مقالات حول مباحث الألفاظ

هوية الكتاب

مقالات حول مباحث الألفاظ

تأليف: العلامة المحقق آية الله

الحاج السيد علي الموسوي البهبهاني (قدس سره)

المتوفى سنة 1395 ه- . ق

تحقيق: أمیر خداوردی

ص: 1

اشارة

مقالات حول مباحث الألفاظ

تأليف: السيد على الموسوي البهبهاني

تحقيق: أمير خداوردي

منشورات دليل ما

الطبعة الاولى : 1433 ه- ق - 1391ه- . ش .

طبع في 2000 نسخة

المطبعة: نگارش

ردمك: 9 - 812 - 397 - 1964 - 978 ISBN

العنوان: ایران، قم، صندوق البريد: 1153 - 37135

هاتف وفكس: 7733413، 7744988(98251+)

WWW.Dalilema.com

Dalilema@yahoo.com

انتشارات دلیل ما

السعر مُجلّداً : 5500 توماناً مراكز التوزيع

1) قم ، شارع صفائیه، مقابل زقاق رقم 38،منشورات دليل ما ، هاتف 7737011 - 7737001

2) طهران ، شارع إنقلاب ، شارع الفخر الرازي،رقم 61، هاتف 66464141

3) مشهد، شارع الشهداء، شمالي حديقة نادري،زقاق خوراکیان، بناية نجينه الكتاب، الطابق الأول ، منشورات دلیل ما هاتف 5 - 2237113

4) النجف الأشرف، سوق الحويش، مقابل جامع الهندي، مكتبة الامام باقر العلوم(علیه السّلام) ، هاتف 07801263579

5) كربلاء المقدسة، شارع قبلة الإمام الحسين(علیه السّلام) ، مكتبة ابن فهد الحلي(قدس سره) ، هاتف 07801588707 - 07801558942

سرشناسه : موسوی ،بهبهانی، سید علی 1305 -

عنوان و پدیدآور : مقالات حول مباحث الالفاظ / تاليف السيد على الموسوى البهبهانی المتوفی سنه 1395 ه-. ق.؛ تحقیق امیر خداورد

مشخصات نشر : قم : دليل ما، 1391.

مشخصات ظاهری : 220 ص.

شابک :978-964-397 - 812-9

وضعیت فهرست نویسی : فیبا

یادداشت : عربی .

یادداشت : کتابنامه : ص . [211] - 217؛ همچنین به صورت زیرنویس .

موضوع : مباحث الالفاظ

شناسه افزوده : خداوردی، امیر

رده بندی کنگره : 1391 7 م 4 م / 164 BP

رده بندی دیویی :297/31

شماره کتابخانه ملی : 2819061

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

كلمة شكر

أتوجه بالشكر الجزيل إلى سماحة آية الله السيّد علي الميلاني - دامت بركاته - ؛ إذ أمر - بطلب منا - أحد تلامذته في الفقه والأصول، وهو الفاضل حجة الإسلام الشيخ أمير خداوردي، بتحقيق هذا الكتاب ومراجعة مصادره وإعداده للنشر.

ونسأل الله التوفيق لإخراج سائر آثار سيّدنا الجد الراحل(قدس سره) بهذه الصورة اللائقة.

دارالعلم - أهواز

السيّد نورالدین مجتهد زاده

ص: 5

ص: 6

دليل الكتاب

مقدمة التحقيق ... 11

ترجمة المؤلّف ... 11

مقالات حول مباحث الألفاظ ... 13

المقدمة ... 17

الأمر الأوّل في موضوع أُصول الفقه ... 17

الأمر الثاني في المعنى الحرفي ... 28

الأمر الثالث في أقسام الوضع ... 31

الأمر الرابع في أقسام الدلالة ... 33

الأمر الخامس في وضع المركبات والهيئات التركيبية ... 38

الأمر السادس في النقل والترادف والاشتراك ... 39

الأمر السابع في الحقيقة والمجاز ... 42

الأمر الثامن في العلاقة المصححة للتجوّز ... 43

تنبیهان ... 44

الأمر التاسع في علائم الحقيقة والمجاز ...45

الأمر العاشر في الحقيقة الشرعية ... 47

الأمر الحادي عشر في أصالة الحقيقة وعدم القرينة ، والصحيح والأعمّ ... 48

الأمر الثاني عشر في الترديد بين الاشتراك والحقيقة والمجاز ...54

الأمر الثالث عشر في استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد ... 55

ص: 7

الأمر الرابع عشر في المشتق ... 56

تنبيهات ... 63

المقصد الأول في الأوامر ... 77

تنبيهات ... 83

الأصل الأوّل: هل للأمر صيغة تخصه ؟ ... 87

الأصل الثاني: الأمر المطلق يقتضي الوجوب أو الندب أم لا؟ ... 94

الأصل الثالث: الأمر عقيب الحظر ... 102

الأصل الرابع: الأمر المطلق يقتضي المرّة أو التكرار أم لا؟ ... 103

الأصل الخامس : الأمر المطلق لا يقتضي الفوم ... 104

تنبیهان ... 106

الأصل السادس في الأمر التعبدي والتوصلي ... 106

الأصل السابع: الأمر بالشيء مطلقاً أمر بما لا يتمّ إلّا به أم لا ؟ ... 109

تنبيهات... 111

الأصل الثامن: الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن النهي عن ضدّه أم لا؟ ... 119

تنبيهات... 122

الأصل التاسع: الأمر بالشيء يقتضي الإجزاء ... 126

تنبیهان ... 130

الأصل العاشر: في تعلّق الأمر بالفرد ... 131

الأصل الحادي عشر في جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه ... 133

تنبیهان ... 136

الأصل الثاني عشر : في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ... 137

الأصل الثالث عشر: ينقسم الأمر باعتبار المأمور والمأمور به ... 137

تنبیهان ... 138

الأصل الرابع عشر : الأمر بالأمر بشيء أمر به أم لا؟ ... 139

ص: 8

الأصل الخامس عشر: في الموسّع والمضيق ... 140

الأصل السادس عشر : مطلق الأمر بالموقت لا يقتضي القضاء خارج الوقت ... 140

المقصد الثاني في النواهي ... 143

المبحث الأول : المطلوب بالنهي هو الترك أو الكفّ ؟ ... 144

المبحث الثاني: هل للنهي صيغة تخصه ؟ ... 145

المبحث الثالث: مطلق النهي هل يقتضي الحرمة والكراهة أو لا؟ ... 145

المبحث الرابع مطلق النهي هل يقتضي الدوام أم لا؟ ... 145

المبحث الخامس: النهي عن الشيء هل يكون أمراً بضده؟ ... 146

المبحث السادس: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي أم لا؟ ... 146

تنبيهات... 154

المبحث السابع: النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه ؟ ... 162

تنبيهات ... 166

الموضع الأوّل: تقييد الحكم بالشرط بإحدى أدواته ... 167

المقصد الثالث في المفاهيم ... 167

تنبيهات ... 169

الموضع الثاني : تعليق الحكم على الوصف ... 173

تنبیهان ... 174

الموضع الثالث: التهديد بإحدى أدوات الغاية ... 175

الموضع الرابع: إثبات الحكم لموضوع ... 176

الموضع الخامس : تصدير الكلام ب- «إنّما»، وتقديم المسند ... 177

المقصد الرابع في العموم والخصوص ... 179

الفصل الأوّل: هل للعموم صيغة تخصه ؟ ... 179

تنبیه ... 181

أصل : تعلّق الحكم بالجمع المحلّى باللام يقتضي العموم ... 182

ص: 9

تنبيهات ... 183

الفصل الثاني : في التخصيص ... 188

المبحث الأوّل منتهى التخصيص إلى كم هو ؟ ... 188

المبحث الثاني: التخصيص هل يوجب التجوز في العام؟ ... 190

تنبيهات ... 191

المبحث الثالث: تخصيص العام هل يخرجه عن الحجية ؟ ... 194

تنبیهان ... 195

المبحث الرابع: تعقب المخصص بمتعدّد ... 197

فصل : في جواز العمل بالعام قبل استقصاء البحث ... 198

فصل : في أنه إذا تعقب العام ضمير يرجع إلى بعض ما يتناوله ... 199

فصل : في جواز تخصيص الكتاب بالخبر ... 200

فصل : في ما إذا ورد عام و خاص مطلق متنافيا الظاهر ... 201

تنبيهات ... 204

المقصد الخامس: في المطلق والمقيد ... 207

المصادر ... 211

ص: 10

مقدمة التحقيق

ترجمة المؤلّف

*ترجمة المؤلّف(1)

هو المحقق الفقيه السيّد عليّ بن محمّد بن عليّ الموسوي البهبهاني، الرامهرمزي، ثمّ الأهوازي؛ قدس الله نفسه وروّح رمسه.

ولد فى بهبهان سنة 1303 أو 1304 ه-. ق . واجتاز بها بعض المراحل الدراسية، ثمّ ارتحل سنة 1322 ه-. ق . إلى النجف الأشرف، فحضر الأبحاث العالية فقهاً وأُصولاً على:

1. الشيخ محمّد كاظم الخراساني صاحب كفاية الأُصول، المتوفّى 1329 ه-. ق .

2. السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقى، المتوفّى 327ه-. ق.

3. السيّد محسن الكوهكمري، من أجلة تلامذة الشيخ هادي الطهراني، واختص به. ورجع إلى بهبهان سنة 1328 ه- . ق ، وباشر التدريس بها مدة، ثمّ حلّ في بلده رامهرمز، وتصدّى بها للإمامة والتدريس وبثّ الأحكام.

و قصد العراق سنة 1362 ه-. ق ، لأجل زيارة الأئمة الطاهرين(علیهم السّلام) وبطلب من بعض أعاظم علماء كربلاء أقام فيها سنتين أخذ بتدريس خارج الفقه والأصول، ثمّ انتقل إلى النجف الأشرف فواصل فيها التدريس.

وعاد إلى رامهرمز سنة 1365 ه- . ق ، فالتف حوله الطلبة. ثم توجه إلى أهواز سنة 1370 ه- . ق فاستوطنها وواصل فيها نشاطاته من الإمامة والتدريس والإفتاء، واشتهر، وأصبح من مراجع التقليد في تلك النواحي.

ص: 11


1- 1. مصادر الترجمة: 1. «شرح حال و آثار آیت الله بهبهاني» - علي الدواني. 2. مقدّمة تحقيق، «مصباح الهداي-ة» - بإشراف رضا الأستادي. 3. «موسوعة طبقات الفقهاء»، ج 14، قسم 1، ص 437 - 438 - جعفر السبحاني.

وقد تلمّذ عليه فريق من الفضلاء والعلماء، منهم: أنجاله السيد عبدالله مجتهد زاده والسيّد محمّد جعفر مجتهد زاده والسيّد محمّد تقي مجتهد زاده، والسيد عليّ بن محمّد رضا الشفيعي، والسيد علي بن الحسن اليزدي الإصفهاني المعروف بالعلّامة الفاني، والسيّد محمّد بن نعمة الله الجزائري، والشيخ الدكتور جواد تارا، والشيخ محمد رضا الجرقوئي الإصفهاني الحائري، والشيخ ناصر الحمادي، وآخرون.

وألف كتباً ورسائل، منها:

1. أساس النحو، وشرحه. طبع أوّلاً في طهران سنة 1385، وأخيراً في قم المقدّسة سنة 1422ه- . ق .

2. الاشتقاق أو كشف الأستار عن وجه الأسرار المودعة في الرواية الشريفة المسندة إلى باب مدينة العلم المنقولة عن أبي الأسود الدؤلي. طبع أوّلاً في طهران سنة 1381 ، وأخيراً في قم المقدسة سنة 1423 ه-. ق .

3. التوحيد الفائق في معرفة الخالق. طبع أوّلاً في خرّم آباد سنة 1384، وأخيراً قم المقدّسة سنة 1422 ه- . ق

4. جامع المسائل، طبع مرات، وهو أكبر وأشمل من توضيح المسائل.

5 . الحاشية على العروة الوثقى، طبعت في قم المقدّسة.

6. الحاشية على وسيلة النجاة، طبعت في طهران.

7. الفوائد العليّة الشاملة للقواعد الكليّة ممّا يبتني عليه كثير من معضلات مسائل الفقه والأصول. طبع أولاً في مجلدين سنة 1373 و 1380 ه-. ق ، وثانياً في قم المقدسة

سنة 1405 ه-. ق في مجلّد.

8. مصباح الهداية في إثبات الولاية. طبع عدّة مرّات، وترجمه إلى الفارسيّة أوّلاً تلميذه المرحوم السيد محمد رضا الشفيعي، ثم المرحوم الشيخ علي الدواني.

9. مقالات حول مباحث الألفاظ. وهو هذا الكتاب الماثل بين أيديكم.

توفّي(رحمه الله علیه) في أهواز ليلة 18 من ذي القعدة الحرام سنة 1395 ه- . ق ، ودفن في دار العلم، المدرسة التي أسسها بنفسه النفيسة.

ص: 12

مقالات حول مباحث الألفاظ

هذا الكتاب الذي بين أيديكم تصنيف متفرّد بخصائص جليلة من حيث إنّه مع إيجازه واختصاره يحتوي على أهم الأقوال في كلّ مسألة من مسائل مباحث الألفاظ ونقدها والتعمّق فيها وإيراد آراء دقيقة ومباني تأسيسية متقنة.

والظاهر من مقدّمة المصنّف(قدس سره) هو من إحالاته في ثنايا الكتاب أنه يتلوه جزء آخر على نفس النسق في مباحث الحجج والأصول العمليّة، فالكتاب دورة أصولية كاملة.ولكن لم نعثر إلّا على ما بين أيديكم من مباحث الألفاظ الذي طبع سنة 1335 ه-. ش بعنوان مقالات حول مباحث الألفاظ».

أما عملنا في الكتاب فهو:

1. ضبط النصّ على ما بأيدينا من قلم المصنف(قدس سره).

2. تقطيع النصّ وترقيمه بعلامات الترقيم المناسبة.

3. تخريج الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة.

4. تخريج الأقوال المنقولة تصريحاً أو تلويحاً وإرجاعها إلى مصادرها.

5. شرح معاني الألفاظ الغريبة وتوضيح المواضع المشكلة.

ونسأل الله - عزّ شأنه - أن يجعله مورداً لانتفاع الأعلام والفضلاء وذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

أمير خداوردي

1432 ه-. ق

ص: 13

الصورة

ص: 14

الصورة

ص: 15

الصورة

ص: 16

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

أما بعد، فيقول العبد المفتقر إلى الله الغنيّ، عليّ بن محمّد بن علي الموسوي البهبهاني - حشرهم الله مع آبائهم الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين - : إنّ هذا مختصر في أصول الفقه يميّز الشراب من لامع السراب والقشر من اللباب، رتبته على مقدّمة ومقاصد.

[المقدمة]

اشارة

أمّا المقدّمة ففى أُمور :

[الأمر] الأول

أن أُصول الفقه ليس فنّاً مستقلاً على منوال سائر الفنون حتى يكون له موضوع واحد ترجع إليه مسائله و یصیر فنّاً واحداً، وإنّما هى مركبة من مسائل مختلفة يتوقف عليها ويصير الفقه ممّا لم يذكر في سائر الفنون أو لم يستوف حقه فيها. فهي مقدمة للفقه ولا تتميز عن سائر الفنون إلّا في جهة الاختصاص به من حيث التدوين والتمهيد، كما يشعر به أخذهم «التمهيد لاستنباط الأحكام» في حدّه(1) مائزاً له، وإضافة «الأُصول» إليه؛ ضرورة أنّ إضافتها إليه ليست باعتبار الاختصاص الذاتي؛ إذ أغلب مسائلها، كما يترتب عليها

ص: 17


1- 1. قوانين الأصول 1: 5 : هداية المسترشدين: 12؛ الفصول الغروية :9.

استنباط حكم الشرع، يترتب عليها استنباط مراد المتكلّم مطلقاً، فاختصاصها به إنّما هو من حيث التدوين له.

توضيح ذلك: أنّ المسائل المختلفة لا تندرج تحت فنّ واحد ما لم يجمعها جامع واحد ترجع إليه مختلفاتها، والصالح لذلك عندهم اشتراكها في العروض على موضوع واحد فجعلوه ميزاناً له وأدرجوا المسائل الراجعة إلى موضوع واحد تحت فنّ واحد، وقالوا: «تمايز العلوم بتمايز الموضوعات»(1).

وحيث أنّ الموضوع قسمان: أوّلي معروض للمحمول بلا واسطة، وثانوي معروض له بواسطة فصاعداً - واعتباره على الوجه الأوّل مستلزم لصيرورة كلّ مسألة فنّاً مستقلاً باعتبار اختلاف المسائل في الموضوعات الأوّليّة، وعلى الوجه الثاني أو الأعم لا يكون ضابطاً؛ لاستلزام جواز أخذ الفنون الأدبية الباحثة عن أحوال اللفظ فنّاً واحداً؛ لرجوع جميع مباحثها إليه ولو بوسائط، وأخذ كلّ منها فنّاً مستقلاً باعتبار أنّ الموضوع في كلّ منها عنوان مغاير للعنوان الآخر؛ فإنّ بعضها باحث عن المعرب والمبني وبعضها عن الصحيح والمعتل وبعضها عن الفصيح والبليغ وهكذا... ، وأخذ كلّ مسألة فنّاً باعتبار مغايرة موضوع كلّ منها لموضوع الأخرى - اعتبروه أعم من الأوّل وأخص من الثاني فخصوه بمعروض العوارض الذاتيّة وقالوا: «موضوع كلّ علم ما يبحث فيه من عوارضه الذاتية». وفسّروها بالعارض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساوٍ(2).

فالمسائل العارضة على موضوع واحد عروضاً ذاتياً تندرج تحت فنّ واحد دون العوارض الغريبة وهي ما يعرض الشيء بواسطة أمر أعمّ أو أخص.

كشف الحال: أنهم قسّموا العوارض إلى أربعة أقسام: ما يعرض الشيء بلا واسطة، وما يعرضه بواسطة أمر مساءٍ، أو أعم، أو أخص. وسمّوا القسمين الأولين بالعوارض الذاتية؛ لاختصاصهما بالذات، والأخيرين بالغريبة.

ص: 18


1- شرح الشمسية (للعلامة الحلّي): 189؛ شرح الشمسية (القطب الدين الرازي): 68؛ شرح المطالع: 18.
2- شرح الشمسية (اللعلّامة الحلّي: 188 - 189؛ شرح الشمسية (القطب الدين الرازي): 68 - 70؛ شرح - المطالع : 18.

والغرض من الواسطة الواسطة في العروض لا في الثبوت. ولذا حصروا الواسطة فى الأقسام الثلاثة. وقد غفل صاحب القسطاس(1) فزاد قسماً رابعاً وأدرجه في الغريبة(2)-وهو ما يعرض الشيء بواسطة أمر مباين - ممثلاً له بالماء المسخّن بالشمس أو النار. وقد استصوب ما ذكره شارح المطالع(3)وخطأه في المثال ، و وتبعه المحقق الشريف(4) ، ولم يتنبهوا أنّ المراد من الواسطة، الواسطة في العروض لا في الثبوت. وهي منحصرة في الأقسام الثلاثة ولا يعقل أن تكون مباينة. ولو كان المراد منها الواسطة في الثبوت لزم حصرها في المباين؛ لأنّ العلة تباين المعلول والموضوع أبداً. فتربيع الأقسام باطل على كل حال. مع أنّ توسّط الواسطة في الثبوت لا ينافي مع كون العروض ابتدائياً والمعروض معروضاً أولياً فلا توجب أن يكون العارض غريباً حينئذ.

ولا يجوز أن يراد منها ما يعمهما وإلا لزم أن يكون العارض بواسطة أمر مساوٍ كالتعجب داخلاً في الذاتي - من حيث أن عروضه على الإنسان بواسطة أمر مساءٍ له في العروض وهو المدرك للأمور المعجبة - ومعدوداً من الغريبة بواسطة أنّ ثبوته له بواسطة أمر مباين له وهو إدراك الأمور المعجبة؛ إذ كلّ عنوان يكون واسطة في العروض يكون مبدئه واسطة في الثبوت ومبايناً مع المعروض وإن كان العنوان المتخذ منه متحداً معه و محمولاً عليه.

وقد اتضح بما بيناه أن عروض العوارض بواسطة في العروض مطلقاً تحقيقي؛ ضرورة أنّ العارض بواسطة أمر صادق على المعروض مساوياً كان أو أعم أو أخص نعت له حقيقةً؛ لأنّ الصادق على الصادق على الشيء صادق عليه تحقيقاً ومحمول المحمول

ص: 19


1- وهو شمس الدين محمد بن أشرف الحسيني السمرقندي، المتوفى بحدود سنة 600. (الأعلام، للزركلي 6: 39: هدية العارفين 2: 106). وكتابه قسطاس الميزان، كتاب نفيس في المنطق، طبع في كلكتة سنة 1854 م. وله شرح عليه أيضاً . (اكتفاء القنوع بما هو مطبوع: 195، الرقم 19).
2- حكاه عنه أيضاً في هداية المسترشدین: 14.
3- شرح المطالع: 18.
4- حاشية السيد الشريف على شرح المطالع : 18.

محمول حقيقةً. فما توهّمه السيد الشريف من أنّ العارض بواسطة في المعروض من قبيل الوصف بحال متعلّق(1) غلط ، وكأنّه توهّم أنّ المراد من الواسطة في العروض ما كان واسطة في نسبة العرض إلى الشيء مجازاً كوساطة السفينة في نسبة الحركة إلى جالسها توسعاً، ولم يتنبه أنه لا يلائم ذلك مع تقسيم الواسطة إلى مساوية وأعمّ وأخص؛ فإنّ وساطة المناسب بإحدى النسب الثلاثة إنّما تجامع مع الاتصاف الحقيقي لا المجازي.

وقد خفي معنى العارض الذاتي وحقيقة الواسطة في العروض على كثير من المتأخرين. فقد حكي عن بعض أنه جعل مدار الذاتي على مجرد اتحاد العارض مع المعروض وصدقه عليه في الخارج ولو كان العروض بواسطة في العروض(2)، وهو مستلزم لاختلاط الفنون وعدم الضبط، كما عرفت(3) . وعن بعض آخر أنه عبارة عمّا يعرض الشيء بلا واسطة في العروض أصلاً(4) ، وهو مستلزم لإخراج كثير من مسائل الفنون منها. وعن بعض آخر أنه عبارة عن العارض بلا واسطة أو بواسطة أمر مساءٍ أو أخص فحصر الغريب في العارض بواسطة أمر أعم(5) ، وهو موجب لعدم الضبط؛ إذ يصح حينئذٍ جعل النحو والصرف وسائر العلوم الأدبيّة فنّاً واحداً وجعل موضوعه اللفظ العربي باعتبار عروض العوارض المبحوث عنها في الفنون المذكورة عليه بوسائط أخص.

هذا بالنسبة إلى الذاتي، وأما الواسطة في العروض فقد فسّرها بعضهم بما يكون واسطة في الاتصاف مجازاً ، كما يظهر من السيد الشريف(6) ومن تبعه(7) وقد عرفت(8)

ص: 20


1- حاشية السيد الشريف على شرح المطالع: 18.
2- حكاه عن بعض الأساطين الأعلام، في مقالات الأصول 1: 48. وهو ظاهر بدائع الأفكار: 31.
3- في الصفحة 17.
4- الفصول الغروية: 10.
5- وهو مذهب المتقدمين من الحكماء، كما في كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم 1: 8.
6- حاشية السيد الشريف على شرح المطالع: 18.
7- لاحظ : كفاية الأُصول: 78.
8- راجع: الصفحة السابقة.

فساده. وعن بعض آخر أنه إن ترتبت الواسطة في الثبوت يكون العارض عارضاً بواسطة في العروض وإلا فلا. فقال:

الإنسان معروض لإدراك الكلّيّات بلا واسطة فى العروض والثبوت معاً، ومعروض للتعجب بواسطة في الثبوت لا العروض، وهي إدراك الكليات ومعروض للضحك بواسطة في العروض؛ لأنّ واسطة عروضه تحتاج إلى واسطة أُخرى في الثبوت أيضاً، فالميزان أنّ العارض إن احتاج إلى واسطة غير محتاجة إلى واسطة أُخرى فالواسطة في الثبوت وإلا ففي العروض(1).

وهو في غاية الغرابة؛ لأنّ العارض إن دار مدار المبدأ الذي هو واسطة في الثبوت حدوثاً وبقاءً، فالعنوان المأخوذ منه المنطبق على الذات واسطة في العروض - تعدّدت الواسطة في الثبوت أم لا - وإلا فالذات معروضة للعرض ابتداءً سواء كانت في البين واسطة في الثبوت متحدة أو متعدّدة أم لم تكن فالتفصيل بين ترتب الواسطة وعدمه باطل على كل حال. فالميزان في الواسطة في العروض هو دوران العارض مدار العنوان المأخوذ من المبدأ حدوثاً وبقاءً لا تعدّد الواسطة في الثبوت.

وإذا اتضح لك حقيقة العارض الذاتي وأنّ المدار في تمايز الفنون على تمايز الموضوعات، أي: المعروضات بالعوارض الذاتية، فاعلم أنه قد تنطبق على محلّ واحد موضوعات متعدّدة كموضوعات العلوم الأدبية المنطبقة على الكلمة ولا ينافي تصادقها على محلّ واحد مع تمايزها في حد أنفسها، فنتهوا على ذلك بقولهم: «وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات»(2)؛ يعني: أنّ الموضوعات هي الحيثيات المجتمعة على محلّ واحد لا محلّ تصادقها حتّى يتوهّم رجوع الموضوعات إلى موضوع واحد. وقد خفي هذا المعنى على بعضهم(3)فصدر منه ما يقتضي العجب.

ص: 21


1- لاحظ: فوائد الأصول (للنائيني) 1 : 20 - 21؛ أجود التقريرات 1: 12.
2- وهو ممّا اشتهر في الألسنة، كما في بدائع الأفكار: 32.
3- لاحظ: الفصول الغروية: 11.

ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً مشهوراً، وهو أنّ المبحوث عنه في العلوم غالباً الأمور اللاحقة للأنواع والأصناف، والعارض بواسطة الأخص غريب، سواء كان نوعاً أم صنفاً.

وأجيب عنه بوجوه مدخولة سوى الأخير:

منها ما ذكره بعض المحققين، ومحصله أنّ الوسائط المزبورة إنّما هي وسائط في الثبوت لا العروض، فلا تضرّ الأخصيّة(1)، وهو واضح الفساد؛ ضرورة أنّ الرفع والنصب والجرّ يدور مدار عنوان الفاعل والمفعول والمضاف إليه وما في حكمها حدوثاً وبقاءً، وكذا الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة تدور مدار عناوين الأفعال حدوثاً وبقاءً، وفعل المكلّف إنّما يعرضه الأحكام المذكورة باعتبار عناوينها من الصلاة والزكاة والربا والزنا وهكذا...

فإن قلت : العناوين لا استقلال لها في الوجود وإنّما توجد في الخارج بوجود ما تنطبق عليه، فكيف يصير موضوعاً للأحكام؟!

قلت: مرجع الوضع والحمل إلى اتحاد الموضوع والمحمول وصدقه عليه، ومن المعلوم أنّ الصدق والاتحاد لا يتوقف على استقلال الموضوع في الخارج وإلا لزم أن لا يكون فعل المكلّف محكوماً بحكم من الأحكام؛ لعدم استقلاله في الوجود.

ومنها ما احتمله بعضُ من اندراج العارض بواسطة الأخصّ في الذاتي(2)، وقد عرفت ضعفه(3).

وأغرب من الجميع ما زعمه بعض آخر من ارتفاع الإشكال باعتبار قيد الحيثية في موضوع العلم، الموجب لانطباقه عليها بنحو العينية بالحمل الشائع الصناعي، فأوضحه بما محصله أنّ المبحوث عنه في النحو - مثلاً - ليس عوارض الفاعل بما هو فاعل، ككونه متقدّماً فى الرتبة على المفعول، بل عوارضه بما هو معرب، فيكون عوارضه عوارض ذاتيّة لموضوع العلم، وخصوصيّة الفاعلية والمفعوليّة والإضافة ملغاة في هذه المرحلة(4).

ص: 22


1- هداية المسترشدين: 17.
2- وهو مذهب المتقدمين من الحكماء كما في كشاف اصطلاحات الفون والعلوم 1: 8.
3- في الصفحة 20.
4- فوائد الأصول (للنائيني) 1: 24 - 26؛ أجود التقريرات 1: 9 - 10.

وهو واضح الفساد؛ ضرورة أن المبحوث عنها - وهي أنواع الإعراب - إنما هي عوارض الفاعل والمفعول والمضاف إليه من حيث الخصوصيّة، فكيف تكون العناوين المزبورة ملغاة في هذه المرحلة ؟! وهل استحقاق الفاعل الرفع إلا كاستحقاقه التأخّر عن الفعل من لواحق العنوان؟!

وأحسن الأجوبة ما ذكره شيخنا العلّامة - أعلى الله مقامه - من أن المبحوث عنه هو الموضوع لا المحمول(1) ؛ فإنّ البحث عن الشيء عبارة عن استعلام أحواله، فمعنى البحث عن العوارض الذاتية جعلها عناوين للأبحاث؛ فإنّ الفاعل والمفعول والمضاف إليه وغيرها أعراض ذاتيّة للكلمة. ولا ينافيه البحث عن نفس الموضوع في بعض المسائل؛ فإنه اكتفاء بأقل المراتب.

وكيف كان لا توزن مسائل أصول الفقه بهذا الميزان ولا ترجع إلى موضوع واحد، وما اشتهر من رجوع مسائله إلى أدلّة الفقه فاسد ؛ لأنه إن أريد منها دليل الفقه بوصف أنّه دلیل، كما هو الظاهر، ففيه أنّ مسائلها كلّها باحثة عن الحالات المقدّمة على الدليل إلا مبحث التعارض

أما مباحث الألفاظ فلأنها باحثة عن مفردات ألفاظ معدودة من حيث هي، أو عن مفاد مركبات منها مع قطع النظر عن ورودها في مقام الدلالة على الحكم الشرعي.

وأمّا مباحث الأدلّة فمنها باحثة عن انطباق وصف الدليل كالبحث عن ملازمة الحكم العقلي للحكم الشرعي وعن حجيّة الخبر الواحد والإجماع ، ومنها باحثة عن وجود الدليل كالبحث عن حجيّة البرائة والاستصحاب؛ فإنّ البحث فيهما عن ثبوت الأصل لا عن حجيّته؛ ضرورة أنّ الأصل بعد ثبوته يكون حجّة.

فلم يبق في البين إلّا مبحث التعارض وقد جعله الأكثر خاتمة للمقاصد(2).

وما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري(قدس سره) من رجوع البحث عن حجية الخبر إلى البحث

ص: 23


1- كفاية الأُصول: 21.
2- كما في معالم الدين: 391؛ والفصول الغروية: 435.

عن أنّ السنّة هل تثبت به ؟(1)في غير محله؛ لأنه مجرد تغيير للعبارة؛ ضرورة أن حجيّة الخبر لا تحدث وصفاً في السنة. فكونها ثابتة بالخبر وصف فيه؛ فإنه هو الذي صار بمنزلة الدليل العلمي. أترى أنّ البحث عن أنّ السناء مسهل أم لا؟ بحث عن حال شاربه أو البحث عن أنّ زيداً عالم بالفقه ؟ بحث عن حال المراجعين إليه ومقلّديه، وهكذا... ؟ كلا ثم كلا.

وأما ما أورده بعضهم عليه من أنّ البحث عن ثبوت السنة بالخبر بحث عن وجود الدليل لا عن حالاته؛ لأنه بحث عن مفاد «كان» التامة(2) فخلط منه بين الثبوت بمعنى الانكشاف والثبوت بمعنى الوجود الخارجي، والحاصل من الخبر على فرض حجيّته إنّما هو الانكشاف وهو من الحالات المتأخّرة عن الوجود ومن العجب أنه فصل ثانياً بين الثبوت التعبدي والتحقيقي(3)، والتزم بأنّ الأوّل وصف في الخبر دون الثاني؛ ضرورة أنّ الكشف تحقيقيّاً كان أم تنزيليّاً وصف وشأن للدليل لا المدلول. ولولا أن الكشف التحقيقي كان وصفاً للدليل لم يكن مجال لجعل التنزيلي وصفاً له ضرورة أنّ المنزّل قائم مقام الأصل. فالتفصيل بينهما غير معقول.

فإن قلت: لا يبحث الأصولي عن مفاد ألفاظ مفردة أو مركبة إلا من حيث وقوعها في أدلّة الفقه، فالموضوع مقيّد في الحقيقة؛ لأنّ المبحوث عنه إنّما هي ألفاظ واقعة في دليل الفقه.

قلت: قصر الغرض على كشف حال الدليل لا يوجب تقييد موضوع البحث؛ لأنّ الغرض في مرتبة متأخّرة والموضوع في مرتبة متقدمة، فلو عاد الغرض قيداً للموضوع لزم الدور المحال. مع أن الغرض من البحث عن مفاد الألفاظ هو كشف الدلالة لا الحالات الطارئة على الدليل.

وإن أُريد منها ذوات الأدلة الأربعة(4)ففيه أنه يلزم حينئذ صيرورة الأُصول فنوناً أربعة؛ لأنّ ذوات الأدلّة مع قطع النظر عن وصف الدليل أمور متباينة، وتمايز العلوم إنّما هو

ص: 24


1- فرائد الأصول 1: 108.
2- كفاية الأصول: 22 - 23.
3- المصدر نفسه: 23.
4- عطف على قوله: «إن أريد منها دليل الفقه...» في الصفحة السابقة.

بتمايز الموضوعات. مع أنه لا يتمّ أيضاً؛ لأنّ المباحث الراجعة إلى الألفاظ باحثة عن مفادها مع قطع النظر عن وقوعها في الكتاب أو السنّة. على أنه يلزم حينئذ أن يكون درج علم التفسير في الأصول أولى من درج مباحث الألفاظ فيه .

وأما ما ذكره بعضهم من:

أنّ موضوع كلّ علم - وهو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، أي: بلا واسطة في العروض - هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتحد معها خارجاً وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده - إلى أن قال: - ربما لا يكون لموضوع العلم وهو الكلّي المتحد مع موضوعات المسائل عنوان خاص واسم مخصوص فيصح أن يعبّر عنه بكلّ ما دلّ عليه؛ بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلاً.

وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الأصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتة لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، ولا بما هي هي؛ ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها.(1)

ففي غير محله؛ لأنّ تفسير العوارض الذاتية بما يعرض على الشيء بلا واسطة - مع مخالفته لما ذكره القوم من دخول العارض بواسطة الأمر المساوي فيها (2) - لا يتمّ في شيء من موضوعات العلوم؛ لأنّ محمولات المسائل كرفع الفاعل ونصف المفعول وجرّ المضاف إليه وهكذا... ، إنما تعرض على موضوع العلم بواسطة العناوين المأخوذة في موضوعاتها. واتحاد موضوع العلم مع موضوعات المسائل خارجاً وكونه عينها كذلك لا يوجب انتفاء الوساطة في العروض؛ ضرورة ثبوت الاتحاد الخارجي في جميع الوسائط في العروض مساويةً كانت أو أعم أو أخص. فلو نافي الاتحاد الخارجي مع

ص: 25


1- كفاية الأُصول: 22.
2- الشمسيّة (اللعلّامة الحلّي): 189 - 190؛ شرح الشمسيّة (لقطب الدين الرازي): 68 ؛ شرح شرح المطالع: 18.

الواسطة في العروض لزم أن لا يتصوّر واسطة في العروض أصلاً وأن يكون فرضه من قبيل فرض المحال

وتوهّم أنّ العناوين وسائط في الثبوت لا في العروض والمحمولات عارضة على موضوع العلم عروضاً أولياً، وهم ظاهر؛ بداهة أنّ العناوين وسائط في العروض. ولذا يدور مدارها الأحكام حدوثاً وبقاءً. وإنّما الواسطة في الثبوت هي مباديها. ولو لم تكن العناوين واسطة في العروض حينئذ لزم أن لا يكون لنا واسطة في العروض أصلاً؛ لأنّ كلّ

عنوان يفرض انه واسطة في العروض يكون مبدئه واسطة في الثبوت لا محالة.

وإن أريد من العارض الذاتي ما يتصف به الموضوع تحقيقاً، ومن عدم الواسطة حينئذ عدم الواسطة الموجبة لصحة التوصيف توسعاً في مقابل ما يصح نسبته إلى الشيء توسعاً، كالحركة العارضة على السفينة حقيقةً المنسوبة إلى جالسها توسعاً، فهو باطل جدّاً من وجهين

الأوّل: عدم استقامة هذا التفسير مع تقسيم الواسطة إلى مساءٍ وأعم وأخص ضرورة أنّ الاتصاف بالواسطة بأقسامها الثلاثة اتصاف تحقيقي لا توسّع ولا تجوز فيه أبداً.

والثاني: أنّ المفروض بالعرض الذاتي بهذا المعنى يعم الموضوع الأولي والثانوي مطلقاً ، فلا يصلح أن يكون ميزاناً لتمايز الفنون بعضها عن بعض؛ إذ كما يتصوّر فرض هذا الموضوع بالنسبة إلى مسائل أصول الفقه كذلك يتصوّر فرضه بالنسبة إلى الفنون الأدبية؛ فإنّ جميعها باحثة عن أحوال اللفظ بالأخرة، بل بالنسبة إلى جميع الفنون، كما هو ظاهر.

مع أنه إن أريد بما ذكره من:

أنّ موضوع علم الأصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله وإن لم يكن له اسم خاص و عنوان مخصوص.(1)

أنّه كلّى منطبق عليها غير معتدّ عنها، ففيه أنّ ثبوت مثل هذا الجامع يحتاج إلى قيام دليل عليه، ولم يتبيّن مما قدّمه وجود جامع كذلك بينهما.

ص: 26


1- نقل بالمضمون. كفاية الأُصول: 22.

وإن أريد وجود جامع بينها مطلقاً وإن كان عاماً لموضوعات مسائل فنون أخر، ففيه أنّ وجود مثل هذا الجامع لا ينفع في جعل مسائله فنّاً مستقلاً في قبال سائر الفنون، والقوم إنّما قصدوا من تعيين الموضوع ما يتميّز به الفنون بعضها عن بعض لا مطلق ما يعرضه الشيء؛ فإنّهم صرّحوا بأنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وموضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية.(1)

فما ذكره حينئذ لا يرتبط بما كان القوم بصدده. وكأنه تفطّن بأن الموضوع بالمعنى الذي ذكره لا يكون مائزاً فعدل عمّا ذكره القوم وجعل تمايز العلوم باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين(2)، وهو في غاية البشاعة؛ ضرورة عدم تأثير في تعدّد الغرض ووحدته تعدّد الفعل المعلّل به ووحدته، وإلّا لزم أن يصير الفنّ الواحد فنوناً متعدّدة إذا تعدّد

الداعي على تدوينه، والفنون المتعدّدة فناً واحداً إذا اتحد الداعي على تدوينها. مع أنه يجوز اشتراك جميع الفنون أو جملة منها في غرض واحد وانفراد كلّ منها بغرض، فيلزم حينئذ أن تكون الفنون المشتركة فنّاً واحداً باعتبار الاشتراك في الداعي العام للجميع وفنوناً متمايزةً باعتبار انفراد كلّ منها بغرض والملازمة واضحة وبطلان اللوازم أوضح.

مع أنّ عنوان الفنيّة سابقة على التدوين، فلا يعقل تأثير غرض التدوين فيه. ولو فرض دوران عنوان الفنّية مدار التدوين لزم أن يختلف الفنّ الواحد باختلاف كيفية التدوين؛ ضرورة أنّ العنوان الدائر مدار التدوين يختلف باختلافه كما يتحد باتحاده. ألا ترى أنّ عنوان القصيدة والنظم الدائر مدار تركيب الكلمات وتأليفها يختلف باختلاف كيفية التركيب والتأليف فيلزم حينئذٍ أن تكون الكتب المختلفة التدوين في فنّ واحد فنوناً متعدّدة، وهو بديهي البطلان.

والعجب أنه اعترض على نفسه باستلزام صيرورة فنّ واحد فنّين مختلفين إذا تعدّد الداعي على تدوينه، فأجاب بعد أن حكم ببعده:

ص: 27


1- شرح الشمسيّة (للعلامة الحلّي): 189؛ شرح الشمسية (القطب الدين الرازي): 68؛ شرح المطالع: 18.
2- كفاية الأصول: 22.

أنّه لا يصح لذلك تدوين علمين وجعلهما فنّين وتسميتهما باسمين بل تدوين علم واحد يبحث فيه لكلا المهمين وأُخرى لأحدهما.(1)

فإنّه اعتراف بورود الإيراد وبطلان ما ذكره من أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض.

وكيف كان فأصول الفقه هي ما يتوقف عليها الفقه مما لم يذكر في سائر الفنون أو لم يستوف حقه فيها، ومسائله بين ما يتوقف عليه الاستنباط وبين ما يثبت به اعتباره، والمستنبط أعم من أحكام الوقائع التي هي مدلول الأدلة ووظائف المكلّف التي التي هي مؤدّى الأُصول.

ثم اعلم أنّ حقيقة الفنون وما بمنزلتها إنّما هي مسائلها لا العلم بها ضرورة أنّ المبحوث عنه هى المسائل وإن كان المطلوب منها والغرض من تدوينها هي العلم بها بحيث صارت متمحضة فيه وصح إطلاق العلم عليها تنزيلاً فأخذ «العلم بالقواعد» جنساً لها، كما وقع في أغلب تعاريفهم(2)، غفلة واضحة وزلّة فاضحة.

وإذ قد عرفت أنّ أُصول الفقه ليس فنّاً مستقلاً، فلا مجال للتعريف والتحديد. ولذا طوينا عنه واكتفينا ببيان ما يصح به عد المسألة من مسائله.

[الأمر] الثاني

يوصف اللفظ بالكلية والجزئيّة باعتبار معناه في مصطلحهم، ويختص ذلك عندهم بالاسم الخالص، ولا يجري في الحرف والفعل والأسماء المتضمنة للمعنى الحرفي كالمبهمات. والسر فيه أنّ الحرف لا معنى له، وأنما هو موجد معنىً في لفظ غيره، كما أفاده مهبط الوحى(علیه السّلام)(3)فهو آلة لإحداث معنى من المعاني المعتورة على اللفظ من الفاء علیه

ص: 28


1- كفاية الأُصول: 21 - 22.
2- قوانين الأصول 1:5؛ هداية المسترشدين: 12؛ الفصول الغروية: 9.
3- إشارة إلى قوله(علیه السّلام): «الكلام ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم ما أنبأ عن المسمّى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى والحرف ما أجود معنى في غيره». الفصول المختارة: 91؛ المناقب 2: 47؛ بحار الأنوار 40 162.

والمفعولية والإضافة والظرفية والاختصاص والاستعلاء وهكذا لا أنّ له معنى وضع بإزائه اسم.

توضيح ذلك: أنّ الأسماء ما لم يخرج استعمالها عن الإبهام بالتعين في أحد الوجوه كانت أسماء معدودة عارية عن الإسناد ولا يفيد العلم بشيء وإنما توجب خطور مفاهيمها في الذهن، فالإفادة والاستفادة منها تتوقف على تماميّة استعمالها وتعينه في أحد الوجوه ومن المعلوم أنّ الاسم لا يتكفّل وجه استعمال اسم آخر. ولذا لو أتيت اسماً مكان الحرف أو ما بمنزلته من الهيئة التركيبية أو الاشتقاقية لا يغني عن شيء، فلا بدّ في تتميم القضيّة اللفظية المترتبة عليها الإفادة والاستفادة من الحرف أو ما بمنزلته.

فعلم من ذلك أنّ متمّم ذلك أنّ متمّم استعمال الاسم والمتكفّل لأنحائه ليس إلا الحروف أو ما بمنزلتها، ولولاها لم يخرج الاستعمال عن الإبهام، فمعانيها في الإبهام، فمعانيها في طول ألفاظ الأسماء حادثة فيها.

وهذا شرح تمام حقيقة الحرف المستفاد من كلام مهبط الوحي(علیه السّلام) . وقد أوضحنا الكلام فيه غاية الإيضاح في «كشف الأستار عن وجه أسرار الحديث الشريف»(1)وقد قرع أسماع أهل العربيّة أنّ معنى الحرف في غيره، ولكن لم يحققوه ولم يهتدوا إلى حقيقته؛ لدقته، فذهبوا يَمْنَةً ويَسرةً، وكلّ ما صدر عنهم في المقام بين فاسد وقاصر. والمشهور بينهم ما أسسه المحقق الشريف فلا بأس بنقل كلامه وبيان ما فيه، قال:

إنّ المعنى الحرفي من المعنى الاسمي بمنزلة المرآة ممّا يشاهد فيها ففي البصيرة كالبصر - لحاظان: آلي لا يتوجه إليه الشخص إلا توطئة، واستقلالي هو الأصل الأصالة والآلية - ثمّ أوضح بقوله : - فاعلم أنّ في اللحاظ، فالبصيرة كالبصر في الابتداء - مثلاً - معنىً هو حال لغيره ومتعلّق به، فإذا لاحظه العقل قصداً وبالذات كان معنى مستقلاً بنفسه ملحوظاً في ذاته صالحاً لأن يحكم عليه وبه، ويلزمه

ص: 29


1- الاشتقاق أو كشف الأستار: 157 - 190.

إدراك متعلّقه تبعاً وإجمالاً، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء، ولك بعد ملاحظة هذا الوجه أن تقيّده بمتعلق مخصوص فتقول: «ابتداء سير البصرة» ولا يخرجه ذلك عن الاستقلال وصلاحيته للحكم عليه وبه.

وإذا لاحظه العقل من حيث إنّه حال بين السير والبصرة، وجعله آلةً لتعريف

حالهما كان معنى غير مستقل بنفسه لا يصلح لأن يكون محكوماً عليه وبه وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظة «من». وهذا معنى ما قيل : «إنّ الحرف وضعت باعتبار معنى عام - وهو نوع من النسبة كالابتداء - لكلّ ابتداء معيّن بخصوصه».(1)انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ المعنى الحرفي هو الأصل في مرحلة اللحاظ والقصد؛ حيث إنه الأصل فى الإفادة؛ ضرورة أنّ غرض المتكلّم إنّما هو بيان الإسناد الذي هو معنى حرفي، بل القصد لا يتعلّق إلا بأنحاء النسب التي هي معانٍ حرفيّة. ولذا خُص المعنى الذي هو محلّ العناية والقصد، في كلام مهبط الوحي(علیه السّلام)(2)بمؤدى الحرف.

وثانياً: أن جعل المعنى الحرفي من المعنى الاسمي بمنزلة المرآة ممّا يشاهد فيها، غلط بيّن؛ لأنّ المعنى الاسمي لا يشاهد في المعنى الحرفي أبداً.

وإن أراد أنّ حال المعنى الاسمي يشاهد فيه - كما يظهر من تمثيله بالاتبداء وجعله آلةً لتعرف حال السير والبصرة - ففيه أوّلاً: أنّ حالهما إنّما هو الربط الثابت بينهما الذي هو معنى حرفي، فلا يتمّ ما ذكره من أنه مرآة للمعنى الاسمي.

وثانياً : أنّ الربط المذكور إنّما هو الابتداء، فلا يصح جعله آلة لنفسه، بل التوطئة والمرآتية إنّما تجري في المفاهيم الاسمية، كذكر الملزوم توطئةً لإرائة اللازم وبالعكس.

وثالثاً : أنه لو كان قوام الحرفية والاسميّة بالآلية والاستقلال بالمعنى الذي ذكره، لزم أن تكون الكنايات(3)حروفاً لا أسماء.

ص: 30


1- الشرح المطوّل (مع حاشية السيد الشريف): 549 .
2- تقدّم تخريجه في الصفحة ،28 الهامش 3.
3- يعني بها الضمائر على الصطلاح الكوفيين. لاحظ: شرح الأشموني على الألفية 1: 87.

ورابعاً : أنّ إرجاع القول بعموم الوضع وخصوص الموضوع له إلى ما ذكره، في غير محله؛ إذ لا ملازمة بينه وبين النظر الآلي، كما هو ظاهر.

وإذ قد اتضح لك ما حققناه من أنّ الحرف آلة لإيجاد معنىً في غيره لا أنّ له معنىً وضع بإزائه ظهر لك وجه عدم اتصافه بالكلية والجزئيّة باعتباره، ومنه يظهر وجه عدم اتصاف الاسماء المتضمنة للمعاني الحرفية بأحد الوصفين من حيث إنّها متضمنة لها. وهكذا الأمر في الفعل؛ فإنّه باعتبار اشتماله على الهيئة المفيدة للإسناد الذي هو معنى حرفي، لا مجال لاتصافه بأحد الوصفين. وأمّا الصفات فإنّما توصف بأحدهما باعتبار معناها من جهة اضمحلال المعنى الحرفي - وهي النسبة الناقصة التقييدية - في جنب المعنى الاسمي وصيرورة المجموع عنواناً للذات التي هي مفهوم مستقل.

[الأمر] الثالث

أن الوضع - وهو تخصص شيء بشيء بحيث متى أطلق أو أحسّ الشيء الأوّل خطر الشيء الثاني بالبال - إن تعلّق بمفهوم عام فهو والموضوع له عامان، وإن تعلّق بمفهوم خاص مع عدم تكرّر الوضع فهما خاصان، وقد أحدث العضدي قسماً ثالثاً في الحروف والمبهمات فذهب إلى أنّ الوضع فيها عام والموضوع له خاص(1)؛ لزعمه أنهما لا يستعملان إلا في الأفراد وانفراد كلّ منها بوضع غير متصوّر؛ لعدم انتهائها إلى حدّ محدود، والقول بتعلّق الوضع بالمعنى العام يستلزم الالتزام بكونها مجازات بلا حقائق، فاختار أنّ الوضع في كلّ واحد منهما واحد متعلّق بكلّ فرد من الأفراد الملحوظة في ضمن المفهوم العام بعنوان أنّها أفراد له؛ فراراً عن المحذورين. وشاع ذلك بين من تأخر عنه وتلقاه الأكثر منهم بالقبول، وزعموا أنّ عموم الوضع باعتبار عموم آلة الملاحظة(2)،وهو غلط؛ لأنّ عموم الوضع حينئذٍ إنّما هو باعتبار سريانه في كلّ فرد من الأفراد وعدم اختصاصه بفرد معيّن.

ص: 31


1- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 1: 187 - 189.
2- الفصول الغروية: 16؛ بدائع الأفكار: 40؛ فوائد الأصول (للنائيني) 1: 31.

ثمّ إنّ ما ذكره العضدي من أنها مستعملة في الجزئيات، باطل؛ أما الحروف فلما عرفت من أنّها معيّنة لأنحاء الاستعمالات، فلا استعمال لها حتى يكون المستعمل فيه خاصاً أو عاماً، كما أنه لا وضع لها بالمعنى المعهود حتى يكون الموضوع له فيها عاماً أو خاصاً، وإنّما الوضع فيها آلى بمعنى جعلها آلات موجدة لمعان معتورة على ألفاظ الأسماء.

ولو تنزّلنا وقلنا بجريان التقسيم في الوضع الآلي - كالمرآتي - وتطرق الاستعمال فيها، فالموضوع له والمستعمل فيه حينئذٍ عامان؛ ضرورة أنّها آلات للمفاهيم العامة، والخصوصيّة إنما تطرء من قبل إعمالها في المفاهيم وإحداثها إيّاها المستلزم للتشخّص، لا أنّ الخصوصية ثابتة قبل الإعمال.

وأمّا المبهمات فهي بمعناها الاسمي مستعملة في المفهوم العام. ولذا سميت مبهمات. والتعيّن إنّما حصل من قبل التضمّن للمعاني الحرفية التي هي وجه من وجوه استعمالها في المفهوم الاسمي العام. ولذا تكون معارف مع أنها من المبهمات، فحالها حال اسم الجنس المحلّى بلام العهد المتعيّن مفهومه بها. فالوضع والموضوع له فيها عامان، كما أنّ المستعمل فيه أيضاً حينئذ عام.

نعم، عموم الوضع مع خصوص الموضوع له إنّما يجري في الأعلام المشتركة؛ حيث إنّ وضعها تعمّ أفراداً متعدّدة مع أنّ الموضوع له فيها خاص.

وكيف كان، فلا مجال لما ذكره بعض من تطرّق قسم رابع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام(1)؛ إذ مع تعلّق الوضع بمفهوم عام لا يتصوّر كونه خاصّاً. وإنّما اغتر من اغترّ من جهة زعمه أنّ عموم الوضع وخصوصه إنّما هو باعتبار عموم آلة الملاحظة وخصوصها فتصوّر قسماً رابعاً مع أنّ المفهوم العام ملحوظ بنفسه ولا حاجة له إلى آلة الملاحظة حتى يتوهّم أنّه قد يتصوّر في ضمن الخاص.

ثمّ إنّ الوضع ينقسم عند أهل العربيّة باعتبار الموضوع إلى شخصي وقانوني.

ص: 32


1- بدائع الأفكار: 40.

فإن كان الموضوع لفظاً خاصاً لا يصدق على ألفاظ مختلفة فالوضع شخصي. وإن كان الموضوع هيئة سارية في المواد المختلفة، كصيغ المشتقات، فالوضع قانوني؛ لأنّ مرجع الوضع فيها إلى ضرب قاعدة كليّة؛ فإنّ صيغة الفاعل في كلّ مادّة علامة منشأيّة الذات للمبدأ، وصيغة المفعول علامة وقوع المبدأ عليها، وهكذا الأمر في سائر صيغ المشتقات الناظر كلّ منها إلى خصوصيّة من خصوصيات المبدأ.

ولا يخفى عليك أنها إنما تتكفّل جهات استعمال المواد وأنحائه، فوضعها كوضع الحروف آلي خارج عن المقسم وهو

المقسم وهو الوضع المرآتي المصطلح الموجب لخطور الموضوع له.

[الأمر] الرابع

أن الدلالة - وهي كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر - تنقسم إلى ذاتيّة ووضعيّة. والذاتية إن كانت نظريّة فهي عقليّة وإلا فطبعيّة. فالأقسام الثلاثة ليست متقابلة والتقابل إنّما هو بينهما مع الوضعيّة. وإنّما عبّر عن الذاتيّة بالعقليّة والطبعيّة؛ لاستقلال العقل والطبع في إدراك الذاتيات دون الجعليّات.

وبهذا البيان اندفع ما يتوهم من أنّ التقسيم إن كان باعتبار سبب الدلالة لا ينطبق إلا على الوضعيّة، وإن كان باعتبار المُدرِك لا ينطبق إلا على العقليّة والطبعيّة، وإن كان باعتبار سبب الدال الدالّ وموجده لا ينطبق إلّا على الطبعية.

كما ظهر أنّ التمثيل للطبيعة بدلالة سرعة النبض على الحمّى ، وللعقليّة بدلالة اللفظ على وجود اللافظ(1)،في غير محله؛ لأنّ الدلالة في المثال الأوّل نظريّة وفي الثاني بديهيّة. ثمّ إنّ الدلالة الوضعيّة اللفظية تابعة لإرادة المتكلّم؛ لأنّ الدلالة فرع وجود العليّة بين الطرفين، أو اشتراكهما في العلة. ولذا انحصرت الدلالة في الإنّيّة واللميّة، والدليل في الإني واللمّي.

ص: 33


1- كما في حاشية المولى عبدالله على تهذيب المنطق: 23.

ومجرّد الوضع لا يوجب صيرورة الموضوع علة للموضوع له ولا معلولاً عنه معه ولا مشتركاً في العلّة، كما هو ظاهر، فلا يوجب بنفسه العلم والدلالة، وإنّما يوجبالخطور والحضور في الذهن .

والعليّة إنما تثبت بين اللفظ الموضوع الصادر عن المتكلّم العارف بالوضع في مقام

الإفادة و [بين] مراده وضميره؛ لانبعاث اللفظ حينئذ عن إرادته انبعاث المعلول عن علته، فيستدل به عليها استدلال المعلول على علّته. وبعد دلالته على مراد المتكلّم يدلّ على الواقع ثانياً إن كان معصوماً أو المطلب بديهياً مع كون المتكلّم صادقاً(1)؛ لوجود التلازم حينئذ بين الواقع ومراد المتكلّم.

فالمدلول الأولي لللفظ إنّما هو مراد المتكلّم وضميره لا ما وضع له اللفظ من المفاهيم مع قطع النظر عن وجودها في الذهن أو الخارج، وإن كان المقصود بالإفادة والدلالة غالباً هو الواقع لا ما في الضمير . ونسبة الدلالة إلى الوضع إنّما هي باعتبار أنها بمعونته.

وقد التبس الأمر على جماعة ولم يفرّقوا بين المدلول والموضوع له، فنظر بعضهم إلى أنّ المدلول الأولي لللفظ إنّما هو ما في الذهن فزعم أن الموضوع له هو المعنى الذهني(2)، ونظر بعضهم إلى أنّ المنظور بالأصالة غالباً إنّما هو الخارج فزعم أن الموضوع له هو المعنى الخارجي(3) ، ولم يتفطنا أنّ الوجود المستفاد من اللفظ ذهناً أو خارجاً إنما هو في مرحلة الدلالة وهي غير متسبّبة عن الوضع، وإنّما له دخل فيها، وهو متعلّق بنفس المفاهيم مع قطع النظر عن الوجود الذهني أو الخارجي.

فظهر بما بيناه وجه توهم أخذ الوجود ذهناً أو خارجاً في الموضوع له وفسادهما. وأعجب من الجميع ما صدر عن التفتازاني وشاع بين من شايعه من أن الدلالة متحققة بمجرد الوضع وهي معلولة عنه، فحكم بثبوت الدلالة لللفظ الموضوع مطلقاً صدر

ص: 34


1- الظاهر أنه أراد كون المتكلّم صادقاً عند السامع. لاحظ: حواشي المشكيني على كفاية الأصول . 1: 116 - 117؛ الحاشية على الكفاية 1:31.
2- شرح الإشارات والتنبيهات (للفخر الرازي) 1: 21 .
3- لاحظ: قوانين الأصول 1:63 غاية المسئول: 176 - 180.

عن اللافظ غفلةً وخطاءً أو عن قصد وإرادة، زاعماً أنّ الدلالة هي الإخطار بالبال وأنّ العلم - المتعلّق بالدالّ في حد الدلالة بمعنى التصديق والمتعلّق بالمدلول بمعنى التصوّر - بمعنى الخطور(1). وهو غلط عجيب؛ فإنّ كلّاً من التصوّر والتصديق لا يحصل إلا ممّا يشاكله، والتصوّر الذي هو قسم من العلم إنّما هو العرفان لا الخطور الذي هو مجامع للعلم والجهل.

وتوهّم أنّ العلم في مصطلح أهل النظر منقول عن مفهومه اللغوي - وهو الانكشاف المنقسم إلى اليقين والعرفان - إلى الصورة الحاصلة في الذهن مطلقاً ولو كان على وجه الخطور المجامع للتخييل، والعلم المأخوذ في حدّ الدلالة: بالمعنى المصطلح لا بلامعنى اللغوي، في غاية السخافة والشناعة؛ لأنّ موضوع بحث أهل النظر إنّما هو المعرف والحجّة من حيث أنهما يوصلان إلى تصوّر وتصديق نظريَّيْنِ، ومن البديهي أنّ التصوّر النظري إنّما هو العرفان لا الخطور.

فلا مجال لنقل العلم إلى مفهوم آخر مغاير لموضوع بحثهم، بل لو كان العلم موضوعاً في اللغة للأعمّ لوجب نقله في مصطلحهم إلى الانكشاف المنقسم إلى التصديق والعرفان المنطبق على موضوع بحثهم.

والاغترار إنّما حصل من التعبير بالتصوّر المجامع للخطور؛ غفلةً عن أن المقصود إنما هو التصوّر بكنهه أو بوجه يمتاز عمّا عداه وهو ليس إلا العرفان. مع أنّ الحدّ لا يختص به أهل النظر .

فتبين بما بيناه أُمور:

الأوّل: أنّ ما اشتهر بين المحققين من أنّ الدلالة تابعة للإرادة وأن الوضع للتركيب والتركيب للدلالة، في غاية السداد والصواب. وأن تعجّب التفتازاني ومن شايعه مما أفاده المحققون، في غير محله.

ص: 35


1- الشرح المطوّل: 510 - 511 .

والثاني: أنّ تقسيم الدلالة إلى تصديقية وتصورية والحكم بثبوت الثانية مطلقاً وعدم ثبوت الأُولى إلا مع الإرادة(1)، في غير محله؛ إذ لا معنى للدلالة إلا كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وقد ظهر لك أنّ إطلاق العلم على التصوّر بمعنى الخطور، غلط لا أصل له أصلاً. مع أنّ تعدية العلم بالباء إنّما هي في العلم التصديقي لا التصوّري.

والثالث: أنّ ما أجابه المحقق الطوسي(قدس سره) عن انتقاض حدود الدلالات الثلاث بعضها ببعض(2) من أنّ الدلالة تابعة للإرادة ولا يمكن أن يراد من اللفظ إلا معنى واحد بإرادة واحدة فلا تكون لللفظ أبداً إلا دلالة واحدة فلا تجتمع حينئذٍ دلالات ثلاث على لفظ واحد بالنسبة إلى مدلول واحد حتى ينتقض بعضها ببعض(3) ، حق متين وما ذكره التفتازاني(4) والشريف ومن تبعهما(5) ناش عن عدم تعقل معنى الدلالة.

فإن قلت: ما ذكرت من عدم اجتماع الدلالات لا يصلح به حدودها لتصادقها على ما فرض - أنه تمام ما وضع له وجزئه ولازمه بأوضاع متعدّدة.

قلت: المقصود ممّا وضع له في الحدّ هو المعنى والتعبير عنه بما وضع له، من باب المثال؛ ضرورة أنّ دلالة اللفظ على تمام المعنى المقصود من اللفظ مطابقة حقيقياً كان أم مجازيّاً، وعلى جزئه تضمّن، وعلى الخارج التزام، فتستقيم الحدود حينئذ؛ إذ لا يمكن أن يكون مفهوم واحد تمام المعنى والمدلول، وجزئه أو لازمه بدلالة واحدة. والرابع: أنّ المدلول الأولي في مرحلة السلوك دائماً إنما هو ما في الضمير(6)؛ لما

ص: 36


1- كما في قوانين الأصول 1: 247 - 248؛ وكفاية الاصول: 31 - 32.
2- فيما إذا كان اللفظ مشتركاً بين الكلّ ،وجزئه والملزوم ولازمه؛ لأنّ اللفظ إذا دلّ على الجزء واللازم صدق عليه أيضاً دلالة اللفظ على تمام ما وضع له. لاحظ: مفاتيح الأُصول: 5 - 6.
3- شرح الإشارات والتنبيهات (للمحقق الطوسي) 1: 31 - 33.
4- الشرح المطوّل (مع حاشية السيد الشريف): 508 - 512 .
5- منهم صاحب الفصول في الفصول الغروية: 17.
6- كما تقدّم في الصفحة .29 - 30.

عرفت من تبعية الدلالة للإرادة، والواقع مدلول ثانوي للكلام في هذه المرحلة؛ حيث دلّ الكلام عليه بسبب الملازمة بينه وبين ما في ما في الضمير.

ولكن قد يكون المدلول الثانوي أصيلاً فى مرحلة النظر ومقصوداً بالإفادة، كما هو الغالب في الإخبارات، فيكون أوّلاً في مرحلة النظر وإن كان ثانياً في مرحلة السلوك، فتكون القضيّة اللفظيه حينئذٍ قنطرة وتوطئة للذهنيّة، والذهنية للخارجية، فيوازن صدق الكلام وكذبه حينئذٍ بالنسبة إلى مطابقته للخارج ومخالفته معه.

وقد يكون ما في الضمير مدلولاً أوّليّاً في مرحلة السلوك وأصالة النظر معاً، كمقام الإفتاء والشهادة وإظهار الحياة، فتكون القضيّة اللفظية حينئذٍ قنطرة وتوطئة للذهنيّة فقط، فيوازن صدق الكلام وكذبه حينئذٍ بالنسبة إلى ما في الذهن.

فالمدار في صدق الكلام وكذبه على المطابقة مع الأصيل في النظر وعدم مطابقته معه، لا على المطابقة والمخالفة مع الاعتقاد مطلقاً ، أو الخارج مطلقاً، ولا على المطابقة معهما أو مع أحدهما، والمخالفة كذلك. فظهر بطلان جميع ما صدر عن الجميع في المقام(1).

والخامس: فساد ما ذكره في الفصول من:

أنّ النسبة الخبريّة اللفظية موضوعة بإزاء النسبة الذهنية المأخوذة من حيث كشفها عن الواقع - طابقته أو لا علم بها أو لا - ؛ بشهادة التبادر(2).

لأنّ التبادر المذكور إنّما هو في مرحلة الدلالة لا الخطور، فلا يستند إلى الوضع؛ لما عرفت(3) من دوران الدلالة مدار علاقة العلّيّة لا الوضع ونسبتها إليه وتسميتها دلالة وضعيّة إنما هي باعتبار أنها بمعونته لا باعتبار أنّها متسبّبة عنه، فلا تكون الدلالة على النسبة الذهنيّة كاشفةً عن وضعها بإزائها.

مع أنّ الهيئة التركيبية الخبرية محدثة للنسبة الخبرية الحاصلة بين اللفظين ولا تكون موضوعة بإزائها، والنسبة الخبريّة الحادثة بينهما لا تكون موضوعة بإزاء نسبة أخرى ولا

ص: 37


1- لاحظ: الشرح المطوّل: 142 - 147.
2- الفصول الغروية: 29.
3- في الصفحة 33 - 34.

لإحداثها، وإنّما تدلّ على النسبة الذهنية - ؛ لانبعاثها عنها - دلالة المعلول على علّته من دون أن تكون للوضع مدخل فيها، فهي دلالة عقلية محضة، والنظر إلى الواقع إنما هو باعتبار أنّ إحداث النسبة بينهما إنّما هو باعتبار معناهما لا نفس اللفظ فتتوجّه النسبة حينئذ إلى الواقع، فالدلالة على المطابقة له إنما هي بالاعتبار المذكور لا لأجل الوضع.

ثمّ إنّ النسبة الخبرية لا تتميّز عن الإنشائية في الوضع؛ فإنّ الهيئة التركيبية الخبريّة إنّما تفيد الإخبار بالإطلاق لا بالوضع. ولذا تصح استعمال الجملة الخبرية في موضع الإنشاء، ولو كانت الجملة الخبريّة موضوعة للإخبار لم يصح استعمالها في موضع الإنشاء، كما لا يصح استعمال الإنشائية في موضع الإخبار.

والسادس: عدم ثبوت الدلالة إلّا في المركبات الإسناديّة أو ما بمنزلتها؛ لانتفاء الإرادة - التي تدور مداها الدلالة - في المفردات العارية عن الإسناد، وإرادة المعنى منها راجعة إلى إرادة تفهيمه منها المشتمل على الإسناد.

وبما بيّناه تبيّن أنّ أقسام الدلالة من المطابقة والتضمّن والالتزام لا تتصوّر إلا في القضايا، فإخطار لفظ «حاتم» عن مسمّاه لا يكون مطابقة، كما أنّ إخطاره عن جزئه لا يكون تضمّناً ولا عن جوده إلتزاماً ، فالتمثيلات المتداولة للأقسام الثلاثة بأمثال ذلك غلط.

كما تبيّن أنّ المدار على التضمّن سراية الحكم إلى الأفراد نحو: «جائني القوم» أو الأجزاء نحو اشتريت الدار»، لا على وجود الجزء الموضوع له فقط، كما توهم(1).

[الأمر] الخامس

أن المركبات لا وضع لها؛ لأنها مشتملة على معنى حرفي - وهي النسبة -- ومفهوم اسمي - وهو الطرفان - فلا تقبل الوضع الواحد لأمرٍ آتياً ولا آلياً. مع أن وضعها للمعنى التركيبي المستفاد من كلِّ من الطرفين والهيئة التركيبية تحصيل للحاصل.

ص: 38


1- لاحظ: الشرح المطوّل: 509 .

بل التحقيق أنه لا وضع للهيئات التركيبية أيضاً حتى آلياً؛ فإنّها إنما تناسب النسب ذاتاً، وتتكفّل كلّ من الهيئات التركيبية المختلفة نحواً خاصاً من النسبة بالمناسبة الذاتية، وهذا مراد من ذهب من المحققين إلى أنّ دلالة المركب على المعنى عقلية لا وضعيّة(1) ، إذ يعبر عن الأمور الثابتة ذاتاً - لا جعلاً - بالعقلية؛ لاستقلال العقل في إدراكها دون المجعولة؛ فإنّ المرجع فيها إنما هو الجاعل.

ويظهر ذلك أيضاً من احتجاجهم عليها بأنّ من لا يعرف من كلام العرب إلا لفظين مفردین صالحين للإسناد فإنّه لا يفتقر عند سماعهما مع الإسناد إلى معرفة معنىً للإسناد بل يدركه ضرورة(2).

وكيف كان، فلا يتطرّق في المركبات الحقيقة والمجاز؛ إذ ليست موضوعة بإزاء معنىً حتّى تستعمل فيه تارة فتصير حقيقة وفيما يناسبه مرّة فتصير مجازاً. وما يرى من التجوزفي بعض المركبات نحو قولك للمتردّد: «أراك تقدّم رِجلاً وتؤخّر أُخرى» كناية لا تجوز. والعجب أن صاحب الفصول مع إنكاره الوضع للمركبات أثبت التجوز فيها وقال: إنّ المركب المستعمل في غير المعنى المستفاد من مفرداته وضعاً لعلاقة بينه وبين المعنى التركيبي مجاز.(3)

فإنّ الاستعمال فرع تطرّق الوضع، فالمركب كما لا يتطرّق فيه الوضع لا يتطرّق فيه الاستعمال، وهو كالوضع إنّما يجري في كلّ من طرفي التركيب.

[الأمر] السادس

إذا توافق اللفظان في المعنى فهما مترادفان، وإن اختلفا فيه فمتباينان، اتصل المعنيان كالذات والصفة، أو انفصلا كالضدّين.

وكلّ منهما إن تعدّد معناه وضعاً فمشترك وإلّا فمتحد المعنى.

ص: 39


1- لاحظ: شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 1: 154.
2- لاحظ: هداية المسترشدین :35.
3- الفصول الغروية: 28.

وكلّ منها إن استعمل في غير ما وضع له لمناسبة وغلب بحيث هجر استعماله في الأوّل فهو منقول وإلّا فحقيقة ومجاز. هكذا قالوا(1).

والتحقيق أنّ غلبة الاستعمال لا توجب النقل؛ ضرورة أن مجرّد هجر الاستعمال في المعنى الحقيقي لا يوجب سلب الوضع عنه، كما أنّ اشتهار الاستعمال إنما يوجب صيرورته معهوداً في الذهن بحيث يوجب انصراف اللفظ إليه عند عدم القرينة على خلافه لا صيرورته موضوعاً له حقيقة؛ إذ لا يعقل تبدّل حقيقة الاستعمال بالوضع بالغلبة؛ لأنها إنّما توجب قوة الاستعمال لا تبدله بحقيقة أخرى، فجعله قسماً من الوضع، في غير محله.

ثمّ إنّه قد اختلف كلماتهم في وقوع الترادف والاشتراك في أصل اللغة. والحق عدم وقوع الترادف فيها وكلّ ما يظنّ أنّها من الألفاظ المترادفة فهي ألفاظ متقاربة المعاني يفترق كلّ منها عن الآخر في خصوصيّة دقيقة بها يفارق بعضها عن بعض في صحة الاستعمال أو حسنه في مورد دون مورد؛ إذ لو كانت مترادفة، لاستوت الموارد بالنسبة إليها صحةً وحسناً . ولنذكر بعض الألفاظ التي ظنّوا أنّها مترادفة وننبه على الخصوصيات الفارقة بينها:

فمنها «الرقبة» و«الجيد» و «العنق»؛ فإنّ الرقبة تنفرد عنهما بصحة استعمالها في مورد الملك وتوابعه، والعنق بحسن استعماله في مورد المد والضرب، والجيد في مورد الزينة. ولا يكون ذلك إلا لأجل أنّ الرقبة موضوعة للعضو المخصوص باعتبار أنه محل للأخذ والشدّ المناسب لإسناد الملك وتوابعه من الفك والعتق والتحرير إليه. والعنق موضوع له باعتبار صلوحه للمد والضرب المناسب لاستعماله في الموردين. والجيد مأخوذ من الجيّد في مقابل الردي المناسب لاستعماله في مورد الزينة. ولذا تفترق المراقبة والترقب والارتقاب عن المعانقة والاعتناق فيالمفاد.

ومنها «الانسان» و«البشر»، فإنّ الأوّل مأخوذ من الأُنس المناسب لاستعماله في

ص: 40


1- لاحظ: معارج الأصول: 49 - 50؛ معالم الدين: 80 ؛ قوانين الأصول 1 : 9 - 10.

مورد التعقل وإظهار الكمال، والثاني من البشرة وهو الظاهر المناسب لاستعماله في مورد إظهار جنبة الظاهر من الحيوانية من الأكل والشرب وغيرهما المشترك معه سائر الحيوانات.

ومنها «العلم» و «الفهم» و «الفقه» و «اليقين» و«الإدراك» وهكذا، فإنّ العلم مقابل للجهل وهو مطلق الانكشاف الجامع بين التصوّر والتصديق، والفهم عبارة عن انکشاف ما فيه دقة وخفاء، ولذا يقابل الفهيم بالبليد. والفقه عبارة عن الحذاقة والبصيرة التامة، كما يظهر من موارد استعمالاته، ولذا سمّى العلم بالشرعيّات فقهاً؛ لأنّ المطلوب فيها الحذاقة لا مجرّد العلم بها. واليقين يختص بالعلم التصديقي الثابت الذي لا يزول بتشكيك المشكك ، ولذا يختص بالعلم الحاصل عن الدليل ولا يطلق على علم التقليد. والإدراك عبارة عن مطلق الوصول واللحوق، ولذا يستعمل في مورد اللحوق بالهارب وإتيان الفعل.

وبالتأمل في خصوصيات موارد الاستعمالات تقدر على معرفة الخصوصيات الفارقة بين سائر الألفاظ التي زعموا أنها مترادفة.

وأما الاشتراك فعمدة ما استدل به على وقوعه مجيء ألفاظ للأضداد ك-«القرء» للطهر والحيض، و«الجون» للسواد والبياض، و«عَسْعَسَ» بمعنى: أقبَلَ وأَدبَرَ.

وفيه أنّ المتقابلين إنّما يتقابلان باعتبار اشتراكهما في جامع واحد فهما لغاية الارتباط يتقابلان، فالمتقابلان عبارة عن طرفي أمر واحد، وهو الجامع بينهما، وهذا الجامع قد يوضع بإزائه لفظ وقد لا يوضع بإزائه لفظ فينبه عليه بذكر طرفيه فيقال: «أحوال الكلم من حيث الإعراب والبناء، وحالة الكلام من حيث المطابقة للواقع والمخالفة له».

فاستعمال اللفظ في مورد المتقابلين كاشف عن وضعه بإزاء الجامع بينهما واستعماله في هذا الجامع المنطبق على كلّ من المتقابلين، لا عن الاشتراك، كما توهموه.

وبالجملة، توهّم الاشتراك في الألفاظ ناش غالباً من خفاء الجامع؛ إما لدقته أو لعدم التأمل فى الأطراف وخلط الخصوصيات - المستفادة من موارد الاستعمال - بمعنى اللفظ. وقد كشفنا الستر عن حال جملة من الألفاظ التي توهّم الاشتراك فيها في طيّ كلماتنا فقهاً وأُصولاً.

فإن قلت: إنّما يصح وضع اللفظ بإزاء الجامع إذا كان ظاهراً قريباً بأذهان أهل اللسان،

ص: 41

وأما إذا كان دقيقاً بحيث لا يلتفت إليه إلّا أو حديّ منهم فلا؛ لأنّ الوضع إنّما هو لأجل الاستعمال، وهو فرع معرفة المستعمل فيه، والأمور الدقيقة مختفية على أغلبهم، فكيف يستعملون الألفاظ فيها مع أنّ تنبه الواضع إلى هذه الدقائق مستبعد جداً بل الإحاطة عليها في جميع الألفاظ المشتركة غير متصوّر.

قلت: إنباء الألفاظ عن مسمياتها لم يتحقق أنه بالوضع لجواز استناده إلى المناسبة الذاتية، كما اختاره بعض المحققين(1) فلا مجال لما ذكرت. ولو سلم أنه بالوضع فاستبعاد التنبه ممنوع؛ لجواز كون الواضع هو الباري - عزّ اسمه - أَوْ مَن أُلهِم منه. بل المتأمّل في الدقائق المودوعة في الكلمات وتراكيبها لا يجوز صدوره إلّا مِن أحدهما؛ لأنّ الإحاطة عليها على وجه التمام فائقة عن طوق البشر ، وناهيك(2)في ذلك كلام الباري(3) ، جلّ ثنائه. ويكفي في الاستعمال معرفة المستعمل فيه إجمالاً.

یدلك على ما بيّناه اختلاف طبقات أهل اللسان في مراتب البلاغة وحسن التركيب مع صدور الاستعمال من الجميع؛ فمنهم من يلحق كلامه - ؛ لدنوّه فيها بكلام الحيوانات ومنهم من يلحق كلامه - ؛ لعلوّه فيها - بكلام الباري جلّ اسمه ككلام سفرائه وأمنائه، وبين المرتبتين مراتب شتّى. وليس هذا إلّا لأجل اختلاف معرفتهم بالدقائق المودوعة في الألفاظ مع أنّ جميعهم من أهل اللسان والاستعمال.

[الأمر] السابع

ينقسم اللفظ باعتبار الاستعمال إلى حقيقة ومجاز؛ فإن استعمل في ما وضع له من حيث هو كذلك فحقيقة، وإن استعمل في غير ما وضع له كذلك لعلاقة فهو مجاز.

ص: 42


1- وهو المحكي عن «سليمان بن عبّاد الصيمري» في قوانين الأصول 1:194؛ والفصول الغروية: 23 .
2- أي كافيك. يقال: رجلٌ ناهيك من رجل كافيك عن تطلب غيره. لسان العرب :15 346؛ المعجم الوسيط: 960، «نهي».
3- إشارة إلى قوله تعالى في سورة الرحمن (55): 3 و 4: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾.

والمصحح للتجوّز إنما هي العلاقة الموجبة لتنزله منزلة ما وضع له الموجب لارتباط اللفظ به ثانياً وتبعاً فلا يحتاج إلى وضع آخر نوعيّاً أو شخصيّاً، بل يستحيل تأثير الوضع بمعنى الرخصة فيه؛ إذ مع وجود العلاقة المصححة للاستعمال يصح التجوّز وإن منعه الواضع، ومع عدمها كذلك لا يصح التجوّز وإن رخصه الواضع.

مع أن تفسير الوضع بالرخصة(1)من أقبح الأغلاط، بل التحقيق أن التجوّز لا يكون تصرّفاً في اللفظ حتى يكون لتوقيفه على الوضع مجال فإنّ الاسم إنّما يستعمل في عنوان المسمّى وينبئ عنه أبداً كما نبأ به أمين الوحى(علیه السّلام)(2)؛ ضرورة أن علقة التسمية ذاتاً أو وضعاً واسطة في عروض الاستعمال والإنباء بالنسبة إلى المعنى، فيكون المستعمل فيه والمنبئ عنه ابتداءً إنّما هو عنوان المسمّى، وذات المسمّى إنّما ينبئ عنه بتبعه ولا يقع محلاً للاستعمال أصلاً، وإنّما يقع معروضاً للمستعمل فيه، فلا اختلاف بين الحقيقة والمجاز في الاستعمال والمستعمل فيه وإنّما يختلفان في الإطلاق الراجع إلى المفهوم لا اللفظ وصحة إطلاق أحد المفهومين على الآخر تابعة للاتحاد الثابت بينهما تحقيقاً أو تنزيلاً ولا ارتباط لها بالواضع أصلاً.

وقد تبيّن بما بيّناه أنّ إرادة عنوان المسمّى على وجه العموم من اللفظ لا توجب التجوّز لا في الاستعمال ولا في الإطلاق فتوهّم أنّه من باب عموم المجاز، في غير محله.

[الأمر] الثامن

أنّ العلاقة المصححة للتجوّز إنما العلاقة الموجبة لتنزل غير ما وضع له منزلته و اتحاده معه الموجب لصحة إطلاق عنوان المسمّى عليه فهي منحصرة في الشباهة التامة،وهي مطلقة ومقيّدة. فإن كانت مطلقة يصح التجوّز مطلقاً، وإن كانت مقيّدة يصح التجوّز

ص: 43


1- كما في قوانين الأصول 1: 63 - 64 .
2- إشارة إلى قوله(علیه السّلام)«... فالاسم ما أنبأ عن المسمّى...». الفصول المختارة: 91؛ المناقب 2: 47؛ بحارالأنوار 162 :40.

في مورد القيد والموارد التي توهّم التجوّز فيها لأجل السببية والمسببية وسائر العلائق المرسلة من هذا القبيل. ولذا لا يطّرد التجوّز معها.

فتبيّن أنّ تقسيم المجاز إلى قسمين استعارة ومرسل باطل لا أصل له كما تبين أن جعل المجاز من صفات اللفظ مطلقاً - كما عن الأكثر(1)- والتفصيل بين الاستعارة والمرسل بجعل التجوّز في أمر عقلي في الاستعارة دون المرسل كما عن السكاكي(2)- باطل. وقد أوضحنا الكلام في إرجاع موارد الإرسال إلى الاستعارة أو التجوز في الإسناد

في «كشف الأستار» وبطلان جميع ما صدر عن جميعهم في هذا المقام .

تنبیهان

الأوّل: لا يجري التجوّز في الحروف وما بمنزلتها من الهيئات التركيبية والاشتقاقية؛ إذ لا استعمال لها، وإنّما هي متكفّلة لأنحاء استعمالات الاسم فهي موجدة معنىً في اللفظ ، لا منبئة عن مسمّى ومستعملة فيه حتّى يجوز إنباته عمّا نزّل منزلته واستعماله فيه، فلفظة «في» مثلاً محدثة للظرفية أبداً وعلامة لها، سواء كان مسمّى المدخول ظرفاً تحقيقاً أو تنزيلاً.

وهذا معنى ما اشتهر بينهم من أنّ التجوّز في الحروف إنما هو بتبع مدخولها(3)، يعني: أنّ الاستعارة إنّما هو في المدخول بجعله منزلاً منزلة الظرف أو العلة وهكذا، لا في الحرف بجعله آلة لإحداث معنى آخر.

الثاني: إذا أطلق اللفظ وأريد نوعه مطلقاً أو مقيداً أو شخصه لا يكون حقيقةً ولا مجازاً؛ إذ المقصود حينئذٍ نفس اللفظ وليس وسيلةً إلى إحضار معنىً للحكم عليه؛ إذ النوع عبارة عن نفس اللفظ مع قطع النظر عن وجوده في الخارج، فلا يكون مستعملاً

ص: 44


1- تلخيص المفتاح (المطبوع مع الشرح المطوّل): 64-65 .
2- مفتاح العلوم: 369 - 373.
3- تلخيص المفتاح (المطبوع مع الشرح المطوّل): 66 - 67 .

لا فيما وضع له ولا في غيره، فلا يتصف بأحدهما. ولذا يشترك فيه المهمل والموضوع، ويصح جعله محكوماً عليه إسماً كان أو فعلاً أو حرفاً.

وزعم بعضهم أنّ لللفظ حينئذٍ استعمالاً ودلالة وتحيّر في أنها وضعيّة أو طبعيّة أو عقليّة فالتزم بأنّها خارجة عن الثلاثة وأنّها دلالة بالقرائن كدلالة المجاز(1). ولم يتفطّن بأنّ انحصار الدلالة في الثلاثة ضروري، وأنّ دلالة المجاز وضعيّة؛ لكونها بتوسط وضع اللفظ للمعنى الحقيقي، وأعجب منه ما زعمه التفتازاني من أنها وضعيّة ناشئة من الاتفاق والاصطلاح غير ناشئة عن وضع قصدي(2)

[الأمر] التاسع

قد ذكروا للحقيقة والمجاز علائم وأدلّة:

منها تنصيص أهل اللسان، وفيه أنّ إخبار أهل اللسان إنما يكون حجّةً في بيان موارد استعمالات الألفاظ - ؛ لأنّ الإخبار بها إخبار عن الحسّ - لا في بيان الحقيقة والمجاز؛ لأنّ إخبارهم بهما إخبار عن مقتضى نظرهم فلا يكون حجّةً؛ لتطرّق الاشتباه في النظر. ولذا ترى أن أهل اللسان يختلفون في حقائق بعض الألفاظ ومجازاتها.

ومنها التبادر وعدمه أو تبادر الغير، وفيه أنّ التبادر على أقسام ثلاثة: حاقي إلى وضع اللفظ، وإطلاقي مستند إلى إطلاق اللفظ وتجرّده عن القيد - كتبادر المائع من لفظ «الماء» عند إطلاقه مع وضعه لأعمّ منه ومن الجمد، والعموم من الجمع المحلّى باللام،والإطلاق من اللفظ الموضوع للمهيّة عند إطلاقهما ، مع خروجهما عن مدلول اللفظ؛ لأنهما كيفيتان للحكم لا للموضوع - وانصرافي مستند إلى انضمام شيء إليه من الشهرة في الاستعمال أو قرائن أُخر.

ص: 45


1- الفصول الغروية: 22 - 23.
2- حكاه عنه أيضاً في الفصول الغروية : 14 و 23 لاحظ: حاشية التفتازاني على شرح العضدي (المطبوع مع شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب) 1: 145.

فإن أُريد يد منه مطلق التبادر فهو عام والعام لا يدلّ على الخاص(1) . وتوهّم أنّ أصالة عدم الاستناد إلى القرينة توجب حمل مطلق التبادر على القسم الأوّل في غير محله؛ لأن الأصل المثبت لا يكون حجّة أبداً، مع أنّ عدم الاستناد إلى القرينة لا يلازم التبادر الوضعي؛ لإمكان كونه إطلاقياً. وكثيراً ما اختلط عليهم التبادر الإطلاقي بالحاقي؛ لاشتراكهما في عدم الاستناد إلى القرينة.

وإن أريد منه التبادر الحاقي ففيه أنّ العلم بكونه حاقياً موقوف على العلم بالوضع، فلو جعل دليلاً عليه لزم الدور المحال ودفعه تارةً بأنّ العلم الموقوف عليه التبادر الحاقي إجمالي ارتكازي والحاصل منه تفصيلي، ومرّةً بأنّ التبادر الحاقي عند أهل اللسان دليل للجاهل بالوضع فيختلف الطرفان في غير محله.

أمّا الأوّل فلأنّ الحاصل منه حينئذٍ هو الذكر المقابل للغفلة لا العلم المقابل للجهل، والتعبير عنه بالعلم بالعلم(2)-كالتعبير عن مقابله بالجهل بالعلم - غفلة أو توسع في التعبير؛ - ضرورة أنّ العلم ليس مورداً للعلم والجهل.

وأما الثاني فلرجوعه إلى تنصيص أهل اللسان حينئذ، وقد ظهر لك أنه لا يكون حجّة. مع أنّ جعله في مقابله من جملة العلائم لا يلائم ذلك.

نعم، يترتب على مطلق التبادر بعض آثار الحقيقة وهو الأخذ بالمعنى المتبادر كالأخذ بالمعنى الحقيقي عند الشكّ في مراد المتكلّم ما لم تكن قرينة صارفة عنه.

ومنها صحة السلب وعدمها، وفيه أنه كما يصح السلب لأجل انتفاء الوضع يصح لضعف فى المصداق-ک-«البليد» حيث يقال: إنّه ليس بانسان أو لكمال فيه يوجب لحوقه بنوع أشرف كيوسف الصديق(علیه السّلام) حيث قلن في حقه: ﴿ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾(3). فهي في حد نفسها أعمّ فلا يكون علامةً عليه.

ص: 46


1- وسيأتي تفصيله في الصفحة ،49 عند قوله: «قلت: استعمال العام في الخاص لا أصل له أصلاً».
2- كما في هداية المسترشدین: 45.
3- يوسف (12):20.

والتقييد بالسلب التحقيقي لا الادّعائي يستلزم الدور؛ لتوقف العلم به على العلم بالمجازيّة. كما أنّ العلم بعدم صحة السلب كذلك موقوف على العلم بالوضع. ودفع الدور بمثل ما مرّ في التبادر(1)قد ظهر لك ما فيه.

ومنها الاطراد وعدمه فزعموا أن الاطّراد علامة الحقيقة، وعدمه علامة المجاز(2). وهو فاسد؛ لأنّ المجاز أيضاً مطّرد مع وجود العلاقة المصححة للتجوز، فعدم الاطراد لا يكون علامةً للتجوّز، بل دليل على فساد ما توهّمه المتوهّم من استناد التجوّز إلى ما تخيّله.

والتحقيق أنّ اطّراد اللفظ وملازمته لمعنى وعدم انفكاكه عنه في موارد الاستعمالات، علامة يتميّز بها الموضوع له عن غيره، إذا علم إجمالاً بأنّ اللفظ حقيقة في الموارد وتردّد الموضوع له بين أمور. كما أنه يتميّز بها وجه التجوّز إذا تردّد بين أمور وعلم بأنّ اللفظ مجاز.

[الأمر] العاشر

إذا تميّز المعنى الحقيقي من المجازي واستعمل اللفظ خالياً عن القرينة وشكّ في أنّ المتكلّم أراد المعنى الحقيقي أو المجازي وخفيت علينا القرينة فالأصل الحقيقة وعدم القرينة.

وليس هذا أصلاً مثبتاً(3)- كما زعمه أكثر الأواخر؛ حيث توهموا أن الأصل المثبت ما يترتب عليه أثر غير شرعي، وهو حجّة في مباحث الألفاظ باعتبار أن الأصل فيه عقلائي لا شرعي فلا يعتبر فيه أن يكون المترتب عليه من الآثار الشرعية(4)- ؛ لأن المثبت ما يثبت وجوداً مستقلاً لا يكون من شئونه وأطواره .

ومن المعلوم أنّ الإثبات على هذا الوجه وظيفة الدليل الكاشف عن المدلول تحقيقاً أو تنزيلاً، لا الأصل الذي هو وظيفة للجاهل المتحيّر ، من دون فرق بين أن يكون الأصل

ص: 47


1- في الصفحة السابقة.
2- نهاية الوصول : 1: 295 قوانين الأصول 1: 22 هداية المسترشدين: 53-52.
3- وقد مرّ منه (أعلى الله مقامه الشريف) في الصفحة :46: «أنّ الأصل المثبت لا يكون حجّةً أبداً».
4- غاية المسئول: 81؛ فرائد الأصول 2: 669؛ تقريرات الشيرازي 1: 356.

شرعيّاً أم عقليّاً. فما كان من شئونه و آثاره وأحكامه المتحدة معه في الوجود تترتب عليه سواء كانت من الآثار والأحكام الشرعية أم لا.

ولما كانت إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ تتولّد وتنتزع من اللفظ المستعمل عند التجرّد من القرينة، فهي في مرحلة التفهيم ليست إلا اللفظ الصادر عن المتكلّم في مقام الإفادة، فالحكم بأصالة الحقيقة أخذ بالمقتضى المعلوم ونفي للمانع المحتمل وهي القرينة الصارفة.

وما لا يكون كذلك لا يترتب عليه، وإنّما يترتب على الدليل، ومن هنا تثبت به اللوازم مطلقاً ولا يتطرّق فيه التفكيك بين المتلازمين، بخلاف الأصل؛ فإنّه يجري في كلّ منهما ولا يضر فيه التفكيك بينهما إذا لم يكن أحدهما من أحكام الآخر وآثاره المتحدة معه في الوجود.

فالأصل لا يثبت شيئاً ، وإنّما ينفي الدافع أو القاطع أو الرافع المحتمل ويحكم بالأخذ بالمقتضى الثابت المعلوم، وهذا معنى قول بعضهم: «إنّ الأصل حجة في النفي دون الإثبات»(1).فلا يعقل أن يكون الأصل مطلقاً مثبتاً. فالتفصيل بين الأصل العقلي والشرعي بجعل الأوّل مثبتاً دون الثاني بزعم أنّ المثبت ما يترتب عليه أثر عقلي أو عادي، وغير المثبت ما يترتب عليه أثر شرعي، في غير محله، بل لا يترتب على الأصل الشرعي إلّا الأثر العقلي؛ لأنّ الثابت به إنّما هو الحكم الظاهري الذي مرجعه إلى التنجيز أو الدفع، الذي هو من الأحكام العقليّة للحكم الشرعي.

و توضيح المرام غاية الإيضاح يحتاج إلى بسط تام في الكلام لا يسعه يسعه المقام.

[الأمر] الحادي عشر

اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعيّة بعد اتفاقهم على أنّ الشارع استعمل ألفاظاً

ص: 48


1- لاحظ: جواهر الکلام 2: 54-53.

مخصوصة في غير معانيها اللغوية المعروفة، كالصلاة والصوم والحج والزكاة وهكذا... ،حيث أُريد منها أفعال غير معهودة عند أهل اللسان.

والتحقيق أنّ الشارع لم يستعمل هذه الألفاظ في غير معانيها اللغوية فضلاً عن صيرورتها حقائق فيها، وإنّما الشارع اخترع ماهيات هي مصاديق للمفاهيم اللغوية لم يعرفها أهل اللغة، وجعلها موضوعاً للأحكام الشرعية، فالألفاظ مستعملة في معانيها اللغوية في لسان الشارع غاية الأمر أنها أُطلقت على مصاديقها المخترعة الغير المعروفة عند أهل اللسان.

فإن قلت: إذا أُريد من الألفاظ المعهودة في لسان الشارع المصاديق المخترعة لا مطلق المفاهيم اللغوية فهي غير مستعملة في معانيها الأصلية، وتكون مجازات -والعلاقة هي العموم والخصوص - إن لم نقل بوضعها لها في لسانه، وحقائق شرعيّة إن قلنا بوضعها لها عنده

قلت: استعمال العام في الخاص لا أصل له أصلاً؛ إذ لا علاقة مصححة بينهما وإلا لصح استعمال الخاص في العام أيضاً؛ لتساوي نسبة العموم والخصوص إلى الطرفين، فالواقع إنّما هو إطلاق المفهوم العام على الفرد لا استعمال لفظ العام فيه. ولذا يصح دون العكس، ولو كان الواقع هو الاستعمال لتساويا في الجواز وعدمه.

فإن قلت: هذا إنّما يتمّ إذا كان الفرد مقصوداً من حيث إنّه فرد من أفراد العام. وأما إذا أُريد فرد ارید يد فرد معين بخصوصه فلا مجال إلا للتجوز؛ لما اشتهر من أنّ استعمال العام في الفرد المعين بخصوصه مجاز. والمقام من هذا القبيل؛ لأنّ الموضوع للأحكام الشرعية هي المصاديق المخترعة بخصوصها فهى مرادة من الألفاظ المعهودة بعينها لا من حيث إنّها فرد من أفراد المفهوم اللغوي.

قلت: لا تجوز في إطلاق المفهوم الكلّي على الفرد أصلاً وإن أُريد منه فرد بخصوصه. كما أنه لا مجال للحقيقة في استعمال الكلّي في الفرد - لو وقع - وإن كان استعماله فيه باعتبار أنه فرد من أفراد الكلّي. والتفصيل الذي اشتهر - مع بطلانه في نفسه - إنما هو في الاستعمال لا الإطلاق. وقد اختلط على السائل أمر الإطلاق بالاستعمال.

ص: 49

وقد تبيّن بما بيّناه أنّ التمسك للحقيقة الشرعيّة بتبادر المعاني المخترعة من الألفاظ عند الإطلاق، في غير محله؛ لأنّ مرجعه إلى انصراف المفاهيم الكلية الأصلية إلى المصاديق المخترعة؛ لشهرة إطلاقها عليها لا إلى انصراف الألفاظ إليها.

كما تبيّن أنّ جواب النافين عنه بأنّ الثابت منه هو التبادر عند المتشرّعة فلا تثبت به إلّا الحقيقة المتشرعية(1) ، في غير محله أيضاً؛ لأنّ الانصراف ليس لللفظ حتى يدلّ على الوضع بل للإطلاق. والتعهد الحاصل فيه من قبل الشهرة ليس وضعاً لللفظ ولا موجباً له.

فظهر أنّ القول بثبوت الحقيقة الجديدة مطلقاً شرعيّةً أو متشرعيّةً باطل لا أصل له.

ثمّ إنّه نسب إلى الباقلاني أنّه أنكر جعل الماهية واختراعها وأنّ ما اعتبره الشارع شروط للصحة وقيد للطلب(2)فالمأمور به عنده هو المفهوم العرفي المنطبق على المصاديق العرفية المعهودة المقيّدة بقيود مخصوصة، وهو باطل أيضاً؛ ضرورة أنّ الجعل والاختراع أمر معقول ولا داعي على صرف ظواهر الأدلّة من أنّ الصلاة ماهية مخترعة مركبة من أجزاء ركنيّة وغير ركنية: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم.

مع أنه يلزم حينئذٍ عدم بطلان الصلاة بفوات الموالاة بين أجزائها؛ إذ المجموع ليس عملاً واحداً حينئذٍ حتّى يعتبر فيه الاتصال والتوالي.

وأما ردّه بأنه يلزم أن لا يكون المصلّي مصلّياً إذا لم يكن داعياً فيها أو لم يكن متبعاً كالمنفرد(3)فغير وارد؛ لأنّ المفهوم اللغوي محفوظ في جميع الموارد؛ فإنّها إنما هي مصاديق له لا أُمور مباينة ،له والصلاة لغةً ليست بمعنى الدعاء أو التبعية كما توهم حتى يرد ما ذكره، بل معناها - بشهادة الاطراد - هو العطف المتحقق في جميع الموارد، والاختلاف إنّما هو باختلاف الأطراف أو خصوصيات الموارد لا في الموضوع له ولا المستعمل فيه؛ فإنّ العطف من العبد بالنسبة إلى الربّ - تعالى - تذلّل واستكانة، ومنه

ص: 50


1- قوانين الأصول 1: 36؛ حواشي المشكيني 1: 147.
2- حكاه عنه هكذا في الفصول الغروية: 43. لاحظ : نهاية الوصول 1: 247.
3- قوانين الأصول 1: 39.

إلى العبد رحمة، ومن المساوي للمساوي تحبيب ومودّة، وقد ينطبق على طلب الرحمة، كصلاة العبد على النبي وآله، صلّى الله عليه وعليهم.

وقد تبين بما بيناه أنه لا مجال للنزاع في أنّ ألفاظ العبادات أسام للصحيحة أو الأعم؛ لأنه فرع القول بالوضع الجديد لها، وقد عرفت أنه لم يقع تصرّف فيها حتّى في الاستعمال، وإن تصرّف الشارع إنّما هو في اختراع مصاديق جديدة للمفاهيم اللغوية لا في إحداث معنى جديد للألفاظ.

مع أنّه إن أريد من الصحة موافقة المأتي به للمأمور على وجهه فهي فرع استجماع شرائط الامتثال المتأخّر عن الأمر المتأخر عن الموضوع فيستحيل اعتبارها فيه.

فإن قلت: يمكن جعل الشروط قيوداً لنفس الموضوع له بجعل الصلاة - مثلاً - اسماً للأفعال المعهودة المأتي بها في حال الطهارة واستقبال القبلة وهكذا... ، بل يجب ذلك؛ لأنّ الأمر الذي هو طلب الفعل لا يتعلّق بشيء إلا بعد استجماع ما له دخل في المطلوبية.

قلت: أوّلاً جعلها قيوداً للموضوع له ينافي مع كونها شروطاً.

وثانياً أنه يلزم حينئذ أن يكون ألفاظ العبادات أسامي للأفعال الموجودة في الخارج؛ ضرورة أنّ الاقتران بالطهارة والاستقبال وسائر الشروط إنّما هو من عوارض الوجود، وأخذ الوجود في المفاهيم الكلية - مع بطلانه في نفسه بالضرورة - لا يجامع مع تعلّق الأحكام التكليفية بها؛ لأنها إنما تتعلّق بالماهيات قبل وجودها في الخارج، والوجود منافٍ ومزيل لها.

و توهّم أنّ الأمر لا يتعلّق بشيء إلا بعد استجماع ما له دخل في المطلوبية في غير محله؛ لأنّ الحكم التكليفي متعلّق بالوقائع والأفعال قبل وجود المكلّف في الخارج فضلاً عن وجود المكلف به، والطلب إنّما يتولّد من الأمر ويتعلّق بامتثاله وإيجاد المأمور به، فقيوده وما له دخلاً فيه إنّما يتعلّق بالامتثال الذي هو مؤخّر عن متعلّق الحكم. وتعلّق الحكم بالوقائع يستلزم أن يكون إيجاده في الخارج مطلوباً على وجه الاقتضاء لا الفعليّة. ولا ينافي توقف مطلوبيّته فعلاً على استجماع شرائط الامتثال في الخارج.

لا يقال: إنّ الطلب الإنشائي الذي هو حكم تكليفي لا يتحقق إلا بعد وجود شرائط المطلوبيّة فعلاً، ومجرّد وجود المقتضي لا يكفي في تحقق الإنشاء.

ص: 51

لانا نقول : الحكم التكليفي ليس من مقولة الإنشاء، بل حقيقته هو تحيث الواقعة بحيثية من الحيثيات الخمسة بحيث لو سئل المولى عنها لأمر بها أو لنهى عنها أو لرخص فيها، فهو سابق على الإنشاء، بل قد يجامع وجوب الفعل مع النهي عنه، كصوم الحائض والنفساء والمريض والمسافر؛ فإنّ وجوب قضائه كاشف عن وجوب أدائه تعلّقاً ولا ينافي وجوبه تعلّقاً مع حرمة إيجاده في الأحوال المزبورة.

وإن أريد(1) منها تماميّة الأجزاء، استكملت الشرائط أم لا، كما يظهر من بعض(2) ، ففيه أنّه يلزم حينئذٍ عدم صدق الصلاة على صلاة من أتى بالأركان وسهى عن سائر الأجزاء؛ لعدم تماميّة الأجزاء حينئذٍ، وإنما يكتفى بها في الامتثال لأجل احترام الأحرام وتقديم الأهمّ على المهم، كما فصلنا الكلام فيه فى محلّه وإجماله : أنّ الصحة قد تقابل النقصان وقد تقابل البطلان وكلّ منهما تنفكّ عن الأُخرى، فإنّ الصحة بالمعنى الأوّل إنّما تحصل

باستجماع جميع الأجزاء جامعت الشرائط الموجبة لتحقق الامتثال أم لا، والصحة بالمعنى الثاني تحصل بصدق الامتثال الموجب للاجتزاء بالمأتي به وسقوط الإعادة والقضاء وهو كما يتحقق بموافقة المأتي به للمأمور به على وجهه واستجماع الأجزاء والشرائط، يتحقق بناقص الأجزاء إذا اكتفي به بملاحظة تقديم الأهم على المهم كالصلاة التي نسي المصلّي ما عدا أركانها من أجزائها.

وتوهّم أنّ المأتي بها حينئذٍ تامّ الأجزاء؛ لأنّ الواجبات الغير الركنية أجزاء ذكريّة، في غير محله؛ لاستحالة توقف تحقق الجزئية على ذكرها؛ ضرورة أنّ ذكر الجزئية فرع ثبوت الجزئية، فلو توقفت جزئيّة الأجزاء على ذكرها لزم الدور المحال.

وأيضاً(3) الصحة والفساد أمران متقابلان وعرضان متضادان لا يردان إلا على محلّ واحد؛ ضرورة أنّ التقابل فرع الاجتماع على محلّ واحد، وإلا لم يتقابلا. ولا يتم هذا إلا

ص: 52


1- عطف على قوله «مع أنه إن أريد من الصحة...» في الصفحة 51.
2- نسبه الوحيد البهبهاني إلى القوم، كما في مطارح الأنظار:6.
3- دليل آخر على أنه لا مجال للنزاع في أن ألفاظ العبادات أسامٍ للصحيحة أو الأعمّ.

بجعلهما خارجين عن الموضوع له؛ إذ لو أخذت الصحة في الموضوع له لزم تقومه بها وانتفائه بانتفائها لا اتصافه بالفساد؛ ضرورة أنّ اتصاف شيء بالصحة أو الفساد فرع وجود ما يتقوم به هو، ولا يعقل الاتصاف بالفساد باعتبار انتفاء ما يتقوّم به وإلا لزم أن يكون الحمار إنساناً فاسداً والتسعة عشرةً فاسدةً والشجر حيواناً فاسداً وهكذا... .

فإن قلت: تعلّق المعنى المجازي بالمعنى الحقيقى بإحدى العلائق المجوّزة لاستعمال لفظه فيه، يوجب اتحادهما من وجه، فلا مانع حينئذٍ من اتصاف المعنى الحقيقي بالصحيح؛ لكونه أصلاً، والمعنى المجازي بالفاسد؛ لكونه فرعاً لم يبلغ مرتبة كمال الأصل.

قلت: هذا باطل بالضرورة وإلا لزم صحة أن يقال للرجل الشجاع: «أسد فاسد» وللبليد: «حمار فاسد» ولعين القوم: «عين فاسدة»؛ لعدم بلوغها مرتبة كمال الأسدية والحماريّة والعينيّة. وبطلان اللازم واضح.

فإن قلت: كما الصحة تنتزع من استجماع الشرائط كذلك تنتزع من استكمال الأجزاء؛ فإنّها تقابل البطلان مرّةً والنقصان أُخرى، كما ذكرت، والجزء لا يكون جزءً إلا مع دخوله في الموضوع له.

قلت: جزئيّة فعل للصلاة ونحوها من العبادات إنّما هي باعتبار دخوله في المركب المخترع الذي جعل منشأ لانتزاع المفهوم اللغوي لا باعتبار دخوله في الموضوع له.

وأيضاً القول بالوضع للصحيحة يوجب الالتزام بألف ماهيّة للصلاة - مثلاً - ؛ لاختلاف صحتها كمّاً وكيفاً باختلاف حالات المكلّف سفراً وحضراً، اختياراً واضطراراً، علماً وجهلاً، عمداً ونسياناً، وهكذا... من الحالات وعدم وجود جامع بينها.

وتوهّم أنّ الجامع موجود فيها؛ لاشتراك الكلّ في خاصيّة واحدة مثل الناهية عن الفحشاء ء ومعراج المؤمن وقربان كلّ تقي، والاشتراك في أثر واحد كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكلّ فيه بذاك الجامع، في غير محله؛ لأنّ العناوين المذكورة مترتبة على الصلاة اقتضاء، والترتب الاقتضائي لا يختص بالصحيحة بل يعم الطبيعة الجامعة. وأمّا الترتب الفعلي فيختص بالصلاة المقبولة ولا تعمّ الصحيحة؛ ضرورة أنّ كلّ صلاة

ص: 53

صحيحة مجزية لا تكون معراجاً وقرباناً وناهيةً عن الفحشاء. مع أنّ الاشتراك في الأثر لا يكشف عن جامع ذاتي بينها؛ ألا ترى أنّ جميع العبادات من الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة مقرّبة إلى الله تعالى؟

ومع ذلك فهي حقائق متباينة. والاشتراك في أثر واحد إنما هو باعتبار الاشتراك في الجامع العرضي الراجع إلى مرحلة الامتثال، وهو التعبّد، والجامع العرضي لا يصلح أن يكون موضوعاً له لألفاظ العبادات.

ثمّ إنّ ثمرة النزاع تظهر في صورة الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للعبادة، فعلى القول بوضعها للأعمّ يجوز الرجوع إلى أصالة العدم، وعلى القول بوضعها للصحيحة لا بدّ من الاحتياط وتحصيل العلم بالفراغ.

هذا، وقد يتوهّم جريان النزاع في ألفاظ المعاملات أيضاً بناءً على أنها أسام للأسباب دون المسبّبات، والمبنى فاسد جداً؛ ضرورة أنّ حقائق المعاملات هي المفاهيم المنشئة العرفية دون الإنشائات، والشارع قرّر بعضاً كالبيع، وأبطل بعضاً كالربا، واعتبر في بعض ما قرّره شروطاً. وعند الشكّ في اعتبار شيء فيها أو في أسبابها شرعاً يرجع إلى

أصالة العدم؛ لأنّ الشكّ حينئذ يكون شكاً في المانع بعد العلم بوجود المقتضي.

[الأمر] الثاني عشر

إذا استعمل اللفظ في موارد وتردّد بين أن يكون مشتركاً معنوياً أو لفظياً وأن يكون حقيقةً في بعض ومجازاً في بعض ، فالظاهر أنه مشترك معنوي؛ لأنّ دوران اللفظ مدار الجامع بين الموارد الكاشف عن اختصاصه به ثابت وارتباطه بكل من الموارد وضعاً واستعمالاً غير ثابت؛ لأنّ الثابت إنّما هو كونها موارد لاستعمال ،اللفظ، وأمّا أنّ كلّاً منها مستعمل فيه لللفظ فلا، فلا يحكم فيه بالاشتراك اللفظي - ؛ لأنه فرع ثبوت وضعه لكلّ منها - ولا بالحقيقة والمجاز؛ لأنه فرع ثبوت استعماله في كلّ منها.

وإذا تردّد الأمر بين الاشتراك اللفظي والحقيقة في بعض والمجاز في آخر فالظاهر

ص: 54

تقدّم الثاني؛ لأنّ وضع اللفظ لأحد المعاني حينئذٍ معلوم ولغيره غير معلوم، مع جواز الاستعمال فيه بالعلاقة المصححة، ولا يحتاج التجوّز إلى مؤنة زائدة على وجود العلاقة المصححة للاستعمال.

[الأمر] الثالث عشر

لا يجوز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد على أن يكون كلّ منها محلاً للحكم ومحطّاً للنفي والإثبات، ضرورة استحالة تعلّق الاستعمال الواحد بمعنيين مختلفين استقلالاً بأن يكون كلّ منهما متعلّقاً للاستعمال أصالةً.

توضيح الأمر: أنّ الاستعمال الذي هو نوع من إيجاد اللفظ، مبهم مبهم في حد نفسه لا يتعيّن إلا بتعلّقه بالمستعمل فيه ، فمنزلته من الاستعمال منزلة الفصل من الجنس، فكما يستحيل اجتماع فصلين موجبين لتحصل نوعين على موجود واحد فكذلك يستحيل اجتماع تعلّقين فصاعداً على استعمال واحد، وإلا لزم صيرورة الموجود الواحد متعدّداً وهو خلف للفرض.

وأيضاً قد تبيّن لك ممّا بيّناه سابقاً(1) أنّ استعمال الاسم في المعنى لا يكون إلا بتوسّط عنوان المسمّى، فالمستعمل فيه حقيقةً إنّما هو عنوان المسمّى، والمعنى الحقيقي أو المجازي إنّما يكون محلّاً لإطلاق المسمّى وانطباقه عليه تحقيقاً أو تنزيلاً، فاللفظ مرآة للعنوان أوّلاً وإن كان المقصود بالأصالة غالباً هو المعنون دون العنوان. ومن المعلوم أنّ انطباق العنوان على المعاني المتعدّدة - حقيقةً أم مجازيةً - على سبيل التبادل، فلا يعقل إرادة معنيين فصاعداً من اللفظ في استعمال واحد على سبيل الاستقلال بأن يكون كلّ منهما مراداً وموضوعاً للحكم ومحطّاً للنفي والإثبات وإلّا لزم خلف الفرض ورجوع الإطلاق البدلي إلى الشمولي.

ص: 55


1- في الصفحة 42 - 43.

وبما بيّناه تبيّن أنّ استعمال اللفظ فى أكثر من معنىً واحد محال مطلقاً، سواء كان المعنيان حقيقيين أم مجازيين أم مختلفين، فلا حاجة إلى عقد أبواب والبحث عن كلّ منها في باب. كما تبيّن أنّ التفصيل بين الإثبات والنفي في الجواز وعدمه وبين المفرد والتثنية والجمع في الجواز وعدمه مرّةً وفي الحقيقة والمجاز تارةً، في غير محله.

ثمّ إنّ بعض من حكم بالامتناع استدلّ عليه بما محصله:

أنّ استعمال اللفظ في المعنى عبارة عن جعله مرآتاً لمعناه ووجهاً له بحيث يكون فانياً في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه فلا يقبل في هذا الحال أن يجعل مرآتاً لمعنى آخر كذلك .(1)

وفيه أنّ الموجب للامتناع إنما هو ما ذكرناه من أول الاستعمال الواحد إلى المتعدّد المخالف للفرض، فلا يتفاوت حينئذ بين أن يكون اللفظ ملحوظاً بنفسه أو لغيره. وأما مجرّد كون اللفظ توطئةً لمعناه فمع قطع النظر عمّا بيناه لا ينافي مع استعماله في معنى آخر.

[الأمر] الرابع عشر

زعم المتأخّرون أنه اتفق الأصوليون على أنّ المشتق حقيقة في الحال ومجاز في الاستقبال، واختلفوا فيما إذا استعمل فيما انقضى عنه المبدأ وأن أكثر الإمامية على أنّه حقيقة(2)وأكثر الأشاعرة على خلافه(3).

ثمّ إنّهم لمّا رأوا أنّ التفصيل في الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى حال النطق مستبشع جداً؛ لاستلزامه صيرورة نحو «سيكون زيد قائماً» مجازاً اتفاقاً، ونحو: «كان زيد قائماً فقعد» مختلفاً فيه، فسّروا الحال بحال النسبة تارةً وبحال التلبس أخرى، مع تصريح بعضهم بأنّ الظاهر من كلمات المتقدمين أنّ المراد به حال النطق(4).

ص: 56


1- كفاية الأصول: 53 .
2- كما في زبدة الأُصول: 93؛ وقوانين الأصول 1: 75 - 76.
3- لاحظ المحصول (للرازي) 1:239.
4- لاحظ: هداية المسترشدين: 82.

والصواب أن بحث المتقدمين ليس عن وضع المشتق وكيفية استعماله، وأن الاتفاق والاختلاف إنّما هو في صدق الإطلاق وعدمه لا في الوضع والاستعمال.

توضيح الحال يتوقف على تقديم مقدمات: الأولى: أنّ المشتقات الاسميّة المنطبقة على الذوات التي هي محلّ الكلام منبئة عن عناوين متحصلة من الحدث والنسبة الاتصافية الناقصة التقييدية الموجبة لصدقها على الذوات، ولا يكون الزمان مأخوذاً في مفاهيمها بالضرورة، كما اتفق عليه أهل العربية.

وإنّما اشتهر بين متأخّريهم اقتران مدلول الفعل بأحد الأزمنة وضعاً حتى جعلوه مقوّماً له ومائزاً له عن الاسم(1)، وإن كان التحقيق أن تقوم الفعل إنما هو بالإنباء عن حركة المسمّى الراجعة إلى الاشتمال على الحدث والإسناد الحدوثي، كما نباً به مهبط الوحى(2)، وأن المضي والاستقبال المستفادين من الماضي والمضارع إنما يستفادان من منصرف الإطلاق في المواد الغير القارّة ، إذا كان المتكلّم مخبراً بهما ولم يقارن إخباره وقوع الفعل في الخارج. وأما الحال فيستفاد من المضارع بل الماضي أيضاً مع مقارنة الإخبار لوقوع الفعل كذلك، فلا يستند استفادة الزمان من الفعل إلى الوضع أبداً، بل اقتران الفعل به تضمّناً، كما اتفقت عليه كلمات المتأخرين منهم(3)، غير معقول؛ إذ لو دلّ عليه وضعاً لدلّ عليه بهيئته لا بمادته وإلا لم تختص الدلالة عليه بالفعل، والدلالة عليه بهيئته مستحيل؛ لأنّ الزمان معنىً مستقل اسمي، والهيئة من لواحق الحروف، فلا تتكفّل إلا وجه استعمال المادّة من المعاني الحرفية المعتورة عليها.

الثانية: أنّ الاستعمال صفة لللفظ ، فهو عبارة عن إعماله فيما قصد تفهیمه به وجعله توطئة وقنطرة لإرائة المعنى المناسب له وضعاً أو تبعاً بتنزله منزلة ما وضع له.

ص: 57


1- شرح الكافية (للرضي الأسترآبادي): 7؛ شرح شذور الذهب (لابن هشام): 18؛ همع الهوامع 1:25.
2- إشارة إلى قوله(علیه السّلام) : ...«فالاسم ما أنبأ عن المسمّى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى...»الفصول المختارة:91 المناقب :2:47؛ بحار الأنوار 40:162.
3- لاحظ : شرح الكافية (للرضي الأسترآبادي): 7؛ شرح شذور الذهب (الابن هشام): 18؛ همع الهوامع 25:1.

وينقسم اللفظ باعتبار اختلاف المستعمل فيه إلى حقيقة ومجاز، فإن استعمل فيما وضع له يسمّى حقيقةً؛ لثبوته في محلّه الأصلي، وإن استعمل في غير ما وضع له يسمّى مجازاً؛ لتجاوزه عن محلّه الأصلي.

والثالثة: أنّ الإطلاق عبارة عن تطبيق المفهوم الكلّي على ما هو فرد من أفراده تحقيقاً أو تنزيلاً ، فهو صفة للمعنى لا اللفظ فإن أطلق على ما ينطبق عليه تحقيقاً -ك-«زيد إنسان» أو «قائم» إذا اتصف بالقيام - يكون الإطلاق تحقيقيّاً. وإن انطبق عليه تنزيلاً وادعاء كقولك: «زيد عدل» إذا أريد به المبالغة واتحاده مع صفة العدل تنزيلاً - يكون الإطلاق تنزيليّاً ولا تجوز في اللفظ حينئذ؛ لعدم استعماله إلّا في معناه الأصلي. والتجوّز إنّما هو في الإسناد والحمل حينئذ. ولذا يسمّى مجازاً عقليّاً.

وإن لم يكن الفرد فرداً له تحقيقاً ولا تنزيلاً لا يصح إطلاق الكلّي وحمله عليه كما لا يصح استعمال اللفظ فيما لا يناسبه وضعاً ولا تبعاً. والإطلاق والحمل قد يكون صريحاً كما إذا ذكر طرفاه، وقد يكون ضمنياً كما إذا ذكر الكلى وأُريد به فرد ما أو فرد معين.

و بما بيناه تبين لك فساد ما اشتهر من أنّ استعمال الكلّي في الفرد حقيقي إن استعمل فيه من حيث إنّه فرد من الأفراد، ومجازي إن استعمل فيه بخصوصه؛ لأنه إن أريد من الاستعمال الإطلاق يكون اللفظ حقيقة في المقامين؛ لاستعماله في مفهومه الأصلي حينئذٍ ويكون الإطلاق تحقيقيّاً أيضاً؛ لانطباق الكلّي على فرده التحقيقي تحقيقاً، سواء أريد منه الفرد بخصوصه أو من حيث أنه فرد من الأفراد. وإن أريد منه الاستعمال حقيقةً يكون اللفظ مجازاً في الصورتين؛ لاستعمال اللفظ حينئذٍ في غير ما وضع له في المقامين.

والتحقيق أنّه لا يصح استعمال الكلّي في الفرد؛ لعدم العلاقة المصححة للاستعمال بينهما، وما يتوهّم أنّه من قبيل الاستعمال فهو من باب الإطلاق.

إذا اتضحت لك هذه المقدّمات فاعلم أنّ المشتق في قولك: «زيد ضارب عمرو» - مثلاً - مستعمل في مفهومه الأصلي، سواء أريد منه المتلبس بالمبدأ في الحال أو ما انقضى عنه المبدأ أو ما لم يتلبس به بعد. ولا اختلاف في استعمال لفظ المشتق في الصور الثلاثة، وإنّما الاختلاف في الإطلاق ومحلّ الانطباق.

ص: 58

كشف الحال فيه : أنّ الالتزام باستعمال لفظ المشتق في غير ما وضع له في الصورتين يتفرّع على أحد أمرين: إمّا الالتزام بوضع لفظ المشتق للمتلبس بالمبدأ في الحال حتى يكون استعماله في المتلبس به قبل أو بعد استعمالاً في غير ما وضع له، وإما الالتزام باستعمال المشتق حينئذٍ في الذات مع قطع النظر عن العنوان. وكلاهما بديهي البطلان؛ أما الأوّل فلأنّ الحال المأخوذ في مفهوم المشتق ، إن أريد به حال النطق فمع عدم التزامهم به يوجب الالتزام بأن نحو «كان زيد قائماً فقعد» أو «سيصير قائماً» مجاز، وهو ضروري الفساد.

وإن أريد به حال النسبة ففيه أنها إنما تجيء بعد التركيب، فلا يعقل أخذه في مفهوم المفرد. مع أنّ عدم اقتران مفاهيم الصفات بأحد الأزمنة وضعاً بديهي واتفق عليه أهل العربية.

وإن أريد به حال التلبس فإن فسّر بما لا يرجع إلى الزمان - وقيل: إنّ المراد به وضع المشتق للمتلبس بالمبدأ الملازم للصدق في زمان التلبس كما فسره به بعض(1)- ففيه أنه إنّما يوجب عدم صدق المفهوم على ما انقضى عنه المبدأ وما لم يتلبس به بعد، لا التجوّز في اللفظ. وإن فسّر بما يرجع إلى أحد الأزمنة من حال النطق أو حال النسبة فقد ظهر لك الحال فيه.

وأما الثاني فأوضح فساداً؛ ضرورة أنه لا يصح قولك: «زيد ذات عمرو»مكان قولك: «زيد ضارب عمرو» إذا انقضى عنه المبدأ أو لم يتلبس به بعد*.

ولو كان المشتق حينئذٍ مستعملاً في الذات المجرّدة عن العنوان لزم صحة قيامها مقامه بل يلزم عراء الكلام عن الإفادة حينئذ.

*. لا يقال: نعم، استعمال المشتق في ما لم يتلبس بالمبدأ من دون تنزيله منزلة المتلبس بالمبدأ غير جائز، وأمّا مع التنزيل فهو جائز بالضرورة.

لانا نقول: تنزيل غير المتلبّس منزلة المتلبّس إنّما توجب صحة الإطلاق؛ لأنّ الذات خارجة عن مفهوم المشتق وإنّما تكون محلاً لانطباق العنوان تحقيقاً أو تنزيلاً فلا يختلف استعمال المشتق باختلافه مع أنّ إطلاق العنوان على ما تلبس بالمبدأ مع انقضائه عنه أو ما لم يتلبس به بعد، إن كان مع قيام قرينة عليه في الكلام فهو تقييد في الإسناد ولا حاجة معه إلى التنزيل، وإلا فغير جائز [منه أعلى الله مقامه الشريف]

ص: 59


1- لاحظ: فوائد الأصول (للنائيني) 1: 90؛ أجود التقريرات 1: 85 - 87 .

لا يقال: يمكن أن يكون اختلافهم في وضع صيغة المشتق لحدوث التلبس بالمبدأ أو ثبوته، فمن قال بالأوّل قال بأنّه حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ، ومن قال بالثاني قال بأنه مجاز فيه؛ لاستعمال الصيغة الموضوعة للثبوت في الحدوث.

لانا نقول: أوّلاً إنّ الصيغة من لواحق الحروف فهي متكلّفة لوجه استعمال المادّة ولا استعمال لها أبداً حتّى تتصف بالحقيقة تارةً وبالمجاز أُخرى.

وثانياً إنّ الصيغ كالحروف لا تنفكّ عن مفادها أبداً ولا يعقل انقلابها عمّا وضعت له من الحدوث أو الثبوت إلى غيره.

وثالثاً إنه لو قيل بجواز انفكاك الصيغة عن مفادها باختلاف الموارد لزم أن تكون منفكة عن إفادة النسبة رأساً في صورة الإطلاق على ما لم يتلبس به بعد؛ لانتفاء الحدوث والوجود معاً، وهو بديهي هو بديهي البطلان.

فتبيّن أنّه لا يختلف الاستعمال باختلاف الموارد، وأن المختلف باختلافها هو الإطلاق. ويختلف حاله من حيث الصدق وعدمه باختلاف الموارد، فيصدق بالنسبة إلى التلبس به فى الحال بالضرورة ، كما لا يصدق بالنسبة إلى ما لم يتلبّس به بعد كذلك.

واختلف كلماتهم بالنسبة إلى ما انقضى عنه المبدأ فقيل بصدقه عليه(1)، لكفاية الحدوث في الصدق بزعمه ، وقيل بعدم الصدق(2)؛ لانتفاء التلبّس في الحال. ومحلّ البحث إنّما هو المشتق المطلق المجرّد عن القيود لا مطلق المشتق فيكون المراد بالحال حال النطق ، كما هو الظاهر من كلمات المتقدمين، وصرّح به بعضهم على ما قيل(3).

وأما المقيّد منه فعدم صدقه على ما انقضى عنه المبدأ ظاهر؛ ضرورة انتفاء الصدق مع التقييد بخلافه.

فقد اختلط عليهم الأمر في مقامات ثلاثة: المشتق المطلق بمطلق المشتق،

ص: 60


1- نهاية الوصول 1:194.
2- قوانين الأصول 1:76؛هداية المسترشدين: 88.
3- هداية المسترشدين: 82.

والإطلاق بالاستعمال، والصدق وعدمه بالحقيقة والمجاز، وحيث اختلط عليهم الأمر صرفوا الحال عن ظاهره - وهو حال النطق - إلى زمان النسبة أو حال التلبّس؛ فراراً عمّا يلزمهم من صيرورة نحو «سيكون زيد قائماً» مجازاً اتفاقاً، ونحو «كان زيد قائماً فقعد» مختلفاً فيه، وغفلوا عن أنّ ما يلزمهم - من كون نحو «زيد قائم ألآن أو أمس أو غداً» مع انقضاء القيام عنه في زمان القيد حقيقةً عند القائلين بكونه حقيقةً فيما انقضى عنه المبدأ - مثله فى الفساد أو أفسد؛ ضرورة أن مقتضى التقييد وقوع المبدأ حال القيد فمع عدم وقوع المبدأ حاله يكون الكلام كذباً أو مجازاً لا محالة.

إذا اتضح لك أنّ موضوع البحث هو المشتق المطلق المجرّد عن القيد وأن البحث في صدق الإطلاق وعدمه، فاعلم أن التحقيق اختلاف الصدق باختلاف الموارد، فإن كان الذات تقتضي المبدأ ذاتاً أو عرضاً باتخاذه صنعةً أو حرفةً، بحيث لو جامعت الشرط وفقد المانع والمزاحم لوجد منها المبدأ كقولك: «الشمس مضيئة، والقمر منير، والشجرة مثمرة، والنار ،محرقة والسناء مسهل والكلام مفيد وزيد كاتب أو خيّاط أو بنّاء أو معلّم»وهكذا... ، يصدق العنوان عليها بمجرّد الاقتضاء ولا يعتبر في صدقه عليها وجود المبدأ منها ضرورة صحة حمل الصفات على الذوات المقتضية لمباديها ولولم يوجد المبدأ منها أصلاً لفقد شرط أو وجود مانع أو مزاحم.

وإن لم تقتض المبدأ لا يصدق العنوان عليها إلا بعد وجوده منها؛ ضرورة أن مجرد صلاحيّة الذات لصدور المبدأ منها أو اتصافها به لا يوجب صدق المشتق وإلا لصح إطلاق العالم على الجاهل والأسود على الأبيض، وبالعكس، وهكذا... .

ثمّ إن كان المبدأ من الأفعال الحادثة من الذات كالولادة والضرب والقتل والأكل والشرب والزناء والسرقة وهكذا... ، يكفي في صدق المشتقّ على الذات حدوث المبدأ منها ولو انقضى عنها حال الإطلاق؛ لأنّ منشأ انتزاع الاتصاف هو الحدوث لا الوجود، والحدوث لم ينقلب إلى اللاحدوث. ولذا لا ينتفي صدق الوالد والوالدة عن الأب والأُمّ بعد الولادة وتقول: «هذا ضارب زيد أو قاتله أو آكل الحرام أو شارب الخمر أو سارق أو

ص: 61

زان» بعد انقضاء مبادي الصفات المذكورة عنه من دون تأويل، ويشمل السارق والزاني المذكوران في الفرقان(1) من سرق وزنى حقيقةً ويجب قطع يد الأوّل وجلد الثاني أو رجمه باعتبار صدق العنوانين عليهما تحقيقاً.

وإن كان من قبيل الأوصاف القائمة بالذوات كالعلم والجهل والإيمان والكفر والقيام والقعود وهكذا... ، يجب في صدق المشتق بقاء المبدأ حال الإطلاق؛ لأنّ المنشأ لانتزاع الاتصاف بالمبدأ حينئذٍ هو الوجود القابل للبقاء لا الحدوث. ولذا لا يصدق الجاهل على العالم باعتبار سبق جهله ولا العالم علي من علم ثمّ زال عنه، ولا الكافر على المؤمن باعتبار سبق كفره، ولا المؤمن على المرتدّ. وإطلاق المؤمن على النائم لا ينافي ما بيناه؛ لثبوت التصديق في حال النوم والغفلة، والذي انتفى عنه حينئذ إنما هو الذكر لا التصديق.

ومفاد الصيغة في جميع الموارد أمر واحد؛ فإنّها إنما تفيد الاتصاف بالمبدأ، والاتصاف قد يتحقق باقتضاء الذات لحدوث المبدأ أو وجوده منها ، وقد يتحقق بحدوث المبدأ منها، وقد يتحقق بوجود المبدأ منها ، فلم يختلف مفاد الصيغة باختلاف الموارد والمبادي.

فإن قلت: لو كان البحث في الصدق وصحة الإطلاق وعدم صحته لا في الحقيقة والمجاز لزم أن يكون اتفاقهم بالنسبة إلى المستقبل اتفاقاً على عدم صحة الإطلاق مع أنه صحيح جزماً. غاية الأمر أنه مجاز عندهم.

قلت: الكلام في صدق المشتق مع قطع النظر عن القيد والقرينة. ومعلوم أنه لا يصدق كذلك على من لم يتلبس بعد، فلا يصح إطلاقه عليه إلّا مع قيد، كقولك: «زيد ضارب غداً»، أو قرينة.

فإن قلت: عدم صحة الإطلاق إلا مع قيد أو قرينة، لا ينفك عن التجوّز. غاية الأمر أنّ التجوّز حينئذٍ في الإطلاق والإسناد لا في الكلمة، كما اختاره بعض(2).

قلت: إنّما يكون التجوّز في الإطلاق إذا لم يصح إلا مع التوسع والتنزيل، كقولك:

ص: 62


1- المائدة (5):38؛ النور (24) 2 و 3.
2- لاحظ : كفاية الأصول: 78.

«زید عدل»، وأمّا مجرّد الحاجة إلى القيد أو القرينة فلا يدلّ على التجوّز فيه؛ لجواز أن يكون الحاجة إلى القيد لكونه على خلاف منصرف إطلاقه، كما في المقام؛ إذ تقييد الإسناد بالمستقبل أو الماضي لا يوجب توسعاً في الإسناد وتنزيلاً لأحد طرفيه منزلة الأصل كما هو ظاهر، وإنّما يوجب الانصراف عن منصرف إطلاقه وهو التلبس بالمبدأ حال الإطلاق. ولذا اتفقوا على أنّ مثل «كان زيد قائماً وسيصير قائماً» حقيقة ولا تجوز فيه بوجه لا في اللفظ ولا في الإسناد.

وكيف كان، فالاحتجاج على كون المشتق مجازاً إذا استعمل فيما انقضى عنه المبدأ بتبادر الغير وهو التلبس بالمبدأ(1)، في غير محلّه؛ إذ لا يختلف ما يستعمل فيه المشتق باختلاف الإطلاق على ما انقضى عنه المبدأ أو المتلبس أو ما لم يتلبس به بعد؛ ضرورة أنّ المستعمل فيه في الصور الثلاثة إنّما هو العنوان الذي وضع بإزائه المشتق، والاختلاف إنّما هو في ما يطلق عليه العنوان، والتبادر المدعى إنّما هو من قبل الإسناد لا المشتق وهو إطلاقي لا ،حاقي، كما بيّناه(2)، مع أنه يختص بما إذا كان المبدأ صفة لا فعلاً، كما عرفت(3). وبما بيّناه تبيّن فساد سائر التفاصيل التي ذكروها في المقام.

تنبيهات

الأوّل: أنّ موضع النزاع يعمّ جميع المشتقات المنطبقة على الذوات، ولا يختص باسم الفاعل وما في معناه من الصفات المشتبهة، كما في الفصول(4)ولا بما عدا اسم الزمان، كما عن بعض(5)؛ لأنّ مناط النزاع في الجميع موجود.وتوهّم أنّ الزمان غير قارّ الذات فلا

ص: 63


1- كما احتج به في كفاية الأُصول: 64.
2- في الصفحة 57 وما بعدها.
3- في الصفحة 61 - 62 .
4- الفصول الغروية: 60.
5- تقريرات الشيرازي 1: 252.

يتصوّر فيه انقضاء المبدأ عنه مع بقاء الذات حتى يجري فيه النزاع، في غير محله؛ لأنّ الزمان له بقاء واستمرار في العرف باعتبار المبدأ والمنتهى، كاليوم والشهر والسنة وهكذا.... ولذا يجري فيه لاستصحاب.

وقد يتوهم خروج اسم المفعول واسم الآلة عن محلّ النزاع؛ لأنّ الأوّل موضوع لمن وقع عليه الفعل ولا يعقل فيه الانقضاء أبداً؛ لأنّ الفعل بعد وقوعه لا ينقلب عمّا هو عليه فلا يتصوّر فيه الانقضاء*. والثاني موضوع لما يصلح ويستعد لصدور الفعل منه على وجه الآلية، فلا يشترط فيه التلبس بالمبدأ حتى يقدح فيه الانقضاء.

وهو واضح الضعف؛ أما الأوّل فلأنّ الوقوع كالقيام قد ينتزع من الحدوث وقد ينتزع من الوجود، فكما أنّ عنوان الضارب والقاتل يصدق على «زيد» - مثلاً - بعد انقضاء المبدأ عنه، كذلك يصدق عنوان المضروب والمقتول على «عمرو» بعد انقضاء المبدأ؛ لأنّ المنشأ لانتزاع العنوان في المقامين هو الحدوث، وكما لا يصدق عنوان العالم والجاهل والمحبّ والمبغض والحافظ وهكذا...،من الصفات المنتزعة من وجود المبدأ بعد انقضاء المبادي المزبورة عمّن قامت به فكذلك لا يصدق المعلوم والمجهول والمحبوب والمبغوض والمحفوظ على ما انقضى عنه تعلّق المبادي المزبورة وقوعاً. أترى أنه يصدق المجنون على من زال عنه جنونه؟ كلّا ثمّ كلّا. فكما لا يصدق العاقل إلا على من اتصف بالعقل فعلاً فكذلك لا يصدق المجنون إلّا على من اتصف بالجنون فعلاً.

والتعبير عن مفاد المفعول بمن وقع عليه الفعل لا يدلّ على أن الغرض منه حدوث الوقوع، كما توهّمه(1) ، وإلا لزم خروج اسم الزمان والمكان عن محلّ النزاع أيضاً؛ لأنهما لما وقع فيه الفعل، مع تصريحه بدخول اسم الزمان في محلّ النزاع(2).

*. وفيه أنّ المراد انقضاء المبدأ لا النسبة فلا وجه لما ذكره من عدم تصوّر الانقضاء. [منه أعلى الله مقامه

الشريف]

ص: 64


1- أجود التقريرات 1:124 .
2- المصدر نفسه 1:83 .

وأمّا الثاني فلأنّ صيغ الآلة موضوعة لاتصاف الذات بالمبدأ على وجه الآلية والاتصاف بالمبدأ كذلك كما يتحقق باقتضاء الذات لصدور المبدأ بها، كذلك يتحقق بالحدوث الفعلي بها، فكما يصدق المضراب على ما أعد للضرب به فكذلك يصدق على العصا إذا ضرب به.

الثاني: أنّ مفهوم المشتق عنوان منطبق على الذات لا أنّ الذات جزء له؛ لأنّ المشتق ينحل إلى مادّة وهيئة والمادة لا تنبئ إلا عن الحدث الصرف بالضرورة، والهيئة إنّما تفيد وجه استعمال المادة وهي النسبة الاتصافية الناقصة التقييديّة الموجبة لانتزاع العنوان المنطبق على الذات، فلا يعقل دلالتها على الذات التي هي مفهوم مستقل اسمي إلا على وجه الالتزام من قبل النسبة. وما اشتهر من التعبير عنه بذات ثبت له المبدء تنبيه على انطباقه على الذات.

وقيل ببساطة مفاهيم المشتقات وخروج الذات والنسبة عنها(1)، واستغرب القول بأخذ النسبة إلى الذات فيها دون الذات، وزعم أنّ أخذ النسبة فيها ملازم لأخذ الذات فيها، فقال:

إن النسبة متقومة بالطرفين بالضرورة، فلا يعقل أخذها في مفاهيم المشتقات مع الالتزام بخروج الذات عنها.(2)

وأضاف إلى هذا الوجه وجهاً آخر وهو أنه لو دلّ المشتق على النسبة التي هي معنىً حرفي لزم أن يكون مبنيّاً؛ لتضمّنه حينئذ للمعنى الحرفي الذي هو إحدى علل البناء(3).

والوجهان باطلان؛ أما الأوّل فلانه لا مانع من إثبات النسبة في القضية اللفظية لأحد مع تقومها طرفيها بحيث يستتبع الدلالة على الطرف الآخر التزاماً. ولا ينافي ذلك بالطرفين بالضرورة. ولو كان ذلك منافياً لزم أن يكون الفعل مجرّداً عن الإسناد إلى الفاعل أو المفعول، أو دالاً على أحدهما بالتضمّن وكلاهما واضح الفساد؛ أما الأوّل فلأنّ بناء

ص: 65


1- أجود التقريرات 1: 97 - 98.
2- نقل بالمضمون. المصدر نفسه 1:94-95
3- المصدر نفسه 1: 98

الفعل للفاعل مرّةً وللمفعول أُخرى لا يجامع مع تجرّده عن الإسناد. وأما الثاني فلأنّ الفاعل أو المفعول معنى مستقل اسمى لا يقعل أن يكون مدلولاً للهيئة مطابقةً أو تضمّناً.

وأمّا الثاني فلأنّ بناء الأسماء مقصور على السماع، كما عليه المتقدمون من أهل العربيّة. وأمّا العلل التي استخرجها أبو الفتح ابن جنّي(1)وشاع بين متأخريهم ففساده من الواضحات؛ لأنّ الشبه بالحرف لو أوجب البناء فإنّما هو الشبه به في وجه بنائه وهو عدم قبوله اعتوار المعاني المقتضية للإعراب عليه، وذلك لا يجري إلّا في الشبه الإهمالي مع أنه غير تام أيضاً؛ لأنّ الاسم حينئذٍ لا يكون محلاً لا عتوار المعاني لا أنه غير قابل له. وكم من فرق بينهما!

وقد أوضحنا الكلام في فساده غاية الإيضاح في «أساس النحو» وشرحه(2).

ثمّ إنّه بعد ما زعم أنّ المشتقات لا تدلّ إلا على الحدث الصرف، التفت إلى أنه يتوجه عليه حينئذٍ أن لا يكون فرق بين المشتقات والمصدر واسمه، فالتزم بما اشتهر نسبته إلى أهل الحكمة من أنّ المبدأ ملحوظ فيهما بشرط لا، وفيها لا بشرط(3)، وفسّر اللابشرط بملاحظته بحيث يتحد مع الذات ويحمل عليها، وبشرط لا بملاحظته بحيث يأبى عن الحمل، وأوضح ذلك بأنّ وجود العرض في حد نفسه عين وجوده لموضوعه، فوجوده النفسي عين وجوده الربطي بين ماهيته وموضوعه، فإذا لوحظ العرض على واقعه بلا مؤنة أُخرى يكون موجوداً في الموضوع ومتحداً معه ونعتاً له، ويكون بهذا الاعتبار عرضيّاً ومشتقاً. وإن لوحظ لا كذلك بل مستقلاً مع قطع النظر عن وجوده في موضوعه يكون أجنبياً عنه وغير متحد معه، وبهذا الاعتبار يكون مصدراً أو اسمه. ولذا لا يحملان على الذات(4).

ثمّ قال:

ص: 66


1- الخصائص (لابن جنّي) 3: 51 - 52 ، باب تسمية الفعل.
2- أساس النحو: 105 - 107.
3- أجود التقريرات 1: 107.
4- المصدر نفسه 1: 108 - 109.

إنّ هيئة المصدر لا تدلّ على النسبة الناقصة وإلّا لوجب أن تكون المصادر مبنيّة؛ لتضمّنها للمعنى الحرفي والفرق بينه وبين اسمه أنّ المبدأ ملحوظ فيه بحيث يكون قابلاً لورود النسبة إليه فيضاف إلى الفاعل كثيراً وإلى المفعول نادراً، وفى اسمه بما هو شيء من الأشياء معرّى عن النسبة فلا يمكن إضافته إلى شيء؛ فإنّ الإضافة ملازمة للنسبة.(1)

وما ذكره في غاية الوهن والسقوط من وجوده عديدة:

الأوّل: أن العرض كما لا استقلال له في الوجود لا استقلال له في الماهيّة، وإنّما هو شأن من شئون موضوعه، سواء كان عرضاً للوجود أو عرضاً للماهية، فما يظهر من کلامه من استقلاله في الماهية دون الوجود، لا وجه له. وقد أوضحنا الكلام فيه في محلّه.

والثاني: أنّ مجرّد لحاظ العرض على ما هو عليه لا يقتضي جواز حمله على الذات ما لم يؤخذ فيه نسبة ناقصة تقييديّة موجبة لتبعية أحد طرفيها - وهو الحدث - للآخر وهي .الذات. فالمصحح لحمل المشتقات على الذات تركب مفاهيمها من الحدث والنسبة الناقصة التقييدية، المتولّد منهما عنوان منطبق على الذات.

والثالث: أنه لو عرت المشتقات عن النسبة، وكان مدلول الكل هو العرض السازج، وكان صحّة الحمل باعتبار ملاحظته على ما هو عليه من وجود موضوعه، لزم استواء الكلّ في التصادق على الذوات، ولم يختص بعضها بالفاعل، وبعضها بالمفعول، وبعضها بالآلة، وبعضها بالمكان أو الزمان، وبعضها على وجه المبالغة، وبعضها على وجه التفصيل، وهكذا.... وبطلان اللازم واضح؛ ضرورة اختصاص كلّ منها بمورد مخصوص وهو لا يتمّ إلّا بتكفّل كلّ منها نسبة مخصوصة قياماً أو وقوعاً أو حلولاً وهكذا... .

والرابع: أنّ هيئة المصدر- كهيئات سائر المشتقات - دالّة على النسبة الناقصة التقييدية الموجبة لانتزاع عنوان منطبق على العمل لا الذات؛ فإنّ لحاظ التقييد يوجب جعل أحد

ص: 67


1- نقل بالمضمون. أجود التقريرات 1: 93 - 94

طرفيه قيداً للآخر وتابعاً. ففى المشتقات يجعل الحدث قيداً للذات فينطبق على الذات فاعلاً أو مفعولاً وهكذا... ، وفي المصادر يجعل الذات قيداً للحدث فينطبق على العمل لا الذات.

ويدلك على ما بيّناه دلالة هيئة المصدر على النسبة: بنائه للفاعل مرّةً وللمفعول أُخرى، واختلاف مفاد هيئات المصادر في الدلالة على الحرفة والولاية والتقلب وهكذا.... وما ذكره من أنّ هيئة المصدر لا تدلّ على النسبة الناقصة وإلا لكان مبنياً، قد ظهر لك فساده.

والخامس: أنّ اسم المصدر لا دلالة لهيئته على النسبة. ولذا لا يعمل، ولا يطلب فاعلاً ولا مفعولاً. وأما ما توهّمه من الفرق بينه وبين المصدر بما ذكره(1)، في غاية السخافة؛ ضرورة اشتراكهما في جواز الإضافة إلى الفاعل أو المفعول؛ لجواز قولك: «وضوء زيد أو غسله حسن» و «عجبت من عجب زيد وكبره» و «غسل الميت واجب» ونحو ذلك. ولا يتوقف جواز الإضافة على لحاظ المعنى قابلاً لورود النسبة، بل يتوقف على قبوله إياها سواء لوحظ ذلك في وضع اللفظ له أم لا. ولذا ترى أن الجوامد تقبل الإضافة كقولك: «غلام زيد أو ماله أو ثوبه أو فرسه» وهكذا... ، مع عدم لحاظ قبول النسبة في وضع الجوامد بالضرورة. فالذي يختص به المصدر إنّما هو العمل وطلب الفاعل أو المفعول لا الإضافة. وهو كاشف عن اشتماله على النسبة المستدعية لذكر الفاعل أو المفعول. فالفرق بينه وبين اسمه إنّما هو في اشتماله على النسبة الناقصة دون اسمه. وبالجملة، اشتمال المشتقات والمصدر المعروف على النسبة من الواضحات، وما ذكره المتوهم ناشٍ من عدم التأمل في الأطراف بل خفاء البديهيات وإن زعم أنه أتى بتحقيق المقام.

الثالث: أنّ ما اخترناه من كفاية الاقتضاء في تحقق الاتصاف بالمبدأ وصدق العنوان، مخالف لما اختاره القوم من لزوم التلبس به ولو حدوثاً في صدق العنوان و تحقق الاتصاف. فزعموا أن الصدق في موارد الاقتضاء باعتبار التلبس الفعلي. غاية الأمر أنّ المبدأ قد يكون حالاً وقد يكون ملكة. قال المحقق القمي(قدس سره):

ص: 68


1- أجود التقريرات 1: 93 - 94. وقد حكاه عنه في الصفحة السابقة.

ينبغي أن يعلم أنّ مبادي المشتقات مختلفة فقد يكون المبدأ حالاً كالضارب والمضروب، وقد يكون ملكةً، وقد يعتبر مع كونه ملكةً كونه حرفةً وصنعةً، مثل

الخياط والنجار والبنّاء ونحوها، وقد يكون لفظ يحتمل الحال والملكة والحرفة، كالقاري والكاتب والمعلّم، والتلبس وعدم التلبس يتفاوت في كلّ منها - إلى أن قال: - وقد اختلط على بعض المتأخرين واشتبه عليه الأمر وأحدث مذهباً في التفصيل فقال: «إنّ إطلاق المشتق باعتبار الماضي حقيقة إن كان اتصاف الذات بالمبدأ أكثريّاً بحيث يكون عدم الاتصاف بالمبدأ مضمحلاً في جنب الاتصاف ولم يكن الذات معرضاً عن المبدأ وراغباً عنه»(1).(2)انتهى ما أردناه.

وفيه أوّلاً: أنّ صدق المشتق في الموارد المزبورة وأمثالها إنما هو باعتبار اقتضاء الذات للمبدأ ذاتاً أو جعلاً، وكفاية الاقتضاء في تحقق الاتصاف، لا باعتبار أن المبدأ فيها الملكة، وإلا لزم أن يصدق قولك: «قتل السمّ» ولو لم يقتل، «وأسهل السناء» ولو لم يسهل - مثلاً - كما يصدق قولنا : «السمّ قاتل» ولو لم يقتل،«والسناء مسهل» ولو لم يسهل؛ لتحقق الملكة فيهما بالمعنى الذي ذكروه، مع أن عدم الصدق بديهي. وليس ذلك إلا لأجل اختلاف النسبة؛ فإنّ تحقق المبدأ من الذات لا يكون إلا بالفعليّة بخلاف اتصاف الذات به؛ فإنّه كما يتحقق بالفعليّة يتحقق بالاقتضاء بحيث يعد المبدأ من صفاته وشئونه.

وثانياً: أنّ استعمال المبادي في الملكة - بمعنى الشأنيّة للحدث أو القوة القريبة له - غير جائز حقيقةً ومجازاً؛ أما الأوّل فلعدم الوضع، وأما الثاني فلعدم العلاقة المصححة له.

مع أنّ إطلاق الملكة على الشأنبة والقوّة القريبة غلط؛ لأنّ مقابلتها للحال إنّما هي باعتبار التجاوز عن أوّل مراتب وجود المبدأ وبلوغه مرتبة الرسوخ والاستقرار لا باعتبار عدم الوصول مرتبة الوجود.

مع أنها تختص بالكيفية النفسانية ولا تعمّ مطلق المبادي، وقد اشتهر أنّ الكيفية

ص: 69


1- الوافية في الأصول: 63.
2- قوانين الأصول 78:1.

النفسانية إن رسخت في النفس فملكة وإلا فحال. ومن هنا علم أن التعبير بملكة الخياطة ونحوها إنّما باعتبار رسوخ العلم بالخياطة لا باعتبار الشأنيّة لها.

وبما بيناه تبيّن أنّ ما ذكره بعض المتأخرين(1)، في غير محله أيضاً؛ لأنّ المدار في صحة الإطلاق إنّما هو التلبس بالمبدأ على وجه الاقتضاء ولو لم يتلبس به فعلاً أصلاً. غاية الأمر أنّ الاقتضاء قد يتحقق بتمحض الذات للمبدأ الحاصل من كثرة الاتصاف به فعلاً. وحيث إنّ القوم لم يتصوّروا اتصاف الذات بالمبدأ قبل وجوده منها، ولم يتفطنوا أنّ الاقتضاء أمر وراء الشأنية والصلوح، وأنه كافٍ في تحقق الاتصاف دون الصلوح والشأنيّة، ذهبوا يمنة ويسرة، وغفلوا عن أن تحقق النسبة الاتصافية لا يلازم وجود المبدأ.

الرابع: أنّ الفاعلية كما قد تكون على وجه الفعلية حدوثاً أو وجوداً وعلى وجه الاقتضاء ذاتاً أو جعلاً، كذلك المفعولية والمحلّية قد تكونان على وجه الاقتضاء ذاتاً أو جعلاً وقد تكونان على وجه الفعليّة.

فإنّ قولهم: «الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمضاف إليه مجرور، والإسم معرب ومبني، وهذا المقام مسجد وذلك المكان مطبخ»ونحوها، صادقة قبل وقوع المبادي عليها أو فيها؛ فإنّ الفاعل مرفوع ولو لم يرفعه رافع، وهكذا في أخويه، كما أنّ المقام مسجد وإن لم يسجد فيه ساجد، والمكان مطبخ وإن لم يطبخ فيه. وليس ذلك إلا بملاحظة الاقتضاء الناشي من استحقاق الذات للمبدأ ذاتاً والتمحض له جعلاً.

الخامس: تخيّل بعضهم أنّ ما بيّناه من أنّ النزاع إنّما هو في صدق العنوان على ما نقضى عنه المبدأ وعدمه راجع إلى أنّ صدقه عليه هل هو باعتبار أنه من الأفراد التنزيليّة أو من الأفراد التحقيقية ؟ ومبني على ما ذكره السكاكي في باب الاستعارة(2) ومأخوذ من كلامه حيث أنكر التجوّز في الكلمة فيها. فاعترض أوّلاً بما محصله:

أن ما ذكر لو تمّ إنّما يتمّ في القضايا الصدقيّة الناظرة إلى تطبيق العنوان وصدقه

ص: 70


1- نفس الهامش 1 من الصفحة السابقة.
2- مفتاح العلوم: 369 - 373.

على مصاديقه وأفراده، سواء كان الصدق ملحوظاً استقلالاً كقولنا: «زيد أسد»، أو ضمنياً كقولنا: «رأيت أسداً يرمي». وأما القضايا الحقيقية الكلية التي لم يلحظ فيها الصدق أصلاً، كما في قضيّة «تحرم أُمّ الزوجة» التي لم يلحظ فيها صدق ضوع على شخص منقض عنه المبدأ، فلا يجري فيها ذلك. مع أنّ مع أنّ عمدة ما يقع محلاً للكلام أمثال هذه القضايا.

وثانياً بأنّ كلام السكاكي من دعوى التجوّز في النسبة لا في اللفظ في مثل قولنا: «رأيت أسداً يرمي» باطل من جهة أنّ الرامي وهو زيد مثلاً ليس من أفراد الحيوان المفترس قطعاً، فجعله من أفراده لا يكون إلا بادعاء وتنزيل، فهو إما في الموضوع أو المحمول أو النسبة. لا إشكال في عدم الادعاء والتنزيل في الموضوع وهو زيد، فأما أن يكون في المحمول بتوسعة في المفهوم فهو المطلوب من وقوع التجوّز في الكلمة وأمّا أن يكون في النسبة فيكون من الدعاوي الكاذبة الجزافية، وإذا بطل كلام الأصل بطل كلام التابع .(1)

وفيه أنّ ما حققناه مبنيّ على عدم تطرّق الاستعمال في غير ما وضع له فيما انقضى عنه المبدأ وما لم تلبس بعد - كما أوضحنا الكلام فيه(2)- لا على ما تخيّله من إنكار التجوّز الكلمة في باب الاستعارة. وأنّ النزاع إنما هو في الصدق وعدمه لا في أنه صادق عليه تحقيقاً أم تنزيلاً.

وأما ما اعترض من عدم جريان النزاع في الصدق وعدمه في القضايا الحقيقية الكلية ففي غاية الغرابة؛ ضرورة أن تعلّق الحكم بالعنوان الكلي لا ينافي وقوع النزاع في صدقه على ما انقضى عنه المبدأ حتى يتعلّق به الحكم، أو عدمه حتى لا يتعلّق به الحكم. وأما ما أبطل به كلام السكّاكي فهو مع بطلانه في نفسه مستلزم لإنكار التجوز في النسبة رأساً. مع أنّ ثبوت التجوّز في النسبة في الجملة في نحو «زيد عدل» وأمثاله ممّا

ص: 71


1- أجود التقريرات 1: 88-89.
2- في الصفحة 58 - 60

لا ينكره أحد. وما تخيّله من أنّ النسبة الادّعائيّة من الدعاوي الكاذبة الجزافية لا يخلو من مجازفة؛ ضرورة أنّ ادّعاء الاتحاد مبالغة في نحو «زيد عدل» من دون تصرّف في استعمال اللفظين صحيح في نظر العرف ومبني على الموازين الواقعية.

والتحقيق أنّ ما ذكره السكاكي لا مانع منه، ولكنّ الأمر غير منحصر فيه، بل يجوز الأمران: ما ذكره هو، والقوم. نعم، لا يتطرّق التجوّز في اللفظ مطلقاً؛ بناءً على ما بيّناه(1)واستفدناه من الرواية الشريفة(2)من أنّ الاسم إنّما يستعمل في عنوان المسمّى أبداً، ولا يختلف المستعمل فيه باختلاف الموارد. وإنّما الاختلاف فيما ينطبق عليه المسمّى. كما أشرنا إليه سابقاً(3).

السادس: أنّ المشتق المأخوذ موضوعاً في القضية اللفظية، إن لم يكن له مدخلية في الحكم المتعلّق به، لا يدور الحكم مداره حدوثاً ولا بقاءً، ويكون الغرض منه تعريف الموضوع أو التنبيه على عموم الحكم أو أمر آخر كقولك: «أكرم هذا الجالس، ويجب الصلاة على المريض» وهكذا من الأمثلة.

وإن كان له مدخليّة فيه فإن كان المبدأ من الأوصاف القائمة فالحكم يدور مدار وجود الوصف حدوثاً وبقاءً كقولك: «قَلّد العالم، وصَلّ خلف العادل» مثلاً. وإن كان المبدأ من الأفعال الحادثة فالحكم يثبت بحدوث المبدأ ولا يزول بزواله، كما أنه لا ينتفي صدق العنوان بانتفائه كقولك: «اضرب ضارب زيد، وأكرم مكرمه، ولا حرمة لضارب بكر عندي» وهكذا... ، ومن هذا الباب قوله - تعالى -: ﴿الزّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾(4) و ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُنا﴾(5). ولذا يثبت الجلد والقطع بحدوث الزنا والسرقة ولا ينتفيان بزوالهما.

ص: 72


1- في الصفحة 42 - 43.
2- الفصول المختارة : 91؛ المناقب: 47؛ بحار الأنوار 40:162.
3- في الصفحة 42 - 43
4- النور (24):2.
5- المائدة (5):38.

وبهذا البيان تبين لك أنّ ما ورد في الروايات من أن قوله عزّ - من قائل -: ﴿لا يَنالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ﴾(1)أبطل إمامة كلّ ظالم(2)فمن عبد وثناً أو صنماً لا تناله(3)، منطبق على القواعد اللفظية؛ لأنّ الظلم من الأفعال الحادثة، فيثبت الحكم بحدوثه ولا يزال بزواله، كما أنّه لا ينتفي صدق العنوان بانتفائه.

فإن قلت: الظلم يختلف باختلاف منشأ انتزاعه، فإن كان منتزعاً من الأفعال الحادثة، كالضرب بالقتل ونحوهما، يكون من قبيل الأفعال الحادثة، وإن كان منتزعاً من الأوصاف القائمة، كعبادة الوثن ونحوها يكون من قبيل الأوصاف القائمة، فالظلم المنتزع منها وصف يدور الحكم مداره حدوثاً وبقاء.

قلت: الظلم منتزع من حدوث المبدأ، سواء كان المبدأ وصفاً أم فعلاً؛ضرورة أنّه عبارة عن التجاوز عن الحق المنتزع من الحدوث، فيكون فعلاً مطلقاً.

هذا، مع أنّ الإمامة عهد إلهي ثابت لمن ثبت له من حين التولد، فلا ينال الظالم، وإلا لزم أن يكون حال صدور الظلم منه إماماً.

السابع: أنّ صيغة الفاعل موضوعة لاتصاف الذات بالمبدأ على وجه المنشأيّة، سواء كان المبدأ وصفاً قائماً بها، كالعلم والجهل والقيام والقعود وهكذا... ، أم فعلاً صادراً منها كالضرب والقتل ونحوهما.

وإلى ما بيناه يرجع ما ذهب إليه بعضهم من عدم اشتراط قيام المبدأ بالذات في صدق المشتق، مستدلاً عليه بصدق الضارب والمُؤلِم على الفاعل مع قيام الضرب والألم بالمفعول(4).

وقد خفي هذا المعنى على الأكثر واغتروا بما قرع سمعهم من مقالة أهل العربية من أنّ الفاعل لمن قام به المبدأ، فزعموا أن صيغته إنّما تفيد التلبس بالمبدأ على وجه القيام

ص: 73


1- البقرة (2):124.
2- الكافي :1:199، باب نادرٌ جامع في الإمام وصفاته، ضمن الحديث 1.
3- الكافي 1: 174، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، الحديث 1.
4- حكاه عن المعتزلة في نهاية الوصول 1: 199 - 200.

فأُشكل عليهم الأمر في «المتكلّم» الذي هو من صفات الباري تعالى؛ حيث إنّ المبدأ فيه وهو الكلام - أمر حادث ولا يجوز قيام الحادث بالقديم - تعالى - ؛ لاستحالة أن يكون محلّاً للحوادث، فذهب الأشاعرة إلى أنّ الكلام قسمان: لفظي، ونفسي مدلول لللفظي قائم بالنفس مغاير للعلم والإرادة والكراهة(1)، وأنّ صدق المتكلّم على الله - تعالى - إنّما هو باعتبار النفسي منه الذي هو قديم لا باعتبار اللفظي منه الذي هو حادث(2). وذهبت الحنابلة إلى أنّ الكلام اللفظى قديم وأفرط بعضهم فذهب إلى أنّ الجلد والغلاف قديمان فتوهّم أنّ اللفظ هو النقش المثبت في الجماد الحادث، ومع ذلك، الموصوف به هو تعالى(3). وذهب الكرامية بحدوثه وقيامه بالله - تعالى شأنه - وجوزوا أن يكون القديم محلاً للحوادث(4)، تعالى الله عمّا يقول الظالمون. وذهب المعتزلة إلى حدوثه وقيامه بالملك وأنّ اتصافه - تعالى - به باعتبار قيامه بالملك(5).

والجميع فاسد؛ أما ما ذهبت إليه الأشاعرة فلعدم ثبوت الكلام النفسي، وما قيل من أنّ الكلام لفي الفؤاد، مبني على المبالغة وإلا لاقتضى حصره في النفسي. مع أن القائم بالنفس الذي هو مدلول اللفظي منحصر في إحدى الصفات الثلاثة التي نفوها، وأما ما ذهبت إليه الحنابلة والكرامية ففساده أوضح من أن يبيّن، وأما ما ذهبت إليه المعتزلة فلا يوجب صدق المتكلّم على الله - تعالى - لو قيل بعدم تحقق عنوان الفاعلية للذات إلا بقيام المبدأ بها.

والعجب أنّ هذا الإشكال الذي أوقعهم في الحيرة واضطربوا في دفعه جارٍ في سائر الأفعال من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والإرادة والكراهة مع عدم تنبههم له.

ص: 74


1- قال الغزالي في المنخول: 163: «الكلام عندنا معنى قائم بالنفس على حقيقة وخاصيّة يتميّز بها عمّا عداه».
2- لاحظ : سبع رسائل (للدواني): 161.
3- لاحظ:المصدر نفسه.
4- لاحظ:المصدر نفسه.
5- لاحظ: المصدر نفسه.

والتحقيق ما حققناه من أنّ الفاعلية لا تدور مدار قيام المبدأ بل تدور مدار منشأيّة الذات له المتحققة في الأفعال بالإيجاد والصدور منها وفي الصفات بقيام المبدأ بها.

فإن قلت: إذا كان قيام المبدأ شرطاً في صدق المشتق - إذا كان صفة - لزم أن لا يكون إطلاق العالم والقادر والحيّ ونحوها، من صفات الذات على الباري - تعالى - على وجه الحقيقة، وإلا لزم القول بالمعاني(1)، وهي زيادة الصفات على الذات، تعالى شأنه عن ذلك علوّاً كبيراً.

قلت: إطلاق العالم والقادر وسائر صفات الذات عليه - تعالى - كناية عن سلب نقائضها وعدم تطرّقها إليه، تعالى. فإثبات الصفات له - تعالى - بمعنى أشرف وأرفع وأعلى فهو - تعالى شأنه - عالم قبل العلم بغير علم وقادر قبل القدرة بغير قدرة. وهذا معنى أنّ صفاته - تعالى - عين ذاته لا أنّ هنا صفات قائمة بالذات وإلا لزم التركيب والمغايرة التحليلية - تعالى شأنه عن أن يكون محلاً للتركيب والمغايرة. قال مولانا أمير المؤمنين-عليه وعلى أبنائه الطاهرين سلام الله الملك الأمين - : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة»(2).والكناية قسم من الحقيقة لا المجاز

الثامن: لا ينافي ما بيناه - من صدق المشتق على ما انقضى عنه المبدأ إذا كان من قبيل الأفعال - انصرافه إلى حدوث الفعل حال النطق في مورد الإخبار به كقولك: «زيد ضارب، أو آكل، أو شارب، أو ضاحك، أو باك» ونحوها؛ ضرورة أن صدق العنوان في حد نفسه على المتلبّس بالمبدأ وما ان عنه لا ينافي انصرافه إلى أحدهما لأجل خصوصية طارئة.

والسرّ في انصراف هذه الموارد ونحوها، عند الإطلاق، إلى النطق، أن المبادي فيها لكونها من الأفعال الغالبة الوقوع لا يفيد الإخبارُ بوقوعها في الجملة فائدة للمخاطب فتنصرف إلى حال النطق من أجل أنّ الظاهر أنّ المخير في مقام الإخبار عمّا يفيد فائدة للمخاطب، ولا تحصل الفائدة منها عند الإخبار بها مطلقة إلّا إذا أريد بها الواقعة حال النطق.

ص: 75


1- مقابل «نفي المعاني والأحوال والصفات الزائدة عيناً» لاحظ: كشف المراد: 320 - 321.
2- نهج البلاغة : 39،الخطبة 1.

ولذا لا تنصرف إلى حال النطق إذا أخبر بها مقيّدة فقيل: «زيد ضارب عمرو، أو آكل التراب، أو شارب الدواء، أو ضاحك في وجه فلان، أو باكٍ على أبيه» - مثلاً - ؛ لعدم توقف الاستفادة منها حينئذٍ على أن لا يكون المخبر بها هو الواقع حال النطق، بل الإفادة حينئذ حاصلة مطلقاً.

هذا إذا كان مخبراً به، وأمّا إذا جعل مخبراً عنه فإن كان الوصف معرّفاً للموضوع ولم يكن حدوث المبدأ ولا وجوده دخيلاً في الحكم فإن توقف التعريف على تحقق التلبس حال النطق أو حال النسبة ينصرف المشتق إليه حينئذٍ ولكن لا يتوقف ترتب الحكم على التلبس بالمبدأ لا حدوثاً ولا وجوداً، سواء كان فعلاً أو وصفاً.

وإن كان المبدأ دخيلاً في الحكم فإن كان من قبيل الأفعال يكفي في ترتب الحكم حدوث المبدأ. ولذا يعمّ الحكم حينئذٍ ما انقضى عنه المبدأ ولا ينصرف إلى المتلبس به حال النطق أو حال النسبة. وإن كان من قبيل الأوصاف كقولك: «أكرم العالم وقلّده، وصلّ خلف العادل وأقبل شهادته» يعتبر فيه وجود المبدأ ولا يكفي في ترتب الحكم حدوث المبدأ. ولذا ينصرف المشتق حينئذ إلى المتلبّس به حال النسبة والحكم.

وبهذا البيان ظهر بطلان التفصيل بين كون المشتق محكوماً عليه وبه، والحكم بصدقه على ما انقضى عنه المبدأ في الصورة الأولى دون الثانية(1) ؛ لأن المبدأ إذا كان من قبيل الأفعال يكفي في صدق المشتق حدوث المبدأ، سواء كان محكوماً عليه أو محكوماً به،كما أنه يعتبر في صدقه وجود المبدأ إذا كان من قبيل الأوصاف، سواء كان محكوماً عليه أو محكوماً به.

والسرّ فيه أنّ النسبة في الأولى على وجه الحدوث، وفي الثانية على وجه الوجود، فالتفصيل إنّما هو بين الأفعال والأوصاف لا بين وقوعه محكوماً عليه وبه.

ص: 76


1- كما ذهب إليه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد: 84 - 85 ، قاعدة 19.

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

اعلم أن الحكم الشرعي ينقسم إلى تكليفي ووضعي، والأوّل إلى أمر ونهي وإباحة. والأمر إلى إيجاب وندب، والنهي إلى تحريم وتنزيه. فأقسام التكليفي ثلاثة باعتبار وخمسة باعتبار.

وكما يطلق الأمر على ما يقابل النهي والإباحة كذلك يطلق على القول الدال عليه، بل على صيغة «افعل» مطلقاً، كما استقر عليه اصطلاح أهل العربية. وقد يطلق على الدين

والشرع مطلقاً، كما فسّر الأمر في قوله تعالى: ﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾(1)بمطلق الشرع(2)ويقرب منه إطلاق «الإمارة» على الولاية، «والأمير» على الإمام(علیه السّلام)وعلى رئيس العسكر. وقد يطلق على ما يقابل السؤال، سواء كان طلب الفعل أم طلب الترك. وقد يطلق على الإخبار إذا استند إلى المخبر على وجه العلق. وقد يطلق على مطلق الفعل والشأن.

وما عدا الأخير يرجع إلى معنى واحد، وهو الشيء المرتبط بشيء في جهة العلوّ المعبّر عنه في الفارسية ب- «فرمان و فرمایش»، والموارد مصاديق له، والخصوصيات إنما تستفاد من خصوصيات الموارد والمقابلة للنهي والسؤال والخلق وهكذا... .

وأما الأخير فيمكن أن يكون إطلاقه عليه من باب التوسع في التعبير كالتعبير بالشيء عن المفهوم الغير الموجود، وأن يكون معنى آخر.

وكيف كان فتوهّم أنّ الأمر حقيقة في طلب الفعل؛ للتبادر، ومجاز في الفعل؛ لعدمه،

ص: 77


1- الأعراف (7): 54 .
2- لاحظ : مجمع البيان 4 (المجلد الثاني): 660.

غير محله؛ لأنّ التبادر إنما هو في لسان القوم من جهة مقابلته للنهي. مع أنّ التجوز فرع العلاقة المصححة وهي في المقام منتفية.

ومن هنا ظهر أنه لا مجال لتوهّم أخذ الوجوب في وضعه؛ إذ بعد ما تبين أن الطلب غير مأخوذ في وضعه لا يبقى مجال لأخذ خصوصيّته من الوجوب والندب فيه. مع أنّ هذا التوهّم إنّما حدث بين المتأخرين(1)ولم يكن في كلمات المتقدمين عين ولا أثر منه، كما سيظهر(2) لك إن شاء الله تعالى.

إذا اتضح لك ما بيّناه فاعلم أنّ المبحوث عنه هو الأمر المقابل للنهي، لا المقابل للسؤال، كما زعمه بعض الأفاضل(3)، كما هو ظاهر ، ويصرّح به تعاريفهم مع تشتتها واختلافها في سائر القيود؛ فعن العلّامة(قدس سره)في النهاية : «أنه طلب فعل بالقول على جهة الاستعلاء»(4)، وعن الآمدي كذلك بإسقاط القول(5). وعن الحاجبي: «أنه اقتضاء فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء»(6)وعن بعضهم: «أنه طلب الفعل على وجه يعدّ فاعله مطيعاً»(7)وعن أكثر الأشاعرة: «أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به»(8)؛ فإنّ طلب الفعل مأخوذ في الجميع.

ولو كان المبحوث عنه الأمر المقابل للسؤال لاختصّ بطلب العالي، سواء كان المطلوب

ص: 78


1- كما في منتهى الوصول (مختصر ابن الحاجب): 90؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 79؛ معالم الدین: 116 - 117.
2- فی الصفحة 94 - 98.
3- لم نعثر عليه. وسيأتي تفصيل كلامه في الصفحة 99 - 100، وعبّر عنه هناك ببعض الأفاضل من المعاصرين».
4- نهاية الوصول 1:372 .
5- الإحكام (للآمدي) 2:140
6- منتهی الوصول (مختصر ابن الحاجب): 89؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 77
7- نقله العلّامة في نهاية الوصول 1:372
8- المستصفى: 202. وحكاه عن «أكثر الأشاعرة» أيضاً في مفاتيح الأصول: 108؛ وهداية المسترشدين: 131

فعلاً أم تركاً، كما أنّ السؤال يختص بطلب الداني، سواء كان المسئول فعلاً أم تركاً.

ثم اعلم أنّ التحقيق أنه من قبيل المدلول لا الدال؛ لأنه قسم من الحكم التكليفي(1)، فتعريف أكثر الأشاعرة إيَّاه بالقول المخصوص(2)وموافقة بعض من لم يكن منهم(3)معهم فيه إما مسامحة في التحديد وتقريب للمحدود في الجملة من جهة اتحاده مع المدلول، أو مبني على مذهبهم من القول بالكلام النفسي(4)، وتبعهم فيه من لا يوافقهم فيه غفلة عن حقيقة الحال.

كما أن تعريف الحكم ب- «خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلفين...» كذلك(5)؛ فإنّه من الغزالي(6)بناءً على مذهبه السابق من الأشعريه وإن استبصر أخيراً. فما اشتهر من أنّ من معاني الحكم: الخطاب اللفظي - ولأجل ذلك وقعوا في إشكال اتحاد الدليل والمدلول وتحيّروا في رفعه(7)- في غير محله.

وكما أنه لا وجه لتحديد الأمر بالقول، لا وجه لأخذه في لأنّ حده، كما في النهایة(8)؛طلب الفعل أمر دلّ عليه قول أو فعل.

ثمّ إنّه قد اختلف كلماتهم في اعتبار العلق والاستعلاء معاً في الأمر وعدمه، وفي معنى العلوّ والاستعلاء، فارتقت الأقوال في الاعتبار وعدمه إلى خمسة، وفي معنى العلوّ إلى قولين، وفي معنى الاستعلاء إلى ثلاثة.

ص: 79


1- كما مر في الصفحة 75.
2- وهو تعريفهم إيّاه بالقول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به كما مرّ في الصفحة السابقة.
3- لاحظ :أنيس المجتهدین 2: 593 و 596 ؛ حيث قال: «الأمر حقيقة في القول المخصوص أي الدال بالوضع على طلب الفعل استعلاء». وقريب منه ما في تمهيد القواعد: 121.
4- وقد مرّ تفصيل كلامهم في الكلام النفسي في الصفحة 74
5- كما في منتهى الوصول (مختصر ابن الحاجب 32 شرح العضدي على المختصر ابن الحاجب 1: 220؛ قوانين الأُصول 1: 5.
6- المستصفى 1: 112
7- لاحظ: غاية المسئول: 7.
8- نهاية الوصول 1:372. وقد مرّ في الصفحة السابقة.

والتحقيق اعتبارهما في تحقق حقيقته، وأنّ المراد بالعلوّ الولاية الموجبة لوجوب طاعته عقلاً أو شرعاً لا العلوّ العرفي، وبالاستعلاء إعمال الولاية؛ ضرورة أن الطلب الصادر ممّن لا ولاية له استدعاء لا أمر وإن كان بصورة الأمر، كما أنّ الصادر من الولي لا في مقام إعمال الولاية كذلك؛ لأنّ الطلب الصادر من المولى على وجهين.

ولذا سألت بريرة عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بعد أن قال لها: «راجعي إلى زوجك»: «أتأمرني يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) » ، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا بل أنا شافع»(1)، ومعنى الشفاعة أنه(صلی الله علیه و آله و سلم)ليس في مقام إعمال الولاية والأمر.

وقد اشتبه الأمر على الأكثر ولم يهتدوا إلى معنى العلوّ والاستعلاء ووجه اعتبارهما فيه، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم.

واعلم أنّ الأمر والنهي إنّما يتعلّقان بالطبيعة لا بالفعل والترك؛ لأنهما سنخان ونوعان متقابلان فلا يردان إلّا على محلّ واحد، وامتثال الأوّل لا يكون إلّا بالفعل، كما أنّ امتثال الثاني لا يكون إلا بالترك؛ ضرورة أن مقتضى الأمر الايتمار الذي لا يتحقق إلا بالفعل، كما أنّ مقتضى النهي الانتهاء الذي لا يتحقق إلا بالترك. فطلب الفعل لا يكون أمراً، كما لا يكون طلب الترك نهياً. وإنّما هما من آثار الأمر والنهي ولوازمهما.

فتعريف الأمر بطلب الفعل(2)إمّا تعريف باللازم والخاصة، أو تعريف تام له إن قلنا بأنّ

إضافة الطلب إلى الفعل من قبيل إضافة الجنس إلى فصله لا من قبيل إضافة الشيء إلى متعلّقه، فمعنى طلب الفعل حينئذٍ أنه طلب فعلي، أي طلب يقتضي فعل المتعلّق في الخارج، كما أن معنى طلب الترك حينئذ طلب يقتضي ترك المتعلّق.

ومن الغريب ما ذكره في الفصول من أنّ المراد بالفعل مطلق الحدث؛ ليدخل في الحدّ نحو «أترك» باعتبار الترك:

ص: 80


1- عوالي اللآلي 3:349 الحدیث 284؛ مستدرك الوسائل 15: 32، أبواب نكاح العبيد، الباب 36 ،الحديث 3،بتفاوت يسير.
2- كما مرّ في الصفحة 78.

فإنّه أمر به حقيقة وإن صدق باعتبار المقيد به أنه نهي عنه. وخرج نحو «لا تترك»؛ فإنّه نهي عن الترك وإن صدق عليه باعتبار الفعل المقيد به أنه أمر به. وبالجملة فهما داخلان في الأمر باعتبار وفي النهى باعتبار ومنهم من عين دخول الأول في النهي، والثاني في الأمر؛ جموداً على ظاهر الحد؛ نظراً إلى أن الفعل ظاهر في الأمر الوجودي. وهذا منه مخالفة للعرف واللغة والاصطلاح(1).انتهى.

فإنّ تفسير الفعل بمطلق الحدث الشامل للترك موجب لارتفاع التقابل بين الأمر والنهي وصيرورته قسماً من الأمر.

وأغرب منه ما توهمه من اندراج كلّ من الصيغتين في كلّ من الأمر والنهي باعتبار. ومنشأ الغفلة خلطه الأمر والنهي المبحوث عنهما الذين هما قسمان من الحكم التكليفي بصيغتي الأمر والنهي في مصطلح أهل العربية.

والصواب أنّ «أترك» ليس أمراً ولا نهياً، وإنّما يكون نهياً بعد صدوره من السيد في مقام إعمال السيادة والولاية، كما أنّ «لا تترك» إنّما يكون أمراً بعد صدوره من السيد كذلك. وليس فيه حينئذٍ مخالفة للعرف والاصطلاح. وإنّما يخالف مصطلح أهل العربية وأمّا مخالفة اللغة فأجنبية عن المقام؛ إذ الكلام ليس في تفسير لفظ الأمر لغةً حتى يقال: إنّ ما ذكر مخالف لها. وإنما الكلام في تحديد حقيقة الأمر والنهي المبحوث عنهما عند الأصوليين.

ثم اعلم أنهم بعد ما اتفقوا على أنّ الأمر متقوم بطلب الفعل، اختلفوا في أنّه يفارق الإرادة أم لا؟

المحكي عن أصحابنا والمعتزلة الثانى ن الأشاعرة الأوّل(2). وفرّعوا عليه فروعاً ثلاثة: جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه وجواز النسخ قبل حضور وقت العمل، وجواز التكليف بالمحال

والتحقيق ما اختاره أصحابنا(قدس سره)ضرورة أنّ الطلب الذي يتقوم به الأمر المبحوث

ص: 81


1- الفصول الغروية: 63.
2- حكاه عنهم العلّامة في نهاية الوصول 1: 378 - 379.

عنه إنما هو النفسي الذي هو عين الإرادة، وما توهم مغايرته له إنّما هو الطلب الإنشائي المتحصل بالقول وما بمنزلته ، وهو ليس أمراً بالمعنى المبحوث عنه وإن صدق عليه الأمر بمفهومه اللغوي؛ لأنّ الأمر الذي هو قسم من أقسام الحكم التكليفي سابق على الطلب المتحصّل من الخطاب. وإنّما يستدلّ به عليه استدلال المعلول على علّته(1).

وقد اشتبه الأمر على بعض الأفاضل فزعم أنّ حقيقة الحكم التكليفي هی التي تقتضيه صيغة «افعل» فاختار المفارقة وقال:

التحقيق أنّ مدلول الصيغة هو الطلب الإنشائي المعبّر عنه في الفارسيّة «خواهش کردن» المجتمع مع الإرادة وعدمها.(2)

ثم فرّع عليه جواز المسألتين الأوليين.

وفيه أوّلاً: أنّ مفاد الصيغة - كما يشهد به الاطّراد وسيظهر لك تفصيله(3) - إنما هو البعث المترتب عليه الطلب والتهديد والتعجيز والإباحة وهكذا... باختلاف الأغراض والدواعي، ولا يترتب عليه الطلب إلّا إذا كان الغرض منه إرادة الفعل. فالطلب إنما يتولّد وينتزع من البعث إذا قارن إرادة الفعل، فلا يعقل مفارقته عنها وإلا لزم تحقق الأمر المنتزع من دون تحقق منشأ انتزاعه ،نعم، قد يكون الباعث في مقام إبراز الإرادة مع عدم ثبوتها في النفس فيكون الطلب حينئذٍ صوريّاً لا حقيقياً.

وثانياً: أنّ هذا المفهوم المتحصّل من الصيغة الذي سمّاه طلباً إنشائياً إن جعله حكماً تكليفياً - ولو لا بداعي الانبعاث على الفعل لزم ثبوت التكليف في مقام التهديد والتعجيز وهكذا... ، وهو بديهي البطلان وإن جعله كذلك إذا كان بداعي الانبعاث على الفعل فلا مجال لما توهمه من جواز مفارقته عنها؛ ضرورة أنّ الانبعاث إنّما يكون داعياً إذا كان مراداً.

وثالثاً: أنّ الطلب المتقوم به الأمر المبحوث عنه الذي هو قسم من أقسام الحكم التكليفي،

ص: 82


1- وقد مرّت الإشارة إليه في الصفحة 79 .
2- لاحظ: هداية المستر شدین: 136 و 211.
3- في الصفحة 92.

إنّما هي الإرادة النفسية - وهي مدلول للصيغة - لا الطلب الإنشائي المتولد من البعث الحادث بالصيغة المتأخّر عنها. وتوهّم أنّه عين التكليف في غاية السخافة وإلا لزم عدم تطرّق النسخ والتقييد بمدة فيه؛ لكونه غير قارّ، والرفع والتحديد إنّما يتطرّقان في الأمور القارّة. فاتضح غاية الاتضاح اتحاد الطلب المتقوم به الأمر عندهم مع الإرادة.

تنبيهات

الأوّل: أنّ النزاع ليس في أنّ اللفظين متغايران مفهوماً أم لا؟ ولا في أن الطلب المستفاد من الصيغة مغاير مع الإرادة أم لا؟ بل النزاع في أنّ الطلب المحدود به الأمر المبحوث عنه يغاير الإرادة ويفارقها أم لا؟

والثاني: أنّ الإرادة النفسيّة التي تتقوم بها الأمر إنما هي الإرادة التشريعية لا التكوينية، كما هو ظاهر.

الثالث: لا ينافي ما بيناه من تعلّق الإرادة التشريعية بالمأمورات الشرعية ما ورد وثبت بالدليل النقلي والعقلي من عدم صدور فعل من العبد طاعةً أو معصيةً إلّا بمشيّته - تعالى - وتقديره(1)؛ لأن معناه أنّ اختيار العبد وقدرته تحت مشيته - تعالى - فإذا شاء - تعالى - أن يكون العبد قادراً على ما أراده ومختاراً فيه أطلق عنانه حتى يصدر منه، ولا ينافي إطلاق العنان في الفعل وإبقاء الاختيار له كونه محرّماً أو واجباً عليه وإذا لم يشاء ذلك حال بينه وبين ما أراد فلا يقدر عليه. وبهذا البيان ظهر معنى «المنزلة بين المنزلتين»(2)، وأن «لا جبر ولا تفويض»(3).

وإذ قد اتضح ما حققناه فاعلم أنّ التحقيق أنّ الأمر لا يتقوم بطلب الفعل، بل قد

ص: 83


1- لاحظ التوحيد (للصدوق): 354 - 364،باب السعادة والشقاوة وباب نفي الجبر والتفويض.
2- الكافي 1 :159 ، باب الجبر والقدر... ، الحديث 10.
3- الكافي 1: 160، باب الجبر والقدر... ، الحديث 13؛ التوحيد (للصدوق): 362 باب نفي الجبر والتفويض، الحديث8.

يجامع مع الكراهة وطلب الترك. وإنما هو طلب فعلي اقتضاء كما أن النهي طلب تركي كذلك.

توضيح الأمر يتوقف على تحقيق حقيقة الحكم التكليفي وبيان مراحله، فأقول بعون الله تعالى ومشيته - : إنّ الحكم التكليفي سابق على الطلب والخطاب والإرادة، ويتقوم بتحيّث الواقعة بإحدى الحيثيات الخمسة في نظر المولى، بحيث إذا سأل عنها لبعث عليها أو زجر عنها أو رخّص فيها ولو لم يكن في نفس المولى إرادة فعليّة؛ فإنّ الإطاعة والعصيان إنّما يدوران مدار التحيّث المزبور لا الإرادة والطلب.

ألا ترى أنه لو اطلع العبد من حال مولاه أنه بحيث لو سأل عن إنقاذ ابنه أو إكرام ضيفه أو قتل عدوّه لأمر بها، ومع ذلك تركها، عد عاصياً، ولا يعذر بعدم الطلب والإرادة في نفس المولى؛ لأجل عدم خطور الواقعة في ذهنه.

و ثبوت تحيث الوقائع بإحدى الحيثيات الخمسة في نظر المولى دائر مدار الصلاح والفساد إذا كان الحاكم حكيماً مراعياً للحكمة في حكمه، سواء كانا في المتعلّق أو الخارج، فالأحكام الابتلائية الصادرة من الحاكم حسب المصلحة الخارجية أحكام تكليفية حقيقية لا صورية. نعم، قد يكون المولى في مقام إبراز الصورة اختياراً لحال عبده لا أنّ كلّ ما صدر منه ابتلاء واختباراً صورة لا حقيقة.

وهذا أوّل مراحل الحكم وهي مرحلة التحقق وهو الشرع والدين، ولا يعتبر فيه وجود المكلّف واستجماعه لشرائط التعلّق وإن لم يكن الحكم إلا بلحاظه؛ فإنّ ثبوت شيء بلحاظ الشخص لا يوجب التوقف على وجوده، كما هو ظاهر. أترى أنّ جعل الشرع والدين إنّما هو للمكلّفين الموجودين حال البعثة ؟! كلّا ، ثمّ كلّا؛ فإنّ الشريعة إنما شرعت لكافّة الناس الموجود والمعدوم فيها سواء.

والمرحلة الثانية مرحلة التعلّق بالأشخاص، ويعتبر فيها وجود المكلّف واستجماعه لشرائط التعلّق من البلوغ والعقل والأهلية في الجميع، ويعتبر في تعلّق النهي الابتلاء أيضاً. ويترتب على هذه المرحلة القضاء.

والمرحلة الثالثة مرحلة التنجز،ويعتبر فيها العلم والالفتات والقدرة التامة وعدم الابتلاء بالأهم.

ص: 84

و ترتب المراحل المذكورة وانفكاك بعضها عن بعض بمكان من الوضوح؛ ويتضح غاية الاتضاح بالنظر إلى الشرائط المعتبرة فيها والآثار المتفرعة عليها؛ فإنّ تأثير العلم إنما هو في تنجز الحكم لا في تحققه - وإلّا لدار - ولا في تعلّقه على الشخص وإلّا لزم التصويب الباطل بالضرورة عندنا، وعدم ثبوت القضاء على الجاهل؛ ضرورة أنه فرع الفوت عن الشخص، وهو فرع التعلّق والارتباط به، ولا ينافي ذلك كون القضاء بأمر جديد؛ إذ معناه أنه لولا الأمر الثاني لم يعلم ثبوت القضاء بالأمر الأوّل لا أنه حكم جديد وإلا لم يبق فرق بين القضاء والأداء، مع أنّ الجديد يؤذن بذلك أيضاً.

وتأثير العقل والبلوغ والأهليّة إنّما هو في تعلّق الحكم بالشخص ووقوعه طرفاً له، لا في التنجز - وإلا لزم ثبوت القضاء على الصبي والمجنون ومن لا أهلية له، مع أن تعلّق الحكم بالأخيرين غير معقول - ولا في التحقق؛ ضرورة عدم تأثيرها إلا في استكمال الشخص لقبول التكليف،مع أنّ تحقق الحكم للوقائع قبل وجود المكلفين واتصافهم بالصفات المذكورة من أوائل البديهيات؛ هل يتوهّم متوهّم بطلان الشرع والدين بفقد المكلّفين ؟! كلّا، ثمّ كلّا.

إذا اتضح لك ما حققناه فاعلم أنّ الإرادة وطلب الفعل إنّما تترتب على الأمر بعد بلوغه مرتبة التنجز، كما أنّ الكراهة وطلب الترك لا تترتب على النهي إلّا كذلك. بل قد يجتمع الأمر مع طلب الترك والنهي مع جواز الفعل؛ فإنّ صوم شهر رمضان واجب على المريض والمسافر. غاية الأمر أنّه لم يتنجز عليهما. ولذا يجب عليهما قضائه بعد الحضور والبرء من المرض. ومع ذلك لا يكون فعله مطلوباً منهما حال السفر والمرض. ولذا لا يجزي إتيانهما به كذلك، بل يوجب العصيان.

والمضطرّ غير الباغي ولا العادي، مرخّص في أكل الميتة، مع أنه محرّم عليه في هذا الحال. غاية الأمر أنّه لم يتنجز عليه التحريم؛ لأجل تقديم وجوب حفظ النفس المحترمة عليه. ومن هنا تنجز التحريم على الباغي والعادي؛ لعدم احترام نفسهما في هذا الحال. وهكذا الأمر في الجاهل بالتحريم أو الغافل.

ص: 85

بل قد يكون التحريم منجزاً ولا يترتب اً ولا يترتب عليه طلب الترك كمن توسط في أرض مغصوبة باختياره؛ فإنّه غير متمكن من الترك حينئذٍ حتّى يطلب منه، مع تنجز التحريم عليه؛ لاستناده إلى اختياره .

وبما بيناه يظهر لك فساد ما حكي عن القاضي من أنه مأمور بالخروج ومنهي عنه، وأنه عاص بفعله وتركه(1)، وعن قوم من أنه مأمور بالخروج وليس منهياً عنه ولا معصية عليه(2) ، وما ذهب إليه بعض من أنه مأمور به مطلقاً أو بقصد التخلّص وليس منهيّاً عنه حال كونه مأموراً به لنه عاص به بالنظر إلى النهي السابق(3).

فإنّ جميع هذه الكلمات الواهية التي لا يحتاج بطلانها إلى البيان إنّما نشأ من خفاء ما حققناه. نعم، إذا تاب في هذا الحال يعذره الشارع بفضله فلا معصية عليه حينئذٍ في الخروج؛ للعذر لا لانتفاء التحريم.

فاتضح بما بيّناه أنّ حقيقة الأمر سابقة على الإرادة وإنّما تنبعث منه إذا بلغ مرتبة التنجز، وأما ما لم يبلغها فلا تنبعث منه الإرادة والطلب، بل قد يقارن المانع من الامتثال، كالحيض والمرض والسفر ، فيجتمع مع الكراهة وطلب الترك، فترتب الإرادة وطلب الفعل عليه اقتضائي لا فعلي، كما أن ترتب الكراهة وطلب الترك على النهي كذلك.

فإن قلت: إذا كان الترك مطلوباً في هذا الحال يكون فعله محرّماً حينئذٍ لا محالة ، فلا يعقل بقاء الأمر حينئذ ولو في مرحلة التحقق وإلا لزم اجتماع الأمر والنهي على موضوع واحد.

قلت: المحرّم حينئذٍ إنّما هو إيجاد الفعل لا نفس الطبيعة، فيختلف الموضوعان؛ لأنّ المأمور به نفس الطبيعة والمحرّم إيجادها.

فإن قلت: الغرض من الأمر بالشيء إنّما هو الامتثال المتحقق بإيجاد المأمور به، فإذا صار محرماً فات الغرض منه، فلا يعقل تعلّقه بالطبيعة حينئذٍ وإلا لزم أن يكون لغواً .

ص: 86


1- حكاه عن القاضي في الفصول الغروية : 138 ، وهو خيرة قوانين الأصول 1: 153
2- حكاه هكذا في الفصول الغروية: 138؛ ونسبه إلى المشهور في أوثق الوسائل: 402.
3- الفصول الغروية: 138.

قلت: إنما يفوت الغرض ويكون الأمر بالطبيعة لغواً إذا لم يكن للامتثال سبيل أصلاً، وأما إذا جاز الامتثال ولو قضاءً فلا مانع منه، كما هو ظاهر.

والحاصل أنّ الأمر بالشيء مطلقاً يقتضي تحقق الامتثال بإتيانه كذلك. ولا ينافيه الاقتران بما يمنع من تحقق الامتثال به أحياناً، كما لا ينافيه جعل شرط في تحقق الامتثال به، فلا محذور في ثبوت الأمر في مرحلة التحقق والتعلّق مع وجود المانع من الامتثال. نعم، لا يجامع التنجز معه.

فإن قلت: كما يتوقف ترتب طلب الفعل على الإيجاب على بلوغه مرتبة التنجز، يتوقف بلوغه مرتبة الأمرية عليه أيضاً، فكما لا يتنجز وجوب الصوم حال المرض والسفر ، لا يصح الأمر به حينئذ؛ ضرورة عدم جواز أن يقال لهما: «صوما في هذا الحال»، فلا ينفك الأمر عن طلب الفعل أبداً.

قلت: إنّما لا يصح بعث المريض والمسافر على الصوم حينئذٍ مع وجوبه عليهما، فالمنفي في حقهما إنما هو الأمر على وجه البعث والخطاب، لا الأمر المبحوث عنه الذي هو قسم من أقسام الحكم التكليفي المتحقق في مرحلة التعلّق.

ثمّ إنّ توهّم صحة أمر الأمر مع العلم بانتفاء شرطه، وجواز النسخ قبل حضور وقت العمل، والتكليف بالمحال؛ بناءً على عدم أخذ الإرادة في حقيقة الأمر، باطل كما سنحققه في محلّه(1)إن شاء الله تعالى.

وإذا قد تحققت لك حقيقة الأمر فاعلم أنّ له أحكاماً عديدة قد بحث عنها القوم ورتبوا لها أُصولاً ومسائل

[الأصل] الأول

هل للأمر صيغة تخصه بحيث متى ترد لغيره كانت مجازاً؟

ص: 87


1- في الصفحة 134 وما بعدها.

هكذا عنون البحث قدماء القوم(1)، وغفل بعضهم عن أنّ الصيغة تخصّ الهيئة فخطّأ هذه الترجمة وقال:

لا شبهة في ذلك ؛ لصحّة التعبير عنه ب-«وجبت، و حتمت،وندبت». والحري جعل النزاع في صيغة «افعل» وما بمعناه.(2)

وقد تبعه المتأخّرون في تغيير العنوان(3)، ثمّ إنّي لم أظفر في كلام المتقدمين على القول باختصاص الصيغة بالإيجاب أو الندب، والبحث عنه، وما تداول في كلام المتأخرين من البحث عنه غفلة وخلط للمبحث الآتي - وهو البحث عن اقتضاء مطلق الأمر الإيجاب أو الندب - بالبحث عن الصيغة.

ويوضح ما بيّناه غاية الإيضاح النظر إلى أدلّة الطرفين؛ فإنّ ما ذكر من حجج القولين(4)-وهي تبادر الوجوب من أمر السيد عبده حال الإطلاق، وآيات الحذر(5)والسجود(6)والركوع(7)، وحديث الاستطاعة(8)، ومساوات الأمر مع السؤال إلا في الرتبة - أجنبي عن ساحة اختصاص الصيغة بأحدهما وضعاً بمراحل.

مع أنّ آية الحذر وعمدة أدلّتهم على إفادة الصيغة الوجوب - وهي تبادره من أمر السيّد عبده حال الإطلاق الراجع إليه سائر الأدلّة - إنما ذكرهما السيد ابن زهرة في الغنية في المبحث الآتي(9)ولم يتعرّض لهذا المبحث أصلاً، وإنّما بحث عن اختصاص صيغة

ص: 88


1- كما في الذريعة 1: 38؛ والعدّة :1: 51 ؛ وغنية النزوع 2: 273.
2- منتهى الوصول (مختصر ابن الحاجب): 90؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 79 .
3- كما في معالم الدين: 116 - 117.
4- معالم الدين: 119 - 128
5- وهو قوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يَخَافُونَ عَنْ أَمْرِهِ... ﴾ . النور (24): 63 .
6- وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ...﴾.الأعراف (7) 12.
7- وهو قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ﴾ . المرسلات (77) 48.
8- وهو قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «إذا أُمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». عوالي اللآلي 4 58 ، الحدیث 206؛ بحارالأنوار 2 31 بتفاوت يسير.
9- غنية النزوع 2: 277 - 281، الفصل الخامس: «ومطلق الأمر لا يقتضي وجوباً ولا ندباً ...».

بالأمر وعدمه واختار العدم(1).

على أنّ توهّم اختصاص الصيغة بالندب وضعاً بحيث متى ترد للإيجاب كانت مجازاً، في غاية البعد بحيث لا يمكن صدوره عادة ممّن له أدنى دربة بالعربية فضلاً عن الفضلاء الباحثين عن دقائقها، فما ذكره صاحب المعالم ومن تبعه من ذهاب جمهور الأصوليين إلى اختصاص صيغة «افعل» وما بمعناه بالوجوب وضعاً(2)، لم نحققه قولاً لأحد من القدماء المحصلين فضلاً عن ذهاب الجمهور إليه، بل لم يعلم ذهاب الأكثر إلى اختصاص الصيغة بالأمر الجامع بين الإيجاب والندب.

وبالجملة لم يوجد في كلام المتقدمين المؤسسين عين وأثر مما تداوله الأواخر في كتبهم. وإنما حدث هذا النزاع في كلماتهم غفلةً وخلطاً للمبحث الآتي بهذا المبحث.

فإن قلت: ما ذكره المتأخّرون هو عين ما ذكره المتقدمون؛ لأنهم مختلفون في أنّ الأمر للإيجاب أو الندب أو الطلب الجامع، فمن ذهب منهم إلى أنه للوجوب أو الندب واختار أنّ له صيغةً تخصه، حكم بأنها للوجوب أو الندب.

قلت: الأمر المقابل للنهي إنّما هو طلب الفعل الجامع بينهما. ولم يتوهم أحد من القدماء اعتبار أحدهما فيه. ولذا لم يعتبر أحد منهم الإيجاب أو الندب في حدّ الأمر مع كثرة التعاريف الصادرة منهم واهتمامهم في ذكر القيود المعتبرة فيه عندهم من القول والعلو والاستعلاء .

وتوهّم أنّ الاستعلاء ملازم للوجوب - فمن اعتبره فيه اعتبر الوجوب فيه ومن لم يعتبره فيه جعله أعم منه ومن الندب، أو مختصاً به - في غير محله؛ لأنّ الاستعلاء الذي هو عبارة عن إعمال المولوية معتبر في الحكم التكليفي مطلقاً حتى الإباحة؛ ضرورة استحالة تأثير حكم شخص ونفوذه في حق غيره من دون سلطنة وولاية عقلية أو شرعيّة، كما يستحيل صيرورته حكماً تكليفيّاً ما لم يستند إلى إعمال ولايته. فما لم ينته الأمر إلى ولي الأمر من جهة ولايته لا يعقل تعلّقه برقبة الشخص وتنجزه عليه.

ص: 89


1- غنية النزوع 2: 273 - 274، الفصل الثالث: «وليس للأمر صيغة تخصه...».
2- معالم الدین: 116 - 117؛ قوانين الأصول 1: 83 .

بل هكذا الأمر بالنسبة إلى المرحلة الأولى؛ لأنّ الوقائع والأفعال إنّما ينفذ الحكم فيها أمراً أو نهياً أو ترخيصاً ، إذا كانت من جهات الحاكم وشئونه، ولا تكون كذلك إلا إذا تحققت له الولاية على من انتسبت إليه الوقائع.

وأمّا اختلافهم في أنّ مطلقه يقتضي الإيجاب أو الندب أو الوقف فلا يرجع إلى الاقتضاء الوضعي بل إلى الإطلاقي، كما سيظهر لك إن شاء الله - تعالى - في المبحث الآتي(1).

وكيف كان، فالتحقيق أنه ليس للأمر صيغة تخصه وحيث اشتبه الأمر في المقام على غير واحد فلا بد لنا أوّلاً من بيان مرامهم.

فأقول: إنّك قد عرفت أنّ الأمر يتقوم بأمور ثلاثة طلب الفعل اقتضاء، وصدوره من العالي، وكونه في مقام الاستعلاء. واختصاص صيغة به بجميع قيوده غير متصوّر؛ ضرورة عدم اختصاص الصيغة بصدورها عن العالي وكونه في مقام الاستعلاء.

فالمقصود من اختصاص صيغة بالأمر إنّما هو الاختصاص به فيما يتصوّر اختصاصه به وهو مفهوم الطلب، فالقائل باختصاصها بالأمر(2)إنما أراد اختصاصها به في مقابل من نفى الاختصاص وقال بعمومها له وللإباحة(3)، كما يظهر لمن تأمل أطراف كلماتهم.

فما توهّمه بعض من أنّ القائل باختصاص صيغة بالأمر قائل بدلالتها على علوّ المتكلّم أو كونه في مقام الاستعلاء(4)، في غاية السخافة.

وقد تبيّن بما بيّناه - من أن الغرض من الاختصاص بالأمر الاختصاص بالطلب - أنه لا تجوز فيها إذا استعملت في مورد الدعاء أو الالتماس؛ لأنّ المنتفي فيهما إنّما هو العلق والاستعلاء لا الطلب الذي هو مفاد الصيغة عند القائل باختصاصها بالأمر. بل في مورد الإرشاد أيضاً إذا قارن الطلب. نعم، يلزمه القول بالتجوّز فيه إذا لم يقارنه وكان إرشاداً

ص: 90


1- في الصفحة 92 وما بعدها.
2- الشيخ في العدّة 1: 163 - 164؛ والعلّامة في نهاية الوصول 1: 376.
3- كالسيّد المرتضى في الذريعة 1: 38 وابن زهرة الحلبي في غنية النزوع 2: 273.
4- لاحظ : بدائع الأفكار: 268.

محضاً. فما توهمه بعض من لزوم التجوز في الصور الثلاثة بناءً على القول بالاختصاص(1)، في غير محله.

ثمّ إنّ اختصاص الصيغة بالأمر يتصوّر في بدو النظر على وجهين: أحدهما: أن تكون موضوعة له والثاني: أن تكون موضوعة للطلب الإنشائي الملازم له الكاشف عنه.

والأوّل مستحيل؛ ضرورة أنّ الصيغة المتوهم اختصاصها به إنما هي صيغة «افعل» وما بمنزلتها، ومن المعلوم أنها موضوعة لإنشاء معنىً وإحداثه، لا بإزائه. مع أن مطلق الهيئات كالحروف إنما تحدث وتوجد معاني في غيرها فهي متكفّلة لأنحاء استعمال الموادّ أبداً، فلا يعقل أن تكون موضوعة بإزاء المعاني المدلول عليها فلا بد من حمل کلامهم على الوجه الثاني.

وبهذا البيان تبين لك أنّ ما تداول في لسان المتأخرين من أن صيغة «افعل» حقيقة في الطلب الجامع أو الوجوب أو الندب وهكذا... ، في غير محله؛ فإنّ الصيغة لا تستعمل في شيء منها حتّى تكون حقيقةً أو مجازاً فيها فالمعاني المذكورة لا تكون معاني حقيقيةً ولا مجازيّةً، وإنّما تستفاد من الصيغة بتوسط مفادها فالصحيح التعبير بالاختصاص كما عبر به القدماء .

لا يقال: يمكن أخذ الوجوب أو الندب أو الطلب النفسي الجامع بينهما وهكذا... ، قيداً في ما وضعت له الصيغة بأن يقال: إنّها وضعت لإنشاء الطلب اللمقرون بالإرادة الحتميّة أو الأعم فإذا استعملت الصيغة في المقيّد تكون حقيقةً وإذا استعملت في غيره تكون مجازاً.

لانا نقول: القيد لا بد أن يكون من خصوصيات المقيّد وفي طوله فلا يصح جعل المعاني المدلول عليها - وهي الوجوب والندب وهكذا... من المعاني - قيداً في مفاد الصيغة الذي هو جهة حادثة بها ونحو من أنحاء استعمال المادّة.

ص: 91


1- كما صرح به السكاكي في مفتاح العلوم: 318.

إذا اتضح لك مرام القوم فاعلم أنّ مفاد صيغة «افعل» وما بمنزلتها إنّما هو البعث على المادة والتحريك نحوها المترتب عليه الطلب والإباحة والتهديد وهكذا... ، كما أنّ مفاد أداة النهى إنّما هو الزجر والمنع المترتب عليه التحريم والتنزيه والترخيص والبطلان هكذا... .

ويدلّ على ما بيّناه أمران:

الأوّل: الإطراد فإنّ الذي تدور مداره الصيغة في تمام الموارد إنما هو البعث على المادة والتقريب إليها.

وأما سائر المعاني من الطلب والإباحة والتهديد وهكذا... ، فهي أغراض ومقاصد مترتبة عليه تستفاد من خصوصيات الموارد؛ فقد يكون الغرض من البعث على المادة الانبعاث عليها فيتولّد منه الطلب حينئذ، فإن كان الباعث عالياً وفي مقام الاستعلاء يتولّد منه الأمر إن كان المبعوث عليه فعلاً، والنهى إن كان تركاً ، وإلا يترتب عليه السؤال أو الالتماس - فالأمر كالسؤال والالتماس، متأخّر عن مفادها بمرتبتين - وإن كان الأمر قاصداً للإيجاب، يتولّد منه الإيجاب، وإلّا الندب، فالإيجاب والندب متأخران عن مفادها

بمراتب ثلاث.

وقد يكون الغرض منه مجرّد الإرشاد، وقد يكون الغرض منه الترخيص في الفعل، سواء كان مسبوقاً بالحظر كقوله - تعالى -: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾(1)، أم لا ، كقوله - تعالى -: ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾(2)، وقد يكون الغرض منه التعجيز، أو التهديد، أو الحجيّة كقولك: «إن أخبرك زيد بنبأ فخذ به»، أو عدمها كقوله - تعالى -: ﴿إِنْ جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَا فَتَبَيَّنُوا﴾(3)، أو صحة العقد كقولك: «بع» عند السؤال عن صحته وبطلانه، أو بطلانه كقولك: «اجتنب عنه بعد السؤال المزبور، أو نجاسة الشيء أو طهارته، كقولك: «اغسل ثوبك، أو

ص: 92


1- المائدة (5): 2
2- الملك (67): 15.
3- الحجرات (49): 6.

صل فيه بعد السؤال عن نجاسته أو طهارته، أو الشرطية كقوله - تعالى -: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ (1).

وقد يكون الغرض منه الإخبار، كقولك: اذهب إلى وليمة فلان في جواب قول القائل: «هل دعاني إلى وليمته». وهكذا الأمر في سائر الموارد من الإهانة والتحقير والامتنان والتمنّي والتسوية والتسخير وهكذا... ؛ فإنّ الجميع أغراض ومقاصد للبعث. فتوهّم أنّها معانٍ تستعمل فيها الصيغة حقيقةً أو مجازاً و في غاية السخافة، كما أنّ إنهائها إلى خمسة عشر كما عن النهاية(2)كذلك أيضاً؛ إذ الدواعي لا تنحصر تحت حد معدود.

والثاني: أنّ المعاني التي ادّعي استعمال الصيغة فيها معان مختلفة متنافرة جدّاً، وليس بينها وبين الطلب علاقة مصححة للتجوّز حتّى يصح استعمال الصيغة فيها مجازاً. مع أنّ الهيئات كالحروف - آلات تحدث معاني في غيرها، فهي موجدة لمعانيها التي عيّنت لها دائماً ولا يتطرّق فيها التجوّز أبداً.

غاية الأمر أنّ محلّ المعاني الحرفية المتعاورة قد يكون محلاً لها تحقيقاً، وقد يكون محلّاً لها تنزيلاً ، فهيئة «فعل»أو«يفعل»أو«افعل»- مثلاً - مبنيّة لاستعمال المادة من حيث الإسناد إلى الفاعل، ولا تنفك عنه في مورد أصلاً، كما أنّ هيئة «فَعِل» أو «يُفعَل » «ولِتُفْعَل» مبنيّة لاستعمالها من حيث الإسناد إلى المفعول، ولا تنفك عنه في مورد أبداً.

نهاية الأمر أنّ الفاعل والمفعول قد يكونان تحقيقيين وقد يكونان تنزيليين. وهذا معنى ما ذكره أهل الصناعة من أنّ التجوز في الحروف إنّما هو بتبع المدخول(3). فالتجوز في الحروف والهيئات لا يكون إلا على سبيل التنزيل فكلمة «في» - مثلاً - لا تحدث إلّا الظرفية، سواء كان المحلّ ظرفاً تحقيقاً أم تنزيلاً، كما أنّ كلمة «على» - مثلاً - لا تفيد إلّا الاستعلاء، سواء كان المدخول متصفاً به تحقيقاً أم تنزيلاً، لا أنهما ينفكان عن إفادة

ص: 93


1- المائدة (5): 6
2- نهاية الوصول 1: 373 - 375.
3- لاحظ: عروس الأفراح 2: 172.

الظرفية والاستعلاء تجوّزاً. فالتجوّز المتصوّر في المقام إنّما هو بالتنزيل، وهو جعل غير المطلوب منزلة المطلوب.

ومن المعلوم عدم ثبوت تنزيل غير المطلوب منزلته في مقام التهديد والتعجيز والسخرية والتهكم وهكذا... . مع أنك قد عرفت(1)أنّ التجوّز مطلقاً لا يكون إلا بالتنزيل وأنه لا تجوز إلا في الاستعارة وأن الإرسال لا أصل له أصلاً.

وقد تبيّن لك بما بيّناه فساد القول باختصاص الصيغة بالأمر وضعاً، كالقول بالاشتراك اللفظي بينه وبين الإباحة أو سائر المعاني، بل المعنوي أيضاً؛ لأنّ المعاني المتوهّمة إنّما هي أغراض ومقاصد للبعث الذي هو مفاد الصيغة لا أفراد ومصاديق له. نعم، تخص الأمر إطلاقاً إن كان المبعوث عليه فعلاً - لا تركاً - ؛ لأنّ البعث ذاتاً يقتضي الانبعاث فيتبادر منها الطلب عند الإطلاق. وقد خفي الأمر على بعضهم فزعم أنّ التبادر حاقي فحكم باختصاصها به وضعاً(2). وأمّا الإيجاب أو الندب فلا منشأ للانصراف إليه.

ولذا لم يتوهّم أحد من القدماء اختصاصها به وإنّما اشتبه الأمر على المتأخرين.

تنبيه: زعم بعضهم أنّ مفاد صيغة «افعل» في جميع الموارد هو الطلب الإنشائي وسائر المعاني أغراض ودواع له(3). وهو وهم واضح؛ لأنّ الطلب الإنشائي ليس إلا إبراز الإرادة النفسيّة، ومن المعلوم أنّ المهدّد والمعجز والمبيح وهكذا... ، ليس في مقام إظهار الإرادة بالنسبة إلى مفهوم المادة.

و[الأصل] الثاني

اختلفوا في أنّ الأمر المطلق يقتضي الوجوب أو الندب أم لا؟ فقيل باقتضائه الوجوب، وقيل بأنه يقتضي الندب، وقيل بالوقف.

ص: 94


1- في الصفحة 42-43.
2- لاحظ: قوانين الأصول 1: 13 و 83 ؛ غاية المسئول: 32 و 193.
3- كفاية الأُصول: 91.

هكذا عنون البحث قدماء القوم(1)مؤخّراً عن البحث السابق، وليس هذا بحثاً عن مفاد الصيغة وضعاً - وإلا وجب درجه في المبحث السابق وجعلهما مبحثاً واحداً، كما صنعه المتأخرون(2)- ولا بحثاً عن اعتبار أحدهما في حقيقة الأمر أو في وضع لفظه وإلّا وجب تقديمه على البحث السابق، مع أنّ اعتباره في وضع اللفظ أجنبي عن المقام؛ لأنّ المبحوث عنه هو الأمر المقابل للنهي والإباحة الذي هو قسم من أقسام الحكم التكليفي لا لفظ الأمر؛ إذ لا بحث لهم عن مادة الأمر من حيث الوضع، وإنّما بحثهم عن الأمر المقابل للنهي من جهة بيان الأحكام المتعلقة به. وعمومه للوجوب والندب من البديهيات. ويشهد بما بيناه أيضاً أمران:

الأوّل: أنّ توهّم أخذ الندب في الصيغة أو مادة الأمر وضعاً واضح الفساد بحيث لا يجوز صدوره ممن له أدنى مسكة. وكذا اعتباره في حقيقة الأمر.

والثاني: النظر في احتجاجاتهم على اقتضاء الوجوب، أو الندب، أو الوقف. ولا بدّ لنا في إثبات ما ادعيناه من وقوع الخلط واشتباه الأمر على المتأخرين من ذكر شطر من كلمات المتقدمين وحيث إنّ كلمات السيد بن زهرة - قدّس الله روحه - في الغنية كافية في إثبات المرام ومغنية عن ذكر سائر الكلمات اكتفينا بذكر كلماته في المقام. قال في الغنية:

فصل فى الأمر: الأمر من باب القول عبارة عن قول القائل لمن هو دونه في الرتبة «افعل» مع إرادة ما تعلّق ذلك به. وقولنا : «أمر» لفظة مشترك بين القول

والفعل وحقيقة فيهما .(3)

واستدل عليه بموارد الاستعمالات إلى أن قال:

فصل: ويجب له اعتبار الرتبة بين الآمر والمأمور .(4)

ص: 95


1- لاحظ: الذريعة 1: 51 ؛ العدّة :1: 171؛ غنية النزوع 2: 277
2- كما في منتهى الوصول (مختصر ابن الحاجب): 90؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 79؛ معالم الدین: 116 - 117.
3- غنية النزوع 2: 271.
4- المصدر نفسه: 273.

ثمّ قال:

فصل: وليس للأمر صيغة تخصه بحيث متى استعملت في غيره كانت مجازاً، بل صيغة مشتركة بينه وبين الإباحة، ولا يعلم أحدهما مع الإطلاق إلا بدليل.

وقلنا ذلك من حيث كانت هذه الصيغة مستعملة في الأمرين معاً؛ قال الله - تعالى -: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾(1) وهو آمر، وقال: ﴿إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾(2)وهو مبيح(3).

ثمّ قال:

فصل: وهذه الصيغة إنّما تكون أمراً إذا كان فاعلها - مع كونه أعلى رتبةً من المأمور - مريداً للمأمور به. وذلك لمثل ما قلنا في الدلالة على أنّ النهي إنما كان نهياً لكراهة المنهي عنه عند عنه عند الكلام في كونه - تعالى - كارهاً.(4)

ثمّ قال:

فصل: ومطلق الأمر لا يقتضي وجوباً ولا ندباً وإنّما يعلم كلّ واحد من الأمرين بدليل. هذا في وضع اللغة فأما في عرف الشرع فإنّه يجب حمل مطلقه ع-ل-ى الوجوب وعلى الفور وعلى الإجزاء وتعلّق الأحكام الشرعية. وكذا القول في النهي؛ فإنّه يقتضي بعرف الشرع - مع الإطلاق . الإطلاق - فساد المنهي عنه، وفقد إجزائه.(5)

ثمّ قال:

وإنّما قلنا: إنّ مطلق الأمر في وضع اللغة لا يحمل على وجوب ولا ندب إلا

ص: 96


1- البقرة (2): 43.
2- المائدة (5): 2
3- غنية النزوع 2: 273 - 274
4- المصدر نفسه: 275.
5- المصدر نفسه: 277.

بدليل، لأنه إذا ثبت أنّ الأمر إنما كان أمراً لإرادة المأمور به، فإرادة الحكيم له تدلّ على أنّ له صفةً زائدةً على حسنه، وأنه ممّا يستحق به المدح والثواب، وهذا يشترك فيه الواجب والندب معاً، فلا يمكن - والحال هذه - القطع على أحدهما إلّا بدليل.

وأيضاً فقد استعملت لفظة الأمر في الإيجاب والندب، وظاهر الاستعمال دليل الحقيقة على ما بيّناه.

و تعلّق من ذهب إلى أنّ مطلقه يقتضي الوجوب، بذم العقلاء العبد على مخالفة أمر مولاه، ولولا أنّ مطلقه يقتضي الإيجاب لما استحسنوا ذمّه، باطل؛ لأنا لا نسلّم أن كلّ عبد يستحق الذم على مخالفة أمر مولاه - إلى أن قال: - و تعلقهم بأنّ الأمر إذا احتمل الإيجاب والندب وجب حمله على الإيجاب؛ لأنه أعمّ فائدةً وأحوط في الدين، ظاهر الفساد؛ لأنه لا فرق بينهم وبين من عكس ذلك فقال: إذا احتمل الأمرين وجب حمله على الندب، وهو اليقين لأنه الأقل.(1)

وفصل الكلام في إبطاله وإبطال سائر الحجج القائل باقتضاء الوجوب، إلى أن قال:

وتعلّقُ من ذهب إلى أنّ مطلق الأمر يقتضي الندب، بأنّ ذلك هو المتيقن الذي لا بد أن يريده الحكيم من حيث كان أقل فائدةً؛ لأنّ الوجوب موقوف على العلم بكراهة الترك، باطل؛ لأنا نقول لهم : من أين علمتم بأنه لم يكره ترك المأمور به، حتى قطعتم على الندب الذي هو أقل فائدةً؟(2)انتهى ما أردناه.

فإنّ استدلاله على عدم حمل مطلقه على وجوب ولا ندب بما ذكره من أنّ «الأمر إنما كان أمراً لإرادة المأمور به، وهذا يشترك فيه الواجب والندب معاً»صريح في أنّ النزاع ليس في وضع الصيغة ولا مادّة الأمر ولا في اعتبار أحدهما في حقيقته، بل في الاقتضاء الإطلاقي بعد التسالم على عدم تقومه إلّا بإرادة الفعل.

ص: 97


1- غنية النزوع 2: 277 - 278
2- المصدر نفسه: 280

كما أنّ الاشتراك في كلامه صريح في اشتراك الجامع بين النوعين لا الاشتراك اللفظي. فتبين بهذا البيان أنّ المراد من قوله: «في وضع اللغة» ما تقتضيه اللغة - ولو من جهة التبادر الإطلاقي، كما ادعاه القائلون باقتضاء الوجوب - لا الوضع المصطلح.

كما تبيّن أنّ إضافة قوله: «وأيضاً فقد استعملت لفظة الأمر...»إنما هو تحقيق لعموم الأمر للأمرين؛ دفعاً لتوهّم من يتوهم اختصاصه بأحدهما. فالمراد منه الاستعمال في مورد الإيجاب والندب لا الاستعمال فى كلّ من المعنيين بخصوصه. فالغرض منه إثبات الاشتراك المعنوي المصرّح به في الحجّة الأولى، لا الاشتراك اللفظي كما توهّمه الأكثر(1)وإلّا لنافى حجّته الأولى.

وكذا احتجاج القائلين باقتضاء الوجوب بأنه أعم فائدةً وأحوط في الدين، وباقتضاء الندب بالأصل ووجوب الاقتصار على القدر المتيقن وعدم اعتراض صاحب الغنية عليهما بعدم ارتباطها بالمدعى صريح فيما بيناه.

فظهر أن سائر الحجج كالتبادر وآيات الركوع(2) والسجود(3) والحذر(4) إنما ترجع إلى ما بيّناه ، وأنّ المراد استفادة الوجوب من إطلاق الأمر لا من الوضع.

كما ظهر أنّ القول بالاشتراك والوقف يرجعان إلى أمر واحد وهو عدم اقتضاء الوجوب أحدهما

والندب؛ فإنّ مرجعهما إلى عموم الأمر لهما في حدّ نفسه وعدم ما يوجب ترجيح على الآخر من التبادر الإطلاقي أو الأصل أو القرائن العامة.

فجعل الاشتراك قولاً، بل قولين بجعله قسمين: لفظياً ومعنوياً وإسناد كلّ منهما إلى قائل، والوقف قولاً آخر، وتفسيره بالجهل بحال الموضوع له(5)، في غاية الغرابة؛ لأنّ إظهار

ص: 98


1- كما في معالم الدين: 117 - 118؛ ومفاتيح الأصول: 110.
2- المرسلات (77): 48.
3- الأعراف (7): 12.
4- النور (24):
5- كما في شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 79 - 80 : وهداية المسترشدين: 141.

الجهل ليس قولاً والاشتراك اللفظي أجنبي عن المقام؛ لأنّ البحث إنّما هو عن الأمر الذي هو قسم من أقسام الحكم، وهو من قبيل المدلول لا الدال فلا يتطرّق فيه الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي مسلّم عند الكلّ، وإنّما الكلام في اقتضائه الوجوب أو الندب بحسب الإطلاق أو الأصل أو القرائن العامة. فاتضح غاية الاتضاح أنّ موضع النزاع والبحث إنّما هو الأمر الذي هو قسم من الحكم التكليفي المقابل للنهي والإباحة المدلول لصيغة «افعل» أو ما بمنزلتها أو الجملة الخبرية المستعملة في موضوع الإنشاء، وأنّ النزاع إنما هو في الاقتضاء الإطلاقي أو ما في حكمه لا في الاقتضاء الوضعي.

والمتأخرون لمّا رأوا أنّ للقدماء بحثين: بحثاً في الأمر من جهة أنه يقتضي الوجوب أو الندب، وبحثاً في الصيغة من جهة اختصاصه بالأمر وعدمه، وزعموا أنّ البحث فيهما بحث عن مفادهما وضعاً، ولم يتنبهوا لما بيناه مع وضوحه وتصريح حججهم وكلماتهم به غيّروا ترتيب القوم؛ لعدم ملائمته على زعمهم، فقدّموا البحث عن الأمر على البحث عن الصيغة، وأسقطوا القول باقتضائه الندب لما رأوا أنّ القول به بعيد عن ساحة أهل العلم، بل من له أدنى دربة بالعربية، وجعلوا المسألة ذات قولين: قولاً باقتضاء الوجوب، وقولاً بعدمه، ووسعوا البحث عن الصيغة، وجعلوه ذات أقوال كثيرة: قولاً بالوضع للوجوب فقط، وقولاً بالوضع للندب فقط، وقولاً بالاشتراك اللفظي بينهما، وقولاً بالاشتراك المعنوي، وقولاً بالاشتراك بينهما وبين الإباحة لفظياً أو معنوياً، إلى غير ذلك من الأقوال، وساقوا أكثر الحجج المذكورة في مبحث الأمر إلى هذا المبحث؛ غفلةً وخلطاً، ولم يتفطنوا أنّ اختصاص الصيغة بالندب كاختصاص الأمر به لا ينبغي صدوره ممن له أدنى شعور.

وقد تنبه بعض الأفاضل من المعاصرين وقوع الخلط في كلمات المتأخرين، ولكنّه لم يحط به تمام الإحاطة فاختلط عليه الأمر، كما اختلط عليهم، فزعم أنّ النزاع في وضع الصيغة لم يقع بين المتقدمين المحصلين أصلاً، وقال ما محصله:

أنّ لهم فى الأمر المقابل للسؤال مباحث أربعة: الأوّل في تفسير لفظ الأمر لغةً

ص: 99

و تعداد معانيه، والثاني في تحديد هذا المفهوم المقابل للسؤال وتعريفه، والثالث في اعتبار الوجوب في مفهومه وعدمه، وأرجع القول باقتضاء الندب إلى عدم اعتبار الوجوب في مفهومه، والرابع في أنّه هل له صيغة تخصه - ثمّ قال: - وعدم الاختصاص كان واضحاً عند جميع المحصلين من القدماء، ولذا لم يتعرّض له الأكثر وإنّما ذكره بعض الأشاعرة(1).

فإنّ في كلامه مواضع من الخلط والنظر:

الأوّل: في موضوع البحث. وهو خلط غريب؛ ضرورة أنّ المبحوث عنه هو الأمر المقابل للنهي والإباحة لا المقابل للسؤال. والتحديد لا يكون إلا للأوّل(2)؛ فإنّ المقابل للسؤال كالسؤال يعمّ طلب الفعل والترك معاً وإنّما يفترقان في رتبة الطالب علوّاً ودنواً لا في المطلوب فعلاً وتركاً والافتراق في المطلوب إنما هو بين الأمر والنهي.

والثاني: أنّ مباحث الأمر لا تنحصر في أربعة؛ إذ جميع ما ذكروه في المقام من مباحثه، كما هو ظاهر.

والثالث: أنّ إرجاع القول باقتضاء الندب إلى عدم اعتبار الوجوب في مفهوم الأمر، في غير محله؛ لما عرفت وستعرف.

والرابع: أنّ النزاع في اقتضاء الوجوب أو الندب أو عدمه إنما هو في الأمر المقابل للنهي من جهة الإطلاق أو الأصل لا في الأمر المقابل للسؤال من حيث الاعتبار في مفهومه وعدمه.

والخامس: إنكار وقوع النزاع في الصيغة أصلاً حتّى من جهة الاختصاص بالأمر وعدمه، وما ذكره من أنّ هذا إنّما ذكره بعض الأشاعرة، في غير محله؛ فإنّ عنوان البحث عند القدماء ليس إلا هذا وإنّما غيّر بعضهم العنوان بزعم قصور الترجمة إلى صيغة «أفعل» وما بمنزلتها، وتبعهم أكثر المتأخرين.

ص: 100


1- لم نعثر عليه. وقد مرّت الإشارة إليه في الصفحة 78.
2- كما مرّ في ص 78.

نعم، الاختلاف في كون الصيغة حقيقة في الوجوب أو الندب، لا أصل له، وإنّما حدث بين المتأخرين غفلةً وخلطاً، كما عرفت(1). وقد فصلنا الكلام في أطراف المقام وأوضحناه غاية الإيضاح في بعض تحريراتنا.

وإذ قد اتضح لك ما حققناه فاعلم أنّ التحقيق أنّ مطلق الأمر يقتضي الحمل على الندب؛ لأنّ الوجوب أمر زائد والأصل عدمه وتوهّم أنّ الوجوب والندب نوعان متقابلان وأن فصل الوجوب المنع من الترك وفصل الندب الإذن فيه فلا يزيد أحدهما على الآخر، غفلة واضحة؛ لأنهما كناية عن شدة الطلب وضعفه فهما لازمان لهما لا داخلان في حقيقتهما؛ ضرورة أنّ الفصل لا بد أن يكون من الخصوصيات المتحدة مع الجنس في الخارج حتى يتحصل منهما النوع، والمنع والإذن متعلّقان بالترك فلا يعقل صيرورتهما فصلين للطلب المتعلّق بالفعل. مع أنهما لو كانا فصلين للوجوب والندب لزم أن يكون الواجب والمندوب الفعل والترك معاً، وفساده أظهر من أن يبيّن.

فاتضح غاية الاتضاح أنهما خارجان عن حقيقة الحكمين حتى تحليلاً. مع أنهما لو كانا فصلين لكانا جزئين تحليلاً فنفي جزئيتهما خارجاً، وإثباتها تحليلاً عين القول بكونهما فصلين.

وبهذا البيان تبيّن لك فساد ما ذهب إليه علم الهدى وابن زهرة - قدس سرهما - من عدم اقتضائه الوجوب والندب لغةً استناداً إلى عموم الأمر لهما المقتضي للوقف(2)؛ لأنّ العموم والاشتراك إنّما يقتضي الوقف وعدم الأخذ بأحد الطرفين إذا كانا متقابلين، وأما إذا كانا مترتبين - كما في المقام - فالمتعيّن الأخذ بالمرتبة الأولى استناداً إلى الأصل كما بيناه.

وأمّا احتجاجهما على اقتضائه الوجوب شرعاً بحمل الصحابة الأوامر المطلقة عليه من غير نكير(3)- كاحتجاج القائلين باقتضائه الوجوب مطلقاً باستحقاق العبد الذمّ

ص: 101


1- في الصفحة 87 - 88 .
2- الذريعة 1: 51 - 52 ؛ غنية النزوع 2: 277 - 278
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 53؛ غنية النزوع 2: 277.

والعقاب عند العقلاء إذا خالف أمر المولى مطلقاً(1)- ففي غير محله؛ لأن الحمل على الوجوب واستحقاق العقاب شرعاً وعرفاً إنما يسلّم إذا فهم منه الوجوب بالقرائن.

وقد يستدلّ على اقتضائه الوجوب بأنه طلب خالص ، والندب طلب مشوب بالإذن في الترك، فينصرف الأمر عنه عند الإطلاق إلى الطلب الخالص(2). وفيه أنّ الندب ليس مشوباً بأمر آخر وإنّما هو طلب ضعيف ومجرّد الضعف لا يوجب الانصراف عنه إلى الفرد الشديد، وإنما يوجب الانصراف إذا كان ضعيفاً في الغاية بحيث يوجب سلب اسم الجامع عنه، والندب بالنسبة إلى الأمر ليس كذلك.

و[الأصل] الثالث

إذا ورد ما ظاهره أمر - سواء كان بصيغة «افعل» أم لا - عقيب الحظر أو توهمه وسيق لرفعه فهو يفيد الإباحة بالمعنى الأعم، أي: رفع المنع في حد نفسه. ولا يدلّ على ما عداها إلّا بالقرينة واستفادة حكم الوجوب في مثل قوله - تعالى -: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾(3)والإباحة الخاصة في نحو قوله - تعالى -: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾(4)إنما هي بالقرينة، وهي تعليق الأمر بزوال علة عروض النهي؛ فإنّ المستفاد منه عود الحكم السابق وجوباً أو ندباً أو إباحة. بل التحقيق أن الحكم السابق لا يرتفع أصلاً بالنهي العارض في أمثال الموارد؛ فإنّ مدلوله إنّما هو المنع عن تأثير الحكم السابق لا زواله رأساً ، فهو ثابت تحققاً حال النهي، فلم يزل حتى يعود بعد زوال النهي.

فإن قلت: لا مجال لما ذكرت؛ لأنّ الأحكام الخمسة متضادّة لا يمكن اجتماع حکمین منها في موضوع واحد.

قلت: الحكم السابق عارض على ماهيّة الفعل واللاحق على إيجاده فيختلف

ص: 102


1- معالم الدين: 119.
2- كما في تقريرات الشيرازي 2: 29 - 31.
3- التوبة (9): 5 .
4- المائدة (5): 2 .

الموضوعان وإن اتّحد خارجاً، فلا مانع من اجتماعهما في آن واحد. نعم، مقتضى الحكم الأولى من مطلوبيّة الفعل أو الترك أو تساوي الطرفين، يرتفع بالحكم الثانوي المنافي له.

وقيل:

هو كالأمر المبتداء فإن اقتضى وجوباً أو ندباً أو وقفاً فكذلك استناداً إلى وجود المقتضي وفقد المانع.(1)

وفيه أن السوق لرفع الحظر مانع عن الانصراف إلى الوجوب والحمل على الندب.

و[الأصل] الرابع

اختلفوا في أنّ الأمر المطلق يقتضي المرّة أو التكرار أو لا يقتضي شيئاً منهما؟

والحق أنه لا يقتضي شيئاً منهما ولكن يتحقق الامتثال بإتيان المأمور به مرّةً واحدةً، فلا يجب الإتيان به ثانياً وإن جاز تكراره؛ لأنّ تحقق الامتثال إنما يوجب فراغ ذمّة المأمور عن المأمور به وزوال تعلّق الأمر عن رقبته لا زوال حكم الواقعة، فلا مانع من الامتثال ثانياً مع عدم المانع ومن هنا يجوز إعادة الصلاة الفريضة جماعة؛ فإنّها فريضة معادة لا صلاة مندوبة، وإنّما المندوب إعادتها كذلك.

والحاصل أن صدق الامتثال لا يدور مدار تعلّق الحكم وإنما يدور مدار تحقق الحكم للواقعة واجتماع شرائط الامتثال. ولذا نقول بصحة عبادات الصبي المميز وأنها تشريعية لا تمرينيّة فقط، فما لم يظهر من قبل الشارع منع من تكرار الامتثال يصح التكرار ؛ لعدم المانع منه عقلاً ولا شرعاً حينئذ.

فظهر بما بيّناه أنّ القائل باقتضاء مطلق الأمر المرّة(2)، إن أراد أن المرة كافية في الامتثال فهو حق، وإن أراد أنّ الامتثال مقيد بها بحيث لا يجوز التكرار فهو باطل؛ لأنّ مطلق الأمر لا يقتضي التقييد بشيء منهما، كما هو ظاهر.

ص: 103


1- لاحظ : نهاية الوصول 1: 432.
2- كالشيخ في العدة 1: 200.

ثمّ إنّ ما بيّناه من تطرّق التكرار في الامتثال إنّما هو فيما إذا لم يرتفع الموضوع به، وأمّا إذا كان كذلك كالدين والكفّارة المرتفعين بالأداء والإتيان - فلا مجال فيه للتكرار في الامتثال حينئذ. ولا يقدح في ما بيّناه؛ لأنّ الكلام إنما هو فيما يقبل التكرار.

هذا، وقد اشتبه الأمر على المتأخرين فتوهّموا أنّ النزاع في أنّ صيغة «افعل» هل تدلّ على المدّة أو التكرار وضعاً ؟(1)فخلطوا الأمر المبحوث عنه بصيغة «افعل» والاقتضاء الإطلاقي، بالوضعي، مع أنّ عدم دلالة الصيغة على أحد الأمرين في غاية الوضوح. وكذا المادّة؛ فإنّ المادة السازجة إنّما تدلّ على الحدث الصرف بشهادة الاطراد، مع أنهما من صفات الإيجاد لا الحدث، فلا يعقل أخذهما في مفهوم المادّة التي لا نظر لها إلى الإيجاد أصلاً.

و[الأصل] الخامس

والخامس أنّ الأمر المطلق لا يقتضي الفور، أي: لا يتعيّن امتثاله فيه، كما هو ظاهر. والاستدلال على اقتضائه إياه بآيتي المسارعة(2)والاستباق(3)بتقريب أن المراد من المغفرة سببها، وهى فعل المأمور به، وأنّ صيغة الأمر للوجوب، فتجب المسارعة والاستباق إلى فعل المأمور به فلا يجوز التراخي(4)، في غير محله من وجوه:

الأوّل: أنّ المسارعة إلى المغفرة واستباق الخيرات محبوبان ذاتاً ومطلوبان عقلاً، والبعث عليهما كما يحتمل أن يكون في مقام الأمر المولوي يحتمل أن يكون في مقام الإرشاد إلى ما فيهما من المصلحة الذاتية، بل الظاهر أنه كذلك وتحريص للعبد على اغتنام الفرصة والسعي في فكاك رقبته والفوز بمراتب القرب بالمسارعة والاستباق.

والثاني: أنه لو سلّم أنّ البعث عليهما يفيد الأمر المولوي فلا يفيد الوجوب؛ لأنّ

ص: 104


1- قد صرّح في الفصول الغروية: 71: «والظاهر أنّ نزاعهم في الدلالة الوضعيّة».
2- وهو قوله - تعالى -: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ . آل عمران (3) 133.
3- وهو قوله - تعالى -: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتَ﴾ . الأعراف (7): 12 .
4- حكاه هكذا في معالم الدین: 154 - 155. واستدل به ابن حزم في الإحكام 3: 45

الخيرات وسبب المغفرة تعمّان الواجب والمندوب وتخصيصها بالواجب لا يكون أولى من حمل الأمر على الندب، بل بقائهما على العموم أظهر؛ إذ الظاهر أنهما عنوانان للحكم لا معرّفان للموضوع، ومن المعلوم أنّ ظهور العنوان في العموم وحمل الأمر على الندب أقوى من ظهور الأمر في الإيجاب مع الالتزام بتخصيص الموضوع بأحد نوعيه.

والثالث: أنه لو سلّم التخصيص بالواجب وانصراف الأمر إلى الإيجاب فلا تدلان على إفادة مطلق الأمر الفور، وتعيين امتثاله فيه إيجاباً كان أم ندباً، كما هو موضوع البحث.

والرابع: أنه لو سلّم تخصيص موضوع البحث بالأمر الإيجابي فلا تفيدانه أيضاً؛ لأنّ وجوب المسارعة لا يلازم تعيّن امتثاله في الفور.

وقد استدلّ عليه أيضاً بأمور أُخر فسادها غني عن البيان.

وقد اشتبه الأمر على المتأخرين في هذا الباب أيضاً فزعموا أن نزاعهم في مفاد صيغة «افعل» فنسبوا إلى علم الهدى لله هو القول بالاشتراك اللفظي في المبحثين، وإلى جماعة القول بالوقف بمعنى الجهل بالموضوع له(1)، مع أن عنوان البحث في كلام السيد وسائر المتقدمين الأمر المطلق(2)، لا صغية «افعل»، والغرض منه الأمر المحدود في صدر المقصد(3)بطلب الفعل، فلا يكون البحث عن الاقتضاء راجعاً إلى البحث عن حال اللفظ من جهة وضوح الموضوع له.

وإنما بحثهم عن الاقتضاء الإطلاقي وعدمه، والمراد من الاشتراك والوقف عدم الاقتضاء وتساوي الطرفين بالنسبة إلى الأمر وعدم انصرافه إلى أحدهما، فاختلط الأمر على المتأخرين ووقعوا فيما وقعوا ونسبوا القول بدلالة الصيغة على الفور إلى جماعة مع أنّ عدم دلالتها عليه في غاية الوضوح بحيث لا ينبغي صدور خلافه ممن له أدنى معرفة.

ص: 105


1- كما في الفصول الغرويّة : 75.
2- الذريعة 1: 130؛ غنية النزوع 2: 294.
3- الصفحة 78.

تنبیهان

الأوّل: أنّ النزاع في اقتضاء الفور وعدمه بعد ثبوت إطلاق الأمر اقتضاء بحيث يرجع الشك في التقييد وعدمه إلى مرحلة الامتثال .

وأما إذا رجع الشك إلى ثبوت مقتضى الإطلاق وعدمه - كما إذا شككنا في أنّ وجوب ردّ السلام مطلق أم لا محلّ له إلّا عقيب السلام بحيث يتعقبه عرفاً - فالأصل عدم الإطلاق فيجب الاقتصار على القدر المتيقن.

والثاني: أنه إن قلنا بأنّ الأمر يقتضى الفور، وأخلّ المأمور به، فهل عليه الإتيان بالمأمور به في الآن الثاني؟ مقتضى الأصل العدم؛ لأنّ وجوبه فرع شدّة نظر المولى إلى نفس المأمور به الموجبة لعدم سقوطه بسقوط قيده، والأصل عدمها، فيسقط بسقوط قيده إلّا إذا دلّ الدليل على خلافه.

وبما بيناه تبين اندفاع ما يتوهم من أنّ الأصل في القيد أن يكون ضعيفاً، لا شديداً، موجباً لعدم سقوط الأمر بسقوطه؛ لأنّ ضعف النظر إلى القيد مسبّب من شدّة النظر إلى المأمور به.

و[الأصل] السادس

أنّهم قد قسّموا الأمر إلى تعبّدي وتوصلي، وزعموا أنّ التعبد بالعمل فرع للأمر به وأنه لا يحصل عنوان التعبد إلّا به(1). ومن هنا أشكل الأمر عليهم في اعتباره في متعلّق الأمر؛ لاستلزامه الدور المحال الموجب لتقدّم الشيء على نفسه.

والتحقيق أن عنوان التعبدية لا يتوقف على الأمر وليس من فروعه، بل العمل قبل الأمر به قد يكون تعبّديّاً ومتمحّضاً في كونه عبادةً إمّا ذاتاً - كالصلاة والركوع والسجود والقيام قانتا؛ حيث إنّ مفاهيمها الأصلية لا تتحقق إلا بقصد التخضع والتذلّل - أو جعلاً،

ص: 106


1- لاحظ: تقريرات الشيرازي 2: 326؛ بدائع الأفكار: 284؛ كفاية الأصول: 97.

كالصيام وكثير من مناسك الحج؛ فإنّ تحقق مفاهيمها الأصليّة لا يتوقف على قصد التعبّد والتذلّل، وإنما جعلها الشارع عبادات متمحضةً في كونها كذلك.

وبعد كونه عبادة - إما ذاتاً أو جعلاً - قد يتعلّق به الأمر وقد يتعلّق به النهي. ألا ترى أنّ المسافر الذي يجب عليه التقصير يحرم عليه صوم شهر رمضان الذي هو عبادة لا مجرّد الإمساك، والحائض منهيّة عن الصلاة والصوم لا عن إيقاع صورة الصلاة والصوم. ولو كانت عنوان العباديّة متوقفة على الأمر لم يعقل اجتماعها مع النهي.

فاتضح غاية الاتضاح أنّ التعبدية جهة سابقة على الأمر معتبرة في الموضوع، والأمر لاحق عليها، فاندفع الدور المتوهّم.

وما يقال من:

أنّ التعبد إن كان بمعنى إتيان الفعل لله - تعالى - فاعتباره في الموضوع قبل تعلّق الأمر ممكن، ولكنّ التعبد بهذا المعنى غير معتبر في العبادات؛ لكفاية قصد الامتثال وإتيان الفعل بداعي الأمر في صحتها. وإن كان بمعنى قصد الامتثال فهو لا يتحقق إلا بالأمر؛ ضرورة أنّ عنوان الامتثال متفرّع عليه ومن لواحقه، فالتعبّد المعتبر في العبادات لا يتحقق إلا بالأمر.(1)

في غير محله؛ لأنّ كفاية قصد الامتثال في صحة العبادات لا تكون من جهة أن التعبد على قسمين والمعتبر منهما إنّما هو اللاحق على الأمر، بل من جهة أن عنوان التعبد له - تعالى - كما يحصل بإتيان الفعل لوجهه - تعالى - كذلك يحصل بقصد امتثال أمره - تعالى - والإتيان بداعيه.

وإذ قد اتضح لك ما بيّناه فقد اتضح لك أنّ الأصل عند الشك في كون متعلّق الأمر عبادة بجعل الشارع أم لا، عدم كونه عبادةً؛ لأنّ صفة التعبد أمر زائد مسبوق بالعدم فالأصل عدمه إلى أن يدلّ الدليل على خلافه.

ص: 107


1- لاحظ: كفاية الأصول: 97.

هذا، إذا كان الأمر مستفاداً من اللفظ. وأما إذا ثبت بدليل لبّي وشككنا في متعلقه فالوظيفة حينئذٍ هو الاحتياط؛ للعلم بالاشتغال وتردّد المأمور به في كونه العمل أو التعبد به، فيقع الشكّ في الفراغ، فلا بدّ عن الاحتياط. وليس التعبد شرطاً حتى يقال: إنّ المأمور به هو العمل على كل حال وإنّما الشك في اشتراطه بالتعبد وعدمه؛ إذ المأمور به في التعبدي حقيقةً إنّما هو التعبد بالعمل الخاص فالتردّد إنّما هو فى المأمور به حينئذ فلا مناص عن الاحتياط.

فإن قلت: كما يثبت صفة التعبّد للعمل بالجعل قبل تعلّق الأمر به يجوز أن يثبت له من قبل الأمر؛ فإنّ الأمر باعتبار غرض الأمر ينقسم إلى قسمين: فإن كان المطلوب منه التعبد بالعمل والإتيان به على وجه التخضّع يصير العمل به تعبّدياً ولا يتحقق الامتثال حينئذ إلّا بالإتيان بالمأمور به متقرباً ، وإن كان المطلوب منه وجود المأمور به في الخارج، كيف اتفق، فهو توصلي يتحقق الامتثال بإيجاده مطلقاً.

فهما متقابلان لا يزيد أحدهما على الآخر؛ لأنّ النظر الأصيل في أحدهما إلى المأمور وتعبّده بالعمل ويكون العمل منظوراً تبعاً، وفي الآخر إلى نفس وجود العمل في الخارج ويكون المأمور منظوراً تبعاً. فهما متعاكسان، ولا يكون أحدهما مطابقاً للأصل والآخر مخالفاً له.

فإذا ورد أمر بدليل لفظي أو لبّي وشكّ في أنّه تعبّدي أو توصلي فلا بدّ من الاحتياط بالإتيان به متقرّباً؛ للعلم بالاشتغال وعدم اليقين بالفراغ إلا بالإتيان به كذلك، ولا مجال للتمسك بإطلاق المأمور به في نفيه؛ لأنّ التعبّد حينئذٍ إنّما يجيء من قبل الحكم ولا يكون قيداً في المأمور به، فهو في الصورتين مطلق الفعل وإنّما يختلفان في مرحلة الامتثال من ناحية اختلاف الحكم.

قلت: نعم، لا مانع لما ذكرت إلّا أنّ النظر الأصيل إلى التعبد بالمبعوث عليه في القضيّة اللفظية يحتاج إلى قيد زائد مثل قولك: «الله»، وأما النظر إلى نفس المبعوث عليه فلا يحتاج إلى قيد زائد.

فإذا ورد الأمر مطلقاً في القضيّة اللفظية ينصرف إلى التوصلي؛ لعدم احتياجه إلى قيد

ص: 108

زائد، مع أنّ العبادية الحاصلة من قبل الأمر دائرة مداره وجوداً وعدماً، وليس في العبادات ما يدور عباديتها مدار الأمر. نعم، العبادة بالمعنى الأعم - أي: ما يصح التعبد به ويثاب عليه - دائرة مدار مطلق الأمر ولو كان توصليّاً.

و[الأصل] السابع

اختلفوا في أنّ الأمر بالشيء مطلقاً أمر بما لا يتم إلا به أم لا؟ على أقوال:

ثالثها: التفصيل بين السبب والشرط فأثبت في الأول ونفى في الثاني(1).

رابعها: الحكم بالثبوت في الشرط الشرعي دون غيره(2).

والتحقيق العدم مطلقاً؛ لأنّ الأمر المتوهّم عند من أثبته إنّما هو لأجل عنوان المقدّمية وتوقف المأمور به عليه، والتوقف والمقدّميّة إنّما هو في مرحلة الامتثال والإيجاد؛ بداهة أنّ نفس المأمور به - وهي الطبيعة - لا توقف لها في حد نفسها على وجود المقدمة، والامتثال ليس مورداً للأمر الشرعي المولوي حتى يسري منه إلى وجود المقدّمة تبعاً؛ لأنه واجب بالذات عقلاً ولا يعقل إيجابه شرعاً وإلا لزم التسلسل في الأمر والامتثال.

ومرجع الإيجاب العقلي إلى إدراكه أنه من وظائف العبودية بحيث يستحق العقاب على تركه لا إلى تكليف من قبل العقل؛ لأنّ ثبوت التكليف فرع الولاية وإعمالها، ولا ولاية للعقل على العقلاء حتى ينفذ أمره ونهيه.

فإن قلت: الامتثال مطلوب للمولى قطعاً؛ إذ الأمر مقدّمة للامتثال فيسري منه الطلب إلى وجود المقدّمة.

قلت: نعم، ولكن هذا الطلب ليس من سنخ الأمر والحكم التكليفي حتى يسري إلى المقدّمة تبعاً، وإنّما هو عبارة عن غرض الأمر، فالامتثال غاية للأمر لا موضوع ومتعلّق له. ومن المعلوم أن الطلب الغائي لا يتعدّي عن الامتثال إلى مقدماته.

ص: 109


1- قاله السيّد المرتضى في الذريعة 1: 83 .
2- قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول (مختصر ابن الحاجب): 36؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 244 :1 .

نعم، إذا اتصفت المقدّمة بعنوان الامتثال تبعاً، كما إذا أتى بها بداعي التوصل إلى ذيها وأوصلها به تصير مطلوبة حينئذ تبعاً بتبع تحقق موضوعه؛ ضرورة أنّ الإتيان بها كذلك شروع في الامتثال فتتصف به مراعى وتستقر فيه بالإيصال إلى ذيها فتصير مطلوبة حينئذٍ تبعاً.

فقد اتضح لك بما بيّناه أنه لا مجال للقول بأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به مطلقاً، سبباً كان أم شرطاً شرعياً أو عقلياً.

كما اتضح وجه ما حكم به بعضهم من وجوب المقدّمة الموصلة دون غيرها(1)، ووجوب ما أتى بها بداعي التوصل إلى ذيها دون غيره(2).

وفساد التفصيلين: لما ظهر لك أوّلاً من أنّ التفصيل إنّما هو في الاتصاف بعنوان الامتثال تبعاً وعدمه، لا في حكمه، فالطلب لم يتعد عن موضوعه وهو الامتثال أبداً.

وثانياً أنّ الساري على فرض تسلّمه إنّما هو الطلب الغائي لا الحكم التكليفي.

وبما بيّناه تبين أيضاً أنّ تقسيم الأمر إلى الأصلي والتبعي باطل. مع أنّ التبعية في النظر على وجه لا يوجب استحقاق العقاب على مخالفته كما صرحوا به(3) - ينافي مع ثبوت الأمر المولوي، كما هو ظاهر والبعث عليها من المولى إرشاد إلى أنها مما لا بدّ منه الامتثال لا أمر تكليفى حتى يكون أصلياً أو تبعيّاً.

لا يقال : الماهيّة مع قطع النظر عن الفعل والترك لا يعقل أن يتعلّق به حكم؛ لأنها - من حيث هي - أعم من الفعل والترك، ومن المعلوم أنّ ما هو أعم منهما لا يعقل أن يكون له حكم عقلي من حسن أو قبح، ولا شرعي من أمر أو نهي. ولذا اشتهر أن الماهية من حيث الكلية هي ليست إلا هي، فالأمر إنّما يتعلّق بها باعتبار الفعل، كما أنّ النهي إنّما يتعلّق بها باعتبار الترك. فالمأمور به في الحقيقة هو الفعل، فالتوقف ثابت بين نفس المأمور به والمقدمة، ولا يختص بمرحلة الامتثال. واختلاف المأمور به مع الامتثال إنما هو في

ص: 110


1- الفصول الغرويّة: 81 و 86 .
2- مطارح الأنظار: 72 .
3- لاحظ: كفاية الأصول: 138؛ أجود التقريرات 1: 311.

والجزئيّة بالنسبة إلى الفعل. ففعل الصلاة - مع قطع النظر عن انطباقه على فرد معين - مأمور به، والفعل الخاص المنطبق على فرد معين امتثال له.

لانا نقول: الماهية - من حيث هي - أعم من الفعل والترك مورداً لا صدقاً، بمعنى أنها في حد نفسها خالية عن الفعل والترك، وقابلة لهما، ولا يكون أحدهما مأخوذاً فيها، لا أنّها صادقة عليهما؛ ضرورة أنّ الصلاة - مثلاً - لا تصدق على تركها فهي لا تصدق أبداً إلا على الفعل.

كيف!؟ والماهية حدّ للوجود مخرجة له عن الإبهام، فهي - من حيث هي - حسنة أو قبيحة أو سازجة ومورد للأمر والنهي والإباحة. والفعل إنما يتصف بإحدى الصفات باعتبارها ولا حكم له مع قطع النظر عنها.

وما اشتهر من أنّ الماهية - من حيث هي - ليست إلا هي، إنما يرجع إلى ما بيناه، وقد اشتبه الأمر على أكثر مقاربي عصرنا، وزعموا أن عدم قبول الماهية - من حيث هي - لحكم من الأحكام بديهي، وأنّ القضيّة المشهورة تنبيه عليه، وفرعوا عليه مسائل عديدة في أصول الفقه(1).

تنبيهات

الأوّل: أنّ محلّ النزاع ما يتوقف عليه الامتثال لا ما يتوقف عليه الأمر تعلّقاً أو تنجزاً؛ ضرورة أنّه لا يجب على المكلّف تحصيل شرائط التعلّق أو التنجز، بل لا استدامة ما ثبت له. ولذا يجوز للحاضر أن يسافر ويفطر صومه، وتقييدهم الأمر بالمطلق إنّما هو لذلك؛ فإنّ الأمر بالنسبة إلى شرائط تعلّقه أو تنجزه مشروط لا مطلق.

الثاني: أنّه يصح الإتيان بالمقدّمة التعبّديّة، كالوضوء والغسل بداعي التوصل إلى ذيها قبل دخول وقته وبعده؛ لما ظهر لك(2)من أنّ المقدّمة لا تعرضه الأمر المولوي التبعي

ص: 111


1- لاحظ: الفصول الغروية: 125؛ تقريرات الشيرازي 3: 30 كفاية الأصول: 101
2- في الصفحة 109 - 110.

أصلاً. فلا مجال للتفكيك بينهما بزعم ثبوت الأمر التبعي بعده لا قبله، فمرجع الإتيان بهما لأجل الصلاة إلى أنّ الداعي عليه توقف صحة الصلاة: على أحدهما لا إلى إيجادهما لأجل الأمر المولوي التبعي.

فإن قلت: الإتيان بهما على وجه التعبد فرع الأمر بهما، وهو فرع الأمر بالغاية المشروطة بأحدهما، فما لم يدخل وقت الصلاة لا أمر بهما حتى يصح التعبد بهما.

قلت أوّلاً: أنّ التعبد لا يدور مدار الأمر، كما عرفت(1).

وثانياً: أنه لو سلّم ذلك فهو دائر مدار الأمر النفسي؛ لانحصار الأمر المولوي فيه وفساد ما يتخيّل من الأمر التبعي، ولعدم جواز استناد اعتبار التعبد في العمل إلى الأمر التبعي على فرض تسلّمه لأنه توصلي أبداً.

ولا يجوز أن يقال: إنّ الأمر بالمقدّمة تابع لأمر ذيها في التعبدية والتوصليّة. وإلّا لزم مقدّمات الصلاة تعبّديّة، فتعبّديّتهما بالخصوص إنّما هى من قبل الأمر أن يكون جميع النفسي الندبي الثابت لهما مطلقاً.

ولا ينافي التعبد بهما من قبل الأمر النفسي كون الداعي على إيجادهما خصوص الصلاة أو إحدى الغايات الأخر من جهة اشتراطها بالطهارة الحاصلة من أحدهما صحةً أو كمالاً، كما هو ظاهر. بل لو سلّم الأمر التبعي لا يعقل أن يتعبد بهما من قبله؛ لأنّ المقدمة إنّما هي الطهارة عن الطهارة عن الحدث المنتزعة من العمل التعبدي.

فالأمر المقدمي التبعي على فرض ثبوته إنّما يتعلق بالعمل التعبدي الذي هو سبب للطهارة ومقدمة لها لا بمطلق الغسل والمسح الذي لا يكون سبباً لها. فالتعبد مأخوذ في موضوع هذا الأمر التبعي الثابت بزعمهم. فلا يعقل أن يجتزي عنه بإيجادهما على وجه التعبد من قبل الأمر التبعي، وإلا لزم الدور المحال.

وبما بيناه تبيّن أنّ ما ذكره بعضهم من بطلان الوضوء التجديدي بعد ما ظهر كونه

ص: 112


1- في الصفحة 106 - 107.

محدثاً إذا كان النظر إلى التجديد على وجه التقييد ، باطل؛ لأنّ الغايات المنظورة مترتبة على الطهارة المترتبة على التعبّد المتقوّم به الوضوء والغسل فلا مجال لاحتمال تقييد التعبد بها وانتفائه بانتفاء الغاية المنظورة. مع أنّ تخلّف المنظور إنما يقدح إذا كان منوّعاً للعمل كالأمر الظهري والعصري. وأما إذا لم يكن منوّعاً كما في المقام - فلا وجه لبطلان العمل أصلاً؛ ضرورة أن مجرد تخلّف الداعي لا يوجب بطلان العمل.

الثالث: أنّ الأمر المشروط ما يتوقف تعلّقه أو تنجزه على وجود الشرط، كما بيّناه .. وقد نسب إلى شيخنا العلّامة الأنصاري أن القيود والشروط لا ترجع إلا إلى المطلوب والمأمور به، فقال: إنّ الشرط في قولك: «أكرم زيداً إن جائك ونحوه، وإن كان من قيود الهيئة

بحسب الظاهر إلا أنه يجب صرفه إلى المادة لوجهين:

لبي : وهو أنّ العاقل يتصوّر أوّلاً الفعل وخصوصيّاته، فإن وافق غرضه مطلقاً يطلبه كذلك، وإلا يقيّده بما يوافق ،غرضه، ثمّ يطلبه كذلك. ولا يعقل أن يطلبه

أولاً على وجه الإطلاق ثمّ يقيّد طلبه بقيد مخصوص

ولفظي: وهو أنّ التقييد فرع تطرّق الإطلاق، ولا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلّق بالفعل المنشأ بالهيئة حتّى يصح تقييده بشرط ونحوه، فالقيود جميعاً من قيود الموضوع وشرائطه في الحقيقة وإن كان من قيود الهيئة بحسب

الظاهر . 3

وفيه أنّ القيود مختلفة: فمنها ما يعتبر في الموضوع، كخصوصيات الفعل. ومنها ما يعتبر في تعلّق الأمر أو تنجزه، كالصفات المعتبرة في المكلّف من البلوغ والعقل والقدرة والعلم وهكذا... ضرورة أن صفات المكلّف إنّما تؤثر في استكماله للطرفيّة تعلّقاً أو تنجزاً لا فى مطلوبية الفعل، فلا معنى لإرجاعها إلى الفعل.

.1 وهو ظاهر العروة الوثقی 1: 347، مسألة ،4 و 426 مسألة .39 لاحظ مستمسك العروة 2: 505 و 506.

2. في الصفحة 111، التنبيه الأوّل.

. لاحظ: مطارح الأنظار 49 كفاية الأصول 122

ص: 113

114

مقالات حول مباحث الألفاظ

ثمّ إنّ الصفات المعتبرة في الموضوع أيضاً قيود للأمر والطلب؛ ضرورة أنّ الفعل - مع قطع النظر عن كونه مطلوباً - ليس مورداً للإطلاق والتقييد. فاتصافه بهما إنّما هو باعتبار وصف المطلوبية واتصافه بهما بهذا الاعتبار عبارة أُخرى عن اتصاف الطلب بهما. وما ذكره من «أنّ العاقل يتصوّر أوّلاً الفعل وخصوصياته» لا ينافي ما بيّناه؛ لأنّ

التقييد بما يوافق غرضه إنّما هو في مرحلة الطلب لا في مرحلة متقدمة، كما هو ظاهر. وأما ما ذكره من «أنّه لا يطلب الفعل أوّلاً على وجه الإطلاق ثمّ يقيده بقيد مخصوص فهو كذلك، ولا ينافي ما بيّناه أيضاً؛ لأنه بعد تصوّر الفعل لا يخلو طلبه من أن يكون مطلقاً أو مقيّداً. فالقيد على كل حال يرجع إلى مدلول الهيئة لا المادة.

وأما ما ذكره من إباء الهيئة عن التقييد لفظاً ، ففيه أوّلاً: أنّ المنشأ ليس حكماً تكليفياً ؛ لما عرفت من أنه ليس من قبيل المنشئات كالعقود والإيقاعات، وإلا لدارت آثار الحكم مدار الإنشاء. مع أنك قد عرفت 2 أن الآثار تدور مدار ما في نفس المولى م-ن ت-ح-ي-ث الوقائع بإحدى الحيثيات الخمسة في نظره.

وثانياً: أنّ المنشأ يقبل الإطلاق والتقييد؛ فإنّ المنشأ في قولك: «أكرم زيداً» طلب مطلق مع عدم لحوق قيد به في الكلام، وطلب مقيّد إنْ أُلحِق به «إن جائك ونحوه. فالمنشأ من أوّل الأمر ليس مستقراً في الإطلاق حتّى ينافيه التقييد، بل مراعى متزلزلاً: فإن لم يلحق به قيد يستقر في الإطلاق، وإلّا فيصير مقيداً من أوّله وقد اشتهر بينهم أنّ للمتكلّم مادام متشاغلاً بكلامه أن يلحق به ما شاء من اللواحق. ولا ينافي ما بيناه كون المنشأ جزئيّاً أبداً لا كليّاً؛ لأنه فرد إما للطلب المطلق أو

المقيّد، فلا يخلو على كل حال من أحد الوصفين.

الرابع: إذا شكّ في شيء أنه شرط للأمر تعلّقاً أو تنجزاً ولم يتبين الحال من الدليل فالأصل الإطلاق لأن التعلق والتنجز لهما موازين واقعية أولية وللشارع التصرف فيهما

1. في الصفحة 52 .

2.

في الصفحة 84.

115

ص: 114

المقصد الأول في الأوامر

بجعل شرط أو مانع. فالشكّ في اعتبار شرط في التعلّق أو التنجز شرعاً يرجع إلى الشكّ في تضييق دائر تهما بتصرّف الشارع وعدمه، والأصل عدمه.

هذا إذا كان الشكّ في التعلّق أو التنجز. وأما إذا كان الشكّ في عموم موضوع الحكم وخصوصه ولم يكن في البين إطلاق، فالأصل الاقتصار على القدر المتيقن وإن علم اعتباره إما في التعلّق أو التنجز ولم يظهر من الدليل اعتباره على وجه التعين فالأصل

الاقتصار على اعتباره في التنجز فقط؛ لأنه معلوم في الجملة والزائد مشكوك فيه. الخامس: أنّ ضرب الوقت لأداء المأمور به على ضربين: فقد يعتبر ف-ي تعلّق الأم--ر كأوقات الصلوات الخمس فيكون الأمر مشروطاً بدخول الوقت حينئذ، وقد يعتبر في صحة

الامتثال كأيام مناسك الحجّ فيكون الأمر مطلقاً متعلّقاً بالمستطيع قبل إدراك الأيام. قيل:

ولذا يجب عليه السير مع الرفقة قبل حلول شهر ذي حجّة الحرام ويستحق

العقاب لو تخلّف عن الرفقة وفات منه الحج، ولا يكون عدم

حلول الشهر عذراً.

تمكنه منه بعد

والتحقيق أنه لا فرق في ذلك بين الأمر المشروط والمطلق، فمن علم بأنه لا يتمكن من الامتثال بعد حلول الوقت إلّا مع الإتيان بمقدّماته قبل حلوله، يتعين عليه الإتيان بها قبل الحلول ولو كان الواجب مشروطاً به فلو لم يأت بالمقدّمات حتى دخل الوقت فهو معاقب على ترك الواجب، ولا يكون عجزه عن الامتثال عذراً؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار وما يرجع بالأخرة إلى الاختيار فهو اختياري.

والحاصل أن المقدّمة لا تتصف بالأمر المولوي أصلاً، فكما لا يكون العجز المستند إلى ترك المقدّمة بعد دخول الوقت عذراً فكذلك العجز المستند إلى تركها قبله. ولذا لو أجنب في الليل مَن وجب عليه صوم شهر رمضان ولم يغتسل قبل طلوع الفجر لا يكون

معذوراً، مع أنه واجب مشروط بإدراك اليوم.

. لاحظ الفصول الغروبة: 79 - 80 : هداية المسترشدين: 218

ص: 115

116

بين

مقالات حول مباحث الألفاظ

السادس: قد ذكر بعضهم أنّ الشرط ينقسم إلى متقدّم ومقارن ومتأخّر ، والنزاع يعمّ

الجميع ، ثمّ استشكل على نفسه بأنّ الشرط يجب أن يقارن المشروط . وأجاب بأنّ الشرط إن كانت شرطاً للتكليف أو الوضع فالشرط إنّما هو تصوّر الوجودات الخارجيّة المقارن للحكم لا الوجودات الخارجيّة المتقدّمة أو المقارنة أو المتأخرة - مستدلاً عليه بأن الحكم من الأفعال الاختيارية، والفعل الاختياري إنّما يتوقف على مبادي علميّة تصوّريّة أو تصديقية، ولا دخل لما سواها فيه؛ للزوم السنخية العلة والمعلول، ولا سنخيّة بين إرادة الشيء في النفس ووجود الدواعي في الخارج، وإنما السنخية بين وجودها العلمي القائم بالنفس والإرادة النفسية - وإن كان شرطاً للمأمور به فالشرط هي الإضافة إليه الموجبة لحسن المأمور به وموافقته للغرض . وفيه أوّلاً: أنّ شرط المأمور به لا يكون شرطاً لذات المأمور به مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به كما هو ظاهر ، فهو إما قيد في كونه مأموراً به - فيكون شرطاً للأمر - أو قيد

الامتثال والاجتزاء به، فيكون شرطاً للصحة التي هي من أحكام الوضع. وثانياً: أن توقف حصول الإرادة في النفس على تصوّر أطراف المراد والتصديق بكون الحكم صلاحاً، مما لا شبهة فيه، ولكن نفي دخالة ما عداهما في الحكم باطل؛ إذ الباعث على جعل الأحكام إنّما هي المصالح الكامنة في المتعلّق أو الخارج، لا تصوّرها؛ ضرورة أن دخل تصوّر الدواعي والتصديق بالصلاح في جعل الحكم إنما هي على وجه

في

الطريقيّة لا الموضوعية.

ألا ترى أنك بعد أن تصوّرت مجيء زيد عندك وصدقت بأنه يوجب الإكرام فأمرت عبدك وقلت: «إذا جائني زيد فأكرمه»، إنّما تجعل مجيئه في الخارج سبباً لوجوب إكرامه

1. كفاية الأُصول: 118.

.2 المصدر نفسه: 120

المصدر نفسه: 118.

.. فوائد الأصول (للآخوند): 51 ؛ كفاية الأصول: 118 - 120.

المقصد الأول في الأوامر

ص: 116

لا تصوّره في الذهن والتصوّر إنما يكون طريقاً لجعل الحكم لا موضوعاً له ولا معتبراً فيه، كما هو ظاهر.

والحاصل أنّ تأثير التصوّر إنما هو في جعل الحكم لا في الحكم المجعول، وقد اختلط عليه الأمر اختلاطاً غريباً، مع أن مقتضى ما ذكره اطراده في كلّ شرط شرعي فيلزم أن يكون تصوّر الطهارة مبيحاً للدخول في الصلاة لا نفسها، وتصوّر الحدث ناقضاً لها لا نفسه، وهكذا في سائر الموارد، وهو خلاف الضرورة، ويلزم منه هدم أساس الفقه، ويلزم أيضاً أن يصح العقد الفضولي قبل لحوق الإجازة به مع فرض العلم بلحوقها به.

لا يقال: التصوّر دخيل في الحكم بالصحة مع وجود المتصوّر في الخارج.

لانا نقول: يلزم حينئذٍ أن يكون الوجود الخارجي أيضاً دخيلاً في الحكم فيعود الإشكال.

فإن قلت: لعلّ غرضه من تأثير التصوّر في الحكم تأثيره في مرحلة الجعل لا في الحكم المجعول، فلا يرد عليه ما أوردت.

قلت: لا مجال لما ذكرت؛ إذ يلزم حينئذ أن لا يكون الجواب جواباً عن الإشكال؛ ضرورة أنّ محلّ الإشكال إنّما هو الإجازة ونحوها مما يكون مؤثراً في الحكم الوضعي أو التكليفي ، وليس في الشرع ما يكون شرطاً شرعياً لجعل الحكم لا له نفسه، حتّى یصیر ما ذكره جواباً عن الإشكال المتطرّق فيه.

هذا، وأما ما ذكره من لوازم السنخيّة بين العلّة والمعلول فمما لا محصل له؛ لأنه إن أريد منها أنه يجب إذا كان المعلول من الكيفيات النفسانية أو من أفعال الجوارح أن تكون العلة كذلك فهو واضح الفساد؛ ضرورة أنّ الفعل الاختياري الصادر من الجوارح معلول عن الإرادة التي هي من الكيفيات النفسانية، فلو وجبت السنخيّة بالمعنى المذكور لزم بطلان العلية بينهما.

ثم أورد على نفسه بأنّ ما ذكر خلاف ظاهر الأدلة الشرعية من أن الموجودات الخارجية شروط للأحكام(1).

ص: 117


1- فوائد الأصول (للآخوند): 60.

فأجاب أولاً بأنّ الأدلّة ظاهرة في أنّ الشرط إنّما هو الموجود، والوجود أعم من الخارجي والذهني، وثانياً أنه لو سلّم ظهورها في الوجود الخارجي يجب صرفها بالدليل العقلي إلى الوجود الذهني(1).

قلت: أولاً أنّ ما ذكر من المقدّمة إنما تنتج أنّ الشرط هو التصوّر الذي هو موجود في الخارج لا المتصوّر بوجوده الذهني الذي هو وجود ظلّي ضعيف لا يترتب عليه أثر. مع أنّ الوجود الذهني فاسد في أصله، كما حققناه في محلّه.

وثانياً : بأنّ الضرورة قاضية بخلاف ما ذكره، فلا يعقل صرف الأدلّة إليه.

وما توهّمه من حكم العقل بلزوم السنخيّة بين العلّة والمعلول بالمعنى الذي ذكره، خلاف الضرورة؛ فإنّ المصالح الواقعية الخارجيّة باعثة على جعل الأحكام. غاية الأمر أنها مقتضية لا علل تامة، ومن شرائط تأثير هذه المقتضيات علم المولى بها مع كونه حكيماً مراعياً للحكمة.

فالتحقيق في الجواب أن يقال: إنّ الشرط فيما توهّم أنه من قبيل الشرط المتقدّم، كالوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة، هو الأمر المنتزع منه، المقارن للمشروط، فالشرط في المثالين هي الطهارة المنتزعة منهما المقارنة للصلاة. وإنّ ما سمّي شرطاً متأخراً كالإجازة بالنسبة إلى العقد الفضولي لا يكون شرطاً أصلاً، وإنّما هي من العقد بمنزلة الروح من الجسد في وجه فلا تكون جزءً ولا شرطاً له، وهو مراعى متزلزل غير مستقرّ في الصحة والبطلان، وإنّما يستقرّ في الصحة بلحوق الإجازة من الأصيل، كما يستقرّ في البطلان بلحوق الردّ من قبله.

وهذا المعنى في غاية الدقة بحيث التبس الأمر فيها على كثير من الأعلام، وقد فصلنا الكلام في أنّ لها منزلة بين المنزلتين ولا يكون شرطاً ولا جزء، في الفقه. وهكذا الكلام في سائر الموارد التي ثبت تأثيرها في المتقدم وتوهم أنه من هذا الباب.

ص: 118


1- فوائد الأصول (للآخوند): 60.

السابع: أنّه ربّما توهّم أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط مجاز بعلاقة الأول(1)والمشارفة، وقد تبين ممّا بيّناه أنه لا تجوز فيه بوجه؛ لأنّ الاشتراط إنّما هو في مرحلة التعلّق أو التنجز، وأمّا في مرحلة التحقق فهو واجب فعلاً، فلا تجوز في إطلاقه عليه. مع أنّ التجوّز لو كان فهو في الإسناد لا اللفظ، والأول كسائر العلائق المرسلة لا يكون مصححاً للاستعمال أصلاً.

الثامن: أنّه قد ذكر بعضهم أنّ الأمر بالمسبّب أمر بالسبب تحقيقاً؛ لأنّ المسبب لا يكون مقدوراً، والقدرة شرط في التكليف، فيرجع الأمر به إلى الأمر بالسبب(2).

وفيه أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فلا وجه لإرجاع الأمر به إلى الأمر بالسبب. مع أنه لو كان كذلك لزم أن لا يكون المسبب فعلاً للمكلّف، فيلزم أن لا يؤخذ بما يتبعه من الآثار، وهو ضروري البطلان .

و[الأصل] الثامن

اختلفوا في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه العام أو الخاص أم لا؟

والتحقيق أنه لا يقتضي النهي عن الضدّ مطلقاً؛ لأنّ التضادّ إنّما هو في مرحلة الإيجاد، والإيجاد امتثال للأمر ولا يكون مأموراً به حتّى يسري ضد حكمه إلى ضدّه.

توضيح الحال: أنّ الأمر والنهي حكمان متقابلان وسنخان متضادان متعلقان بنفس الطبيعة مختلفان في الأثر، فالأمر يقتضي إيجاد المأمور به، كما أن النهي يقتضي ترك المنهي عنه. فالإيجاد متأخّر عن الأمر ومترتب عليه. فلا يعقل أن يكون متعلّقاً له - وإلّا لزم الدور المحال - ولا لأمر مولوي آخر مماثل له، وإلا لزم التسلسل في الأمر والامتثال. فهو موضوع للحكم العقلي بمعنى أنّ العقل يستقل بوجوب امتثال أمر المولى، وأنّ العمل على وفقه وظيفة العبودية، وترك العمل به خروج عن وظيفتها ما لم يكن معذوراً.

ص: 119


1- يعني: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه. لاحظ: زبدة الأصول (للبهائي): 157.
2- الذريعة 1: 83 - 85 .

فإن قلت: الماهية من حيث هي - مع قطع النظر عن الفعل والترك - لا يصلح لأن يكون مراداً ومطلوباً ، كما هو ظاهر ، فالمطلوب إما الفعل أو الترك، فالأمر والنهي وإن تعلّقا في الظاهر بنفس الطبيعة إلّا أنّهما في الحقيقة متعلّقان بالفعل والترك، فالمطلوب من الأمر الفعل، كما أنّ المطلوب من النهى الترك. فكلّ من الفعل والترك متعلّق للحكم المولوي.

قلت: لا شبهة في أنّ المطلوب إما الفعل أو الترك؛ لأن الغرض من تعلّق الحكم بالماهية هو الامتثال، وهو في الأمر بالايتمار المتحقق بالفعل، وفي النهي بالانتهاء المتحقق بالترك، فهما مطلوبان من الأمر والنهي لا أنهما متعلقان له وإلا لزم أن لا يتقابلا حقيقة وأن يكون اختلافهما في المتعلّق فقط، وهو خلاف الضرورة.

وليس الأمر والنهي إلّا كالحب والبغض فكما أنه لا يصح إرجاعهما إلى حبّ الفعل والترك لا يصح إرجاع الأمر والنهي إلى طلب الفعل والترك حقيقة.

فظهر بما بيّناه أنّ الضدّ العام - وهو ترك المأمور به - لا يكون منهياً عنه؛ لوجهين:

الأوّل: عدم التقابل والتضاد بينه وبين المأمور به. ويشترك في هذا الوجه الضدّ الخاص.

والثاني: أنه عصيان للأمر المولوي ويستقلّ العقل في حرمته ذاتاً، فلا يعقل ورود النهي المولوي عليه وإلّا لزم التسلسل في النهي والعصيان. فلو نهي المولى عنه صريحا وقال: «لا تترك ما أمرتك به» يكون إرشاد إلى حكم العقل لا نهياً مولويّاً.

فما توهّمه الأكثر من أنّ النهي عن الضدّ العام من لوازم الأمر الإيجابي(1) - ؛ اغتراراً بما اشتهر تحديد الوجوب به من طلب الفعل مع المنع من الترك - في غير محله؛ لأنّ المنع من الترك تنبيه على أنّ ترك المأمور به حينئذٍ عصيان وخروج عن وظيفة العبودية فيكون ممنوعاً بحكم العقل.

ومن غرائب الأوهام ما ذكره صاحب المعالم(قدس سره) من تضمّناً ؛اقتضائه النهي - اغتراراً بالحدّ

ص: 120


1- كما في قوانين الأصول 1: 113.

وأنه كناية عن تأكد الطلب. مع أنّ الأمر والنهي متقابلان بالضرورة، فكيف يمكن دخول أحدهما في مفهوم الآخر.

وأغرب منه ما توهّمه صاحب الفصول من اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه العام على وجه العينية معنى؛ استناداً إلى أن معنى النهي طلب الترك وطلب ترك الترك عين طلب الفعل في المعنى(1) ؛ لاستحالة تعلّق النهي المولوي بترك المأمور به أوّلاً - كما عرفت(2) - ورجوع أحد المتقابلين إلى الآخر ثانياً - كما هو ظاهر - واستلزام عدم الاقتضاء ثالثاً؛ ضرورة استحالة اقتضاء الشيء نفسه. فلو جاز اجتماع الأمر بالشيء مع النهي عن تركه، لزم اتحادهما في الغرض المطلوب، لا رجوع أحدهما إلى الآخر حقيقةً.

لا يقال: جواز الاجتماع مما لا شبهة فيه؛ ضرورة جواز أن يقال: «صلّ ولا تتركها». لأنا نقول: الغرض من الزجر عن ترك الشيء هو الأمر به لا تحريم الترك والنهي عنه، كما أنّ الغرض من البعث على الترك فى نحو قولك: أترك الزنا هو التحريم والنهي عنه لا الأمر بالترك، فلم يجتمع في أمثالهما أمر ونهي حتى يرجع أحدهما إلى الآخر.

وكأنه اختلط عليه الأمر والنهي المبحوث عنهما في الأصول، بالأمر والنهي في اصطلاح أهل العربية وهما صيغتا «افعل» و «لا تفعل».

ثمّ إنّ القائلين باقتضائه النهي عن الضدّ الخاص تمسكوا له بوجهين:

الأوّل: أنّ وجود المأمور به وترك الضدّ متلازمان والتلازم في الوجود يقتضي عدم انفكاك أحدهما عن الآخر في الحكم، فيكون ترك الضدّ مطلوباً أيضاً، وطلب ترك الشيء عبارة عن النهي عنه.

وفيه أوّلاً: التلازم إنّما هو بين إيجاد المأمور به وترك الضد، لا بينه وبين المأمور به، والإيجاد لا يكون مورداً للأمر المولوي حتى يتصف ملازمه به. وثانياً: أنّ التلازم لا يوجب اتحاد المتلازمين في الحكم الشرعي أو العقلي. وثالثاً: أنه على فرض التنزّل لا يرجع الأمر

ص: 121


1- الفصول الغروية: 101.
2- في الصفحة السابقة.

بالترك إلى النهي عن الضدّ؛ لأنهما متقابلان، فلا يرجع أحدهما إلى الآخر وإن اتحدا في الأثر. مع أنّ الترك أمر عدمي لا يعقل تعلّق الأمر به؛ ضرورة أنّ الأمر إنما يتعلق بأمر وجودي.

والثاني: أنّ ترك الضدّ ممّا يتوقف عليه وجود المأمور به، فيكون مطلوباً تبعاً، فيكون إيجاده منهياً عنه.

وفيه أوّلاً: أنّ المأمور به لا يتوقف على ترك الضدّ بل يلازمه؛ ضرورة أن كلاً من المتقابلين في عرض الآخر، فوجود كلّ منهما إنّما هو مع عدم الآخر فهما متلازمان لا مترتبان. وثانياً : أنه على فرض التنزّل فالتوقف إنّما هو بين الامتثال وترك الضد، وقد ظهر لك(1)أنّ الامتثال لا يكون مورداً للحكم المولوي حتّى يسري إلى مقدمته. وثالثاً: أنّ التوقف كالتلازم لا يوجب اتحاد الطرفين في الحكم. ورابعاً: أنه يلزم الأمر بترك الضدّ لا النهي عنه حينئذ.

تنبيهات

الأوّل: أنّ ثمرة النزاع تظهر عند الأكثر إذا كان المأمور به مضيّقاً والضدّ عبادة موسعة، فعلى القول بالاقتضاء تبطل بضميمة أنّ النهي في العبادات تقتضي الفساد، وعلى القول بالعدم تصح وإن كان آثماً في ترك المضيق(2). بل قيل:

إنّ موضع النزاع يختص به؛ إذ المأمور بهما إن كانا موسعين فلا مضادّة بينهما وإن كانا مضيّقين فمع تساويهما يتخيّر بينهما ولا مزاحمة حينئذٍ وإلا يقدّم الأهم ويسقط المهم، فينحصر محلّ النزاع بما إذا كان أحدهما مضيّقاً والآخر موسعاً .(3)

وفيه: أنه إن أُريد من التضادّ تضاد نفس الفعلين بحيث لا يجوز اجتماعهما في محلّ واحد، سواء أمكن الجمع بينهما في مرحلة الامتثال أم لا ، فهو جار في الموسعين أيضاً. مع

ص: 122


1- في الصفحة 109.
2- لاحظ : كفاية الأُصول: 165
3- قوانين الأصول 1: 113.

أنّ الأمر بأحدهما لا يقتضي النهي عن الآخر وإلا لكان كلّ منهما منهيّاً عنه؛ لاقتضاء الأمر بكلّ منهما النهي عن الآخر حينئذ؛ لعدم الترجيح.

وإن أريد منه التضادّ في مرحلة الامتثال بحيث لا يمكن الجمع بينهما فحينئذٍ يختصّ بالمضيقين؛ إذ لا مزاحمة بين المضيّق والموسّع ؛ لتمكن المكلف من الجمع بينهما.

فما ذكروه لا يستقيم بوجه. ثمّ الظاهر أنهم أرادوا من التضادّ التضاد في مرحلة الامتثال، فيتوجّه عليهم أنّ التضادّ حينئذٍ مترتب على اجتماع أمرين مولويين ومزاحمة أحدهما الآخر، فلا يعقل أن يوجب سقوط أحدهما أو انقلابه إلى ضده، وهو النهي؛ إذ المتزاحمان إنّما يتزاحمان في التأثير المترتب عليهما، وهو التنجيز، فينفرد به الأق-وى والأهم إن كان وإلّا يتخيّر بينهما.

فلا يعقل تأثيره في ارتفاع أحدهما أو انقلابه إلى النهي وإلا لزم أن يكون المعلول مزيلاً لعلّته، وهو ضروري البطلان فمرجع تقديم الأهمّ على المهم إلى اختصاص التنجيز به دون المهم، كما أنّ مرجع التخيير إلى ثبوت العذر عن الجمع وتنجيز واحد لا بعينه؛ لعدم الترجيح.

وبما بيناه تبيّن أنه تظهر ثمرة النزاع في المضيّقين إذا كان أحدهما أهم، بل تختص به؛ لأنّ التضادّ في مرحلة الامتثال لا يكون إلا في المضيّقين. فحينئذ إن قلنا بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه - كما هو التحقيق - يصح الإتيان بالمهم وإن كان آثماً ترك الأهم؛ لأنّ مرجع سقوطه بالأهم إلى العذر وعدم تنجزه، ومجرّد العذر وعدم التنجز لا يوجب البطلان. وإن قلنا باقتضائه النهي عن ضدّه يبطل حينئذ؛ للنهي عنه.

وبما بيّناه ظهر أيضاً أنّ ما ذكره بعض المحققين من أنه لو أبدل النهي عن الخاص بعدم الأمر به فيبطل لكان أقرب(1)، في غير محل؛ لأنّ المزاحمة إنّما هي في مرحلة التنجز ومرجع عدم الأمر بالضدّ الخاص إلى العذر لا انتفاء الأمر رأساً.

مع أنه لا مزاحمة بين المضيق والموسع حتى في مرحلة التنجز كي يتنجز أحدهما

ص: 123


1- زبدة الأصول (للبهائي): 282.

ويسقط الآخر؛ ضرورة أنّ الأمر بالموسع إنّما يقتضي عدم جواز الإخلال به في جميع الوقت، فلا يزاحم المضيّق أصلاً.

الثاني: أن جماعة من المتأخرين لما رأوا أن صحة العبادات الموسعة بل المهم المضيّق منها واضحة عند العقلاء وأهل العرف - حتى قال بعضهم: «إنّ الحكم بالبطلان شبهة في مقابلة الضرورة»(1) - تصدّوا لتصحيحهما بوجوه مختلفة، فمنهم من رام تصحيحها بالترتب فقال:

لا مانع من أن يقول المولى: «إن عصيت الأمر بالأهم والمضيق فقد أمرتك بالمهم والموسع»(2).

وهو باطل جدّاً؛ لأنّ القول بالترتب إن كان مع البناء على القول باقتضاء الأمر بالنهي

عن ضده الخاص - كما صرح به بعضهم(3) - ففيه أنّ الأمر بهما لا يجامع و النهي عنهما، و ترتب الأمر على عصيان الأمر بالأهم والمضيق لا يدفع محذور اجتماع الضدين. ولا مجال لتوهم ارتفاع النهي حينئذ ؛ ضرورة عدم سقوط الأمر بالأهم والمضيق بالبناء على العصيان حتى يرتفع النهي عن ضدّ يهما.

وإن كان مع البناء على اقتضاء الأمر بهما عدم الأمر بضد يهما فهو باطل من وجوه:

الأوّل: عدم سقوط الأمر بالضدّ رأساً، وإنّما الساقط على فرض سقوطه التنجز وصحة الامتثال لا تدور مداره فلا حاجة إلى الالتزام بالترتب.

والثاني: أنه لا مزاحمة بين المضيّق والموسّع حتّى في مرحلة التنجز كي يلتزم بارتفاع أحدهما.

والثالث: أنه لو بنينا على دوران صحة الامتثال مدار التنجز وقلنا بعدم تنجز الأمر بالموسّع مع تنجز الأمر بالمضيق - كالمهم مع الأهمّ - فالترتب لا يصححه؛ لاستحالة تنجز الحكمين مع عدم القدرة على امتثالهما والجمع بينها، كما هو ظاهر.

ص: 124


1- لاحظ : كشف الغطاء 1: 171
2- نقل بالمضمون. جامع المقاصد 5: 14؛ کشف الغطاء 1: 171
3- كشف الغطاء 1: 170

مع أنه يلزم حينئذٍ أن يكون التارك للأهمّ معاقباً بعقابين، والالتزام به في غاية الشناعة؛ ضرورة أنّ استحقاق العقاب يدور مدار التنجز وتنجزهما معاً في الصورة المذكورة غير متصوّر. فالعقلاء وأهل العرف إنّما يحكمون بالصحة فيهما؛ لما بيناه(1)من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه وعدم دوران صحة الامتثال مدار التنجز.

الثالث: قد يتوهّم أنّ اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص في غاية الوضوح؛ إذ لو سئل المولى عن الإتيان بالموسّع والمهمّ مع مزاحمة المضيّق والأهم لنهى عنهما قطعاً. وهو وهم؛ لأنّ النهي المقطوع به إنّما هو النهي الإرشادي المنبه على وجوب تقديم الأهم والمضيّق لا النهي المولوي الكاشف عن التحريم.

وبما بيناه ظهر أنه لو نهى المولى عنهما صريحاً لا ينافي ما بيناه؛ لأنّ الظاهر منه حينئذٍ الإرشاد إلى وجوب تقديم المضيق والأهم عليهما ، فلا يدلّ على التحريم ولو تبعاً. مع أنك قد عرفت(2) أنّ التبعية في النظر لا تجامع الإلزام المولوي.

والحاصل أنّ الكلام في اقتضاء النهي الذي هو من قبيل المدلول ومن أقسام الحكم التكليفي، لا النهي اللفظي المستعمل تارةً لإفادة التحريم ومرّةً للتنبيه على وجوب تقديم الأهم وأخرى لإفادة سائر الأغراض.

الرابع: أنّ النزاع في هذا المبحث كالمبحث السابق(3) إنّما هو في الالتزام العقلي لا في دلالة لفظ الأمر أو صيغة «افعل»؛ لما عرفت(4) من أنّ موضوع البحث والأحكام إنّما هو الأمر المقابل للنهي والإباحة الذي هو من قبيل المدلول لا الدال.

مع أنّ عدم دلالة لفظ الأمر أو صيغة «افعل» على النهي على الضد، والأمر بما لا يتمّ المأمور به إلا به، من الواضحات التي لا ينبغي أن يبحث عنه جاهل فضلاً عن فاضل.

ص: 125


1- في الصفحة 119 - 120 و 123.
2- في الصفحة 108 - 109.
3- في الصفحة 109.
4- في الصفحة 78.

و[الأصل] التاسع

اختلفوا في أنّ الأمر بالشيء يقتضي الإجزاء إذا أتى بالمأمور به على وجهه.

والتحقيق أنّ الأمر الواقعي يقتضي الإجزاء دون الظاهري. توضيح الحال: أنّ الإتيان بالمأمور به امتثال للأمر قطعاً والامتثال مسقط للتعلّق بالضرورة، فوجب الإجزاء حينئذ، ولا مجال لعدمه. ولا ينافي ذلك استحباب إعادة الامتثال لإدراك فضيلة فائتة كإعادة الفريضة جماعة - أو إيجابها عقوبة ، كمن أفسد حجّه حيث وجب عليه الإتمام والقضاء في العام القابل.

ولا فرق فيما بيناه بين كون المأتي به واقعياً أولياً وثانوياً، فصلاة المتيمم مجزية ولا يجب عليه الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه إلّا إذا قلنا بأنّ صحة التيمم مراعاة بفقدان الماء في تمام الوقت، فيجب عليه الإعادة في الوقت إذا وجد الماء.

وهكذا الأمر فى سائر الأبدال الاضطراريّة؛ فإنّها مجزية عن الواقع بمقتضى البدلية، سواء كانت للتقيّة أم لغيرها من صور الاضطرار.

وأما الأمر الظاهري فلا تقتضي الموافقة معه الإجزاء عن الواقع إذا انكشف الخلاف، سواء كان مؤدّى الأصول أو الأمارات؛ لبقاء الأمر الواقعي وعدم حصول الامتثال الموجب لإسقاطه.

و توهّم أنّ الموافقة مع الأمر الظاهري بدل عن الموافقة مع الأمر الواقعي فيجزي عنه، في غير محله؛ لأنّ مرجع الأمر الظاهري إلى تنزيل المجهول منزلة المعلوم وترتيب آثار العلم على الجهل، بل إلى إبقاء أثر العلم وعدم نقضه بالشك والجهل، كما أوضحناه في محله، فلا يقتضي إلّا تنجز الواقع مع المطابقة، ودفع التنجز مع المخالفة.

وبما بيّناه تبيّن أنّ ما ذكره بعضهم من:

إجزاء الأمر الظاهري إذا استند إلى الأصل الجاري في موضوع التكليف وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلية، بل واستصحابهما في وجه قوي، ونحوها بالنسبة إلى كلّ ما اشترط بالطهارة أو الحلية، يجزي؛ فإنّ

ص: 126

دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط، ومبيّناً لدائرة الشرط، وأنّه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل الشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع

الجهل.

وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعاً - كما هو لسان الأمارات - فلا يجزي؛ فإنّ دليل حجيته حيث كان بلسان أنه ما هو الشرط الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقداً.

هذا على الأظهر الأقوى من أن حجيتها على وجه الطريقيّة، وأما بناءً على حجيتها من باب السببية فمؤداها : في حكم الشرط واقعاً: كأنه واجد له مع كونه فاقده، فيجزي لو كان الفاقد كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض وإلا وجب الإتيان بالواجد - ؛ لاستيفاء الباقي - إن وجب وأمكن استيفائه.(1)انتهى ملخّصاً.

فی غير محلّه؛ لأنّ أدلّة الأصول ناظرة إلى تنزيل المجهول منزلة المعلوم وترتيب آثار العلم على الجهل، لا إلى تحقق الواقع تعبّداً ، فلا يترتب عليها إلّا ما يترتب على الأصل من التنجيز مع المطابقة، والعذر مع المخالفة، فلا يعقل أن تكون ناظرةً إلى الأدلّة المبينة للشرط أو الشطر، وشارحةً له؛ ضرورة أنّ الأدلّة المبينة لأحدهما ناظرة إلى بيان ما يعتبر في موضوع الحكم أو كيفية الامتثال. وأدلة الأصول ناظرة إلى بيان ما يتحقق به تنجز الحكم أو العذر عنه، فكلّ منهما ناظر إلى مرحلة مغايرة للأخرى. فكيف تكون إحداهما شارحةً للأخرى، وحاكمةً عليها.

هذا، وأما ما ذكره في الأمارات بناءً على اعتبارها من باب السببية ففاسد أيضاً؛ لأنها إن أؤ جبت تنزيل مؤداها منزلة الواقع وجب الاجتزاء بها مطلقاً، وإلا لم يجز الاجتزاء بها مطلقاً. وإن جاز العفو عن الواقع حينئذٍ فالتفصيل بين وفائها بتمام الغرض وعدمه، في غير محله؛ إذ مع العلم بعدم وفاء الناقص بما يفي به التام لا ينافي الاجتزاء به في حال

ص: 127


1- كفاية الأُصول: 110 - 111.

الاضطرار من جهة أهمية إدراك وظيفة الوقت على إدراك العمل التام في نظر الشارع وإلّا لم يجعله بدلاً عن التام حينئذ.

ثم قال ما ملخصه :

لا يذهب عليك أنّ الإجزاء في بعض موارد الأصول والأمارات - على ما عرفت تفصيله - لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك الموارد؛ لأن الحكم الواقعي في مرتبة الإنشاء محفوظ فيها ، وهو الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل، الثابت للعناوين الأوّليّة بحسب ما فيها من المقتضيات، فالمنفي في موارد الأصول والأمارات إنما هو الحكم الفعلي البعثي الواقعي مع عدم الإصابة، سواء قلنا بالإجزاء أم لا، فلا فرق بين الإجزاء وعدمه إلا فى سقوط التكليف بالواقع بموافقة الأمر الظاهري وعدم سقوطه بعد انكشاف المخالفة .(1)

وفيه أوّلاً: أنّ حق الجواب على ما بنى عليه - من كون الأُصول الجارية في الموضوع حاكمة على الأدلّة المبينة للشرط أو الشطر وتجعله أعم من الواقعي والظاهري، وأنّ مؤدّى الأمارات تجزي بناءً على حجيتها من باب السببية ووفائه بتمام الغرض - أن يقال: لا ينافي القول بالإجزاء حينئذٍ مع فعليّة الأمر الواقعي؛ لتحقق الامتثال بالنسبة إلى الأمر الواقعي في موارد الأُصول من حيث إن الشرط والشطر حينئذ أعم من الواقعي والظاهري وقد حصل، ولسقوطه في موارد الأمارات من دون امتثال؛ لأجل حصول الغرض من مؤدّى الأمارة. وكأنه غفل عمّا ذكره.

وثانياً : أنّ ما ذكره جواباً عن لزوم التصويب فاسد لزوم التصويب فاسد من وجوه عديدة:

الأوّل: أنّ الحكم التكليفي - كما عرفت(2) - ليس من قبيل المنشأت حتى يكون الإنشاء مرتبة منه.

ص: 128


1- كفاية الأصول: 113.
2- راجع: الصفحة 52،114.

والثاني: أنّ الحكم الإنشائي ما لم يصل مرتبة الفعلية لم يتعلق بالمكلّف أصلاً وإن كان ثابتاً للواقعة، وهو عين القول بالتصويب؛ فإنّ المصوّبة لا يقولون بخلو الوقائع عن الأحكام - كما اشتهر نقله عنهم - وإنّما يقولون بعدم تعلّقها بالمكلّفين إلا بعد العلم بها(1).

والثالث: أن اشتراك الجاهل مع العالم في الحكم إنّما يصدق إذا تعلّق الحكم الواقعي به، وأما إذا كان الحكم الواقعي إنشائيّاً غير متعلّق به فهو غير محكوم بحكم الواقعة حينئذٍ حتى يشترك مع العالم في الحكم.

والرابع: أنه يلزم حينئذٍ عدم ثبوت القضاء على الجاهل والغافل؛ لأنه فرع الفوت، وهو فرع المتعلّق فمع عدم تعلّق الأداء عليهما لا مجال لوجوب القضاء عليهما.

فالتحقيق أنّ الحكم الواقعي متعلّق بالعالم والجاهل، وهما مشتركان فيه، واختلافهما إنّما هو في المرحلة المتأخّرة عنه، وهي مرحلة تنجز الحكم وعدمه؛ ضرورة أن تأثير العلم والجهل إنّما هو في هذه المرحلة لا في التعلّق وعدمه، فلا تأثير للأُصول والأمارات إلا في التنجيز وعدمه؛ لأنهما إنّما تعملان في مورد الجهل بالحكم؛ لبيان وظيفة الجاهل به، فمؤدّاهما إنّما هي وظيفة المكلف بالنسبة إلى الحكم الواقعي من حيث التنجيز أو العذر، لا ثبوت حكم آخر للواقعة حتى يرد عليه بأنه يلزم اجماع مثلين في محلّ واحد مع المطابقة، واجتماع ضدّين مع المخالفة. فهما قضيّتان مختلفتا الموضوع والمحمول.

واشتراك وظائف المكلّف مع أحكام الوقائع في التعبير أوجب الغرور والوقوع في محذور اجتماع المثلين أو الضدّين، والتحيّر في الجواب عنه.

ومن الغريب ما أجاب به من أنّ الحكمين إنّما يجتمعان في مرتبة الإنشاء، ولا محذور في اجتماعهما كذلك، وإنّما المحذور في بلوغهما مرتبة الفعلية(2)، ولا اجتماع لهما في هذه المرحلة أبداً؛ إذ الحكم الظاهري مع عدم الإصابة فعلي، والواقعي إنشائي،ومع الإصابة يصير فعلياً؛ لأنّ الحكم إن خرج بالإنشاء عن مرحلة الشأنية وصار متحققاً

ص: 129


1- لاحظ: المعتمد 2: 370.
2- لاحظ: كفاية الأصول: 320، حيث قال: «نعم، يشكل الأمر في بعض الأصول العملية ...».

بالنسبة إلى الواقعة - ولو لم يتعلّق بالمكلّف - يمتنع اجماع مثلين أو ضدين منها على موضوع واحد، وإلّا يلزم خلوّ الواقعة عن الحكم حينئذ ، وهو التصويب الباطل بل أظهر بطلاناً منه؛ ضرورة عدم جواز خلوّ الواقعة من حيثية من الحيثيات الخمسة في نظر المولى.

تنبیهان

الأوّل: أنّ البدل الاضطراري يكتفى به عن المبدل في مرحلة الامتثال مع بقاء الأمر بالمبدل حال الاضطرار. غاية الأمر : لعدم التمكن من الامتثال التام بالإتيان بنفس المأمور به اكتفي عنه بالامتثال الناقص بالإتيان ببدله؛ فإنّ البدل متحد مع المبدل، والإتيان به إتيان بالمبدل من وجه. فالإتيان به امتثال للأمر بالمبدل لا لأمر آخر.

ولذا وجب عليه قضاء الصلاة متطهراً بالطهارة المائية لو لم يأت بها متيمماً في الوقت. وهكذا الأمر في سائر موارد الاضطرار.

والحاصل أنّ العذر عن الامتثال التام أوجب الاجتزاء بالامتثال الناقص والاكتفاء بالبدل، لا تبديل المأمور به والأمر بأمر آخر. فإن لم يأت به في الوقت وفات المأمور به أصلاً وبدلاً تعيّن عليه القضاء بالامتثال التام عند التمكن منه.

فإن قلت: مقتضى ما ذكرت - من أنّ الاجتزاء بالناقص عذراً: يوجب القضاء تاماً - أن يقضي المسافر ما فاتت منه في السفر تامّةً؛ لأنّ السفر عذر شرعي مانع عن الإتمام و موجب للاجتزاء بالقصر ولا يكون موضوعاً لحكم القصر وإلّا لوجب عليه القضاء قصراً إذا أتم صلاته جهلاً أو نسياناً.

قلت: التقصير تصدّق من الله تعالى على العباد، كما هو صريح الروايات(1)، فلا يجوز الإتمام ولو قضاء؛ لأنه موجب لردّ ما تصدّق به على العباد وهو حرام مبطل. ولا ينافي ذلك إجزاء التمام جهلاً أو نسياناً؛ لعدم تحقق الردّ إلا مع العمد.

ص: 130


1- وسائل الشيعة 8: 519 ، أبواب صلاة المسافر، الباب 22، الحدیث 7 ،و 10 : 175، أبواب من يصح من الصوم، الباب 1، الحديث 5.

الثاني: أنّ الإتيان بما قطع أنه مأمور به لا يوجب الإجزاء إذا خالف الواقع ولو على القول بإجزاء الحكم الظاهري عن الواقع؛ لعدم ثبوت الحكم الظاهري، بالقطع المخالف، عندهم.

و[الأصل] العاشر

قد نسب إلى بعض تعلّق الأمر بالفرد(1).

أقول : لا شبهة في أنّ الأحكام التكليفية كلّها من عوارض الماهية لا الوجود وإن كان المطلوب من الأمر الإيجاد، كما أنّ المطلوب من النهي الترك؛ ضرورة أنّ الغرض منهما إنّما هو الامتثال، وامتثال الأوّل لا يكون إلا بإيجاد المأمور به كما أن امتثال الثاني لا يكون إلا بترك المنهي عنه، والفرد - وهي الطبيعة الموجودة في الخارج - لا يقبل الإيجاد ولا الترك.

وما توهم من أنّ الكلّي الطبيعي لا وجود له في الخارج فيمتنع تعلّق الأمر به فتعين أن يكون المتعلّق هو الفرد، غلط ظاهر؛ لأنّ الموجود إنما هو الكلّي الطبيعي؛ فإنّ المفاهيم المتصوّرة ثلاثة : وجود وعدم وماهيّة، والعدم لا يقبل الوجود وإلّا اتصف الشيء بنقيضه، وكذا الوجود وإلّا لزم عروض الشيء على نفسه، مع أنه لو جاز اتصاف الوجود بالوجود لزم جواز اتصافه بالعدم أيضاً؛ لأنّ كلّاً من المتقابلين إنّما يرد على ما يرد عليه الآخ--ر فيلزم اتصاف الشيء بنقيضه. فما يقبل الوجود إنّما هي الماهية وهي الكلّي الطبيعي.

فإن قلت: عروض العرض لماهية قبل الوجود غير متصوّر؛ ضرورة أن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، فالعرض لا يعرض إلّا على الموجود، وتقسيم العرض إلى عرض الماهيّة وعرض الوجود إنّما هو باعتبار عروضه على خصوص الوجود الخارجي أو الذهني وعدمه. فالعارض على مطلق الموجود - ذهنياً كان أم خارجياً كزوجيّة الأربعة - يسمّى عرض الماهية والعارض على خصوص الوجود الخارجي - كإحراق النار - أو

على خصوص الوجود الذهني - ككليّة الإنسان - يسمى عرض الوجود.

ص: 131


1- حكاه العلّامة عن قوم في نهاية الوصول 1: 592.وهو مختار ابن الحاجب في منتهى الوصول (مختصر ابن الحاجب) 99؛شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 93.

والأمر بالنسبة إلى الطبيعة ليس من قبيل الأوّل وإلا لزم أن يكون المأمور به مطلق الوجود فيلزم أن يتحقق الامتثال بالإيجاد الذهني واللازم واضح البطلان، فالمأمور به إنّما هي الطبيعة الموجودة في الخارج وهو الفرد، وهو المطلوب

قلت: يستحيل توقف وجود الشيء على ثبوته، وإلا لزم توقف الشيء على نفسه، والمتفرّع على ثبوت المثبت له إنّما هو ثبوت شيء لشيء لا ثبوته في نفسه. وإنّما يتوقف ثبوت الشيء على إمكان الوجود وقبوله.

مع أنّ عروض العرض على معروضه عبارة عن ارتباطه به لا ثبوته له حتّى يتفرّع على ثبوت المعروض.

والاغترار إنّما حصل من التعبير عنه بالكون في العروض غفلةً عن أن المراد منه الكون الربطي لا الوجود الأصيل.

فعرض الماهية ما كان عرضاً لها مع قطع النظر عن الوجود مطلقاً. وما توهم من تفرّعه على الوجود ذهناً أو خارجاً، في غير محله؛ ضرورة أن الأربعة زوج وإن لم يتصوّرها متصوّر ولم توجد في الخارج، ولو توقف عروض الزوجية عليها على وجودها في الخارج أو الذهن لزم أن يكون العارض كذلك فيلزم أن تكون الأربعة المتصوّرة في الذهن لا زوج ولا فرد ما لم يتصوّر الزوجية لها، ويلزم أن يكون في حدّ ذاتها قابلة للاتصاف بالوصفين؛ لأنّ ما جاز خلوّه عنهما يجوز تطرّق كلّ منهما فيه.

وبالجملة فساد ما توهّموه من توقف الاتصاف بعوارض الماهية على الوجود الذهني أو الخارجي(1)، في غاية الوضوح.

مع أن الوجود الذهني بمعنى الوجود الظلي الضعيف فاسد في أصله وقد فصلنا الكلام فيه في محلّه.

فتبيّن بما بيّناه أنّ الأمر إنّما يتعلّق بالماهية والطبيعة، والإيجاد امتثال له.

ص: 132


1- كما في غاية المسئول: 301.

ولا ينافي ما بيناه ما اشتهر في الألسنة من أنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي فإنّ المقصود منه أنّ الطبيعة في حدّ ذاتها لا موجودة ولا معدومة لا أنّها ليست قابلة للحكم عليها؛ ضرورة أنّ البعث والزجر إنّما يتعلّقان بالماهيّة وإن كان الغرض منها الفعل والترك. فالفرد إنّما ينطبق عليها عنوان الامتثال فلا يكون مأموراً به وإنّما يكون مطلوباً من الأمر.

نعم، قد يتعلّق حكم ثانوي بإيجاد المأمور به فيصير محرّماً بالعرض، كصوم الحائض والمريض، فيمنع عن تنجز الحكم الأولي، أو مندوباً؛ لأجل فضيلة زائدة، كالصلاة في المسجد أو مع الجماعة، أو مكروهاً؛ لأجل منقصة طارئة، كالصلاة في الحمام. بل قد يصير واجباً بالعرض، كالفريضة المنذورة، بناءً على صحة نذر الواجب، كما هو الأظهر؛ فإنّ الواجب بالنذر حينئذ إنّما هو إيجاد الفريضة لا نفسها.

ومن هنا تبين أن نذر النافلة لا يوجب انقلاب الحكم الأولي - وهو الندب - إلى الإيجاب؛ لأنّ المندوب إنّما هو نفس النافلة، والواجب بالنذر إنما هو إيجادها.

لا يقال: هذا منافٍ لما سبق منك(1)من أن إيجاد الواجب واجب بحكم العقل ولا يمكن أن يتعلّق به أمر مولوي وإلا لزم التسلسل في الأمر والامتثال .

قلت: ما ذكرته سابقاً إنما هو استحالة تعلّق أمر مولوي بإيجاد الواجب من حيث كونه امتثالاً للأمر، وأما تعلّق أمر مولوي به لأجل أمر خارج فلا، ولا ينافي ما بيناه.

و[الأصل] الحادي عشر

قد نسب إلى أكثر مخالفينا جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء شرطه(2)، وقد حمل على جواز الأمر بأداء الفعل قبل وقته مع العلم بانتفاء شرطه في وقته(3). وكيف كان، فأقوى

ص: 133


1- في الصفحة 120.
2- حكاه عنهم، في معالم الدين: 222 - 223. لاحظ المستصفى: 220 - 221؛ المحصول 2: 275 - 278؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 16.
3- كأمر الله - تعالى - زيداً بصوم غد وهو يعلم موته فيه. معالم الدين: 223.

حجتهم عليه أنه لو لم يصح لم يعلم إبراهيم(علیه السّلام)وجوب ذبح ولده؛ لانتفاء شرطه عند وقته، وهو عدم النسخ، وقد علم وإلا لم يقدم على ذبح ولده ولم يحتج إلى فداء.

وفيه أوّلاً: أنّ عدم النسخ ليس شرطاً للأمر ، وإنّما النسخ مزيل له، فهو متفرّع على ثبوته، فكيف يتفرّع الأمر على عدمه !

وثانياً: أنّ وجوب ذبح الولد لم ينسخ، وإنما فداه الله بالكبش بسبب الذبح العظيم، والفداء ليس نسخاً؛ لأنه عبارة عن جعل بدل للمأمور به، فلا ينافي بقاء الأمر بالمبدل، بل مجامع له ومتفرع عليه؛ ضرورة أنّ الاكتفاء بالبدل إنّما هو في مرحلة الامتثال، فالأمر بالذبح باقٍ وإنّما رفع تنجيزه عليه بالاكتفاء بالبدل، فهو من باب الأمر بالشيء مع العلم بأنّه سيفديه ولا إشكال فيه بوجه.

ومن الغريب ما ذكره في المعالم من:

المنع من تكليف إبراهيم(علیه السّلام) بالذبح الذي هو فري الأوداج، بل كلّف بمقدّماته كالاضطجاع وتناول المدية وما يجري مجرى ذلك . والدليل على هذا قوله - تعالى -: ﴿فَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمَ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾(1)، وأمّا جزعه(علیه السّلام) فلإشفاقه من أن يؤمر - بعد مقدمات الذبح - به نفسه لجريان العادة بذلك. وأمّا الفداء فيجوز أن يكون عمّا ظنّ أنّه سيؤمر به من الذبح، أو عن مقدمات الذبح زيادة عمّا فعله لم يكن قد أمر بها؛ إذ لا يجب في الفدية أن يكون من جنس المفدي.(2)انتهى .

فإنّ الفداء فعل الحق لا فعل الخليل(علیه السّلام)، فجعله فداءً عمّا ظنّه الخليل(علیه السّلام)في غاية البشاعة، مع أنّ الفداء لا يتصوّر إلا عن المأمور به، فلا مجال لجعله بدلاً عن المظنون الذي لا أصل له، مع أنّ إرجاع الأمر بالذبح إلى الأمر بالمقدّمات لا يناسب امتحان مثل الخليل(علیه السّلام)وولده إسماعيل(علیه السّلام)واشتهارهما بالفضل لذلك وتلقبه بذبيح الله، ولا ما ورد

ص: 134


1- الصافات (37): 104 و 105.
2- معالم الدين: 230 - 231.

من أن المراد بذبح عظيم صار سبباً للفداء هو شهادة الحسين(1)، صلوات الله وسلامه عليه. والاستشهاد بقوله - تعالى - على ما توهمه، في غير محله؛ إذ تصديق الرؤيا يتحقق بالتسليم والحضور للامتثال بإيجاد مقدمات الذبح كلّها.

وكيف كان، فالتحقيق أنه لا يجوز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه؛ ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، فلا مجال لإثباته قبل الوقت مع العلم بانتفاء شرطه فيه. نعم، يجوز تعلّق الأمر بالمأمور مطلقاً مع العلم بانتفاء شرط التنجز ولا منافاة بينهما، وأما تنجيز الأمر مع العلم بانتفاء شرط التنجيز فغير متصوّر.

وما توهم أنه من هذا القبيل كأمر الخليل(علیه السّلام)بذبح إسماعيل(علیه السّلام)والأمر بصيام من علم بحدوث المانع له في أثناء النهار من السفر والحيض والمرض، فليس من هذا الباب؛ لما ظهر لك من أنّ الأوّل من باب الأمر بشيء مع بناء الآمر على أن يفديه ببدل، فهو قبل الفداء منجز؛ لأنّ البناء على الفداء لا ينافي التنجيز الفعلي، وإنّما ينافيه إعماله، فإذا فداه يرتفع التنجيز.

وهكذا الأمر في الأمر بصيام من علم بأنه يسافر قبل الزوال - مثلاً - ؛ فإنّ بنائه على السفر لا ينافي تنجيز الصوم عليه حال حضوره، وإنّما ينافيه فعلية السفر قبل الزوال، فإذا سافر ارتفع التنجيز.

والحاصل: أنّ السفر فعل اختياري للمسافر وليس أمراً قهريّاً حتى يقال - ؛ للعلم بوقوعه قبل الزوال - : ليس قادراً على إتمام الصيام. فهو مع البناء على السفر قادر على إتمام الصيام. غاية الأمر أنه إذا اختار السفر يرتفع عنه تنجز أمر الصوم.

لا يقال: لا يجوز إرادة الآمر من المأمور فعل شيء مع بنائه على أن يفديه أو مع علمه بأنّ المأمور يختار ما ينافيه.

ص: 135


1- عيون الأخبار 1: 209 ، باب 17 الحديث ، الخصال :1 82-83 ، باب الاثنين، الحديث 79؛ بحار الأنوار 44 225 - 226، الحدیث 6.

لأنا نقول: لا ملازمة بين الأمر والإرادة؛ لما عرفت(1)من أنّ حقيقة الأمر سابقة على الطلب والإرادة ولا تتقوّم بهما. وأما الأمر بصيام من علم بأنه يصادفه المانع القهري من إتمام الصوم، كحيض أو مرض أو نفاس فيمكن أن يقال: إنه أمر بالإمساك لا بالصيام؛ ضرورة وجوب الإمساك قبل طرق العذر.

ويمكن أن يقال: إنّه أمر بالصيام حقيقة ولا مانع له؛ لأنّ الصوم أمر بسيط غير متوزّع على أجزاء النهار. ولذا يجتزى بالنيّة قبل الزوال لمن نسيها ليلاً ولم يفطر في النهار، بل يجتزى بها في المندوب قبل الغروب لمن لم يفطر مطلقاً. فيجب على المستجمع للشرائط وإن علم بطرق العذر المانع عن الإتمام في الأثناء؛ لعدم توقف تحقق الصيام حينئذٍ على إمساك اليوم التام. غاية الأمر أنّ المنافي في الأثناء هادم ومزيل له. فتأمّل .

تنبیهان

الأوّل: أنّ عدم جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه لا يبتنى على تقوّم الأمر بالإرادة وعدم مفارقتها عن الطلب، كما نسب جوازه إلى أكثر المخالفين بناءً على ما توهموه من مفارقة الإرادة عن الطلب(2)؛ ضرورة أنّ انتفاء المشروط بانتفاء شرطه قاعدة عقليّة لا تقبل التخصيص فلا مجال لمنعه على تقدير دون تقدير.

والثاني: أنّه قد يتوهّم أنّ ذبح إسماعيل(علیه السّلام)ممّا يستقل العقل بقبحه فلا يعقل أن يؤمر به على وجه الحقيقة، فأمر الخليل(علیه السّلام)به أمر صوري للامتحان والاختيار، فهو خارج عن موضوع البحث.

وفيه أنّ القبيح عقلاً إنّما هو الذبح المجرّد عن عنوان وأما الذبح بعنوان القربان للحق فهو حسن ذاتاً؛ لأنه عبارة عن بذل حياته وإفناء نفسه في جنب الحق، فالتذلل والتعبد فيه أكمل وأعظم، فهو من أعظم المقربات وأكمل أنحاء العبادات وأشدّها ولو استقلّ العقل

ص: 136


1- في الصفحة 86.
2- معالم الدين: 222 - 223.

بقبحه ولم يجز الأمر به واقعاً لم يكن فيه امتحان للخليل(علیه السّلام)؛ إذ لا يجوز خفاء ما هو كذلك على أوائل العقلاء، فكيف يخفى على مثل الخليل(علیه السّلام)!

مع أنه لا مجال للفداء حينئذٍ ولا جعل ذبح عظيم سبباً له ولا افتخار إسماعيل بأنه ذبيح الله واشتهار الفضل له وللخليل(علیه السّلام) بذلك.

و[الأصل] الثاني عشر

قد نسب إلى أكثر المخالفين أنّه إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز(1)استصحاباً؛ لأنّ نسخه، كما يصدق برفع جزئيه، يصدق برفع أحدهما وهو المنع من الترك، فلا دلالة للناسخ على رفع الجزئين، فيستصحب بقاء الجواز.

وفيه: أنّ ما ذكر إنما يتم فى المركب من الأجزاء الخارجية، وأما المركب من الأجزاء العقلية فهو بسيط في الخارج، ولا يتصوّر رفع أحد جزئيه من دون الآخر، ولا تقوّم أحدهما بدون الآخر، وتركيب الوجوب من الجزئين إنّما هو من قبيل الثاني؛ ضرورة أنّ جزئيه إنّما هما الجنس والفصل، وهما جزء ان تحلیلیان عقليّان، فلا مجال للاستصحاب حينئذ؛ لعدم الشكّ في ارتفاع الجواز حينئذٍ حتّى يستصحب البقاء، فيرجع فيه إلى ما يقتضيه الأصل قبل النسخ.

و[الأصل] الثالث عشر

ينقسم الأمر باعتبار المأمور إلى عيني وكفائي؛ فإن كان المأمور منظوراً بعينه فهو عيني لا يحصل الامتثال إلا بإتيانه بعينه للمأمور به.

وإن استوى هو وغيره من أفراد المكلّفين في نظره فهو كفائي يرتبط إلى كلّ واحد منهم على سبيل البدل عن الآخر فيحصل الامتثال بإتيان كلّ واحد منهم ويسقط عن

ص: 137


1- حكاه عنهم في معالم الدين: 232. لاحظ: المحصول 2: 203.

الآخرين، فإن أخلّوا به أثموا جميعاً، فالتكليف واحد حقيقةً والمكلّف متعدّد، فلا يقتضي إلا امتثالاً واحداً، فإن قام به بعض سقط عن الآخرين وإن أخلوا به أثم الجميع؛ لاشتغال ذمّة كلّ واحد منهم به.

وينقسم باعتبار المأمور به إلى تعييني وتخييري؛ فإن تعلّق بعينه واقتصر نظر الأمر عليه فهو تعييني لا يتحقق الامتثال إلا بإتيانه بعينه.

وإن تعلّق بشيئين أو أشياء وكان النظر إلى كلّ واحد منها في عرض الآخر فهو تخييري يحصل الامتثال بإتيان واحد منها ويأثم بترك الجميع، فالكل متعلّق للأمر بتعلّق ضعيف ويكون كلّ واحد منها بدلاً عن الآخر وقائماً مقامه في الامتثال، ويتنزّل التعلّقات المتعدّدة بتعدد المأمور به بمنزلة تعلّق تام واحد تعييني، فلا يوجب إلا امتثالاً واحداً. ومن هنا يصح أن يقال: المأمور به واحد منها لا بمعنى أنّ المأمور به واحد لا بعينه، كما نسب إلى الأشاعرة(1)؛ فإنّه غير معقول؛ ضرورة استحالة تعلّق الغرض بالمبهم.

تنبیهان

الأوّل: أنّ التخيير قد يكون أصليّاً شرعياً كما في خصال الكفارات الثلاث بناءً على القول بالتخيير، وقد يكون عرضيّاً ناشئاً من التزاحم بين الواجبين وعدم أهمية أحدهما من الآخر؛ فإنّ وجوب كلّ واحد منهما تعييني في حد نفسه، وإنما طرء التخيير من قبل التزاحم. فالتخيير حينئذٍ إنّما هو في مرحلة التنجز لا في مرحلة التحقق ولا التعلّق. ولذا لا يسقط الآخر عن ذمّته بامتثال أحدهما ويجب قضائه إن كان له قضاء.

والثاني: أنّ التخيير لا يكون إلا بين متباينين ولا يعقل وقوعه بين الأقل والأكثر؛ إذ مع الإتيان بالأقل يتحقق الامتثال ويسقط الأمر فلا يبقى مجال لاشتغال الذمة بالأكثر . وما توهّم أنّه من هذا القبيل فهو إما باطل - كالتخيير بين القصر والإتمام في المواطن

ص: 138


1- حكاه عنهم العلّامة في نهاية الوصول: 488 لاحظ: المستصفی: 54.

الأربع؛ فإنّه كما يستفاد من أخبار أهل بيت العصمة(1) - سلام الله عليهم كناية عن التخيير بين الإقامة وعدمها - وإما راجع إلى استحباب الأكثر كالتخيير بين التسبيحة والتسبيحات.

وأما ما قيل من:

أنّه يمكن أن يكون المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه، بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذٍ دخل في حصوله وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كافياً.(2)

ففي غیر محلّه؛ لأنه إن أريد منه أنّ الاجتزاء بالأقلّ مشروط بعدم الزائد كما ذكره صاحب الفصول(3)فهو باطل؛ لأنّ الاشتراط بعدم الزائد إنّما يصح إذا كان قادحاً في مطلوبيّة الأقل، وأمّا إذا كان موجباً لفضيلة زائدة، كما في المقام، فلا مجال للاشتراط المزبور.

وإن أُريد منه أنّ المحصل للغرض المطلوب حينئذ هو الجامع بين الأقل والأكثر ، كما يظهر من تمثيله بالخط المرتسم تارة قصيراً وأُخرى طويلاً(4).

ففيه أوّلاً: أنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان الأكثر فرداً له ولا يكون الأقل الموجود في ضمنه فرداً مستقلاً كالمثال المذكور، وأما إذا كان الأقل فرداً له - كالتسبيحة الموجودة في ضمن التسبيحات - فيتحقق الامتثال به ولا يبقى مجال لوجوب الأكثر.

وثانياً : أنّ الواجب حينئذٍ هو الكلّي الجامع بينهما بالوجوب التعييني، ولا تخيير بين الواجبين، والتخيير إنّما هو بين الفردين في مرحلة الامتثال .

و[الأصل] الرابع عشر

اختلفوا في أنّ الأمر بالأمر بشيء أمر به أم لا؟

ص: 139


1- وسائل الشيعة 8: 524 ، أبواب صلاة المسافر، الباب 25
2- كفاية الأصول: 175 - 176.
3- الفصول الغروية: 103.
4- كفاية الأُصول: 176.

وفرعوا على الأوّل صحة عبادات الصبي وأنّها تشريعيّة، وعلى الثاني عدم صحتها وأنها تمرينيّة.

والتحقيق أنّ مجرّد الأمر بالأمر بشيء ليس أمراً به، وأن عبادات الصبي صحيحة؛ لأن صحتها تابعة لاستجماع شرائط الامتثال، والبلوغ إنما يكون شرطاً في التعلّق، ولا تدور صحة الامتثال مدار التعلّق مع أنّ في الأخبار دلالة على صحة عبادات الصبي(1)، كما لا يخفى على من راجعها.

و[الأصل] الخامس عشر

المأمور به موقت إن ضرب لأدائه وقت معيّن وإلّا فلا، والموقت موسّع إن كان الوقت فاضلاً عنه، كالأوقات المضروبة للصلوات الخمس وإلا فمضيق، كأيّام شهر رمضان.

و تفضيل الوقت على العمل معقول وواقع في الشرع، فلا مجال للتأمل فيه، وليس مرجع تفضيل الوقت إلى التخيير بين أفعال متماثلة متخالفة في الوقت؛ ضرورة أنّ الواجب فيه تعييني. والتخيير إنّما هو في الامتثال لا في أصل الواجب. فلا وجه لإيجاب العزم على أداء الفعل في ثاني الحال بدلاً عنه إذا أخره عن أوّل الوقت أو وسطه.

و[الأصل] السادس عشر

أنّ مطلق الأمر بالموقت لا يقتضي القضاء خارج الوقت إذا فات منه المأمور به في الوقت؛ لأنّ التقييد بالوقت على قسمين: فقد يكون النظر إليه ضعيفاً بحيث لا يزول الموقت بزواله فيقتضي القضاء، وقد يكون النظر إليه شديداً بحيث يزول الموقت بزواله فلا يقتضى القضاء.

فمطلق التقييد لا يدلّ على أحد القسمين. وضعف النظر إلى القيد منتزع من من إطلاق

ص: 140


1- لاحظ: وسائل الشيعة 5 : 440 ، أبواب الأذان والإقامة الباب ،32 و 11 : 54 ، أبواب وجوب الحج وشرائطه، الباب 20.

النظر إلى المأمور به وشدّة اهتمام المولى بالنسبة إليه بحيث يكون مطلوباً له مع زوال القيد، وهو خلاف الأصل، فيقتصر على القدر المتيقن، فلا يحكم بالقضاء إلّا مع قيام دليل عليه. وهذا معنى أنّ القضاء بأمر جديد لا بالأمر الأوّل.

ص: 141

ص: 142

المقصد الثاني في النواهي

اشارة

اعلم أنّ النهي - لغةً - يقرب من الزجر والمنع ، كما يشهد به الاطراد في موارد الاستعمالات؛ فإنّ إطلاقه على ما يقابل الأمر من الحكم التكليفي المبحوث عنه في المقام إنّما هو باعتبار كونه منعاً عن الفعل، كما أنّ إطلاقه على صيغة «لا تفعل» - كما استقر عليه اصطلاح أهل العربية - باعتبار أنها آلة للزجر والمنع.

ومن هذا الباب إطلاق النهية على العقل؛ فإنّه باعتبار كونه مانعاً من ارتكاب القبائح. كما أنّ إطلاق النهاية على آخر الشيء إنّما هو باعتبار عدم التجاوز عنه والمنع منه. وإطلاق النهايات على حدود الدار بهذا الاعتبار أيضاً. وهكذا إطلاق الإنهاء على الإبلاغ والإعلام؛ لأنه غاية قصد المبلغ. وبما بيّناه يظهر حال سائر موارد الاستعمالات.

وكيف كان، فالمبحوث عنه هو النهي المقابل للأمر والإباحة الذي هو قسم من الحكم التكليفي ومن قبيل المعاني، فتعريفه ب-«قول القائل لغيره «لا تفعل» أو ما جرى مجراه على سبيل الاستعلاء مع كراهة المنهي مع كراهة المنهي عنه»(1)غفلة أو توسع في التعريف بالتقريب في الجملة، كما أنّ تعريفه «بطلب الترك بالقول على جهة الاستعلاء»(2)كذلك أيضاً؛ فإنّ المدلول بغير القول نهى أيضاً.

والتحقيق أنه منع تكليفي يترتب عليه طلب الترك وكراهة المنهي عنه اقتضاء. وقد مرّ تحقيقه في مبحث الأمر(3).

ص: 143


1- معارج الأصول: 76.
2- نهاية الوصول 2: 67.
3- في الصفحة 79 و 79.

وكلامهم في اعتبار العلو والاستعلاء فيه نظير كلامهم في الأمر، والتحقيق اعتبارهما معاً فيه كالأمر؛ ضرورة أن تحقق التكليف بل الحكم التكليفي مطلقاً فرع ولاية المكلّف عقلاً أو شرعاً وكونه في مقام إعمال الولاية.

فتوهم عدم اعتبارهما فيه أو اعتبار أحدهما فيه عيناً أو تخييراً، في غير محلّه. والغفلة إنّما نشأت من خفاء موضوع البحث عليهم فزعموا أنّ الكلام في اعتبار الأمرين أو أحدهما يرجع إلى اعتبارهما أو أحدهما في مفهومي الأمر والنهي لغةً أو عرفاً.

إذا اتضح لك ما بيناه فاعلم أنّ لهم هنا مباحث:

[المبحث الأول]

منها: أنّ المطلوب بالنهي ما هو ؟ الترك أو الكف؟ نسب الثاني إلى الأكثر(1)محتجين عليه بأنّ النهي تكليف ولا تكليف إلا بمقدور للمكلّف، وترك الفعل لا يتعلّق به القدرة، لكونه عدماً أصليّاً سابقاً على القدرة، فلا يكون المطلوب إلّا الكفّ.

والتحقيق أنّ المطلوب بالنهي الترك؛ إذ به يتحقق الامتثال قطعاً ولا يعتبر فيه أزيد منه، وما احتج به على أنه الكفّ، في غير محله؛ لأنّ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم سواء، فلو لم يكن ترك الفعل مقدوراً لم يكن إيجاده مقدوراً ، فتأثير القدرة في الوجود فقط موجب لانقلاب القدرة بالوجوب، وهو خلف للفرض.

مع أنّ النهي كالأمر إنّما يتعلّق بالطبيعة، والترك إنّما يكون امتثالاً له لا متعلّقاً للتكليف، والطلب المتعلّق به ليس طلباً مولويّاً تكليفياً ، بل طلباً غائياً، فهو مقصود من النهي، كما أنّ الفعل مقصود من الأمر.

ص: 144


1- معالم الدين: 241. لاحظ : منتهى الوصول (مختصر ابن الحاجب): 100؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 94-95.

[المبحث الثاني]

ومنها: أنّه هل له صيغة تخصه بحيث متى ترد لغيره كانت مجازاً؟

والتحقيق أنه كالأمر ليس له صغية ولا أداة تخصة وضعاً؛ فإنّ «لا» الناهية إنما تفيد الزجر والردع المترتب عليه التحريم والتنزيه والتهديد والبطلان وسائر الأغراض المختلفة باختلاف المقامات فلا تخصه وضعاً وإنّما تخصه انصرافاً، كما أنّ صيغة «افعل» تخص الأمر كذلك، كما مر(1)ذكره.

[المبحث الثالث]

ومنها : أن مطلق النهي هل يقتضي التحريم أو الكراهة أو لا يقتضي شيء منهما؟

والتحقيق أنه يقتضي الكراهة بمعنى أنها القدر المتيقن من النهي فيحكم بها إلى أن يدل الدليل على أزيد منه، وقد اختلط الأمر على المتأخرين في هذا المبحث، كما اختلط عليهم الأمر في الأمر.

[المبحث الرابع]

ومنها: أن مطلق النهي هل يقتضي الدوام والتكرار أم لا؟

والتحقيق أنه يفيده؛ لأنّ النهي المطلق يقتضي الانتهاء مطلقاً، والانتهاء كذلك لا يصدق إلا بترك المنهي عنه وعدم إيجاده دائماً، فلو أتى به - ولو مرّةً - خالف النهي وعصى.

وهل يكون صدق الامتثال دائراً مدار ترك المنهي عنه دائماً بحيث لو خالف وأتى به مرّةً لم يكن مجال لامتثال النهي فلا يكون تركه بعد العصيان مطلوباً بالنهي، أو يصدق بالترك مطلقاً؟ غاية الأمر أنّ امتثال النهي ليس كامتثال الأمر موجباً لسقوط التعلّق حتى لا يجب الامتثال ثانياً.

ص: 145


1- في الصفحة 90.

والظاهر بل المتعيّن هو الثاني فما ذكره بعضهم من :

أنه يجوز أن يكون المطلوب ترك المنهي عنه في جميع الآنات على وجه الوحدة في المطلوب فلا يتحقق الامتثال حينئذٍ إلا بالترك في جميع الآنات، وأن يكون المطلوب الترك في كل من الآنات على وجه التعدّد في المطلوب، فلا يحمل على أحدهما إلا بدليل.(1)

في غير محله؛ لأنّ طلب الترك في النهي ليس طلباً ابتدائياً - حتى يحتمل الأمرين، وإلّا لرجع النهي عن الشيء إلى الأمر بالترك - بل مترتباً على كون الفعل مبغوضاً للمولى، بل راجعاً إليه في الحقيقة. فترك المنهي عنه ترك للمبغوض لا إتيان بالمطلوب. ومن المعلوم أنّ المنهيّ عنه مبغوض للمولى في كلّ من الآنات فيكون تركه مطلوباً كذلك فلا مجال لاحتمال كون الترك مطلوباً في جميع الآنات على وجه الوحدة في المطلوب.

[المبحث الخامس]

ومنها: أنّ النهي عن الشيء هل يكون أمراً بضده؟

والتحقيق عدم كونه أمراً بضده بتقريب ما مر(2)في عكسه.

[المبحث السادس ]

ومنها: أنه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد أم لا؟

والتعبير قاصر عن تأدية المطلب، والمراد أنّ اجتماع المأمور به والمنهي عنه في وجود واحد وتصادقهما على فرد واحد هل يوجب اجتماع الأمر والنهي عليه أم لا؟ فمَن قال بأنه يوجبه قال بعدم الجواز، ومن قال بأنه لا يوجبه قال بالجواز.

والتحقيق أن تصادق المأمور به والمنهي عنه على فرد واحد إنّما يوجب اجتماع عنواني

ص: 146


1- لاحظ: فوائد الأصول (للنائيني) 2: 394 - 395؛ أجود التقريرات 2: 122 - 123.
2- في الصفحة 119 وما بعدها.

الامتثال والعصيان على فرد واحد، والامتثال والعصيان لا يكونان مورداً للأمر والنهي المولويين، كما عرفت(1)، ولا يمتنع اجتماعهما على محلّ واحد باعتبار تعدّد منشأ الانتزاع. و توضيح المرام غاية الإيضاح يتوقف على بيان أمور :

الأوّل: أنّ متعلّق الأحكام المولويّة إنّما هي الطبائع لا الأفراد ابتداءً ولا سرايةً ولا إيجاد الطبيعة أو تركها؛ لأنّ الغرض من جعل الأحكام للوقائع الامتثال بإيجادها أو تركها، فهو في مرتبة متأخرة عنها، فلا يعقل أن تكون موضوعاً لها. وأما عدم تعلّقها بالأفراد ولو سراية فهو أوضح؛ ضرورة أنّ الفرد هي الطبيعة الموجودة، فلا يقبل الإيجاد والترك.

فما في الفصول من:

أنّ الأمر والنهي مشتركان في طلب الماهية فلا يتمايزان ما لم يعتبر مطلوبيّة المهيّة في أحدهما من حيث الوجود وفي الآخر من حيث العدم، وأيضاً الماهية من حيث هي ليست إلا هى فلا يعقل طلبها من المكلّف، وأيضاً لا تأثير للقدرة إلّا في الوجود والعدم فلا يصح التكليف إلا بهما .(2)

في غير محله؛ لأنّ التمايز بينهما إنما هو باعتبار التقابل بينهما في نفسهما لا في المتعلّق؛ ضرورة أنّ الأمر بعث على الطبيعة، والنهي زجر عنها، فأحدهما طلب فعليّ والآخر طلب تركي، فهما سنخان من الطلب يختلف آثارهما في مرحلة الامتثال؛ فأحدهما يستدعى الإيجاد والآخر الترك، ولو لم يختلفا إلّا في المتعلّق لزم اتحادهما نوعاً وعدم التقابل بينهما في حدّ أنفسهما، وهو بديهي البطلان.

وأما ما ذكره من أنّ المهيّة من حيث هي ليست إلا هي، فقد مر(3)أن معناه أن المهيّة من حيث هي لا موجودة ولا معدومة، فلا ينافي تعلّق الحكم بها.

ص: 147


1- في الصفحة 119 - 120.
2- الفصول الغروية: 125.
3- في الصفحة 111.

وأما ما ذكره من عدم تأثير القدرة إلا في الوجود والعدم فأعجب؛ ضرورة أن تأثير القدرة في الفعل والترك عبارة أخرى عن تأثيرها في الطبيعة؛ فإنّ غير المقدور ما لا يكون فعله وتركه تحت الاختيار.

ومن الغريب ما ذكره بعض الأفاضل من أنّ الأحكام الشرعية من عوارض الوجود الخارجي مدعياً فيه الضرورة فقال:

ومن الواضح أنّ تصوّر فعله لا يتصف بالوجوب حتى يكون من عوارض الماهية أو من عوارض الوجود الذهني.(1)

غفلة عن أنه لو كان كذلك لزم أن لا يكون أمر ولا نهى قبل وجود المأمور به أو المنهي عنه في الخارج؛ ضرورة استحالة ثبوت المحمول قبل وجود موضوعه. والحال أن ثبوت الأحكام الشرعيّة قبل وجود الأفعال في الخارج من أوائل البديهيات.

فإنّ التزام المكلف بالفعل في مورد الأمر وبالترك في مورد النهي إنّما يجيء من قبل الأمر والنهي، ولولا ثبوتهما قبل الوجود لم يتحقق الالتزام بالفعل والترك.

نعم، المطلوب من الأمر وجود المأمور به في الخارج من جهة أنه امتثال له، كما أنّ المطلوب من النهي ترك المنهي عنه لأجل أنه امتثال له، فالفعل والترك مأخوذان في مرحلة الغرض من الحكم لا في موضوعه ومتعلّقه. فقد اختلط عليه مرحلة الامتثال بمرحلة الموضوع والمتعلّق، فالطلب المتعلّق بهما طلب غالي لا طلب مولوي.

لا يقال: مقتضى تعلّق الحكم بالمهيّة تحقق الامتثال بتصوّر الفعل أيضاً؛ لأنه إيجاد للماهية في الذهن.

لانا نقول: أوّلاً لا منافاة بين تعلّق الحكم بالمهيّة وكون الغرض منه إيجاد المأمور به في الخارج لا مطلق الإيجاد، كما هو واضح.

وثانياً أنّ تصوّر المأمور به في الذهن ليس إيجاداً له حقيقةً، والتعبير عنه بالوجود

ص: 148


1- نقل بالمضمون. هداية المسترشدين: 328.

الذهني كالتعبير عن اللفظ بالوجود اللفظي وعن الكتب بالوجود الكتبي توسع في التعبير.

وأما ما شاع بين الأواخر من وجود الأشياء بحقائقها في الذهن فغلط بيّن، وإلّا لزم انقلاب العين إلى العرض في الذهن بل انقلاب الجميع إلى مقولة الكيف.

مع أنه لا منشأ للقول بالوجود الذهني إلا توقف صدق القضايا الحقيقية عليه عندهم وهو غفلة واضحة؛ إذ ثبوت المحمولات للحقائق ليس وجوداً أصيلاً حتى يتوقف على ثبوتها في الخارج أو الذهن، بل وجوداً ربطياً ثابتاً للموضوعات قبل وجودها في الخارج أو تصوّرها في الذهن؛ ضرورة أنّ ثبوت الزوجية للأربعة، كما لا يتوقف على وجودها في الخارج، كذلك لا يتوقف على تصوّرها في الذهن.

مع أنّ التصوّر لو كان وجوداً حقيقياً للمتصوّر لزم ثبوت آثاره في الذهن ولو على وجه ضعيف.

والقول بأنه وجود ظلّي ضعيف بحيث لا يترتب عليه أثر أصلاً(1)، في غير محله؛ إذ ضعف الوجود لا يوجب انتفاء الآثار رأساً، وإنما يوجب الضعف في الآثار. مع أنه لو كان كذلك لزم عدم ثبوت المحمولات له أيضاً؛ لأنه من جملة الآثار - والالتزام بترتب المحمولات عليه مع الالتزام بعدم ترتب أثر عليه أصلاً؛ لأنه وجود ظلّي ضعيف - تناقض منهم.

وبالجملة، بطلان القول بالوجود الذهني في غاية الوضوح، وقد فصلنا الكلام في إبطاله في محلّه بما لا مزيد عليه.

الثاني: أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بل لا موجود في الخارج سواه؛ لأنّ المفاهيم منحصرة في ثلاثة: وجود وعدم وماهيّة، والوجود لا يقبل الوجود وإلا لزم اتصاف الشيء بنفسه، كما أنّ العدم لا يقبله وإلا لزم اتصاف الشيء بنقيضه. فتبيّن أنّ الموجود في الخارج إنما هي الطبيعة والماهية.

كما تبين أن القول بأنّ الكلّي الطبيعي موجود في ضمن الفرد أو موجود بوجوده(2)،

ص: 149


1- لاحظ: الأسفار الأربعة 1: 266.
2- لاحظ : شرح الشمسية (اللعلّامة الحلّي): 222؛ شرح الشمسية (القطب الدين الرازي): 170.

غلط وإنّما الفرد هي الطبيعة الموجودة، والفرديّة إنما جائت من قبل الوجود؛ لأنّ التشخّص يساوق الوجود، كما أن الوجود يساوق التشخّص، وقد اشتهر أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد، كما أنه ما لم يوجد لم يتشخّص.

الثالث: أنه يجوز أن يتصف موجود واحد بأمرين متضادين اعتباريين باعتبار تعدّد منشأ الانتزاع، كالفوقية والتحتية العارضتين على جسم واحد باعتبار محاذاته لما تحته وما فوقه، وكالإطاعة والعصيان المنتزعين من إيجاد المأمور به والمنهي عنه في فعل واحد، كالكون المجامع لعنواني الصلاة والغصب؛ فإنّه إطاعة للأمر من حيث إنه إيجاد للصلاة، وعصيان للنهي من حيث إنّه إيجاد للغصب.

إذا اتضح لك ما بيّناه فقد اتضح لك أنّه لا مانع من اجتماع المأمور به والمنهي عنه في موجود واحد وأنه لا يوجب اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد حتى يحكم بالبطلان؛ لما اتضح لك من أنّ الأمر والنهي إنّما يتعلّقان بالطبيعة لا بإيجادها أو تركها، والإيجاد إنما يكون إطاعةً للأمر وعصياناً للنهى حينئذ، واجتماعهما على موجود واحد باعتبار تعدّد منشأ الانتزاع لا مانع منه، كسائر الأمور الاعتبارية.

و توهم أن الفعل الواحد إذا اشتمل على جهات مختلفة متضادة فلا بد فيه من تعارض الجهات الموجب للكسر والانكسار وعدم بقاء كلّ جهة على مقتضاها حتى يكون مطلوباً ومكروهاً معاً ويجتمع فيه ملاك الأمر والنهي، في غير محله؛ لأنّ ما ذكر إنّما يتمّ إذا كان ذلك في موضوع الحكم، وأمّا في إيجاد الموضوع المتأخّر عن الحكم فلا يعقل تأثيره فيه.

نعم، إذا انحصر امتثال الأمر في الفرد المجامع لإيجاد المنهي عنه يقع التزاحم بين الأمر والنهي في مرحلة الامتثال ، فيتخيّر المكلّف حينئذٍ مع التكافؤ بين الفعل والترك، ويتنجز الأهم إن لم يتكافئا، ولا يكون عدم تنجز المهم حينئذ موجباً لبطلانه لو كان عبادةً، كما مرّ(1).

ص: 150


1- في الصفحة 123.

وأمّا مع عدم الانحصار والجمع بينهما بسوء اختياره فلا مزاحمة بينهما أصلاً ويكون كلّ من الحكمين منجزاً، ولا مقتضى لبطلان العمل أصلاً، وإنّما يعاقب على ارتكاب المنهي عنه.

نعم، للشارع التصرّف في مرحلة الامتثال تصرّفاً وضعيّاً بجعل الجمع بين المأمور به والمنهي عنه في وجود واحد مانعاً عن الامتثال، فلو ثبت التصرّف المزبور وجب الحكم بالبطلان لو جمع بينهما، سواء كان عمداً أو سهواً، عالماً بالحكم والموضوع أم جاهلاً بهما أو بأحدهما.

وأما ما لم يعلم التصرّف فلا يمكن الحكم بالبطلان مطلقاً؛ إذ مجرّد النهي عن الغصب مثلاً لا يقتضي المنع عن الامتثال، بل لو صرّح الشارع بالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة لا يقتضي البطلان أيضاً؛ لأنّ النهي في مثله إنّما يفيد التحريم لأجل الغصب، وهو مسلّم، ولا يدلّ على التصرّف الوضعي في مرحلة الامتثال حتّى نحكم بالبطلان.

ولا يتوهم أنه لا يمكن قصد التقرب والتعبد بالمأمور به حينئذ لاجتماعه مع المحرّم في الوجود؛ إذ لا مانع من الإتيان بالمأمور به على وجه التعبد ولو كان مجامعاً مع المحرّم، وإنّما الممتنع قصد التعبد بالمأمور به والمنهي عنه معاً.

هذا، وحيث إنّ المسألة من العويصات وقد التبس الأمر فيها على الأكثر فلا بأس بذكر ما احتج به بعض المتأخرين على الامتناع وتخيّل أنه أتى بتمام الحجة وبيان ما فيه قال ما محصله :

أنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف الصادر عنه في الخارج، لا ما هو اسمه ولا ما هو عنوانه المنتزع منه بحيث لولا انتزاعه تصوّراً واختراعه ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً ويكون خارج المحمول كالملكية والزوجية والغصب وهكذا... ، من الاعتبارات والإضافات؛ ضرورة أنّ البعث ليس عليه والزجر لا يكون عنه، وإنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلةً للحاظ متعلقاتها.

وأنه لا يو جب تعدّد العنوان تعدّد المعنون؛ إذ ربّما تنطبق المفاهيم المتعدّدة على

ص: 151

البسيط من جميع الجهات، كالواجب تبارك وتعالى.

وأنه لا يكون للموجود بوجود واحد إلا حقيقة واحدة فالفرد متحد وجوداً و حقيقةً، وتصادق المفاهيم المختلفة والعناوين المتعدّدة عليه لا ينبئ عن أنّ له حقائق متعدّدةً منطبقةً عليه؛ ضرورة استحالة أن يكون للفرد الواحد مقائق متعدّدة وأنواع متكثّرة، فلا يجوز أن يتعلّق به الأمر والنهي باعتبار العنوانين المنطبقين عليه؛ إذ لا يوجب تعدّد العنوان تعدّد المعنون، ولا يجوز أن يقال: إنّ الحكم متعلّق بالعنوان دون المعنون.(1)انتهى ملخّصاً.

وفيه : أنك قد عرفت(2) أنّ الحكم إنّما يتعلّق بنفس الطبيعة ولا يجوز أن يتعلّق بالفعل إ الخارجي وإلّا امتنع الامتثال فعلاً وتركاً، وما ذكره من أنّ العناوين الانتزاعيّة لا وجود لها إلا في الذهن ويمتنع تعلّق الحكم بها إلا على وجه الآلية للحاظ متعلقاتها الخارجية، باطل؛ لأنّ الأمر الاعتباري إنّما يتميّز عن غيره بأنه لا استقلال له في الوجود وأن وجوده بوجود منشأ انتزاعه، فلا يكون موجوداً في الخارج، بمعنى عدم استقلاله في الوجود، لا بمعنى أنه لا يكون موجوداً إلّا في الذهن، وإلّا لزم أن يتوقف الاتصاف بها على أن يتصوّره متصوّر، وأن لا يتصف الموجود الخارجي بها؛ لاستحالة مخالفة طرفي القضيّة.

وعدم استقلاله في الوجود لا يكون قادحاً في تعلّق الحكم به بالضرورة. ألا ترى أنّ التعليم والتعلم والقتل والإحراق والتزويج والتزوّج والتذكية وهكذا... ، من الأفعال التوليدية والأُمور الانتزاعيّة، موضوعات للأحكام بنفسها؛ لأنّ مصلحة الحكم إنّما هي فيها لا فيما تولّدت وانتزعت منها، كما هو ظاهر. بل كثير من الآثار والأحكام الشرعية والعقلية إنما تترتب على الأمور الاعتبارية؛ فإن أحكام السيادة والعبودية والأبوة والبنوة والأُخوّة، من التكليفية والوضعيّة، كوجوب الطاعة والوراثة وسائر الحقوق والأحكام إنما تترتب على الأُمور الاعتبارية.

ص: 152


1- كفاية الأصول: 193 - 195.
2- في الصفحة 147.

فما زعمه من عدم جواز تعلّق الحكم بالأُمور الاعتبارية - إن كان من جهة عدم وجودها في الخارج، كما هو ظاهر كلامه، أو من جهة عدم استقلاله في الوجود - فقد ظهر لك فساده وأنه لا ينافي عدم استقلاله في الوجود، مع ترتب الحكم عليه. وإن كان من جهة عدم القدرة على إيجاده ابتداءً فهو باطل أيضاً؛ إذ يكفي القدرة على الفعل ولو بواسطة في تعلّق الأمر به.

وأما ما ذكره من أن تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون فإن أُريد به المصداق فبديهي ولكنّه لا ينفعه؛ لما عرفت(1) من أنّ الأحكام إنما تتعلّق بالعناوين الكلية لا بالمصاديق، والمصداق مطلوب من حيث إنّه امتثال للأمر لا من حيث إنّه موضوع له.

وأما ما ذكره من أنّ الموجود الواحد لا يكون له إلّا حقيقة واحدة فهو كذلك ولا ينفعه أيضاً؛ لأنّ الحقيقة والماهيّة تختص بالجواهر والأعيان، وأمّا الأعراض والأفعال فإنّما هي شئون وجهات لها فلا حقيقة لها ولا ماهيّة، والتعبير بالحقيقة والماهية فيها إنّما هو على وجه التشبيه والتنزيل، فلا مانع من اجتماع جهتين أو جهات منها في وجود واحد.

ثمّ إنّه لو سلّم أنّ الأعراض كالجواهر لها حقائق ذاتية والعناوين المأخوذة في موضوع الحكم عناوين عرضيّة طارئة عليها، فلا دليل على أن الموضوع للحكم إنما هي الأفعال بحقائقها الذاتية، بل يدور مدار نظر الحاكم، فقد يجعل العنوان العرضي موضوعاً بحيث يدور الحكم مداره - كالفقراء والمساكين وسائر العناوين المأخوذة في موضوع استحقاق الزكاة - وقد يجعل العنوان العرضي معرّفاً للموضوع بحيث لا يدور الحكم مداره، كقولك: «أكرم الجالس».

والأغلب في عناوين الأفعال أنها موضوع للأحكام على الوجه الأوّل، كالصلاة والغصب؛ فإنّ الواجب والمحرّم إنّما هما؛ العنوانان لا الكون المنطبق عليه أحدهما؛ إذ لولاه لا وجه لإيجاب الكون أو تحريمه .

ص: 153


1- في الصفحة 131 - 147.

وإن قيل : الغرض من أخذ العناوين معرفة أخذها كذلك بالنسبة إلى الموجود منها لا محلّ انطباقها المجامع لها تارةً والمفارق عنها أُخرى.

فهو باطل أيضاً؛ لما ظهر لك عن أن الحكم إنّما يتعلق بالكلي ولا يعقل أن يتعلّق بالموجود في الخارج.

تنبيهات

الأول: إنك قد عرفت أنّ مرجع القول بجواز اجتماع الأمر والنهي إلى أنّ اجتماع المأمور به والمنهي عنه وتصادقهما على محلّ واحد لا يوجب اجتماع الأمر والنهي على محلّ واحد حتى يكون ممتنعاً؛ لأنّ الأمر والنهي إنّما يتعلقان بالطبيعة ولا يسريان إلى ما تصادق عليه الطبيعتان؛ لمنافاة الصدق في الخارج، مع بقاء الأمر والنهي.

فما اشتهر في الألسنة من أن المجوّزين يجوّزون اجتماع الأمر والنهي على محلّ واحد مع تعدد الجهة، ليس على ظاهره - كما توهّم واعترض عليه بأنّ التعدّد المجوّز للاجتماع إنّما هو تعدّد الجهة التقييديّة الموجب لتعدّد الموضوع في الخارج وهو منتفٍ في المقام، وتعدد الجهة التعليلية غير نافع لبقاء الموضوع على وحدته مع تعدّدها(1) - ؛ فإنّ أدلتهم على الجواز تنادي بأنهم إنّما يقولون بتعلّق الأحكام بالطبائع لا بالمصاديق حتّى يلزم محذور اجتماع الضدّين على محلّ واحد.

وبما بيّناه تبيّن أنّ ما ذكره بعضهم من:

أنّ النزاع في تعلّق الأمر والنهي بواحد ذا وجهين ومندرجاً تحت عنوانين بأحدهما كان مورداً للأمر وبالآخر للنهي وإن كان كلياً مقولاً على كثيرين، كالصلاة في المغصوب.(2)

في غير محله؛ ضرورة عدم جواز اجتماع الأمر والنهي على محلّ واحد ولو مع تعدّد الجهة؛ لأنه تكليف بالمحال من حيث استلزامه الالتزام بالفعل والترك معاً.

ص: 154


1- حكاه هكذا عن النائيني في المحاضرات 4: 251 - 252. لاحظ: أجود التقریرات 2: 156 - 157.
2- كفاية الأصول: 183.

والثاني: مقتضى جواز اجتماع المأمور به والمنهي عنه وتصادقهما على مصداق واحد - مع بقاء الأمر والنهي على الطبيعتين؛ لعدم المانع من بقائهما كذلك، كما اخترناه - تحقق الامتثال والاجتزاء به ولو انحصر المأمور به في فرد المحرّم وكان أهم؛ لأنّ الساقط حينئذ هو تنجز الأمر لا غير، وسقوطه موجب لعدم وجوب الامتثال لا عدم صحته، إلا أن يتصرّف الشارع في مرحلة الامتثال ويجعل الجمع بين الواجب والحرام في مصداق واحد مانعاً عن الامتثال مطلقاً أو في صورة الانحصار، فيبطل حينئذ كذلك.

ومقتضى القول بعدم الجواز البطلان وعدم الاجتزاء به إلّا إذا انحصر الامتثال في فرد المحرّم ولم يكن أهم.

توضيح الحال: أنّ القائل بعدم الجواز إنّما يقول بسراية الأمر والنهي المتعلّق بالعناوين إلى مصاديقها، ومع اتحاد المصداق لا يعقل سراية الحكمين وإلّا لزم اجتماع المتضادين على محلّ واحد فحينئذٍ لا يسري إلى المصداق الجامع للعنوانين إلا أحد الحكمين. وحيث إنّ النهي يقتضي ترك الطبيعة يتوقف امتثاله على ترك هذا المصداق أيضاً ، وأما الأمر فحيث لا يقتضي إلّا إيجاد الطبيعة المتحقق في ضمن مصداق واحد لا بعينه لا يتوقف امتثاله عليه، فيتقدّم النهي ولا يزاحمه الأمر، فلا يكون إيجاده مأموراً به وامتثالاً للأمر.

هذا إذا لم ينحصر امتثال المأمور به فيه، وأما إذا انحصر فيه فيتزاحم الأمر والنهي، فإن لم يكن أحدهما أهم من الآخر يتخيّر المكلّف بين الفعل والترك؛ لاستواء سراية كلّ من الحكمين إليه، وإلّا يتعيّن الأهم ويسقط المهم.

والحاصل أنّ التزاحم في الامتثال في صورة الانحصار على المختار إنّما يؤثر في تنجيز الحكم وعدمه لا في ثبوت أصل الحكم وسقوطه. ولذا حكمنا بصحة الامتثال مطلقاً ما لم يعلم تصرّف من الشارع في مرحلة الامتثال على خلاف مقتضاه.

وأما على قول المانعين فهو مؤثر في ثبوت نفس الحكم وعدمه بالنسبة إلى المصداق. ولذا يلزمهم الحكم بالبطلان في صورة تقدّم النهي لأهميته. فالتزاحم بناءً على قول

ص: 155

المانعين مشابه للتعارض من حيث تأثيره في نفس الحكم وعدمه لا في التنجيز وعدمه، كما هو الغالب على باب التزاحم في الأحكام.

فتبين بما بيناه أمران:

الأوّل: أنّ اعتبار قيد المندوحة في الامتثال في محلّ النزاع كما عن بعض(1) - لا وجه له؛ لأنّ اجتماع الأمر والنهي - على القول بجوازه - جائز مطلقاً. غاية الأمر أنه مع عدم المندوحة في الامتثال يتخيّر المكلّف في امتثال أحدهما إن تكافئا، وإلّا يتنجز الأهمّ عليه ويصير معذوراً بالنسبة إلى المهم، لا أنه يسقط المهم رأساً، وعلى القول بامتناعه ممتنع مطلقاً. فلا مجال لاعتبار قيد المندوحة في الامتثال.

والثاني: أنّ البطلان وعدم الاجتزاء به - على القول بالامتناع - يعمّ ما إذا جهل الموضوع أو الحكم قاصراً أو مقصراً أو نسيه؛ لأنّ سراية النهي إلى الفرد لا يختص بصورة العلم بالموضوع أو الحكم وتذكره. فإيجاد الفرد المجامع للعنوانين حينئذٍ يكون مبغوضاً ومنهيّاً عنه؛ لما عرفت(2) من تقدّم النهي على الأمر حينئذ.

فما اشتهر بينهم من الحكم بالصحة في صورة النسيان أو الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور، في غير محله؛ لأنهما إنّما يوجبان العذر لا رفع النهي تحققاً أو تعلّقاً.

وما قيل من

أن صدوره حينئذٍ لا يكون مبغوضاً بل حسناً؛ لأجل العذر عن النهي، ومشتملاً على المصلحة؛ لكونه مصداقاً للطبيعة المأمور بها وإن لم يعمه الأمر لأجل وجود المانع فيصح قصد التقرّب به لكونه صالحاً له بالاقتضاء فيسقط به الأمر لوفائه بغرض المولى.(3)

غاية البشاعة؛ لأنّ العذر إنما يدفع استحقاق العقوبة على الفعل فلا يرفع المبغوضيّة

ص: 156


1- الفصول الغروية: 124.
2- في الصفحة السابقة.
3- نقل بالمضمون. كفاية الأصول: 191 - 192.

المانعة عن صحة الامتثال عنده. مع أنّ المأمور به في الحقيقة عنده إنّما هو الفرد لا الطبيعة، وأخذها في موضوع الأمر عنده إنما هو على وجه الآلية، فكونه مصداقاً للعنوان الذي لم يتعلّق به الأمر على وجه الحقيقة، لا يؤثر في حصول التقرّب به مع تعلّق النهي به وعدم تعلق الأمر به، فهو كما لم يكن مأموراً به لم يكن مصداقاً له في الحقيقة.

نعم، إن قلنا بأنّ بطلان الصلاة في الدار المغصوبة مثلاً ليس من جهة عدم جواز اجتماع الأمر والنهي - بل من جهة اجتماع عنواني الإطاعة والعصيان على مصداق واحد، المؤثر في بطلانه - يتجه ما ذكروه من الحكم بالصحة في صورة النسيان أو الجهل عن قصور؛ لعدم اجتماع العصيان مع الإطاعة حينئذٍ بواسطة العذر، ولكن لا يتم حكمهم بالبطلان في صورة العلم والالتفات؛ لما عرفت(1) من جواز اجتماع الإطاعة والعصيان على مصداق واحد باعتبار تعدّد منشأ انتزاعهما.

ولو تنزّلنا وقلنا بامتناع اجتماع الأمرين الاعتباريين المتضادين على موضوع واحد ولو مع تعدّد منشأ انتزاعهما، لزم الحكم بالبطلان في صورة الجهل بالغصب أو النسيان أيضاً؛ لأنّ مخالفة النهي - ولو مع العذر - ضدّ للموافقة مع الأمر، فلا يجتمعان على موضوع واحد.

والثالث: لو وقع في مكان مغصوب على عذر ولا يمكنه التخلّص منها إلا بعد مضيّ مقدار ما يسع الصلاة، فإن كان الوقت متسعاً بحيث يمكنه أدائها في المكان المباح تبطل صلاته فيها بناءً على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّ مجرّد العذر عن النهي لا يمنع سريان النهي إلى الفرد.

فما يظهر من كلام بعضهم من عدم الإشكال في الصحة حتى على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي؛ لارتفاع النهي حينئذ أو لثبوت العذر عنه(2)، لا وجه له.

وإن ضاق الوقت تصح؛ للتزاحم بينهما، وتقدَّمَ الأمرُ - ؛ لتنجزه وتعيّن امتثاله في هذا

ص: 157


1- في الصفحة 147.
2- لاحظ: كفاية الأصول: 210. وقد صرّح به في المحاضرات 4: 359.

الفرد - على النهي حينئذ؛ لعدم تنجزه، فيسري الأمر إلى الفرد دون النهي، فلا يكون منهياً عنه بل لا يكون غصباً أيضاً؛ لأنّ تقدّم الأمر موجب للرخصة الشرعية ومعها لا غصب بالضرورة.

هذا، ولو توسط أرضاً مغصوبة باختياره، وضاق الوقت، تنجز عليه الأمر والنهي معاً. ولا مانع من تنجزهما معاً عليه، مع عدم تمكنه من الجمع بين المأمور به والمنهي عنه؛ لأنّ ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، فهو في حكم القادر على امتثال الحكمين، فلو أتى بالمأمور به أجزئه وإن كان معاقباً على ارتكاب المنهي عنه ولو حال الخروج، وإلّا استحق العقابان.

فإن قلت: تنجز حرمة الغصب عليه حينئذٍ يستلزم النهي عن البقاء والخروج معاً، والخطاب بتركهما ، وهو باطل؛ لأنه طلب للمحال.

قلت: قد عرفت(1)أنّ الحكم التكليفي ليس من مقولة الخطاب ولا ممّا يستلزمه، وإنما يقتضي صحة الخطاب على وفقه إن لم يقترن بما يمنع عنه، فقد يجامع مع الخطاب بالخلاف، كوجوب صوم المسافر والمريض والحائض والنفساء تعلّقاً مع الخطاب بالترك.

وتوهّم أنّ وجوب الصوم شأني لا فعلي، وهم وإلا لم يترتب عليه القضاء؛ ضرورة أنّ القضاء فرع الفوت وهو فرع التعلّق.

هذا على ما اخترناه، وأما على ما ذهب إليه المانعون من عدم تعلّق الأمر بالطبائع إلّا توطئة للأفراد والمصاديق، فيشكل الأمر؛ لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي تعييناً على مصداق واحد، وعدم تطرّق التخيير بينهما؛ لتنجزهما معاً، وعدم ثبوت العذر عن واحد منهما، وعدم جواز تقديم أحدهما معيناً؛ لانتفاء المرجّح.

و توهم أنه مأمور بالخروج وليس منهيّاً عنه حال كونه مأموراً به وأنما يكون عاصياً به بالنظر إلى النهي السابق فتصح صلاته حينئذٍ حين الخروج، في غير محله؛ لأن تحقق العصيان به لا يجامع مع زوال النهي وكونه مأموراً به، وتأثير النهي الزائل للعصيان غير معقول، وما يترائى من الأمر بالخروج حينئذٍ فهو إرشاد من العقل إلى أن المكلّف عند دوران أمره بين المحذورين يتعين عليه ارتكاب أخفّهما، لا أمر مولوي منافٍ للنهى ومزيل له.

ص: 158


1- في الصفحة 77، 85 و 143.

نعم، إذا تاب المكلّف في هذا الحال يعذره الشارع بفضله، ويصير معذوراً في الخروج ولا يكون عاصياً به، فتصح صلاته حينئذٍ حتى على القول بالامتناع؛ لتقدّم الأمر على النهي حينئذٍ بالنسبة إلى الخروج؛ لثبوت العذر عن النهي دون الأمر، بل لا يتحقق الغصب بالخروج حينئذ لثبوت الرخصة الشرعية فيه.

والرابع أنك قد عرفت(1)أنّ الأمر والنهي المبحوث عنهما من قبيل المدلول لا الدليل، فهما من قبيل المتزاحمين بالنسبة إلى المصداق الجامع للطبيعتين بناءً على سراية الحكم إلى المصاديق، فلا مجال لتوهم المعارضة بينهما.

وكذا لا مجال لتوهّم المعارضة بين الدليلين الدالين على الحكمين مثل قولك: «صل ولا تغصب»؛ إذ لا نظر للدليلين إلّا إلى حكم نفسي العنوانين. وسراية الحكم بالنسبة إلى المصاديق - على القول بها - إنّما هي بالالتزام العقلى لا بدلالة اللفظ.

وما ذكره بعضهم من:

أنّ الدليلين إن كانا ناظرين إلى بيان الحكم الاقتضائي فهما من قبيل المتزاحمين يؤخذ بأهمّ الحكمين منهما، وإن كانا ناظرين إلى بيان الحكم الفعلي فإن أحرز أن أحدهما أهم من الآخر فهما كذلك أيضاً وإلا فهما متعارضان يؤخذ بالأقوى منهما دلالةً وسنداً - وبطريق الإنّ يحرز به أنّ مدلوله أقوى مقتضياً - وإن تساويا تساقطا فيرجع إلى الأصول العملية.(2)

باطل من وجوه

الأوّل: أنّ النهي مقدّم على الأمر أبداً مع وجود المندوحة في الامتثال، سواء كان النهي لا؛ أهمّ أم لا ؛ لما ظهر لك(3)من توقف امتثال النهي على ترك الطبيعة في جميع الموارد وعدم توقف امتثال الأمر إلا على وجود فرد ما منها، فلا يزاحم الأمر النهي حتّى يتقدّم الأهمّ على المهم. نعم، مع عدم المندوحة لا بد من تقدّم الأهم.

ص: 159


1- في الصفحة .78
2- فرائد الأصول (للآخوند): 163.
3- في الصفحة 155.

والثاني: أنّ أدلّة الأحكام دائماً من قبيل الأول: ضرورة أنها ناظرة إلى بيان أحكام الوقائع في حدّ أنفسها، ولا نظر لها إلى مرحلة الامتثال ، وأنها جامعة للشروط فاقدة للموانع والمزاحم أبداً، كما هو ظاهر.

والثالث: أنه مع تسلّم أنها قد تكون مبيّنة للأحكام الفعلية، فالتفكيك بين إحراز أهمية أحد الحكمين وعدمه بجعل الصورة الثانية من قبيل المتعارضين دون الأولى، لا وجه له. نعم، إحراز أهمية أحد الحكمين يوجب الحكم بتخصيص دليل المهم بدليل الأهم.

والرابع: أنّ رجحان أحد الدليلين على الآخر دلالةً أو سنداً لا يلازم كون مدلوله أقوى مقتضياً فلا مجال لجعل الأوّل كاشفاً عنه.

والخامس: أنّ الأحكام تنقسم إلى أوّليّة وثانوية: والأولية : ما يتعلّق بطبائع الأفعال و ماهيّاتها، ولا يعقل خلوّ طبيعة من الطبائع من حكم من الأحكام الخمسة التكليفية؛ إذ ما من ماهيّة وطبيعة من طبائع الأفعال إلا وهي متحيّثة بحيثيّة من الحيثيات الخمسة في نظر المولى بالضرورة.

والثانوية: ما يتعلّق بالإيجاد أو الترك ولكن إيجاد الطبيعة أو تركها من حيث مطلقاً هو لا يتعلّق به الحكم الشرعي مماثلاً للحكم الأولي أو مخالفاً له؛ لأنّ الطبيعة إن كانت مباحةً فمقتضاها الرخصة في الفعل والترك، ولا مجال لجعل إباحة أخرى بالنسبة إليهما ولا لجعل حكم مخالف لها على وجه الإطلاق وإلّا لغى الأوّل.

وإن كانت مأموراً بها أو منهيّاً عنها يكون كلّ من فعلها وتركها معنوناً بعنوان الإطاعة أو العصيان للحكم الأوّلي لا محالة والعقل يستقل في حكم الإطاعة والعصيان، ولا يعقل جعل حكم مخالف لحكم العقل بالنسبة إلى مطلق الإيجاد أو الترك؛ ضرورة استحالته مع بقاء العنوانين، ومع ارتفاعهما به يلزم صيرورة الأوّل لغواً بل منتفياً، ولا حكم مماثل له كذلك وإلا لزم التسلسل في الحكم والإطاعة والعصيان.

فالبعث على الإطاعة والزجر عن المعصية إرشاد محض ولا يكون حكماً مولويّاً، فالحكم الثانوي إنّما يتعلق بإيجاد أو ترك خاص مماثلاً للحكم الأوّلي أم مخالفاً.

فإن تماثلا كالواجب المنذور يترتب على كلّ من الفعل والترك أثر كلّ من الحكمين.

ص: 160

وإن تخالفا يتنجز الثاني دون الأوّل إن كان مانعاً عنه، كما إذا كان الأوّل أمراً والثاني تحريماً أو الأوّل تحريماً والثاني أمراً أو إباحةً، ولكن لا يرتفع أثر الحكم الأوّل رأساً.

ولذا يجب عليه قضاء المأمور به بعد رفع العذر إن كان له قضاء، كصوم الحائض والمريض والمسافر، وإن لم يكن مانعاً عنه، كما إذا كان الأوّل إيجاباً والثاني كراهةً كالصلاة في الحمام، أو ندباً كالصلاة جماعةً أو في المسجد، يترتب على كلّ من الحكمين تمام آثارهما فيجتزي بالصلاة في الحمام من حيث كونه أداءً للواجب مع غضاضة فيه من حيث الكراهة، وتحصل فضيلة زائدة على فضيلة أصل الصلاة في الصلاة جماعةً أو في المسجد من قبل الندب الطاري.

والحاصل أنه يجوز أن يخالف حكم إيجاد خاص مع حكم الطبيعة، فقد يصير إيجاد الواجب باعتبار الخصوصية الطارئة محرّماً أو مكروهاً أو مندوباً، وإيجاد المندوب كذلك واجباً أو محرماً أو مكروهاً، وإيجاد المباح الذاتي كذلك واجباً أو محرماً أو مندوباً أو مكروهاً. ولا منافاة بينهما؛ لاختلاف موضوعيهما.

وتأثير التحريم الطاري على الأمر في العذر وبطلان المأمور به دون تحريم العنوان المجامع للمأمور به في الوجود إنما هو لأجل ترتب موضوعه على موضوع الحكم الأولي، فيقيّد عنوان الإطاعة والامتثال بغير موضوع التحريم، وأما العنوان المحرّم الذي هو في عرض العنوان الواجب فلا يوجب التقييد في حد نفسه.

فتبيّن بما بيّناه أنّ المقامين مختلفان فالاستدلال على جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد باجتماع الأمر مع الكراهة في العبادات المكروهة مما لا ينبغي فتأمل*.

وظهر بما بيّناه أيضاً أنّ إرجاع الكراهة في العبادات إلى مجرد النقص في الثواب من ضيق الخناق.

*. إشارة إلى أنه يصح الاستدلال به على المطلوب؛ لأن مناط المنع عند المانعين اتحاد متعلّق الحكمين في الخارج، وهو موجود في المقام؛ ضرورة اتحاد الوجود مع الماهية في الخارج، بل اتحادهما أشدّ من اتحاد العنوانين المنطبقين على محلّ واحد. فلو كان ذلك ممتنعاً لزم امتناعه، والحال أنه واقع في الشرع [منه

أعلى الله مقامه]

ص: 161

كما ظهر أنّ الحكم الثانوي لا ينافي مع بقاء الحكم الأوّلي، وإنما ينافي بعض مراتبه، وهو التنجيز في بعض الصور. ولذا يترتب على النافلة المنذورة أحكام الندب من عدم وجوب السورة فيها وجريان الشكّ فيها وهكذا... من الأحكام، وعلى الفريضة المعادة أحكام الفرض من انعقادها جماعةً وعدم جريان الشكّ في الأُوليين منها وعدم الاكتفاء بمطلق الظنّ وهكذا... من الآثار.

فما يتوهّم من ارتفاع الحكم الأوّلي بطرق الثانوي، في غير محلّه.

والخامس: أنّ المسألة المزبورة أصوليّة لا فقهيّة؛ لأنّ البحث فيها عن سراية الحكم المتعلّق بالعناوين إلى المصاديق وعدمها المستنبط منها حكم المصداق المنطبق عليه العنوانان المختلفان في الحكم.

[المبحث السابع]

ومنها: أنّ النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه ؟ فاختلفوا فيه على أقوال، ثالثها أنّه يقتضيه في العبادات دون المعاملات(1).

والتحقيق أنّ النهي التحريمي يقتضي البطلان في العبادات. توضيح الحال يتوقف على تقديم أمور :

الأوّل: أنّ المتنازع فيه هو النهي الذي هو من قبيل المعاني؛ لما عرفت من أنّ المبحوث عنه إنما هو المقابل للأمر والإباحة الذي هو قسم من أقسام الحكم التكليفي فالمراد بالاقتضاء إنّما هو الاقتضاء العقلي لا اللفظي .

والثاني: أنّ المراد بالعبادة في المقام هي العمل الممحض للتعبد به الذي لا يصح إلا بقصد التقرب لا مطلق العمل الذي يصح أن يتقرب به، كما هو ظاهر، وإلا لم تقابل بالمعاملة.

والثالث: أنّ المراد بالفساد في المقام هو البطلان وعدم ترتب الأثر فهو معنى منتزع

ص: 162


1- كذا في معالم الدين: 250.

من عدم استكمال الأجزاء والشرائط، كما أنّ الصحة المقابلة له منتزعة من استكمالهما غالباً وإن ترتبت على ناقص الأجزاء أيضاً إذا اكتفى به بملاحظة تقديم جهة على جهة.

فتعريف الصحة في العبادات بموافقة المأتي به للمأمور به على وجهه كما عن المتكلمين(1)، تعريف بما هو الغالب، كما أنّ تعريفها بسقوط الإعادة والقضاء كما عن الفقهاء(2)، تعريف باللازم؛ ضرورة استحالة لزوم الإعادة أو القضاء مع الموافقة.

وتوهم افتراقها عنه فيما لو صلّى مستصحب الطهارة ثمّ انكشف خلافها، في غير محله؛ إذ بانكشاف المخالفة انكشف عدم الموافقة والأمر الظاهري ليس أمراً؛ لما عرفت(3)من رجوع الأحكام الظاهرية إلى التنجيز أو العذر. مع أنّ الموافقة للأمر الظاهري إنّما تقتضي سقوط الإعادة والقضاء بالنسبة إليه، فلا ينافي عدم السقوط من طرف الأمر الواقعي.

والرابع أنّ الصحة والفساد ليسا حكمين شرعيين مجعولين؛ لما عرفت(4)من أنّ الصحة صفة منتزعة من استكمال الأجزاء والشرائط تحقيقاً أو تنزيلاً، والفساد من عدمه، فهما صفتان منتزعتان من منشأهما من دون توقيف على تصرف من الشارع. والحكم بصحة الصلاة الفاقدة للأجزاء الغير الركنيّة نسياناً إنّما يتوقف على جعل الشارع من جهة تحقق المنشأ لانتزاعها، وهو كون الإحرام أهم منها، لا من جهة انتزاع الصحة بعد تحقق أن الإحرام أهم.

فما قيل من:

أنّ الأصل في العبادات والمعاملات الفساد لأنّ الأحكام الشرعيّة كلّها توقيفية، ومنها الصحة، والأصل عدمها، وعدمها يكفي في ثبوت الفساد.(5)

في غير محله.

ص: 163


1- حكاه عنهم في الإحكام (للآمدي) 1: 130
2- المصدر نفسه.
3- في الصفحة .126 .
4- في الصفحة 52 .
5- قوانين الأصول 1: 155.

والتحقيق أنّ الأصل في المعاملات الصحة إن كان الشكّ في صحة نوع منها بعد إحراز ما يعتبر في صحته عرفاً؛ لأنّ مرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في تصرّف الشارع بإبطاله رأساً أو بتضييق دائرته بجعل شرط أو مانع، والأصل عدمه.

ولا حاجة في الحكم بالصحة إلى إحراز التقرير بعد العلم بمقتضى الصحة من ولاية الشخص على نفسه وماله؛ إذ التقرير ليس شرطاً للصحة وإنما الردع مانع عنها.

وإن كان الشكّ في صحة المصداق من جهة التردّد في انطباق النوع عليه، فإن كان الشكّ في المانع بعد إحراز المقتضي كان شكّ في كون المبيع مرهوناً - مثلاً - فالأصل الصحة أيضاً. وإن كان الشكّ في المقتضي كان شكّ في كمال المتعاقدين - مثلاً - فالأصل عدم الصحة. فما اشتهر من أنّ قول مدّعي الصحة مقدّم مطلقاً، في غير محله.

وأما العبادات فإن كان الشكّ في اختراع نوع للتعبّديّة فالأصل الفساد، وإن كان الشكّ في المصداق فمع إحراز المقتضي للصحة فالأصل الصحة، وإلا فالفساد.

والخامس: أنّ فساد المنهي عنه بحسب الأصل لا ينافي مع اقتضاء النهي الفساد وعدمه، كما هو ظاهر، فتقييد محلّ النزاع ب-«ما إذا تعلّق النهي بشيء بعد ما ورد عن الشارع له جهة صحة ثمّ ورد النهي عن بعض أفراده أو خوطب به عامة المكلّفين ثمّ استثنى عنه بعضهم»(1)، لا وجه له.

كما أن تقييده بما إذا كان المنهي عنه قابلاً للصحة والفساد(2) ، لا وجه له أيضاً؛ ضرورة أنّ عدم قابليّة المحلّ للانفعال لا ينافي مع وجود المقتضي له.

إذا اتضحت لك هذه الأُمور فاعلم أنّ النهي في المعاملات مطلقاً لا يقتضي البطلان والفساد؛ لأنّ النهي حكم تكليفي والبطلان حكم وضعي ولا ملازمة بينهما، كما هو ظاهر. ألا ترى أنّ البيع وقت النداء محرم ولا يكون باطلاً.

وأما النهي في العبادات فإن كان تنزيهياً فكذلك؛ لمجامعته مع الأمر، وعدم منعه من

ص: 164


1- قوانين الأصول 1: 155.
2- كما في غایة المسئول: 318.

الامتثال؛ لأنّ النهي في العبادات إنما يتعلّق بإيجاد المأمور به، والأمر متعلّق بنفس الطبيعة، فلا يتنافيان وأمّا عدم المنع من الامتثال فواضح.

وتوهّم أنّ النهي متعلّق بما تعلّق به الأمر فلا يجتمعان للتضاد فيرتفع الأمر حينئذ فتبطل العبادة، وهم ظاهر.

وإن كان تحريميّاً يقتضي البطلان؛ لأن المحرّم حينئذ إيجاد المأمور به فلا يتحقق به الامتثال؛ ضرورة أنّ الإيجاد المحرم مبغوض للمولى، فينحصر الامتثال حينئذٍ في غير الإيجاد المحرم.

لا أقول: إنّ النهي التحريمي ينافي الأمر، كما زعمه الأكثر(1)غفلة عن أن الأمر متعلّق بنفس الطبيعة، والتحريم بإيجادها الخاص، فلا يتنافيان؛ لاختلاف موضوعهما. وإنما ينا في النهي التحريمي تنجز الأمر حينئذ لا أصل الأمر، بل لا ينافي التعلّق حينئذ، ولذا يجب على المسافر والمريض والحائض والنفساء قضاء صوم شهر رمضان مع النهي عنه في هذه الأحوال، والقضاء فرع الفوت، والفوت فرع التعلّق.

بل أقول: إنّ الامتثال لا يتحقق بالإيجاد المحرم. وهو في غاية الوضوح.

هذا كله في النهي المبحوث عنه الذي هو من قبيل المدلول والمعنى وقسم من أقسام الأحكام التكليفية. وأما النهي الذي هو من باب القول، وهو صيغة «لا تفعل» أو ما بمنزلته فلا يدلّ على التحريم حتّى يدلّ على البطلان؛ لأنّ «لا» الناهية آلة وأداة للزجر والمنع الصالح لأغراض شتّى، فقد يكون الغرض من الزجر عن العبادة حتماً العبادة حتماً هو الإرشاد إلى وجوب تقديم الأهم كقولك عند معارضة الآيات مع اليوميّة: «لا تصل الآيات وصلّ اليوميّة»، أو تنجز الحرام المجامع لها واستحقاق العقوبة عليه كقولك «لا تصل في الدار المغصوبة»، لا تحريم امتثال المهم والمجامع للحرام حتى يلزم منه بطلان العبادة.

والحاصل أنّ النهي اللفظي المتعلّق بالعبادات أو المعاملات لا يدلّ على تحريم المتعلّق حتّى يدلّ على البطلان بالملازمة مطلقاً أو في بعض الموارد.

نعم، قد يكون الغرض من النهي عن المعاملة هو البطلان ابتداءً كقولك: «لا تبع هذا

ص: 165


1- معالم الدين: 251؛ الفصول الغروية : 98؛ فرائد الأصول (للنائيني) 2: 435 - 436

البيع» بعد سؤال السائل عن صحته وبطلانه بل يمكن أن يقال: إنّ النهي عن المعاملة عند الإطلاق ينصرف إلى البطلان؛ إذ الغرض المقصود منها إنّما هو ترتب الأثر فالنهي عنها إطلاقاً ينصرف إلى سلب الأثر المقصود منها.

تنبيهات

الأوّل: أن تحريم جزء العبادة أو كيفيتها، كالجهر والإخفات، موجب لبطلانهما المستلزم لبطلان العبادة مع الاقتصار عليهما. وأمّا مع التدارك بما لا يكون محرّماً لا يوجب بطلان العبادة إلّا مع استلزامه محذوراً آخر.

وأمّا شرط العبادة فإن كان عبادة فتحريمه مستلزم لبطلانه المستلزم لبطلان المشروط؛ لانتفائه بانتفاء شرطه وإن لم يكن عبادة فلا يوجب بطلانه حتّى يوجب بطلان المشروط.

والنهي اللفظي عن العبادة لجزئها أو وصفها أو شرطها إن كان راجعاً إلى تحريم الجزء أو الوصف أو الشرط فلا أثر له مزيداً على ما بيّناه، وإن كان الغرض منه تحريم المنهي عنه وإن كان الواسطة في ثبوت الحكم هو الجزء أو الوصف أو الشرط فتبطل العبادة حينئذٍ مطلقاً.

والثاني: أنّ الفرق بين هذا المبحث والمبحث السابق في غاية الوضوح؛ لما عرفت(1)من أنّ النزاع في المبحث السابق إنّما هو في أنّ الجمع بين العنوانين في مصداق واحد يوجب اجتماع الأمر والنهي عليه وتعلقهما به أم لا؟ والنزاع في هذا المبحث في أنّ المنهي عنه بعد الفراغ عن تعلّق النهي به باطل مطلقاً أم لا مطلقاً أم فيه تفصيل؟

والثالث: قد نسب إلى أبي حنيفة وصاحبيه أنّ النهي عن شيء يقتضي صحته(2)، و هو صحيح بمعنى التمامية في الأجزاء؛ لأنّ النهي عن شيء كالأمر به فرع تطرّق وجود الموضوع ولكنّه خارج عن موضوع النزاع؛ لما عرفت(3)من أنّ المراد بالفساد في المقام هو البطلان، والصحة المقابلة له التماميّة في الأجزاء والشرائط معاً لا التمامية في الأجزاء فقط.

ص: 166


1- في الصفحة 146 - 147.
2- نسبه إليهم هكذا في قوانين الأصول 1: 163.
3- في الصفحة 163 - 163.

المقصد الثالث في المفاهيم

اشارة

اعلم أن مدلول الكلام ينقسم عندهم إلى منطوق ومفهوم فإن كان موضوعه مذكوراً في الكلام فمنطوق وإلا فمفهوم. وينقسم المفهوم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة فإن وافق المنطوق إيجاباً أو سلباً يسمّى مفهوم موافقة - ولا شبهة في ثبوته في قوله - تعالى -: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾(1)ونحوه - وإن خالفه إيجاباً أو سلباً يسمّى مفهوم مخالفة.

وقد اختلفوا في ثبوته في مواضع :

[الموضع الأوّل]

منها تقييد الحكم بالشرط بإحدى أدواته فذهب جماعة إلى أنّ المتبادر منه انتفاء الحكم بانتفائه استناداً إلى أن قول القائل: «اعط زيداً درهماً إن أكرمك» يجري في العرف مجرى قولك: «الشرط في إعطائه إكرامك».

والتحقيق ما ذهب إليه السيّد(قدس سره) من عدم دلالته على انحصار سبب سبب الحكم في الشرط (2)؛ضرورة أنّ أدوات الشرط إنّما تفيد تقييد الحكم بالشرط وتسبّبه عنه، وأمّا انحصار السبب فيه فلا تفيده بوجه. ولذا ترى أنّه لا منافاة بين قول المولى لعبده: «أكرم زيداً إن أكرمك» و«أكرمه إن آتاك» وهكذا... ، ولا يكون في الجمع بين الكلامين توسّع أبداً ولا ارتكاب لخلاف الظاهر.

ص: 167


1- الإسراء (17): 23 .
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 406.

بل التحقيق أنّ أدوات الشرط لا تفيد وضعاً إلّا تعليق الجزاء على الشرط وهو كما يكون للتقييد فقد يكون للتعميم نحو: «صل رحمك إن قطعك، وأحسن إلى أخيك إن أسائك»، وقد يكون لبيان تحقق الموضوع نحو: «إن رزقت ولداً فاختنه وإن جائك فاسق بنبأ فتبيّن عنه».

فمفاد الأدوات إنما هو التعليق والتقييد من جملة الأغراض والدواعي لا أنّ الأدوات موضوعة له. نعم، ينصرف التعليق إلى التقييد فيما يصلح له. وكيف كان، لا إشعار في أدوات الشرط إلى حصر القيد في الشرط وكونه سبباً للحكم لا غير، حتّى يفهم منه انتفاء الحكم بانتفائه.

وما ذكر من أنّه يتمّ المفهوم بضميمة أصالة عدم قيام سبب آخر مقام الشرط(1)، في غیر محله؛ لأنّ الاستناد في انتفاء الحكم إلى ما ذكر قصر للحكم على القدر المحقق منه وركون إلى أصل عملي، فلا يثبت به مفهوم لللفظ، كما هو ظاهر.

ثم إنه لو سلّم ظهور التقييد في حصر السبب في الشرط فعد انتفاء الحكم بانتفاء الشرط من المفاهيم لا وجه له؛ إذ مقتضى التقييد حينئذٍ دوران الحكم مدار القيد وهو الشرط وجوداً وعدماً، فالقضيّة الواحدة باعتبار اشتمالها على التقييد المزبور تنحل إلى قضيّتين: ثبوت عند الثبوت وانتفاء عند الانتفاء، فلا مجال للتفكيك بينهما بجعل أحدهما منطوقاً والآخر مفهوماً.

وتوهّم أنّ القضيّة اللفظية إنّما تدلّ على الثبوت عند الثبوت ابتداءً وعلى الانتفاء بالانتفاء استتباعاً فيكون الأوّل منطوقاً دون الثاني، في دون الثاني، في غير محله؛ لأنّ القضيّة الشرطيّة بناءً على دلالتها على الانتفاء بالانتفاء إنّما تدلّ على التقييد الموجب لدوران الحكم مدار الشرط وجوداً وعدماً، ولو دلّت على مجرّد الثبوت عند الثبوت ابتداءً ولم تدلّ على التقييد لم تستتبع الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء.

ص: 168


1- قوانين الأصول 1: 177.

مع أنّ مجرّد الاستتباع لا يوجب عده من المفاهيم وإلا لزم أن يكون المدلول بالدلالة الالتزامية مطلقاً مندرجاً تحت المفهوم.

تنبيهات

الأوّل: ليس مقتضى القول بعدم مفهوم للشرط تعدية الحكم إلى غير صورة الشرط؛ إذ تعدية الحكم إليه يحتاج إلى دليل فيقتصر على محلّ الشرط، سواء قلنا بأنّ له مفهوماً أم لا. نعم، إذا كان الشرط وارداً مورد الغالب ينصرف التعليق به إلى أنه من باب الغلبة ولا يوجب تقييداً للحكم فيعمّ مورد الشرط وعدمه.

وبهذا البيان تبيّن لك أنّ ما ذكره الشهيد الثاني(قدس سره) في تمهيد القواعد من:

أنه لا إشكال في دلالة الشرط والوصف على الانتفاء بالانتفاء في مثل الوقف والوصايا والنذور والأيمان، كما إذا قال: «وقفت هذا على أولادي الفقراء أو إن كانوا فقراء» ونحو ذلك .(1)

فی غیرمحلّه؛ لأنّ القصر على مورد الشرط والوصف مقتضى منطوق الكلام، والحكم بالانتفاء عند الانتفاء قطعاً إنّما هو للعلم بعدم ما يوجب التعدية؛ لعدم تطرّق انعقاد صيغة أخرى بعد إحدى الصيغ المذكورة مع اتحاد المتعلّق.

والثاني: أنّه إذا تعدّد الشرط، مثل قولك: «إذا أتاك زيد فأكرمه، وإذا أكرمك فأكرمه»، فلا معارضة بينهما حتّى يجمع بينهما بما أمكن أو يحكم بالتساقط للتعادل أو بترجيح أحدهما لوجود مرجّح سنداً أو دلالةً؛ لما اتضح لك من عدم دلالة أدوات الشرط على الحصر والانتفاء عند الانتفاء.

نعم، قد يعلم من الخارج أنّ مرجع الشروط المتعدّدة إلى أمر واحد فيجمع بينها حينئذٍ مثل جعل خفاء الأذان وتواري البيوت موجبين للقصر؛ فإنّ حدّ الترخص أمر

ص: 169


1- تمهيد القواعد: 110 ، القاعدة 25.مع تصرّف.

واحد محدود بحدّ واحد وإنما جعل كلّ من خفاء الأذان وتواري الجدران معرفاً له فيجمع بينهما حينئذٍ.

تعدّد

والثالث: قد ذكر بعضهم أنّه إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ولم نقيّد إطلاق أحدهما بالآخر بأن يقال: الشرط مجموع الأمرين أو الأمور، فهل يحكم بتعدد الجزاء حسب الشرط أو بالتداخل والاجتزاء بمرّة واحدة؟ فيه أقوال: والمشهور عدم التداخل، وعن جماعة منهم المحقق الخوانساري التداخل(1)وعن الحلّي التفصيل بين اتحاد جنس الشروط وتعدّده(2)، ثم قال ما محصله :

أنّه لمّا كان الأخذ بظاهر الجملة الشرطية - وهو حدوث الجزاء عند حدوث الشرط - مع بقاء الجزاء على وحدته مستحيل؛ لاستلزامه اتصاف الحقيقة الواحدة بحكمين متماثلين، وجب الحكم بتعدّد الجزاء حسب تعدّد الشرط بالالتزام بكون المحكوم عند كلّ شرط فرداً من الجزاء بقرينة تعدّد الشرط..

وأما إبقاء الجزاء على وحدته المستلزم للتداخل فلا يتم إلا بأحد الوجوه: إمّا التصرف في الشرط بجعله دالاً على مجرّد الثبوت، وإما الالتزام بكون الجزاء حينئذ واحداً صورةً، متعدّداً حقيقةً حسب تعدّد الشرط، متصادقةً على واحد، أو بحدوث الحكم عند حدوث الشرط الأول و التأكد عند حدوث الثاني.

والالتزام بكلّ من الوجوه الثلاثة ارتكاب لخلاف الظاهر من غير دليل بخلاف

الحكم بتعدّد الجزاء؛ فإنّه بملاحظة اقتضاء تعدّد الشرط إيّاه موافق للظاهر - إلى أن قال: - إنّ المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التي ذكرناه لا مجرد كون الأسباب الشرعيّة معرّفات لا مؤثّرات، فلا وجه لما عن الفخر وغيره من ابتناء المسألة على أنّها معرّفات أو مؤثرات.(3)انتهى.

ص: 170


1- السرائر 1: 259.
2- مشارق الشموس 1: 304.
3- كفاية الأصول: 239 - 243.

وفيه: أنّ مفاد أدوات الشرط وضعاً إنّما هو تعلّق الجزاء بالشرط المنصرف إطلاقاً إلى التسبّب، فالمستفاد منها عند الإطلاق ليس إلا سببية الشرط للجزاء المستلزمة لحدوثه بحدوث الشرط اقتضاء لا فعلاً، فلا ينافي ذلك مع تعدّد الأسباب واجتماعها على مسبب واحد حتى يجب التأويل في الشرط أو الجزاء حينئذ، فإذا تعددت الأسباب وتواردت على مسبّب واحد فإن تقارنت اشتركت في حدوثه، وإلا فالأثر للمتقدم ويسقط اللاحق عن التأثير رأساً أو يوجب التأكد إن كان المورد قابلاً له.

ولا ينافي الاشتراك في التأثير مع التقارن وسقوط اللاحق أو إيجابه التأكد مع مفاد القضيّة الشرطيّة وهو استقلال كلّ منها في التأثير لو انفرد عن الآخر.

فظهر بما بيّناه أنّ ما استظهره من عدم التداخل بزعم اقتضاء تعدّد الشرط تعدّد الجزاء؛ من أجل ظهور القضية الشرطيّة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط فعلاً، في غاية السخافة.

كما ظهر أنّ ما ذكره من ابتناء التداخل على أحد الوجوه المتقدمة وما نقله عن فخر الدين من ابتنائه على جعل الأسباب معرّفات لا مؤثرات في غير محله؛ لما عرفت من أنّ التداخل مقتضى توارد الأسباب واجتماعها على مسبّب واحد من دون تأويل في الشرط أو الجزاء، أو إخراج السبب عن كونه سبباً وجعله معرّفاً.

ثمّ إنّ ما ذكره من التصرّف في الشرط بجعله دالاً على مجرّد الثبوت راجع إلى جعل السبب معرفاً أو قريباً منه فجعل أحدهما كافياً للتداخل دون الآخر، في غير محلّه.

وإذ قد اتضح لك ما حققناه من أنّ التداخل لا يبتني على ما توهموه ويكفي فيه اجتماع أسباب متعدّدة على مسبّب واحد، فاعلم أنه ليس من باب التداخل اجتماع أسباب متعاقبة على مفهوم واحد قابل لوجودات متعدّدة متعاقبة؛ لأنّ كلّ واحد من الأسباب المتعاقبة حال ثبوته منفرداً عن الآخر يستقلّ في التأثير، ولا يزاحمه ولا يشاركه السبب المتقدّم أو المتأخّر، حتّى يتداخلا ويشتركا في أثر واحد.

بل الأمر كذلك في اجتماع أسباب متقارنة على مفهوم واحد قابل لوجودات

ص: 171

متعدّدة؛ إذ التزاحم والتداخل في التأثير إنّما هو فيما إذا لم يحتمل المورد وجودات متعدّدة متقارنة أم متعاقبة. وأمّا إذا احتملها فلا مجال للتزاحم والتداخل.

فتبيّن أنّ توهّم التداخل فيما إذا تكرّر السبب الموجب للكفارّة في يوم واحد مطلقاً أو مع عدم تخلّل التكفير بينها، في غير محله؛ لأنّ كلاً من الوجودات المتكرّرة يستقلّ في وجوب التكفير فيجتمع عليه أوامر متعدّدة تعدّد الموجب وتكرّره، وكلّ من حسب الأوامر يقتضي إيجاداً مستقلاً وامتثالاً على حدة، فلا يجتزي بتكفير واحد عن الجميع.

فإن قلت: المأمور به في كلّ من موارد السبب مفهوم واحد، وهو مطلق صادق على كلّ فرد من الأفراد، فيجب الاجتزاء بفرد واحد عن الجميع.

قلت: الدليل إنّما يكون ناظراً إلى أنّ الإتيان بالمفطر أو المبطل عمداً موجب للتكفير، وأما التكرّر بتكرّر السبب أو عدم التكرّر بتكرّره فلا نظر إليه أصلاً فهو من هذه الجهة مهمل لا مطلق فلا مجال للأخذ بالإطلاق، والتكرّر بتكرّر السبب إنّما هو مقتضى السببية ولا حاجة له إلى دليل آخر بعد الدلالة على السببية.

فإن قلت: المفهوم الواحد - بما هو مفهوم واحد - لا يعقل أن يرد عليه أوامر متعدّدة وإلّا لزم اتصافه بأحكام متماثلة وهو محال.

قلت: اتصاف الطبيعة الواحدة بأوامر متعدّدة مستقلة بحيث يقتضي كلّ منها امتثالاً مستقلاً، جائز بالضرورة؛ إذ لا مانع من اجتماعها على طبيعة واحدة مع أنّ المطلوب من كلّ منها إيجاد مستقل، وتعدّد المطلوب مع اتحاد المأمور به يوجب تنزيل المأمور به منزلة المتعدّد، فلا حاجة إلى تقييده في كلّ من الأوامر بقيد يوجب مغايرة كلّ من متعلّق الأوامر للآخر، كما زعم بعضهم(1).

فإن قلت: بناءً على ما ذكرت من اقتضاء الأوامر المتعدّدة المسبّبة عن أسباب متعدّدة تعدّد الامتثال، يقتضي أن لا يتداخل الأغسال والوضوئات.

ص: 172


1- لاحظ: تقريرات الشيرازي 3: 49 - 50 .

قلت: المأمور به في الأغسال إنّما هو الأمر المنتزع منها وهي الطهارة الكبرى، كما أنه في الوضوئات أيضاً إنّما هو الأمر المنتزع منها وهي الطهارة الصغرى، فالمأمور به في كلّ منهما إنّما هي الطهارة وهي أمر واحد غير قابل للتعدّد والتكرّر ، فهي كما لا تقبل التعدد في الوجود لا تقبل الأوامر المتعدّدة، فالمأمور به أمر واحد، كما أنّ الأمر المتعلّق به أمر واحد أيضاً.

بل لا تعدّد في السبب الموجب لها؛ لأنّ التعدّد إنّما هو في الأسباب الموجبة للحدث الأصغر والأكبر، والموجب للطهارة إنّما هو الحدث المنتزع منها وهو كالطهارة أمر واحد غير قابل للتعدّد والتكرّر ، فلا تعدّد في المسبّب ولا في السبب، بل الموجب للأمر بالطهارة إنّما هو توقف صحة الصلاة والصوم ونحوهما عليها لا الحدث.

فإن قلت: إنّما يتمّ التداخل في الوضوئات والأغسال الواجبة المنتزعة منهما الطهارة، وأمّا في الأغسال المندوبة المقصود منها نفسها لا الطهارة؛ لعدم إيجابها إيّاها، فلا.

قلت: الغسل كالوضوء حقيقة واحدة لا تختلف باختلاف الوجوب والندب، فهو منشأ لانتزاع الطهارة مطلقاً، كما اختاره علم الهدى(قدس سره) ولذا تنتقض بالحدث وتتداخل مع الغسل الواجب.

وقد فصلنا الكلام في الفقه في إبطال ما ذهب إليه الأكثر من التفصيل بين الغسل الواجب والمندوب وجعل الأوّل طهارة دون الثاني(1).

[الموضع الثاني]

ومنها تعليق الحكم على الوصف، فقد ذهب بعض إلى أنه يفيد انتفاء الحكم بانتفاء الوصف(2).

والتحقيق العدم، كما اختاره الأكثر؛ لأنّ فهم الانتفاء عند الانتفاء منه موقوف على أمرين: كون التعليق للتقييد والتعليل وحصر القيد والعلّة في الوصف، وكلاهما ممنوع؛ أمّا الأوّل فلأن فوائد التعليق متعدّدة:

ص: 173


1- القواعد الكلية: 206 - 209.
2- وهو ظاهر الشيخ في التهذيب 1: 224؛ والشهيد في ذكرى الشيعة 1: 53 .

منها شدّة الاهتمام ببيان حكم محلّ الوصف إمّا لاحتياج السامع إلى بيانه أو لدفع توهم عدم شمول الحكم له.

ومنها اقتضاء المصلحة إعلام حكم الصفة بالنص وما عداها بالبحث.

ومنها مطابقة الجواب للسؤال، كما إذا كان جواباً للسؤال عن محلّ الوصف.

ومنها تقييد الحكم به وكونه علة له، إلى غير ذلك من الفوائد، وليس ظاهراً في التقييد بل مشعراً به، وليس الإشعار حجّة.

وأمّا الثاني فالأمر فيه أظهر؛ ضرورة عدم اقتضاء التعليق حصر السبب في الوصف، فلو أُحرز أنّ الوصف في مقام التقييد والتعليل فلا يحكم بانتفاء الحكم بانتفائه؛ لتفرّعه على حصر السبب فيه، ومجرّد التقييد لا يقتضيه. نعم، يحكم به حينئذٍ بمعونة الأصل.

تنبیهان

الأوّل: لو قلنا بثبوت المفهوم للوصف فمفهوم «كلّ غنم سائمة فيه الزكاة»(1)- مثلاً - لا شيء من المعلوفة فيه الزكاة؛ لما ظهر لك(2)من أنّ الحكم بالانتفاء عند الانتفاء من قبل التعليق فرع اقتضاء الحصر ومقتضى حصر السبب في الوصف عدم ثبوت حكم الزكاة في شيء من المعلوفة.

فما ذكره صاحب المعالم(قدس سره) من:

أن مفهوم قولنا:«كلّ حيوان مأكول اللحم يتوضأ من سؤره ويشرب منه»هو أنّه لا شيء ممّا لا يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب منه.(3)

في محلّه، فردّ بعضهم عليه بأنّ مفهومه ليس كلّ ما لا يؤكل لحمه كذلك وهو يصدق بأن

ص: 174


1- في المصادر: «في سائمة الغنم الزكاة» التهذيب 1: 224 الباب 10، الحدیث 26
2- قبل عدّة أسطر.
3- نقل بالمضمون. معالم الدين (قسم الفقه) 1: 365.

يكون بعضها ليس كذلك وبعضها يكون كذلك(1)، في غير محله؛ لمنافاته للحصر المبتني عليه مفهوم الوصف.

والثاني: أنه لو قلنا باقتضاء التعليق على الوصف التقييد وحصر القيد فيه فالحكم بالانتفاء عند الانتفاء كالثبوت عند الثبوت من قبيل المنطوق لا المفهوم، كما هو ظاهر.

[الموضع الثالث]

ومنها التحديد بإحدى أدوات الغاية، فنسب إلى الأكثر دلالته على مخالفة ما بعدها لما قبلها في الحكم(2).

والحق ما اختاره السيد(قدس سره)من عدم اقتضائه المخالفة وضعاً(3)؛ لأنّ التحديد بالمنتهى - كالتحديد بالمبدأ - إنما يكشف عن أن منظور المتكلّم إنّما هو بيان المحدود لا أن الحكم لا يتجاوز عن الحدّ واقعاً. ولذا ترى أنه يصح قولك «سرت من البصرة إلى الكوفة ومنها إلى الحلب ومنه إلى الشام، وهكذا... » من دون تأويل وارتكاب تجوّز. نعم، لا يبعد القول بانصراف إطلاق التحديد إلى المخالفة.

وقد يتوهم:

أن الغاية إن كانت قيداً للحكم بحسب القواعد العربية، كما في قوله: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنه «حرام»(4)و «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»(5)، فهي دالّة على ارتفاع الحكم عندها وإن كانت قيداً للموضوع، مثل «سر من البصرة إلى الكوفة»، فحالها حال الوصف في عدم الدلالة وإن كان تحديده بها بملاحظة حكمه وتعلّق الطلب به.(6)

ص: 175


1- حكاه كذلك عن بعضهم في قوانين الأصول 1: 182 وللمزيد راجع: مختلف الشيعة 1: 230.
2- معالم الدين: 220 - 221
3- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 407
4- الكافي 5: 313 باب النوادر،الحديث 40؛ الكافي ،6: 339، باب الجبن، الحديث 1.
5- المقنع (للصدوق): 15؛ مستدرك الوسائل 2: 583، الباب 30، الحديث 4.
6- کفایة الأُصول: 246.

وهو وهم؛ لأنّ وضع اللفظ لا يختلف باختلاف التراكيب، وكما يتصوّر ثبوت المحدود بعد الغاية في الأفعال فكذلك يتصوّر ثبوته بعدها في الأحكام، كقولك «يجب على الحاضر الإتمام إلى أن يسافر» فإذا سافر وخرج عن حدّ الترخص وجب عليه التقصير إلا أن يكون عاصياً في سفره أو كثير السفر فيجب عليه الإتمام.

وأما ما ذكره من المثالين فإنّما لا يتصوّر ثبوت الحكم فيهما بعد الحد؛ لأنه محدود بضده ومن المعلوم أنه لا يعقل ثبوت الحكم حينئذٍ وإلا اجتمع الضدّان، والاغترار إنّما حصل له من قبل المثالين

هذا بالنسبة إلى ما بعد الغاية وأمّا نفس الغاية فقد اختلفوا في دخولها في المغيّى وعدمه على أقوال(1):

ثالثها: الدخول إذا كانت من جنس المغتى، كقوله - تعالى -: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق﴾(2)وإلا فلا كقوله - تعالى -: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(3).

ورابعها: التفصيل بين الواقعة بعد كلمة «حتى» و«إلى» فحكم بالأوّل في الأوّل وبالثاني في الثاني.

وخامسها: التوقف.

والتحقيق أنّ التحديد صالح للأمرين، فمع عدم الدليل على الدخول يحكم بالخروج، والحكم بالدخول في الآية الكريمة ونحوها إنّما هو من جهة أنّ العلم باتصال الغاية فيها لا يتحقق إلا بإدخالها في المحدود.

[الموضع الرابع]

ومنها إثبات الحكم لموضوع، فنسب إلى بعض العامة دلالته على نفي الحكم عمّا

ص: 176


1- لاحظ: قوانين الأصول1: 186؛ غاية المسئول: 350.
2- المائدة (5): 6.
3- البقرة (2):187

عداه(1)مستدلاً عليه بأنّ التخصيص بالذكر لا بد له من مخصص ونفي الحكم عن غيره صالح له، والأصل عدم غيره، وهو المعبّر عندهم بمفهوم اللقب.

وهو باطل جداً؛ إذ يكفي في التخصيص تعلّق الإرادة ببيان حكمه دون غيره، ومن البديهيات عدم إشعار قولك «زيد عالم أو جاهل غني أو فقير قائم أو قاعد، وهكذا... »بنفي الصفات المذكورة عن غيره فضلاً عن الدلالة عليه، وإلا لكان قولك «زيد موجود»و«عیسى نبي»كفراً؛ لاستلزامهما نفي الصانع ونبوة نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم)حينئذ.

ومثله تعليق الحكم على عدد مخصوص؛ فإنّه لا يدلّ على نفيه عمّا زاد عنه بالضرورة والنفي في بعض الموارد ثابت بالدليل، فالقول بحجيّة مفهوم العدد كما عن بعضهم(2)بمكان من الوهن والبطلان.

[الموضع الخامس]

ومنها تصدير الكلام ب-«إنّما»، وتقديم المسند إذا كان وصفاً محلّى باللام أو مضافاً ولا عهد، فقد اختلفوا في أنهما يفيدان الحصر المستتبع لنفي المقصور عمّا عدا المقصور عليه أو لنفي ما عدا المقصور عليه عن المقصور، أم لا؟

والتحقيق أنهما يفيدانه بشهادة التبادر، كما عليه الأكثر(3).

وأمّا دلالة «ما» و «إلّا» على الحصر. فقيل:

إنه لا خلاف فيها وإنما الخلاف في أنّ دلالتهما عليه من باب المنطوق أو المفهوم.(4)

ثم قال:

ص: 177


1- نسبه إلى الدقاق وبعض الحنابلة في قوانين الأصول 1: 191.
2- مفاتيح الأصول: 216.
3- قوانين الأصول 1: 188 و 190 ؛ الفصول الغرويّة: 154؛ كفاية الأصول: 247.
4- نقل بالمضمون. الفصول الغروية: 154.

والتحقيق في ذلك أن يتكل على العرف، ولا ريب أن عرفهم يساعد على تسميته مفهوماً لا منطوقاً وإن انطبق عليه حدّ المنطوق لا المفهوم؛ فإنّ حدودهم مؤوّلة أو غير مستقيمة.(1)

والصواب أنه من باب المنطوق لا المفهوم؛ لأنّ الحصر مفهوم بسيط ينحلّ إلى إثبات وسلب فلا مجال لجعل أحدهما منطوقاً والآخر مفهوماً. وإيكاله إلى العرف لا وجه له؛ لأنّ التقسيم إلى المنطوق والمفهوم أمر اصطلاحي معلوم تفصيلاً يرجع فيه إلى ما جعلوه ميزاناً له في اصطلاحهم لا عرفي واقعي معلوم ارتكازاً حتّى يرجع فيه إلى فهم العرف.

ص: 178


1- الفصول الغروية: 154.

المقصد الرابع في العموم والخصوص

[الفصل] الأول

وفيه فصول:

في أنّه هل للعموم صيغة تخصه بحيث متى ترد لغيره كانت مجازاً؟ فقيل نعم.(1)وقيل لا.(2)

والتحقيق العدم؛ توضيح الكلام فيه يتوقف على بيان المراد من العموم في المقام فأقول - بعون الله تعالى ومشيّته - : إنّ العموم في نحو «أكرم العلماء»، كما يكون في الموضوع يكون في أيضاً وإن كان العموم فيه تابعاً للأول. والمراد من العموم في المقام إنّما هو العموم في الحكم بقرينة أنّ من جملة الفصول المعقودة للعموم في كتب القوم مبحث التخصيص والقابل للتخصيص إنّما هو العموم في الحكم؛ ضرورة أنّ التخصيص قصر للحكم على بعض أفراد الموضوع لا قصر للموضوع على بعض أفراده.

لا يقال: الموضوع بوصف أنه موضوع مقصور على بعض الأفراد حينئذٍ أيضاً.

لأنا نقول: إن قصر الموضوع كذلك عبارة أخرى عن قصر الحكم ولا يكون قصراً آخر.

إذا اتضح لك ما بيّناه اتضح لك أنّ ألفاظ العموم ك-«كلّ» و «جميع» ونحوهما، لا تخصّ العموم المبحوث عنه وضعاً؛ إذ لا يعقل أن تكون الألفاظ الدالة على الموضوع ناظرة إلى

ص: 179


1- العدّة في أصول الفقه 1: 278 - 279
2- الذريعة إلى أُصول الشريعة 1: 201.

الحكم فضلاً عن كيفيته من العموم أو الخصوص، فلا يكون العموم مستفاداً من الموضوع حتّى تكون بالوضع أم لا، وإنما هو مستفاد من الهيئة التركيبية ومقتضى الوضع والحمل. ومن المعلوم أنّه لا اختلاف في وضع التركيب في نحو «أكرم كلّ القوم» و «أكرم زيداً» ونحوهما؛ ضرورة عدم اختلاف وضع التركيب باختلاف الطرف، فهو إنما يفيد الإسناد في الموردين وضعاً، وعموم الحكم أو خصوصه إنّما استفيد من اختلاف الطرف.

وقدماء الأصوليين تنبهوا لاستفادته من الهيئة لا اللفظ؛ حيث جعلوا البحث في الصيغة وقالوا: «هل للعموم صيغة تخصه بحيث متى ترد لغيره كانت مجازاً»(1)؟

والعجب أنّ المتأخرين مع محافظتهم على عنوان المتقدمين، والتعبير عن موضوع البحث بالصيغة اختلط عليهم الأمر وزعموا أنّ النزاع في أنه هل للعموم لفظ يختص به وضعاً.

وأعجب منه أنّ القائلين بثبوت لفظ يختص به لغةً استدلوا بتبادر العموم عرفاً من النكرة الواقعة في سياق النفي، وقالوا: «التبادر دليل الحقيقة فيكون كذلك لغة؛ لأصالة عدم النقل»(2)؛ فإنّ تبادر العموم من النكرة حينئذٍ إنّما هو من قبل وقوعها في سياق النفي، ومن الواضح أنه لا يختلف وضع النكرة باختلاف وقوعها بعد الإثبات والنفي، فالوضع واحد في المقامين بل لا اختلاف في المستعمل فيه أيضاً، والاختلاف في تبادر العموم وعدمه إنما جاء من قبل اختلاف الحكمين، فلا يكون التبادر حاقياً مستنداً إلى الوضع.

وبما بيّنّاه تبيّن امور:

الأوّل: فساد ما ذكره بعضهم من:

أنّ العموم قد يستفاد من جهة وضع اللفظ كلفظ الكلّ وما يرادفه، وقد يستفاد من القضيّة عقلاً كالنكرة الواقعة في سياق النفي، وقد يستفاد من جهة الإطلاق مع وجود مقدّماته.(3)

ص: 180


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 201؛ غنية النزوع 2: 310.
2- معالم الدين: 259.
3- درر الفوائد (للحائري) 1: 178

؛ لأنه إن أُريد من العموم العموم في الحكم فاستفادته من جهة وضع اللفظ له غير معقول. وإن أُريد منه العموم في الموضوع ففيه أنّ الموضوع في مثل ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾(1)و «ما جائني رجل» لم يكن عاماً وإنما العموم في الحكم.

والثاني: أنّه كما تبيّن فساد القول بوضع صيغة للعموم تبيّن فساد القول بوضعها للخصوص - كما نسب إلى بعض(2) - وبالاشتراك لفظاً بل معنى أيضاً؛ لما تبيّن لك من أنّ الهيئة التركيبية إنّما تفيد الإسناد ذاتاً أو وضعاً، والعموم والخصوص کيفيتان طارئتان عليه من قبل المورد وخصوصيّة الطرف، فلا نظر للصيغة وضعاً أو ذاتاً إلى الحالة الطارئة الجامعة بين الكيفيتين حتّى تكون مشتركة بينهما.

والثالث: أنّه كما تبيّن أنّ عموم الحكم لا يستند إلى وضع لفظ ولا صيغة، تبين لك أنّ أنحائه من الشمولي والبدلي والجنسي والمجموعي كذلك أيضاً، فلم يتعيّن لفظ ولا صيغة لأحد الأنحاء وضعاً حتى يكون استعماله في خلافه موجباً للتجوّز.

تنبيه

كما يعم الحكم تبعاً لعموم متعلّقه كذلك قد يعم لخصوصية في الحكم:

من قبوله السريان في الأجزاء مع كون المتعلّق فرداً واحداً بعينه، كقولك: «بعت عبدي أو داري»نحوهما؛ فإنّ الحكم يعمّ الأجزاء على وجه الشمول. ولذا يصح استثناء الثلث والربع وهكذا... من الكسور، مع أنّ المتعلق فرد خاص لا يتطرق فيه التعدّد من حيث الأفراد بوجه.

أو من كونه سلبيّاً مع عموم المتعلّق على وجه البدليّة لا الشمول، كقولك: «ما جائني رجل»؛ فإنّ النكرة تدلّ على فرد واحد لا بعينه في المقام وسلب المجيء عنه لا يصدق إلا بسلبه عن جميع الأفراد، فالنكرة باقية على معناها الأصلي من إفادة الطبيعة الموجودة في ضمن فرد واحد لا بعينه، ومع ذلك يعمّ الحكم السلبي جميع الأفراد.

ص: 181


1- البقرة (2): 275.
2- نسبه إلى قوم في معالم الدين: 258.

أو من كونه من عوارض الماهية مع كون الموضوع اسم جنس معرّفاً باللام أم لا، كقوله - تعالى -: ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(1)، فإنّ الأحكام الوضعية من عوارض الماهية لا الوجود فيسري إلى جميع الأفراد.

أصل

تعلّق الحكم بالجمع المحلى باللام يقتضي الاستيعاب والعموم لجميع الأفراد المندرجة تحته حيث لا عهد.

والوجه فيه أنّ أداة الجمع تُبيّن أنّ متعلّق الحكم هو الجنس الموجود في أكثر من فرد أو فردين، واللام تتكفّل الإشارة إليه، فإن كان في البين معهود ينصرف إليه وإلا يعمّ الجميع؛ لأنّ تخصيص بعض مراتب الجمع دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

والعموم قد يكون أفراديّاً شموليّاً بحيث يكون كلّ واحد من أفراده مورداً للامتثال بعينه بحيث لو أخل بواحد منها عصى وإن تحقق الامتثال بالنسبة إلى سائر الأفراد نحو «أكرم العلماء» إذا أريد منه العموم الشمولي.

وقد يكون أفراديّاً بدليّاً كقولك: «قلّد الفقهاء»؛ إذ المقصود منه ليس تقليد جميعهم فلو قلّد واحداً منهم تحقق الامتثال ولا يجوز له الجمع بين تقليد فقيهين في حكم واحد.

وقد يكون العموم جنسيّاً، كقوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾إلى آخر الآية الكريمة(2)، وقولك: «تزوّج الأبكار ولا تتزوّج الثيبات» و «جالس العلماء وصاحب الحكماء»وهكذا... من الأمثلة؛ فإنّ المقصود في هذه الموارد وأمثالها إنّما هو إثبات الحكم للجنس. ولذا لا يجب الاستيعاب بالنسبة إلى كلّ صنف من أصناف المستحقين.

فالتعبير بصيغة الجمع المحلّى باللام حينئذ إنّما هو للتنبيه على عدم التفاوت بين

ص: 182


1- البقرة (2):275 .
2- التوبة (9): 60 .

الأفراد وأنّ الحكم متعلّق بالجنس في أي فرد تحقق من دون نظر إلى الاقتصار على فرد واحد أو استيعاب الأفراد، فالحكم يعمّ جميع الأفراد في جميع الصور وإن اختلفت أنحائه من حيث الشمول والبدلية والجنسية باختلاف الموارد مع بقاء الجمع المحلى باللام على مفاده الأصلي من إفادة استغراق جميع الأفراد.

ولا تنافي بين كون الموضوع عاماً مستغرقاً جميع أفراده على وجه الشمول لا البدلية وكون الحكم المتعلّق به عاماً على وجه البدليّة أو الجنسيّة.

فتوهّم انسلاخ الجمع عن معنى الجمعية حينئذٍ بزعم انتفاء العموم رأساً أو انتفائه بالنسبة إلى معنى الجمعية، باطل. مع أن انسلاخ الجمع عن معنى الجمعية غير متصوّر؛ فإنّ الأداة وما في حكمها من الهيئات الاشتقاقية أو التركيبية لا تنفك عن مفادها أبداً، فالجمع في جميع الموارد يفيد معناه الأصلي، والحكم يعمّ الأفراد.

غاية الأمر أنه تختلف كيفيته باختلاف الموارد لا أنه يختص بالعموم بالشمولي. نعم، ينصرف العموم فيه إلى الشمولي حيث لا قرينة على كونه بدليّاً أو جنسياً.

واعلم أنه قد يكون العموم مجموعيّاً بقرينة المورد كقولك: «هذا الحصن لا يفتحه إلّا الأشدّاء من الرجال» و «هذا الطعام لا يشبع القوم»، وهو قليل بالنسبة إلى سائر الموارد.

تنبيهات

الأوّل: قال بعضهم:

إذا وقع الجمع المحلّى باللام في سياق النفي، كقول القائل: «والله لا أتزوّج الثيبات ولا أزور الفسّاق» كان المفهوم منه السلب الكلّي. ولهذا يحنث إذا تزوّج ثيبةً أو زار فاسقاً(1).

وهو ينافي مع ما اتفقوا عليه من أنه يفيد العموم؛ فإنّ مقتضاه حينئذ سلب العموم المستلزم

ص: 183


1- الفصول الغروية: 170.

لسلب الجزئي لا السلب الكلّي، كما في قوله: «ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه». ثمّ أجاب بأنه محمول على إرادة الجنس، كما في قولهم: «فلان يركب الخيل»(1).

والتحقيق في الجواب أن الجمع المحلّى باللام إنّما يقتضي العموم في الحكم المتعلّق به سلباً كان أو إيجاباً؛ لأنه إنما يستفاد منه العموم بمعونة اللام وأداة الجمع المبينتان لوجه استعمال المفرد في مقام الحكم عليه، فليس حاله كحال العام المسوّر ب-«كل» حيث يفيد العموم في الموضع قبل تعلّق الحكم به.

والثاني: قال المحقق القمي(قدس سره):

الأصل في الجمع المحلّى باللام أن يكون لاستغراق الجماعات دون الآحاد؛ لأنّ مدلول الجمع جنس الجماعة فإذا عرف باللام وأُريد منه الاستغراق ك-ان استغراقه لجميع ما يصدق عليه مدخوله من الجماعات إلا أن الاتفاق والتبادر أخرجاه عن ذلك إلى العموم الأفرادي بسلخ معنى الجمع عنه، والظاهر أن معناه الأصلي قد هجر وأنّ الهيئة التركيبية وضعت للعموم الأفرادي.(2)

وفيه أنّ مدلول الجمع إنّما هو الجنس الموجود فيما فوق الواحد أو اثنين، فموضوع الحكم إنّما هو الجنس الساري في الأفراد لا الجماعة فيكون العموم حينئذ أفراديّاً لا محالة.

مع أن كون متعلّق الحكم هو الجماعة لا ينافي مع كون عمومه أفراديّاً، كما أن تعلّق الحكم بالكل لا ينافي مع سريانه في الأجزاء وعمومه إياها عموماً أفراديّاً. ولذا ترى أنّ اسم الجمع كالقوم - مع أنّ مدوله الجماعة لا الجنس - يكون الحكم المتعلّق به عاماً أفراديّاً.

والثالث: أنّ أقلّ مراتب صيغة الجمع اثنان. وإنّما تنصرف إلى الثلاثة بملاحظة مقابلتها لصيغة التثنية، والدليل عليه إطلاقها على الفردين كثيراً مع عدم العلاقة، وعلاقة الجزء والكل باطلة وإلّا لصح استعمال الكلّ في الجزء والعكس مطّرداً، مع أن التجوز لا يجري في الحروف وما بمنزلتها.

ص: 184


1- الفصول الغروية: 170.
2- نقل بالمضمون. قوانين الأصول 1: 215 - 216. حكاه هكذا عن «بعض المعاصرين» في الفصول الغروية: 170 .

والرابع: أنّ المراد من العموم في كلماتهم عند الإطلاق هو العموم الشمولي الأفرادي. ولذا اتفقوا على أنّ المفرد المنكر لا يفيد العموم إلا في سياق النفي واختلفوا في أنّ المفرد المعرّف هل يفيد العموم أم لا ؟ واشتهر بينهم أنّ الجمع المنكر لا يفيد العموم(1) خلافاً للشيخ(قدس سره)(2).

مع أنّ إفادة العموم البدلي - المعبّر عنه بالإطلاق - في المفرد المنكر والمعرف باللام حيث لا عهد بالنسبة إلى الأفراد وفي الجمع المنكر بالنسبة إلى أقل مراتب الجمع حقيقةً أو انصرافاً، ممّا لا يقبل الإنكار وإنّما الاختلاف في العموم الشمولي الأفرادي.

والتحقيق أنه عند الإطلاق والتجرّد عن القرينة لا يكون العموم في الموارد الثلاثة إلا بدليّاً ولا حجّة فيما احتج به على إفادة المعرف باللام العموم، من جواز وصفه بالجمع المحلّى باللام فيما حكي(3)من قولهم: «أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر» وصحة الاستثناء منه، كما في قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾(4)؛ لأنّ عموم الجمع في قولهم إنّما هو العموم الجنسي المطابق لعموم المفرد لا العموم الشمولي المنصرف إليه الجمع عند الإطلاق ضرورة أنّ المراد هلاك الناس بهذين الجنسين؛ لإهلاكهم بكل فرد من أفرادهما.

وأما صحة الاستثناء فهي دالّة على أنّ المراد منه العموم في هذا المورد لا على إفادته إيّاه عند الإطلاق.

ثم اعلم أنّ الأحكام تنقسم إلى قسمين عارض الوجود وعارض الماهية وما ذكرناه من حمل العموم في الموارد الثلاثة على العموم البدلي عند الإطلاق إنما هو بالنسبة إلى القسم الأوّل، كالمجيء والقيام والقعود وهكذا... .

وأما القسم الثاني فإن لم يناف الوجود، كالأحكام الوضعية نحو حلية البيع وحرمة

ص: 185


1- معالم الدین: 265 قوانين الأصول 1: 220.
2- لاحظ: العدّة في الأصول 1: 295 - 296.
3- حكاه في معالم الدين: 263.
4- العصر (103): 2 و 3.

الربا وعاصميّة الكرّ من الانفعال وهكذا...، فهي سارية في جميع الأفراد على وجه الشمول؛ لأنه مقتضى عروضها على الماهية وعدم منافاتها مع الوجود، وإن نافي الوجود، كالأحكام التكليفية، فهي لا تعمّ الأفراد لا على وجه الشمول ولا على وجه البدلية؛ ضرورة أنه بعد الإتيان بالفرد في الخارج لا يبقى أمر ولا نهي بالنسبة إليه؛ لأنّ الغرض منهما إنّما هو الامتثال بالفعل أو الترك، والفرد لا يكون مورداً للفعل ولا للترك، كما هو ظاهر.

وبما بيناه تبيّن أنّ ما ذكره في المعالم في المفرد المعرف باللام من أنّ القرينة الحالية قائمة في الأحكام الشرعيّة غالباً على إرادة العموم منه حيث لا عهد خارجي(1)فمثل بالأمثلة المتقدّمة، ثمّ قال:

ووجه قيام القرينة على ذلك امتناع إرادة الماهية والحقيقة؛ إذ الأحكام الشرعية إنّما تجري على الكليات باعتبار وجودها، كما علم آنفاً، وحينئذ فإما أن يراد الوجود الحاصل بجميع الأفراد أو ببعض غير معيّن، لكن إرادة البعض تنافي الحكمة؛ إذ لا معنى لتحليل بيع من البيوع وتحريم فرد من الربا وعدم تنجيس مقدار الكرّ من بعض الماء، إلى غير ذلك من موارد استعماله في الكتاب والسنة، فتعين في هذا كله إرادة الجميع، وهو معنى العموم.(2)

في غير محله؛ أما أوّلاً فلما تبين لك(3)من أنّ الأحكام الشرعية التكليفية إنما تتعلّق بالطبائع ولا سراية لها إلى الأفراد أصلاً، والفرد إنما يكون امتثالاً للأمر وعصياناً للنهي والوضعيّة متعلّقة بها ابتداءً وتعمّ الأفراد تبعاً من دون حاجة إلى ملاحظة الحكمة.

وأما ثانياً فلأنه لا يختص ذلك بالمفرد المعرف باللام بل يجري في المفرد والجمع المنكرين.

الخامس: قد عنونوا الكلام في المقام في أنّ الخطابات الشفاهية هل يعم الغائبين عن مجلس الخطاب من الموجودين والمعدومين ؟ نسب إلى بعض أهل الخلاف العموم(4).

ص: 186


1- معالم الدین: 262.
2- معالم الدین: 264 - 265.
3- في الصفحة 80 و 147.
4- نسبه إليهم في معالم الدين: 269

والتحقيق أنه إن أُريد منه أن مدلول الخطابات من أحكام الوقائع يعم فهو كذلك؛ لما عرفت(1) من أنّ حكم الواقعة ثابت قبل وجود المكلّف واتصافه بشرائط التكليف، والمتوقف على الأمرين إنما هو تعلّق الحكم به .

و ما قيل من استحالة وجود الطلب قبل وجود المطلوب منه(2)، لا ينافي ما بيناه؛ لأنّ حكم الواقعة ليس من مقولة الطلب والإرادة بل عبارة عن تحيّث الواقعة بإحدى الحيثيات الخمسة بحيث لو سئل عنها لأمر بها أو لنهى عنها أو لرخص فيها، وإنما يترتب عليه الطلب بعد بلوغه مرتبة التنجز.

وإن أُريد منه أنّ نفس الخطابات تعمّ فهو كذلك أيضاً في خصوص خطابات القرآن؛ لأنها تصنيفيّة لا شفاهيّة؛ ضرورة أنّ تأليف القرآن سابق على مجلس الخطاب فهو من قبيل الكتب المصنّفة لا يخاطب بخطاباته مخاطب خاص، وأما الخطابات الواقعة في الروايات فهي مختصة بالمشافهين.

ثمّ إنّه قد ذكر بعضهم أنّ ثمرة الخلاف تظهر في مقامين(3):

الأوّل: اختصاص حجيّة ظهور خطابات الكتاب والسنّة بالمشافهين بناءً على اختصاص الخطاب بهم وعدم الاختصاص بهم بناءً على القول بعموم الخطابات لهم ولغيرهم.

والثاني: صحة التمسك بإطلاقات الخطابات بناءً على التعميم وعدمها بناءً على الاختصاص إلا بعد إحراز اتحادهم مع المشافهين في الصنف.

وفيهما نظر؛ لأنّ الأوّل مبني على اختصاص حجيّة ظواهر الألفاظ بالمخاطبين الذين قصد إفهامهم بها، وهو في غير محله، كما سننبه عليه في محلّه، إن شاء الله تعالى.

والثاني لا معنى له؛ لأنّ المقصود من الاتحاد في الصنف إن كان الاتحاد في الصفة المعتبرة في الحكم فهو معتبر على التقديرين، وإن كان المقصود منه الاتحاد فيما يحتمل اعتباره فيه فهو غير معتبر على التقديرين؛ لاندفاعه بالأصل مع وجود الإطلاق.

ص: 187


1- في الصفحة 84.
2- كفاية الأصول: 267.
3- قوانين الأصول 1: 233.

[الفصل الثاني]

في التخصيص وهو قصر الحكم العام على بعض أفراد الموضوع أو أجزائه، وما قيل من أنه قصر العام أو حكمه على بعض ما يتناوله(1)، فاسد؛ لاستحالة قصر الموضوع على بعض ما يتناوله.

وما يتوهّم من أنّ استعمال اللفظ الموضوع للعام في بعض ما يتناوله تخصيص وقصر له، في غير محله؛ لأنّ الاستعمال في الخاص لا يوجب التخصيص بالضرورة. مع أنّ توهّم استعمال اللفظ في الخاص في موارد التخصيص، باطل كما سننبه عليه(2)، إن شاء الله تعالى.

إذا اتضحت لك حقيقة التخصيص فاعلم أنّ لهم فيه مباحث:

[المبحث] الأول

في أنّ منتهى التخصيص إلى كم هو ؟ فذهب الشيخ(3)وعلم الهدى(4)وأبو المكارم بن زهرة(5)إلى جوازه حتّى يبقى واحد ، وقيل إثنان.(6)وقيل ثلاثة.(7)ونسب إلى الأكثر أنّه لا بدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العام إلا أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم(8)، وفصل بعض بين الجمع وغيره فاعتبر الثلاثة في الأوّل وأجاز في غيره إلى الواحد(9).

والتحقيق هو الأوّل؛ لأنّ التخصيص لا يوجب تجوّزاً في اللفظ ولا في الهيئة التركيبية،

ص: 188


1- قوانين الأصول 1: 241.
2- في الصفحة 191.
3- العدة في الأصول 1: 379 .
4- الذريعة إلى أُصول الشريعة 1: 247
5- غنية النزوع 2: 321 - 322 .
6- حكاه هكذا في معالم الدين: 271.
7- المصدر نفسه.
8- معارج الأصول: 93 - 94؛ معالم الدین: 271.
9- حكاه عن جماعة في قوانين الأصول 1: 241.

كما تبيّن لك(1)إجمالاً وسنوضحه(2)لك تفصيلاً - إن شاء الله تعالى - فلا وجه لإنهائه إلى حد يقرب من العام أو اثنين أو ثلاثة، ولا حجّة فيما احتج به الأكثر من قبح قول القائل: «أكلت كلّ رمانة في البستان» وفيه آلاف وقد أكل واحدة أو ثلاثة، وقوله: «أخذت كلّ ما في الصندوق من الذهب» وفيه ألف وقد أخذ ديناراً أو ثلاثة، وكذا قوله: «كلّ من دخل داري فهو حرّ» أو «كلّ من جائك فأكرمه» وفسّره بواحد أو ثلاثة، ولا كذلك لو أُريد من اللفظ في جميعها كثرة قريبة من مدلوله؛ لأنّ القبح حينئذٍ من جهة التصريح بالعموم؛ فإنّ لفظة «كل» و«جميع» ونحوهما إنّما يؤتى بها للتصريح والتنصيص على عموم الحكم ودفع توهم التخصيص فلا بد حينئذٍ من تحقق العموم تحقيقاً أو تنزيلاً فمع التصريح بالعموم و تخصيص الحكم إلى واحد أو ثلاثة، مناقضة في القول فيكون قبيحاً.

وأما مع ظهور القضيّة في العموم، كقولك: «من دخل داري فهو حرّ» و«من جائك فأكرمه»، فلا قبح في تخصيصه مطلقاً إذا نصب المتكلّم قرينة صارفةً عن العموم، ولا حاجة معه إلى ملاحظة علاقة ومناسبة بين الخاص والعام؛ لاتحاد المستعمل فيه في المقامين، والاختلاف من حيث العموم والخصوص إنّما ينشأ من قبل اختلاف كيفية الاستعمال إطلاقاً وتقييداً، وأمّا مع عدم نصب قرينة صارفة عن العموم فإرادة الخاص منه قبيح مطلقاً، كما أنّ إرادة المعنى المجازي من اللفظ قبيح مع عدم نصب قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي؛ إذ وجه الحاجة إلى القرينة الصارفة هو الانصراف، سواء كان ناشئاً من قبل الإطلاق أو من قبل المعنى الحقيقي.

نعم، قد يكون بعض مراتب تخصيص الأكثر مستهجناً بحيث يكون الكلام معه خارجاً عن الموازين العرفية الجارية بين أهل اللسان وإن لم يكن غلطاً.

هذا إذا كان تخصيصاً حقيقياً، وأما إذا كان تضييق دائرة الحكم بسبب جعل شروط وموانع له موجب لإخراج الأكثر بالغاً ما بلغ عن تحت الحكم الفعلي مع ثبوته اقتضاء على وجه العموم فلا قبح فيه مطلقاً ولا استهجان.

ص: 189


1- في الصفحة 181.
2- في الصفحة الآتية.

والحاصل أنه لا مجال للتفصيل بين صور التخصيص بعد أن تبين أن التخصيص لا يوجب تجوّزاً في الكلام. ولذا قال صاحب الفصول:

ولا نزاع في التخصيص بمعنى قصر الحكم. وإنّما النزاع في التخصيص بمعنى استعمال العام في الخاص الموجب للتجوّز في لفظ العام.(1)

وهو باطل أيضاً؛ لما عرفت(2)من أنه ليس تخصيصاً ، وأن توهم استعمال العام في الخاص في موارد التخصيص لا أصل له.

و[المبحث] الثاني

أنّ التخصيص هل يوجب التجوز في العام؟

فقيل: نعم، مطلقاً.(3)وقيل: لا، مطلقاً.(4)وفصل ثالث فاختار أنه حقيقة إن كان الباقي غیر منحصر وإلا فمجاز.(5)ورابع بين مخصص لا يستقل بنفسه من شرط أو صفة أو استثناء أو غاية وما يستقل بنفسه من سمع أو عقل فذهب إلى أنه حقيقة في الصورة الأُولى ومجاز في الثانية(6). ونقل عنهم تفاصيل أُخر(7).

والتحقيق أنه لا يوجب التجوّز مطلقاً لا في اللفظ ولا في الصيغة والهيئة التركيبية. أمّا الأوّل فلأنّ التخصيص لا يرجع إلى مدلول اللفظ؛ ضرورة أنّ التخصيص الثابت فى قولك: «أكرم العلماء إلا زيداً وأكرم العلماء العدول أو أكر مهم إن كانوا عدولاً أو إلى أن يفسقوا» إنّما يرجع إلى تخصيص الحكم لا الموضوع.

ص: 190


1- نقل بالمضمون الفصول الغروية: 186.
2- في الصفحة 188.
3- العدّة في الأصول 1: 307؛ معارج الأصول: 97.
4- حكاه عن كثير من أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة في العدّة 1: 306.
5- حكاه عن قوم من الفقهاء في نهاية الوصول 2: 216.
6- حكاه عن بعضهم في نهاية الوصول 2: 216.
7- نهاية الوصول 2: 216 - 217.

وتوهّم أنّ اللفظ حينئذٍ مستعمل فيما عدا المخصص، باطل؛ أما أوّلاً فلعدم العلاقة المصححة بين المعنيين وإلّا لصح استعمال الخاص في العام أيضاً. وأما ثانياً فلانه يلزم حينئذ أن يكون الاستثناء منقطعاً بل غلطاً؛ لعدم توهم الدخول بعد العدول عن استعماله في مفهومه العام إلى الخاص، وأن تكون الصفة والشرط قيداً توضيحياً لا احترازياً، مع وضوح كونه احترازياً في الصورتين. وأما ثالثاً فلعدم الداعي على هذا التكلّف على فرض صحته مع جواز رجوع التخصيص إلى الحكم وظهوره فيه.

وأمّا الثاني فلأنّ الهيئة التركيبية إنما هي بمنزلة الحروف، فلا تفيد إلا وجه استعمال الكلمة، ولا استعمال لها حتى يتطرّق التجوّز فيها ، فلا تنفك أبداً عما تتكفّل له من إيجاد النسبة الخاصة بين الكلمتين إضافية أو توصيفيّة أو حمليّة وهكذا... من خصوصيات النسب.

والذي يختلف باختلاف الموارد إنّما هو ما استند إلى الإطلاق والتقييد أو خصوصيات الموارد؛ فإنّ العموم إنّما يستفاد عند الإطلاق إمّا تبعاً لعموم المسند إليه، أو لخصوصية في الحكم من قبوله السريان في الأجزاء مع كون الموضوع ذا أجزاء صالحة السريان الحكم إليها، أو كونه سلبياً مع كون المتعلّق نكرة أو اسم جنس، أو كونه من عوارض الماهية مع كون المتعلّق اسم جنس، معرّفاً باللام أم لا.

والتخصيص إنّما يستند إلى تقييد الإسناد والحكم، فلا يزول به إلّا العموم المستفاد من قبل الإطلاق ولا يوجب تصرّفاً في مدلول اللفظ ولا في مفاد الهيئة.

فتبيّن بما بيّناه أنه لا مجال للتفاصيل المذكورة ولا للتفصيل بين التخصيص في الحكم والتخصيص في الموضوع؛ لما تبيّن لك(1)من عدم تطرّق التخصيص فيه أبداً.

تنبيهات

الأوّل: أنّ الحكم كما يعمّ أفراد الموضوع أو أجزائه كذلك يعم ويشمل توابعه؛ فإنّ

ص: 191


1- في الصفحة السابقة.

حكم المجيء في قولك: «جائني القوم» كما يعمّ أفراد القوم يعم غلمانهم ودوابهم - مثلاً - فاستثناء التابع كاستثناء الفرد أو الجزء تخصيص في الحكم فلا يكون منقطعاً عن موضوع الحكم وإن كان منقطعاً عن المعنى المطابقي والتضمّني للموضوع.

فتوهّم أنّ أداة الاستثناء في المستثنى المنقطع مجاز لا حقيقة، في غير محله؛ لأنها إنّما وضعت لإخراج ما لولاه لدخل أي لَعَمّه الحكمُ وشمله. مع أنّ التجوّز لا يجري في الحروف أصلاً؛ لأنها إنما يتبيّن وجه استعمال المدخول فلا استعمال لها حتى تكون حقيقةً أو مجازاً.

والثاني: أنه قد أشكل عليهم الأمر فى الاستثناء فزعموا أنه يقتضي اجتماع حكمين متناقضين على المستثنى: حكم المستثنى منه -؛ من حيث دخوله فيه - ونقيضه من حيث خروجه عنه بالاستثناء(1).

وأُجيب عنه بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ الإخراج واقع قبل الحكم والإسناد، فلا يلزم التناقض.

والثاني: أن المستثنى منه مستعمل في ما عدا الاستثناء، والقرينة عليه الاستثناء.

والثالث: أنّ المستثنى منه والأداة والمستثنى اسم للباقي.

وزعم بعضهم أنه لا مخلص عن الإشكال إلا بأحد الوجوه الثلاثة ولا رابع فرجّح الوسط(2).

أقول: وسخافة الوجوه الثلاثة في غاية الوضوح:

أمّا الأوّل فلاستحالة وقوع الإخراج قبل الحكم؛ ضرورة أنّ المستثنى المتصل خارج عن حكم المستثنى منه لا عن ذاته.

وأمّا الثاني ففيه أولاً أنّ استعمال العام في الباقي لا يصح؛ لعدم العلاقة المصححة، كما

ص: 192


1- قال في الفصول الغروية: 189: «ثمّ في الاستثناء إشكال مشهور وهو أن مدلوله مناقض لمدلول الجملة التي قبله حيث إنّها تقتضي دخول المشتثنى في الحكم المذكور وه ويقتضي خروجه عنه». وللمزيد راجع: نهاية الوصول 2: 254؛ قوانين الأصول 1: 251.
2- الفصول الغروية: 189.

مرا(1). وثانياً أن استثناء المستثنى عنه لا يلائم مع استعماله في الباقي فكيف يكون قرينة عليه؟! وثالثاً أنه يلزم في مثل «اشتريت الجارية إلّا نصفها» الاستثناء المستغرق إن رجع الضمير إلى الجارية بمعناها الحقيقي على سبيل الاستخدام، فكأنك قلت حينئذ: «اشتريت نصف الجارية إلّا نصفها»، وإن قيل برجوع الضمير إلى المراد منها في هذا التركيب - وهو الباقي بعد الإخراج - يلزم التسلسل؛ لرجوع النصف إلى الربع حينئذ، وإذا كان المراد بالنصف الربع فيكون المراد بالربع المستثنى منه الثمن، وهلم جراً.

ودفع ذلك بأنّ المراد بالجارية مع انضمام الاستثناء إليه - وهو القرينة - نصفها لا المراد بالجارية وحدها وبعد ملاحظة الانضمام فلا يبقى استثناء آخر ليلزم المحذور، في غاية الغرابة؛ لأنّ المجموع ليس اسماً واحداً حتّى يراد منه معنى واحد اسمي وهو النصف: ضرورة أنّ المجموع مشتمل على أسماء وأداة.

وأما الثالث فهو أسخف من الجميع؛ ضرورة أنّ المجموع لا يصير اسماً واحداً إلا بالغلبة أو بالوضع، وانتفائهما في المقام من أجلى الواضحات.

والتحقيق أنّ المستثنى منه مستعمل في معناه الحقيقي، وإسناد الحكم إليه إنّما يقتضي سريانه في أفراده أو أجزائه مراعى بعدم لحوق قيد منافٍ له، فإن لم يلحقه قيد كذلك يستقرّ في العموم، وإلا ينصرف عنه ويستقر في الخصوص حسب القيد؛ فإنّ للمتكلّم مادام متشاغلاً بكلامه أن يلحق به ما شاء من اللواحق، فالقضية المقيدة كالمطلقة لا تشتمل إلا على حكم واحد، فتوهّم التناقض فيها ناش عن خفاء البديهيات. وأعجب منه تحيّرهم في الجواب عنه وتشبتهم بما لا ينبغي التشبث به.

والثالث: أنّ الاستثناء تخصيص في حكم المستثنى منه، فلا يجوز أن يستوعبه المستثنى، كما أنه لا يجوز توافقهما في الحكم. وما يتوهّم أنّه من قبيل المستوعب كقولك: «أكرم كلّ من يزورني إلّا الفاسق» واتفق أنه لم يزره إلا الفاسق، في غير محله؛ لأنّ مجرّد الاتفاق لا يوجب الاستيعاب، كما هو ظاهر

ص: 193


1- في الصفحة 191.

و[المبحث] الثالث

أن تخصيص العام هل يخرجه عن الحجيّة في غير محلّ التخصيص إذا لم يكن المخصص مجملاً؟ المعروف بين أصحابنا عدم خروجه عنها، وقد نسب إلى بعض المخالفين سقوطه عنها مطلقاً، وإلى بعض آخر التفصيل بين المخصص المتصل والمنفصل، وعن آخر أنه محمول على أقل الجمع(1).

والتحقيق ما ذهب إليه الأصحاب(قدس سره)من عدم السقوط عن الحجية؛ لبقاء المقتضى الشمول الحكم لما عدا المخصص وعدم مانع عنه.

وما توهّمه المنكرون من طرق الإجمال حينئذ؛ إذ لم يستعمل اللفظ حينئذٍ في معناه الحقيقي وهو المعلوم وما تحته من مراتب الخصوص مجازات، وهي متعدّدة ولا يترجّح بعضها على بعض، فيبقى اللفظ متردّداً بين جميع مراتب الخصوص، في مراتب الخصوص، في غير محله؛ لما عرفت(2)من بقاء اللفظ على معناه الحقيقي حينئذٍ وأنّ التخصيص إنّما يمنع عموم الحكم بالنسبة إلى المخصّص فقط ، فلا مجال لما توهّموه.

مع أنه لو فرضنا صيرورة العام مجازاً حينئذٍ يتعيّن حمله على ما عدا المخصص من المراتب أيضاً؛ لأنّ المخصص كما يكون قرينة صارفة عن الحمل على العموم كذلك يكون قرينة معيّنة لحمله على ما عدا المخصّص بشهادة فهم العرف.

وبما بيّناه تبيّن بطلان التفاصيل التي ذكروها.

هذا إذا لم يكن المخصص مجملاً، وأمّا إذا كان مجملاً فإن تردّد بين متباينين يسري الإجمال إلى العام مطلقاً فلا يؤخذ به في كليهما، كما لا يؤخذ بحكم الخاص فيهما معاً، وإن علم إجمالاً بثبوته لأحدهما لا بعينه فالمرجع فيهما هو الأصل الجاري فيهما.

وإن كان مردّداً بين الأقل والأكثر فإن كان المخصص منفصلاً يؤخذ بحكم العامّ بالنسبة إلى الأكثر؛ لشموله إيّاه باستقرار ظهوره في العموم، وإنّما وقع الشكّ في خروجه

ص: 194


1- نسبه إليهم في معالم الدين: 281.
2- في الصفحة 191.

عن تحت حكم العام بواسطة المخصّص فيقتصر حينئذٍ على القدر المتيقن خروجه منه وهو الأقل.

وإن كان المخصص متصلاً يسري الإجمال إلى العام؛ لعدم استقرار العام حينئذ في العموم بسبب اتصال القيد، فالمرجع في الأكثر حينئذٍ هو الأصل.

فإن قلت: المقتضي للعموم ثابت والقيد مانع عنه فيجب حينئذٍ الاقتصار على ما علم ما نعيّته والأخذ بالمقتضى المعلوم مع الشكّ في وجود المانع أو مانعيّة الموجود.

قلت: المقتضي للعموم إطلاق الكلام وقد زال بالتقييد، والكلام المقيد - ؛ لإجمال قیده و تردّده بين الأقل والأكثر - اقتضائه لشمول الأكثر غير معلوم حينئذٍ فيقتصر حينئذٍ على ما علم شموله له.

تنبیهان

الأوّل: إذا طرء الإجمال في المصداق بأن اشتبه وتردّد بين أن يكون مصداقاً للمخصص أو لما بقي تحت العام فإن كان المخصص من قبيل المانع فمقتضى الأصل حينئذٍ اندراجه تحت العام للعلم بوجود المقتضي والشكّ في المانع.

وإن لم يكن كذلك وكان مخصصاً حقيقة وموضوعاً لحكم آخر، فإن كان المخصص مشتملاً على حكم زائد كالقرشيّة المختصة بالتحيّض إلى ستّين فمقتضى الأصل باعتبار الحكم اندراجه تحت العام أيضاً؛ لأنه القدر المتيقن، فالموضوعان وإن كانا وجوديين متقابلين في حد أنفسهما ولا يكون أحدهما زائداً على الآخر إلّا أنّ العام بالنسبة إلى الخاص المحكوم بحكم زائد بمنزلة العدم باعتبار الحكم.

بل التحقيق أن موضوع حكم العام عدمي تحقيقاً؛ لاشتراك القرشيّة وغيرها في التحيّض إلى خمسين وعدم مدخليّة نسبة مخصوصة فيه، وإنما التحيض إلى ستين يستند إلى الانتساب إلى قريش، فمرجع الحكم إلى عدم كونها قرشيّة ليس إلى إثبات نسبته لغير قريش حتى يقال بأنه معارض بمثله؛ إذ يكفي في الحكم بعدم التحيض إلى ستين عدم كونها قرشيّة فقط ولا يحتاج إلى إثبات نسبتها إلى غير قريش.

ص: 195

وإن لم يكن كذلك لا يندرج تحت أحدهما ويؤخذ فيه بحسب ما يقتضيه الأصل.

وقد فصل بعضهم بين أن يكون المخصص متصلاً ومنفصلاً فحكم باندراج المصداق المشتبه تحت ما بقي من العام في الصورة الثانية دون الأولى(1)، وآخر بين أن يكون لفظياً ولبيّاً فحكم بعدم الاندراج تحت أحدهما في الصورة الأُولى وفصل في الثانية فقال:

إن كان المخصص ممّا يصح أن يتكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل؛ حيث لا ينعقد معه ظهور للعام إلا في الخصوص.

وإن لم يكن كذلك فالظاهر بقائه في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه - محتجاً ب- - أنّ الكلام الملقى من السيّد ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلا بد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه، مثلاً إذا قال المولى: «أكرم جيراني» وقطع بأنه لا يريد إكرام من كان عدواً له منهم، كان أصالة العموم باقية على الحجيّة بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم بعداوته؛ لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك على خلافه، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً ؛ فإنّ قضيّة تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأنه كان من رأس لا يعمّ الخاص، كما كان كذلك حقيقةً فيما كان الخاص متصلاً. والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجّيّته إلّا فيما قطع أنه عدوّه لا فيما شكّ فيه، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه؛ لاحتمال عداوته له وحسن عقوبته على مخالفته وعدم صحة الاعتذار عنه

بمجرّد احتمال العداوة، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء.(2)انتهى.

وكلاهما بمكان من الوهن والسقوط؛ لأنّ الدليل إنّما يبين الحكم الواقعي للأفراد الواقعية ولا نظر له إلى حكم الأفراد المشتبهة أو المعلومة، فلا وجه للتفصيل بين اتصال المخصص وانفصاله أو بين كونه لفظيّاً ولبيّاً .

ص: 196


1- أجود التقريرات 2: 313 - 315
2- كفاية الأصول: 259 - 260.

والحاصل أنّ إلحاق المصاديق المشتبهة بما بقي تحت العام أو بالمخصص حيث كان حكم ظاهري لا واقعي، كما هو بين، فلا يعقل أن يكون الدليل الناظر إلى الحكم الواقعي للعام ناظراً إلى الحكم الظاهري المتأخّر عنه موضو موضوعاً.

فيلزم من ذلك الالتزام بأحد أمرين بين البطلان: إما الالتزام بأن لحوق الفرد المشتبه بالعامّ حكم واقعي، أو الالتزم بأنّ الدليل الناظر إلى الحكم الواقعي ناظر إلى الحكم الظاهري المتأخّر عنه موضوعاً.

ولا شهادة فيما استشهد به من سيرة العقلاء على إلحاق المشتبه في المثال بالعام؛ لأنّ المخصص اللبي المتوهّم فيه من قبيل المانع لا المخصص فإلحاق المشتبه حينئذٍ بالعام لأجل العلم بالمقتضي والشكّ في المانع الذي لا يفترق فيه بين أن يستفاد من دليل لفظي أو لبي.

والثاني: أنه كما لا يجوز التمسك بالعمومات في المصاديق المجملة من جهة التردّد بين أن تكون مندرجة تحت العام أو المخصص كذلك لا يجوز التمسك بها في المصاديق المشتبهة من جهة أُخرى؛ لما تبيّن لك من أن العمومات المبينة للأحكام الواقعية لا نظر لها إلى المصاديق المشتبهة وأحكامها.

التمسك فما يظهر من بعض من بعموم وجوب الوفاء بالنذر على صحة نذر التطهر بمائع مضاف بتقريب أنّ عموم وجوب الوفاء بالنذر يشمله وهو فرع صحته فيستدلّ به عليها استدلال المعلول على علّته(1)، في كمال البشاعة؛ لأنّ الشمول لا يكون إلا بعد إحراز الصحة فاستكشافها من طرف الشمول مستلزم للدور المحال .

و[المبحث الرابع]

إذا تعقب المخصص متعدّداً - سواء كان جملاً أم غيرها - وصح عوده إلى كلّ واحد،

ص: 197


1- حكاه هكذا في مطارح الأنظار : 195؛ وكفاية الأصول 2: 261؛ ويقرب منه ما في الدروس الشرعية 2: 151؛ من انعقاد نذر خمس ركعات فصاعداً بتسليمة.

كان الأخير مخصصاً قطعاً وهل يخصص معه الباقي أو يختص هو به؟ أقوال.(1)

والتحقيق أنه عند الإطلاق ليس ظاهراً في العود إلى الجميع فيقتصر على القدر المتيقن وهو تخصيص الأخير ويحكم بالعموم في الباقي؛ أخذاً بأصالة العموم؛ لوجود المقتضي له والشك في مانعيّة الموجود وهو القيد المتعقب.

وما توهمه بعض من عدم ظهور الباقي في العموم حينئذ ؛ لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهراً فيه فيرجع في مورد القيد إلى الأصل الجاري فيه(2)، في غير محله؛ ضرورة أنّ الظهور المعتبر هو الرجحان الاقتضائي المعبّر عنه بالظنّ النوعي، لا الرجحان الفعلي، وهو تابع للمقتضي المعلوم ولا يؤثر فيه المانع المحتمل، فلا وجه لنفيه حينئذٍ.

فصل

اختلفوا في جواز العمل بالعام قبل استقصاء البحث في طلب التخصيص، ومنهم من نفى الخلاف فيه وقال :

إن الخلاف إنّما هو في مبلغ اللبحث، واكتفى الأكثر بغلبة الظن على العدم؛ وبعض أنه لا بدّ من القطع بانتفائه.(3)

وكيف كان، فالتحقيق أنه لا يجوز العمل بالعمومات التي في معرض التخصيص قبل استقصاء البحث عن مظانّه الموجب للاطمينان بالعدم كأغلب عمومات الكتاب والسنة.

بل التحقيق أنّ عموما تها كسائر العمومات الواردة في مقام ضرب القاعدة إنّما تبيّن الحكم الاقتضائي للموضوعات ومهملة غالباً من جهة الشروط والموانع، فلا بد في مقام العمل بها من البحث والفحص عن مظانه حتّى يطمئنّ بعدم شرط أو مانع أو مخصص.

وبما بيّناه تبيّن أنّ العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورة عند الإطلاق إن كانت إخبارية أو إنشائية لا في مقام ضرب القاعدة محمولة على العموم من دون تأمّل.

ص: 198


1- كذا في معالم الدين: 285.
2- كفاية الأُصول: 274.
3- حكاه عن جمع من المحققين في معالم الدين: 283.

وأمّا العمومات الواقعة في مقام ضرب القاعدة فإن كانت متكفّلة لبيان الشروط والموانع فمحمولة على العموم أيضاً من دون تأمل، وإن كانت مبينة للحكم الاقتضائي فقط ولم تتكفّل بيان الشروط والموانع وجب البحث عن أنّ لها شروطاً وموانع، كما وجب البحث عنه بالنسبة إلى عمومات الكتاب والسنّة.

ولا يجري أصالة عدم الشرط والمانع إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر؛ ضرورة عدم جريان الأصل في الشبهات الحكميّة إلا بعد الفحص التام، فاعتباره حينئذ من جهة أنه جزئي من جزئيات هذه المسألة. وأمّا اعتباره في طلب المخصص فليس من هذا الباب، بل لأجل دفع ما يزاحم الحجة.

فصل

اختلفوا فى أنّه إذا تعقب العام ضمير يرجع إلى بعض ما يتناوله نحو قوله - تعالى -: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾(1)المتعقب بقوله - تعالى -: ﴿وَبُعُولَتِهِنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾*(2)- هل يكون تخصيصاً له؟ فقيل : نعم.(3)وقيل: لا.(4)فعلى الأوّل يختص التربّص كاستحقاق الردّ بالرجعيات وعلى الثاني يعمّ البائنات أيضاً.

*. أقول: إن مفهوم البعل المطّرد في جميع موارده هو المالك ولا اختلاف في المعنى الذي وضع له اللفظ، وإنّما الاختلاف في المصاديق؛ فإنّ إطلاقه على السيّد إنما هو بلحاظ أنه مالك لعبده، كما أن إطلاقه على المالك بلحاظ أنه مالك لماله ، وأمّا إطلاقه على النخل إذا شرب بعروقه فمن جهة أنّه مالك شربه حينئذ، فالزوج إنّما يطلق عليه البعل؛ لأجل أنه مالك أمر الزوجة، وعنوان البعلية لا يزول بالطلاق الرجعي وإن قلنا بزوال الزوجية حينئذٍ؛ لأنه مالك أمرها في زمان العدّة ، فلا حاجة حينئذٍ إلى إرجاع الضمير إلى بعض المطلقات، حتى يقال: إنه يوجب تخصيصاً أم لا؟ ؛ إذ لا منافات بين رجوع الضمير إلى العام واختصاص البعل بالمطلق الرجعي. [منه أعلى الله مقامه الشريف]

ص: 199


1- البقرة (2):228 .
2- الآية الشريفة هكذا: ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروءٍ ولا يحل لهنَّ أن يكتُمنَ ما خلق الله في أَرحامهنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخِرِ وبعولَتُهنَّ أحقُّ بردِّهِنَّ في ذلك...﴾.
3- نهاية الوصول 2: 364.
4- العدّة في الأصول 1: 384 - 385.

والتحقيق أن مجرد رجوع الضمير إلى بعض ما يتناوله لا يدلّ على التخصيص وإن أشعر به، فلا بدّ من التوقف واستظهار الحال من خصوصيات الموارد.

فصل

لا ينبغي التوقف في جواز تخصيص الكتاب بالخبر المعتبر بالخصوص وإن كان واحداً، وقطعيّة صدوره لا تلازم قطعية دلالته حتى تمتنع من التخصيص، كما لا ينبغي التوقف في جواز تخصيص العمومات مطلقاً بالمفهوم المخالف إذا كان حجّة. وما قيل من:

أنّ العموم والمفهوم إن كانا بالوضع أو بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة فهما متعادلان في حدّ أنفسهما.

فإن وقعا متصلين بحيث يصلح أن يكون كلّ واحد منهما قرينةً للتصرّف في الآخر، ودار الأمر بين تخصيص العموم وإلغاء المفهوم، فلا عموم ولا مفهوم حينئذ؛ لأجل المزاحمة ويرجع فيه إلى الأصول العملية إلا أن يكون أحدهما أظهر؛ لأجل خصوصية المورد، فيؤخذ به.

وإن انفصلا يعامل مع كلّ منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر، وإلّا فهو المعوّل والقرينة على التصرّف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.(1)

غير محله؛ أمّا أوّلاً فلما تبيّن لك(2)من عدم استناد العموم القابل للتخصيص إلى الوضع أبداً ، وأنه مستفاد من الإطلاق دائماً فلا يزاحم المفهوم المستند إلى الوضع على زعمه.

وأما ثانياً فلأنّ التعادل وضعاً أو إطلاقاً لا يوجب التزاحم والتساقط؛ ضرورة تقدّم الدليل المبيّن لحكم الخاص على الدليل المبين لحكم العام في نظر العرف، مع اعتبارهما ذاتاً ولو فرض تعادلهما وضعاً أو إطلاقاً.

ص: 200


1- نقل بالمضمون كفاية الأصول: 272 - 273.
2- في الصفحة 191.

فصل

إذا ورد عام وخاص مطلق متنافيا الظاهر فلا يخلو الحال من أحد وجوه ثلاثة؛ لأنّ دليل الخاص إمّا ناظر إلى أنه مانع عن فعليّة الحكم الثابت للعام اقتضاء، كأدلّة الخيارات الناظرة إلى منع العيب والغبن والاجتماع في المجلس وهكذا... من الأسباب الموجبة للخيار عن لزوم البيع.

وإما شارح ومفسّر للعام ومبيّن اختصاص موضوعه بما عدا الخاص، كقوله(علیه السّلام):

«لا سهو في سهو»(1)بالنسبة إلى عمومات حكم السهو.

وإما ناظر إلى حكم الخاص ابتداءً من دون تعرّض للمنع والتفسير.

فإن كان من قبيل الأوّل فلا معارضة بين الدليلين حينئذ؛ لعدم التنافي بين مدلوليهما بوجه؛ ضرورة أنّ المنع عن تأثير المقتضي مترتب عليه ومجامع معه، فلا مجال لتوهم المنافاة بينهما.

وإن كان من قبيل القسم الثاني فكذلك؛ لأنّ لسان التفسير يأبى عن المعارضة والمنافاة. وإن كان من قبيل القسم الثالث فهما متنافيان في حدّ أنفسهما؛ لاستقرار كلّ منهما فيما يدلّ عليه من العموم والخصوص.

ولكن لما كان كلام أمناء الوحي والتنزيل(علیه السّلام) بمنزلة كلام واحد متصل - ؛ لعدم تطرّق الخطاء والنسيان في حقهم - يجمع بينهما ويحكم ببناء العام على الخاص، كما هو الحال في الكلام المتصل الصادر من أي شخص كان.

فلا فرق حينئذ بين أن يكون تاريخ صدورهما مجهولاً أو معلوماً، اقترنا أو تقدّم العامّ على الخاص أو الخاص عليه. نعم، إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام يكون ناسخاً لا مخصصاً وإن اتحدا في الأثر حينئذ.

ص: 201


1- الكافي 3: 358، باب من شك في صلاته كلّها... ، الحديث 5 ؛ الفقيه 1: 352 الحديث 1028؛ التهذيب 3: 55 ، باب أحكام الجماعة الحديث 99؛ وسائل الشيعة 8 : 241، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 24، الحدیث 8 .

وبما بيناه ظهر أنه لا مجال لجعل العام الوارد بعد الخاص ناسخاً له، كما نسب إلى الشيخ وعلم الهدى(1) - قدّس سرّهما - ؛ لأنّ تنزّلهما منزلة كلام واحد متصل، موجب للمصير إلى التخصيص؛ ضرورة أنّ العام مخصص بالخاص في الكلام المتصل، تقدّم الخاص عليه أو تأخر.

ومن الغريب ما ذكره بعض من:

أنه لو جهل وتردّد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية.(2)

لأنّ التردّد حينئذٍ إنّما هو بين كون الخاص ناسخاً للعام ومخصصاً له فالعمل بالخاص متعين على كل حال فلا مجال للرجوع إلى الأُصول العملية.

ثمّ إنّ ما بيّناه من أنّ الخاص مخصص إذا ورد قبل حضور وقت العمل هو المشهور بين الأصحاب(قدس سره) وقد احتمل بعض أن يكون ناسخاً أيضاً(3)محتجاً بأن النسخ في الأحكام الشرعيّة لا يكون إزالة ورفعاً للحكم الثابت في الحقيقة وإلا لزم الجهل أو العبث المستحيل على الله - تعالى - وإنّما هو دفع في صورة الرفع فلا مانع من وقوعه قبل حضور وقت العمل *.

والصواب ما ذكره أكثر الأصحاب من استحالة النسخ قبل حضور وقت العمل؛ لأنّ

*. واعلم أنّ الأصحاب إنّما حكموا باستحالة النسخ قبل حضور وقت العمل من جهة لزوم نقض الغرض ولا يتفاوت فيه بين القول بكونه رفعاً أو دفعاً، فما ذكره على فرض تماميته لا يوجب رفع المحذور المزبور، ولو توهّم متوهّم أنّ غرض الحكم لا ينحصر في العمل والامتثال لزمه القول بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل، سواء قيل بكونه رفعاً أم دفعاً، فما ذكره لا ينتج الجواز على كل حال.[منه أعلى الله مقامه الشريف ]

ص: 202


1- نسبه إليهما في زبدة الأصول: 347 لاحظ: الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 316 - 317؛ العدّة في الأُصول 393 :1 .
2- كفاية الأصول: 277.
3- المصدر نفسه: 278.

الغرض من التكليف إنّما هو الامتثال بالفعل أو الترك، فلا يجوز رفعه قبل حضور وقت العمل، وإلا لزم نقض الغرض.

وما توهم من أنّ النسخ في حقه - تعالى - لا يكون على سبيل الحقيقة وإلا لزم الجهل أو العبث الذي ساحة القدس عنه منزّهة في غير محله؛ إذ لا مانع من ثبوت المصلحة في إثبات التكليف مطلقاً غير مقيد بأمد محدود مع ثبوت مصلحة أخرى في رفعه وإزالته؛ إذ لا يعتبر في جعل الحكم مطلقاً بحيث يدوم لولا طرق المزيل عليه ثبوت المصلحة الدائمة الثابتة في جميع الأزمنة حتّى تنافي مصلحة الرفع، بل يكفيه مصلحة الإثبات فإذا أثبت الشارع حكماً لموضوع وأطلقه ولم يقيده بأمد يدوم اقتضاء وليس الدوام حينئذ صوريّاً

كما قد يتوهم - ؛ ضرورة الفرق بين الدوام الاقتضائي والصوري.

ألا ترى أنّ المحلّل يتزوّج المطلقة ثلاثاً بالعقد الدائم حقيقة، مع بنائه على رفعه وإزالته بالطلاق بعد ساعة مثلاً، ولو كان دوام العقد حينئذٍ صورياً - ؛ لعدم دوام المصلحة أو لبنائه على الطلاق وإزالة قيد الزوجية بعد ساعة - لكان العقد باطلاً لم يترتب عليه أثر ؛ لعدم انعقاده حينئذٍ دائماً لبنائه على إزالته ولا منقطعاً؛ لعدم تقييد العقد بزمان معين. مع أنه لو انعقد منقطعاً لم يترتب عليه أثر التحليل؛ لاعتبار قيد الدوام فيه، فهو منعقد دائماً تحقيقاً. ولذا يترتب عليه أثر التحليل ويدوم ما لم يتعقب بطلان أو مزيل آخر.

هذا، وقد توهّم بعض من تأخّر ، أنّ القول بعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل إنّما نشأ من عدم التمييز بين أحكام القضايا الخارجيّة والحقيقية، فقال بعض مقرّري بحثه:

إن الحكم المجعول إن كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية لكان للتوهّم المذكور مجال، وأما إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية الثابتة للموضوعات المقدّر وجوداتها، فلا مانع من نسخها ولو بعد جعلها بيوم واحد؛ إذ المفروض أنه لا يشترط في صحة جعله وجود موضوع له

في العالم أصلاً؛ لما فرض أنه حكم على موضوع مقدّر الوجود.(1)

ص: 203


1- أجود التقريرات 2: 394 - 395. مع تصرف قليل.

وفيه: أنه لا شبهة في ثبوت الأحكام التكليفية قبل وجود موضوعاتها في الخارج بل قبل وجود المكلّف، والمانعون من النسخ قبل حضور وقت العمل لا يحكمون بالمنع من جهة اعتبار وجود الموضوعات في الخارج؛ فإنّ عدم اعتبار وجود الموضوع في الخارج في ثبوت الأحكام الشرعية من البديهيات الأولية التي لا تخفى على من له أدنى مسكة، وإنّما المانعون يقولون بأنّ الغرض من تشريع الأحكام إنّما هو العمل والامتثال والنسخ قبل حضور العمل نقض للغرض فلا يعقل صدوره من الشارع.

تنبيهات

الأوّل: أنّ النسخ عبارة عن رفع حكم الواقعة وإزالته، وأمّا جعل بدل في مرحلة الامتثال عن الموضوع الأوّلي إرفاقاً أو بملاحظة اضطرار المكلّف أو العفو عنه رأساً أو جعل شرط أو مانع لتنجز الحكم فليس من النسخ في شيء، ففداء الذبيح(علیه السّلام)بالكبش بسبب الذبح العظيم ليس نسخاً، كما أن عفو خاتم النبيين(صلی الله علیه و آله و سلم) عن الزكاة فيما عدا التسعة الله ليس نسخاً؛ لعموم قوله - تعالى - : ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا...﴾(1)ولا تخصيصاً له؛ إذ العفو عن الامتثال لا يوجب رفع الحكم حتى يكون نسخاً أو تخصيصاً.

الثاني: أنّ مجرّد ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام لا يدلّ على أنّ الخاص ناسخ له؛ لجواز أن يكون تأخير الخاص لمصلحة موجبة للعذر، فالعمومات الواردة في كلام أحد أئمتنا المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين - مع ورود الخاص في كلام إمام لاحق، لا يدلّ على النسخ؛ لأنه فوّض إليهم البيان كما فوّض إليهم الدين؛ قال الله - تبارک و تعالی -: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَاب﴾(2).

الثالث: ما بيّناه من تخصيص العام بالخاص إنّما هو في العام والخاص المطلق، كما

ص: 204


1- التوبة (9): 103.
2- ص (38): 39.

قيدنا موضوع البحث به.(1)وأما إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا يجري في أحدهما تخصيص من قبل نفس الدليلين؛ لأنّ نسبة التخصيص إلى كلّ منهما على حدّ سواء، فتخصيص أحدهما بالآخر دون الآخر به ترجيح بلا مرجّح، فلا بد من تخصيص أحدهما بعينه بالآخر من دليل خارج.

ص: 205


1- في الصفحة 201.

ص: 206

المقصد الخامس: في المطلق والمقيد

اعلم أنّ الإطلاق والتقييد جهتان تلحقان المفردات في مرحلة التركيب، ولا يعقل اختلاف حال وضع اللفظ باختلافهما؛ فإنّ الإطلاق - سواء كان راجعاً إلى الموضوع أو المحمول أو النسبة الحكميّة - يستفاد من عدم تقييد القضيّة بما يوجب تضييق دائرة الموضوع أو المحمول أو النسبة الحكميّة، كما أنّ تقييدها بأحد الوجوه إنما يستفاد من ضم قيد إلى أحد الأطراف.

توضيح ذلك: أنّ إطلاق الموضوع في قولك: «اعتق رقبة» - مثلاً - مقتضي جعل الرقبة موضوعاً في القضيّة؛ فإنّ كون شيء موضوعاً للحكم يقتضي أن لا يكون لشيء آخر دخل فيه، فقولك:«اعتق رقبة مؤمنة» بعد قولك: «اعتق رقبة» يوجب اعتبار جهة في الموضوع كان منفياً بما يقتضيه كون الرقبة موضوعاً في القضيّة، لا أن النفي كان مستفاداً من لفظ الرقبة بمقتضى الوضع بالضرورة.

بل وضع اللفظ للدلالة على عدم مدخليّة شيء في تعلّق الحكم بمعناه مستحيل؛ لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه. وهكذا الأمر بالنسبة إلى المحمول أو النسبة الحكمية؛ فإنّ مقتضى الاقتصار على طبيعة العتق وعدم تقييده وتحديده بمرّة أو أزيد - مثلاً - إطلاق المحمول وهو العتق، كما أنّ مقتضى عدم تقييد النسبة الحكمية بوقوع ظهار أو إفطار صوم شهر رمضان - مثلاً - إطلاق الأمر وعدم اشتراطه بشي.

فلا يكون التحديد في كلّ من الأطراف موجباً للتجوّز واستعمال اللفظ في غير ما وضع له.

ص: 207

وبما بيّناه تبيّن أنه لا مجال للإطلاق أو التقييد في الموضوع أو المحمول مع قطع النظر عن الحكم؛ لأنّ كلاً منهما إنما يتطرّق في طرفي القضية من حيث أنهما طرفان لها، لا في ذاتهما ، كما هو ظاهر ، فالإطلاق والتقييد إنما يكونان كيفيتين للحكم ويتصف الموضوع أو المحمول بأحدهما تبعاً له، فتبين أن أخذ الإطلاق في وضع اللفظ غير معقول.

فما زعمه بعض من جواز أخذ الإطلاق في وضع اللفظ وأن يكون مدلول الرقبة وضعاً في قولك: «اعتق رقبة» - مثلاً - أي رقبة كانت(1)، باطل؛ لأنه إن أُريد من هذا الإطلاق والسريان المأخوذ في الوضع سريان الحكم في الأفراد، فقد عرفت(2)استحالة أخذه في وضع اللفظ المفهومة؛ لأنه في مرتبة متأخرة عنه. وإن أريد منه سريان الطبيعة في أفرادها فهو متحقق على كل حال، سواء كان مطلقاً أو مقيّداً.

وينبغي التنبيه على أُمور:

الأوّل: أنّ وصف المطلق كما يصدق على النكرة يصدق على اسم الجنس - معرفاً باللام أم لا - وعلى علم الجنس؛ لأنّ صدق الوصف على اللفظ إنما هو باعتبار إطلاق الحكم المتعلّق بمفهومه، وكما يتطرّق إطلاق الحكم في النكرة يتطرّق في اسم الجنس وعلمه، فلا مجال لتخصيص بعضها بوصف الإطلاق دون بعض.

والثاني: أنّ الإطلاق والعموم متحدان في الحقيقة مختلفان في الكيفية؛ فإنّ الإطلاق عموم بدلي، كما أنّ العموم إطلاق شمولي، وكلّ منهما متعلّق بالحكم حقيقةً ولا يعقل أخذه في وضع اللفظ. فالتفصيل بينهما بأخذ أحدهما في وضع اللفظ دون الآخر غير معقول.

ومنه يتبيّن أنّ التفصيل بين التقييد بالمنفصل والمتصل في جعل الأوّل موجباً للتجوّز دون الثاني غير معقول أيضاً.

والثالث: أنّ اختلاف الإطلاق مع العموم في البدليّة والشمول لا يوجب انصراف المطلق عن الأفراد النادرة الوجود بحيث لا يسري الحكم إليها، كما نسب إلى بعض(3).

ص: 208


1- نسبه إلى المشهور قبل سلطان العلماء في أجود التقريرات 2: 416 و 427 - 428.
2- في الصفحة السابقة.
3- لاحظ: أجود التقریرات 1: 234 - 236.

نعم، لا يسري حكم المطلق بل العام أيضاً إلى ما يكون اشتماله على الطبيعة ضعيفاً بحيث لا يصدق عليه عند الإطلاق، كالحشار والديدان؛ فإنّه لا يشملهما حكم خيار الحيوان وحكم ما لا يؤكل لحمه بالنسبة إلى الصلاة.

والرابع: أنّ التقييد والتحديد كما يتصوّر بالنسبة إلى الموضوع كذلك يتصوّر بالنسبة إلى المحمول والنسبة الحكميّة.

فالتقييد بالنسبة إلى الموضوع فيما لم يثبت الحكم للشيء إلا وهو على حال أو وصف مخصوص، كقولك: «زيد الفقيه يجوز تقليده والبكر الفقير يستحق الزكاة»وهكذا... .

وأما بالنسبة إلى المحمول ففي ما إذا لم يثبت لموضوعه إلا على حال أو وصف مخصوص، كقولك: «زيد ضارب شديداً أو تأديباً أو قصاصاً أو ظلماً»؛ فإنّ الشدّة والتأديب والقصاص والظلم أنحاء للضرب ولا يتصوّر جعلها قيوداً للموضوع.

وأما بالنسبة إلى النسبة الحكميّة ففي ما إذا توقف ثبوت الحكم لموضوعه على شرط لم يكن واسطة في العروض كثبوت الحرارة للماء بواسطة النار والحلاوة للتمر بواسطة الشمس ولا يتصوّر جعل النار والشمس قيداً للموضوع أو المحمول.

إذا تبين لك ذلك فاعلم أنّ لو شكّ في إطلاق الحكم وعدمه من جهة الشكّ في أنّ الشارع في مقام بيان تمام ما له دخل في الحكم أم لا؟ فإن كان الشكّ في قيد الموضوع فالأصل فيه البيان؛ لأن مقتضى الوضع والحمل عدم مدخلية شيء آخر في موضوع حكمه، وإلّا لذكره، فالأخذ بالإطلاق حينئذٍ أخذ بالمقتضي وإلغاء للمانع المحتمل وهو كونه في مقام بيان بعض جهات الموضوع. وهكذا الحال في الشك في قيد المحمول.

وأمّا إذا كان الشكّ في قيود الحكم فإن كان الشكّ في شرط للحكم فلا سبيل إلى الحكم بالإطلاق إلا بالسكوت بعد إحراز كونه في مقام بيان شروط الحكم، فمع الشكّ في كونه في مقام بيان الشروط فالأصل الإهمال لا الإطلاق؛ لعدم العلم بتحقق المقتضي له.

نعم، لا يعتد باحتمال المنع أو المانع مطلقاً بعد إحراز المقتضي والموضوع والشرط، فيحكم بالإطلاق حينئذ؛ اعتماداً على المقتضي المعلوم وإلغاء للمانع المحتمل.

ص: 209

وبما بيّناه تبيّن أنّ ما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري(قدس سره)من رجوع جميع القيود إلى الموضوع في القضايا العقليّة(1)، في غير محله؛ إذ لا فرق بين القضايا العقلية وغيرها في تصوّر رجوع القيد إلى الموضوع أو المحمول أو الحكم. أترى أن الأُمور المعتبرة في اتصاف الموضوع بالحكم من وجود المقتضي والشرط وعدم المانع من قيود الموضوع؟ كلا، ثمّ كلّا.

هذا، إن أريد بالقضايا العقليّة القضايا الواقعة التي يكون الحكم فيها ثابتاً لموضوعاتها في نفس الأمر مع قطع النظر عن جعل الشارع.

وإن أُريد منها القضايا الذهنية التي يكون الحكم فيها عبارة عن التصديق والإدراك، ففيه أوّلاً أنّ حكم العقل بمعنى التصديق والإدراك في جميع القضايا موقوف على إحراز جميعالقيود المعتبرة في القضيّة سواء كانت عقليّة أو شرعيّة، فلا وجه للتفصيل بين القضايا العقليّة والشرعيّة حينئذٍ أيضاً .

وثانياً أنّ موضوع الحكم العقلي بهذا المعنى عبارة عن نفس القضية لا الموضوع المقابل للمحمول، ضرورة أنّ التصديق إنّما يتعلّق بالإسناد المتعلّق بطرفيه لا بالموضوع المقابل للمحمول فلا وجه للقول برجوع جميع القيود في القضايا العقليّة إلى الموضوع لا المحمول.

ص: 210


1- فرائد الأصول 2: 693.

المصادر

1- الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الأندلسي علي أحمد، تحقيق أحمد محمد بن شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، بلا تاريخ.

2- الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي علي بن أبي علي الثعلبي، تحقيق عبدالرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، بلا تاريخ.

3- الأسفار الأربعة، صدرالمتألهين محمّد بن إبراهيم، دار إحياء التراث، بيروت، الطبعة الثالثة، 1981م.

4- الاشتقاق أو كشف الأستار في شرح حديث أبي الأسود الدؤلي، البهبهاني السيد عليّ الموسوي، تحقيق محمد حسين أحمدي الشاهرودي، دارالعلم آية الله البهبهاني، الطبعة الأولى، 1423ه- . ق .

5- الأعلام، الزركلي خيرالدین، دارالعلم للملايين، بیروت، الطبعة الخامسة، 2002 م.

6 - التوحيد ، الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ، انتشارات جامعه مدرّسين، قم، 1398 ه-. ق .

7- التهذيب، الشيخ الطوسي محمّد بن حسن، دار الكتب الإسلاميّة، تهران، 1365 ه- . ش.

8- الحاشية على الكفاية، الحجّتي الشيخ بهاء الدين، تقريرات البروجردي السيد حسين، انتشارات انصاريان، قم، الطبعة الأولى، 1412 ه-. ق .

9 - الحاشية على تهذيب المنطق، المولى عبدالله بن شهاب الدين الحسين اليزدي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1412ه- . ق .

10- الخصائص، ابن جنّي أبو الفتح عثمان بن جنّي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الرابعة، بلا تاريخ.

ص: 211

11- الخصال، الشيخ الصدوق محمد بن علي، تحقيق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة السابعة، 1426 ه- . ق .

12 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهيد الأوّل محمّد بن مكي العاملي، دفتر انتشارات اسلامى، الطبعة الثانية، 1417 ه- . ق.

13 - الذريعة إلى أصول الشريعة السيّد المرتضى علم الهدى، انتشارات دانشگاه تهران، الطبعة الثالثة، 1362 ه-. ش

14- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، ابن أدريس الحلّي محمد بن منصور، انتشارات ،اسلامى، قم، الطبعة الثانية، 1410 ه- . ق .

15- الشرح المطوّل، التفتازاني سعد الدين مسعود بن عُمر ، دار الكوخ للطباعة والنشر، الطبعة الأُولى، أُفست، 1387 ه- . ش .

16 - العدّة في الأصول، الشيخ الطوسي محمد بن حسن، چاپخانه ستاره، قم، 1417 ه-. ق.

17 - العروة الوثقى، اليزدي السيّد محمّد كاظم بن عبد العظيم الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الثانية، بيروت، 1409 ه- . ق .

18 - الفصول الغروية، محمد حسين الإصفهاني، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ه-. ق.

19 - الفصول المختارة، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن نعمان، کنگره شیخ مفید، قم، 1413ه- . ق .

20 - القواعد الكلّيّة (الفوائد العلية المشتملة للقواعد الكلية)، البهبهاني السيد علي الموسوي، مكتبة دار العلم في أهواز، المطبعة العلمية، قم، الطبعة الثانية، 1405 ه- . ق .

21 - الكافي الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب، دارالكتاب الإسلامية، الطبعة الرابعة، تهران، 1365ه- . ش ، 1407 ه- . ق .

22 - المحصول في علم الأصول، فخرالدين الرازي محمّد بن عمر بن الحسين، تحقيق طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1418 ه- . ق .

23- المستصفى في علم الأصول، الغزالي أبو حامد محمد بن محمد، تحقيق محمد عبدالسلام عبدالشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413 ه- . ش .

ص: 212

24 - المعتمد، أبو الحسين محمد بن علي البصري المعتزلي، دارالمكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1426 ه- . ق

25 - المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وأحمد حسن الزيات وحامد عبدالقادر ومحمد على النجار، دار الدعوة إستانبول، الطبعة الثانية، 1989م.

26- المناقب، ابن شهر آشوب المازندراني، مؤسسة انتشارات علامة، قم، 1379 ه- . ق .

27- المنخول، الغزالي أبو حامد محمد بن محمد، تحقيق محمد حسن هيتو، دارالفکر المعاصر، بیروت، دارالفکر، دمشق، الطبعة الثالثة، 1419 ه-. ق .

28- الوافية في الأصول، الفاضل التوني عبدالله بن محمد مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة، قم، 1415 ه- . ق .

29- أجود التقريرات، السيد الخوئي أبو القاسم، تقريرات أبحاث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، مؤسسة صاحب الأمر (عج)، قم، الطبعة الأولى، رجب 1419 ه- . ق .

30- أساس النحو، البهبهاني السيد علي الموسوي، تحقيق محمد حسين أحمدي الشاهرودي، دارالعلم آية الله البهبهاني، الطبعة الأولى، 1422 ه- . ق .

31- أنيس المجتهدين، النراقي محمد مهدي، مركز العلوم والثقافة الإسلامية ومركز التراث الإسلامي، مؤسسة بوستان كتاب، قم، الطبعة الأولى، 1430 ه- . ق .

32- أوثق الوسائل، الموسوي التبريزي، انتشارات كتبي نجفي، قم، 1369 ه- . ش.

33- بحار الأنوار، المجلسي محمّد باقر بن محمّد تقي، مؤسسة الوفاء بيروت، 1404 ه-. ق.

34- بدائع الأفكار، الميرزا محمد علي الرشتي، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام)، قم، 1313 ه- . ق .

35- تقريرات الشيرازي، ملا علي روزدري، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام)، قم، 1409 ه- . ق.

36- تمهيد القواعد، الشهيد الثاني زين الدين علي بن أحمد، دفتر تبلیغات اسلامی، قم، 1416ه- . ق .

37- جامع المقاصد، المحقق الكركي علي بن حسين العاملي، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام)، الطبعة الثانية، قم، 1414 ه- . ق .

ص: 213

38- جواهر الكلام، النجفي صاحب الجواهر محمّد بن حسن، تحقیق شیخ عباس قوچاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة السابعة بلا تاريخ.

39- حقائق الأصول، الحكيم الطباطبائي السيد محسن، كتاب فروشی بصیرتی، 1408 ه-. ق.

40 - الحواشي على الكفاية، المشكيني أبو الحسن، انتشارات لقمان، 1413 ه- . ق.

41- در رالفوائد، الآخوند الخراساني محمد کاظم، وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامی، الطبعة الأُولى، 1410 ه- . ق .

42- درر الفوائد، الحائري الشيخ عبدالکریم، چاپخانه مهر،قم، بلا تاریخ.

43- زبدة الأصول، الشيخ البهائي محمّد بن حسين، تحقيق سيد علي جبار الباغي الماسولة، انتشارات دار البشير، قم، الطبعة الأولى، 1383 ه- . ش ، 1425 ه- . ق .

44- سبع رسائل، المحقق الدواني جلال الدين محمد بن سعد الدين، تحقيق سيد احمد تویسرکانی، میراث مکتوب تهران، الطبعة الأولى، 1381 ه-. ش .

45- شرح الإشارات والتنبيهات، فخر الدين الرازي محمد بن عمر، تحقيق عليرضا نجف زاده، انجمن آثار و مفاخر فرهنگی، تهران، الطبعة الأولى، 1384 ه-. ش.

46- شرح الأشموني على الألفية، الأشموني علي بن محمد، دارالكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419 ه- . ق .

47- شرح الشمسية (القواعد الجليّة)، العلّامة الحلّي حسن بن يوسف، مؤسسة نشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1412 ه-. ق .

48- شرح الشمسيّة (تحرير القواعد المنطقية)، قطب الدين الرازي محمد بن محمد، انتشارات بيدار، قم، الطبعة الثانية، 1384ه- . ش .

49- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب، عضد الدين عبدالرحمن بن أحمد الإيجي، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر ، الطبعة الأولى، 1316 ه- . ق .

50- شرح الكافية، الرضي الأسترآبادي محمد بن الحسن، المكتبة المرتضوية للإحياء الآثار الجعفرية، قم، بلا تاريخ

ص: 214

51- شرح المطالع في المنطق، قطب الدين الرازي محمّد بن محمد، انتشارات کتبی نجفی، قم بلا تاريخ.

52- شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، ابن هشام عبدالله بن يوسف، تحقيق عبدالغني الدقر، الشركة المتحدة للتوزيع، سوريا، بلا تاريخ.

53- عروس الأفراح، السبكي بهاء الدين، تحقيق عبدالحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، 1423ه- . ق ، 2003م.

54- عوالي ،اللآلي ابن أبي جمهور الأحسائي، انتشارات سيّد الشهداء(علیه السّلام)، قم، 1405 ه- . ق .

55- عيون الأخبار، الشيخ الصدوق محمد بن علي، انتشارات جهان، 1378 ه- . ق .

56- غاية المسئول السيّد محمّد حسين الشهرستاني، تقريرات الفاضل الأردكاني، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام)، قم بلا تاريخ .

57- غنية النزوع، السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي، تحقيق إبراهيم البهادري، مؤسسة الإمام الصادق، قم، الطبعة الأولى، 1418 ه- . ق.

58- فرائد الأصول، الشيخ المرتضى الأنصاري، تحقيق عبدالله النوراني، مؤسسه نشر اسلامى التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، قم، بلا تاريخ.

59- فوائد الأصول، الآخوند الخراساني محمد كاظم، وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامی، 1407 ه- . ق .

60- فوائد الأصول، النائيني محمد حسین، دفتر انتشارات اسلامی، قم، 1417 ه- . ق .

61 - قوانين الأصول، الميرزا القمي أبو القاسم بن محمد حسن، کتابفروشی علمیه اسلامیه، الطبعة الثانية، 1378 ه- . ق .

62- کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمّد علي التهانوي، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 1996 م .

63 - كشف الغطاء عن مهمّات الشريعة الغرّاء، كاشف الغطاء جعفر بن خضر، دفتر تبلیغات اسلامی حوزه علمیه قم، الطبعة الأولى، قم، بلا تاريخ.

ص: 215

64 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلّي حسن بن يوسف، تحقيق الزنجاني السيد إبراهيم، منشورات شكوري، قم، الطبعة الرابعة، 1373 ه- . ش.

65- كفاية الأصول، الآخوند الخراساني محمد كاظم، مؤسسة نشر اسلامى، الطبعة الخامسة، 1420ه- . ق .

66- لسان العرب، ابن منظور محمّد بن مکرم، دار مصادر ،بيروت، الطبعة الثالثة، 1414ه- . ق .

67 - مجمع البيان، الطبرسي الفضل بن الحسن أبو علي، انتشارات ناصر خسرو، قم، 1418ه- . ق ، 1376 ه- . ش

68 - محاضرات في الأصول، الفياض محمّد إسحاق، تقريرات السيد الخوئي أبوالقاسم، انتشارات انصاريان ،قم، الطبعة الرابعة، 1417ه- . ق .

69- مختلف الشيعة، العلّامة الحلّي حسن بن يوسف، دفتر انتشارات إسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1413ه- . ق .

70- مستدرك الوسائل، المحدّث النوري ميرزا حسين، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام) ، بيروت، الهلام الطبعة الأولى، 1408 ه- . ق .

71- مستمسك العروة، الحكيم الطباطبائي السيد محسن، مؤسسة دارالتفسير، الطبعة الأولى، قم، 1416ه- . ق .

72- مشارق الشموس، الخوانساري آقاحسین بن محمد بن حسین، تحقیق سید جواد ابن الرضا، بلا تاريخ.

73- مطارح الأنظار، الميرزا أبو القاسم بن محمّد علي النوري، تقريرات الشيخ الأنصاري، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام) ، قم ، بلا تاريخ.

74- معارج الأصول، المحقق الحلّي جعفر بن حسن، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام)، قم، الطبعة الأُولى، 1403 ه- . ق .

75- معالم الدين، الحسن بن زين الدين العاملي، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم الطبعة الرابعة، 1410 ه-. ق

76 - مفاتيح الأصول، السيد المجاهد الطباطبائي محمد بن علي، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام) ، قم .

ص: 216

77- مفتاح العلوم، السكاكي يوسف بن أبي بكر الخوارزمي، تحقيق نعيم زرزور، دارالکتب ،العلميّة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407 ه- . ق .

78- مقالات الأصول، الشيخ ضياء الدين العراقي، مجمع الفكر الإسلامي، 1414 ه- . ق .

79- منتهى الوصول، والأمل في علمي الأصول والجدل (مختصر ابن الحاجب)، ابن الحاجب عثمان بن عمرو، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا تاريخ.

80 - نهاية الوصول، العلّامة الحلّي يوسف بن الحسن، تحقيق إبراهيم البهادري، مؤسسه امام صادق(علیه السّلام)، قم، الطبعة الأولى، 1427 ه- . ق .

81 - نهج البلاغة، السيّد الرضي محمد بن حسين الموسوي، نسخة الصبحي صالح، نشر دار الهجرة، قم، بلا تاريخ.

82 - وسائل الشيعة، الحرّ العاملي محمّد بن حسن، مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام)، قم، الطبعة الأُولى، 1409 ه- . ق .

83 - هداية المسترشدين في شرح معالم الدين، صاحب الحاشية، محمّد تقي الإصفهاني، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، بلا تاريخ.

84- هدية العارفين أسماء المؤلّفين وآثار المصنّفين، إسماعيل باشا البغدادي، طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة في مطبعتها البهية، استانبول 1951 م، افست دارإحياء التراث العربي، بيروت.

85 - همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، السيوطي جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر، تحقيق عبدالحميد هنداوي، المكتبة التوفيقية، مصر، بلا تاريخ.

ص: 217

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.