهوره.

نعم, المؤنة السابقة قد تؤثّر في ذلك، فمن صرف على نفسه ألف دينار في مأكل ومشرب وملبس ونحو ذلك حتّى تيسّر له إنجاز عمل حصل من جرّائه على ألفي دينار لا يعدّ تمام هذا المبلغ ربحاً له، بل يستثنى منه مقدار ما صرفه في مؤنته، وأمّا المؤنة اللّاحقة لظهور الربح - كما هو محلّ كلام السّيّد الخوئي (قدس سره) - فلا أثر لها في صدق الربح على ما حصل عليه من قبل.

والحاصل: إنّ ما أفاده من البيان الأوّل غير تام، وأمّا البيان الثاني فهو تامٌ، ولكن قد اعترض عليه بعض الأعلام "دامت بركاته" بأنَّه لا سيرة من المتشرّعة في المسألة على ذلك بنحو تكشف عن ثبوته في زمن المعصومين (علیهم السلام) ووصوله إلينا طبقة بعد طبقة، ضرورة أنّ ثبوتها كذلك غير محتمل جزماً، وإلّا كانت المسألة قطعيّة في الفقه مع أنّها خلافية، وأمّا عمل الناس وعدم تقيّدهم بملاحظة أنّهم قد صرفوا في مؤنهم من نفس الفوائد والغنائم أو من أموال أخرى فلا قيمة له؛ لأنّه إمّا مبنيّ على فتوى جماعة من الفقهاء أو على التساهل والتسامح، ومن هنا كان عملهم في الخارج جارياً على عدم

ص: 61


1- يلاحظ مستند العروة الوثقى كتاب الخمس ص264.

الفرق بين أنْ يكون ذلك قبل ظهور الربح أو بعده، مع أنّ جماعة منهم يقولون بالفرق بين الحالتين(1).

والجواب عن هذا الاعتراض بأنَّه يمكن استحصال بعض القرائن الّتي تؤكّد أنّ الوضع على عهد المعصومين (علیهم السلام) لم يكن مختلفاً عمَّا هو المتعارف في هذه الأزمنة في كيفيّة احتساب المؤونة.

ومن هذه القرائن: أنّه لو بني على عدم استثناء الدين للمؤنة من الأرباح فلا بُدَّ أنْ يلتزم بمثل ذلك في ما يصرف في المؤنة من المال المخمَّس أو غير الخاضع للخمس لوحدة المناط فيهما، ولذلك لم يفرَّق بينهما هذا القائل، والتزم في كليهما بعدم الاستثناء(2)، مع أنَّ مقتضى عدم استثناء ما يصرف في المؤنة من المال المخمَّس أو ما بحكمه هو أنّ مثل التاجر الذي له رأس مال يستثمره بالبيع والشراء ويحصل على أرباحه تدريجيّاً يلزمه أنْ يعزل الربح عن رأس المال في كلّ عمليّة استرباحيّة ليتسنّى له أنْ يصرف في مؤنته خصوص الأرباح كي يبقى رأس ماله محفوظاً، وأمّا لو صرف في مؤنته من مجموع ما يحصل عليه من ثمن المبيعات المختلط من رأس المال والربح فسوف يكون معظم المصروف في المؤنة على حساب رأس المال، مثلاً لو كان معدَّل مبيعاته في اليوم بقيمة عشرين ألف دينار ومقدار الربح منها أربعة آلاف دينار، وكان يصرف في مؤنته اليومية من مجموع ذلك مقدار ألفين وخمسمائة دينار، فمع البناء على عدم استثناء المصروف في المؤنة من المال المخمَّس وما بحكمه يكون المحسوب منه

ص: 62


1- تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى ج7 ص158.
2- المصدر نفسه ص161.

على الربح مبلغ خمسمائة دينار فقط ويحسب الألفان الباقيان من رأس المال مما يؤدي إلى نقصانه باستمرار، مضافاً إلى تعذر تحديد الربح غير المصروف في المؤونة في نهاية السنة تمهيداً لإخراج خمسه بالنظر إلى تفاوت نسبة الربح باختلاف البيوع والمعاملات.

وهل يحتمل أنَّ تجّار الشيعة وأضرابهم في عهد المعصومين (علیهم السلام) كانوا يعزلون ما يستحصلونه من الربح في كل معاملة ليكون الصرف في المؤنة منه فقط، أو أنّهم كانوا في نهاية السنة يلتزمون باحتساب الجزء الأعظم ممّا صرفوه في مؤنهم من رؤوس أموالهم، ثمّ يتحيرون في تحديد المقدار الذي يكون مصروفاً فيها من الأرباح ويأخذون بالقدر المتيقن من ذلك، أو يرجعون إلى الإمام (علیه السلام) ، أو وكيله لغرض المصالحة في المقدار المشكوك؟!

لا يحتمل ذلك بل المؤكّد أنّهم - كتجّار اليوم - كانوا يصرفون في مؤنهم من الأموال المختلطة وفي نهاية السنة يستثنون رأس المال المخمَّس، فإنْ كان زيادة خمَّسوها وإلّا فلا.

ولو كان اللازم عليهم الالتزام بعزل الأرباح في أثناء السنة، أو احتساب معظم المؤنة من رأس المال لنبَّه على ذلك الأئمة (علیهم السلام) في النصوص الدالّة على ثبوت الخمس على التجّار وأضرابهم بعد مؤنتهم ومؤنة عيالهم، فإنّه أمرٌ على خلاف المعمول والمتعارف.

وأمّا ما قيل من أنّه لو كانت سيرة الناس على عهد المعصومين (علیهم السلام) جارية على استثناء المصروف من المال المخمَّس، وما بحكمه من الأرباح لكانت المسألة قطعية، ولم تكن خلافية. فليس صحيحاً فإنّه قلَّما توجد مسألة يتمسك فيها بالسيرة ولا تكون خلافية. ومنشأ الخلاف عدم التفات المخالف إلى السيرة، أو عدم اعتقاده حجيتها.

كما أنّ ما قيل من أنّ بناء الناس على عدم التفريق في الاستثناء المذكور بين ما يكون صرفه بعد ظهور الربح وما يكون قبله، مع أنّ جماعة من الفقهاء يقولون بالفرق بين

ص: 63

الحالتين.. لا يقتضي عدم الاعتداد بالسيرة، بل ينبغي جعلها حجّة على من يقول بالفرق المذكور، ويُستدل بها على عدم تمامية ما قيل من أنّ لكل ربح سنة مستقلة، حتى بالنسبة إلى أصحاب المهن والصنائع ونحوهم من الكسبة الذين يتعارف اتخاذهم تاريخ شروعهم في الكسب رأس سنة لهم، واستثناء ما يصرفونه في المؤنة من الربح المتجدّد في أثناء السنة.

والحاصل أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه معظم المحققين - كالميرزا النائيني والشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد الخوئي قدست أسرارهم(1) - من استثناء الدين إذا كان للمؤنة من أرباح سنة الصرف.

وجدير بالذكر أنّ بعض من قال بعدم الاستثناء في الدين وفي المال المخمَّس، أو ما بحكمه المصروف في المؤنة رام تصحيح الاستثناء بطريقة أخرى، فقال: إنّ الحاكم الشرعي بما أنّه ولي الخمس يجوز له أنْ يأذن للمكلفين في الاستقراض على حساب الأرباح والفوائد، أو في الصرف من مال آخر عندهم عوضاً عنها واستثناء ما يوازيه من الفائدة في نهاية السنة(2).

وهذا الكلام لم يظهر له محصّل إلّا أن يراد به إذن الحاكم الشرعي للمكلّفين بجعل خمس المال المصروف في مؤنتهم من غير الأرباح - قرضاً كان أو غيره - ديناً على ذمة الحاكم الشرعي بصفته ولياً على الخمس، ثم أداء هذا الدين من خمس الفوائد والأرباح.

ولكن يرد عليه بأنّه لا مبرر لإذن الحاكم الشرعي في ذلك، ولا أقل من جهة أنّ مصرف سهم الإمام (علیه السلام) هو تأمين الحوائج الضرورية للمؤمنين، وما يكون فيه ترويج

ص: 64


1- العروة الوثقى: 4/ 292، التعليقة: 1.
2- تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى ج7 ص160.

للدين الحنيف. ومصرف سهم السادة خصوص الفقراء منهم، فأيّ مجوّز لصرف الخمس في غير ذلك؟!

وبتعبير آخر: إنّما يجوز صرف الخمس في مؤنة صاحب الفائدة في إطار صرف الفائدة بتمامها في ذلك، وأمّا مع عدم صرف أربعة أخماس الفائدة في المؤنة - كما هو المفروض - فلابدّ من إخراج الخمس الخامس ودفعه لمستحقيه وليس منهم صاحب الفائدة نفسه. وأمّا الحاكم الشرعي فهو وإنْ كان يجوز له القرض على حساب الخمس وصرفه في مصارفه، ثم أداء القرض من الخمس إلّا أنّ المفروض في المقام عدم صرف ما يستقرضه صاحب الفائدة على ذمة الحاكم الشرعي إلّا في مؤنة نفسه فكيف يجوز له أن يأذن في ذلك؟!

(الصورة الثانية): أن يكون ما يقابل الدين موجوداً وغير مستخدم في المؤنة، كما لو اشترى قطعة أرض بدين وبقيت إلى آخر السنة من دون أنْ يستخدمها لسكناه.

وقد التزم بالاستثناء في هذه الصورة عدد من الفقهاء، قال السيد الخوئي (قدس سره) إنّه في المثال يقوّم الأرض، ويلاحظ الدين الذي عليه من ثمنها فبمقدار الدين لا ربح، وإنّما الربح في الزائد عليه لو كان فيجب تخميسه حينئذٍ(1).

ويُلاحَظ على ما أفاده (قدس سره) من وجوب الخمس في ارتفاع قيمة الأرض بأنّه إنّما يتمّ فيها إذا كانت الأرض معدّة للإتّجار بعينها، فإن ارتفاع قيمتها عن ثمن شرائها ربح كما أنّ انخفاض قيمتها عنه خسارة تُجبر من الأرباح.

وأمّا إذا كانت غير معدّة للإتّجار بعينها، كما لو اشتراها للاقتناء فارتفاع قيمتها ليس ربحاً خاضعاً للتخميس، كما أنّ انخفاض قيمتها ليس خسارة تُجبر بالربح.

ص: 65


1- مستند العروة الوثقى كتاب الخمس: 265.

(الصورة الثالثة): أن لا يكون للدين مقابل، كما لو اشترى سلعة بالدين فسرقت.

وفي هذه الصورة لا مجال لاستثناء الدين من الأرباح، إلّا إذا كان الدين متعلقاً بتجارته حيث يعدّ تلف ما يقابله خسارة يجوز جبرها من الربح السابق عليها.

فتحصل أنّ موارد استثناء مقدار الدين من الأرباح ثلاثة:

1- الدين الذي يكون للمؤنة.

2- الدين الذي يكون ما يقابله موجوداً.

3- الدين الذي تلف ما يقابله ويعدّ خسارة تجارية.

وعبارة السيد الخوئي (قدس سره) في المسألة (1231) من رسالة المنهاج(1) وان كانت تشتمل على استثناء المورد الأول فقط، حيث قال: (نعم إذا لم يؤد دينه إلى أن انقضت السنة وجب الخمس من دون استثناء مقدار وفاء الدين، إلّا أن يكون الدين لمؤنة السنة وبعد ظهور الربح فاستثناء مقداره من ربحه لا يخلو من وجه).

ولكن المورد الثاني مصرّح به في كتاب الخمس من مستند العروة الوثقى(2)، كما أنّ المورد الثالث ممّا يستفاد ممّا ذكره (قدس سره) في المسألة (1233) من رسالة المنهاج(3) أيضاً.

ص: 66


1- منهاج الصالحين: 1/ 338.
2- مستند العروة الوثقى كتاب الخمس: 265.
3- منهاج الصالحين: 1/ 339.

المقام الثاني: في أداء الدين من أرباح السنة الثانية قبل تخميسها

والدين إمّا أن يكون له ما يقابله أو لا، وعلى الأول إمّا أن يكون ما يقابله مستخدماً في مؤنة السنة الثانية أو لا، وعلى الثاني إمّا أن يكون اشتغال الذمة به بإتلاف مال الغير متعمداً بلا مبرر شرعي أو عقلائي، أو يكون على غير هذا الوجه، فهنا صور:

(الصورة الأولى): أن يكون للدين ما يقابله مع كونه مستخدماً في مؤنة السنة الثانية، كما لو اشترى داراً بالدين فحلّ رأس سنته الخمسية فسكنها، أو أنّه سكنها في سنة الشراء واستمر على ذلك إلى حين دخول السنة الثانية.

والظاهر أنّه لا إشكال في جواز أداء الدين من أرباح السنة الثانية من دون تخميسها؛ لأنّه من الصرف في المؤنة، وقد صرّح بذلك السيد الخوئي (قدس سره) (1).

(الصورة الثانية): أن يكون للدين ما يقابله ولا يستخدم في مؤنة السنة الثانية، وهنا ذكر السيد الخوئي (قدس سره) وتبعه بعض تلامذته أنّه لا يجوز أداء الدين من الربح بلا تخميس.

وذكر في وجه ذلك على ما في تقرير بحثه ما لفظه: (إذ بعد أنْ كان الدين مقابلاً بالمال، فلو أدّاه من الربح غير المخمَّس يبقى هذا المال خالصاً له بلا دين، فيكون زيادة على المؤنة فلابد من تخميسه، فليس له أن يؤدي دينه بلا تخميس لا بالنسبة إلى الربح ولا

ص: 67


1- مستند العروة الوثقى كتاب الخمس: 268.

الثمن(1)، بل لابد وأنْ يحاسب آخر السنة)(2).

وهذا البيان - كما ترى - لا يقتضي لزوم تخميس الربح قبل أداء الدين منه، بل مقتضاه أنّه لو أداه قبل التخميس يلزمه تخميس العين في آخر السنة، وهذا صحيح لا غبار عليه.

وقد ذكر بعض الأعلام "دامت بركاته" بياناً آخر في توجيه الفتوى المذكورة قائلاً: إنّ أداء الدين من أرباح السنة الثانية ليس إتّجاراً بها فيها، بل هو مصداق لأداء الدين السابق بالربح اللاحق ولا دليل على جوازه(3).

وهذا الكلام غير تامٍ؛ إذ للمالك ولاية تبديل الربح بغيره في أثناء سنته سواء أ كان ذلك بالإتّجار أم بغيره، ولا ينبغي الشك في أنّ أداء الدين المتعلّق بعين من أي ربح سابقٍ على حصول الدين، أو لاحقٍ له يجعل من تلك العين ربحاً أي تكون بدلاً عن الربح المدفوع في أداء الدين.

فالدار المشتراة بالدين لا تُعدّ ربحاً قبل أداء ثمنها من الأرباح، وأمّا بعد الأداء فلا محيص من الاعتراف بكونها ربحاً، وليس ذلك إلّا من جهة عدّها عرفاً بدلاً عن الربح المدفوع وفاءاً للدين المتعلّق بها، بلا فرق بين حصول الدين بعد ظهور الربح أو قبله.

والحاصل: أنّه لا ينبغي الشك في جواز أداء الدين السابق من الربح اللاحق بلا حاجة إلى تخميسه أولاً، ولكن ما يقابل الدين - كالدار - تصير عندئذ من أرباح السنة اللاحقة، فإن لم يستخدم أو يصرف في مؤنتها وجب تخميسه بقيمته في آخر السنة.

ص: 68


1- كذا في المطبوع.
2- مستند العروة الوثقى كتاب الخمس: 268.
3- تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى: 7/ 230.

نعم, إذا فُرض كون ما يقابل الدين معدّاً للإتجار بعينه في السنة السابقة، وفرض ارتفاع قيمته فيها أيضاً، يعدّ الزائد على قيمة الدين من أرباح تلك السنة لا السنة الثانية التي تمّ أداء الدين من أرباحها وهذا واضح.

هذا وقد تعرّض السيد الخوئي (قدس سره) لحكم هذه الصورة في رسالة المنهاج المسألة (1232)، ولكن عبارته لا تخلو من قصور, قال (قدس سره) :

(إذا اشترى ما ليس من المؤنة بالذمة، أو استدان شيئاً لإضافته إلى رأس ماله ونحو ذلك مما يكون بدل دينه موجوداً، ولم يكن من المؤنة لم يجز له أداء دينه من أرباح سنته، بل يجب عليه التخميس وأداء الدين من المال المخمس، أو من مال آخر لم يتعلق به الخمس)(1).

وينبغي أن يكون المقصود بأرباح سنته أرباح سنته بعد حصول الدين، في مقابل أرباح سنته قبل حصوله الذي صرَّح به في كتاب الخمس من شرح العروة بجواز أداء الدين منها قائلاً: (إذ يجوز له الآن أن يشتري الفرس بالربح. فكيف بأداء الدين الآتي من قبل الشراء، لكن حينئذ يكون الفرس بنفسه ربحاً إذ للمالك تبديل الأرباح خلال السنة ولو عدة مرات كما هو دأب التجار في معاملاتهم) (2).

(الصورة الثالثة): أن لا يكون للدين ما يقابله، ويكون اشتغال الذمة به بسبب إتلاف مال الغير عمداً بلا مبرّر شرعي أو عقلائي.

وقد استصوب بعضهم في هذه الصورة عدم جواز أداء الدين من الربح المتجدّد حصوله، بل مطلقاً، إلّا بعد تخميسه بدعوى أنّه لا يعدّ من المؤونة.

ص: 69


1- منهاج الصالحين: 1/ 239.
2- مستند العروة الوثقى كتاب الخمس: 265.

وهذا الكلام لو صحَّ لجرى في نظائر هذه الصورة كما لو تعمّد التسبب فيما يوجب ثبوت الدية، أو الكفارة، أو الفدية، أو تعمّد إتلاف مال نفسه المشغول ذمته للغير ببدله.

ولكن الظاهر صدق الصرف في المؤنة على الصرف في أداء الدين الذي لا مقابل له ونحوه بغض النظر عن سببه ومورده، فإنّ إفراغ الذمة ما علق بها يناسب كل شخص، ولا يعدّ سرفاً وسفهاً منه وإن كان سببه كذلك، ولاسيّما إذا كان ذلك بعد ندمه على ما سبق منه من التفريط فيه.

(الصورة الرابعة): أن لا يكون للدين ما يقابله، ولا يكون اشتغال الذمة به على الوجه الذي مرّ في الصورة الثالثة، كما لو اتلف مال الغير خطأ، أو اشترى شيئاً بالذمة، ثم تلف ونحو ذلك.

ولا إشكال في هذه الصورة في جواز أداء الدين من ربح السنة اللاحقة من دون الحاجة إلى تخميسها، وقد أشار إلى ذلك السيد الخوئي (قدس سره) في المسألة (1232)(1) بتقييده موضوع الحكم بعدم جواز أداء الدين من الربح اللاحق قبل تخميسه بما إذا كان بدل الدين موجوداً.

فتحصل ممّا تقدَّم: أنّ الصحيح جواز أداء الدين من أرباح السنة اللاحقة قبل تخميسها في جميع الصور الأربع المتقدمة

والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين.

ص: 70


1- منهاج الصالحين ج1 ص239.

المصادر

1- مستند العروة الوثقى تقريرات أبحاث السيد الخوئي.

2- تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى للشيخ الفياض.

3- العروة الوثقى المحشّاة لجمع من الأعلام.

4- منهاج الصالحين للسيد الخوئي.

ص: 71

ص: 72

المناسبة الذاتیة بین اللفظ و معناه - السّيّد جواد الموسوي الغريفي (دام عزه)

اشارة

ص: 73

ص: 74

بسم الله الرحمن الرحیم

توطئة

ليس غريباً أنْ يولي الباحث في اللسانيات والنقد الأدبي اليوم مبدأ اعتباطية العلاقة بين اللفظ والمعنى أهمية كبيرة. فلم تكد تحظى قضية من قضايا الدرس اللساني الحديث في تُراثنا العربي بالبحث والدرس والتمحيص كما حظيت به هذه المسألة.

وبمراجعة تاريخ الدراسات اللغوية نجد أنّها قد نضجت في القرون الأربعة الأولى من الهجرة، وتبلورت على مدى تلك القرون ملامح التصور اللغوي للألفاظ والصيغ والأصوات والتراكيب والدلالة والمعجم، بل والتصور الكلي لظاهرة اللغة في عمومها.

وقد وُجد عند علماء العربية من الأسباب الدينية، وغير الدينية ما جعل من النظر في العلاقة بين الدالّ اللغوي ومدلوله أمراً بالغ الأهمية لهم. وذلك لأنّ جموع المتّجهين إلى تقليب النصوص على وجوهها المختلفة من النحويين، والمعجميين، والمفسرين، والأصوليين، وأهل الكلام، وأعلام الفرق الإسلامية المعنيّة بتأويل النصوص، والمتصوفة، والبلاغيين، والأدباء قد عناهم بدرجات متفاوتة علاقة اللفظ بما يدلّ عليه، سواء من جهة المناسبة بينهما: هل هي طبيعيّة أم عرفيّة؟ أم من جهة كونها توقيفيّة أو اصطلاحيّة؟

حتى إنّنا لو تتبّعنا الأصوليين - دون غيرهم - في مباحثهم لألفيناهم يدرسون الظاهرة اللغوية بشكل عام - فضلاً عن المسألة المبحوث عنها - من زواياها المتعددة في

ص: 75

أكثر من عشرين مبحثاً على أقلّ تقدير ، وقد جعلوا لمباحثهم اللغوية هذه عنواناً يجمعها أسموه (المبادئ اللغوية)، فقد خصّص الشيخ الطوسي (قدس سره) الفصل الرابع من العدَّة(1) لبيان المبادئ اللغوية، كما أنّ الشيخ البهائي (قدس سره) قد خصّص المطلب الثاني من الزبدة(2) لذلك أيضاً، وبعد أن بيّن ماهية اللغة ذكر فيه سبعة فصول.

الجذور التاريخيّة للمسألة المبحوث عنها:

تنقل المصادر خلافاً قديماً في لزوم وجود مناسبة طبيعية بين اللفظ ومعناه، أو عدم لزوم تلك المناسبة.

وأول محلٍّ أُثيرت فيه هذه المسألة وكانت مسرحاً للمطارحات الفكرية – حسب المصادر المتاحة - هو الفلسفة اليونانية. فقد تناولها بالبحث سقراط، ومن بعده تلامذته أفلاطون وهرموجين وكراتيل، ومن بعدهم أرسطو واختلف فيها رأيا سقراط وأرسطو. ورأيا هرموجين وكراتيل. وانتقل خلافاهما مع الترجمات العالمية للفلسفة اليونانية إلى الفلسفات الأخرى فدخلا مجال الفلسفة الإسلامية.

وكان أقدم من تعامل معهما من فلاسفة المسلمين - حسب تتبعنا - الفارابي(3) ومتكلمة المعتزلة وفي طليعتهم عبّاد بن سليمان الصيمري.

ص: 76


1- عدة الأصول ج1 ص138 (ط . ق) .
2- زبدة الأصول ص53.
3- الفارابي: أول فيلسوف في العالم الإسلامي تعرض لقضايا فلسفة اللغة مستعيناً بآراء الفلاسفة اليونان ، ومعلوم أنّه كان على اطلاع على جملة آراء أفلاطون فضلاً عن آراء أرسطو، وكتب وصفاً موجزاً لمحاورة كراتيليوس التي وردت فيها نظرية المحاكاة الطبيعية التي سنتعرض لها.

وعن طريقهم انتقلت المسألة إلى الدراسات اللغوية العربية. وكان أقدم من أثارها على صعيد البحث اللغوي عالم اللغة المعتزلي أبو الفتح بن جنيّ في كتابه اللغوي القيّم الموسوم ب- (الخصائص).

وكذلك عن طريقهم دخلت عالم البحوث الأصولية الإسلامية، واستقبلها علماء المسلمين بالتحليل والمناقشة، واستمرّ النظر يدار فيها بما أفرز أكثر من نظرية أصولية إسلامية غير خفيَّة على المتتبع.

وبعد أن بيَّنا الجذور التاريخية للمسألة لننتقل إلى محاولة معرفة نوع العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى الذي هو محلّ البحث. وهل هي ذاتية أم وضعية؟ فنقول:

العلاقة الذاتية بين اللفظ ومعناه

اختلفوا في أنّ دلالة اللفظ على معناه هل هي ذاتية - طبيعيّة - أم جعليّة؟

ذهب بعضهم إلى الأول، وأقدم نظرية مدَّونة وصلت إلينا في المسألة تُفيد أنّ ممن ذهب إلى ذلك هو سقراط(1)حسبما نقله عنه تلميذه أفلاطون في (محاورة كراتيليوس)(2)

ص: 77


1- راجع ترجمة الدكتور عزمي طه السيد احمد لنص (محاورة كراتيليوس) الطبعة الأولى: سنة 1995, والتي قُدمت لأول مرة باللغة العربيّة. وقد اعتُمد في ترجمتها على ترجمة (بنياجين جويت) المنشورة أصلا 1872 م والتي تُعتبر أوثق الترجمات الإنكليزية عند الباحثين, مع الأخذ بعين الاعتبار اختلافات الترجمات الأخرى.
2- محاورة كراتيليوس: من مؤلفات أفلاطون الأولى التي كان متأثراً فيها بآراء أستاذه سقراط , وكان الموضوع الرئيس لهذه المحاورة هو أصل الأسماء واللغة. وتبدأ هذه المحاورة بسؤال صريح عن الأسماء: هل هي طبيعية أم اصطلاحية ؟ ثمّ ينطلق الحوار وإثارة الأسئلة ، بعد ذلك حول الأسماء من حيث وظيفتها وإطلاقها على مسمياتها وملاءمتها لها، لينتقل إلى بيان أصل عدد غير قليل من الكلمات والأسماء اليونانية وكيفية اشتقاقها، وقد شغل هذا الموضوع جزءاً كبيراً من المحاورة، انتهى باستخلاص عدد من النتائج الجزئية حول إطلاق الأسماء ووظيفتها، وصوابها وملاءمتها الطبيعية لمسمياتها، لتقدّم المحاورة في النهاية نظرية عامة في هذه القضايا هي نظريةٌ لمحاكاة الطبيعة التي عدّها أفلاطون النظرية العلمية والوحيدة والممكنة، على الرغم ممّا واجهته من صعوبات ناجمة عن قصورها عن الإجابة على عدد من الإشكالات المتعلقة باللغة

وهي النظرية التي اسماها ب-(نظرية المحاكاة الطبيعية) والتي فسَّر بها أصل الأسماء وطريقة وضعها، ويورد (أفلاطون) فيها نقاشاً فلسفياً جرى بين شخصين هما (هرموجين) و(كراتيليوس) - هما من تلامذة سقراط - اختلفا فيه حول علاقة الكلمات بالأشياء حيث يرى (كراتيليوس) بأنّها علاقة طبيعية، بينما يرى الآخر أنّها علاقة اتفاق واصطلاح، وتمّ اللجوء إلى سقراط لأجل الاحتكام إليه فبدأ يحاور (هيرموجين) لكي يقنعه بأنّ الاسم هو محاكاة للشيء، وبالتالي فالكلمات تنتمي إلى الأشياء على نحو طبيعي مدافعاً بذلك عن موقف (كراتيليوس).

ومحصّلها: (إنّ أصل وضع الأسماء كان عن طريق محاكاة هذه الأسماء لمُسَمَيّاتها من خلال الحروف والمقاطع، فالحروف لها خصائص طبيعية وللأشياء خصائص طبيعية وواضِعوا الأسماء الأوائل اختاروا حروفاً، ومقاطع لتدل على الأشياء المختلفة مراعين أن تكون طبيعة هذه الحروف والمقاطع المختارة لتسمية شيء من الأشياء محاكية لطبيعة هذا الشيء الذي تسمّيه ودالة على طبيعته، وعليه فالاسم المثالي - بحسب هذه النظرية - هو الذي يدلّ على طبيعة الشيء الذي يسمّيه، ويخبرنا بحقيقته ومن ثمّ يميّزه من غيره من الأشياء).

كما حُكي ذلك عن بعض المعتزلة القدامى وفي طليعتهم عبّاد بن سليمان

ص: 78

الصيمري(1) الذي يرى أن دلالة اللفظ على معناه ناشئة عن مناسبة ذاتية بينهما.

إلّا أنّه اُختُلِفَ في حكاية مذهب الصيمري، فقد حكى السيوطي(2) ما يُفيد أن الصيمري لا يستغني بمذهبه عن الوضع أو الواضع، وإنَّما غاية ما يذهب إليه هو أنّ تلك المناسبة الذاتية المفروضة بين اللفظ والمعنى هي التي تحمل الواضع لأن يخصّص ذلك اللفظ لهذا المعنى.

بينما حكى الزركشي في الفصل الثامن(3) الذي تناول فيه (عدم المناسبة في الوضع) ذهاب عباد بن سليمان الصيمري وتابعيه إلى أنّ دلالة الألفاظ على المعاني إنّما هي بذاتها، ونقل قول صاحب المحصول عنه: أنّ اللفظ يفيد المعنى بذاته من غير واضع لما بينهما من المناسبة الطبيعية، ثمّ نقل تصحيح الأصفهاني لما حُكي أخيراً.

إلّا أنه ذيَّل كلامه بنقل ما جاء عن صاحب الإحكام من أنّ المناسبة حاملة للواضع على أن يضع، وبنقل كلام السكاكي(4) من أنّ هذا المذهب متأوّل على أنّ

ص: 79


1- ذُكر ذلك في مصادر الفريقين, وممّن ذكر ذلك من مصادرنا: العلامة الحلي (قدس سره) في (نهاية الوصول إلى علم الأصول) ص7, المحقق القمي (قدس سره) في (القوانين) ص194, السيد علي الموسوي القزويني (قدس سره) في (تعليقة على المعالم) ص358 , والسيد الخميني (قدس سره) في (جواهر الأصول) ج1 ص 78 ، وممّن ذكر ذلك من مصادر العامة: الفخر الرازي في (المحصول) ج1 ص181, والآمدي في (الإحكام في أصول الأحكام) ج1 ص73, والسيوطي في (المزهر) ج1 ص148.
2- المزهر ج1 ص148, وإليك نصّ كلامه: (نقل أهل أصول الفقه عن عبّاد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنّه ذهب إلى أنّ بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع ، قال: وإلّا لكان تخصيص الاسم المعيَّن بالمسمى المعيَّن ترجيحاً من غير مرجّح) .
3- البحر المحيط لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي الزركشي ص264 .
4- المصدر السابق ص265 .

للحروف خواص تناسب معناها من شدَّة وضعف وغيره، كالجهر والهمس والمتوسط بينهما إلى غير ذلك. وتلك الخواص تستدعي كون العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما قضاءً لحق الكلم، كما ترى في الفصم بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير أن يبين، والقصم بالقاف الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين.

كما حكى الإسنوي(1) القولين في مذهب الصيمري إلّا أنّه نسب الأول لمقتضى كلام الآمدي، والثاني لنقل (المحصول). وحكى ابن أمير الحاج(2) أيضاً الاختلاف في النقل، وذكر كلام الإسنوي. وقد سرد الشوكانى(3) في بحثه عن الواضع أقوالاً ستةً، كان خامسها: (أنّ نفس الألفاظ دلّت على معانيها بذاتها)، وعليه فلا وضع. وسبقه الفخر الرازي في المحصول(4) في بحثه عن الواضع في ذلك السرد، وعدَّ مذهب الصيمري في قبال المذاهب المحتاجة إلى واضع، ونسبا هذا القول بنحو جازم إلى عبّاد بن سليمان الصيمري.

كما أنّ مصادرنا أيضاً نقلت اختلافاً في تحرير وتَقبُّل مذهب الصيمري. فظاهر

ص: 80


1- (التمهيد) لجمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي [الباب الأول (في اللغات) الفصل الأول (في الوضع) مسألة 2] ونص كلامه: (وذهب عبّاد بن سليمان وطائفة إلى أنّ الألفاظ لا تحتاج إلى وضع، بل تدلّ بذاتها لما بينها وبين معانيها من المناسبة. كذا نقله في المحصول ومقتضى كلام الآمدي في النقل عنه أنّ المناسبة مشروطة لكن لا بدّ من الوضع) .
2- التقرير والتحبير .
3- إرشاد الفحول إلى علم الأصول .
4- (المحصول في علم الأصول) لفخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي ج1 ص181 .

صاحب (القوانين) (1) (قدس سره) أنّ مذهب الصيمري هو ما قيل في الحكاية الثانية، واعتبر الحكاية الأولى تأويل لمذهب الصيمري، ونُسب هذا التأويل إلى السكاكي.

وقرَّب السيد القزويني (قدس سره) في تعليقته على المعالم(2) مذهب الصيمري، وكان نقله موافقاً للحكاية الثانية أيضاً، ثمّ أتبعه بتقريب ما عبَّر عنه (أنّه يتراءى عن بعض العبارات في حكاية مذهب عبّاد) وهو ما يوافق الحكاية الأولى، وناقش فيه بما تقريبه:

إنْ أريد بالوضع الذي ينبغي أن يكون على طبق المناسبة الذاتية ما هو صفة اللفظ - أي التعيّن والاختصاص - فلا منافاة عندئذ بين الحكايتين، إذ سيكون الخلاف بين الحكايتين مجرد اختلاف في التعبير، وإنّ الدلالة ناشئة عن مناسبة ذاتية بين اللفظ والمعنى فحسب دون دخالة أيّ شيء آخر.

وإنْ أريد بالوضع ما هو فعل الواضع فالاختلاف بين الحكايتين عندئذ ثابت، ولكنّنا نشكك في الحكاية الأولى فبالإضافة إلى أنّها على خلاف ما هو المعروف عن هذا المذهب: أنّها ممّا لا ينسجم مع أدلّة هذا المذهب من حيث صراحتها بأنّ الوضع - بمعنى الاختصاص - متسالم عليه بين الفريقين، ولكنها تحاول إثبات أنّ هذا الاختصاص إلى المناسبة الذاتية دون الوضع - بمعنى التعيين والتخصيص وهو فعل الواضع - .

ولا يخفى ما لهذا الاختلاف في الحكاية من أهمية في تحديد الحاجة إلى الوضع من عدمها.

وبعد كل هذا الاضطراب في نقل مذهب الصيمري لا يمكننا الركون إلى شيء من ذلك، إلَّا أنّ المقدار المتفق عليه فيما ذهب إليه - كما لا يخفى - هو لزوم وجود مناسبة

ص: 81


1- الميرزا القمي (قدس سره) في قوانين الأصول ص 194 من الطبعة الحجرية.
2- (تعليقة على معالم الأصول) السيد علي الموسوي القزويني ج1 ص358.

ذاتية بين اللفظ والمعنى، ولهذه المناسبة دخالة في الدلالة.

نعم قد يكون بداهة بطلان مضمون الحكاية الثانية ومخالفتها الوجدان واستهجان القول بذلك دعا بعض الأعلام كالمحقق العراقي (قدس سره) (1)، وأستاذنا السيد محمد سعيد الحكيم (دامت بركاته)(2) إلى الظن بعدم توهّمه من أحد رغم اطلاعهم على تلك الحكاية. ولعلّ هذا هو الأقرب، خصوصاً وأنَّ الجذور التاريخيّة لنظرية العلاقة الطبيعية بين اللفظ والمعنى التي نقلناها عن الفلسفة اليونانية التي نتوقع بأنّها منشأ مذهب الصيمري لا تنفي افتراض تصوُّر واضع للغة، بل تُصرِّح بذلك. ونحتمل أنّ هذه الأسباب هي ما دعتْ السكاكي وغيره إلى تأويل هذا المذهب بما يوافق الحكاية الأولى.

ومن هذا الرأي يمضي العلاّمة اللغوي ابن جني - المعتزلي - إلى القول بما سمّاه في كتاب الخصائص: (إمساس الألفاظ أشباه المعاني) و(تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، ويستند في الصفحات التي عقدها في خصائصه لهذه الصلة بين اللفظ والمعنى إلى أقوال أوائل الأئمة كالخليل وسيبويه فيقول:

(قال الخليل: كأنّهم توهّموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا: صرَّ. وتوهّموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنّها تأتي للاضطراب والحركة نحو " النقران والغليان والغثيان " فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال)(3).

كما أنّ من يرجع إلى كتاب (الخصائص) لابن جني وبخاصّة في فصل (الاشتقاق

ص: 82


1- (مقالات الأصول) ج1 ص59 .
2- (المحكم في أصول الفقه) ج1 ص84 .
3- الخصائص ج1 ص65 وج2 ص152 .

الأكبر) (1) سوف يراه يحوم حول حمى سقراط وعبّاد بن سليمان فهو يؤكّد على ضرورة وجود المناسبة بين طبيعة اللفظ كصوت وطبيعة المعنى كواقع تلك المناسبة التي تمسّك بها المعتزلة القائلون بمقالة سقراط، ليحقّقوا وجود المرجّح الكاشف عن أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى طبيعية لا عرفية إذ يقول:

(وذهب بعضهم إلى أنّ أصل اللغات كلها إنّما هو الأصوات المسموعة كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ثمّ تولّدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح ومذهب

ص: 83


1- ولنعرض - هنا - شاهداً واحداً من كلام ابن جني في موضوع الاشتقاق الأكبر ، حيث قال: "ومن ذلك (أي من الاشتقاق الأكبر): تقليب (ج ب ر) فهي - أين وقعت - للقوة والشدة ، منها : جبرت العظم والفقير إذا قويتهما وشددت منهما ، والجبر: الملك لقوته وتقويته لغيره . ومنها : رجل مجرب إذا جرسته الأمور ونجذته، فقويت منته، واشتدت شكيمته . ومنه: الجراب لأنّه يحفظ ما فيه، وإذا حفظ الشيء وروعي اشتد وقوي، وإذا أغفل وأهمل تساقط ورذي. ومنها: الأبجر والبجرة وهو القوي السرة. ومنه: قول علي - صلوات الله عليه -: (إلى الله أشكو عجري وبجري)، تأويله: همومي وأحزاني. وطريقه أنّ العجرة كل عقدة في الجسد فإذا كانت في البطن والسرة فهي البجرة، والبجرة تأويله: أنّ السّرة غلظت ونتأت فاشتد مسها وأمرها. وفسر أيضاً قول: (عجري وبجري) أي ما أبدي واخفي من أحوالي . ومنه: البرج، لقوته في نفسه وقوة ما يليه به. وكذلك البرج لنقاء بياض العين وصفاء سوادها هو قوة أمرها، وأنّه ليس بلون مستضعف. ومنها : رجبت الرجل إذا عظّمته وقوّيت أمره. ومنه: رجب لتعظيمهم إياه عن القتال فيه. وإذا كرمت النخلة على أهلها فمالت دعموها بالرجبة وهو شيء تسند إليه لتقوى به. والراجبة: أحد فصوص الأصابع، وهي مقوية لها. ومنها: الرباجي وهو الرجل يفخر بأكثر من فعله ، قال: وتلقاه رباجيا فخوراً. تأويله: أنّه يعظم نفسه ويقوّي أمره " (الخصائص مج2 ص135 – 136) .

متقبل)(1).

وكما ترى - وسيأتي تفصيل الكلام فيه - أنّ هذه الصلة التي افترضوها غير واضحة، وإلّا لكان كل إنسان يستطيع أن يفهم كلّ لغات العالم بمجرد معرفته لألفاظها.

ويبدو أنّ المؤيدين لمن يرى لابدّية الصلة الذاتية بين اللفظ والمعنى لمَّا تبين لهم غموض هذه الصلة، ولم يجدوا لها تعليلاً مقبولاً تستريح إليه النفس وتطمئن إليه العقول، أخذوا يفترضون أنّ تلك الصلة الطبيعية كانت واضحة سهلة التفسير في بدء نشأتها، ثمّ تطورت الألفاظ ولم يُعدَّ من اليسير أنْ نتبيّن بوضوح تلك الصلة، أو نجد لها تعليلاً وتفسيراً.

فقد نقل السيوطي(2) عمن تابع عبّاداً في رأيه أنّه يقول:

(إنّه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها فسئل ما مسمى "أذغاغ"؟ وهو بالفارسية: الحجر ، فقال: أجد فيه يُبساً شديداً وأراه الحجر).

كما أنّ المصادر(3) تعزو قول المناسبة الذاتية أيضاً إلى أرباب علم التكسير(4).

وسيأتي عليك أنّ هذا الاتجاه الذي يُعزى إلى سقراط، وعبّاد، ومن حذا حذوهم مردود بما اشتهر قديماً وحديثاً، وتكرر جوابه بين الأعلام من أنّ الدلالة بين اللفظ

ص: 84


1- الخصائص مج1 ص46 - 47 .
2- المزهر ج1 ص148 .
3- المحقق القمي (قدس سره) في القوانين ص194, والسيد علي القزويني (قدس سره) في تعليقة على معالم الأصول ص358 , والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام .
4- علم الحروف .

والمعنى لو كانت ذاتية لاهتدى كل إنسان إلى كل لغة. وبطلان اللازم يدلّ على بطلان الملزوم.

اللهم إلّا أن يُبنى على تقرير آخر للصلة الذاتية بين اللفظ ومعناه، وهو ما يُحكى ذهاب المحقق الطهراني (قدس سره) إليه(1) وتقريبه:

إنّ للألفاظ والأصوات مناسبات كامنة مودعة في جبلّة الإنسان لا يطلّع عليها، كل أحد، وما يصدر ممّن يُسمى واضعاً للغة – في الحقيقة - إنّما هو الكشف عن تلك المناسبة بإلهام من الله تعالى, لا الربط الاعتباطي بين اللفظ والمعنى.

وبهذا يندفع عنه الإيراد باستلزام الدلالة الذاتية لاطّلاع كلّ أحد عليها للحاجة إلى الكشف في هذا الانتقال، إلّا أنّ التقرير في أساسه غير مقبول، وواضح الاندفاع بما سيأتي عند التعرض لحجّة النافين، إذ أنّ من الواضح أنَّ مجرد وجود المناسبة أو العلم بوجودها، أو الكشف عنها لا يكون موجباً لخطور المعاني في الذهن قطعاً(2)، فكيف تتكون صفة الدلالة والانتقال؟! هذا بالإضافة إلى أنّه مردود بما سيأتي عليك في الجواب السادس والسابع من أجوبة الوجه الأول فضلاً عن كونه دعوى خالية من الدليل.

ص: 85


1- حكى ذلك أستاذنا السيد محمد باقر السيستاني (دامت افاداته) في مباني الأصول ج1 ص310 , عن المقالات الغروية ص171.
2- وقد صرّح بهذا الجواب شيخنا الأستاذ الفياض (دامت بركاته) في المباحث الأصولية ج1 ص112, وكذلك أستاذنا السيد محمد باقر السيستاني (دامت إفاداته) في مباني الأصول ج1 ص310.

حُجَّة المُثبتين

(في كون دلالة اللفظ على المعنى ناشئة عن مناسبة ذاتية بينهما)

يمكن الاستدلال على ذلك بوجهين:

الوجه الأَول: لو لم تكن الدلالة ناشئة عن مناسبة ذاتّية بين اللفظ والمعنى لكان كلّ لفظٍ صالحاً لأَنْ يُوضع للدلالة على المعنى ، واختيارُ لفظٍ لمعنى دونَ آخر موجب للترجيح بلا مرجِّح(1). وهو قبيح أو محال.

ولا يخفى أنّ الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علّة محال، وبمعنى بلا داعي عقلائي قبيح وليس بمحال.

وقد أطلق المحقّق العراقي (قدس سره) القول في المقام تبعاً لصاحب الفصول (قدس سره) ، ولما نقله صاحب المفاتيح (قدس سره)

عن العلّامة (قدس سره) في التهذيب بأنّه موجب للترجيح بلا مرجح، ولم يذيّله بأنّه قبيح أو محال.

في حين ماثل السيد الخوئي (قدس سره) في المحاضرات صاحب القوانين (قدس سره) في التعبير بأنه محال، وعبَّر في المصابيح

(قدس سره) بأنّه باطل - ويقصد بأنّه محال أيضا -، مع أنّه قال في الدراسات بأنّه قبيح.

ص: 86


1- يُستفاد ذلك من كلمات جملة من الأعلام (منهم) الميرزا القمي (قدس سره) في قوانين الأصول ص 194 من الطبعة الحجرية, (ومنهم) الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري (قدس سره) في الفصول الغروية ص23, (ومنهم) السيد محمد المجاهد (قدس سره) في مفاتيح الأصول ص2, (ومنهم) المحقق العراقي (قدس سره) في مقالات الأصول ج1 ص60, (ومنهم) السيد الخوئي (قدس سره) في مصابيح الأصول ج1 ص52، وفي محاضرات في أصول الفقه ج1 ص34، وفي دراسات في أصول الفقه ج1 ص27.

الوجه الثاني: لو كانت الدلالة أمراً اعتبارياً لكانت متقوّمة بالاعتبار ووجود المُعتبر، وتنهدم بانقراضه، مع أنّنا نرى بالوجدان بقاء الدلالة في الألفاظ في جميع الأزمنة ولا تنتهي بموت المعتبر(1).

وأُجِيبَ الوجه الأول بعدةِ أجوبةٍ عُمدَتُها:

1- عدم قبح الترجيح بلا مرجح(2) فضلاً عن كونه محالاً إذا كان هناك مُرجِّح لاختيار طبيعي الفعل مع فقد الترجيح بين أفراده ومصاديقه، وإنّما الممتنع هو التَرجُّح بلا مرجح(3).

هذا مضافاً إلى ما في الحكم بالامتناع، أو المحال من أنّ الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية لا يكون إلّا قبيحاً، ولا يستحيل وقوعه إلّا على الحكيم تعالى، وإلّا فهو بمكان من الإمكان؛ لكفاية إرادة المختار علة لفعله، وإنّما الممتنع هو وجود الممكن بلا علة، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح إلّا من باب امتناع صدوره منه تعالى. وأمّا غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح ممّا باختياره(4).

ص: 87


1- يُستفاد ذلك من كلمات المحقق العراقي (قدس سره) في مقالات الأصول ج1 ص63-64, وفي بدائع الأفكار ص30, علماً أنّه (قدس سره) ذكره في مقام تثبيت أركان مسلك الواقعية إلّا أنّنا نراه ينفع في المقام أيضاً.
2- يُستفاد ذلك من كلمات السيد الخوئي في (مصابيح الأصول) ج1 ص52 وفي (محاضرات في أصول الفقه) ج1 ص34 وج2 ص95، وفي (أجود التقريرات) ص12 هامش 10, كما يُستقاد ذلك الجواب أيضاً من العلاّمة الحلي في (نهج المسترشدين) لاحظ (إرشاد الطالبين) للفاضل المقداد ص266, والسيد محمد صادق الروحاني (دام ظله) في (زبدة الأصول) ج1 ص23 وص188
3- أي وجود المعلول بلا علّة والفعل بلا فاعل.
4- يُستفاد ذلك من الشيخ الآخوند في (كفاية الأصول) ص445, والسيد الخوئي في (محاضرات في أصول الفقه) ج2 ص95.

اللهم إلّا أن يكون المراد بالاستحالة هنا: القبح وهي الاستحالة العقلائية لا العقلية – بمعنى أنّ العقلاء يقبحون الترجيح بلا مرجح -(1).

إلّا أنّ هذا غير صحيح؛ لصريح الأعلام بأنّه ممتنع عقلا وليس عقلائياً، لاسيّما بعد أنْ اعتبروهما – أعني الترجيح والترجّح - من باب واحد كما سيأتي بيانه(2).

وتقريب ذلك(3):

إنّ الترجيح أمر اختياري يمكن أنْ يرجّح الشخص أحد الفعلين على الآخر وإنْ لم تكن فيه مزية تستوجب التقديم وذلك؛ لكفاية وجود المرجّح في أصل الفعل وطبيعته إنْ كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجّح على البعض الآخر. وسبب ذلك أنّه لمّا كانت ضرورته تدعوه إلى إيجاد أحد الفعلين، وكان كل منهما وافياً في القيام بالغرض، فلا ريب أنّ تلك الضرورة هي التي تدعوه لأن يختار أحدهما ويترك الآخر وإن لم تكن مزية وخصوصية في الفرد الذي اختاره.

نعم، اختيار فعل من دون تعلُّق غرض به لا بشخصه ولا بنوعه لغو وقبيح، لا أنّه محال.

فلو فرضنا أنّ هناك أواني متعدّدة من الماء، وكان كلّ إناء مساوياً للآخر في جميع الخصوصيات المحتملة من البرودة والكمية وما شاكلهما، ومن الاتّفاق أنّ الإنسان

ص: 88


1- يُستفاد ذلك من تعليقة السيد محمد كلانتر على (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) ج8 ص194تعليقة 8.
2- يُستفاد ذلك من الشيخ النراقي في (عوائد الأيام) ص396, وأبي الفضل البابلي في (رسائل في دراية الحديث) ج2 ص231.
3- يُستفاد ذلك من كلمات السيد الخوئي في (مصابيح الأصول) ج1 ص32 .

اضطرّ إلى شرب الماء ليرفع عطشه بحيث كان كلّ إناء وافياً في القيام بالغرض، فهل تراه يمتنع عن الشرب ويعرّض نفسه للخطر مدّعياً أنّ إقدامه على واحد من الأواني مستلزم للترجيح بلا مرجّح! أو تراه يُقدِم على شرب ما في الإناء بعد أن كان مضطرّاً إلى فعل الجامع - وهو شرب مطلق الماء الذي يتأتّى حصوله بكل واحد من الأواني - !.

ومن الضروري أنّ العقل لا يرى قبحاً في ترجيح أحد الأمرين بعد اضطراره إلى الجامع. وهذا ما ذكره غيرُ واحدٍ من الأعلام تحت عنوان (طريقي الهارب ورغيفي الجائع).

وعلى ما تقدّم نقول: إنّ الواضع حيث احتاج إلى وضع طبيعي اللفظ لطبيعي المعنى لغرض التفاهم فيأتي دور اختيار الألفاظ، وحيث كان كل لفظ قابلا للجعل ومحصّلا للغرض فهو حرٌّ في اختيار أيُّها شاء، فاختياره خصوص لفظ لا يستلزم الترجيح بلا مرجّح وإن لم يكن فيه خصوصية. وعليه فالترجيح بين الافراد المتساوية بلا مرجّح ليس بمحال.

وهذا الجواب مبني على القول بعدم رجوع الترَجيح من غير مرجِّح إلى الترجُّح بلا مرجّح، وإلّا فهو محال(1) أيضاً ، وتقريب ذلك(2):

1 - إنَّ امتناع التَّرَجُّح من غير مرجّح، وامتناع التَّرْجِيح بلا مرجّح من باب

ص: 89


1- يُستفاد من كلمات جمع غفير من الأعلام ذهابهم إلى أنّ الترجيح والترجّح من باب واحد (منهم) الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري (قدس سره) في (الفصول الغروية) ص23, (ومنهم)السيد روح الله الخميني (قدس سره) في (الآداب المعنوية للصلاة) ص475.
2- يُستفاد التقريب من كلمات الشيخ السبحاني (دامت إفاداته) في الإلهيات على هدى الكتاب والسُّنة والعقل ج2 ص299.

واحد. والقول بالامتناع في الأول يستلزم الامتناع في الثاني؛ وذلك لأنّ أصل الفعل كما لا يتحقق بلا علة فكذلك الخصوصيات لا تتحقق إلَّا معها، فالجائع بالنسبة إلى الرغيفين والهارب بالنسبة إلى الطريقين كذلك، فكما أنَّ صدور أصل الأكل والهرب يحتاج إلى علّة لامتناع وجود الممكن بلا سبب، كذلك تخصيص أحد الرغيفين بالأكل وترك الآخر بما أنَّه أمر وجودي يحتاج إلى علّة. والقول بأنَّ وجود أصل الفعل يتوقف على علّة دون خصوصياته يرجع إلى القول بوجود الممكن - ولو في بعض مراتبه - وتحققه بلا علّة. ولأجل ذلك يقول بعض المحققين إنَّ مآل تجويز الترجيح بلا مرجّح إلى تجويز التّرَجُّح بلا مرجّح؛ إذ لازم هذا الجواب أنَّ الخصوصية لا تطلب العلّة. وهذا انخرام للقاعدة العقلية من حاجة الممكن إلى علّة.

والصحيح هو ما ذهب إليه السيد الخوئي (قدس سره) ومن تبعه. إذ أنَّ الترجيح لا يكون إلّا عن إرادة وقصد وهذا كافٍ لخروجه عن المحال(1)، بخلاف الترجُّح الذي لا شكَّ في استحالته، إذ كيف يوجد المعلول بعد فرض عدم العلة !

نعم، الإرادة إن لم تكن عن دواعٍ عقلائية فهو قبيح، إلّا أنَّ جواب السيد الخوئي - الآنف الذكر - كفيل بدفع القبح أيضاً، ولا يرد عليه ما ذكره المستشكلون(2) من أنّه (يرجع إلى القول بوجود الممكن - ولو في بعض مراتبه - وتحققه بلا علّة)، إذ أنّ الغرض المتعلِّق بالطبيعي نفسه بتعلَّق بالإفراد بعد فرض أنّ الإرادة المتعلقة بالفرد بعنوان أنّه

ص: 90


1- حيث أن المحال - كما ذكرنا آنفاً - هو الوجود بلا سبب وعلَّة, وفي الترجيح الإرادة والقصد سبب وعلّةٌ للفعل, فلا وجود للمعلول من غير علّة .
2- مما مرَّ نقله عن بعض الأعيان كصاحب الفصول (قدس سره) ، والسيد الخميني (قدس سره) , وقرَّبه الشيخ السبحاني في الإلهيات على هدى الكتاب والسُّنة والعقل ج 2 ص299.

مصداق للطبيعة، لا بعنوان شخصه كي يلزم الترجيح بلا مرجّح.

2 – إنّه على تقدير امتناع الترجيح بلا مرجّح بين الأفراد كالترجّح بلا مرجح، فإنّا لا نُسلّم أن الترجيح الحاصل في خصوصِ لفظٍ إنّما هو منحصرٌ بالمناسبة الذاتية، بل لعلّ الترجيح - على تقديره - لشيء آخر من الأُمور الخارجية مثل سبق المعنى إلى الذهن(1) من بين المعاني في غيره تعالى ومصلحة أخرى في شأنه تعالى، أو نظير وضع الأعلام الشخصية - كما لو وضع الوالد لفظ (محمد) لولده لكونه متولّداً في يوم ولادة الرسول محمد \، أو لكونه متولداً في يوم الجمعة، أو لأنَّ اسم جده كان كذلك - فلا يتمّ المدّعى .

3 - منع أن يكون الترجيح لأجل المناسبة الذاتية، إذ لا يُعقل تحقق المناسبة الذاتية بين جميع الألفاظ والمعاني؛ لاستلزام ذلك تحققها بين لفظ واحد ومعانٍ متضادة أو متناقضة - كما إذا كان للفظ واحد اكثر من معنى كلفظ جون الموضوع للأسود والأبيض، ولفظ القرء للحيض والطُهر، ولفظ المولى الموضوع للعبد والسيد وغيرهما - وهو غير معقول كما لا يخفى(2).

وردَّ صاحب الفصول(3) (قدس سره) هذا الجواب، لجواز أن يشترك الضدان في معنى ذاتي يكون بينه وبين اللفظ المشترك مناسبة ذاتية، أو يكون للفظ جهتان ذاتيتان يناسب بكلٍ

ص: 91


1- يُستفاد ذلك من كلمات الميرزا القمي (قدس سره) في قوانين الأصول ص 194 من الطبعة الحجرية.
2- يُستفاد ذلك من كلمات الميرزا القمي (قدس سره) في قوانين الأصول ص 194 من الطبعة الحجرية, والشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري (قدس سره) في الفصول الغروية ص23, والسيد الخوئي (قدس سره) في مصابيح الأصول ج1 ص32 وفي محاضرات في أصول الفقه ج1 ص34 وفي دراسات في أصول الفقه ج1 ص27 وفي (أجود التقريرات) ص12 هامش10.
3- الشيخ محمد حسين الحائري (قدس سره) في الفصول الغروية في الأصول الفقهية ص 23.

منهما كلاً منهما(1).

إلّا أنَّ هذا مردود، إذ ليست الغاية مجرّد تحصيل مناسبة ذاتيّة مشتركة بين الضدّين، بل ينبغي مع ذلك أن تكون تلك المناسبة علّة تامّة، أو مقتضية للدلالة على الضدين. وهذا واضح البطلان؛ لعدم إمكان الشيء الواحد لأن يكون علةً تامة، أو مقتضياً للضدّين.

ويمكن ردّه أيضاً بما أوضحه التفتازاني(2): بأنّ دلالة الألفاظ على معانيها لو كانت لمناسبة ذاتية بينهما لما صحّ وضع اللفظ الدالّ على الشيء بالمناسبة الذاتية لنقيض ذلك الشيء أو ضده، لأنّا لو وضعناه لمجرّد النقيض، أو الضد لما كان له في ذلك الاصطلاح دلالة على ذلك الشيء، فيلزم تخلّف ما بالذات، وهو محال. ولو وضعناه لذلك الشيء ولنقيضه، أو ضده فدلّ عليهما لزم اختلاف ما بالذات، بأن يناسب اللفظ بالذات للشيء ونقيضه أو ضده، وهما مختلفان.

4 - إنّ الترجيح - على تقديره - إنّما هو في نفس الوضع(3) دون المتعلَّق، باعتبار أَنّ الوضع ينبغي أن يشتمل على الخصوصية نظير ما قيل في الأحكام من كون الجعل لمصلحة في نفس الجعل مع أنّهم قالوا: إنّ الألفاظ مشتملة على المناسبة الذاتية لا نفس الوضع(4).

ص: 92


1- بتقريب: أنّ المناسبة اتّحاد الشيئين في المضاف كاتّحاد زيد وعمرو في بنوّة بكر, واتّحاد متضادّين في المضاف ليس بممتنع ولا مستبعد .
2- حكى ذلك عنه السيد علي الموسوي القزويني (قدس سره) في (تعليقة على معالم الأصول) ج1 ص362.
3- وهو وضع اللفظ لمعناه.
4- يُستفاد ذلك من كلمات المحقق العراقي (قدس سره) في مقالات الأصول ج1 ص60, والسيد الخوئي (قدس سره) في مصابيح الأصول ج1 ص32 وفي محاضرات في أصول الفقه ج1 ص34.

5 - إنَّ المرجِّح - على القول بالاحتياج اليه - هو إرادة الواضع(1).

ويُردُّ هذا الجواب بأنّه مبني على القول بجواز الترجيح من غير مرجح(2)، وهو الصحيح إذ إن الإرادة حينئذ سبب وعلَّة وجود الفعل وعليه فلا يكون محالاً إلّا أنّها لا تدفع قبحه، إذ إنَّ المناط في القبح هو عدم وجود وجه عقلائي للإرادة، والمفروض تحقّقه في المقام كما لا يخفى.

6 - على تقدير التسليم بأنّ دلالة اللفظ على المعنى ناشئ عن مناسبة ذاتية أنّى للواضع أنْ يعرف تلك المناسبة(3).

اللهم إلّا على التسليم بأنَّ الواضع هو الباري عزّ وجل. وهذا واضح البطلان كما هو مُبيَّن في محلّه.

7 - القول بأَنَّ الدلالة لا بُدَّ وأن تكون ناشئة عن مناسبة ذاتيّة بين اللّفظ والمعنى مخالف للوجدان(4) كما سيأتي توضيح ذلك قريباً.

ص: 93


1- يُستفاد ذلك من كلمات الميرزا القمي (قدس سره) في قوانين الأصول ص 194 من الطبعة الحجريّة, الشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهرانيّ الحائري (قدس سره) في الفصول الغرويّة ص23 .
2- يُستفاد استظهار ذلك من كلمات الشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الطهرانيّ الحائريّ (قدس سره) في الفصول الغرويّة ص23, والسيد علي الموسويّ القزوينيّ (قدس سره) في (تعليقة على معالم الأصول) ج1 ص239.
3- يُمكن أن يُستفاد ذلك من كلمات المحقّق العراقي (قدس سره) في مقالات الأصول ج1 ص60, كما يُستفاد ذلك من كلمات الشيخ الفياض (دامت بركاته) في المباحث الأصوليّة ج1 ص110.
4- راجع الطريق الأول لدفع القول بالذاتية.

وأُجِيبَ على الوجه الثاني:

بأَنَّ هذا الإشكال وإنْ كان صحيحاً في أصله إلَّا أنَّه لا يتأتّى إلّا على أحد المسالك - وهو أنَّ حقيقة العلاقة بين اللفظ والمعنى محض الاعتبار بلا دخالة أيّ شيء خارجي آخر محافظةً بذلك على منشأ وجودها - دون ما إذا قلنا بأنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى واقعية، سواءً كان منشأ جعلها الاعتبار كما اختاره المحقق العراقي (قدس سره) أو غير ذلك، أو كانت بين الاعتبارية والواقعية كما اختار ذلك الميرزا النائيني (قدس سره) ، أو قلنا بمسلك التعهد وهو مختار السيد الخوئي (قدس سره) الذي يعطي الصلاحيّة لكلّ مستعمل بأنْ يكون واضعاً، أو قلنا بمسلك القرن الأكيد كما ذهب إلى ذلك السيد الصدر (قدس سره) ، بل حتى على بعض التفسيرات لمسلك الاعتبار المذكورة في محلها أنّه لا بدّ معه من تأكيد أو تعهد.

ص: 94

حُجَّة النافين

بغض النظر عن قبول قاعدة استحالة الترجيح بلا مرجّح (كما عليه الأكثر ومنهم صاحب الفصول)، أو رفضها – كما هو الصحيح - والقول بإمكان الترجيح من غير مرجّح (كما قال به السيد الخوئي (قدس سره) ) وكفاية وجود المرجّح على طبيعي الفعل في اختيار أحد الأفراد المتساوية، أو بالتسليم بالقاعدة مع فرض وجود المرجِّح كما ذكرنا آنفاً، وبغض النظر عن جواب الوجه الثاني يمكن دفع القول بالدلالة الذاتيّة بأكثر من طريق إلّا أنّنا سنتعرَّض لأهمها:

وهو ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) (1) وفاقاً للسيد القزويني (قدس سره) (2)، وتبعهُ في ذلك بعض أساتيذنا (دامت إفاضاته) (3).

وتقريبه: أنّ القول بذاتية الدلالة لا يخلو عن اثنين كلاهما مخدوش:

الأول: أنْ يكون سماع اللفظ علّة تامّة لانتقال الذهن إلى المعنى.

بتقريب: أنْ لا يكون لما عداها من الأمور العدمية والوجودية - حتى علم السامع بها - مدخلية في الدلالة.

وهذا واضح البطلان بالوجدان، فانّ لازم ذلك تمكّن كلّ شخص من الإحاطة

ص: 95


1- (مصابيح الأصول) ج1 ص32, (محاضرات في أصول الفقه) ج1 ص34, (دراسات في علم الأصول) ج1 ص27, وقد اختلفت كلمات مقرري بحث السيد الخوئي (قدس سره) في تقريب ذلك, وما قرَّبناه أوفق بكلمات (المصابيح).
2- السيد علي الموسوي القزويني (قدس سره) في (تعليقة على معالم الأصول) ج1 ص360.
3- الشيخ الفياض (دامت افاضاته) المباحث الأصولية ج1 ص111.

بجميع اللغات فضلاً عن لغة واحدة؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة، مع أنّنا نجد أهل لغة واحدة لا يحيطون بخصوصيّات لغتهم فضلا عن الإحاطة بجميع اللغات.

الثاني: أنْ يكون سماع اللفظ مقتضياً(1) لانتقال الذهن إلى المعنى، أي أنَّ المناسبة الموجودة بين اللفظ والمعنى نظير الملازمات العقلية التي هي من الأمور الواقعية وإنْ لم تكن من الموجودات الخارجية.

ففيه: إنْ أُريد أنّ هذه المناسبة ثابتة في الواقع – وإنْ لم يلتفت إليها الواضع عند الجعل - فإنّ ذلك وإنْ كان بمكان من الإمكان ثبوتاً وقابلاً للنزاع (إذ لا مانع عقلاً من ثبوت هذا النحو من المناسبة بين الألفاظ، ومعانيها نظير الملازمة الثابتة بين أمرين، فإنّها ثابتة في الواقع والأزل بلا توقّف على اعتبار أيّ معتبر، أو فرض أيّ فارض، وبلا فرق بين أنْ يكون طرفاها ممكنين أو مستحيلين أو مختلفين، إذ صدقها لا يتوقف على صدق طرفيها فهي صادقة مع استحالتهما كما في قوله تعالى: ▬لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا♂، نعم، إنّ سنخ ثبوتها غير سنخ ثبوت المقولات كالجواهر والأعراض، ولذا ليست داخلة تحت شيء منها) إلّا أنّه لا دليل على ثبوتها كذلك في مرحلة الإثبات، فلا يمكن الالتزام بها.

وإنْ أريد من هذه المناسبة أنّ الواضع يلتفت إليها حين الوضع فينبعث بسببها إلى اختيار لفظ مخصوص فهو - مضافاً إلى أنّ من المشاهد والمحسوس خارجاً أنّ مجرّد العلم بالمناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى لا يؤثر في تكوين صفة الدلالة - باطل جزماً

ص: 96


1- أي: أنّ المناسبة اقتضائية لا علّة تامّة.

بالوجدان؛ لأنّ الواضع عند الوضع لا يلتفت دائماً إلى وجود مناسبة ذاتية بين اللفظ والمعنى لتكون تلك المناسبة قد دعته لاختيار لفظ مخصوص من بين سائر الألفاظ، كما نشاهد ذلك في الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس.

وقد يخترع الواضع لفظاً مخصوصاً فيضعه للمعنى في الوقت الذي ليس لذلك اللفظ سابقة في عالم الألفاظ، فيكون كالمرتجل من هذه الجهة.

هذا، وربّما يتحقّق الوضع من الصبيان أحياناً وبديهي أنّهم لا يلتفتون إلى وجود مناسبة بين الأمرين - لو كانت هناك مناسبة - لينبعثوا بسببها إلى الاختيار.

وقد أضاف أستاذنا الشيخ الفياض (دامت بركاته) في مجلس بحثه الشريف(1)| على ما ذكره في (المباحث)(2) - ولعله تابع في ذلك ما يُستفاد من كلمات السيد القزويني (قدس سره) (3) -: أنّ هذا الشق الثاني خارج عن مذهب الدلالة الذاتية أصلاً، بتقريب: أنّ هذا المذهب يبتني على كون تلك العلاقة بنحو العلّيّة التامّة للدلالة، وتُحدِث صفة الدلالة للفظ على المعنى، والانتقال من تصوّره إلى تصور المعنى.

في حين أنّ العلاقة على نحو الاقتضاء لا تُحدِث صفة الدلالة للّفظ على المعنى، وإنّما تقتضي وضع اللفظ المناسب للمعنى المناسب.

وأمّا ما قيل من أنّه لولا هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني لكان تخصيص الواضع لكل معنى لفظاً مخصوصاً بلا مرجّح وهو محال كالترجّح بلا مرجّح(4).

ص: 97


1- البحث الأول في الوضع (بحث الاثنين 7 ربيع الثاني 1429ﻫ) .
2- المباحث الأصولية ج1 ص112.
3- تعليقة على معالم الأصول ج1 ص359 .
4- أي وجود حادث من دون سبب وعلّة.

فجوابهُ ما مرَّ من جواب الوجه الأول.

ويمكن دفع ذلك - إضافة إلى ما مرَّ في جواب الوجه الأول - بما أفاده أُستاذنا الشيخ الفياض (دامت بركاته)(1): بأنّه إنْ أريد بذلك أنّ وضع اللفظ للمعنى إذا لم يكن على طبق المناسبة الذاتية بينهما لم يكن مؤثراً في إحداث صفة الدلالة له فيرد عليه: أنّه خلاف الضرورة والوجدان، فإنّ المحسوس والمشاهد في الخارج عند الناس أنّ وضع اللفظ للمعنى متى تحقّق كان مؤثّراً في دلالته عليه علم الناس بالمطابقة أم لا.

وإنْ أُريد بذلك أنّ الأحسن والأولى أنْ يكون الوضع على طبق المعنى المناسب للفظ ذاتاً فيرد عليه: أنّ الكلام ليس في أولية ذلك، وإنّما هو في أصل تأثير الوضع بدون المناسبة الذاتية.

والحاصل: أنّ الصحيح هو ما أطبق أصحابنا - باستثناء مدرسة الشيخ الطهراني (قدس سره) - وغيرهم من المحقّقين على بطلانه.

وبعد وضوح فساد تفسير العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى على أنّها علاقة ذاتيّة بينهما ينبغي دراسة التفسيرات الأُخرى؛ ليتسنى لنا معرفة حقيقة تلك العلاقة. وأقرب تفسير من مذهب العلاقة الذاتيّة هو ما ذهب إليه المحقق العراقي (قدس سره) من أنّها علاقة واقعية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطّيّبين الطّاهرين.

ص: 98


1- المباحث الأصولية ج1 ص112.

المصادر

1. عدة الأصول لشيخ الطائفة: أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره) ( 460ﻫ) نشر: مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر تحقيق: الشيخ محمد مهدي نجف.

2. زبدة الأصول/ تأليف الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الهمداني العاملي الجبعي المشتهر ب (البهائي) (قدس سره) ( 1030ﻫ) تحقيق الشيخ فارس حسون كريم.

3. محاورة كراتيليوس الطبعة الأولى سنة 1995م ترجمة الدكتور عزمي طه السيد أحمد.

4. نهاية الوصول إلى علم الأصول للعلامة الحلي.

5. قوانين الأصول للمحقق الميرزا أبي القاسم القمي (قدس سره) ( 1231ﻫ) الطبعة الحجرية.

6. تعليقة على معالم الأصول/ تأليف الفقيه المحقق والأصولي المدقق العلامة السيد علي الموسوي القزويني (قدس سره) تحقيق حفيده السيد علي العلوي القزويني نشر: مؤسسة النشر الإسلامي.

7. محاضرات في أصول الفقه تقرير أبحاث السيد الخوئي (قدس سره) للشيخ محمد اسحاق الفياض طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي الطبعة الأولى 1419ﻫ.

8. جواهر الأصول/ تقرير أبحاث السيد روح الله الموسوي الخميني (قدس سره) تأليف: السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي نشر مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني.

9. منتقى الأصول/ تقرير أبحاث السيد محمد الروحاني (قدس سره) بقلم السيد عبد الصاحب

ص: 99

الحكيم مطبعة الهادي الطبعة الثانية 1416ﻫ.

10. المحصول في علم الأصول/ لفخر الدين محمد بن عمر بن حسين الرازي (606ﻫ) تحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الطبعة الثانية نشر مؤسسة الرسالة - بيروت 1419ﻫ.

11. الإحكام في أصول الأحكام/ العلامة علي بن محمد الآمدي (631ﻫ) الناشر: المكتب الإسلامي - دمشق طبع مؤسسة النور الطبعة الثانية 1402ﻫ.

12. المزهر/ السيوطي.

13. البحر المحيط في أصول الفقه/ لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي الزركشي.

14. التمهيد/ لجمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي.

15. التقرير والتحبير.

16. إرشاد الفحول.

17. مقالات الأصول الشيخ ضياء الدين العراقي (قدس سره) ( 1361ﻫ) نشر مجمع الفكر الإسلامي الطبعة المحققة الأولى 1414ﻫ تحقيق الشيخ محسن العراقي والسيد منذر الحكيم.

18. المحكم في أصول الفقه/ السيد محمد سعيد الحكيم الطبعة الثانية 1418ﻫ.

19. الخصائص.

20. مباني الأصول/ تقرير أبحاث السيد محمد باقر السيستاني تأليف الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف نسخة أولية محدودة التداول 1431ﻫ النجف الأشرف.

21. أساس النحو/ السيد علي البهبهاني.

ص: 100

22. حاشية المعالم/ الفاضل الملكي.

23. الفصول الغروية في الأصول الفقهية/ الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الحائري الناشر: دار إحياء العلوم الإسلامية -

1404 ﻫ.

24. مفاتيح الأصول/ السيد محمد المجاهد.

25. مصابيح الأصول/ تقرير أبحاث السيد الخوئي (قدس سره) تأليف السيد علاء بحر العلوم نشر دار الزهراء - بيروت الطبعة الثالثة 1431ﻫ تحقيق السيد محمد علي بحر العلوم.

26. دراسات في علم الأصول / تقرير أبحاث السيد الخوئي (قدس سره) تأليف السيد علي الهاشمي الشاهرودي الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي الطبعة الأولى 1420ﻫ .

27. بدائع الأفكار/ المحقق العراقي.

28. أجود التقريرات/ الميرزا النائيني (قدس سره) تقرير السيد الخوئي الطبعة الثانية 1410ﻫ مطبعة أهل البيت عليهم السلام الناشر مؤسسة مطبوعاتي ديني.

29. نهج المسترشدين/العلامة الحلي (قدس سره) .

30. إرشاد الطالبين/ الفاضل المقداد (قدس سره) .

31. زبدة الأصول/ السيد محمد صادق الروحاني.

32. كفاية الأصول/ الشيخ محمد كاظم الأخوند الخراساني (قدس سره) تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

33. شرح الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية/ الشهيد الثاني (قدس سره) مع تعليق وتحقيق السيد محمد كلانتر انتشارات داوري – قم 1410 ﻫ.

ص: 101

34. عوائد الأيام/ للفاضل المحقق المولى احمد النراقي (1245ه) التحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي الطبعة الأولى/ 1417ﻫ.

35. رسائل في دراية الحديث/ أبو الفضل حافظيان البابلي - قم: دار الحديث 1424ﻫ.

36. الآداب المعنوية للصلاة/ السيد الخميني.

37. الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل/ أبحاث الشيخ جعفر السبحاني بقلم: الشيخ حسن محمّد مكي العاملي الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية الطبعة: الرابعة - 1413 ﻫ المطبعة: مطبعة القدس

38. المباحث الأصولية/ الشيخ محمد إسحاق الفياض الطبعة الأولى نشر مكتب سماحته مطبعة شريعت.

39. ويكيبيديا: مشروع مبني على الأنترنت متعدد اللغات في أكثر من 250 لغة لإعداد موسوعة حرة ودقيقة ومتكاملة ومتنوعة ومحايدة يستطيع الجميع المساهمة في تحريرها. بدأت النسخة العربية في يوليو 2003.

40. مجلس بحث الأستاذ سماحة الشيخ محمد إسحاق الفياض دامت إفاداته.

41. مجلس بحث الأستاذ سماحة السيد محمد باقر السيستاني دامت إفاداته.

ص: 102

قبح العقاب بلا بیان والاحتیاط العقلی فی موارد الشبهة البدویة - السيد علي البعاج (دام عزه)

اشارة

ص: 103

ص: 104

بسم الله الرحمن الرحیم

والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على أفضل الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين.

وبعد: فهذا البحث ممّا استفدتُه من كلمات علمائنا الأعلام (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) في هذا الموضوع(1), وسيكون البحث مُوزَّعا على حلقتين:

الأولى: في مسلك قبح العقاب بلا بيان.

الثانية : في مسلك حق الطاعة.

ص: 105


1- بالإضافة الى ما فهمتُه من كلمات السيد الأستاذ سماحة السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه) .

الحلقة الأولى: مسلك قبح العقاب بلا بيان

وقبل الخوض فيه ينبغي ذكر مقدّمتين:

المقدمة الأولى: أنّ البراءة والاحتياط العقليين يُطرحان في الشبهة البدوية بمناطات متعددة منها:

1 - البحث عن الوظيفة العملية بمناط احتمال التكليف في حدِّ نفسه, مع عدم وجود دليل مثبتٍ أو نافٍ له, والبحث بهذا المناط هو البحث عن منجّزية الاحتمال، وتقابله البراءة.

2 - البحث عن الوظيفة العمليّة بمناط احتمال التكليف بلحاظ حيثية ثانوية - لا في حدّ نفسه -, وهذه الحيثية هي:

إمّا كون الكلّ مملوكا لله تعالى, ولا يجوز التصرف في ملكه إلا بإذنه.

وإمّا لدفع الضرر المحتمل الذي هو من مبادئ الحكم, وتقابله البراءة بهذا المعنى أيضا.

وبحثنا هذا ينتمي الى الشعبة الأولى من ذلك البحث العامّ, إذ المبنى السائد بين متأخري الأصوليين والمُسلّم هو البراءة العقلية بمناط قبح العقاب بلا بيان, وتفرّد السيد صاحب البحوث (قدس سره) بالقول بمنجّزية الاحتمال ببيان يأتي.

وتجدر الإشارة هنا الى نكتة أخرى وهي أنّنا أخذنا في عنوان البحث (الشبهة البدويّة) ولم نأخذ (الشك في التكليف) فيه لسببين:

الأول: إخراج الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي, فإنّ الشك في التكليف قد يكون شكاً بدويّاً وقد يكون شكاً مقروناً بالعلم الإجمالي, والنحو الثاني من الشك ينبغي أن يُبحث

ص: 106

عنه تحت عنوان (الوظيفة العملية في موارد العلم الإجمالي), وقد تجري البراءة عقليّة كانت أو شرعيّة, وقد تجري أصالة الاشتغال بعنوانها.

وما هو محلّ بحث الأعلام هاهنا هو النحو الأول من الشك - أعني الشك البدوي - ، لكون البحث ينصبّ فيه على أنّ المنجّز للتكليف هو وصوله لا مجرّد وجوده الواقعي, ولا مجرّد احتمال وصوله.

الثاني: التأكيد على أنّ دائرة البحث هي الشبهة البدويّة, وعدم شمول البحث لموارد الشك في نوع التكليف مع العلم بجنسه الذي هو مورد أصالة التخيير (دوران الأمر بين المحذورين) على ما هو المُتعارف من طرحها, لصدق الشكّ بالتكليف عليه.

وهذا ممّا استدركه سيدُنا الأستاذ (دام عزه) على كلام الشيخ (قدس سره) ومَن وافقه في تحديد مجاري الأصول العملية, فإنّ مجرّد العلم بجنس التكليف - كالإلزام - لا يُخرجه عن دائرة الشك في التكليف.

المقدمة الثانية: تجدر الإشارة إلى نبذة تاريخية عن البراءة العقلية ومعهوديّتها في كلمات الفقهاء والأصوليين من قبل, وذلك لأهميّة البحث التاريخي لمسائل العلم, لما له من أثر كبير في فهمها, حيث نسلط الضوء على مراحل تطورها, وعلى مساحات وزوايا حرجة فيها, ممّا يساعد على كشف ما قد يحصل من الالتباس فيها, أو استكشاف إرهاصات مُعيَّنة، فيكون هذا الاطلاع مبدأً تصديقياً لاتخاذ موقف ما نفياً أو إثباتاً, كما أنّه يُساعدنا في معرفة تجذّر تلك المسائل في الوجدان العلمي ومدى كمونها فيه.

وكيف كان, فقد ذكر السيد صاحب البحوث (قدس سره) أنّ البراءة العقلية لم تكن معهودة عند قدماء أصحابنا, وإنّما حدثت في العصر الثالث من عصور العلم وهو عصر الوحيد البهبهاني (قدس سره) , واستعان بذلك في مناقشته للبراءة العقلية, فهاهنا قولان:

ص: 107

1 - معهوديّتها في كلمات قدامى فقهاء وأصولييّ علمائنا, وهو ظاهر قول الكثير من المتأخّرين.

2 - عدم معهوديتها, وهو صريح كلام السيد صاحب البحوث (قدس سره) , وقد أشار إلى هذا بقوله: (فقبل الشيخ الصدوق "قده" لم يكن لهذه القاعدة عين ولا أثر, وأمّا في عصره فيظهر منه أنّه يقول بالإباحة عند الشك في الإلزام. ولكن لم يظهر منه أنّه يقصد البراءة العقلية, فلعلّ مراده الإباحة الشرعية.

وأمّا فيما بعد الصدوق فالشيخ المفيد والطوسي (قدس سرهما) لم يظهر منهما تبنّي هذه القاعدة العقلية, بل قد يُستشم من كلامهما العكس، فإنّه كانت هناك مسألة أصولية يُبحث فيها عن حكم الأصل في الأشياء هل هو الحظر أو الإباحة فيما لم يستقل العقل فيه بالقبح أو الحُسن؟ فقيل فيه بالحظر؛ لأنّه لا يؤمّن من وقوع المفسدة بسبب الإقدام. وهذا الطراز من التفكير لا يتناسب مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعد الشيخ الطوسي (قدس سره) بفترة قرن من الزمان نجد أنّ ابن زُهرة (قدس سره) يذكر البراءة العقلية، ولكن بحسب الظاهر لم يكن يقصد بها قبح العقاب بلا بيان بالمعنى المعروف حالياً, وإنما كان يقول بقبح التكليف مع عدم العلم؛ لأنّه تكليف بغير المقدور...

وبعد ذلك جاء دور المحقّق الحلي (قدس سره) فاستدل على البراءة بتقريبين:

الأول: استصحاب حال العقل, وعليه ترجع البراءة الى كبرى الاستصحاب, ومن الواضح أنّ الاستصحاب غير قاعدة قبح العقاب بلا بيان .

الثاني: أنّ التكليف بشيء مع عدم نصب دليل عليه قبيحٌ, وعدمُ وصول الدليل دليل على عدم وجوده. وهذا أيضا غير القاعدة.

وشاع بعد المحقّق (قدس سره) إدراج البراءة في الأدلة العقلية.., ثمّ بعد ذلك في العصر

ص: 108

الثالث من علم الأصول تبلورت البراءة العقلية بعنوان قبح العقاب بلا بيان)(1).

وفي كلامه (قدس سره) عدّة مواضع للنظر, وسيُعتمد في المناقشة على منهج تجميع القرائن والشواهد لتؤدي بمجموعها الى الاطمئنان والوثوق بوجود جذر تأريخي للبراءة العقليّة في كلام قدماء الفقهاء الأصوليين.

أمّا مواضع النظر في كلامه فخمسة:

أولاً: بالنظر الى كون الهدف ممّا ذكره (قدس سره) هو نفي ارتكازية البراءة العقلية في أذهان الفقهاء القدامى، فالمفروض النظر إلى البراءة العقلية بوجه مطلق, سواء أ كانت بمناط قبح العقاب بلا بيان - كما هو المتسالم عليه بين المتأخرين - أم بمناطات أخرى كقبح التكليف بغير المقدور ونحوه - كما عند المتقدّمين من الفقهاء والأصوليين - فإنّنا نريد أنْ نستكشف في هذه الجهة مدى كمون البراءة العقليّة في الوجدان العلمي، وجذورها التاريخية في الجملة, وهو كاف ٍ في ردِّ تلك الدعوى.

والوجه فيه: أنّ البراءة العقلية بمناط قبح العقاب بلا بيان, وكونها أصلا عملياً لتحديد الوظيفة العمليّة فحسب إنّما استقرت عند المتأخّرين بعد نشوء الحركة الإخبارية وتشكيكاتها في مباني الاستنباط الفقهي عند الأصوليين, وحملتهم على العمل بالظنون.

وأمّا قبل الحركة الإخبارية فقد كان الاستدلال بالبراءة يتأرجح بين كونها أصلاً بمعنى نفي العقوبة والمؤاخذة حال المخالفة, وبين كونها أمارة ودليلاً على الحكم بعدم المؤاخذة كما سيتضحّ ذلك قريباً.

ثانياً: إنّ ما ذكره (قدس سره) - من أنّ البراءة العقلية لا يوجد لها عين ولا أثر ما قبل عصر

ص: 109


1- بحوث في علم الأصول 5: 25 – 26.

الشيخ الصدوق (قدس سره) , وفي عصره كذلك - ولم يظهر منه الاستناد الى البراءة في قوله بالإباحة - يتوجّه عليه: إنّ الكتب الفقهيّة لقدماء علمائنا (رضوان الله تعالی علیهم) لم تكن كتباً استدلالية, بمعنى أنّ فتاواهم إنّما كانت متون الروايات، إذ كان هذا الأسلوب هو الأسلوب المتعارف آنذاك في كتب الفتوى, ولم يكن أسلوب الإفتاء خارجاً عن حدود ما ورد في الأخبار لعوامل منها: الخشية من أنْ تُردّ فتاواهم ظنَّا من الغير أنّها من عندهم من دون الاستناد إلى الأخبار الواردة عن أهل بيت العصمة (علیهم السلام) .

ويشهد له ما في مقدمة المُقنع للصدوق حيث قال: (ثُّمَّ إنّي صنفتُ كتابي هذا وسميتُه المُقنع لقنوع من يقرؤه بما فيه, وحذفتُ الأسانيد منه لئلا يثقل حمله, ولا يصعب حفظه, ولا يَمُلَّ قارئه)(1), وكلامه بمكان من الوضوح من أنّ متن كتابه هو الأخبار التي يعتقد بصحتها مع حذف طرقها: وهذه نكتة عامة في كتب الصدوق (قدس سره) ذكرها سيدنا الأستاذ (دام عزه) في غير مقام وهي نافعة فيما نحن فيه.

هذا مضافاً إلى أنّ مسائل علم الأصول لم تكن بهذا الحجم, ولم يكن مستقلاً عن الفقه, فضلاً عن فكرة تحديد الأصل العملي وفرزه عن سائر مبادئ الاستنباط.

وعليه فما ذكره الصدوق (قدس سره) من الإباحة يكون استناداً إلى بعض أخبار الباب, وليس في ذلك ما يشهد على أنّه لا يرى البراءة العقلية؛ وذلك لأنّ المحدّثين من قدماء أصحابنا لم يطرحوا للمواضيع العقلية عنواناً مستقلاً, وإنّما كانوا يُبيِّنون ذلك من خلال الأخبار.

ومنه يظهر أنّ ما استشهد به السيد صاحب البحوث (قدس سره) من كلام الشيخ الصدوق (قدس سره) لا شهادة فيه على ما ذكره.

ص: 110


1- المُقنع : 3 طبعة مؤسسة الإمام الهادي (علیه السلام) .

ثالثاً: إنّ ما ذكره من الاستشمام من كلام الشيخين المفيد والطوسي (قدس سرهما) يتوجّه عليه:- بالإضافة إلى ما ذكِرَ آنفاً من أنّ مسألة الأصول العملية لم تكن واضحة بالشكل الذي عليه الآن: أنّ كلمات القدماء في مسألة أصالة الحظر والإباحة كانت تنطلق من استيجاب احتمال الضرر للحظر أو لا قبل ورود السمع.

فالمسألة مسوقة لبيان الموقف عند عدم ورود التكليف في شيء من قبل الشارع - كما هو مورد أصالة البراءة -، ولم يكن القائلون بأصالة الحظر أو الإباحة يُركّزون على مراعاة الحكم المحتمل، بل جلّ تركيزهم على ما يوجبه ملاك التكليف، وأنّه هل يستوجب الحظر أو الإباحة؟

وهذا يعني أنّهم قد فرغوا من أنّ التكليف المحتمل في حدّ نفسه لا يوجب شيئاً. ويشهد له كلام السيد المرتضى (قدس سره) - الذي هو من القائلين بالإباحة في المسألة - فيما لو لم توجد أمارة المفسدة في البين, وهذا يعني الحكم بالإباحة مع احتمال التكليف بما يحتمل المفسدة.

وعلى هذا يكون معنى الإباحة هو جواز ارتكاب ما لم يرد فيه نصّ من الشارع وإنْ اُحتمل الضرر.

وتوضِّح ذلك جملة من التطبيقات الفقهية في كلمات قدماء علمائنا (رضوان الله تعالی علیهم) كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي (قدس سرهما) وغيرهما، فإنّها ليست بعيدة عن إفادة البراءة العقلية

- بمعنى قبح المؤاخذة عقلاً على مخالفة تكليف غير واصل - - وإنْ لم يكن بشكل صريح.

ولا بأس هاهنا بذكر أربعة نماذج من كلماتهم لتكون تأييداً لما ذُكِر، وشواهدَ معاكسة ً

لما أفاده السيد صاحب البحوث (قدس سره) :

النموذج الأول: ما ذكره السيد المرتضى (قدس سره) (ت 436ﻫ) في الانتصار في جواز شرب

ص: 111

بول الإبل: (والذي يدلّ على صحّة مذهبنا بعد الإجماع المتردد أنّ الأصل فيما يؤكل لحمه أو يشرب لبنه في العقل الإباحة. وعلى مَن ذهب إلى الحظر دليل شرعي ولن يوجد ذلك في بول ما يؤكل لحمه؛ لأنّهم إنّما يعتمدون على أخبار آحاد، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد إذا سَلِمت من المعارضات والقدح لا يُعمل بها في الشريعة. ثمّ أخبارهم هذه معارضة بأخبار ترويها ثقاتهم ورجالهم تتضمّن الإباحة)(1).

النموذج الثاني: ما عن الشيخ الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ) في الخلاف في مسألة بيع تراب المعادن حيث قال: (دليلنا قوله تعالى ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ وهذا بيع. وأيضا الأصل الإباحة, والمنع يحتاج إلى دليل)(2).

فإنّ الشيخ (قدس سره) وإنْ استدل بها هنا على صحّة المعاملة إلّا أنّ القدماء كانوا يحملون النهي على النهي التكليفي فضلاً عن الجانب الوضعي وهو الفساد, فلا يبعد إرادة الشيخ الجانب التكليفي هنا أيضاً بقرينة قوله (والمنع يحتاج الى دليل) فإنّه لا معنى له بحسب الظاهر إلّا عدم جواز التصرف.

النموذج الثالث: ما في الخلاف أيضا في كتاب الأطعمة والأشربة في مسألة أكل لحوم الحُمُر الأهلية والبغال, قال: (دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم, وأيضاً الأصل الإباحة والحظر يحتاج إلى دليل. وأيضا قوله تعالى ﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا..﴾, فالظاهر أنّ ما عدا هذه مُباح إلّا ما أخرجه الدليل)(3).

ويُقرّب وجه الاستشهاد بما ذكره السيد الأستاذ, وحاصله: أنّه يدلّ – بضميمة

ص: 112


1- الانتصار للمرتضى (قدس سره) : 424 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الخلاف 2 : 119 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
3- الخلاف 6 : 81.

الاستدلال بالآية - على أنّ مقصوده بالإباحة هو الإباحة العقلية لا السمعية, ولا يضرّ باستظهار ذلك ذهابُه في كتاب أصوله إلى الوقف؛ لأنّ من المحتمل عدوله الى القول بالإباحة عند تأليف الخلاف الذي هو من أواخر كتبه, خصوصاً أنّ مغايرة ما يُذكر في الفقه مع ما يُرسى في الأصول أمرٌ قد يتفق لعوامل منها: الالتفات إلى الآثار العملية للفكرة في الفقه بشكل أدق, وربّما كان الأمر في المقام كذلك.

والحاصل: أنّنا نجد في جميع تلك الشواهد ضمَّ ظواهر الآيات والأخبار إلى الاستدلال بالإباحة ممّا يدلّ على أنّ المقصود بالإباحة ما هو بحكم العقل لا الشرعية؛ فإنّ من البعيد إرادتها بقرينة المقابلة بينها وبين الأخبار والآيات في الاستدلالات المذكورة.

ولا ينافي ذلك استدلالُهم بها على الإباحة الشرعية في غير مقام, فإنّ الغرض ممّا ذكرناه هو عدم خلّو كلماتهم في الجملة عن أنّهم عنوا بالإباحةِ الإباحةَ العقلية.

النموذج الرابع: ما عن ابن ادريس الحلي (قدس سره) (ت 598) في السرائر: (ويحتجّ بأنّ الأصل أنْ لا صوم واجب في شهر رمضان، فمن أوجبه فقد رجع عن الأصل الذي هو الإباحة أو لا تكليف، فلأنّ الأصل وجوب صوم رمضان، فمن ادّعى سقوطه عن المكلفين به يحتاج إلى دليل)(1).

ووجه الاستشهاد أنّه (قدس سره) قد ردّد الأصل بين كونه الإباحة أو لا تكليف, والثاني يرجع إلى استصحاب العدم أو إلى استصحاب حال العقل، وهما يرجعان الى حجية الاستصحاب - على الخلاف في كونه أصلا أو أمارة - فيكون معنى أصالة الإباحة حينئذٍ ما هو بحكم العقل بمعنى البراءة العقلية.

ص: 113


1- السرائر 1 : 86 مؤسسة النشر الاسلامي.

وهناك شواهد أخرى تؤيد ما ذكِر(1), فما ذكره السيد صاحب البحوث (قدس سره) من عدم وجود عين ولا أثر للبراءة العقلية محل تأمل.

رابعاً: على تقدير تأخُّر انبثاق البراءة العقلية كأصل عملي فما ذكره (قدس سره) من انبثاقها في عصر الوحيد البهبهاني (ت 1205) (قدس سره) غيرُ ظاهر.

بل الأقرب أنّها انبثقت إبّان نشوء الحركة الإخباريّة كما أفاده سيدنا الأستاذ (دام عزه) ، حيث قال ما مُحصَّله: (والذي يظهر بتتبع حال البراءة والاستصحاب أنّ هذين الاصلين كانا قبل الحركة الاخبارية(2)، معروضين على أنّهما من الأدلة وإنّما انبثق طرحهما كأصلين عمليين في أثر الحركة الاخبارية - في حدود ما اطلّعنا عليه - وذلك أثر مجموع عاملين:

العامل الأول: حدوث حملة قويّة من قِبل أصحابها على العمل بالظن، واستبعاده بشكل نهائي عن مناهج الاستنباط الفقهي: إمّا بقبول كونه من الظن ورفض اعتباره وذلك فيما يكون من مناهج الاستنباط العقلي مثل أصالة البراءة. وإمّا برفض كون اعتباره على سبيل الظن وذلك بأحد وجهين:

أولهما: رفعه إلى مستوى القطع، كما فيما يتعلق بالأخبار، حيث قالوا بقطعيّة الكتب الأربعة.

ثانيهما: محاولة استنطاق الأخبار فيما يتعلق بالمسائل الأصولية المهمة على أساس وجود حلول كامنة في الأخبار لم يلتفت إليها الأصحاب لشيوع البحث عن الحل من

ص: 114


1- يراجع الانتصار : 207- 214- 217- 424 , والخلاف 1: 116 – 307 وغيرها من الموارد.
2- تأسست الحركة الاخبارية في بدايات القرن الحادي عشر الهجري على يد المُحدّث محمد أمين الاسترابادي المتوفى سنة (1033ﻫ).

خلال التأمّلات العقليّة تأثّراً بالمنهج الفكري لدى العامّة.

ثم أنّ البراءة وإنْ طُرحت في المرحلة الأولى على سبيل الدليليّة في غالب كلماتهم, إلّا أنّ الظاهر منها أنّها على سبيل الأصل العملي في جملة من الموارد انطلاقاً من أصالة الحظر، أو من قبح التكليف بغير المقدور، ونحوها من تعابير القدماء, وهذه الدليليّة طُرحِت بأحد وجهين:

الوجه الأول: الدليليّة القطعية على أساس أنّ عدم الدليل دليل على العدم, فإنّ الحكم لو كان ثابتاً لنصب الشارع عليه دلالةً، ولو نُصبت لوصلت, فعدم وجود دليل عليه يدلّ بالملازمة على براءة الذمة.

الوجه الثاني: الدليليّة الظنيّة على أساس استصحاب براءة الذمة الأصلية), الخ

والحاصل: أنّ انبثاق فكرة الأصل العملي وفرزه عن سائر مبادئ الاستنباط إنّما كان في عصر المُحدِّث الاسترابادي (ت 1033)، وهو ما يساعد عليه تتبع كلمات المُحدِّث المذكور ومَنْ تأخر عنه من الأصوليين، كالفاضل التوني (قدس سره) (ت 1071ﻫ) في الوافية. ثمّ اتّضحت أسسه عند المتأخرين، وفُصِلت منذ ذلك الحين عن الظنون، وتمحّضت في تحديد الوظيفة العمليّة عند الشك والحَيرة اتجاه الموقف الشرعي بعد فقد الطريق عليه, وهذا لا يعني أنّ لا وجود لها في كلمات القدماء بنحو الإجمال، وإنْ كان الغالب الاستدلال بها على سبيل الأماريّة.

ومنه يظهر النظر في كلام السيد صاحب البحوث (قدس سره) حيث أرجع انبثاق الفكرة إلى عصر الوحيد البهبهاني (قدس سره) (ت1205).

خامساً: ما أورده السيد الأستاذ (دام عزه) فيما نحن فيه من أنّ اشتراط التكليف بالعلم مطروحٌ في كلام القدامى من الأصوليين، كما عن الشوكاني الزيدي في أول إرشاد

ص: 115

الفحول, وكذا عن ابن زهرة من أنّ التكليف من غير علم به تكليف بما لا يطاق, وابن زهرة مسبوق بهذا الاستدلال وملحوق به.

وقد أشار إليه الشيخ الأنصاري (قدس سره) في الفرائد بقوله: (والظاهر أنّ المراد به إمّا لا يطاق الامتثال به بقصد الطاعة، كما صرّح به جماعة من الخاصة والعامة في دليل اشتراط التكليف بالعلم, وإلّا فنفس الفعل لا يصير ممّا لا يطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف)(1).

والظاهر من كلامهم أنّهم لم يجدوا محرّكيةً للتكليف في حال عدم العلم به, فمنظورهم بما لا يطاق ليس ما احتمله الشيخ وذكره السيد(2) من عدم إمكان الامتثال والطاعة، بل هو نظير بيان المحققَين النائيني والأصفهاني (قدس سرهما) من عدم وجود محرّكية في البين على ما سيأتي بيانه.

مسلك قبح العقاب بلا بيان

للبراءة العقلية في كلمات الأعلام من المتأخرين عدّة تقريبات, وقبل التعرّض لبعضها ينبغي تقديم خمسة أمور:

الأمر الأول: إنّ مضمون قبح العقاب بلا بيان - البراءة العقلية - هو أنّ التكليف غير الواصل بالعلم أو ما يقوم مقامه مؤمَّنٌ عنه عقلاً, واستحقاق العقوبة عليه حينئذٍ عقابٌ بلا بيان من المولى، وهو قبيح عقلاً, إذ من وظائف المولى جعل تكاليفه في معرض الوصول بحيث لو بحث العبد في مظّانها لوجدها.

وقد يُقرَّب محل الكلام في البراءة والاحتياط بما حاصله:(3)

ص: 116


1- فرائد الاصول 2:58 طبعة مجمع الفكر الاسلامي.
2- وهو السيد ابن زهرة صاحب الاستدلال.
3- هذا التقريب هو محصّل ما أفاده سيدنا الأستاذ (دام عزه) .

أنّ البحث إنّما هو في مدى اقتضاء الاحتمال لاستكشاف موقف ثانوي موجب لمراعاته, وليس المراد منها هو قبح العقوبة فيما إذا لم يكن هناك أي شيء يصلح حجة وبياناً, فإنّ هذه مصادرة مسلمة، وليس لنا فيها كلام مع أحد.

ومحلّ الكلام إنّما هو مدى استيجاب احتمال الحكم بنفسه وظيفة عقلية، أو كشفه عن وظيفة شرعية ثانوية من قبيل وجوب الاحتياط.

وبعبارة أخرى: إنّ للبراءة العقلية مستويين:

أولهما: قبح العقاب بلا محرّك أصلا, بمعنى أنّ مجرّد جعل الحكم الواقعي من دون محرّك في البين لا يُسوّغ العقوبة, ويمكن التعبير عنها ب- (بالبراءة العقلية بالمعنى الأعمّ), وهذه المصادرة مسلّمة بين المسلكين.

ثانيهما: قبح العقاب عند احتمال التكليف, ويمكن التعبير عنها ب- (البراءة العقلية بالمعنى الخاصّ)، وهي تنطوي على كبرى متمثّلة بالبراءة بالمستوى الأول, وصغرى وهي أنّ مجرّد الاحتمال ليس مُحرِّكا ذاتاً، ولا كاشفا تلقائياً عن وظيفة شرعية.

ومحلّ الكلام فيما نحن فيه هو هذا المستوى من البراءة, فيكون مرجع النزاع بالدقة إلى أن الاحتمال ليس حجةً عقلاً، ولا كاشفاً عن حكم شرعي.

الأمر الثاني: أنّ المقصود من البيان الذي هو موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) هو البيان الواصل الأعمّ من الوصول الوجداني والظاهري, فإنّ البيان بوجوده الواقعي غير مؤثّر.

وقد قرَّب المحقق النائيني (قدس سره) هذا المعنى بقوله: (فان المراد من "البيان" في قاعدة "قبح العقاب بلا بيان" هو البيان الواصل إلى العبد لا البيان الواقعي، لأنّ الإرادة النفس الأمريّة لا تكون محركة للعضلات ولا تصلح للداعويّة، فلا أثر للبيان الواقعي

ص: 117

ما لم يصل إلى العبد. وليس قبح العقاب بلا بيان مورد الدليل اللفظي حتى يُستظهر منه الأعم من البيان الواقعي والبيان الواصل، بل هو حكم عقلي ملاكه قصور الإرادة الواقعيّة عن تحريك إرادة العبد نحو المراد.

فالعقل يستقل بقبح عقاب العبد وعتابه إذا أعمل وظيفته بالفحص والسؤال فلم يعثر على مراد المولى، فإنّ عدم عثور العبد مع الفحص: إمّا لكون المولى أخلّ بوظيفته بعدم بيان مراده بالطرق التي يمكن الوصول إليه منها: وإمّا لأجل تقصير الوسائط في إيصال مراد المولى إلى العبد، وعلى كلا التقديرين لا دخل للعبد في عدم حصول مراد المولى على تقدير وجوده النفس الأمري، وذلك واضح)(1).

هذا, وقد ذُكِرت في كلمات الاعلام تقريبات لا تتفاوت مع هذا المضمون.

الأمر الثالث: إنّ مسألتنا هذه لمّا كانت مرتبطة بالتحسين والتقبيح العقليين تعيّن ذكر المسالك فيهما بنحو الاجمال, وهي أربعة:

المسلك الأول: ما تبنّاه السيد الخوئي والسيد صاحب البحوث (قدس سرهما) من كون الحسن والقبح إدراكين عقليين محضين, فهما وصفان واقعيان للأشياء مع قطع النظر عن أي شيء خارج العقل, وعليه يكونان من مدركات العقل النظري.

المسلك الثاني: ما بنى عليه مشهور الحكماء من كون الحسن والقبح إدراكين عقلائيين، بمعنى أن العقل يدركهما من خلال الصلاح والفساد العام؛ حفظاً للنظام وبقاءً للنوع الإنساني. وقد بنى على هذا المسلك أغلب المتأخرين, وعليه يكون الحسن والقبح من القضايا المشهورة.

ص: 118


1- فوائد الاصول 3: 215.

المسلك الثالث: ما حُكِي عن المحقق الخراساني وبنى عليه المحقق العراقي وصاحب المنتقى (قدس سرهم) من أنّ للقوة العاقلة ملائَمات ومنافَرات, ومنشؤهما هو اختلاف الأفعال في النقص والكمال, ولذا يحكم العقل بالحسن والقبح.

المسلك الرابع: ما حُكِيَ عن بعض أعاظم العصر (دامة ظله العالی) (1) من كونهما إدراكين فطريين يدركهما الإنسان تُجاه الأفعال من خلال قوّة الضمير والوجدان.

وينبغي الالتفات الى نكتتين في خصوص المسلك الثاني:

النكتة الأولى: إنّ هذه الادراكات يحكم بها العقلاء بما هم عقلاء, فهي إدراكات حاسمة من القوة العاقلة، يجب على الشارع أن يوافقها كونه رئيس العقلاء, فلا يُحتاج هاهنا الى جعل مضاف من الشارع غير إدراكه لتلك القضايا، فإنّ موافقة الشارع - بما هو عاقل - لهم ضروريّة لا على أنّه تابع وممضٍ لما أدركوه، بل لكونه رئيسهم.

ويمكن التعبير عن هذا المعنى ب- (البناء العقلائي المنطقي), ويشهد له حديث الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وإلّا فلا معنى للملازمة لو كان الشارع ممضياً إذ لا ملازمة حينئذٍ, وهذا في مقابل (البناء العقلائي الأصولي) المعبَّر عنه بالسيرة العقلائية التي هي إدراكات متزلزلة, ولهذا أمكن الردع والإمضاء فيها من الشارع.

النكتة الثانية: أن هذا المسلك لا يتقوّم بحيثية الجمع (العقلاء) وإنّما هي إشارة الى نقطتين:

أولاهما: دور العقل الجمعي في تبلور مثل هذه القضايا احترازاً عن الإدراكات التي يختص بها بعض العقلاء دون بعض، كقوانين الدول المختلفة التي تشوبها افرازات قوى

ص: 119


1- وهو سماحة المرجع الأعلى السيّد علي السيستاني (دامة ظله العالی) .

أخرى كالأنانية ونحوها, فلابدّ حينئذٍ من أمارة عقلائية تفصل الإدراكات الناشئة من القوة العاقلة عن غيرها من إفرازات سائر القوى, فإنّ عقل الانسان مجهّز بادراك ما ينبغي أنْ يُفعل كما هو مُجهّز بادراك ما لا ينبغي أنْ يُفعل.

ثانيتهما: عنصر الاطراد، حيث أرادوا ضمان عموم هذه الإدراكات عند العقلاء بمعنى أنّ كلّ عاقل يلتفت الى تلك القضايا. ومنه يظهر أنّ تطابق العقلاء لا موضوعية له عندهم.

كما يظهر منه اندفاع ما أورده كلٌ من السيد الخوئي - على أصل هذه المسلك - , والسيد صاحب المنتقى على كلام المحقّق الأصفهاني (قدس سرهم) :

أمّا إيراد السيد الخوئي فقد أفاد في المصباح عند ذكره الأقوال في حجيّة القطع: (فالأقوال فيها ثلاثة: (الأول): إنّ حجيّة القطع ثابتة ببناء العقلاء إبقاءً للنوع، وحفظا للنظام فتكون من القضايا المشهورة باصطلاح المنطقيين, وهذا البناء قد أمضاه الشارع لذلك يجب اتباعه)(1).

ثمّ أورد عليه بإيرادين قائلاً: (أمّا القول الأول ففيه:

أولاً: إنّ حجيّة القطع ولزوم الحركة على طبقه كانت ثابتة في زمانٍ لم يكن فيه إلّا بشر واحد, فلم يكن عقلاء لتحقّق البناء منهم, ولم يكن نوع ليكون العمل بالقطع لحفظه...

ثانياً: إنّ الأوامر الشرعية ليست بتمامها دخيلة في حفظ النظام, فإنّ أحكام الحدود والقصاص وإنْ كانت كذلك, والواجبات الماليّة وإنْ أمكن أنْ تكون كذلك، إلّا أنّ جُلاً من العبادات كوجوب الصلاة التي هي عمود الدين لا ربط لها بحفظ النظام أصلاً).

ص: 120


1- مصباح الأصول 2 : 18.

والذي يظهر من كلامه (قدس سره) أنّه قد تلّقى حجيّة العقلاء بمعنى بناء العقلاء, ووجه الاندفاع:

أولا: قد تقدّم أنّ هذه الإدراكات إدراكاتٌ جازمة حتى لو كانت من القضايا المشهورة كما صرّحوا به في المنطق, وسيأتي ما يفيد ذلك في كلام المحقّق الأصفهاني (قدس سره) ، فلا معنى لإمضاء الشارع لها.

ثانياً: قد عرفت أن حيثية (توافق العقلاء) إنّما هي للإشارة الى عنصر الاطراد في إدراك مثل هذه القضايا, كما أنها للإشارة الى الدور الجمعي للعقلاء, فهذا المسلك يجعل هذه القضايا من إفرازات القوّة العاقلة, ولكن حيث إنّ هذه الإفرازات تبتني على ملاحظة النوع، وما يترتب على بعض الأفعال من سيئات في النظام الجمعي أو من ايجابيات, كان للعقل الجمعي دورٌ في تبلورها.

فهم لم يقصدوا الجمع من تعبيرهم ب- (العقلاء), وليست حيثية الاجتماع مقوّمة لهذا المسلك, بل أرادوا منه العقلاء بما هم عقلاء, وإنّما تكمن أهمية الاجتماع في نضج هذه الإدراكات وصيرورتها سيرة مستقرة.

هذا، بالإضافة الى توجّه جواب السيد الأستاذ على ما أورده ثانياً، ومحصّله: أنّ المقصود من حفظ النظام ليس ما يكون بين الخلق, بل حفظ النظام في الكون, فالصلاح والنظم العام - لا النظم الاجتماعي بخصوصه - يمثّلان النظام الحكيم في الحياة ولا محالة يكون متسقاً وواحداً, وإلّا كان هناك نوع من التناقض بين حالة وأخرى، وهو ما يمثل ضعفاً في التخطيط والتنظيم. والإدراكات العقلائية تمثّل الحكمة في الحياة, والحكمة منهج دائم ولا يمكن أنْ تكون حالة خاصّة.

وأمّا ما أورده السيد صاحب المنتقى على كلام المحقق الأصفهاني (قدس سرهما) - من أنّه بناءً

ص: 121

على ما التزم به المحقّق من أنّ الحسن والقبح يرجعان الى توافق العقلاء يكون استحقاق العقاب أمراً جعلياً من العقلاء، وحينئذٍ يمكن ردع الشارع عنه - بقوله: (إنّ المقصود من وجوب العمل عقلاً هو إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة المقطوع... ثّمّ إنّ تأثير القطع في تنجيز التكليف واستحقاق العقاب ليس أمراً ذاتياً قهرياً... وليس حسن العدل وقبح الظلم من الأحكام العقلية الواقعية, بل من الأحكام العقلائية، وهي ما تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظا للنظام...

وبالجملة: مختاره (قدس سره) أنّ استحقاق العقاب أمر جعلي من قبل العقلاء, ورتّب على ذلك قابلية هذا الحكم للمنع شرعاً كسائر مجعولات العقلاء وبناءاتهم)(1), فمندفع لسببين:

السبب الاول: إنّ البناء العقلائي على نحوين: بناءٌ لإمضاء إدراكات حاسمة وقضايا جازمة، وهو ما عبّرنا عنه آنفاً ب- (البناء العقلائي المنطقي). وآخر لإمضاء إدراكات متزلزلة، وقد عبّرنا عنه ب- (البناء العقلائي الأصولي). والذي يحتاج الى إمضاءٍ شرعي هو الثاني منهما، إذ يكون الشارع في رتبة متأخرة عنه وناظراً إليه.

وحيث إنّه بناء متزلزل أمكن فيه الإمضاء أو الردع الشرعي، ممّا يكشف عن تصويب الشارع أو تخطئته له, بخلاف الأول - أعني البناء العقلائي المنطقي - فإنّ الشارع ليس في رتبة متأخّرة عنه, بل إنّما حَكَمَ الشارع بهذه القضايا لكونه من العقلاء، بل هو رئيسهم فلا يحتاج الى إمضاء غير إدراكه لها، لا سيّما أنّها قضايا تفيد تصديقاً جازماً على ما بيّنوه في المنطق.

ص: 122


1- منتقى الاصول 4 : 24.

وهذا المعنى مقتضى قانون الملازمة, فلو كان البناء العقلائي المنطقي ممّا يحتاج الى إمضاء شرعي أو أمكن الردع عنه لما كان هناك معنى لقانون الملازمة، إذ هو متزلزل من رأس, كما يُستبعد أن يردع الشارع عن حسن العدل، أو قبح الظلم، أو حفظ النظام.

السبب الثاني: إنّ كلمات المحقّق الأصفهاني (قدس سره) خالية من أي تصريحٌ بقبول مثل هذه القضايا للإمضاء أو الردع الشرعي, وإذا كان في كلامه ما يُشعر بهذا المعنى فقد ذكر في موضع من النهاية كلاماً لعّلّه يُساعد على فهم ما ذُكِر, حيث قال بعد ذكر الفرق بين القضايا المشهورة وبين الضروريات وعدم صيرورتها من المظنونات لمجرّد كونها مشهورة : (بخلاف هذا القسم من المشهورات فإنّها تفيد تصديقاً جازماً ولا يُعتبر مطابقتها لما في الواقع, بل يُعتبر مطابقتها لتوافق آراء العقلاء فافهم ولا تغفل)(1), فكونها قضايا جازمة ربّما لا ينسجم إلّا مع البناء العقلائي المنطقي الذي يأبى الإمضاء والردع.

وعلى تقدير أنّه (قدس سره) قد بنى على إمكان ردع الشارع فما بنى عليه ليس مُقوِّما لأصل المسلك الثاني, وإنّما هو تقرير في ضمن هذا المسلك.

الأمر الرابع: في توضيح حقيقة الفرق بين أحكام العقل العملي وأحكام العقلاء (البناء العقلائي الأصولي).

إن معرفة حقيقة الفرق بين العقل العملي وبناء العقلاء مهمّ للغاية, كما أنّ الخلط بينهما أو الجهل بهما يؤدي الى تبنّي أحكام غير صحيحة, وتكمن حقيقة الفرق بينهما في أنّ البناء العقلائي إدراكات مبنية على تقديرات نوعية، أو شخصية غير حاسمة لدى

ص: 123


1- المصدر 2 : 316.

العقلاء تحرّياً منهم للصلاح, فلا تكون جميع خلفيات ومبادئ ذلك التقدير مشهودة عندهم بنحو جازم.

ولهذا قد يعترفون بعدم إطّلاعهم على بعض تلك المبادئ، أو عدم تقدير تداعيات المبادئ المشهودة وضبطها بالشكل المطلوب, بخلاف حكم العقل العملي فإنّه إدراكات مبنيّة على تقديرات مضبوطة لديه, ولا تخفى عليه مبادئ تلك التقديرات وخلفياتها، بل وتداعياتها, إذ لا خفاء في الوجدانيات على الوجدان - كما عبّر المحقّق العراقي (قدس سره) - بعد إرجاعه الحسن والقبح العقليين الى الملائمة والمنافرة للقوّة العاقلة, فلا يتطرّق إليه الشك والاحتمال.

ويترتب على هذا الفرق نتيجة في غاية الأهمية وهي استتباع حكم الشارع للأول، لمكان الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع دون الثاني, فإنّ نظر الشارع إليه نظر ممضٍ أو رادعٍ له, وهو يرجع الى تصويب الشارع العقلاء فيما يقتضيه الصلاح العام، أو تخطئته لهم.

الأمر الخامس: في وجود منطقة توقف العقل عن الحكم بالحسن والقبح.

والمقصود منه عدم حكم العقل بالحسن والقبح بشكل جازم, وتشمل هذه المنطقة العقوبة في بعض حالاتها, فمؤدّى (أنّ العقوبة بلا بيان) يندرج في هذه المنطقة, وحينئذٍ قد يحكم العقل بالاحتياط تجنباً عن الضرر الأخروي المحتمل.

والمعروف بين المتأخّرين عدم ثبوتها, فإنّ العقل إمّا أنْ يحكم بالقبح أو بعدمه ولا ثالث بينهما, وإنّما يظهر هذا المبنى - أي وجود منطقة توقف - من الأصوليين القدماء كما هو الملاحظ من استدلالاتهم على حجيّة الظن المطلق, بأنّ الظن بالتكليف يستلزم

ص: 124

الظنّ بالضرر الأخروي - العقوبة - والدنيوي وهو فوات ملاك الفعل, ودفع الضرر المظنون واجب, وكذلك فيما اُستدِل به على الوقف في بحث أصالة الحظر والإباحة.

وقد يُقرَّب تخريج منطقة التوقف بالاعتماد على ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولى: إنّ بالإمكان تصوير هذه المنطقة على المسالك المذكورة في الحسن والقبح:

أمّا على المسلك الأول فواضح, لوجود واقع وراء إدراك العقل فيجوز عدم إدراك العقل لهذا السنخ من الواقعيات أحياناً.

وأمّا على المسلك الثاني فلامتناع توقف العقلاء في الاعتبار المناسب في البين.

وأمّا على المسلك الثالث فإنّ النفس في غير موارد الشعور بالحسن والقبح (تارة) تُبرز شعوراً بالأمن وهو ما يناسب الإباحة. (وأخرى) تُبرز شعوراً بالحذر تجاه الفعل وهو ما يُناسب التوقف.

المقدمة الثانية: إنّ العقوبة التي هي من فعل الشارع هي كسائر الأفعال التي تقبل مواقف مختلفة من العقل, فالعقل (تارة) يحكم بقبح العقوبة كما في حالات الجهل المركب والغفلة, (وأخرى) يحكم بحسنها ولو لأجل أنْ يكون عبرة للآخرين. (وثالثة) بعدم حسنها ولا قبحها على سبيل التوقف، كما في موارد العقوبة على المخالفة في حالات الاحتمال.

المقدمة الثالثة: إنّ احتمال العقوبة الأخرويّة يوجب عقلاً الاجتناب عمّا يوجبه من جهة أهمية احتمال العقوبة.

هذا, وقد نوقش في المقدمة الثانية من جهتين:

أولاهما: إنّ الفعل الذي يقع موضوعاً لحكم العقل بالقبح أو عدمه (تارة) يكون

ص: 125

ابتدائياً لم يُفرض وقوعه جزاءً لفعل آخر، كحكم العقل بقبح القتل في حدِّ نفسه. (وأخرى) يكون جزائياً كحكمه بعدم قبح القتل إذا كان قصاصاً عن قتل عمدٍ. وخاصّةُ الحكم الجزائي هي أنّ حكم العقل يتفرع ويتأثر بحكمه على الفعل الأول الذي يكون جزاءً له.

ثانيتهما: إنّ عدم قبح العقاب على المخالفة بلا بيان يقتضي صدور عمل قبيح من المكلف لا محالة، وإلّا كانت العقوبة قبيحة, وعليه فلا بدّ أنْ يكون فعل المكلّف عند احتمال وقوعه في مخالفة أمر المولى ممّا يحكم العقل بكونه قبيحاً.

ودعوى أن الفعل يجوز أن يكون مما يحتمل العقل قبحه فيندرج في منطقة التوقف. مدفوعةٌ بأنّ القبح منه ما هو واقعيٌ مترتب على الفعل نفسه, ومنه ما هو ظاهريٌ مترتب على الفعل بما أنّه محتمل القبح الواقعي ومتأخر عنه رتبة. والفعل لا بدّ أنْ يكون محكوماً بالقبح ولو ظاهراً حتى يحكم العقل بقبحه.

فالعقل وإنْ كان يدرك قبح ارتكاب محتمل القبح الواقعي، حيث يكون الفعل المُستحق عليه العقوبة ممّا لا يحكم العقل بقبحه قبحاً واقعياً, ولكن لا يجوز أنْ يكون ممّا لا يحكم العقل بقبحه ولو ظاهراً, فلو لم يرَ العقل لزوم الاجتناب عن الفعل المحتمل القبح, وقبح ارتكابه ولو ظاهراً لم يكن من الوارد وقوع هذا الفعل موضوعاً لحكم العقل بعدم قبح العقوبة عليه.

وبهذا البيان دفع السيد الأستاذ (دام عزه) ما أورده صاحب المنتقى (قدس سره) - من عدم العلم بقبح المؤاخذة فيما لو شُكَّ في رضا المولى بالعمل على كلٍ من مسلكي القبح والحسن العقلي - قائلاً: (أمّا العقاب مع التردد والشك في رضا المولى بالعمل وعدم رضاه, فلم يُعلم أنّه من منافرات القوّة العاقلة, كما لا يُعلم أنّ بناءهم على عدمه حفظاً للنظام،

ص: 126

لعدم العلم بأنّ المؤاخذة مخلّة بالنظام... فلا تقبح المؤاخذة من المولى على كلا المسلكين).

والحاصل: أنّ موضوع الجزاء لا بدّ فيه من كون الفعل محكوماً بالقبح ولو ظاهراً, وإلّا لم تسغ العقوبة عليه, وما نحن فيه من قبيل الفعل الجزائي لا الفعل الابتدائي, فلا يجوز أنْ يكون الفعل في منطقة الفراغ بقول مطلق.

وباتّضاح الأمور المتقدّمة, فقد جاء في كلمات المتأخرين عدة تقريبات لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (البراءة العقلية), نقتصر على ذكر ثلاثة منها:

التقريب الأول: ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) من أنّ التكليف غير الواصل لا يصلح للداعويّة الموجبة للبعث والانبعاث عنه, قال: (حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان إنّما هو لأجل أنّ الأحكام الواقعية بعد وضوح أنّها لا تكون محرّكة للعبد إلّا بالإرادة, لا يعقل محرّكيتها إلّا بعد الوصول، ضرورة عدم إمكان الانبعاث إلّا عن البعث بوجوده العلمي دون الخارجي... وقبله لا اقتضاء له للمحركيّة أبداً, وإنّما يتمّ محركيّته بالإرادة, وفي فرض الانقياد بالوصول وإحرازه, وأمّا الحكم فهو بنفسه غير قابل للمحركية أيضاً لتساوي احتمال الوجود مع احتمال عدمه, نعم، يصحّ كونه محرّكاً بضميمة خارجية مثل كون العبد في مقام الاحتياط ونحو ذلك)(1).

فالحكم حتى يكون فاعلاً ومؤثراً في نفس المكلف وينبعث عنه لا بدّ من أن يكون واصلاً إليه بأنّ يكون في معرض الوصول, ومجرّدُ وجوده الواقعي من دون وصوله لا يكون محرّكاً، ولا يلزم الانبعاث منه, فالعقوبة عليه حينئذٍ قبيحة عقلاً, حيث إنّ

ص: 127


1- أجود التقريرات 186:2.

المكلّف لم يُخِلْ بوظيفته تجاه المولى حسب الفرض.

وقد ذكر (قدس سره) نحو هذا البيان في فوائده حيث أفاد: (فالمراد من البيان في قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) هو البيان الواصل, لأنّ الإرادة النفس الأمرية لا تكون محركة للعضلات, ولا تصلح للداعويّة, فلا أثر للبيان الواقعي ما لم يصل إلى العبد, وليس قبح العقاب بلا بيان مورد الدليل اللفظي حتى يُستظهر منه الأعم من البيان الواقعي والبيان الواصل, بل هو حكم عقلي ملاكه قصور الإرادة الواقعية عن تحريك العبد نحو المراد)(1).

وقد أُورد عليه ثلاثة إيرادات:

الإيراد الأول: ما عن صاحب المنتقى (قدس سره) حيث أورد على كلام المحقق بإيرادين أولهما على تقرير الفوائد, والثاني على تقرير أجود التقريرات, فهو يرى أنّهما تقريبان لا تقريب واحد.

أمّا إيراده على تقرير الفوائد فحاصله(2): أنّ المحقّق لم يتعرض لدفع احتمال ترتّب العقاب على نفس مخالفة التكليف المشكوك الذي هو فعل اختياري, وكلامه المذكور إنّما يصح في دفع احتمال ترتبه على نفس عدم الوصول, وهو فعل غير اختياري يقبح العقاب عليه بلا كلام, ولكنه ليس محل الكلام.

وأمّا إيراده على تقرير الأجود فحاصله: أنّ مراد المحقّق من عدم الاقتضاء إنْ كان هو أنّ العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل عقاب وبلا مقتضٍ وحينئذٍ فلا تكليف، فهو ممّا لا يلتزم به هو (قدس سره) ، إذ إنّ مسلكه هو أنّ فعلية التكليف بفعلية موضوعه ولو مع

ص: 128


1- فوائد الأصول 215:3.
2- منتقى الأصول 443:4-444.

عدم الوصول، فله وجود واقعي بغض النظر عن الوصول وعدمه.

وإن كان مراده من عدم الاقتضاء للعقاب هو عدم المُصحِّح فهو أول الكلام.

هذا محصّل إيرادي السيد صاحب المنتقى (قدس سره) .

ويمكن أنْ يجاب عنهما بثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: إنّ جعل تقريري المحقق النائيني (قدس سره) تقريرين مستقلين ومختلفين لا يساعد عليه كلام المحقق نفسه, فإنّهما يرجعان إلى تقريب واحد محصّله: عدم انبعاث العبد بمجرد الوجود الواقعي للتكليف, لأنّ الإرادة الواقعية للمولى من دون إيصالها إلى العبد لا تحرك العبد نحو مراد المولى.

الجواب الثاني: يتوجه على ما أورده على تقرير الفوائد أنّ المحقّق (قدس سره) قد ذكر في غير موضع من تقريريه أنّ متعلّق التكليف هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار، وانبعاث الإرادة عن العلم لكونه محرزاً للمعلوم لدى النفس، لا لكون العلم صفة، فإنّ إحراز الشيء لا يغاير ما عليه الشيء من المصلحة والمفسدة.

قال في بحث التجرّي من الفوائد في ردِّ دعوى كون المتعلق هو الانبعاث وحركة الإرادة، وأنّ العلم موضوع على سبيل الصفتيّة ما لفظه: (وأمّا الأولى فلأن المتعلّق هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار لا نفس الإرادة والاختيار... وأمّا الثانية فلأنّ الإرادة وإنْ كانت تنبعث عن العلم ولكن لا بما أنّه علم وصورة حاصلة في النفس، بل بما أنّه محرز للمعلوم، فالعلم يكون بالنسبة إلى كل من الإرادة والخمر - في مثاله - طريقاً، بل العلم يكون في باب الإرادة من مقدمات وجود الداعي حيث تتعلق الإرادة بفعل شيء بداعي أنّه الشيء الكذائي، وهذا الداعي ينشأ عن العلم بأنّه الشيء الكذائي)(1).

ص: 129


1- فوائد الأصول 3: 39-40، وقريب منه ما أفاده في نفس الحزء ص 365 .

ودعوى (كفاية الملاكات والواقعية لأنْ تكون بيانا وموجبا لإيصال الاحكام الواقعية). مدفوعة بما ذكره المحقّق نفسه في مواضع غير قليلة من عدم كفاية الملاكات لإيصال الحكم الواقعي لا بنفسه ولا بطريقه، فلا تكون بياناً، كما لا تكون ملاكاً لجعل المتمم حال الجهل دائماً.

وعليه يكون إيجاب الاحتياط مشكوكاً فيكون مورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أضف إلى ذلك أنّ الملاكات الواقعيّة خارجة عن متعلقات التكاليف، وإنّما هي من الدواعي للجعل، وتحصيلها أجنبي عن المكلّف، وعلى تقديره فهي مشكوكة في ما نحن فيه؛ لأنّ الكلام في العقاب وهو واقع في سلسلة معلولات الأحكام لا في رتبة عللها(1).

الجواب الثالث: ما أورده على تقرير أجود التقريرات, فإنّه يمكن أنْ يلاحظ عليه أنّ مراد المحقّق (قدس سره) من الفعلية يتضح ببيان مطلبين:

أولهما: إنّ الأحكام الشرعية عنده عبارة عن إنشاء الحكم على موضوعه المُقدَّر, فتكون من قبيل القضايا الحقيقية, فإذا تحقق ذلك الموضوع خارجاً صار الحكم فعلياً, فالجعل والإنشاء إنّما يكونان أزليين, والفعليةُ إنّما تكون بتحقق الموضوع.

وبهذا البيان أنكر (قدس سره) الحكم الإنشائي الذي التزم به صاحب الكفاية بقوله: (فتحصل أنّه ليس قبل تحقّق الموضوع شيء أصلاً حتى يسمى بالحكم الإنشائي في قبال الحكم الفعلي، إذ ليس الإنشاء إلّا عبارة عن جعل الحكم في موطن وجود الموضوع, فقبل تحقّق موطن الوجود لا شيء أصلاً، ومع تحقّقه يثبت الحكم، ويكون ثبوته عين فعليته، وليس لفعلية الحكم معنى آخر غير ذلك)(2).

ص: 130


1- فليراجع أجود التقريرات 2: 188 وفوائد الأصول 3: 216 .
2- فوائد الأصول 1: 175 .

ثمّ قال: (فظهر معنى كون إنشاءات الأحكام أزلية, وإنّ تحقّق المنشأ يكون بتحقق الموضوع, ولا يلزم منه تخلُّف المُنشأ عن الإنشاء، وإنّما التخلف يحصل فيما إذا وُجد غير ما أنشأه...)(1).

ثانيهما: إنّ تنجيز الحكم على المكلف إنّما يكون بالوصول بعد فعليته، فالوصول شرط تنجيز التكليف ومع عدمه لا يكون الحكم منجّزاً، فلا استحقاق للعقاب على تقدير المخالفة وإنْ كان الحكم فعلياً, أي متحقق الموضوع خارجاً.

وقد أشار إلى هذا المعنى في تنبيه له حول رجوع القيد في القضية إلى الهيئة أو المادة فقال: (تنبيه: ظهر بما ذكرناه من أنّ المُنشأ للمولى ليس إلّا الحكم على تقدير وجود موضوعه أنّ وجود الموضوع مساوق لفعلية الحكم، وإن كان يشترط في تنجّزه على المكلف واستحقاق العقاب على مخالفته أنْ يكون واصلاً إليه، وفي ظرف عدم الوصول وجداناً أو تعبداً لا يمكن أن يكون منجّزاً، وإنْ كان فعلياً بوجود موضوعه)(2).

ففعلية التكليف أمر، وتنجّزه أمر آخر, فالفعلية عنده إنّما تتحقّق بالعلم بالتكليف صغرى وكبرى، وأمّا التنجيز فإنما هو بالوصول.

ويشهد لما ذكرناه ما أفاده (قدس سره) في مسألة اقتضاء النهي للفساد وعدمه في العبادات: (وأمّا القسم الثالث - كون المانعية ناشئة من التزاحم - فلا إشكال في أنّ المُوجِب للتقييد فيه هو تنجّز خطاب الأهم، وكونه موجباً لعجز المكلف عن امتثال خطاب المهم، فما لم يتنجّز خطاب الأهم لا موجب للتقييد وإن كان هناك التكليف بالأهمّ ثابتاً في الواقع كما في مورد الجهل والنسيان، فعند الشك في وجود التكليف بالأهم يقطع بعدم وجود

ص: 131


1- المصدر : 177 .
2- أجود التقريرات 1: 147.

مزاحم للتكليف بالمهم... ولا ينافي ذلك وجود التكليف في الواقع لعدم كونه مزاحماً للتكليف الفعلي ما لم يكن واصلاً إلى المكلف وشاغلاً له بامتثاله عن امتثال غيره)(1).

وبهذا يظهر ما في إيراد السيد صاحب المنتقى (قدس سره) ، فإنّ الفعلية عند المحقّق النائيني (قدس سره) إنّما تتحقّق بتحقّق موضوع الحكم خارجاً، ولا ينافي ذلك عدم تنجّزه وعدم استحقاق العقوبة عليه حال المخالفة؛ لكونه غير واصل وإن كان الحكم فعلياً واقعاً، فعدم استحقاق العقاب ليس على عدم التكليف لكونه غير فعلي كما هو ظاهر المنتقى، بل لعدم تنجّزه بالوصول, فالعقاب عليه عقاب بلا مقتض ٍ.

الإيراد الثاني: ما حُكِي عن بعض الأعاظم (دامة ظله العالی) وحاصله: (إنّ لازمَ ما ذُكر إنكارُ كاشفية الاحتمال وقيمته، فإنّ الاحتمال بما له من عرض عريض ذو كاشفية بالنسبة إلى الواقع, ولكن ليست تامّة كما في العلم، بل هي رؤية ناقصة، ولهذا قد يتولّد العلم من تراكم الاحتمالات واجتماعها في محور واحد.

فالعلم والاحتمال من سلسلة واحدة أولها الشك وآخرها العلم، وهما صفتان نفسيتان ترتبطان في ذهن الإنسان, وبذلك يتّضح أنّ التأثّر في حالة الاحتمال كالتأثّر في حالة العلم من حيث إنّهما تأثّر عن الواقع بالعرض, وأنّ الاحتمال كالعلم شرط في هذا التأثر وليس مستقلاً قبال الواقع.

ومن جهة أخرى فإنّ للاحتمال تأثيراً وفاعلية بحسب الموازين المتعارفة عند العقلاء في مرحلة الترابط بين الوسيلة والهدف، فلا تقتصر أفعالهم وتروكهم على ما إذا قطعوا بالترابط بينهما وإلّا لتوقف الناس في كثير من أمورهم ومقاصدهم.

ص: 132


1- أجود التقريرات 1: 400- 401 .

نعم, بناء العقلاء على إعمال الجهد بتجميع الشواهد والقرائن الموجبة والنافية في مرحلة استكشاف مستوى الترابط المذكور ودرجته الاحتمالية، وفي مرحلة تقويم الهدف ومدى وزنه وأهميته، ثم بذل الجهد في الموازنة بين الاحتمال والمحتمل، فإن كان الاحتمال قوياً والمحتمل ذا أهمية فإنهم يرونه قائماً مقام العلم، وإلّا فلا يرونه كذلك، بل ربما يستحسنون الاحتياط وربّما لا يستحسنونه، وإذا كان الاحتمال ضئيلاً ويعد الاهتمام به وسوسة فهو مذموم عقلاءً وشرعاً، كما أنّ درجة الاحتمال كلّما كانت أقوى فإنّه يكفي في قيامه مقام العلم في محتملٍ أقل أهمية، وكذا العكس فإنّ أهمية المحتمل تجبر نقص درجة الاحتمال، وليس من الوارد بوجه إلغاء قيمة الاحتمال مطلقاً).

ومحصل كلامه (دامة ظله العالی) أنّ اللازم من بيان المحقّق النائيني (قدس سره) إنكار قيمة الاحتمال وعدم الاعتناء به، هذا مضافاً إلى أنّنا نجد أن للاحتمال نحو محركيّة باتجاه المحتمل بحسب الموازنة بين درجة الاحتمال وأهميّة المحتمل، وهذه الموازنة من ارتكازات العقلاء في تصرفاتهم.

وسنذكر هذا الإيراد بعد ذكر إيراد السيد صاحب البحوث (قدس سره) على كلام المحقّق (قدس سره) ، فإن الإيرادين متقاربان, فيكون جوابهما واحداً.

الإيراد الثالث: ما أورده صاحب البحوث (قدس سره) بقوله: (وهذا البيان أيضاً غير تام, لأنّ المُحرِّك على قسمين:

1 - المحرّك التكويني: وهو الذي ينشأ من وجود غرض تكويني نحو الشيء, ملائم مع قوّة من قوى الإنسان أو رغبة من رغباته.

2 - المحرّك التشريعي: وهو عبارة عن حكم العقل بلا بدِّية التحرّك سواء أ كان لدى الإنسان غرض أم لا.

ص: 133

فإنْ كان النظر إلى التحرّك التكويني فالشيء بوجوده الواقعي وإنْ لم يكن هو المحرّك التكويني بل بوجوده الواصل - لأنّ وجوده الواقعي ليس أحد مبادئ الإرادة والتحرّك ولا دخل له في تكوين غرض نفساني له, وعملية التحرّك عملية شعورية بحاجة إلى الوصول - إلّا أنّ للوصول مراتب من جملتها الوصول الاحتمالي, وبحسب تفاوت درجات أهمية الشيء تختلف المحركيّة.

وأمّا المحرّك التشريعي فمرجعه إلى حق الطاعة فهو الذي يُلزِم بتطبيق العمل على وفق ما أمر به المولى ويحكم بلا بدّيته.

والكلام بعدُ في هذا الحق وحدوده, فمن يقولُ به حتى في حالات الشك وعدم العلم بالتكليف يرى وجود المحرّك المولوي وثبوت الموجب له حتى مع الوصول الاحتمالي)(1).

والايرادان متقاربان خصوصاً في الشق الأول من كون المحقّق (قدس سره) لا يعتني بقيمة الاحتمال مطلقاً.

وقد اُجيب عن الاثنين:

أمّا ما يتعلق بالشق الاول من الايرادين فبما حاصله: أنّ المحقّق (قدس سره) ليس بصدد إنكار قيمة الاحتمال, ولكنّه يُفصِّل بين مقاصد الإنسان لنفسه ومقاصد الغير في قيمة الاحتمال:

أمّا فيما يتعلق بمقاصد الإنسان لنفسه فهو بمقدار ما يهتمّ بشيءٍ قد يتأثر بذلك الاحتمال عقلاً، ويجب عليه أنْ يتحرك, ووجوب دفع الضرر المتحمل قاعدة معروفة

ص: 134


1- بحوث في علم الأصول 5: 27 .

في كلمات الأصوليين وموضع اعتراف الجميع, وقد حلّلوا هذه القاعدة على أساس التحسين والتقبيح العقليين.

وانبثق في كلمات المتأخرين كصاحب الكفاية وجه آخر مضافاً إلى الجانب العقلي وهو كونه أمراً غريزياً جبليّاً فطرياً يوجد حتى في الحيوانات.

وأمّا فيما يتعلق بمقاصد الغير فليس الأمر كذلك, فإنّ وظيفة الغير أنْ يُبلغ مقصوده إلى من يُطلب منه أنْ يأتي بموقف ما, ومجرّد احتمال وجود مقصد للغير ليس بالمؤثر والمُحرِّك في نفس الغير, بل حتى مع علم الإنسان - بمقصد الغير الذي هو تحت رعايته - بأهمية المحتمل عند الغير لابد من استكشاف خطاب ثانوي - الطريقي عند المحقّق الآخوند والنفسي للغير عند المحقّق النائيني "قُدِّسَ سِرُّهما" - للحفاظ على المقاصد الأوليّة كوجوب الاحتياط مثلاً.

ولهذا قال المحقّق النائيني (قدس سره) : (إذاً الأحكام الواقعية الشاملة الصورة الشك فيها من باب نتيجة الإطلاق, حيث إنّها بنفسها لا تكون قابلة للمحركيّة والباعثيّة في حال الشك, إذ المحركيّة والباعثيّة تتوقفان على وصول الحكم بنحو من أنحاء الوصول ومع عدمه يكون المكلف في حَيرة وضلال. (فتارة) تكون ملاكاتها من الأهمية بمرتبة تقتضي جعلاً آخر في ظرف الشك يوجب كون الحكم الواقعي واصلاً بطريقه ومتنجّزاً ولو مع الجهل به، كما في موارد إيجاب الاحتياط أو أصالة الحرمة. (وأخرى) لا تكون تلك الملاكات مقتضية لجعل نفس الأحكام الواقعية من دون أنْ تستتبع لجعل آخر في ظرف الجهل.

أمّا في القسم الأول فلا ريب في أنّ حكم الشارع بوجوب الاحتياط أو أصالة الحرمة - كما في موارد الخروج والدماء والأموال في الجملة - راجع إلى إيجاب الاحتياط بالدقة,

ص: 135

إذ الحكم بها أيضاً ينشأ في الاهتمام بالأحكام الواقعية في موردها يوجب تنجّز الواقع في ظرف الاصابة...)(1).

كما أنّه ذكر في فوائده في الثالث من الوجه الاول من مبحث حجيّة مطلق الظن ما لفظه: (وعلى كل حال سواء قلنا بأنّ حكم العقل في مورد احتمال الضرر طريقي أو موضوعي فحيث كان هذا الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الاحكام فيستتبع الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة على طبق ما حكم به العقل, فإنْ كان الحكم العقلي طريقيّاً فالحكم الشرعي المستكشف منه أيضا يكون طريقيّاً, نظير إيجاب الاحتياط في باب الدماء والفروج.

وإن كان موضوعيا فالحكم الشرعي كذلك, ولا يمكن أنْ يتخلف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي في الموضوعية والطريقية, بل يتبعه في ذلك لا محالة, وهذا الحكم العقلي الطريقي أو الموضوعي المستتبع للحكم الشرعي على طبقه يكون حاكماً على أدلّة الأصول الشرعية من البراءة والاستصحاب كما يكون وارداً على البراءة العقلية...)(2).

والحاصل: أنّ التأمّل بمجموع كلمات المحقّق النائيني (قدس سره) يُفضي إلى أنّه لا يقول بعدم وجود قيمة للاحتمال في ما يتعلق بمقاصد النفس, بل فيما يتعلق بوجود مقصد للغير فإنّه لا يُحرِّكه مجرد وجود مقصد له, فلابُدَّ من إحراز إرادته.

بل حتى في حالة أهمية المحتمل مثل الأعراض ونحوها ممّا يُعلم اعتناء المشرّع بها لا بدّ من إحراز إرادة نفسية للغير أو طريقية للحفاظ على الملاكات الأولية بحكم العقل، فلا يحصل التأثّر إلّا إذا ثبت موقف للغير: إمّا موقف أولي كما في الأحكام الواقعية. وإمّا

ص: 136


1- أجود التقريرات مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي 2: 81 .
2- فوائد الاصول 3 : 218 .

موقف ثانوي للحفاظ على الملاكات الأولية في حالات الجهل، ومع استكشاف أهمية المحتمل عند الغير لا يكون التحرّك لمجرّد أهمية المحتمل عند الغير, بل لا بدّ - بحكم العقل - من استكشاف موقف ثانوي بنحو الحكم الظاهري تُحفظ به تلك الملاكات , ليتأثّر الغير من ذلك الموقف.

وأمّا الشق الثاني من إيرادهما فما ذكره بعض الأعلام (قدس سره) في بحوثه من رجوع المحرّك التشريعي إلى حق الطاعة إلى آخر كلامه, غيرُ وارد؛ وذلك لما أجاب به سيدنا الأستاذ (دامة ظله العالی) فيما نحن فيه وحاصله أنّ المحقق النائيني (قدس سره) لا يُنكر أنّ لزوم مراعاة الأحكام الشرعية مبني على حق الطاعة، بل هو معروف بين المتكلمين والأصوليين, كيف وهو من الأمور الثابتة؟ وما ذكروه من الهتك والظلم إنّما يرجع إلى عدم مراعاة حق الطاعة.

وتوقفُ المحقّق (قدس سره) إنّما هو في أنّ هذا الحق مضاف إلى الطاعة ولا بدّ من وجود التكليف المطلوب إطاعته, وإلّا لأصبح العمل محتمل الطاعة والموافقة لا طاعة فعلاً. فلا بدّ من ثبوت إرادة وموقف للغير كي تصدق الطاعة والموافقة.

فالاختلاف بين المحقّق والمعترض إنّما هو في المنهج الفكري لا في التعبير, فربّما ينطلق المحقّق (قدس سره) من المنهج الذي يرى أنّ الواجب علينا تجاه المولى هو الطاعة والموافقة, وهو يقتضي ثبوت موقف له ليُطاع عليه ولو كان هذا الموقف أمراً ظاهرياً بالاحتياط عند الشك في الحكم الواقعي. بينما يرى صاحب البحوث (قدس سره) أنّ هذا الحكم يكون فاعلاً حتى لو كان محتملاً.

فالمحقّق (قدس سره) ينكر وجود مراتب للطاعة - بخلاف صاحب البحوث (قدس سره) - فهي عنده التأثّر بالغير على نحو يُحرَز وجود إرادة ذلك, لأنّ الملاكات ليست بنحو تقتضي مراعاة الاحتمال.

ص: 137

وأمّا ما ذكره بعض الأعاظم (دامة ظله العالی) في الشق الثاني من اعتراضه على المحقّق النائيني (قدس سره) - من لزوم ملاحظة درجة الاحتمال والمحتمل فيكون هو المهم في تحقيق حال الأحكام الشرعية, هل هي من الأهمية بحيث يتنجز الاحتمال بالنسبة لها, أم هي على مراتب متناوبة فلا بدّ من إحراز أهمية المحتمل فيها - فقد ظهر الجواب عنه بما تقدّم عن سيدنا الأستاذ, فإنّ المحقّق (قدس سره) يعترف بأنّ الحكم إذا كان مهماً عند الشارع فينبغي رعايته. ولكن الخلاف بينهما من جهة تحليليّة, فالمعترض يرى أنّ موضوع الحكم الجزائي لاستحقاق العقوبة تتوسّع أهميته، بخلاف المحقّق (قدس سره) فإنّه يرى أن المحتمل إذا كان مهماً فينبغي استكشاف حكم ظاهري طريقي يُعبّر عنه ب- (متمم الجعل) نظير ما يستكشفه من المقدمات المفوّتة, فيتحقّق نفس العلم المأخوذ في حكم العقل الجزائي.

ولزيادة إيضاح مراد المحقق النائيني (قدس سره) ننقل محصل ما أفاده السيد الاستاذ فنقول:

إنّ للمحقّق فكرة سيّالة, فهو يُقسِّم إدراكات العقل في شأن الأحكام الشرعية إلى قسمين: قسم يرتبط بعلل الأحكام ومبادئها. وآخر يرتبط بمعلولاتها أي في الموقف الذي ينبغي أنْ يتّخذه المكلف من الطاعة أو المعصية.

فإنْ كان من القسم الأول كما في الحسن والقبح العقليين فهنا يرد قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، ولا محيص عن استكشاف حكم شرعي على وفق الحكم العقلي.

وإنْ كان من القسم الثاني فحكم العقل لا يوجب حكماً شرعياً, لا طاعة ولا معصيةً شرعاً, وإلّا لزم التسلسل. وهذه الفكرة مذكورة في كلمات غير واحد من الأصوليين كالسيد الخوئي (قدس سره) في بحث التجرّي.

وعليه فالمحقّق النائيني (قدس سره) يرى أنّنا إذا أحرزنا أهمية المحتمل عند المولى كان هذا من

ص: 138

القسم الأول لا الثاني.

ومن ثَمَّة يجب أن نستكشف حكماً شرعياً طريقياً ظاهرياً على وفقه, وقد ذكر المحقّق (قدس سره) هذه الفكرة في الوجه الأول من الوجوه التي استدل بها على حجيّة الظن المطلق فقال: (الأمر الثاني: تقدّم في بعض المباحث السابقة أنّ ملاكات الأحكام تختلف من حيث الأهمية, فقد يكون الملاك بمثابة من الأهمية في نظر الشارع بحيث يقتضي تحريم جملة من المحللات ظاهراً لإحراز الملاك والتحفظ عليه، وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية.

وطريق الاستكشاف أنّ ملاك الحكم من أي قبيل إنّما يكون بجعل المتمّم، فإنّه لا بدّ للشارع من جعل المتمم إذا كان الملاك مما يجب رعايته، إذ لا طريق للعباد إلى إحراز كون الملاك بتلك المثابة من الأهمية حتى يجب عليهم التحرّز عن فوته في موارد الشك... فمن عدم إيجاب الاحتياط في مورد يستكشف كون الملاك ليس بتلك المثابة من الأهمية، ولو شك في جعل المتمم ووجوب الاحتياط في موردٍ فالأصل يقتضي البراءة؛ لأنّه يندرج في قوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : (رفع ما لا يعلمون) فإنّ أمر المتمم وضعاً ورفعاً بيد الشارع فيشمله حديث الرفع.

الأمر الثالث: الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه... فإنْ كان الحكم العقلي طريقيّاً فالحكم الشرعيّ المستكشَف منه أيضاً يكون طريقيّاً، نظير إيجاب الاحتياط في باب الدماء والفروج)(1).

فما ذكره المعترض من تأثير الاحتمال مع أهميّة المحتمل لم يغفله المحقّق النائيني (قدس سره)

ص: 139


1- فوائد الأصول 3 :216- 217 .

كما هو واضح , ولعلّ عدم ذكر المحقّق له في ما نحن فيه كان لأجل أنّ الكلام عن معلولات الأحكام لا عن عللها, فيكون الخلاف بين المعترض والمحقّق في أنّ المعترض يجعل أهميّة المحتمل من شؤون معلولات الأحكام, ولذا يقول إنّ احتمالَ الحكم مُنجِّز للتكليف، ويوسّع موضوع الحكم الجزائي للاحتمال, في حين أنّ المحقّق يربطه بعلل الأحكام ولا يرى حاجة لتوسعة موضوع الحكم الجزائي, فإنْ كان المحتمل مهمّاً كان هناك بيانٌ للحكم الشرعيّ الظاهريّ, وعلى هذا يكون طرح المحقّق (قدس سره) كاملاً.

التقريب الثاني: ما أفاده المحقّق الأصفهاني (قدس سره) , ويبتني على مقدّمتين:

أُولاهما: أنّ الحكم الفعلي هو ما يُنشأ بداعي جعل الداعي بالإمكان، لا بداعي تنجيز الواقع, وهو يتقوّم بالوصول وبلوغه إلى حيث ينتزع عنه عنوان البعث والانبعاث قال: (قلتُ: الحكم الذي أمره بيد المولى هو الإنشاء بداعي جعل الداعي وانبعاث المكلف، والإنشاء لا بذلك الداعي ليس من الحكم الحقيقي ولا من مراتبه...)(1).

ثانيتهما: أنّ موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب هو مخالفة التكليف الواصل المُتحيِّث بعنوان الظلم لا مطلقاً, قال: (إنّ استحقاق العقاب بحكم العقل موضوعُه مخالفة التكليف الواصل المنطبق عليها الظلم؛ لكونه خروجاً عن زي الرقيّة ورسم العبوديّة، وليس نفس المخالفة مقتضية للاستحقاق ووصول التكليف شرطاً، إذ الحكم بالاستحقاق بالإضافة إلى مخالفة التكليف الواصل المنطبق عليها الظلم حكم بالإضافة إلى موضوعه)(2).

ص: 140


1- نهاية الدراية 1 : 291 انتشارات سيد الشهداء ط الأولى .
2- المصدر 4 : 40 مؤسسة آل البيت "ع" لإحياء التراث .

هذا, وقد جعل السيد صاحب البحوث (قدس سره) كلّا ً من المقدّمتين دليلاً على حدة، حيث جعلهما ثالث ورابع أدلّة القوم على البراءة العقلية، إلّا أنّ السيد صاحب المنتقى (قدس سره) جعلهما دليلاً واحداً, وهو المناسب بالتأمّل في مجموع كلمات المحقّق الأصفهاني (قدس سره) .

وكيف كان، فمراد المحقّق الأصفهاني واضح، فإنّ الأمر الواقعي مهما بلغ لا يُعقل اتّصافه بالداعويّة بحيث يوجب انقداح الداعي في نفس العبد ما لم يصل إليه، فالإنشاء بداعي جعل الداعي بالإمكان لا يُعقل أنْ يكون كذلك إلّا بعد وصوله بحيث يترتّب على مخالفته العقاب بعد تعنونه بعنوان الظلم، فعنوان الظلم من قبيل الحيثيّة التعليليّة الّتي ترجع إلى الحيثيّة التقييديّة في الأحكام العقليّة.

وقد أُورد على بيان المحقق الأصفهاني (قدس سره) بإيرادين:

الإيراد الأوّل: ما عن السيّد صاحب المنتقى (قدس سره) من أنّ التكليف في حالة الاحتمال يتوفّر فيه إمكان الداعوية, بمعنى أنّ الداعي حيث إنّه موافقة الأمر فهو موجودٌ في ظرف الاحتمال, قال: (إنّ التكليف في صورة الاحتمال له إمكان الداعويّة, إذ الداعي ليس هو نفس الأمر فإنّه سابقٌ على العمل وجوداً... وإنّ الداعي هو موافقة الأمر وامتثاله. والموافقة يمكن أن تكون داعية في ظرف الاحتمال كما في موارد الاحتياط)(1).

ويمكن أن يجاب عنه:

أوّلاً: أنّ الداعي في كلمات المحقّق الأصفهاني (قدس سره) هو ما ينبعث عنه المكلّف ويتحرّك نحو المطلوب, فهو إعطاء شحنة المحركيّة للمكلّف كي ينبعث عن الحكم.

وبعبارة أخرى: إنّ الداعي حسب ما يظهر من كلامه (قدس سره) هو فعليّة البعث والزجر, ولهذا قال: (إنّ الإنشاء بلا داعي محال, والإنشاء بغير داعي جعل الداعي من سائر

ص: 141


1- المنتقى 4: 444 .

الدواعي، فعليتُه فعليّة ذلك الداعي، لا فعليّة البعث والزجر, فليس مثله من مراتب الحكم الحقيقي الذي يُترقب من الفعليّة والتنجيز , فلا محالة يكون الحكم الواقعي هو الإنشاء بداعي جعل الداعي وهو تمام ما بيد المولى، وتمام ما هو الفعلي من قبله)(1).

فما فهمه السيد صاحب المنتقى (قدس سره) من أنّ الداعي هو موافقة الأمر قد لا يكون مناسباً مع كلام المحقّق (قدس سره) .ثانياًً: على تقدير تسليمه فلا مجال لإمكان أنْ تكون الموافقة داعية في ظرف الاحتمال, لما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ الحكم الواقعي مهما بلغ فإنّه لا يتنجَّز إلّا بالوصول, ومجرّد احتماله من دون إيجاب الاحتياط لا يكفي في داعويّة المكلّف نحو التكليف.

هذا إذا كان مراد السيد صاحب المنتقى (قدس سره) من الداعويّة ما تكون بلحاظ الاحتمال, وإذا كان مراده أنّ تلك الداعوية بلحاظ المحتمل فيرد عليه ما تقدّم من أنّ الملاكات الواقعية غير كافية في بعث المكلف لتحصيلها إلا بإحراز أهميّة المحتمل, وذلك باستكشاف خطاب ثانويّ ظاهريّ لمراعاة تلك الملاكات.

وسيأتي مزيد بيان في الجواب على إيراد السيد صاحب البحوث (قدس سره) .

الإيراد الثاني: ما أورده السيد صاحب البحوث (قدس سره) بقوله: (أوّلاً: أنّ الإنشاء يمكن أنْ يكون محرّكاً في حالة الوصول الاحتمالي بناءً على سعة دائرة حق الطاعة، فهذا الوجه يتوقف على ضيق حق الطاعة في المرتبة السابقة فلا يكون إلّا مصادرة.

ثانياً: أنّ غاية ما تقتضيه عدم وجود الحكم بالمعنى المذكور، وأمّا ملاكات الحكم ومبادؤه في المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهية فهي أمور تكوينيّة محفوظة في

ص: 142


1- نهاية الدراية 3: 338 وقد ذكر في هامش ص 241 ج 1 ما قد ينفع المقام .

حالات العلم والجهل معاً, وهذه المبادئ هي روح الحكم وحقيقته, وهي تكفي للحكم بالمنجزيّة وحق الطاعة للمولى في موارد احتمالها، سواء سُمِّي ذلك حكماً اصطلاحاً أم لا) (1).

ويرد عليه:

أوّلاً: ما أورده (قدس سره) نفسُه من كونه مصادرة, فهو يرد عليه أيضاً حيث إنّه مبني على سعة دائرة حق الطاعة في الرتبة السابقة وهو أوّل الكلام.

ثانياً: ما أورده سيدُنا الأستاذ (دام عزه) وحاصله: ((أما قوله (أوّلاً...) فإنّه لا علاقة لكلام المحقّق الأصفهاني (قدس سره) بحق الطاعة, وكلامه إنّما يرتبط بالخطاب الذي جعله المُقنِّن, فهو إنّما حصلت الإرادة الفعلية له في تأثر مَن يَعلم, لا تأثر مَن يحتمل. فإن تأثّر من يحتمل لا علاقة له مع جعل الخطاب واقعاً, ومع عدم فعليّة الخطاب لا يكون من المناسب افتراض حق الطاعة بالنسبة إليه, إلّا إذا حصلت له إرادة أخرى بخطاب يوصله، ولو من قبيل وجوب الاحتياط.

إذن كلام المحقّق (قدس سره) ينصبّ حول القصور في مستوى الحكم.

وأمّا قوله (ثانياً ...) فالجواب عنه في غاية الوضوح، فإنّ مبادئ الحكم الإنشائي ليست مبادئ حاسمة لازمة المراعاة, ومبادئ الحكم الفعلي - بحسب اصطلاح المحقّق الآخوند- هي التي يلزم مراعاتها. فهناك ملاكات تصحّح جعل الحكم , ولكن لا يصير الحكم بذلك فعلياً.

فمراد المحقّق هو أنّ الحكم غير الفعلي هو القصور في مرحلة الملاك، ولو كان الملاك تامّاً فينبغي على الشارع إمّا أن يوصل الحكم تكويناً أو يجعل حكماً ظاهرياً بوجوب

ص: 143


1- بحوث في علم الأصول 5 : 28.

الاحتياط ويوصله, وما لم يفعل ذلك فإنّه يعني وجود فتور في مرحلة الحكم)). إلخ

ويمكن الاستشهاد لما ذكره (دام عزه) بكلام المحقّق الأصفهاني نفسه في غير موضع من نهاية الدراية. فقد ذكر في الجواب عن موارد النقض بالمناقضة بين الحكم الواقعي والأصول الشرعيّة ما لفظه: (فالخطابات الواقعيّة ما لم تصل إلى المكلف بنحو من الوصول ولو بالحجّة الشرعيّة أو الأمر الاحتياطي لا يُعقل أنْ تتّصف بكونها باعثاً وداعياً، أو زاجراً وناهياً. وبهذا ترتفع المناقضة...)(1).

وأفاد في موضع آخر: (يمكن أن يقال: إذا كان العلم بالاهتمام صالحاً للكشف عن وجوب الاحتياط شرعاً, وكان منجزاً له حيث إنّه حكم طريقي لا يكون فعلياً منجزاً للواقع إلّا بعد وصوله إلى المكلّف, كان صالحاً لتنجيز الواقع, ونفس العلم بالأحكام صالح للاحتجاج به، والمؤاخذة على الواقع المجهول...)(2).

التقريب الثالث: ما حُكِي عن بعض الأعاظم "دام ظله العالي" من الموازنة بين درجة الاحتمال وأهميّة المحتمل, ويبتني ما أفاده "دام ظله العالي" على معادلة ذات عنصرين:

أوّلهما: مستوى الاحتمال من حيث القوّة والضعف.

ثانيهما: مستوى أهمّيّة المحتمل في نفسه.

فالقوّة في أحدهما تجبر الضعف في الآخر, وهذه الموازنة مشهودة عند العقلاء, فإنْ كان الاحتمال قوياً والمحتمل ذا أهمية فإنّهم يرونه قائماً مقام العلم, كما أن درجة الاحتمال إذا كانت أقوى فإنّه يكفي في قيامه مقام العلم في محتمل أقل أهمية, وكذا العكس بأنْ كان المحتمل ذا أهمية عالية ودرجة الاحتمال ضعيفة فإنّهم يبنون على

ص: 144


1- نهاية الدراية 2 : 101 .
2- المصدر 2 : 257 .

الإتيان به، إذ ضعف الاحتمال تجبره قوّة المحتمل.

وعليه فمع عدم ثبوت قوّة المحتمل وأهمّيّته - ولو بإيجاب خطاب ثانوي - وضعف الاحتمال لا يكون هناك ما يدعو لمراعاته بنحو الإلزام.

هذا, وقد أضاف سيدنا الأستاذ (دام عزه) عنصراً ثالثاً لبيان أستاذه "دام ظله العالي" المتقدّم ممّا يُعدُّ تطويراً له, فتكون أطراف المعادلة عنده ثلاثيّة.

وهذا العنصر هو مقدار المؤونة التي يحتاج إليها المُدرِك في مراعاته لتحصيل المحتمل خارجاً, وهذا العنصر أمر محسوس لدى العقلاء حتّى في مقام الأغراض المعلومة، فرُبَّ غرض يكون إلزامياً في نفسه، فإذا توقف على بذل مؤنة زائدة عملاً لا يكون لاقتضائه الإلزامي امتدادٌ في تلك الحالة، كما في عدم وجوب مراعاة العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة.

ونفس هذا القانون يجري في حالات الاحتمال, فكون الغرض والإرادة - في هذه الحالات - محرّكين يقتضي مراعاة الحكم المحتمل, وبه يَرفع الشخصُ المُحتمِلُ اليدَ عن جملة من الترخيصات ويُضيِّق على نفسه في أثر ذلك.

ولهذا فكونُ الإرادة إرادة إلزامية لا يقتضي بالضرورة لزوم بذل هذه المؤونة لمراعاة الحكم في حالة الاحتمال, نظراً إلى أنّ كون المصلحة والغرض إلزاميين للمشرّع أمرٌ, وكون هذا الغرض مقتضياً لارتكاب هذا التكليف في حالات الاحتمال أمرٌ آخر، كما نجد ذلك من أنفسنا في مورد الإرادة التكوينيّة.

وعلى ضوء هذه المعادلة يقال: إنّ كمال التشريع يقتضي من الشارع إيصال وجوب مراعاة مراداته الاحتمالية لو كانت إرادته حقاً تبلغ الدرجة التي تستوجب بذل مثل هذه المؤونة لأجل مراعاتها, فلابُدّ من إيصال تلك الأحكام بطرق قطعيّة.

ص: 145

فإنْ لم يُوصِل الشارع تلك الأحكام لا بشكل قطعي, ولا بإيجاب الاحتياط بالنسبة إليها, أمكن حينئذٍ أن يُستكشف من نفس عدم الإيصال أنّ مراد المولى لم يبلغ عنده تلك الدرجة من الأهمية والشدّة الّتي تقتضي مراعاته في حالات الاحتمال.

وبعبارة أخرى: إنّ عدم إيصال الحكم الواقعي بطريق قطعي من جهة، وعدم إيصال وجوب الاحتياط في ربط الجهل بالحكم من جهة أُخرى، قد يكون دليلاً إنيّاً على ضعف الإرادة المولويّة في المورد, وأنّها لم تكن بالدرجة التي تقتضي مراعاة الحكم بشكل قطعي.

وهذا ما نفترضه في بحث البراءة فعلاً, حيث لم يتمّ دليل خاصّ على الاحتياط, ومن خلال عدم بيان الشارع لوجوب الاحتياط نستكشف أنّ الإرادة التشريعيّة لم تكن بتلك الدرجة من القوّة بالنسبة للأحكام الواقعيّة , بحيث تقتضي إيجاب مراعاة تلك الأحكام بشكل قطعي.

وهذا البيان ليس بعيداً عن كلمات الأصوليين, بل قد يُمثِّل العمق لمسألة جريان البراءة العقليّة، وأنّ المقاصد التشريعيّة في الحقيقة إمّا أنْ نثبت أنّها ليست بدرجة من الأهمّيّة بملاحظة عدم وجوب الاحتياط فيها, وإمّا أنْ نقول عند الشك في أهميتها عند الشارع إن ذلك بمثابة الشك في أهمّيّة الشكّ في نفوسنا. وهو لا يوجب حركة وتضييقاً على النفس في ضوء المعادلة التي أشرنا إليها .

والفرق بين هذا البيان وبين البيان الأصلي أنَّ على البيان الأصلي يكفي عدم إحراز أهمية المحتمل في عدم لزوم مراعاة المحتمل, من غير أنْ يتعرّض لإثبات ضعف المحتمل في حدِّ نفسه.

ص: 146

وأمّا على البيان المُطوَّر فبالإمكان استكشاف ضعف المحتمل عند الشارع من جهة عدم التنبيه على لزوم مراعاته وعدم وجوب الاحتياط, إذ لو كانت مراداته مهمّة لوجب عليه أن يُوصلها ولو بإيجاب احتياط في البين.

والحاصل من جميع ما تقدَّم في هذا المقام: أنّ حكم العقل بالبراءة العقلية لا غبار عليه, وأنّ التقريبات المذكورة إنّما هي منبّهات لذلك الحكم العقلي على اختلاف الجهات المنظورة فيها من: عدم فاعلية الحكم مع عدم الوصول - كما عليه المحقق النائيني (قدس سره) -.

أو عدم كون الحكم حقيقيا معه - كما عليه المحقق الأصفهاني (قدس سره) -.

أو اقتضاء الموازنة العقلائية على البيان الأصلي عدم لزوم مراعاة المحتمَل ما لم تثبت أهميته في مورد ضعف الاحتمال - كما عليه بعض الأعاظم "دام ظله العالي"-.

أو اقتضائها ذلك من حيث إنّ كمالَ التشريع إيصالُ المولى مراداته الاحتمالية فيما لو كانت بدرجة من الأهمية توجب مراعاتها ولو في ظرف الاحتمال بطرق قطعيّة - كما عليه سيدنا الأستاذ (دام عزه) -.

ص: 147

مسلك حق الطاعةالمصادر

1 - الانتصار للسيد المرتضى (قدس سره) طبعة مؤسسة النشر الإسلامي .

2 - المُقنع للشيخ الصدوق (قدس سره) طبعة مؤسسة الإمام الهادي (علیه السلام).

3 - الخلاف للشيخ الطوسي (قدس سره) طبعة مؤسسة النشر الإسلامي .

4 - السرائر للشيخ ابن إدريس الحلي (قدس سره) طبعة مؤسسة النشر الإسلامي .

5 - فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (قدس سره) طبعة مجمع الفكر الإسلامي .

6 - نهاية الدراية للمحقّق الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدس سره) .

7 - فوائد الأصول للمحقّق الشيخ محمّد حسين النايئني (قدس سره) .

8 - أجود التقريرات للمحقّق الشيخ محمّد حسين النائيني (قدس سره) .

9 – المقالات للمحقّق الشيخ آغا ضياء الدين العراقي (قدس سره) .

10 - نهاية الأفكار للمحقّق الشيخ آغا ضياء الدين العراقي (قدس سره) .

11 - مصباح الأصول للسيد الخوئي (قدس سره) .

12 - منتقى الأصول للسيد الروحاني (قدس سره) .

13 - بحوث في علم الأصول للسيد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) .

14 - مباحث الأصول للسيد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) .

15 – دروس في علم الأصول الحلقة للسيد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) .

16 - الرافد في الأصول للسيد علي الحُسيني السيستاني (دامة ظله العالی) .

17 - العلم الإجمالي: حقيقته, منجزيته عقلاً للسيد محمّد باقر السيستاني (دام عزه) .

ص: 148

الغلو والغلاة عند الرجالیین والرواة - السيد محمد البكاء (دام عزه)

اشارة

ص: 149

ص: 150

مقدمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم، وبه نستعين.

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

لاشكّ في أنَّ ما قام به أهل البيت (علیهم السلام) من دور عظيم في طمس ومحق موجة الإلحاد والكفر المتمثّلة بالغلاة ومَنْ على شاكلتهم كان متزامناً مع أصعب الفترات الّتي واجهت الإسلام عموماً، ومذهب أهل البيت (علیهم السلام) خصوصاً، فلم يألوا (علیهم السلام) جهداً في مواجهتهم بكافّة الوسائل المتاحة، فأعلنوا للملأ البراءة منهم ومن معتقداتهم، وجاهروا بتكفيرهم، ولعنهم، وأمروا شيعتهم بالتبريء والابتعاد عنهم. وتلقّى الشيعة تلك الأوامر الشريفة بالقبول والامتثال، فأعلنوا بكتبهم البراءة منهم، وأفتوا بحرمة مخالطتهم، وأجمعوا على نجاستهم وعدم جواز تزويجهم، ولم يورثوهم من المسلمين.

وبطبيعة الحال إنّ ردود الأفعال الصادرة من أئمّة أهل البيت (علیهم السلام) العملية منها والروائيّة، وكذلك ما صدر من أتباعهم يرسم صورة الأوضاع المضطربة في ذلك العصر، وبالتالي فهي تنعكس قهراً على الموروث الروائي لأهل البيت (علیهم السلام) سلباً وإيجاباً، فكان للرجاليين الحظّ الأوفر في رصد تلك الظروف الّتي تلقّى بها الرواة الأحاديث، حتى ميّز الخبيث من الطيب، وهذّبت كتبنا المعتمدة من الكذب والتدليس، واندرس الغلاة فلم يبقَ لهم أثر ولا عين..

ولكن المشكلة لم تنته بعد، فإنّ من الرواة بعض الشخصيات المعروفة - المتهمة بالغلو - التي أثارت جدلاً في أوساط العلماء بسبب ما ورد في حقّهم عن الأئمّة (علیهم السلام) من مدح وذم، فإنّ الممارس يعرف أنّ الأئمّة (علیهم السلام) كانوا محكومين بظروف تحتّم عليهم

ص: 151

التكلّم عن مثل هؤلاء بأشكال مختلفة رعاية لمصالح شتى، كما يظهر ذلك بمراجعة النصوص الواردة فيهم، حيث كان لكلّ واحدٍ من هؤلاء أتباع وجماعة يدافعون، وجماعة أخرى يقدحون. فتمييز ما كان بداعي بيان الواقع عمّا كان يصدر لمصالح أخرى إنّما يتمّ بمعرفة حال الشخص من خلال أقوال الرجاليين الذين تعرّفوا على حقيقة أحوال هؤلاء اعتماداً على أساتيذهم كابراً عن كابر، ولم يكونوا مقيّدين في الإفصاح عن حقيقة أحوال هؤلاء بما كان الأئمّة (علیهم السلام) يتقيّدون به في أعصارهم. فلابُدَّ أوّلاً من أنْ نعرف حقيقة الشخص من خلال كلمات الرجاليين، ثمَّ بعد ذلك نميّز حال الروايات.

ولأجل ذلك كان لقول الرجالي حاجة ملحّة تفرضها طبيعة الظروف المضطربة المتزامنة لتلقّي الرواة لأحاديث أهل بيت العصمة (علیهم السلام) .

وكيف ما كان فالبحث -الماثل أمام القارئ الكريم- يُسلّط الضوء على جملة من الموارد الّتي وقع الخلاف فيها بين الرجاليين، ابتداءً من تحديد اصطلاح الغلوّ الذي تعرّضتُ إليه في الفصل الأوَّل، ومروراً بدلالة الغلوّ على القدح الّتي تعرّضت إليها في الفصل الثاني، وانتهاءً بوجوه العمل بروايات الغلاة. فكان البحث من ثلاثة فصول، تسبقها مقدّمة تبرز أهمّيّة أقوال الرجاليين، مع ملحق بأسماء المتهمين بالغلوّ، وأسماء مؤلّفي كتب الرّدّ على الغلاة. وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب...

محمّد الموسوي البكّاء

ص: 152

الفصل الأوَّل

الغلوّ لغة

الغلوّ لغة: مجاوزة الحدّ. قال ابن منظور: (غلا في الدين والأمر يغلو غلوّاً: جاوز حدّه. وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلوّاً إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطت فيه. وفي الحديث: إيّاكم والغلوّ في الدين أي التشدّد فيه ومجاوزة الحدّ)(1).

وقال الطريحي: (غلا في الدين غلوّاً من باب قعد: تصلّب وتشدّد حتى تجاوز الحدّ والمقدار)(2).

الغلو اصطلاحاً

يبدو أنّ الغلو كمصطلح له معناه وأبعاده وخلفياته عبر التأريخ، فلابد من ضبطه أولاً ليعرف الداخل فيه والخارج عنه لئلا يُرمى البريء... والكلام فيه يقع في مقامين:

- المقام الأوَّل: في الغلوّ عند علماء الجمهور.

- المقام الثاني: في الغلوّ عند علماء الإماميّة.

المقام الأوَّل: في الغلوّ عند علماء الجمهور

أمَّا الكلام في المقام الأوَّل

فلتحقيق المعنى المصطلح عليه ينبغي التعرّض فيه أوَّلاً لعمدة أقوال أئمَّة أهل الجرح والتعديل عند الجمهور.

قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب: (إنَّ الشيعي إذا لم يكفّر الشيخين أبا

ص: 153


1- لسان العرب : ج10, ص112. مادّة غلا.
2- مجمع البحرين : ج1, ص318. مادّة غلا.

بكر وعمر ولم يتبرّأ منهما تقبل روايته). ثُمَّ قال في وصف أبان: (إنّه شيعي جلد، لكنه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته).

وأضاف إلى ذلك: (فلقائل أنْ يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع؟ وحدّ الثقة العدالة والإتقان، فكيف يكون عدلا وهو صاحب بدعة؟.. وجوابه: إنَّ البدعة على ضربين: صغرى كالتشيّع بلا غلوّ، وغلوّ التشيّع، وهذه كثيرة في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة، ثُمَّ بدعة كبرى كالرفض الكامل، والغلوّ فيه والحطّ على أبي بكر وعمر، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتجّ بهم ولا كرامة، ولا استحضر من هذا النوع رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم والتقيّة والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله، حاشا وكلّا.. فالغالي في زمان السلف وعرفهم، هو من تكلّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب علياً (علیه السلام) وتعرّض لسبّهم، والغالي في زماننا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة ، ويتبرّأ من الشيخين أيضاً ، فهذا ضالّ معثر كذّاب)(1).

وقد التزم الذهبي بما أفاده جليّاً، فذكر في ميزانه: (محمّد بن جحادة: مِنْ الثقات التابعين أدرك أنساً، إلّا أنّ أبا عوانة الوضّاح قال: كان يغلو في التشيّع. قلت: ماحفظ عن الرجل شتم أصلاً، فأين الغلو ؟)(2).

وقد فرّق ابن حجر العسقلاني في مقدّمة فتح الباري بين التشيّع والرفض، والغلوّ في الرفض، بما حاصله: (إنّ التشيّع هو محبة علي (علیه السلام) وتفضيله على الصحابة فمَنْ قدّمه على أبي بكر وعمر فهو رافضي غال في التشيّع، ومَنْ لم يقدّمه عليهما فهو شيعي،

ص: 154


1- ميزان الاعتدال ، الذهبي ج 1 ، ص5 .
2- ميزان الاعتدال ، الذهبي ج 3 ، ص498 .

فإذا ذكر الشيعي سبب التقدّم على الشيخين، أو صرّح ببغضهما فهو غال في الرفض، ومن كان يعتقد بالرجعة فأشدّ غلوّاً)(1).

وقال السّيّد محمّد بن عقيل معقّباً على كلام ابن حجر: (ولا يخفى أنَّ معنى كلامه هذا أنّ جميع محبيّ عليّ المقدّمين له على الشيخين روافض، وأنّ محبيه المقدّمين له على من سوى الشيخين شيعة، وكلا الطائفتين مجروح العدالة. وعلى هذا فجملة كبيرة من الصحابة الكرام كالمقداد وزيد بن أرقم، وسلمان، وأبي ذر، وخباب، وجابر، وعثمان بن حنيف، وأبي الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت، وقيس بن سعد، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، والعباس بن عبد المطلب، وبنيه، وبني هاشم كافَّة، وبني المطّلب كافّة وكثير غيرهم، كلَّهم روافض لتفضيلهم عليّاً على الشيخين ومحبتهم له ويلحق بهؤلاء من التابعين وتابعي التابعين من أكابر الأئمَّة وصفوة الأمة من لا يحصى عددهم وفيهم قرناء الكتاب، وجرح عدالة هؤلاء هو والله قاصمة الظهر)(2).

وقال ابن حجر – أيضاً- في تهذيب التهذيب: (وقد كنت أستشكل توثيقهم الناصبي غالباً، وتوهينهم الشيعة مطلقاً، ولا سيّما أنَّ علياً ورد في حقه: لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق، ثُمَّ ظهر لي في الجواب عن ذلك أنّ البغض ها هنا مقيّد بسببٍ وهو كونه نصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ من الطبع البشري بغض مَنْ وقعت منه إساءة في حق المبغض والحبّ بعكسه، وذلك ما يرجع إلى أمور الدنيا غالباً. والخبر في حب عليٍ وبغضه ليس على العموم، فقد أحبّه من أفرط فيه حتّى ادعى أنَّه نبي أو أنّه إله - تعالى الله عن إفكهم - والذي ورد في حقّ عليّ من ذلك قد ورد مثله في حقّ

ص: 155


1- انظر هدى الساري لابن حجر ، ص333.
2- العتب الجميل على اهل الجرح والتعديل ، ص18.

الأنصار، وأجاب عنه العلماء إنّ بغضهم لأجل النصر كان ذلك علامة نفاقه، وبالعكس فكذا يقال في حقّ عليّ وأيضاً فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهوراً بصدق اللهجة والتمسّك بأمور الديانة بخلاف مَنْ يوصف بالرفض، فإنَّ غالبهم كاذب ولا يتورّع في الأخبار. والأصل فيه أنّ الناصبة اعتقدوا أنَّ علياً رضي الله عنه قتل عثمان أو كان أعان عليه فكان بغضهم له ديانة بزعمهم، ثُمَّ انضاف إلى ذلك أنَّ منهم من قُتلت أقاربه في حروب عليّ)(1).

وبنتيجة هذه الفروق التي ذكرها ابن حجر لمراتب التشيّع، يتبيّن أنّ الذين روى عنهم من الشيعة ممّن يقدّمون علياً (علیه السلام) على أبى بكر وعمر لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، كما تؤيّد ذلك الإحصاءات التي أجراها بعض النقّاد لأحاديث البخاري(2) )، وجميع المتّهمين بالتشيّع بين رجاله -كما يظهر من كتب أهل السنّة المؤلّفة في التراجم وأحوال الرواة- لا يتجاوزون خمسة عشر تقريباً.

ويتّسع التشيّع عندهم لكل من يحبّ علياً أو ينتقد خصومه. فإذا وجدوا شخصاً معتدلاً في تقديره للحوادث، ومنصفاً في عرضها، أو وجدوه ينتقد سيرة بعض الخلفاء والحكّام الأمويين، اتّهموه بالتشيّع، ووقفوا موقف المتحفّظ من مروياته، وقد يُتّهم الراوي - وإنْ لم يكن إماميّاً - بالتشيّع أو الرفض أو الغلوّ لمجرّد أنّه يروي فضيلة لعليّ، أو حديثاً حسناً فيه..

وتؤيّد ذلك الشواهد الكثيرة الّتي تجدها في كتبهم فينبغي التعرّض لبعض منها:

قال العجلي في ترجمة جابر بن يزيد الجعفي: (كان ضعيفاً يغلو في التشيّع وكان

ص: 156


1- تهذيب التهذيب : ابن حجر ، ج8 ، ص410.
2- دراسات في الحديث والمحدثين ، هاشم معروف الحسني ، ص157 .

يدلّس)(1).

وقال الجوزجاني في ترجمة الحسين بن الحسن الأشقر: (غالٍ من الشتّامين للخيرة)(2).

وقال ابن حبان في ترجمة الحارث بن عبد الله الهمداني الأعور: (كان غالياً في التشيّع واهياً في الحديث)(3).

وقال أيضاً في ترجمة عبد الله بن شريك العامري: (كان غالياً في التشيّع يروي عن الأثبات ما لايشبه حديث الثقات، فالتنكب عن حديثه أولى من الاحتجاج به، وقد كان مع ذلك مختاريّاً)(4).

وجاء في ضعفاء العقيلي في ترجمة عبد النور بن عبد الله المسمعي: (كان غالياً في الرفض، ويضع الحديث، خبيثاً)(5).

وجاء فيه أيضاً في ترجمة سفيان بن اللّيل الكوفي: (كان ممّن يغلو في الرفض ولا يصحّ حديثه)(6).

وجاء في الأوائل للطبراني في باب أوّل من يَرد على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حوضه: ((...عن سفيان بن اللّيل، عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول

ص: 157


1- معرفة الثقات : ج1، ص264.
2- أحوال الرجال : الجوزجاني ، الترجمة : 90.
3- كتاب المجروحين : ابن حبان ، ج1 ، ص222 .
4- المصدر السابق : ج2 ، ص26.
5- ضعفاء العقيلي : ج3 ، ص115.
6- المصدر السابق : ج2 ، ص175 .

الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أوّل من يَرد على حوضي أهل بيتي ومن أحبّني من أمّتي) الإسناد: حديث ضعيف جداً، ففيه السري متروك، وسفيان بن اللّيل كان ممّن يغلو في الرفض، ولا يصحّ حديثه))(1).

وقال الذهبي في ترجمة أبي عروبة: (الحافظ الإمام محدّث حرّان الحسين بن محمّد بن أبي معشر مودود السلمي الحرّاني... وكان من نبلاء الثقات. وقال ابن عدي كان عارفاً بالرجال والحديث، ومع ذلك مفتي أهل حرّان... وقد ذكره ابن عساكر في ترجمة معاوية فقال: كان أبو عروبة غالياً في التشيّع شديد الميل على بني أميّة، قلتُ: كلُّ من أحبَّ الشيخين فليس بغال، بلى من تكلّم فيهما فهو غال مغتر، فإنْ كفّرهما -والعياذ باللﻫ جاز عليه التكفير واللّعنة، وأبو عروبة فمن أين جاءه التشيّع المفرط ؟ نعم، قد يكون ينال من ظلمة بني أمية كالوليد وغيره)(2).

وجاء في الميزان للذهبي في أثناء حديثه عن محمد بن جرير بن يزيد الطبري المتوفى سنة 210، فقد قال في وصفه: (إنّه ثقةٌ، صادقٌ، فيه تشيّع يسير، وموالاة لا تضرّ)(3).

أقول: لازم ذلك أنَّ الموالاة الّتي تبلغ إعطاء علي (علیه السلام) صفة الأفضليّة على غيره تمنع من قبول مروياته.

وجاء في الجرح والتعديل للرازي في ترجمة إسماعيل بن سلمان الأزرق التميمي الكوفي: (كان من الشيعة الغلاة)(4).

ص: 158


1- الأوائل : الطبراني ، ص66.
2- تذكرة الحفاظ : الذهبي ، ج2 ، ص774.
3- ميزان الاعتدال : الذهبي ، ج3 ، ص498 .
4- الجرح والتعديل : الرازي ، ج1 ، ص325 .

وأقول: إنّ السبب في إعطائه صفة الغلوّ في التشيّع هو روايته لحديث الطائر المشوي، وإلّا فهو مجهول في كتب الرجال، وليس فيها ما يشير إلى تشيّعه فضلاً عن غلوّه في التشيّع(1)، وهذا ما نبّه عليه المحقق التستري (قدس سره) بقوله: (إنّ قول العامّة فلان شيعي أو يتشيّع أعمّ من الإماميّة)(2).

وممّا يؤيّد أنَّهم كانوا لا يتحمّلون من الراوي ما يرويه في فضائل علي (علیه السلام) أنَّ الحافظ عبد الله بن محمّد بن عثمان الواسطي (المتوفى سنة 373) أحد الأعلام في عصره، كان يدرّس عدداً من تلاميذه، فاتّفق له أنْ أملى عليهم حديث الطائر المشوي، فلم يتحمّلوا منه ذلك، بل وثبوا عليه فأقاموه من مكانه، وغسلوا موضعه، فلزم بيته ولم يحدّث أحداً بعد ذلك، ولذا قلّ حديثه عند الواسطيين كما نصّ على ذلك في تذكرة الحفّاظ(3).

ومن الشواهد على ذلك ما ذكره الذهبي في ترجمة عبّاد بن يعقوب الأسدي الرواجني الكوفي، أنَّه من غلاة الشيعة ورؤوس البدع، لكنّه صادق في الحديث، ممّن روى عنه البخاري حديثاً واحداً، ورواه غيره من محدّثي السنّة، وورد لعباد بن يعقوب ذكر في بعض أسانيد البخاري، وتعرّض للنقد والطعن عليه، لروايته عنه، بحجّة أنَّه كان داعية إلى الرفض، مع اعترافهم بأنّه كان صدوقاً في حديثه. وكان ابن خزيمة إذا حدّث عنه يقول: (حدّثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه)، ولا مصدر لهم في تشيّعه

ص: 159


1- نعم جاء في ترجمته في معجم رجال الحديث : (..ذكره البرقي في أصحاب الباقر (علیه السلام) ). وهو لا يدل على تشيّعه لأنّ الصحبة أعمّ من التشيّع كما لا يخفى .
2- قاموس الرجال :ج1، ص22.
3- تذكرة الحفاظ : الذهبي ، ج3،ص966.

وغلّوه في الرفض إلّا أنَّه كان يقول: إنَّ الله أعدل من أن يدخل الجنة طلحة والزبير، لأنّهما بايعا علياً، ثمَّ نكثا بيعته وقاتلاه. وروى عن جماعة أنّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه(1).

قال السيد الأستاذ (دام عزه) بهذا الصدد: (إنّهم إذا وصفوا شخصاً بأنّه شيعيّ، ووثّقوه في الوقت نفسه فمن المستبعد أنْ يكون شيعيّاً إمامياً إلّا إذا كان يخفي ذلك عنهم، لأنّهم يتنصّلون عن توثيق الإمامي عادة، ويعتبرون الرافضي - حسب تعبيرهم - مستحلاً للكذب)(2).

وأقول: لاشكّ أنّ التحقيق في معيار الانتماء المذهبي ليس أمراً هيّن الحصول، ولا يشخّص إلّا من أصحاب البصيرة الثاقبة العارفين بهذه المعايير؛ لأنَّ عناصر الانتماء والانتساب إلى المذهب وعدمها لا يمكن حصرها إلّا بواسطة سلسلة من المعايير والملاكات الموجودة في الكتب القديمة، وآراء مترجمي علماء الرجال من العامّة والخاصّة حيال العلماء الماضين، والّتي تحكي بنوع ما تشيّع بعض الأفراد. فقد وردت في الكثير من النصوص الإشارات الخاطفة، وربّما الخاطئة لتشيّع أفراد مجهولين، إمّا لمصاحبتهم للأئمّة عليهم السلام، أو لمحبتهم، أو لروايتهم لفضائلهم، أو لاعتدالهم، أو لعدم نصبهم، أو غير ذلك، .. ولذلك فقد نُسب إلى التشيّع ثلّة كبيرة من علماء ورواة الجمهور.. نذكر -لا على سبيل الحصر- أمثلة منهم(3):

1- الإمام الشافعي, وهو القائل:

ص: 160


1- لاحظ ميزان الاعتدال: ج2، ص380 . وسير أعلام النبلاء : ج11 ، ص536 .
2- بحوث في مناسك الحج ، السيد محمد رضا السيستاني : ج8، ص392 .
3- لاحظ فلك النجاة في الإمامة والصلاة ، لعلي محمّد فتح الدين الحنفي: ص20.

(إن كان رفضاً حبّ آل محمّدٍ *** فليشهد الثقلان أنّي رافضي).

2- الحافظ الحسين بن محمّد السلمي الحراني (أبو عروبة), وقد مرََ ذكره .

3- الحسين بن الحسن الأشقر الفزاز الكوفي.

4- عبد السلام بن صالح.

5- علي بن بذيمة.

6- علي بن مجد البغدادي (وهو أستاذ البخاري وأبي داود).

7- علي بن غراب.

8- حكيم بن جبير الأسدي.

9- سليمان بن قرم (أبو داود النحوي).

10- داود بن أبي عوف سويد التميمي.

وغيرهم الكثير ممَّن تزخر بهم كتب العامة، فراجع.

فظهر مما ذكرنا: أنَّ من أولويات أُسس الجرح والتعديل لرواة الحديث عند أغلب علماء الجمهور هو البغض والمحبّة لعلي (علیه السلام) وأهل بيته (علیهم السلام) وذكر فضائلهم وتقديمهم على من سواهم، سواء أكان على مستوى الراوي أم كان على مستوى الرواية، أمّا من حيث الراوي فهم يسقطونه من الاعتبار (تارةً) بكونه شيعيّاً غالياً، (وأخرى) بالرفض، (وثالثة) بشتم الصحابة، (ورابعة) بكذّاب خبيث زائغ لا يصحّ حديثه.. وهلمّ جرّاً، وأمّا من حيث الرواية فهي تسقط عن الاعتبار بمجرّد ذكرها لمنقبة أو فضيلة لعلي (علیه السلام) ، فترمى بأنواع التّهم من الوضع والكذب والتدليس والغلو، وبالتالي يسقطون راويها عن الاعتبار تارة بكونه غالياً في التشيع، أو يتشيّع، أو فيه ميل للتشيّع أو الرفض..

ص: 161

والحاصل في نهاية المطاف: أنَّ معنى الغلو عندهم - من خلال أكثر استعمالاتهم للفظ الغلو واشتقاقاتﻫ ما يكون وصفاً لصيقاً دائماً للتشيّع أو الرفض، فهو يحلّ حيث ما حلّا، والغرض منه بيان شدّة الميل والاعتقاد بالتشيّع والرفض, فهم يطلقونه –غالباً- على الشيعة بصورة أشمل وبدائرة أوسع وسواء أكان المرمي به ثقة أم كان ضعيفاً أم كان من الغلاة, كما أنَّهم يطلقونه –غالباً- على كلّ من يروي فضيلة لعلي عليه السلام، أو رذيلة لخصومه، وإنْ لم يكن إماميّاً كما مرّت شواهده.

وبعبارة أخرى: إنَّ مفهوم الغلو عندهم أعم مطلقاً من مفهومه عند علماء الإماميّة كما سيأتي.

(فائدة): في أسباب جرح الجمهور للرواة بالغلو في التشيّع والرفض، وهي:

1- التعصّب والنصب لأهل البيت (علیهم السلام) : قال ابن حجر: (فيمن ينبغي أنْ يتوقّف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد، فإنَّ الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب(1). وذلك لشدّة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيّع فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة)(2).

2- الأغراض السياسية: قال الشيخ أسد حيدر (قدس سره) : (إنَّ أعظم شيء على الشيعة هو حمل فرق الغلاة عليهم وإضافتها عليهم، وأستطيع أنْ أثبت بأنّ تلك الفرق الضالة

ص: 162


1- ومن المضحك في هذا السياق ما ذكره أحفاد الجوزجاني في فتاوى الوهابية ج3 ، ص69: (سؤال: ما مدى صحة قولهم علي كرم الله وجهه ؟. الجواب : لا أصل لتخصيص ذلك بعلي ( رض ) وإنّما هو من غلو المتشيّعة فيه).
2- لسان الميزان ، ابن حجر :ج1 ،ص16.

آزرتهم السياسة، وسهلت لهم الطرق ليصلوا إلى غايات في نفوسهم من الوقيعة في الشيعة، والحطّ من كرامة أهل البيت (علیهم السلام) حينما لم يستطيعوا النيل من عقائدهم -إلى أنْ قال-: فكان دخول الغلاة في صفوف الشيعة حركة سياسيّة، أوجدتها عوامل من جهة، والفتك بالإسلام من جهة أخرى)(1).

وذكر السيد محمد بن عقيل سببين آخرين(2)، وهما:

3- الأهواء والمطامع الدنيويّة وما يكون سبباً للمنافسة في المراتب والتقرّب والرجاء لما في أيدي القوم فتزلّفوا إليهم بذلك لينالوا بِرّهم وتِبرهم وليحوزوا شرف الانتماء ، إذ بذلك يتسابق الناس إلى توثيقهم والرواية عنهم ويتّخذونهم أئمّة وأساتذة . وهذا معروف عند الناس قديماً وحديثاً.

4- الخوف من بطش الأعداء، ونكاية أذنابهم، ووشايات حفدتهم؛ إذ هم أهل الدولة والصولة فاحترسوا بما ارتكبوه من القتل والعرقبة والضرب وثلب العرض وجرح العدالة واللّعن والسبّ.

وبهذه الفائدة ينتهي البحث في المقام الأوَّل.

المقام الثاني: في الغلو عند الإماميّة

اشارة

والبحث فيه في عدّة مواقف:

1- موقف أهل البيت (علیهم السلام) من الغلوّ والغلاة

تنوّعت ادّعاءات الغلاة في حقّ أهل البيت (علیهم السلام) بين الادّعاء لهم بالربوبيّة، والنبوّة، والعلم بالغيب لهم بنحو الاستقلال من دون إلهام، والقول بالتناسخ والتفويض..

ص: 163


1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ج1 ، ص249. بتصرّف .
2- العتب الجميل ص115.

فقد أورد العلّامة المجلسي(1) (قدس سره) طائفة كبيرة من الروايات في ذم الغلاة وتفسيقهم وتكفيرهم اخترنا بعضاً منها، تمهيداً لتحقيق المعنى الاصطلاحي للغلوّ:

1- رجال الكشي: حمدويه عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن جعفر بن عثمان عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام) : يا أبا محمّد ابرأ ممّن يزعم أنا أرباب، قلت: برئ الله منه، فقال: ابرأ ممّن يزعم أنّا أنبياء، قلت: برئ الله منه.

2- رجال الكشي: سعد، عن محمّد بن الحسين والحسن بن موسى، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عمّن حدّثه من أصحابنا، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: لعن الله المغيرة بن سعيد، إنّه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حرّ الحديد، لعن الله من قال فينا مالا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا.

3- رجال الكشي: سعد، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) لبشّار الشعيري: أنْ اخرج عنّي لعنك الله، والله لا يظلّني وإيّاك سقف بيت أبداً، فلما خرج قال: ويله. ألا قال بما قالت اليهود، ألا قال بما قالت النصارى، ألا قال بما قالت المجوس، أو بما قالت الصابئة، والله ما صغر الله تصغير هذا الفاجر أحد، إنّه شيطان ابن شيطان خرج من البحر ليغوي أصحابي وشيعتي فاحذروه، وليبلّغ الشاهد الغائب أنّي عبد الله بن عبد الله عبد قنّ ابن أمة، ضمتني الأصلاب والأرحام، وأنّي لميت وأنّي لمبعوث، ثُمَّ موقوف، ثُمَّ مسؤول والله لأُسألن عمّا قال فيَّ هذا الكذّاب وادعاه علي. يا ويله ماله أرعبه الله، فلقد أمن على

ص: 164


1- بحار الأنوار: ج25، ص261. كتاب الإمامة، باب نفي الغلو في النبي والأئمّة (علیهم السلام) .

فراشه، وأفزعني وأقلقني عن رقادي، أو تدرون أنّي لِمَ أقول ذلك؟ أقول ذلك لاستقرّ في قبري.

4- رجال الكشي: ذكر أبو محمّد الفضل بن شاذان في بعض كتبه أنّ من الكذّابين المشهورين ابن بابا القمي. قال سعد: حدّثني العبيدي قال: كتب إليَّ العسكري (علیه السلام) ابتداءً منه: أبرأ إلى الله من الفهري، والحسن بن محمّد بن بابا القمي، فابرأ منهما، فإنّي محذّرك

وجميع موالي وإنّي ألعنهما، عليهما لعنة الله، مستأكلين يأكلان بنا الناس، فتّانين مؤذيين آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركساً. يزعم ابن بابا أنّي بعثته نبياً وأنّه باب، ويله لعنه الله، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمّد إنْ قدرت أنْ تشدخ رأسه بحجر فافعل فإنّه قد آذاني آذاه الله في الدنيا والآخرة. وقال أبو عمرو: فقالت فرقة بنبوّة محمّد بن نصير الفهري النميري، وذلك أنّه ادعى أنّه نبي رسول، وأنّ علي بن محمّد العسكري أرسله، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن عليه السلام، ويقول فيه بالربوبية، ويقول: بإباحة المحارم، ويحلّل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويقول: إنّه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيبات، إنَّ الله لم يحرم شيئاً من ذلك. وكان محمد بن موسى بن الحسن بن فرات يقوّي أسبابه ويعضده، وذكر أنّه رأى بعض الناس محمد بن نصير عياناً وغلام له على ظهره وأنّه عاتبه على ذلك فقال: إنَّ هذا من اللّذات وهو من التواضع لله وترك التجبر. وافترق الناس فيه بعده فرقاً.

5- الاحتجاج: وممّا خرج عن صاحب الزمان صلوات الله عليه رداً على الغلاة من التوقيع جواباً لكتابٍ كُتب إليه على يدي محمّد بن علي بن هلال الكرخي: يا محمّد بن علي تعالى الله عزّ وجل عمّا يصفون، سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاءه في علمه،

ص: 165

ولا في قدرته. بل لا يعلم الغيب غيره كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾. وأنا وجميع آبائي من الأوّلين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النبيين ومن الآخرين محمّد رسول الله وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين وغيرهم ممّن مضى من الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين إلى مبلغ أيامي ومنتهى عصري عبيد الله عزّ وجل، يقول الله عز وجل: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾. يا محمّد بن علي قد آذانا جهلاء الشيعة، وحمقاؤهم، ومَنْ دينه جناح البعوضة أرجح منه، واشهد الله الذي لا إله إلا هو وكفى به شهيداً ومحمداً رسوله وملائكته وأنبياءه وأولياءه، وأشهدك واشهد كلّ من سمع كتابي هذا أنّي برئ إلى الله وإلى رسوله ممّن يقول: إنّا نعلم الغيب أو نشارك الله في ملكه أو يحلّنا محلّاً سوى المحلّ الذي نصّبه الله لنا، وخلقنا له، أو يتعدى بنا عمّا قد فسرته لك وبيّنته في صدر كتابي، وأشهدكم أنّ كلّ من نتبرأ منه فإنّ الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياءه، وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك وعنق من سمعه أن لا يكتمه من أحد من موالي وشيعتي حتى يظهر على هذا التوقيع الكل من الموالي، لعلّ الله عزّ وجل يتلافاهم فيرجعون إلى دين الله الحق، وينتهوا عمّا لا يعلمون منتهى أمره ولا يبلغ منتهاه، فكلّ من فهم كتابي ولم يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته فلقد حلّت عليه اللعنة من الله وممّن ذكرت من عباده الصالحين.

6- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : ابن المتوكل، عن علي، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد الصيرفي قال: قال أبو الحسن (علیه السلام) : من قال بالتناسخ فهو كافر، ثُمَّ قال: لعن الله الغلاة، ألا كانوا مجوساً، ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدرية، ألا كانوا

ص: 166

مرجئة، ألا كانوا حرورية، ثُمَّ قال (علیه السلام) : لا تقاعدوهم، ولا تصادقوهم، وابرأوا منهم برئ الله منهم.

7- رجال الكشي: حمدويه، قال: حدثني محمّد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن بشير الدهان، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: كتب أبو عبد الله (علیه السلام) إلى أبي الخطّاب: بلغني أنّك تزعم أنّ الزنا رجل، وأنّ الخمر رجل، وأنّ الصلاة رجل، وأنّ الصيام رجل، وأنّ الفواحش رجل، وليس هو كما تقول أنا أصل الحق وفروع الحق طاعة الله وعدونا أصل الشر وفروعهم الفواحش، وكيف يطاع من لا يعرف، وكيف يعرف من لا يطاع.

8- رجال الكشي: حمدويه وإبراهيم قالا: حدّثنا العبيدي، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله وذكر الغلاة، فقال: إنّ فيهم من يكذب حتّى أنّ الشيطان ليحتاج إلى كذبه.

9- سعد، قال: حدّثني أحمد بن محمّد بن عيسى، وأحمد بن الحسن بن فضال، ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، ويعقوب بن يزيد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن داود بن أبي يزيد العطار، عمّن حدّثه من أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾. قال: هم سبعة: المغيرة بن سعيد، وبنان، وصائد، وحمزة بن عمارة الزبيدي، والحارث الشامي، وعبد الله بن عمرو بن الحارث، وأبو الخطاب.

10- رجال الكشي: محمّد بن مسعود، قال: حدّثني علي بن محمّد، قال: حدّثني أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن مرازم قال، قال أبو عبد الله (علیه السلام) للغالية: توبوا إلى الله فإنّكم فسّاق كفّار مشركون.

ص: 167

وورد في أمالي الشيخ الطوسي: (وعنه، قال: أخبرنا الحسين بن عبيد الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، قال : حدّثنا أبي، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن مسلم، عن فضيل بن يسار، قال: قال الصادق (علیه السلام) : احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم، فإنّ الغلاة شرّ خلق الله، يصغرون عظمة الله، ويدعون الربوبية لعباد الله، والله إنّ الغلاة شرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا. ثُمَّ قال (علیه السلام) : إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصر فنقبله. فقيل له: كيف ذلك، يا بن رسول الله؟ قال: لأنّ الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج، فلا يقدر على ترك عادته، وعلى الرجوع إلى طاعة الله (عزّ وجل) أبداً، وإنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع.

11- وعنه، قال: أخبرنا الحسين بن عبيد الله، عن علي بن محمّد العلوي، قال: حدّثنا أحمد بن عمر بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن جده إبراهيم بن هاشم، عن أبي أحمد الأزدي، عن عبد الصمد بن بشير، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : اللهم إنّي بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم اخذلهم أبداً، ولا تنصر منهم أحداً)(1).

هذه بعض الروايات الواردة في حقّ الغلاة وإنّما أطلنا في سردها ليظهر فيها جليّاً موقف أهل البيت (علیهم السلام) الحازم والصارم من الغلاة كالبراءة منهم ولعنهم والدعاء عليهم، ونعتهم بالكفّار المشركين والزنادقة الفسّاق الكذّابين. وبطبيعة الحال أنّ مثل هكذا ردود أفعال - روائيّة وعمليّة- من الأئمّة (علیهم السلام) لا تنسجم إلّا مع مَنْ خرج عن ربقة الإسلام .

ص: 168


1- الأمالي للشيخ الطوسي : ص 650.

والملاحَظ: أنّ المفهوم المنساق من لفظ الغلو والغلاة في كلمات الأئمّة (علیهم السلام) من خلال الروايات المتقدّمة هو المفهوم المساوق للقول فيهم ما لا يقولون، ويتجاوز الحدّ فيهم إلوهيّةً أو نبوّةً أو علماً بالغيب أو تناسخاً أو تفويضاً أو غيرها ممّا يوجب ترك الفرائض وفعل الإباحيات والمحرمات.

2- موقف بعض علمائنا المتقدمين من الغلوّ والغلاة

قال الشيخ الصدوق (قدس سره) : (اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة أنَّهم كفّار بالله تعالى، وأنَّهم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والقدريّة والحروريّة ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلّة، وأنّه ما صغر الله جلّ جلاله تصغيرهم شيء.. إلى أن قال: وروي عن زرارة أنَّه قال: قلت للصادق (علیه السلام) : (إنَّ رجلاً من ولد عبد الله بن سبأ يقول بالتفويض. قال (علیه السلام) : (وما التفويض؟) قلت: يقول: إنّ الله عزّ وجل خلق محمّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلياً (علیه السلام) ثُمَّ فوّض الأمر إليهما، فخلقا، ورزقا، وأحييا، وأماتا. فقال: (كذب عدو الله، إذا رجعت إليه فاقرأ عليه الآية التي في سورة الرعد ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ﴾. فانصرفت إلى رجل فأخبرته بما قال الصادق (علیه السلام) فكأنّما ألقمته حجراً، أو قال: فكأنّما خرس. وقد فوّض الله تعالى إلى نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم) أمر دينه، فقال: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وقد فوّض ذلك إلى الأئمّة (علیهم السلام) .

وعلامة المفوّضة والغلاة وأصنافهم نسبتهم مشايخ قم وعلماءهم إلى القول بالتقصير. وعلامة الحلاجية من الغلاة دعوى التجلي

بالعبادة مع تديّنهم بترك الصلاة وجميع الفرائض، ودعوى المعرفة بأسماء الله العظمى، ودعوى اتّباع الجن لهم، وأنّ

ص: 169

الولي إذا خلص وعرف مذهبهم فهو عندهم أفضل من الأنبياء (علیهم السلام) . ومن علاماتهم أيضاً دعوى علم الكيمياء. ولا يعلمون منه إلّا الدغل وتنفيق الشبه والرصاص على المسلمين)(1).

وقال الشيخ المفيد (قدس سره) في معنى الغلوّ: (هو التجاوز عن الحدّ، والخروج عن القصد، والإفراط في حق الأنبياء والأئمّة (علیه السلام) )(2).

وقال (قدس سره) أيضاً: (والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته (علیهم السلام) إلى الألوهيّة والنبوّة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدّ، وخرجوا عن القصد، وهم ضلالٌ، كفارٌ، حكم فيهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة (علیهم السلام) عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام)(3).

3- موقف الفقهاء من الغلو والغلاة

لم يختلف فقهاؤنا في موقفهم من الغلاة سواء من حيث تنقيحهم لموضوع الغلاة أم من حيث الحكم عليهم؛ لكونهم ممَّن علم منهم الإنكار لضروريات الدين، أو ممّن انطبق عليهم عنوان الكفر.

قال المحقق الحلي (قدس سره) : (وأمّا الغلاة: فخارجون عن الإسلام وإن انتحلوه)(4).

وقال العلامة الحلي (قدس سره) : (وأمّا الغلاة فإنّهم وإنّ أقرّوا بالشهادة إلّا إنّهم خارجون

ص: 170


1- الاعتقادات في دين الإماميّة : ص97.
2- تصحيح اعتقادات الإماميّة : ص109.
3- تصحيح اعتقادات الإماميّة : ص131.
4- المعتبر : ج1 ص98.

عن الإسلام أيضاً)(1).

وقال صاحب الجواهر (قدس سره) : (أمّا الغلاة والخوارج والنواصب وغيرهم ممّن علم منهم الإنكار لضروريات الدين فلا يرثون المسلمين قولاً واحداً)(2).

وقال السيد الخوئي (قدس سره) : (الغلاة على طوائف، فمنهم من يعتقد الربوبية لأمير المؤمنين أو أحد الأئمّة (علیهم السلام) ، فيعتقد بأنّه الرّب الجليل، وأنّه الإله المجسّم الذي نزل الى الأرض، وهذه النسبة -لو صحّت- وثبت اعتقادهم بذلك، فلا إشكال في نجاستهم وكفرهم) (3).

والملاحظ من موقف الفقهاء (قدس سرهم) وبمناسبة الحكم -نجاسةً وكفراً- والموضوع: أنَّ الغلاة عندهم هم من قال في الأئمّة (علیهم السلام) ما لا يقولون، ويتجاوز الحدّ فيهم إلوهيّةً، أو نبوّةً، أو علماً بالغيب، أو تناسخاً، أو تفويضاً، ممّن علم منهم الإنكار لضروريات الدين، أو انطبق عليهم عنوان الكفر، كما هو الملاحظ في كلماتهم.

4- موقف أهل الجرح والتعديل من الغلو والغلاة

وأما الرجاليون فقد اختلفوا في معنى الغلو وتحديد الضابط منه ممّا ألقى هذا الاختلاف بظلاله على جرحهم وتعديلهم . فذهب متأخرو المتأخرين كالمجلسيين والوحيد ومن تابعه كالمحقّق المامقاني والسيد بحر العلوم والشيح علي الخاقاني والمحقّق الكاظمي وغيرهم (قدس سرهم) ممّن جعلوا متن الوحيد (قدس سره) في التعليقة أصلاً يُستشهد به

ص: 171


1- منتهى المطلب : ج1 ص152.
2- جواهر الكلام : ج39 ص32.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى : ج3،ص73.

في كتبهم لردّ تضعيفات القميين وابن الغضائري في الرواة لاسيّما إذا كانت بالغلو والتفويض.

قال الوحيد البهبهاني (قدس سره) : (اعلم إنَّ الظاهر أنّ كثيراً من القدماء سيّما القميين منهم والغضائري كانوا يعتقدون للأئمّة (علیهم السلام) منزلة خاصّة من الرفعة والجلالة ومرتبة معيّنة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوّزون التعدي عنها وكانوا يعدّون التعدي ارتفاعاً وغلواً حسب معتقدهم حتّى أنّهم جعلوا مثل نفى السهو عنهم غلواً، بل ربّما جعلوا مطلق التفويض إليهم أو التفويض الذي اختلف فيه - كما سنذكر - أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم أو الاغراق في شأنهم واجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص واظهار كثير قدرة لهم وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به سيّما بجهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلّسين.

(وبالجملة) الظاهر أنَّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأصوليّة أيضاً. فربَّما كان شيء عند بعضهم فاسداً أو كفراً غلواً أو تفويضاً أو جبراً أو تشبيهاً أو غير ذلك، وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده، أو لا هذا ولا ذاك. وربَّما كان منشأ جرحهم بالأمور المذكورة وجدان الرواية الظاهرة فيها منهم - كما أشرنا آنفاً - وادعاه أرباب المذاهب كونه منهم، أو روايتهم عنه. وربّما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه إلى غير ذلك فعلى هذا ربّما يحصل التأمل في جرحهم بأمثال الأمور المذكورة، وممّا ينبّه على ما ذكرنا ملاحظة ما سيذكر في تراجم كثيرة مثل: ترجمة إبراهيم بن هاشم، وأحمد بن محمّد بن نوح، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ومحمّد بن جعفر بن عوف، وهشام بن الحكم، والحسين بن شاذويه، والحسين بن يزيد، وسهل بن زياد، وداود بن كثير، ومحمّد بن أورمة، ونصر بن

ص: 172

الصباح، وإبراهيم بن عمر، وداوود بن القاسم، ومحمد بن عيسى بن عبيد، ومحمد بن سنان، ومحمد بن علي الصيرفي، ومفضل بن عمر، وصالح بن عقبة، ومعلى بن خنيس، وجعفر بن محمد بن مالك، وإسحاق بن محمد البصري، وإسحاق بن الحسن، وجعفر بن عيسى، ويونس بن عبد الرحمن، وعبد الكريم بن عمر، وغير ذلك، وسيجيء في إبراهيم بن عمر وغيره ضعف تضعيفات الغضائري، فلاحظ. وفى إبراهيم بن إسحاق، وسهل بن زياد ضعف تضعيف أحمد بن محمد بن عيسى مضافاً إلى غيرهما من التراجم فتأمّل.

ثمّ اعلم أنّه(1) والغضائري ربّما ينسبان الراوي إلى الكذب، ووضع الحديث أيضاً بعد ما نسباه إلى الغلو، وكأنّه لروايته ما يدلّ عليه. ولا يخفى ما فيه وربّما كان غيرهما أيضاً كذلك فتأمّل.

(ومنها) رميهم إلى التفويض. وللتفويض معانٍ بعضها لا تأمّل للشيعة في فساده وبعضها لا تأمّل لهم في صحته وبعضها ليس من قبيلهما)(2).

وقال الشيخ علي الخاقاني (قدس سره) : (اعلم، أنّه ربما رمى بعضهم بالتفويض فلا ينبغي أنْ يتسرع بمجرد ذلك إلى القدح، إذ لعلّه قائل بالوجه الصحيح، فلا بدّ من التروي والتأمّل والرجوع إلى كلامه إن كان، إذ ليس النقل كالعيان، اللهم إلّا أنْ يُدّعى اشتهار التفويض في المعاني المنكرة فيُنزَّل عليه عند الإطلاق لكنّه مع ذلك لا يرفع الاحتمال ولا يمنع من التروي، سيّما في مثل هذا الرمي الموجب لفساد العقيدة والانحراف في الدين. ومثله الرمي بالغلو فتراهم يقولون: كان من الطيّارة أو من أهل الارتفاع وأمثالهما،

ص: 173


1- أي أحمد بن محمّد بن عيسى .
2- الفوائد الرجالية : ص38.

والمراد أنّه كان غاليا فلا بدّ من التأمّل والتثبت في ذلك، فلا يجوز التسرّع في الرمي بذلك تقليداً لمن رمى، سيّما لو كان القدح من القدماء)(1).

وقال الشيخ محمّد جعفر الخراساني الكرباسي (قدس سره) في ترجمة أحمد بن الحسين بن سعيد: (اعلم: أنّ روايات أصحابنا إنْ كانت موافقة لعقائدهم خالية عمّا يوجب الغمز بزعمهم يوصفون بأنّه صحيح الرواية كما في أحمد بن إدريس، وصحيح الحديث سليم ونحوه كما في أحمد بن الحسين بن إسماعيل، وإنْ كان في رواياته ما يوجب غمزاً على زعم الباحث، كأحاديث باب في شأن (إنّا أنزلناه في ليلة القدر) وتفسيرها من الكافي، فيقولون ما قالوا في الحسن بن عباس الحريش، وكأحاديث باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية من الكافي، يقولون ما قالوا في علي بن حسّان، وكأحاديث تدلّ على المعجزات والكرامات والأعاجيب كجُلّ الأحاديث المذكورة في كتاب الحجة من الكافي، فيقولون ما قالوا فيهم من أنّه غالٍ، وأنّه مرتفع القول، وأنّه منفرد بالغرائب، وأنّه يقول بالتفويض، وأكثر أحاديث أصول الكافي من هذا الباب. وتضعيف جعفر بن محمد بن مالك أيضا من هذا الباب. وكأحاديث سليم بن قيس المنتشرة في الكافي، ولما انفرد برواياته أبان يقولون بوضع الكتاب وأنّ في أحاديثه علامات الوضع، وهذا كله يوجب الوهن ممّا ذكروه وعدم الاعتماد بما قالوه)(2).

وأشكل المحقق التستري (قدس سره) على ما ذهبت إليه مدرسة الوحيد البهبهاني (قدس سره) قائلاً: (كثيراً ما يَردّ المتأخّرون طعن القدماء في رجل بالغلو بأنّهم رموه به لنقله معجزاتهم. وهو ردّ غلط؛ فإنّ كونهم (علیهم السلام) ذوي معجزات من ضروريات مذهب

ص: 174


1- رجال الخاقاني : ص146.
2- إكليل المنهج في تحقيق المطلب : ص109.

الإمامية، وهل معجزاتهم وصلت إلينا إلّا بنقلهم؟ وإنّما مرادهم بالغلو ترك العبادة اعتماداً على ولايتهم (علیهم السلام) . فروى أحمد بن الحسين الغضائري عن الحسن بن محمد بن بندار القمي، قال: سمعت مشايخي يقولون: إنّ محمد بن أورمة لما طُعن عليه بالغلو بعث إليه الأشاعرة ليقتلوه، فوجدوه يصلي الليل من أوّله إلى آخره، ليالي عدّة، فتوقفوا عن اعتقادهم. وعن فلاح السائل لعلي بن طاووس عن الحسين بن أحمد المالكي: قلت: لأحمد بن هلال الكرخي: أخبرني عمّا يقال في محمد بن سنان من أمر الغلو. فقال: معاذ الله، هو والله علمني الطهور.

وعنون الكشي جمعاً، منهم: علي بن عبد الله بن مروان، وقال: إنّه سأل العياشي عنهم. فقال: وأمّا علي بن عبد الله بن مروان ، فإنّ القوم -يعني الغلاة- يمتحنون في أوقات الصلاة، ولم أحضره وقت الصلاة.

وعنون الكشي أيضاً الغلاة في وقت الهادي (علیه السلام) ، وروى عن أحمد بن محمد بن عيسى كتبت إليه في قوم يتكلمون ويقرؤن أحاديث ينسبونها إليك وإلى آبائك، قال: ومن أقاويلهم أنهم يقولون: إنّ قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾معناها رجل، لا ركوع ولا سجود. وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد درهم ولا إخراج مال. وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي تأوّلوها وصيّروها على الحدّ الذي ذكرتُ لك.. الخبر.

وأكثر القدماء طعناً بالغلو ابن الغضائري، وشهر المتأخّرون: أنّه يتسرّع إلى الجرح، فلا عبرة بطعونه. مع أنّ الذي وجدناه بالسبر في الذين وقفنا على كتبهم ممّن طعن فيهم -ككتاب استغاثة علي بن أحمد الكوفي، وكتاب تفسير محمد بن القاسم الاسترآبادي، وكذلك كتاب الحسن بن عباس بن حريش على نقل الكافي تسعة من أخباره في شأن إنّا

ص: 175

أنزلناه- أنّ الأمر كما ذكر، والرجل نقّاد، وقد قوّى ممّن ضعفه القميون جمعاً، كأحمد بن الحسين بن سعيد، والحسين بن شاذويه، والزيدين -الزرّاد، والنرسي- ومحمد بن أورمة، بأنّه رأى كتبهم وأحاديثهم صحيحة)(1).

وتابعه في ذلك السيد الأستاذ (دام عزه) قائلاً: (عندما يقال فلان غالٍ، يعني أنّه ممّن يترك الواجبات من الصلاة وغيرها من الأعمال، لأنّ ما يبتني عليه الغلو هو الاعتقاد بكفاية معرفة الأئمة (علیه السلام) في النجاة يوم القيامة). وأضاف (دام عزه) على ما أفاده المحقّق التستري (قدس سره) قائلاً: (بل يصل الأمر -عند المغالي- الى عدم الحفاظ على عرضه)(2).

وقد استظهره (دام عزه) من عبارة (وحبس العيال) الواردة في ما رواه عن السيد ابن طاووس في فلاح السائل: (أخبرني عمّا يقال في محمد بن سنان من أمر الغلو. فقال: معاذ الله، هو والله علمني الطهور، وحبس العيال، وكان متقشفاً متعبداً).

وما استظهره المحقّق التستري (قدس سره) متين في مقابل ما ذهبت اليه مدرسة الوحيد (قدس سره) ، إلّا إنّه لا يتمّ على إطلاقه؛ لكونه غير جامع لطوائف الغلاة كافة، ولا ينسجم مع ما مرّ من سعة مفهوم الغلّو وشموليته المنطبق على طوائف وأصناف الغلاة كافة المذكورة في الروايات، بلا فرق بين من يدعي منهم الإلوهيّة للأئمة (علیهم السلام) ، أو النبوة لهم (علیهم السلام) أو العلم بالغيب لهم، أو التناسخ أو التفويض، أو غيرها ممّا يوجب ترك الفرائض وفعل الإباحيات والمحرّمات اتّكالاً على ولايتهم. هذا أولاً.

وثانياً: إنّه قد ورد في ترجمة جملة من الغلاة أنّ الرجاليين قد استعملوا الغلوّ بغير المفهوم المقيّد بطائفة أو بصنف خاص من الغلاة كما هو مختار المحقّق التستري (قدس سره)

ص: 176


1- قاموس الرجال : ج1، ص66.
2- (محاضرات مخطوطة) بتصرف، لأستاذنا السيد محمد رضا السيستاني.

- وهو ترك العبادة اعتماداً على ولايتهم (علیهم السلام) -، بل بالمعنى الشامل الذي صدر عن الأئمّة في حقّ الغلاة ممّن ادّعى الإلوهيّة أو النبوّة لهم (علیهم السلام) ، أو علمهم بالغيب، أو التفويض لهم أو التناسخ، كما هو الملاحظ في ترجمة بعض الغلاة كعبد الله بن سبأ، والمغيرة بن سعيد، ومحمد بن مقلاص أبي زينب (أبي الخطاب)، ومحمد بن نصير الفهري النميري، والحسن بن محمد بن بابا القمي، والحسن الشريعي (السريعي) ،أو كما هو الملاحظ في تعداد فرق الغلاة المنحدرة منهم كالسبائية، والعليائية، والمغيرية، والخطابية، والنصيرية، وغيرها من الفرق(1). فتقييد دائرة مفهوم الغلوّ في المعنى الذي ذكره بلا مبرر.

لا يقال: إنّ جُلّ ما ورد في كتب الرجال -لاسيّما كتب المتقدّمين- ولو بملاحظة غلبة استعماله في كلام أئمة الفن من أنّ فلانا غالٍ، أو من الغلاة هو من يترك العبادة اعتماداً على ولايتهم (علیهم السلام) ؛ لأنّ الاطلاق ينصرف إلى ما هو الشايع من الاطلاقات.

فإنّه يقال: هذا وإنْ كان تامّاً وصحيحاً، ولكنّه أمر آخر، والبحث في المفهوم سعةً وضيقاً شيء آخر، لأنّ الفرد النادر ممّا يشمله مفهوم الغلوّ، وإنْ كان لا يحمل عليه عند الإطلاق، فتأمّل.

نعم، يمكن أنْ يوجه كلام المحقّق التستري (قدس سره) : بأنّه ليس في صدد بيان جهة

ص: 177


1- يلاحظ ترجمتهم في: رجال ابن الغضائري، رجال النجاشي، الفهرست للشيخ، اختيار معرفة الرجال، الخلاصة للعلامة، رجال ابن داود، نقد الرجال للتفريشي، التحرير الطاووسي لصاحب المعالم، قاموس الرجال للتستري ، معجم رجال الحديث للسيد الخوئي، عدّة الرجال للمحقق الكاظمي ج1..

مفهوم الغلوّ اصطلاحاً، بل هو في مقام الردّ على المتأخرين لردّهم طعن القدماء في رجل بالغلوّ، فلاحظ.

فمن أجل هذا وذاك، فالأقرب هو ما تقدّم ذكره عن الشيخ المفيد (قدس سره) في تحديد مفهوم الغلوَ -اصطلاحاً- عند القدماء: (هو التجاوز عن الحدّ، والخروج عن القصد والإفراط في حقّ الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) ). وهو كما ترى يشمل طوائف وأصناف الغلاة كافة، بلا فرق بينها بين النادر منها والغالب، وبما ينسجم مع المفهوم العام المنساق من الروايات، وكذلك مع المنساق في تراجم الرجاليين للغلاة.

فظهر ممّا تقدّم ومن خلال استعراض المواقف المتقدّمة: أنّ المفهوم المنساق من لفظ الغالي أو الغلاة في الروايات هو المفهوم الشامل لكلّ طوائف وأصناف الغلاة، بلا فرق بين من يدعي منهم الإلوهيّة للأئمّة (علیهم السلام) أو النبوة لهم (علیهم السلام) ، أو العلم بالغيب لهم، أو التناسخ، أو التفويض، أو غيرها ممّا يوجب ترك الفرائض، وفعل الإباحيات والمحرمات اتّكالاً على ولايتهم، أو لا أقل المفهوم الذي اختاره المحقّق التستري (قدس سره) ولو بملاحظة غلبة استعماله في كلام أئمة الفن، لكونه أحد معاني الغلوّ، ولا يتعدّى ليعمّ رواية الأحاديث المتضمّنة لمقامات الأئمة (علیهم السلام) كما هو مختار المحقّق البهبهاني (قدس سره) . هذا أولاً.

وثانياً : إنّ الفقهاء قد حكموا بنجاسة الغلاة وكفرهم ،كما هو واضح من خلال رسائلهم العملية، وهذا لا يتناسب مع سعة مفهوم الغلو عند مدرسة المحقّق البهبهاني (قدس سره) الشامل لرواية الأحاديث المتضمّنة لمقامات الأئمة (علیهم السلام) ؛ لأنّه بناءً عليه فإنّ أكثر الأجلّة ليسوا بخالصين عن أمثال ذلك، فضلاً عن العوامّ، وهو كما ترى. فلا مناص من الالتزام بالمفهوم الشامل لطوائف الغلاة حصراً، دون غيرها.

ص: 178

وأمّا ما يوجد في كلمات بعضهم من أنّ الغلو هو رواية الأحاديث المتضمّنة لمقامات الأئمّة (علیهم السلام) فهو تبسيط للأمور، وتسامح في التعبير، فالممارس الذي يرجع إلى الروايات الواردة بحق الغلاة -كما مرّ ذكر بعضها-، والى كلمات الأصحاب يفهم أنّ المراد بالغلو هو ما نبّهنا عليه.

وأمّا مقامات الأئمة (علیهم السلام) العالية فهي خارجة تخصّصاً عن دائرة مفهوم الغلوّ لأنّها من ضروريات المذهب كما لا يخفى.

لا يقال: إن معنى الغلوّ هو ما ذهبت إليه مدرسة الوحيد (قدس سره) ، والشاهد عليه ما يقع من اختلاف بين القدماء في الجرح والتعديل في بعض الرواة، وهو يكشف عن اختلافهم في تحديد ضابط مفهوم الغلو، كما يظهر في طعن القميين لأحمد بن الحسين بن سعيد ومحمد بن أورمة بالغلوّ - مثلاً - بينما نرى ابن الغضائري قد برّأهما منه. أو اختلافهم في محمد بن بحر الرهني فابن الغضائري ضعّفه بارتفاع المذهب، بينما نجد النجاشي يقول: وحديثه قريب من السلامة، ولا أدري من أين قيل ذلك!

فإنّه يقال: إنّ اختلافهم في الجرح والتعديل في راوٍ بالغلو كاختلافهم بغيره من الطعون والتضعيفات لا يكشف عن اختلاف المعنى المنساق والمفهوم منه كما في غيره، بل اللازم الرجوع فيه الى باب التعارض. هذا أولاً.

وثانياً: إنّ الرجاليين اذا اختلفوا بالجرح والتعديل في راوٍ بالغلو بقول مطلق ولم يقيّدوه يؤخذ الغلوّ بالمعنى الذي ذكرناه، وبالتالي يرجع إلى باب التعارض بين الجرح والتعديل على اختلاف المباني في ذلك كما هو مذكور في محله. وإنْ كان الاختلاف بينهم بالغلو مقيّداً - بنفي السهو مثلاً - فهو استعمال يفهم المراد منه تبعاً للقرائن الدالّة عليه، ولا يكشف عن اختلافهم في مفهوم الغلو كما هو واضح.

ص: 179

الفصل الثانی: في ألفاظ الذم والقدح عند أهل الجرح والتعديل

اشارة

وهذا الفصل ينبغي البحث فيه من جهتين:

-- الجهة الأولى: في بيان معاني بعض ألفاظ الذم والقدح.

-- الجهة الثانية: في مدى دلالاتها على الجرح.

الجهة الأولى: في بيان معاني بعض ألفاظ الذم والقدح

أمّا الجهة الأولى: فهي في معرفة معاني بعض ألفاظ الجرح في كلمات الرجاليين: مثل (الغلو، الطيّارة، أهل الارتفاع، التخليط، رواية المناكير، الضعيف، التفويض)..

1- (الطيّارة وأهل الارتفاع) قال الوحيد البهبهاني (قدس سره) : (قولهم كان من اهل الطيارة ومن أهل الارتفاع وأمثالهما(1) المراد أنّه كان غالياً)(2).

وقال العلامة المامقاني (قدس سره) : (المراد به أنّه من أهل الارتفاع والغلو)(3).

وقال المحقّق الكاظمي (قدس سره) : (يريدون بذلك كلّه التجاوز بأهل العصمة إلى ما لا يسوغ)(4).

وقال المولى علي الخليلي النجفي (قدس سره) : (قولهم كان من الطيّارة وأهل الارتفاع الظاهر إشعاره بالغلو)(5).

ص: 180


1- كالارتفاع بالمذهب والارتفاع بالقول .
2- الفوائد الرجالية : ص 38-44 .
3- مقباس الهداية ، ج 2 ، ص 305 .
4- عدة الرجال : ج1 ، ص154.
5- سبيل الهداية في علم الدراية : ص186.

وقال السيد علي البروجردي (قدس سره) في هامش ترجمة سفيان بن مصعب العبدي: (المراد من الطيارة هو الغلاة، وإنما سمي بها لأنها باعتبار علو رتبتهم بزعمهم الفاسد كأنهم طايرين إلى السماء)(1).

أقول: وهذا المعنى هو الذي أريد من قولهم في محمد بن سنان: أراد أنْ يطير فقصصناه.

نعم، فسّره الشهيد (قدس سره) بأنّه: (من لا يعتبر قوله، ولا يعتمد عليه)(2). ولعلّه كان في مقام بيان دلالته على الضعف، فلاحظ.

2- (الغلو) قال المحدّث النوري (قدس سره) : (إنّ للغلو مراتب ودرجات يرمى قائل كلّ واحد منها إلى الغلو، أعلاها نفى سمات الحدوث عن الأئمة (علیهم السلام) ، والقول بألوهيتهم وقدمهم، ونفى إله معبود لهم، وأدناها ما أشار إليه الصدوق في عقائده من: أنّ علامة الغلو أنْ ينسب مشايخ القميين وعلماؤهم إلى التقصير)(3). وستأتي مناقشته فيما بعد.

وأفاد السيد الأستاذ (دام عزه) - كما مرّ - : (عندما يقال فلان غالٍ، يعني أنّه ممّن يترك الواجبات من الصلاة وغيرها من الأعمال، بل يصل الأمر الى عدم الحفاظ على عرضه)(4).

3- (المنكر والمناكير): قال البهبهاني (قدس سره) في التعليقة: (قال جدّي: المنكر ما لا يفهمونه، ولم يكن موافقاً لعقولهم)(5).

ص: 181


1- طرائف المقال : ج1 ، ص476.
2- الرعاية في علم الدراية :ص209.
3- انظر نفس الرحمن في فضائل سلمان ، للمحدّث النوري : ص125
4- (محاضرات مخطوطة) بتصرف . لأستاذنا السيد محمد رضا السيستاني.
5- تعليقة على منهج المقال : ص225.

وقال صاحب الإكليل (قدس سره) : (المناكير ما يخالف الثابت بقانون الشريعة، ويأبى عنه العقول، ومن ذلك ما يبلغ حدّ الغلو والارتفاع في القول، كما في ترجمة بشار الشعيري، والحسن بن بابا، وعلي بن حسكة، ويونس بن ظبيان. ومنه ما لا يبلغ الغلو، بل هو المزخرف والمتهافت، كما يروى في ترجمة جابر بن يزيد، وعبد الله بن عباس. وليس من هذا الباب الأخبار المشتملة على الغرائب والمعجزات والكرامات، وما ينبئ عن المراتب العالية بما لا يبلغ عقولنا كنهها، ويعجز أفهامنا عن دركه).

4- (الخلط والتخليط): (والمراد بالتخليط ما يكون جامعاً بين الحق والباطل، مثل روايتهم أن معرفة الإمام تكفي عن الصوم والصلاة. وجه التخليط: أنّه خلط بين التشيع من أنّ معرفة الإمام من الأركان، وبين المذهب الباطنيّة بجواز ترك الصوم والصلاة على بعض الوجوه، ومن ذلك روايتهم بما يختصّ به الشيعة مع ما اختصّ به غيرهم من الآراء الفاسدة، ومن ذلك ما رُوي في ترجمة سفيان الثوري، وسالم بن أبي حفصة. ومما ذكرنا يعلم أن المناكير أعم من التخليط والغلو)(1).

وقال المحقق الكاظمي (قدس سره) : (مختلط مخلط ظاهر في القدح لظهوره في فساد العقيدة)(2).

وقال السيد حسن الصدر (قدس سره) : (إذا قيل (مخلط) على الإطلاق، فيراد أنّه مخلط في نفسه واعتقاده، كمختلط الأمر. وإنّ قيل: (فيما يرويه)، كما قال ابن الوليد على ما حُكيَ عنه في محمّد بن جعفر بن بطة: (مخلط فيما يسنده) فالظاهر منه أنه ليس بمخلط في اعتقاده)(3).

ص: 182


1- إكليل المنهج في تحقيق المطلب للكرباسي : ص397.
2- عدّة الرجال : ص164.
3- نهاية الدراية : ص436.

ولكن خالفهما في ذلك الشيخ أبو هدى الكلباسي (قدس سره) ، قائلاً : (الذي يظهر لي بعد التتبع في كلماتهم أنّه بمعنى الخلط بمعنى المزج، ولكن المراد منه: أنواع مخصوصة منه:

أحدها: خلط الاعتقاد الصحيح بالفاسد، مثل أنْ يصير غالياً بعد الاعتقاد الصحيح، كما قال النجاشي: (طاهر بن حاتم، كان صحيحاً، ثم خلط). ويشهد على ما ذكرنا ما ذكره الشيخ في الفهرست في ترجمته: ( كان مستقيماً، ثمّ تغيّر وأظهر القول بالغلو).

وقال في العدة: (وما يختصّ الغلاة بروايته، فإنْ كانوا ممّن عرف لهم استقامته وحال غلوه، عمل بما رووه في حال الاستقامة وترك حال خطأهم، ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال استقامته، وتركوا ما رواه في حال تخليطه)(1). وقال في الفهرست، في علي بن أحمد: (كان إمامياً مستقيم الطريقة، ثم خلط وأظهر مذهب المخمسة وصنف كتبا في الغلو والتخليط)(2).

وثانيها: خلط الروايات المنكرة إلى غيرها، كما قال النجاشي: (عمر بن عبد العزيز، يروي المناكير وليس بغالٍ). وقال في معالم العلماء، في علي بن أحمد العقيقي: (إنَّه مخلط). ونقل الشيخ في الفهرست في ترجمته عن ابن عبدون: (إنّ في أحاديث العقيقي مناكير). وقريب منهما ما في إسماعيل بن علي: (من أنّه كان مخلط الأمر في الحديث، يعرف منه وينكر).

وثالثها: خلط أسانيد الأخبار بالآخر، كما في محمّد بن جعفر: (إنّه كان ضعيفاً

مختلطاً فيما يسنده). وفي جهم بن حكيم: (إنّ له كتاباً ذكره ابن بطة، وخلط إسناده، تارة قال: حدّثنا أحمد بن محمّد البرقي عنه، وتارة قال: حدثنا أحمد بن محمّد، عن أبيه، عنه).

ص: 183


1- العدة ج1 ص151.
2- الفهرست ص 155.

وفي جعفر بن يحيى: (إنّ كتابه يختلط بكتاب أبيه، لأنَّه يروي كتاب أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام، فرُبَّما نسب إلى أبيه، ورُبَّما نسب إليه). ويحتمل كلا المعنيين الأخيرين ما في محمّد بن الحسن، قال في الفهرست: (له كتب أخبرنا برواياته كلّها إلّا ما كان فيه من غلو أو تخليط).

ورابعها: خلط المطالب الصحيحة بغيرها، كما في المعالم في ابن إدريس: (عن سديد الدين، إنه مخلط لا يعتمد على تصنيفه). ويظهر ما ذكر ممّا ذكره شيخنا الشهيد الثاني في الروض: (من أنّ ابن إدريس، ادعى اتفاق المخالف والمؤالف، على رواية (إذا بلغ الماء قدر كرّ لم يحمل خبثاً). وهذه دعوى عريّة عن البرهان، بل البرهان قائم على خلافه -إلى أنْ قال:- والخبر المرسل إنّما يتمّ من ضابط ناقد الأحاديث، لأنّ مثل هذا الفاضل وإنْ كان غير متكرر التحقيق فإنّه لا يتحاشى في دعاويه ممّا يتطرق إليه القدح). وسبقه فيما ذكره في المعتبر، قال: (وما رأيت أعجب ممّن يدعي إجماع المخالف والمؤالف، فيما لا يوجد إلّا نادراً). هذا، فقولهم مخلط على الإطلاق محتمل لكل من المعاني المذكورة، وليس صريحاً في شيء منها.

ممّا ذكرنا يظهر القدح في المعنيين المذكورين، وأضعف منهما ما عن السيد السند المحسن الكاظمي - من دعوى ظهوره في القدح، لظهوره في فساد العقيدة - فإنّه ينافي إطلاقه على مثل العقيقي والحلي، فإن صحة مذهبهما، بل جلالة شأنهما مما لا يستريب فيه أحد)(1). انتهى.

وقريب منه ما في منتهى المقال ردّاً على المحقق الكاظمي (قدس سره) : (أنّ المراد بأمثال هذين اللفظين من لا يبالي عمن يروى وممن يأخذ يجمع بين الغث و السمين والعاطل

ص: 184


1- أبو هدى الكلباسي ، سماء المقال في علم الرجال : ص285 - 287.

والثمين)(1).

ولكن صاحب توضيح المقال عقّب على صاحب منتهى المقال، قائلاً: (إنه استشهد على مختاره بما لا يشهد له إذ غايته إطلاق ذلك على غير فاسد العقيدة ولا مجال لإنكاره، وأين هذا من ظهور الإطلاق؟ كما أنّ كون المبدأ الخلط الذي هو المزج لا يقتضى ما ذكره؛ فإنّ استعمال التخليط في فساد العقيدة أمر عرفي لا ينكر، ولا ينافيه كون أصل وضع اللغة على خلافه، مع أنّه لا مخالفة، إذ فساد العقيدة ربّما يكون بتخليط صحيحها بسقيمها، بل الغالب في المرتدين عن الدين أو المذهب كذلك لبعد الرجوع عن جميع العقائد. وبالجملة فالمرجع ظهور اللفظ في نفسه، ثمّ ملاحظة الخارج)(2).

5- (الضعيف والضعيف في الحديث) قال الوحيد البهبهاني (قدس سره) : (قولهم: ضعيف ونرى الأكثر يفهمون منه القدح في نفس الرجل، ويحكمون به بسببه، ولا يخلو من ضعف. ولعلّ من أسباب الضعف عندهم قلّة الحافظة، وسوء الضبط، والرواية من غير إجازة، والرواية عمّن لم يلقه، واضطراب ألفاظ الرواية، وإيراد الرواية التي ظاهرها الغلو، أو التفويض، أو الجبر، أو التشبيه، وغير ذلك كما هو في كتبنا المعتبرة. بل، هي مشحونة منها كالقرآن مع أنّ عادة المصنفين إيرادهم جميع ما رووه كما يظهر من طريقتهم مضافاً إلى ما ذكره في أول (الفقيه) وغيره. وكذا من أسبابه رواية فاسدي العقيدة عنه وعكسه، بل وربّما كان مثل الرواية بالمعنى ونظائره سبباً.

.. إلى أنْ قال: ثمّ اعلم أنّه فرق بيّنٌ ظاهرٌ بين قولهم: (ضعيف) وقولهم: (ضعيف في الحديث). فالحكم بالقدح منه أضعف، وسيجئ في سهل بن زياد وقال جدّي رحمه

ص: 185


1- منتهى المقال أبوعلي الحائري : ج1،ص120.
2- توضيح المقال للملا علي الكني : ص212.

الله الغالب في إطلاقاتهم أنّه ضعيف في الحديث أي يروى عن كل أحد انتهى، فتأمّل)(1).

6- (التفويض): قال الوحيد (قدس سره) في التعليقة: (للتفويض معان لا تأمّل للشيعة في فساد بعضها، ولا في صحّة بعضها، وبعضها محلّ الخلاف.

الأول: التفويض في الخلق كما ذهب إليه جمع، قائلين بأن الله تعالى خلق محمدا (صلی الله علیه و آله و سلم) وفوض إليه أمر العالم فهو الخلاق للدنيا وما فيها. وعن بعضهم تفويض ذلك إلى علي (علیه السلام) وربما يقولون بالتفويض إلى سائر الأئمة (علیه السلام) كما يظهر من بعض التراجم.

الثاني : تفويض الخلق والرزق إليهم ولعله يرجع إلى الأول وورد فساده عن الصادق (علیه السلام) والرضا (علیه السلام) . ثم إن مفاد الأخبار الواردة في اللعن عليهم إما خصوص الاعتقاد بأنهم في كمال احتياجهم مباشرين لخلق من عداهم، أو الأعم من ذلك ومن الاستقلال. وأما القائلون بأنهم الرب والله، فهم ملعونون بكل لسان.

الثالث: تفويض تقسيم الأرزاق، ولعله مما يطلق عليه. أقول: مقتضى الحصر في قوله تعالى (نحن قسمنا بينهم) نفي ذلك التفويض أيضا.

الرابع: تفويض الأحكام والأفعال إليه (صلی الله علیه و آله و سلم) بأن يثبت ما رآه حسنا، ويرد ما رآه قبيحا، فيجيز الله إثباته ورده مثل إطعام الجد السدس، وإضافة الركعتين في الرباعيات، والواحدة في المغرب، وتحريم كل مسكر عند تحريم الخمر إلى غير ذلك.

وهذا محل إشكال عندهم؛ لمنافاته ظاهر ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ وغير ذلك. ولكن الكليني (قدس سره) قائل به، والأخبار الكثيرة واردة فيه، ووجه بأنها تثبت من الوحي إلا أن الوحي تابع ومجيز. وهذا ليس من التفويض حقيقة.

ص: 186


1- الفوائد الرجالية ، للبهبهاني : ص 37- 38 بتصرف .

الخامس: تفويض الإرادة بأن يريد شيئا لحسنه، ولا يريد شيئا لقبحه كإرادة تغيير القبلة فأوحى الله تعالى إليه بما أراد.

السادس: تفويض القول بما هو أصلح له وللخلق، وإن كان الحكم الأصلي خلافه كما في صورة التقية.

السابع: تفويض أمر الخلق، بمعنى أنّه أوجب طاعته عليهم في كلّ ما يأمر وينهى، سواء أ علموا وجه الصحّة أم لا، بل ولو كان بحسب نظرهم – ظاهراً - عدم الصحّة، بل الواجب عليهم القبول على وجه التسليم)(1).

الجهة الثانية : في مدى دلالاتها على الجرح

قال الشيخ والد البهائي العاملي (قدس سره) : (أمّا ألفاظ الجرح - فذكر بعضها.. إلى أنْ قال: - ثمّ (مخلط)، ثمّ (متروك الحديث)، ثمّ (ساقط )، ثمّ (كذاب)، ثمّ (غالٍ) و(مجسِّم)، وما أشبه ذلك ممّا يدلّ على كفره، فلا يكتب حديثه ولا يعتبر)(2).

وقال السيد الداماد (قدس سره) في ألفاظ الجرح والذم: (ضعيف، كذوب، وضَّاع، كذّاب، غالٍ، عامّي، واهٍ، لا شيء، متّهم، مجهول، مضطرب الحديث، منكره، ليّنه، متروك الحديث، مرتفع القول، مهمل، غير مسكون إلى روايته، ليس بذاك. وأنصّها على التوهين الكذوب الوضّاع)(3).

وقال المحقّق الكاظمي (قدس سره) : (أمّا القدح والجرح، فلا اشكال في مثل قولهم: فاسد

ص: 187


1- تعليقة على منهج المقال ، للبهبهاني : ص22 بتصرف .
2- وصول الأخيار إلى أصول الأخبار : ص193.
3- الرواشح السماوية : الراشحة الثانية عشرة ، ص103.

المذهب والعقيدة، كذّاب، وضّاع، غالٍ)(1).

وقال العلّامة الفاني (قدس سره) : (لا شبهة في 3الاعتماد على مثل هذه التضعيفات كأنْ يقال فيه – كذّاب- وضّاع - مفتر.. لصراحتها في تكذيب الراوي ونسبة الوضع والافتراء إليه بما يعود صريحاً إلى جارحة النطق. وقد جرت عادة الأصحاب في مثل المقام على طرح روايات الذين يرد فيهم مثل ذلك، إلّا أنّ ذلك وعلى إطلاقه ممّا يمكن الخدشة فيه. ووجه ذلك استبعادنا وجود شخص لم يصدق في حياته ولو مرة.

وعليه كان للنظر في روايات أولئك، وملاحظة ظروف صدور الرواية وطبيعتها، ومدى انسجامها مع الخطوط العامّة لفقه الأئمة أهميّة فائقة قد تدعو في بعض الأحيان إلى العمل بها رغم وجود عدد من الضعفاء والمتهمين فيها. وهذا لعلّه من أفضل التخريجات والتفاسير لعمل المشهور بروايات ورد في أسانيدها من هم كذلك)(2).

وقال المحقّق الكاظمي (قدس سره) : (وقولهم: ضعيف, المعروف أنّه قدحٌ مناف للعدالة. وقولهم: ضعيف في الحديث, ربّما ظهر من تخصيص الضعف بالحديث عدم القدح بالمحدّث، لكنّهم ربّما فعلوا ذلك بالمقدوح، كما قالوا في محمد بن الحسن بن جمهور العمّي: ضعيف في الحديث، فاسد المذهب)(3).

وقال (قدس سره) - أيضاً - : (قولهم مضطرب الحديث، ومختلط الحديث، وليس بنقي الحديث، وقد غمز في حديثه وليس حديثه بذلك النقي يعرف حديثه وينكر. فربّما عُدّ هذا ونحوه في القدح. والحق أنّها ليست بظاهرة فيه؛ إذ لا منافاة بينه وبين العدالة كما في

ص: 188


1- عدّة الرجال : ص154.
2- بحوث في فقه الرجال، للعلامة الفاني: ص 83.
3- عدّة الرجال: ص154.

ضعف الحديث، لكنّها تصلح للترجيح. نعم, قولهم (مختلط مُخلِط) ظاهر في القدح لظهوره في فساد العقيدة)(1).

وقال الوحيد (قدس سره) : (ثمّ اعلم أنّه فرق بَيّنٌ ظاهرٌ بين قولهم: (ضعيف) وقولهم: (ضعيف) في الحديث فالحكم بالقدح منه أضعف)(2).

وقال السيد حسن الصدر (قدس سره) : (المعروف من ألفاظ الجرح قولهم: (ضعيف) ولا ريب في أنّه قدح مناف للعدالة إذا قيل على الإطلاق دون التخصيص بالحديث، لأنّ المراد في الأول أنّه ضعيف في نفسه. وفي الثاني أنّ الضعف في روايته، فلا تدلّ على القدح في الراوي مع الإضافة إلى الحديث)(3).

ولكنّ العلّامة الفاني (قدس سره) فصّل تفصيلاً آخر في دلالة الضعف مغايراً في نتائجه لتفصيل الوحيد البهبهاني، والسيد الصدر، والمحقق الكاظمي (قدس سرهم) قائلاً: (إنّ التضعيف مطلقاً كأنْ يقال فلان ضعيف لا ثمرة فيه إلّا صلوحه كشاهد على عدم الاعتماد على روايات من قيل فيه ذلك، وفي كلّ مورد لم يرد إلّا هذه العبارة. وهذا لا يعني ثبوت كذب الراوي بها، بل غايته عدم صحة الاعتماد على رواياته. والوجه فيه أنّ كلمة ضعيف، أو ما رادفها ليست صريحة في إرادة إثبات كذبه؛ لاحتمال عودها إلى غير ذلك ممّا يجعل أيّ معنى محتمل محتاجاً إلى قرينة تحدّده والمحتملات في هذه العبارة أربعة:

أ- أنْ يراد منها الضعف في كيف الحديث، بمعنى أنّ أحاديث الراوي لا تنسجم مع الخطوط الكبرى للأئمّة، أو أنّه تفرّد برواية ما يرويه.

ص: 189


1- عدّة الرجال: ص164 .
2- الفوائد الرجالية: ص37.
3- نهاية الدراية: ص 431 .

ب- أنْ يراد منها الضعف في العقيدة، بمعنى فسادها لوقف أو فطح أو بتر.. أو لعدم كونه من الإمامية مطلقا.

ت- أنْ يراد منها أنّه ينقل أحاديث أهل البيت عن الرواة مطلقاً دون أنْ يعتمد الصحاح والثقات منهم، فإنّ ذلك كان مذمة في الراوي ردحا من الزمن. ولذا نجد أنّ أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري أخرج البرقي من قمّ لاعتماده الضعاف.

ث- أنْ يراد منها الضعف في الحديث بمعنى الوضع أو الافتراء والكذب. ومن الواضح أنّ هذه العبارة إنّما يعتمد عليها كأساس للتضعيف المطلوب لو ظهر منها الاحتمال الأخير.. وأنّى لنا بإثبات ذلك.

إنْ قلت: إنّ ظاهر حال أصحاب الرجال إرادة الاحتمال الأخير، إذ لا معنى لإدراج الألفاظ الدالّة على غيره وهم بصدد بيان أحوال الرجال من حيث الوثاقة وعدمها.

قلنا: إنّ ذلك يلجأ إليه إنْ لم يكن عملهم إلّا به مع إنّنا نجدهم ذكروا - وخصوصاً النجاشي - مجمل أحوال الرجال، وذكروا أحياناً من الأمور ما لا ربط له بالتوثيق والتضعيف وعدمهما. هذا, فضلاً عن أنّهم نعتوا فاسد العقيدة بالضعيف، وكذلك من لا يهتّم عمّن ينقل كما هو الحال في البرقي. بل إنّ النجاشي يصرّح في أول كتابه أنّه إنّما كتب كتابه لأجل إعابة العامّة علينا بعدم وجود مصنف عندنا في الرجال وأحوالهم. ومن هنا لو ورد توثيق لراو قيل فيه ذلك يؤخذ به، ويجعل قرينة على إرادة أحد الاحتمالات الثلاثة من العبارة)(1).

ص: 190


1- بحوث في فقه الرجال، للعلّامة الفاني: ص 83.

أقول: المتحصّل من كلامهم وقوع الخلاف في دلالة الضعيف والمخلط على القدح، والظاهر أنّ سبب الخلاف يرجع إلى الاختلاف في تفسير معنيهما كما مرّ آنفاً. نعم، لم يظهر الخلاف بينهم في عدّ مثل ألفاظ (الغلو، أهل الارتفاع، الطيّارة، ونحوها) من ألفاظ القدح والجرح اذا كانت مطلقة. ولكنّ البعض منهم من المتأخّرين كالوحيد ومن تابعه كالمحقق المامقاني، والسيد بحر العلوم، والشيخ الخاقاني، والمحدّث النوري وغيرهم (قدس سرهم) استشكلوا وتأمّلوا بالجرح بتلك الألفاظ لا من جهة دلالتها - كما مرّ وكما سيأتي-، بل من جهة كونها من خصوص القدماء كالقمّيين وابن الغضائري، بدعوى تسرّعهم بالطعن. أو أنّ رواية المعجزات وخوارق العادات والإغراق في شأنهم وتعظيمهم وتنزيههم (علیهم السلام) لم تصل إليها عقولهم، فهم قاصرون عن إدراك مكنون المقامات العالية للأئمة (علیهم السلام) فلا بد من الترّوي والتأمّل بجرحهم..

ولكن هذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه: لأنّ ما نقله المولى الوحيد (قدس سره) عن بعض الأصحاب (رحمة الله) من أنّ القدماء لاسيّما القمّيين منهم اعتقدوا منزلة خاصّة من الرفعة هو اشتباه وخلط بالمراد من الغلو والغالي في اصطلاحهم (رحمهم الله)-كما مرّ بيانﻫ، وإلّا فالزيارة الجامعة الكبيرة التي فيها جميع مقامات الأئمّة وصفاتهم وكمالاتهم لم يروها أحد إلّا القمّيون، والشيخ رواها عن الصدوق (رحمهما الله)، والصدوق رواها معتقداً بجميع فصولها ودلالاتها في الفقيه، وقال في أوله: (لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به، وأحكم بصحّته، وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربي..)(1)، هذا أولاً.

ص: 191


1- الفقيه: ج1، ص3.

وثانياً - بما ذكره الشيخ مهدي الكجوري الشيرازي (قدس سره) -: (من أنّ نسبة الغلو وسائر الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة ممّا لا يصحّ صدورها من مسلم إلّا بعد الثبوت، ولا يكتفى فيها بمجرّد وجدان الرواية الظاهرة منهم ونحو ذلك، فضلاً عن مثل هؤلاء الصلحاء والعلماء الآخذين أصولهم وفروعهم من آثار الأئمّة (علیهم السلام) مع كونهم محتاطين متورّعين غاية الورع، والورع الحقيقي كما يمنع المتّصف به عن أخذ ما لا يتيّقنه كذا يمنعه عن نسبة ما لا يتيّقنها. وبالجملة: لعلّ ذلك ممّا لا تأمّل فيه.

نعم، لو قالوا: (فلان غالٍ لنفي السهو) أو لنحوه، لم يكن بهذا القدح عبرة عند من ليس هذا بغلو عنده. وأمّا عند الإطلاق كقولهم: (غالٍ)، أو (فاسد المذهب) أو نحو ذلك، فلا وجه للتوهين بمجرّد هذه الاحتمالات الموجبة لرفع الوثوق من توثيقهم أيضاً؛ فتدبر.

وبما ذكرنا يظهر ما في مقالته -أي الوحيد (قدس سره) (1)- أخيراً من أنّ أحمد بن محمد بن عيسى وابن الغضائري ربّما ينسبان الراوي إلى الكذب، ووضع الحديث أيضاً بعد ما نسباه إلى الغلو، وكأنّه لروايته ما يدلّ عليه، ولا يخفى ما فيه، وربّما كان غيرهما أيضاً كذلك)(2).

وأمّا الرمي بالتفويض فقد استشكل المحقّق البهبهاني (قدس سره) -أيضاً- بدلالته على القدح، قائلاً: (وبعد الإحاطة بما ذكر.. يظهر أنّ القدح بمجرّد رميهم إلى التفويض أيضا لعلّه لا يخلو عن إشكال)(3).

ص: 192


1- لاحظ: ص13.
2- الفوائد الرجالية، الشيخ مهدي الكجوري الشيرازي: ص119.
3- فوائد الوحيد البهبهاني: ص 40 .

وأجاب الشيخ الكجوري الشيرازي (قدس سره) -أيضاً-: بأنّ (المعنى المنساق إلى الأذهان من لفظ التفويض هو المعنى الأول والثاني، وإطلاقه على ما عداهما نادر إلّا على ما يقوله المعتزلة من أنّ العباد مستقلّون في أفعالهم، فيقال لهم لذلك: المفوّضة في مقابل الجبريّة. ويظهر ذلك من جملة من الأخبار المطلقة الدالّة على أنّ لا جبر ولا تفويض، فإذن الظاهر من اللفظ الذم بأيّ من المعنيين كان، فذلك الإشكال لا يخلو عن الإشكال. ولو بنينا على رفع اليد من الظواهر باحتمال أنْ يكون المراد من اللفظ بعض المعاني المحتملة المرجوحة، لارتفع الأمان)(1).

فالنتيجة في المقام كما نبّه عليها السيد علي البروجردي (قدس سره) هي: (إذا كان بعض الأصحاب من الرواة وغيرهم على طريقة المعتزلة في هذه المسألة الكلامية فهو حينئذ من المفوضة، ويكون مذموماً مردود القول في الشهادة والرواية. وبالجملة: الإطلاق ينصرف إلى ما هو الشايع من الإطلاقات، وهو هذا المعنى ولو بملاحظة غلبة استعماله في كلام أئمة الفن، فلا يبقى إشكال في ردّ قول من يصفونه به من الرجال، فتدبر)(2).

ص: 193


1- الفوائد الرجالية، الشيح مهدي الكجوري الشيرازي: ص 124.
2- طرائف المقال، السيد علي البروجردي: ج 2 ، ص 358.

الفصل الثالث: في بعض الوجوه التي استند إليها في توثيق المتهمين بالغلو ومناقشتها

استدل بعض العلماء على توثيق بعض الرواة المعروفين المتهمين بالغلوّ بعدّة من الوجوه، اخترنا منها الأهم مع مناقشتها:

-- الوجه الأول: كون الراوي من مشايخ الإجازة مشعراً بوثاقته.

قال السيد بحر العلوم: (ثمّ اعلم، إنّ الرواية من جهته -أي سهل بن زياد- صحيحة وإنّ قلنا بأنّه ليس بثقة لكونه من مشايخ الإجازة، لوقوعه في طبقتهم، فلا يقدح في صحّة السند كغيره من المشايخ الذين لم يوثّقوا في كتب الرجال، وتُعدّ أخبارهم -مع ذلك- صحيحة مثل محمد بن إسماعيل البندقي، وأحمد بن محمد بن يحيى العطار، وأحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، وأحمد بن عبد الواحد، وابن أبي جيد، والحسين بن الحسن بن أبان، وأضرابهم لسهولة الخطب في أمر المشايخ، فإنّهم إنّما يذكرون في السند لمجرّد الاتصال والتبرك، وإلّا فالرواية من الكتب والأصول المعلومة - حيث إنّها كانت في زمان المحمدين الثلاثة ظاهرة معروفة- كالكتب الأربعة في زماننا، وذكرهم المشايخ في أوائل السند كذكر المتأخرين الطريق إليهم مع تواتر الكتب، وظهور انتسابها إلى مؤلفيها. وينبه على ذلك: طريقة الشيخ (قدس سره) فإنّه ربّما يذكر تمام السند كما هو عادة القدماء، وربّما يسقط المشايخ ويقتصر على إيراد الروايات، وليس ذلك إلّا لعدم اختلاف حال السند بذكر المشايخ وإهمالهم. وقد صرّح الشيخ في (مشيخة التهذيب، والاستبصار) باستخراج ما أورده فيهما من الأخبار من أصول الأصحاب وكتبهم، وإنّ وضع المشيخة لبيان طرقه إلى أصحاب تلك الكتب

ص: 194

والأصول وإنْ لم يكونوا وسائط في النقل، والظاهر أنّ ما اشتمل على ذكر المشايخ من الروايات كغيره ممّا ترك فيه ذلك، وأنّه لا حاجة إلى توسطهم في النوعين معاً)(1).

وهذا الوجه ضعيف صغرى وكبرى.. أمّا كبرى فبما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) في مقدّمة المعجم:

(والصحيح: أنّ شيخوخة الإجازة لا تكشف عن وثاقة الشيخ كما لا تكشف عن حسنه.

بيان ذلك: إنّ الراوي قد يروي رواية عن أحد بسماعه الرواية منه، وقد يرويها عنه بقراءتها عليه، وقد يرويها عنه لوجودها في كتاب قد أجازه شيخه أنْ يروي ذلك الكتاب عنه من دون سماع ولا قراءة، فالراوي يروي تلك الرواية عن شيخه، فيقول: حدّثني فلان، فيذكر الرواية. ففائدة الإجازة هي صحّة الحكاية عن الشيخ وصدقها، فلو قلنا: بأنّ رواية الثقة عن شخص كاشفة عن وثاقته أو حسنه فهو، وإلّا فلا تثبت وثاقة الشيخ بمجرّد الاستجازة والإجازة)(2).

وأيضاً بما ذكره (قدس سره) في ترجمة علي بن محمد بن الزبير القرشي: (أنّه لم يقم دليل على وثاقة كلّ من يكون شيخ إجازة، إذ لا فرق بين أنْ يروي أحد عن آخر رواية أو روايتين وبين أنْ يروي عنه أصلا من الأصول أو كتابا من الكتب)(3).

وأما صغرى.. فيمكن مناقشته بما أفاده السيد الأستاذ (دام عزه) :

(أولاً: فلأنّه إنْ تمّ فإنّما يتمّ بالنسبة إلى من لم يكن بنفسه صاحب كتاب -كأحمد بن

ص: 195


1- الفوائد الرجالية : ج3، ص25.
2- معجم رجال الحديث : ج1 ، ص72-73.
3- معجم رجال الحديث : ج13، ص150.

محمد بن الحسن بن الوليد- فيقال: إنّ دور مثله في نقل الأحاديث لا يكون إلّا شرفياً بحتاً، وهو إجازة كتب الآخرين. وأمّا إذا كان الشيخ الواقع في السند صاحب كتاب يحتمل أنْ يكون الحديث مأخوذاً من كتابه، فلا سبيل إلى البناء على كونه شيخ إجازة حتى يُستغنى عن إثبات وثاقته.

وسهل بن زياد كان كذلك، حيث ذُكر له بعض الكتب، ككتاب التوحيد، وكتاب النوادر -وهذا الأخير رواه النجاشي بإسناده عن محمد بن يعقوب عنﻫ فاحتمال كون الروايات التي وقع في طريقها في الكافي مأخوذة من كتبه -ولو في الجملة- احتمال قائم لا سبيل إلى دفعه، ولا يصحّ أنْ يقاس الكليني بالشيخ الذي صرّح بأنّه إنّما يبتدئ باسم من أخذ الحديث من أصله وكتابه.

وثانياً: إنّه لو سلّم أنّ مصدر الكليني في الأحاديث التي رواها عن طريق سهل لم يكن كتبه، بل بعض الكتب والأصول الأخرى التي أجاز له روايتها. ولكن لا دليل على أنّ تلك الكتب والأصول جميعاً كانت مشهورة متداولة بكثرة في عصر الكليني (قدس سره) بحيث كان احتمال الدسّ والتزوير فيها ضعيفاً جداً، فإنّ من الواضح أنّه لا يكفي -في الاعتماد على النسخة المروية عن طريق من لم تثبت وثاقتﻫ كون أصل الكتاب معروفاً ومعلوم الانتساب إلى صاحبه، بل لا بد أنّ تكون نسخه معروفة متداولة في ذلك العصر بحيث يُطمئن بعدم الدسّ والتزوير ونحوهما في تلك النسخة، فإنّه متى ما كان الكتاب كثير النسخ يضعف احتمال وقوع التغيير والتبديل في نسخته الواصلة إلى الشخص عن طريق من لم تثبت وثاقته.

ولم يعلم أن جميع الكتب التي اعتمدها أصحاب الجوامع في تآليفهم إنما كانت من هذا القبيل، أي متداولة النسخ بكثرة، بل المظنون -بمقتضى القرائن والشواهد-

ص: 196

خلاف ذلك. وليس مقصود الصدوق (قدس سره) بقوله في مقدمة الفقيه من أنّ: (جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوّل وإليها المرجع). أنّ جميع تلك الكتب كانت متداولة النسخ بحدّ يستغنى معه عن الطرق إلى نُسخها، بل مقصوده أنّها كانت كتباً مشتهرة بين الأصحاب من حيث الاعتماد عليها والأخذ بما ورد فيها. ولا ينافي ذلك لزوم التأكد من صحّة نسخها من خلال طرق صحيحة أو بعض الشواهد والقرائن.

والحاصل: أنّ محاولة تصحيح روايات سهل بن زياد في الكافي بصورة عامة من حيث كونه من مشايخ الإجازة غير تامّة)(1).

-- الوجه الثاني: ذكره المحدّث النوري (قدس سره) في توثيق نصر بن الصباح بأنّ رواية الأجلاء والثقات عن أحدهم تنافي انحرافه.

قال (قدس سره) : (وأعلم أنّ تصريحه (رحمة الله) -أي الكشي- بغلوّ (نصر) هنا وفي ترجمة مفضل بن عمر وجابر بن يزيد الجعفي ينافي ما هو المعروف من طريقة المشايخ وديدن الأجلاء، بل جُلّ المحدّثين من الفرقة الناجية، من هجرهم الغلاة الذين هم قسم من الكفرة الطغاة، وتركهم الرواية عنهم، وما ورد عن الصادقين (علیهم السلام) من الأمر بذلك وبترك المخالطة معهم والمراودة إليهم وأخذ الحديث عنهم، مع أنّه قد أكثر في كتابه هذا من الرواية عنه في أكثر التراجم، ويظهر منه في ترجمة (محمد بن سنان) أنّ رواية الثقات عن أحد تنافي انحرافه وضعفه، وقد أكثر عنه العياشي أيضاً، وهما من وجوه المشايخ الجلة وسناد أصحاب الرواية وعمادهم في المذهب والملة)(2).

وفيه: أنّ رواية أجلاء الطائفة عمّن هو ضعيف، أو عمّن هو معروف بالكذب

ص: 197


1- بحوث في شرح مناسك الحج : ج6، ص486.
2- نفس الرحمان في فضائل سلمان ، المحدّث النّوري : ص 124.

ليست بعزيزة، فقد ذكر الكشي جمعاً غير قليل من أجلاء الطائفة ممّن روى عن محمد بن سنان، كيونس بن عبد الرحمن، والحسن بن علي بن فضّال، وأحمد بن محمد بن عيسى، وأيوب بن نوح، والحسن والحسين ابني سعيد، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب، ومحمد بن عبد الجبار، والفضل بن شاذان، وإبراهيم بن هاشم، والحسن بن علي الوشا، وعلي بن الحكم، وابن أبي نجران، وعمرو بن عثمان. ومع ذلك فهي لاتفيد التوثيق كما أفاد السيد الخوئي (قدس سره) : (من أنّ رواية الأجلّة عن أحد لا تكشف عن حسنه ، فضلاً عن وثاقته)(1).

-- الوجه الثالث وهو – أيضاً -

للمحدّث النوري (قدس سره) : (أنْ يكون المراد من الغلوّ هو الغلوّ بالمعنى الذي لا يوجب الكفر وردّ الرواية، فإنّ له مراتب ودرجات يرمي قائل كلّ واحد منها إلى الغلو، أعلاها نفي سمات الحدوث عن الأئمة (علیهم السلام) ، والقول بإلوهيتهم وقِدَمهم ونفى إله معبود لهم، وأدناها ما أشار إليه الصدوق في عقائده من: أنّ علامة الغلو أنْ ينسب مشايخ القمّيين وعلماؤهم إلى التقصير)(2).

وقريب منه ما أفاده العلّامة المامقاني (قدس سره) :(بأنّ الجرح إنْ كان عائداً إلى الغلو، فلا يكاد يخفى على النيقد البصير تقدّم الأخبار فيه على جرح علماء الرجال؛ لأنّ الغالب قوّة الظّن الحاصل منها على الظّن الحاصل من رميهم بالغلو، لوضوح أنّ القدماء كانوا يعدّون غلوّاً وارتفاعاً جملة ممّا نعدّه اليوم من ضروريات مذهب الشيعة في حقق أئمتهم (علیهم السلام) )(3).

ص: 198


1- معجم رجال الحديث : ج16 ، ص59.
2- نفس الرحمان في فضائل سلمان ، المحدّث النّوري : ص 124.
3- الفوائد الرجالية من تنقيح المقال في علم الرجال :ج2، ص377.

وفيه: أنّه مبني على الخلط بالمفهوم المراد من الغلو والغالي في اصطلاح القمّيين -كما مرّ بيانﻫ وإلّا فالزيارة الجامعة الكبيرة التي فيها جميع مقامات الأئمة وصفاتهم وكمالاتهم لم يروها أحد إلّا القميون، والشيخ رواها عن الصدوق (رحمهما الله) والصدوق رواها معتقداً بجميع فصولها ودلالاتها في الفقيه، وقال في أوله: (لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به، وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربي..)(1).

-- الوجه الرابع : ما ذكره الوحيد البهبهاني (قدس سره) : (في أنّ الغلاة حالهم حال الفطحيّة والواقفيّة وأمثالهما بالنسبة إلى الأدلّة والكفر ملّة واحدة إلّا توهّم اشتراط الإسلام في الراوي، وفى عدم ثبوت إجماع حجّة على ذلك، بل وعدم ظهوره سيّما بالنسبة إلى مثل الغلوّ، بل لا يخفى على المتتبع في الرجال وكتب الأخبار أنّ مشايخنا القدماء ورواتهم كانوا يعتمدون على المعتمدين من الغلاة بالنسبة إلى الرجال والأخبار فلاحظ)(2).

وعقّب الشيخ الخاقاني (قدس سره) على كلام الوحيد (قدس سره) بما حاصله: (نعم، الفاسق لا بدّ في قبول خبره من التبيّن الظّني الاطمئناني بحيث يطمئن به العقلاء ولا يرتابون في العمل به والتعويل عليه وانْ لم يحصل إلى حد القطع، بل كان احتمال الكذب ضعيفاً جداً لا يلتفت إليه وهذا هو الضابط فلا بدّ من مراعاته، والله أعلم.. -إلى أنْ قال-: على أنّ الفاسق الذي لا يحصل الظّن من خبره هو الذي لا يبالي في الكذب. أمّا المتحرّز عنه مطلقاً أو في الروايات فمنع حصوله منه مكابرة سيّما الفاسق بالقلب لا الجوارح. وكلما زاد الفاسق تحرّزاً عن الكذب وتحاشياً عنه زاد الوثوق بخبره والاطمئنان بقوله،

ص: 199


1- الفقيه : ج1، ص3.
2- تعليقة على منهج المقال للوحيد : ص 109.

ومن هذا الباب أخبار الموثَّقين وأعاظمهم كعبد الله بن بكير وأمثاله الذين بلغوا في الاعتماد والقبول مراتب عالية. ولذا ادّعى الكشي إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة منهم عبد الله بن بكير)(1).

ويمكن مناقشته بما ذكره السيد الأستاذ (دام عزه) في بحث درسه:

ب-(أنّ الغلو لا ينفكّ عادة عن الكذب، فإنّه مضافاً إلى أنّ الغالي بالمعنى المتقدّم يبيح المحرّمات، ومن أهونها الكذب، فالغلاة لايمكنهم الاستغناء عن الكذب في تثبيت مذهبهم وترويجه. وهذا واضح لمن تتبع أحوالهم في كتب الرجال، فهم يكذبون وينسبون الى الأئمة (علیه السلام) الأعاجيب حتى يتمكّنوا من تثبيت مذهبهم. فيكاد يكون الجمع بين كون الرجل غالياً وثقة جمعاً بين متنافيين)(2).

ويظهر من كلامه (دام عزه) : أنّ فسق الغلاة ليس مقتصراً على فسقهم القلبي، بل يتعدّاه إلى فسقهم بالجوارح، فقياسهم بأخبار الموثَّقين لا يمكن المساعدة عليه.

وكيف ما كان - حتى لو سلّمنا ذلك - فإنّه لا دلالة بما ذكر على وثاقتهم.

-- الوجه الخامس: عدم الاعتماد على تضعيفات ابن الغضائري لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه.

قال ابن الغضائري (قدس سره) : (خلف بن حمّاد بن ناشر بن الليث الأسدي كوفي أمره مختلط، نعرف حديثه تارة وننكره أخرى ويجوز أنْ يخرّج شاهداً)(3).

وقال السيد الخوئي (قدس سره) : (الظاهر وثاقة الرجل، فإنّ تضعيف ابن الغضائري لم

ص: 200


1- رجال الخاقاني : 275.
2- (محاضرات مخطوطة) بتصرف، لأستاذنا السيد محمد رضا السيستاني, في حال محمد بن سنان .
3- رجال ابن الغضائري : ص56.

يثبت، فإنّ كون الحديث معروفاً تارة ومنكراً أخرى أمرٌ، ووثاقة الرجل أو ضعفه أمر آخر، على أنّا قد ذكرنا أنّه لم يثبت استناد الكتاب إلى ابن الغضائري، فلا معارض لتوثيق النجاشي)(1).

أقول - قبل مناقشة هذا الوجه -: اختلف الرجاليون حول الكتاب اختلافاً عميقا، فمن ذاهب إلى أنّه مختلق لبعض معاندي الشيعة أراد به الوقيعة فيهم. إلى قائل بثبوت الكتاب ثبوتاً قطعياً، وأنّه حجّة ما لم يعارض توثيق الشيخ والنجاشي. إلى ثالث بأنّ الكتاب له، وأنّه نقّاد هذا العلم، ولا يقدّم توثيق الشيخ والنجاشي عليه. إلى رابع بأنّ الكتاب له، غير أنّ جرحه وتضعيفه غير معتبر، لأنّه لم يكن في الجرح والتضعيف مستنداً إلى الشهادة ولا إلى القرائن المفيدة للاطمئنان، بل إلى اجتهاده في متن الحديث، فلو كان الحديث مشتملا على الغلوّ والارتفاع في حق الأئمة حسب نظره، وصف الراوي بالوضع وضعّفه.

ولأجل أهميّة الكتاب من الناحية العلميّة والعمليّة من خلال انعكاسه على التراث الروائي لأهل البيت (علیهم السلام) .. فقد ارتأيت تسليط بعض الضوء على الخلاف الواقع بين المؤيّدين لصحّة انتساب الكتاب لابن الغضائري، وبين النافين لها.. فينبغي أولاً التعرّض لأدلّة النافين لصحّة انتساب الكتاب. ومن ثمّ بيان أدلّة المثبتين من خلال مناقشتهم لأدلّة النافين.

وكان على رأس النافين -من المعاصرين- الحجّة الثبت الإمام الشيخ آقا بزرك الطهراني في كتابه القيّم (الذريعة)، وأستاذ الفقهاء والمجتهدين السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سرهما).

ص: 201


1- معجم رجال الحديث: ج8، ص70.

فقد ذكر السيد الخوئي (قدس سره) في مقدمة المعجم عدّة أمور تمثّل الأساس لدعوى عدم ثبوت نسخة الكتاب بطرق مقبولة:

منها: (عدم تعرّض العلّامة له في إجازاته وذكر طرقه إلى الكتب، بل إنّ وجود هذا الكتاب في زمان النجاشي والشيخ أيضاً مشكوك فيه، فإنّ النجاشي لم يتعرّض له مع أنّه بصدد بيان الكتب التي صنّفها الإمامية، حتى أنّه يذكر ما لم يره من الكتب وإنّما سمعه من غيره أو رآه في كتابه. فكيف لا يذكر كتاب شيخه الحسين بن عبيد الله أو ابنه أحمد..).

وأضاف (قدس سره) : (وممّا يؤكّد عدم صحّة نسبة هذا الكتاب إلى ابن الغضائري أنّ النجاشي ذكر في ترجمة الخيبري عن ابن الغضائري أنّه ضعيف في مذهبه. ولكن في الكتاب المنسوب إليه أنّه ضعيف الحديث غالي المذهب. فلو صحّ هذا الكتاب لذكر النجاشي ما هو الموجود أيضاً، بل إنّ الاختلاف في النقل عن هذا الكتاب كما في ترجمة صالح بن عقبة بن قيس وغيرها يؤيّد عدم ثبوته، بل توجد في عدة موارد ترجمة شخص في نسخة ولا توجد في نسخة أخرى، إلى غير ذلك من المؤيّدات. والعمدة هو قصور المقتضي وعدم ثبوت هذا الكتاب في نفسه)(1).

ويمكن مناقشة ما أفاده (قدس سره) بما اقتبسناه من كلام السيد الأستاذ (دام عزه) في هذا المقام

-- من صحّة انتساب كتاب الضعفاء لابن الغضائري - باختصار وتصرّف..

قال السيد الأستاذ (دام عزه) : (فلم أجد في من تقدّم على صاحب الذريعة (قدس سره) من ناقش أو شكك في صحّة انتساب كتاب الضعفاء إلى ابن الغضائري -وإنْ ناقش بعضهم في

ص: 202


1- معجم رجال الحديث : ج1 ص95-96.

حجّية تضعيفاته كما سيأتي- بدءاً من السيد جمال الدين أحمد بن طاووس (ت 664) الذي هو أول من نقل عن هذا الكتاب فيما بأيدينا من المصادر، مروراً بتلامذته الأجلّاء الفاضل الآبي (ت بعد 674)، وتقي الدين بن داود (ت 707)، والعلّامة الحلي (ت 726)، ثمّ الشهيد الأول (ت 786)، والشهيد الثاني (ت 966)، والشيخ الحسين بن عبد الصمد العاملي (ت 984)، والمحقق الأردبيلي (ت 993)، وصاحب المدارك (ت 1009)، وصاحب المعالم (ت 1011)، والشيخ عبد النبي الجزائري (ت 1021)، والملا عبد الله التستري (ت 1021)، والميرزا محمد الاسترابادي (ت 1028)، والشيخ البهائي (ت 1030)، والمحقق الشيخ محمد حفيد الشهيد الثاني (ت 1030)، والسيد المحقق الداماد (ت 1041)، والسيد مصطفى التفريشي (ت بعد 1044)، والمولى عناية الله القهبائي (ت ق 11)، والمجلسي الأول (ت 1071)، والمحقق السبزواري (ت 1090)، والمولى محمد اللاهجي (ت بعد 1097)، والعلّامة المجلسي الثاني (ت 1111)، والشيخ سليمان الماحوزي (ت 1121)، والمولى محمد الأردبيلي (ت ق 12)، والمولى محمد إسماعيل الخواجوئي (ت 1173)، إلى المحقّق البهبهاني (ت 1206)، والسيد بحر العلوم (ت 1212)، وأبي علي الحائري (ت 1216)، والسيد محسن الكاظمي (ت 1227)، والشيخ عبد النبي الكاظمي (ت 1256)، والسيد محمد باقر الشفتي (ت 1260)، والملا علي الكنّي (ت 1306)، والمحدث النوري (ت 1320)، والشيخ عبد الله المامقاني (ت 1351)، وأبي الهدى الكلباسي (ت 1356)، وغيرهم من أعلام الفن (قدس سرهم) جميعاً.

وأوّل من فتح باب المناقشة في ثبوت كتاب الضعفاء عن ابن الغضائري -فيما أعلم- هو صاحب الذريعة، ووافقه في ذلك السيد الأستاذ (قدس سرهما).

ص: 203

وأمّا ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أنّ وجود هذا الكتاب في زمان النجاشي والشيخ مشكوك فيه، فإنّ النجاشي لم يتعرض له.. فيلاحظ عليه بأنّه ليس من دأب النجاشي أنْ يترجم لزملائه وأقرانه -إلّا القليل منهم- ليقال إنّ عدم تعرّضه لكتاب ابن الغضائري دليل على عدم ثبوته عنه، ولذلك لم يذكر الكتابين اللذين ألّفهما ابن الغضائري في فهرست الأصول والمصنّفات، مع أنّ الشيخ (قدس سره) تعرّض لهما في مقدّمة الفهرست، وأيضاً لم يذكر له كتاب التاريخ مع نقله عنه في ترجمة البرقي.

وأمّا ما ذكره أعلى الله مقامه مؤكداً لعدم صحّة النسبة من أنّ النجاشي ذكر في ترجمة الخيبري.. إلخ فمحلّ نظر؛ إذ يجوز أنْ يكون مستند النجاشي فيما حكاه عن ابن الغضائري بعض كتبه الأخرى ككتاب تاريخه، أو فهرسته لأسامي المصنّفات والأصول، أو أنّه سمعه منه شفاهاً، أو يكون في نسختنا من كتاب النجاشي تحريف ويكون الصحيح هكذا (ضعيف في مذهبه) كما سيأتي الإيعاز إلى ذلك، فكيف يجعل مثل هذا الاختلاف دليلاً على عدم صحّة كتاب الضعفاء؟!

ومن هنا يظهر النظر أيضاً في استشهاد المحقّق التستري على وجود كتاب الضعفاء عند النجاشي بما حكاه عن ابن الغضائري في ترجمة الخيبري بن علي الطحان. وجه النظر أنّ المذكور في كتاب النجاشي لا يطابق بلفظه ما ورد في هذا الكتاب، فكيف يشهد على استناده إليه؟!

وما أبعد كلامه عن كلام السيد الأستاذ (قدس سرهما).

وأما ما أفاده في المعجم من أنّ اختلاف النقل عن هذا الكتاب كما في ترجمة صالح بن عقبة يؤيد عدم ثبوته، ففيه: أنّ ما حكاه في مجمع الرجال عن كتاب الضعفاء المنتزع من حلّ الإشكال مطابق تماماً لما أثبته العلّامة في الخلاصة وإنْ لم ينسبه إليه بالاسم -كما

ص: 204

هو دأبه في كثير من الموارد-. نعم، ما ذكره ابن داود عن ابن الغضائري يزيد على ما أورداه ببعض الألفاظ. ولكنّه لا يضرّ لجواز اعتماده على غير كتاب الضعفاء من مؤلَّفات ابن الغضائري، مضافاً إلى وقوع الخلط والتصحيف في كتاب ابن داود بصورة واسعة، فيحتمل أنْ بعض ما يوجد فيه منسوب إلى ابن الغضائري هو في الأصل من مصدر آخر.

وأمّا ما ذكره (قدس سره) مؤيَّداً لعدم ثبوت الكتاب من اختلاف نسخه بالزيادة والنقيصة، ووجود ترجمة في بعض النسخ وعدم وجودها في البعض الآخر، فهو إنْ صحّ لم يوجب وهناً في اعتباره، فإنّ الاختلاف بالزيادة والنقيصة شيء واقع في كثير من كتب المتقدمين، ومن أمثلته كتاب الفهرست للشيخ، فإنّه قد أرجع إليه في كتاب الرجال في ترجمة الحسين بن علي بن سفيان البزوفري، والحسين بن عبيد الله الغضائري مع أنّه لا ذكر للرجلين في النسخ الموجودة بأيدينا من الفهرست، ويبدو أنّ نسخة ابن حجر كانت مشتملة على ترجمة الغضائري حيث حكى عن الفهرست في ترجمته في لسان الميزان .

ومهما يكن فقد تحصّل من جميع ما تقدّم أنّ الإشكال في نسبة كتاب الضعفاء إلى ابن الغضائري استناداً إلى الوجوه المتقدّمة في غير محلّه.

ثم أنّ السيد الأستاذ (دام عزه) أفاد مجموعة من القرائن يمكن أنْ تورث الاطمئنان بصحة هذه النسخة، وهي:

-- القرينة الأولى: إنّ السيد أحمد بن طاووس -وهو أخو السيد علي ابن طاووس الذي كان صاحب مكتبة كبرى لمؤلفات أصحابنا وغيرهم في أواسط القرن السابع في الحلّة- قد نسب النسخة المذكورة إلى ابن الغضائري بصيغةٍ جزميّة، ثمّ عوّل على ما ورد

ص: 205

فيها في نقد أسانيد الروايات الواردة في كتاب (اختيار معرفة الرجال)، علماً أنّه أحد كبار العلماء والمحقّقين، وكان -كما قال ابن داود- أورع فضلاء زمانه. وقد حقّق في الرجال والرواية ما لا مزيد عليه، فلو لم يكن قد توفّر له من القرائن الواضحة والدلائل الكافية ما يوجب اليقين بصحّة النسخة لما اعتمد عليها، ولا سيّما أنّه لم يكن له طريق إلى مؤلّفها، وليقين مثله شأنٌ معتدّ به في حصول الاطمئنان بصحّة النسخة.

- القرينة الثانية: إنّ هناك مواضع في كتاب النجاشي ربّما يبدو أنّه ينظر فيها إلى كلام ابن الغضائري في كتاب الضعفاء، وقد يعبّر بنفس التعبير الوارد فيه ممّا يؤيد وجود هذا الكتاب لديه(1)..

-- القرينة الثالثة: إنّه قد ورد في كتاب الضعفاء والكتاب الآخر موارد روى فيها المؤلّف عن عدد من الرجال وكما يلي(2)..

ويتبين من هذه الموارد أنّ مؤلّف كتاب الضعفاء كان في طبقة الشيخ والنجاشي مشاركاً لهما في عدد من الشيوخ، وكان له والد عارف بالرجال يناسب أنْ يحكي عنه المطالب الرجاليّة. وهذا كلّه ممّا يقوّي احتمال كونه ابن الغضائري كما لا يخفي.

-- القرينة الرابعة: إنّ النظر في محتويات الكتاب، وملاحظة ما ورد فيه بشأن مختلف الرواة المترجمين يورث الاطمئنان بأنّ مؤلّفه كان خبيراً بأحوال الرجال، بصيراً بما قيل في حقّهم، دقيقاً في تقييمهم، وعلى اطلاع وافٍ برواياتهم وكتبهم، وهذا ممّا يبعّد احتمال أنّ يكون الكتاب موضوعاً -كما ذكره صاحب الذريعة (قدس سره) -. وبملاحظة ما تقدّم من تشخيص طبقة المؤلف يتأكد كون الكتاب لابن الغضائري إذ لا يعرف في طبقته من

ص: 206


1- راجع هذه المواضع في الملحق السابع من وسائل الإنجاب الصناعية: ص608.
2- راجعها في المصدر السابق : ص611.

يشاركه في الصفات المذكورة ممّن يناسب أنْ يكون مؤلف هذا الكتاب فلاحظ)(1).

- الوجه السادس: ما ذكره الشيخ الطوسي (قدس سره) : يؤخذ بما رووه في حال استقامتهم، وترك حال غلّوهم.

قال (قدس سره) في العدّة: (وما يختصّ الغلاة بروايته، فإنْ كانوا ممّن عُرف لهم استقامته وحال غلوّه عُمل بما رووه في حال الاستقامة وترك حال خطأهم ، ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب في حال استقامته ، وتركوا ما رواه في حال تخليطه). وقال الشيخ: (طاهر بن حاتم بن ماهويه كان مستقيماً، ثمّ تغيّر وأظهر القول بالغلوّ، وله روايات، أخبرنا برواياته في حال الاستقامة جماعة، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، عن أبيه ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عنه في حال الاستقامة ). وعدّه في رجاله (تارة) من أصحاب الرضا (علیه السلام) ، قائلا: (طاهر بن حاتم غالٍ، كذّاب، أخو فارس). و(أخرى) في من لم يرو عنهم (علیهم السلام) ، قائلا: (طاهر بن حاتم بن ماهويه روى عنه محمد بن عيسى بن يقطين، غالٍ))(2).

ويردّه ماذكره السيد الخوئي (قدس سره) في ترجمة طاهر بن حاتم - بعد أنْ نقل قول ابن الغضائري(3): (طاهر بن حاتم بن ماهويه القزويني، أخو فارس، كان فاسد المذهب

ص: 207


1- وسائل الإنجاب الصناعية ،الملحق السابع ، السيد محمد رضا السيستاني: ص589.
2- العدّة في أصول الفقه : ج1،ص151.
3- أقول : كيف جاز للسيد الخوئي (قدس سره) الاستشهاد بكلام ابن الغضائري مع أنّه لا يرى ثبوت نسبة كتاب الضعفاء إليه؟.. إلّا أنْ يقال: إنّه (قدس سره) بصدد توجيه ما قيل في حقّ من ترجم له مع غض النظر عن ثبوت نسبة الكتاب وعدمه ، فتدبر .

ضعيفاً، وقد كانت له حال استقامة، كما كانت لأخيه، ولكنّها لا تثمر)-: إنّ رواياته بعد الانحراف لا تقبل، لشهادة الشيخ بأنّه غالٍ كذّاب، وكذا ما تردّد بين حال الاستقامة وحال الانحراف، إنّما الكلام في رواياته حال استقامته، والظاهر أنّها لا تقبل أيضاً، لعدم ثبوت وثاقته. والاستقامة بمجرّدها لا تكفي في حجية الرواية، ولعلّه إلى ذلك أشار ابن الغضائري بقوله: (ولكنّها لا تثمر). وأمّا اعتماد ابن الوليد على رواياته حال استقامته، فهو إنْ صحّ لا يكشف عن الوثاقة)(1).

-- الوجه السابع : كونه ممّن لم يستثنه ابن الوليد من كتاب (نوادر الحكمة).

ذكره السيد الخوئي (قدس سره) (2) نقلاً عن الوحيد (قدس سره) الذي استدل لوثاقة محمد بن أحمد العلوي بأمور منها: إنّ عدم استثناء ابن الوليد رواياته عن روايات محمد بن أحمد بن يحيى تدلّ على توثيق ابن الوليد له، واعتماده على رواياته.

وردّه السيد الخوئي (قدس سره) : (بأنّ اعتماد ابن الوليد أو غيره من الأعلام المتقدّمين فضلا عن المتأخّرين على رواية شخص والحكم بصحتها لا يكشف عن وثاقة الراوي أو حسنه، وذلك لاحتمال أنّ الحاكم بالصحّة يعتمد على أصالة العدالة التي لا نقول بها، ويرى حجيّة كلّ رواية يرويها مؤمن لم يظهر منه فسق، وهذا لا يفيد من يعتبر وثاقة الراوي أو حسنه في حجيّة خبره.

هذا، بالإضافة إلى تصحيح ابن الوليد وأضرابه من القدماء، الذين قد يصرّحون بصحّة رواية ما، أو يعتمدون عليها من دون تعرّض لوثاقة رواتها. وأمّا الصدوق فهو يتبع شيخه في التصحيح وعدمه، كما صرّح هو نفسه بذلك، قال (قدس سره) : (وأمّا خبر صلاة

ص: 208


1- معجم رجال الحديث : ج10 ،ص170.
2- معجم رجال الحديث : ج1 ص70.

يوم غدير خم والثواب المذكور فيه لمن صامه، فإنّ شيخنا محمد بن الحسن كان لا يصحّحه ويقول: إنّه من طريق محمد بن موسى الهمداني، وكان غير ثقة. وكلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ (قدس سره) ولم يحكم بصحّته من الاخبار فهو عندنا متروك غير صحيح)(1).

هذه بعض الوجوه - مع مناقشتها - التي استند إليها بعض الأعلام (قدس سرهم) في توثيق المتهمين بالغلوّ, وهي - كما ترى - أغلبها من التوثيقات العامّة عند الرجاليين التي لم تثبت في نفسها، فضلاً عن أنْ تقاوم نصوص أهل الجرح في الغلاة.

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا البحث، بيد أنّه توجد بعض المتمّمات التطبيقيّة والتكميليّة عزفنا عنها توخيّاً من الإطالة. وقد وقع الفراغ من تحريره في الليلة الأولى من شهر رجب الأصب من عام ألف وأربعمائة واثنتين وثلاثين للهجرة النبوية المباركة، على مهاجرها وآله الأطهار أفضل الصلاة والسلام.. نسأله تبارك وتعالى أنْ يوفّقنا لمرضاته..

وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 209


1- معجم رجال الحديث : ج1 ص70.

نتائج البحث

1- الغلوّ لغةً: مجاوزة الحدّ.

2- إنّ معنى الغلوّ عند العامّة - من خلال أكثر استعمالاتهم للفظ الغلوّ واشتقاقاته - ما يكون وصفاً لصيقاً دائماً للتشيع أو الرفض، فهو يحلّ حيثما حلّ لفظ التشيع أو الرفض، والغرض منه بيان شدة الميل والاعتقاد بالتشيع والرفض. فهم يطلقونه -غالباً- على الشيعة بصورة أشمل وبدائرة أوسع، وسواء أكان المرمي به ثقة أم كان ضعيفاً أم كان من الغلاة. كما أنّهم يطلقونه -غالباً- على كلّ من يروي فضيلة لعلي (علیه السلام) ، أو رذيلة لخصومه وإن لم يكن إمامياً كما مرّت شواهده.

وبعبارة أخرى: إنّ مفهوم الغلو عندهم أعم مطلقا من مفهومه عند علماء الإمامية.

3- إنّ أسباب جرح الجمهور للرواة بالغلوّ في التشيع والرفض، هي:

أ- التعصب والنصب لأهل البيت (علیهم السلام) .

ب- الأهواء والمطامع الدنيويّة.

ت- الخوف من بطش الدولة.

ث- الأغراض السياسية.

4- تنوّعت ادّعاءات الغلاة في حق أهل البيت (علیهم السلام) بين الادّعاء لهم بالربوبيّة، والنبوّة، والعلم بالغيب لهم بنحو الاستقلال من دون إلهام، والقول بالتناسخ والتفويض..

5- إنّ المفهوم المنساق من لفظ الغلوّ والغلاة في كلمات الأئمة (علیهم السلام) من خلال الروايات المتقدّمة هو المفهوم المساوق للقول فيهم ما لا يقولون، ويتجاوز الحدّ فيهم

ص: 210

إلوهيّةً، أو نبوّةً، أو علماً بالغيب، أو تناسخاً، أو تفويضاً، أو غيرها ممّا يوجب ترك الفرائض وفعل الإباحيّات والمحرّمات.

6- الملاحظ من موقف الفقهاء (قدس سرهم) وبمناسبة الحكم -نجاسةً وكفراً- والموضوع: أنّ الغلاة - عندهم - هم من قال في الأئمة (علیهم السلام) ما لا يقولون، ويتجاوز الحدّ فيهم إلوهيّةً، أو نبوّةً، أو علماً بالغيب، أو تناسخاً، أو تفويضاً ممّن علم منهم الإنكار لضروريات الدين، أو انطبق عليهم عنوان الكفر، كما هو الملاحظ في كلماتهم.

7- اختلف الرجاليون في معنى الغلو وتحديد الضابط منه ممّا ألقى هذا الاختلاف بظلاله على جرحهم وتعديلهم. فذهب متأخّرو المتأخّرين كالمجلسيين، والوحيد، ومن تابعه كالمحقّق المامقاني، والسيد بحر العلوم، والشيح علي الخاقاني، والمحقّق الكاظمي وغيرهم (قدس سرهم) ممّن جعلوا متن الوحيد (قدس سره) في التعليقة أصلاً يستشهد به في كتبهم لردّ تضعيفات القميين وابن الغضائري في الرواة، لاسيّما اذا كانت بالغلوّ والتفويض.

8- أشكل المحقّق التستري (قدس سره) على ما ذهبت إليه مدرسة الوحيد البهبهاني (قدس سره) قائلاً: كثيراً ما يردّ المتأخّرون طعن القدماء في رجل بالغلوّ، بأنّهم رموه به لنقله معجزاتهم. وهو ردّ غلط؛ فإنّ كونهم (علیهم السلام) ذوي معجزات من ضروريّات مذهب الإمامية، وهل معجزاتهم وصلت إلينا إلاّ بنقلهم؟ وإنّما مرادهم بالغلو ترك العبادة اعتماداً على ولايتهم (علیهم السلام) .

9- قال المحقّق التستري (قدس سره) : إنّ أكثر القدماء طعناً بالغلوّ ابن الغضائري، وشهّر المتأخّرون: أنّه يتسرّع إلى الجرح، فلا عبرة بطعونه. مع أنّ الذي وجدناه بالسبر في الذين وقفنا على كتبهم ممّن طُعن فيهم -ككتاب استغاثة علي بن احمد الكوفي، وكتاب تفسير محمد بن القاسم الاسترآبادي، وكذلك كتاب الحسن بن عباس بن حريش على

ص: 211

نقل الكافي تسعة من أخباره في شأن إنّا أنزلناﻫ أنّ الأمر كما ذكر، والرجل نقّاد، وقد قوّى ممّن ضعّفه القميّون جمعاً، كأحمد بن الحسين بن سعيد، والحسين بن شاذويه، والزيدين -الزرّاد، والنرسي-، ومحمد بن أورمة، بأنّه رأى كتبهم وأحاديثهم صحيحة.

10- أفاد السيد الأستاذ (دام عزه) -في بحث درسﻫ: عندما يقال فلان غالٍ، يعني أنّه ممّن يترك الواجبات من الصلاة وغيرها من الأعمال ، لأنّ ما يبتني عليه الغلوّ هو الاعتقاد بكفاية معرفة الأئمّة (علیهم السلام) في النجاة يوم القيامة، بل يصل الأمر إلى عدم الحفاظ على عرضه.

11- ما استظهره المحقّق التستري (قدس سره) متين في مقابل ما ذهبت إليه مدرسة الوحيد (قدس سره) ، إلّا أنّه لا يتمّ على إطلاقه؛ لكونه غير جامع لطوائف الغلاة كافة، ولا ينسجم مع ما مرّ من سعة مفهوم الغلوّ وشموليّته المنطبق على طوائف، وأصناف الغلاة كافة المذكورة في الروايات بلا فرق بين من يدعي منهم الإلوهية للأئمّة (علیهم السلام) ، أو النبوة لهم (علیهم السلام) ، أو العلم بالغيب لهم، أو التناسخ، أو التفويض، أو غيرها ممّا يوجب ترك الفرائض وفعل الإباحيّات والمحرّمات اتّكالاً على ولايتهم.

12- إنّه قد ورد في ترجمة جملة من الغلاة أنّ الرجاليين قد استعملوا الغلوّ بغير المفهوم المقيّد بطائفة، أو بصنف خاص من الغلاة كما هو مختار المحقّق التستري (قدس سره) - وهو ترك العبادة اعتماداً على ولايتهم (علیهم السلام) -، بل بالمعنى الشامل الذي صدر عن الأئمة في حقّ الغلاة ممّن ادّعى الإلوهيّة، أو النبوّة لهم (علیهم السلام) ، أو علمهم بالغيب، أو التفويض لهم، أو التناسخ .

ص: 212

13- الأقرب هو ما ذكره الشيخ المفيد (قدس سره) في تحديد مفهوم الغلوّ – اصطلاحاً- عند القدماء: (هو التجاوز عن الحدّ، والخروج عن القصد، والإفراط في حقّ الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) ).

14- ما يوجد في كلمات بعضهم من أنّ الغلوّ هو رواية الأحاديث المتضمّنة لمقامات الأئمة (علیهم السلام) فهو تبسيط للأمور، وتسامح في التعبير، فالممارس الذي يرجع إلى الروايات الواردة بحقّ الغلاة -كما مرّ ذكر بعضها- والى كلمات الأصحاب يفهم أنّ المراد بالغلو هو ما نبّهنا عليه. وأمّا مقامات الأئمّة (علیهم السلام) العالية فهي خارجة تخصّصاً عن دائرة مفهوم الغلوّ؛ لأنّها من ضروريات المذهب كما لا يخفى.

15- المراد من (الطيّارة وأهل الارتفاع ) الغلوّ.

16- المتحصّل من كلامهم وقوع الخلاف في دلالة الضعيف والمخلط على القدح؛ والظاهر أنّ سبب الخلاف يرجع إلى الاختلاف في تفسير معنيهما كما مرّ آنفاً.

17- المتحصّل من كلامهم عدم الخلاف بينهم في عدّ مثل ألفاظ (الغلو، أهل الارتفاع، الطيّارة ونحوها) من ألفاظ القدح اذا كانت مطلقة.

18- بعض المتأخّرين كالوحيد ومن تابعه، كالمحقّق المامقاني، والسيد بحر العلوم، والشيخ الخاقاني، والمحدّث النوري وغيرهم (قدس سرهم) استشكلوا وتأملوا بالجرح بتلك الألفاظ، ولاسيّما إذا كانت من القدماء كالقمّيين وابن الغضائري، بدعوى تسرّعهم بالطعن، أو أنّ رواية المعجزات وخوارق العادات، والإغراق في شأنهم، وتعظيمهم، وتنزيههم (علیهم السلام) لم تصل إليها عقولهم، فهم قاصرون عن إدراك مكنون المقامات العالية للأئمة (علیهم السلام) فلا بدّ من التروي والتأمّل بجرحهم.

19- لو قالوا : (فلان غالٍ لنفي السهو) أو لنحوه، لم يكن بهذا القدح عبرة عند

ص: 213

من ليس هذا بغلوّ عنده. وأمّا عند الإطلاق كقولهم: (غالٍ)، أو (فاسد المذهب)، أو نحو ذلك، فهو قدح.

20- أمّا الرمي بالتفويض فقد استشكل المحقّق البهبهاني (قدس سره) ، قائلاً: (إنّ القدح بمجرّد رميهم إلى التفويض أيضاً لعلّه لا يخلو عن إشكال).

21- إنّ المعنى المنساق إلى الأذهان من لفظ التفويض هو المعنى الأول والثاني، وإطلاقه على ما عداهما نادر إلّا على ما يقوله المعتزلة من أنّ العباد مستقلّون في أفعالهم فيقال لهم لذلك: المفوّضة في مقابل الجبريّة.

22- إذا كان بعض الأصحاب من الرواة وغيرهم على طريقة المعتزلة في هذه المسألة الكلامية، فهو حينئذ من المفوّضة، ويكون مذموماً، مردود القول في الشهادة والرواية .

23- إنّ ما ذُكر من بعض الوجوه التي استند إليها بعض الأعلام (قدس سرهم) في توثيق المتهمين بالغلوّ وهي -كما ترى- أغلبها من التوثيقات العامّة عند الرجاليين التي لم تثبت، فضلاً عن أنْ تقاوم نصوص أهل الجرح في الغلاة.

ص: 214

ملحق و فيه

1 - أسماء المتهمين بالغلو(1) .

2 - أسماء مؤلفي كتب الرّدّ على الغلاة (2).

أسماء الرواة الذين اتهموا بلفظ ( الغلو ) واشتقاقاته:

1- أحكم بن بشار المروزي الكلثومي .

2- أحمد بن الحسين بن سعيد الأهوازي .

3- أحمد بن علي أبو العباس الرازي .

4 - أحمد بن علي بن كلثوم .

5 - أحمد بن محمد السياري .

6 - أحمد بن هلال العبرتائي .

7 - إسحاق بن محمد بن أحمد البصري .

8 - إسماعيل بن مهران بن أبي نصر .

9 - جعفر بن إسماعيل المنقري .

10 - الحسن بن خرزاذ .

11 - الحسن بن شمعون .

ص: 215


1- لاحظ ترجمتهم في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي، عدّة الرجال للمحقّق الكاظمي ج1، رجال النجاشي، الفهرست للشيخ، رجال ابن الغضائري، اختيار معرفة الرجال، الخلاصة للعلّامة، رجال ابن داود، نقد الرجال، التحرير الطّاوسي، قاموس الرجال..
2- لاحظ : نفس المصادر.

12 - الحسن بن عبد الله (عبيد الله ) القمي .

13 - الحسن بن علي بن عثمان سجادة الكوفي .

14 - الحسن بن محمد بن بابا القمّي .

15 - الحسين بن شاذويه .

16 - الحسين بن عبيد الله السعدي .

17 - الحسين بن عبيد الله القمي .

18 - الحسين بن علي الخواتيمي .

19 - الحسين بن يزيد النوفلي .

20 - الحكم بن بشار .

21 - خالد الخواتيمي .

22 - خلف بن محمد بن أبي الحسن الماوردي البصري .

23 - خيبري بن علي الطحّان .

24 - الربيع بن زكريا الورّاق .

25 - سليمان بن عبد الله الديلمي .

26 - سهل بن زياد.

27 - صالح بن سهل الهمداني .

28 - صالح بن عقبة بن قيس .

29 - طاهر بن حاتم بن ماهويه القزويني .

30 - طلحة بن عبد الله .

31 - العباس بن صدقة .

ص: 216

32 - عبد الرحمان بن حماد .

33 - عبد الله بن سبأ .

34 - عبد الله بن القاسم الحارثي .

35 - عبد الله بن القاسم الحضرمي .

36- عبد الله بن عبد الرحمان الأصم .

37 - عروة بن يحيى الدهقان .

38 - علي بن أحمد أبو القاسم .

39 - علي بن حسّان بن كثير الهاشمي .

40 - علي بن حسكة .

41 - علي بن العباس الخراذيني .

42 - علي بن عبد الله بن عمران القرشي .

43 - علي بن يحيى الدهقان .

44 - عمر بن فرات البغدادي .

45 - فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني .

46 - فرات بن الأحنف العبدي .

47 - القاسم بن الحسن بن علي بن يقطين الأسدي .

48 - القاسم بن الربيع الصحاف .

49 - القاسم بن محمد الأصفهاني .

50 - محمد بن أبي زينب (مقلاص) أبو الخطاب الأسدي .

51 - محمد بن أسلم الطبري الجبليّ.

ص: 217

52 - محمد بن أورمة القمي .

53 - محمد بن بحر الرهني .

54 - محمد بن بشير .

55 - محمد بن جمهور العمي .

56 - محمد بن الحسن بن سعيد الكوفي .

57 - محمد بن الحسن بن شمون .

58 - محمد بن الحسن الكرماني .

59 - محمد بن الحسين سعيد الصائع .

60 - محمد بن سليمان الديلمي .

61 - محمد بن سنان ابو جعفر الزاهري .

62 - محمد بن صدقة العنبري .

62 - محمد بن عبد الله بن مهران .

63 - محمد بن علي بن إبراهيم الصيرفي (أبو سمينة) .

64 - محمد بن علي الشلمغاني .

65 - محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني .

66 - محمد بن فرات الجعفي .

67 - محمد بن الفضيل الأزدي .

68 - محمد بن منصور الكوفي .

69 - محمد بن موسى بن عيسى السّمان .

70 - محمد بن موسى السريعي .

ص: 218

71 - محمد بن نصر .

72 - محمد بن نصير النميري .

73 - معلى بن خنيس أبو عبدالله الأسدي الكوفي .

74 - معلى بن راشد البصري .

75 - منخل بن جميل الأسدي .

76 - موسى بن سعدان الحنّاط الكوفي .

77 - مياح المدائني .

78 - نصر بن الصباح .

79 - يونس بن بهمن .

80 - يونس بن ظبيان الكوفي .

81 - أبو العباس الطرناني .

82 - أبو عبد الرحمان (عبد الله ) الكندي .

83 - أبو عبد الله المغازي .

أسماء الرواة الذين اتهموا بلفظ: (أهل الارتفاع، أو الارتفاع بالمذهب، ونحوهما)

1 - إبراهيم بن إسحاق الأحمري النهاوندي .

2 - إبراهيم بن يزيد المكفوف .

3 - ابن أبي الزرقاء.

4 - أبو السمهري .

5 - أحمد بن بشير البرقي .

6 - عبد الله بن خدّاش المهري .

ص: 219

7 - علي بن حمّاد الأزدي .

8 - فارس بن محمد القزويني .

9 - فارس بن حاتم الفهري .

10 - القاسم الشعراني اليقطيني .

11 - المفضّل بن عمر .

12 - موسى بن جعفر الكمنداني .

13 - موسى السوّاق.

أسماء أصحاب الكتب والمسائل في الرّد على الغلاة:

1 - إسحاق بن الحسن بن بكران .

2 - إسماعيل بن علي بن إسحاق .

3 - الحسن بن دندان .

4 - الحسن بن موسى الأصم .

5 - الحسين بن عبيد الله الغضائري .

6 - الفضل بن شاذان .

7 - سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمّي .

8 - علي بن العباس الخراذيني الرازي .

9 - علي بن مهزيار الأهوازي .

10 - محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري .

11 - محمد بن الحسن الصفّار .

12 - محمد بن أورمة القمّي .

ص: 220

13 - محمد بن موسى بن عيسى السّمان .

14 - يونس بن عبد الرحمن الأسدي .

ص: 221

مصادر البحث

1. الاعتقادات في ِدين الإمامية, الشيخ الصدوق (قدس سره) ، الطبعة الثانية (1414ﻫ - 1993م)، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت - لبنان.

2. اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسي (قدس سره) , المطبعة: بعثت - قمّ, الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

3. أحوال الرجال، الجوزجاني.

4. إكليل المنهج في تحقيق المطلب, محمد جعفر بن محمد طاهر الخراساني الكرباسي, الطبعة الأولى 1425ﻫ, دار الحديث للطباعة والنشر.

5. الأوائل, للطبراني, تحقيق: محمد شكور بن محمود الحاجي أمرير, الطبعة الأولى 1403ﻫ، الناشر: مؤسسة الرسالة، دار الفرقان - بيروت.

6. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، للشيخ أسد حيدر، الطبعة الثانية 1425ﻫ، دار الكتاب الإسلامي.

7. الأمالي للشيخ الطوسي (قدس سره) , الطبعة الأولى 1414ﻫ, الناشر: دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع - قم.

8. بحار الأنوار، العلامة المجلسي (قدس سره) , الطبعة الثالثة المصحّحة (1403ﻫ- 1983م) دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.

9. بحوث فقهيّة, السيد محمد رضا السيستاني، الطبعة الأولى 1427ﻫ، دار المؤرخ العربي.

10. بحوث في شرح مناسك الحج للسيد محمد رضا السيستاني, بقلم الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف.

ص: 222

11. بحوث في فقه الرجال, تقرير بحث الفاني (قدس سره) , الطبعة الثانية 1414ﻫ, الناشر: مؤسسة العروة الوثقى.

12. جواهر الكلام، الشيخ الجواهري (قدس سره) , الطبعة الثانية, الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران.

13. تهذيب التهذيب, ابن حجر, الطبعة الأولى 1404ﻫ- 1984م، نشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.

14. تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد (قدس سره) , الطبعة الثانية (1414ﻫ- 1993م) دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.

15. التنقيح في شرح العروة الوثقى, تقريرات بحث السيد الخوئي (قدس سره) , مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) للطباعة والنشر - قمّ.

16. تذكرة الحُفّاظ, للذهبي, نشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.

17. تعليقة على منهج المقال للوحيد البهبهاني (قدس سره) .

18. معجم رجال الحديث, السيد الخوئي (قدس سره) , الطبعة الخامسة (1413ﻫ- 1992م) طبعة منقّحة ومزيدة.

19. رجال ابن الغضائري, أحمد بن الحسين الغضائري (قدس سره) , تحقيق السيد محمد رضا الجلالي , الطبعة الأولى, مطبعة سرور.

20. لسان العرب, ابن منظور, الناشر: نشر أدب الحوزة - قم - ايران.

21. مجمع البحرين, فخر الدين الطريحي, الطبعة الثانية, الناشر: مكتب النشر الثقافة الإسلامية.

22. ميزان الاعتدال للذهبي, تحقيق: علي محمد البجاوي, الطبعة الأولى 1382ﻫ-

ص: 223

1963م, نشر: دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت - لبنان.

23. هدى الساري, لإبن حجر, الطبعة الأولى 1408ﻫ, الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.

24. دراسات في الحديث والمحدِّثين، هاشم معروف الحسني, الطبعة الثانية, مزيدة ومنقّحة, الناشر: دار التعارف للمطبوعات - بيروت - لبنان.

25. معرفة الثقات, للعجيلي, الطبعة الأولى 1405ﻫ, نشر: مكتبة الدار - المدينة المنوّرة.

26. كتاب المجروحين, ابن حبان، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، توزيع: دار الباز للنشر والتوزيع, عباس أحمد الباز, مكة المكرمة.

27. ضعفاء العقيلي, تحقيق: الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي, الطبعة الثانية 1418ﻫ, طبع ونشر: دار الكتب العلمية - بيروت.

28. الجرح والتعديل, للرازي, الطبعة الأولى 1371ﻫ - 1952م, مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية - بحيدر آباد الدكن - الهند, نشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.

29. سِير أعلام النبلاء للذهبي, تحقيق: إشراف وتخريج: شعيب الأرنؤوط, تحقيق: حسين الأسد, الطبعة التاسعة 1413ﻫ - 1993م، نشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان.

30. فلك النجاة في الإمامة والصلاة، لعلي محمد فتح الدين الحنفي, الطبعة الثانية 1418ﻫ, الناشر: مؤسسة دار الاسلام.

ص: 224

31. لسان الميزان ابن حجر, الطبعة الثانية، 1390ﻫ - 1971م, نشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, بيروت – لبنان.

32. الفوائد الرجالية للوحيد البهبهاني.

33. سماء المقال في علم الرجال, أبو هدى الكلباسي, تحقيق: السيد محمد الحسيني القزويني, الطبعة الأولى 1419ﻫ، المطبعة: أمير - قم، نشر: مؤسسة ولّي العصر (علیه السلام) للدراسات الإسلامية - قمّ المشرّفة.

34. قاموس الرجال، الشيخ محمد تقي التستري, الطبعة الاولى 1419ﻫ, قم, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المشرّفة.

35. عدّة الرجال للمحقّق السيد محسن الكاظمي, مطبعة إسماعيليان .

36. نفس الرحمن في فضائل سلمان، المحدّث النوري, الطبعة الأولى, نشر: مؤسسة الآفاق.

37. نهاية الدرايّة، السيد حسن الصدر, اعتماد – قمّ (نشر المشعر).

38. مقباس الهداية، المامقاني.

39. طرائف المقال، السيد علي البروجردي (قدس سره) , تحقيق: السيد مهدي الرجائي, الطبعة: الأولى 1410ﻫ, المطبعة: بهمن - قمّ.

40. الفوائد الرجالية من تنقيح المقال في علم الرجال للمامقاني (قدس سره) , للشيخ عبد الله المامقاني، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث, الطبعة الأولى 1431ﻫ مطبعة ستارة.

41. وسائل الإنجاب الصناعيّة محمد رضا السيستاني، الطبعة الأولى 1425ﻫ، دار المؤرّخ العربي.

42. العدّة في أصول الفقه, الشيح الطوسي (قدس سره) , الطبعة الأولى 1417ﻫ, مطبعة ستارة.

ص: 225

43. الرعاية في علم الدراية, الشهيد الثاني (قدس سره) , الطبعة الثانية (1408ﻫ) بهمن، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي - قمّ المقدسة.

44. وصول الأخيار إلى أصول الأخبار, والد البهائي العاملي، الطبعة الأولى (1401ﻫ) الخيّام، مجمع الذخائر الإسلامية.

45. العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل, السيد محمد بن عقيل الهدف للإعلام والنشر.

46. رجال النجاشي, الشيخ أبو العباس احمد بن علي النجاشي, الطبعة الخامسة, مؤسسة النشر الإسلامي.

47. الفهرست للشيخ الطوسي (قدس سره) , الطبعة الأولى 1417ﻫ, مؤسسة النشر الإسلامي.

48. خلاصة الأقوال في معرفة الرجال, للعلّامة الحلي (قدس سره) ، الطبعة الأولى 1417ﻫ, مؤسسة النشر الاسلامي .

49. رجال ابن داود, ابن داوود الحلّي (قدس سره) , منشورات مطبعة الحيدرية - النجف الأشرف.

50. المعتبر, المحقق الحلي (قدس سره) , الناشر: مؤسسة سيد الشهداء (ع) – قمّ.

51. منتهى المطلب، العلّامة الحلّي, الطبعة: الأولى 1412ﻫ, الناشر: مجمع البحوث الإسلامية - إيران – مشهد.

52. رجال الخاقاني، الشيخ علي الخاقاني, تحقيق: السيد محمد صادق بحر العلوم, الطبعة الثانية 1404ﻫ، المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي، نشر: مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي .

53. نقد الرجال, السيد مصطفى بن الحسين الحسيني التفريشي، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)

ص: 226

لإحياء التراث, الطبعة الأولى 1418ﻫ، المطبعة: ستارة – قمّ.

54. التحرير الطاووسي, الشيخ حسن صاحب المعالم، الطبعة الاولى 1411ﻫ, مطبعة سيد الشهداء.

55. الفوائد الرجالية, السيد بحر العلوم، تحقيق وتعليق: محمد صادق بحر العلوم، حسين بحر العلوم, الطبعة الأولى 1363ﻫ، المطبعة: آفتاب، نشر: مكتبة الصادق – طهران .

56. سبيل الهداية في علم الدراية، المولى علي الخليلي الرازي النجفي، الطبعة الأولى، تحقيق السيد محمود المقدس الغريفي .

57. (محاضرات مخطوطة)، للسيد الأستاذ محمد رضا السيستاني.

58. تعليقة على منهج المقال: ص225.

59. منتهى المقال أبو علي الحائري.

60. توضيح المقال في علم الرجال، الملا علي كنّي, تحقيق: محمد حسين مولوي, الطبعة الأولى 1421ﻫ، المطبعة: سرور, نشر: دار الحديث.

61. الرواشح السماويّة مير داماد محمد باقر الحسيني الاسترآبادي, الطبعة الأولى 1422 الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر.

62. فوائد الوحيد البهبهاني.

63. الفوائد الرجالية، الشيح مهدي الكجوري الشيرازي, تحقيق: محمد كاظم رحمان ستايش، الطبعة الأولى 1424ﻫ، نشر: دار الحديث للطباعة والنشر.

64. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق (قدس سره) , تحقيق: علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المشرفة.

ص: 227

ص: 228

رسالة فی حرمة الغلیان فی شهر رمضان - الشيخ محمد عزالدين الكرباسي و الشيخ حيدر عزالدين الكرباسي

اشارة

أول رسالة صنفت فی مفطریة التتن

من رشحات فخر الفقهاء والمجتهدین الشیخ محمدإبراهیم الکرباسی

(صاحب الإشارات)(1180ه-/1766م-1262ه-/1845م)

تحقيق: الشيخ محمد عزالدين الكرباسي و الشيخ حيدر عزالدين الكرباسي

ص: 229

ص: 230

بسم الله الرحمن الرحیم

مقدمة التحقيق

الحمد لله الذي جعل الدّين منهاجاً للوصول إليه، والصلاة و السلام على من جعله مرشداً ومشيراً لذاته وعلى آله المُنتجبين.

أمّا بعد:

فإنّ الفقه من أشرف العلوم الإنسانيّة، لكونه العلم الوحيد الذي يتكفّل ببيان المنهج والسلوك الذي يستطيع به الإنسان أنْ يصل به إلى ربّه، وهذا المنهج والسلوك يضمّ عدّة مسائل وأحكام تسمّى الشريعة، وبما أنّ الشريعة الإسلاميّة خاتمة الشرائع الإلهية لذلك تحتّم أنّ تتسع قوانينها وأحكامها بمقدار ما تتسع له حدود الزمان والمكان من الوجود البشري، فالشريعة الإسلامية هي الشريعة التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى وكلّفنا بها عن طريق الرسول الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة الأطهار (علیهم السلام) .

وقد قاد سفينة الشريعة بعد غياب الإمام (صلوات الله عليه وعجّل ظهوره) طائفة من العلماء الأعلام الذين نصّبهم الإمام من بعده، واستطاعوا أنْ يستنبطوا الأحكام من أصولها وقواعدها.

ونظراً إلى ما أشرنا إليه من أنّ هذه الشريعة خاتمة الشرائع، ولاستيعابها جميع ما يحتاج إليه البشر من الأحكام الإلهية، فلا بُدّ أنْ تكون جامعة للمتجدّدات، ومعالجة للموضوعات الحديثة، فمن هنا تولّدت عندنا مسائل مستحدثة في كل زمان. وهي إمّا

ص: 231

لم تكن موجودة أو كانت موجودة، ولكنْ طرأت عليها في المرحلة الفعليّة بعض التطورات التي أوجبت أنْ يُنظر إليها.

والرسالة التي بين يدي القارئ العزيز (حرمة الغِليان في شهر رمضان) تعالج مسألة مهمة، جذورها موجودة في زمان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام).

فمصنّفها (قدس سره) بحث المسألة عن طريق السبر والتتبع التاريخي لكلمات الفقهاء، وإقامة الأدلّة على المفطريّة مع نقد وإبطال ما استند إليه القائلون بعدم المفطريّة.

ونظراً لأهميّة المسألة تلك تمَّ تحقيق هذه الرسالة آملين من الله تعالى أنْ يتقبّله منّا، ويجعله ذخراً لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إنّه سميع الدعاء.

وعلى النهج المتعارف في مقدّمات تحقيق المخطوطات جعلنا مقدّمتنا هذه في أربعة فصول, وهي:

الفصل الأول: أبحاث تتعلّق بموضوع الرسالة.

الفصل الثاني: نبذة مختصرة عن حياة المصنّف (قدس سره) .

الفصل الثالث: أبحاث تتعلق بالرسالة.

الفصل الرابع: عملنا في التحقيق والنسخة المعتمدة.

ص: 232

الفصل الأول: أبحاث تتعلق بموضوع الرسالة

اشارة

وفيه مطالب خمسة:

المطلب الأول: في بيان معنى جملة من الكلمات تتعلق بالمقام

1- التبغ: (معرّب) جنس من النباتات الأمريكيّة المهد، مأخوذ من لفظة (تاباغو)، وهو اسم جزيرة في خليج المكسيك وجد فيها ونقل منها.

2- التَّتُن: التبغ، تركية معربة (دوتن)، ومعناها الدخان.

3- التنباك (ويقال له التَّنْبَك أيضاً): نوع من نبات التبغ، يُدخّن ورقه ب-(النارجيلة).

4- النارجيلة: آلة يدخن بها التنباك، يدور الماء في قاعدتها المليئة بالماء، فيخفّف الماء من حدته، ويقال لها أيضاً (الغرشة).

5- الغِليان أو القِليان: هو النارجيلة.

6- الغليون أو القليون: هو الشطب, وقد يُعدّ القِليان والقليون شيئاً واحداً.

7- الشطب: الأخضر الرطب من سعف النّخل، وتتن الشطب: التبغ الرطب. والشطب أيضاً آلة يُحرق فيها التبغ عند شربه، لها أنبوب قصير ورأس مجوف صغير، استعملت في العراق وتركيا، يُقال لها بالفارسية (سبيل).

المطلب الثاني: موقف العلماء من التبغ

اختلف العلماء منذ ظهور التبغ في حرمته وجوازه:

فمنهم من ذهب إلى حرمة شربه، وألّفوا في تحريمه مجموعة من الرسائل.

ص: 233

ومنهم - وهم الأكثر - من جوَّزه، بل كان يشربه بنفسه، بل له مكانة رفيعة عنده.

وحُكي أنّ أحد علماء قزوين حرّر رسالة في حرمة الغليان، وأرسلها إلى المجلسي (قدس سره) ، فأرسل المجلسي له سفرة مملوءة من التنباك؛ لكونه خير عوض للرسالة بنظره(1).

يقول السيد نعمة الله الجزائري (قدس سره) – وكان من المعاصرين لظهورﻫ في هذا الشأن: (...إنّ جماعة من علماء العصر كالمولى علي نقي، وشيخنا الشيخ فخر الدين الطريحي، والشيخ التقي الشيخ علي بن سليمان البحريني، وبعض فضلاء البحرين، وربّما تابعهم بعض المتفقّهين ذهبوا إلى تحريمه، حتى إنّ المولى علي نقي (تغمّده الله برحمته) صنَّف كتاباً كبيراً في تحريمه، والباقي على التحليل)(2).

المطلب الثالث: مَنْ ألّف في مفطريّة التتن

الرسائل المؤلَّفة في التتن صنفان: صنف يتناول حكم التدخين من الحرمة أو الإباحة. وصنف يبحث فيه عن مفطريّة التدخين للصوم، وأنّه هل يلزم بتعمّده القضاء والكفارة أو القضاء فقط أو لا يلزم شيء منهما؟

وسنقتصر على إيراد أسماء ما عثرنا عليه من الصنف الثاني فقط؛ بغية الاختصار

ص: 234


1- نهاية الأصول: 578. ونقل المحدث الجزائري (قدس سره) القضية بصورة أكثر تفصيلاً، قال في الأنوار النعمانيّة: (...ومن لطائف مزاحاته أنّ بعض معاصريه ألّف رسالة في حرمة شرب التنباك، وبعث إليه نسخة منها في خرقة لحفظها، فأخذها وطالعها، ثمّ ردها إليه وحفظ الخرقة وكتب إليه ما معناه: (إنّي ما أخذت من هذه الرسالة شيئاً إلّا هذه الخرقة، فإنّي أخذتها لأجعل فيها التنباك). وكان يعجبه شربه وكذا والده). وفي رياض العلماء: (إنّه كان يشربه في الصوم المستحب).
2- الأنوار النعمانية: 4/54.

ومراعاة لموضوع الرسالة، فنقول:

الرسائل المؤلَّفة في مفطرية التتن وعدمها بحسب ما عثرنا عليه ست: أربع في عدم مفطريّته واثنتان في المفطريّة، وهي:

1- رسالة للشيخ محمد تقي بن محمد رحيم النجفي (صاحب الحاشية) (ت1248 ﻫ)، ردَّ فيها على بعض معاصريه.

وعلى الظاهر إنّ هذه أول رسالة أُلّفت في حكم الغليان عموماً، وفي عدم مفطريّته خصوصاً.

2- كشف الأوهام في حليّة شرب الغليان في شهر رمضان، للشيخ الميرزا محمد تقي ابن الميرزا علي محمد النوري الطبرسي (ت 1263ﻫ)، وهو والد الشيخ النوري صاحب المستدرك، ومن تلامذة المصنّف. فرغ منها سنة 1246ﻫ.

3- رسالة للشيخ محمد إبراهيم بن الشيخ محمد حسن الكرباسي الإصفهاني (صاحب الإشارات) (ت 1261ﻫ). وهي الرسالة التي بين أيدينا.

4- درة الإسلاك في حكم دخان التنباك، وأنّه لا يضرّ بالصوم، للميرزا محمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني الكاظمي (ت 1304ﻫ). فرغ منها سنة 1281 ﻫ.

5- رسالة في إفساد الغليان للصوم، للميرزا أبي المعالي بن محمد إبراهيم الكرباسي الإصفهاني (ت: 1315ﻫ), صاحب البشارات.

6- التدخين والصيام، للسيد محمود ابن السيد كمال الدين المقدَّس الغريفي (معاصر) .

ص: 235

الفصل الثاني: نبذة مختصرة عن حياة المصنّف (قدس سره)

1- اسمه وكنيته

اسمه: محمد إبراهيم.

وكنيته: الكرباسي (بالراء واللام)، واُشتهر أيضاً ب-(صاحب الإشارات).

2- الإطراء عليه

أثنى عليه ومدحه كلّ من ذكره من أصحاب التراجم، والإجازات، وغيرهم بعبارات بليغة فائقة عالية المضامين، تكشف عن بعض ما حواه المترجَّم له من علم وفضل وأخلاق ومزايا، نتطيّب بذكر كلمات اثنين منهم:

1- الشيخ محمد تقي ملا كتاب (قدس سره) (ت 1250 ﻫ) الذي كان زميله في الدراسة، قال فيما قال عند تقريظه كتاباً للمترجم له

(قدس سره) :

(تصنيف مولانا الإمام الأفضل *** الأكمل المعظّم المبجَّل

وواحد الدهرِ فريدِ العصرِ

*** نجمِ الأئمةِ العظيمِ القدرِ ...)

إلى آخر تلك الأبيات الرائعة (1) .

2- السيد محمد باقر الخوانساري (قدس سره) (ت 1313 ﻫ) صاحب الروضات، الذي كان تلميذاً للمصنّف (قدس سره) , قال في كتابه الروضات(2):

(هو في الحقيقة مركز العلوم والحكم والآثار، ومركز دائرة الفضلاء والنبلاء

ص: 236


1- تراجم الرجال: 2/628.
2- روضات الجنات: 1/34.

الأخيار، وقطب الشيعة الذي عليه منها المدار في هذه الأعصار ...).

3- مراحل حياته

ولد المترجَم له في مساء يوم الخميس في 19 من شهر ربيع الآخر من سنة 1180ﻫ, ويمكن أنْ نقسِّم حياة المترجَم له إلى مراحل أربع:

المرحلة الأولى: (ولادته 1180ﻫ - إلى تاريخ عودته من الحج إلى العراق).

درس خلال هذه المرحلة أولاً على والده (قدس سره) ، وبعد وفاته سنة 1190ﻫ انتقل إلى بيت الحكيم البيدآبادي (قدس سره) (ت1197ﻫ) -الذي أوصاه والد المترجَم له بتربيته بعدﻫ، ودرس عنده وعند الشيخ محمد علي بن مظفر الأصفهاني (قدس سره) (ت 1198ﻫ) وغيرهما.

وبعد بلوغه سافر إلى بيت الله الحرام، ثمّ آب عائداً إلى العراق في طريقه إلى إصفهان.

المرحلة الثانية: (بقاؤه في العراق بعد الحجّ - عودته إلى أصفهان).

وبعد أنْ علمَ بنبأ وفاة استاذه ومربيه الحكيم البيدآبادي (قدس سره) عدل عن الرجوع، وقرّر البقاء في العراق لتحصيل العلم عند أساطين الإمامية في ذلك الوقت.

فدرسَ في كربلاء المقدَّسة عند الوحيد البهبهاني (قدس سره) (ت 1205 ﻫ)، وصاحب الرياض

(قدس سره) (ت 1231 ﻫ)،وفي النجف الأشرف عند السيد بحر العلوم (قدس سره) (ت 1212 ﻫ)، والشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) (ت 1227 ﻫ)، وحضر فترة عند المقدّس الكاظمي (قدس سره) (ت 1227 ﻫ) في الكاظمية المقدّسة.

ثمّ هاجر إلى قمّ، فدرس عند المحقّق القمّي (ت 1231 ﻫ)، ومنها إلى كاشان وتتلمذ هناك على يد الشيخ محمد مهدي النراقي (ت 1206 ﻫ)، ثمّ عاد إلى بلده أصفهان.

ص: 237

المرحلة الثالثة: (عودته إلى أصفهان - إلى سنة 1231ﻫ).

واشتغل هناك بالتدريس، والتصنيف، والتأليف، وإقامة الجماعة، والوعظ والإرشاد، وغير ذلك من الأمور المعروفة.

المرحلة الرابعة: (وفاة المحقّق القمي 1231ﻫ - وفاته 1262ﻫ).

تسلَّم خلالها مقاليد الفتيا والزعامة، وجلس على سدّة المرجعية مدة ثلاثين عاماً، وكان رجوع أكثر العباد من جميع البلاد إليه في المبدء والمعاد، وقد انتهت إليه رئاسة المذهب والملة. وقد نهض بأعباء المرجعية مع شدة الاحتياط والورع والتقوى والصلاح.

4- مكانة المترجَم الفقهيّة والأصوليّة

إن سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة - وكصغرى لهذه الكبرى - نراهم يرجعون في التقييم إلى من لهم الخبرة في المقيَّم.

ومن هنا رأينا في بيان مكانة المترجَم الفقهيّة والأصوليّة أنْ نورد جزءاً ممّا قرّظ به الشيخ جعفر (قدس سره) -الشيخ الأكبر- (ت 1227 ﻫ) كتاباً فقهياً للمصنّف, وشيئاً ممّا ذكره المترجم له في خاتمة الإشارات في التحريض والترغيب في الكتاب:

أ- قال الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء (قدس سره) فيما قال مقرّظاً كتاب (شوارع الهداية) للمصنّف (قدس سره) : (...فوجدته تحقيقات تبهر العقول، وتدقيقات لا يأتي بها إلّا من جمع بين المعقول والمنقول، فيا له من كتاب قَصُرتْ عن إدراكه الأفكار، وعجزت عن الإتيان بمثله أرباب البصائر والأنظار)... إلى آخر ما مدحه به (قدس سره) (1).

ص: 238


1- آل الكرباسي: 105.

ب- وقال المترجَم في خاتمة كتابه (الإشارات) عند التحريض والترغيب للكتاب: (...فإنّه كنز أُودع فيه نقود الحقائق، وفرائد درر الدقايق، ومعادن جواهر اللطائف ممّا لا يوجد في غيره من السوالف. كيف وهو بحرٌ بلا ساحل؛ فإنّي قد مخضت لكم فيه من زبد الحق ما لا يتمكن منه إلّا من أيّده الله سبحانه).. إلى آخر ما وصف به كتابه (قدس سره) (1).

5- وفاته ومدفنه

تُوفِّي في الساعة الرابعة من صباح يوم الخميس في 8 جمادى الأولى من سنة 1262ﻫ

ودُفن جثمانه الطاهر ليلة الجمعة في مقبرة اشتراها (قدس سره) في بلده إصفهان قبل سنة من رحيله ولها قصّة مشهورة. وهي الآن مزار مشهور.

ص: 239


1- خاتمة الإشارات.

الفصل الثالث: أبحاث تتعلق بالرسالة

اشارة

وفيه مطالب ثلاثة:

المطلب الأوَّل: هوية الرسالة، وما يتعلّق بتصنيفها

1- مصنّفها

مصنّفها هو الشيخ محمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكرباسي الإصفهاني (صاحب الإشارات) (ت 1262ﻫ).

ويدلّنا على ذلك أمران:

الأوّل: أنَّ الكرباسي (قدس سره) نفسه قد أشار في موضعين من الرسالة إلى ما حرَّره في كتابه (إشارات الأصول):

الموضع الأوَّل: في قوله (قدس سره) : (...لما أمكن هذا القبول منهم عادة وفيه الغُنية كما حقّقناه في الإشارات).

الموضع الثاني: في قوله (قدس سره) : (فما ذكرناه في الإشارات يحصل...).

والثاني: تصريح جملة ممّن تَرْجَم له أو تعرَّض لمصنفاته بأنَّ له رسالة في مفطرية التتن. نكتفي بأقوال أربعة منهم:

1- تلميذه صاحب الروضات (قدس سره) ، قال في ترجمته من كتابه القيّم (روضات الجنات) – وكان قد كتبه في حياته الشريفة - : (ثم إنّ لهذا الشيخ الجليل من المصنّفات)... إلى أنْ قال: (ورسالة في تفطير التتن للصيام) (1).

ص: 240


1- روضات الجنات: 1/ 34.

2- السيد محسن الأمين العاملي (قدس سره) ، قال في كتابه أعيان الشيعة: (مؤلّفاته)... إلى أنْ قال: (ورسالة في تفطير دخان التتن للصائم) (1).

3- الشيخ أغا بزرك الطهراني (قدس سره) (ت1389 ﻫ)، قال في كتابه الذريعة: (رسالة في تفطير شرب التتن للصيام للحاج محمّد إبراهيم ابن الحاج محمّد حسن الكلباسي الأصفهاني المتوفّى (1262ﻫ)... ذكرها حفيده في البدر التمام وصاحب الروضات)(2).

وقال في موضع آخر منها: (وكتب في تفطيره للصيام جماعة منهم الحاج محمد إبراهيم الكرباسي)(3).

و قال في الكرام البررة: (وله تصانيف نافعة هامّة في الفقه والأصول منها ... ورسالة في تفطير شرب التتن...).

4- الشيخ محمّد الكرباسي (قدس سره) ، قال في (خاندان كلباسي) في مؤلفات ومصنّفات حاجي كلباسي (رسالة ايست در حرمت كشيدن قليان در ايام ماه مبارك رمضان)(4).

2- سبب التأليف

نعتقد أنّ أهم أسباب تأليف الرسالة أربعة:

الأوَّل: وجود غير واحد من العلماء ممن يرى عدم مفطرية التتن في إصفهان بالخصوص مضافاً إلى بعض ممَّن في النجف الأشرف وكربلاء المقدَّسة.

الثاني: إنّ هذه المسألة من المسائل الّتي لم تبحث عند المتقدّمين، فهي من المسائل

ص: 241


1- أعيان الشيعة: 2/ 206.
2- أنظر الذريعة: 11/152.
3- المصدر نفسه: 18/22.
4- خاندان كلباسي: 133.

الفتيّة الّتي تحتاج إلى مَن ينقّحها ويستخرج خباياها.

الثالث: عدم سبق رسالة يُبيَّن فيها حجج المفطريّة وفساد ما استند إليه القوم - وبالخصوص صاحبيَ تينك الرسالتين - في عدم المفطرية، وما حوته تانك الرسالتان.

الرابع: طلب محمّد شاه القاجاري من المصنّف تأليف رسالة في حكم الغليون. يدلّنا على ذلك قوله في المقدّمة: (...لأنّ فوق رأسي قهرمان السلطان).

3- اسم الرسالة وموضوعها

لم يعنون المصنف الرسالة بعنوان خاص، ككثير من الرسائل الّتي يكتفي مصنفوها بعنونتها ببيان موضوعها- وربّما طبعت في حياتهم على هذا الحال.

وعُبِّر عن الرسالة بألفاظ وتعابير تصبّ في معنى واحد ك-(رسالة في تفطير دخان التتن للصائم)(1) و(رسالة في تفطير شرب التتن للصيّام)(2) و(رسالة في إبطال التوتون الصوم)(3) و(مبطل روزه بودن شرب توتون)(4) و(رسالة ايست در حرمت كشيدن قليان در ايام ماه رمضان مبارك)(5).

وممّا يحسن التنبيه عليه في المقام نسبة صاحب الأعيان(6) رسالة للمترجَم في حرمة شرب التتن مع أنّ المترجَم لا يقول بحرمته أصلاً فضلاً عن أنْ يؤلّف فيها رسالة - كما

ص: 242


1- معارف الرجال: 2/190.
2- روضات الجنان: 1/34.
3- فوائد رضوية: 1/10.
4- ريحانة الأدب:5/42.
5- خاندان كلباسي: 3/1.
6- أعيان الشيعة: 2/206.

يعلم ذلك من خاتمتها في الفائدة الثانية- . نعم، هو يقول بحرمة شرب التتن لكن في شهر رمضان. وهو عين ما قدّمناه فلذلك نوهنا.

المطلب الثاني: مضمون الرسالة

يبحث الفقهاء عن التتن من ثلاث جهات رئيسة:

الأولى: جواز شربه وعدمه.

الثانية: جواز شربه عند الصوم وعدمه، وبعبارة أخرى: هل يكون شربه مُفطراً أو لا؟

الثالثة: هل تجب على متعمد شربه الكفارة كسائر المفطرات أو لا؟

وهناك أبحاث غير هذه إلّا إنَّها دونها في الأهميّة، من نحو جواز السجود عليه.

وفي هذه الرسالة بحث المصنف عن التتن من الجهتين الثانية والثالثة إلّا إنَّه لم يبحثه بخصوصه بل في ضمن بحثه عن مطلق الدخان، لأنّ مفطريته على تقدير إنّما هي من جهة كونه دخاناً.

كما اشتملت الرسالة على مبحثين مهمين آخرين:

الأوَّل: حكم الغبار.

الثاني: حكم الدخان، من الجهتين المذكورتين في شهر رمضان وغيره من الصوم الواجب والمندوب.

إلّا إنّ المقصود أوّلاً من هذه المباحث هو البحث عن الدخان - وبالخصوص دخان الغليان في شهر رمضان - كما أشار إلى ذلك المصنّف في المقدّمة.

ص: 243

والأظهر أنّ المقصود بالبحث أوّلاً هو الجهة الثانية فحسب دون الثالثة؛ لأنّه هو مورد سؤال الشاه أوّلاً –كما بيَّنا- ، ولأنّه تعرَّض له كفرع من الفروع لا في صلب البحث ثانياً.

ومع الالتزام بهذا لا بُدَّ من توجيه قول المصنّف في المقدّمة: (... في حرمة الغليان في شهر رمضان، وأنّه ممّا يلزم بتعمّده القضاء والكفارة بالحجّة والبرهان) وتأويله بما يلتئم مع ما بيناه.

وأمّا بيان ما سوى المقصود فهو إمّا استطراداً، أو من جهة كونه مقدّمة، أو فرعاً ونتيجة لما بُيِّن.

وفي سبيل تحقيق الحقّ في المسألة بَيَّن المصنف أوّلاً أغلب الآراء في المسألة، ثُمَّ استعرض أهمّ الأدلة لما اختاره ودفع أهمّ اعتراض عليه.

واكتفى عن بيان أهمّ أدلّة القولين الآخرين والجواب عنها بظهورها ممّا تقدَّم، ثُمَّ ذكر بعض المسائل الفقهية المشار إلى بعضها فيما تقدّم ممّا يرتبط بالمقصد تحت عنوان فروع. وقد وضع لبحثه مقدّمة وخاتمة.

أمّا المقدّمة فكان الغرض من وضعها أمرين:

أوّلهما: دحض أهم حجّة من حجج الخصم.

وثانيهما: بيان آراء الفقهاء في المسألة كما هو ديدن الفقهاء.

وأمّا الخاتمة فاشتملت على فائدتين تتضمّنان نصحاً وتحذيراً يتعلّقان بممارسات يرتكبها أهل العصر:

الأولى: وصيّة بالتقوى وتحذير من التصدّي للقضاء والإفتاء لغير أهلهما. فإنّ العلماء كانوا ولازالوا يعانون من انكباب الناس على الدنيا ومن حبّ الرئاسة والزعامة

ص: 244

والسعي إلى تحصيل المناصب السياسيّة والاجتماعيّة بما فيها مسند الفتيا والقضاء، إلّا من عَصمه الله تعالى، وقليل ما هم. وخير سبيل لهم في علاج تلك الأمراض الروحية منبر الوعظ والإرشاد «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» (1).

والثانية: في مفاسد الغليان ومضارّه الاقتصاديّة والصحيّة وغيرهما.

المطلب الثالث: أهمية الرسالة ومميزاتها

أهم المميزات ما يلي:

1- إنّ راقم سطورها من رجال الطراز الأوّل في التحقيق والتدقيق وممّن فاز بالقدح المعلّى والكأس الأوفى في الفقه وكأنّه قد زُقه زقّاً، ويكفيك شاهداً تقريظ أستاذه الشيخ الأكبر الشيخ جعفر المتقدّم. وكان ممّن جمع بين المعقول والمنقول، وممّن درس العلوم بأنواعها عند أئمّة المعقول والمنقول في عصره. ومن الواضح أنّ الإحاطة بعلوم مختلفة تؤهّل الشخص إلى التوصّل إلى وجهة نظر صحيحة وواقعيّة في المسألة.

2- إنّ تأليفها كان في الأعوام السبعة الأخيرة من حياته المباركة، ممّا يجعلها صالحة للاعتماد عليها بشكل كامل، لمعرفة آخر تطورات تحقيق المسألة عند المصنّف ووجهة نظره فيها.

3- إنّها أوّل رسالة صُنِّفت في مفطرية التتن، وثالثة ست في حكم التتن - بحسب تتبعنا - فلم نعثر على رسالة في مفطرية التتن أُلفت قبلها.

4- إنَّ لغتها هي اللغة العربية على خلاف بعض الرسائل المتقدّمة.

5- إنَّها من الرسائل المختصرة في المسألة: اقتصر فيها على بيان أهمّ أدلّة المسألة في

ص: 245


1- النحل:12.

الجانبين، وعلى قسم من الأقوال في المسألة. كما كان تأليفها على عجالة: بأسرع وقت وبأقل ما يفي بالمطلوب.

6- إنَّها وعلى الرغم من كونها مختصرة، وكون تصنيفها على وجه العجالة – جاءت آية في طول الباع وسعة الاطلاع، وفيما تضمّنته من مطالب شامخة وردود دامغة وأدلّة صاعقة- جاءت مرصوفة المعاني، مرصوصة المباني، دقيقة الأنظار، عميقة الأفكار، مشحونة بالتحقيقات، مملوءة بالتدقيقات، عالية المضامين، متينة البراهين، قد كثر فيها المسالك، وأنار فيها كل حالك.

التزم مصنّفها الموضوعيّة البحتة، والحياد التام، وقد نهج فيها منهجاً علميّاً متكاملاً، قارع فيه الحجّة بالحجّة والمنطق بالمنطق، وناقش فيه الأدلة على أساس من الموازين العلميّة والمقاييس المنطقيّة، ممّا جعلها على الرغم من كونها قد زادت على قرن ونصف من الزمن غضّة طريّة.

والرسالة تعكس صورة واضحة عن قوّة رأي المترجَم ودقّته المتناهية، وإحاطته العلمية وقوّته في الاستدلال وتضلّعه من المباني ومهارته في التحقيق.

ولا تخلو الرسالة في لغتها من بعض المؤآخذات، من الناسخ أو المصنّف، وليس هذا بغريب ممّن تقدّم عليه أو تأخّر عنه.

كما لا تخلو بعض عبائر المصنّف في بعض المواضع من الغموض والتعقيد، وهو ديدن أهل المعقول والمنقول أوّلاً وآخراً.

وقد يؤخذ على المصنّف – في مجال عرض المعلومات- ذكره مطلب لزوم الكفّارة على الغبار ضمن صلب البحث، مع أنّ الأنسب ذكره كفرع من الفروع حاله حال بقية المسائل الّتي ذكرت تحت عنوان فروع إنْ كان غرضه إثبات مجرّد الحرمة - على ما

ص: 246

استظهرناه فيما تقدّم - وذكر لزوم الكفارة على الدخان معه إنْ كان مقصده إثبات لزوم القضاء والكفارة.

ص: 247

الفصل الرابع: عملنا في التحقيق والنسخة المعتمدة

تضمّن تحقيقنا الرسالة أعمالاً عدّة:

1- إخراج النص بأكمل صورة له، وذلك من خلال:

أ- ضبطه وتقويمه: بإعادة ما سقط من كلمات أو عبارات علمنا بسقوطها - من خلال السياق وغيره - ، مع الإشارة إلى ما جعل محلّها من الكلمات بوضعها بين معقوفتين، وجعل ثلاث نقاط محلّ ما لم يتّضح لنا المقصود منه، مضافاً إلى تغيير رسم بعض الكلمات إلى الرسم الحديث.

ب- ترقيم النص وتقطيعه.

ج-- استعملنا الحبر الأسود الغامق لتمييز ما يحتاج إلى تمييز.

2- حلّ الرموز والمختصرات.

3- عنونة مباحث الرسالة.

4- التهميش، وتضمّن ما يلي:

أ- تخريج الآيات والروايات.

ب- تخريج الأقوال.

ج- إضافات تضمّنت شرحاً لعبارة مغلقة أو تفسيراً لمفردة غامضة أو نحو ذلك.

ولم نسمِّ الرسالة؛ لأنَّ المصنِّف نفسه لم يجعل لها اسماً.

ولم نعثر في حدود ما بحثنا- إلّا على نسخة واحدة للرسالة رغم حاجتنا الشديدة إلى نسخة أخرى.

ص: 248

وتظهر شحّة نسخها من عدم ذكر العلامة الطهراني (قدس سره) مكتبة فيها الرسالة تلك، مع أنّ ذلك عادته في أغلب الكتب.

وقد عثرنا على هذه النسخة الفريدة في قرص ليزري يحمل رقم (10) عائد لمؤسّسة كاشف الغطاء العامَّة، تحمل المخطوطة فيه رقم (350) وعنوانها: (حرمة الغليان في شهر رمضان).

وتاريخ نسخها سنة 1357 ﻫ, ويظهر من تعدّد خط نسخها أنّها لأكثر من ناسخ, كما يظهر من بعض العبائر في هامشها أنّ أحد ناسخيها اسمه (مهدي).

المحققان

الشيخ محمد الكرباسي

الشيخ حيدر الكرباسي

ص: 249

مصادر المقدّمة

1- أدوار علم الفقه وأطواره: الشيخ علي كاشف الغطاء، دار العلم بيروت 1986م.

2- إشارات الأصول: الشيخ محمّد إبراهيم الكِرباسي، مخطوط.

3- أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين العاملي.

4- آل الكرباسي – ترجمة لخاندان كلباسي -، تعريب نجله الشيخ محمّد صادق محمّد الكِرباسي، بيت العلم للنابهين, بيروت لبنان, 1425ﻫ.

5- بشارات الأصول: ابو المعالي الكِلباسي، مخطوط.

6- التدخين والصيام: السيد محمود المقدس الغريفي، مطبعة الآداب 2005م.

7- توضيح الإشارات: الشيخ محمّد مهدي الكِلباسي، مخطوط.

8- حاشية للسيد ابن كمونة على النخبة: ابن كمونة، مخطوط.

9- خاندان كلباسي: الشيخ محمّد الكلباسي الحائري (قدس سره) ، مقدمة، تعليقات، إضافات: الشيخ محمّد علي النجفي الكلباسي وعلي كرباسي زاده إصفهاني, كانون بروهش, إصفهان, 1381ش.

10- الذريعة: الشيخ أغا بزرك الطهراني، دار الأضواء بيروت 1403 ﻫ.

11- روضات الجنات: السيد محمّد باقر الخونساري.

12- ريحانة الأدب: محمّد علي مدرّس تبريزي.

13- غنائم الأيام : الميرزا القمّي، مكتب الإعلام الإسلامي, 1417 ﻫ.

14- فوائد رضوية: الشيخ عباس بن محمّد رضا القمي.

ص: 250

15- قصص العلماء المعرب: ميرزا محمّد التنكابني، ترجمة: الشيخ مالك الوهبي، انتشارات ذوي القربى، قم، 2005م.

16- معارف الرجال: الشيخ محمّد حرز الدين.

17- منهاج الهداية: الشيخ محمّد إبراهيم الكرباسي، طبعة حجريّة.

18- النخبة: الشيخ محمّد إبراهيم الكِرباسي، طبعة حجريّة، بمبي، مطبعة كازار حسيني، 1323ﻫ.

ص: 251

صورة

الصفحة الاولی من النسخة المعتمدة

ص: 252

صورة

الصفحة الاخیرة من النسخة المعتمدة

ص: 253

ص: 254

نَصُّ الرسالة

ص: 255

ص: 256

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه ثقتي ومنه أستعين(1)

الحمد لله الذي رفع العلمَ وأعمدته(2)، ووضع الجهلَ وأجندته(3)، والصلاة على من فُضِّل(4) على جميع أنبيائه حتّى تمنّى أولو العزم منهم أنْ يصير(5) من أمّته(6)، وعلى

ص: 257


1- تعدية (أستعين) ب-(من) لتضمينه معنى (أطلب العون) وإلّا لزم تعديته بالباء أو بنفسه، وممّا ذكرناه يظهر أنَّ (أستعين) جاءت على غير الغالب في باب الاستفعال أعني طلب الفعل.
2- الأعمدة جمع قلّة ل- (عمود)، قال في الصحاح مادّة (عمد)) :العمود عمود البيت وجمع القلّة أعمدة)، ج2، ص11، لكن الصيغة في المقام مستعملة في غير ما وضعت له أعني في جمع الكثرة، والمقصود من أعمدة العلم: العلماء.
3- لم أجد في ثلّة من عيون معاجم اللّغة جمعاً ل- (جُند) على (أجندة)، وعليه فاستعماله في اللّغة الدارجة غير صحيح، وبهذا قد يشكل على المصنّف. ولكن الصحيح أنَّ هذا الاعتراض ساقط؛ لأنَّه وإن لم يكن لجند جمعٌ على أجندة إلّا أنَّه جيء به هنا رعاية للسجعة ولقوله فيما سبق(...رفع العلم وأعمدته) فلكي يحصل التناسب بين قوله (رفع العلم وأعمدته) وقوله (وضع الجهل وأجندته) جاء به نظير قوله تعالى حكاية لقول ملك مصر: «إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ..» يوسف (43- 42) فإنّ جمع أفعل فعلاء ولا يجمع على فعال ولكن استعمل هنالك رعاية ل-(سمان).
4- (فُضّل) من باب التفعيل، مبني للمجهول، لأنّ (فُضَّل) بفتح العين وتخفيفها متعدٍ بنفسه و(فضُل) بضم العين - وإنْ كان لازماً يتعدى ب-(على) - إلَّا إنَّه بمعنى صار ذا فضل فهو يدلّ على الفضيلة لا الأفضليّة.
5- كذا في المتن, والصحيح: (يصيروا) كما هو واضح.
6- العزم : الجد، وأولو العزم من الرسل الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم، وهم خمسة: نوح، إبراهيم، عيسى، موسى، محمد (عليهم الصلاة والسلام) هذا هو المشهور لاحظ ج2 من الكافي كتاب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ح2.

عترته الطاهرة الّذين هم بعده أفضل بريّته.

أمّا بعدُ:

فممّا لَزِمَ عليَّ أنْ أحرّر عجالةً(1)، حسب ما يسعني الزمان(2)، ولا يسعني إلّا أقلُّ ما يتّضح به البيان(3)، لأنّ فوق رأسي قَهرمان(4) السلطان(5)، [رسالةً] في حرمة الغليان(6) في شهر رمضان، وأنَّه ممّا يلزم بتعمّده القضاء والكفّارة بالحجّة والبرهان، واسأل اللهَ العصمةَ من الخطل والخلل والزلل في اللسان، وأنْ ينجّيني من موبقات

ص: 258


1- عجالة: منصوب على الحالية أي: مستعجلاً.
2- (ما) من قوله (ما يسعني) مصدرية. ونتيجة (حسب ما ... الزمان) و(ولا يسعني ... البيان) أنّ الرسالة أدنى درجة من درجات المطلوب؛ لأنّ الرسالة بحسب المقدار الذي يسعه من الزمان ولا يسعه إلاَّ تلك الدرجة فينتج أنّ الرسالة بأدنى درجة من درجات المطلوب بمعنى أنّها ليس فيها تفصيل أو تطويل من غير طائل.
3- البيان: بمعنى المبين.
4- القهرمان : هو الوكيل أو أمين الدخل والخرج (كما في المنجد). والمقصود منه - على الظاهر - وكيل السلطان في أصفهان إذ إنّ رسائل وطلبات الملوك إلى العلماء والأعيان وبالعكس ترسل عن طريقهم في الغالب.
5- من فوق رأسه قهرمان السلطان يستعجل في إنجاز وإتمام ما طُلب منه ويعمل على إنجازه بأقل وقت وأسرع ما يمكن.
6- الغليان أو القليان، وربّما قيل له الغليون أو القليون: الناركَيلة.

[يوم] القيام بين الأقران(1) وشدايد النيران(2). فنقول:

[ كلمات القوم في الغبار والدخان ]

يتوقف التحقيق(3) فيه على جمع كلمات القوم في الغبار والدخان، والتكلّم فيه(4) حتّى يظهر فتاويهم(5) في المقام وما في البين والبال(6)، ثُمَّ التعرّض لأخبار الباب، حتّى

ص: 259


1- موبقات : أي مهلكات، القيام بين الأقران : يحتمل أنّ المقصود القيام بين الأقران للمحاججة وبالتالي المقصود من موبقات القيام بين الأقران موبقات المحاججة كالرياء والعصبية والتكبّر وغيرها، والله أعلم.
2- شدايد النيران : من إضافة الصفة للموصوف أي النيران الشديدة، وحيث إنّ جميع النيران شديدة فالمطلوب التجنّب من جميعها لا حصّة منها أعني خصوص الشديدة .
3- الضمير من قوله: (يتوقف التحقيق فيه) يعود على غير مذكور صريحاً وهو الباب أو المقام أو ما شاكل ذلك، والمقام هو حرمة الغليان في شهر رمضان.
4- الضمير يعود على نفس ما يعود عليه الضمير المتقدم, والمقصود من قوله: (التكلم فيه) إبداء وجهة نظره ( قدس سره ) في المسألة مع بيان الأدلة وردّ الاعتراضات.
5- فائدتان: الأولى: يجوز في المقام أن يقال: (حتّى يَظهر فتاويهم) بالياء، وأن يقال: (حتى تَظهر فتاويهم) بالتاء، لأن الفاعل مؤنث مجازي. الثانية : أنّ (فتوى) تجمع على فتاوي بالياء وفتاوى بالألف. أمّا الأول فقد ذكره صاحب جواهر القاموس في القسم الثاني من الباب الثالث، وأمّا الثاني فلأن ألف (فتوى) للتأنيث وما حالها كذلك تجمع على ذلك (لاحظ كسندٍ للكبرى ما ذكره ابن الناظم ص308).
6- قوله: (وما في البين والبال) عطف على (فتاويهم) وهذا لفّ ونشر مرتّب ، فإنّ ذكر كلمات القوم يتفرّع عليه ظهور فتاويهم في المقام وبيان المختار وترجيحه يظهر من خلاله ما في البين والبال.

يظهر حقيقة الحال(1).

قال في المقنعة:

(ويجتنب الصائم الرائحة الغليظة، والغبرة الّتي تصل إلى الحلق فإنَّ ذلك نقض(2) في الصيام) (3)، ثُمَّ قال: (ولو كان في مكان فيه غبرة كثيرة، أو رائحة غليظة، فدخل حلقه من ذلك شيء، لم يكن عليه قضاء. وإنْ تعمّد الكون في ذلك المكان، وله غَناء عن الكون فيه، فدخل حلقَه شيء من ذلك، وجب عليه القضاء) (4) [انتهى كلام صاحب المقنعة].

وفي المبسوط:

( ... فما يوجب القضاء والكفّارة تسعة أشياء: الأكل والشرب) (5)، ثُمَّ قال:

ص: 260


1- قد يُسأل ويُقال : إنّ المصنف لم يُبين رأيه في الكفّارة قبل التعرّض لأخبار الباب بل بعده فكان اللّازم تقييد ما في البين والبال بما يتعلّق بالمفطرية فنقول : إنّ موضوع الرسالة هو المفطرية وأمّا لزوم الكفّارة فليس جزء الموضوع ولذا ذكره في التنبيهات، ولا ينافي ذلك قوله المتقدّم في المقدّمة: (... وأنّه ممّا يلزم ...) فإنَّ غاية ما يدلّ عليه أنّه سيثبته وهو مسلَّم، ولكن لا على أنّه جزء من الموضوع. وقد يُسأل ثانياً ويُقال : كان يلزم عليه في هذه الفهرسة الإجمالية الإشارة إلى أنّه سيبين مفطرية الغبار . فنقول : إنّ هذه الفهرسة لما هو المقصد في الرسالة، وأمّا هذا فذكره في الرسالة كان على سبيل الاستطراد حاله حال بقية التنبيهات، ولعلّه لم يجعله واحداً منها لطول البحث فيه نسبة إليها.
2- كتب في المخطوط المصنّف أو الناسخ تحت ( نقض) (بالضاد المعجمة أو الصاد المهملة لمحرّره مهدي).
3- المقنعة: 356.
4- المقنعة: 358 (يبيّن عدم الدلالة على الكفارة).
5- المبسوط: 1/268.

(... وإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمّداً مثل غبار الدقيق، أو غبار النفض وما جرى مجراه على ما تضمّنته الروايات، وفي أصحابنا من قال إنّ ذلك لا يوجب الكفارة وإنّما يوجب القضاء)(1). [انتهى كلام صاحب المبسوط]

وفي الخلاف:

(غبار الدقيق والنفض الغليظ حتى يصل الحلق يُفطِر ويجب منه القضاء والكفّارة متى تُعُمِّدَ، ولم يوافق عليه أحد من الفقهاء، ]بل[ أسقطوا كلُّهم القضاءَ والكفارة معاً.

دليلنا: الأخبار التي بيّناها في الكتاب، وطريقة الاحتياط؛ لأنّ مع ما قلنا تبرء الذمة بيقين، وفي الإخلال به خلاف)(2). [ انتهى كلام صاحب الخلاف]

وفي النهاية:

(فأمّا الّذي يُفسد الصيام ممّا يجب منه القضاء والكفارة فالأكل والشرب...)(3) ثُمَّ قال: (... وشمّ الرائحة الغليظة التي تصل إلى الحلق)(4). [انتهى كلام صاحب النهاية]

وفي الكافي:

(إنْ وَقَفَ في غبرة مختاراً، فعليه القضاء بصيام يوم مكان يوم)(5). [انتهى كلام صاحب الكافي].

ص: 261


1- المبسوط: 1/271.
2- الخلاف: 2/177.
3- النهاية: 153.
4- المصدر نفسه: 154.
5- الكافي: 183, ولكن ب-(أو) بدل (إنْ).

وفي الوسيلة:

(والثالث: - يعني: ما يُفطر ويوجب الكفّارة والقضاء إنْ قصد به الإفطار، وإنْ لم يقصد به الإفطار أوجب القضاء دون الكفّارة عند قوم من أصحابنا, وكليهما عند آخرين - ثلاثة أشياء: إيصال الغبار الغليظ، والرائحة الغليظة إلى الحلق، وازدراد ما لا يؤكل مثل الخرزة والجواهر والفضة)(1). [انتهى كلام صاحب الوسيلة]

وفي الغُنية:

(وما يُفسد الصوم على ضربين : أحدهما: يوجب القضاء مع الكفّارة، والثاني: لا يوجبهما.

الأوّل: ما يصل إلى جوف الصائم مع ذكره للصوم عند عَمدٍ منه واختيار، سواء كان بأكل، أو بشرب، أو شم، أو ازدراد لما لا يؤكل في العادة)(2) ثُمَّ قال: (ذلك بدليل الإجماع، وطريقة الاحتياط، واليقين ببراءة الذمة). [انتهى كلام صاحب الغنية]

وفي السرائر:

(فأمّا غبار النفض فالّذي يقوى في نفسي أنّه يوجب القضاء دون الكفارة إذا تعمّد الكون في تلك البقعة من غير ضرورة، فأمّا إذا كان مضطراً إلى الكون في تلك البقعة، وتحفّظ، واحتاط في التحفّظ، فلا شيء عليه من قضاء وغيره؛ لأنَّ الأصل براءة الذمّة من الكفارة . وبين أصحابنا في ذلك خلاف، والقضاء مُجمع عليه)(3). [انتهى كلام

ص: 262


1- الوسيلة: 142.
2- المصدر نفسه: 138. ولكن العبارة: (وكل ذلك بطريق الإجماع الماضي ذكره وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة).
3- السرائر: 1/277.

صاحب السرائر]

وفي الجامع:

عدَّ ممّا يوجب القضاء والكفارة إيصال غبار النفض وشبهه إلى الحلق، وأوجب الكفارة والقضاء بإيصال الغبار إلى الحلق(1). [انتهى موضع الحاجة من الجامع]

وفي الشرايع:

(وفي إيصال الغبار إلى الحلق خلاف، والأظهر التحريم وفساد الصوم)(2)، ثُمَّ قال: (يجب القضاء والكفّارة بسبعة أشياء)(3) وعدَّ منها إيصال الغبار إلى الحلق(4). [انتهى كلام صاحب الشرايع]

وفي النافع:

(يجب الإمساك عن إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعدّياً)(5) ثُمَّ قال: (تجب الكفارة والقضاء بإيصال الغبار إلى الحلق)(6). [انتهى كلام صاحب النافع]

ص: 263


1- في الحاشية على جانب الورقة: (ما عندي من نسخة الجامع هكذا: وأضاف إلى ذلك بعضُ أصحابنا تعمّدَ الارتماس في الماء وتعمّد الكذب على الله ورسوله والأئمة (عليهم السلام) وإيصال غبار النفض وشبهه إلى الحلق. وشرط بعضهم أنْ يكون له منه...) والظاهر عطف قوله (وإيصال) على (الارتماس) لا على ما قبله وهو الأكل (حرره مهدي).
2- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: 1/89.
3- المصدر نفسه: 1/190 وفي بعض نسخ الشرائع (تجب) بالتاء.
4- المصدر نفسه: 1/191.
5- المختصر النافع في فقه الإمامية: 92.
6- المصدر نفسه: 93.

وفي المعتبر:

(وإيصال الغبار الغليظ مثل غبار النفض والدقيق إلى الحلق، قال الشيخ في الجمل والمبسوط: يفسد، وخالف الجمهور في ذلك. وفي أخبارنا رواية عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) : (سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة إلى حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس. قال: وسألته عن الصائم يُدخل الغبار في حلقه، قال (علیه السلام) : لا بأس).

لنا: إنّه أوصل في جوفه ما ينافي الصوم فكان مفسداً له. ويؤكد ذلك ما رواه سليمان الجعفري، قال: (سمعته يقول: إذا شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فإنَّ ذلك له فطر، مثل الأكل والشرب والنكاح).

وهذه الرواية فيها ضعف؛ لأنّا لا نعلم القائل، وليس الغبار كالأكل والشرب ولا كابتلاع الحصى والبرد)(1).

ثُمَّ قال: (وفي وجوب الكفارة بإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق والدقيق روايتان: إحداهما: القضاء والكفارة. وبه قال الشيخ في الخلاف والمبسوط، ولعلَّ مستنده رواية سليمان بن جعفر الجعفري، قال سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمداً، أو شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه الغبار، فعليه صوم شهرين متتابعين؛ فإنَّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح).

وفي هذه الرواية ضعف من حيث جهل المسموع منه، لكنّا بيّنا أنَّ الازدراد لما لا يُؤكل كالحصى والبرد يُفسد الصوم، فتجب به الكفّارة كما تجب بتناول المأكول

ص: 264


1- المعتبر: 2/654(بتصرف وإضافة).

والمشروب، وربَّما كان الغبار الغليظ كذلك.

والأخرى: لا قضاء ولا كفارة. روى ذلك عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) ، قال: (سألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس). وفي (عمرو) قول غير أنه ثقة.

وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ومالك، وقال أبو الصلاح: (إذا وقف في الغبار لزمه القضاء، ورواية عمرو بن سعيد غير منافية، لأنّا نقول بموجبها. فإنّا لا نوجب عليه قضاءً ولا كفارة بدخول الغبار حلقه، وإنّما نوجب بإدخاله حلقه قصداً واختياراً))(1). [انتهى كلام صاحب المعتبر]وفي المنتهى:

(إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق اختياراً مُفسد للصوم، مثل غبار النفض والدقيق، وخالف فيه الجمهور.

لنا: أنّه أوصل إلى جوفه ما ينافي الصوم فكان مفسداً له، ويؤيّده ما رواه الشيخ عن سليمان الجعفري، قال: (سمعته يقول: إذا شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فإنّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح).

وفي رواية عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) ، قال: (سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو غير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس، وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال: لا بأس) وهي محمولة على عدم تمكّن الاحتراز منه، وعلى قول السيد المرتضى ينبغي عدم الإفساد بذلك.

ص: 265


1- المعتبر: 2/670، ولكن فيما لدينا: (... وفي وجوب الكفارة بإيصال الغبار...) دون (الغليظ).

أمّا لو كان مضطراً ودخل الغبار بغير شعور منه أو بغير اختيار، فإنّه لا يفطره إجماعاً)(1).

ثُمَّ قال (أي صاحب المنتهى): (يجب بإيصال الغبار والدقيق إلى الحلق القضاء والكفارة، ذهب إليه الشيخ وأتباعه وخالف فيه الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد.

لنا: أنَّه مفسد للصوم؛ لمنافاته له، فكان موجباً للكفارة كالأكل، ولأنّا بيّنا أن ازدراد ما لا يعتاد يوجب القضاء والكفارة، وكذا الغبار، ويؤيّده ما رواه الشيخ عن سليمان بن جعفر المروزي، قال: (سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمّداً، أو شمّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنَّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح). والاستدلال بهذه الرواية ضعيف بوجهين:

الأول: عدم الإيصال إلى إمام، إذ قول الراوي (سمعته) كما يحتمل أن يكون إماماً يحتمل أن يكون غيره.

الثاني: اشتمال هذه الرواية على أحكام لا تثبت على ما يأتي.

لا يقال: قد روى الشيخ عن عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) قال: (سألته عن الصائم يدخل الغبار حلقه؟ قال: لا بأس).

وعن مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عن آبائه (علیهم السلام) : (إنّ علياً سئل عن الذباب يدخل حلق الصائم؟ فقال: ليس عليه قضاء؛ إنّه ليس بطعام).

لأنّا نقول : إنّهما ضعيفا السند، وأيضاً فإنّا نقول بموجبهما إذ المفطر عندنا إدخال الغبار والذباب عمداً إلى الفم لا دخولهما مطلقاً، إذ قد يدخلان من غير اختيار فلا

ص: 266


1- منتهى المطلب: 2/565.

يفطران.

لا يقال: إنّ تعليل أمير المؤمنين (علیه السلام) بأنّه ليس بطعام ينفي ما ذكرتم من الاحتمال، لأنّه لا فرق بين الطعام وغيره في عدم الإفطار بالدخول ناسياً أو من غير قصد.

لأنّا نقول: لا امتناع في إرادة أنّه ليس بطعام مقصود أكله وإنْ كان بعيداً، فالأولى الاعتماد على الأوّل.

وبالجملة: فإنّ السيد المرتضى لم يوجب الكفارة وهو قوي. وقال أبو الصلاح (قدس سره) : (إذا وقف في الغبار لزمه القضاء)(1). [انتهى كلام صاحب المنتهى]

وفي التذكرة:

(إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق اختياراً كغبار الدقيق والنفض مفسد للصوم خلافاً للجمهور؛ لأنّه أوصل إلى الجوف ما ينافي الصوم، ولأنّ سليمان بن جعفر سمعه يقول: (إذا شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فإنّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح) ثُمَّ قال: (يجب بإيصال الغبار الغليظ والدقيق إلى الحلق عمداً القضاء والكفارة عند علمائنا؛ لأنّه مفسد واصل إلى الجوف، فأشبه الأكل، وما رواه سليمان بن جعفر المروزي، قال: (سمعته يقول : إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمداً، أو شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين فإنّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح)(2). [انتهى كلام صاحب التذكرة]

ص: 267


1- منتهى المطلب: 2/569.
2- تذكرة الفقهاء: 6/ 25.

وفي الإرشاد:

(يجب الإمساك عن أمور) وعدّ منها إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق، ثُمَّ أوجب القضاء والكفّارة لأجله(1). [انتهى موضع الحاجة من الإرشاد]

وفي التلخيص:

يجب الإمساك عن أمور وعدّ منها إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق، ثُمَّ أوجب الكفارة المخيّرة على رأي، والقضاء مع التعمّد لأجله(2). [انتهى كلام صاحب التلخيص]

وفي نهج الحق:

(ذهبت الإماميّة إلى أنّ الغبار الغليظ من الدقيق والنفض ونحوهما إذا وصل إلى الحلق متعمّداً وجب عليه القضاء والكفّارة، وخالف الفقهاء فيه (وقال الفقهاء الأربعة لا يجب) وخالفوا في ذلك النصّ الدال على إيجاب الكفارة بالإفطار)(3). [انتهى كلام صاحب النهج]

وفي التحرير:

(إيصال الغبار الغليظ كغبار الدقيق والنفض إلى الحلق اختياراً مفسدٌ للصوم, ولو كان مفطراً أو دخل بغير اختياره أو بغير شعور لم يفطر)(4). [انتهى كلام صاحب التحرير]

ص: 268


1- إرشاد الأذهان: 1/296.
2- الينابيع الفقهية: 29/القسم الثاني/133.في كتاب تلخيص المرام قال: وإيصال الغبار الحلق.
3- نهج الحق وكشف الصدق: 461.
4- تحرير الأحكام: 1/466.

وفي المختلف:

(قال الشيخ في الجُمَل والاقتصاد: إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق مثل غبار الدقيق وغبار النفض متعمداً مفطر فوجب القضاء والكفارة، وكذا قال في الخلاف، وعدَّ في المبسوط فيما يوجب القضاء والكفارة إيصالَ الغبار الغليظ إلى الحلق متعمّداً مثل غبار الدقيق أو غبار النفض وما جرى مجراه على ما تضمّنته الروايات).

وقال: (وفي أصحابنا مَن قال إنّ ذلك لا يوجب الكفّارة، وإنّما يوجب القضاء).

وقال المفيد: (ويجتنب الصائم الرائحة الغليظة، والغبرة التي تصل إلى الجوف، فإنّ ذلك نقض في الصيام). وقال في موضع آخر: (وإنْ تعمّد الكون في مكان فيه غبرة كثيرة، أو رائحة غليظة، وله غناء عن الكون فيه، فدخل حلقه شيء من ذلك، وجب عليه القضاء).

وقال أبو الصلاح: (إذا وقف في غبرة مختاراً فعليه القضاء، والظاهر أنّ الوقوف مطلقاً لا يوجب القضاء، وإنّما قصده مع إيصال الغبار إلى حلقه).

وقال ابن إدريس: (الذي يقوى في نفسي أنّه يوجب القضاء دون الكفارة إذا تعمّد الكون في تلك البقعة من غير ضرورة، وأمّا إذا كان مضطراً إلى الكون في تلك البقعة

وتحفّظ واحتاط في التحفظ فلا شيء عليه من قضاء وغيره؛ لأنّ الأصل براءة الذمة من الكفارة. وبين أصحابنا في ذلك خلاف، والقضاء مجمع عليه). والأقرب الأوّل.

لنا: أنّا قد بيّنا أنّ ازدراد كلّ شيء يفسد الصوم ويجب به القضاء والكفارة، والغبار من هذا الباب، وما رواه سليمان بن جعفر المروزي، قال: (سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمداً، أو شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين؛ فإنّ ذلك له فطر، مثل الأكل

ص: 269

والشرب والنكاح).

احتجَّ الآخرون بأصالة البراءة، وبما رواه عمرو بن سعيد عن الرضا : (علیه السلام) (عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس).

والجواب: الأصالة يَبطل حكمُها مع قيام الدليل المخرِج عنها وقد بيّناه، وعمرو بن سعيد – وإنْ كان ثقة- إلّا إنَّ فيه قولاً، ومع ذلك فالرواية نقول بموجبها؛ لأنّ مطلق الغبار لا ينقض، وإنّما الناقض هو الغبار الغليظ، وأيضاً الغبار الغليظ إذا دخل اتفاقاً لا عن قصد ولا عن تعمّد للكون في مكانه لا ينقض، ولم يتضمّن السؤال شيئاً من ذلك) (1). [انتهى كلام صاحب المختلف]

وفي القواعد:

(يجب الإمساك عن إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق)(2)، ثُمَّ أوجب القضاء والكفّارة بإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمداً(3). [انتهى كلام صاحب القواعد]

وفي الدروس:

)الصوم توطين النفس لله تعالى على ترك ثمانية(4) وعدَّ منها إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق. ثم قال: (ولا إفطار بسبق الغبار إلى الحلق، أو الذباب وشبهه. ويجب التحفّظ من الغبار لمزاوله)(5). [انتهى كلام صاحب الدروس]

ص: 270


1- مختلف الشيعة: 3/402.
2- قواعد الأحكام: 1/371.
3- المصدر نفسه: 1/375.
4- الدروس الشرعية: 1/266.
5- المصدر نفسه: 1/278.

وفي الرسالة التكليفية(1):

أوجب الإمساك عن أمور، وعدَّ منها إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق، وأوجب منه القضاء والكفّارة. [انتهى موضع الحاجة من الرسالة التكليفية]

وفي اللّمعة:

عدَّ ممّا يكفي في الصوم الغبار المتعدّي(2). [انتهى موضع الحاجة من اللّمعة]

وفي جامع المقاصد:

(قوله: (وإيصال الغبار الغليظ) انتهى، أي الغليظ عرفاً، ويفهم من الإيصال أنّ ذلك على سبيل التعمّد حيث يمكنه التحرّز منه، ولا بأس بإلحاق الدخان الّذي يحصل منه أجزاء، وكذا البخار للقِدر ونحوه به)(3). [انتهى كلام صاحب جامع المقاصد]

وفي فوائد الشرائع:

(قوله: (وفي إيصال الغبار إلى الحلق خلاف، الأظهر التحريم وفساد الصوم) هذا هو الأصح، لكنْ يشترط في الفساد بالغبار أنْ يكون غليظاً عادة كغبار النفض والدقيق، فلا عبرة بالقليل، ولا بُدَّ من كونه على سبيل التعمّد حيث يمكنه التحرّز منه، فلو نسي أو لم يمكنه التحرّز منه بحال من الأحوال، فعدم الإفساد به هو المتجّه، ولا بأس بإلحاق الدخان الغليظ الّذي يحصل منه أجزاء غليظة ويتعدّى إلى الحلق به، وكذا بخار القدر

ص: 271


1- لم نعثر على المصدر. والرسالة التكليفية للشيخ السعيد محمّد بن محمّد بن مكي الشهيد (رسالة مبسوطة). أنظر الذريعة: 4/408.
2- اللمعة الدمشقية: 47.
3- جامع المقاصد: 3/70.

ونحوه)(1). [انتهى كلام صاحب فوائد الشرائع]

وفي تعليقات الإرشاد(2):

(قوله: (وإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق) والمراد به الغليظ في العادة كغبار النفض والدقيق الكثير، والمفسد إيصاله إلى الحلق أي: تمكينه من الوصول بأنْ لا يتحفّظ عنه مع قدرته على التحفّظ، ولا يبعد إلحاق الدخان الغليظ الّذي يتحصّل منه أجزاء، وكذا بخار القدر ونحوه إذا كان غليظاً به). [انتهى كلام صاحب تعليقات الإرشاد]

وفي تعليقات(3) الكركي على الإرشاد:

قوله: (... عن إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق) عبّر بالإيصال احترازاً عن وصول الغبار من دون فعل الصائم، فإنّه يوجب إيصاله إلى الحلق من دون اختيار إفساده إجماعاً. وتقييده بالغليظ مشعرٌ بأنّ ما عداه غير مفسد، وهو كذلك؛ لعسر التحرّز عنه. والمراد به الغليظ في العادة كغبار النفض والدقيق. ولا كلام في إيجابه القضاء وادّعى المصنّف عليه في المختلف الإجماع، وكأنّه لم يعتد بخلاف المرتضى، فإنّه يتأتّى على قوله عدم الإفساد به.

وهل تجب به الكفّارة؟ مقتضى الأخبار ذلك. والظاهر إلحاق الدخان الّذي ينفصل منه أجزاء، وكذا بخار القدر ونحوه إذا كان غليظاً). [انتهى كلام الكركي]

ص: 272


1- فوائد الشرائع: المحقق الكركي/ مخطوط.
2- حواشي الإرشاد للشهيد الثاني (مخطوط) وهو غير كتاب روض الجنان. أنظر (الذريعة: 6/155).
3- منهج السداد للمحقق الكركي , مخطوط. أنظر (الذريعة:1/511).

وفي معالم ابن قطان:

عدَّ في الأكل والشرب الغبار، وأوجب فيهما القضاء والكفّارة(1).

وفي غاية المرام للصيمري:

(في إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمّداً القضاء والكفّارة عند الشيخ في الجمل والاقتصاد والخلاف، واختاره العلّامة؛ لأنّ ازدراد كلّ شيء يفسد الصوم ويجب به القضاء والكفّارة، والغبار الغليظ من هذا القبيل. ووجوب القضاء خاصّة مذهب ابن إدريس؛ لأصل البراءة من الكفارة، ولرواية عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) )(2). [انتهى كلام الصميري]

وفي التنقيح:

(قوله: (وإيصال الغبار إلى الحلق) قاله الشيخ والأصحاب، وخالف الجمهور في ذلك.

لنا: أنّه أوصل إلى جوفه ما ينافي الصوم فأفسده، ويؤيّده رواية سليمان الجعفري، قال: (سمعته يقول: إذا شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فإنّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح).

قال في المعتبر: (فيها ضعف، لأنَّ القائل غير معلوم، وليس الغبار كالأكل).

قلت: هي مؤيّدة بعمل الأصحاب.

ص: 273


1- معالم الدين في فقه آل يس /الشيخ شمس الدين محمّد بن شجاع الأنصاري الحلي /مخطوط.
2- غاية المرام في شرح شرائع الإسلام للشيخ مفلح الصيمري, تحقيق الشيخ جعفر الكوثراني العاملي, نشر دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع.

وهنا فوائد:

الأولى: قيّد الشيخ وغيره الغبار بالغليظ، ولم يقيّده المصنف، والأوّل أجود.

الثانية: هل هو موجب للقضاء لا غير كقول التقي والعجلي، أو له والكفّارة كقول الشيخ؟ الأقوى الثاني.

الثالثة: قال الشيخ في النهاية: (الرائحة الغليظة مفطرة) اعتماداً على الرواية المذكورة، وكرّهها المفيد، وهو الأجود؛ لعدم الانفكاك عنها غالباً.

الرابعة: الدخان لا يُفطِّر، لرواية عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) : (الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس، وسألتُه عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس).

قلت: المراد به الغليظ جمعاً بين الروايتين(1). [انتهى كلام صاحب التنقيح]

وفي المسالك:

(قوله: (وفي إيصال الغبار إلى الحلق خلاف) لم يقيّد الغبار بكونه غليظاً كما فعله جماعة، وورد في بعض الأخبار. والظاهر أنّ عدم القيد أجود؛ لأنّ الغبار المتعدّي إلى الحلق نوع من المتناولات وإنْ كان غير معتاد فيحرم ويفسد الصوم ويجب به الكفّارة سواء في ذلك الغليظ والرقيق، بل الحكم فيما غلظ من تناول المأكول إذا كان غبار ما يحرم تناوله, وحيث اعتبر الغليظ فالمرجع فيه إلى العرف. وسيأتي في العبارة أنّ ذلك وأشباهه مقيّد بالعمد والاختيار فلا شيء على الناسي ولا على ما لا يتمكّن من الاحتراز عنه بحال. وألحقَ بعضُ الأصحاب الدخان الغليظ وبخار القدر ونحوه، وهو حسن

ص: 274


1- التنقيح الرائع : 1/357.

إن تحقق معها جسم)(1). [انتهى كلام صاحب المسالك]

وفي الروضة:

(الصوم الكفّ نهاراً – كما يأتي التنبيه عليه - من الأكل والشرب) ثُمَّ قال: (وإيصال الغبار المتعدّي إلى الحلق غليظاً كان أو لا، بمحلّلٍ كدقيق وغيره كتراب. وتقييده بالغليظ في بعض العبارت ومنها الدروس لا وجه له. وحدُّ الحلق مخرج الخاء المعجمة)(2). [انتهى كلام صاحب الروضة]

وفي مجمع الفوائد:

(قوله: (وعن إيصال الغبار إلى الحلق) المراد تعمّده ذلك اختياراً كسائر المفطرات قبل الحوالة في العلّة إلى العرف).

قال في المنتهى: (إيصال الغبار إلى الحلق اختياراً يفسد الصوم مثل غبار النفض والدقيق، وخالف فيه الجمهور). والظاهر أنّه إنْ كان بحيث يصدق عليه عرفاً أو لغة أكل الغبار، يكون حكمه حكم الأكل وإلّا فلا، وحينئذٍ لا يبعد الكراهية كما يشمّ لما في رواية سليمان بن جعفر المروزي، قال: (سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمّداً أو شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك مُفطر مثل الأكل والشرب والنكاح). بقرينة مقارنة التمضمض والاستنشاق والرائحة المكروهة، وعدم صحّة السند مع الإضمار، والاكتفاء بخصلة واحدة من الكفارة، ولرواية عمرو بن سعيد عن

ص: 275


1- مسالك الأفهام: 2/17.
2- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 2/86.

الرضا (علیه السلام) ، قال: (سألته عن الصائم يتدخن بعود أو غير ذلك فدخل الدخنة في حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس، وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس). وقد حملها المصنّف على عدم إمكان التحرّز منه، وحال الاضطرار.

وقال أيضاً: (على قول السيد المرتضى (قدس سره) ينبغي عدم الإفساد بذلك، أمّا لو كان مضطراً ودخل الغبار بغير شعور منه، أو بغير اختيار فإنّه لا يفطره إجماعاً.

وبالجملة: لا دليل إلّا العمومات مع نفي البأس مطلقاً في هذه، فيمكن حمل الأولى على الكراهة، ويمكن حمل الثانية على غير الغليظ والأولى عليه، والأصل دليل قوي، وعلى تقدير الإفساد ووجوب القضاء فالظاهر عدم وجوب الكفارة إلّا مع صدق الأكل والفُطر عمداً.

وبالجملة: المدار على الصدق، ولا تفاوت في الغلظ وعدمه؛ ولهذا ما وقع الغلظ في الرواية وشبهه بالأكل، فاستغنى عن حوالته إلى العرف وتحقيقه. وكذا الكلام في الدخان)(1). [انتهى كلام صاحب مجمع الفوائد]

وفي المدارك:

(قوله: وفي إيصال الغبار إلى الحلق خلاف، والأظهر التحريم وفساد الصوم)، هذا قول معظم الأصحاب. قال في المنتهى: (وعلى قول السيد المرتضى ينبغي عدم الإفساد بذلك).

احتج القائلون بالفساد بأنّه أوصل إلى جوفه ما ينافي الصوم فكان مفسداً له. وبما رواه الشيخ عن سليمان المروزي، قال: (سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر

ص: 276


1- مجمع الفائدة والبرهان: 5/53.

رمضان، أو استنشق متعمّداً، أوشمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له فُطر مثل الأكل والشرب والنكاح).

ويتوجّه على الأول: المنع من كون مطلق الإيصال مُفسداً، بلْ المفسد الأكل والشرب وما في معناهما، وعلى الرواية:

أولاً: الطعن في السند باشتماله على عدّة من المجاهيل مع جهالة القائل.

ثانياً: باشتماله على ما أجمع الأصحاب على خلافه من ترتّب الكفارة على مجرّد المضمضة والاستنشاق وشمّ الرائحة الغليظة.

وثالثاً: بأنّها معارضة بما رواه الشيخ في الموثّق عن عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) ، قال: سألته عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه؟ قال (علیه السلام) : (لا بأس، وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال (علیه السلام) : لا بأس).

ويظهر من المصنّف في المعتبر التوقف في هذا الحكم، حيث قال بعد أنْ أورد رواية سليمان المروزي: (وهذه الرواية فيها ضعف، لأنّا لا نعلم القائل، وليس الغبار كالأكل والشرب، ولا كابتلاع الحصى والبرد) وهو في محلّه.

واعلم: إنّ المصنّف لم يقيّد الغبار في هذا الكتاب بكونه غليظاً، وقد صرّح الأكثر - ومنهم المصنّف في المعتبر - باعتباره، ولا بأس به؛ قصراً لما خالف الأصل على موضع الوفاق إنْ تمَّ، إلّا أنَّ الاعتبار يقتضي عدم الفرق بين الغليظ وغيره؛ لأنّ الغبار هو نوع من المتناولات، فإنْ كان مفسداً للصوم أفسد قليله وكثيره، وإلّا لم يفسد كذلك.

وألحقَ المتأخرون بالغبار الدخان الغليظ الذي يحصل منه أجزاء ويتعدّى إلى الحلق وبخار القدر ونحوهما وهو بعيد).

ثم قال: (قوله: (وإيصال الغبار إلى الحلق). ما اختاره المصنّف من وجوب القضاء

ص: 277

والكفارة بذلك أحد الأقوال في المسألة؛ لرواية سليمان بن جعفر المروزي) وذكرها، ثمّ قال: (وهذه الرواية ضعيفة السند بجهالة الراوي والقائل، متروكة الظاهر من حيث اقتضاؤهما ترتّب الكفارة على مجرّد المضمضة والاستنشاق وشم الرائحة الغليظة ولا قائل به. وحكى الشيخ في المبسوط عن بعض أصحابنا قولاً بأنّ ذلك لا يوجب الكفارة، وإنّما يوجب القضاء خاصّة، واختاره المصنّف وابن إدريس، قال: (لأنّ الأصل براءة الذمة من الكفارة. وبين أصحابنا في ذلك خلاف، والقضاء مجمع عليه). وهو جيد لو انعقد الإجماع على الوجوب، لكنّه غير ثابت، وقد تقدّم الكلام في ذلك)(1). [انتهى كلام صاحب المدارك]

وفي اثني عشريّة البهائي:

(فما لا يتحقّق الصيام إلّا بالإمساك عنه...) ثم قال: (التاسع: إيصال الغبار إلى الحلق ومبدؤه مخرج الخاء المعجمة. وقيّد بعضهم بالغليظ وهو الحق، فيقضي وفاقاً للمرتضى. وألحقَ به الدخان والبخار الغليظان. وموثّق عمرو بن سعيد بنفي البأس

عن الدخنة والغبار محمول على الرقيق)(2). [انتهى كلام البهائي]

وفي الذخيرة:

(ويجب الإمساك عن إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق). اختلف الأصحاب في هذه المسألة: فعن الشيخ في عدّة من كتبه إيصال الغبار الغليظ متعمداً إلى الحلق مفطر يوجب القضاء والكفارة، وفي المبسوط فيما يوجب القضاء: (وإيصال الغبار الغليظ إلى

ص: 278


1- مدارك الأحكام: 6/51.
2- الاثنا عشرية الصومية: مجلة تراثنا: 11/204.

الحلق متعمداً مثل غبار الدقيق أو غبار النفض على ما تضمّنته الروايات)، قال: (وفي أصحابنا مَنْ قال إنّ ذلك لا يوجب الكفارة وإنما يوجب القضاء).

وعن المفيد: (ويجتنب الصائم الريح الغليظة، والغبرة التي تصل إلى الجوف، فإنّ ذلك نقض في الصيام).

وعنه في موضع آخر: (وإنْ تعمّد الكون في مكان فيه غبرة كثيرة، أو رائحة غليظة، وله غناء عن الكون فيه، فدخل حلقه شيء من ذلك، وجب عليه القضاء).

وعن أبي الصلاح: (إذا وقف في غبرة مختاراً فعليه القضاء). قال في المختلف: (والظاهر أنّ الوقوف مطلقاً لا يوجب القضاء، وإنّما قصده مع إيصال الغبار إلى حلقه).

وقال ابن إدريس: (الذي يقوى في نفسي أنّه يوجب القضاء دون الكفارة إذا تعمّد الكون في تلك البقعة. فأمّا إذا كان مضطراً إلى الكون في تلك البقعة، واحتاط في التحفّظ فلا شيء عليه من قضاء وغيره؛ لأنّ الأصل براءة الذمة من الكفارة. وبين أصحابنا في ذلك خلاف، والقضاء مجمع عليه).

وقال في المنتهى: (وعلى قول السيد المرتضى ينبغي عدم الإفساد) إشارة إلى ما تقدّم منه من اشتراط الاعتياد في المأكول.

ويظهر من المحقّق في المعتبر التردد في هذا الحكم، فإنّه قال بعد إيراد رواية سليمان الآتية: (وهذه الرواية فيها ضعف، لأنّا لا نعلم القائل، وليس الغبار كالأكل والشرب ولا كابتلاع الحصى والبرد).

وقال في الشرائع: (وفي إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق خلاف، والأظهر التحريم وفساد الصوم).

والأقرب عندي عدم الإفساد؛ لصحيحة محمد بن مسلم السابقة الدالّة على حصر

ص: 279

ما يفطر الصائم في الأشياء الأربعة، وما رواه الشيخ عن عمرو بن سعيد في الموثّق عن الرضا (علیه السلام) ، قال: سألته عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه؟ قال (علیه السلام) : (لا بأس).

احتج القائلون بالفساد بأنّه أوصل إلى جوفه ما ينافي الصوم فكان مفسداً له. وبما رواه الشيخ بإسناد - فيه توقف - عن سليمان بن جعفر المروزي، قال:

(سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمداً، أو شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له فُطر مثل الأكل والشرب والنكاح).

والجواب عن الأول: منع كون مطلق إيصال الشيء إلى الجوف مفسداً، وإنّما المفسد الأكل والشرب وما في معناهما.

وعن الثاني: بضعف السند بجهالة الراوي وجهالة القائل. وباشتماله على ما لم أعلم قائلاً به من الأصحاب وهو ترتّب الكفارة على مجرّد المضمضة والاستنشاق وشم الرائحة الغليظة. والتخصيص بإحدى خصال الكفارة، مع معارضتها بأقوى.

واعلم: إنّ بعض الأصحاب كالمحقّق في الشرائع لم يقيّد الغبار بكونه غليظاً، وقد صرّح الأكثر بالتقييد، وهو غير بعيد؛ قصراً للحكم على مورد الوفاق، إلّا أنّ الرواية والاعتبار الذي عوّلوا عليه يقتضيان التعميم.

وأكثر المتأخّرين ألحقوا بالغبار الدخانَ الغليظ الذي يحصل منه أجزاء، ويتعدّى إلى الحلق كبخار القدر ونحو ذلك. وأنكره بعضهم، وهو حَسن)(1). [انتهى كلام صاحب الذخيرة]

ص: 280


1- ذخيرة العباد: 3/499.

وفي الكفاية:

(وفي وجوب الإمساك عن إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق خلاف، والأقرب عندي أنّه غير مفسد للصوم. والمحقّق في الشرائع لم يقيّد الغبار بكونه غليظاً، وقد صرّح الأكثر بالتقييد، وهو غير بعيد؛ قصراً للحكم على موضع الوفاق. والمشهور أنّ الوقوف في الغبرة مختاراً لا يوجب القضاء خلافاً لأبي الصلاح، والأول أقرب.

وأكثر المتأخّرين ألحقوا بالغبار الدخان الغليظ الذي يحصل منه أجزاء، ويتعدّى إلى الحلق كبخار القدر ونحو ذلك. وأنكره بعضهم، وهو حَسن)(1). [انتهى كلام صاحب الكفاية]

وفي المفاتيح(2):

(وهل يجب الإمساك عن إيصال الغبار إلى الحلق؟ المشهور ذلك مع وجوب القضاء والكفارة به استناداً إلى رواية ضعيفة مقطوعة تدلّ على وجوبهما بتعمد المضمضة والاستنشاق أيضاً، مع أنّه خلاف الإجماع.

ومنهم من قيّده بالغليظ، ومنهم من أوجب به القضاء خاصّة، وفي المعتبر توقف في الحكم، وقال: (إنّه ليس كالأكل والشرب، ولا كابتلاع الحصى والبرد).

وقال في المنتهى: (وعلى قول السيد المرتضى (قدس سره) ينبغي عدم الإفساد بذلك).

وفي الموثّق: عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه؟ قال: (لا بأس)، وعن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال: (لا بأس) وهو - مع اعتباره -

ص: 281


1- كفاية الأحكام: 46.
2- مفاتيح الشرائع للفيض الكاشاني.

صريحٌ في المطلوب.

وفي الصحيح: (لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال: الطعام، والشراب، والنساء، والإرتماس). [انتهى كلام صاحب المفاتيح]

وفي المناهج السويّة(1):

(قوله: (وإيصال الغبار المتعدي) يجوز كونه صفة للغبار وللإيصال. وعلى الأول: إمّا المراد به المتعدي عن الاعتدال أو عن العادة – أي الغليظ بالنسبة إلى الغبار الذي لا يخلو عنه الهواء عادة ولم يسمّ غباراً عرفاً – . أو التعدّي إلى الحلق، والأول أولى معنى كما أنّ الثاني أظهر لفظاً.

والجار في متعلّق الشارح يحتمل التعلق بالمتعدّي والإيصال. والثاني أولى لئلا يتعيّن حمل المتعدّي على المعنى الأخير.

وفي العدول عن الوصول إلى الإيصال كما هو لفظ عبارة المصنّف وسائر الأصحاب إيهام عدم وجوب الاحتراز عنه، وأنّه لا يفسد الصوم بتمكينه من الوصول إلى الحلق، والظاهر أنّهم يدخلونه في الإيصال، ولعلهم إنّما اختاروه احترازاً عن الوصول بلا اختيار، وليكون صريحاً في فعل التكلّف كسائر ما اعتبر الكفّ عنه.

ثمّ إيصال الغبار مفسدٌ (غليظاً كان أم لا) كما يعطيه إطلاق الشرائع، والتلخيص، والتبصرة، كان للإيصال أو الغبار (ومن محلَّل كدقيق وغيره كتراب، وتقييده بالغليظ في بعض العبارات) وهي الأكثر (ومنها الدروس لا وجه له)؛ لأنّ الغبار المتعدّي إلى الحلق نوع من المتناولات وإنْ كان غير معتاد، فيحرم ويفسد الصوم، ويجب به الكفارة

ص: 282


1- المناهج السوية في شرح الروضة البهية, مخطوط. أنظر (الذريعة:22/345).

سواء في ذلك الغليظ والرقيق، بل الحكم فيه أغلظ من تناول المأكول إذا كان ما يحرم تناوله كذا في المسالك.

ويمكن الجواب بأنّ المراد بالغليظ ما يسمى بالغبار عرفاً، وهو ما زاد عن الذي لا يخلو عنه الهواء فلا خلاف بين المطلق والمقيّد. (وحدُّ الحلق مخرج الخاء المعجمة) لإطباقهم على كونه أعلاه.

وإفساد الغبار ممّا ذكره الشيخ في كتبه، وقال في المبسوط: (على ما تضمّنته الروايات)، وتبعه عليه الأكثر، ونسبه في التذكرة إلى علمائنا، وادعى عليه ابن زهرة الإجماع، إلّا أنّه عبّر بالشمّ الموجب لوصول شيء إلى الجوف.

ويدلّ عليه مع ما حكيناه عن المسالك رواية سليمان بن جعفر المروزي، قال: (سمعته يقول: (إذا شمَّ رائحة غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار فإنّ ذلك له فُطر مثل الأكل والشرب والنكاح)، وما دلَّ من الأخبار على إفساد الكُحل إذا وجد طعمه كصحيحة الحلبي عن ابي عبد الله (علیه السلام) : أنّه سُئل عن الرجل يكتحل وهو صائم؟ فقال : (لا، إنّي أتخوف أنْ يدخل رأسه)، وصحيحة محمد بن مسلم عن احدهما (علیه السلام) : أنّه سأله عن المرأة تكتحل وهي صائمة، فقال: (إذا لم يكن كحلاً تجد له طعماً في حلقها فلا بأس).

ولم يذكره جماعة من الأصحاب منهم الصدوق، وعلم الهدى، وسلّار، والشيخ في المصباح، وفي المعتبر ذكر الرواية الأولى، وقال: (وهذه الرواية فيها ضعف؛ لأنّا لا نعلم القائل، وليس الغبار كالأكل والشرب، ولا كابتلاع الحصى والبرد). انتهى

ويدلّ على العدم مع ما مرَّ من صحيحة محمد بن مسلم؛ لأنّ الغبار لا يسمّى في العرف طعاماً ولا شراباً للأصل، ورواية عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) ، قال: سألته

ص: 283

عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه؟ قال: (لا بأس).

قال في المختلف: (والجواب: الأصالة يبطل حكمها مع قيام الدليل المخرج منها وقد بيّناه، وعمرو بن سعيد وإنْ كان ثقة إلّا أنّ فيه قولاً، ومع ذلك فالرواية نقول بموجبها؛ لأنّ مطلق الغبار لا ينقض، وإنّما الناقض هو الغبار الغليظ. وأيضاً الغبار الغليظ إذا دخل اتفاقاً لا عن قصد ولا تعمّد للكون في مكانه لا ينقض، ولم يتضمّن السؤال شيئاً من ذلك).

وفي المقنعة: (ويجتنب الصائم الرائحة الغليظة والغبرة التي تصل إلى الحلق، فإنَّ ذلك نقض في الصيام)، وفي موضع آخر: (ولو كان في مكان فيه غبرة كثيرة، أو رائحة غليظة، فدخل حلقه من ذلك شيء لم يجب عليه القضاء).

وقال أبو الصلاح: (إذا وقف في غبرة مختاراً فعليه القضاء).

وقال ابن إدريس: (أمّا غبار النفض فالذي يقوى في نفسي أنّه يوجب القضاء دون الكفارة إذا تعمّد الكون في تلك البقعة من غير ضرورة، فأمّا إذا كان مضطراً إلى الكون في تلك البقعة، وتحفّظ، واحتاط في التحفّظ، فلا شيء عليه من قضاء وغيره)(1). [انتهى كلام صاحب المناهج]

والجزائري في غاية المرام:

نسب وجوب القضاء والكفارة بدخول الغبار في الأنف والحلق إلى الشيخ ومتابعيه، ثمّ قال: (وأمّا شمّ ما له رائحة غليظة كالدخان وبخار القدر فقد ألحقه عامّة المتأخّرين بالغبار الغليظ)(2). [انتهى كلام صاحب غاية المرام]

ص: 284


1- المصدر مخطوط.
2- غاية المرام في شرح تهذيب الأحكام, للسيد نعمة الله الجزائري.(أنظر الذريعة: 3/50).

[في بيان دلالة كلام القوم على مفطرية التدخين]

أقول في بيان دلالة كلام من سلف من فقهائنا (رضوان الله عليهم) – بعد الإغماض عمّا يرد على كثير منهم ممّا لا يتوقف صحّته وفساده على ما نحن بصدده – إنّه: يلزم على المفيد(1) أنْ يوجب القضاء بالدخان كدخان الغليان(2) بالفحوى؛ لحكمه بالقضاء بالرائحة الغليظة، كما يلزم حكمه به إذا كان الدخان غليظاً بالفحوى لحكمه بالقضاء بالغبرة مطلقاً. ومنه يتبيَّن وجه الدلالة(3) في كلام أبي الصلاح(4).

ويلزم على الشيخ في الخلاف(5) – نظراً إلى ما علّل حرمة الغبار به – أنْ يقول بحرمة شرب الغليان، وهو (إنّ مع ما قلنا تبرء الذمة بيقين، وفي الخلاف به خلاف)؛ فإنّ ثلة منّا أفتوا بلزوم الإمساك عنه صريحاً(6) - كما يأتي - ومنهم هو حيث عدَّ ]ه[

ص: 285


1- المقنعة:356.
2- الغليان هو النرجيلة.
3- قد يقال: إن التقريب الثاني - أعني قوله: (كما يلزم حكمه... بالغبرة مطلقاً) - لا حاجة إليه؛ فإنّ غايته الحكم بالحرمة في خصوص الدخان الغليظ – كما بيّن – ، بخلاف الأول فإنّه يعمّ الغليظ وغيره، فيقال: إنّ المصنّف قصد ذكر تقريبين: أحدهما يستند إلى دعوى الحرمة في الرائحة الغليظة، والثاني إلى دعواها في مطلق الغبرة، نتيجة الأول حرمة الدخان مطلقاً، ونتيجة الثاني حرمة الدخان الغليظ.
4- الكافي:183، قوله: (ومنه...) أيْ: وممّا بيّنا من لزوم الحكم بالحرمة بالفحوى في الدخان الغليظ للحكم بالقضاء بالغبرة مطلقاً.
5- الخلاف: 2/177.
6- أي: عن الغبار.

ممّا(1) ]يجب[(2) منه القضاء والكفارة(3) في الدخان(4)، ولا سيّما من غليظه، ومنه دخان الغليان؛ فإنّ الأجزاء التي بها يُنقض الصوم فيه أكثر ممّا في الرائحة الغليظة(5) ]بالذرية[ وبمثله يلزم أنْ يكون حرمته على الصائم متفقاً عليها عند صاحب الوسيلة(6) (7).

كما يلزم على الحلبي(8) أنْ يكون الدخان الغليظ - كدخان الغليان(9) - متفقاً عليه

ص: 286


1- أي: ما علل حرمة الغبار به.
2- في المصوّرة (يوجب) وليس بصحيح.
3- راجع نقل كلمات القوم من المصنف في أول المسألة.
4- قوله: (... في الدخان... الغليظة) الظاهر أنّ هنا سقطاً وكانَّ أصل الكلام: (ويلزم عليه في النهاية بالفحوى أنْ يقول بالحرمة في الدخان...)، أو ما في معنى هذا. ومنشأ الظهور أمور ثلاثة: 1- إنّ قوله: (في الدخان ولا...) لا يمكن أنْ يرتبط بما سبقه. 2- إنّ عبارة النهاية بعد عبارة الخلاف ولم يشر إليها فيما بعد. 3- إنّ التعليل بقوله: (فإنّ الأجزاء...) لا يرتبط بما تقدّم، وإنّما يرتبط ويتناسب مع كلامه في النهاية. إمّا أنّه لا يرتبط بما تقدّم فلأنّ تسرية الحرمة هناك من الغبار لا الرائحة الغليظة، ومن خلال علّة الحرمة في الغبار – أعني وجود الخلاف، وأنّ المطلوب اليقين ببراءة الذمة، فحيث إنّ في المقام خلافاً أيضاً لزم تحصيل اليقين والقضاء والكفارة –في حين أنّ التسرية في الثاني من الرائحة الغليظة لا الغبار.
5- في المصورة ( ينقص) لا ( يُنقض) والصحيح ما أثبتناه. وبعد الرائحة الغليظة (بالذرية) والظاهر أنّ المقصود منها الذرات.
6- أي: وبمثل ما ذكرناه في بيان الملازمة بين الحكم بالحرمة في الرائحة الغليظة والحكم بالحرمة في الدخان في تقريب كلام الشيخ في النهاية.
7- الوسيلة : 142.
8- الكافي:183.
9- ليس المقصود كجميع أفراد دخان الغليان، بل المقصود بعض أفراده، فإنّه سيأتي منه ما يدلّ على أنّه على قسمين: غليظ وغيره، أعني قوله: (... لدخان الغليان إذا كان غليظاً).

حرمة، فإنّه ادّعى الإجماع على القضاء بمطلق الغبار، وبفحواه يلزم حرمة الغليان الغليظ كما سمعت(1).

وكذا يلزم على كلام أبي المكارم في الغنية مطلقاً(2) نظراً إلى ادعائه الإجماع على لزوم القضاء والكفارة بما يصل إلى جوف الصائم، ولا ريب في شموله لدخان الغليان.

وكذا يلزم القضاء والكفارة بالدخان الغليظ على صاحب الجامع(3)، والمعالم(4) بالفحوى، حيث حكمَ الأول بلزومهما بمطلق غبار النفض وشبهه، والثاني بمطلق الغبار. وكذا على المحقق في مختصرَيه(5). ويلزم العلامة في نهج الحق(6) أنْ يقول بإيجاب الدخان الغليظ – ولو من الغليان - القضاء والكفارة، نظراً إلى عدّه الغبار الغليظ مفطراً، وعلّل الحكم بالنصّ الدال على إيجاب الكفارة بالإفطار، ومعلوم أنّ بدخول الغبار الغليظ في الحلق لو صدق الإفطار، لصدق بدخول الدخان الغليظ فيه، فإنّ أحداً لا يعقل أن يفرّق بينهما في ذلك، ولا سيّما كلامه(7) يعمّ لغبار الدقيق مع ]أنّ[(8) أجزاءه

ص: 287


1- في المصوّرة: (كما هو ممّا سمعت) وهو خطأ. والظاهر أنّ مقصوده من قوله: (كما سمعت)، أيْ في تقريب دلالة كلام الشيخ المفيد.
2- الكافي :183. والإطلاق بمعنى أنّه سواء أكان الغليان غليظاً أم غير غليظ.
3- لاحظ الأقوال التي ذكرها المصنّف أول الرسالة.
4- معالم الدين لابن قطان مخطوط.
5- أي: المختصر النافع ومختصر سلّار.
6- نهج الحق: 461.
7- كذا والأصح (ولا سيّما أن كلامه ...).
8- الصحيح ما أثبتناه في المتن,وفي المصوَّرة (مع أجزاءه ...).

حلال دون أجزاء الدخان، فبالفحوى يعمّ حكمه للدخان في الجملة، ولا قائل بالفصل.

وممّا مرَّ(1) تتبيَّن دلالة كلامه في المختلف على لزوم القضاء والكفارة بالدخان - كدخان الغليان - إذا كان غليظاً(2) بالفحوى، مع عدم القائل بالفصل، على أنّ تعليله في مطلق الغبار يعمّه؛ لأنّه قال: (ولأنّا بيّنا أنّ ازدراد كل ما لا يعتاد يوجب القضاء والكفارة، فكذا الغبار)(3)، وهو يعمّ مطلق الدخان، وإنْ كان في تعليله نظر - ككلام كثير منهم - من وجوه شتى إلّا أنّ كلامنا لا يتعلّق بها.

[ الأقوال في المسألة]

وممن صرّح بإلحاق الدخان بالغبار ممّن سبق: المحقّق الثاني(4)، وابنه(5)، والشهيد الثاني(6)، والشيخ البهائي(7)، ونسب في المدارك الإلحاق إلى المتأخّرين(8)،

ص: 288


1- أي: ممّا مرَّ في تقريب دلالة كلامه( قدس سره ) في نهج الحق.
2- لاحظ: 23، 25، 27 .. في المصوّرة: (مما مرَّ يبين..بالدخان لدخان الغليان..) باللام، وهو تصحيف.
3- هذا التعليل منقول بمضمونه لا بلفظه.
4- في جامع المقاصد، وفوائد الشرائع، وتعليقات الإرشاد، لاحظ: 74، 75.
5- وأمَّا ابنه فهو الشيخ عبد العالي, قال السيد البروجردي في (طرائف المقال 1/84): (ابن المحقّق الثاني كان فاضلا جليلا, قال السيد مصطفى في نقده: جليل القدر، عظيم المنزلة، رفيع الشأن، نقي الكلام كثير الحفظ، تشرفت بخدمته) انتهى, ويروي عنه ابن أخته السيد الداماد ويروي هو عن أبيه).
6- المسالك: 2/ 17.
7- الاثنا عشرية : مجلّة تراثنا / 11/204.
8- مدارك الأحكام: 6/51. قال صاحب قصص العلماء في أحوال المحقّق الحلي: (وليُعلم أنّ المحقّق هو أول المتأخّرين، والعلماء يسمّون من قبله بالمتقدّمين).

كالجزائري(1)، وفي الذخيرة(2)، والكفاية(3) إلى أكثرهم.

والمخالفُ السيوري(4)، وصاحب المدارك(5), والذخيرة(6)، وهو ظاهر المقدّس(7). والمتوقّفُ الصيمري(8).

[فساد دعوى الإجماع على عدم المفطريّة]

ومن جميع ما مرَّ بانَ أنّ مِن العجب أنْ يدّعي أحد الإجماعَ على عدم حرمة إدخال دخان الغليان في الحلق وعدم إفساده، وهل يصدر ذلك إلاَّ من غافل، أو خارج عن أهل الفن، ]...[ (9).

[أدلّة القول المختار]

[الأدلّة على لزوم الاجتناب ووجوب القضاء]

والدليل على لزوم الاجتناب في الدخان - ومنه دخان الغليان والشطب(10) - بعدما

ص: 289


1- في غاية المراد مخطوط.
2- ذخيرة العباد : 3/499.
3- كفاية الأحكام:46.
4- التنقيح الرائع: 1/357.
5- مدارك الأحكام: 6/51.
6- ذخيرة العباد : 3/495.
7- مجمع الفائدة والبرهان:5/53.
8- في غاية المرام مخطوط.
9- تم حذف سطر ونصف تقريباً لتضمّنهما ألفاظاً غير مستساغة في عصرنا الحاضر.
10- الغليان هو النرجيلة – كما تقدّم- ، وأمّا الشطب فهو ما يُدّعى في الفارسية ب-(سِبيل) ، وهو آلة للتدخين لها أنبوب قصير ورأس مجوف، يحرق فيه التبغ عند شربه.

مرَّ من ظهور الإجماع من الشيخ(1)، وابني حمزة وإدريس(2)، وصريح الغنية(3) عموماً(4) - استصحابُ الاشتغال، والسيرة القاطعة: فإنّ كلّ مَنْْ اطلع على حال أهل الإسلام في ]...[ يعلم إلزامهم كافّة على تركه في بلادهم ومجالسهم: من العامّة والخاصّة، والعرب والعجم والروم(5) بأصنافهم: من السلاطين، والأمراء(6)، والتّجار، والكسبة، وكلّ مَنْ كان داخلاً فيهم، وبين ظهرانيهم، وبلغت(7) صيتُ الإسلام إليهم وأحكامه، حتى أهل القرى، والبوادي، والمزارع، حتى المميّز منهم، قديماً وحديثاً.

بل لم يسمع من أحد في عصر من الأعصار، أو صقع من الأصقاع ارتكابه مدّعياً أنّه غير مفسد، من المجتهدين ولا من الإخباريين ولا ممّن تبعهما، وإنْ غفل عنهما مَن غفل(8).

ص: 290


1- في المبسوط.
2- في الوسيلة. لاحظ أول الرسالة حيث نقل المصنّف أقوال العلماء فيه.
3- لاحظ أول الرسالة حيث نقل المصنّف أقوال العلماء فيه.
4- أي: الإجماع على وجوب القضاء ووجوب الكفارة.
5- في المصوّرة: (والرومي)، والمناسب ما أثبتناه.
6- الظاهر أن المقصود من الأمراء ولاة السلاطين، ووكلاؤهم في أنحاء البلاد.
7- الصحيح: (بلغ صيت...) دون التاء، ولكن يكثر مثله عند علماء الأصول والمنطق، حتى إنّ التفتازاني مصنّف المطول والمختصر وغيرهما من عيون كتب العربية لا تخلو بعض كتبه كالتهذيب من ذلك.
8- قوله: (ولا ممّن تبعهما) المقصود من الأتباع المقلدون، قوله: (وإنْ غفل عنهما) أي: عن المجتهدين والإخباريين أي: عن مسلكهم في اجتناب ارتكابه.

وظاهرٌ أنّ السيرة من الحجج القويّة القطعية بلا شك وارتياب، وفوق الإجماع لاختصاصه بمن حَصَّل العلم منهم(1) من العلماء الأبرار، بخلافها فإنّها تعمّهم وغيرهم.

وصحّةُ سلب الاسم (عمّن) (2) شرب الغليان أو الشطب عند أهل الشرع على وجه القطع واليقين.

ص: 291


1- أي من المسلمين الذين يُحتج بسيرتهم.
2- في المصوّرة بدل (عمّن) (عن)، وعليه: فلابد من دعوى سقوط كلمة (عدم) من النسخة، إذ إنّ صحة سلب الاسم - أي: الشرب - دليل على عدم المفطريّة لا على المفطريّة - كما هو مقتضى العطف -. أمّا عدم صحّة سلب الاسم فهو حجّة على المفطريّة، وتقريرها: إنّ كلّ مشروب مفطر، وهذا مشروب، إذ لا يصح سلب اسم الشرب عنه فهو مفطر. هذا بناءً على ما هو مثبت في المصوّرة. وأمّا بناءً على ما أثبتناه فحاصل الحجّة هو: أنّه يصح سلب اسم الصائم عمّن شربهما، وإذا صحَّ سلبه فهذا يعني بعبارة أخرى أنّه ليس بصوم، وأنّ صورة الصوم وماهيته قد انمحتا فلم يأتِ بما هو مأمور به - وهو الصوم - ، فلم يسقط الأمر. كما لو صفّق أثناء الصلاة أو أتى بما هو ماحٍ لصورتها، فإنّها حينئذٍ لا تقع صحيحة بسبب أنّه أتى بما هو ماحٍ لصورتها، ولذا صحَّ سلب الاسم. وهكذا في الوضوء وغيره. إذن فما هو الفارق بين الصلاة والوضوء وما في حكمهما وبين الصوم كي يفرّق في الحكم؟ وكلتا الحجّتين ذكرهما الميرزا محمد الهمداني الكاظمي في الأسلاك في حكم دخان التنباك. هذا، ولكن الأرجح – بل المتعيّن- هو الاحتمال الثاني، وأنّ الصحيح (عمّن) لا (عن) لثلاثة وجوه: أولاً: لأنّ في نسخة ل-(منهاج الهداية) - وهو كتاب فقهي للمصنّف- ما لفظه: (... بل للسيرة القاطعة في ترك الغليان والشطب من أهل الإسلام، وصحّة سلب الاسم عمّن شربهما عندهم على وجه القطع). وثانياً: إنّ إطلاق الشرب عليه بالاشتراك اللفظي، كما أشار إليه الميرزا الذي ذُكر آنفاً، وما هو مفسد الشرب بمعناه الآخر. وثالثاً: إنّ احتمال اشتباه (عمّن) ب-(عن) لا يقاس قوةً باحتمال سقوط كلمة (عدم) كما هو واضح لا يخفى.

فضلاً عمّا رواه الشيخ عن سليمان بن جعفر المروزي، قال: (سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمّداً، أو شمَّ رائحة غليظة،أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين؛ فإنّ ذلك له فُطر مثل الأكل والشرب والنكاح) (1).

[الاعتراضات على الرواية]

وهو وإنْ كان مضمراً مشتملاً سنده على مجهول، ومتنه على ما لا يقول به أحد كإفساد الصوم بالمضمضة، والاستنشاق، وانحصار الكفارة في الشهرين. لكنّه لا يضرّ شيء منها.

[دفعها]

أمّا الضعف: باشتمال سنده على المجهول فلاعتماد الجلّ عليه، وهو من أقوى أسباب الاعتبار؛ إذ مع اختلاف مشاربهم في حجّية أخبار الآحاد، وعدم قائل منهم بحجّيتها مطلقاً يحصل بعملهم به ظنّ قويّ في غاية القوّة على أنّه كان يشتمل عندهم على أسباب الاعتبار، ولولا ظهور اعتباره في الغاية لما أمكن هذا القبول منهم عادة، وفيه الغنية كما حقّقناه في الإشارات(2).

ص: 292


1- وسائل الشيعة: ج10، كتاب الصوم، باب: 22، ح: 12851، ولكن فيه بدل (فطر) (مفطر).
2- إشارات الأصول: 2/54.

وأمّا الإضمار فلأنّ الظاهرَ من الغلبة والشيوع، وديدنِهم من عدم نقل الفُتيا سنداً - ولا سيّما من الشيخ - وفي تَلْوِ الأخبار(1) كونُ المروي عنه الإمام، وحدوثه في الأكثر في كلامهم من تجزئة الأخبار، فالظن بما ذُكر وغيره، فما ذكرناه في الإشارات(2) يحصل بإرجاع الضمير إلى المعصوم، وفيه الكفاية عرفاً، فليس مداره على حجّية الظنّ مطلقاً، بل إنّما هو على أنّ المرجع عرفاً على ما يظهر من كلام المتكلم، وهو حاصل، فهو حينئذٍ حجّة مطلقاً(3).

وأمّا اشتماله على ما لا نقول به فلا يرفع حجّية الخبر، وإلّا لزم من اشتماله مثله عدم حجّية كلام الراوي مطلقاً(4)، وبطلانه ظاهر.

على أنّ الكلام حجّة بتمامه، فبرفع حجّية جزء منه لا يلزم عدم حجّية غيره، كالعام المخصَّص، بل حاله حاله بمقضى ما ذكرنا.

ص: 293


1- قوله: (وديدنهم من عدم نقل الفُتيا سنداً) أي: من عدم نقل سند الفتيا. وحاصل هذا الدليل: أنّ ديدن العلماء أنْ لا ينقلوا سند الفتيا، ولو كان الراوي غير المعصوم لكانت فتيا، وحيث أنّ القول مذكور مع سنده فليس بفتيا. قوله: (وفي تَلْو الأخبار) يحتمل أنّه معطوف على (من عدم نقل) أيْ أنّ ديدنهم الرواية عن المعصوم لا غيره, ويحتمل غيره أيضاً.
2- كذا في المصوّرة إلّا أنّه اشتباه من الناسخ، والصواب (ممّا). ولعله إشارة إلى قوله قدس سره هناك: (ولا سيّما من مثل زرارة، وابن مسلم، وعلي بن مهزيار، ممّن يُعلَم من ظاهر حاله أنّه لا يسألُ شيئاً من الأحكام إلّا من المعصوم). ولاتّضاح المطلب بصورة أفضل لاحظ الإشارات: 168.
3- لعلّ الإطلاق في مقابل مَن خصَّ الحجية بغير سماعة كالعلّامة في المنتهى – أو ببعض الأصحاب كزرارة وغيره.
4- لعلّ المقصود منه أنّه يلزم عليه عدم حجّية أي كلام للراوي حتى غير هذه الرواية، وهذا واضح الفساد كما ذكره قدس سره .

على أنّه يمكن أنْ يكون صدور ذلك الجزء من باب التقية، أو يكون من سهو الراوي، فلا ملازمة بين بطلان الجزء وبطلان الكل.

هذا، ولمّا كانت الرواية ضعفها أكثر(1)، ومعارضها أكثر وأقوى(2)، تصير أقوى بالعمل(3)؛ إذ بذلك يصير الإشتباه أبعد، فكلّما ظهر الفساد، ولم يعتنِ به أحد، قَويت حجّيتها، ويظهر(4) أنّ الرواية معتمدة، لبُعدِ الاشتباه جداً في مثله.

[تقريرات للاستدلال بالرواية على المدعى]

إذا عرفت هذا فاعلم:

[ التقرير الأول]:

إنّ الخبر يدلّ على حكم الدخان الغليظ الذي أجزاؤه أكثر من الغبار المحسوس بالفحوى، فإنّه لما دلَّ على الحكم بفساد الصوم بمطلق الغبار – لاشتماله على الأجزاء الصغار المفطر جنسها(5) – فإذا كان ذلك أكثر في الدخان الغليظ فتدلّ على إفساده بالفحوى، ولا قائل بالفصل بين الغبار والدخان بإطلاق الأول وغلظة الثاني.

ص: 294


1- قوله: (... كانت الرواية ضعفها أكثر) أي: كانت جهات الضعف فيها كثيرة، فافعل مستعملة في غير بابها.
2- قوله: (... أكثر وأقوى) أي: كان أكثر عدداً، وأقوى سنداً.
3- قوله: (... أقوى بالعمل) يعني عمل الأصحاب.
4- (يظهر) عطف على (قوى)، بمعنى (يتبيَّن).
5- ليست الكلمة واضحة جيداً في المخطوطة، ولكن أظن انها ( جنسها)، وليس المقصود منها بواضح.

[التقرير الثاني]:

وأيضاً يدلّ بوجه آخر، وهو: أنّ غبار الدقيق لما كان بمقتضى النص مُفطراً – مع كون الدقيق حلالاً – فيكون الدخان – مع أنّ أجزاءه حرام – لكونه(1) أرضيته محترقة من النباتات ونحوه وهو الرماد – مفطراً بالفحوى.

[التقرير الثالث]:

ويمكن أنْ يقرر الكلام في الدخان النجس كما سمعت(2)، فيتمّ الدلالة فيه بالفحوى، وفي غيره بعدم القول بالفصل.

[إشكال على التقريب الثالث ورفعه]

ولو قيل: نعكس الأمر، ونُثبت عدم الحرمة في الشق الآخر بعدم القول بالفصل، فنحكم بالعموم.

قلنا: غاية الأمر في الشق المقابل عدم الدلالة بخلاف ما دلَّ ]على[ الآخر، فلا يمكن العكس.

ص: 295


1- الظاهر أنّ الهاء من (لكونه) زائدة، وأنّ (أرضيته) بمعنى أساسه، وعليه فمعنى العبارة: لكون المواد التي يتكون منها الدخان – والتي هي أساسه – عبارة عن رماد نشأ من احتراق النباتات ونحوها كالخشب، ويحتمل كون أرضيته بدلاً من الضمير- فيما إذا جوّز كون الظاهر بدلاً من الضمير-، ولكنّه بعيد.
2- قوله: (في الدخان النجس) أي: في حرمة الدخان النجس. قوله: (كما سمعت) أي: بتقرير كالتقرير الذي سمعته فيما سبق – من أنّ الغبار مفطر، مع كون أجزاءه حلالاً فما كانت أجزاؤه حراماً – وهو الدخان – أولى بأنْ يكون مفطراً – وذلك بأنْ يقال: أجزاء الدخان النجس حرام، حيث إنّ الغبار – مع كون أجزاه حلالاً - مُفطر، فالدخان النجس أولى بأنْ يكون مُفطراً.

[التقرير الرابع]:

ويمكن أنْ ]يقرّر[ (1) الدلالة بأنْ يقال: التعليل بقوله: (فإنّ ذلك له فطر مثل الأكل والشرب والنكاح) يعمّ الدخان، فإنّ المفهوم من التعليل: أنّ الغبار لمّا اشتمل على أجزاء ينافي دخولها في الحلق صحّة الصوم ]...[ فهو يستلزم العموم، فإنّ أجزاء الدخان نوع ومن أجزاء الغبار، فإنّ الغبار تارة من الرماد أو التراب ]...[ (2)، فأجزاء الدخان لا يخرج من(3) أجزاء الغبار، بل ربّما يصير أجزاء الدخان في الإفساد أقوى، كما لو كان الغبار من الدقيق والدخان من أي شيء كان – فإنّ أجزاء الدخان من الرماد المحرّم أكله – فيكون أولى بالفساد، كدخان النجس.

فهذان ]تقريران[ آخران غير ما قُرِّر.

[الدليل السادس]

وأيضاً قال في المبسوط - كما مرَّ -(4): (وإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمداً مثل الدقيق، أو غبار النفض وما جرى مجراه على ما تضمّنته الروايات)(5) فهو يدلّ على كراهة الروايات في البناء(6)، فهو حجّة أخرى ولا يحتاج مثله إلى السند، فإنّ الاستفاضة نحوه من التثبت، والعادل أخبر بثبوتهما، فيكفي في القبول.

ص: 296


1- في المصوّرة (يقرن) وليس بصحيح.
2- هنا كلمة لم تتضح لنا.
3- كذا والمناسب (عن).
4- في أول الرسالة.
5- تقدم تخريجه.
6- قوله: (..فهو يدلّ.. في البناء) وقوله: (واحتمال كون.. والدلالة الدلالة) لم يتضح المقصود منهما.

واحتمال كون الدلالة حجّة عندنا خلاف ظاهرِ الأخبار، وسَوْقِ الكلام، وبعده عن مثل هذا الكلام جِدّاً، بل مثله غير مفهوم عن مثله - كما مرَّ - ، فيُشمّ فيه التقريب - كما مرَّ - ، والدلالة الدلالة.

[التمسك بموثّقة عمرو بن سعيد في عدم المفطرية]

هذا، وأمّا ما رواه الشيخ في موثّق عمرو بن سعيد عن الرضا (علیه السلام) - وربّما قيل(1) عن الصادق (علیه السلام) وفيه نظر -، قال: سألته عن الصائم: يتدخن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه؟ فقال: (جائز، لا بأس). قال: وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال: (لا بأس به)(2).

فمهجوران، ومردودان بما مرَّ(3) - لو نافيا - .

مع احتمال ورودهما فيما وصل من غير شعوره وإدراكه، أو نحو ذلك.

على أنّ ظاهرهما لا يبعد أنْ يكون من غير عَمد، فلا إشكال.

وممّا مرَّ تبيَّن ما للمخالف من المتوِّقف، والجواب عنهما(4).

[الدليل على لزوم الكفارة في الغبار]ثمّ إنّه هل يلزم بالغبار القضاءُ، أو القضاء والكفارة معاً؟ الظاهر الثاني، لعموم

ص: 297


1- القائل هو الفاضل المقداد السيوري في التنقيح.
2- التهذيب 4: 334، كتاب الصوم، باب72، ح: 71.
3- يُحتمل أنّ مراده قدس سره ب-(ما مرَّ): الأدلّة المتقدّمة على لزوم الاجتناب.
4- ما للمخالف: 1- الإجماع. 2- الرواية الأولى. 3- الرواية الثانية، بتقريب: أنّ هناك ملازمة بين الجواز في الغبار والجواز في الدخان. 4- الاعتراضات الثلاثة على الرواية الأولى.

التشبيه في الرواية(1) المؤيّدة بالعموم(2) في خصوصه أيضاً، فإنّ ظاهر المبسوط(3) والخلاف(4) والوسيلة الشهرة، وهو المفهوم من المنتهى(5)، حيث نسب الحكم بالقضاء والكفارة إلى الشيخ وأتباعه.

بل ظاهر الغنية(6)، ونهج الحق(7)، والتذكرة الإجماع(8) فهو يكشف عن الشهرة لا أقل، ويكفي. على أنّ في كلٍ إخباراً بالإجماع، فيكون حجَّة.

فروع:

الأول: هل يجب القضاء بالدخان، أو القضاء والكفارة معاً؟

الظاهر الثاني، ووجهه يظهر بما مرَّ(9).

ص: 298


1- تقدّمت فيما سبق.
2- أي: المؤيدة بعمل عموم الأصحاب في خصوص دخول الغبار الأنف، أو الحلق دون التمضمض والاستنشاق وشمّ الرائحة الغليظة.
3- تقدّم تخريجه.
4- تقدّم تخريجه.
5- تقدّم تخريجه.
6- قوله: (بل ظاهر الغنية، ونهج ...) من باب التغليب، باعتبار أنّ اغلب المذكور – وهو النهج والتذكرة – ظاهر في ذلك، وإنْ كان كلام الغنية صريحاً فيه كما تقدّم.
7- تقدّم تخريجه.
8- تقدّم تخريجه.
9- الظاهر أنّ المقصود ب-(ما مرَّ) ما يلي: 1- استصحاب الاشتغال. 2- دلالة الرواية على لزوم الكفارة في الغبار بضميمة أحد التقريبات السابقة. 3- الإجماع المنقول على لزوم الكفارة في الغبار بضميمة أحد التقريبات السابقة.

الثاني: هل تعتبر الغلظة في الغبار؟

الظاهر العدم، إنْ كان المراد (منها)(1) ما فوق الإحساس للإطلاق(2)، وإلّا فتعتبر لعدم صدق الموضوع. وكذا الحكم في الدخان لما ظهر ممّا مرَّ(3).

الثالث: إنّ البخار يُلحق بالغبار كالدخان، والمستند المستند، والتقييد والإطلاق كما مرَّ(4).

الرابع: الحكم بلزوم الاجتناب في الجميع هل يعمّ غير صوم شهر رمضان؟

الحق نعم، للتعليل الوارد فيه(5)، مع عدم القول بالفصل.

الخامس: الغبار، أو الدخان، أو البخار لا يبطل الصوم - سواء كان من الغليان أو غيره - إذا لم يتجاوز فضاء الفم كغيره من المُفطرات.

ص: 299


1- في المصوّرة: (منهما)، وليس بصحيح.
2- في ( الغبار) من قوله (علیه السلام) : (فدخل في أنفه وحلقه غبار) من الرواية المتقدّمة.
3- الظاهر أن المقصود ب-(ما مرَّ) ما ذكره في الغبار.
4- أي: أنّ المستند فيه هو بعينه المستند في الغبار والدخان، والإطلاق والتقييد فيه بالغلظة كالإطلاق والتقييد هناك، وحيث إنّه لم تُعتبر الغلظة هناك – مع صدق الموضوع – فهي غير معتبرة هنا أيضاَ.
5- يعني: في قوله (علیه السلام) : (فإنّ ذلك له فطر مثل الأكل، والشرب، والنكاح).

خاتمة

اشارة

تشتمل على فائدتين:

الأولى: [وصية بالتقوى، وتحذير من الدنيا، ومن الإفتاء]

أوصيكم إخواني بتقوى الله سبحانه، فإنّها سفينة النجاة، وبها يبلغ الطالب إلى السعادة الأبديّة، وينجو الهارب من الهلكة وزلزلة الساعة.

ولا يغرنّكم الدنيا، فإنّها دار فناء لا دار بقاء، ولا تغتروا بغرورها، ولا بعزّها، ولا بذلها، ولا بصعودها، ولا بهبوطها، فإنّها في كلّ لحظة لها صديق وخليل، وفي كل آن لها طريد وقتيل.

فوا أسفاه على ما فرّطنا في جنب الله، فتنبهوا للموت قبل حلوله، وتذكروا يومَ تذهل كلّ مرضعةٍ عمّا أرضعت، وتضع كلّ ذاتِ حمل حملَها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد.

وما نحن والمعاصي، ولا سيّما كبائرها، والحكم بغير ما أنزل الله سبحانه، ألا ترون التشديد من الله سبحانه حتى حكم في كتابه العزيز بكفر مَن لم يحكم بما أنزل الله تارة، وفسقه أُخرى، وظلمه ثالثة، وقال الصادق

(علیه السلام) : (إنّ النواويس شكت إلى الله عزَّ وجلّ، فقال الله عز وجل لها: اسكتي، فإنّ مواضع القضاة أشد حراً منك)(1).

فعليكم بالتجنّب من الفتوى إلّا بعد إتّقان شرائطها وما يتعلق بها فإنّكم ]مخبرون[(2)

ص: 300


1- وسائل الشيعة: 27: 220:ح4.
2- في المصوّرة بدل (مخبرون) كلمة غير واضحة، ونحن أثبتنا (مخبرون) لأنّها هي الموجودة في خاتمة الإشارات؛ وهذه الفائدة متطابقة مع خاتمته تقريباً في بعض المواضع.

في فتواكم ]عن[ (1) ربكم، وأيُّ جرأةٍ للعبد في الافتراء على الله سبحانه مع اعترافه بعلمه سبحانه، ألا تنظرون إلى التهديد الواقع في الكتاب على اشرف المرسلين: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَأويلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾(2) وقوله سبحانه: ﴿قل أرأيتم مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾(3)، وفيما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام) : (...وتبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء)(4)، و(من أفتى الناس بغير علم ولا هدى، عليه من الله اللّعنة، ومن ملائكة الرّحمة، ومن ملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه)(5) و(كلّ مُفتٍ ضامن) (6) إلى غير ذلك.

ولولا إلّا(7) ما في هذه الفقرات من مناجاة سيد الساجدين، وزين العابدين (سلام الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين) لكفتْ في النصح والتنبيه: (يا إلهي، لو بكيتُ إليك حتى تسقط أشفار عيني، وانتحبت حتى ينقطع صوتي، وقمت لك حتى تبتئس

ص: 301


1- الذي في المصوّرة (من) إلّا أنّ الأنسب – كما في خاتمة الإشارات – (عن).
2- سورة الحاقَّة: (44-47).
3- سورة يونس: 59.
4- وسائل الشيعة : 27/ 40، (باب 6) عدم جواز القضاء والحكم بالرأي, ح33154.
5- نص الحديث هكذا: (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب..) وسائل الشيعة : 27/ 220 باب 7 المفتي إذا أخطأ أثم وضمن, ح 33638.
6- وسائل الشيعة: 27/220، باب: 7أنّ المفتي إذا أخطأ أثم وضمن، ح: 33639.
7- لولا بمعنى: لو لم يكن، فحاصل المعنى: لو لم يكن إلّا ما في هذه الفقرات، ولكن كان الأولى أنْ يقول ابتداءً ( لو لم يكن إلّا).

قدماي، وركعت لك حتى ينخلع صلبي، وسجدت لكَ حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلتُ ترابَ الأرض طولَ عمري، وشربتُ ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكِلَّ لساني، ثمّ لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياءً منك، ما استوجبتُ بذلك محو سيّئة واحدة من سيئاتي) (1).

اسأل الله سبحانه أنْ يحفظني وإيّاكم عمّا يدلّ(2) العباد إلى النار، بل إلى أشد العذاب.

وأسألكم إخواني أنْ لا تنسوني عن صالح دعائكم في حياتي، وبعد مماتي، ولا سيّما إذا انقطع(3) يدي عن الدنيا، بل عن التوبة والإنابة، وابتلى(4) بعملي، وأيدي الأحبة منقطعة عن]ي[ (5).

أعوذ بالله سبحانه منه ومن أمثاله.

ص: 302


1- الصحيفة السجادية: 82، دعاء (16) .
2- كذا في المصوّرة إلّا أنّ الصحيح (يدخل) بدل ( يدلّ) لأنّ هذه الفائدة متطابقة تقريباً في بعض المواضع مع ما أورده ( قدس سره ) في خاتمة كتاب الإشارات تحت عنوان (خاتمة في الوصايا النافعة للمتعلمين وغيرهم) وما هناك (يدخل) لا (يدلّ). أضف إلى ذلك أنّه لو كان الفعل ( يدلّ) للزم أن يُعدّى ب-(على) لا (إلى) الذي يتعدّى به (يدخل).
3- كان اللازم إلحاق تاء التأنيث، ولكنْ الأمر في التذكير والتأنيث سهل عندهم كما تقدَّم.
4- بالبناء للمعلوم, والفاعل ضمير يعود على (يدي), والوجه في تذكير الفعل ظهر مراراً تسامحاً منهم في تأنيث الفعل مع المؤنث المجازي.
5- ليس في المصوّرة الياء وليس بصحيح جزماً، بل الصحيح (عني)-كما في الإشارات-.

الثانية: [في مفاسد الغليان ومضاره]

بها نختم الكلام، وهي من النصائح النافعة، فاعلم:

إنّ شرب الغليان من عجائب الزمان، وغرائب الدوران(1)، وممّا لا يقوم عليه أولو البصيرة والاتفاق(2)، وإنْ كان حاله حال الموضوعات التي تجري فيها الأحكام المشهورة بالعيان(3)، فإنّ(4) الغالب فيه اللغو حدوثاً ودواماً؛ فإنّ حدوثه قلَّ ما يتفق لأجل منفعة، أو معالجة، أو لذة تصورها(5)، بل الغالب فيه جداً: أنّ الأطفال لمّا رأوا أنّ آبائهم ومعلميهم، بل غالب مَن يرونه يستعملونه، يرتكبونه بمجرّد ذلك، حتى يعتاد لهم، ويخفونه غالباً، لأنّهم يرونه(6) بعقولهم قبح ارتكابه لهم حينئذٍ، فلمّا كثر سنهم(7) ويرون شيوعه في أمثالهم، وأقرانهم، فيعلنون به، ويبقون على ذلك مدّة أعمارهم بلا منفعة عاجلة أو آجلة، بل معلوم لكلّ واحد بالعيان، ومع ذلك ننبه عليه،

ص: 303


1- أي: وغرائب دار الدوران والتقلب، أي: دار الدنيا.
2- يحتمل أنّ المقصود: (وممّا لا يقوم في سبيل الحدّ من شربه أناس من أهل الفَهم والعقل، وإنّما كانوا من أهل الاتفاق باعتبار اتفاقهم على الحدّ من شربه) والله اعلم.
3- لم يتضح لنا المقصود من هذه العبارة، والله العالم.
4- الظاهر أنّه تعليل لكون شرب الغليان من العجائب والغرائب، و(بيانه) أنّه على الرغم من كون الغالب فيه اللغو واللهو حدوثاً وبقاءً، وعدم منفعةٍ متصوّرة، ووجود المضرّة فإنَّ أكثر الناس يشربونه، ويستمرون عليه، والله أعلم.
5- (تصورها) بالبناء للمعلوم، والفاعل ضمير يعود إلى الشارب.
6- كذا، والصحيح. (يرون) بدون الهاء.
7- الأنسب من (كثر سنهم) أن يقال: كبروا.

بيانه: أنّ التنباك(1) إنْ كان جيداً فقيمته غالية جداً، وإنْ كان ردياً فضرره كثير، مع أنّ قيمته ليس برخيص إلّا بالإضافة(2)؛ وهو(3) على التقديرين ممّا لابدّ منه.

وكذا يحتاج لأرباب الثروة(4) مَنْ يشتغل بإصلاح أموره وحضوره عند الشخص دائماً، وبذلك ما يقع إلى ما يجب به قتله، أو إلى ما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) : (من نظر إلى غلام بشهوة فكأنّه قتلني). مضافاً إلى ما يحتاج إليه من آلاته، ومنها وجود النار المخصوصة به دائماً، وهو يحتاج إلى تكلّف ومشقة شديدة.

ومع ذلك، إذا كان الشخص ممّن يستعمله، فعليه أنْ يأتي به لمن دخل داره، وهو يحتاج إلى قُعْدَة الغليان، ومَن يشتغل بإصلاحه، وسائر ما يحتاج إليه، وفيه ضرر عظيم.

ومع جميع ذلك: يرفع حضوره القلبَ في العبادات، بل ويمنع كثيراً من الإتيان بها في أشرف أوقاتها نظراً إلى شوق شربه.

ويسوء خلق شاربه باعتبار خلل جزئي فيه، كأنْ لم يجمع أسبابه على أكمل وجه، أو تأخّر الإتيان به.

وهو كثيراً ما يفضي إلى ارتكاب المعاصي العظيمة من أذيّة الخَدَمة - بل وغيرهم - يداً ولساناً، وتأخير العبادات عن أوقاتها لو لم يؤدِّ إلى تركها بنوم ونحوه.

ص: 304


1- التنباك: نوع من نبات التبغ يدخن ورقة بالنارجيلة (الغليان).
2- أي: أنه في حدّ نفسه غالٍ. نعم، قد يكون رخيصاً قياساً إلى بعض غيره.
3- الظاهر أن الضمير يعود للغليان، فإنّه لا بدّ منه في استعمال التنباك ( لأنّه نوع تبغ لا يستعمل إلّا معه)، وبقرينة قوله: ( بإصلاح أموره) ، فإنّه يعود للغليان، والأصل اتحاد المرجع.
4- منصوب بنزع الخافض، أي: (إلى من ...).

ومع ذلك، هو ممّا ضُرب المثل ]فيه[، فإنّه إحراق ما له بين يديه من دون منفعة بدنيّة أو نفسيّة إلّا بإعتبار ]ال[عادة السيّئة.

ومع ذلك، يفضي إلى العداوة والشحناء بينه وبين الأحبة والأخيار بعد وروده عليهم، أو عكسه، أو غير ذلك باعتبار تأخير الإتيان به، أو تقديم غيره عليه في الإعطاء، أو تأخير إصلاح غليانه عن إصلاح آخر، أو إهراق مائه عن إهراق ]ماء[ آخر، أو تقديم رفعه من عنده على رفع]ه[ من عند غيره.

ومع جميع ذلك: يضرّ ببدنه، فإنّه يقلّ اشتهاؤه(1)، وقوّته، ونومه، ويخفّ دماغه، ويُفسدُ أسنانه وصدره، ويُذيبُ شحمه ولحمه(2).

وهل عاقل(3) يرتكب مثل ذلك إلّا أن يغفل عن ظاهر مقتضى عقله، أو يخالفه، وهو كثير التشبه بما يوسوسه إبليس.

ومن العجيب أنّي كثيراً ما عزمتُ على تنبيه الخلق على مساوئه، ومقابحه، وكونه ممّا لا يزاوله أرباب العقول وأنسانيه الشيطان.

وممّا يعجبني ذكرهُ في المقام ما حكى في الأنوار النعمانية عن السلطان الشاه عباس

ص: 305


1- هذا إذا كان (يقل) لازماً, وأمّا إذا جعل متعديّاً, أي: (يُقلِّل) كما يُناسب ما بعده, فيُقال (اشتهاءه), ولكنّ المتن (يقل) لا (يُقلِّل).
2- مفاسد التدخين ومضاره كثيرة جداً، وقد ذكر بعض الأطباء أنّ في التدخين 19 نوعاً من السموم، أحدها – وهو أفتكها – النيكوتين. وقد ذكر الأطباء أنّه يُضر بأجهزة الجسم، ويضرّ بأعضائه كالقلب والكبد وغيرهما، بل ويمتد تأثيره إلى الجنين في بطن أمه إذا ما مارست هذه العادة السيئة. وفضلاً عن الأضرار الصحية والجسمية، فإنّ له أضراراً عقليّة ونفسيّة (كما ذكر الأطباء).
3- الصحيح : (وهل يرتكب عاقل) لأنّ (هل) تدخل على الأفعال, ولكنّه من تسامح المصنّفين.

الأول: إنّه قد عمل عليه الخَرْج(1)، وأحرق مَن يتاجر به فيه، فكان الناس يحفرون تحت الأرض، ويذهبون إليها، ويشربون هناك، وفي ذلك الحال يحرقون الحرق(2) بقربهم، حتى لا يخرج رائحته، وتشتبه برائحتها(3)، وكانوا يشربون التنباك في ذلك الوقت بوزن الدراهم، بل أغلى منها، فلمّا رأى ذلك السلطان، ]و[ أنّ ذلك الخرج لا ينفع، قرّر عليه من مال الخراج مالاً عظيماً، بقي إلى عصرنا، قَصَد به تعجيز الناس عن التجارة به وعن استعماله، فما ازدادوا له إلاَّ حباً وكرامة. وعلى الله الإعاذة(4) من مقابح الأفعال الدنيوية.

[تمت النسخة الشريفة سنة 1357ﻫ]

ص: 306


1- المقصود ب-(الخرج) – بفتح فسكون – العطية أو الضريبة.
2- قال في مختار الصحاح – مادة ( ح ر ق): (الحرق بفتحتين النار). والظاهر أنّ المقصود أنّهم يشعلون النار كي تختلط رائحة الغليان برائحة الحريق.
3- الضمير من قوله (رائحته) يعود إلى القليان، والضمير من قوله (برائحتها) يعود إلى الحرق.
4- ضمن (الإعاذة) – التي بمعنى اللجوء ولذا علّق بها (من مقابح) – معنى (الاتكال) فعلّق به (على الله), فإنّ تضمين كلمة معنى كلمة أخرى لا يجعلها هي هي، وإلّا لزم استعمال (الإعاذة) في معنيين في استعمال واحد وهو غير جائز.

فهرس مصادر التحقيق

1- القرآن الكريم.

2- الاثنا عشرية: الشيخ البهائي. الناشر مكتبة أية الله المرعشي النجفي - قم، الطبعة الأولى 1409 ﻫ.

3- تحرير الأحكام: للعلامة الحلي، الناشر مؤسسة الإمام الصادق – قمّ 1420ﻫ.

4- تذكرة الفقهاء: للعلامة الحلي، الناشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قمّ 1414ﻫ.

5- التهذيب: الشيخ الطوسي، الناشر دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة 1365 ش.

6- جامع المقاصد: للمحقّق الكركي، الناشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث . قمّ 1408ﻫ.

7- الجامع: يحيى بن سعيد الحلي، الناشر مؤسسة سيد الشهداء. قم. 1405 ﻫ.

8- الخلاف: للشيخ الطوسي، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي، طبع عام 1417ﻫ. ق.

9- الدروس الشرعية: للشهيد الأول. مؤسسة النشر الإسلامي .قم 1412 ﻫ.

10- ذخيرة العباد: المحقّق السبزواري. الناشر مؤسسة آل البيت. حجري.

11- الروضة البهية: للشهيد الثاني. الناشر: انتشارات داوري. قم 1410 ﻫ.

12- السرائر: لابن إدريس الحلي، طبعة جماعة المدرسين - بقم المشرفة، طبع عام 1410ﻫ.ق.

13- شرائع الإسلام: للمحقّق الحلي.انتشارات الاستقلال، طهران. 1409 ﻫ.

14- الصحاح: للجوهري، نشر دار العلم للملايين، بيروت 1407ﻫ.

15- غنية النزوع: لابن زهرة الحلبي، طبعة اعتماد، طبع في قمّ 1417ﻫ.ق.

ص: 307

16- قواعد الأحكام: للعلامة الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، قمّ 1413 ﻫ.

17- الكافي: لأبي الصلاح الحلبي، مكتبة أمير المؤمنين، طبع في أصفهان عام 1403ﻫ -

18- كفاية الأحكام: المحقّق السبزواري، نشر مدرسة صدر مهدوي، أصفهان. حجري.

19- اللمعة: للشهيد الأول. الناشر، دار الفكر الطبعة الأولى 1411 ﻫ.

20- المبسوط: للشيخ الطوسي، المطبعة الحيدرية بطهران1387ﻫ.

21- مجمع الفائدة والبرهان: المقدس الأردبيلي.الناشر جامعة المدرسين، قمّ 1403ﻫ.

22- المختصر النافع: المحقّق الحلي، الناشر مؤسسة البعثة طهران 1410 ﻫ.

23- مختلف الشيعة: للعلّامة الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، قمّ 1412 ﻫ.

24- مدارك الأحكام: السيد محمد العاملي، الناشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قمّ 1410 ﻫ.

25- مسالك الأفهام: للشهيد الثاني، الناشر مؤسسة المعارف الإسلامية. قمّ 1413 ﻫ.

26- المعتبر: للمحقّق الحلي، الناشر مؤسسة سيد الشهداء. 1364ش.

27- المقنعة: للشيخ المفيد، تحقيق: جماعة المدرسين بقمّ المشرفة،1410ﻫ.

28- منتهى المطلب: للعلّامة الحلّي، الناشر مجمع البحوث الإسلامي، مشهد. الطبعة الأولى 1412 ﻫ.

29- النهاية: للشيخ الطوسي، مطبعة الأندلس في بيروت.

30- الوسائل: الحرّ العاملي. الناشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث. قم 1414 ﻫ.

31- الوسيلة: لابن حمزة الطوسي، مطبعة خيام، طبع في قمّ 1408 ﻫ.

ص: 308

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.