الهادي في تفسير القرآن الكريم

هويّة الكتاب

بطاقة تعريف: مهری، سیدمرتضی، 1324 -

عنوان المؤلف واسمه: الهادي في تفسير القرآن الكريم [کتاب]/ العلّامة سيّد مرتضى المهري.

مشخصات نشر : قم : موسسة المعارف الاسلامیة، 1437ق.= 1395 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : موسسة المعارف الاسلامیة؛ 209، 219، 227.

شابک : دوره 978-600-146-015-9 : ؛ ج.1 978-600-146-016-6 : ؛ ج.3 978-600-146-019-7 : ؛ ج.4 978-600-146-030-2 : ؛ ج.5 978-600-146-031-9 : ؛ ج.6 978-600-146-039-5: ؛ ج.7 978-600-146-057-9 :

حالة الاستماع: فاپا

لسان: العربية.

ملحوظة : ج.3 (چاپ اول: 1394) .

ملحوظة : ج.4 (چاپ اول: 1395) .

ملحوظة : ج.5 (چاپ اول: 1397) (فیپا).

ملحوظة : ج.6 (چاپ اول: 1399).

ملحوظة : ج.7 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .

مندرجات : .- ج.3. تفسیر سورة الشوری.- ج.4. تفسیر سورة الاحقاف.- ج.5. تفسیر سورة الذاریات.- ج.6. تفسیر سورة حدید.- تفسیر سورة التحریم

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

معرف المضافة: موسسة المعارف الاسلامیة

تصنيف الكونجرس: BP98/م866ھ2 1395

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3483061

ص: 1

المجلد 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

الهادي

في تفسير القرآن الكريم

المجلّد الأوّل

تأليف

العلامة سيّد مرتضى المهري

ص: 3

سرشناسه: مهری، سید مرتضی،1324، کد ملی 0386545146

عنوان و نام پدیدآور: الهادى فى تفسير قرآن كريم، سید مرتضی مهری.

مشخصات نشر: قم، بنیاد معارف اسلامی، 1393 .(206-205)

مشخصات ظاهری: 2ج.

ISBN : دوره ای -9-015-146-600-978

ج1) 978-600-146-016-6 ج2) 978-600-146-017-3

ج3) .... ج4) ....

وضیعت فهرست نویسی : فیپا.

یادداشت : عربی

موضوع: تفاسیر شیعه - قرن 14

شناسه افزوده بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره: 1393 2ه_ 866 م/ BP98

رده بندی دیویی: 297 /179

شماره کتابشناسی ملی: 3483061

205

هويّة الكتاب :

اسم الكتاب : ... الهادي في تفسير القرآن الكريم

المؤلف : ... العلّامة السيد مرتضى المُهري

المحرّر: محمدرضا دهقانزاد

الناشر: ... مؤسسة المعارف الإسلاميّة

الطبعة : ... الأولى 1435 ه_ . ق

المطبعة : ... عترت

العدد : 1000 نسخة

رقم الايداع الدولي للدورة: ...978-600-146-015-9

رقم الايداع الدولي / ج 1 : ... 978-600 - 146 - 016 - 6

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون 37732009 - 09127488298 - فاکس 37743701 ص.ب 37185/78

WWW.maarefislami.com

E-mail: info@maarefislami.com

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

محرر: محمد رضا دهقانزاد

ص: 4

مقدمة الناشر

قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السّلام

«وتعلّموا القرآن، فإنّه أحسن الحديث وتفقّهوا فيه، فإنّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره، فإنّه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته، فإنّه أنفع القصص». (1)

ممّا لا شكّ فيه أنّنا ملزمون بمعرفة القرآن والتفقّه فيه ولكن كيف يتسنى لنا ذلك؟

أجل هناك من الرجال من صرفوا جلّ عمرهم في تعليم القرآن وتعلّمه للناس، وهناك من لا يألو جهداً في الغور بعمق داخل بحار كتاب الله فانياً عمره صارفاً وقته في استخراج لثالثه والكشف عن غوامض جواهره. ومنهم سماحة العلامة سيد مرتضى المهري الذي يعتبر بحقّ أحد رواد هذه المدرسة العظيمة عبر بوابتها، بوابة العترة الطاهرة.

إنّه خلال تجربته الطويلة في الأخذ والعطاء، والاستلهام والاستقراء، والتفكير والتدبير، والعلم والعمل استطاع بخبرته وغزارة علمه وبتوفيق من ربّه أن يتفقّه في

ص: 5


1- نهج البلاغة: 164 ، الخطبة 110

كتاب الله وبتدبّر آياته، فشرع في تدريس القرآن شطراً من عمره، ولا زال فقد بدأ تدريس التفسير خلال تدريسه الفقه والأُصول في الحوزة العلمية بقم منذ أكثر من ثلاثين عاماً إلا أنّه لم يكمل مسيرته التفسيرية في قم حيث استقرّ به المقام في موطنه الكويت وبدأ هناك باستكمال بحوثه القيمة في تفسير القرآن الكريم أكثر من خمسة عشر عاماً.

ونحن إذ نبارك له هذه الهمّة العالية والعزم الجادّ نأمل من العلي القدير أن يوفّقه لتحقيق مأربه في تفسير القرآن كلّه إن شاء الله.

وعلى هذا فقد بدأنا مع بعض أفاضل محقّقينا في تحرير ما كتبه سماحته إبتداء لطبعه ونشره، وليستفيد من ثمرة أفكاره، كلّ من لم يوفّق لحضور دروسه في التفسير والتفقّه في القرآن العظيم.

وها هو الجزء الأوّل من التفسير يخرج إلى الوجود تحت عنوان: «الهادي في تفسير القرآن الكريم» سائلين المولى أن يوفّقنا في إتمام طباعة ونشر هذا السفر المبارك وعلى الله التكلان وهو المعين.

مؤسّسة المعارف الإسلاميّة

قم المقدّسة

سنة 1435

ص: 6

مقدمة المؤلّف

مقدمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، لطفاً بعباده ورحمة بهم. والصلاة والسلام على خاتم الرسل وسيّد البشر، محمّد الصادع بأمره وأمين وحيه، وآله الطيّبين الطاهرين، الهداة المعصومين. واللعنة الأبدية على أعدائهم ومناوئيهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.

لا شكّ في أنّ القرآن الكريم بحر لا يدرك غوره ، وسماء لا يبلغ شأوها، وقد مضى على ظهوره بين أظهرنا أربعة عشر قرناً يُشرَح ويُفسَّر ولم يبلغ أحد كنهه، ولم تنقض عجائبه، ولكن لكلّ أحد أن يرتوي بمقدار سعته من هذا المعين الإلهي.

وإنّي أحمد الله تعالى وأشكره لما أولاني من التوفيق للورود في هذا المورد الرحب، وتسجيل هذه السطور محاولة منّي لفهم بعض ما في هذا الكتاب العظيم من أسرار، وبيانها لغيري، لعلّ ذلك ينفع المستضيء ولو بلمعة، ويروي الظمآن ولو بقطرة.

ص: 7

هذا التفسير ومنهجه

كنت قد ألقيت في ما مضى محاضرات في التفسير في قم، ولكنها حتّى الآن لم تعد قابلة للنشر. وهذا الكتاب قد بدأت فيه بالتفسير من سورة الأحزاب المباركة، نأمل أن يتبعها تفسير سائر السور بعدها، بل التي قبلها أيضاً بتوفيق من الله إنّه سميع مجيب.

وانتُهج في هذا التفسير المنهج العامّ المتعارف من ملاحظة الأقوال أوّلاً، ثم ملاحظة مضمون الآية بمقتضى ظاهر اللفظ، ومراجعة كتب اللغة، وما ألّف في تبيين جذور اللغة العربية، لأنّ القرآن نزل باللغة الفصحى التي لم يطرأ عليها التغيرات المتأخّرة بعد الفتوح، ثمّ ملاحظة سائر الآيات التي ترتبط بالموضوع، ثمّ الروايات الواردة فهي وإن كانت قليلة إلا أنّها كثيراً ما تحلّ المشكلات المعقّدة في الكتاب العزيز. ولا غرو فأهل البيت أدرى بما في البيت، وهم عدل القرآن، وأعلم الخلق بما يشتمل عليه من أسرار.

ومن المؤسف أنّ روايات التفسير بقيت في الغالب مرسلة حيث لم يهتمّ نقلة الحديث بنقل الأسانيد إلا في روايات الأحكام، ولذلك فإنّ الروايات المعتبرة التي يستفاد منها في التفسير ترتبط في الغالب بحكم فقهي استدعى من المحدّثين الاهتمام بنقل أسانيدها. ومع ذلك فالروايات حتّى المرسلة منها خير ما يستند إليه في فهم الكتاب وحلّ معضلاته.

هذا وقد جرت العادة بذكر مقدّمات قبل البدء بالتفسير، فمنهم من أجمل، ومنهم من فصّل. وبعض تلك المقدّمات يأتي ذكرها، والبحث حولها ضمن

ص: 8

تفسير الآيات المرتبطة بها، وبعضها متكرّرة في مقدّمات التفاسير، وبعضها تذكر في كتب خاصّة حول القرآن الكريم، وإعجازه، وتأريخ نزوله، وكيفية كتابته، وتواتر نقله، واختلاف قراءاته وساير ما يعبّر عنه بعلوم القرآن.

ولكن ينبغي أن نشير إلى أمرين مرتبطين بالتفسير:

الأمر الأوّل: الحاجة إلى التفسير

الأمر الأوّل: الحاجة إلى التفسير

ربّما يتساءل: لماذا التفسير ؟ وهل القرآن نزل خطاباً لمجموعة خاصّة أم هو كتاب هداية للجميع؟ فإن كان للجميع فلا بدّ من كونه بحيث يمكن للجميع الاستفادة منه.

وهذا التوهّم هو الذي أوجب لبعض المعجبين بأنفسهم أن يخوضوا في هذا المجال من دون مراجعة للروايات ولا لما كتبه العلماء السابقون. وهذا خطأ فاحش في كلّ المجالات، ومرجعها إلى أنّ كلّ إنسان في دراساته وبحوثه يبدأ من الصفر، ويرجع إلى المربع الأوّل. ولو عمّت هذه السيرة لبقي البشر دائماً في المربع الأوّل، ولم يحصل له هذا التقدّم العلمي في أيّ مجال.

ومع الأسف نجد أنّ بعض هؤلاء المغفّلين تمكّنوا من التأثير في بعض البسطاء وإضلالهم ، حيث إنّ بعض الناس يعجبهم كلّ جديد ومخالف للتيّار من دون تأمّل وفهم لما يحمله هذا الفكر من أخطاء. هذا إن صحّ التعبير عنه بالفكر. وبعض هؤلاء في ما يعبرّ عنه بالدروس لا يراجع حتّى كتب اللغة مع أنّه ليس من أهل اللغة، بل لا يتأمّل في الخط القرآني بدقّة، فتجده يقرأ الكلمة خطأ، ويترجمها خطأ، ويبني عليها فكره الخاطئ المضحك.

ص: 9

ومن باب المثال لا الحصر أُشير إلى جملة تفوّه بها بعضهم ثمّ كتبها في منشوراته، وهو حتّى الآن يدّعي أنّه من أعظم مفاخر البشرية، فقرأ قوله تعالى «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»،(1) «ولا تقِفْ»، وفسّره بأن الله تعالى يحثّ على كسب العلم في كلّ شيء، ويقول: إذا لم تعلم بالشيء فلا تقف عنده وحاول أن تتعلّم !!! مع أنّ العربيّ لا يفسّره كذلك حتّى لو قرأه هكذا.

ومن هؤلاء من ابتليت به لشدّة قربه منّي، وقد جمع حوله مجموعة من الناس يضلّهم ويغويهم بأخطائه الفادحة، وقد كتبت إليه شطراً منها ولم يستطع الجواب، ولكنّه لم يعد إلى رشده، وهو يدّعي أنّه يفهم من القرآن ما لم يفهمه أحد من دون أن يراجع الروايات أو التفاسير، بل هو لا يعتقد بالروايات مطلقاً.

وأساس خطئه أنّ القرآن فيه تفصيل كلّ شيء، وهو تبيان لكلّ شيء، فلا حاجة إلى رواية، بل لا تصحّ الرواية لبعدنا عن ذلك الزمان، فيكفي لكلّ إنسان أن يراجع القرآن ويتدبّر فيه من دون ملاحظة تدبّر الآخرين، وما وصل إليه العلماء طيلة القرون، وما ورد في الروايات عن الرسول صلّی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السّلام، ويبني على ذلك أسس دينه من العقيدة والأحكام.

ولمّا كتبت إليه: إنّ القرآن أيضاً رواية وإن كانت قطعية، فأنت لم تسمعه من الله تعالى ولا من الرسول صلّی الله علیه و آله مباشرة، وإنّما سمعته رواية جيل عن جيل إلى أن يصل إلى عهد الرسالة المجيدة. والرسول صلّی الله علیه و آله ليس مجرّد حامل للوحي كما يظنّه بعض الجهلة، بل هو المبيّن والمفسّر بصريح القرآن، قال تعالى: «وَأَنْزَلْنَا

ص: 10


1- الإسراء (17): 36

إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»،(1) بل هو الحاكم وله حقّ التشريع. قال تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»،(2) فالدين يتشكّل من الكتاب والسنّة ولا يجوز الفصل بينهما، لم يحر جواباً، ولكنّه لم يترك طريقه المعوّج.

وقد سبقه إلى ذلك من روّج بين الناس فكرة «حسبنا كتاب الله» ومنع على أساس هذه الفكرة الخاطئة من كتابة الأحاديث الشريفة، واستمرّ ذلك إلى قرن.

ومهما كان فالجواب عن هذا السؤال هو أنّ القرآن كتاب هداية للجميع، وكلّ من من يجيد اللغة العربية يمكنه أن يستضيء بنوره في ظلمات الأرض التي تقتضيها هذه الحياة. وبالطبع فإنّ من يراجع القرآن ويقرأ بنحو من التدبّر وهو يجيد اللغة نوعاً مّا يستفيد من كثير من آياتها، فهي واضحة المضمون إلا أنّه يتوقّف، أو عليه أن يتوقّف، في عدّة موارد نذكر بعضها من دون حصر.

بعض موارد التوقّف في فهم القرآن:

1 - معرفة اللغة الأصلية

قد لا يكون المعنى اللغوي واضحاً، خصوصاً بملاحظة التغيّرات التي وردت على اللغة، فلا يمكن دعوى معرفة اللغة الأصلية لكثير من الألفاظ المستعملة في القرآن، لكونه من النصوص القديمة. فهذه الحاجة يشعر بها من يريد معرفة أيّ من النصوص القديمة، كالأحاديث النبويّة، وأحاديث أئمّة أهل البيت، وخطب «نهج البلاغة»، أو غيرها من الخطب أو الأشعار. بل لا تكفي مراجعة كتب اللغة المتعارفة حيث تنقل الاستعمالات، وإنّما تنفع في هذا المجال الكتب التي تبحث

ص: 11


1- النحل (16): 44
2- الحشر (59): 7

عن جذور اللغة، ك_ «معجم مقاييس اللغة»، و ك_«مفردات الراغب».

وقد لا تتّفق كلمتهم على معنى واحد فيحصل الشكّ، وربّما يمكن للباحث أن يتوصّل إلى معرفة المعنى المراد في القرآن بملاحظة سائر استعمالاته، أو استعمالات أهل اللغة في موارد أُخرى، أو يرجّح أحد المعاني المذكورة في كتب اللغة لبعض الاعتبارات. وهنا يتدخّل عنصر الاجتهاد، وربّما لا تكون القرائن مفيدة للقطع أو الاطمئنان فلا بدّ من التوقّف وعدم الجزم بالمعنى كي لا يكون من التفسير بالرأي.

2 - الألفاظ المشتركة

هناك ألفاظ مشتركة لها أكثر من معنى، ويتوقّف تحديد المعنى المقصود على ملاحظة القرائن الموجودة في اللفظ، أو في مواضع أٌخرى من القرآن الكريم. ومعرفة هذه القرائن تحتاج إلى دراسة وتعمّق في الكتاب، بل قد لا تكون هناك قرينة في اللفظ، وإنّما اعتمد في تعيين المعنى على قرائن حالية حين نزول الآية. ومعرفة تلك القرائن تحتاج إلى دراسة التأريخ، وملاحظة الروايات التي تبيّن شأن نزول الآية، والجوّ السائد آنذاك. وهنا أيضاً يتدخّل عنصر الاجتهاد، ويأتي فيه ما مرّ.

3 - المجازات والكنايات

لا يشذّ القرآن الكريم عن سائر النصوص العربية في التعبير عن كثير من المقاصد بالمجازات والكنايات والاستعارات الأدبية. ومعرفة المراد الواقعي في كلّ ذلك تتوقّف على الاطّلاع على وجوه الكناية والتجوّز في الاستعمالات

ص: 12

العربية، وعلى ذوق رفيع لتطبيق ما يناسب الاستعمال القرآني.

4 - الآيات المشتملة على المسائل الاعتقادية

المسائل الاعتقادية المرتبطة بمعرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته، والتأمّل في نشأة الكون، وعلاقة الكون بخالقه، وشؤون الربوبية، ثمّ المعاد ووجه الحكمة فيه، والدليل على إمكانه وثبوته، ثمّ الرسالة وكيفية ارتباط الإنسان بالسماء، وغير ذلك من مسائل العقيدة، تتوقّف معرفة الآيات المرتبطة بها على كثير من الأبحاث الكلامية والفلسفية، وعلى معرفة الأديان والمذاهب، سواء السماوية .وغيرها. وهنا أيضاً لا بدّ من مراعاة الاحتياط لئلا يكون من التفسير بالرأي.

5 - الحقائق التاريخية

هناك آيات كثيرة تتناول قصص الأنبياء والأُمم السالفة، وبعضها تنظر إلى ما ورد في التوراة والإنجيل، وتصحّح أخطاءها التي عرضت نتيجة التحريف والتبديل، والنسيان، والترجمة المتكرّرة. ولا يمكن التحقّق من معنى الآية في هذه الموارد إلا بالاطّلاع على ما في تلك الكتب، وما كان في خصوص عهد النزول جزءاً من ثقافة ذلك القوم. كما أنّ ما يتعرّض لأحوال الأُمم السالفة ربّما يتوقّف تفسير بعضها على معرفة أماكن تواجدهم، وارتباطها بأماكن أُخرى، وعلى بیئتهم وخصائص مساكنهم.

فمن ذلك مثلاً ما ورد في قوم سبأ من قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ»،(1) حيث لا يمكن

ص: 13


1- سبأ (34): 18

التأكّد من المراد إلا بمعرفة البلد، ومعرفة المراد بالقرى التي بورك فيها، وارتباطهم بها من حيث الطرق المتعارفة في ذلك العصر.

6 - الحقائق الكونية

الآيات الكونية التي تتعرّض لسير الشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك لا يمكن تفسيرها من دون الاطّلاع على الحقائق الكونية المكتشفة حالياً، والممكن اكتشافها في ما بعد، وما كان سائداً لدى البشر في عهد النزول.

7 - شأن نزول الآيات

في القرآن آيات كثيرة تتعرّض للوضع الاجتماعي والسياسي في مدينة الرسول صلّی الله علیه و آله وما حولها، والحروب الدائرة بين المسلمين والمشركين، ودور المنافقين في المجتمع الإسلامي، ومكائد المشركين للوقيعة بالدين عاجلاً أو آجلاً، وما يدور بين صحابة الرسول صلّی الله علیه و آله ، وحوادث البيت النبوي الكريم، وشؤون أهل البيت علیهم السّلام ، ونحو ذلك. وتفسير هذه الآيات لا يمكن إلا بالاطّلاع على تأريخ عهد الرسالة الكريمة، وملاحظة الأحاديث الواردة بهذا الشأن. وهو أمر صعب في بعض الحالات حيث يكون تفسير الآية مخالفاً لسياسة السلطة الحاكمة بعد عهد الرسالة، ممّا يمنع المؤرّخين والمحدّثين من بيان الأُمور على واقعها، ويجعل معنى الآيات لغزاً لا يمكن حلّها، كما نلاحظه في سورة التحريم.

هذه الموارد وغيرها يفرض على من يبتغي الاستضاءة من نور القرآن الكريم أن يتوقّف، ولا يكتفي بما يتبادر إلى ذهنه من اللفظ، بل يلاحظ كلّ ما يمكن

ص: 14

أن يساعده في فهم معنى الآية. ومع ذلك لا يحكم بالقطع إلا في الموارد الواضحة البيّنة.

الأمر الثاني: التفسير بالرأي

الأمر الثاني: التفسير بالرأي

هناك مشكلة عويصة تعرض طريق المفسّر تمنعه من المضيّ قدما في البحث عن المعنى المراد إن كان متّقياً يخاف الله تعالى، وهي ما تدلّ عليه الروايات المتعدّدة التي اتّفق الفريقان على نقلها والاهتمام بها، ممّا تمنع من التفسير بالرأي.

ونحن ننقل هنا أوّلاً ما ورد عن طرقنا من روايات أئمّة أهل البيت علیهم السّلام:

روايات الشيعة في التفسير بالرأي

روى في «الوسائل» عن الصدوق رحمه الله في «المجالس» و«التوحيد» و«عيون الأخبار» عن محمّد بن موسى بن المتوكّل، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت، عن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «قال رسول الله: قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبّهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني»(1).

السند معتبر ودلالة المتن واضحة على حرمة التفسير بالرأي بصورة مشدّدة حيث ينفي الإيمان عن من يفسّر برأيه.

وهناك روايات ضعيفة السند أو مرسلة بنفس المضمون، منها ما رواه الصدوق رحمه الله في «التوحيد» بسند مجهول، ومتن غريب، في خبر طويل، عن رجل أبدى شكوكه بالنسبة إلى القرآن الكريم لأمير المؤمنين علیه السّلام ومن ضمن ما

ص: 15


1- وسائل الشيعة 27: 45 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 22

أجاب به الإمام هذه الجملة «إيّاك أن تفسّر القرآن برأيك، حتّى تفقهه عن العلماء، فإنّه ربّ تنزيل يشبه كلام البشر، وهو كلام الله، وتأويله لا يشبه كلام البشر، كما ليس شيء من خلقه يشبهه، كذلك لا يشبه فعله تبارك وتعالى شيئاً من أفعال البشر، ولا يشبه شيء من كلامه كلام البشر، فكلام الله تبارك وتعالى صفته وكلام البشر أفعالهم، فلا تشبه كلام الله بكلام البشر، فتهلك وتضل».(1)

وروى الصدوق أيضاً في «عيون أخبار الرضا علیه السّلام» قوله لعليّ بن محمّد بن الجهم، ضمن خبر طويل، بسند مجهول: «... ولا تتأوّل كتاب الله برأيك فإنّ الله عزّ وجلّ قد قال: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا الله وَالرَّاسِخُونَ»(2) ».(3)

وروى أيضاً في «كمال الدين وتمام النعمة» بسند ضعيف جدّاً عن عبدالرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «لُعن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيّاً، ومن جادل في آيات الله فقد كفر ، قال الله عز وجل: «ما يُجَادِلُ فِي آيَاتِ الله إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ»(4) ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب، ومن أفتى الناس بغير علم فلعنته ملائكة السماوات والأرض، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار».(5)

وروى العيّاشي مرسلاً عدّة روايات:

عن زرارة، عن أبي جعفر عیله السّلام قال: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير

ص: 16


1- التوحيد: 265
2- آل عمران (3): 7
3- عيون أخبار الرضا علیه السّلام 2: 192
4- غافر (40): 4
5- كمال الدين وتمام النعمة 42:1

القرآن، إنّ الآية ينزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء».(1)

وآخرها في شيء». وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «من فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ كان إثمه عليه».(2)

وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر علیه السّلام «ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم، فإنّ الرجل ينزع بالآية فيخر بها أبعد ما بين السماء والأرض». (3)

و روى غير ذلك أيضاً ممّا يدلّ على هذا الأمر في هذا الباب، وفي باب آخر بعنوان النهي عن المراء في القرآن. (4)

ويلاحظ أنّ الخبر مع شهرته لم يذكر في المجاميع الحديثية المعتبرة ولم يصل إلينا بطريق معتبر إلا حديث واحد، وهو الحديث الأوّل. ومن الغريب أنّ الأمر كذلك في كتب العامّة أيضاً، فلم يرد بذلك خبر في الصحيحين مثلاً.

ونذكر هنا بعض ما وجدناه في كتبهم:

روايات العامّة في التفسير بالرأي

في «صحيح الترمذي» باب بعنوان: «باب ما جاء في الذي يفسِّر القرآن برأيه» روى فيه عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: « مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». (5) وقال هذا حديثٌ حسنٌ.

ص: 17


1- تفسير العياشي 1: 17
2- نفس المصدر
3- نفس المصدر
4- راجع: تفسير العياشي 1 : 17 - 18
5- سنن الترمذي 4: 268

ورواه أيضاً النسائي في «سننه». (1)

وروى الترمذي أيضاً عن ابن عبّاس ، عن النّبي صلّی الله علیه و آله ، قال: «اتَّقُوا الحَدِيثَ عَنِّي إِلا مَا عَلِمْتُمْ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَايِهِ فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».(2) وقال أيضاً: هذا حديث حسن.

وفيه أيضاً عن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأ». وقال: هذا حديث غريب. (3)

ورواه أيضاً ابن داود في «سننه» وقال الألباني: ضعيف .

وفي «سنن النسائي» باب من قال في القرآن بغير علم روى في ما روى عن ابن عباس، عن النبي صلّی الله علیه و آله قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ ، أَوْ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». (4)

ومع ذلك فربّما يحصل الاطمئنان من مجموع ما ذكر وغيرها بصدور هذا المتن من المعصوم.

العمل بظواهر الكتاب

حكم بعض المحدّثين بمقتضى هذه الروايات بأنّه لا يجوز العمل بظواهر الكتاب إلا إذا فسّر بالروايات المأثورة. وقد عقد في «الوسائل» باباً في أبواب صفات القاضي بعنوان: «باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر

ص: 18


1- السنن الكبرى، النسائي 5: 30
2- سنن الترمذي: 4: 268
3- نفس المصدر: 269 - 270
4- السنن الكبرى، النسائي 7: 286

القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة علیهم السّلام»، وروى في ذلك 82 حديثاً.

وهذا استنتاج باطل واضح البطلان، فإنّ الأخذ بالظواهر ليس من التفسير حتّى يقال إنّه تفسير بالرأي. والتفسير هو إبانة المعنى. ولا يصدق إلا إذا كان المعنى معقّداً. ولذلك يطلق الفسر على نظر الطبيب إلى بول المريض لمعرفة مرضه، وهو أمر معقّد.

والناس في مواجهة هذا الأمر وقعوا بين مفرط ومفرّط. فهناك من امتنع من الأخذ بظواهر القرآن ولزم منه تعطيل الكتاب، مع أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السّلام أمروا بالرجوع إلى القرآن، بل جعلوا القرآن مناطاً لمعرفة ما يجوز الأخذ به من الرواية، وتمييزه عمّا لا يجوز.

منها ما رواه الكليني في «الكافي» عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه».(1)

وروى عن أبان بن عثمان، عن عبدالله بن أبي يعفور قال: وحدّثني الحسين بن أبي العلاء أنّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به، قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلّی الله علیه و آله وإلا فالذي جاءكم به أولى به».(2)

وعن أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد الله علیه السّلام يقول: «كلّ شيء مردود إلى

ص: 19


1- الكافي 1: 69، ح1
2- نفس المصدر ، ح 2

الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف».(1)

وعن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «خطب النبيّ صلّی الله علیه و آله بمني فقال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله». (2)

والروايات في هذا الباب كثيرة جدّاً.

الاستغناء بالكتاب والمنع من نشر السنة

ومن الناس من أفرط في الأخذ بالكتاب العزيز، أو الدعوة إليه والاستغناء عن غيره، بل منع من الأخذ بالسنّة. والغالب في هؤلاء ليس هو المبالغة في تعظيم القرآن الكريم، بل هناك أهواء تدعوهم إلى ذلك، حيث يمكنهم التمسّك بالآيات المتشابهة، كما قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أمُّ الْكِتَابِ وَأخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَة مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ».(3)

ولذلك ورد في وصية من أمير المؤمنين علیه السّلام لعبد الله بن العبّاس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج: «لا تُخَاصِمُهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهِ تَقُولُ وَيَقُولُونَ ولكن خاصمهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً».(4)

ويلاحظ أنّ فكرة الاستغناء بالكتاب عن السنّة بدأت في أواخر حياة

ص: 20


1- نفس المصدر، ح3
2- نفس المصدر، ح 5
3- آل عمران (3): 7
4- نهج البلاغة، صبحي صالح: 401، کتاب 77

الرسول صلّی الله علیه و آله، وفي مواجهة طلبه الدواة والكتف أو نحو ذلك، ليكتب لهم وصيّة لا يختلفوا بعده.

ففي «صحيح البخاري» عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلّى الله عليه و آله وَجَعُهُ قَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ» . قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله و سلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ الله حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا وَكَثرَ اللَّغَط. قَالَ: «قُومُوا عَنِّي وَلا ينبَغِي عِندِي التَّنَازُعُ»، فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاس يَقُولُ: إِنَّ الرِّزْيَّةَ كُلَّ الرِّزْيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كتابه». (1)

وروى في ذلك روايات أُخرى كما روى غيره ومنهم مسلم في «صحيحه»: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه و آله وفي البيت رجال فيهمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ». فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنَ، حَسْبُنَا كِتَابُ الله، فَاخْتَلَفَ أهْلُ الْبَيْت فَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرَّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتَلَاف عَنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا». قَالَ عُبَيْدُ اللَّه فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسِ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّة مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَن يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اختلافهمْ وَلَغَطهم. (2)

وبذلك جرت سيرة الخلفاء، ففي «تذكرة الحفاظ»: ومن مراسيل ابن أبي

ص: 21


1- صحيح البخاري 1: 37
2- صحیح مسلم 76:5

مليكة أنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنكم تحدّثون عن رسول الله صلّی الله علیه و آله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. (1)

وروي عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطّاب يقول لأبي هريرة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله صلّی الله علیه و آله أو لأُلحقنّك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركن الحديث أو لأُلحقنّك بأرض القردة. (2)

وعن يحيى بن جعدة قال: أراد عمر أن يكتب السنّة، ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب في الأمصار: من كان عنده شيء من ذلك فليمحه. (3)

وغير ذلك ممّا ورد في هذا الباب وهو كثير.

بل رووا في ذلك حديثاً يعدّ عندهم صحيحاً عن الرسول صلّی الله علیه و آله ، فرووا عَنْ أبي سعيد الخدريِّ أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله قال: «لا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ - قَالَ هَمَّامٌ: أَحْسَبُهُ قَال مُتَعَمِّدًا - فَلْيَتَبَوَّاْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». (4)

فهذا الحديث وإن كان ينهى عن الكتابة فقط إلا أنّه لا شكّ في أنّ ترك الكتابة يعرّض الأحاديث للتحريف، بل التلف بسبب النسيان وغيره، مع أنّ الحديث مكمّل للشريعة، ومفسّر ومبيّن للقرآن، بل في الأحاديث ما يعدّ

ص: 22


1- تذكرة الحفاظ 1: 2
2- كنز العمّال 10: 291
3- نفس المصدر : 292
4- صحیح مسلم 8: 229

كالقرآن من حيث الانتساب إلى الله تعالى، وإنّما لم يجعل منه لأنّ القرآن فيه ميزة التعبير الخاص الذي جعله معجزاً. فكيف يمكن الاستهانة بحفظ السنّة وجمعها وكتابتها، وصونها من التلف والتحريف؟!

لا شكّ في أن هذا الحديث ممّا صنعته الأيادي المستأجرة التي كانت تخدم السلطات والسلطة كانت تحاول منع انتشار السنّة الشريفة. والمعروف أنّ السنّة لم تكتب عند القوم زهاء قرن. والداعي إلى ذلك ما دلّت عليه الآية الكريمة من اللجوء الى المتشابهات، وما ذكره أمير المؤمنين علیه السّلام العلمية من أنّ القرآن حمّال ذو وجوه.

المراد بالتفسير بالرأي
المراد بالتفسير بالرأي

ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ المراد بالتفسير بالرأي الذي منع في الأحاديث هو تأويل المتشابهات من دون الاستناد إلى قرينة واضحة من نفس القرآن الكريم، بحيث يرتفع اللبس وتدخل الآية بذلك في المحكمات، ومن دون الاعتماد على رواية معتبرة تفسّرها.

وينبغي أن نشير هنا إلى بعض موارد التفسير بالرأي:

1 - محاولة تفسير القرآن بالقرآن

ويجب أن يلاحظ أنّه حتّى مع الاعتماد على التفسير بالقرآن أو الرواي-ات ق-د يعتبر من التفسير بالرأي، كما نجده في كثير من التفاسير التي تدعى بالتفسير القرآني للقرآن، حيث يتمسّك بورود نفس الكلمة في مورد آخر من الكتاب العزيز، ويحمل مورد الشبهة على تلك الآية مع عدم وضوح اتّحادهما في المراد

ص: 23

إلا بنحو من التأويل والتحميل. فلا بدّ من التأمّل والاحتياط وعدم الحكم بذلك بصورة جازمة.

وكذلك في الأخذ بالروايات إذا لم تكن واضحة في التفسير أو لم تكن معتبرة من حيث السند والمتن ممّا يوجب الوثوق بالصدور وإلا فلا بدّ أيضاً من الاحتياط.

2 - تأثير المدارس الفلسفية ونحوها

من موارد التفسير بالرأي التي يبتلى بها كثير من المفسّرين أنّهم إذا كانوا يتبعون مدرسة من المدارس الفلسفية أو العلمية يحاولون تطبيق الآيات على ما توصلوا إليه في محور اختصاصهم.

وهذا يبدو نوعاً ما أمراً طبيعياً، لأنّ تأثّر الباحث بالعلم الذي تخصّص فيه أمر طبيعي، فتجد الفيلسوف إذا ورد البحث الفقهي يحاول تطبيق نظرياته الفلسفية في مجال الفقه، وهو ممّا يسبّب البعد عن استنباط حكم الله تعالى عن الكتاب والسنّة الذي هو وظيفة الفقيه، كما أنّه إذا حاول تفسير القرآن الكريم تجد الطابع الفلسفي مسيطراً على أفكاره.

وعليه فلا بدّ للباحث إذا أراد أن يبحث في أيّ مجال أن يتفرّغ من الإطار الذي يفرضه عليه تخصّصه الآخر، أو العلم الذي أعجب به وتوغّل فيه. وهذا قد يكون صعباً في البداية إلا أنّه بالممارسة يسيطر الإنسان على طريقة تفكيره.

وهذا باب مهمّ جدّاً وقلّما نجد مفسّراً يترك ما يملي عليه تخصّصه العلمي في مجال التفسير، سواء كان متّأثراً بالفلسفة القديمة أو الحديثة، أو الكلام بشتّى مدارسه المتناحرة، أو العلوم الطبيعية بشتّى أنواعها، حتّى الطبيب ينظر إلى كثير

ص: 24

من الآيات بمنظار الطبّ، والاجتماعي بمنظاره الخاصّ، وكذلك الفلكي والجيولوجي، وغير ذلك.

ومن هنا نجد كيف تفسّر الآيات التي تتعرّض لذكر السماء والأرض، والنجوم والكواكب والشهب، والليل والنهار، والشمس والقمر، ونحو ذلك، حسبما تتوصل إليه علم الهيئة. ونجد كيف تتحوّل تفسير الآية وتتغيّر كلّما تغيّر العلم. وتوصل الإنسان إلى أخطائه.

ولو تأمّلنا لوجدنا أنّ كلّ تلك التفاسير خاطئة وأن القرآن لا يقصد إلا ما يتراءى للإنسان البسيط الذي يلاحظ السماء، فهو ليس كتاباً علمياً، ولم ينزل ليشرح للإنسان حقائق الكون الطبيعية. ولو كان كذلك لتوصل البشر من أوّل يوم إلى آخر مرحلة من الكشف العلمي، لأنّ كتب السماء نزلت منذ أقدم العصور، فلو أراد الله تعالى أن يشرح للبشر كلّ حقائق الكون لم يبق له مجال للبحث العلمي أصلاً، لأنّ علام الغيوب يفتح له كلّ أبواب الغيب.

3 - التعصّب الأعمى

ومن الأُمور التي توجب الابتلاء بالتفسير بالرأي التعصّب الأعمى للمذهب وللعقيدة التي اتّخذها الإنسان تحت تأثير المجتمع الذي تربّى فيه، والبيئة الدراسية التي صنعت ثقافته، وحدّدت منهج تفكيره، فنجد كثيراً من المفّسرين يحاول تأويل الآية، وحملها على خلاف ظاهرها، لأنّه ينافي ما تأصّل في عقيدته، وتجذّر في فكره، تقليداً للسلف أو للمدرسة. ونجد من يأتي بعده ويردّ عليه يؤوّل الآية أيضاً بما يتناسب مع عقيدته.

ص: 25

ومن باب المثال يلاحظ «تفسير الكشاف» الذي ألفه الزمخشري وهو معتزلي في غاية التعصّب يحاول تصيّد أيّ كلمة أو جملة في القرآن الكريم للانتصار لمذهبه ولو بتأويل، حسب الأسس التي تلقّاها بالقبول. ويأتي بعده ابن منير في «الانتصاف» معلقاً على «الكشّاف»، متعصّباً لأهل السنّة، يهاجم الزمخشري ويكفّره في بعض الموارد.

وربّما يلاحظ المراجع المنصف أنّ كليهما على خطأ، وأنّ الآية لا توافق شيئاً من العقيدتين، بل هي بعيدة عن هذا النوع من التفكير، فإن كثيراً من الأبحاث التي اختلف فيها المعتزلة والأشاعرة أبحاث واهية سخيفة لا تمتّ إلى الدين بصلة، ولا ينظر إليها الكتاب العزيز بنفي أو إثبات ولا تنفع الإنسان في دينه أو دنياه.

4 - محاولة تطبيق القرآن على العلم الحديث

ومن موارد التفسير بالرأي محاولة الكّتاب والمثقّفين الجدد تطبيق الآيات الكريمة على ما توصّل إليه العلم الحديث. وظاهر الأمر أنّ غرضهم من ذلك الإشادة بالقرآن، وأنّه يحمل من الحقائق العلمية ما لا يمكن أن يعلمه البشر في ذلك العصر، ليكون دليلاً واضحاً على إعجازه، وعلى أنّه من وحي ربّ العالمين.

وهذا هدف رفيع، وهناك من الآيات ما تدلّ على ذلك بوضوح، إلا أنّ الإفراط في ذلك، وتأويل العبارات لتطابق هذا الغرض خطأ واضح وخطير، خصوصاً مع تعرّض هذه المعلومات للتخطئة، كما نجده في كثير منها. والقرآن أسمى من أن يقاس بهذه العلوم البشرية، والغرض منه أيضاً أسمى من الأهداف

ص: 26

التي تحاول هذه العلوم الوصول إليها.

فالغرض من القرآن رفع الإنسان من حضيض الإخلاد إلى الأرض ليصعد بإيمانه بالغيب إلى مصافّ ملائكة الله تعالى في السماوات، بل ليبلغ مقاماً أعلى من ذلك بالعلم والمعرفة وأين هذا من العلوم التي تدعو إلى تكريس الإيمان بأُلوهية الإنسان وأصالته، وتحثّ على الإخلاد إلى الأرض، ومحاولة البقاء فيها أكثر فأكثر بأيّ ثمن كان؟!

والحاصل: أنّ محاولة تطبيق الآيات على ما توصّل إليه العلم المختلط بالجهل البشري محاولة خاطئة، وإن كان القصد صائباً. فمثلاً كنّا في ما مضى نسمع كثيراً من الكّتاب والخطباء يذكرون في مقالاتهم وخطبهم أن قوله تعالى: «يَا مَعْشَرَ الجنَّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ»(1)، يراد به التوغّل في الفضاء والصعود إلى الكواكب الأُخرى، وأنّ قوله «إِلا بِسُلْطَانٍ» بمعنى القوّة والقدرة، وأنّ البشر تمكن فعلاً من السير في الفضاء بفضل ما أُوتي من علم وقوّة، وأنّ القرآن قد تنبّأ بذلك قبل أربعة عشر قرناً.

ثمّ لمّا لاحظوا أنّ الله تعالى ينفي القدرة على ذلك في الآية 35 بقوله تعالى: «يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ» خابوا وانتكصوا على أعقابهم، وقام بعض المغرضين والأعداء بالاستهزاء بالكتاب العزيز، وبأنّ البشر قد تحدّى القرآن، وتمكّن من غزو الفضاء.

مع أنّ الصحيح أنّ الآية 33 لا تدلّ على ما ذكروه أساساً، وكنّا نحذّر في ذلك اليوم من هذا التفسير الخاطئ، فإنّ «النفوذ» في الآية لم يتعلّق ب_«أقْطَارِ

ص: 27


1- الرحمن (55): 33

السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» من خلال حرف «في» ليدلّ على التوغّل في الفضاء، بل تعدى ب_ «من» ومعناه الخروج من أقطار السماوات والأرض، أي الخروج من الكون وهو أمر مستحيل. وتفصيل القول في الآية في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك أيضاً أنّ كثيراً من المفسّرين الجدد يقولون: إنّ الجريان في قوله تعالى «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَر لَهَا»(1) يراد به حركة الشمس مع منظومتها في المجرّة، وذلك لأنّ الشمس لا تجري حول الأرض، بل الأرض تدور حول نفسها ليلاً ونهاراً. وقال بعضهم غير ذلك، فراراً من القول بما يخالف الكشف العلمي.

وقلنا في تفسير الآية إنّ المراد هو هذا الجريان المشهود، وإن لم يكن مطابقاً للواقع، فإنّ الغرض ليس بيان الحقيقة العلمية، بل تنبيه الإنسان على ما رزقه الله تعالى من النعم، ومنها الليل والنهار، وحركة الشمس والقمر، وما يترتّب على ذلك من فوائد للبشر.

وهذا نظير ما نتداوله في محادثاتنا المتعارفة من التعبير بطلوع الشمس وحركة الشمس وارتفاعها وانخفاضها وصفرتها وحمرتها وكسوفها، ولا نقصد بذلك إلا الجري على ما هو الظاهر للعين، فإنّ الغرض يترتّب على هذه الظاهرة مع قطع النظر عن حقيقته في الطبيعة.

5 - التفسير الباطني

ومن موارد التفسير بالرأي حمل الآيات على معان باطنية، استناداً إلى ما ورد في الروايات من أنّ القرآن له ظهور وبطون.

ص: 28


1- يس (36): 38

فمنها ما رواه في «الكافي» عن الإمام الصادق علیه السّلام رسول الله صلّى الله عليه و آله في وصف القرآن: «وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق».(1)

ومنها ما رواه البرقي في «المحاسن» عن فضيل بن يسار، قال: سألت أبا جعفر علیه السّلام عن هذه الرواية: «ما من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن»؟ قال: «ظهره تنزیله، وبطنه تأويله. ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما تجري الشمس والقمر، كلّ ما جاء تأويل شيء (منه) يكون على الأموات، كما يكون على الأحياء. قال الله: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إلا الله وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(2) نحن نعلمه».(3)

وهذه الرواية التي سأل الفضيل الإمام علیه السّلام عن معناها مرويّة في كتب العامّة بطرق مختلفة. ويظهر من تفسير الإمام علیه السّلام أنّ المراد بالبطن تحقّق مصاديق الآية طيلة الأزمنة، فمنه ما قد تحقّق، ومنه ما سيأتي.

وربّما يقال: إنّ هذا لا يختصّ بالقرآن، فكلّ جملة يقولها أحد ممّا يكون الموضوع فيها عامّاً له أفراد تتحقّق تدريجاً، فالجملة تصدق في كلّ تلك الموارد حتّى بعد موت قائلها بقرون، فما هو الموجب لتوصيف المصاديق بالبطن في القرآن الكريم؟

والجواب: أنّ الفرق من جهة أنّ القائل هنا هو الله تعالى، وهو محيط بكلّ مراحل الوجود ، ولا يختلف عنده الحاضر والمستقبل، والشاهد والغائب، بل ليس لديه غياب واستقبال. فإذا قال شيئاً عن موضوع له أفراد في طول الزمان،

ص: 29


1- الكافي 2: 599
2- آل عمران (3): 7
3- وسائل الشيعة 27: 197

فإنّ كلّ تلك الأفراد مقصودة من نفس اللفظ ، وفي سياق واحد لا يختلف شيء منها عن شيء.

ولذلك كان القرآن يجري مجرى الشمس والقمر فبطون القرآن وتأويله ليس بمعنى آخر، بل المراد تحقّق نفس المعنى الظاهر من اللفظ.

والتأويل: إرجاع الشيء. وهو مأخوذ من «الأول» بمعنى الرجوع. فتأويل المعنى تحقّقه خارجاً.

ومن هنا يعلم معنى قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَاوِيلُه»،(1) والضمير يعود إلى القرآن، فالمراد أنّهم يكذّبون به مع عدم إحاطتهم بما فيه من علم، ولم يأتهم بعد تأويل ما أخبر به من الأخبار الغيبية كما يشاهدونه بعد الموت، ويوم القيامة، وقوله: «لمّا» يدلّ على أنّ تأويله سيأتيهم لا محالة، ولكنّه لم يأتهم حتّى الآن.

وكذلك قوله تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ»،(2) والضمير يعود أيضاً إلى القرآن، وهو صريح في أنّهم سيجدون تأويله. والمراد تأويل ما فيه من الأخبار بالغيب، فهم يجدونه بعد الموت ويوم القيامة.

وقيل في تفسير الظهر والبطن بوجوه أُخر، أحسنها أنّ الآية قد تكون بظاهرها سرداً لقصص الماضين وتأريخهم، وهي في الواقع تنبيه وتحذير.

ومهما كان، فلا وجه لما يحاوله بعض أصحاب البدع والأهواء من حمل

ص: 30


1- يونس (10): 39
2- الأعراف (7): 52

الآيات على معان بعيدة عن المعنى الظاهر، بدعوى أنها هي المقصودة في الباطن.

وهؤلاء على قسمين: فمنهم من كانوا في العهود السابقة يحملون الآيات على معان يدّعون أنّها من العرفان، وهم الصوفية. وتجد كثيراً من ذلك في تفسير «روح المعاني» للآلوسي، كما يُحكي ذلك أيضاً عن الإسماعيلية، ولم أجد كتبهم.

ومنهم من ظهروا أخيراً، وظهر معهم نوع من النفاق، فيقولون إنّ المراد بالقيامة يوم انتفاضة الشعوب على الحكّام الظلمة، وإنّ المراد بالجنّة ونعيمها المجتمع الذي يحكمه النظام الاشتراكي، إلى غير ذلك من الترّهات.

وفي هذا المورد أيضاً نجد الناس بين إفراط وتفريط، فالمفرط في التوغّل في البطون من عرفناهم ، والمفرّط من يحمل اللفظ على ظاهره من دون تأمّل، مع أنّ كثيراً منه يراد به المعنى الكنائي. وهذا أيضاً كثير في تفاسير اتباع السلف. ومن الغريب من يجمع بين الأمرين، كما يلاحظ في «روح المعاني».

فمن غرائب ما نجده في تفاسيرهم حمل ما ورد في القرآن الكريم من نسبة اليد والوجه والعين إلى الله تعالى على معناه الظاهري، فيقولون إنّه لا يجوز التأويل، ولكن نقول إنّ ما ينسب إليه تعالى ليس كما عندنا الأعضاء.

مع أنّ من الواضح أنّ المراد بقوله تعالى: «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي»(1) أي تحت عنايتي الخاصّة، والمراد باليد القدرة، وهو استعمال متعارف فقوله تعالى: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»،(2) ، اي ما تجلّت فيه قدرتي التامّة. وهكذا.

ص: 31


1- طه (20): 39
2- ص (38): 75

وهذا التفريط أخطر من ذلك الإفراط، وإن كان يبدو بظاهره من الاحتياط في التعامل مع كلام الله تعالى. وذلك لأنّه لو تأمّلناه وجدناه يفضي إلى الكفر، فإنّ من ينسب الأعضاء إلى الله تعالى أو يعتقد أنّه تعالى يُرى بالعين يوم القيامة، لقوله تعالى: «إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»(1) ، فهو من المجسّمة، وإن أبى أن ينسب إليه ذلك، والتجسيم كفر بالله تعالى، أي إنكار له كما تنكره الملاحدة.

وذلك لأنّنا لا نعرف الله تعالى إلا بصفاته، فإذا اعتقد الإنسان أنّ الله تعالى موجود جسماني يجلس على كرسي أو على عرش، ويحكم كما يحكم الملوك، أو يعتقد أنّ له رجلاً يدخله في جهنّم يوم القيامة لتسكن بعد ما أصرّت على المزيد،(2) فهو منكر الله المهيمن المتعالي، والمنّزه عن كونه جسماً ومحدوداً في مكان يمكن أن يشار إليه أو يُرى.

وعلى كلّ حال، فالطريق الصحيح هو الاعتدال، فلا يحمل ما يمكن الأخذ بظاهره على معان بعيدة، حتّى لو كانت معقولة، فضلاً عن مثل ما ارتكبه المنحرفون ممّن نقلنا بعض تحريفهم، ومع ذلك لا يجوز أن يحمل مثل هذه الكلمات على ظاهرها الأوّلي. وليس هذا تأويلاً ولا مخالفة للظاهر، فإنّ الظهور

ص: 32


1- القيامة (75): 23
2- إشارة إلى ما ورد في كتب القوم ومنها الصحيحان وهي عدّة أحاديث ننقل أحدها عن البخاري: «تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ: أَو ثَرْتُ بِالْمُتَكَبَرِينَ وَالْمُتَجَبِرينَ، وَقَالَتْ الجَنَّةُ: فَمَا لي لا يَدْخُلُنِي إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطْهُمْ وَغِرَّتَهُمْ. قَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّة: إِنَّمَا أَنْتَ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ منْ عِبَادِي، وَقَالَ للنَّارِ: إِنَّمَا أنت عَذَابِي أَعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ مَنْ عِبَادِي وَلكُلِّ واحدة منكُمَا مُلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارَ فَلا تَمْتَلَى حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَجْلَهُ، تَقُولُ: قَطَ قَط قَطَ، فَهُنَالِكَ تُمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةَ، فَإِنَّ اللهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا». (صحيح البخاري (6: 48)

يتحدّد بملاحظة مجموع القرائن الحالية والمقالية.

نكتفي إلى هنا وندعو الله سبحانه أن يهدينا إلى الطريق الصحيح في معرفة آياته وأحكامه وتفسير كلامه، وأن يوفّقنا لمعرفة أسرار كتابه العظيم وأن يصون أقلامنا من الانحراف إلى التفسير بالرأي والتقوّل على الله تعالى وعلى رسوله صلّی الله علیه و آله وعلى أوليائه الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، إنّه سميع مجيب.

مرتضى المهري

25 جمادى الآخرة 1433

2012/5/17

ص: 33

ص: 34

تفسير سورة الأحزاب

تفسير سورة الأحزاب

ص: 1

ص: 2

سورة الأحزاب (1-5)

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)»

سورة الأحزاب سورة مدنية، تشتمل على أحكام خاصّة بالمؤمنين في المدينة، وتبيّن حالة المسلمين بعد غزوة بدر الكبرى، وفيها ذكر لحوادث غزوة الخندق - والتي تسمّى بالأحزاب أيضاً - ومن هنا سمّيت السورة بالأحزاب، وفيها أيضاً إشارة إلى قصّة بني قريظة وتشتمل على أحكام خاصّة بالنبي صلّی الله علیه و آله .

وروى بعض العامّة عن أُبيّ بن كعب أنّ سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة أو أكثر ورووا غير ذلك ممّا يدلّ على ضياع جزء كبير منها.

ص: 3

فمنها: ما رواه أحمد في مسنده، عن زرِّ بْنِ حُبَيش، عَنْ أَبِيِّ بْنِ كَعْب قال: كُمْ تَقْرَؤُونَ سُورَةَ الأحْزاب؟ قال: بضعاً وَسَبْعِينَ آيَةً، قَالَ: لَقَدْ قَرَأْتُها مَعَ رَسُول الله صلّی الله علیه و آله مِثْلَ البَقَرَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا وَإِنَّ فِيهَا آيَةُ الرَّجمِ.

وروى أيضاً عَنْ زر، قالَ: قالَ لِي أَبَيُّ بْنُ كَعْب كَأَيِّنْ تَقرَأَ سُورَة الأَحْزَابِ أَوْ كَأَيْن تَعُدُّها قال: قلت له: ثلاثاً وسبعين آية. فقال: قطُّ لَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُعَادِلُ سُورَة البَقرة ولقد قرَأنَا فِيهَا: الشيحُ والشَيْحَة إذا زَنيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَة نكالاً من الله واللهُ عَليمٌ حَكيمٌ(1).

وروى الحاكم في «المستدرك» عن زرّ، عن أبيّ بن كعب رحمه الله قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة وكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة.

ثمّ قال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»(2).

وهذه من روايات التحريف وهي كثيرة. وحملها بعضهم على نسخ التلاوة، حيث إنّ الله تعالى نسخ بعض الآيات وحذفها من القرآن وإن بقيت أحكامها.

وهو أمر مردود عندنا، لأنّ النسخ بمعنى تبدّل الرأي غير ممكن بالنسبة إلى الله تعالى، بل النسخ الممكن هو انتهاء أمد الحكم بأن تقتضي المصلحة تغيير الحكم. وأمّا نسخ آيات الكتاب فلا وجه له، فإنّ صفة القرآنية لا تنتزع من الآيات، إذ أنّ القرآن هو الكلام النازل من عند الله تعالى بصورة الإعجاز، وهذا أمر تكويني لا يتبدّل، وليس كالحكم التشريعي الذي يمكن كونه مغيّى بأمد أو شرط.

ص: 4


1- مسند أحمد 5: 132، وروى مثل ذلك النسائي في سننه، (راجع: سنن النسائي 4: 271)
2- المستدرك 2: 415

ومن رواياتهم ما تدلّ على وجود سور محذوفة بكاملها، ومنها ما تدلّ على حذف ثلث القرآن، وأمّا حذف الجمل فحدث ولا حرج.

وورد في رواياتنا أيضاً بعض ما يدلّ على ذلك إجمالاً، والصحيح أنّ هذه الروايات كلّها مكذوبة أو ضعيفة أو مؤوّلة، وللكلام فيها موضع آخر.

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ» هناك تفسير مشهور لهذه الآيات نذكره أوّلاً، ثمّ نتبعه باحتمال آخر لعلّه أقرب. فقد ورد في شأن نزول الآيات، أنّها نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السلمي لمّا قدموا المدينة، ونزلوا على عبد الله بن أُبيّ بعد غزوة أُحد بأمان من رسول الله صلّی الله علیه و آله ثمّ جاؤوا مع بعض المنافقين فدخلوا على رسول الله صلّی الله علیه و آله ، وقالوا: يا محمّد ارفض ذكر آلهتنا وقل إنّ لها شفاعة لمن ،عبدها، وندعك وربّك. فشقّ ذلك عليه صلّی الله علیه و آله، وأمر بإخراجهم، ونزلت الآيات.

وذكر بعض المفسّرين أنّ الأمر بالتقوى في الآية بمعنى عدم الإقدام على قتلهم. وهو غير صحيح، بل من الواضح - على فرض صحّة الرواية - أنّ المراد هو التقوى في عدم الانصياع لاقتراحهم فقوله: «اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِع» أي اتّق الله في إطاعتهم.

واستبعد بعضهم أن يأمر الله تعالى رسوله بالتقوى، وهو صلّی الله علیه و آله سيّد المتّقين، فلا بدّ من كون الخطاب متوجّهاً إلى غيره وإن كان ظاهره متوجّهاً إليه، واعتبر التعليل فى الآية التالية: «إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» حيث ورد الخطاب للجمع قرينة على ذلك.

ولكنّه غير صحيح، ولا مانع من كون التعليل عامّاً والخطاب خاصّاً، والظاهر

ص: 5

أنّ الخطاب موجّه إليه صلّی الله علیه و آله وأنّه هو المبتلى بالإطاعة، حسب ما ورد في الحديث.

وذهب بعضهم إلى أنّ التقوى ليس لها حدّ، فلا مانع من أمر الرسول بها، فهناك مجال لزيادة التقوى حتّى فيه صلّی الله علیه و آله.

و هو غير صحيح، لأنّ الوارد في الرواية المذكورة أنّه رفض الإطاعة ولم يتردّد في ذلك، فلا بدّ من توجيهٍ آخر للأمر بالتقوى.

والذي يخطر بالبال بناءً على هذا التفسير هو أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله، وإن رفض الانصياع لهم، إلا أنّه كان هناك حوله من لا يعجبه ذلك، ويرى أنّ السياسة تقتضي أن يهادنهم الرسول صلّی الله علیه و آله، ويتنازل - نوعاً مّا - لمقترحاتهم حتّى لا تقوم الحروب في المنطقة، ويهدأ الوضع الاجتماعي. فكان رفض الرسول لمقترحهم بحاجة إلى دعم من الله تعالى ليكون حجّة وعذراً له أمامهم ومبرّراً لموقفه الرافض لكلّ مهادنة تمسّ أصل الرسالة، كما كان ذلك دأبه وديدنه صلّی الله علیه و آله .

فالظاهر : أنّه صلّی الله علیه و آله كان مبتلى - كما نحن مبتلون في هذا العصر - بنوعين من المتطرّفين: قسمٌ يدعو إلى محاربة العدوّ، ومحاربة كلّ من يدعو إلى مصالحته، ويكفّر المسلمين، ويدعو إلى قتل الكفّار حتّى لو كانوا معاهدين ونزلوا عندنا بأمان، وقسمٌ يدعو إلى المهادنة والصلح، ولو على حساب التنازل عن الدين وعن كلّ الشعائر الإسلامية، بل يرفضون كلّ شعار إسلامي إرضاءً لخاطر الكفّار والمنافقين.

فالقسمان كانا موجودين في الصحابة أيضاً، فهناك من سلّ سيفه أمام الرسول صلّی الله علیه و آله واستأذن في قتل أصحاب الاقتراح - وهو عمر بن الخطّاب - على ما

ص: 6

ورد في القصّة، ورفض الرسول صلّی الله علیه و آله ذلك، لأنّهم أتوه بأمان من عنده، وبطبيعة الحال كان بعضهم يفضّل الراحة والصلح والمهادنة.

فالآيات - على ما يبدو - نزلت لتدعم موقف الرسول المعتدل الذي يرفض قتل المعاهد، ولكنّه يرفض - بشدّة - المهادنة والصلح على حساب العقيدة، خصوصاً على أهمّ جزء من العقيدة وهو التوحيد. فإنّ كلّ الشرائع والرسالات، إنّما جاءت لترسيخ التوحيد ونبذ عبادة غير الله سبحانه، فهو أصل الأُصول. ولعلّ هذا الذي ذكرناه هو السرّ في اللهجة الصارمة التي تشتمل عليها الآيات.

«إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً» اضطربت الكلمات في توجيه هذا التعقيب، وتناسبه مع مضمون الآية. والظاهر - على ضوء ما مرّ، وبناءً على هذا التفسير - أنّ الوجه في ذلك الردّ على أصحاب الاقتراح، والمنادين بالصلح والمهادنة بأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله لا يحتاج إلى من يعاونه في الرأي، ويشير إليه بما هو الأصلح، فإنّه يتّبع أوامر الله سبحانه، وهو بكلّ شيء عليم، ولا يأمر بشيء إلا على أساس الحكمة والمصلحة.

وإنّما جمع بين الوصفين، لأنّ العمل بالرأي الصائب بحاجة إلى أمرين: «العلم» و«الحكمة». ولا يكفي العلم وحده، فربَّما يكون الإنسان عالماً بما يجب أن يفعل، ولكنّه يتّبع هواه ولا يعمل بمقتضى علمه، فلا بدّ له من حكمة تمنعه من متابعة الهوى. والحكمة هي المنع، تقول: حكمت الدابّة إذا ألجمتها ومنعتها، فالحكيم يمتنع من متابعة الهوى. والله تعالى عليم يعلم ما هو الأصلح، وحكيم لا يعمل إلا ما هو الأصلح، ولا يأمر إلا بما هو الأصلح .

«وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ»، أي إنّك لست بحاجة إلى اقتراح أو رأي من

ص: 7

أحد، وما عليك إلا أن تتّبع ما يوحى إليك من ربّك العليم الحكيم.

«إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» وهذه الجملة أيضاً تتضمّن تهديداً - والخطاب للمسلمين جميعاً - وهو يحذّرهم من ربّهم، فالإنسان كثيراً ما يغفل عن هذه الحقيقة وهي أنّ هناك عيناً ترصده، وترصد كلّ ما يصدر منه من قول أو فعل، بل كلّ ما يخطر على باله، فيظنّ أنّ بعض ما يصدر منه من هفوات حيث لا يراه أحد، فإنّها تنتهي ولا يحسب لها حساب، ويغفل عن أنّ الله تعالى «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ».(1) فالآية الكريمة - بناءً على هذا التفسير - تحذّر النبي صلّی الله علیه و آله والمؤمنين من أن يصدر منهم أيّ اقتراب لقبول هذا الاقتراح الفاضح، المخالف لأساس الدين والشريعة.

«وَتَوَكَّلْ عَلَى الله»، هذه الآية تقطع كلّ عذر لقبول الاقتراح، فإنّ غاية ما يمكن أن يعتذر به، هو الخوف من الأعداء وإيذائهم أو عدوانهم.

وحاصل الجواب: أنّ المؤمن في سبيل الدعوة وإعلاء كلمة الله تعالى، يجب أن يتوكّل على الله، ويعتمد على لطفه وعنايته. و «التوكّل» هو إيكال الأمر إليه: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ».(2)

«وَكَفَى بِالله وَكِيلاً» فمن أوكل أمره إليه وجاهد في سبيله، فليطمئنّ وليسترح ولا يخافنّ شيئاً، فإنّ المتكفّل بشؤونه هو الله العليم الحكيم القادر على كلّ شيء. ولكنّه تعالى لا يتكفّل للمؤمن المتوكّل أن يصل إلى كلّ ما يهواه ويرغب فيه، فربّما لا يكون نافعاً له وهو لا يعلم، وربّما يكون نافعاً لدنياه ومضرّاً بدينه،

ص: 8


1- سبأ (34): 3
2- الطلاق (65): 3

وإنّما يتكفّل بما هو الأصلح والأنفع لحاله.

ثمّ إنّ التوكّل لا يعني أن يترك الإنسان واجبه، ولا يسعى لبلوغ مآربه المشروعة متوكّلاً على الله تعالى، فالسرّ في التوكّل أنّ الإنسان وإن بذل كلّ جهده، وكان خبيراً بما يتطلّبه الأمر، إلا أنّه يبقى عاجزاً عن بعض ذلك أو جاهلاً به. وهناك موانع كثيرة في طريق الوصول إلى الأهداف يجهلها الإنسان، مهما توسّعت خبرته وعظمت قدرته، فإذا توكّل على الله تعالى وكان من مصلحته، كفاه الله ذلك.

«مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» المراد بالقلب، النفس الإنسانية لا القلب الذي هو عضو في الجسم يضخّ الدم. وهذا تعبير كنائي يقصد به أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون له عقيدتان متنافيتان، فيكون - بناءً على التفسير السابق - إشارة إلى منع اجتماع الشرك والتوحيد في قلب إنسان واحد، ليؤيس بذلك المشركين، ويمنعهم من محاولة الضغط على الرسول صلّی الله علیه و آله، ليتنازل عن بعض ما أُوحي إليه، بهدف تقارب المذهبين: الشرك والتوحيد. وبذلك تكون هذه الجملة تكملة لما ورد في الآيات السابقة.

ولكن هناك رأي بأنّ هذه الجملة ترتبط بما بعدها، أي اعتبار الزوجة أمّاً بالظهار، وذلك على أساس أنّ هذين اعتباران متنافيان، فإمّا أن يعتبر الرجل المرأة زوجته، فيعاشرها معاشرة الأزواج، وإمّا أن يعتبرها محرّمة كحرمة الأمُّ، فلا تعتبر زوجة وتكون مطلقة ويخلّي سبيلها. والعرب كانت تظلم المرأة بالمظاهرة، فتعتبرها زوجة من جهة، فلا يجوز لها الزواج بغيرها، ولكنّها زوجة تحرم عليه كحرمة الأُمّ.

ص: 9

هذا، ولكنّ الاحتمال الأقرب في تفسير الآيات - وإن لم يذكره المفسّرون - هو أنّها من أوّلها تنظر إلى هذه الأحكام، أي أحكام الظهار والتبنّي، فإنّ التفسير المشهور يوجب إنفصاماً بين الآيات لا موجب له، فلا يبعد أن يكون المراد بأمر الرسول صلّی الله علیه و آله بالتقوى، عدم الخوف من الناس في إبلاغهم الأحكام الشرعية التي تتنافى مع عاداتهم وسننهم الاجتماعية.

ومن الطبيعي أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله ما كان يتهاون في تبليغ أحكام الله تعالى، ولكنّه بطبيعة الحال، كان يلاحظ الوضع الاجتماعي ويحاول تمهيد الوضع، ليتلاءم مع إعلام الحكم، فإنّ المجتمع - بطبيعة الحال - لا تتقبّل بعض الأحكام والقوانين. فمجتمع بدويّ فاسد بجميع المعايير، وغارق في الشرك والوثنية، والمفاسد الاجتماعية الموروثة، والسنن الجاهلية المتجذّرة فيه لا يمكن أن يتبدّل في يوم وليلة إلى مجتمع يسوده التقوى والورع والطهارة.

ولذلك كان ولا بدّ من أن تنزل الأحكام الشرعية الإلهية بالتدريج، لتتلقّى القبول. وكان الحكم في بداية الأمر أنّه يكفي في إسلام المرء أن يقول: «لا إله إلا الله»، فلم يجب آنذاك صلاة ولا زكاة ولا صوم، ولم يحرم عليه المنهيّات الدينية، ثمّ تدرّجت الأحكام والأوامر والنواهي.

وهذا الأمر، أي ملاحظة وضع المجتمع لإعلام القوانين التي تخالف سنتها وعاداتها نوع من التقيّة، فإنّ الزعماء يتّقون الناس في إعلان ما لا يتلاءم مع رواسبهم الفكرية والثقافية. والتقيّة لا تختصّ بموضع الخوف على النفس والعرض والمال من ظالم متسلّط ، بل أكثر الزعماء يتّقون عامّة الناس، ولا يبدون جميع معتقداتهم. ولذلك ورد في بعض رواياتنا أنّ الأئمة علیهم السّلام كانوا يتّقون عوام الشيعة.

ص: 10

والله تعالى يأمر رسوله هنا أن لا يلاحظ هذا الأمر إذا أُمر بتبليغ الحكم، فإنّ الله تعالى هو العالم بحقائق الأُمور، وهو يعلم أنّ الوقت والوضع الاجتماعي مناسب لإعلام ذلك، ولا موجب للخوف والتقيّة.

وعليه فهذه المجموعة من الآيات نظير ما ورد في سورة المائدة حول إعلام ولاية أمير المؤمنين علیه السّلام : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(1).

والآية واضحة الدلالة على أنّه صلّی الله علیه و آله كان يلاحظ الوضع الاجتماعي، ويحذر من إعلام الناس في حشد كبير مثل هذا الأمر الخطير ، خوفاً من اتّهامه بمجاملة ابن عمّه وصهره وترجيحه على الآخرين، وإن كان قد أعلنه مراراً في مجالس خاصة من بدو الدعوة حيث نزلت الآية: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ»(2)، إلى يوم الإعلان العامّ، وبعده أيضاً إلى يوم وفاته صلّی الله علیه و آله ، ولكنّه لم يعلنه في حشد كبير كالذي تجمّع في غدير خمّ، فكان يحذر من ذلك، فنزلت الآية الكريمة تعلن أنّ هذا الأمر يبلغ من الأهميّة درجة تساوي أصل الرسالة، فإن تهاونت في تبليغه للناس، فكأنّك لم تبلّغ الرسالة أصلاً.

ومن الطبيعي أنّ أمراً هذا شأنه لا يمكن أن يكون حكماً فرعيّاً من أحكام الصلاة والصوم، أو الحدود والديات، أو القتال والجزية، ونحو ذلك، وإنّما هو حكم مصيريّ تتوقّف عليه استقامة المسير الرسالي بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله، وبعد التأكيد على درجة أهمية البلاغ طمأن الرسول صلّی الله علیه و آله بأنّ الله تعالى يعصمه من

ص: 11


1- المائدة (5): 67
2- الشعراء (26): 214

الناس، وأنّ الوضع الاجتماعي يناسب تقبّل مثل هذا الأمر، فلا موجب للتقيّة في إبلاغ المجتمع، ذلك لأنّ التقيّة إنّما تحسن مراعاة لوضع الناس وتخوّفاً من ردّ الفعل الاجتماعي تجاه هذا الإعلان، فإذا أمر الله تعالى بالإبلاغ، فلا وجه للتوقّف والانتظار.

وهنا أيضاً نزلت السورة بأحكام شرعية، لها جانب من الخطورة في تقبّل المجتمع، لأنّها تعارض السنن الاجتماعية العريقة في اعتبار الزوجة المظاهرة بمنزلة الأُمّ، واعتبار الولد المتبنّى بمنزلة الابن، وهذه أُمور تتعلّق بشؤون الأُسرة، والعرف الاجتماعي القبليّ يهتمّ بها أكثر من غيرها من الشؤون، ومن الصعب جدّاً عليهم أن يتنازلوا في ذلك، كما هو الحال عليه الآن.

والسورة تشتمل مضافاً إلى ذلك على أحكام خاصّة بالرسول صلّی الله علیه و آله في شؤون الزواج، وهي أيضاً أُمور يصعب عليه إعلانها للمجتمع، حذراً من اتّهامه في ذلك، كما اتّهمته بعض زوجاته - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - ولذلك ورد في هذه السورة قوله تعالى: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ»(1) نظير ما ورد في التبليغ بولاية أمير المؤمنين علیه السّلام.

فكلّ ذلك يستلزم تقديم هذه المقدّمة، لتقوية عزيمة الرسول صلّی الله علیه و آله وطمأنته والتأكيد عليه بأنّ الحكم من الله تعالى والنبيّ مبلّغ عنه، وعليه أن يتوكّل على الله تعالى ولا يهتمّ بما يحيك له الكافرون والمنافقون من مؤامرات، ولا يعبأ بالرواسب الاجتماعية لدى الناس. فالدين لم يأت لتأسيس حكومة حتّى إذا توقّف الأمر على مداهنة الناس، يداهنهم حسبما تقتضيه السياسة، بل الدين جاء

ص: 12


1- الأحزاب (33): 37

ليبدّل المعايير والسنن الاجتماعية والثقافة العامّة. فكلّ الآيات السابقة ترتبط بهذا الشأن من الأمر بالتقوى والنهي عن إطاعة الكافرين والمنافقين، ثمّ التوكّل على الله تعالى ومتابعة الوحي، والتحذير من أنّ الله عليم خبير وغير ذلك.

والحاصل: أنّه بناءً على هذا التفسير، تتلاءم الآيات وترتبط بعضها ببعض، بخلاف ما ورد في التفاسير، فإنّه يوجب انفصاماً واضحاً بينها لا نجد له وجهاً. والحمد لله على التوفيق.

وأمّا قوله تعالى: «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» فلا يبعد أن يكون مقدّمة لما بعده من حكم الظهار، وذلك لأنّ العرف الجاهلي كان يعتبر الزوجة بعد الظهار في عصمة الرجل، ومع ذلك كانوا يمنعونهما من المعاشرة معاشرة الأزواج، كما سيأتي.

والله تعالى لمّا أراد أن يبيّن لهم بطلان ما ذهبوا إليه، وأنّ هذه المرأة لا مانع من معاشرتها، قدّم لذلك مقدّمة لكي تتهيّأ النفوس لقبول الحكم، بعد أن اعتبر العرف هذه المرأة بمنزلة الأُمّ في قبح الاستمتاع منها.

ومن الطبيعي تأثير ذلك في النفرة والاشمئزاز النفسي من مقاربتها، فكان لا بدّ من تقديم ما يهيّئ الأرضية الصالحة نفسيّاً لتقبّل الحكم. وهو أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون له اتّجاهان متعاكسان، فإمّا أن تعتبر هذه المرأة أُمّاً له، فليخلّ سبيلها، وإمّا أن تعتبر زوجة له، فليعاشرها كزوجة وبهذا البيان يتمّ الارتباط بين هذه الجملة والحكم الآتي.

«وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ». كان من عادات العرب في الجاهلية «الظهار»، فإذا كرهوا الزوجة قالوا لها: «أنت علّي كظهر أُمّي»، أي الاستمتاع منك محرّم علّي كما يحرم عليّ الاستمتاع بظهر أُمّي. وكانت النتيجة

ص: 13

-حسب معتقدهم وعادتهم - أنّها تبقى زوجته، فلا يجوز لها أن تتزوّج بغيره، ولكن يحرم عليهما الاستمتاع الجنسي.

وبذلك كانوا يعاقبون المرأة المسكينة فتبقى معلّقة، لا هي ذات زوج ولا خليّة. والإسلام حرّم الظهار، ولكن يترتّب عليه شرعاً أنّه لا يجوز له الاستمتاع حتّى يكفّر عن ظهاره، وتجب عليه الكفّارة.

وقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُم» يبيّن أنّ هذا الأمر الاعتباري الذي كانت العرب في الجاهلية تقبله وتفرضه على المجتمع، مرفوض عند الله. فالله تعالى لا يعتبر الأزواج اللواتي ظاهر هنّ أزواجهنّ أُمّهات لهم، فيحر من عليهم كحرمة الأُمّهات، فاعتبار الرجل زوجته كأُمّه، اعتبارٌ باطلٌ لا أثر له، ولكنّه حيث ارتكب محرّماً، فلا يجوز له الاستمتاع بها إلا بعد الكفّارة، ولا يجوز له أن يتركها، فلا يكفّر حتى يحلّ الاستمتاع ولا يطّلق فتبقى معلّقة، بل يجبره الحاكم الشرعي على اختيار أحد الأمرين. وإذا لم يتمكّن من إجباره، فحسب بعض الآراء الفقهية يطّلقها الحاكم.

وهناك اعتبارات مشابهة في كثير من الأعراف والتقاليد، لا يقرّها الشرع، كعقد الأُخوّة. وربما يعتقد بعض الناس أنّ أحداً إذا عقد الأُخوّة مع امرأة مثلاً أو مع أخيها، حرمت عليه وحلّ له النظر إليها، وكذا سائر أحكام الأُخوّة وهذا كلّه باطل.

ثمّ إنّ الظهار يتعدّى بدون حرف الجرّ كقولك: «ظاهر فلان زوجته»، وإنّما تعدّى هنا ب_(من) لتضمينه معنى الانفصال أو الاجتناب.

«وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ». من السنن الجاهلية أيضاً التبنّي، فكان بعضهم يتبنّى لنفسه ولداً ويعتبره ابناً له، إمّا لأنّه لا ولد له - وكانوا بحاجة إلى الأبناء - أو لميزة يجدونها في من تربّى تحت أيديهم، ويترتّب عليه عندهم كلّ أحكام البنوة.

ص: 14

والنبيّ صلّی الله علیه و آله أيضاً تبنّى زيد بن حارثة، وأصله من اليمن، أُخذ رقيقاً في السبي.

والاسترقاق أيضاً من سنتهم، فكان بعضهم يغير على بعض ويسلبون أموالهم ويسترقون نساءهم وذراريهم، وكان زيد من الرقيق، فاشتراه الرسول صلّی الله علیه و آله وأعتقه ثمّ تبنّاه. ولمّا جاء أهله لتحريره بالفدية وأخذه معهم - كما كان ديدنهم - رفض زيد أن يترك الرسول صلّی الله علیه و آله ، وكان الناس يدعونه زيد بن محمّد صلّی الله علیه و آله .

وكانت العرب تهتمّ بترتيب آثار البنوّة على التبنّي بحيث يأبى الأب أن يتزوّج زوجة ابنه بالتبنّي، وأراد الله تعالى بهذه الآيات البيّنات أن يقتلع هذا الفكر الجاهلي من جذوره، فأمر الرسول صلّى الله عليه و آله أن يتزوّج زوجة زيد بعد أن استمتع بها مدّة من الزمان. ذلك لأنّ السنن والعادات الاجتماعية وخصوصاً في المجتمع البدويّ البعيد عن الثقافات والحضارات، متركّزة في النفوس ويصعب جدّاً اقتلاعها، ولا يكفي في ذلك إنشاء حكم تشريعي يخالفه.

ولذلك أمر الله سبحانه رسوله الكريم صلّی الله علیه و آله أن يباشر بنفسه عملياً مخالفة هذه السنّة الاجتماعية المتجذّرة في النفوس، بحيث يعتبر مخالفتها فضيحة اجتماعية. فقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ»، يشير إلى الحكم التشريعي، مقدّمة للأمر بالمخالفة العملية. و«الأدعياء» جمع دعيّ وهو الذي يدعوه الإنسان ابناً له. والغرض : أنّ الله تعالى لا يرتّب أيّ أثر على هذا الاعتبار الجاهلي، فلا يعتبر الدعيّ ابنا،ً وبالتالي فلا يرث منكم ولا ترثون منه، ولا تجب نفقته إلى غير ذلك من الأحكام.

«ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ»، أي أنّ هذا الاعتبار مجرّد قول وتلفّظ باللسان، وليس له أيّ أثر واقعي. ف_«الزوجة» لا تنقلب أُمّاً و «الدعيّ» لا ينقلب ابناً، لا بحسب

ص: 15

الطبيعة، ولا بحسب الشريعة، فهذا مجرّد تعبير أدبيّ، نظير التعبير بالابن بالنسبة لمن تحبّه ممّن هو بمنزلة الابن، أو التعبير بالأب عمّن تحترمه وتُجلّه ممّن هو أكبر منك سنّاً، وبالأُمّ عن المرأة الكبيرة، ونحو ذلك.

«وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ»، أي إنّكم تقولون حقاًّ وباطلاً، ولكنّ الله لا يقول إلا الحقّ. والأمر هنا وإن كان أمراً اعتبارياً لا يتّصف بكونه حقّاً وباطلاً، إلا أنّ الاعتبار القانوني لا يصحّ إلا من الله تعالى، فكلّ قانون من غيره باطل إلا في المجال الذي يأذن الله تعالى فيه ولمن يأذن له. مضافاً إلى أنّ الاعتبار إن لم يستند إلى مصلحة أو مفسدة واقعية وإنّما استند إلى أوهام وخرافات، صحّ التعبير عنه بأنّه باطل، لأنّه يبتني على باطل.

«وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ»، أي أنّ السبيل الحقّ والصراط المستقيم الذي يؤدّي إلى سعادة الدنيا والآخرة، هو ما يهديكم إليه الله تعالى فقط، فاتّبعوه واتركوا السنن الجاهلية، فكلّ اعتبار عرفي لا تعتبره الشريعة الإلهية ولا تنفّذه، لا أثر له، لأنّ هذا الحكم، والحكم ليس إلا لله تعالى، والمصالح والمفاسد الواقعية لا من يعلمها إلا هو.

«ادْعُوهُمْ ِلآبَاءِهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِندَ اللهِ»، أي انسبوا الأدعياء لابائهم، ولا تنسبوهم إلى من تبنّاهم. وتنفيذاً لهذا الحكم منع الرسول الله صلّی الله علیه و آله أن يقال: زيد بن محمّد، بل زيد بن حارثة.

و«القسط» - بالكسر - هو العدل، وأصله النصيب. و - بالفتح - الجور. و«القاسط» الذي يأخذ نصيب الآخرين ويجور، قال تعالى: «وَأمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً»(1) و «المقسط» العادل، كأنّ الهمزة بمعنى رفع القسط، أي الجور، قال

ص: 16


1- الجن (72): 15

تعالى: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ»(1).

فالأدعياء إذا نسبوا إلى آبائهم كان أوفق بالقسط والعدالة عند الله تعالى، فإنّ العدل إعطاء كلّ شيء حقّه، ومن حقّ الولد أن يُنسب إلى أبيه. و«الأقسط» هنا لا يفيد معنى أفعل التفضيل ليدلّ على وجود شيء من القسط في إسناد الأدعياء إلى المتبنّين، وذلك لأنّ العدالة أمر واحد ليس فيه عادل وأعدل. نعم يصحّ ذلك في الأشخاص باعتبار اختلاف الموارد، و أمّا الحكم فإّما أن يكون صحيحاً موافقاً للحقّ فهو العدل، أو لا يكون، فلا عدل فيه أصلاً. فهذا نظير قوله تعالى: «اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(2).

ولعلّ الوجه في الإتيان بأفعل التفضيل هنا هو أنّ الإسناد إلى الأب في الظاهر قد لا يكون موافقاً للواقع، فليس هو تمام القسط، ولكنّه أقرب إلى القسط من إسناده إلى من تبنّاه، كما أنّ العدل قد لا يكون ملازماً للتقوى، فهناك من الكفّار من يعمل بالعدل ولو في بعض الموارد، كما أنّ المؤمن العادل قد يعمل بالجور أيضاً. فالمراد بكونه أقرب، أنّ التقوى يستوجبه أو يستدعيه، وليس معناه أنّ الجور أيضاً قد يكون من التقوى، وأنّ العدل أقرب منه.

«فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ»، أي فإن لم تعلموهم فهم إخوانكم، وكثيراً ما لا يعلم للدعيّ أب، بل ربّما لا يكون له أب شرعي كالمتولّد من الزنا، حيث إنّ الأُبوّة هنا لا تترتّب عليها كلّ الأحكام.

وهناك اختلاف فقهي في ترتّب أحكام البنوّة والأُبوّة ما عدا الإرث بالنسبة

ص: 17


1- المائدة (5): 42
2- المائدة (5): 8

الولد الزنا، من الحضانة والتربية ووجوب النفقة والولاية، فأقرّها بعض الفقهاء، وذهب بعضهم إلى عدم ترتّبها إلا حرمة الزواج.

ومن تلك الأحكام النسبة بأن يقال: فلان بن فلان، ولذلك لما ألحق معاوية، زياد بن أبيه إلى أبيه واعتبره أخاه، مع أنّ أبا سفيان لم يكن زوج أُمّه، عيب عليه ذلك لكونه مخالفاً للشريعة.

ومهما كان، فالآية تدعو إلى عدم إلحاق الدعيّ في النسبة إلى من تبنّاه، فلا يعتبره ابناً له، بل يعتبره أخاً في الدين، باعتبار أنّه مؤمن ومسلم أو يعتبره مولى. ولذلك بعد نزول الآية، تبدّلت التعابير، فكانوا يقولون قبل الآية مثلاً: سالم بن أبي حذيفة، ثمّ تغيّر الاسم وقالوا: سالم مولى أبي حذيفة. و«الولاء» بمعنى التبعيّة، والشيء يلي شيئاً، أي يأتي بعده، و «الموالاة» أي المتابعة، و«المولى» يطلق على التابع والمتبوع.

«وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أخْطَاتُم بِهِ»، بطبيعة الحال يقتضي التعوّد على التعبير بالابن ومناداته به وقوع الخطأ في موارد كثيرة. وحيث إنّ النهي يستوجب كون ذلك إثماً وعصياناً لله تعالى، فاستدرك حالات الخطأ والنسيان. و«الجناح»: الإثم، وأصله الميل والانحراف وأُطلق على الإثم لأنّه ميل عن الحقّ.

«وَلَكِن مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ»، أي ولكنّ الإثم في ما تعمّدت، أي قصدت قلوبكم إطلاق لفظ الابن. والحكم بالمنع إنّما يشمل الإطلاق الحقيقي على أساس اعتباره ابناً في العرف، وأمّا الإطلاق المجازي - كما يطلق الإنسان كلمة «ولدي» على أيّ شابّ في عمر ابنه لإظهار الودّ والحنان - فلا إشكال فيه قطعاً، ولا يشمله المنع ، لأنّ المراد بتعمّد القلوب ما كان القصد منه متابعة السنّة الجاهلية في التبنّي. ويظهر منه أنّه كان هناك أُناس في المجتمع الإسلامي آنذاك

ص: 18

لا تعجبهم هذه القرارات الصارمة ضدّ الأفكار الجاهلية، وكانوا يحاولون الإبقاء على تلك السنن.

«وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» . لعلّ التعقيب بالاسمين الكريمين، لتعليل العفو عمّا يصدر من ذلك خطأ، فإنّ العفو عنه ليس أمراً ضروريّاً، وكان من الممكن أن يؤاخذ الإنسان حتّى بخطئه في ذلك. ولذلك ورد في الأدعية القرآنية: «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أخطانَا»(1).

وهناك كثير من الأخطاء تترتّب عليها أحكام تكليفية شاقّة، كما لو أخطأ المكلّف في طهارته ، فكانت صلاته بلا طهارة من الحدث ستّين سنة مثلاً، فإنّ عليه قضاءها بأجمعها، كما أنّ نسيان الصلاة - مثلاً - يستلزم وجوب القضاء، والقتل خطأ يوجب الكفّارة مضافاً إلى الدية ونحو ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّ الخطأ والنسيان ربّما لا يستندان إلى أمر خارج عن الاختيار ، بل إلى التسامح والإهمال، فارتفاع المؤاخذة يوم القيامة عن موارد الخطأ والنسيان إنّما هو من جهة المغفرة والرحمة الإلهية.

ويحتمل أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ الله تعالى يغفر هذا الذنب حتّى لو تعمّده الإنسان، نظير ما ورد في الظهار في سورة المجادلة، حيث قال تعالى بعد عدّ الظهار منكراً من القول وزوراً: «وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ»(2) واستفيد منه أنّ الظهار محرّم معفوّ عنه، فيمكن أن يكون الأمر كذلك في مناداة الدعيّ بالابن. والاحتمال الأوّل أظهر.

ص: 19


1- البقرة (2): 286
2- المجادلة (58): 2

سورة الأحزاب (6)

«النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)»

«النَّبِيُّ أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»، «أولى» أي أحرى، وأصله من الولاية بمعنى القرب. والجمع في قوله: «بِالْمُؤْمِنِينَ» منحلّ إلى كلّ فرد، فمعنى الجملة أنّه صلّی الله علیه و آله أولى من كلّ أحد من المؤمنين بنفسه.

وقيل: يحتمل كون المراد أنّه صلّی الله علیه و آله أولى بكلّ أحد من غيره من المؤمنين الآخرين، باعتبار أنّ المراد بأنفسهم غير المولّى عليه من سائر المؤمنين، كقوله تعالى خطاباً لبني إسرائيل: «ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ»(1). أي تقتلون الآخرين من أبناء المجتمع، إذ ليس المراد أن يقتل أحد نفسه.

وهذا الاحتمال باطل، لأنّه لا يوجد هنا احتمال ثبوت الولاية للآخرين بتاتاً، ليكون النبي صلّی الله علیه و آله أحرى بها من غيره.

وحيث إنّ الإنسان أقرب إلى نفسه من كلّ شيء، فاعتبار إنسان أولى به وأقرب إليه من نفسه بمعنى وجوب إطاعته في كلّ شيء، حتّى إذا استلزم التضحية بالنفس، كما قال تعالى: «مَا كَانَ لأهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الأعْرَابِ أن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَ لايَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ»(2).

ثمّ إنّ هذه الآية أيضاً تعالج موضوعاً اجتماعياً، ولكنّه لم يكن من السنن

ص: 20


1- البقرة (2): 85
2- التوبة (9): 120

القديمة، بل هو أمر شرّعه الإسلام ابتداءً وهو الإخاء بين المؤمنين. فإنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة، حيث كان المهاجرون قد تركوا بيوتهم وأموالهم وأهليهم في مكّة، ووردوا المدينة ضيوفاً فقراء، وأهل المدينة كانوا في - ذلك العهد - في يسر ورخاء نسبيين. والرسول صلّى الله عليه و آله آخي بين كلّ رجل من المهاجرين والذي يناسبه من الأنصار حتّى يأوي إليه، فتحقّقت بينهم أواصر وعلاقات وثيقة جدّاً، بحيث كان كلّ من الأخوين يرث من الآخر، لأنّه كان يعتبره أخاً له، بل أقرب من الأخ الشقيق، لأنّه أخ في الدين، والدين أهمّ للمؤمن من أواصر النسب. بل إنّهم شاطروهم الأموال والأراضي وغير ذلك قبل الإخاء أيضاً.

ولكن بعد تبدّل الحالة الاجتماعية والاقتصادية وكسب المغانم، وتقوّي شوكة الإسلام والمسلمين، صدر الحكم من الله تعالى بأنّ هذه الأخوّة لا توجب التوارث، وهذه الآية نزلت لإبلاغ هذا الحكم.

وبالمناسبة، فإنّ الرسول صلّى الله عليه و آله - على ما يقال - آخى بين أصحابه ولم يجعل لأمير المؤمنين علیه السّلام أخاً، وإنّما قال له: «أنت أخي في الدنيا والآخرة».

روى الترمذي في صحيحه عَن ابْن عُمَرَ قال: آخَى رَسُولُ اللهُ صلّى الله عليه و آله بَيْنَ أصْحَابه، فجَاءَ عَلي تَدْمَعُ عَيْنَاهُ، فقالَ: «يَا رَسُولَ الله آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَلَمْ تُؤَاخ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَد». فقالَ لَهُ رَسُولُ الله صلّى الله عليه و آله: « أَنْتَ أخِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» . (1)

وذلك إشارة إلى أنّه ليس بين الناس من يكون عدلاً له علیه السّلام إلا شخص الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله. ولو لم يكن له علیه السّلام إلا هذه الميزة لكفته، ولكنّ أكثرهم لا يعقلون.

ص: 21


1- صحيح الترمذي 5: 301

وعلى كلّ حال فالآية تنحو نحو منع التوارث على أساس الأُخوّة الدينية، وإن كانت أواصر هذه الأُخوّة أقوى بكثير - خصوصاً في ذلك العهد - من أواصر القرابة النسبية. ومقدّمة لبيان هذا الحكم ذكر أمرين:

الأول: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ولعلّ السرّ في تقديم ذلك، التنويه على أنّ منع التوارث ليس بمعنى نفي الأُخوّة، فإنّ هذه الأخوة تستند إلى وجود أب مشترك وهو الرسول صلّى الله عليه وآله، كما ورد في الحديث: «أنا وعليّ أبوا هذه الأُمّة»(1) ولكنّه أب معنوي وروحي، وليس أباً بالمعنى المتعارف، كما سيأتي في نفس السورة: «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ»(2).

وحكي عن بعض الصحابة أنّه قال: كان في الحرف الأوّل: «النَّبِيُّ أَوْلَى بالْمُؤمنين من أنفُسهمْ وهو أب لهم وأزواجه أُمّهاتهم»، ولعلّه من التفسير وبيان المراد، وأنّ الغرض أنّ الأُخوّة باقية، والرسول بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة الأُمّهات. ومع ذلك فهذه الأُخوّة لا توجب التوارث، فهذه الجملة للتأكيد على بقاء الأُخوّة الدينية.

وأمّا التعبير بالأُبوّة وإسناده إلى الحرف الأوّل فغير صحيح، وهذا من روايات التحريف الساقطة. وأولوية الرسول صلّى الله عليه وآله من كلّ أحد من المؤمنين بنفسه ليس كولاية الأب، فإن الأب وإن كان أولى من الولد بنفسه، إلا أنّه وليّ ما دام الولد صغيراً، وتنقطع ولايته ببلوغ الولد، وأمّا ولاية الرسول فمطلقة دائمة.

ومن جهة أخرى لا يصحّ تصرّف الصغير إلا بإذن الوليّ، وأمّا ولاية الرسول

ص: 22


1- علل الشرائع 1: 127؛ راجع: تفسير الآلوسی 22: 30
2- الأحزاب (33): 40

فلا تمنع من تصرّف المؤمنين في أنفسهم وأموالهم، ولا يتوقّف على إذنه، ولكن إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه، وجبت إطاعته، سواء كان متعلّقاً بنفسه أو بماله أو بما يتعلّق به، وسواء كان أمراً اجتماعياً أو شخصياً، كما قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(1)، فلا يجوز لأحد مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وآله، مطلقاً، حتّى لو أمره بقتل نفسه.

بل الأمر أعظم من ذلك، فلا يكون الإنسان مؤمناً إلا إذا لم يشعر بأيّ نفور و اشمئزاز من حكمه صلّى الله عليه وآله، وإن كان مخالفاً لمصالحه ومضرّاً به. قال تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2)، فلا يكفي أن يطيع كرهاً، بل عليه أن يطيع راضياً، وهذا هو مناط الإيمان.

وهذه الولاية ثابتة بعد الرسول لأمير المؤمنين علیه السّلام، لقوله صلّى الله عليه وآله يوم الغدير: «ألست أولى بكم من أنفسكم» فلمّا أجابوا : بلى يا رسول الله، قال: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه».(3) و«الفاء» في هذه الجملة بعد الجملة السابقة للتنبيه على أنّ هذه

ص: 23


1- الأحزاب (33): 36
2- النساء (4): 65
3- الحديث متواتر نذكر أحد طرقه من كتب العامّة. روى الحاكم في «المستدرك»، عن زيد بن أرقم رضى الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى انتهينا إلى غدير خم، فأمر بدوح فكسح في يوم ما أتى علينا يوم كان أشدّ حراًّ منه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا أيّها الناس، إنّه لم يبعث نبي قطّ إلا ما عاش نصف ما عاش الذي كان قبله، وإنّي أوشك أن أدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم ما لن تضلّوا بعده، كتاب الله عزّ وجلّ» ثمّ قام فأخذ بيد علي رضى الله عنه، فقال: «يا أيّها الناس، من أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا: بلى، قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، أي البخاري ومسلم. (المستدرك 3: 110)

الولاية، هي نفس ولايته صلّی الله علیه و آله، ومثله غيره من الأحاديث التي صرّح فيها بولايته علیه السّلام، وهي أيضاً ثابتة للأئمة المعصومين علیه السّلام بمقتضى روايات كثيرة.

«وَازْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» الثاني: أنّ أزواجه أُمّهات المؤمنين. ولا شكّ أنّ الأُمومة هنا ليست بمعناها الحقيقي، بل المراد ترتيب بعض الآثار والأحكام الشرعية، وليس كلّ أحكام الأُمومة أيضاً، إذ لا شكّ في أنّه لا يجوز لمؤمن أن ينظر إليهنّ، كما أنّه يجوز التزوّج ببناتهنّ ولا يرثهنّ المؤمنون، ولا يرثن منهم، وغير ذلك من أحكام الأُمّ. وإنّما المراد - على الظاهر - ترتيب أثرين: أحدهما: إكرامهنّ واحترامهنّ، كما يكرم الإنسان أُمّه، والآخر حرمة الزواج بهنّ بعد الرسول صلّی الله علیه و آله .

وللتأكيد على هذه الحرمة، والتشنيع على هذا المنكر، اعتبرهنّ الله تعالى أُمّهات المؤمنين، فالزواج بهنّ كالزواج بالأُمّهات. وهذا يوجب نفور الطبع من هذا الزواج، فضلاً عن الحرمة التشريعية التي صرّح بها في هذه السورة: «وَلا أن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبداً»(1). والسبب في ذلك هو ما يروى من بعض الصحابة أنّه قال ما معناه: إنّه سيتزوّج بعض نساء النبيّ صلّی الله علیه و آله بعد وفاته.

وقد روي عن عائشة أنّها قالت: عائشة أنها قالت: «أنا أمّ رجالكم». ومعنى ذلك أنّ هذه الأُمومة لا يترتّب عليها إلا حرمة الزواج، فهي خاصّة بالرجال. ولكن روي عن أُمّ سلمة قولها: «أنا أمّ رجالكم ونسائكم». ولعلّها - على افتراض صحّة النسبة - أرادت بذلك التنبيه على أنّ الأُمومة هنا تستلزم الإكرام والاحترام، وهذا لا يختصّ بالرجال واحترام الرسول صلّی الله علیه و آله يستلزم - بالطبع - احترام كلّ ما يتعلّق به، كالأرض والبلد والدار والأولاد والزوجات ونحو ذلك، فالاحترام ليس لخصوصية في هذه

ص: 24


1- الأحزاب (33): 53

الأُمور، بل لذلك الشخص الكريم.

«وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهَاجِرِينَ» «أُولوا الأرحام» هم الأقرباء المشتركون في رحم، كرحم الأُمّ، أو الجدّة من قبل الأُمّ أو الأب. ويمكن أن يكون الرحم في الأصل بمعنى القرابة، وإطلاقه على رحم المرأة من هذا الباب فالمعنى: وأصحاب القرابات أولى بالميراث وإنّما أتى ب_«الأرحام» جمعاً باعتبار اختلاف أنواع القرابة الموجبة للإرث.

وهذه الجملة تتكفّل بيان حكم التوارث، وأنّه مختصّ بأُولي الأرحام، ولا يشمل الإخوة في الدين، ولا تتعرّض الجملة للأولويات الموجودة بين ذوي الأرحام، حيث إنّ بعضهم أيضاً أولى من بعض آخر. وذلك لأنّه لم يقل بعضهم أولى من بعض، وإنّما تعرّضت لأولوية ذوي الأرحام إجمالاً من سائر المؤمنين. فقوله تعالى: «بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ»، أي الورثة أولى بالمورثين من المؤمنين.

والمراد ب_«كتاب الله»، الشريعة الإلهية. والكتاب هو المكتوب. وكَتَبَ بمعنى جَمَعَ، فيطلق الكتاب على كلّ مجموعة يجمعها اعتبار واحد، سواء جمعت في مؤلّف بالمعنى المتعارف أم لم تُجمع. والمراد ب_«المؤمنين»، الأنصار بقرينة المقابلة للمهاجرين. ولعلّ وجه التعبير أنّهم غالباً آمنوا قبل المهاجرين.

وقد وردت هذه الجملة في سورة الأنفال أيضاً، قال تعالى: «وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ»(1). وفسّرت في روايات العامة والخاصّة بالأولوية في الإرث.

«إلا أن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَاءَكُم مَعْرُوفاً»، «المعروف» ما يعرف حسنه عامة الناس أو

ص: 25


1- الأنفال (8): 75

خصوص المتشرّعة، كما أن المنكر ما ينكره عامّة الناس أو خصوص المتشرّعة. ولذلك يمكن منع شمول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكلّ واجب وحرام. وللبحث عنه مجال آخر.

والمراد به هنا الإحسان إلى الوليّ، أي الأخ المؤمن بالوصيّة. فهذا استثناء من نفي التوارث على أساس الأُخوّة الإسلامية. والمراد ب_«الوليّ» هنا الأخ في الدين، فلا مانع من أن يوصي أحد لأخيه المؤمن شيئاً من المال. والآية مطلقة إلا أنّ الروايات تقيّدها بأن لا تتجاوز الوصيّة، ثلث التركة، فإن تجاوزه يتوقّف نفوذها على إجازة الورثة.

«كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً» ، الظاهر أنّ «ذلك» إشارة إلى حكم منع التوارث بالأخوّة في الدين. وهذا تأكيد على الحكم بعد أن بيّن ضمن الجملة السابقة أنّ هذا الحكم في كتاب الله، فهذا تأكيد بعد تأكيد لترسيخ الحكم في المجتمع، وتوطين النفوس بأنّه من كتاب الله وشريعته المسجّلة التي لا تقبل التغيير.

ولعلّ السرّ في هذه التأكيدات، هو إقناع المجتمع بتقبّله، حيث إنّ الحكم بالتوارث كان راسخاً في القلوب، بعد جعل الأُخوّة بينهم من قبل الرسول صلّی الله علیه و آله .

ص: 26

سورة الأحزاب (7-8)

«وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(8)»

«وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ»، «الميثاق»: العقد المؤكّد بيمين أو تعهّد والمواثيق والعهود المذكورة في القرآن بعضها عامّة لجميع الناس، كقوله تعالى: «أَلَمْ أعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ»(1) ، وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا»(2).

وهناك عهود ومواثيق خاصّة بجمع من الناس كبني إسرائيل، كقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلوةَ وَ ءَاتُوا الزَّكَوةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ»(3) ، وقوله تعالى: «لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ»(4)، وكذلك بالنسبة للمسلمين كقوله تعالى: «وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُور»(5). وهناك عهود ومواثيق

ص: 27


1- يس (36): 60
2- الأعراف (7): 172
3- البقرة (2): 83
4- المائدة (5): 70
5- المائدة (5): 7

بین الله ورسله، ومنها هذه الآية.

والظاهر أنّ المراد بأخذ المواثيق من النبيّين والمرسلين هو ما التزموا به مع رسل الله تعالى، أي الملائكة حين نزول الوحي، ف_«الميثاق» هنا بمعناه الحقيقي. ولا يبعد أن يكون الأمر كذلك في عهود الأُمم، فإنّ الله تعالى أخذ ميثاقهم بواسطة رسلهم، والبيعة التي تتمّ بينهم وبين رسلهم تعتبر بيعة مع الله تعالى، كما قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1).

ومهما كان فالميثاق - حسب هذه الآية - مأخوذ من النبيّين جميعاً، ولكنّه مأخوذ بصورة خاصّة ومؤكّدة من أصحاب الشرائع، وهم حسب ترتيب الذكر هنا: محمّد صلّی الله علیه و آله ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى علیهم السّلام. والظاهر أنّ تقديم اسم الرسول صلّی الله علیه و آله لكونه أفضل الأنبياء والمرسلين.

«وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً». كرّر ذكر أخذ الميثاق للتأكيد. ووصفه ب_«الغلظة» تشبيهاً بالغلظة المحسوسة، لكونه مؤكّداً. مع أنّ الميثاق بنفسه يشتمل على تأكيد، لكونه مأخوذاً من الوثوق، فهو تأكيد في تأكيد.

والآية الكريمة لم تبيّن موضوع هذا الميثاق. ولكنّه ظاهر لا يحتاج إلى بيان. فإنّ ميثاق الرسل، يتعلّق برسالتهم، أي أنّ الله تعالى أخذ منهم المواثيق المغلّظة بأن لا يألوا جهداً في تبليغ رسالات الله سبحانه.

ولعلّه مقدّمة لما سيأتي من تأنيب بعض المؤمنين، حيث لم يقوموا بواجبهم ودورهم في هذا التبليغ، فلم ينصروا الرسول صلّی الله علیه و آله كما هو مفروض عليهم. والميثاق وإن كان بين الله ورسله، إلا أنّه يشمل المؤمنين بعد أن بايعوا رسولهم.

ص: 28


1- الفتح (48): 10

«ليَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ»، اللام للتعليل. فالمعنى أنّه أخذ الميثاق من النبيّين ليسأل الصادقين عن صدقهم. وهذا يدلّ على ما ذكرناه آنفاً من أنّ هذا الميثاق يسري إلى المؤمنين، إذ لا ينحصر الصادقون في الأنبياء. وفيه وجه آخر سيأتي.

والأصل في «الصدق»، قيل: هو القوة. وقيل: هو مطابقة الواقع. وقيل: الصادق هو الكامل من كلّ شيء. وقيل غير ذلك. ومهما كان، فهو لا يختصّ بالكلام، حتّى إنّهم يعبّرون عن السيف القاطع بالسيف الصادق، أي أنّه يعمل العمل المطلوب منه بصدق. ومنه الصدق في الوعد وهو الوفاء به، والصدق في العهد أي الالتزام به. فإذا كان الإنسان مؤمناً، فليكن صادقاً في إيمانه بأن يطابق عمله عقيدته. وعليه، فالمراد هنا ب_«الصادقين» الذين صدقوا في إيمانهم وهو الذي عاهدوا الله عليه.

وسيأتي في هذه السورة تطبيق ما ورد في هذه الآية على المجاهدين في سبيل الله في قوله تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ»(1).

ويقع الكلام هنا في أنّه ما هو المراد ب_«السؤال»؟ وأين موضعه؟

يحتمل أن يكون المراد: السؤال في الآخرة، فيكون المراد محاسبتهم على ذلك وجزاؤهم وفقاً لدرجة صدقهم. ويحتمل أن يكون موضعه الدنيا، وأنّ المراد بالسؤال مطالبتهم بأن يبرزوا صدقهم في العمل وعلى أرض الواقع. أو المراد بالسؤال الامتحان وإيجاد الأرضية التي تقتضي أن يبرزوا عليها صدقهم في الإيمان.

ص: 29


1- الأحزاب (33): 23

والظاهر هو الثاني، أي كون موضعه الحياة الدنيا، وأنّ المراد بالسؤال امتحانهم واختبارهم ليظهروا صدقهم، فإنّ المؤمن إنّما يبرز صدق إيمانه في مواجهة الشدائد، كالفقر والحرب ونحو ذلك، فإذا جاد بنفسه وماله في سبيل الله حينما تقع الحاجة الاجتماعية إليهما، فهو صادق في إيمانه، ولا يبرز الصدق في الرخاء غالباً.

وهذا هو معنى الامتحان الإلهي، فإنّ الله تعالى عالم بالغيوب وأسرار النفوس، وإنّما يختبر الإنسان، ليبرز إيمانه على أرض الواقع، فيستحقّ الجزاء وارتفاع الدرجة. ولا يكفي في ذلك أنّه من حيث الإيمان، بالغٌ درجة من القوّة، تمكنّه من أداء ما يُطلب منه، فإنّ الجزاء وعلوّ الدرجة لا يترتّبان على إمكان ذلك، ولا على استعداد النفس، وإنّما يترتبان على بروز الإيمان في مرحلة العمل وفي مواجهة الواقع الخارجي، وهذا هو الصدق.

وبذلك يرتفع الاستغراب عن سؤال الصادقين عن صدقهم، فإنّه ربّما يقال: إنّهم إذا كانوا صادقين حسب الفرض فما معنى السؤال عن صدقهم، وإنّما يسأل غيرهم أنّهم هل صدقوا أم لا؟

وبناءً على ما ذكرنا فالمراد ب_«السؤال» ليس هو الاستفهام، بل المراد إيجاد الجوّ المناسب، والأرضية الصالحة لبروز استعدادهم في الصدق في مرحلة العمل. وإنّما صحّ التعبير بالسؤال، لأنّ مآل هذه التهيئة وإيجاد الأرضية، هو استخبار ما فيهم من صدق، وأنّه إلى أيّ حدّ من الابتلاء يبقى ويقاوم؟

ويمكن أن يكون الوجه في تعليل أخذ ميثاق النبيّين بالسؤال عن الصادقين هو أنّ الميثاق يهيء الأرضية الصالحة لامتحان من يدعي الإيمان ولبروز صدق

ص: 30

الصادقين منهم ولتعيين درجة صدق كلّ واحد منهم أيضاً، وذلك لأنّ صدقهم لا يتبيّن إلا بمتابعة الأنبياء، ويتبيّن درجة الصدق بحدود تبعية المؤمن للأنبياء علیهم السّلام .

ومنه يعلم أنّ من يدّعي الإيمان بالله تعالى عن غير طريق الأنبياء ومتابعتهم كما ربما يتبجح به بعض الفلاسفة ومن يدعون العرفان والمتصوّفة، فإنّ دعواهم باطلة ولا يكون المؤمن صادقاً في إيمانه إلا بمتابعة مواثيق الأنبياء علیهم السّلام.

«وَاعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أليماً»، قيل: إنّ الجملة عطف على قوله تعالى: «أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ». وهو غير ملائم من حيث المعنى. والصحيح أنّه عطف على جملة مقدّرة مترتّبة على الجملة السابقة، أي: «ليسأل الصادقين عن صدقهم، ويجزيهم على ذلك، وأعدّ للكافرين». وإنّما أتى في ذكر جزاء الكافرين بالماضي تأكيداً على أنّه أمر مقضيّ ثابت لا مفرّ منه.

ويعلم من المقابلة أنّ الذي لا يظهر منه الإيمان في موارد الامتحان، فهو كافر في الواقع، وإن أظهر الإيمان، وترتّبت عليه أحكام المؤمن حسب ظاهر الشرع.

ومن هنا يتبيّن أنّ هاتين الآيتين، مقدّمة للتعرّض لحال المسلمين في غزوة الأحزاب، إذ قلّ منهم من كان صادقاً في إيمانه كأمير المؤمنين علیه السّلام، والسبب هو كثرة عدد المهاجمين من مكة، وسائر أنحاء الجزيرة العربية، ومن اليهود، وفيهم من لا يقوى على منازلته أحد، كعمرو بن عبدود الذي قتله الإمام علیه السّلام، وكانوا حوالي عشرة آلاف مقاتل، تجمّعوا حول المدينة، ولم يكن فيها إلا ثلاثة آلاف مقاتل، فلو كانت هذه الحرب تدور دائرتها، لكان فيها خطر عظيم على الإسلام والمسلمين. وسيأتي بيان ذلك في الآيات التالية إن شاء الله تعالى.

ص: 31

ومن الغريب جدّاً ما وقع في التاريخ الإسلامي من الظلم في حقّ المؤمنين الصادقين الذين أبرزوا صدق إيمانهم في مختلف المجالات، كيف ساووهم، بل فضّلوا عليهم من لم يبرز منهم الإيمان في أيّ مجال، و كلّما بعثوا في حرب أو نزال، رجعوا مقهورين، يجبّن بعضهم بعضاً. وما زال التاريخ والأقلام الحاقدة مستمرّة في ظلمها وظلامها.

ص: 32

سورة الأحزاب (9-11)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)»

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ»، تشير الآية الكريمة إلى غزوة الأحزاب بصورة إجمالية مقدّمة لذكر بعض التفاصيل، كما هو دأب القرآن الكريم. وتبدأ بالتنبيه على ما أنعم الله به على المسلمين في هذه الغزوة، حيث كفاهم القتال بعد ما رأوا شدّة الأهوال المحدقة بهم. وهذا بنفسه تنبيه هامّ تربوي، أن يكون المقصد الأوّل والأهمّ للمؤمن، ذكر نعم الله تعالى وحمده عليها. وقوله تعالى: «إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ» إشارة إجمالية إلى الأحزاب التي تجمّعت حول المدينة، وكانوا - حسب ما يقال - أكثر من عشرة آلاف مقاتل، يقابلهم من المسلمين ثلاثة آلاف.

«فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا» بقي القوم محاصرين للمدينة - على ما يقال - زهاء ثلاثين يوماً، واشتدّ الأمر على المسلمين، فأرسل الله تعالى عليهم ريحاً باردة في ليلة ظلماء باردة، فأخصرتهم، أي آلمت أطرافهم من البرد، وسفت التراب في وجوههم، وقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور ، وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف الله في قلوبهم الرعب، فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أمّا محمد صلّی الله علیه و آله فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء! فانهزموا. وقال حذيفة رضي الله عنه - وقد ذهب ليأتي رسول الله صلّى الله عليه و آله بخبر القوم -:

ص: 33

خرجت حتّى إذا دنوت من عسكر القوم، وإذا رجل أدهم ضخم يقول: الرحيل الرحيل، لا مقام لكم ... الخبر(1).

وأمّا الجنود التي لم تر ، فالظاهر أن المراد بهم الملائكة ويحتمل أنّهم ما كانوا يعملون عملاً ظاهراً، وإنّما كانوا يؤثرون تأثيراً غيبياً، كتثبيط العزائم، وقذف الرعب. وورد في بعض الروايات أنّهم هم الذين أكفأوا القدور، وقلعوا الأوتاد، وأنّهم كانوا يكبرون في جوانب العسكر. ولكنّ ذلك غير ثابت، بل يظهر من الآيات الواردة في غزوة بدر، والتاريخ المنقول عنها، أنّهم ما كانوا يعملون عملاً ظاهراً، فالمقتولون في غزوة بدر ،معروفون، وقاتلوهم أيضاً معروفون.

قال تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنَّى مَعَكُمْ فَثَبتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَألْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ»(2). يلاحظ أنّ المأمور به في خطاب الملائكة تثبيت المؤمنين، والضرب فوق الأعناق، وليس ضرباً لها، وأُمروا أيضاً بضرب البنان، أي الأصابع والظاهر أنّ كلّ ذلك كناية عن تثبيط عزائمهم، وقذف الرعب في قلوبهم، حيث لم ينقل عن أحد من المشركين أنّه أحسّ بمن يضرب على يديه في هذه الغزوة.

ويؤكّد ذلك قوله تعالى بعد ذكر نزول الملائكة لنصرة المسلمين يوم بدر: «وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»(3). وكذلك قوله تعالى في نفس المورد: «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ

ص: 34


1- روح المعاني 11: 153
2- الأنفال (8): 12
3- آل عمران (3): 126

قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ الله إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1). فنزول الملائكة لم يكن إلا لطمأنة قلوب المؤمنين.

«وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً» وهذا تنديد بما حدث في صفوف المسلمين من الخوف والنكول عن القتال، بل بروز النفاق من بعضهم. فالآية لسانها لسان التهديد والوعيد، حيث ينبّه الغافلين منهم الذين توهّموا أنّ الله تعالى غافل عن ما يدور بينهم، وما يتغلغل في صدور بعضهم من النفاق، وينبّههم على أنّ الله تعالى كان بصيراً بأعمالهم ونواياهم.

«إِذْ جَاءُوكُم مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ» ، شروع في بيان بعض التفاصيل. وهذه الآية تبيّن أنّ الأحزاب المتجمّعة حاصروا المدينة من جهتين. والمراد ب_«من جاءوا من فوقها»، اليهود القاطنون في القلاع والحصون المحيطة بالمدينة المنوّرة، حيث نقضوا عهدهم مع الرسول صلّی الله علیه و آله، بعد أن عاهدوا أن لا ينصروا أعداءه، ولا يكيدون بالمسلمين مكيدة. والمراد ب_«من جاءوا من أسفلها»، قريش وحلفاؤهم. ويظهر من الأخبار، أنّ اليهود هم الذين أشعلوا نار هذه الحرب. وننقل هنا قصّة الحرب على ما ورد في «مجمع البيان»(2) للطبرسي رحمه الله باختصار طفيف:

كان من حديث الخندق أنّ نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، في جماعة من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلّی الله علیه و آله ، خرجوا حتۀى قدموا على قريش بمكۀة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّی الله علیه و آله، وقالوا: إنّا سنكون معكم عليهم حتّى نستأصلهم. فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود إنّكم

ص: 35


1- الأنفال (8): 10
2- مجمع البيان 8: 125-136

أهل الكتاب الأوّل، فديننا خير أم دين محمّد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، فأنتم أولى بالحقّ منه، فأنزل الله فيهم: «ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ اهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً»(1)، فسرّ قريشاً ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه، فأجمعوا لذلك واستعدّوا له.

ثمّ خرج أُولئك النفر من اليهود حتّى جاؤوا غطفان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّی الله علیه و آله وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه صلّی الله علیه و آله، وأنّ قريشاً قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم. فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة، والحرث بن عوف في بني مرّة، ومسعر بن جبلة الأشجعي في من تابعه من أشجع، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل طليحة في من اتّبعه من بني أسد، وهما حليفان (أسد وغطفان). وكتبت قريش إلى رجال من بني سليم، فأقبل أبو الأعور السلمي في من اتّبعه من بني سليم مدداً لقريش. فلمّا علم بذلك رسول الله صلّی الله علیه و آله ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار عليه سلمان الفارسة رحمه الله.

وممّا ظهر من دلائل النبوّة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد الله الحافظ، بإسناده عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، قال: حدّثني أبي عن أبيه قال: خطّ رسول الله صلّی الله علیه و آله الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعاً بين عشرة، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياًّ، فقال الأنصار: سلمان منّا، وقال المهاجرون: سلمان منّا، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «سلمان منّا أهل البيت».

ص: 36


1- النساء (4): 51

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن وستّة من الأنصار نقطع أربعين ذراعاً، فحفرنا حتّى إذا بلغنا الثرى، أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدوّرة، فكسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان! إرق إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله فأخبره عن الصخرة، فإمّا أن نعدل عنها، فإنّ المعدل قريب، وإمّا أن يأمرنا فيه بأمره، فإنّا لا نحبّ أن نجاوز خطّه، فرقى سلمان حتّى أتى رسول الله صلّی الله علیه و آله، وهو مضروب عليه قبّة، فقال: يا رسول الله، خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدوّرة، فكسرت حديدنا وشقّت علينا، حتّى ما يحكّ فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك.

فهبط رسول الله صلّى الله عليه و آله مع سلمان في الخندق، وأخذ المعول، وضرب به ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني لابتي المدينة -(1) حتّى لكأنّ مصباحاً في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلّى الله عليه و آله تكبيرة فتح، فكبّر المسلمون، ثمّ ضرب ضربة أُخرى، فلمعت برقة أُخرى، ثمّ ضرب به الثالثة، فلمعت برقة أخرى، فقال سلمان: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله ما هذا الذي أرى؟ فقال: «أمّا الأُولى فإنّ الله عزّ وجلّ فتح عليّ بها اليمن، وأمّا الثانية فإنّ الله فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح علىّ بها المشرق».

فاستبشر المسلمون بذلك، وقالوا: الحمد لله موعد صادق، قال: وطلعت الأحزاب. فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وقال المنافقون: ألا تعجبون يحدثكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنّه يبصر

ص: 37


1- لابتا المدينة حَرَّتان تَكْتَنِفانها، قال ابن الأثير: المدينة ما بين حَرَّتَيْن عظيمتين، وقال الأصمعي: هي الأرض التي قد ألبَسَتْها حجارة سُود. (لسان العرب 1: 746، لوب)

في يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنّها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق، ولا تستطيعون أن تبرزوا.

وممّا ظهر فيه أيضاً من آيات النبوّة ما رواه أيمن المخزومي، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: كنّا يوم الخندق نحفر الخندق، فعرضت فيه كدية وهي الجبل، فقلنا: يا رسول الله إن كدية عرضت فيه، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «رشوا عليها ماءاً» ، ثمّ قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة، فسمّى ثلاثاً، ثمّ ضرب فعادت كثيباً أهيل. فقلت له: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل، ففعل. فقلت للمرأة: هل عندك من شيء؟ فقالت: عندي صاع من شعير و عناق (1)، فطحنت الشعير وعجنته ، وذبحت العناق وسلختها، وخليت بين المرأة و بین ذلك.

ثمّ أتيت إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله فجلست عنده ساعة، ثمّ قلت: ائذن لي يا رسول الله، ففعل، فأتيت المرأة، فإذا العجين واللحم قد أمكنا، فرجعت إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله : فقلت: إنّ عندنا طعيماً لنا، فقم يا رسول الله أنت ورجلان من أصحابك. فقال: وكم هو ؟ قلت: صاع من شعير وعناق. فقال للمسلمين جميعاً: «قوموا إلى جابر»، فقاموا، فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله. فقلت: جاء بالخلق على صاع شعير وعناق. فدخلت على المرأة وقلت: قد افتضحت جاءك رسول الله صلّی الله علیه و آله بالخلق أجمعين! فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم. فقالت: الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا، فكشفت عنّي غماًّ شديداً.

فدخل رسول الله صلّی الله علیه و آله فقال: «خذي ودعيني من اللحم»، فجعل رسول

ص: 38


1- العناق - بالفتح - الأُنثى من المعز. (لسان العرب 10: 27، عنق)

الله صلّی الله علیه و آله يثرد ويفرّق اللحم، ثمّ يجمّ هذا(1)، ويجم هذا ، فما زال يقرّب إلى الناس حتّى شبعوا أجمعين، ويعود التنّور والقدر أملأ ما كانا. ثمّ قال رسول الله صلّی الله علیه و آله «كلي وأهدي». فلم نزل نأكل ونهدي قومنا أجمع.

وعن أبي الوليد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البرّاء، قالوا: ولمّا فرغ رسول الله صلّی الله علیه و آله من الخندق، أقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد، حتّى نزلوا إلى جانب أُحد، وخرج رسول الله صلّی الله علیه و آله والمسلمون حتّى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم. وأمر بالذراري والنساء، فرفعوا في الآطام(2).

وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضيري حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة وكان قد وادع رسول الله صلّی الله علیه و آله على قومه وعاهده على ذلك. فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه: يا كعب افتح لي، فقال: ويحك يا حيي إنّك رجل مشؤوم، إنّي قد عاهدت محمّداً ولست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً، قال: ويحك افتح لى أُكلّمك قال: ما أنا بفاعل، قال: إن أغلقت دوني إلا على حشيشة تكره أن آكل منها معك، فأحفظ الرجل، ففتح له فقال: ويحك يا كعب، جئتك

ص: 39


1- الجمام: الملْء، يقال: إناءٌ جَمَّان، إذا بلغ جمامَهُ. (معجم مقاييس اللغة / جم) والغرض أنّه صلّی الله علیه و آله كان يملأ الإناء غير مبال بقلّة الطعام
2- آطام: جمع أطُم - بضمّتين - وهي حصون لأهل المدينة. (مجمع البحرين 1: 80)

بعزّ الدهر وببحر طامَ(1)، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، وبغطفان على سادتها وقادتها، قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّداً ومن معه! فقال كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، بجهام (2) قد هراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، فدعني ومحمّداً وما أنا عليه، فلم أر من محمّد إلا صدقاً ووفاءً.

فلم يزل حيي بكعب يقتل منه في الذروة والغارب(3) حتّى سمح له، على أن أعطاه عهداً وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمّداً أن أدخل معك في حصنك حتّى يصيبنى ما أصابك، فنقض كعب عهده، وبرئ ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّی الله علیه و آله.

فلمّا انتهى الخبر إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله ، بعث سعد بن معاذ وهو يومئذٍ سيّد الأوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيّد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوّات بن جبير، فقال: «انطلقوا حتّى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقّاً، فالحنوا لنا لحناً تعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس(4)، وإن كانوا على الوفاء، فاجهروا به للناس».

وخرجوا حتّى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ممّا بلغهم عنهم، قالوا: لا عقد

ص: 40


1- البحر الطامّ: أي الغالب على سائر البحور. (العين : 409، طمم)
2- الجهام - بالفتح - السحاب الذي لا ماء فيه. (لسان العرب 12: 111 جهم)
3- في حديث الزبير : فما زال يقتل في الذرْوَة والغارب حتّى أجابَتْه عائشة إلى الخُروج. الغارب: مُقدَّمُ السنام والذرْوَة أعلاه أراد: أنّه ما زالَ يُخادِعُها ويَتَلطَّفها حتّى أجابَتهُ، والأصل فيه: أنّ الرجل إذا أراد أن يُؤنَّسَ البعيرَ الصعْبَ، ليَزمَّه ويَنْقاد له، جَعَل يُمرُّ يَدَه عليه، ويَمسَحُ غاربَه، ويَفتِلُ وبَرَه حتّى يَسْتأنِسَ، ويَضَعَ فيه الزمام (لسان العرب 1: 644؛ غرب)
4- أي لا تعلنوا أمام الناس فتضعف عزائمهم. وفي لسان العرب: فتت: فتَّ في ساعده، أي أضْعَفه وأوْهَنَه. ويقال: فتَّ فلانٌ في عَضُدي، وهَدَّ رُكْني. (لسان العرب 2: 65، فت)

بيننا وبين محمّد ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه. وقال سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم، فإنّ ما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة. ثمّ أقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله وقالوا: عضل والقارة (إشارة إلى غدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله خبيب بن عديۀ وأصحابه أصحاب الرجيع) (1)، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين».

وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتّى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ، وظهر النفاق من بعض المنافقين، فأقام رسول الله صلّى الله عليه و آله، وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة، لم يكن بينهم قتال إلا الرمي بالنبال، إلا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبدود أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطّاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله قد تلبّسوا للقتال، وخرجوا على خيولهم، حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تَهَيَّؤُوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثمّ أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتّى وقفوا على الخندق، فقالوا: والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثمّ تيمّموا مكاناً ضيّقاً من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحموا، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.

وخرج علي بن أبي طالب علیه السّلام في نفر من المسلمين حتّى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بی عبدود فارس قریش

ص: 41


1- عضل والقارة حيان من العرب أتوا النبيّ صلّی الله علیه و آله ليبعث إليهم من يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، فبعث معهم ستّة أو أكثر فغدروا بهم في الرجيع وقتلوهم وهناك اختلاف في قصّتهم راجع كتب التاريخ والسيرة

وكان قد قاتل يوم بدر حتى ارتُثّ(1) وأثخنته الجراح ولم يشهد أحداً، فلمّا كان يوم الخندق خرج مُعلِماً ليُرى مشهدُه، وكان يُعدّ بألف فارس، وكان يسمّى فارس يليل، لأنّه أقبل في ركب من قريش حتّى إذا كانوا بيليل - وهو وادٍ قريب من بدر - عرضت لهم بنو بكر في عدد، فقال لأصحابه: امضوا فمضوا، فقام في وجوه بني بكر حتّى منعهم من أن يصلوا إليه فعرف بذلك، وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد، وكان أوّل من طفره عمرو وأصحابه، فقيل في ذلك: «عمرو بن عبدود كان أوّل فارس، جزع المَذاد وكان فارس يليل».

وذكر ابن إسحاق: أنّ عمرو بن عبدود كان ينادي: من يبارز؟ فقام علي علیه السّلام وهو مقنّع في الحديد، فقال: «أنا له يا نبي الله». فقال: «إنّه عمرو، اجلس». ونادى عمرو: ألا رجل! وهو يؤنبّهم ويقول: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها ؟ فقام علي علیه السّلام فقال: «أنا له يا رسول الله». ثمّ نادى الثالثة فقال:

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع *** موقف البطل المناجز

إنّ السماحة والشجاعة في *** الفتى خير الغرائز

فقام علي، فقال: «يا رسول الله! أنا».

فقال: «إنّه عمرو». فقال: «وإن كان عمرواً». فاستأذن رسول الله فأذن له صلّی الله علیه و آله.

وفيما رواه لنا السيّد أبو محمّد الحسيني القايني، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني، بالإسناد عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جدّه، عن حذيفة قال: فألبسه رسول الله صلّی الله علیه و آله درعه «ذات الفضول» وأعطاه سيفه «ذا الفقار» وعمّمه

ص: 42


1- المُرْتَثُ: الصريعُ الذي يُنخَنُ في الحَرْب ويُحْمَلُ حَيّاً، ثمّ يموت. (لسان العرب / رثث)

عمامته «السحاب» على رأسه تسعة أكوار، ثمّ قال له: تقدّم. فقال لمّا ولّى: «اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه».

قال ابن إسحاق: فمشي إليه وهو يقول:

لا تعجلنّ فقد أتاك *** مجیب صوتك غير عاجز

ذونية وبصيرة *** والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن أُقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عند الهزاهز

قال له عمرو: من أنت؟ قال: «أنا علي». قال: ابن عبد مناف؟ فقال: «أنا علي بن أبي ب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف». فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك، فإنّي أكره أن أهرق دمك. فقال علي علیه السّلام: «لكنّي والله ما أكره أن أهرق دمك». فغضب ونزل وسلّ سيفه كأنّه شعلة نار، ثمّ أقبل نحو علي مغضباً، فاستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو بالدرقة فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجّه، وضربه عليّ على حبل العاتق فسقط.

وفي رواية حذيفة: وتسيّف على رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه، وثارت بينهما عجاجة فسمع عليّ يكبر، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «قتله والذي نفسي بيده». فكان أوّل من ابتدر العجاج عمر بن الخطّاب، فإذا عليّ يمسح سيفه بدرع عمرو، فكبّر عمر بن الخطاب وقال: يا رسول الله قتله. فحزٌ على رأسه وأقبل نحو رسول الله صلّی الله علیه و آله ووجهه يتهلّل. فقال عمر بن الخطّاب: هلا استلبته درعه، فإنّه ليس للعرب درع خير منها ؟ فقال: «ضربته فاتّقاني بسوأته فاستحييت ابن عمّي أن أستلبه».

قال حذيفة: فقال النبي صلّی الله علیه و آله : «أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أُمّة محمّد

ص: 43

لرجّح عملك بعملهم، وذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله ومن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عزّ بقتل عمرو».

وعن الحاكم أبي القاسم أيضاً بالإسناد عن سفيان الثوري، عن زبيد الثاني، عن مرّة، عن عبد الله بن مسعود، قال: كان يقرأ: «وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ».

وخرج أصحابه منهزمين حتّى طفرت خيولهم الخندق وتبادر المسلمون، فوجدوا نوفل بن عبد العزّى جوف الخندق، فجعلوا يرمونه بالحجارة. فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أُقاتله، فقتله الزبير بن العوام.

وذكر ابن إسحاق: أنّ علياً علیه السّلام طعنه في ترقوته حتّى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال النبي صلّی الله علیه و آله: «هو لكم لا نأكل ثمن الموت»ى.

وذكر علي علیه السّلام أبياتاً منها:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه *** و نصرت ربّ محمّد بصواب

فضربته وتركته متجدّلاً *** كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنّني *** كنت المقطّر بزني أثوابي

وروى عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري قال: إنّ عليّاً علیه السّلام لمّا قتل عمرو بن عبدود، حمل رأسه فألقاه بين يدي رسول الله صلّی الله علیه و آله ، فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس علىّ علیه السّلام.

وروي عن أبي بكر بن عيّاش، أنّه قال: ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام أعزّ منها - يعني ضربة عمرو بن عبدود - وضُرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام

ص: 44

ضربة أشأم منها، يعني ضربة ابن ملجم عليه لعائن الله.

قال: وجاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال: يا رسول الله إِنِّي قد أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي، فمرني بأمرك، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله: «إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا ما استطعت، فإنّما الحرب خدعة».

فانطلق نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة، فقال لهم: إنّي لكم صديق والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد صلّى الله عليه و آله بمنزلة واحدة، إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، وإنّما قريش وغطفان بلادهم غيرها، وإنّما جاؤوا حتّى نزلوا معكم، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهناً من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّداً. فقالوا له: قد أشرت برأي.

ثمّ ذهب فأتى أبا سفيان وأشراف قريش، فقال: يا معشر قريش! إنّكم قد عرفتم وُدّي إيَّاكم وفراقي محمّداً ودينه، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ. فقالوا: نفعل ما أنت عندنا بمتّهم. فقال: تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد، فبعثوا إليه أنّه لا يرضيك عنّا إلا أن نأخذ من القوم رهناً من أشرافهم، وندفعهم إليك، فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك. فقال: بلى، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفراً من رجالكم، فلا تعطوهم رجلاً واحداً واحذروا. ثمّ جاء غطفان وقال: يا معشر غطفان! إنّي رجل منكم، ثمّ قال لهم ما قال لقريش.

فلمّا أصبح أبو سفيان وذلك يوم السبت، في شوّال سنة خمس من الهجرة،

ص: 45

بعث إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش: إنّ أبا سفيان يقول لكم: يا معشر اليهود! إنّ الكراع والخف(1) قد هلكا، وإنّا لسنا بدار مقام، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه. فبعثوا إليه: أنّ اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّداً. فقال أبو سفيان والله قد حذّرنا هذا نعيم. فبعث إليهم أبو سفيان إنّا لا نعطيكم رجلاً واحداً، فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا وإن شئتم فاقعدوا. فقالت اليهود: هذا والله الذي قال لنا نعيم. فبعثوا إليهم: إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهناً. وخذل الله بينهم وبعث سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتّى انصرفوا راجعين.

قال محمّد بن كعب: قال حذيفة بن اليمان: والله لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وقام رسول الله صلّی الله علیه و آله فصلّى ما شاء الله من الليل، ثمّ قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة؟ قال حذيفة: فوالله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجهد والجوع. فلمّا لم يقم أحد، دعاني فلم أجد بدّاً من إجابته، قلت: لبّيك، قال: «اذهب فجئني بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع». قال: وأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده يفعل بهم ما يفعل، ما يستمسك لهم بناء، ولا تثبت لهم نار، ولا تطمئنّ لهم قدر، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله، ثمّ قال: يا معشر قريش! لينظر أحدكم من جليسه. قال حذيفة: فبدأت بالذي عن يميني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.

ثمّ عاد أبو سفيان براحلته، فقال: يا معشر قريش! والله ما أنتم بدار مقام، هلك

ص: 46


1- أي الخيل والإبل، والأصل في الكراع قوائم الدوابّ، والخفّ في الإبل كالحافر من الخيل

الخفّ والحافر، وأخلفتنا بنو قريظة، وهذا الريح لا يستمسك لنا معها شي. ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلا بعد ما ركبها، قال: قلت في نفسي لو رميت عدوّ الله فقتلته كنت قد صنعت شيئاً، فوترت قوسي، ثمّ وضعت السهم في كبد القوس وأنا أُريد أن أرميه فأقتله، فذكرت قول رسول الله صلّی الله علیه و آله: «لا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع»، قال: فحططت القوس، ثمّ رجعت إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله فأخبرته.

وروى الحافظ بالإسناد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلّی الله علیه و آله على الأحزاب فقال: «اللّهمّ أنت منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللّهمّ اهزمهم وزلزلهم».

وعن أبي هريرة أنۀ رسول الله صلّی الله علیه و آله كان يقول: «لا إله إلا الله وحده وحده، أعزّ جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».

وعن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله حين أجلى عنه الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا». فكان كما قال صلّی الله علیه و آله فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم حتّى فتح عليهم مكّة(1). انتهى ما نقلناه من «مجمع البيان» باختصار طفيف.

وهكذا يتبيّن أنّ اليهود هم الذين بدأوا نقض العهد مع المسلمين، وبدلاً من أن لا ينصروا أعداء الرسول صلّی الله علیه و آله ألّبوا عليه الأعداء، فكان ما كان من هزيمتهم. ثمّ استأصلهم الرسول صلّی الله علیه و آله في غزوتي بني قريظة وبني النضير، وأخرجهم من جزيرة العرب.

ص: 47


1- مجمع البيان 8: 125 - 136

«وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا»، تصوّر الآية حال المسلمين آنذاك حيث كان عدد مقاتليهم لا يزيد على ثلاثة آلاف، بينهم منافقون ومن في قلوبهم مرض، وفي الجانب الآخر عشرة آلاف مقاتل، قد تعاهدوا على إبادة المسلمين واستئصالهم، وفيهم من الشجعان أمثال عمرو بن عبدود العامري.

و«الزيغ» هو الميل والانحراف، فإذا احتضر الإنسان وحضره الموت مالت عينه إلى أعلى فيقال: زاغ بصره. والآية تصوّر المسلمين وكأنّهم قد حضرهم الموت. والمراد ب_«القلوب» الأرواح ، و «بلوغها الحناجر» أيضاً كناية عن حالة الاحتضار.

وهذا التوصيف يبيّن بوضوح غاية الخوف والهلع الذي أصاب المسلمين، ويبدو ذلك واضحاً حين خاطبهم عمرو مطالباً النزال، بما معناه: أليس تزعمون أنّ الجنّة مصير قتلاكم، فلماذا لا تقدمون لأبعثكم إلى الجنّة؟ وكلّما طلب منهم الرسول صلّی الله علیه و آله أن يبرزوا له، لم يجبه أحد إلا أمير المؤمنين سلام الله عليه.

«وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا» الألف للإطلاق، أُتي به لتعادل القوافي. والمراد أنّهم ظنّوا بالله ظنّ السوء، وبأنّه تعالى تخلّى عنهم وخذلهم. والخطاب للمسلمين، وبالطبع لم يكن كلّهم بهذه المثابة، وسيأتي في الآيات التالية الثناء على بعضهم، حيث أبلوا في هذه المعمعة بلاءً حسناً. ولكنّ المتوقّع من المؤمنين أن لا يتزعزع إيمانهم مهما صعبت الظروف، والله تعالى يبتلي المؤمنين في مثل هذه الظروف العصيبة، ليتبيّن الصادقون في ما عاهدوا الله عليه. وكما قال أمير المؤمنين علیه السّلام «في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال». (1)

وأهون ما حدث لهم من الظنّ السيّئ بالله تعالى هو الخذلان ولعلّ منهم من

ص: 48


1- نهج البلاغه، صبحي الصالح: 207/646

ذهب في ظنّه إلى أبعد من ذلك. وهذا أمر طبيعي، فالإنسان إذا واجه المصاعب والمشاكل، قلّ إيمانه وقلّ من تراه ثابتاً على إيمانه في هذه الظروف. بل إنّ الظنّ بعدم النصرة ربّما عرض للرسل علیهم السّلام، كما قال تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْاسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ»(1) ولا شكّ أنّ الرسل لا يظنّون بالله ظنّ السوء، فلعلّ المراد بهذه الآية أنّهم ظنّوا أنّ المصلحة ربّما اقتضت أن يتأخّر النصر الإلهي.

«هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ» تقديم اسم الإشارة في هذا المقام يفيد الحصر، فكأنّه هو الابتلاء فحسب، مع أنّ الابتلاء أمر مستمرّ في حياة الإنسان، فكلّ ما يواجهه الإنسان في حياته من خير وشرّ، ونعماء وضرّاء، ابتلاء وامتحان. قال تعالى «وَنَبْلُوكُم بِالشَّرُ وَ الخيرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(2) ولكن حيث كان هذا الابتلاء عظيماً جدّاً، ولم يثبت من المؤمنين فيه إلا القليل، عبّر عنه القرآن كأنّه هو الابتلاء ولا غیر، كما تقول: زيد هو العالم، فيما إذا كان أعلم من غيره.

«وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً»، «الزلزال» من الزلّة، بمعنى استرسال الرجل من غير قصد، وتكرار اللفظ يدلّ على تكرّر الزلّة، وهو الاضطراب. والمراد إمّا تصوير حالتهم من الرعب، كأنّ فرائصهم ترتعد من الخوف كما قيل، أو المراد شدّة الامتحان حيث ابتُلوا باضطراب نفوسهم وتزلزل إيمانهم، كما قال تعالى: «أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسْتهُمُ الْبَاسَاء وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ»(3).

ص: 49


1- يوسف (12): 110
2- الأنبياء (21): 35
3- البقرة (2): 214

سورة الأحزاب (12-17)

«وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)»

«وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً» «الغرور»: الخداع والأخذ على غرّة، أي غفلة. وغرضهم من هذا الكلام التشكيك، وإلقاء الشبهة في أصل الدين، ومواعيد الله تعالى ورسوله حول انتصار الإسلام في النهاية، والغلبة على الكفر والشرك، ليصلوا بذلك إلى التشكيك في الوعود الغيبية المتعلّقة بالآخرة.

والتعبير بأنّ الوعد من الله ورسوله إمّا من باب الجري على ظاهر حالهم وهو الإيمان، أو من باب الاستهزاء، أي ما ادُّعي أنّه وعد من الله تعالى، وما قاله المدّعي للرسالة.

ولا غرابة في صدور هذه الجملة الدالّة على الكفر من المنافقين، لأنّهم أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر، فهم كفّار في الواقع. وإنّما جرت عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، والظروف أجبرتهم على إظهار الإيمان، ولذلك فهم يترصّدون الفرص ليبرزوا ما في ضمائرهم.

ص: 50

وأمّا «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ» فيحتمل أن يكون المراد بهم المنافقون أيضاً، فإنّ النفاق مرض في قلوبهم، فيكون العطف هنا للتفسير. ويؤيّد ذلك قوله تعالى في ذكر بعض أوصافهم: «فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً»(1).

ويحتمل أن يراد بهم قوم من المؤمنين ظاهراً وواقعاً، وليسوا منافقين، ولكن في قلوبهم مرض يزلزل إيمانهم وهو الشكّ، فهم ضعفاء في الإيمان، ويتزلزل إيمانهم في مواقع شدّة البلاء. ونحن نجد في المجتمع المسلم كثيرين من هذا القبيل، حيث يصدر منهم الكفر في مواقع الشدّة وهم في مواقع الرخاء مؤمنون يؤدون واجباتهم.

وكلّ مؤمن يضعف في مجال خاصّ من الامتحان، فهناك من يفقد إيمانه إذا ابتلي بالمال. وهناك من يحتفظ به في هذا المجال مهما اشتدّ البلاء، ولكنّه يضعف في مجال الشهوة. وهناك من يضعف في مجال الرئاسة والسلطة. وهكذا.

والبلاء المذكور هنا من أشدّ ما ابتلي به المؤمنون في المدينة، فلا غرابة إذا صدر الكفر من بعض ضعفاء الإيمان وإن لم يكونوا من المنافقين.

ولعلّ القصد من هذه الآية، تنبيه المؤمنين على أنّ هناك منهم من في قلبه مرض، وأنّ علامة هذا المرض أنّه في مثل هذه الظروف العصيبة، يصدر منه مثل هذه الأقاويل. وهذا التنبيه ينفع المؤمنين عامّة بما فيهم ذوو الأمراض، فإنّ عليهم أن يعالجوا أنفسهم، ويزيلوا الشكّ عن قلوبهم قبل أن تتبيّن أمراضهم لسائر الناس، فإنّ هذه الأمراض لا بدّ من أن تظهر آثارها ولو بعد حين، ولو لم تظهر في هذه الدنيا، فستظهر يوم القيامة.

ص: 51


1- البقرة (2): 10

«وَإِذْ قَالَت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» هؤلاء قوم من المنافقين لم يكتفوا بإظهار الكفر ، بل أخذوا يثبّطون عزائم المؤمنين ويخوّفونهم. وممّا قالوه، هذه الجملة: «يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ»، «المقام» إمّا اسم مكان، أي محلّ الإقامة، وإمّا مصدر ميمي بمعنى الإقامة. والمعنى: لا يمكنكم الإقامة في هذا البلد فاخرجوا منه، أو لا يمكنكم الإقامة على هذا الدين، فارجعوا عنه.

و «يثرب» اسم قديم لمدينة الرسول صلّی الله علیه و آله. هجر هذا الاسم بعد أن هاجر إليها الرسول، فقيل لها: «مدينة الرسول»، ثمّ اختصر فقيل لها: «المدينة» وهذا القوم اختاروا الاسم القديم في إشارة إلى الرجوع إلى العهد البائد. وأنّه لم يبق الرسول ولا مدينته. وأنّ كلّ ما وعد به الرسول صلّی الله علیه و آله أصبح لاغياً بهجوم هذا الجيش العرمرم، ومحاصرتهم للمدينة.

«وَيَسْتَئذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ»، هؤلاء طائفة أُخرى من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، جاءوا إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله واستأذنوه في اعتزال الحرب، واعتذروا عن الحضور بأنّ بيوتنا عورة و «العورة» مصدر بمعنى العيب والخلل، ويُطلق على نفس ما به الخلل مبالغة، أو مخفّف من عورة - بكسر الواو - أي بها عوار وخلل. والمراد أنّها غير محصّنة، فيتمكّن منها الأعداء والسرّاق ولا يمكننا تركها، ولعلّهم كانوا خارج المدينة، فأظهروا الخوف على بيوتهم من الكفّار.

«وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَاراً» وهكذا ينزل الوحي يفضحهم ويظهر كذبهم، فبيوتهم ليست بذات عورة، وإنّما يريدون الفرار من الحرب، وما أقبح الفرار من الحرب والعدوّ قد أحاط بالبلد!

«وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَاتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيراً»

ص: 52

الضمير في «أقْطَارِهَا» إمّا أن يعود إلى بيوتهم، أي لو دخل الأعداء عليهم من أقطار بيوتهم، أو يعود إلى المدينة، فالمعنى أنّه لو دخل الأعداء المدينة حال كونهم فيها. «ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ»، أي طلب منهم الأعداء الفتنة؛ و«الفتنة» تطلق على الارتداد عن الدين، وربّما يفسّر هنا بالقتال. «لآتَوهَا» أي لأعطوها. وقرأها بعضهم «لأتوها» أي عملوا بها. «وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلا يَسِيراً»، أي يسرعون إلى قبول هذا الطلب ولا يصبرون إلا قليلاً.

وفي المراد بهذه الجملة اختلاف. والذي يقوى في النظر، أنّ المراد بها بيان جبن القوم وضعف إيمانهم، بحيث لو دخل الأعداء عليهم وطلبوا منهم الارتداد عن الدين، لاستسلموا لهم من دون تريّث، فهؤلاء لا يعتمد عليهم في بقاء الإسلام ونصرة الدين. فالغرض هو عدم الاكتراث بمثل هؤلاء، حتّى لا يؤثّر ضعفهم وتخاذلهم في صفوف المسلمين. وفي الآيات التالية ما يؤيّد هذا المعنى.

«وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ» إشارة إلى بيعتهم مع الرسول صلّی الله علیه و آله، فإنّها تعتبر بيعة ومعاهدة مع الله تعالى. ومعنى «البيعة» هو التضحية بالمال والنفس في سبيل الدين، كما قال تعالى: «إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1). ف_«البيعة» هو البيع والمؤمن ببيعته مع الرسول صلّی الله علیه و آله يبيع الله نفسه وماله في مقابل أن تكون له الجنّة. والبيعة مع الرسول صلّی الله علیه و آله معاهدة مع الله تعالى. و «تولية الدبر» بمعنى الفرار.

ص: 53


1- التوبة (9): 111

«وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئولاً»، فالمعاهدة مع الله تعالى لا يمكن التسامح فيها ونسيانها، والله تعالى يسأل الإنسان عمّا عاهد الله عليه يوم القيامة. وهذه الآية ممّا يؤكّد جبن القوم وفرارهم من الحرب.

«قُل لَنْ يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِنَ المَوْتِ أوِ الْقَتْل وإذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً» يأمر الله تعالى رسوله بأن يحذّرهم وينبّههم بأنّ فرارهم من الموت أو القتل لا ينفعهم. وليس المراد: أنّ الإنسان لا ينبغي أن يفرّ من عوامل الموت كالمرض، أو عوامل القتل كبطش العدوّ ، إذ لا شكّ أنّ ذلك يفيد في بقاء الإنسان مدّة أطول. ومن الواضح: أنّ الإنسان يجب عليه عقلاً وشرعاً، أن يحاول الإبقاء على حياته، بل المراد: أنّ الفرار من الموت أو القتل لا ينفعكم طويلاً.

ولذلك عقّبه بقوله: «وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً»، أي إنّ تمتّعكم بعد ذلك ليس إلا في الحياة الدنيا، وهو مهما طال، فإنّه قليل إذا قيس بالحياة الآخرة، فلا ينفع ذلك، بل يضرّ، لأنّكم تشترون غضب الله وعذابه، حيث تتركون الواجب من الدفاع عن الدين، بأمر تافه وهو التمتّع بالحياة الدنيا عدّة أيام أو عدّة سنين.

وبذلك يتبيّن ضعف ما في بعض التفاسير، من أنّ المراد بيان أنكم لا يمكنكم المقابلة مع قضاء الله وقدره، فالفرار لا ينفعكم، فإن كان الله تعالى قضى عليكم بالموت، فتموتون حتّى لو تعالجتم عن المرض، وإن قضى عليكم بالقتل، فستقتلون حتّى لو فررتم عن المعركة.

وهذا غير صحيح، وقد حكي عن أمير المؤمنين علیه السّلام أنّه كان جالساً بجانب حائط مائل، فلمّا نُبّه على ذلك، قام وانتقل إلى موضع آخر. فقيل له: يا أميرالمؤمنين هل تفرّ من قضاء الله ؟ قال علیه السّلام: «أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ»(1).

ص: 54


1- بحار الأنوار 5: 97

ومعنى ذلك أنّه لا يريد الفرار من قضاء الله تعالى إلى موضع لا يحكم فيه قضاء الله، فإنّ هذا الموضع أيضاً تابع لحكمه وقضائه، لكن ربمّا لا يكون هناك قضاء حتمي بالموت في هذه الساعة، فلا مبرّر للبقاء في موضع الخطر. ولو بقي الإنسان، فمات بهذا السبب، فالمقضي أنّه يموت بسبب فعله، ويؤاخذ على ذلك عرفاً وشرعاً. فالصحيح في تفسير الآية ما ذكرناه، والله العالم.

«قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةٌ»، هذا بيان آخر لعدم الجدوى في الفرار من الموت، وهو أنّكم إذا فررتم من القتال - خلافاً لأمر الله تعالى - فإلى من تلجؤون إن أراد الله تعالى أن يعاقبكم، فأراد بكم سوءاً، ومن يمكنه أن يعصمكم من عذابه ؟! وكذلك ليس هناك من يمنع الله تعالى من إرسال رحمة إليكم إن أرادها.

والظاهر: أنّ هنا تقديراً، أي من يمنعكم من رحمته إن أراد بكم رحمة، فالمقدّر يدلّ عليه الفعل المذكور: «يَعْصِمُكُمْ»، نظير قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ»(1) أي والبرد.

«وَلا يَجِدُونَ هَم مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلا نَصِيراً»، «مِن دُونِ اللِه»، أي بدلاً عنه، فلا ينافي أن يكون لهم وليّ، عيّنه الله تعالى أو أجاز ولايته. و«الوليّ» هو الذي يقوم بالأمر ويغنيك عن التوسّل بغيره، و«النصير» من يعاونك ويساعدك لبلوغ المقصود. فالمعنى أنّ كلّ من يفرض كونه وليّاً لكم أو نصيراً، فإنّما يعمل بإرادته تعالى وبإذنه، وليس في الكون وليّ أو نصير يستقلّ بإرادته.

ص: 55


1- النحل (16): 81

سورة الأحزاب (18-20)

«قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلً (20)»

«قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ»، «قد» حرف تحقيق وتأكيد، وإن كان الغالب فيه مع الفعل المضارع هو التقليل، ولكنّه قد يأتي للتحقيق أيضاً، ومنه ما في هذه الآية. ولعلّ الإتيان بالفعل المضارع، للإشارة إلى استمرار وجود المعوّقين وعدم اختصاصهم بهذه الفترة. و «المعوّقون» هم المثبّطون عن القتال، والعائق هو المانع، ف_«المعوّق» من يوجد الموانع في طريق الجهاد والمجاهدين. والكلام مسوق للتهديد، وناهيك في التهديد، القول بأنّ الله تعالى يعلمهم.

«وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا»، قيل: المراد ب_«إخوانهم» الذين هم مثلهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض. ويحتمل أن يكون المراد إخوانهم في أصل الدين، أي المؤمنين، فهم إخوان حسب الظاهر، باعتبار أنّ كلّهم داخلون في ربقة الإسلام، فهم يحاولون إعاقة المحاربين من المؤمنين وتثبيطهم عن القتال، وربّما يجدون آذاناً صاغية من ضعفاء النفوس والإيمان. ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ الخطاب للمؤمنين وأنّه تعالى اعتبر المعوقين منهم.

وقوله: «هَلُمَّ» اسم فعل يستوي فيه الجمع والمفرد والتأنيث والتذكير عند أهل

ص: 56

الحجاز، كما قيل. وهو بمعنى: تعالوا وأقبلوا إلينا. يحرضونهم بذلك على طلب العافية وترك الجهاد.

«وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلاً» بيان لجبنهم. و«البأس» هو الحرب وأصله الشدّة. والظاهر: أنّ الاستثناء يراد به الموارد القليلة التي كانوا يشاركون فيها في الجهاد، أو أنّهم يشاركون قليلاً من الوقت ويتركون، ولو كانوا يمتنعون عن المشاركة نهائياً، لكان أفضل، فإنّهم بتركهم للجهاد أثناء الحرب، يجبنون الآخرين، وفي القوم سمّاعون لهم. وربّما قيل: إنّ المراد قلّة من يشترك منهم، وهو بعيد عن ظاهر اللفظ.

«أشِحَّةٌ عَلَيْكُمْ» حال من الضمير في «يَأْتُونَ». وهو جمع شحيح. و«الشحّ» المنع، فيحتمل أن يكون المراد به البخل بالمال لبيان مقاطعتهم للمجتمع الإسلامي وعدم اهتمامهم بمصالحه، فإنّ عدم المشاركة في الدعم الاقتصادي الضرورات المجتمع، يعدّ من أفظع أنحاء المقاطعة وعدم الاهتمام. والذي يعيش في المجتمع وينعم بخيراته، يفرض عليه قانون التعايش الاجتماعي، أن يشارك الآخرين همومهم الاجتماعية. وقد بيّن الله سبحانه هذه الحالة في قوله تعالى: «وَإِنَّ مِنكُمْ لمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلُ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَافُونَ فَوْزاً عَظِيماً»(1).

ويحتمل أن يكون المراد به البخل بالنفس، فيكون بياناً لقوله تعالى: «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلاً» أي يمتنعون من بذل النفس في سبيل الدين أو لمصلحة

ص: 57


1- النساء (4): 72 - 73

المجتمع. ويؤيّد هذا الاحتمال بيان جبنهم في الجملة التالية. ويحتمل إرادة الأمرين معاً، أي البخل بالمال والامتناع من المشاركة في الدفاع عن الدين وعن الوطن.

«فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ»، الآية تتعرّض لبيان حالة الخوف فيهم بأبلغ بيان، وهو أنّهم - حال الخوف من الحرب ومهاجمة الأعداء - كمن حضره الموت، ووصل به الأمر إلى أن غشي عليه، فتراه تدور عيناه لا تستقرّان على حال. وقوله: «يَنظُرُونَ إِلَيْكَ» يُراد به - على الظاهر - أنّك تراهم ينظرون إليك ولكنّهم لا يرونك، لما أصابهم من الذهول، فالخطاب ليس للرسول صلّی الله علیه و آله كما يتوهّم، بل لكلّ مخاطب أو سامع.

«فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِالْسِنَةٍ حِدَادٍ»، أي إذا انتهت الحرب، وذهب ما يستوجب الخوف، استعادوا شجاعتهم، فهم كما قال الشاعر:

أسد عليّ وفي الحروب نعامة

و «السلق» له معان متعدّدة، والمراد به هنا بسط اللسان بالكلام الشديد. و«الحداد» جمع حديد بمعنى الشيء القاطع.

ويروى عن بعضهم حين تقسيم الغنائم، أنّه كان يعترض على الرسول صلّی الله علیه و آله ويطالبه بالعدل بتعبير غاية في الطيش وقلّة الأدب(1). ومن هذا القبيل هذا المغشي

ص: 58


1- في سنن النسائي عَن جَابر قالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله صلّى الله عليه و آله بالجعْرَانَة مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنِ، وَفِي ثَوْب بلال فضة وَرَسُولُ الله صلّى الله عليه و آله يقبض منْهَا ويُعطي الناسَ، قال: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلُ قَالَ: «وَيْلكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إذا لَمْ أَعْدل، لقدْ حَبْتَ وَخَسَرْتَ إِنَّ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» فَقالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ «دَعْنِي أَقتَلُ هَذَا المُنافق». قَالَ: «مَعَاذ الله أنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّي أقتَلُ أصْحَابي، إنَّ هَذا وَأَصْحَابَهُ يَقرَؤُونَ القُرْآن لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَهُمُ مِنَ الرَمِيَةِ». (سنن النسائي 7: 286)

عليه من الموت الذي استعاد شجاعته بمجرد انتهاء الحرب، فهو الآن يطالب بحقّه، لأنّه كان حاضراً في المعركة، وإن كان دوره هو التثبيط والتخويف.

«أشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ» حال من الضمير في «سَلَقُوكُمْ» أي يبسطون إليكم ألسنتهم حال كونهم يبخلون عليكم بالخير. وهكذا يعود إلى بيان صفة الشحّ فيهم فهم هنا يشحّون عليهم بالخير ، لا بأموالهم وأنفسهم. والمراد ب_«الخير» ما غنمه المسلمون بجهادهم وتعبهم، فهو لا يقتصر على منع ماله، بل لا يريد وصول أموال أُخرى إليهم، وإن كان ذلك بفضل جهودهم ،دونه، وهذا غاية البخل والشحّ.

«أَوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أعْمَالَهُمْ»، يبدو أنّ هذه الجملة تبيّن ما هو السبب في هذه المقاطعة مع المجتمع الإسلامي المعطاء الذي ينعم المنافقون في ظلّه؟ السبب في ذلك أنّهم لم يؤمنوا وإنّما أسلموا، أي استسلموا للواقع المفروض عليهم قهراً، وهو غلبة النظام الإسلامي على كيانهم الاجتماعي. وهذا الإسلام لا يستدعي إيمان القلب الباعث على حب ّالخير للإسلام والمسلمين، والتضحية في سبيل الله، فهم كما قال تعالى: «قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1). ف_«الإيمان»، طمأنينة في القلب، و«الإسلام» يتمّ بمجرّد التلفّظ بالشهادتين.

إذن فالمنافقون لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم. و«الحبط» داء يصيب الدابّة فتأكل كثيراً وينتفخ بطنها ولكنّها لا تنتفع به، بل تموت بذلك. وإحباط العمل مأخوذ منه، حيث إنّ المنافق أو الذي في قلبه مرض، ربّما يعمل كثيراً ولكنّه لاينتفع بعمله، لوجود هذا الداء.

ص: 59


1- الحجرات (49): 14

وقد ذكر الله تعالى من الأدواء التي تستوجب الحبط:

الشرك، قال تعالى: «وَلَوْ اشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(1) .

ومنها الكفر بالإيمان: «وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»(2). ولعلّ المراد به الكفر في مقام العمل بما آمن به ظاهراً، وينطبق على حالة النفاق.

ومنها إرادة الحياة الدنيا وزينتها: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(3) ولعلّ المراد به حصر الهدف في المنافع الدنيوية.

ومنها الارتداد عن الدين: «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلِئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(4). وهناك عناوين أخرى تتّحد مع ما ذكر، أو تستلزمه.

وحذّر الله سبحانه من الجهر بالقول مع الرسول صلّی الله علیه و آله، لأنّه ربّما يحبط الأعمال. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضِ أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ»(5).

وربّما يقال: إنّ المنافق والذي لم يؤمن - كما عبّر به في هذه الآية - ليس له عمل حتّى يحبط عمله. فما هو المراد ؟ بل هناك من الآيات ما تدلّ على إبطال

ص: 60


1- الأنعام (6): 88
2- المائدة (5): 5
3- هود (11): 15- 16
4- البقرة (2): 217
5- الحجرات (49): 2

أعمال الكافرين أيضاً. والصحيح: أنّ الإنسان لا يخلو من عمل، يستحقّ عليه الجزاء الحسن - في حدّ ذاته - وقد وعد الله سبحانه أن يرى الإنسان نتيجة أعماله صغيرة كانت أم كبيرة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ»(1) وغير ذلك من الآيات، وهي كثيرة. ولكنّ الله تعالى يبطل عمل الكافر والمشرك والمنافق، كما قال عزّ من قائل: «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءٌ مَنثُوراً»(2). وغير ذلك من الآيات، وهي كثيرة أيضاً.

«وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً»، لا شكّ في أنّ حبط العمل وإبطاله، أمر يخالف طبع العمل، وقد تكرّر التأكيد على هذا الأمر في الكتاب العزيز، وأنّ العمل طائر الإنسان يلازمه ولا يفارقه، والوجدان يحكم بذلك أيضاً، فإنّا نجد من أنفسنا أنّ الإنسان ما لم يفعل الشيء ولم يقل القول، فإن الأمر بيده، فإذا فعل وقال، فإنّه لا يمكنه إعادة الأمر على ما كان عليه، مهما حاول، ومهما أُوتي من حول وقوّة، وفكر ودهاء.

وليس هناك شيء يبطل العمل، وكلّ ما يفعله الإنسان في هذا المجال إنّما هو لإبطال مفعوله السيّئ، كدفع الدية والكفّارة والقضاء والاعتذار والاستغفار وغير ذلك، حتّى القصاص وإجراء الحد، فإنّهما أيضاً من تبعات العمل، ولا يستلزمان زواله كما هو واضح.

ومن هنا عقّب الأمر في هذه الآية، بأنّ ذلك - وإن كان مخالفاً لطبيعة العمل - إلا أنّه على الله يسير وهو ليس أمراً مستحيلاً، في حدّ ذاته، كما أنّ الله تعالى

ص: 61


1- الزلزلة (99): 7-8
2- الفرقان (25): 23

يكفّر سيّئات المؤمنين الذين اجتنبوا الكبائر، فالحبط أمر معاكس للتكفير، وهو على الله يسير.

«يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا»، المشهور بين المفسّرين قديماً وحديثاً أنّ هذه الجملة لبيان غاية جبنهم. وذكروا في وجه دلالتها على ذلك أنّ المراد بيان أنّهم بعد أن ولّى الأحزاب راجعين، كانوا يحسبون أنّهم باقون على مشارف المدينة لغاية خوفهم.

ولكن من الواضح أنّ هذا يدلّ على عدم اطلاعهم لا على جبنهم. وفي قراءة منسوبة إلى ابن مسعود على ما رواه الطبري في «جامع البيان»: «يحسبون الأحزاب قد ذهبوا، فإذا وجدوهم لم يذهبوا ودّوا لو أنّهم بادون في الأعراب»،(1) وهذه القراءة مع أنّها لا يصحّ إسنادها إليه، وهو بعيد عن السياق، إلا أنّها تدلّ على وجود الاختلاف والشكّ في معنى الجملة حتّى في الصدر الأوّل.

وهناك محاولات لحملها على معنى آخر، وهي من البعد بمكان لا نرجّح ذكرها. وحملها بعضهم على أنّ هذا الحسبان منهم من جهة تمنّيهم أن يقضي الأحزاب على المؤمنين، لا من جهة الخوف. وهو أيضاً بعيد.

والظاهر: أنّ ما فهمه الأكثر هو الصحيح، ولكن لا بمعنى جهلهم بواقع الأمر، بل بمعنى أنّهم لخوفهم وجبنهم يتصوّرون الأحزاب باقية حول المدينة، فلا يفارقهم الخوف، وهذه طبيعة الإنسان الجبان، فهو نظير قوله تعالى حول المنافقين أيضاً: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ»(2) وتشهد لهذا الاحتمال الجملة التالية.

ص: 62


1- جامع البیان 21: 91
2- المنافقون (63): 4

ولكن ربّما يثار سؤال وهو أنّه لماذا هذا الجبن والخوف؟ ولماذا أُصيب به المنافقون؟ وما هي العلاقة بين الجبن والنفاق؟ إذ يبعد أن يكون ذلك من باب الاتفاق. والموسومون بالنفاق لم يسمع عنهم جبن واضح قبل ذلك. ولعلّ بعضهم كان في أيّام شركه شجاعاً أو لم يكن من الجبناء، فما باله جبن بعد نفاقه؟

ولعلّ السرّ في ذلك يعود إلى اضطرابهم النفسي نتيجة التناقض الذي يشعرون به في قرارة أنفسهم بين ما يظهرونه من الولاء والإيمان، وما يبطنونه من الكفر والعداء. وهذا الاضطراب ربّما ينجرّ إلى ازدواج الشخصية في الإنسان، لأنّه يضطرّ إلى التلوّن في كلّ موقف، فهو يدخل المسجد مع المؤمنين ويصلّي مثلهم، وإذا رفعوا شعاراً اضطرّ إلى رفعه مجاراة لهم، وهو في باطنه لا يعتقد بذلك بل يعتقد خلافه، خصوصاً إذا كان المنافق ممّن لا يظهر العداء أبداً، ويتكتّم إلى درجة يجهل حقيقته كلّ المسلمين، بل ربّما تخفى على الرسول صلّى الله عليه و آله لولا الوحي، كما ورد في القرآن الكريم. والواقع أنّ أكثر المنافقين وأخطرهم كانوا من هذا القبيل، وسيأتي بعض الكلام حوله في سورة المنافقين.

هذا، مضافاً إلى أنّ كفرهم في الباطن يشعرهم أنّ التضحية في سبيل هذا الدين إتلاف للنفس في غير موضعه، فلا وجه للمخاطرة بالنفس للدفاع عن مبدأ لا يعتقدون به. وهذا الاعتقاد لا شكّ أنّه يوجب الجبن والحذر، والتخوّف من الورود في أيّ مقام يحتمل فيه الهلاك، فكيف بهم إذا أُحيط ببلدهم من كلّ جانب؟!

«وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ»، هذه

ص: 63

الجملة أيضاً تحكي عن جبنهم وخوفهم والمعنى أنّهم يتمنّون لو تكرّر الغزو، أن لا يكونوا في المدينة، بل يكونوا في البادية، وبين الأعراب يسألون هذا وذاك ممّن يأتي من ناحية المدينة عمّا آل إليه أمر الحرب.

و «بادون» من البدو في مقابل الحضر، يطلق على سكّان البادية، وهو من بدا يبدو بمعنى ظهر، لكون حياتهم في البرّ، فهم ظاهرون لا يتستّرون بالمباني.

«وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَا قَاتَلُوا إلا قليلاً»، هذه الجملة تقلّل من شأنهم في الحرب، وتبيّن أنّهم لو كانوا فيكم لم يغنوا عنكم شيئاً، لأنهّم لا يقاتلون إلا قليلاً. ولعلّ الاستثناء من جهة وجود بعض منهم كان يقاتل بدواع وطنية أو قومية، حتّى إنّ بعضهم قتل في بعض الغزوات. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ هناك جمعاً من الأصحاب نسمع عن وجودهم في كلّ الغزوات أو أكثرها، ولم نسمع بهم قاتلوا أو بارزوا أحداً، أو قتلوا أو جرحوا أو جُرحوا - بضمّ أوّله -، ولا يبعد شمول هذه الآيات لهم.

ص: 64

سورة الأحزاب (21-24)

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)»

«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، الخطاب للمؤمنين، وفيه تعرّض لبيان حالهم وحثّ لهم على الاقتداء والتأسّي بالرسول صلّی الله علیه و آله بعد الانتهاء من التنديد بالمنافقين ومرضى القلوب.

ثمّ إنّ الجملة مؤكّدة بلام القسم و «قد». ويفهم من التعبير بفعل الماضي: «كَانَ لَكُمْ» توجيه اللوم إلى المؤمنين على عدم التأسّي به صلّی الله علیه و آله ، حيث يفيد هذا التعبير الاستغراب من تناسي ذلك، فإنّ هذا الأمر لا يحتاج إلى أمر ينزل من السماء، بل المؤمن بطبعه يميل إلى التأسّي بالرسول صلّی الله علیه و آله. وهذه الآية من هذه الجهة نظير قوله تعالى: «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ»(1).

وقوله: «فِي رَسُولِ الله» على ما في «الكشّاف» - : إمّا بمعنى أنّه صلّی الله علیه و آله بنفسه أُسوة، و«الأُسوة» مصدر بمعنى المفعول، أي هو مقتدى حسن لكم. وهو نظير قول القائل: في البيضة منّ من حديد - وهي ما يجعله المحارب على رأسه - مع أنّه هو نفس الحديد، وإمّا بمعنى أنّ فيه خصلة يجب أن يقتدى به، وهي جهاده وتحمّله

ص: 65


1- آل عمران (3): 101

المشاقّ في سبيل الله تعالى. (1) ولكنّ الأوّل هو المتبادر.

«لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً» يظهر من بعض التفاسير أو معظمها أنّ هذه الجملة تقتضي تخصيص التأسّي بالرسول صلّى الله عليه و آله بفرقة خاصۀة من المخاطبين، وهم الواجدون لهذه الصفات، إمّا لأنّ غيرهم لا يتأسّى بالرسول، أو لأنّه لا ينتفع به، نظير قوله تعالى: «إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ»(2) ، مع أنّه ينذر الجميع وهو الواجب عليه، فالتخصيص - كما يقال - من جهة أنّ غيره لا ينتفع بالإنذار. وكذلك التأسّي هنا لا ينفع إلا من كان يرجو الله واليوم الآخر ويذكر الله كثيراً.

ولكنّ الظاهر: أنّ المراد بالآية، ليس تخصيص التأسّي بفريق خاصّ، بل المراد أنّ الرسول أُسوة في طريق حصول هذه الصفات، فمن أراد منكم أن يعمل عملاً برجاء التقرّب إلى الله تعالى، وتحصيل ثواب الآخرة، وأن يكون ممّن يذكر الله تعالى كثيراً، فليتأسّ بالرسول فليس فيه تقييد لكونه أُسوة بفرقة خاصّة. وهو نظير قوله تعالى: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ»(3) . ولو فرض كونه ظاهراً في التخصيص، فلا يبعد أن يقال: إنّ العنوان يشمل جميع المسلمين المخاطبين، وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ المراد ليس - كما يقوله بعضهم - خصوص من لا يرجو إلا الله، ولا يعمل إلا له، ولا يريد الدنيا، بل يريد الآخرة فحسب، ولا الذي لا يفتؤ يذكر الله سبحانه، حتّى لا ينطبق إلا على الأوحدي من الناس، بل المراد هو من يكون من

ص: 66


1- الكشّاف 3: 248
2- يس (36): 11
3- آل عمران (3): 31

عامّة المؤمنين، فيرجو الله ورحمته، ويعمل متقرّباً إليه، ويصلّي الفرائض. وهذا المقدار يكفي في صدق كونه يذكر الله كثيراً، فقد ورد في الحديث أنّ تسبيحة الزهراء - سلام الله عليها - بعد الصلاة من الذكر الكثير(1).

الثاني: أنّ التعبير مبنيّ على دعوى أنّ المخاطبين كلّهم من هذا القبيل، أي يرجون الله واليوم الآخر ويذكرون الله كثيراً، فيقول لهم: أنتم حيث ترجون الله و ... اعلموا أنّ الطريق للوصول إلى الهدف هو التأسّي بالرسول صلّی الله علیه و آله . وهذه طريقة غاية في اللطف، أن يعتبر المتكلّم مخاطبيه الذين يريد تأديبهم، واجدين لصفة الكمال الذي يدعوهم إليه، بدلاً من أن يعتبرهم فاقديه وأنّه يحاول سوقهم إليه. فهو نظير قوله تعالى نقلاً عن شعيب علیه السّلام: «إِنِّي أريكُمْ بِخَيْرِ»(2).

ومثل ذلك ينبغي أن يلاحظ في البرامج التعليمية، والأفلام التي تحاول إصلاح الوضع الاجتماعي، فإنّ الأفضل هو تمثيل الدور المطلوب، والإيحاء بأنّ الحالة السائدة للمجتمع هي الصلاح، دون ما نجده في أكثر الأفلام من تمثيل الدور الفاشل، والتنديد بالمجتمع بغية إصلاح الوضع الفاسد.

وعلى كلّ حال، فالآية تدل على أنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله أُسوة في العمل، من أجل التقرّب إلى الله تعالى، والحصول على أعلى درجات الكمال في اليوم الآخر ويوم يقوم الأشهاد، كما هو أُسوة أيضاً في كونه ذاكراً الله تعالى كثيراً، بل لم يكن يغيب عنه لحظة حتّى في حياته الاعتيادية، وكان ينتهز كلّ فرصة لسوق المجتمع إلى الانصهار في حبّه تعالى، والتفاني في سبيله، والجهاد لإعلاء كلمته.

هذه هي الجهة التي تركز عليه الآية الكريمة من سيرة الرسول صلّی الله علیه و آله. ولكنّ

ص: 67


1- راجع: الكافي: 2: 4/50
2- هود (11): 84

المفسّرين يؤكّدون على جانب شجاعته في الحرب، وتحمّله الشدائد والمشاقّ في مقابلة الأعداء، وخصوصاً ما ظهر منه في غزوة الأحزاب، حيث كان يشارك المسلمين في حفر الخندق بنفسه، بل يعمل أكثر ممّا يعمله الآخرون، وكان يقوي عزائم المجاهدين. وقد برز منه صلّی الله علیه و آله المعجزات في تلك الأيّام، وورد بهذا الشأن روايات كثيرة. ولكنّ الآية - كما ذكرنا - تركز على الجانب الاعتقادي والروحي في سيرة الرسول صلّی الله علیه و آله، فالتأسّي به إنّما هو من حيث كونه داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً في الطريق إلى الله تعالى.

«وَ لمَّا رَءَا المُؤمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ»، يتعرّض هنا لبيان حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وأنّهم لم يتزلزلوا ولم يزعزعهم جيش الكفر عن إيمانهم. والظاهر: أن المراد بهم الخواصّ من المؤمنين، لقوله تعالى بشأن عامّتهم: «وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً». ويمكن أن يكون المراد ب_«الزلزال»، الغربلة وهي الحالة التي تحصل للمجتمع، حين بروز الشدائد، حيث تظهر جواهر النفوس، كما قال أمير المؤمنين علیه السّلام: «في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال».(1)

وعلى كلّ حال، فهؤلاء هم المؤمنون الصادقون. ولعلّ المراد ب_«الوعد» المشار إليه، ما بلغهم بالوحي من السماء أنّ الله سيبتليهم، كما ابتلي من قبلهم، والآيات في ذلك كثيرة جدّاً، كقوله تعالى: «أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(2).

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين من الاختلاف بين وعد الله ووعد رسوله

ص: 68


1- نهج البلاغة، صبحي الصالح: 207/646
2- العنكبوت (29): 2-3

وتأويل كلّ منهما بشيء، فبعيد عن ظاهر الآية غاية البعد، بل هو وعد الله الذي بلّغه الرسول صلّی الله علیه و آله ومن غاية تكريم الله رسوله وعبده المخلص أن يعتبر أمره أمره، ونهيه نهيه، ووعده وعده، وطاعته طاعته، وعصيانه عصيانه، وإيذاءه إيذاءه، وهكذا.

والحاصل: أنّ المؤمنين الصادقين في إيمانهم، لا ينزعجون برؤية الأحزاب المتحزّبة والمتجمّعة حول المدينة، يريدون استئصال الإسلام والمسلمين، وذلك لأنّهم لم يؤمنوا طمعاً في الدنيا وحطامها، بل اطمأنّوا بوعد الله ورسوله، وعلموا من دون ريب، أنّهم سيواجهون المشاكل الجسيمة، فكانوا ينتظرون مثل هذا اليوم العصيب، ليقابلوا الموت بصدور رحيبة وقلوب ملؤها العزم والإيمان، ولذلك ما زادتهم رؤية الأحزاب إلا إيماناً وتسليماً لأمر الله وقضائه.

ولا شكّ في أنّ بعض من أسلم آنذاك، قد تفرّس أنّ هذا الدين سيكون له شأن، وأنّه سيجمع العرب تحت راية موحّدة، ولم يدخلوا في الدين إلا طمعاً في الوصول إلى الدنيا، ولذلك لم يشتركوا في حرب من الحروب، بصدق نيّة وقوّة عزيمة، ولم تنلهم الحروب المتتالية بضرب ولا جرح، وهؤلاء هم الذين كانوا يخافون وينزعجون من رؤية الأحزاب على اختلاف مراتبهم وهممهم.

وأمّا الذين آمنوا لينالوا ثواب الله في الدار الآخرة، فيجدون في تحزّب الأحزاب، قرباً لما وعدهم الله ورسوله من الوصول إلى الكمالات المعنوية وتحصيل ثواب الآخرة، فلا يزيدهم إلا إيماناً وتسليماً. والإيمان عقيدة، والتسليم عمل نفسي، وهو أن يسلّم أمره إلى الله تعالى لا يريد لنفسه إلا ما أراده الله لها، وهو ممّا يستتبعه الإيمان إذا بلغ كماله.

ص: 69

«مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ»، بيّن الله سبحانه في هذه الآية حال المؤمنين الصادقين، ليكون أُنموذجاً لغيرهم من أهل ذلك الزمان، ومن يأتي بعدهم، ولتتمّ بهم الحجّة على غيرهم، ولئلا يقول أحد: إنّ التأسّي بالنبيّ صلّی الله علیه و آله غیر میسور لعامّة الناس، فضرب الله لهم المثل من عامّة المؤمنين. فهؤلاء رجال عاهدوا الله، كغيرهم ممّن ذكرهم سابقاً بقوله: «وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ»،(1) إلا أنّ أُولئك لم يفوا بعهدهم، وهؤلاء صدقوا في عهدهم. وفي التعبير ب_«الرجال»، إشارة إلى مروءتهم وشهامتهم.

وفي «الكشّاف»: أن تعدّي الصدق إلى ما عاهدوا عليه، إمّا بحذف الجارّ، أي صدقوا في ما عاهدوا، فيكون المفعول محذوفاً، أي صدقوا الله في ما عاهدوه عليه، أو أنّه مفعوله الصريح مجازاً، كأنّهم قالوا لعهدهم حين إنشائه: «سنفي بك» فصدقوه، يقال: صدقني أخوك وكذبني، إذا قال له الصدق أو الكذب. (2)

ولكنّ الظاهر: أنّ هذا لا يستلزم الوفاء، فإنّ التأويل الأوّل يقتضي أنّهم حينما عاهدوا الله تعالى لم يكذبوا ، بمعنى أنّهم لم يقصدوا عدم الوفاء، وليس هذا هو المراد هنا، وكذلك التأويل الثاني، فإنّه أيضاً بمعنى أنّهم لم يكذبوا حينما قالوا لعهدهم «سنفي بك»، وليس معناه أنّهم وفوا بالفعل.

وفي «معجم مقاييس اللغة»: أنّ الصدق أصل يدلّ على قوّة، يقال: صدقوهم الحرب، ورمح صَدق - بفتح الصاد - أي الصلب أو المستوي، ف_«الصدق» في العهد ليس بمعنى الصدق في القول، بل بمعنى نفس الوفاء به. (3)

ص: 70


1- الأحزاب (33): 15
2- الكشّاف 3: 549
3- معجم مقاييس اللغة 3: 339

والمراد ب_«العهد» إمّا البيعة مع الرسول صلّی الله علیه و آله، ويعتبره الله عهداً معه، كما قال - عزّ من قائل- : «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1)، وإمّا العهود العامّة التي أودعها الله في فطرة الإنسان أو أبلغهم بواسطة الرسل، كقوله تعالى: «الَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِى ءَادَمَ أن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ»(2).

وعلى كلّ تقدير، فإنّ هؤلاء المؤمنين صدقوا العهد ودافعوا عن النبيّ صلّی الله علیه و آله وعن الدين الحنيف، وجاهدوا في سبيل الله. ولا شكّ في أنّ أبرز مصاديقه هو بطل الإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السّلام.

«فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنتَظِرُ»، «النحب» قيل: إنّه النذر والعهد، فالمراد بالذي قضى نحبه هو الذي وفى بعهده، وثبت في الحرب إلى أن استشهد، إذ لو بقي حيّاً فالعهد باقٍ بحاله. وقيل: إنّ المراد ب_«النحب» هو الموت، يعبّر به عنه، لأنّه آتٍ قطعاً، فكأنّ الإنسان عاهد عليه. والمآل واحد.

وتوصيفهم بالانتظار، يدلّ على أن الشهادة في سبيل الله تعالى كانت غاية لهم، يتطّلعون إليها وينتظرونها.

«وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»، أي لم يغيّروا عهدهم ، ولم يجعلوا شيئاً موضعه. والإتيان بالمفعول المطلق «تَبْدِيلاً» يؤكّد ثباتهم أو ثبات خصوص المنتظرين منهم بأنّهم لم يبدّلوا أيّ تبديل. وهذه الصفة لا تنطبق على الذين فرّوا في الحروب، ولا على الذين نكثوا البيعة مع أمير المؤمنين علیه السّلام، إمّا بعد الرسول صلّی الله علیه و آله مباشرة بالنسبة لبيعة الغدير وإمّا البيعة بالخلافة بعد مقتل عثمان. فمن الغريب محاولة تطبيقه

ص: 71


1- الفتح (48): 10
2- يس (36): 60

على بعض الناكثين، بل إنّ بعضهم فسّره به خاصّة!.

وليعلم أنّ الثبات وعدم التبديل ليس حسناً دائماً، بل لا بدّ للإنسان من أن يكون متحوّلاً متغيّراً، متقدّماً إلى الأمام في العلم والعمل، ومواكباً لتطوّر الحضارة البشرية، وقد ورد في الحديث: «من استوى يوماه فهو مغبون»(1) وإنّما يحسن به أن لا يغيّر عهد الله تعالى، فإنّه ليس ممّا يعرضه التغيير أو التطوّر.

ثمّ إنّ في الآية تعريضاً بمن لم يثبت على صدقه، وإن كان صادقاً في بعض الأدوار، وينطبق ذلك على من بقي على صدقه في عهد الرسالة، ولكنّه بدّل الصدق والوفاء غدراً وخيانة بعده. وهكذا الإنسان تعرض عليه من أنواع الابتلاء ما لا يستطيع الثبات لديه.

ومن هؤلاء من بقي على العهد حتّى بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله شطراً من الزمان، ولمّا لمسوا عدل أمير المؤمنين علیه السّلام وتسويته بين السابقين واللاحقين، بدّلوا تبديلاً، وعدلوا عن الحقّ، ونكثوا العهد والبيعة، فكان عاقبة أمرهم خسراً.

وهناك روايات وردت في تطبيق الآية:

فقد روى في «مجمع البيان» عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن علي علیه السّلام قال: «فينا نزلت «رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ» فأنا والله المنتظر وما بدلت تبديلاً».(2)

وروى الصدوق قدّس سرّه في «الخصال» عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر علیه السّلام، عن

ص: 72


1- بحار الأنوار 68: 173
2- مجمع البيان 8: 145

أمير المؤمنين علیهماالسّلام - في حديث طويل يجيب عن أسئلة يهودي، يقول فيه -: «ولقد كنت عاهدت الله عزّ وجل ورسوله صلّی الله علیه و آله أنا وعمّي حمزة وأخي جعفر وابن عمّي عبيدة على أمر وفينا به الله تعالى عزّ وجلّ ولرسوله، فتقدّمني أصحابي وتخلّفت بعدهم، لمّا أراد الله عزّ وجلّ، فأنزل الله فينا: «منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»، حمزة وجعفر وعبيدة، وأنا والله المنتظر - يا أخا اليهود - و ما بدّلت تبديلاً».(1)

ولو لم ترد رواية في ذلك، فالتاريخ يثبت بوضوح أنّه علیه السّلام أبرز مصداق للآية الكريمة. ولكنّ القوم رووا عدّة روايات في تفسير الآية وتطبيقها، ولم يرد في شيء منها ذكره علیه السّلام وذكر في «الكشّاف» جماعة ليس فيهم أمير المؤمنين علیه السّلام نذروا أن يثبتوا عند القتال، فنزلت الآية فيهم! (2)

أقول: وغزوة أُحد خير مثال لثبات بعضهم!

«لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» . الظاهر: أنّ هذا تعليل لما يسند إلى الله سبحانه في هذه الحوادث، حيث إنّه هو الذي ابتلي المجتمع الإسلامي آنذاك بهذه البلايا، وأعدّ كلّ هذه العدّة من عوامل داخلية و خارجية ليظهر كلّ إنسان كوامنه فالهدف في ذلك أن يجزي الله الصادقين بصدقهم.

و«الجزاء» وإن كان كلّه تفضّلاً من الله ونعمة ورحمة، وليس لأحد على الله حقّ إلا ما جعله على نفسه، ولكنّه في مقام بيان نتيجة الامتحان، يركّز على أنّ

ص: 73


1- الخصال: 376؛ تفسير نور الثقلين: 4: 258
2- الكشّاف 3: 256

الجزاء يتبع العمل؛ فالصادقون يجزون بصدقهم. و«الباء» للسببية، فالصدق لمجازاتهم بالجنّة.

ثمّ إنّه لم يعلّق ذلك بالمشيئة، كما علّق بها العذاب، مع أنّه أيضاً معلّق عليها، وذلك لعدم اقتضاء المقام، بخلاف عذاب المنافقين، فإنّ المقام يقتضي تعليقه بها ، لحثّهم على التوبة، وبثّ روح الرجاء في النفوس، رحمة منه تعالى بعباده.

وقيل: إنّ في التعبير ب_«التوبة» دون «المغفرة» إشارة إلى أنّه يتوب عليهم إن تابوا. ولكن يحتمل أن يكون المراد، الرجوع عليهم بالمغفرة والرحمة وإن لم يستحقّوا ولم يتوبوا، وقد استبعد ذلك بعض المفسّرين بأنّ الله جعل العذاب جزاءً قطعياً للكافرين، وجعل موضع المنافقين في النار الدرك الأسفل، فهم أسوأ حالاً من الكفّار، فكيف يمكن أن يتوب عليهم من دون توبة؟!

والجواب: أنّه تعالى يقول: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ»(1)، ولا شكّ أنّ هذا من دون توبة، وأمّا معها، فيغفر للمشرك أيضاً، فلا يبعد أن يكون للمنافق أعمال، يغفر الله له بها ويتوب عليه، حتّى لو لم يتب من نفاقه، وليس النفاق كالشرك إن لم يكن المنافق في الباطن مشركاً. وهذا لا ينافي أنّ موضع المنافق في النار أسفل من المشرك. ويؤيّد ذلك أنّ التعليل لم يقع بكونه تعالى توّاباً، بل بكونه غفوراً رحيماً، ولو كان المراد قبول التوبة لكان هو الأنسب.

ص: 74


1- النساء (4): 48

سورة الأحزاب (25-27)

«وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)»

«وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً» بعد الانتهاء من بيان الاثار المعنوية المترتّبة على غزوة الأحزاب، وتفكيك الفصائل المختلفة في المجتمع الإسلامي آنذاك، على أساس الإيمان والنفاق، والصدق والغدر، تعرّض الكتاب العزيز لبيان النتائج المترتّبة على الصعيد الاجتماعي والعسكري، وركّز في نفس الوقت على أنّ كلّ ذلك إنّما كان من الله سبحانه. فهو الذي ردّ الذين كفروا بغيظهم، أي مع غيظهم، أو حال كونهم مغتاظين.

و«الغيظ» فسّر بالغضب الشديد، وبالكرب يلحق بالإنسان. فهم قد رجعوا بحنقهم وغضبهم لم يستطيعوا إفراغه. وكذلك بكرب عظيم لحق بهم جرّاء عدم وصولهم إلى بغيتهم، بالرغم من أنّهم أعدّوا غاية ما يقدرون عليه، وساعدهم على ذلك كلّ من توقّعوا منه المساعدة، فتألّبت كلّ قوى الكفر ضدّ الإسلام ونظامه اليافع، وكلّهم يأمل أن تكون هذه هي النهاية، فردّهم الله صُفر اليدين. وأيّ كرب أعظم من هذا؟!

وقوله تعالى: «لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً» إمّا بيان لما أوجب الغيظ أو حال بعد حال. والأوّل أقرب. ولبعض المفسّرين كلام في تأويل الخير، نظراً إلى أنّ ما أرادوه كان محض الشرّ، وقد عبّر عنه بالخير. وهذا من غريب الكلام، إذ من الواضح أنّ

ص: 75

الخير والشرّ أمران نسبيان، فما أرادوه كان خيراً لهم وشرّاً للمسلمين ، فلا حاجة إلى تأويل.

«وَكَفَى الله المُؤمِنِينَ الْقِتَالَ» أكّد على أنّ الأمر لم يكن بسبب جهودكم، حتّى في الظاهر. والقرآن يركّز على أنّ الأُمور كلّها بيد الله سبحانه، حتّى لو كان للإنسان دورٌ في الظاهر، كما قال تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى»(1). ولكنّه في هذه الآية، ينفي كلّ دور للناس، حيث يقول: «وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ».

والسبب: أنّ هذه الغزوة مع أنّها تعدّ من الناحية العسكرية، أهمّ الغزوات، حيث إنّ المشركين واليهود وسائر المتربّصين بالإسلام، انكسرت شوكتهم، ونفدت عزائمهم، وخارت قواهم وأصبح المسلمون بعدها يهاجمون الأعداء، بعد أن كانوا معرّضين لهجومهم. كما قال رسول الله صلّی الله علیه و آله- على ما روي وقد مرّ ذكره - : «الآن نغزوهم ولا يغزوننا»(2) ، ولكن كلّ ذلك إنّما حصل بالريح التي أرسلها الله تعالى عليهم والملائكة، ولم يقاتل أحدٌ من المسلمين في هذه الغزوة، إلا ما بدر من أمير المؤمنين علیه السّلام في قتاله لفارس العرب - عمرو بن عبدود - وقد دخل الذلّ والانكسار بقتله في بيوت الكفر وقلوب المشركين.

ولذلك قال الرسول صلّی الله علیه و آله على ما في «مستدرك الحاكم»: «لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن عبدود يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة»(3) وفي نقل آخر

ص: 76


1- الأنفال (8): 17
2- بحار الأنوار 20: 209؛ مسند أحمد 4: 262
3- المستدرك (الحاكم النيسابورى 3: 32

«لضربة عليّ أفضل من عبادة الثقلين».(1) وقال حينما برز الإمام إليه: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه». (2) وقال: «أبشر يا عليّ فلو وزن اليوم عملك بعمل أُمّة محمّد لرجح عملك على عملهم، وذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا وقد دخله ومن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عزّ بقتل عمرو».(3) ووردت هذه الآية في مصحف ابن مسعود هكذا: «وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ».

«وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً»، «كان» لا تدلّ على المضي إذا أُسند إلى الله تعالى، فالمعنى أنّه تعالى قويّ وقادر على كلّ شيء. وعزيز لا يغلب على أمره، ولا يمنع من نفوذ إرادته شيء.

«وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم منْ أهْلِ الْكِتَابِ مِن صَیَاصِيهِمْ». نزل جمع من اليهود في قديم الزمان أرض يثرب، لما وجدوا في كتبهم من أنّ آخر الرسل يُبعث في هذه المنطقة، وسيكون مقرّ حكومته ما بين عير وأُحد، وكانوا - على ما يقال - ثلاث فرق، وكانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين حرب، يهدّدونهم بأنّه سيظهر في هذه الأرض من ينصرنا عليكم، ولا تستطيعون مقاومته.

قال تعالى: «وَلمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لَما مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ»(4).

وكان اليهود يتوقّعون أن يكون الرسول المنتظر منهم، لظنّهم أنّ النبوّة لا تكون إلا في بني إسرائيل، ولمّا وجدوا أنّ الصفات التي رأوها في كتبهم،

ص: 77


1- كنز العمّال 6: 158
2- عوالي اللثالي 4: 88؛ بحار الأنوار 20: 215
3- بحار الأنوار 20: 205؛ مجمع البیان 8: 132
4- البقرة (2): 89

مجتمعة في الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله، أبوا أن يؤمنوا له أنفة من خروج النبوّة منهم.

وهكذا فتنة الله تعالى لعباده، يبتلي الإنسان بموضع ضعفه، وبنو إسرائيل فيهم داء العنصرية قديماً وحديثاً. قال تعالى: «وَمِنْ أهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا في الأميِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(1) . والمراد ب_«الأُميّين»، غير أهل الكتاب، لأنّهم كانوا يجدون أنّهم أهل العلم، فغيرهم أُمّيون لا يعلمون من الكتاب شيئاً. وهم حتّى يومنا هذا يعتقدون أنّهم شعب الله المختار.

والحاصل: أنّ اليهود نزلوا هذه الأرض، وبنوا فيها القلاع والحصون، وقويت . شوكتهم وكانوا ثلاث فرق: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. ولمّا هاجر النبي صلّى الله عليه و آله إلى المدينة، دعاهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا فعاهدهم، ولكن بني قينقاع نقضوا العهد في غزوة بدر، وكانوا أشجع اليهود، فحاصرهم النبيّ صلّى الله عليه و آله، ثمّ نزلوا على حكمه، وأصرّ عبد الله بن أُبيّ - وكانوا حلفاءه - على النبيّ صلّى الله عليه و آله فوهبهم له وقبض أموالهم.

وأمّا بنو النضير فأرادوا أن يغتالوا النبيّ صلّى الله عليه و آله ، فأخبره الله تعالى بمكيدتهم، وأخرجهم إلى خيبر - في قصّة طويلة - ولم يتوقّفوا عن كيدهم، فأتى رئيسهم حييّ بن أخطب إلى بني قريظة، وحرّضهم على التحزّب مع قريش - في غزوة الأحزاب - وكان بنو قريظة هم الباقون من اليهود حول المدينة، فتحزّبوا مع الأحزاب ونقضوا عهدهم مع الرسول صلّى الله عليه و آله دون مبرّر، وكان في هذا الغدر أسوأ الأثر في قلوب المسلمين، بحيث إنّ الرسول لمّا بعث بعض الصحابة لاستخبار الأمر

ص: 78


1- آل عمران (3): 75

أمرهم أن لا يعلنوا ذلك إذا صحّ الخبر، فعادوا وأخبروا الرسول صلّى الله عليه و آله بسريّة تامّة.

و بطردهم من المدينة، قويت شوكة المسلمين وهابهم الناس واستسلموا لسلطانهم، حيث إنّ الرسول صلّى الله عليه و آله لا حاصر بني قريظة في حصونهم خمسة وعشرين يوماً، وعرض عليهم الإسلام، وأشار إليهم بالقبول كعب بن أسد وهو زعيمهم، وقال لهم: قد علمتم أنّه نبيّ مرسل، فأبوا وقالوا: نموت على دين اليهود!

ولمّا طال الحصار، طلبوا أن يأتيهم أبو لبابة، ليستشيروه في النزول على حكم الرسول صلّى الله عليه و آله، فذهب إليهم وسألوه هل ننزل على حكمه؟ فقال: نعم ولكنّه ترحّم على حال الأطفال والنساء، فأشار إلى حلقومه، يُفهمهم أنّه القتل لا غير.

ولمّا خرج من عندهم، لم يذهب إلى الرسول صلّى الله عليه و آله، ولأنّه علم أنّ ذلك كان منه خيانة، فذهب إلى المسجد وربط نفسه بالأسطوانة المعروفة باسمه، حتّى نزل الوحي بقبول توبته.

ولمّا طال الحصار قبلوا ما يحكم به سعد بن معاذ - وكان سيّد الأوس - وهم حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وكان سعد رحمه الله قد أُصيب في غزوة الأحزاب بسهم، فجيء به محمولاً، وحثّه قومه أن يحكم بعفوهم، فقال: لقد آن أن لا تأخذني في الله لومة لائم. فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وتقسيم أموالهم. فأيّد الرسول صلّى الله عليه و آله حكمه وعمل به. وكانوا يستحقّونه، لخلفهم العهد، ورفضهم النزول على حكم الرسول صلّى الله عليه و آله، مع أنّه ورد في التوراة التي لديهم أنّ هذا حكم كلّ من غلب في الحرب، فأخذوا بما دانوا به، بل أدانوا به الآخرين، وهم اليوم يعملون بهذا القانون مهما أمكن.

فالمراد ب_«الذين ظاهروا المشركين» هم يهود بنو قريظة، والمظاهرة المعاونة. وتوصيفهم بمظاهرة المشركين للإشارة إلى أنّ سبب المناجزة هو مظاهرتهم

ص: 79

لهم. و«الصياصي»: جمع صيصية، وهي الحصن قال في معجم المقاييس»: الصاد والياء كلمة واحدة مُطابقة، وهي كلُّ شيء يُتَحَصَنُ به. من ذلك تسميتُهم الحصونَ صَيَاصِيَ، ثمَّ شُبِّه بذلك ما يُحارب ويتَحصَّن به الديك وسُمِّي صيصِيَة، وكذلك قَرن الثور يسمَّى بذلك؛ لأنّه يتحصَّن ويُحارِب به. (1)

«وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأسِرُونَ فَرِيقاً»، يتبيّن من الآية أنّه تعالى جعلهم يخافون من دون أن يجدوا أمراً يثير الرعب بطبيعته، وإنّما هو قذف غيبي من الله تعالى في قلوبهم. والمراد ب_«الفريق» الذي قتلهم المسلمون رجالهم، وبالذين أسروا النساء والذراري. ولعلّ وجه تقديم المفعول وتأخيره، التفنّن في التعبير.

«وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً»، «الإرث» انتقال مال بدون سبب ناقل، ومنه الإرث من الميّت. وحيث إنّ المسلمين تسلّطوا على أراضي اليهود من دون تمليك، عبّر عنها الله تعالى بأنّه إيراث منه.

واختلف المفسّرون في المراد ب_«الأرض الذي لم يطأها المسلمون»، فقيل: أرض خيبر ، التي استولوا عليها بعد ذلك. وقيل: أرض فارس والروم. وقيل: كلّ أرض أخذها المسلمون بعد ذلك.

ولكن الظاهر أنّ المراد هو أرض بني قريظة، لأنّ السياق يقتضي أنّ ما ذكر متفرّع على هذا الحادث ومن نتائجه. وإنّما كرّر ذكرها للتأكيد على أنّها أرض ورثوها من دون أن يطؤوا عليها بخيل أو ركاب، أي صارت لهم من دون حرب، بإرادة الله التي لا تقهر، حيث ألقى الرعب في قلوبهم، وأنزلهم من حصونهم من دون قتال. ولذلك عقّبه بقوله تعالى: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً».

ص: 80


1- معجم مقاييس اللغة 3: 279/ صي

سورة الأحزاب (28-29)

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)»

«يا أيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعَكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً» مجموعة من الآيات تتعرضّ لأحكام خاصّة بنساء النبي صلّی الله علیه و آله ويبدو من هاتين الآيتين أنّ بعض نساءه طلبن منه أشياء من زخارف الدنيا. ووروده في سياق الآيات السابقة ربّما يدلّ على أنّ ذلك كان بعد استيلاء الرسول صلّی الله علیه و آله على أموال اليهود، ومن الطبيعي أن تتوقّع نساؤه أن يكون لهنّ حظّ من الغنائم، لأنّهنّ أزواج زعيم الجيش القاهر، وكان ذلك يبدو طبيعياً حسب الفكر الاجتماعي آنذاك.

وقد ورد في الروايات ذكر بعض نساء النبيّ اللاتي طلبن منه ذلك. ونحن لا نعتمد على هذه الأخبار، إذ ربّما يتعمّد ذكر بعض أو حذف بعض، تبعاً للأهواء والميول، ونتّبع النصّ القرآني الذي يشير إلى الموضوع بصورة عامّة، حيث إنّ الهدف تكريم بيت النبوّة، وتقديسه من دنس الحياة الدنيا، والتنبيه على الفرق الكبير بين اغتنام الرسل واغتنام الملوك وزعماء القبائل.

ومع أنّه لا شك في لا شكّ فى أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله - بطبيعته ونفسه الأبية عن الميل إلى هذه الزخارف، وترفّعه عن دنس حبّ الدنيا كما هو واضح - رفض هذا الاقتراح واستاء منه، ولكنّ نزول الآية يؤكّد على أنّ هذا الأمر ليس مجرّد ردّ فعل من الرسول صلّی الله علیه و آله ناشئ من طبيعته الميّالة إلى الزهد في الحياة الدنيا، بل هو قانون إلهي لا يجوز التخطّي عنه، ولعلّه لا يختصّ بالبيت النبويّ الكريم، بل يشمل

ص: 81

كحكم شرعيّ كلّ بيت ينتمي إلى من يجلس هذا المجلس، ويتولّى أُمور المسلمين، فهذا هو حكمة نزول الآيات، مضافاً إلى إقناع نسائه صلّی الله علیه و آله لئلا يكون في قلوبهنّ حرج ممّا صنعه الرسول، ويعلمن أنّ ذلك أمر من السماء.

ومن غاية اللطف أن الله تعالى أمر نبيّه صلّی الله علیه و آله بتخيير النساء بين الأمرين، ولم يرغمهنّ على اختيار حياة التقشّف مع الرسول صلّی الله علیه و آله، وهذا تأديب لرجال المجتمع ، فإذا وجد أحدهم من زوجته كرهاً للحياة معه، ينبغي له أن لا يرغمها لقبول ظروفه الخاصۀة والتسليم للقدر. بل فوق ذلك، أمر الرسول صلّی الله علیه و آله أن لا يطلقهنّ إلا بعد أن يدفع لهنّ شيئاً من متاع الدنيا إذا اخترنه. وأين هذا من غالب الرجال الذين يطالبون ببذل مال من المرأة حتّى تحظى بالطلاق؟!

بل وفوق ذلك، أمره أن لا يبدي أيّ امتعاض من تطليقهنّ، بل يسرّحهنّ سراحاً جميلاً، لا يشتمل على أيّ كراهية وحقد، حتّى لا يحملن معهنّ بعد الفراق ذكريات مرّة من العيش معه صلّی الله علیه و آله .

و«الأزواج» جمع زوج ويطلق على كلّ من الزوجين، بل الزوج أفصح من الزوجة، والقرآن الكريم لم يعبّر بالزوجة مطلقاً .

و «تعال» أصله بمعنى طلب العلوّ، وذلك في ما إذا كان القائل في علوّ، فيطلب من المخاطب أن يصعد إليه. ولكنّ العرب تستعمله في طلب المجيء مطلقاً، ولعلّ الوجه فيه اقتضاء الأمر كونه في علوّ معنوي.

وقوله: «أمَتِّعْكُنَّ» مجزوم، لأنّه جواب الأمر، أي إن أقبلتنّ أُمتّعكنّ، أي أمنحكنّ ما ينفعكنّ لمدّة طويلة، والمتاع كلّ ما ينتفع به لمدّة طويلة. و«التسريح» إخلاء السبيل والإرسال، ولذلك كنّي به عن الطلاق. و«السراح الجميل» ما لا يكون عن عداء، ولا يستتبع حنقاً وكيداً.

ص: 82

«وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» . ركّز النصّ القرآني على الجانب التربوي والإيماني، وأراد أن يعلمهنّ أنّ اختيار الحياة الدنيا ليس في مقابله الحياة مع الرسول صلّی الله علیه و آله كرجل وزوج، وإن كان ذلك عظيماً، حتّى بالنظر إلى الجهات المادّية في الحياة الدنيا، لما كان يتمتّع به الرسول صلّی الله علیه و آله من مكانة اجتماعية، وخصوصاً بعد هذه الغلبة الساحقة على الأعداء، و بعد استسلام كثير من ذوي النفوذ من زعماء العرب، بل يقابله اختيار الله ورسوله والدار الآخرة.

وهكذا يصنّف الله سبحانه الناس بين مريد للدنيا ومريد للآخرة، فلا يجتمع حبّ الدنيا وترجيحها على الآخرة، مع حبّ الله ورسوله وتحصيل السعادة في الآخرة. ولا يختصّ ذلك بنساء النبيّ صلّی الله علیه و آله، بل ورد هذا الفصل والتفريق في آيات عديدة. قال تعالى: «مِنكُمْ مَن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ»(1). وقال تعالى في حكم حاسم: «مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(2).

وقال أيضاً: «مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَيهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْتِهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلِئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُوراً»(3). وفي موضع آخر : «مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ»(4).

ص: 83


1- آل عمران (3): 152
2- هود (11): 15 - 16
3- الإسراء (17): 18 - 19
4- الشورى (42): 20

والجمع بين هذه الآيات وآيات أُخرى يقتضي أن يقال: إنّ المراد من يرجّح الدنيا على الآخرة في موارد التعارض، وليست هذه الموارد بعزيزة، وليس المراد من يقتصر في الدنيا على الموارد المحلّلة وإن كانت من زينتها، قال تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (1) وقال أيضاً: «فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةٌ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(2).

ومن موارد تعارض السبيلين، مورد ابتلاء نساء النبيّ صلّی الله علیه و آله حيث كان الأمر دائراً بين اختيار الدنيا وزينتها، واختيار خدمة النبيّ صلّی الله علیه و آله، فإذا كانت إحداهنّ ترجّح الحياة الدنيا، كان معناه أنّها لا تريد رضا الله ورسوله والسعادة الأُخروية، وترجّح على ذلك نعيم الدنيا الزائل.

هذا، واتّفقت كلمة نسائه صلّی الله علیه و آله على اختيار الله ورسوله. ومع ذلك، فإنّ الآية الكريمة لم تنزل بالوعد القاطع على الثواب، بل قيّد ذلك للمحسنات منهنّ، إيذاناً بأنّ هذا القبول ربّما لا تكون حسنة، وهو واضح، إذ من الممكن أن لا يكون القصد منه ثواب الله تعالى، والله لا يخدع في جنّته، وقد حذّرنا بقوله: «وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ»(3). ولكنّه وعدهنّ بأنّه أعدّ للمحسنات منهنّ أجراً عظيماً. ثمّ أكّد ذلك في آية تالية بمضاعفة أجرهنّ، لتحمّلهنّ التقشّف الذي تقتضيه الحياة في بيت النبوّة.

ص: 84


1- الأعراف (7): 32
2- البقرة (2): 200 - 201
3- البقرة (2): 235

سورة الأحزاب (30-31)

«يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)»

«يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ»، تبدّل لحن الخطاب في الآيتين، فبينما كان الخطاب فيما سبق متوجّهاً إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله، وجّه الخطاب هنا إلى نسائه. والسبب واضح؛ فإنّ التخيير هناك كان شأن الرسول صلّی الله علیه و آله، ولم يؤمر هنا بتوجيه هذا الخطاب إليهنّ تأكيداً على مضمون الخطاب، حيث كان من قبل الله سبحانه إليهنّ رأساً.

و«الفاحشة» كلّ ما تجاوز الحدّ من الفعل الشنيع. والظاهر أنّه لا يطلق على كلّ معصية، ولذلك عطف عليه المنكر في القرآن في غير مورد، وإن كان لا يبعد أن لا يشمل عنوان المنكر أيضاً كلّ معصية، بل ما ينكره العرف منها، ولكن الفاحشة والفحشاء ما جاوز الحدّ.

ثمّ إنّ توصيفها ب_«المبيّنة» إمّا أن يكون بمعنى الواضحة ليخصّ الحكم ما كان قبحه واضحاً لدى عامّة الناس، إذ ربّما يكون الشيء في حدّ نفسه معصية كبيرة جدّاً عند الله، ولكن لا يكون قبحه واضحاً لدى العرف، وإمّا أن يكون بمعنى الظاهرة، فلا يشمل الحكم ما أخفاه الإنسان ولم يظهر لعامّة الناس، إذ لا يؤثّر حينئذٍ تأثيراً سلبيّاً في المجتمع.

ومن هنا يتبيّن أنّ مضاعفة العذاب ليس من أجل أنّهنّ لمكان قربهنّ من الوحي، قد تمّت الحجّة عليهنّ، فلا وجه لما قيل من أنّ هذا الحكم من قبيل ما

ص: 85

ورد في الحديث: «أنّ الله تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً»(1)، إذ لو كان كذلك، لم يكن دخل لكونه فاحشة مبيّنة. فالذي يفهم من القيود، أنّ السرّ في ذلك هو أنّ الفاحشة منهنّ، تمسّ كرامة النبوّة، ويشين بقدسية الرسول الأعظم صلّی الله علیه و آله .

ونستنتج من ذلك تعميم الحكم، فإنّ الحكم - بناءً على ما ذكرنا - يشمل كلّ من كانت له قرابة وثيقة بالرسول صلّی الله علیه و آله ولذلك ورد في حديث عن الإمام زين العابدين علیه السّلام أنّ رجلاً قال له: إنّكم أهل بيت مغفور لكم! فغضب سلام الله عليه، وقال: «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النبيّ من أن نكون كما تقول. إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ثمّ قرأ الآيتين».(2)

وقد وقع الكلام في التفاسير، في المراد بالفاحشة، وأصرّ بعضهم على أنّه لا يقصد بها الزنا - والعياذ بالله - لأنّ الله عصم زوجات الأنبياء عن ذلك. فالمراد عصيان الرسول صلّی الله علیه و آله وإيذاؤه ونحو ذلك من الكبائر، ممّا يناسبهنّ. ولكنّ الظاهر - كما ذكره بعض آخر - أنّها تشمل كلّ عمل شنيع. وصون الله تعالى لهنّ عن الزنا لا ينافي ذلك.

نعم، الحكم لا يخصّه، بل يشمل كلّ ما تجاوز الحدّ من شنيع الأعمال، وممّا يستقبحه العرف ولا يختصّ بما يصدر في عهد الرسول صلّی الله علیه و آله، فيشمل مقابلة الإمام ومقاتلته، وإشعال نار الحرب بين المسلمين، وشقّ عصاهم، والتسبّب في قتل الُألوف منهم على وجه الباطل، بل هو من أبرز المصاديق.

ص: 86


1- خاتمة المستدرك 5: 247؛ ميزان الاعتدال (الذهبي) 3: 447
2- بحار الأنوار 22: 175؛ مجمع البیان 8: 153

والمراد ب_«المضاعفة» ليس هو المرّتين على الظاهر ولا الثلاث أو الأربع - كما قاله بعضهم - فإنّ العذاب يوم القيامة ليس ممّا يكال ويوزن، ولا من قبيل الحدود الشرعية. نعم، لو عمّم الحكم للحدود أمكن القول بأنّ الحدّ الجاري عليهنّ، ضعف الآخرين، ولكنّ الظاهر من الآية، أنّها تنظر إلى عذاب الآخرة.

ومضاعفة العذاب - كمضاعفة الثواب - لا يقصد بها إلا الزيادة. وهو نظير قوله تعالى: «فَاتَتْ أكُلَهَا ضِعْفَيْنِ»(1) إذ قد لا يكون مقدار الزيادة في الثمر مرّتين، بل أكثر أو أقلّ، وهكذا التعبير بالضعف في آيات عديدة بالنسبة للعذاب أو الثواب.

«وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً» ذكر المفسّرون أنّ الغرض من هذه الجملة التنبيه على أنّ قربكنّ إلى الرسول صلّی الله علیه و آله، لا يمنعه من ذلك، كما ربّما يتوهم. وهذا لا بأس به.

ويمكن أن يكون تنبيهاً على أنّ مضاعفة العذاب وإن كان مخالفاً لطبيعة الجزاء، حيث إنّ الله تعالى صرّح في موارد كثيرة أنّ العذاب بمقدار العمل، أو أنّه نفس العمل يتجسّد بصورة العذاب، وأنّ حقيقة هذا العمل هو هذا العذاب، وإن كان الإنسان لا يشعر به. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً»(2).

ومن هنا فقد يستبعد أن يكون عذاب زوجات النبي، ضعف عذاب الآخرين، مع أنّ العمل نفس العمل، فيردّ الله تعالى على هذا التوهّم بأنّ ذلك - أي مضاعفة العذاب - على الله يسير ، فإنّ العمل وإن كان بظاهره مشابهاً لعمل الآخرين، إلا أنّ

ص: 87


1- البقرة (2): 265
2- النساء (4): 10

استناده إلى من بهذه المكانة من الرسول صلّی الله علیه و آله، يجعله مختلفاً عن سائر الأعمال المشابهة.

«وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لله وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ»، بيّن في هذه الآية حكم المحسنات منهنّ. وأتى بالفعل الأوّل، مذكّراً بلحاظ لفظ «من»، والثاني مؤنّثاً بلحاظ مصداقه. وعلّق الحكم على أمرين: القنوت لله ورسوله، والآخر العمل الصالح. و«القنوت» هو الطاعة - كما قيل - ولكنّ الظاهر، بحسب الموارد أنّه لا يطلق إلا على الطاعة في خضوع.

ويلاحظ أنّ الطاعة للرسول صلّى الله عليه و آله لم تعتبر بعنوان كونه زوجاً لهنّ، بل بعنوان كونه رسول الله. فالمراد إطاعة الأوامر الرسالية، وعليه فالقيد الثاني معطوف عطف تفسير، وتأكيد على أنّ الجزاء يتبع العمل، لقطع الآمال والأماني الكاذبة التي تراود الإنسان في هذه الحالات، فيتصوّر أنّ لقربه من الرسول صلّى الله عليه و آله، منزلة عند الله تعالى، حتّى لو لم يعمل عملاً صالحاً.

ولم أجد من تعرّض لسبب تضاعف الأجر لهنّ. ولعلّ السبب مقابلة مضاعفة العذاب، فإنّ الذي يعرّض نفسه لمضاعفة العذاب على عمله السيّء وخطائه بقبول منصب أو وظيفة يستحقّ مضاعفة الأجر على عمله الحسن. وهكذا من لم يتعرّض باختياره، ولكنّ الله تعالى عرّضه لذلك كذرّية الرسول صلّى الله عليه و آله على ما دلّ عليه حديث الإمام السجّاد علیه السّلام الذي مرّ ذكره.

«وَاعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً» لعلّ البشارة بإعداد الرزق الكريم في الآخرة مقابلة لقبولهنّ حياة التقشّف في بيت النبوّة، وتطييب لخاطرهنّ بعد ترجيحهن ّالحياة مع الرسول صلّى الله عليه وآله على زينة الدنيا، و«الكريم» كلّ شيء ثمين قيّم.

ص: 88

سورة الأحزاب (32-34)

«يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)»

الآيات الثلاث تخاطب نساء النبي صلّی الله علیه و آله ، وتحدّد لهنّ حدوداً تليق بمقامهنّ وكرامتهنّ.

«يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ» إشارة إلى الوجه في التأكيد على ذكرهنّ مع أنّ الأحكام المذكورة لا تختصّ بهنّ، وذلك لأنّهنّ لسن كسائر النساء. و«أحد» - على ما قيل - يستوي فيه المذكّر والمؤنّث، والمفرد والجمع. والمراد - كما هو الظاهر - أنّكنّ لستنّ كسائر النساء، لمكانتكنّ من رسول الله صلّى الله عليه وآله، فيشينه ما يشينكنّ. ولكنّه أكدّ مرّة أُخرى أنّ الخصيصة تتوقّف على التقوى، فاشترط التقوى في كونهنّ ممتازات من بين النساء. وأمّا من دون التقوى، فهنّ سواء، بل هنّ أسوأ حالاً كما صرّح به في المقطع السابق.

«فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ»، «الخضوع» في الأصل التذلّل، والمراد بالخضوع في القول يمكن أن يكون في اللحن، حيث إنّ النساء كثيراً ما تنقلب صوتهنّ إلى صوت رخيم ليّن، إذا تكلّمن مع الرجال الأجانب. ولعلّ هذا أمر طبيعي ليس فيه تعمّد، ولكنّ المرأة المسلمة يجب أن لا تستسلم لما تدعو إليه الغريزة وتقابله بإيمانها. ويمكن أن يكون المراد الخضوع في الكلام،

ص: 89

فالممنوع أن تتكلّم المرأة بما تثير شهوة الرجل. ويحتمل أن يشملهما معاً.

والمراد ب_«المرض» ضعف الوازع الديني، أو الإفراط في الميول الجنسية، فإنّ من الناس من لا يتحفّظ من إبراز الشبق لمجرّد توهّم ميل من الجانب الآخر من دون تورّع ولا وقار.

«وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً»، أي متعارفاً مناسباً لما يدور بين الرجل والمرأة الأجنبيين، فلا يكون بينهما حديث يجرّ إلى الحرام وينافي الحشمة كالمزاح فضلاً عن أحاديث الحبّ والغرام. ويلاحظ في هذا المنع، حرص الدين على منع ما يمكن أن يجرّ إلى الحرام من لين الصوت والكلام ، حتّى لا يطمع الطامعون في أكثر من ذلك من الاختلاط المشتمل على الحرام بذاته وأين هذا ممّا تعارف عليه أبناء المجتمع الإسلامي في هذا العصر، وأقرّهم عليه أولياؤهم، من الانحلال الخلقي واستباحة محارم الله سبحانه؟!

«وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» ، أمرهنّ بالقرار في البيوت، تأكيداً على العفاف اللازم للمرأة. فالدين وإن لم يمنع من خروج المرأة متحجّبة، إلا أنّ الأفضل لها الاستقرار في البيت وخصوصاً بالنسبة لزوجات النبيّ صلّی الله علیه و آله، فإنّ الخروج يجعلهنّ عرضة للنظر المريب، ومفاسد أُخرى تمسّ كرامة الرسول صلّی الله علیه و آله. وهذا الحكم سارٍ بعد حياته أيضاً. وقد سجل التاريخ كيف انتهز المفسدون فرصة خروج بعض أُمّهات المؤمنين من بيتها فأشعلوا باسمها وتحت رايتها حرب الجمل التي راح ضحيّتها الآلاف من المسلمين، وهيّأت الأرضية للفتن التي تلتها. ويا له من اجتهاد مقيت كما يزعمه أعداء أمير المؤمنين علیه السّلام لتبرير هذا الموقف المشين، والمخالفة الصريحة لحكم ربّ العالمين، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

«وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى»، «التبرّج» هو البروز والظهور، ويقال للمباني

ص: 90

العالية أبراج لظهورها من بُعد. و «الجاهلية الأُولى» ما قبل الإسلام، وفيه إشارة إلى جاهلية أُخرى ستظهر. كما روي عن الإمام الصادق علیه السّلام دلالة الآية عليه. (1) ولعمري لقد ظهرت بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله، حيث لم يؤخذ بوصاياه، واستمرّت الجاهلية الجديدة تحصد الإسلام حصداً، حتّى نزا بنو أُميّة وبنو مروان على منبر الرسول صلّی الله علیه و آله، وعاثوا في الأرض فساداً.

وأغرب بعض المفسّرين في تفسير الجاهلية الأُولى بما كان بين آدم ونوح، أو ما كان بعد إبراهيم علیه السّلام، أو ما بين عهد عيسى علیه السّلام ومحمّد صلّی الله علیه و آله، وغير ذلك من الوجوه ليكون ما يقابلها، الجاهلية قبيل الإسلام، لاستغرابهم أن يكون هناك جاهلية بعد الإسلام. وبعض التفاسير الحديثة حصر الجاهلية الثانية بما في عصرنا هذا. ولعمري إنّ الجاهلية الجهلاء ما كان في تلك العصور أعاذنا الله منها.

وعلى كلّ حال فالآية الكريمة تمنع نساء النبي صلّی الله علیه و آله من البروز أمام الناس بروز أهل الجاهلية، حيث كانت المرأة تخرج وتحرّض الرجال على الحرب، بل تمسك بزمام الأُمور، ومنهنّ من أصبحت ملكة تأمر الرجال وتنهى. وكأنّ القرآن يخبر عن ملحمة ستقع تحت إمرة إحدى نساء النبيّ صلّی الله علیه و آله.

وهكذا صرّح الرسول صلّى الله عليه و آله بقوله خطاباً لنسائه: «أَيْتُكُنَّ صَاحِبَةُ الجَمَلِ الأدْبَب، تخْرُجُ فَتَتْبَحُهَا كِلابُ الْحُوَّبِ، يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا قَتْلَي كَثِيرٌ، ثُمَّ تَنْجُو بَعْدَ مَا قَدْ كَادَتْ»(2) ، وهذا حديث روته العامّة والخاصّة. وسنده صحيح صحّحه الألباني وغيره. (3) وفي

ص: 91


1- راجع بحار الأنوار 22: 189
2- راجع: مجمع الزوائد للهيثمي 3: 287 ، وقال : رواه البزّار ورجاله ثقات
3- راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1: 473، قال عن الحديث: قد ثبت عنه صلّى الله عليه و آله بالسند الصحيح في عدّة مصادر من كتب السنّة المعروفة عند أهل العلم

بعض الروايات أنّه صلّى الله عليه و آله وجّه خطابه بعد ذلك لعائشة قائلاً: «إيّاك أن تكونيها يا حميراء!» (1) أو نحو ذلك.

«وَأَقِمْنَ الصَّلوةَ وَءَاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ» أمرهنّ بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما عمودان للدين، أحدهما بين العبد وربّه، والآخر بين الإنسان ومجتمعه. وكلّ منهما يربّي الإنسان تربية صالحة. فالإنسان بعبوديته لله، يرقى إلى الكمال المعنوي، ويجول في أعماق السماء، وبمدافعته لشحّ النفس، يتكامل روحاً ويقوى على مغالبة النفس. قال تعالى: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ»(2) ثمّ أمرهنّ بإطاعة الله ورسوله أي اتّباع كلّ ما أنزل الله تعالى، وبلّغه رسوله صلّى الله عليه و آله، من باب ذكر العامّ بعد الخاصّ.

«إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ظاهر السياق يقتضي أن يكون الخطاب لنساء النبيّ صلّى الله عليه و آله، فإمّا أن يخصّهنّ أو يعمّهنّ، كما أنّ ظاهر السياق يقتضي أن تكون هذه الجملة، تعليلاً للأحكام السابقة، فيكون المعنى أنّ الله تعالى لم يأمركنّ بذلك لمصلحة تعود إليه، بل ليذهب عنكنّ الرجس، نظير قوله تعالى في سورة المائدة، بعد ذكر حكم الوضوء والتيمّم: «مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(3) وغير ذلك من الموارد.

ولكن لم يقل أحد من الأقدمين بالاختصاص إلا ما نسبوه إلى عكرمة مولى ابن عبّاس. كما أنّه لم ينقل في التاريخ أحد من نساء النبيّ صلّی الله علیه و آله دعوى أنّها

ص: 92


1- شرح نهج البلاغه، ابن أبي الحديد 6: 218
2- الحشر (59): 9
3- المائدة (5): 6

من أهل البيت، وأنّها من الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

والروايات في تخصيص أهل البيت بأصحاب الكساء: النبيّ وبضعته الزهراء وزوجها وابناها - سلام الله عليهم - تجاوزت حدّ التواتر، بحيث لا يستطيع أبغضهم لأهل البيت، إنكارها ولذلك نجد سيّد قطب يمرّ على هذه المسألة مرّ الكرام ويمتدح أهل البيت رغماً على أنفه، ولا يصرّح بالمقصود منهم!

ونجد الطبري في «جامع البيان» ينقل اختلاف المفّسرين في المراد بأهل البيت، ثمّ ينقل روايات كثيرة تصرّح بحديث الكساء أو ما بمعناه، ويتبعها بحديث واحد عن عكرمة يقول فيه: إن المراد أزواج النبي صلّی الله علیه و آله مع أنه لا يسنده إلى الرسول أو أحد الصحابة! (1) وهذه الروايات منقولة في أكثر كتب الحديث والتفسير.

وهناك بعض المناوئين يقول: إنّ هذه الروايات الكثيرة لا تدلّ على الحصر! فلننقل عن الطبري بعض ما يدلّ على الحصر فقط. قال في حديثه عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله: «نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ وفي عليّ وحسن وحسين وفاطمة «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيراً».(2)

وفي رواية عن أُمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت: لمّا نزلت هذه الآية «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» دعا رسول الله صلّی الله علیه و آله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّل عليهم كساءً خيبرياً، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي

ص: 93


1- راجع: جامع البیان 22: 8
2- جامع البيان 22: 6

اللّهم أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً». قالت أُمّ سلمة: ألست منهم؟ قال: «أنتِ إلى خير».(1)

ومثلها روايات أُخرى عنها وعن غيرها، وفي كثير منها ذكر الكساء، وأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله جمعهم تحتها، ثمّ تلا الآية. والظاهر أنّه أراد بجمعهم تحت الكساء تحديد أهل البيت بالمذكورين، بحيث يمنع من ورود غيرهم تحت هذا العنوان.

والحاصل: أنّ ملاحظة الروايات لا تبقى شكّاً للمنصف، أنّ المراد بأهل البيت هم النبيّ وابنته وبعلها وابناها - صلوات الله عليهم - ولكن يبقى السؤال في أنّه كيف يمكن ذلك بملاحظة السياق، مع أنّ ظاهر الجملة هو التعليل، فلا بدّ من أن يكون المراد خصوص الأزواج أو ما يعمّهنّ؟

ولا يضرّ بذلك اختلاف السياق، حيث إنّ الجمل السابقة تشتمل على الضمير المؤنّث، والضمير في هذه الجملة للمذكّر ، وذلك لأنّ التذكير يمكن أن يكون بلحاظ كلمة الأهل، أو باعتبار اشتمال المجموعة على رجل ولا أقلّ من النبي صلّی الله علیه و آله، ولذلك ورد نفس التعبير في خطاب الملائكة لزوجة إبراهيم علیه السّلام «قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ»(2).

وربّما يجاب عن السؤال بأنّ هناك موارد عديدة في القرآن، ينتقل السياق من موضوع إلى موضوع آخر دون ارتباط، فترى صدر الآية في موضوع وذيلها في موضوع آخر، ولكلّ جملة شأن للنزول. وهذا الكلام صحيح، إلا أنّه ربّما يستبعد ذلك في المقام، من جهة ظهور الجملة في التعليل ممّا يدلّ على الارتباط.

ص: 94


1- نفس المصدر
2- هود (11): 73

ولكن لا يبعد القول بأنّ الجملة ليست ظاهرة في التعليل، لعدم تناسب المضمون لأن يكون علّة للأحكام السابقة، خصوصاً بملاحظة أنّ الأوامر لم تنته إلى هذه الجملة، والآية التالية أيضاً تتضمّن أمراً متوجّهاً إليهنّ. والسياق يقتضي أن يذكر التعليل في آخر الأوامر والنواهي. وعلى كلّ حال، فبملاحظة الروايات القطعية والمتواترة لا يبقى شكّ في عدم ارتباط الجملة بما قبلها.

وأمّا السبب في ذكر الجملة في هذا المكان مع عدم ارتباطها بما قبلها، فيمكن أن يقال فيه أمران:

الأمر الأوّل: أنّ وضع مثل هذه الجملة في هذا الموضع، إمّا أنّه صدر ممّن جمعوا القرآن بعد الرسول صلّی الله علیه و آله لغرض في نفوسهم، وإمّا أنّه بأمر من الرسول صلّی الله علیه و آله بغية الحفاظ على هذه الجمل التي لا تعجب المتسلّطين.

ونظير ذلك تماماً قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ وَالْمُنخَنِقَةُ وَالْمُوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَان تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلام ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ِلإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) ، فإنّ قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» مع ما يشتمل عليه من مفهوم واضح لا يناسب الجملة التي اشتملت عليها سابقاً ولاحقاً. ومن الغريب أن يسبقها جزء من حكم تحريم الميتة وأخواتها، ويلحقها جزء آخر.

وعبثاً يحاول بعض الكتّاب والمفسّرين ربط هذه الجملة بالحكم المذكور،

ص: 95


1- المائدة (5): 3

فإنّ تحريم هذه الأُمور وتحليلها في حال الاضطرار، لا يوجب يأس الذين كفروا، ولا يوجب إتمام النعمة، مضافاً إلى أنّ هذا الحكم، ورد في الكتاب العزيز في ثلاث موارد قبل نزول هذه الآية: مرّتين في مكّة في سورتي الأنعام والنحل، ومرّة في أوائل الهجرة في سورة البقرة. وسورة المائدة من أواخر السور نزولاً.

فلا يبقى شكّ للباحث أنّ الذي أوجب يأس الذين كفروا، وإكمال الدين وإتمام النعمة، وتثبيت الإسلام كدين للأُمّة، هو أمر في غاية الأهميّة، ولا بدّ من أن يكون ذلك موجباً لامتداد هدف الرسالة بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله، حيث إنّ الكفّار والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، والذين كانوا يكيدون لجوهر الإسلام وأساسه المكائد تلو المكائد، كانوا يتربّصون وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله لينالوا بغيتهم، وقد ورد التصريح بذلك في الكتاب العزيز، قال تعالى: «افَإِنْ مُتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ»(1)، وقال تعالى: «أمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ»(2).

فالذي يوجب يأسهم، هو نصب من يتولّى نشر الرسالة وحفظ الشريعة بعده، كما ورد في روايات كثيرة جدّاً، أنّ الجملة نزلت يوم الغدير حيث نصب الرسول علياً - سلام الله عليه - إماماً للناس، وبيّن أنّه المولى لمن كان الرسول صلّی الله علیه و آله مولاه، ودعا ربّه أن يوالي وليّه ويعادي عدوّه.

ولا يمنع استعلاء الآخرين على منبر الرسول صلّی الله علیه و آله، من الاستمرار في أداء الرسالة، كما أنّ أكثر الأنبياء والرسل، إنّما باشروا عملهم وأدّوا رسالتهم، بالرغم

ص: 96


1- الأنبياء (21): 34
2- الطور (52): 30

من مطاردة الطغاة والجبابرة إيّاهم، بل قتل كثير منهم وتشريد الآخرين، فإنّ هذه الرسالة ليست رسالة حكومة أو قيادة سياسية، وإنّما هي رسالة إلهيّة، لم يقصد بها إلا إتمام الحجّة على البشر ، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حي عن بيّنة.

وقد أدّى أمير المؤمنين وأبناؤه المعصومون - صلوات الله عليهم أجمعين - رسالتهم بأحسن وجه، وصانوا أصل الشريعة والدين من أن تناله أيدي التحريف وأورثوه شيعتهم من بعدهم، وحفظوا أيضاً ظاهر الإسلام من الزوال والسقوط، كما كان هو الهدف الأقصى لورثة الجاهلية، وقد صرّح بعضهم بأنّ اللازم هو دفن الاسم الذي يتلى على المنائر خمس مرّات كلّ يوم.

وقد حاولوا ذلك بأساليبهم الشيطانية تارة بدعوى تحريف القرآن، وتارة بدعوى أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله كان يتأثّر بإلقاء الشياطين(1) كما تفوّه به آباؤهم في الجاهلية، وتارة بمنع السنّة من الكتابة والنشر بدعوى أنّ في الكتاب ما يكفي الأُمّة وأنّ الناس يشتغلون بالسنّة ويتركون الكتاب، وتارة بمنع العترة الطاهرة من نشر الحقائق وردّ الشبهات، وتارة بقتل أبناء رسول الله صلّی الله علیه و آله وتشريدهم، وتارة بمحاولة إخفاء آثار النبوّة والرسالة، وتارة بنشر الملاهي والمفاسد الخلقية في المجتمع الإسلامي حتّى صارت مدينة الرسول صلّی الله علیه و آله مركزاً لنشر الأغاني والملاهي، وقام خليفة المسلمين بشرب الخمر في الملأ العامّ، وأرسل جاريته لتصلّي بالناس فريضة الصبح، وجاء الخليفة الأُموي في حال السكر يؤمّ

ص: 97


1- يكفي في ذلك قصّة الغرانيق العلى وهي مذكورة في عدة من المجاميع الحديثية والتفاسير. (راجع: المعجم الكبير للطبراني 7: 414). وقد ردّ على ذلك جمع من المتأخّرين وألف الألباني كتاباً في ردّ هذه القصّة ولكنّ الكلام في أصل المحاولة

المسلمين، وغير ذلك من الفضائح والفجائع.

كلّ ذلك محاولة لطمس آثار النبوّة ومحق الدين من أساسه، والعلماء من سائر المذاهب لا يزيدون مع كلّ ذلك إلا ترويجاً لسلطانهم، ودعوة للزوم متابعتهم واطاعتهم بما لفّقوه من روايات كاذبة ونسبوه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله من لزوم إطاعة وليۀ الأمر وإن كان فاسقاً ظالماً.

ولم يكن في المسلمين صوت يدعو إلى الخلاف، ويحاول حفظ أساس الدين وظواهره، إلا أئمّة أهل البيت علیهم السّلام فلم يألوا جهداً في الحفاظ على هذا الظاهر الذي بأيدينا، وبذلوا في سبيل ذلك أرواحهم الطاهرة. والعالم الإسلامي يشهد تضحية سيّد الشهداء الإمام الحسين علیه السّلام في هذا السبيل.

ولنعد إلى ما كنّا عليه من بيان السبب في ذكر الجملة في هذا المكان، فهذا هو الأمر الأوّل. ويبتني على دعوى عدم الارتباط نهائيّاً، كما أنّ جملة إكمال الدين لا ترتبط بما قبلها وما بعدها نهائيّاً، فإن كان النبيّ صلّی الله علیه و آله هو الذي أمر بوضعها هنا - كما هو مقتضى تواتر النقل - فلعلّه لغرض الحفاظ على الجملة من أيدي التحريف والحذف. وتشترك آية التطهير مع آية الإكمال في السبب الذي يدعو إلى إخفائها والحفاظ عليها، كما لا يخفى.

الأمر الثاني: هناك ارتباط بين هذه الجملة والتي قبلها، وإن لم يشمل عنوان أهل البيت للنساء، وذلك لأنّ الغرض من هذه الجملة حثّ الزوجات على امتثال أوامر الله تعالى لأنّهنّ ينتسبن إلى بيت أراد الله لأهله الطهارة، وأذهب الرجس عنهم وهذا لا بأس به في نفسه، إلا أنّ الجملة تأبى الحمل على ذلك، إذ يتوقّف على تقدير من دون قرينة، فإنّ السياق لا يشتمل على ما يفيد هذا المعنى.

ص: 98

نعم، يمكن أن يقال: إنّ مجرّد ذكر هذه الجملة في ذيل هذه الأوامر، مع العلم بأنّها لا ترتبط بالنساء، يوهم أنّ الله تعالى أراد هذه الطهارة، لكلّ من يسكن هذا البيت ولو نسبيّاً، وهذا يكفي في الحثّ المذكور والله العالم.

هذا، وقد استدلّ الشيعة الإمامية بهذه الآية على عصمة أصحاب الكساء - سلام الله عليهم - بل عصمة الأئمّة الطاهرين علیهم السّلام بأجمعهم.

وتوضيح الاستدلال: أنّ الإرادة من الله تعالى قد تكون تكوينية، وقد تكون تشريعية. فالإرادة التكوينية هي أن يريد الله لشيء أن يكون. وهذه الإرادة من الله تعالى لا يمكن أن تتخلّف عن المراد. قال سبحانه: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ»(1) فهذا الأمر، أي قوله: «كُن» يحكي عن إرادة تكوينية، ويتعقّبها تحقّق الشيء المراد لا محالة.

وأمّا الإرادة التشريعية، فهي أن يريد الله تعالى ويطلب من أحد أن يعمل عملاً أو يترك أمراً باختياره، وهنا يمكن أن يطيعه المأمور ويمكن أن لا يطيع، كما هو الحال في جميع الأوامر والنواهي الشرعية.

والإرادة في الآية الكريمة، لا يمكن أن تُحمل على الإرادة التشريعية، فإنّ طلب اجتناب الرجس لا يختصّ بأهل البيت، بل الله تعالى يريد لكلّ الناس اجتنابه، إرادة تشريعية. والآية تدلّ على أنّ هذا الأمر خاصّ بأهل البيت، لمكان قوله «إنّما» الدالّ على الحصر. والمراد حصر الإرادة في ذلك، مضافاً إلى وضوح أنّ الآية في مقام المدح، ولا مدح في ذلك كما لا يخفى، فتعيّن أنّ المراد، إرادة إذهاب الرجس عنهم تكويناً الدالّ على العصمة.

ص: 99


1- يس (36): 82

هكذا قالوا، ولكن لا حاجة إلى دعوى إفادة «إنّما» للحصر، فإنّه محلّ كلام في الأدب العربي، ولا يبعد القول بأنّها لا تدلّ على ذلك إلا بملاحظة القرائن المكتنفة بها، مضافاً إلى أنّ حصر الإرادة بقول مطلق في إذهاب الرجس غير معقول، فلا بدّ من كونه حصراً إضافياً وهو أيضاً لا يفيد إلا التأكيد، فيكفي في دعوى الحصر، الوجه الثاني، وهو وضوح أنّ الآية في مقام امتداح أهل البيت وبیان امتیاز خاصّ بهم، خصوصاً بملاحظة الروايات المذكورة التي تصرّح بعدم الشمول حتّى لزوجات النبيّ صلّی الله علیه و آله.

هذا مضافاً إلى أنّ الإرادة هنا، متعلّقة بفعل الله تعالى وهو إذهاب الرجس، فحملها على الإرادة التشريعية، لا يتمّ إلا إذا كان تعليلاً للأحكام السابقة، فتكون هذه الجملة نظير قوله تعالى: «مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(1) في ذيل بيان حكم الوضوء والتيمّم. وأمّا إذا تبيّن - بفضل الروايات المتواترة - أنّ الجملة لا ترتبط بهذه الأحكام، وأنّها جملة مستقلّة مستأنفة، فلا يمكن حملها على الإرادة التشريعية قطعاً.

و«الرجس» هو القذارة، والمراد القذارة المعنوية كما لا يخفى. ويشمل ذلك كلّ ما يوجب بعداً عن الله تعالى، أو خسّة ودناءة في النفس، فيشمل كلّ المعاصي والصفات الرذيلة. وليس في الآية ما يقيّده، فتدلّ على عصمة أهل البيت علیهم السّلام بوضوح، وأكّد ذلك بقوله: «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ف_«الطهارة» أيضاً بمعنى النزاهة، والبعد عن ما يلوث الروح الإنسانية السامية.

ثم إنّه ربّما يتوهّم أنّ حمل الإرادة على الإرادة التكوينية، يستلزم الإلجاء

ص: 100


1- المائدة (5): 6

والقسر وهو ينافي الاختيار، ولا تبقى فضيلة للعصمة، على هذا الفرض.

والجواب عنه: أنّ كلّ شيء لا يكون إلا بإرادته تعالى، إلا أنّه يكون كما أراد، فإن أراد، أن يتحقّق الفعل عن الفاعل باختياره ، يصدر باختياره. وإن أراد أن يصدر عنه مجبوراً، فهو يصدر عنه كذلك ؛ والله تعالى إنّما أراد إذهاب الرجس عن المعصومين، بسبب ما أودع فيهم من علم وتقوى وخشية منه، وهذه عوامل توجب صدور الفعل والترك عن اختيار ، فلا يكون إلا كما أراد الله سبحانه.

وأمّا تعميم العصمة للأئمّة الطاهرين علیهم السّلام عن طريق هذه الآية، فإنّما يتمّ ببعض الروايات الواردة عن طرقنا، حيث ورد في ذيل حديث أُمّ سلمة قوله صلّی الله علیه و آله: «أنت على خير إنّما أُنزلت فيّ وفي أخي وفي ابنتي وفي ابنيّ وفي تسعة من ولد ابني الحسين خاصّة ليس معنا أحد غيرنا»(1). وللعصمة وتعميمها أدلّة أُخرى من الكتاب والسنّة تطلب من محالها.

«وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالحِكْمَةِ» يعود إلى مخاطبة نساء النبي صلّی الله علیه و آل ، وتذكيرهنّ بوظائفهنّ. وهذه آخر ما ذكر في هذه الآيات. ويركّز على لزوم التذكّر، وعدم نسيان ما يتلى في بيوتهنّ. وذكر هذا العنوان للتأكيد على أنّه لا ينبغي لهنّ النسيان، لأنّ الآيات تتلى في بيوتهنّ، فلسن كسائر الناس يسمعون الآيات في مناسبة، أو دعوة يدعو بها النبيّ صلّی الله علیه و آله، أو خطبة يخطب بها في المسجد، ونحو ذلك، بل تنزل أوّل ما تنزل في بيوتهنّ، فهنّ أجدر أن لا ينسينها أبداً.

واختلف في المراد ب_«الحكمة»، فقيل: إنّ المراد بها السنّة، حيث قوبل بها

ص: 101


1- تفسير الصافي 4: 189، و 6: 43

آیات الله ولكنّ الصحيح ما ورد في بعض التفاسير من أنّ المراد منهما آيات القرآن عبّر عنها بالتعبيرين، لأنّها مجمع الوصفين.

«إِنَّ اللهَ كَانَ لَطيفاً خَبِيراً» تعليل لنزول الكتاب وتلاوته في بيوتهنّ، فمن لطفه تعالى يهيّئ الأرضية الصالحة لهداية من هو أهل لها، ومنها نزول الكتاب، وهي في نفس الوقت إتمام للحجّة على من ليس أهلاً للهداية. وهو خبير بما يصلح للأمرين.

ص: 102

سورة الأحزاب (35)

«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)»

ورد في شأن نزول الآية أن أُمّ سلمة أو أسماء بنت عميس أو غيرهما شكت إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله اختصاص الوعود بالأجر والثواب بالرجال، وعدم ورود آية بشأن النساء فنزلت. ومن المحتمل بقرينة موضع الآية أن الغرض منها تعميم الوعود الباعثة إلى الخير ، ليشمل سائر نساء المؤمنين، لئلا يتوهّم اختصاص الوعد بالثواب بنساء النبيّ صلّی الله علیه و آله والتأكيد على ذكر الذكور والإناث في كلّ صفة يوحي بعدم الفرق بين الرجال والنساء عند الله تعالى، وأنّ المناط للثواب هو العمل الصالح.

واختلف المفسّرون في أنّ الإسلام والإيمان هل هما بمعنى واحد أم يختلفان، كما هو ظاهر العطف. والذي يظهر بملاحظة الآيات أنّ الإسلام له معنيان، فهو بأحدهما أعمّ من الإيمان مورداً، وبالمعنى الآخر أخصّ منه.

أمّا الأعمّ فمنه قوله تعالى: «قَالَتِ الأعْرَابُ ءَامَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلمَّا يَدْخُل الإيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ»(1)، فيظهر من هذه الآية أنّ الإيمان هو الاعتقاد القلبي، والإسلام هو التسليم ظاهراً ، فكلّ مؤمن مسلم دون العكس.

ص: 103


1- الحجرات (49): 14

و من الإسلام بالمعنى الأخصّ قوله تعالى: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلا نَصْرَانِياً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً»(1) ، وقوله تعالى في حكاية قول إبراهيم وإسماعيل علیهماالسّلام: «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ»(2) وغير ذلك. والإسلام بهذا المعنى يراد به التسليم لأمر الله تعالى، وبالمعنى الأوّل هو الانخراط في المجتمع الإسلامي.

ويلاحظ أنّ الإسلام بالمعنى الثاني يرد في كثير من الموارد مع التقييد بكونه لله تعالى كالآية السابقة «مُسْلِمَيْنِ لَكَ»، وقوله تعالى: «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمينَ»(3) ، وقوله تعالى: «فَإِنْ حَاجُوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ الله وَمَنِ اتَّبَعَنِ»(4) وقوله عزّ من قائل: «وَأُمِرْتُ أنْ أسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمينَ»(5)، وغير ذلك.

هذا، والظاهر أنّ المراد بالإسلام في هذه الآية هو المعنى الأخصّ، لأنّه هو مناط الثواب. وأمّا الإسلام بالمعنى الأعمّ فهو مناط الأحكام الظاهرية من الطهارة والزواج وسائر حقوق المسلم، إذ أنّه بهذا المعنى يجتمع مع النفاق. ثمّ إنّ التسليم لأمر الله تعالى له مراتب كثيرة، وكلّما زاد المؤمن إيماناً زاد تسليماً حتّى يبلغ مرتبة الرضا.

و«القنوت» هو الإطاعة في خضوع. و«الصدق» يشمل الصدق في الاعتقاد والقول والعمل. و «الصبر» يشمل الصبر على الطاعة، وترك المعصية، وتحمّل المصائب والمشاقّ. و«الخشوع»: التذلّل. و«التصدّق» هو إنفاق المال مطلقاً.

ص: 104


1- آل عمران (3): 67
2- البقرة (2): 128
3- البقرة (2): 131
4- آل عمران (3): 20
5- غافر (40): 66

ويقال: إنّ أصل الصدق يدلّ على أمر فيه قوّة، فلعلّ التصدّق إنّما أُطلق على الإنفاق، لأنّه يدلّ على قوّة في النفس حيث يسمح بالمال من دون مقابل.

و «حفظ الفرج» كناية عن تجنّب كلّ تلذّذ جنسي على وجه محرم، وحذفت كلمة فروجهنّ لدلالة قوله «فُرُوجَهُمْ» عليها.

و«الذكر» يشمل القلبي واللساني. والمراد بكثرة الذكر القلبي أن لا ينسى المؤمن ربّه في المواطن المقتضية للذكر ، كما لو كان في موضع ربّما ينجرّ إلى معصية، أو في موقف يستدعي منه طاعة، أو يتطلب منه الصبر والمقاومة. وأمّا اللساني فقد ورد في الحديث أن تسبيحة الزهراء علیهاالسّلام عقيب كلّ صلاة من الذكر الكثير(1). وحذف المتعلّق في الذاكرات أيضاً كالفقرة السابقة.

ص: 105


1- راجع: الكافي 2: 4/50

سورة الأحزاب (36-40)

« وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولً (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)»

مجموعة آيات تتعلق بقصّة تزويج الرسول صلّی الله علیه و آله زينب بنت جحش لزيد بن حارثة - رضي الله عنهما - وهي بنت عمّته أُميمة بنت عبد المطّلب، ثمّ طلقها من قبل زید و تزوّجه صلّی الله علیه و آله بها، مع أنّه كان قد تبنّى زيداً، فيكون بذلك خالف السنن الجاهلية مرّتين.

وقد ورد في شأن نزول الآيات روايات كثيرة متضاربة، ولكنّ المشهور منها أنّه صلّی الله علیه و آله خطب زينب لزيد، فأبت وأبى أخوها عبد الله، لأنّها أشرف حسباً ونسباً، فنزلت الآية، فرضيت زينب ورضي أخوها، فزوّجها الرسول صلّى الله عليه و آله زيداً، ودفع المهر عنه. وبذلك كسر الرسول صلّی الله علیه و آله حاجزاً اجتماعياً عظيماً في زواج المؤمنين والمؤمنات، بأن لا يعيروا اهتماماً بالشرف القبلي، فها هي زينب بنت عمّة

ص: 106

الرسول صلّی الله علیه و آله من أشرف بيوت العرب، تتزوّج عبداً محرّراً.

«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ هُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»، «القضاء» هو الحكم. و «الخيرة» الاختيار. و «من أمرهم» يشمل كلّ أمر يتعلّق بشأن من شؤون الإنسان. والمعنى أنّه لا يحقّ للمؤمن أن يختار لنفسه أمراً بخلاف ما حكم به الله تعالى، أو حكم به الرسول صلّی الله علیه و آله .

وقوله تعالى: «وَمَا كَانَ» يدلّ على أنّ هذا ممّا لا ينبغي أن يصدر من المؤمن والمؤمنة من أوّل ما آمن، فليس هذا حكماً جديداً ، بل هو مقتضى الإيمان بالله تعالى وبالرسول بما أنّه رسول، فإنّ معارضة حكم الله تعالى يعني عدم الإيمان به، إذ المؤمن به لا يسعه إلا أن يسلّم أمره إليه ويطيعه، فكيف يمكن أن يرى لنفسه الخيرة في مقابل حكمه ؟! فإنّ هذا لا يجتمع مع الإيمان بالله ورسوله، وإن اجتمع الإيمان مع المعصية الناشئة عن طغيان الشهوة أو الغضب أو الطمع وحبّ الدنيا وحبِ الذات.

ولذلك قال تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(1)، وقال أيضاً: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأطَعْنَا وأولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(2).

ومن هنا يتبيّن أنّ المراد بقضاء الرسول في هذه الآية ليس ما يبلّغه عن الله تعالى، بل ما يقضيه من أحكام في باب القضاء كمورد آية النساء، أو أيّ أمر يصدره لأحد في شأن من شؤونه كما ورد في شأن نزول الآية، أو ما يشرّعه من

ص: 107


1- النساء (4): 65
2- النور (24): 51

أحكام حسب ما فوّضه الله تعالى إليه، وهي التي تدعى بالسنّة الواجبة. وتفصيل القول فيه لا يسعه المقام.

ومع أنّ هذا قضاء من الرسول صلّی الله علیه و آله ابتداء، وربّما لا يكون بأمر أو وحي من الله، إلا أنّه تعالى نسب قضاءه إليه أيضاً، لما مرّ سابقاً من أنّ هذا غاية التشريف أنّ الله سبحانه يعتبر أمر الرسول أمره، وبيعته بيعته، وإيذاءه إيذاءه، ومعاداته معاداته، وهكذا.

ومن لطيف التعبير ما في آية سورة النور الآنفة الذكر حيث اعتبر الدعوة إلى الله والرسول، ثمّ عبّر بقوله ليحكم بينهم أي الرسول، فالدعوة إلى الرسول، والحكم من الرسول، ولكنّ الله تعالى يعتبره دعوة إليه أيضاً.

وأمّا قضاء الله فالمراد به القضاء التشريعي وإنشاء الأحكام، ومن الواضح أنّ الهدف من أكثرها هو امتحان الإنسان ليتبيّن المطيع من العاصي. والفوز في هذا الامتحان لا يناط إلا بدرجة العبودية والانقياد وأمّا القضاء التكويني فلا تمكن مخالفته ولا يتعلّق بها النهي.

«وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً» تأكيد على ما تضمّنه صدر الآية من حكم، وأنّ عصيان الله ورسوله ضلال واضح عن الطريق الحقّ. ومرّة أُخرى يؤكّد على أنّ عصيان الرسول صلّی الله علیه و آله عصيان الله تعالى.

«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ» هذه الآية أيضاً ترتبط بزيد بن حارثة، وقد صرّح باسمه، وهو الذي أنعم الله عليه بالهداية إلى الإسلام، وإلى خدمة الرسول صلّی الله علیه و آله وهي نعمة عظيمة حقّاً، وأنعم عليه الرسول صلّی الله علیه و آله بكلّ ما أنعم به على غيره من المؤمنين، مضافاً إلى العتق،

ص: 108

والحبّ الذي أبداه له، ولعلّ المقصود خصوص تزويجه بزينب مع الفارق الكبير بين الأُسرتين.

وقد ورد في الروايات أنّ زيداً شكا زينب إلى الرسول صلّی الله علیه و آله، وأبدى له رغبته في طلاقها، وقيل: إنّها كانت تتكبّر عليه لشرفها ونسبها، وأنّها كان فيها حدّة. والله أعلم بصحّة ما قيل، فهناك دواع للوضع في هذا المجال.

ومهما كان، فيظهر من الآية أنّه أراد أن يطلّقها لسبب ما، فأظهر ذلك للرسول صلّی الله علیه و آله فقال له : أمسك عليك زوجك واتّق الله فيها. ويظهر من هذا البيان أنّ في الطلاق من دون مبرّر مخالفة لتقوى الله سبحانه. و«الإمساك» القبض على الشيء، وهو كناية عن الحبس والحفظ. ولعلّ التعدية ب_«على» لتضمين الإمساك ما يفيد كون الزوجة ثقلاً على الرجل، لوجوب النفقة وحسن المعاشرة. ولعلّه يفيد أن إبقاء زيد لها كان تكلّفاً.

«وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ». وقع الكلام بين المفسّرين في ما أخفاه الرسول صلّی الله علیه و آله في نفسه، فرووا في ذلك أنّه صلّی الله علیه و آله دخل على زينب لأمر مّا، فرآها بدون حجاب حاسرة عن رأسها، فأعجب بها وقال: سبحان الله تبارك الله أحسن الخالقين ، فلمّا رجع زيد أخبرته بذلك، فذهب إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله، وأظهر إرادته للطلاق، فنهاه النبيّ وهو في قلبه يحبّ أن يطلّقها ليتزوّجها، فهذا هو الذي أخفاه في نفسه.

وهذا كذب واضح وبهتان عظيم. والرسول صلّی الله علیه و آله معصوم بفضل الله تعالى، وهو في ذاته أجلّ من أن ينظر إلى امرأة متزوّجة نظرة سوء، بل يتمنّى أن يطّلقها الرجل ليتزوّجها. فهذا ممّا يأنف منه أيّ إنسان كريم، فكيف بالرسول

ص: 109

المعصوم؟! وقد تشبّث أعداء الإسلام بهذه الروايات للتنديد بالدين والرسالة. ولعمري إنّ استهجان ذلك واضح في كلّ القيم الأخلاقية، ولكن واضعي الأحاديث لمصلحة السلطات الآثمة لا يتورّعون عن اتهام الرسول صلّی الله علیه و آله بما يشينه ويزري به، تبريراً لما يسود قصور الخلفاء من فسق وفجور.

ومن الغريب جدّاً تلقي كثير من المحدّثين ذلك بالقبول، وسراية ذلك حتّى لبعض كتبنا، مع أنّه مرفوض على أُصولنا قطعاً. ومن الكتب التي وردت فيها هذه الرواية التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم، ووجود مثل هذا الحديث في الكتاب يعزّز نفي انتسابه إلى عليّ بن إبراهيم.

والذي يفهم من نفس الآية والروايات، أنّ الذي أخفاه هو أنّه مأمور بالزواج معها بعد طلاق زيد، وأنّه يعلم أنّ زيداً سيطلقها لا محالة، ويفهم من ذلك ومن إصرار الرسول صلّی الله علیه و آله في بادئ الأمر أن يتزوّجها زيد، هو أنّ الأمر كلّه كانت خطّة مقصودة، أراد الله سبحانه بها القضاء على السنن الجاهلية. فأصل هذا الزواج كان مخالفاً لسنتهم لعدم تناسب الزوجين - حسب العرف القبلي السائد - ثمّ زواج الرسول صلّى الله عليه و آله وهي زوجة متبناه بعد طلاقه، كان غريباً جدّاً على عاداتهم وعرفهم وسننهم.

ولم يخف الرسول صلّی الله علیه و آله زواجه، كعادة الناس في مثل هذه الأُمور، بل أعلنه وأولم لزواجه منها ما لم يولم لسائر أزواجه كما روي، بل الأغرب أنّه جعل زيداً رسوله إليها ليخطبها له. يقول زيد حسب ما روي: فلمّا رأيتها عظمت في صدري. فقلت لها: يا زينب أبشري، أرسلني رسول الله صلّی الله علیه و آله يذكرك ... الحديث.

كلّ هذا ممّا ترفضه السنن الموروثة من الجاهلية، وليس الهدف محاربة نفس

ص: 110

هذه السنن حتّى يقال بأنها ليست من الأهميّة بمكان يضحّي الرسول صلّی الله علیه و آله بمكانته في القلوب، ويفتح ألسنة القالة عليه من أجل محاربتها، بل الهدف محاربة كلّ السنن الجاهلية، والتأكيد على أنّ الدين هو الذي يجب أن يُتّبع، دون السنن الموروثة.

وهذا من أهمّ الأُمور في الدين، ومن دعائم الرسالة. والشاهد عليه التأكيد في آخر الآية بأنّ ذلك أمر من الله ويجب أن يتحقّق، «وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً» ثمّ التأكيد على أنّ ذلك سنّة الله تعالى مع الأنبياء جميعاً، ثمّ العود مرّة أُخرى إلى أمر الله: «وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً». فكلّ هذا يدلّ على أنّ الأمر كانت خطّة إلهية لهدف عظيم، وأنّه من سنن الله تعالى في جميع الشرائع.

وربّما يتوهّم أنّ ما ذكرناه ينافي قوله تعالى: «وَأمُرُ بِالْعُرْفِ»(1) بناٌء على أنّ المراد ب_«العرف» ما تعارف عليه الناس. ولكن الصحيح أنّ المراد ب_«العرف» في هذه الآية ما هو مستحسن في العرف البشري بوجه عامٌ، بمعنى أنّ العقل الاجتماعي لدى كلّ المجتمعات البشرية يستحسنه. وهذا ما يقال له الحسن والقبح العقليان، فإنّ الحاكم في هذا الباب ليس هو العقل، بل العقلاء بمختلف أعرافهم.

وهذه الأُمور هي التي ربّما يدّعي فيها أنّها من الفطريات، وأنّ الله تعالى أودعها في فطرة الإنسان، وإن كان هذا غير ثابت بدليل علمي. وأمّا ما نجده من إرجاع الفقهاء بعض الأُمور إلى العرف، فإنّما هو في تحديد الموضوعات، والمفاهيم الملقاة من قبل الشارع، حيث إنّ المخاطب بخطابات الشارع هو

ص: 111


1- الأعراف (7): 199

العرف العامّ، فلا بدّ من مراجعة العرف لمعرفة حدود تلك المفاهيم. والمعتبر في ذلك عرف المجتمع الذي تلقّى الخطاب.

ثمّ إنّ الدليل من نفس الآية الكريمة على أنّ الذي أخفاه هو ما ذكرناه دون ما يقوله المتقوّلون، هو قوله تعالى: «وَتُخفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ»، فإنّ الذي أبداه الله تعالى هو ما أعلنه بقوله: «فَلَمّا قَضَى زَيْدُ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا».

«وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ»، «الخشية»: الخوف والجملة حالية، أي أنّك تخفي في نفسك أمراً خوفاً من الناس، ولا ينبغي أن تخافهم، وإنّما الخشية من الله تعالى. وهذا عتاب منه تعالى لرسوله على شدّة محافظته صلّی الله علیه و آله على استقرار المجتمع وعدم إثارته، فهذا هو المراد بخشية الناس، وهو خشية منهم وعليهم لا على نفسه، نظير خيفة موسى علیه السّلام من سحر السحرة، حيث قال تعالى: «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى»(1) فإنّه إنّما خاف تأثير ذلك في إضلال الناس. ولذلك جاءه الخطاب الإلهي: «قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى»(2).

وهكذا الرسول صلّی الله علیه و آله خاف من تأثير هذه الحادثة في ضلال الناس، فخوطب بقوله تعالى: «وَ اللهُ أَحَقُّ أن تَخْشَاهُ» وذلك لطمأنته بأنّ الله تعالى إذا أمر بشيء فإنّه يخطّط له كلّ مستلزماته.

ونظير ذلك خوفه صلّی الله علیه و آله من إعلان إمامة أمير المؤمنين علیه السّلام، لئلا تثور ثائرة الحاقدين، ويتۀهموه بالانحياز إلى ابن عمۀه وصهره، فطمأنه الله سبحانه بقوله: «وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» بعد أن عاتبه بقوله: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ

ص: 112


1- طه (20): 67
2- طه (20): 98

وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»(1) وحتّى في هذا المورد أيضاً لا يبعد أن يكون الخوف في النهاية على الناس من وقوعهم في الضلالة.

ومجمل القول في هذه المعاتبات وما يتبعها من بثّ الطمأنينة وتسكين الروع أنّ الهدف منه يمكن أن يكون أمرين:

1 - تعديل الحالة النفسية للرسول صلّی الله علیه و آله، فإنّ هذا القرآن هو الذي أدّب الله به رسوله وكوّن شخصيته الممتازة، والله تعالى قد أودع فيه إلى حدّ كبير الرحمة والشفقة بالناس، كما قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُم»(2). والتنكير للتعظيم، أي رحمة عظيمة. وقال تعالى: «وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»(3) حيث عبّر عنه صلّی الله علیه و آله بالرحمة، فكأنّه رحمة متجسّدة، وقال تعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ»(4). فهذا غاية الرأفة والرحمة قد منّ الله تعالى بهما على المؤمنين.

ولكن لا بدّ من تعديل ذلك لئلا يسبب الإفراط فيه تسويفاً في تبليغ ما يخاف منه عليهم، كما في خطة الغدير، أو تأخيراً في ما أمر الله به من كسر السنن الذي لا يقلّ أهميّة من كسر الأصنام، بل هو هو بوجه، كما في خطّة زواجه صلّی الله علیه و آله بزينب بعد زيد. ومثل ذلك ما حدث في قضية إذنه صلّی الله علیه و آله لمن تقاعس عن الحرب، فعاتبه الله تعالى بقوله: «عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ»(5).

ص: 113


1- المائدة (5): 67
2- آل عمران (3): 159
3- الأنبياء (21): 107
4- التوبة (9): 128
5- التوبة (9): 43

2- التمهيد وتهيئة الحالة الاجتماعية، ليتمكّن الرسول صلّی الله علیه و آله من القيام بواجبه، فكلّ هذه المعاتبات، تهيّئ الوضع الاجتماعي لتقبّل ما أراد النبيّ صلّی الله علیه و آله، من إعلان أمر الإمامة، وكسر السنن الجاهلية، والامتناع عن الإذن للمتقاعسين عن الجهاد في المستقبل.

و لا شكّ أنّه صلّی الله علیه و آله لم يتوان في تنفيذ ما أمره الله تعالى به، ولكن حيث لم يكن المأمور به مؤقّتاً، كان صلّی الله علیه و آله يؤخّر التنفيذ رحمة بالناس، سواء في قصّة زيد أو إعلام الإمامة، فكان هذا العتاب مبيّناً له أنّ الوقت قد حان، وأنّه لا ينبغي أن تخشى الناس، والله أحقّ أن تخشاه، فلا تؤخّر التنفيذ، فإنّه تعالى إذا أمر بشيء، هيّأ له أسبابه وقلوب الناس بیده، فالمراد ب_«خشية الله» هنا عدم تأخير العمل بأوامره، والحدّ من الشفقة بالناس.

وممّا يثير التساؤل التعبير عن زيد في الآية الكريمة ب_«الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه»، بدلاً عن التصريح باسمه، كما صرّح به بعد ذلك، فلعلّ السرّ فيه التنبيه على أنّه لم يقصد بهذه الخطّة إضراراً بزيد، ولم يكن للرسول صلّى الله عليه و آله طمع في امرأته حاشاه!! فهو محفوف بنعم الله ورسوله. وهذا تعبير يشعر بغاية الإرفاق واللطف به.

«فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَاهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً»، «الوطر» هو الحاجة المهمّة. ومعنى قضائها انتهاؤها. فيكون معنى الجملة أنّ التزويج لم يتحقّق إلا بعد أن عافت نفس زيد عنها، ولم يبق له إليها حاجة. ولعلّه من جهة كراهته لها لأيّ سبب كان.

وربّما تفسّر الحاجة بالمقاربة، وأن المراد بقضائها تحقّقها، وذلك للتأكيد على

ص: 114

محاربة السنّة الجاهلية من جهة أن المرأة لم تكن مجرّد حليلة لزيد، بل قضى منها حاجته الجنسية، فيكون أكد في المنع، حسب سنتهم.

ويمكن أن يؤيّد هذا الوجه بقوله تعالى في التعليل: «إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً»، إذ لو حمل على الكراهة كان معناه أنّه لا حرج على المؤمنين في التزوّج بأزواج أدعيائهم إذا كرهوهنّ وعافتهنّ أنفسهم، مع أنّ جواز النكاح لا يشترط فيه ذلك.

ولكنّ هذا لا يوجب وهناً في الوجه الأوّل، إذ لا يبعد أن يكون القصد التنبيه على أنّه لا ينبغي للرجل أن يتزوّج حليلة متبنّاه أو غيره، إلا بعد أن تعافها نفسه ويكره إبقاءها على ذمّته، فلا يحاول أن يحرّض صديقه أو أيّ أحد آخر أن ينزل له عن امرأته، كما كانوا يفعلونه في العصر الأوّل.

والحاصل: أنّ الأوفق بالسياق وبظاهر اللفظ أن يكون المراد من قضاء الوطر كراهة زيد لها لأي ّسبب كان، وعزمه على عدم إبقائها على ذمّته.

وتبيّن من قوله تعالى: «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ» أنّ الهدف من كلّ هذا الزواج ثمّ الطلاق ثمّ زواج الرسول بها، لم يكن إلا رفع الحرج عن المؤمنين، ليتحرّروا عن القيود الجاهلية في الزواج وغيره، ولا يتّبعوا إلا أوامر الله تعالى.

«وَ كَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً»، يحتمل فيه بدواً أن يكون المراد الأمر التكويني، فيكون المعنى أنّه يتحقّق لا محالة، ولكن تناسب المقام يقتضي أن يكون المراد، الأمر التشريعي، إذ الكلام حول الأوامر الصادرة بزواج زيد من زينب، ثمّ تطليقها، ثمّ زواج النبيّ منها، فالمراد أنّه يجب أن يعمل به ولا يجوز التواني فيه.

«مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ»، «ما كان» أي لا يمكن أن يكون. و«من» في «من حرج» زائدة تفيد التأكيد على عدم وجود أقلّ شيء من الحرج

ص: 115

عليه. والمراد ب_«ما فرض له» هو ما قدر له، والفرض هو التقدير. وقد قدّر له أن يكسر السنن الجاهلية عملياً بالزواج من حليلة متبنّاه، فلا حرج عليه في عليه في ذلك.

وفي بعض التفاسير أنّ المراد به ما أباح الله له من أزواج، وأنّ هذه سنّة الله في الأنبياء السابقين، وعدّوا لهم أزواجاً كثيرة، استناداً إلى روايات أشبه بالأساطير. ولكن توصيف الأنبياء بعد ذلك بأنّهم يخشون الله في سبيل التبليغ ولا يخشون غيره لا يبقي مجالاً للشكّ في أنّ المراد بالذي فرض للرسول صلّی الله علیه و آله هو ما قدّر له من مجال العمل وإبلاغ الرسالة، ومواجهة الثقافات البائدة، والسنن الجاهلية، لا ما أُبيح له من أزواج أو غيرها. والفرض هو التقدير، لا الإسهام كما قالوا.

«سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ»، «السنّة» اسم مصدر وقع موقع المصدر، وهو مفعول مطلق، أي سنّ الله تعالى ذلك سنّته في الذين خلوا من قبل، والمراد بهم الأنبياء السابقون بدليل التوصيف الآتي. و «خلوا» بمعنى مضوا، كأنّ الزمان خلا عنهم ، فأسند الخلوّ إليهم مجازاً. وليست السنّة، الزواج بحليلة المتبنّى، ولا كثرة الزواج - كما قيل - بل كسر السنن الجاهلية، وترسيخ دعائم الشريعة، واستبدال العادات بها.

«وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً»، المراد ب_«الأمر»، الأمر التشريعي، ومنه ما تعلّق بزواجه صلّی الله علیه و آله بزينب. و «القدر» مصدر بمعنى المحاسبة، وهو بمعنى اسم المفعول، أي مقدوراً، وهو والمقدّر واحد، فالمقدور بعده تأكيد، كقوله تعالى: «نَسْياً مَنسِيّاً»(1) . والمراد أن ّأمره تعالى ليس جزافاً كأحكام البشر، ينتظرون النتائج ليتحقّقوا من صحّة تشريعهم، فإذا أمر الله بشيء، فقد قدّر كلّ ما يستلزمه

ص: 116


1- مريم (19): 23

ويستتبعه، وكلّ شيء بيده، وهو علام الغيوب.

«الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ» صفة للذين خلوا من قبل ليتبيّن أنّ المراد بهم الرسل - سلام الله عليهم -، ولعلّه أتى بالرسالات جمعاً باعتبار اختلاف الشرائع في بعض الجزئيات، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار أنّ كلّ واحد منهم يبلّغ رسالات الله، فالتعدّد بلحاظ تعدّد الأحكام والمعارف الإلهية. ولعلّ الإتيان بالمضارع للتنبيه على استمرار الرسالات، فيشمل الرسول صلّی الله علیه و آله .

«وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا الله»، «الخشية» الخوف. وإنّما كانوا يخشون الله تعالى في أيّ توان وتقاعس عن تبليغ الرسالات، ولا يخشون غيره، فلا يهمّهم ما يترتّب على أعمالهم، مادام الأمر من الله تعالى.

وربّما يقال: إنّ في هذا تعريضاً بالرسول صلّی الله علیه و آله حيث أنّه خشي الناس بدلاً من أن يخشى الله، بخلاف الأنبياء السابقين. وهذا غريب جدّاً ممّن يعترف بأنّه صلّی الله علیه و آله أفضل الخلق !

والصحيح - كما مرّ - أنّ الآية تشمل الرسول صلّی الله علیه و آله، وإلا لم يكن وجه للإتيان بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار، خصوصاً مع كونه وصفاً للذين خلوا من قبل. وقد بيّنا المراد بقوله تعالى: «وَتَخْشَى النَّاسَ» بما لا يوجب أدنى مسّ لكرامة الرسول صلّی الله علیه و آله، بل الصحيح أنّه لم يرتكب ترك الأولى أيضاً، وإنّما أخّر قبول اقتراح زيد، رفقاً بالناس، فأنبئ من قبل الله سبحانه، بأن لا يكرّر ذلك، فقد آن الأوان لإنجاز الخطّة. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَحَقُّ أن تَخْشَاهُ» لا يفيد أنّه لم يخش الله كما هو واضح.

«وَكَفَى بِالله حَسِيباً»، «الباء» زائدة، أي كفى الله حسيباً. و«الحسيب» فعيل بمعنى

ص: 117

الفاعل من الحساب أي العدّ، كقوله تعالى: «كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»(1). ومثل هذه الآية قوله تعالى: «وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ»(2) ويأتي الحسيب بمعنى الكافي، ولا يناسب هذا المقام. والظاهر: أنّ الجملة تعليل لخشيتهم من الله تعالى وعدم خشيتهم من غيره. وذلك لأنّه هو الذي يخاف من حسابه فحسب.

«مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رجَالِكُمْ»، الغرض من هذه الجملة التأكيد على أنّ المتبنّى لا يترتّب عليه حكم الابن. وللتأكيد على ذلك، نفى أُبوّة الرسول صلّی الله علیه و آله لكلّ الرجال الموجودين في ذلك العهد، ولذلك أضاف الرجال إليهم. والمراد بالضمير، في (رجالكم) المجتمع الحاضر آنذاك، فلا ينافي كونه صلّی الله علیه و آله أباً للقاسم والطيّب والطاهر وإبراهيم. وقيل: إنّ الطيّب والطاهر لقبان للقاسم. ومهما كان فهؤلاء كلّهم ماتوا قبل البلوغ. فلم يكونوا من الرجال. والحسن والحسين علیهماالسّلام لم يبلغا حين نزول الآية.

ولا يصحّ ما يقال من أنّ الأب لا يشمل الجدّ، لأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله أكّد غير مرّة أنهما ولداه، ولأنّ الحكم المتوهّم في المقام، وهو حرمة التزوّج بحليلة الولد يشمل الحفيد .

«وَلَكِن رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»، أي ولكن كان رسول الله. والغرض حصر علاقته صلّی الله علیه و آله بالمجتمع في الرسالة والنبوّة، بعد نفي علاقة الأبوة بوجه مطلق. والرسول من يحمل رسالة من الله تعالى إلى قوم، وهو فعول بمعنى المرسل، أو اسم مصدر بمعنى الرسالة، ويكون حمل المصدر على الذات إمّا للمبالغة، أو

ص: 118


1- الإسراء (17): 14
2- الأنبياء (21): 47

بتقدير ذا الرسالة. و«النبيّ» من ينبئه الله بوحيه فعيل من النبأ بمعنى الخبر، فكلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسولاً.

والرسول صلّی الله علیه و آله كان خاتم الرسل وخاتم النبيّين أيضاً، فانقطع بعده الوحي التشريعي، وانتهت الشريعة، فقوله تعالى: «وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»، ينفي وجود رسول بعده أيضاً، إذ لا رسالة إلا بنبوّة، والخاتم - بفتح الميم - ما يختم به، كالقالب ما يقلب به، و بکسره اسم فاعل أي الذي ختم النبيّين، ويفيد نفس المعنى.

«وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» لعلّه إشارة إلى أنّ الله تعالى بعلمه لما يصلح شأن البشرية، ختم النبوّة بمحمّد صلّی الله علیه و آله و فشريعته أكمل الشرائع، والبشرية في عهده وما بعده من العهود تصل إلى مرحلة من الكمال، بفضل متاعب الأنبياء علیهم السّلام، طيلة التاريخ البشري، بحيث يكفيه ما لديه من آثار وما يستنتجه بعقله، حجّة عليه ومناراً يسترشد به في ظلمات الجهل.

ص: 119

سورة الأحزاب (41-44)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)»

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً» ، «الذكر» يقابل النسيان فيشمل اللساني والقلبي، كما ذكرناه في آية: «إِنَّ المُسْلِمِينَ»، كما أنّ التسبيح يمكن أن يكون في القلب والاعتقاد أيضاً، إلا أنّ الظاهر منه هو التسبيح باللسان، فيمكن أن يكون قرينة على أنّ المراد هنا بالذكر، خصوص اللساني أيضاً. والذكر مهما كان يستلزم أن يكون العبد مستحضراً ربّه ويراه مهيمناً عليه. وهذا لو كان يحصل بصورة دائمة، لكان العبد مراقباً كلّ حركاته وسكونه، ولأوصله ذلك إلى مرتبة العصمة، أو ما يقرب منها، ولكنّه لا يستطيع ذلك ، فأمره الله تعالى أن يكثر من ذكره.

«وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»، ثمّ أمر بتسبيحه كلّ صباح ومساء. و«الأصيل» هو العشاء كما في «مفردات الراغب»(1). وقيل: ما بعد العصر إلى المغرب. ومثل ذلك قوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ»(2) وقد ورد في الأحاديث التأكيد على تكرار القول ب_«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير عشر مرّات قبيل الطلوع، وعشراً قبيل الغروب.

ص: 120


1- المفردات في غريب القرآن: 19
2- ق (50): 39

ويمكن أن يكون المراد بالتسبيح بكرة وأصيلاً، الاستمرار عليه مهما أمكن، وفي كافّة الأوقات، كقوله تعالى: «يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ»(1) حيث يصف بذلك ملائكته والملائكة ليس لهم ليل ونهار، بل يسبّحونه تعالى دائماً.

«هُوَ الَّذِي يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلاكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ». سياق الآيات وتصدير هذه الآية بالضمير، يوحي بأنّ هذه الآية والآية التالية في مقام ذكر النتيجة والجزاء للذكر الكثير. وبتعبير آخر في مقام بيان سبب التشريع. والحاصل: أنّ الذكر الكثير يوجب العطف الإلهي والرحمة الخاصّة بالمؤمنين، بحيث يخرجهم من ظلمات الغفلة والجهل إلى نور الإيمان والعبودية والتشرّف بذكر الله لهم، كما قال تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»(2).

و «الصلاة» يقال: إنّها في أصل اللغة بمعنى العطف أو الميل. ولا يبعد أن يكون المعنى في أصل اللغة هو هذه العبادة الخاصّة على اختلاف مصاديقها، حسب الشرايع. وقد ذكرنا في مبحث الحقيقة الشرعية من المباحث الأُصولية أنّ الصلاة من أعرق المفاهيم البشرية، وأنّها كانت مع الإنسان منذ بدء خلقته، فلا وجه لمحاولة كشف معنى لغوي، يكون هو الأصل في هذه الكلمة، ثمّ البحث عن زمان تحقّق الحقيقة الشرعية.

وعليه فالصحيح في هذا المقام أنّ المعنى الأوّل للصلاة، وإن كان هو العبادة الخاصّة، إلا أنّها بهذه المناسبة تستعمل لإفادة معنى مطلق العطف والميل مجازاً، وهي بهذا المعنى تختلف حسب الموارد. فالصلاة من الله رحمة ربوبية، والصلاة

ص: 121


1- الأنبياء (21): 20
2- البقرة (2): 152

من العبد عبادة وتذلّل، ومن الملائكة دعاء بالرحمة - كما هو المشهور - ويشهد له ما ورد في القرآن من دعائهم كما في أوائل سورة غافر، ولا يبعد أن يكون من صلاتهم وعطفهم التوسّط والشفاعة، فإنّهم وسائط نزول الرحمة، كما لعلّه هو المراد هنا، فالله تعالى يبعث ملائكته ليخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور.

«وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً»، لعلّ الإتيان بالفعل الماضي للإشارة إلى أنّ ذكر المؤمنين الذي كان السبب في هذه الرحمة الخاصّة الممتازة المعبّر عنها بالصلاة، إنّما كان بنفسه أيضاً برحمة مسبقة من الله تعالى نظير قوله تعالى: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليَتُوبُواْ»(1) فهناك توبة مسبقة من الله، أي رجوع عليهم بالعطف والرحمة ليتوبوا، ثمّ توبة بعد توبتهم تتمثّل في قبول التوبة منهم.

ولعلّك تقول: إنّ مقتضى السياق أن يقال: وكان بكم رحيماً. لاستمرار الخطاب في هذه الجملة فلماذا أتى بالاسم الظاهر؟ وممّا ذكرناه آنفاً يمكن الجواب بأنّ الإتيان بالاسم الظاهر لعلّه للإيذان بأنّ كثرة ذكرهم التي هي السبب في هذه الرحمة الخاصّة المعبّر عنها بالصلاة كان برحمة مسبقة من بسبب إيمانهم.

وهذا أولى ممّا قاله العلامة الطباطبائي رحمه الله من أنّه إنّما أتى بالاسم الظاهر بدلاً عن الضمير للإيذان بأنّ سبب الرحمة الخاصّة، هو الإيمان، وذلك لمنافاته مع ما ذكر أنّ ظاهر الآية من أنّ سبب هذه الرحمة الخاصّة هو الذكر الكثير لا مطلق الإيمان.

«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» ما مرّ في الآية السابقة نتيجة الذكر الكثير في الدنيا، وأمّا يوم القيامة - وهو يوم يلقون الله تعالى - فجزاؤهم أن يحيَّوا من قبل الله تعالى

ص: 122


1- التوبة (9): 118

وملائكته بالسلام، كما ورد في آيات أُخرى منها قوله تعالى: «وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم»(1).

ويمكن أن يكون المراد بيوم اللقاء، يوم الموت والتوفّي، فإنّ المؤمن يلقى ربّه ذلك اليوم، وقد قال تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ»(2) و«اللقاء» بمعنى الإدراك المباشر الذي ربّما يعبّر عنه بالرؤية، مع أنّه إدراك أق-وى بكثير من الرؤية البصرية، فالبصر قد يخطئ في الألوان وفي الحركات وغيرها، كما هو واضح محسوس، ولكنّ الإدراك المباشر بالذات والروح لا يمكن أن يخطئ.

والمثال الواضح له في هذه الحياة هو إدراك الإنسان لنفسه، فإنّه لا يمكن أن يكون خاطئاً، وهو أقوى إدراك محسوس وشامل. ومثل هذا الإدراك يحصل للإنسان بموته حيث ينكشف عنه الغطاء ويخرج من قيود المادّة، وهناك يلقى ربّه ويحظى بلقائه السعيد الذي هو غاية المنى.

والسلام الذي يحيّون به حكم وعمل، لا مجرّد كلام أو دعاء، كما أنّ اللعنة هناك إبعاد عن الرحمة في الواقع الخارجي لا دعاء به. فالمراد بالسلام - والله العالم - الأمن والسلامة المطلقة، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والتعبير مع ذلك مفعم بالإكرام والاحترام.

«وَاعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» ومن إكرامهم أنّ الله تعالى هيّأ لهم من قبل أجراً لا يقدّر بقدر، ويكفي في عظمته أنّ الله، خالق الكرامة، يعبّر عنه بالكريم. و«الكريم» بمعنى الثمين والقيّم، فذلك الأجر في مقياس الله تعالى قيّم، مع أنّه لا يرى لهذه الحياة الدنيا بكلّ ما فيها من زينة وبهاء، أيّ قيمة.

ص: 123


1- الرعد (13): 23 - 24
2- النحل (16): 32

سورة الأحزاب (45-48)

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)»

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً» أبلغ مدحة من خالق الكون وربّه لنبيّه الكريم صلّی الله علیه و آله حيث وصفه بأوصاف خمسة:

1- الشاهد. والشهادة هنا تحتمل ثلاثة معان:

أ- شهادة قائد المجتمع وإمام الناس لأعمالهم، ممّا تنّبئ عن خبايا أسرارهم واتجاهاتهم، وإيمانهم به وبرسالته، أو كفرهم أو نفاقهم. والحاصل أنّه يرى من أعمال كلّ أحد وجهة تأثيره الاجتماعي. والشهادة بهذا المعنى تتحقّق لكلّ قائد اجتماعي، وربّما يحمل قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»(1) على ذلك، بقرينة أنّ رؤية المؤمنين ليس إلا على هذا الوجه.

ب - أنّ الملائكة تعرض أعمال العباد على الرسول صلّی الله علیه و آله ، وكذلك على الأئمّة من بعده، فهو شاهد على خبايا أعمالهم، وليس على ظواهرها وتأثيراتها الاجتماعية فحسب.

وبهذا المعنى وردت روايات تدلّ بعضها على أنّ الأعمال تعرض على الرسول صلّی الله علیه و آله حتّى بعد وفاته، وبعضها على أنّها تعرض بعده على الإمام، وأنّ المراد بالمؤمنين في الآية الكريمة الآنفة الذكر هو أمير المؤمنين علیه السّلام، أو الأئمّة كلّهم علیهم السّلام.

ص: 124


1- التوبة (9): 105

ولا شكّ أنّ كيفية العرض غير مفهومة لنا، ولا نعلم أنّ الأعمال هل تعرض بكلّ تفاصيلها، أم أنّ هناك نوعاً خاّصاً من العرض لا تبلغه أفهامنا؟ وهل كلّ الأعمال تعرض، أم أنّ قسماً خاصّاً منها تعرض عليهم؟ وقد ورد ذكر الشهادة في آيات كثيرة. والبحث عنها يستدعي موضعاً آخر.

ج - الشهادة بمعنى كونه مثلاً يحتذى به، ومقياساً للصلاح والعبودية، فالرسول أو الإمام بعمله وسيرته شاهد في الدنيا يقتدى به، وفي الآخرة يقاس به الأعمال، قال تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسِ بِإمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً»(1) فالتفريع في قوله: «فَمَنْ أُوتِيَ» يدلۀ على أنۀ دعوة الإمام لتمييز من يؤتى كتابه بيمينه. وهناك شواهد أُخرى على ذلك أيضاً.

و «شاهداً» حال، فيدلۀ على أن الرسالة ملازمة للشهادة، وهو كذلك بأيۀ معنى من المعاني المذكورة. ولا وجه لما قيل من أنّها حال مقدّرة، أي إنّا أرسلناك مقدّراً أن تكون شاهداً في المستقبل، فإنّ الشهادة متحقّقة من بدء الرسالة.

2 و3 - المبشّر والنذير. يبشِّر المتّقين والصالحين بأنّ لهم أجراً حسناً، وينذر من اتّبع هواه بما تستتبعه أعماله من العذاب الأبدي. ولعلّ الفرق بين البشارة والإنذار حيث أتى بالأوّل بصيغة اسم الفاعل والثاني بصيغة المبالغة، من جهة كون الإنذار أهمّ في رسالة الرسل. وكثيراً ما يأتي الإنذار فقط من دون بشارة كأنّ دور الرسول منحصر فيه، بل يأتي ضمن صياغة تفيد الحصر، كقوله تعالى: «إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ»(2) وقوله تعالى: «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ»(3) وذلك من جهة أنّ دفع الضرر

ص: 125


1- الإسراء (17): 71
2- هود (11): 12
3- الرعد (13): 7

أهمّ، ومن جهة أنّ أكثر الناس معرّضون للعذاب، «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (1).

4 - الداعي إلى الله بإذنه. أي داعياً إلى الإيمان بالله وبوحدانيته، وتقواه، ومتابعة دينه وشريعته، وحبّه والانقياد له. والدعوة إنّما هي إلى الله تعالى لا إلى إصلاح اجتماعي، أو ثورة على وضع قائم، أو أيّ هدف إنساني آخر، فكلّ ذلك مهما كان لها من أهميّة، فهي تصغر أمام هذا الهدف العظيم. وهو يشمل في النهاية كلّ الأهداف السامية، لأنّ السير إلى الله تعالى، في طريقه الذي رسمه للبشرية، يوصله إلى الخير المطلق في الدنيا والآخرة.

وأمّا التقييد بكون الدعوة بإذنه تعالى فإنّه يفيد أنّه مبعوث من قبل الله تعالى، فليس داعياً منبعثاً من نفسه. ولعلّ الوجه في تقييده بالإذن دون غيره، أنّ ذكر اسمه تعالى في هذا الوصف ربّما يوهم أنّه يدعو إليه تعالى بدافع ذاتي، فالإتيان بهذا القيد لدفع التوهّم.

وقيل: إنّ الوجه فيه هو استثقال أمر الدعوة، فالتعبير بالإذن يراد به التيسير، أي أنّه يدعو إلى الله تعالى بتيسير منه، وإلا لم يتمكّن، بل كان يحجم عن الأمر، كما أنّه أحجم عنه في بدء البعثة، حتّى أنزل الله تعالى: «يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرُ»(2) .

وهذا الاحتمال ضعيف، لأنّ شهادته صلّی الله علیه و آله إن لم تكن أهمّ وأصعب، فلا تقلّ عن الدعوة. ولذلك ذهب بعضهم إلى أنّ القيد يعود إلى كلّ ما سبق. ولكنّه بعيد، إذ لا وجه لإخراج كونه سراجاً منيراً من التقييد.

5 - السراج المنير. فهو لا يكتفي بالدعوة إلى الله وإراءة الطريق، بل ينير

ص: 126


1- سبأ (34): 13
2- المدثر (74): 1 - 2

الدرب بأقواله وأفعاله وأخلاقه وسيرته، فإنّه إمام الموحّدين. والإمام هو المثال الحيّ للسائرين على الدرب يقتدون بهداه. وهكذا ينير الطريق في الظلمات الكالحة، ظلمات الجهل والشهوة، والأفكار الخاطئة، والتقاليد البالية، والسنن الجاهلية.

والسراج يطلق على الشيء المنير بذاته الذي لا يكتسب نوره من غيره، ولذلك ورد التعبير في القرآن عن الشمس بالسراج دون القمر. وهذا يدلّ على العظمة الذاتية للنبيّ صلّی الله علیه و آله، وأنّه في جوهره وذاته وكيانه يختلف عن سائر البشر.

«وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الله فَضْلاً كَبِيراً»، الظاهر أنّ هذه الجملة عطف على جملة مقدّرة تفهم من سياق الآيتين السابقتين، فإنّهما وإن كانتا في مقام المدح والثناء للرسول الكريم صلّی الله علیه و آله ، إلا أنّهما يحملان أمراً إليه أيضاً، فإنّ المراد بهما نصبه صلّی الله علیه و آله لهذه المقامات، ممّا يستدعي لزوم مباشرة العمل وفقاً لها، فإنّ الملك إذا نصب أحداً وزيراً، فإنّ معناه الأمر بالعمل وفق مقتضيات الوزارة، فمعنى الآيتين الأمر بمباشرة الشهادة والبشارة والإنذار والدعوة والإنارة. وهذه الجملة - أي تبشير المؤمنين - عطف على الأمر السابق.

و «الفضل» بمعنى الزيادة. ويطلق على ما يمنحه أحد لغيره من دون استحقاق. وكلّ ما يعطيه الله تعالى، فهو فضل، لأنّ المخلوق لا يستحقّ شيئاً على خالقه، وكلّ ما يقال من حقّ أحد حتّى الأنبياء والأولياء، فهو حقّ جعله الله على نفسه. وحيث إنّ الفضل في الدنيا لا يختصّ بالمؤمنين؛ خصّهم في الآية بالفضل الكبير. وقد وردت الإشارة إلى هذا الفضل في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ

ص: 127

الصَّالِحَتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»(1).

والكبير أمر نسبي، فهو كبير بالنسبة إلى ما فضّل به على غير المؤمنين من نعم الدنيا، فإنّ الحياة الدنيا ليست في الآخرة إلا متاع. وهناك فضل أكبر بكثير، وهو فضله تعالى على النبيّ صلّی الله علیه و آله قال تعالى: «إِلا رَحْمَةً مِنْ رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً»(2)، فهذا كبير بالنسبة إلى كلّ فضل أّوتي به غيره صلّی الله علیه و آله.

«وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً» عطف على الآية السابقة، فهناك أمر بتبشير المؤمنين، وهنا بمواجهة الكفّار والمنافقين. وسياق الآيات يأبى النزول في مكّة كما ادّعي. ولا موجب لذلك، فإنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله كان محاطاً بمؤامرات الكفّار والمنافقين في المدينة أكثر بكثير ممّا كان في مكّة، وكما كانت المؤامرات تحاول الإطاحة به صلّی الله علیه و آله كانت تحاول أيضاً كسب بعض الامتياز للكفّار أو لآلهتهم أو للمنافقين.

وقد ورد نفس هذا النهي في أوّل السورة وقلنا: إنّه صلّی الله علیه و آله لم يكن يهادن الكفّار، وإنّما ورد هذا النهي ليكون حجّة له صلّی الله علیه و آله في مواجهة فريقين من المسلمين فريق يدعو إلى التشدّد، وفريق يدعو إلى الهدنة.

ثمّ إن الإطاعة هو اللين، وبالطبع فإنّ المنع منه يستلزم ممارسة الخشونة معهم، وهي تستتبع مواجهتهم، وربّما تستتبع حرباً بل حروباً، ولكنّ الله تعالى يستصغر کیدهم ويعتبره مجرّد إيذاء، إذ لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً إلا ما أراده الله تعالى. ثمّ قلّل من شأنه كإيذاء أيضاً، وأمر رسوله صلّی الله علیه و آله أن يتركه ولا يهتمۀ به

ص: 128


1- الشورى (42): 22
2- الإسراء (17): 87

ويتوكّل على الله، ويكل أمرهم إليه وكفى به وكيلاً.

وليس معنى ذلك عدم اتخاذ المواقف اللازمة في كلّ موضع يقومون فيه بعمل عدواني ضدّ الإسلام والمسلمين، ولذلك لم يتوقّف الرسول صلّی الله علیه و آله عن محاربتهم ومقابلة كيدهم بالسياسة الحكيمة، بل المراد عدم الاهتمام، لأنّ الله تعالى لهم بالمرصاد، إلا أنّه لا يبرز المعجزات في مثل ذلك، وإنّما يعالج الموقف بالأسباب الطبيعية، ومنها هذه المواقف الحكيمة التي كان النبيّ صلّی الله علیه و آله يتّخذها في مواجهتهم. وقد مرّ بعض الكلام في التوكّل في بداية السورة المباركة.

وبناءً على ذلك، فالمراد بقوله تعالى: «وَدَعْ أذاهُمْ» عدم الاهتمام بما يكيدون وما يمارسونه من أعمال إيذائية، فالأذى مصدر مضاف إلى الفاعل. والأمر بالترك وهو معنى «دع» كناية عن عدم الاهتمام.

وقيل: إنّ المراد النهي عن إيذائهم، فالأذى مضاف إلى المفعول، و«دع» بمعناه الحقيقي. وهو بعيد في حدّ ذاته، لأنّه صلّی الله علیه و آله ما كان يؤذي أحداً، وإنّما كان يدفع أذى المشركين والمنافقين إذا تجاوز الحدّ، بل كان يتحمّل أذاهم قبل الهجرة وبعدها، وحتّى بعد استقرار حكومته وخضوع الرقاب له صلّی الله علیه و آله ، فما كانت المؤامرات تتوقّف، والإيذاء كان مستمرّاً حتّى في آخر لحظات حياته صلّی الله علیه و آله، فالنهي عن الإيذاء لا يناسب خلقه الرفيع، مضافاً إلى أنّه لا يناسب الأمر بالتوكّل، وإنّما يناسبه عدم الاعتناء بهم وبإيذائهم.

ص: 129

سورة الأحزاب (49-52)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)»

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتَّعُوهُنَّ وَسَرْحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً» مجموعة آيات تتعرّض البعض أحكام النكاح والطلاق. والآية الأُولى عامّة للمؤمنين، وما بعدها خاصّة بالنبيّ صلّی الله علیه و آله. ولعلّ هذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها.

ومهما كان فالمراد بالنكاح العقد، حيث فرض عدم المساس بعده، وهو كناية عن المواقعة. والآية تذكر حكم المطلّقة قبل المواقعة وأنّها لا عدّة عليها، فيجوز لها أن تتزوّج بعد الطلاق مباشرة. وقد ذكر حكمها في سورة البقرة بالفرق بين

ص: 130

التي فرض لها فريضة أي قدّر لها مهر، فتستحقّ نصفه والتي لم يفرض لها ذلك فتستحقّ الإمتاع.

قال تعالى: «لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمَفْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ مَنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَن يَعْفُونَ أو يَعْفُواْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَان تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1).

والذي لم يذكر في سورة البقرة من حكمها هو عدم وجوب العدّة عليها وذكر في هذه الآية، والتعبير يوهم أنّ العدّة حقّ للرجل على المرأة، حيث قال تعالى: «فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا» فالعدّة للرجل على المرأة وهو الذي يعتدّها، ولذلك قال المفسّرون في توجيه ذلك: إنّ العدّة إنما شرعت لحفظ الأنساب، والرجل هو صاحب النسب والذي ينسب إليه الولد فله الحقّ في منع المرأة من الزواج في العدّة، لحفظ نسبه، فإذا لم يتحقّق بينهما مساس فلا حقّ له.

وربّما يستبعد كون الاعتداد حقّاً للرجل من جهة أنّه غير قابل للإسقاط من قبله. وأجاب بعضهم: إنّ عدم جواز الإسقاط لا ينافي كونه حقّاً له، فإن بعض الحقوق ، لا يصحّ إسقاطه كحقّ الورثة في تركة الميّت، وحقّ الفقراء في الزكاة.

أقول: أمّا الورثة فيملكون التركة وليس هذا حقاًّ، وأمّا الزكاة فصاحب الحقّ أو المالك هو عنوان الفقير، لا مجموع الفقراء وليس هناك من نقض، فكلّ حق قابل للإسقاط إلا إذا كان في نفس الوقت يشتمل على حقّ آخر كحقّ الحضانة،

ص: 131


1- البقرة (2): 236 -237

فإنّه لا يصح إسقاطها لأنّه حقّ للوالدين وللطفل أيضاً، أو لأنّه حقّ وحكم شرعي بلزوم حضانة الطفل.

ومهما كان فالإشكال في المقام، ليس من جهة جواز الإسقاط، بل من جهة أنّ العدّة حكم شرعي واجب على المرأة، حتّى لو ارتدّ زوجها السابق، أو كانا كافرين وأسلمت الزوجة. والذي أوهم الجماعة هو الضمير المذكّر في الخطاب؛ وغاب عنهم أنّ هذا خطاب للمجتمع الإسلامي، والقرآن يعبّر عن كلّ القوانين الاجتماعية بمثل ذلك، فيخاطب المجتمع بإجراء الحدّ كقوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيهُمَا»(1) وقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ منْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ»(2) ونحو ذلك.

ويشهد له قوله تعالى: ف_«تَعْتَدُّونَها» فإنهّ بمعنى الامتناع من الزواج بها، وهو لا يشمل الزوج السابق، إذ ليس عليها عدّة بالنسبة له، وإنّما الخطاب هنا لسائر الرجال.

وقد وقع النقاش بين المفسّرين وكذلك الفقهاء في كيفية التعامل مع الآيتين، حيث إنّ ظاهر هذه الآية وجوب الإمتاع لكلّ مطلّقة قبل المساس، سواء فرض لها فريضة أم لا. وظاهر الآية التي في سورة البقرة التفصيل، واختصاص الإمتاع بمن لم يفرض لها مهر حين العقد، وفقهاؤنا يقيّدون إطلاق هذه الآية، بما ورد في سورة البقرة، فيحملون هذه الآية على خصوص من لم تفرض لها فريضة.

وذهب بعض الفقهاء إلى استحباب الإمتاع للكلّ، فحمل الأمر هنا على

ص: 132


1- المائدة (5): 38
2- النور (24): 2

الاستحباب ولم يحمل المطلق على المقيّد، وفي كلّ ذلك مخالفة للظاهر. وفسّر بعض المفسّرين الإمتاع بما يشمل دفع نصف المهر وهو أبعد من الكلّ، ويقرب في الذهن أنّ حمل الأمر على الاستحباب، هو الأولى.

وهناك أمر آخر تختلف فيه الآيتان، وهو تنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول كما ورد في سورة البقرة، ولم يرد هنا إلا أن هذه الآية ساكتة عن حكم المهر، فلا تنافي بينهما من هذه الجهة.

و«التسريح»: الإرسال، وأصله تسريح الإبل في المرعى. والمراد بالسراح الجميل أن لا تكون المفارقة بحقد وتشهير، كما هو الحال في أكثر الموارد، فهناك كثير من الأذواق والأخلاق لا تتلائم ، ولكن لا ينبغي أن يحدث بينهما بغض وكراهية وشنآن، فليتفارقا بمسالمة وتفاهم، ويغني الله كلاً من سعته.

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللآتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» تبيّن الآية حكم زواج النبي صلّی الله علیه و آله و ما خصّه الله تعالى به في هذا المجال، فإنّ الله تعالى حرّم على الرجال، الزواج بأكثر من أربع، وأوجب على من كان له أكثر من ذلك - قبل نزول الحكم - أن يختار منهنّ أربعاً، ولكنّه أحلّ للرسول صلّی الله علیه و آله ما كان له من أزواج حين نزول الآية، بشرط أن يكون قد آتاهنّ مهورهنّ، وهي المراد بالأُجور، وهذا الشرط كان حاصلاً حيث قيل: إنّه صلّی الله علیه و آله لم يؤخّر مهر امرأة، فالنتيجة أنّ الله تعالى أحلّ له الإبقاء على كلّ زوجاته.

هذا هو ما يبدو ابتداءً من الآية الكريمة، ولكن سيأتي في صحيحة الحلبي ما يظهر منه أنّ المراد بهذا العنوان ليس هو خصوص أزواجه اللاتي كانت له صلّی الله علیه و آله حين نزول الآية، بل المراد أنّه يحلّ له من النساء ما شاء من دون تحديد في العدد.

ص: 133

«وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَآءَ اللهُ عَلَيْكَ» وهذا هو القسم الثاني من النساء اللاتي أحلّ الله لرسوله صلّی الله علیه و آله، وهنّ الإماء المملوكات له، بشرط أن تكون الجارية ممّا أفاء الله عليه بسبي وغنيمة أو بإهداء من كافر، فإنّه غنيمة وفيء أيضاً، فيشمل هذا القسم مارية القبطية. وظاهره المنع من شراء الجواري، ولكنّ الظاهر أنّه لا يحرّم عليه ما كان لديه من جوار ممّا اشتراهنّ لو فرض ذلك.

ويقع الكلام هنا بالمناسبة عن جواز الاسترقاق في الشريعة مع أنّه أمر يرفضه المنطق والعقل السليم. وأنّه ما هو ميزة إنسان على آخر حتّى يملكه؟! وأنّه كيف يمكن أن يعتبر الإنسان سلعة يشترى؟! ونحو ذلك ممّا يقال.

وقد أجابوا عن ذلك بأنّ الإسلام إنّما أحلّ الاسترقاق في الحرب، فالذي يحارب المسلمين ويعتدي عليهم يستحقّ القتل، فأولى له أن يُبقى عليه ويُسترقّ، مضافاً إلى أنّ في ذلك مصلحة له وللمجتمع، فإنّه سيبقى بذلك في المجتمع الإسلامي، ويتعلم ويعود عضواً مفيداً في المجتمع البشري. وهناك عدّة من علماء المسلمين في مختلف العلوم هم في الأصل من الرقيق.

ولكنّ هذا الجواب ضعيف للغاية، فمجرّد ترتّب أثر مطلوب عليه لا يبرّره، كما أنّا نجد أنّ الساسة الدهاة ينتهزون الفرص، ويستفيدون من الحروب الطاحنة، والأعمال الإرهابية لمصلحة شخصهم أو مجتمعهم، ولكن ذلك لا يبرّر الحرب والإجرام، ومن المعلوم أنّ الاسترقاق ما كان يختصّ بالسبي في الحروب، والسبي أيضاً ما كان يختصّ بالرجال المحاربين، ومن ذلك مورد الآية الكريمة أي الجواري، فإنّهنّ ما كنّ يشاركن في حرب، بل ربّما كان بعضهنّ مغلوباً على أمرها. ولو خيّرت لاختارت الخروج من المجتمع الذي تعيش فيه،

ص: 134

ولكن لا خيار للضعفاء، خصوصاً في تلك العصور، فما هو المبرّر لاسترقاقهنّ؟ وأغرب من ذلك استرقاق الأطفال، فإنّه أيضاً مجاز في الشريعة، وما ذكر من التعليل العليل لا يشملهم من دون ريب.

وأمّا ما يقال من أن الإسلام عالج المسألة بالحكم بالعتق في الكفّارات وغيرها فهذا أضعف، فإنّا نجد على أرض الواقع أنّ المشكلة ازدادت تفاقماً، واتّسعت دائرة الرقيق يوماً فيوماً، ولم نجد حتّى من أئمّتنا الأطهار علیهم السّلام شجباً واستنكاراً لذلك، بل بالعكس كانوا يشترون الرقيق من سوق المسلمين، ويعاملونهم معاملة الرقيق المسبيّ من دون فرق.

والصحيح في الجواب إجمالاً هو ما نجيب به عن كلّ مناقشة واعتراض على الحكم الشرعي، وهو أنّ الحكم لله تعالى وعلينا السمع والطاعة، سواء علمنا للحكم مصلحة أم لم نعلم. بل حتّى لو علمنا أنّه مخالف للمصلحة، وقد حكم الله على بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم ليتوب عليهم بعد عبادتهم العجل. فما هو المصلحة في قتل النفس؟! فلو كان الله يجيز بيع الأولاد أو قتلهم لجاز من دون تردید.

ونحن لم نعلّق إيماننا بالله وبالإسلام والقرآن والرسالة بأنّنا وجدنا أحكام هذه الشريعة موافقة للعقل والمنطق، وإنّما آمنّا بالله بدليل العقل والفطرة، وآمنّا بالرسالة للمعجزات التي أظهرها الله تعالى على يد النبيّ الكريم صلّی الله علیه و آله وأعظمها القرآن الكريم. وما علينا بعد ذلك إلا التسليم والطاعة العمياء.

وكيف يمكن للإنسان أن يعترض على ربّه وخالقه؟! وماذا يمكنه أن يصنع إن لم يسلّم لحكم ربّه ؟! وهل من الممكن أن يقاوم الإنسان قوانين الطبيعة التي

ص: 135

جعلها الله تعالى تكويناً؟! فكما لا يمكنه ذلك لأنه مفروض عليه فرضاً، كذلك ما يحكم به الله تعالى تشريعاً.

وبنظرة واقعية أعمق نتساءل: ما هو الدليل على استنكار الاسترقاق سوى أنّه لا يوافق أذواقنا بعد ما نادت الجوامع البشرية بالحرّية؟! وهل تملّك الحيوان ثمّ ذبحه وأكله، أوفق مع العقل من استرقاق الإنسان؟! حقّاً أنّه لأمر غريب أن يستسيغ الملاحدة والمنكرون للأُلوهية ذبح الحيوانات وأكلها واستخدامها، فهنا يقع نفس السؤال. فإنّ الحيوان أيضاً ذو حياة يسعد بها ويحبّها ويدافع عنها وله علائق في الحياة كالأولاد والبيت، ولعلّ هناك غير ذلك ممّا لا نعلمه من العلائق، فنحن لا نعلم من حياة الحيوان إلا القليل، فما هو المبرّر لحرمانه من كلّ ذلك، لسبب واحد وهو أنّا نريد استخدامها وذبحها وأكلها ونقدر على ذلك؟!

لا أعتقد أن أحداً يمكنه أن يذكر وجهاً مقنعاً إلا أنّ الله تعالى - وهو خالق الكون وله كلّ ما في السماوات والأرض - قد أجاز لنا ذلك وسخّر لنا الحيوان. وهذا المنطق يبرّر الاسترقاق حتّى بالنسبة للأطفال أيضاً.

ويشهد لذلك أنّ البشرية كانت منسجمة مع نظام الاسترقاق طيلة التاريخ البشري، وإنّما كانت ترفض الظلم والقسوة مع العبيد، وهو مرفوض في جميع الشرائع والقوانين. ولست أقصد بذلك تبرير نظام الاستعباد ككلّ، فإنّ هذا النظام بني من أصله على الظلم، ولكن أقول: إنّ تشريع أصل هذا النظام، بشروط وقوانين معقولة، ليس أمراً مستنكراً في حدّ ذاته، ولكنّه كأيّ حكم آخر لا يجوز لأحد تشريعه، وإنّما ذلك الله تعالى، وله الحمد والمجد.

«وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَماتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللآتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ» وهذا

ص: 136

قسم آخر من النساء أحلّ الله تعالى لرسوله صلّی الله علیه و آله الزواج بهنّ، ولا شكّ أنّ المراد ليس الزواج بكلّ هذه النسوة، ولا إبقاء من كان منهنّ في عصمته لما مرّ من ذكرهنّ في الجملة الأولى، فالمراد أنّه يجوز له أن يتزوّج بهنّ ما شاء، بشرط أن يكنّ قد هاجرن معه.

وهذا القيد ربّما يمنع من الزواج بكثير من المذكورات، فإنّهنّ لم يهاجرن معه صلّی الله علیه و آله إلا أن يراد بذلك الهجرة إلى نفس المكان وبنفس الهدف وإن لم يكن في نفس الوقت. وهو غير بعيد.

ونظير ذلك قوله تعالى: «وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ»(1) في عدّة مواضع من القرآن الكريم، فالمعيّة لا يراد بها المعيّة الزمانية، بل وحدة الهدف والطريق، او بمعنى المتابعة.

وقد وقع الكلام في المراد بهن، فقيل إنّهنّ القرشيات، فكلّهنّ بنات عمّه أو عمّاته، ونساء بني زهرة، فإنّهنّ بنات أخواله وخالاته، وذلك للتوسّع في إطلاق هذه العناوين في لغة العرب، ليشمل كلّ المتقرّبات بالأب والأُمّ.

وقيل: إنّها على حقيقتها وإنّه كان له صلّی الله علیه و آله عدّة من الأرحام يمكنه التزوّج بهنّ. ولكنّ الظاهر أنّه لم يتزوّج حتّى بواحدة منهنّ إلا زينب بنت جحش. والظاهر أنّ ذلك أيضاً كان قبل نزول الآية.

وهناك بحث طويل في سرّ إفراد العمّ والخال، والجمع في العمّة والخالة. و أفضل ما قيل فيه: إنّ ابن العمّ وابن الخال اسم جنس في لغة العرب، فيطلق على كلّ قريب من جهة الأب وأمّا ابن العمّة والخالة فلا يطلق إلا على ابن

ص: 137


1- البقرة (2): 214 و 249؛ التوبة (9): 88؛ هود (11): 58

عمّة بعينها، وخالة بعينها.

«وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَنكِحَهَا» قسم آخر من الزواج أحلّه الله تعالى لرسوله خاصّة، وهو أن تهب المرأة نفسها له، فإذا أراد النبيّ أن يستنكحها، جاز له ذلك. وهذا أيضاً ممّا لم يعمل به الرسول صلّی الله علیه و آله، وإن نُقل في الأحاديث أنّ امرأة وهبت نفسها للنبيّ صلّی الله علیه و آله فلم يتزوّجها، وتزوّجها عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وهي خولة بنت حكيم.

وقد روى البخاري في باب «تُرْجِى مَن تَشَاءُ» عن عائشة قالت: كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللاتي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لرَسُول الله صلّی الله علیه و آله وَأقُولُ أَتَهَبُ المَرْأةُ نَفْسَهَا، فَلَمَّا أَنْزَلَ الله تَعَالَى: «تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ» قُلْتُ مَا أرَى رَبَّكَ إِلا يُسَارِعُ في هَوَاكَ. (1)

ورواه في موضع آخر (2)، عن هشام عن أبيه قال: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهنّ للنبيّ فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلمّا نزلت «تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ» قلت يا رسول الله ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك. ورواهما مسلم وغيرهما من أصحاب الصحاح والمسانيد(3) وقد صحّح الألباني الحديث. وفي «مجمع البيان» أنّ الرسول صلّى الله عليه و آله قال لها بعد ذلك: «إنّك إن أطعت الله سارع في هواك».(4)

ولو لم ينقل الحديث في الصحاح لكان مرفوضاً، لأنّ التعبير المنقول لا

ص: 138


1- صحيح البخاري 6: 24
2- نفس المصدر : 128
3- راجع مسند أحمد 6: 261؛ فتح الباري 8: 405
4- مجمع البيان 8: 171

يناسب من يؤمن بالرسول صلّی الله علیه و آله، بل إنّ كلمة «ربّك» بدلاً عن التعبير باسم الجلالة لا تناسب الإيمان بالله أيضاً، ثمّ إنّ قولها للمرأة: «أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل» يحكي عن أنّها لم تفرّق بين الرسول صلّی الله علیه و آله وغيره من الرجال، إذ من الواضح أنّ المرأة المذكورة لإيمانها بالرسول صلّی الله علیه و آله وهبت نفسها له، لا لأنّه رجل.

«خَالِصَةٌ لَكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ» اعتبر بعض المفسّرين هذا القيد قيداً للحكم الأخير فقط، أي هبة المرأة نفسها له، ولكنّ الظاهر أنّه قيد لكل ما ورد قبله، فإنّها كلّها خاصة به صلّی الله علیه و آله. ولذلك عقّبه بقوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ»، فالمعنى أنّ هذه الأحكام خالصة لك، وللمؤمنين أحكام أُخرى في الزواج وملك اليمين.

والذي يتحصلّ من الآية تحليل الزواج له صلّی الله علیه و آله بأيّ عدد شاء، ومن أيّ نوع من النساء إلا ما حرّمه الله تعالى على الجميع بقوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ»(1) ولكن كلّ ذلك بالشروط العامّة والخاصّة، فهناك شروط في أصل الزواج كعدم كونها في عصمة الغير، وهناك شروط خاصّة للنبيّ صلّی الله علیه و آله وذلك في غیر زوجاته اللاتي كنّ على عصمته وقت نزول الآية.

ولا يصحّ ما قيل ونسب إلى ابن عبّاس من أنّه حرّم عليه الزواج بغير المهاجرات، لأنّ قوله تعالى: «وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِن وَهَبَتْ»، يشمل كلّ المؤمنات. ولكن اشترط في غير المذكورات قبل ذلك، أن تكون المرأة هي التي تظهر رغبتها في الزواج وأن لا يكون بطلب المهر. وهذا شرط خاصّ في زواجه صلّی الله علیه و آله بغير المهاجرات من أقاربه.

ص: 139


1- النساء (4): 23

والحاصل: أنّ هذه الآية تفتح المجال أمام الرسول صلّى الله عليه و آله في أمر الزواج لمصلحة سياسية، وتحدّده أيضاً في نفس الوقت لمصلحة أُخرى سنشير إليها. وهذا التعميم في التحليل هو المستفاد من روايات أهل البيت علیهم السّلام. وسيأتي ذكرها وبعض الكلام حولها إن شاء الله تعالى، ونسأله التوفيق.

«لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» أي أنّ هذه الأحكام الخاصّة إنّما شرّعت لك، لئلا يكون عليك حرج فيما تريده من أمر الزواج. وأمّا التعقيب بالغفران والرحمة، فالظاهر أنّه بلحاظ أصل الترخيص، كما ورد ذلك في عدّة موارد، وليس بمعنى غفران الذنب، فإنّ التحليل والترخيص ينشأ من الغفران والرحمة. أمّا «الرحمة» فواضح، وأمّا «الغفران» أي الستر باعتبار أنّه تعالى في مقام التشريع لا يلاحظ ما يقتضي التشديد وفرض الأحكام الإلزامية، فهو أيضاً نوع من الستر والغفران.

وقد تشبّث أعداء الرسول صلّى الله عليه و آله بكثرة أزواجه، وبهذه الأحكام التي خصّه الله تعالى بها للوقيعة في كرامته واتّهامه بما لا يليق، مع أنّ من الواضح أنّه كان أبعد ما يكون عن متابعة الشهوات، فقد بقي إلى سنّ الخامسة والعشرين لم يتزوّج، مع سهولة الزواج في ذلك العصر، وكونه في غاية العزّ لدى العشيرة وفي قريش بأكمله، ولم يسمع أحد منه بزلّة طيلة شبابه، وإلا لأوصموه بها بعد ما كان يقبّح عاداتهم وسننهم، بل يحتقر آلهتهم.

ثم إنّه تزوّج وهو في عنفوان شبابه بامرأة تكبره بخمسة عشر عاماً، وهي السيّدة خديجة - سلام الله عليها -، وبقيت زوجته الوحيدة إلى أن توفّيت ولم يتزوّج بعدها إلى أن انتقل إلى المدينة، فتزوجّ كلّ أزواجه هناك، وبقي إلى آخر

ص: 140

العمر يذكر خديجة ويتأسّف عليها، ممّا أثار حفيظة عائشة وقد روت بنفسها ذلك على ما في كتب أحاديث العامّة. ونحن ننقل عن مسند أحمد، فقد روي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه و آله إِذَا ذَكَرَ خَديجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ التَّنَاء، قَالَتْ ماً فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشَّدْقَ قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بها خَيْراً مِنْهَا قَالَ: «مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَني النَّاسُ وَوَاسَتْني بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ»(1) وروي بوجوه أُخر. (2) ويلاحظ أيضاً أنّ كلّ نسائه صلّى الله عليه و آله ثيّبات إلا عائشة.

وكلّ هذه المناكح إنّما حدثت بعد أن تجاوز الثالثة والخمسين، فهل يمكن أن ينسب ذلك إلى اتّباع الشهوات؟! والذي ثبت تاريخياً أنّه صلّى الله عليه و آله كان يتزوّج النساء من قبائل مختلفة، ليحقّق المصاهرة بينه وبين قبائل العرب، وكانت العرب - ولا زالت - تهتمّ بهذا الأمر، وتدافع عن أصهارها. وكانت المصاهرة الطريق السهل لسدّ باب الحرب بين القبيلتين، بل كانوا يرغمون قبيلة القاتل أن يزوّجوا فتاتهم لرجل من قبيلة المقتول لحقن الدماء. والحاصل: أنّ المصاهرة كانت وسيلة للتحابّ والتوادد وكانت سياسة الرسول صلّى الله عليه و آله قائمة على ذلك.

وقد رووا أنّ هناك موارد خطب فيهم الرسول صلّى الله عليه و آله، وأرجأ الأمر، فكانوا يكتفون بذلك يتباهون به في المجتمع العربي. وربّما كان بعض مناكحه لوجوه أُخرى، كزواجه بزينب، على ما مرّ ذكره. وذكر وجوه أُخرى في سائر الموارد. كلّ ذلك يبيّن الأمر بوضوح، ويعلم وجه الحكمة في هذا التشريع، وأنّ الله تعالى

ص: 141


1- مسند أحمد 6: 118
2- راجع: مجمع الزوائد للهيثمي 9: 224

لأيّ سبب، سهّل أمر الزواج على الرسول صلّى الله عليه و آله، ورفع الحرج عنه، والحمد لله على التوفيق.

هذا: ويصحّ أن نعتبر الآية بوجه محدّداً لمناكح الرسول صلّى الله عليه و آله، أو هكذا يبدو لأوّل نظرة. ولعلّ الوجه في ذلك أنّه صلّى الله عليه و آله كان يقع في حرج في مواجهة توقّعات الناس في أن يتزوّج منهم ، فحدّد الله مناكحه ليكون له العذر في ردّ من يتقدّم إليه بهذا الطلب.

وبهذا يتبيّن السرّ في اهتمام الوحي بهذه المسألة التي ربّما يعد الاهتمام به غريباً بالنظر إلى شخصية الرسول صلّى الله عليه و آله وعظمة الرسالة الإلهية. ويتبيّن أنّ مسألة مناكح النبيّ صلّى الله عليه و آله كانت موضع اهتمام العرب آنذاك، وأنّها كانت تحرج الرسول صلّى الله عليه و آله والله العالم.

«تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُنوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ»، «الإرجاء» هو التأخير، و«الإيواء» هو الإسكان، وهو كناية عن القبول والضمّ. وقد وقع الكلام في أنّ هذه الجملة هل تعود إلى أزواجه صلّى الله عليه و آله، أو إلى خصوص المذكورات في آخر الآية السابقة، أي اللاتي وهبن أنفسهنّ، أو إلى كلّ الأصناف المذكورة، فيجوز له قبول من أرادها وردّ من لم يردها، ثمّ هو بالخيار بعد ذلك أيضاً في قبول من ردّها.

وبناءً على الأوّل، فالمراد بیان حکم خاصّ به صلّى الله عليه و آله أيضاً ، وهو أنّ حقّ القسم بین النساء في البيتوتة، لا يحدّد حياته الزوجية، فله أن يقدّم من يشاء ويؤخّر من يشاء منهنّ. والنتيجة أنّه كان بإمكانه أن يتزوّج ويترك زوجته لا يقسم لها شيئاً من لياليه، وكان بإمكانه أن يعود إليها إن أراد.

ولم يذكر في التاريخ أنّه ترك بعضهنّ كذلك، بل كان صلّى الله عليه و آله مثلاً في العدل

ص: 142

بينهنّ، كما هو مثل في كلّ الأخلاق السامية. فلعلّ هذا الحكم أيضاً له سرّ يرتبط بما ذكرناه آنفاً من تحرّج الرسول صلّى الله عليه و آله في ردّ بعض التوقّعات، وذلك لأنّ جعل النبيّ صلّى الله عليه و آله بالخيار في ذلك، يقلّل من رغبة النساء في المناكحة.

ومهما كان، فهذا الحكم أيضاً من خصائصه صلّى الله عليه و آله، فلا حرج عليه أن لا يقسم بین نسائه، بل يترك بعضهنّ نهائياً وله أن يعود إليها متى شاء.

وهذا المعنى وإن كان هو الأنسب بسياق الآية، إلا أنّ المصرّح به في صحيحة الحلبي الآتية أنّ «من آوى فقد نكح ومن أرجأ فلم ينكح»(1) وهو ينطبق على أحد الاحتمالين الآخرين. فالواهبة نفسها يمكن أن يؤخّر الرسول صلّى الله عليه و آله قبولها أو ردّها، فعليها الانتظار، وكذا سائر الأصناف إذا أظهر الرسول صلّى الله عليه و آله تمايله للزواج، وقد روي أنّه إذا خطب وجب الانتظار. وسيأتي توجيه ما ينافي هذا الاحتمال في الجمل التالية.

«وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ»، «الجناح»: الإثم، وأصله الميل والانحراف. وبناءً على الاحتمال الأوّل، فالمراد - كما مرّ - جواز الإيواء بعد الإرجاء، أي ومن قصدت الرجوع إليها في القسم بعد أن تركتها فلا إثم عليك، فيكون العزل بمعنى الإرجاء وهو بعيد. وهذا ممّا يبعّد هذا الاحتمال.

وأمّا بناءً على الاحتمالين الآخرين، فلا يجب أن تكون هذه الجملة مرتبطة بالإيواء والإرجاء، بل يحتمل أن يكون مورد هذه الجملة هو القسم، فيكون العزل بمعناه الحقيقي، وتفيد الجملة حينئذٍ جواز العزل في القسم ثمّ العود. والنتيجة أنّ الجملة السابقة تبيّن حكم جواز التأخير والقبول في عرض الزواج

ص: 143


1- الكافي 5: 1/388

عليه صلّی الله علیه و آله، وهذه الجملة تبيّن حكماً آخر، وهو جواز عزل بعض الزوجات في القسم ثمّ العود إليها.

«ذَلِكَ أدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنَهُنَّ وَلا تَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ». الظاهر أنّه إشارة إلى خصوص الحكم الأخير، وهو جواز الابتغاء بعد الاعتزال، وبذلك يكون ترتّب الرضا وعدم الحزن واضحاً، فمن لم تعزل راضية من البدو، ومن عزلت ثمّ ابتغيت ترضى بعد ذلك.

وأمّا على ما ذكروه من كونه إشارة إلى كلّ ما سبقه، بناءً على أنّ الإرجاء بمعنى العزل، فيحتاج إلى تأويل، لأنّ التي ترجأ لا ترضى بل تحزن فقالوا: إنّها إذا علمت أنّ ذلك حكم عامّ لجميع زوجات الرسول صلّی الله علیه و آله، أو أنّه من الله تعالى فسترضی .

وضعف ذلك واضح، فإنّ الرضا بقضاء الله لا ينافي الحزن، كما أنّ التعبير بقرّة العين لمجرّد ذلك بعيد جدّاً.

«وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً» إشارة إلى أنّ أحكامه تعالى إنّما يلاحظ فيها - مضافاً إلى المصالح العامّة - ما تتطلّبه الجهات النفسية، وما ينطوي عليه القلوب من حبّ وبغض وتوادّ وتحاسد وغيرة ونحو ذلك، والله يعلم ما يصلح شؤونكم، وهو حليم لا يستعجل بلوغ المقاصد. وهذه نقطة مهمّة، فإنّ كلّ مشرّع غيره تعالى، حتّى لو علم بالمصالح وبما يحقّقها، إلا أنّ استعجاله في بلوغ المآرب، يجعله يشرّع قانوناً يفيد من جهة ويضرّ من جهات، ولذلك وبعد التجربة يضطرّ إلى إلغائه. ولكنّ الله تعالى لحلمه وعدم استعجاله في تحقّق الأهداف، يشرّع قانوناً يضمن الوصول إليها دون إضرار.

ص: 144

«لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» المعروف في تفسير الآية أنّ الله تعالى حرّم على رسوله أن يتزوّج امرأة غير ما عنده من النساء حين نزول الآية أي التسع. ولكي لا يُتوهّم أنّ مراعاة العدد أي التسع هو المقصود، صرّح بحرمة التبديل، بأن يترك واحدة ويتزوّج غيرها. وعليه فالمراد بقوله: «مِن بَعْدُ» أي بعد نزول هذه الأحكام.

ولكنّ هذا التفسير بالرغم من كونه هو الظاهر بدواً، إلا أنّه ينافي بوضوح قوله تعالى: «إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ» إذ لا يبقى للتحليل مورد أصلاً، ولا يمكن القول بالنسخ لوضوح تعاقب الآيات، ولم يقل بهذا النسخ أحد.

وكنت أتبّنى هذا التفسير سابقاً وأصرّ عليه، ولكن هناك روايات من أئمّة أهل البيت علیهم السّلام تصرّ على عدم صحّته، وأنّ الله لم يحرّم على رسوله ما أحلّه على غيره. ومن الغريب أنّ بعض مفسّري الشيعة أيضاً حاولوا التهرّب من الرضوخ لمفاد هذه الروايات بحجّة أنّها مخالفة للكتاب، وإن كان بعضها صحيحة سنداً.

وقد راجعتها، وتأمّلتها بدقّة، وتأثّرت عميقاً بمضامينها العالية، وتوقّفت كيف أجمع بينها وبين الآية الكريمة، إلى أن هداني الله تعالى حيث أصررت على أن لا أُفرّق بين الكتاب والعترة الطاهرة، والحمد الله، وهو الهادي.

وأنقل هنا نصّ الأحاديث الشريفة تباعاً وتماماً، تيمّناً وتبرّكاً:

1 - روى الكليني في «الكافي» عن علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن يحيی، عن أحمد بن محمّد جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبى عبد الله علیه السّلام قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ» قلت: كم أحلّ له من النساء؟ قال: «ما شاء من شيء». قلت: قوله: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ

ص: 145

مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ» فقال: «لرسول الله صلّی الله علیه و آله أن ينكح ما شاء من بنات عمّه وبنات عمّاته وبنات خاله وبنات خالاته، وأزواجه اللاتي هاجرن معه، وأحلّ له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر ، وهي الهبة، ولا تحلّ الهبة إلا لرسول الله صلّی الله علیه و آله، فأمّا لغير رسول الله صلّی الله علیه و آله فلا يصلح نكاح إلا بمهر. وذلك معنى قوله تعالى: «وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ»». قلت: أرأيت قوله: «تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ»؟ قال: «من آوى فقد نكح، ومن أرجاً فلم ينكح». قلت: قوله: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ»؟ قال: «إنّما عنى به النساء اللاتي حرّم عليه في هذه الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ...» إلى آخر الآية. ولو كان الأمر كما يقولون كان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له، إنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، ولكن ليس الأمر كما يقولون، إنّ الله عزّ وجلّ أحلّ لنبيّه صلّی الله علیه و آله ما أراد من النساء إلا ما حرّم عليه في هذه الآية التي في النساء».(1)

2- وروى أيضاً عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد، عن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ»، فقال: «أراكم وأنتم تزعمون أنّه يحلّ لكم ما لم يحلّ لرسول الله صلّی الله علیه و آله، وقد أحلّ الله تعالى لرسوله أن يتزوّج من النساء ما شاء، إنّما قال: لا يحلّ لك النساء من بعد الذي حرّم عليك قوله: «حُرُمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ»».(2)

3 - وروى أيضاً عن الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الحسن بن علي الوشّاء، عن جميل بن درّاج و محمّد بن حمران، عن أبي عبد الله علیه السّلام قالا:

ص: 146


1- الكافى 5: 387/1
2- نفس المصدر : 2/388

سألنا أبا عبدالله علیه السّلام كم أحلّ لرسول الله صلّى الله عليه و آله من النساء؟ قال: «ما شاء - يقول بيده هكذا - وهي له حلال - يعني يقبض يده-».(1)

4- وروى أيضاً عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن عبدالكريم بن عمرو، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر علیه السّلام في قول الله عزّ وجلّ لنبيّه «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ» كم أحل له من النساء؟ قال: «ما شاء من شيء». قلت: قوله عزّ وجلّ: «وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ». فقال: «لا تحلّ الهبة إلا لرسول الله صلّى الله عليه و آله وأمّا لغير رسول الله فلا يصلح نكاح إلا بمهر»، قلت: أرأيت قول الله عزّ وجل: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ»، فقال: «إنّما عنى به لا يحلّ لك النساء التي حرّم الله في هذه الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَاخَوَاتُكُمْ وَعَماتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ...» ولو كان الأمر كما تقولون كان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له، لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، ولكن ليس الأمر كما يقولون، إنّ الله عزّ وجلّ أحلّ لنبيّه صلّى الله عليه و آله أن ينكح من النساء ما أراد، إلا ما حرّم عليه في هذه الآية في سورة النساء». (2)

5 - وروى أيضاً عن أحمد بن محمّد العاصمي، عن علي بن الحسن بن فضّال، عن علي بن أسباط، عن عمّه يعقوب بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: قلت له: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ...»؟ فقال: «إنّما لم يحلّ له النساء التي حرّم الله عليه في هذه الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ...» في هذه الآية كلّها، ولو كان الأمر كما يقولون لكان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له هو، لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد، ولكن ليس الأمر كما يقولون. أحاديث آل محمّد صلّى الله عليه و آله خلاف

ص: 147


1- نفس المصدر : 3/389
2- نفس المصدر: 4/389

أحاديث الناس، إنّ الله عزّ وجلّ أحل لنبيّه صلّى الله عليه و آله أن ينكح من النساء ما أراد، إلا ما حرّم عليه في سورة النساء في هذه الآية».(1)

والصحيح سنداً من هذه الأحاديث هو الأوّل فقط، وهو أهمّها متناً أيضاً، لاشتماله على نقاط مهمّة في تفسير هذه الآيات الكريمة، ورفع الإبهام عنها، فنكتفي بملاحظتها:

1- في الجواب عن السؤال الأوّل بيّن الإمام علیه السّلام أنّ المراد بالعنوان الأوّل في الآية الكريمة ليس هو خصوص الأزواج اللاتي كنّ في عصمته صلّى الله عليه و آله حين نزول الآية، بل المراد جواز زواجه بأيّ عدد شاء من النساء.

2 - وفي الجواب عن السؤال الثاني بيّن علیه السّلام أنّ ذكر بنات العمّ والخال ليس إلا من قبيل ذكر الخاصّ قبل العامّ، لأنّه أحلّ له أيّ امرأة من عرض المؤمنين إذا وهبت نفسها له صلّى الله عليه و آله بشرط أن يرغب فيها، والهبة بمعنى أنّها لا تطلب منه مهراً.

وهذا من خصوصياته صلّى الله عليه و آله، فليس هناك تقييد في نوع النساء اللاتي يمكن للرسول الله صلّى الله عليه و آله الزواج بهنّ، ولكن إذا كانت من غير بنات العمّ والخال يشترط فيها أن تهب نفسها له، ولا تطالب مهراً.

3- وفي الجواب عن السؤال الثالث تعرّض الإمام علیه السّلام لمعنى الإرجاء والإيواء، وأنّ المراد بالأوّل رفضه النكاح، وبالثاني قبوله، ولذلك قويّنا احتمال أن لا تكون هذه الجملة مرتبطة بالقسم بين النساء كما يبدو.

4- وأمّا في الجواب عن السؤال الرابع حيث عيّن الإمام علیه السّلام ما حرّمه الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه و آله في المحارم الأصلية، فالظاهر أنه علیه السّلام يريد بذلك أنّه بعد أن تبيّن

ص: 148


1- نفس المصدر: 8/391

أنّ ما أحلّه الله تعالى عليه يشمل جميع المؤمنات، وإن كان هناك شروط عامّة وخاصّة، ولم يحدّد له صلّى الله عليه و آله عدداً، فلا يبقى تحت العنوان المحرّم إلا المحارم.

والحاصل: أنّ الأحاديث الشريفة المذكورة تؤكّد وتركّز بكلّ حماس على أمرين: أحدهما: عدم حصر العدد في تسع فضلاً عن انحصار الزواج في تلك الزوجات اللاتي كنّ على ذمّته صلّى الله عليه و آله حين نزول الآية، كما هو المعروف.

والثاني: أنّه ليس هناك عنوان محرّم على الرسول صلّى الله عليه و آله خاصّة ومحلّل على غيره، وإن كان هناك شرط في زواجه بغير بنات العمّ والخال، كما أنّ الزواج بهنّ أيضاً يشترط فيه الهجرة، ولعلّه بذلك تخرج منهنّ من بقيت في مكّة إلى زمان الفتح.

فمعنى الآية الكريمة على ضوء الأحاديث الشريفة أنّه لا يحلّ لك النساء بعد ما أحللنا لك في الآية السابقة، إلا ضمن الشروط المذكورة هناك، من دون تحديد بعدد ولا بعناوين خاصّة، كما لا يحلّ لك أن تطلّق ما تزوّجت من هذه الأصناف بشروطها، لتتزوّج بغيرها، من دون منع عن أصل الطلاق، ولا عن أصل الزواج بالغير ضمن الشروط.

وقوله تعالى: «وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» يؤكّد هذا المنع. و«لو» هنا شرطية وجزاؤه محذوف، أي لو أعجبك حسنهنّ لا يجوز أيضاً، ويفيد التأكيد على المضمون السابق.

وربّما يستشكل على هذه الأحاديث بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ تحريم هذه النساء معلوم مسبقاً، فلا موجب لتكراره .

والجواب أوّلاً: أنّ التكرار ليس بعزيز في القرآن الكريم.

ص: 149

وثانياً: أنّه حسب التوجيه الذي أشرنا إليه ليس المراد تفسير كلمة النساء الواردة في الآية بذلك، بل المراد أنّه لا يبقى تحت العنوان المحرّم غير المذكورات. ولعلّ هناك قصد في الإبهام وإيهام التحريم، كما أشرنا إليه ليكون وازعاً من كثرة التوقّعات المحرجة للنبيّ الحبيب صلّى الله عليه و آله .

الوجه الثاني: أنّ هذا التفسير ينافي قوله تعالى: «وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ» لأنّ التبديل إنّما يتصوّر في الزوجات بالفعل، بأن يطلّق إحداهنّ ويستبدلها بغيرها. وأمّا النساء اللاتي يجوز له الزواج بهنّ فلا معنى للتبديل في حقّهنّ.

والجواب: أنّ هذا الإشكال يرد أيضاً في تفسير الآية بأنّ المراد النساء المحللات في قوله تعالى: «إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ» وهو المنقول عن كثير من السابقين، بل مرجع القولين واحد، وإنّما الاختلاف في تفسير الموارد المحلّلة في تلك الآية. وتبيّن أنّ ما ورد في الحديث الشريف هو الصحيح الموافق للتأمّل في الآية الكريمة.

والحلّ أنّ المراد بالتبديل تطليق من تزوّج بها من المذكورات في آية التحليل بقصد الزواج بغيرها، فلا يختصّ الحكم بالزوجات بالفعل.

وأمّا ما قيل في التوجيه: من أنّ التبديل كناية عن أصل التطليق، لأنّ المتعارف أنّ الرجل يطلّق ليتزوّج بغيرها فلا وجه له، ولا موجب لتكلّف هذه الكناية، مع أنّ ما ذكر من التعارف ممنوع، خصوصاً في من تعدّدت زوجاته، مضافاً إلى أنّ تحريم الطلاق على الرسول صلّى الله عليه و آله بوجه مطلق موجب لأشدّ الحرج، وهو بعيد جدّاً.

الوجه الثالث: أنّ استثناء ملك اليمين ينافي ذلك، إذ لا يستقيم الاستثناء إلا إذا

ص: 150

قلنا بعدم جواز الزواج بغير التسع مطلقاً، ولا تبديل بعضهنّ بغيرهنّ إلا ملك اليمين فلا محدودية فيه. وأمّا إذا قلنا بأنّه لا محدودية على زواجه صلّى الله عليه و آله إلا في المحرّمات الأصلية العامّة، فمعنى الاستثناء أنّه يجوز له النكاح مع المحارم - والعياذ بالله - بملك اليمين. وهو باطل قطعاً.

وهذا الإشكال لا يرد على من فسّر الآية بغير من أحلّ الله في الآية السابقة، لأنّه يبقى على هذا التفسير موارد يمنع من النكاح فيها إلا بملك اليمين.

ولعلّ هذا الإشكال أقوى ما يمكن أن يورد على الأحاديث، ولكنّك إذا لاحظت تفسيرنا للأحاديث المذكورة تبيّن لك ضعفه أيضاً، فإنّ مفادها ليس إلا منع التحديد بالعدد فضلاً عن خصوص التسعة المذكورة، ومنع تحريم عناوين خاصّة عليه صلّى الله عليه و آله، وإن كانت هناك محدودية من حيث الشروط، وهذه المحدودية لا تشمل ملك اليمين. بل الواقع أنّ استثناء ملك اليمين استثناء منقطع، لأنّه ليس من الزواج، فلا يفيد إلا التأكيد على التقيّد بالشروط المذكورة في الزوجات.

«وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» لعلّ التعقيب بالرقابة الإلهية لإفادة أمرين:

أحدهما: التأكيد على الأحكام المذكورة ولزوم العمل بها وتقوى الله فيها.

والثاني: التنبيه على أن الأحكام إنّما تنشأ بملاحظة جميع الجهات الدخيلة في المصالح والمفاسد، فإنّ الله تعالى يراقب كلّ الأُمور الدخيلة في الحكم.

ص: 151

سورة الأحزاب (53-53)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)»

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلا أن يُؤذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا» الآية تنبّه المجتمع الإسلامي آنذاك ببعض الآداب الاجتماعية التي كانت غريبة على المجتمع العربي البدوي، فإنّهم ما كانوا يستأذنون على من يدخلون بيته، ولا يهتمّون بشؤون صاحب البيت، حيث إنّه ربّما كان يثقل عليه بقاؤهم في داره بلا داع يدعو إليه، كما أنّهم كانوا لا يتورّعون من الاختلاط بنساء صاحب البيت، وكانوا يتعاملون بنفس الطريقة مع الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله، وكان يستحيي من مصارحتهم بتأذيه من ذلك، وإنّما كان يكتفي بتعليمهم الآداب عملياً، فيستأذن للدخول على أيّ أحد حتّى على ابنته، ومع ذلك فإنّهم لم يتأدّبوا، وربّما كانوا يحسبون أنّ بيت الرسول الله صلّی الله علیه و آله يعد بيت جميع المسلمين، فلا مانع من الدخول بدون استئذان، ولا من الجلوس هناك

ص: 152

قبل نضج الطعام بانتظار بلوغه النضج، ولا من الجلوس بعده للحديث.

وكان ذلك يؤذي النبيّ صلّی الله علیه و آله فيستحيي من مصارحتهم، فأنزل الله المنع عن ذلك، والآداب المذكورة في هذه الآية الكريمة عامّة ظاهراً، وإن كان موردها الرسول صلّی الله علیه و آله.

كما أنزل آية الاستئذان للعموم أيضاً، فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُواْ فَارْجِعُوا هُوَ ازْكَى لَكُمْ»(1).

وقوله: «إِلَى طَعَامٍ» متعلّق بقوله: «يُؤذَنَ»، والإذن يتعدّى ب_«في» وإنّما تعدّى هنا ب_«إلى» بتضمين معنى الدعوة، أي لا تدخلوا بيوت النبيّ صلّی الله علیه و آله حتّى تدعون إلى الطعام، ويؤذن لكم في الدخول أيضاً. وقوله: «غَيْرَ نَاظِرِينَ» حال من «لا تَدْخُلُواْ» أي لا تدخلوا إلا حين يؤذن لكم، وحال كونكم غير ناظرین بمعنی منتظرين و «إنَاهُ» بمعنى النضج والبلوغ. فالآية الكريمة تمنع جلوسهم قبل وقت الطعام بانتظار نضجه.

ثمّ أكّده بقوله: «وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا». ومعنى «طَعِمْتُمْ» أي تناولتم الطعام، والمراد بالانتشار الخروج من البيت، وإنّما عبّر به تأدّباً، لأنّ الأمر بالخروج لا يناسب الكرماء، وحيث إنّ الخروج مقدّمة للانتشار بمعنى ذهاب كلّ أحد إلى سبيله، کنی به عن الخروج.

«وَلا مُسْتَأْنِسِينَ حَدِيثٍ» عطف على ناظرين، أي لا تدخلوا مستأنسين لحديث.

ص: 153


1- النور (24): 27 - 28

ويمكن أن يكون العامل فيه فعل مقدّر أي: ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، لأنّ بعضهم - على ما ورد في بعض الروايات - كان يجلس في البيت بعد تناول الطعام. ومثل ذلك هو ما يطلق عليه الثقل ويطلق على من تعوده الثقيل. وقد كتب الأُدباء قديماً مقالات وكتباً عن الثقلاء. وحكي عن بعضهم أنّه قال حسبك في الثقلاء أنّ الوحي أيضاً لم يتحمّلهم.

«إِنْ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْیى مِنَ الحَقِّ»، «الأذى» هو الضرر ، فمعنى الآية أن عملهم ذلك كان يضرّ به صلّی الله علیه و آله إمّا في علاقاته الاجتماعية، أو علاقاته الخاصّة في البيت، أو في شؤون نبوّته، ولكنّه صلّی الله علیه و آله لدمائة أخلاقه ولين جانبه كان يستحيي من إظهار التذمّر منهم، فضلاً عن الأمر بالخروج. ومعنى ذلك أنّ ما كانوا يرتكبونه كان محرّماً شرعاً وفي غاية القبح والحرمة، لأنّ فيه ايذاءً للرسول صلّی الله علیه و آله، مع أنّ إيذاء كلّ مسلم حرام، ولكنّه صلّی الله علیه و آله كان يعفو عنهم، وكان ذلك من حقّه، فلا يترتّب عليه معصية، ولا يجب عليه صلّی الله علیه و آله النهي عنه.

ومن هنا يتبيّن أنّه ليس في قوله تعالى: «وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» تعريض بالرسول صلّی الله علیه و آله، وأنّه لا ينبغي أن يستحيي من الحقّ - كما توهّم - فإنّه صلّی الله علیه و آله إنّما كان يستحيي فيما يعود إليه، ويحقّ له العفو عنه، ولا يمتنع من القول في غير ذلك، كما هو معروف عنه.

و «الاستحياء» انقباض في النفس من العمل بما لا يليق بالإنسان، ويقابله الوقاحة وعدم الاكتراث بما يهدر كرامة الإنسان أمام غيره. وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فإسناد ذلك إليه من باب المشاكلة، أو بنحو من التوسّع. ومعناه أنّه تعالى لا يتأبّى من بيان الحقّ وإن صعب على الناس سماعه. ومن

ص: 154

الواضح أنّه تعالى لا يتأثّر بشيء، ولا يمنع من إرادته شيء، ولا يخاف شيئاً. فقوله تعالى: «لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» يقصد به التأكيد على أنّ هذا الأمر حقّ تجب متابعته، وليس معناه أنّه تعالى يستحيي من قول الباطل، بل يستحيل عليه أن يقول إلا الحقّ، كما قال تعالى: «وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ»(1) لأنّ الباطل لا يقوله إلا الضعيف أو الجاهل.

«وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْتَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ». منع الناس من استعارة متاع من بيوت النبي صلّی الله علیه و آله إلا من وراء حجاب أي ستار. والضمير يعود إلى زوجات النبي صلّی الله علیه و آله وإن لم يسبق ذكرهنّ ، لدلالة كلمة البيوت، فإنها تكنّى بها عن النساء ربّات البيوت. والمتاع كلّ ما ينتفع به انتفاعاً طويل الأمد، فلا يطلق على ما لا يفيد إلا في مدّة قصيرة، فمن ذلك ما ينتفع به في البيت من الأواني والفرش ونحوها.

«ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» المراد بالطهارة عفّة النفس. والقلوب تتمايل نحو الشهوات بطبيعتها، فلا بدّ من إبعاد كلّ ما يهيّج الشهوة في غير الحلال، إذا اقتضى الأمر تحرّي ما هو الأطهر للنفوس. ويتبيّن من الآية - على الأقلّ – رجحان ترك الاختلاط حتّى مع الحجاب، فإنّ المراد بالحجاب هنا هو الستار، لا الملابس المحتشمة لمكان قوله: «مِن وَرَاءِ».

وإنّما قلنا بالرجحان، لاحتمال اختصاص الحكم بزوجات الرسول صلّى الله عليه و آله تحفّظاً على كرامتهنّ، ومكانتهنّ في بيت النبوّة، ولقوله تعالى: «ذَلِكُمْ أَطْهَرُ»، الظاهر في أنهّ أبعد من احتمال النظر المحرّم والريبة، ولا شكّ في عدم وجوب تحرّي ما هو

ص: 155


1- الأحزاب (33): 4

أبعد في ذلك، وإنّما يجب اجتناب ما ينافي أصل الطهارة من الدنس.

«وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلا أَن تَنكِحُوا ازْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً». قلنا: إنّ الأذى هو الإضرار بالشخص في نفسه أو عرضه أو من يتعلّق به. ولا شكّ أنّ إيذاء الرسول صلّى الله عليه و آله من أقبح المعاصي وأكبرها، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1) ولذلك لم يمنعه بصورة النهي، بل بالنفي «وَمَا كَانَ لَكُمْ»، ليدلّ على أنّ هذا الأمر ينافي الإيمان بالرسالة، ومن هنا عبّر عنه صلّی الله علیه و آله بالرسول، بخلاف الموارد السابقة حيث عبّر عنه بالنبيّ.

وهناك فرق بين العنوانين، فالرسول وإن كان أخصّ مصداقاً ومفهوماً، فكلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسولاً، والنبيّ مأخوذ من النبأ، وأصله النبيء، أي من يخبره الله تعالى عن الغيب، والرسول من أرسله الله تعالى ليكون رابطاً بينه وبين الناس. فلعلّ التعبير عنه صلّی الله علیه و آله في هذه الجملة بالرسول، للإشارة إلى وجه الاستقباح في إيذائه فإنّ كونه صلّی الله علیه و آله وسيطاً بينهم وبين ربّهم جهة خاصّة بهم يستوجب إكرامه وإعظامه.

ولكنّ الظاهر: أنّ المراد بالإيذاء هنا إيذاء خاصّ، وهو ما ذكر بعد ذلك من التهديد بالزواج بنسائه بعده. وفي ذلك هتك لكرامة الرسول صلّی الله علیه و آله، ومحاولة للوصول إلى أسراره العائلية. وقد مرّ في صدر السورة المباركة أنّ الله سبحانه إنّما عدّ زوجات الرسول صلّی الله علیه و آله أُمّهات المؤمنين تشنيعاً بالزواج بهنّ.

وقد روى السيوطي في «الدرّ المنثور» عدّة روايات في من أظهر ذلك من دون ذكر الاسم، ثمّ روى عدّة روايات فيها ذكر طلحة بن عبيد الله فقال:

ص: 156


1- التوبة (9): 61

أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه قال: بلغنا أنّ طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمّد عن بنات عمّنا ويتزوّج نساءنا من بعدنا؟! لئن حدث به حدث لنتزوّجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية.

قال: وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه قال: قال طلحة بن عبيد الله لو قبض النبيّ صلّی الله علیه و آله تزوّجت عائشة رضي الله عنها، فنزلت: «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ» الآية .

وقال: وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم في قوله «وَمَا كَانَ لَكُمْ أن تُؤْذُواْ رَسُولَ اللهِ» قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله، لأنّه قال: إذا توفّي رسول الله صلّى الله عليه و آله تزوّجت عائشة رضي الله عنها. (1)

وكأنّ بعض المفسّرين لم ير هذه الروايات فقال في تفسيره: إنّ بعض المنافقين قال ذلك!!!

وقيل: إنّ طلحة بن عبيد الله مشترك بين قائل هذا القول وهو أيضاً من الصحابة، وبين طلحة بن عبيد الله المعروف.

وهو بعيد جدّاً، ومحاولة لدفع الشبهة عن أحد المبشّرين بالجنّة، كما ادّعاه القوم، ورووا فيه الحديث. ووجه البعد أنّ هذا الاسم يتبادر منه الرجل المعروف به، فلو أُريد غيره وجب التصريح به، خصوصاً في ما إذا أُريد إسناد أمر إليه يستوجب حطّاً من كرامته هذا مع أنّ طلحة الثاني لم يرد له ذكر في أيّ موضع آخر، وإنّما اختلقت شخصيته لدفع هذه الشبهة.

«إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً» إشارة إلى نفس العمل، أي التزوّج بهنّ، لا القول

ص: 157


1- الدرّ المنثور 5: 214

الذي قاله بعضهم، وإن كان الإيذاء حصل بنفس القول، فالإثم العظيم هو نفس الزواج بهنّ حتّى لو لم يوجب إيذاءاً للرسول صلّى الله عليه و آله .

ولعلّ السبب فيه - مضافاً إلى ما مرّ - هو خطورة أن يتستّر بعض الناس بذلك، ويبرزوا أُمّهات المؤمنين، ويستخدموهنّ في الوصول إلى مآرب غير مشروعة. وقد تمكّنوا من ذلك فعلاً من دون زواج، فكيف لو كان أحدهم يتزوّج بعضهنّ! ويمكن أن يعتبر الزواج إيذاءً للرسول صلّى الله عليه و آله حتّى بعد وفاته، لأنّه يعلم بما يجري على أُمّته، فكيف بما يحدث في بيته.

«إن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» تهديد شديد لمن كان يخفي هذه النوايا السيّئة في نفسه، ولمن كان يظهر ذلك ويتبجح به. ولعلّ بعضهم كان يخطّط لها أيضاً، أو أنّ بعضهم أظهر ما في قلبه وبعضهم أخفاه. ولكن لم نجد نسبة هذا القول صريحاً إلى غير طلحة. ومن الغريب التعبير المحكىّ عنه حيث عبّر عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله بالاسم.

وكان التعبير المتوقّع أن يقول: «فإنّ الله كان به عليماً» ليعود إلى الشيء المذكور في الشرط، ولعلّ وجه العدول عنه التنبيه على أنّه تعالى لا يختلف لديه الظاهر والباطن، فليس أعلم بالظاهر من الباطن بل نسبة كلّ الأشياء إليه تعالى نسبة واحدة.

«لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءَابَآئِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ» استثناء عن وجوب تستّر نساء النبيّ صلّى الله عليه و آله مضافاً إلى الحجاب. وهذا التستّر لم يذكر في الآية السابقة صريحاً، وإنّما أُمر به الرجال، ولكنّه يفهم بالملازمة من أمرهم بذلك.

ص: 158

ولم يذكر من المحارم العمّ والخال ، فقال بعضهم: إن الآباء يشملهم، وهو غير صحيح. ولا شكّ أنّه لا يشمل الأخوال على الأقلّ.

وقيل : إنّ حكمهما يعلم من حكم أبناء الإخوان والأخوات لوحدة المناط. وفيه أنّ المناط غير واضح.

وقيل: لم يذكرهما لأنّهما ربّما يصفانهنّ لأبنائهما، ومعنى هذا القول التسليم لعدم الجواز، ومهما كان فالتعليل عليل.

ولكن أصل عدم الجواز لا يبعد صحّته في خصوص المقام أي أزواج النبيّ صلّی الله علیه و آله، فلا مانع من اختصاص هذا الحكم بهنّ وإن كان العمّ والخال محرمين في سائر الموارد.

ولعلّ المراد ب_«نسائهنّ» النساء المؤمنات، فيحرم عليهنّ البروز أمام الكافرات، ولعلّ التعليل المذكور في العمّ والخال يصح هنا. ويمكن أن يكون المراد كلّ النساء، والإضافة إليهنّ ليس للتقييد، بل لأنّ من يأتيهنّ من النساء لهنّ علاقة خاصّة بهنّ.

وأمّا ملك «اليمين» فهو شامل للجنسين ولا مانع منه، وليس معناه أنّ العبيد محارم للمرأة المالكة، فإنّ الكلام هنا ليس في الحجاب، بل في البقاء خلف الستر وعدم البروز حتّى مع الحجاب.

«وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» التفات من الحديث عن الغائب إلى مخاطبتهنّ بالتقوى اهتماماً بالأمر. والمراد التقوى في تطبيق التستّر المطلوب بدقّة، الحفظ كرامة الرسول صلّی الله علیه و آله وفي التعليل بأنّه تعالى شهيد على كلّ شيء تهديد لهنّ، لأنّ مخالفة مثل هذا الأمر ربّما تحدث في خفاء شديد، فلا يخاف في ذلك الخفاء إلا الله تعالى، فإنّه ليس لديه غيب وشهود، بل كلّ شيء حاضر لديه.

ص: 159

سورة الأحزاب (56)

«إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)»

«إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» مرّ الكلام حول الصلاة، ورجّحنا أن يكون معناها الحقيقي هو نفس هذه الشعيرة المعروفة، واستعمل في غيرها من موارد التوجّه والعطف بالمناسبة. ومهما كان، فالمراد بصلاة الله سبحانه هو العط والرحمة، ومن الملائكة هو الدعاء والاستغفار، والتوسّط في إنزال رحمة الله. وقد ذكر الفعل المنسوب إلى الله تعالى وملائكته بصيغة المضارع إيذاناً بأنّه دائمي ومستمرّ.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُوا تَسْلِيماً» من غاية اللطف أنّه سبحانه قدم على الأمر بالصلاة على الرسول صلّی الله علیه و آله أنّه تعالى وملائكته يصلّون عليه، ليؤكّد للمؤمن أنّك بصلاتك عليه ستكون في صفّ الملائكة، بل تتبع في ذلك ربّك. وأيّ شرف للإنسان أعظم من هذا أن يكون بعمله تابعاً ربّه، كأنّه يعمل عمله. ولذلك يصحّ أن يقال إنّ أفضل الأعمال الصلاة على محمّد وآل محمّد، إذ لا يوجد في الأعمال ما يكون بهذه المثابة.

ثمّ إنّ الصلاة من المؤمنين دعاء بالصلاة من الله عليه صلّی الله علیه و آله وهنا مثار سؤال، وهو أنّه إذا كان الله تعالى يصلّي عليه بصورة مستمرّة، فلا حاجة إلى دعاء الناس، فلماذا يؤمرون به؟

ويمكن الجواب بوجهين:

الأوّل: أنّ الدعاء ربما يحمل معنى آخر كسلام التحيّة، فإنّك حينما تسلّم على صاحبك تدعو له بالسلامة، إلا أنّه يحمل في طيّاته أمرين: أحدهما التحيّة والآخر

ص: 160

إعلان الصلح وعدم الشنآن فيما إذا كانت هناك شبهة ذلك. كما أنّ اللعن وهو دعاء على الغير يحمل في طيّه إعلاناً بالعداء، ورفعاً لشعار المخالفة، وتنديداً بما صدر من الملعون من ظلم ونحوه.

وكذلك سائر الأدعية، فإذا دعا المؤمنون بالفرج لصاحب الأمر - سلام الله عليه - فإنّه ربّما لا يغيّر الواقع، إلا أنّه رفع شعار الولاء له، وتوجّه إلى الله تعالى بالشكوى من الوضع الحاضر، وغير ذلك من المعاني. وكذلك الدعاء له بطول العمر ونحوه فالهدف من كلّ ذلك إظهار الولاء، وهكذا سائر الموارد. فالصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله رفع الشعار الولاء له، وشكر له على ما قدّم للبشرية من رحمة ونعمة، ولا يلزم أن يكون فيها نفع له، كما أن صلاتنا الله تعالى لا تنفعه وإنّما تنفعنا.

الثاني: أنّ الدعاء للنبيّ صلّی الله علیه و آله والصلاة عليه لا يبعد أن يكون له، نفع واقعي له فالرحمة من الله تعالى ليس لها حدّ ولا نهاية. والإنسان مهما كان، فإنّه بحاجة متواصلة إلى رحمة الله تعالى.

وللدعاء أثر غريب مجهول لدينا، فإنّ القرآن ينقل دعوات الملائكة للمؤمنين بتعبير يوحي بأنّ ذلك من وظائفهم الدائمية، قال تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1).

ص: 161


1- غافر (40): 7-9

ولا ريب أنّ لهذه الدعوات تأثيراً واقعياً غامضاً لا نعرف سرّه ومداه. وقد قال تعالى: «قُلْ مَا يَعْبُواْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً»(1).

وأمّا كيفية الصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله فقد ورد في روايات كثيرة من طرق العامّة والخاصّة أنّ الصلاة يجب أن تكون على النبيّ وآله. وورد النهي عن الصلاة البتراء. وفسّره صلّی الله علیه و آله بترك ذكر الآل.

قال ابن حجر - على تعصّبه المقيت - في «الصواعق المحرقة»: ويروى «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء»، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: «تَقولُونَ: اللَّهُمَّ صلّ على مُحَمَّد وتمسكون. بل قولوا: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وآل مُحَمَّد»(2).

وروى السيوطي في «الدرّ المنثور» في ذيل هذه الآية روايات كثيرة جدّاً وعن مصادر مختلفة، كلّها تتضمّن أنّ الصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله يجب أن يكون مع ذكر الآل، ومنها ما رواه عن مجموعة كبيرة من المصادر ومنها الصحاح الستّ حيث قال: وأخرج عبدالرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : قال رجل: يا رسول الله أمّا السلام عليك فقد علمناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد».(3)

و لصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله واجبة في تشهّد الصلاة عندنا وعند بعض فقهاء

ص: 162


1- الفرقان (25): 77
2- الصواعق المحرقة 2: 430، فصل في الآيات الواردة فيهم
3- الدرّ المنثوره: 216-217

العامّة، واكتفى بعضهم بالسلام على النبيّ صلّی الله علیه و آله - وقد وقع البحث في الفقه عن وجوب الصلاة على النبيّ صلّی الله علیه و آله عند ذكر اسمه الشريف، حيث ورد في أحاديث كثيرة التنديد بمن لم يصلّ عليه عند ذكره والمشهور استحبابه المؤكّد، وقيل بالوجوب.

وقد ورد في الحديث الحثّ على رفع الصوت بالصلاة على النبيّ وآله، لأنّ ذلك يذهب بالنفاق. ولعلّ المراد بالنفاق هذه الحالة المشهودة لدى بعض أعداء أهل البيت علیهم السّلام، حيث لا يجرؤون على إظهار بغضهم حذراً من لصوق ما ورد في أحاديث الرسول صلّی الله علیه و آله بهم ، ولكنّه يبرز لا شعورياً في فلتات لسانهم، وفي بعض تصرفاتهم.

ولعمري إنّ إظهار الحبّ والولاء لأعداء أهل البيت، أكبر شاهد على البغض الدفين، فتجد كثيراً من الناس لا يعظّمون من الصحابة إلا من ثبت عداؤه لأهل البيت علیهم السّلام، بل من قاتلهم وقتلهم.

ولا يختصّ الأمر ببعض من عرفوا بالصحابة، بل تجدهم يعظّمون أعداءهم حتّى لو كان من الظلمة المعروفين، إذ لا يختلف اثنان ممّن لهم أدنى خبرة بالتاريخ على أن الحجّاج بن يوسف الثقفي من أقسى الطغاة الظالمين، ولكنّهم يسمّون شوارعهم باسمه تيمّناً وتبرّكاً، لأنّه قائد إسلامي! قتل الناس على حبّ أمير المؤمنين علیه السّلام، بل كان يقتل من يأبى عن السبّ والشتم!

ومن هذه الفلتات ما ذكره صاحب «الكشّاف» - لا غفر الله له - في هذا المقام من كراهة الصلاة على أحد من أهل البيت منفرداً، لئلا يتّهم الإنسان بالرفض، لأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله نهى أن يجعل الإنسان نفسه في موضع الاتهام. ولا أدري لماذا

ص: 163

لم يطّبق النهي المذكور في ما يوجب اتهامه بالنصب؟!

وأمّا التسليم، فقد ورد في بعض الأحاديث أنّ المراد به هو التسليم لأمره، وهو المراد قطعاً في قوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(1) والقرينة واضحة.

والظاهر: أنّه هنا بمعنى السلام والتحيّة، ولذلك نضيف السلام إلى الصلاة عليه وآله. والتعبير عن ذلك بالتسليم وارد في القرآن أيضاً. قال تعالى: «فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةٌ»(2).

ص: 164


1- النساء (4): 65
2- النور (24): 61

سورة الأحزاب (21-24)

«إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)»

«إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ». لا شكّ أنّ الله تعالى لا يتأذّى من شيء، ولا يؤثّر فيه شيء، فلا وجه لما في بعض التفاسير من أنّ المراد من إيذاء الله، المعاصي والشرك، بل نقلوا فيه حديثاً قدسيّاً يشكو الله فيه خلقه وإيذاء هم له. وهذا مضحك حقّاً.

والصحيح أنّ الله تعالى إنّما يعتبر إيذاء الرسول صلّی الله علیه و آله إيذاء ًله كما أسلفنا مراراً. والسرّ فيه أنّ الذي يؤذي النبى صلّی الله علیه و آله فإنّما يؤذيه لأنّه نبي مرسل من الله تعالى، ولم يكن للناس عداء معه قبل رسالته، بل كان في الناس عزيزاً مكرّماً لمكانة قومه، ومكانته في قومه، ولصدقه وأمانته، وإنّما عادوه حينما أبلغهم رسالة ربّهم، وسفّه أحلامهم، وقبّح سننهم، واحتقر ،آلهتهم، فهم إنّما كانوا يعادون الله سبحانه.

قال تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ»(1) ولم يكن الإيذاء خاصّاً بالمشركين، بل هناك من أسلم ولكنّه حمل معه إلى المدينة عداء الجاهلية، واستمر الخطّ الجاهلي يعمل ضد خطّ

ص: 165


1- الأنعام (6): 33

الرسالة حتّى بعد وفاة النبي صلّی الله علیه و آله .

ثمّ إنّ إيذاء الرسول صلّی الله علیه و آله لا يختصّ بحال حياته، حيث إنّه صلّی الله علیه و آله لا يقل عن الذين قتلوا في سبيل الله ، وقد وصفهم الله تعالى بأنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون، وأنّهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فهو بطريق أولى يستبشر بالخير، ويتأذّى من أيّ شرّ يلحق بدينه، أو بالقرآن، أو بأهل البيت عليهم السّلام.

وبذلك يُعلم أنّ مصداق هذه الآية بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله أكثر من الذين كانوا في حياته. وقد صرّح الرسول صلّی الله علیه و آله باستمرار تأذّيه فيما بعده بقوله فيما تواتر عنه بوجوه كثيرة: «فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها».(1)

وممّا يدعو إلى التأمّل أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله ما كان يؤكّد على هذا الأمر في مواطن عديدة، ويخاطب بذلك أصحابه ولم يتدبّروا ويفكّروا في مغزى كلامه صلّی الله علیه و آله وغرضه من هذه التنبيهات المتكرّرة.

وهل كانت فاطمة - سلام الله عليها - في معرض الإيذاء؟ ولم تكن المرأة إذ ذاك تتدخل في الشؤون الاجتماعية حتّى يعاديها الرجال، فتكون بحاجة إلى الإيصاء. ولكنّ الرسول صلّی الله علیه و آله كان يعلم بما سيحدث بعده. وكأنّ هذه الآية أيضاً تنظر إلى تلك الوقائع.

وقد جعل الله سبحانه جزاء المؤذّي رسوله، لعنته في الدنيا والآخرة. فاللعنة في الدنيا - وهي في الأصل الإبعاد والطرد - تتحقّق بعدم الهداية والتوفيق. ولا يغرّن أعداء الله ما يحصلون عليه من مال وزعامة، فإنّ ذلك من إملائه تعالى، وليس شيئاً يفرح به المؤمن، وإنّما يفرح به الكافر، وقد أعطى الله أضعاف ما

ص: 166


1- صحیح مسلم 7: 141؛ راجع: مسند أحمد 4: 326؛ صحيح البخاري 4: 210

أعطوا هؤلاء للفراعنة والطغاة الكفرة ، وقال تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً».(1)

وتظهر اللعنة في الآخرة بوضوح، فإنّ الطرد والإبعاد عن الرحمة الإلهية في الدنيا لا يتجلّى للجميع لعموم ظواهر الرحمة للمؤمن والكافر، وأمّا في الآخرة فيتبيّن من تشمله ،الرحمة، ومن يطرد من رحمته تعالى. وقد عبّر عنه في القرآن بقوله تعالى: «وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).

«وَأعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً» لحن صارخ بالتهديد حيث يعلن أنّ العذاب معدّ لهم من قبل وينتظرهم، وذلك مضافاً إلى اللعن والطرد من رحمته تعالى، وحيث إنّ إيذاءهم إنّما نشأ من استكبارهم على الرسول صلّی الله علیه و آله، فقابله الله تعالى بالهوان والمذلّة، مرّة بالطرد وأُخرى بعذاب مهين.

«وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً» لا شكّ في أنّ إيذاء المؤمن وهو الإضرار به بأيّ نحو كان محرّم شرعاً وموجب لسخط الله تعالى، كما دلّت عليه الأحاديث الكثيرة، إلا ما كان بموجب حكم شرعي كإجراء الحدود والقصاص. ولكنّ الآية الكريمة تنظر إلى إيذاء خاصّ ربّما يحتقره كثير من الناس حتّى المؤمنين، وهو الإيذاء باللسان وبإسناد أمر إلى المؤمن لم يرتكبه، لمجرّد سماع الخبر من هنا وهناك، بل ربّما يتعمّد بعضهم اختلاق الكذب وإسناده إلى مؤمن تشفّياً وانتقاماً، أو لأيّ سبب آخر.

والقرينة على ذلك في الآية الكريمة قوله تعالى: «فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً» فيتعيّن

ص: 167


1- آل عمران (3): 178
2- آل عمران (3): 77

بذلك أن يكون المراد من الإيذاء اتّهام المؤمن أو المؤمنة بأمر لم يرتكبه.

وقال بعض المفسّرين: إنّ تقييد الإيذاء بغير ما اكتسبوا لإخراج ما لو كان الإيذاء في مقابل عمل يستوجبه كموارد القصاص والحدود. ومعنى ذلك أنّ المراد بالإيذاء ليس هو الإيذاء باللسان أو لا يختصّ به. وهذا ينافي الحكم عليهم بأنّهم يحتملون بهتاناً، فما هي مناسبة البهتان للإيذاء العملي؟ فقال بعضهم: إنّ الذي يؤذي بريئاً لا يمكنه أن يؤذيه إلا أن يتّهمه بأمر ليبرّر موقفه.

وهذا تأويل غريب، فإنّ الظاهر من الآية أنّ نفس هذا الإيذاء بهتان، فيختصّ الإيذاء باتهام المؤمن بأمر لم يفعله وهو بريء منه. ويصحّ أن يجعل ذلك تضميناً، بمعنى أنّ الإيذاء يضمّن معنى الاتهام والبهت، ولا موجب لتعميم المراد بالإيذاء. وعلى ذلك فقوله: «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ» يتعلّق بالاتهام الذي يتضمّنه الإيذاء، وهو بنفسه الإثم المبين، أي الواضح. والمقصود التنبيه على كونه إثماً مبيناً، وأمّا كونه بهتاناً فهو واضح، ولا يختصّ بالمؤمن والمؤمنة.

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً»، الآية من الآيات التي تأمر بتستّر النساء والتزامهنّ بالحجاب. و«الجلباب» ثوب واسع أكبر من الخمار وأصغر من الرداء. وإدناؤه كناية عن التستّر بالصاقه بثيابها ووجهها، حيث كانت المرأة المتهتّكة تتركه مفتوحاً، فتظهر بعض مفاتنها، فأمرهنّ الله تعالى بالمبالغة في الستر. وأين هذا من محاولة نفي وجوب الحجاب من أصله، كما يسمع من بعض المنتحلين للفقه في هذا الزمان؟

ومناسبة الآية لما سبق، أن الآية السابقة تعرّضت للمنع من إيذاء المؤمنين

ص: 168

والمؤمنات واتهامهم، وهذه الآية تأمرهم بما يبعدهم عن مواضع الاتهام. وابتدأ بالأمر نساء النبي وبناته ليكون أبلغ في التأثير، ولا يتوهم التشديد على عامّة الناس فحسب.

ولعلّ توسيط النبيّ صلّى الله عليه و آله في إبلاغ الأمر إليهنّ، خصوصاً مع تقديم نسائه وبناته، والتعبير عن المؤمنات بنساء المؤمنين، للإشارة إلى أنّ ذلك ليس من التشريعات الأساسية العامّة، بل هو من شؤون العائلة يقصد به المحافظة على تماسكها، وإبعادها عن مواضع الاتهام، فيكون أشبه بالنصيحة العائلية، ولذلك يؤمر النبي صلّى الله عليه و آله بأن يقول ذلك لأسرته، ثمّ لنساء المؤمنين، ولا يبعد أن يستظهر منه توسيط المؤمنين بإبلاغ ذلك إلى نسائهم وإلا لقال: «والنساء المؤمنات».

ولا ينافي ذلك وجوب أمر الحجاب كما هو المستفاد من آيات أُخرى أيضاً، فإنّ الموضوع هنا المبالغة في التستّر.

«ذَلِكَ أدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ» تعليل للحكم المذكور. و «أدنى» أي أقرب. وتعليل الحكم بأنّ في ذلك مصلحة لهنّ أيضاً ممّا يؤكّد ما مرّ من عدم اعتباره حكماً أساسياً. ويحتمل في معنى التعليل المذكور أمران:

الأوّل: أنّ الذين في قلوبهم مرض وأهل الفسق والفجور كانوا يتحرّشون بالنساء إذا خرجن ليلاً لحاجة، ولم يكونوا يجرؤون التحرّش بالحرائر وإنّما بالإماء، فإذا كانت الحرّة غير محتشمة تحّرشوا بها، إمّا جهلاً بكونها حرّة، أو لإمكان الاعتذار بعدم معرفتها، فعلّل الله سبحانه هذا الحكم بأنّ الاحتشام أقرب إلى أن يعرفن بأنهنّ حرائر، فلا يؤذين خوفاً من المؤاخذة.

والثاني: أنّ المؤمنة إذا لم تحتشم يظنّ المفسدون أنّها مبتذلة، فيتحرّشون بها.

ص: 169

فالاحتشام أقرب إلى معرفة أنّها مؤمنة بعيدة عن أهوائهم، فلا يقتربون منها.

«وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» لعلّ التعقيب ب_«الغفران» و«الرحمة» إيذان بأنّ الأمر موسع نوعاً ما، فلا يحتاج إلى دقّة ووسوسة، بل يكفي منه ما يحقّق الغرض، وذلك لأنّ التحجّب والاحتشام أمر ذو مراتب. ولو لم يعقّبه بذلك لأوهم أنّه يجب - من باب الاحتياط - المبالغة في ذلك إلى أقصى الحدود. وهذا التعقيب يفسح المجال لمنع الوسوسة، ويدلّ أيضاً على ما ذكرناه من عدم كونه من التشريعات الأساسية.

ص: 170

سورة الأحزاب (60-62)

«لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)»

«لئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أَخِذُوا وَقَتْلُوا تَقْتِيلاً» هذه الآيات تشرّع قانوناً اجتماعياً صارماً لاستتباب الأمن في المدينة، ويعلنه في صورة تهديد بليغ لمنع المفسدين من الاستمرار في الفساد. وكانوا ثلاثة رهط:

المنافقون، والظاهر أنّهم رأس الفساد فكانوا - مضافاً إلى ما يرتكبونه من جرائم - يحرّضون ذوي القلوب المريضة، وهم الرهط الثاني، لمزاولة أنحاء الفساد الخلقي والاجتماعي من التحرّش بالنساء أو السرقة وغير ذلك ممّا يهدّد أمن المجتمع، بعد ما استقرّ الوضع، وقويت شوكة المسلمين، وأجلوا اليهود، وأرغموا أُنوف المشركين، وتبعهم في ذلك أُناس يتداولون الأكاذيب ويشيعونها في البلد، لزعزعة أمنه وإرعاب أهله، وهم الرهط الثالث، أي المرجفون، حيث إن ّأكاذيبهم كانت تزلزل استقرار المجتمع، فعبّر عنه بالإرجاف، و«الرجف»: الاضطراب الشديد.

والقانون يقضى بإبعادهم عن البلد، إن استمرّوا على مؤامراتهم، والحكم عليهم بالقتل الذريع أينما أُلقي القبض عليهم و «الإغراء» هو التحريض، ولم يذكر متعلّق الإغراء، وهو الإبعاد ويعلم ذلك من قوله تعالى: «ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ

ص: 171

فيهَا» والمراد بقوله تعالى: «إلا قليلاً»أي بمقدار ما يستعدون للخروج.

ويمكن أن يكون الحكم في الواقع هو القتل لا الإبعاد، وعليه فالمراد بخروجهم من المدينة لجوءهم إلى الفرار. ولعلّ المراد بقوله تعالى: «مَلْعُونِينَ» أي مطرودين من كلّ مكان لا يستقرّ لهم قرار، كما سلبوا البلد استقراره وأمنه. وقوله تعالى: «قُتُلُواْ تَقتِيلاً» مبالغة في القتل، للتأكيد على قطع جذور الفتنة وعدم الإبقاء عليهم.

والظاهر: أنّ التهديد كان كافياً واستتبَ الأمن في المدينة المنوّرة، إذ لم ينقل في كتب السيرة والتاريخ العمل بذلك في حقّ أحد.

«سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ» مرّ بعض الكلام حول هذه الجملة في تفسير الآية (38) والمراد بها هنا التأكيد بأنّ هذا الحكم ليس غريباً في التشريع الإلهي، لئلا يُتّهم الرسول صلّی الله علیه و آله بأنّ حكمه بذلك ناشئ من غرور النصر ونشوة الظفر بالأعداء، بل هو سنّة قديمة إلهية.

والمراد بالذين خلوا ومضوا يمكن أن يكون الأُمم السالفة، ويمكن أن يكون المشركين واليهود في تعامل الرسول صلّی الله علیه و آله معهم. والأوّل أقرب إلى ظاهر اللفظ.

«وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً» بهذه الجملة قطع الله تعالى آمال المفسدين، وبيّن لهم أنّ هذا ليس قانوناً وضعياً وضعه البشر، وتناله يد التغيير والتبديل، بل هو سنّة إلهية والله تعالى لا يبدّل سننه، وإنّما يبدّل الإنسان سننه وقوانينه، لما يبدو له من خلل فيها لم يعلمه حين التشريع، والله تعالى عليم بكلّ شيء لا يخفى عليه أمر، فلا يبدّل سننه وقوانينه التشريعية والتكوينية.

ص: 172

وإنّما يحصل بعض التغيير في التشريعات لتبدّل الأوضاع الاجتماعية، وتطوّر الحياة البشرية، وتكامل الإنسان في عقله وجسمه، وليس ذلك ناشئاً عن تغيير جذري في أُصول القوانين الشرعية. ولذلك قال تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ»(1).

ص: 173


1- الشورى (42): 13

سورة الأحزاب (63-68)

«يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)»

«يَسْئَلْكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ»، «الساعة» جزء من أجزاء الزمان أي اللحظة. ويختلف المراد بها في القرآن الكريم حسب اختلاف موارد استعمالها، فربّما يراد بها لحظة الموت، أو لحظة انعدام هذا النظام الكوني، أو لحظة قيام الناس وبعثهم. وفي الغالب يراد بها أحد الأخيرين. ومن الطبيعي أن يسأل الناس عن موعدهما وخصوصاً الثانية، ولذلك أتى بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار. والسؤال ربّما كان للتشكيك والاسِتبعاد، أو للاستهزاء والتعجيز، أو للمعرفة، إذ لا يختصّ السؤال بالكفّار.

«قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قريباً» مهما كان السؤال فالجواب واحد ، وهو أنّ العلم بها ممّا استأثر به الله تعالى فلم يعلمها أحداً، بناءً على أن «إنّما» يفيد الحصر. ولعلّ خطاب الرسول صلّی الله علیه و آله بقوله تعالى: «وَمَا يُدْرِيكَ» لئلا يتوهّم أنّه صلّی الله علیه و آله يعلمها من دون الناس، فأراد أن يبيّن أنّ الجميع في عدم معرفته سواء.

وأشار بهذه الجملة إلى وجه إخفائها، وهو أن يبقى الإنسان ينتظره في كلّ لحظة «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» فيستعدّ لذلك اليوم العظيم وأهواله،

ص: 174

ولكنّ الإنسان يمرّ على كلّ هذا التهويل غافلاً، ويعتبره بعيداً. بعيداً في الاحتمال، أو بعيداً في الموعد. وما ينفعه البعد الزماني؟!

ثمّ إنّه يكفيه الاحتمال لكون المحتمل في غاية الأهميّة؟! ونحن في شؤون حياتنا نعمل ونبني ونهدم للاحتمال. ومن يعلم أّنه سيبقى في الدنيا طويلاً؟! ومع ذلك فنحن نسعى ونسعى ونبذل كلّ الجهد ونتعب أنفسنا ونسهر الليالي لنحصل على شهادة، فنحيا بضع سنين بعد ذلك في بلهنية من العيش، ومن لا يفعل ذلك نستنكر منه الكسل ونؤنّبه بعدم الإعداد لمستقبله مع أنّه مستقبل غير قطعي.

وكم نجد حوالينا من أتعب نفسه في بناء دار لم يسكنه، بل لم يسكنه أولاده أيضاً، فلماذا لا نهتمّ بالمستقبل الطويل الذي لا ينتهي حتّى لو كان ذلك محتملاً، وحتّى لو كان الاحتمال ضعيفاً، فإنّ أهميّة المحتمل تكفي في كونه حافزاً قويّاً جدّاً؟!

ولكنّ الإنسان لا يستطيع أن يقاوم شهواته وأهواءه، ولا يصغي إلى ما يهديه إليه العقل والحكمة، فيحاول أن يقلّل من أهميّة كلّ ما يعترض طريق الشهوات وإن أدّى ذلك إلى شقائه الأبدي، فهو لا يرى إلا أمتاراً من الطريق أمامه. إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً.

«إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً»، «اللعن»: الطرد، و«السعير»: النار المشتعلة. يبيّن الله سبحانه في هذا المقطع نتيجة الكفر في الحياة الآخرة ممّا يكفي للإنسان أن يحسب حسابه، ولا يغرّه بعد موعد الساعة كما يظنّ. ويكفي الكافر أنّ الله لعنه وأبعده عن رحمته التي وسعت كلّ شيء، وتجلت اللعنة في السعير المحرق.

ولا يختصّ الكافر بمن نعتبره في هذه الدنيا كافراً، فإنّ التقسيم إلى مسلم

ص: 175

وكافر - حسب اصطلاحنا - إنّما نقصد به موضوع الأحكام الظاهرية هنا من أنواع التعامل معهم، وأمّا يوم ينكشف الغطاء، ويحصّل ما في الصدور، وتبلى السرائر، فإنّ الكفر لا يختصّ بالجحود ، بل تارك الصلاة كافر - كما في الحديث - وتارك الحجّ كافر، كما في قوله تعالى: «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1) بل هناك كفرة بين المسلمين لا يُعرف كفرهم، كمن ينكر ممّا بلغه الرسول صلّى الله عليه و آله ما لا يعجبه، سواء كان ذلك متعلّقاً بالعبادات، أو بالشؤون الاجتماعية، كبعض القوانين التي لا تعجب من لا ينتفع به، أو بالإمامة ومودّة أهل البيت علیهم السّلام ، أو غير ذلك.

«خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً»، الخلود مكتوب للبشر، لأنّه بحقيقته ليس جسماً كالجماد والحيوان، ينتفي بانتفاء الجسم وتحلّله في التراب، بل هو روح ارتبطت بهذا الجسم زماناً، ثمّ عادت إلى أصلها قال تعالى: «اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»(2)، فالخلود ممّا لا بدّ منه، سواء كان في نعيم صنعه بعمله، أو في شقاء نتيجة ظلمه لنفسه وغيره. و«أبداً» تأكيد للخلود لئلا يتوهم أنّ المراد به البقاء مدّة طويلة، كما يعبّر به عن ذلك في في هذه الحياة.

«لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً»، لا يجدون وليّاً يوكّلون إليه الأمر فيستريحوا، ولا نصيراً يساعدهم فيما هم فيه، إذ يتبيّن له هناك أنّ من كان يزعم فيه الولاية والنصرة، ليس إلا عبداً ذليلاً لا يستطيع إنقاذ نفسه، سواء في ذلك الآلهة المزعومة أو البشر.

ويلاحظ أنّ الإنسان عاد اليوم إلى عبادة البشر، فالفلسفة الاجتماعية اليوم التي

ص: 176


1- آل عمران (3): 97
2- الزمر (39): 42

هي وراء كلّ هذه المفاسد الرسمية والقانونية تبني أساسها على أصالة الإنسان، وأن ليس وراءه شيء يستمد منه المبادئ، فالحقّ ما يخدم مصالح الإنسان، والباطل ما عداه مهما كان. وهكذا أصبح الإنسان إلهاً يُعبد، وسيجد عبّاد البشر يوم القيامة أنّ الإنسان لا يغني عنهم شيئاً، فلا وليّ لهم ولا نصير.

«يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ»، «يوم» ظرف لفعل محذوف، أي اذكر. ويمكن أن يكون ظرفاً ل_«يقولون». والقرآن الكريم يصوّر فظاعة النار بوجوه عديدة، فتارة يقول: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ»(1)، وتارة: «وَيَأْتِيهِ الموتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيْتٍ»(2) ، وأُخرى: «لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ»(3)، وفي موضع آخر: «سَرَابِيلُهُم مِن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ»(4)، وفي آخر: «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ»(5)، وفي موضع: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ»(6) وغير ذلك.

ومنها ما في هذه الآية «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار»، فكأنّه لحم يراد شواؤه يقلّب من ناحية إلى أخرى، أو المراد تقلّب من حال إلى حال، ومن لون إلى لون.

«يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا» ، «يا ليتنا» أصله يا قوم ليتنا. ثمّ نزعت

ص: 177


1- النساء (4): 56
2- إبراهيم (14): 17
3- الأعراف (7): 41
4- إبراهيم (14): 50
5- المؤمنون (23): 104
6- القمر (54): 48

عنه الدلالة على النداء، وإنّما هو حرف تنبيه. وهذا من تمنيّات أهل النار، وهي من الحقائق التي يكشف عنها القرآن، ليتمّ الحجّة على الإنسان يوم القيامة، وكم يروي من تمنّياته: «يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً»(1)، «يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي»(2)، «يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا»(3)، «يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ»(4) وغير ذلك. ومنها هذه الآية. فهو يتمنّى لو أطاع الله والرسول ولم يطع سادته وكبراءه.

«وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا»، لعلّ المراد ب_«السادة» و«الكبراء»، الشخصيات الاجتماعية المرموقة من الساسة وشيوخ العشائر وأصحاب المال والسلطة.

ويمكن أن يكون المراد بالكبراء الكبار في السنّ، فإنّ البشر يتّبع - في الغالب - أباه وشيوخ قومه دون أن يتدبّر الأُمور وينظر فيها بعقله الذي وهبه الله له، وبذلك يضلّ السبيل برفقة قومه، ويشعر الإنسان في الغالب أنّه ليس في طريق الصحيح، إلا أنّه فرح بمسيره مع الجماعة مهما كانت النتيجة! وهو ينتبه إلى خطئه يوم القيامة يوم لا ينفعه الانتباه.

«رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً»، ضعفين بمعنى مرّتين، فلا يختلف معناه عن قوله تعالى: «رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ»(5). ومهما كان فهم يدعون ربهّم أن يضاعف على السادة والكبراء العذاب، ويلعنهم لعناً

ص: 178


1- الفرقان (25): 27 – 28
2- الفجر (89): 24
3- النبأ (78): 40
4- الحاقة (69): 27
5- الأعراف (7): 38

كبيراً، أكبر من لعن عامة الكافرين، لأنّهم الأصل في هذا الضلال، ولأنّهم اعتبروا أنفسهم كبراء، فلا بدّ من كون اللعنة عليهم مناسبة لحجم مدّعاهم، وإلّا فاللعن بذاته لا يوصف بالكبر.

ويأتيهم الجواب على ما في آية سورة الأعراف الآنفة الذكر: «قَالَ لِكُلِّ ضِعْفٌ وَلَكِن لا تَعْلَمُونَ» لكلّ فريق ضعف من العذاب، إمّا لأنّ التابعين أيضاً سبب في ضلال المتبوعين بإشادتهم لمواقفهم والتصفيق لهم، ولولا ذلك لم يتمكّن الكبراء من الظلم والطغيان، وهل يكبر الكبراء إلا بشعارات الغوغاء والتابعين؟! أو لأنّ التابعين، هم بدورهم متبوعون لجيل آخر وقوم آخرين، أو لأنّ العذاب لا يقدّر حجمه بأوهام الناس، فهو ضعف ما يتصوّرونه على كلّ حال.

ص: 179

سورة الأحزاب (69-71)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِ_حْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)»

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّاهُ اللهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً» الآية الكريمة تنهى المؤمنين وتحذّرهم من أن يؤذوا الرسول صلّی الله علیه و آله، كما كان بنو إسرائيل يؤذون رسولهم موسى علیه السّلام والمراد بإيذائه اتّهامه بما لا يليق بمقام الرسالة، وليس مطلق الإيذاء، وإن كانوا يؤذونه بشتّى الوجوه، كالمطالبة برؤية الله جهرة، وأن يجعل لهم إلهاً، وغير ذلك، إلا أنّ المراد هنا هو الاتّهام والكذب عليه، بقرينة قوله تعالى: «فَبَرَّاهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا»، حيث يدلّ على أنّ الإيذاء كان تهمة الصقوها به، فأظهر الله سبحانه كذبهم، وبرّأه من التهمة.

ويظهر من سياق الآية أنّ بعض الصحابة اتّهموا الرسول صلّی الله علیه و آله في أحد المواقف التي مرّ ذكرها في هذه السورة بما لا يليق بكرامته. ولعلّ أوضح ما يستوجب الكلام الباطل، هو زواجه صلّی الله علیه و آله بزينب، ولا يبعد أنّ بعضهم لم يرقه هذا الزواج، لكونه مخالفاً لعاداتهم وتقاليدهم ، فأخذوا يتحدّثون بما لا يليق بمقام الرسالة وكرامتها.

بل وضع بعض الناس في ذلك أحاديث واضحة الفساد، إمّا في ذلك العهد أو بعد ذلك، ولعلّ ما ورد في الحديث الموضوع في هذه القصّة كان ممّا تلوك به الألسنة في ذلك العهد. فنهاهم الله سبحانه وحذّرهم من أن يكونوا كبني إسرائيل، حيث كانوا يؤذون موسى علیه السّلام ويتّهمونه بما لا يليق، فأظهر الله كذبهم

ص: 180

وبرأه، أي أظهر براءته ممّا وصموه به، وذلك لوجاهته عند الله، فلم يرض بأن يمسّ الناس كرامته. وهكذا الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله فإنّه أوجه الخلق عند الله تعالى.

وقد وردت روايات بشأن ما اتّهم به موسى علیه السّلام ممّا لا يخلو من غرابة، فمنها ما ورد من أنّه كان حیيّاً، لا يظهر جسمه أمام الناس فقالوا: إنّه لا يفعل ذلك إلا لعيب فيه، فذهب يغتسل ووضع ثوبه على حجر، فأمر الله الحجر فسار بثوبه، فركض خلفه موسی بعصاه وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! فبلغ به بين الناس فنظروا إليه عرياناً، وبذلك برأه الله ممّا قالوا!

وقد ورد هذا الحديث في صحاح العامّة كالبخاري وفي «تفسير علي بن إبراهيم» من كتبنا وغيرهما وإن كان استناد التفسير إليه غير ثابت. ومن الغريب قبول بعض علمائنا لذلك كالعلامة الطباطبائي رحمه الله. وما أدري ألم يكن هناك طريق آخر لتبرئته ؟! ألم يكن الأجدر به أن يكشف عن ثوبه ما عدا العورة؟! وهل هکذا يصنع الله تعالى الله تعالى شأنه بالوجهاء عنده ؟! عفوك اللّهمّ!

وروي غير ذلك من الروايات ممّا لا يصح سنداً ولا متناً. والأولى أن لا نبحث عنه، فلا دخل له في فهم معنى الآية ولا يترتّب عليه أثر.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً»، الآية الكريمة وما تليها أيضاً في نفس السياق السابق، وهو إيذاء الرسول صلّی الله علیه و آله بالصاق التهم الباطلة، فيأمرهم الله سبحانه بتقوى الله، وفي ذلك تهديد بأنّ ما تحتقرونه من الكلام، ينطوي على خطر شديد وأنّه يثير سخط الله تعالى ويستتبع عذابه في الدنيا والآخرة.

ثمّ يأمرهم بأن يجتنبوا القول الذي لا يستند إلى دليل، ولا يقولوا إلا القول السديد، وهو مأخوذ من السدّ المانع من تسرّب الماء أو أيّ شيء آخر. فالقول

ص: 181

الذي يستند إلى دليل محكم سديد يمنع تسرّب الباطل والكذب إليه. والقول بدون مستند، يتسرّب إليه الكذب لا محالة. وهذه عبارة أُخرى عن المنع عن القول بغير علم قال تعالى: «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(1).

«يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» جزاء الأمر، أي إن تتّقوا الله وتقولوا القول السديد يصلح لكم أعمالكم ومنه يعلم أنّ كون العمل صالحاً صبغة إلهية، لا يكفي فيه محاولة الإنسان، فلا يغترنّ العاملون بأعمالهم الطويلة العريضة.

و«الصلوح» كما أسلفنا يختلف حسب اختلاف الموارد. والمراد هنا إمّا الصلوح لدخول الجنّة، أو لنيل مرضاته تعالى، وهي الجنّة الحقيقية. ولولا ذلك لم يكن فرق بين الجنّة والنار، وإنّ أهل مرضاته ينعمون بالجنّة في هذه الدنيا، وإن كانوا في ظلم المطامير.

والآية تدلّ على أهميّة الصدق في القول، وتحرّي الحقيقة في التحدّث عن الناس، في ما يجوز البتّة لا في موارد الغيبة، وأنّه يترتّب عليه صلوح الأعمال وغفران الذنوب، وذلك بلطف من الله تعالى. وليس في ذلك سببية طبيعية كما حاول إثباته السيّد الطباطبائي رحمه الله، مدّعياً أنّ الالتزام بالصدق وترك اللغو من الكلام، يجرّ الإنسان إلى الأعمال الصالحة. مع أنّ هناك من الكفّار والفسّاق من لم يعهد منهم الكذب في القول.

ويظهر من الآية أهمية الكلام سيّئة وحسنة فلا يستخفنّ الإنسان بما يخرج من شدقيه. وقد بيّن الله تعالى ما يترتّب على بعض الكلام ممّا يثير الدهشة، قال تعالى: «وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِذاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَقَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُ

ص: 182


1- الإسراء (17): 36

الأرْضُ وَ تَخِرُّ الجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً»(1) وجعل الله تعالى أجر المؤمنين تثبيت قولهم، حيث قال: «يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفي الآخِرَةِ»(2).

«وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً»، «الفوز»: الظفر بالخير. وممۀا يشغل فكر الإنسان وهمّه في هذه الحياة، هو السباق مع الآخرين والتقدّم عليهم. والإنسان غالباً يهتمّ بتقدّمه على الأقران في المجالات المختلفة، أكثر ممّا يهتمّ بكسب النفع في نفسه. وهو مجبول على حبّ التفوّق على الأقران. ويعتبر حبّ التفوّق من الغرائز الطبيعية، وهو الأساس في تقدّم الإنسان في علمه وثقافته وحضارته وسائر جوانب الحياة الماديّة.

والله تعالى في هذه الآية الكريمة يخبر الإنسان أنّ الفوز والنجاح العظيم للذي يطيع الله ورسوله، فليتسابقوا في هذا المجال، فكلّ من كان أطوع لهما وأبعد من المعصية فقد فاز بالقدح المعلّى. ويتبيّن ذلك يوم تتبيّن الحقائق وينكشف الغطاء.

ص: 183


1- مریم (19): 88-91
2- إبراهيم (14): 27

سورة الأحزاب (72-73)

«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)»

«إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» كثر الكلام حول هذه الآية وأنّه ما هو المراد من الأمانة، ومن العرض، ومن السماوات والأرض ، ومن الإنسان، ومن الحمل ومن التعليل بالظلوم والجهول، بحيث يطول بنا الحديث لو أردنا استعراضها، فننقل المهمّ منها:

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان ما معناه: إنّ المراد ب_«الأمانة» الولاية الإلهية، وكمال صفة العبودية، والاستكمال بحقائق الدين الحقّ علماً وعملاً. وقال: إنّ المراد بالعرض اعتبارها مقيسة إلى هذه الأشياء، وأنّ الإباء عن الحمل والإشفاق بمعنى عدم قابليتها للحمل. والمراد بحمل الإنسان، صلاحيته الذاتية. وإنّ التعليل بكونه ظلوماً جهولاً باعتبار أنّه قابل لما يقابلهما، وهو العلم والعدل. (1)

وقال بعضهم: إنّ المراد ب_«الأمانة» التكليف. وإنّما عدل عنه العلامة الطباطبائي بدعوى أنّ الهدف الأساس للتكليف، هو بلوغ هذا الحدّ من الكمال . (2)

ص: 184


1- الميزان في تفسير القرآن 16: 348
2- راجع: نفس المصدر

وقال الزمخشري: إنّ المراد ب_«الحمل» الخيانة، وهي التي أبى عنها كلّ الموجودات إلا الإنسان، واستشهد ببعض استعمالات العرب وأنّه يطلق الحمل على الخيانة. (1) ولم يقبل منه ذلك من تأخّر عنه.

وقال بعضهم: إنّ المراد ب_«العرض» معناه الظاهر والمتبادر ، وأنّ الله تعالى خلق في هذه الأشياء دركاً ومعرفة، فخاطبها وعرض عليها التكليف.

وقيل: إنّ المراد ب_«الأمانة» العقل ... إلى آخر ما تفنّن القائلون في بيانه.

ومن الواضح: أنّ المراد ب_«الأمانة» أمر تحمّله الإنسان بطبعه، ورفضته سائر الموجودات بطباعها. فالآية ليست بصدد بيان حادثة في الكون، بل هو بيان لأمر طبيعي مستمرّ على الطريقة القرآنية التي تنسب كلّ المقدّرات الطبيعية إلى إرادة الله تعالى، ونظير ذلك الآية التي تبيّن إنطواء الفطرة الإنسانية على التسليم للربّ، والاعتراف به المعروفة بآية الذرّ. وكذلك الآيات التي تذكر قصّة مبدأ خلق الإنسان، ودخوله الجنّة، وسجود الملائكة، ورفض إبليس، وإخراج الإنسان من الجنّة، ونزوله على هذا الكوكب، فهذه كلّها من هذا القبيل.

وهذه الآية تذكّر الإنسان بأنّه يختلف ذاتاً عن سائر الموجودات فهو الذي حمل الأمانة الإلهية، وهي إمّا نفس التكليف والمسؤولية الشرعية، أو مناط التكليف وهو العقل والإرادة والاختيار. وإليه يرجع القول بأنّ المراد بها خلافة الله في الأرض، فإنّ مناطها هو الإرادة والاختيار. وأمّا ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله فلا يخلو عن تكلّف.

وإنّما يبقى السؤال عن تعليل ذلك بكونه ظلوماً جهولاً، وفي ما ذكره العلامة

ص: 185


1- الكشّاف 277:3

هنا أيضاً تكلّف واضح، ولو كان الأمر كما ذكره، لكان الأولى، بل الصحيح أن يعلّل بكونه عادلاً عليماً فما الموجب للعدول ؟! وإرجاع ذلك إلى القابلية للأمرين لا يصحّح التعليل بهذين الوصفين.

والذي يخطر بالبال أنّ التعليل مبنيّ على الاعتبار الأدبي المصحّح لنفس الافتراض، فالمفروض أنّه ليس هناك في الواقع عرض ورفض وإشفاق وتحمّل، وإنّما كلّ ذلك تعبير عن الحالة الطبيعية التي تفصل الإنسان، وتميّزه عن غيره من الموجودات، رغم كبرها وضخامتها، فالمراد بالعرض هو وجود هذه المقارنة على أرض الواقع، بمعنى أنّه إذا لوحظ التكليف والإرادة والاختيار، وافترض أن تعتبر السماوات والأرض والجبال على ضخامتها موضعاً لهذه المزايا لأبَين من ذلك وأشفقن منها، أي خفن وشقّ عليهنّ تحمّل ذلك.

ويلاحظ الإتيان بنون النسوة كأنّ هذه الأشياء ذوات عقل وليس ذلك إلا لمجرّد التصوير والافتراض الأدبي. وفي هذا الافتراض الأدبي يصحّ تعليل قبول الإنسان للأمانة، بأنّه ناش عن ظلمه وجهالته.

أمّا «الظلم» فبمعنى ظلمه لنفسه حيث يحمّل نفسه ما لا طاقة لها به أو بمعنى الرمي في الظلام - كما أسلفنا مراراً - ، فالإنسان جسور قليل المبالاة بالعواقب، يرمي في الظلام ولا يعلم نتيجة عمله.

وأمّا «الجهالة» فليست بمعنى الجهل، بل بمعنى السفاهة، فكأنّه يريد أن يقول: إن الذي يدعو الإنسان إلى قبول المسؤولية، سفاهته وعدم تدبّره، ولو كان بمعنى الجهل، فالمراد جهله بعواقب الأُمور.

ومهما كان، فالله تعالى لا يريد تغيير الإنسان على قبوله المسؤولية وأنّه إنّما

ص: 186

قبل ذلك لظلمه وجهله، بل هذا تعبير أدبي عن ضخامة المسؤولية وعدم تمكّن الإنسان - في الغالب - من أدائها، بالرغم من طاقاته ومواهبه، بحيث لو كان الإنسان مختاراً في قبول هذه المسؤولية ورفضها، ومع ذلك كان يقبلها ويلتزم بمضمونها، لكان ذلك ناشئاً من سفاهته ومن ظلمه لنفسه. فالغرض هو الإشارة إلى ضخامة الأمر، وتنبيه الإنسان أنّه قد حمّل أمانة عظيمة لا يتحمّلها الكون بأجمعه.

«ليُعَذِّبَ الله المُنافِقِينَ وَالمُنَافِقَتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ الله عَلَى المُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً»، قيل : إنّ اللام لبيان العاقبة وأنّ عاقبة أمر الإنسان آلت إلى انقسامه إلى هذه الأقسام، ولكنّ الظاهر أنّها للعلّية وأنّ الجملة علّة للعرض وتحميل المسؤولية، ليميّز الله الخبيث من الطيّب. وقدّم تعذيب المنافقين لأنّهم في الدرك الأسفل من النار ، ولأنّ النفاق جريمة مضاعفة، فالمنافق مشرك في الواقع ويظهر الإيمان.

وتوبته على المؤمنين بمعنى رجوعه عليهم بالرحمة وتوبة المؤمن مسبوقة بتوبة ربّه، كما قال تعالى: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ»(1).

ثمّ عقّب الآية بغفرانه ورحمته إيذاناً بأنّ المؤمن أيضاً مهما بلغ من إيمانه، فإنّه لا يبلغ المقصود إلا برحمة من الله وفضل وغفران لذنوبه وتكميل لنقصه.

وهكذا يتبيّن أنّ الإنسان كم كان جاهلاً بعواقب الأُمور لو فرض قبوله للمسؤولية، فإنّه لم ينج منه إلا القليل وذلك بغفران من الله تعالى ورحمة.

ص: 187


1- التوبة (9): 118

وهكذا ينبّه الله تعالى عباده بخطورة الموقف، ويبعث فيه الرجاء فيالوقت برحمته وغفرانه.

ومن لطيف التعبير بمناسبة بعض آيات السورة عطف النساء على الرجال في الأصناف الثلاثة، تنبيهاً على وحدة المناط في الحكم، وعدم الفرق بين الرجال والنساء من حيث الآثار المترتّبة على اختيار الصفات المذكورة. والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 188

تفسير سورة سبأ

تفسير سورة سبأ

ص: 189

ص: 190

سورة سبأ (1-2)

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)»

السورة كسائر السور المكّية تتعرّض لاُصول العقيدة الإسلامية. وتمهيداً للتأكيد على المعاد تشير الآيتان إلى إمكانه ، لأنّ إعادة الحياة تتوقّف على أمرين: عموم قدرة الله تعالى وعموم علمه والآيتان تتضمّنان الأمرين.

«الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ»، أي أنّ الحمد مهما كان، ومن أيّ أحد، ولأيّ أحد، فهو لله تعالى. والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري.

وكلّ من يُحمد بأيّ محمدة فهو وما له من صفات وما يصدر منه من الأفعال التي يستحقّ عليها الحمد ملك لله تعالى ومستند إليه، فإنّ له ما في السماوات وما في الأرض. وليست هذه الملكية ملكية اعتبارية من قبيل ما نعتبره بالنسبة لأموالنا حفاظاً على شؤوننا الاجتماعية، بل هي ملكية واقعية أساسها تقوّم كلّ شيء في كيانه ووجوده بإرادته تعالى وقدرته.

وما في السماوات وما في الأرض عبارة عن كلّ الكون، بناءً على أنّ المراد

ص: 191

بالأرض هنا كلّ العوالم الطبيعية، وبالسماوات كلّ ما وراء الطبيعة، بل حتّى لو لم نقل ذلك فإنّ هذا التعبير لا يبعد أن يكون كناية عن كلّ الكون، ومصحّح هذه الكناية هو أنّ الإنسان إذا فتح عينه لا يجد أمامه من الكون إلا السماء والأرض.

وحيث إنّ الكون سيتبدّل إلى كون آخر من سماواته وأرضه كما قال تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَيَرَزُوا الله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ»(1)، أضاف إليه قوله «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ».

«وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ»، قد أغرب جمع من المفسّرين في تفسير هذه الجملة، فذكروا وجوهاً لتأويل الحمد في الآخرة، وذلك لأنّ الحمد في الدنيا واجب له تعالى، وفي الآخرة ليس واجباً، إذ لا تكليف هناك.

وكأنّهم توهّموا أنّ المراد بالحمد في الموضعين ما يصدر من الناس من حمد وثناء، مع أنّ المراد أنّ الحمد في حدّ ذاته يختصّ به تعالى، أين ما كان، ومتى كان، ومن أيّ أحد، وفي أيّ مرحلة من مراحل الكون، وفي أيّ عالم من العوالم ، فلا حاجة إلى تأويل. مع أنّ أهل الجنّة أيضاً يحمدون الله تعالى كما قال عنهم: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(2)، وقال تعالى «وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ»(3). وذكر الحمد في الآخرة تمهيد لما سيأتي من الكلام حول المعاد والحياة الآخرة. ولعلّ توصيفه ب_«الحكيم» أيضاً تمهيد له باعتبار أنّ حكمته تعالى تقتضي أن يكون هناك عالم آخر يحاسب فيه الأعمال وإلا لكان خلق هذه النشأة عبثاً

ص: 192


1- إبراهيم (14): 48
2- يونس (10): 10
3- الزمر (39): 75

ومنافياً للحكمة، قال تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنّما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ»(1) . والتوصيف ب_«الخبير» تمهيد لبيان قدرته على إعادة الإنسان مهما تكاثر عدده وتشتّتت أجزاؤه، فإن الخبير مأخوذ من الخبرة، أي العلم بدقائق الأُمور وجزئياتهاوتفاصيلها وخباياها.

«يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فى الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا» ، لا شكّ أنّ كثيراً من الأجسام الموجودة على ظاهر الأرض تتحوّل بمرور الزمان إلى أن يتمّ امتصاص الأرض لها وتتغيّر هناك، وتتحلّل، وتخرج منها بصورة جسم آخر. وهذا هو المراد بالولوج والخروج من الأرض، فهذه عملية مستمرّة لتجديد الحياة على هذا الكوكب، كما تدخل فيها المعادن لتحتفظ بخصائصها طيلة القرون، ويدخل فيها الماء وتخرج مصفّى وغير ذلك.

ولعلّ هذه الجملة تفصيل مفاد الوصف الثاني أي «الخبير»، وهو في نفس الوقت بيان لعموم علمه تعالى بما يتوقّف عليه إيجاد النشأة الآخرة. والتعبير في هذه الجملة جامع لجميع الجزئيات الموجودة على كوكب الأرض، مع ملاحظة التغيّر والتحوّل الطارئ عليها بتشتّت الأجزاء، وامتصاص الأرض لها، ثمّ تحوّلها في باطنها إلى موادّ أُخرى، أو تغيّر حالتها وخروجها منها، فهو يعلم بها حين الولوج، وحين الخروج وقد تغيّرت ماهيتها وتبدلت صورته.

وهذا هو أساس ما يتوقّف عليه إحياء الموتى وبه يدفع إشكال المنكرين أنّه كيف يمكن إعادة الإنسان وقد تفرّقت أجزاؤه ومزّق كل ممزّق - كما في هذه السورة - وضلّ في الأرض كما حكاه تعالى عنهم في قوله: «وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي

ص: 193


1- المؤمنون (23): 115

الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ»(1) ؟!

والحاصل أنّ ظاهر التعبير هنا وتخصيص العلم بما يلج وما يخرج لدفع هذا التوهّم، لا لمجرّد بيان كمّ هائل من المعلومات بعبارة مختصرة، كما في بعض التفاسير حيث قال: «إنّ التعبير يشمل كلّ إنسان وحيوان يموت وكلّ نبت وكلّ مادّة تدفن في الأرض، وكلّ ما يدخل فيها من سوائل وأشعة وفضولات، وما يخرج منها من نبت وإنسان وحيوان، فكلّ هذه الأمور تنطبق عليها العبارة»(2) واعتبر ذلك من معجزات التعابير القرآنية!! مع أنّ ذكر عنوان عامّ يشمل كمّاً هائلاً من الموجودات ليس من الإعجاز في شيء.

«وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا»، قيل هنا أيضاً بأنّه عنوان يشمل مجموعة أُخرى من حقائق الكون، فإنّ منها ما تنزّل من العلوّ كالمطر والأشعة، ومنها ما تصعد كالأبخرة.

ولكنّ الظاهر أنّه إشارة إلى علمه تعالى بما ينزل من السماء من أحكام، وما يعرج إليها من أعمال. وهكذا يتمّ العلم الذي لا بدّ منه لإنشاء تلك المحكمة الكبرى.

«وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ»، لعلّ التعقيب بالوصفين أيضاً يناسب المعنى المذكور آنفاً، باعتبار أنّ علمه تعالى بتفاصيل الأعمال وبكلّ صغيرة وكبيرة منها يشتمل على نوع من التهديد، فأراد سبحانه تلطيف الجوّ وبعث الرجاء في النفوس بالتركيز على صفتي «الغفران» و«الرحمة».

ص: 194


1- السجدة (32): 10
2- راجع: إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن: 433؛ أطيب البيان في تفسير القرآن 10: 540

سورة سبأ (3-6)

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)»

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تأتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ»، الظاهر أنّ عنوان «الَّذِينَ كَفَرُوا» مصطلح قرآني يراد به مشركو مكّة. وكانت عرب الجزيرة بوجه عامّ تنكر المعاد مع اعترافهم بالله تعالى وبكونه خالق الكون، لأنّ الاعتراف بالمعاد يستدعي التقوى، وكانوا يأبون ذلك.

يختلف معنى الساعة حسب اختلاف الموارد - في القرآن فقد يقصد بها لحظة انتهاء الكون وقد يقصد يوم القيامة. وهي في الأصل بمعنى الجزء الصغير من الزمان، ولعلّها تطلق على ذلك اليوم، لتحقّقه بسرعة خاطفة، كما قال تعالى «وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ»(1) . والمراد بها هنا یوم القيامة والبعث، فإنّه هو الذي ينكره المشركون.

وفى جواب إنكارهم أمر الله تعالى رسوله بأن يقول لهم: «بَلَى وَرَبِّي لَتَايَنَّكُمْ».

وكلمة (بلى) تقال تارة في جواب سؤال منفي فيكون الجواب مثبتاً لذلك

ص: 195


1- القمر (54): 50

المورد كقوله تعالى: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»،(1) فهذا الجواب يثبت الربوبية التي ورد السؤال عن نفيها وتقال تارة أُخرى لإثبات ما أنكر كما في هذه الآية حيث تثبت المعاد بعد الجحود المنقول من الذين كفروا.

والحلف بالربِّ لتناسب الربوبية مع المعاد، إذ مقتضى ربوبيته تعالى أن يوصل الإنسان المربّى إلى نتيجة أعماله. والتوصيف بأنّه عالم الغيب وما تلاه من تأكيد، لردّ شبهة المشركين في إنكارهم للمعاد، فإنّهم كانوا يستغربون ذلك من جهة أنّ الإنسان بعد موته تتفرّق أجزاؤه فلا يمكن جمعها.

والجواب واضح ، فإنّ الأجزاء المتفرّقة من الغيب، والله تعالى يعلم الغيب. والمراد به ما هو غائب عن أعين الناس ولا سبيل لمشاهدته في الطبيعة، وإلا فليس هناك أمر غائب عن الله تعالى.

«لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلا فِى الأرض»، أي لا يبعد ولا يغيب عنه مثقال ذرة، فكلّ شيء حاضر عنده وعلم الله بالأشياء ليس بالتصوّر - كما عندنا - بل كلّ شيء حاضر بكلّ خباياه وزواياه عنده، وهو محيط به. و«المثقال» من الثقل بمعنى الوزن. و«الذرّة» تطلق على النمل الصغير، وعلى الهباء المنثور الذي يرى في ضوء الشمس حين تدخل من نافذة صغيرة. والغرض التأكيد على إحاطته تعالى بكلّ شيء، وأنّ الأشياء حاضرة عنده لا تغيب عنه، فهو يعلم وزن الذرّة على صغر حجمها بحيث لا تكاد ترى.

«وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» ، جملة مستقلّة. و«الكتاب» بمعنى المكتوب، أي المجموع. وكلّ مجموعة من المعلومات كتاب. و«المبين» بمعنى

ص: 196


1- الأعراف (7): 172

الواضح أو بمعنى الموضح، فيمكن أن يكون الكتاب كناية عن علمه تعالى، ويمكن أن يكون إشارة إلى نفس الحقائق الكونية، فإنّها الكتاب التكويني التي تشكل أحرفه مجموعة الحقائق بنفسها وهي واضحة وموضحة، لأنّها تريك نفس الحقائق لا صورها ولا أسماءها ولكنّ لا يطّلع عليها بكاملها إلا الله تعالى. ويوم القيامة يظهر لكلّ إنسان حقائق أعماله بعينها، فيقول: «مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا».(1)

«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» بيان لحكمة إنشاء النشأة الآخرة، وعلّتها الغائية، وهي أن يلقى الإنسان نتيجة عمله، فالذين آمنوا بالله وبرسله وكتبه وشريعته، وعملوا الصالحات أي الأعمال التي تصلح لأن تدخل صاحبها في رضوان الله، يرون منه تعالى مغفرة لذنوبهم التي لا يخلو منها إنسان إلا من عصمه الله تعالى. و «المغفرة» الستر، أي يستر ذنوبهم وعيوبهم ونقائصهم. ولا بدّ من المغفرة حتّى يستحقّ الإنسان الرزق الكريم، وهو الجنّة. و «الكريم» كلّ شيء قيّم، كما يقال: الأحجار الكريمة، أي الثمينة.

«وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي أَيَّاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزِ أَلِيمٌ» «السعي» هو الركض أو المشي السريع. و«المعاجزة» محاولة التعجيز، أو محاولة إظهار عجز الآخر، فالمراد أنّهم يبذلون جهدهم لإظهار عجز الله تعالى في آياته. وهو كناية عن مبالغتهم في إنكار الآيات، ودلالتها على الحكمة والقدرة. و«الرجز» هو الرجس والقذارة، أو الاضطراب وعدم الاستقرار. وكلاهما يناسب جريمتهم، فالقذارة تناسب تكبرهم واستعلاء هم على الحقّ، فيجزون بها احتقاراً لهم.

ص: 197


1- الكهف (18): 49

والاضطراب تناسب سرعة مشيهم في معاجزة الله تعالى. وهو في نفس الوقت أليم، وهو مبالغة في الإيلام، أي مؤلم لا يتحمّل ألمه.

«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقِّ» «يرى» مأخوذ من الرأي، بمعنى العلم والإذعان. و «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» لا يخصّ علماء أهل الكتاب كما يقوله بعض المفسّرين، إذ لا دليل على التخصيص، فالمراد أنّ هذه حقيقة علمية يسلم له كلّ من آتاه الله نصيباً من العلم. ولعلّ الغرض الإشارة إلى أنّ من لا يرى ذلك ولا يعتقده فهو جاهل. والمراد ب_«الَّذِي أُنْزِلَ»، القرآن الكريم. والظاهر أنّ هذه الجملة في مقابل قول الذين كفروا لا تأتينا الساعة، فهم جهلة لم يؤتوا نصيباً من العلم.

وحيث كانت الآية في ضمن الإجابة على إنكار المعاد، فهي تجعل مقابلة بين الإيمان بالقرآن، وبين إنكار المعاد، في إشارة إلى أنّ المعاد حقيقة لا يوصل إليها إلا عن طريق الوحي، فإنّه من الغيب الذي لا يصل إليه البشر بنفسه. وقوله تعالى «هُوَ الحَقِّ» يدلّ على انحصار الحقّ فيه، حيث أتى بالضمير والخبر المعرفة، فكلّ ما يقال بشأن المعاد باطل، إلا ما ورد عن طريق الوحي.

«وَيَهْدِى إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» وهو الصراط الذي لابدّ من سلوكه، إذا أُريد الوصول إلى السعادة في تلك النشأة. والتعبير «بالعزيز»، لأنّه الغالب الذي لا يغلب على أمره، فيتحقّق ما أراده مهما كان، ولكنّه في نفس الوقت حميد، لا يصدر منه إلا ما يستوجب الحمد والثناء وليست الغلبة لديه مدّعاة للظلم على أحد.

ص: 198

سورة سبأ (7-9)

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)»

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيد» وفي لهجة ساخرة يقول مشركو مكّة لمن يلقونه، ويحاولون إغفاله، بالدعاية ضد النبي صلّی الله علیه و آله: «هل ندلّكم على رجل...» أو يقولون ذلك في ما بينهم. والتعبير يفترض مسبقاً أنّ الأمر مخالف للعقل وغير قابل للتصديق، وأنّ السامع مسلم لهذا الرفض، وأنّه إذا سمع ذلك يحلو له أن يجد هذا الإنسان الغريب، الذي يصدر منه هذا الكلام، فلا يحتاج إلا إلى الدلالة عليه ليراه مستغرباً. و«التمزيق» هو تفريق الأجزاء. و«الممزّق» مصدر ميمي، أي مزّقتم كلّ تمزيق، أي تمزيقاً كاملاً بحيث لا يبقى جزء منكم قابلاً للتجزئة.

«أَفْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ» أفترى أي أإفترى، فحذفت الهمزة الثانية، لأنّها همزة وصل. و «افترى» أي اقتطع. والمراد هنا اختلاق الحديث. وكذباً مفعول به أي اختلق حديثاً كاذباً. وهنا يردّد المشركون حال النبي صلّی الله علیه و آله بين أمرين، لغرابة ما يقول: فهو إمّا أن يكون قد أُصيب بالجنون، لأنّ هذا الكلام لا يصدر من عاقل، أو يكون من الذين يفترون على الله الكذب، لأنّه ينسب ذلك إلى الله. وتراهم يتحمّسون هنا لله سبحانه كأنّهم أنصاره تعالى.

ص: 199

«بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» ويأتيهم الردّ من الله تعالى من دون خطاب، إذ لا يستحقّونه، فلا يقول: «بل أنتم في العذاب»، بل لا يأتي أيضاً بالضمير الغائب فيقول: «بل هم في العذاب»، بل يركز على الوصف «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ» تنبيهاً على العلّة، فهم في العذاب والضلال البعيد، لأنّهم لا يؤمنون بالآخرة. والجواب مصدر ب_«بل»، أي ليس كما قالوا، فليس به جنّة ولم يفتر على الله تعالى، بل إنّ مناوئيه هم الذين في العذاب والضلال البعيد.

وربّما يتساءل أنّهم حين ما قالوا هذا الكلام وحين ما كانوا غير مؤمنين بالآخرة، لم يكونوا في عذاب، فما هو المراد من التعبير الذي يؤكّد كونهم في العذاب بالفعل؟ والجواب أنّ في العبارة احتمالين:

1 - أنّ المراد ب_«العذاب» عذاب الآخرة، بدعوى أنّهم الآن محاطون بالعذاب وإن لم يشعروا به، نظير قوله تعالى : «وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ»(1) بناءً على ما قيل من أنّه يدلّ على الإحاطة الفعلية وكذا قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً».(2) ومهما كان فهذا تعبير أدبي يكنى به عن الحتمية والقطعية أو أنّه كما قيل إشارة إلى حقائق في باطن العالم لا يدركها الناس بحواسهم ومشاعرهم الاعتيادية فإذا وهب الله أحداً نظرة ثاقبة تنفذ إلى ملكوت هذه النشاة، لرأى أنّ كثيراً ممّن نجدهم أناساً يعيشون كسائر بني آدم إنّما هم حيوانات مفترسة أو أنعام سائمة.

2 - أنّ المراد به العذاب النفسي والقلق والاضطراب فإنّ الإنسان محاط في

ص: 200


1- التوبة (9): 49
2- النساء (4): 10

هذه الحياة بالمكاره ومهدّد بالمخاطر فإذا آمن بالآخرة فإنّه يمنّي نفسه بحياة ينبسط فيها العدل والسلام والأمان، ويبلغ كلّ إنسان فيها ما يستحقّه ويجازي بعمله، وبذلك يشعر بالسعادة.

وحيث يجد أنّ ما يعمله في هذه الحياة منشأ لسعادته الأبدية، فهو واثق من نفسه وهدفه وأمّا الذي لا يؤمن بالآخرة فإنّه يعيش في اضطراب وقلق مستمرّ، لا يجد لهذه الحياة هدفاً ولا لعمله نتيجة. قال تعالى : «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً».(1)

وهو مضافاً إلى ذلك في الضلال البعيد، أي البعيد عن الحقّ. والإنسان الذي يضلّ الطريق تارة يكون قريباً من الجادّة، فهناك أمل أن يهتدي إليها، وتارة يتوغّل في البعد عن الجادّة بحيث لا يؤمّل منه الرجوع إليها. ويقابله العبد المنيب الذي يكثر من الرجوع إلى الله تعالى، فلا يتوغّل في الإخلاد إلى الأرض والبعد عن الله تعالى.

«أَفَلَمْ يَرَوْا إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرض إِنْ نَشَأْ نَخْسِفُ بِهِمُ الأرض أو نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ» الظاهر أنّ هذه الآية تهديد ووعيد للمستكبرين المعاندين للرسالات وتنبيه للإنسان بوجه عامّ بأنّه محصور ومحاط بالخطر من فوق رأسه ومن تحته، فأين ما يذهب الإنسان، فالسماء فوقه والأرض تحته، ألا يخاف أن يسقط عليه ربّه من السماء، أي من جهة العلوّ وممّا فوقه، كسفاً، أي قطعاً من الصواعق المحرقة أو الشهب وغيرها، أو يأمر الأرض فتخسف به، كما خسف من قبل بأقوام وحضارات وأشخاص؟!

ص: 201


1- طه (20): 124

والظاهر أنّ الضمير يعود للمشركين المنكرين للمعاد والمستهزئين بالرسول صلّی الله علیه و آله، فيسأل منهم سؤال استنكار : «أَفَلَمْ يَرَوْا» ومعنى ذلك أنّه يكفي في الأمر أن يشاهدوا ما حولهم، فيروا الخطر بأم أعينهم، فالأمر لا يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، فإنّ الإنسان يرى فوقه سماءً كم سقط منه على الخلق صواعق وحجارة، ويجد حوله أرضاً كم ابتلعت أُناساً، بل قرىً ومدناً وحضارات، فهذا تهديد للمشركين وللبشر عامّة بأن لا يأمنوا عذاب الله ولا يتمادّوا في غيّهم.

ولكن يقع السؤال بناءً على هذا التفسير عن وجه التعبير عن السماء والأرض بما بين أيديهم وما خلفهم، حيث إنّ «مِنَ» في قوله تعالى: «مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض» بيانية مع أنّ السماء فوقنا والأرض تحتنا، فقيل: إنّ المراد هو الإحاطة من كلّ جانب، فكأنّه قال: «وعن أيمانهم وعن شمائلهم»، ثمّ حذف الباقي.

ويحتمل أن يكون المراد من «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما يرونه بالعين من حوادث السماء والأرض. و من «مَا خَلْفَهُمْ» ما لم يروه ولكنّهم سمعوه بحيث كان ذلك كالرؤية. وهذا أقرب ممّا قاله المفسّرون والحمد لله.

وقيل: إنّ المراد بالآية ليس تهديد المشركين، بل حثّهم على النظر في السماء والأرض ليتبيّن لهم أنّ الله الذي خلق الكون من العدم، وأنشأ هذا النظام الكوني الدقيق قادر على إعادة الحياة، فهو أسهل بكثير من خلق الكون العظيم. وأمّا جملة «إنْ نَشَأْ نَخْسِف بهم الأرض...» (1) فهي جملة معترضة جيء بها للتهديد والتحذير.

ص: 202


1- سبأ (34): 9

ولكن الاحتمال الأوّل أقرب لئلا يلزم كون هذه الجملة معترضة لا تناسب السياق .

«إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» أي كفى بالنظر في السماء والأرض وتذكّر المخاطر آية تبعث في الإنسان تقوى الله تعالى وعدم تكذيب رسله في أخبارهم عن المعاد، ولكنّها إنّما تكون آية كافية لكلّ عبد ينيب إلى ربّه، ولا يبعد عنه بالتوغّل في شؤون الحياة الدنيا وشهواتها.

والإنابة هي الرجوع والعودة. فالذي ينجي الإنسان من القلق، وينقذه من الهلع والإضطراب، ويبعث فيه الأمل، هو الرجوع إلى ربّه وإيكال الأمر إليه، فبرجاء رحمته تحلو الحياة، وبذكره تطمئنّ القلوب.

ص: 203

سورة سبأ (10-14)

«وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)»

مجموعة آيات تذكر نعم الله تعالى على بعض عباده، وتحثّ العباد على الشكر، وتدافع عن بعض أنبيائه في قبال ما أُلصق بهم من تهم في الكتب المحرّفة عن كتب السماء، وتؤكّد على عدم اللجوء إلى الجنّ، ومن يدّعي علم الغيب من أتباعهم.

ولعلّ وجه مناسبتها لما سبق - كسائر الموارد التي يذكر فيها أقوال المشركين والمناوئين للرسول صلّی الله علیه و آله - هو ذكر بعض الأمثلة الواضحة من تأييده تعالى لرسله السابقين، ليكون تسلية له صلّی الله علیه و آله وللمؤمنين، وتخويفاً وتحذيراً للمشركين. وكذلك عرض المجموعة التالية من الآيات لما حدث من سلب النعمة عن قوم سبأ، ففي كلّ ذلك عبرة للمخاطبين من الفريقين.

«وَلَقَدْ آتَيْنا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً» «الفضل»: الزيادة. والمراد كلّ ما يعطى لأحد ممّا لا يستحقّه على المعطي. وكلّ ما يعطيه الله تعالى أحداً فهو فضل منه تعالى، إذ لا

ص: 204

يستحقّ عليه أحد شيئاً ويمكن أن يكون المراد بالفضل هنا فضله علیه السّلام على سائر الناس، أي آتيناه نعمة زائدة على ما أنعمنا به على غيره.

وقوله: «مِنَّا» تشريف وتكريم زائد يدلّ على عناية خاصۀة به علیه السّلام وذلك لأنّ كلّ شيء منه تعالى، سواء كان خيراً أو شرّاً، حقيراً أو جليلاً، مع أنّ قوله «آتَيْنا» يغني عنه لو لم يكن يقصد به إظهار عناية خاصّة.

«يا جِبالُ أَوِّبى مَعَهُ وَالطَّيْرَ» هذا بيان لذلك الفضل الذي أنعم الله تعالى به على داود علیه السّلام بحكاية الخطاب التكويني الذي حقق تلك النعمة، وهي قوله تعالى: «يا جِبالُ أَوبي مَعَهُ وَالطَّيْرَ». فالجبال والطير أُمرت تكويناً أن تردّد تسبيح داود ومناجاته لله تعالى. وداود مشهور بمزاميره ودعواته وزبوره.

قال تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ»(1) فالظاهر أنّ الجبال كانت تردد تسبيحه، وكذلك الطير. والتأويب هو الترجيع. والواو للمعيّة والمصاحبة، أي الجبال مع الطير تسبّح مع تسبيح داود علیه السّلام. وأوضح منه قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِي وَالإِشْراقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلَّ لَهُ أَوَّابٌ».(2)

«وَأَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ» نعمة أُخرى هي إلانة الحديد له، ولم يذكر أنّه كان بصورة الإعجاز أم بوجه آخر، فينطبق على ذلك، كما ينطبق على تعليمه كيفية الانة الحديد بالنار بصورة طبيعية. ولكن قوله تعالى: «وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ»(3)، يؤيّد المعنى الثاني فإن حثّ الأجيال المتأخّرة على

ص: 205


1- الأنبياء (21): 79
2- ص (38): 17 - 19
3- الأنبياء (21): 80

الشكر على هذه النعمة لا يناسب إلا إذا كانت الصنعة في عصرهم على غرار الصنعة التي علّمها الله داود علیه السّلام كما أنّ قوله تعالى: «لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» يقتضي ذلك أيضاً.

«أنِ اعْمَل سابغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالحاً إِنِّى بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» الظاهر أنّها مفسّرة للإلانة، ولكنّ بتضمين معنى القول، كأنّه قال: «النّا له وقلنا» فكانت الإلانة بمثابة أمره بعمل الدروع. وكان المحارب قبل ذلك يلبس من الحديد أو نحوه صفحة ثقيلة، فعلّم الله تعالى داود علیه السّلام كيف يصنع الدرع، فيخفّ حمله ويقي المحارب من الضربة. وذلك بعد أن ألان له الحديد؛ إمّا بالإعجاز أو بالتعليم .

ثمّ إنّ ما حكاه تعالى في هذه الآية ليس تعليم صناعة الدرع بوجه خاصّ، بل هي أُمور عامّة لابدّ من مراعاتها في كلّ عمل و«السابغات» صفة للدروع المقدّرة، أي اعمل دروعاً سابغات، أي كاملات تامّات. وقيل «واسعات». و «السرد» نسيج الدرع ، أي حلقاته. ويقال له الزرد أيضاً.

و «التقدير» يمكن أن يكون بمعنى التضييق بأن تكون الحلقات متراصّة ليكون الدرع قويّاً متيناً أو لئلا ينفذ فيه الرمح والنبل ويمكن أن يكون «التقدير» بمعنى مراعاة التناسب بين الحلقات ومهما كان فهو أمر بالاتقان في العمل وفي حديث مشهور: «رحم الله أمرأ عمل عملاً فأتقنه»(1) ولم أجد له مصدراً معتمداً.

ثمّ عقّبه بحكم عامّ في نفس السياق «وَاعْمَلُوا صالحاً» وهو خطاب لآل داود أو لأُمّته. وليس المراد ب_«الصالح» الأعمال الصالحة كما فسر به، بل الصالح بمناسبة

ص: 206


1- تفسير القرطبي 13: 244

المقام هو ما يصلح للاستعمال، فهو حكم عام بالإتقان في الصنع. ومن الملفت للنظر أنّه تعالى هدّد العاملين بقوله «إِنِّى بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». أي لو فرض أنّ صاحب العمل والمستأجر لم ينتبه لخيانة الأجير في عمله، فإنّ الله تعالى بصير بذلك، ويحاسبه يوم القيامة.

«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» لعلّ التقدير: «وسخّرنا لسليمان الريح». والظاهر أنّه علیه السّلام كان يستخدم الريح للانتقال من مكان إلى مكان، أو لنقل الأشياء وكان مسيرها في الصباح بمقدار مسيرة شهر، وفي المساء أيضاً مسيرة شهر بالوسائل العادية في ذلك العهد والتعبير بمسيرة شهر تعبير متعارف ومعناه واضح لدى عرف المخاطبين.

والحاصل أنّ الريح كانت تحمله وينقل أمتعته صباحاً وتعود به مساءً، أمّا أنّه كيف كان الحمل يتحقّق هل كان يجلس على بساطه وتحمله الريح، أو كان يركب في سفينة والريح تذهب به حيث يشاء وبتلك السرعة الهائلة، أو كان بطريق آخر لا نعلم ذلك ولم يرد في خبر معتبر، فالأُولى السكوت عنه والاكتفاء بما دلّت عليه الآيات.

وقد فسّره بعض المفسّرين بأنّ الريح كانت تذهب به شهراً وتعود به شهراً. وهذا غريب، لأنّه ليس أمراً يمنّ به عليه خاصّة.

وقد ورد ذكر هذه النعمة في قوله تعالى: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةٌ تَجْرِى بِأَمْرِهِ إلى الأرض الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا..» (1) ، فهذه الآية تحدّد المقصد بأنّه بيت المقدس أو مطلق بلاد الشام كما قيل. ولكنّه تعالى عمّمه في قوله، «فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءٌ

ص: 207


1- الأنبياء (21): 81

حَيْثُ أَصَابَ»(1) ولعلّ المراد بالآية الأُولى المقصد الذي تذهب إليه الريح ليبدأ سليمان علیه السّلام منه سفره؛ لأنّه كان يقيم في الأرض المباركة.

«وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» «القطر» هو النحاس. و«أسلنا» من الإسالة، أي جعل الشيء سائلاً. وهنا أيضاً يمكن أن يكون الإنعام عليه بصورة الإعجاز، بأن أوجد له عيناً تنبع بالنحاس المذاب، أو بصورة طبيعية كما لو أخرج النحاس من فوهة بركان. ويمكن أن يكون المراد أنّه تعالى علّمه كيف يذيب النحاس، وإن كان التعبير بالعين يناسب المعنى الأوّل بأحد وجهيه.

«وَمِنَ الجنّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ ربّه» وهذه نعمة أُخرى خاّصة به علیه السّلام وهي تسخير الجنّ، وهو على ما يعلم من القرآن موجود ذو شعور ومكلّف، ولكنّه غائب عن أنظارنا، لا يمكننا رؤيته. قال تعالى: «إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ»(2)، ويظهر من الآيات أيضاً أنّ له من القدرة ما لا يقدر عليه الإنسان، كما يظهر من هذه الآيات. وفي سورة النمل إنّ عفريتاً من الجنّ أبدى استعداده لنقل العرش من سبأ قبل أن يقوم سليمان علیه السّلام من مقامه . (3)

ولا يبعد أن يكون بعض غرائب المباني الباقية من العهود البائدة التي لا يمكن إنجازها حتّى بالوسائل الحديثة من صنع هذا الكائن الغريب. ومهما كان فقد سخّر الله تعالى لسليمان من الجنّ من يعمل بين يديه أي أمامه وبمشهد منه، وإنّما كانوا مسخّرين له بإذن من الله تعالى وليس باستقلال من سليمان علیه السّلام. وهذا

ص: 208


1- ص (38): 36
2- الأعراف (7): 27
3- راجع النمل (27): 39

التقييد لابد منه في كلّ مورد يتوهّم منه الاستقلال.

«وَمَنْ يَرْغَ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعير»: «الزيغ»: الميل عن الاستقامة، كما في المفردات. ويظهر من الآية أنّ الله تعالى وكّل بهم من يعذّبهم إذا تخلّفوا عن أمره، ولكنّه تعالى نسب الأمر إلى نفسه حيث كانوا مأمورين بالعمل بما يأمره سليمان علیه السّلام، فأمره تعالى هو اطاعة أمر سليمان علیه السّلام ويظهر من الآية ونظائرها أنّ منهم من كان يحاول ذلك فينزل عليه العذاب. و«السعير»: النار الملتهبة. والظاهر أنّ المراد به العذاب في هذه الدنيا، ولا وجه لما قيل بأنّه في الآخرة، إذ ليس ذلك وازعاً لهم في هذه الحياة.

ويظهر من موضع آخر أنّ بعضهم كانوا مكبلين قال تعالى: «وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ»، (1) و«الأصفاد»: الأغلال. والظاهر أنّه المراد أيضاً بقوله تعالى «وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ»(2). والمذكور هنا من أعمالهم ما يتعلّق بالبناء، وصنع التماثيل، والأواني الضخمة التي تناسب الملوك والعظماء، وأُضيف إلى ذلك في سورتي «ص» و«الأنبياء» الغوص، قال تعالى: «وَالشَّيَاطِينَ كُلّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصِ»(3)، «وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ...» (4).

وهناك فرق آخر بين التعبير هنا وما ورد في سورتي «ص» و«الأنبياء»، فهنا عبّر عنهم بالجنّ وفيهما عبّر عنهم بالشياطين، وهم أشرار الجنّ. ومنه يعلم الوجه في تعذيبهم وحبسهم في الأغلال، ولا يعلم المراد بالأغلال، إذ يبعد أن يكون

ص: 209


1- ص (38): 38
2- الأنبياء (21): 82
3- ص (38): 37
4- الأنبياء (21): 82

المراد ما نفهمه منها، فلا بدّ أن يكون ذلك شيئاً يقيدهم وتسلب حرّيتهم، يقيّد الإنسان بالأغلال.

«يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوابِ وَقُدُورٍ راِسياتٍ»، «المحاريب» جمع محراب، قيل: إنّ المراد بها آلات الحرب، لأنّ المفعال اسم الآلة. ويرى أكثر المفسّرين أنّ المراد بها المساجد أو محاريب المساجد، وهو أشرف موضع منه، أي موضع الإمام، أو المراد بها الغرف، كما استعمل في ذلك في بعض الأشعار، ولعلّ قوله تعالى: «إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ»(1) من ذلك، إذ التسوّر بمعنى الصعود واجتياز السور.

وقيل: إنّ المحراب صدر البيت. واختلفوا في أنّه هل هو الأصل ، وسمّي محراب المسجد باسمه. للمناسبة، كما في معجم مقاييس اللغة، (2) أو أنّ العكس هو الصحيح، كما رجّحه الراغب في «المفردات». (3)

و«التمثال» يطلق على تماثيل الحيوان وغيره، قالوا إنّ المراد بها تماثيل الإنسان والحيوان وإنّها لم تحرم في تلك الشريعة، ولكن ورد في بعض رواياتنا أنّها لم تكن تماثيل الحيوان والإنسان، بل تماثيل الشجر ونحوه.

و«الجفان» جمع جفنة: وعاء للطعام. و«الجوابي» جمع جابية بمعنى الحوض، لأنّه مجمع الماء، «وجبى» بمعنى جمع، فالمراد أنّهم كانوا يصنعون له أوعية طعام كبيرة كالأحواض. «قدور راسيات»، أي ثابتات لكبرها وضخامتها.

وقد يثار سؤال حول حياة سليمان علیه السّلام حيث إنّه وإن كان ملكاً إلا أنّه نبيّ في

ص: 210


1- ص (38): 21
2- معجم مقاييس اللغة 2: 48
3- راجع: المفردات في غريب القرآن: 112

نفس الوقت فكان جديراً به أن يتزهّد في الدنيا وزخارفها، فلماذا اهتمّ بصنع التماثيل والمباني الضخمة والصرح الممرّد من قوارير؟ ولماذا سخّر الجنّ وأكرههم على أن يعملوا له ما يشاء؟ أليس هذا مشابهاً لما يعمله جبابرة الملوك مع الأُنس؟

والجواب أنّ كلّ ذلك كان من الله تعالى فهو الذي سخّر له الجنّ أو شياطينهم خاصّة ولعلّ ذلك كان جزاءً لهم على أعمالهم وشرورهم. والظاهر أنّ كلّ ما بدا منهم من أعمال في البناء ونحوه كانت آيات رسالة سليمان علیه السّلام فإنّ الله تعالى يجعل معجزة كلّ رسول ما يناسب زمانه وحضارة البشر في عهده وفي بيثته.

وحيث كان إبداع البشر في ذلك الزمان والمكان في هذه الشؤون جعل الله معجزة رسوله أن صنع من ذلك ما لا يمكنهم صنعه من دون أن يستخدم البشر، كما كانوا يفعلون، فيكون علامة واضحة على أن ما صنع لم يتمّ له الا بأمر من الله تعالى إعلاماً لرسالته.

«اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» قيل: إنّ المراد «اعملوا الشكر»، فيكون مفعولاً به، والمعنى اشكروا يا آل داود. ولكنّ الظاهر أنّ شكراً مفعول لأجله، والمعنى: «اعملوا يا آل داود ما هو مطلوب منكم شرعاً من عمل عبادي أو اجتماعي بداعي الشكر لله تعالى»، حيث أنعم عليكم بهذه النعم الجسيمة.

ويفهم من العبارة أمران: الأوّل: أن لا يكون العمل بداع غير داعي الشكر لله تعالى، والأمر الآخر أنّ الشكر يجب أن يكون عملياً ولا يكتفى بالشكر العملى اللساني، كما هو الغالب، وكلّما عظمت النعمة عظم الشكر العملي المناسب لها.

«وَقَليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ»، هذا التعقيب يؤكّد على الأمر الثاني في الجملة السابقة، فإنّ الشكور صيغة المبالغة وهي تناسب أن يكون الشكر عملياً، فالمراد

ص: 211

بهذه الجملة أنّ الغالب في الشاكرين من العباد هو الشكر اللساني، وأمّا الشكر العملي فقليل. وهو المطلوب من آل داود علیه السّلام.

«فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ المُوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرض تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» المراد بدابَة الأرض الأَرَضَةُ وهي - بالتحريك - دودة بيضاء شبه النملة تأكل الخشب، وهناك نوع منها تأكل غيره أيضاً على ما قيل .

و«المنسأة»: العصا، سمّيت بها لأنّها تستعمل لتأخير الأشياء عن مواضعها. و«النسء»: التأخير.

تذكّر الآية قصّة موت سليمان علیه السّلام وهو واقف أو جالس على شرفة أو ما يشابهها، والجنّ يعملون بين يديه ولم ينتبهوا لموته، فاستمرّوا في عملهم الشاقّ الذي عبّر عنه بالعذاب المهين، وبقي سليمان علیه السّلام على حاله إلى أن جاءت الأرضَة وأكلت عصاه، فوقع على الأرض، فعلموا بموته.

«فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهين» لمّا سقط سليمان علیه السّلام تبيّنت الجنّ، أي علمت من نفسها أنّها كانت تخطئ في معرفة نفسها وأنّها ما كانت تعلم الغيب وإلا لم تلبث في العذاب المهين والعمل الشاقّ بعد موته، أو أنّ الجنّ تبيّن أمرهم وانكشف للناس الذين كانوا يظنّون أنّهم يعلمون الغيب. و«أن» تفسيرية تفسّر التبيّن أي تبينوا من هذه الجهة، وهي أنهم لا يعلمون الغيب، خلافاً لما يظنّ الناس وما زالوا يظنّون.

والآية تنبّه على أمر مهمّ يمكن به تفنيد دعوى علم الغيب من كلّ من يدّعيه عن غير طريق الله تعالى، فإنّك تجد أنّ هذا المدّعي تحيط بداره الشرطة ويقبض عليه ويلقى في السجن. ولو كان يعلم الغيب كما يدعي أو يدّعى له لعلم بهم قبل أن يصلوا إلى داره، فهو يخبر الناس البسطاء عن أعماق بيوتهم، وقلوبهم،

ص: 212

وما كان منهم في الماضي البعيد، وما سيكون في المستقبل، وهو لا يعلم بما يهدّده من خطر على بضعة أمتار. وهكذا الكلام في المدّعين للسحر الذين يزيلون الجبال بسحرهم حسب دعواهم، ولكنّهم لا يتمكّنون من الآفلات من قبضة شرطي مسلّح!.

ثمّ أنّه ورد في بعض الأحاديث أنّه علیه السّلام بقي متّكئاً على عصاه سنة كاملة. وقيل: شهراً، وقيل غير ذلك. وهذا أمر مستغرب، إذ كيف لم يعلم الناس والحاشية بموته، وكيف صدّقت الجنّ بقاءه هذه المدّة الطويلة. ولكنّ الذي يظهر من الآية أنّه بقي وقتاً طويلاً، إذ يستبعد أكل الأرَضَة للمنسأة في يوم واحد أو أقلّ، كما أنّ لبث الجنّ في العذاب ظاهر في كونه مدّة طويلة نسبياً.

ولا استغراب في ذلك فلعلّه علیه السّلام كان جالساً على كرسيه ومتّكئاً على عصاه. كما أنّه لا وجه لاستغراب أنّ الحاشية والجنّ كيف كانوا يفسّرون بقاءه مدّة طويلة دون حراك ودون أكل واستراحة وذلك، لأنّهم كانوا يشاهدون منه الغرائب والمعاجز ما لا يمكن صدوره من غيره، فلعلّهم كانوا يحملون ذلك أيضاً على هذا المحمل ويعتبرونه من معاجزه. ونستخلص من الآيات أنّ داود وسليمان علیهما السّلام كانا نبيّين أنعم الله عليهما من النعم ما لم ينعم به على إنسان آخر، وقد أكّد القرآن على نزاهتهما وطهارتهما، وعلمهما الغزير، وتعبّدهما، وتقواهما. كلّ ذلك ردّاً على ما ورد في التوراة المحرّفة من رميهما بالفسق والكفر والتجبّر.

والقرآن مهيمن على الكتب السماوية قال تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ...» (1). وهذا مما يفنّد دعوى القائلين أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله استقى معلوماته في تنظيم القرآن من التوراة.

ص: 213


1- المائدة (5): 48

سورة سبأ (15-19)

« لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)»

«لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينِ وَشِمال» ذكر قصّة سبأ بعد قصّة سليمان علیه السّلام يأتي في سياق بيان آثار الشكر والكفران، فبينما كان آل داود من الشاكرين لربّهم، كان هناك قوم غير بعيدين عنهم لم يشكروا ربّهم، بل طغوا وكفروا، فيذكر قصّتهم ليعتبر المعتبرون.

واختلف في سبأ أنّه اسم لرجل أو لقوم أو لبلد. ولا يبعد إطلاقه على كلّ ذلك وفي رواية عن الرسول صلّی الله علیه و آله أنّه «رجل من العرب ولد عشرة. تيامن منهم ستّة وتشأم منهم أربعة، فأمّا الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون والأنمار وحمير ... وأمّا الذين تشأموا فعاملة وجذام ولحم وغسّان».(1) فعلى فرض صحّة الحديث - وهو بعيد - يكون سبأ أباً لقبائل عربية بعضهم في اليمن وبعضهم في الشام، وبالطبع ينتقل الاسم إلى القبيلة، ثمّ إلى البلد.

والظاهر أنّ المنقول هنا من قصّتهم حدث بعد إسلام ملكة سبأ على يد

ص: 214


1- تفسير الصافي 4: 215

سليمان علیه السّلام، ولعله يكون متأخّراً جداً، حيث إنّ الظاهر انتشار الإسلام فيهم على يد الملكة. وبعد دهر من الزمان تحوّلوا إلى الكفر نتيجة للبطر والتنعّم وعدم الشكر، كما هو الغالب في الأقوام.

وهذا هو الهدف الأساس من التذكير بحالهم، ليعتبر الأقوام المتنعّمة من البشر، ويعلموا أنّ النعمة إذا لم يقم الإنسان بواجبه تجاهها، فستكون بنفسها نقمة عليه، فإنّها توجب في الأجيال المتأخّرة التي لم تذق الفقر ولم تتعب في سبيل إنشاء الحضارة ترهلاً وكسلاً يجرانها في النهاية إلى الضعف، ثمّ الدمار.

وقوم سبأ كانوا يعيشون في جنوب اليمن. ويقال إنّ آثار الخصب باقية حتّى الآن. ولكن الآية تذكّر بنعمة عظيمة منّ الله بها عليهم نتيجة لبناء السدّ المعروف بسدّ مأرب، ويعتبر ذلك من رموز الحضارة البشرية القديمة، ولكنّه على كلّ حال من نعم الله تعالى عليهم ، فالحضارات - وإن صنعتها أيدي البشر - نعمة من الله تعالى، وكلّ شيء فيها من العناصر الطبيعية من الله تعالى، وحتّى العقل البشري الخلّاق، والقدرة البشرية، وغير ذلك كلّها من نعم الله تعالى، فلا يغرنّ الناس تقدّمهم وتمدّنهم، ولا يكن ذلك مدّعاة لنسيان المنعم.

والظاهر أنّ المراد بالجنّتين إحاطة الجنان بالبلد يميناً وشمالاً، لا خصوص الجنّتين بالعدد والمراد بالمسكن البلد.

ويحتمل أن يكون المراد بالآية في الآية الكريمة ما أنعم الله به عليهم من بناء السدّ العظيم الذي منعوا به مياه السيول الغزيرة الهدّامة، وجعلوا له منافذ فانشئت به الجنان عن يمين البلد وشماله. وبذلك تحوّلت النقمة إلى نعمة. وربّما يكون هذا هو ظاهر الآية الكريمة، بلحاظ أنّ قوله تعالى «جنّتان» بدل عن قوله «آية».

ص: 215

ويحتمل أن لا يكون المراد ب_«الآية» الجنّتين، بل ما تعقّب ذلك من دمار و خراب نتيجة كفرهم وإعراضهم. والسبب في هذا العدول عن ظاهر الآية أنّ وجود جنّتين لا تعدّ آية فهناك في سائر البلاد جنان كثيرة.

بل يمكن أن لا يكون في ذلك مخالفة للظاهر باعتبار أنّ الآية تحقّقت في مجموع ما حدث لهم من حدوث الجنتّين ثمّ زوالهما. والآية: العلامة فكما أنّ الجنان علامات على رحمته تعالى كذلك أبدالها بما لا ينفعهم علامة على قدرته وحكمته وعزّته وحسن تدبيره في تربية الإنسان وسوقه إلى الكمال.

ولا ينافي ذلك ما هو الظاهر البدوي من الآية الكريمة حيث جعل الجنّتين فيها بدلاً عن قوله (آية) فإنّه من قبيل قوله تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ...» (1) فإنّ التمثيل - كما يبدو ابتداءَ - إنمّا هو بنفس الماء، مع أنّ الحياة الدنيا لا يشبه الماء، وليس هو المقصود ، بل التمثيل إنّما هو بمجموع ما ذكر.

«كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبِّ غَفُورٌ» الظاهر أنّ هذا ليس خطاباً لفظياً أُوحي إلى نبيّ لهم، وإن لم يستبعد وجود نبيّ بينهم، كما قيل، بل المراد - والله العالم - أنّهم مخاطبون بذلك حسب الخطابات العامّة للبشر، فهو تطبيق للخطابات العامّة، كما يمكن تحقّقه في زماننا هذا أيضاً، فهذا ممّا يخاطب به كلّ من أنعم الله عليه.

وقوله: «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ» بيان للنعمة، فالبلد طيّب بترابه ومائه وهوائه وثمراته وكلّ مستلزمات الحياة البشرية، والربّ يغفر لكم قصوركم وتقصيركم. ولولا مغفرته

ص: 216


1- الكهف (18): 45

لم ينعم عليكم بذلك. وهذا يدلّنا على حقيقة قرآنية مهمّة وهي أنّ كلّ ما يصيبنا فهو من نتائج أعمالنا ويعفو الله عن كثير ، قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير»،(1) فإذا أنعم علينا فربّما يكون لمغفرته وعفوه.

ولكن ليس كلّ نعمة كذلك، فربّما يكون الإنعام للاستدراج. والفارق والعلامة - كما في الحديث(2) - أنّ الإنسان إذا وفّق للحمد والشكر لم يكن استدراجاً، ولذلك يأمرهم الله تعالى بالشكر لتبقى المغفرة، وإلا فيمكن أن تتبدّل النعمة عذاباً، ويمكن أن تتبدّل استدراجاً، فلا يغرنّ الإنسان استمرار النعم وليكن دائماً على حذر.

«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ»، أي أعرضوا عن ذكر ربّهم وشكر نعمه. والشكر - كما مرّ في قصّة آل داود - ينبغي أن يكون بالعمل ليكون الإنسان شكوراً مبالغاً في الشكر. وأمّا قوم سبأ فأعرضوا ولم يشكروا، بل كفروا بنعمة الله قولاً وعملاً، فسلبهم الله نعمته، وأرسل عليهم سيل العرم.

واختلف في معنى كلمة «العرم»، هل هو كلمة «العرم»، هل هو السدّ بنفسه، أو الحجارة، أو الجرذ؟ فالأوّل بمعنى أنّ السيل جاءهم من نفس السدّ بعد انهدامه وهو بالطبع سيل عظيم جدّاً، والثاني بمعنى أنّ الأمطار الغزيرة استنزلت الحجارة، فانهدّ السدّ، والثالث بمعنى أنّ الله تعالى سلّط جرذاناً على السدّ، ففتحوا طريق الماء. وهذا أشبه بالأساطير.

وفي «معجم مقاييس اللغة»: «العرم أصلٌ صحيح واحد، يدلّ على شِدّة

ص: 217


1- الشورى (42): 30
2- الكافي 2: 97

وحِدّة» وقال: «وأمّا سيل العَرِم فيقال: العَرِمَةُ: السِّكْر، وجمعها عَرِم. وهذا صحيح، لأنّ الماء إذا سُكِرَ كان له عُرَامٌ من كثرته»(1) والسِّكر هو السدّ. فالمعنى أنّ الله تعالى أرسل عليهم السيل من السدّ، والتقييد به لبيان أنّ السيل لم يكن بفعل الأمطار الغزيرة، بل بماء السدّ نفسه. والغرض أنّ الله تعالى بدّل نعمتهم بالذات نقمة عليهم ، وأصبح السدّ الذي يمنعهم من السيول مثاراً لسيل عظيم. وقيل: العرم بمعنى الصعب الشديد، فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة.

«وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَیْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُل خَمْطٍ وَأَثْلِ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَليل» جرف السيل تلك الجنان التي غيّرت مجرى حياتهم، وتبدّلت الأراضي الخصبة إلى صحراء قاحلة ليس فيها إلا بعض الأشجار البريّة. والتعبير يوحي بفقر شديد أبدلوا به. وتسمية الأشجار البريّة جنّتين من باب التهكّم و المقابلة.

قيل: إنّ المراد بالخمط نوع من شجر الأراكِ له حَمْل يؤْكل، والأصل فيه معناه الملاسة، فيطلق على كلّ ما لا شوك له. وقيل غير ذلك. ولكن الظاهر أنّه يطلق أيضاً على كلّ ثمر مرّ أو حامض شديد الحموضة وهو هنا بهذا المعنى، لأنّ الكلمة جاءت وصفاً للأُكُل. والأُكُل: المأكول. وأُكُل الشجر ثمرها. نعم إذا قرئت بالإضافة: «أُكُلِ خمط» فهو بمعنى الشجر المذكور. و «الأثل» شجر غير مثمر يستفاد من خشبه. و «السدر» معروف، وهو شجر مفيد بأغصانه وأوراقه وثمره وظلّه، ولكنّه ليس كأشجار الفواكه الأُخرى، مضافاً إلى أنّه أيضاً لم يكن متوفّراً، بل بقي لهم منه شيء قليل. وقوله تعالى: «قَليلٍ» صفة لشيء، أي شيء قليل من السدر.

«ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِما كَفَرُوا» «ذلك» إشارة إلى تبديل الجنان المحدقة بيمين البلد

ص: 218


1- معجم مقاييس اللغة 4: 293

وشماله إلى ما يشبه جنّتين لا تشتملان على شجر مفيد إلا قليلاً. فهذا التبديل كان جزاء كفرانهم للنعم الإلهية . و «ما» مصدرية، أي بكفرهم.

«وَهَلْ نُجازي إلا الْكَفُورَ» استفهام إنكاري، أي لا نجازي إلا الكفور. قيل: إنّ المجازاة لا يعبّر بها إلا في مورد العذاب ولكنّ الظاهر هو العموم، وإنّما يستفاد من القرائن أنّ المراد بالمجازاة هنا العقاب، أي هل نجازي بالعذاب في الدنيا إلا الكفور. و«الكفور» صيغة المبالغة، فلعلّه من جهة أنّهم تركوا الشكر العملي والقولي، فأنكروا أن تكون النعم من الله تعالى وأفسدوا في الأرض أيضاً.

وربّما يستغرب الحصر مع أنّ العذاب في الدنيا يشمل المؤمن أيضاً، كما قال تعالى: «وَمَا أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ..»، (1) ولكنّ الظاهر أنّ ذلك ليس من المجازاة والعقاب، وإنّما هو نتيجة طبيعية لبعض الأعمال. و«الكفور» ربّما يشمل المؤمن أيضاً، فإنّ المراد به كفران النعم، فالمراد بالآية أنّه تعالى لا يعاقب في الدنيا إلا من كان مبالغاً في الكفران.

«وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتي بارَكْنا فيها قُرى ظَاهِرَةُ» الظاهر أنّ هذا بيان لنوع آخر من كفران النعمة فالمذكور في الآيات السابقة أنّهم لم يشكروا ربّهم وأعرضوا عن ذكره، ولعلّه من جهة أنّهم اعتبروا كلّ ذلك نتيجة لتعبهم، وتقدّمهم في الحضارة البشرية، شأنهم شأن غيرهم من أصحاب الحضارات المتقدّمة، فهذا في الواقع نكران للمنعم. والمذكور هنا عدم اعترافهم بالنعمة, واعتبارهم النعمة أمراً يوجب السأم والملالة. والنعمة هنا من أهّم النعم وهي الأمان، ولكن الإنسان يغفل عنه إلا بعد أن يفقده والمراد بجعل القرى توفيق

ص: 219


1- الشورى (42): 30

الأسباب وتهيئتها بحيث تحقّقت تلك القرى بفعل الناس، بل لا مانع من إسناد فعل الناس إليه تعالى أيضاً.

واختلفوا في المراد ب_«القرى التي بورك فيها»، فقيل : هي بلاد الشام بقرينة قوله تعالى «بارَكْنا فيها» الظاهر في أنّ المراد بها بيت المقدس وما حولها، وهي الأرض المقدّسة والمباركة. وقيل: المراد مكّة ونواحيها. وقيل: صنعاء وما حولها من القرى. وقيل غير ذلك.

وربّما يستظهر الأوّل بقرينة سائر الموارد، التي يعبّر فيها بالبركة، إلا أنّ المسافة بين جنوب اليمن وهو موضع سبأ إلى بلاد الشام طويلة جدّاً يبعد كونها مليئة بالقرى الظاهرة المتلاصقة بحيث يسير بينها الناس ليلاً ونهاراً، خصوصاً بملاحظة قلّة عدد النفوس في تلك الأزمنة، فلعلّ المراد بالقرى التي بارك الله فيها منطقة أُخرى مباركة، بمعنى أنّها كثيرة الخيرات، فكان قوم سبأ ينتفعون بالمبادلات التجارية معها.

واختلفوا أيضاً في المراد ب_«الظاهرة»، هل هي المتقاربة بحيث تظهر الأُخرى حين خروجك من إحداها، أو أنّها على مرتفع من الأرض فهي ظاهرة من بعد، أو غير ذلك؟ والظاهر هو الأوّل بقرينة أنّ المراد بيان كون السير بينها آمناً.

«وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سيروا فيها لَيالي وَأياماً آمِنينَ» لعلّ المراد ب_«التقدير» التضييق، بمعنى تقليل المسافة، وهو بذاته موجب لأمن الطريق. ويمكن أن يكون المراد التقدير بمعنى القضاء، أي قدّرنا استمرار حركة السير بينها ممّا يوجب استتباب الأمن في الطريق. والأمر بعده «سيرُوا...» كالأمر في: «كلوا من رزق ربكم» ليس خطاباً موجّهاً، كما ربّما يتوهّم، بل المراد بيان أنّه كان بمقدورهم أن

ص: 220

يسیروا فيها ليالي وأيّاماً ،آمنين فهذا خطاب فرضي ومجرّد تعبير عن تلك الحالة. والمراد ب_«السير في الليالي والأيّام» أنّه لا يختلف الأمر ، فكما كان يمكنهم السير في النهار آمنين، كذلك كان السير ليلاً أيضاً، وهذا غاية في الأمان وخصوصاً في ذلك العهد، ولكنّهم استخفّوا بهذا الأمر وطلبوا من الله تعالى أن يباعد بين أسفارهم.

«فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» لا شكّ أنّ هذا دعاء ينمّ عن حمق وغباء، ولذلك نجد المفسّرين يحاولون أن يجدوا وجهاً وسبباً لذلك، فقال بعضهم: إنّهم طلبوا تطويل المسافة في الأسفار ، لكي لا يتمكّن الفقراء من السفر ويختصّ ذلك بالأغنياء.

وهذا بعيد جدّاً في نفسه، مضافاً إلى أنّه لو كان كذلك لكان تعييرهم بنفس هذه النيّة الخبيثة باعتباره ظلماً للفقراء، لا لأنّهم ظلموا أنفسهم وطلبوا سلب النعمة.

وقيل: إنّهم ملوا العافية وطيب العيش لبطرهم وغاية تنعّمهم، كما طلبت بنو إسرائيل البصل والعدس بدلاً عن المنّ والسلوى.

وهذا لا يبعد في حدّ ذاته إلا أن تشبيههم ببني إسرائيل ليس على ما ينبغي، فإنّ بني إسرائيل كان المطلوب منهم أن يصبروا على الطعام الواحد ليتمكّنوا من الاستمرار في مواجهة الأعداء، فكان ذلك جزءاً من جهادهم، ولذلك ورد التعبير حكاية عنهم: «لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ..»، (1) فالمفروض عليهم هو الصبر، وإن كان إطعامهم بالمنّ والسلوى نعمة قيّمة منّ الله بها عليهم إلا أنّ الإنسان يملّ من تكرار الطعام بالطبع.

ص: 221


1- البقرة (2): 61

ولعلّ جواب موسى علیه السّلام «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ»(1) لا يقصد به نوع الطعام، بل المراد بالخير العزّة والاستقلال وتأسيس حضارة دينية كتبها الله تعالى لهم.

والظاهر - كما ذكرنا - أنّ قوم سبأ استخفّوا بنعمة الأمان ولم يهتمّوا بها، فلم يعتبروها نعمة وطلبوا أن تكون أسفارهم متباعدة فاقدة للأمان. وهكذا الإنسان يستخفّ بالنعمة إذا أُحيط بها. ولا يجب أن يكون هذا الدعاء قولاً صادراً منهم، فلعلّ هذه العبارة تحكي الحالة النفسية لهم، إذ يبعد جدّاً أن يدعو أحد ربّه بهذا الدعاء.

والتعبير يوحي بأنّ هذا الكفران لم يكن على أساس إنكار المنعم، بل مع الاعتراف به. ويفهم ذلك من قول «رَبَّنا» إذ لا قرينة على كونه استهزاءً، فالكفران هنا على أساس إنكار كون النعمة نعمة، وكم هناك من نعم يغفل عنها الإنسان حتّى إذا فقدها تنبّه وأنّى له الذكرى؟!

«وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أحاديث وَمَزَّقْناهُمْ كل مُمَزَّق»، في «الميزان»(2) أنّهم ظلموا أنفسهم بالمعاصي، ولكنّ الظاهر أنّه عطف تفسير على هذا الدعاء، فهم بذلك ظلموا أنفسهم حيث طالبوا بإزالة النعمة عنهم. وعاقبهم الله تعالى فجعلهم أحاديث وهي جمع أُحدوثة، أي ما يتحدّث به، بمعنى أنّه أهلكهم أو فرّق جمعهم، فلم يبق من تلك الحضارة المتقدّمة إلا ما يتحدّث به الناس.

ولعلّ العقوبة كانت بصورة طبيعية، بمعنى أنّ السيل لما جرف جنّاتهم، تفرّقوا

ص: 222


1- البقرة (2): 61
2- الميزان في تفسير القرآن 16: 362

في البلاد، فبادت تلك الحضارة المزدهرة. ومن هنا نشأ المثل العربي: «تفرّقوا أيادي سبأ» أي كأيادي سبأ. و«الممزّق» مصدر ميمي، أي مزّقناهم كلّ تمزيق. وهو تعبير آكد للتفرّق.

«إِنَّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» «الصبّار» و«الشكور» من صيغ المبالغة، فالمراد من هو كثير الصبر على البلاء وكثير الشكر على النعم. ولعلّ وجه التقييد بالوصفين أنّ من يعيش الضيق والفقر وأنواع البلاء، ولكنّه يصبر على ذلك ويشكر على ما أُوتي من نعمة قليلة هو الذي يعتبر بهذه الحوادث، ويظهر له بوضوح أن ليس كلّ ما يتنعّم به الإنسان نعمة واقعية، فلعلّه استدراج يجرّه إلى البلاء العظيم.

ص: 223

سورة سبأ (20-21)

«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)»

«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»، هذا استخلاص من القضايا السابقة وبيان لحال الإنسان بوجه عامّ. والمراد ب_«تصديق الظنّ» مطابقته لواقعهم، بمعنى أنّ إبليس كان يظنّ بأنّ بني آدم جميعاً سيتبّعونه حيث خاطب ربّه: «لأغوِيَنَّهُم أجمعين»(1)، فهم قد أثبتوا عملياً أنّهم يتّبعونه، وقلّ من لا يتّبعه بحيث عبّر عنهم في الآية الكريمة بأنّهم فريق من المؤمنين. وبذلك جعل إبليس ما ظنّه فيهم صادقاً، أي مطابقاً للواقع.

ويمكن أن يكون «من» في «مِنَ المُؤْمِنينَ» بيانية، أي إلا فريقاً هم المؤمنون قاطبة، ويمكن أن تكون تبعيضية، فالمعنى أنّ المؤمنين أيضاً لم يسلّموا بأجمعهم من متابعته، وهذا هو الواقع، فالاحتمال الثاني أقوى.

«وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شَكٍّ»، «السلطان» مصدر بمعنى السلطة. ويظهر من العبارة بوضوح أنّ الله تعالى لم يجعل للشيطان على الإنسان سلطة مطلقة بحيث لا يستطيع المخالفة، وإنّما جعل الله له السلطان بمقدار ما يظهر منه المؤمن بالآخرة من الشاك ّفيها، فالشيطان وسيلة لامتحان الناس وبروز خباياهم. وبذلك أيضاً يظهر الحكمة من خلقه على بني آدم.

ومن تسليطه

ص: 224


1- الحجر (15): 39

والمراد بقوله : «لِنَعْلَمَ» أي ليظهر ظهوراً عينياً، وإلا فلا شيء يعزب عن علمه تعالى إلا أنّ العلم بأنّه سيؤمن أو لا يؤمن، لا يترتّب عليه أثر، وإنّما يترتّب على إيمانه وعدم إيمانه في الواقع، بل لا يترتّب على الإيمان الخفي أو الكفر الخفي حتّى لو كان واقعياً، بل على البروز والظهور العيني، فيتعلّق علم الله به بهذا العنوان، وهو مناط الثواب والعقاب.

ويظهر من الآية أنّ الشكّ في أدنى مراتبه أيضاً له أثر في هذا الامتحان، وذلك لمكان التنكير «شَكّ». وقد قلنا مراراً إنّ اليقين التامّ بالآخرة لا يحصل إلا للأوحدي من الناس، فالمراد هنا ليس ذكر مناط الثواب والعقاب فحسب، بل تصنيف الناس حسب مراتب شكّهم ويقينهم بالآخرة، فإنّ ذلك يؤثّر في تعيين مراتب القرب لدى الله سبحانه والبعد عن رحمته.

والإيمان بالآخرة من الإيمان بالغيب الذي هو المناط في تكامل الإنسان، قال تعالى: «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ وبهمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ»(1). فاعتبر أوّل شرط للهداية والفلاح هو الإيمان بالغيب.

والإيمان بالآخرة أخصّ من الإيمان بالله تعالى فإنّ الوثنيين كمشركي مكّة والجزيرة العربية كانوا يؤمنون بالله تعالى ويؤمنون بأنّه الخالق والرازق ولكن لم يؤمنوا بالآخرة. ولذلك يؤكّد القرآن على الإيمان بها ولا يكتفي بالإيمان بالله تعالى. ولذلك أيضاً يعبر القرآن عن المشركين بالذين لا يؤمنون بالآخرة. والإيمان بالآخرة.

أبعد عن الشهود وأقرب إلى الغيب من الإيمان بالله، لأنّه

ص: 225


1- البقره (2): 2 - 5

تعالى وإن كان غيباً لا يشعر به الحواس إلا أنّ آياته تعالى كثيرة والإنسان يشعر بوجوده تعالى وهيمنته على الكون من خلالها، كما يشعر بانجذابه إليه تعالى وحاجته إلى لطفه العميم بوجدانه وضميره. ولكنّه لا يشعر بالآخرة فلا يؤمن بها إلا من خلال الإيمان بالرسالات وبما تضمّنته كتب السماء ونزل به الوحي الإلهي ولذلك يقلّ الإيمان بها، بل يضعف حتّى عند المؤمنين.

«وَرَبُّكَ عَلى كلّ شَيْءٍ حَفِيظٌ»، «حفيظ» مبالغة في الحفظ، ويدلّ على ثبوت الصفة ودوامها. والمراد أنّه تعالى يعلم كلّ المراتب الباطنية، وأسرار الناس، و حدود شكّهم وعلمهم، ويحفظها عليهم ليأتي اليوم الذي يوضع فيه كلّ أحد في مكانه اللائق به. والتركيز على كلمة «الربّ»، لأنّ ذلك مقتضى تربيتهم وإيصالهم إلى غاية كمالهم. وأضاف الربّ إلى ضمير الخطاب والمخاطب هو الرسول صلّی الله علیه و آله لأنّه هو المصداق الأكمل لمن ربّاه الله تعالى وأوصله إلى أعلى مراتب الإيمان ولم يضف إليهم استهانة بهم.

ص: 226

سورة سبأ (22-23)

«قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)»

تبدأ من هنا مجموعة آيات تتصدّر جملاتها بالأمر بالقول وتشتمل على المحاجّة مع المشركين.

«قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ الله»، لم يذكر المفعول الثاني للزعم، لأنّه معلوم من الأمر بالدعوة. والمفعول الأوّل ضمير يعود إلى الموصول، وحيث إنّهم يدعون الأصنام ويعتبرونهم آلهة وأرباباً من دون الله، فهذا هو المفعول الثاني المقدّر. والمعنى: قل ادعوا الذين زعمتم أنّهم آلهة من دون الله تعالى. و الغرض من الأمر بالدعاء بيان أنّهم لا يستجيبون دعاءكم، لأنّ الاستجابة تتوقّف على أحد الأُمور التالية المذكورة في الآية وكلّها مفقودة فيهم:

«لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرض»، هذا هو الأمر الأوّل الذي تتوقّف عليه الاستجابة، وهو أن يملك الإله أو الربّ الذي يدعى لجلب منفعة أو دفع ضرر شيئاً في هذا العالم ولو صغيراً وحقيراً، فيطلب منه ذلك الشيء وهؤلاء لا يملكون أدنى شيء، حتّى بمقدار وزن ذرّة من الهباء، لا في السماوات ولا في الارض. وقد مرّ القول في معنى المثقال والذرّة في الآية (3) من هذه السورة. (1)

وهذا النفي المطلق بالنسبة للأصنام واضح، لعدم تملكها لأيّ شيء، وعدم

ص: 227


1- راجع: الصفحة 196

اعتبار ملكيتها حتّى في تلك المجتمعات التي تقدّسها. وإن أُريد من الموصول ما يشمل الإنسان أو الملائكة، ونحو ذلك فالنفي صحيح أيضاً باعتبار نفي الملكية الحقيقية عن كلّ شيء. وإنّما الأشياء كلّها ملك لله تعالى: «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فى الأرْضِ»(1) والملكية الاعتبارية لا دخل لها في ترتيب آثار الألوهية والربوبية.

«وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْك» وهذا هو الأمر الثاني وهو أن يكونوا شركاء الله تعالى في المالكية لما في السماوات وما في الأرض. وهذا أيضاً منفيّ باعتراف المشركين، إذ إنّهم لا يقولون باشتراكهم في خلق السماوات والأرض، فكيف يشاركون الله تعالى في المالكية، بل المالكية الحقيقية أمر وراء موضوع الخلق، فإنّ معناه تقوّم الأشياء في كينونتها واستمرارها بإرادته تعالى.

«وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ» وهذا الأمر الثالث وهو أن يكونوا أعواناً لله تعالى في ربوبيته. وهذا أيضاً باطل قطعاً، لأنّه يستلزم حاجة الله تعالى إلى من يعينه، وهو يستلزم الضعف والنقص تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. و«الظهير»: المعين مأخوذ من الظهر ، لأنّ المعين يحفظ الإنسان من خلفه في الحروب، فسمّي ذلك مظاهرة، أي تقوية للظهر. والضمير في قوله «لَهُ» يعود إلى الله تعالى، وفي قوله «مِنْهُمْ» الى الذين يدعونهم ويعتبرونهم آلهة. و «مِنْ» في قوله «مِنْ ظَهيرٍ» زائدة تدلّ على تأكيد النفي، أي لا ينصره ولا يظاهره أيّ أحد منهم.

«وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لَمِنْ أذِنَ لَهُ» والأمر الرابع أن يكونوا شفعاء لكم عند الله تعالى، وهذا هو الذي كان المشركون يزعمونه لآلهتهم، وهذه الآية تردّ عليهم، وقد تكرّر هذا المعنى في عدّة مواضع، وهو أنّ الشفاعة لدى الله تعالى

ص: 228


1- سبأ (34): 1

تختلف عن الشفاعة عند غيره، والبشر كثيراً ما يقيس الحقائق الإلهية بما يجده في هذا العالم، لوحدة التعبير، ومنها الشفاعة وهي الوساطة، وحيث إنّ الوسطاء هنا مستقلّون في وساطتهم، فيمكن لصاحب الحاجة أن يترك من يريد منه قضاء حاجته ويتوسّل بالواسطة، ولكنّ الوساطة لدى الله تعالى ليس كذلك، فإنّ الشفعاء في الخليقة وهم الملائكة لا يمكنهم التوسّط في إيصال الأوامر الإلهية إلا بإذنه تعالى، وكذلك الشفعاء في الطبيعة، فإنّ العلل والمؤثّرات الطبيعية أيضاً لا تؤثّر أثرها إلا بإذنه تعالى.

واختلفوا في الموصول في قوله تعالي «لِمَنْ أذِنَ لَهُ» هل المراد به الشافع أو المشفّع له، فاللام في «لَهُ» على الأوّل لتعدية الإذن، وعلى الثاني للتعليل، أي من أجل المشفع له. وربّما يرجّح الاحتمال الأوّل، باعتبار أنّ محور الكلام نفي الشفعاء، فالمناسب أن يبيّن أنّ الشفيع لا يكون شفيعاً إلا بإذنه تعالى.

ولكنّ الظاهر أنّ الثاني هو الصحيح، وذلك لأنّ المنفيّ في الآية نفي الشفاعة عن من لم يؤذن له والمنتفع بها هو المشفوع له. فالمعنى لا تنفع الشفاعة لأحد لا أن يأذن الله تعالى. ومهما كان، فالآية تنفي الشفاعة من دون إذنه تعالى، فلو فرض جدلاً أنّ للأصنام الشفاعة أو أنّ المشرك يعبد الملائكة، لأنّهم شفعاء، فهذه الشفاعة لا تستوجب العبادة، لأنّهم لا يستقلّون بها، وإنّما يشفعون لمن يأذن الله له، فالعبادة لا تصحّ إلا له تعالى.

«حتّى إذا فُرعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحقِّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»، «فزّع» أي أُزيل الفزع عن قلوبهم، كالتمريض بمعنى إزالة المرض، والإزالة أحد معاني باب التفعيل. واختلف المفسّرون في تفسير هذه الجملة اختلافاً كثيراً، قديماً

ص: 229

وحديثاً. والمهمّ من الأقوال فيها اثنان:

الأوّل: أنّه بيان لمشهد طلب الإذن للشفاعة يوم القيامة، وأنّ الجميع لابئون في الانتظار وهم في فزع وهلع، حتّى إذا جاءهم الإذن وأُزيل عن قلوبهم الفزع، قال بعضهم لبعض : «مَاذَا قَالَ رَبُّكُم...».

الثاني: ما في «الميزان» من أنّه حكاية حال الملائكة في وساطتهم في تدبير الكون، حيث إنّهم في فزع وخشية من الله تعالى ينتظرون الأوامر، ولا يذهب منهم الفزع إلا بعد صدور الأمر فيقول بعضهم لبعض : «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ...» (1) وقال: إنّ الآية نظير قوله تعالى: «وَ لله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض مِنْ دَابَّةٍ وَالمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * یَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»، (2) فالفزع هنا كالخوف في تلك الآية. (3)

وأوّل ذلك بقوله: إنّ المراد بفزعهم حتّى يُفزّع عنهم أنّ التذلّل غشي قلوبهم، وهو تذلّلهم من حيث إنّهم أسباب وشفعاء في نفوذ الأوامر الإلهية ووقوعه على ما صدر، وكما أُريد، وكشف هذا التذلّل هو تلقّيهم الأمر الإلهي واشتغالهم بالعمل، كأنّهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلا فعلهم وطاعتهم لله في ما أمرهم به وأنّه لا واسطة بين الله سبحانه وبين الفعل إلا أمره. وهذا هو الصحيح ويردّ القول الأوّل أمران:

الأوّل: أنّ الكلام ليس في يوم القيامة، والآية إنّما تردّ عليهم دعواهم شفاعة الأصنام أو الملائكة في الأُمور التكوينية لا في الحساب والجزاء يوم

ص: 230


1- سبأ (34): 23
2- النحل (16): 49-50
3- راجع: الميزان في تفسير القرآن 16: 371-372

القيامة، لأنّهم لا يعتقدون بيوم القيامة ويبتني الردّ على أساس أنّ الشفاعة والتوسّط في الأُمور التكوينية لا تكون إلا بإذنه تعالى، فالملائكة وإن كانوا مدبّرين لأُمور العالم كما قال تعالى «فالمدبّرات أمراً»،(1) بناءً على أنّ المراد بهم الملائكة كما هو الظاهر ، إلا أنّهم لا يستقلّون حتّى في توسّطهم، بل لا يفعلون إلا ما به يؤمرون.

والثاني: أنّه على هذا الاحتمال لا تظهر فائدة في هذه الجملة، وإنّما تكون مجرّد حكاية لأمر يقع في المستقبل، لا يرتبط بما قبله بشيء، ولكن وجه الارتباط واضح على التفسير الثاني، فهو بيان لغاية الملائكة، وأنّهم لا يبتدئون بشيء، فلا تبدأ الشفاعة إلا بعد صدور الأمر من الله تعالى، وهم قبل ذلك ليس منهم إلا الانتظار والفزع.

وحقّاً أنّه أمر مفزع أنّ مخلوقاً يتلقّى أمراً متعلّقاً بتدبير الخلق من ذي الجلال. فالآية تشبه قوله تعالى: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلا مَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ»(2) فإنّ الظاهر أنّ قوله «وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ» جملة حالية تبيّن حال الملائكة قبل الشفاعة و«الإذن» - وهو نفس الحال الذي جعل مغيّى في هذه الآية بإزالة الفزع - ممّا يدلّ على أنّهم في فزع قبل ذلك.

وأمّا المحاورة المنقولة في الآية الكريمة بين الملائكة، فقد أوّلها العلامة رحمه الله بأنّ ذلك من جهة أنّ الملائكة لهم مراتب، فمنهم المطاع ومنهم المطيع، قال تعالى: «وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ»(3) وقال أيضاً «ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاع

ص: 231


1- النازعات (79): 5
2- الأنبياء (21) : 28
3- الصافّات (37): 164

ثَمَّ أمِينٍ»(1) ولا طاعة إلا لله تعالى وإنّما شأن المطاع إيصال الأمر إلى المطيع، فلذلك يسأل المطيع منهم المطاع: «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحقِّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ». (2)

ولكن ينبغي على هذا التوجيه أن يقول المطيع: «ماذا قال ربّنا» حيث إنّه يسأل عن الأمر المتوجّه إليه.

والذي يخطر بالبال، أنّ هذه المحاورة ونظائرها لا تحكي عن محاورة واقعية دائرة بينهم وليس هناك فريقان سائل ومجيب، بل هي تعبير عن الحالة القائمة فيهم، ولذلك لم يقل: «قال بعضهم»، فالظاهر أنّ المراد أنّ هذا شعور قائم فيهم، بحيث لو سئل أحدهم: «ماذا قال ربكم»، لأجابوا بأجمعهم: «الحقّ» فكلامه الحقّ المطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

«وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»، لا تصلّ إلى علاه وعظمته الأوهام. وهذا تسبيح له من أن يصدر منه غير الحقّ، أو من أن يشفع أحد من دون أمره وإذنه.

والحاصل: أنّ هذه الجملة تبيّن أنّ الشفعاء لا يستأذنون الله تعالى، وإنّما ينتظرون فزعين بماذا سيأمرهم، فيشفعون بعد ذلك. وبناءً على ذلك، فلا وجه المراجعة الشفعاء ابتداءً.

وليعلم أنّ هذا يختلف عن التوسّل بالأولياء المقرّبين لدى الله تعالى لطلب الحاجة منه، فإنّ دور الملائكة هو التوسّط في إيصال أوامر الله تعالى إلى الخلق، فلا يجوز توسيطهم لطلب الحاجة، وأمّا الأولياء فهم وسطاء بين الخلق وربّهم، فلا مانع من التوسّل بهم لطلب الحاجة من الله تعالى.

ص: 232


1- التكوير (81): 20-21
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 16: 372

سورة سبأ (24-27)

«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)»

«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض قُلِ الله»، هذه محاجّة أُخرى مع المشركين واستدلال على الربوبية والأُلوهية بالرزق والمراد به إعداد وسائل الارتزاق وهي كلهّا مخلوقات لله تعالى، حتّى حسب العقيدة الوثنية، إذ هو خالق الكون لا يشاركه فيه أحد.

وأسباب الرزق بعضها سماوية وبعضها أرضية، ولذلك قال: «مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض»، فكلّ هذه الأسباب من مخلوقات الله سبحانه، سواء فسّرنا «السماوات» بالعوالم الغيبية، أو بالأجرام الفلكية وكلّ ما يعلو الأرض من هواء وفضاء وسحاب ،وغيرها، فللشمس والقمر والغلاف الجوّي والسحب وغيرها تأثير على ما نرتزق به من محاصيل الأرض.

وحيث إنّ المشركين يعترفون بأنّ الخلق كلّه من الله تعالى، وهذا يستلزم ما ذكر من أنّ الرزق منه، فكأنّه أيضاً أمر يعترفون به في قلوبهم وإن كانوا لا يصرّحون به، فيأمر الله تعالى رسوله صلّی الله علیه و آله أن يبادر بالجواب: «قُلِ الله» ولا تنتظر جوابهم. وهذه طريقة لطيفة في المحاجّة وهو تلقين الخصم ما يعترف به قلباً ويأبى من التصريح به.

«وَإِنَّا أو إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أو في ضَلالٍ مُبِين»، أروع مثال لإنصاف الخصم وأحسن

ص: 233

تعبير عن احترام الرأي الآخر مهما كان محتواه فيأمر الله تعالى رسوله أن يقول: إنّ أحدنا على هدى والآخر في ضلال مبين. ولعلّ المبين وصف لهما معاً.

وعبّر عن الهداية بأنّ المهتدي على الهدى وعن الضالّ بأنّه فيه، ولعلّه لأنّ المهتدي على الطريق الصحيح أو الجادّة، وأمّا الضالّ فهو متوغّل في الصحراء لا يهتدي إلى الجادّة، فهو محاط بالضلال من كلّ جهة.

«قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا تُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ»، تعبير أوضح عن إنصاف الخصم حيث عبّر عمّا فعله بالإجرام - وحاشاه - وعبّر عما صنعه الأعداء بالعمل، وكلّ إنسان مسؤول عن عمله، وكلّ مجتمع أيضاً مسؤول عن ما اتّفقوا عليه، فهناك مسؤوليات شخصية وهناك مسؤوليات على عاتق المجتمع، ولا يتحمّل مجتمع مسؤولية مجتمع آخر. ويوم القيامة تجد لكلّ إنسان كتاباً ولكلّ مجتمع كتاباً، قال تعالى: «وَتَرَى كلّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ كُلّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».(1)

و«الإجرام» في الأصل القطع. قيل: ويطلق على ما يكتسبه الإنسان، كأنه يقتطع لنفسه شيئاً ولكن لا يستعمل إلا في اكتساب الإثم. (2) وقلنا مراراً إنّ السبب في تسميته بالإجرام لعلّه ليس هو كونه اكتساباً - كما قيل -، بل لأنّه يوجب قطع علاقة الإنسان بالمجتمع، ولذلك لا يطلق على كلّ إثم أو كلّ مخالفة للسنن والقوانين الوضعية، بل على ما يستعظمه عامّة الناس، كالقتل والسلب.

«قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ»، الآية تنبئ عن الحقيقة

ص: 234


1- الجاثية (45): 28
2- المجادلة (58): 21

الكبرى في مستقبل البشرية يوم يجمع الله كلّ الأجيال وكلّ المجتمعات، ويا له من جمع، ثمّ يحكم الله بينهم وهو خير الحاكمين، ويفصل بينهم وهو خير الفاصلين، ويفتح بينهم وهو الفتّاح العليم.

وهو «الفتاح» في كلّ مراحل الكون. والفتّاح مبالغة في الفتح، لأنّ الكون قائم على أساس الرتق والفتق والجمع والفتح، فالله تعالى يفصل بين الحقائق المندمجة ويفتحها وتتولّد بذلك حقائق أُخرى. وعلى هذا الأساس بني التولّد والتكاثر ، فكلّ ذلك يرجع إلى جمع ثمّ فصل، وهو عليم بمقوّمات كلّ حقيقة يفصلها عن غيرها في المجموعة المندمجة.

وكما هو الفتّاح العليم في هذه المرحلة من الكون، كذلك في المرحلة الأخيرة حيث يجمع بين الأُمم والأفراد، ثمّ يفصل بينهم، ويضع كلّ أحد وكلّ مجموعة في مرتبته ومقامه اللائق به، وهو عليم بما يليق بكل أحد وبكلّ أُمّة.

ويمكن أن يكون المراد الجمع في الدنيا، أي في ميادين الصراع الجسمي والعقلي، فربّما يكون للباطل جولة يغلب فيها على الحقّ أو يشتبه به، كما هو الحال في كثير من المجالات، ولكنّه يفصل بينهما في النهاية، حيث يتميّز الحقّ عن الباطل وتكون الغلبة في النهاية للحقّ. قال تعالى: «كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»،(1) وقال أيضاً: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا هُمُ الْغَالِبُونَ».(2)

ص: 235


1- المجادلة (58): 21
2- الصافات (37): 171 - 173

«قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ»، ازدراء واحتقار للأصنام وكلّ ما يعبد من دون الله تعالى، فكأنّه يقول : لا أرى شيئاً! أين هؤلاء الذين تدعون أنّهم شركاء لله ؟! وحقّاً أنّها دعوى غريبة! الله خالق الكون بيده ملكوت كلّ شيء، هل يمكن أن يقارن به شيء وكلّ شيء مخلوق له؟! حتّى لو فرضنا أنّ هناك شيئاً عظيماً يملأ العين، ولكن أين هو من خالق الكون وخالق العظمة؟ فكيف بهذا الجماد الذي لا يعقل والذي صنعه الإنسان بيده؟! عجيب أمر هذا الإنسان إلى أيّ حدّ ينحط في التفكير والذوق ؟!

وقيل: إنّ المراد بهذه الجملة طلب الإراءة واقعاً، لكي يلاحظ هل في الأصنام ما يبرّر دعوى الربوبية؟ وهل فيها الصفات المعتبرة في الإله المدبّر للكون؟

وهذا غير صحيح، لأنّه صلّی الله علیه و آله كان يراهم وهم بالمرأى العامّ، مضافاً إلى أنّ هذا التقدير لا دليل عليه من اللفظ ولا السياق، فالظاهر أنّ المعنى: أروني ما تزعمون أنّهم شركاء لله تعالى خالق الكون، فإنّي لا أكاد أراهم لحقارتهم.

«كَلا بَلْ هُوَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، وهكذا يأمر رسوله أن لا ينتظر جوابهم، بل ينفي وجود شيء يلحق به شريكاً مهما كان. «كلا»! أي ليس له شريك، «بَلْ هُوَ الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». فهو عزيز غالب لا يغلبه شيء فلا يمكن أن يكون هناك شيء لا يملكه ولو كان له شريك في ملكه كان مغلوباً على أمره في مورد الشركة.

وهو «الحَكِيمُ» لا يتّخذ شريكاً، وهذا ردّ لتوهّم آخر، وهو أنّ هؤلاء الشركاء

ص: 236

هم بأنفسهم ملك لله وإنّما اتّخذهم الله شركاء له، وقد كانوا يقولون في تلبية الحجّ: «لبّيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك»(1) فهذه الآية تردّ على ذلك بأنّ هذا منافٍ للحكمة وهل ينقصه شيء حتّى يكمله باتّخاذ شريك ؟!

قال تعالى: «مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً»،(2) أي لا يمكن أن يشرك في حكمه أحداً، فالربوبية ليست أمراً يحال إلى مخلوق لأنّه محدود. والربوبية تتوقّف على السعة والإحاطة بكلّ شيء.

ص: 237


1- تفسیر مجمع البيان 5: 25
2- الكهف (18): 26

سورة سبأ (28-30)

«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين (29) َ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)»

«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً»، المشهور في معنى الآية أنّها لبيان عموم رسالته صلّی الله علیه و آله باعتبار أنّ «كافّة» حال من الناس بمعنى «جميعاً» وكافّة مأخوذ من الكفّ بمعنى المنع. وإنّما أُطلق على هذا المعنى بلحاظ أنّ الحكم يشمل الجميع لا يشذّ منهم أحد، فكأنّ هناك ما يمنع من سقوط أحد منهم. ويقال بأنّ هذا المعنى ورد في روايات كثيرة، ولكنّا لم نجد في رواياتنا إلا رواية ضعيفة جدّاً سنداً ومتناً، نعم هناك روايات كثيرة تدلّ على أصل عمومية الرسالة من دون التعرّض لتفسير الآية الكريمة.

وهناك بعض المناقشات الأدبية في هذا التفسير ، وقد أُجيب عنها، كالقول بأنّ «كافّة» حال تقدّم على ذي الحال المجرور، وهو غير صحيح عند النحاة، وبأنّ «اللام» لا تستعمل بمعنى «إلى».

ولكن أقوى ما يرد على هذا التفسير هو الحصر المستفاد من النفي والاستثناء، إذ لا يظهر وجه لهذا الحصر، ولو أُريد بيان عموم الرسالة لاكتفى بالإثبات أي: وأرسلناك للناس كافّة، ولم أجد من القوم توجيهاً لذلك إلا تأويله بأنّ المستثنى مقدّر وهو: ما أرسلناك لشيء من الأشياء إلا للناس كافّة، ولا أظنّ أنّ هذا ممّا يحمل عليه أفصح الكلام، كما أنّه لا يظهر وجه واضح لتعقيب هذه الجملة بأنّ أكثر الناس لا يعلمون. ومن الغريب بعد ذلك ما يدّعى من أنّ هذا المعنى هو المتبادر من الآية.

ص: 238

والظاهر من الآيات أنها تردّ على توقّع الناس أن يكون الرسول عالماً بموعد القيامة أو بموعد عذاب الاستئصال، كما هو وارد في موارد عديدة من الكتاب العزيز كقوله تعالى: «قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ»،(1) و«الكفّ» هو المنع، و«التاء» للمبالغة، فالمعنى: إنّا ما أرسلناك إلا كافّة ومانعاً للناس عن التجاوز والعدوان، فإنّ الدين وازع قويّ عن الانحلال الخلقي والمفاسد الاجتماعية والظلم والعدوان.

والرسول دوره دور تبليغ الدين وتحكيمه في المجتمع، وقوله: «بَشِيراً وَنَذِيراً» يفسّر طريقة كفّه ومنعه، فهو لا يمنع بقوّة قاهرة وإنّما يمنع ب_«التبشير والإنذار». «ولكنّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» أي لا يعلمون دور الرسول في توجيه المجتمع، وأنّه بشير ونذير فحسب، لا يبلّغ إلا ما حُمّل فيسألونه عن موعد يوم القيامة أو عن موعد نزول العذاب، «وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ».

وردت هذه الجملة في خمس مواضع من الكتاب العزيز. والظاهر في سائر الموارد هو الإشارة إلى ما كان المؤمنون يتوعّدونهم به تبعاً للوحي من نزول العذاب الدنيوي، أو ما يشمل وصول موعد انهدام هذا الكون، أي النفخة الأُولى.

قال تعالى: «وأمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَ اللهِ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فإذا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلَا نَفْعاً إلا مَا شَاءَ الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إذا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بياتاً أو نهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المُجْرِمُونَ * أثم إذا مَا وَقَعَ أَمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُمْ بِهِ

ص: 239


1- الأحقاف (46) : 9

تَسْتَعْجِلُون».(1) فيظهر بوضوح في هذا المورد بملاحظة الآيات السابقة واللاحقة أنّ المراد بالمشار إليه في هذه الجملة العذاب في الدنيا.

وقال تعالى: «خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْتَهْزِئَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»(2) والآية التالية لهذه الجملة وإن كانت ظاهرة في عذاب جهنّم إلا أنّ ما قبلها وما بعد هذه الآية لا ترتبط إلا بعذاب الدنيا.

وهكذا الكلام في سورة النمل حيث عقّبها بقوله تعالى: «قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ».(3)

نعم ما ورد في سورة يس ظاهر في يوم الانهدام حيث جاء بعدها: «مَا يَنْظُرُونَ إلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَحْضُمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةٌ وَلا إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ»،(4) وإن كان يحتمل أيضاً عذاب الاستئصال إلا أنّ قوله تعالى بعد ذلك: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فإذا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ»(5) يقوي الاحتمال الأوّل. وما في سورة الملك أيضاً ظاهر في عذاب الدنيا إذا تأمّلت في ما بعدها من الآيات.

وما هنا أيضاً أقرب إلى احتمال عذاب الاستئصال أو ما يوجب زوال الأُمّة

ص: 240


1- يونس (10): 46-51
2- الأنبياء (21): 37-41
3- النمل (27): 72
4- يس (36): 49 - 50
5- يس (36): 51

وإن كان تدريجياً، فإنّ هذا هو الظاهر من جعل الميعاد لهم بحيث لا يستقدمون ولا يستأخرون، نظير ما مرّ في سورة يونس، فالمراد آجال الأُمم لا يوم القيامة كما ورد في التفاسير. ثمّ إنّ التعبير بفعل المضارع يدلّ على أنّ هذه مقالتهم المستمرّة وليس قولاً في ظرف خاصّ.

«قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْم لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَة وَلا تَسْتَقْدِمُون» «الميعاد» اسم زمان أُضيف إلى «اليوم» إضافة بيانية، أي لكم موعد وهو يوم... ويمكن أن يكون مصدراً، أي وعد يوم.

و «لا تَسْتَأْخِرُونَ...» صفة ليوم وباب الاستفعال هنا للمبالغة كما قيل، أي لا تتأخّرون عنه ولا تتقدّمون مؤكّداً. ويمكن أن يكون بمعنى الطلب كما هو الأصل في باب الاستفعال، أي لا تطلبون تأخراً عنه ولا تقدّماً عليه، مع أنّهم لو علموا به لطلبوا تأخره إلا أنّ عدم الطلب كناية عن عدم الإمكان، إذ لا يطلب الإنسان أمراً مستحيلاً. والساعة الجزء من الزمان والمراد بها هنا أقلّ جزء منه. وقد وقع الكلام في المراد بهذا اليوم وعامّة المفسّرين يفسّرونه بيوم القيامة.

ويبعّده كما أشرنا إليه أنّ عدم تقدّمه وتأخره بالنسبة لهم يدلّ على كونه أمراً خاصّاً بهم، ويؤكّد ذلك تقديم قوله: «لَكُمْ» ممّا يدلّ بوضوح على أنّه موعد خاصّ بهم، ولا ينطبق على يوم القيامة. ويبعّد جدّاً أن يكون المراد يوم موت كلّ واحد منهم، فلا بدّ من حمله على يوم نزول العذاب في الدنيا، أو موعد زوال الأُمّة وفناء المجتمع ولو تدريجاً. ويؤيّد ذلك قوله تعالى في سورة يونس، كما مرّ آنفاً: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ».(1)

ص: 241


1- يونس (10): 49

وفي الآية مورد لسؤال وهو أنّه كيف يكون ما ذكر جواباً لسؤالهم عن موعد العذاب ولم يحدّد في الجواب موعداً؟ والجواب بوجهين:

الأوّل أنّ السؤال ليس استفهاماً حقيقياً، بل هو استهزاء، حيث إنّهم ما كانوا يعترفون بصدق الوعد، فيسألون عن موعده واقعاً. وحيث كان السؤال استهزاءً ناسبهم الجواب بالتهديد.

والثاني أنّ الجواب يذكرهم بحقيقة مهمّة وهي أنّه لا فائدة في معرفة الوقت وإنّما المهمّ أنّه موعد حتمي لا يتأخّر ولا يتقدّم.

ص: 242

سورة سبأ (31-33)

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)»

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» المراد ب_«الذين كفروا» في مصطلح القرآن مشركو مكّة والجزيرة العربية، ولا وجه لما قيل من أنّ المراد بهم أهل الكتاب بل لا يصحّ ذلك لأنّهم يؤمنون ببعض ما بين يديه. وكلامهم هذا يدلّ على غاية تماديهم في الضلال، حيث نفوا الإيمان بنفي الأبد بالقرآن وما قبله من كتب السماء، فمعنى ذلك أنّه لا يؤثّر في عزمهم هذا شيء أبداً.

ومن الطبيعي أنّ المعاند لا يفيد معه البحث ولا النصح، فهذه الآية بمنزلة قوله تعالى خطاباً لنوح علیه السّلام «وَأوحى إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ...»، (1) وبذلك يؤيس الله تعالى رسوله صلّی الله علیه و آله من إيمانهم .

وربّما يقال: إنّ المراد بالذي بين يديه يوم القيامة. وهو تفسير غريب. والتعبير عن الكتب السماوية السابقة بالذي بين يديه متكرّر في القرآن، كقوله تعالى:

ص: 243


1- هود (11): 36

«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ».(1) وهو واضح. وكأنّ الذي أوقعهم في الوهم هو استغراب أن ينفوا الإيمان بالكتب السابقة ولم يكن هو المطلوب منهم. ولذلك عمد بعضهم إلى توجيه آخر وهو أنّ المشركين سألوا أهل الكتاب عمّا يجدونه في كتبهم حول الرسول صلّی الله علیه و آله ولمّا أخبروهم بالبشارات الموجودة فيها أنفوا من ذلك وقالوا هذه الجملة.

وهذا في حدّ ذاته غير مستبعد، ولكنّ الآية لا تنظر إلى ذلك، بل الغرض بيان كفرهم بجميع الكتب السماوية وما تشتمل عليه من معارف إلهية، فإنّهم كانوا ينكرون كلّ ذلك، قال تعالى : «فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلِّ كَافِرُونَ». (2)

«وَلَوْ تَرَى إذ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» وهكذا يأتي التنديد والتهديد من الله تعالى بعد نقل كلامهم مباشرة ، ولا يذكرهم بضمير عائد إليهم، كما هو المتعارف، بل يصفهم ب_«الظالمين» تنبيهاً على أنّ هذا الكلام وهذا العناد ظلم منهم، وهو ظلم على أنفسهم حيث يعرضون أنفسهم لهذا الموقف المشين أمام ربّهم، وظلم لمجتمعهم، وظلم مطلق لما قلنا من أنّ الظلم لا يجب أن يكون له مظلوم.

و «لو» للتمنّي، أي ليتك ترى موقفهم عند ربّهم حال كونهم موقوفين، أي ليسوا واقفين بأنفسهم، فهم لا يملكون الحركة حينئذٍ. وهم يتبادلون الاعتراض والردّ فيما بينهم أمام ربّهم الذي ربّاهم ليبلغوا غاية كمالهم وقد رجعوا إليه في

ص: 244


1- آل عمران (3): 3
2- القصص (28): 48

نهاية المطاف عاصين له، معاندین لرسالاته.

«يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضِ الْقَوْلَ ...»، أي كلّ جمع منهم يرجع بالقول إلى الآخر بمعنى أنّه يلقي اللوم على الآخر، أو أنّهم يتحاورون ويتبادلون الكلام.

«يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ»، هكذا يبدأ بحكاية تبادلهم للنقد والاعتراض والتقاول، وقد ورد ذلك بصو بصور مختلفة وفي مواقف مختلفة من يوم القيامة في الكتاب العزيز وهنا ينقل مكالمتهم حين الحساب وقبل أن يؤمر بهم إلى النار.

ويصنّفهم الله تعالى إلى مستضعفين ومستكبرين، وهذه طبيعة الجوامع البشرية حيث تنقسم طبقات المجتمع بصورة طبيعية إلى أُناس يتطاولون على الآخرين بما أُوتوا من مال أو قوّة أو دهاء أو مكانة اجتماعية، وأُناس لا يملكون تلك المقوّمات، فتبخس حقوقهم ويعتدى عليهم ويساقون إلى ما تهواه ميول الكبراء. و من الملفت تكرير التعبير بالمستكبرين والمستضعفين من دون إرجاع الضمير إليهم، كما هو المتعارف، ولعلّ السرّ فيه التأكيد على العنوانين.

و«المستكبرون» أي الذين يطلبون لأنفسهم الكبر وهم ليسوا كبراء في الواقع وليست لهم أيّ ميزة عن الآخرين، والطبقة الأُخرى ليسوا ضعفاء في الواقع، فهم لهم فهم وإدراك كما للآخرين، ولهم قدرة جسمية كما للآخرين، ولكنّهم يستضعفون بمعنى أنّ المستكبرين يطلبون لهم الضعف أو يعتبرونهم ضعفاء.

وهناك أمام الربّ حيث تتبدّد غيوم الجهل وتظهر كلّ الأمور على ما هي عليه يتبيّن أن ليس هناك كبر وصغر، بل ربّما يكون هذا المستكبر حقيراً في نفسه لا يعرفه الناس، ولو علموا منه ما لم يعلموا لم يخضعوا له. وهناك كثير من

ص: 245

حقائق الناس تتبيّن يوم القيامة، فيندم أبناء المجتمع ممّا صدر منهم تجاه هؤلاء من حسن أو سوء.

وبعد تبيّن الحال يقول المستضعفون للمستكبرين: «لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ»، فالإيمان هو مقتضى الفطرة والطبيعة، والإنسان بطبعه ينصاع للحقّ ولا يكابره، إلا أنّ هناك أهواءً تمنع وتصدّ الإنسان عن قبول الحقّ. والمستضعف يحاول أن يلقي الذنب على المستكبر وأنّ هواه هو الذي منعه.

«قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ» وهكذا يدافع المستكبر عن نفسه ويلقي بدوره اللوم على المستضعف: «أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى...» وهذا أمر غريب، فهم قد صدّوا ومنعوا الناس عن الهدى الذي جاءهم، ولكنّهم هنا ينسون ما اقترفوه وينفون ذلك.

ويأتي هنا إشكال وهو أنّهم كيف يكذبون أمام الله تعالى، مع أنّ الحقائق بيّنة يوم القيامة ولا يؤذن للإنسان أن يتكلّم بما يريد؟!

والجواب أنّهم لا يكذبون كلّ الكذب، فهناك أمر آخر في نفوس المستضعفين يدعوهم إلى ترك الهدى والانصياع لدعوة المستكبرين، إذ لم يكن منهم إكراه وإجبار، فهم ينفون الصدّ العملي بمعنى الإكراه والإجبار باعتبار أنّه غير ممكن في العقيدة، فإنّه أمر نفسي، فيردّون عليهم أنّ هناك دافع آخر يدعوكم إلى الكفر وهو أنّكم كنتم مجرمين، فالإجرام والإثم ومتابعة الأهواء هو الذي دعاكم إلى ترجيح التصفيق للمستكبرين على التعبّد بأوامر الله تعالى التي تمنعكم من كثير ممّا تشتهيه أنفسكم.

ص: 246

وربّما يفسّر قوله تعالى: «بَعْدَ إذ جَاءَكُمْ» بأنّ المراد بعد أن عزمتم على الدخول في الإيمان وصحّت نيّاتكم في اختياره. وبذلك يتفادى من الإشكال بأنّهم كيف يكذبون وينكرون صدّهم وقد صدّوهم فعلاً. ولكن هذا خلاف الظاهر.

وهناك من يتفادى الإشكال بأنّهم فعلاً يكذبون، لأنّ الكذب أصبح جزءاً من طبيعتهم الثانوية، فلا يستطيعون التخلّي عنه حتّى أمام الله تعالى وما ذكرناه أولى.

«وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً» فالمستضعفون لا يستسلمون لجواب المستكبرين، ويدّعون أنّ أكبر الإثم كان عليهم، وذلك لأنّهم كانوا يكرّرون أقاويلهم في الكفر والشرك ليلاً ونهاراً بحيث لا يتركون لهم مجالاً للتفكير ، مضافاً إلى استعلائهم عليهم بالأمر بالكفر.

و«المكر» هو المحاولة للوصول إلى الأهداف بطرق ملتوية، فالمراد أنّكم كنتم تحتالون علينا ليلاً ونهاراً لكي نبقى على الشرك والكفر، وحيث كنتم كبراءنا ورؤساءنا فتأمروننا مستعلين علينا ولا نستطيع المقاومة والردّ عليكم.

وهنا سؤال وهو أنّه كيف جمعت الآية بين الأمر بالكفر والأمر بجعل الأنداد، والكفر إنكار لأصل وجود الباري؟

والجواب أنّ الكفر بالله يجمع بين كلّ أنحاء الشرك، وإنكار الذات المتعالية، وإنكار الصفات الكمالية، وإثبات صفات ينزه الله تعالى منها. وذلك لأنّ الإيمان بالله هو الإيمان بالذات الواجد لتلك الصفات والمنزّه عن غيرها، ونحن لا نعرف الله إلا بصفاته، فالذي يقبل وجود الله تعالى ولكن يثبت له الجسمية مثلاً كافر بالله، وإنّما يثبت موجوداً وهمياً ويدّعي أنّه هو الله تعالى الله عمّا يصفون.

ص: 247

«وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذَابَ»، ربّما يقال: كيف يمكن الإسرار والإخفاء في حين تبلى السرائر وتنكشف الحقائق وتتجلى الخبايا والكوامن؟

وأجاب بعضهم أنّ المراد به الإظهار، وقال: إنّ الإسرار من الأضداد. وهذا بعيد، ولا حاجة إليه، فإنّ محاولة الإخفاء لا ينافي عدم الخفاء، فهم حينما يرون العذاب معدّاً لهم يسرون في أنفسهم الندامة عمّا اقترفوا، وهذا ردّ فعل طبيعي ولا ينافي أنّ الندامة لا تخفى على الآخرين، كما أنّها ربّما لا تخفى في الدنيا أيضاً، فتتبيّن في وجنات النادم وذلك لا ينافي محاولته الإخفاء. وإنّما يخفون الندامة تفادياً لشماتة الأعداء.

«وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، يصل بعد تبادل الكلام دور الجزاء، فتوضع الأغلال في أعناقهم. وصرّح بالعنوان «الَّذِينَ كَفَرُوا» دون الضمير، لئلا يتوهّم الاختصاص بفرقة منهم دون فرقة، ولكي يشير إلى السبب، فإنّ الإغلال نتيجة للكفر. ثمّ صرّح بأنّ ذلك نفس أعمالهم يجازون بها وهذه العبارة «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، وإن احتملت التقدير، أي جزاء ما كانوا يعملون إلا أنّ تكرار الجملة في القرآن ربّما يدلّ على عناية خاصّة، وأنّه ليس هناك حذف وتقدير.

فلا يبعد أن يكون الغرض بيان أنّ هذه الأغلال هي نفس أعمالهم تتعلّق بهم، وهذا أمر طبيعي جدّاً، فإنّ عمل الإنسان متعلّق به لا يفارقه حتّى في هذه الحياة، فإن كان له ضمير حيّ، فإنّه سيؤنّبه. كلّما تذكّر عمله. وهذا هو العقاب الخالد. وفي تلك الحياة تبدو الأعمال بواقع فظاعتها وقبحها، فيكون أشدّ على العامل وأبلغ في التعذيب.

ص: 248

سورة سبأ (34-39)

«وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)»

«وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ» يعود إلى بيان حال المستكبرين في الدنيا، ويفنّد بعض أوهامهم، ويقدّم على ذلك ذكر ما يسلّي الرسول صلّى الله عليه و آله حتّى لا يهتمّ بشأن المستكبرين والمترفين وعدم إيمانهم، قول وهو أنّ هذا دأبهم في مواجهة جميع الرسالات.

والتعبير يوحي بالشمول التامّ لا يشذّ عن المجتمعات شيء في ذلك حيث أتى بالنفي والاستثناء المفيد للحصر بصراحة «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلا ...». والقرية بمعنى المجتمع، وعبّر عن الرسول ب_«النذير»؛ لأنّ الوظيفة الأساسية للرسل هي الإنذار بعالم غائب عن العيون والأفكار لا تصل إليه الأبحاث البشرية مهما تعمّقت وتوسّعت. وعبّر عن المستكبرين بالمترفين، لانّ الترف هو السبب الأساس في الاستكبار: «إنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَآهُ اسْتَعْنَى». (1)

والمترف: اسم مفعول من الإتراف، وهو المبالغة في الإنعام، فإذا قدّم الأهل

ص: 249


1- العلق (96): 6

لولدهم كلّ ما يشتهيه من طعام ونحوه يقال: أترفه أهله. والمراد هنا الذي أترفه الله بقرينة قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا».(1) وهذا الإنعام من الله تعالى عذاب ونقمة قال تعالى: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أوْلَادُهُمْ إنّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبْهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ»،(2) وهذا عذاب من عدّة جهات:

منها : بعد المترفين عن الله تعالى، فيعيشون معيشة ضنكاً ولا يرون للحياة هدفاً.

ومنها أنّهم يعذّبون في ضميرهم ووجدانهم، حيث يجدون حولهم الفقراء والمساكين يموتون جوعاً ومرضاً، وهم يملكون أضعاف ما يحتاج إليه الفقراء، ولكنّهم لا يتمتّعون بالسخاء فلا يساعدونهم. ومهما حاول الإنسان أنّ لا يهتمّ بصوت ضميره؛ فإنّه يبقى يؤنبه وهو يتعذّب بذلك ولو في بعض الوقت.

ومنها: طغيانهم واستكبارهم الذي يؤدي في النهاية إلى هلاكهم حتّى في هذه الحياة، لأن ّالمجتمع الذي يفرط في التنعم يكسل ويترهل.

ومنها: أنّه يوجب الاغترار بالنفس فيتوهم المستغني بأن له على الله كرامة، وهكذا يتم استدراجه وهلاكه من حيث لا يشعر قال تعالى «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأَهْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ».(3) وسيأتي بعض الكلام في هذا الوجه.

ومنها أنّه يمنع من الإيمان بالرسالات، لأنّ المستكبر يرى في الرسالات الدعوة إلى التواضع والمساواة والتضحية والجهاد والزكاة والإنفاق في سبيل الله

ص: 250


1- المؤمنون (23): 33
2- التوبة (9): 55
3- القلم (68): 44-45

ونحو ذلك، وكلّ هذا لا يلائم طبعه الطاغي. ولذلك نجد أنّ أكثر المؤمنين بالأنبياء هم من الفقراء والعبيد.

قال تعالى حكاية عن قوم نوح: «قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ»(1)، فالمقياس عند هؤلاء أن يكونوا في صف الطغاة المترفين، والسبب في عدم إيمانهم بنوح علیه السّلام أنّ الفقراء هم الذين اتبعوه فحسب. وقال تعالى حكاية عن قوم فرعون: «فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِيَشرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ». (2)

والحاصل أنّ الإتراف ليس نعمة كما يتوهّم. وقد روي عن أمير المؤمنين علیه السّلام: «من وُسّع عليه دنياه ولم يعلم أنّه مُكر به فهو مخدوع عن عقله».(3)

ثمّ إنّ الآية لا تنقل عن المترفين ارتياباً في صدق المرسلين وإنّما تركّز على عدم إيمانهم بما أُرسلوا به تأكيداً على كفرهم برسالة السماء بقول مطلق.

«وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذِّبِينَ» وهكذا يتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد، ويتظاهرون بأنّهم واثقون من أنّ الله تعالى لا يعذّبهم. وهذا يمكن أن يكون بمعنى نفي العذاب في الدنيا، كما حكى عنهم في كثير من الآيات ومنها ما مرّ من قولهم: «مَتى هَذَا الوَعدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»(4) والمراد نفي تحقّق ما يتوعّدهم به الأنبياء من عذاب الاستئصال.

ويمكن أن يكون بمعنى نفي العذاب في الآخرة، وهذا أظهر. وليس ذلك بمعنى نفي الآخرة وإن كانوا ينكرونها، بل بمعنى أنّه على فرض وجود حياة

ص: 251


1- الشعراء (26): 111
2- المؤمنون (23): 47
3- بحار الأنوار 72: 286
4- يونس (10): 48

أُخرى يحاسب الله فيه عباده، فإنّه لا يحاسبنا ولا يعاقبنا، بدليل أنّه خصّنا بكثرة الأموال والأولاد وليس ذلك إلا لكرامة منّا عليه، أو أنّه يحترمنا لكثرة أموالنا وأولادنا، كما يحترمنا الناس. وهذا أظهر بقرينة قوله تعالى: «وَمَا أموَالُكُمْ وَلا أولادُكُم بِالَّتِي تقرّبكم عِندَنا زُلفَى».(1) بل إنّ بعضهم ينكر الربّ ولكنّه يعتقد بهذا الوهم افتراضاً، أي لو كان هناك ربّ فإنّه يحترمنا ويكرمنا لكثرة الأموال والأولاد.

وقد ورد ذكر هذا الوهم في عدة مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً»(2) وقوله تعالى: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إِنَّ لِى عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى».(3)

وإلى هذا المعنى أشارت السيّدة زينب - سلام الله عليها - في خطابها ليزيد لعنه الله: «أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيّقت علينا آفاق السماء... أنّ بنا من الله هواناً، وعليك منه كرامة وامتناناً، وأنّ ذلك لعظم خطرك، وجلالة قدرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطف... فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيت قول الله: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِنَّمَا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(4)».(5)

وهذا الوهم يسري في المجتمع أيضاً وقد سمعنا بعض جهّال العاّمة يصرّحون

ص: 252


1- سبأ (34): 37
2- الكهف (18): 36
3- فصلت (41): 50
4- آل عمران (3): 178
5- بحار الأنوار 45: 157 - 158

بذلك ويتوهّمون أن أصحاب الملك والمال لهم عند الله كرامة، بل إنّي سمعت بعض المتلبّسين بلباس أهل العلم يقولون ذلك. وهذا أمر غريب. والله تعالى يردّ هذا التوهّم بوجهين بالآية التالية سيأتي.

«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ» «البسط» بمعنى التوسعة، و«التقدير» التضييق. ومردّ هذا الجواب أنّ توسعة الرزق وتضييقه لا يدلان على ميزة لصاحبه وإنّما يتبع ذلك مشيئة الله سبحانه، ومشيئته تتبع المصالح الكونية العامّة، فالله تعالى وإن كان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولكنّه حكيم، لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة.

«ولكن أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» في المراد بعدم علمهم احتمالان

الأوّل: أنّهم يظنّون أنّهم بعلمهم ودهائهم اكتسبوا ما اكتسبوا، كما قال قارون: «إنَّها أُوتِيتُهُ عَلَى عِلم عِندِى»(1) ويرد عليه في القرآن: «أَوَلَمْ يَعلَمُ أَنَّ الله قَد أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَن هُوَ أشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وَأكثَرُ جمعاً»(2) فلولا أنّ الله تعالى أراد له ذلك لم يكن بمقدوره أن يجمع هذا الثراء العظيم. وكم من داهية قبله وبعده حاول أن يبلغ ما بلغ فلم يستطع.

الثاني: أنّهم لا يعلمون أنّ البسط والضيق ليس إكراماً وإهانة قال تعالى: «فَأَمَّا الإنسان إذا مَا ابْتَلاهُ رَبِّه فَأَكْرَمَهُ وَنَعْمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وأمّا إذا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَمَانَنِ * كَلا»(3) ، ليس البسط للإكرام، ولا التضييق للإهانة، بل كلّه للابتلاء والامتحان والابتلاء بالتضييق أسهل، والنجاح فيه أيسر، فلا يحتاج إلا

ص: 253


1- القصص (28): 78
2- القصص (28): 78
3- الفجر (89): 15-17

إلى صبر وعدم انزعاج، وعدم اعتداء على الآخرين، بخلاف الابتلاء بالتوسعة، فإنّ الإنسان مسؤول عمّا أنعم الله به عليه، وفي كلّ نعمة حقوق وفي كلّ غلّة وربح زكاة، ولكنّ الإنسان لكونه ظلوماً جهولاً - كما مرّ في آخر السورة السابقة - يتلهف شوقاً إلى السعة والثراء أكثر وأكثر.

«وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى» وهذا ردّ على توهم المستكبرين أنّ الله تعالى يحترمهم لأنّ لهم أموالاً وأولاداً كما مرّ بيانه. و«الزلفى»، أي القربى، فهو مفعول مطلق. ولو كان للمال والأولاد شأن عند الله لأوسع على أنبيائه فيهما، ولكان الرسول صلّی الله علیه و آله أبعد خلق الله منه، مع أنّه أقرب الخلق إليه تعالى. بل الأموال والأولاد فتنة ووسيلة للامتحان والاختبار، فالإنسان بذلك يتحمّل مسؤولية أكبر، وكلّما اتسعت الرقعة كبرت المسؤولية، واشتدّ البلاء والامتحان، وقلّ الناجحون. قال تعالى: «إنّما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».(1)

«إلا مَنْ أَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضَّعْفِ بِمَا عَمِلُوا» يمكن أن يكون الاستثناء منقطعاً، فالمعنى أنّ المناط في القرب لدى الله الإيمان والعمل الصالح، لا الأموال والأولاد، ويمكن أن يكون متصلاً بمعنى أنّ الأموال والأولاد لا تقرّب أحداً إلى الله تعالى إلا المؤمن الذي يعمل في أمواله وأولاده ما هو صالح للتقرّب إلى الله تعالى، فإنّ الإنسان إذا كان مؤمناً بربّه ومعتقداً بأنّ هذه الأموال والأولاد إنّما هي منه نعمة وابتلاء، وعمل بما يمليه عليه الواجب الشرعي تجاهها، من تربية الاولاد تربية صالحة، وإنفاق المال في سبيل

ص: 254


1- التغابن (64): 15

الله تعالى فإنّ له جزاء الضعف بما عمل.

وفي كون الجزاء ضعفاً احتمالان:

الأوّل: أنّ عمله يتضاعف، فيتضاعف جزاؤه، وذلك لأنّه إذا أحسن بماله وأنفق في سبيل الله كثرت الأدعية بحقّه، بل كان شريكاً في كلّ ما يترتّب على عمله من عمل حسن، وإذا ربّى ولده تربية صالحة فهو شريك في كلّ ما يعمله من عمل صالح، وبذلك يتضاعف جزاؤه.

الثاني: أنّ جزاءه ضعف عمله حتّى لو لم يتضاعف العمل، وليس الضعف بمعنى التثنية بل الزيادة، قال الخليل رحمه الله: (أضعفت الشيء إضعافاً، وضاعفته مضاعفة وضعّفته تضعيفاً، وهو إذا زاد على أصله فجعله مثلين أو أكثر) وقد قال تعالى «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا».(1)

ومعنى كونه ضعفاً أنّه ضعف ما يتصوّر من الجزاء، فإنّ الجزاء هناك لا يقاس بما نجده هنا من نعم، بل المثلية أيضاً ليست كما نتصوّر، فقوله تعالى (عشر أمثالها) لبيان أنّه لا يقاس بعمله، وليس بمعنى أنّه إذا تصدّق بدرهم أعطاه الله تعالى عشر دراهم.

والاحتمال الثاني هو الأقرب كما لا يخفى.

«وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ أَمِنُونَ» آمنون من كلّ ما يعكر صفو الحياة من خوف أو مرض أو عدوان أو عذاب، أو أيّ شيء يتصوّر ممّا يخاف منه، وهم يعيشون في الغرفات، أي الحجرات العليا، مشرفون على غيرهم ومترّفعون عن كل ّدناءة واحتقار. وكونهم في الغرفات أُشير به في غير هذا الموضع أيضاً، قال تعالى:

ص: 255


1- الأنعام (6): 160

«أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا».(1)

«وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ» يقابل هؤلاء، المستكبرون الذين يسعون في آيات الله. و«السعي»: الركض والمشي السريع. والمراد به هنا بذل غاية الجهد. و«المعاجزة» بمعنى محاولة التعجيز ، فالمعنى أنّهم يبذلون غاية جهدهم، لتعجيز الله تعالى في آياته والتعجيز قد يكون بمعنى مقاومة ما يجدونه من آيات الله تعالى بعدم الانصياع لما تقتضيه من الإيمان، فكأنّهم يسابقون الله تعالى ويسابقون سطوته وعذابه، قال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ»(2) وقال تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»،(3) وقد يكون بمعنى إظهار الاستخفاف بالآيات بالرغم من تيقّنهم بأنّها آيات الحكمة والعظمة الإلهية، كما قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً». (4)

«أُولَئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ» الحضور معناه واضح لا يكاد يفسّر بأوضح منه. والإحضار بمعنى الحضور قسراً. وهو يفيد معنى الملازمة للعذاب وعدم الخلاص منه، كقوله تعالى «وأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشحَّ»،(5) ومعناه أنّ الشحّ طبيعة ملازمة للإنسان. وفاعل الإحضار في الموضعين هو الله تعالى.

«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ» يعود إلى التأكيد على أنّ

ص: 256


1- الفرقان (25): 75
2- الأنفال (8): 59
3- العنكبوت (29) : 4
4- النمل (27): 14
5- النساء (4): 128

الرزق من الله تعالى يبسط لمن يشاء ويقدر له. وزاد في التعبير هنا كلمة العباد مضافة إلى الله تعالى، ليتبيّن أنّه من شؤون الربوبية، وليس في التقدير والضيق عداء لأحد، ولا في البسط والسعة حبّ وإكرام. ولكنّ الجملة هنا مقدّمة للترغيب في الإنفاق بخلافها في المورد السابق حيث كانت للردّ على توهم المستكبرين.

«وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» المراد ب_«الإنفاق» الذي يخلفه الله هو الإنفاق في سبيله. والإخلاف أن يعطيه الله من المال ما يسدّ مسدّه. والظاهر أنّ الإخلاف في الآخرة وإن كان الغالب في الدنيا أيضاً أنّ الله تعالى يبارك في المال المزكّى، إلا أنّ البركة الحقيقية ليست في التكاثر كما يظنّ، بل البركة في أن يصرف المال في مورده الصحيح ويكسب الإنسان به رضا ربّه.

ولعلّ قوله تعالى: «خَيْرُ الرَّازِقِينَ» بمعنى أنّه لا يتصوّر رازق خيراً منه فهو خیر رازق مع أنّه لا رازق غيره تعالى ويظهر من عبارات المفسّرين وغيرهم أنّه خير بالقياس إلى سائر الرازقين كالسلطان لرعيته والسيّد لعبده، والرجل لعائلته.

وهو بعيد، فإنّ القياس بين رازقيته تعالى ورازقية غيره لا معنى له، فليس في الكون من يمكن أن يكون رازقاً غيره تعالى. والوسائط في الرزق ليسوا رازقين. وهذا نظير قوله تعالى: «أَحْسَنُ الخَالِقِينَ»، (1) وليس في الكون خالق غيره إلا بضرب من التجوّز. وعلى كلّ حال فما ذكرناه أولى.

ص: 257


1- المؤمنون (23): 14

سورة سبأ (40-42)

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)»

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ»، أي واذكر يوم يحشر الله العابدين والمعبودين جميعاً، ثمّ يسأل الملائكة تقريراً ليكون جوابهم تقريعاً للمشركين: أهؤلاء - وهو إشارة إلى المشركين - إيّاكم كانوا يعبدون؟

والوثنية تعبد الأصنام باعتقاد أنّها مثل للأرواح الطيبة العلوية التي هي عندهم مناشئ الخير في العالم، وهم مع ذلك يعتقدون أنّ تلك الأرواح لقربها إلى الله تعالى تشفع لهم يوم القيامة، وبذلك يستغنون عن عبادة الله تعالى وإطاعته ومتابعة شريعته. والغرض من تذكير هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة تنبيههم في الدنيا على خطأهم، وبيان أن الملائكة يتبرّأون من أعمالهم وعبادتهم.

«قَالُوا سُبْحَانَكَ» ، أي أنت منزّه عمّا ينسبون إليك من شريك في استحقاق العبودية، فإنّ هذا الاستحقاق يتبع كون أحد غيرك منشأ لخير أو شرّ ونفع أو ضرّ، وأنت منزّه عن شريك في التأثير في العالم.

ويمكن أن يكون ذلك لإظهار التعجّب، كقوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَتَتْهَا أنفُسُهُمْ ظُلماً وعُلُوّاً»(1) .

«أَنتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ»، وبهذا ينفون أيّ ولاء بينهم وبين المشركين وأنّهم لا

ص: 258


1- النور (24): 16

يرتبطون بأحد إلا بالله تعالى والعبادة ارتباط شعوري بين العابد والمعبود فإن كان المعبود لا يشعر بها فهو يكشف أنّهم لا يعبدون إلا ما يتوهّمونه ملائكة. والسبب واضح، فإنّهم لا يرون الملائكة وإنّما يعبدون أصناماً تصوّروا أنّها تمثّل الملائكة، ولا يبعد أنّ الملائكة لا يعلمون بذلك إلا من كان موكّلاً بأعمالهم أو أخبره الله تعالى بذلك. وعلى كلّ حال فالنفي صحيح، ولا حاجة إلى التأويل، كما ارتكبه بعضهم.

«بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ»، لعلّ المراد به عبادتهم للشيطان المتمثّلة في إطاعتهم له، كما قال تعالى: «ألم أعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ» (1)، فإنّ المراد به النهي عن الإطاعة، ويمكن أن يكون المراد اعتقادهم بالجنّ وبالكهنة الذين كانوا يخبرون عن الغيب بدعوى الارتباط مع الجنّ، وهذا أمر معروف من سيرة العرب في الجاهلية، فيكون المراد بالعبادة أيضاً اطاعتهم لما يأمر به الكهنة بدعوى تلقّيهم الأوامر والإرشادات من الجنّ.

«فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَراً»، ينتقل الكلام من الحديث عن الغائب إلى الخطاب، وصدّر الكلام ب_«الفاء»، لأنّه لبيان النتيجة، ويريد بذلك منع كلّ رجاء للانتفاع بشفاعة أحد، فإذا كانت الملائكة مع قربها لدى الله سبحانه لا تملك لهم نفعاً فكيف بغيرهم؟!

وكما لا نفع هناك إلا ما أمر الله به، كذلك لا يضرّكم أحد ولا يضرّ بعضكم بعضاً، فالله هو الضارٌ النافع والمراد نفي أن يكون هناك اختيار للنفع والضرر، كما كان في الدنيا، وإلا فالنفع والضرّ في هذه الحياة أيضاً ليس إلا منه، إلا أنّ

ص: 259


1- النمل (27): 14

هناك من يضرّ وينفع في هذه الدنيا بإذنه تعالى. ويرتفع الإذن العامّ هناك، ولابدّ من إذن خاصّ لكلّ حركة. والظاهر أنّ هذا هو المراد بقوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلا بِإِذْنِهِ»،(1) وما بمعناه من الآيات، فإنّ التكلّم هنا أيضاً بإذنه، إلا أنّ الإذن موجود هنا للعموم ومرفوع هناك إلا في موارد خاصّة.

«وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ»، الظاهر أنّه ليس كلاماً موجّهاً إليهم فالله تعالى لا يكلّمهم يوم القيامة، وإنّما هو خطاب تكويني يستتبع تحقّق ذوق العذاب تكويناً.

والمراد ب_«الذين ظلموا» المشركون المنكرون ليوم المعاد، واعتبرهم ظالمين، لأنّهم ظلموا أنفسهم وأهليهم ومجتمعهم، أو كما قلنا سابقاً ظلموا، بمعنى أنّهم اعتدوا على الحقّ حيث إنّهم نفوا ما ليس لهم به علم. والظلم مأخوذ من الظلمة. ولعلّه من جهة أنّ الظالم كمن يرمي في الظلام، فهو لا يعلم إلى أيّ حدّ سيصل عدوانه.

ص: 260


1- هود (11): 105

سورة سبأ (43-45)

«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)»

«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ»، «الآيات» تتعرّض لدعاوي المشركين الفارغة في مواجهة آيات اللهِ البيّنات، أي القرآن الكريم. ويصفها ب_«البيّنات» إعلاماً بإفراطهم في الكفر والغواية، فإنّهم يواجهون حجّة واضحة لا تبقي لهم عذراً، ومع ذلك يكفرون به، ثمّ إنّه ينقل حججهم الواهية وكلامهم الباطل في ثلاث جمل:

«قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ أَبَاؤُكُمْ»، يحاولون بهذا الكلام إغراء الجهال المغفلين من عامة الناس المتعصّبين لسنن آبائهم بأنّ هذا - وهو إشارة إلى الرسول الكريم صلّی الله علیه و آله - رجل يريد أن يمنعكم من متابعة سنن الآباء والأجداد، وبهذا الشعار الفارغ يحاولون الصدّ عن سبيل الله تعالى، وبهذا التعبير المهين يقلّلون من شأن الرسول صلّی الله علیه و آله، كما زعموا «مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ»، فعبّروا عنه باسم الإشارة ثمّ برجل، وأتوا بلفظ النكرة، كأنّهم لا يعرفون أصله ومحتده، مع أنّهم يعلمون أنّه أفضل الناس أباً وجدّاً وعشيرة وخَلقاً وخُلقاً وكرامة وعزّة.

وبهذا الكلام السخيف يريدون أن يطفؤوا نور الله تعالى، كمن يحاول إطفاء

ص: 261

الشمس بالنفخ. ثمّ إنّهم مبالغة في الإغراء أضافوا الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم، كما هو المعتاد.

«وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى»، وهذه هي الجملة الثانية. و«هذا» إشارة إلى القرآن الكريم، وأرادوا بذلك تكذيب الوحي والتأكيد عليه، فقالوا: إنّه إفك مفترى، مع أنّ الإفك هو بنفسه الحديث المكذوب، فأكّدوه بأنّه مفترى على الله تعالى، وذكروا ذلك بصيغة تفيد الحصر «مَا هَذَا إلا» كأنّه لا صفة له إلا ذلك. ولا يستندون في هذا التكذيب إلى أيّ دليل، بل هم يشعرون أنّها آيات بيّنات، ولكنّ الكبر والحسد والمصالح المادّية تدعوهم إلى ذلك.

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ»، وهكذا كانوا يتهّمون النبي صلّی الله علیه و آله بأنّه ساحر وأنّ ما جاء به سحر. وبذلك علّلوا قوّة تأثيره في القلوب وأخذه بمجامعها. وأكّدوا اتهامهم بأنّ كونه سحراً أمر واضح، فهو سحر مبين، أي واضح لا يرتاب فيه أحد، مع أنّهم يعلمون أنّه الحقّ جاءهم من ربّهم. وأتى بالفاعل اسماً ظاهراً بدلاً عن الضمير للإشارة إلى السبب، فهم لكفرهم وعنادهم يواجهون الحقّ بذلك، وليس منشأ هذه الدعوى شبهة حصلت لهم، فتوهّموا الإعجاز سحراً.

«وَمَا أَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبِ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ»، «الدرس» هو تكرار قراءة الكتاب كثيراً، وإنّما يعبّر عنه بالدرس لأنّه يوجب اندراس الكتاب. والآية ترد مزاعمهم بأنّهم لا يملكون رصيداً علمياً يستندون إليه في تكذيبهم، فلو كانوا أهل كتاب وزعموا أنّ ما أتى به النبي صلّی الله علیه و آله لا يوافق ما وجدوه في كتبهم لهان الأمر ولكنّهم يكذبون بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله.

ص: 262

كما أنّهم لم يسبق لهم رسالة قبل هذا من السماء، وما أتاهم نذير، أي رسولّ فليسوا على معرفة مسبقة ليقيسوا ما أتاهم به الرسول صلّی الله علیه و آله بما لديهم من معارف سابقة عن السماء.

«وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا أَتَيْنَاهُمْ»، ثمّ يأتيهم التهديد بعذاب الله ، وأنّهم أضعف من الأُمم السابقة التي أهلكها الله تعالى، فلم يبلغ هؤلاء عشر ما بلغوا أُولئك من علم ودهاء ومال وقوة.

و«المعشار» العشر. فالأُمم التي يضرب الله تعالى بها المثل أُمم متحضّرة كقوم فرعون وثمود وعاد، والعرب الجاهلي كانوا في غاية التخلّف. والله تعالى أهلك تلك الأُمم مع أنّهم كانوا أُولي بأس شديد، فكيف بكم وأنتم لم تبلغوا عشر ما كان لديهم من قوّة، وقوّة البشر مهما بلغت، فإنّها لا تقاوم إرادة الله سبحانه، ولكنّ الغرض من هذا البيان والمقايسة تنبيه القوم على عدم الركون إلى قوّتهم وشوكتهم وأموالهم وأولادهم كما كانوا يظنّون.

«فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِير»، «الفاء» لتفصيل ما أجمله في الجملة الأُولى، والتأكيد على أنّ الأُمم السابقة كذّبوا رسل الله تعالى. وتنبيهاً لعظمة الرسل وفظاعة تكذيبهم، أضافهم إلى نفسه بضمير المتكلّم المفرد الذي يظهر منه الاختصاص.

ثمّ فرّع عليه التنبيه على فظاعة الجزاء الذي لاقوه إنكاراً من الله تعالى لتكذيبهم الرسل. والاستفهام هنا للتعظيم والتعجيب. أي انظروا كيف كان إنكار الله تعالى لكفرهم وتكذيبهم. والنكير: الإنكار. والمراد الإنكار الذي تمثّل في عذاب الاستئصال. والكسرة في «نكير» للدلالة على ياء المتكلّم، وفيه أيضاً تهديد بليغ حيث أضاف إلى الضمير العائد إليه تعالى بالذات.

ص: 263

سورة سبأ (46-50)

«قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)»

«قُلْ إنّما أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهَ مَثْنَى وَفُرَادَى ثمّ تَتَفَكَّرُوا» خمس آيات أتت تباعاً كلّها مبدوّة بالأمر بالقول، فكأنّه هجوم ثقافي يقذف بالحقّ على الباطل ليدمغه، وهو في أوّلها يدعو القوم إلى التفكّر والتدبّر. وهكذا المنطق القويّ والدين الإلهي لا يحذر من تثقيف الناس وتفهّم المجتمع، خلافاً للمتسلّطين الذين لا يريدون إلا مصالحهم، فهم يمنعون تدوين الحديث ونشر الكتب والثقافات بحجّة أنّها مضلّلة أو مضادّة للمصالح الاجتماعية، ونحو ذلك. ولكن منطق القرآن يدعو ويكرّر الدعوة: «أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ»(1)، «أَفَلا تَعْقِلُونَ»(2)، «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ»(3)، ونحو ذلك.

وهنا يأتي البيان مبدوّاً بكلمة (إنّما) المفيدة للحصر، كما يقال، أو التأكيد على الأقلّ فبناءً على الحصر يفيد أنّ الإيمان بهذه الرسالة لا يحتاج إلى شيء

ص: 264


1- الأنعام (6): 50
2- البقرة (2): 44
3- النساء (4): 82

أكثر من التفكير الصحيح. وأكّد ذلك بقوله: «أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ»، وهذا تصريح بالحصر المذكور. ثمّ اعتبر هذا الأمر موعظة ونصحاً؛ لأنّ النتيجة ستكون لصالحكم؛ فإنّ الأمر خطير، والاحتمال حتّى لو كان ضعيفاً لديكم فإنّ أهمّية المحتمل يستوجب الاهتمام البليغ.

ثمّ إنّ مجموع هذه الجملة «إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ» بمنزلة تنبيه للسامع وتحضير له لينتظر أمراً مهمّاً، فلم يبدأ كلامه بالأمر بالتفكير، بل بهذه الموعظة ليثير في السامع سؤالاً : ما هي الموعظة الوحيدة التي تنفعني ولا ينفعني شيء لو لم تنفعني هذه؟ فيأتيه الجواب: «أنْ تَقُومُوا الله» فيأمر بدواً بالقيام والنهوض، فهذا أمر يستدعي قياماً جماعياً ونهضة فكرية. والقيام يعبّر به عن كلّ أمر يعمله الإنسان مهتمّاً به باعتبار أنّه يكون أكثر تسلّطاً عليه حال القيام، فيقال إنّه قام بتأليف الكتاب، مع أنّه يعمله جالساً في الغالب، فالقيام كناية عن الاهتمام بالأمر.

ثمّ ليكن قيامكم لله تعالى، أي لوجهه الكريم، فالنّية الخالصة هو الشرط الأساس لبلوغ الهدف السامي، في إشارة إلى أنّه لو كانت النيّة هي التوسّل بالأعذار للتهرّب من قبول الحقّ المرّ، فلن توفّقوا لمعرفة الحقّ، وإن كان ناصعاً واضحاً، فلا بدّ من إخلاص النيّة لله تعالى ونبذ ما يمنع من التبصّر كالكبر والحسد، ومعاندة الحقّ، وتقليد سنن الآباء والأجداد، ونحو ذلك.

وكثيراً ما يحاول الإنسان بفكره أن يصل إلى نتيجة صحيحة، فيخطئ بسبب أنّه لم يقصد بذلك مرّ الحقّ حتّى لو كان بخلاف ما ارتآه، بل هو يتّخذ موقفاً مسبقاً ويحاول إثباته مهما كان. وهناك كثير من الناس يرون من اللازم أن يحاول الإنسان الدفاع عن خطئه حتّى وإن كان بسبق اللسان، وهذا بذاته خطأ كبير يمنع

ص: 265

من وصول الإنسان إلى الحقّ، فالآية الكريمة تحثّ بدواً أن يكون القيام لله؛ لأنّ الله تعالى لا يريد إلا الحقّ ولا يدعو إلا إلى الحقّ، ولا يقول إلا الحقّ.

ثمّ طلب منهم أن يكون قيامهم بوجهين: مثنى وفرادى؛ ومثنى بمعنى اثنين اثنين كما أنّ فرادى بمعنى فرداً فرداً، أي بأحد الوجهين؛ تارة بتبادل الفكر آخره وأُخرى بالتفكير منفرداً. ولهذا التقييد جهة إيجابية وجهة سلبية. أمّا الإيجابية يأمر بأن يكون القيام إمّا منفرداً أو بمشاركة شخص آخر ومن الجهة السلبية يمنع من الانحياز إلى التفكير الجماعي. أمّا الإيجابية منهما فهي أن يتفكّر الإنسان مع نفسه أو مع غيره، وذلك لاختلاف الناس فمنهم من لا يمكنه التعمّق إلا بانفراد، ولكن الغالب هو أنّ الإنسان لا ينتبه لخطئه مهما دقّق النظر إلا إذا بيّن الأمر لغيره، حتّى لو لم يشاركه في التفكير، فإنّ مجرّد البيان له ينّبه صاحب الفكرة على مواضع الضعف في فكرته، وإذا شاركه في التفكير ودخل معه في نقاش، فيكون الأمر أجلى وأبين. ولذلك قدّم قوله: «مَثْنَى».

وأمّا الجهة السلبية فهي عدم اللجوء إلى التفكّر الجماعي المبتني على الخطابات الظنيّة، والشعر، والدعايات، والشعارات، والأوهام، فإنّ هذا من شأنه أن يلبّس الأمر على الإنسان ويدخله في متاهة لا خروج عنها. وهذا أمر واضح نشاهده يومياً في تجاربنا، فإنّ التجمّعات العامّة لا يبتني التفكير فيها على أساس سليم غالباً، بل دائماً إلا إذا كان تحت قيادة نزيهة.

«ما بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ» ، ثمّ طلب منهم أن يجعلوا محور التفكّر أنّ صاحبهم ليس به جنّة. وعبّر عنه بأنّه صاحبكم، في إشارة إلى طول مصاحبته صلّی الله علیه و آله لهم قبل البعثة، الأمر الذي يوجب لهم الوثوق

ص: 266

بسوابقه وبحالاته النفسية وبعقله ودرايته. ومن الواضح تاريخياً أنّه صلّی الله علیه و آله كان معروفاً لديهم برجاحة العقل، ونزاهة الضمير، وقوّة المنطق، وسلامة التفكير والأمانة، والصدق، لا يختلف في ذلك اثنان وحيث إنّ طغاة قريش وكبراءهم كانوا يتّهمون الرسول صلّى الله عليه و آله بالجنون لإبعاد الناس عنه، وذلك لأنّه كان معروفاً بالصدق والأمانة، فكان اتهامه بالكذب لا يروّج بين الناس، فجعل الله سبحانه محور التفكّر نفي الجنون.

وهنا وجه آخر وهو أنّ القوم و عدوّه صلّی الله علیه و آله بكلّ ما يتمنّاه إنسان بين قومه من مال وجاه ومصاهرة على أن يترك دعوته، فأبى إلا إصراراً عليها، وهذا بذاته يجعل الأمر دائراً بين أمرين: أمّا أنّه رسول حقّ يبلّغ عن الله تعالى، فلا يسعه أن يرفع يده عن الدعوة أو أنّه أُصيب بالجنون، حيث يرفض كلّ الاقتراحات المغرية فإذا وصلت نتيجة التفكّر إلى نفي الجنون عنه صلّی الله علیه و آله بقي الشقّ الأوّل من الاحتمال.

ولذلك عقّبه بقوله: «إنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ». فهو معذور في رفضه كلّ هذه الإغراءات؛ لأنّه يرى ما لا ترون، وهو العذاب الشديد الذي ينتظر الظالمين.

وقوله تعالى «بَيْنَ يَدَيْ»، أي أمامه. والتعبير يوحي بأنّ العذاب قريب، فكأنّ الدعوة مقرونة بالقيامة تتعقّبها بلا فصل كما ورد ذلك في بعض الروايات، وكما ورد في الكتاب العزيز «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً».(1)

«قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» في هذه الجملة احتمالان:

ص: 267


1- المعارج (70): 6-7

الأوّل: أنّ المراد التأكيد على نفي المطالبة بأيّ أجر على الرسالة، فهذا التعبير يؤكّد أنّه يتخلّى عن كلّ أجر طلبه منهم، ولا يطالب به، وهو لم يطلب شيئاً، ولكنّه مجرّد فرض يقصد به نفي المطالبة رأساً.

الثاني: الإشارة إلى ما طلبه من أجر الرسالة بأمره تعالى حيث قال: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلا المُوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1)، فيؤكّد في هذه الآية أنّ ما طلبه من أجر في تلك الآية إنّما يعود نفعه إليهم، فليس هذا الطلب لمصلحة ذوي القربى، بل المصلحة الأُمّة، فإنّ الله تعالى جعل الإمامة فيهم وجعلهم أُسوة للناس، وعلى الأُمّة أن يقتدوا بهم ليهتدوا.

والاحتمال الثاني أولى؛ لأنّه يشتمل على فائدة الاحتمال الأوّل أيضاً، فإنّ مقتضاه نفي كلّ أجر يعود بالمصلحة على الرسول صلّی الله علیه و آله .

وربما يستبعد الاحتمال الثاني نظراً إلى أنّ الخطاب للمشركين، ولا معنى لطلب الرسول صلّی الله علیه و آله أجراً على رسالته منهم، فإنّه لم ينفعهم برسالته حسب زعمهم، بل ندّد بهم وبآلهتهم، وأبطل معتقداتهم.

ولو تمّ هذا النقد فإنهّ يبعّد الاحتمال الأوّل أيضاً، بل يوجب الإشكال في كلّ ما ورد في الكتاب العزيز من نفي الرسل طلب الأجر من الناس، وخطابهم دائماً للمشركين ولأعداء الرسالات، وذلك لأنّ نفي الأجر أيضاً إنّما يصحّ في ما إذا كان متوقّعاً، فلا معنى لمخاطبة من تلحق به ضرراً وتنفي طلب أجر على الإضرار به.

والصحيح أنّ هذا الخطاب وإن كان موجّهاً للمشركين إلا أنّ معناه نفى الأجر

ص: 268


1- الشورى (42): 23

على فرض الإيمان والهدف منه تبيين أنّ هذه الدعوة لا تتضمّن فائدة مادّية للداعي، وإنّما الفائدة فيها ترجع إلى المخاطبين، فلو فرض فيه طلب أجر يعود نفعه إليهم كما في آية المودّة فهو أيضاً في فرض الإيمان، فينتفي الإشكال في الآيات.

جميع وللكلام تتمّة تأتي في تفسير آية المودّة إن شاء الله تعالى.

«إِنْ أَجْرِى إلا عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» حيث إنّ نفي الأجر يثير السؤال عن الباعث على هذا التفاني والتضحية في سبيل الدعوة أجاب تعالى عنه بقوله: إ«ِنْ أَجْرِيَ إلا عَلَى الله» فهو يطلب أجراً بعمله ولكنّه لا يطلبه منكم، وقد وعده الله الأجر الجزيل في الآخرة وهذا خير باعث وداع للإنسان، ولا يخاف أن يهضم حقّه من الأجر أو ينسى شيء من عمله العظيم، لأنّ الله على كلّ شيء شهيد.

«قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ» المراد بالحقّ ما يطابق الواقع من قول وفكر، والباطل ما يخالفه. ومقتضى الربوبية أن يصحح الله مسير الإنسان كلّما أوغل في الباطل والخطأ، فيقذف بالحقّ، أي يرميه على الباطل فيزهقه ويهلكه، وهذا تعبير أدبي يراد به أدبي يراد به سرعة انهيار الباطل أمام الحقّ إذا كان واضحاً صريحاً، والله تعالى علام الغيوب، فيعلم مواضع الباطل من القول والفكر، فيرميه بالحقّ فيصيب مقتله. وهذه سنة الله تعالى في خلقه ولذلك جاء بالفعل المضارع لبيان الاستمرار.

«قُلْ جَاءَ الحقِّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»، «الإبداء» هو الإنشاء والخلق، ومن صفاته تعالى المبدئ. وهذه الآية تخبر عن وقوع ما مرّ في الآية السابقة، ولذلك جاء بالفعل الماضي وأخبر أن الحقّ جاء بمجيء القرآن الكريم، وترتّب عليه

ص: 269

زهوق الباطل، أي الشرك والأفكار الجاهلية، فهي هالكة لا تبدئ أي لا تأتي بشيء جديد، ولا تعيد ما أهلكه الحقّ فالباطل ميّت لاحياة له فلا أثر له.

والواقع أنّ القرآن أبطل الفكر الجاهلي وأهلكه، وإن جاء الإنسان بأفكار خاطئة أُخرى، وإذا أراد الله تعالى بعث بحقّ آخر ليبطلها.

وبذلك يظهر أنّه ليس المراد هلاك دولة الباطل، كما ذكره بعض المفسّرين وحاول الإجابة عن الإشكال بما لا يفيد، بل المراد هلاك الفكر ووضوح الأمر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فالحقّ واضح بعد نزول القرآن، والباطل هالك لا يرتئيه عاقل.

«قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإنّما أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» المعروف في تفسير الآية الكريمة أن ضلالي لا يضرّكم وإنّما يضرّني، فإن كنت - كما تزعمون - ضالاً فلا يضرّكم ذلك وإن اهتديت فإنّما أهتدي بوحي ربّي. وفي بعض التفاسير أنّ مفادها كمفاد قوله تعالى: «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا».(1)

وانتبه القائلون إلى أنّ هذا التفسير وإن كان موافقاً لظاهر قوله تعالى: «عَلَى نَفْسِى» إلا أنّه لا يخلو من إشكال من جهة المقابلة بين كون الضلال على نفسه صلّی الله علیه و آله، أي مضرّاً به دون غيره وبين كون الاهتداء بسبب الوحي. وكان المفروض أن يكون التقابل إمّا بين السببين بأن يقول: إن ضللت فإنّما أضلّ بنفسي، أي بسببها، وإن اهتديت فبهدايات ربّي، وإمّا بين كون الاهتداء لمصلحتها والضلال مضرّاً بها.

ص: 270


1- الزمر (39):41

قال في «الكشّاف»: فإن قلت: أين التقابل بين قوله: «فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِى» وقوله: «فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» وإنّما كان يستقيم أن يقال: فإنّما أضلّ على نفسي، وإن اهتديت فإنّما أهتدي لها، كقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها»(1)، «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا»(2) أو يقال: فإنّما أضلّ بنفسي. قلت: هما متقابلان من جهة المعنى، لأنّ النفس كلّ ما عليها فهو بها، أعني أنّ كلّ ما هو وبال عليها وضارّ لها فهو بها وبسببها، لأنّها الأمّارة بالسوء، وما لها ممّا ينفعها فبهداية ربّها وتوفيقه (3).

وتبعه في ذلك بعض آخر وإن اختلفوا في التفاصيل.

ولكنّ الظاهر أن الآية ليست من قبيل قوله تعالى: «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا» فإنّ مفاد هذه الآية أنّ ضلال الإنسان لا يضرّ الله تعالى وهدايته لا ينفعه، وإنّما المستفيد والمتضرّر هو الإنسان نفسه. والمقام لا يناسب ذلك، وإنّما يناسب أن يكون المراد أنّ ضلالي لا يضرّكم، بل هو أمر يخصّني، كما ورد في أكثر التفاسير.

ولكنّه لا يصحّ في مورد الرسول صلّی الله علیه و آله، وكذا غيره من الدعاة. وإنّما يصحّ في من لا يتبعه أحد، وأّما من يقود المجتمع فإنّ ضلاله يضرّ بمن يتبعه أيضاً.

هذا، مع أنّ إشكال المقابلة لا ينحلّ بما قيل، إذ يبقى الكلام في وجه الإتيان بما يدلّ على كون الضلال مضرّاً به خاّصة، بينما كان المفروض أن يقول: فإنَّما أضلّ بنفسي.

ص: 271


1- فصّلت (41): 46
2- الزمر (39): 41
3- الكشّاف 3: 295

فالظاهر بقرينة المقابلة أنّ المراد بهذه الآية بيان أنّ الإنسان لو تُرك ونفسه ضلّ حتّى لو كان مثل الرسول صلّی الله علیه و آله في رجاحة عقله وقوّة تفكيره، وأنّ الإنسان لا بدّ له من هدايات الله تعالى ووحيه، وإلا لم يهتد إلى الصراط المستقيم، فلا يغترنّ إنسان بعقله وعلمه وخبرته.

ولعلّه لم يقل: «أضلّ بنفسي» لأنّ النفس لا تضلّ بنفسها، بل بعوامل خارجيّة، وهذا الضلال مستند إلى الله تعالى أيضاً، فالذي يقابل الاهتداء بالوحي هو الضلال لو ترك ونفسه، ولو بسبب العوامل الأُخرى التي تؤثر بأمره تعالى.

وليس المراد الإشارة إلى سبب الضلال ولا كونه مضرّاً به خاصّة، بل المراد أنّ الضلال يصيبه لولا الهداية الإلهية. ولعلّ «عَلَى نَفْسِى» في مكان الحال، أي حال كوني قد خلّيت ونفسي والله العالم.

وأغرب ما رأيت في هذا الباب ما ورد في تفسير بعض المنحرفين حيث قال: «قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي» من خلال ما قد أخطئ فيه من وعي الوحي، فكرة و تطبيقاً، وليس ذلك من الوحي نفسه، فهو الحقّ الذي لا يقترب منه الباطل.

وهذا تصريح بعدم عصمة الرسول صلّی الله علیه و آله حتّى في عقيدته لقوله: «فكرة وتطبيقاً» إلا في ما يحكي لنا من الوحي بذاته. ولعمري أنّ هذه العقيدة تنافي الإسلام فضلاً عن التشيّع، والرجل يدّعى فيه أنّه من علماء المذهب.

«إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» لعلّه للتنبيه على أنّ الله تعالى لسمعه دعاءه بالهداية وقربه منه لا يتركه في ضلال أبداً، بل يوحي إليه ما يحتاجه من هداية دَوماً، فهو معصوم من الضلال، ولكن بفضل الله تعالى وبرحمته الخاصّة.

ص: 272

سورة سبأ (51-54)

«وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)»

أربع آيات تذكر حال الكفّار ومنكري الآخرة والرسالات الإلهية حين نزول العذاب في الدنيا بشهادة قوله تعالى: «كَمَا فَعَلَ بِأشْيَاعِهِم مِن قَبْلُ» وهو واضح. وقيل: حين الموت، وقيل: يوم القيامة. والغرض من هذه الآيات التنبيه على أنّ الإنسان يؤمن في وقت لا ينفعه إيمانه.

«وَلَوْ تَرَى إِذ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ» خطاب للنبيّ صلّی الله علیه و آله أو لكلّ من يتلو أو يسمع. والجواب محذوف، أي لرأيت أمراً فظيعاً، والمفعول محذوف أيضاً، أي لو تراهم، والضمير يعود إلى المشركين المناوئين للرسول صلّی الله علیه و آله. و«إذ» ظرفية زمانية، أي حينما يفزعون من العذاب الذي أحاط بهم فلا يستطيعون فراراً ولا يفوتون من أخذ ربّك.

ثمّ عبّر عن سرعة الأخذ بأنّه من مكان قريب وهذا تأكيد على عدم إمكان الفوت، والإنسان يمنّي نفسه بإمكان الفرار من بطش الله تعالى، أو إمكان التوبة إذا شاهد الإنسان علامات الموت أو العذاب، وهذه الآيات ونظائرها تفنّد هذه الأماني، فالبطش يكون من مكان قريب لا يمهل الإنسان، وليس هناك ق-رب وبعد بالنسبة إلى الله، وليس هناك موضع خارج عن سلطان الله سبحانه ؟! وإنّما هذا تعبير عن سرعة الأخذ.

ص: 273

«وَقَالُوا أَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى هُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد»، في هذه الآية يبيّن المحاولة اليائسة للرجوع «وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ»، أي بالله تعالى، أو بالقرآن، أو بالرسول، أو بالرسالة، أو باليوم الآخر ، أو بالعذاب، أيّاً كان فهو إيمان بعد نزول العذاب ومشاهدته ، بل إحاطته بهم نظير إيمان فرعون بعد الغرق.

عجيب أمر هذا الإنسان العنود وتسويفه ومجابهته للحقّ! ولو آمن فرعون حين رأى البحر قد انفلق لموسى وشعبه - وهي آخر آية شاهدها ولعلّه أعظم آية وأبعدها من التهم - لنفعه إيمانه، ولكنّه حاول أن يجرّب حظّه التعيس مرّة أُخرى، فلقي ما لقي، فقال حين أحاطت به الأمواج بأمر باريها وأدركه الغرق: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ»(1) فأتاه الجواب: «الآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ».(2)

وهنا أيضاً يأتي الجواب: «وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد»، و«التناوش» هو التناول والأخذ. والمراد أنّهم لا يصلون إلى الإيمان، فقد بعدوا عنه، لأنّ مكان الإيمان هو الدنيا. وذلك لأنّ الإيمان الذي ينفع هو الإيمان بالغيب وقبل أن ينكشف الغطاء، وأمّا بعد ذلك فلا يعدّ إيماناً وإنّما هو درك للواقع وتسليم له، والمطلوب من الإنسان أن يؤمن بالغيب حتّى يصل إلى الكمال البشري.

والتعبير مضافاً إلى ما يشتمل عليه من الدقّة، كما أشرنا إليه يشتمل على الطباق والجناس، فآيتان ختمتا بكلمة «قَريب» وبعدهما آيتان ختمتا بكلمة

ص: 274


1- يونس (10): 90
2- یونس (10): 91

«بعيد» والآيات الثلاث ختمت بلفظ «مَكَانٍ قَرِيبٍ» و «مَكَانٍ بَعِيدٍ» بالرغم من الاختلاف في المراد.

«وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد» جملة حالية، أي أنّهم لا يمكنهم الإيمان ذلك اليوم والحال أنّهم فوّتوا على أنفسهم الإيمان في موضعه حيث كفروا بالله وباليوم الآخر وبالرسالة قبل أن ينزّل عليهم العذاب، فهو نظير قوله تعالى: «وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خاشِعَةً أَبصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ». (1)

وقوله تعالى: «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ» عطف على «كَفَرُوا» وأتى بالمضارع للدلالة على الاستمرار، فقد أصبح ذلك عادتهم وديدنهم. و«يَقْذِفُونَ»، أي يرمون ويرجمون بما لا يعلمون عنه شيئاً، فينكرون ما هو غائب عنهم، ولا تصل إليه أفهامهم وحواسهم ولا يدركونه بأيّ نحو من الإدراك، ومضافاً إلى ذلك يرمون بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا، قال تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه»(2) فلو كانوا يسكتون عمّا لا يعلمون لهان الأمر ولكنّهم يكذبّون وينكرون من دون علم.

«وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ» وهذا هو غاية العذاب لعشّاق الدنيا وبهرجتها، حيث إنّهم لا يرون للحياة معنى إلا مزاولة الشهوات ومتابعتها والركض وراءها، ولا يبذلون جهداً في الحياة إلا في سبيلها، وحين ما يحين الموت أو ينزل العذاب ينتهي في لحظة واحدة كلّ شيء وكلّ ما عقدوا الآمال عليها.

ص: 275


1- القلم (68): 42 - 43
2- يونس (10): 39

ما أعظم هذا التعبير وأدقه لبيان حال الإنسان المنكر للآخرة «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ» وهذا لا يختصّ بالمشركين المناوئين للرسول صلّی الله علیه و آله، فهذا عذاب كلّ من يسير على هذا السبيل ولا يجد للحياة معنى إلا متابعة الشهوات.

«كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ» و«الأشياع» أي الأشباه، قال تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»(1)، والمراد بهم الأقوام السابقة، فإنّ الخطاب لمشركي مكّة. و «المشايعة» المتابعة، وكما يصدق ذلك على الاتباع يصدق على المتبوعين وعلى المشتركين في التبعية عن مبدأ واحد وهذه الجملة كما مرّ تدلّ على أنّ المراد بالعذاب في هذه الآيات العذاب الدنيوي الذي أحاط بالأقوام السابقة.

«إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» «الريب»: الشكّ، و«الشكّ المريب» مبالغة في الشكّ، كأنّه شكّ يستوجب شكّاً، فالمعنى أنّهم كانوا في تردّد وشكّ مزعج كما يقال: ليل أليل وشعر شاعر.

هذا وقد ورد في عدّة روايات عن الفريقين أنّ الآية تشير إلى جيش السفياني الذي يظهر في آخر الزمان ويخسف الله بجيشه في البيداء. ولعلّ هذا من باب ذكر بعض مصاديق الآيات والله العالم. والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 276


1- القمر (54): 51

تفسير سورة فاطر

تفسير سورة فاطر

ص: 277

ص: 278

سورة فاطر (1-4)

«الْحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» السورة مكّية، لشهادة مضامين الآيات، حيث تدعو - كغيرها من السور المكيّة - إلى توحيد الربّ، ونفي الشرك، والإيمان بالرسالة وباليوم الآخر. وهي من السور القليلة التي بدئت بالحمد لله تعالى، ومفاد قوله تعالى «الحَمْدُ لله» - كما ذكرنا سابقاً - أنّ الحمد لا يليق إلا به، فكلّ حمد يعود إليه، إذ هو خالق الخير، وخالق كلّ محمدة.

و «الفطر» بمعنى الشقّ، والمراد أنّه ابتدأ خلق السماوات والأرض، أي الكون

ص: 279

بكامله من غير موادّ سابقة، ومن غير مثال، فكأنّه شقّ العدم وأوجد الخلق، لأنّ السماوات والأرض عبارة عن ما سوى الله تعالى، بناءً على أنّ السماوات تعبير عن العوالم العلوية الخارجة عن الطبيعة، والأرض عبارة عن العالم المادّي بكلّ أفلاكه .

ويمكن أن يكون المصحّح لهذا التعبير أنّ الإنسان إذا لاحظ الكون بطبيعته الأصلية لا يجد حوله إلا سماءً تظلّه وأرضاً تقلّه، وحيث يجهل ما تخفيه السماء, يعبّر عنها بالسماوات أي أعالي الكون ، فإذا أراد أن يعبّر عن كلّ العالم كان هذا أقرب تعبير إلى ذهنه. ومهما كان، فالمراد بالآية واضح، وهو حمد الله تعالى على ابتداعه الخليقة من غير مثال وإيجادها من العدم بمحض إرادته.

«جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ» يمكن أن يكون المراد بالجعل، الجعل البسيط أي الخلق، و «رسلاً» حال، فالمعنى أنه تعالى خلق الملائكة حال كونهم رسلاً، بمعنى أنهم رسل من بدء الخلق. وذكر خلقهم بعد خلق السماوات والأرض من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ.

ويمكن أن يكون المراد بالجعل، الجعل المركّب، فالمعنى أنّه تعالى جعل لهم صفة الرسالة، وإن كان ذلك من بدء خلقهم. والأوّل أقرب.

و«الرسالة» أعمّ من الرسالة التكوينية والتشريعية، فكما أنّ الملائكة رسل الوحي، ينزلون بأخبار السماء على الأنبياء، كذلك هم وسائط الخلق بينهم وبين الله تعالى، إذ بيدهم تدبير الأُمور. قال تعالى: «فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً».(1)

وما من حركة أو سكون إلا وينزّل أمره من السماء بواسطة الملك. وعليه فلا

ص: 280


1- النازعات (79): 5

وجه لتخصيص الرسالة هنا بالوحي، بل المراد جميع رسائل السماء وأوامر الله تعالى التكوينية والتشريعية. ولذلك جعل الوصف لجميع الملائكة دون ملائكة الوحي، ولذلك أيضاً وصفهم بكثرة الأجنحة، فإنّ التدبير هو الذي يقتضي ذلك.

وقوله تعالى «مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ» أي اثنين اثنين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً. أي أنّ جمعاً منهم ذو جناحين وجمعاً ذو ثلاث وجمعاً ذو أربع.

وقد وقع الكلام بين المفسّرين في المراد ب_«الأجنحة»، فأبقاه بعضهم على ما يتبادر إلى الذهن من أجنحة الطير، وفسّر بذلك أيضاً الروايات الواردة في توصيف جبرئيل علیه السّلام من أنّ له ستّمائة جناح، ونحو ذلك من الروايات. وتوقّف بعضهم وقال: إنّا نبقيه على إجماله، كما أراد الله تعالى ولا نتكلّم في الكيفية.

وبعضهم حملها على أنّ المراد بها الأجهزة التي يتوقّف عليها العمل بما أمروا به، بناءً على أنّ التعبير بالمعدّات والقدرات بالجناح تعبير متعارف.

وبعضهم حملها على القوّة التي بها يتنقلون، كما هو الظاهر من الجناح، بناءً على أنّ المراد بالجناح هو ما يطار به كما في الطائر. ولا خصوصية لكيفية الجناح في صدق العنوان، ولذلك يطلق حقيقة على جناح الطائرة، فالمراد بالجناح آلة الانتقال.

والاحتمال الأخير وإن لم يكن بعيداً، إلا أنّه يحتمل أيضاً أن يكون المراد الإشارة إلى اختلافهم في سرعة الانتقال، فيكون جواباً عن سؤال يفرض نفسه بعد بيان أنّ الملائكة رسل السماء، وتأتي بالأوامر الإلهية إلى كلّ ذرة من ذرّات الكون.

والسؤال هو أنّ الأُمور تختلف؛ فمنها ما يتحمّل التأخير إلى أن ينزّل الأمر،

ص: 281

ومنها ما لا يحتمل ذلك، فكيف يمكن أن تتوقّف كلّها على نزول الملائكة؟

والجواب المحتمل أنّ الملائكة قد تختلف في سرعتها، ولعلّ اختلاف عدد الأجنحة يرمز إلى اختلاف السرعة. ويمكن أن يكون الاختلاف ناشئاً من اختلاف الرسالات، فهناك من الرسالات ما لا تحتمل التأخير نهائياً فتصل فوراً.

ولعلّ هناك من يرفض هذا الاحتمال بحجة أن مجال عمل الملائكة خارج عن الزمان والمكان فلا معنى هناك للسرعة كما أنه لا معنى للانتقال المكاني.

ولكن يمكن أن يقال إن السرعة لا تنافي ذلك فإن عملهم اذا انتقل الى هذا العالم لا بد من اصطباغه بصبغة الزمان والمكان. ويلاحظ أن الملائكة الكرام لما أرادوا تنفيذ الحكم بعذاب قوم لوط عليه السلام نزلوا ابتداءا بصورة ضيوف من البشر على ابراهيم عليه السلام وأخبروه بذلك، ثم وردوا على لوط عليه السلام وبعد محادثات بينهم وبينه وخروجه مع اسرته نفّذوا العذاب. وهذا بالطبع يستلزم زمانا وتأخيرا. والله العالم.

«يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» لعلّه إشارة إلى أنّ زيادة الأجنحة لا تنحصر في ذلك، ولا تتوقّف عند حد. والظاهر أنّه قانون عامّ ينطبق في المقام وغيره ولا ينحصر به فالكون كلّه في زيادة، سواء في ذلك عالم المادّة والعوالم الغيبية. وليس هذا غريباً على الله سبحانه، فإنّه على كلّ شيء قدير، ولعلّه لم يكتف بذكر الضمير، بل أعاد ذكر الاسم الجليل تنبيهاً على أنّ عموم القدرة من شؤون الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال.

وأمّا القول بأن الملائكة لها أجنحة كأجنحة الطير تطير بها في الأجواء العليا، فكلام سخيف، وتصوّر ساذج عن حقائق الكون، وفهم خاطئ لكلام الله سبحانه، نظير ما يقال في العرش والكرسي، والنظر إلى الله، ولقاء الله، ووجه الله، ويد

ص: 282

الله، وغير ذلك من الكنايات والإشارات والرموز التي امتاز بها هذا الكتاب العظيم.

ومن المضحك ما في تفسير «الكشّاف» من البحث عن موضع الجناح الثالث في الملائكة الذين لهم ثلاث أجنحة.

فهذا النوع من التفسير يبتني على سدّ باب الكنايات، كما أنّ هناك ما يقابله وهو الإفراط في التأويل الذي يستوجب حمل كلّ كلام على خلاف ظاهره، بل صريحه، كما ذهب بعض الناس إلى تفسير الآيات الواردة في يوم القيامة إلى يوم قيام الناس بوجه الظلم والطغيان إلى آخر ما يستتبعه هذا التأويل. وهذا باطل قطعاً كالأوّل.

«مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهّا» كأنّ الآية الأولى مقدّمة لهذه، فالله تعالى فاطر السماوات والأرض، وهو الذي جعل الملائكة وسائط رحمته، وهو يزيد في خلقهم كخلق غيرهم كما يشاء، فكلّ أمر بيده، وكلّ خير منه، وكلّ ضرر منه أيضاً، ولا أحد يستطيع منع وصول خيره أو ضرره، وهذه الآية تبعث في نفس الإنسان الطمأنينة والسكون إلى الحياة، وتؤيسه من الركون إلى غير الله سبحانه والتعبير ب_«الفتح» يقرّب الرحمة أكثر فأكثر ، فإنّ مفاده أنّ خزائن الرحمة مليئة، وإنّما يتوقّف الأمر على فتح الباب فحسب. وعبّر بالناس لأنّ الرحمة لا تخصّ المؤمنين بالله تعالى، بل إنّه يفتح أبواب رحمته للناس جميعاً.

«وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» التعبير ب_«الإمساك» باعتبار أنّ الفتح يستلزم الإرسال، ويقابله الإمساك والمنع والضمير في «له» يعود إلى «ما».

وربما يستغرب التعبير بقوله ( من بعده) بناءا على رجوع الضمير الى الله تعالى

ص: 283

اذ ليس له تعالى قبل ولا بعد. والصحيح أن الضمير يعود الى الامساك اي من بعد امساكه، ويمكن أن يكون المعنى فلا مرسل له غيره، كقوله تعالى «فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ»،(1) اي غير الحق.

وقوله «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» يفيد انه بالرغم من تمنّعه من ان يغلبه ويؤثر في ارادته شيء كما هو مقتضى عزته ، الا ان الفتح أو الامساك لا يكون الا لحكمة تقتضي أحدهما.

و «ما» في الجملتين شرطية تفيد معنى الموصول أيضاً ولذلك صدر الجواب بالفاء.

ثمّ إنّ هذه الآية ونظائرها لا تمنع من التوسّل بالأسباب، سواء كانت طبيعية أم غيرها كما يتصوّر، بل المراد تنبيه الإنسان إلى أنّ كلّ شيء يعود إليه سبحانه، وإن كان عن طريق الأسباب والسنن التي جعلها الله وسائل للوصول إلى الأهداف، فلا يظنّنّ أحد أنّ هذه الآية وأمثالها تدعو إلى نقض السنن الإلهية، بل الصحيح أنّ الأسباب سواء كانت طبيعية أم غيرها كالتوسّل بأوليائه سبحانه هي أبواب رحمته التي فتحها للناس، فمن ترك التوسل بها لم يصل إلى هدفه وغايته.

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهُ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض لا إِلَهَ إِلا هُوَ» خطاب للبشرية بأن لا يحيدوا عن عبادة الله تعالى شكرا له على ما أنعم به عليهم. فقد رزقهم كل ما يحتاجون اليه وتتوقف عليه حياتهم على هذا الكوكب. والسؤال الوارد في الآية للانكار اي ليس هناك خالق غيره تعالى يرزقكم.

ص: 284


1- يونس: 32

وجملة «يَرْزُقُكُمْ» وصفية، ويشير بذلك إلى أنّ الرزق من شؤون الخلق بمعنى أنّه تعالى خلقكم وخلق الكون بحيث ينال كلّ أحد وكلّ موجود حيّ رزقه من الطبيعة، والرزق هو كلّ ما يحتاج إليه من ماء وغذاء وهواء وعلم ومعرفة وغير ذلك، فالمراد تنظيم وسائل الارتزاق والتعيش في الكون لكلّ موجود حيّ حسب ما يناسبه ويناسب بيئته. وليس المراد بالرزق إيصال الطعام والشراب كما يتوهم.

وهذه الآية بمنزلة النتيجة لما سبق من أنّ الله تعالى فاطر السماوات والارض، وجاعل الوسائط بينه وبين خلقه، فكلّ تدبير منه، ولا أحد يمكنه أن يسدّ باباً فتحه، ولا يفتح باباً سدّه، فهو الخالق، وهو الرازق، وكلّ نعمة منه تعالى، فأين تذهبون؟ ومن تعبدون؟ ومن تطيعون؟ وحدوا كلمتكم في عبادته وطاعته فلا منعم غيره.

والناس يذكرون النعم ويعرفون قسماً كبيراً منها، ولكنّ الذي يجهلونه أو يتجاهلونه هو أنّها من الله تعالى. والمخاطبون - وهم مشركو العرب - يعترفون بأنّ خالق الكون هو الله، ولكنّهم يظنّون أنّ الرزق من غيره، فيعبدون الأصنام طلباً للرزق، وخوفاً من بطش الأرواح الخبيثة. والآية تدعوهم إلى تذكّر نعم الله سبحانه، وتذكّرهم بأنّ الرزق من شؤون الخلق وحيث لا خالق غير الله تعالى فلا رازق غيره والأمر لا يختصّ بالمشركين، فهناك بيننا من يعتبر مجاري الرزق رازقين، ويطيع غير الله سبحانه ويعبده، لأنّه يرى رزقه بيده.

وأمّا قوله تعالى: «مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض»، فيمكن أن يريد به الرزق النازل من جهة العلوّ كالمطر، والرزق الحاصل في الأرض كالنبات والحيوان. وإذا كان الرزق كلّه منه فلا معبود سواه «لا إِلَهَ إلا هُوَ»، فهذه الجملة كالنتيجة للمضمون السابق.

ص: 285

«فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»، «الإفك» هو الصرف. والتعبير بالمبني للمجهول يوحي بأنّ الإنسان بفطرته لا ينحرف عن ربّه، وإنّما هناك موجبات تصرّفه عنه من شهوات، ووساوس شيطانية، ودعايات معادية.

«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ» الآية الكريمة تسلّى الرسول صلّى الله عليه و آله بأن لا يهتمّ بتكذيب قومه إيَّاه، فليس هو أوّل رسول يكذبه قومه، مع أن الأُمور كلّها ترجع إلى الله تعالى وهو الحكم العدل، ولا يخاف الفوت فيجازي كلّ عامل بعمله.

وأتى بالفعل المضارع «يُكَذِّبُوكَ»؛ لأنّ تكذيبهم مستمرّ. والأُمور بمعنى الشؤون. والإتيان بالمبني للمجهول «تُرْجَعُ» للتنبيه على أن اللازم في كلّ حال هو إرجاع الأُمور إلى الله تعالى. وفي ذلك مضافاً إلى تسلية الرسول صلّى الله عليه و آله تهديد للمكذّبين.

ص: 286

سورة فاطر (5-8)

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)»

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حق فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الْغَرُورُ» هذا تنبيه وإخطار عام للبشر «إِنَّ وَعْدَ الله حقّ». وإنّ من أخطر ما يغترّ به الإنسان احتمال أن لا يفي الله تعالى بوعده ووعيده، والوعد عامّ يشملهما. وقد وعد الله الإنسان بحياة أُخرى يعيشها بعد الانتقال من هذه الحياة ليرى أعماله ونتائجها، ومن أوفى بعهده من الله، وإنّما لا يفي بوعده العاجز أو الجاهل، أمّا العاجز ،فواضح، وأمّا الجاهل فلأنّه يعد ما لا يستطيع الوفاء به وهو جاهل بذلك. والله تعالى عالم الغيب وقادر على كلّ شيء، فوعده حقّ بلا ريب.

والذي يوجب اغترار الإنسان بهذه الأفكار الخاطئة أمران:

أحدهما من نفسه، وهو تعلّقه بملذات الدنيا وشهواتها، فيمني نفسه بأنّ هذه لذّة حاضرة، ولا وجه لرفع اليد عنها توقّعاً للذّة موعودة. والآية الكريمة تحذره من ذلك «فَلا تَغُرَنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا» .

والآخر من الشيطان، حيث يوسوس في نفسه، ويهمس في أُذُنه، ويلقي في روعه، ما يجعله يشكّ في إنجاز الله ما وعده. وهو المراد بالغرور - بفتح الغين - أي الذي يغرّ الإنسان ويخدعه. وقوله «بِالله» بمعنى أنّه يخدعه برحمة الله وعفوه وكرمه، أو باستبعاد أن يفي الله بهذه الوعود، أو بأنّها مبالغات لا يراد بها ظاهرها،

ص: 287

ونحو ذلك. ولذلك يقول الله تعالى عن ذلك اليوم: «وَبَدَا لَهُمْ مِنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ».(1)

«إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً» الشيطان هو الروح الشرير الذي يبعث في الإنسان دواعي الشرّ، وهو بالطبع عدوّ للإنسان، وقد أبرز عداءه حينما أبعده الله تعالى من السماء لعدم سجوده للإنسان وخضوعه له، بدعوى أنّه أشرف منه، ومع ذلك فإنّ الإنسان بالرغم من معرفته به يتّخذه صديقاً، بل سيداً مطاعاً، فيعبده ويطيعه ويستسلم له ويسلم له قياده يذهب به أينما شاء، وهو كالبهيمة السائمة لا يهتمّ إلا بعلفه. والله تعالى نبّه الإنسان بخطره منذ أقدم العهود، وهو هنا أيضاً یطلب منه أن يتّخذ الشيطان عدوّاً كما هو كذلك، واتّخاذه عدوّاً بمعنى المعاداة له، وهي تتنافى مع الإطاعة والمتابعة.

«إنّما يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أصحاب السَّعِير» هذا تعليل لوجوب المعاداة، و«الحزب»: الجماعة من الناس يجمعهم رأي واحد أو هدف واحد، والمراد بهم هنا من يتبّعون الشيطان وإلقاءاته، و«السعير»: النار المشتعلة.

والسبب في دعوته لهم إلى النار أنّه يعلم أنّ هذا مصيره بعد أن امتنع من إطاعة الله تعالى، فيريد أن يحشد حوله أكبر عدد ممكن من أصحاب الضلال، فهو في الظاهر وإن كان يدعوهم إلى الشهوات والملذات، ولكن حيث كانت العاقبة هي النار، فكأنّه يدعوهم إليها. ومثله كثير من البشر ممّن لا يكتفي بضلالة نفسه، واتّباعه للشهوات المنحطة، والقذارات الخلقية، والمفاسد الاجتماعية، بل يحاول أن يجرّ معه أكبر عدد ممكن من الشباب المغفل. والإنسان إذ يلاحظ

ص: 288


1- الزمر (39): 47

وسائل الأعلام المتكثّرة والمتزايدة يوماً بعد يوم يستغرب من إصرار بعض البشر أن يبثّوا سمّاً في المجتمع لا ينفعهم، وإنّما يضرّ الآخرين، لا لشيء إلا لمجرّد أن يزيدوا من عدد الضالّين المنحرفين مهما أمكن.

«الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» تتعرّض الآية لبيان حال الفريقين: حزب الشيطان، وحزب الله، ولبيان مناط الانقسام أيضاً، فقسم كفروا بنعم ربّهم أو كفروا به أساساً، فلهم عذاب شديد. و تنكير العذاب لعلّه للإشارة إلى شدّته، مضافاً إلى أنّه مختلف باختلاف درجات الكفر وباختلاف الأعمال، فالتنكير أنسب وقسم آمنوا بربّهم وعملوا الصالحات، ولا أثر لإيمان لا يستتبع عملاً، فالله يفيض عليهم مغفرته ورضوانه، و يجازيهم بأعمالهم أجراً كبيراً. والتنكير هنا أيضاً لبيان عظمة الجزاء، واختلاف مراتبه.

«أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَهُ حَسَنًا فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» تشير الآية الكريمة إلى أخطر ما يمكن أن يبتلى به الإنسان فرداً ومجتمعاً، وهو أن لا يميز بين الحسن والسيّء، بل يرى العمل القبيح والسيّء حسناً، قال تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا»(1). والسبب في كونه أخطر شيء وأنّ صاحبه أخسر عملاً هو أنّه لا يمكنه إصلاح نفسه، لأنّه لا يحتمل في عمله الخطأ والسهو، ولا في نفسه الجهل والنسيان والاشتباه، فلا يراجع نفسه، ولا يتردّد في مسيره، ولا يسأل أحداً، ولا يسمع النصح والإرشاد من أحد، بل يرى كلّ النصائح والإرشادات متوجّهة إلى غيره.

وهذه المشكلة لا تختصّ بالأُمور الدينية، وما يحتاجه الإنسان لمسيرته الأبدية

.1

ص: 289


1- الكهف (18) : 103-104

التي تنتهي به إلى عالم الآخرة، بل يشمل كلّ جوانب الحياة في هذه الدنيا، فالإنسان المعجب بنفسه وعقله وسياسته ودهائه وذكائه وعلمه لا يخطو خطوة إلى الإمام، ولا يحاول تصحيح مساره، لأنّه يجد نفسه في الخطّ الصحيح، وأنّه يسير بالسرعة المطلوبة، بل فوقها بكثير. ومثل هذا لا يؤثّر فيه أيّ نداء وتحذير.

وكما هو الحال في الفرد كذلك في المجتمع ، فإنّ المجتمع الذي يجد نفسه بالغاً أعلى مراتب الكمال البشري، وأنّه لا يخطئ المسار الصحيح، وأنّه لا ينقصه شيء، فهو لا يحاول مواكبة التطوّر البشري، ويبقى في مكانه أو يعود القهقرى. وأمّا إذا كان المجتمع يرى في نفسه النقص والتخلّف عن ركب الحضارة، فإنّه يحاول ويجهد للتقدّم، وهذه المحاولة والجهد أوّل ما يحتاجه كلّ مجتمع للتقدّم والتطوّر.

والآية الكريمة ترتبط بما قبلها، حيث حذّر في الآيات السابقة من خداع الشيطان وتغريره. وقسّم الناس إلى كافر ومؤمن، فبيّن في هذه الآية أنّ أقوى سبب في ضلال الإنسان هو غروره بنفسه وبعمله.

وجاء ب_«التزيين» مبنياً على المجهول، إذ لا تختلف النتيجة باختلاف الفاعل، فهذا التزيين ربّما يكون من نفسه، وربّما يكون من الشيطان، وربّما يكون من أُناس حوله، كالحاشية التي يحيطون بالأُمراء والملوك، ويحاولون طمأنته بأنّ كلّ ما يعمله هو الصحيح، ليستدرّوا منه ما يطمعون، وهم ألدّ أعدائه، لأنّهم يزينون له سوء عمله، حتّى أنّهم يسترون عنه الحقائق في الوضع الاجتماعي، فيتصوّر أنّ الشعب كلّه يحبّونه ويسلمون الأمر إليه، والأمر بخلافه في الواقع.

والتأريخ يرينا من هذا الأمر العجب العجاب قديماً وحديثاً. وأغرب ما في هذا الباب عدم تنبّه المتأخّرين بما أصاب المتقدّمين. وعلى كلّ حال فالتزيين

ص: 290

كيفما حدث ومن أيّ أحد، فإنّ النتيجة وهي أنّه يرى عمله حسناً هو الموجب للهلاك.

ثمّ إن الآية لم تذكر الخبر ليذهب السامع فيه كلّ مذهب : «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» كمن لم يزيّن له ذلك؟ أو يهتدي إلى الطريق الصحيح؟ أو نحو ذلك... وقيل: إنّ الخبر تذهب نفسك عليه حسرات؟ وهو بعيد. ولعلّ الأصحّ أن يكون التقدير يهتدي إلى الطريق الصحيح، أو تتوقّع له الهداية، ونحو ذلك ممّا يفيد معناه.

والجواب طبعاً هو النفي وقوله تعالى: «فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» بمنزلة التعليل له، فهذا لا يتوقّع له الهداية، لأنّ الله تعالى أضله «وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ»(1) والهداية والضلال بيد الله.

ولكن ذلك لا يختصّ بالهداية والضلال، فكلّ أمر بيده، وإليه يرجع الأمر كلّه، فما هو المقصود من هذه العبارة؟

الظاهر أنّ المراد بيان أنّ الضلالة والهداية كأيّ أمر طبيعي آخر يتبعان عللهما وأسبابهما ، فإذا تمّت أسباب الضلال المطلق فلا مجال للهداية، وإنّما على الرسول البلاغ ومحاولة إيجاد عامل من عوامل الهداية، فإن كان المحلّ غير قابل لها، فإنّه لن يهتدي أبداً مهما حاول الرسول. وهذا معنى أنّ الله يضلّ من يشاء، وأنّ من أضلّه الله فلا هادي له، لأنّه أمر طبيعي يتبع عوامله المستلزمة له بالطبع. وإسناده إلى مشيئة الله تعالى من جهة أنّ كلّ أمر طبيعي مستند إلى مشيئته

ص: 291


1- الغافر (49): 33

محضاً، لا تتدخّل فيه إرادة أُخرى. وهكذا الكلام في الهداية.

وهنا يثار سؤال آخر وهو أنّه إذا كان ذلك يتبع مشيئة الله محضاً، فما هو ذنب الضالّ، وبماذا يعتزّ المهتدي؟

ويتبيّن الجواب بالتأمّل فيما ذكرناه، فإنّ بعض العوامل المستتبعة للضلال المطلق الذي يوجب الطبع والختم على القلب، فلا ينفذ فيه نور الهداية أبداً، أمر اختياري وهو العناد مع الحقّ، ورفض الإيمان بعد اتضاحه له استكباراً أو حسداً أو متابعة للشهوات. وهذا هو مراد من يقول، إنّ الإضلال هنا من باب المجازاة، وليس إضلالاً ابتدائياً.

«فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» حيث إنّ الإضلال والهداية من الله تعالى، ولا يمكن رفعهما ومنعهما ، «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ» أي لا تهلك نفسك حسرة على عدم هدايتهم، أي من أجل التحسّر والتأسّف على ذلك. وهذه الجملة تبرز غاية اهتمام الرسول صلّی الله علیه و آله - كسائر الرسل بهداية الناس، لأنّهم يرون ما لا يراه الناس من عظم الخطر المحدق بالإنسان، وهو غافل في مرتعه كالبهيمة المربوطة همّها علفها.

وفي هذه الجملة غاية التسلّي للرسول صلّی الله علیه و آله وسائر الدعاة المخلصين بأن لا یهتمّوا إلا بواجبهم وهو الدعوة، ولا يحزنهم عدم استجابة الناس لها، وإنّما جمع «الحسرة»، لأنّ دواعي الأسف على الناس متعدّدة، وخسائرهم في حالة الضلال لا تحصى.

وقوله تعالى «إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» لبيان أنّه تعالى يعلم من يستحقّ الهداية ومن يستحقّ الضلال بما صنعته يداه. وقيل: إنّه لتهديد الكافرين وما يستحقّونه من عذاب، نتيجة ما يصنعون، فيكون تسلية أُخرى للرسول صلّی الله علیه و آله .

ص: 292

سورة فاطر (9- 11)

«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِ_حُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)»

«وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرض بَعْدَ مَوْتِهَا» الآية تنبّه الإنسان على نعمة من الله مستمرة، وآية واضحة، وتستنتج منها إمكان البعث والحياة الأُخرى، فالله هو الذي يرسل الرياح التي تثير السحاب والإثارة: التهييج وإيجاد الحركة السريعة في الشيء.

وعليه فيمكن أن يكون المراد بإثارة السحاب إثارة البخار وتكوين السحاب، كما ذكره بعضهم باعتبار أنّ الرياح الحارة تثير الأبخرة والرياح الباردة تكثفها فتكون سحاباً ويكون السوق إلى البلد الميّت بفعل رياح أُخرى.

ويمكن أن يكون المراد بها تحريك السحاب بعد تكونها، فلا تكون في الآية إشارة إلى كيفية تكوّن السحاب، وتكون جملة «فَسُقْنَاهُ» تفريعاً على الإثارة والتحريك. ولعلّ هذا أقرب إلى لفظ الآية، لأنّ الإثارة وردت في الآية على السحاب، لا على البحار باعتبار إثارته مقدمة لتكوين السحاب.

ومهما كان فالمراد أنّ الله تعالى هو الذي يسوق السحاب بفعل الرياح إلى بلد ميّت، وأرض ميّتة ليس فيها زرع بعد أن أذبل أعشابها حرّ الصيف والجفاف،

ص: 293

فيحيي به الأرض والنبات الذي يخرج منها. والمراد ب_«إحياء الأرض» اهتزازها وتحرّكها وإنباتها، قال تعالى: «فإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِیجٍ».(1)

«كَذَلِكَ النُّشُورُ» أي ومثل هذه الإماتة والإحياء المستمرّ بعث الناس وإحياؤهم يوم القيامة. ولعلّ الوجه في هذا التشبيه أنّ موت البشر ليس إلا كموت الأرض، حيث تكمن فيها الحياة، ولا يتوقّف إنعاشها إلا على المطر، وكذلك موت الإنسان، لأنّه لا يوجب فناءه؛ فإنّ حقيقة الإنسان روحه التي لا يعرضها الموت وإنّما يموت جسمه.

«مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللّه الْعِزَّةُ جَمِيعاً» «العزّة»، هي المنعة - بفتح الأوّلين - وهي في الإنسان أن يكون في معقل وحصن لا يمسّه أحد بسوء. و«العزّ» في الأصل بمعنى الشدّة والصلابة. يقال: «أرض عزاز» للأرض الصلبة، ويستعار لمعان أُخر، كندرة الوجود، كأنّه ممتنع من الوصول إليه، وكشدّة التعلّق والحبّ، فيقال: إنّه عزيز عليه، كأنّه لا يمكن أن يحول بينهما شيء، وكالتعصّب وعدم الانصياع للحقّ، كما قال تعالى: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ»(2) ، وكقوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ»(3) ، وكالغلبة على الخصم، واستعماله كثير، كقوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ»(4)، ونحو ذلك.

وقوله تعالى: «فَللّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً» جملة تعليلية جاءت بدلاً عن الجواب، وهو

ص: 294


1- الحجّ (22) : 5
2- ص (38): 2
3- البقرة (2) : 206
4- ص (38): 23

«فليطلبها من الله» أو نحو ذلك، فإذا كانت العزّة كّلها لله تعالى، فمن كان يريدها فليطلبها منه تعالى.

والآية الكريمة ترد على توهم المشركين في اعتزازهم بآلهتهم قال تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ الله ءَالِهَةٌ لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضدّاً»(1) وأساس التوهّم هو خرافة الاعتقاد بأنّ الأصنام تمثّل أرواحاً علوية هي التي تدير الكون، وتدبّر الأمور. والجواب أنّ العزّة والمنعة ليست إلا من الله تعالى، كغيرها ممّا يرغب فيه الإنسان أو يحذر منه.

ومن قبلهم اعتّز سحرة فرعون به وقالوا: «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ»(2) ولمّا انكشف لهم الحقّ ألقوا بأنفسهم ساجدين. وقوله «جَميعاً» لردّ توهّم أنّ العزّة تكون به وبغيره، وهذا هو الشرك، فلا عزّة إلا به ومنه وهو الذي أعزّ رسوله والمؤمنين، قال تعالى : «وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ».(3) والآية تقع في سياق الآيات التي تدعو إلى توحيد الربّ ونبذ الاعتماد على غير الله سبحانه.

«إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»، هذه الجملة تشير إلى طريقة الاعتزاز بالله تعالى، وهي إنشاء الكلم الطيّب. و«الكلم» جمع كلمة يذكر ويؤنث، قالوا: كلّ جمع ليس بينه وبين مفرده إلا الهاء يجوز فيه التأنيث والتذكير. و«الكلمة» تطلق على الكلمة المفردة، كما تطلق على الجملة وهي المراد هنا، فالذي يصعد إلى الله تعالى وينال شرف التقرّب إليه والقبول لديه الأقوال الطيّبة.

ص: 295


1- مریم (19): 81 - 82
2- الشعراء (26): 44
3- المنافقون (63): 8

وطيب القول إنّما هو بطيب مضمونه ومعناه، ولا يكون طيّباً إلا إذا وافق الاعتقاد، وإلا كان نفاقاً ومكراً، فينطبق على الاعتقادات الحقّة التي يعلنها الإنسان، ويطلقها في ضمن كلمات طيّبة، وهي التي أُشير إليها في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أَكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا».(1) وفي قوله تعالى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ».(2)

وهذا الاعتقاد الحقّ مع إعلانه، والدفاع عنه، والجهاد في سبيله، والاعتزاز به، هو الذي يمكّن الإنسان من العزّة الأبدية الخالدة التي لا تحصل إلا بالإيمان بالله وحده لا شريك له. ولذلك ورد في الحديث القدسي: «لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي» (3) و «الحصن» هو الذي يمنع الإنسان من أن يغلب على أمره، وأوّل عدوّ يدفعه عنه ويمنعه منه هو نفسه التي هي أعدى أعدائه، كما في الحديث. (4)

والسبب واضح، لأنّ الذي آمن بالله وحده لا يتّخذ إلهاً غيره، فلا ينطبق عليه قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ».(5) وإذا غلب هواه وتمنع منه، لم يحن ظهره لأيّ جبّار إلا جبّار السماوات والأرض، ولا يقهره أحد فيما يرومه. ولا يضرّه أن يقتل أو يسجن أو يعذّب، فكلّ ذلك لا ينال من عزّته ولا

ص: 296


1- إبراهيم (14) : 24-25
2- إبراهيم (14): 27
3- عيون أخبار الرضا علیه السّلام: 2: 135
4- راجع: عوالي اللئالي 4: 118
5- الجاثية (45): 23

يذلّه حتّى في الدنيا، مع أنّ العزّة الأبدية لا تكون إلا في الحياة الأبدية، وهي خاصّة ظاهراً وباطناً بالمؤمنين بالله تعالى.

فتبيّن أنّ المراد بالصعود إليه هو القبول لديه، والمراد ب_«الكلم الطيّب» الاعتقاد الصحيح المعلن عنه، وأمّا قوله تعالى: «وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ» ففيه احتمالان مقبولان:

الأوّل: أنّ فاعل «يَرفَعُهُ» هو الله تعالى، فيكون المعنى أنّ الموجب للاعتزاز بالله أمران: «الكلم الطيّب» و«العمل الصالح»، والمراد بقوله: «يَرفَعُهُ» أي يقبله. والفرق بين التعبيرين حيث عدّ الكلم الطيّب صاعداً بنفسه والعمل الصالح مرفوعاً، من جهة أنّ طيب الاعتقاد هو عين المقبولية لديه، فالاعتقاد لا يكون طيباً إلا إذا كان مقبولاً لدى الله تعالى، وأمّا العمل الصالح فمعناه أنّه يصلح للقبول، فمعنى «يَرفَعُهُ» أنّه يقبله بالفعل.

الثاني: أنّ فاعل «يَرفَعُهُ» هو العمل الصالح، والضمير المنصوب في «يَرفَعُهُ» يعود إلى الكلم، فالكلام الطيّب المنبئ عن الاعتقاد الصحيح لا يرفع ولا يقبل لدى الله تعالى إلا إذا سانده عمل صالح، ولا يكفي الاعتقاد إلا إذا كان معه العمل. ولذلك يتعقّب الإيمان في الآيات الكريمة غالباً العمل الصالح: «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».(1) وهذا الاحتمال أقرب.

«وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»، الجملة السابقة تبيّن حال أصحاب الكلم الطيّب والعمل الصالح الذين يعتزّون بعزّته تعالى في الدنيا والآخرة، ويقابلهم أصحاب المكر السيّئ. و«المكر» - كما في «مفردات الراغب» - هو

ص: 297


1- البقرة (2) 25

صرف الغير عن ما يقصده باحتيال وخداع، وهو قد يكون مذموماً وقد يكون ممدوحاً، كما قال تعالى: «وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ».(1) والمراد ب_«السيّئات» المكرات السيّئات، فهذه صفة تنوب عن الموصوف.

قيل: والمراد بهم كفّار قريش بقرينة قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ» (2) ولكنّ الآية هنا مطلقة، وإن انطبقت على أصحاب تلك المكيدة أيضاً. وإنّما قوبل الإيمان والعمل الصالح بالمكر السيّئ بملاحظة اعتزاز المؤمن بالله تعالى، حيث إنّه يوكّل أمره إليه، ولكنّه يواجه مكراً سيّئاً من أعدائه، فالله تعالى يسليه بأنّ هؤلاء لهم عذاب شديد يوم القيامة، فلا ينفعهم مكرهم إلا قليلاً حتّى لو ظفروا بشيء في هذه الدنيا.

«وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ»، «البوار»: الكساد إلى حدّ الفساد. واستعير به للهلاك، كما قال تعالى «وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ».(3) ويلاحظ أنّه تعالى قدم نتيجة المكر السيّء في الآخرة على النتيجة العاجلة، للتأكيد على أنّ المهمّ هو العاقبة، وأهمّ العواقب تلك العاقبة الدائمة، لا الفوز بمال أو جاه في هذه الحياة الزائلة. ثمّ إنّ قوله تعالى «هُوَ يَبُورُ» جملة خبرية، مبتدؤه: «وَمَكْرُ أُولَئِكَ».

قيل: وجيء بالضمير «هُوَ» للتأكيد على أنّ البائر هو مكرهم لا مكرنا. ولكن فيه احتمال آخر لعلّه أوضح ، وهو أنّ المراد التأكيد على اضمحلال مكرهم بنفسه، فلا يحتاج إلى إبادة وإهلاك، بل هو يبور في ذاته، إمّا لأنّه خاصّ بالدنيا،

ص: 298


1- آل عمران (3): 54
2- الأنفال (8): 30
3- إبراهيم (14): 28

فيبور ببوارها، أو لأنّه حتّى في هذه الحياة لا يبقى طويلاً، إذ ليست له جذور في المجتمع البشري والفكر البشري والمنطق العقلاني الصحيح.

«وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ»، الآية الكريمة تؤكّد على سعة علم الله تعالى وإحاطته بكلّ شيء ليكون الإنسان على حذر، ويذكّر الإنسان بأصله، وكيف تطوّر بفضل الله تعالى وإرادته، فمبدأ خلق الإنسان من التراب، إمّا بمعنى أنّ أبا البشر خلقه الله تعالى من صلصال من حمأ مسنون، فالإنسان مبدأ خلقه من التراب، وإمّا بمعنى أنّ الإنسان كأيّ مخلوق أرضي آخر مبدأ خلقه من التراب، فإنّ النطفة تتكوّن ممّا يتغذّى به الإنسان من موادّ حيوانية أو نباتية والحيوان يعود إلى النبات أيضاً، والنبات من التراب.

«ثمّ مِنْ نُطْفَةٍ»، أي أنّ المرحلة التالية من المراحل المحسوسة للبشر في ذلك الزمان هي مرحلة تكوّن النطفة. حلة تكوّن النطفة. وهي الماء القليل، والمراد مني الرجل أو يشمل بويضة المرأة أيضاً. ولا نصرّ على كونه إشارة إلى ذلك، فإنّ القرآن ليس كتاباً علمياً يبحث عن الحياة وأسرارها ومراحلها وإلا لكان أدقّ كتاب فيه وأكمله، وإنّما هو كتاب يذكّر الإنسان بما لا يبلغ إليه علمه مهما أُوتي من دقّة وذكاء وأدوات ومجاهر.

والحاصل أنّه لا يبعد كون النطفة إشارة إلى مني الرجل فقط وإن كان الإنسان مخلوقاً من المادّتين، فإنّ الهدف ليس هو بيان ما تولّد منه الإنسان بالنظر العلمي، بل الهدف تذكير الإنسان حسب فهمه بما كان منه أصله وما آل إليه أمره، وأنّ كلّ ذلك بأمر من الله تعالى وعناية.

وهناك مراحل من التكوّن بين التراب والنطفة لم يتعرّض لها القرآن، فلعلّ

ص: 299

ذلك من جهة أنّ هذه أوّل مراحل الحياة وإن كان ذلك مجهولاً للبشر آنذاك كما قيل أو من جهة أنّ تلك المراحل لا يتنبّه لها الإنسان غالباً. وليس الهدف ذكر المراحل الواقعية، بل ما يعلمه الإنسان فيكون منبّهاً له للوصول إلى ربوبية الله تعالى.

«ثمّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً»، «الزوج» ما يقرن بالشيء إذا كان مثله، فالأزواج الأمثال المتقارنة، والزوجان المثلان المتقارنان، ومنه الزوجان بالمعنى المعروف. والظاهر أنّ المراد هنا جعلكم ذكراً وأُنثى، عبرّ عن ذلك بالأزواج لما يؤول إليه أمرهم عادة من الزواج، كما قال تعالى: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى»(1)، وقيل : إنّ الزوج بمعنى الصنف. ولكن لم نجد له أصلاً في اللغة.

فالمرحلة التالية التي تذكّرنا الآية بها هي مرحلة تكوّن الصنفين الذكر والأُنثى. وبين هذه المرحلة ومرحلة النطفة مراحل أيضاً تعرّضت لبعضها آيات أُخرى، كالعلقة والمضغة، وأغفل عنها في هذه الآيات لعلّه من جهة أنّ الهدف هنا ليس ذكر مراحل الخلقة، بل الهدف الإشارة إلى أنّ الاختلاف بين أفراد البشر من جهة الذكورة والأُنوثة ومن جهات أُخرى، كلّ ذلك مودعة في النطفة الصغيرة، بل في جزء صغير منها. وكلّ ذلك بعلم من الله تعالى، بل وبيده وإرادته.

«وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلا بِعِلْمِهِ»، تتعرّض الآية للعلم الإلهي الشامل لكلّ مراحل الحمل والوضع، و «مِنْ» في قوله تعالى: «وَمَا تَحْمِلُ مِن أُنثَيَ» زائدة تفيد تأكيد النفي. و«الباء» في قوله: «بِعِلْمِه» للمصاحبة، كما في «الميزان»(2). والمعنى:

ص: 300


1- القيامة (75): 39
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 25

أنّ الحمل والوضع في أيّ أُنثى - لا خصوص أُنثى الإنسان - مصاحب لعلمه تعالى به، فلا يعزب ذلك عن علمه، كما لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض.

«وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ» المراد ب_«المعمَّر» من يزاد في عمره، فمعناه وما من أحد يزاد في عمره أو ينقص إلا في كتاب. فالتعبير عنه بالمعمَّر باعتبار ما يؤول إليه، كقولهم: من قتل قتيلاً فله سلبه. ثمّ إنّ ورود الزيادة والنقصان على واحد ليس فيه تناقض - كما في «الميزان»(1) وغيره - لأنّ موجبات الزيادة والنقصان قد تجتمع في واحد فيزاد في عمره لسبب، ثمّ ينقص لسبب آخر.

و تدلّ الآية على أنّ هناك أُموراً توجب زيادة العمر وهناك ما يوجب نقصانها، وهذه الأُمور ربّما تكون مؤثّرات طبيعية في زيادة العمر، وربّما تكون غي-ر طبيعية، فمن القسم الأوّل الوقاية الصحيّة، والتغذية السليمة، ونظافة البيئة، والسكون، والطمأنينة، والرياضة، والمعالجات الطبّية، والابتعاد عن الضوضاء، والعادات السيّئة، كالتدخين والمخدّرات والمسكرات، ونحو ذلك. ومن القسم الثاني الصدقة، وصلة الرحم، والإحسان إلى الوالدين، والدعاء، والتوسّل بأولياء الله تعالى، ونحو ذلك. ويقابل القسمين ما يوجب نقصان العمر، كما لا يخفى .

ولكن ربّما يثار هنا سؤال، وهو أنّه كيف تؤثّر هذه الأمور في زيادة العمر أو نقصانه، والأعمار - كما هو معروف - بيد الله سبحانه، بل أنّه تعالى صرّح

ص: 301


1- راجع نفس المصدر: 26

في كتابه الكريم ما يردّ ذلك كقوله تعالى: «وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أجَلُهَا».(1)

والجواب: أنّ الأعمار - كغيرها من الأُمور - بيد الله تعالى، ولا خصوصية في الأعمار، والله تعالى قد قدّر كلّ شيء، وجعل لكل شيء قدراً، ولكنّ القضاء والقدر ليس بمعنى تقدير المعلولات، سواء وجد العلل أم لم توجد بل بمعنى تقدير المعلولات عن طريق العلل، فكلّ هذا الكون كجهاز يستتبع كلّ حركة منه حركة أُخرى، فإذا تناول أحد طعاماً فاسداً فسوف يمرض، والتقدير أنّه سيأكل ويمرض، لا أنّه سوف يمرض، سواء أكل أم لم يأكل، فإذا راجع الطبيب وعالج نفسه وشفي، فإنّ التقدير هو أنّه سيعالج ويشفى، وهكذا.

ولكنّ النتيجة النهائية التي تحصل بتتابع العلل لا يعلمها إلا الله سبحانه، لأنّه هو الذي يعلم كلّ ما سيحدث من علل ، فمن الممكن أن يخبر طبيب حاذق بأنّ مريضاً ما سيموت في موعد محدّد، ولكن هناك مؤثّرات لا يعلمها الطبيب، أو لا يعلم تحقّقها فيما بعد، فتؤثّر في التأخير أو التقديم، فالأجل النهائي لا يعلمه إلا الله تعالى.

وهذا هو المراد بقوله تعالى: «يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» . (2) ف_«أمّ الكتاب» هو العلم بالنتيجة النهائية التي لا تتبدّل ولا تتغيّر، ويعبّر عنه ب_«القضاء المحتوم»، وما يمحيه ويثبت هو ما قضي بملاحظة بعض العوامل المؤثّرة.

ص: 302


1- المنافقون (63): 11
2- الرعد (13): 39

فقوله تعالى: «وَمَا يُعَمَّرُ» يعني أنّ كلّ ما يوجب زيادة العمر أو نقصانه، بعلم الله تعالى، وهو مكتوب، بمعنى أنّه مقدّر عند الله العالم بكلّ المؤثّرات، بل هي تؤثّر إلا بأمره وإرادته. و«الكتاب» هو المكتوب أي المحفوظ والمسجّل.

«إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ»، أي ميسور وهو من اليسر، أي سهل منقاد، حيث إنّ الإنسان يستغرب أن تكون كلّ هذه الأمور مسجّلة ومعلومة ومقدّرة بالنسبة لكلّ أحد طيلة القرون المتمادية، لجهله بأنّ الله تعالى لا يحدّ قدرته وعلمه شيء.

ص: 303

سورة فاطر (12-14)

«وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)»

«وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ»، الآية تبيّن جانباً من نعم الله التي لا تحصى، وهو تنوّع الماء على سطح الأرض. ولكلّ منهما فوائد انكشف للإنسان بعضها، وهما لا يستويان في ذلك وعبّر عنهما ب_«البحر»، إمّا من باب التغليب كالقمران يطلق على الشمس والقمر، أو من باب أنّ الأنهار أيضاً يعبّر عنها في اللغة بالبحر، فإنّه بمعنى السعة.

و«الفرات»: العذب، أو الذي يكسر العطش. و«السائغ»: المريء الذي يسهل انحداره. و «شراب» مصدر ، وهو فاعل «سَائِغٌ» ، أي أنّ شربه يسوغ ويمضي بسهولة.

والآخر «ملح»، وهذه الكلمة تطلق على نفس المادّة المعروفة، كما تطلق على الماء المالح، والعرب قلّ ما يقولون مالح، و«الأجاج» بمعنى شديد الملوحة، ، ولعلّه مأخوذ من الأجيج بمعنى التهاب النار، أو أنّه بمعنى الشدّة، سواء في النار أو في الملوحة، كما قيل.

ص: 304

وقد ذكر جمع من المفسّرين أنّ الآية تشبّه المؤمن والكافر بهما. وإنّما ذكروا ذلك فراراً من اعتبار كون الماء المالح نعمة. وقد انكشف اليوم أنّ ملوحة مياه البحار والمحيطات هي التي حافظت على سلامة البيئة، بالرغم من التلوّث الذي يحدّثه الإنسان والحيوان طيلة القرون المتمادية. وله فوائد أُخرى أيضاً. ومهما كان، فما ذكره المفسّرون لا دليل له من الآية المباركة، بل السياق يقتضي سرد النعم فحسب، كما هو واضح بملاحظة نفس الآية وسابقتها ولاحقتها.

«وَمِنْ كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً»، ثمّ تطرقّت الآية لذكر ثلاثة من النعم المتاحة للإنسان في البحار والأنهار، أُولاها لحوم الأسماك الطازجة، ولعلّ التعبير ب_«الطريّ» من جهة لطافة لحم السمك ونعومته، أو من جهة أنّه يستحسن أن لا يؤكل إلا طريّاً. ولا يبعد أن تكون الكلمة معربة من كلمة «تر» الفارسية، بمعنى «رطب» كما أنّ «طازج» معرب «تازه»، وهما يستعملان معاً في الفارسية فيقال: «ترو تازه»، أي «رطباً جديداً».

والواقع أنّ هذه نعمة عظيمة ، فكم يا ترى من القرون مضت على الإنسان، والبحر يمدهّ بهذا اللحم اللذيذ الطازج، بدون تعليف ورعاية.

«وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» وثانيتها ما يستخرج من البحار من اللؤلؤ والمرجان، يتحلّى به الإنسان ويلبسه. وربّما اعترض بأنّ الأنهار لا تشتمل على اللئالئ، مع أنّ ظاهر التعبير أنّها تستخرج منها أيضاً. والصحيح أنّ الماء العذب لا يختصّ بالأنهار، فهناك بحيرات من الماء العذب تشتمل على الأصداف وغيرها. و«المرجان» نبات أو حيوان بحري تستخرج من بعض أجزائه مادّة حمراء ويعمل منه الحلّي، ويظنّ الناس أنّها من الأحجار الكريمة.

ص: 305

«وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»، وثالثتها الانتفاع بها، کطرق سهلة للوصول إلى البلدان البعيدة، وحمل البضائع الثقيلة، سواء في هذا العصر حيث صنعت السفن الكبيرة الهائلة، وتشكل أرخص وأسهل وسيلة لحمل البضائع والناس، أو في العصور السابقة حيث كانت الوسيلة الأُخرى هي الدوابّ. و «المخر» هو الشقّ، عبّر به عن سير السفن لشقّها الأمواج. وقوله: «تَرَى...» خطاب لمن يسمع القرآن أو يقرأ.

ثمّ بيّن أنّ الفائدة والنتيجة من ذلك أمران مادّي ومعنوي، فالأوّل هو ابتغاء الرزق عن هذا الطريق، وعبّر عنه بابتغاء فضل الله تعالى تمهيداً للنتيجة الأُخرى، وهي الأهمّ، بل هي المقصودة بالذات، وهي الشكر للخالق على نعمه. والتعبير بكلمة «لعلّ» ليس بمعنى الترجّي ليبحث عن توجيه له، بل هو بمعنى كون الشيء متوقّعاً والأرضية صالحة.

«يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ»، من آيات الله تعالى، ومن نعمه على الإنسان ولوج الليل في النهار ، وولوج النهار في الليل. وقد ذكر لهما معنيان:

الأوّل: الانتقال التدريجي من كلّ منهما إلى الآخر في طرفي النهار والليل، حيث لا تحدّث الظلمة أو الضياء فجأة، بل ينتقل شيئاً فشيئاً، وكذلك من حيث الحرارة والبرودة، وهو مهمّ جدّاً لسلامة الإنسان، ولسائر شؤون حياته، فلا يدخل الظلام الدامس فجأة، ولا يبهره النور الساطع بغتة، وكذلك لا يحرقه لهيب الشمس من بدء طلوعها، ولا يلفحه البرد القارس بمجرّد غيابها. وإنّما يحدث ذلك تدريجياً بفعل المجال الجوّي المحيط بالكرة الأرضية.

وقد شبّه القرآن هذه الظاهرة بدخول كلّ منهما في الآخر، حيث تحدث حالة

ص: 306

متوسّطة بينهما في كلا الجانبين.

والمعنى الآخر النقصان التدريجي في كلّ منهما بالزيادة في الآخر، بحسب تغيّر الفصول طول السنة بمحاسبة دقيقة، وانتظام لا يختلّ طيلة القرون المتمادية. ولا يبعد إرادة كلا المعنيين.

«وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كلّ تَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً»، ومن آياته تعالى تسخير الشمس والقمر، والمراد تسخيرهما لصالح البشر لا للبشر ، فهما يدأبان على العمل بانتظام واستمرار، بما يهيّئ للإنسان على هذا الكوكب الحياة السعيدة، والعيش الرغيد في نعم الله التي لا تحصى. وكلّ منهما يجري لأجل مسمّى.

وهنا أيضاً معنيان:

أحدهما: أنّ لهما عمراً ينتهيان بانتهائه، فتنطمس الشمس، ويزول القمر كما يزول كلّ هذا النظام الكوني.

والآخر: أنّ لجريانهما وقتاً وأمداً ونظاماً دقيقاً لا يتعدّيانه أبداً. والمراد بناءً على هذا المعنى أنّ كلاً منهما يجري على الأُفق المشهود للإنسان لأجل محدّد، ثمّ يغيب، ثمّ يخرج بعد فترة ويعود إلى الجريان، ويتغيّر هذا الأجل كما سمّي له وأعدّ، بكلّ دقّة وانتظام.

ولعلّ الذي استبعد المعنى الثاني نظر إلى أنّ الجريان لا ينقطع إلا عن النظر الساذج لمن يجهل أنّ الأرض كروية، وأنّهما يجريان ليل نهار، وأنّ الليل والنهار أيضاً متزامنان، لا يفنى أحدهما ويوجد الآخر، بل أنّ إسناد الجريان إلى الشمس لا بدّ أن يحمل على الجريان في المجرة، أو مع المجرة، حسبما اكتشفه العلم الحديث. وأمّا ما نشاهده من الجريان فهو مجرّد خطأ في الأبصار، حيث إنّ

ص: 307

الأرض هي التي تدور حول نفسها، فيخيّل إلينا أنّ الشمس تدور حولنا.

وقد أشرنا قبل آيتين إلى أنّ القرآن لا يتحدث عن الأُمور الكونية على ما هي عليه في الواقع، فهو ليس كتاباً علمياً، بل هو كتاب سماوي ينتقل بالإنسان إلى ما وراء الكون، وإذا جال به فى الكون، فإنّما يجول به ليبصر بما فيه ما وراءه، لا ليبصر حقائقه على ما هي علیه.

ونعم ما قال أمير المؤمنين علیه السّلام في توصيف الدنيا: «ومن أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته».(1)

ومن هنا نجد أنّ أكثر المتعمّقين في حقائق الكون لا يتجاوزونها وإن سبروها سبراً، وإنّما يتجاوزها من يجد في هذا النظام وهذه النعم يداً خفية تدير الأُمور وتدبّرها. فإذا تحدّث القرآن عن جريان الشمس والقمر فهو يريد هذا الذي نشعر به ونتنعّم به، ونجعله مقياساً لمحاسبة الأيّام والسنين مهما كان الواقع.

«ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ المُلكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير»، أي ذلك الذي دبّر الكون بحيث تنعمون بما أراد لكم من النعم السماوية والأرضية هو الله، وهو ربّكم الذي يربّيكم ويسير بكم إلى ما تستحقّونه من رفعة أو ضعة. وله الملك ملك السماوات والأرض، فكلّ ما في الكون تحت سلطته وإرادته، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.

وأمّا الذين تدعون من دونه، فلا يملكون أقلّ شيء في الكون، حتّى لو لم يكن مالاً في العرف كالقطمير، وهو الجلدة الرقيقة التي تلتف حول نواة التمر. والمراد «بالَّذِينَ يَدعُونَ مِن دَونِ الله» الأصنام وأمثالهم من الجماد، كما يدلّ عليه

ص: 308


1- نهج البلاغة، صبحي الصالح، الخطبة 81

نفي الملكية المطلقة، وأنّهم لا يسمعون شيئاً، نظير ما ورد في سورة الأعراف:

«يُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلى الهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَم أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أم هُمْ أَيْد يَبْطِشُونَ بِهَا أم لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بها أم لَهُمْ أَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثمّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلى الهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ»(1).

ولو أُريد به مطلق ما يعبد من دون الله ليشمل الملائكة والجنّ والبشر، فلا بدّ من حمل الملكية المنفية على الملكية الحقيقية التي تختصّ بالله تعالى.

«إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ» ثمّ بيّن أن هذه الأصنام التي تدعونهم لجلب خير أو دفع شرّ لا يسمعون دعاءكم، لأنّهم جماد لهم آذان لا يسمعون بها، ولو سمعوا على سبيل الفرض ما استجابوا لكم ، لأنّهم لا يقدرون على شيء. ولو فرض أنّ المراد ما يعمّ ذوي العقول، فإنّهم لا يقدرون أيضاً على الاستجابة إلا فيما أذن الله به، فيكون المراد نفي استجابة ما لم يأذن به الله. ولكنّه بعيد عن ظاهر اللفظ.

«وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» ولما يبعث هؤلاء يوم القيامة ويواجهون الأصنام التي طالما عبدوها رجاء شفاعتها يرونها تنكر ذلك، كما قال تعالى في

ص: 309


1- الأعراف (7): 191- 198

سورة مريم: «كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً» (1) وقال تعالى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ* وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ».(2)

ولعلّك تسأل: كيف تنكر الأصنام ذلك وهم قد عبدوهم في الدنيا؟

ويأتيك الجواب في قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ تَقُولُ لِلذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ»(3)، فالأصنام حيث لا تشعر في هذه الحياة بأنّها معبودة ، تنكر ذلك يوم القيامة.

والملفت للنظر أنّ الآية تعتبر الدعاء شركاً، كما اعتبره في مواضع ُ عبادة، قال تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ».(4) مع أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الدعاء لا يعتبر عبادة ب-ق-ول مطلق، فإنّ الإنسان يدعو أُناساً لحاجته، وهو غير منهيّ عنه، فالمراد نوع خاصّ من الدعاء وهو الذي أُشير إليه في هذه الآية بقوله: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ» ف_«الدعاء» من دونه» ليس كمطلق الدعاء، لأنّ من دونه يعني أن تعتبر شيئاً بدلاً عن شيء. والدعاء إذا كان باعتقاد كون الشيء مؤثّراً باستقلاله هو العبادة، إذ هذا يختصّ بالله سبحانه وليس شيء غيره مؤثّراً في الكون إلا بإرادته تعالى وإذنه.

ومن هنا يتبيّن فشل محاولة من يتمسّك بهذه الآيات للحكم بشرك من يتوسّل

ص: 310


1- مریم (19): 82
2- الأحقاف (46): 65
3- يونس (10): 28-29
4- غافر (40): 60

بأولياء الله تعالى، لأنّ الذي يدعوهم ويتوسّل بهم لا يدعوهم بدلاً عن الله سبحانه، بل يعتبرهم عباداً صالحين مقرّبين، فالتوسل بهم عين التوسّل بالله سبحانه.

«وَلا يُنتكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» حيث إنّ هذا الأمر - أي إنكار الأصنام يوم القيامة - ربّما يصعب قبولها عند عبدة الأوثان، بل غيرهم أيضاً، يؤكّد الله - سبحانه - ذلك بأنّ هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الخبير بما سيحدث، فلا تستغربوا إن أخبركم عمّا لا سبيل إلى العلم به من قبلكم. وتأويل الجملة: ولا ينبّئك أحد مثل ما ينبّئك خبير بحقائق الأُمور. ومعناها أنّي حيث أُخبرك بذلك خبير عالم بالغيب، ولا يخبرك أحد مثل إخباري. وهو خطاب لكلّ سامع، ومثل عامّ ينطبق على هذا المورد.

ص: 311

سورة فاطر (15-18)

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)»

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إلى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»، الظاهر أنّ الآيات في مقام ردّ ما يتوهّمه الإنسان حينما يجد أنّ الله تعالى يدعوه إلى الإيمان به وعبادته ويهتمّ بذلك، فيبعث الرسل وينزل الكتب ويرسل المعاجز والآيات، فيظنّ الإنسان أنّ الله تعالى بحاجة إلى عبادته وأنّ ذلك ينفعه، وربّما يمنّ بإيمانه وإسلامه على الله تعالى ورسوله كما قال تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمَنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمان إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ».(1)

وهذا أمر مشهود من الناس حتّى أنّك لتجد بعض الناس إذا لم يستجب دعاءه ولم يقض حاجته يستغرب ذلك، وكأن له حقاً عليه تعالى لم يؤدّه إليه. وإذا عمل عملاً أو عبد عبادة، فإنّه يتوقّع أن يبرز الله تعالى له حبّه ويشكره على ذلك. وهكذا.

بل هناك من الناس من يتوهّم أنّ الله تعالى حيث يطلب من الإنسان أن ينفق من ماله على الفقراء أو في سبيل الله فالله فقير وهو غنيّ !! قال تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ الله

ص: 312


1- الحجرات (49): 17

قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا».(1) فالآية تقول: إنّك مخطئ أيّها الإنسان، فالله تعالى لا يحتاج إلى عبادتك ولا ينتفع به، ولست على الله بعزيز إذا أراد أن يبيدك ويهلكك ومن في الأرض جميعاً، فإن ذلك لا يهمّه، قال تعالى: «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرضِ جَميعاً»(2)، ولا يتوقّف ذلك إلا على إرادة منه تعالى.

ويفهم الحصر من قوله «أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ» حيث كان المبتدأ والخبر معرفة فيفيد أنّ الفقر منحصر في الناس. وقد وقع الكلام بين المفسّرين في وجه هذا الحصر، مع أن الكون كلّه فقير إلى الله تعالى.

والذي غفل عنه في هذا المقام هو أنّ المراد بالفقر والغنى في الآية الكريمة ليس الفقر والحاجة في الوجود، حتّى يقال بأنّه لا يختصّ بالإنسان، بل المراد الفقر في مقابل الغنى بالمال، وهو بالطبع خاصّ بالإنسان إذ لا يعتبر غيره من الحيوان أو غيره فقيراً بهذا المعنى ولا غنيّاً وإنّما اشتبه الأمر على المفسّرين حيث تدخل الفلاسفة في تفسير الآيات، فأفرغوها عن المعنى المتفاهم العرفي، ومن الواضح أنّ المراد بالفقر هنا هو ما يقابل الغنى الذي يتوهّمه الإنسان لنفسه في مقابل الله تعالى، بل يعتبر الله تعالى فقيراً، كما في آية آل عمران الآنفة الذكر، والجملة المذكورة فيها من كلام اليهود وهم مؤمنون بالله.

إذن فالمراد غنى الله عن عبادتهم وحمدهم وثنائهم وإنفاقهم ونصرتهم وأمثال ذلك ممّا يتوهّم الإنسان أنّ الله تعالى يطلبها منه لفقره إليها، سبحان الله عمّا يصفون !!

ص: 313


1- آل عمران (3): 181
2- المائدة (5): 17

والحصر مضافاً إلى ذلك حصر إضافي لا يدلّ على نفي الفقر من غير الإنسان، والمعنى أنّ الفقير أنتم الذين تدعون الغنى، لا الله سبحانه، فإنّه غني بالذات. فبناءً على ذلك حتّى لو فرض إرادة الفقر والغنى في الوجود يصحّ الحصر.

وأمّا توصيفه تعالى بعد حصر الغنى فيه بأنّه هو «الحميد» بمعنى المحمود، فليس بمعنى أنّ الناس يحمدونه - كما في بعض التفاسير - بل بمعنى أنّه هو الحميد في ذاته لا حميد سواه، يعني أنّ الحمد لا يليق إلا به وبصفاته الحسنى وأفعاله الكريمة، فكلّ حمد يعود إليه حتّى لو تعلّق ظاهراً بغيره، إذ كلّ ما يستحقّ عليه الحمد والثناء فهو فعله، وإن تسبّب غيره في تحقّقه، فإنّما يتحقّق ذلك بأمره وإرادته تعالى.

والغرض دفع توهّم الإنسان أنّ الله تعالى بحاجة إلى حمده، فالآية تقول: إنّ الله غنيّ عن حمدك وثنائك، وهو الحميد بالذات الذي لا حمد إلا له، ولا يؤثّر حمدك وثناؤك شيئاً في هذا المجال، كما لا يضرّه أن يكفر به وبنعمائه الإنس والجنّ.

«إنْ يَشَايُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ»، أي إذا أراد الله اذهابكم - أي هلاككم - يهلككم ويأت بخلق جديد، أي بمخلوقات جديدة. والخلق مصدر بمعنى المفعول. وهذا تأكيد على ما مرّ من الغنى والمراد أنّه لو فرضت حاجة إلى خلائق من البشر يعبدون الله تعالى، فإنّه لا حاجة إلى إبقائكم، بل بكلّ بساطة يمكن أن يهلككم ولا يبقي لكم أثراً ويأتي بخلق جديد، مع أنّه تعالى غنيّ عن كلّ شيء لا يحتاج إلى عبادة أحد.

ص: 314

ومن هنا يتبيّن أنّ مضمون هذه الآية يختلف عن قوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ».(1) وكذلك قوله تعالى: «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِى سَبِيلِ الله فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثمّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ».(2)

والفرق أنّ الخطاب في هاتين الآيتين إلى البشر الموجودين في عهد النزول، فالأولى خطاب لكفّار مكّة، والثانية للمسلمين في المدينة، بينما الآية التي نبحث حولها خطاب للبشرية لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ».

والمراد بآية الأنعام التهديد بإنزال عذاب الاستئصال بحيث يبيد كلّ المشركين ويأتي بجيل جديد، لا بخلق جديد كما هنا، وشبهّ ذلك بإنشائهم من ذرّية قوم آخرين.

والمراد بالثانية الامتنان على جيل الصحابة بتوفيقهم لوجود الحاجة إلى بذل المال والنفس لإعلاء كلمة الله، وأنّهم إن لم ينتهزوا هذه الفرصة، فسيأتي قوم آخرون وإن كانوا من غير العرب وفي عصر آخر، ويكلّفهم الله بهذه التكاليف، وسوف لا يكونون أمثالكم متقاعسين عن امتثال أوامره، نظير قوله تعالى: «إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا»(3) ، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلَا یَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله

ص: 315


1- الأنعام (6): 133
2- محمّد (47): 38
3- التوبة (9): 39

يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ».(1) والحاصل أنّ بين المفهومين فرق واضح، فلا وجه لتشبيه بعض التفاسير هذه الآية بتلك الآيتين.

«وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزِ»، أي ليس صعب المنال. والغرض تنبيه القوم على أنّ ذلك أمر متوقّع، فلا يغفلوا عنه.

«وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» ذكر جمع من المفسّرين أنّ هذه الجملة ترتبط بالآية السابقة، حيث وقع التهديد فيها بالإذهاب والإهلاك، فيكون مثاراً للسؤال عن ذنب المؤمنين والصالحين، فأُجيب أن لا وزر إلا على صاحبه.

وهذا خطأ واضح، فإنّ مورد هذه الآية يوم القيامة، ولا ترتبط بالعذاب الدنيوي المذكور في الآية السابقة والذي يأخذ المذنب وغيره، بل حتّى الأطفال والمجانين، كما قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةٌ لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةٌ».(2)

و«الوزر»: الثقل والحمل، ومنه الوزير حيث يشارك الزعيم في حمل ثقل المسؤولية، ومنه أيضاً المؤازرة بمعنى المساعدة. والمراد به هنا الإثم وقد أكّد القرآن في مواضع كثيرة أنّ الإنسان لا يتحمّل وزر غيره، فالمسؤولية هناك فردية ولا يؤخذ الإنسان بذنب من يرتبط به ولا بما يقترفه أبناء المجتمع. نعم، ربّما يتحمّل مسؤولية السكوت عن الحقّ فضلاً عن مسؤولية إغواء الآخرين. وهذا وزره واثمه الشخصي وبذلك يتبيّن معنى قوله تعالى: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ».(3) والحاصل أنّ المراد بهذه الجملة أنّ الله تعالى لا يحمّل إنساناً ذنوب غيره.

ص: 316


1- المائدة (5): 54
2- الأنفال (8): 25
3- العنكبوت (29): 13

«وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى»، والمثقلة صفة لموصوف مقدّر أي نفس مثقّلة. ومعناها النفس التي أثقلتها الذنوب والآثام. والحمل - بكسر الحاء – المحمول. ومعنى دعوة النفس المثقلة إلى حملها طلبها المساعدة في حمل أثقالها. المقصود بهذه الجملة بيان شدّة الهول يوم القيامة بحيث لا يساعد الإنسان أحداً في حمل أثقاله حتّى لو كان ذا قربى. وقد وصف الله سبحانه هذا الأمر في مواضع شتّى من كتابه العزيز، كقوله تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ المُرْهُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَيْهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ»(1)، وقوله تعالى: «وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابٍ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِى الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ». (2)

وهذا أمر غريب، فنحن لا نجد في هذه الدنيا شيئاً أحلى من الحياة، ومع ذلك فإنّ الإنسان غالباً يفتدي بنيه بحياته، فكيف ينقلب الأمر هناك ويفتدي نفسه بكلّ ما هو عزيز عليه، بل بكلّ من في الأرض، بل لا يسأل حميم حميماً، بل يفرّ من كلّ أُعزائه، وكلّ مشغول بنفسه ؟! ماذا يحدث في تلك المرحلة من الحياة وكيف تنقلب المعايير ؟!

إنّ الإنسان ينكشف له الحقائق ذلك اليوم، فتنقلب المعايير لديه حيث يجد أنّ هناك شيئاً كان يجهله هنا وهو أهمّ من الحياة الزائلة في الدنيا.

وعلى كلّ حال، فالآية تصوّر حالة الإنسان الذي أثقلت الذنوب ظهره يدعو وينادي من يساعده على حمل ثقله، فلا يستجيب له أحد حتّى أقاربه، بل أقرب أقاربه. وهو تصوير فريد للمذنب يوم القيامة، فكأنّه إنسان عاجز أعياه حمل ثقيل

ص: 317


1- عبس (80): 34-37
2- المعارج (70): 10-14

قصم ظهره يستنجد بكلّ من يراه فلا يجد من يساعده. وليس هناك دعوة واقعاً ورفض، لأنّ عمل كلّ إنسان لا يفارقه سواء في الدنيا أم الآخرة، وإنّما المنقول هنا تمنيّات الإنسان، نظير قوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» (1)، فالآية بصدد بيان هذه الحقيقة أنّ المساعدة في حمل هذا الثقل غير ممكنة.

«إنّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ»، ربّما تدلّ الآية على الحصر وأنّ الإنذار لا ينفع غير الذين يخشون ربّهم. وقد استغرب بعضهم أنّ الإنذار كيف يختصّ بهؤلاء مع أنّهم إنمّا خشوا ربّهم وأقاموا الصلاة نتيجة الإنذار؟! فأوّلوا الآية وأمثالها بأنّ المراد من يخشى مستقبلاً ونحو ذلك من التأويلات.

والاستغراب بذاته غريب، وكأنّ الإنذار يختصّ بالكافر، وأنّ المؤمن لا يجب أن ينذر ولا يتحقّق فيه الخوف من التخويف، مع أنّ من الواضح أنّ الخوف لا يحصل إلا بعد الإيمان!. ثمّ أنّ المراد بالإنذار التخويف المؤثّر وإلا فالرسول ينذر كلّ الناس.

ومن هم الذين يخشون ربّهم بالغيب؟ فيه احتمالان:

1- الذين يخشون ربّهم حين لا يراهم أحد من الناس، فهناك كثير يخشون الله أو يظهرون ذلك أمام الناس، لأنّ ذلك يصب في صالحهم، فإذا اختلوا بأنفسهم قلّت خشيتهم أو انعدمت.

2- الذين يخشونه من دون أن يروا الآيات والمعجزات الظاهرة الواضحة تشبيهاً لمن رأى الآيات بمن رأى الربّ بنفسه، فالذي لم ير الآيات غائب عن

ص: 318


1- آل عمران (3): 30

الربّ ويخشاه لما يجده من الآيات الكونية، وما يجذبه إليه من الدوافع النفسية والفطرية، وهذا هو الموجب لكمال الإنسان، أمّا الذي لا يتأثرّ بكلّ ما يجده من آيات، ولا يؤمن إلا حين يرى العذاب علانية كفرعون، فلا يقبل منه إيمانه وخشيته. قال تعالى: «حَتَّى إذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ». (1)

وصفة أُخرى للذين يتأثّرون بالإنذار، وهي إقامة الصلاة وليست الصلاة بنفسها، فالتعبير يوحي بتشبيه الصلاة بخيمة لا تقوم إلا على عمود، والأثر يترتّب على هذه الإقامة، وعمود الصلاة هو روحها وحقيقتها وهو التوجّه والانعطاف والتذلّل واستشعار الخضوع.

«وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المَصِيرُ» يعود إلى التأكيد على أنّ التزكّي وطهارة النفس لا ينفع الله شيئاً وإنّما ينفعكم. وهو ينفع في الدنيا والآخرة. والآية تدلّ على أنّ خشية الله تعالى وإقامة الصلاة من مقوّمات تزكية النفس وطهارتها. و «الزكاة» الطهارة والبركة. وأخيراً فإنّ المصير إلى الله تعالى. وهناك يرى الإنسان نتيجة اتعابه في التزكية. وهذا تنبيه ضروري، لأنّ الإنسان ربّما يشعر بالخسارة والضرر والتخلّف عن الركب، حيث ضيّق على نفسه في الحياة لكي يتزكّى ويبقى نظيفاً طاهراً مع وجود كلّ المغريات حوله، وهو لا يجد في هذه الحياة ميزة يمتاز بها في هذا المجال، خصوصاً بالنسبة للشباب الذين لا يهتمّون بالميزات الاجتماعية، فلا بدّ من إشعاره بأنّ المصير إلى الله، وفي تلك الحياة تتبيّن الحقائق ويجد الإنسان نتيجة عمله واضحة ممتازة.

ص: 319


1- يونس (10): 90-91

سورة فاطر (19-23)

«وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)»

«وَمَا يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ» تشبيهات للمؤمن والكافر، والذي يتأثّر بالإنذار ومن لا تؤثّر فيه الآيات والنذر. فالأوّل «بصير» أي ذو بصيرة يمكنه أن يرى الحقائق التي لا ترى بالعين، والثاني «أعمى» وإن كان له بصر. وقد تكرّر التعبير فقدان البصيرة بالعمى، قال تعالى: «وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى عن وَأَضَلُّ سَبِيلاً».(1)

«ولا الظُّلُمَاتُ ولا النُّورُ» تشبيه آخر، فالذي لا يؤثّر فيه الإنذار يعيش في ظلمات، والمؤمن له نور. قال تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْناً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا».(2)

وهناك من الكفر ما تتراكم فيه الظلمات، فهو لا يرى فيه حتّى يده، قال تعالى: «أَوْ کَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ».(3) ويلاحظ أنّ المشبه هنا هو الإيمان والكفر ، لا المؤمن والكافر ، كما في التشبيه السابق. وتكرار أداة النفي للتأكيد وكذا في الجملتين التاليتين.

ص: 320


1- الإسراء (17): 72
2- الأنعام (6): 122
3- النور (24): 40

«وَلا الظُّلُ وَلا الخَرُورُ»، وهذا تمثيل آخر للإيمان والكفر، فالإيمان ظلّ يستظلّ به المؤمن ويستريح من مشاكل الحياة وهمومها. وأمّا الكفر فهو حرور. وهي ريح حارّة تؤذي وتضرّ، فكأنّ الكافر في صحراء قاحلة ليس له ظلّ يأوي إليه، والريح الحارّة تمنعه من الاستقرار.

«وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ»، وهنا يشبه المؤمنين بالأحياء، والكفار بالأموات. وهذا التشبيه من جهة أنّ الكافر لا يتأثّر بسماع الآيات والنذر وإن كان يسمع ، فكأنّه لا يسمع، بل كأنّه ميّت ليس فيه حياة، فإنّ الأصمّ أيضاً ربّما يتأثّر برؤية الرسول والداعي، وما يبديه من حركة الفمّ وما يبدو عليه من تأثّر حين الإنذار، أمّا الميّت فهو جماد لا يمكن أن يتأثّر بشيء من هذا القبيل.

«إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ»، كلّ هذه التمثيلات تأتي في إطار تسلية الرسول صلّی الله علیه و آله، وإيئاسه عن إيمان أهل الجحود المتغطرسين، فهؤلاء أموات مقبورون لا يمكنك إسماعهم، فلا تبتئس بعدم استجابتهم، وما دورك إلا دور الإبلاغ والإنذار، والله يسمع من يشاء، ولا يشاء إلا إسماع من كملت فيه شرائط الإيمان، فلكلّ قبول ورفض عوامل عريقة في النفس الإنسانية، وهناك دواع كثيرة لعدم الاستجابة ومشيئة الله بمعنى اكتمال عوامل القبول حيث يتبعها بالطبع الإيمان والتسليم.

ولعلّك تسأل: كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية وما ورد من أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله خاطب أجساد صناديد قريش بعد مقتلهم يوم بدر، وقد روي بوجوه متعدّدة، وفي بعضها أنّه صلّی الله علیه و آله قال لهم في ما قال: «أليس قد وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً»، وأنّ بعض الصحابة قال: كيف تخاطبهم وهم جيف؟ فقال الرسول صلّی الله علیه و آله: «والذي نفسي

ص: 321

بيده ما أنتم بأسمع منهم ولكنّهم لا يطيقون الجواب».(1) وكذلك ما ورد من تلقين الميّت بعد الدفن وما ورد من زيارة أهل القبور وخطابهم بالسلام وغير ذلك.

والجواب: أنّ التعبير في الآية الكريمة تعبير أدبي، ويلاحظ فيه تشبيه الكفّار بالأموات وتشبيه عدم تأثّرهم من الإنذار بعدم السماع والتعبير الأدبي لا يبتني على كون الصفة في المشبّه به واقعياً، بل يبتني على تأثّر السامع به نفسياً، فحينما تقول: «زيد كالأسد» تشبّه زيداً بالأسد في الشجاعة، ومن الممكن أن يكون زيد أشجع منه بكثير، ولكنّ نفس السامع متأثّرة بشجاعة الأسد، وربّما يشبه وجه إنسان وسيم بالقمر والقمر في واقعه تراب وحجر ليس فيه جمال خلاب، ولكنّ التشبيه على أساس ما يتأثر به الإنسان من نوره في الليالي الظلماء. وهكذا سائر الموارد.

ولذلك تختلف الحضارات في التشبيه، فالمجتمع الذي نعيشه الآن لا يشبّه بالحمار إلا من كان غبياًّ، فكأنّ الغباء هو الميزة الواضحة لهذا الحيوان، بينما كانت العرب قديماً تشبه الرجل الصبور والذي يتحمّل أقسى الشدائد في الحرب وغيره بالحمار، لما يمتاز به هذا الحيوان من تحمّل الأذى والمشقّة، ولذلك سمّي آخر خلفاء بني أُميّة ب_«مروان الحمار». والتشبيه هنا أيضاً على أساس ما يشعر به السامع ويقتنع به من كون الميّت جماداً لا يتأثّر بما حوله، فيقول الله سبحانه: إنّ هؤلاء كالموتى لا يسمعون ولا يشعرون، ولا يعني ذلك أنّ الموتى لا يسمعون في الواقع الخارجي، بل في شعور السامع.

ص: 322


1- راجع: صحيح البخاري 2: 101؛ الميزان في تفسير القرآن 17: 39

سورة فاطر (24-26)

«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)»

«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً»، تأتي هذه المجموعة في سياق الآيات السابقة لتسلية الرسول صلّی الله علیه و آله، والتحذير الظالمين المكذّبين. وقوله: «بِالحَقّ» متعلّق بالإرسال. و«الباء» للمصاحبة، أي مصاحباً للحقّ، والمراد به القرآن الكريم، أو الآيات والمعجزات، أو الدين الصحيح. ويمكن أن يتعلّق ب_«البشير والنذير»، أي إنّك تبشر بالوعد الحقّ وتنذر بالوعيد الحقّ. والغرض إكمال التنبيه السابق - حيث حصر الوظيفة الرسالية في الإنذار - بالتأكيد على أنّ إنذارك مشفوع بالبشارة للمؤمنين، وأنّ إنذارك وتبشيرك إنّما هو برسالتنا وأنّه بالحقّ لا يشوبه كذب أو مبالغة.

«وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ»، «خلا» أي معنى. وهذا تأكيد على أنّ الإنذار لا يختصّ بهذه الأُمّة، فما من أُمّة - أي مجموعة من البشر - إلا سبق لهم الإنذار. و«الأُمّة» - كما في «مفردات الراغب» - كلّ جماعة يجمعهم أمر ما، إمّا دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد.

وهنا يبدو سؤال، وهو أنّ هناك كثيراً من المجتمعات البشرية لم يأتهم رسول ومنهم عرب الجزيرة، قال تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ».(1) وقد تكرّر ذكر ذلك في القرآن الكريم، فكيف نجمع بين الآيتين؟

ص: 323


1- القصص (28): 46

وأجاب عنه في «الميزان» بأنّه لم يقل: «إلا خلا منها نذير»، بل قال: «خلا فيها»، فلا ينافي أن يكون النذير أتاها من غيرها. (1) ولكن هذا الجواب لا يحسم الإشكال، لأنّ العرب في الجزيرة وغيرها لم يأتهم نذير، لا منهم ولا من غيرهم. ولعله رحمه الله أراد بذلك الإشارة إلى الرسالات القديمة، كما سيأتي.

ويمكن أن نقول: إنّ النذير إذا قصد به الرسول، فلا بدّ من التوسّع في معنى الأُمّة ليشمل كلّ مجموعة بلغتها الرسالة ولو قبل قرون. وهذا غير بعيد، فإنّ المجتمع البشري في العصر الحاضر يصدق عليه أنّه جاءه النذير، أي الرسول صلّی الله علیه و آله مع تأخّره عنه بقرون، ويصدق عنوان الأُمّة الواحدة على هذه المجموعة من البشر التي لا يجمعها الزمان.

وعليه فيصحّ أن يقال: إنّ عرب الجزيرة - مثلاً - وإن لم يبعث فيهم ومنهم رسول، ولكنّهم امتداد لمجموعة قديمة خلا فيهم رسول، بل رسل، كإبراهيم وإسماعيل علیهماالسّلام .

ويمكن أن يقصد ب_«الرسول» كلّ من يبلغ الإنذار ولو بالواسطة، فلا حاجة إلى هذا التوسّع في معنى الأُمّة. وعليه فيصحّ أن يقال: إنّ عرب الجزيرة - مثلاً - خلا فيها نذير، أُبلّغهم رسالات السماء القديمة ولو بالواسطة، سواء في منطقتهم أو في المناطق النائية.

ويقال: إنّه كان من العرب أوصياء لعيسى علیه السّلام وإنّ منهم عبد المطّلب وأبا طالب علیهماالسّلام، كما أنّ هناك حكماء في العرب يظهر من كلماتهم وأشعارهم أنّهم كانوا على علم بالرسالات القديمة، بل كانوا يؤمنون بها ويسمّون هؤلاء بالأحناف.

ص: 324


1- الميزان في تفسير القرآن 17: 27

كما أنّ من الممكن أن يعتبر «النذير» بمعنى ما ينذر لا من ينذر، فيكفي بلوغ الخبر. وهذا التعبير شائع أيضاً ووارد في الكتاب العزيز، قال تعالى: «هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذْرِ الأُولَى».(1) وعليه فيصحّ أن يقال: إنّ عرب الجزيرة - مثلاً - وإن لم يأتهم نذير بمعنى الرسول إلا أنّهم خلت فيهم النذر، ببلوغ رسالات السماء إلى أسماعهم.

«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ المُنِيرِ»، هذا الموضوع ممّا كرّر القرآن التأكيد عليه، وهو مشابهة الأُمم في مواجهة الرسالات، وإن أكثرهم كذّبوا الرسل، مع أنّهم أيضاً جاؤوهم بالبيّنات، أي المعجزات الواضحات التي تظهر بوضوح انتماءهم إلى السماء، وأنّ الله تعالى هو الذي بعثهم، وجاؤوهم أيضاً بالزبر وبالكتاب المنير.

وقد اختلف المفسّرون في الفرق بين «الزبر» و«الكتاب»، حيث إنّ الزبر جمع زبور وهو بمعنى الكتاب، فقال بعضهم: إنّ الزبور هو الكتاب الذي غلظت كتابته، لأنّ في الزبر معنى الشدّة والغلظة، وقال بعضهم: إنّ الزبور هو الكتاب الذي يشتمل على الأخلاق والأدعية دون الأحكام والشرائع، ولذلك عبّر عن كتاب داود - وهو مجموعة من الأدعية - بالزبور، وقال بعضهم: إنّ الكتاب المنير یراد به خصوص التوراة، ويراد بالزبر لسائر الكتب.

ولكنّ الظاهر أنّ «الزبر» يراد بها النواهي والأحكام، فإنّ الزير - بفتح الزاء - هو المنع والردع، عبّر به عنها لما فيها من الغلظة والشدّة حيث يمنع الإنسان من بلوغ مآربه وما يهواه. و «الكتاب المنير» ما يشتمل على الحجج والأدلّة، ولا يدلّ التعبير على تعدّد الكتاب، فالكتاب الواحد قد يشتمل على حجج وبراهين، وعلى

ص: 325


1- النجم (53): 56

عظات وإنذارات. فالغرض - والله العالم - أنّهم بالرغم من أنّه بلغهم من الله تعالى معجزات و آيات، وبلغهم أيضاً عظات وزواجر ، وبلغهم أيضاً أدلّة وبراهين قولية، تثبت دعاوى المرسلين، فلم يبق لهم أيّ عذر ، ومع ذلك كذّبوا رسلهم، فأخذهم الله بعذابه الشديد.

«ثمّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير»، «ثمّ» يدلّ على التراخي، فلم يستعقب التكذيب نزول العذاب فوراً، بل أمهلهم الله تعالى وأتمّ عليهم الحجة، فلمّا تمادوا في الغيّ أخذهم. والتعبير ب_«الأخذ» ينبئ عن عذاب عظيم أتى عليهم بأكملهم، فلم يبق منهم أحد. وللتهويل بما أصابهم اكتفى بالسؤال، ليعترف السامع بهول العذاب : «فَكَيْفَ كَانَ نَكِير» ؟!

و «النكير» مصدر بمعنى الإنكار ، ولكنّه إنكار عملي وأيّما إنكار؟! إنكار بعذاب أليم ساحق لا يبقي الحرث ولا النسل، فتدفن كلّ القابليات التي لم تحن أوان بروزها وتسقط كلّ الزهور والورود والبراعم. والله تعالى لا يبالي بالتبعات، فكلّ ذلك خلقه وله في خلقه شؤون، وله الحمد على كلّ حال.

ص: 326

سورة فاطر(27-30)

«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)»

«ألَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا»، تشير الآية والتي بعدها إلى جانب من جوانب الحكمة والتدبير في الكون، وهو الجانب الجمالي في مختلف أنحاء الطبيعة. وإدراك هذا الأمر لا يحتاج إلى تدبّر ودقّة، بل تكفي الرؤية. ولذلك قال: «أَلَمْ تَرَ» ، فإنّ جمال الطبيعة يدركه الإنسان بمجرّد ملاحظة جوانب الكون المحيطة به.

واختلاف ألوان الثمرات أمر بهيج حقّاً، فتجد من كلّ نوع من أنواع كلّ ثمرة ألواناً مختلفة، وكلّها تبهر العين وتبثّ في النفس البهجة والانشراح. كلّ هذه الألوان الجميلة والطعوم المختلفة تخرج من أرض واحدة وبماء واحد. وليس معنی ذلك أنّه إعجاز خارق للطبيعة، بل هو مقتضى العوامل الطبيعية، إنّما الكلام في أنّ هذا الاقتضاء أمر مقصود، وهناك يد فنانة تضفي على الطبيعة هذا الجمال الخلاب.

ولئن تمكّن المبطلون تفسير كلّ ظاهرة طبيعية بعيداً عن تدبير مقصود، فإنّهم يعجزون عن تفسير جمال الطبيعة إلا بما يدلّ على تلك اليد الخلاقة المبدعة.

ص: 327

«وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ»، ثمّ يضيف إلى ذلك جمال الجبال والصخور الملوّنة، وهي «جدد» جمع جُدّة أي الجادّة والطريق، إمّا بمعنى أنّ في الجبال طرق، أو أنّ سلاسل الجبال بأنفسها مخطّطة، كأنّها طرائق، وهو الأقرب. أي وخلق من الجبال طرائق مختلفة والاهتمام هنا باختلاف الألوان، فمنها الجبال البيض، ومنها ،الحمر ، ومنها السود، ومنها غير ذلك.

و «غرابيب» جمع غربيب - بكسر أوّله - أي الأسود تشبيهاً له بالغراب، فليس بمعنى شدّة السواد - كما قيل - حتّى يقال: إنّ المناسب أن يقال: سود غرابيب، ونبحث عن وجه للتقليب، بل كلتا الكلمتين تدلان على السواد. ثمّ إنّ قوله: «مُختلِفٌ أَلْوَانُها» يشير إلى اختلاف أنواع البياض والحمرة.

«وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُختلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ»، عطف على ما سبق. وهنا ينبّه على اختلاف ألوان الإنسان والحيوان.

و«الدوابّ» جمع دابّة تشمل كلّ ما يتحرّك على الأرض. و«الأنعام» وهي الحيوانات الأليفة للبشر - الإبل والبقر والغنم - أنواع وألوان أيضاً ذكرها بالخصوص بعد شمول الدوابّ لها لقربها من الإنسان. والإنسان أيضاً ألوان مختلفة.

والضمير المفرد في «أَلْوَانُهُ» يعود إلى كلّ نوع برأسه، ولو قال: «ألوانها» لكان المعنى اختلاف ألوان المجموعة. والمقصود اختلاف كلّ نوع في ألوانه، ولذلك صدّر ذكرها ب_«من»، أي وكلّ من الناس.

«إنّما يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماء»، عقّب هذا التجوال في الألوان الطبيعية الزاهية

ص: 328

كرمز لجمال الطبيعة بالتنبيه على ما يقتضيه التدبّر في الكون بعد التنعم بمشاهدة المناظر الخلابة، وهو الخشية من خالقها العظيم ومدبّرها القادر على كلّ شيء، خلافاً لما عليه عامّة الناس من الافتتان بسحر الطبيعة والغفلة عن الطبيعة والغفلة عن الخالق، بل الانشغال بكلّ ما يلهي ويطرب من اللعب والغناء والرقص في إحضان الطبيعة وحين التمتّع بمناظرها البهيجة، فيلوّثون بيئتها البريئة بطربهم الآثم، ولا يتنبّهون إلى أنّ الله سبحانه إنّما جعل ما على الأرض زينة لها ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً.

وإنّما ينتقل من هذه الآيات والمناظر إلى خالق الجمال والجلال العلماء العارفون بالله، فيزيدهم النظر إليها خشية وخشوعاً واستشعاراً لعظمته وجلاله وجماله، وكلّما زاد الإنسان معرفة بربّه زاد خشوعاً وخشية. و«الخشية» هي الخوف.

ومن لطيف البيان وإعجازه أن تنتقل الآية بنا من الألوان الطبيعية الزاهية إلى الخوف والخشية، إذ لا ينبغي أن يأخذ بمجامع قلب الإنسان العارف إلا عظمة الخالق، والخشية من سطواته حتّى في تلك اللحظات الجميلة التي نعيشها في إحضان الطبيعة، فكلّ ما يلهي الإنسان عن ربّه ورقّة خاسرة ينبغي الابتعاد عنه، وإنّما الرابح من ينتقل من كلّ هذه المظاهر إلى ربّه وخالقه، ويتنعّم بحبّه ورضوانه .

ثمّ إنّ الجملة لا شكّ أنّها تفيد الحصر، حتّى لو لم نقل بأنّ كلمة «إنّما» تفيده، وذلك من جهة تقديم الجار والمجرور «مِنْ عِبَادِهِ» بل نفس الإتيان به يفيده أيضاً، إذ معناه أنّ بعض عباده وهم العلماء يخشونه، فينفي الخشية عن غيرهم، كما أنّ تقديم اسم الجلالة يفيده أيضاً، فلو لم يكن في الجملة «إنّما» ولا الجار

ص: 329

والمجرور، لأفاد الحصر أيضاً، لأنّ طبيعة الجملة أن تقول: «ويخشى العلماء الله»، فلو قلت: «ويخشى الله العلماء» أفاد الحصر.

هذا مضافاً إلى أنّ هذا التقديم يفيد أنّ الحصر المستفاد من «إنّما» يتعلّق بخشية العلماء دون غيرهم، بخلاف ما لو أخّر الاسم، فإنّه يفيد حصر خشيتهم في الله، فلو قال: «إنّما يخشى العلماء من الله» أفاد أنّهم لا يخشون غيره والآية الكريمة تفيد أنّ خشية الله منحصرة فيهم.

والحاصل أنّ حصر الخشية من الله في العلماء يستفاد من وجوه أربعة: كلمة «إنّما»، الجار والمجرور المفيد لمعنى التبعيض، تقديم الجار والمجرور، وأخيراً تقديم اسم الجلالة.

وقد ذكر بعض الكتّاب الإسلاميين الجدّد بأنّ المراد من العلماء في الآية المختصّون بالعلوم الطبيعية، وذلك لأنّ ذكرهم ورد عقيب التنبيه على ملاحظة الطبيعة ودقائقها فلا بدّ من حمل عنوان العلماء على ما يناسب ذلك.

وهذا غير صحيح وهو خلاف ما نشاهده في واقع الأمر، فإنّ علماء الطبيعة في الغالب لا يؤمنون بالله تعالى، ومن الغريب أنّهم كلّما توغّلوا في شؤون الطبيعة ومعرفة أسرارها زادوا كفراً و عناداً، والسرّ في ذلك أنّ الإيمان لا يحصل بمجرّد التأمّل في الكون ، وقد قال تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ»،(1) وليس المراد أنّهم يعرضون عن نفس الآية بالذات، بل ربّما يتأّملونها أدقّ تأمّل، ولكنّهم يغفلون عن اعتبارها آية، فيحاولون بشتى الطرق وبتأويلات بعيدة وغير منطقية أن يعتبروا كلّ ذلك نتيجة الصدفة، وأنّها ليست

ص: 330


1- يوسف (12): 105

أُموراً مقصودة لمدبّر حكيم. فالمراد بالعلماء، العارفون بالله تعالى. والعلم في الشرع ليس إلا معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وكتبه وأوليائه وأحكامه وشرائعه ممّا يوصلنا إلى رضوانه تعالى.

ففي الحديث: «دخل رسول الله صلّى الله عليه و آله المسجد، فإذاً جماعة قد أطافوا برجل، فقال: «ما هذا؟» فقيل: علامة، فقال: «وما العلامة؟» فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيّام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبيّ صلّی الله علیه و آله: «ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه»، ثمّ قال النبيّ صلّی الله علیه و آله: «إنّما العلم ثلاثة آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل». (1)

«إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ»، ذكر المفسّرون وجوهاً في سرّ تعقيب الآية بهذه الجملة وكلّها تعود إلى وجه خشيتهم من الله تعالى، فقالوا: إنّهم يخشون الله لأنّه عزيز لا يغلبه شيء. وارتبكوا في الغفران، فاعتبره بعضهم وجهاً لحبّهم إيّاه مع أنّهم يخشونه، وبعضهم جعله تذكيراً بأنّ الله تعالى يغفر لمن لا يخشاه.

ويخطر في البال أنّ الجملة ينبغي أن تكون تعليلاً للحصر ولغفلة الناس عامّة، لأنّهما المقصود من الجملة السابقة، فالمراد - والله العالم - أنّ الخشية إنّما انحصرت في العلماء، لأنّه تعالى عزيز ، أي صعب المنال، فقليل أُولئك الذين ينتقلون من كلّ هذه المظاهر إلى الخالق العظيم نُقلة توجب خشيتهم منه تعالى.

ومن جهة أُخرى لأنّه غفور يستر على الإنسان تماديه في الغيّ والطرب والاشتغال بمباهج الحياة، فلا يكدّر عليهم صفو العيش عاجلاً، ولو كانت سنّته تعالى أن يأخذ كلّ إنسان بتماديه في الطرب لكثر الهالكون، ولكنّه تعالى غفور

ص: 331


1- الكافي 1: 32

حليم لا يعاجل بالعقوبة ويترك الإنسان يلهو ويطرب، ويقبل منه توبته وإن تأخّر، فيا له من ربّ رحيم ودود كريم، ويا لنا من عبيد طغاة مردة. اللّهمّ اغفر لنا طيشنا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا.

«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وَعَلانِيَةً»، يبدو من السياق أنّ المراد ب_«الذين يتلون» في هذه الآية العلماء الذين يخشون الله، وأنّ الآيات تبيّن التدرّج في حصول الإيمان وتأثيره، فمنشأ الإيمان بالله هو التأمّل في الكون و آيات حكمته تعالى فيه، ثمّ التجاوز عن ذلك بمعرفة الله قدر الإمكان، ثمّ استشعار الخشية، ثمّ التأمّل في الكتاب المنزل وتلاوته، ثمّ إقامة الصلاة والإنفاق في سبيله، وهذا مرحلة العمل.

ومقتضى ذلك أنّ هذه التلاوة ليست مجرّد التوالي في التلفّظ بالكلام المنزل، فإنّه ليس متأثّراً من الخشية ولا مؤثّراً فى الصلاة والزكاة، بل المراد التلاوة بتدبّر وإمعان. وفي التعبير بكتاب الله ما يستدعي المزيد من الخشية والخشوع.

ثمّ إن هذه التلاوة تتعقّبها صلاة وزكاة. وقد مرّ الكلام في إقامة الصلاة وأنّ المراد إقامتها على عمودها كالخيمة المتقوّمة به. وعمودها التوجّه إلى الله تعالى وقيل إنّه المعنى الجذري لكلمة الصلاة، ولم يثبت ذلك. ولكن ورد في الحديث: «إنّما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها»(1).

وأمّا الزكاة فقد عبّر عنها بالإنفاق ممّا رزق الله تنبيهاً على أنّه ليس فيه منّة من المنفق، فهو فاقد في ذاته لكلّ شيء، وإنّما حصل على المال برزق من الله تعالى، فعليه أن يعمل بما أمره به فيه.

ص: 332


1- الكافي 3: 363

وقد ذكر المفسّرون في وجه التأكيد على الإنفاق في السرّ والعلانية أنّ إنفاق السرّ لدفع الرياء، وإنفاق العلانية لترغيب الآخرين. و ليس هذا أمراً خاصّاً بالإنفاق، فإنّ كلّ عمل حسن بالعلن يفيد ذلك، وهو مطلوب من هذه الجهة، ولذلك تأكّد حضور الجماعة والمساجد وسائر المجامع الدينية، فهناك صلاة تصلّيها في عقر دارك وهي النافلة غالباً، وصلاة ينبغي أن تصلّيها في المسجد وفي الجمع معلناً بها.

ويجب أن لا يهتمّ المؤمن بوسوسة الشيطان وإلقائه في روعه بأنّ هذا يوجب الرياء، وهناك كثير من الناس لا يحضرون الجماعة خوفاً من الرياء، وهذه إحدى سبل الشيطان، لإبعاد المؤمن عمّا أمر به الله تعالى. فينبغي أن ننتبه إلى أنّ ظهور المؤمن بالمظهر الديني اللائق مطلوب شرعاً، وليس هذا من الرياء المذموم.

ومن جهة أُخرى فإن الابتعاد عن مواطن الإغراء تجنّباً من الوقوع في الذنب ليست هي الطريقة الصحيحة في إكمال النفس، بل المطلوب أن يعيش المؤمن بين ظهراني المجتمع ويحفظ دينه، وأمّا الهرب بالدين إلى الكهوف والصوامع فهو شأن الرهبانية المسيحية وليس ممّا يدعو إليه الإسلام الحنيف.

وهناك وجه آخر لتنويع الإنفاق إلى السرّ والعلن، وهو أنّ الإنفاق في العلن لمن يعلن فقره وحاجته ويسأل الناس والإنفاق في السّر لمن لا يبدو عليه آثار الفقر: «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا»(1).

وقد ورد في الحديث المستفيض، بل لعلّه متواتر ونقله الفريقان: «صدقة السرّ

ص: 333


1- البقرة (2): 273

تطفئ غضب الربّ تبارك وتعالى»،(1) وعلى المؤمن أن يبحث عن هؤلاء الفقراء، بل يتجشّم مؤونة السفر للوصول إليهم، ويعطيهم بحيث لا يعرفونه، ولا يتوقّع منهم شكراً وجزاءً، يبتغي بذلك رضوان الله تعالى وإطفاء غضبه.

«يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ»، الظاهر أنّها جملة حالية تقيّد الموضوع، فالحكم يختصّ بمن يفعل ذلك رجاء التجارة الرابحة قطعاً. و«البوار» هو الكساد والخسارة. وحيث إنّ المشتري في هذه التجارة هو الله تعالى، فلا يمكن أن تبور، قال تعالى: «إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنّةَ».(2)

والحاصل أنّ الذي يفوز في هذا المضمار هو الذي يقصد بعمله التجارة مع ربّه وتحصيل رضاه، فهنالك من يصلّي ويزكّي للوصول إلى أغراض دنيوية حتّى لو كان بتوقّع رحمة من ربّه، ويا له من غبن فاحش أن يقتنع بالدنيا بدلاً عن الآخرة.

ثمّ إنّ بعض المفسّرين اعتبر جملة «يَرْجُونَ تِجَارَةً» خبر «إنّ»، وهو من حيث اللفظ أقرب، ولكن من حيث المعنى بعيد، فإنّ المناسب للخبر ذكر ما يترتّب عليه واقعاً من جزاء، لا بيان حالتهم النفسية التي ربّما يتعقّبه الجزاء وربّما لا يتعقّبه، فالأولى أن يكون الخبر ما يدلّ عليه قوله تعالى: «ليوّفيهم أُجورهم»، أي يفعلون ذلك ليوفّيهم أُجورهم. واللام للغاية لا للغرض، فلا يعود الإشكال.

«لِيُوَفِّيَهُمْ أجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ»، «توفية الأجر» هو دفعه كاملاً، وأمّا الزيادة من فضله ففيها احتمالان:

ص: 334


1- الكافي 4: 8
2- التوبة (9): 111

1- أن تكون من جنس نفس الأجر ولكنّها زائدة على المتوقّع أو الموعود.

2- أن تكون أمراً لا يتوقّعه الإنسان ولا يصل إليه فهمه.

والظاهر أنّ المراد هو الثاني، فإنّ الأجر مهما كان فهو من فضله تعالى، فإنّ أحداً لا يستحقّ على الله شيئاً، فليس هناك أمر يزيد على شيء متوقّع، وليس هناك وعد محدّد، فلا بدّ من أن يكون المراد بالزيادة أمر لا تصل إليه أفهامنا، وهو النعيم الحقيقي الذي عبّر عنه تعالى بالرضوان، ووصفه بأنّه أكبر من سائر نعم الجنّة في قوله: «وَعَدَ الله المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةٌ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1) وهو المراد أيضاً بقوله تعالى «لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ»(2) حيث إنّه يدلّ على أنّ هناك شيئاً من الأجر لا يشاؤونه لأنّهم لا يعلمونه.

والواقع أنّ الفاصل الحقيقي بين نعيم الجنّة وغيره من النعم هو هذا الأمر وإلا فالنعم المادّية وإن كانت حقيقتها هناك تختلف عمّا هنا اختلافاً جوهرياً إلا أنّها ليست الفارق الأساس، وإنّما الفارق هو رضوان الله تعالى يحيط بالإنسان، فيشعر بالسعادة الأبدية الخالدة التي لا تضاهيها سعادة مهما كانت متطوّرة ومتكاملة.

وهناك من البشر من سعد بذلك في هذه الحياة أيضاً، قال تعالى: «أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * هُمُ الْبُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».(3)

ص: 335


1- التوبة (9): 72
2- ق (50): 35
3- يونس (10): 62 - 64

«إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ»، هذا التعقيب إيذان بأنّه ليس هناك استحقاق، بل هناك قصور من الكلّ حتّى الأنبياء والأولياء، ولكنّ الله غفور فيغفر الهفوات، قال تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»(1) وهو فوق ذلك شكور لما يعمله العبد من الصالحات وإن كان لا يستحقّ على الله شيئاً، بل إنّ ما يعمله فرض واجب عليه وهو لا يعمل إلا لمصلحته، ولا يعود إلى الله من أحد نفع، وهو غنيّ عن عباده إلا أنّه تعالى شكور له من فضله. وشكره تعالى يتجلّى في جزائه. و «الشكور» صيغة المبالغة، فهو يشكر عباده كثيراً.

ص: 336


1- النساء (4): 31

سورة فاطر (31- 35)

«وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)»

«وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»، حيث ذكر سبحانه من مقدّمات موجبات الفوز والنجاح تلاوة كتاب الله وهو معنى عامّ، أكّد في هذه الآية أنّ الكتاب الذي يجب أن يتلى في هذه المرحلة من الشرائع والنبوّات هو القرآن الكريم. وقوله: «هُوَ الحقّ» يفيد الحصر لمكان الألف واللام أي لا حقّ غيره .

وفيه إشارة إلى الخلل والتحريف الذي أصاب الكتب السماوية السابقة، ولكنّه في نفس الوقت امتداد لتلك الرسالات ولا يمكن أن يحيد عنها، بل هو مصدّق لما بين يديه، أي ما نزل قبله. وقد تكرّر هذا التعبير في توصيف القرآن وكذلك الإنجيل وذلك تأكيداً على وحدة الهدف والغرض الاسمي من الكتب السماوية، وهو سمة وعلامة على كون الكتاب حقّاً ونازلاً من عند الله تعالى.

«إِنَّ الله بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» لعلّه إشارة إلى سرّ اختلاف الكتب السماوية في

ص: 337

أحكامها وبعض شرائعها بالرغم من أنّها كلّها تدعو إلى هدف واحد، وصراط واحد. والسرّ هو اختلاف مقتضيات الزمان والمكان، والله خبير بصير بعباده وبحاجاتهم المتغيّرة، ومصالحهم المتطوّرة.

وقيل: إنّها تعليل لإيحاء الكتاب إلى الرسول صلّى الله عليه و آله بأنّه خبير بأهليتك للوحي وبصير بشؤونك.

والفرق بين «الخبير» و«البصير» على التفسيرين أنّ الأوّل يتعلّق بالشؤون النفسية والباطنية، والثاني بالشؤون المرتبطة بالظاهر المحسوس.

«ثُمَّ أوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخيراتِ بِإِذْنِ اللهِ»، اختلف المفسّرون في تفسير الآية وفي بعض مفرداتها إلى أقوال كثيرة لا جدوى من التعرّض لذكرها. أمّا قوله «ثمّ» فيمكن أن يقال: إنّه للتراخي في الذكر، أي ذكر جملة بعد جملة، وهو كثير التداول، ولكن الظاهر أنها لتراخي إيراث الكتاب عن الإيحاء المذكور في الآية السابقة. أي تأخّر إيراث الكتاب عن الإيحاء به زماناً وهو واضح. والمراد ب_«الكتاب» القران الكريم بقرينة ذكره سابقاً، فيكون اللام للعهد، بل لعلّه واضح من السياق. وما ذكر من تأويله بالإيمان بالكتب السابقة إنّما ذكر للفرار من بعض ما يجدونه من صعوبة في تفسير الآية.

إنّما الكلام في معرفة المراد بالذين اصطفاهم الله تعالى لوراثة الكتاب، وأنّ ذلك هل يقتضي كونهم جميعاً من الأبرار أو المقرّبين عند الله تعالى، ثمّ توجيه ما ورد في الآية من كون بعضهم ظالماً لنفسه، وتوجيه ما يتوهّم من الآية التالية من كونهم جميعاً في الجنّة.

ص: 338

وأسخف ما قيل في المقام: إنّ المراد بهم الأُمّة المحمدية، وإنّهم جميعاً يدخلون الجنّة.

وقال بعضهم: إنّ الآية لا تدلّ على أنّهم لا يدخلون النار، فلا تنافي ما يقتضيه المعاصي. ولكن لم ينتبه إلى أنّ من المعاصي ما وعد الله عليه الخلود في النار، كقتل المؤمن عمداً، وكيف يمكن أن يدخل الجنّة طغاة الأُمّة وفراعنتها الذين سوّدوا صفحات التأريخ بظلمهم، وبدّلوا نعمة الله كفراً، وصدّوا عن سبيل الله، وقتلوا الأئمّة الطاهرين، ومنعوا حدود الله، وملأوا الأرض فساداً وجوراً؟!

لا أظنّ أن يصدر هذا الكلام ممّن له أدنى دراية بحكمة الله تعالى، وأدنى معرفة بالمعايير التي وضعها الله تعالى وقد صرّح في كتابه الكريم: «لَيْسَ بِأَمَانِيُكُمْ وَلا أَمَانِى أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيّاً وَلا نَصِيراً»(1)، والحاصل أنّ بطلان هذا الكلام غنيّ عن البيان.

والذي ينبغي أن يقال: إنّ إيراث الكتاب لا يدلّ على فضيلة وكرامة، قال تعالى: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ»(2)، ولكنّ الاصطفاء ربّما يقتضي ذلك، لأنّه ليس اختياراً مطلقاً، بل هو اختيار للصفوة وهم الخلّص، ولذلك لم يرد في الكتاب العزيز إلا في الأنبياء ومن يتلوهم في الفضل أو يكتسب منهم الشرف، قال تعالى في سورة «إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»(3).

ص: 339


1- النساء (4): 123
2- الشورى (42): 14
3- آل عمران (3): 33

وأمّا كلمة «عبادنا» فلا يدلّ على تشريف خاصّ، فإن الله عبّر به عن قوم طغاة كفرة، قال تعالى: «بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيد»(1) والمراد بهم جيش نبوخذ نصر وهم كفّار ظلمة. فيا ترى من هم الذين اصطفاهم الله تعالى من بين العباد وأورثهم الكتاب؟

يمكن أن يقال: إنّ الاصطفاء هنا لا يدلّ على ميزة شخصية للمصطفين، وذلك لأنّه متعلّق بالمجتمع لا بالفرد، وهناك فرق واضح بين الأمرين فمعنى الآية أنّ الله تعالى اختار لايراث القرآن الكريم وتحمل الأمانة وإيصالها سليمة من التحريف والتغيير إلى الأجيال المتأخّرة المجتمع المدني في عصر الرسالة المجيدة ومن بعدهم إلى زمان انتشار القرآن انتشاراً واسعاً بحيث يأمن من التحريف.

ولكن الاصطفاء ليس بمعنى أنّ المجتمع بجميع أفراده كانوا صالحين، بل كان فيهم منافقون يتربّصون بالإسلام والقرآن الدوائر ولعلّ منهم من حاول التحريف والزيادة والنقصان فلم يوفّق، وإنّما المراد بالآية صلوح المجتمع ككلّ لأداء هذه المهمّة. ومثله قوله تعالى «هُوَ اجْتَبَاكُمْ»(2) خطاباً للمجتمع المؤمن.

ولعلّ السرّ في تعقيب هذا الاصطفاء بالتنبيه على انقسامهم إلى ظالم ومقتصد وسابق، مع أنّه انقسام متوقّع في كلّ مجتمع هو دفع هذا التوهّم من التعبير بالاصطفاء، ولكنّ التوهّم بقي - مع الأسف - بالرغم من هذا التنبيه، وتسرّب إلى التفاسير .

ص: 340


1- الإسراء (17) : 5
2- الحجّ (22): 78

هذا وقد ورد في روايات كثيرة عن طرقنا أنّ المراد بالمصطفين ذرّية فاطمة علیهاالسّلام، وورد في بعضها أنّ المراد بهم الأئمّة علیه السّلام، واختاره الطبرسي رحمه الله، وأيّده الآلوسي بالحديث المتواتر بين الفريقين «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض» ولكنّه اختار أن يكون المراد علماء الأُمّة وعلى رأسهم أئمّة أهل البيت.

ولكن تفسير المصطفين بالأئمّة علیهم السّلام يواجه اشكالين أحدهما التقسيم الآتي، فإنّ ظاهره انقسام المصطفين إليها والآخر اختصاص الإيراث بهم علیهم السّلام مع أنّ الكتاب العزيز كان منتشراً بين المسلمين عن غير طريقهم، وهم علیهم السّلام أقرّوا بصحّة ما في أيدي الناس وأُمروا بتلاوتها كما في أيديهم واستدلّوا في أحاديثهم الشريفة بآياتها حسب ما هو متداول عند الناس.

وقد أجاب السيّد المرتضى رضوان الله عليه عن الإشكال الأوّل بأنّ الضمير يعود إلى «عِبَادِنَا» لا إلى «مَنِ اصْطَفَيْنَا». وربما يؤيّد ذلك بأنّه أقرب لفظاً، والضمير يعود إلى ما هو الأقرب. ولكن يبقى السؤال عن وجه المناسبة بين هذا التقسيم للعباد وإيراث الكتاب للمصطفين.

ويرد الشريف رحمه الله على هذا السؤال بأنّ المراد التعليل وبيان وجه الاصطفاء، وهو أنّ العباد فيهم الظالم والمقتصد والسابق، وليس للكلّ أهلية الوراثة فاصطفى الله السابق بالخيرات لوراثة الكتاب.

قال رحمه الله: والذي أعتمده وأعول عليه، أن يكون «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ» من صفة «عِبَادِنَا» أي أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، ومن عبادنا ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، أي فليس كلّ عبادنا ظالماً لنفسه، ولا

ص: 341

كلّهم مقتصداً ولا كلّهم سابقاً ،بالخيرات، فكان الذين أورثوا الكتاب السابقون بالخيرات دونهما. (1)

ولكن هذا بعيد عن اللفظ إذ كان ينبغي أن يقول فإنّ منهم كذا وكذا... ليفيد التعليل وأمّا بدونه فالفاء يفيد التفريع.

ولدفع الإشكال الثاني يمكن حمل إيراث الكتاب على أحد معنيين:

1- إيراث النسخة الصحيحة من موارد اختلاف القراءات، فإنّ ما يقال من أنّ كلّ هذه القراءات متواترة غير صحيح على مذهب أهل البيت علیهم السّلام، حيث ورد في حديثهم: «إنّ القرآن نزل على حرف واحد من عند الواحد». (2)

2- إيراث معنى الآيات، فإنّ تفسير الآيات التي اختلف فيها أهمّ من اختلاف القراءات.

وأما الروايات فلا بد من ملاحظتها، وفي ما يلي بعضها:

1- في «الكافي» عن الحسين عن معلّى عن الوشّاء عن عبدالكريم عن سليمان بن خالد عن أبي عبدالله علیه السّلام قال: سألته عن قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»(3) فقال: «أيّ شيء تقولون أنتم؟» قلت: نقول: إنّها في الفاطميين؟ قال: «ليس حيث تذهب ليس يدخل في هذا من أشار بسيفه ودعا الناس إلى خلاف»، فقلت: فأيّ شيء الظالم لنفسه؟ قال: «الجالس في بيته لا يعرف حقّ الإمام، والمقتصد: العارف

ص: 342


1- رسائل الشريف المرتضى 3: 102
2- صحيحة فضيل بن يسار، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: «كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد». (الكافي 2: 630)
3- فاطر (35): 32

بحقّ الإمام، والسابق بالخيرات: الإمام». (1)

في هذا الحديث لم ينف الإمام علیه السّلام ما قاله الراوي من أنّ المراد الفاطميون ولكنّه نفاه عمّن ادّعى منهم الإمامة بغير حقّ، وسؤال الراوي عن معنى الظالم لنفسه أراد به النقض وأنّ الاصطفاء لا ينافي كونه ظالماً فأجاب الإمام علیه السّلام بأنّ المراد من الظالم ليس المدّعي للإمامة، بل الجالس في بيته. ويتبيّن منه أنّ الظالم منهم أيضاً مقصود ضمن المصطفين الذين أورثوا الكتاب.

ومهما كان فسند الرواية ضعيف بمعلّى بن محمّد ولم يوثق بل قال فيه النجاشي أنّه مضطرب الحديث والمذهب. وفي عبد الكريم كلام. والملفت أنّ الراوي عن الإمام علیه السّلام هو سليمان بن خالد وقيل فيه أنّه كان يقاتل مع زيد بن عليّ وأنّه لم يكن معه من أصحاب الإمام الصادق علیه السّلام غيره وأنّه قطعت يده في الحرب ثمّ أفلت وقيل إنّه تاب بعد ذلك.

ولعلّ قوله في هذا الحديث أنّ المراد بالمصطفين الفاطميون من عقيدته الزيدية ويدلّ على ذلك أيضاً أنّ الإمام علیه السّلام لمّا سأله عن الآية قال له «أيّ شيء تقولون أنتم؟» ويقصد بضمير الجمع من هم على مذهبه مثل قولهم علیه السّلام لمن يسألهم من العامّة.

ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ الجواب في الحديث - على فرض صحّته - إنّما كان مبنيّاً على صحّة ما افترضه الراوي، وليس في كلام الإمام علیه السّلام تفسير صريح للمصطفين.

ولعلّ الوجه في تخصيص الظالم بمن ذكر أنّ من دعا إلى نفسه وأشار بسيفه

ص: 343


1- الكافي 1: 214 - 215، الحدیث 2

ظالم لغيره، لا لنفسه فحسب. ولكنّه بعيد جدّاً لأنّ الجالس في بيته والمتقاعس عن نصرة الإمام ظالم للنّاس أيضاً. فالظاهر أنّ الإمام علیه السّلام لم يقصد بذلك إلا التعريض بمذهب السائل وعقيدته، ولم يذكر الإمام المراد بالمصطفين وإنّما فسّر الأقسام الثلاثة.

وفي تفسيره علیه السّلام لهذه الأقسام أيضاً تعريض، حيث إنّ الظالم لنفسه لا يختصّ بمن ذكر ، بل يشمله ويشمل غيره، فتخصيص العنوان بمن لا يعرف الإمام قد يكون للتعريض بمن ينتمي إلى سائر المذاهب وإن كان المذهب منتمياً إلى الفاطميّين.

هذا مضافاً إلى ما سيأتي من الإشكال في هذا التفسير من الأساس.

2 - وفيه أيضاً عن الحسين بن محمّد عن معلّی بن محمّد عن الحسن عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» ، قال: فقال: «ولد فاطمة علیهاالسّلام، والسابق بالخيرات: الإمام، والمقتصد: العارف بالإمام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الإمام».(1)

وهذا الحديث واضح في تفسير المصطفين بالفاطميين ولكنّه ضعيف أيضاً بمعلّى مضافاً إلى ما سيأتي من الإشكال العامّ.

3- وفي «بصائر الدرجات» عن سورة بن كليب عن أبي جعفر علیه السّلام أنّه قال في هذه الآية «ثُمَّ أوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»، قال: «السابق بالخيرات الإمام فهي في ولد عليّ وفاطمة عليهماالسّلام»(2).

وسند هذا الحديث لا بأس به، وكذا ما يليه لو ثبتت صحّة نسخة «بصائر

ص: 344


1- الكافي 1: 215، الحديث 3
2- بصائر الدرجات: 64

الدرجات» المطبوعة، وهو غير واضح.

5- وفيه أيضاً عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله علیه السّلام: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» قال: قال: «هم آل محمّد والسابق بالخيرات هو الإمام». (1)

ويظهر من الحديث أنّ المراد بآل محمّد صلّی الله علیه و آله ما يشمل غير الأئمّة علیهم السّلام.

6- وفي «معاني الأخبار» عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر علیهماالسّلام قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ» فقال: «الظالم منّا من لا يعرف حقّ الإمام، والمقتصد العارف بحقّ الإمام، والسابق بالخيرات بإذن الله هو الإمام «جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا» يعني السابق والمقتصد». (2)

7- وفي «الاحتجاج» عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله علیه السّلام عن هذه الآية: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» قال: «أي ّشئ تقول؟» قلت: إنّي أقول إنّها خاصّة لولد فاطمة علیهاالسّلام . فقال علیه السّلام: «أما من سلّ سيفه ودعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد فاطمة وغيرهم، فليس بداخل في الآية»، قلت : من يدخل فيها قال: «الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى والمقتصد منّا أهل البيت هو العارف حقّ الإمام والسابق بالخيرات هو الإمام».(3)

وهذا كالحديث الأوّل والسند ضعيف أيضاً.

وهناك روايات أُخرى بنفس المعاني أو قريبة منها لا يصحّ منها شيء.

ثمّ إنّ هنا إشكالاً آخر وهو أنّ وراثة الكتاب - بناءً على هذا التفسير - خاصّة

ص: 345


1- نفس المصدر
2- معاني الأخبار: 104
3- الاحتجاج 2: 138

بالأئمّة علیهم السّلام، وأمّا غيرهم من ولد فاطمة علیهاالسّلام فلا يختلفون عن سائر الناس، بل لعلّ في أصحاب الأئمّة علیهم السّلام من هم أولى بعلم الكتاب من بعض الأشراف، بل إنّ في ذرّية فاطمة علیهاالسّلام من شرك في دم الامام كما ورد في شأن عليّ أو محمّد بن إسماعيل حفيد الإمام الصادق بالنسبة لعمّه الإمام الكاظم عليهماالسّلام، ومنهم الطواغيت والفراعنة.

ولو فرض شمول الحكم لمن هم في عهدنا فإنّ منهم من ارتدّ عن الدين، وهناك أسرّ من السادة في لبنان وغيرها تنصروا، ومن السادة من أعلن عداءه لأهل البيت علیهم السّلام.

وأجاب عن ذلك العلامة الطباطبائي رحمه الله بأنّه لا مانع من إسناد الإيراث إلى مجموعة، مع أنّ الذي يختصّ بحفظ الكتاب جمع خاصّ منهم، كما أنّ بني إسرائيل أورثوا التوراة حسبما صرّح به في القرآن، مع أنّ حفظة الكتاب جمع قليل منهم. (1)

ولكن هناك فرق بين الموردين، فإنّ إسناد إيراث التوراة إلى بني إسرائيل باعتبار أنّ منهم الأنبياء والأحبار له وجه وجيه، وذلك لأنّ هذا الاختصاص شرف اختصّ به بنو إسرائيل في مقابل بقية الأُمم، ولم يرد فيه التعبير بالاصطفاء وأمّا فاطمة اصطفاء بني سلام الله عليها من بين الأُمّة بوراثة الكتاب مع أنّ المصطفين في الواقع والذين أورث إليهم هم الأئمّة فقط، فهو كضمّ الحجر إلى الإنسان، ولا يناسبه التعبير بالاصطفاء.

ويحتمل أن تكون هذه الروايات أو بعضها قد حُرّفت عن المعنى المقصود

ص: 346


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 44

وأنّها في أصل الصدور إنّما حصرت السابق بالخيرات في الأئمّة علیهم السّلام ، ولم تتعرّض لبيان المصطفين كما هو صريح أكثر ما ورد في هذا الباب.

ويلاحظ أيضاً اختلاف روايات سورة بن كليب في «بصائر الدرجات» حتّى أنّ حديثين منها متّحدان في السند تماماً ومختلفان من حيث إضافة «فهي في ولد عليّ وفاطمة علیهماالسّلام» ممّا يدلّ على أنّ الإضافة قد تكون من بعض الرواة.

ومع قطع النظر عن الروايات فالظاهر كما مرّ أنّ المراد بالمصطفين العلماء والقرّاء وحملة الكتاب من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والمراد بالاصطفاء اختيارهم لحمل الكتاب وتسليمه لمن يأتي بعدهم وهو شرف لهم وميزة، إلا أنّهم ليسوا في مرتبة واحدة ، فمنهم ظالم لنفسه لم يعرف حقّ الإمام، فلم يفده حمله للكتاب، إذ لم يتمسّك بالثقل الآخر وهو العترة الطاهرة، فلا يقبل منه عمل. و منهم المقتصد الذي عرف حقّ الإمام، فهو يقصد الخير بمتابعته، ولكنّه غير معصوم، فربّما تصدر منه زلّة فهو متوسّط، والاقتصاد هو التوسّط، ومنهم الإمام وهو السابق بالخيرات.

والمراد بالسبق التقدّم الرتبي لا الزماني، فالمعصوم أفضل عملاً من غيره وإن كان متأخراً زماناً، مع أنّه مقدّم زماناً أيضاً على أهل زمانه في الخيرات لا في الولادة، لأنّه الإمام، والصالحون يتبعون أثره والمتقدّم عليه مارق.

و«الخيرات» الأعمال الصالحة، قال تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ».(1) ولا ريب في أنّ كلّ شيء لا يكون إلا بإذن الله تعالى، ولكن في سبق المعصومين بالخيرات عناية خاصّة، فإنّ ما أنعم الله عليهم من العلم والعصمة هو الذي جعلهم السابقين

ص: 347


1- البقرة (2): 148

إلى الخيرات، وهم المقرّبون السابقون السابقون(1)، كما في سورة الواقعة، فالثلة من الأوّلين هم الأنبياء علیهم السّلام والقليل من الآخرين هم محمد و آله صلّی الله علیه و آله . (2)

«ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»، الظاهر أنّ «ذلك» إشارة إلى السبق بالخيرات، فالمراد أنّ سبقهم إلى الخيرات بفضل من الله تعالى، كما أنّه بإذنه أيضاً. ولعلّ المراد ب_«الفضل» ما منحهم الله تعالى من العصمة. والفضل في ذلك من الله تعالى عليهم وعلى الناس أيضاً، كما قال يوسف علیه السّلام في ما حكي عنه في قوله تعالى: «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ أَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ولكن أكثَرَ النَّاس لا يَشْكُرُونَ». (3)

فإنّ قولهعلیه السّلام: «ما كان لنا أن نشرك» يدلّ على أنّ ذلك لا يمكن أن يصدر منهم، وليس ذلك إلا للعصمة الإلهية. ثمّ أوضح أنّ عصمتنا فضل من الله علينا وهو واضح، وهو فضل على الناس أيضاً، حيث جعل الله لهم أئمّة معصومين يقتدون بهم ومثلاً للفضيلة والإيمان يتّبعون أثرهم.

و «الفضل» الزيادة بمعنى أنّه زائد على ما يقتضيه الامتحان الإلهي وما وعده الله تعالى في بدء الخليقة من إرسال الهدايات قال تعالى: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى»،(4) فالله تعالى لفضله ولطفه بالناس لم يكتف بذلك، بل زاد عليه بنصب أئمّة معصومين

ص: 348


1- الصحيح في تفسير الآية أنّ التكرار للتأكيد بمعنى أنّهم سبقوا الآخرين سبقاً كثيراً لا يمكن اللحاق بهم
2- عن أبي جعفر الباقر علیه السّلام: «ونحن السابقون ونحن الآخرون». (كمال الدين وتمام النعمة 1: 206)
3- يوسف (12): 38
4- طه (20): 123

من الأنبياء والأوصياء والأمر بالاقتداء بهم. وهذا هو الفضل الكبير.

«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ» هذه الجملة مستأنفة لبيان جزاء السابقين بالخيرات أو مع المقتصدين. والظاهر أنّه مبتدأ والجملة التي بعده خبره والمعنى يدخلون جنّات عدن. ويؤيّد ذلك القراءة بالنصب في «جنّات» فيكون قوله: «يدخلونها» مفسّراً للفعل المقدّر يدخلون. و«العدن» بمعنى الاستقرار والثبات، أي أنّها جنّات خلود.

وقوله: «يُحلّون» اي يُلبسون الحلّي وهي الزينة. و«من» في «من أساور» زائدة، وورد بحذفها في قوله تعالى: «وَحُلُوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ». (1) ويمكن أن تكون بيانية لبيان الحلّية المبهمة المفهومة من السياق، أي يحلّون حلية من أساور.

والأساور جمع سوار وهو ما يُزيّن به المعصم. قيل إنّه معرب «دستواره» وهي فارسية. وقوله «ولؤلؤاً» عطف على محلّ «من أساور» أي يحلّون فيها لؤلؤاً.

والمراد بيان تنعّمهم في الجنّة بالنعم المادّية مضافاً إلى النعمة المعنوية الكبرى التي لا يعادلها شيء وهي رضوان الله تعالى. والنعم المادّية هناك أيضاً لا يعادلها شيء في هذه الحياة فليست المأكولات والمشروبات هناك كما هي هنا، والفرق بينهما فرق جوهري كما أنّ النار هناك ليست كالنار هنا، ولكنّ القرآن يستعمل المفاهيم التي نعرفها، إذ لا يمكن التعبير عن تلك المفاهيم بحيث يعلمه البشر إلا بما يدلّ على المفاهيم المألوفة له.

وقيل : إنّ «جنّات» بيان للفضل الكبير أو بدل عنه.

ولكن مقتضى ذلك أن تكون الإشارة في قوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»

ص: 349


1- الإنسان (76): 21

إلى نفس الخيرات لتتّحد مع الجنّات، فيكون المراد بالسبق السبق إلى سببها أي الأعمال الصالحة، وهو يحتاج إلى تأويل، إذ لا يشار إلى الخيرات ب_«ذلك» فإنّه للإشارة إلى المفرد المذكر.

والظاهر أنّ «ذلك» إشارة إلى نفس السبق كما مرّ آنفاً، إذن فاعتبار «جنّات» بياناً للفضل لا يلائم السياق.

«وَقَالُوا الحَمْدُ للهَ الَّذِى اذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ»، تشير الآية إلى حالة الرضا والبهجة لأهل الجنّة وهم يحمدون الله تعالى الذي أذهب عنهم الحزن. والكلام هنا في المراد ب_«الحزن» الذي أذهبه الله تعالى عنهم، فيحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى تخوّفهم في الحياة الدنيا ممّا سيستقبلهم في الآخرة، أو حزنهم ممّا يجري على المؤمنين، بل على البشرية جميعاً في الحياة الأرضية من ظلم واضطهاد، وصدّ عن سبيل الله، وضلال، واتباع للشهوات، وغفلة عمّا يستقبلهم من مخاوف ومخاطر، أو حزنهم على ما كانوا يلقونه في الدنيا من ظلم وهتك وإساءة. وعلى كلّ حال، فالدنيا مليئة بما يستوجب الحزن للجميع.

ولكن التعليل ب_«الغفران» و«الشكر» يوحي بأنّ المراد بالحزن تخوّفهم من مستقبل أمرهم في الآخرة، فيحمدون الله تعالى على غفرانه لتقصيرهم وشكره لأعمالهم الصالحة.

ولا ينافي ذلك ما مرّ من احتمال أن يكون المراد خصوص السابقين وهم المعصومون المقرّبون، فإنّ العصمة لا تنافي الخوف من المستقبل والإنسان كلّما زاد قرباً وخصّه الله تعالى بفضل ورحمة ونعمة، فإنّه يزداد مسؤولية وتكليفاً، كما هو الحال في الشؤون الدنيوية، فيختلف خوفنا عن خوفهم. نحن نخاف مغبّة

ص: 350

سوء أعمالنا، حيث نعلم أنّها ربّما تستوجب النار، وهم يخافون نقصاً في الدرجة وكلّ إنسان همّه بقدر همّته، مضافاً إلى أنّ استحقاق الجنّة يشمل المقتصدين أيضاً.

«الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ»، «أحلّنا» أي أنزلنا. و «المقامة» مصدر بمعنى الإقامة. والمراد بها الخلود. وقوله «مِنْ فَضْلِهِ» بمعنى أنّه ليس من استحقاق، فلا يستحقّ أحد على الله شيئاً مهما عظم قدره، وكلّ ما ينعم به على الخلق فضل منه تعالى.

«لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبُ»، يصفون حالهم بأنّهم لا يصيبهم في الجنّة نصب وهو التعب، ولا لغوب، وقد فسّر بالتعب أيضاً، ولكن فى «الكشّاف» أنّه الملل الذي يحصل من التعب، (1) وظاهر الآية يقتضي التغاير. ويمكن أن يكون المراد ب_«اللغوب» الملل الحاصل من البقاء في الجنّة، فإنّ الإنسان بطبعه يملّ من البقاء في مكان واحد ويحبّ التغيير ، ولكنّه في الجنّة لا يحبّ ذلك، كما قال تعالى: «خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً».(2)

ص: 351


1- راجع: الكشّاف 3: 614
2- الكهف (18): 108

سورة فاطر (36-37)

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)»

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخفِّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا» توهّم بعض المفسّرين أن المقابلة بين هاتين الآيتين والآيات السابقة تدلّ على أن أهل الجنّة هم كلّ المؤمنين وهم الذين أورثوا الكتاب. مع أنّ هذه المقابلة متكرّرة في القرآن الكريم ولا تدلّ على أنّ كلّ من آمن يدخل الجنّة، بل قد صرّح القرآن بأنّ من قتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها، وبأنّ هناك ما يوجب حبط الأعمال والخطاب للمؤمنين، بل للصحابة، وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ المؤمن أيضاً ربّما يدخل النار، بل يخلد فيها.

هذا ، مع أنّ الإيمان والكفر عند الله تعالى لهما مقاييس تختلف عمّا نبني عليه حكم الإسلام والإيمان الظاهريين في هذه الحياة الدنيا، فربّما نعتبر أحداً مؤمناً وهو عند الله كافر، كتارك الصلاة وتارك الحجّ، فضلاً عن من ينكر أصلاً من ضروريات الدين. وهذا أيضاً مضافاً إلى التعميم الوارد في الجملة الأخيرة من الآية، فإنّ الكفور يشمل كثيراً من الذين آمنوا بظاهر القول.

وعلى كلّ حال، فإنّ مصير الكافرين نار جهنّم، ومن غريب أمرها أنّهم لا يموتون فيها وإنّما يعذّبون، ولذلك قلنا: إنّ نار الآخرة ليست كنار الدنيا. وقد عبّر القرآن عن هذه الحالة بوجه آخر فقال تعالى: «وَيَأْتِيهِ الموتُ مِنْ كلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ

ص: 352

بِمَيِّتٍ».(1) وأوضحه في موضع آخر: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ».(2)

والذي يركز عليه هنا أنّهم لا يموتون ولا يخفّف عنهم العذاب، ولعلّ ذلك من جهة أنّهم لا يعتادون العذاب، فإنّ الإنسان في هذه الدنيا إذا استمرّ عليه نوع واحد من التعذيب، يتعوّد عليه جسمه نوعاً ما، فيخفّ عليه العذاب، ولكنّه في نار جهنّم لا يموت فيستريح، ولا يتأقلم معه، بل يتجدّد عليه العذاب مستمرّاً.

«كَذَلِكَ نَجْزِي كلّ كَفُور»، حيث إنّ التعبير ب_«الذين كفروا» ظاهر في المشركين في جزيرة العرب، حسب مصطلح القرآن الكريم عمّم الحكم بهذه الجملة، ليشمل غيرهم من الذين يكفرون بنعم ربّهم. و«الكفور» مبالغة في الكفر.

«وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ»، وهنا ينقل قولهم في مقابل قول المؤمنين وحمدهم على ما أنعم الله عليهم، فهؤلاء يصطرخون فيها. و «يصطرخون» تأكيد في الصراخ والعويل. وما يقولونه مجرّد تمنّيات، لا يمكن أن تتحقّق وقد تكرّر في القرآن حكاية ذلك عنهم والردّ عليهم بالنفي أو بعدم الجدوى وأنّهم لا يفون بوعدهم.

قال تعالى: «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ الْحَسَنُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ»(3) وقال تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ

ص: 353


1- إبراهيم (14): 17
2- النساء (4): 56
3- المؤمنون (23): 107 - 108

مِنَ المُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1).

أمّا النفي والردّ، فلأنّ هذا طلب للمستحيل، والفعلية لا تعود إلى القابلية، والجنين لا يعود نطفة، والحياة الأُخرى الأبدية لا تعود إلى الدنيا، فإنّ الحياة الأُخرى هي المرحلة المتطوّرة والمتكاملة من الحياة.

وأمّا عدم الجدوى، وأنّهم يعودون لما نهوا عنه، فلأنّ العود إلى هذه الحياة يقتضي العود إلى الامتحان والابتلاء، وهو يتوقّف على نسيان الماضي حتّى يعود الإنسان إلى ما كان عليه من غرائز وشهوات، وفتن، وإدراكات عقلية، وهدايات و رسالات و.... ولا شكّ أنّ هذا الإنسان العاصي المتجبّر سيعود إلى نفس الحالة ونفس العصيان، إذ لو كان يهتدي لاهتدى في التجربة الأُولى، فالمفروض أنّ الظروف لا تختلف عمّا كان عليه آنذاك.

ثمّ إنّ قولهم: «غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ» مع أنّ قولهم «نَعْمَلْ صَالِحاً» كافٍ في إفادة المعنى ، لعلّه إشارة إلى أنهّم كانوا في الحياة الدنيا يرون عملهم صالحاً، فيؤكّدون في هذا الوعد أنّهم يعملون صالحاً غير ما رأوه صالحاً قبل هذا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحسِنُونَ صُنعاً».(2)

«أَوَلَمْ نُعَمِّرُكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ»، وهكذا يأتيهم الردّ الحاسم، وهو استفهام تقريري. و «ما» مصدرية ظرفية، أي عمّرناكم مدّة تكفي للتذّكر وجاءكم النذير. ويستفاد من الآية أنّ الاحتجاج يخصّ من عمّره الله تعالى في

ص: 354


1- الأنعام (6): 27 - 28
2- الكهف 18: 104

الدنيا بمقدار يتذكّر فيه من تذكّر، فلا يشمل من يموت في ريعان شبابه، و يخصّ أيضاً من جاءه النذير، أي أتمّ الله عليه الحجّة.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ الذي بلغ ثمانية عشر سنة، فقد أُعذر وتشمله الآية الكريمة. (1) ولكن في بعضها أنّ الذي بلغ الستّين تمّ إعذاره. (2) ولعلّ الموارد تختلف، فهناك بعض المعاصي يقبل فيها عذر الشابّ ولا يقبل عذر الشيخ، وهناك منها ما لا يقبل فيها عذر الشابّ أيضاً.

ثمّ إنّ قوله «يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» حيث جاء في الصلة بالفعل الماضي، يدلّ على أنّ هناك من تذكّر فعلاً بهذا المقدار من العمر. وهكذا يحتجّ الله ببعض عبيده على بعض

وقد مرّ القول في أنّ النذير إن أُريد به الرسول، فيكفي مجيئه في العصور السابقة وبقاء كتابه وعلمه، وإن أُريد به مطلق النذير فيشمل الأئمّة والعلماء، بل مطلق من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وقلنا أيضاً: إنّه يحتمل أن يكون المراد بالنذير نفس النذر.

«فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير»، أي فذوقوا العذاب، وحيث كان الخطاب خاصّاً بمن تمّت عليه الحجّة، فهو من الظالمين، وليس له من نصير. ومن ينصره من الله إن أراد به العذاب؟! وقد قلنا أيضاً: إنّ الظلم لا يحتاج إلى من يقع عليه الظلم، فلا حاجة إلى تفسيره بمن ظلم نفسه. وإنّما أتى بالاسم الظاهر: «الظالمين» بدلاً عن الضمير للإشارة إلى السبب، فالنصرة هناك لا تكون إلا لمن له الحقّ.

ص: 355


1- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 8: 641
2- راجع: نفس المصدر

سورة فاطر (38-39)

«إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)»

«إِنَّ الله عالمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالأرض»، «الغيب» يقابل الشهود وهما أمران نسبيان، فكلّ غيب لأحد ربّما يكون شهوداً لآخر. ولكن إذا لاحظنا هاتين الصفتين في الحال الحاضر، فإنّ الغيب المطلق هو المستقبل، فهو غيب للجميع. وإذا أُضيف الغيب إلى السماوات والأرض، كان المعنى مستقبل الكون، فيكون المعنى أنّه لا يعلم مستقبل الكون بأكمله إلا الله تعالى.

«إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»، «الذات» مؤنّث «ذو» بمعنى الصاحب، والمراد ب_«الصدور» القلوب تسمية للحال - وهو القلب - باسم المحلّ، والقلب كناية عن الروح البشرية والنفس الإنسانية. والمراد ب_«ذات الصدور» الأسرار الكامنة في النفس المصاحبة لها وهو كناية عن عدم تسرّبها إلى الخارج.

هذا، وقد وقع الكلام في أنّ هاتين الجملتين أيّهما علّة للأُخرى وما هو الأمر الذي علّل بهما؟

فقال بعضهم: إنّ الثانية علّة للأُولى، كما هو ظاهر الترتيب، وذلك لأنّ الذي يعلم ما في الصدور وهو أخفى شيء في الكون، فهو يعلم كلّ غيب في السماوات والأرض. ولكنّه غير صحيح، إذ هناك من الغيب ما هو الغيب ما هو أخفى وهو المستقبل، فإنّ ما في الصدور ربّما يستكشف بما يظهر على فلتات اللسان وغيرها.

ص: 356

وقيل بالعكس وهو خلاف ظاهر الترتيب بهذا التعبير، إذ لو كان كذلك، لقال: فهو عليم بذات الصدور، ليدلّ على ترتّب العلم الثاني على الأوّل.

ولا يبعد أن لا يكون بينهما علاقة عليّة، فكلّ منهما علّة لأمر ممّا سبق ذكره، وحيث تعدّد المعلّل لم يأت بالواو بينهما. وحينئذٍ فلعلّ الجملة الأُولى تعليل لما أخبر به من حوادث يوم القيامة، والثانية تعليل لما يفهم من الجواب في قوله تعالى: «أوَلَم نُعَمِّركُم» وهو المصرّح به في غيرها من عدم الجدوى في إرجاعكم، إذ عمّرتم ما يكفي للتذكّر، فلم تتذكّروا، والله العليم بذات الصدور، يعلم أنّكم لا تؤمنون بالله لو عدتم إلى الدنيا مرّة أُخرى.

«هُوَ الَّذى جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِى الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» تهديد للإنسان الذي لا يهتمّ بنكران ربّه وتنديد بالكفر. وتبدأ الآية بالتنبيه على أمر طبيعي في المجتمع الإنساني ويعتبر نعمة إلهية، وهو في نفس الوقت يتضمّن تهديداً وتنبيهاً على عدم استقرار هذه الحياة. و«الخلائف» جمع خليف، والخلفاء جمع خليفة.

والمراد بالخلافة هنا أحد أمرين أو كلاهم:

الأوّل: أنّ الإنسان يتمتّع بالخلافة الإلهية، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً»(1)، فالإنسان خليفة الله في الأرض. وفي المراد بالخلافة احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أنّ هذه السمة وسام خاصّ بالمخلصين من عباد الله تعالى من الأنبياء والأولياء، باعتبار أنّ الله تعالى استخلفهم أولياء على خلقه، وإنّما يوصف به الإنسان بوجه عامّ باعتبار أنّه مستعدّ للتكامل في الصفات الحسنة إلى أن يصل

ص: 357


1- البقرة (2): 30

إلى مرحلة يستحقّ فيها هذه الكرامة.

الاحتمال الثاني: أنّ الخلافة صفة للإنسان بقول مطلق باعتبار أنّه يملك الإرادة ويتمتّع بقوّة الاختيار ممّا يجعله حرّاً نوعاً ما في اتّخاذ ما يبتغيه من موقف، فهو من هذه الجهة يخلف الله في الأرض، بمعنى أنّ الله تعالى حيث جعل له هذه الحرّية والقدرة، فكأنّه استخلفه وفوّض إليه بعض الشأن، وإن كان التفويض الكامل مستحيلاً. ولذلك كان الاختيار أمراً بين الأمرين، فلا جبر مطلق ولا تفويض مطلق.

ويبدو من الآية المذكورة في سورة البقرة أنّ المعنى الثاني أقرب وأصحّ، بقرينة أنّ الملائكة فهموا من التعبير بالخلافة أنّ هذا الموجود سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، بخلاف غيره من الموجودات، حيث إنّها ليست مختارة كالإنسان، فالاختيار هو الذي يجرّه إلى الفساد. هذا، مضافاً إلى أنّ الخلافة في الآية التي هي مورد الكلام لا بدّ من حملها على هذا المعنى، إذ المعنى الأوّل لا يشمل جميع المخاطبين، فلا يتمّ الخطاب العامّ.

الثاني: أنّ كلّ جيل من البشر يخلف من قبله من الأجيال، وهو إمّا أن يكون خطاباً لمن كانوا في ذلك العهد، أو يكون خطاباً للبشرية وأنّ طبيعة الحياة على هذا الكوكب تقتضي أن يخلف جيل جيلاً.

وعلى الوجهين فالمراد تنبيه المخاطبين أو الجيل الحاضر على هذه النعمة، وأنّ الدور قد وصل إليكم لتستمتعوا بهذه الحياة وتتزوّدوا منها. والتنبيه في نفس الوقت على المسؤولية الملقاة على عاتقهم كأيّ جيل آخر من أجيال البشرية، والتنبيه ثالثة على أنّ هذه الحياة لا تدوم لكم، كما لم تدم لمن كان قبلكم، فأنتم

ص: 358

خلفاء لقوم وسلف لآخرين يخلّفونكم.

وبعد ذلك تندّد الآية بالكفر وتهدد من يستخفّ به. ونحن نجد في عصرنا هذا أنّ الاعتقاد السائد في الثقافة العامّة العالمية تنحو نحو الاستخفاف بأصل الفكرة، والاهتمام بشؤون الحياة الدنيا، والاستمتاع بها، وبذل الجهد في الوصول إلى أعلى مراحل التمتّع بالحياة وزخارفها وبهرجتها، واللجوء إلى مختلف أنحاء الملهيات لدفع كلّ الهموم التي يحملها الإنسان لو ترك وشأنه، سواء الهموم الشخصية والاجتماعية والبشرية، وسواء الهموم المعاصرة وهموم المستقبل وسواء المستقبل القريب في هذه الحياة وهموم الحياة الأُخرى المجهولة للإنسان.

وتحاول الثقافة المعاصرة التقليل من أهميّة التفكير في إله الكون وبشاعة الكفر به على أنّه المنعم، بدعوى أنّه فكر متافيزيقي لا يصل إليه أفهامنا، ولا ينفعنا نفعاً عاجلاً.

والآية تشدّد النكير على الكفر، وتنبّه الإنسان أنّ ضرر الكفر يعود إليه، وأنّه أكبر من كلّ ما يخافه ويحذره من مخاوف وأخطار، وأنّه الخسارة الكبرى. ويكفيه باعثاً للتفكّر في هذا الشأن احتمال وجود هذا الخطر العظيم. ف_«مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ».(1) وفي نفس الوقت ينبّه الإنسان على استغناء الله سبحانه من إيمانه وعدم تضرّره بكفره، بل أنّ كفره لا يضرّ غيره من الموجودات أيضاً إلا إذا أراد الله شيئاً. ف_«مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ»، والضرر المباشر إنّما هو على نفسه.

«وَلا يَزيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسارا» بيان

ص: 359


1- الروم (30): 44

لتضرّر الإنسان من كفره، وقوله: «عِنْدَ رَبِّهِمْ» متعلّق ب_«المقت»، أي لا يزيدهم إلا مقتاً عند ربّهم و «المقت» هو شدّة البغض. وأيّ ضرر أكبر على الإنسان من أن يفقد الإنسان عناية ربّه ؟! «الربّ» من يتصدّي لتربية الإنسان حتّى يبلغ الكمال المطلوب، فإن أبغضه وأهمل أمره فمن يربّيه؟! ومن يتولّى شؤونه في هذا العالم المجهول أكنافه وغياهبه، تحيط به الأسرار والأخطار ، وأنت سائر من دون اختيار إلى مستقبل مظلم؟!

ولا شكّ أنّ إسناد المقت والبغض والحبّ والغضب والرضا ونحوها إلى الله تعالى ليس بمعنى طروّ هذه الحالات عليه سبحانه، إذ لا يمكن ذلك والله ليس محلاً للعوارض. ولذلك فسّرها بعضهم بالثواب والعقاب، فإن أفاض الله تعالى على عبده الثواب عبّر عنه بالرحمة والحبّ والرضا، وإذا عاقبه وعذّبه عبّر عنه بالبغض والغضب.

ولكنّ الظاهر أنّ هناك فرقاً بين التعبير بالغضب والرضا والتعبير بالعقاب والثواب، ويبدو أنّ هذه التعابير تحكي عن نوع من العلاقة بين الله تعالى وعبيده، لا ندركها نحن بهذه العقول التي لم تأنس بالمفاهيم الإلهية، فبغضه تعالى وغضبه يبدو يوم القيامة من عدم تكليمه وعدم النظر إليه، كما في قوله تعالى: «وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ»(1)، وكذا قوله تعالى: «قالَ اخْسَؤُا فيها وَلا تُكَلِّمُونِ».(2)

وهذا أشدّ على العبد يوم القیامةمن عذاب النار، كما أنّ حبّه ورضاه يظهران

ص: 360


1- آل عمران (3): 7
2- المؤمنون (23): 108

للعبد بما يفيض عليه من أُمور لا نعرفها يشعر الإنسان منها برضا ربّه، فيكون ألذّ لديه من كلّ نعم الجنّة. والأولياء المخلصون يتنعّمون بذلك في هذه الحياة أيضاً.

ثمّ إنّ الجملة تدلّ على أنّ الإنسان المذكور ممقوت قبل الكفر أيضاً، وإنّما يزيده الكفر مقتاً. ولعلّ ذلك من جهة ما تقترفه يداه من أعمال، فإن آمن فلعلّ الله تعالى يتوب عليه، وأمّا إذا كفر فإنّه يزداد عند الله مقتاً.

كما أنّه يزداد خساراً، فإنّ الإنسان بطبيعة حاله خاسر، قال تعالى: «وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ»(1) وذلك لأنّه يخسر عمره وأيّامه التي هي رأس ماله في هذه الحياة، يخسرها ، لأنّه لا يتزوّد من هذه الحياة الفانية لحياته الباقية التي هي الحياة الواقعية، وهو هنا مسافر قد نودي له بالرحيل، وهو غافل في مرتعه لا يحبّ أن يسمع صوت النداء بالرحيل، فهو خاسر لا محالة وفي جميع الأحوال، لأنّ الذين يعملون أيضاً لا يمنحون حياتهم الأبدية ذلك الاهتمام الذي يمنحونه لزخارف هذه الحياة.

وقليل جدّاً جدّاً من يهتمّ بتلك الحياة أكثر من هذه الحياة الزائفة الوهمية، ولذلك عمّم الله سبحانه تأسّف الإنسان يوم القيامة ونسبه إلى نوع الإنسان: «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وَأَنِّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ حَيَاتِي»(2) فالكلّ خاسر لا محالة، ولكنّ الكافر يزيد خسراناً لأنّه لا يعمل أي عمل ينفعه هناك.

ص: 361


1- العصر (103): 1-2
2- الفجر (89): 23-24

سورة فاطر (40-41)

«قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)»

«قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَ كُمُ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله»، الآية الكريمة تؤكّد على توحيد الربوبية، وأنّ الله الذي خلق السماوات والأرض هو ربّها وربّ كلّ شيء، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره. ويخاطب المشركين الذين يتوهّمون أنّ الأصنام بما أنّها مثل للأرواح العليا، فهي الربّ وهي المعبود وهي شركاء الله في ربوبية الكون.

والاستدلال في الآية يبتني على أنّ الربّ هو الخالق، لأنّ الربوبية من التربية، فهي ليست إلا تربية المخلوق، وتنميته، وتكميل خلقه، وتطويره، فهو في حدّ ذاته مرحلة من الخلق وإكمال له، فيسأل المشركين أرأيتم شركاء كم؟ وهذا التعبير تمهيد وتوطئة لتوجيه السؤال المتعلّق بالشركاء، كقوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ الَّذى تَوَلَّى * وَأعْطى قليلاً وَأَكْدى * أعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى»(1) ومثله كثير. وإضافة الشركاء إليهم باعتبار أنّهم يعتقدون مشاركتهم لله تعالى في الربوبية، وتكفي في الإضافة أيّ نوع من الارتباط.

ثمّ إنّه وصف الشركاء بأنّهم يدعونهم من دون الله تعالى، وهذا من غرائب أمرهم، فهم يدّعون مشاركة هذه الأصنام لله تعالى في الربوبية، ولكنّهم حين

ص: 362


1- النجم (53): 33-35

الدعاء والتضرّع والعبادة يدعونهم من دون الله، أي لا يدعون الله وإنّما يدعون أصنامهم، لأنّهم يزعمون أنّ الخير والشرّ بيدهم.

«أَرُونى ما ذا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أم لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ»، السؤال الموجّه إليهم له ثلاث مراتب: ففي المرتبة الأُولى يسألهم: «أرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض؟» والظاهر أنّ تقديم «أروني» في هذه المرحلة من جهة أنّه سؤال عن أمر محسوس، فلو كان لهم مخلوق في الأرض لرأوه، ولو رأوه لأمكنهم إراءته لغيرهم. ولا يبعد أن يكون المراد ب_«الأرض» العالم المادي بأجمعه لا خصوص الكرة الأرضية وما عليها.

وفي المرتبة الثانية يسألهم: «أم لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماوَاتِ؟» و «أم» هنا منقطعة، فهو إضراب واستفهام، أي إن لم يخلقوا شيئاً من الأرض، فهل لهم شرك في السماوات؟ ولا يبعد أن يكون المراد بها عالم الأمر وما وراء الطبيعة. وبذلك يكون هذا السؤال مرحلة متقدّمة بالنسبة للأُولى. ولم يعبّر هنا بالخلق، لأنّه في مرحلة الأمر والتدبير العلوي، وليس المراد أنّهم خلقوا شيئاً من السماوات بل ألهم أيّ مشاركة في عالم الأمر والتدبير؟ ولذلك أتى بالنكرة: «شرك»، أي أدنى مشاركة.

والسؤال في هاتين المرتبتين يبتني على أنّهم يعلمون شيئاً من ذلك، فيمكنهم إراءة شيء من المخلوقات في الطبيعة يمكن إسناد خلقه إلى الأصنام، أو إلى ما تمثّله الأصنام من عالم آخر، كما يزعمون.

«أم آتَيْنَاهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ»، يأتي بعد ذلك السؤال في المرتبة الثالثة، وهو أنّه إذا لم يكن لكم علم بذلك، فهل نزل عليكم كتاب من عند الله تعالى يخبركم بشيء من ذلك، فأنتم على بيّنة منه؟ وقوله: «مِنْهُ» للتعليل، أي فهم على بيّنة من أمرهم بسبب ذلك الكتاب.

ص: 363

و«البيّنة» صفة لموصوف محذوف، أي حجّة بيّنة وواضحة أو جادّة بيّنة وطريق بيّن، وكونهم على حجّة بمعنى أنهّم يمشون في طريقهم مستندين عليها، وكونهم على طريق بيّن بمعنى أنّ طريقتهم واضحة لا شبهة فيها. والآية تدلّ على أنّ الأُمور الاعتقادية التي ترتبط بالربوبية لا يمكن أن يستند فيها إلى الظنون، بل لا بدّ من كون الحجّة بيّنة واضحة.

«بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إلا غُرُوراً»، «بَل» للإضراب، ونفي ما سبق، أي لا يمكنهم إراءة شيء مخلوق للأصنام أو ما تمثلّه الأصنام، ولا يمكنهم القول بأنّهم يشاركون الله تعالى في خلق الكون وتدبيره، ولم يأتهم كتاب من الله تعالى، إذن فما يتواعدون به من شفاعة الأصنام، وأنّ الخير بأيديهم ليس إلا غروراً وخداعاً. وهذه طبيعة البشر إذا لم يصلّ إلى الحقيقة أو لم تعجبه، تشبّث بالأماني والآمال الكاذبة، فتجده يخدع بها نفسه وغيره، ومن هنا تنشأ العقائد والمذاهب الفاسدة.

ولعلّ المراد ب_«البعض» الذي يعد الكبراء والرؤساء، وبالموعودين العامّة. ويمكن أن يراد بهما الجميع بمعنى أنّ كلّ واحد منهم يعد الآخر، باعتبار أنّ هذا من عقائدهم التي يتوارثونها ويتداولونها ويدافعون بأجمعهم عنها.

«إنَّ الله يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالأَرض أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ»، يحتمل - كما في «الميزان»(1) - أن تكون الآية الكريمة احتجاجاً على توحيد الربّ والإله، بدليل احتياج العالم إلى الخالق في بقائه، حيث إنّ الوثني يقبل وحدة الخالق وأنّه الله تعالى، والكون كما يحتاج في حدوثه إلى الواجب

ص: 364


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 55

المبدع، كذلك يحتاج في بقائه إلى إيجاد بعد إيجاد و«الإمساك» بناءً على هذا بمعنى الحفظ.

والمراد بقوله تعالى: «أَنْ تَزُولا»، أي كراهة أن تزولا، ويمكن أن يكون الإمساك بمعنى المنع - كما قيل - فالتقدير يمنعهما عن أن تزولا، والمراد ب_«الزوال» الفناء والانعدام. وبناءً على هذا الاحتمال، فالمراد بقوله تعالى: «وَلَئِنْ زَالَتا» الإشراف على الزوال، إذ لا معنى للإمساك بعد الزوال.

ويحتمل أن تكون الآية احتجاجاً على توحيد الربّ بصيانة السماوات والأرض من الانحراف وتغيير المسار، فكلّ كوكب يسير وفق المنهج المخطّط له، وفي الفلك الذي حدّد له، ولا شكّ أنّ الزوال عن هذا المسار المحدّد يسبّب الكارثة النهائية للكون، فالله تعالى هو الذي حفظ الكون بالإمساك على كلّ كوكب في مساره المحدّد، وكثيراً ما تنبأ المنجّمون بارتطام كوكب أو صخرة فضائية بالأرض تحدث به نهاية الحياة على هذا الكوكب، ولكن لم يحدث ما تنبأوا به بفضل الله ورحمته.

وبناءً على هذا الاحتمال لا حاجة إلى تأويل قوله تعالى: «وَلَئِنْ زالَتا»، بل يبقى على ظاهره فالمراد: أنّ السماوات والأرض إذا زالتا وانحرفتا عن مسارهما، فلا أحد يمسكهما ويعيدهما إلى المسار الصحيح. وهو استدلال على ربوبية الكون بأن الخالق هو الذي يقدر على ذلك لا غيره، فهو ربّ الكون الحافظ له. وهو استدلال واضح.

ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى: «وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرض إلا بِإِذْنِهِ».(1)

ص: 365


1- الحجّ (22): 65

فإنّ المصرّح به هنا إمساك السماء عن السقوط على الأرض.

و«السماوات» وإن كان في بعض الموارد يراد بها ما وراء الطبيعة، ولكن لا يبعد أن يراد بها هنا الكواكب الأُخرى غير الأرض، وإن كان الحمل على المعنى الأوّل أيضاً لا ينافي ما ذكر ، باعتبار أنّ العوالم الأُخرى أيضاً لها مسار محدّد نحو الكمال، والله تعالى يحفظها من الانحراف.

و «من» في قوله تعالى: «مِنْ أَحَدٍ» زائدة تفيد تأكيد شمول النفي، فليس هناك أحد يتمكّن من حفظ السماوات والأرض إلا ربّ العالمين. والظاهر أنّ الضمير في قوله: «مِنْ بَعْدِهِ» يعود إليه تعالى. وليس المراد البعدية الزمانية فيستغرب التعبير، بل هو بمعنى «غير»، كقوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ»،(1) وقوله تعالى: «فَمَاذَا بَعْدَ الحق إلا الضَّلالُ».(2)

«إِنَّهُ كانَ حَليماً غَفُوراً»، ظاهر الجملة التعليل، فلا بدّ من كونه تعليلاً لبعض ما ذكر في الجملة السابقة، والظاهر أنّه هو نفس إمساك السماوات والأرض، فالمعنى: أنّ أعمال العباد وإن اقتضت أن لا يمسكهما الله تعالى، كما قال سبحانه: «تكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأرض وَتَخِرُ الْجِبَالُ هَدَاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً»(3) إلا أنّه لحلمه وتأخيره العقوبة وغفرانه للعباد يمسكهما، ويؤخّرهم إلى أجل مسمّى، فيكون بذلك مطابقاً لآخر آية في هذه السورة المباركة، ومثله قوله تعالى: «وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرض إلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ».(4)

ص: 366


1- الجاثية (45): 6
2- یونس (10): 32
3- مريم (19): 90 - 91
4- الحجّ (22): 65

سورة فاطر (42-43)

«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)»

«وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَیْمانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ اهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمِ»، أي أقسم المشركون. «وجَهْدَ أَيْمَانِهِمْ» مصدر أُضيف إلى المفعول وأُقيم مقام الفعل، فهو في الأصل: يجهدون جهد أيمانهم، أي جاهدين في أيمانهم، فالمصدر هنا وضع موضع الحال، أي أقسموا جاهدين، فالمعنى أنّهم أتوا بأغلظ الأيمان تأكيداً على هذه الدعوى.

والآية تدلّ على أن مشركي العرب لمّا سمعوا تعنّت الأُمم السابقة، ورفضهم لرسالات السماء، وسوء معاملتهم لأنبيائهم، بل قتل بعضهم حتّى نزل العذاب، كما كان مشهوراً ومتداولاً في الألسن، تبجّحوا بهذه الدعوى الفارغة، وأقسموا بها أغلظ الأيمان، وهي أنّه إذا جاءهم رسول من الله تعالى - وهو المراد بالنذير - فسيؤمنون به ويكونون أهدى من إحدى الأُمم السابقة. والمراد تلك الأُمّة التي آذت نبيّها، فيكون ذلك تعريضاً بهم، وقيل: إنّهم بنو إسرائيل. والجملة ليست منقولة بالقول، وإلا لقال: «لئن جاءنا»، بل قولهم منقول بالمعنى.

«فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إلا نُفُوراً»، لمراد ب_«النذير» هو الرسول صلّی الله علیه و آله، فلم يزدهم إنذاره هداية وتقوى من الله تعالى، بل زادهم نفوراً عن الحقّ. ومعنى ذلك أنّهم نافرون بذاتهم ورافضون للحقّ، كما هو مقتضى الجاهلية، ولذلك لم

ص: 367

يؤمنوا بالرسالات السابقة أيضاً. والنذير زاد في نفورهم وتمسكهم بباطلهم وتعاضدهم على ذلك، كما هو مقتضى التعصّب الجاهلي. والتعصّب له جذور صحيحة في الروح الاجتماعية للبشر، ولكن بعض الجوامع أو أكثرها تفرط فيه، فتجانب الحقّ.

والتعصّب الممدوح هو تماسك الأُمّة وتجمعها على محور الزعامة اللائقة حين تحوّل الأحوال، كهجوم جيش أجنبي. والتعصّب المذموم هو الانحياز إلى الباطل في مواجهة الحقّ تمشياً مع العصبة والقوم، ومنه التعصّب للعقائد الفاسدة، والثقافة البائدة التي تربّوا عليها في مقابل كلّ جديد، وإن كان حقّاً ناصعاً يدعمه البرهان والوجدان، وهو ما ابتلي به عرب الجزيرة. والسبب في ذلك ما تبيّنه الآية التالية

«اسْتِكْباراً فى الأرض وَمَكْرَ السَّیِّئِ»، الظاهر أنهّما مفعول لأجله وهما سيبان للنفور، وليس بدلاً عنه، فالسبب في زيادة نفورهم عن الحقّ بعد مواجهة رسالة السماء أمران: الاستكبار في الأرض والمكر السيّئ. والاستكبار في الأرض لعلّه يقابل الاستكبار في النفس، قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائِكَةُ أو نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوا كَبِيراً».(1)

والمراد ب_«الاستكبار» في النفس أن يكون الإنسان معجباً بنفسه، فالذي يطلب نزول الملائكة عليه ورؤية ربّه، مضافاً إلى سذاجة عقله وإدراكه، معجب بنفسه غاية الإعجاب حيث يجد نفسه لائقاً لذلك.

ولعلّ المراد ب_«الاستكبار في الأرض» الفساد في المجتمع والظلم على الناس

ص: 368


1- الفرقان (25): 21

والطغيان، قال تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ».(1)

وأقبح الاستكبار، الاستكبار في السماء، قال تعالى خطاباً لإبليس: «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا».(2) ولعلّ المراد ب_«التكبر في السماء» التكبّر أمام الأمر الإلهي الصريح المتوجّه إليه. فإن كان هذا هو المناط، فما أكثر مصاديقه في البشر! والحاصل: أنّ طلب الفساد في الأرض وعدم التقيّد بأحكام الدين وأوامر السماء المانعة من الاستكبار من دواعي طواغيت قريش في النفور عن الحقّ.

والأمر الآخر المكر السيّئ. وقوله تعالى: «وَمَكْرَ السَّيِّي» من إضافة الموصوف إلى الصفة، ولذلك عبّر عنه بعد ذلك ب_«اللام»: «وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّىِّئُ». و«المكر» هو الحيلة والخداع، و «المكر السيّئ» ما يقصد به الشرّ. وبعبارة أُخرى سياسة الشرّ. ولعلّ المراد بمكرهم أنّهم كانوا يعلمون أنّ ما جاء به الرسول صلّی الله علیه و آله حقّ، وإنّما لم يؤمنوا مكراً بالناس ، لكي يصرفوهم عن الهداية لمصالح سياسية واقتصادية تخصّهم.

وقيل : المراد مكرهم بالرسول صلّی الله علیه و آله وبالمؤمنين ، ولكن ذلك لا يناسب كونه علّة للنفور عن الحقّ وعدم الإيمان، بناءً على ما قلنا أنّه مفعول لأجله وبيان لسبب النفور، وذلك لأنّ هذا المكر تحقّق بعد النفور فلا يكون علّة له.

ولكن بعضهم اعتبر الاستكبار والمكر بدلاً عن النفور لا علّة. وهو أبعد، وذلك لأنّ معنى الآية يكون هكذا: الرسالة لم تزدهم إلا نفوراً واستكباراً ومكراً،

ص: 369


1- القصص (28): 4
2- الأعراف (7): 13

ومقتضاه أنّهم كانوا قبل ذلك أيضاً يمكرون بالرسول صلّی الله علیه و آله والمؤمنين، وزادوا في ذلك بعد الإنذار، وهذا خلاف الواقع وإنّما زاولوا المكر السيّئ بعد الرسالة.

«وَلا يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّئ إلا بِأهْلِهِ»، اختلف اللغويون في تفسير «الحيق»، فقال بعضهم: إنّه بمعنى الإحاطة. وقيل: إنّه بمعنى النزول بالشيء. وكلاهما يناسب المقام، والمعنى: أنّ المكر السيّئ لا ينزل إلا بمن حاكه، أو أنّه لا يحيط إلا به. وهذا تعقيب على مكر المشركين، وأنّ سنّة الله تعالى في الأرض أن لا ينزل أو لا يحيط المكر السيّئ إلا بأهله.

وهذا يمكن أن يكون مبنياً على المبالغة ، كقولهم: «من حفر بئراً لأخيه وقع فيه»(1) مع أنّه ربّما يقع الأخ فيه أيضاً، بل ربّما لا يصيب الحافر في العاجل شيء إلا أنّه غالباً لن يفلت. و«المكر السيّئ» وإن أضرّ بالممكور به إلا أنّه يصيب الماكر في النهاية، والغالب في السياسات الشريرة أنّها تهدم أساس الظلم في النهاية، ولكن حصر إحاطة المكر بأهله، كأنّه لا يصيب الممكور شيء مبنيّ على المبالغة.

ويمكن أن يكون بلحاظ أنّ الشرّ الحقيقي هو الذي يحيط بالإنسان من نتائج عمله السيّئ، وهو غضب الله تعالى وعقابه، وهو لا يحيط إلا بالماكر، فهو الخاسر والمتضرّر حقيقة دون الممكور به. وهذا هو الأُولى في تفسير الآية الكريمة، خصوصاً إذا لوحظ العقاب الدنيوي، فإنّه يصيبه عاجلاً أيضاً وإن تأخّر بعض الزمان، والآية تركز على هذا الأمر وتهدّدهم بأنّ ذلك سنّة الله في السابقين، فبهذا اللحاظ يكون نتيجة المكر في الواقع محيطة به في الحياة الدنيا أيضاً.

ص: 370


1- تحف العقول: 88

«فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأوَّلينَ»، أي هل ينتظرون ويتوقعون إلا سنّة الله في الأوّلين، وهو إنزال العذاب على المكذّبين الذين رفضوا الانصياع إلى رسالات السماء، ف_«الفاء» هنا فاء تفريع بمعنى أنّهم حيث استكبروا ومكروا المكر السيئ، وحيث إنّ المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فماذا يتوقّعون إلا أن يحيق بهم ما حاق بمن قبلهم. وإضافة «السنّة» إلى «الأوّلين» باعتبار أنّهم موضعها.

«فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تحويلاً« «الفاء» هنا تعليل للجواب المقدّر ، أي أنّهم يجب أن لا يتوقّعوا إلا سنّة الأوّلين ، لأنّ سنّة الله لا تتغيّر، وذلك لأنّ القوم ربّما توهّموا أنّهم لا يستحقّون ذلك، لمكانة لهم عند الله تعالى، أو أنّ الله لا يفعل ذلك بهم، لميزة فيهم، فكلّ إنسان يجد لنفسه ما يميزه عن لنفسه ما يميزه عن الآخرين، وربّما يجد له ولقومه قوّة لم يبلغها الآخرون.

فالجواب عن ذلك، أنّ سنة الله تعالى لا يتبدّل من قوم إلى قوم، فإن كانت سنّته إنزال العذاب على المكذّبين، فلا فرق بين قوم وقوم، وليس لهؤلاء المشركين أيّ ميزة، بل العكس هو الصحيح حسب معاييرهم، فالذين كانوا قبلهم كانوا أشدّ قوّة، مع أنّ هذا أيضاً لا يوجب امتيازاً، إذ أنّ الله تعالى لا يعجزه شيء، ونسبة كلّ الأشياء إليه واحدة وليس هناك قويّ وضعيف، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله.

والتعبير يركز على الموضوع وهو سنّة الله تعالى ولذلك يكرّر قوله : «لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله» ومن هنا لا يبعد القول بأنّ التبديل والتحويل واحد، وإنّما كرّر للتأكيد. وقد ورد كلّ منهما في القرآن على حدة، قال تعالى: «وَلا تَجِدُ لِسُتَّتِنَا تَحْوِيلاً»(1)

ص: 371


1- الإسراء (17): 77

وقال: «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً».(1)

وقال العلامة في «الميزان»: «تبديل السنّة أن توضع العافية والنعمة موضع العذاب، وتحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقّونه إلى غيرهم».(2)

وهو بعيد في حدّ ذاته لبعد توهّم التحويل بهذا المعنى حتّى يحتاج إلى تأكيد القرآن لنفيه، مضافاً إلى أنّه ليس من تحويل السنّة، بل تحويل للعذاب.

وقيل: إنّ المراد تغيير حالات العذاب من الشدّة إلى الضعف.

وهو أيضاً بعيد لما ذكر ، فإنّ هذا من تحويل العذاب لا تحويل السنّة. فالظاهر أنّهما بمعنى واحد كرّر للتأكيد.

ص: 372


1- الأحزاب (33): 62
2- الميزان في تفسير القرآن 17: 58

سورة فاطر (44-45)

«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)»

«أَوَلَمْ يَسيرُوا فِي الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»، استفهام تقريري، أي أنّه يطالبهم بذلك الإقرار بأنّهم قد ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين كانوا من قبلهم، وعلموا بعاقبة كفرهم وعنادهم ، وما نزل عليهم من العذاب. وهم فعلاً قد ساروا ورأوا ذلك وسمعوا قصصهم وتأريخهم. والغرض من ذلك، الاعتبار بما يجدون في هذا السير، وأنّ عليهم أن يطبقّوا القانون على أنفسهم، إذ لا تبديل لسنّة الله تعالى ولا يختلف عنده قوم عن قوم.

«وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً»، أي ربما يتوهّمون في أنفسهم أنّهم أقوياء ويعجبون بقوّتهم، كما هو عادة البشر، وهذا الإعجاب هو أساس هلاك الناس، وهلاك الأقوام، وسقوط الأنظمة، واهتزاز العروش، فإن توهّموا ذلك، فليعلموا أنّ الطغاة السابقين الذين دمّرهم العذاب الإلهي، كفرعون ونمرود وقوم عاد وثمود، كانوا أشدّ قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً، كما تشهد به آثارهم وحضارتهم.

«وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِى الأرض»، أي لا يختلف بالقياس إلى قوّة الله وبطشه قويّ أو ضعيف، ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض أي في الكون كلّه، إذ هو مصدر كلّ قوّة، فلا قوّة لأحد إلا به ومنه، فلا معنى للإعجاب بالقوّة، ولا بمقايسة قوّتهم إلى من سبقهم.

ص: 373

«إِنَّهُ كانَ عَليماً قديراً»، تعليل لعدم العجز، فهو عليم بكلّ شيء وبما يصلحه ويفسده، وقدير على كلّ شيء، فكيف يعجزه شيء؟! و «العجز» ينشأ إمّا من نقص في العلم أو في القدرة، فربّما يعلم الإنسان ما يجب أن يفعله، ولكن لا يملك الأجهزة اللازمة، فيعجز عنه، وربّما يملك الأجهزة ولكنّه لا يعلم كيف يستخدمها، فيعجز عن معالجة الموقف، ولكنّ الله تعالى عليم بكلّ شيء، قدير على كلّ ما يريد، لا حدّ ولا نهاية لعلمه وقدرته، فلا يعجزه شيء.

«وَلَوْ يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّة» يبدو أنّ الآية تردّ على سؤال يفرضه الموقف، وهو أنّ النتيجة المحتومة ممّا سبق، أنّ الله تعالى يعذّب الجميع على ذنوبهم، مع أنّا نجد كثيراً من الأقوام أفسدوا في الأرض، وظلموا، وأشركوا بالله تعالى، وكفروا به، وأهلكوا الحرث والنسل، ولم ينزل عليهم العذاب!!

فالجواب: أنّ الله تعالى جعل لكلّ فرد ولكلّ مجتمع أجلاً لا يتقدّمونه ولا يتأخّرون منه، ويدخل في ضمن مقوّمات هذا الأجل والعوامل المؤثّرة في تحديده، أعمالهم وجرائمهم. والله تعالى لا يستعجل في عذاب الناس، ولو كان يؤاخذ كلّ إنسان أو كلّ مجتمع بذنبه ، لم يبق على الأرض إنسان، بل ولا حيوان.

ومثله قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون»(1) وبيّن في آية أُخرى أنّ ما يصيب الناس إنّما هو نتيجة أعمالهم، ولكنّ الله يعفو عن كثير: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثير».(2)

ص: 374


1- النحل (16): 61
2- الشورى (42): 30

والضمير في قوله: «عَلَى ظَهْرِهَا» يعود إلى الأرض المعلوم من سياق الكلام، والمراد ب_«الدابّة» كلّ ما يدبّ أي يتحرّك على الأرض، فيشمل الحيوان، ولذلك وقع السؤال عن سبب الشمول، مع أنّ الحيوان لا ذنب له، بل ليس كلّ البشر مذنبين، ففيهم الأطفال والقاصرون، وفيهم الأنبياء والمعصومون!

ولذلك قيل: إنّ المراد بالدابّة خصوص الإنسان، كما في تفسير «الميزان». (1)

ويردّه: أنّه لا موجب لهذا التعبير، مع أنّ الإشكال باق، كما تبيّن بما ذكرناه.

والظاهر أنّ السبب في التعميم هو أنّ العذاب النازل لا يبقى أثراً للحياة، وليس عذاباً على خصوص الظلمة، كما هو الشأن في ما نزل من العذاب على الأقوام السالفة، فإنّه كان يشمل الأطفال والحيوانات، وقد قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةٌ لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ»،(2) فإنّ ظاهرها أنّ الفتنة - وهي العذاب أو سبب العذاب - ربّما لا تختصّ بالظالمين، بل يعمّ غيرهم، كما هو مشهود ومنقول. ولكنّ مع ذلك يبقى عموم الآية هنا لمثل المعصومين، مبنيّاً على التغليب. وهو واضح.

«ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمّى». «الأجل»: الوقت المحدّد في الدين وغيره، ومنه مدّة حياة الإنسان وحياة المجتمع. «والمسمّى» أي المحدّد والمعيّن. والمراد به هنا على ما يبدو معنى يشمل يوم القيامة، كما يشمل الأجل الذي تعيّن بالقضاء والقدر الإلهي حسب الظروف والعوامل التي تستوجب نزول العذاب، فليس كلّ عمل وفي كلّ ظرف يستوجبه. ولذلك نجد في زماننا هذا كثيراً من

ص: 375


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 59
2- الأنفال (8): 25

الذنوب التي استتبعت عذاب الله في الأُمم السالفة، تفشو في المجتمع ولا يستنكر، والله تعالى يمهلهم ولا يعذّبهم.

ويستفاد من الآيات الكريمة أنّ من شروط عذاب الاستئصال هو مجيء الرسول، قال تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فإذا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»(1) وقال أيضاً: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا). (2)

ويمكن أن يكون المراد ب_«الأجل المسمّى» الموت، فيكون المعنى: أنّ الله تعالى لا يعجل بإفناء الناس بسبب ظلمهم، بل يؤخّر كلّ واحد إلى أجله المعيّن، أي الذي تعيّنه سلسلة الأسباب والمسبّبات التي تنتهي إلى موته. ومثل ذلك قوله تعالى في حكاية كلام نوح علیه السّلام: «أنِ اعْبُدُوا الله وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمّى»،(3) فهو وعد بعدم نزول عذاب الاستئصال.

«فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كانَ بِعِبادِهِ بَصيراً» الجواب محذوف، إمّا لوضوحه أو ليذهب السامع فيه كلّ مذهب، فيفيد التهويل، فالجواب المقدّر يمكن أن يكون «يجازون بما عملوا» أو «لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» أو نحو ذلك.

والجملة المذكورة، أي قوله تعالى : «فَإِنَّ الله كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» جملة تعليلية سادة مسدّ الجزاء. ومثله كثير في القرآن وغيره. فإذا كانت الجملة الجزائية المقدّرة: «يجازون بما عملوا». فالتعليل يفيد أنّ الله تعالى يعلم بما عملوا وما يناسبه من الجزاء، لأنّه بصير بهم وبأعمالهم. والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 376


1- يونس (10): 47
2- الإسراء (17): 15
3- نوح (71): 3-4

تفسير سورة يس

تفسير سورة يس

ص: 377

ص: 378

سورة یس (1-12)

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)»

سورة يس مكّية بشهادة المضامين المناسبة للمجتمع المكّي. وقد ورد عن طرق الخاصّة والعامة في فضلها وعظم شأنها، أحاديث كثيرة ومنها توصيفها بأنّها قلب القرآن، ولكن لم يظهر لي وجهه. وما ذكر في بعض التفاسير ك_«روح المعاني» من الوجوه، لا تطمئنّ إليها النفس، لعدم اختصاص ما ذكر من الوجوه

ص: 379

بمضامين هذه السورة المباركة، فالأولى أن نردّ علم ذلك إلى أهله، مع أنّ الحديث لم يرد بطريق صحيح عندنا.

«يس»، كثر الكلام حول الحروف المقطّعة وما ذكر فيها وجوه عديدة.

منها : أنّ هذه الحروف لتنبيه السامعين وجلب انتباههم لسماع آيات الله تعالى فهي مثل تصدير الكلام ب_«ألا» ونحوه من أدوات التنبيه. وربّما يقال في توجيهه أنّ المشركين كانوا يرفعون أصواتهم باللغط والصياح لئلا يستمع أحد إلى الرسول صلّی الله علیه و آله ، فكان البدء بهذه الحروف تسكتهم لأنّه لم يكن معهوداً لديهم.

ولكن هذا الوجه لا يمكن أن يبرر به ذكر خصوص هذه الحروف وتكرّرها مع عدم التعارف باستعمالها في التنبيه، كما أنّه يبقى السؤال عن وجه تخصيص هذه السور بها. مضافاً إلى أنّ التوجيه المذكور لا يصحّ أساساً في سورتي البقرة و آل عمران المدنيتين.

ومنها : ما ذكره بعضهم من أنّ ذلك إشارة إلى أنّ القرآن الكريم متكوّن من نفس هذه الحروف، التي يتكوّن منها كلّ كلام متعارف كالطاء والسين والميم والألف واللام ونحوها، ومع ذلك فليس بإمكان البشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. واستشهدوا على ذلك بما يرد غالباً بعد ذكر هذه الحروف من الإشارة إلى القرآن الكريم كقوله تعالى في مطلع سورة القصص «طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ المُبِينِ» وكذا سورة الشعراء والنمل وغيرهما.

وهذا القول منسوب إلى الإمام العسكري علیه السّلام، كما ورد في التفسير المنسوب إليه علیه السّلام ولكن لا تصح ّالنسبة وبمراجعته يحصل القطع بعدم صحّة الإسناد، ورواه أيضاً عنه علیه السّلام الصدوق في «معاني الأخبار» ولكن السند ضعيف جدّاً لا يعبأ به.

ص: 380

وهذا الوجه أيضاً لا يبرر ذكر خصوص هذه الحروف مع الإصرار على تكرارها في أكثر من سورة ممّا يستفاد منه نوع علاقة بين سورة ما أو مجموعة من السور، وهذه الحروف الخاصّة لا مطلق حروف الهجاء. وأمّا ما استشهد به فمنقوض بأنّ هذه الإشارة لم تأت في كثير من الموارد كهذه السورة وسورة الروم وغيرهما.

ومنها: أنّ هذه الحروف أسماء السور فنقول سورة يس وسورة طه ونحو ذلك.

ولكن هذه التسمية إنّما حدثت بعد ورود هذه الحروف وبسببها، والكلام هنا في سببها ومفادها فسورة البقرة مثلاً سمّيت بها لورود هذه الكلمة فيها ولكن لا يمكن أن يقال إنّ السبب في ذكرها هو التسمية.

ومنها: أن ّهذه الحروف ممّا يستدلّ بها على أنّ القرآن ليس من إبداع الرسول صلّی الله علیه و آله لأنّه كان أُمّياً، فكان حسب الظاهر لا يعرف أسماء الحروف فالأمّي يتلفّظ بالألف، ولكنّه لا يعلم أنّ اسمه ألف، وهكذا سائر الحروف.

وهذا كلام سخيف فالأُمّيون يعرفون أسماء الحروف، فإنّ أسماء الحروف ليست إلا كأسماء سائر الأشياء، أو على الأقلّ يعرفه بعضهم فلا تلازم بين الأُمّية وعدم معرفتها. مع أنّه أيضاً لا يبرر التركيز على خصوص هذه الحروف وتكرارها. ومضافاً إلى أنّ ذلك لا يدلّ إلا على أنّه من صنع رجل غير أُمّي، أو صنع بمساعدته، ولا يدلّ على أنّ القرآن من عند الله تعالى، وهو المقصود.

ومنها : ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله، وهو أنّ كلّ حرف من هذه الحروف إشارة إلى موضوع من المواضيع التي تعالجها السورة ، واستشهد على ذلك بأنّه إذا اجتمع في مطلع سورة مجموعتان من الحروف ورد كلّ منهما في مطلع

ص: 381

سورة أُخرى، فيلاحظ أنّ هذه السورة تشتمل على مواضيع السورتين بحسب النوع طبعاً؛ فمثلاً سورة الأعراف المبدوّة ب_«المص» تشتمل على مواضيع سورة البقرة وسورة ص، وليس معنى ذلك أنّ كل تلك المواضيع مذكورة في هذه السورة بذلك التفصيل، بل على الإجمال، فلو كان الألف مثلاً إشارة إلى الأحكام الشرعية فلا بدّ أن تكون كلّ سورة يبدأ فيها بالألف مشتملة على بعض الأحكام.

وهذا الاحتمال ليس ببعيد في حدّ ذاته إلا أنّه يتوقّف على دراسة وبحث أعمق.

ومن الشواهد على صحّة هذا الاحتمال مجموعة الطواسين، أي سورة الشعراء، والنمل، والقصص، حيث ورد في مطلع كلّ منها حرف الطاء وتتعرّض كلّها لقصّة موسى علیه السّلام من إحدى جوانبها ويلاحظ أنّ في كلّ منها إشارة إلى لقائه علیه السّلام على جبل طور سيناء، ووردت الإشارة إليه أيضاً في سورة طه المبدوّة بالطاء أيضاً ممّا يقوي احتمال كون الطاء في كلّ هذه السور إشارة إلى الطور، ولم يرد حرف الطاء في فواتح السور إلا في هذه السور الأربع، كما أنّ الإشارة إلى هذا الموضوع لم ترد في سورة أُخرى إلا إشارة عابرة في سورة النازعات. ولعلّ حرف السين فيها إشارة أيضاً إلى سيّدنا موسى علیه السّلام.

ومع ذلك يبقى السؤال عن سرّ الإتيان بها بهذا النحو مع عدم التوضيح.

وهناك وجوه أُخرى بعيدة يراجع بشأنها الكتب المفصلة.

وقيل: إنّ هناك سرّا آخر في هذه الحروف يكشف عن وجه غريب من وجوه الإعجاز ، وهو أنّه لو جمعت هذه الحروف في المجموعة من السور التي صدّر فيها بها كانت أكثر نسيبياً منها في سائر السبور، وهذا أمر لا يمكن كشفه إلا

ص: 382

بواسطة جهاز الحاسوب الآلي، فكيف بالتقيّد به في الحديث طيلة ثلاث وعشرين سنة.

ولكنّ الحكم بثبوت هذا الأمر أو نفيه بحاجة إلى تأمّل ودقّة، وقد شكّك في ذلك بعض الباحثين وذكر نقوضاً على هذه الفكرة من الأساس.

والغريب من أمر هذه الحروف أنّه لم يذكر في الأحاديث والتواريخ أنّ المناوئين استغربوا ذلك، ولم يرد استفسار مؤكّد ومتابعة وبحث من قبل الصحابة، ولا إيضاح ابتداءً من قبل الرسول صلّى الله عليه وآله أو الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام، وكأنّ الكلّ كانوا متّفقين على أنّها رموز يجب السكوت عنها، والمسلمون طيلة التأريخ لم يستغربوا أمرها وإنّما كانوا يتلونها كما أُمروا به من دون إصرار على السؤال عن مغزاها.

نعم ورد بشأنها بعض الروايات وأكثرها ضعيفة:

منها: ما رواه الصدوق في «معاني الأخبار» قال: حدّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني - رضي الله عنه - قال: حدّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس بن عبدالرحمن، عن سعدان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: « «الم» هو حرف من حروف اسم الله الأعظم، المقطّع في القرآن، الذي يؤلّفه النبيّ صلّی الله علیه و آله والإمام فإذا دعا به أُجيب».(1)

وروی بسند صحيح عن محمّد بن قيس قال: سمعت أبا جعفر علیه السّلام يحدث «أنّ حُیيّاً وأبا ياسر ابني أخطب ونفراً من يهود أهل نجران أتوا رسول الله صلّی الله علیه و آله فقالوا له: أليس فيما تذكّر فيما أنزل الله عليك «ألم»؟ قال: «بلى». قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله تعالى؟ قال: «نعم». قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك وما نعلم نبيّاً منهم أخبرنا مدّة ملكه وما أجل أُمّته

ص: 383


1- معاني الأخبار: 23

غيرك قال: «فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه فقال لهم: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، فعجب ممّن يدخل في دين مدّة ملكه وأجل أُمته إحدى وسبعون سنة ! قال: ثم أقبل على رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال له : يا محمّد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال هاته قال: «المص» قال : هذه أثقل وأطول، الألف واحد ، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستّون سنة. ثمّ قال الرسول الله صلّی الله علیه و آله : فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال هاته. قال صلّی الله علیه و آله: «الر» قال : هذه أثقل وأطول، الألف واحد واللام ثلاثون، والراء مائتان ثمّ قال لرسول الله صلّی الله علیه و آله: فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: هاته . قال : «المر» قال : هذه أثقل وأطول. الألف واحد ، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان. ثمّ قال له: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قالوا قد التبس علينا أمرك فما ندري ما أعطيت! ثمّ قاموا عنه، ثمّ قال أبو ياسر للحيي أخيه ما يدريك ؟! لعلّ محمّداً قد جمع له هذا كلّه وأكثر منه».

قال: فذكر أبو جعفر علیه السّلام: «أّن هذه الآيات أنزلت فيهم: «مِنْهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنْ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» (1)»، قال : وهي تجري في وجه آخر على غير تأويل حُيّي وأبي ياسر وأصحابهما».(2)

وهذا الخبر مرويّ في كتب العامّة أيضاً. ويظهر منه أنّه كانت هناك بعض المحاولات لمعرفة هذا السرّ ولكن بأفكار ساذجة ولم ينبّه الرسول صلّی الله علیه و آله على خطئهم ولا على ما هو الصحيح.

ولكنّ الحكم بثبوت هذا الأمر أو نفيه بحاجة إلى تأمّل ودقّة.

وعلى كلّ حال ففي خصوص هذين الحرفين، ذُكرت وجوه أُخرى:

ص: 384


1- آل عمران (3): 7
2- معاني الأخبار: 24

منها: أنّ ياسين اسم من أسماء الرسول صلّی الله علیه و آله، وقد ورد ذلك في بعض رواياتنا عن الإمام الصادق علیه السّلام، واستدلّ بالخطاب الوارد بعده «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».(1) وورد التعبير عنه صلّی الله علیه و آله بذلك في بعض الزيارات والأدعية والأشعار. ومنها الأشعار القديمة كالشعر المنسوب إلى السيّد الحميري على ما في «روح المعاني»:

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة *** على المودّة إلا آل ياسينا(2)

وورد في بعض الروايات في قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ»(3) أنّ الصحيح: «آل ياسين»(4)، وأنّ المراد بهم آل محمد صلّی الله علیه و آله وهو غريب، إذ الوارد قبلها ذكر الأنبياء علیهم السّلام مع التعقيب في كلّ واحد بالسلام عليه، وهذه الآية وردت بعد ذكر إلياس علیه السّلام ولا موجب لاستثنائه من السلام.

وقد ورد مثل ذلك في «طه» وأنّه أيضاً من أسمائه صلّی الله علیه و آله حيث ورد الخطاب بعده: «مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى»(5) وورد التعبير عنه صلّی الله علیه و آله به في الأدعية والزيارات والأشعار أيضاً. ولكن كلّ ذلك لا يوجب الوثوق. ويبقى هذان الحرفان كغيرهما من الحروف المقطعة سرّاً كامناً.

وقال بعضهم: إنّ «السين» اسم للإنسان و«يا» حرف نداء. ووجّهه بعضهم بأنّ «سين» أصله انيسين مصغّر الإنسان ثمّ خفّف، كقولهم: «م الله» تخفيفاً لجملة «أيمن الله».

ص: 385


1- راجع: تفسیر القمی 211: 2
2- روح المعانى في تفسير القرآن العظيم 11: 384
3- الصافات (37): 130
4- راجع: تحف العقول: 425
5- طه (20): 2

وهذا احتمال ضعيف لا يدعمه دليل.

ومثله القول بأنّ الحرفين مقسم بهما ، وحذف حرف القسم.

«وَالْقُرْآنِ الْحَكيمِ» قسم بالكتاب العزيز. والله تعالى يقسم في مواضع كثيرة بمخلوقاته أيضاً. وحقيقة القسم إنشاء ربط اعتباري بين ما يراد بيانه، وبين عزّة ما يقسم به وكرامته، وهذا واضح من الأقسام العرفية، حيث يقسم الإنسان بحياة ابنه أو أبيه أو نفسه ونحو ذلك، وأقسام الله تعالى أيضاً لا يشذّ عن هذا الأمر، إلا أنّ كرامة بعض الأشياء غريبة علينا. وهنا يقسم الله بالقرآن لبيان أنّ محمّداً صلّی الله علیه و آله من المرسلين.

وأمّا توصيفه بالحكيم فقد قيل: إنّه مجاز باعتبار اشتماله على آيات من الحكمة، أو باعتبار أنّه كلام الحكيم جلّ وعلا، وقيل: إنّه توصيف للقرآن مجازاً كأنّه اعتبر حيّاً.

وهذه المحاولات تبتني على أن يكون الوصف خاصّاً بحقيقته للحيّ، فيكون إطلاقه على غيره بنوع من التجوّز، ولكّن الصحيح أنّ «الحكيم» مأخوذ من الحكمة وهو المنع ، والحكيم ذو المنعة، ويقال للإنسان: إنّه حكيم، إذا كان له من العقل ما يمنعه من السفاهة والجهل، والقرآن ذو منعة على حقيقته، إذ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

«إِنَّكَ لَنَ المُرْسَلِينَ» هذه هي الجملة المقسم لها، وبتعبير القوم جواب للقسم. ولا يخفى التناسب اللطيف بين المقسم به وهو القرآن، مع توصيفه بالحكمة المقتضية لإعجازه، وبين الجملة المقسم لها وهي كون من أتى به مرسلاً من ربِّه، فهذا القسم في الواقع إشارة إلى الدليل والبرهان الواضح على رسالته، وليس من قبيل حلف الحالفين لإثبات موضوع مختلف فيه، فيستغرب بأنّ القسم لا يثبت

ص: 386

الرسالة المدّعاة. والتعبير حيث أتى بصيغة الجمع ووصف الرسول صلّی الله علیه و آله بأنّه من كوكبة المرسلين للردّ على استبعاد بعض المخاطبين إرسال بشر رسولاً، كما تكرّر نقله في القرآن ومنها ما سيأتي في هذه السورة.

«عَلى صِراطٍ مُسْتَقيم» خبر بعد خبر، أو متعلّق بالمرسلين، وهو أنسب؛ فالمعنى: إنّك مرسل على صراط مستقيم تدعو إلى ربّك. والتعبير يصوّر الرسول صلّی الله علیه و آله واقفاً على مبدأ طريق منير عام،ّ يدعو الناس إلى سلوكه، والنهاية البيّنة من بدوّه رضا الربّ والخلود في رحمته، والطريق مستقيم واضح أبلج، لا اعوجاج فيه ولا التواء، يناسب الفطرة السليمة والعقل الراجح.

وهذا أيضاً دليل آخر على الرسالة الإلهية، فإنّ الداعين إلى أنفسهم الذين يبتغون بذلك الوصول إلى أهداف مادّية، ترى في سلوكهم الإعوجاج الواضح، ويتجلّى من ملامحهم وطلباتهم النهم والجشع ، وأمّا الرسل فالتأريخ يشهد لهم بالنقاء والطهارة، ونكران الذات والتضحية في سبيل الدعوة.

ولعله لذلك أتى ب_«الصراط» نكرة، فإنّ التنكير - كما يقولون - للتفخيم، والتفخيم هنا لا يبعد أن يكون من جهة وضوح استقامته، بحيث يعرفه عامّة الناس لا يحتاج إلى دقّة علمية وبحث ومناظرة، فإنّ الرسالات نزلت لعامّة الناس لا لخواصّهم، وإن كان الخواصّ يعلمون من ميزاتها وخصائصها ما لا يبلغها العامّة.

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين من أنّه تفخيم لهذا الصراط من بين الصرط المستقيمة - ويقصد بها سائر الشرائع - فيصعب قبوله، لأنّ الصراط الذي يدعو إليه الرسل، صراط واحد وإن اختلفت المناهج، حسب ما يدعو إليه اختلاف

ص: 387

مراحل التطوّر في نضج العقل البشري. قال تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فيه».(1)

وأمّا أُحدوثة الصرط المستقيمة التي يدعو إليها بعض أنصار العلمانية من الكتّاب المسلمين، فهو مخالف لصريح القرآن في مواضع عديدة، لعلّ أبرزها قوله تعالى: «وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ». (2)

«تَنْزِيلَ الْعَزيزِ الرَّحيمِ» مفعول مطلق لفعل مقدر، أي نزّل تنزيل العزيز، ويعود الضمير إلى القرآن الحكيم، وقرئ بالرفع، أي هو تنزيل، والمصدر حينئذٍ بمعنى المفعول، ومضاف إلى الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى. والتوصيف ب_«العزّة» و «الرحمة» إشارة إلى غناه تعالى عن هداية الناس وإيمانهم، وقبولهم لما أنزله إليهم من هدايات لعزّته ومنعته، ولكنّه في نفس الوقت رحيم بعباده. ومقتضى رحمته الواسعة أن ينزّل عليهم ما يهديهم إلى سعادتهم الأبدية.

«لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ»، تعليل لإنزال القرآن، وجملة «ما أُنذر» وصف للقوم . والظاهر أنّ «ما» نافية، والمراد آباؤهم الأقربون لا الأباعد، إذ كان في العرب القدماء رسل وكانوا يفتخرون بانتمائهم إلى إسماعيل علیه السّلام، وقوله «فَهُمْ غافِلُونَ» تفريع على عدم الإنذار، أي أنّ عدم الإنذار تسبّب في غفلتهم ومتعلّق الغفلة حينئذٍ ما تدعوهم إليه الفطرة من الإيمان بالله تعالى وتوحيده، فإنّ القرآن كغيره من الكتب السماوية، يذكّر الإنسان بفطرته.

ص: 388


1- الشورى (42): 13
2- الأنعام (6): 153

ويمكن أن تكون «ما» موصولة، والمعنى: لتنذرهم بما أُنذر به آباؤهم. و«الفاء» تعليل لإنذارهم، يعني أنّهم لطول الأمد بينهم وبين الإنذار الذي أنذر به آباؤهم، غفلوا عنه، فلزم أن نبعث من ينذرهم ويذكّرهم.

«لَقَدْ حقِّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»، «حقّ القول»، أي ثبت القول على أكثرهم. قالوا: إنّ المراد ب_«القول ما ورد في قوله تعالى مخاطباً لإبليس لعنه الله: «قَالَ فَالحَقُ وَالحَقِّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّنْ تَبعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ».(1)

وحينئذٍ يقع السؤال عن قوله تعالى: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» حيث يدلّ على أنّ عدم إيمانهم متفرّع على ثبوت هذا القول فيهم ، والخطاب المذكور إذا انطبق عليهم فهو مترتّب على عدم الإيمان دون العكس، ولم ينتبه بعضهم إلى هذه المفارقة.

ولكنّ السيد الطباطبائي رحمه الله حاول أنّ يوجه ذلك بأنّ المراد بالتبعية، إطاعة إبليس إطاعة راسخة في النفس، وأنّ لازمه الطغيان، ولازم الطغيان الانكباب على الدنيا والإعراض عن الآخرة، ومن آثاره أن يطبع الله على قلوبهم، فهم لا يؤمنون. واستدلّ في كلّ هذه المراحل بآيات من القرآن الكريم. (2)

ولكنّ السؤال يبقى على حاله، لأنّ هذا ينتج - على تقدير صحّته - أنّ تبعيّة إبليس يستتبع عدم الإيمان، وليس مقول القول إنّ هؤلاء يتبعون إبليس ليتفرّع عليه كلّ ما ذكر، بل مقول القول إنّ من تبع إبليس يدخل جهنّم، ولا يتفرّع على ذلك عدم الإيمان.

والصحيح أنّه قد تكرّر التعبير ب_«القول» الذي حقّ، و«الكلمة» التي حقّت على

ص: 389


1- ص (38): 4-85
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 64

بعض الناس، والمراد بكلّ منهما في كلّ مورد منها ما يناسب المقام من القول والكلمة التكوينية أو التشريعية من الله سبحانه، ولا يجب أن يكون ذلك مذكوراً بصراحة في آية من الآيات، والمناسب هنا هو القول بأنّ من عاند الحقّ على علم فإنّه يطبع على قلبه، فلا يؤمن أبداً.

قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ». (1) وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ الطبع والختم وما يمنع من الإيمان إنّما هو نتيجة العناد مع الحقّ بعد تبيّنه.

ثمّ إنّ الآية تحكم على أكثر القوم بأنّهم لا يؤمنون. وربّما يستغرب بأنّ أكثر العرب آمنوا، بل لم يبق إلا القليل، ثمّ يجاب بأنّ المراد الأكثر من طواغيت قريش وهم لم يؤمنوا إلا قليلاً. وهذا بعيد عن سياق الآية، إذ الضمير يعود إلى القوم الذين لم ينذر آباؤهم وهم عرب الجزيرة، أو أهل مكّة.

ولعلّ الأقرب أن يقال: إنّ أكثرهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان، بل إنّ أكثر أهل مكّة أسلموا قهراً وفي الظاهر بعد الفتح ولذلك كانوا كثيراً ما يعترضون على أوامر الرسول صلّی الله علیه و آله، ويرفض بعضهم الانصياع لبعضها، كمتعة الحجّ، ويرميه بعضهم بعدم العدل في تقسيم الغنائم، ويرفض بعضهم امتثال أمره بحجّة أنّه صلّی الله علیه و آله مريض وأنّه - والعياذ بالله - يهجر ويسكت الآخرون، ويقرّونه على ذلك، مع أنّهم كانوا يتلون قوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»(2) وتبيّن قلّة المؤمنين بعد وفاته صلّی الله علیه و آله

ص: 390


1- الأنعام (6): 110
2- النساء (4) : 65

بوضوح، حيث رفضوا إمرة الإمام الذي نصبه ولياًّ عليهم، مع تقدم بيعتهم له.

«إِنَّا جَعَلْنا فى أعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ»، «الأغلال» جمع غلّ - بضمّ الغين - بمعنى الصفّد الذي يربط به الأسير والمحبوس. وأمّا بالكسر فبمعنى الحقد. و«الإقماح» رفع الرأس إلى أعلى. والآية الكريمة تصوّر الكفّار المعاندين للحقّ، كأنّهم طوّقت أعناقهم بالأغلال، وأنّ الأغلال كثيرة عريضة بلغت أذقانهم، فبقيت رؤوسهم مرفوعة، ورفع الرأس حالة من يتأبّى عن قبول الحّق.

تعبير وتشبيه عجيبان فالقوم يرفضون الانصياع للحقّ مع علمهم به، فهم كمن يرفع رأسه لإعلان إبائه ورفضه من دون دليل. ومع ذلك فإنّ رفع الرأس له عوامل وأسباب، وهي هنا الأغلال التي بلغت الأذقان واضطرّتهم لرفع رؤوسهم كأنّهم مكرهون على ذلك.

وهذه الأغلال كناية عن ما يمنعهم من الإيمان والانصياع للحقّ، كالحسد، والكبر، والطغيان، والعزّة بالاثم، ومتابعة الهوى، وجشع المال، وحبّ الرئاسة، وغير ذلك مّما يبتلى به الإنسان نتيجة عناده، ورفضه لقبول الحقّ أوّل مرة مع إذعانه له، فهذه الأغلال تحيط به وبعنقه، وتمنعه من رؤية الحقّ مرّة أُخرى، فهي معلولة للعناد الأوّل، وعلّة للعناد المستمرّ.

والله تعالى ينسب جعل الأغلال إلى نفسه. والسرّ فيه: أنّ تكوّن هذه الأغلال نتيجة طبيعية للمعاندة، فهو في أوّل مواجهته للحقّ يجده ويعرفه، ولكنّه يعاند المرض في نفسه. وهذا العناد يتكرّر، فيكوّن مجموعة من الأغلال تحيط بعنقه، وتمنعه من رؤية الحقّ مرّة أُخرى. وكلّ ذلك نتيجة طبيعية للعناد، فتنسب إلى الله تعالى، لأنّه الخالق والمدبّر.

ص: 391

«وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَاغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «السدّ»: المانع، و«الإغشاء» هو التغطية. والتعبير يصوّر المعاند محاطاً بسدّين من أمامه ومن خلفه، فلا يمكنه أن يرى إلا نفسه. ولعلّ السدّين كناية عن الموانع الخارجية التي تمنع الإنسان من رؤية ما عداه، فالفرق بين هذا التصوير والتصوير السابق، أنّ هذا يصوّره محاطاً بموانع خارجية تمنعه من النظر إلى ماوراءها، والموانع هي ما تستهويه وتجذبه إليها من الشهوات والملذّات، والأوّل يصوّره تحت تأثير العوامل النفسية، وكلّ ذلك يمنعه من رؤية الحقّ.

وهذا الإغشاء أيضاً يحصل كنتيجة طبيعية للنظر إلى الدنيا. قال أمير المؤمنين علیه السّلام في وصف الدنيا: «من أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته»،(1) فهذه العمى والغشاوة، والسدّ المانع من رؤية الحقّ، يحصل قهراً لمن نظر إلى الدنيا، وكلّ نتيجة طبيعية تستند إلى الله تعالى، كما أسلفناه.

وما ذكرناه من الفرق أقرب ممّا ذكره الرازي من أنّ الأوّل لمنعه من النظر في آيات الأنفس، لأنّه لرفع رأسه لا يرى نفسه، والثاني لمنعه من النظر في الآفاق.

«وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنذَرْتَهُمْ أم لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»، أي سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك، فإنّهم لا يؤمنون. وهذه نتيجة القموح والغشاوة، فالذي لا يمكنه أن يبصر أمامه أو يرى آيات الله ببصيرته لا ينفعه الإنذار. والسرّ فيه: أنّ الإنذار لا يتعلّق بخطر مشهود، وإنّما يتعلّق بخطر في غيب العالم، فلا بدّ من بصيرة ثاقبة وهو ما يفقده الإنسان المعاند.

وقد ورد التعبير عن هذا السدّ في موضع آخر ب_«الحجاب»، قال تعالى: «وَقَالُوا

ص: 392


1- نهج البلاغة، صبحي الصلاح، الخطبة 81

قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقُرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ»،(1) فالقوم ما كانوا يرون الرسول ولا يسمعون آيات الله تتلى عليهم ، كلّ ذلك نتيجة هذا السدّ والقموح.

«إنّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ»، «إنّما» تفيد الحصر هنا، بقرينة المقام إن لم نقل بأنّها تفيده دائماً.

ولكن ما هو المراد بالحصر ؟ حيث إنّ الرسول صلّی الله علیه و آله كان ولكن المعاندين لا يتأثّرون بإنذاره.

يمكن أن يقال: إنّ الإنذار لا يتحقّق قطعاً إذا كان المخاطب جماداً وأنت تحسبه إنساناً، لأنّ المورد غير قابل في واقع الأمر، ولا أثر لتصوّر المنذر وحسبانه. والآيات هنا تصوّر القوم غير قابلين للإنذار واقعاً، وإن كانوا في الظاهر بشراً يمكن إنذارهم، فهذه الآية تدخل ضمن المجموعة التصويرية وتكمّلها، ببيان أنّ هؤلاء القوم ليسوا، كما يظنّ الرائي قابلين للإنذار.

وكلّ هذه الآيات تأتي في إطار إيناس الرسول صلّی الله علیه و آله من إيمانهم، وتسليته بأنّه قد أدّى ما عليه بما لا مزيد عليه.

وأمّا قوله تعالى: «مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ»، فقد قالوا: إنّ المراد من يتبّع، أو من اتّبع في علم الله، لأنّ الإنذار قبل الاتّباع، فلا يكون الاتّباع موضوعاً له.

ويمكن القول بأنّ الإنذار لا يختصّ بأصل الرسالة والإيمان بالله واليوم الآخر، بل بكلّ ما يشتمل عليه الدين من أحكام، فالذي يحصل له الخوف حقيقة ويتحقّق فيه الإنذار واقعاً، هو الذي اتّبع الذكر ورسخ فيه الإيمان. والمراد

ص: 393


1- فصلت (41): 5

ب_«الذكر» هو القرآن كما قالوا ويمكن أن يكون مطلق الذكر، أي ما يذكّر الإنسان بفطرته.

و«الخشية» هي الخوف. وقوله: «بِالْغَيْبِ» يحتمل أن يكون بمعنى خشيته تعالى في الخفاء، حيث إنّ كثيراً من الناس يتجنّبون المحرمات أمام الناس، ولا يتّقون في الخفاء. وعليه فالقيد احترازي. ويحتمل أن لا يكون احترازياً باعتبار أنّ خشية الرحمن لا تكون إلا بالغيب، كالإيمان بالغيب، أي ما لا يحسّ به الإنسان، فإنّ أساس الكمال في البشر هو ارتباطه بالغيب، فالذي يخشى الرحمن مع أنّه لا يحسّ بوجوده تعالى هو الذي يقع عليه الإنذار على حقيقته.

والتعبير ب_«الرحمن» للإشارة إلى أنّه مع رجائه لرحمته يخشاه فيكون بين الخوف والرجاء. وهذا هو الحال المطلوب للمؤمن .

«فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَريمٍ» قرن الإنذار بالتبشير، والخشية بالرحمة، ليبقى المؤمن على حالته بين الخوف والرجاء، فلا يغترّ بإيمانه ويأمن عذاب الله، ولا ييأس من رحمته تعالى.

و«البشارة» تتعلّق بنوعين من العمل لا يخلو منهما مؤمن، فهناك عمل لابدّ فيه من المغفرة، حتّى لا يكون مانعاً في سبيل الكمال، وهو الذنب صغيره وكبيره، وحتّى ما يصدر من الأنبياء والمعصومين علیهم السّلام، ممّا لا يتوقّع منهم لقربهم وجلالة قدرهم، وإن لم يكن ذلك إثماً لأنّهم معصومون بفضله تعالى. وهناك ما يعمله المؤمن من الصالحات، فيتبعه الأجر الكريم. و«الكريم» يقال لكلّ أمر قيّم كالأحجار الكريمة. وهذا الأجر لا يعرف قيمته إلا الله تعالى ولذلك جاء بلفظ النكرة، فالمغفرة لا حدود لها والأجر أيضاً لا يعرف حدوده إلا الله تعالى.

«إِنَّا نَحْنُ نُحْي الموتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ»، الإتيان بالضمير المنفصل

ص: 394

«نَحْنُ» للتأكيد على أنّ الذي يحيي الموتى ليس إلا الله تعالى. والغرض تعقيب اختلاف أحوال الناس من مطيعين وعاصين بأنّ كلّ أحد يحاسب على عمله بدقّة متناهية، فكلّ ما قدّموا من أعمال صالحة وفاسدة مكتوب مسجّل، وكلّ ما تركوا من آثار حسنة وسيّئة مكتوب مسجّل، وهذا يشمل كلّ تأثير خفيّ لعمل الإنسان لا يعلمه إلا الله تعالى، فإنّ الإنسان لا يعلم أنّ ما يصدر عنه من عمل حسن أو سيّئ، ماذا يترتّب عليه من آثار، وأين يقع في سلسلة العلل والمعلولات.

هذا، مضافاً إلى الآثار المباشرة للعمل وهو الاستنان به من قبل الآخرين، ولذلك ورد في الحديث النبوي الشريف: «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أُجورهم شيء»(1) وعن أبي جعفر الباقر علیه السّلام: «أيّما عبد من عباد الله سنّ سنّة هدى، كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك، و أيّما عبد من عباد الله سنّ سنّة ضلالة، كان عليه مثل وزر من عمل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(2) والإنسان لا يعلم الأعداد الهائلة من البشر الذين يستنّون بسنّته ويقتدون به، فيجب أن يكون القادة متيقّظين لما يصدر منهم ، وكذا غيرهم وإن قلّ المستّنون بهم، فإنّ عمل الإنسان يؤثّر في أولاده على أقلّ تقدير، فيجب الاهتمام بما نعمله جهاراً، فإنّ هذا هو الذي يستنّ به.

وكذلك العمل الصالح، فإنّ هناك من يستّنون به وإن قلّوا. وكلّ هذا مسجل عند الله وفي صحيفة آثار الإنسان، وإن لم يكن من عمله المباشر. ولذلك كانت الصدقة جهراً مطلوبة وإن كانت سرّاً أفضل، فإنّ الجهر بها يدعو الآخرين

ص: 395


1- وسائل الشيعه 15: 25
2- ثواب الأعمال: 119

للاقتداء. ومن هنا، فإنّ ما يقوله البعض - لتبرير ما يصدر منهم من إثم - بأنّا لسنا ممّن يصلح ظاهره ويفسد باطنه، خطأ فادح، فإنّ الإعلان بالإثم له خطر عظيم.

ولذلك ورد في الحديث ما يدلّ على أنّ الإثم الذي يجهر به أبعد من العفو والمغفرة ، فإنّه يقلّل من شأن التقوى، ويهوّن من فداحة الإثم في أعين الناس، ويترتّب عليه آثار سلبية كثيرة في المجتمع. والمطلوب من المؤمن أن يكون ظاهره حسناً أيضاً، بل حتّى لو لم يصلح باطنه، فإنّ إصلاح الظاهر مطلوب، والإثم في الخفاء أقرب إلى الغفران من غيره. (1)

والحاصل: أنّ هذه الآية تشتمل على تخويف عظيم من آثار العمل، وربّما لا يترتّب على بعضها العقاب، كما لو لم يكن ما صدر منه جهراً، ولكن علم به بعض الناس فاقتدى به، أو أثر ذلك في ضعف إيمانه، أو ترتّب عليه في سلسلة العلل والمعلولات آثار سلبية غير مقصودة ولا متوقّعة. ولكنّ الآية مطلقة وتدلّ على أنّ كلّ هذه الآثار مسجّلة، ولا يبعد أن تكون مؤثرّة في ما يحصل للإنسان من مقام عند الله وإن لم يكن موجباً للعقاب، فإنّ لكلّ أحد مرتبة، سواء كان في الجنّة أو فى النار.

قال تعالى: «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الله كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ»(2)، وكذا غيرها من الآيات التي تدلّ على

ص: 396


1- ففي الحديث عن رسول الله صلّی الله علیه و آله: «كلّ أُمتي معافى إلا المجاهرين الذين يعملون العمل بالليل، فيستره ربِّه، ثم يصبح فيقول: يا فلان إني عملت البارحة كذا وكذا» (كنز العمّال 4: 239)، وعن أمير المؤمنين علیه السّلام: «مجاهرة الله سبحانه بالمعاصي تعجل النقم» (غرر الحکم و دررالکلم: 707) وعن الإمام الرضا علیه السّلام: «المذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بالسيئة مغفور له» (الكافي 2: 428)
2- آل عمران (3): 162 - 163

ذلك. والدرجة تتغيّر حتّى لو كان العمل غير موجب للعقاب أو كان معفواً عنه، فلنكن على حذر من أعمالنا.

«وَكلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُبين»، «الإحصاء» أي العدّ التامّ قال تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا»،(1) وهذا مأخوذ من الحصى حيث كانوا يعدّون بها الأشياء. والمراد ب_«كلُّ شَيءٍ» كلّ أعمال الإنسان فإنّ الشيء يتحدّد بتناسب المقام كقوله تعالى في قصّة ملكة سبأ: «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»(2)، أي ممّا يناسب شأن الملوك إذ لم توت كلّ شيء قطعاً. و«الإمام» هو القدوة. والعرب تعبّر عن الشاقول بالإمام، لأنّ البنّاء يتبعه ويقتدي به في رصّ لبنات البناء. ولا يختصّ ذلك بالإنسان، كما ربّما يتوهّم. والظاهر أنّه هنا هو الكتاب الذي يسجّل فيه كلّ الأعمال صغيرها وكبيرها. والتعبير عنه بالإمام باعتبار أنّه يحدّد مصير الإنسان فهو كالشاقول. وتوصيفه ب_«المبين» تأكيد على أنّه يظهر كلّ شيء، ولا يخفي منها شاردة ولا واردة، قال تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مَا هِذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . (3)

وليس المراد ب_«الكتاب» ما يُكتب فيه من الورق، كما يتوهّم، وليس مجازاً أيضاً ، بل الكتاب هو المجموعة. ولذلك يعبّر عن القرآن بالكتاب قبل أن يكتب في صحيفة. ولا يبيّن القرآن أنّ هذه المجموعة من الأعمال المسجلة كيف تظهر في تلك النشأة، وإنما بيّن أن نفس الأعمال حاضرة، كما ورد في موارد عديدة، ومنها هذه الآية حيث قال: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً».

ص: 397


1- إبراهيم (14): 34
2- النمل (27): 23
3- الكهف (18): 49

سورة یس (13-19)

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)»

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَاب الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ»، الظاهر أنّ الضمير في قوله تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ» يعود إلى نفس المذكورين سابقاً وهم أهل مكّة.

وربّما يتساءل: ما هو الوجه في أمر الرسول صلّی الله علیه و آله أن يضرب لهم مثلاً في الإنذار والتبشير، بعد ما مرّ من التأكيد على عدم الجدوى في إنذارهم بالأمر؟

لعلّ الوجه فيه أمران:

الأوّل: أنّ الإنذار لا بدّ من أن يستمّر وإن لم يؤمنوا ويئس الرسول من إيمانهم، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ولتتمّ الحجّة عليهم.

والثاني: أنّ القول إنّما حقّ على أكثرهم، فهناك قليل يؤمل منهم الخير.

ومعنى قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً» أي ومثّل لهم مثلاً، فإنّ «الضرب» بمعنى التمثيل، كما يقال: هذا من هذا الضرب، أي من هذا المثال.

ويحتمل في التمثيل احتمالان

الأوّل: أن يكون المثال مثالاً لهم، فيكون الجار والمجرور «لَهُمْ» متعلّقاً بالمثل. والمعنى: أنّ مثلهم كمثل أصحاب القرية، فيكون كقوله تعالى: «مَثَلُهُمْ

ص: 398

كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً»(1) ووجه الشبه أنّهم كفروا كهؤلاء، وأتوا بحجج واهية، نظير ما تفوّه به هؤلاء، ولم يؤمن منهم إلا القليل، بل لم يؤمن إلا رجل واحد فقط.

والثاني: أن تكون «لَهُمْ» متعلّقاً بالضرب، أي اذكر لهم مثلاً يمثّل الكافرين والمؤمنين.

و«القرية» كلّ ما يجتمع فيه جمع من البشر، وقرى الشيء أي جمعه. وقيل: إنّ المراد بها أنطاكية، وقيل غيرها. ولا يهمّ ذلك ولا يصحّ ما ورد فيه من الأقاصيص، والمهمّ أن نستعبر بالمثل. وقوله تعالى: «إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ» ظرف لكونهم مثلاً. والضمير يعود إلى القرية.

«إذ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ»، «إذ أَرْسَلْنا» ظرف أيضاً، وبدل من الظرف السابق، وهو بيان تفصيلي لإرسال الثلاثة، فالقوم جاءهم ابتداءً رسولان. وهو بنفسه غريب ويدلّ على أهميّة هذه القرية نظير إرسال موسى وهرون علیهماالسّلام إلى فرعون، بل إنّ إرسال هارون كان بطلب من موسى عليهماالسّلام لا ابتداءً، كما هو ظاهر الآية هنا، بل زادت هذه القرية بتعزيز الرسولين بإرسال رسول ثالث بعد أن كذّبوهما.

و«التعزيز» التقوية والمنع والنصرة. وظاهر الآية وما بعدها أنّهم رسل الله سبحانه وإن لم يكونوا أصحاب شرائع، ولكن بعض الروايات تقول: إنّهم أرسلوا من قبل عيسى علیه السّلام. وليس في ذلك ما يعتمد عليه.

«فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ»، هذا ليس بالطبع نقلاً حرفياً لكلامهم، خصوصاً بعد

ص: 399


1- البقرة (2): 17

أن كذّبوهما، فجاء الثالث يعزّزهما، فلا بد من أن تكون هناك مقدّمات ومحادثات طويلة، ومطالبة من القوم بالدليل والآية. ولا بدّ من إتيانهم بمعجز يدلّ على ارتباطهم بالله تعالى.

فالمراد بهذه الآية ذكر مقدّمة تبيّن عرضهم للرسالة تمهيداً لبيان ردّ فعل القوم وهو المذكور في الآية التالية.

«قالُوا ما أنْتُمْ إلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىءٍ إِنْ أَنتُم إلا تَكْذِبُونَ»، ثلاث جمل أجابوا بها دعوة الرسل:

الأُولى: «ما أنتُمْ إلا بَشَرٌ مِثْلُنا» وهذا الاعتراض ممّا يدلّ على أنّهم أُرسلوا من قبل الله تعالى، إذ لو كانوا من قبل عيسى علیه السّلام لم يكن وجه للاستغراب.

وهكذا واجه القوم رسل ربّهم، كعادة من قبلهم ومن بعدهم، وردّوا الدعوى المدعومة بالآيات والمعجزات بالقول المتكرّر : «ما أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا».

وهذا الاعتراض يشتمل على جزء آخر منطو في كلامهم، وهو أنّ الله تعالى لا يرسل بشراً برسالته، إذ لا فرق بين بشر وبشر، فلو كان البشر لائقاً لرسالة السماء لكان الأجدر بها رجل منّا عظيم له مال وولد وجاه في العشيرة! وقولهم: «مِثْلُنَا» يقصدون بها أنّهم مثلهم في البشرية لا أنّهم لا يملكون مميّزات. والغرض أنّ الرسول يجب أن لا يكون من البشر، كما قاله سائر الأقوام.

والبشر منذ قديم الأيّام يواجه رسالات السماء بهذا الاستبعاد المتكرّر، وكأنّ بعضهم يوصي إلى من بعده، كما قال تعالى: «أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ»(1)، ويستغربون من أن يرسل الله تعالى بشراً مثلهم رسولاً إليهم، حيث إنّهم ينظرون

ص: 400


1- الذاريات (51): 53

إلى أنفسهم، فلا يجدون فيها قابلية الرسالة ويحكمون على كلّ البشر بمثل ذلك. وهذا هو القياس الباطل الذي يختاره كثير من المتفقّهة أساساً لاستنباط الحكم الشرعي!

والجملة الثانية : «ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ» وبذلك ينكرون الشريعة. ولعله بدليل أنّ الله تعالى لم يرسل ملكاً إلينا، فلم ينزل شريعة وتركنا نعمل ما نشاء.

ثمّ إنّ التعبير ب_«الرحمن» إن كان من القوم، فلعلّهم أرادوا القول بأنّ الله تعالى رحيم بعباده فيتركهم وشأنهم، وهذا ما يكرّره بعض من لا يسعه إنكار الربّ في هذا العصر تقليداً، لا عن علم، ولكنّه لا يريد متابعة الشريعة التي تقيّد حرّياته، فيقول: إنّ الله تعالى رحيم بعباده، فلا يمكن أن يذهب بهم إلى النار لمجرّد أنّهم عصوه أو ارتكبوا الآثام واتّبعوا الشهوات!!

ويمكن أن يكون وصف «الرحمن» في الحكاية، فهم نفوا أصل الإنزال من قبل الربّ جلّ وعلا، دون توصيفه بالرحمن، والله سبحانه في حكاية قولهم يأتي بهذا الوصف إيذاناً بالردّ عليهم، فإنّ رحمته تعالى تقتضي أن ينزّل على عباده ما يسلك بهم سبيل السعادة.

والجملة الثالثة: «إِنْ أنْتُمْ إلا تَكْذِبُونَ» وهذه نتيجة الجملتين السابقتين. و «إن» نافية وهي مع «إلا» تفيد الحصر أي ليس لكم شأن في هذا المقام إلا الكذب.

«قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لمُرْسَلُونَ»، استشهدوا بعلم الله تعالى وهو بمنزلة الحلف، ولذلك صدّر الخبر بلام القسم. ولم يأت هذا التأكيد في إعلانهم الأوّل وإنّما أتى في الإعلان الثاني، لأنّه كان بعد التكذيب.

وربّما يستغرب الاستشهاد والحلف بأنّهما لا يفيدان شيئاً في مقام الاحتجاج.

ص: 401

وأُجيب عن ذلك بأنّ الاستدلال إنّما هو في قولهم: «وَما عَلَيْنا إلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» حيث إنّ البلاغ لا يكون مبيناً إلا إذا سانده دليل وآية.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله والمعنى إنّا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة ، ويكفينا في ذلكم علم ربّنا الذي أرسلنا بها، ولا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا، ولا نفع لنا فيه من أجر ونحوه ولا يهمّنا تحصيله منكم، بل الذي يهمّنا هو تبليغ الرسالة وإتمام الحجّة. (1)

والتكلّف فيه ظاهر، واستخراج هذه المجموعة من الأهداف من هذه العبارة غريب، مضافاً إلى أنّ ظاهر العبارة أنّه بمنزلة القسم، كما ذكره العلامة أيضاً، وما ذكر لا يحتاج إلى القسم.

ويمكن أن يقال: إنّ هذا نظير الاكتفاء بشهادة الله على الرسالة، كما قال تعالى: «وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِالله شَهِيداً»(2)، وقال أيضاً: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ»(3)، وغير ذلك، وهي كثيرة. والظاهر أنّ المقصود بهذا البيان هو التهديد والوعيد بنزول العذاب، كالآية التالية وليس المقصود الاستدلال.

«وَما عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغ المُبينُ»، الظاهر أنّ هذه الجملة أيضاً يقصد بها التهديد، وتقريره: أنّا قد بلّغناكم غاية التبليغ وجئناكم بالآيات والبراهين ونوكّل الأمر بعد ذلك إلى الله تعالى، حيث كان القوم يعترفون بالله ويخافون سطوته، وقد سمعوا أنباء الأُمم السابقة.

ص: 402


1- الميزان في تفسير القرآن 17: 74
2- النساء (4): 79
3- الرعد (13): 43

«قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ»، التهديد الظاهر في لحن الجملتين السابقتين آثار غضب القوم وحفيظتهم ، فاستندوا إلى قوّتهم وهدّدوا رسل الله، ولكنّهم مهّدوا للتهديد باختلاق حجّة يبرّر لهم التعذيب، فقالوا إنّا نتشاءم بكم ونظنّ أنّ ما يصيبنا من البلاء إنّما هو من شؤمكم وشؤم دعوتكم، فلئن لم تنتهوا عن ذلك، لنرجمنّكم وننزّل بكم عذاباً أليماً. و«الرجم» هو الضرب بالحجارة وفي ذلك من التحقير والهتك ما لا يخفى.

و«التطيّر» مأخوذ من الطير، حيث كان العرب يتشاءمون ببعض الطيور كالغراب ويسمّونه غراب البين، أو يتشاءمون بحالات خاصّة للطير، كعبوره عن الجانب الأيسر، ومن هنا عبّر عن كلّ تشاؤم بالتطيّر. (1)

وهذه المواجهة أيضاً ممّا تداولته الأقوام، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطْبُرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ»(2) ، وقبلهم قوم ثمود قال تعالى: «قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ»(3) وهذه حيلة من يعجز عن مقابلة الدليل والبرهان، فيتشبّث بالاتّهامات الواهية التي لا يمكن إثباتها، أو بالاستهزاء والسخرية.

«قالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ»، أي ما ينبغي أن تتشاء موا به أو ما هو سبب للشؤم واقعاً معكم، فعبّروا عن ما هو سبب الشؤم والشقاء بالطائر من باب المقابلة ومجاراة الخصم في التعبير، والمراد به أعمالهم، فالعمل هو السبب في الشؤم والشقاء.

ص: 403


1- كما ورد في «لسان العرب»: وقيل للشَّؤْم طائرٌ وطَيْرٌ وطيَرَة، لأنّ العرب كان من شأنها عيافةُ الطَّيْر وزَجْرُها، والتَّطَيُّرُ بِبَارِحها ونَعيقِ غُرابها وأخْذِها ذَاتَ اليَسار إذا أثارُوها، فسمّوا الشَّؤْمَ طَيْراً وطائراً وطيرَةً لتشَاؤُمهم بها. (لسان العرب 4: 512)
2- الأعراف (7): 131
3- النمل (27): 47

ولعلّ من هذا الباب قوله تعالى: «وَكُلَّ إنسان أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» (1). وقيل: «الطائر» بمعنى الحظّ أو الشؤم نفسه.

«أئِنْ ذُكِّرْتُمْ»، «الهمزة» للاستفهام الإنكاري، وجواب الشرط محذوف، أي: أئن ذكرتم بما تدعوكم إليه فطرتكم كذّبتم واستهزأتم وتشاءمتم وتطيّرتم؟! أهذا هو جواب المنطق والبرهان؟! والتعبير ب_«التذكير» يفيد أنّهم كانوا يعرفون الحقّ بفطرتهم، ولكنّهم غفلوا عنه أو تغافلوا.

«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ»، أي تجاوزتم الحدّ واستكبرتم وطغيتم. و«الإسراف» التجاوز عن الحدّ في أي شأن من الشؤون. و«بل» للإضراب، أي ليس الأمر كما تزعمون من التشاؤم، بل الشؤم أتاكم من إسرافكم.

ص: 404


1- الإسراء (17): 13

سورة يس (20- 29)

«وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)»

«وَجاءَ مِنْ أَقْصَا المدينةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ»، «أَقَصَا المَدِينَةِ» أي أبعد مكان منها بالنسبة إلى موضع اجتماع الرسل والقوم. والمعنى أنّ الرجل جاء إلى مجمع الرسل والقوم راكضاً مسرعاً، حيث كان بعيداً عنهم، والظاهر: أنّ الهدف من ذلك تصویر اهتمامه بالإسراع إلى الوصول، وكأنّه يتوقّع كارثة، فهو يحاول تفاديها. ولا يبعد أنّ السبب هو الخوف من نزول العذاب. وهذا يؤيّد ما ذكرناه من في أنّ استشهادهم بعلم الله تعالى تهديد منهم، فكأنّ الخبر وصل إلى الرجل المؤمن، فحاول أن يمنع من وقوع الكارثة.

وقيل: إنّ الهدف بيان أنّه إنّما حضر الموقف وشهد للمرسلين ابتداءً من دون تواطؤ. ولكنّ هذا إنّما يوجّه التركيز على كون المجيء من أقصى المدينة ولا يوجّه السرعة.

وقد اعتبر هذا الرجل - على ما في الحديث - من سبّاقي الأُمم إلى الإيمان. وقد روى ذلك جمع من العامّة عن رسول الله صلّی الله علیه و آله بألفاظ مختلفة منها: «سبّاق

ص: 405

الأُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. فهم الصدّيقون وعلى أفضلهم».(1)

والحاصل: أنّه حضر الموقف وخاطب قومه، فقال لهم: «يا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ»، فشهد بذلك لهم أنّهم مرسلون من قبل الله تعالى وخاطبهم بقوله: «يا قَوْمِ»، أي يا قومي، لإثارة عواطف القرابة، وليبيّن لهم أنّه ناصح لهم ولا يريد لهم إلا الخير، لأنّهم قومه وعشيرته.

«اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ»، استدلّ الرجل الناصح على رسالتهم بأنّهم لا يسألون أجراً على ذلك، وأنّهم في نفس الوقت مهتدون. وهو بذلك يبيّن مقياس وجوب الاتّباع وهو أن لا يكون للداعي مصلحة مادّية، ويكون في نفس الوقت مهتدياً يدعو إلى الخير ويمنع من الشرّ.

والجملة «وَهُمْ مُهْتَدُونَ» حالية، والمراد تقييد اتّباع من لا يسأل أجراً بأن يكون مهتدياً يدعو إلى الخير، فإنّ من غريب أطوار البشر أنّ هناك أُناسا يتبرّعون بأموالهم ويتعبون أنفسهم في سبيل إغواء الناس، وإبعادهم عن الخير والصلاح، وهم شياطين الإنس. قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ هُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(2).

والدافع النفسي لذلك هو جمع أكبر عدد ممكن من الناس حول ما يستهويه من مبدأ أو حزب أو نحو ذلك، خصوصاً إذا كان ممّا لا يقبله العقل أو الفطرة، والإنسان يستوحش من قلّة الأصحاب.

ص: 406


1- الرياض النضرة 1: 157؛ المجمع الزوائد 9: 102؛ الكفاية، الكنجي: 106
2- لقمان (31) : 6

إذن فلا يكفي لوجوب الاتّباع كونه متبرّعاً في دعوته، بل يجب أن يكون في نفس الوقت بيّن الهداية. وهكذا كانت دعوة الأنبياء علیهم السّلام . وقد مرّ أنّ قوله تعالى: «عَلَى صِرَاطٍ مُستَقِيم»(1) لا يبعد أن يكون تنكيره إشارة إلى وضوح استقامته. وأمّا كون الأنبياء متبرّعين بدعوتهم، فهو واضح . وقد تكرّر في الكتاب العزيز قوله تعالى عن لسان الرسل : «لا أسْأَلُكُم عَلَيهِ أجْراً»(2) وبعبارات مختلفة.

بل كان من الواضح أنّهم حتّى بعد تمكّنهم من الدنيا، كانوا يعيشون عيشة الزهد وترك الملذّات. ناهيك في ذلك سيرة الرسول الأكرم وقد بني مسجده أوّل ما ورد المدينة بدون سقف، ثمّ اشتدّ عليهم الحرُّ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله لَوْ أظللت عَلَيْهِ ظلاً، فَرَفَعَ أساطينَهُ في مُقَدَّمِ الْمَسْجِد إلى مَا يَلِي الصَّحْنَ بالْخَشَب، ثمّ ظَلّله وَ ألْقَى عَلَيْهِ سَعَفَ النَّخْلِ فَعَاشُوا فِيهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَوْ سَقَفْتَ سَقْفاً، قَالَ: «لا عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى الأمر أعْجَلُ مِنْ ذَلِك».(3) وكان يركب الحمار ويردف معه، وكان يجلس على الأرض ويأكل مع العبيد،(4) وحينما توفّي كان عليه دين في مؤونة عياله.

وفي الحديث عن العيص بن القاسم قال: قلت للصادق علیه السّلام حديث يروى عن رسول أبيك أنّه قال: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه و آله من خبز برّ قط، أهو صحيح؟ فقال: «لا!

ص: 407


1- يس (36): 4
2- الأنعام (6): 90؛ هود (11): 51؛ الشورى (42): 23
3- بحار الانوار 19: 112
4- وكان النبي صلّى الله عليه و آله يرقع ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته ويأكل مع العبيد ويجلس على الأرض و یركب الحمار ويردف ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله». (إرشاد القلوب (الديلمي): 115؛ وسائل الشيعة 5: 54)

ما أكل رسول الله خبز برّ قطّ، ولا شبع من خبز شعير قطّ».(1)

وفي «الميزان» وغيره أنّ هذا المؤمن الناصح إنّما بيّن بهذا الكلام أنّ المانع من الاتّباع إمّا كون الداعي ضالاً ويدعو إلى ضلال، أو أنّه يدعو إلى هداية، ولكنّه يطلب بذلك أجراً. (2)

ولكنّ الذي يظهر من الآية أنّه إنّما بين مناط وجوب الاتّباع لا موانعه، إذ لم يرد في كلامه النهي عن الاتباع، بل الأمر به، مضافاً إلى أنّه لا مانع من متابعة من يدعو إلى هداية ولكنّه يطلب على ذلك أجراً.

«وَما لِيَ لا أعْبُدُ الَّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» يستدلّ هذا المؤمن الصالح في هذه العبارة على ربوبية الله تعالى ولزوم عبادته بأنّه الخالق وإليه المرجع، وأنّ ما عداه لا يضرّ ولا ينفع. و«الفطر» هو الشقّ، وعبّر به عن الخلق الأوّل والإبداع من دون مثال، ومن دون مادّة سابقة، كأنّ الخالق جلّ وعلا شقّ العدم وأظهر الوجود.

وبيّن بالجملة الأُولى - أي هذه الآية - إيمانه بأنّ الله تعالى هو المبدأ والمعاد، وأنّ ذلك هو مناط أهلية العبادة. ويقابل بذلك الاعتقاد الوثني السائد آنذاك بأنّ العبادة تخصّ من يتوقّع منه نفع أو ضرر في هذه الحياة، فهو يعلن بهذه الجملة خطأهم، وأنّ الذي يستحقّ العبادة هو الخالق الذي إليه نعود. ثمّ في الجملة التالية - أي الآية التالية - أفاد أنّ الضرر والنفع أيضاً لا يكونان إلا منه تعالى.

ص: 408


1- روضة الواعظين: 456؛ وسائل الشيعة 24: 244 . و في رواية أُخرى كان يأكل خبز الشعير غير منخول وما أكل خبز برّ قطّ ولا شبع من خبز الشعير قطّ». (وسائل الشيعة 24 : 435)
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 76

بل إنّ التأمّل في التعبير يقضي بأنّه لم يرد حصر استحقاق العبادة في الله تعالى حيث ذكر مناط العبادة، أراد بيان وجوب عبادة الله تعالى أيضاً، وذلك لأنّ الاستفهام في قوله: «وَما لِي لا أَعْبُدُ الَّذى فَطَرَني»، إنكاري، فهو يستنكر من نفسه عدم العبادة، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت العبادة واجبة عقلاً.

ووجه ذلك، أنّ الفطرة تدعو الإنسان إلى لزوم العبادة والتذلّل أمام الذي خلقه من العدم، وذلك لأنّه يملكه ملكية حقيقية، لا ملكية اعتبارية يحكم بها نظام المجتمع لمصالح الإنسان، فإنّ وجوده متقوّم بإرادة الخالق، لأنّه لم يخلقه من شيء فلا أصل له إلا إرادة الله تعالى. وهذا يستفاد من التعبير بالفطر كما أسلفنا.

هذا من جهة. ومن جهة أُخرى، فإنّ الرجوع إنّما هو إليه تعالى، والإنسان مسؤول أمامه عن كلّ أعماله، ويجازى عليها في حياة أبدية. وهذا أيضاً يقتضي عبادته تعالى، ليضمن الإنسان سعادته الأبدية.

ويلاحظ وجود فرق بين الجملتين في الضمير ، فأتى في الجملة الأُولى بضمير المتكلّم وفي الجملة التالية بضمير الجمع المخاطب، فلم يقل: «الذي فطرني وإليه أرجع» ولا «الذي فطركم وإليه ترجعون».

ولعلّ الوجه فيه أنّ الوصف الأوّل يشير إلى أنّ مقتضى الفطرة التي يحسّ بها كلّ إنسان، هو التذلّل لله تعالى، فلا يتوقّف الأمر إلا على الرجوع إلى الضمير والوجدان، فهو يرجع في ذلك إلى نفسه وينبّه كلّ أحد أن يرجع إلى ضميره ليشعر بلزوم عبادة من أنشأه من العدم، بخلاف الأمر الثاني وهو الرجوع إلى الله تعالى، فإنّه لا يعلم بذلك، بل بأدلّة خاصّة، ولذلك أبدل وجه الخطاب وأتي

ص: 409

بضمير المخاطب، وفيه أيضاً إشارة إلى ردّ ما زعمه الوثنيون من إنكار الآخرة.

ولم يقل: «ترجعون» - بفتح التاء - بل بضمّه، للتأكيد على أنّ ذلك يحصل رغماً عليكم، فإنّ الذي خلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، وبعث إليكم الرسل وأنزل الشرائع، لم يخلقكم سدى.

«أأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةٌ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٌ لا تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا»، ثمّ عرّج على التنديد بعبادة غيره، مهما كان واختار أيضاً صيغة التكلّم عن نفسه مع الاستفهام الإنكاري - كالجملة السابقة - إيذاناً بأنّ ذلك أيضاً ممّا يقتضيه العقل والوجدان البشري، وكيف يعبد الإنسان ويتذلّل أمام موجود ضعيف لا يضرّه ولا ينفعه، وهو أقوى منه ؟!

و «اتّخاذ الإله» تعبير عن العبادة والتذلّل، فإنّ الإله هو المعبود. ثمّ إنّه نفى عنهم أيّ فائدة حتّى بالشفاعة، فلا هم ينقذونه من هذا الضرّ ولا بإمكانهم أن يشفعوا لدى الله تعالى، لأنّ المفروض أنّه أراد به الضرّ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، وليس هناك شفاعة يقابل ما أراد الله تعالى.

ولعلّ التعبير ب_«الرحمن» في الآية للإشارة إلى أن إرادة الضرّ منه جزء من رحمته الواسعة العامة التي هي المستفادة من صيغة الرحمن، وإن كان الأمر بالنسبة إلى الشخص ومصالحه الخاصّة مضرّاً.

«ولا ينقذون» بكسر النون. أي لا ينقذوني من الضرّ الذي أراده لي الله تعالى.

«إِنِّي إذاً لفى ضَلالٍ مُبين»، «إذاً» ظرف، أي إنّي لو فعلت ذلك لكنت في ضلال مبين. وإنّ هذا لضلال بيّن واضح أن يترك الإنسان عبادة ربّه الذي خلقه وبيده الأمر وإليه المرجع، ويعبد ما لا يضرّ ولا ينفع.

ص: 410

«إِنِّى آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ»، قال بعض المفسّرين: إنّ هذا خطاب للرسل. وهو بعيد والسياق لا يلائمه. وكأنّ الذي اضطرّهم إلى ذلك، التعبير ب_«ربّكم»، واستبعدوا أن يخاطب القوم بذلك. ولا وجه للاستبعاد وقد ورد حكاية قول موسی علیه السّلام في قوله تعالى: «وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ»،(1) فالظاهر أنّه استمرّ في خطابه للقوم مجاهراً بإيمانه، متحدّياً جبروتهم وتهديدهم بالرجم، ومركّزاً على التعبير بأنّ الذي آمن به، هو ربّهم وأنّه لا يخافهم، فليسمعوا له وليعملوا ما يشاؤون.

«قيلَ ادْخُلِ الجنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمى يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لى رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ»، لم يرد في الآيات تصريح بمصير هذا المؤمن، ولكن يظهر من هذه الآية وما تليها أنّهم قتلوه، حيث ابتدأ بالأمر بدخول الجنّة، ممّا يدلّ على موته، ثمّ ذكر أنّه لم يمهلهم بعده، بل أنزل عليهم العذاب، فيستفاد منه أنّه استشهد على أيديهم رضوان الله عليه.

ولا غرابة في الخطاب بعد القتل: «ادْخُلِ الجنّة»، فقد قال تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».(2)

ولكنّه بالرغم من ظلمهم له بقي الناصح الأمين لهم، حتّى في تلك النشأة، فتمنّى لو كانوا يرون مكانه ويعلمون بمغفرة الله له وإكرامه إيّاه، وإنّما تمنّى ذلك، ليكون حافزاً لهم على الإيمان بالله.

ولذلك ورد في الحديث أنّه نصح قومه حيّاً وميّتاً. والنصح هو الإخلاص.

ص: 411


1- الدخان (44): 20
2- آل عمران (3): 169

و «ما» في قوله: «بما غَفَرَ لِى» مصدرية، أي بغفرانه لي. وقدّم الغفران على الإكرام، لأنّ العبد لا يليق بإكرام ربّه حتّى تماط عنه الذنوب بمغفرته.

ولم يقل «وأكرمني» لئلا يتلفّظ بما يدلّ على الغرور وكأنّ الإكرام خاصّ به، بل قال: «جَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ» وهم جمع كثير . ومن جهة أُخرى فإنّ المؤمن يفرح بأن يكون في جمع الصالحين الذين أكرمهم الله تعالى فهو بذاته نعمة ومزيّة.

«وَما أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدِ مِنَ السَّماءِ». لم يرد في الآيات مصير الرسل أيضاً إلا أنّه ربّما يستفاد من قوله تعالى: «عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ» أنّهم لم يصبهم شيء، حيث لم يقل من بعد الرسل، ولعلّ المؤمن أشغلهم بنفسه لينجو الرسل.

وعلى كلّ حال، فلم يكن مصير القوم إلا عذاب الاستئصال الذي أبادهم جميعاً. وتدلّ الآية على عظم منزلة الرجل عند الله تعالى حيث لم يمهلهم، بل أنزل عليهم العذاب فوراً، كما تدلّ على عدم الاهتمام بشأنهم، فلم يكن الأمر بحاجة إلى إنزال جنود للمقابلة، بل تكفيهم صيحة واحدة تهلكهم جميعاً.

«وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ»، أي ما كان ينبغي أن ننزّل جنوداً، فأمرهم أهون من ذلك. والظاهر أنّ الغرض من هذه الجملة تعميم الحكم ليشمل مشركي مكّة والجزيرة العربية، ليتمّ بذلك تحذيرهم من العذاب المهين. وكذلك غيرهم من الأقوام السابقة، فإنّ نزول الملائكة لم يكن للمقابلة، بل لإنزال العذاب، فإنّ الصيحة والرجفة ونحوهما إنمّا كانت تتحقّق بواسطتهم.

«إِنْ كانَتْ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً فإذا هُمْ خامِدُونَ»، أي لم تكن النازلة أو الحادثة إلا صيحة واحدة. ثمّ إنّ الصيحة ورد ذكرها في موارد عديدة، كنوع من عذاب الاستئصال. والظاهر أنّ المراد بها هو الصوت الهائل، ولا يدلّ على أنّ الصوت

ص: 412

هو الذي تسبّب في هلاكهم ، فلعلّه كان صوت الصاعقة أو الزلزال أو الخسف أو غير ذلك، إلا أنّ التعبير بما يدلّ على الصوت يهدف إلى بيان سرعة الإبادة وعدم الإمهال، وهذا يتبيّن بوضوح إذا أُسند الهلاك إلى مجرّد الصوت وإن كان مصاحباً للسبب الواقعي. هذا، ويمكن أن يكون نفس الصوت أيضاً موجباً للهلاك، كما يدمّر المباني.

و«إذا» فجائية، تدلّ على سرعة تحقّق الهلاك العامّ بسبب الصيحة. و«الخمود» بمعنى انطفاء النار وسكون الشيء المتحرّك، ويكّنى به عن الموت.

وربّما يظهر من بعض الآيات أنّ العذاب في بعض الأقوام كان متعدّد الوجوه، فقد ورد بأنّ عذاب ثمود كان الرجفة أي الزلزال (1)، وكذلك بالنسبة لقوم شعيب(2)، مع أنّ الوارد في سورة هود فيهما الصيحة (3)، وفي سورة فصّلت أنّ عاداً وثمود أُهلكوا بالصاعقة(4). والجمع بين الآيات يقتضي أن يقال: إنّ الصيحة تصاحب كلاً من الرجفة والصاعقة، كما أنّه يمكن أن يجمع بين نوعين من العذاب: «الرجفة» و«الصاعقة» أو يكون المراد ب_«الرجفة» الزلزال الحادث من الصاعقة، فتكون هي العذاب الأصل.

ص: 413


1- راجع: الأعراف (7): 78
2- راجع: الأعراف (7): 91
3- راجع: هود (11): 67 و 94
4- راجع: فصلت (41): 13

سورة یس (30- 32)

«يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)»

«يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ»، بعد الانتهاء من ذكر المثال - وهو حديث أصحاب القرية - جاء بهذا التعقيب المناسب لتعمّ النتيجة. «يا حَسْرَةً» نداء للحسرة والتأسّف، كأنّك تنادي الحسرة بأنّ هذا موضعك. وهذا من كلام الله سبحانه ولا يلزم منه أن ينسب التأسّف إليه تعالى وهو منزّه عنه، بل المراد إنشاء أنّ هذا موضع أسف الآسفين. والتركيز على كلمة «العباد» للإيذان بأنّ كونهم عباداً لله الذي أنعم عليهم ببعث الرسل، ادّعى للأسف، حيث قابلوا هذه النعمة بتكذيب الرسل، بل الاستهزاء بهم.

ومن الغريب اتّفاق الأُمم على ذلك وكأنّهم تواصوا به، حتّى لم يبق رسول من رسل الله سبحانه لم يواجه هذا الاستهزاء - كما هو صريح الآية المباركة - والتعبير بأنّهم «كانوا يستهزؤون» يدلّ على الاستمرار في ذلك، وأنّه لم يكن حدثاً عابراً وإنّما كان ذلك دأباً لهم وعادة مستمرّة.

«الَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ هُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» استفهام تقريري يطلب منهم الإقرار بأنّهم رأوا ذلك. و«القرون» المجامع البشرية، مأخوذ من قرن الشيء بالشيء إذا جمع بينهما، ويطلق على مجموعة من البشر في زمان أو في مكان، وعلى الاعتبار الأوّل يطلق أيضاً على نفس الزمان الذي يجمعهم، ثمّ اصطلح

ص: 414

على مجموعة خاصّة من الزمان، أي مائة عامّ حسب بعض المصطلحات. (1)

والمعروف في تفسير الآية: أنّه تنبيه للبشر الحاضر المخاطب أن يتّعظ بموت من قبله، فهذه القرون والمجتمعات البشرية البائدة، قد أهلكهم الله جميعاً - جماعات وفرادى - بعذاب أو بدونه، فإنّهم يجدون أنّ الذي فات ومات، لا يرجع ، فليتّعظوا بذلك وكفى بالموت واعظاً. وبناءً على هذا التفسير فقوله: «أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» بدل عن «كَمْ أَهْلَكْنا»، أي ألم يروا أنّهم لا يرجعون إليهم. فالغرض من التنبيه هو الالتفات إلى عدم رجوع الموتى.

ولكن لا يبعد أن يكون الغرض هو التنبيه على الاتّعاظ بمصير المجتمعات التي نزل عليها العذاب الإلهي، وهو المناسب للمثال المذكور - أصحاب القرية - وكذلك للتعبير بالإهلاك. وبناءً على هذا التفسير، فلا يبعد أن يكون قوله: «أَنَّهُمْ إلَيْهمْ لا يَرْجِعُونَ» بياناً لكيفية الإهلاك، لا بدلاً عن «كُمْ أَهْلَكْنَا»، يعني أنّ الله تعالى قد أهلكهم بكيفية لا رجوع لهم، والمراد ليس رجوع الأشخاص، بل رجوع المجتمع والحضارة. فالغرض الاتّعاظ بمصير الحضارات البائدة التي أهلك الله مجتمعاتها بعذاب الاستئصال، فلم يبق لهم إلا ذكر في التاريخ أو أثر للاعتبار.

«وَإِنْ كُلّ ما جَميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ»، أي أنّ الهلاك ليس نهاية أمرهم، بل إنّهم مجموعون ومحضرون لدينا للحساب. و«لمّا» بمعنى «إلا»، فتفيد الحصر مع «إن»

ص: 415


1- والقَرْنُ الأمَّةُ تأتي بعد الأُمّة، وقيل: مُدَّتُه عشر سنين، وقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاثون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون وهو مقدار التوسّط في أعمار أهل الزمان.... وقيل: القَرْن مائة سنة، وجمعه قُرُون... ابن الأعرابي : القَرْنُ الوقت من الزمان، يقال: هو أربعون سنة، وقالوا: هو ثمانون سنة، وقالوا: مائة سنة ... (لسان العرب 13: 333-334)

النافية، أي لا يشذّ منهم قرن ومجتمع، بل كلّهم يجمعون ويحضرون لدينا. و «مُحْضَرُونَ» خبر بعد خبر و «لَدَيْنا» متعلّق به. وقوله: «جَميعٌ» بمعنى مجموع، والتنوين في «كُلُّ» بدل عن القرن في الآية السابقة، أي كلّ مجتمع منهم مجموع هناك. و«محضرون» أي مقهورون على الحضور عندنا.

وتدلّ الجملة على أنّ كلّ مجموعة في الدنيا تجمع هناك أيضاً، فهناك مصير جمعي مشترك، وهناك مصير فردي لكلّ شخص. ويدلّ على هذا الأمر أنّ الكتاب أيضاً كتابان، كتاب للأُمّة، ولكلّ فرد كتاب مستقلّ. قال تعالى: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا»(1)، وأمّا ما ذكر فيه كتاب الفرد فكثير، منها قوله تعالى: «وَكُلّ إنسان أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا»(2).

ص: 416


1- الجائية (45) : 28
2- الإسراء (17): 13 - 14

سورة یس (33- 40)

«وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)»

«وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الميتة اختيْناها وَأَخْرَجْنَا مِنْها حَباً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» الضمير في قوله: «لَهُم» يعود إلى العباد. والميتة والميِتة واحد. و «الأرض الميتة» التي لم تعمر بزرع أو بناء. والآية تنبّه الإنسان وتلفت نظره إلى أقرب مسرح للحياة إليه، ليرى بأُمّ عينه - من دون حاجة إلى مجهر أو بحث علمي - أنّ الحياة تدبّ في الأرض الميتة بنزول المطر عليها، ثمّ يخرج منها الحبّ ليأكل منه الإنسان. والغرض من ذلك التنبيه على أنّ الإحياء بعد الموت أمر مستمرّ في الطبيعة وكما أنّ الله تعالى يحيي الأرض الميتة باستمرار سيحيي الإنسان بعد موته. و«الحبّ» يشمل القمح وغيره، فيمكن أن تكون «من» تبعيضية، فإنّ بعض الحبّ لا يأكله الإنسان.

وجملة: «أحْيَيْناها» يمكن أن تكون وصفية باعتبار أن الأرض وإن كانت معرفة إلا أنّها للجنس وليست مميّزة، فيجوز توصيفها. وهناك من المذاهب النحوية ما يرفض توصيف المعرفة حتّى في هذا الفرض، ويمكن اعتبارها جملة استينافية لبيان كون الأرض الميتة آية، كأنّ سائلاً يسأل: كيف كانت الأرض

ص: 417

الميتة آية؟ فيأتيه الجواب: «أحْیَيْناها»، أي بهذا الاعتبار كانت آية.

«وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخيِلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ» عطف على «أَخْرَجْنا»، فإنّ هذا أيضاً من نتائج الإحياء. و«الجنّة»: البستان الذي يستر شجره الأرض من جنّ بمعنى ستر. ولعلّ تخصيص الذكر ب_«النخيل والأعناب» لكثرتهما وكثرة أنواعهما ولأنّ ثمرهما من أغنى الثمار ، من حيث القيمة الغذائية، ولأنّهما ينبتان في أكثر بقاع الأرض خصوصاً العنب. و«العنب» يطلق على الشجر والثمر.

وقوله: «وَفَجَّرْنا» أيضاً عطف على «أخْرَجْنا»، لأنّ تفجير العيون أيضاً من نتائج الإحياء بإنزال المطر. وضمير «فيها» يعود إلى الأرض أو الجنّات. و«من» قيل: إنّها زائدة، أي وفجّرنا فيها عيوناً، وقيل: إنّ المفعول محذوف وهو «شيئاً» و «مِنَ الْعُيُونِ» صفته.

«لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أيْديهِم» تعليل لما سبق، والضمير في «ثَمَرِهِ» قيل: يعود إلى الجنّات بتأويل أنّها المجعول، فلذلك أفرد وذكّر، وقيل: يعود إلى الله تعالى، أي من الثمر الذي خلقه، فيكون تمهيداً لاستنكار عدم الشكر.

و «ما» يمكن أن تكون نافية، فالمراد: أنّهم يأكلون من ثمره الذي لم يعملوه بأيديهم وإن غرسوا وسقوا، وهذا الاحتمال يناسب عود الضمير إليه تعالى. ويمكن أن تكون موصولة، أي ليأكلوا من الثمر الطبيعي وممّا عملته أيديهم من تصنيع المنتوج بطبخ ، ونحوه ، فكلّه يعود إلى النعمة الطبيعية، فلا وجه لما قيل من أنّ الغرض بيان نعم الله الحاصلة بتدبيره من دون دخل لغيره.

«أَفَلا يَشْكُرُونَ» الاستفهام للاستنكار ، والفاء للتفريع، أي مع كلّ هذه النعم التي يتنعّمون بها في حياتهم ويتلذّذون ، فكيف لا يشكرون المنعم بعبادته،

ص: 418

وطلب مرضاته، والائتمار بأوامره، والابتعاد عن نواهيه، مع أنّ كلّ ذلك أيضاً لصالحهم ؟!

«سُبْحانَ الَّذى خَلَقَ الأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الأرض وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ»، «سبحان» مصدر سبّح يسبّح، أي أُسّبح سبحان الذي... وهو إنشاء تسبيح منه تعالى لنفسه، تنويهاً على تنزيهه من أن يشاركه أحد في تدبيره، فهو الخالق للأزواج كلّها. و«من» في المواضع الثلاثة للبيان، فالأزواج نبات وبشر وأُمور أُخرى لا يعلمونها.

و«الأزواج» جمع زوج، وهو كلّ ما قرن بشيء آخر، ومنه الزوجان الذكر والأُنثى. فالآية تشير إلى تركّب النبات من الذكر والأُنثى وهو أمر لم يكن يعلمه البشر في ذلك العصر إلا في بعض الأشجار كالنخل. ولا يبعد شمول «ما تنبت الأرض» للحيوان أيضاً، بل وللإنسان، كما قال تعالى: «وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً»(1)، فيكون «وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ» من ذكر الخاصّ بعد العامّ.

«وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى وجود الزوجين في أشياء أُخرى كثيرة، لم يصل إليها علم البشر في ذلك اليوم، ولعلّه لا يصل إلى بعضها أبداً ولا يختصّ ذلك بزوجية الذكر والأُنثى - كما يتوهّم - فلا مانع من شموله للزوجية في الذرّة حيث تقترن أجزاؤها التي تتشكّل منها. والزوج والزوجان: المثلان المتقارنان، ولا يطلق إلا إذا كان كلّ منهما مكمّلاً للآخر بوجه، كزوجي الباب والحذاء مثلاً.

«وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فإذا هُمْ مُظْلِمُونَ»، مجموعة آيات تشير إلى آيات الله تعالى في الكون، فمنها آية الليل والنهار وهما آيتان تتكرّران بمرور الزمان، ويمرّ عليهما الإنسان دون تأمل. والقرآن يثير الانتباه إليهما في آيات عديدة،

ص: 419


1- نوح (71): 17

ومن وجوه شتّى، فمنها ما ورد هنا حيث شبّه الليل كأنّه ملبوس بالنهار، فيسلخ الله منه النهار، كما يسلخ الجلد من الحيوان، وفجأة يغرق الناس في الظلام.

قال في «العين»: «وانسلخ النهار من الليل: خرج منه خروجاً لا يبقى معه شيء من ضوئه».(1) ومن هنا صحّ الإتيان ب_«إذا» الفجائية، فإنّ الظلام لا يفاجئ وجه الأرض، بل يأتي تدريجاً في كلّ أُفق، ولكن إذا لم يبق شيء من الضوء فاجأ الظلام. ومصحح التعبير ب_«المفاجأة» أنّه أمر غريب يحصل في مدّة قليلة، فيكون مفاجئاً لمن يلاحظ الأُفق مستمتعاً بضوء النهار.

والمتعارف في هذا التشبيه هو العكس، حيث يشبّه الليل كخيمة مطبقة على الأرض. ولعلّ الغرض الإشارة إلى أنّ الأصل فى الكرة الأرضية هو الظلام وأنّ الضياء يعرض عليها من الشمس فالنهار هو العارض الذي يسلخ وليس معنى ذلك أنّ الليل سابق على الأرض زماناً، بل المراد أن الضياء هو الذي يحتاج إلى موجب.

ويأتي في جملة: «نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» ما مرّ من الوجهين في جملة: «أحْيَيْناها» من كون الجملة استينافية لبيان كون الليل ،آية، أو وصفية باعتبار كون الليل جنساً.

وقوله: «مُظْلِمُونَ»، أي داخلون في الظلام، كقولهم أصبح أي دخل في الصباح.

«وَالشَّمْسُ تَجْرى لِمُسْتَقَرٌّ لَها»، قديماً كان المفسّرون يفسّرون هذه الآية بما يبدو للإنسان من جريان الشمس حول الأرض في كلّ يوم، ويفسّرون «المستقرّ»

ص: 420


1- العين 4: 198

بوجوه ،غريبة، أقربها أنّ المراد هو مدارها المتغيّر صيفاً وشتاءً.

وهناك روايات غريبة حول مستقرّ الشمس، منها ما رواه القوم في صحاحهم، وننقل هنا ما رواه الآلوسي في «روح المعاني» قال: وفي غير واحد من الصحاح، عن ابي ذرّ رحمه الله قال: كنت مع النبي صلّی الله علیه و آله في المسجد عند غروب الشمس، فقال: «يا أباذرّ أتدري أين تذهب هذه الشمس؟» قلت: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: «تذهب لتسجد، فتستأذن، فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله عزّ وجلّ: «وَالشَّمْسُ تَجْرِى مُسْتَقَرٌ لَهَا»».(1)

وفي رواية: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: «إنّ هذه تجري حتّى تنتهي إلى مستقرّها تحت العرش فتخرّ ساجدة».(2) الحديث.

وفي ذلك عدّة روايات، وقد روي مختصراً جدّاً. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه و آله عن قوله تعالى: «وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٌّ لَهَا» قال: «مستقرها تحت العرش». فالمستقر اسم مكان، والظاهر أنّ للشمس فيه قراراً حقيقة. (3)

وارتبك الآلوسي في تفسير هذا الحديث وتطبيقها على الواقع المعلوم في ذلك العهد، واضطرّ أخيراً أن يثبت للشمس نفساً ناطقة كالإنسان، وأنّ نفسها هي التي تسجد تحت العرش. (4)

ص: 421


1- صحيح البخاري 4: 75؛ كنز العمّال 14: 350
2- صحیح مسلم 1: 96
3- روح المعاني 12: 12
4- راجع: تفسير الآلوسي 23: 12

ولما عزّ على الآلوسي أن يروي القوم في صحاحهم، مثل هذه الأحاديث نسب إلى الإمامية حديثاً أغرب، وهو أنّ الشمس عليها سبعون ألف كلاب (!) وكلّ كلاب يجرّه سبعون ألف ملك إلى آخره! ولا أدري أين وجد هذا الحديث، ولماذا أبدل «الكلب» ب_«الكلاب»، ومهما كان، فنحن لا ندّعي صحة أحاديث كتاب مهما بلغ، وإنّما الاعتراض على زعم القوم من التسليم لأحاديث ما سمّوه بالصحاح.

وأمّا المتأخّرون حيث ثبت لهم بفضل العلم الحديث أنّ الشمس لا تجري حول الأرض، وأنّ حدوث الليل والنهار إنّما هو بدوران الأرض حول نفسها، فقد فسّروا الآية بأنّ المراد جريان الشمس إلى مستقرّ لها، حيث تقف عن الحركة، ف_«اللام» بمعنى «إلى» والمراد ب_«الجريان» الحركة التي كشف عنها العلم حديثاً، حيث تجري هي بمجموعتها وبسرعة هائلة نحو موضع من الفضاء.

ولكنّ الظاهر أنّ المراد هو الجريان الظاهري الذي يراه ويعرفه كلّ إنسان وبذلك يكون آية من آيات الله تعالى، ونعمة من نعمه حيث يتسبّب في حدوث الليل والنهار. وأّما هذا الجري الذي لا يعرفه إلا الأخصائيون وربّما يظهر بعد مدّة من الزمان خطؤهم، فلا يمكن أن يكون هو المقصود بالآية الكريمة، إذ ليس أمراً يعرفه الناس ولا يحقّق نعمة عليهم، فكيف يكون آية من آياته.

ولا مانع من التعبير عن هذا الأمر الكوني بما يظهر للعيان من أنّه جريان الشمس حول الأرض، فإنّ القرآن ليس كتاباً علمياً، وإنّما هو كتاب هداية يهدي الإنسان لما لا يمكنه الوصول إليه من عالم الغيب وحقائقه، والتعبير ب_«الجريان» إنّما هو حسب رؤية الإنسان وإحساسه، كما أنّنا أيضاً نعبر عن هذه الحركة في

ص: 422

مجال محادثاتنا اليومية بذلك، ولا نعبّر عن طلوع الشمس - مثلاً - بدوران الأرض إلى مرحلة يرى فيها الشمس، وكذلك التعبير بورود الشمس في برج كذا أو خروجها من برج كذا ونحو ذلك.

والمراد بالمستقرّ ما تقرّر لها من المدار الذي يتغيّر في فصول السنة بدقّة متناهية حسب ما نشاهده أو يتبيّن بالمحاسبات الرياضية الدقيقة.

«ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزيز العليم»، الإشارة بالبعيد مع أنّه قريب في الذكر، للتنويه على عظمة هذا التقدير ودقّته، وهو «تقدير العزيز»، أي الغالب على كلّ الموانع مهما كانت «العليم» بما لا بدّ منه في تدبير ذلك. ولعل التعبير ب_«العزيز الغالب» بدلاً عن «القدير» للتنبيه على وجود موانع طبيعية أمام هذا التدبير.

«وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديمِ» تشبيه لكيفيات الوجه المرئي من القمر لدينا بمنازل ينزل فيها القمر ، وهي ثمان وعشرون حالة، أوّلها الهلال وأوسطها البدر وآخرها الهلال أيضاً ولكن معكوساً.

وعلى هذا، فلا حاجة إلى ما قاله المفسّرون من أنّ هناك تقديراً في اللفظ، وهو: أنّ القمر قدّرنا له منازل، أو قدّرناه ذا منازل، أو غير ذلك، فإنّ التجوّز إنّما يكون في التعبير عن الحالات بالمنازل، ولكن بناءً على ما قلنا، يكون القمر بذاته - أي بوجهه المرئي لنا - مقدّراً بها.

و «العرجون» عذق النخل، و «القديم» منه له ثلاث صفات شبه القمر في آخر حالاته به من حيث هذه الصفات، وهي الاصفرار والذبول والانحناء. والغرض من الآية، التنبيه على أنّ هذه المنازل والحالات تسهل لكم الحساب والتأريخ، ويمكن لكلّ إنسان أن يميّز التأريخ القمري على وجه التقريب، بملاحظة حالة

ص: 423

القمر من دون دراسة وبحث وبلا حاجة إلى تقويم، بل ربّما قيل: إنّ الملاحظة الدقيقة، توجب معرفة التأريخ بدقّة، وهو كلام غريب.

«لا الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهارِ»، تشير الآية إلى دقّة النظام في الكون، وعدم طروء أيّ تغيير لا في السرعة ولا في المسار، فلا يمكن للشمس أن تدرك القمر بمعنى أن تزيد من سرعتها فيتغيّر النظام الفلكي، ولا الليل يسبق النهار بمعنى أن يشغل جزءاً من النهار أكثر ممّا هو مضبوط حسب النظام الدقيق الثابت طيلة تأريخ الكون.

«وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»، الظاهر أنّ المراد ب_«كلّ» أي كلّ كوكب ونجم، فكلّ واحد من الكواكب والأنجم، يسبح في فلكه، وإن لم يسبق ذكر للكواكب ،والنجوم، إلا أنّه معلوم من السياق. و«الفلك» كلّ مسار دائري. والتعبير ب_«السبح» يناقض الفرضية الفلكية السائدة في تلك العصور القائلة بأنّ كلّ واحد من الكواكب والنجوم ثابت في جسم يدور به.

وقيل: إنّ المراد كلّ من الشمس والقمر والليل والنهار، وشمول السبح في الفلك لليل والنهار باعتبار أنّ حالتي النور والظلام تتلاحقان على مختلف البقاع في الأرض، وكأنّ كلاً منها يتعقّب الآخر، فشبّه هذه الحالة بالسبح في فلك. ولكنّه بعيد كما لا يخفى.

ص: 424

سورة يس (41-44)

«وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)»

«وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المُشْحُون» وبمناسبة الفلك يذكرهم بالفلك آية أُخرى. والكلمتان من منشأ واحد. و«الفلك» السفينة يطلق على المفرد والجمع. ولعلّ تسميتها بالفلك باعتبار أنّه يدار بها على الماء كما في «معجم مقاييس اللغة». والظاهر أنّ المراد به هنا سفينة نوح علیه السّلام، نبّه عليها مقدّمة للتنبيه على الفلك الموجود باعتبار أنّه أوّل سفينة صنعت على وجه الأرض، وأنّ منه تعلم البشر صنع الفلك، وكان ذلك بوحي من الله تعالى وإشراف مباشر، قال تعالى: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا».(1)

ثمّ إنّها تعدّ نعمة كبرى للبشرية، حيث إنّهم بقوا على وجه الأرض بفضل تلك السفينة، قال تعالى: «وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ»(2). ويدلّ على كون المراد سفينة نوح علیه السّلام التعبير بفعل الماضي: «حَمَلْنا» وكذلك وصف الفلك ب_«المشحون»، أي المملوء، حيث أمر الله تعالى نوحاً علیه السّلام أن يحمل معه من كلّ صنف ممّا يحتاج إليه البشر، قال تعالى: «قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ»(3).

يبقى الكلام في التعبير ب_«الذرّية» في قوله تعالى: «حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ» والظاهر أنّ

ص: 425


1- هود (11): 37
2- الصافات (37): 77
3- هود (11): 40

المراد بهم كلّ من تبقى من البشر ممّن لم تشملهم كلمة العذاب الإلهي في ذلك العصر، و «الذرّية» بمعنى ما ذرّ وانتشر ، وليس بمعنى الأولاد خاصّة. والضمير يعود إلى البشر السابقين، فيكون بمعنى أنّه تعالى حمل كلّ الذرّية في تلك السفينة إبقاءً للنسل، وإلا لشملهم الفناء ولم يبق على وجه الأرض بشر. وعلى هذا، فالمعنى في الآية التالية واضح أيضاً، وهو أنّا خلقنا لهم فلكاً مثل تلك السفينة.

وأمّا القوم فلم يرقهم هذا التفسير الواضح المنقول عن بعض الأقدمين ومنهم ابن عبّاس، بل عبّر عنه العلامة الطباطبائي رحمه الله بأنّه تفسير رديء (1)، ولم يذكر وجهاً لرداءته، وكأنّهم لم يستوعبوه تمام الاستيعاب مع عظم شأنهم، ففسّروا الآية بأنّ المراد حمل الناس في الفلك، وارتبكوا في تفسير الذرّية، فقالوا: إنّ تخصيصهم بالذكر وهم صغار الأولاد أو الأولاد عموماً من جهة أنّهم أحوج إلى المركوب، والكبار يمكنهم المشي.

وهو كلام غريب، فإنّ السفن تسير في البحر، ولا يستفاد منها غالباً للانتقال من ساحل إلى ساحل لمخاطرها، والغالب أنّ الكبار هم المستفيدون، بل يُمنع الصغار من الركوب غالباً.

وقال العلامة: إنّ ذكر الذرّية لإثارة الشفقة والرحمة(2). وهو أغرب من سابقه، فما دخل الشفقة بذكر الآية، خصوصاً مع كونه في الغالب ممّا يستخدمه الكبار؟!

ص: 426


1- الميزان فى تفسير القرآن 17: 92
2- نفس المصدر

وقالوا: إن التوصيف ب_«المشحون» للإشارة إلى أنّهم لا يكتفون بركوبها، بل يحملون عليها أمتعتهم أيضاً.

ولكنّ مجرّد إمكان حمل الأمتعة لا يبرّر توصيف السفينة ب_«المشحون»، فقد لا يكون فيها إلا الركاب وأمتعتهم القليلة، فمن الواضح أنّ هذا الوصف يراد به توصيف سفينة بذاتها؛ كانت مشحونة وممتلئة.

ثمّ إنّ التوصيف بالمفرد المذكّر - المشحون - يدلّ على أنّ المراد ب_«الفلك» هو المفرد لا الجمع، فلا يصحّ ما ذكروه من أنّ المراد سائر السفن، وهذا أيضاً دليل واضح على ما ذكرنا.

«وَخَلَقْنا هُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ»، تبيّن بما ذكرنا أنّ المراد بقوله تعالى: «مِنْ مِثْلِهِ» سائر السفن، والضمير يعود إلى الفلك في الآية السابقة، أي وخلقنا لهم سفناً مثل سفينة نوح علیه السّلام، والسفن وإن كانت من صنع البشر، إلا أنّ كلّ شيء مخلوق لله تعالى، فهو الذي خلق المواد التي يصنع منها البشر ما يشاء، وأودع فيها الخصائص التي يستفيد منها الإنسان، وهو الذي جهّزه بما يتوقّف عليه الصنع من قوّة عقلية وجسمية. وفي النهاية لا يتحقّق شيء في الكون إلا بإرادته وأمره تعالى .

وأمّا على تفسير القوم، فالمراد ب_«ما يركبون» في هذه الآية سائر ما يركب كالدوابّ، وربّما اعتبر منها المراكب الحديثة أيضاً. وعلى ذلك، فتكون هذه الآية فاصلاً بين الآية السابقة وما تعقّبها في الآية التالية، إذ أنّها لا تناسب سائر المراكب لاشتمالها على الغرق. وأمّا على ما ذكرناه، فالآية التالية ترتبط بهذه الآية لا بسابقتها، وهذا أيضاً دليل آخر على صحة ما ذكرناه، والحمد لله.

ص: 427

«وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَريخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ»، «الصريخ» بمعنى المغيث، سمّي به، لأنّه يجيب صرخة المستغيث. والإنسان إذا كان في سفينة وفي وسط البحر لا يسمع صرخته أحد غالباً، فلا صريخ له يغيثه ولا منقذ ينقذه. والمراد بهذه الآية التنبيه على حالة الانقطاع الذي يحصل للإنسان في البحر، حيث لا يمكنه التوسّل بما ينقذه من الغرق ويوصله إلى الساحل إذا تقاذفته الأمواج، فييأس من الحياة ولا يجد من يتوسّل به إلا الله تعالى. وهذه الحالة تحصل للإنسان في غير البحر أيضاً عندما تنقطع الأسباب ويفقد الأمل، وهذا الأمر من دوافع التوجّه إلى الله تعالى. والطريق للوصول إليه من جهة القلب أقرب الطرق وأوثقها.

ولذلك تكرّر في القرآن الكريم التنبيه على ذلك، كقوله تعالى: «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كلّ كَرْبٍ ثم أَنتُمْ تُشْرِكُونَ»(1).

وقوله تعالى: «هُوَ الَّذى يُسَیِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حتّى إذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بريحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بها جاءَتْها ريحٌ عاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوجُ مِنْ كُلّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرض بِغَيْرِ الحَقِّ»(2).

وقوله تعالى: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلى الْبَرِّ أعْرَضْتُمْ وَكانَ الإنسان كَفُوراً»(3) . وغير ذلك.

ص: 428


1- الأنعام (6): 63 - 64
2- یونس (10): 22 - 23
3- الإسراء (17): 67

«إلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إلى حينٍ». نعم، لا صريخ ولا منقذ لمن شاء الله أن يغرقه إلا إذا شملته رحمة من الله تعالى. و «رَحْمَةٌ» و «مَتاعاً» مفعول لأجله، والاستثناء مفرّغ حيث لم يذكر المستثنى منه وهو في التقدير: لا ينقذون لسبب من الأسباب إلا لرحمة تشملهم من الله تعالى، فالمنقذ هو الله تعالى، وهو لا ينقذهم إلا لرحمة شملتهم، وليمتّعهم في الدنيا متاعاً إلى حين، أي إلى أجل محدّد، فالموت آتٍ لا محالة، وإنّما يسلمون من موت إلى موت كما قال المتنبي:

ولم أسلم لكي أبقى ولكن *** سلمت من الحِمام إلى الحِمام (1)

ص: 429


1- راجع: تفسير الآلوسی 23: 28

سورة یس (45-47)

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)»

«وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»، الضمير في قوله: «لَهُم» يعود إلى مشركي مكّة والجزيرة العربية، حيث كان الكلام في أوّل السورة حولهم، ثمّ مثل لهم بقصّة أصحاب القرية، ثمّ ذكّرهم بالآيات الكونية. وفي هذا المقطع يؤنّبهم بأنّهم إذا واجهوا الرسول صلّى الله عليه و آله والمؤمنين، حيث يأمرونهم بتقوى الله تعالى واتقاء غضبه وعذابه، يعرضون، بل يستهزؤون، كما مرّ في آية سابقة أنّ العباد يستهزؤون بكلّ رسول يأتيهم.

ومن هنا فإنّ المراد بقوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ» أي إذا قال لهم الرسول صلّی الله علیه و آله أو المؤمنون «اتَّقُوا الله تعالى» أو نحو ذلك أعرضوا.

واختلف المفسّرون في المراد بقوله تعالى: «مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ»، ففي «مجمع البيان»: روى الحلبي، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «معناه اتّقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة»(1) والرواية مرسلة ولم نجدها في مصدر آخر. ولكن المعنى لا بأس به فالمراد بما بين أيديكم ما هو حاضر لديكم من الأعمال وبما خلفكم نتائجها يوم القيامة، وكما يمكن أن يعبّر عمّا يأتي بكونه أمامك يصحّ أن يعبّر أنّه خلفك.

ص: 430


1- مجمع البيان 8: 278

وقيل: معناه: اتّقوا ما بين أيديكم من أمر الآخرة، فاعملوا لها، وما خلفكم من أمر الدنيا، فاحذروها ولا تغترّوا بها. ولكنّه بعيد بالنسبة للتعبير عن أُمور الدنيا بما خلفكم فإنّ بعضها حاضرة.

وقيل: اتّقوا ما مضى ويأتي من الذنوب.

وقيل: اتّقوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

وقيل: اتّقوا موجبات الغضب والعذاب وهي محيطة بكم من كلّ جانب، فإن لم تتّقوا يوشك أن تقعوا فيها. وعليه فالتعبير كناية عن الإحاطة.

وهذا أيضاً بعيد من جهة ظهور العطف في الفرق بين القسمين وأنّ ما بأيديكم مغاير لما خلفكم ومن، هنا فالمعنى الأوّل هو الأقرب بين المحتملات المذكورة.

وقوله: «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» يدلّ على أنّ الرحمة قد لا تترتّب على التقوى، وإنّما تهيء التقوى أرضية صالحة لنزول الرحمة، ومثلها قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(1)، وغيرها من الآيات. والسبب واضح، فإنّ المتّقين أيضاً في خطر عظيم، وعلى المؤمن أن يسأل ربّه دائماً حسن العاقبة. والجملة تعليلية، أي لكي ترحموا.

والجواب في الجملة الشرطية «وَإِذا قيلَ لَهُمْ» محذوف لعلّه لغاية فظاعته، خصوصاً بملاحظة هذه الآيات التي يرونها، وتقديره: «أعرضوا» ونحو ذلك، وتدلّ عليه الآية التالية وهو إعراضهم عن كلّ آية من آيات الله تعالى.

«وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلا كانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ»، المراد: الآيات النازلة من

ص: 431


1- النور (24): 56

السماء عن طريق الوحي، لأنّها هي التي تأتي إليهم، فتشمل الأوامر بالتقوى، ومنها ما ورد في الآية السابقة، فكأنّه قال: وإذا قيل لهم اتّقوا أو غير ذلك من آیات ربّهم، فإنّهم يعرضون عنها ولا يلفت ذلك انتباههم.

والتعبير ب_«الربّ» للتنبيه على أنّ كلّ هذه الآيات إنّما تأتي في سياق تربيتهم، وذكره في هذا المقام تمهيد لما سيأتي من مسارعتهم للتوجّه نحو الربّ يوم القيامة بعد إعراضهم عن آياته. وقوله: «كَانُوا» يدلّ على الاستمرار، أي أنّ ذلك دأبهم وديدنهم.

«وَإِذا قيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ الله أطْعَمَهُ إِنْ أنْتُمْ إلا في ضَلالٍ مُبينٍ». تتعرّض الآية لمقولة أُخرى من كفّار مكّة وغيرهم في مواجهة المؤمنين ودعوتهم للخير والصلاح. وربّما يستغرب مضمون الآية من جهة أنّ العرب عرفت بالجود والسخاء، فكيف كانوا يمتنعون من الإنفاق بحيث يكون ذلك ظاهرة عامّة فيهم، تستوجب نزول آية بشأنهم؟! وهذا ما دعا بعض المفسّرين إلى اختلاق احتمالات غريبة.

والظاهر أنّ الباعث للمشركين إلى عدم استجابة الدعوة هو أنّهم أُمروا بالإنفاق ممّا رزقهم الله، وفي ذلك إشارة إلى أن يكون الداعي طلب مرضاته تعالى، وهم كانوا ينفقون أموالهم رياءً وسمعة وطلباً للمجد وثناء الشعراء، وهذا لا يعتبر فضيلة، بل هو رذيلة، وقلّما كان بينهم إنفاق طلباً للخير وبعيداً عن الرياء. وحتّى لو كان ذلك، فإنّ الطلب من المؤمنين يشتمل على هذه الميزة وهو اعتقاد أنّ هذا المال ممّا رزقنا الله، فعلينا أن نأتمر فيه بأوامره، وهذا هو الموجب للكمال الحقيقي، وأمّا الإنفاق حبّاً للناس ونحو ذلك ممّا يذكر في زماننا - فهو

ص: 432

وإن كان حسناً إن لم يكن طلباً للجاه والترفّع - ولكنّه ليس هو الكمال المطلوب.

ولعلّه لهذا ورد التصريح بذكر المتخاطبين في الآية الكريمة، مع أنّ السياق يقتضي الإتيان بالضمير، فالمراد التنبيه على أنّ الموضوع يرتبط بالإيمان والكفر، لا بالبخل والسخاء.

وأمّا جواب الكافرين، فالظاهر أنّه يبتني على المجادلة مع المؤمنين في ما دعوا إليه، حيث إنّ المؤمنين اعتبروا أموالهم رزقاً من الله تعالى، وطلبوا منهم أن ينفقوا منها على الفقراء، فأجاب الكفّار بأنّ الله لو شاء لرزقهم، كما رزقنا إذ لا جب لأن يمتنع من دفع رزقهم إليهم مباشرة، ويدفع إلينا سهمهم من الرزق، ثمّ يطلب منّا أن ندفع إليهم ،رزقهم، فلو كان لهم سهم في رزق الله، لرزقهم مباشرة. ولوضوح هذا الاستدلال، عقّبوا كلامهم بأنّكم في ضلال مبين واضح.

والجواب عن ما ذكره الذين كفروا واضح أيضاً، إذ أنّ الله تعالى لا يبعث بالرزق إلى أحد مباشرة، وإنّما يعتبر ما يكسبه كلّ أحد بكد يمينه وبفكره، رزقاً من الله تعالى، لأنّه هو الذي هيّأ له هذه الوسائل الطبيعية، ومنحه تلك القوّة والاستعداد، ووفّقه لكسب المال. وليس كلّ أحد يتهيّأ له بصورة طبيعية كلّ تلك الوسائل، ويأبى الله تعالى أن يغيّر سنته في الكون. وبذلك يفسح المجال لامتحان الإنسان واختباره. وكلّ ما يحصل للإنسان في هذه الحياة من ضيق وسعة مجال للامتحان ولتكامل الإنسان ونموّه.

وقيل: إنّ جواب الكافرين يبتني على الخلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية، فكأنّهم يدّعون أنّ الله تعالى لا يمكن أن يأمر بذلك، إذ لو شاء لأطعمهم، وهذه المغالطة تكرّر منهم نظير ما ورد من أّن الله شاء أن نشرك، فلا سبيل لنا إلا

ص: 433

الشرك، كما قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا أَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ»(1)، وغيرها من الآيات، بل ربّما كانوا يدّعون أنّ الله تعالى أمرهم بذلك، كما قال تعالى: «وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا أَبَاءَنَا والله أمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ»(2).

ولكنّ ما ذكر لا يرتبط بالعبارة المنقولة منهم في هذا المقام، كما يظهر بملاحظة ما ذكرناه في توضيح جواب الكافرين عن اقتراح المؤمنين.

ص: 434


1- النحل (16): 35
2- الأعراف (7): 28

سورة يس (48- 54)

«وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)»

«وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»، هذا سؤال متكرّر منهم، فتارة يسألون به عن موعد العذاب الدنيوي، وتارة عن الساعة، أي يوم نهاية النظام الكوني وبداية نظام جديد، حيث كانوا ينذرون بهما.

ومبنى السؤال أنّه لو كنتم صادقين في هذا الوعيد والإنذار، فلا بدّ لكم من معرفة زمانهما، فحدّدوا لنا اليوم بدقّة.

ويأتي الجواب في بعض الآيات بنفي العلم بالموعد، إذ لا ملازمة بين معرفة أصل الحادثة ومعرفة الموعد، خصوصاً إذا كان العلم بها مبنّياً على أساس الأخبار الغيبية التي لم تفصح عن الموعد.

ويأتيهم الجواب هنا قارعة مدوّية:

«مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَحِصُمُونَ»، «ينظرون» أي ينتظرون، فكأنّهم إذ يسألون عنه ينتظرونه، مع أنّهم لا ينتظرونه واقعاً وإنّما يسألون استهزاءً وتكذيباً، ولكنّ الجواب يبتني على عدم إمكان التكذيب. و«الصيحة» هي الصوت المدوّي. وقد مرّ أنّ التعبير بذلك للإشارة إلى سرعة الحدوث وسهولة

ص: 435

الأمر، كأنّه لا يحتاج إلى شيء إلا إلى صيحة واحدة، «تأخذهم» أي تستولي عليهم، كأنّها بنفسها العذاب قد أحاط بهم وهم في حالتهم العادية يتداولون أُمور دنياهم، ويختصمون في أُمور البيع والشراء وغير ذلك، فتأتيهم بغتة، كما ورد التعبير به في آيات كثيرة. و «يخصمون» في الأصل يختصمون، و قد أبدلت التاء صاداً وأُدغمت.

«فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةٌ وَلا إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ»، أي لا يمهلهم لأن يوصوا إلى من بعدهم وليس هناك من يوصون إليه إلا أنّه مجرّد فرض، وإنّما أتى ب_«الوصيّة» نكرة للنفي التامّ، أي لا يمكنهم أيّ وصيّة. وهذا أيضاً تصوير لحالة المباغتة والمفاجأة ولا يرجعون إلى أهلهم، بل لا أهل لهم، فالكلّ قد أُصيب.

«وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فإذا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» وهنا تأتي موعد النفخة الثانية. والواقع أنّ هذا هو الذي يكذّبونه، لأنّهم إنّما يكذّبون قيام القيامة، والحياة بعد الموت، ولا يمنعون احتمال فناء الدنيا بحادث كوني هائل، وإنّما يأتي الجواب بذكر الصيحة المهلكة تخويفاً لهم ولأنّ النفختين متلازمتان، فالأُولى مقدمة للثانية.

وقد ورد التصريح بهما في قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله ثم نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذا هُمْ قِيَام يَنظُرُونَ»(1)، و«الصور» قرن الثور، يصنّع فينفخ فيه ويصدر منه صوت عال، فيستخدم في إعلان الحرب ونحوه. و «النفخ في الصور» كناية عن سرعة الأمر وسهولته إذا أراده الله، فكأنّ صوراً ينفخ فيه، فإذا هم قيام فجأة وهم أحياء ينظرون.

ص: 436


1- الزمر (39): 68

ومن الغريب ما نسب إلى بعض أهل اللغة - على ما في لسان العرب - من أنّ الصور جمع صورة وأنّ المراد: النفخ في صور الموتى فيقومون، وأجاب عنه بعضهم بوجوه، ولم ينتبه الفريقان إلى الآية المذكورة آنفاً، حيث إنّ النفخة الأُولى ليست للإحياء بل للإماتة، فبطلان القول واضح. مضافاً إلى أنّ الضمير في قوله تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى» مذكّر، فلا يصحّ أن يعود إلى الصور إذا كان جمعاً.

ومهما كان فنفخة في الصور تكفي لإحياء الموتى، بل هو أسرع من ذلك. قال تعالى: «وَما أَمْرُنا إلا واحِدَةً كَلَمْحِ بِالْبَصَر»(1). و«الحدث» - بفتحتين - القبر. و «النسل» هو الإسراع في المشي. والتعبير يصوّرهم مهرولين إلى ربّهم الذي ربّاهم، فكلّ يريد أن يجد نتيجة سيرته، كأنّهم تلاميذ مدرسة يهرولون لأخذ نتائج الامتحان وأكثرهم يعلمون أنّ أيديهم صُفر، وأنّ نتيجتهم الصفر، ولكن لا ملجأ من الله إلا إليه، فأين يذهبون، وقد كشف الغطاء عنهم، وعلموا أنّ الله هو الحقّ، وأنّ ما كانوا يدعون من دونه هو الباطل، وأُسقط في أيديهم، فلا حيلة لهم إلا الإسراع إلى الربّ بعد أن أعرضوا عنه وعن آياته.

«قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا»، يقولون ذلك وهم مسرعون إلى ربّهم يدعون بالويل والثبور، ويسألون في استغراب: من بعثهم من رقدتهم؟ و«المرقد» مصدر، ويحتمل في هذا التعبير أن يكون المرقد كناية عن القبر وهو تعبير دارج، والسؤال ليس للاستفهام، خصوصاً إذا فرض الجواب منهم أيضاً، وإنّما هو للاستغراب ومقدمة للاعتراف بما كذّبوا به في الحياة الدنيا، ويحتمل أنّهم لا

ص: 437


1- القمر (54): 50

يشعرون في عالم البرزخ بشيء، بل يستمرّون في غفلة كأنّهم نيام، كما ورد في الحديث أنّ أكثر الناس يلهى عنهم. (1)

«هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» الظاهر أنّ الجواب منهم بقرينة تصديق المرسلين. والتوصيف ب_«الرحمن» توسّل منهم برحمته يوم لا ينفع التوسّل، كما لا ينفعهم تصديق المرسلين بعد طول تكذيب.

ويحتمل أن يكون الجواب من الملائكة، فالتوصيف من جهة ظهور رحمته في ذلك اليوم ظهوراً بيّناً يفوّق كلّ التوقّعات، إذ لولا رحمته لم يسلم أحد من عذابه. و «ما» في قوله: «مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ» موصولة، والعائد محذوف، أي ما وعد به الرحمن ، وجملة: «وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» استينافية.

«إنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ»، اسم «كَانَتْ» الحادثة أو الواقعة، و «إذا» فجائية، و «جَميعٌ» بمعنى مجموع وهو خبر للضمير، و «مُحْضَرُونَ» خبر ثانٍ، يعني أنّ بعثكم لم يتوقّف على شيء إلا صيحة واحدة، فتجدون أنفسكم فجأة مجتمعين ومحضرين أمام الله تعالى وليس الحضور باختيارهم، بل يحضرون قسراً.

وقد مرّ الكلام حول مغزى كونهم مجتمعين وقلنا إنّ المجتمعات البشرية تحضر هناك مجتمعة، فإنّ بعض الأعمال لا تظهر قيمتها وأثرها السلبي والإيجابي إلا في إطار المجتمع، وهناك مصير يخصّ المجتمع بينما لكلّ فرد مصيره الخاصّ أيضاً، كما أنّ هناك كتباً بعدد الأفراد وكتباً للأُمم، قال تعالى: «كُلُّ أُمَّةٍ

ص: 438


1- في الكافي عدّة أحاديث بعضها معتبرة بهذا المضمون: «لا يُسْألُ في القَبْرِ إِلا مَنْ مَحَضَ الإِيمَان مَحْضاً أو مَحَضَ الكُفْرَ مَحْضاً والآخرون يُلْهَى عَنْهُمْ». (راجع: الكافي 3: 235)

تُدْعَى إلى كِتَابِهَا»(1)، وقال أيضاً: «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»(2) .

«فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»، أي لا تظلم شيئاً من الظلم، فهو مفعول مطلق أو «الشيء» مفعول به وهو كناية عن القلّة، كقوله تعالى: «وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً»(3) والجملة التالية تبيّن السرّ في نفي الظلم مطلقاً وهو أنّ الإنسان يُجزى بنفس عمله، وأيّ عدل فوق هذا ؟!

وأمّا كيف يجزى بنفس العمل؟ فأمر لا يصل إليه أفهامنا إلا ما نجده من أنفسنا من العذاب في الضمير إذا تذكّرنا العمل، مع أنّا لا نعلم فظاعته الحقيقية. وحيث يتبيّن الحقّ ناصعاً في تلك النشأة ويشعر الإنسان بفظاعة عمله ويجده ملصقاً به، لا يكاد يغفل عنه لحظة وذلك أشدّ العذاب.

وعليه فلا حاجة إلى تقدير. كما قالوا من أنّ المقدّر إلا جزاء ما كنتم تعملون مع أنّ هذا التقدير يفقده ميزة تعليله لعدم الظلم، لأنّ الجزاء حينئذٍ مبهم، فإن كان أمراً يتعيّن بجعل جاعل أمكن أن يكون ظلماً.

ثمّ إنّ هذه الجملة وأشباهها ممّا ينقل عن الخطابات يوم القيامة لا يجب أن تكون مقولة قول، حتّى يُبحث عن قائله - كما في التفاسير - فكثيراً ما تكون حكاية الحال ليس إلا.

هذا، وقد وقع الكلام بين المفسّرين في أن هذا الحكم خاصّ بأهل النار، أم يشمل أهل الجنّة أيضاً، فقال بعضهم: إنّ أهل الجنّة لا يجزون ما عملوا، بل لهم

ص: 439


1- الجاثية (45): 28
2- الإسراء (17): 14
3- النساء (4): 124

ما يشاؤون ولهم المزيد. ولكنّ الآيات التي ورد فيها هذا المضمون وإن كان أكثرها يخصّ أهل النار، كالآية التي نتحدّث عنها، وبعضها مطلقة أو عامّة، إلا أنّ هناك من الآيات ما تصرح بالحكم في أهل الجنّة بالخصوص قال تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُخضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعيداً»(1)، وإحضار العمل جزاء.

ولا ينافي ذلك أنّ الله تعالى يزيدهم من فضله، فإنّ الزائد ليس جزاءً، كما لا ينافيه أنّ المتّقين ليسوا رهيئة أعمالهم على ما في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إلا أصحَابَ الْيَمِينِ»(2) . والاعتبار أيضاً يؤيّد ذلك، فإنّ الأعمال لا تنفكّ عن الإنسان إلا ما كفّره الله تعالى من الأعمال القبيحة، أي ستره. ولا فرق في ذلك بین الأعمال الصالحة والسيّئة.

ص: 440


1- آل عمران (3): 30
2- المدّثر (74): 38 - 39

سورة يس(55- 58)

«إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)»

تذكّر الآيات وما بعدها حال المؤمنين، ثمّ المجرمين، كتفصيل لما أجمل في الآية السابقة من أنّ كلّ نفس تجزى بعملها.

«إِنَّ أصحاب الجنّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ»، الآية فريدة في مضمونها وهي أنّ أصحاب الجنّة مشغولون. و «الشغل» - بضمّ الغين وسكونه - كلّ ما يشغل بال الإنسان ويمنعه من التوجّه إلى الغير سواء كان خيراً أم شرّاً، وحيث إنّهم لا يشغلهم شرّ في الجنّة عقّبه بقوله تعالى: «فاكِهُونَ» وهو خبر بعد خبر ليتبيّن أنّهم مشغولون بالملذّات.

و «فاكه» و«فكه» أي طيّب النفس المزّاح والضحوك، ومنه المفاكهة أي المزاح. وهذه الآية توضح أنّ أهل الجنّة لا يملّون ولا يسأمون من طول البقاء، كما قال تعالى: «لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً»(1) وقد كثر الكلام في ما يشغلهم وهو ممّا لا طائل تحته، فإنّ الآية تبيّن أنّهم مشغولون بالمفاكهة وسائر الملذّات، كما أشار إليه في الآيات الثلاث الآتية وأهمّها أخيرتها.

«هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فى ظلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَكِؤُونَ» يمكن أن يكون كلّ من «في ظِلالٍ» و «عَلَى الأَرائِكِ» و «مُتَّكِؤُونَ» خبراً بعد خبر، ويمكن أن يكون الأخير خبراً وما قبله متعلّق به. والمراد ب_«الأزواج» إمّا الأقران، فإنّ المتّقين يجتمعون مع بعض، كما قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلِّ إِخْواناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ»(2)،

ص: 441


1- الكهف (18): 108
2- الحجر (15): 47

وإمّا الأزواج من المؤمنات ومن الحور العين. و«الأرائك» جمع أريكة، أي السرير.

وكونهم في ظلال، ربّما يدلّ على أنّ هناك شمساً أو ما يشبهها. ولا يبعد ذلك، ولكنّها شمس لا تضرّ ولا تؤذي. ولا ينافيه قوله تعالى: «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الأرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً»(1)، لقوله تعالى في الآية التالية: «وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا»(2) فلعلّ عدم رؤية الشمس من جهة أنّهم دائماً في ظلّ، والغرض بيان التفاف شجر الجنّة وطول ظلّها. ويمكن أن يكون التعبير بالظلال كناية عن عدم وجود الشمس والإضحاء، فهم دائماً في نهار ظليل.

«لَهُمْ فيها فاكِهَةٌ وَهُمْ ما يَدَّعُونَ» لعلّ التنكير فى الفاكهة للتفخيم، أي فاكهة أيّما فاكهة، وفي ذلك إشارة إلى أنّ ما يؤتونه من طعام، ليس لدفع الجوع أو للتقوّي - كما هو الحال في الدنيا - وإنّما يتناولون ما يتناولون للتلذّذ والتفكّه فحسب. و «ما يَدَّعُونَ» بمعنى ما يتمنّون أو ما يطلبون وهو افتعال من الدعاء.

«سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبِّ رَحيم» وهذا أهمّ وأعظم ما في الجنّة من نعمة، بل لولا ذلك لم يكن غيره نعمة. والظاهر أنّ هذا سلام من الله سبحانه، لا من قبل الملائكة، ولا بواسطتهم. وفي التعبير ما يوحي بغاية اللطف والعناية، حيث إنّ السلام المبعوث لهم، ليس وحياً ولا كتاباً، بل قولاً وهو من ربّ رحيم بهم، ويظهر أنّ السلام هنا قول على حقيقته، يُقال لهم، وليس معناه: أنّ السلام ثابت وجوداً، كما ورد في موارد عديدة، ومنها التعبير عن الجنّة بدار السلام، فالسلام

ص: 442


1- الإنسان (76): 13
2- الإنسان (76): 14

في هذه المواضع بمعنى السلامة المطلقة من كلّ ما يكدّر صفو العيش، ولكنّه هنا قول يصدر من ربّ الرحمة إكراماً لهم ولطفاً بهم. و «قَوْلاً» مفعول مطلق، تقديره: يقال قولاً.

ذلك

والتوصيف ب_«الربّ» يفيد أنّ ما يلقونه من الثواب والجزاء والإكرام حاصل تربيتهم ووصولهم إلى درجات راقية من الكمال، والتوصيف ب_«الرحيم» يفيد أنّ من آثار رحمته البالغة الخاصّة بالمؤمنين، فإنّ الرحيم من صيغ المبالغة ولكنّه يدلّ على الثبات، ولذلك يختصّ برحمته في الآخرة الخاصّة بالمؤمنين، بخلاف «الرحمن»، فإنّه أيضاً من صيغ المبالغة ولكنّه يدلّ على التوسّع والشمول، ولذلك يعمّ غير المؤمن ويختصّ بالدنيا.

ص: 443

سورة یس (59-62)

«وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)»

«وَامْتارُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ»، «امْتازُوا» أي انفصلوا وتميّزوا. وفي التقييد ب_«اليوم» إشارة إلى أنّ هذا الظرف ليس ظرف اختلاط. فإنّ المؤمنين والمجرمين ربّما يتعايشون في الدنيا، بل يتناسبون ويتصاهرون، ولكنّ الحال في ذلك اليوم حال جمع بين متفرّقات وتفريق بين مجتمعات، فيجمع هناك بين كلّ أحد وفريقه المناسب له، وإن تباعدوا في الدنيا بمقتضى معاييرهم في هذه الحياة. ويلازمه التفريق بينه وبين من كان يجتمع بهم ممّن لا يناسبونه في المعايير الإلهية.

و«الإجرام» قيل: إنّه بمعنى اكتساب الخطيئة وأصله من الجرم، أي القطع باعتبار أنّ كلّ كسب اقتطاع لشيء، إلا أنّه لم يستعمل في كسب الحسنات، بل في الآثام فقط. ولكن لا يبعد أن يكون الوجه في التعبير ب_«الإجرام» هو أنّ المجرم يقطع الصلة بينه وبين المجتمع، ولذلك لا يعبّر به في العرف عن كلّ مخالفة للقانون، أو كل عمل مستهجن عرفاً، بل عن مثل القتل والاعتداء، ولعلّه في التعبير القرآني يستعمل في كلّ ما يقطع الصلة بين العبد وربّه. والعبارة هنا عامة تشمل من يدّعي الإسلام والإيمان أيضاً.

«ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ» الخطاب للمجرمين ولكن وصفهم ب_«بني آدم»، لأنّ العهد كان عامّاً، والمراد: العهد الذي أبلغهم بواسطة

ص: 444

رسله، ومنها ما ورد في الكتاب العزيز في موارد كثيرة، كقوله تعالى: «يا أيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»(1).

والمراد ب_«العبادة»، الإطاعة العمياء، كما قال تعالى في ذمّ اليهود: «وَعَبَدَ الطَّاغُوت»(2)، وإنّما كانوا يطيعون الطواغيت طاعة عمياء، وهي أن يطيع الإنسان غيره من دون أن يعلم السبب الباعث للأمر وفي غير موارد الحاجة إلى تخصّص، والعمل وفقاً لإرشاد المتخصّص. ومثله قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها»(3) . وأمّا الإطاعة مع الاعتماد على معرفة الآمر، كإطاعة أوامر الطبيب ونحوه، فليس عبادة ولا أمراً مستنكراً. والطاعة العمياء لا تجوز إلا لله تعالى ومن أمر الله بإطاعته.

وعداوة الشيطان لبني آدم عداوة عريقة متأصّلة متوغّلة في القدم، كما يظهر بملاحظة قصّته مع أبينا آدم علیه السّلام حيث أُمر بالسجود له، فامتنع ترفّعاً واستكباراً، فأخرج من السماء وأمر بالهبوط إلى الأرض، فآلى على نفسه أن يترصّد لبنيه كلّ مرصّد ويأتيهم من بين أيديهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ويمنعهم من الخضوع لله تعالى، ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه، فلم يسلم من حبائله إلا القليل. وهكذا العدوّ المبين. والله تعالى يخاطب البشر باستفهام إنكاري: «أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظَّالِمينَ بَدَلا»(4).

ص: 445


1- البقرة (2): 168
2- المائدة (5): 60
3- الزمر (39): 17
4- الكهف (18): 50

«وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ» عطف على «أنْ لا تَعْبُدُوا» وكلاهما تفسير للعهد، وقد عهد بوجوب عبادته تعالى في الأديان كلّها، وفي يوم الهبوط أيضاً حيث قال عزّ من قائل: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى»(1)، مضافاً إلى أنّه ممّا تدعو إليه الفطرة والعقل.

والظاهر أنّ «هَذَا» في الآية إشارة إلى عبادته تعالى، لا إلى مجموع العهدين. و «الصراط» هو الطريق، وأصله السراط بالسين. والطريق إذا كان مستقيماً، فإنّه أقرب الطرق إلى المقصد.

والتنكير في «صِراطٌ مُسْتَقيم» للتعظيم، أي أنّه من حيث الاستقامة وانتفاء أيّ اعوجاج وانحراف واصل إلى مرتبة لا يمكن توصيفها، ولعلّه اكتفي بذلك عن الحصر، فلم يقل: هذا هو الصراط المستقيم، لأنّ الصراط بصفة الاستقامة التامّة من كلّ أحد إلى المقصود لا يمكن أن يكون إلا واحداً، وكلّ صراط غيره لا بدّ فيه من نوع من الانحناء أو الإعوجاج.

«وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ» دعوة إلى التفكّر في أُمور الماضين الذين أغواهم الشيطان وأبعدهم عن إطاعة أوامر الله تعالى واتّباع رسله، ممّا أدىّ إلى نزول العذاب عليهم وهلاكهم؛ أفلا يكفي ذلك للاعتبار ؟! بل إّن النظر في أحوال المجتمع البشري وعواقب أُمورهم عامّة وفي جميع الأزمنة، يكشف لنا الكثرة الهائلة من البشر الذين يتّبعون خطوات الشيطان في مختلف سلوكهم، وما يؤدّي إليه من المفاسد الاجتماعية والسقوط في مهاوي الإثم.

ص: 446


1- طه (20): 123

و«الجبلّ» يطلق على الجماعة العظيمة تشبيهاً لهم بالجبل، فالمعنى أنّه أضلّ جماعات كثيرة. (1) وحيث إنّ الخطاب موجّه يوم القيامة، قيل لهم: «أَفَلَم تَكُونُوا تَعقِلُونَ»، أي أكنتم في الدنيا بحيث لا تعقلون؟!

ص: 447


1- الجَبْل والجِبْلة والجُبلة والجِبِلُّ والجبلَّة والجَبِيل والجَبْل والجُبْل والجُبُلُّ والجبْلُ، كلّ ذلك: الأُمّة من الخَلْق والجماعة من الناس وقول الله عز وجل: «ولقد أضلّ منكم جبلاً كثيراً» ؛ يقرأ جُبْلاً عن أبي عمرو، وجُبُلاً عن الكسائي، وجِبْلاً عن الأعرج وعيسى بن عمر، وجبلاً - بالكسر والتشديد- عن الحسن وابن أبي إِسحاق، قال: ويجوز أيضاً جِبَل - بكسر الجيم وفتح الباء - جمع جِبْلة وجبَل وهو في جميع هذه الوجوه خَلْقاً كثيراً. قال أبو الهيثم: جُبْل وجُبُلٌ وجِبْل وجِبِلٌ ولم يعرف جُبَّلاً، قال: وجَبِيلٌ وجِبِلَّة لغات كلّها. (لسان العرب 11: 98)

سورة یس (63-68)

«هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)»

«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتي كُنتُمْ تُوعَدُونَ» خطاب توبيخ و تقريع، فهم يرون جهنمّ، ولكنّ الخطاب لتوبيخهم على عدم الاهتمام بإنذار الرسل ولم يقل: «وُعدتم»، بل قال: «كُنتُمْ تُوعَدُونَ» ممّا يدلّ على استمرار الوعيد واستمرار الرسالات ونزول الكتب.

و «جَهَنَّمُ» اسم لنار الآخرة. قيل: إنّ معنى الكلمة بعيدة القعر. وقيل: إنّها في الأصل عبرية. والظاهر أنّه الصحيح. وقيل غير ذلك.

«اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنتُمْ تَكْفُرُونَ»، «الصلي» أصله إيقاد النار، ثمّ أطلق على الاحتراق والاشتواء بها. والتقييد ب_«اليوم» للتنبيه على أنّه اليوم الذي أنكرتموه. و «ما» في «ما كُنتُمْ» مصدرية، يعني بكفركم ، والكفر مقولة مشكّكة، فلا يختصّ بمن لم يؤمن بالله ورسله، بل يشمل بعض المؤمنين، كما قال تعالى: «وَ لله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمينَ»(1). وقوله: «كنتم» يدلّ على استمرارهم على الكفر وإصرارهم عليه.

«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»، «الختم على الأفواه» كناية عن عدم تمكّنهم من التكلّم، إذ ليس هناك اختيار مفتوح،

ص: 448


1- آل عمران (3): 97

قال تعالى: «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلا بإذْنِهِ»(1). ولعلّ المراد بتكلّم الأيدي وشهادة الأرجل ونطق الجلود، هو ظهور الأعمال التي ارتكبت بواسطتها علانية. وهذه أوضح شهادة وأقوى نطق وأفصح بيان لأنّه لا يأتي بلفظ يدلّ عليه، بل يأتي بالعمل بنفسه.

ويشهد لذلك التفصيل الوارد في قوله تعالى: «حَتَّى إذا ما جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذى أَنْطَقَ كلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(2)، فإنّ التعليل بأنّ الله تعالى أنطق كلّ شيء، يدلّ على أنّه ليس من النطق المتعارف. و«النطق» بمعناه العامّ هو الإفصاح عمّا في النفس أو عن الواقع، وهذا يتحقّق في يوم القيامة بأبلغ وجه.

ويشهد له أيضاً قوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(3)، حيث يدلّ على أنّ الألسنة أيضاً تخبر عن ما صدر منها، مع أنّ الآية هنا تصرّح بأنّ الألسنة مختوم عليها، فلا بدّ من حمل شهادتها على ما ذكرناه ولا ينافي ذلك عدم التكلّم الذي هو المراد بختم الألسنة.

«وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ»، «الطمس» هو المحو، فيمكن أن يكون المراد محو العين نهائياً، ويمكن أن يراد محو الإبصار، وهو أيضاً طمس للعين حيث تبقى بلا أثر. والطمس قد يأتي متعدّياً بنفسه وقد يتعدّى ب_«على».

ص: 449


1- هود (11): 105
2- فصّلت (41): 20 - 21
3- النور (24): 24

و«الاستباق» يحتمل أن يكون بمعنى الابتدار والمبادرة، لا التسابق والمسابقة، كما أنّ قوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ»(1)، أيضاً يحتمله، فيكون المعنى بادروا إلى الخيرات قبل انقضاء الفرصة. وهنا أيضاً بمعنى أنّهم بادروا إلى السير على الصراط. ويحتمل أن يكون بمعنى التسابق.

واختلفوا في المراد ب_«الصراط» فذكر بعضهم أنّ المراد به صراط الله تعالى.

وهو غير صحيح، لأنّ المشركين لا يبادرون إليه، بل لا يسلكونه أصلاً. ومن هنا قال بعضهم: إنّ «استبقوا» بمعنى تجاوزوا وتركوا. ولم أجد له وجهاً.

وفي «التبيان»: أنّ المراد به طريق النجاة. (2) وهو بظاهره كالوجه السابق إلا أنّه يمكن توجيهه بأنّ الإنسان يحاول - بالطبع - أن يتجنّب الوقوع في المهالك، فهم أيضاً كان من ضمن مقاصدهم النجاة من الهلكة المحتملة في حياة أُخرى، إلا أنّهم لم يبصروا طريق الحقّ للنجاة، لأنّهم طمس على أعينهم.

ولكن هذا التوجيه أيضاً لا ينفع في تصحيح هذا الاحتمال، لأنّ عدم إبصارهم طريق النجاة أمر حاصل فعلاً، فلا معنى لتعليقه على مشيئة الطمس.

وذكر جمع منهم أنّ المراد به الطريق المألوف لهم إلى مساكنهم أو مقاصدهم، فالمعنى أنّه تعالى لو طمس على أعينهم لم يتمكّنوا من السير إلى مقاصدهم. وهذا لا بأس به.

ويحتمل أن يكون «الصراط» كناية عن طريق الحياة المتعارفة في شؤونهم المادّية. وعلى هذا المعنى يصحّ التسابق أيضاً، فإن البشر يتسابقون في شؤون

ص: 450


1- المائدة (5): 48
2- التبيان 8: 473

حياتهم في الدنيا. وعليه لا بدّ من اعتبار الطمس على العين أيضاً كناية عن سلب البصيرة ، لأنّ بعض شؤون الدنيا لا تتوقّف المسابقة فيها على الأبصار.

«فَأَنَّى يُبْصِرُونَ»، أي كيف يبصرون طريقهم وقد طمس على أعينهم، أو كيف يهتدون إلى الطريق الصحيح وقد سلبت بصائرهم. والنتيجة أنّهم لا يستطيعون الوصول إلى مقاصدهم.

ثمّ إنّه وقع الكلام في الغرض من هذه الآية وتاليتها وارتباطهما بما قبلهما، وللقوم في توجيه ذلك كلمات شتّى، والغالب منهم اعتبره تهديداً لهم، بأنّ الله تعالى لو شاء لجعلهم عمياناً ، فلن يبصروا طريقهم الذي يسلكونه عادة، ولا علاقة حينئذٍ بينها وبين ما قبلها.

وبعضهم اعتبر مورد الآيتين ما سيحدث للمشركين في يوم القيامة! وهو ،غريب، لأنّ ما يواجهه المشركون من العذاب يوم القيامة، أشدّ بكثير، فلا معنى لتهديدهم بطمس العيون والمسخ.

والظاهر أنّ ارتباط الآية وما بعدها بما قبلها من جهة ما ورد في الآية السابقة من شهادة الأعضاء، على ما كانوا يكسبون في الدنيا، فربّما يتوهّم من ذلك أنّ ما صدر منهم في الدنيا كان خارجاً عن حيطة القدرة الإلهية، مع أنّ كلّ ما فعلوه كان بإذنه وإرادته التكوينية، فأراد في هاتين الآيتين، أن يبيّن وجهين واضحين، ممّا يمكن أن يمنع الله تعالى به نشاطهم وحركتهم بصورة طبيعية، فضلاً عن إنزال عذاب الاستئصال أو ما هو أخفّ وأخصّ منه، وليس ذكر ذلك إلا من باب المثال. والله العالم.

«وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ» المسخ تشويه

ص: 451

الخلق. و«المكانة» بمعنى المنزلة والدرجة التي بلغوها في سلوك طريق الإنسانية والكمال، كما قال تعالى: «قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ»(1)، أي على ما أنتم عليه من الفهم والإدراك، فليس بمعنى المكان كما قيل.

ولعلّ المراد: أنّهم يفقدون بهذا المسخ صفة التكامل والنموّ، بل يبقون على منزلتهم الحالية. وبذلك يظهر معنى قوله تعالى: «فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلا يَرْجِعُونَ» وأنّ المراد أنّهم لا يتطوّرون ويمضون قدماً في ما أهّلوا له بحسب النوع من درجات الكمال، ولا يرجعون فيبدأوا الطريق من نقطة الصفر، حيث لا يمكن ذلك، فيبقون في مكانتهم ومنزلتهم ، وهذا غاية السقوط.

ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّ المراد، تهديدهم بمسخهم أحجاراً ونحوها وهم في مكانهم، فلا يستطيعون مشياً أو حركة إلى الأمام ولا يرجعون إلى مساكنهم. وقيل غير ذلك. والارتباك واضح في العبارات، والمسخ لا يختصّ بتحوّلهم إلى جماد كالحجر ، بل يشمل تحوّلهم إلى حيوان، مع أنّهم لو تحوّلوا إلى حيوان، لاستطاعوا التحرّك إلى الأمام وكذلك الرجوع.

«وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ»، «التعمير» إعطاء العمر. والمراد به هنا - على الظاهر - العمر بعد الكهولة، لا مجرّد إعطاء العمر، كما توهّم. ومن ذلك التعبير عن من يطول عمرهم أكثر من المعتاد بالمعمّرين. ولعلّ الغرض من بيان ذلك، الاستشهاد بمورد توقّف في التطوّر، بل نكسة للتدليل على إمكان ما ورد في الآية السابقة بأنّ هناك مثله ما هو أمر طبيعي متعارف ولكنّه في خلق الجسم، فكما أنّ الإنسان المعمّر ينتكس خلقه ويتوقّف عن التطوّر والتكامل، بل ينقص

ص: 452


1- الأنعام (6): 135

شيئاً فشيئاً، كذلك من مسخ من مسخ الله نفسه وروحه، فإنّه يتوقّف عن التطوّر في الكمال البشري، بل ربّما يفقد بعض ما حصل عليه. أفلا يعقلون ويعتبرون بما یرونه؟

وأمّا على ما ذكره القوم في تفسير الآية السابقة، فلا بدّ من حمل هذه الآية على بيان أمر طبيعي واضح، وهو النكسة في الخلق مع تقادم العمر من دون أن ترتبط بالآية السابقة، ومن دون أن يكون لبيان هذا الأمر غرض خاصّ في سياق الآيات.

ص: 453

سورة یس (69-70)

« وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)»

«وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ» كان من وجوه الدعاية ضد الرسالة المجيدة أنّ ما أتى به الرسول صلّى الله عليه و آله ليس كتاباً من عند الله تعالى، بل هو شعر. وكانوا يصفون الرسول صلّی الله علیه و آله بأنّه شاعر ، كما حكي عنهم في مواضع من الكتاب العزيز. وهذه الآية من المواضع التي يردّ الله تعالى عليهم هذه التهمة بأنّ مكانة الرسول صلّى الله عليه و آله أعلى من أن يعلّمه الشعر، وأنّه لا ينبغي له وإنّما أُرسل عليه الذكر.

والظاهر من هذه الجملة أنّ المراد تنزيه النبيّ صلّى الله عليه و آله من تعلّم الشعر أساساً، حيث إنّ الإنسان لا يعلم شيئاً إلا ما علّمه الله تعالى، فنفي التعليم معناه أنّه صلّى الله عليه و آله لا يعلم الشعر.

وقال بعض المفسّرين: المراد أنّه إذا تعلّم الشعر، فليس بتعليم منّا وأنّا لم نعلّمه إلا القرآن وهو ليس شعراً كما يقوله الكفّار، بل هو قرآن مبين.

وإنّما يقال ذلك، لئلا يوصم مقام النبوّة بالجهل في الشعر، فإنّه فنّ رفيع لا ينبغي أن يجهله النبيّ صلّى الله عليه و آله.

وهذا غير صحيح، فإنّ قوله تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لَهُ» يوضح أنّ المنفيّ في الجملة الأُولى هو تعلّم النبيّ صلّى الله عليه و آله له بذاته، لا أنّ ما علّمه الله تعالى ليس شعراً، فنفي التعليم هنا كإثبات تعليم القراءة والكتابة وغيرهما لنوع الإنسان، كما قال تعالى: «عَلْمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(1).

ص: 454


1- العلق (96): 5

ولو كان المراد نفي كون ما علّمه الله شعراً، لكان الأولى أن يقال: وما أنزلنا عليه شعراً، بل هو ذكر وقرآن.

وبذلك يظهر أنّ ما كان يلاحظ من النبيّ صلّی الله علیه و آله أنّه لا ينشد الشعر إنشاداً صحيحاً - على ما وردت به الروايات - لم يكن تعمّداً منه، بل كان لا يجيّد ذلك، ولا ينبغي له أن يعلم، فليس كلّ علم كمالاً - كما اشتهر - فإنّ الشعر ليس إلا تخييلاً وإيهاماً وتأثيراً في نفوس الناس بتلبيس الباطل لباس الحقّ، وهذا كسائر ما يدّعى فنّا لا يخدم البشرية غالباً، بل يخدم في الغالب سرّاق البشرية وطواغيتهم والانتهازيين وأصحاب الجشع والمفسدين في الأرض، والله تعالى نزّه نبيّه الكريم عن مثل ذلك.

فإن قلت: كيف ذلك ونحن نجد كثيراً من الشعراء والفّنانين خدموا البشرية وجعلوا فنّهم وذوقهم في خدمة الضعفاء والفقراء، أو في خدمة الدين والمصلحين، ومدحوا النبيّ والأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين؟

قلت: الكلام ليس في استثمار ما تداولته الأيدي من وسائل الدعاية والتأثير على الأحاسيس في سبيل خدمة الحقّ بالمقدار الميسور، وإن كان ذلك في حدّ ذاته ضعيفاً جدّاً، فإنّك لا تجد الشعر مطلوباً وقويّاً إلا إذا كان في سبيل اللهو واللغو والباطل، وكذلك سائر الفنون، كالتمثيل والتصوير وغيرهما، إنّما الكلام في أنّ اللازم هو إعلام الناس بأنّ الصحيح هو أن لا يسلموا قيادهم لهذه الطرق الوهمية، بل يتفكّروا ويتدبّروا ويتّبعوا المنطق الصحيح. وهذا هو ما يدعو إليه القرآن الكريم، وقد كرّر في الآيات الدعوة إلى التفكّر والتعقّل.

ص: 455

ولا نمنع من التوسّل بهذه الوسائل ما دام الناس على هذه الوتيرة، إن لم تكن الوسيلة محرّمة، ولذلك نجد أنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله، دعا لمن نصروا المسلمين بشعرهم في مواجهة الشعراء من الكفّار، وكذلك دعا لحسّان بن ثابت حين مدح أمير المؤمنين علیه السّلام بعد نصبه للولاية، وكذا ما يروى عن الأئمّة علیهم السّلام كإهداء الإمام الرضا علیه السّلام جبّته لدعبل الخزاعي رحمه الله. وموارد ذلك كثيرة، ويكفي في ذلك قوله تعالى في الاستثناء من الشعراء الذين يتبعهم الغاوون: «إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا الله كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا»(1).

والتأمّل في الآية يدلّنا على أنّ ذلك إنّما يستثنى في مقام الانتصار ودفع الظلم، وإلا فهو في حدّ ذاته غير مطلوب، بل حتّى في مثل ذلك المقام، يجب أن يتقدّمه ذكر كثير لله تعالى

«إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ». نعم إنّ ما جاء به النبيّ صلّی الله علیه و آله ليس من قبيل الشعر، يتلاعب بخيال الإنسان ويؤثّر في وهمه، وإنّما هو ذكر يذكّره بما تملي عليه فطرته وقد نسيه بتوغّله في ملذّات الدنيا وزينتها. وهو قرآن مبين. و«المبين» إمّا بمعنى موضح، باعتبار أنّه يوضح الحقائق التي لا تبلغها الفكر البشري مهما تعمّق وتوسّع، وإمّا بمعنى الواضح، فإنّه وإن كان دقيقاً عميقاً، لا يبلغ غوره، إلا أنّه من الوضوح بحيث يمكن لكلّ من يجيّد اللغة، أن يتذكّر به ويعتبر ويهتدي إلى الصراط المستقيم.

«لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ»، أي لينذر الرسول صلّی الله علیه و آله من كان حيّاً، وهذا تعريض بمن لا يتأثّر بالإنذار، فكأنّه ميّت. وقد تكرّر هذا التشبيه في

ص: 456


1- الشعراء (26): 227

القرآن الكريم، كقوله تعالى: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المُوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرينَ»(1)، وغيرها من الآيات. «وَيَحِقَّ الْقَوْلُ»: أي يثبت القول، ولعلّ المراد به كلمة العذاب، فتثبت على الكافرين بإتمام الحجّة عليهم.

ص: 457


1- النمل (27): 80

سورة یس (71-76)

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)»

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ»، تعود الآيات إلى التذكير بنعم الله تعالى والتنديد بكفر الإنسان بربّه. والظاهر: أنّ الجملة استينافية و ترتبط بقوله تعالى: «وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ» حيث يتبيّن منها وجه استحقاقهم للعذاب، وهو كفرهم بربّهم، مع أنّ إنعامه عليهم مشهود لهم وملحوظ بوضوح، فلا يحتاج إلى تفكّر وتعمّق، بل يكفي فيه الرؤية. ولذلك عبّر عن ذلك بالرؤية دون العلم: «أوَلَمْ يَرَوْا» ولا وجه لتأويلها بالعلم، كما في «روح المعاني»(1).

ولعلّ التعبير ب_«ما عملت» أيدينا لبيان أنّها نعمة طبيعية، لا دخل للإنسان وعمله فيها، ومع ذلك فهو الذي يتملّكها ويتصرّف فيها. وهذا غاية اللطف والإحسان، فالله سبحانه يخلقها ويصنعها بيده والإنسان يملكها. و«اليد» كناية عن القدرة، حيث إنّ الإنسان يصنع أكثر ما يصنع بيده، فعبّر عن كلّ ما يباشر بصنعه، أنّه صنع يده ، حتّى لو لم يستعمل فيه يده، كما لو باشر العمل برجله، فيقول هذا ما صنعته يدي. ثمّ توسّع في ذلك، فعبّر عن ما يصنع بأمره أنّه صنيعة يده، حيث كان استناد العمل إليه عرفاً أقوى من استناده إلى المباشر.

ولكنّ بعض الناس ممّن يعدون من السلف يعتبرون الآية من المتشابهات،

ص: 458


1- روح المعانی 23: 50

كما في «روح المعاني» قال: «وأنت تعلم أنّ الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت، ك_«يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1) أو ثنّيت، ك_«خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»(2) أو جمعت، كما هنا، بل يثبتون اليد له عزّ وجلّ، كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»(3)»(4) . ومن الغريب أنّه عقّب على ذلك بقوله: «وارتضاه كثير ممّن وفّقه الله تعالى من الخلق، ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة».(5)

ومن الواضح: أنّ الجهل هو أساس هذا القول ومبناه، فإنّ هذا الكلام لا بدّ من حمله على أنّهم يجهلون معنى اليد وأمثاله إذا نسبت إليه تعالى في القرآن، وأنّهم يقرّون بجهلهم، وإلا فلو حمل على ظاهره لكان كفراً، إذ يقتضي أن يقال: إنّ له تعالى أعضاء، كما لنا ولكناّ لا نعلم حقيقتها، وهذا يستلزم التجسيم وهو كفر، حتى لو كان ذلك على سبيل الاحتمال، إذ من الواجب في التوحيد تنزيهه تعالى عن التجسّم وهو ينافي احتمال التجسّم.

و «الأنعام» جمع نَعَم - بفتح النون - مأخوذ من النعمة، تطلق على الإبل، لأنّ عرب البادية كانت تهتّم بها أكثر من كلّ ما تملك، فتعتبرها أكبر نعمة. وتطلق أيضاً على مجموع الإبل والبقر والغنم.

وقوله تعالى: «فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ» للإشارة إلى أن نفس تملّكهم للأنعام، نعمة من

ص: 459


1- الفتح (48): 10
2- ص75 :(38)
3- الشورى (42): 11
4- روح المعانی 23: 50
5- نفس المصدر

الله تعالى، مع أنّهم لم يخلقوها ولم يباشروا أمراً في صنعها، فهي حيوانات تتكاثر وتتناسل في الطبيعة بتدبير أزلي من الله تعالى، كغيرها من أصناف الحيوان، ولكنّ الإنسان تمكّن - بفضله تعالى - من تذليلها وتملّكها.

«وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ»، لم يكن للإنسان أن يذلّل الأنعام لولا أنّ الله تعالى ذلّلها له، وجعلها بالطبع مستسلمة له، مع أنّ بعضها أقوى منه بكثير وبإمكانها أن تهجم عليه وتقتله، ولكنّه تعالى جعلها منقادة حتّى لطفل صغير، وجعلها تأنس بالإنسان وتطيعه ولا تستوحش منه، بالرغم من أنّه يسخر بعضها لركوبه وحمل أثقاله، ويظلمها في ذلك ويحمّلها أكثر من طاقتها، ويبخل عليها، ويذبح بعضها الآخر أو ينحر ويأكل منها، ومع ذلك فإنّها تبقى ذليلة مطيعة مسخّرة له.

وفي ذلك من عظيم نعمة الباري ولطيف تدبيره ما يدهش الملاحظ الدقيق. وأمّا الذي يمرّ بآيات الله تعالى معرضاً عنها، فيعتبر كلّ ذلك من شؤون الطبيعة، ويرى أنّه هو الذي سخّر لنفسه كلّ هذه الملايين من الأنعام، مع أنّه غير قادر على أن يسخر بعوضة أو ذباباً.

و «من» في قوله تعالى: «فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ» تبعيضية، أي تركبون بعضها وتأكلون لحوم بعضها. و«الركوب» - بفتح الراء - بمعنى المركوب.

«وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ»، منافع الأنعام كثيرة، فالإنسان ينتفع بشعرها وصوفها ووبرها وجلدها ويصنع منها الملابس والفرش والأواني وغير ذلك، ويشرب من ألبانها ويصنع منها مختلف المنتوجات، وبتقدّم العلم لم يبق شيء منها لا ينتفع به.

ص: 460

«أَفَلا يَشْكُرُونَ» كلّ هذه النعم يمرّ الإنسان عليها وكأنّه ملكها بفضل ذكائه ولا يشكر نعمة ربّه!!

«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلةٌ لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ»، تدلّ الآية على أنّ الذي يدعو المشركين إلى اتّخاذ الآلهة من دون الله تعالى هو طلب النصر. فهل المراد خصوص الانتصار على الأعداء والحوادث الكونية، أو أنّه يشمل النصر أمام إرادة الله تعالى أيضاً؟ الظاهر هو الثاني وقد مرّ كلام المؤمن: «ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةٌ إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلَا يُنقِذُونِ»(1) ويظهر بذلك أنّ الوثنيين كانوا يتوقّعون من أوثانهم أن يشفعوا لهم حتّى لو أراد الله بهم الضرّ، بل ربّما ينقذونهم من دون حاجة إلى شفاعة.

وهكذا الإنسان يبحث عن أيّ مهرب يصونه من متابعة القانون والعدالة، فيتشبّث بشفاعة الوسطاء أمام القانون الإلهي حتّى في يوم القيامة، كما كان في الدنيا يتشبّث بالوسائط والرشى ليخالف القانون ويتهرّب منه.

«لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ» من الواضح أنّ الأوثان لا تستطيع أن تعمل شيئاً وهي من صنع أيديهم، فكيف تقدر على ما لا يقدرون عليه؟! بل الأمر بالعكس، فإنّهم - أي المشركين - جند لهم محضرون، أي مكرهون على الحضور لنصرة الأوثان التي يعتبرونها آلهة. وتبيّن أنّ الضمير في قوله تعالى «وهم» يعود إلى المشركين وقوله «لهم» متعلق ب_«جند» و «محضرون» صفة لهم أو خبر ثان.

ولعلّ الإحضار والإكراه من جهة أنّ العادات والتقاليد البالية والتقيّد بها،

ص: 461


1- يس (36): 23

أرغمتهم على ذلك وهم لا يؤمنون بها قلباً، ولذلك كان بعضهم يصنع الوثن من تمر، فإذا جاع أكله. وقد صدر من بعضهم أشعار في هجاء بعض الآلهة لعجزها عن الدفاع عن نفسها.

وفي «الميزان»(1) فسّر الإحضار بما يحصل يوم القيامة لما تكرّر في الكتاب العزيز من التعبير به عن الحضور أمام الله سبحانه ومنها ما مرّ في هذه السورة؛ ولكنّه لا يناسب السياق، كما هو واضح.

ولا يخفى: أنّ الوثن هو كلّ ما يهتمّ به الإنسان ويعلّق عليه الآمال، مع أنهّ من صنع نفسه، سواء كان صنماً من حديد وحجر، أو شخصية زائفة يصنعها الإنسان ويتعبّد لها، ونحن نجد من حولنا أُناساً ليس لهم أيّ ميزة ذاتية على الآخرين بعلم أو عقل أو دهاء أو إيمان أو قوّة بدنية، ولكنّ الدعايات والأعلام والأوهام تجعل منه شخصية أُسطورية، فيلتفّ حوله الناس، ويعقدون عليه الآمال، ويتوقّعون منه أن يكون ناصراً لهم يوم الشدّة، وهو لا يملك ضرّاً ولا نفعاً، بل لا يستطيع نصر نفسه إلا بهؤلاء الذين التفّوا حوله، فالآية تنطبق على كلّ هؤلاء.

هذا، والضمير في «لَهُم» يعود إلى الآلهة، وبهذا الاعتبار صح ّكونه لذوي العقول، وإلا فالأصنام بعنوانها يعود إليها الضمير المؤنث، مع أنّا قد بيّنا أنّ عنوان الآلهة، لا يختصّ بالأوثان.

وذكرت في الآية وجوه أُخرى بعيدة.

ويؤيّد ما ذكرناه ما روي في التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم، قال: «وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر علیه السّلام في قوله: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةٌ

ص: 462


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17: 110

لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ» يقول: «لا يستطيعون الآلهة لهم نصراً وهم لهم - أي للآلهة - جند محضرون»(1).

«فَلا يَحْزُنُكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ» الظاهر: أنّ المراد ب_«القول» ما ينبئ عن شركهم. والنبيّ صلّی الله علیه و آله كان يؤذيه إصرارهم على هذه المقولات التافهة والخرافات الموروثة ويحزن عليهم، فيسلّيه الله سبحانه بأنّ ذلك كلّه بعلمنا. ويكفي المؤمن سلوة أن يعلم أنّ كلّ ما في الكون بعلم الله تعالى.

ويُحتمل أن يكون المراد ب_«القول»، مؤامراتهم التي كانوا يخطّطون لها أو أقوالهم الصريحة في تهديد الرسول صلّی الله علیه و آله، فالله سبحانه يقوّي عزيمة رسوله ويسلّيه ويذهب عنه الحزن والغم،ّ بأنّ كلّ ذلك تحت السيطرة، سواء ما أعلنوا عنه وما أسرّوا به.

ص: 463


1- تفسير علي بن إبراهيم 2: 217

سورة یس (77-80)

«أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)»

«أوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ»، يقال: إنّ بعض المشركين أخذ عظماً بالياً، فجاء به إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله يخاصمه ويتحدّاه، فقال: أنت تقول إنّ هذا العظم سيحيا وقد رمّ ، وهو في نفس الوقت يفتته بيده! فقال له النبيّ صلّی الله علیه و آله: «نعم، ويبعثك ويدخلك جهنّم»(1).

فيقال: إنّ هذه الآيات نزلت جواباً عنه، فإن لم يكن، فهو جواب عن المقولة التي كانوا يتداولونها، فإنّ هذه كانت الفكرة السائدة في ذلك المجتمع، حيث كانوا يستغربون: كيف يمكن أن يحيي الله العظام البالية المندرسة التي صارت تراباً ومضى عليها القرون؟!

وتبدأ الآية بتحقير أصل الإنسان في تكوّنه، ليظهر الله تعالى له قدرته في تطويره إلى أن بلغ به المقام أن يتمكّن من التعبير عمّا في نفسه، ويخاصم ربّه الذي خلقه! «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ» والتعبير ب_«الرؤية» من جهة أنّ تكوّن أصله، مشهود له من جهة مشاهدة أمثاله وإن لم يشهد تكوّن نفسه، ولا حاجة إلى تفسيره بالعلم وإن صحّ في حدّ ذاته.

ص: 464


1- تفسير الآلوسي 23: 79؛ و في تفسير البيضاوي «... و يدخلك النار» (تفسير البيضاوي 4: 443)؛ و في البحار نقلاً عن الدواني أنّ الآية نزلت في حقّ أُبيّ بن خلف. (راجع: بحار الأنوار 7: 49)

والسياق يسقط التطوّرات ويظهره كأنّه فجأة تحوّل إلى خصيم مبين، بعد أن كان أصله نطفة نتنة قذرة حقيرة. وقد مرّ التنويه على أنّ المفاجأة، ربّما تطلق من جهة استغراب الشيء الحاصل وإن لم يكن حدوثه مفاجئاً وسريعاً، وهذا تعبير سائد، فمثلاً تقول: فوجئت به يفعل كذا، أي لم يكن ذلك في الحسبان.

و«النطفة»: القطرة من الماء. و «المبين» يمكن أن يكون بمعنى أنّه يعلن مخاصمته لربّه دون حياء، أو لأنّه يبيّن ما يدور في خلده، في إشارة إلى قدرته على النطق الذي هو ميزة الإنسان، فيكون الغرض بيان غاية ما وصل إليه من تكامل في الجسم.

«وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْى الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» هذه الآية تذكّر مورداً من موارد مخاصمة الإنسان لربّه حيث قال: «مَنْ يُحْى العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» واعتبر هذا ضرباً للمثل لغرابة كلامه كما قيل، أو لأنّه مثّل قدرة الله تعالى بقدرة الإنسان، فجعل له مثالاً من خلقه وحيث لا يمكن للخلق أن يحيوا عظماً رميماً، حكم بمثله على قدرته تعالى. وقوله: «وَنَسِيَ خَلْقَهُ» جملة حالية، أي ضرب هذا المثل وهو ناس خلقه، حيث خلقه الله تعالى من نطفة لا تحمل على الظاهر مميّزات الإنسان.

و«الرميم»: العظام البالية، وهو بمعنى المرموم من رمّ الشيء أي أبلاه، وهو من الأضداد، إذ يأتي أيضاً بمعنى أصلح الشيء. والفعيل بمعنى المفعول يستوي فيه المذكّر والمؤنّث، ولذلك أُتي به وصفاً للعظام. و فيه وجوه أُخرى.

«قُلْ يُحْيِيهَا الَّذى أنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَليمٌ»، الجواب واضح وصريح، فالذي خلقه من البدو ولم يكن شيئاً مذكوراً، قادر على أن يعيد خلقه. والإنشاء هو الإبداع، وقوله: «أَوَّلَ مَرَّةٍ» تأكيد ، إذ يغني عنه التعبير بالإنشاء، فالذي أبدع

ص: 465

خلق الإنسان أوّل مرّة - حين لم يكن بهذه الصورة موجوداً وكانت الموادّ متفرّقة، ليس فيها تركيب عضوي ولا فيها حياة - قادر على إحيائه بعد الموت، فإنّه هو واهب الحياة لتلك الموادّ الميّتة المتفرّقة.

وهو عليم بكلّ خلق، أي بكلّ مخلوق، أي يعلم ما يتوقّف عليه خلقه. و«العليم» صفة مبالغة تدلّ على ثبوت الصفة، فإنّ الله تعالى لا يطرأ عليه الجهل والنسيان.

«الَّذى جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ ناراً فإذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» بيان لأحد مظاهر القدرة الخلاقة للتدليل على المضمون السابق. والذي يبدو أنّ المفسّرين القدامى حيث رأوا أنّ الآية تركز على وجود النار في الشجر الأخضر، مع أنّ الغالب أنّ اليابس هو الذي يُستفاد منه في الوقود، ففسّروا الآية بأنّ المراد به المَرخ - بفتح الميم وسكون الراء - والعفار - بفتح العين - قالوا: إنّهما من الزناد، وأنّ العرب كانت توقد النار بحكّ المرخ على العفار، وفسّروا الآية بأنّ وجه التوصيف به أنّ الله تعالى قد جمع في هذا الشجر الأخضر، النار والماء وهما متضادّان، فكذلك يجمع يقدر أن في العظم البالي الموت والحياة.

ولكنّ الظاهر: أنّ المراد هو جعل الشجر وقوداً لا زناداً، لقوله تعالى: «مِنَ الشَّجَرِ» ولم يقل: ب_«الشجر» وقال تعالى: «فإذا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» ولم يقل: «به توقدون». ومفاد الآية: أنّه تعالى جعل منه ناراً لا زناداً، مع أنّ الزناد لا يختصّ بالشجر، بل الغالب فيه استخدام الأحجار؛ هذا على تقدير صحّة ما قالوه في المرخ والعفار.

ومثله القول في قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتى تُورُونَ * أَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَها أم نَحْنُ

ص: 466

المنشووُنَ * نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ»(1)، وهو هنا أوضح، إذ الذي جعله الله تذكرة ومتاعاً، هي النار المشتعلة، فالمراد: التنبيه على أنّ الله تعالى جعل لكم الشجر وقوداً.

ولعلّ التركيز على خضرته للإشارة إلى ما قيل من أنّ الشجر حين اخضراره، يمتصّ الطاقة وتبقى كامنة فيه إلى أن ييبس الشجر ويتّقد ناراً، ولكنّ المفسّرين القدماء كانوا يعتبرون ذلك مجرّد إشارة إلى غرابة جمعه بين الماء وإمكان الاتقاد.

وأمّا قوله تعالى: «فإذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» حيث دلّ على المفاجأة، فهو من جهة التعجيب - كما مرّ مراراً - والعجيب هو الاتقاد من الشجر الأخضر ولو بعد يبسه. ولعلّ السرّ في التنبيه عليه الإشارة إلى أنّ الذي جعل في الشجر الأخضر هذه الميزة، حيث يمتصّ الطاقة الكامنة وتختبئ فيه ما دام حيّاً مخضرّاً، ثمّ تشتعل بعد موته ويبسه، قادر على أن يجمع في الجسم الحيّ قابلية الحياة والحركة، فيبرزها بعد موته وبلاه.

ص: 467


1- الواقعة (56): 71-73

سورة یس (81-83)

«أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)»

«أوَلَيْسَ الَّذى خَلَقَ السَّماواتِ وَالأرض بِقادِر عَلى أنْ يَخلُقَ مِثْلَهُمْ» عود إلى الاستدلال على القدرة على الإحياء بأنّه أهون من بدء الكون وإبداعه، لأنّ المراد ب_«السماوات والأرض» - كما قلنا مراراً - هو كلّ الكون، وبهذا المعنى اعتبره الله تعالى أكبر من خلق الناس. قال تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكنّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون»(1)، مع أنّه سبحانه قال في خلق الإنسان: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(2)، وإنّما كان خلق السماوات والأرض أكبر، لأنّه خلق الكون من العدم وابتدعه ابتداعاً من غير مثال ولا مادّة سابقة.

ففي هذه الآية يقول: إنّ الذي خلق الكون من العدم، قادر على خلق أمثال ما خلق، لسبق المثال، فالضمير في «مِثْلَهُمْ» إمّا أن يرجع إلى السماوات والأرض باعتبار شمولهما على ذوي العقول، أو إلى البشر، كما هو محلّ السؤال، وهو الأقرب.

وإنّما اعتبر كونهم مثلهم، لا نفسهم، لأنّ الصورة تنعدم، فالذي يحيا ليس هو نفس الصورة، وإن كان من نفس الموادّ المتفرّقة - على ما يقوله أكثر علماء المسلمين - فهو إذاً مثله. وأمّا إذا قلنا - كما قال بعضهم - إنّه لا يلزم أن يكون

ص: 468


1- غافر (40): 57
2- التين (95): 4

من نفس الموادّ وإنّ الجسم إنّما يكون جسم زيد مثلاً، لأنّه متعلّق بروحه، فلو تبدّل كلّ الجسم من حيث الموادّ إلى جسم آخر وتغيّرت صورته، فإنّه لا تتغيّر حقيقته التي هي النفس البشرية، فعلى هذا القول تكون المثلية أوضح.

«بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ» «بَلَى» كلمة جواب تدلّ على الإثبات إذا كان السؤال عن النفي فمفادها أنّه قادر على ذلك. والجملة التالية دليل عليه. والخلاق مبالغة في الخالق والمراد به القدرة على الخلق. والعليم أيضاً مبالغة في العالم. والصيغة تدلّ على الثبات فهو عالم بكلّ شيء لا يزول علمه. والاستدلال باعتبار أنّ إعادة الخلق لا تحتاج إلا إلى القدرة والعلم. وقدرته وعلمه تعالى غير متناهيين.

«إِنَّما أمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئاً أن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» تبيّن الآية أنّ الله تعالى إذا أراد أن يخلق شيئاً، فلا يحتاج إلى أمر آخر لكي يوجد وإنّما إرادته تستتبع الوجود بلا واسطة، لا يختلف عنده الكبير والصغير، والعظيم والحقير، والخلق الأوّل والإعادة.

وكلمة «كن» تعبير عن الإرادة وإلا فليس هناك لفظ يقال ولا عمل يعمل إذ لو كان كذلك لاحتاجت تلك اللفظة أو العمل إلى إرادة أّخرى وكلمة أّخرى وهكذا يتسلسل، والتسلسل مستحيل. مضافاً إلى أنّ الشيء غير موجود حتّى يخاطب بالأمر بالكون، وهذا واضح. فليس هناك ما يفصل بين إرادته تعالى شيئاً وتحقّق ما يريد.

ولذلك قال أمير المؤمنين علیه السّلام على ما في «نهج البلاغة»: «يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ، وَلا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلُ مِنْهُ أَنْشَأَهُ».(1)

ص: 469


1- نهج البلاغة، صبحي الصلاح، الخطبة 186

وفي حديث رواه الكليني والصدوق بسند صحيح عن الإمام الرضا علیه السّلام قال: «وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له».(1)

ولا ينافي ذلك التعبير عنه بالقول هنا وأوضح منه في قوله تعالى «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ تَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(2) وكذلك التعبير بالأمر في هذه الآية ولا حاجة إلى تفسيره بالشأن كما في «الميزان»، فكلّ ذلك تعبير عن حقيقة واحدة وهي الإرادة وإرادته تعالى فعله لا يتقدّمه تصوّر وشوق وهمّ.

إنّما الكلام في تدرّج المخلوقات في عالم الطبيعة؟ قال العلامة الطباطبائي: «إنّ الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة ولا نظرة ولا يتحمّل تبدّلاً ولا تغيّراً، ولا يتلبّس بتدريج وما يتراءى في الخلق من هذه الأُمور إنّما يتأتّى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربّها سبحانه، وهذا باب ينفتح منه ألف باب».

وقال في تفسير قوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ،(3) «فهذه الموجودات بأجمعها أعمّ من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه، موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»،(4) وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية. وأمّا إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة

ص: 470


1- الكافي 1: 110؛ عيون أخبار الرضا علیه السّلام 1: 110
2- النحل (16): 40
3- آل عمران (3): 59
4- يس (36): 82

كما قال تعالى: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ».(1)

ولكن الموجود التدريجي ليس إلا عنواناً اعتبارياً لمجموعة موجودات متتالية، تحقّق كلّ منها فعل من أفعاله تعالى، كما أنّ الحركة ليست إلا وجود الشيء في أماكن مختلفة وانتقاله من مكان إلى آخر وكلّ ذلك حوادث متتالية يتوقّف تحقّق كلّ منها إلى إرادة من الله تعالى فلا حاجة إلى هذا التوجيه.

«فَسُبْحانَ الَّذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْء»، ختم السورة المباركة بتنزيه الله سبحانه عمّا يقوله الظالمون والجاهلون، حيث يزعمون لقدرته تعالى حدوداً لا يمكنه اجتيازها، مع أنّه تعالى بيده ملكوت السماوات والأرض.

و«الملكوت» مبالغة في الملك، والمعنى أنّ الملك الحقيقي لله تعالى وهو عبارة عن افتقار الكلِّ إليه في الوجود، فلا استقلال لشيء من دون إرادته، والكلّ في قبضته. و«اليد» كناية عن القدرة.

«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»، لعلّه تهديد لمن أنكر قدرته تعالى على الإحياء بأنّ مرجعكم إليه وحسابكم عليه والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 471


1- القمر (54): 50

ص: 472

فهرس المطالب

فهرس المطالب

مقدمة الناشر ... أ

مقدمة المؤلّف ... ج

هذا التفسير ومنهجه ... د

الأمر الأوّل: الحاجة إلى التفسير ... ه

1 - معرفة اللغة الأصلية … ز

2 - الألفاظ المشتركة ... ح

3- المجازات والكنايات ... ح

4 - الآيات المشتملة على المسائل الاعتقادية ... ط

5 - الحقائق التاريخية … ط

6 - الحقائق الكونية ... ي

7 - شأن نزول الآيات الأمر ... ي

الثاني: التفسير بالرأي ... ك

روايات الشيعة في التفسير بالرأي ... ك

روايات العامة في التفسير بالرأي ... م

العمل بظواهر الكتاب ... ن

الاستغناء بالكتاب والمنع من نشر السنة ... ع

المراد بالتفسير بالرأي ... ق

1 - محاولة تفسير القرآن بالقرآن ... ق

ص: 473

2 - تأثير المدارس الفلسفية ونحوها ... ر

3 - التعصّب الأعمى ... ش

4 - محاولة تطبيق القرآن على العلم الحديث ... ت

5 - التفسير الباطني ... خ

تفسیر سورة الأحزاب

سورة الأحزاب (1 - 5) ... 3

سورة الأحزاب (6) ... 20

سورة الأحزاب (7- 8) ... 27

سورة الأحزاب (9-11) ... 33

سورة الأحزاب (12-17) ... 50

سورة الأحزاب (18-20) ... 56

سورة الأحزاب (21_24) ... 65

سورة الأحزاب (25-27) ... 75

سورة الأحزاب (28-29) ... 81

سورة الأحزاب (30-31) ... 85

سورة الأحزاب (32-34) ... 89

سورة الأحزاب (35) ... 103

سورة الأحزاب (36-40) ... 106

سورة الأحزاب (41-44) ... 120

سورة الأحزاب (45- 48) ... 124

سورة الأحزاب (49- 52) ... 130

سورة الأحزاب (53- 55) ... 152

سورة الأحزاب (56) ... 160

سورة الأحزاب (57- 59) ... 165

سورة الأحزاب (60- 62) ... 171

فهرس المطالب 475

ص: 474

سورة الأحزاب (63- 68) ... 174

سورة الأحزاب (69- 71) ... 180

سورة الأحزاب (72- 73) ... 184

تفسير سورة سبأ

سورة سبأ (1-2) ... 191

سورة سبأ (3- 6) ... 195

سورة سبأ (7-9) ... 199

سورة سبأ (10-14) ... 204

سورة سبأ (15-19) ... 214

سورة سبأ (20-21) ... 224

سورة سبأ (22-23) ... 227

سورة سبأ (24-27) ... 233

سورة سبأ (28-30) ... 238

سورة سبأ (31-33) ... 243

سورة سبأ (34-39) ... 249

سورة سبأ (40-42) ... 258

سورة سبأ (43-45) ... 261

سورة سبأ (46-50) ... 264

سورة سبأ (51- 54) ... 273

تفسير سورة فاطر

سورة فاطر (1-4) ... 279

سورة فاطر (5- 8) ... 287

سورة فاطر (9-11) ... 293

سورة فاطر (12-14) ... 304

سورة فاطر (15- 18) ... 312

ص: 475

سورة فاطر (19-23) ... 320

سورة فاطر (24- 26) ... 323

سورة فاطر (27-30) ... 327

سورة فاطر (31-35) ... 337

سورة فاطر (36-37) ... 352

سورة فاطر (38- 39) ... 356

سورة فاطر (40-41) ... 362

سورة فاطر (42- 43) ... 367

سورة فاطر (44- 45) ... 373

تفسير سورة يس

سورة يس (1-12) ... 379

سورة يس (13-19) ... 398

سورة يس (20- 29) ... 405

سورة يس (30-32) ... 414

سورة يس (33-40) ... 417

سورة يس (41-44) ... 425

سورة يس (45- 47) ... 430

سورة يس (48-54) ... 435

سورة يس (55- 58) ... 441

سورة يس (59-62) ... 444

سورة يس (63- 68) ... 448

سورة يس (69-70) ... 454

سورة يس (71- 76) ... 458

سورة يس (77-80) ... 464

سورة يس (81- 83) ... 468

ص: 476

المجلد 2

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: مهری، سیدمرتضی، 1324 -

عنوان المؤلف واسمه: الهادي في تفسير القرآن الكريم [کتاب]/ العلّامة سيّد مرتضى المهري.

مشخصات نشر : قم : موسسة المعارف الاسلامیة، 1437ق.= 1395 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : موسسة المعارف الاسلامیة؛ 209، 219، 227.

شابک : دوره 978-600-146-015-9 : ؛ ج.1 978-600-146-016-6 : ؛ ج.3 978-600-146-019-7 : ؛ ج.4 978-600-146-030-2 : ؛ ج.5 978-600-146-031-9 : ؛ ج.6 978-600-146-039-5: ؛ ج.7 978-600-146-057-9 :

حالة الاستماع: فاپا

لسان: العربية.

ملحوظة : ج.3 (چاپ اول: 1394) .

ملحوظة : ج.4 (چاپ اول: 1395) .

ملحوظة : ج.5 (چاپ اول: 1397) (فیپا).

ملحوظة : ج.6 (چاپ اول: 1399).

ملحوظة : ج.7 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .

مندرجات : .- ج.3. تفسیر سورة الشوری.- ج.4. تفسیر سورة الاحقاف.- ج.5. تفسیر سورة الذاریات.- ج.6. تفسیر سورة حدید.- تفسیر سورة التحریم

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

معرف المضافة: موسسة المعارف الاسلامیة

تصنيف الكونجرس: BP98/م866ھ2 1395

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3483061

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الهادي في تفسير القرآن الكريم

المجلد الثاني

تأليف

العلّامة سيّد مرتضى المهري

ص: 3

سرشناسه : مهری سید مرتضی ،1324 کد ملی0386545146

عنوان و نام پدیدآور :الهادى فى تفسیر قرآن کریم، سید مرتضی مهری.

مشخصات نشر : قم بنیاد معارف اسلامی 1393 (206- 205)

مشخصات ظاهری: 2 ج.

ISBN : دوره ای 9-015-146-600-978

ج1)978-600-146-016-6 ج 2 )978-600-146-017-3

ج 3)........................... ج 4) .............................

وضیعت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربي

موضوع : تفاسیر شیعه - قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : 1393 2 ه 886 م / 98BP

رئه بندی دیویی : 179: 297

شماره کتابشناسی ملی : 2483061

اسم الكتاب : الهادي في تفسير القرآن الكريم

المؤلف : العلّامة السيد مرتضى المهري

الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة : الأولى 1435 ه- . ق

المطبعة : عترت

العدد : 1000 نسخة

رقم الايداع الدولي للدورة: 978-600-146-015-9

رقم الايداع الدولي / ج 2: 978-600- 146-017-3

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون 37732009 - 09127488298 - فاکس 37743701 ص.ب 168 / 37185

WWW.maarefislami.com

E-mail: info@maarefislami.com

ص: 4

تفسير سورة الصافات

اشارة

ص: 5

ص: 6

سورة الصافّات (1- 5)

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِیمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)

السورة مكّية بشهادة المضامين والخطابات الخاصّة بالمشركين وتتعرض لإثبات الحشر يوم القيامة، وبيان بعض حوادثه، ثمّ قصص المرسلين (علیهم السلام).

«وَالصَّافَّاتِ صَفاً » ، أقسم في الآيات الثلاثة الأولى بجماعات صافّة، ثمّ جماعات زاجرة، ثمّ جماعات تالية للقرآن. و«صفّاً» مفعول مطلق يفيد التأكيد على الاتصاف بالاصطفاف. وهو بمعني تنظيم شيئين أو أكثر على خط واحد. و«الصافّات» جمع صافّة أي الجماعة الصافة، فالتأنيث باعتبار كون مفردها جماعة. قيل: إنّ المراد بهم جماعات المجاهدين في صفوف القتال، وقيل: جماعات المصلّين.

ولكن الظاهر أن المراد بهم جماعات الملائكة، كما سيتّضح بملاحظة الآيتين التاليتين والعطف بالفاء الدال على الترتيب.

وتوصيف الملائكة بالصّافّة، إمّا بمعنى أنّهم مصطفّون في الصلاة والذكر

ص: 7

والتسبيح، أو بمعنى أنّهم صافون أجنحتهم - وهي تعبير عن القوى - في تنفيذ أوامر الله تعالى منتظرين لما يؤمرون به، أو بمعنى أنّهم مصطفّون تمهيداً لنزول القرآن وعلى كلّ حال فهو كناية عن الاستعداد التامّ.

وقد ورد في نفس السورة حكاية قول الملائكة: « وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ » (1) والأقرب من بين المحتملات أن الاصطفاف - بقرينة ما يليه - هو الاصطفاف لنزول القرآن كما ذكره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) (2).

« فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» «الزجر » هو المنع، أو المنع بصوت، و«الفاء» تدلّ على الترتيب، أي تأتي بعد الجماعات الصافّة، والظاهر أن المراد بهم الجماعات من الملائكة الزاجرة المانعة الرادعة للشياطين من أن يغيّروا أو يبدّلوا أو يسرقوا شيئاً من القرآن. وهذا المعنى قد تكرّر التأكيد عليه في الكتاب العزيز، نظراً إلى أنّ المشركين كانوا يقولون إنّ الشياطين يلقون إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بهذه الكلمات، أو يتساءلون: ما يمنع من أن يدسّ الشياطين فيها؟ ونحو ذلك من الأقاويل.

وقد ردّها القرآن الكريم في موارد شتّى بأنّه ليس ممّا يمكن للشياطين أن تتفوّه به ولا يمكنهم الاندساس في صفوف الملائكة، فمنها قوله تعالى: « وَما تَنزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْع لَمَعْزُولُونَ » (3)، ومنها ما سيأتي من الآيات هنا حول طرد الشياطين بالشهب ، وكذلك في مواضع أخرى. ومنها أيضاً قوله تعالى: « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (4) وغير ذلك.

ص: 8


1- الصافات (37) : 165 - 166 .
2- راجع الميزان في تفسير القرآن:17: 121 .
3- الشعراء (26) : 210 - 212 .
4- الحجر (15) 9 .

وهناك أقوال أخرى في تفسير «الزاجرات»، فمنها: أنّهم الملائكة التي تزجر عن المعاصي، أو تسوق السحاب ومنها أنّهم المؤمنون الناهون عن المنكر وغير ذلك.

« فَالتَّالِياتِ ذِكْراً » وهنا أيضاً الأقرب ما ذكره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) من أنّها الملائكة الذين يتلون القرآن على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو ما يعمّ تلاوة سائر الكتب السماوية على الرسل، أو تلاوة الوحي غير القرآن على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (1) .

ومن هنا يتبيّن الوجه في العطف ب-«الفاء»، فإنّه للدلالة على مراحل إيصال الوحي، فهناك جماعات من الملائكة مصطفّين تمهيداً لنزول الوحي الإلهي على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، و يا له من جلال وعظمة، ثمّ الجماعات الزاجرة الطاردة للشياطين من أن يقربوا الرسول أو الوحي، وبعد ذلك الجماعات التالية للذكر.

وتلاوة الذكر ليست مجرّد قراءة للقرآن حتى يتوهّم أنّها لا تحتاج إلى جماعة فضلاً عن جماعات، بل إيصال للوحي وهو موجود سماوي إلى قلب الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهذه عملية مهمة صعبة، ولعلّه لذلك كان الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

يشعر بثقل، بل يثقل جسمه واقعاً - على ما في الروايات - فإذا كان على دابّة لم تتحمّل ثقله، وكان يتصبّب العرق منه حتى في الشتاء، بل كان يغشى عليه من ثقل الوحي، وفي ذلك بحث سيأتي إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: « إِنَّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلاً ثقيلاً » (2).

ثمّ إن ذلك لا ينافي كون الملك النازل بالوحي هو جبرئيل (علیه السلام)، فإنّه هو

ص: 9


1- راجع الميزان في تفسير القرآن :17 121 .
2- المزّمّل (73) : 5 .

الرسول الكريم، « ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاع ثمّ (أي في صفوف الملائكة) أَمِينٍ (على الوحي) » (1) ولكن تحت أمره جنود مجنّدة من الملائكة، فالفعل كما ينسب إليه، ينسب إلى الملائكة الأعوان ، أيضاً، كما قال تعالى: « فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كرامٍ بَرَرَةٍ » . (2)

« إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ » هذا جواب القسم. والخطاب للبشرية و«الإله» أي المعبود. والبشر إنّما يعبد من يخاف عقابه ويرجو ثوابه. وقد انحرفت الوثنية عن الفطرة الإلهية، فاعتبرت لنفسها آلهة ، آلهة تؤثر في الخير وآلهة تؤثر في الشرور، وعكفت على عبادة هذه الآلهة المزعومة، فبعث الله المرسلين وأرسل الكتب لهداية البشرية وسوقها إلى عبادة الله تعالى. وهذا الخطاب المؤكد بالقسم و بحرف « إنّ » ولام القسم يؤكّد للبشر المخاطب بأنّ المعبود واحد لا يتعدّد، كما زعمت الوثنية بتعدد أسباب الخير والشر، فكلّ ما في الكون مخلوق لله تعالى و تحت تدبيره وربوبيته.

وتبيّن بما ذكر أن المراد ب-«الوحدة» هنا الوحدة بالعدد ونفي التعدد المزعوم. وليس هذا صفة لله تعالى، فهو لا يوصف بالوحدة العددية كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام): « واحد لا بعدد» (3) و إنّما الواحد صفة للإله أي المعبود.

وربما يتساءل: ما فائدة القسم؟ فإنّ من لا يؤمن أنّ الكلام لله تعالى لا يهمه أن يشفع الكلام بقسم أو لا يشفع به، ومن يؤمن به لا يحتاج إلى القسم.

ص: 10


1- التكوير (81) 20 - 21 .
2- عبس (80): 13 - 16 .
3- نهج البلاغة: 269 ، الخطبة 185.

والجواب: أن القسم للتأكيد وتعميق التأثير في نفس السامع، سواء كان مؤمناً أم كافراً، مع أنّ هذه الجملة متعقّبة بالدليل، فليست تحكي عن دعوى مجرّدة، والدليل الآية التالية.

وقلنا غير مرّة إنّ القسم في الأصل إنشاء ربط اعتباري بين كرامة المقسم به وصحّة ما يدّعى إذا كان الحلف لإثبات أمر أو نفيه وربط بين كرامته والالتزام بما يتعهد به الحالف إذا كان الحلف على تعهد. فحينما يقول الإنسان والله كان كذا، فكأنّه يقول: إنّ صدق كلامي منوط ومرتبط بإعظامي لله تعالى، ولذلك يعتبر الحلف كذباً من المعاصي الكبيرة. وحينما يقول الإنسان: والله لأفعلنّ كذا، فكأنّه يقول: إنّ التزامي بهذا الوعد منوط بتعظيمي لله تعالى، ولذلك يعتبر المخالفة إثماً يستلزم الكفّارة.

وأمّا القسم الوارد في كلامه تعالى فقد قيل إنّه لا يفيد نفس المفاد، بل يفيد التأكيد فقط، وذلك لأنّ أكثر ما يقسم به الله ليس ممّا له كرامة خاصّة لديه تعالى .

ولكنّ الظاهر أنّه لا يشدّ عن القسم المتعارف والله تعالى لا يقسم بكلّ شيء و إنّما يقسم بذاته المتعالية وبرسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبكتابه المجيد، وبالملائكة الكرام وبمخلوقاته في الطبيعة، وهي أيضاً من حيث استنادها إليه تعالى كريمة ولذلك ورد فيها غالباً العطف بما يشير إلى جهة جمال أو كمال فيها، كقوله تعالى: « والشَّمْسِ وَضُحَاهَا » (1) وقوله : « واللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهارِ إِذَا تَجَلَّى » (2) ونحو ذلك.

ص: 11


1- الشمس .(91) 1 .
2- اليل (92) 1 - 2 .

ويبدو أن اختيار بعض الأشياء في القسم من جهة التناسب مع المقسم عليه. ويلاحظ أنّه تعالى لم يقسم بأحد من البشر في ما نعلم إلّا بالرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في قوله تعالى: « لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ » (1)

« رَبُّ السَّماواتِ وَالأرضِ وما بَيْنَهُما ) ، « السماوات والأرض وما بينهما» كناية عن كلّ الكون، إمّا بلحاظ أن «السماوات » عبارة عن العوالم العلوية المجرّدة، و«الأرض» عبارة عن عالم الطبيعة ومجموعة الأفلاك وتوابعها، وإمّا بلحاظ أنّ الإنسان لا يجد في ما حوله إلّا السماء والأرض، فيطلق هذا التعبير ويريد كلّ الكون.

وهذه الآية كالدليل على كون الإله واحداً، وذلك لأنّ هذا النظام الكوني يشهد بمقتضى وحدة التدبير والانسجام الموجود في كلّ أجزاء الكون أنّ الرّبّ المدبّر له واحد، وإذا كان للكون ربّ واحد يديره فهو الإله الذي يستحق العبودية، ولا دخل لغيره في تدبير الكون فيتخذ إلهاً.

والآية تنبه على أنّ ربّ السّماء هو ربّ الأرض، وأنّ النظام فيهما نظام واحد، فهناك ارتباط وثيق مشهود بين تدبير السماء وتدبير الأرض، والقسم المذكور أيضاً يتناسب معه، فإنّ دور الملائكة في هذا العرض المتوالي هو دور الربط بين السماوات والأرض.

والمراد بما بين السماوات والأرض يمكن أن يكون الملائكة المأمورين بإيصال الأوامر الإلهية وتنفيذها في عالم الطبيعة، وبغير ذلك من الأعمال الموكولة بهم، بناءً على ما مر من أنّ المراد ب- «السماوات» العوالم العلوية

ص: 12


1- الحجر (15) 72 .

الخارجة عن نطاق الطبيعة و« بالأرض» عالم الطبيعة الشامل للأفلاك كلّها، وأمّا إذا أريد ب-«السماوات» الأجرام العلوية فهناك أجسام كثيرة بينها وبين الكرة الأرضية.

« وَرَبُّ المُشارِقِ » لعلّ الجمع باعتبار أن للشمس في كلّ يوم مشرق على أفق كلّ بلد، ويتغيّر تدريجاً حسب أيّام السنة. والتعرّض لهذا المورد بالخصوص من ما اشتملت عليه السماوات والأرض من مظاهر الربوبية من باب ذكر نموذج من النظام الموحّد في الكون، وهو مثال واضح تتجلّى فيه الدقة المتناهية، فإنّ اختلاف المشارق في كلّ يوم يتبع نظاماً دقيقاً لا يتغير طيلة القرون المتمادية، وهو أيضاً يربط نظم السماء بنظم الأرض، ولكن بمعنى أخر، فهو نظام مترابط بين الكرة الأرضية وجرم من الأجرام السماوية وهو الشمس.

ص: 13

سورة الصّافّات ( 6 -11 )

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)

« إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةِ الْكَواكِبِ» ، «الدنيا» مؤنث أدنى من الدنو، أي القرب. والظاهر أن المراد بالسماء الدنيا أقرب سماء إلينا، فتدلّ الآية على أنّ كلّ ما نجده من الأجرام العلوية والكواكب والنجوم إنّما هي في آخر سماء بالنسبة إلينا. ويحتمل أن يكون المراد بغيرها من السماوات العوالم العلوية التي ليست من المادة، وليس فيها كوكب ولا نجم والعلو فيها ليس بمعنى العلو الحسي، بل هو علوّ معنوي.

كما يحتمل أن يراد بها الأجرام الفلكية التي لا نراها لبعدها عنّا، فلا يصل إلينا نورها ولا تعتبر زينة لنا، بل لا شك ّفي أنّ بعض ما اكتشفه البشر أيضاً بل أكثره لا يعد زينة حيث لا نراها بالعين المجرّدة، فالواقع أنّ وراء كلّ ما نراها من أجرام نيّرة سماوات ومجرّات وأجرام أخرى كثيرة جدّاً لا يحصيها إلا الله تعالى.

وقوله: « الْكَواكِبِ »، بدل عن الزينة والمراد التنبيه على جانب عظيم من مظاهر الربوبية، وهو الجانب الجمالي في الكون، فإنّ من الواضح أنّ هناك هدفاً مقصوداً وإبداعاً مستهدفاً في تزيين الطبيعة الخلابة، سواء على الأرض أو السماء. ويقال إنّ الكواكب إنّما نجدها زينة على الأرض بفعل المجال الجوي المحيط بنا، فإنّه هو الذي يتسبب في تلألؤ الكواكب، ولا نجد هذا الجمال إذا خرجنا من

ص: 14

المجال الجوّي. فسبحان الله الجميل خالق الجمال ومبدع الزينة الطبيعية البهيجة.

« وَحِفْظاً مِنْ كُلّ شَيْطَانٍ ماردٍ »، أي وحفظناه حفظاً، فيكون مفعولاً مطلقاً لفعل مقدر، أو هو معطوف على قوله (بزينَةٍ) باعتبار المعنى، لأنّه في المعنى مفعول لأجله، فکأنّه قال: « زيّنا السماء الدنيا بالكواكب زينة وحفظاً».

و الشيطان مأخوذ من الشطن بمعنى البعد، لأنّه بعد عن رحمة الله تعالى، أو بعد عن الحقّ أو الخير، أو من شاط يشيط بمعنى احترق، لأنّه مخلوق من النار، قال تعالى: « وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ » (1)، و«المارد» من المرود وهو التجرد، يقال: شابّ أمرد أي لا لحية له، ويقال ذلك لكلّ عاتٍ من الجنّ والإنس، لأنّه تجرد عن الخير.

والظاهر أن المراد جعل الكواكب حفظاً، أي وسيلة للحفظ من كلّ شيطان مارد، كما قال تعالى: « وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابيح وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطينَ »(2) . وسيأتي الكلام حول ذلك إن شاء الله تعالى.

« لا يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأغلى» «یَسَّمَّعُونَ» في الأصل «يتسمّعون»، والتسمّع هو الإصغاء، ولذلك تعدى ب- «إلى» والمراد أنّهم لا يمكنهم الإصغاء مهما حاولوا، في إشارة إلى ردّ ما كان يظنّه العرب من أن الجنّ تأتي بأخبار السماء إلى الكهنة، وبذلك يخبرون عن الغيب. ويظهر من قوله تعالى: « وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً » (3) ، أنّهم كانوا كذلك في زمان، ثمّ منعوا عنه.

ص: 15


1- الرحمن (55): 15 .
2- الملك (67) 5 .
3- الجنّ (72): 9 .

وهناك روايات تدلّ على أنّهم كانوا يتلقّون بعض الأخبار من السماء، ولكن لا يستوعبونها بدقّة، فكانوا يخبرون الكهنة، ولكن يظهر فيها الخطأ من جهة عدم استيعابهم، أو أنّهم كانوا يضيفون عليها من أنفسهم كذباً لخبثهم، أو استنباطاً، كما يصنعه بعض البشر.

روى الطبرسي في «الاحتجاج » عن أبي عبدالله (علیه السلام) - في حديث طويل - « وأمّا أخبار السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم، و إنّما منعت من استراق السمع لئلّا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة ونفي الشبهة، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن اللهمن خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها، ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيختلط الحقّ بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر ممّا كان يخبر به فهو ممّا أدّاه إليه شيطانه ممّا سمعه، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة». فقال: كيف صعدت الشياطين إلى السماء وهم أمثال الناس في الخلقة والكثافة، وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود (علیه السلام) من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟ قال: «غلظوا السليمان لمّا سخّروا، وهم خلق رقيق غذاءهم التنسم ، والدليل على ذلك صعودهم إلى السماء لاستراق السمع، ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليه إلّا بسلّم أو بسبب »(1).

وعلى كلّ حال، فهذه الآية تدلّ على أنّهم لا يمكنهم الاستماع، وهذه الجملة مستقلة وليست جملة وصفية لكلّ شيطان، كما في الميزان» إذ يكون المعنى

ص: 16


1- الاحتجاج 2: 81 .

حينئذ وحفظنا السماء من كلّ شيطان لا يستمع أو لا يمكنه أن يتسمّع، وأمّا من يمكنه ذلك فلا يمنع منه. وهو غير صحيح.

و«الملأ » يطلق على أكابر القوم وعّليتهم ، لأنّهم يملأون العيون عظمة وبهاء. و « الملأ الأعلى »هم الملائكة، ولعلّ المراد أكابر الملائكة الذين بيدهم رتق الأمور وفتقها، أو المراد عالم الملائكة، لأنّهم كلّهم عظماء في الخلق.

« وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ » جملة معطوفة في مقام التعليل لعدم تسمّعهم. وفاعل القذف الملائكة. و یدلّ ذلك على أنّ الشياطين يستمرون في المحاولة، ويبدو أنّ المحاولة مستمرّة أبداً حيث أتي بالأفعال بصيغة المضارع. و یدلّ هذا الاستمرار على غاية خبثهم، وعلى غبائهم أيضاً، حيث لا يتفطّنون إلى عدم التمكن من ذلك نهائياً، وأنّهم يقاومون القدرة المطلقة التي لا يمكن أن يقاومها شيء، ولعلّ هذا من وجوه كفر الشيطان، مع علمه بأنّ الله هو الخالق البارئ. ومثله بعض جبابرة الإنس.

«دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ »أي ويدحرون دحوراً أي إبعاداً، فيكون مفعولاً مطلقاً، أو يقذفون لأجل الدحور والإبعاد، فيكون مفعولاً لأجله. ومنه يعلم أنّهم يحاولون الدخول والملائكة تطردهم بحيث لا يتمكّنون من الاقتراب وهكذا جنود الشرّ لا تفتؤ تحاول النفوذ في صفوف جنود الحقّ والخير، وعلى جنود الحقّ أن يبعدوهم حتى لا يطمعوا في النفوذ. ويظهر أنّ الشيطان الأكبر حيث أخرج من السماء وأهبط إلى الأرض لم يزل يحاول العود. ومن غرائب الكون أنّ الله تعالى أمهله هذا الإمهال لا بحسب الزمان فقط، بل حتى بحسب مجال العمل وفسحة المطاردة والركض للفساد في الكون.

ص: 17

و«الواصب»: الثابت الدائم. قال تعالى: « وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا » (1) ، فالمراد أنّهم في نفس الوقت معذّبون لا يكاد ينفك عنهم العذاب، أو أنّ لهم عذاباً ثابتاً يوم القيامة، كما قال تعالى: « وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ». (2)

«إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ » «الخطف» هو الاختلاس بسرعة. فمن الشياطين من يبلغ به الغباء أنّه يحاول اختلاس الخبر من السماء ليبلغ به الأرض، فما يكون من الملائكة إلّا أن يقذفوهم بشهاب ثاقب. والشهاب الشعلة الساطعة من من النار، ووصف ب-«الثاقب»، لأنّه يثقب وينفذ في ما يصيبه. وظاهر الآية أن الملائكة ترمي الشياطين المسترقة بالشهب الثاقبة فتهلكها، وأنّ ذلك من نفس هذه الكواكب والنجوم كما مرّ.

وقد أشكل الأمر على المفسّرين حتّى أن بعضهم اكتفى بنقل الأقوال. وذلك لأنّ كون هذه الكواكب والنجوم شهباً ترمى بها الجنّ أمر مخالف لما هو معلوم ومشهود حتى قبل الاكتشافات الحديثة، فذهب بعض المفسّرين إلى لزوم الأخذ بهذا الظاهر وإن كنّا لا نعلم حقيقة الحال.

وهذا لا بأس به في حدّ ذاته، ولا يلزم منه أي محذور، فهناك كثير من الحقائق العلمية لم تكشف بعد للبشر، وربّما لا تنكشف أبداً. والآيات لا تدلّ على أنّ كلّ ما يرى في السماء من أجرام مضيئة فهي رجوم للشياطين، و إنّما تدلّ على أن بعضها تستخدم لرجمها، وهذا لا دليل على بطلانه حتى يستبعد أو يستغرب ونحن لا نعلم حقيقة الشياطين، وأنّها كيف خلقت، وبأي شيء تندحر،

ص: 18


1- النحل .(16) 52 .
2- الملك (67): 5 .

فربّما يكون في هذه الكواكب أشعة ثاقبة تدحرها.

وذهب العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) إلى أنّ هذه التعابير كلّها كناية عن أمر غير محسوس، فهي كألفاظ «العرش» و«الكرسي» و«اللوح » ونحوها، و إنّما تشير إلى حقيقة غير محسوسة، وهي دحر الملائكة الشياطين عن عالم الملكوت الذي ليس هو من العالم المحسوس بوسائل تناسب ذلك العالم والداحر والمدحور(1).

وما ذكره الله غير بعيد، إذ لا شك في أن الملائكة ليسوا من هذا العالم المحسوس، أي الأجسام المتزاحمة، فكذلك الشهب.

و یدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا » (2)، فيظهر منه أنّ الشهب حالها حال الحرس ، وكذلك السماء، فليس المراد بها هذه الأجرام العلوية، إذ ليست هي مساكن الملائكة، ولا مهابط الوحي ولا مصادره، و إنّما السماء بمعنى العالم العلوي الخارج عن نطاق الطبيعة هي مسكن الملائكة ومجمعها، فالشياطين تحاول الاقتراب منها، وليس هذا اقتراباً جسمياً ولا صعوداً فلكياً، ولا قطع مسافة حسّية، بل هو نوع خاص من الاتصال.

و«الشهب» أيضاً ليست شعلاً من النار، وليس المقصود هذه الأجرام المضيئة المعروفة التي نعبّر عنها ب-«الشهب». والدليل على ذلك أن هذه الشهب كانت تنزل على الأرض دائماً، فهي صخور سابحة في الفضاء تدخل المجال الجوي وتشتعل بفعل الاصطكاك بالجو، وهذا أمر طبيعي لا علاقة له بالوحي وزمان نزوله، ولم يكن شيئاً حادثاً في عصر الرسالة. ولا شك أنّ هذا ممّا كان يحسّ به

ص: 19


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 17 124-125 .
2- الجنّ (72): 8 .

الناس كلّهم قبل نزول الوحي، فكيف تنزل الآية وتقول: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا » (1) ممّا یدلّ على أنّه أمر حدث في ذلك العصر ؟!

«فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ » « فَاسْتَفْتِهِمْ » فعل أمر من الاستفتاء، وهو طلب الفتوى أو الفتيا - بضم الفاء - قيل: إنّ الفتوى كلّ خبر جديد. وقيل: إنّها الجواب عن ما يشكل من الأحكام. ولم أجد تعبيراً في كتب اللغة والتفسير في شرح هذه الكلمة بمختلف استعمالاتها.

والذي يظهر من استعمالات القرآن أنّ المراد بها الجواب عن أمر مهم، فورد في تعبير رؤيا الملك في سورة يوسف (2) (علیه السلام)، ولعلّه عبّر عنه بذلك لاهتمامه به شخصياً، وورد في السؤال عن الحكم الشرعي، كقوله تعالى: «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ »،(3) وورد في سؤال ملكة سبأ عن ما تقتضيه المصلحة في مقابلة

سلیمان (4) (علیه السلام) ، والحاصل أنّها لا تدلّ على كلّ خبر جديد أو أي جواب عن حكم، ولكنّها لا تختص بفتاوى الفقهاء، كما يظهر من أكثر تعابير اللغويين.

ومهما كان، فالمراد هنا أسألهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا؟. و«اللازب»، أي اللاصق. قيل : المراد به الملتصق بعضه ببعض.

والمعروف المتداول بين المفسّرين في تفسير هذه الآية، أنّ المراد ب- « مَنْ خَلَقْنا من » سبق ذكرهم من الخلائق، أي السماوات والكواكب و الملائکة

ص: 20


1- والملائكة الجنّ (72): 9 .
2- راجع يوسف :(12) 43 .
3- النساء (4) 127 .
4- راجع: النمل (27) 32 .

والشياطين والشهب . وبناءً عليه فالتعبيرعن المجموعة ب- (مَنْ) الدالّ على ذوي العقول من باب التغليب. وقال بعضهم: إنّ ذلك نظير قوله تعالى: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا» (1). قالوا: والاستفهام للتقرير، إذ من الواضح أنّ الإنسان ليس أشدّ خلقاً ممّا ذكر. والمراد بكونها أشد خلقاً صعوبة الخلق، فإنّ سياق الآيات التالية یدلّ على أنّ الغرض ردّ استبعادهم لإحياء الموتى، فالاستفتاء لأخذ الإقرار منهم بأنّ السماوات والملائكة ونحوها أصعب خلقاً منهم، فمن كان قادراً على ذلك لا يعجز عن إعادة خلق البشر.

والغرض من بيان خلق الإنسان من طين لازب - بناءً على هذا الوجه - التنبيه على ضعف الخلقة فيهم، ليكون تعليلاً للجواب المحذوف عن سؤال الاستفتاء، فإنّ الجواب هو النفي طبعاً، فالمعنى أنّهم أضعف خلقاً، لأنّا خلقناهم من طين لازب والطين الملتصق بعضه ببعض ليس خلقاً معقداً. أو المراد - كما قيل - الإشارة إلى أنّ إعادة بناء الطين الملتصق بعضه ببعض أمر يسير فلا وجه لاستبعاد المعاد.

ويلاحظ على هذا التفسير المشهور أوّلاً: أنّ كون السماوات وغيرها أشدّ خلقاً من الإنسان لا يستلزم إمكان الإعادة ولا يرفع الاستبعاد، إذ من الممكن أن يقال: إنّ خلق الشيء وإن كان معقداً أيسر من الإحياء بعد الموت ولا تلازم بين الأمرين.

نعم التلازم معقول بين إمكان الإبداع وأولوية إمكان الإعادة، لأنّ الأوّل خلق من العدم من دون مثال يحتذى بل من دون مواد أولية يصنع منها الشيء.

ص: 21


1- النازعات (79) 27 .

وهذا هو الذي يؤكّد عليه قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» (1). وقوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ » (2). كما أنّه لا يبعد أن يكون المراد بقوله تعالى: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا » أيضاً هذا المعنى، فالمراد ب-«السماء » الكون ككلّ حيث ابتدع الله الخلق لا من شيء.

وثانياً: أنّ هذا التفسير لم يبيّن الوجه في توصيف الطين باللازب، و إنّما ذكروا وجه التركيز على كون الإنسان مخلوقاً من الطين وهو هشاشة خلقه أو سهولته وعدم تعقده وأمّا توصيفه ب-«اللازب» فاكتفوا فيه بالتفسير بأنّه اللاصق أو الملتصق بعضه ببعض. وهذا يشكّل فجوة في التفسير.

والذي يخطر بالبال أنّ المقارنة في هذه الآية يمكن أن تكون بين خلق الإنسان والملائكة، وهم الذين اهتمّت الآيات السابقة بذكرهم، وبيان أصنافهم، وزجرهم للشياطين، وحفظهم للوحي ، فلا يشاركهم في هذه المقارنة السماوات والشياطين والشهب ولا حاجة بناءً على هذا التفسير أن يوجّه التعبير ب- «من»، فإنّه استعمل لذوي العقول خاصّة.

وعلى هذا، فوجه التطرّق لبيان مبدأ خلق الإنسان واضح، وهو أنّه لا يقاس بخلق الملائكة وهم من أعجب خلق الله تعالى. ولم يذكر في القرآن مبدأ خلقهم، ولا عامّة خصائصهم، بل أشير إلى بعضها وإلى بعض وظائفهم.

ويتبيّن بمراجعة الآيات أنّ خلقهم عظيم جدّاً، ومن خصائصهم التي أشير إليها أنّهم يتمثّلون بأشكال أخرى وأنّهم تمثّلوا بشراً في بعض الموارد، كما في

ص: 22


1- الروم (30): 27 .
2- غافر (40) 57 .

بشارة مريم وضيافة إبراهيم ولوط (علیهم السلام). ومن أعمالهم المذكورة في القرآن إنزال الوحي على الرسل وغيرهم، ومنها: إنزال العذاب على بعض الأمم السالفة، ومنها: نصرهم للمؤمنين في بعض الحروب، ومنها: قبضهم وتسلّمهم للأرواح حين موت الإنسان، وغير ذلك ممّا يقومون به في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى وهو أعظم وأعجب. بل صرّح في القرآن بأنّهم يدبرون الأمور.

وعليه، فالمراد بالأشدّية في الخلق كون خلقهم أعظم وأعجب، لا صعوبة الخلق والمراد بأنّ الإنسان مخلوق من طين لازب تصغير شأنه من حيث أصل الخلقة في مقابل خلق الملائكة وسائر شؤون العالم العلوي، ليردعه من الكبر والخيلاء، فإنّ من دواعي عدم الإيمان هو الكبر وعدم تسليم هذا الإنسان الضعيف في قبال أوامر خالقه ونواهيه. وهذا ما نجده حتى اليوم منتشراً بين البشر ونسمع من كثير منهم ما ينمّ عن الاستكبار وعدم تقبّل أن يؤمر الإنسان بما لا يقتنع به من الأحكام، ونسمع ذلك حتى من بعض المؤمنين إذا لم يكن الحكم لصالحهم.

ولعلّ الوجه في توصيف الطين ب-«اللازب» لصوقه بالأرض وبعالم الطبيعة، فلا يتمكن من السير في العوالم العلوية إلّا إذا جرّد نفسه عن الهوى، وعن الإخلاد إلى الأرض. ويمكن أن يكون بمعنى اللازم كما هو أحد معانيه، بل قيل: إنّ «الباء» مبدل من «الميم»، فالمراد أنّه مخلوق من طين لازم له لا يمكنه الخلاص منه إلا برياضات شاقّة، فكيف يقاس بالملائكة المقرّبين الذين يجتاحون العوالم العلوية، وينقلون أوامر الله التكوينية والتشريعية إلى كلّ أرجاء الكون.

ولو قيل بأنّ المراد ب « من خلقنا » ما يشمل الشياطين أيضاً، لم يكن بعيداً كلّ

ص: 23

البعد، من جهة التأكيد على أنّهم مع كونهم قادرين على الاقتراب من السماء والاستماع إلى أخبار الملائكة، يدحرون ويعذّبون، فكيف بالإنسان المخلوق من الطين اللازب، فالمراد على كلا الوجهين ردع الإنسان من الاستكبار في مواجهة آيات الله تعالى. وقد مرّ التنبيه على مشابهة بعض البشر للشياطين في غبائهم، حيث يحاولون مقاومة القدرة الإلهية المطلقة. ولكنّ الاختصاص بالملائكة هو الأقرب.

ص: 24

سورة الصّافّات (12 - 20)

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإنّما هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)

« بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ » ، خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو إضراب عن الاستفتاء، أي لا تستفتهم، فلعلّه إشارة إلى عدم الجدوى منه أو إشارة إلى أنّهم لا يؤمنون بهذا الكلام، و إنّما الذي يعجب من هذا الخلق أنت أيّها الرسول، وأمّا هم، فإنّما يسخرون لسماع هذا الحديث. ويمكن أن يكون المراد تعجب الرسول من تكذيبهم واستهزائهم، نظير قوله تعالى: «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ »(1) . وقوله « وَيَسْخَرُونَ » جملة حالية، أي عجبت في حين أنّهم يسخرون، أي يستهزئون.

وقرئ: «عجبت» - بضم التاء - إمّا بمعنى أنّ الله عجب من هذه الخلائق، وإمّا بمعنى أنّه عجب من سخريتهم. وردّ بأنّ الله تعالى لا يعرض عليه العجب، فإنّه ينشأ من الجهل بالحقائق. ولكن لا مانع من إنشائه إظهاراً لعظمة الخلق، ولا يحكي ذلك عن عروض التعجب، كقوله تعالى: « فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ » (2). بل إنّ الآية المذكورة آنفاً « «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ » تشتمل على إنشاء التعجب منه ،تعالى كما هو مقتضى قوله: «فَعَجَبٌ»

ص: 25


1- الرعد (12) 5 .
2- المؤمنون (23): 14.

« وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ » أي إذا تليت عليهم الآيات التي تذكرهم بما فطروا وجبلوا عليها من الاعتراف بالربوبية لله تعالى لا يذكرون العهد والميثاق الذي أُخِذَ منهم والمشار إليه بقوله تعالى: « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى » (1). أو إذا ذكّروا بأخبار الأمم السالفة، لم يعتبروا ولم يتأثّروا. ونفي الذكر ليس بمعنى أنّهم لا يذكرون واقعاً، بل ينزل عدم تأثرهم واعتبارهم منزلة النسيان وعدم الذكر، إذ لا أثر له، فکأنّهم لم يذكروا والإتيان بالمضارع یدلّ على الاستمرار وأنّ ذلك دأبهم و ديدنهم.

« وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ » كان القوم يطلبون من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يأتيهم بآية معجزة، كما أتى به النبيون السابقون كعصا موسى (علیه السلام) وشفاء المرضى على يد عيسى (علیه السلام)، بل يطلبون آيات خاصّة كما ورد في قوله تعالى: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا *أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا » (2) إلى آخر الآيات والآيات كانت تنزل بمنع ذلك، وأنّهم يكفيهم القرآن وأنّ ذلك يضرهم، لأنّهم سيصرّون على عدم الإيمان، ومن سنن الله تعالى أنّ أيّ قوم طلبوا آية خاصّة فنزلت عليهم ولم يؤمنوا، فإنّه يعذبهم عذاب الاستئصال ،كما حدث لقوم ثمود حين طالبوا بناقة تخرج من الجبل على ما روي، ثمّ عقروها، فأهلكهم الله تعالى.

ومثله قول الحواريين لعيسى (علیه السلام) : « هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ » حيث دعا عيسى ربّه فجاءه الوحي: « إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ

ص: 26


1- الأعراف (7) 172 .
2- الإسراء (17) 90 - 91 .

عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ » (1) ومع ذلك فكان هناك موارد يريهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) آيات تدلّ على رسالته.

ومن الغريب أنّ بعض الكتّاب ينكر أن يكون للرسول أي معجزة غير القرآن وممّا أراهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّ الحصى سبّحت بكفّه الشريفة، ومنه: شقّ القمر، ومنه إسراؤه في ليلة واحدة إلى بيت المقدس ورجوعه إلى مکّة، ومنه: إخباره عن الغيب كإخباره بما رآه في بيت المقدس ليلة الإسراء، وبما رآه طريقه من في القافلة، وإخباره عن مجيئهم وحالتهم، ومنه: استدعاؤه الشجرة أن تحضر أمامه، فحضرت بكيفية غريبة، كما ورد في كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) في « نهج البلاغة» (2)، ومنه: شفاء المرضى والاستسقاء بوجهه الكريم في صغره وبعد ،بعثته ومنه ما حدث يوم الغار، ومنه أحاديثه الغيبية، وهي كثيرة جدّاً وغير ذلك ممّا تواترت به الأحاديث. ولكنّ القوم ما كانوا يواجهون كلّ هذه المعجزات إلّا بالسخرية والاستهزاء.

و«الاستسخار » مبالغة في السخرية، ولعلّه يفيد معنى آخر زائداً على أصل السخرية وإن قال في « المجمع»: إنّهما بمعنى واحد (3)، إذ يمكن أن يكون المراد طلب السخرية من الآخرين كما هو مقتضى صيغة الاستفعال، فإنّ السخرية تارة يكون من الفرد نفسه، وتارة يسخر ويحاول إثارة الآخرين للسخرية، كما هو دأب العاجزين من مقابلة المنطق بالمنطق.

«وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ » ،وهذا غاية توجيههم للآيات والمعاجز. « سِحرٌ

ص: 27


1- المائدة (5): 112 - 115.
2- راجع نهج البلاغه: 301 .
3- راجع مجمع البيان في تفسير القرآن 8 :687.

مُبِينٌ » أي سحر واضح، مع أنّ السحر ليس إلا تخييلاً ولا يمكن أن يؤثّر في الواقع ويشفي المرضى مثلاً.

« أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ » استفهام إنكاري. ولعلّ عطف « العظام » باعتبار أنّ بعض العظام ربّما لا تنقلب تراباً أو تبقى مدة طويلة. وهذا استغراب متكرّر من الكفرة طيلة التأريخ البشري وقد تكرر ذكره ورده في القرآن الكريم. و تكرار الاستفهام في قوله: « إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ » لتأكيد الإنكار.

« أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ »، يظهر من عطف الآباء الأولين أن منشأ الاستغراب طول الزمان، لا أصل الإعادة، إذ لو كان لأصل الإعادة لم يكن فرق بين الآباء والأبناء. والخبر محذوف في هذه الجملة التالية، أي أوَ آباؤنا الأولون مبعوثون أيضاً مع بعد عهدهم، ويحتمل أن يكون « آباؤُنَا » عطفاً على اسم «إن» في « إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ » فلا حاجة إلى تقدير الخبر.

« قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ». «دخر»: ذل و«الدخور»: الذلّ. أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يجيبهم: نعم تبعثون وأنتم صاغرون أذلاء. ولعلّ هذا التحقير في مقابل ما مر من

الإشارة إلى عجبهم واستكبارهم في قوله تعالى: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا ».

« فَإنّما هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ » ،الظاهر أنّ «الفاء» جواب لنهي مقدر، أي لا تستغربوا، فإنّما هي زجرة واحدة والضمير: «هِیَ» يعود إلى البعث أنّث بلحاظ الخبر، وحمل الزجرة على البعث لأنّها سببه، و«الزجر» المنع والطرد والانتهار. وفي (المفردات»: الطرد بصوت (1) والمراد ب-«الزجرة » هنا الصيحة التي تلازم الزجر. « يَنْظُرُونَ» يحتمل أن يكون بمعنى النظر أو الانتظار.و الغرض بيان

ص: 28


1- راجع المفردات في غريب القرآن: 211 .

أنّ البعث لا يحتاج إلى شيء إلا صيحة واحدة، فيجدون أنفسهم بغتة قائمين ينظرون نظرة اندهاش أو ينتظرون مستقبلهم الغارق في الظلام .

والغرض من هذه الآيات تصوير يوم القيامة وبعض ما يحدث فيه من الحوادث والمخاصمات لا الاستدلال على إمكانه.

« وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ» ،هذا حديثهم يدعون بالويل والثبور لحظة القيام ومشاهدة الموقف، حيث يتذكرون ما قاله الرسل، ويعلمون أنّه الحق، وأنّ هذا هو يوم الجزاء. و«الويل» ندبة وتفجّع بحلول الشّرّ. و«الدين» الجزاء.

ص: 29

سورة الصّافّات (21 -26)

هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)

« هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ » ،الظاهر أنّ هذه الجملة ليست معطوفة على سابقتها فتلك كلام الكفّار وهذه خطاب موجّه إليهم من الله تعالى أو من الملائكة بأمره.

وقيل: بل هي معطوفة وذلك لأنّ بعضهم يخاطب بعضاً: هذا يوم الفصل ولكنّ الاحتمال الأوّل أقرب باعتبار الجملة التالية والتي لم تعطف على هذه الجملة ممّا یدلّ على أنّهما متواليتان. ومن الواضح أنّ الجملة التالية ليست من كلام الكفار.

والمراد بالفصل الفصل بين الحقّ والباطل، فلا تختلط الأمور ولا تشتبه، ولا يختلط الناس، ويتميّز أصحاب الحقّ عن أصحاب الباطل، ويفرّق بين المجرمين والمؤمنين، كما قال تعالى: «وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ »(1)، وهو أيضاً يوم القضاء الفصل يحكم الله بين عباده في ما كانوا فيه يختلفون، وينال كلّ إنسان حقّه ونصيبه لا ظلم اليوم، ويقتصّ من كلّ ظالم ما ظلمه.

نعم، هذا يوم الفصل الذي كانوا يكذبون به قولاً أو عملاً، فهناك من الناس من يظهر أنّه مؤمن بيوم الفصل ومؤمن برسالات السماء، ولكنّه بعمله يظهر بوضوح أنّه لا يؤمن به قلباً إلّا إذا سمّينا الاحتمال إيماناً. وهذا يشمل كثيراً من المؤمنين.

ص: 30


1- يس (36) 59 .

وقوله : « كُنتُمْ » یدلّ على الاستمرار ، وأنّ هذا كان دأبهم وديدنهم.

« احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ » أمر من الله تعالى إلى ملائكته والأزواج ،جمع زوج، ويطلق على كلّ من يقرن بغيره، فكلّ قرين زوج.

وفي المراد بالأزواج هنا احتمالات:

منها : أن يكون المراد زوجاتهم اللاتي كنّ على دينهم، بل يساعدنهم في ظلمهم وطغيانهم، وهناك كثير من المظالم التي ارتكبها الرجال يعود سببها إلى إغواء المرأة وإغرائها، حتّى أنّ بعض الحروب الطويلة التي أهلكت الحرث والنسل إذا بحثت عن أصولها الدفينة تجد إنّها كثيراً ما تستند إلى رعونة امرأة فاسدة.

ومنها: أنّ المراد قرناؤهم من الشياطين، ويناسب ما مرّ من ذكر الشياطين واعتماد الكفّار على أخبارهم التي كانوا يحصلون عليها عن طريق الكهنة، وقد تكرّرت الإشارة إلى وجود الشياطين القرناء في الآيات المباركات، كقوله تعالى: « وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِينًا » (1) ، وقوله تعالى: «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ » (2)، وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ *وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ *حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ *وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ » (3).

ومنها: أنّ المراد أقرانهم وأمثالهم الذين هم على شاكلتهم، فيكون إشارة إلى

ص: 31


1- النساء (4): 38 .
2- فصلت .(41) :25 .
3- الزخرف (43): 36 - 39 .

أنّ كلّ مجموعة من الظلمة تحشر مع بعض. ولعلّه أقرب الوجوه ويؤيده ما يأتي من مخاصمة الكبراء والأتباع.

« وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ » ، الظاهر أنّ المراد به الأصنام. وقد تكرّر أيضاً أن الكفّار يحشرون مع أصنامهم وأنّهم معاً وقود النار ، كقوله تعالى: « فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ » (1)، بناءً على أن المراد ب- « الحجارة »الأصنام، وقوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » (2).

« فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ »، اختلفت التعابير في تفسير الهداية وأنّه الإرشاد إلى ما فيه الخير، أو الدلالة بلطف وعناية وعلى كلّ تقدير فالتعبير هنا ب-«الهداية» إنّما هو للتهكّم والاستخفاف بهم ، كقوله تعالى: « فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » (3) و«الجحيم» : النار العظيمة شديدة التأجّج، من الجحمة - بالضم ثمّ السكون - .

« وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ » ،«قِف» فعل أمر من الوقوف، وهو بمعنى الإيقاف، كقول امرئ القيس: «وقوفاً بها صحبي علي مطيّهم».

وظاهر سياق الآيات أنّ المراد من السؤال في هذا الموقف ما ورد في الآية التالية « مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ » أي لا تتناصرون.

وهذا السؤال يشتمل على تأنيب وتعذيب، حيث كانوا يتبجّحون في الدنيا بتناصرهم، وتأييد كلّ واحد منهم صاحبه، وتمسّكهم بمذاهبهم الفاسدة ونصرتهم لآلهتهم وطواغيتهم، وكانوا يتوقّعون من آلهتهم أن ينصروهم في كلّ

ص: 32


1- البقرة (2) 24 .2
2- الأنبياء (21) 98 .
3- آل عمران (3) 21 .

موقف، حتى لو كان هناك موقف أمام الله تعالى، فهذه الآية تذكر الإنسان بما يصيبه من خيبة أمل هناك، حيث يجد أن لا ناصر له ولا معين. وهذا الخطاب يؤنّبهم ويعذبهم نفسياً. وليس لهم جواب عن هذا السؤال، إنّما هم ناكسو رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء. وما عساهم يجيبون؟!

ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن الإيمان وعن الأعمال، كما ورد في بعض الأحاديث وفي بعضها أنّهم مسؤولون عن ولاية علي (علیه السلام) (1). ولا شك أنّ ولايته وولاية الأئمة المعصومين (علیهم السلام) من أركان الإيمان، ولا يتمّ الإيمان إلّا بالاعتقاد بها، ومن لا يؤمن بها فإيمانه ناقص نظير من يؤمن بالله ولا يؤمن بالرسالة.

ولكن لا ينحصر ما يسأل الإنسان عنه يوم القيامة في الولاية، و إنّما هي أحد ما يسأل عنه، فالروايات إنّما تركز عليها بالخصوص، لأنّها أمر غفل عنه الناس، بل أنكروه واستخفّوا به، بالرغم من تأكيد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إذا فالمسؤول عنه هو كلّ ما عمله الإنسان، وما اعتقد به وما تركه ممّا يجب عليه، وكلّ ما أسرّ به أوجهر، وكلّ صغيرة وكبيرة.

إلّا أنّ سياق الآيات يأبى عن الحمل على السؤال عن الإيمان والأعمال، فضلاً عن خصوص الولاية، لأنّ موقف السؤال عن الأعمال والإيمان هو قبل الأمر بإلقائهم أو سوقهم إلى النار، فالأولى ما ذكرناه من أن مورد السؤال عدم التناصر .

« َلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ» «بل» للإضراب، أي أنّه لا وجه للتناصر، فإنّ ذلك

ص: 33


1- راجع تفسير نور الثقلين 401:4.

إنّما يصحّ في ما إذا كانت هناك مواجهة مع عدوّ مشترك يمكنهم التجمّع والتناصر ضدّه، و إنّما هم اليوم مستسلمون أمام الإرادة القاهرة الجبارة التي لا يقاومها شيء، ولم يقاومها شيء في الحياة الدنيا ، أيضاً، ولكنّ الله تعالى أمهلهم ليبرز كلّ أحد ما في قلبه، وما يكمن في مكنون ضميره. وأمّا اليوم فهم مستسلمون لما اكتسبوه من جزاء، ولمّا ينتظرهم من مستقبل تعيس والاستسلام طلب للسلامة، والمراد لازمه وهو التسليم والانقياد.

ص: 34

سورالصّافّات (27 -32)

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)

« وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ » عرض لمخاصمة التابعين والمستضعفين الكبراء والزعماء. وقيل: إنّ المخاصمة المذكورة بين الشياطين وكفّار الإنس. والسياق يأباه. وقد ورد ذكر ذلك في موارد عديدة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: «إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ » (1)، ولعلّ السبب في هذا التأكيد دفع ما ربّما يتوهّم من أنّ ما يحكى في الكتاب إنّما هو عرض تمثيلي، فهذه الآية الكريمة تؤكد أن ذلك لحقّ.

وطبيعة الحال تقتضي ذلك أيضاً، لأنّ التابع المستضعف الذي كان يعلّق الآمال على ما يلقيه عليه الكبراء، وتؤكّده الدعايات والشعارات، وتلاحقه حتى في عقر داره بكلّ وسائل التبليغ والدعاية صوتاً وصورة، وتتطوّر بشتى الطرق، وفجأة يجد يوم القيامة أنّ كلّ ما كان يسمعه من زعماء السياسة والدين وغيرهما كانت أوهاماً وشعارات زائفة لا حقيقة لها، ويجد أنّ هذا الصنم الهائل الذي كان يقف أمامه خاضعاً متعبداً خر صريعاً في النار، فلا يبقى أمامه سبيل يفرغ غيظه إلا التنديد بهم والتبرّي منهم ، ولا تبقى له حيلة إلّا الاعتراض عليهم: أين هذه الوعود الزائفة ؟!

إذاً، فهذا أمر طبيعي، وخصوصاً إذا كان الزعيم يدّعي أنّه يهدي قومه سبيل

ص: 35


1- ص (38) 64 .

الرشاد، كما قال فرعون: « مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ »(1)، وهذا لا يختصّ بالمشركين وعبدة الأصنام، بل يشمل أصحاب المذاهب الباطلة جميعاً، وسيأتي قوله تعالى: « إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالمُجْرِمِينَ » (2) ممّا یدلّ على التعميم.

وقوله تعالى «يَتَسَاءَلُونَ» أي يسأل بعضهم بعضاً. والسائلون هم الأتباع والمسؤولون هم المتبوعون وليس مضمون السؤال استفهاماً، بل هو احتجاج واستيجاب واستنكار وهذا هو الفرق بين هذه الآية وقوله تعالى: « فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ»، فالتساؤل المنفي هناك هو تفقد كلّ منهم عن الآخر، والسؤال عن حاله حتى في ما بين الأقارب، بل الآباء والأمهات وأولادهم، أو المراد الانتصار وسؤال النصرة.

« قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ » (3) هذا بالطبع ليس أول سؤال موجه إليهم، فهنا حذف وتقدير. وأوّل سؤال بالطبع هو استنكار ما فعلوه من إضلال وستر للحقّ ونشر للباطل.

والجواب: إنّا لم نعمل شيئاً، إنّما دعوناكم فأجبتمونا، فتوجه إليهم الجملة الحاضرة ، وهو في الواقع تهرّب عن المسؤولية الملقاة على عاتق التابعين، وإلقاء لكلِّ الإثم على المتبوعين: « إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ».

ما هو «اليمين»؟ قيل: المراد به جهة الخير ، لأنّ العرب تعبر عن الخير باليمين ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى: «أَصْحَابُ الْيَمِينِ»، وفي مقابلهم: «أَصْحَابُ الشِّمَالِ» ، مع أنّ اليمين والشمال لا يختصّان بالخير أو الشر إلّا أنّ العرب كانوا يتفألون

ص: 36


1- غافر (40): 29 .
2- الصافات (37): 34 .
3- المؤمنون (23): 101 .

بالطائر الذي يمرّ على يمينهم ويسمّونه السانح، ويتشاءمون به إذا مرّ على شمالهم ويسمّونه البارح، وعلى ذلك فالمراد أنّكم كنتم تأتوننا من جانب الخير، إمّا باعتبار أنهم كانوا يعدّونهم بالخير، كالأموال والمناصب ونحو ذلك ، وإمّا أنّهم كانوا يدعون بأنّهم لا يريدون لهم إلّا الخير، وأنّ ما ندعو إليه خير لهم ولأمتهم ولوطنهم ونحو ذلك من الدعايات.

وقيل: إنّ المراد ب-«اليمين » جانب القوة والقهر ، وهذا أيضاً تعبير شائع، ومثله قوله تعالى: «فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ »(1)، فإنّ المراد أنّ إبراهيم (علیه السلام) ضرب الأصنام بقوة، ويصحّ التعبير حتى لو ضربها بشماله، فالمراد أنّكم أتيتمونا من جانب القهر والغلبة. واحتمله الزمخشري وقال العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) : إنّ هذا التفسير يناسب ما أجابوا به من قولهم: «وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ » (2) ولكن لو كان هذا هو المراد لكان المناسب أن يقال « باليمين »لا «عن اليمين » بخلاف الاحتمال الأوّل فإنّه يناسب التعبير.

« قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ »، إضراب عن دعواهم أنّهم بإتيانهم عن اليمين منعوهم من متابعة الرسالة. والظاهر أنّ مراد الاتّباع منعهم قهراً أو إغواء من الدخول في صفب المؤمنين ظاهراً، وإضراب المستكبرين يقصدون به أنّهم لم يكونوا مؤمنين بقلوبهم، وأنّ عدم تسجيلهم في قائمة المؤمنين يستند إلى أمر قلبي اعتقادي، وهذا ممّا لا يؤثّر فيه أحد بالإكراه وفرض السلطة.

ويمكن أن يقال: إنّهم أضربوا عن دعواهم الإضلال بأنّنا لم نكن السبب في

ص: 37


1- الصافات (37) 93 .
2- الصافات (37) 30 .

ضلالكم، بل أنتم بذاتكم لم تكونوا مؤمنين، فيكون ناظراً إلى كونهم ممّن يرفض الإيمان بالغيب والتسليم للحق، لمجرّد العناد و التغطرس كما هو شأن البيئة الصحراوية. وقد قلنا في عدّة مواضع إنّ مثل قوله تعالى: « هُدًى لِلْمُتَّقِينَ » (1) أو « ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ» (2) ونحوهما یدلّ على أنّ هناك فرقاً ذاتياً بين من يميل بطبعه إلى الإيمان بالغيب والاستسلام للحق ومن يأبى التسليم إلّا لما يحس به ويشعر. وعليه فالظاهر أن مراد المستكبرين هنا التنبيه على أنّ الأتباع أيضاً لم يكونوا بطبيعتهم ممّن يميل إلى الإيمان.

وقيل: إنّ الفرق نشأ من أنّهم لم يقولوا لم تؤمنوا، بل قالوا: لم تكونوا مؤمنين، وتسليط النفي على الكون مشعر بأنّ الإيمان لم يكن من شأنهم، فإضراب المستكبرين نشأ من هذه الجهة.

ولكنّ الظاهر أنّه لا فرق بين التعبيرين، نعم لو قيل: لم تكونوا لتؤمنوا، أفاد هذا المعنى.

« َمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ » ،«السلطان» مصدر بمعنى السلطة والقهر والقوة. وهذا جواب منطقي واضح جدّاً، وذلك لأنّ الإيمان والكفر من شؤون القلب، ولا يمكن أن يكره الإنسان عليهما، ولذلك قال تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ » (3)، فجواب المستكبرين لأتباعهم بناءً على ما ذكرنا هو أنّكم لم تؤمنوا بقلوبكم، ولو كنتم مؤمنين قلباً ما أمكننا أن نخرج الإيمان من قلوبكم، لأنّ الإنسان لا يسيطر

ص: 38


1- البقرة (2) 2 .
2- الأعراف (7): 2
3- البقرة (2) 256 .

على قلوب الآخرين مهما أوتي من قوة، فلا الجبابرة والطواغيت يمكنهم ذلك ولا العلماء والمثقفون

« بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ » أضربوا عن ذلك أيضاً. ومفاد الإضراب أنّ عدم إيمانكم لم يكن بحاجة إلى فرض السلطة عليكم، لأنّكم كنتم قوماً طاغين. و «الطغيان» هو التجاوز عن الحدّ. والحدود عيّنها الله سبحانه والوجدان البشري يرشد إليها في الغالب، فالذي يسمع آيات الله ويراها ويدرك في قرارة نفسه إنّها حقّ ، ومع ذلك يحجم عن الإيمان بها، لأنّه يمنعه من متابعة شهواته طاغ متجاوز على الحدود الإلهية. والظاهر أنّ توصيفهم ب-«أنّهم قوم طاغون » بدلاً من توصيفهم ب« أنّهم طاغون » من دون توسيط القوم للإشارة إلى أن ذلك من مميّزات قومهم، فالطغيان متأصل في ذواتهم.

والطغيان لا يختصّ بالجبابرة والزعماء، فلا يظننّ أحد أنّه ليس من الطغاة لأنّه فقير أو مستضعف أو من الأتباع، فإنّ أفظع الطغيان، الطغيان على الله تعالى، والطغيان على الضمير الحي الشاعر، والطغيان على الوجدان والفطرة، وهذا ممّا یبتلی به كلّ إنسان وإن كان في مجتمعه ضعيفاً أو مستضعفاً.

« فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ» ، أي فثبت علينا قول ربنا «إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ » (1)، حذف المفعول - أي العذاب - للتهويل والمشهور بين المفسّرين أنّ الضمير المتكلّم يعود إلى مجموع الأتباع والمتبوعين. وعليه ف-«الفاء» یدلّ على أنّ ثبوت العذاب عليهم جميعاً نتيجة الطغيان المشترك. والجملة المذكورة: « إِنَّا لَذَائِقُونَ» تحكي الخطاب بوجه آخر هو نتيجة الخطاب. والمراد أنّ مناط

ص: 39


1- الصافات (37): 38 .

العذاب مشترك بيننا وهو الطغيان وإن كان بعضنا أشد طغياناً. وسيأتي تفسير آخر للآية.

« فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ » ،«الغيّ» هو الضلالة، فمعنى كلامهم أنّنا أضللناكم لأنّنا كنّا ضالّين بأنفسنا. وقوله: « إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ » تعليل لإغوائهم. وهذا أيضاً إشارة إلى أمر طبيعي واضح وهو أن الغاوي لا يمكن أن يبثّ في الناس إلّا الغواية، ولا يتوقّع منه غير ذلك، فمعنى الجملة: إنّكم كنتم ترون أنا على باطل وعلى ضلال ومع ذلك اتبعتمونا، فهل تتوقّعون منّا أن نهديكم ونحن على ضلال؟! والمراد ب«الإغواء»، الدعوة إلى الضلال، فلا ينافي ما مرّ من نفي مسؤوليتهم عن ضلالتهم.

ومن الغريب أنّ أكثر من في الأرض من الأتباع يرون من المتبوعين الكذب والنفاق، ومع ذلك يتّبعونهم لمجرّد أنّهم زعماء أو أمراء أو شيوخ عشيرة أو أثرياء أو علماء المذهب الذي اتبعه الأجداد ونحو ذلك من الاعتبارات الواهية.

والكلام في فاء التفريع التي صدر بها الآية، فإنّها تدلّ على أنّ إغواء الأسياد والمتبوعين لأتباعهم مترتّب على الجملة السابقة التي مضمونها استحقاقهم للعذاب، مع أن استحقاق العذاب متفرع على الغواية كما هو واضح، فكيف انعكس الأمر؟ فقال بعضهم: إن التفريع يعود إلى ما قبل الآية السابقة. كقوله: « َلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » أو « َلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ». وعلى هذا الجواب يبقى السؤال عن السرّ في التأخير، مع أنّ النظم يقتضي أن تذكر قبل الآية السابقة أو أن تعطف بالواو عليها.

وفي « روح المعاني»: أنّه يتفرع على حقّية الوعيد عليهم، باعتبار أنّ وجوده الخارجي مع كونه متعلّقاً بهم متفرع على ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أنّ

ص: 40

إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك، كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية، لأنّ الظاهر أنّ رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم (1).

فإن أراد بذلك أنّ الإغواء لا يترتب على نفس استحقاق العذاب، بل على ما استوجب الاستحقاق وهو غوايتهم، فإنّ ذلك يعلم من التعليل بجملة: « إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ » لا من الفاء التي تدلّ على ترتب الإغواء على نفس الاستحقاق. وإن أراد به أنّ السرّ في غواية الغاوين وإغوائهم هو قضاء الله تعالى عليهم باستحقاق العذاب، كما يظهر من بعض عباراتهم، فهو ينافي العدل الإلهي ويستلزم القول بالجبر.

وقال في «الميزان»: «ثم قالوا: « فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ » وهو متفرع على ثبوت كلمة العذاب وآخر الأسباب لهلاكهم، فإنّ الطغيان يستتبع الغواية، ثمّ نار جهنم، - إلى أن قال: - فكأنّه قيل: فلمّا تلبّستم بالطغيان حلّ بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم - إلى أن قال: - وبالجملة إنكم لم تجبروا ولم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته وهي الغواية، فحق عليكم القول». (2)

ويبدو في عبارته نحو من التناقض، فهو في بدو كلامه يقول: إنّ الغواية متفرّعة على ثبوت كلمة العذاب وفي آخر كلامه يقول وقعتم في الغواية، فحق عليكم القول.

ص: 41


1- راجع روح المعاني في تفسير القرآن العظيم 12: 80 .
2- الميزان في تفسير القرآن 17 :134 .

ويمكن أن يقال - كما حكاه في « روح المعاني » عن بعضهم - : إنّ الفاء لمجرّد التعقيب من دون ترتب وسببية، أي أنّ الإغواء تحقق خارجاً بعد ثبوت كلمة العذاب عليهم بسبب الطغيان، فالفاء في الآية السابقة للسببية وفي الثانية للتعقيب. ومثل ذلك قوله تعالى: « أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا» (1)فإنّ دخول النار ليس بسبب الغرق.

ويمكن أن يعكس فيقال: إنّ الفاء في الآية السابقة للتعقيب وفي اللاحقة للسببية، بناءً على أنّ المراد بضمير المتكلّم في السابقة خصوص المتبوعين لا المجموع، وثبوت كلمة العذاب على المتبوعين لا يترتب على طغيان التابعين.

ويقوّي هذا الاحتمال استبعاد أن يريدوا بضمير المتكلّم أنفسهم وخصومهم معاً ضمن نفس المخاصمة من دون قرينة واضحة، خصوصاً مع اختصاص ضمير المتكلّم في الجملة التالية بهم. وبناءً على ذلك، فمفاد الآيات أنّ المتبوعين يخاطبون الأتباع أنّكم كنتم طاغين وكنّا غاوين، واستقرّت فينا صفة الغواية، فحق علينا العذاب بسبب ذلك، فاتبعتمونا وأغويناكم، لأنّ الغاوي لا يصدر منه إلا الإغواء.

ص: 42


1- نوح (71) 25 .

سورة الصّافّات (33 -39)

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)

« فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ » «الفاء» للسببية أيضاً، والجملة حكاية كلام الله سبحانه، وأنّ نتيجة ما تقدّم اشتراكهم في العذاب، لاشتراكهم في ما يستوجبه وهو الطغيان، وإن اختلفوا في درجاته حسب اختلاف أعمالهم، كما قال تعالى: «وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.» (1) ولا شك أنّ المضلين أشد عذاباً، كما قال تعالى: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ » (2) .

ولعلّ الوجه في التذكير بهذه المخاصمات التي تدور يوم القيامة بين الأتباع والمتبوعين هو تذكير الأتباع في الحياة الدنيا بما سيحصل لهم من متابعة الغاوين، وأنّه لا يؤثّر في ذلك كونهم أتباعاً، وأنّ المتبوعين سيرفضونهم هناك ولا ينصرونهم. ومن الغريب أن البشر - حتى المؤمنين منهم - لا يتذكرون بهذا التذكير، ولا يتركون متابعة الزعماء بدون مستند و دليل، فتجد قوماً من المؤمنين يتّبعون طريقة خاصّة ابتدعها بعض من يزعمون أنّهم علماء، ويرفضون حتى التفكير في كون هذه المتابعة صواباً أو خطأ، بل يصرّون على متابعة من يتناسل من متبوعهم وإن كان جاهلاً !!!

ص: 43


1- الأنعام (6): 132
2- العنكبوت (29) 13 .

« إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ » ، «الجرم» هو القطع ، ويقال المجرم لمن اكتسب إثماً وخطيئة، كأنّه قطع لنفسه نصيبه من الحياة عن طريق الإثم، ولكن لا يقال ذلك لمن اكتسب أمراً آخر وإن كان الاعتبار المذكور عامّاًّ هكذا ورد في كتب اللغة.

ويحتمل أن يكون الوجه في التعبير أنّ المجرم يقطع صلته بالمجتمع بارتكابه الخطيئة، ولذلك لا يطلق عرفاً إلّا على من ارتكب إثماً فظيعاً من وجهة نظر المجتمع ويختلف باختلاف الحضارات ولعلّ إطلاقه في القرآن الكريم على خصوص من يرتكب جريمة دينية، لأنّه يقطع صلته بالله تعالى، ولذلك لا يطلق ذلك على كلّ آثم ولكن لا يختصّ بالكفار والمشركين، بل يشمل الطغاة ممّن يدعون الإيمان بالله تعالى. وعلى كلّ حال فالآية تدلّ على أنّ هذه عاقبة المجرمين عامّة.

« إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ » ، تعليل لهذه المعاملة التي يواجهها المجرمون والظاهر: أنّ الآية تحكي عن جملة تقال عنهم في يوم القيامة وتخبر عن حالتهم التي كانوا عليها في الدنيا. ولا تخبر عن حادث عابر بل عن حالة مستقرّة، كما يستفاد من التعبير ب- (كَانُوا). ومعنى الجملة: أنّهم كانوا يرفضون الاعتراف بما تتضمّنه كلمة التوحيد استكباراً منهم وعلوّاً.

والسؤال: أنّهم لماذا كانوا يستكبرون إذا سمعوا كلمة التوحيد ويرفضونها؟ السبب أنّها تتنافى مع أهوائهم، وتتنافى مع ما ورثوه من آبائهم، وتتنافى مع ما درّت عليه معائشهم، ومع ما أُنيطت به علاقاتهم الاجتماعية. قال تعالى حكاية عن إبراهيم (علیه السلام): «وَقَالَ إنّما اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » (1)،

ص: 44


1- العنكبوت (29): 25 .

فالذي يؤمن بالله الواحد يجب أن يتّبع ما ينزل عليه من كتاب، ويخلع عن ذمّته طاعة كلّ أحد إلّا الله تعالى ومن أمر الله بطاعته، ولا يؤمن بقانون إلّا ما أنزله الله سبحانه أو نفّذه من أوكل الله إليه الأمر. وهذا لا يتماشى مع طاعة الطواغيت ونفوذ قوانينهم وسننهم كما لا يتماشى مع حرية الإنسان في متابعة هواه، ولذلك يأنف الذين يتّبعون الشهوات من الخضوع أمام هذه الجملة والتسليم لمحتواها، حتّى لو تلفّظوا به وأعلنوا إيمانهم.

وهذا الاستكبار مشترك بين الكبراء والتابعين . والاستكبار والتكبر سواء ، فالتكبر معناه - حسب صيغة التفعّل - أن يتلبّس بالكبر وهو ليس بكبير، لأنّ الكبرياء خاصّ بالله تعالى، والاستكبار بمعنى طلب الكبر والنتيجة واحدة.

والأجرام إنّما ينشأ من الاستكبار ، لا عدم القناعة النفسية، فربّما لا يؤمن أحد بمضمون كلمة التوحيد لعدم قناعته، فليس هذا هو المجرم، بل المجرم من يحاول إقناع نفسه لئلّا يدخله الإيمان بها، حتّى لو ظهر له الحقّ طريقاً أبلج واضحاً يحيد عنه ليتّبع هواه.

« وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ » عطف على (يَسْتَكْبِرُونَ). وهذا هو السرّ في استكبارهم. ويبدو من التعبير وجه اهتمامهم بالأصنام، وهو أنّها آلهتهم، فالإضافة إليهم هو الذي يضفي عليها القداسة، وهكذا الإنسان المستكبر لا يتعاظم في عينه إلّا ما يتعلّق به ويضاف إليه وإن لم يكن له في حدّ ذاته ما يوجب الاهتمام به، فهذا شيخ عشيرته، وهذا رئيس جمهوره، وهذا إمام مسجده، وهذا نائبه في المجلس التشريعي وهكذا.

وهذا الأمر هو أساس الشرك والوثنية، فإنّ الصنم هو كلّ ما تصنعه بيدك، ثمّ

ص: 45

تضفي عليه القدسية، لمجرّد إضافته إليك، وهذا الأمر يسري في جوانب كثيرة من الحياة، فالذي لم يأمر الله تعالى بإطاعته ويعتقد بعض الناس أنّه وليّ الأمر وتجب إطاعته ليس إلّا صنماً صنعوه بأيديهم، بمعنى أنّ شخصيته إنّما تتقوّم بم-ا يضفى عليه من ألقاب وصفات اعتبارية، لا أساس لها .

إذن، فأساس استكبارهم في قبال كلمة التوحيد ودعوة الرسول هو الالتفاف حول ما يسمّونها آلهتهم، واستيحاشهم من تركها، وترك الاعتقاد بها. وهذا أيضاً أمر طبيعي لأنّه اعتقاد آبائهم، ويصعب على الإنسان أن يترك معتقد آبائه ويحكم ببطلانها، لأنّه يستوجب الاعتقاد بأنّهم على ضلال، والإنسان بطبيعة الحال يرفض الالتزام بذلك بالنسبة لآبائه وأجداده.

والأمر الآخر: أنّهم لا يمكنهم التسليم لقول شاعر مجنون، وهذا من غاية فجورهم وبعدهم عن الإنصاف، فالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عاش بين ظهرانيهم أربعين سنة، لم يقل شعراً، بل لم ينشد لغيره، وكان في غاية الرزانة والحكمة، لم يجد منه الناس أمراً يشينه ويعاب به ولكنّهم حيث لم يتمكّنوا من انتقاصه، لا في نفسه ولا في محتده، رموه بالشعر، ليقولوا: إنّ ما جاء به من القرآن إنّما هو شعر أنشده، أي كلام تخييلي وليس سرداً لحقائق الكون.

ومن غريب أمرهم الجمع بين كونه شاعراً وكونه مجنوناً، فالشاعر لا يكون إلّا عاقلاً ذو شعور حسّاس، وقوة متنامية في التعبير عن ما يعرفه أو يتصوّره، فكيف يكون مجنوناً لا يعقل شيئاً؟! ولكنّه البغض كالحب يعمي ويصمّ.

« بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ » ردّ وإبطال لقولهم، فالقرآن كلّه حقائق ، وليس شعراً وتخييلاً. وليس المراد ب-«الشعر» كلّ كلام منظوم، بل المراد ما يبتني على التخييل والتأثير على الإنسان من طريق التلاعب بمشاعره. والقرآن يدعو

ص: 46

إلى التفكر والتدبّر والتعقّل وشتان بين السبيلين بل القرآن ينبّه الإنسان بالحقائق المرّة التي لا يحبّ أن يسمعها ويحاول التغافل عنها، بالرغم من إدراكه لها بفطرته. يتغافل ليفرغ قلبه وباله لمتابعة شهواته وملذّاته، فإنّ الذي يفكّر في الموت وسكراته وما يتعقّبه من ظلمات كيف تحلو له الحياة؟! وكيف يمكنه أن يتقلّب في خلاعاته ومجونه؟!

وأمّا قوله تعالى « وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ »، فيردّ به علی رميه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالجنون، مع أنّ كلّ ما أتى به إنّما هو على غرار ما أتى به الرسل. وهل يمكن رمي كلّ رسل السماء بالجنون؟! لا شكّ أنّ المنطق السليم يأبى ذلك، وقريش بنفسها كانت تفتخر كذباً إنّها تتبع سنة إبراهيم (علیه السلام) وملاحظة كتب السماء والسؤال عن علماء أهل الكتاب كافٍ لإثبات أنّ ما أتى به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليس إلّا إكمالاً لشريعة السماء.

« إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ »، جزاءً لتكذيبكم الرسول واتّهامكم إياه. وصدّر الجملة بكلمة «إنّ» التاكيدية، ثمّ أتى ب«لام القسم »على الخبر، لیدلّ على أنّ هناك قسماً في التقدير. ولعلّ السرّ في هذا التأكيد ونظائره دفع ما ربّما يتوهّم أنّ ما ورد من الوعيد إنّما هو للتهديد، لكي يصلح الناس شأنهم في الدنيا، كما يتوهّمه بعض من يدّعي الدين، أو يحاول إلقاؤه في أذهان الشباب، أو أنّ ما يقال إنّما هو عرض تصويري، وتشبيه للحالة النفسية، وسائر ما يقال في تأويل ما صرّح به في كتب السماء، أو يتوهّم أنّ الله تعالى ربّما يخلف وعده، أو يبدّل رأيه، فهذه التأكيدات تبطل كلّ هذه الأوهام.

« وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ،يعني أنّ الله تعالى لا يظلم أحداً، و إنّما ت-رون يوم الجزاء نفس أعمالكم التي صدرت منكم في الدنيا بصورتها الواقعية البشعة الفظيعة و تلك هي النار بحقيقتها.

ص: 47

سورة الصّافّات (40- 49)

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

« إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » ، قيل: إنّه استثناء متّصل على أساس أنّ الخطاب في الآية السابقة عامّ للجميع، فاستثني منهم المخلصون ولكنّ الظاهر أنّه خطاب لمن يذوق العذاب الأليم، فلا يشمل المخلصين، فالاستثناء منقطع.

وفيه بعد ذلك احتمالان :

الأوّل: أن يكون استثناءً من الضمير في (تُجزَوْنَ) من الآية السابقة، فإنّ أصحاب النار يجزون ما عملوا أو بما عملوا لا يزيد على ذلك، ولكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك، فإنّ الله تعالى يضاعف حسناتهم أضعافاً مضاعفة. و تدلّ عليه آيات كثيرة، كقوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ »(1) ، فأصحاب اليمين غير مرهونين بأعمالهم وإن كانت أعمالهم تعرض ويتنعّمون بها ولكن جزاءهم لا ينحصر في ذلك.

الثاني: أن يكون استثناءً من الضمير في « لَذَائِقُوا» ، أي ولكن عباد الله لهم رزق معلوم إلى آخر الآيات. وهذا الاحتمال أقوى بقرينة الآيات التالية التي بينت وجه الاستثناء وأنّ عباد الله يتذوقون النعم بدلاً ممّا يذوقه المخاطبون من العذاب.

ص: 48


1- المدثر (74): 38 - 39 .

و«العباد» على ما في المفردات جمع عابد و «العبيد» جمع عبد بمعنى المسترقّ (1). ولكن الخليل (رحمه الله ) قال: «العبد، الإنسان حراً أو رقيقاً هو عبد الله ويجمع على عباد وعبدين والعبد المملوك، وجمعه عبيد وثلاثة أعبد وهم العباد أيضاً. إنّ العامّة اجتمعوا على تفرقة ما بين عباد الله و العبيد المملوكين». (2) و یدلّ على ما قاله الخليل أنّ العباد أطلق في القرآن على قوم كفار ، كقوله تعالى: « بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا» (3) ومهما كان، فالإضافة هنا إلى الله تعالى للتشريف وإلّا فكلّ الناس عباد له تعالى، كما قال: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا » (4).

والمخلصين - بفتح اللام - ربّما يختلف معناه عن المخلصين - بكسره - ، فالثاني يقال لكلّ من أخلص قلبه وعمله لله تعالى، وأمّا الأول فيمكن أن يختصّ بمن أخلص الله قلبه أو أخلصه لنفسه، وهذا لا يكون إلّا بعناية خاصّة من الله تعالى تستوجب عصمته، ولذلك استثناهم إبليس من الناس الذين يمكنه التأثير فيهم، قال تعالى: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » (5).

وقد ورد ذكر هذه الكلمة في خمس موارد من هذه السورة هذا أولها، ولا يمكن في بعضها أن يراد بها المعصومون المقرّبون، ومنها هذا المورد فإنّ الظاهر من باقي الآيات أنّ المراد بهم الأبرار ، لا المقربون. وأوضح منه المورد التالى في الآية :74 «فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ »، فإنّ

ص: 49


1- راجع المفردات في غريب القرآن 319 2
2- كتاب العين 2 :48 .
3- الإسراء (17) 5 .
4- مریم (19): 93 .
5- ص :(38) : 82 -83 .

المستثنى هنا الذين آمنوا من بين المنذرين لا خصوص المعصومين لينطبق على المخلصين - بالفتح -.

ومثله أيضاً المورد الثالث في الآية: « فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ *إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » (1) إذ المستثنى من قوم إلياس (علیه السلام)هم المؤمنون به. وكذا المورد الأخير في الآية: « لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ *لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» (2). نعم في المورد الرابع يمكن أن يراد به المقرّبون حيث يقول في الآية: « سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » (3) بدعوى أنّ كلّ ما يوصف به الله تعالى فهو منزّه عنه إلّا ما يقوله المعصومون، وإن كان يمكن إرادة المؤمنين عامّة أيضاً بدعوى أنّهم لا يصفونه إلّا بما وصف به نفسه.

وعليه : فإمّا أن يقال: إنّ المخلصين - بالفتح - بمعنى من أخلص الله قلوبهم للإيمان لا خصوص المعصومين أو يقال: إنّ القراءة الصحيحة هو المخلصين - بالكسر -كما يظهر من بعض التفاسير ك-«مجمع البيان» حيث فسّر هذه الكلمة ب- : «الذين أخلصوا عبادتهم لله تعالى» (4)

« أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ » ،التعبير أبهم رزق العباد المخلصين إشعاراً بعظمته، أو لأنّ الألفاظ لا يمكنها أن تعبر عن ذلك الرزق، كما أبهمه في مواضع أخرى أيضاً ، كقوله تعالى: «لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ » (5)، فلم يذكر ما هو المزيد

ص: 50


1- الصافات (37) 128 .
2- الصافات (37): 169 .
3- الصافات (37): 160 .
4- راجع: مجمع البیان فی تفسیر القرآن:6:519.
5- ق (50): 35 .

وكأنّه لا يمكن أن يذكر، وأغرب منه أنّه فوق ما يشاؤون، فهذا التعبير يشمل كلّ ما يشاؤه الإنسان من نعم وهو غير محدود بحد، وتطّلع الإنسان أيضاً غير محدود، فما هو هذا المزيد الذي لا يشاؤونه؟ الظاهر أنّه ممّا لا تصل إليه أفهامهم وأوهامهم، فهو فوق كلّ التطلعات والأماني. وكقوله تعالى: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » (1)، وغير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم حول هذا الأمر.

ولعلّ المراد به رضوان الله كما قال تعالى: « وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » (2)، أو لقاؤه والنظر إليه، كما قال تعالى: «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » (3)، وليس المراد الرؤية بالبصر، أي الحاسّة، فإنّ الله ليس جسماً ولا يحدّ بحد، و إنّما هو تشرف معنوي لا يدركه إلّا أولياء الله تعالى بما أعلمهم إيَّاه والتعبير هنا يوحي بذلك، فإنّ ظاهره أنّ هذا الرزق معلوم له وليس معلوماً لأحد غيره.

وللقوم في تفسير المعلوم أقوال: قال في «الكشّاف»: «فسّر الرزق المعلوم بالفواكه - إلى أن قال: ويجوز أن يراد رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل معلوم الوقت، كقوله: « وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» (4) ، وعن قتادة : الرزق المعلوم: الجنّة» (5). وقال بعضهم: «الرزق المعلوم، أي الذي لا يتخلّف عن ميعاده و لا ينتظره أهله».

ص: 51


1- السجدة .(32) 17 .
2- التوبة (9) 72 .
3- القيامة (75): 23 .
4- مريم (19) 62 .
5- الكشاف 4: 42 .

وملاحظة استعمال الكلمة في القرآن الكريم يبيّن أنّ المراد به كونه معيّناً عند الله تعالى ومجهولاً لغيره، قال تعالى: «وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ » (1)، وقال: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » (2)، وقال أيضاً: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ *«لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » (3).

و«الرزق »هو العطاء و« الإنعام »، وليس فيه معنى الجريان، كما في «المفردات» (4)، كما أنّه لا يختصّ بالعطاء المحدّد بوقت خاص، كما في «مقاييس اللغة» (5)، ولا يختصّ بالأكل، كما ذكره بعض المفسّرين، بل يدخل فيه كلّ ما يحتاجه الإنسان لبلوغه الكمال المطلوب. وسيأتي الكلام حوله في تفسير قوله تعالى:

«وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ...» (6) في سورة الذاريات إن شاء الله تعالى.

« فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ» ، «فَوَاكِهُ» عطف بيان للرزق المعلوم. ولا شكّ أنّ الطعام هناك لا يختصّ بالفواكه، ولعلّ تخصيصها بالذكر للإشارة إلى أنّ كلّ ما يأكله أهل الجنّة إنّما هو للتفكه والتلذّذ، إذ لا يحتاجون إلى طعام لسدّ الجوع أو لكسب الطاقة.

وقوله: « وَهُمْ مُكْرَمُونَ» جملة حالية، أي تقدم لهم الفواكه والحال أنّهم مكرمون عند الله سبحانه، ويا لها من نعمة ولذة تصغر عندها كلّ نعم الجنّة!!

ص: 52


1- الحجر (15) : 4 .
2- الحجر .(15) :21 .
3- الواقعة (56): 49 - 50 .
4- المفردات في غريب القرآن: 194 .
5- مقاييس اللغة 2: 388 .
6- الذاريات (51): 22 .

فكيف بما في هذه الدنيا من لذات يشوبها الخوف والألم وتتعقّبها الأمراض والآفات؟!

« فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» ومن نعم الله تعالى عليهم أنّهم يعيشون في بيئة محبوبة لدى الإنسان بطبعه، وهي الجنّة، أي الشجر الملتف التي تستر الأرض، مأخوذ من جنّ الشيء أي ستره، و«النعيم » بمعنى كثرة النعم، فهي جنّات تكثر فيها النعم.

« عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ » ، ومن إكرامهم جلوسهم على السرر الفاخرة، وأنّ بعضهم يقابل بعضاً في مجلسهم. ولعلّ الغرض من ذكر ذلك بيان الجو الاجتماعي الذي يعيشونه، وهو جوّ الوداد والوئام ، قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ » (1)،والتقابل أحسن أنواع الاجتماع للتخاطب .

« ُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ»، أي أنّهم مخدومون يطاف عليهم بالطعام والشراب، وفي مواضع أخرى من القرآن أنّ غلماناً مخلّدين يطوفون عليهم بالكؤوس و«الكأس» - على ما قيل - لا يطلق إلّا على الإناء إن كان فيه خمر وإن كان اسماً للإناء بقول مطلق. وقيل: إنّ المراد به الخمر نفسها، لأنّه أفرده مع أن المطاف عليهم جماعة ، فلو أراد الإناء لقال: «بكؤوس».

و«المعين» العين التي يجري ماؤها على الأرض. وقد ورد في سورة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) « وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» (2) فالخمر التي يشربون منه عين تجري على الأرض، بل عيون وأنهار، كما أنّ العسل واللبن أيضاً أنهار.

ص: 53


1- الحجر (15): 47 .
2- محمد (47) :15 .

« بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» ، قيل: إنّ «بيضاء» صفة للكأس، ولكنّ الكأس مذكّر. والظاهر أنّها صفة للخمر وكذلك ما بعدها. و«اللذة» إن كانت مصدراً، فالإطلاق من باب المبالغة في إيجابها اللذة، وإن كان صفة مشبهة كصعب فیدلّ على أن إيجابها للذة ثابت دائمي.

« لَا فِيهَا غَوْلٌ » ، «الغول» هو الهلاك من حيث لا يشعر. وفي هذا إشعار بأنّ الخمر التي يشربها الناس في الدنيا تهلكهم من حيث لا يشعرون، وتقتلهم تدريجاً وهم لا يعلمون، وليست كذلك خمر الجنّة.

« وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ » ، يقال: نزف الماء إذا نزحه كلّه، ويقال: نزيف الدم أو نزيف الدمع إذا كان صبيباً غزيراً، ويقال: نزف الرجل - بضم النون - إذا سكر، بمعنى أنّه نزع منه عقله كلّه. وخمر الجنّة لا تسكر. والتعدية ب-«عن» باعتبار السببية أي لا ينزفون بسببها.

« وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ » ،«الطرف» هو الجفن. و يعبّر عن النظر بالطرف، لأنّه يستوجب تحريك الجفون، فالمراد بقصر الطرف على الظاهر أنّهنَّ لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ، فيقتصرن في النظر على أزواجهنّ، وهذه صفة يحبها الرجل في امرأته.

ويمكن أن يكون المراد أنّهنّ لا ينظرن إلى أحد، وهذه أيضاً صفة ممدوحة في المرأة، إمّا باعتبار أنّ طبيعة المرأة تقتضي أن تكون مطلوبة لا طالبة، أو باعتبار أنّ هذا أمر مطلوب لدى المجتمع العربي، أو بحسب التقاليد الدينية بوجه عامّ، فهي تقتضي أن لا تنظر المرأة هنا وهناك بحثاً عن الرجل. وهذه أيضاً صفة يستحبّها الرجال من النساء إن كانوا ذوي غيرة أو ذوي إيمان لا كرجال العصر.

ص: 54

و«العين» - بالكسر - النساء ذوات العيون الواسعة الجميلة ومفردها العيناء. ومن لطيف التعبير الجمع بين قصر النظر وسعة العين. وقيل: إنّ قصر الطرف إشارة إلى حالة انكسار في الجفون، بحيث تشبه جفن السكران المترنّح وإنّ هذا نوع جمال في العين. ولكنّ الظاهر، أنّ هذا لا يعبّر عنه بقصر الطرف في اللغة العربية.

« كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ » ،هذه الآية أيضاً تمتدحهنّ بعدم البروز للرجال، فهنّ كالبيض الذي يصان عن المسّ، خوفاً من الكسر. و «المكنون» أي المستور. وهذا یدلّ على سترهنّ عن الأنظار، وهذه أيضاً صفة يستحبّها الرجل المؤمن الغيور على امرأته، فيمتدح الله تعالى ما كتبه لهم من الأزواج في الجنّة بأنّهنّ لم يمسّهنّ أحد ولم ينظر إليهنّ أحد.

ص: 55

سورة الصّافّات (50-61)

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)

حديث شيّق يدور بين أهل الجنة لمزيد من التلذّذ بنعيمها، فإن تذاكر النعم وتداول الحديث عنها يزيد في ابتهاج الإنسان بها، وهو أيضاً من نعم الله تعالى عليهم، بل لعلّه من أحسن اللذات حتّى في الحياة الدنيا، مضافاً إلى أنّه شكر لله تعالى على ما أنعم به عليهم.

« فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ»، أي يسأل بعضهم بعضاً عن أمور تخصهم، وبطبيعة الحال لا يتعرّضون لما يكدر صفو العيش بل لعلّهم لا يتذكرونها أصلاً، كما قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ » (1).

ومن أحاديثهم تذكّر ما كان عليه الضالّون في الدنيا، وما كانوا يتبجّحون به ويفتخرون، وما كانوا يقولونه لدى مواجهتهم للمؤمنين من تحقير وتسفيه، ثمّ ملاحظة ما آلت إليه عاقبة أمرهم من العذاب والخزي، فإنّ تذكّر ذلك ومقارنته لما غمرتهم من النعم في حدّ ذاته لذة وغبطة عظيمة وشفاء لما في صدورهم من حنق وغيظ، فإنّ أهمّ ما يحزّ في نفوس المؤمنين في هذه الدنيا ما يجدونه من

ص: 56


1- الأعراف (7): 43 .

تنعّم الكفرة والظالمين ، وما يتعقّبه من تبختر وزهو وخيلاء وتفاخر في مقابل أولياء الله تعالى طيلة التأريخ البشري، وإنّ الغليل الذي يحدثه ذلك في صدور المؤمنين لا يشفيه شيء إلّا الانتقام الإلهي في الحياة الآخرة. والتحدّث بذلك في مجتمع أهل الجنة يزيدهم تشفّياً وابتهاجاً.

« قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ »، هذا أحد أحاديثهم يذكره الله سبحانه في هذه الآيات كمثل ونموذج، و إنّما يتعرّض له بالخصوص لما يحتوي عليه من دروس وعبر. و«القرين» من كان يعيش قريباً منه ، فربّما يكون صديقاً أو شريكاً أو أخاً أو زوجاً أو زوجة أو أستاذاً أو تلميذاً أو غير ذلك. ومهما كان فهو شيطان من شياطين الإنس، وأخطأ من توهّم أنّ المراد به الشيطان من الجنّ الذي عبّر عنه في القرآن بالقرين كقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ » (1)، لأنّ الغرض من التذكير بهذه المحادثة المستقبلية إنّما هو التنبيه على أنّه سيأتي يوم تضحك فيه أيّها المؤمن من الذي كان يضحك منك في الدنيا، نظير ما ورد في الآيات الأخيرة من سورة المطفّفين، وقد صرّح هناك بأنّ هذا شأن الذين أجرموا.

« يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ»، التعبير يحكي عن دهاء القرين في وسوسته للمؤمن، وإدخال الشك في قلبه، فهو يبدأ بعرض سؤال عليه ولم يسأله هل تصدق أم لا، بل اعتبر المصدقين جماعة شاذين، وسأله هل هو منهم أم لا؟ ليثير في نفسه دوافع الإباء. ولم يذكر ما يستنكر منه تصديقه له، وهو مقدر بينه في الجملة التالية، أي أإنّك لمن المصدقين بيوم البعث والجزاء؟!

ص: 57


1- الزخرف (43): 36 .

« أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ»، أي محاسبون. و«الدين» هو الجزاء، فهو يقول: هل تصدق أنّنا ندان ونحاسب بعد أن هلكنا وكنّا تراباً؟! و«التراب» حالة ما بعد كونه عظاماً، فكان ينبغي أن يقول عظاماً وتراباً و إنّما عكس، لأنّ بعض العظام قد لا يتحوّل تراباً أو تبقى مدة طويلة، فالمراد أنّه حتّى لو بقينا عظاماً فإنّ المحاسبة غير معقولة.

« قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ »، يخاطب المؤمن بذلك مجالسيه في الجنّة. و«الاطّلاع» يحصل بالرؤية من فوق، ولعلّ الذي يصحّح التعبير ب-«الاطلاع »هو فوقية أهل الجنّة اعتباراً، وإلّا فهناك بالطبع فاصل بين الفريقين، بل كلّ منهما في عالم غير عالم الآخر، ولكنّ الله تعالى يريهم ما يشاء.

« فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ »،« سواء الجحيم »أي وسطه، ولعلّ المراد به أنّه رآه محاطاً من كلّ جهة بالنار، كما قال تعالى: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ.» (1) و«الجحيم»: النار العظيمة الشديدة التوهج.

« قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ »، يحلف المؤمن بالله حينما شاهد قرينه في سواء الجحيم إنّه كاد أن يغويه فيهلكه والتاء للقسم، ويقال إنّها تفيد معنى التعجب أيضاً، فلعلّ اختيارها من جهة تعجب المؤمن من أنّه كيف نجى من الوقوع في ما وقع فيه صاحبه أو من البعد بين المصيرين.

وإن مخفّفة من المثقلة، فهي للتأكيد. و«الردى» الهلكة. وآخر الكلمة ياء المتكلّم أسقطت تخفيفاً وبقيت الكسرة. ولم يظهر من الآية ما یدلّ على أنّ هذا الخطاب كان بمسمع من الكافر، إذ لا مانع من أن يقول المؤمن ذلك بينه وبين

ص: 58


1- الأعراف (7): 41 .

أصحابه وإن كان بصورة الخطاب الموجّه إلى الكافر ، ولكن لا يبعد سماعه، إذ فيه أيضاً لذّة للمؤمن وتشفّ وانتقام، كما أن فيه عذاباً وتأنيباً للكافر الذي كان يضحك من المؤمن في الحياة الدنيا ويسخر منه.

« وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ »، الناس كلّهم يحضرون يوم القيامة وليس هناك اختيار لأحد إلّا أنّ المؤمن حيث يجد من حين موته أنّه سيرد على رضوان الله تعالى ورحمته، فإنّه يرد المحشر بشوق ولهفة، ومن المؤمنين من لا يحاسب أصلاً، وأمّا الكافر والمعاند فإنّه يساق قسراً وقهراً إلى الحشر والحساب، ليلقى مصيره المحتوم وهو العذاب الأليم. والمراد ب-«نعمة الرب» الهداية الإلهية.

« أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » ،خطاب من المؤمن لمجالسيه من أهل الجنّة وذكر للنعم، ولكن لا يبعد أنّه بمسمع من الكافر أيضاً. والسؤال هنا ليس استفهاماً، بل هو للتقرير، وذكر ما هو واضح للتلذّذ به، فيقول: إنّ نهاية عذابنا كان هو الموت في الحياة الدنيا، ثمّ لا نجد موتاً ولا عذاباً.

ثمّ إنّه لم يذكر الموت الثاني وهو الموت من عالم البرزخ والانتقال إلى عالم الآخرة، مع أنّ القرآن قد صرّح بأنّ هناك موتين: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ » (1)! إمّا لأنّه لم يشعر به كما ورد في الروايات (2) من أنّ أكثر الناس لا يشعرون بالحياة البرزخية، فلا يشعرون بالموت فيها أيضاً، وإمّا لأنّه يقصد بذلك ذكر الموت الذي يوجب العذاب ولم يوجب هذا الموت عذاباً له.

ص: 59


1- غافر :(40) :11 .
2- في الكافي عدّة أحاديث بعضها معتبرة بهذا المضمون: «لا يُسْألُ في القَبْرِ إلّا مَنْ مَحَضَ الإِيمَان مَحْضاً أو مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً والآخرون يُلْهَى عَنْهُمْ » راجع الكافي .3 235 .

وكلّ ذلك تعريض بالكافر وما يتعرّض له من العذاب المستمرّ، وأنّه يذوق الموت مرّة بعد مرة، ويأتيه الموت من كلّ مكان وما هو بميت، و إنّما يذكر المؤمن ذلك ويتذاكره مع إخوانه ليسمعه الكافر ويتألّم به، كما تألّم المؤمنون بضحكه واستهزائه في الحياة الدنيا و لم يتمكّنوا من الردّ عليه في أكثر الأحيان، كما قال تعالى: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ *عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ *هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ »(1).

وهذا أمر طبيعي وردّ فعل من المؤمن بعد ما وجد الحرية هناك، فإنّ المؤمن في هذه الدنيا ملجم - كما ورد في الحديث(2)- أي أنّ على فمه لجاماً لا يستطيع أن يتكلّم بكلّ ما يريد، وهو ملجم من قبل الأعداء غالباً، وملجم من قبل نفسه أيضاً، لأنّه يتورع عن التحدث باللغو وبالإثم، فهو يوم القيامة يفرغ شحنته وغيظه ، ويضحك من الكافر ويشفي بذلك صدره.

« إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »، «الفوز» هو الظفر بالخير. و«الفوز العظيم »ما يحصل للمؤمن في الآخرة. وأمّا ما يفوز به الإنسان من خير في الدنيا، فهو مشوب دائماً بما ينغصه وعلى أقلّ تقدير هو مهدّد بالزوال.

« لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ »، قال جمع من المفسّرين: إنّ هاتين الآيتين من كلام الله سبحانه كتعقيب واستنتاج من نقل هذه القصة المستقبلية. و إنّما قالوا ذلك، لأنّ الأمر بالعمل لا يصحّ أن يصدر في ذلك اليوم إذ قد مضى وقته.

ولكن لا مانع من أن يكون هذا أيضاً من تتمّة مخاطبة المؤمن لأصحابه

ص: 60


1- المطففين (83): 34 - 36 .
2- الكافي 2 : 249 .

بمسمع من الكافر وأنّه - كما قلنا - تعريض وتأنيب للكافر في مقابل ضحكه عليه في الحياة الدنيا، حيث كان يستهزئ بعمله الشاق وتعبّده وتصدّقه بماله وغير ذلك، فاليوم يؤنّبه المؤمن بأنّ الذي كان يجب عليك أن تعمل له وفي سبيله هو بلوغ هذه الحياة الكريمة السعيدة، لا ما أتعبت عليه نفسك من لذّة زائلة، لا يكاد يعتبر لذّة في قبال هذه النعم الدائمة والسلام الدائم.

ص: 61

سورة الصّافآت(62- 74)

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

« أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ » ،«ذلك» إشارة إلى ما يقدّم لأهل الجنة من طعام وشراب وغيرهما، و«النزل» ما يقدّم للضيف أوّل نزوله. وفي ذلك إشارة إلى أنّ كلّ ما يتلى على مسامعنا من نعيم الجنّة، مقدمة للنعمة الأصلية، وهي على الظاهر التشرف برضوان الله تعالى وإكرامه والتعبير يوحي بأنّ أهل الجنّة ضيوف لدى ربّهم، كما أنّه يشير إلى أهل النار أيضاً وکأنّهم ضيوف تهكّماً، كما أنّ المقارنة بين نعم أهل الجنّة وعذاب أهل النار، والاستفهام التقريري عن ما هو خير منهما تهكّم أيضاً، إذ لا خير في العذاب نهائياً.

وأمّا «الزقوم» فلم يثبت إطلاقه على شيء في هذه الدنيا وإن قال بعض أهل اللغة إنّه يطلق على شجر له أوراق طعمها مرّ وتخرج منه مادة بيضاء تضرّ بالجسم. وقال بعضهم: زقّم أي ابتلع ، وزقّم بطنه من الشراب، أي ملأه به.

ولكنّه غير ثابت، والظاهر أنّ كلّ ما قيل في معناه حدث بعد نزوله في القرآن، وأنّ العرب لم تسمع به قبل ذلك، بل حكي عن بعض المشركين أنّه كان يستهزئ بهذه الكلمة، ويقول: وما الزّقّوم؟!

ص: 62

وفي مجمع البيان: « روي أنّ قريشاً سمعت هذه الآية، قالت: ما نعرف هذه الشجرة، فقال ابن الزبعري: الزقوم بكلام البربر التمر والزبد، وفي رواية بلغة اليمن . فقال أبو جهل لجاريته يا جارية زقّمينا، فأتته الجارية بتمر وزبد، فقال لأصحابه تزقّموا بهذا الذي يخوّفكم به محمد، فيزعم أنّ النار تنبت الشجرة، والنار تحرق الشجرة فأنزل الله سبحانه: « إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ». (1)

وكيف كان، فلا مانع من أن يكون هذا مصطلحاً أو تسمية قرآنية لطعام أهل النار. ولكنّ الطعام هناك ليس كالطعام هنا، فالحياة هنا لا تستمرّ إلّا بالطعام ، والإنسان وغيره من الأحياء يأكلون للإبقاء على حياتهم، ولكنّ الداعي لأكل أهل الجنّة ليس إلّا التلذّذ كما مرّ ، وأمّا أهل النار فيأكلون لسدّ الجوع، ولكن ما يأكلون لا يسدّ جوعهم، بل ربّما يزيدهم جوعاً.

« إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ»، هذه الآية و ما بعدها تفسّر «الزقوم». و«الفتنة» يمكن أن تكون بمعنى العذاب وأصلها الإحراق بالنار، قال تعالى: « «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثمّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ » (2). وذلك في قصّة أصحاب الأخدود وحرقهم للمؤمنين بالنار.

ويمكن أن تكون الفتنة بمعنى الامتحان والاختبار، وقد استعمل في القران كثيراً بهذا المعنى، وأصله من فتن بمعنى صهر الذهب بالنار لتخليصه من الشوائب، وحيث إنّ الامتحانات والمشاكل تظهر كوامن معادن البشر وتبرز قابلياتهم عبّر عنها بالفتنة. وهنا يقصد به أنّ نفس التعبير عن طعام أهل النار

ص: 63


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 8: 696.
2- البروج (85): 10.

بالزقّوم فتنة للظالمين، حيث يثير فيهم السخرية، كما صدر من أبي جهل على ما حكي.

ونظير ذلك قوله تعالى «عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ *وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ » (1) ، حيث كانوا يستغربون هذا العدد في الملائكة الموكلين بالنار. وهنا أيضاً استهزأوا بالزّقّوم وما يعنيه. وهكذا القرآن أنزله الله تعالى رحمة للمؤمنين وهدى للمتّقين، ولا يزيد الظالمين إلّا خساراً.

وفي «مجمع البيان»: «قالوا ولمّا نزلت هذه الآية - «عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ» - قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أتسمعون ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم الشجعان، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم؟ فقال أبو الأسد الجمحي أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين، فنزل: « وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً» (2).

« إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ » ، هذا التفسير زاد الأمر غرابة وتعقيداً وفتنة، وقد قيل: إنّها وتاليتها نزلتا بعد استغراب أبي جهل ومن معه فأثار ذلك فيه أسئلة أخرى، فقالوا: كيف تنبت الشجرة من النار وهي تحرق كلّ شيء؟! هذا

ص: 64


1- المدثر (74): 30 - 31 .
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 :586.

وهم لا يعلمون أنّ هذه النار غير ما يرونه من نار الدنيا، فالبشر المصطلون بها أيضاً لا يموتون، بل هم يعيشون هناك، فإذا كانت النار مقرّاً للبشر، فلا غرو أن ينبت الله من أصلها ومن قاعها لهم شجراً، والله على كلّ شيء قدير.

ولعلّ للنار في الآخرة معنى آخر لا يصل إليه أفهامنا، ولعلّ التعبير به من جهة إنّها أفظع شيء يعذب به الإنسان في هذه النشأة، فأقرب لفظ إلى ذلك العذاب الذي لا نفهم حقيقته هو النار، ولا شك إنّها ليست ناراً كنار الدنيا، فهي تحرق الأرواح قبل الأجسام، قال تعالى: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ » (1)، وهي لا تبيد الجسم ولا تفنيه « كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ » (2) .

« طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» «الطلع» نور الشجر وزهرته، وهو أجمل شيء فيه، فالتعبير يريد أن يقرّب بشاعة هذه الشجرة إلينا، فيقول: إنّ أجمل شيء فيه وهو النور، کأنّه رؤوس الشياطين، ونحن لم نر الشيطان ولا نراه، ولكنّه في أذهان الناس بشع وقبيح ومخيف، كما ورد في شعر امرئ القيس: «ومسنونة زرق كأنياب أغوال» و«الغول» أمر موهوم لا حقيقة له.

« فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ »، الآية تؤكّد المضمون - وهو أنّهم يأكلون منها - بوجوه شتى حرف إنّ، لام القسم ، الإتيان بالخبر بصورة اسم الفاعل. وقد مرّ أنّ أهل الجنة والنار يأكلون، ولكن أهل الجنة يأكلون تفكّهاً، لا الحاجة، وأهل النار يأكلون لسد الجوع ولا ينفعهم الأكل، فالجوع لازم لهم لا يتركهم ولا يقتلهم، بل هو عذاب لهم، والأكل أيضاً عذاب آخر، وهم يأكلون

ص: 65


1- الهمزة (104 ) : 6- 7 .
2- النساء (4): 56 .

ويأكلون حتّى تمتلئ بطونهم ويبقون يتضوّرون جوعاً، وبعد الامتلاء يصيبهم العطش، فيصار بهم إلى الحميم ليشربوا منه.

« ثمّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ »، وهنا أيضاً نفس التأكيدات و«الحميم» الماء شديد الحرارة، كما قال تعالى: « وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا » (1) ، و «المهل»: النحاس أو الصفر المذاب و«الشوب» هو الخليط، أي أنّهم يخلطون ما أكلوا بالحميم، أو أنّهم يخلطون هذا الماء بأشياء كريهة أخرى ورد ذكرها في القران ك«الصديد» و«الغسلين» و«الغساق». والصديد والغساق هو القيح الخارج من الجسم. والغسلين لعلّه غسالة الأجسام.

والغرض: أنّ ما يشربونه شيء مقزز يتنفّر منه الطبع، ومؤذّ ومحرق في نفس الوقت، ومع ذلك فلا بدّ لهم من شربه فراراً من العطش، ولكنّه لا يغنيهم شيئاً.

« ثمّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» وتكرّرت التأكيدات أيضاً. فيعودون إلى مقرّهم في جهنّم متعبين جائعين عطاشى ممتلئين. وهذا التحرّك و السير يعبّر عنه تعالى في موضع آخر: «هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ *يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ » (2)، ممّا یدلّ على أنّ هذا مسيرهم المستمرّ، يجوعون فيأكلون من الزّقّوم، فيعطشون ويذهبون إلى الحميم وهكذا.

وهذا غاية البراعة والإعجاز في تصوير العذاب الأبدي الخالد الذي لا يتصوّر له نظير في الحياة الدنيا مهما بالغ الجبابرة وجدّوا واجتهدوا في خلق أنواع من العذاب، كما نجده ونجد تطوّره الفظيع بعد التطوّر العلمي الهائل . فمهما تطوّروا،

ص: 66


1- الكهف (18) 29 .
2- الرحمن (55) : 43 - 44 .

لن يمكنهم أن يخلقوا تعذيباً نظير ما يحكيه القرآن الكريم عن تلك الحياة، وهو مجرّد تصوير وإلّا فالأمر أعظم من أن يناله أفهامنا.

« إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ *َهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ » ، «ألفوا» أي وجدوا. وهاتان الآيتان تبيّنان سبب هذا التعذيب الفظيع، وتدلّان على أنّه ليس عذاباً عامّاً لكلّ من يدخل جهنّم، و إنّما هو عذاب من علم أنّ آباءه ضالّون، ومع ذلك يسرع في اقتفاء آثارهم من دون تأمّل ، وهذا لا يشمل كلّ الكفرة، ولكن ربما يشمل بعض المسلمين. ونحن نجد حتّى في أوساطنا ومن بني جلدتنا من يصرّ على متابعة من لا يستحق المتابعة، ويصرّح كبراؤهم وزعماؤهم بأنّا نعلم أنّه لا يستحق المتابعة ولكن لو تركنا ذلك لتفككت البيوت والقبائل ودبّ فينا الاختلاف !!! فهذه الآية تنطبق عليهم تماماً.

و«الآثار» ما يبقى على الأرض من أثر المشي، فهم رأوا أنّ آباءهم ضلّوا الطريق وسلكوا درباً أوصلهم إلى الهاوية، ولكنّهم لمجرّد أنّ هذه آثار أقدام الآباء يتّبعونها ويسرعون المشي في نفس الطريق إلى هذا الحدّ، تصل غباء الإنسان وحمقه وهو الذي وهبه الله العقل وزوّده بالفكر ليبصر طريقه.

و«يهرعون» بمعنى شدة الإسراع، ويؤتى به غالباً مبنياً للمجهول، كأنّ هناك شيئاً يدفع الإنسان إمّا في ذاته أو من خارجها، بل ورد في «العين»: «يهرعون: يساقون» (1). ولعلّه هنا إشارة إلى أنّهم مندفعون نحو هذا الطريق دون وعي، كأنّهم لا اختيار لهم، و کأنّ هناك دافعاً يجبرهم على ذلك. وذلك لأنّهم لا يتفكرون ولا يتدبرون، فالإنسان إذا وقف لحظة وتأمّل في مسيرة حياته لعلّه يغيّرها إلّا أنّه

ص: 67


1- العين 1 :105 .

يسرع في متابعة الشهوات دون ما تأمّل ووقفة، فيكون كالدّابة المجبرة على السير، ولكنّ الجبر هنا ينشأ من الشهوات وبدافع ذاتي.

« وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ »، الضمير يعود إلى مشركي مكّة، كما أنّ الحديث كلّه يدور حولهم. والغرض من هذه الآيات التنديد بمتابعتهم للآباء الضالين من قبلهم، والتنبيه على أنّهم ما كانوا بدعاً من سائر البشر، فأكثر الأمم السابقة كانوا في ضلال، والله تعالى أرسل لهم رسلاً، كما أرسل إلى هؤلاء رسولاً، فكذّب السابقون كما كذب هؤلاء، وأنزل الله تعالى عليهم عذاب الاستئصال وأبادهم، فليتّعظ هؤلاء وليحذروا عاقبة مثل عاقبتهم.

ويترتّب عليه غرض آخر وهو تسلية المؤمنين بأن لا يهابوا كثرة المشركين، ولا يعبأوا بارتفاع أصواتهم، ولا يحزنهم قلة عددهم بالقياس إليهم، كما قال تعالى: «قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ » (1).

وهذا أيضاً ممّا يجب اعتماده في جميع الأزمنة، ونحن في عصرنا أكثر حاجة إليه، فأبواق الدعاية الشيطانية، وصخب الجيوش المعادية للحق، قد ملأ الكون بالصوت والصورة، وبقي صوت الحقّ ضعيفاً لا يكاد يسمع، ولكن الذي يهوّن علينا أنّه بعين الله تعالى وهو الناصر لأوليائه في نهاية المطاف فللحقّ دولة وللباطل جولة.

واللام في «لقد» للقسم، فهناك قسم مقدّر. و«قد» للتحقيق والتأكيد، فالآية تؤكّد أن الضلالة هي ميزة البشرية طيلة التأريخ وغريب أمر هذا البشر فالأكثرية دائماً فى ضلال ، كما هو الحال في زماننا بالرغم من أنّه عهد انتشار

ص: 68


1- المائدة (5): 100.

النور والعلم والمعرفة، وزمان إتمام الحجة على الجميع، بحيث لا تجد على وجه البسيطة أحداً لم يصل إليه خبر السماء، وآيات الله سبحانه وأحاديث الرسل، ومع ذلك تجد أكثر الناس لا يؤمنون بالله تعالى حتّى الذين يزعمون أنّهم مسلمون أو يتّبعون سائر الأديان السماوية، بل تجد أنّ أكثر الذين يؤمنون بالله أيضاً لا يسيرون وفق منهجه الذي أراده لهم، بل تجد أكثر الناس في ضلال مبين حتّى بالمقاييس غير الدينية.

ومن هنا يتبيّن تفاهة الرأي وسفاهته في من يدّعي الحكمة والعلم والثقافة ويتبعه جمع كثير من المؤمنين وهو يقول: إنّ جميع الطرق إلى الله صحيحة، و جميع الصرط مستقيمة، وإنّ أكثر الناس مهتدون، ويستدلّ على رأيه بأنّه لولا ذلك لكان الله تعالى مغلوباً للشيطان، لأنّ الله يريد للناس الهداية والشيطان يريد لهم الضّلال، ولم يتفطّن - مع غاية دهائه أو تجاهل - بأنّه لو كان كذلك لم يتحقّق ضلال أصلاً، إذ لا يمكن أن يغلب الله في ما يريد حتّى جزئياً وأنِ الشيطان إنّما يغوي بأمر وإذن من الله سبحانه.

قال تعالى: «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا » (1)، وقال أيضاً: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا »(2)، وغيره ممّا يفيد نفس المعنى. فالله تعالى لا يغلب على أمره ولكنّه لم يرد للناس الهداية تكويناً، و إنّما دعاهم إليها و تركهم مختارين.

ص: 69


1- الإسراء (17): 64 .
2- یونس (10) :99 .

« وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ » تأكيد وقسم أيضاً بأنّ الله تعالى أتمّ الحجة على الأقوام السابقة، وأنّ الرسل أتت لكلّ المجتمعات البشرية البائدة. ووصفهم بالمنذرين مع أنّهم مبشرون أيضاً، لأنّ الغرض هنا منحصر في الإنذار.

« فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ » ، خطاب للرسول أو لكلّ من يسمع أو يقرأ. والخطاب يدعو إلى ملاحظة حال الأقوام السابقة بعد أن جاءتهم الرسل بالنذر، فرفضوا متابعتهم، فأنزل الله عليهم عذاب الاستئصال وأباد حضاراتهم وأهلكهم عن آخرهم. وهذه الآيات مقدمة لذكر الشواهد عن الأمم السالفة ليتمّ الاعتبار بعواقبهم.

« إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » ، الذين آمنوا بالرسل المنذرين فنجاهم الله تعالی وأخرجهم مع الرسل قبل نزول العذاب. والقراءة المشهورة في «المخلصين» بالفتح وقد مرّ بعض الكلام حول هذه الكلمة في تفسير الآية 40، وعلى ما مرّ فإن قرئ بالفتح فينبغي أن يفسّر بمن أخلص الله قلبه للإيمان، لا من أخلصه لنفسه ليختصّ بالرسل، وإلّا لزم أن يكون الاستثناء منقطعاً، إذ ليسوا من المنذرين بالفتح، بل هم منذرون بالكسر ، مضافاً إلى أنّه يستلزم عدم استثناء المؤمنين الناجين وإن قلّوا. وإن قرئ بالكسر فالمعنى واضح.

ص: 70

سورة الصّافآت(75 -82)

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

من هذه الآيات تبدأ الإشارة إلى بعض الأنبياء السابقين وذكر ما جرى عل-ى أممهم من العذاب، وأنّ الله نجى الأنبياء والمؤمنين بهم ليكون مثالاً للآيات السابقة، وابتدأ بذكر نوح (علیه السلام) وهو أول الرسل الذين ورد ذكرهم في الكتاب وأشير نوعاً ما إلى شريعته، وربّما يقال له آدم الثاني باعتبار أنّ البشر الموجودين حالياً كلّهم من نسله، كما صرح به في الآية 77 .

« وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» ، الظاهر أنّ المراد بالنداء، دعاؤه على الكفرة، وقد ورد في الكتاب العزيز قوله (علیه السلام) «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا »(1)، وقد غضب الله تعالى لعبده واستجاب دعاءه وأباد الكفرة عن آخرهم، فلم يبق منهم أحد والظاهر أنّه لم يكن على وجه البسيطة في ذلك الزمان بشر غير قومه.

وقد جاهد نوح (علیه السلام) جهاداً عظيماً حيث بقي فيهم ألف سنة إلّا خمسين عامّاً يدعو الناس إلى التوحيد، ومن الصعب جدّاً أن يبقى الإنسان قروناً متمادية يدعو الناس إلى الإيمان بالله ولا يلقى بعد كلّ هذه الجهود إلّا نفراً قليلاً يؤمنون به، كما قال تعالى: « وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (2)، وأنّه لصبر عظيم انتهى إلى التذمّر بعد

ص: 71


1- نوح (71): 26 .
2- هود (11): 40 .

هذه القرون الطويلة، فدعا عليهم.

و«المجيب» هو الله سبحانه، و إنّما أتى بصيغة الجمع تعبيراً عن العظمة، فإنّ العظماء يؤتى لهم بضمير الجمع، ولعلّه من جهة أنّهم عادة يتكلّمون عن أنفسهم وأعوانهم وقلّما يباشرون عملاً، فاستعير الجمع للدلالة على العظمة. والغرض من هذا التعبير: « فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ » أي استجبنا دعاءه بأحسن إجابة، فإنّه دعا لقومه بالهلاك فأهلكناهم عن آخرهم وأغرقناهم ولم نبق منهم أثراً.

« وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ »، بيان لاستجابة الدعاء، فأولّ ما يذكر تنجيته وتنجية أهله من الكرب العظيم. و«الكرب» كلّ ما يحزن الإنسان ويقلقه، فلعلّ المراد به إيذاء قومه وتهديداتهم، ولعلّه الخوف من شمول العذاب. والمراد به «الأهل» يمكن أن يكون ما يشمل المؤمنين توسّعاً في مدلول الأهل، فإنّ المعنى الحقيقي هو الزوجة والأولاد. وفي الأهل احتمال آخر سيأتي في تفسير الآية التالية.

« وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ» ، الظاهر من الآية أنّ الطوفان أهلك كلّ من كان على وجه الأرض من البشر ولم يبق إلّا ذرية نوح (علیه السلام). ومن هنا يحتمل أن يكون المراد ب-«الأهل» في الآية السابقة ذريته، فإنّ بقاءه زهاء ألف سنة يستوجب عادة ظهور أقوام كثيرة من نسله، ولا يبعد أن يكون المؤمنون به (علیه السلام) كلّهم من ولده.

ولكن هناك آية ربما يستظهر منها ما ينافي ذلك، وهي قوله تعالى: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا » (1) ، حيث تدلّ الآية على أنّ الذين حملوا مع نوح كان لهم ذرية أيضاً، ومن هنا ربما تأوّل بعضهم قوله تعالى: « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ.

ص: 72


1- الإسراء (17) : 3 .

الْبَاقِينَ» بأنّ المراد: أنّ الله تعالى أبقى فيهم التوحيد والنبوة والكتاب والحقّ و...، كما ورد ذلك في رواية في «تفسير القمي». (1)

وهو تأويل بعيد، وهناك روايات متعددة تدلّ على أنّ البشر كلّهم من ذرية نوح (علیه السلام) . وورد ذلك أيضاً في« التوراة»، ومن المعروف أنّ البشر ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: أولاد سام وحام ويافث، وهم أولاده (علیه السلام) (2) .

ويقوى الإشكال في آية الإسراء من جهة أخرى أيضاً، وهي أنّها وردت بشأن بني إسرائيل حيث قال تعالى: «وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا *ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا » (3) ومن المعلوم حسب التأريخ والروايات والتوراة أنّهم من ذرية نوح (علیه السلام) نفسه لا من حمل معه، فلو فرضنا إمكان تأويل قوله تعالى « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ » لم يرتفع الإشكال عن الآية.

وهذا الأمر مع أنّه معلوم حسب التوراة والروايات، يمكن الاستدلال عليه يقوله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ » (4)، والضمير في قوله: « وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ » يعود إلى نوح لا إلى إبراهيم (علیه السلام)، لأنّه الأقرب، ولأنّ بعض من وصف في الآيات بأنّهم من ذريته ليسوا من ذرية إبراهيم (علیه السلام) بلا ريب وهما لوط وإلياس (علیهما السلام).

وجمع العلامة الطباطبائي (رحمه الله) بين الآيتين باحتمال أن يكون بعض من كان مع

ص: 73


1- راجع تفسیر قمی 2 :223 .
2- في التوراة سفر التكوين الاصحاح التاسع « وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلك سَامًا وَحَامًا وَيَافَتَ. وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَان هؤلاء الثَّلَاثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ وَمِنْ هَؤُلَاءِ تَشَعَبَتْ كُلُّ الْأَرْضَ».
3- الإسراء (17): 2 - 3 .
4- الانعام (6): 84 .

نوح أولاد بناته، فهم يعتبرون من جهة ذريته ومن جهة أخرى أولاد أصهاره فيصدق أن البشر الباقين بعده كلّهم من ذريته، وفي نفس الوقت هناك من البشر من هم من ذرية من كانوا معه وهم أصهاره (1).

و مقتضى هذا الوجه أن يكون المراد بقوله تعالى: « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ» ما يشمل أولاد بناته ولكنّه لا ينطبق على بني إسرائيل بناءً على ما يقال في التأريخ والتوراة من أنّهم من ذرّيّة أبناء نوح (علیه السلام) لا بناته. نعم ما ورد في سورة الأنعام لا يقتضي كونهم أبناء أبنائه، لأنّ الذرّيّة تصدق على أولاد البنات أيضاً.

إذن فلا بدّ من وجه آخر يصحح التعبير عن بني إسرائيل بأنّهم ذرية من حملنا مع نوح، بدلاً عن التعبير بأنّهم ذرية نوح (علیه السلام) مضافاً إلى أنّ نفس العدول عن التعبير عنهم بأنّهم ذرّيّة نوح إلى التعبير بكونهم ذرية من حملنا حتّى لو كان باللحاظ المذكور يتوقّف على وجود وجه مصحّح، فإنّ التعبير بكونهم ذرية نوح أولى بلا ريب.

ويمكن أن تكون العناية في التعبير بذلك الإشارة إلى هذه النعمة التي شملتهم، أي بني إسرائيل، كما شملت غيرهم من البشر، وهي أنّ الله تعالى أبقاهم بحمل آبائهم في السفينة، فهم نسل من جماعة معدودة من ذرّيّة نوح (علیه السلام) وهم الذين حملوا معه، فهذا القيد لإخراج الهالكين من ذريته، والظاهر أنّهم كثير، كما هو مقتضى بقائه تلك القرون المتمادية.

وقد مرّ في سورة يس أنّ الله تعالى منّ على البشرية بالإبقاء عليهم بسبب الحمل في السفينة، وأنّ هذا هو المراد من قوله تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.

ص: 74


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 13: 38 .

الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ » (1)، و كذلك في قوله تعالى: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ » (2)، ومنّ على النبيين بقوله تعالى: « مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ » (3) .

وعلى كلّ حال فآية سورة الإسراء ليست نصّاً في وجود بشر غير ذرّيّة نوح في السفينة، فلا تقاوم التصريح الموجود في هذه الآية بأنّ الباقين من قوم نوح لم يكونوا إلّا من ذريته (علیه السلام) خصوصاً بملاحظة الحصر المستفاد من الإتيان بضمير الفصل وكون الخبر - المفعول الثاني - مع لام التعريف. وبناء على ذلك فهذه أيضاً نعمة من الله تعالى على نوح (علیه السلام) حيث جعل البشر الباقي كلّه من نسله. ولذلك يعبّر عنه ب- «آدم الثاني».

وبذلك استجاب الله دعاءه حيث دعا على الكافرين، وأبدى تخوّفه من بقاء نسلهم حيث إنّهم لا يلدون إلّا فاجراً كفّاراً، فأبادهم الله تعالى وأباد نسلهم، ولم يبق على وجه الأرض إلّا نوحاً والمؤمنين من ذريته.

هذا، ولكن يمكن أن يقال: إنّ قوله تعالى: « وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ » ليس صريحاً في عدم بقاء البشر إلّا ذريته (علیه السلام) لاحتمال أن يكون المراد الباقون من قوم نوح (علیه السلام)، لا الباقون من البشر ، ولا دليل على أنّ البشرية كانت منحصرة في قومه كما هو المعروف، بل الاعتبار يقتضي خلافه، فإنّ الفاصل الزمني بين آدم ونوح (علیه السلام) غير معلوم وإن قيل إنّه ألف سنة، وحتّى لو كان كذلك فهو يقتضي حسب العادة انتشار نسل كثير من البشر.

ويبعد جدّاً حسب مقتضيات الحياة البدائية أن يبقى كلّ هذا البشر في منطقة

ص: 75


1- يس (36): 41 .
2- الحاقة (69): 11 .
3- مریم (19) :58 .

واحدة، وطبيعة الحال تقتضي تفرقهم لتأسيس مرافق الحياة بالزراعة والرعي ونحو ذلك.

وممّا يشهد لذلك قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ » (1) . فالظاهر من التعبير بقومه وقومك وقومي أنّهم جمع خاص من البشر، وإلّا لكانت الآية إنّا أرسلنا نوحاً إلى الناس أن أنذرهم ولكان المناسب أن يخاطبهم أيها الناس.

ولكنّ الصحيح أن المراد « الباقون على الأرض» بقرينة قوله تعالى في حكاية دعائه (علیه السلام): « رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا » (2) ، ومن البعيد جدّاً أن يحكي الله تعالى دعاء رسوله إن لم يستجب له.

وربما يقال: إنّ المراد بالأرض في هذه الآية أرض تلك المنطقة فحسب وهو احتمال ضعيف جدّاً من حيث ظاهر اللفظ ومن حيث السياق. فالنتيجة أنّ البشر كلّهم هلكوا إلّا من كان في السفينة. وبموجب الآية السابقة لم يبق منهم إلّا ذرية نوح (علیه السلام).

« وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» ، المراد ب-«الترك » الإبقاء ، أي أبقينا على ذكره في الآخرين، فاعتبر إبقاء الذكر كأنّه إبقاء على الشخص نفسه. والمراد ب-«الآخرين» الأمم المتأخرة عنه وربّما قيل: إنّ هذه الجملة تتعلق بالجملة التالية، أي تركنا عليه هذا القول: « سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ » . وهو بعيد وتكلّف لا حاجة إليه.

هذا، وإبقاء الذكر في الدنيا ليس مهماًّ في حدّ ذاته ولا ينتفع به الإنسان الغابر، فكم من فاجر يثنى عليه على المنابر طيلة القرون وهو معذب بأعماله، وكم من

ص: 76


1- نوح (71) :1 - 2 .
2- نوح (71): 26 .

مؤمن صالح مقرّب عند الله لا يعرفه أحد، فلا ينتفع الأول بالثناء ولا يضرّ الثاني خفاء ذكره ولكنّ الإبقاء على ذكر الأنبياء والمرسلين وكلّ من له هدف صالح في المجتمع البشري فيه أثر حميد له ، لأنّ إبقاء ذكره إبقاء لطريقته وسنته. ومن هنا دعا إبراهيم (علیه السلام) ربّه بقوله: «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.» (1).

« سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ» ، هذا إنشاء سلام من الله تعالى عليه، والأصل في السلام دعاء بالسلامة والقصد الجدي فيه إنشاء ما يلازمه من التحية والإكرام.

وقوله: « فِي الْعَالَمِينَ» إمّا بمعنى أنّه موضع إجلال وإكرام في شتّى العوالم عالم الدنيا والبرزخ والآخرة، وفي كلّ أزمنة الحياة الدنيا، وإمّا بمعنى كلّ الناس، فإنّ العالمين يطلق على كلّ البشر باعتبار تقسيمهم بحسب الطوائف والأزمنة والأمكنة إلى عوالم وإن كانت كلمة «عالم» تشمل جميع ما سوى الله تعالى. ولذلك يقال: إنّ «عالمين» ليس جمعاً للعالم، لأنّه أكثر منه شمولاً، بل لا يمكن أن يجمع العالم، إذ لا يمكن أن يكون له أكثر من مصداق، ولكن حيث إنّه باعتبار آخر يطلق على كلّ مجموعة من الأشياء يصحّ الجمع. وعليه، فالمراد أنّ السلام عليه في جميع المجتمعات المختلفة البشرية.

وقيل : المراد عوالم الملائكة والجنّ والإنس.

ولم .. هذا التعبير في غيره، وذلك لأنّه أقدم الأنبياء (علیهم السلام)، فكلّ من اتبع ديناً من الأديان السماوية يقرّ برسالته (علیه السلام).

« إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » ، تعليل لما مر من النعم التي خصّ الله بها نوحاً (علیه السلام). وليس المراد بالطبع أنّه تعالى يجزي كلّ محسن بكلّ ما جزى به نوحاً، كما هو

ص: 77


1- الشعراء (26): 84.

واضح بل المراد أنّه يجزي كلّ محسن حسب إحسانه. والمراد ب-«المحسنين» إمّا كلّ من أحسن عمله وأتقنها، فكلّ عمل يعمله يأتي به بأحسن وجه، وإمّا كلّ من كثر إحسانه وأعماله الصالحة وإن لم يتقن كلّ عمل. والأنبياء (علیهم السلام) محسنون بكلا المعنيين، فنوح (علیه السلام) صبر أحسن صبر وجاهد أحسن جهاد ودعا إلى الله تعالى بأحسن وجه.

« إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ » ، هذا تعليل لما قبله ولعلّه تعليل لكونه من المحسنين، فهو إشارة إلى أنّ المناط في الإحسان هو العبودية والإيمان، فكلّما كمل هذان الوصفان كمل الإحسان، فإذا رأينا في أنفسنا دعوى العبودية والإيمان ولم نجد الإحسان في أعمالنا فهو دليل على عدم الواقعية في تلك الدعوى، فإنّ العبودية والإيمان يستتبعان الإحسان في العمل.

وهاتان الآيتان تحقّقان الهدف من ذكر قصص الأنبياء (علیهم السلام)، وذلك بتعميم النتائج على كلّ المحسنين وعباد الله المؤمنين، ليتمّ بذلك تسلية الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين به ليصبروا على أذى المشركين، ويتمّ بذلك أيضاً تحذير المشركين بأنّ الله تعالى ينصر أنبياءه وأولياءه.

« ثمّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ » ، السبب في تأخير ذكره مع أنّه حدوثاً ليس متأخراً عن كلّ ما سبق - كما هو واضح - بلحاظ أن الأنسب بالسياق أن يذكر ما أنعم الله به على نبيه، ثمّ يذكر نزول العذاب ونحوه لما ذكرنا من أنّ الظاهر أنّ القصد من سرد حكايات الأنبياء هنا بيان ما أنعم الله به عليهم تسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وللمؤمنين به. فالتراخي المستفاد من «ثمّ» إنّما هو في الذكر، لا في ظرف الحدوث. وحيث لم يتقدم في الذكر إلّا نوح (علیه السلام) وأهله وذريته، فالآخرون كلّ من لا يدخل في هذه المجموعة. ويؤيد ذلك ما تقدم من أنّ المؤمنين به كلّهم كانوا من ذريّته.

ص: 78

سورة الصّافّات(83 – 87)

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)

« وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ » ، إبراهيم (علیه السلام) يدّعى أبا الأنبياء، لأنّ أنبياء بني إسرائيل وهم معظم من ذكروا في القرآن من ذرّيّته والله تعالى يعتبره من شيعة نوح (علیه السلام) و«الشيعة» هم الذين يشايعون أحداً، أي يتّبعونه.

وفي سرّ هذا التعبير احتمالان :

الأول: أنّ إبراهيم يعتبر ممّن يتبع شريعة نوح (علیه السلام)، وذلك لأنّه لم يكن بينهما شريعة أخرى مع بعد الزمان ويؤيد هذا الاحتمال أنّه اعتبره من شيعته، أي بعض شيعته ولا شك أنّ الذين اتبعوا شريعة نوح في زمانه وبعده إلى عهد إبراهيم (علیه السلام) كثير جدّاً لبعد الزمان.

الثاني: أنّه تبعه في خصوص كونه من العباد المؤمنين الذين بكمالهم في العبودية والإيمان بلغوا درجة الإحسان، فاستحقوا ذلك الجزاء الجزيل من الله تعالى في الدنيا والآخرة. ويشهد لهذا الاحتمال قوله في مقام التعليل أو الظرفية: «إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ »، فتكون المشايعة في هذا الأمر بالخصوص، لا المتابعة في الشريعة التي لا تخص الأنبياء .

وعلى كلّ حال، فهذه الآية تدلّ على سموّ مقام نوح (علیه السلام) ورفعته حيث اعتبر إبراهيم (علیه السلام) جلالة قدره - كما سيتبيّن من الآيات التالية - من جملة أتباعه ويحقّ له ذلك، فإنّه مضافاً إلى تحمّله الشدائد لنشر التوحيد وتبليغ الشريعة، قد

ص: 79

أسدى للبشرية نعمة عظيمة بصنعه السفينة وإبقائه على النسل البشري، بل كان هو السبب في نزول السلامة والبركة من الله تعالى على أجيال البشر بعده حيث خوطب حين نزوله من السفينة: «قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ » (1).

«إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ »، في مجيئه إلى ربّه احتمالان:

الأول: أن يراد به حضوره عند ربّه مع قلب سليم، فتكون «الباء» للمصاحبة. والإنسان يحضر عند ربّه في الدنيا حين عبادته وصلاته وتوجهه إلى ربّه.

والثاني: أن يكون «الباء» للتعدية، فالمعنى أنّه أحضر عند ربّه قلباً سليماً، والأول أوفق بتنكير القلب.

وهناك مورد آخر للحضور بقلب سليم وهو الحضور يوم القيامة، كما ورد عن لسان إبراهيم (علیه السلام): «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » (2).

وقد ورد في الحديث أنّ القلب السليم هو القلب الذي يلقى الله عزّ وجلّ وليس فيه أحد سواه (3). فإبراهيم (علیه السلام) حضر أمام الله سبحانه وليس في قلبه إلّا الله، لا يحب شيئاً إلّا في الله، ولا يبغض شيئاً إلّا في الله.

ولذلك عقّبه بالاستشهاد بموردين أبرز فيهما إبراهيم تفانيه في الحبّ لربّه، أحدهما في مواجهته لأبيه وقومه دون هوادة، والثاني - وهو أجلّ وأعظم - محاولته ذبح ابنه بيده إطاعة لربّه وهو الولد الذي طالماً دعا ربّه أن يرزقه، فلمّا صار غلاماً يتوقّع منه النفع ورآى منه غاية الإيمان لربّه حيث طالبه بالإسراع في

ص: 80


1- هود (11) :48 .
2- الشعراء :(26) 88-89 .
3- راجع الكافي 2 :16 .

التنفيذ حاول ذبحه بيده تنفيذاً لأمر الربّ. والظّاهر أنّ هذا ممّا لم يبتل الله تعالى به أحداً من المرسلين وغيرهم. ولا يكون ذلك إلّا من يكون قلبه في غاية السلامة، ليس فيه مجال لأحد غير الله سبحانه.

وورد في حديث آخر أنّ المراد السليم من الشكّ (1). والشكّ أمر غريب يتسلّل إلى قلوب المؤمنين المخلصين، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنّه سليم منه، وأنّ ما في قلوبنا هو اليقين الكامل ، والله تعالى يقول: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ » (2)، فكلّ ما نجده ونحن نعتقد أنّنا مؤمنون وخاشعون ليس إلّا الظن، والله تعالى لا يريد منّا أكثر من ذلك، لأنّه أعلم بما خلق، ويعلم أنّ السليم من الشك قليل جدّاً، فلا يمكن لأحد أن يقول: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً » (3) إلّا أمير المؤمنين ومولى الموحّدين علي بن أبي طالب (علیه السلام).

ولولا السلامة الكاملة من الشكّ في قلب إبراهيم (علیه السلام) لم يقدم على ذبح ابنه بيده لرؤيا رآه، ولو كان غيره لالتمس شتّى المعاذير للتهرّب، حتّى لو لم يكن حلماً، بل كان أمراً صريحاً، فإنّا نجد من أنفسنا ومن غيرنا كيف نتهرّب من التكاليف العامّة حتّى لو كان يتعلّق بدفع المال، فكيف ببذل النفس وأي نفس؟!

«إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ»، هذا هو المشهد الأوّل ممّا یدلّ على سلامة قلبه (علیه السلام)، وقد تكرر ذكر هذا المشهد و مخاطباته مع أبيه وقومه، ولكنّه هنا مختصر يراد به الاستشهاد على سلامة نفسه وقلبه، وأنّه ما كان يهتمّ بالعلاقات

ص: 81


1- راجع : نفس المصدر.
2- البقرة (2) :45 - 46 .
3- غرر الحکم و دررالکلم: 566 .

الاجتماعية، وأواصر الودّ والأخاء والقرابة، فإذا اقتضى الأمر أن يواجه أفكار قومه وعاداتهم ويستنكرها لم يمنعه مانع ولم تأخذه في الله لومة لائم، فتجده بكلّ صلابة يحتقر أهمّ شيء لديهم وهو ما توارثوا احترامه وعبادته والسجود له، فيخاطبهم باستفهام إنكاري: ماذا تعبدون؟ أي ما هذا الشيء الذي تعبدونه؟ وفي هذا اللحن احتقار واضح لأصنامهم.

و «إذ» في أوّل الجملة ظرف لقوله : «جاء» أو لقوله: «سليم» في الآية السابقة، أي أنّ قلبه كان سليماً حيث قابل أباه وقومه بهذه الشدة. ولذلك قلنا: إنّ المراد بهذا، هو الاستشهاد على سلامة نفسه وقلبه. ويمكن أن يكون بدل اشتمال من الجملة السابقة.

هذا ، وقد مرّ في سورة العنكبوت البحث في أنّ ما يعبّر عنه في القرآن ب-«الأب» في قصة إبراهيم (علیه السلام) هل هو والده أم من تربى في حجره وهو عمه أو أبو أُمّه كما يقال ؟ وقلنا: إنّ ما استدلّ به العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في نفي كونه والده استدلال لطيف وواضح وهو أنّه (علیه السلام) استغفر لوالديه في أواخر حياته وبعد أنّ بنى الكعبة وأسكن ذرّيّته من إسماعيل (علیه السلام) هناك حيث قال: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » (1)، ولا يمكن أن يستغفر لأبيه الضالّ حيث قال تعالى: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ » (2)، و إنّما استغفر له قبل أن يتبيّن له ذلك، كدعائه المحكي في سورة الشعراء وهو بعد في قومه.

فالحاصل أنّ هذا الرجل ليس والده، و إنّما يعبّر عنه بالأب لأنّه ربّاه وهذا

ص: 82


1- إبراهيم (14): 41 .
2- التوبة (9): 114 .

تعبير شائع، و یدلّ على أنّه كان يحترمه ويحبّه، بل يحتاج إليه في شؤون حياته، ولكن ذلك لم يمنعه من مواجهته واستنكار عمله، وكذلك مع قومه وكبرائهم وهو بحاجة إليهم ومستظهر بهم.

«أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ »، «الإفك » هو الصرف عن الحقّ إلى الباطل، ولذلك يطلق على الكذب وتريدون أي تطلبون و«الإرادة» تتعلق بالأفعال لا بالذوات، فلا بدّ من تقدير فعل وهو الاتّخاذ والمعنى هل تتخذون آلهة بدلاً عن الله كذباً وانصرافاً عن الحقّ إلى الباطل ؟!

وقدّم المفعول لأجله وهو «إفكاً» مع أنّ شأنه التأخير، لأنّ التركيز إنّما هو على ذلك فهو يريد أن يقول: إنّكم لم تختاروا ذلك جهلاً، بل إنّكم تعلمون أنّ هذه الأصنام لا يمكن أن تكون آلهة وهي من صنعكم، و إنّما تتخذونها آلهة إفكاً وزوراً، كما صرّح (علیه السلام) في موضع آخر بأنّ السرّ في التفافكم حول هذه الآلهة ليس إلّا الإبقاء على العلاقات الاجتماعية الزائفة التي أُسِّست على هذه الأوهام: «وَقَالَ إنّما اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.» (1).

وهذا داء عامّ وبلاء عظيم نجده في كلّ هذه التعصبات والتحزّبات الفاسدة بل حتّى الانحياز إلى الأشخاص من دون ما يستوجبه العقل والمنطق، ونجد بعضهم يصرّحون بأنّا لو تركنا فلاناً لاختلفت وتفرقت القبائل والبيوت.

والحاصل: أنّ هؤلاء ما كانوا يعبدون الأصنام جهلاً، و إنّما كانوا يعبدونها إفكاً وحفظاً لتقاليد الآباء التي هي أساس الوحدة في المجتمعات المتخلفة ثقافياً، كما كانوا يقولون في بعض مخاطباتهم له (علیه السلام) «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ

ص: 83


1- العنكبوت (29) :25 .

يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ »(1).

« فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ » ، الظاهر أنّ المراد بهذه الجملة أنّكم ما ذا تتوقّعون أن يصنع بكم رب العالمين؟ وعلى هذا، فالجملة تدلّ على أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ للعالمين رباً وأنّه هو الذي يجب أن يعبد، ولكنّهم يعبدون الأصنام تمسكاً بتقاليد الآباء، ومعنى ذلك أنّهم كانوا يتوقّعون عذاباً من الله، ولكنّهم يستهينون به كغيرهم من أهل الدنيا والتابعين لشهواتهم وميولهم.

ويشهد لهذا التفسير ما مرّ آنفاً من آيات سورة الشعراء في محادثتهم معه (علیه السلام) «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ » فیدلّ ذلك على أنّهم كانوا يعلمون أنّها لا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع ومع ذلك كانوا يعبدونها تبعاً للآباء. وهذه التبعية العمياء مشهودة في كثير من الناس.

ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن تصوّرهم لربّ العالمين، يعني كيف تتصوّرون ربّ العالمين حيث جعلتم له أنداداً ، فهو بهذا السؤال يريد أن ينبّههم إلى أنّ جعل الأنداد لله تعالى يبتني على الجهل بمقام رب العالمين وعدم معرفته.

والاحتمال الثالث: أن يكون المراد استنكار أن تعتبر الأصنام ربّاً للعالمين، فتعبد بعد افتراض تسليمهم بأنّ المعبود يجب أن يكون ربّاً للعالمين، فمعنى العبارة هل تظنّون أنّ هذه الأصنام أرباب للعالمين؟! وهذا بعيد عن معتقداتهم. ومهما كان، فالاحتمال الأول هو الأقرب.

ص: 84


1- الشعراء (26) :72 - 74 .

سورة الصّافّات (88 – 98)

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

« فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ» ، المنقول هنا قصة إبراهيم (علیه السلام) مع قومه باختصار، وقد فصّل بعض مواضعه في سور أخرى، وهكذا القرآن يركز في كلّ موضع على جهة من جهات القصة فيفصلها، ويهمل جهات أخرى، أو يجملها، والتركيز هنا على قوة إيمان إبراهيم وإحسانه، وأنّه استتبع الجزاء الجميل من الله تعالى، كما هو الحال في سائر ما ينقل هنا من قصص الأنبياء (علیهم السلام).

قيل في تفسير هذه الآيات: إنّ قوم إبراهيم (علیه السلام) كانوا يخافون من أن ينال آلهتهم بسوء، خصوصاً بعد ما هدّدهم بذلك بقوله: «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ » (1)، وإنّهم كان لهم يوم عيد، فكانوا يخرجون من المدينة لتقاليد خاصّة بذلك اليوم ويتركون الأطعمة ونحوها عند أصنامهم، يعتقدون أنّها تتبرك بهم، ثمّ يتناولونها بعد رجوعهم، ففي ذلك اليوم طلبوا أو توقّعوا من إبراهيم (علیه السلام) أن يخرج معهم، « فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ *فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ » وهكذا اعتذر من الخروج معهم.

ويقال في وجه نظره في النجوم أمران:

ص: 85


1- الأنبياء (21) :57 .

أحدهما أنّه ربما كان لمرضه موعد يعلمه، فنظر إليها لمعرفة الوقت فتبيّن له أنّه موعده.

والثاني: أنّه أراد بذلك إيهامهم أنّه يستوحي من النجوم جرياً على اعتقاداتهم في تأثير الكواكب.

واعترض على هذا التفسير وهو مذكور في التفاسير عامّة أنّه يستلزم نسبة الكذب إلى إبراهيم (علیه السلام) حيث قال: إنّي سقيم ولم يكن مريضاً .

وأجيب تارة بأنّه لعلّه من معاريض الكلام، فيكون قد استخدم التورية، كما لو قصد أنّه سيكون مريضاً في المستقبل، ولكنّه يوهمهم بذلك أنّه مريض فعلاً.

وأجيب أخرى بأنّه لعلّه كان مريضاً والإنسان لا يخلو من مرض وإن لم يكن مرضه مانعاً من خروجه معهم، فالإيهام إنّما هو من هذه الجهة.

ويمكن أن يكون مراده (علیه السلام) أنّه سقيم نفسياً من جهة تأثره البليغ من كفرهم وعنادهم، وهذا ربّما يسبّب في الإنسان مرضاً وسقماً أبلغ ممّا تؤثره العوامل الأخرى.

وقد دار البحث بين المفسّرين حول جواز صدور التورية من الرسول. ووقع مثل هذا الإشكال في قوله (علیه السلام): «قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ » (1)، حيث نسب كسر الأصنام إلى كبيرهم الذي لم يكسره إبراهيم (علیه السلام) ولعلّه تركه ليلقي الإثم عليه ويثير فيهم التساؤل.

ومهما كان فهذا التفسير يبتني على تقدير ما لا دليل عليه في اللفظ، إذ لا بدّ من تقدير أنّ قومه أرادوا الخروج للعيد وطلبوا منه الخروج معهم، فنظر نظرة في

ص: 86


1- الأنبياء (21): 63 .

النجوم وهو بعيد عن ظاهر اللفظ، حيث إنّ ظاهره أنّ نظره إلى النجوم والقول بأنّه سقيم هو المترتّب على ما سبق من اعتراضه على آلهتهم لمكان «الفاء» في أوّل هذه الآية، وهو الباعث على تولّيهم ،مدبرين، لمكان «الفاء» أيضاً على تلك الآية.

وروى الصدوق في معاني الأخبار عن رجل من أصحابنا، عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قلت له قوله تعالى: «إِنِّي سَقيمٌ» فقال: «ما كان إبراهيم سقيماً وما كذب، إنّما عنى سقيماً في دينه مرتاداً» (1). والظاهر أنّ المراد أنّه كان طالباً وباحثاً عن الحقيقة كالسقيم الذي يبحث عن العلاج.

ويبدو من هذه الرواية أنّ النظر في النجوم إشارة إلى القصة المذكورة في سورة الأنعام من أنّه نظر إلى الكوكب، فقال: «هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ » (2)، ثمّ رأى القمر، ثمّ رأى الشمس.

ويقع السؤال في هذه القصة أنّه (علیه السلام) هل كان متردداً واقعاً أو أنّه كان يظهر نفسه كذلك ليجرّ القوم إلى التفكر والتدبّر في أمر الربوبية والانتهاء إلى ربوبية رب العالمين دون سواه، فاقترح عليهم عبادة الكوكب واعتباره ربّاً، لأنّه أفضل من الصنم وأجمل، وهكذا القمر، ثمّ الشمس، ثمّ انتهى إلى تفنيد كلّ ربوبية إلّا ربوبية الله سبحانه وتعالى؟

الصحيح أنّه لم يكن متردّداً واقعاً بل كان يظهر ذلك ليجرّ قومه إلى الإيمان. وإن لم تصرّح الآيات بهذا الأمر. وعلى كلّ حال فالظاهر حسبما يستفاد

ص: 87


1- معاني الأخبار: 210 .
2- الأنعام (6): 76 .

من هذه الرواية أنّ هذه الآية تشير إلى تلك القصة ولا حاجة إلى تقدير.

«فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» ، التولّي هو الإعراض و« مُدْبِرِينَ» حال مؤكدة، لأنّ التولّي يقتضي بنفسه الإدبار. فبناءً على تفسير القوم: تولّوا عنه حينما سمعوا اعتذاره وخرجوا من البلد على عادتهم، وبناءً على هذه الرواية: تولّوا عنه حينما دعاهم إلى عبادة الله سبحانه واستدلّ على نفي ربوبية الأصنام بما ذكر. والتعبير يوحي بأنّهم بعدوا عنه جدّاً وتيقّن عدم عودتهم قريباً، فانتهز الفرصة لكسر الأصنام. ولو صحّ تفسير القوم لكان المناسب أن يشار إلى خروجهم عن المدينة ولا يكتفى بتولّيهم وأدبارهم.

«فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ »، «الروغ» و «الروغان» الميل على سبيل الاحتيال، ويطلق على حركة الثعلب للانقضاض على الفريسة والمراد أنّه هجم على الأصنام مسارقة، لئلّا يشعر به أحد فيمنعه. وهذا يتمّ بناءً على الرواية، فإنّه كان بحضور القوم في المدينة، وأمّا بناءً على تفسير القوم، فلا بدّ من افتراض أنّ بعض العبيد والخدم كانوا باقين في البلد ليصحّ التعبير ب-«الروغان».

«فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ » ، يظهر من هذا السؤال أيضاً أنّه كان هناك بعض الناس حاضري الموقف، فأراد أن يهديهم إلى الحقّ وأنّ هذه الأصنام لا تعقل شيئاً ولا تنطق ولا تفهم الخطاب، فكيف تكون آلهة تدبّر الكون؟! فخاطبها أمامهم: « أَلَا تَأْكُلُونَ » .

وقيل: يمكن أن يكون ذلك من قبيل حديث النفس، فإنّ الإنسان - خصوصاً في مثل هذه الظروف العصيبة - يحدث نفسه ويحدث الأشياء، فلعلّه خاطبها بذلك منفرداً ليفرغ شحنته التي كادت تنفجر من سخطه على جهل الناس وغبائهم.

ص: 88

هكذا ورد في التفاسير وإن كان ذلك بعيداً عن إبراهيم (علیه السلام) وهو يعلم أنّ الأصنام جمادات لا روح فيها. والأقرب هو الأول وأنّه (علیه السلام) كان يخاطبها بحضور بعض العبيد والمستضعفين من الناس، طمعاً في هدايتهم، فالأنبياء يميلون إليهم أكثر من كبراء القوم، وهم أيضاً إلى الأنبياء أميل.

« فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ » ،أي مال عليهم، وضمن معنى الضرب، فقوله: « ضَرْباً» مفعول مطلق، أو يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي ضارباً باليمين أي باليد اليمنى والضرب باليمين كناية عن أنّه ضربها بقوة فكسّرها تكسيراً، فإنّ اليد اليمنى رمز للقوة والشدة.

« فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ »، «الزفاف» الإسراع أو الحركة مصاحباً للهجوم، ممّا یدلّ على غضبهم وهياجهم والمراد تصوير حالتهم في مقابلة رجل واحد وهم حشد كبير من الناس في حالة هياج وغضب شديد هجموا عليه منتقمين لآلهتهم، ولكن هذا الواحد أقوى من كلّ من على الأرض، فلو اجتمع عليه أهل الأرض جميعاً ما هابهم، لأنّه مدعوم من جبار السماوات والأرض، فلا يهاب الصعاليك مهما كثر جمعهم، واشتدت قوتهم، وهاجت ضمائرهم.

والقصة مذكورة هنا باختصار وقد ورد بعض التفاصيل في سورة الأنبياء، فمنها أنّه ترك كبيرهم حتّى يوهم الجهّال أنّه هو الذي كسّرهم ليستتبع إنكارهم لذلك وعدم تمكنه من كسرها، فيكون إنكار كبراء القوم لتمكّن كبير الأصنام من الكسر منبهاً للضعفاء والشباب بعدم إمكان ربوبية الأصنام.

ومنها: أنّهم حينما جاؤوا إلى معبدهم أو رجعوا من سفرهم الجماعي على ما ذكره القوم سالوا أو تساءلوا فيما بينهم من فعل هذا بآلهتنا؟ وجاءهم الجواب:

ص: 89

«قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ » (1)، فيحتمل أن يكون هذا الجواب من بعضهم وهم الذين سمعوا منه مقولته الواردة في سورة الأنبياء أيضاً: «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ » (2)، ويحتمل أن يكون من العبيد والخدم والمستضعفين الباقين في المدينة. ولعلّهم مالوا إليه واستحسنوا فعله، فلم يذكروا ما شاهدوه ولم يصرّحوا به، بل اكتفوا بهذه المقولة خوفاً من الإخفاء التامّ.

« قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ » ، هنا أيضاً يختصر القصّة وفي سورة الأنبياء يتبيّن أنّه لا تمكن في بدو الأمر من تنبيههم وتحريك ضمائرهم المتحجرة: «قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ *قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ *فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ *ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ » (3).

و«النحت » بري الخشب أو الحجر أو نحوهما حتّى يكون بالهيئة التي تريدها، يعني أنّ العبادة يجب أن تكون للربّ الذي يؤثّر في الكون ويرجى منه كلّ الخير ويخاف سطوته وغضبه لا ما تنحتونه بأيديكم، فهذا أمر يحتاج في تكوّنه إليكم، فكيف يتصوّر أن يكون مؤثراً في الكون؟!

وهذا الأمر على غرابته من أدواء البشرية في كلّ عصر، فالإنسان يطيع الشخصية التي هو يصنعها وهو يكبرها ويعظمها، ولولا انتخابه واختياره وتصفيقه لكلامه لم يكن له أيّ ميزة ولم يستحق أي تبجيل. ومع ذلك فهو بعد اختياره يتحوّل إلى صنم يقدس ويطاع وينظر إلى أقواله التافهة، وكأنّها حكم صدرت من حكيم مع أنّه لم يزد على ما كان عليه قبل الاختيار.

ص: 90


1- الأنبياء (21) :60 .
2- الأنبياء (21): 57 .
3- الأنبياء (21): 62 - 65.

« وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ »، يعني أتعبدون الأصنام وتتركون عبادة الله الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي تصنعونها وتعبدونها. وذلك لأنّ صنع الإنسان ليس إلّا تغييراً في الصورة، وأمّا مادة الصنم فهي من الطبيعة ومخلوقة لله بل الصورة أيضاً مخلوقة له تعالى، فإنّ الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلّا بإذنه تعالى ولا حول ولا قوة له إلّا به.

وقد صارت هذه الآية مثاراً لجدل طويل بين الأشاعرة والمعتزلة، فالأشاعرة يقولون: إنّ «ما» هنا مصدرية، ومعناه أنّه تعالى خلقكم وخلق أعمالكم، فالإنسان ليس له أي دور في الوجود، بل هو مسير كما أراد الله تعالى، والمعتزلة يقولون: إنّ «ما» موصولة، والمراد أنّه تعالى خلق ما تعملونه أي تصنعونه والمراد به الأصنام، فلا یدلّ على أنّه تعالى خالق لأفعالنا. والصحيح أنّ كلا الوجهين جائز، وأنّه لا یدلّ على شيء من المذهبين كيفما فسّرت كلمة «ما».

« قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ »، هكذا يردّ المتعصّبون الجهلة على المنطق والحجة، وهكذا يواجهون المصلحين والأنبياء. ويظهر من السياق أنّه (علیه السلام) أثر في المجتمع وتوجّهت إليه القلوب، بل يستفاد من سورة الممتحنة أنّ جمعاً آمنوا به واتّبعوه حتّى في شدّته وتصلّبه في مقابلة أعداء الله. قال تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ » (1) ، وإن كان من المحتمل أنّ ذلك حدث بعد الإعجاز الذي رأوه من أن النّار صارت عليه برداً وسلاماً.

ص: 91


1- الممتحنة (60): 4 .

ومهما كان، فالذي يظهر من الآية أنّ القوم خافوا تأثيره العميق في المجتمع، فأرادوا التهويل وإرعاب القلوب حتّى لا تميل إليه وإلى أفكاره، ولذا لم يكتفوا بقتله، بل أرادوه قتلة فجيعة فظيعة وإلّا لم يكن حاجة إلى بناء بنيان، ثمّ تأجيج نار عظيمة. و«الجحيم» هو النار العظيمة الشديدة التأجّج.

ويشهد لهذا التأثير أنّ القوم حينما سمعوا كلامه في اتّهام كبير الأصنام بكسر الباقين رجعوا إلى أنفسهم وقالوا: إنكم أنتم الظالمون.

« فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ » ،نعم أنّ القوم كادوا بهذا النبيّ العظيم شرّ مكيدة، ولكنّ الله تعالى كان في عون عبده فحفظه من كيدهم. ولإبراهيم (علیه السلام) مكانة عظيمة لدى الله سبحانه، ولذلك حفظه وأفاض عليه النعم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: « وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (1). ومن جلالة قدره الذي لا يبلغ علاه أنّ الله تعالى اتّخذه خليلاً، وهذا التعبير لم يرد في أحد غيره، وهو تعبير عجيب، فأين الإنسان وأين رب السماوات والأرض؟ وكيف يمكن أن يكون خليلاً له؟ لا يسعنا التفكير في ذلك حتّى نصل إلى جواب!

والآية هنا لم تذكر تفصيل ما حدث، ولكن ورد في سورة الأنبياء: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ » (2)، ولكن التعبير هنا يوحي بأنّهم لم يتمكّنوا من إلحاق أي أذى به، وهو قوله تعالى: « فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ » فهذا التعبير يصوّرهم فى أسفل قاع من الأرض وكأنّ إبراهيم (علیه السلام) على قمة الجبل لا تصل إليه أيديهم

ص: 92


1- العنكبوت (29): 27 .
2- الأنبياء (21): 69 .

فلعلّه كناية عن عدم تمكّنهم منه نهائياً. وطبيعة الأمر تقتضي ذلك، لأنّ هذه النار العظيمة كان المتوقّع أن لا تبقي من إبراهيم أثراً بعد إلقائه فيها، ولكنّه جلس فيها مطمئناً وفي برد وسلام، ثمّ خرج منها منتصراً، وذلك آية عظيمة ومعجزة باهرة، فمن الطبيعي أن يطأطئ القوم رؤوسهم له ويهابوه ومع ذلك لم يؤمنوا به. وهذا هو الضلال المبين.

ص: 93

سورة الصّافّات(99 – 113)

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

« وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » ، لم يذكر القرآن الكريم كم بقي إبراهيم (علیه السلام) في قومه بعد ذلك، و إنّما ورد أنّه تركهم وهاجر، ففي سورة مريم: «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (1) . وهنا: « وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » ولهذه الهجرة مغزى عميق حيث لم يذكر إبراهيم (علیه السلام) وجهة مقصده، فهو لا يقصد مكاناً خاصاً بعينه، إنّما يهاجر إلى ربِّه، كما ورد في سورة العنكبوت: «وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي» (2)، فالمقصد هو الله، فخرج من عند قومه مهاجراً إلى ربّه، متوكلاً عليه، تاركاً وراءه كلّ ما يعتمد عليه الناس في شؤون حياتهم، وهو واثق من أنّه تعالى لا يهمله، ولذلك يقول برباطة جأش وطمأنينة نفس: « إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ » وهكذا يجب أن يكون المؤمن يكل أمره إلى ربّه وهو يتولّى الصالحين.

ص: 94


1- مريم (19): 48 .
2- العنكبوت (29): 26 .

ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الهجرة في ذلك الزمان الذي كان المعوّل في كلّ أمر على القوم والعشيرة صعب وخطير جدّاً، فما كان لشخص بمفرده أن يحافظ على نفسه وكيانه إلّا في ظلّ الاحتماء بالعشيرة، ولم تكن هناك حكومات تضمن حماية المواطنين، ولكن مؤمناً صادقاً كإبراهيم (علیه السلام) لا يهمه شيء ولا يشعر بالوحدة والوحشة ومعه ربّه سيهديه ويحميه وهو حسبه : «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ » (1)، ولذلك لم يتلعثم أو يتردّد إبراهيم (علیه السلام) في الاعتماد على ربّه، بل صرّح في خطابه بكلّ صراحة وصرامة وبلهجة قاطعة « سَيَهْدِينِ » !!! وهذا كلام المؤمن الواثق بربّه وبعنايته.

وأطلق الهداية فهو يتوقّع من ربّه أن يهديه سواء الصراط من كلّ جهة، فلا يسلك سبيلاً إلّا كان فيه خير الدنيا والآخرة. وهكذا وفّق لنيل غاية السعادة في النشأتين.

« رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » ، ثمّ دعا ربّه وطلب منه ولداً صالحاً. ومن الغريب أنّ القرآن لم ينقل عنه (علیه السلام) في هذه الهجرة دعاءً وحاجة يصرّ عليها إلّا الولد الصالح، ولعلّه (علیه السلام) كان يحزّ في نفسه قلة المؤمنين، فكان يدعو ربّه أن يرزقه أولاداً صالحين يؤمنون بالله ويكملون المسيرة، فلم يكن همّه كثرة الأولاد كغيره ممّن يطلب أولاداً ليكثر نسله، أو يتباهى بهم، أو يتقوّى. ولذلك لم يطلب أولاداً أقوياء أو أصحاء أو ذوي بهاء وجمال، و إنّما طلب أولاداً صالحين يكملون مسيرته في الدعوة إلى الله، فهذا هو هاجس الأنبياء (علیهم السلام)، فإن لم يكونوا صالحين فهو لا يريدهم.

ص: 95


1- الزمر (39) :36 .

والله تعالى وهب له ما طلب ولكن بعد زمن طويل. ولا يعلم وجه الحكمة في هذا التأخير إلّا الله سبحانه، فلم يرزق بولد إلّا بإسماعيل ثمّ إسحاق (علیهما السلام) وذلك بعد كبر سنّه ويأسه من أن يكون له ولد بصورة طبيعية. فإسماعيل (علیه السلام) من هاجر وهي كانت أمة لزوجته سارة وهبتها لزوجها، وإسحاق (علیه السلام) من سارة.

ومهما كان، ففي هذا التأخير والإبطاء في استجابة دعوة الخليل (علیه السلام) درس للمؤمنين أن لا ييأسوا من روح الله تعالى إذا تأخّرت الاستجابة، ولعلّ في التأخير خيراً لهم، بل لعلّ في استعجالهم للاستجابة شراً لهم وهم لا يعلمون «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » (1). وإبراهيم (علیه السلام) بلغ حداً قريباً من اليأس، ولذلك استغرب التبشير بالولد من الملائكة ولكنّه نفى أن يكون من القانطين كما في سورة الحجر.

« فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ » ،الفاء للترتب، أي حيث دعا ربّه وطلب الولد بشّرناه بغلام حليم، ولم تكن البشارة في نفس الوقت، بل بعده بزمن طويل.

و«الغلام»: الولد الذكر. وقيل إنّه يطلق عليه من أوّل الولادة، ولكن في أكثر كتب اللغة أنّه لا يطلق إلّا في سنّ المراهقة، ويعبّرون عنه بالطارّ الشارب، أي في أوائل نبات الشارب لديه، وهو يناسب معنى الغلمة، أي هيجان الشهوة.

وربّما يستغرب توصيفه بأنّه غلام حليم، فإنّ الغلام لا يناسبه الحلم، بل ميزته التسرّع والهيجان والاندفاع واللعب، و إنّما الحلم صفة الشيوخ والكبار. فهنا قد اجتمع الضدّان الغلمة والحلم. فقيل إنّ المراد أنّه يبقى إلى زمان الحلم، فيكون ذلك جزءاً من البشارة أيضاً.

ص: 96


1- البقرة (2): 216 .

ولعلّ السرّ في هذا التعبير هو توصيفه بالحلم حين كونه غلاماً - كما يقتضيه قوله تعالى « فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» على ما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى - وهو أمر غريب، بل في غاية الغرابة، وخصوصاً أنّه حلم لم يسبق له مثيل، ولم يخلفه نظير كما سيأتي ذكره

وقد وقع البحث في أنّ هذا الغلام هل هو إسماعيل أو إسحاق (علیهما السلام)، فأكثر أحاديث المسلمين تنصّ على أنّه إسماعيل وهناك دليل واضح من القرآن عليه وهو أنّه في هذه السورة بالذات بعد أن أكمل قصة الغلام الحليم وسلم على إبراهيم، قال سبحانه: « وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » (1) فيتبيّن منه بوضوح أنّ هذا المبشّر به غير من بشّر به أولاً.

وهناك رواية صحيحة مشهورة عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : « أنا ابنُ الذبيحينَ»(2) ، فأحدهما أبوه عبدالله والآخر إسماعيل وهو جد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . ولكنّ اليهود يدعون أنّ قصة محاولة الذبح تخصّ جدّهم إسحاق، وهناك روايات مستقاة من اليهود تدلّ على ذلك وهي من الإسرائيليات.

« فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» ، شروع في قصة أخرى من حياة إبراهيم الخليل (علیه السلام) ممّا أبدى فيه صلابة إيمانه وتوكله على الله، فأيّده الله تعالى بلطف خاصّ وكرامة باهرة، وقد قلنا فيما سبق أنّ الغرض من ذكر الأنبياء في هذه السورة تسليط الضوء على هذا الجانب من حياتهم، ليكون درساً وتذكيراً وتسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وللمؤمنين وباعثاً للطمأنينة في نفوسهم.

ص: 97


1- الصافات (37): 112 .
2- من لا يحضره الفقيه 4 :368 .

والظاهر أنّ المراد ب«بلوغه السعي» أنّه بلغ حداً يمكنه أن يسعى ويبذل جهده

في الحياة ويكتسب المال ويدافع عن نفسه وعن قومه ونحو ذلك من النشاط المتوقع من الشباب وهذا هو الحدّ الذي يتوقع الإنسان أن ينتفع بولده، فأحد الدواعي للاستيلاد هو هذا الانتفاع في الكبر ، ليكون مساعداً له ومعيناً، فهو يخدم الولد قبل بلوغه حدّ السعي لينتفع به بعد ذلك فالغرض من التركيز على ذكر هذا التأريخ أنّه بلغ الحدّ الذي كان إبراهيم يحتاج إليه، فهو قد بلغ الكبر وولده بلغ السعي.

وهناك تأكيد على كون هذا البلوغ معه أي مع إبراهيم فلو كان يبلغ السعي وهو بعيد عنه لكان الأمر أهون، إذ لم يكن في معرض الانتفاع به. فالتأكيد على كلّ هذه الأمور لبيان أنّ القصة وقعت في زمان كان إبراهيم (علیه السلام) في أمسّ الحاجة إلى ولده فهو لم يكن له ولد وقد دعا ربّه أمداً طويلاً، فكان يتلهّف للاستمتاع بوجود ولد صالح بجانبه، وها قد بلغ الكبر ويئس من ذلك بصورة طبيعية.

ثمّ إنّ الله تعالى بشّره بالولد وبشّره بأنّه غلام حليم، فانظر كم كان هذا العبد الصالح متعلّقاً بهذا الولد الذي مدحه الله تعالى؟ ثمّ إنّه بلغ السعي أيضاً وبلغه وهو معه وفي خدمته وهنا أمر بذبحه فيا لها من مصيبة !

«قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ » ، يظهر من الآية تكرر الرؤيا المذكورة، فهو المناسب للتعبير بالفعل المضارع ولو تحقّقت مرة واحدة لقال: «إنّي رأيت» ومن الطبيعي أنّه لا يجوز لأحد أن يذبح ابنه لمجرّد أنّه رأى ذلك في منامه وإن تكرّر ذلك، بل حتّى لو رأى أنّ الله تعالى يأمره بذلك مكرّراً، ولكن رؤيا الأنبياء

ص: 98

تختلف عن رؤيا غيرهم، فهي نوع من الوحي الإلهي، إذ لا يمكن للشيطان أن يؤثّر في رؤياهم وليس له سلطان عليهم.

يبقى السؤال عن السرّ في عدم نزول الوحي بذلك عن طريق الملك على إبراهيم (علیه السلام)، فيمكن أن يكون السرّ فيه أنّ التصريح بمثل هذا الأمر والمواجهة فيه لا يخلو من حزازة، فأراد الله سبحانه أن لا يثقل على خليله، فيأمره بذلك عن طريق الوحي المباشر.

ويمكن أن يكون السرّ هو القصد إلى إبراز صلابة إبراهيم وقوة إيمانه حيث إنّه يطيع ربّه في هذا الأمر الخطير، حتّى لو كان إبلاغه إليه عن طريق الرؤيا، فيكفي لإبراهيم أن يعلم أنّ الله تعالى يريد منه ذلك، بل يكفيه أن يعلم أنّه تعالى يحبّه، فهذا يكفي ليحقّق الداعي في نفسه الشريفة، فلا حاجة إلى إبلاغ الأمر بصرامة وصراحة، فضلاً عن إنشاء حكم جزائي ووعيد بالعقاب على المخالفة. هكذا كان إخلاصه عليه الصلاة والسلام.

ولعلّ أغرب منه هو إخلاص الغلام الحليم إسماعيل (علیه السلام)، فهو في سن المراهقة والأماني والأحلام، واستقبل الذبح بصدر رحب، وقد امتحنه أبوه، فابتدأ كلامه بتعبير مثير للشفقة «يَا بُنَى» والعرب تأتي بالتصغير في مثل هذا الخطاب إيذاناً بالاختصاص. ولا نعلم اللغة واللفظ الدائر في هذا الخطاب بين إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام) إلّا أنّ تعبير القرآن ينمّ عن تعبير في الأصل مثير للشفقة.

ثمّ ذكر له منامه مع أنّه ما كان من المفروض أن يخبره، وهو لا يريد أن يستشيره، بل يريد أن يظهر صلابة إيمان ابنه، كما ظهر صلابة إيمان الأب ،ويريد أن يقبل إسماعيل هذا الأمر برضاه، فلا يكون مرغماً على ذلك.

ص: 99

وهل كان يرى إبراهيم (علیه السلام) أنّه يذبحه؟ ورد في الروايات أنّه كان يرى من يأمره بالذبح، فما ورد من التعبير هنا حكاية لنتيجة المنام.

«فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى» وهكذا استفهمه إبراهيم (علیه السلام) وکأنّه يطلب منه أن يتروّى ولا يستعجل ولكن إسماعيل لم يتروّ ولم يتردّد ولم يستمهل بل....

« قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ»، فهو أيضاً ابتدأ كلامه بخطاب عاطفي: «يا أَبَتِ» ، ثمّ طلب منه أن ينفّذ ما أمر به مهما كان. وهذا التعبير یدلّ على أنّه كان يُلح على أن لا يتهاون أبوه في تنفيذ ما أمر به وتعليق الطلب بالأمر دون أن يطلب منه نفس العمل يفيد أنك لا بدّ لك من العمل بما أمرك به ربّك، لأنّه أمر ربِّك حتّى لو كان بتفجير العالم برمته، فكيف إذا كان الأمر ذبح ابنك؟

« سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»، فهو واثق من نفسه ومن إيمانه، فيؤكّد لأبيه دون أيّ ارتياب أو ترديد أنّه سيكون من الصابرين، ولكنّه لأدبه أمام ربّه ولإيمانه أن لا حول ولا قوة إلّا بالله يعلق تأكيده هذا على مشيئة الله تعالى. ومثله ما ورد فيما حكى الله سبحانه من كلام شعیب (علیه السلام) بعد أن طلب منه قومه أن يعود إلى ملتهم: « وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ » (1)، فالأنبياء المعصومون إنّما عصمهم الله تعالى بلطفه و لا عصمة لهم بالذات.

ومن أدب إسماعيل أيضاً أنّه لم يقل: «ستجدني صابراً » بل قال: « مِنَ الصَّابِرِينَ» فهو ليس منفرداً بالصبر في طاعة الله تعالى وإن كان صبره غريباً، بل يكاد يكون منحصراً فيه إلّا أنّه لتواضعه يعتبر نفسه من مجموعة العباد الصابرين وهكذا ينبغي أن يكون العبد الصالح في طاعة ربّه. ولذلك أمر الله تعالى

ص: 100


1- الأعراف (7): 89 .

مريم(علیها السلام) أن تركع مع الراكعين: «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ » (1) ، حتّى لا يشعر الإنسان بأنّ له ميزة عن سائر العباد. ولذلك أيضاً أمرنا الله بحضور الجماعة.

« فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ » ، أي أسلما أمرهما إلى الله تعالى « وَتَلَّهُ »، أي صرع ووضعه على الأرض، كما يوضع الكبش للذبح و«الجبين» طرف الجبهة. ولم يرد في الآية جواب الشرط، و إنّما عطف عليه النداء بإبراهيم أن قد صدّقت الرؤيا، و إنّما حذف الجواب ليذهب ذهن السامع فيه كلّ مذهب.

وهذه شهادة من الله تعالى بأنّهما أسلما، ولو كان في نفسيهما الشريفتين مثقال ذرة من الترديد لم يشهد لهما الله تعالى بذلك، فالإسلام الحقيقي هو التسليم لأمر الله تعالى إلى هذا الحدّ الذي بلغه إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام). وأين هذا ممّا ندّعيه من الإسلام ونحن نحاول أن نتهرّب ممّا أمرنا الله تعالى به من التكاليف التي هي في وسعنا، ولا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها؟!

نعم نطيع الله ما درّت معايشنا وما لم يعارض التكليف مصالحنا، فإذا بلغنا موارد الابتلاء الصعب تجد أكثر المتّقين يبحثون عن مهرب وملجأ وتأويل وبعض ذلك صعب في الواقع، فإذا صرف الشابّ زهرة أيام حياته في سبيل الحصول على تخصص، ثمّ وجد عملاً في ذلك المجال يدرّ عليه مكسباً يعتدّ به ولكن اعترض سبيله الحكم الشرعي بأنّ العمل في هذا المجال محرّم، فمن الصعب جدّاً أن يتّقي ربّه ويبحث عن عمل آخر لا يناسب تخصصه.

ولكن هذا التورّع مهما كان فهو ليس كمن يسلم أمره إلى الله تعالى في

ص: 101


1- آل عمران (3): 43 .

التضحية بنفسه ويواجه أعداء الدين بصدر رحب مستقبلاً الشهادة في سبيل الله. وهذا أيضاً أسهل بكثير من أن يسلم الفتى اليافع أمره إلى الله تعالى ويستقبل بصدر رحب أن يذبحه أبوه كما يذبح الخروف مع كلّ الحب والحنان الذي بينهما.

حقاً أنّه مدهش لا يمكن أن يقارن بما يحكى من التضحيات مهما كانت عظيمة. هذا هو الإسلام الحقيقي.

« فَلَمَّا أَسْلَمَا» أسلم الأب لذبح ابنه، والابن ليذبح على يد أبيه لا لوحي مباشرمن الله تعالى ولا لرسالة جاء بها ملك من السماء، بل لمجرّد رؤيا رآها الأب، فعلما أنّ ذلك هو ما يريده الله تعالى، وهذا يكفي للمسلم أن يسلم أمره إلى الله ويستسلم.

« وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا » ، لم تذكر الآية ما ورد في بعض الروايات من أنّه أمرّ السكّين على حلقه وأنّه لم يقطع، و إنّما المذكور هو أنّه لم يتردّد في التنفيذ فأرقد ابنه الحبيب على الأرض مستعدّاً للذبح وفجأة جاءه النداء الإلهي أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، مع أنّه لم يكمل ولم يذبح ولكن ما هو المهم هنا ليس ذات العمل، بل النية الخالصة والإخلاص لله تعالى.

بل الأمر كذلك في سائر الأعمال، فالله تعالى غني عن عبادة الخلق، لا ينظر إلى عبادتهم وصلاتهم وركوعهم وسجودهم، و إنّما ينظر إلى إخلاصهم، ولعلّ صلاة المريض الراقد المومي في الركوع والسجود ينال موقعاً من القرب لدى الله سبحانه لا يناله أكثر العبادات مشقّة وتعباً ونشاطاً.

و إنّما يطلب من العبد الإكثار من العمل لعلّه يحصل على الإخلاص المطلوب

ص: 102

في بعضها. ولذلك ورد في الروايات أنّ الله تعالى قدر النوافل ضعف الفرائض لكي يكمل بها نقص الفرائض، لأنّه تعالى لا يقبل من الصلاة إلّا ما أقبل فيها العبد على ربّه (1). و لعلّ العبد يعمل كلّ ما أمر به ويكرّره مراراً ولا يخاطب بما خوطب به إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام)، فهناك منّا من يحج كلّ عامّ ولا ينادى في ملكوت السماوات أن قد أطعت ربّك. وليس ذلك إلّا لأنّ جوهر العمل هو الإخلاص وهو ما يفقده أعمالنا. وإبراهيم (علیه السلام) خوطب بالنداء مع أنّه لم ينجز العمل، لأنّ الله تعالى علم منه الإخلاص و التسليم.

وهل كان النداء بواسطة ملك أم أنّه تعالى خاطبه بخلق الصوت، فسمعه إبراهيم (علیه السلام)؟ يحتمل الأمران.

« إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»، أي إنّما نحكم بأنّك قد صدّقت الرؤيا قبل تنجيز العمل لأنّك من المحسنين، والمراد إحسان العمل بالإخلاص فيه، لا العمل بالحسنات. وهذه الجملة تفيد أنّ هذا المضمار مفتوح للجميع، وأنّ جزاء الله تعالى لا يختصّ بأحد و إنّما يتبع العمل والإخلاص أينما كان.

« ِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ»، «البلاء» هو الامتحان، و«المبين» الواضح والموضح. وهذا البلاء واضح لم نجد امتحاناً أوضح وأبين منه، وهو موضح يفصح عن إخلاص إبراهيم وإسماعيل (علیهما السلام) وقوة إيمانهما. وفي الجملة تأكيد من وجوه وهي: إنّ ولام القسم وضمير الفصل وكون الخبر محلّى بلام المعرفة المفيد للحصر، أي أنّه ليس هناك بلاء مبين غيره وهذا غاية في التأكيد.

« وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ »، الظاهر أنّ هذه الجملة من تتمّة الخطاب. و«الفدية» ما

ص: 103


1- راجع: الكافي 3: 262.

يدفع عوضاً عن الشيء . وورد في الروايات أنّ الله تعالى أرسل له كبشاً ليذبحه بدلاً من ذبح ولده. و«الذبح» بمعنى المذبوح، سمّى الكبش به لأنّه يذبح.

وربّما يقال: لماذا الفدية فهذا عبد أمره الله بأمر وتبيّن استعداده لإنجازه، فرفع الله التكليف فلماذا الفدية؟

لعلّ السرّ فيه أنّه بقي في نفس إبراهيم (علیه السلام) حزازة وضيق من عدم تمكنه من امتثال أمر الله تعالى ولو من جهة رفع التكليف. وهذا غاية في الإيمان والإخلاص، فإبراهيم يشعر بالضيق، لأنّ الله تعالى رفض منه الاستمرار في التضحية ولم يوفقه للامتثال النهائي. نعم هكذا يكون العبد المحبّ المخلص لله تعالى. والله تعالى أيضاً يحبّ عبده المخلص، فلا يرضى أن يبقى في نفسه حزازة، بل يرفعها عنه بهذه الفدية. وأمّا توصيفه ب-«العظيم» فلعلّه لعظم جنّته، كما يقال أو أنّ ذلك إشارة إلى أنّ كلّ ما يذبح في منى منذ ذلك العهد إنّما هو فداء لإسماعيل (علیه السلام) أوجبه الله تعالى على العالمين تخليداً لذكرى هذا الإيمان والإخلاص العظيمين.

« وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ » ،مرّ تفسير هذه الآية .

« سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ »، هذه الجملة وردت في ذيل كلّ قصة من قصص المرسلين المذكورة في هذه السورة و «السلام »هو السلامة، فكلّ من يسلم على أحد يدعو له بالسلامة. وحيث إنّ السلامة من الله تعالى فإذا كانت الجملة منه كان معناها أنّ السلامة عليه واقعاً وليس بمعنى الدعاء. وإطلاقه يقتضي أن يكون المراد السلامة من كلّ ما يضر بالإنسان ضرراً واقعياً، وهي بصورة كاملة لاتتحقق إلّا في الجنّة، فإنّ الدنيا مليئة بالمضار، ولكنّ السلامة الثابتة للأنبياء

ص: 104

والمعصومين في الدنيا سلامة عن الشرك والآثام وكلّ ما لا يليق بهم.

« كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» ، مرّ تفسير الآيتين. وقد تكررت الآية الأولى هنا خاصّة دون سائر قصص الأنبياء (علیهم السلام)، حيث ورد ذكرها بعد قوله: « قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا » ولعلّ السرّ فيه الاهتمام بهذا الأمر الذي اختصّ به إبراهيم (علیه السلام) حيث قبل الله منه عزمه على العمل بما أمر به مع أنّه لم يكمله، و إنّما صدرت منه المقدمات، ثمّ كرّر الجملة هنا للإشارة إلى ما أنعم الله عليه من الإنقاذ من النار، ومن كيد الكافرين واستجابة دعائه بالولد الصالح، وغير ذلك.

« وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » ،هذه البشارة الثانية لاستجابة دعائه بالولد. وإسحاق ولد له من زوجته سارة، وكانت البشارة به حينما نزلت الملائكة عليه يعلمونه بنزول العذاب على قوم لوط (علیه السلام) ولوط (علیه السلام)كان نبياً مرسلاً، ولكنّه لم يكن صاحب شريعة، و إنّما كان يبلغ شريعة إبراهيم فهو من أتباعه (علیهما السلام).

ولم يذكر في القرآن السرّ في نزول الملائكة على إبراهيم بخبر العذاب، مع تكرّر ذكر القصة. ولعلّ السرّ فيه أنّ الملائكة - وبأمر من الله تعالى - ما كانوا لينزلوا العذاب على قوم يعتبرون تبعاً لأمّة الرسول إلّا بعد استئذانه أو إعلامه على الأقلّ، وفي القرآن أنّه أخذ يجادلهم بشأن قوم لوط ويطلب منهم الإمهال، وهذا ينبئ عن غاية لطفه وحنوه على الناس، كما يبدو من آيات أخرى أيضاً، كقوله تعالى: « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1) ، ولذلك وصفه الله تعالى في هذا المقام بأنّه أوّاه حليم.

وكأنّ الملائكة قدمت له هدية قبل إخباره بنزول العذاب على قوم لوط وهي

ص: 105


1- إبراهيم .(14) : 36.

البشارة بإسحاق (علیه السلام)، وذلك بعد أن بلغ هو وزوجته الكبر، ولذلك صكّت وجهها وقالت عجوز عقيم «قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » (1)، وإبراهيم (علیه السلام) استغرب أيضاً ذلك و «قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ *قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ » (2).

وأمّا قوله تعالى: « َبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» فكلّ من النبوة والصلاح حال عن إسحاق (علیه السلام) ولكن لا بدّ من تأويله إذ لم يكن حين البشارة موجوداً حتّى يوصف بالنبوة والصلاح، ولعلّ التقدير: «مقضياً فيه كونه نبيّاً من الصالحين » ولعلّ المراد ب« الصلاح »هنا صلوحه لنيل القرب من الله سبحانه.

« وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ» ، «البركة» بمعنى الثبوت، مأخوذ من برك البعير أي استناخ ومنه البِركة مجمع الماء، فالبَرَكة بمعنى الشيء الثابت، والبركة من الله بمعنى ثبوت الخير واستقراره، وهناك من الخير ما يقوم بأمر زائل نظير ما يفعله الإنسان من أعمال الخير والبركة من الله تعالى خير دائم.

ولعلّ مصداقها في هذه الآية النسل الكثير، أو أنّ الله تعالى جعل من نسلهما كثيراً من الأنبياء، فإنّ أكثر الأنبياء المذكورين في القرآن من بني إسرائيل، أي أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (علیهم السلام) ، أو المراد بها ما يشمل ذلك وسائر ما أنعم الله تعالى به عليهما في الدنيا والآخرة، فإنّ الله تعالى جمع لإبراهيم (علیه السلام) خیر الدنيا والآخرة، قال تعالى: « وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (3) .

« وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ » ، لعلّ هذا التعقيب لاستدراك ما يمكن أن

ص: 106


1- هود (11) 73 .
2- الحجر (15) 54 - 55 .
3- العنكبوت (29) 27 .

يستوجبه التصريح بالبركة عليهما من إعجاب في النفس بالنسبة لذرّيّتهما كمشركي مكّة، وكما هو المشهود من بني إسرائيل طيلة التأريخ، فهذه الجملة تبيّن أنّهم ليسوا كلّهم سائرين على نفس الدرب، فمنهم محسن، ومنهم ظالم لنفسه، ومنهم من ظلمه بيّن واضح لا يمكن في حقه أيّ توجيه وتأويل، كالمشركين والذين قتلوا النبيين، وأعلنوا الكفر، وتعاونوا مع الظلمة .

وظلم الإنسان لنفسه يشمل كلّ إثم ومعصية، لأنّه بذلك يخسر ثواب الآخرة، بل يوقع نفسه في معرض العقاب الأليم وربما الأبدي.

ص: 107

سورة الصافات (114-122)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119)سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

« وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ » ، يذكر الله سبحانه ما أنعم به على موسى وهارون (علیهما السلام) من نعم جليلة تسلية لخاطر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وتقوية لعزائم المسلمين. و «المنّ»: الإحسان والنعمة الثقيلة، وأصله الثقل ومنه المنّ لمقدار خاص من الوزن ويطلق أيضاً على القطع، كقوله تعالى: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ» (1). أي غير مقطوع على أحد المحتملات. كما يطلق على ذكر النعم بما يوجب إيذاء للمنعم عليه.

« وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ » ، لعلّ المراد بالكرب العظيم ما أصيبوا به من البلاء على يد فرعون وقومه حيث استعبدوهم وقتلوا رجالهم وأسرّوا نساءهم، قال تعالى في ثلاث مواضع: « وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ » (2) وهو عظيم جدّاً حيث إنّهم كانوا قوماً محترمين فهم أولاد الأنبياء، فأصبحوا يستذلّون ويستعبدون ويستباح أموالهم وأعراضهم. وهو فظيع جدّاً، وقد استمرّ بهم سنين طويلة، والله تعالى نجاهم من هذا البلاء ونصرهم وأغرق عدوّهم من دون أن يقاتلوهم ويبذلوا جهداً في دفعهم، وأورثهم أرضهم وديارهم.

ص: 108


1- القلم (68): 3 .
2- البقرة (2) 49 .

«وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ» ، اعتبروا «غالبين» بالرغم من أنّهم لم يبذلوا جهداً في دفع العدوّ حيث إنّهم صبروا طيلة السنين المتمادية، وتمسكّوا بإيمانهم إلى أن أتاهم النصر من عند الله تعالى. ثمّ إنّ نعمة التنجية والنصرة اعتبرهما للجميع، وأمّا سائر ما ذكر هنا من النعم فهي خاصّة بالرسولين (علیهما السلام)، بل التنجي-ة والنصرة أيضاً لهما، لأنّ المراد هنا بيان ما أنعم الله تعالى به على رسله، وتنجية القوم ونصرتهم نعمة للرسول أيضاً.

«وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ» المراد به التوراة وهو مستبين بمعنى أنّه يشتمل على توضيح كلّ ما يحتاجه الإنسان في ذلك العهد، وفي تلك المرحلة في سبيل الوصول إلى قربى ربّه، وقد مدح الله التوراة في القرآن، وقال إنّ «فِيهَا هُدًى وَنُورٌ» (1)و إنّ فيها حكم الله (2).

«وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» ، هداية الله تعالى لرسله لا تختص بالخطوط العريضة والأسس ، بل تشمل كلّ حركة أو سكون في سبيل الدعوة، فما من موقف لهم في حرب أو سلم إلّا وهم تحت مظلة الهداية الإلهية. ولذلك، حينما قارب فرعون بجنوده أن يدركهم وخاف قوم موسى وقالوا إنا لمدركون قال موسی(علیه السلام):«كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ» (3) ، فهو واثق من أنّ ربّه لن يتركه.

وهكذا كان ربّه يهديه لما هو الأصلح في جميع مراحل حياته، فلمّا وصل إلى البحر أمره أن يضرب بعصاه البحر، ولما استسقاه قومه أمره أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً. وهكذا سائر النبيين والمرسلين والأئمة الطاهرين (علیهم السلام). وقد مرّ الكلام في بقية الآيات.

ص: 109


1- المائدة (5): 43 .
2- راجع: المائدة (5): 44 .
3- الشعراء (26): 62 .

سورة الصّافّات( 123 – 132)

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

« وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » ، وقع الكلام في التفاسير في أنّ إلياس هل هو إيليا، أحد الرسل الذين أرسلوا إلى الشام أو أنّه الخضر، أو أنّه إدريس، أو غير ذلك، وهذا البحث لا طائل تحته، ولا مستند لهذه الأقاويل، وليست منسوبة إلى معصوم، ويكفينا ما اهتم به القرآن الكريم، فإلياس (علیه السلام) بهذا الاسم رسول بعثه الله تعالى إلى قوم، وهذا هو الفارق بين الرسول والنبي، فالنبيّ كل من أنبئ بالوحي من السماء، والرسول من أرسل إلى قوم، فيتحمّل مسؤولية هدايتهم وإمامتهم.

« إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ» ، يظهر من الآية وما بعدها أنّ قومه كانوا يعبدون الأصنام، وأنّهم كانوا يعتقدون بالله تعالى كمشركي الجزيرة العربية. ولذلك قال لهم: « أَلَا تَتَّقُونَ» . فهذه الجملة لا يخاطب بها من لا يؤمن بالله أساساً، ولكنّ القوم كانوا لا يقولون بأنّ الله هو ربّ العالمين، ولا يعتقدون أنّه يكفي عبده، ويعتقدون أنّ هناك أرباباً يؤثرون في الكون يضرّون وينفعون، فكانوا يعبدونها خوفاً وطمعاً.

« أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ »، قيل : إنّ «بعل» بمعنى الصنم. وقيل: إنّه اسم لصنم خاص. ولذلك استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنّ إلياس (علیه السلام) أُرسل إلى

ص: 110

بلدة بعلبك، وأنّ «بك» بمعنى المدينة، و«بعل» اسم لصنمهم. ولكن ليس لما ذكر مستند، فهو محتمل، كما يحتمل أن يكون استنكاراً لعبادة الأصنام من دون التعرّض لصنمهم الخاص، أي أتدعون الأصنام، وتطلبون منها حاجاتكم وتتركون الطلب والدعاء من الله تعالى وهو أحسن الخالقين؟!

وهذا استدلال منه (علیه السلام) على ربوبية الله وحده وألوهيته، لأنّه الخالق للكون بأحسن وجه حيث كانت الوثنية تعترف بأنّ الله هو الخالق للكون. والمهم في الاستدلال أنّ الله تعالى خلق الكون بأحسن وجه، بحيث لا يحتاج الإنسان في التنّعم بنعم الله الطبيعية إلى أي أحد آخر فليس في نعم الله وخليقته نقص يحتاج إلى إكمال من ربِّ آخر.

ولذلك نجد بعض البشر ينكر وجود الله تعالى لأنّه يجد الطبيعة مستغنية عن مدبّر يديرها، وهو وإن كان خطأ فادحاً إلّا أنّه یدلّ على أنّ الكون كامل، وأنّه تعالى أغنى البشر من الرجوع إلى غيره، والبحث عن إله غيره، فالإنسان يمكنه الوصول إلى كلّ ما يحتاجه من الطبيعة نفسها. وهذا استدلال واضح وقوي جدّاً. ولكن هنا سؤالاً حول التعبير بأحسن الخالقين حيث يوهم أنّ هناك خالقاً غيره تعالى وأنّه أحسنهم خلقاً. وهذا ينافي الاعتقاد بوحدة الخالق الربّ جلّ وعلا.

وأجاب بعض المفسّرين أنّ القياس لعلّه إلى ما يصنعه البشر من صور الموجودات، فإنّ البشر لا يخلق شيئاً بمادته، و إنّما يغيّر صور المواد، فالتركيب الحادث بفعله يعدّ مخلوقاً له.

وهذا غير صحيح، فلا يصحّ أن يقاس بالله شيء، ولا يصحّ أن يقال: إنّ الله

ص: 111

خالق والبشر خالق ولكنّ الله أحسن منه خلقاً، بل إنّ ما يصنعه الإنسان أيضاً مخلوق لله تعالى حتّى الصورة المبتدعة، فالإنسان يعدّ ما يكون قابلاً لإفاضة الوجود من الله تعالى عليه، فيوجده الله ولا موجد إلّا هو، بل إنّ العمل الذي يفعله الإنسان أيضاً مخلوق لله تعالى، كما قال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» (1) ، ولا يمكن لشيء أن يوجد إلّا بأمره تعالى، بل أنّ الإرادة التي تتحقق في نفس الإنسان حين عمله مخلوق لله تعالى، لأنّه خالق كلّ شيء.

والصحيح أنّ الأفضلية بالقياس إلى أيّ خالق يفرض، والمراد أنّ خلقه أحسن خلق يفرض ، فلا يمكن فرض خليقة أفضل ممّا خلق، فقد خلق الخلق بأحسن وجه، وأحسن تقويم يتصوّر.

ومثله أيضاً قوله تعالى: «خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (2)، فالله تعالى هو الرازق لا رازق سواه، لأنّ الرزق ليس بمعنى أن يأتيك الله بالمال أو الطعام وأنت جالس في عقر دارك لا تحرّك ساكناً، فإنّك إن فعلت ذلك متّ جوعاً ولم يأتك رزقك، و إنّما رازقيته تعالى بأن جعل لكلّ موجود حي بصورة طبيعية رزقاً على هذا الكوكب، وجعل له وسائل يتمكّن بها من تحصيل رزقه، فلكلّ حيوان في الطبيعة طعام يأكله، وله بصورة طبيعية وسيلة للوصول إليه وتناوله.

ولذلك نجد أنّه تعالى جعل بعض الحيوانات طعاماً لبعض آخر، وجعل للآكل وسيلة اصطياده، والله تعالى خير الرازقين، لأنّه جعل لكلّ مسترزق رزقه في متناول يده بصورة طبيعية، وجعله بحيث يمكنه الوصول إليه بنفسه من دون

ص: 112


1- الصافات (37): 96 .
2- المائدة (5): 114.

التوسّل بشيء خارج عن الطبيعة ، فهو خير الرازقين أي خير كلّ من يفرض ويتصوّر كونه رازقاً، أي أنّ رازقيته على أحسن الوجوه المتصوّرة.

« اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ »، هذا استدلال آخر على وحدة الربوبية في الكون، وذلك لأنّ ملاحظة تأريخ البشرية تدلّنا على أنّ رب البشر طيلة القرون المتمادية واحد ، وأنّ إدارة الكون بما فيه البشرية وشؤونها الطبيعية طيلة التأريخ البشري إدارة واحدة متناسقة، لا يتدخلها إرادة ربّ آخر، وإلّا لاختلّ النظام ولتغير الوضع الطبيعي، فأساس الاستدلال ملاحظة شؤون البشر بما أنّهم جزء من الكون، حيث إنّ تأريخهم تتناقله الأجيال ويمكن ملاحظته والتأمّل فيه. ويعبّر تناسق النظم في الكون عن وحدة الربوبية.

وهكذا واجه نبيّ الله إلياس (علیه السلام) قومه بالدليل والمنطق، ولكنّهم قابلوه كغيرهم من المجتمعات البشرية بالتكذيب من دون الاستناد إلى منطق وبرهان.

« فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ *إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ »، «إنّهم محضرون»، أي يؤتى بهم قسراً يوم القيامة ليجازوا على تكذيبهم، ولا يستثنى منهم أحد إلّا عباد الله المخلصين.

والوصف: «المخلصين » إذا قرئ بكسر اللام كما لا يبعد على ما قدّمنا في تفسير الآية 40، فالظاهر أنّ المراد الذين أخلصوا عبادتهم لله تعالى بمعنى لم يشركوا به ولم يعبدوا غيره، وليس بمعنى الإخلاص الكامل الذي لا يكون إلّا عند الأوحدي من المؤمنين، بل ربما لا يكون إلّا عند المعصومين، فإنّ الإنسان له دواع أخرى من عبادة الله تعالى وإن كان ربّما يغفل عنها، أو تكون دواع ثانوية وتبعية.

ص: 113

وإذا قرئ بالفتح - كما هو الموجود في المصحف الحالي - فلا يمكن حمله على من أخلصه الله تعالى لنفسه كما مر هناك أيضاً، إذ المستثنى من الإحضار قسراً يوم القيامة من أمّة إلياس هم من آمنوا به لا المعصومين. وعليه فلا بدّ من حمله على من أخلص الله تعالى قلبه للإيمان، فوفّقه لنبذ الشرك وعبادة الأوثان.

« وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ » ،مرّ الكلام في هذه الآية.

« سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ »، وقع البحث في أنّه لماذا أبدلت الكلمة من «إلياس» إلى «إلياسين»؟ وأجيب عنه بأنّ الكلمة يمكن أن تلفّظ بالوجهين، بل ربما يكون التلفظ في لغتهم مختلفاً عن التلفظ في العربية. وهناك له نظائر كطور سيناء وطور سينين، فيمكن أن يكون إلياسين لغة في إلياس.

ولكن ورد في حديث أنّ القراءة الصحيحة آل ياسين، ويؤيده أنّ الخطّ القرآني في بعض المصاحف فصل بين «آل» و «ياسين». و لكن الخط القرآني لا يمكن الاستناد إليه في مثل ذلك، لأنّه لا يتبع نهج الخط العربي المتداول .

ويبقى الكلام في المراد بآل ياسين، فقيل: إنّه أيضاً لغة في إلياس وهو بعيد. وورد في الحديث أنّ المراد آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأنّ «ياسين» اسم من أسمائه وكذلك طه. ولكن هذا الأمر غير ثابت ولعلّ منشأ القول هو الجملة التي تلي هذه الحروف، ففي سورة يس ورد «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » (1) وفي سورة طه: «مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى »(2) فيوهم ذلك أنّ يس وطه خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهناك روايات تدلّ على ذلك كالمنقول من خطبة الإمام زين العابدين (علیه السلام): «أنا ابن طه

ص: 114


1- يس (36) :3 .
2- طه (20) :2 .

و«ياسين» (1). ولكن كلّ ذلك لا يصل إلى درجة الدليل المعتبر، والظاهر أنّها من الحروف المقطعة ، كسائر موارد هذه الحروف.

ومن جهة أخرى يستغرب أن يذكر كلّ من ورد ذكره من الرسل هنا بعد الإشارة إلى قصته ويسلّم عليه، ويترك ذكر إلياس وأغرب منه أنّ الضمير في قوله تعالى بعد ذلك: « إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ » يبقى بلا مرجع، إذ لو كان المرجع آل ياسين لزم الإتيان بضمير الجمع. إذن فالظاهر أنّ المراد هو إلياس (علیه السلام) وإلياسين لغة في إلياس.

ص: 115


1- راجع: بحار الأنوار 45: 138.

سورة الصّافآت(133 – 138)

وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)

« وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ »، لوط ممّن آمن بإبراهيم (علیه السلام) في ابتداء رسالته وهو في بلده «أور» على ما في التأريخ. والظاهر أنّه من أقاربه على ما في الروايات، وأنّه ممّن هاجر معه وأرسله الله إلى قوم سدوم، وهي بلدة واقعة بين جزيرة العرب والشام، وكانت باقية إلى عهد الرسالة المجيدة، كما ورد في هذه الآيات ولكنّ الظاهر أنّها غمرها الماء، وكان أهلها مشركين وتفشى فيهم المفاسد الخلقية، كالشذوذ الجنسي واكتفاء الرجال بالرجال، كما صرّح به في القرآن، وفي الروايات أنّ نساءهم أيضاً كنّ يكتفين بالنساء.

و كان لوط (علیه السلام) يواجه مشكلة صعبة في هدايتهم إلى الصراط المستقيم، ونبذ الشرك، والتحلّي بمكارم الأخلاق، كما هو الشأن في كلّ مجتمع يتفشى فيه الانحلال الخلقي، فإنّ التأثير الإيجابي في مثل هذه المجتمعات صعب جدّاً. والنتيجة أنّه لم يؤمن به أحد منهم ، فأنزل الله عليهم العذاب، وأهلكهم وأباد مدينتهم.

« إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ »، أي: اذكر إذ نجّيناه، وقد مرّ أنّ هذه الآيات تشير مع ذكر الرسل إلى بعض ما أنعم الله به عليهم ليكون تسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين.

وهنا يشير إلى نعمة إنجائه وأهله من العذاب الأليم الذي أحاط بالبلد بعد أن لم يؤمن به أحد منهم، وقد جاء على لسان الملائكة: «فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ

ص: 116

(

الْمُسْلِمِينَ » (1)، وهو بيت لوط (علیه السلام) وحتّى هذا البيت أيضاً لم يؤمن كلّهم به، فزوجة الرسول وهو أقرب الناس إليه لم تؤمن به، بل ضرب الله بها مثلاً في الكفر «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ » (2) .

ولعلّ الوجه في ذلك أنّ زوجة الرسول التي يفترض أن تكون أوّل من يؤمن به لقربها منه إذا كفرت وأصرّت على الكفر، فهي غاية في التوغّل في الكفر والعناد في مواجهة الحق، فضرب الله بها المثل في الكفر. ولذلك لم يشملها الإنجاء، فاستثنيت من أهل الرسول.

« إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ» ، و«الغابر» من غبر ، أي بقي، ومنه الغبار أي الذي يبقى على الأسطح من التراب. ولكن كيف بقيت المرأة ولم تذهب معهم، فلعلّ لوطا (علیه السلام) لم يخبرها ، فلم تعلم بنبأ الرحيل، أو أنّها رفضت الذهاب لأنّها ما كانت تصدّق ما يهدّدهم به لوط من العذاب، شأنها في ذلك شأن سائر أهل البلد.

« ثمّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ » ، هكذا كانت سنة الله تعالى في الأمم السالفة، « وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » (3)، حيث إنّ العذاب ما كان ينزل على البلد إلّا بعد إخراج الرسول والمؤمنين منه و«التدمير» هو الإهلاك.

« وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ *وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ » ، الغرض بيان أنّ هذا لا يختصّ بقوم لوط، و إنّما هو نتيجة العناد في مواجهة الحق، فيخاطب أهل مكة وينبّههم بأنّ هذه البلدة غير بعيدة عنكم، بل إنّكم تمرّون عليها مصبحين وبالليل.

ص: 117


1- الذاريات (51): 36 .
2- التحريم (66): 10.
3- الأحزاب (33): 62.

ويبدو منه أنّ البلدة كانت على مقربة من أحد الطرق، ويقال: إنّه طريقهم إلى الشام، فالمراد بالمرور صباحاً ومساءً ليس هو المرور الدائم، بل هو كناية ع-ن كونها بمعرض التردّد المتواصل، حتّى لو كان بعضهم لم يمرّ بها أصلاً، إلّا أنّ ما يكون على طريق كثير التردّد يعلم به الكلّ حتّى من لم يره. ومثل ذلك قوله تعالى: « «وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ » (1) .

« أَفَلَا تَعْقِلُونَ» ، أي ألا يكفي المرور على هذه البلدة التي غضب الله عليها وعذبها وأهلك أهلها أن تكون عبرة لكم، فلا تعاندوا الحقّ بعد معرفته.

ص: 118


1- الحجر (15) :76 .

سورة الصّافّات(139 – 148 )

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142)فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)

ورد ذكر يونس (علیه السلام) في أربع موارد من القرآن الكريم: هنا وفي سور يونس والأنبياء والقلم والمعروف في الروايات أنّه يونس بن متى، ويقال: إنّ اسمه في التوراة « يوناه بن امتاي»، وهما متقاربان وعبّر عنه في سورة الأنبياء بذي النون «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ.»(1). و «النون» هو الحوت، و«ذو النون» بمعنى صاحب الحوت وهو التعبير الوارد في سورة القلم، أطلق عليه لأنّه حبس في بطنه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والمعروف من قصته أنّه أرسل إلى مدينة نينوى وأنّها كانت مدينة عظيمة ويقول عنها القرآن إنّ أهلها مائة ألف أو يزيدون ويعتبر البلد الذي يشتمل على هذا العدد من الناس في تلك العصور بلداً كبيراً. وهناك بقايا مدينة أثرية قريبة من الموصل تدعى نينوى، وقد زرتها بنفسي وفيها من الحضارات القديمة آثار. ويقال: إنّه بقي فيهم أربعين سنة فلم يؤمنوا به، فخرج منهم غاضباً قبل أن يؤمر بذلك ودعا عليهم ونزل عليهم العذاب.

ولمّا رأى الناس العذاب خرجوا من المدينة ومعهم ملكهم وتضرّعوا إلى الله

ص: 119


1- الأنبياء (21): 87 .

تعالى فرفع عنهم العذاب، كما قال تعالى: «فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (1).

ويقال: إنّ يونس (علیه السلام) علم بما حدث، ومع ذلك لم يرجع إلى قومه، ولمّا وصل إلى ساحل البحر ركب السفينة، فجاءهم حوت عظيم فخافوا على سفينتهم من الغرق ورأوا أن يقذفوا إليه بأحدهم لينجو الباقون، فاقترعوا فيما بينهم وخرجت القرعة باسم يونس (علیه السلام) ، وألقي إليه فابتلعه الحوت، وأمره الله أمراً تكوينياً أن يحفظه، فلم يؤثّر فيه الجهاز الهضمي، وبقي حيّاً في بطنه، فأخذ يسبّح الله تعالى كما في قوله: « فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (2) .

واستمرّ في هذا التسبيح إلى أن عفا الله عنه، فأمر الحوت أن يقذفه على الساحل فقذفه كما قال تعالى: « فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ» (3) أي مكان لا نبت فيه ولا شجر، وكان جسمه قد تأثر من البقاء في بطن الحوت، فكان يتأذى من الشمس، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين إلى أن شفي وتمكن من النهوض، فأرسله الله إلى قومه، فذهب إليهم وآمنوا به. هذه خلاصة قصته (علیه السلام) على ما في التفاسير والروايات.

ولكن هل الآيات قابلة للانطباق على ما ذكر ؟ فيه خفاء. فلا بدّ من دراسة الآيات.

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ » ،«الإباق »هو فرار العبد من

ص: 120


1- يونس (10): 98 .
2- الأنبياء (21) :87 .
3- الصافات (37): 145 .

المولى. والمفسرون يقولون: إنّ إباق يونس (علیه السلام) تحقّق في تركه قومه قبل أن يؤمر بذلك، وأنّ ذلك كان تركاً للأولى ولم يكن محرّماً.

وهذا أمر غريب أن ينزل العذاب على القوم قبل أن يؤمر الرسول بالخروج ويخالف ذلك سنة الله تعالى في سائر الأمم.

وقال بعضهم: إنّ إباقه (علیه السلام) يتمثل في عدم رجوعه إليهم بعد أن علم بتوبتهم ورفع العذاب عنهم.

ولكن إطلاق الإباق على مثل ذلك بعيد جدّاً، إذ غايته أنّه لم يرحم قومه ولیس مرجعه إلى الفرار عن المولى. إذن ففي إطلاق الإباق على ما نسبوه إليه (علیه السلام) خفاء، وسنعود إلى هذه النقطة إن شاء الله تعالى.

و«المشحون» بمعنى الممتلئ، أي أنّ السفينة كانت ممتلئة بالركاب والأمتعة. والرواية المذكورة لا تشتمل على ما يمكن اعتباره سبباً للتركيز على كون السفينة مشحونة، فهذه أيضاً جهة أخرى يضعف احتمال صحّة الرواية المشهورة.

« فَسَاهَمَ فَكَانَ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، الرواية المشهورة تقول: إنّهم أرادوا إلقاء أحد الركاب، كطعمة للحوت، وهذا أيضاً بعيد، فإنّ الحوت الذي يخاف منه على السفينة ليس ممّا يأكل الإنسان أو الحيوان كالقرش، بل هو أكبر منه وليس مفترساً مثله، مضافاً إلى أنّ قوله تعالى: « فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ یدلّ على أنّه (علیه السلام) كان أحد الذين ألقوا في البحر.

فهاتان النقطتان تمنعان من الأخذ بالرواية، وتؤيدان قصة أخرى مرويّة أيضاً وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى وهي مطابقة لما في التوراة من أنّ السفينة كانت ممتلئة، فشارفت الغرق، وكان من المعتاد عندهم قديماً في هذه الحالات

ص: 121

أنّهم يلقون الأمتعة، ثمّ إذا اضطرّوا ألقوا بعض الركاب لينجو الآخرون. وبذلك يظهر وجه التركيز على كون الفلك مشحوناً، كما يظهر أنّه (علیه السلام) كان أحد الذين ألقوا في البحر، فيوافق الآية الكريمة.

وقوله تعالى: « فَسَاهَمَ » بمعنى أنّه شارك في إلقاء السهم وهو النبل، وكانت العادة في القرعة أنّهم يكتبون الأسماء على أسهم، ثمّ يجمعونها في علبة ويستخرجون منها العدد المطلوب.

والدحض بمعنى الانزلاق والوقوع على الأرض، دحضت رجله أي انزلقت، وهذا كناية عن خروج اسمه في الأسهم المتعلّقة بمن يلقى في البحر. ولعلّ الإتيان بصيغة اسم المفعول إشارة إلى أنّه دحض بفعل فاعل وأنّ القرعة ليست مبنية على الحظ والنصيب، بل هناك من يخرج الأسماء لأسباب لا يعلمها إلّا هو، وهو الله تعالى، وقد ورد في القرعة روايات تدلّ على اعتبارها في الموارد المشكلة. (1)

«فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ »، وهذا الحوت مأمور من قبل الله سبحانه. و«الالتقام »الابتلاع أي ابتلعه الحوت كلقمة. و«المليم» اسم فاعل من ألام أي أتى بما يستحق عليه اللوم، كما يقال: أغرب أي أتى بأمر مستغرب و لعلّ «اللوم» أكبر عقاب من الله تعالى لأحد من رسله وهو أكبر من عذابه في بطن الحوت. و یدلّ ذلك على أنّ ذنبه من حيث كونه رسولاً كان كبيراً، لا ينبغي أن يصدر منه و الأنبياء معصومون من الذنوب التي تعتبر ذنباً في الشريعة العامّة، وليسوا معصومين ممّا يعتبر ذنباً لهم باعتبار كونهم مقربين لدى الله تعالى ،

ص: 122


1- راجع وسائل الشيعة 27 :257، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى الباب 13.

فهناك لهم معايير خاصّة بهم.

«فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ » ،توصيفه بأنّه كان من المسبّحين یدلّ على أنّه استمرّ في التسبيح ليلاً ونهاراً، وقد حكى الله تعالى عنه في سورة الانبياء قوله: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (1).

«لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »، اختلف المفسّرون في توجيه هذه الجملة والإجابة على التساؤلات التي تثيرها، هل كان يونس يبقى حياً لولا التسبيح في بطن الحوت؟ وهل كان الحوت أيضاً يبقى حياً إلى يوم القيامة؟ ونحو ذلك. واضطرّ بعضهم إلى القول بأنّ هذا التعبير كناية عن طول الزمان.

هذا، وظاهر الآية أنّه لو لم يكن كذلك لبقي حيّاً في بطن الحوت، فإنّ الميت لا يقال عنه: إنّه بقي في مكان كذا مضافاً إلى أنّ الآية تدلّ على أنّه لو لم يكن كذا لبقي معذباً إلى يوم يبعثون ولا عذاب في الدنيا بعد الموت. واستبعاد بقاء الحوت حيّاً إلى يوم القيامة كاستبعاد أصل القضية لا وجه له، لأنّه من قدرة الله تعالى وهو على كلّ شيء قدير. وإلّا فأصل بقائه حياً ولو لمدة قصيرة في بطن الحوت غير ممكن في الوضع الطبيعي والغرض من بيان هذا المعنى التنبيه على عظم ذنبه عند الله تعالى، بحيث كان يستحق لولا التسبيح أن يبقى معذباً في بطن الحوت إلى يوم القيامة.

«فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ » ، الإلقاء كان فعل الحوت ولكنّ الله تعالى يسنده إلى نفسه إيذاناً بأنّ الأمر كان بعناية خاصّة منه تعالى. و«العراء» الأرض الجرداء الخالية من بناء وشجر. و«هو سقيم »أي مريض. ومن الطبيعي أن يتأذى جسم

ص: 123


1- الأنبياء (21): 87 .

الإنسان بالبقاء في بطن الحوت ولو لبضع ساعات ولا يعلم لعلّه بقي أياماً كما قيل. وبالطبع يؤثّر عليه الحرّ والبرد وأشعة الشمس، فيكون سقيماً.

والله تعالى لم يتركه بهذا الحال في العراء وتحت أشعة الشمس، بل أنبت عليه شجرة من يقطين. وهذا أيضاً أمر غير طبيعي أن ينبت شجر على ساحل البحر وبالقرب من الماء المالح الذي يبيد الأشجار. و« يقطين» يقال: إنّه يطلق على كلّ زرع ليس له ساق، كالخيار والقرع ونحوهما، ويقال: إنّه القرع خاصّة.

و«اليقطين» - على ما قيل - يحفظ من حرارة الشمس ولا يقرب إليه الذباب ومهما كان فالشجرة المذكورة أنبتها الله تعالى ليونس لخاصية فيها تفيده في تلك الحالة و الظاهر أنّ هذه الآية هى المقصود بالذات هنا، بناءً على ما مرّ من أنّ هذه الآيات تهدف إلى تعداد نعم الله تعالى على أنبيائه ورسله.

«وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ » ، «أو» هنا ليس للترديد في الاحتمال قطعاً، إذ لا معنى للترديد من علام الغيوب، فهو بمعنى الواو، أو بمعنى «بل»، أو المعنى أنّ العدد يتراءى للناظر أنّهم مائة ألف أو أكثر، أو أنّ الترديد بلحاظ أنّ عدد سكان المدينة لا يستقرّ على رقم خاص عادة، بل هو يزيد وينقص باستمرار. والنقصان قد يكون في حال الحرب أو الوباء أو حدوث بلاء طبيعي كالزلازل، وإلّا فهو عادة في تزايد والتركيز على العدد المذكور، كما مر لبيان أنّها كانت مدينة كبيرة.

«فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ » ، أي إلى أجل مسمى. وهذا يعني أنّ المجتمع إذا آمنوا برسولهم لا ينزل الله عليهم عذاب الاستئصال بل يبقيهم يتمتّعون بالحياة الدنيا إلى أجل مسمى هو نهاية حياة المجتمع، فإنّ المجتمعات أيضاً كالأفراد لها

ص: 124

آجال وأعمار ، قال تعالى: «مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ»(1).

إنّما الكلام في أنّ هذا الإرسال هل هو الإرسال الأول الذي قيل: إنّ الله تعالى أرسله إلى القوم، فلم يؤمنوا به فخرج عنهم ، أم هو الإرسال الثاني بعد نزول العذاب وتوبتهم؟

قال بعض المفسّرين: إنّ المراد هو الأول، فالمراد من ذكره هنا ليس بيان موضع الإرسال، بل بيان عدد المرسل إليهم، فکأنّه قال: وكان المرسل إليهم سابقاً مائة ألف.

فإذا سئل: لماذا تأخّر ذكر هذا الأمر إلى هذا الموضع ؟ أجاب: أنّ ذكر العدد خارج عن الغرض من سرد القصة، ولذلك لم يكن وجه للتنبيه عليه بينها. ولكن يبقى الإشكال في هذا الاحتمال من جهة أنّ الآية تصرّح أنّهم آمنوا به، مع أنّ القصّة تقول: إنّهم لم يؤمنوا به في الإرسال الأول.

وأكثر المفسّرين ومنهم العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) ذهبوا إلى الاحتمال الثاني وأنّ هذا الإرسال هو الإرسال الثاني المذكور في القصة المعروفة.

ولكن هذا الاحتمال بعيد جدّاً، لأنّ ظاهر الآية أنّه أوّل إرسال، إذ لو كان - كما ذكر - لقال : وأرسلناه إلى قومه ولا وجه لذكر العدد، بل لقال فعاد إلى قومه، إذ لا يناسب الإرسال رجوعه إلى قومه السابقين.

بل بوجه أدقّ، الإرسال ثانية غير صحيح وغير ممكن، لأنّ الإرسال ليس بمعنى الحثّ على الذهاب كإرسال إنسان لغرض خاص، بل المراد به جعل منصب الرسالة والمسؤولية عن الأمة على عاتق الرجل، وهذا الأمر غير قابل

ص: 125


1- الحجر (15): 5 .

للتكرار إلّا إذا عزل عن الرسالة الأولى، فإذا قال تعالى «إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ » (1) ليس معناه أنّه حنّه على الذهاب إليهم، لأنّه كان بينهم وبعث من بين ظهرانيهم، وأكثر الرسل كذلك، فالإرسال بمعنى إعطاء المنصب، ويونس (علیه السلام) كان حسب الفرض رسولاً من بدو الأمر ولم يعزل، فلا معنى لإعادة إرساله. إذن فتطبيق هذه الآية على القصّة مشكل جدّاً.

ومن هنا يقوى الاحتمال الآخر الذي ضعّفه المفسّرون وخصوصاً العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) ، وهو الوارد في التوراة، وهو أنّ الله تعالى اقترح على يونس (علیه السلام) أن يرسله إلى نينوى، فتلكّأ يونس عن قبول الرسالة، وخرج من البلد الذي كان فيه، ولعلّه كان بيت المقدس مهد الرسالات، فخرج منها إلى مكان آخر لعلّه يفقد صلاحية الإرسال بذلك، فيعفيه الله تعالى عن المسؤولية، لأنّه كان يخاف الحكومة القويّة الكافرة التي كانت تحكم المدينة، فالذنب الذي ارتكبه یونس (علیه السلام) هو الفرار عن المسؤولية، وهذا بالنسبة للأنبياء والمقربين ذنب عظيم وإن لم يكن في حدّ ذاته محرّماً، حيث كان يحاول أن يفقد صلاحية المسؤولية قبل أن تلقى على عاتقه.

ونظير ذلك صدر من موسى (علیه السلام) أيضاً حينما أمر بالذهاب إلى فرعون، حيث اعتذر بأنّه قتل منهم نفساً وإنّ هارون أفصح منه وغير ذلك، بل لما قبل الله تعالى اقتراحه وضمّ إليه هارون (علیه السلام) وأمرهما بالذهاب معاً اعتذرا بأنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى. والحاصل أنّ اعتذار الأنبياء عن قبول المسؤولية حين عرضها عليهم ليس

ص: 126


1- نوح (71): 1.

أمراً مستغرباً، ولكنّ الذي صدر من يونس (علیه السلام) أنّه تهرب من المسؤولية قبل إلقائها وسافر ليكون بعيداً عن مقرّ المسؤولية لعلّ الله تعالى يعفيه عنها.

وهناك قرينة أخرى تدلّ على أقربية هذا الاحتمال وهو أنّ مدينة نينوى بعيدة عن البحر، فيبعد جدّاً أنّ يونس بخروجه منها توجّه إلى البحر، و إنّما يقرب منها نهر دجلة وهو لا يحتوي على حيتان، ويبعد جدّاً أن يحتاج ركاب سفينة فيه أن يقذفوا ببعضهم إلى البحر خوفاً من الغرق، فالمكان الذي توجّه إليه يونس (علیه السلام) كان بحراً، والبحر يقرب من بيت المقدس، وفي التوراة أنّه ذهب إلى يافا ومن هناك ركب البحر.

فما ارتكبه يونس هو التهرّب، وظنّه أنّ الله تعالى لا يضيّق عليه بأن يأمره بالرجوع من سفره لأداء المسؤولية، وأنّه يبعث غيره ويتركه، وهذا هو معنى قوله تعالى: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» (1).

ومن الغريب أنّ العلّامة (رحمه الله ) فسّر هذه الآية بعدم القدرة، ولكنّه قال: إنّ يونس لم يظنّ ذلك و إنّما كان بمنزلة من يظنّ ذلك. (2) وهو تأويل غريب جدّاً. وبذلك يظهر أنّ معنى قوله تعالى: «وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ » أنّه بعث للرسالة بعد هذه المحنة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) استدلّ بوجوه لترجيح الاحتمال الأول وردّ هذا الاحتمال :

أحدها: أنّ قوله تعالى: « فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ » یدلّ على أنّهم استحقّوا العذاب

ص: 127


1- الأنبياء (21): 87 .
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 14: 315.

قبل ذلك، وأن إيمانهم بيونس كان السبب في رفع العذاب وتمتيعهم إلى حين.

والثاني: قوله تعالى في سورة الأنبياء: ««وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ » ، والظاهر أنّه استشهد بقوله تعالى: « مُغَاضِبًا » على غضبه من قومه حينما ذهب إلى البحر وركب السفينة، فالقصّة وقعت بعد إرساله إليهم.

والثالث: قوله تعالى في سورة القلم: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (1). والظاهر أنّه استشهد بقوله: « مَكْظُومٌ» أنّه كان حين النداء في بطن الحوت كاظماً لغيظه على قومه.

والرابع: قوله تعالى: « إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (2)، بناءً على أنّ الكشف لا يطلق إلّا في عذاب واقع أو مشرف، فينطبق على القصة المعروفة.

أمّا الوجه الأوّل، ففيه: أنّه لا یدلّ على ما ذكر و إنّما یدلّ على أنّهم لم يؤمنوا به أولاً فاستحقّوا العذاب، ثمّ آمنوا فرفع عنهم.

والجواب عن الوجه الثاني: أنّ المغاضب ليس معناه الغاضب، بل فعل ما يوجب غضب الغير. وهو هنا ينطبق على عمله باعتبار أنّه يغضب ربّه، فهو بمعنى الإباق.

وعن الثالث بأنّ المكظوم معناه أنّه محبوس النفس، وهذا يشير إلى أزمته في بطن الحوت، ومن الواضح أنّ التنفّس هناك في غاية الصعوبة، بل غير ممكن عادة ولا ربط له بكظم الغيظ، مع أنّه بعد أن دخل بطن الحوت جزاء من الله

ص: 128


1- القلم (68): 48 .
2- یونس (10): 98 .

تعالى لا وجه لبقاء غضبه على قومه وكظمه.

وعن الوجهين معاً أنّ القصة لا تناسب معنى الإباق الذي هو كالصريح في أنّه كان آبقاً من سيّده أي ربّه، لا أنّه كان غاضباً على قومه.

وأمّا آية سورة يونس، فتدلّ على أنّهم لم يؤمنوا به حتّى رأوا بوادر العذاب، فانتبهوا وجاروا إلى الله تعالى ولما كانوا صادقين في توبتهم قبل الله منهم. ولكن لا دليل على أنّ ذلك كان قبل قصة الحوت، فلا مانع من أن يكون كلّ ذلك بعد هذه المحنة وبعثه رسولاً.

فالحاصل أنّ القصة المعروفة ملفّقة، والروايات ضعيفة، وبعضها لا تأبى الحمل على ما ذكرناه، وبعضها يحتمل فيه خطأ الراوي في فهم المراد.

ص: 129

سورة الصّافّات ( 149 – 157 )

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)

« فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ » ، تتعرّض الآيات لنوع من الفكر الوثني الجاهلي حيث كانت عرب الجزيرة تعتقد أنّ الملائكة بنات الله، فهم من جهة يثبتون لله تعالى أولاداً، ومن جهة أخرى يزعمون أنّ الملائكة أناث. وقد ندّد القرآن بالفكرتين في مواضع عديدة، وردّ عليهم هنا بوجوه خمسة، حسبما أعلم وبلغه فهمي القاصر.

الوجه الأوّل : ما تفيده هذه الآية. و «الاستفتاء» طلب الفتوى، أي الرأي. والاستفهام في ذلك تقريري. والتقرير هو أن يسأل المدّعي لأمر سؤالاً إذا أجاب عنه سقطت حجّته، بمعنى أنّه يلزم حسب السؤال بأن يقرّ بأمر ينافي ما يعتقده، فالسؤال هنا مع الجواب يستلزم بطلان العقيدة والضمير يعود إلى المشركين وان لم يذكروا.

والجملة « أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ » مصروفة عن الخطاب الذي هو مورد ،الاستفتاء، فالمفروض أن يقال: أتعتقدون أنّ لله البنات ولكم البنون؟ ما هذه القسمة الظالمة؟ وذلك لأنّ العرب كانت تفرط في الحدّ من كرامة المرأة، قال تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»

ص: 130

مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» (1) ، فالله تعالى يقول لهم إذا كانت هذه منزلة البنات عندكم ، فكيف ترضون بهذه القسمة أن يكون لكم البنون ولله البنات؟!

و إنّما صرف عن الخطاب تحقيراً لهم وإهمالاً لأمرهم، حيث يقول: (الرَبِّكَ) ولم يقل لله أو لربّهم إيذاناً بأنّهم لا يستحقّون أن يخاطبوا من قبل الله تعالى، فيخاطب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ثمّ يخصّص الربوبية به، کأنّه تعالى أهمل تربيتهم، وليس كذلك والله تعالى ربّ العالمين لا يهمل شيئاً، ولكنّ التعبير بما يوهم ذلك ليفيد التحقير والاستهانة.

« أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ »، وهذا هو الوجه الثاني والأساس في هذا الوجه استنكار ما يزعمونه من كون الملائكة إناثاً، مع أنّهم لم يشاهدوهم ولا يمكن أن يشاهدوهم، لأنّهم غائبون عن أعين البشر، فلا يكون حكمهم بذلك إلّا تخرّصاً على الغيب من دون مستند. و«أم» منقطعة تفيد معنى الإضراب والاستفهام، أي بل أشهدوا خلق الملائكة فعلموا أنّهم إناث والإضراب إضراب عن استفتائهم إلى الاستغراب عنهم بما لا يمكنهم أن يدعوه. وجملة: « وَهُمْ شَاهِدُونَ » حالية، أي هل خلقنا الملائكة إناثاً حال كون هؤلاء يشهدون ذلك؟!

« أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ *وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » وهذا هو الوجه الثالث. و«الإفك » هو صرف الشيء عن واقعه وحقيقته، ومن هنا يطلق الإفك على الكذب، يعني أنّهم بقولهم هذا يبتعدون عن الحقيقة. والجملة مؤكّدة بوجوه: فابتدأها بأداة التنبيه « ألا » إيذاناً بأنّ ما بعده كلام مهم، ثمّ ب- «إنّ» التي تؤكد ما

ص: 131


1- النحل (16) :58 - 59 .

بعدها، ثمّ ب«لام القسم» ، ثمّ أكّد المضمون بتكرار القول مؤكداً أيضاً: «وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ».

وخلاصة القول أنّ هذه الفكرة تستند إلى فكرة خاطئة من الأساس وهو نسبة الولادة إلى الله تعالى والولادة معناها أن ينفصل من الشيء جزء، ثمّ ينمو حتّى يكون مثله بفضل الجينات الناقلة للصفات الوراثية. هذه هي الولادة في الإنسان والحيوان والنبات. وهذا غير ممكن في الله تعالى لأنّه ليس جسماً، وليس له أجزاء لينفصل منه بعضها، وليس له جينات وليس له شبيه ونظير فلا يمكن أن يكون له ولد.

والغرض من الآيات التي تتعرّض لنفي الولد والشريك والندّ ونحو ذلك هو تبديد الأفكار الخاطئة السائدة بين البشر حول معرفة الله تعالى. وهذه مرحلة مهمّة في ترسيخ الإيمان الصحيح والمعرفة الصحيحة عن الله سبحانه، فالخطوة الأولى في هذا المجال هي تبديد الأفكار الجاهلية الخاطئة، سواء في ذلك توهّم أنّ الله تعالى يولد من شيء، أو أنّه يولد شيئاً، أو أنّه ينزل ليلة الجمعة على حمار، أو أنّه جسم كبير جالس على العرش، أو أنّه يوم القيامة يضع رجله في النار لتسكن ولا تطالب بالمزيد، إلى غير ذلك من الأفكار الساذجة في معرفة الله تعالى.

«أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ » ،وهذا هو الوجه الرابع ولكن ذكر المفسرون أنّ هذا تكرار للجملة الأولى تأكيداً لمضمونها. والصحيح أنّهما مختلفتان مضموناً، فالجملة الأولى تندّد بهذه القسمة وبفكرة أن يكون لله البنات، ثمّ بفكرة أن يولد له ولد حقيقة، سواء كان ابناً أم بنتاً. وهذه الجملة تنفي أن يتّخذ

ص: 132

الله الملائكة بنات وإن لم يكن له ولد حقيقة، ولذلك أخّره عن نفي الولد بصورة عامّة.

وهناك محاولة لتوجيه قول النصارى أنّ عيسى ابن الله على أساس أنّ المسيحية لا تقول إنّ لله ولداً حقيقة و إنّما تقول إنّه اتّخذه ولداً. والآيات الكريمة تنفي هذا القول بشدة، وفي مواضع عديدة، قال تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا»(1).

والدليل على ذلك أنّ اتّخاذ الولد ليس إلّا للحاجة، فالإنسان الذي لا يولد له ولد يتّخذ ولداً ويتبنى ليملأ فراغاً، فهو يملأ به فراغ البيت، وفراغه النفسي والعاطفي، وغير ذلك. وبعض الناس يحتاج إليه لمساعدته في شؤون الحياة. والله تعالى لا يحتاج إلى شيء بتاتاً.

فهذه الآيات تقول: إنّه لو فرضنا جدلاً أنّ الله تعالى اتّخذ ولداً، فلماذا يختار البنات؟ أصطفى البنات على البنين ؟ «أصطفى» أي هل اصطفى البنات واختارهنّ على البنين، حيث إنّهم كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات ولو كان الله متّخذاً ولداً لاصطفى البنين، خصوصاً أنّ الملائكة قد أوكل الله إليهم تدبير الأمور، كما قال تعالى: «فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا »(2).

ومثل هذه الآيات ما ورد في سورة الزخرف ومنها قوله تعالى: «أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ »(3) فاستدلّ على سخافة ترجيح الإناث على الذكور في مثل هذا الموضع بأنّ المرأة تنشأ وتتربى في الزينة، ولا يتبيّن منها إقدام وشجاعة في

ص: 133


1- مریم (19) :92 .
2- النازعات (79): 5 .
3- الزخرف (43) :18 .

الحروب، فكيف يرجّح الله سبحانه اختيارها لو فرض أنّه اتّخذ ولداً؟!

وهذا بالطبع مبني على الجدل، وإلّا فالملائكة ليسوا إناثاً ولا ذكوراً، فهم ليسوا من جنس الإنسان أو الحيوان حتّى يكونوا من أحد النوعين.

« مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ »، أي ما الذي حلّ بكم فتحكمون بما هو خطأ واضح، فالاستفهام الثاني إنكاري معناه أنّ حكمكم باطل بين البطلان.

« أَفَلَا تَذَكَّرُونَ » ، أي هذا الأمر من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى تكلّف استدلال ولا مراجعة مصادر، بل ولا تأمّل وتفكير، بل يكفي فيه التذكر والرجوع إلى الوجدان والضمير. ومن الغريب أنّ هناك حالات للإنسان ينسى فيها ضميره ووجدانه، وربما يستمرّ به ذلك إلى آخر حياته إذا ركض وراء الشعارات الجوفاء والصور الخادعة.

« أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ *فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ » ، وهذا هو الوجه الخامس. فبعد التنديد المتكرّر بهذه الفكرة السخيفة التي كانت سائدة بين العرب وغيرهم من أنّ الملائكة إناث، والإشارة في الوجه الثاني إلى أنّ حقيقة الملائكة أمر غيبي لا يصل إليه الفكر البشري، عاد هنا وأكّد على أنّ هذا الأمر لا يمكن أن يصل إليه البشر إلّا عن طريق الوحي، لأنّه من خبر السماء وليس من شؤون الأرض حتّى تحسّونه بأبصاركم أو حواسّكم أو أجهزتكم، فإن كان لكم مستند من الوحي فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين.

و«السلطان» مصدر بمعنى السلطة، والمراد به الحجّة الموجبة لتسلّط صاحبها وغلبته على الخصم من حيث الاستدلال. و«المبين» بمعنى الواضح أو الموضح للحقيقة. ومن المعلوم أنّ العرب ليس لهم كتاب، فالغرض إيقاظ ضمائرهم حتّى لا يتقوّلوا على الغيب بدون استناد إلى الوحي الإلهي.

ص: 134

سورة الصّافّات( 158 – 170)

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

« وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا » ، الظاهر أنّ هذه الآية تردّ فكراً خاطئاً آخر سائداً بين الوثنيين وغيرهم، وهو أنّ الجنّ لهم ارتباط بعالم الغيب وانتساب إلى الله تعالى. و«النسب» يطلق على أي نوع من الارتباط، وليس بمعنى الانتساب بالولادة خاصّة، كما ربّما يتوهّم قال ابن فارس: «النون والسين كلمة واحدة قياسها اتصال شيء بشيء» وقال: «النسيب الطريق المستقيم لاتصال بعضه من بعض فالظاهر أنّ المراد ب-«النسب» اعتقادهم باتصالهم بالله تعالى وقربهم لديه. وهذا هو المناسب للآية التالية التي تردّ على هذا التوهّم.

والاعتقاد بأنّ للجنّ سلطة غيبية وأنّهم يتصرّفون في الكون أو في مساحات شاسعة منه بلا منازع اعتقاد سائد بين عوام الناس إلى يومنا هذا، بل في كلام الملائكة المحكي في القرآن الكريم أنّ أكثر الناس يعبدون الجن: « بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» (1) .

وكانوا قديماً يراجعون الكهنة للتعرّف على الغيب، وكان الكهنة يدعون أنّهم

ص: 135


1- سبأ (34): 41 .

إنّما تصلهم أخبار الغيب عن طريق الجنّ، كما كانت الجنّة أيضاً تدعي ذلك. بل كان جمع من البشر يعوذون ويلجؤون إلى الجنّ من كلّ شرّ، قال تعالى: «وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا » (1) .ولعلّ هذا هو معنى عبادتهم لهم، حيث إنّهم كانوا يطيعونهم خوفاً من شرّهم وجلباً لمنافعهم، بل نفس الالتجاء وطلب الحاجة منهم يعتبر عبادة وتذللاً.

« وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ » ،هذه الآية تردّ على كلّ هذه الأوهام، فالجنّة تعلّم وتعترف بأنّها مكلّفة كالإنس، وأنّهم محضرون يوم القيامة للمحاسبة والجزاء. ومعنى «محضرون» أنّهم يحضرون قسراً كغيرهم من الإنس والغرض من ذلك بيان أنّهم ليس لهم قرب لدى الله تعالى، ولا يختلفون عن سائر المكلّفين.

ولكن جمعاً من المفسّرين حيث توهّموا أنّ المراد بالنسب ليس إلّا الانتساب بالولادة، وحيث لم يجدوا بين العرب من يقول بأنّ الجنّ أولاد الله أو إخوانه مثلاً، فتشبثوا بوجوه غريبة، فالزمخشري في «الكشّاف »فسّر الجنّ بالملائكة، لأنّ الجنّ بمعنى المستور، فالملائكة صنف من الجنّ.

ثم تساءل: لماذا عبّر عنهم بالجن؟ وأجاب بأنّ ذلك للتحقير. ومثّل لذلك بأنّ أحداً لو قارن بين ملك واحد خواصّه لاعترض عليه بأنّك تقرن بيني وبين عبدي مع أنّه ليس عبداً له و إنّما يعبّر عنه بذلك تحقيراً له. وهنا أيضاً التعبير عن الملائكة بالجنّ إنّما ورد تحقيراً في مقابلة من اعتبرهم بنات لله تعالى. (2)

ص: 136


1- الجنّ (72): 6 .
2- راجع: تفسير الكشاف 4: 64 .

وهذا باطل، لأنّ التعبير بالجنّ إن كان باعتبار أنّ معناه المستور، فليس فيه تحقير لهم، بل هو تعبير موافق للواقع إنّما الكلام في أنّ الله تعالى لا يعبّر عنهم بالجنّ والقرآن مليء بذكر الملائكة في مقابل الجن، ومنها الآية السابقة في سورة سبأ، ومنها قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ » (1).

وقال بعضهم: إنّ من العرب من كانوا يعتقدون أنّ من الجنّ من أولد لله الملائكة، فکأنّهنّ أزواج الله تعالى عمّا يقول الظالمون. ولكن هذا لا دليل عليه ولم يسمع من أحد من العرب، فكيف يسند إلى القوم بصورة عامّة؟!

« سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » ، بعد أن نقل عن المشركين أقوالهم في اعتبار الملائكة بنات لله وانتساب الجنّ إليه تعالى، نزّهه عن كلّ ما يصفونه به والظاهر أنّ الاستثناء يعود إلى ضمير الفاعل في «يَصِفُونَ» فالنتيجة أنّه تعالى منزّه عن كلّ ما يصفه به الناس جميعاً إلّا عباد الله المخلصين.

وقد مر أنّ المخلصين - بفتح اللام - وبأحد معنييه، هم من أخلصهم الله تعالى لنفسه بالعصمة والتوفيق، فكلّ ما يوصف به الله سبحانه فهو منزّه عنه، لأنّه نابع من الفهم القاصر لمقامه تعالى، وأمّا ما يصفه به عباده المخلصون الذين لا يصفونه إلّا بما أثنى به على نفسه وأوحى إليهم أو ألهمهم به فهو الوصف الصحيح الذي ينبغي أن يوصف به الربّ تعالى شأنه.

وقيل: إنّ الاستثناء يرتبط بالآية السابقة: « وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ » ،إمَا على تقدير أنّ المراد بالجنّة الملائكة وأنّ الضمير في «إنّهم » يعود إلى

ص: 137


1- الكهف (18) :50 .

المشركين والاستثناء منهم أو أنّه من الجنّة. وهو على كلّ تقدير استثناء منقطع وجملة: «سُبْحانَ الله » معترضة. وكلّ ذلك تكلّف ظاهر.

« فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ *مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ » ،الخطاب للمشركين والضمير في «عليه » يعود إليه تعالى و«الفاء» في أول الجملة لعلّه تفريع على ما مرّ من التنزيه نظراً إلى وضوحه لدى أصحاب الحكمة، فالنتيجة الحاصلة من هذا التنزيه الواضح أنّكم وما تعبدونه من الأصنام وغيرها لا تفتنون الناس ضده تعالى، ولا تفسدون عليه العباد، نظير ما يقال إنّ فلاناً أفسد على فلان ابنه أو خادمه فالاستعلاء هنا بمعنى المضادّة.

ولعلّ الأولى أن تكون «الفاء» لتفريع هذا المضمون على استثناء عباد الله المخلصين، فيكون المعنى أنّ الله تعالى منزّه عمّا يصفه به الناس إلّا عباده المخلصون، فإنّكم لا تتمكّنون من إضلالهم، و إنّما تضلّون من هو صال الجحيم. ومثل ذلك قوله تعالى: « وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ *قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ *إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ »(1).

وينبغي حينئذ أن يكون« المُخْلَصِينَ » بمعنى من أخلص الله قلوبهم للإيمان، فيشمل عامّة المؤمنين، لا خصوص المعصومين، أو يكون المراد ب-«الفتنة» ما يشمل المعاصي ولا يختصّ بالكفر.

وعطف «ما تَعْبُدُونَ» عليهم من جهة أنّ الأصنام وغيرها ممّا يعبده المشركون تجذب إليها أنظار الجهلة بتأثير الدعايات والشعارات، فالآية تنفي تأثير كلّ من الداعين والمدعوّ إليهم في النفوس التي تسير على النهج الذي رسمه الله تعالى .

ص: 138


1- الحجر (15): 39 - 42 .

في فطرتها، و إنّما تؤثر في النفوس المريضة التي تبحث عن كلّ ما يبرّر لها فجورها.

ويمكن أن يكون المراد ب- «ما تَعْبُدُونَ» الجنّ وشياطينهم، وقد مرّ آنفاً الحديث عنهم وعبادة الناس للشيطان بمعنى إطاعته، كما قال تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إ» (1) . والفتنة أصلها الإحراق بالنار ، وحيث أطلق على إذابة المعادن بالنار لتخليصها من الشوائب اتّخذت معنى كلّ ما يوجب التخليص، ومنها مشاكل الحياة وكلّ ما يؤثّر في إضلال الناس وإفسادهم، لأنّ الناجي من هذه المحن ليس إلّا القويّ صاحب النفس المطمئنة. وبذلك عبّر عن كلّ محاولة لتضليل الناس بالفتنة.

« إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ » ،«الصلي» هو الاحتراق بالنار أو لمس حرارتها المحرقة. و«الجحيم»: النار العظيمة والاستثناء مفرّغ أي لا تفتنون أحداً إلّا من هو صالي الجحيم. وقد تشبّث القائلون بالجبر بهذه الآية للاستدلال على أنّ هناك من الناس من قدر الله له النار، فهو مفتون لا محالة.

وأجاب عنه الآخرون بأنّ المراد من علم الله أنّه ممّن سيصلى النار بسوء اختیاره، لا من قدر الله له النار.

والصحيح أنّ مردّ الكلامين إلى أمر واحد، فتقدير الله هو علمه، إلّا أنّ ذلك لا ينافي أنّه يصلى النار بسوء اختياره، فإنّ التقدير ليس بمعنى أنّ الله تعالى قدر له أن يضلّ، سواء أراد أم لم يرد، بل قدر أنّه سيريد الضلال ويبحث عنه لما فيه

ص: 139


1- يس (36) :60 .

من حب الشرّ والبحث عمّا يسهل له السبيل.

« وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ »، التقدير ما منّا أحد الّا... وهو حكاية لكلام الملائكة ردّاً على المشركين حيث اعتبروا الملائكة بنات الله سبحانه، وهو يستلزم أن يكون لله تعالى جنس وأن تكون الملائكة من جنسه، وكلّ ذلك باطل، فالملائكة يعترفون هنا بأنّهم عبيد الله تعالى خلقهم بإرادته، وجعل لكلّ منهم مقاماً معلوماً ومحدداً لا يتعدّاه ولا يمكنه تجاوزه، وهو یدلّ على أنّ الملائكة ليس لهم تطوّر وتكامل.

وقولهم: «وَمَا مِنَّا » يوحي بالشمول، فلا يشذّ عن هذا الحكم أحد منهم. و إنّما عبّر عن هذه الحقائق بالحكاية عنهم ليكون آكد، فإنّ اعتراف من يدعي فيه الربوبية أو نحوها بالعبودية لله تعالى أعمق تأثيراً في نفوس المدعين.

« وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ *وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ »، مرّ الكلام في أول السورة في معنى الصفّ، فالمراد إمّا أنّهم صافّون أقدامهم في الصلاة والذكر والتسبيح أو صافّون أجنحتهم في تنفيذ أوامر الله تعالى أو أنّهم مصطفون تمهيداً لنزول القرآن. وعلى كلّ حال فهو كناية عن الاستعداد التام للخدمة، وأنّهم دائماً منتظرون لتلقّي الأوامر مستعدّون لتنفيذها لا يعصون الله ما أمرهم.

والإتيان بضمير الفصل مع التأكيد ب-«أنّ» و «لام القسم» یدلّ على انحصار الصافّين بهذا المعنى فيهم، فليس هناك موجود مستعد لأداء الخدمة كالملائكة. وكذلك المسبّحين فهم المسبحون حقاً لا غيرهم، فإنّ تسبيحهم لا يشوبه شيء، ولا يشغلهم عنه شيء. وكونهم هم المسبّحون یدلّ بوضوح على رفضهم لما ينسبون إليهم من بنوّة الله سبحانه وتعالى.

ص: 140

وقيل: إنّ قائل هذا القول هو الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنون، أي أنّه حكاية لقولهم وأنّه معطوف على قوله: «فَاسْتَفْتِهِمْ» فالتقدير وقل لهم كذا .

وما تقدّم أقرب إلى ظاهر اللفظ.

« وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ *لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ *لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » ،«إن» مخفّفة من المثقلة بدليل ورود السلام على الخبر. و«اللام» لام القسم، أي والله إنّهم كانوا ليقولون: لو أنّ الله تعالى نزّل علينا كتاباً وذكراً من قبيل ما نزّل على الأولين، أي كالتوراة والإنجيل لكنّا عباد الله المخلصين، ولم نكن نكذب الرسل كما كذب الأوّلون .

هكذا كان مشركو الجزيرة يتبجّحون ومثل ذلك قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا» (1). وقوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا إنّما أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ» (2).

« فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » ،أي فلمّا جاءهم ذكر من قبيل ذكر الأوّلين، بل أسمى وأجلّ كفروا به عناداً وطغياناً، وحسداً على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فسوف يعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم. وهذا تهديد شديد.

ص: 141


1- فاطر (35) :42 .
2- الأنعام (6) : 156 - 157 .

سورة الصّافّات (171 – 179)

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)

«وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ *وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ » ، تأكيد على التهديد المبطن في الجملة السابقة: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» وهو ينبئ أنّ التهديد يتحقّق ضمن المواجهة بين عساكر الكفر وجيش المسلمين، وأنّ الله سينصر رسوله عليهم بالرغم من كثرتهم ، وكثرة أموالهم وعتادهم، وذلك لأنّه قد سبق من الله عهد لعباده المرسلين أنّهم إذا حاربوا جيوش الكفر، فإنّهم لهم المنصورون وإنّ جند الله لهم الغالبون.

وقد امتلأ التعبير تأكيداً بتكرار «إنّ» و «اللام» وتقديم اللام في أوّل الجملة مع «قد»، والإتيان ب-«الالف واللام » على الخبر في الجملتين ممّا یدلّ على الحصر، والإتيان بضمير الفصل « لهم». ومعنى «سبق الكلمة» أنّه من التقدير الأزلي.

ومثل هذه الآيات قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ » (1) وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ » (2) .

وربما يتوهّم أنّ هذا الوعد لم يتحقّق في بعض الموارد، كانهزام المسلمين في غزوة أحد وبعض الحروب الأخرى.

ص: 142


1- غافر (40) :51 .
2- المجادلة (58): 21 .

والجواب يظهر بالتأمّل في مفاد الآية، فالوعد إنّما هو في نصرة الرسل، لا الأتباع وإن حاربوا باسم الدين ما لم يكن بأمر الرسول. وهو وعد أيضاً بغلبة جند الله، ولم يقل جنود الرسل. وهناك فرق بين العنوانين، فإذا خالف جنود الرسول أمره يبقون جنوده، ولكنّهم لا يعتبرون جنود الله سبحانه، لأنّهم خالفوا أمر رسولهم، كما حدث في أحد ، فلا حاجة إلى توجيه آخر.

ومن يلاحظ تأريخ الرسل وخصوصاً تأريخ الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يجد نصرة الله تعالى له واضحة في جميع حروبه ومواجهاته، بالرغم من قلّة أتباعه وضعفهم عدّة وعُدة، فما حدث في بعض المواجهات له أسباب خاصّة، ويعتبر من موارد ابتلائه تعالى للمؤمنين. هذا مضافاً إلى أنّ النصرة والغلبة في مقام الاحتجاج مستمرّ إلى يوم القيامة للرسل وأتباعهم الحقيقيين.

ومن موارد الابتلاء أيضاً ما حدث لأهل بيت العصمة (علیهم السلام) من الظلم في مواجهة فسقة هذه الأمة وجبابرتها، ففيها ابتلاء لهم، وابتلاء للأمة جميعاً. وهو ابتلاء مستمرّ إلى يومنا هذا، يميّز الله تعالى به صفوف المؤمنين الذين اتّبعوا أمر الله تعالى ووصيّة رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بشأنهم عمّن خالفوهم.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد بالآية ونظائرها انتصار الرسل في النهاية على الكفر ولو بعد قرون، فيكون المراد انتصار الهدف الرسالي. وعليه فالآية من الآيات التي تبشر بظهور صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

« فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ» ، تهديد بعد تهديد لتضعيف قوى الكفر وعزيمتهم ولتسلية النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين. وهذا متفرّع على الوعد السابق. و«التولي» بمعنى الإعراض، أي أعرض عن إيذائهم وعنادهم لك، وكلّ ما يتحمله المؤمنون في

ص: 143

مكة من الأذى، ولا تهتمّ لهم، فإنّ زمان النصر قريب. وقد تكرّر الأمر بالإعراض عنهم.

وقوله «حتّى حِينٍ» ، أي حتّى يحين موعد النصر عند المواجهة حيث ينصرك الله تعالى عليهم ويخزهم ويشف صدور قوم مؤمنين. و«الحين»: الوقت. والتنكير للتقليل والتحقير، أي أعرض عنهم إلى وقت قليل، فيفيد أنّ النصر قريب. والظاهر أنّ المراد به يوم بدر، ويمكن أن يراد به موعد النصر النهائي بفتح مكة.

« وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ »، «الإبصار» هو التأمّل. ومن لطيف التعبير الجمع بين الإعراض والإبصار، حيث إنّ الإعراض يقتضي صرف الوجه والإبصار يتوقف على التوجه.

وبعض المفسّرين ذهب إلى أنّ المراد إبصارهم يوم الهزيمة، وأنّ الأمر به آنذاك للتعبير عن كونه حتمياً، فکأنّه متحقق حالياً بحيث يمكن إبصاره. ولكنّه لا يناسب التفريع في قوله تعالى: «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» الدالّ على أنّ إبصارهم للهزيمة يتحقّق في المستقبل. والظاهر أنّ المراد أبصر وضعهم الحالي وشوكتهم وغطرستهم وجبروتهم، ولكن لا تهتمّ لهم وأعرض عنهم، فسوف يبصرون كيف تتلاشى كلّ هذه القوة والعزيمة.

« َفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ » ، قد تكرّر في القرآن الكريم أنّ الأمم السالفة كانوا يطالبون رسلهم بالعذاب الموعود ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وكذلك تكرّر نقل ذلك عن كفار قريش. وفي كلّ ذلك يأتي الخطاب الإلهي بالتنديد بهذا الاستعجال ، وأنّ الله تعالى يمهلكم لعلّكم تهتدون ولا ينزل عليكم عذاب الاستئصال، كما أنزل على الذين من قبلكم. وهذا من غباء الإنسان أن

ص: 144

لا يعتبر بالعبر ويطالب بما يضيّع عليه كلّ الفرص ومن المعلوم أنّ هذا العذاب إذا نزل لا يبقي مجالاً للتوبة والرجوع.

« فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ »، «الساحة»: المكان الوسيع. والمراد ما يحوم حول البلد، وهو تعبير ينم عن تهديد بهجوم كاسح، كأنّ جيشاً من الأعداء سيهجمون على البلد ويضيقون عليهم الخناق في الساحات المحيطة بهم، فساء صباحهم آنذاك. وذكر «الصباح» كان متعارفاً في مثل ذلك من جهة أنّ الهجوم والغارة كانت تتحقق عادة في الليل.

والتعبير ب-«المنذرين » إشارة إلى أنّ الهجوم كان بسابق إنذار، فالمهاجم هنا لا يخافكم ولا يخاف استعدادكم للمواجهة أو الفرار وينذركم قبل الهجوم. وفي الآية إشارة إلى أنّ العذاب الموعود في هذه الأمة ليس من قبيل العذاب في الأمم السالفة من الصيحة والصاعقة ونحوهما، بل من قبيل هجوم العدوّ.

« وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ *وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» ، تكرار لنفس الجملتين السابقتين يؤكّد الموضوع بذلك. ولعلّ في حذف المفعول به في الأمر بالإبصار هنا حيث لم يقل: «وأبصرهم - كما في الآية السابقة - إشارة إلى أنّ الأمر لا يختصّ بهؤلاء، بل يشمل كلّ أعداء الرسالة.

ولا يبعد أن يكون المراد هنا التهديد بعذاب الآخرة الشامل لجميع الكفّار المعاندين. وقد تكرّر في القرآن التهديد بالنوعين، وأكثر ما يتحقّق من العذاب الموعود إنّما هو في الآخرة، فإنّا نجد أنّ أكثر الظالمين لا ينالون جزاءهم في الدنيا، بل يستمرّون في ظلمهم وطغيانهم وعنادهم، ويعيشون في الدنيا بكلّ هناء ورغد ، و إنّما يتحقّق الوعد الإلهي بالعذاب حتماً في الآخرة.

ص: 145

سورة الصّافّات( 180 -182)

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

ختام للسورة الكريمة تناسب مضامينها حيث كانت تتعرّض للردّ على ما ينسبه الكفار إلى الله تعالى من الصفات ويجعلون له البنات، كما يناسب ما ورد فيها من ذكر نعم الله تعالى على الرسل، واختتمت كلّ قصة من قصصهم بالسلام على صاحب القصة. وهنا اختتم السورة بالسلام عليهم أجمعين. ثمّ الختم بأنّ الحمد كلّه لله رب العالمين.

« سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ » ، يحتمل أن يكون المراد بالتنزيه في هذه الآية حيث وردت بعد التهديدات السابقة تنزيهه تعالى عمّا يدور في خلد المشركين وغيرهم من الكفّار ، بل حتّى بعض المؤمنين من أنّه تعالى لا يفي بما يعده ويوعده، بل ربّما يتصوّرون أنّه غير قادر على ذلك.

وهذا التوهّم سائد بين الناس حتّى المؤمنين بالله تعالى، فقليلاً ما تجد مثلاً مؤمناً مطمئناً بما وعده الله تعالى على لسان نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من ظهور المهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) وعجّل الله تعالى فرجه وغلبته على كلّ هذه الطواغيت والفراعنة وما أسّسوا من قوى شيطانية، فكيف بالكفّار ومشركي مکّة وإن كانوا يعترفون بالله، ولكنّهم لا يؤمنون بقدرته الشاملة، فيتصوّرون أنّه لا يقدر عليهم، وأنّ هذه التهديدات لا تتحقّق، فالآية الكريمة تنزّهه تعالى عمّا يصفونه من العجز أو خلف الوعد.

ويؤيّد هذا الاحتمال التعبير الوارد في الآية الكريمة حيث قال: سُبْحَانَ رَبِّكَ

ص: 146

رَبِّ الْعِزَّةِ » ولم يقل: «سبحان الله عما يصفون». فلا يبعد أن يكون التوصيف بربوبيته للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمناسبتها لما وعده الله من النصر على الأعداء، فذكر ذلك للتأكيد على أنّه تعالى بمقتضى ربوبيته لك ينصرك في ما بعثك من أجله من الرسالة، فإنّ الربوبية من التربية، ومقتضاها أن يوصل الربّ كلّ مربوب إلى كماله، فإذا أرسل رسولاً لابدّ من نصرته وغلبته على الأعداء، فهو تأكيد على قوله تعالى في الآية السابقة: «إِنَّهُمْ هُمُ المَنصُورُونَ». ثمّ التأكيد على كونه رب العزّة بمعنى الغلبة، فهو غالب على أمره لا يمتنع عليه شيء.

« وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ» ، هذه الآية أيضاً وإن كانت مناسبة لمواضيع السورة، ولكنّها تناسب أيضاً هذا التهديد الإلهي، لأنّ السلام من الله تعالى معناه أنّه يسلمهم من كلّ شيء ومن كلّ الأعداء وينصره عليهم، فالسلام عليهم في الدنيا والآخرة.

« وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »، الحمد كلّه لله من أي أحد صدر، وعلى أي كمال وجمال، فإنّه يعود إلى الله تعالى، لأنّه خالق كلّ خير، وهو ربّ العالمين، فيوصل كلّ أحد إلى كماله ويضعه موضعه اللائق به. ومن هنا فإنّه ينصر رسله، ويعذّب أعداءهم، فهذا أيضاً من خصائص الربوبيّة وبذلك يتبيّن تناسب كلّ هذه الجمل مع هذا الاحتمال والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 147

ص: 148

تفسير سورة ص

اشارة

ص: 149

ص: 150

سورة الصّاد( 1 – 11)

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)

السورة من السور المكية بشهادة مضامينها، حيث تتناول العقائد، وتردّ على المشركين، وتستشهد بما جرى على الأمم السالفة، وغير ذلك ممّا تتميّز بها السور المكّية.

« ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » ، «ص» من الحروف المقطّعة كسائر ما ورد في مفتتح

ص: 151

مجموعة من السور، وقد مرّ الكلام فيها، فلا نعيد والجملة بعده للقسم وقد مرّ نظيرها في سورة يس و«الذكر» يحتمل فيه إرادة كونه مذكوراً مشهوراً قد ذاع صيته في البلدان وتناقلته الركبان، ويحتمل أن يراد كونه مذكراً للبشر بما لا ينتبه إليه بنفسه - وإن دلّه إليه عقله وفطرته - نتيجة توغّله في شؤون الدنيا وملذّاتها، فالقرآن يذكّر الإنسان بربّه، ويذكّره بمستقبله المجهول المحتوم ويذكره بما يسعده ويشقيه في عالم الخلود.

« بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ » ، «بل» للإضراب. وربّما يستغرب بدواً أنّه إضراب عن أيّ شيء؟ مع أنّ الجملة السابقة لم تتمّ، إذ لم يذكر المضمون الذي أقسم عليه بالقرآن.

والجواب: أنّ هذا من الحذف اعتماداً على القرينة، حيث يعلم المعنى من نفس الإضراب، فيمكن أن يكون المحذوف: «إنّك لمن المنذرين » نظير ما ورد في سورة يس من قوله تعالى: «إِنَّكَ لَنَ الْمُرْسَلِينَ» خصوصاً بملاحظة التأكيد على الإنذار في هذه السورة وتكرّره، ويمكن أن يكون المقدّر ما یدلّ على أنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على حق في دعواه.

و«بل» هنا يفيد معنى آخر أيضاً، وهو دفع ما ربما يستغرب من توصيف القرآن بأنّه ذو ذكر، بناءً على أنّ المراد أنّه يذكّر الإنسان بربّه، وذلك لأنّه لم يتمكّن من تذكير المشركين في مکّة مع أنّهم عارفون باللغة، فالإضراب يفيد أنّ السبب في عدم تذكّرهم هو الاعتزاز والشقاق، لا لنقص في تذكير القرآن.

والمراد ب- «الَّذِينَ كَفَرُوا » مشركو مکّة. والآية تبيّن السبب في كفرهم وإنكارهم وهو العزّة والشقاق، ف-«العزّة» في الأصل بمعنى الصلابة والشدّة،

ص: 152

والمراد هنا التزمّت وعدم الانصياع للحق والناس في مواجهة الأفكار المطروحة مختلفون، وطبيعة الجفاء والبداوة المتأصّلة في القوم كانت تقتضي التشدّد وعدم المرونة. وقد قال تعالى عن بعض الناس الذين وصفهم بأنّهم ممّن يعجبك قوله وهو ألد الخصام: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ » (1)، فهو يعلم أنّ ما يفعله إثم ولكنّه يعتزّ به لمجرّد أنّه منتسب إليه، ولا يعجبه قبول النصح حتّى لو وجد في ذلك ضرراً بليغاً. وهكذا يجرّ الإنسان حمقه وكبره وخيلاؤه إلى الهاوية.

ومثل ذلك من يعتزّ برأيه ويأبى قبول الحقّ من غيره وإن تبيّن له أنّه الحق، كما نجده في أكثر المحاورات. ولذلك قال بعض علماء الأخلاق: إنّه قلّ ما أمكن الوصول بالجدل والحوار إلى نتيجة يتفق عليها الطرفان.

وأمّا «الشقاق»، فهو المخالفة، كأن كلّاً من الطرفين في شقّ غير شقّ الآخر. والإتيان ب- «في» في قوله: « فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ» يفيد أنّهم متوغّلون دائماً في العزّة والشقاق لا يفارقونهما ، کأنّه ظرف محيط بهم والسبب في توغلهم في الاعتزاز هو الكبر الذي عرف به العرب، وأمّا شقاقهم مع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فمنشؤه التعصب وهو أيضاً ممّا عرفوا به، وهو مأخوذ من العصبة، أي القوم والعشيرة التي تؤوي الإنسان وتساعده. وما أكثر من أهلكته العصبية ونصرة القوم والأقرباء على الباطل. والعصبية تعود في جذورها إلى حب الذات، فإنّ الإنسان يعجبه ما يضاف إليه ويختصّ به.

ويمكن أن يكون ذكر الأمرين «العزّة» و«الشقاق» لاختلاف القوم في ما يمنعهم من الإيمان بالحق، فبعضهم كانت تمنعه العزّة كالأكابر والرؤساء،

ص: 153


1- البقرة (2): 206 .

وبعضهم تمنعه العصبية فقط، كالأتباع والمستضعفين.

«كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ »، الآية تهدّدهم بأنّ السابقين أيضاً منعتهم العزّة والشقاق عن الإيمان وقد أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وأنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي لا يبقى شيئاً. والقرآن يؤكّد على أنّ البشر متماثلون في سجاياهم وشؤونهم الاجتماعية غالباً، فالعزّة والشقاق داءان موروثان ابتليت بهما المجتمعات البشرية طيلة التأريخ. و «القرن» هنا المجموعة من الناس، ويطلق أيضاً على المجموعة من الزمان.

« فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ» ، المراد ب-«النداء» الاستغاثة، ولعلّ التقدير: نادوا ربّهم أن آمنّا كما هو دأب الإنسان حين نزول البلاء، ولكن لا تنفع الاستغاثة والإيمان بعد نزول العذاب، كما أنّ فرعون لم يقبل منه، وجاءه الخطاب: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ » (1)، كما أنّ التوبة لا تقبل إذا نزل الموت، قال تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ » (2)، فلا يغترنّ الإنسان بربّه وما أمهل!

« وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ » «لات» حرف نفي بمعنى «ليس» ويعمل عمله، واسمه محذوف، أي ليس هذا الحين حين مناص. ومناص مصدر ميمي من النوص وهو الفوز والنجاة.

« وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ »، «منهم » أي من بني نوعهم. وقد تكرر في القرآن الكريم نقل هذا الاستغراب من الأمم السابقة، وهو أن يكون الرسول من

ص: 154


1- يونس (10): 91 .
2- النساء (4): 18 .

البشر. فهذا أيضاً ممّا تناقلته الأمم ويمكن أن يكون المراد من قومهم.

وهذا أيضاً من غرائب طباع الإنسان أنّه لا يؤمن ببني نوعه، كما أنّ الناس غالباً ما ينقادون لعالم أو مصلح من غير بلدهم، ويميلون إليه أكثر ممّا يميلون إلى عالم أو مصلح من بلدهم. وهذا من جهل الإنسان حيث إنّه يستصغر ابن البلد الذي نشأ بينهم ويحتقره حيث شاهد منه طول حياته بالطبع ما هو مقتضى البشرية من نقائص وعيوب، ولم يشاهد ذلك من الغريب فيتوهّم أنّه مصون من ذلك بينما ينبغي له أن يحذر منه حيث لا يعلم سوابقه.

وهكذا لا يؤمن الإنسان برسول من البشر لما يجد فيه من نقص هو مقتضى البشرية، ويتوقع أن يكون الرسول من الملائكة، ولا يتفطّن أنّ ما يعتبره نقصاً كالأكل والشرب والنكاح هو كمال للإنسان ولا يعاب عليه، كما قال تعالى: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ.» (1).

ومن جهة أخرى يجهلون مناط اختيار الله تعالى للرسالة، فيتصوّرون أنّ كلّ ما يتّصف به هذا البشر المختار للرسالة موجود فيهم، بل أكثر منه، وذلك لأنّهم أكثر أموالاً وأولاداً، وأشرف محتداًّ ونحو ذلك من الاعتبارات، وحيث يعلم أنّه بنفسه لا يستحقّ الرسالة، فلا يستحقّه هذا بطريق أولى، و إنّما يجب أن يكون الرسول ملكاً يمكنه أن يرتبط بالسماء.

« وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ » ،وهذه أيضاً تهمة قديمة اتّفق المشركون عليها في مواجهة الرسالات والسبب أنّه مقالة العاجز وهم متماثلون في العجز. واختلف في معنى السحر بالأصل فقيل: إنّه من الخداع باعتبار أنّ الساحر يخدع

ص: 155


1- الفرقان (25): 7 .

الناس بإراءتهم الشيء خلافاً لما هو عليه. وقيل: إنّه من صرف الشيء عن وجهه وإنّ منه قوله تعالى: « فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» (1)، أي تصرفون، والساحر يصرف الأمور عن وجهتها الحقيقية. وقيل غير ذلك.

وهناك بحث في أنّ السحر هل هو أمر واقعي أو تخييلي. والذي يظهر من الكتاب العزيز أنّه مجرّد تخييل. قال تعالى: « سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ » (2)، ومعنى ذلك أنّ سحرهم لم يتجاوز الأعين. وأوضح منه قوله تعالى: « فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى » (3)، ولا ينافي ذلك ترتب أمور واقعية على ذلك، كالخوف أو تفرّق الزوجين.

ومهما كان، فإنّ المشركين كانوا يتّهمون الأنبياء بالسحر، إمّا بدعوى أنّ ما يظهرون من المعجزات ليست إلّا من قبيل السحر، كما قال فرعون وأتباعه، وإمّا بدعوى أنّ تأثيرهم في الناس إنّما هو من السحر ولذلك يفرقون بين الأزواج وبين الآباء والأبناء، وهذا ما ادعاه المشركون في مکّة بالنسبة للرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وقد ورد في التأريخ أنّ المشركين اجتمعوا حول الوليد بن المغيرة وتباحثوا ماذا يسمّون ما جاء به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليتمكّنوا من تفريق الناس وتنفيرهم عنه، فقالوا نقول كاهن قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا نقول مجنون قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا :نقول : شاعر. قال: ما هو

ص: 156


1- المؤمنون (23) :89 .
2- الأعراف (7): 116 .
3- طه .(20) :66 .

بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه، رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا نقول ساحر. قال: ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإنّ فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلّا عرف أنّه باطل، وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر، جاء بما يفرق به بين المرء وأبيه وأخيه وعشيرته. (1)

وروي هذا الكلام بوجوه أخرى.

ومهما كان، فهو یدلّ على أنّ هذه مؤامرة دبرت بليل، ولم يكن الاتّهام بالسحر والجنون نابعاً من قناعة بل ولا من شك وارتياب.

وأمّا الاتّهام بالكذب، فكانوا بأجمعهم يعلمون يقيناً أنّه بعيد عنه كبعد السماء من الأرض بعد أن عاش بين ظهرانيهم أربعين سنة لم يصدر منه ما يعاب عليه حتّى لقبوه بالصادق الأمين.

« أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا »، نعم هذا هو عيبه. و«الجعل »هنا بمعنى الاعتقاد والاعتبار والاستفهام للاستنكار وإنّه لمستنكر في تلك العقلية المتجمدة أن ينكر أحد ألوهية الأصنام الذي دأب على عبادتها الآباء والأجداد، ومستنكر أيضاً أن يكون للكون إله واحد هذا، وهم يعتقدون بالله وأنّه الخالق للكون إلّا أنّ الألوهية أي المعبودية لا تتّبع الخلق، و إنّما تتّبع مخاوف الإنسان ومطامعه، فالذي يمكنه أن يحقّق الأمانيّ ويبعّد عن الإنسان كابوس الشرّ هو ذوات غيبية تمثّلها الأصنام.

ص: 157


1- راجع الدر المنثور في تفسير المأثور 4: 106.

وهكذا يحاول الإنسان الجاهل أن يحقّق آماله ويجتنب محاذيره بأسباب مجهولة بعد أن خابت ظنونه وآماله من الأسباب الطبيعية. ومثله رجوع الناس السذج إلى السحرة والمشعوذين وأصحاب الطلاسم إذا عجز عن علاجهم الأطبّاء. ومهما كان، فهو هنا يستنكر ما يقبله العقل السليم من نفي ألوهية الحجارة والتماثيل ويستغرب منه.

« إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ » و «العجاب» مبالغة في العجب والغرابة. هذا إشارة إلى نفي ألوهية آلهتهم وحصر الألوهية في الإله الواحد.

«وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا »، «الملأ» الجماعة من أشراف القوم وعليتهم، يقال لهم ذلك لأنّهم يملأون عيون العامّة مجداً وعظمة. وهذه العظمة وإن كانت زائفة إلّا أنّها تؤثر في قلوب البسطاء من الناس والمراد: أنّهم ابتعدوا عن المكان الذي اجتمعوا فيه مع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهم يقولون: امشوا واصبروا.

روی الكليني (رحمه الله ) عن أبي جعفر (علیه السلام) قال : أقبل أبوجهل بن هشام ومعه قوم من قریش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إنّ ابن أخيك قد آذانا و آذی آلهتنا فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكف عن إلهه، قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فدعاه فلمّا دخل النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم ير في البيت إلّا مشركاً فقال: السلام على من اتبع الهدى ثمّ جلس فأخبره أبو طالب بما جاؤوا له فقال: أوَهل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسّودون بها العرب ويطأون أعناقهم؟ فقال: أبوجهل: نعم وما هذه الكلمة؟ فقال تقولون: لا إله إلّا الله، قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجا هرّاباً وهم يقولون: «ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلّا اختلاق »

ص: 158

فأنزل الله تعالى في قولهم: «ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » إلى قوله « إِلَّا اخْتِلَاقٌ». (1)

و عليه، فالمراد بالانطلاق خروجهم من المكان المذكور. و«أن» في « أَنِ امْشُوا» تفسيرية تفسّر وتبيّن ما قالوه، ولم يصرّح قبله بما یدلّ على القول، ولكنّ الانطلاق مضمّن ذلك، فالمعنى انطلقوا وهم يقولون امشوا واصبروا والأمر ب-«المشي» كناية عن الإعراض عمّا يقوله الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعدم التأثر به، فکأنّهم خافوا تأثيره على بعضهم وهذا ما كانوا يحذرونه دائماً ويؤرق كبراءهم وخبثاءهم كأبي جهل.

« وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ »، أمر بالتعصّب، ولذا أضافوا الآلهة إليهم، إذ أنّه يعود -كما قلنا - إلى حبّ الذات والتعبير يوحي بأنّهم شعروا بالضعف والتزلزل يدبّ في قلوب بعضهم، فدعوهم إلى الصبر في سبيل الإبقاء على المجد التليد!

« إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ»، الظاهر أنّ «هذا » إشارة إلى الصبر على الآلهة. والمراد: أنّ هذا أمر يريده المجتمع القبلي أو يريده الكبراء أو نريده جميعاً. وهذا أيضاً یدلّ على شعورهم بالضعف والتزلزل وكلّ هذا التأكيد فيما بينهم ينمّ عن ما دبّ في قلوب بعضهم أو جميعهم من الشكّ والتردّد . ويلاحظ أنّ شيطاناً كأبي جهل لو لم يكن بينهم لأمن كثير منهم.

ويمكن أن يكون «هذا »إشارة إلى ما أحدثته الرسالة الإلهية من انقسام في المجتمع .والمراد أنّ هذا أمر يريده الخصم، والغرض التنديد ب-ه والتحذير منه بأنّه يريد بمجتمعنا الشرّ أو أنّه يريد أن يتسلّط علينا، نظير ما ورد في القرآن من حكاية كلام فرعون وملائه: «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا

ص: 159


1- ص (38): 1 -7.

وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ». (1)

« «مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ» ، الملة : الطريقة والظاهر أنّ المراد ب-«الملة الآخرة» العصر الحديث في ذلك الزمان، فيكون بمعنى أنّ هذا من الأفكار القديمة البائدة ومثل ذلك قولهم: « إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»(2) . و «الاختلاق»: الكذب.

وقيل: إنّ المراد ب-«الملة الآخرة »آخر الآباء، فيكون من التقيّد بتقاليد الآباء، والحذر من كلّ جديد. ويردّه أنّه لا وجه حينئذ للتركيز على وصف التأخر، بل ينبغي أن يركّز حينئذ على كلّ ما توغّل في القدم.

وقيل: إنّ المراد بها النصارى، فهم آخر ملة من أمم الأنبياء وهم لا يقولون بالتوحيد، بل التثليث ولكن هذا الاحتمال غير صحيح، أولاً: لأنّه لا خصوصية في تأخّرهم وهم يركّزون على الملّة الآخرة. وثانياً: أنّ القائلين لا يقبلون التثليث أيضاً. وثالثاً: أنّ مرادهم باسم الإشارة - كما ذكرنا - هو نفي عبادة الأصنام، فهذا هو الذي يندّدون به ويقولون إنّهم لم يسمعوا به في الملّة الآخرة. فالأولى ما ذكرناه، ولعلّه هو مراد العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) .

«أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا »، استفهام إنكاري ، والإنكار فيه يبتني على احتقار الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهذا أيضاً ممّا كرّرته الأقوام السابقة والجبابرة، فنجد فرعون يستصغر موسى (علیه السلام) ويقول: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ.»(3).

ص: 160


1- يونس .(10) :78 .
2- الأنعام (6): 25 .
3- الزخرف (43): 52 .

والمشركون أيضاً احتقروا الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أن ينزّل عليه الوحي وهم يظنّون أنّ فيهم من هو أولى بذلك. ولذا قالوا: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ »(1)، والعظمة عندهم بالمال والأولاد، والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وما قالوا ذلك إلّا حسداً على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وقد ظهر ذلك بوضوح في كلماتهم مثل ما حكي عن أبي جهل أنّه قال: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجانبنا على الركب وكنّا كفرسي الرهان قالوا منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه ؟ لا والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدّقه». (2) إذن فالحسد كان هو المانع من إيمانهم لا الشك والتماس الدليل.

وعبّروا عن القرآن ب-« الذكر» جدلاً، بمعنى أنّه لو فرض كونه ذكراً فلماذا لا ينزل على من هو أولى به على ما يظنّون أو عبّروا به استهزاء.

« بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» ، أضرب عن قولهم السابق حيث استنكروا نزول الذكر على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و بأنّ كفرهم أكثر من ذلك، فهم يرتابون في كلّ ما يذكّر بالله أو ما يسند إلى الله تعالى من ذكر، أي ما يذكّر الإنسان. وهو بمعنى التشكيك في رسالة السماء رأساً.

« بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ» ، «الباء» في (عَذَابِ ) مكسورة لحذف الياء اختصاراً والتوافق أواخر الآيات، فهو في الأصل: «عذابي»، و«لمّا» یدلّ على أنّه واقع لا محالة و إنّما يتأخّر لزمانه المناسب. والظاهر أنّ الإضراب بلحاظ أن شكّهم

ص: 161


1- الزخرف (43): 31.
2- الميزان في تفسير القرآن 13: 125.

لا يستند إلى عدم إدراك للحقائق، بل هو من جهة عنادهم واستكبارهم وعدم تخوفهم من العذاب، وأنّهم سيستمرّون على ذلك إلى أن يذوقوا العذاب وهم ذائقوه لا محالة.

« «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ» ، «أم» منقطعة، أي بل هل عندهم ،وهو ردّ على استنكارهم نزول الوحي على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ هذا من رحمة ربّك، وبيده خزائن الرحمة، لم يفوّض أمرها إلى أحد، فهل هذه الخزائن تحت تصرّفهم فيقسمونها حيث يشاؤون ويمنعونها من يشاؤون؟! والاستفهام للإنكار.

وهذا نظير قوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » (1)، ف-«الرحمة »كلّها بيده تعالى حتّى الرزق المادّي إنّما يتوزّع حسب إرادة الله تعالى تبعاً للقابليات الموزّعة بين الناس، فكيف بالرسالة التي هو ارتباط الإنسان بالسماء وتلقي الوحي؟! وكيف يمكن أن يفوّض الله تعالى أمر ذلك إلى أحد ؟!

وأضيفت الرحمة إلى الربّ والربّ إلى ضمير الخطاب للإشارة إلى أنّ ذلك مقتضى تربية خاصّة وعناية خاصّة بك، فالله تعالى يختار رسله م-ن بين عباده ويتولى شؤونهم من قبل تكوينهم إلى زمان النبوة، كما قال تعالى خطاباً لموسى (علیه السلام) : « وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ» (2).

ولعلّ توصيفه تعالى في هذه الجملة ب-«العزيز الوهّاب» لأنّه بعزّته يستحيل أن يؤثّر فيه شيء فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يفوّض أمر الربوبية إلى

ص: 162


1- الزخرف (43): 32.
2- طه (20): 39 - 40 .

أحد، بل لا يمكن ذلك كما قال تعالى: « وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا » (1) ، فإنّ الربوبية لاتقوم إلّا بمن له هذه الصفات العليا ليكون محيطاً بكلّ أجزاء الكون قائماً على كلّ نفس بما كسبت ولكونه تعالى وهّاباً يهب ما يشاء لمن يشاء، فلا غرو إذا وهب النبوّة لمن يحتقره الناس جهلاً بمعدنه.

«أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ». وهذا إضراب آخر وإفكار آخر أي ليس لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما، ولو كان لهم ذلك لتمكنوا من منع نزول الوحي عليك فإنّ ذلك لا يمكن إلّا لمن له الملك والسلطة في الكون يتصرّف فيه كيف يشاء. ومن الواضح أنّهم لا يملكون ذلك.

والارتقاء :الصعود والأسباب جمع سبب أي ما يتوصل به إلى المقصود، والمراد بها هنا طرق السماء والجملة جزاء لشرط مقدر أي إن كان لهم ملك السماوات والأرض فليصعدوا معارج السماء ويمنعوا نزول الوحي، وهو افتراض المستحيل. والأمر بالارتقاء للتعجيز، أو للتهكّم لوضوح عدم تمكّنهم.

و إنّما ذكر السماوات والأرض وما بينهما، لأنّ عملية نزول الوحي من السماء إلى الأرض إنّما تتمّ عبر التصرّف في كلّ الكون، فالوحي من السماء أي خارج نطاق الطبيعة وممّا لا تصل إليه أفهام البشر، فكيف بأيديهم وقدراتهم المادية والرسول على الأرض، والوسائط - وهم الملائكة - بين السماء والأرض.

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ المراد ب-«السماء» الأجرام الكونية التي نشاهدها فوقنا، فيخطئ الوهم في معنى البينية أيضاً، بل السماء فوق عالم الطبيعة فوقية معنوية لا محسوسة، والبينية أيضاً تناسب هذا المعنى.

ص: 163


1- الكهف (18): 26 .

«جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ »، هذا تحقير لهم بعد مطالبتهم بما لا يستطيعون وهو الارتقاء في الأسباب والمعنى أنّهم ليسوا إلّا جنداً حقيراً مهزوماً متفكّكاً تشكل من أحزاب مختلفة جمعتهم معاداة الرسل، كما كان الذين من قبلهم وسيأتي ذكرهم.

وقوله: «جُنْدٌ» خبر مبتدؤه محذوف أي هم جند و «ما» للتحقير والتصغير. و «هُنَالِكَ » إشارة إلى البعيد، وفيه أيضاً معنى بعدهم عن مراكز القدرة والتصرف في الكون، فليسوا في مكانة يمكنهم الارتقاء في الأسباب، ثمّ وصفهم بأنّهم مهزومون قبل أن يحاربوا، فهم مهزومون نفسياً، ومهزومون في المناظرة والجدل، ومهزومون في كلّ ما يحتاج إلى قوة لأنّهم يعادون الله تعالى وهو مصدر كلّ قوّة ، فليس لهم إلّا الهزيمة والهلاك.

ثمّ التعبير بأنّهم من الأحزاب إمّا أنّه إشارة إلى أنّهم ليسوا جماعة واحدة تجمعهم دين أو عقيدة، و إنّما جمعتهم العصبية مع اختلاف أهوائهم ودوافعهم. وأنّهم إنّما تجمعوا لهدف واحد وهو معاداة الرسل والحفاظ على تقاليد الآباء التي يرون فيها مصالحهم المادّية، فليس وراءهم هدف سام يدعوهم إلى المواجهة ، وإمّا أن يكون إشارة إلى أنّهم من الجماعات المعادية للرسل، فيكون الألف واللام للعهد، ويؤيد الثاني الآيتان التاليتان.

ص: 164

سورة الصّاد( 12- 16)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)

« كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ». يذكر مجموعة من الأحزاب والعصابات القديمة وما لقوا من عذاب الاستئصال نتيجة لتكذيبهم الرسل. وهؤلاء أقوام سمع بهم قريش وعرب الجزيرة وإن كان ذلك خلال الأساطير. والقرآن الكريم يصحّح الأخطاء ويذكر الخبر الصحيح ليكون عبرة لهم ودرساً.

ونوح (علیه السلام) أول الرسل أصحاب الشرائع، وقومه بالطبع أقدم الأقوام، ويأتي بعدهم عاد قوم (علیه السلام) و هم من الأقوام القديمة الذين سكنوا الجزيرة العربية، ولذلك ورد فيهم قوله تعالى: « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ » (1)، ويأتي بعدهم ثمود قوم صالح (علیه السلام) قال تعالى : «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ » (2)، والغالب في ذكر الأقوام أن يذكر عاد وثمود بالترتيب، ولعلّ ذكر فرعون قبل ثمود لرعاية القوافي.

وقوله « ذُو الْأَوْتَادِ » ورد وصفاً لفرعون هنا وفي سورة الفجر، ويمكن أن يراد بها الأهرام تشبيهاً لها بالوتد، وهو أقرب ممّا قيل من أنّه كان يعذّب بالأوتاد فيسمّرها في أجسام الناس. والمراد بفرعون هنا قومه بحذف المضاف لأنّ الصفة المذكورة صفة شخص فرعون.

ص: 165


1- الأعراف (7) :69 .
2- الأعراف (7): 74 .

« وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ»، «الأيكة»: الشجر الملتف. وأصحاب الأيكة قوم شعیب (علیه السلام) لقوله تعالى: «كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ »(1).

ثمّ وصفهم بأنّهم هم الأحزاب، أي هم الجماعات المجتمعة على معاداة الرسل وتكذيبهم. والغرض تشبيه حال المشركين بأولئك الأحزاب، فهم قد لقوا مصيرهم المحتوم وهو العذاب الإلهي استأصلهم عن بكرة أبيهم، وهؤلاء أيضاً ينتظرون ذلك. وهذه الجملة تدلّ على أنّ مشركي مکّة من نفس المجموعة، لأنّه قال قبل آيتين إنّهم جند من الأحزاب، ثمّ حدّد في هذه الآية المراد بالأحزاب.

«إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ »، الكسرة في آخر كلمة (عقاب) تدلّ على الياء المحذوف تخفيفاً، و«حقّ» بمعنى ثبت أي ثبت عليهم عقابي بذلك. والحصر يفيد أنّهم لم يكن لهم ذنب يستحقّون به العذاب الإلهي إلّا أنّهم كذبوا الرسل، في إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يعذّب الأقوام بأعمالهم إلّا بعد إرسال الرسول وإتمام الحجّة، وأنّ تكذيب الرسل هو السبب التامّ في نزول العذاب، فلا يغرنكم التأخير.

«وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً »، «ينظر» بمعنى ينتظر، وعطف الجملة ب-«الواو» یدلّ على نوع من التبعية والتفريع، فأولئك استحقّوا العذاب بتكذيبهم وهؤلاء ينتظرونه. و إنّما عبّر بالانتظار مع أنّهم لا ينتظرون، بل يكذّبون ویستهزؤون به تنبيهاً على أنّه محقق لا محالة، فکأنّهم في حال الانتظار.

وربّما يكون ذلك على حقيقته، لأنّهم لم يكذّبوا عن علم، بل ربما كانوا يعلمون بصحّة دعوى الرسالة، ولا يمنعهم من الإيمان إلّا الحسد والكبر، فلا

ص: 166


1- الشعراء (26) :176 - 177 .

يبعد أنّهم كانوا يتوقّعون دائماً نزول العذاب عليهم.

والظاهر أنّه تهديد للقوم بعذاب الاستئصال وإن لم يعذّبهم الله إلّا بأيدي المؤمنين. والآيات تدلّ على الاستحقاق لا على الفعلية، فلا ينافي ذلك عدم نزول عذاب الاستئصال عليهم.

وقال أكثر المفسّرين: إنّ المراد ب-«الصيحة» النفخة الأولى، لأنّ العذاب مرفوع عن هذه الأمة. ويردّه قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ » (1)، فالصحيح أنّ التهديد حسب الاستحقاق ولا ينافي ذلك عدم الوقوع لمصلحة أخرى.

هذا، مع أنّ احتمال وقوع العذاب في المستقبل قائم والآيات لم تحدّد زمان وقوعه. ولا ينافيه قوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ » (2)، كما توهّم، فإنّه لا یدلّ إلّا على نفي العذاب حال حضوره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بين ظهرانيهم ولا يشمل حتّى بعد الهجرة، فكيف بما بعد ذلك.

« مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ »، يقال: إنّ الفواق هو الفاصل الزمني بين حلبتي الناقة فهو إشارة إلى أنّها إذا جاءت لا تمهل.

« «وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ » ،«القطّ»: ما قطع من الشيء، يقال قطّه، أي قطعه عرضاً، ويقابله «القد» وهو القطع طولاً، ويستعار به للنصيب والحظ، كما يستعار أيضاً للصحيفة. وهذا الكلام من المشركين جار مجرى الاستهزاء بما أوعدوا من العذاب في الآخرة أو بما يسلّم إليهم من صحيفة الأعمال يوم القيامة.

ص: 167


1- فصلت (41) : 13 .
2- الأنفال (8): 33 .

سورة الصّاد (17 – 20)

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)

« اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ »، القرآن زاخر بالتسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين الأوائل، وبالأمر بالتصبّر في مواجهة رعونة المشركين واستهزائهم، وبذكر ما جرى على الأنبياء السابقين وصبرهم على الشدائد، وما نزل عليهم من النصر الإلهي، وما أكرمهم الله به من المعاجز، ومنها هذه الآيات، فهي تأمر الرسول بالصبر على أقوال المشركين المليئة بالقذع والسخرية، وقد مرّ في هذه السورة بعضها ومنها الجملة السابقة: «رَبَّنَا عَجِّل لَنَا». وفي الأمر ب-«الصبر» تهديد واضح للمشركين، فمعناه: اصبر واتركهم لي فعليّ مجازاتهم.

وتأمر الآية أيضاً بتذكر مجموعة من الأنبياء، وصبرهم على الشدائد في تبليغ رسالة السماء، وما حصل لهم من النجاح والتوفيق في الدنيا ليكون ذلك تسلية لهم وتطييباً لخاطرهم. وبدأ بذكر أحد الأنبياء المحظوظين في الدنيا قبل الآخرة، وهو داود (علیه السلام). ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّه لا غرابة على الله إذا مهّد لكم سبيل النصر على الأعداء، ومكّن لكم في الأرض، وآتاكم من السلطة والمال مثل ما آتی داود (علیه السلام) فليس كلّ الأنبياء قضوا حياتهم تحت الظلم والاضطهاد، ليكون ذلك حافزاً للأمل في النصر النهائي الذي يتوّق إليه المؤمنون.

ووصف داود (علیه السلام) هنا بثلاثة أوصاف العبودية والقوة وكثرة الأوب. وبدأ بالعبوديّة تنبيهاً على أنّه أشرف ما يتّصف به الإنسان مهما علا قدره، فحيث

ص: 168

كانت الآيات تريد التنبيه على عظمة داود (علیه السلام) مادياً ومعنوياً، قدم التنبيه على اتصافه بالعبودية إيذاناً بأنّ كمال العبودية هو الأصل الذي يبتني عليه سائر الكمالات.

و«الأيد» مخفّف أيدي جمع يد، وهي كناية عن القوّة. وما قيل من أنّه بمعنى النعمة خطأ، فإنّها تطلق على النعمة إذا أضيف إلى المنعم، لا إلى المنعم عليه. وحيث أتي به بصيغة الجمع، فالمراد، أنّه كان مدعوماً بالقوة من جهات شتى، ففيه قوة بارزة في الجسم والعلم والسلطة والإعجاز وتسخير الحيوان، وهو الذي قتل جالوت زعيم العمالقة الأبطال، كما ورد ذكره في سورة البقرة: « وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ» (1) ، ويأتي هنا ذكر بعض معاجزه وخصائصه الغريبة.

ثمّ نبّه بالوصف الثالث أنّه بالرغم من ثمتّعه بأنحاء مختلفة من القوة الموهوبة كان أوّاباً. و«الأوبة» هي الرجوع والمراد الرجوع إلى الله تعالى. وأوّاب مبالغة في الأوبة، فهو بمعنى كثير الرجوع. وفي القرآن آيات كثيرة تمدح الأوّابين والتوّابين وتنعت الرسل بكلّ من الوصفين. وكلاهما بمعنى واحد.

وربّما يخطر سؤال بالبال، وهو أنّ الرسل من أي شيء كانوا يتوبون، بل يكثرون التوبة وهم معصومون من الذنوب؟

والجواب: أنّ التوبة كما قلنا هو الرجوع إلى الله تعالى، والإنسان يشتغل بالدنيا ويغفل عن ذكر ربّه لا محالة، ثمّ يعود إلى ذكره وعبادته. والأوّاب هو الذي يكثر الرجوع بحيث كلّما طرأ عليه غفلة أو تشاغل بغيره سبحانه يتذكر سريعاً فيعود، وهذه ميزة خاصّة بالأنبياء و الأولياء المقربين.

ص: 169


1- البقرة (2): 251 .

والتنبيه هنا على هذا الوصف لبيان أنّ قوته و مميّزاته الدنيوية ما كانت تحول بينه وبين كثرة الرجوع إلى الله تعالى، وهكذا الأنبياء مثل يتأسّى بهم طيلة التأريخ البشري.

وقوله تعالى: «إِنَّهُ أَوَّابٌ » جملة تعليلية للأمر بالذكر، أي اذكر داود (علیه السلام) لأنّه كان أوّابا، للإشارة إلى أنّ كثرة الأوبة هي الميزة التي قصدت في الأمر بالذكر، حيث إنّه مع كثرة قوته وتشعّبها كان أوّاباً. وليس تعليلاً لكونه ذا الأيدي - كما في «الكشاف» - حتّى يقال: إنّ المراد قوته في العبادة فقط، فإنّ كونه ذا الأيدي أتي به بعنوان الوصف وليس أمراً معنياً بذاته فيعلّل.

«إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ »، بيان لأحدى كراماته ومعاجزه، وقد تكرر ذكره في القرآن قال تعالى: « وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ»(1) ، وقال: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» (2).

والظاهر أنّ قوله : «مَعَهُ» متعلّق بالتسخير لا التسبيح، كما هو واضح من آية سورة الأنبياء، وهذا التقييد لتبيين أنّ التسخير لم يكن له و إنّما كان معه، أي مع تسبيحه، وهو الذي صرّح به في سورة سبأ حيث ورد الأمر التسخيري خطاباً للجبال: « يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ » ومعنى ذلك أنّ الجبال كانت تردّد التسبيح معه إذا سبح الله تعالى.

وليس المراد بالطبع ما يحدث من الصدى في الجبل، فإنّه لا يختصّ به، مع أنّه ليس إعجازاً، بل لا يعدّ تسبيحاً للجبل.

ص: 170


1- الأنبياء (21) :79 .
2- سبأ (34): 10 .

وليس المراد أيضاً التسبيح بلسان الحال أي كونها تدلّ بوجودها على الخالق المنزّه من كلّ نقص ومن كلّ ما يصفه به الناس.

بل المراد التسبيح اللفظي والنطق به كما كان ينطق به داود (علیه السلام). والدليل عليه أنّ التسبيح بلسان الحال لا يختصّ بالوقت الذي يسبّح فيه داود (علیه السلام) ولا بالعشيّ والإشراق ولا يعتبر ميزة له (علیه السلام).

و«العشيّ» هو آخر النهار وأوّل الليل، كما في« معجم مقاييس اللغة»، وفي بعض كتب الفقه أنّه كلّ الليل، وهو بعيد، لأنّه مأخوذ من العشو وهو عدم الوضوح ، لا الظلام الدامس و «الإشراق» هو الوضوح، يقال: شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاء نورها. والظاهر أنّ المراد تسبيحه (علیه السلام) أو صلاته في أوّل النهار وآخره أو أوّل الليل.

« وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً »، أي سخّرنا الطير حال كونها محشورة متجمّعة، وهي أيضاً تسبّح معه وقد ورد ذكر تسبيح الطير في قوله تعالى: «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ » (1)، ولكنّها هنا تسبّح مع داود (علیه السلام) وتردّد ما يذكر الله به. وليس في ذلك غرابة، فالكون كلّها تسبّح الله كما قال تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.»(2).

والتسبيح هنا أيضاً يمكن أن لا يراد به الدلالة التكوينية، إذ التسبيح بهذا المعنى يفقهه بعض الناس، و إنّما لا يفقهون التسبيح الاختياري والظاهر أنّ القرآن يثبت نوعاً من الاختيار للسماء والأرض وإن لم يفقهه الإنسان، قال

ص: 171


1- النور (24): 41 .
2- الإسراء (17): 44 .

تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ »(1).

« كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ» ، اختلفوا في تفسير هذه الجملة، فقيل: إنّ الضمير يعود إلى داود(علیه السلام)، وقيل: يعود إلى الله سبحانه واستبعد الأوّل العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) ، مع أنّه بحسب ظاهر اللفظ أقرب لسبق ذكره قريباً، والله تعالى ذكر بضمير المتكلّم.

وبناءً على الأوّل قيل: إنّ الأوّاب بمعنى ترديد التسبيح وهو بعيد، لأنّ الأوبة بمعنى الرجوع لا الترجيع.

وقيل: إنّه بمعنى التواب، ولكن حيث إنّ التوبة تلازم الذكر والتسبيح عبّر عن التسبيح بالأوبة. وهو أيضاً بعيد إلّا إذا أرجع الضمير إلى الله تعالى ليكون الأوبة إليه، مع أنّه بعيد في نفسه أيضاً لبعد التعبير عن التسبيح بالأوبة بهذه العناية، كما لا يخفى .

ويخطر بالبال أنّ المراد أوبة الطيور إلى داود (علیه السلام) كثيراً، كما هو مقتضى الصيغة، أي أنّها تعود إليه كثيراً لتردّد معه التسبيح.

« وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ»، أي قوّيناه فلم يجرأ أحد من الطواغيت مقابلته.

« وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ م ، فسّرت «الحكمة» بالعلم، وبالنبوة، وبعلم الشرائع، وبالزبور وفسّرها العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) بالمعارف الحقة المتقنة التي تنفع الإنسان وتكمله. والأصل في الحكمة المنع، يقال: حكمت الدابة أي ألجمتها. والحكمة ما يمنع الإنسان من السفاهة وارتكاب ما لا يليق به. وإذا أطلق على بعض العلوم أو كلّها فلأنّها تمنع من ارتكاب ما يقتضيه الجهل، وكذا إطلاقها

ص: 172


1- فصلت (41): 11.

على الكلمات التي تنظم حياة الإنسان عملياً، كما في القرآن الكريم بعد ذكر مجموعة من النصائح: «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ » (1)،وغير ذلك من الموارد.

وأمّا «فصل الخطاب» فإمّا أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الخطاب الفاصل بين الحقّ والباطل، يعني أنّه إذا تحدث تحدث بالحقّ الصراح الذي لا يقاوم، فكلامه الفصل في كلّ موضوع، وإما من إضافة المصدر إلى المفعول والمراد بالخطاب التخاطب والتنازع، أي أنّ كلامه كان يفصل التخاطب ويقطعه وذلك في موارد المقاضاة والمحاكمة، فبحكمه يتوقّف الخطاب، لأنّه الحكم الفاصل.

ص: 173


1- الإسراء (17) :39 .

سورة الصّاد(21 – 26)

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

ينبغي التنبيه قبل البحث عن معنى الآيات أنّ القرآن الكريم يصحح أخطاء العهدين التوراة والإنجيل في موارد كثيرة بطريق إيجابي، وهو ذكر الكلام الحقّ ونقل الحدث على ما هو عليه من دون الإشارة إلى أخطائهما، وقد قال :تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحقّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ »(1)، وقال أيضاً: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » (2).

ومن الأخطاء الكبيرة نقلهم لقصص الأنبياء على أساس الأقاويل والقصص المنتشرة. ومن المعلوم أنّ التوراة الأصلية لم تكن إلّا مجموعة من الأحكام

ص: 174


1- المائدة (5): 48 .
2- النمل (27): 76 .

والشرائع وأمّا التواريخ المذكورة فيها فهي من صنع علمائهم أضافوها إلى التوراة. وهذا واضح، لأنّها لا تتعلق بعهد موسى (علیه السلام) ولا من كانوا قبله، بل بالمتأخّرين جدّاً.

وممّا ذكر في هذه الكتب المضافة أنّ داود (علیه السلام) كان ملكاً ولم يكن نبياً، وورد فيها من قصته - على ما في تفسير «الميزان» - ما ملخّصه أنّه هوي امرأة أحد قواد جيشه يسمّى أوريا، فزنى بها وحملت منه، ثمّ بعث إلى أمير الجيش ليجعل ذلك القائد في مقدمة الجيش حتّى يقتل ثمّ تزوّج بامرأته وولدت له سليمان، ثمّ أرسل الله أحد أنبيائه إليه، فقال له : كان في المدينة غنيّ له غنم وبقر كثير، وفقير ليس له إلّا نعجة واحدة فجاء ضيف إلى الرجل الغني فذبح له نعجة الفقير. فقال داود(علیه السلام): يجب أن يقتل الغنيّ ويؤخذ منه أربع نعاج للفقير. فقال له النبي: أنت هو الرجل ثمّ هدّده بعذاب من الله وأشار بذلك إلى ظلم داود (علیه السلام)لأوريا.

والظاهر أنّ اختلاف قبائل بني إسرائيل هو السبب في اختلاق هذه القصص وأمثالها. ومن المخزي أنّ بعض روايات المسلمين أيضاً من هذا القبيل، ولكنّهم خفّفوا من الاتّهام فقالوا: إنّه هوي المرأة فطلب من زوجها وهو من قواده أن يطلقها، ثمّ تزوّجها فأرسل له الله ملكين يتحاكمان إليه بما ورد في هذه الآية لينبهه على عدم إنصافه لقائده الذي لم يكن له إلّا امرأة واحدة وكان لداود (علیه السلام)جمع من النساء والجواري.

وهذا أيضاً كذب وافتراء ينزّه عنه الأنبياء مع أنّ الآيات - كما سيأتي - لا توافق هذا التفسير وإن أصرّ عليه مفسّر و العامّة غالباً، بل عدّ بعضهم التفسير الصحيح من كلام الجهلة. وهذا غاية الجهل.

ص: 175

وأمّا في رواياتنا، فالقصّة هكذا على ما رواه الصدوق (رحمه الله ) في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) - في حديث طويل يردّ فيه (علیه السلام) على ما يتّهم به الرسل - إلى أن يقول:

«وأمّا داود (علیه السلام)، فما يقول من قبلكم فيه ؟ »فقال علي بن محمد بن الجهم يقولون: إنّ داود (علیه السلام) كان في محرابه يصلّي فتصوّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع داود (علیه السلام) صلاته وقام ليأخذ الطير، فخرج الطير إلى الدار، فخرج الطير إلى السطح فصعد في طلبه، فسقط الطير دار أوريا بن حنان، فاطّلع داود في أثر الطير، فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلمّا نظر إليها هواها وقد أخرج أوريا في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام التابوت، فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود(علیه السلام)، فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت، فقدّم فقتل أوريا (رحمه الله ) فتزوّج داود بامرأته! قال: فضرب الرضا (علیه السلام) بيده على جبهته وقال: «إِنَّا الله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته، حتّى خرج في أثر الطير، ثمّ بالفاحشة ثمّ بالقتل؟ فقال: يا ابن رسول الله فما كان خطيئته ؟

فقال: ويحك إنّ داود (علیه السلام) إنّما ظنّ أنّ ما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله عزّ وجلّ إليه الملكين فتسوّرا المحراب، فقالا : « خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ » فعجّل داود (علیه السلام) على المدعى عليه، فقال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ »ولم يسأل المدعي البيِّنة على ذلك ولم يقبل على المدّعى عليه، فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع الله عزّوجل يقول: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ...» إلى آخر الآية.

ص: 176

فقال: يا بن رسول الله فما قصّته مع أوريا؟ فقال الرضا (علیه السلام): «إنّ المرأة في أيّام داود (علیه السلام) كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبداً، وأوّل من أباح الله له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها كان داود (علیه السلام)، فتزوّج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدّتها، فذلك الذي شقّ على الناس من قبل أُوريا». (1)

وقد وقع مثل ذلك للرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حيث تزوّج بزينب بنت جحش بعد طلاق زيد إيّاها، مع أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان قد تبنّاه. وقد مرّ في تفسيره أنّ القصد من هذا التشريع إنّما كان محاربة الطقوس والعادات الجاهلية، وهو ترتيب الأثر على التبنّي، فأراد المشرّع الحكيم أن يقتلع تلك العادات من جذورها، فأمر رسوله وهو المعصوم والمشهود له في شبابه وقبل نبوته بالعفاف والتقوى أن يتزوّج زوجة متبنّاه لئلّا يبقى أدنى شبهة في قلوب المؤمنين. وهكذا ينبغي أن تواجه الأخطاء المتأصّلة الاجتماعية التي ضربت بجذورها في أعماق النفوس.

ولكنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يسلم من اتّهام الوضّاعين وهم هنا لم يتبعوا الإسرائيليات، بل قاموا بدور الإسرائيليين بأنفسهم وهم يدعون الإسلام. وقد مرّ البحث حوله في تفسير سورة الأحزاب.

ومن مثل هذا الحديث الذي نقلناه يظهر دور الأئمة الأطهار - سلام الله عليهم - في الدفاع عن الثقافة الإسلامية الواقعية، وتطهيرها من الأكاذيب الملصّقة، والذبّ عن حريم العصمة والرسالة. وكم له من نظير في التفسير والفقه ممّا يوضح أنّ أحاديث الأئمة (علیهم السلام) مهيمنة على السنة المنقولة عن طرق القوم تماماً كهيمنة كتاب الله العزيز على الكتب السماوية المحرّفة.

ص: 177


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) 1: 193-194.

وفي رواية عن الإمام الصادق (علیه السلام): «إنّ رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط، ... ألم ينسبوا داود (علیه السلام) إلى أنّه تبع الطير حتّى نظر إلى امراة أوريا فهويها، وأنّه قدم زوجها أمام التابوت حتّى قتل ثمّ تزوج بها »(1).

« وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ »، الخطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو لمن يسمع أو يقرأ الآية. والاستفهام للتنبيه، وجلب الاهتمام إلى النبأ. و«الخصم» في الأصل مصدر كالخصومة، ويطلق على من يخاصم غيره مفرداً أو جماعة. و«إذ» ظرف للنبأ و«التسور» الصعود على السور، والمراد هنا سور المحراب، أي جدرانه، كما يقال: التسنّم للصعود على السنام أو كلّ عال مجازاً. و«المحراب» فسّر بالغرفة والمكان العالي في البيت، ولعلّ المراد به مكان العبادة، كما في قوله تعالى: « كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ» (2)، وقوله تعالى:«فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ» (3) .

« إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ »، ظرف ثان للنبأ، و«الفزع »على ما في المفردات انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، فالمعنى: أنّ الفريقين المتخاصمين تسوّروا المحراب حين ما كان داود (علیه السلام) مشتغلاً بالعبادة ويفترض أن يدخلوا عليه من الباب. ولعلّ الدخول عليه كان ممنوعاً لاشتغاله بالعبادة. ولعلّهم أرادوا بذلك التنبيه على كونهم ممّن لا يمنعهم مانع.

وبما مرّ يتبيّن أنّ هذا الفزع ردّ فعل طبيعي، ولكن يحتمل أنّه فزع خوفاً من أن ينالوه بسوء حيث دخلوا عليه من دون استئذان في وقت لا يسمح لأحد بالدخول.

ص: 178


1- الأمالي الصدوق: 103 .
2- آل عمران (3) :37 .
3- مریم (19): 11.

« قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» ، «خصمان» خبر لمبتدأ محذوف، أي نحن خصمان وجملة: «بَغَى بَعْضُنَا» وصفية. و«البغي» في الأصل هو الإرادة والقصد، فإذا عدي ب- «على » كان بمعنى الاعتداء وقصد ما لا يحقّ له من غيره. ولا تنافي بين ضمائر الجمع في «تسوّروا»، «دخلوا»، «قالوا » وضمير التثنية في «خصمان»، إذ يمكن أن يكون المراد الفريقين المتخاصمين، فيظهر من العبارة أنّ كلّ فريق أو أحدهما كان يتشكل من أكثر من واحد.

« فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ »، من الملفت للنظر أنّ المتخاصمين كانوا شديدي اللهجة، فأمروا داود (علیه السلام) بأن يحكم بينهم بالحقّ ولا يجور و «الشطط» هو البعد والمراد البعد عن الحقّ. و«سواء الصراط» وسط الطريق، فإنّ الطرق البرية في تلك الأزمنة لم تكن محدّدة، فإذا كان الإنسان يسیر على حافّته احتمل فيه أن يضيع الطريق الأصلي ويقع في متاهة، بخلاف من يسلك وسط الطريق، فإنّه يضمن عدم الضياع، فكني بوسط الطريق عن الموقف الصحيح في كلّ موضوع.

ويمكن أن يكون وسط الطريق إشارة إلى الاعتدال وعدم الانحياز إلى أحد الجانبين في الخصومة.

وهذه الفظاظة في الخطاب مقصودة ولعلّ الهدف منها المزيد من الابتلاء والفتنة، فإنّ مثل ذلك ربّما يكون مهيّجاً لغضب القاضي وحافزاً لتطرفه. ولعلّ الدخول بتلك الكيفية الموجبة للفزع أيضاً يقصد به ذلك، فالحاصل أنّه (علیه السلام) ابتلي بعدّة أمور تستوجب تسرعه في الحكم. وهكذا امتحان الله وتأديبه لأنبيائه(علیهم السلام).

« إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي

ص: 179

الْخِطَابِ

» ، هكذا عرضت القضية على داود (علیه السلام) وقوله « أَكْفِلْنِيهَا » أي اجعلني كفيلاً لها. وهذا كناية عن التمليك لأنّ مالك الحيوان كفيل بحفظه وصيانته.

وقوله « وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ» قيل : أي غلبني في الاحتجاج. ولكن يمكن أن يكون بمعنى التشدّد والصلابة لما مرّ مراراً من أنّ العزّة بمعنى الصلابة. والغرض أنّه أصرّ على ذلك بقوة لئلّا يتوهّم أنّه طلب منه بلطف فإنّ ذلك لا يستدعي المخاصمة.

ويبدو هنا تساؤل، وهو أنّه إذا فرض أنّ المتخاصمين كانوا في الواقع ملائكة فكيف يعبّر بالاخ ولا أخوّة بينهم، والملائكة معصومون من الكذب؟ والمفسرون أوّلوا ذلك بأنّ المراد الأخوّة في الدين ونحوها.

ولكنّ الإشكال أوسع من ذلك، حيث إنّ القصّة كلّها غير واقعية، فلا بدّ من التوجيه بما ورد في التفاسير أيضاً من أنّ ذلك على سبيل الفرض والتقدير، نظير ما يذكر حين عرض مسألة ما على الفقيه رجل كان كذا وكذا...، وبناءً على ذلك فلا حاجة إلى تأويل الأخوّة بما ذكر، لأنّها أيضاً مجرّد فرض.

« قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ » ، بناءً على ما مرّ من تفسير أهل البيت (علیهم السلام) كان هذا الجواب تسرعاً منه (علیه السلام) في الحكم والقضاء، فلم يسأل المدعي البينة على دعواه ولم يستوضح من المدعى عليه ما استوجب طلبه، وهذا هو موضع الفتنة والابتلاء، والدرس الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلقّنه بطريق عملي لكي يعلم من نفسه موضع الضعف.

وهذا أمر هامّ جدّاً في مجال التربية، فإنّ مجرّد إلقاء التعليمات لا يغني عن ذلك مهما كانت الدراسة عميقة ومفصلة، بل المهمّ في تربية القضاة وغيرهم

ص: 180

التدريب العملي. ومن وضع القاضى فى حالة حرجة يستوجب إبرازه لحالته الطبيعية التي لا يتكلّف فيها، فإنّ هذا هو موضع الضعف في الإنسان، وأنت تجد الرجل مؤدباً ومتقيّداً بالسنن الاجتماعية وما يستلزمه منصبه وموقعه الاجتماعي إلّا في الحالات الحرجة التي تبعث الإنسان على إبراز كوامنه فيتبيّن طبعه الأصلي

والله تعالى يريد أن يؤدب نبيه ليكون مثلاً في القضاء العادل، ولا يكفي في ذلك تعليمه وإنزال الوحي بما يجب أن يفعل ويترك، بل لا بدّ من تنبيهه على موضع ضعفه، ليكون على بصيرة ممّا يجب أن يفعله في الموارد الحرجة، وما يمكن أن يصدر منه في هذه الحالات عن غير قصد.

« وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ »، هذا حكم عامّ. والظاهر أنّه من تتمة كلامه (علیه السلام) أراد به التنبيه على أنّ ما صدر من خصمك غالباً ما يحدث في موارد الاختلاط، نظير ما يحدث بين الزوجين والأخوين والشريكين والصديقين.

« إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ » ، لم يكتف بالإيمان، فليس الإيمان بنفسه وازعاً عن البغي خصوصاً في موارد الاختلاط، بل لا بدّ من ملكة قوية تمنعه ، وهي لا تحصل إلّا بالإيمان والعمل الصالح وهي ما نسمّيه بالعدالة. ثمّ بيّن أنّهم قليل جدّاً. و «ما» هنا زائدة تفيد التأكيد على القلّة.

« وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ» ، «الخرور» هو السقوط مع صوت، ومنه خرير الماء. وأمّا «الركوع» فقيل: إنّه بمعنى السجود وهو ما يقتضيه التعبير بالخرور. وقيل إنّه مجاز عن الصلاة لأنّها تشتمل عليه، والإنابة هي الرجوع إلى الله تعالى.

ص: 181

و«الفتنة» الامتحان. ويقال: إنّ المراد ب-«الظنّ» هنا العلم، لأنّه علم بذلك بعد أن تبيّن له أنّ الخصمين إنّما كانوا من الملائكة. ولعلّه علم بذلك بعد غيابهم عن بصره فوراً، كما قيل .

ولكنّ الظاهر أنّ الظن بمعناه، وليس معنى الظن الاحتمال الراجح، بل الاعتقاد الحاصل من الشواهد من دون استناد إلى حسّ أو دليل قطعي. وإن أوجب الاطمئنان ويقابله العلم المستند إلى الحسّ أو الدليل القطعي وهنا أيضاً إنّما تبيّن الأمر له (علیه السلام) بملاحظة الشواهد والقرائن فهو ظنّ وإن لم يحتمل فيه الخلاف مع أنّ احتماله أيضاً غير بعيد إلّا أنّه احتمال ضعيف جدّاً لا يعتنى به. بل حتّى لو كان احتمالاً قوياً في ذاته، فإنّ الظن بمثل ذلك يكفي لنبيّ كداود (علیه السلام) أن ينبهه ويستوجب الاستغفار.

وينبغي أن نراجع هنا أنفسنا ونعتبر من هذا الدرس ونلاحظ أنّنا نرى الشواهد القويّة القطعية على مفاسد أعمالنا وتبعاتها، حيث إنّ الله تعالى بلطفه وهدايته ينبّهنا على ذلك، مع ذلك نغمض العين عن كلّ تلك الشواهد القطعية ونتشبث بأقلّ من الحشيش لكي لا نحمل أنفسنا عناء المجاهدة وترك الملذّات.

وأمّا داود (علیه السلام) فما أن تبيّن له حتّى استغفر ربِّه وخرّ راكعاً وأناب، استغفر ربّه لا من ذنب، بل لأنّه لم يقم بما هو الصحيح في القضاء بين الناس، لا ما ذكره مفسّر والعامّة أنّه افتتن بامرأة أوريا، حاشاه.

و یدلّ على ذلك قوله تعالى بعد ذلك: « يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» من دون أن يفصل بين هذه الجملة والجملة السابقة ممّا یدلّ على أنّ ذلك إنّما ورد كنتيجة للامتحان المذكور، فلا بدّ من كونه أمراً

ص: 182

مناسباً له، ولو كان الأمر كما قالوا لخوطب بالنهي عن متابعة الشهوات.

« فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ » ، «الغفران» لا يستوجب كون ما أتى به محرّماً، بل يكفي أن يكون غير مناسب لمقامه، ولما ينبغي أن يكون عليه الأنبياء ، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقربين. و«الغفران» هو الستر، ومنع ترتّب الآثار السيّئة على العمل، حتّى لو كان العمل واجباً شرعياً وترتّب عليه أثر سيّئ في الدنيا، كما قام به موسى (علیه السلام).

ولذلك عقّبه بكلّ تأكيد أنّ له قرباً وزلفى لدى الله تعالى. فقد أكّده ب- (إنّ) ولام القسم. وتنكير «الزلفى» للتعظيم ممّا یدلّ على عظم منزلته (علیه السلام) وقربه لدى الله تعالى. و«المآب» المرجع، أي أنّه يرجع إلى الله تعالى يوم القيامة بأحسن وجه. ويمكن أن يكون المراد ب«المآب» المأوى الذي يرجع إليها أي الجنّة.

« يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ » ، لعلّ جملة الخطاب هنا بتقدير: «وقلنا له.. » أو أنّه حكاية لما خوطب به في ذلك المقام. وقد مرّ أنّه يحكي عن نتيجة الامتحان. ويتبيّن منه أنّ الفتنة إنّما كانت في طريقة حكمه بين المتخاصمين.

ومن الواضح أنّ المراد ب-«الخلافة » خلافة الله ولا وجه لحمله على خلافة الأنبياء السابقين. ولعلّ الداعي إلى هذا التأويل استغراب كون الخلافة لله تعالى، لأنّه على وجه الحقيقة غير ممكن، إذ يتوقّف على زوال المستخلف أو بعده عن الموقف، والله تعالى على كلّ شيء رقيب وحفيظ.

والجواب: أنّ الخلافة لله تعالى ورد في الكتاب العزيز للإنسان بوجه عامّ ، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (1) وقال أيضاً: «وَهُوَ الَّذِي.

ص: 183


1- البقرة (2) :30 .

جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ » (1)على أحد الاحتمالين، وغير ذلك.

ولعلّ التعبير بالخلافة في الإنسان من جهة ما أوتي من عقل واختيار، فهو يفعل في الأرض ما يشاء في أطار العوامل الطبيعية، فهو اختيار محدود ولكنّه اختيار على كلّ حال. ولعلّه لذلك استنبط الملائكة أنّه يفسد في الأرض ويسفك الدماء.

وأمّا خلافة داود (علیه السلام)، فالظاهر بقرينة التفريع الآتي أنّه في الحكومة والقضاء بين الناس ومنه يعلم أهمية هذا المنصب بذاته، وأنّه منصب إلهي لا يقوم به إلّا نبيّ أو وصي نبيّ أو من أوكلوا إليه ذلك كما في الحديث، بل هو في الأصل لله تعالى «ِإِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » (2)، فمن هنا اعتبر داود (علیه السلام) خليفة له تعالى.

«فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ »، أي بالأمر الثابت وهو شريعة السماء وحقوق الإنسان حسب ما نزل به الوحي. والحكم بين الناس هو القضاء أو الولاية العامّة.

«وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ »، الظاهر منه اتّباع القاضي والحاكم هواه في الحكم بين الناس ويبعد حمله على اتّباع هوى الآخرين. قالوا: إنّ الخطاب ليس متوجهاً إليه، لأنّه نبيّ معصوم لا يّتبع الهوى، والمراد نهي غيره ممّن يتصدّى للقضاء.

وقال بعضهم: إنّ متابعة الهوى في مثله تتحقّق بمثل ما حصل له في الامتحان السابق وهو التسرّع في الحكم ممّا لا ينبغي أن يصدر منه، وفي غيره ربّما تتحقّق

ص: 184


1- الأنعام (6): 165.
2- الأنعام (6): 57.

بالحكم بالجور والميل إلى أحد الطرفين.

والصحيح أنّ العصمة لا تنافي أن يخاطب بالنهي عن المحرمات والأمر بالواجبات، بل لا معنى للعصمة لولا الخطاب، إذ لولاه لم يكن معنى للمخالفة والذنب، المفروض عصمته منه، وقد خوطب الرسول ، بل كلّ الرسل بأشدّ منه، قال تعالى: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ »(1)والآية لا تقبل أيّ تأويل.

ثمّ علّل الحكم بأنّ متابعة الهوى يضلّ الإنسان عن سبيل الله. وليس بالطبع كلّ ما يهواه الإنسان منافياً للسير في سبيل الله تعالى، ولكنّ المراد أنّ متابعة الهوى خصوصاً في القضاء بين الناس يستدرج الإنسان إلى الضلال، فإنّ القاضي عليه أن يتّبع الحق، سواء وافق هواه أم خالفه، وسبيل الله هو الحق، كما قال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ »(2).

إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ » ،«ما» مصدرية، أي بنسيانهم يوم الحساب والمعنى أنّ الضلال عن سبيل الله يجرّ الإنسان إلى العذاب الأبدي وذلك بسبب نسيانه ليوم الحساب والمراد ب-«النسيان» لازمه وهو عدم الاهتمام به، لا النسيان حقيقة.

وهذه الجملة تعلّل ضرورة تجنّب الضلال عن سبيل الله بإرجاعه إلى وازع ذاتي وهو استلزامه للعذاب الشديد، وهو العلّة الذاتية التي تدعو الإنسان إلى طاعة الله تعالى، فإنّ وجوب كلّ طاعة يستند إلى وجوب إطاعة الله، ووجوب

ص: 185


1- الزمر (39) :65 .
2- الحج (22): 62 .

إطاعته تعالى يستند إلى علّة ذاتية، ولذلك يعتبر كلّ أمر بوجوب إطاعته إرشادياً.

وفي الآية الكريمة إشكال، وهو أنّ مقتضى الآية الملازمة بين الضلال ونسيان يوم الحساب، وأنّ الضلال لا يتحقّق إلّا بذلك، و أنّ سبب العذاب هو نسيان يوم الحساب لمكان «الباء»، ولازم ذلك أنّ الذي يكون معتقداً لذلك اليوم وحذراً منه ومتنبّهاً له لا يضلّ السبيل ولا يستحقّ العذاب، مع أنّا نجد في الناس من يعتقد بالآخرة ويتّقي ربّه ويحذر العذاب الأبدي، ولكنّه لم يهتد إلى دين الحقّ أو المذهب الصحيح و ضلّ عن سبيل الله بمعناه الواقعي.

وربّما يقال: إنّ سبيل الله عامّ يشمل كلّ هذه السبل. وهذا ممّا يصرّ عليه بعض المثقفين الذين يدعون التعمّق في الدين ولكنّه كلام باطل، فإنّ القرآن زاخر بما یدلّ على أنّ سبيل الله واحد ،كقوله تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » (1).

والجواب عن الإشكال: أنّ مورد الآية الذين يضلّون عن سبيل الله تعالى بمتابعة الهوى، وهو لا يكون إلّا بنسيان يوم الحساب، أي عدم الاهتمام به، ولا ينطبق على من ضلّ السبيل لعدم تمامية الحجّة عليه لنقص في عقله أو لأمور أخرى، كتأثير المجتمع والتربية والدعايات المضادة. وليعلم أنّ الغالب في دافع من يتّبعون المذاهب الفاسدة هو متابعة الأهواء، إمّا ابتداءً أو بقاء.

ص: 186


1- الأنعام (6): 153 .

سورة الصّاد(27 – 29)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)

« وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا »، تعقيباً على ذكر يوم الحساب في الآية السابقة يتعرض هنا لإثبات المعاد ترسيخاً للحكم السابق، فأتى عليه بدليلين:

الأوّل: ما بيّنه في هذه الآية من أنّه لو لم يكن هناك معاد لكان خلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً، و«الباطل» هو الأمر الزائل الذي لا ثبات له، ويقابله الحقّ وهو الأمر الثابت والمراد به هنا العبث واللهو واللعب، أي ما ليس له غاية وحكمة. وقد تكرّر في القرآن نفي كون الخلق لعباً وعبثاً ولهواً.

قال تعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ *لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ » (1) ، وقال أيضاً: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ *مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ »(2) ، وقال أيضاً: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(3).

والعبث واللهو واللعب كلّ ما ليس له غرض وغاية إلّا نفسه، فالذي يلعب ليروّض جسمه، أو لينشّط روحه له غاية وحكمة، ولكنّ الذي يلعب لمجرّد أن يكون مشغولاً ملتهياً ليس له غرض خارج عن نطاق العمل كلعب الأطفال، فهو

ص: 187


1- الأنبياء (21): 16 .
2- الدخان (44): 38 - 39 .
3- المؤمنون (23): 115 .

لهو محض. وهذا بالطبع لا يصدر من الحكيم، فلو لم يكن وراء هذا الكون الزائل غاية وغرض ثابت دائم، والمفروض أنّ هذا الكون بنفسه ليس ثابتاً، فالغرض منه ليس إلّا هذه التغيّرات التي ليست إلّا كتغيّر أدوات اللعب، لا فائدة منها ولا هدف وراءها. واللعب مستحيل على الحكيم.

« ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا » ، «الظن» هو كلّ عقيدة لا يستند إلى منطق ودليل. و«الكفر» هو الستر، ويطلق على الإنكار ، فالمراد ب- « الَّذِينَ كَفَرُوا »هنا قد يكون الذين أنكروا وجود الخالق، فأنكروا بالطبع وجود حكمة وتدبير وراء هذا الكون، أو الذين أنكروا حكمة الباري وأنكروا أنّ ما صنعه لا بدّ من أن يكون لحكمة، أو الذين أنكروا المعاد، كما كان ينكره المشركون في مکّة وجزيرة العرب والظاهر أنّهم هم المقصودون دائماً أو غالباً بهذا التعبير: الَّذِينَ كَفَرُوا» في القرآن الكريم. وعليه فالمراد أنّهم بإنكارهم المعاد ينكرون الحكمة في الخلق وإن لم ينتبهوا لهذه الملازمة.

« فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ » ، أي أنّ النار معدّة لمن يكفر بالله، أو يكفر بحكمته وينكرها، فالويل لهم يوم يرونها وهم لم يحسبوا له حساباً. وإعادة عنوان « الَّذِينَ كَفَرُوا » بدلاً عن الضمير للتنبيه على السبب فهم يستحقّون النار لكفرهم.

« أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار »، هذا هو الدليل الثاني. وتوضيحه أنّا نجد أنّ المؤمنين الصالحين في الدنيا يساوون الكافرين والفجار في أنّ رغد العيش وضيقه لديهم يتبع العوامل الطبيعية المتوفّرة، والنشاط الفكري والجسمي، وحسن الحظّ في كثير من الموارد ولم يخصّ الله المؤمنين الأخيار بوسيلة إعجازية خارقة للعادة تخصّ

ص: 188

بهم وتدرّ عليهم المال، أو وسائل العيش، أو تدفع عنهم البلاء، أو تشفّيهم من الأمراض، وغير ذلك من حاجات الإنسان في الدنيا.

وهذا بالطبع هو مقتضى الحكمة، فإنّ الدنيا دار الابتلاء والامتحان والفتنة، فلو كان الله تعالى يخصّ المؤمنين بشيء من ذلك لآمن من في الأرض جميعاً، ولكنّهم ما كانوا يؤمنون طلباً للآخرة وإيماناً بالغيب، كما هو المقصود، بل للوصول إلى الهدف المنشود وهو رغد العيش في الدنيا من أقرب طريق وأسهله. بل نجد في الغالب أنّ وسائل العيش متاحة بوجه أوسع وأرغد للكفار والظلمة والطغاة. والسبب فيه يعود إلى عدم تورّعهم من كسب المال بأيّ طريقة تمكّنوا منها، بخلاف المؤمنين المتّقين. وهذا الأمر أي مساواة المتّقين للفجّار، بل تأخّرهم في موارد العيش في الدنيا، بل وقوعهم غالباً تحت سطوة الطغاة وظلمهم، لا يليق أيضاً بحكمة الباري ورحمته، فلا بدّ من وجود عالم ينال فيه كلّ أحد حقّه.

و إنّما قابل بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، ولم يذكر في مقابلهم الكفّار كما هو الغالب في موارد المقابلة، ليكون الاستشهاد بالمورد الواضح الذي لا يتصوّر مساواته للمؤمن في المقياس الإلهي ولو ذكر الكافر لأمكن أن يقال بأنّ الكفر بنفسه لا يستلزم التفريق بين الفريقين في الحياة الدنيا، أمّا الذي يفسد في الأرض فلزوم التفريق بينه وبين المؤمن الصالح واضح يعترف به الخصم.

ولذلك أيضاً قيّد الإيمان بالعمل الصالح، إذ مجرّد كونه مؤمناً لا يقتضي وضوح الفرق، وكم من الطغاة الأشرار يعتبرون في عداد المؤمنين حسب الظاهر.

ص: 189

ثمّ أبدل التعبير بالمقابلة بين المتّقين والفجّار، فالمتّقون من أكمل الناس إيماناً واعتقاداً وعملاً. والتقوى يمنع من جميع المعاصي. و«الفجّار» جمع فاجر من الفجر بمعنى الشقّ، ومنه الفجر الذي يشقّ الظلام، ويطلق على الفاسق، لأنّه يشقّ ستر الديانة، كما في «المفردات». أو بمعنى التفتّح ويطلق على الفجر لتفتح الضياء فيه، ويطلق على من تفتّح في المعاصي وارتكب الكبائر والموبقات، كما في «معجم مقاييس اللغة». ثمّ أطلق على كلّ ميل عن الحقّ توسعاً في الاستعمال.

وعليه، فالمقابلة أيضاً بين من هو واضح الاستحقاق للإكرام وهم المتّقون ومن هو واضح الاستحقاق للعذاب وهم الفجّار، بناءً على المعنى الأصلي للفجور حسب المعجم.

ولعلّ تغيير المقابلة إلى التعبير الثاني من جهة أنّ عنوان المفسدين في الأرض يختصّ بمن يعتدي على الناس أو ينشر المفاسد بينهم، وأمّا الفجّار فيشمل من يرتكب الموبقات الشخصية أيضاً.

« كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ » ، أي هذا كتاب، و«الكتاب » هو المكتوب، أي المجموع، فلا يعتبر أن يكون النازل بصورة كتابة بالمعنى المعروف، و إنّما هو مجموعة من الآيات.

و «مبارك» من «البركة» وهي الخير الكثير، وتأتي الكلمة دائماً مبنيّاً للمجهول لأنّ فاعله هو الله تعالى وفي هذا الكتاب خير كثير للبشر لا غنى لهم عنه، بل كلّ الخير فيه، لأنّه يحذر الإنسان من الخطر المحدق به في حياته الدائمة الأبدية، ويعلمه ما يجب فعله وتركه ليفوز بالخير الدائم فلا يعتبر ما عداه من الخير في هذه الدنيا خيراً إن لم يكن معه .

ص: 190

وقوله: « لِيَدَّبَّرُوا» في الأصل: «يتدبّروا» وهو تعليل للإنزال، فهذا الكتاب أنزل لا للقراءة فحسب، بل ليتدبّر الناس آياته و«التدبّر » مأخوذ من الدبر أي مؤخرة الشيء، والمراد عاقبته ونهايته. ومعنى «التدبّر» في الآيات النظر في غاية ما يقصد بها من معان دقيقة وعدم الاكتفاء بمعرفة الظاهر.

« وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» ، «التذكر» لا يطلق إلّا في ما كان الإنسان يعلمه فنسيه، ولكنّ القرآن يطلقه على ما هو مرتكز في فطرته، فتناساه لتوغّله في الدنيا ومتابعته للأهواء. و«الألباب » جمع لب، وهو الخالص من كلّ شيء، والمراد به هنا العقل ولكن لا بمعنى الإدراك والفهم، بل بمعنى تحكيم العقل والعمل وفق مقتضياته، وهو الذي يوجب التذكر لما تقتضيه الفطرة من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر.

قال العلّامة الطباطبائي (رحمه الله):« والمقابلة بين « لِيَدَّبَّرُوا» و« لِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» تفيد أنّ المراد بضمير الجمع الناس عامّة والمعنى هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات والبركات للعامّة والخاصّة ليتدبّره الناس فيهتدوا به أو تتمّ لهم الحجة وليتذكّر به أولوا الألباب فيهتدوا إلى الحقّ باستحضار حجته وتلقّيها من بيانه»(1).

والأولى أن يقال: إنّ معنى ذلك أنّ التدبّر متوقّع من عامّة الناس، لأنّ التدبّر والتعمّق شأن الجميع، ولكن التذكّر شأن أولي الألباب خاصّة وليس المراد منهم العلماء، كما يوهمه التعبير بالخاصّة في عبارة العلّامة، بل المراد كما ذكرنا من يحكم عقله ولا يتّبع هواه، سواء كان من العلماء المعبّر عنهم بالخاصّة أو من عامّة الناس.

ص: 191


1- الميزان في تفسير القرآن 17: 197.

سورة الصّاد( 30 – 40)

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثمّ أَنَابَ (34)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

« وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » ، الآية تكرم سليمان النبيّ (علیه السلام) وتمجده، خلافاً لما في التوراة من نسبة العدوان والظلم ومتابعة الهوى والشهوات بل الكفر إليه. وقد مرّ أنّ القرآن مهيمن على الكتب السماوية المحرّفة ومبيّن لأخطائها. ومن هنا يصرّ القرآن الكريم على تمجيد أنبياء الله وتنزيه ساحتهم عمّا نسب إليهم ممّا لا يليق بهم.

والآية تمدحه بأنّه نعم العبد بعد الامتنان على داود (علیه السلام) بأنّ الله تعالى وهبه هذه النعمة. و«العبودية» غاية كمال الإنسان لأنّه الهدف الاسمى من خلقه، قال تعالى:« «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (1).

ثمّ علّل المدح بكونه أوّاباً. و«الأواب» مبالغة في الأوبة أي الرجوع ،والمراد الرجوع إلى الله تعالى. وقد مرّ أنّ المراد كثرة رجوعه بمجرّد اشتغاله بغير ذكر

ص: 192


1- الذاريات (51) :56 .

الله تعالى، فليس كثرة التوبة والأوبة في الأنبياء لكثرة الذنوب، إذ ليس ذلك مدحاً، بل ربّما لا تقبل التوبة إذا تكرّر الذنب، لأنّها تعتبر - كما في الحديث - استهزاء، و إنّما كثرتها فيهم لاعتبارهم كلّ توجّه إلى غيره ابتعاداً عن الله والتفاتاً عنه إلى غيره، وهو في ذلك المقام السامي من القرب يعدّ ذنباً.

وتوجيهه: أنّ الإنسان إذا بلغ هذه المرتبة فإنّه يشعر بحضوره تعالى دائماً وباستمرار، فکأنّه دائماً في صلاة وتوجّه، فإذا التفت إلى غيره تعالى كان كمن التفت في صلاته وهو ذنب، فهذا يعتبر للواصلين إلى هذه المرتبة ذنباً لا بدّ فيه من التوبة والأوبة ولكنّه ليس من المحرمات في الشريعة، والأنبياء معصومون من المحرمات الشرعية لا من ذنوب المقرّبين.

« إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ »، الآيات تذكر موضعين من أوبته (علیه السلام) كمثال لما مرّ من أنّه كغيره من الأنبياء كان يتوب لمجرّد غفلة عن ذكر الله تعالى، فالموضع الأول على ما يبدو من الآية أنّه (علیه السلام) حينما عرض عليه خيل جياد اشتغل بها وغفل عن ذكر الله تعالى.

و«الجياد» جمع جواد يطلق على الفرس الممتاز في العدو، ولعلّه باعتبار أنّه يجود بما لديه من قوة، إمّا لإرضاء صاحبه، أو لأيّ غاية لا نعلم بها، فعالم الحيوانات مغيب علينا.

و« الصَّافِنَات » من الصفن يقال ذلك للخيل إذا وقفت على ثلاث قوائم ورفعت إحدى يديها وأبقتها على حافرها استعداداً للعدو، فهذا مدح لها في حال الوقوف، كما أنّ الجياد مدح في حال الركض.

و«العشيّ» آخر النهار أو أوّل الليل أو كلاهما والاعتبار يقضي بأن يكون

ص: 193

المراد هنا آخر النهار ، إذ يبعد عرض الجياد ليلاً. وهو مأخوذ من العشو، وهو عدم الوضوح، وهذا أيضاً يناسب آخر النهار لا الليل.

و«إذ» ظرف لبيان مورد من موارد الأوبة، فيتعلّق بقوله أوّاب والظاهر أنّ مشاهدة الخيل بتلك الحال ألهته عن ذكر ربّه في آخر النهار وهو أحد أوقات الذكر، قال تعالى: « وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» (1) .

« فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ »، «حبّ الخير» مفعول مطلق لبيان نوع الفعل، أي الحب. والمراد ب-«الخير» هنا الخيل، إمّا لأنّه مال ثمين ويعبّر عن المال بالخير ، قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ » (2) ، أو لأن العرب تعبّر عن الخيل بالخير، كما قيل.

وضمّن الحبّ هنا معنى الإعراض، فالمعنى: إنّي أحببت حب الخير وأعرضت بسببه عن ذكر ربّي، أو ضمن معنى الالتهاء، أي التهيت بها عن ذكر ربي، حتّى توارت بالحجاب.

قيل: إنّ ضمير الفاعل في «توارت» يعود إلى الشمس المدلول عليها بالعشي، حيث كان المفروض أن يذكر ربّه قبل الغروب، فالتهى بالخيل حتّى غربت الشمس، وهو بعيد عن اللفظ وإن كان قريباً من حيث المعنى والاعتبار. وذلك لبعد دلالة العشي على الشمس وغرابة التعبير عن الغروب بالتواري بالحجاب.

فالأقرب من حيث اللفظ أن يكون مرجع الضمير الخيل والمعنى أنّه استمرّ ملتهياً بها حتّى توارت بالحجاب، أي حجبت عنه بدخولها الاصطبل

ص: 194


1- ق (50): 39 .
2- البقرة (2) :180 .

مثلاً، فلم يمنعه شيء من مشاهدتها إلّا الاختفاء عن العين وهذا غاية الالتهاء بالشيء .

فالأوبة هنا هو تنبّهه لما حصل. ولعلّ هنا محذوفاً تدلّ عليه الجملة المذكورة، وهو أنّه (علیه السلام) قضى ما عليه من الذكر ، ثمّ عاد إلى الخيل وطلب أن يردّوها عليه، وأخذ يمسح سوقها وأعناقها عناية بها. ولعلّ الوجه في هذه العناية أنّها تساعده في جهاده في سبيل الدعوة، فحبّها أيضاً كان لله تعالى.

وهنا احتمال آخر لعلّه أقرب، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى: « فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ» تنبهه لذلك أثناء العرض وأنّه أعرض عنها واشتغل بذكر ربّه، ويكون قوله تعالى: « حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » من كلام الله سبحانه ويكون غاية لما يفهم من الجملة السابقة أي إعراضه عنها وذكره لربّه، فالمعنى: أنّه اشتغل بذكر ربّه حتّى توارت بالحجاب، فلمّا فرغ عن ذكره قال: « رُدُّوهَا عَلَيَّ »، وعليه فيكون تنبهه للغفلة عن ذكر ربّه أثناء العرض لا بعد تواريها في الحجاب.

هذا ما يمكن أن تحمل عليه الآيات المذكورة دون مساس بعصمة النبيّ و کرامته، ودون تأويل بارد، أو منافاة بين الجمل أو أخذ بالإسرائيليات التي تبدو عليها - كما ذكرنا - عداء هذه المجموعة من اليهود، أي التي وضعت هذه الروايات لداود وسليمان (علیهما السلام). وإذا راجعت كتب التفسير فستجد أنّ أفضل موقف اتّخذه بعضهم هو الامتناع عن تفسير الآية حتّى بظاهرها لتجنّب متابعة الروايات الواردة بهذا الشأن البعيدة عن الصواب.

وأمّا الذين فسّروها تبعاً للروايات، فممّا قالوه إنّه (علیه السلام) غفل عن صلاة العصر حتّى توارت الشمس، أي غربت فقال: « إِنِّي أَحْبَبْتُ » ثمّ طلب من الملائكة أن

ص: 195

يردّوا عليه الشمس، فقام للصلاة، وأنّ وضوءهم كان يشتمل على المسح بالسوق، والأعناق، وأنّ الجمع باعتبار الجماعة حيث توضأ هو وأصحابه.

ومن الغريب أنّ العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) استقرب ذلك إن ساعده لفظ الآية. مع أنّه بعيد عن العبارة وفي نفسه أيضاً، إذ ليس في الآية ذكر للشمس، والنبيّ لا يطلب من الملائكة ذلك، بل كان عليه أن يدعو ربّه، فالملائكة لا ينفذون إلّا أمر ربّهم. وأمّا حمل المسح المذكور على الوضوء فغريب جدّاً، حتّى لو فرض كون وضوئهم كذلك، إذ المسح حسب الآية من سليمان الله(علیه السلام) فهل كان عليه أن يوضئ أصحابه ؟!

وممّا قالوه أنّ المسح كناية عن تسبيلها في سبيل الله جازى بذلك نفسه حيث غفل بها عن الصلاة. وفيه مضافاً إلى استهجان نسبة الغفلة عن الصلاة إلى النبيّ ، أنّ هذه الكناية لا مصحّح لها من حيث اللفظ والاعتبارات الأدبية، مضافاً إلى ما مرّ من بعد عود الضمير إلى الشمس.

ومن ذلك أيضاً أنّ المراد بالمسح ضربها وعقرها وقتلها بذلك. وهو أغرب ما قيل، إذ لا مبرّر له وهو إتلاف للمال والخيل ممّا يحتاجه الجيش، وكان (علیه السلام) من المجاهدين في سبيل الله. ثمّ ما ذنب الخيل إن كان هو الغافل عن ذكر ربّه؟!

ولعلّ أفضل ما قيل أنّ المراد بقوله: » عَنْ ذِكْرِ رَبِّي » أنّ حبّه للخيل ناتج عن ذكر ربّه، فليس في الآية أيّ غفلة عن ذكر الله تعالى. ولكنّه بعيد عن لفظ الآية جدّاً كما هو واضح، مضافاً إلى أنّ الآيات بصدد بيان مواقع أوبته إلى الله تعالى بعد صدور غفلة منه إلّا ولا مناسبة في ما ذكر للأوبة.

« وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثمّ أَنَابَ »، «الكرسي » ما يجلس عليه

ص: 196

وأصله من الكرس أي التلبد والاجتماع كأنّ الجالس عليه يجمع نفسه و«الإنابة » الرجوع والظاهر أنّ هذه الآية تشير إلى مورد آخر من موارد إنابة سليمان (علیه السلام) وأوبته إلى ربّه بعد صدور ما لا يناسب مقامه وقربه لدى الله سبحانه ولكنّ الآية مجملة جدّاً، وهناك روايات تفسّر ذلك، أقربها إلى القبول أنّها تزوّج عدّة نساء، وكان يأمل أن يكون له نسل كثير من الذكور يجاهدون في سبيل الله تعالى، ولم يطلب ذلك من الله، أو لم يقل في كلامه: «إن شاء الله»، فلم يرزق بولد بالرغم من كثرة أزواجه، بل ألقي على كرسيه جسد بلا روح، و«الجسد» لا يطلق على غير الإنسان ولا على جسم الإنسان الحي، فانتبه لما صدر منه وعلم أنّه لا سبيل إلى كثرة نسله مهما تعددت الأزواج ومهما أوتي من قوة، فأناب إلى ربّه وطلب المغفرة وأن يعوّضه الله عن ذلك بملك يختصّ به.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الأنبياء معصومون من الذنوب التي تعتبر ذنباً حسب التكاليف العامّة، وليسوا معصومين ممّا لا يناسب مقامهم وقربهم، وأنّ ذلك يضرّهم وينزل من مقامهم لولا إنابتهم وتوبتهم ومغفرة الله لهم. وهذه الأمور ربما تكون بالنسبة لغيرهم حسنة، وهي لهم سيئة، كأكثر صلواتنا وعباداتنا، فإنّها حسنات لنا، ولكن إذا صلّى نبيّ بهذه الغفلة والتوجّه إلى الغير التي هي سمة صلواتنا عادة فإنّها تعتبر له سيّئة توجب تنزّله عن مقام قربه.

وأمّا الروايات في هذا الباب، فقد تجاوزت الحدّ في نسبة السوء إلى النبيّ بل اشتمل بعضها على خرافات من قبيل قصص ألف ليلة وليلة.

فمنها: أنّه ولد له ولد فخاف عليه من مردة الجنّ ، فأمر به أن يحفظ و يرضع في السحاب، فألقاه الله جثّة هامدة على كرسيّه.

ص: 197

ومنها ما ورد في روايات كثيرة عن طرق العامّة بوجوه مختلفة أنّ ملكه كان بسبب خاتمه فاحتال أحد الشياطين وأخذه منه، فانتقل ملكه إلى الشيطان وتسلّط الشيطان على ملكه أياماً إلى أن أعاد الله الخاتم إليه، وأن المراد بالجسد هو ذلك الشيطان. و في هذه الروايات أكاذيب وخرافات كثيرة، فليراجع كتبهم، وفي بعضها يتصل السند إلى كعب الأحبار اليهودي ممّا یدلّ على المصدر الأساس لها.

« قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»، تبيّن ممّا مرّ أنّ هذا الدعاء إنّما دعا به سليمان (علیه السلام) بعد الفتنة والإنابة، وتبيّن أنّ الأنبياء بالاستغفار يزيلون أثر ما صدر منهم من خطأ بلحاظ مقامهم السامي. ثمّ دعا لنفسه بأن يهبه الله ملكاً لا ينبغي لأحد ينبغي لأحد من بعده.

قالوا : المراد بقوله: « مِنْ بَعْدِي »، أي غيري، كقوله تعالى: « فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ» (1) .

وعلّل (علیه السلام) طلبه بأنّ الله تعالى وهّاب أي كثير الهبات، و«الهبة» هو العطاء من دون عوض، وكلّ ما في الكون من خير عطاء من الله تعالى وكلّه بلا عوض فإنّ كلّ عوض أيضاً منه تعالى وتقدّس.

وربّما يتساءل: لماذا طلب الاختصاص ونفيه عن غيره؟ أليس هذا بخلاً ينبغي أن يجلّ عنه ساحة الأنبياء؟

وأجيب بوجوه بعضها ضعيفة لا نتعرّض لها وبعضها لا بأس بها. جدّاً.

منها جواب العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) وهو أنّه سأل ملكاً يختصّ به ولم يطلب منع

ص: 198


1- يونس (10): 32 .

غيره وحرمانه، وهناك فرق بين أن يسأل ملكاً اختصاصياً، وأن يسال الاختصاص بملك أوتيه (1) .

والإنصاف أنّه لا فرق بينهما، ومجرّد هذا التفكيك لا يحلّ المشكل، فإنّ سؤال ملك يختصّ به يعود إلى طلب أمرين ملكاً واختصاصاً، والإشكال في الثاني.

وقيل: إنّ هذا التعبير كناية عن كون هذا الملك أمراً عظيماً وممتازاً ولا يقصد به الاختصاص، نظير ما يقال إنّ فلاناً أوتي من الحكمة ما لم يؤت أحد مثله.

ولعلّ أفضل ما قيل في الباب هو أنّه طلب معجزاً من الله تعالى يكون آية لنبوته، والإعجاز لكلّ نبيّ بما يناسب شأنه، فمعجز موسی (علیه السلام) ما جاری به سحر السحرة وغلبهم، ومعجز عيسى (علیه السلام) جارى به الأطباء حيث كثروا في زمانه، فأبرأ الأكمه والأبرص، ومعجز نبينا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الجارى به الأدباء والشعراء وهكذا.

وحيث كان سليمان (علیه السلام) وارثاً لملك أبيه وكان يجاري الملوك والجبابرة، طلب من الله ملكاً يشتمل على إعجاز، لتكون آية لنبوّته، فعدم جوازه لغيره من جهة كونه آية وإعجازاً، فسخّر الله له الريح والجنّ وعلّمه منطق الطير.

ويشهد له أنّه (علیه السلام) لم يطلب اختصاصاً ولا ملكاً يختصّ به، بل ملكاً لا ينبغي فی حدّ ذاته أن يتكرّر، وهذه صفة تعود إلى الملك في حدّ ذاته وهو كذلك، فإنّ سلطته على الريح والجنّ والطير لا يمكن أن تتحقّق لأحد بصورة طبيعية، فالمراد ليس عدم موهبة الله لغيره، بل عدم امكانه لغيره بصورة طبيعية، وهو معنى الإعجاز.

ص: 199


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 17: 205 .

ويمكن أن يقال: إنّ طلب الاختصاص والامتياز من الله تعالى ليس مذموماً، بل هو ممدوح، و یدلّ ذلك على غاية قربه لدى الله سبحانه، فكلّ مقرب يحاول أن يحصل على امتياز یدلّ على مكانته لديه تعالى، فهو لم ينظر إلى الملك بما أنّه أمر دنيوي، بل بما أنّه موهبة خاصّة من الله سبحانه تدلّ على اختصاصه بمنزلة من الزلفى لديه تعالى. وهذه المنزلة لا ينالها الإنسان إلّا بحبّه وتفانيه وإخلاصه لله تعالى، وكلّما زاد حبّه زاد لديه قرباً ومنزلة، وهذا الحب هو النعمة الكبرى الذي من أوتيه لا يهمّه أن يؤتى شيئاً غيره، ولا يفهمه ويدرك عظمته إلّا من ذاقه. ومجرّد الإطراء والتوصيف لا یدلّ على التذوّق، فربّما يعلم الإنسان مميّزات فاكهة ولكنّه لم يذقه، فليس شأن من يعلم ذلك كشأن من ذاقه وإن لم يعلم خصائصه.

« فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ »، هذا بيان لاستجابة دعائه (علیه السلام) وما آتاه الله سبحانه من ملك لا يتكرّر لغيره، فأحدها تسخير الريح له تجري بأمره حيث يشاء. وقوله: «أصابَ»، أي قصد. وذلك من دون شدّة تؤذيه، بل تجري رخاء. والريح الرخاء : اللينة السريعة، كما في «العين». وهي في نفس الوقت قويّة وسريعة وعاصفة، كما قال تعالى: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا » (1).

وبذلك يندفع ما يتراءى من التنافي، فإنّ العاصفة هي الريح الشديدة وهي تنافي الرخوة المذكورة هنا ويرتفع التنافي بأنّها قويّة عاصفة ولكنّها لا تؤذي سليمان (علیه السلام) ومن معه.

ص: 200


1- الأنبياء (21): 81 .

و يمكن رفع التنافي أيضاً بأنّ الرخاء بمعنى كونها سهلة مطيعة، كما یدلّ على ذلك قوله تعالى: « تَجْرِي بِأَمْرِهِ » ، فلا ينافي السرعة . وجريانه بأمره معنى آخر غير التسخير له.

كما يمكن الرفع أيضاً باختلاف موارده، فقد تكون عاصفة وقد تكون ليّنة. ويؤيده أنّ «الرخاء» هنا مذكور في كلّ جهة قصدها، و«العاصفة» إنّما ذكرت في سفره إلى بيت المقدس، كما في سورة الأنبياء، فإنّه هو المقصود بالأرض التي بارك الله فيها. ولعلّ السرعة كانت مطلوبة لديه في تلك الأسفار خاصّة.

هذا، ولكنّ الوارد في سورة سبأ هو السرعة مطلقاً، قال تعالى: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ »(1) ، أي كانت تسير في الصباح مسيرة شهر وفي المساء أيضاً تعود مسيرة شهر، وعليه فالتوجيه الأوّل أولى وبعده الثاني.

« وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ »، أي وسخّرنا له الشياطين و«الشيطان» مأخوذ من الشطن، أي البعد لبعد الشيطان عن رحمة الله تعالى نتيجة كونه شرّيراً، أو لبعده عن الحقّ . ويطلق على شرار الإنس والجن، أو ماخوذ من شاط ، أي ذهب وبطل يقال: أشاط السلطان دم فلان أي جعله هدراً، ولذلك يطلق على ما احترق أنّه شاط. ولعلّ إطلاقه على الجنّ لكونهم مخلوقين من النار. والأول أقرب.

وعلى كلّ حال، فالمراد بهم هنا مردة الجنّ سخّرهم الله تعالى له يعملون بأمره، ثمّ بيّن أنّهم ثلاثة أقسام، فذكر في هذه الآية قسمين منهم، فمنهم البنّاؤون الذين بنوا له القصور والمعابد وغيرها، ومنهم الغوّاصون الذين كانوا يستخرجون له اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك.

ص: 201


1- سيأ (34): 12 .

« وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ» ومنهم محبوسون مقيّدون في الأغلال. والظاهر أنّهم أيضاً كانوا يعملون ولكن لكثرة شرّهم قيّدوا بالأغلال. و«الأصفاد» جمع صفد وهو القيد أو خصوص الجامعة، أي ما تغلّ به الأيدي و تربط بالعنق. ومهما كان، فالمراد بها هنا ما يناسب الشياطين، سواء كانوا أجساماً أو أرواحاً. و«القَرن» هو الجمع، قرن الشيء بالشيء، أي جمع بينهما، والتشديد يفيد الكثرة أو شدّة التقييد.

وقد ورد ذكرهم في سورة الأنبياء أيضاً، قال تعالى: «وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ » (1) ، فتدلّ الآية على أنّ التسخير كان لبعض الشياطين لا كلّهم لمكان من التبعيضية، وأنّهم جميعاً كانوا تحت الحفظ وإن لم يكونوا كلّهم مقرّنين بالأصفاد، فمعنى حفظهم منعهم من التهرّب وعصيان أوامره (علیه السلام).

ومثلها في المفاد قوله تعالى: «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ » (2).

« هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ »، «هذا» إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من الملك. والظاهر أنّ الآية في مقام بيان نعمة أخرى ممّا أنعم الله به عليه، وهو كثرة أمواله، فكان يعطي منها ما يشاء لمن يشاء.

و تخييره بين المنّة - أي العطاء - والإمساك كناية عن هذه الكثرة، وليس

ص: 202


1- الأنبياء (21): 82 .
2- سبأ (34): 12-13 .

لبيان أنّه مخيّر شرعاً، كما يتوهّم.

وقوله: « بِغَيْرِ حِسَابٍ » أيضاً يحتمل ذلك، فالمعنى: أنّك من كثرة المال بحيث يمكنك العطاء الكثير من دون محاسبة. ويبعد جدّاً كونه متعلّقاً لأوّل الجملة، أي أنّ هذا عطاؤنا بغير حساب.

وأبعد منه القول بأنّ المراد عدم المحاسبة في الآخرة على إعطائه وإمساكه.

« وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ »، في آخر المطاف يردّ على كلّ المحاولات الأثيمة للتنقيص من كرامة الأنبياء (علیهم السلام)، سواء في الكتب المحرّفة أو في الروايات الموضوعة التي تشتمل على أنّ ملك سليمان (علیه السلام) ينزّل من مقامه عند الله، وأنّه

(علیه السلام) يحاسب يوم القيامة، وأنّه (علیه السلام) آخر الأنبياء دخولاً إلى الجنّة، ناهيك عن ما ورد من إلصاق التهم الشنيعة التي لا تليق بمؤمن، فضلاً عن المعصوم. فيردّ على كلّ ذلك بالتأكيد والقسم على أنّ له عند الله تعالى زلفى، أي درجة وقرباً - والتنكير للتعظيم - وأنّه يرجع إليه بأحسن وجه. والمآب مصدر ميمي من الأوبة، أي الرجوع.

وقد مرّ أنّ ملكه (علیه السلام) كان معجزة نبوته وقد ورد في الروايات أنّ حياته الشخصية كانت حياة زهد وتقشف وأنّه كان يكتسب لمؤونته الشخصية بكدّ يمينه ولا يأكل من بيت المال و إنّما كانت تلك القصور ومظاهر البذخ لمواجهة الملوك والأمراء.

ص: 203

سورة الصّاد( 41 – 44)

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

« وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ »، تذكّر الآيات بمقام نبيّ آخر من أنبياء الله السابقين، ليكون مثلاً وقدوة في الصبر وتحمّل الأذى والتوكل على الله، وهو أيوب (علیه السلام) الذي اشتهر بصبره على البلاء. ولكنّ الآيات لا تصرّح بنوعية البلاء وما أصابه متاعب الحياة الدنيا، فإنّ الاهتمام ليس بذلك، و إنّما هو بصبره على ما ابتلي به وتوجّهه إلى ربّه بخلوص وحبّ وتذلّل، ممّا استوجب نزول الرحمة عليه.

وقد ورد ذكر أيوب (علیه السلام) في سورة الأنعام والنساء ضمن مجموعة من الأنبياء، للدلالة على نبوّته، خلافاً لما يحكى عن «التوراة». والتعبير هنا يصف النبيّ الكريم بأحسن وصف وهو العبودية لله تعالى، وهذه شهادة من الله لعبوديته، بل هذا النوع من التعبير یدلّ على اختصاص في هذا المضمار، حيث يضيف العبد إلى نفسه فهو عبد له مقام خاصّ ومنزلة خاصّة في العبودية.

«إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ » ، قوله « إِذْ نَادَى » ظرف للذكر، أي اذكره حين نادى ربّه، فهو زمان مناجاته وتوسّله واسترحامه، حيث بلغ مرتبة من التذلّل استوجب نزول الرحمة وزوال البلاء. ولم يقل: «إذ نادانا»، مع أنّه الأنسب بقوله: « عَبْدَنَا» بل قال « نَادَى رَبَّهُ »للتأكيد على أنّ ما حصل له من البلاء والدعاء واستجابته كان دخيلاً في تربيته ليبلغ مرتبة الكمال المتوقع له.

ثم التعبير ب-«النداء» بدلاً عن الدعاء یدلّ على غاية الضيق والحرج عليه ولم

ص: 204

يعبّر أيوب في دعائه أنّه قد ضاق ذرعاً بالعذاب ولم ينسبه إلى الله تعالى تأدّباً، مع أنّ كلّ شيء منه، بل نسبه إلى الشيطان لكونه سبباً. و«مسّني» بمعنى أصابني.

و«النصب»: التعب والانزعاج، وقد قيل إنّه مرض مرضاً شديداً وطال به المرض سنين. وورد في بعض الروايات أنّ جسمه أنتن من القروح واضطرّ إلى الخروج من البلد أو أُخرج منه. ولا دليل على صحّة شيء من ذلك، بل ورد في بعض الروايات نفيه أيضاً. وهو في حدّ ذاته مستبعد، مع أنّ ابتلاء الأنبياء بما يوجب تنفّر الناس عنهم مستبعد جدّاً ومردود حسب بعض الروايات.

والآيات لا تدلّ على شيء من ذلك، فكأنّ الإخفاء مقصود، وكذلك أجملت قصته (علیه السلام) في سورة الأنبياء، قال تعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ » (1).

ومهما كان، فإنّه (علیه السلام) ضاق ذرعاً بما أصابه، فدعا بهذا الدعاء، ومن الملفت أنّه تعالى ذكر الجواب من دون فصل حتّى بكلمة «قلنا» أو «أوحينا»، للدلالة على سرعة استجابة دعائه، ممّا یدلّ على أنّ طول مرضه إنّما كان بسبب صبره وعدم إعلان تذمّره وانزعاجه حتّى بلغ غايته. ولا نعلم ما الذي حصل حتّى استوجب منه التوسّل والدعاء، ولعلّ الآيات التالية تكشف عنه نوعاً ما.

« ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ »، «الركض» هو الضرب بالرجل. ومن هنا أطلق على العدو والمشي السريع، فالظاهر أنّ الله تعالى أمره بأن يضرب برجله الأرض ليخرج منه الماء، فيغتسل به ويبرد نفسه ويشرب منه، ففيه الشفاء

ص: 205


1- الأنبياء (21): 83 - 84 .

بأمر من الله سبحانه و«المغتسل» بمعنى الماء الذي يغتسل به والتعبير ب-«البرد» ربّما یدلّ على أنّ جسمه كان مقروحاً، فكان بحاجة إلى ما يبرد جسمه.

وهذا أيضاً ممّا يشهد على أنّ الله تعالى لا يستجيب دعوات أنبيائه وأوليائه إلّا بعمل منهم، فمع أنّه كان بالإمكان أن يشفيه الله تعالى بدون سبب إلّا أنّه أمره أن يعمل شيئاً ليصل إلى بغيته، فيركض برجله ليستخرج الماء الذي أودعه الله تعالى في ذلك المكان فيستشفي به، وكان إيصاله إليه من دون ذلك ممكناً أيضاً، كما أمر نوحاً (علیه السلام) أن يصنع الفلك، وأمر مريم (علیها السلام)أن تهزّ بجذع النخلة، وأمر موسى (علیه السلام) أن يلقي عصاه أو يضرب به البحر.

« وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ» .الآية تدلّ على أنّه حرم من رؤية أهله، ولعلّ هذا هو الموجب لبلوغه غاية التأذي حتّى شكى إلى ربّه حاله. وقد قيل: إنّ أهله تركوه لمرضه، فلو صح ذلك كان أبلغ في تذمّره. والمنقول عن «التوراة» - كما في الروايات - أنّه كان كثير الأموال والأولاد، ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا عاش في مثل هذه البيئة، ثمّ فقد أهله وأمواله جميعاً ورأى نفسه وحيداً مبتلى بنفسه، فإنّه يصل إلى غاية التذمّر بالحياة، فلولا صبره العجيب وركونه إلى ربّه وإيكال أمره إليه ورضاه بما ابتلاه به لكان كغيره من البشر يتمنّى الموت بل ربما يستقبله بالانتحار.

والله تعالى جازاه بصبره في الدنيا قبل الآخرة ليكون مثلاً وقدوة فآتاه ما أخذ منه وزاده مثل ذلك بأن ولد له أولاد وأحفاد، فتضاعف عددهم. كلّ ذلك رحمة منه تعالى حيث استحقّها بصبره وليكون ذكرى لأولي الألباب، فيعلمون أنّ هذا جزاء من صبر لله سبحانه.

وقيل: إنّ أهله ماتوا فأحياهم الله تعالى وزاده مثلهم. وورد ذلك في بعض

ص: 206

الله

الروايات الضعيفة التي لا معوّل عليها، وليس في الآية ما يشير إلى ذلك.

« وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ »، ظاهر الآية أنّه كان قد حلف أن يضرب أحداً عدداً من الضربات، ثمّ ندم على حلفه، ولعلّه لتبين عدم الاستحقاق، ولا شكّ أنّ هذا الحلف باطل لا أثر له، ولكنّه لمقام نبوّته كان يصعب عليه أن يحنث حلفه، فأجاز الله تعالى له أن يأخذ ضغتاً أي مجموعة من الأعواد مربوطة بعضها ببعض ويضرب بها مرة واحدة ولا يحنث، مع أنّه لو فرض صحّة الحلف فإنّ هذا لا يعتبر عملاً به ولكنّ الله تعالى قبل منه ذلك، وهذا كلّه إرفاق به ويظهر من الآية مكانة الحلف بالله تعالى، وأنّه لا ينبغي للمؤمن أن يحنث به حتّى لو لم يكن العمل به واجباً كما يظهر منها شدة عنايته تعالى بعباده المخلصين، حيث قبل منه ذلك رعاية لتحرّجه نفسياً من الحنث بالقسم.

« إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » ، ما أجمل هذا المديح والثناء، وما أجمل هذا الشكر من الله المنعم، وماذا يبتغي المؤمن جزاءً أفضل من هذا؟! فلو ابتلي الإنسان بأعظم بلاء في الدنيا، ثمّ تعقّبه مثل هذا الاطراء من الربّ الجليل، لكان كلّ ذلك البلاء حسناً جميلاً، ولانقلب كلّ تلك المصائب نعماً يعجز الإنسان عن الشكر عليها. وفي الروايات أنّه رأى من امرأته ما استوجب هذا الحلف، ثمّ تبيّن

له عدم استحقاقها ذلك.

والآية في مقام التعليل للحكم السابق، وهو قبوله تعالى للضرب بالضغث بدلاً من الضرب بالعدد المقسوم به. وقوله: « وَجَدْنَاهُ صَابِرًا » أي تبيّن بهذا الابتلاء أنّه صابر، والله تعالى لا يضيع أجر الصابرين. ومنه يعلم عظم مقام الصبر لديه تعالى.

والظاهر أنّ قوله تعالى « نِعْمَ الْعَبْدُ » من ضمن التعليل وهو أيضاً معلّل بالجملة التالية. ويمكن أن يكون ذلك إنشاء لمدحه. ومهما كان فقد علّل التمجيد بكونه أواباً، أي كثير الأوبة والرجوع إلى الله تعالى، وقد مر بعض الكلام فيه.

ص: 207

سورة الصّاد( 45 – 48)

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)

« وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ »، تذكر الآيات ستّة من أنبياء الله الكرام وتأمر بذكرهم تنبيهاً على الاقتداء بهم. والظاهر أنّ الآيات تصنفهم صنفين فثلاثة منهم نالوا في حياتهم مكانة اجتماعية مرموقة وبقي لهم بعد وفاتهم ذكر خالد وأتباع يفتخرون بهم، ويذكرونهم ويتّبعونهم، أو يدعون أنّهم اتباعهم، وثلاثة منهم لم يبلغوا هذه المنزلة في الدنيا، بل ربّما لم يكن لهم ذكر في المجامع والجوامع، ولكنّهم كلّهم من الأخيار، فيجب ذكرهم وذكر مآثرهم والاقتداء بهم، فالمقبولية لدى الناس وعدمها لا يؤثّران في مقام الأنبياء والرسل. وكذلك كلّ من نال منصباً إلهياً، كالأئمة المعصومين(علیهم السلام) .

كما أنّ من سبق ذكرهم هنا وهم داود وسليمان وأيوب (علیهم السلام) يجمعهم ما نالوه في هذه الحياة من ملك وجاه ومال والحاصل أنّ المذكورين من الأنبياء في هذه السورة ثلاثة أصناف، ذكر من كلّ صنف ثلاثة، تنبيهاً على عدم الفرق من جهة لزوم الاتباع بين من ملك وحكم، ومن كان وجيهاً في الدنيا، ومن لم يكن كذلك.

ونظيره ما ورد من الاختلاف في قوله تعالى بعد ذكر سيدنا إبراهيم (علیه السلام): «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى

ص: 208

الْعَالَمِينَ » (1).فإنّ الستة المذكورين أوّلاً ممّن ملكوا وحكموا، وأربعة بعدهم ممن اتبعهم الناس وأشادوا بذكرهم، وأربعة لم ينالوا ذلك أيضاً.

« أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ»، المراد على الظاهر أنّ لهم بصيرة في الأمور، وأنّهم أقوياء في ما يريدون، فيكون ذلك إشارة إلى قدرتهم الذاتية، أو إلى مكانتهم الاجتماعية التي جعلتهم كذلك، فإنّ الزعماء إنّما يقوون بأتباعهم، فالأتباع بمنزلة الأيدي والأبصار.

« إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ». المعروف بين المفسّرين أنّ المراد بقوله تعالى: « أَخْلَصْنَاهُمْ» جعلناهم خالصين، وأنّه إشارة إلى عصمتهم، والباء في « بِخَالِصَةٍ » للسببية، أي بسبب خصلة فيهم خالصة، وخلوصها إمّا بمعنى كونها خاصّة بهم، أو لكونها خالصة من الشوائب. وقوله: « ذِكْرَى الدَّارِ» بدل عن الخالصة، أي تلك الصفة الخالصة هي ذكرى الدار ، والمراد بها الدار الآخرة، وحاصل المعنى إنّا أخلصناهم وعصمناهم لخصلة خالصة فيهم، وهو أنّهم كانوا دائماً متذكرين للآخرة.

والتكلّف واضح في هذا التفسير وإن أصرّ عليه أكثر المفسّرين من جهة جعل الباء للسببية، مع أنّ الصفة أتي بها نكرة ولم تضف إليهم، وكان ينبغي أن يقال: إنّا أخلصناهم بصفة خالصة فيهم، ومع يستبعد اعتبار هذه الصفة سبباً لإخلاصهم خصوصاً إذا فسّرناه بالعصمة، ومن جهة أخرى يستبعد أيضاً اعتبار ذكرى الدار خاصّة بهم أو كونها خالصة من الشوائب، كما يستبعد أيضاً حمل الدار على الآخرة من دون قرينة. ولم يأت في القرآن بهذا المعنى مطلقاً، بل مضافاً إلى الآخرة.

ص: 209


1- الأنعام (6) :84 - 86 .

ويحتمل - كما قيل - أن يكون المراد به أنّ الله تعالى جعل لهم خاصّة هذا الذكر الجميل في الناس فالمراد ب-«الدار» دار الدنيا، والإخلاص بخالصة بمعنى أنّ هذا الشأن ممّا يخصهم من بين الأنبياء السابقين، فإنّ الإخلاص بمعنى الإصفاء، لأنّ الخلوص هو الصفاء فيفيد التخصيص، كما يفيده الإصفاء في قوله تعالى: «أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ » (1) ، و«الخالصة» بمعنى كونه خاصّاً بهم أيضاً، كما قال تعالى: « قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (2)، وقوله تعالى: «قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ » (3) ، فالتعبير ب-«الخالصة» يؤكّد الاختصاص بهم والمعنى أنّا خصّصناهم بأمر خاصّ بهم من دون سائر الأنبياء، وهو ذكرى الدار ، أي الذكر الجميل في الدنيا.

ونحن نجد اليوم أنّهم مكرمون لدى كافة أتباع الأديان السماوية من اليهود والنصارى والمسلمين، كما قال تعالى في شأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب (علیهم السلام) : « وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا » (4)، فإنّ الظاهر أنّ المراد ب- «لسان الصدق» هو الذكر الجميل الذي يختصّ به إبراهيم وإسحاق ويعقوب (علیهم السلام) ، وقد دعا به إبراهيم (علیه السلام) لنفسه حيث قال: «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» (5).

ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بذكرى الدار ذكرى دارهم، أي البيئة التي عاشوها والسنّة التي تركوها، وينطبق أيضاً على ما كني عنه بلسان الصدق

ص: 210


1- الإسراء (17): 40 .
2- الأعراف (7): 32 .
3- البقرة (2): 94 .
4- مريم (19): 50.
5- الشعراء (26): 84 .

واللسان العليّ من بقاء ذكرهم الخالد ومجدهم التليد.

والجملة بكاملها - كيفما فسّرت - تعليل لبعض ما سبق، فقيل: إنّه تعليل لقوله: « أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ» ، واختاره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) ، وذلك لأنّهم حيث تمعنوا في ذكرى الدار الآخرة أصبحوا أولي الأيدي والأبصار. وقيل: تعليل لقوله: « عِبَادَنَا.» وهو بعيد جدّاً.

والصحيح أنّه تعليل لقوله: « وَاذْكُرْ عِبَادَنَا »، أي اذكرهم لهذا السبب، وذلك لأنّه هو الموضوع الأساس، فينبغي أن يعلّل. والتعليل بناء عليه يعود إلى أنّ التذكير يجب أن يتركّز على هذه الجهة فکأنّه قال أذكر ما خصّصنا به عبادنا حيث أخلصناهم بخالصة. ويتّضح ذلك أكثر بملاحظة الجملة التالية: « وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ» ، إذ لا معنى لتعليل ما ذكر بها و إنّما يعلّل بها التذكير بالتقريب الذي ذكرناه أي واذكرهم فإنّهم من المصطفين الأخيار.

«وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ »، أي أنّهم مع كونهم ذوي ذكر رفيع وجميل في التأريخ، يعتبرون عندنا من المصطفين الأخيار، وأكّد على ذلك بحرف التأكيد «إنّ» وبلام القسم.

و«المصطفى »من اختاره الله تعالى من بين عباده للرسالة أو الإمامة. و«الأخيار» جمع خير، وفيه أربعة وجوه، ولا يمتنع جمعها في الإرادة من اللفظ:

1 - أن يكون بمعنى أفضل، كقوله تعالى: « فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى » (1)، فهؤلاء الرسل من الأفضلين.

2 - أن يكون بمعنى المختار، فيكون بنفس معنى المصطفين.

ص: 211


1- البقرة (2): 197 .

3- أن يكون صفة مشبهة مخفّفة عن خيّر - بالتشديد - أي من يصدر منه الخير، و«الخيّر» كلّ ما هو مطلوب ومرغوب لجميع العقلاء، فهذا توصيف لهم بملاحظة أعمالهم.

4 - أن يكون في مقابل الشرّ، ويكون إطلاقه على الإنسان من باب المبالغة، فحيث لا يصدر منهم إلّا الخير ، فکأنّهم هم الخير بنفسه. وهذا أقرب المعاني.

« وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ » ، تبيّن وجه إفرادهم بالذكر. وإسماعيل هو ابن إبراهيم (علیهما السلام)، والذبيح الذي مرّ ذكره والإشادة بمقامه في سورة الصافات، وهو جدّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجدّ كثير من العرب.

واليسع ورد اسمه في سورة الأنعام عند ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم وتقسيمهم إلى ثلاثة أقسام، كما ذكرناه آنفاً. قال تعالى: «وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ » (1)، ولا نعلم عنه شيئاً غير ذلك. واختلف في أنّه هل هو يوشع بن نون أو أنّه اليشع الوارد في «التوراة» أو غيرهما ممّا لا يؤثّر في الهدف القرآني.

وذو الكفل أيضاً ورد اسمه في موضع آخر قال تعالى: «وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ » (2) ، ومن الواضح أنّ هذا الاسم ليس هو الاسم العبري له، فهذا اسم عربي ولعلّه صفته أو كنيته.

و «الكفل » بمعنى النصيب والكفالة والضعف من الأجر أو الوزر وما يشابهها. واختلفوا أيضاً في تحديد هويته وتمسك كلّ بما لا دليل على حجيته، وهناك

ص: 212


1- الأنعام (6): 86 .
2- الأنبياء (21): 85 .

قرية باسمه في أواسط العراق بين الكوفة والحلّة، وفيه قبر قديم له منارة غريبة، ويقال: إنّه قبره (علیه السلام) وقد دخلت حرمه قبل حوالي أربعين سنة ولعلّه كان في سنة 1385 هجرية قمرية، ورأيت في زواياه كتباً قديمة بالعبرية، قيل لنا: إنّه-ا ممّا تركته اليهود بعد هجرتهم إلى فلسطين المغتصبة، ولا أدري لعلّها باقية حتّى الآن، وهذا یدلّ على أنّهم كانوا يعتقدون أنّ هذا القبر لأحد عظماء بني إسرائيل.

ومهما كان، فإنّ الله تعالى يمدح هذه المجموعة من الأنبياء أيضاً بأنّهم من الأخيار بأحد المعاني المذكورة أو كلّها، كما مرّت الإشارة إليه. والغرض كما أسلفنا التنبيه على أنّه لا يختلف الأنبياء في لزوم متابعتهم والإشادة بهم بين من وفّق لتأسيس حكومة نبوية كموسى وهارون (علیهما السلام)، أو ملكية كداود وسليمان (علیهما السلام)، أو ملك الأرض وكانت له سلطة وإن لم يكن ملكاً كيوسف وأيوب (علیهما السلام) ، أو لم يملك ولكن كان له صيت في المجتمع وذكر خالد وأتباع يشيدون به كإبراهيم وإسحاق ويعقوب (علیهم السلام)، أو كانوا خاملي الذكر، سواء من عرف ببعض مآثره كإسماعيل ويونس ولوط (علیهم السلام)، أو لم يعرف عنه شيء كإدريس واليسع وذا الكفل (علیهم السلام) .

هذا هو الذي توحيه إلينا الآيات المشار إليها في سورة الأنعام وهنا. والحمد لله رب العالمين.

ص: 213

سورة الصّاد ( 49 – 54)

هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)

« هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ » ، أي ما مرّ من الإشارة إلى سيرة الأنبياء ذكر للناس يذكرهم بلزوم متابعتهم والعمل بسنّتهم. ثمّ بيّن أنّ المتّقين - وهم الذين يتّبعون الأنبياء ويقتدون بهم - يرجعون إلى الله تعالى يوم القيامة رجوعاً حسناً لهم فيه كلّ الخير. و«المآب» المرجع، وهو مصدر. ويمكن أن يكون بمعنى المسكن. ويعبّر عن المسكن بالمآب، لأنّ الإنسان يرجع إليه أينما ذهب، ومثله المأوى

ويحتمل أن تكون الإشارة ب- «هذا » إلى القرآن الكريم، لا خصوص ما مرّ من الآيات، فتكون الجملة منفصلة عمّا سبق تماماً وإن ارتبطت به في المعنى والغرض.

وقيل: المراد أنّ ما مرّ من الكلام ذكر للأنبياء وإشادة بهم. واختاره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) . (1) وهو بعيد لعدم الفائدة في التنبيه عليه.

وقيل : إنّ جملة « هَذَا ذِكْرٌ » بمنزلة إعلام الانتهاء من موضوع والورود في موضوع آخر، كما هو ديدن المؤلّفين، فيقولون: هذا باب أو فصل وأمّا كذا... وهذا أبعد ما قيل.

« جَنَّاتِ عَدْنٍ » بدل عن حسن مآب أو عطف بيان فالمراد أنّ مرجعهم

ص: 214


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 17: 217 .

الحسن هو جنات عدن و«العدن» بمعنى الثبات والاستقرار، كما يقال معدن ذهب مثلاً، أي أنّه مستقرّ فيه وثابت لا كالموضع الذي يوضع فيه وينقل وكما يقال: إنّ فلاناً معدن العلم، أي أنّه ثابت فيه بالتعلّم والدراسة، وليس كمن يتلقّن أمراً عابراً. فالمراد أنّ هذه الجنّات مكان استقرار وثبات، وليست كجنات الدنيا يتنعّم الإنسان فيها أياماً، ثمّ ينتقل عنها إلى غيرها ثمّ إلى مثواه الأخير.

« مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ »، حال من الجنّات والالف واللام بدل عن الضمير، أي مفتحة لهم أبوابها ، و «الأبواب » نائب الفاعل مرفوع ب-«مفتحة». وهذا كناية عن الترحيب بهم ، ولا يقصد المعنى الحقيقي، إذ لا يمكن الدخول إلّا من أبواب مفتوحة، فلا حاجة إلى ذكره، فالمعنى: أنّ الدخول مع ترحيب وإكرام و یدلّ على ذلك إتيان الفعل من باب التفعيل الدالّ على التأكيد ولا وجه لتأكيد الفتح بالمعنى الحقيقي. وكذلك تخصيص الفتح بأنّه لهم، فليست الأبواب مفتوحة بالإطلاق و إنّما هي مفتّحة لهم خاصّة ممّا یدلّ على أنّه كناية عن أمر آخر وهو الترحيب بهم وإكرامهم.

« مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرَابٍ » ، بيان لحالهم هناك ورغد عيشهم، وأنّهم مخدومون، فهم لا يبذلون جهداً في الوصول إلى لذّاتهم، بل يصلون إليها وهم متّكتون على أرائكهم، ويدعون ما يشاؤون وليس ما يتناولونه من طعام لدفع الجوع، بل للتّفكّه والتلذّذ. ولعلّ قوله: « شَرَابٍ » إشارة إلى خمر الجنّة. وهم لا يشربون لرفع العطش، إذ لا عطش هناك ولا جوع و إنّما يشربون للتلذّذ.

ووصف الفاكهة بالكثرة والتنوّع وهو حال الأبرار. وأمّا المقرّبون فلهم فيها من كلّ فاكهة زوجان، كما في سورة الرحمن وغيرها. وهذا يؤيّد ما قلناه من أنّ

ص: 215

المراد بالمتّقين أتباع الأنبياء، ولا يناسب ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بهم الأنبياء (علیهم السلام) حيث سبق ذكرهم.

« وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ »، وصف لأزواجهم من الحور العين. وقد مرّ في سورة الصافّات أنّ «الطرف» هو الجفن، ويعبّر عن النظر بالطرف لأنّه يستوجب تحريك الجفون، فالمراد بقصر الطرف على الظاهر أنّهنّ لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ، فيقتصرن في النظر عليهم. وهذه صفة يحبّها الرجل في امرأته. ويمكن أن يكون المراد أنّهنّ لا ينظرن إلى أحد، وهذه أيضاً صفة ممدوحة في المرأة: إمّا باعتبار أنّ طبيعة المرأة تقتضي أن تكون مطلوبة لا طالبة أو باعتبار أنّ هذا أمر مطلوب لدى المجتمع العربي أو بحسب التقاليد الدينية بوجه عامّ، فهي تقتضي أن لا تنظر المرأة هنا وهناك بحثاً عن الرجل وهذه أيضاً صفة يستحبّه الرجال الغيارى من النساء.

و«الأتراب» جمع ترب بكسر التاء، وأصله بمعنى التساوي بين شيئين، كما في «معجم المقاييس» ، فالمراد أنّهن متساويات في السن وفي ما يبدو عليهنّ منه.

وقد اختلف كلام المفسّرين في تحديد الغرض من الإشارة إلى ذلك مع تكرر ذكره في الكتاب العزيز. والظاهر أنّه إشارة إلى عدم عروض التغيّر والشيبة عليهنّ، فإنّ ما يكدّر صفو العيش هنا حينما يلاحظ الرجل زوجته الشابّة الجميلة هو العلم بأنّه لا يستمرّ وأنّه ليس إلّا سنين حتّى تتغيّر، هذا إن لم يحدث حادث يعجل التغيّر. فالأتراب يشير إلى أنّ كلّ نساء الجنّة في سنّ واحد، فلا تغيّر هناك ولا تقادم في السنّ.

« هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ» ، إشارة إلى النعم المذكورة. والخطاب موجّه

ص: 216

إلى المتّقين، والمناسب للسياق أن يقال: هذا ما يوعدون. ولعلّ الوجه في مخاطبتهم مزيد العناية بهم وإكرامهم وتشريفهم بخطاب ربّهم. ولعلّ الغرض من هذه الآية التنبيه على تعيين موعد جزاء المتّقين لئلّا يتوهّم من الآيات السابقة أنّ حسن المآب لهم في هذه الدار الفانية.

« إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ » ، «النفاد»: الفناء. فهو وعد بالخلود والأبدية، وهو ما يتوق إليه الإنسان. وما من نعمة في هذه الدنيا إلّا وينغّص لذّتها العلم بزوالها بعد حين، ولا يعلم الإنسان ذلك الحين، فلعلّه قريب منه وهو غافل عنه، فكم من متنعّم في لذّاته باغته الموت؟! وكم من حفلات عرس تبدّلت إلى عزاء وهي في قمّة التنعّم واللذة؟! وأمّا النعيم هناك فلا ينغصّه شيء ولا يخاف المؤمن أن تنفد نعمه، فهي رزق الله الذي لا ينفد.

ويحتمل في الآية أن يكون عدم النفاد صفة لهذا الرزق الخاصّ، فالمعنى: أنّ هذا رزق لا ينفد وليس كرزق الدنيا. ويحتمل أن يكون المراد أنّ هذا هو رزق الله الواقعي، ولذلك فهو لا ينفد كما قال تعالى: «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ » (1)، ومعنى ذلك أنّ ما في هذه الدنيا لا يعتبر رزقاً بالقياس إلى ما هناك و إنّما هو متاع، كما لا يعتبر الحياة الدنيا حياة، قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ » (2)، بل هي لهو ولعب، كما قال تعالى: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ.» (3).

ص: 217


1- النحل (16) :96 .
2- الرعد (13): 26 .
3- العنكبوت (29): 64 .

سورة الصّاد(55 – 64)

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

« هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ »، «هذا» إشارة إلى ما للمتّقين من نعيم أي هذا كائن. ثمّ يتعرّض لما يقابله من حال الطاغين على الله تعالى والذين لم يتبعوا أنبياءه وأولياءه المعصومين ، فإنّهم لهم شرّ مآب ومرجع، أي شرّ دار ومنزل. وهذا الوصف أي الطغيان لا يختصّ بالكفّار، كما يظنّه المفسّرون، بل يشمل كلّ من طغى على ربّه وعصى أمره. وليس المراد كلّ عاص يتبع شهوته ونزوته، ثمّ يندم على ما صدر منه، بل الذي يرفض الانصياع لأوامر الله سبحانه ويلتمس لنفسه المعاذير. ولا يختصّ بأهل الملاهي والمنكرات، فربّما يكون من الذين يطلقون اللّحى ويقصرون الثياب ويتظاهرون بالزهد والتقوى وأيديهم ملطّخة بدماء الأزكياء، أو ألسنتهم وأقلامهم تحرّض على النصب والعداء لأولياء الله تعالى، لا لشيء إلّا لأنّهم اتّبعوا مذهباً يملي عليهم ذلك، فلا يعيرون اهتماماً لأوامر الله تعالى ونواهيه إذا لم يوافق أهواءهم وبدعهم وتزمّتهم وتعنّتهم.

وهكذا يتبيّن صحّة ما ورد في بعض الروايات من انطباق هذه الآيات على أعداء أهل البيت (علیهم السلام) وأعداء شيعتهم، كما يظهر الاختصاص بهم من قوله تعالى:

ص: 218

«وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ» على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومن الطريف أنّ المتّقين في المجموعة السابقة من الآيات أطلق على الذين يتّبعون الأنبياء من دون تفريق بين من أقاموا حكماً أو ملكاً أو لم يحالفهم الحظّ في الدنيا، وتبيّن بما قلنا أنّ الغرض تنبيه المؤمنين على أنّ متابعة من نصبه الله ولياًّ وإماماً لا تنحصر في من تمكّن من تأسيس دولة وتبعه الناس وبايعوه، بل يشمل من زجّ به في السجن أو أبعد عن المجتمع. وهذا هو شأن شيعة أهل البيت (علیهم السلام)، حيث لا يناط عندهم وجوب الطاعة بمن تولّى الأمر ولو بالسيف أو الحيلة، ولا أثر عندهم لبيعة الغوغاء خصوصاً إذا عارضت الولاية الإلهية، بل يتّبعون الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه ويعتبرون إطاعته هي الواجبة المفروضة من الله تعالى وإن زجّ به في السجن أو أبعد عن الناس أو غيّبه الله تعالى عن أنظارهم بسوء سلوكهم.

« جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ »، عطف بيان أو بدل لقوله: «لِشَّرِّ مَآبٍ» و «يَصْلَوْتها» أي تمسّهم نارها بل لهم منها مهاد وغواش فهي محيطة بهم. والتعبير ب-«المهاد» فيه استهزاء وتحقير، فإنّ المهاد موضع الاستراحة والرقاد، وجهنّم نار عظيمة التأجّج، فكيف يرتاحون ويرقدون عليها؟!

« هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ »، يقابل بذلك الفاكهة والشراب للمتّقين وفي إعراب الآية وجوه، لعلّ أحسنها أنّ الحميم و الغساق خبر هذا، وجملة: «فَلْيَذُوقُوهُ» معترضة. و«الحميم»: الماء شديد الحرارة، و«الغساق»، قيل: إنّه القيح الخارج من القروح ومثله غسلين. ويحتمل أن تكون هذه الألفاظ مصطلحاً خاصّاً بالقرآن للحكاية عن معان غير مأنوسة للبشر، ولذلك فلا يوجد في لغتهم

ص: 219

ما يحكي عنها فاخترع لها ألفاظ مناسبة كالزقّوم وغسلين وسجّين وغيرها.

« وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ »، من شكله أي من مثله. ومن زائدة، أي وعذاب آخر مثله. و«أزواج» صفة لآخر أو خبر لمبتدأ محذوف، أي وهو أزواج، أي أصناف، فلا تحديد في عذابه تعالى.

وقد مرّ مراراً أنّ ما ورد من بيان أنواع النعم وأنواع العذاب ليس إلّا تقريباً للذهن، وإلّا فما هناك يختلف عمّا هنا اختلافاً جوهرياً، فلا يمكننا معرفة ذلك النعيم والعذاب معرفة تامة، بل ولا ناقصة إلّا ما توحيه هذه الآيات من غاية التلذّذ بالنعيم وغاية التألّم من العذاب بحيث لا يتصوّر فوق ذلك تلذّذ أو تألّم. ومهما كان فالأزواج إشارة إلى أنّ العذاب هناك أصناف، كما أنّ النعيم أصناف.

« هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ »، تكرار اسم الإشارة في هذه الآيات والتركيز عليه يجعلنا أمام مشهد حيّ زاخر بالمشهودات التي يشار إليها. والفوج الجماعة. والاقتحام الورود من غير رويّة وتأمّل والظاهر أنّ المراد بقوله «معكم » أنّهم بعد الاقتحام والورود يبقون معهم وفي نفس الموضع وهذه الجملة في ما يبدو من مخاطبة بعض أهل النار لبعض آخر، ويتبيّن ممّا بعدها أنّ الفريقين من المتبوعين. ويحتمل أن يكون خطاباً من الخزنة، ولكنّ الأوّل أوفق بالسياق ویكون كلّ ما يدور هنا من تخاصم أهل النار.

والحاصل : أنّه بينما يكون أئمة الضلال مشغولين بأنفسهم وبما يقاسونه من العذاب، إذاً بفوج من الأتباع يدخلون عليهم، فيخاطب بعضهم بعضاً: «هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» أي جماعة يقتحمون مكانكم ويبقون معكم.

وهذا التعبير يحكي عن كيفية ورود أهل النار لها، فهم يدخلونها جماعات، ويدخلونها من غير رويّة وانتظام فيفاجؤون بما يرون هناك من العذاب ومن

ص: 220

الناس. وهنا يحكي مفاجأتهم برؤية أسيادهم في الدنيا وبما يقابلونهم من استنكارهم لهم، كما في الآية التالية.

«لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ »، هذا جواب الأسياد المستكبرين عن الخبر المعلن: «هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» ، فهم لا يرحبون بأتباعهم هناك وقد ساد الموقف تباغض وتناكر. و«الباء» بمعنى اللام أي لا مرحباً لهم. و «مرحب» مصدر من الرحب بمعنى السعة، ومرحباً بك أو لك يقال للزائر إكراماً له والأصل فيه التوسعة له في المكان احتراماً، ولكن يكنّى به عن الابتهاج والفرح بقدومه وإن لم يكن حاجة إلى توسعة المكان. وإذا أريد الشتم والتنديد بالزائر نفي ذلك، فيقال: لا مرحباً بك والجملة الثانية تعليل لعدم الترحيب بهم، أي إنّا لا نرحب بهم لأنّهم سيصلون النار مثلنا، فکأنّهم يريدون بذلك التبرّي منهم ، وأنّهم يستحقّون النار بأعمالهم لا بسببنا.

«قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ»، وهذا جواب تقتضيه طبيعة الحال. والمراد أنّكم أولى بعدم الترحيب وبالرفض والاستنكار منّا، لأنّكم أنتم قدّمتم لنا هذا العذاب حيث أضللتمونا عن صراط الحق، فحقّت علينا كلمة العذاب بسببكم. نعم هكذا يكون موقف الناس المغرر بهم تجاه أئمة الضلال الذين يزجّون بهم في طرق الغواية بشتّى سبلها. ثمّ يتحسّرون ويتأسّفون على ما نالهم من عذاب دائم بقولهم: « فَبِئْسَ الْقَرَارُ» أي أنّ ما قدمتموه لنا ليس عذاباً عابراً، بل هو أبدي مستقرّ ولا خلاص لنا منه.

« قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ » ، دعاء من الأتباع يوم لا ينفع الدعاء حيث طلبوا من ربّهم أن يزيد عذاب الأسياد ويجعله مضاعفاً، لأنّ عليهم

ص: 221

إثم إغواء الآخرين أيضاً، وهو طلب منطقي والله تعالى وعد بذلك حيث قال: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ» (1).

وهذا الدعاء منقول أيضاً في موضع آخر، قال تعالى: « كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ» (2) ، ولعلّ الوجه في قوله تعالى: « لِكُلٍ ضِعفٌ » أنّ الأسياد وإن استحقّوا الضعف بملاحظة إغوائهم لجمع كثير من الناس، إلّا أنّ الأتباع أيضاً يستحقّون الضعف ولا يختصّ عذابهم بما ارتكبوه من الجرائم وبكفرهم وعنادهم، بل عليهم إثم تقوية الظلمة والمستكبرين، فلولا متابعة الجنود والملأ من القوم، أي الأشراف لم يتمكّن الطغاة من رقاب الناس و من الطغيان على ربّهم.

« وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ » ، هذه الجملة تدلّ على أنّ هذه المجموعة من التابعين والمتبوعين كانوا في الدنيا يعتبرون المؤمنين أشراراً، وأنفسهم أخياراً، فهم ممّن يتظاهرون بالدين والإيمان، بل ربّما يعتبرون أنفسهم أقرب إلى الإيمان من غيرهم، بل يعتبرون الآخرين مشركين وكفّاراً، ويستحلّون بذلك دماءهم وليسوا من الكفار كما يتوهّم، وذلك لأنّهم يبدون تعجبّهم من أنّهم لا يجدون في النار أناساً كانوا يعدّونهم من الأشرار ممّا یدلّ على أنّهم كانوا يتوقّعون دخول المؤمنين النار، وليس هذا شأن الكفّار، إذ أنّهم ما كانوا يعتقدون بالقيامة نهائياً، فلا وجه لتعجّبهم يوم القيامة.

ص: 222


1- العنكبوت (29) :13 .
2- الأعراف (7) :38 .

ولذلك ورد في أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) تفسير هذه الآية بالشيعة. وقد ورد ذلك في عدّة روايات بعضها معتبرة سنداً نكتفي منها بحديث: ففي « الكافي» الشريف بسند معتبر عند الأصحاب، عن ميسر - والظاهر: أنّه ابن عبد العزيز وهو ثقة جليل وممّن وردت في مدحه الروايات - قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال: «كيف أصحابك؟» فقلت: جعلت فداك لنحن عندهم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا قال: وكان متّكئاً فاستوى جالساً، ثمّ قال: «كيف قلت؟ قلت: والله لنحن عندهم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا. فقال: «أما والله لا يدخل النار منكم اثنان لا والله ولا واحد، والله إنّكم الذين قال الله عزّ وجلّ: « وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ *أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ *إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ »، ثمّ قال:

«طلبوكم والله في النار فما وجدوا منكم أحداً». (1)

« أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ »، «السخري» مصدر من سخر منه، أي استهزأ به و« اتّخاذهم سخرياً » أي مورداً للاستهزاء والزيغ: الانحراف، والمشهور قراءة أتّخذناهم بهمزة الاستفهام، وقرئ بدونها، والمعنى علية أوضح حيث تكون الجملة وصفية كالجملة السابقة: «كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَار» وتكون ما بعدها عدلاً لقوله «مَا لَنَا لَا نَرَى» والمعنى أنّهم هل دخلوا الجنّة فلا نراهم مع أنّا كنّا نعدّهم من الأشرار ونسخر منهم أم أنّهم معنا ولكن لا نراهم، فقد زاغت عنهم الأبصار، أي انحرفت.

وأمّا على القراءة المشهورة، فالمعنى - والله العالم - أنّهم يستغربون لماذا لم

ص: 223


1- الروضة من الكافي: 78 .

يسمعوا كلامهم في الدنيا ولم يتأثّروا بهم وبما لديهم من الحقّ، هل ذلك من جهة أنّهم اتّخذوهم سخرياً واستهزؤوا بهم أم لأنّهم احتقروهم، فانحرفت عنهم أبصارهم، کأنّهم لم يكونوا بين أظهرهم.

والاستهزاء آفة اجتماعية يمنع من إبصار الحقّ وهي حربة أعداء الأنبياء (علیهم السلام) لمنع كلامهم من التأثير في قلوب العامّة وخصوصاً الشباب، وكذلك الاحتقار.

وهذا ما نجده من أعداء أهل البيت (علیهم السلام) وأنّهم طيلة التأريخ لا يعيّرون اهتماماً لوجود الشيعة ويحاولون تجاهلهم، بل نجد حتّى في مجال العلم والثقافة أنّ علماءهم لا يهتمّون بأقوال علماء الشيعة، لا في الفقه ولا في التفسير ولا في أصول العقائد، بل حتّى في العلوم العقلية والأدبية التي لا ترتبط بالمذهب، فيتجنبون الاستناد إلى تحقيقاتهم حتّى فيما لا يتعلق بالدين، وإذا اضطرّ أحدهم إلى نقل جملة من أحدهم، فإنّ الامتعاض والتحقير يبدوان على كلامه!

وقد وجدنا أنّ بعض المتثقّفين منهم يستغربون حيث زاروا إيران فرأوا أنّ مكتبات الشيعة في قم وغيرها مليئة بكتب السنّة حتّى ما يزخر منها بسب الشيعة والنيل منهم، ومن يلاحظ مكتبات من يدعون بأهل السنّة خاصّة وعامّة كتاباً للشيعة، إلّا إذا احتفظ به أحدهم في الخفاء بغية أن يجد فيه عشرة وزلّة فيتهجّم بسببه على كلّ علماء المذهب. وهذا أمر غريب جدّاً.

« إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّار» ، وقد تكرّر في القرآن الكريم نقل تخاصمهم واحتجاج المستكبرين منهم والمستضعفين. وهذه الآية تؤكّد على أنّ هذا الذي تكرّر نقله ليس تمثيلاً، بل هو نقل لأمر واقع سيحدث يوم القيامة قطعاً وجزماً. وقوله «تَخاصُمُ»، يمكن أن يكون خبراً لمحذوف، أي وهو تخاصم أهل النار ويمكن أن يكون بدلاً عن اسم الإشارة.

ص: 224

سورة الصّاد(65 – 66)

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)

« قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ » ، شروع في الفصل الأخير من السورة، وفيه تذكير بالتوحيد والرسالة، وذكر قصة الإنسانية الأولى، وسبب نزول الإنسان إلى هذا الكوكب وابتلائه وامتحانه، ويبدأ بإبلاغ الناس عن دور الرسول وأنّه ليس إلّا منذراً بالخطر المحدق بالإنسان وما سيواجهه من أخطار يصغر عندها كلّ ما يتصوّره ويحذره من أهوال الدنيا.

وهذه الجملة التي تحصر وظيفة الرسول في الإنذار - بناء على دلالة «إنّما» على الحصر - تستبطن تخلّيه عن كلّ مسؤولية تجاه تغافل المخاطبين عن إنذاره ورسالته، وهو بدوره يستبطن تهديداً بأنّ ما يخاف منه واقع لا محالة. ويتبيّن بذلك أن هذا التخلّي عن المسؤولية وقصر دور الرسول في الرسالة كناية عن هذا التهديد، وهو تعبير متعارف في مثل هذه الموارد، ومنها قول هود (علیه السلام): «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ»(1) فإنّ إبلاغه واضح و إنّما أراد بذلك تهديد القوم بما يستتبعه هذا الإبلاغ. وهكذا غيره ممّا تكرّر في القرآن الكريم، فلا ينافي ذلك وجود وظائف أخرى للرسول.

« وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» ، هذه الجملة تؤكّد على أنّ الألوهية واستحقاق العبادة خاصّ بالله تعالى و«الإله» هو المعبود. فذكر الأوصاف الشريفة كالاستدلال على انحصار الألوهية فيه

ص: 225


1- هود (11) :57 .

تعالى وعدم جواز عبادة غيره، وذلك بعد الاعتراف بوجوده وخالقيته وثبوت هذه الصفات له تعالى.

فهو أولاً واحد لا شبيه له ولا شريك في أيّ صفة من صفاته تعالى. والوحدة هنا ليست بمعنى الوحدة العددية، كما قال أمير المؤمنين ( علیه السلام) «واحد لا بعدد »! (1) وقال (علیه السلام): «الأحد بلا تأويل عدد» (2) وهو واضح، فإنّ الواحد بهذا المعنى يصدق على كلّ شيء لوحده ولا يختصّ به سبحانه، فالله تعالى واحد بمعنى أنّه بسيط ليس له جزء خارجي، لأنّ الكلّ يحتاج في تقوّمه إلى أجزائه، ولا يتركّب أيضاً من ماهية ووجود وما كان كذلك فليس له جنس ونوع، وليست هناك ماهية ذاتية تنطبق عليه وعلى غيره فلا يشابهه شيء ولا يشاركه.

وهذه الصفة تدلّ على أنّه ليس هناك شيء يشارك الله في صفة من صفاته وأنّ كلّ صفة مشتركة إنّما تطلق عليه وعلى غيره بلحاظ وحدة المفهوم من اللفظ، وليس بلحاظ وحدة الحقيقة في الواقع الخارجي، فالعالم مثلاً يطلق على الله وعلى الإنسان، ولكن بمعنى من يعلم شيئاً، وأمّا حقيقة العلم الإلهي لا تشابه ما في الإنسان ولا يمكن للإنسان درك تلك الحقيقة، فكيف بتوصيفها؟! ومن هذا الباب الصفات التي تقتضي الألوهية، أي استحقاق العبادة، فإنّها أيضاً مختصة به تعالى، فهو المدبّر للكون، ومنه كلّ خير وشرّ ونفع وضرر، فهو وحده الذي يخاف ويرجى والعبادة لا يستحقها إلّا من كان كذلك.

وثانياً هو القهّار لكلّ شيء، بمعنى أنّ كلّ شيء خاضع لإرادته، لأنّ الخلق

ص: 226


1- نهج البلاغة: 269 .
2- نفس المصدر : 212 .

والأمر بيده، وإليه يرجع الأمر كلّه، فلو كان هناك شيء يؤثّر في الكون مستقلاً غيره تعالى لم تصدّق قهاريته على الجميع. والألوهية لا تكون إلّا لمن يؤثّر في الكون مستقلاً ولا يؤثّر غيره إلّا بإذنه، فيعبد طلباً للخير ودفعاً للشرّ.

وثالثاً هو رب السماوات والأرض وما بينهما، و«الربّ» هو الذي يربّي ويدير ويدبّر. والسماوات والأرض وما بينهما عبارة عن كلّ الكون، فما من شيء إلّا وهو مربوب له تعالى، فلا يمكن أن يفرض شيء إلهاً ومعبوداً غيره، لأنّ كلّ ما يفرض إلهاً فهو محتاج إليه ومفتقر في تربيته ورشده وتكامله إلى تدبيره تعالى، فكيف يمكن أن يكون إلها؟! ثمّ إنّ وحدة النظام الكوني وانسجامه دليل واضح على وحدة الربّ والمدبّر.

ورابعاً هو العزيز الغفّار. واللام وضمير الفصل یدلّان على حصر الصفتين بكمالهما فيه تعالى، فلا عزيز غيره، ولا عزة إلّا به، و«العزّة» هي الصلابة وعدم التأثّر، فالله تعالى لا يؤثّر فيه شيء، بل هو المؤثّر في كلّ شيء. وما من أثر إلّا به وبإرادته، وكلّ شيء ذليل لديه، ولذلك فهو الذي يجب أن يحذر منه ويتقى ويعبد، ومن لاذ به وعبده حق العبودية، فلا يخاف شيئاً ولا يهاب أحداً ولا يحزنه شيء.

وهو تعالى في نفس الوقت غفّار للذنوب، أي يستر على عباده نواقصهم وأخطاءهم. و«الغفّار» صيغة المبالغة، ولعلّه باعتبار سعة غفرانه وشموله لكلّ أحد ولكلّ ذنب إلّا ما استثني. ولولا غفاريته لم يبق أحداً ولم ينج من عذابه أحد، فالكلّ مقصرون في أداء حقه كما هو.

ثمّ إنّ الوصفين معاً بمنزلة دليل واحد على ألوهيته تعالى، لأنّه بعزّته يهاب ويتّقى، وبغفّاريته يرجى ثوابه، والعبادة تتّبع الأمرين.

ص: 227

سورة الصّاد (67 – 74)

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)

« قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ *أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ » ،اختلف المفسرون في مرجع الضمير «هو» وأنّه هل هو الأمر السابق، أي التوحيد أم القرآن أم القيامة أم الرسالة؟ والظاهر أنّه هو القرآن ويشهد عليه قوله تعالى في آخر السورة: « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » (1) . فالقرآن هو النبأ العظيم الذي أعرض عنه قريش وعرب الجزيرة، وليعلمنّ نبأه بعد حين. وهذه الآيات تؤكد على أنّه حق وأنّه يحمل في طياته أنباءً عظيمة. وينبّه هنا على أحدها وهو نبأ تكوّن البشر الأوّل وكيفية نزوله على هذا الكوكب.

« مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ» ، أي لولا الوحي لم أكن أعلم بما جرى في العالم العلوي، وقبل نزول البشر إلى الأرض، بل قبل تكوّنه، و إنّما أخبرت به عن طريق الوحي، وهذا الإخبار ليس إلّا للإنذار وليس مجرّد سرد للحوادث، فالقرآن ليس كتاب تأريخ أو قصص.

والمراد ب-«الملا الأعلى» عالم الملائكة. ونحن لا نعلم عنه شيئاً إلّا ما أخبرنا به القرآن الكريم. و«العلوّ» هنا ليس العلوّ الحسّي، بل المراد تنزّهه وترفّعه عن

ص: 228


1- ص :(38): 88-87 .

الطبيعة وخصائصها. و«الملأ» كلّ تجمّع يملأ العين عظمة وإجلالاً، فالتعبير عن الملائكة بذلك إمّا لكثرتهم أو لعظمة مكانهم وقربهم لدى الله سبحانه والمراد ب«الاختصام» التقاول ومبادلة الحديث حيث يحصل ذلك عند المخاصمة، فعبّر عنه بالاختصام.

وربّما يقال: إنّ التقاول لم يكن إلّا بين الله تعالى والملائكة، وبينه تعالى وإبليس لعنه الله، ولا يمكن أن يعتبر الباري سبحانه من الملأ.

والجواب: أنّ هذا إنّما يتمّ على تقدير أنّ الاختصام هو ما ورد ذكره في هذه الآيات ونحوها، ولكن يمكن أن يكون المراد الإشارة إلى ما وقع بين الملائكة، أو بينهم وبين إبليس من التقاول، وكذلك بينهم وبين آدم (علیه السلام)، وقد ورد ذكر بعضها في الروايات، بل ورد ذكر بعضها في القرآن حيث قال تعالى: « فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ »(1).

« إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ » ،يمكن أن يكون «أن» في قوله: «أنّما» في محل الرفع على أنّه نائب الفاعل، وليس المراد ظاهره من قصر الوحي في ذلك كما هو واضح، بل المراد قصر دور الرسول على الإنذار، وهذا أيضاً من باب المبالغة، إذ لا شك أنّ دوره حتّى في مقام التعليم أكبر من ذلك، إلّا أنّ خطورة ما ينذر به وهو المستقبل المظلم للبشرية تصحّح هذه المبالغة، فكأنّ دوره مقتصر على الإنذار بما يحيط بالإنسان من الخطر، فالغرض تعظيم هذا الدور وإكباره.

ويمكن أن تكون (أن) في محلّ الجرّ باللام المقدّرة، بمعنى أنّ هذا الأمر - أي نبأ يوم القيامة - إنّما أوحى إليه(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأنّه نذير مبين، فيكون المراد : أنّ

ص: 229


1- البقرة (2): 33 .

الغرض من ذكر هذا الأمر والتنبيه عليه ليس سرداً لحادث وبياناً لتأريخ، بل هو إنذار للبشر ليعلم ما يطلب منه، ويتنبه لموقعه من الكون، و إنّما أوحي به إلى الرسول لكي ينذر به.

« إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ »، هذه الآيات ونظائرها ممّا ورد في مبدأ خلق الإنسان تردّ على فرضية النشوء والتطوّر التي يتبنّاها بعض من يسمّون علماء العصر، ويتباهون بها، ويحاولون إثباتها. ولا وجه لمحاولة بعض كتاب العصر من المسلمين تطبيق الآيات على هذه الفرضية، فإنّها محاولة فاشلة والآيات صريحة في أنّ الإنسان خلق من طين، وأنّه أصل برأسه وأنّه يختلف عن سائر الموجودات الحيّة اختلافاً جوهرياً بالروح الإنسانية أو بالأحرى الروح الإلهية التي نفخها فيه ربّه تكريماً وتشريفاً.

ولا يغرنّك التعبير عنها بالنظرية العلمية، أو ما تسمعه من أنّ العلم يدعم هذه الفرضية، وأنّه لا سبيل لإنكارها، فإنّها لا تتعدّى فرضية واحتمالاً في تفسير الكائنات الحيّة واختلاف أنواعها، إلّا أنّه احتمال تدعمه الملاحظات العلمية في كثير من الموارد. وهذا لا يبرّر التعبير عنها بالنظرية، وذلك لأنّها لا تتعدّى حدساً وتخميناً، بل هو تخرص على الغيب، وأمّا بالنسبة لخلق الإنسان لا يصحّ تبنّي هذه الفرضيّة قطعاً.

وقوله تعالى: « إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ» ظرف متعلق ب- «أذكر » أو بدل عن قوله: « إِذْ يَخْتَصِمُونَ »، فهو يبين ما وقع في ظرف الاختصام ومهما كان فقد ورد ذكر هذه القضية في موارد عديدة من القرآن الكريم، ولعلّ التعبير ب- «رَبِّكَ» إشارة إلى ما لهذه القصة من الدور في تربية الإنسان لأنّها تحكي عن مرحلة من مراحل

ص: 230

نشوئه وتطوّره، بل تحكي عن عالم آخر كان الإنسان موجوداً فيه، وكان حسب ما ورد في سورة طه منعماً بعيداً عن المضايقات الحاصلة على ظهر هذا الكوكب، قال تعالى: «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى *وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى » (1).

ويظهر من قوله تعالى: « فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا» (2) أنّ البشر قبل هبوطه إلى الأرض لم يكن يشعر بالحاجة الجنسية أيضاً، فالبشر في ذلك العالم كان مغايراً في صفاته للبشر بعد الهبوط، ومع ذلك كان مخلوقاً من مادة أرضية من الطين؛ من صلصال من حمأ مسنون.

والبشر - بفتحتين - مأخوذ من البشر - بكسر الباء - وهو على ما في «معجم مقاييس اللغة»: ظهور الشيء في حسن وجمال ومنه البشارة والاستبشار، ولعلّ تسمية هذا الموجود به ممّا یدلّ على كونه ظاهراً، في مقابل الجنّ المتستر، وفي مقابل سائر أنواع الحيوان حيث إنّه أحسنها وأجملها، قال تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(3).

و«الطين »هو التراب الممتزج بالماء في إشارة إلى مبدأ تكوّن الإنسان في الطبيعة، حيث كان الخطاب للملائكة والجنّ ، فأراد الله تعالى أن يبيّن لهم وجه اختلافه معهم في تكوّنه. وهذه الآيات تشير إلى أنّ الإنسان ذو جانبين، جانب أرضي يشار إليه بخلقه من الطين، وجانب علوي يشار إليه بنفخ الروح، وهو بذلك يواجه الملائكة ويسابقهم.

ص: 231


1- طه (20): 118 - 119 .
2- طه (20): 121 .
3- التين (95): 4 .

« فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ » ،أخبر الله سبحانه ملائكته أنّه سيخلق بشراً من طين، وأمرهم أن يسجدوا له بعد تسوية خلقه ونفخ الروح فيه. والمراد ب-«التسوية» على ما يبدو إكمال خلقه وصنع جميع أعضائه، ولعلّها لا تتمّ إلّا بالحياة، فهي تغاير نفخ الروح والظاهر أنّ المراد بنفخ الروح خلق النفس البشرية التي تميّزت من بين الخلائق بالإرادة والاختيار، وهو خلق آخر للإنسان وتطوّر له، كما قال تعالى: «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (1) . ولذلك أضاف الروح إلى نفسه تشريفاً، وأمّا الروح بمعنى ما به الحياة، فليس لها كرامة خاصّة ولا تختص بالإنسان.

ويظهر من التعبير بالوقوع للسجدة لزوم فوريّته. ولعلّه إشارة إلى عدم انتظار أمر آخر من بروز صفة خاصّة كالعلم والتقوى، فيستفاد منه أنّ السجود لنفس صفة البشرية ونفخ الروح لا لأمر آخر. ولا شك أنّ المراد ليس هو السجود بالمعنى الذي نعرفه، بل هو مطلق التذلّل والخضوع، فهو نظير قوله تعالى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ» (2) ، وقوله تعالى: « وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا» (3) إذ لا يمكن الدخول في حال السجدة؟! فلا بدّ من حمله على مطلق التذلّل والخضوع. وربّما يستغرب الأمر بالسجود لغير الله تعالى، خصوصاً إذا كان ذلك من

ص: 232


1- المؤمنون (23): 14.
2- النحل (16): 49 .
3- البقرة (2): 58 .

الملائكة وهم أشرف الخلق كما يقال، فهل كان هذا السجود من جهة أنّ آدم (علیه السلام) نبيّ وأراد الله تعالى بذلك إعلاء شأن الأنبياء من البشر؟

أم كان رمزاً لخضوع الملائكة أمام الجنس البشري لا خصوص آدم (علیه السلام) وذلك لأنّ من ذرّيّته من هو أشرف الخلق وهم محمد وأهل بيته الطاهرون - سلام الله عليهم أجمعين - كما ورد في بعض الأحاديث؟

أم كان رمزاً لما أراده الله تعالى من إعطاء القدرة والاختيار للإنسان، فلا بدّ من أن تطاوعه القوى الحاكمة في الوجود، كما لا بدّ من مطاوعة القوى الطبيعية له، والملائكة هي القوى الحاكمة في الكون والمدبّرة لأموره بأمر الله تعالى، كما قال سبحانه: « «فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا» (1) بل يحتمل أن يكون الأمر بالسجود كناية عن الأمر بهذه المطاوعة؟

أم إنّ له سراً آخر لا تبلغه أفهامنا؟

لا نتعدّى سرد الاحتمالات في مثل هذه الأمور الغيبية وإن كان يقوى في النفس أن يكون الأمر هنا كناية عن الأمر بالمطاوعة وأن المسجود له جنس الإنسان، ويشهد له إطلاق الأمر بالسجود لمجرّد تكوّنه بشراً سوياً ونفخ الروح الإلهية فيه، فلا يتوقّف السجود على كونه نبيّاً أو غير ذلك.

ويشهد لكون المسجود هو جنس الإنسان قوله تعالى: « «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» (2) وذلك لأنّ المفروض في هذه الآية أنّ الأمر بالسجود صدر بعد خلق البشر كلّهم وتصويرهم فتدلّ الآية على تقدّم خلق جمعي للإنسان، ثمّ تصوير لهم بكيفية مجهولة لنا في آدم (علیه السلام) ويمكن أن يكون

ص: 233


1- النازعات (79): 5 .
2- الأعراف (7): 11 .

المراد أنّه كان يمثّل البشرية، وهذا يفسّر أو يقرّب لنا قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا.» (1).

« فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ » ، لعلّ المراد بالتأكيد الأول: «كُلُّهُمْ» أنّه لم يشذّ منهم أحد، كما هو مقتضى عصمتهم، وبالثاني: «أَجْمَعُونَ» أنّهم سجدوا مجتمعين، فلعلّ فيه إشارة إلى أنّ انقياد القوى الحاكمة التي تدبّر الكون للإنسان انقياد متناسق، فالكلّ يعمل باختياره بمنزلة أداة واحدة وجهاز واحد بأمر الخالق القهّار جلّ وعلا.

ويحتمل أن يكون المراد التأكيد على عدم استثناء أحد منهم، والسبب في ذلك أنّ استثناء إبليس ربّما يوهم احتمال وجود استثناء آخر، فأراد بالتأكيد بيان أنّه لم يشذّ منهم أحد نهائياً.

« إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ » ، شذّ من المخاطبين بالحكم إبليس لعنه الله، وكان في مجموعة الملائكة ومأموراً بأمرهم وإن لم يكن منهم، بل كان من الجن، قال تعالى: « فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » (2). وحيث إنّه لم يعتصم بعصمة الله سبحانه واعتمد على نفسه وما يوحيه إليه اجتهاده حتّى في مواجهة الأوامر الإلهية، ولم يدرك بالمحاسبة والقياس وجه الحكمة في هذا السجود، فاستكبر وأبى أن يطيع ربّه ويتعبّد بأمره، وأعلن العصيان وكفر بذلك، وخرج عن ربقة الإيمان، كما نجده في كثير من البشر حتّى بعض المؤمنين، فإنّهم إذا لم يجدوا في حكم من أحكام الله تعالى حكمة تقنعهم لا يخضعون له ولا

ص: 234


1- الأعراف (7): 172 .
2- الكهف (18): 50 .

يعملون به. وهذا هو الاستكبار، وأصله طلب الكبر ، وهو كناية عن الإعجاب بالنفس والترفّع على الآخرين، وأقبحه الترفّع على الله تعالى ورفض الانصياع لأوامره.

ويلاحظ هنا أنّ الكفر ليس مساوقاً لإنكار الربوبية كما يتوهّم، فإنّ إبليس كان يعترف بالربّ، بل يعبده ويطيعه، ولكنّه في هذا المقام استكبر وطغى وعصى أمر ربّه نتيجة مقارنته بين ما يمتاز به من معدن الخليقة ومعدن الإنسان، حيث وجد نفسه أشرف منه، لأنّه مخلوق من النار وهي في رأيه أشرف من الطين، خصوصاً إذا كان منبته « مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» (1) و«الصلصال» قيل: إنّه طين منتن، وقيل: إنّه يابس له صوت و« الحمأ »«الطين المنتن» و«المسنون» المتغيّر كقوله تعالى: « فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ » (2).

وهكذا أصبح إبليس يقود العصاة المستكبرين في الكون، وأصبح مثلاً للاستكبار والطغيان بوجه الحقّ. ومن هنا يتبيّن أنّ البشر الذي يقيس أحكام الله تعالى بعقله، وإذا لم يجد فيها الحكمة المنشودة رفض الانصياع أمامها يتبع إبليس بتمام معنى الكلمة.

و«إبليس» مأخوذ من الإبلاس وهو اليأس على ما قالوا، وفيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى. وورد في الحديث: «أن يأس إبليس من رحمة الله أعظم من عصيانه واستكباره » (3)، والسرّ واضح لأنّ يأسه هو السبب في استمراره على الطغيان واقتياده أكبر عدد ممكن من الخلق نحو معصية الباري جلّ وعلا. وهذا منبّه آخر للإنسان أن لا ييأس من رحمة الله إذا عصى وطغى.

ص: 235


1- الحجر :(15): 33 .
2- البقرة (2): 259 .
3- راجع: أوصاف الأشراف: 56.

سورة الصّاد( 75- 85)

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

« قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »، مخاطبة واستجواب بين الربّ الجليل والمخلوق العاصي الحقير. ولا نعلم كيف تمّت هذه المحادثات؟

هل أسمع الله تعالى إبليس كلاماً كما كلّم موسى (علیه السلام)، أم أرسل إليه ملكاً يبادله الحديث، أم أوحى إليه كما أوحى إلى أم موسى (علیهما السلام) ، أم أنّ هذا مجرّد تجسيد وعرض الحقيقة كونيّة يمثلها هذا التخاطب؟ وربّما يرجّح ذلك الاختلاف الجوهري في العرض حسب الموارد المختلفة في الكتاب العزيز أم له وجه آخر لا نفهمه؟

ومهما كان فالخطاب الوارد في بدو الاستجواب « يا إبليس » ولو صحّ ما قالوه من أنّه من الإبلاس بمعنى اليأس، فكيف خوطب به وهو بعد لم ييأس، إذ لم يؤمر بالخروج ؟!

وهذا يرجّح احتمال أن يكون بمعنى آخر، فقد قيل: إنّ الإبلاس بمعنى السكوت والوجوم والتحيّر والانكسار. وكلّ هذا ينطبق عليه بعد ما تجرأ وخالف الأمر الإلهي.

ص: 236

ثمّ، إنّ الخطاب هنا يتضمّن الاعتراض على عدم سجود إبليس مع أنّ آدم خلقه الله تعالى بيديه فهو خلق عظيم يستدعي أن يسجد له ولكنّ الخطاب في سورة الأعراف، لا يتضمّن ذلك، بل يتضمّن الاعتراض على عدم الإطاعة حيث قال تعالى: « «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»(1) ، ولعلّ الخطاب في الأصل كان شاملاً للأمرين، فاختير في كلّ مورد من النقل والحكاية بعضه حسب ما يناسب المقام.

والظاهر أنّ المراد بقوله تعالى: « لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ »الإشارة إلى عظمة خلقة الإنسان وشرافته. ولعلّه عبّر عنه آدم (علیه السلام) ب- «ما خلقت» للإشارة إلى أنّه إنّما يستحقّ السجود لأنّ الله تعالى خلقه بيديه وهذا كناية عن مزيد الاهتمام والعناية به، كما في قوله تعالى خطاباً لموسى (علیه السلام) «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي » (2)، مع أنّ كلّ مخلوق يصنع على عينه وبأمره وإرادته تعالى إلّا أنّ هذا الخطاب یدلّ على مزيد العناية به.

والكناية هنا بلحاظ أنّ الإنسان إذا اهتمّ بشأن ما يصنعه أو يصلحه استعمل يديه معاً، فأصبح التعبير باستعمال اليدين كناية عن مزيد الاهتمام بالشيء.

ويمكن أن يكون كناية عن تركب خلقه من إنشاءين، كما قال تعالى: « ُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ» (3) ، وهو إشارة - على ما يبدو - إلى نفخ الروح المضافة إلى الله تعالى تشريفاً وتكريماً ممّا یدلّ على أنّه خلق في مرحلتين: مرحلة التكوّن الطبيعي وهو الخلق من الطين، ومرحلة نفخ الروح الكريمة المتعالية، وهو في

ص: 237


1- الأعراف (7): 12 .
2- طه (20): 39 .
3- المؤمنون (23): 14.

هذه المرحلة أشرف من حيث الخلق والذات من غيره، كما قال تعالى: « «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(1).

فيكون هذا البيان في الاستجواب ردّاً على ما سيجيب به إبليس قبل أن يجيب باعتبار أنّ نفخ الروح الإلهية هو الذي استوجب كونه أشرف من غيره وإن كان خلقه من طين، فلا وجه لمقايسة الطين بالنار.

ثمّ إنّ التعبير بضمير المتكلّم المفرد يتضمّن الإشارة إلى عناية أخرى، فکأنّه تعالى بنفسه باشر الخلقة في هذا المخلوق من دون واسطة، وأكّد ذلك بإضافة اليدين أيضاً إليه سبحانه، بخلاف قوله تعالى:«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا » (2)، فإنّ ضمير الجمع ربّما يحكي عن أنّ الخلق تمّ في إطار العوامل الطبيعية، وأمّا خلق روح الإنسان فكان من الله تعالى مباشرة.

هذا، وقد ذهب السلفية إلى أنّ اليدين بمعناه المتعارف، وأن الله له يد ورجل وسمع وبصر، ولكنّها تختلف عن ما في الخلق! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

« أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ» السؤال والترديد في هذه الجملة للكشف عن الدافع لترك السجود، وأنّه هل هو الاستكبار أو كونه من العالين. ولا شك أنّ المراد ليس كونه عالياً في الواقع بل المراد الترفّع وادّعاء العلوّ، وهو عبارة أخرى عن الاستعلاء، كما قال تعالى: « مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ» (3) وقال: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ» (4). ، ويبدو من أوّل ملاحظة أنّ الاستكبار والاستعلاء أمر

ص: 238


1- التين (95): 4 .
2- يس (36): 71 .
3- الدخان (44): 31 .
4- القصص (28): 4.

واحد. وهناك محاولات في التفاسير لإبداء الفرق بينهما.

والصحيح أنّ استكباره أمر مفروغ عنه وقد صرّح به في الآية السابقة، حيث قال تعالى: «إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ» والظاهر أنّ المراد به هو الترفع عن إطاعة الله تعالى، فإنّ الواجب على العبد أن يطيع ربّه من دون تريث، ومن دون بحث عن حكمة الأمر أو النهي، فإذا عصى العبد بداع من الشهوة أو الغضب أو الطمع أو الحاجة أو نحو ذلك فلا يعدّ استكباراً أمّا إذا عصى ترفّعاً من الإطاعة مع عدم معرفة الحكمة في الأمر فهو الاستكبار.

وعليه فالترديد بينه وبين ادعاء العلوّ في هذه الجملة لأخذ الاعتراف منه أنّ هناك أمراً آخر وراء الاستكبار وهو أخطر منه وأقبح وهو ادعاء أنّ هذا الأمر فاقد للحكمة، وأنّ الحكمة تقتضي خلاف ذلك لأنّه من العالين أي أعلى وأرفع مقاماً من آدم (علیه السلام) فلا ينبغي أن يسجد له، فهو مضافاً إلى ترفّعه من الإطاعة ينسب الحكم الإلهي إلى عدم موافقته للحكمة، وهذا هو الذي اعترف به اللعين في الآية التالية بكلّ وقاحة.

« قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ومعنى ذلك أنّ الحكمة تقتضي أن لا تأمرني بالسجود، فأنا خير منه ذاتاً، والنتيجة أنّه لم يكتف بالعصيان والطغيان، بل ادّعى أنّه أعلم من الله تعالى بوجه الحكمة.

وهذه السخافة والحمق وإن لم يصرّح بها البشر العصاة إلّا أنّ كثيراً منهم يدعونه في قرارة أنفسهم وإلّا فما هو السبب في استنكارهم للأحكام الثابتة في الشرع، والمصرّح بها في الكتاب العزيز، واستنكافهم من تطبيقها لولا أنّهم يدعون في قرارة أنفسهم أنّها لا توافق الحكمة، وأن الله تعالى لم يحكم على

ص: 239

أساس الحكمة والعلم، وأنّهم أعلم بوجه الحكمة منه تعالى؟!

ثمّ إنّ خلق الشيطان من النار ورد في عدّة مواضع من القرآن الكريم ولكن كيفية خلقه منها مجهولة لنا، وكذلك خلق آدم من طين ومن صلصال من حمأ مسنون.

« قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ» وهكذا صدر الخطاب العلوي. ولعلّه خطاب تكويني حسم مصير الاستكبار ومزاعم العلم والدهاء إلى أبد الآبدين.

و«الفاء» في قوله: «فَاخْرُج» یدلّ على أنّ هذا الحكم مترتّب على ما أبداه ابليس من الاستكبار والطغيان، وادعاء كونه أعلم بوجه الحكمة من ربّه، ممّا یدلّ على أنّ الإخراج مترتّب على هذا الأمر كعقوبة حتمية وأثر طبيعي، ولا يختصّ بإبليس .

واختلفوا في مرجع الضمير في قوله: «منها » هل هو رحمة الله تعالى أم الجنّة أم السماء أم غيرها؟

والظاهر : أنّ المراد هو السماء، أي العالم العلوي، لقوله تعالى: «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ » (1)، فإنّها تدلّ على أنّ سبب الإخراج أنّه لا يمكنه أن يتكبّر في السماء، فلا يصحّ عود الضمير إلى الرحمة، وأمّا الجنّة فلم يسبق القول بأنّ إبليس دخلها، مضافاً إلى أنّ التعبير بالهبوط يناسب هذا الاحتمال دون غيره.

و«الرجيم» بمعنى المرجوم بالحجارة، كناية عن الطرد والإخراج بصغار وذلّة. « وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ» ، «اللعنة» هي الإبعاد والطرد. ويبدو من بعض

ص: 240


1- الأعراف (7): 13 .

كتب اللغة أنّها خاصّة بالطرد من الله أو من رحمته تعالى. وعليه فإذا أسند إلى غيره فهو دعاء بالإبعاد.

ويبقى السؤال عن وجه التحديد إلى يوم الدين، مع أنّ اللعن لا ينتهي بذلك. والجواب: أنّ المراد استمرار اللعن إلى يوم الدين وفيه أيضاً. ويوم الدين لا أمد له فالنتيجة أنّ عليه اللعنة الأبدية.

« قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »، لجأ اللعين إلى الاسترحام والاستعطاف بقوله: (رَبِّ) بعد أن طغى على ربّه واستكبر، وذلك لأنّه ينظر إلى هذا الأمر وهو الإمهال من زاوية هدفه وغايته، وهو إشباع غريزته من الحقد والحسد الدفين على بني آدم فحيث كان هذا الأمر يخصّه بزعمه تشبّث بالاسترحام وطلب من الله سبحانه أن يمهله إلى يوم القيامة، ليخدع بني آدم ويغرّهم ويوردهم موارد الهلكة، كما هلك هو بسببهم .

ولكنّ الواقع أنّ الله تعالى أراد ذلك تكويناً، ولذلك أمره بقوله عز من قائل: «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ » (1)، فالشيطان جزء من نظام الخليقة ولابدّ منه في السير التكاملي للإنسان، ولولا الدعوة إلى الشرّ لم يكن في اختيار طريق الخير فضل لأحد، ولولا الإغراء والإغواء لم يتحقّق الامتحان والابتلاء الذي هو الهدف الأسمى لنزول الإنسان على الأرض، بل هو الهدف من خلقه، فإن الله تعالى خاطب الملائكة بقوله: « إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(2) ، ولكنّه بعد خلقه وإسجاد الملائكة

ص: 241


1- الإسراء (17): 64 .
2- البقرة (2): 30 .

له أسكنه جنّته ونهاه عن الشجرة، وسلّط عليه الشيطان مع تحذيره منه، فكانت النتيجة أنّ الإنسان نزل إلى الأرض بسوء اختياره.

وهذا من عجيب حكمة الله تعالى في خلقه، فإنّه برحمته الواسعة لا يريد بأحد هبوطاً ونزولاً عن مقامه إلّا بسوء اختياره، وينطبق ذلك أيضاً على لعن إبليس وطرده، ثمّ إبقائه لنشر الطغيان والعصيان ليتعاظم جزاء معصيته وطغيانه واستكباره الذي هو أوّل طغيان على الله سبحانه، وهو مصدر كلّ طغيان وعصيان، وليكون هذا التعاظم أيضاً نتيجة عمله وسوء اختياره، فتركه يطلب الأنظار والإمهال لتتحقّق أمنيته التي تهوي به في الهاوية، وينال جزاءه المناسب لعظم ذنبه وطغيانه وليجرّ معه كلّ من يستحقّ الهاوية بسوء عمله، واختياره متابعة الشيطان على إطاعة الرحمن.

« قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ *إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ »، تكرّرت هذه الآيات في سورة الحجر أيضاً. ويبدو من تغيير عبارة الجواب عمّا طلبه أنّه لم يمهل إلى يوم الدين الذي هو يوم الجزاء، فهل المراد من الوقت المعلوم يوم النفخة الأولى، حيث قال فيه تعالى: « فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ » (1)، أو بينه وبين النفخة الثانية التي قال فيها سبحانه: « ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ » (2)؟

ورد هذا الاحتمال في بعض روايات السنّة والشيعة. ولا يبعد ذلك.

« قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ »، أقسم اللعين بعزة الباري جلّ وعلا تأكيداً على تعزّزه وتعصّبه وتصلّبه، فالقسم لابد أن يناسب المقسم به، فعلى الإنسان أن ينتبه

ص: 242


1- الزمر (39): 68 .
2- الزمر (39): 68 .

في

أن الشيطان لا يألو جهداً في إغوائه وجرّه إلى النار ، فقد أقسم بعزة ربّه أمام ربّه فی ذلك العهد السحيق. وأكّد الجملة بنون التأكيد، وبقوله: أجمعين. وقد وهبه الله تعالى قوة على ذلك، وأمره بأن يجرّ جيشه الجرّار على كلّ من يتبعه « وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ» (1) وهو يعمل عمله دون أن يشعر به الإنسان: «إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ »(2).

« إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » استثنى اللعين من كلّ العباد من يختصّ بالله تعالى، فأضافهم إلى الله ووصفهم بالمخلصين - بفتح اللام -، أي الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه وعصمهم من الشيطان، وهم المعصومون من الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام).

وقد مرّ في تفسير سورة الصافات أنّ المخلصين - بفتح اللام - غير المخلصين - بالكسر - فالأوّل خاصّ بمن أخلصهم الله تعالى إلّا أنّه كما يمكن اختصاص هذا العنوان بالمعصومين، يمكن تعميمه للمؤمنين باعتبار أنّ الله تعالى أخلص قلوبهم للإيمان وأبعدهم عن الشرك، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالعنوان في هذه الآية خصوص المعصومين (علیهم السلام) ، لاختصاصهم بالعصمة عن إغواء الشيطان.

« قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ *لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ »، «الفاء» في أوّل الجملة للسببية والتفريع، فإنّ إبليس تعزّز أمام ربّه وهدّد بأنّه سيغوي بني آدم . وهذا الجواب بمعنى أنّ ذلك لا يهمّني ولا يضرّ نظام الخلق، فإنّ المصير المعدّ لك ولاتّباعك هو جهنّم.

والحقّ الأول مقسم به بتأويل: «الحقّ قسمي»، وقرئ بالنصب، فيكون منصوباً

ص: 243


1- الإسراء (17): 64 .
2- الأعراف (7): 27 .

بنزع الخافض وهو حرف القسم، والمقسم عليه قوله تعالى: « لَأَمْلَأَنَّ». وقوله: « وَالْحَقَّ أَقُولُ » جملة معترضة للتأكيد. ويفهم من تقديم المفعول الحصر، أي أنّ الله تعالى لا يقول إلّا الحقّ.

وممّا يلفت النظر كثرة التأكيد في هذا العهد الأزلي، ففيه القسم بالحقّ، ثمّ التأكيد بأنّ الله تعالى لا يقول إلّا الحقّ، ثمّ لام القسم في « لَأَمْلَأَنَّ» ، ثمّ نون التأكيد الثقيلة، ثمّ التأكيد بقوله «أَجْمَعينَ» لئلّا يبقى أيّ احتمال للتخلّف عن هذا العهد، فيمنّي الظالمون أنفسهم بالأماني الكاذبة.

وقال المفسرون: إنّ المراد بقوله تعالى: «مِنْكَ» أي من قبيلك وذرّيّتك. ولعلّ الوجه في تأكيدهم على ذلك أنّ الآية لم تتعرّض لشياطين الجنّ وكفرتهم، ولا بدّ من شمول العهد لهم، فأوّلوا ضمير الخطاب بذلك.

ولكنّ الظاهر أنّه لا حاجة إلى هذا التأويل، لأنّ مورد الكلام هو إبليس ومن يتبعه من البشر، وليس هذا عهداً عامّاً ، فلا ضير إن لم يشمل بعض من يستحقّون العذاب.

كما أنّ الآية اعتبرت مناط دخول النار متابعة إبليس، مع أنّ المناط هو عصيان الربّ، لا متابعة إبليس، ولكن حيث كان الكلام في إغواء إبليس لبني آدم وحتّهم على العصيان كان المناسب للتهديد أن يختصّ العذاب بهذا العنوان.

ص: 244

سورة الصّاد(86 – 88)

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

« قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ »أي على تبليغ الرسالة. وهذا آخر فصل في السورة يشير إلى ما تكرّر التأكيد عليه في القرآن وعلى لسان الرسل أجمعين، وهو أنّ الرسالة ليست للوصول إلى هدف مادّي، وهذا هو المائز الحقيقي الواضح والصريح بين الرسالات الحقيقية والمدّعين الذين يتشبّثون بالسحر ونحوه لإغفال العامّة، فإنّهم يبتغون من وراء ذلك الوصول إلى أهداف وأغراض مادية، وهو واضح من تصرفاتهم، ولكنّ الرسل لا يطلبون هدفاً مادياً، بل يضحّون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الدعوة.

« وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ».أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن ينفي عن نفسه التكلّف، كدليل آخر على صدقه في دعواه و«التكلّف» هو انتحال الإنسان صفة ليست له وهذا من طباع بعض الناس. فالمتكلّف إذا كان بين من يتظاهرون بقوة الجسم تراه ينتحل لنفسه البطولات الكاذبة، وإذا كان بين المتدينين الصالحين تجده يتلبّس لباسهم بأشدّ ما يمكن ويتطرّف في اقتراحاته الدينية ويبالغ في تقواه وتورّعه وهو كاذب منافق، وإذا توسّط أهل العلم والفضل تظاهر بثقافته الوسيعة وحبّه للعلم والعلماء، وهكذا.

فالتكلّف طبيعة لبعض الناس أينما حلّوا وأيّ بيئة نزلوا، والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان بين ظهرانيهم أربعين سنة قبل أن يبعث للرسالة، وهم يجدونه إنساناً صريحاً واضحاً لا يتصنّع ولا ينتحلّ ما ليس له، وهذا أيضاً طبيعة واضحة من بعض الناس

ص: 245

يعرفهم بها من يعاشرهم، ومثل هذا الإنسان لا يتّهم في مجتمعه إذا ادّعى لنفسه أمراً، خصوصاً مثل هذا الأمر العظيم وهو رسالة السماء.

« إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ »أي إنّ ما جاء به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو القرآن الكريم ليس إلّا ذكراً للعالمين. والحصر إضافي أي أنّه ليس كما يزعمه المبطلون سحراً أو شعراً أو أساطير، بل هو ذكر للعالمين، ولا يخصّ قوماً دون قوم، ولا زماناً دون زمان ،ولا مكاناً دون مكان ، بل هو يجري مجرى الشمس والقمر.

وهكذا يحدّد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رسالته بعد إثبات كونه على حقّ، وهو أنّها ليست إلّا لتذكير الناس بفطرتهم التي فطرهم الله عليها، فإنّا لم آتكم بأمر غريب عليكم، ولا أدعوكم إلى أمر تمجّه الأنفس وتعافه الأذواق، بل هو أمر يدعوكم إليه الطبع والعقل السليمان، وهو ترك عبادة ما تخلقونه بأيديكم وتصنعونه من الأصنام والشخصيات، وعدم الخضوع لشيء إلّا للخالق الواحد القهّار.

وهذا أمر يتقبّله كلّ العالمين بفطرتهم، و إنّما يغفلون عنه ويتباعدون منه نتيجة الدعايات الكاذبة والأماني المختلقة التي يبثّها أصحاب الأهواء والمصالح المادّية الذين يريدون بذلك السلطة على الناس وسلبهم أموالهم، وما جئت به يذكركم بما تملي عليكم الفطرة السليمة.

« وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » ،وفي نهاية المطاف تهديد مؤكّد بلام القسم ونون التأكيد للمكابرين الذين يلفّقون الأعذار لتجاهل هذه الفطرة السليمة، تمادياً في الغيّ وركضاً وراء الأهواء والشهوات بأنّكم ستجدون ما أنبّئكم به من حقائق مذهلة ومخيفة على أرض الواقع يوم لا ينفعكم الندم ولا يفيدكم الإيمان. وذلك ليس بعيداً، بل هو بعد حين. و«الحين» القطعة من الزمان، فالمراد إمّا حين الموت حيث تظهر الحقائق واضحة عارية، أو يوم القيامة. والحمد لله رب العالمين.

ص: 246

تفسير سورة الزمر

اشارة

ص: 247

ص: 248

سورة الزمر(1 – 4)

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)

السورة مكية تتناول مسائل العقيدة الأساسية من التوحيد والمعاد. وهذه ميزة السور المكية.

« تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » يمكن أن يكون «تنزيل» مبتدأ خبره « مِنَ اللَّهِ »ويمكن أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل الكتاب، وعليه فالجار والمجرور قد يكون متعلقاً بقوله « تَنْزِيلُ الْكِتَابِ » وقد يكون خبراً ثانياً. و«الكتاب» أي المكتوب، بمعنى المجموع ، فإنّ «كتب» بمعنى جمع، ويطلق على كلّ مجموعة من الألفاظ أو المعاني والمراد التأكيد على أنّ هذا الكتاب

ص: 249

منزل من الله تعالى وليس من إنشاء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما يتوهّمه بعض الكفرة قديماً وحديثاً.

و توصيفه تعالى ب-«العزيز» لعلّه إشارة إلى أنّ مقتضى عزّته وغلبته المطلقة أن لا يؤثّر في هذا الكتاب شيء آخر رداً على توهّم بعض المشركين من احتمال تدخّل الشياطين في ذلك، كما صرّح به في قوله تعالى: «وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *«وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ » (1).

ووصف الحكمة لعلّه للردّ على أنحاء الشبهات التي ترد على الرسالة من اختيار اللغة والزمان والشخص الكريم وغير ذلك. وهذه شبهات متكرّرة طيلة التأريخ إلى يومنا هذا ولكلّ منها جواب، ولكنّ الأفضل هو الردّ العامّ، إذ لا انتهاء لهذه التساؤلات والردّ العامّ يتلخّص في هذا التوصيف، فإنّ مقتضى حكمة الباري هو هذا الانتخاب. والبشر لا يمكنه أن يدرك وجه الحكمة في كلّ ما خلقه الله تعالى ودبّره.

ونظير ذلك يقال في الردّ على الشبهات والتساؤلات حول الأحكام الشرعية المختلفة، فهناك موارد كثيرة للتساؤل في الأحكام والجواب العامّ واحد وهو أنّ الأحكام تعبدية لا يعلم وجه الحكمة فيها إلّا الله تعالى ولو علم أيضاً فالتسليم لها ليس من جهة وجه الحكمة، وإلّا لم يكن تعبّداً، بل هو من باب وجوب التسليم لأمره تعالى.

« إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ» الإنزال والتنزيل بمعنى واحد ، ولا دليل على الفرق، وملاحظة موارد استعمالهما في الكتاب العزيز

ص: 250


1- الشعراء (26) :210 - 211 .

وغيره تقتضي عدم الفرق بما قيل من أنّ الإنزال يطلق على الإنزال التدريجي والتنزيل على الدفعي أو الأعم، فقد ورد الإنزال والتنزيل في ماء المطر وهو لا ينزل إلّا تدريجاً وورد التنزيل في مورد النزول الدفعي بصراحة في قوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً »(1) ، وغير ذلك.

ومهما كان فالغرض هنا التأكيد على أنّ الإنزال إنّما كان بالحقّ، أي أنّ الكتاب نزل بالحقائق الناصعة والأحكام الثابتة، وفرع عليه الأمر بالعبادة بإخلاص: « فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ» والتفريع لعلّه من جهة كونه شكراً على هذه النعمة التي ليس فوقها نعمة.

والمطلوب في الأمر المذكور هو الإخلاص في العبادة تنويهاً على أنّ العبادة من دون إخلاص ليست مقبولة لدى الله سبحانه، لأنّ العبادة لا تليق إلّا به وهذا من جهة تقديس لعبادة الله تعالى من أن يشرك فيها أحد، ومن جهة أخرى تكريم للإنسان أن لا يعبد إلّا الله تعالى ويترفّع عن الخضوع لغيره. و المراد ب-«الدين »في الآية الكريمة العبادة، ويقال إنّ الأصل في الدين هو التذلل والطاعة، ولعلّ الدين - بالفتح - منه أيضاً لاستيجابه المذلّة.

« أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» إعلام عامّ بعد الأمر الخاصّ، وتعليل للحكم في نفس الوقت، فلا يقبل الله تعالى إلّا العبادة الخالصة. وقد صدر الحكم العامّ بأداة التنبيه: «ألا» ليعلم أنّ العبادة إن لم تكن خالصة لوجهه الكريم وأشرك فيها غرض آخر ، فلا يقع لله منه شيء وهو مرفوضة تماماً، بل تعتبر إثماً كبيراً يستوجب العقاب.

ص: 251


1- الفرقان (25) :32 .

« وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ » ،تتعرّض الآية لحال من يعبدون غيره تعالى ممّن توهّموا فيهم الولاية وتصدّي التدبير في العالم كالملائكة والقديسين من البشر، ثم اتّخذوا لهم تماثيل وأصناماً وعبدوهم من دون الله تعالى.

ومعنى من دونه أنّهم اعتبروهم أولياء بدلاً من الله تعالى والسبب في ذلك أنّهم كانوا يتوهّمون أنّ الخلق من الله والتدبير من هذه الخلائق، وأنّهم مستقلّون في التدبير وإلّا فالتدبير والتأثير بإذن الله سبحانه وفي حدود خاصّة ثابت لكلّ أحد، فكلّ إنسان يدبّر أمور نفسه وعائلته، بل أكثر من ذلك أحياناً، وكلّ شيء يؤثّر في أمور أخرى.

والملائكة وصفهم الله تعالى بالمدبّرات أمراً، وهم شفعاء ووسطاء بين الله وخلقه، ولكنّهم لا يشفعون إلّا باذنه تعالى: « وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى» (1) ، والمراد بالشفاعة هنا التوسط في الخلق والتدبير. فشأن الملائكة وغيرهم ليس إلّا التوسّط، وكيفية هذا التوسط بين الله وخلقه مجهولة لنا. وكذلك العوامل الطبيعية التكوينية تؤثر وتتوسّط، ولكن لا أثر لأيّ شيء في الكون إلّا إذا أراد الله تعالى. إذن فلا شيء يستحق العبادة غيره.

«مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» قد تفطّن المشركون أو بعضهم إلى أنّ غير الله تعالى لا يستحق العبادة بذاته، فاختلقوا مبرراً لهذه العادة الموروثة، وقالوا: إنّهم لا يعبدونهم إلّا ليتقربوا بذلك إلى الله تعالى، فزادوا بهذا الافتراء إثماً على إثم، إذ ليس لهم دليل على أنّ ذلك مقرّب إلى الله سبحانه و«زلفى» مصدر

ص: 252


1- النجم (53) :26 .

بمعنى القربى، فهو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل.

وربّما يتمسّك بهذه الآية الكريمة ردّاً على كلّ توسل بأولياء الله سبحانه. والجواب ما ذكرناه مراراً من أنّ التوسّل بهم من التوسّل بالله وكالتوسّل بالوسائل الطبيعية، وليس من اتّخاذ وليّ من دون الله سبحانه، وأنّ الفرق هو اعتقاد الاستقلال في هذه المؤثّرات، وهذا ربّما يحصل بصورة خفية لبعض الجهلة من المؤمنين سواء بالنسبة لأولياء الله تعالى أو بالنسبة للوسائل الطبيعية، فتجد كثيراً من الناس يظنّ أنّ المريض ربّما يشفى بالدواء ومعالجة الطبيب، وربّما يشفى بإرادة الله سبحانه، ويتوهّم أنّ تأثير الله تعالى مقتصر في ما إذا شفي بسبب غيبي، أو يتوهّم أنّ الإنسان ربّما يموت بإرادة الله وربّما يموت بإرادة البشر.

وقد ورد في القرآن الكريم قصة الملك الكافر ولعلّ اسمه نمرود مع إبراهيم (علیه السلام): « إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ » (1)، ومن الغريب أنّك تجد بعض المؤمنين بالله يقولون ذلك أو يعتقدون به في قرارة أنفسهم. ولذلك قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » (2)، ولذلك أيضاً ورد في الحديث ما معناه أنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء. (3)

وهذا الشرك الخفيّ لا يوجب حرمة التوسّل بالأولياء، كما لا يوجب حرمة التوسّل بالوسائل الطبيعية، ولكن يجب التنبّه وتنبيه الآخرين على أنّ كلّ هذه

ص: 253


1- البقرة .(2) :.258 .
2- يوسف (12): 106 .
3- راجع: الوافي 8: 1084 .

الوسائل لا تؤثر شيئاً إلّا إذا أراد الله تعالى، بل لا تشفع ولا تحاول فكلّ حركة وسكون بأمره وإذنه.

والحاصل أنّ التوسّل بأولياء الله تعالى مع الاعتقاد بأنّهم لا يعملون شيئاً ولا يقدرون على شيء إلّا بإذنه ليس من الشرك في شيء، بل هو عين الإيمان به ويعتبر إطاعة وامتثالاً لأوامره التي صدرت في شأنهم.

ومن هنا وجبت إطاعة الرسول وأولي الأمر المعصومين بأمر الله تعالى مع أنّ الإطاعة عبادة أيضاً، وبها فسّر قوله تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ »(1)، فإنّ البشر بصورة عامّة لا يعبدون الشيطان و إنّما يطيعونه ويتّبعون غواياته فالإطاعة عبادة، ولكنّ إطاعة اولياء الله عبادة لله تعالى وامتثال لأمره، وكذلك التوسّل بهم إطاعة لأمره تعالى حيث قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ »(2)، وتواترت الأحاديث بالتوسّل والاستشفاع بالرسول وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

« إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»، الجملة خبر لقوله: « وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا» وهناك بحث واختلاف في مرجع الضمائر في هذه الجملة، فيحتمل عودها إلى المشركين كما هو ظاهر اللفظ ، لأنّهم يختلفون في وجوه الشرك فكلّ مجموعة يعبد صنماً أو قدّيساً، كما يختلفون أيضاً في حدود الربوبية المزعومة.

ويحتمل عودها إلى المشركين والمؤمنين وإن لم يسبق لهم ذكر لدلالة الحال عليهم. وأمّا عودها إلى المشركين والمعبودين - كما قيل - فبعيد عن اللفظ والمعنى.

ص: 254


1- يس (36): 60 .
2- المائده (5): 35 .

ولعلّ معنى حكم الله بينهم أنّه يدخل الكافرين النار والمؤمنين الجنّة، وهو حكم وقضاء بين الفريقين أو أنّه يظهر الحقّ عياناً يوم القيامة فيرتفع الاختلاف بينهم كغيره من موارد الخلاف بين الناس.

وعلى كلّ حال، ففي الآية إشارة إلى أنّ هذا الأمر ممّا لا يرتفع فيه الاختلاف إلّا يوم القيامة حيث يظهر الحق، إمّا من جهة خفاء بعض موارده كما أشرنا إليه، وإمّا من جهة أنّ المشركين يرفضون الانصياع للحق لتشدّدهم فيما توارثوه من أفكار وعقائد.

« إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ » ، لعلّ في هذه الجملة إشارة إلى نوع من التعليل لما تشير إليه الجملة السابقة من بقاء الاختلاف إلى يوم القيامة، لاستمرار عناد الكفرة والمشركين والعلّة أنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفّار ، ومن يضلل الله فما له من هاد.

والظاهر: أنّ المراد بالكاذب الذي يكذب على نفسه ويحاول مخادعتها. وفي هذا التعبير مغزى عميق، فإنّ الكفر والإنكار للحق ربّما ينشأ من الجهل وعدم التمكن من إدراك الحقائق ومثل هذا يمكن أن يهديه الله سبحانه، وربّما ينشأ من محاولة الفرار عن وجه الحقّ والتشبث بالأعذار الواهية، والتشكيك في الأمور الواضحة، ليجد الإنسان مفرّاً من التسليم للحق، لأنّه يستتبع أموراً لا يرغب فيها من ترك الملذّات والانصياع لأوامر الدين ونواهيه، فهذا الإنسان يضلّ نفسه ويكذب عليها ويخدعها.

وهناك كثير من البشر يخدعون أنفسهم في ما إذا وجدوا حزازة في قبول الحقّ وترك ما اعتادوه، ولنضرب له مثالاً واضحاً وهو المعتاد على التدخين، فإنّه

ص: 255

يعلم إذا جرّد نفسه عن هواها أنّ ذلك أمر ضارّ لصحته ولماله، وأنّه لا ينبغي لعاقل أن يرتكبه، ولكنّه يخدع نفسه ويشكّك في تحذيرات الأطباء أنّها ناشئة من منافسة الشركات التجارية، وأنّها محاولة لتخسير بعضها اقتصادياً، وأن فلاناً عاش عمراً طويلاً ولم يصب بشيء مع كونه مدخناً وغير ذلك. وهكذا غيره من الذين يستهويهم عادة مضرّة أو عمل محرّم حتّى اللصوص وقطّاع الطرق والمجرمون القتلة يحاولون تبرير عملهم في أنفسهم.

والحاصل أنّ الكاذب هنا في ما يبدو هو الذي يكذب على نفسه ويبرر لها الكفر، ومثل هذا الإنسان لا يهديه الله تعالى ولا وجه هنا للبحوث المتعارفة بين الأشاعرة والمعتزلة بأنّ ذلك هل يستوجب الجبر أو لا يستلزمه، كما لا مجال للقول بأنّ الله تعالى لا يضلّ أحداً، بل يهدي الجميع ونحو ذلك من الأحاديث، فإنّ عدم الهداية هنا أمر طبيعي. والمراد أنّه لا يهتدي بطبيعة الحال إلى الحقّ كما في نظائره ممّن أشرنا إليهم، وكلّ أمر طبيعي فهو من صنع الله سبحانه.

ووصفه أيضاً بالكفار وهي صيغة المبالغة من الكفر. وهذا أيضاً إشارة إلى صفة أخرى يستوجب عدم الهداية بالطبع، وهو الإفراط في الإنكار والابتعاد عن القبول، فإنّ الناس مختلفون في مواجهة ما يسمعونه من حقائق وما يلقى عليهم من مطالب، فمنهم من يصدّق كلّ ما يحكى له، ومنهم من ينكر ويصرّ على إنكاره، بل ربّما يستغشي ثوبه حتّى لا يسمع، ومنهم أناس متوسطون. وهؤلاء يمكن هدايتهم، أمّا المعاند والمصرّ على الإنكار من دون أن يتبيّن له وجه الحق، فلا تمكن فيه الهداية. وهناك آيات كثيرة تدلّ على أنّ الله تعالى لا يهدي من يعاند الحقّ وهذا أيضاً أمر طبيعي. قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا

ص: 256

بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ » (1).

« لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ »هذا ردّ على بعض المذكورين سابقاً، وهم الذين يعتقدون أنّ الله تعالى اتّخذ له ولداً، فمنهم من يرى أنّ الملائكة بنات الله سبحانه، ومنهم من يرى أنّ عيسى (علیه السلام) ابن الله، أو يقول عزير (علیه السلام) ابن الله.

وهناك فرق بين كونه ذا ولد وبين اتّخاذه الولد، فالأول واضح البطلان، لأنّ الولد جزء من الوالد ينفصل عنه، ثمّ ينمو حتّى يكون مثله، والله تعالى ليس له جزء وإلّا لاحتاج إلى أجزائه في وجوده وتقوم بها، وهو ينافي الغني المطلق ولأنّه ليس له شبيه ونظير ومثيل والولد مثل الوالد وقال الله تعالى «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ » (2).

وأمّا الثاني، أي اتّخاذ الولد فهو أيضاً إنّما يصحّ في من يتصوّر فيه أن يكون له ولد، ولكنّه لم يحصل لنقص فيه، فيتّخذ ولداً لنفسه اعتباراً ليرفع ب-ه بعض حاجته إلى الولد وهو في نفس الوقت يشارك والده في الشؤون الاعتبارية ولذلك اعتبر هؤلاء الملائكة والقديسين أرباباً وكلّ ذلك مستحيل في حقه تعالى، فهو لا يمكن أن يكون له ولد ولا حاجة له إلى اتّخاذ ولد، ولا يشاركه في شؤونه أحد.

وقد ورد الردّ على هذه المقولة الفاسدة في الكتاب العزيز بتعابير مختلفة، منها قوله تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ »(3) ،

ص: 257


1- الأنعام (6) :110 .
2- الإخلاص (112): 3-4 .
3- البقرة (2): 116 .

ومنها قوله تعالى: «قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ »(1) . و أساس الجواب في هاتين الآيتين أنّ نسبة الأشياء في السماوات والأرض إلى الله تعالى نسبة واحدة، وكلّها ملك له ومتقوّم بإرادته فلا يمكن أن يكون شيء منها ولداً له، مضافاً إلى أنّه الغنيّ المطلق فلا حاجة له إلى اتّخاذ الولد.

ومنها قوله تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا *إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا »(2) ومعنى ذلك أنّ ما تدعونه من أولاد له تعالى في السماوات وهم الملائكة، أو في الأرض كعيسى (علیه السلام) كلّهم عبيد الله تعالى، لا فرق بينهم وبين غيرهم من هذه الجهة.

ومثله أيضاً قوله تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ »(3) والمراد بهم الملائكة.

واختلف التعبير في هذه السورة عن غيرها واختلف المفسرون في معناه، والظاهر أنّ المراد أنّه لو فرض أنّ الله تعالى يريد أن يتّخذ ولداً لاصطفى واختار من خلقه ما يشاء ليكون ولداً له، ولكن هذا مستحيل في حقه تعالى لأنّه الله الواحد القهّار.

وقد مرّ في تفسير سورة ص أنّ المراد بالوحدة البساطة وعدم التركب من الأجزاء الخارجية والذاتية، وليس المراد الوحدة بالعدد، فإنّها ليست ميزة للذات الإلهية، فكلّ شخص واحد لا يشمل غيره، بل هي في حدّ ذاتها يستحيل أن

ص: 258


1- يونس (10): 68 .
2- مریم(19):92 -93 .
3- الانبياء .(21): 26 - 27 .

تكون وصفاً له تعالى، لأنّها تستلزم أن يكون له تعالى جنس ونوع إلّا أنّه واحد في نوعه وجنسه، مع أنّه تعالى ليس له جنس ولا نوع ولا يتركّب من ماهية ووجود.

وبذلك يتبيّن أنّه لا يمكن أن يكون له ولد فلا معنى لاتّخاذ الولد أيضاً، لما مرّ من أنّ ذلك إنّما يصحّ في من يمكن أن يكون له ولد، ولكنّه فاقد له لنقص فيه، وهو تعالى واحد أيضاً في أوصافه وشؤونه، لا يشاركه فيها أحد، فلا يمكن أن يتّخذ ولداً، لأنّ الولد الاتِّخاذي يشارك الوالد في شؤونه الاعتبارية. ثمّ إنّه تعالى قهّار، وكلّ شيء خاضع لإرادته، فلا حاجة له إلى ولد، أو اتّخاذ ولد، و إنّما يتخذه من يشعر بالحاجة إليه، وهو تعالى لا يريد شيئاً إلّا وهو كائن لا محالة بمحض إرادته، كما قال تعالى: «مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.»(1).

ص: 259


1- مريم (19) :35 .

سورة الزمر(5 – 6)

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

يعود السياق إلى منع عبادة غير الله تعالى على أساس أنّ العبادة إنّما يستحقّها الربّ المدبّر المنعم على الإنسان. وفي هاتين الآيتين إشارة إلى بعض وجوه تدبيره تعالى في الخلق، ويفرع عليه أنّ من يكون كذلك هو الربّ وهو المعبود، ويشير إلى أنّ خلقه تعالى للكون مستمرّ والتدبير أيضاً منه لأنّه يتبع الخلق.

ويردّ بذلك على التفكير السائد لدى الوثنية من أنّ الله تعالى خالق الكون ولكنّه ليس هو الربّ المدبّر ، بل لكلّ شأن من شؤون الكون ربّ يدبّره. وهذا التفكير الشركي موجود لدى كثير من جهلة الموحدين أيضاً كما ذكرنا وإن لم يصرّحوا به بل صرّحوا بخلافه. والقرآن يريد أن يزيل كلّ أثر من آثار الشرك، فلا يخاف الإنسان شيئاً إلّا ربّه، ولا يرجو إلّا ربّه، ولا يعبد إلّا ربّه، وهو الله الواحد القهّار.

« خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ »، الظاهر أنّ السماوات والأرض عبارة عن كلّ الكون، إمّا بلحاظ أنّ السماوات تعبير عن العالم العلوي أي ماوراء الطبيعة. والأرض عبارة عن العالم السفلي بجميع أدواره وطبقاته وعوالمه. وإمّا بلحاظ أنّه تعبير كنائي باعتبار أنّ الإنسان لا يرى حوله إلّا سماء فوقه وأرضاً تحته. والمراد

ص: 260

بقوله : « بِالْحَقِّ »أنّه تعالى خلق الكون لغاية ولم يخلقه باطلاً، كما قال تعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» (1) ، وهذا مقتضى حكمته تعالى فهو لا يخلق عبثاً ولعباً، كما قال تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا »(2) ، وقال أيضاً: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ»(3).

وهذا یدلّ على أنّ الخالق هو المدبّر وهو الربّ، فإنّ القول بأنّ الخالق لا يدبّر الكون يستلزم أن يكون الخلق عبثاً ومن دون تدبير وغاية وهدف، ولذلك نسبه إلى ظنّ الذين كفروا في سورة ص.

وهذا التوهّم لا يختصّ بعبّاد الأوثان، بل نجد في هذا العصر المبهورين بالعلوم والاكتشافات البشرية يظنّون مثلاً أنّ نظرية التطوّر بديلة للقول والاعتقاد بأنّ للعالم خالق ذكي، فيردّ عليهم بعض المعتقدين بالله بعدم المنافاة لإمكان أن يكون الله خالقاً للكون على أساس قانون التطوّر، وربّما يخطر بالبال لدى بعضهم أنّ الله تعالى خلق الكون وأوكل أمر إدارته إلى النظم والقوانين الكونية، وأنّه لا يتدخّل فيها، بل ربّما نسمع من بعض الناس ما یدلّ على الاعتقاد بعجزه تعالى عن التدخّل، بل لا يبعد أن يكون ذلك دفيناً في قرارة نفوس كثير من المؤمنين بالله تعالى: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ »(4).

والقرآن يؤكّد ويركز على أنّ الله الخالق للكون هو الربّ المدبّر لكلّ شؤونه. والدليل عليه هو ما أشارت إليه هذه الآية من أنّ خلقه للكون ليس عبثاً

ص: 261


1- ص (38) :27 .
2- المؤمنون (23) :115 .
3- الأنبياء (21): 16 .
4- الحج (22): 74 .

ومن دون هدف وغاية وهذا مقتضى حكمته، فلو لم يكن مدبّراً للكون، ومراقباً لما يفعله الإنسان، وما يدور في خلده وتنطوي عليه نفسه، ليوصله إلى غايته في الحياة الأخرى، وليضعه موضعه الصحيح، ومرتبته الواقعية لكان الخلق عبثاً وبلا غاية، وهكذا يتبيّن بوضوح أنّ الله الخالق هو المدبّر.

« يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ». هذا بيان لبعض التدبير الربوبي الناشئ من الخلق، فيكون دليلاً على أنّ الخالق هو المدبّر، فقد خلق الأرض والشمس بكيفيّة ينشأ منها الليل والنهار، ويتبادلان المكان والزمان فاستمرار تكوّن الليل والنهار واختلافهما - وهو من شؤون التدبير والربوبية - يتبع الخلق.

وعبّرعن خلق الكون بفعل الماضي، وعن التكوير بالمضارع، لأنّه مستمرّ في الحدوث والتبدّل. ولذلك أيضاً عاد فعبّر بصيغة الماضي عن تسخير الشمس والقمر.

وقد عبّر الله سبحانه عن هذه النعمة وهذا التدبير في موضع آخر بقوله تعالى: « ُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا »(1) ، وفي مواضع باختلاف الليل والنهار وفي سورة يس بانسلاخ النهار من الليل.

والتعبير هنا ربّما يفهم منه الإشارة إلى كروية الأرض، فإنّ التكوير بمعنى الإدارة واللفّ والليّ يقال: كار العمامة على رأسه وكوّرها، أي لقّها على رأسه فكأنّ التعبير هنا يشير إلى منظر الليل والنهار لمن يشاهدهما خارج الكرة الأرضية، وهما يلفّان عليها ويتبادلان المكان، ولذلك أوّل المفسّرون القدامى

ص: 262


1- الأعراف (7) :54 .

هذا التعبير ليناسب تصوّرهم للأرض.

ومثله قوله تعالى: « يَطْلُبُهُ حَثِيثًا »، أي سريعاً، فإنّه لا يتحقّق إلّا على فرض الكروية حيث يجد الملاحظ أنّ الليل يتعقّب النهار يطلبه مسرعاً ولا يصل إليه ولا تنتهي الملاحقة.

ويجب أن ننبّه على أنّ القرآن ليس كتاباً علمياً يوضح هذه الحقائق ولم ينزل بهذا الهدف وإلّا لذكر الحقائق كاملة ولم يبق للبشر مجال للتطوّر والتقدّم العلمي. و إنّما يتبيّن من هذه الملاحظات أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر و إنّما هو كتاب الله تعالى خالق الكون.

« وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» ربّما يكون المراد من التسخير خلقهما مسخّرين، أي منضبطين تحت القوانين الكونية بإرادة الله، كما قال تعالى: « وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ»(1) ، ويمكن أن يكون المراد تسخيرهما للإنسان، كما قال تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ »(2)، والمراد تسخيرهما لصالح الإنسان، إذ ليس أمرهما بيده كما هو واضح.

وعلى كلّ حال فتسخير الشمس والقمر وجريهما بانتظام يحقق منافع عظيمة للإنسان الذي أراد الله تعالى له أن يعيش على هذا الكوكب ويبلغ هنا كماله المتوخّى له بالعبادة وإطاعة أوامر الله سبحانه.

وقوله تعالى: « كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» يمكن أن يكون إشارة إلى هذا النظام الذي لا يمكن أن يتجاوزه الكون بمعنى أنّ جريهما في كلّ حالة وفي كلّ مدار

ص: 263


1- الأعراف (7) :54 .
2- إبراهيم (14) : 33 .

محدود بأجل وغاية زمنية خاصّة. ويمكن أن يكون إشارة إلى زوال هذا النظام بأمره تعالى، فالمراد بالأجل نهاية الكون، وأنّه ليس أمراً أبدياً، كما لم يكن أزلياً. وهذا ممّا يصرّ الكتاب العزيز على التنبيه عليه كلّما تعرّض لبيان الأمور الكونية. والتعبير بأنّه مسمّى للدلالة على أنّ أجله معيّن معلوم عند الله سبحانه لا يتجاوزه قيد أنملة.

وقد مرّ سابقاً أنّ هذا التعبير ربّما يتوهّم منه المنافاة لما وصل إليه العلم البشري من أنّ ما نشاهده من حدوث الليل والنهار وتغيّر الفصول ليس نتيجة لجري الشمس والقمر بل هو نتيجة لحركة الأرض ودورانها حول نفسها. ولذلك حاول بعضهم أن يرفع المنافاة بتأويل أنّ الآيات تشير إلى حركة الشمس وجريانها مع كواكبها في مدار آخر، لا دورانها حول الأرض.

ولكنّ الصحيح أنّ الآيات تشير إلى نفس هذا الجري الذي يتكوّن منه الليل والنهار والفصول، وذلك ظاهر واضح من آيات كثيرة ولا حاجة إلى التأويل. وذلك لأنّ المقصود ليس بيان حقيقة كونية، والقرآن لا يهدف إلى ذلك نهائياً، فهو كسائر الكتب السماوية ليس كتاباً علمياً، وليس من أهداف الدين وغاياته مساعدة الإنسان في المجال العلمي، بل هذا مجال متروك له لينتزع لقمة عيشه ومقوّمات بقائه من بين الشوك والحجر على هذا الكوكب الغامض، وفي ظلّ هذه القوانين المستعصية، و إنّما شأن الدين أن يهدي الإنسان لما لا يمكنه الوصول إليه مهما سبر أغوار العلم وبلغ القمّة فيه، وهو ما يهيّء له الحياة السعيدة الأبدية في النشأة الأخرى.

وعليه فما يرد في القرآن وغيره من كتب السماء من التعابير يجري على ما هو

ص: 264

المعروف والمحسوس من أنّ الشمس تجري حول الأرض، كما أنّنا في تعابيرنا المتعارفة نعبّر بطلوع الشمس وغروبها وارتفاعها وغير ذلك، ولا يختلف في هذا التعبير العلماء وغيرهم، مع أنّ الجميع يعلمون أنّه غير واقعي، ولكنّ التعبير يتبع الحالة المحسوسة.

« أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ».اختلف المفسّرون في وجه تذييل الآية بهذين الوصفين، خصوصاً مع تقديم أداة التنبيه ممّا یدلّ على اهتمام بالتنبيه عليهما في هذا الموضع.

وقد تبيّن بما ذكرناه أنّ من مقدمات الاستدلال المذكور في الآية على ربوبيته وألوهيته تعالى بعد فرض كونه خالقاً هو عدم كون الخلق عبثاً، وأنّه لا بدّ من وجود غاية له، وأنّه تعالى يراقب أعمال الإنسان وأفكاره ليضعه موضعه وهذا هو الهدف. فلزم من ذلك التنبيه على أمرين:

الأول: أنّه تعالى عزيز وغالب على أمره وقهّار لكلّ شيء، فلا يمنع من تحقيق هدفه شيء، ردّاً على احتمال عدم ترتّب الغاية على الخلق.

والثاني: أنّه تعالى غفّار لعباده، فالحساب وإن كان دقيقاً إلّا أنّ رحمته وغفرانه يشملان الجميع، حسبما قال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» (1) وقال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ »(2) وقال أيضاً: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ » (3) وغير ذلك من الآيات.

ويمكن أن يكون الوصف الأول إشارة إلى أنّه تعالى بعيد عن تناول الأفهام

ص: 265


1- الزمر (39): 53 .
2- النساء (4): 48 .
3- النساء (4) :31 .

وإدراك الأوهام، فإنّ العزّة بمعنى عدم الوصول إليه أيضاً، ولذلك يقال لكلّ شيء نادر الوجود أنّه عزيز، ومنه قوله تعالى: «وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ »(1) ، فحيث كان الكلام في معرفة الله وعموم ربوبيته لكلّ شؤون الكون وهو أمر صعب التناول على أكثر الناس، أشار إلى ذلك بقوله « أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ »، فلا يدرك معرفته أحد، ولكنّه غفّار في نفس الوقت فيقبل من كلّ إنسان ما توصل إليه من المعرفة، ويغفر له قصوره وتقصيره في ذلك.

« خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا » ردّ واضح على فرضية التطوّر في خصوص الإنسان على الأقلّ. وقد مرّ سابقاً أنّ هذه الفرضيّات حتّى لو فرض دعمها بشواهد كثيرة لا تعدو بالنسبة إلى تفسير الحوادث الكونية احتمالاً وحدساً وتخرصاً على الغيب، والإنسان مهما تعمّق في حقائق الكون، فإنّه لا يؤتى من العلم إلّا قليلاً، قال تعالى: « وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » (2)، ولذلك نجد العلم في كلّ يوم يكشف عن أخطاء سابقة للعلماء حتّى فيما تتناوله التجربة، فكيف إذا كان حدساً وتخميناً وتخرصاً على الغيب في الماضي السحيق. هذا مع أنّ الشواهد حتّى الآن لم تساعد هذه الفرضية التي مضى عليها أكثر من قرن.

ومهما كان، فالآية تشير إلى أنّ البشر بمختلف أقوامه وأممه ينتهي أصله إلى إنسان واحد وهو آدم (علیه السلام)، وتدلّ أيضاً أنّ الله تعالى خلق زوجه منه. وتأنيث الضمير باعتبار النفس. ولعلّ المراد من كونها منه أنّها من نفس النوع والجنس، فخلقها ابتداءً كخلق آدم، أو أنّه تعالى خلقها من فاضل طينته، كما في بعض الروايات.

ص: 266


1- إبراهيم (14): 20 .
2- الإسراء (17): 85 .

وأمّا خلقها من أقصر ضلع من ضلوع آدم اليسرى فإنّما ورد في عدّة روايات لدى العامّة والخاصّة، وهي تشتمل على ما لا يطابق الواقع الخارجي، فإن عدد الأضلاع واحد في الرجل والمرأة، وهذه الروايات تقول إنّ الرجل ينقص عن المرأة في عدد أضلاعه اليسرى، وقد ورد ذلك في التوراة أيضاً ممّا یدلّ على مصدر الوضع في هذه الروايات. وفي رواياتنا ما يردّ على ذلك ويكذّبه ويصرّح بأنّ المراد في هذه الآية ونظائرها أنّ حوّاء خلقت من فاضل طينة آدم (علیه السلام).

و أمّا التعبير ب-«ثمّ » الدالّ على التراخي ممّا يقتضي أن يكون خلق حوّاء بعد خلق الناس فقد ذكروا في تأويله احتمال أن يكون ذلك للتراخي في البيان. وهو كثير في التعابير المتعارفة.

ويمكن أن يكون إشارة إلى أنّ بني آدم مرّوا بمرحلة من الخلق بمجرّد خلق أبيهم آدم وهذا قد يكون حقيقة كونية مجهولة ربّما تتناوله الدراسات المتعلّقة بالجينات أو غيرها.

وقد يكون إشارة إلى مرحلة من مراحل الخلق خارج نطاق الطبيعة. وهذا ليس مستغرباً وإن صعب على بعض الباحثين التسليم له، فقد قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ » (1)، وهذا یدلّ على أنّ مرحلة من الخلق، بل التصوير لكلّ البشر قد سبق تواجده على هذا الكوكب. والتصوير هو تكوين الهيئة الخاصّة، فالظاهر أنّه تجاوز مرحلة الخلق المندمج في صلب الأب إلى ظهوره بهيئة خاصّة لا يعلمها إلّا الله تعالى. ولعلّها هي المشار اليها في قوله

ص: 267


1- الأعراف (7): 11 .

تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»(1).

« وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ » بيان لتدبير شأن من شؤون الحياة البشرية على الأرض، وهو خلق الأنعام ليستفيد الإنسان من لبنها ولحومها وجلودها وأصوافها وأشعارها وأوبارها وركوب بعضها وغير ذلك، وهي الإبل والبقر والضأن والماعز.

والزوج : المثلان المتقارنان يقال لهما زوج وزوجان. وحيث إنّ الزوج يطلق على كلّ واحد من المثلين المتقارنين فكلّ ذكر من الأصناف الأربعة زوج وكلّ أنثى أيضاً زوج، والمجموع ثمانية.

والتعبير ب-«الإنزال» باعتبار أنّها نعمة من الله تعالى فإسناد تحققها إلى الله تعالى يقتضي التعبير بالإنزال وكلّ نعمة من الله سبحانه نازلة من السماء. وليس المراد بها مكاناً فوق الأرض، كما يتوهّم، بل المراد جهة العلوّ المقامي.

« يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ » .الظاهر أنّ تأخير ذكره عن إنزال الأنعام ليشمل ضمير الخطاب كلّاً من الإنسان والحيوان لأنّ هذه الكيفية من الخلق تشملهما. والحيوان وإن لم يكن مورداً للخطاب إلّا أنّ شمول الخطاب له من باب تغليب جانب ذوي العقول.

ومن اللطيف أنّه ذكر أوّلاً خلق الإنسان بصيغة فعل الماضي، ثمّ أتى بفعل المضارع «خَلَقَكُم ... يَخْلُقُكُمْ » ولعلّه لبيان أنّ هناك مرحلتين من الخلق للإنسان: مرحلة سابقة خاصّة به عبّر عنها بفعل الماضي، ومرحلة مستمرّة في الأجيال بصورة طبيعية يشارك فيها الحيوانات، عبّر عنها بالفعل المضارع الذي یدلّ على الاستمرار.

ص: 268


1- الأعراف (7): 172.

« خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ». إشارة إلى مراحل تكوّن الجنين وأن تحوّله من كلّ مرحلة إلى أخرى خلق جديد، فهو خلق مستمرّ، والجنين لا يتحوّل طفرة من حالة إلى حالة، بل يتدرّج ببطء. وتسمية بعض الحالات كالعلقة والمضغة لا يعني أنّها حالات يتوقف عندها التطوّر، و إنّما هو مجرّد إشارة إلى توارد الحالات المختلفة على الجنين نظير تسمية حالات الإنسان كالصبا والمراهقة والغلمة والشباب والكهولة والهرم والشيخوخة.

ومن الغريب اعتراض بعض الملحدين على هذا التعبير بأنّ مراحل تكوّن الجنين لا تنحصر في ذلك، وأنّه يتحوّل تدريجاً. وهذا واضح ولكنّ التدرّج محسوس في كلّ تحول وتطوّر، ولا ينافي ذلك وضع أسماء لبعض حالات التطوّر كالتمر مثلاً، فيسمى تارةً بلحاً وأخرى رطباً وثالثة تمراً ونحو ذلك.

« فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ »، الظاهر أنّ المراد ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. ولعلّه إشارة إلى أنّ كلّ هذه التطوّرات الغريبة تتمّ بعيداً عن أنظاركم وفي ظلمات ثلاث، لا يمكنكم بصورة طبيعية تجاوزها ورؤيتها فضلاً عن التدخل فيها .

« ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» ، الإشارة إلى البعيد للإجلال والإعظام، والبعد عن تناول الأوهام. وهذا هو نتيجة التأمّل في خلق الله للسماوات والأرض، وخلق البشر والأنعام بصورة مستمرّة، وكذلك في بدو خلق الإنسان قديماً من طين، فهو الذي ربّاكم وأوصلكم إلى هذه المرحلة من الخلق، وأنعم عليكم بكلّ مقومات الحياة.

« َهُ الْمُلْكُ» تقديم الظرف يفيد الحصر، أي أنّه هو المالك للتصرّف في الكون

ص: 269

لا يمكن لأحد أن يتصرف فيه إلّا بإذنه.

« لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ » وإذا كان هو الربّ الذي يدير شؤون الخلق وهو المليك عليهم والمنعم عليهم، فهو الإله الذي يجب أن يعبد شكراً لإفضاله وإنعامه، واستنزالاً لرحمته، وتوقياً من عذابه وسخطه ولا إله غيره، إذ لا ربّ غيره.

« فَأَنَّى تُصْرَفُونَ » وإلى عبادة من تتوجهون ؟! «أنّى» استفهام يفيد معنى «كيف» و«اين» ، أي إلى أين يذهب بكم وكيف يذهب بكم. والتعبير بالفعل المبني للمجهول لعلّه كناية عن أنّ ذلك يتمّ بدون تفكر ورويّة، و إنّما هو اندفاع وراء العادات والتقاليد البالية، فكأنّ هناك من يدفعكم إلى ذلك وأنتم لا تشعرون.

ص: 270

سورة الزمر(7 – 10)

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)

« إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ». لمّا بيّن أنّ العبادة لا تجوز لغيره وأنّ ذلك مقتضى ربوبيّته وإنعامه تبيّن منه أنّ ترك عبادته واللجوء إلى عبادة غيره كفران لنعمه، وكفران المنعم ممّا يستنكره العقل والفطرة، إلّا أنّه تعالى لا يمنع عباده عن الكفر لحاجة منه إلى شكرهم، وهو لا ينعم على أحد طلباً لشكره أو لأيّ شيء آخر، لأنّه الغنيّ بالذات لا يفتقر إلى شيء، فشكر العباد ينفعهم و وكفرهم يضرهم ولا يضر الله شيئاً.

« وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ » .هذه الجملة تردّ على سؤال ينشأ من الجملة السابقة وهو أنّ الكفر إذا كان لا يضر الله شيئاً فلماذا ينهى العباد عنه؟ والجواب أنّه إنّما ينهاهم عن الكفر ويدعوهم إلى عبادته وشكره لأنّ الكفر إثم ممقوت لا يرضى به الله تعالى فإنّه أراد لهذا الإنسان أن يبذل كلّ جهده ليصل إلى أعلى مراقي

ص: 271

الكمال وهو لا يصل إليه إلّا بعبادته وحده ونبذ كلّ شرك وكفر.

ولذلك أبدل التعبير عنهم بضمير الخطاب، كما كان في الجملة السابقة إلى التعبير عنهم ب-«عباده » ممّا یدلّ على نوع من العناية والاهتمام بهم ولا يراد بهم عباده المؤمنون خاصّة، بل كلّ الخلق، كما هو واضح.

وبذلك يتبيّن الجواب عن سؤال ملحّ طالماً توسوس به الشياطين في القلوب، وهو أنّ الله تعالى لماذا يطالب الإنسان بعبادته وهو غنيّ عنها؟ بل ربّما نجد بعض الناس لا ينتظر الجواب ويكفيه الاستبعاد فلا يلتزم بشيء من أوامر الدين ونواهيه رغم اعترافه بالله تعالى واحترامه لشعائر الدين، وذلك باعتقاد أنّ الله غنيّ عن عبادتنا ولا تضرّه معاصينا. ولكنّه لم ينتبه إلى أنّ هذا التوهّم يستلزم أن لا يكون هناك حكمة وهدف سام وراء هذا الخلق، وبهذه الدقّة وأن يكون الخلق عبثاً لا غاية له.

« وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ »، لأنّه هو الطريق الصحيح لبلوغ الكمال وهو ردّ الفعل الطبيعي لمن أنعم عليكم بكلّ هذه النعم العظيمة. ومعنى رضاه تعالى وحبّه لعمل من أعمالنا علمه بكونه صالحاً للإنسان ونافعاً له، فإنّه تعالى لا ينتفع بشيء. ولكنّ المعروف تأويل الرضا والحبّ والبغض ونحو ذلك من المفاهيم إذا أسندت إلى الله تعالى بلوازمها فالرضا يؤوّل إلى الإثابة والجزاء، والبغض والغضب إلى العقاب، وهكذا. والداعي إلى هذا التأويل تنزيهه تعالى من أن يكون محلاً للعوارض والحالات فإنّ الرضا والغضب والحبّ والبغض ونحو ذلك عوارض تطرأ على الإنسان ولا يمكن أن يطرأ شيء عليه تعالى.

وبما ذكرنا يتبيّن أنّه لا داعي لهذه التأويلات البعيدة.

ويبقى هنا سؤال وهو أنّه تعالى إذا كان لا يرضى بالكفر، فكيف يتحقّق ولا

ص: 272

يمكن أن يوجد شيء إلّا بإذنه؟ ومن هنا صارت هذه الآية من مواضع النقاش الحادّ بين الأشاعرة والمعتزلة حيث تشبّث بها المعتزلة بأنّها صريحة في أنّه تعالى لا يرضى بالكفر مع أنّه خصلة أكثر الناس، وحاول الأشاعرة التهرّب من الإشكال بالتوسّل بكلّ تأويل حتّى أنّ بعضهم قال: إنّ المراد بالعباد هنا العباد المخلصون، أي الأنبياء المعصومون وهو تأويل مضحك.

والجواب عن السؤال المذكور واضح عندنا، فإنّ عدم الرضا بفعل تشريعاً لا ينافي إذنه تكويناً، وهذا الإذن لا يستلزم الرضا بما يحدث، فإنّ حكمته تعالى اقتضت أن يكون الإنسان حراً مختاراً قادراً على ما يريد، وإذنه تعالى ليس بمعنى أنّه يوجد الفعل على يده شاء أم أبى، بل يعني أنّه يمدّه بالقدرة وهو يعلم أنّه يستخدمها في هذا السبيل، وأنّه يهيّء له كلّ فرص العمل حسبما يقتضيه نظام العلّة والمعلول، فإنّ هذا الكون يسير على هذا المنهاج بإرادته تعالى ومشيئته، وأنّه لا يمنع تأثير العلل والأسباب بإعجاز وخرق للقوانين الكونية حتّى في نصرة رسله إلّا في موارد نادرة.

ولذلك قال الإمام الحسين (علیه السلام) في خطبته يوم عاشوراء مخاطباً أصحابه: «إنّ الله قد أذِّنَ في قتلكم فعليكم بالصبر»(1) ولا شك أنّه تعالى لا يأذن في ذلك تشريعاً، بل هو من أكبر الآثام وأعظم الجرائم، و إنّما أذن فيه تكويناً حسبما يقتضيه نظام العلّة والمعلول ، أي أنّ دوافع قيام القوم بالجريمة الكبرى قد بلغت حداً لا يمانعه شيء، والله تعالى لا يمنعهم بقهر تكويني، وهذا هو معنى اذنه تعالى.

« وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى »، «الوزر»: الثقل. ويعبّر به عن الإثم لأنّه يثقل كاهل

ص: 273


1- بحار الأنوار 45 :86 .

الإنسان، و«الوازرة» : النفس، لأنّها تتحمّل المسؤوليات. وهذه جملة متكرّرة في القرآن الكريم ومضمون يقبله العقل والفطرة السليمة. ومعنى العبارة أنّ كلّ نفس وازرة، أي تحمل ثقلها وإعبائها ومسؤولياتها، ولا تحمّل في نظام العدل الإلهي ثقل غيره ومسؤولية غيره وإثم غيرها، وإن كان ربّما يتحمّل الإنسان مسؤولية تجاه الغير، كما لو كان مسؤولاً عن تربيته أو كان هو السبب في ضلاله، ولكن هذا ثقله ومسؤوليته الشخصية وإن ارتبطت بغيره. والتنبيه على هذا الأمر هنا لعلّه لدفع توهّم تأثير كفر الكافر على المؤمن بالقرابة أو الجوار ونحو ذلك.

« ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». وفي آخر المطاف لا بدّ من التنبه أنّ كلّ ما يصدر منكم أو يدور في خلدكم فهو مسجّل عليكم وتحاسبون عليه يوم ترجعون إلى ربّكم، فيخبركم ويبيّن لكم بوضوح حقيقة أعمالكم التي كنتم تجهلونها، وتجدون ظاهراً مغرياً منها.

شيء

ولعلّ المراد ب- «الإنباء» في ذلك اليوم هو كشف الغطاء، فيتبيّن الحقّ في كلّ شیء عارياً لا غشاء عليه: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ »(1).

« إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»، «ذات» بمعنى صاحبة، أي الأعمال التي تصاحب الصدور، والمراد بالصدور النفوس، أي الأمور المختبئة في النفوس، ويشمل حتّى ما لا يلتفت إليه الإنسان تفصيلاً و إنّما يكون في ارتكازه ولا شعوره ومنه يتبيّن أنّ الأمر لا يقتصر على الأعمال الظاهرة والتي تصدر من الجوارح، بل يشمل النوايا القلبية.

ص: 274


1- ق (50) :22 .

وربّما يستغرب ذلك من جهة أنّ الإنسان إذا كان مؤاخذاً بنواياه فلا ينجو أحد من عذاب الله تعالى.

والجواب: أنّ ملاحظة ذات الصدور يمكن أن لا يكون لأجل المؤاخذة، بل ربّما يكون لأحد أمرين:

الأول: صبغة العمل الخارجي، إذ أنّ من الواضح أنّ الصلاة وسائر العبادات لا تصحّ إلّا بالنية الصحيحة وبقصد التذلّل لدى الله تعالى، بل يعتبر ما كان بقصد إرضاء الغير شركاً وعملاً محرّماً يعاقب عليه أشدّ العقاب. وهذا الفرق الجوهري بين العملين لا يتبيّن إلّا بملاحظة ذوات الصدور، وأمّا ظاهر العملين فواحد، بل ربّما يكون عمل المرائي أحسن في الظاهر، كما هو الغالب.

الثاني: تأثير النوايا في كمال الإنسان وتعيين درجته ومقامه حتّى لو لم يعمل العمل في الظاهر ، فالإنسان إذا قصد المعصية ولكنّه لم يرتكبها لعدم توفّر الوسائل، فإنّه لا يعاقب ولكن تحسب عليه سريرة سيّئة تنزله في المرتبة، وإذا لم يرتكبها تورّعاً تحسب له مرتبة.

ثمّ إنّ الأعمال وإن كانت صحيحة وقصد بها القربة إلّا أنّ درجات القربة تختلف، وبها تختلف مراتب الإنسان، بل يتغيّر جوهر العمل، فربّما يقصد العابد بعمله أن يتقرّب إلى الله تعالى ليحصل على رزق منه في الدنيا، وربّما يكون التقرّب ليحصل على رزق في الآخرة، وربّما يكون لبلوغ مرتبة راقية من القرب لدى الله تعالى، وربّما يكون لمجرّد تحصيل رضاه. وهذه كلّها وغيرها مراتب تختلف بها مقامات العابد، مع أنّ العمل في كلّها صحيح ومتحد الشكل.

بل ربّما يتجاوز كلّ ذلك فيعبد الإنسان ربّه تعظيماً لمقامه، ولا يقصد تحصيل

ص: 275

شيء حتّى التقرّب، وهذا لا يحصل إلّا لمن بلغ غاية الكمال في معرفة ربّه، فرأى ربّه ببصيرته وبعين قلبه، وأدرك ذلك الجمال الباهر بكلّ وجوده، فخضعت له جوارحه. وهذا ما تفيده العبارة المعروفة المنقولة عن أمير المؤمنين وسيّد العارفين - سلام الله عليه : «الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1).

وربّما يستنكر ذلك، كما نجده في كلام من يدعون اتّباع السلف، بل ينسبون هذا الأمر إلى الصوفية وأهل البدع، ويستندون إلى قوله تعالى في امتداح أنبيائه: « وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا » (2)، ولكنّهم غفلوا عن أنّ ذلك لا یدلّ على عدم صحّة هذا النوع من العبادة أو على نقص فيه، وقد قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى»(3) ، ولم يقل خاف عذاب ربّه. وقال: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ » (4).

وينبغي التنبّه على أنّ هذه الآية في سورة الرحمن تخصّ المقربين، وتختلف جنّتهم عن جنّة الأبرار، كما يختلف مقامهم ، ويظهر ذلك أيضاً بملاحظة ما ورد بهذا الشأن في سورة الواقعة والدهر والمطفّفين.

وينبغي التنبه أيضاً على أنّ عبادة الملائكة من هذا القبيل وهم أيضاً يخشون الله تعالى: «يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ» (5) ،ولكن هذا خشية من

ص: 276


1- عوالي اللئالي :1: 20؛ بحار الأنوار 67: 186.
2- الأنبياء (21) :90 .
3- النازعات (79): 40 .
4- الرحمن (55): 46 .
5- النحل (16) :50 .

مقامه، لا من عذابه، لأنّهم معصومون: « لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»(1).

« وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ» لمّا كان الحديث عن وجوب شكر المنعم وقبح كفران نعمه والتنديد بالكفر والشرك، بيّن سبحانه وتعالى مورداً متكرّراً من كفران الإنسان لربّه ليحذر البشر منه وهو مضمون متكرّر في عدّة مواضع من الكتاب العزيز، ومنها في نفس هذه السورة: « فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ »(2).

والغرض بيان حالة الإنسان بصورة عامّة، فهو يتوجّه إلى ربّه ويدعوه وحده لكشف الضرّ ، ثمّ ينسى ربّه إذا بلغ غايته على ما يظنّ. وهذه طبيعة الإنسان عموماً حتّى المؤمنين إلّا المتّقين الصادقين. والغالب على طبيعة البشر هو نكران الجميل وكفران نعمة الربّ جل وعلا، ثمّ الرجوع إليه إذا تفاقمت الأمور واستعصت عليه السبل. ولذلك جعل الموضوع في الآية الإنسان، ولكنّ الآية تحذر من أنّه ربّما ينتهي الأمر به إلى الكفر.

و «الضرّ» كلّ ما فيه ضرر ومس الضرّ بمعنى إصابته. ولعلّ التعبير به للدلالة على أنّه يدعو ربّه بأقلّ ضرّ يصيبه لأنّ المسّ في الأصل هو اللمس باليد. و«الإنابة»: الرجوع. ومقتضى التعبير بالرجوع أنّ الإنسان المفروض في الآية مؤمن بربّه، و إنّما يغفل عنه نتيجة توغّله في الدنيا، ويمكن أن يكون الرجوع باعتبار أنّه بفطرته مؤمن بربّه وإن عبد غيره بتأثير من عادات المجتمع.

ص: 277


1- التحريم (66): 6 .
2- الزمر (39) :49 .

ومهما كان فإنّ الإنسان حتّى لو كان كافراً يتوجّه إلى ربّه بخالص النية إذا اضطرّ وانسدّت عليه السبل، فإنّ السبيل الوحيد الذي يبقى مبعثاً للرجاء هو التضرع إلى الله تعالى، ولكنّه بعد أن ينال بغيته ينسى ربّه.

« ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ »، «التخويل» هو الإعطاء. والأصل فيه أن يعهد إلى أحد القيام بشؤون شيء ما، لأنّ ما بأيدينا من متاع الدنيا إنّما نحن مخوّلون عليها ننتفع بها لمدة قصيرة. والمراد بما كان يدعو إليه من قبل الضرّ السابق، لأنّه هو الذي كان يدعو ربّه أن ينجيه منه. و یدلّ عليه قوله تعالى: «وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ »(1).

« وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ». من هنا يبدأ ببيان النتيجة الحاصلة لبعض البشر في هذا المقام وهو الكفر بالله تعالى أو الشرك به. و«الأنداد» الأمثال والمراد أنّه يشرك بربّه فيجعل غيره مماثلاً له تعالى في التأثير في الكون.

واللام في قوله: «لِيُضِلَّ » للغاية، يعني أنّ ذلك يفضي بالنتيجة إلى كونه مضلاًّ للآخرين وصاداًّ عن سبيل الله فضلاً عن كفره بنفسه، فانظر إلى أين يتمادى الإنسان في كفران نعمة ربّه.

« قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ » ويأتيه الخطاب الموجه تبليغه إلى الرسول: « تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا » وفيه الإشارة إلى أنّه يكفر ليتمتّع بكفره، لا أنّه يكفر لعدم وضوح الأمر له، والكفر من موجبات التمتّع، لأنّ الإيمان يقيّد الإنسان ويكبح جماحه ويمنعه من كثير من شهواته وملذّاته. ومهما كان فإنّ هذا التمتّع

ص: 278


1- يونس (10) :12 .

قليل حتّى لو دام مئات السنين، فإنّه زائل وينتهي به إلى النار فتحرق كلّ ملذاته.

« أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا »، أي أهذا الكافر المضلّ الذي انتهى أمره إلى النار خير بدواً وعاقبة أم من هو قانت آناء الليل؟ والاستفهام إنكاري، أي هما لا يتساويان، كما دلّ عليه قوله: « قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ».

و«القنوت»: الخضوع. و«آناء» جمع إنى - بكسر الهمزة وفتحها - بمعنى الساعة. وخص الحكم بالقنوت في الليل لبعده عن الرياء، ولتفرد الإنسان واختلائه بربّه، ولأنّه إذا كان يعبد ربّه في زمان الراحة والنوم، فهو يعبد في النهار أيضاً بطريق أولى. و «السجود» و «القيام» للدلالة على الصلاة.

« يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ» يبيّن هنا حالته النفسية، وهي كونه بين الخوف والرجاء، فهو يحذر الآخرة وأهوالها وعالمها المجهول، ولكنّه يرجو رحمة ربّه أن تشمله وإن قصرت أعماله. وهكذا يجب أن يكون المؤمن، فهذا إنسان تعمّق في الكون، وتجاوزت بصيرته وإيمانه ظواهره، وبلغت العالم الغيبي فهو العالم حقيقة لا الذي توقف علمه في ظواهر هذا الكون وإن تعمّق فيها وسبر أغوارها، كما قال تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(1).

«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ »، الاستفهام إنكاري أيضاً، أي لا يستويان. وهذه قضية عامّة لا تختصّ بالمورد، ولذلك لم يذكر للعلم متعلّق فالعلم بكلّ شيء ليس كالجهل به. ولا يستوي العالمون والجاهلون في أيّ مجال. ولكنّ الغرض تطبيقها في المقام وهو الفرق الواضح بين هذا الإنسان

ص: 279


1- الروم (30): 7.

المؤمن الذي علم حقيقة الكون وآمن بها وعلم أنّه عائد إلى ربّه ومسؤول عن أعماله، ومن يتّبع هواه جاهلاً أو متجاهلاً لهذه الحقيقة.

« إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ »، «اللبّ» هو العقل وما يدرك به حقائق الأمور. والأصل فيه الخالص من الشيء الذي انفصل عن القشور والزوائد. والتعبير بالتذكر يشير إلى أنّ الإنسان مسبوق بمعرفة هذه الحقائق ولكنّه ينساها، فإن ذكّر بها وكان ذو لبّ تذكر وكان من الذين يعلمون، وإن كان طائش اللبّ أصرّعلى جهله وتغافله.

والجملة في مقام التعليل لبروز هذا الاختلاف بين أفراد الإنسان، فهناك من يعلم الحقائق، وهناك الجاهل الغافل والسبب فيه أنّ الإنسان يغفل عن ما هو مرتكز في فطرته ولا ينتبه بالتذكر إلّا من كان ذو لبّ. وليس معناه أنّ الآخر معذور لأنّه لا عقل له، بل المراد أنّه لا يتّبع مقتضى عقله وإدراكه، و إنّما يتّبع هواه.

« قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ» يتحوّل عن مخاطبة الكافرين والمشركين والتنديد بأفكارهم إلى مخاطبة المؤمنين وتحذيرهم من أنّ الإيمان وحده لا يكفي إن لم يؤثّر في الحياة العملية ، فأمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يبلغهم خطابه، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بأنفسهم تشريفاً وتكريماً لهم وحثاً لهم على إصلاح النفس في مقام العمل.

وبدأ الخطاب بتوصيفهم بالعباد والكسرة تدلّ على ياء المتكلّم أي يا عبادي، وأضافهم إليه زيادة في التشريف والتكريم. ووصفهم أيضاً بأنّهم الذين آمنوا للإشارة إلى أنّ مقتضى الإيمان التقوى، فالذي يؤمن بربّ العالمين وعموم رحمته وقدرته وحكمته يتّقيه لا محالة، و إنّما يعصي الإنسان نتيجة لضعف إيمانه. ثمّ إنّ التعبير ب-«الربّ» إيذان بأنّ التربية تقتضي أن تتقيّدوا وتلتزموا

ص: 280

بأحكامه وأوامره ونواهيه، فلا يغرنّكم الإيمان ولا تظنوا أنّ لكم على الله عهداً خاصّاً، فلا فوز إلّا بالتقوى.

« لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ» المشهور بين المفسّرين أنّ الجارّ والمجرور « فِي هَذِهِ الدُّنْيَا » متعلّق بقوله: « أَحْسَنُوا » وأنّ الحسنة وهي الجزاء مطلق يشمل الدنيا والآخرة، فالمعنى بناءً عليه أنّ الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم جزاء حسن في الدنيا والآخرة. ولكنّ الصحيح أنّ الجار والمجرور متعلق بقوله: « حَسَنَةٌ » فالمعنى أنّ الذين أحسنوا أعمالهم لهم جزاء حسن في الدنيا. وذلك لأنّه على الاحتمال الأوّل يبقى الجارّ والمجرور قيداً زائداً، إذ ليس هناك مجال آخر للإحسان حتّى يكون احترازاً.

ويؤيده قوله تعالى: «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ »(1) ، فإنّ قولهم: « وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ » یدلّ على أنّ الحسنة المذكورة سابقاً خاصّة بالدنيا.

ويبقى السؤال في الغرض من هذه الجملة مع أنّ القرآن يستهدف الاستهانة بشؤون الدنيا والظاهر أنّ الغرض - كما يبدو من السياق - حثّ المؤمنين الذين يلقون مضايقات من الكفّار في أوطانهم على الهجرة وترك الأوطان، فقدّم على ذلك الوعد بأنّهم إذا أحسنوا في أعمالهم فإنّ لهم في هذه الدنيا أيضاً حسنة، ولا يختصّ الجزاء بالآخرة، حيث إنّ الباعث لهم على البقاء هو الخوف من مضائق الحياة الدنيا إذا اغتربوا عن أوطانهم، فهذه الجملة تبيّن لهم أنّ ذلك يتبع التقوى والإحسان وهو وعد إلهي بالجزاء الحسن في الدنيا للمتّقين المحسنين بأن

ص: 281


1- النحل (16) :30 .

يوفقهم في اكتساب الخير ويرزقهم من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، ويهيّء لهم أسباب السعادة أينما كانوا.

» وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ » وهذا حثّ للمؤمنين بأن يفرّوا بدينهم إذا لم يتمكّنوا من إحياء شعائرهم في أوطانهم، أو في محلّ إقامتهم، وهو بالطبع مقيد بما إذا كانت الأرض بالنسبة له واسعة وكان بإمكانه الهجرة، فلا يشمل السجّين والمحكوم عليه بالبقاء، أو من يعلم أنّ المكان الذي يمكنه الهجرة إليه أكثر ضيقاً. ومن الدواهي في عصرنا أنّ المؤمنين اضطرّوا إلى الهجرة من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر، ليجدوا فيها الرحب والسعة و تمكّنوا هناك من معرفة أحكام دينهم والعمل بها، بعد أن منعوا عنها في بلدهم مهد العلم والدين، كما حصل ذلك لأهل العراق في عهد الطاغية صدام حسين.

«إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ » ، هذه الجملة تكمل إيجاد الرغبة في نفوسهم إلى الهجرة بأنّها لا تخلو من صعوبات في المعيشة خصوصاً في تلك العهود، ولكن إذا كان التمسّك بالدين يتوقّف على ذلك، فلا بدّ من التضحية في سبيله بتحمّل بعض المشكلات والصبر عليها، ووعدهم إن هم صبروا عليها واختاروا الهجرة أن يوفّيهم أجرهم بغير حساب و «التوفية »هو الإيصال الكامل. والله لا يبخس أحداً حقه أحداً ،حقه، فهو الذي جعل له الحقّ، وإلّا فلا يستحق أحد على الله شيئاً.

وقوله: « بِغَيْرِ حِسَابٍ »إمّا بمعنى عدم محاسبته على معاصيه، فيعتبر صبره هذا مكفّراً عن سيّئاته، أو بمعنى أنّ الجزاء يزداد مع الصبر أضعافاً مضاعفة، فلا يحسب أعماله ليجازى بحسبها ومردّ ذلك إلى أنّ الصبر يرفع شأن العمل وإن کان فی نفسه حقيراً. والظاهر أنّ الصبر هنا يشمل أنواعه المختلفة من الصبر على الطاعة أو المعصية ، فإن الاغتراب عن الوطن ربّما يستتبع كلّ ذلك.

ص: 282

سورة الزمر(11 – 16)

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

« قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ »، تعقيباً على ما مضى أمر الله تعالى رسوله أن يحدّد مساره، ويؤيس المشركين من المداهنة معهم على حساب العقيدة، فأمره أن يبلغ القوم بأنّه مأمور بعبادة الله وحده مع الإخلاص له لا يشرك في عبادته أحداً. و«الدين»: الطاعة. وإخلاص الطاعة إمّا بمعنى تخليصها من شوب الرياء والشرك، وإمّا بمعنى اجتناب المعاصي والآية تشير إلى ما بدئت به السورة حيث قال تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ».

« وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ». الظاهر أنّ هذا أمر آخر، ولذلك كرّر الأمر. والمراد ب-«المسلمين» الذين أسلموا أمرهم إلى الله تعالى لا الذين استسلموا للشريعة أو للنظام الإسلامي. والإسلام - بمعنى التسليم لأمر الله تعالى في تشريعه وتكوينه - هو غاية الكمال البشري، وهو قمّة ما يدعو إليه الرسل ، وهم لا يأمرون الناس بشيء ويخالفونهم فيه، كما قال تعالى في حكاية كلام شعيب (علیه السلام): « وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ»(1) ، وقد ندّد الله تعالى بما يصنعه علماء بني

ص: 283


1- هود (11): 88 .

إسرائيل فقال: « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ»(1).

وبناءً على ذلك لا حاجة إلى تأويل الأولية في الآية، فالمراد بها هو السبق، والرسول مأمور بأن يسبق الجميع إلى التسليم لله تعالى. وأمّا إذا فسّر الإسلام بالتدين بهذا الدين، فالأولية حاصلة بالطبع، لأنّه الصادع بها، فاحتيج إلى تأويل الأولية بكونه أقوى الناس في التمسك بالدين.

«قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ».ثمّ أمره أن يعلن أنّه لا يمكن أن يعصي الله تعالى، فلا قرابة لأحد مع الله تعالى، ولا كرامة لأحد إلّا بالتقوى، والرسول كغيره يجب أن يخاف عذاب ربّه إن عصاه، وقد أنذره الله تعالى كما أنذر من قبله من المرسلين، كما يأتي في هذه السورة: « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(2). وهذا ينذر بخطر عظيم على الآخرين، فلا يغرّن أحد قرابته من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فكيف بغيره، ولا ينفع أحداً يوم القيامة إلّا تقواه.

« قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ».هذا ليس تكراراً لما مرّ، فإنّ مضمون الآية السابقة أنّه مأمور بعبادة الله مخلصاً، وهنا يعلن أنّه فعلاً، قد أطاع ربّه، ولا يعبد إلّا إياه مخلصاً له دينه وتقديم المفعول یدلّ على الحصر، وأنّه لا يعبد غيره تعالى.

« فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ » المعروف أنّ هذا الأمر للتهديد والأساس في مثله أنّ الأمر يخلّي بين المأمور والفعل، ولا يمنعه حتّى إذا فعل ما يريد قابله بالعذاب. ولكن لا يبعد أن يكون المراد إعلام البراءة عنهم وعن دينهم، كما هو

ص: 284


1- البقرة (2) :44 .
2- الزمر (39): 65 .

مفاد سورة الجحد، فتكون هذه الجملة مقابلة للجملة السابقة ومكمFلة لها، والمعنى أنا لا أعبد إلّا الله مخلصاً له الدين وأنتم تعبدون غيره، « «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»(1).

«قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أمر آخر للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يحدّد للمشركين حقيقة الربح والخسارة، بهذا التعبير الذي يحصر الخسران في خسارة يوم القيامة حيث أتى باسم إنّ معرفاً، فالخاسر في الحقيقة ليس من قصرت أيّام عمره في الدنيا، أو ضاقت به السبل واستعصت عليه الأمور في هذه النشأة، بل الخاسر الذي يخسر نفسه وأهله يوم القيامة حيث الحياة الأبدية. أمّا خسران نفسه، فلأنّه يعيش أبداً بين الحياة والموت، يأتيه الموت من كلّ مكان وما هو بميت ويعيش معذبا أبداً، وأمّا خسران أهله، ، فلأنّهم إن كانوا مؤمنين فهم بعيدون عنه يتنعّمون في الجنّة، وإن كانوا مثله، فهو أيضاً لا يجدهم، أو يجدهم مثله معذّبين.

وقيل: إنّ المراد أهله يوم القيامة، أي الذين ينبغي أن يكونوا أهله لو كان مؤمناً، والمراد بهم الحور العين فهو يخسرهنّ، وقد عبّر عنهنّ القرآن بالأهل كما في قوله تعالى: «وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا » (2)، وأمّا أهله في الدنيا فلا يبقون أهلاً له، لقوله تعالى: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ »(3).

ولكنّه خلاف الظاهر، وإطلاق الأهل على من كانوا في الدنيا أهله بلحاظ

ص: 285


1- الكافرون (109): 6 .
2- الانشقاق (84): 9 .
3- المؤمنون (23): 101 .

وقت الخطاب، وأمّا الحور العين فلم يرد التعبير عنهم بالأهل، والمراد بقوله تعالى: «وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا » رجوعه إلى من كانوا أهله في الدنيا، فإنّ الله يجمع بينهم إن كانوا مؤمنين، كما قال تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» (1) وقال أيضاً: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ »(2).

«أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ » مرّة أخرى يؤكّد على الحصر المذكور، ويقدّم عليه حرف التنبيه: «ألا» ليستعدّوا لإعلان خبر مهم، وهو أنّ ذلك خسارة واضحة وأنّه لا خسارة غيرها، ولذلك أتى بضمير الفصل مع تعريف الخبر لیدلّ على الحصر. كلّ ذلك لغرض الوعظ لعلّهم يحذرون وينتبهون للخطر المحدق بهم.

« لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ »، التعبير يصوّر حالتهم في النار، وكونهم محاطين بها من كلّ جانب، وتسميتها ظللاً نوع من التهكّم، فإنّ الإنسان في ذلك الجو الملتهب يبحث عن ظلّ يستريح تحته، ولا ظلّ له إلّا النار، ومن باب المشاكلة عبّر عن فرشهم أيضاً بالظللّ وهو أيضاً من النار. و«الظلل» جمع وهي كلّ شيء يظلّ كالصفة والسحابة وغيرهما. والإتيان بصيغة الجمع ظلة یدلّ على أنّ النار فوقهم وتحتهم طبقات.

« ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ». يظهر من الآية أنّ التعبير المذكور لا يحدّد الواقع كما هو و إنّما هو تعبير عن شدة العذاب وخطورة الموقف، يراد به تخويف الناس من مخالفة أحكام الله تعالى، وذلك لأنّه لم يقل ذلك يخوّف الله

ص: 286


1- الرعد (13) :23 .
2- الطور (52) :21 .

منه عباده، بل قال يخوّف به عباده، فاسم الإشارة في هذه الجملة يشير إلى هذا التعبير لا إلى النار، فإنّ النار ممّا يخوّف الله عباده منها لا بها، فيظهر منه أنّ الذي يخاف منه أمر آخر غير ما يظهر من التعبير.

وهذا الأمر تفطّن له بعض أتباع الهوى ولكنّه فسّره بما يلائم هواه، فقال: إنّه ليس هناك جنّة ولا نار، وإنّ الله تعالى أراد منّا أن نعمل الحسنات ونترك المساوئ ، فخوّفنا بالنار وأطمعنا في الجنّة.

مع أنّ القرآن يؤكّد أنّ الله تعالى لا يخلف الميعاد. والصحيح أنّ المستفاد من الآية وغيرها أنّ العذاب فوق ما نتصوّره، ولكنّه بالطبع ليس من قبيل عذاب الدنيا، كما أنّ نعيم الجنّة ليس من هذا القبيل، فما ورد من التعابير لتقريب تلك الحقائق الغريبة علينا إلى أذهاننا، ولذلك نجد أنّ النار هناك لا تحمل صفات النار في الدنيا، فهي تطّلع على الأفئدة، أي تحرق الأرواح قبل الأجسام، وهي تحرق ولا تبيد. وكذلك فواكه الجنّة ليست لها هذه الخصائص وإلّا لم تكن نعمة كاملة.

والحاصل: أنّ التعبير بالنار وإن لم يطابق الواقع كاملاً لبعده عن أذهان السامعين إلّا أنّ الواقع أشدّ وأدهى، لا كما توهّمه أصحاب الهوى.

ثمّ رتّب على التخويف ما قدّمه من الخطاب لعباده المؤمنين « يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ» بحذف الياء في الكلمتين أي يا عبادي فاتقوني. و«الفاء» تفريع، يعني حيث كان الأمر كذلك فاتّقوني حتّى لا تصيبكم هذه النار. والمراد بالعباد هنا كلّ البشر.

ص: 287

سورة الزمر (17 – 20)

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)

« وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى » الطاغوت مصدر بمعنى الطغيان يفيد المبالغة كالملكوت والرحموت ويطلق على كلّ من طغا وتجبر على الله تعالى مبالغة في الطغيان كالشيطان وجبابرة البشر ومن ادّعى الألوهية قولاً أو فعلاً، ولا يشمل الأصنام، إذ ليس لها شعور حتّى تكون طاغية. وقوله: « أَنْ يَعْبُدُوهَا » بدل من الطاغوت. وفي هذا التعبير بدلاً من أن يقول:« والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت» تأكيد على ابتعادهم عن الطاغوت بذاته فضلاً عن عبادته. ولعلّ الإتيان بالضمير المؤنث في قوله « يَعْبُدُوهَا » باعتبار أنّ المراد به الجماعة و«العبادة» تشمل الإطاعة ، بل هي من أوضحها وقد نهى الله تعالى عن عبادة الشيطان «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ » (1) والإنسان لا يسجد للشيطان و إنّما يطيعه.

ثمّ إنّه لا يكفي ترك عبادة الطاغوت، إذ ربّما يكون لأمر غير إلهي، بل لا بدّ من الإنابة إلى الله تعالى حتّى يستحقّ البشرى منه. و «الإنابة» هي الرجوع. وقوله: « لَهُمُ الْبُشْرَى » خبر لقوله: « وَالَّذِينَ» وهذه الجملة إنشاء للبشرى وليس خبراً

ص: 288


1- يس (36): 60 .

يحكي عن البشارات التي بشّر بها أو يبشِّر بها.

« فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ». ثمّ أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن يبلغهم البشارة، ولكنّه أبدل الضمير إلى عنوان آخر للتأكيد على الصفة التي استوجب وصولهم إلى هذه السعادة، فلم يقل: فبشّرهم، بل قال: فبشّر عبادي فهم استحقّوا البشرى لعبوديتهم لربّهم، وفي الإضافة إلى ضمير المفرد المتكلّم من التشريف ما لا يخفى .

ثمّ وصفهم بأنّهم لا يتعصّبون لما أخذوه من آبائهم وأجدادهم، أو تلقّوه بالقبول في صغرهم، أو تبعوا بذلك تقاليد مجتمعهم، ولا يقلّدون أحداً في اعتقادهم، ولا يبحثون في الاعتقاد والقول عمّا يلائم أهواءهم، بل يبحثون عن الحقّ، ولا يمتنعون من الاستماع إلى كلّ قول يحتمل فيه أن يكون حقاً، أو يحتمل أن يكون أحسن ممّا اتّبعوه، ثمّ إذا وجدوه حقاًّ تبنوه برحابة صدر.

وهذه الآية حجّة على المتطرفين المتعصّبين الذين لا يستمعون غير كلام أسيادهم ومشايخهم ، وإذا سمعوا يرفضون الانصياع لكلّ حق لا يلائم ما تبنوه من أفكار، تقليداً للسلف الجاهل.

« أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ » ، الآية تحصر المهديين بل ذوي العقول في هؤلاء، فالذي يرفض الاستماع إلى حديث غيره ليس مهتدياً حتّى لو كان يتّبع المذهب الحقّ ، وليس من ذوي الألباب، وذلك لأنّه لا يخلو مذهب من كلام صحيح وإصابة للحقّ ، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يتعصّب، بل عليه أن يسمع في كلّ مسألة وكلّ موضوع مختلف الأقوال، وينتخب منها ما هو الحق.

« أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ» استفهام إنكاري و« الفاء» فاء التفريع، أي أنّ ما بعده يترتب على ما مرّ والجملة الثانية تكرّر فيها الاستفهام

ص: 289

والفاء للتأكيد. وهذه الجملة في الواقع بدل عن الجواب في الجملة الأولى. والأصل في الجملة: «أفمن حق عليه كلمة العذاب أنت تنقذه» و إنّما أبدل الضمير بقوله تعالى: « مَنْ فِي النَّارِ» للإعلام بالسبب وهو أنّه في النار فعلاً فانتهى كلّ شيء، فكيف تنقذه؟ والمفروض أنّه في الدنيا وليس في النار ، ولكنّ الغرض التأكيد على أنّ استحقاقه للعذاب بلغ إلى درجة الفعلية بحيث لا يمكن التخلّف، فکأنّه الآن فيها.

والمراد بكلمة «العذاب »ما توعّد به الله تعالى عباده الطغاة عبدة الطاغوت، فلا حاجة إلى البحث عن جملة خاصّة لتكون هى المراد بالكلمة.

والآية تأتي في سياق الآيات الكثيرة التي تسلّي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حيث كان يتجرّع الغصص ممّا يشاهده من إصرار قومه على الشرك والكفر، والآيات تؤكّد على الاستهانة بهم، وعلى أنّهم لا يؤمنون أبداً، وأنّهم قد استوجبوا العذاب، وأنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا يمكنه أن يهدي أحداً كرهاً، و إنّما دوره دور الإبلاغ والتبيين، وأمّا الهداية التكوينية فهي من الله تعالى.

« لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ» . يعود إلى ذكر ثواب المؤمنين ليكون تسلية لقلب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولكنّ الجزاء ليس لكلّ المؤمنين، بل الذين اتّقوا ربّهم والجزاء يطابق ما ذكر في عذاب المعاندين للحقّ ، فهناك ظلل وطبقات من النار، وهنا طبقات وغرفات في الجنّة.

والغرفة من البيت ما يبنى في طبقة عليا، ويبدو من الآيات أنّ كلّ بيوت الجنّة غرف، قال تعالى: «أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا » (1)، وقال أيضاً: «وَالَّذِينَ آمَنُوا

ص: 290


1- الفرقان (25) :75 .

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ » (1)، وهنا أيضاً أخبر أنّ لهم غرفاً ومن فوقها غرف، فليس هناك طبقة أرضية، بل كلّها غرف فوق غرف، ولعلّ ذلك إشارة إلى علوّ مقامهم وعلو المنزلة التي يتبوّؤونها.

وأمّا التوصيف بأنّها مبنيّة فقد قيل إنّه للتأكيد على أنّها بالفعل موجودة ومبنية وليست ممّا سيبنى لهم ولكن لا دليل على ذلك من اللفظ، إذ يمكن أن يكون التوصيف بلحاظ الحال في ذلك اليوم، مع أنّ هذا الأمر ليس دخيلاً في الترغيب، ولا يختلف الحال للإنسان أن تكون الجنّة مبنيّة ومخلوقة أو ستخلق في ما بعد.

ويمكن أن يكون ذلك للتنبيه على أنّ هذا التعبير ليس تعبيراً مجازياً، كما هو الحال في التعبير بالظلل عن النار في الآية السابقة، بل هو يعبّر عن حقيقة قائمة.

«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ » توصيف الغرف بذلك هنا وفي سورة العنكبوت يمكن أن يكون بلحاظ أنّ هذه الغرف في جنّة تجري من تحتها - أي تحت أشجارها - الأنهار، أو أنّ الغرف بنفسها مطلّة على الأنهار.

«وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ »، «وعد الله » مفعول مطلق، وفعله مقدّر، أي وعد الله بذلك وعداً، فأضيف المصدر إلى الفاعل وفي إضافة الوعد إلى الله تعالى إشارة إلى أنّه وعد محقق، لأنّه من الله القادر المتعال. وجملة: «لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ» تبيّن ما أجمل في الإضافة المذكورة. والله تعالى لا يخلف وعده، إذ لا يخلفه أحد إلّا لجهل أو عجز تعالى الله عن ذلك، فالإنسان ربّما يعد بما لا يمكن أن يتحقّق لجهله بالظروف الطارئة، أو يعد بما لا يقدر عليه في ظرفه والله تعالى لا يمكن فيه الجهل والعجز.

ص: 291


1- العنكبوت (29): 58 .

سورة الزمر( 21 – 22)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)

« أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ » . يعود إلى التذكير بآيات الربوبية لإثبات أنّ الربّ هو الخالق لا غيره، لأنّه خلق الكون بكيفية تنشأ منها كلّ مظاهر الربوبية، فيثير في الإنسان التوجّه إلى ظاهرة المطر والنبات وهي سلسلة من الحياة تبدأ وتنتهي وتعود تبدأ من جديد، فمن هو المدبّر لها غير خالقها الذي خلق الماء على هذا الكوكب ، ومعها عوامل ومؤثرات كثيرة خلقها الله تعالى وقدّرها ودبّرها بحيث تهيّء الفرصة لتبخر الماء وتكثّفه على هيئة غيوم، ثمّ تقاطره على الأرض مطراً؟

ثمّ سلك الماء العذب في الأرض، وخلق قشرة الأرض بحيث لا يجري كلّ هذا الماء فتعود إلى البحر، ولو كان كلّه صخراً صلداً لم ينتفع البشر من هذا الماء، ولم ينبت زرع على الأرض، ثمّ لم يجعل كلّ طبقات الأرض قابلة لتسرّب الماء، وإلّا لامتصت كلّ هذا الماء ولم ينتفع به أيضاً، بل جعلها طبقات مختلفة فجرى الماء على بعضها فصار أنهاراً، وتسرّب في بعضها وانتهى إلى بعض طبقاتها القريبة فخرج الماء من العيون، وذهب بعضه إلى طبقات سفلى وتوقّف أيضاً ليتمكّن الإنسان من استخراجه بحفر الآبار على اختلاف أعماقها.

وقوله تعالى: « أَلَمْ تَرَ »خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو لكلّ من يقرأ القرآن أو يسمعه.

ص: 292

و «السلوك» قد يأتي بمعنى الدخول، كقوله تعالى: « فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا » (1)، وقد يكون بمعنى الإدخال كقوله تعالى: «مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ »(2) وهنا أيضاً بهذا المعنى، أي وأدخله في ينابيع الأرض، فالينابيع منصوب بنزع الخافض. والينبوع العين التي يخرج منها الماء. أو تكون «ينابيع» حالاً من الماء، أي سلكه في الأرض ينابيع. والتسمية حينئذ بلحاظ حاله في المستقبل، أي حال كونها ينابيع في المستقبل.

« ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ » وهذا الماء يحيي الأرض بالإنبات، فيخرج الله به منها زرعاً مختلفاً ألوانه وأشكاله وأنواعه ويمكن أن يراد باللون كلّ ذلك. والإتيان بلفظة «ثمّ» للدلالة على التراخي، فإنّ الزرع لا يتبع المطر مباشرة، وأتى بفعل المضارع للدلالة على الاستمرار، وأنّ خروج الزرع مستمرّ بعد نزول المطر بطرق أخرى، كالسقي بمياه الأنهار والقنوات والعيون، وهي كلّها من المطر. والزرع: مصدر يراد به المزروع أي النبات.

« ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا »، قيل هيجان النبات قيل إنّه بمعنى الصفرة. وفي « معجم مقاييس اللغة» أنّه بمعنى اليبس، وهو الصحيح، لأنّ الاصفرار جاء مترتّباً على الهياج. والظاهر أنّ هذا المعنى لا يرتبط بالهياج بمعنى الحركة أو الثوران، ويبعد كونهما من أصل واحد، فإنّ اليبس والاصفرار لا يناسبان هذا المعنى، إذ يتحقّقان تدريجاً.

ومهما كان، فالمراد بهذا التعبير الإشارة إلى الفناء الذي يحصل للنبات ضمن مراحل، فييبس أولاً فتنتهي حياته وتكامله، ثمّ تراه مصفراً قد زال عنه آخر آثار

ص: 293


1- النحل (16) :69 .
2- المدثر (74): 42 .

الحياة وهو اللون الأخضر البهيج، ثمّ يجعله حطاماً وهو فتات النبات اليابس تنتشر بفعل الرياح، ثمّ تبدأ حياة الأرض من جديد. وهكذا يستمرّ هذا المسلسل ليذكر الإنسان بربّه خالق الكون ومدبّره، ولو لم يشأ الله الحياة على هذه الأرض لم تتحقق كلّ هذه السلسلة البديعة.

« إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ». نعم لا يتذكّر من كلّ هذه الآيات المتكرّرة والتي تملأ العالم طولاً وعرضاً إلّا أولوا الألباب أي العقول، والمراد بهم الذين يتّبعون عقولهم ولا يتّبعون أهواءهم، فهناك كثير من الناس لا ينقصهم العقل والإدراك، بل ربّما كانوا من النوابغ في علوم الدنيا، ولكنّهم أخلدوا إلى الأرض وأبهتهم زينتها وبهرجتها، فلم يصغوا لنداء عقولهم وفطرتهم. ومن هنا فإنّ كثيراً ممن يعتبرون في مصطلح الناس من العلماء لا يعتبرهم القرآن من أولي الألباب وذوي العقول.

وقد مرّ أنّ التعبير بالذكرى والتذكّر يشير إلى أنّ الإيمان بالله تعالى وبربوبيته ممّا جبل عليه فطرة الإنسان، ولكنّه ينساه أو يتناساه فيحتاج إلى ما يذكره.

« أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ » الهمزة للاستفهام الإنكاري ،أي هل من شرح الله صدره كمن قسى قلبه؟ من الواضح أنّهما لا يتساويان. وهناك فرق بين الاستفهام الإنكاري والإنكار رأساً، فالاستفهام باق على معناه الأصلي وهو طلب الجواب، إلّا أنّ الغرض منه هو تنبيه المخاطب على أمر هو ينكره، وإن لم ينتبّه إلى إنكاره تفصيلاً، فهو في الواقع يدعوه إلى التصريح بالإنكار.

و«الفاء» للتفريع على ما أشير إليه في الجملة السابقة، وهو انحصار التذكر من آيات الله تعالى بأولي الألباب، فهذه الآية تبيّن سبب هذا الاختصاص وهو شرح الصدر. والشرح هو البسط والتوسعة. وانشراح الصدر سعة النفس لتلقّي المفاهيم

ص: 294

والحقائق، ويقابله ضيق الصدر الناشئ من التعصب والتطرّف، والركون إلى تقاليد المجتمع، أو ما تلقاه من الآباء والأجداد أو المشايخ والأسياد، قال تعالى: « «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ»(1) .

وهذه الآية تبيّن بوضوح أنّ الله تعالى لا يضيّق صدر أحد ابتداء، بل إنّما يجعل الرجس على الذين لا يؤمنون، ولم يقل لم يؤمنوا، بل الذين يستمرّون على عدم الإيمان. وهذا هو التعصب الأعمى وعدم الاستسلام للحقّ ، فهذه الحالة توجب مرضاً نفسياً وانطواء يعبّر عنه القرآن بضيق الصدر.

ونلاحظ أنّ الناس في مواجهة الحقائق التي تلقى عليهم مختلفون، فهناك الساذج البسيط الذي يقبل كلّ ما سمعه وإن رفضه المنطق السليم، وهناك المعاند الذي يتأبّى عن قبول كلّ ما يخالف ما دأب عليه واعتاده، وهناك من يسبر الأمور وينظر بنظرة الناقد البصير بعيداً عن الأهواء والتقاليد، وينصاع للحقّ ويرفض الباطل. وهؤلاء هم المهتدون بنور الله تعالى، فهو على نور من ربّه.

وهذا النور أيضاً لا يحصل بدون سبب، فالإنسان إذا أحبّ أن يتّبع الحقّ ولم يتّبع شهواته وأهوائه حصل له هذا النور بالطبع. وكلّ ما بالطبع فهو من الله جل وعلا. وقوله: «عَلَى نُورٍ» تعبير يصوّر حالة الإنسان، كما تقول على بصيرة أو على يقين أو على شكّ أو على هدى وليس بمعنى ركوب النور استعارة كما في «الميزان» وغيره.

« فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» هذه الجملة تدلّ على معادل الجملة السابقة،

ص: 295


1- الأنعام (6): 125 .

أي أفمن شرح الله صدره كالقاسية قلوبهم، فويل للقاسية قلوبهم، فحذف الأول لدلالة الثاني.

والويل بمعنى حلول الشرّ أو القبح، وهو دعاء عليهم أو تقبيح لحالتهم. و«من »في قوله تعالى: « مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» للتعليل، أي بسبب ذكر الله، فيمكن أن يكون تعليلاً للقساوة، والمعنى حينئذ ويل لمن يقسو قلبه إذا ذكر الله تعالى عنده.

ويمكن أن يكون تعليلاً للويل، والمعنى أنّ قلوبهم قاسية بسبب آخر، كالانغماس في الشهوات ولكنّ الويل لهم إذا ذكر الله عندهم حيث إنّ ذكر الله تعالى يزيد في قساوة قلوبهم. وقد انعكست فيهم المؤثرات، فهو نظير قوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا »(1) ، وقوله تعالى «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا»(2).

وهذا من خصائص التعصّب والتزمّت فيبلغ به الأمر إلى أنّ ما يلين القلب ويجعله خاشعاً يزيد في قساوته بل تشمئزّ منه نفسه، كما سيأتي في هذه السورة:« وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» (3).

« أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ » إشارة إلى القاسية قلوبهم. والتعبير يوحي أنّهم منغمسون في الضلال وقد أحاط بهم من كلّ جانب، فلا يمكنهم الخروج منه وهو في نفس الوقت ضلال مبين أي واضح. وأيّ ضلال أوضح من هذا، حيث يصل الإنسان إلى مرحلة من البعد عن الله تعالى يقسو قلبه بذكره؟!

ص: 296


1- الإسراء (17) :82 .
2- الفرقان (25): 60 .
3- الزمر (39): 45 .

سورة الزمر (23 – 26)

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)

« اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ »، عدل عن الجملة الفعلية فلم يقل: نزّل الله أحسن الحديث، بل قدّم الاسم الجليل تأكيداً وتركيزاً على أنّ الكتاب منه، وليس من صنع البشر وليس منه تنظيمه ولا ترتيب كلماته، كما يظنّ بعض الناس. فهناك فرق بين أن تقول: فعل زيد كذا، وأن تقول زيد فعل كذا، حيث إنّ التعبير الثاني يركز على شخص الفاعل ممّا یدلّ على أنّ الغرض التأكيد على أنّه الفاعل لا غيره. و إنّما يؤتى بهذا التأكيد إذا أريد التعريض بمن يعتقد أنّ الفاعل غيره، فهو ردّ على من ينسبه إلى الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قديماً وحديثاً.

و«الحديث» كلّ شيء جديد. ومن هنا أطلق على الكلام، لأنّه يتجدّد ويحدث شيئاً فشيئاً. وفي التعبير بالحديث ردّ على من ينسب الألفاظ إلى الرسول لا بدعوى أنّ ما كان يوحى إليه هو المعاني، وأنّه صاغها بهذه الألفاظ، فهذه الآية ردّ واضح على هذه الدعوى.

والقرآن أحسن حديث على الإطلاق، لأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأنّه كلام رب العالمين، ولأنّ فيه تبيان كلّ شيء وتفصيل كلّ شيء،

ص: 297

ممّا يتوقف عليه سعادة الإنسان في الحياة الأبدية، وفيه هدى ورحمة للمؤمنين، وشفاء لما في الصدور، ونور وبصيرة تنفذ إلى أعماق الغيب.

وقوله: « كِتَابًا » بدل عن أحسن الحديث، أي مكتوباً ومجموعاً، فإمّا أن يكون المراد أنّه قد نزل مجموعاً مرّة واحدة وإن نزل متفرّقاً أيضاً كما قيل، أو أنّ جمعه بعد نزوله متفرّقاً كان بأمر الله سبحانه، كما یدلّ عليه قوله تعالى: « «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» (1)، على قول أيضاً.

ولكنّ الأقرب أن يقال: إنّ المراد بالجمع المدلول عليه بالكتاب جمع المطالب في الألفاظ للتأكيد على أنّ ما نزل لم يكن معاني متفرقة جمعها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وصاغها بهذه الصياغة، كما يتقوّله بعض الكتاب المتفلسفين، وهو المراد أيضاً من آية سورة القيامة.

وقوله « مُتَشَابِهًا »أي يشبه بعضه بعضاً من حيث التعبير والتأثير والأسلوب والقوة في الأداء، فلا تجد في آياته تمايزاً بيّناً من هذه الجهات ومن جهات أخرى أيضاً، كما قال تعالى: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا »(2).

و «المثاني » جمع مثني، أي المعطوف والثني هو العطف. ووصف به الكتاب مع أنّه مفرد بتأويل الاشتمال، أي يشتمل على مثاني، وهي صفة للمضامين أو الآيات بمعنى أنّ آياتها ينعطف بعضها على بعض، ويفسّر بعضها بعضاً، أو بمعنى أنّ كثيراً منها تتكرّر ولا يوجب ذلك ملالاً على القارئ أو السامع، فإنّ التثنية

ص: 298


1- القيامة (75): 17 .
2- النساء (4): 82 .

بمعنى التكرير، كقوله تعالى: «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ »(1)، أو أنّها تتكرّر قراءتها ليلاً ونهاراً دون ملل، بل يشعر الإنسان في كلّ قراءة وسماع أنّ ما يقرأه أو يسمعه شيء جديد.

« تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» القشعريرة - بالضم فالفتح فالسكون - الرعدة. واقشعرّ جلده أي تقبض، وربّما يراد بها وقوف الشعر وتنسب القشعريرة إلى الجلد لأنّها تحدث فوقه أو لأنّ الجلد أيضاً يتأثّر بها. فالذي يخشى ربّه من الطبيعي أن يشعر بالقشعريرة إذا تليت عليه كلماته، وكلّما زادت معرفته بربّه زادت خشيته وتأثره.

والقشعريرة نتيجة طبيعية لخشوع القلب وخوفه واستعظامه للأمر، فهذا ربّه خالق الكون يدعوه لما فيه خيره وينذره بشر عظيم إذا خالف أوامره، فيا ترى هل يوفّق لامتثال أمر مولاه؟ وهذا الهاجس يخيفه فيقشعرّ له جلده، ثمّ يذكر رحمة ربّه وأنّه يقبل منه القليل ويجازيه بالكثير، فيلين قلبه ويطمئنّ ويتبعه جسمه، فيلين جلده أيضاً، ويشعر بالراحة والأمان. وهكذا المؤمن طيلة حياته يعيش بين الخوف والرجاء.

وعليه فيمكن أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي، أي أنّه يتذكّر رحمة ربّه وعموم عفوه فيطمئنّ ويستريح، ويمكن أن يكون المراد الذكر اللفظي، لأنّ التلفظ له تأثير عظيم في النفس، ولذلك يطلب من المريض أن لا يكتفي باستشعار الأمل في الشفاء، بل يلقّن نفسه بصوت عال أنّه مشافي، وأنّ شفاءه قريب وقطعي، ليؤثّر ذلك في روحه ويتبعها الجسم، فيكون المعنى أنّه إذا سمع

ص: 299


1- الملك (67) :4 .

آيات الأمر والنهي أو العذاب والإنذار اقشعرّ جلده، فإذا بلغ موضع أسماء الله الحسنى بما فيه كونه غفّاراً وقابل التوب ورحيماً ورؤوفاً ونحو ذلك اطمأنّ قلبه ولان جلده

« ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ» يمكن أن تكون ذلك إشارة إلى نفس هذه الحالة التي تحصل للمؤمن، حيث يقشعرّ جلده من خشية الله بسماع كلامه و آياته، ثمّ يلين قلبه وجلده لذكر ربّه، فهذه الحالة لا تحصل للإنسان إلّا بهداية من الله تعالى. ويمكن أن يكون إشارة إلى الكتاب، فإنّه موجب للهداية. وقد عبّر عنه بالهدى في قوله تعالى: «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ »(1).

« يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ »، «الهداية» كأيّ حادث آخر لا تتحقّق إلّا بإرادته تعالى ومشيئته، ولكنّه لا يشاء بدون سبب فمشيئته لحكمة، ولابدّ للهداية من أرضية صالحة. والله تعالى يبعث بهداياته ابتداءً للجميع : «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (2) ، فإن لم يعاند الإنسان ولم تمنعه شهواته من قبول الحق، ولم يتعصّب للباطل استحقّ الهداية التامّة والتوفيق من الله، وإن تعصّب لأهوائه وتقاليده و تمادى في الغيّ فإنّ الله يضلّه، بمعنى أنّه بصورة طبيعية تحدث له حالة نفسية تأبى من قبول الحقّ والانصياع له وكلّ ما هو طبيعي فهو من فعل الله سبحانه.

« وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ » ، وهذا أمر واضح، إذ يستحيل أن يتحقّق في الكون إلّا ما يريده الله تعالى ولا يمكن أن يقاوم إرادته شيء، ولا حول ولا قوة إلّا به، فمن أراد الله تعالى إضلاله، فلا يمكن أن تؤثّر فيه الهدايات لأنّ مردّ

ص: 300


1- البقرة (2): 2 .
2- الإنسان (76): 3.

ذلك - كما قلنا - إلى تأبيه ذاتاً عن قبولها ، فلا يمكن أن يهتدي بعد ذلك ولا تؤثّر فيه محاولات الرسل وسائر المصلحين والدعاة.

« أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ، «الفاء» للتفريع. والهمزة للاستفهام الإنكاري كما مرّ في نظيرتها آنفاً. وهنا أيضاً حذف المعادل لدلالة السياق عليه، أي هل هما سيّان، إنسان يعذّب يوم القيامة ولا يمكنه يقي نفسه من العذاب إلّا بوجهه، وإنسان آمن من العذاب يعيش في سلام ونعيم؟!

والمضمون تفريع على ذكر الضلال والهدى، ومقارنة بين عاقبة المؤمن المهتدي والذي ضلّ الطريق وظلم نفسه وغيره، فهو يتّقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة. و«الاتّقاء» عادة يكون باليد والوجه أهمّ ما يحفظ ويصان، ولكنّه حيث غلّت يداه إلى عنقه، فهو يلقى بوجهه في النار، وهو لا يتّقي عنها بشيء إلّا أنّه حيث يكون وجهه أوّل ما يلقى النار، كما قال تعالى: « فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ » (1) عبّر عن ذلك بالاتّقاء بوجهه. فيكون التجوّز في التعبير عن الإلقاء بالاتّقاء نظير ما يقال فلان استقبل السهام بصدره، فإنّه لا يستقبلها ولكنّها تصيب صدره، فعبّر عن ذلك بالاستقبال كناية عن تحمّله لإصابتها.

ويمكن أن يكون كناية عن أنّه لا يملك ما يقي به نفسه، فهو يتّقي العذاب بوجهه، مع أنّ الوجه هو أوّل مايصان ويحفظ، فلا يعدّ واقياً، نظير التعبير عن نار جهنم بالمهاد وبالظلل ونحو ذلك.

و«سوء العذاب» يمكن أن يكون إضافة بيانية، أي يحاول أن يقي نفسه سوءاً هو العذاب، ويمكن أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي يتّقي أسوأ

ص: 301


1- النمل (27) :90 .

العذاب. وهو مفعول يتقي أو منصوب بنزع الخافض، أي من سوء العذاب.

« وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ » ، أي كان ذلك حينما قيل للظالمين، فلا بدّ من تقدير «قد» لتكون الجملة حالية، ويمكن أن يكون بتقدير «يوم» مستغنياً عنه بقوله: « يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ، أي يوم قيل للظالمين، وأتى بالفعل الماضي، لأنّه مستقبل محقق الوقوع فکأنّه كان والغرض بيان أنّ هذا العذاب السيّء ليس إلّا حصاد عمله ونتاج كسبه.

وهذا القول - كسائر الموارد التي ينقل فيها القول يوم القيامة - يمكن أن يكون قول الملائكة يخاطبون به الكفار لمزيد من العذاب، ويمكن أن لا يكون قولاً لفظياً، بل يعبّر بالقول عن بروز الحقائق في ذلك اليوم، فإنّ القول دوره دور الإبراز، وذلك اليوم لا يخفى شيء، فكلّ شيء ينطق ويقول ويبرز ما في مكنونه كما قال تعالى: «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» (1).

هذا الخطاب یدلّ على تجسّم الأعمال، وأنّ ما يذوقونه هو عين ما كانوا يكسبون قد برز بصورته الحقيقية. ثمّ إنّ الخطاب لا يختصّ بالمشركين أو الكفّار ، بل مطلق الظالمين الذين ظلموا أنفسهم أو غيرهم.

« كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ» يعود إلى التعرّض لحال المشركين في مکّة والجزيرة العربية، ويحذّرهم عن تكذيب الرسالة الإلهية. فالضمير في قوله: « مِنْ قَبْلِهِمْ » يعود إلى مشركي مکّة، ويحذّرهم أنّ الأمم السالفة كذّبت رسلها فأتاهم العذاب. وفاء التفريع یدلّ على أنّ التكذيب بنفسه كاف في استنزال العذاب.

ص: 302


1- فصلت (41): 21 .

وينتقل من الحديث عن عذاب الآخرة إلى عذاب الدنيا، ويخوّفهم من عواقبها، لأنّ البشر غالباً لا تخيفه أهوال يوم القيامة حتّى لو آمن بها، ولعلّه لضعف إيمانه أو لأنّ البشر غالباً لا ينظر إلى العواقب البعيدة حتّى بالنسبة لعواقب الدنيا، ولذلك فإنّ عدم الاهتمام بالآخرة لا يختصّ بالكافر، بل يشمل المؤمنين، حيث نجد أكثرهم يهتمّون بزكاة الفطرة والصدقة المستحبة أكثر من زكاة المال الواجبة أو الخمس، لأنّ أهل الدعوة والتبليغ نشروا بين الناس أنّ زكاة الفطرة تفيد في الدنيا، وأنّ الصدقة تدفع البلاء فتجد من لا يصلي ولا يصوم أيضاً يهتمّ بهما، ومن هنا فإنّ القرآن يحذّرهم عذاب الدنيا لعلّهم يتّقون.

والآية تشير إلى عواقب الأمم السالفة، وكانت العرب تتداول أخبارها وتعلم بها، وتحذّرهم من العذاب الذي يأتي من حيث لا يتوقّعه الإنسان، فإنّه آلم وأشدّ حيث يؤخذ على غرّة ولا يمهل ولأنّهم ربّما يتصوّرون أنّ ما عذب به قوم فلان وفلان لا مجال له بالنسبة إليهم، كمن هو بعيد عن مناطق الزلزال أو أمواج المحيطات «تسونامي»، فيظنّ أنّ العذاب لا يأتيه، ولا يعلم أنّ العذاب ربّما يأتيه عن طريق حكومة جائرة، فهذا أيضاً من عذاب الله وإن كان بالنسبة للحاكم جريمة وإثماً. قال تعالى لبني إسرائيل: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ»(1) .

والظاهر أنّ المراد بهم جيش نبوخذ نصر وهو كافر ظالم، ولكنّ الله تعالى يعبّر عن هجومه العدواني على الشعب المؤمن آنذاك وهم بنو إسرائيل بأنّه تعالى بعثهم على ذلك، بمعنى أنّه أوجد في نفوسهم الباعث والمحرّك والحاصل أنّ

ص: 303


1- الإسراء (17): 5 .

عذاب الله تعالى له وجوه مختلفة. وهكذا كان عذاب مشركي مکّة حيث سلّط الله تعالى عليهم المؤمنين فقتلوهم في بدر وغيرها من الغزوات، ثمّ بدّد الله كيانهم بأيدي المؤمنين في فتح مکّة.

« فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» يعبّر الله سبحانه عن عذاب الاستئصال الذي نزل على الأمم السالفة بعذاب الخزي لأنّه - مضافاً إلى العذاب الجسماني حيث يستأصل كيانهم ويبيد القابليات التي لم تر النور في الأطفال والشباب - يخزيهم بين الأقوام ويذلّهم، إذ يتبيّن بالأمارات أنّ الذي أصابهم لم يكن حادثاً طبيعياً، بل عذاب من الله تعالى لسوء أعمالهم.

« وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » تأكيد بالقسم واللام بأنّ العذاب في النشأة الآخرة أكبر وأشدّ، لا من جهة كونه أبدياً فحسب، بل لأنّه نوع من العذاب الجسمي والروحي لا يعرفه الإنسان ولا يمكنه أن يعرفه، فلا يشبهه شيء فی هذه الحياة، وعذاب الدنيا مهما كان ليس شيئاً يقاس بعذاب الآخرة من الجهتين، أمّا العذاب الجسماني فواضح، لأنّهم - مضافاً إلى شدة العذاب - يشعرون بالموت ويحسّون مرارته ولا يموتون فيستريحوا، وأمّا من جهة الخزي، فلأنّهم يرون بأعينهم أنّ أعمالهم وسيئاتهم تعرض أمام الخلائق أجمعين، فهناك الفضيحة الكبرى.

و«لو» إمّا للتمني، أي ليتهم كانوا يعلمون، أو شرطية جوابها محذوف، أي لو كانوا يعلمون لغيّروا نهجهم وطريقتهم في الحياة، ولاهتمّوا بشأن الآخرة أكثر ممّا يهتمّون بشؤون الدنيا، ولاتّقوا عذاب الآخرة أكثر من اتّقائهم مصائب الدنيا.

ص: 304

سورة الزمر (27 – 31)

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

« وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ »، «المثل» هو ما يشابه الشيء، ومن هنا يطلق التمثيل على التشبيه الذي يقرّب الحقائق إلى الأذهان بوجه غير مباشر. وقد ضرب الله في القرآن أمثالاً كثيرة لتقريب الحقائق البعيدة عن أذهان الناس. والأمثال تؤثّر في نفوس عامّة الناس أكثر من سرد الحقائق بصراحة.

وقوله تعالى: « مِنْ كُلِّ مَثَلٍ » مبنيّ على المبالغة، إذ ليس فيه كلّ الأمثال، أو المراد أنّه ضرب الأمثال لكلّ أمر يحتاج إليه الإنسان في طريقه إلى طلب مرضاة الله تعالى والوصول إلى أعلى درجات الكمال فهو نظير قوله تعالى في ملكة سبأ: « وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» (1) ، أي ممّا يحتاج اليه الملك لبسط السلطة والقدرة.

« لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»، أي إنّما ضربنا الأمثال من أجل تذكيرهم بتلك الحقائق المودعة في فطرتهم، فالتذكر يتعلّق بما يعلمه الإنسان ثمّ ينساه، والقرآن ينبّه في أكثر من موضع على هذه الحقيقة، وهي أنّ فطرة الإنسان تدعوه إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده إلّا أنّه يغفل عنه بالتوغّل في الشهوات. وقد مر أنّ «لعلّ» ليس للترجي كما يقال، بل للتنبيه على الأرضية الصالحة.

« قُرْآنًا عَرَبِيًّا »، «قرآناً» حال مؤكّدة فإنّه حال للقرآن في الجملة السابقة، وذلك

ص: 305


1- النمل (27): 23 .

كقولهم جاءني زيد رجلاً صالحاً و«عربياً» حال أيضاً يبيّن صفته. وهذه صفة واضحة لا حاجة إلى بيانها، و إنّما ذكرت للتنبيه على وجود عناية بكونه عربياً دفعاً لكلّ عذر منهم ، حيث كانوا يتأبّون الانصياع إلى ما يلقى إليهم بلسان غير عربي تعصباً وجموداً.

« غَيْرَ ذِي عِوَجٍ»، أي لا يشتمل على كذب أو باطل أو خطأ. وذكر علماء العربية أنّ العوج بكسر العين يختصّ بالمعاني وبفتحه يشمل الألفاظ، فالتركيز هنا ليس على فصاحة اللفظ ، بل على صحّة المعاني. ولعلّه إنّما لم يقل غير معوج للتأكيد على النفي، أي ليس فيه شيء من الإعوجاج، وهو أبلغ أيضاً من المستقيم، إذ ربّما يوصف كتاب بالاستقامة وإن اشتمل على أخطاء يسيرة والكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

« لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»، فالهدف منه إيجاد الأرضية الصالحة للتقوى في نفوسهم، وذلك من جهة إتمام الحجّة عليهم بأنّه كتاب من عند الله تعالى، لما يشاهدونه فيه من الاستقامة في كلّ النواحي وعدم اشتماله على أيّ باطل. وهذا ممّا لا يمكن أن يتصف به نتاج الفكر البشري.

« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ» ، هذا المثل ضربه الله تعالى للمشرك والمؤمن أو لأصل عقيدة الشرك والإيمان.

فالمشرك يشبه عبداً يملكه عدّة أشخاص بينهم مشاكسة وتنازع فكلّ منهم يطلب منه أمراً غير ما يطلبه الآخرون، بل ربّما ينهاه عمّا يأمر به غيره فهو حائر بينهم، ومن جهة أخرى لا يدري إلى أيّهم يرجع في طلب رزقه، فكلّ منهم يحيله إلى غيره، وهكذا المشرك الذي يعتقد أنّ هناك أرباباً متفرقين لهذا الكون

ص: 306

فهو لا يستقرّ على جهة، ولا يعلم وجهة مسيره ، فتتفرّق به الأهواء، وتتجاذبه الميول والنزعات.

وأمّا المؤمن فيشبه عبداً ملكاً خاصّاً لرجل فهو سلم له، أي مسلم أمره إليه أو السلم بمعنى الخالص - كما قيل - فوجهة سيره واضحة، ولا يطيع غيره ولا يطلب رزقه وحاجته إلّا منه.

« هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا» « مَثَلًا» تمييز، أي هل يستوي هذان العبدان في كونهما مَثَلين؟! أي من كان يشبه الأوّل كمن يشبه الثاني؟ والاستفهام إنكاري، أي إنّهما لا يستويان فكذلك لا يستوي المشرك والمؤمن في مآل أمرهما وفي منهج حياتهما.

« الْحَمْدُ لِلَّهِ» الألف واللام للجنس، أي كلّ الثناء لله تعالى الذي هو المدبّر للكون الواحد ذو النظام الواحد المتناسق، «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1) ، ولاختلّ النظام الكوني ولم يشاهد فيه هذا التناسق البديع.

« بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»، إضراب عن بيان عدم الاستواء إلى أنّه مع كمال وضوحه لا يعلمه أكثرهم. أي إنّ أكثر المشركين لا يعلمون أنّ تدبيرهم من الواحد الأحد، فيعبدون غيره جهلاً بحقيقة الأمر، و إنّما قال أكثرهم لأنّ منهم من يعلم ذلك ولكنّه لا يجد من مصلحته أن يسلم أمره إلى الإله الواحد.

« إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»، أي إن مآل جميعكم الموت، وهذه حقيقة واضحة ينبه عليها القرآن الكريم ردّاً لأقوال المشركين، حيث كانوا يتربّصون بالرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الموت، ويستبشرون به وبخلاصهم بعده، فيردّ عليهم مخاطباً

ص: 307


1- الأنبياء (21) :22 .

الرسول تسلية له وتقوية لعزمه: « إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» كما قال تعالى في موضع آخر: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ» (1) ، فالموت للجميع ولا أحد يبقى على وجه الأرض، ولكنّ الموت ليس النهاية، ولو كان كذلك كان الفائز دائماً هو الظالم المستبدّ.

«ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ»، أي إنّ ما بعد الموت يوم ومرحلة من الحياة تقومون فيه أمام ربكم الذي ربّاكم ليوصلكم إلى غاية كمالكم، وهناك في ما بين الأقوام والأفراد مخاصمة ومحاكمة، وهناك تتجلّى الحقائق فيلقى كلّ أحد وكلّ قوم مصيره المحتوم. فالخطاب في قوله تعالى: « تَخْتَصِمُونَ» عامّ في ذاته ويشمل جميع البشر وإن كان الغرض هنا التطبيق على فريقي المؤمنين والمشركين في عهد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ص: 308


1- الأنبياء (21): 34 .

سورة الزمر (32 – 35)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)

« فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ » هذا تفصيل للتخاصم المذكور في الآية السابقة. ونتيجة المخاصمة واضحة، فأحد الطرفين كذب على الله تعالى، ونسب إليه الولد، وجعل له شركاء، وشرع من عنده أحكاماً ونسبها إلى الله، ولمّا أتى بالأعمال السيّئة قال: إنّ الله أمره بها، ولمّا جاءه الصدق أي كتاب الله ورسالته التي بعث بها نبيه فأجأه بالتكذيب. والصدق هو النبأ الصادق، والتعبير عن الكتاب بالصدق للتأكيد على أنّ علامة صدقه واضحة.

والمفاجأة تتبيّن من قوله « إِذْ جَاءَهُ » ، أي في ظرف المجيء، فلم ينتظر حتّى يتبيّن له الحقّ من الباطل، بل كذب به منذ أن سمعه على استعجال، لأنّه لا يلائم هواه، وهكذا شأن متبعي الأهواء في كلّ مجال.

فمن أظلم ممن كان كذلك؟ سؤال على نحو التقرير، يعني ليس هناك من هو أظلم .منه. وقد قلنا سابقاً إنّ الظلم لا يتوقف صدقه على وجود من يقع الظلم عليه، فلا حاجة إلى القول إنّه ظالم لنفسه، إذ لا يصحّ ما اشتهر من أنّه ظلم على الله، لأنّ الله تعالى لا يقع عليه الظلم، كما قال تعالى: « وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (1) فالظلم هو وضع الشيء في غير موضعه خلافاً للعدل، وهذا

ص: 309


1- البقرة (2): 57 .

الكاذب على الله المكذب لرسالة السماء أظلم البشر.

بل هو أظلم للمجتمع أيضاً، لأنّ تسرّعه في تكذيب الرسالة يرّض الآخرين على التكذيب، وهو بذلك يصدّ عن سبيل الله، وهذا الظلم أدهى من قتل الناس، قال تعالى:« «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» (1).

« أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ »، هذا جزاء أحد المتخاصمين لدى المحاكمة. وهو أيضاً استفهام تقريري، ومعناه أنّ هذا هو جزاؤه. والاستفهام التقريري محاولة لأخذ الإقرار من المخاطب، ومعناه أنّه من الوضوح بمكان لا يسع المخاطب إنكاره و «المثوى» اسم مكان من الثواء، أي الإقامة والاستقرار. و«جهنّم» علم للنار التي أعدّها الله تعالى للظالمين.

وما أدراك ما جهنّم؟ نحن لا نعلم حقيقتها ولكنّها مهما كانت فإنّها تكفي جزاء لكلّ من ظلم مهما اتّسعت دائرة ظلمه وطغيانه، إنّ الله تعالى يقول: « فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ» (2). إنّها تكفي عذاباً لكلّ ظالم، فلا يعلم أحد ما تشتمل عليه إلّا الله تعالى.

« وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ»، الخصم الآخر جاء بالصدق من عند ربّه، أي بالحقّ وهو القرآن الكريم، فإمّا أن يكون المراد به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو كلّ من جاء بالصدق من الرسل . وأمّا احتمال إرادة كلّ الدعاة إلى الله - كما قيل - فبعيد، لأنّ التعبير بالمجيء بالصدق ظاهر في أول إعلان به، لا كلّ من تلاه.

وفي المراد بمن صدّق به احتمالان :

ص: 310


1- البقرة (2): 217 .
2- البقرة (2) :206 .

الأول: أنّه هو نفس من جاء بالصدق، أي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، لأنّه بنفسه أوّل من يصدق بما جاء به، ولأنّ ظاهر وحدة الموصول أنّ المجيء بالصدق والتصديق به صلتان للموصول تعبران عن شخص واحد اجتمع فيه الوصفان.

والاحتمال الثاني: أنّ المراد بالموصول الفريق الذي جاء بعضهم بالصدق وهو الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وصدّق به بعضهم وهم المؤمنون الصادقون، ولا يختصّ بالصحابة، بل يشمل كلّ من صدق بالرسالة في جميع الأعصار. وهذا الاحتمال هو الصحيح، وذلك لأنّه إذا كان المراد بهما النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يصحّ التعقيب بقوله تعالى: « لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا » وكذلك لا يمكن حمله على سائر الأنبياء لنفس السبب.

وفي بعض الروايات أنّ المراد بمن صدّق به أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو مروي في كتب الخاصّة والعامّة. (1) والظاهر أنّه من باب أوضح المصاديق، لأنّه أول من آمن، وأفضل من صدّق، وجدّ في تصديقه، ودافع عنه، وضحّى في سبيله. ولا يصحّ عندنا حمله على التعيّن لنفس القرينة السابقة وهي أنّ آية التكفير تدلّ على عدم عصمة المصداق وأمير المؤمنين (علیه السلام) معصوم بحكم آية التطهير وغيرها.

« أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ »، أي أنّ التقوى هي التي ساقتهم إلى الصدق والتصديق، ليس لهم دافع آخر من حب أو تعصب والجملة لاشتمالها على ضمير الفصل تدلّ على الحصر وأنّ المتّقي لا ينطبق على غيرهم، لأنّ من لا يصدق بالصدق ليس إلّا كذّاباً بعيداً عن التقوى.

ص: 311


1- ورد ذلك في «مجمع البيان » نقلاً عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) وفي« تفسير القمي» ورواه أيضاً في« الدر المنثور »عن ابن مردويه عن أبي هريرة.

« لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ »، هذه الآية تبيّن جزاءهم وفي قوله تعالى: « عِنْدَ رَبِّهِمْ » احتمالان، الأوّل: أن يكون قيداً لقوله: « لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ » والمعنى أنّ الذي تعهّد بأن يؤتيهم كلّ ما يشاؤون هو ربّهم وهو الله خالق الكون وفائدة هذا القيد التأكيد على تحقق هذا الجزاء، لأنّ الله تعالى هو المتعهد به.

والاحتمال الثاني: أن يكون حالاً عنهم، والمعنى لهم ما يشاؤون حال كونهم عند ربّهم، فهم أولاً عند ربّهم، كما قال تعالى: ««فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» (1) ، وهذا غاية المنى وغاية الثواب والتعبير ب-«الربّ» يفيد أنّ ذلك مقتضى تربيتهم، فقد ربّاهم ربّهم إلى أن بلغوا غاية الكمال البشري كلّ منهم حسب طاقته ومقوّماته، والغاية القصوى هو الكون عند الربّ بالمعنى الذي لا يبلغه عقولنا القاصرة.

وثانياً لهم ما يشاؤون في تلك النشأة، والظاهر أنّ المراد بما يشاؤون هو النعيم وأنحاء النعم المادية. وأمّا الدرجة والقرب لدى الله سبحانه فلا يشمله بقرينة قوله تعالى: «لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ » (2)، وحيث إنّ رغبة الإنسان في النعيم وتوسّعه فيه لا حدّ له، فالظاهر أنّ المراد بالمزيد ما لا يعلمون حقيقته ليرغبوا فيه ويشاؤوه، وهو الدرجة الرفيعة والمقام القريب عند الله تعالى، وهو أفضل الجزاء على الإطلاق، بل هو أصل النعيم ولا نعيم بدونه.

وبذلك لا يبقى مجال للسؤال بأنّه إذا أراد بعضهم بلوغ درجة الأنبياء مثلاً فكيف يستجاب له؟! وذلك لأنّ الذي يؤتون منه كما يشاؤون من دون تحديد

ص: 312


1- القمر (54): 55 .
2- ق (50): 35 .

ليس درجة القرب لدى الله تعالى والكمال البشري، بل النعم المادية.

ولا حاجة إلى الجواب بأنّهم لا يشاؤون ذلك، لأنّهم لا يحملون في طياتهم حسداً وطمعاً كما قيل، بل لا يصحّ ذلك، لأنّ مشيئة ذلك قد لا ينشأ من الحسد.

«ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ » لم يقل: ذلك جزاؤهم، بل أبدله بالاسم الظاهر تنبيهاً على السبب في تعيين الجزاء. والمراد أنّ هذا جزاءهم بسبب إحسانهم، ولعلّه لذلك أتى بهذه الجملة مستقلة من دون العطف على الجملة السابقة لیدلّ على أنّ مضمونها حكم آخر و«المحسن » الذي أحسن عمله، ففيه إشارة إلى عدم كفاية الإيمان والتصديق قولاً، وبذلك يكون هذا التعبير مخصّصاً أيضاً. وإحسان العمل بالإخلاص في النيّة.

«لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا» اللام للتعليل، والظاهر أنّه متعلق بما قبله، أي إنّما جعل الله جزاء المحسنين ذلك ليكفّر عنهم أسوأ ما عملوا، فإنّ تكفير السيِّئات ممّا يشاؤونه. وقيل فيه بوجوه أخرى ضعيفة. وإذا كان الله يكفّر عنهم أسوأ ما عملوا فيكفّر غيره بطريق أولى. ولعلّ فيه إشارة إلى أنّ أسوأ ما يعملون إنّما هو من الصغائر التي يشملها التكفير ، كما قال تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ» (1).

ويمكن أن يكون الأسوأ منسلخاً عنه معنى الأفضلية، فيكون بمعنى السيّء، أي ليكفّر الله عنهم سيئات ما عملوا.

«وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ »، قيل : معناه أنّ الله تعالى يجزي كلّ أعمالهم بجزاء أحسنها، فيجعل ذلك مقياساً لثواب كلّ عمل.

ص: 313


1- النساء (4): 31 .

ويحتمل أن يكون من باب الإضافة إلى غير الجنس، أي بجزاء أحسن ممّا كانوا يعملون كما قال تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ »(1) .

ويمكن أن يكون الجزاء مبيّناً لدرجة قربهم وهو الجزاء الأوفى، أي أنّه تعالى يجعل درجة قربهم لديه على أساس أحسن ما كانوا يعملون، فهو مقياس تعيين درجة كلّ واحد منهم .

ص: 314


1- النمل (27): 89 .

سورة الزمر (36 - 40)

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)

«أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.» يظهر من الآية الكريمة - كما ورد في الروايات أيضاً - أنّ المشركين كانوا يحذرون الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مغبّة تعرّضه لأصنامهم، ويقولون نخاف أن يصيبك خبال من قبلها، كما كان السابقون يعتقدون ذلك أيضاً حيث قالوا خطاباً لهود (علیه السلام): «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ »(1) ، ومثل هذه العقائد يعتقده كثير من بسطاء العامّة بالنسبة إلى كثير من الأشياء، فتجدهم يعتقدون بشجرة قديمة أو قبر لا يعلم صاحبه، خصوصاً إذا تعرّض له أحد بسوء، ثمّ ابتلي صدفة بأيّ مرض أو حادث، وهكذا كان شأن عرب الجاهلية، كما هو شأن كلّ جاهلية.

والقرآن يردّ عليهم: « أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ» . المراد ب-«عبده» الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأنّه هو المهدّد في تخويفهم. وفي التعبير عنه بذلك مزيد تشريف وتخصيص. وفيه إشارة إلى أنّه تعالى لا يسلم عبده لأعدائه. وأمّا احتمال كون المراد به جنس

ص: 315


1- هود (11): 54 .

العبد فيشمل كلّ عباده، فهو بعيد وإن تأيّد ذلك بقراءة الجمع.

والاستفهام للإنكار والنتيجة التأكيد على أنّه يكفيه. وسيأتي الدليل عليه. فالمؤمن لا يخاف أحداً مهما كان، لأنّه من دون الله، والأمر كلّه بيده، فلا نفع ولا ضرر إلّا بإذنه، فبماذا تخوفون عبدالله ورسوله؟! وليعلم أنّ المراد ليس هو عدم التخوّف من العوامل الطبيعية التي تضرّ الإنسان فإنّها تعمل بإرادته تعالى. و إنّما المراد نفي التخوّف من أيّ شيء يدّعى فيه أنّه يؤثّر من دون الله تعالى أي في قبال إرادته وربوبيته.

« وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ »، لكنّ المعاندين قد أعمت أبصارهم العصبية وضلوا وأضلوا. « وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ». ومن يستطيع أن يهدي من أضلّه الله؟! والله تعالى لا يضلّ أحداً إلّا إذا استحق الضلالة. ولا يستحقها إلّا بسوء سريرته وعناده للحق إذ جاءه. ومن يعاند الحقّ لا يستطيع أن يراه، فإنّ الحقّ في هذه المفاهيم ليس أمراً محسوساً ومشهوداً، و إنّما هو أمر غيبي لا يصل إليه الإنسان إلّا بصفاء القلب، فإذا تكدّر قلبه بالعصبية ومتابعة الأهواء فيستحيل عليه الهداية.

وهذا يؤيس الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) منهم ويؤيسهم منه ، فلا هو يمكنه هدايتهم، ولا هم يستطيعون إخافته من أصنامهم.

«وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ» ، كذلك إذا أراد الله هداية أحد لاستحقاقه وللأرضية الصالحة التي أوجدها بحبّه للحقّ وقبوله وتسليمه لآيات الله تعالى فإنّه لن يضلّ مهما حاول شياطين الجنّ والإنس إغواءه، لأنّ الله تعالى أراد هدايته، وهو العزيز الغالب على أمره لا يمنع تحقق مراده شيء،

ص: 316

ومنه الهداية والإضلال لمن يستحقّهما.

و«الانتقام» إنزال العقوبة. وهو ذو انتقام أي أنّه لا يترك من يستحق العقوبة. وهذا هو الذي نجده في الطبيعة، والطبيعة فعل الله تعالى، فإنّ العقوبة الطبيعية تترتب على الفعل كنتيجة حتمية، فمن شرب السمّ يموت، وقلّما لا يؤثّر العامل الطبيعي بأمر خارق للعادة. والغرض أنّ المعاند عقوبته الطبيعية هو الضلال، فلا بدّ له منه، ولا يمكن أن يهتدي إلى الطريق، لأنّه النتيجة الطبيعية للعناد.

«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»، الوثنيّون يعترفون بأنّ خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه. وهذا واضح، لأنّ من يدعون لهم الربوبية لا يمكن أن يدّعى فيهم الخلق، فهم بذاتهم مخلوقون والمراد بالسماوات والأرض الكون كلّه كما ذكرناه مراراً. وهذه الجملة مقدمة للجملة الآتية التي وقع فيها الاستدلال على منع تأثير الأصنام في ضرّ أو نفع، ليكون جواباً على تخويفهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) منها .

«قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ »، القصد من هذه الجملة التنبيه على وضوح عدم تأثير الأصنام في خير أو شر، والاستدلال فيها يبتني وفقاً للجملة السابقة على أنّ كلّ ما يضر الإنسان أو ينفعه هو بذاته أيضاً من المخلوقات، فلا شيء في الكون إلّا وهو داخل فى مظلّة السماوات والأرض، والكلّ مخلوق له تعالى ولا شك أنّ ما أراد الله تعالى خلقه لا يمنعه شيء، إذ ليس هناك قوة تقابله، فإذا أراد بأحد ضرّاً أو نفعاً فلا يمنع من تحقّق مراده شيء. و إنّما تؤثر العوامل الطبيعية أو غيرها في الكون وفقاً للنظام الكوني الذي يديره الله تعالى ويدبّره.

ص: 317

وقوله: «أَفَرَأَيْتُمْ » أي أظننتم وحسبتم ، فهو استفهام استنكاري، لأنّ معنى تخويفهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الأصنام هو هذا الحسبان الخاطئ. و«الفاء» فيه للتفريع، لأنّ نفي هذا الحسبان يتفرّع على اعترافهم بأنّه تعالى خالق الكون. والتعبير بضمير المؤنّث عن الأصنام من جهة أنّهم كانوا يسمّون أصنامهم بالأسماء المؤنّثة. و«الضر» كلّ ما يضرّ. وكشفه إزالته وإمساك الرحمة منعها.

«قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ»، «حسب» مصدر بمعنى الكفاية، ويقصد به اسم الفاعل مبالغة. أي يكفيني الله من كلّ شيء، ومن يؤمن بالله فهو حسبه، و إنّما يتشبّث الناس بغيره لعدم إيمانهم. وليس معنى ذلك عدم التوسّل بالأسباب الطبيعية، فإنّ هذا لا ينافي التوكّل على الله والاكتفاء به، و إنّما ينافيه إذا اعتقد أحد أنّها تؤثر من دون تدبير من الله تعالى.

«عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ »، أي أنّ من يتوكّل على أحد فإنّما يتوكّل عليه تعالى، وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، فالناس لا يتوكّلون إلّا عليه. والسرّ في هذا الحصر أنّ من لا يعتقد بالله أو لا يؤمن بقدرته وربوبيته لا يتوكّل على أحد و إنّما يعتمد على الأسباب الطبيعية. و لذلك فهو لا يركن إلى ركن شديد، وتتقاذفه أمواج الطبيعة، وربّما يصيبه اليأس فينتحر ، لأنّه لا يجد وراء هذا الكون يداً قادرة وتدبيراً وحكمة بخلاف المؤمن، فإنّه واثق ومطمئنّ إلى ربّه، ويعلم أنّ الأسباب إنّما تؤثّر بأمر خالقها وربّها. ويمكن أن يراد بالحصر أنّه لا ينبغي التوكّل على غيره.

« قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ». في الخطاب نوع إشفاق وعطف، فهو يخاطبهم: «قومي» استمالة لقلوبهم، مع أنّه خطاب فصل يقطع كلّ الروابط بعد ما

ص: 318

أصرّوا على عنادهم: « اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ »وهذا نظير قوله: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ»(1) ، وقوله: « لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ»(2)

والمكانة من المكان، ولكن يستعمل في الأمور المعنوية، فالمراد بها المنزلة والحالة، أي اعملوا كما يقتضيه حالكم وعقائدكم. وهذا أمر للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن يواجه قومه على أساس اليأس منهم ومن إيمانهم.

وقوله: « إِنِّي عَامِلٌ »، أي إنّي أيضاً أعمل على مكانتي. حذف الجار والمجرور للاستغناء بما مرّ، نظير قوله: «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض»، أي نحن بما عندنا راضون. وهذه الجملة لا يناسهم من نفسه، وأنّه لا يمكنه الرجوع عن رسالته.

« فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ » تهديد ووعيد، والعذاب المخزي عذاب الدنيا، و«المقيم» عذاب الآخرة، أي عذاب دائم. وفرّق بينهما حيث عبّر عن الأول بالإتيان وعن الثاني بالحلول لتناسبه مع الإقامة والدوام والمراد بعذاب الدنيا ما حلّ بهم يوم بدر، ثمّ نهاية مكرهم يوم الفتح.

ص: 319


1- الكافرون (109) :6 .
2- الشورى (42): 15 .

سورة الزمر( 41 – 42)

إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

« إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ.» أمر رسوله في الآية السابقة أن يتبرّأ من القوم ومن أعمالهم، ويفصل بين مسيره ومسيرهم. وفي هذه الآية يعود فيذكرهم بأنّ طريق الهداية مفتوح للجميع، ولله الحجّة البالغة. وهذا الكتاب المنزل المصاحب للحقّ بما يشتمل عليه من حقائق غيبية وشرائع وأحكام إنّما أنزله الله تعالى على رسوله للناس، أي ليهتدي به الناس.

« فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا »، أي أنّ هذا الكتاب نور لمن أراد الاستنارة، ولا تنفع الله هدايتهم ولا يضرّه ضلالهم. فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه، أي أنّ في ذلك مصلحته. وأكّد الأمر في الضلال بتكراره وتقديم «إنّما »المفيد للحصر على ما قيل، حتّى لا يتصوّر أنّ لضلالهم ضرر على أحد غيرهم.

« وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ »، أي لست موكلاً عليهم ومسؤولاً عنهم وعن هدايتهم، إنّما عليك البلاغ. وقد تكرّر التركيز على هذا الأمر في الكتاب العزيز تسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتّی يشعر بتقصير في أداء الرسالة إن هم لم يؤمنوا، ومن جهة أخرى يؤيسه منهم لئلّا يحاول المستحيل لهدايتهم، فهو ليس مسؤولاً ولا مسيطراً عليهم وعلى قلوبهم، إنّما الأمر بيد الله تعالى.

« اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا». الجملة مبدوّة باسم الجلالة، لأنّ التركيز هنا على

ص: 320

بيان ربوبيته تعالى وتدبيره للكون، ليكون حافزاً للقوم يبعثهم إلى عبادته تعالى وترك عبادة الأصنام. ويتعرّض بهذا الصدد لموضوع يخصّ الإنسان ويتجدد كلّ يوم وهو مفارقة النفس للجسم في حال النوم. وقد ورد مثله في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى»(1).

و«التوفّي» هو الأخذ الكامل ومثله الاستيفاء. و«النفس» قيل: إنّها هي الروح، ولكن يظهر من الروايات اختلافهما، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وعلى كلّ حال فالنفس في أصل اللغة بمعنى ما به الحياة على الظاهر، ولذلك يطلق على الدم ولعلّه الأصل فيه، ولكنّه يطلق أيضاً على حقيقة الشيء وذاته. و كلّ ما ورد في القرآن بهذا المعنى، وعليه فالمراد هنا هو الذات البشرية التي يشير إليها كلّ أحد بضمير المتكلّم: «أنا» ويضيف إليه كلّ أعضائه وجوارحه.

و«توفّي النفس» نسب في القرآن تارة إلى ملك الموت، وتارة إلى ملائكة الموت أو إلى رسلنا، وهنا نسب إلى الله تعالى. وفي الروايات أنّ هناك ملكاً من الملائكة المقربين بيده أمر هذه المهمّة، أي قبض أرواح البشر ويسمّى عزرائيل. وتحت إدارته مجموعة من الملائكة، والكلّ بأمر الله تعالى. ومن باب التشريف والتكريم ينسبه الله سبحانه هنا إلى نفسه رأساً.

وتوفّي النفس أو ما يدّعى بقبض الروح ليس هو الموت، كما يتوهّمه الناس، وملك الموت ليس مأموراً بالإماتة، بل الموت يحصل بأسبابه الطبيعية، ولكنّ ملك الموت مأمور بقبض روحه حين موته. وهذا بذاته تكريم للإنسان وللروح الإلهي الذي نفخ فيه.

ص: 321


1- الأنعام (6) : 60 .

« وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى »، أي يتوفّى في حال النوم النفوس التي لم تمت، فإذا قضى عليها الموت يمسكها، فلا تعود إلى الجسم، ويرسل ما لم يقض عليه بالموت، أي يتركها لتعود إلى الجسم، وينعم الإنسان و يتمتّع بحياته إلى أجل مسمّى ومحدود، أي إلى الزمان الذي قدّر فيه أن يموت.

وهذه الآية صريحة في أنّ حقيقة الإنسان ليست بجسمه الذي يموت ويفني بل حقيقته المعبّر عنها بالنفس على ما أسلفنا هي ذلك العنصر الذي يتوفّاه الله تعالى، أي يأخذه كاملاً حين الموت بل حين النوم أيضاً، والجسم إنّما هو ركب له ويتعلّق به نحو تعلّق لا نعلم كيفيته. ويتبيّن من الآية أنّ ذلك العنصر ينفصل عن الجسم في الموت، بل والنوم أيضاً، ثمّ يعود إذا لم يقض عليه بالموت.

و«النوم» من غرائب هذه الحياة. ومهما كان سببه الطبيعي فإنّ ما يحصل عنده حسب هذه الآية هو انفصال النفس عن الجسم ويبقى في الجسم ما تتقوّم به الحياة ما لم يقض عليه بالموت، وهذا غير ما هو نفسه وحقيقته، فهذا أمر يشاركه فيه كلّ حيوان، كما أنّ النوم أيضاً لا يختصّ به. فالإنسان النائم كالإنسان الميّت من حيث انفصاله عن الجسم وإن كانت الروح التي بها قوام الحياة باقية فتجده يتنفّس ويتحرّك وتعمل كلّ أعضائه وقواه الداخلية إلّا أنّه لا يشعر بما يدور حوله ولا يسمع ولا يبصر. نعم ربّما يتأثّر بصوت ونحوه فينهض وحينئذ تعود العلاقة بينه وبين الجسم.

وهذا ما صرّح به في بعض الروايات، كما في «مجمع البيان »عن العياشي

ص: 322

بسنده عن الإمام الباقر (علیه السلام): «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ،وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح، وهو قوله سبحانه « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا» فمهما رأت في ملكوت السماوات والأرض فهو ممّا له تأويل، وما رأت في ما بين السماء والأرض فهو ممّا يخيّله الشيطان ولا تأويل له». (1)وهذه الأمور ممّا يدعو الإنسان إلى التفكّر فى أمر النوم والموت، وأنّ شؤون الإنسان تحت تدبير رب حكيم.

« إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» تبيّن بعض ما في ذلك من الآيات التي تدلّ على ربوبيته تعالى. ومنها الرؤيا الصادقة كما أشار إليه الإمام الباقر (علیه السلام) في الرواية المذكورة. وما يجده الإنسان في المنام من أنشطة الروح. ويقال: إنّ الإنسان بمجرّد أن يغلبه النوم يرى الأحلام، وهي في الغالب أماني الإنسان ومخاوفه تتجسّم له وهو يتأثّر بها من حيث لا يشعر، ولكنّه لا يتذكّر شيئاً ممّا يرى، و إنّما يتذكّر ما يجده في آخر لحظة حيث يكون بين النوم واليقظة، أي تكون نفسه في حال الارتباط الضعيف بالجسم، وأمّا ما يراه في حالة الانقطاع الكامل، أي توفّي النفس فلا يتذكّر منه شيئاً وغالباً ما يؤثّر في الرؤيا ما يحدث حول الإنسان النائم، والسبب فيه هو ما ذكرنا من أنّه بين اليقظة والمنام.

ومهما كان فالمنام في بعض موارده نافذة إلى الغيب يجد الإنسان فيه ما يتحقّق بعد ذلك بمدة قليلة أو كثيرة، فربّما يجده بصورته الواقعية، وربّما يجده بصورة أخرى، ولكنّه نفس الحقيقة تتجسّم له بصورة غير صورته الأصلية. وهذا، أي تبديل الصور أيضاً من غرائب أنشطة النفس البشرية.

ص: 323


1- مجمع البیان 8 :781.

وهناك في القرآن موارد من الرؤيا الصادقة كالرؤيا التي رآها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، قال تعالى:« وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» (1) ، وورد في الروايات أنّه رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة. وقال تعالى: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر » (2)، وفي موضع آخر: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ »(3) .

وكذلك رؤيا سيدنا ابراهيم (علیه السلام) حيث أمر بذبح ابنه، ورؤيا يوسف (علیه السلام): «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ » (4)، ثمّ كان تأويله ما ورد في قوله تعالى: « وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا» (5) ورؤيا ملك مصر الذي فسّره يوسف (علیه السلام)، ورؤيا صاحبي يوسف في السجن.

وكلّ منّا يعلم موارد من الرؤيا الصادقة رآها هو أو سمعها من أصحابه. ومن الغريب أنّ كلّ ما تجده من الرؤيا الذي ربّما يستغرق ساعة أو أكثر تجده كلّه في لحظة واحدة. وقد مرّ في حديث الإمام الباقر (علیه السلام)السرّ في الفرق بين الرؤيا الصادقة وغيرها.

ص: 324


1- الإسراء (17): 60 .
2- الانفال (8): 43 .
3- الفتح (48): 27.
4- يوسف (12): 4 .
5- يوسف (12) :100 .

سورة الزمر(43 – 45)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

« أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ »، «أم» منقطعة، أي بمعنى بل، وهمزة الاستفهام للاستنكار ، أي بل اتّخذوا من دون الله شفعاء و«بل» للإضراب عن حثّهم على عبادة الله تعالى والاستفهام لاستنكار اتّخاذ شفعاء من دونه و المراد بهم أصنامهم التي قالوا إنّها تقرّبهم إلى الله زلفى كما مرّ في أول السورة، ومعنى اتّخاذهم لها من دون الله، أي رجعوا إلى الشفعاء وتركوا الرجوع إلى الله تعالى فاعتبروها أرباباً وآلهة بدلاً عن الله تعالى.

« قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ »، يعني هل تتخذونها شفعاء حتّى لو كانت لا تعقل ولا تملك شيئاً؟! وهذا غاية الجهل، فالأصنام لا تملك شيئاً، لأنّها جماد مصنوع بأيديهم لا حول لها ولا قوة، وهي لا تعقل أيضاً، فكيف تسمع كلامهم؟! ولو سمعت كيف لها أن تستجيب وهي لا تملك شيئاً؟! ومن الأشياء التي لا تملكها هي الشفاعة .

ولم يخاطبهم بهذا الاستنكار مباشرة ، استهانة بهم، بل أمر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يقول لهم ذلك.

« قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا »، «الشفاعة» ضمّ شيء إلى شيء. و«الشفع »ركعتان في قبال الوتر. وإذا طلبت من أحد أن يتوسّط لك عند مدير أو أمير فإنّك شفعت

ص: 325

طلبك بما لهذا الرجل من مكانة عنده. وشفاعة الرسول والأئمة - عليهم جميعاً سلام الله - بمعنى ضمّ موالاتهم ومتابعتهم إلى عملك، ولا شكّ أنّ الشفاعة مقبولة يوم القيامة والروايات في ذلك أكثر من أن تحصى. ولعلّ المراد بها ما ذكرناه آنفاً ولا تختصّ الشفاعة بالتوسط ومحاولة إرضاء أحد ليرضى عن آخر كما هو المتعارف في حياتنا.

ومهما كان، فانّ الشفاعة عند الله لا تتمّ إلّا إذا أراد الله تعالى وأذن فيه. والملائكة شفعاء بمعنى أنّهم يتوسّطون بين الله وخلقه في إنزال أوامر الله التكوينية والتشريعية. وقد وصفهم الله تعالى بالمدبّرات أمراً، ولكن ليس لهم أيّ استقلال حتّى في الشفاعة، و إنّما يطيعون أمر الله تعالى في كلّ شيء، قال تعالى«وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى » (1)، فالآية تقرّر أنّهم شفعاء ولكن لا تغني شفاعتهم إلّا بعد إذنه، فلا استقلال لها حتّى في الشفاعة. والنتيجة أنّ الشفاعة كلّها لله تعالى أي أمرها بیده

« لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ». هذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، فحيث إنّ ملك السماوات والأرض - أي الكون بأكمله - له تعالى فلا يملك أحد حتّى الشفاعة، لأنّها أيضاً داخلة تحت هذا العنوان.

« ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». تقديم الجار والمجرور لافادة الحصر، أي أنّ المرجع ليس إلّا إليه تعالى والظاهر أنّ ذكر هذه الجملة من جهة أنّ المخاطبين إنّما كانوا يستشفعون بالأصنام أو غيرها لحاجاتهم في الدنيا، فنبّههم الله تعالى أنّ الحاجة

ص: 326


1- النجم (53): 26 .

الملحّة إنّما هي في الآخرة، ومرجعكم إليه، فلا تنفعكم شفاعة الشافعين.

« وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ » ، المراد بهم المشركون و«الاشمئزاز» هو التنفّر الشديد الذي يلازم ظهوره في الوجه، ومنشأ اشمئزازهم ليس هو اسم الله جل جلاله، بل ذكره وحده من دون ذكر آلهتهم، فکأنّهم يرفضون ذكر الله تعالى إلّا مع ذكر أصنامهم.

وذكر المشركين بعنوان من لا يؤمن بالآخرة لعلّه للإشارة إلى السبب في تنفّرهم من ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر الأصنام، وهو أنّهم وإن اعترفوا بالله تعالى خالقاً للكون إلّا أنّهم حيث لا يعترفون بالآخرة ولا يرون الله تعالى تأثيراً في حياتهم في الدنيا، بل يرون أنّ المؤثّر سلباً وإيجاباً هو الارواح التي تمثّلها الأصنام، فانعقدت في قلوبهم علاقة شديدة بها، وظهرت في قسمات وجوههم.

« وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ »، المراد ب-«الذين من دونه » الذين يدعون من دونه، أي بدلاً عنه لكشف المهمّات وهم في مورد المخاطبين الأصنام. فإذا ذكرت الأصنام وحدها استبشروا و «الاستبشار»: الفرح الشديد الذي يظهر أثره على أسارير الوجه. فانظر إلى أين يصل انحطاط الفكر البشري وتأثيره على عواطفه ومشاعره، فيشمئزّ من ذكر خالق السماوات والأرض، ويستبشر بذكر جمادات صنعها بيده.

وقوله تعالى: « إِذَا هُمْ» يفيد أنّهم فجأة تنفرج أساريرهم ويعلو وجوههم الاستبشار !! هكذا كان المشركون آنذاك. ومثلهم كثير من عباد الله إذا سمعوا الحقّ المخالف لمذهبهم ضاقت صدورهم وبدا السوء في وجوههم، وإذا تليت أباطيلهم فرحوا واستبشروا.

ص: 327

سورة الزمر( 46 – 48)

قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

« قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » الظاهر أنّ هذه مناجاة أمر بها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كردّ فعل لاستبشار المشركين واشمئزاز هم المقزّز لنفسه الطاهرة. ولعلّه أمر بأن يقولها أمامهم ليكون فيه إعراض عنهم، فهم لا يستحقّون الخطاب بعد هذا الكفر الواضح و إن كان الموضوع ممّا تكرّر الإعلان عنه.

وقدّم الوصفين، لأنّ كونه فاطر الكون ممّا يعترف به الخصم، وهو الدليل، كما مرّ في الآيات السابقة على ربوبيته، وهو أيضاً الدليل على حكمته التي تقتضي أن لا يكون الخلق عبثاً، فلا بدّ من يوم تظهر فيه الحقائق ويرتفع فيه الاختلاف، ويتبيّن به الحقّ ناصعاً واضحاً، ومن ذلك اختلافه معهم في العقيدة. والله عالم الغيب والشهادة يعلم مكنونات الضمائر، فهو الحكم العدل بين العباد يوم القيامة. وقد مرّ أنّ الحكم بين العباد إنّما هو بظهور الحقائق علناً.

« وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . حيث أشار في المناجاة السابقة إلى يوم القيامة تعرض هنا لحال المشركين هناك وعمّم الحكم لكلّ الظالمين، وهو عنوان يشملهم، لما مرّ من أنّ الذي يكذب على الله ويكذّب بالحقّ هو أظلم الناس، فهو يوم القيامة يرى من فظاعة العذاب ما لو كان يملك كلّ ما في الأرض لافتدى به.

ص: 328

والغرض بيان أنّ الإنسان هنا وفي هذه الحياة يستخفّ بالآخرة ويستخفّ بعذابها، ويرجّح التنعّم بملذّات الدنيا على اتّقاء ذلك العذاب، وتعجبه بهرجة هذه الحياة ونعمها من مال وولد وجاه ومنصب وألقاب وغير ذلك، فإذا رأى فظاعة العذاب هناك هانت عليه كلّ ما في الدنيا من نعيم وهناء، وهو مستعدّ لأن يفتدي بكلّ تلك النعم، حتّى لو كان يملك ضعف ما في الأرض ليتخلّص من هذا العذاب، ولكنّه تنبّه بعد فوات الأوان فليته كان في الدنيا يتنبّه لذلك قليلاً ويقتصر من نعيم الدنيا على حلاله على الأقلّ إن لم يتزهّد حتّى في بعض الحلال ويقتصر على مقدار الضرورة، كما كانت سيرة الأنبياء والأولياء والقرآن ينبّه البشر على هذه الحقيقة التي ستنكشف له بعد حين، حتّى لا يحتجّ بأنّه كان غافلاً عنها.

« وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ »، أي ظهر لهم من عذاب الله ونقمته ما لم يحسبوا له حساباً، وما كانوا يظنّون أنّ الله تعالى يفعل بهم ذلك. نعم الذي يراه الإنسان هناك ويبدو له من عذاب الله فوق تصوّره وتقديره، كما أنّ نعيم الجنّة أيضاً ليس كما نتوهّم، قال تعالى: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » (1).

ويمكن أن يكون منشأ عدم الاحتساب أنّ الإنسان يمني نفسه في هذه الدنيا برحمته تعالى واستغنائه عن تعذيب عباده. وهذا ما نسمعه مكرّراً من أبناء الدنيا واللاهين بنعيمها، فإنّهم يستبعدون محاسبة الله تعالى لهم على هذه الدقائق الموجودة في الشرع، بل يستبعدون أن يعذّب الله تعالى أحداً بالنار، وربّما يستهزؤون بما يردّ في النصوص من التهويل بعذاب جهنّم وبسائر أنحاء العذاب المصرّح به في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ونسمع ذلك حتّى ممّن يدعون الإسلام ممّن استهوتهم العلمانية وارتدوا في بواطنهم عن

ص: 329


1- السجدة (32): 17 .

الدين وإن لم يتجرّؤوا على التصريح.

« وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا » وهذا ممّا يزيد في فظاعة العذاب، فإنّ الأفجع للإنسان أن يعلم أنّ ما صنعه هو نفس العذاب وأنّ عذابه صنيعة يده، ولكنّه في هذه الحياة يرى وجهاً آخر من عمله فلا يرى فيه قبحاً ولا فظاعة، بل هو وجه جميل يتلذّذ من منظره، أو هو أكلة لذيذة، أو تمتّع، أو فخفخة في الألقاب، أو بناء عظيم، أو كرسي في البرلمان أو تقلّد لوزارة أو غير ذلك، ولكن وجهه القبيح يظهر في تلك النشأة، فالإنسان يرى نفس عمله ويتمنّى لو كان بينه وبينه أمداً بعيداً: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »(1).

وأفظع من ذلك إذا كان يتصوّر في هذه الحياة أنّ ما يصنعه جميل حتّى في تلك النشأة، وربّما يتعب نفسه أو ينفق ماله، بل ربّما يضحي بنفسه ليعمل عملاً يراه جميلاً ويتعبّد الله به وهو من أكبر الجرائم، فهذا يخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا » (2).

«وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» ، « حَاق بهم » أي نزل بهم من حاق يحيق، أي نزل به عاقبة فعله أو مكره، قال تعالى: «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» (3)، وقيل بمعنى أحاط به. وعليه فلعلّه مأخوذ من الحوق، وهو بمعنى الإحاطة، فقلب ياءاً والذي استهزؤوا به هو عذاب جهنّم - أعاذنا الله منها.

ص: 330


1- الزلزلة (99): 6 - 8 .
2- الكهف (18): 103 - 104.
3- فاطر (35): 43.

سورة الزمر ( 49 – 52)

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

« فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ» ، «الفاء» للعطف والظاهر أنّه عطف على مجموع ما مرّ من بيان حال المشركين والضر: سوء الحال من فقر ومرض ونحوهما. ومسّ الضر: إصابته والتعبير بالمسّ کأنّه للإشارة إلى أنّه يدعو ربّه بأقلّ إصابة للضرّ. وتخويل النعمة اعطاؤها من دون استحقاق. والمعنى أنّهم يشركون بالله بحيث تشمئزّ نفوسهم من ذكره وحده، ثمّ إذا مسّهم الضرّ لم يبتهلوا إلّا إليه. و إنّما عدل عن الضمير إلى ذكر الإنسان للتنبيه على أنّ هذه سجيّة البشر، لا خصوص هؤلاء.

وهذه السجيّة مرّ ذكرها في الآية 8 ولكنّ هناك فرق بينهما، فالمقارنة هناك بين ابتهاله إلى الله تعالى لدى الضرّ ونسيانه ضرّه إذا صار متنعّماً، ولكنّه هنا يركز على ظاهرة أخرى تبدو من الإنسان إذا أصبح مستغنياً وهو أنّه ينسب النعمة إلى غير ربّه.

ونظيره ما ورد في سورة الأنعام: «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ » (1) وفي سورة النحل: «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ

ص: 331


1- الأنعام (6): 63-64 .

تَجْأَرُونَ *ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ »(1) وفي سورة الروم «وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ »(2).

وهنا أيضاً ينسب النعمة إلى نفسه وإلى العوامل الخارجية التي وصل إليها بعلمه، وينكر أن يكون ما حصل عليه من نعم ربّه عليه. فقوله « قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ » بمعنى أنّه حصل عليه بسبب علمه بطرق كسب المال.

وقد وقع الكلام في وجه تذكير الضمير مع أنّه يعود إلى النعمة، فقالوا إنّه بتأويل المال أو الشيء، ولكن ليس في كلامهم وجه مقنع في سرّ هذا التأويل إلّا ما ذكره العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) وهو أنّ الوجه فيه إنكاره لكونه نعمة من الله تعالى. ومثل ذلك ما حكاه عن قارون حيث قال في جواب قومه « قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي» (3).

وهكذا طبيعة الإنسان إذا انسدت عليه الطرق وضاقت به السبل ولم يجد ملجأ إلّا الله تضرّع واستغاث به، وتجده من أخشع القانتين، فإذا زال الكرب والهمّ عاد إلى غيّه واعتمد على الأسباب، ونسي ربّه الذي بأمره تؤثّر الأسباب كلّها. وهذا هو المراد بالشرك هنا، وهذا لا يختصّ بعباد الأصنام، بل كثير من المؤمنين أيضاً كذلك.

« بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ » ، أي ليس كما توهّمت أنّك حصلت على بغيتك بعلم من عندك، بل هو من الله تعالى منحك إيّاه فتنة وامتحاناً. وكلّ ما في هذه الحياة فتنة

ص: 332


1- النحل (16): 53 – 54.
2- الروم (30): 33 .
3- القصص (28): 78 .

وامتحان، سواء كان خيراً أم شراً، قال تعالى: « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (1) ، والامتحان ليس لكي يعلم الله منّا ما لم يعلم فهو علام الغيوب، و إنّما يمتحن الله خلقه لتبرز القابليات، فإنّ الدرجة والثواب لا يدفع لمجرّد الاستعداد و القابلية حتّى فى امتحانات البشر، و إنّما يدفعان لبروز العلم والفن وغيرهما.

بل هناك أمر آخر أيضاً، وهو أنّ الإنسان لا يتكامل نفسه إلّا بمواجهة الفتن والامتحانات، فهي تصقل نفسه وتنمي قدراته، كما أنّ جسمه أيضاً لا ينمو ولا يتكامل إلّا بمواجهة الحوادث والمشاكل، وكلّما كثرت المواجهات قويت النفس البشرية، وكلّما لانت الحياة وكثرت النعم وانتشر البذخ والترف خارت القوى وضعفت العزائم، سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي.

و«الفتنة» أصله الإحراق بالنار، ثمّ أطلقت على صهر المعادن بها. وحيث إنّه يوجب خلوصها من الشوائب أطلقت على المشاكل التي بها تتبيّن جواهر الرجال، بل بها تخلّص جواهرها من الشوائب.

« وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ »، أي لا يعلمون أنّ ما أنعم الله تعالى عليهم فتنة وامتحان. وكلّ ما على الأرض فتنة، قال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » (2)، وقليل أولئك الذين ينتبهون لهذه الحقائق وأكثر الناس لا يعلمون، ولكنّ القرآن ينشرها لتتمّ الحجّة على البشر. وهذه الحقائق من معجزات هذا الكتاب العظيم.

« قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ »، أي قال السابقون أيضاً نفس المقالة. والقرآن يركّز

ص: 333


1- الأنبياء (21) :35 .
2- الكهف (7): 7 .

كثيراً على تشابه الأمم في مواجهة الرسالات، بل ينقل عن كلّ قوم نفس العبارة التي قالها من قبلهم ويسأل تعجيباً : «أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ » (1)، فكأن كلّ قوم أوصى لمن بعده أن يتداولوا نفس القول. وقد حكى الله تعالى مقالة قارون وهي قول هؤلاء بعينه: « إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي »(2).

« فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » کأنّهم كانوا يتوقّعون أن تفيدهم أموالهم وقدرتهم وجيوشهم إذا أراد الله بهم سوءاً، ولكن كلّ ذلك لم تغن عنهم، أي لم تكفهم ولم تدفع عنهم البلاء والمراد بما كانوا يكسبون ما كانوا يحصلون عليه من مال وجاه وقوّة وسلطة. والغرض تنبيه المشركين: لماذا لا تعتبرون بما أصاب السابقين نتيجة غيّهم وشركهم؟! وفي خسف قارون بما كان يملكه من مال عبرة للمعتبر حيث لم يغن عنه ماله ولا عصبته، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له.

« فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا» ، «الفاء» للتفريع، أي حيث لم يغن عنهم أموالهم وقدرتهم أصابهم العذاب ولم يعذّبهم الله تعالى إلّا بسيّئات عملهم، فما أصابهم كان نتيجة عملهم السيّء والمراد بما كسبوا هنا طغيانهم على ربّهم وظلمهم. ويختلف هذا عن ما كانوا يكسبون في الآية السابقة، فإنّ التعبير بأنّهم كانوا يكسبون یدلّ على ما هم مستمرّون عليه من شؤون معاشهم.

« وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ»، «هؤلاء» إشارة إلى مشركي مکّة والعرب والمعنى واضح وهذا نتيجة ملاحظة شؤون السابقين وعاقبة أمرهم، فالظالمون من هؤلاء أيضاً سينالون جزاء سيّئاتهم في

ص: 334


1- الذاريات (51) :53 .
2- القصص (28): 78 .

الدنيا قبل الآخرة، ولا مردّ له والله تعالى لا يعجزه شيء. و مثل هذا الخطاب ورد في قصة قارون أيضاً: « أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا» (1)

« أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ »، هذا ردّ لما توهّموه من أنّ ما جمعوه من مال إنّما هو حصيلة عملهم، وجهلوا أو تجاهلوا أنّ الكون وإن كان يسير وفق نظام معيّن، ومن تفطّن للأسباب تمكّن من الوصول إلى ما يبتغيه ولكن هناك إرادة حكيمة تدير الكون ولا تؤثّر الأسباب إلّا بإرادته وهو الذي هيّأ أسباب الرزق على اختلاف مواردها، وجعل لكلّ موجود حيّ وسيلة للارتزاق، ومنح لبعض الناس فطنة ودهاء، أو هيأّ لهم الوسائل الطبيعية وضيّق على آخرين وفق ما تقتضيه الحكمة البالغة، وهو الذي يوفّق من أراد ويهديه للأسباب، وليس كلّ الأسباب متاحة لكلّ أحد.

ولذلك نجد كثيراً من أهل الفكر والدهاء يحاولون ويبذلون جهدهم ولا يتمكّنون من الوصول إلى مبتغاهم في الحياة الدنيا. وكثيراً ما نجد أناساً يتهيّأ لهم الفرص من دون تعب وجهد، ومن دون تميّز في الفطنة والدهاء. فهناك وراء الأسباب الظاهرية إرادة تدير الكون حسب معايير لا نعلمها.

هذا هو المراد ببسط الرزق وتقديره و«التقدير» الضيق.

« إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ »، نعم في ذلك آيات متعددة بتعدد الموارد التي يلاحظ فيها البسط والضيق بعوامل خارجة عن إرادة الإنسان، ولكن هذه الملاحظة تختص بمن يؤمن بالله تعالى ويؤمن بالغيب، ولا يحاول تفسير كلّ ظاهرة بعواملها الطبيعية ويقتصر عليها.

ص: 335


1- القصص (28) :78 .

سورة الزمر( 53 – 61)

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)

« قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ »، أمر الله تعالى رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يبلغ الناس هذا الخطاب المفعم بالرحمة والعناية، والموجّه من قبله تعالى إلى الناس جميعاً مخاطباً إياهم: « يَا عِبَادِيَ » ومن الواضح أنّ السياق يقتضي أن يكون الخطاب شاملاً للمشركين والكفّار أيضاً، سواء بملاحظة ما قبلها من الآيات التي تخصّ المشركين ، أو بملاحظة ما بعدها حيث يأتي الخطاب في نفس السياق: «بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا ».

ومع ذلك فالخطاب يفيض رحمة ورفقاً بالعباد المذنبين والعاصين والمكذبين والمستكبرين على سواء، ويدعوهم ويناديهم: « يَا عِبَادِيَ » ويصفهم بأنّهم أسرفوا على أنفسهم، فلم يعبّر بالإجرام والذنب والإثم، فضلاً عن الكفر والشرك، بل

ص: 336

اعتبرهم جميعاً ممن تجاوز الحدّ في الإضرار بنفسه، ف«الإسراف» هو التجاوزعن الحدّ في أي شيء، وتعدّي الاسراف ب«على» يفيد أنّ التجاوز إنّما كان في الإضرار بأنفسهم.

ثم النهي عن القنوط من رحمة الله يبعث الأمل في قلوب الجميع و«القنوط » هو اليأس. ولعلّ التعبير باسم الجلالة بدلاً عن الضمير للإيذان بأنّ مقتضى كونه هو الله المستجمع لجميع صفات الكمال أن يكون رحيماً بعباده وخلقه.

« إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا». علل شمول الرحمة بأنّه تعالى يغفر الذنوب جميعاً. وهذا يشمل كلّ ذنب حتّى الشرك، فلا وجه لتقييده بما عداه. نعم، هذا الخطاب خاصّ بمن يتوب إلى الله تعالى، و إنّما لا يغفر للشرك بدون التوبة، لقوله تعالى: « «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ » (1)، فهذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يمكن أن يغفر غير الشرك من دون توبة، وأمّا الشرك فلا يغفر إلّا بها.

ويشهد على أن ّالحكم هنا مقيد بالتوبة، الآية التالية حيث تأمر بالإنابة والتوبة ممّا يظهر منه أنّه هنا أيضاً يدعو إلى التوبة إلى الله تعالى لتشملهم رحمته الواسعة.

« إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». علل عموم الغفران بأنّ ذلك مقتضى كونه هو الغفور الرحيم. والصيغتان من الصفات المشبّهة التي تدلّ على الثبات والدوام. وضمير الفصل مع الألف واللام یدلّان على الحصر، وأنّه ليس هناك غفور ورحيم غيره تعالى. و«الغفران» في الأصل الستر، والمراد أنّه تعالى يستر الذنوب بالتوبة، وليس عفوه مجرّد ترك للعقوبة. و«الرحمة» في غير الله تعالى فسّرت بأنّها رقّة في

ص: 337


1- النساء (4) :48 .

القلب تقتضي الإحسان، قيل: وهي فيه تعالى بمعنى نفس الإحسان، ولكنّ الظاهر أنّها غيره، فإنّ الإحسان نفس فعله تعالى، والرحمة من صفاته تعالى وإن كانت منتزعة من الفعل فهي صفة تقتضي اللطف والإحسان بالنسبة للمخلوقات.

« وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ » ، «الانابة»: الرجوع كما مرّ. والتعبير بالربّ للإيذان بأنّ رجوعكم إليه يؤثّر في تربيتكم وبلوغكم الدرجة المطلوبة في الكمال. و«الإسلام» هو التسليم لأمر الله تعالى في التكوين والتشريع، أمّا في التكوين فإذا قضى الله أمراً لا مردّ له لا يجزع منه، بل يرضى بقضائه تعالى كما في دعاء كميل: «وَتَجْعَلَني بِقَسْمِكَ راضياً قانعاً » وفي زيارة أمين الله: «اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك». وأمّا في التشريع فإذا حكم بحكم استسلم له وانقاد خاضعاً حتّى لو لم يتبيّن له وجه الحكمة فيه أو كان منافياً لميوله ونزعاته.

وفي قوله: « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ » تهديد واستعجال، وإيماء إلى أنّ الوقت قليل، وربّما يباغتكم العذاب فلا تسوّفوا التوبة، وأمّا العذاب فيمكن أن يكون المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا، ويمكن أن يريد عذاب الآخرة. والاستعجال بناءً على الاحتمال الثاني من جهة أنّ المهلة تنتهي بالموت، « ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ » أي بعد نزول العذاب أو حلول الموت تنتفي النصرة انتفاء تامّاً، إذ لا ناصر من عذاب الله تعالى، ولا شفيع يشفع بدون إذنه قال تعالى: « مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ»(1) .

« وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ». اختلف القوم في تفسير ما هو الأحسن

ص: 338


1- غافر (40): 18 .

ممّا نزل من السماء، والغالب يصرّون على أنّ ذلك بعض القرآن فهل هو آيات الأحكام أو ما يشتمل على التكاليف الإلزامية أو ما عدا القصص وعبر التاريخ أو ما يدعو إلى صفاء النفس وكمال الروح؟ إلى غير ذلك ممّا قالوه من دون دليل أو قرينة.

والذي يرفضونه هو الصحيح وهو القرآن كما قال تعالى قبل بضع آية : «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» (1) وسائر الكتب من الحديث، فالقرآن أحسن ما نزل من الكتب السماوية وهو أمر طبيعي، فمع تطوّر البشر وتكامله الثقافي يستحقّ مثل هذا الكتاب، بينما كانت الكتب السابقة بسيطة كبساطة البشر آنذاك وتدنّي ثقافتها العامّة.

و إنّما استبعدوا هذا الوجه، لأنّ سائر الكتب لم ينزل على المخاطبين، وهم عرب الجزيرة أو أهل مکّة، ولكن هذا غفلة عن سياق الآية، فإنّ الخطاب فيها موجه إلى عموم البشر، ولا يخص قوماً دون قوم أو زماناً دون زمان.

« مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ » كرّر التهديد والاستعجال، مع التصريح بأنّ العذاب ربّما يأتيكم بغتة حال كونكم مشغولين بأمور معاشكم ولا تشعرون به. وهذا - كما ذكرنا - يحتمل أن يكون عذاب الدنيا ويحتمل عذاب الآخرة، بل يحتمل المجموع أيضاً.

« أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ » ، أي مخافة أن تقول...، وهذا تعليل لما ورد من التهديد والاستعجال المذكور، أي نخبركم بهذه الحقائق ونحذّركم ونستعجلكم مخافة أن تقول .... وهذا الذي يخاف منه واقع لا محالة،

ص: 339


1- الزمر (39) :23 .

لأنّ أكثرهم لا يستجيبون للنداء الإلهي إلى أن يأتيهم يوم الحسرة والندامة.

وقوله: « یَا حَسْرَتَا» اصله «يا حسرتي»، والأصل في مثل هذا النداء يا قوم هذه حسرتي، ونظيره: «يا ويلتا»، و«الحسرة»: الندامة بعد فوات الفرصة، و إنّما يقال له الحسرة، لأنّها تحصل حين يحسر الغطاء ويكشف الواقع. و«الحسر»: الازالة.

و«التفريط»: التقصير. و «جنب الله» أي الجانب المتعلق بالله تعالى في شؤون الحياة، فالإنسان الغافل والمشغول بالزخارف الدنيوية التي لا تنتهي ولا ينتهي ميل الإنسان إليها لا يعير اهتماماً بما يتعلق بالله تعالى من وظائف دينية ومعارف إلهية، وأخلاق وسيرة مرضيّة لديه تعالى، وكلّ هذا تقصير، فضلاً عن أن يكفر به أو يشرك به، ويجعل له أنداداً من خلقه.

« وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ »، (إن) مخفّفة من المثقلة، واسمها ضمير الشأن. واللام في «لمن» لام القسم ، أي والله أنّ الشأن إنّي كنت من الساخرين. والإنسان يزيد حسرة إذا لم يكن تفريطه لجهل وعدم اطلاع، و إنّما كان يسخر من آيات الله ويستهزئ بها. وهذا إثم عظيم، فإنّ الذي يعارض المعارف الإلهية بمنطق واستدلال يقابل بمثله، ومنطق الدين أقوى منطق، وحجّته أقوى حجّة: « فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ »(1) إلّا أنّ الذي يسخر ويستهزئ بآيات الله فلا يمكن مقابلته بشيء. وهذا ما كان يعيق نشاط الأنبياء والأولياء - سلام الله عليهم أجمعين. ومن هنا نجد أنّ الآيات الكريمة مليئة بالتنديد والتهديد للمستهزئين و هذا التحسّر إنّما يصدر من الكافر حينما يرى مشهد يوم القيامة، كما قال تعالى في سورة الأنعام « حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا »

ص: 340


1- الأنعام (6): 149 .

جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا » (1).

« أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» وهذا التمنّي إنّما يبرزه كلّ من لم يتّق الله في الدنيا حينما يجد المتّقين تغمرهم السعادة ويؤمر بهم إلى الجنّة، ولكنّه مع ذلك لا يقوله بصيغة التمني، بل بصيغة يحمل اعتراضاً على الله تعالى، فهو ينسب ضلاله إلى عدم هداية الله تعالى له، ولذلك يأتيه الجواب كما سيأتي.

« أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» ، «الكرة»: الرجعة. وهذا قد يكون مجرّد تمنّ وحسرة حيث يتمنّى الإنسان يوم القيامة أن يعود إلى الدنيا ويكون من المحسنين، وقد يكون دعاء يدعو الإنسان به ربّه يوم القيامة. وقد ورد كلاهما في القرآن كما في سورة الأنعام: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » (2) فهذا مجرّد تمنّ منهم، ومثله في سورة الشعراء «فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(3) وهذا ممّا يقولونه وهم في النار. و في سورة المؤمنون «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ »(4) وهذا دعاء يدعون به وهم في النار.

ومهما كان فهذا دعاء مردود وتمنّ باطل، كما قال تعالى في سورة المؤمنون رداً عليهم: «قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ»(5)، بل ورد في آيات أخرى أنّ ذلك لا يفيدهم ففي سورة الأنعام ردّاً على نفس التمني، كما مرَ: «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ

ص: 341


1- الأنعام (6): 31.
2- الأنعام (6): 27.
3- الشعراء (26): 102 .
4- المؤمنون (23) :107.
5- المؤمنون (23) :108.

مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1) .

ولعلّ الوجه فى ذلك أنّ الله تعالى لا يريد منهم الإيمان إلّا بالغيب، ولذلك لا يقبل الإيمان يوم القيامة ولا حين نزول العذاب الدنيوي، فإذا أعادهم إلى الدنيا لا بدّ من أن ينسيهم ما رأوه من مشاهد الآخرة، فيعودون إلى حالتهم الأولى وهو التكذيب، ولعلّهم لو تذكّروا أيضاً قالوا: إنّ هذا سحر سحرنا به.

« َلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ » ، هذا جواب عن القول الثاني حيث اعترض بأنّ الله لم يهده إلى الصراط المستقيم وإلّا لكان من المتّقين. والجملة المصدّرة بكلمة «بلى» لا تقع جواباً إلّا على الجملة المنفية، كقوله تعالى: « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى » (2) ، وتفيد الإثبات أي «أنت ربنا». وهنا وإن لم تكن الجملة منفيّة إلّا أنّه بمعنى النفي، لأنّ قوله: « لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي» يفيد أن الله لم يهده.

والجواب واضح فإنّ هداية الله بمعنى إراءة الطريق متاحة للجميع: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (3)، فيخاطبه الله تعالى: « قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ». وعطف الاستكبار على التكذيب يفيد أنّ تكذيبه لم يكن عن جهل، بل إنّما كان عن تعنّت واستكبار وكفر بأنعم الله تعالى.

وقد تبيّن بما مرّ أنّ الوجه في الجواب عن هذا التمنّي دون ما قبله وما بعده هو أنّه في هذه الجملة اعترض على أنّه لم يتلقّ هداية من الله تعالى. وهو كذب واضح.

ص: 342


1- الأنعام (6): 28 .
2- الأعراف (7): 172 .
3- الدهر (76) :3 .

وهنا يثار سؤال: لماذا لم يؤخّر التمنّي الثاني ليكون قبيل الجواب بلا فصل؟ قيل: إنّ السرّ فيه هو مراعاة الترتيب الحاصل هناك حسب مواقف القيامة، فإنّه يقول القول الأول بمجرّد مشاهدة يوم القيامة، والثاني حين يرى المتّقين يدخلون الجنّة، والثالث حين يرى العذاب ويقف على النار.

وقيل: في الترتيب وجه آخر أيضاً وهو أنّه في الأوّل يتحسّر على عدم إيمانه، وفي الثاني يعلّله بعدم هداية الله له، وفي الثالث يتمنى الرجوع إلى الدنيا.

« وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ»، يعود ليذكر حال الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، فيقول بأنّك ترى وجوههم يوم القيامة مسودّة. والخطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو لكلّ من يقرأ ويسمع الآية. وسواد الوجه كناية عن الخزي والمذلّة، كما قال تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ»(1).

وهذا السواد يحصل للكافرين يوم القيامة ويقابله البياض للمؤمنين، وهو أيضاً كناية عن الفوز والفلاح والفرح والسعادة، قال تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » (2) .والمراد ب «الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ »الذين نسبوا إليه الولد أو جعلوا له شركاء أو ابتدعوا في الدين ونسبوه إلى الله تعالى.

« أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ » ، الظاهر أنّه تعليل السواد وجوههم، أي

ص: 343


1- النحل (16) :58 .
2- آل عمران (3): 106-107 .

وكيف لا يخزون ولا تسودّ وجوههم؟! أليس في جهنّم مثواهم؟! فمن جعل مثواه جهنّم كفاه ذلك سواداً للوجه وخزياً ومذلّة. و«المثوى» هو المقام والمستقرّ. ومقتضى السياق أن يقول: أليس في جهنّم مثواهم؟ ولكنّه أبدله إلى الاسم الظاهر ووصفهم بالمتكبرين للتنبيه على سبب إسوداد الوجه والمذلة وهو التكبر في الدنيا. وهكذا يجزي الله على كلّ إثم بما يناسبه. وذكر هذا الوصف ينبّه أيضاً على أنّ السبب في شركهم وكفرهم هو التكبر ، كما كان هو السبب في أوّل معصية وهي معصية الشيطان.

« وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» ويقابل المتكبّرين، الذين اتّقوا ربّهم، فينجيهم الله من العذاب ومن كلّ أهوال يوم القيامة. والظاهر أنّ «الباء» في « بِمَفَازَتِهِمْ » للسببية، أي بسبب أنّهم فازوا ونجحوا في الامتحان و«المفازة »مصدر ميمي من الفوز، ويحتمل أن يكون «الباء» للمصاحبة والمراد ب-«الفوز» أنّهم فازوا بالجنّة، فيكون المعنى أنّهم نجوا من النار وفازوا بالجنة. والجملة التالية حالية، أي حال كونهم لا يمسّهم سوء من الخارج ولا هم يحزنون في أنفسهم. والشقاء في هذه الحياة يحصل إمّا بسوء يمسّ الإنسان من الخارج أو باضطراب وقلق نفسي يحزنه، وهناك لا يمس المتّقي سوء ولا يحزنه شيء.

ص: 344

سورة الزمر (62 – 66)

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

« اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ »يعود إلى التأكيد على توحيد الربوبية والتوحيد في العبادة من زاوية وظيفة الرسول في مواجهة ضغوط المشركين. فيبدأ بالتأكيد على أنّ الربوبية تتبع الخالقية، فإذا كان خالق الكون هو الله تعالى - كما يعترف به الخصم وتنادي به الفطرة والمنطق السليم - فالربّ أيضاً هو الله تعالى، لأنّ الخالق هو الذي يوكل إليه أمر المخلوق، ولا معنى لإيكال الأمر إلى غيره إلّا إذا كان في الخالق ضعف، وهو مناقض لخالقيته وقدرته المطلقة التي تبدو بوضوح من الدقّة في الكون. فالله تعالى الذي هو خالق كلّ شيء، هو وليّ كلّ شيء أيضاً، وإليه يعود أمره.

و«الوكيل» فعيل بمعنى المفعول، أي الموكول والله تعالى وكيل على كلّ شيء بمعنى أنّ أمر كلّ شيء موكول إليه. وهذه الصيغة لا تعني أنّ هناك موكل أوكل الأمر إليه، بل الأمور موكولة إليه بالذات، لأنّه هو الذي خلقها.

والسرّ يكمن في معنى خلقه تعالى للكون ، فإذا قيس خلقه تعالى إلى ما يبدعه الإنسان جال في الذهن هذا التوهّم أنّ بالإمكان أن يكون الخالق والموجد لشيء غير الحافظ له والمدير لأموره، فإنّا نجد أنّ الإنسان لا يلى كلّ شؤون مبتدعاته،

ص: 345

بل لا يمكنه ذلك، فإنّها ربّما تبقى بعد موت الإنسان. ولكن الخلق والإيجاد من الله تعالى ليس بهذا المعنى، بل بمعنى تقوّم الأشياء في وجودها وكيانها بإرادته تعالى، فهي لا تستغني عن تدبيره لحظة، بل لا تنفصل عنه لحظة. وبذلك يتبيّن أنّ التدبير من شؤون الخالقية بل هو الخلق بالذات وليس تابعاً له أو متفرّعاً منه.

« لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ »، «المقاليد» جمع مقلاد، وهو معرب كليد بالفارسية، أي المفتاح و يعرب إلى إقليد أيضاً. وهذه الجملة بمنزلة التعليل للجملة السابقة، ولذلك تعقبه بدون عطف، أي أنّ مفاتيح الأمور كلّها بيده، فهو يتولى تدبير أمور كلّ شيء، والسماوات و الأرض كناية عن كلّ الكون كما أسلفنا.

« وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ». هذه نتيجة الجملة السابقة، فإذا كانت مقاليد الأمور بيده تعالى، فالذين يعرضون عن عبادته، ويدعون غيره ويرجون الخير من غيره هم الخاسرون وهم الكافرون بآيات الله حيث لم يتنبّهوا إلى مدلول الآيات التي تقودهم إلى معرفته وإلى انحصار الربوبية فيه. والجملة تدلّ على الانحصار، فلا خاسر غيرهم وذلك إذا قيست خسارتهم بالخسارات المادّية الزائلة.

« قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ »، يبدو من الآية الكريمة أنّ المشركين كانوا يضغطون بشتّى الوسائل على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يعبد أصنامهم أو يميل إليها، فأمر الله رسوله أن يردّ عليهم و «غير الله» مفعول أعبد، أي افتأمرونّي أن أعبد غیر الله، فهذا یدلّ على جهلكم بالله وبالرسول وبالإنسان. فالله هو المؤثر في الكون لا يؤثّر معه غيره، فالعبادة خاصّة به، والرسول لا يمكن أن يخالف أوامر

ص: 346

ربّه، والإنسان أشرف من أن يسجد لغير الله مهما كان شأنه، فضلاً عن أن يسجد لجماد لا يعقل ولا يقدر على شيء.

« وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » إنّما وجّه هذا الخطاب الشديد لكي ييأس المشركون من تنازل الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولرغبتهم وجهلهم، فهذا وحي خطير، وإنذار بليغ لا يختصّ بهذا الرسول، بل أرسل إلى جميع الرسل السابقين: « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ». فالشرك من الرسول يستتبع حبط الأعمال، ويتبعه أعظم الخسران في الدنيا والآخرة.

و«الحبط »مرض في الدابّة يتسبّب في أنّها تأكل وتنتفخ ولكن لا تستفيد من الأكل، بل تموت. ويستعار لعمل يكون في الظاهر جليلاً وعظيماً وكبيراً، ولكنّه في الواقع ليس غير مفيد فحسب، بل هو ضارّ وموجب للهلاك، و هذا كعمل المرائي، فإنّ له ظاهراً مغرياً، ولكنّه ليس في الواقع إلّا إثماً عظيماً يستحق عليه العذاب.

والفظيع هنا أنّ العمل الذي يحبط هو عمل الرسول، و هو أعظم الأعمال، ولكنّه سيفقد حسنه وبهاءه، بل يتحوّل إلى قبيح إذا أشرك بربّه والعياذ بالله.

ويقع السؤال هنا أنّه هل يمكن أن يشرك الرسول؟ فأين العصمة؟ وإن كان مستحيلاً منه، فلماذا هذا الاهتمام بأمر مستحيل بحيث ينذر الله سبحانه بذلك كلّ رسله؟

قال بعضهم: إنّ هذا الخطاب من قبيل إيّاك أعني واسمعي يا جارة، فالخطاب متوجه إلى الأمة وإن وجّه ظاهراً إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

ص: 347

وهذا بعيد جدّاً عن سياق الآية، فالخطاب هنا إنّما ورد وذكر به ليكون ردّاً على اقتراح المشركين أن يتنازل الرسول إلى رغبتهم ويعبد أصنامهم، ولا يناسب أن يكون الخطاب لغيره.

والجواب الصحيح : أنّ صدور الشرك من الرسول غير مستحيل ولكنّه غير واقع والسرّ في كونه غير واقع هو علم الرسول ولا يمكن أن يصدر الشرك من عالم، وقد مرّ توصيف المشركين بأنّهم جاهلون، والعصمة لا تقتضي استحالة صدور الشرك أو المعصية، وإلّا لم يكن معنى للتكليف.

والحاصل: أنّ العصمة ليس بمعنى عدم إمكان صدور الفعل لعدم قدرة المعصوم، بل إنّما لا يصدر لعلمه بقبح المعصية، بل لرؤيته وجه المعصية الواقعي بالعيان ومثل هذا الوحي من مقوّمات تحقق العلم للرسول، أي أنّه إنّما يعلم فظاعة الشرك بوحي من الله تعالى. وهذه الآية لا تخبر عن وحي عامّ كسائر آيات القرآن، فلعلّه وحي خاص بالرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما أوحي إلى سائر الرسل له.

وأمّا الاهتمام بذكره مع أنّه غير واقع فلعلّه للإيذان بأهمية الموضوع، وليعلم سائر الناس أنّ الحكم إذا كان كذلك بالنسبة إلى الرسل فكيف بغيرهم؟ أو ليكون جواباً حاسماً للمشركين الذين يضغطون على رسلهم بالتنازل قليلاً لرغباتهم واحترام أصنامهم.

ويمكن أن يكون المراد ب-«الشرك» كلّ مراحله حتّى الشرك الخفي الذي لا يخلو منه المؤمنون، فالرسول لقربه لدى الله تعالى يجب أن يكون عمله خالصاً من كلّ شائبة من الشرك. ويؤيّد هذا الاحتمال تكرّر الأمر في هذه السورة بالإخلاص في الخطاب للرسول، كقوله تعالى: « «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ»

ص: 348

« بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ»، أي لا تعبد غير الله، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين في عبادتك. وفي الحديث عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عند عائشية ليلتها، فقالت يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟!» (1) و روي بوجوه ، بوجوه أخرى. والعبادة بنفسها من وجوه الشكر ، وعلى الرسول أن يشكر ربّه لما أنعم عليه من وجوه النعم، وقد قال تعالى: « إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا» (2)

ويمكن أن يكون المراد: «فاعبد واشكر» حيث وفّقك الله تعالى للعبادة، لئلّا يتوهّم الإنسان أنّ عبادته لله أمر يعود نفعه إلى الله، بل يعود إليك، فاشكر ربك على هذه النعمة والأمر بأن يكون من الشاكرين للحثّ على التواضع واستصغار الإنسان لعمله حتّى لو كان رسولاً، فيعتبر شکره کشکر سائر الخلق ممّن يشكر الله تعالى.

ص: 349


1- تفسیر نور الثقلين 3: 137 .
2- الإسراء (17): 87 .

سورة الزمز(67 – 70)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)

« وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ »، «القدر» و «التقدير» محاسبة الشيء حجماً أو وزناً ونحو ذلك. ويستعار أيضاً لمعرفة المنزلة والمكانة و « حَقَّ قَدْرِهِ » بمنزلة المفعول المطلق المبيّن للنوع، والإضافة من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف أي ما قدروا الله قدره الحقّ. وقدره الحقّ أن لا يشبّه بخلقه، وأمّا معرفته حقّ المعرفة فلا يتيسّر للإنسان. فالمراد التنديد بشركهم وتصوّرهم أنّ الله تعالى يشبه خلقه، كما يتوهّمه بعض الموحدين أيضاً.

« وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ »، الجملة حالية، أي لم يعرفوا الله حق المعرفة والحال أن الأرض جميعاً قبضته. والقبضة مصدر بمعنى اسم المفعول أطلق عليه للمبالغة أي الأرض جميعاً مقبوضة له، أي تحت قبضته.

وقالوا: المراد بقوله «جميعاً» جميع الأرضين بناءً على أنّها كالسماوات سبع أرضين. وفي الميزان أنّ المراد جميع أجزاء الأرض بكلّ عللها ومعلولاتها، ولا يبعد.

ويمكن أن تكون الأرض بمعنى كلّ العالم السفلي أي عالم الطبيعة بناء على

ص: 350

أنّ الأرض كناية عن ذلك، كما أنّ السماء كناية عن العالم العلوي. وقد ورد في نهج البلاغة وغيره أنّ السماوات مساكن الملائكة.

والمعروف أنّ كون الأرض في قبضته تعالى والسماوات مطويّات بيمينه كناية عن السلطة والقدرة التامة، فالأرض كلّها بالنسبة إلى قدرته تعالى يوم القيامة كمن أخذ شيئاً في قبضته. وكذلك طيّ السماوات باليمين كناية عن القدرة والسلطة عليها، ويكنّى باليمين عن القدرة لأنّ الإنسان غالباً يستعمل يمينه في الأعمال الصعبة.

ورجّح في «الميزان» أن يكون هذا التعبير كناية عن انحصار السلطة والقدرة فيه تعالى قال: فهو كقوله تعالى « وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ »(1). أي باعتبار أنّ هذه الآية تدلّ على الحصر. ومثلها كثير .

وما ذكره (رحمه الله ) أقرب ممّا ذكره غيره فإنّ القبض على الشيء بتمام الكف يقتضي منع غيره من التحكم فيه فیدلّ على الانحصار. والغرض نفي كلّ تأثير في ذلك اليوم من غيره تعالى.

ولكن يبقى السؤال عن وجه التخصيص بيوم القيامة، ومن الواضح أنّ كون السماوات والأرض بقبضته تعالى لا يختصّ بتلك النشأة.

وفي الميزان أنّ السرّ في التقييد بيوم القيامة مع أنّ القدرة لا تختصّ بذلك اليوم هو ظهور تلك القدرة العامّة للجميع في ذلك اليوم، فهو نظير قوله تعالى: « لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ» (2)، مع أنّ الملك له وحده دائماً وأبداً.

ص: 351


1- الانفطار (82): 19 .
2- غافر (40): 16 .

ولكنّ الظاهر أنّ السرّ في مثل هذه الآية وآية الملك وغيرهما أنّه لا يوجد في ذلك اليوم ملك أو قدرة لأحد إلّا من يأذن الله تعالى له إذناً خاصّاً، بمعنى أنّه ليس في تلك النشأة إذن عامّ ولا اختيار لأحد، فالنظام في تلك النشأة ليس نظام الاختيار والإنس والجنّ مسيّرون مقهورون.

ويظهر ذلك بوضوح من قوله تعالى« «يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ »(1)، فإنّ التكلّم كغيره من الأفعال لا يمكن في أيّ نشأة إلّا بإذنه تعالى، إلّا أنّ الله منح الاختيار والإذن العامّ في هذه النشأة لكلّ البشر. وهناك لا يتكلّم أحد إلّا بإذن خاصّ.

ولكن يظهر من بعض التعابير الواردة في تفسير الميزان أمر آخر جدير بالتأمّل، حيث قال في موضع من تفسير الآية «انقطاع كلّ سبب دونه يوم القيامة» وفي موضع آخر «أيّ الأرض بما فيها من الأجزاء والأسباب الفعالة بعضها في بعض» وفي موضع آخر «تقطّع الأسباب الأرضية والسماوية وسقوطها».

ومعنى ذلك أنّ الذي يحصل في تلك النشأة زوال تأثير الأسباب الطبيعية، بل حتّى الغيبية والسماوية. وما يريده الله تعالى يحقّقه من دون واسطة.

وقد صرّح العلّامة (رحمه الله ) بذلك في تفسير قوله تعالى «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ » (2)، حيث قال: إنّ المراد بعروج الملائكة والروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط، وتقطّع الأسباب، وارتفاع الروابط بينها وبين مسبّباتها والملائكة

ص: 352


1- هود (11) :105 .
2- المعارج (70): 4.

وسائط موكّلة على أمور العالم وحوادث الكون، فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها، وزيّل الله بينهم، ورجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه، رجعوا إليه، وعرجوا معارجهم.

ولكنّ القرآن الكريم يصرّح بأن الملائكة هم القائمون بالأعمال يوم الحساب، وأنّ كلّ نفس تأتي معها سائق وشهيد، وهما ملكان والملائكة هم الذين يلقون أهل النار في النار«أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ » (1)، وهم خزنة النار، ويتحدّثون مع أهل النار من أوّل ورودهم إليها وبعد ذلك، وهم يتلقّون المؤمنين في الجنّة، ويدخلون عليهم من كلّ باب بالسلام. إلى غير ذلك من المواقف.

بل لا ينتفي حتّى توسّط غير الملائكة، قال تعالى «وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ »(2) فهذا المؤذن وسيط لهذا الإعلام والروايات تدلّ على أنّه أمير المؤمنين (علیه السلام)، بل القرآن يصرّح بوجود رجال يوم القيامة ينفذون أوامر الله تعالى كما قال: « وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ» (3). مضافاً إلى أنّ نفس الجنّة والنار واسطتان للثواب والعقاب. والصحيح أنّه لا يمكن أن تسقط الوسائط بين الله وخلقه في أي نشأة من النشئات.

ويبدو من عبارته (رحمه الله ) أنّه استند في تفسيره الى قوله تعالى « وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ» وقوله « فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ»

ص: 353


1- ق (50): 24 .
2- الأعراف (7): 44 .
3- الأعراف (7): 46 .

أمّا الجملة الأولى فوردت في قوله تعالى «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ»(1). قال العلّامة في تفسير هذه الجملة: «فلم يبق تأثير لشيء دون الله».

ولكنّ الظاهر أن الجملة لا علاقة لها بالوسائط، ليكون المعنى زوالها في ذلك اليوم، بل المعنى أنّ ما كانوا يعقدون عليه الآمال من الأسباب والوسائط تقطّعت عنهم، أو تقطّعت دونهم فبقوا حيارى. والدليل على ذلك أنّ هذه الظاهرة خاصّة بالمشركين التابعين، وليس أمراً من مميّزات ذلك اليوم وتلك النشأة كما هو المدّعى.

وأمّا الجملة الثانية فقد وردت في قوله تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ »(2)، ويكفينا هنا أن ننقل ما ذكره العلّامة نفسه في تفسير الآية، ليتبيّن عدم ارتباطها بهذا الأمر.

قال (رحمه الله ) : «قطعنا الرابطة التي كانت تربطهم بشركائهم، وهي رابطة الوهم والحسبان التي يتّصلون بسببها بشركائهم، فانقطعوا عن شركائهم وانقطع شركاؤهم عنهم ، فبان أنّ عبادتهم لم تقع عليهم ولم تتعلّق بهم، لأنّهم إنّما عبدوا الشركاء وهم ليسوا بشركاء».

« سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» تنزيه لله سبحانه عما يشركون به، حيث يجعلون له أنداداً في التأثير في الكون، ومن ثمّ يعبدونهم فيشركون عقيدة وعملاً.

ص: 354


1- البقرة (2): 166 .
2- یونس (10) :28 .

« وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ » الصور: قرن الثور، كانوا ينفخون فيه قديماً لإعلان الحرب ونحوه. وقد تكرّر في القرآن الكريم التعبير بنفخ الصور عن يوم الحشر وإحياء الموتى، وبنفس المعنى ما ورد من النقر في الناقور في سورة المدّثّر (1)، كما ورد التعبير بالصيحة في سورة ق (2)، ونحو ذلك. ولعلّها كنايات عن أنّ إحياء الموتى لا يحتاج إلى شيء أكثر من إرادة إلهية سريعة كلمح بالبصر أو هو أقرب.

ولكنّ الوارد في هذه الآية نفختان فالنفخة الأولى تتسبّب في إبادة الحياة على هذا الكوكب وعلى غيره، والنفخة الثانية تحقّق الإحياء. وعليه فإبادة الحياة أيضاً لا تحتاج إلّا إلى أمر تكويني من الله تعالى فتتحقق فجأة والتعبير عنه بالصيحة والنفخة ليتناسب مع صعقة كلّ من في السماوات والأرض.

و«الصعقة» تطلق على الموت وعلى الغشية، لأنّ أصله بمعنى الصوت الشديد ومنه الصاعقة، و إنّما يطلق على الموت والغشية من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب.

والظاهر أنّ هذه الصيحة أو النفخة تتسبّب في موت من بقي من أهل الأرض، كما يظهر من الآية أنّ أهل السماوات أيضاً يموتون بذلك، لعلّ المراد بهم الملائكة، ولعلّ هذه النفخة هي التي تهدم نظام الكون.

والاستثناء يمكن أن يكون للإشارة إلى أنّه تعالى قادر على أن لا يعمّم الهلاك من دون أن يراد وجود من لم يشملهم ذلك، كقوله تعالى «وَأَمَّا الَّذِينَ

ص: 355


1- راجع: المدثر (74): 8 .
2- راجع: ق (50): 42 .

سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ »(1)، ويمكن أن يكون هناك من لا يشملهم هذا الموت العامّ واختلف في أنّهم هل هم الملائكة المقربون أو هم مع الشهداء أو الارواح؟ والله العالم.

«ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ »، أي نفخ في الصور نفخة أخرى، فكما ماتوا بنفخة أو صيحة كذلك قاموا أحياء بنفخة أخرى.

والأمر أسرع من ذلك، قال تعالى « وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(2)، بل لا فاصل بين ارادته تعالى وتحقق المراد.

ولعلّ التعبير بالنفخ للإشارة إلى توجيه الأمر الإلهي إلى الأجساد البالية ليقوموا. وتوجيه الأمر إليها كتوجيه الأمر بكلمة «كن» إلى ما لم يوجد بعد كما قال تعالى «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(3) .

و «قيام» جمع قائم، والظاهر أنّ المراد بكونهم قائمين ينظرون تصوير حالتهم، وهو مشهد رهيب تجد فيه البشر بمختلف قومياتهم وطوائفهم، وكلّ من عاشوا طيلة قرون متمادية قائمين ينظرون، فهم كانوا قبل لحظة موتى والآن أحياء ينظرون، أي يبصرون. ولعلّ المراد بالنظر أنّهم ينظرون مبهوتين.

ولا ينافي ذلك أنّهم ينسلون إلى ربّهم، كما في سورة يس (4)، وأنّهم يخرجون من الأجداث سراعاً كما في سورة المعارج(5) ، فإنّ ذلك يحصل في مرحلة أخرى.

ص: 356


1- هود (11) 108.
2- النحل (16): 77 .
3- يس (36) :82 .
4- راجع: يس (36) :51.
5- راجع: المعارج (70): 43.

«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا»، «أشرقت »أي أضاءت واستنارت. والمراد بالأرض أرض المحشر لا هذه الكرة الأرضية، فإنّها تتبدّل إلى غيرها. وقد اختلفت الكلمات في معنى الجملة، والظاهر أنّها كناية عن ظهور الربّ لأهل المحشر لا يحجب جماله شيء، وذلك لأنّ الحجب ترتفع في تلك النشأة، فيدرك الإنسان كلّ الحقائق بتمام وجوده. وهذا الإدراك أقوى من الرؤية البصرية، كما قال تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ »(1).

ولا يشبه هذا الإدراك علم في هذه النشأة إلّا علم الإنسان بنفسه، لأنّه علم حضوري، فالإنسان يدرك نفسه بكلّ وجوده لا بالرؤية ولا بالسمع ولا باللمسّ ولا بتوسّط أي حاسّة، و إنّما هو اتّحاد المدرِك والمدرَك ويوم القيامة ترتفع الحجب، فيدرك الإنسان بكلّ وجوده كلّ الحقائق. وبذلك ترتفع الفواصل الأباعد. ولو صحّ ما روي من أحاديث الرؤية، فهذا هو المقصود لا الرؤية البصرية، إذ هي مستحيلة في غير الأجسام.

وياله من تعبير تصوّر تلك الحقيقة التي لا يدرك كنهها الإنسان مهما بلغ من علم ومعرفة ومهما لطف شعوره ورقّت أحاسيسه.

وتجتمع

«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا» لا يكاد الإنسان يشبع من التأمّل في هذه الجملة وتكرارها.

يا ترى ماذا يحدث في تلك النشأة؟ كلّ الجمال وكلّ البهاء وكلّ العظمة تتجلى في هذا الإشراق.

ص: 357


1- ق (50): 22 .

ولا يمكن أن يتصوّر الإنسان أو يتخيّل جمالاً وبهاءً فوق ذلك. ولو أدرك الإنسان هذا الجمال وأشرق قلبه بهذا النور لم يطلب شيئاً وراءه.

وما وراءه؟

وما فوقه ؟

لا مجال لتكامل وتطوّر بعد ذلك ولا تتطّلع النفس إلى جمال وعظمة وبهاء بعده. «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا».

واشوقاه إلى ذلك الافق المضيء المشرق، الذي أشرق بنور الله جلّت عظمته، وتعالى شأنه، مهما شقّ الطريق، وبعدت الشقّة، وتهيّبت الأهوال في ذلك اليوم فإنّ كلّ ذلك لا يزيد الإنسان إلى رؤية ذلك النور إلّا شوقاً ولهفة.

اللهم نوّر قلوبنا بالإيمان، وعجّل لنا الاستضاءة بنورك في هذه النشأة.

اللهمّ أحبب لقاءنا، وحبّب إلينا لقاءك.

«وَوُضِعَ الْكِتَابُ »، «الكتاب» بمعنى المكتوب والأصل فيه الجمع، فكلّ مجموعة من الألفاظ أو المعاني ونحوها كتاب. والظاهر أنّ المراد به هنا ما يحكي عن كلّ ما عمله الإنسان وملابساته وظروفه لتكون المحاكمة عادلة حتّى في نظره أُنظر إلى أيّ مدى يكرّم الله الإنسان وحرّيته وهذا الكتاب هو الذي يضيق الخناق على المجرمين، قال تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(1)، فيبدو من الآيات أنّ الكتاب لا تعطي تسجيلاً أو صورة، بل هو شيء تظهر فيه نفس الأعمال بوضوح. قال تعالى: «هَذَا كِتَابُنَا

ص: 358


1- الكهف (18): 49 .

يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ »(1).

«وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ»، أمّا النبيون فلكي يسألوا عن تبليغهم، قال تعالى: «فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ»(2). وأمّا الشهداء فلكي يشهدوا على ما رأوا.

والقرآن الكريم يذكر شهداء على الإنسان غير البشر:

منها :الأرض: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا »(3).

ومنها: أعضاء الإنسان، قال تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.»(4) وقال: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ »(5).

ومنها: الملائكة: «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ »(6)، وقال تعالى: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ »(7)، وقال أيضاً: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.»(8).

وهناك أقرب الشهود من المشهود عليه وهو نفس الأعمال، وهناك أقوى

ص: 359


1- الجانية (45): 29 .
2- الأعراف (7): 6 .
3- الزلزلة (99): 4 .
4- یس (36) :65.
5- فصلت (41): 20 -21 .
6- ق .(50) :21 .
7- ق (50) :18 .
8- الزخرف (43): 80 .

الشهود وهو الله سبحانه: «وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا»(1) .وهكذا تكون المحاكمة العادلة.

هذا إذا أريد بالشهداء الذين شهدوا الحوادث ويمكن أن يكون المراد من تتمّ بهم الحجّة على الخلق، فيشمل الأنبياء والأئمة والصالحين وم-ن قتل ف-ي سبيل الله. وشهادتهم بمعنى أنّ حضورهم يقطع كلّ عذر ، فلا يمكن للإنسان أن يعتذر بعدم إمكان الحفاظ على الدين وسائر ما نجده أو نسمعه من المعتدّين على حقوق الناس أو المتهاونين بأمر دينهم من أعذار.

«وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ »، «القضاء بينهم بالحقّ » يتمّ بظهور الحقّ عياناً للجميع، فيرتفع الاختلاف، وهم لا يظلمون، بل يصل كلّ إنسان إلى حقه، ويوضع في موضعه، وينال مرتبته التي تليق به.

«وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ »، أي أعطي كلّ إنسان عمله كاملاً لا ينقص منه شيء ولا يجازى بجزاء وضعي، بل هو نفس عمله يستوفيه بوجهه الواقعي من دون تزيين، فالأعمال في هذه النشأة مزيّنة، وهناك يسقط المكياج وتبدو الأعمال على طبيعتها الأصلية، كما قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » (2)، والإنسان يفرّ من عمله إذا رآه بوجهه الحقيقي، كما قال تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا »(3).

ونظيره في هذه النشأة محكمة الوجدان والضمير الحيّ، وهو الذي يعبّر عنه

ص: 360


1- النساء (4): 79 .
2- الزلزلة :(99) :7 -8 .
3- آل عمران (3) :30 .

القرآن بالنفس اللوامة: «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ »(1).

«وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ » ولا يعلم مقاييس الأعمال إلّا الله تعالى. والمحاسبة دقيقة لا يمكن أن تترك شيئاً من مقومات العمل، فربّما يكون عمل في ظرف خاص وحالة نفسية خاصّة له قيمة خاصّة، فكلّ ذلك يدخل في الحساب، بل حتّى ما لا ينتبّه له الإنسان في الدنيا من الدواعي الخفية تدخل أيضاً.

والتعبير بكونه تعالى «أعلم» يمكن أن لا يكون من باب التفضيل، كما هو كذلك في سائر الموارد المشابهة، ويمكن أن يكون بالقياس إلى الإنسان نفسه وهو عالم بنفسه، كما قال تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ »(2)، ولكن ربّما يكون في المقام ما لا ينتبّه إليه الإنسان أو يخدع نفسه فيه، والله تعالى أعلم بها منه، لأنّه أقرب إليه من حبل الوريد.

ص: 361


1- القيامة (75): 1-2 .
2- القيامة (75): 14 .

سورة الزمر( 71 – 72)

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

« وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا » بعد أن أتمّ تصوير مشهد المحكمة العادلة بأحسن تصوير تحوّل إلى تنفيذ الأحكام، وابتدأ ببيان حكم المجرمين الذين حكم عليهم بدخول النار و«جهنّم» اسم لتلك النار العظيمة والتعبير یدلّ على أنّ المساقون هنا هم المكذبون المعاندون، فالآيات تهتم ببيان حالهم حيث كانوا هم المخاطبين في معظم هذه السورة.

و«السوق» هو الحثّ على السير. وقيل: إنّه الحثّ بزجر وإهانة، ولم يثبت الاختصاص. و«الزمر» جمع زمرة أي جماعة، وقيل: الجماعة القليلة، وقيل: الجماعات بعضها تلو بعض، ولم يثبت الاختصاص أيضاً. والمعنى: أنّهم يساقون في جماعات مختلفة. ولعلّ الوجه في تقسيمهم إلى جماعات اختلاف مواضعهم في الكفر والعناد واختلاف جرائمهم.

« حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا »وقال لهم خزنتها يظهر أنّها كالسجن أبوابها موصدة لا تفتح إلّا بأمر ، ويؤمر به حين مجيئهم. وفي التعبير إشارة إلى مفاجأتهم بفتح أبواب العذاب بمجرّد وصولهم إلى جهنّم. ويستقبلهم خزنة جهنم، وهم من الملائكة، الموكلون بها عبّر عنهم بالخزنة تشبيهاً لهم بخزنة الأموال. ويسألونهم سؤال تقرير، وهو ما يلقى لأخذ الإقرار:

ص: 362

« أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا» . يقال: إنّ هذا السؤال لمزيد من التعذيب والتنكيل. ويمكن أن يكون لأخذ الاعتراف منهم مرّة أخرى وفي آخر منزل قبل دخول النار لتتمّ الحجة، ويكون تنفيذ حكم المحكمة أيضاً مصحوباً بقبول من المجرم وتسليم باستحقاقه للعذاب.

ومن جهة أخرى يتبيّن من الآية أنّ موضوعها هم الذين تمّت عليهم الحجة بإرسال الرسول إليهم، وكون الرسول منهم، وكونه مبعوثاً من بينهم، ويتلو عليهم آيات الله وينذرهم لقاء يوم القيامة، أي لقاءهم ربّهم في ذلك اليوم. ولعلّ المراد يكون الرسول منهم كونه بشراً مثلهم فيكون في ذلك ردّ على تصورهم عدم إمكان الاحتجاج برسالة البشر.

ويبعد أن يكون المراد كونه من قومهم إذ يبتني هذا الاحتمال على كون الآية خاصّة بمناوئي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من مشركي مکّة، مع أنّ الآية عامّة تشمل كلّ من تمّت عليه الحجّة من الكفّار، وإن لم يكونوا في بلد الرسول، بل في عهده أيضاً، فيصدق على أهل زماننا أنّهم أتتهم رسل من جنسهم، وتلوا عليهم آيات ربّهم بحيث بلغتهم بالواسطة.

« قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ». وهكذا يبادر المحكوم عليهم بالاعتراف بلى قد جاءنا الرسول منّا وأنذرنا ولم يبق لنا أيّ عذر إلّا أن كلمة العذاب حقّت علينا. ولم يذكر الضمير، بل ذكر الكافرين إيذاناً بأنّهم إنّما استحقّوا العذاب بكفرهم. والمراد ب-«الكلمة» ما حذّر به الله سبحانه من وقوع العذاب على الكافرين والجواب في الواقع هو: «ولكن كفرنا بالرسالة ولم نصدق الإنذار » والنتيجة أنّ كلمة العذاب حقّت أي ثبتت علينا بكفرنا.

ص: 363

« قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا» وهذا جواب الخزنة أو غيرهم ممّن يتلو عليهم الحكم النهائي، وهو دخول جهنّم من أبواب متفرقة حسب اختلاف درجاتهم، ثمّ الخلود فيها.

« فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.» وهذه الجملة تذكرهم بأنّ السبب في كفر كم كان هو التكبر والاستعلاء على الحقّ.

ص: 364

سورة الزمر(73 – 75)

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

« وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا»، «السوق» بذاته لا يقتضي الإهانة، فلا مانع من التعبير به عن حث المتّقين للذهاب إلى الجنّة أو هدايتهم إليها، ويبدو من الآيات شمولية السوق في يوم الحشر سواء كان إلى الجنّة أم إلى النار، قال تعالى: «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ»(1). ولو صحّ ما قيل من أنّ السوق خاص بموارد الزجر والإهانة، فيمكن توجيهه هنا أنّه من باب المشاكلة للسوق في الفريق الأول.

وقيل : إنّ المراد سوق مراكبهم. وهو بعيد عن السياق.

والتعبير ب-«التقوى» يفيد أنّ المقابل للكافرين هنا ليس كلّ المؤمنين، بل المتّقين منهم، وهم أيضاً جماعات تختلف مراتبهم اختلافاً فاحشاً.

« حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا » لم يقل : فتحت أبوابها، «بحذف الواو» كما قال في أصحاب النار، قيل: لأنّ الأبواب كانت مفتوحة قبل أن يأتوا احتراماً لهم. ولو صحّ ذلك لكان المناسب أن يقال: حتّى إذا فتحت أبوابها وجاؤوها.

ويمكن أن يكون الوجه فيه حذف جملة الجزاء، ولذلك عطف قول الخزنة

ص: 365


1- ق (50): 21 .

أيضاً على الشرط. ولعلّ حذفها للإشارة إلى أنّ الجزاء أكبر من أن يتصوّر أو يذكر بلفظ.

ويحتمل أن يكون لفتح باب الجنّة شرط آخر لا بدّ من تحقّقه فلا يكفي الإيمان والعمل الصالح. وهذا الشرط هو ما وردت الإشارة إليه في سورة الأعراف حيث قال تعالى:

«وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ *وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ *أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» (1).

وأصحاب الأعراف هم محمّد وآل محمّد صلّى الله عليهم.

روى الكليني في الكافي عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال يا أمير المؤمنين ! «وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ »؟ فقال: نحن على الأعراف، نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذي لا يعرف الله عزّ وجلّ إلّا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يعرّفنا الله عزّ وجلّ يوم القيامة على الصراط، فلا يدخل الجنة إلّا من عرِفَنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلّا من أنكرنا وأنكرناه. إنّ الله تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا، فإنّهم عن الصراط لناكبون، فلا سواء من اعتصم الناس به ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى

ص: 366


1- الأعراف (7): 46 – 49.

عيون صافية تجري بأمر ربّها، لا نفاد لها ولا انقطاع». (1) ورواه مختصراً في «البحار» عن أبي القاسم الحسكاني من العامّة، عن الأصبغ بن نباتة(2).

وروى الصفار في« بصائر الدرجات » بسند معتبر عن بريد العجلي، قال سئلت أبا جعفر (علیه السلام) عن قول الله: «وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ »، قال أنزلت في هذه الأمة، والرجال هم الأئمة من آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قلت: فالأعراف؟ قال: «صراط بين الجنّة والنار، فمن شفع له الأئمة منّا في المؤمنين المذنبين نجا ومن لم يشفعوا له هوى». (3)

والروايات في ذلك كثيرة. وعليه فمعنى الآية - والله العالم - إذا جاءوها وأذن أصحاب الأعراف ففتحت الأبواب.

ولا ينافي ذلك كون الجزاء محذوفاً ليذهب فيه السامع أيّ مذهب.

«وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »، يمكن أن يكون هذا ترحيباً لفظياً احتراماً واكراماً لهم، ويمكن أن يكون «القول» بمعنى فعل ما يستوجب احاطتهم بالسلام الكامل من كلّ جهة، كما قال تعالى: «وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »(4)، فلعلّ المعنى - والله العالم - أنّ السلامة عليهم من كلّ باب ومن كلّ جهة.

«طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ »، «الفاء» یدلّ على أنّ الدخول والخلود في الجنّة جزاء للطيبة الموجودة فيهم، فلا يدخل الجنّة إلّا من كان طّيباً. و«الطيّب» هو الطهارة والنزاهة، ويقابله الخبث وهو في الأمور المعنوية ما يمجّه العقل والفطرة،

ص: 367


1- الكافى 1: 184.
2- بحار الأنوار 8: 332 .
3- بصائر الدرجات: 516 .
4- الرعد (13): 23- 24 .

ويستقبحه الشرع من الصفات النفسية والأفعال، فمن يجد في نفسه أي خبث معنوي فليبذل جهده في إزالتها ليستحق دخول الجنّة والخلود فيها.

وقيل «طِبْتُمْ » دعاء لهم بأن يعيشوا هناك بالطيب. وقيل: إنّه تعليل للسلام. وعليهما لا يناسب الإتيان بالفاء.

«وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ» ، يحمد المتقّون ربّهم حيث صدقهم الوعد وأدخلهم الجنّة، والوعد قد تكرّر في الكتب السماوية. ويبدو من الآية أنّ الحمد أوّل جملة يقولونها في الجنّة، فإذا شفعناه بقوله تعالى: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(1) ، تبيّن أنّ الحمد هو شغلهم الشاغل في الجنّة.

«وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ»، المراد ب-«الأرض» ما استقرّوا عليه ولا شك أنّه غير هذه الأرض. واختلف المفسّرون في المراد بإيراث الأرض، فقيل: إنّه تشبيه بحال الوارث حيث يتصرف في الإرث كيف يشاء.

وقيل: إنّ الإرث يصدق على كلّ ما يحصل عليه الإنسان من دون تعب والمتّقون وإن تعبوا ولكنّ الجزاء أكبر من عملهم بكثير.

وقيل: إنّ لكلّ أحد مكاناً في الجنّة، فإن لم يعمل ما يستحقّه أعطي لغيره، فهو وارثه

ويمكن أن يكون المراد أنّهم هم الباقون على قيد الحياة يتمتعّون من نعم الله دون غيرهم، حيث إنّ أهل النار يذوقون الموت وإن لم يموتوا وهم كانوا متمتّعين في الحياة الدنيا، وكلّ من يخلف قوماً على النعم فهو الوارث، فالتعبير مبني على أنّه لولا هذا الاختلاف في نتيجة الأعمال لكان الكلّ متنعّماً على وتيرة

ص: 368


1- يونس (10) :10 .

واحدة كما كانوا في الدنيا، ولكان ذلك ينغص الحياة على أهل التقوى، كما أنّه ممّا يحزّ في النفس بشدة ما نجده في هذه النشأة من التساوي بين الصالحين والفاسدين، بل بالعكس نجد الصالحين مقهورين ومظلومين، والفاسدون هم الذين يتولّون الزعامات ويتنعّمون بأحلى النعم الظاهرية، فالذي يحمد المتّقون عليه ربّهم هنا هو أنّه أورثهم الأرض، ولم يشركهم في ذلك الكافرين والظالمين، وحقاًّ إنّه لنعمة كبرى تقرّ بها أعين أولياء الله و يشفي الله بها صدورهم وينتقم بها ممن ظلمهم.

« نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ»، «التبوّء» التمكن من المكان. وأشكل التفسير أيضاً على بعض المفسّرين من جهة استلزام اللفظ لعدم تقيّد أهل الجنّة بموضعهم ولا بدرجتهم، إذ تدلّ الآية على أنّ لكلّ أحد الحرّية المطلقة في الاستقرار في أيّ مكان شاء، مع أنّ الجنّة درجات ومراتب، فقال بعضهم: إنّ المراد أنّ لكلّ منهم الحرّية المطلقة في جنّته، ولا يتجاوز إلى جنّة غيره ولكلّ منهم من المكان ما يصدق عليه أنّه يتبوّأ من الجنّة حيث يشاء، أي أنّ السعة بمقدار ما يشاء.

ولكن لا يبعد أن تكون الجنّة مكاناً عامّاً واسعاً، يجتمع فيه المتّقون، فلا تزاحم هناك بينهم، وأمّا الدرجات والمراتب فلعلّها ليست في الجنّة وأنحاء النعم، و إنّما هي في أمور أخرى معنوية هي أهمّ من النعيم المادي.

« فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ » . الظاهر أنّه تتمّة كلام أهل الجنّة، إذ يبعد دخول «الفاء» على تعقيب كلامهم بكلام من الله سبحانه وهذا أيضاً من دواعي سرور أهل الجنّة أنّهم يشعرون بأنّ النعيم إنّما استحقّوها لعملهم، وإن كانت النعمة أضعافاً مضاعفة بفضل الله سبحانه، إلّا أنّه لا يستحقّها غير العاملين.

ص: 369

والتنبيه على ذلك في الآية ضروري لحثّ الناس على العمل في سبيل الله، وترك التكاسل والاعتماد على الأماني الكاذبة، كما حكاه الله تعالى عن اليهود والنصارى في هذه الآيات: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ»(1) : «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ:»(2) «وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(3) وغيرها من الآيات الكريمة، ونحن نجد اليوم أن المسيحيين يرتكبون أكبر الآثام دون خوف من الله حتّى الذين يعتقدون منهم بالآخرة، لأنّهم يرون أنّ المسيح (علیه السلام) بعثه الله فداءً لهم، فقتل حتّى يغفر الله لهم كلّ ما يفعلون من آثام تباً لهذا الاعتقاد الفاسد

« وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» ، الآية ترسم مشهد الانتهاء من الحساب ووصول كلّ أحد إلى موضعه المخصّص له، فيخاطب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو كلّ من يقرأ القرآن أو يسمعه أنّك ترى الملائكة وقد أحدقوا وأحاطوا بالعرش

وقد مرّ مراراً أنّ العرش كناية عن السلطة والحاكمية، والجهة التي تصدر الأوامر. وهو تعبير شائع. فالمراد - والله العالم - أنّهم ينتظرون صدور الأوامر لتنفيذها وهذا دأبهم دائماً إلّا أنّ الذي يحدث يومذاك أنّ الإنسان يجد هذا المشهد العظيم، والملائكة لا يحصي عددهم إلّا الله تعالى، وهم ينتظرون الأوامر الصادرة ينفذونها. و قد تبيّن أنّ الرؤية قد لا تكون بمعنى الإبصار بل

ص: 370


1- المائده (5): 18 .
2- البقرة (2) :80 .
3- البقرة (2) :111 .

يمكن أن يكون بمعنى تبيّن الحقائق على ما هي عليها بوجه آخر.

« يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» و «الباء» في « بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» للمصاحبة، أي يسبّحون ربّهم مصاحباً لحمده، فهم ينزّهونه عن كلّ ما لا يليق به ويثنون عليه بكلّ صفاته الحسنى.

« وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» لا يمكن أن يعود الضمير إلى الملائكة - كما توهّمه بعضهم - إذ لا اختلاف بينهم ولا اعتداء، وكلّ منهم في موضعه الحقّ دائماً، بل الضمير يعود إلى الناس خاصّة أو إلى الجنّ والإنس. وهذه الجملة وإن سبقت في آية سابقة إلّا أنّ الغرض هناك ترسيم مشهد المحاسبة، وأنّ القضاء والمحاكمة عدل مطلق وأنّه لا ظلم اليوم، والغرض هنا ترسيم مشهد الانتهاء، ووصول كلّ مكلّف إلى غايته ووضعه في موضعه الحق.

« وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »، وهكذا ينتهي المشهد الرائع بقول: « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ » وهذه كلمة الكلّ، ولذلك أتى بالقول مبنياً للمجهول، فليس له قائل خاص، وليست هي الكلمة اللفظية فحسب، بل يتجلّى هذا المعنى للجميع ويعرفه الجميع، ويعترف به الجميع، وهو أنّ كلّ ثناء من كلّ أحد إنّما هو لله رب العالمين الذي خلقهم وربّاهم وأوصلهم إلى الغاية التي كتبها لهم. ونحن نقول أيضاً دائماً: الحمد لله رب العالمين.

ص: 371

ص: 372

تفسير سورة غافر

اشارة

ص: 373

ص: 374

سورة غافر(1 – 3)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

السورة من السور المكية. وكذلك سائر الحواميم كما سمّيت بذلك، وسمّيت أيضاً ب«آل حم »وب«ذوات حم»، لأنّها تبدأ ب- «حم». وهي سبع سور أولها في ترتيب المصحف هذه السورة، وهي تتعرّض كسائر السور المكية لأصول العقيدة.

وتسمى هذه ب«سورة غافر » لذكر هذه الصفة في أولها، وب«سورة المؤمن» أيضاً لأنّها تمتاز بذكر قصة مؤمن آل فرعون فيها، ونقل مقتطفات من کلامه و شرح موضعه القويّ في الإيمان والعقيدة بالرغم من احتفاظه بأواصر العلاقة بقومه.

ولعلّ الغرض من ذكر قصّته وكلامه ترغيب أكابر المؤمنين ممّن لهم صلة بالكفّار ويمكنهم حماية الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بذلك نظير أبي طالب (علیه السلام) في ذلك الظرف العصيب في مکّة على الاقتداء به، ولذلك ورد في روايات أهل البيت (علیهم السلام) أنّ

ص: 375

مثل أبي طالب كمثل مؤمن آل فرعون.

« حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»، «حم» من الحروف المقطّعة. وقد مرّ الكلام فيها في تفسير سورة يس كما مرّ في تفسير سورة الزمر بيان إعراب قوله تعالى «تنزيل الكتاب» والسرّ في توصيفه تعالى بالعزيز.

ويمكن أن يكون العليم هنا بمنزلة الحكيم هناك، و إنّما استبدل به تفنّناً كما قيل، وقلنا هناك أنّ اختيار صفة الحكيم يناسب الردّ على الأسئلة التي تحاك حول الكتاب من السبب في انتخاب الرسول والزمان والمكان، واللغة، وغير ذلك، فإنّ الجواب عن كلّ ذلك واحد وهو أنّ ذلك مقتضى حكمته تعالى ولا يعرف وجه الحكمة فيه إلّا هو. ولعلّ اختيار العليم هنا باعتبار أنّه يعلم ما يحتاج إليه الإنسان للوصول إلى الغاية التي خلق من أجلها فينزل الكتاب على هذا الأساس.

وفي «الميزان» أنّ السورة لما كانت تتكلّم حول جحد الجاحدين ومجادلتهم في آيات الله بالباطل، ففي الوصفين إشارة إلى أنّ هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممّن هو عزيز على الإطلاق لا يغلبه غالب حتّى يخاف على ما نزله من استعلائهم واستكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الإطلاق لا يدخل علمه جهل وضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزله من الحقّ وبينه بحججه الباهرة.

والصحيح أنّ الوجه لا يتحدّد في هذا أو ذاك. وما يقال إنّما هو وجه من وجوه الحكمة في انتخاب هذا الوصف وكذلك ما يقال في غيره من موارد وجه الحكمة في هذا الكتاب العظيم، فلا أحد يمكنه أن يحيط بكلّ أسراره والحكم الكامنة فيه.

ص: 376

« غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ » أربع صفات من صفات الله الحسنى، لعلّ الوجه في ذكرها تناسبها لما تشتمل عليه السورة كما قيل، ويمكن أن يكون الوجه هو ذكر مقدّمة مناسبة للتنديد بما يعمله المشركون من عبادتهم لغير الله تعالى، فيكون ذكر هذه الصفات كالمقدمة للتعقيب بقوله تعالى لا إله إلّا هو، وهي الجملة الفاصلة بين الرسالة التي جاء بها الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ومعتقدات المشركين.

وذكر هذه الصفات يجعل الإنسان بين الخوف والرجاء من ربّه، ويحقق الداعي في نفسه لعبادته وحده، ومن جهة أخرى يفيد معرفة المعبود نوعاً ما ليكون العابد والمتوسّل إلى ربّه على بصيرة من أمره، فيعلم أنّ معبوده يغفر الذنب فلا يتمادى في البعد عنه إذا أذنب والإنسان لا يخلو من ذنب، ويعلم أيضاً أنّه يقبل التوبة فيعود إليه كلّما بعد عنه لانجذابه إلى تيّارات أخرى، ويعلم أيضاً أنّه شديد العقاب فلا يستهين بأوامره ونواهيه، وأنّه ذو الطول ونعمه مستمرّة عليه عصى أم أطاع ، فلا يتصوّر أنّ استمرار النعمة دليل على رضا ربّه بعمله كما ظنّ المشركون.

وهذا بخلاف من يعبد إلهاً لا علم له ولا حكمة، ولا يمكنه التعبير عن ما يرضيه وما يسخطه، فإنّ العابد والمتوسل إلى مثل هذه الآلهة المزعومة يبقى حائراً في تصرّفه تجاهها.

ولعلّ الوجه في العطف بين الوصفين غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ دون غيرهما هو أنّهما معاً يشكلان جهة واحدة من أوصافه تعالى، وهي تعامله مع المذنبين. وفي الجمع بينهما تنبيه على أنّه قد يغفر الذنوب حتّى بدون توبة. والغفران يعمّ

ص: 377

الدنيا والآخرة فربّما يغفر الله الذنب في الدنيا فلا يتعقّبه ما يستحقّه من العذاب، كما قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ»(1).

وقد أُضيف «غافر» إلى الذنب بقول مطلق فهو يغفر كلّ ذنب، إلّا أنّه أهمل موجبات الغفران فلعلّ من الذنوب ما يغفرها لعمل يعمله الإنسان حتّى لو لم يكن متقرباً به إليه، ومنها ما يغفره بشفاعة شافع، ومنها ما لا يغفر إلّا بالتوبة كالشرك.

والتوب يمكن أن يكون مصدراً، ويمكن أن يكون جمعاً. وهذا أيضاً عامّ. ويظهر من قوله تعالى « إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا» (2)، أنّ التوبة تقبل في جميع الذنوب من دون استثناء. ولكن ذلك لا ينافي اشتراط القبول بأمور، فالذنب إذا تعلّق بأموال الناس أو حقوقهم لا تصحّ التوبة منه إلّا بأدائها أو استرضائهم مع الإمكان، وإذا تعلّق بما يترتب عليه قضاء أو كفّارة أو نحوهما فلا تتمّ التوبة إلّا به مع الإمكان.

وللتوبة مقومات مذكورة في الفقه وحقيقتها الندم وهو أمر قلبي ولا يتمّ ذلك إلّا بترك الذنب، فلا تصحّ التوبة من دون إقلاع عنه. وفي الحديث أنّ من يتوب وهو مستمرّ على ذنبه فهو مستهزئ وليس تائباً (3). ويعتبر فيها أو في ترتّب الأثر عليها العزم على ترك العود إليها، ويعتبر - على رأي - إصلاح ما أفسده مهما أمكن ، واعتبر بعضهم فيه أن يتوب لفظاً بالاستغفار ونحوه ولا يكتفي بالندم القلبي ولم يعتبره المحققون. ولكن لا شكّ أنّه لا يكفي الاستغفار اللفظي وحده.

ص: 378


1- الشوري (42): 30 .
2- الزمر (39): 53 .
3- عن أبي جعفر (علیه السلام): « التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ». الوسائل (16: 74 )

وهناك روايات اعتبر فيها أمور أخرى في التوبة منها ما في «نهج البلاغة»: قال (علیه السلام) لقائل قَالَ بحَضرَته أسْتَغْفِرُ الله: «تَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاِسْتِغْفَارُ، الاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ العِليِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إليه أبداً، وَالثَّالِثُ أنْ تُؤَدِّيَ إلى المُخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حتّى تَلْقَى الله أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ أنْ تَعْمِدَ إلى كلّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إلى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأَحْزَانِ حتّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمُ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الجِسْم أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمُعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ الله »(1).

ولكنّ الظاهر أنّ الأخيرين من شروط الكمال. ومعنى ذلك أنّ الإنسان إذا اكتفى بأن يغفر له الذنب ولا يعاقب عليه فلا حاجة إلى مثل هذه الأمور، وأمّا إذا أهمّه ما لحقه من الخسارة المعنوية بذنبه، وأراد أن يعود إلى موضع يمكنه أن يرقى في مدارج الكمال، ويحصل على القرب المعنوي من ربّه قدر المستطاع فلا يكفيه الندم أو الاستغفار باللفظ، بل لا بدّ من مراعاة كلّ ما ورد من شروط الكمال.

ثمّ إنّ التوبة ليست دائماً عن ذنب وإثم بالمعنى المعروف، فإنّ الأنبياء والأولياء يتوبون أكثر من غيرهم، ولا يتوبون عن ذنب، بل توبتهم هو الرجوع إلى الله تعالى بعد أيّ توجّه إلى غيره. وربّما يعدّ بعض الأمور ذنباً للمقرّبين وهو لغيرهم ليس ذنباً، بل ربّما يعدّ من الحسنات، كما هو الحال في عباداتنا، فإنّ هذه الصلاة بالنسبة لنا حسنة، ولو فرض أنّ المعصوم مع ما أنعم الله عليه يصلّي بمثل

ص: 379


1- نهج البلاغة 550 - 551 .

هذه الصلاة لاعتبر ذلك ذنباً له.

وبعد توصيفه تعالى بالمغفرة والتوبة ممّا يبعث الأمل والرجاء في نفوس العباد المذنبين اتبعه بكونه شديد العقاب، لئلّا يغترّوا بذلك، وليعلموا أنّ الذنب له تبعاته. والعقاب ما يأتي في عقب الشيء أي بعده، فيشمل كلّ جزاء حتّى الثواب، ولكنّه اختصّ في الاستعمال بالعذاب، ومثله العقوبة والمعاقبة.

وقد أكّد في القرآن الكريم على أنّ الله تعالى شديد العقاب، ولا يختصّ ذلك بعقاب الآخرة، بل عقابه في الدنيا أيضاً شديد كما قال تعالى: « كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1) . والشدة تقابل الخفّة، وهما أمران نسبيّان. وفي معنى الشدّة احتمالان :

الأول: أن يكون المراد شدّته بالقياس إلى العقوبات التي يخترعها البشر. والوجه في ذلك واضح، فإنّ الله تعالى يعلم طبيعة الإنسان وخصائص كلّ فرد ويعلم أشد ما يؤذيه. وأمّا غيره فيعذب بما يعتبره إيذاء وربّما لا يكون بالنسبة إليه إيذاء شديدا.

وعذاب الله في الدنيا إذا كان عذاب استئصال فشدّته واضحة، لأنّه لا يبقي أحداً، وربّما لا يبقى إلّا آثاراً للاعتبار. وكذا العقوبات الفردية التي تنزل على الأفراد ليس كالعقاب البشري، فالله تعالى خسف بقارون وبداره الأرض، وأغرق فرعون وجنوده في اليمّ، ونحن نجد في حياتنا شدة عذابه تعالى.

وأمّا في الآخرة فلا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد. وقد ذكرنا مراراً أنّ النار ليس إلّا تعبيراً لتقريب ذلك العذاب العظيم، وإلّا فهي ليست كنار الدنيا،

ص: 380


1- آل عمران (3) :11 .

فإنّها تحرق الأرواح قبل الأجسام، قال تعالى: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ »(1)، وعذاب الإنسان ربّما يقوي الروح بدلاً من تعذيبه.

والاحتمال الثاني: أن يكون المراد شدة العقاب في نفسه، أي بالقياس إلى تحمّل الإنسان، فيكون الغرض من التنبيه أن لا يغتر الإنسان برحمة الله ورأفته ولا يحدث نفسه بأنّ الله تعالى لا حاجة له إلى معاقبة المخلوق، وأنّه ليس كالإنسان يحمل حقداً فينتقم شفاءً لما في صدره من ضغينة كما نسمعه من الناس، فإنّ الله تعالى وإن كان كذلك إلّا أنّه مع ذلك شديد العقاب، أي إنّ عقابه لا يتحمّله البشر، و إنّما جعل العقاب لحكمة مع أنّ عقابه ربّما يكون ردّ فعل طبيعي، أو انعكاساً لنفس العمل، فلا ينافي الرحمة والرأفة.

والوصف الرابع ذو الطول والطول هو الفضل والعطاء والغنى والقدرة. فإن أريد به الفضل والعطاء، فالظاهر أنّه لا يطلق على كلّ نعمة، بل على النعمة المستمرّة، وهي المناسبة للتعبير بالطول، حيث إنّ هذه المادة تدلّ على كلّ ما فيه طول وامتداد، وعليه فالمراد أنّ نعمه مستمرّة على الخلق، كما ورد في بعض التفاسير.

وإن أريد به القدرة فالمناسب لهذا اللفظ القدرة المطلقة. وهذا المعنى أنسب بقوله تعالى «شَديدُ الْعِقابِ»، حيث یدلّ على أنّ له القدرة المطلقة في إنزال أشدّ العقاب على المجرمين، فتكون الآية كقوله تعالى «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ » (2).

ص: 381


1- الهمزة (104): 6 - 7 .
2- الزخرف (43): 42.

« لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» الإله : المعبود. والمعبود بالحقّ ليس إلّا الله تعالى ولا تجوز العبادة لغيره، فليس المراد نفي تعبّد الإنسان إلّا له تعالى، بل نفي استحقاق العبادة عن غيره، وذلك لأنّ الإنسان لا يعبد إلّا لرجاء أو خوف، والمؤثر في الكون ليس إلّا الله تعالى، فالحقّ الذي لا يجوز التجاوز عنه أن لا يُخاف إلّا غضبه ولا يُرجى إلّا رحمته. فإذا عبد الإنسان غيره تعالى فقد أخطأ الطريق. وهذه الجملة كالنتيجة لما سبق كما مرّ.

« إِلَيْهِ الْمَصِيرُ » المصير: المنتهى ونهاية الخلق هي الرجوع إليه تعالى. والغرض من ذكر هذه الجملة تنبيه الإنسان بمنتهى أمره لكي لا تغرّه هذه الحياة الدنيا، وما يتمتع فيها عاجلاً، ولا يغرّنّه تأخير العقوبة على آثامه وجرائمه، فهو لا ينافي كونه شديد العقاب « إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ » (1)، وكذلك لا ييأس المؤمنون من إنزال الله العقوبة على الظالمين كما سيأتي في الآية التالية.

ص: 382


1- إبراهيم (14) : 42 .

سورة غافر (4 – 6)

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

« مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» الجدال : المناظرة والمخاصمة، وأصله من جدل الحبل، أي فتله وأحكمه، فكأنّ الوجه فيه أنّ كلّاً من المتجادلين يحاول تحكيم ما ارتآه، أو أنّ الكلام بينهما كالحبل بين شخصين يفتلانه ويشدّان فتله. ومهما كان فالمجادلة في الغالب تشتمل على الاعتراض وعدم القبول .

وهنا يقصد بها ذلك، فالمراد أنّه لا يشكّك في آيات الله إلّا الذين كفروا فدلالة الآيات على القدرة والحكمة واضحة لكلّ عاقل، ولا يشكّك فيها إلّا الذين يعجبهم الكفر وإنكار الربّ الذي إليه مصيرهم، لأنّ الإيمان به يمنعهم من متابعة أهوائهم بحريّة. ولا شكّ أنّ الاعتراف بالربّ وبأنّ المصير إليه يستتبع أموراً لا يعجب الذين يتّبعون الشهوات فلا غرو إن أنكره بعض الناس، بل العجب من قبول بعض آخر وعودهم إليه كلّما عادوا إلى فطرتهم فليس ذلك إلّا لقوّة ما تدعو إليه الفطرة.

والمراد بآيات الله القرآن الكريم حيث مرّ ذكره في أول السورة والجملة تدلّ على حصر المجادلين في الذين كفروا فيبدو منه القصد إلى الاستهانة به إمّا باعتبار أنّهم لا يشكلون الغالبية، فإنّ الكافرين المجادلين كانوا قلة وهم الكبراء، والغالب على عامّة الناس التبعية لهم ، فإذا تبيّنت الحجة بوضوح آمن أكثر الناس.

ص: 383

وإمّا باعتبار كفرهم بالله تعالى بمعنى أنّهم إنّما يجادلون في الكتاب والرسالة لكفرهم بالله لا لشكّهم في رسالة الرسول ومن هنا عقبه بالاستشهاد بكفر الأمم السابقة فهم بأجمعهم من سنخ واحد ويجمعهم الكفر بالله تعالى فتكون الآية كقوله تعالى «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ *وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا » (1).

ولعلّ السبب في الاستهانة بالكافرين المجادلين من حيث العدد أنّ هذا يؤثّر في قلوب الناس غالباً، فإذا رأوا قلّة الأتباع ضعفوا وخارت قواهم وعزائمهم، وعلى العكس كلّما زاد عدد الاتباع نشطوا وقويت عزائمهم. وهذه طبيعة الناس وإن كان الصحيح أن لا يهتمّ الإنسان بقلّة العدد ولا بكثرته، كما قال تعالى: «قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» (2)، وقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله »(3) ولكنّ الناس غالباً يهتمّون بذلك، فالآية المباركة توحي بأنّ المجادلة في آيات الله تعالى ليس إلّا من شأن الذين يصرّون على الكفر وهم قلّة، وسائر الناس حسب فطرتهم لا يجادلون في ذلك.

« فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ » الغرور: الخداع. والخطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو لكلّ من يتلو الآية أو تتلى عليه أي إذا رأيتهم يتقلبون في البلاد، وينتقلون من بلد إلى بلد في التجارة وغيرها، لا يمنعهم مانع، ولا يزجرهم عقاب من الله، فلا يغرنّك ذلك، ولا تنخدع فتتوهّم أنّ الله تعالى تاركهم، فإنّ شدة عقابه لا يختصّ

ص: 384


1- الأنعام (6): 33 - 34 .
2- المائدة (5): 100 .
3- نهج البلاغة: 319 .

بزمان أو مكان، و إنّما الحكمة تدعو إلى الإمهال.

و هذا من الأمور التي أكّد عليها القرآن في موارد عديدة منها قوله تعالى: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(1).

« كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ» ، أي لا تهتمّ بتكذيبهم للرسالة فهذا دأب من كان قبلهم من الأمم. وبدأ بقوم نوح مع أنّهم أيضاً من الأحزاب - كما سيأتي - لأنّهم أوّل مجتمع بشري أرسل الله إليهم رسولاً كما يظهر بوضوح من ملاحظة الآيات التي تنقل وقائع الأنبياء ورسلهم فكأنّ سائر الأمم استلهموا منهم التعامل مع الرسل.

والأحزاب هم المذكورون في قوله تعالى «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ *وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ » (2)، فالجملة الأخيرة تعرفهم، ويعلم منها أنّ المراد بالأحزاب في القرآن هذه الأقوام، وهم الذين يذكر الله قصصهم مكرّراً. وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب (علیه السلام) والحزب الجماعة من الناس.

« وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ »، أي لم يكتفوا بتكذيب الرسل، بل همّوا بقتلهم. والأخذ :الامساك وهو هنا كناية عن القتل. ولم تكن مؤامرة القتل فرديّة، بل همّت كلّ أُمّة برسولهم ليقتلوه فكانت هذه جريمة المجتمع بأسره، ومن الطبيعي أنّ الذي يباشر القتل أو محاولة القتل بعض منهم، ولكن ينسب العمل

ص: 385


1- آل عمران (3) :178 .
2- ص (38): 12- 13 .

إلى المجتمع بأسره لرضاهم به وعدم المنع أو الاعتراض على المجرمين.

« وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ »أي حاولوا الصدّ عن سبيل الله، ومنع الناس من الإيمان بالرسول عن طريق الدعايات الكاذبة، فأتوا بكلّ ما يمكنهم من الكلام الباطل ليدحضوا، أي يزيلوا به الحق.

والباطل لا يمكن أن يغلب الحقّ إلّا أنّه يموّه على الناس، وهم لبساطتهم، أو لمتابعتهم الأهواء وعدم اهتمامهم بشؤون الدين لعدم ملاءمتها مع الشهوات يتأثّرون بالباطل، أو يصفقون له تقليداً. وهكذا كانت الأمم السالفة واللاحقة، فالبشر كلّهم على وتيرة واحدة.

« فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ » أخذهم الله تعالى بكفرهم وعدوانهم فأهلكهم واستأصلهم، فانظر كيف كان عقابه تعالى لتجد أنّه شديد العقاب. والكسرة في باء «عقاب» بدل عن الياء، أي عقابي وفي إضافته إلى الياء تأكيد على كونه عقاباً خاصاً.

« وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ »، أي ومثلما حقّت عليهم كلمة العقاب في الدنيا، حقّت عليهم أيضاً كلمة العذاب في الآخرة. وقوله تعالى « أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ » بدل من الكلمة وتفسير لها، أي ثبت عليهم هذا الحكم وهو أنّهم أصحاب النار. وعليه فالمراد بالذين كفروا مطلق الكفار من الأولين والآخرين، كما في «الميزان». (1)

وقيل: المراد بالذين كفروا كفار مکّة وعليه فمعنى الآية أنّه كما حقّت كلمة العذاب على الأقوام السابقة كذلك حقّت على كفّار مكّة. ولكن يبقى القول في

ص: 386


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 17: 306 .

قوله « أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ » فإنّه إن كان بدلاً فالمعنى أنّه كما أنّ عذاب الدنيا نزل على اولئك حقّ على هؤلاء أن يكونوا في النار، ولا وجه لهذا التشبيه وإن كان تعليلاً بتقدير اللام كما قال بعضهم، فالمعنى أنّه كما استحقّ اولئك عذاب الدنيا كذلك هؤلاء لأنّهم أصحاب النار، ولا وجه لهذا التعليل، بل استحقاقهم للعذابين معلّل بعلة واحدة وهي الكفر.

والصحيح أنّ تعميم الحكم ليشمل المشركين في عهد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إنّما يفهم من تبديل الضمير إلى الاسم الظاهر، حيث لم يقل عليهم بل قال « عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا » تنبيهاً على السبب وهو كفرهم، فيشمل كلّ كافر في كلّ عهد.

ص: 387

سورة غافر(7 – 9)

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

« الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ » أشرنا في ما سبق أنّ المؤمنين في مکّة كانوا يعانون من العزلة والقلّة، وكان ذلك يؤثّر على ضعاف النفوس منهم نفسياً. وربّما يشعر بعضهم بأنّ الصحيح هو متابعة الأكثرية كما يظنّه كثير من الناس، فالقرآن يسلّيهم ويقوي عزيمتهم أولاًّ بأنّ الذين يجادلون في آيات الله قليل، وهم رؤوس الكفر. وأمّا السواد الأعظم فيتّبعون الفطرة، وهنا يقوي عزيمتهم بوجه آخر، وهو أنّ ملائكة الله وبالأخص حملة العرش ومن حوله يشاركونكم في التسبيح والتحميد والإيمان ويستغفرون لكم.

وذكرنا غير مرّة أنّ العرش يمكن أن يكون كناية عن الحاكمية وتدبير الكون. وقد مرّ في تفسير آخر آية من سورة الزمر أن المراد بالذين حول العرش على ما يبدو - هم الملائكة الذين ينتظرون صدور الأوامر الإلهية ليتلقّوها ولينفّذوها. ولعلّ الحملة هم أقرب إلى مصدر الأوامر، وهم الواسطة بين الله تعالى وسائر الملائكة، وهم يصدرون الأوامر إليهم. والله العالم.

ومهما كان فحملة العرش هنا هم الملائكة. وأمّا يوم القيامة فقد قال الله

ص: 388

تعالى « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ». (1)

وفي حديث صحيح في «الكافي» الشريف عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «حملة العرش – والعرش: العلم - ثمانية: أربعة منا وأربعة ممّن شاء الله». (2)

وفي حديث آخر« إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين فأمّا الأربعة الذين هم من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (علیهم السلام) وأمّا الأربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم ». (3)

وفي «تفسير القمي»: «حملة العرش ثمانية: أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين. فأمّا الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى و عيسى، والأربعة من الآخرين محمّد وعلي والحسن والحسين (علیهم السلام) ، و معنى يحملون العرش يعني العلم». (4)

وقال الصدوق (رحمه الله ) : «وأمّا العرش الذي هو العلم فحملته أربعة من الأولين، وأربعة من الآخرين، فأمّا الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأمّا الأربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين صلى الله عليهم. هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمة (علیهم السلام) في العرش وحملته». (5)

ولعلّ معنى كونهم حملة العرش أنّهم يصدرون الأوامر يوم القيامة بإذن من الله تعالى ويؤيد ذلك آيات أخرى مفسرة بهم وروايات كثيرة في أبواب متفرقة.

ص: 389


1- الحاقة (69) :17 .
2- الكافي 1: 132.
3- الكافي 4: 585.
4- تفسير القمي في تفسير قوله تعالى: « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ».
5- الاعتقادات: 46 .

هذا وقد مرّ الكلام في آخر سورة الزمر حول قوله تعالى «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِم».

وربّما يستغرب ذكر الإيمان مع التسبيح والتحميد، فإنّ ذكرهما يغني عن ذكره.

قال في «الميزان» «ففي ذكر الغرش ونسبة التنزيه والتحميد والإيمان إلى الملائكة ردّ للمشركين حيث يعدّون الملائكة المقربين شركاء الله في ربوبيته وألوهيته ويتّخذونهم أرباباً آلهة يعبدونهم». (1)

وقيل : إنّ الوجه في ذلك إظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلّة استغفارهم للمؤمنين، فإنّ المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمّها.

وقيل: الإخبار عنهم بأنّهم يسبّحون الله ويؤمنون به توطئة وتمهيد للإخبار عنهم بأنّهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره ممّن دأبهم التسبيح وصفتهم الإيمان.

ولكنّ الكلام ينبغي أن يكون في أصل نسبة الإيمان إلى الملائكة، والظاهر أنّه لم يرد إلّا في هذا الموضع والملائكة رسل الله تعالى وشفعاء الخلق ووسطاء بينهم وبين الله تعالى فما هو وجه التعبير بالإيمان في حقّهم، والإيمان لا يصدق إلّا بما هو غائب؟ ثمّ ما هو وجه التنبيه على إيمانهم بالله وهذا ممّا لا يشك فيه أحد؟ ولماذا أخّر إيمانهم عن تسبيحهم في الترتيب مع أنّ السياق يقتضي العكس؟

والواقع أنّ الملائكة أيضاً يؤمنون بالله تعالى إيماناً بالغيب كإيمان البشر، فالله تعالى رفيع الدرجات بعيد المنال، حتّى للملائكة. وإلى هذا المعنى يشير قوله

ص: 390


1- الميزان في تفسير القرآن 17: 308 .

تعالى ««تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (1)، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّ هذا اليوم ليس يوم القيامة كما قالوا بل هو تعبير عن مرحلة من التكامل يحتاج إليها الملائكة مع سيّدهم جبرئيل (علیه السلام) للعروج إلى الله تعالى وتلك المرحلة لو قيست بالمقاييس الدنيوية لكان معادلاً لمسير خمسين ألف سنة.

وأمّا وجه التنبيه على إيمانهم فيمكن أن يكون لدفع توهّم أنّ حملة العرش يقتربون منه تعالى قرباً جسمانياً فيرونه كما يرى بعضنا بعضاً، وهذا التوهّم ربّما يستوجبه التعبير بالعرش والحمل ونحو ذلك، فيتوهّم الإنسان الساذج أنّهم يحملون الله جلّت عظمته، فالتعبير بالإيمان يبعد هذا التوهّم لأنّه لا يعبّر به إلّا لمن يؤمن بالغيب.

ويمكن أن يكون ذكره لتنبيه المؤمنين أنّهم مثلكم يؤمنون بالله تعالى. وذلك لغرض تقوية عزائمهم، ورفع الضيق عنهم بأنّكم لستم وحدكم، فالكون كلّه معكم، وملائكة الله تعالى أيضاً معكم، بل هم يستغفرون لكم.

ويمكن أن يكون لدفع توهّم أنّ تسبيحهم وحمدهم إجباري أو تكويني فالتأكيد على إيمانهم یدلّ على أنّهم يسبّحونه تعالى لإيمانهم به.

وهذا الوجه الأخير يصحّ تعليلاً لتأخير الإيمان عن التسبيح والتحميد أيضاً.

وما ذكر من الوجوه لا يتنافى بعضها مع بعض فيمكن الجمع.

«وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» هذا الدعاء من الملائكة يعكس لنا أهمية دور الدعاء وطلب الحاجة وتأثيره في الكون، وقد قال تعالى: ««قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ »(2)، فيتبيّن من هذه الآية أنّ للدعاء أثراً واقعياً، وليس مجرّد طقوس

ص: 391


1- المعارج (70): 4.
2- الفرقان (25): 77 .

و آداب، أو أنّه يسبب صفاء النفس واستعدادها لنزول الرحمة، فإنّ شيئاً ممّا يقال من هذا القبيل لا ينطبق على دعاء الملائكة، فهم حسب هذه الآية من وظائفهم الاستغفار للذين آمنوا. وقد ورد في سورة الشورى «وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» (1) والمراد بهم المؤمنون خاصّة.

«رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا» هذا على ما يبدو نصّ الدعاء. وابتدؤوا الدعاء بقولهم « رَبَّنَا » كما هو الوارد في سائر الأدعية المنقولة عن الأنبياء وغيرهم في القرآن الكريم، الأمر الذي یدلّ على أنّ الأفضل في كلّ دعاء هو البدء بهذا النداء. ولعلّ الوجه فيه هو أنّ الداعي يحاول استنزال الرحمة والاستعطاف على أساس أنّ إجابة الدعاء وقضاء الحاجة من مقتضيات الربوبية. ولم يرد «اللّهم» في القرآن للدعاء بهذا المعنى، إلّا في مورد واحد تعقبه النداء ب- « رَبَّنَا » أيضاً وهو قول عیسی (علیه السلام)« اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ » (2).

وأمّا قوله تعالى «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ » (3)، وقوله «قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ »(4) فليسا في مورد طلب الحاجة.

وقوله تعالى « وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا» بمعنى أنّ رحمتك وعلمك شملا كلّ شيء. والرحمة والعلم تمييز. قال الشريف الرضي (رحمه الله ) في شرح الآية:

«هذه استعارة لأنّ حقيقة السعة إنّما توصف بها الأوعية والظروف التي هي

ص: 392


1- الشورى (42) :5 .
2- المائدة (5) : 114 .
3- آل عمران (3): 26 .
4- الزمر (39): 46 .

أجسام، ولها أقدار ومساحات، والله سبحانه يتعالى عن ذلك. والمراد - والله أعلم - أنّ رحمتك وعلمك وسعا كلّ شيء، فنقل الفعل إلى الموصوف على جهة المبالغة كقولهم (طبت بهذا الأمر نفسا) (وضقت به ذرعا ) أي طابت نفسي، وضاق ذرعي، وجعل العلم موضع المعلوم، كما جاء قوله سبحانه « وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ» أي بشئ من معلومه». (1)

وذكر هذا الثناء مقدمة لاستنزال الرحمة باعتبار أنّ رحمته وسعت كلّ شيء، فلتشمل الذين آمنوا وهذا يعلّمنا التأدّب والتواضع في الدعاء، فلا نتصوّر أنّ لنا على الله حقاً، ونتوقّع أنّ يستجيب الله دعاءنا فوراً، كأنّ لنا التطوّل عليه سبحانه.

ولذلك ورد في تعقيب الصلاة «اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيء » فلا يقول الداعي إنّي مؤمن، ومن حقّ المؤمن أن يغفر الله له أو يستجيب دعاءه كما يتوهّم بعض المؤمنين. بل يقول: إنّا شيء، وهذا يصدق على كلّ مخلوق، فلست تدعي أنّك إنسان فضلاً عن أنّك مؤمن، بل تقول: إنّك شيء، وهذا المقدار يكفي لشمول الرحمة، لأنّها تشمل كلّ ما يصدق عليه أنّه شيء.

ولعلّ الملائكة ذكروا سعة العلم أيضاً إيذاناً بأنّه تعالى لشمول علمه يعلم ما يصلح لكلّ شيء، ولرحمته لا يمنع شيئاً ما يصلحه، فما يطلبونه ليس إلّا شيئاً يقتضيه العلم والرحمة وهو الغفران للمؤمنين، فليس لهم دور إلّا دور الشفيع الذي يشفع بإذن الله تعالى. ولا نعلم كيفية تأثير الشفاعة ودورها فالعلم عند الله تعالى.

ص: 393


1- تلخيص البيان في مجازات القرآن: 289 .

« فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ» الفاء للتفريع، فالمعنى أنّه حيث شملت رحمتك وعلمك كلّ شيء، وهذا يقتضي الشمول للمؤمنين فاغفر لهم. والتوبة هي الرجوع إلى الله تعالى، ولا تختصّ بالمذنب، مع أنّ الإنسان لا يخلو من ذنب، فالصفة الأولى للمؤمنين هي التوبة والرجوع إلى الله تعالى، والثانية اتّباع سبيله، وهو المنهج والشرع الذي رسمه لعباده وأمرهم أن يسيروا عليه.

« وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ» «قِ» فعل أمر من الوقاية بمعنى الحفظ، أي واحفظهم من عذاب الجحيم. و «عذاب» منصوب بنزع الخافض والجحيم النار شديدة التأجّج. والداعون هم الملائكة، وهم أعلم الخلق بعظمة النار وشدة عذابه.

« رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ» «عدن» بمعنى الاستقرار والإقامة، أي جنّات استقرار وخلود. وهنا أيضاً يظهر بوضوح أنّهم يشفعون في أمر لا بدّ من تحققه، فإنّهم يذكرون أنّك وعدتهم دخول الجنّات، ولا شكّ في أنّ الله تعالى لا يخلف الميعاد. ويمكن أن يكون ذلك استئذاناً لتحقيق الشفاعة التكوينية في تحقّق ما يجب أن يتحقّق، فإنّ تحقيق ذلك موكول إليهم.

« وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» عطف على الضمير في « وَأَدْخِلْهُمْ »، أي وأدخل أيضاً من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. والمراد صلوحهم لدخول الجنة. ويظهر من السياق أنّ الآباء والأزواج والذريّات لا يستحقّون الجنّة بأنفسهم، ولا يشملهم الوعد الإلهي، إذ لو كان كذلك لم يكن وجه للإلحاق فالظاهر أنّ هؤلاء لهم ذنوب يستحقّون بها النار إلّا أنّهم مؤمنون ويصلحون لدخول الجنّة بالشفاعة، فالمطلوب في دعاء الملائكة قبولهم تكريماً للمؤمنين الذين شملهم الوعد.

ص: 394

وهذا أيضاً من موارد الشفاعة، فالله تعالى يقبل شفاعة المؤمنين في آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. ويظهر أيضاً أنّ الشفاعة - في هذا المورد على الأقلّ - ليست بالتوسط حسبما هو متعارف بيننا، و إنّما تتحقّق بضمّ صلوحهم لدخول الجنّة إلى الانتساب الذي بينهم وبين المؤمن الذي شمله الوعد. ولا بدّ من كون هؤلاء المنتمين باقين على موالاتهم لذلك المؤمن، أمّا إذا صاروا أعداء له فلا تشملهم الشفاعة.

ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة الرعد «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ »(1) وكذلك قوله تعالى في سورة الطور «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»(2) وليس المراد مجرّد تجمّعهم كما يتوهّم، إذ لو كان كذلك لم يكن مورداً لتوهّم ورود النقص على عمل الآباء ليعقبه بقوله « وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ » فهذا الذيل یدلّ على أنّ المقصود دخولهم الجنّة تكريماً للآباء.

« إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »لعلّ التوسّل بالاسمين الشريفين من جهة أنّ المطلوب هنا غير ما وعد الله تعالى به، بل لعلّهم يشملهم الوعيد بالنار، إلّا أنّ الله تعالى لا يغلبه شيء حتّى سننه فهو العزيز الغالب يعمل وفق حكمته، فإذا اقتضت الحكمة قبول الشفاعة وقبول دعاء الملائكة فلا غرو إن دخل من يستحقّ النار جنّات عدن.

« وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ »، أي احفظهم وجنّبهم السيّئات والظاهر أنّ المراد بالسيّئات

ص: 395


1- الرعد (13): 23 .
2- الطور (52) :21 .

غير العذاب ممّا يحدث يوم القيامة ويسوء الإنسان كالفضيحة. ويبدو أنّ بعضاً من ذلك يمكن أن يصيب المؤمنين المستحقّين للجنّة أيضاً، فالملائكة يدعون ربّهم ويطلبون حفظهم ووقايتهم من ذلك، وان كانوا استحقّوها بأعمالهم. ويمكن أن يكون مرجع الضمير خصوص الآباء والأزواج والذريّات الذين استحقّوا العذاب.

وأمّا ما يقال من أنّ المراد من السيّئات المعاصي، وأنّ الظرف «يومئذ » في الجملة التالية إشارة إلى الحياة الدنيا فبعيد عن السياق.

« وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ» تتمّة دعاء الملائكة. ولكنّ التعرض لذكره هنا تنبيه للإنسان في هذه الحياة أنّ الذي يجب أن يهتمّ به هو التوقّي من السيّئات ذلك اليوم، لأنّ الرحمة الكاملة في تلك الوقاية لا بالحفظ من شرور هذه الدنيا ومصائبها.

ولكنّ الإنسان غافل عن هذا الأمر، و إنّما يهمّه التجنّب عن أقلّ شيء يمكن أن يتضرّر منه صحّياً أو مادياً في هذه الحياة، فلو كان يهتمّ بتلك الحياة بقدر ما تهمّه شؤون الدنيا لترك كثيراً ممّا يشتهيه إذا احتمل ترتّب ضرر عليه في تلك النشأة وإن لم يتيقّن.

« وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » الفوز هو الظفر بما يتمنّاه الإنسان من الخير والنجاة ممّا يتجنّبه من الشرّ، وحيث إنّ خير الدنيا وشرّها زائل، وأمدهما قصير جدّاً إذا قورنا بخير الآخرة وشرّها، فالفوز العظيم هو الظفر بخير الآخرة والنجاة من شرّها، مضافاً إلى البون الشاسع بينهما في الكيفية والمقدار.

ص: 396

سورة غافر (10 - 12)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ »الظاهر أنّ هذا نداء من قبل الملائكة أو غيرهم بإذن الله تعالى يوم القيامة. ومعنى النداء أنّه إعلان بذلك وليس مجرّد خطاب. وفيه تأكيد بتقدير القسم، حيث یدلّ عليه اللام في قوله « لَمَقْتُ اللَّهِ » والمقت: شدة البغض. ويظهر منه أنّه ردّ فعل لما أبدوه من مقتهم لأنفسهم ذلك اليوم، إمّا بمعنى أنّ كلّ أحد منهم مقت نفسه حيث يدعون بالويل والثبور، ويندمون على ما قدموا من أعمال، أو بمعنى أنّ ضعفاءهم يمقتون المستكبرين وكذلك العكس، بل كلّ منهم يمقت الآخر كما قال تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ». (1)

والسبب واضح، فإنّ الناس في هذه الدنيا أيضاً كذلك، و إنّما الأقنعة تخفي البغضاء والشحناء، بل حتّى الذين يحبّون بعضهم بعضاً كالآباء والأمهات بالنسبة لأولادهم وبالعكس إنّما يحبّونهم لعدم الاطّلاع على ما يدور في خلدهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم. وهذا من لطفه تعالى بعباده وجزيل نعمه حيث ستر العيوب، ولو كان كلّ أحد يعلم ما في ضمير الآخر لم يحبّ أحد أحداً. وأمّا هناك فتسقط الأقنعة، وتبلى السرائر، وتنكشف الضمائر ، فيبرز العداء، ويبغض

ص: 397


1- الزخرف (43): 67 .

كلّ منهم أحبّ أصدقائه وألصق أقربائه إلّا المتّقين حيث ينزع الله ما في قلوبهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين.

وهذه الحقيقة أيضاً ممّا أكّد عليها القرآن في مواضع شتّى وبصور مختلفة، كقوله تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » (1).

ومهما كان فهناك إعلان ونداء يوم القيامة بأنّ مقت الله تعالى للكافرين أكبر من المقت الذي بينهم، أو مقت كلّ واحد نفسه. وهذا من أدهى الدواهي، فإنّ الله أرحم الراحمين وهو رؤوف بعباده، فإذا اشتدّ مقته على أحد وكان أشدّ المقت فليس هناك عذاب أشدّ منه.

وهذا المقت يبرزه الله تعالى يوم القيامة بوجوه شتّى، كما قال تعالى بالنسبة لمن يكتمون الحقّ الذي علموه من الله، واشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً في سورة البقرة: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »(2) وفي سورة آل عمران فيهم أيضاً: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »(3).

فالإعراض المعبّر عنه بعدم التكليم وعدم النظر من وجوه إبراز مقته تعالى.

« إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ » قيل: إنّ هذه الجملة تعليل لشدّة مقته تعالى لهم.

ص: 398


1- عبس (80): 34 - 37 .
2- البقرة (2) :174 .
3- آل عمران (3): 77 .

ولكنّه خلاف الظاهر، إذ لو كان تعليلاً لكان الأنسب أن يقول إذ كنتم تدعون لأنّ المفروض أنّ هذا إعلان ينشر يوم القيامة، وهم لا يدعون هناك إلى الإيمان. والظاهر أنّه ظرف لشدّة مقته تعالى اياهم ومعناه أنّ الله تعالى مقتهم حين دعوا إلى الإيمان فكفروا بربّهم وأتى بفعل المضارع للدلالة على استمرارهم على الكفر مع استمرار الدعوة.

« قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ » يظهر من ابتداء الكلام بدون حرف العطف أنّ هذا جواب أو ردّ فعل للنداء السابق. وهذا القول سواء كان قولاً واقعياً أو أيّ نحو من إبراز الضمائر محاولة يائسة للخروج من المأزق العظيم الذي صنعه الإنسان بعمله، فهم يستغيثون ربّهم بأن يخرجهم من النار.

وهو يحتمل أمرين:

الأمر الأول: أنّهم يطلبون الرجوع إلى الدنيا. وهذه المحاولة والتمنّي ممّا تكرّر في القرآن الكريم. منها قوله تعالى: «أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ »(1) ومنها قوله تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ »(2).

وفي هذه الآية شبه آخر بما نحن فيه، حيث إنّهم يفرعون طلب الإرجاع على انكشاف الأمر لهم فيقولون: « رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا». وهنا أيضاً يفرعون طلب الخروج على تكرّر الإماتة والإحياء ممّا يوجب إدراكهم بإمكان البعث،

ص: 399


1- الزمر (39): 58 .
2- السجدة (32): 12 .

والإحياء بعد الموت الأمر الذي كانوا ينكرونه، وتبعاً لهذا الإنكار كانوا لا يعترفون بذنب. والآن بعد تكرّر الإماتة والإحياء آمنوا بذلك، فإذا رجعوا إلى الدنيا لن يعودوا إلى الذنوب.

ويمكن أن يكون تقديم قولهم « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» لبيان أنّ تكرّر الإماتة والإحياء يعطينا الأمل في إمكان الإعادة إلى الحياة الدنيا لنكرّر الامتحان.

الأمر الثاني: النجاة من العذاب ولو لمدة محدودة، نظير ما يأتي في نفس هذه السورة في الآية 49 حيث يقول سبحانه: « وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ». وبناءً على هذا الاحتمال فتقديم قولهم « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» لتفريع الاعتراف بالذنب على ما ذكرنا في الوجه السابق، ليكون وسيلة لطلب الخروج .

والظاهر أنّ المراد بالإماتة مرّتين والإحياء مرّتين إماتتهم من الحياة الدنيا وإضفاء الحياة البرزخية عليهم، ثمّ إماتتهم من تلك الحياة وبعثهم بحياة أخرى يوم القيامة، قال تعالى: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1).

وقيل: إنّ المراد الموت قبل الحياة حيث كان الإنسان جنيناً لم تلجه الروح، ثمّ إحياؤه في الدنيا، ثمّ إماتته من الدنيا وإحياؤه يوم القيامة. وقالوا إنّ التعبير بالإماتة عن الموت قبل الحياة بمعنى إيجاده ميتاً. ولكنّه على فرض صحّة التعبير عنه بالإماتة وهو بعيد جدّاً - لا يلائم ما قصدوه في الدعاء من ذكر هذه المقدّمة، فإنّ الظاهر أنّ ذكرها مقدمة لتفريع الاعتراف بالذنب، ثمّ طلب العود إلى الحياة الدنيا أو الخروج من النار،

ص: 400


1- المؤمنون (23): 100.

والاعتراف بالذنب إنّما يترتب على ما يشعر به الإنسان من توارد الإماتة والإحياء مرّتين بعد حياته في الدنيا، وأمّا الموت الأصلي أي حالة ما قبل ولوج الروح فلا دخل له في ذلك.

ومن هنا يتبيّن أنّ هذه الآية لا تقاس بقوله تعالى في سورة البقرة: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »(1) ، حيث يقصد بذلك بيان آياته تعالى وعموم رحمته ونعمته.

ثمّ إنّ تنكير الخروج والسبيل یدلّ على غاية الاستئصال واستبعاد الخروج، فهم يتمنّون أيّ سبيل لأيّ كيفية من الخروج مهما استلزم من فداء وتضحية، كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).

« ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا» الظاهر أنّ قوله «ذلكم» إشارة إلى الحالة التي أصابتهم حيث يتمنّون الخروج ولا خروج، فالخطاب يؤنّبهم بأنّ السبب شرككم، واستهواؤكم للشرك بحيث إذا دعي الله وحده كفرتم وأنكرتم، و إنّما كنتم تؤمنون بدعوة فيها شرك، فهذا نظير قوله تعالى « «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (3).

والآية تدلّ على أنّ كفرهم ليس لعدم قناعتهم بالحجج والبيّنات، و إنّما يعادون كلّ ما فيه سمة التوحيد، وتنشرح صدورهم بالشرك لمتابعتهم الهوى،

ص: 401


1- البقرة (2): 28 .
2- الزمر (39): 47 .
3- الزمر (39): 45 .

كما تدلّ على أنّ ذلك منهم سجيّة مستمرّة، ولذلك أتى بفعل المضارع. وفي هذا إعلان لمعاداة الله تعالى فحيث كنتم كذلك فجزاؤكم اليوم الخلود في النار وعدم الخروج منها.

« فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» أي حيث كانت سجيّتكم في الدنيا إعلان المعاداة لله تعالى فجزاؤكم الخلود في النار ولا مردّ له، لأنّه حكم الله فيكم، والحكم لله لا لغيره فهذه الجملة علّة للجزاء الواقعي المقدّر. وذكر الوصفين للإشارة إلى السبب، فإنّ علوّه وكبرياءه يقتضيان اختصاص الحكم به، وأن لا حاكم في الكون غيره. فالمعنى أنّ مجازاتكم بالخلود في النار حكم من الله العلي الكبير، ولا مردّ له لأنّه هو العلي الكبير. ومرجع العلوّ والكبر إلى صفة ثبوتية واحدة، لأنّ العلوّ والكبر ليسا بالمعنى المادي، بل بمعنى أنّه تعالى أعلى وأكبر من أن تناله الأوهام.

ص: 402

سورة غافر (13 – 20)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) (

« هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ »يعود السياق يذكر الإنسان بآيات ربّه ليخاف مصيره يوم القيامة. والظاهر أنّ المراد بالآيات، الآيات الكونية التي تدلّ على حكمة الله سبحانه وقدرته وربوبيته والكون مليء بآياته الباهرة ولكنّ الناس يمرّون عليها غافلين، وإذا توجّهوا وتعمّقوا فلا يتجاوزون ظاهر ما يجدون فيها من دقّة وحكمة، ولا يتعمّقون فيها ليجدوا فيها الدلالة على الخالق القدير الحكيم.

« وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ» يمكن أن يراد به خصوص المطر بقرينة قوله تعالى: « وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» (1)، يقول بعض المفسّرين إنّ تسمية المطر بالرزق من جهة أنّه سبب للرزق. وليس كذلك، فإنّ المطر بنفسه من أعظم الرزق، ولولاه لم يبق إنسان أو حيوان حياً على وجه الأرض.

ويمكن أن يراد به كلّ ما يرزق الله به الإنسان، ويراد بالسماء عالم الغيب، أو

ص: 403


1- الجاثية (45): 5 .

عالم الأمر. وكلّ ما في الأرض من نعمة فهي نازلة من السماء بهذا المعنى، كما قال تعالى: « وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ»(1).

« وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ » الإنابة :الرجوع . والمراد بهذه الجملة أنّ الآيات الكونية بما فيها الرزق من السماء تعيد الإنسان إلى فطرته وتذكّره بربّه، ولكن هناك من البشر من لا يحبّ العود والرجوع إلى ربّه، فقد اتّخذ إلهه هواه، وهو معجب بشأنه مع أهوائه وشهواته، فلا يتأثّر بهذه الآيات، ولا يتذكّر ما تمليه عليه الفطرة. ونحن نجد كثيراً من البشر يتعمّقون في الكون، ويرون من آيات الحكمة والقدرة ما لا يراه غيرهم، ولكنّهم يزيدون بهذا التعمّق بعداً عن الله تعالى. وليس ذلك إلّا لإخلادهم إلى الأرض، وعدم إنابتهم، ورجوعهم إلى الفطرة المستقيمة التي تدعو إلى الله تعالى.

وهذا هو المراد بالآية الكريمة، فالتذكّر خاصّ بالمنيبين الذين يرجعون إلى فطرتهم، كلّما توغّلوا في شؤون الدنيا، ولا يستمرّون في الطريق الذي ترسمه لهم أهواؤهم، وحبّهم لملذّات الحياة الزائلة.

« فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» الآيات للجميع، كما أنّ الرزق للجميع أيضاً، ولكنّ المتذكر المنيب هو المخاطب بهذا الأمر، فإذا رأيتم آيات الله وما رزقكم من السماء فادعوا الله مخلصين له الدين.

والدين كما أسلفنا في تفسير سورة الزمر هو العبادة، وأصلها التذلّل، فالمعنى لا تتذلّلوا لغيره، ولا تعبدوا غيره، فالإنسان أكرم على الله من أن يعبد غير الله تعالى. ولا شكّ أنّ هذا التوحيد والإخلاص لا يعجب الكافرين بالله المنكرين

ص: 404


1- الزمر (39): 6 .

لنعمه، ولكن لا تهتمّوا بهم ولا تداهنوهم في هذا الأمر، فالمداهنة والمجاملة لا مجال لهما في العقيدة والتوحيد.

« رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ » ، أي هو رفيع الدرجات. والضمير يعود إلى الله تعالى، أي درجاته رفيعة. وهو كقوله تعالى: «مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ.»(1).

والظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن علوّ مقامه، وعظمة شأنه، وبعده

عن أن تناله الأوهام، وهو مع ذلك قريب من كلّ شيء، ومحيط بكلّ شيء، فالبعد هنا من جانب واحد، فإنّ الإنسان لا يمكنه أن يرتقي هذه الدرجات، ويصل إليه تعالى وصول معرفة وعلم إلّا بالتقوى واتّباع شريعة السماء. كما أنّه تعالى محتجب عن خلقه، والحجاب أيضاً من جانب واحد ولا يخرق هذه الحجب في الحياة الدنيا إلّا التقوى. فلعلّ معنى رفيع الدرجات - والله العالم - أنّ سلّم الارتقاء إليه تعالی درجاته رفيعة أرفع من أن يرتقي بها الإنسان بطبعه، وهو مع ذلك ممكن للمخلصين من عباده كما هو حاصل للملائكة المقربين.

والله تعالى للطفه بالإنسان يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، فيكون هو الوسيط بينه وبين خلقه، وبه يرتفع بعض الحجب فيصل الإنسان إلى معدن العظمة. كما أنّه ينذرهم يوم التلاق، وهو اليوم الذي ترتفع فيه الحجب ويلاقي الإنسان ربّه.

هذا وقد مرّ الكلام حول العرش، وأنّ المراد به - على الظاهر - جهة الحاكميّة في الكون. ولكن يمكن أن يكون هنا بمعنى العظمة وعلو المقام ورفعته من أن تناله الأوهام.

ص: 405


1- المعارج (70): 3 .

« يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ » المراد به الوحي، كما قال تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ »(1) ، وقال أيضاً: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا »(2) ، والتعبير عنه بالروح لعلّه من جهة أنّ به الحياة المعنوية للإنسان كما قال تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا »(3)، وقال أيضاً: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(4).

ومن في قوله « مِنْ أَمْرِهِ » بيانية فالنتيجة أنّ ما به الحياة هو نفس الأوامر الإلهية والشرائع التي توحى إلى الرسل (علیهم السلام).

« عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» فهو بمشيئته يختار الرسل، ولكن مشيئته تتّبع حكمته فهو لا ينتخبهم جزافاً، بل يختارهم من بين أكرم الأصول وأفضل البشر خلقاً وخلقاً، ويرعاهم بعينه ويؤدّبهم بتأديبه وعنايته الخاصّة. قال تعالى خطابا لموسى (علیه السلام): « وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» وقال: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» (5).

« لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ» أي لينذر الرسول أو لينذر الله بواسطته. والتلاق مخفّف التلاقي. ويوم التلاقي هو يوم القيامة، حيث ترتفع الحجب ويتلاقى البشر كلّهم مع بعض لا يمنع ذلك كثرتهم، وتتلاقى كلّ الأجيال، ويتلاقى الظالم والمظلوم ويتلاقى الرسل وأممهم، والأئمة والمأمومين وأمّا لقاء الله تعالى فلا ينبغي أن

ص: 406


1- النحل (16): 2.
2- الشورى (42): 52 .
3- الأنعام (6): 122.
4- الأنفال (8): 24 .
5- طه (20) :39 - 41 .

يكون مقصوداً به لأنّ التلاقي إنّما يكون بين اثنين كلّ منهما يلاقي الآخر ولا يصدق على لقائه تعالى، وكذلك لقاء الإنسان أعماله.

« يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ»أي يوم تبرز فيه كلّ الحقائق، وتظهر كلّ ما يخفيه الإنسان، وكلّ ما يستخفي منه، وكلّ ما ينطوي عليه ضميره الحاضر والغائب.

والله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء في تلك النشأة أو قبلها، ولكنّ البشر يرون أنفسهم مستخفين من الله، قال تعالى: «وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ *وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ »(1) . وفي ذلك اليوم يجدون أنفسهم عراة بتمام معنى الكلمة، لا يحجبهم شيء حتّى عن سائر البشر فكيف بالله تعالى والحاصل أنّ الذي يظهر ذلك اليوم للإنسان هو لا يمكنه التخفي من الله تعالى.

«لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ » هنالك ينادى «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ » ؟ والجواب: « لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ » من ينادي ومن يجيب؟ هل هو نداء الملك الواحد القهّار سؤالاً وجواباً؟ أم هناك ملائكة يسألون كما قيل فيجيبهم أهل المحشر جميعاً؟ أم ليس هناك سائل ومجيب، و إنّما هذا سؤال يطرح نفسه في ذلك الجوّ الرهيب، وقد انقشعت الأغشية وبدا كلّ شيء على حقيقته. و الجواب أيضاً يعرفه الكلّ، و يعترف به الكلّ، لا ملك اليوم لأحد إلّا لله.

والملك دائماً وأبداً ليس إلّا له وحده لا يشاركه أحد، إلّا أنّه أعار الإنسان

ص: 407


1- فصلت (41) : 22 - 23 .

ملكاً في هذه النشأة ليختبره، وهناك لا يملك أحد شيئاً إلّا الله الواحد القهّار. والتوصيف بالواحد ليس بمعنى وحدة العدد، بل بمعنى أنّه تعالى واحد في جميع شؤونه لا يشاركه أحد، ولا يماثله شيء، وهو القهّار لكلّ شيء، فكلّ شيء مقهور ذليل لأمره، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد تعالى قدره، وعظم شأنه.

« الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ» تقديم كلمة «الْيَوْمَ» يفيد أنّ هذه ميزة هذا اليوم فحسب، فلا يلقى أيّ إنسان جزاء عمله الحسن والسيّء وفاقاً، وكما هو حقه في أي مرحلة من مراحل الكون غير هذه المرحلة، كما لا يلقاه في أيّ مجتمع بشري وإن اتّسم بالعدل، بل قلّ ما يعتبر الحسن في المجتمع حسناً والسيّء سيئاً، فما أكثر ما يعتبره الناس حسناً ويفتخرون به ويعتزّون ملء أفواههم وهو من أقبح القبائح ؟!

ألا ترى كيف تفتخر الشعوب والأمم بما بقي من آثار الملوك وأبنيتها، ويدعون الناس لمشاهدة عظمة ملوكها القدماء عن طريق زيارة بقايا قصورهم ، مع أنّ ذلك إنّما يحكي عن ظلمهم وعدوانهم على الشعوب؟! فهذا مثل واضح والأمثال كثيرة.

ولكنّ الواقع ينجلي بوضوح في ذلك اليوم، وتجزى كلّ نفس بما كسبت. والجزاء هناك ليس وضعياً حتّى يشعر أحد بالظلم، بل هو نفس عمل الإنسان وكسبه.

ولا يستبعد الخلود في العذاب، فإنّ ما كسبه الإنسان يبقى ويدوم حتّى في هذه الحياة، فالذي يقتل نفساً وإن ارتكب ذلك في لحظة واحدة إلّا أنّ الجريمة

ص: 408

تستمرّ، والجرح لا يندمل، حتّى لو قوبل بعقوبة أو تعويض، لا عند المظلوم فحسب، بل حتّى عند الظالم، فإنّ المجرم إذا رجع إلى وجدانه وضميره الحيّ، وجد الجريمة حيّة مستمرّة، ولذلك تجده يتهرّب من تصوّرها، لأنّ الصورة تؤذيه وتعذّبه، حتّى أنّه ربّما بلغ به الأمر إلى الانتحار، فكيف به إذا وجد الجريمة بنفسها حيّة متجددة، وليست صورة أو فلما أو تصوّراً في النفس، بل هي بعينها ما كسبت يداه الآثمتان؟!

فيصدق ذلك اليوم، وذلك اليوم فقط:

« لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ » فالظلم لا مجال له في هذا الجو المضيء، فإنّ الظلم من الظلام، وذلك اليوم تشرق الأرض بنور ربّها، فلا يبقى شيء إلّا وهو مشرق بنور ربّه، وواضح للجميع .

« إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ » لعلّ الوجه في هذا التعليل أنّ بطء الحساب يستوجب نوعاً من الظلم، وهو بقاء الإنسان حائراً لا يدري ما هو مصيره. وهذا ظلم مستمرّ في المحاكم العرفية في مجتمعاتنا، وهو ظلم على المدعي والمنكر معاً، وظلم على المجرم والبريء، وظلم على الفرد والمجتمع. و لكن في ذلك اليوم ما أن يحضر الإنسان محكمة العدل الإلهية حتّى يجد عمله حاضراً، وهو بنفسه جزاؤه فيا له من سرعة في الحساب، ويا له من الحساب ويا له من سرعة في الجزاء، فالتعليل بذلك لعلّه للإشارة إلى أنّ الظلم لا يتحقّق حتّى بالتأخير في المحاسبة.

وهو في نفس الوقت يردّ بذلك على بعض توهّمات من يوسوس لهم شياطين الجنّ والانس بأنّ الله تعالى كيف يحاسب هذه الأجيال البشرية المتلاحقة يوم يجمعهم؟! فالجواب: إنّ الله سريع الحساب، فعمل كلّ أحد حاضر « وَوَجَدُوا مَا

ص: 409

عَمِلُوا حَاضِرًا»(1) ، وشهود كلّ أحد معه «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(2) ، وجزاء كلّ أحد معه « إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (3).

« وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ» يوم الآزفة أي يوم القيامة. من أزف أزفاً وأزوفاً أي قرب، قال تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ»(4).

والمعروف بين المفسّرين أنّ الآزفة في هذه الآية صفة لمحذوف، أي يوم الساعة الآزفة أي القريبة. والقرب قد يكون بمعنى قطعية الوقوع، وقد يكون من جهة أنّه قريب بالمقاييس الإلهية، أو من جهة أنّ الزمان إنّما نلاحظه نحن حسب الإطار الذي نعيشه فإذا خرجنا من إطار الطبيعة فلا زمان ولا مكان.

ويمكن أن تكون مصدراً نظير العافية والعاقبة، فهو مثل قوله تعالى: «يوم الحسرة» ، و«يوم التلاق»، و«يوم التناد»، و «يوم التغابن»، و«يوم الجمع»، و«يوم الفصل » ، و «يوم الدين». فلعلّ المراد هنا أنّه يوم القرب، إمّا بمعنى تقارب الناس واجتماعهم، أو قربهم إلى كلّ شيء من حيث الإدراك، أو إلى الجزاء، أو إلى النار. ويمكن أن يكون بمعنى الضيق، فإنّه أيضاً من معاني الأزوف، وأصله واحد لأنّ الضيق ملازم للتقارب. وقيل إنّه توصيف ليوم الموت، وهو لا يناسب الجملة التالية.

« ِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ» بيان لميزة من ميزات ذلك اليوم، وهو الخوف والاضطراب الشديد وتوصيف الاضطراب ببلوغ القلوب إلى الحناجر کأنّها

ص: 410


1- الكهف (18): 49 .
2- النور (24): 24 .
3- الطور (52): 16 .
4- الأنبياء (21): 1.

تريد الخروج ورد أيضاً في قوله تعالى: « وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ » (1)، في بيان خوف المسلمين يوم الأحزاب. وهو كناية عن شدة الخوف والهلع.

والكظم في الأصل هو الإمساك والحبس، ومنه كظم الغيظ، والمراد هنا بيان حالهم في مواجهة مخاوف يوم القيامة، وهو أنّهم حابسون أنفاسهم خوفاً، أو أنّهم يحبسون القلوب التي بلغت الحناجر لئلّا تخرج. وقيل إنّهم يحبسون الهمّ والغمّ في نفوسهم.

« مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ» الحميم هو القريب أو الصديق المشفق، أخذ من الحمم بمعنى الحرارة، وكثيراً ما يستعار بالحرارة لبيان شدة العطف والحبّ. والمراد أنّ الظالمين يفقدون يوم القيامة كلّ العلاقات الأسرية، والصداقات التي كانت بينهم في الحياة الدنيا قال تعالى: « فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ»،(2) وقال: « «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ»(3) ، فلا أحد يفكر في مصير ابنه أو أبيه أو أمه أو أخيه، قال تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » (4) ، بل لو استطاع أيّ واحد منهم أن يضحي بكلّ أعزائه الذين كان يضحي بنفسه من أجلهم لهان عليه ذلك، قال تعالى: «وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا *يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ *وَفَصِيلَتِهِ

ص: 411


1- الأحزاب (33): 10.
2- المؤمنون (23): 101.
3- الزخرف (43): 67.
4- عبس (80): 34 - 37 .

الَّتِي تُؤْوِيهِ *وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ »(1).

وهذا من أغرب التغيرات في ذلك العالم، حيث یدلّ على أنّ الأهوال هناك أعظم بكثير من الموت، فالإنسان في هذه الحياة يضحي بنفسه وماله في سبيل أولاده وعرضه وقومه. وهناك يضحي بكلّ هؤلاء، بل كلّ ما في الأرض في سبيل إنقاذ نفسه من تلك الأهوال، وليس هذا من أنانيته هناك، بل إنّ عذاب الله شدید .

« وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ » ليس معناه أنّ لهم شفيعاً لا يطاع، إذ لا يؤذن لشفعائهم وأوليائهم بالشفاعة فلا شفعاء لهم أصلاً، فالمراد نفي الصفة والموصوف وفائدة الوصف نفي كلّ توهّم وأمنيّة، لأنّ الظالمين ربّما يمنّون أنفسهم بشفعائهم، فيقال جدلاً أنّه لو فرض وجود شفعاء فإنّهم لا يطاعون، أي لا يسمع قولهم ولا تقبل شفاعتهم. وقد ورد نفي قبول الشفاعة في عدّة موارد مع أنّ أصل الشفاعة منتفية بذاتها. والآية نظير قوله تعالى «فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ *وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ »(2).

« يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ» الخائنة صفة لموصوف مقدّر أي يعلم النظرات الخائنة من الأعين ، أو هي مصدر كالعافية، أي يعلم خيانة الأعين. والمراد النظرات المسترقة ممّا يخفيه الناظر عن الناس سواء كان إلى المحرمات أو غيرها، أو ما يشار بالأعين والحواجب بحيث لا يراه الآخرون.

وفي «الدرّ المنثور» في ذيل الآية أخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد رضي الله عنه قال لمّا كان يوم فتح مکّة أمن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الناس إلّا أربعة

ص: 412


1- المعارج (70): 10 - 14.
2- الشعراء (26): 100 - 101.

نفر وامرأتين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلمّا دعا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الناس إلى البيعة جاء به فقال يا رسول الله بايع عبدالله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كلّ ذلك يأبى يبايعه، ثمّ بايعه، ثمّ أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله » فقالوا ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أو مات إلينا بعينك؟ قال: «إنّه لا ينبغي لنبيّ أن يكون له خائنة الأعين»(1).

والآية تعود إلى ذكر صفات الله تعالى في قوله «رَفيعُ الدَّرَجَاتِ» وما توسّط بينهما جملات معترضة بمناسبة ذكر يوم التلاق، فالمعنى: ادعوا الله مخلصين له الدين فهو رفيع الدرجات... وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فاحذروه ولا تحذروا غيره في جميع الأحوال، واحذروه في كلّ حركة، وكلّ لمحة عين، وكلّ ما تخفيه صدوركم من دوافع وأماني، وما تشركون به في أعمالكم واعتقادكم ، فإنّه لا يقبل إلّا من المخلصين.

« وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» القضاء هو الحكم. فيمكن أن يكون المراد به الحكم التكويني، أي إنّه بقضائه تعالى قامت السماوات والأرض، وقضاؤه الحقّ والحقّ : الأمر الثابت فالكون مبني على السنن الإلهيّة الثابتة التي لا تتغيّر ولا يطرأ عليها البطلان وأمّا الذين تدعون من دونه فلا حول لهم ولا قوة إلّا ما آتاهم الله تعالى فلا تدعوا أحداً غيره، فيكون تعليلاً للزوم الإخلاص في الدعاء. والجملة الأخيرة أيضاً تعليل له

ص: 413


1- الدر المنثور 5: 349 .

لأنّه يسمع كلّ دعوة، ويبصر كلّ ما يحتاج إليه الداعي.

ويمكن أن يراد به القضاء يوم القيامة، فيكون تعليلاً للزوم الإخلاص أيضاً، حيث إنّ الحكم ليس إلّا له، وهو يقضي بالحقّ والذين تدعون من دونه حتّى لو كانوا عقلاء كالملائكة والبشر، فإنّهم لا يقضون بشيء، وذلك لأنّ القضاء بالحقّ لا يمكن إلّا للسميع البصير، ولا أحد يسمع كلّ صوت ويرى كلّ شيء إلّا الله تعالى.

والظاهر أنّ هناك أموراً تصدر من الإنسان تخفى حتّى على الملائكة الموكّلين به، كما ورد في دعاء كميل من قول أمير المؤمنين (علیه السلام): « وكنت أنت الرقيب عليّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم » ، ولذلك أتى بما يفيد الحصر «هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

ص: 414

سورة غافر(21 – 22)

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)

« أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ» مقدمة لبيان قصة مؤمن آل فرعون وربطها بالخطاب الموجّه إلى مشركي مکّة، فبعد بيان آيات التوحيد والمعاد ودعوتهم إلى الإيمان، حذرهم من مغبة الكفر والعناد والكيد برسل الله تعالى، وذلك بدعوتهم إلى ملاحظة حال الأقوام السابقة، والاعتبار بما جرى عليهم من العذاب نتيجة كفرهم بالرسالات، مع أنّهم كانوا أقوى من هؤلاء وأكثر آثاراً في الأرض. و یدلّ على حالهم وقوّتهم وحضارتهم الآثار الباقية منهم، وكانت في ذلك العهد كثيرة وقريبة من الطرق التي كانوا يجتازونها في أسفارهم.

وقوله « وَآثَارًا »، أي «وأكثر آثاراً » ففيه تقدير استغني عنه بقوله « أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» نظير قول الشاعر « متقلّداً سيفاً ورمحاً» ، أي وحاملاً رمحاً.

ومهما كان فالقرآن يدعوهم إلى السير في الأرض لا للتنزّه والتفرّج والتمتّع بمشاهدة الحضارات البائدة كما هو السائد في عصرنا، بل للاعتبار بها ومقارنة حالهم بحال الأمّة الحاضرة، والتنبّه لما يقرّبهم إلى الله في ذلك، فإنّ يد القدرة مشهودة بارزة في ما بقي من الآثار خصوصاً في ذلك العهد.

« فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ» . أخذهم أي أهلكهم. و« وَاقٍ» مخفّف «واقي» من الوقاية أي الحفظ. و «من» زائدة أي ما كان لهم أيّ شيء

ص: 415

يحفظهم من بأس الله تعالى. والتركيز على الذنب بعنوانه العامّ مخيف جدّاً، فهناك من الأقوام من دمّر الله عليهم بيوتهم لارتكابهم الآثام كقوم لوط (علیه السلام). وعلى كلّ حال فإنّ الله تعالى إذا أراد بقوم سوءاً فلا مردّ له، وليس هناك شيء في الكون يحفظ الإنسان ويقيه من بأس الله تعالى، لأنّ كلّ ما يلوذ به ويعوذ مخلوق له ومربوب ومطيع لأمره.

«ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا» ، ذلك إشارة إلى الأخذ والعذاب، والمعنى أنّ السبب في استحقاقهم لعذاب الاستئصال أنّهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بالرسالات، فلو كان قوم لم يبعث فيهم رسول لا يعذّبهم الله عذاب الاستئصال، و إنّما يعذّبهم بعد بعث الرسول و تكذيبه، قال تعالى: « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا». (1) والغرض من ذلك التنبيه على أنّ السنة الإلهية واحدة ، والقانون واحد فاحذروا ربّكم.

ثم إنّ الرسل لم يكتفوا بمجرّد تبليغ الرسالة، بل أتوهم بالبيّنات ولم تكن بيّنة واحدة. والبينة هي الأمر الواضح والموضح، والتبيّن هو الوضوح والانكشاف فالأمر كان مكشوفاً لدى الأقوام ليس فيه لبس، و إنّما منعهم من الإيمان بالله ورسالاته كبرهم وطغيانهم وركونهم إلى الدنيا وملذّاته.

« فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ» التعليل يرفع عن العيون كلّ غشاوة، ويبطل الأماني الكاذبة، فالله تعالى يقوى على كلّ ما يريد. يشهد على ذلك الآيات الكونية التي لا تحصى، وهو شديد العقاب. وقد مرّ بعض الكلام في توضيحه في أول السورة.

ص: 416


1- الإسراء (17): 15 .

سورة غافر (23 - 27)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)

هذا تنبيه وتذكير بقصة من قصص الأقوام السابقة، وهم من أقوى الأمم التي كان المخاطبون يعرفونهم، كما كانوا يعرفون أخبارهم، ويرون حضارتهم وقوّتهم، وهم قوم فرعون، أي القبط، فكانوا أقوى شاهد على الموضوع، الذي تعرّضت له الآيات السابقة.

مضافاً إلى أنّه تعالى في هذا الموضع إنّما روى القصة من جانب خاصّ لم يرد ذكره في سائر الموارد وهو الموقف الذي وقفه مؤمن آل فرعون، وفي ذلك عبر كثيرة كما سيأتي ذكرها، ولعلّ منها تحريض بعض كبراء المؤمنين كأبي طالب (علیه السلام)على التستر والتقيّة.

« وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ » الظاهر أنّ المراد بالآيات: المعجزات كالعصا، واليد البيضاء، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والسنين، أي المجاعة. والمراد بالسلطان - على الظاهر - الحجّة البالغة والمنطق القوي، كما يحكيه تعالى من مناظرته لفرعون في سورة الشعراء وغيرها.

والسلطان في الأصل مصدر بمعنى السلطة، وقد استعمل في الحجة والبرهان

ص: 417

في عدّة موارد من كلامه تعالى، كقوله: «مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا »(1) ، وقوله تعالى «هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ »(2).والموارد كثيرة.

وفي «تفسير الميزان» أنّ المراد به السلطة الإلهية القاهرة التي أُيّد بها فمنعت فرعون أن يقتله ويطفئ نوره. وإطلاق السلطان على هذا المعنى في حدّ ذاته غير بعيد. ويؤيده قوله تعالى « وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا »(3) ، إلّا أنّه في المقام يجب أن يكون ممّا يدعو إلى إيمانهم به، وهو الإعجاز والحجّة، مضافاً إلى أنّ توصيفه بالمبين ينافي هذا المعنى لأنّه كان أمراً غيبيّاً غير بيّن.

« إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ» هامان على ما يبدو من الآيات وزير فرعون، والرجل الثاني في حكومته، حيث إنّه اعتبر الجنود جنوداً لهما « إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ» (4) . وأمّا قارون فقد كان من قوم موسى فبغى عليهم كما في سورة القصص، وكان ثريّا من أكثر الناس أموالا فأصبح يضرب به المثل. وتخصيص هذه الثلاثة لعلّه من جهة أنّ الأوّل يمثّل طغيان السلطة والكبر، والثاني يمثّل طغيان السياسة والدهاء والكيد، إذ لولا ذلك لم ينتخبه فرعون، والثالث يمثّل طغيان المال والثراء.

ويظهر من الآية أنّ قارون لم يؤمن بموسى (علیه السلام) من أول الأمر خلافاً لما في بعض الروايات، بل هو أيضاً قال فيه: إنّه ساحر كذّاب. ولا ينافي ذلك أنّه خرج

ص: 418


1- النساء (4): 144 .
2- الكهف (18): 15 .
3- القصص (28): 35 .
4- القصص (28): 8 .

مع موسى (علیه السلام) في قومه حين خروجهم من مصر، وليس كلّ من خرجوا معه كانوا مؤمنين به، ولعلّه كان منافقاً. والسحر إنّما اتّهموه به في قبال ما أبداه من معجزات والكذب في قبال حجّته ومنطقه فلم يكن لهم ردّ على مقالاته إلّا المكابرة والاتّهام بالكذب في دعوى الرسالة.

« فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ » يظهر من الآية أنّ هذا موقف آخر غير موقفهم في مقابل دعوى النبوّة والرسالة التي واجهوها باتّهامه بالكذب والسحر، فلعلّ المراد بما جاء به من الحق: المعارف والأحكام الالهية التي جاء بها.

ولم يكن دعواه (علیه السلام) أمام فرعون منحصراً في أنّه مرسل من ربّه، وأنّه يدعو إلى التوحيد، ويطالب بإطلاق سراح بني إسرائيل، بل كان يتلو عليهم آيات من الله تعالى تشتمل على معارف إلهية وأحكام شرعية.

و یدلّ على ذلك قوله تعالى «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ »(1)، فالظاهر أنّ قوله « هَؤُلَاءِ » إشارة إلى أوامر وأحكام كان يتلوها عليهم، فلمّا رأوا أنّه يأمر وينهى بحجة أنّه رسول من الله تعالى اشتاطوا غضباً وكادوا له ولمن آمن به من قومه، وهم قليل كما في قوله تعالى «فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ »(2).

« قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ »الاستحياء بمعنى إبقائهنّ أحياء. والغرض من ذلك ابقاؤهنّ للخدمة. وهذا كيد قديم، فقد أمر فرعون بقتل الأبناء واستحياء النساء في قوم بني إسرائيل أجمعين قبل ولادة موسى (علیه السلام) بأمل

ص: 419


1- الإسراء (17): 102 .
2- يونس (10) :83 .

أن يقضي عليه لما بلغه - على ما في الروايات - من أنّه سيقوّض سلطانه ويهدم كيانه

ولكنّه هنا خصّ الحكم بمن آمن معه ليكون عامل ضغط عليهم فيتركوه ويبتعدّوا عنه. ولعلّ ضمير الجمع لا يعود إلى قارون، فالمراد به على هذا الاحتمال فرعون وهامان وملؤهما وان كان اشتراكه في المؤامرة أيضاً غير بعيد.

« وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ » ، أي في ضياع، بمعنى أنّ كيدهم ومؤامرتهم لا تحقّق هدفهم، حيث كان في مواجهة إرادة الله تعالى. وليس معنى ذلك أنّ كلّ ما يكيده الكافر ضائع لا يحقّق ما أراد، بل كلّ ما يكيده من جهة كفره. ولذلك لم يقل وما كيدهم للإشارة إلى السبب. والحاصل أنّ مكائد الكفّار في مواجهة الحقّ لا تنتهي إلى مقاصدهم، لأنّ العاقبة للمتّقين، ولأنّه تعالى سينصر رسله في نهاية المطاف.

« وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » يخاطب فرعون حاشيته بذلك. قيل: يبدو منه أنّهم منعوه من قتله (علیه السلام)، ولعلّ ذلك من جهة خوفهم من ثورة عارمة، أو من أن يقدّس بعد مقتله فتكبر الفتنة ويتوسّع الخرق، أو من أن ينزل عليهم عذاب، حيث إنّه تكرّر نزول العذاب عليهم ، وفي كلّ مرّة يطلبون منه (علیه السلام) أن يدعو لهم برفع العذاب فيدعو ويرتفع، ثمّ يعودون إلى ظلمهم وكفرهم كما ورد في سورتي الأعراف والزخرف.

هذا ولكنّ الظاهر أنّ قومه كانوا يحرّضونه على القتل، وهو الذي كان يمتنع منه ويحذر، بدليل قوله تعالى «وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي

ص: 420

الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ »(1).

وأمّا ما حكي عنه هنا فإنّما یدلّ على خوفه وجبنه من الإقدام على قتله فقوله: « ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » ليس طلباً من قومه أن لا يتوسّطوا له ولا يمنعوه من قتله، بل إنّما يشجع بذلك نفسه، فقد كان يحذر من أن ينزل الله عليه العذاب، وكان يعلم أنّ موسى (علیه السلام) صادق في دعوته، و إنّما كان يحاول إخفاء الحقيقة عن قومه وشعبه، ليبقى متسلّطاً عليهم كما تدلّ عليه الآية السابقة: «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ». وقوله: « وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » أيضاً ممّا يشجع به نفسه حيث يظهر أنّه لا يخاف من ربّه.

ويحتمل أن يكون من باب التهديد نظير قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا » (2)؛ فإنّ هذا التعبير يقال في مقابل من يمنع من مؤاخذة الغير، ثمّ استعمل في التهديد كأنّ هناك من يمنعه.

« إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ » وهكذا برّر قتله بأنّه يخاف منه في أمرين من شؤون المجتمع

الأول: أن يبدل دينهم، ويهدم تقاليدهم التي هي مناط وحدتهم وتماسكهم، فإنّهم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، كما تبيّن من آية الأعراف المذكورة آنفاً.

والثاني: أن يظهر في الأرض الفساد، لأنّه ساحر يدعو إلى نفسه، ويريد أن يتسلّط عليهم ويخرجهم من أرضهم، كما قاله في موضع آخر في أول مواجهة له مع موسى وهارون (علیهما السلام): «قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى»(3) . وفي

ص: 421


1- الأعراف (7): 127 .
2- المدثر (74): 11 .
3- طه (20) :57 .

موضع آخر ينقل القرآن عنه وعن ملئه «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ»(1).

وفرعون كان يعلم أنّ موسى (علیه السلام) لا يدعو إلّا إلى خير، ولا يريد أن يتسلّط على الناس، بل هو الذي يريد التسلّط عليهم ظلماً وطغياناً، ولكنّها مكيدة الطواغيت في مواجهة الأنبياء والأئمة والمصلحين، فيتظاهرون أمام الناس بأنّهم لا يريدون لهم إلّا الخير، وأنّ هذا الذي يدعو إلى الصلاح والحرّيّة إنّما يريد أن يفرّق جمعهم ويتأمّر عليهم.

وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه أقوال الناس في الأمم المختلفة والأجيال المتلاحقة، سواء في ذلك الطواغيت والكبراء، أو العامّة والدهماء.

« وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ » أنظر إلى مقابلة الرسول لهذا الطاغية، وهو هنا يخاطب الجماهير أو يخاطب قومه فقط. ويحتمل أن تكون المخاطبات المنقولة هنا حدثت في تجمع بين موسى (علیه السلام) مع فرعون وحاشيته، فإنّه كان يستمرّ في الدعوة ولا يألو جهداً في إتمام الحجة عليهم.

وهو هنا يتعوّذ بربّه وربّهم، ويردّ بذلك على قول فرعون « وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » ويقصم ظهرهم بذلك، وفرعون كان يعلم أنّ من يتعوّذ به موسى هو المعاذ لا غيره، وأنّه القادر على كلّ شيء، وأنّ هذا مرسل من عنده، فترتعد فرائصه من هذا التعوّذ، و إنّما كان يتصنّع الجرأة والشجاعة. ويا له من حمق وجهل وسفاهة أن يقاوم الإنسان الضعيف جبار السماوات والأرض.

ص: 422


1- يونس (10) :78 .

ثم إنّه (علیه السلام) ذكر في تعوّذه صفتين للإنسان الذي يتوقع منه الشر الأولى: التكبّر فإن المتكبر يترفّع على الناس، ويستعلي عليهم ويحتقرهم، ولا يهمّه أن يضرّهم جميعاً في سبيل الإبقاء على سلطته وجبروته، ولذلك نجد أنّ أكثر ما أصاب الناس من شرّ إنّما هو من الطواغيت المتجبّرين.

والثانية: عدم الإيمان بيوم الحساب فإنّ العائق الوحيد الذي يمنع الإنسان المتسلّط من الظلم والعدوان هو الخوف من المساءلة، وحيث إنّ الطاغوت لا يخاف المساءلة في الدنيا، فإن لم يعتقد بالآخرة فإنّه يشعر بحريّة مطلقة، فلا يألو جهداً في استعباد الناس، ونشر الفساد والظلم.

ص: 423

سورة غافر(28 – 35)

وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

« وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ » كون الرجل من آل فرعون يبيّن ما كان له مكانة اجتماعية مرموقة، فهو لم يكن مجرّد رجل من الحاشية والمقربّين إلى فرعون بل كان من أهله وخاصّته. والظاهر أنّه الوحيد الذي آمن من هذا القوم، وكان يكتم إيمانه إمّا خوفاً منهم أو ليتمكّن من الدفاع عن موسى (علیه السلام) كما يتبيّن من كلامه المحكي هنا، فهو لا يظهر لهم ولاءه للرسول، ولا يظهر استخفافاً بهم، ويحاول إقناعهم بعدم التصدّي لقتله.

وهكذا يلطف الله سبحانه لما يشاء، فيبعث من قصر فرعون من يدافع عن

ص: 424

موسى. ولا غرابة فقد بعث قبل ذلك امرأته للإبقاء عليه وهو طفل رضيع.

« أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ » بدأ المؤمن كلامه باستنكار القتل لرجل يقول ربي الله والاستفهام أنكاري و « أَنْ يَقُولَ »مجرور بلام التعليل أي أتقتلونه بسبب هذا القول؟! والظاهر من السياق أنّه يخاطب بذلك فرعون نفسه حيث حكاه الله تعالى بعد تهديد فرعون بقتل موسى (علیه السلام) ولعلّه خاطبه بذلك في نفس المجلس، كما أن استعادته (علیه السلام) أيضاً يحتمل ذلك كما مرّ.

والظاهر أنّه بهذا الاستنكار يبدأ بإظهار إيمانه تدريجاً فهو يعترّض أولاً، على محاولة قتله (علیه السلام) بأنّ هذه الدعوى أي ربوبية الله تعالى لا تبرّر القتل حتّى لو كانت خاطئة بنظركم وثانياً، أنّها دعوى مدعومة بالبينات والأدلة القاطعة فيجب أن تؤمنوا به.

وربّما يكون مبنى الاستنكار أنّهم كانوا يعتقدون بالله تعالى، وإن كانوا كسائر الوثنيين يعبدون الأصنام ونحوها ، فلعلّهم لم يكونوا يعتقدون أنّ الله هو ربّ العالمين، ولكنّهم يرون أنّه خالق السماوات والأرض وربّ الأرباب.

وهو لا يركّز على الجانب السلبي من دعوة موسى (علیه السلام) وهو نفي سائر الأرباب لئلّا يثير حفيظتهم ، و إنّما يركّز على الجانب الإيجابي، وهو أنّ الربّ هو الله تعالى، وهو ربّ عند الوثنية - كما هو المفروض - إلّا أنّهم يعتقدون أنّ الربّ المؤثر في كل جانب من جوانب الكون ربّ آخر، فلا مانع من أن يعتقد أحد أنّ ربّه بالخصوص هو الله تعالى. ولذلك أتى بضمير المتكلّم المفرد « رَبِّيَ اللَّهُ ».

وهذا لا ينافي أنّهم ما كانوا يعتقدون الوهية الله تعالى كما قال فرعون « لَعَلِّي

ص: 425

أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ »(1)بل يرون الألوهية لأصنامهم كما قالوا الفرعون « وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ » فإنّ الألوهية بمعنى استحقاق العبادة تختصّ بمن يؤثّر في الكون والأرباب المتفرّقون هم المؤثرون في الكون حسب معتقد الوثنية.

« وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ » جملة حالية تبيّن مدى فظاعة محاولة القتل، لأنّ الرجل قد جاءكم بالبينات، والأدلّة الواضحة، والحجج الدامغة، فإن كان مبطلاً فردّوا أدلته، ولكنّهم لا يستطيعون لأنّها بيّنات، أي واضحات أو موضحات للحقائق. وأكّد أنّها بيّنات من قبل ربّكم. وهذا من لطيف المحاولة في التأثير التدريجي فاعتبر الله تعالى ربّ موسى أولاً، ثمّ لمّا مهّد السبيل عبّر عنه بأنّه ربِّكم، وأن ما جاء به من البينات إنّما هو من قبل ربّكم، فهو مؤثّر في تربيتكم وبلوغكم الكمال المنشود، وبذلك اعترف برسالته تلويحاً.

« وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ » استدلال جدلي للمنع من التعرّض لقتله (علیه السلام)، وهو أنّ الرجل يدّعي أنّه مرسل من ربّه، وأنّ الله يرسل عليكم أشدّ العذاب إن لم تستجيبوا لطلبه، وأقلّه الإفراج عن بني إسرائيل ليتمكّنوا من مواصلة مسيرة الرسالة الإلهيّة على الأرض، وبث معارف السماء، وإتمام الحجّة على الخلق، فالخطر - على أقل تقدير - محتمل، وهو خطر عظيم، وكيف يمكن للبشر أن يقاوم العذاب الإلهي؟!

فإن كان الرجل كاذباً فاستجابة دعوته لا تضرّكم شيئاً، بل هو الذي يتضرّر بكذبه ، فإنّ الكذب - مهما كان - ينجلي عنه الغموض ويفتضح أمر الكاذب في النهاية، أو أنّه يتضرّر من جهة أنّ الله تعالى لا يهديه إلى سبل النجاح، كما

ص: 426


1- القصص (28) :38 .

سيأتي بيانه. وأمّا الاحتمال الآخر فهو ينذر بخطر كبير لا يمكن الاستهانة به، وأقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم من عذاب الله تعالى أن لم يصبكم كلّه، وبعضه أيضاً لا يمكن تحمّله.

« إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ » ختم جملته بكلام ينبئ عن إيمانه العميق بالله تعالى، وأنّه هو الهادي وهو المضلّ، وأنّه لا يهدي إلى الطريق الصحيح من هو مسرف كذّاب.

ولعلّ المراد به من يسرف ويتجاوز الحدّ في الكذب فيكذب على الله تعالى فالمسرف الكذّاب مجموعاً صفة واحدة أي من يسرف في كذبه، فإنّ الكذب على الله تعالى أعظم الكذب. وهو على هذا الاحتمال تعليل لقوله «وان يك كاذبا فعليه كذبه » والمراد أنّه إذا كذب في دعوى الرسالة فقد كذب على الله تعالى، وهو يستتبع غضبه فيمنعه الله الهداية. ولعلّ المراد بها الهداية المطلقة في جميع سبل الحياة، فيحرم من الوصول إلى أهدافه الدنيوية أيضاً.

ويمكن أن يكون تعليلاً للجملة الثانية، أي إنّ عذاب الله تعالى يصيبكم على تقدير صدقه، لأنّه تعالى لا يهدي من هو مسرف كذاب. وعليه فلعلّ المراد بالمسرف من تجاوز الحدّ في الإنكار ، فأنكر الحقّ مع وجود البيّنة بل البيّنات وبالكذّاب من يكذب على الله تعالى في جعل شركاء له في الربوبية.

« یَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا » في مرحلة أخرى من كلامه قام المؤمن بإنذارهم وتحذيرهم من مغبّة موقفهم الخاطئ من الرسول، وهو يعبّر بما يظهر منه شعوره بالانتماء إليهم، وأنّه منهم وفيهم يضرّه ما يضرّهم ويزعجه ما يزعجهم.

ص: 427

وابتدأ بقوله « یَا قَوْمِ » - أي يا قومي - استعطافاً لهم وتحبّباً إليهم. و « ظَاهِرِينَ » أي غالبين والظهور الغلبة. وهو بهذا نبّههم على تنعّمهم بالملك والغلبة لكي يشدّهم إلى ذلك فيؤثّر تهديده بأنّ هذه النعمة ربّما تسلب عنكم إذا قتلتم الرسول.

ويتبيّن من السياق أنّهم كانوا على علم بأنّ بأس الله لا يطاق، وأنّه يكفيهم التذكير. ولا غرو فإنّ أحاديث الأمم السالفة كانت معروفة لديهم كما يتبيّن من الآيات التالية. ومن الملفت في عبارته المحكية أنّه لم يشرك نفسه معه حينما بيّن من له الملك، بل أتى بضمير الخطاب، لأنّ الهدف منه بيان اختصاصهم بهذه النعمة، وأشرك نفسه معهم في التهديد بالخطر فقال: « فَمَنْ يَنْصُرُنَا » ليشعرهم بأنّه منهم يصيبه ما يصيبهم.

« قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ » يتّضح من السياق أنّ فرعون لم يتمكّن من ردّ الحجج القوية التي أقامها المؤمن المتكتّم، بل تأثّر بها وخاف مصيره ومصير ملكه وسلطانه، فلم يحر جواباً إلّا هذا الجواب المبهم المجمل الذي ينمّ عن عجز واستئصال ، وأنّ ما قاله غاية ما وصل إليه، وأنّه لا يعلم أكثر من ذلك « مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى» وهو في نفس الوقت يحاول استمالة قومه واستعطافهم ممّا یدلّ على خوفه من خذلانهم له وارتيابهم فيه.

ويمكن أيضاً أن يقصد بهذه الجملة أنّه لا يخونهم ولا يظهر لهم ما يبطن خلافه. ثمّ تبجّح بما يتبجّح به كلّ الطغاة والمردة من أنّه يهدي المجتمع إلى سبيل الرشاد وأنّه لا يريد بهم إلّا الخير. هكذا من دون أن يأتي على ذلك بدليل أو شاهد.

ص: 428

« وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ » لمّا أصرّ فرعون على اقتراحه بقتل موسى وزعم أنّه سبيل الرشاد عاد الرجل المؤمن إلى تأنيبهم وتخويفهم من مغبة ذلك مستخدماً طريقة أخرى، وهي تذكيرهم بتأريخ الأقوام السابقة، وما جرى عليهم جراء كفرهم وتكذيبهم للأنبياء (علیهم السلام). ويتبيّن من ذلك أنّهم كانوا على علم بأخبار الماضين فحذرهم من أن ينالهم عذاب مثل ما نزل بهم.

وقوله « يَوْمِ الْأَحْزَابِ » يريد به جنس اليوم، إذ لم يكن لهم يوم واحد فهو نظير ما تقول يوم المجاعة أو يوم الحرب وتقصد كلّ يوم يحدث فيه ذلك. وقد عُدّ قوم فرعون من الأحزاب في سورة ص فالمراد بهم هنا من قبلهم من الأحزاب. و إنّما سمّاهم بالأحزاب لتحربهم وتجمعهم على محاربة الحقّ والصدّ عن سبيل الله وتعصّبهم وتشدّدهم في ذلك. والتحزّب في الأصل بمعنى التشدّد. والكفّار لم يكونوا كلّهم متشدّدين في مخالفة الأنبياء فكان منهم من لا يؤمن ولكن لا يحارب النبيّ ولا يمنعه من نشر دعوته ولا يمنع الناس من التجمع حوله.

« مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» ، الدأب والدؤوب هو الملازمة والاستمرار في الشيء، ولذلك يقال للعادة دأب. والمراد به هنا ما دأب عليه القوم واستمرّوا من التكذيب والكفر حتّى استتبع العذاب الإلهي. فيمكن أن يكون التحذير من نفس الاستمرار على العناد لأنّه يستتبع العذاب كما يتبيّن بملاحظة حال الأقوام السالفة، ويمكن أن يكون بتقدير مضاف أي مثل جزاء دأبهم.

« وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ »، أي إنّ العذاب لم ينزل على الأقوام السابقة إلّا بسوء

ص: 429

اختيارهم والله لا يظلم أحداً، بل لا يريد ظلماً لعباده. وتنكير الظلم لنفي أيّ ظلم من الله تعالى وتقدّس فلو لم يعاندوا الحقّ ولم يدأبوا على الكفر ولم يتشدّدوا ويتحرّبوا لم ينزل عليهم العذاب حتّى لو لم يؤمنوا بالرسالات.

والغرض التنبيه على إنّكم إن لم تؤمنوا بموسى (علیه السلام) فلا تسرفوا ولا تتجاوزوا الحدّ في الكفر بقتل الرسول ومنع المؤمنين من متابعة مسيرتهم. اتركوهم يسيروا في أرض الله بحرّية وينشروا ما يريدون نشره من معارف فالثقافة لا تقابل إلّا بثقافة، وليس من المنطق أن تقابل الدعوة بالسيف.

« وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ» التناد هو التنادي حذف ياؤه اختصاراً، ولرعاية أواخر الآيات وهو تفاعل من النداء. وهو اسم ليوم القيامة، قيل في وجه التسمية: إنّ المراد نداء أصحاب النار لأصحاب الجنّة وبالعكس، وقيل: نداء الملائكة للظالمين وبالعكس وقيل ما يدور بين المستضعفين والمستكبرين من أقوال.

وظاهر المادة يقتضي أن يكون من ينادى ينادي أيضاً من يناديه، وهو تعبير يصوّر يوم هرج ومرج ، واشتغال كلّ نفس بما يعنيه ويهمّه، وعدم الاهتمام بمن حوله، وعدم محاولة إنقاذ المستغيثين. وهذا لا يحصل إلّا في اليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه وأمّه وأبيه، فاحتمال إرادة يوم نزول العذاب في الدنيا كما قيل بعيد جدّاً، كما أنّ تسمية يوم القيامة بيوم التناد لمجرّد وقوع بعض النداءات فيه كما يبدو من بعض التفاسير بعيد، وإلّا لكان كلّ أيام الدنيا يوم تناد والله العالم.

«يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ » ولّى أي أتبع الشيء بالشيء فقد يذكّر أو يقدّر أنّه أتبعه وجهه فيكون بمعنى الإقبال كقوله تعالى «فَوَلِّ وَجْهَكَ

ص: 430

شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» (1)، وقد يذكر أو يقدر أنّه أتبعه دبره، أي خلفه فيكون بمعنى الإعراض أو الفرار. وهنا يصوّر مؤمن آل فرعون فزعهم واضطرابهم ومحاولتهم الفرار يوم لا مفرّ من العذاب كما قال تعالى: «يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ»(2)، ما لهم في ذلك اليوم عاصم يحفظهم من عذاب الله. ومن يعصمهم من الله وكلّ شيء ء بأمره فلا ملجأ منه إلّا إليه ؟!

« وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ» الظاهر أنّ المراد به أنّ من أضلّه الله في الدنيا فلا هادي له، هناك تأكيداً على أنّه لا عاصم من أمر الله، وذلك لأنّ النظام الكوني يتغيّر في ذلك اليوم ويرتفع الاختيار، فلا يمكن التشبث بالوسائل، ولا حرّية لأحد في اختيار الطريق، و إنّما كان على الإنسان أن يسلك طريقاً في الحياة الدنيا يوصله إلى النجاة هناك، فالصراط مستقيم لا التواء فيه ولا تعاريج ولا فروع.

ولا يمكن لأحد أن يسلك طريق النجاة هناك إلّا إذا اتّخذه طريقاً له في الحياة الدنيا، ومن ضلّ الطريق في الدنيا فما له من هاد هناك. ومن يضلل الله فما له من هاد.

ويحتمل بعيداً وإن كان هو ظاهر التفاسير أن يكون بياناً لحالهم في الدنيا، فهو بعد تخويفهم وتحذيرهم من مغبّة الكفر ذكر هذه الجملة تسلية لنفسه إذا لم يتقبّلوا منه إنذاره، وذلك لأنّهم إذا أراد الله أن يضلّهم فلا أثر لكلامه، والله لا يضلّ من يبتغي الهداية فإنّه لا يريد ظلماً للعباد كما مرّ في الآية السابقة، و إنّما يضلّ من عاند الحقّ بعد تمام الحجة عليه، ومثل هذا يستحيل أن يهتدي، فلا هادي له.

ص: 431


1- البقرة (2): 144 .
2- القيامة (75): 10 .

« وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ» انتقل المؤمن إلى سياق آخر في تحذيره للقوم، وهو تذكيرهم بتأريخ آبائهم في مواجهة رسالة السماء، وحيث إنّ القوم باقون على دين آبائهم ويمجدون أفعالهم، نسب الفعل إليهم مع بعد زمانهم.

ولا يصحّ القول بأنّ فرعون موسى (علیه السلام) هو نفسه الملك الذي واجهه يوسف (علیه السلام)، كما يبعد جدّاً أن يكون المراد بيوسف نبياً آخر غير يوسف بن يعقوب (علیهما السلام)، إذ لم يرد ذكره في القرآن فإطلاق كلمة يوسف في الكتاب العزيز ينصرف إليه، حتّى لو فرض وجود نبيّ بهذا الاسم غيره. والذي ألجأ بعضهم إلى هذه التكلّفات هو ظاهر الخطاب، والصحيح ما مرّ ذكره.

ويتبيّن من الآية أنّ يوسف (علیه السلام) كان رسولاً إلى قوم مصر، وهذا لم يصرّح به في سائر الآيات، وأمّا أصل النبوة فقد صرّح به في سورة الأنعام عند ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم (علیه السلام)، (1) ثمّ صرّح بنبوّتهم في قوله تعالى: « «أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » (2) ، فلا وجه لما قيل من أنّه لم يصرّح بنبوته إلّا هنا.

ومهما كان فالمؤمن ذكرهم بأنّ يوسف (علیه السلام) جاء كم قبل موسى برسالة السماء مشفوعاً بآيات بينات من الله تعالى تدلّ على رسالته، ومع ذلك بقيتم في شكّ منها ومن المعارف الإلهية التي جاءكم بها.

والإنسان ليس معذوراً إذا بقي في شك مع وجود الآيات البيّنات، ولا يصحّ له أن يعتذر أمام ربّه بأنّه لم يحصل له العلم فإنّ السبب في ذلك مع وجود الأدلة

ص: 432


1- الأنعام (6): 84 .
2- الأنعام (6): 89.

الواضحة والموضحة ليس إلّا متابعة الأهواء، والتوغّل في الشهوات، والتشكيك والوسوسة في المعارف الغيبية التي لا يشعر بها الإنسان عن حسّ . والمطلوب منه لدى الله تعالى أن يؤمن بالغيب، أي بما لا يشعر به عن حسّ . إذن فنفس الشكّ في الرسالة بعد مواجهة الأدلة الواضحة جريمة عند الله تعالى، بل جريمة عظيمة كما سيأتي. والشكّ بذاته وإن كان خارجاً عن إرادة الإنسان إلّا أنّ مقدماته التي أشرنا إليها اختيارية.

« حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا » يتبيّن من هذا الكلام أنّهم مع عدم إيمانهم بيوسف (علیه السلام) إلّا أنّهم كانوا في حرج وضيق من بقائه بين أظهرهم، ويتخوّفون من عدم إيمانهم به، ولعلّهم كانوا يحذرون نزول العذاب.

ويظهر منه أيضاً أنّهم لم يتعصّبوا ضدّه، ولم يتشدّدوا في مواجهته، ولذلك لم يعبّر عن عدم إيمانهم بالجحود والاستنكار، بل بقوا على شكّهم، كما أنّهم لم يتعرّضوا له بقتل أو إبعاد، و إنّما كانوا في ضيق من وجوده بينهم إلى أن توفاه الله تعالى ففرحوا بذلك، وظنّوا أنّ رسالة السماء إليهم انتهت بموته، وأنّهم لا يراد منهم بعد ذلك أن يؤمنوا بالغيب، وأن يلتزموا بأوامر ونواه من الله تعالى ممّا يكدر صفو عيشهم، ويحرمهم من كثير من أهوائهم وشهواتهم. وهكذا أبدوا فرحهم بذلك، وقالوا لن يبعث الله من بعده رسولاً.

وهذا كلّه ضلال في ضلال كما هو واضح فرسالة السماء مستمرّة لا تنتهي بموت الرسول، والغيب حقيقة لا بدّ من الإيمان به، سواء جاء الرسل أم لم يأتوا إلينا برسالة، و إنّما الرسل نعم من الله تعالى أنعم بهم على البشرية.

« كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ »، «ذلك» اشارة إلى ضلالهم وعدم

ص: 433

إيمانهم بما جاء به يوسف (علیه السلام) وكذا بما أتاهم بعده، أي بمثل هذا الإضلال يضلّ كلّ مسرف مرتاب في إشارة إلى سبب الإضلال وأنّه ليس إضلالاً ابتداء، بل هو جزاء عملهم.

ولعلّ الوصفين هنا أيضاً صفة واحدة نظير ما مرّ في الآية 28 في تفسير قوله تعالى « مُسْرِفٌ كَذَّابٌ »، أي يضلّ من يسرف في ارتيابه، فإنّ الإنسان ربّما يرتاب ويشكّ ويشكّك أيضاً في ما لا سبيل إلى العلم به من الحقائق، وأمّا بعد مواجهة الأدلّة القاطعة والبيّنة فالارتياب ليس إلّا إسرافاً وتجاوزاً عن الحدّ، لأنّه ارتياب في مقابل ما يستلزم العلم فهو كالشبهة في مقابل البديهة وأهل التشكيك يمكنهم إتيان الشبهات حتّى في الأمور المحسوسة القطعية والبديهيات العقلية.

وهذا الإصرار على مواجهة الحقّ بالباطل يستوجب استحالة الهداية والطبع على القلب، وهو المراد بإضلال الله تعالى، وهو جزاء لإسرافهم، بل هو نتيجة طبيعية. وكلّ ما هو طبيعي فهو من صنعه تعالى.

« الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ» السلطان مصدر كالسلطة، والمراد به الحجة والدليل. والجملة صفة للمسرف في ارتيابه المذكور في الآية السابقة، و إنّما أتى به بصيغة الجمع باعتبار المصاديق، فالمسرفون في ارتيابهم يجادلون، ويشكّكون في آيات الله الكونية، وفي دلالتها على قدرته وعلمه وحكمته، ويشكّكون في الآيات والمعجزات التي يرسلها تأييدا لرسله ويسمّونها سحرا، ويشكّكون في الآيات المنزلة على الرسل ليتلونها على الناس، ويقولون إنّهم لو شاؤوا لقالوا مثل هذا.

وهم لا يشكّكون على أساس علمي ومنطقي، فليس لهم سلطة علمية، و إنّما

ص: 434

یشكّكون جدلاً، وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً. وهذا الجدال المستمرّ بين المؤمنين والمرتابين لا يتمخّض عنه إلّا إصرار الكفرة على كفرهم والمؤمنين على إيمانهم، ويزيدهم بعداً عنهم وبغضاً لهم.

« كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا » المقت هو البغض الشديد. و « مَقْتًا » منصوب على التمييز. وفاعل «كَبُرَ»، ضمير عائد إلى الجدال المعلوم من قوله «يُجَادِلُونَ»، أي كبر هذا الجدال مقتاً وبغضاً عند الله وعند المؤمنين، فالله تعالى لا يرضى لعباده الكفر ، فكيف بالتشكيك الموجب لإضلال الناس، وهو بغيض عند المؤمنين أيضاً لأنّه محاولة لزعزعة إيمانهم، وهم يعلمون أنّ الإيمان أعظم نعمة حصلوا عليها على الإطلاق، فكلّ من يحاول سلبها منهم فهو من أبغض خلق الله إليهم.

« كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » ، «ذلك» إشارة إلى طبع قلوبهم، حيث لم يؤمنوا وبمثل ذلك يطبع الله على كلّ قلب متكبر جبار. وفيه إشارة إلى سبب الطبع على القلب وهو التكبر والجبروت فليس هذا من الجبر على الكفر والضلال، بل هو نتيجة طبيعية لعمله وخلقه الفاسد والطبع على القلب أمر طبيعي يحصل من معاندة الحقّ بعد معرفته ومعناه أنّه لا يتقبّل الحقّ بعد ذلك كأنّ قلبه ختم عليه فلا ينفتح لقبول ما يلقى عليه والطبع: الختم. قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ»(1).

والتكبّر أي التلبّس بالكبرياء. و إنّما وصف به المعاند لأنّ السبب الأساس في رفضه للإيمان بآيات الله ليس هو عدم اقتناعه بالأدلة والآيات، و إنّما هو الكبر

ص: 435


1- الأنعام (6): 110.

والإعجاب بالنفس فهو يرى نفسه أولى من الرسول بالمتابعة، ويعتقد أنّ الله تعالى لو كان باعثاً رسولاً لابتعثه. بل ربّما يظنّ بنفسه أنّه أولى بأن يشرّع القوانين، وأنّه ليس لأحد عليه سلطة وولاية كما يظنّه الإنسان المتحضّر في عصرنا عصر الجاهلية الحديثة، ولذلك يرفض تشريع السماء مطلقاً.

والجبّار مبالغة في الجبر ، أي قهر الآخرين وإجبارهم على ما يريد، في إشارة إلى أنّ هذا المسرف لا يكتفي بعدم إيمانه، بل يحاول إرغام الآخرين على الكفر. وهذا الإرغام ربّما يكون عن طريق سلطة عدوانية على الخلائق كما هو الحال في أكثر البلاد أو كلّها في العهود القديمة، وكثير منها في العصر الحاضر، وفي ذلك تعريض بفرعون، وربّما يكون عن طريق الدسّ والاحتيال والسيطرة على مراكز التربية والإعلام، حيث يؤثّر بعمق في نفوس الناشئة والشباب، ويسيطر على أفكارهم، وينتزع منهم القدرة على التفكير.

وقد وصل غسل الأدمغة إلى حدّ خارق للعادة في عصرنا الذي يدّعى عصر النور والمعرفة، فيسيطر الجبّار على عقل الشابّ المتحمّس لينتحر ويقتل في آن واحد أطفالاً أبرياء ويتقرّب بذلك إلى الله تعالى. وهذا غاية الجبروت البشري في مهاوي التضليل والإغواء.

وربّما يقال: إنّ الجبّار مأخوذ من الجبر، بمعنى الإصلاح لا القهر والإكراه، وأنّه يوصف به المتكبر لأنّه يحاول جبر شعوره بالنقص بالترفّع والتعالي على الآخرين. وهو بعيد والأوّل أنسب كما لا يخفى.

وقد وقع الكلام في قوله تعالى « كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » حيث إنّ كلمة «كلّ» تدلّ على التعميم في مدخولها وهو القلب مع أنّ المقصود التعميم على أفراد

ص: 436

المتكبر الجبّار لا أفراد القلب ومن هنا ورد في القراءات عن ابن مسعود أنّه قرأ الآية هكذا قلب كلّ متكبّر جبّار»، ولعلّه أراد بذلك بيان أنّهما بمعنى واحد كما قاله بعض المفسّرين القدماء منهم الطبري

ولهذا أيضاً قرأ بعضهم « كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » بتنوين القلب ليكون المتكبر الجبار وصفاً له ووجّهه بعضهم بأنّه كقوله تعالى «فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»، مع أنّ الإثم ليس من القلب، بل من الإنسان ككلّ. وقال الزمخشري إنّ هنا تقديراً وهو «كلّ ذي قلب» والظاهر أنّه لا حاجة إلى شيء من ذلك، فالمراد بالقلب النفس البشرية وهي التي تأثم وتتّصف بالصفات الحسنة والقبيحة، إنّما الكلام في أنّ هذه القراءة شاذة والمشهور قرؤوا بالإضافة.

وقال بعضهم إنّ التقدير «كلّ قلب كلّ متكبّر» فالتعميم من الجهتين وحذف «كلّ» الثانية لدلالة الأولى عليها. ولكن هذا غير صحيح لعدم دلالة الأولى عليها، فكلّ منهما تقتضي تعميماً في مدخولها.

وفي بعض التفاسير أنّ التعميم بلحاظ أجزاء القلب، فالمراد أنّ المتكبر الجبّار يطبع على قلبه من كلّ جهة طبعاً كاملاً بحيث لا تبقى فيه نافذة لقبول الهداية. ولكن كلّ المضافة إلى النكرة لا تفيد هذا المعنى بل تفيد كلّ أفراد القلب المضاف إلى أيّ متكبّر جبّار، وحيث إنّه ليس هناك لكلّ إنسان إلّا قلب واحد و نفس واحدة فالتعميم يكون بلحاظ أفراد المتكبر فقط. مضافاً إلى أنّ هذا التقرير يستلزم أنّ الحكم لا يشمل كلّ متكبر جبار، بل فرداً واحداً منهم.

فالصحيح هو ما ذكره بعض قدماء المفسّرين من أنّه لا يختلف التعبير من حيث المعنى بين أن يقال «قلب كلّ متكبّر» أو «كلّ قلب متكبّر».

ص: 437

سورة غافر(36 – 46)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)

«وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا »الصرح : البناء العالي الذي لا تستره أبنية البلد فيبقى ظاهراً وإن بعد عنك. والصراحة :الظهور والوضوح والأسباب جمع سبب : كلّ ما يوصلك إلى مقصود. فمراده أن يطّلع على طرق السماء بحثاً عمّن يدّعي موسى أنّه إله، وبهذه المناسبة أضاف الإله إليه وهو بذلك يوهم السامعين أنّ موسى (علیه السلام) يدّعي أنّ إلهه في السماء بمعنى الأجرام العلوية، وإن كان لم يصدر منه كلام

ص: 438

یدلّ على ذلك. ولعلّ الوجه في تمكّنه من هذا الإيهام هو ما تستدعيه حالة الطلب والدعاء من رفع اليد إلى السماء، أو الإشارة إليها حين التعبير عن الله عزّ وجلّ، فانتهز فرعون هذه النقطة لإيهام ذلك.

وربّما يستغرب من قوله « وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ » من جهة أنّ المتوقّع منه أن يؤكّد على ذلك ولا يعبّر بالظنّ. ولكن ذلك أيضاً مكيدة منه، فهو لم يبتدئ بالحكم عليه بصورة قطعية حتّى يوهم أنّه بصدد البحث واقعاً، وأنّه لا يحكم إلّا بالحقّ الواضح الصريح.

ويبدو أنّ هذا القول صدر منه بعد انصرافه عن قتل موسى (علیه السلام)، ففيه نوع تراجع عن موقفه السابق حيث عزم على قتله، فهو هنا يظهر أنّه يريد مواجهته (علیه السلام) بنوع من المنطق، وإن كان منطقاً فرعونياً.

وقد ورد هذا المعنى في سورة القصص أيضاً «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ »(1) ولم يكن فرعون جاهلاً كما ربّما يتوهّم بل كان يعلم أنّ موسی (علیه السلام) على حقّ لقوله تعالى في سورة الإسراء «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ »(2).

ويبعد أيضاً أن يكون ذلك للتمويه على السامعين وهم الملأ من قومه، فإنّهم كانوا يعلمون أنّ من يعنيه موسى (علیه السلام) ليس موجوداً محصوراً في مكان من السماء، وكانوا يعلمون أخبار الأمم السالفة وأقوال أنبيائهم، ولا أقلّ من أنّهم

ص: 439


1- القصص (28) :38 .
2- الإسراء (17) :102 .

كانوا يعلمون أنّ الصرح مهما علا وارتفع فإنّه لا يبلغ الجبال فكان بإمكانه الاستغناء بها.

ولذلك قال بعض المفسّرين : لعلّه أمر ببناء رصد ليرصد الأفلاك والنجوم و هو بعيد جدّاً وإن مال إليه العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) .

والظاهر أنّ هذا الكلام لم يكن إلّا استهزاءً منه برسالة السماء، وزيادة منه في الطغيان والتمرّد. ولذلك اقتصر القرآن في الردّ عليه أنّه قد زُيّن له سوء عمله وصُدَّ عن السبيل، ولكنّه في نفس الوقت يمكن أن يقصد به التمويه على السذج البسطاء من الناس، ونحن نجد إلى يومنا هذا أنّ الطغاة كثيراً ما يردّون على منطق المعارضة، ويفسّرون ويؤوّلون جرائمهم وأعمالهم الفاسدة بوجوه لا يقبلها العقل، ولا يصدقها أكثر الناس، ولكنّهم لضعف منطقهم وعدم تمكّنهم من الإتيان بوجه منطقي واضح يكتفون بذلك مكابرة حتّى لو لم يصدقهم أحد.

« َكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ» هذه الجملة تبيّن أنّ ما فعله فرعون كغيره ممّا يصدر من البشر تحت السيطرة والتقدير والتدبير، فكلّ ما يعتبر طغياناً على الله تعالى إنّما هو طغيان بلحاظ قصد الإنسان وسوء سريرته، وإلّا فلا يمكن لشيء أن يخرج عن سلطانه، وأن يعمل خارج نطاق إرادته تعالى. فما فعله فرعون كان بتزيين من الله، سواء أسند التزيين إليه تعالى أو إلى الشيطان، فإنّه أيضاً من الله لأنّه بإذنه تعالى. وقد نسب التزيين والتسويل - وهما واحد - في القرآن بصورة عامّة تارة إلى الله تعالى وأخرى إلى الشيطان وثالثة إلى نفس الإنسان.

ولكنّ الشأن فى أنّ هذا التزيين من الله تعالى أو بإذنه إنّما هو جزاء لطغيان الإنسان وإصراره على مجابهة الحقّ بالباطل، وليس جزاءً وضعياً، و إنّما هو أمر

ص: 440

طبيعي، فإنّ الإنسان إذا أصرّ على مجابهة الحقّ بالباطل ليتمّ له متابعة الأهواء والشهوات، لا يتمّ له ذلك إلّا بمحاولة التعتيم على نفسه وخداعها، فأوّل من يسوّل له هو نفسه الأمارة. وهكذا يستمرّ في ذلك حتّى يطبع على قلبه ويختم نتيجة إصراره، فلا يتقبّل إلّا الباطل الذي زُيّن له. وبذلك يتمّ أيضاً صدّه ومنعه عن سبيل الحق، وهو الذي سدّ على نفسه الطريق بسوء اختياره.

وهكذا كان فرعون فلم يستطع لكثرة ما حاك حول نفسه من حبائل الشيطان إن يرجع إلى صوابه ويسلك سبيل الحقّ مع أنّه كان يعرفه حق المعرفة.

« وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ »التباب : الخسران والكيد : المكر. ويظهر منه أنّ محاولة فرعون المذكورة إنّما كان يقصد بها المكيدة بالحقّ وأهله بغياً وعدواناً. وهذا من حمق الإنسان حيث يقابل ربّه ويبرز عضلاته أمام جبّار السماوات والأرض، ولكن كلّ كيد من هذا القبيل مصيره الخسران في الدنيا والآخرة.

« وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ» يبدو من كلام هذا الرجل العظيم أنّ خطابه بالأمر بالمتابعة موجّه إلى سائر القوم ولم يخاطب فرعون إذ يستبعد أن يأمره بالمتابعة، والسبب في ذلك أنّه يئس من التأثير في قلبه، كما يظهر ذلك أيضاً من تكراره نفس التعبير الذي عبّر به فرعون في خطاب قومه من أنّه يهديهم سبيل الرشاد، فالظاهر أنّه وجه الخطاب إلى الملأ من قومه فحسب.

ولعلّه كان يعلم أنّه لا يظهر هذا الكفر والعناد إلّا مع العلم بما هو الحقّ فعلم أنّه يواجه شيطاناً مكابراً فأعرض عنه، ووجه خطابه إلى القوم لعلّ فيهم من بقي فيه بصيص أمل للنجاة والاهتداء، ولم يكتف بذلك بل أمرهم بالإعراض عن فرعون، وهذا هو معنى قوله اتّبعون، أي لا تتبعوا فرعون بل اتبعوني. وحيث قال فرعون فيما سبق: « وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ » ردّ عليه المؤمن بأن ّسبيل الرشاد

ص: 441

هو ما أتّبعه وهو سبيل الأنبياء والمرسلين، لا سبيل الفراعنة والطواغيت.

« يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ» فصّل المؤمن بيان سبيل الرشاد، وهو الاهتمام بالآخرة، وأن لا ينظر الإنسان إلى الدنيا إلّا باعتبار كونها متاعاً مؤقتاً وممرّاً وطريقاً إلى الآخرة، وأنّ مستقرّ الإنسان هو حياته الأبدية في تلك النشأة والمتاع ما ينتفع به الإنسان لمدّة محدودة.

وأوضح أنّ ميزة الحياة هناك هي الجزاء على ما عمله الإنسان في الدنيا، فعليه أن لا يخصّص حياته للتمتّع بما في هذه الحياة، بل لا يتمتّع منها إلّا بمقدار الضرورة، ويكون غاية اهتمامه بما يترتّب على عمله من النتائج في الآخرة.

فمثل البشر في هذه الحياة كمثل قافلة نزلوا في مكان للراحة وأخذ الزاد للاستمرار في المسير، فينادي فيهم المنادي أن لا تشغلوا أنفسكم بالتلذّذ بمباهج هذه الروضة الخضراء، ولا تهتمّوا بما حولكم من المغريات، بل اجعلوا همّكم في جمع أكبر مقدار ممكن من الزاد والماء، ولكن أكثر القوم لا يجلب اهتمامهم إلّا المناظر الخلابة والتمتّع بمباهج الحياة، ولا ينتبّهون إلّا على صوت المنادي بالرحيل فيحاولون أن يجمعوا لهذا السفر الشاقّ الطويل زادً وماءً، وأنّى لهم ذلك فالركب لا ينتظرونهم.

وهكذا الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ليست إلّا متاعاً، ولكنّها في نفس الوقت مكان العمل لتلك الحياة الأبدية التي هي المستقرّ.

« مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ» بيان لنتيجة عمل الدنيا في الآخرة، وأنّ جزاء السيّئة سيّئة مثلها فلا يضاعف جزاء العمل السيئّ، وأمّا العمل الصالح فلا حدّ ولا حصر لجزائه.

ص: 442

وقوله « بِغَيْرِ حِسَابٍ»» يمكن أن يكون متعلقا ب- «يُرْزَقُونَ» فالمعنى أنّ جزاءهم في الجنة غير محدود، في مقابل مجازاة السيّئة بمثلها.

ويمكن أن يكون متعلّقا بقوله «يَدْخُلُونَ» والمراد أنّهم لا يتحمّلون أذى المحاسبة، بل يدخلون الجنة بغير محاسبة لأعمالهم. والأول أقرب.

ونبّه بقوله « مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى »على أمر غريب في ذلك المجتمع، بل حتّى في مجتمع نزول القرآن بل في كثير من المجتمعات المتخلّفة المعاصرة حتّى الذين يدعون الإسلام، حيث نجد أكبر الظلم على المرأة. وأمّا رسالة السماء منذ البدو فلم تفرّق بين الرجل والمرأة في كسب المنزلة والثواب لدى الله تعالى والقرآن يصرّح ويؤكّد على هذا الأمر في موارد كثيرة.

ويبقى هنا سؤال وهو أنّه ما المراد بكون جزاء السيّئة مثلها؟ والسيّئة ربّما تكون عملاً قبيحاً، وربّما يكون اعتقاداً كالشرك، أو قولاً بغير علم، فكيف يكون الجزاء مثل ما عمل والحال أنّ الجزاء هناك نار حامية وأمثالها وليس مثلاً للعمل ؟! ومن جهة أخرى فالعذاب هناك خالد أبدي ولا يشبه العمل الذي أتى به الإنسان في لحظة.

والجواب أنّ الأمور تنكشف هناك وتتجلّى على حقيقتها، فالعمل يبدو هناك على ما هو عليه في الواقع من الفظاعة والقبح. والجزاء إنّما يكون مثله على واقعه الفظيع الذي يبدو هناك، وليس مثله على ما هو عليه في الدنيا، فإنّه ربّما لا يستقبحه الإنسان، بل ربّما يستحسنه ويتباهى به .

فمثلاً القول بأنّ الله تعالى له ولد ليس فى الدنيا إلّا قولاً عابراً، وربّما يعتقد القائل حينما يعلن ذلك أنّه يدعو إلى حقيقة دينية، وأنّه يباشر عملاً رسالياً جليلاً، فيتقرّب به إلى الله تعالى مع أنّه في واقع الأمر فظيع جدّاً. والله تعالى يقول:

ص: 443

«وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا »(1).

« وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ » يبدو من هذا المقطع أنّه يئس من قومه أيضاً، ويبدو أنّهم بدلاً من أن يقبلوا كلامه ونصحه ردّوا عليه بدعوته إلى التمسك بعقائد الآباء ونحو ذلك ممّا تشتمل عليه الشعارات الزائفة، فأراد أن يتمّ الحجّة عليهم ويتركهم في ضلالهم يعمهون.

ومع ذلك لم يترك خطابه الأول حيث ناداهم مرّة أخرى بأنّهم قومه: ياقوم أي «يا قومي» مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار؟ فهو يريد أن يوبّخهم لأنّهم يدعونه إلى طريق مظلم لا نهاية له إلّا الهلاك والخسران، ولكنّه لا يبدأ كلامه بذلك بل يعبّر عن ذلك بما يستوجب التأنيب ويثير الاستغراب.

أليس غريباً أن يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار ؟ وهم بالطبع لم يدعوه إلى النار ولكنّه حيث ينتهى إلى النار فکأنّها دعوة إليها.

« َدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ »بيان للجملة السابقة، فإنّها مجملة لم يتبيّن منها ما هو الموجب للنجاة، وما هو الموجب للوقوع في النار. واعتبر الدعوة إلى عبادة غير الله تعالى كفراً لأنّ عبادة غيره لا معنى له إلّا اعتبار ربّ غيره تعالى ومقتضى ذلك أن تنسب بعض النعم إلى غيره تعالى، وهذا كفران بنعمه. وأمّا الشرك فاكتفى في بيان بطلانه أنّه اعتقاد بالألوهية من دون مستند. ولا حاجة إلى دليل لبطلانه، مع أنّ الدليل عليه واضح.

« وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ » وشتان بين الدعوتين !! ولعلّ ذكر الاسمين

ص: 444


1- مریم (19) :88- 91 .

الكريمين للتنويه على أنّه تعالى عزيز وغالب على أمره، فهو ليس بحاجة إلى عبادتكم ولكنّه في نفس الوقت غفّار للذنوب، فإن عدتم إلى رشدكم وتركتم عبادة غيره وتوجّهتم إليه تاب عليكم.

« لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ »، «« لَا جَرَمَ »تركيب يفيد أنّ ما بعده أمر قطعي لا شكّ فيه. واختلف في جذور هذا التركيب، وأحسن ما قيل: إنّ «لا» تفيد نفي ما سبق أو نفي كلّ ما يتوهّم مخالفاً لما بعدها، ومثلها «لا أقسم». ثمّ الجرم بمعنى أنّه قطعي لأنّه في أصل اللغة بمعنى القطع.

ومهما كان فمراد الرجل المؤمن من هذه الجملة واضح ، وهو أنّه لا شك ولا ريب في أنّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة. قيل: المعنى أنّه لا يدعو إلى نفسه لأنّه جماد وهذا خاصّ بالأصنام. وقيل: المراد أنّه ليس هناك رسول يدعو إليه. ويمكن أن يكون المراد أنّه لا ينبغي أن يدّعى لأمر الدنيا ولا لأمر الآخرة، فالمراد أنّه لا يستجيب دعوة أحد لأمر من أمور الدنيا ولا الآخرة.

« وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ » بعد أن نفي أيّ فائدة تعود إلى الإنسان في متابعة من يدعون إليه بيّن أنّ السعادة إنّما هي في تأمين الحياة الأخرى الأبدية، والتي هي عاقبة أمر الإنسان ومستقبله المحتوم. وحيث إنّ مردّنا ومرجعنا إلى الله تعالى فلابدّ من امتثال أوامره لنحظى بالحياة السعيدة لديه.

«وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ » لعلّ التعبير بالإسراف باعتبار أنّ الذي يدعو إلى غير الله تعالى، ويعتبره شريكاً له في الربوبية قد أسرف وتجاوز عن الحدّ في التوجه إلى غير الله حتّى اعتبره شريكاً له في الربوبية.

والجملة بمقتضى ضمير الفصل تدلّ على انحصار أصحاب النار في من

ص: 445

تجاوز الحدّ، والوجه في ذلك، إمّا أنّ كلّ ما يوجب دخول النار تجاوز عن حدّ العبودية وعصيان لأمر الله تعالى، أو لأنّ أصحاب النار هم الخالدون، فيها فلا يشمل العصاة من المؤمنين.

« فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ » في الجملة تهديد وإنذار واضح بأنّهم سيلقون ما يشير إليه من عذاب الله في الحياة الأخرى، ويتذكّرون نصحه ووعظه، ولكن بعد فوات الأوان.

ثمّ أعلن بقوله « وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ »أنّه لا يخاف تهديدهم وبطشهم لأنّه يفوّض أمره إلى الله تعالى، وهو يضمن له السعادة، فإن كانت سعادته في استشهاده بأيديهم فإنّه مستعدّ للتضحية، وإن أراد الله إنجاءه من أيديهم فإنّه قادر على ذلك.

والتفويض مرحلة من الإيمان بالله تعالى تفوق التوكّل فکأنّه ترك الأمر لا يهتمّ به، وهو واثق أنّ ما يحصل له هو الخير كلّه، وليس معنى ذلك أنّه لا يعمل بما يجب عليه من حفظ النفس ودفع الضرر، كما أنّ المتوكل أيضاً يفعل ذلك، و إنّما لا يهتمّ ولا يحزن بالنسبة إلى ما لا دخل لإرادته فيه ولا يمكنه عمل تجاهه. ثمّ علّل تفويضه ذلك بأنّه واثق من أنّ الله تعالى بصير بالعباد وبما يحتاجون إليه وبما يصلح شأنهم، وهم عباده فلا يريد لهم الشرّ، فلا حاجة إلى أيّ محاولة بعد تفويض الأمر اليه.

« َوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا » يتبيّن من الآية أنّ القوم أرادوا به شراً، وهو ما يبدو أيضاً من تفويضه الأمر إلى الله تعالى والفاء في أوّل الجملة تفيد التفريع، وأنّ ذلك كان نتيجة تفويضه أمره إلى الله تعالى فوقاه الله شرّ ما أرادوا به من سوء. بل يبدو

ص: 446

أنّهم أرادوا به وجوهاً من العذاب، حيث أتى بلفظ الجمع « سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا».

روى الصدوق (رحمه الله ) بسنده عن الإمام الصادق (علیه السلام)«عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع... وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع...« وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ » فإنّي سمعت الله جل وتقدّس يقول بعقبها: « فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا» ». (1)

ولكن ورد في بعض الروايات تفسير آخر للوقاية. فقد روى الكليني في «الكافي » بسنده عن أيوب بن الحرّ، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عزّ وجل: « فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا» فقال: «أمّا لقد بسطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه». (2)

وروى مثله البرقي في «المحاسن». وفيه «لقد سطوا عليه». (3) وفي التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم وقوله: « فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا» یعنی مؤمن آل فرعون فقال أبو عبد الله (علیه السلام) «والله لقد قطّعوه إربا إرباً ولكن وقاه الله أن يفتنوه في دينه»

وربّما يستفاد ذلك أيضاً من تعبير الآية، حيث إنّ مفادها أنّه تعالى وقاه سيّئات مكرهم ومكائدهم لا كلّ ما مكروا به فتدلّ الآية على أنّهم تفنّنوا في تعذيبه بوجوه من العذاب، وكان غرضهم الأوّل أن يفتنوه عن دينه فوقاه الله ذلك. والله العالم.

« وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ» وفي المقابل حاق بآل فرعون ومنهم هو نفسه ء العذاب. وحاق يحيق أي نزل به عاقبة فعله أو مكره، قال تعالى: « وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ»(4) .وقيل: بمعنى أحاط به وعليه. فلعلّه - بناء على ذلك -

ص: 447


1- الفقيه 4: 392 .
2- الكافي 2 :215 .
3- المحاسن 5: 260 .
4- فاطر (35) :43 .

مأخوذ من الحوق وهو بمعنى الإحاطة فقلب ياءاً. وسوء العذاب بمعنى أنّه أسوأ ما يكون منه ثمّ بيّن ذلك في الآية التالية.

« النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا» الألف واللام للعهد، أي النار المعهودة وهي جهنّم، وهي مأواهم يوم القيامة، ولكن يعرضون عليها عدواً وعشيّاً لمزيد من التنكيل والنكاية، جزاءً لإصرارهم على الكفر بعد أن أتمّ الله عليهم الحجّة بوجوه عديدة، ومنها كلام صاحبهم هذا وهو منهم.

والعرض بمعنى إظهار شيء لأحد ليراه إمّا لشراء، أو زواج، أو أيّ غرض آخر. والغرض هنا إراءة الجزاء والمقرّ النهائي، والتعبير من باب القلب فإنّ النار تعرّض عليهم ليروها دون العكس. ولعلّ الوجه فيه تصوير جهنّم وکأنّها موجود شاعر تطلب الكفّار وتتوعّدهم نظير قوله تعالى: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ »(1).

والآية ممّا تدلّ بوضوح على مرحلة من التكوين هي عالم البرزخ، كما ورد في قوله تعالى: « وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(2). وهناك آيات كثيرة تدلّ على ذلك بالنسبة للأخيار والأشرار، فمن الأول قوله تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ »(3)، ومن الثاني هذه الآية بقرينة مقابلة العرض على النار لما يحدث يوم القيامة من الأمر بإدخالهم أشدّ العذاب ممّا یدلّ على أنّ العرض قبله.

ص: 448


1- ق (50): 30 .
2- المؤمنون (23): 100 .
3- آل عمران (3): 169 .

ولعلّ المراد بقوله « غُدُوًّا وَعَشِيًّا» الاستمرار والتكرار لا خصوص الصباح والمساء، فإنّهما من شؤون هذه الحياة. ولكن ورد في بعض الروايات أنّ ذلك إنّما يعذبون به في الحياة الدنيا، فلو صحّ كان المراد بالغدوّ والعشيّ الصباح والمساء حقيقة. ولكنّ الرواية مرسلة، ووردت في «تفسير علي بن إبراهيم». واستناد الكتاب إليه غير ثابت.

ومهما كان فالعرض على النار نوع من العذاب. ويبدو من مجموع الآيات أنّ عذاب البرزخ ليس لكلّ الناس، بل خاصّ بأمثال آل فرعون حيث يعرضون على النار. وأمّا عامّة الناس فيرون أنّهم إنّما بقوا بين الموت والحشر مدّة قليلة كما تدلّ عليه آيات كثيرة كقوله تعالى «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا»(1).

وورد في «الكافي » عدّة أحاديث بعضها معتبرة سنداً بهذا المضمون «لا يُسْأَلُ في الْقَبْر إلّا مَنْ مَحَضَ الإيمان مَحْضاً أو مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً والآخَرُونَ يُلْهَى عنهم»(2)

« وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»، أي يقال: « أَدْخِلُوا » والقول هناك كما قلنا مراراً بمعنى الفعل. وفرعون داخل بنفسه في الآل. ويبدو من التعبير أنّ عذابه وعذاب من كانوا معه من أشدّ العذاب يوم القيامة، فالأشدّية على ما يبدو بالقياس إلى سائر أنحاء العذاب في ذلك اليوم لا بالقياس إلى عذاب الدنيا أو البرزخ.

ص: 449


1- النازعات (79): 46 .
2- الكافي 3: 235.

سورة غافر ( 47 – 55)

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)

« وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ». «تبع» مصدر في الأصل ويطلق بمعنى التابع. ولذلك يستوي فيه المفرد والجمع. والنصيب : الحظّ والجزء المحدد من الشيء والنصب : الإقامة والتحديد. والمراد هنا تحمّلهم جزءاً معيناً من العذاب.

واختلف المفسّرون في أنّ الضمير في قوله « يَتَحَاجُّونَ » هل يعود إلى آل فرعون خاصّة لأنّهم ذكروا قبله أو أنّه عامّ؟ ولا جدوى في هذا البحث إذ لا شكّ في أن الحكم عامّ، وقد تكرّر في القرآن الكريم احتجاج المستكبرين والمستضعفين من أهل النار، ومنهم فرعون وقومه بلا ريب.

ومهما كان فإنّ الأتباع يريدون أن يخفّفوا شيئاً من وطأة العذاب عليهم، أو يريدون إلقاء اللوم والعتاب على أسيادهم فممّا يقولون لهم أنّنا كنّا أتباعاً لكم

ص: 450

في الحياة الدنيا، وكنتم تعدّوننا بأنّكم ستنصروننا وتدافعون عنّا، وتؤكّدون أنّه لا شيء هناك يهدّدكم، ولا احتمال لوجود عالم آخر وراء الحياة الدنيا، أو أنّ لكم عند الله كرامة، وغير ذلك ممّا يعدّ به الأسياد أتباعهم ليبتزّوا أموالهم، أو ليحظّوا بمتابعتهم وإطاعتهم، فيطالبونهم يوم القيامة بأن يتحمّلوا شيئاً من عذابهم تنفيذاً لوعودهم.

« قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا » وهكذا يأتيهم جواب المستكبرين ممّا يحكي عن ذلّهم وانكسار جبروتهم « إِنَّا كُلٌّ فِيهَا » أي إنّنا هنا متساوون في العجز والضعف والعذاب. وليس معنى ذلك عدم اختلافهم في دركات الجحيم، إلّا أنّ الجميع تجمعهم النار والذلّ والانكسار فليس هنا مستكبر ومستضعف.

« إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ »، أي جعل كلّ إنسان في موضعه الحقيقي، و إنّما كنّا ندّعي ما ندّعي حين كان الأمر مستوراً على البشر، فإنّ الشؤون غير معلومة في عالم الدنيا وأمّا في الآخرة فتبدو الحقائق كما هي، وربّما كان الإنسان في الدنيا يبدو قوياً مستعلياً وهو في واقع الأمر في غاية الذلّ والهوان والضعف، وربّما يكون بالعكس. وهكذا في سائر الجهات.

« وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ» يتبيّن من الآية يأس الذين في النار عن النجاة منها، فتوسّلوا بالملائكة الموكّلين بالنار وطلبوا منهم أن يدعوا الله تعالى أن يخفّف عنهم العذاب يوماً ما. والمراد باليوم قطعة من الزمان، إذ ليس هناك يوم بالمعنى المعهود هنا ولم يطلبوا إيقافه نهائياً، بل تخفيفه في يوم مّا، وهذا غاية القناعة، فالمراد بالآية بيان أنّ أهل النار لا يخفّف عنهم العذاب حتّى يوماً واحداً كما صرّح به في عدّة من الآيات كقوله

ص: 451

تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا»(1).

ومقتضى السياق أن يقال وقال الذين في النار لخزنتها، ولكن عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر، وأبدل الاسم من النار إلى جهنم لمزيد من التهويل.

« قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى» يبدو أنّ الغرض من هذه المقدمة في الجواب بيان الوجه في عدم استجابة الدعاء، وهو إتمام الحجّة عليهم بإرسال الرسل، وأنّهم قاموا بواجب أداء الرسالة بأحسن وجه، فأتوهم بالأدلة البينة الواضحة، والمعجزات الباهرة التي لا تبقى عذراً للانسان فسألوهم استفهام تقرير: أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات؟

والواو في « أَوَلَمْ » للعطف، أي عطف كلام الملائكة على كلام الكفّار، ومعناه أنّه كان ينبغي لكم أن تذكروا في دعائكم هذه النقطة التي تدلّ على إتمام الحجّة ، ولكن لم تذكروها لأنّها تمنع من استجابة الدعاء.

وفي قولهم: « تَكُ تَأْتِيكُمْ » بدلاً من «تأتكم» إشارة إلى استمرار الرسالات وتعاقبها، فإنّ « تَكُ »مخفّفة من تكن ومعناه أن الرسالات كانت تأتي باستمرار لا أنّها أتت وانتهت.

و « بَلَى» كلمة جواب تأتي بعد النفي وتفيد الإثبات فهم يعترفون هناك بإتمام الحجّة عليهم، إذ لا مجال اليوم للإنكار فهم أنكروا في الدنيا وكفروا بالرغم من وجود الأدلّة الواضحة طغياناً وعلوّاً.

« قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ » قيل: إنّ الملائكة طلبوا منهم أن يدعوا بأنفسهم، لأنّ الملائكة لا يدعون في مثل هذا الحال، ولكنّ الظاهر من

ص: 452


1- فاطر (35): 36 .

الجواب الإشارة إلى نفس الدعاء الذي تقدّموا به بواسطة الملائكة، أي اطلبوا تخفيف العذاب كما طلبتم ، فإنّه غير مقبول بعد إتمام الحجة من الله تعالى.

والمراد بدعاء الكافرين ليس هذا الدعاء فحسب بل مطلق دعائهم. والظاهر أنّ المراد بالضلال أنّهم لا يعلمون ماذا يدعون ومتى يدعون، فإذا سنحت لهم فرص الإجابة لا يدعون بالهداية والمغفرة والنجاة من النار، و إنّما يدعون بالمال والجاه، وما يفيدهم في الدنيا ويضرّ آخرتهم و إنّما ينتبّهون للدعاء بالمغفرة يوم لا يقبل الدعاء.

« إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ» الجملة مؤكدة ب-«إنّ» ولام القسم. وهي نظيرة ما ورد في قوله تعالى «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ *وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ »(1) . ولكنّ الآية هنا تصرّح بأنّ الله تعالى ينصر رسله في الدنيا، بل ينصر الذين آمنوا في الدنيا أيضاً. ولا شكّ في أنّه ليس المراد نصرة كلّ فرد من المؤمنين يواجه كافراً في حرب ولو شخصية. ولو كان الله ينصر كلّ مؤمن على عدوّه في كلّ مواجهة لكانت هذه ميزة واضحة للمؤمنين ولآمن الناس جميعاً ولارتفع الامتحان والابتلاء. وكذلك نصرته للرسل ليست نصرة شخصية في أي مواجهة.

وعليه فيمكن تحقّق مصداق النصرة بوجوه:

منها: نصرة الرسالة والإيمان في مقام الاحتجاج والاستدلال بالبراهين الساطعة والآيات الواضحة.

ومنها: الانتقام للرسل والمؤمنين من أعدائهم الظالمين والمعتدين بإنزال

ص: 453


1- الصافات (37): 171 - 173 .

العذاب عليهم من السماء إن لم يتحقّق بأيدي المؤمنين. والله تعالى يعتبر ذلك أيضاً نصرة لهم. كما قال تعالى في قوم موسى وهارون (علیهما السلام) «وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ » (1)، مع أنّهم لم يغلبوا فرعون وجنوده في حرب.

ومنها: نصرة الرسل والمؤمنين في النهاية والعاقبة على جنود الكفر. وهذا قد تحقّق في عدّة مواطن، ولكنّ النصرة الكاملة لكلّ الرسالات تحصل بظهور صاحب الأمر - عجل الله تعالى فرجه الشريف -.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد من النصرة ما يعمّ انتصار الهدف، فالذي يقتل في سبيل الله تعالى كسيد الشهداء الإمام الحسين - عليه أفضل الصلاة والسلام - غير مهزوم، لأنّ هدفه هو الغالب في النهاية حتّى لو تمكّن الظالمون من قتله وقتل أهل بيته وأصحابه (علیه السلام) ، بل إنّه بلغ هدفه من نهضته من أول الأمر، حيث كان يقصد بها منع بني أمية من هدم أساس الدين، وكان هذا أمنيتهم وبغيتهم.

ومهما كان فالآية على ما يبدو تشير إلى نصرة الله لمؤمن آل فرعون ولموسى (علیه السلام)وبني إسرائيل.

وقد عبّر في هذه الآية عن يوم القيامة بيوم قيام الأشهاد، وهو جمع شاهد ولعلّ المراد بهم الرسل والأئمة ، إمّا بمعنى أنّهم يشهدون على أعمال الأمّة حيث تعرّض عليهم كما في الروايات أو لأنّ الله تعالى يحتجّ على العباد بسيرتهم وأعمالهم فتكون سيرة الرسول والإمام كالشاخص والأنموذج تقاس به أعمال الناس. وعلى ذلك ربّما يدخل في هذا المعنى كلّ من يحتجّ به على سائر الناس من عباد الله الصالحين والشهداء.

ص: 454


1- الصافات (37): 116 .

« يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ » بيان ليوم قيام الأشهاد، حيث إنّه بقيامهم تثبت الحجّة التامّة عليهم فلا يقبل منهم اعتذار. ولا ينافي ذلك قوله تعالى «وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » (1)، بل هما في سياق واحد فلا حاجة إلى تأويل، إذ يمكن أن يقال: إنّ عدم الإذن لهم من جهة إتمام الحجّة عليهم وعدم الجدوى لاعتذارهم.

« وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» .« اللَّعْنَةُ » هى البعد عن رحمة الله تعالى. و « سُوءُ الدَّارِ» من إضافة الصفة إلى الموصوف، والسوء مصدر يقصد به الصفة، فالمعنى لهم الدار السيّئة وهي جهنّم نعوذ بالله منها.

ويتبيّن من هذه الآية أنّ المراد بنصرة الرسل والذين آمنوا يوم القيامة هو التنكيل بأعدائهم، بدواً من رفض أي اعتذار، وتثنية باللعنة الأبدية، وانتهاءً باستقرارهم في دار السوء، أي دار ليس فيها إلّا ما يسيء لساكنها. ويمكن بالتناسب أن يفهم منه أنّ النصرة في الدنيا أيضاً من هذا القبيل، وهو إنزال العذاب الأليم على أعدائهم في النهاية.

« وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ » بيان لمورد من موارد النصرة الإلهية لرسله ليكون شاهداً على ذلك، وهو الإنعام على موسى (علیه السلام) بالهداية المستمرّة في كلّ موقف من مواقفه مع فرعون أو مع قومه المعاندين، مضافاً إلى الكتاب الذي زوّده الله تعالى به، وهو التوراة. وأورثه بني إسرائيل يتوارثونه جيلاً بعد جيل.

« هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ » حالان من الكتاب أي أورثناهم التوراة، وهي مشتملة على ما يحتاجونه من تشريعات إلهية لجميع شؤون حياتهم. وهي إلى

ص: 455


1- المرسلات (77): 36 .

الآن وبالرغم ممّا طرأ عليها من تحريف وتغيير لا تخلو من الأحكام الإلهية الصحيحة، وإن كان قسم كبير منها منسوخاً بشريعة سيّد المرسلين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومع ذلك فالخطوط الأصلية الواضحة تبقى هادية ومذكرة لأولي الألباب.

و«اللبّ»: العقل، فهي تهدي من يتّبع عقله السليم وفطرته السليمة إلى ما لا يصل إليه من حقائق غيبية، وتذكّره بما تدلّه إليه فطرته، وإن تناساها لمتابعة الأهواء وتشكيك المضلّين. وذكر هذا الشاهد بعد تعميم النصرة للرسل يؤيّد أنّ المراد بالنصرة ما يشمل الهداية وقوة الاستدلال والحجّة.

« فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» تصدير الفاء یدلّ على أنّ ما بعده كالنتيجة لما قبله فإذا كان وعد الله لنصرة رسله شاملاً وعامّاً، وقد نصرهم الله فعلاً في كلّ المواطن، فاصبر على ما تلقّاه من الأذى والعناد من الأعداء، فإنّ وعد الله بالنصر حقّ لا ريب فيه كما يشهد له نصره تعالى لموسى (علیه السلام) والمؤمنين من بني إسرائيل. والصبر بمعنى الثبات والمقاومة هو الشرط الأساس لتحقق النصر الإلهي.

« وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وهذا هو الشرط الثاني. والحكم عامّ يشمل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وغيره، فمن أراد النصر عليه أن يستغفر من ذنوبه. والنبيّ معصوم لا ذنب له، إلّا أنّه يمكن أن يكون المراد به ما يكون ذنباً بالنسبة لمقام قربه، فالذي يعصم الله عنه رسله وحججه إنّما هو الذنب الذي يبتلى به عامّة الناس، وهو المحرّم في الشريعة، وأمّا ما يعتبر بحسب مقام قربهم ومكانتهم لدى الله سبحانه ذنباً فليسوا معصومين عنه، ولذلك تختلف مراتبهم ومقاماتهم حسب ابتعادهم وتنزههم عن الذنب بهذا المعنى، وهو يحصل بأدنى توجّه إلى النفس وميوله حتّى لو كانت

ص: 456

مباحة، بل ربّما يكون الأمر مستحبّاً ومطلوباً لسائر الناس، وذنباً للمقرّبين. ولذلك قيل حسنات الأبرار سيّئات المقربين فصلاتنا مثلاً حسنة لنا، ولا شك في أنّ الرسول والإمام إذا صلّيا مثل هذه الصلاة الفاقدة للمعرفة وللتوجّه إلى الله سبحانه لا تقبل منهم، بل يعدّ من سيّئاتهم التي يجب الاستغفار منها.

هذا ويمكن أن يكون المراد بالذنب هنا خاصّة استبطاء النصر الإلهي فهذا الأمر كان يحصل للرسل قال تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا»(1) ، وقال تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ »(2) ، وهذا أيضاً أمر طبيعي يدور في خلد الرسل بما أنّهم بشر، ولا يقولون أكثر ممّا ورد في الآية « مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» ولكنّه يعدّ بالنسبة لهم ذنباً.

وعلى هذا الاحتمال فلا ضرورة في أن يعدّ الاستغفار هنا أحد شروط النصر، فإنّ مناسبة الأمر به هنا هي التنبيه على أنّه لا ينبغي للنبيّ أن يستبطئ نصرة الله سبحانه.

« وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ»على تقدير كون الاستغفار شرطاً للنصر، فهذا أيضاً شرط ثالث، وعلى الفرض الأخير يعتبر مكملاً للاستغفار، فعلى المؤمن أن يتحلّى بتسبيح الله تعالى وتحميده بعد تخلّيه عن الآثام والذنوب و آثارها.

والتسبيح تنزيه الله سبحانه عن كلّ ما لا يليق به من الصفات. والباء

ص: 457


1- يوسف (12): 110 .
2- البقرة (2): 214 .

للمصاحبة، أي يجب أن يكون التنزيه مصاحباً للثناء عليه تعالى بالصفات الحميدة التي أثنى بها الله على نفسه والعشيّ هو أوّل الظلام، والإبكار أوّل الصباح، فيمكن أن يكون إشارة إلى ما ورد في قوله تعالى «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ » (1) ، وورد الحثّ في الروايات على أن يقال في هذين الوقتين «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، ويميت ويحيي، وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير» عشر مرات، بل ورد الأمر بقضائه مع النسيان وحكي عن بعض الفقهاء القول بالوجوب لمكان الأمر. ويمكن أن يكون المراد بالعشيّ والإبكار الاستمرار على ذلك، فيكون كناية عن الدوام فإنّ المؤمن يجب أن لا ينسى ربّه أبداً ويذكره دائماً.

ص: 458


1- ق (50): 39 .

سورة غافر( 56 – 59)

إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)

هذه الآيات تتّبع ما سبقها، فإنّ السياق يؤكّد على نصرة الله لرسله وللمؤمنين. وقلنا إن النصرة الواضحة هي نصرتهم في أعلاء كلمتهم بالحجة والبرهان ولا ينحصر النصر في المواجهة المسلّحة، بل بملاحظة هدف الدين وهو الإرشاد والهداية يتبيّن بوضوح أنّ النصر فيه ينحصر في قوة الحجة والبرهان، والغلبة بذلك على الإفكار المعادية ليتسنّى للإنسان انتخاب طريق الدين، والإيمان بالله وبالرسالات بحُرِّيَّة، إذ لا إكراه في الدين ولا يمكن فيه الإكراه، ولا ينفع.

وعلى ذلك وردت الآية الأولى من هذه الآيات ليطمئنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنون بأنّ المعادين للرسالة الذين يجادلون في آيات الله تعالى ويرفضون الانصياع لها - والمفروض أنّ الآيات هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله ومعرفة صفاته ورسالاته _ لا يملكون في ذلك حجّة وبرهاناً، وليس رفضهم لعدم اقتناعهم بها، و إنّما يرفضون ويجادلون لما تمكّن في نفوسهم من الكبر والخيلاء. فإنّ هذا الإنسان الصغير الحقير إذا نظر في عطفه وأعجبته نفسه تصاغر في عينه كلّ الكون على عظمته.

ص: 459

« إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ» ، المجادلة والجدال هو المنازعة بالكلام بشدّة وقوّة سواء كان بحقّ أو بباطل وأصل الجدل الاستحكام والمراد به هنا ما يلازم الجدال وهو الرفض وعدم الانصياع والمراد بالسلطان الحجّة والبرهان لأنّه هو الموجب لتسلّط من له الحجّة على الموقف. وقوله « أَتَاهُمْ» وصف للسلطان، أي لم يؤتهم الله تعالى سلطاناً وحجّة، فهو إشارة إلى أنّهم يقابلون من له سلطان وهداية من الله تعالى، ولا شكّ في أنّ الذي يقابل من هداه الله تعالى لا يملك رصيداً يعزّز موقفه في الاحتجاج.

« إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ »، الكبر من الصفات النفسية وموضعه النفس. ولكن يعبّر عنها في العرف بالقلب لما يجدونه من تأثّر القلب - أي العضو الخاصّ - بالأمور النفسية المحزنة والمفرّحة وغيرهما. وحيث إنّ القلب موضعه الصدر يعبّر به عن النفس أيضاً. فالمراد أنّهم يجدون في أنفسهم كبراً ما هم ببالغيه والظاهر أنّه وصف للكبر ، أي أنّهم يشعرون بكبر لم يبلغوه ولن يبلغوه أبداً كما هو مفاد قوله « مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ».

وهناك فرق كبير بين أن يستشعر الإنسان لنفسه صفة من صفات الكبراء لم يبلغها ولكنّه مؤهل لبلوغها، وبين أن يجد في نفسه كبراً لن يبلغه أبداً. وهذا هو صفة من يستكبر عن قبول الحقّ ويترفع عن عبودية ربّه وإطاعته، فهو نظير إبليس في خيلائه واستكباره عن طاعة الله جلّ وعلا. ولذلك أمر الله نبيّ أن يستعيذ بربّه منه كما يستعيذ به من الشيطان الرجيم.

والتعليل بالوصفين الكريمين السميع والبصير لعلّه من جهة أنّ خطر المتكبّر على المجتمع ينشأ من أفعاله وأقواله والله السميع لأقواله والبصير بأفعاله له

ص: 460

بالمرصاد في ما يفعله ويقوله. وضمير الفصل مع الألف واللام يقتضي الحصر، فلا سميع ولا بصير بقول مطلق إلّا الله تعالى والاستعاذة لا تصحّ إلّا بمن يسمع كلّ صوت ويرى كلّ شيء.

« لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ »في هذه الجملة احتمالان :

الأول: أن يكون المراد بها تنبيه الإنسان على ما يوجب استصغاره لنفسه، فإنّ الإنسان إذا لاحظ عظمة الكون وكبره ، وهو المراد بالسماوات والأرض يستصغر نفسه، ويحتقرها ويخضع لعظمة خالق الكون ربّ السماوات والأرض وما بينهما. ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، والمراد أنّهم لا ينتبّهون لحقارتهم قبال عظمة الكون فيعجبهم شأنهم.

والثاني: أنّ المراد الاستدلال على بعض ما يجادل فيه المستكبرون وهو المعاد. وهو أهمّ شيء عقائدي كان الوثنيون في جزيرة العرب ينكرونه. وإنكاره يستوجب أكثر المفاسد، حيث لا يجد الإنسان من نفسه وازعاً عن ارتكاب المآثم.

وأساس الاستدلال ردّ استغرابهم وإنكارهم لإعادة الحياة بعد الموت بأنّ خلق السماوات والأرض - أي الكون بأجمعه - وإبداعه من أول الأمر أهمّ وأصعب من خلق الناس ثانية وإعادة حياتهم وتكوينهم. كما قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»(1).

والسرّ في كون خلق السماوات والأرض أهمّ وأصعب من المعاد أنّه بدء

ص: 461


1- الروم (30): 27 .

للخليقة من العدم، ولا شكّ أنّ إيجاد شيء من العدم - أي من دون سبق أنموذج أو مادة - أعظم وأهمّ وأصعب بالقياس إلى أذهاننا من إعادة شيء إلى حالته السابقة. ولا يراد بذلك الصعوبة والهوان عند الله تعالى، فإنّه لا تختلف لديه الأمور وقدرته تعالى لا تتحدّد بشيء.

وهذا الاحتمال أقرب من الاحتمال الأوّل، وعدم معرفة الناس وجهلهم بذلك أوضح.

« وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ »، لا يبعد أن يكون هذا تشبيهاً للمتكبّر المعجب بنفسه بالأعمى، والمؤمن العارف لقدره بالبصير، فإنّ المتكبّر أعمى القلب لا يرى صغر نفسه وحقارتها، ولا عظمة ما سواه من الكون كالأعمى الذي لا يمكنه تحديد موضعه، ولا يرى جسمه بخلاف المؤمن فإنّه بصير بنفسه وبغيره. وهما لا يستويان إذ لا شكّ أن نتيجة العمى والجهل هو الكبر والخيلاء، ونتيجة البصيرة أن يعرف الإنسان قدره فيتواضع.

« وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ » ، أي لا يستوي المؤمن والمسيء. و إنّما أعاد كلمة النفي لطول الصفة الأولى والظاهر أنّ ذكر الفريقين لتطبيق عنوان الأعمى والبصير عليهما. وذكر العمل الصالح يفيد أنّ مجرّد الإيمان لا يوجب البصيرة الكافية، و إنّما يوجبها إذا بلغ حدّاً يبعث الإنسان على العمل الصالح ويبعده عن التوغّل في المعاصي. والمسيء في مقابل المحسن، أي من يأتي بالأعمال السيئة.

« قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ » فالمذكّرات والمنبّهات ليست قليلة، ولكنّ الإنسان المتذكّر لما تمليه عليه الفطرة السليمة قليل. و ما زائدة تفيد التأكيد في القلّة، أي

ص: 462

تتذكرون قليلاً. والخطاب لنوع الإنسان.

والتذكر في مقابل النسيان فلعلّ المراد أن الغالب في البشر نسيان أصله وما خلق منه، ونسيان جهله وضعفه وفقره قبل أن يعلّمه الله ويقويه ويغنيه، ونسيان نعم الله تعالى عليه، ونسيان العهد الذي أخذه الله تعالى في الأزل وأودعه فطرته :فقال: ألست بربكم قالوا بلى. و إنّما يتذكر المؤمن البصير الذي يعمل الصالحات.

« إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا» المراد ب- «السَّاعَةَ» مرحلة فناء هذا النظام الكوني أو مرحلة قيام النظام الجديد والساعة قطعة من الزمان. والظاهر أنّها تطلق على الزمان القصير الذي يمرّ مسرعاً فاطلق بهذا الاعتبار على يوم الفناء أو القيام لسرعة حدوثه كما قال تعالى «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ »(1).وقد أكّد الآية المباركة ظهور الساعة بحرف إنّ ثمّ بلام القسم، ثمّ بقوله تعالى لا رَيْبَ فِيهَا .

والريب: الشكّ. أي لا ينبغي الريب فيها لوضوح أدلّتها وقيام البراهين عليها في القرآن الكريم، فلا ينافي ذلك وجود الشكّ في قلوب الناس ويمكن أن يكون المراد أنّها حين تقع واضحة بينة لا يشكّ فيها أحد، بل لا يبقى مجال للشك آنذاك فى سائر الحقائق.

« وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ »استدراك عن نفي الشكّ في قيام الساعة بناءً على المعنى الأول في قوله « لَا رَيْبَ فِيهَا». ومعنى ذلك أنّ الأمر مع وضوحه، ومع أنّه لا ينبغي الريب فيه ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون به لأنّه لا يلائم أهواءهم وأمّا بناءً على المعنى الثاني فهو استدراك عن الجملة السابقة، أي قوله «« إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ».

ص: 463


1- القمر (54): 50 .

ومهما كان فالجملة تنديد بعدم إيمان الناس بالمعاد، ولو آمنوا به لكفاهم وازعاً عن ارتكاب المآثم ودافعاً إلى الّتقوى. و إنّما لا يؤمن أكثرهم لأنّ الإيمان به يستتبع ترك كثير من الشهوات والملذّات، فيحاول الإنسان تجاهله وعدم الاهتمام به، والتركيز عليه فلا يطمئنّ به قلبه، والإيمان أمر اختياري.

والظاهر أنّ أكثر الناس لا يختصّ بالكافرين فالمؤمنون بالله أيضاً ليسوا كلّهم مؤمنين بالآخرة إيماناً كاملاً، بل أكثرهم إنّما يظنّون ظناً، ويكفي ذلك لاتّقاء المآثم الكبيرة، ولكن لا يكفي للتورّع في كثير من الموارد والابتلاءات الصعبة.

ويمكن لكلّ مؤمن أن يمتحن مدى إيمانه بالآخرة، فإن كان اهتمامنا بتلك الحياة ضعيفاً جدّاً بالنسبة لاهتمامنا بشؤون هذه الحياة فهذا يكشف عن ضعف إيماننا بالآخرة ولوكنّا مؤمنين بها إيماناً كاملاً لتغير وجه الحياة لدينا، ولكان هاجسنا دائماً ما نخسره أو نربحه في تلك الحياة، بينما نجد في أنفسنا زهداً بليغاً في ما وعده الله سبحانه من النعيم هناك، مع أنّا نعلم أنّ وعده حقّ، ولكن لا نشعر بشوق ولهفة إلى ذلك النعيم الخالد الذي لا يشوبه تعب ولا مرض ولا حرج، كما نشعر بالشوق واللّهفة إلى اللذّة الزائلة المؤقتة الممزوجة بشتّى أنحاء المنغّصات في هذه الحياة، ونهلك أنفسنا ونخاطر بها في مختلف المخاطر لبلوغ هذه اللذّات التافهة، ولا نعير اهتماماً بذلك النعيم، بل نكتفي - على أحسن تقدير -بأقل ما يمكن الحصول عليه من الثواب.

ولذلك تجدنا غالباً ما نكتفي بالفرائض والواجبات، بل نكتفي فيها أيضاً بأقلّ الميسور. وكلّ ذلك يختصّ بالطبع بما لا يزاحم ملذّاتنا الدنيوية، ولا يوقعنا في خسارة مادية فادحة فضلاً عن التضحية بالروح. فهل هذا الشعور يناسب الإيمان بالآخرة؟!

ص: 464

سورة غافر (60 - 65)

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) (

« وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »هذا قول أزلي يخاطب الله به كلّ الخلائق من البشر وغيرهم، ولا يختصّ بهذه الأمّة كما زعم بعضهم، وجعلوه ممّا خصّ الله به هذه الأمة من مزايا .والتعبير ب- « رَبُّكُمُ » یدلّ على أنّ الدعاء من المخلوق والاستجابة من الله تعالى دخيل في تربيته وبلوغه إلى الكمال المنشود. والاستجابة والإجابة بمعنى واحد.

ويخطر بالبال لكلِّ من يلاحظ الآية إشكال، وهو أنّ كثيراً من الأدعية بل أكثرها لا تستجاب. وقد حاول المفسّرون قديماً وحديثاً الإجابة عن ذلك، فروي عن ابن عبّاس وتبعه بعض المفسّرين أنّ المراد بالدعاء العبادة، وبالاستجابة الثواب.

وهذا تأويل بعيد وغريب، ويبعد صدوره عن مثل ابن عباس، فالدعاء وإن كان نوعاً من العبادة ولكن ليس بمعناها. وأبعد منه تأويل الاستجابة بالإثابة.

ص: 465

والمعنى الظاهر هو الصحيح. والجواب عن الإشكال أنّ الاستجابة ليست دائماً بالعمل وفق ما يطلبه الداعي، بل الدعاء أيضاً ليس دائماً لطلب الحاجة كما يتوهّم، فالدعاء هو النداء سواء كان لطلب حاجة أم لأمر آخر، والاستجابة بمعنى تلبية الطلب وعدم الرفض، ولا يلازم ذلك قضاء الحاجة.

ونظير ذلك قوله تعالى «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.»(1). وهنا قرينة يتّضح منها المراد بالإجابة، فإنّ الظاهر أنّ قوله تعالى « أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ » تفسير وتوضيح لقربه تعالى، فهو قريب بحيث يسمع أيّ دعاء ويجيبها مهما كان الصوت خافتاً، بل حتّى لو كان بلا صوت، بل من دون أيّ إظهار وإبراز، فالغرض دفع توهّم الإنسان الساذج أنّ الله تعالى بعيد عنه لعظمته فلا يسمع نداءه.

وهذا التوهّم هو منشأ الشرك والتوسّل بالأصنام، والملائكة، والأنبياء، والأولياء، وغيرهم ليقرّبوهم إلى الله زلفى. وهو خطأ فادح، فمن كان يتوسّل بغیر الله تعالى بهذا الوهم فهو مخطئ. وهذا لا ينافي الاستشفاع بالرسل والأولياء مع الاعتقاد بأنّ الله هو السميع البصير، وهو الذي يقبل الشفاعة أو يردّها. ويظهر منه أنّ الإجابة بمعنى سماع الدعوة والتلبية لأنّه هو المناسب للقرب لا بمعنى قضاء الحاجة.

هذا مع أنّ كثيراً ممّا يطلبه الإنسان ليس قابلاً للقضاء، فهناك أدعية متناقضة من البشر لا يمكن قضاء كلّها، فبعضهم لا يصلح حاله إلّا بالمطر مثلاً وبعضهم يضرّه، وبعضهم يريد الحرّ، وآخرون يريدون البرد ولو كان المفروض أن

ص: 466


1- البقرة (2): 186 .

تقضى حاجة كلّ أحد، بل كلّ مؤمن لفسد العالم. كما قال تعالى: « «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» (1). وهناك ما يطلبه الإنسان وليس صالحاً له وهو لا يعلم، وربّما يعلمه بعد حين.

وكثيراً ما نجد ذلك من أنفسنا حيث ندعو فلا تقضى حاجتنا، ثمّ نعلم بعد حين أنّ عدمها هو الأصلح بحالنا، وربّما تكون الحاجة أصلح لدنيا الإنسان، ولكنّه غير صالح له في الحياة الأخرى، وسيعلم آنذاك أنّ رحمة الله تعالى شملته حيث لم يقض حاجته، وأنّ ما يحصل عليه هناك أفضل بكثير ممّا طلبه هنا، ولكنّ الإنسان في هذه الحياة لا يهمّه إلّا زينة الدنيا وبهرجتها كما قال تعالى: « تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ »(2)، فمثل الإنسان كالطفل يطلب من أبيه ما يضرّه ولا ينفعه، وربّما يبغض أباه إذا منعه من أكل الحلوى التي تضرّه.

ثمّ إنّ هناك كثيراً ممّا نطلبه يستحيل تحقّقه واقعاً وإن لم يكن من المحال العقلي لكنّه يستلزم المحال، وحيث إنّا لا نعلم جميع الظروف المحيطة به نظنّ أنّه أمر ممكن، ولو علمنا استحالته لم نطلبه، إذ ليس من المعقول طلب المستحيل.

« إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» هذه الجملة بقرينة الجملة السابقة تدلّ على أنّ الدعاء من العبادة. وصرّح بذلك في الروايات. فالدعاء كيفما فسّر نوع من العبادة، والمعنى أنّ الذين يستنكفون عن الدعاء وهو عبادة الله تعالى، ويظنّون أنّهم ليسوا بحاجة إليه، فسيدخلون جهنم داخرين، أي أذلّاء. فجزاء الاستكبار في الدنيا هو المذلّة والهوان في الآخرة. وأيّ استكبار

ص: 467


1- المؤمنون (23): 71 .
2- الأنفال (8): 67 .

هذا؟! إنّه متابعة لإبليس الذي استكبر على ربّه.

وغريب أنّ الإنسان يبلغ به الغباء والحمق إلى هذا الحدّ، فيستنكف عن عبادة الله العظيم، وهو يعبد البشر والبقر والحجارة والذهب والفضة.

« اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا» بعد التنديد بالاستكبار على الله تعالى لزم التنبيه على نعمه المستمرّة المتوالية، ليشعر الإنسان بفداحة ذنبه، إذ يستكبر عن عبادة ربّه مع كثرة نعمه عليه.

ومن جهة أخرى حيث أمره بأن يدعو ربّه أراد في هذه الآيات تعريف الإنسان بربّه ليكون على بصيرة في دعائه، فإنّ أحد موجبات عدم استجابة الدعاء - كما في الأثر - هو أنّ الإنسان يدعو من لا يعرفه، فهذه الآيات تعرف الإنسان بربّه إذ أنّه تعالى يُعرَف بآثاره ونعمه.

وفي هذا الصدد تشير الآية الكريمة إلى نعمتين متواليتين مستمرّتين وهما ظلام الليل المناسب للسكون والراحة والاستقرار وضياء النهار المناسب للحركة والتجوال وطلب الرزق. وهما من أهمّ النعم، ولكن استمرارهما ودوامهما استوجب الاستخفاف بهما ونسيانهما والتعبير بكون النهار مبصراً من باب المبالغة، مع أنّه السبب في الإبصار فکأنّه هو المبصر.

« إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ » الفضل بمعنى الزيادة. والفضل على أحد بمعنى إعطائه ما لا يستحقّه عليه وكلّ ما ينعم الله تعالى به على الناس فهو فضل إذ لا يستحقّ أحد على الله شيئاً. والتنكير هنا للتعظيم، أي أنّه لذو فضل عظيم على الناس كما قال تعالى: « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا » (1).

ص: 468


1- إبراهيم (14): 34 .

« وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ » ، أي لا يشكرون بالمرّة، بل لا يعترفون بالنعمة، بل ولا بالمنعم. وأمّا الشكر المناسب لحجم النعمة فلا يقوى عليه أحد.

« ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ »الإشارة إلى البعيد للتعظيم، فإنّه تعالى بعيد عن متناول الأبصار بل الأفهام، وهو ربّكم الذي يربيكم في إطار القوانين الطبيعية وهي السنن الإلهية، وبما يرسله إليكم من هدايات ويبعث لكم من رسل وحجج، وهو خالق كلّ شيء. وهذا يشمل أصغر الأشياء وأحقرها كما يشمل أعظمها وأكبرها ، فلا يتصوّر أنّ هناك خالق غيره. وكلّ ما يصنعه الإنسان، بل كلّ ما يعمله، بل ينقدح في نفسه وضميره فهو شيء، وينطبق عليه أنّه مخلوق لله تعالى، فليس في الوجود شيء يوجد من دون أن يريده الله سبحانه.

والنتيجة أنّه لا إله غيره، لأنّ الألوهية والعبادة لا تصلح إلّا لمن يخاف ويُرجى، فإن كان كلّ شيء مخلوقاً لله تعالى، فهو الذي يخاف ويرجي فحسب. وكلّ شيء بأمره وبيده، فلا معبود سواه لأنّ الإنسان إنّما يعبد الآلهة طلباً لمحبوب أو دفعاً لمكروه.

«فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ »، أي تصرفون والتعبير بالمجهول يوحي بأنّ هناك ما يدفعكم ويصرفكم عن ربّكم، وإلّا فالأمر بطبيعته لا يدعو إلى ذلك، والإنسان بفطرته مشدود إلى ربّه لا يعبد سواه، و إنّما يصرفه عنه متابعته للشهوات، وخلوده إلى الأرض، وانجذابه إلى ما خلق الله تعالى على هذا الكوكب من زينة ليبتلي الإنسان بها، كما قال تعالى: « «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»(1).

ص: 469


1- الكهف (18): 7 .

« كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» في هذه الآية الكريمة يحدّد من يصرف عن عبادة ربّهم وعن الشكر لأنعمه. وهم الذين يجحدون آيات الله تعالى. والجحود هو الإنكار عن علم، فالذين يرون آيات الله وهي كلّ ما في الكون، ويعلمون أنّها تدلّ على عظمة الخالق وحكمته، ومع ذلك ينكرون الربوبية، ويتناسون هذا الجانب من العلم، وإن كانوا ربّما يتعّمقون في سائر الجوانب هم الذين يصرفون عن عبادة الله واطاعته، فإنّ ذلك هو النتيجة الطبيعية للجحود إذ لا ينشأ ذلك إلّا من الاستكبار والطغيان ومتابعة الأهواء.

وقوله « كَانُوا »یدلّ على استمرار جحودهم وأنّ هذا دأبهم وديدنهم كلّما لاحظوا آية من آيات الله كما قال تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ »(1).

« اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً » استمرار في السياق السابق لتنبيه الإنسان وإلفات نظره إلى نعم الله تعالى على عباده المكتنفة بهم من كلّ صوب، فالأرض من تحتهم موضع استقرار وسكون قد هيّأ الله تعالى عليها كلّ وسائل الحياة، والسماء فوقهم - ولعلّ المراد به الجوّ المحيط بالكرة الأرضية - سقف مرفوع يحفظهم من الأشعة الضارة، ويحفظ لهم الأبخرة المتصاعدة، ويحوّلها إلى غيوم تمطرهم بالماء الطهور، فمنه يستقون، ومنه يزرعون، ويحفظ لهم ما يحتاجون إليه من الاوكسيجين للتنفّس، وغير ذلك ممّا يترتب على هذا الغلاف الجوّي.

« وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ »يعود السياق إلى أنفسهم فالإنسان خلقه الله تعالى

ص: 470


1- يوسف (12): 105 .

على أحسن صورة وأجمل هيئة، وكم في هذا التصوير من أسرار وآيات؟! فلكلّ إنسان هويته البارزة في ملامح وجهه لا يشاركه فيها أحد، ولكلّ أحد هويته الخاصّة به أيضاً في خطوط بنانه، ناهيك عن أسرار كلّ عضو داخلي وخارجي، ووظائفه الغريبة، فكلّ ذلك من عظمة التصوير، إذ المادة مشتركة بينه وبين غيره من الأرضيات.

وكلّ ما في الإنسان من خصائص إنّما هي من صورته الإنسانية، بل خصائص كلّ إنسان من صورته الخاصّة به، فإنّ الصورة هي التي تحكي عن الكيان الشخصي، والمادة هي الأمر المشترك.

« وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ »ينبّه على كلّ ما حول الإنسان من نعم طيّبة يتلذّذ بها، ويقيم بها شؤون حياته من مطعم ومشرب ومسكن وملبس وغير ذلك، ممّا تستطيبه النفس وتستسيغه وتستلذّه. وكلّ ما خلقه الله تعالى للتنعم بحسب طبيعتها طيّبة، وربّما يعتريه الخبث بفعل الإنسان.

«ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ »فكلّ ما أنعم به عليكم يدخل في شؤون التربية، والله تعالى يربّيكم بهذه النعم، يربّي أجسامكم تربية طبيعية، ويربّي أرواحكم ونفوسكم حيث يبتليكم بها لينظر ما أنتم صانعون، وفي أيّ مجال تستخدمونها، وهل تشكرون ربّكم وتطيعونه في ما أمركم به تجاه هذه النعم، أم تكفرون ويجذبكم ظاهر النعم ويبعدكم عن عبادة ربّكم وشكره كما قال تعالى: « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.» (1).

« فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ » البركة أصلها من البروك بمعنى الثبوت والاستقرار ،

ص: 471


1- الأنبياء (21): 35 .

يقال برك البعير إذا استقرّ على الأرض، ومنه البركة لمجمع الماء، واستعير للخير الكثير الثابت والمستقرّ. وصيغة «تفاعل كتعاظم وتعالى»، وكذلك «تفعّل» كتكبّر وتقمّص وتلبّس بمعنى اتّخاذ الصفة ونحوها، فالتقمّص والتلبّس ونظائرهما بمعنى اتّخاذ لباس خاص، والتكبّر بمعنى اتّخاذ الكبر صفة له، وهو مذموم من غير الله تعالى لأنّ معناه أنّه يتّخذ لنفسه كبراً ليس له، ويعتقد لنفسه موضعاً ومقاماً فوق حده.

وأمّا الله تعالى فهو أكبر من أن تناله الأوهام، فهو الكبير المطلق، و إنّما يصحّ التعبير عنه بالمتكبّر، كما هو أحد الأسماء الحسنى، لأنّ كبره تعالى ليس عطاءً من أحد، بل هو منه فكلّ ما يفرض كبيراً ولو نسبياً إنّما كبر بما منحه الله تعالى ،وأمّا الله سبحانه فهو كبير بنفسه. ومثل ذلك التعالي والتعاظم والتقدّس ونحوها.

وعلى هذا الأساس فنسبة التبارك إليه تعالى بمعنى أنّه اتّخذ لنفسه البركة وهي الخير الكثير الثابت والمستقرّ، فهو منشأ كلّ خير وموجده. ولذلك لا يصحّ هذا التعبير لغيره، ولم يرد في غيره تعالى في لغة العرب ولا في تعابير الشرع والمتشرعة فلا يصحّ أن تقول تبارك الرسول أو تبارك القرآن، لأنّ البركة لكلّ شيء من الله تعالى وأمّا منشأية الخير فيه تعالى فهو منه ولا يمكن أن يكون منحة من أحد. ولذلك لا يصحّ أيضاً التعبير عنه تعالى بالمبارك بفتح الراء. وأخطأ من عبّر عنه بذلك من الكتاب الذين لا يجيدون العربية.

وتوصيفه تعالى في الآية بربّ العالمين تأكيد على أنّ ما ذكر من النعم المحيطة بالإنسان يأتي في سياق ربوبيته العامّة لجميع العالمين، فإنّ مقتضاه إعطاء كلّ مخلوق ما يستحقّه وما يحتاج إليه لبلوغه غاية كماله.

ص: 472

« هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ » الحي من الصفات الإلهية الحسنى، وممّا يعبّر عنها بصفات الذات، وتقابلها صفات الفعل التي تنتزع من أفعاله تعالى وأصول صفات الذات - على ما قالوا - ثلاثة: العلم والقدرة والحياة، فكلّ ما يذكر من الصفات الثبوتية له تعالى يعود إلى هذه الأصول. والله أعلم.

ولعلّ ذكره هنا لدفع توهّم من يظنّ أنّ الله تعالى ليس فاعلاً مختاراً، وأنّ ما يصدر منه إنّما هو مقتضى ذاته، كما هو ظاهر بعض عبارات المتفلسفين، فالذي يظنّ ذلك لا يختلف عن من ينفي وجوده تعالى، ويظنّ أنّ الخلق إنّما وجد بفعل الطبيعة.

ثم إنّ التعبير یدلّ على أن الوصف خاصّ به تعالى ومنحصر فيه كما هو مقتضى الألف واللام في الوصف، وذلك لأنّ الحياة الحقيقية ليست إلّا له، فالحياة التي تثبت لغيره تعالى يشوبها الموت والفناء، ومن جهة أخرى كلّ حيّ غيره إنّما يتّصف بالحياة لما أضفي عليه من الحياة من قبله تعالى، فالحياة بالذات ليست إلّا له تعالى شأنه.

ولذلك عقّبه بقوله تعالى « لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ » أي حيث لا حيّ إلّا هو فلا إله إلّا هو، فالألوهية والمعبودية لا تليق إلّا بمن هو حيّ أبداً ودائماً وبالذات. ولا ينبغي لأحد أن يعبد موجوداً يعتريه الفناء والزوال، كما قال تعالى في حكاية كلام إبراهيم (علیه السلام): «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» (1)، وكذلك لا ينبغي أن يعبد ما يستمدّ حياته من غيره، بل إنّما يجب أن يعبد الحيّ بالذات وهو الله جلّ وعلا.

ص: 473


1- الأنعام (6): 76.

وكما لا تنبغي العبادة إلّا له لا ينبغي أن يحبّ الإنسان غيره، فإنّ العبادة الحقيقية مرحلة متقدمة من الحبّ والإعجاب، وأمّا العبادة لبلوغ المآرب سواء في الدنيا أم في الآخرة فليس إلّا عمل أجير يطلب عليه الأجر والحبّ والتعلّق بالذوات الزائلة والجمال الزائل من أخطاء الإنسان واشتباه الأمور عليه، فهو إنّما يطلب الجمال والكمال المطلق، ولكنّه لا يدركه ولا يصل إليه لتفانيه في هذه الظواهر والمظاهر وبريقها الكاذب، وغفلته عن الجمال والكمال المطلق الدائم الذي لا يزول. ولو تجلّى له الجمال المطلق لم يحبّ غيره.

« فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » الفاء تفيد التفريع، أي حيث إنّه هو الحيّ المطلق ولا حيّ على الإطلاق غيره تعالى فادعوه والدعاء - كما مرّ - نوع من العبادة. والمراد بالدين العبادة والطاعة. والأصل فيه التذلّل. ومنه الدين - بالفتح - لأنّه يوجب المذلّة فمعنى الآية أدعوه عابدين ومخلصين له في العبادة ومعنى الإخلاص أن لا تشرك معه أحداً في العبادة.

والإخلاص التامّ من أهمّ الأمور وأصعبها. والذي نحاول الوصول إليه غالباً إنّما هو خلوص النيّة من الرياء والعجب لا الإخلاص الكامل. وهذا الإخلاص النسبي أيضاً صعب علينا، بل ربّما لا يبلغه إلّا الأوحدي من الناس، فإذا حاول أحدنا أن يعتزل المجتمع ويعبد في السرّ ليتمكّن من الابتعاد عن الرياء يصيبه الإعجاب بنفسه فيهلك من حيث حاول النجاة.

والطريق الصحيح هو محاولة تخليص النيّة من الشوائب مع ترك الاعتزال فإنّ الحضور في الجماعة يوحي للإنسان أنّه من المجموعة وأنّه أحد العابدين وليس

ص: 474

فرداً ممتازاً بينهم. وبذلك أمرت مريم (علیها السلام) في قوله تعالى « وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»(1).

وأمّا الإخلاص التامّ فهو أن لا تعبده تعالى لبلوغ هدف أو مقام حتّى لو كان أخروياً، بل حتّى لو كان معنوياً كما حكي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قوله: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(2) وهذا لا يحصل إلّا لمن بلغ المرتبة الكاملة من المعرفة، فإنّ السجود لذاته تعالى، ولدرك عظمته لا لأمر آخر لا يمكن إلّا مع إدراك تلك العظمة، ورؤية ذلك الجمال المطلق بعين البصيرة.

والحاصل أنّ الآية المباركة تدعو إلى محاولة الإخلاص التامّ، فكلّ ما تهيّأ للإنسان أن يبلغه من مراتب الإخلاص فقد فاز بحظّه من الجنّة الحقيقية والرضوان الأكبر.

« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ » يبدو أنّ هذه الجملة إنشاء لحمده تعالى والثناء عليه اختتم بها العرض السابق لنعمه تعالى وبعض صفاته الحسنى، والاستنتاج منها بلزوم الإخلاص له في العبادة. ومفادها كما مّر مراراً أن الحمد كلّه لله فمهما حمد شيء بحسن في خلقه أو خُلقه، بل حتّى في أفعاله وأعماله وصنائعه فهذا الحمد يعود إلى الله تعالى، لأنّه خالقه وخالق صفاته وخصائصه، وخالق كلّ شيء بما في ذلك أعمال الإنسان وصفاته.

والتوصيف ب- « رَبِّ الْعَالَمِينَ » يناسب الأمر بالدعاء مع الإخلاص لأنّ مقتضى ربوبيته تعالى أن يعطي كلّ شيء ما يناسبه ويؤثّر في تربيته وتكامله.

ص: 475


1- آل عمران (3): 43 .
2- لم أجد له مستنداً.

سورة غافر(66 – 68)

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

« قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ »أمر الله تعالى رسوله أن يعلن للمشركين أنّ الله تعالى قد رسم له طريقة حياته، وبعث إليه بالأدلّة البيّنة الواضحة ما لا يبقى مجالاً للشكّ، وأنّه تعالى قد نهاه عن عبادة الأصنام وغيرها ممّا يعبده المشركون، ليؤيسهم ويقطع طمعهم في عدوله عن تبليغ رسالته، وتهاونه في مقاومة الأعداء.

وقوله تعالى « لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ » يمكن أن يكون ظرفاً للنهي فالمعنى أنّ النهي عن عبادة الآلهة المزيفة ورد حين نزول البينات والبراهين الواضحة، وأن يكون ظرفاً للعبادة، فالمعنى أنّه نهي عن عبادتها بعد مجيء البينة بمعنى أنّ الإنسان يمكن أن يكون معذوراً في شركه قبل ذلك ولا يعذر بعده ويمكن أن يكون تعليلاً للنهي، أي أنّ السبب فيه هو الأدلة الواضحة التي تبيّن للإنسان أن الربّ هو الله تعالى فلا وجه لعبادة غيره.

ثمّ إنّ النهي إن كان من الله تعالى فهو منبّه لما يحكم به العقل من قبح العبادة لغيره بعد ثبوت أنّ الربّ هو الله تعالى، وأنّه لا حياة لغيره حياة ثابتة مستقرّة مستقلة فضلاً عن التأثير المستقل والتدبير الأزلي والأبدي ويمكن أن يكون النهي من العقل.

ص: 476

ثمّ إنّ النهي لا يختصّ بالأصنام وإن كان الخطاب لعبادها، وذلك بمقتضى اسم الموصول الخاصّ بذوي العقول « الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فلا بدّ من شموله لبعض ذوي العقول أيضاً. وكثير من البشر يعبدون بشراً أو يعبدون الجنّ والملائكة وغيرهم.

ولم يقل «تعبدون من دون الله»، بل « تَدْعُونَ »أي «تدعونهم» والمراد بالدعاء طلب الحاجة منهم. والعبادة أيضاً إنّما كانت وسيلة لطلب الحاجة ولا شكّ أنّ الإنسان يطلب الحاجة من غير الله من الوسائط الطبيعية وغيرها، ولا يلام عليه و إنّما يلام على طلب الحاجة من غير الله باعتباره ربّاً يؤثّر في الكون باستقلال فهذا هو الشرك. وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى « مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي بدلاً عنه.

« وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» مع النهي عن عبادة غير الله تعالى أمر بالإسلام لرب العالمين. والإسلام بحقيقته هو تسليم الأمر إليه تعالى. وليس المراد أن لا يحاول الإنسان تغيير ما حوله، فإنّ ذلك ينافي سنّة الله في خلقه كما قال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (1) ، بل المراد أنّ الإنسان يطمئنّ ويثق بأنّ كلّ ما يعرض عليه إنّما هو بعين الله تعالى وبإرادته، فإذا لم يكن هو سبباً في ذلك فلا يجزع ولا يحزن ، فإنّ ذلك شيء أراده الله وهو خير له ممّا يريده إمّا في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فحسب.

وفي الدعاء المنسوب إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) « اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك... ومن اليقين ما يهون علينا به مصيبات الدنيا » والتوصيف بربّ العالمين للدلالة على علّة الحكم بمعنى أنّه إنّما أمر بالتسليم لأنّ كلّ ما يصدر منه تعالى

ص: 477


1- الرعد (13): 11 .

فهو مقتضی ربوبيته وتربيته للعالمين فليحسن العبد ظنّه بربّه.

« هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ » بيان لبعض ما اقتضته الربوبية بشأن الإنسان وخلقته. وقوله تعالى « مِنْ تُرَابٍ » لعلّه إشارة إلى أنّه - كسائر ما على الأرض - مخلوق من العناصر الأرضية الموجودة في التراب.

ويمكن أن يكون إشارة إلى خلق آدم (علیه السلام) من الطين، وأن خلق نسله من حويمن الرجل وبويضة المرأة كما قال تعالى: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ »(1).

« ُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ »، «ثُمَّ» تدلّ على التراخي للدلالة على فاصل طويل ومراحل كثيرة بين المرحلة الترابية وتكوّن النطفة. والنطفة الماء القليل. ومن هنا تبدأ الإشارة إلى مبدأ خلق الجنين. والمراد بالنطفة حويمن الرجل الموجود في المنيّ.

ويمكن أن تكون «ثمّ» إشارة إلى ما مرّ آنفاً من أنّ نسل آدم (علیه السلام) خلقوا من نطفة، فالتراخي من جهة اختلاف مبدأ الخلق بينه وبين سلالته .

« ُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» العلقة هی القطعة هي من الدم. وهي مرحلة أخرى من مراحل تكوّن الجنين. وقد ورد في آيات أخرى ذكر مراحل أخرى من تكوّنه وهي المضغة، أي القطعة من اللحم، ومرحلة اكتساء العظم باللحم و مرحلة الخلق الآخر الذي يحتمل أن يكون إشارة إلى خلق النفس والروح البشرية. ولم يذكر تلك المراحل هنا، و إنّما انتقل إلى ذكر مراحل التطوّر بعد الولادة، واكتفى بالإشارة إلى وجود تلك المراحل بقوله تعالى « ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا».

ص: 478


1- السجدة (32) :7 -8 .

والطفل يطلق على المفرد والجمع ، أي يخرجكم أطفالاً كقوله تعالى « أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ». (1) واختلفوا في أصل معناه فقيل إنّ الطفولة بمعنى النعومة وأنّ الطفل يطلق على الولد مادام ناعماً، ومن هنا يقال للمرأة «طفلة»، وقيل إنّه في الأصل بمعنى الولد الصغير وأنّ إطلاقه على المرأة تشبيه لها بالطفل في النعومة.

« ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ » اللام في « لِتَبْلُغُوا » للتعليل، ولم يذكر متعلّقه فهو مقدر، وهو المعطوف على الجملة السابقة ب-«ثُمَّ » فيمكن أن يكون التقدير «ثمّطوّركم لتبلغوا أشدكم» أو ما يفيد معناه.

واختلف اللغويون في «أشُدّ» فقيل جمع لا مفرد له، وقيل جمع شَدّ، وقيل جمع شِدّة، وقيل غير ذلك. ومهما كان فهو جمع ما يفيد معنى الصلابة والوثوق أي القُوى. وعلى ذلك فالمراد ببلوغ الأشدّ بلوغ مرحلة استكمال القوى. ويختلف معناه باختلاف الموارد، كما يختلف بلوغه حسب الأعمار، فقد يبلغ الإنسان استكمال قواه قبل الثامنة عشر، وقد يبلغ في سنين متأخرة جدّاً، ولا يمكن أن يحدّد له عمر. والتحديد بالسنّ الخاصّ في القانون لضرورة التحديد في القوانين الاجتماعية، وعدم إحالة ذلك إلى التشخيص الفردي لئلّا يدخل في تعيينه الأهواء والمصالح الخاصّة.

و المراد بالأشدّ في هذه الآية قوى الجسم في مقابل النعومة التي يختصّ بها الطفل، كما أنّ المراد بقوله تعالى « «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ » (2)، بمعنى استكمال الرشد في الشؤون المالية خاصّة، مضافاً إلى البلوغ

ص: 479


1- النور (24) :31 .
2- الأنعام (6): 152.

الجنسي الذي ربّما يكون هو المناط في التكليف الشرعي لقوله تعالى «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ » (1)، فإنّ هذه الآية المدنية تفسّر المراد ببلوغ الأشد في سورتي الأنعام والإسراء المكيتين، وتبيّن أنّ المراد بلوغ النكاح واستيناس الرشد.

ولا ينافي ذلك الاختصاص ببلوغ الأربعين في قوله تعالى « حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ »(2)، على فرض كون الواو للتفسير، إذ يمكن أن يكون المراد هنا الكمال العقلي والجسمي، مضافاً إلى اكتساب الخبرة والتجربة، وتحصيل العلوم والمعارف الدينية، ليتحقّق منه هذا التوجه إلى الله تعالى، كما أنّه بمعنى آخر في قوله تعالى «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا»(3) ، ممّا يناسب الحكم والعلم والنبوة.

« ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا » وهنا أيضاً تقدير نظير ما مرّ في الفقرة السابقة فيمكن أن يقدر« ثمّ أبقاكم وعمّركم »والشيخ هو الإنسان الكبير في السن.

« وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ »، أي لا يبلغ حدّ الشيخوخة أو حتّى حدّ بلوغ الأشدّ.

« وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى »، أي وهكذا تنتقلون من مرحلة إلى مرحلة وتصارعون الحوادث حتّى تبلغوا الأجل الذي سمّي لكم أي قدّر لكم فلكلّ إنسان أجل قدّر له. واللام هنا لبلوغ الغاية وليس لبيان الغرض.

« وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » أي أنّ كلّ ذلك إنّما يحدث لكم في الحياة الدنيا لعلّكم تعقلون. فالتعقل هو الهدف النهائي والغاية المنشودة للإنسان. وتقديم «لعلّ»

ص: 480


1- النساء (4): 6 .
2- الأحقاف (46): 15 .
3- يوسف (12): 22.

للدلالة على أنّ ذلك ربّما يترتّب وقد لا يترتّب كما هو الغالب. ولعلّ المراد بالتعقل هنا إدراك عظمة الخالق بإدراك عظمة الكون، فإنّه الغاية القصوى من نزول الإنسان على هذا الكوكب ومروره بهذه المراحل الطبيعية للتكوين.

هذه هي مراحل تكوين الإنسان من بدو الخلقة إلى الموت وبلوغه أجله، وهكذا سائر الأحياء من الحيوان والنبات فلكلّ منها مراحل حتّى نهاية الأجل. وقد اعترض بعض الجهلة على القرآن الكريم بأنّ الجنين لا ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، و إنّما يتطوّر تدريجياً بحيث لو تنظر إليه كلّ يوم لا تجد فيه تغييراً كلّياً عن يومه السابق، فليس هناك مراحل أربعة أو خمسة، بل آلاف المراحل لا يمكن تحديدها بهذه العناوين. وقال: إنّ ذكر هذه العناوين یدلّ على سذاجة القائل وعدم اطلاعه على واقع الأمر إلى آخر ترّهاته المضحكة المخزية.

ومن الواضح أنّ الإنسان وغيره من الحيوان والنبات لا يمرّ بمراحل تكوينه من مرحلة إلى أخرى بالطفرة، بل ينتقل تدريجاً، ولكن ليس لكلّ مرحلة منها اسم، و إنّما يجعل الأسماء لبعضها ممّا له أثر خاص أو حالة خاصّة تظهر للعيان، فيقال مثلاً إنّ التمر يمرّ بمرحلة يقال لها البسر ثمّ الرطب ثمّ التمر مع أنّه يمرّ بها تدريجاً. والإنسان بعد ولادته يمرّ بمرحلة الطفولة ثمّ الصبا ثمّ الشباب ثمّ الكهولة ثمّ الشيخوخة، ومن الواضح لدى كلّ أحد من دون دراسة وتعلم أنّه لا يمر بالطفرة بل بالتدريج، ولكن التسمية إنّما تكون لهذه المراحل فقط، وربّما يذكر غيرها أيضاً، وربّما يحذف بعضها كما في هذه الآية الكريمة. وهكذا سائر التطوّرات في الحيوان والنبات وغيرهما، فالغرض من ذكر هذه المراحل ليس هو تحديد التطوّر بها، بل الغرض هو الإشارة إلى نفس التطوّر.

ص: 481

« هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» الجملة تدلّ على الحصر فليس غيره من يحيي ويميت، بل هو الخالق لكلّ حركة وسكون في الطبيعة. ولكن التركيز على خصوص الحياة والموت للتنبيه على كونهما من غرائب ما يحدث في الطبيعة، ولذلك لم يكتشف العلم سرّ هذا التحوّل بالرغم من الاكتشافات الهائلة التي حصل عليها في الطبيعة، وإن كان كلّ ذلك بالنسبة إلى كلّ ما في الكون من أسرار ليس إلّا قليلاً من العلم.

فالتحوّل من كائن فاقد للحياة والحركة والحسّ إلى موجود حيّ شاعر متحرّك، ثمّ فقدانه لكلّ ذلك وعوده موجوداً ميتاً جماداً من أغرب التطوّرات في الطبيعة، وهو في نفس الوقت من أكثرها بروزاً وتكرراً على الساحة وكلّ ذلك دليل واضح على أنّ للكون ربّاً حكيماً مدبّراً. ولا ينافي ذلك كون هذه التطوّرات خاضعة لقوانين طبيعية.

والخطأ الفادح الذي يرتكبه بعض الباحثين أنّهم إذا اكتشفوا القوانين الحاكمة في الطبيعة ظنّوا أنّ ذلك دليل ينفي وجود الربّ المدبّر للكون، وکأنّهم يفرضون مسبقاً أنّ وجود مدبّر يدير الكون ملازم للفوضى وعدم الانتظام تحت قانون واحد، بينما الأمر بالعكس وإنّ أقوى دليل على وحدة الربّ المدبّر هو وحدة النظام وانسجام القوانين الحاكمة في الطبيعة.

ثمّ إنّ الإتيان بالفعل المضارع لیدلّ على أنّهما عملیتان متواليتان مستمرّتان فلا ينفكّ الكون عن تكرّر الإحياء والإماتة في كلّ مستويات الحياة في النبات والحيوان، وفي كلّ خلية من خلايا كلّ منهما. فهناك نباتات تموت وبموتها تحيا نباتات أخرى، وهناك حيوان وبشر يأكل بعضها البعض أو يقتله أو يموت البعض حتف أنفه، والنظام الكوني بأمر من الله تعالى يحيي نسلاً وجيلاً آخر. وفي كلّ

ص: 482

جسم من أجسام الأحياء تتبدل بسرعة فائقة خلايا ميتة ويأخذ مكانها خلايا أخرى حيّة، وهكذا تستمر عملية الإحياء والإماتة دون توقف.

« فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » ، القضاء : الحكم والمراد أنّه إذا أراد أن يحقّق أمراً أي شيئاً فإنّما يتوقّف وجوده على إرادته تعالى فقط والفاء للشرح وتوضيح كيفية تأثيره تعالى في الإحياء والإماتة، ولدفع استغراب السامع استناد كلّ هذه العمليات المتكرّرة إلى إرادة واحدة فإّن الاستغراب ينشأ من عدم تعقل تلك الإرادة وكيفية تأثيرها في الكون والإنسان غالباً ما يقيس المفاهيم الإلهية بما يجده في نفسه ونظرائه. والسبب أنّ الألفاظ لا تتمكن من التعبير عن تلك المفاهيم الغريبة لدى الذهن البشري الذي صنع الألفاظ، فيعبّر عنها بنفس تلك الألفاظ المتداولة ويلتبس الأمر على الإنسان المسكين.

فالفاعلية هناك واستناد الأفعال والخلق إلى الله تعالى ليس مشابهاً لاستناد الأفعال إلينا، ولذلك لا يتنافى أن يستند الفعل إليه وإلى غيره وتأثير إرادته تعالى في الكون ليس كما نتصوّر بل هو فوق تصوّرنا وفهمنا، والألفاظ قاصرة عن أداء تلك المعاني، بل الأذهان أيضاً قاصرة عن دركها فغاية ما يمكن أن يقال فيها هو هذا التعبير المعجز الذي عبّر به الله سبحانه لإيصال هذه المعلومة « فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »، فلا يحتاج إلى التوسّل بسبب، فإنّ السبب أيضاً لا يوجد إلّا بإرادته ولا يتسبّب إلّا بإرادته، فالإرادة هناك هي السبب الوحيد.

والتعبير عن العملية بقول كلمة «كُنْ» أيضاً تعبير أدبي، وإلّا فليس هناك تلفّظ وخطاب، إذ المفروض أنّ الشيء غير موجود فكيف يوجّه إليه خطاب؟! و إنّما هو تعبير عن تأثير الإرادة بدون واسطة. وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة يس الآية: 82 .

ص: 483

سورة غافر(69 – 78)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ »خطاب للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو لكلّ مخاطب والاستفهام للتعجيب وكناية عن الاستغراب. نعم وإنّه لغريب أمر المجادلة في آيات الله تعالى بعد كلّ ما يجده الإنسان منها في الكون وفي كتب السماء ومعجزات الرسل. وقد مرّ أنّ المجادلة في الواقع هي المنازعة على أمر وهي مأخوذة من الجدل، وهو في الأصل الاستحكام والشدة، فكأن كلّا من المتجادلين يشدّ من جهته والمراد به هنا لازمه وهو الرفض والإنكار والتعصب له كما هو شأن المتجادلين.

والرؤية لا تتعدى ب- «الى»، بل بنفسها تقول رايته ولا تقول رايت إليه ولكنّها هنا ضُمّنت معنى النظر وهو يتعدى ب-«الى»، فالمعنى ألم تنظر إليهم لتراهم. وقوله

ص: 484

تعالى « أَنَّى يُصْرَفُونَ »، أي كيف يجانبون الحقّ ويتحوّلون عنه إلى الباطل؟! و إنّما أتى بلفظ المبني للمجهول «يُصْرَفُونَ» للإشارة إلى أنّ انصرافهم وتحوّلهم ليس لانبعاث ذاتي، بل هو أمر يخالف فطرتهم، وهناك ما يصرفهم قسراً إلى الباطل وهو اتّباع الهوى.

وقد تكرّر في هذه السورة الحديث عن المجادلة في آيات الله، وهذا هو الموضع الرابع الذي ذكر فيه المجادلون في آياته تعالى. ويظهر من بدو السورة أنّ هذا الأمر هو موضع الاهتمام فيها، حيث ورد في الآية الرابعة من السورة المباركة «مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا » وفي هذا الموضع ينبّه على ما يؤول إليه أمرهم يوم القيامة وما يجازون به.

« الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا » توصيف للمجادلين في عهد الرسالة بأنّهم لا يكذبون برسالتك فقط، بل هم يكذبون بكلّ الكتب السماوية وبكلّ رسالات السماء، فإنّ تكذيب هذه الرسالة ليس على أساس عدم القناعة بمعجزاتها وبكتابها، بل هو على أساس إنكار أصل الرسالة. ولذلك لم يقل «وبرسلنا»، بل قال بما أرسلنا به رسلنا، فهم يكذبون بالرسالة أياً كان الرسول وفي أيّ عهد.

والغرض من ذلك بيان أنّ القوم إنّما يعادون الله تعالى وينكرون آياته، وليس لهم ضغينة للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لولا الرسالة، كما قال تعالى: « «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (1). والدليل على ذلك أنّهم ما كانوا يكذبون الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولا يناجزونه في أي شيء قبل ذلك و إنّما انقلبوا

ص: 485


1- الأنعام (6): 33 .

أعداءً حينما أرسله الله تعالى إليهم.

« فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» هذا تهديد منه تعالى بمجازاتهم وعذابهم بما لا يعلمونه ،الآن بل لا يتصوّرونه، فهو عذاب لا يعرفه الإنسان ولا يشبه ما يجده في الدنيا. ولكن متى يحدث ذلك؟ الآيتان التاليتان تبيّنانه.

« إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ »، ظرف لقوله «يَعْلَمُونَ». ويقال: إنّ « إذ » يؤتى به لظرف الفعل الماضي، ويقال في المستقبل «إذا» و إنّما أتى بالظرف الخاصّ بالماضي للدلالة على أنّه محقق الوقوع فکأنّه قد وقع.

والتعبير يصوّر إذلالهم حيث توضع الأغلال والسلاسل في أعناقهم والأغلال جمع غُلَ - بالضمّ - وهو الطوق يوضع فيه عنق الأسير والمحبوس للإذلال والإيذاء. والسلاسل جمع سلسلة، وهي مجموع حلقات طولية يربط بها الأسير والمحبوس والسلاسل هنا معطوف على الأغلال أي توضع الأغلال والسلاسل في أعناقهم. و « يُسْحَبُونَ »حال من الضمير في « أَعْنَاقِهِمْ »، أي يسحبون بهذه الحالة.

« فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ »الحميم: الماء شديد الحرارة. وقد يطلق على نفس الحرارة الشديدة كما يظهر من موارد الاستعمال المنقولة في لسان العرب. وأكثر المفسّرين ذكروا أنّ قوله « فِي الْحَمِيمِ »متعلق ب- « يُسْحَبُونَ »وهو بعيد إذا أريد بالحميم الماء شديد الحرارة، نعم يقرب هذا المعنى إذا أريد به نفس الحرارة الشديدة ولكنّهم لم يفسّروه بها. وبناءً عليه فيختصّ الإسجار بالنار. والإسجار له معان متعدّدة منها الإيقاد ، حيث إنّ السجور بمعنى الحطب - على ما

ص: 486

في العين - فلعلّ المعنى حينئذ أنّهم يجعلون وقوداً للنار كما قال تعالى: « فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ » (1)، وذكر هذا الاحتمال الطبرسي في «مجمع البيان ».

ويحتمل أن يتعلّق « فِي الْحَمِيمِ » ب- « يُسْجَرُونَ » فهم يسجرون أولاً في الحميم ثمّ في النار، كما قال تعالى «يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ »(2)، أي بين جهنّم والحميم. ويقرّب هذا المعنى إذا أريد بالإسجار الملء، وبالحميم الماء شديد الحرارة، فيكون المعنى أنّهم يملؤون من الحميم ثمّ من النار ، ومعنى ملئهم من النار أنّها تدخل في أعماق نفوسهم وأرواحهم وتحرقها كما قال تعالى «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ » (3).

« ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ » الظاهر أنّ « ثُمَّ » للترتيب كما هو الأصل فيه ولا ضرورة لدعوى أنّها للتراخي الرتبي بقرينة خطابهم بعد ذلك « ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ» إذ لا دليل من اللفظ على كون هذا الخطاب متأخراً. وأمّا الإتيان بالفعل الماضي «قيل» فللدلالة على كونه محقق الوقوع كما مرّ نظيره. وهذا إذلال بالقول وتبكيت لهم فيسألون أين الأصنام التي عبدتموها من دون الله وظننتم أنّها شفعاء لكم عند الله أو أنّها ستنفعكم يوم الحاجة؟

وهنا يبدو سؤال وهو أنّه ما معنى الشرك من دون الله مع أنّهم يشركون الأصنام في التدبير والتأثير مع الله تعالى لا من دونه؟

والجواب أنّ كلمة الشرك ضمنت معنى العبادة باعتبار أنّها مظهر واضح

ص: 487


1- البقرة (2): 24 .
2- الرحمن (55): 44 .
3- الهمزة (104): 6-7 .

للشرك، فالمعنى أين ما كنتم تعبدونهم من دون الله تعالی مشرکین به؟ إنّهم كانوا لا يعبدون الله تعالى و إنّما يعبدون الأصنام فحسب.

« قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا» ، أي ضاعوا فلم نجدهم أصلاً. ولعلّ المراد أنّهم لم يجدوا منهم نفعاً فکأنّهم لم يجدوهم وإلّا فالأصنام تحشر يوم القيامة مع المشركين كما في آيات أخرى، بل يدخلون معهم في جهنّم ويشاركونهم في كونهم وقوداً لها، بناءً على أنّ الحجارة في قوله تعالى: « وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ » يراد بها الأصنام.

« بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا» وهذا اعتراف منهم بأنّهم ظنّوا أنّها أشياء تؤثر وتضرّ وتنفع، فإذا هي ليست شيئاً أي ليس لها أثر فکأنّها ليست موجودة. ويمكن أن يكون هذا الإنكار منهم كذباً كما قال تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ *انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ »(1). وقال عن المنافقين: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ.»(2) وقوله تعالى: « كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ »إشارة إلى ما ورد قبل ذلك في الآية: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(3).

ولا غرابة في كذب المشرك والمنافق يوم القيامة، فإنّهم دأبوا عليه في الدنيا. والوضع المتأزّم هناك لا يبقي لهم مجالاً غيره. ولا ينافي ذلك قوله تعالى « وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا»، (4) إذ يمكن ان يكون المراد به أنّهم لا يستطيعون الكتمان في

ص: 488


1- الأنعام (6): 23 - 24 .
2- المجادلة (58): 18 .
3- المجادلة (58) :14 .
4- النساء (4): 42.

النهاية حيث تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم، كما قال تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ »(1).والختم على الأفواه ربّما يكون بعد الكذب.

هذا مع إمكان أن يقال: إنّهم بعد وضوح الحقائق هناك ووضوح سخافة الاعتقاد بقدرة هذه الجمادات أمام تلك العظمة اللامتناهية لا يصدقون على أنفسهم أنّهم كانوا يعتقدون بألوهية هذه الجمادات وربوبيتها وتأثيرها في تدبير الكون، فيكذبون على أنفسهم استبعاداً لهذا الاعتقاد في الدنيا.

وربّما يستفاد ذلك من قوله تعالى في آية سورة الأنعام الآنفة الذكر: « وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ »، فإنّ الظاهر أنّه معطوف على قوله « كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» فيكون كالمفسّر له والمبيّن لوجهه وعلّته والمعنى أنّ ما كانوا يفترونه من اعتقاد بربوبية هذه الجمادات يضلّ عنهم فلا يبقى في ذهنهم، ولا يكادون يصدقون على أنفسهم ذلك.

« كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ »، أي بمثل هذا الضلال يضلّ الله الكافرين، فيمكن أن يكون المراد بهذا الضلال ما مرّ في قوله تعالى في سورة الأنعام « وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ »، فيكون المراد أنّهم يتيهون ويتحيّرون ولا يصدّقون على أنفسهم ما اعتقدوه وبنوا عليه دينهم وأساس حياتهم في الدنيا. وعلى هذا فالمراد إضلالهم يوم القيامة.

ويمكن أن يكون المراد به الإضلال في الدنيا، والتعبير عنهم بصفة الكفر للدلالة على السبب، أي إنّهم حيث كفروا وستروا الحقّ - والكفر هو الستر -

ص: 489


1- يس (36) :65 .

حقّت عليهم كلمة الضلالة، فلم يهتدوا إلى الطريق واعتقدوا هذا الاعتقاد السخيف، حتّى انتهى بهم الأمر إلى هذه الفضيحة والكذب على أنفسهم يوم لا ينفعهم شيئاً.

«ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» لعلّ هذه الآية تشير إلى السبب في إصرارهم على الكفر الذي أدّى بهم إلى استحقاق هذا الضلال والسبب هو الفرح بغير الحق، فالفرح مبغوض في حدّ ذاته إلّا بالحقّ قال تعالى: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»(1) . وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر فمعناه أنّه لا ينبغي الفرح إلّا بفضل الله وبرحمته.

وهناك آيات كثيرة تندّد بالفرح منها قوله تعالى في قصة قارون: «إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» (2)، والله تعالى لم يعقّب على هذا الكلام منهم بشيء ينافيه، وحيث كان فرح قارون بماله الذي يظنّ أنّه حصل عليها بما أوتي من العلم فقد وقع النهي في محلّه.

ومنها قوله تعالى: ««لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (3). وفي هذه الآية تصريح بأنّ الفرح يوجب العذاب الأليم، إلّا أنّه خاصّ بمن يفرح بعمله. والظاهر أنّ المراد به الإعجاب بالنفس .

ومهما كان فالآيات صريحة في أنّ الفرح مذموم إلّا بالحقّ أي بفضل الله وبرحمته فإذا أُوتي الإنسان نعمة من الله تعالى ففرح بها بما أنّها نعمة من الله

ص: 490


1- يونس (10): 58 .
2- القصص (28) :76 .
3- آل عمران (3): 188 .

فهو حسن، أمّا إذا فرح بها لذاتها فهو فرح بالحياة الدنيا وهو مذموم، قال تعالى في صفات من ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه: «وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ »(1) ، فلا ينبغي للمؤمن أن يفرح بما يعتبر من زينة الحياة الدنيا إلّا باعتبار أنّه فضل من الله ورحمة. وبالطبع فإنّ ذلك لا يشمل ما يحصل عليه عن طريق غير مشروع، ولا يشمل كلّ ما يوجب البعد عن الله سبحانه من زينة الدنيا وزخارفها.

وينبغي أن يقال إنّ الفرح المنهي لا بدّ من أن يكون أمراً اختيارياً وفعلاً من الإنسان وهو إظهار الفرح والاستبشار ، وأمّا حالة الفرح التي تحصل للإنسان من دون اختياره فلا يصحّ أن يكون مورداً للنهي، وإن صحّ الذم عليه إن لم يكن الأمر ينبغي أن يوجب الفرح من جهة دلالته على خبث السريرة، فإنّ فرح الإنسان وحزنه وإن كان من غير اختياره یدلّان على انتماءاته وتوجهاته وميوله. وكلّ إنسان يميل قلباً وروحاً إلى من يناسبه وما يناسبه.

«وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ » المرح: شدة الفرح. وفي «معجم مقاييس اللغة»: یدلّ على مسرّة لا يكاد يستقر معها طرباً. ويبدو أنّ الأصل فيه هو شدّة التحرّك وعدم الاستقرار والمرح مذموم مطلقاً، ولذلك لم يقيّده بما قيد به الفرح. قال تعالى: «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا »(2)، وقال أيضاً «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»(3).

والحاصل أنّ السبب في كفرهم وسترهم للحقائق هو فرحهم بالحياة الدنيا،

ص: 491


1- الرعد (13): 26 .
2- الاسراء (17) :37 .
3- لقمان (31): 18 .

بل مرحهم وإخلادهم إلى الأرض وما فيها، فإنّ شدّة التعلّق بالدنيا والإعجاب بزخارفها يبعد الإنسان عن الله تعالى وهداياته. ولذلك ورد في الحديث الشريف «رأس كلّ خطيئة حب الدنيا»(1).

«ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ » وهكذا ينزل عليهم الخطاب الأخير ليقرّر مصيرهم النهائي الذي لا خلاص لهم منه. والأمر بدخول الأبواب بمعنى أنّ كلّ مجموعة تدخل من باب يناسبها، فجهنّم دركات كما أن الجنّة درجات فهم مختلفون في مراتب كفرهم وعنادهم، ولا يدخلون من باب واحد ، ولكن يجمعهم أنّهم جميعاً متكبرون حيث ترفّعوا واستعلوا عن قبول الحقّ والمثوى اسم مكان من الثواء أي الإقامة.

«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» وردت هذه الجملة في الآية 51 من هذه السورة بعد وعده تعالى بنصرة الرسل «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ». ويختلف الأمر هنا عمّا هناك فهناك أمره بالصبر لينزل عليه النصر الموعود في الحياة الدنيا، وهنا أمره بالصبر بعد ذكر عاقبة المجادلين والمعاندين والمتكبرين يوم القيامة ليرتّب عليه أنّهم إمّا ينتقم الله منهم في حياتك فيشفي صدرك، أو يتوفّاك قبل ذلك، فلا تهتمّ بالأمر فإنّ مرجعهم إليه، ولا يفوته عقابهم، واعلم أنّ وعد الله حق.

«فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ »الفاء للتفريع و«فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ » جملة شرطية حذف جوابها. و«إمّا »أصله «إن » الشرطية و«ما» الزائدة، وتفيد تأكيد معنى الشرط أي إن أريناك بعض الذي نعدهم من عذاب الدنيا فقد

ص: 492


1- الكافي 2 :315 .

شفي صدرك، وإن توفّيناك فإنّهم لا يفوتوننا، بل يرجعون إلينا فنعذّبهم. فقوله «فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ » جواب الشرطية الثانية. ثمّ إنّ جعل الرجوع جزاء لتوفيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يشتمل على تهديد بالعذاب، کأنّه يقول فسنعذّبهم يوم القيامة، وهو جزاء الشرط في التقدير.

والله تعالى لا يتردّد بين أمرين بل هو علّام الغيوب و إنّما يردّد في مثل هذه الموارد ليبهم الأمر على المخاطبين وغيرهم. والمقصود هنا إبهام الأمر على المشركين والمؤمنين.

أمّا على المشركين فليكونوا على حذر وخوف من نزول عذاب الاستئصال عليهم، فإن أكثر الناس لا يهمّهم التحذير من عذاب الآخرة، ولكنّهم يخافون سطوة الله في الدنيا. ولذلك تجد أكثرهم حتّى من آمن بالله واليوم الآخر يعصون الله بأكبر المعاصي ولا يخافونه ، فإذا ابتلي أحدهم بالظلم على من يظنّ حسب معتقده أنّه يضرّه في الدنيا كبعض الأولياء، فإنّه يحجم عن ذلك اتّقاء غضبه تعالى في الدنيا.

ولذلك أيضاً تجد أكثر الناس لا يدفعون خمس أموالهم ولا زكاتها، ولكنّهم يتصدّقون لأنّها - كما في الحديث - تدفع بلاء الدنيا. ويدفعون زكاة الفطرة لما سمعوه من أنّها تؤثر في بقائهم إلى السنة التالية. والحاصل أنّ الترديد يبهم على المشركين ليخوّفهم من احتمال العذاب في الدنيا لاستحقاقهم ذلك.

وأمّا الإبهام على المؤمنين ليبقي فيهم الأمل والرجاء في الانتقام، فإنّ العامّة من الناس لا يشفي صدورهم من الثأر إلّا الانتقام في الدنيا، ولا يشفيها عقاب الآخرة، مع أنّه أشدّ وأدوم. وهذا بالطبع يعود إلى استعجالهم وجهلهم بحقائق الأمور.

ص: 493

ومن هذا الباب أيضاً قوله تعالى خطاباً للمؤمنين بعد البشارة بما أعدّ الله لهم من الجزاء في الآخرة «وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ»(1).

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ »الغرض من هذه الآية الردّ على المشركين حيث طالبوا بنزول آية واضحة على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . وقد تكرّرت حكاية هذا الاقتراح من الكفّار في القرآن الكريم:

فمن ذلك ما ورد من حكاية قول المشركين في قوله تعالى «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا *أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا *أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا *أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا» (2).

وكذلك وردت الحكاية فيه عن الأمم السابقة بالنسبة لرسلهم كقول فرعون «فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ »(3).

وقد ردّ الله تعالى على هذا الاقتراح بوجوه:

منها: أنّهم لا يؤمنون مهما ننزل عليهم من الآيات كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ »(4) وقال أيضاً «وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ *لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا

ص: 494


1- الصف (61) : 13 .
2- الإسراء (17): 90 - 93 .
3- الزخرف (43) : 53 .
4- الأنعام (6): 111.

بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ»(1) وورد هذا المضمون في آيات أخرى أيضاً.

ومنها: أنّ نزول الآية لا يكون إلّا بإذن الله تعالى وليس من اختصاص الرسول. وهذا أيضاً ورد في عدّة من الآيات كالآية التي نحن فيها وكقوله تعالى« وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ »(2).

ومنها: أنّ ما نزل من الآيات تكفي للحجّة كقوله تعالى «وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى»(3)، والمراد بالبينة القرآن الكريم.

ومنها: أنّ الله تعالى لا ينزل الآيات المقترحة رحمة بهم لأنّها إذا نزلت لا يمهلون كقوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ »(4).

ولذلك لمّا طلب ثمود من نبيّهم صالح (علیه السلام) أن يخرج لهم من الجبل ناقة ليؤمنوا به فأخرج الله لهم ذلك فكذّبوه وقتلوا الناقة لم يمهلهم الله تعالى إلّا ثلاثاً فأبادهم جميعاً. ولذلك أيضاً لمّا طلب الحواريون من عيسى (علیه السلام) أن ينزّل عليهم من السماء مائدة جاءهم الخطاب « إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ»(5).

ومنها أنّ تكذيب البشر للآيات من موجبات انقطاع نزولها كما قال تعالى:

ص: 495


1- الحجر (15): 14- 15.
2- الرعد (13): 38 .
3- طه (20) :133 .
4- الأنعام (6): 158.
5- المائدة (5): 115 .

«وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ »(1).

ولعلّ الباحث يجد وجوهاً أخرى أيضاً.

ومهما كان ففي هذه الآية المباركة يردّ على الاقتراح المذكور من دون ذكره بأنّ الله تعالى قد أرسل قبلك جمعاً كبيراً من الرسل، منهم من قصّ حديثهم عليك في القرآن ومنهم من لم يذكر قصّته فيه ولا أوحى إليك بقصّتهم خارج المجموعة القرآنية، ولم يبعث مع هؤلاء الرسل ما طالبت به أممهم من الآيات إلّا نادراً.

« وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»هذا استشهاد بسيرته تعالى مع الرسل السابقين ليتبيّن للمشركين أنّ الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليس بدعاً من الرسل. والتعبير بقوله تعالى « مَا كَانَ »يفيد أنّ ذلك غير ممكن للرسل. وهذا هو الوجه الثاني ممّا مرّ من الوجوه كما أشرنا إليه.

« فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ » المراد بأمره تعالى أمره بإنزال العذاب، حيث إنّهم كانوا يطالبون به أيضاً كآية من آيات الله کأنّهم يتّحدون غضبه تعالى كما قال سبحانه: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ »(2)، وكقولهم « مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» وقد تكرّر في القرآن حكاية ذلك عنهم، وقلنا إنّ المراد في بعض مواردها قيام الساعة، وفي بعضها نزول العذاب. ولكنّ أمر الله تعالى لا يأتي إلّا في وقته وأجله المحدّد والمبطلون الذين يقولون الكذب ويدّعون الباطل.

ص: 496


1- الإسراء (17): 59 .
2- الحج (22): 47.

ويمكن أن يكون المراد أمره تعالى بنزول الآية المقترحة، فإذا نزلت الآية قضي بالحقّ. والحقّ في هذا الحال هو أنّ القوم إذا لم يؤمنوا بعد نزول الآية المطلوبة ينزل عليهم العذاب كما مرّ آنفاً من حكمه تعالى على الحواريين في سورة المائدة: 115. وعليه فتكون هذه الجملة مكمّلة لما تهدف إليه الآية، وهو تحذير القوم من مطالبة الآيات.

ويمكن أن يكون المراد من الأمر أمره تعالى بالقضاء بالحقّ بقرينة قوله « قُضِيَ بِالْحَقِّ» وإذا جاء أمره بأن يقضى بالحقّ فلا يبقى مجال للباطل ولا يمهل المبطلون والقضاء بمعنى الحكم. والحقّ هو الأمر الثابت ومآل ذلك إلى أن يوضع كلّ شيء موضعه الصحيح، وينال كلّ إنسان جزاؤه من خير أو شرّ. وهذا لا يتحقّق في الدنيا إلّا في مواضع خاصّة كما قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ»(1).

و إنّما يقضي بالحقّ ويوضع كلّ شيء موضعه يوم القيامة كما قال «وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(2).

وإذا قضي بين الناس بالحقّ في هذه الحياة فالذين كذّبوا بآيات الله تعالى لا يستحقّون إلّا عذاب الاستئصال. وهذا هو حقّهم الذي يطالبون به والنتيجة هي خسارتهم التامّة، حيث يخسرون أنفسهم وأهليهم وحضارتهم وكلّما بنوا من عمارة الدنيا، والأهمّ من ذلك أنّهم يخسرون الفرصة والمهلة للتوبة والرجوع

ص: 497


1- الشورى (42): 30 .
2- الزمر (39): 75 .

إلى الله تعالى ولإصلاح أخطائهم السابقة، وبذلك يخسرون السعادة الأبدية في الآخرة أيضاً.

وصريح الآية أنّ هناك رسلاً لم يذكروا في القرآن قبلها، والظاهر أنّ هناك من لم يذكر أصلاً لقوله تعالى « «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ»(1). وقد قيل إنّه لم يرد ذكر لرسول جديد الذكر بعد نزول سورة النساء، والله العالم.

ولا شكّ أنّ الرسل أكثر ممّا ورد ذكرهم في القرآن بكثير لقوله تعالى « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ » (2)، وقد ورد في الروايات أنّ عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألفاً، وفي بعضها مائة وعشرين ألفاً، وفي بعضها غير ذلك، وفي بعضها أنّ عدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً (3)، وقد ورد في الأحاديث ذكر لرسل لم يرد ذكرهم في القرآن كما في رواية عن أمير المؤمنين (علیه السلام)«بعث الله نبيا أسود لم يقصّ علينا قصّته». (4)

وربّما يلاحظ بقايا طقوس دينية في أقوام من البشر بعيدين عن أجواء الرسل المعروفين، وتبدو أنّها من بقايا شرايع الرسل القديمة نالتها أيدي التحريف.

ص: 498


1- النساء (4): 164 .
2- فاطر (35): 24 .
3- راجع الكافي 1: 224 كامل الزيارات: 234؛ خصال، الصدوق: 640 - 641 وغيرهما من كتب الخاصّة والعامّة.
4- رواها في المجمع والظاهر أنّها عاميّة لم ترد عن طرقنا.

سورة غافر (79 – 81)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

« اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ» إشارة إلى بعض نعمه تعالى التي هي من آياته التي تدلّ على حكمته ورحمته وربوبيته الشاملة كنموذج من الآيات الكونية بعد أن رفض إرسال الآيات المقترحة رحمة بهم كما مرّ فکأنّه تعالى ينبّههم على أنّ ما في الكون من الآيات يكفي لمن كان له قلب ولم يتّبع هواه.

ثم إن قوله « اللَّهُ الَّذِي » يفيد الحصر، أي إنّ الذي جعل لكم الأنعام هو الله تعالى لا غيره وذلك للردّ على أوهام المشركين ، حيث ينسبون شطراً من الربوبية إلى الأصنام أو غيرها والاستدلال يبتني على تسليمهم بأنّ الله تعالى هو الخالق للأشياء لا غيره كما هو معتقد الوثنية. قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » (1)، وحيث إنّ هذا الخلق يكشف عن هدف وحكمة للخالق يتبيّن منه أنّه هو الربّ الذي ينعم على الخلق، ومنهم البشر بما يحتاجونه في معيشتهم على هذا الكوكب.

والمراد بجعل الأنعام إمّا هو الجعل البسيط بمعنى أنّه خلقها لهذا الغرض، أو الجعل المركب بمعنى أنّه جعلها بعد الخلق مسخّرة لكم. وعلى الاحتمال الثاني لا یدلّ على أنّ أصل خلقها كان لذلك، ولكنّها كانت مستعدّة

ص: 499


1- لقمان (31) :25 .

لهذا الغرض فسخّرها الله تعالى له.

والأنعام جمع لا مفرد له. وهو مأخوذ من النعمة، يطلق في الأصل على الإبل لكثرة فوائدها لدى العرب، حيث كانوا يعيشون في الصحراء. ثمّ أطلق على الإبل والبقر والغنم فان أريد بها هنا خصوص الإبل فالمعنى واضح لأنّها تستخدم في الأكل والركوب، وإن أريد بها الأعمّ، فالمراد أنّ منها ما يركب ومنها ما يؤكل. و«من» على كلا التقديرين تبعيضية.

« وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ» إشارة إلى ما ينتفع به من جلودها وأشعارها وأوبارها وألبانها وغير ذلك، فإنّ الأنعام يستفاد من كلّ أجزائها. وتشمل المنافع المتاجرة بها وزيادة الإنتاج والركوب للزينة ونحو ذلك.

« وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ » لعلّ المراد بالحاجة الانتقال إلى بلد أو مكان آخر، وكذلك نقل الأثقال ولا يشمل هذا سائر المنافع لقوله « عَلَيْهَا ». فقوله « لِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا »يفيد أنّ الركوب عليها والمشي بها يوصلكم إلى حاجة في صدوركم، فالمراد الأماكن البعيدة التي يصعب الوصول إليها بالسير على الأقدام.

« وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ » تكرارالحمل بالنسبة للأنعام بعد ذكر الركوب وبلوغ الحاجة للتشريك بينها وبين الفلك، فالإبل للحمل في البرّ والفلك للحمل في البحر. والفلك أيضاً من النعم الطبيعية وإن كان من صنع البشر، من جهة أنّ الله تعالى جعل هذه القوانين التي على أساسها يمكن استخدام الفلك في البحر، ومن جهة تأثير الرياح في حركة السفن سابقاً. مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ أوّل من صنع السفينة هو النبيّ نوح (علیه السلام) بوحي وتعليم من الله تعالى كما قال: «وَاصْنَعِ

ص: 500

الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا » (1).

« وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ »، أي وهكذا يريكم الله بهذا الكلام آياته في كلّ مخلوق فإنّ الخلائق كلّها آيات لله تعالى تدلّ على عظمة الخالق وحكمته وتدبيره. ولعلّ المراد بالإراءة التنبيه على كونها آيات، فإنّ الإنسان يرى الأشياء بل يغور فيها وفي عجائبها وغرائبها، ولكنّه لا ينتبّه إلى كونها آية تدلّ على حكمة الخالق وقدرته وأنعامه وربوبيته فينبّهه الله تعالى على ذلك، ويمكن أن يكون المراد بالإراءة نفس إيجادها وتكوينها.

« فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ » استفهام إنكاري، واستنكار لمن ينكر آيات الله الواضحة الباهرة والإنسان بفطرته لا يكاد ينكر آيات الله تعالى وإن أنكرها بلسانه فهو معترف بها بقلبه، إلّا أنّ الذي يدعوه إلى الإنكار هو اتّباع الهوى أو متابعة الآباء والأجداد والتقاليد البالية. وإضافة الآيات إلى اسم الجلالة دون الضمير للتأكيد على سخافة الإنكار والتنديد به ، لأنّه إنكار لآيات الله تعالى. وهل يمكن لعاقل أن ينكرها؟!

ص: 501


1- هود (11): 37 .

سورة غافر(82 – 85)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

« أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ » بهذا المقطع تنتهي السورة المباركة. وفيه يعود السياق إلى ما ورد في أوائلها من الحثّ على السير في الأرض للنظر والاعتبار في عاقبة الذين كفروا من قبل من الأمم السابقة، حيث أرسل الله إليهم الرسل فكذّبوهم واستهزأوا بهم، فأنزل الله عليهم عذاب الاستئصال ودمّر مبانيهم العظيمة، وأباد حضارتهم، ولم يبق منهم أحداً ولا أثراً إلّا ما يكون عبرة لمعتبر، مع أنّهم كانوا أكثر من مشركي مکّة عدداً، وأشدّ منهم قوّة في الجسم، وأكثر آثاراً في الأرض.

ولعلّ المراد بالآثار المباني العظيمة والغريبة التي حيرت عقول الخبراء حتّى بعد هذا التقدّم المذهل في العلوم. ولكنّهم مع هذه الآثار والقوّة والكثرة أبادهم الله تعالى عن بكرة أبيهم بعد أن كذّبوا الرسل. ولم تغن عنهم قوّتهم وشوكتهم وكثرتهم شيئاً. وهذا بنفسه أمر واضح لا يحتاج إلى تنبيه، لأنّ الإنسان مهما تمكن من مقاومة الطبيعة وقوانينها وسخّر ما أمكنه منها لصالحه إلّا أنّ هناك

ص: 502

كثيراً من القوانين لا يمكنه أن يواجهها إلّا بالتسليم. ولو فرضت له القدرة على كلّ متطلّبات الطبيعة، ولكن لا شكّ أنّه لا يمكن أن يقاوم إرادة الله تعالى الذي خلق الطبيعة وأسّس قوانينها .

وهذا مع أنّه واضح لا يحتاج إلى بيان إلّا أنّ البشر الجاهل المسكين كثيراً ما تنتابه آفة العجب والخيلاء، فإذا وجد نفسه مقتدراً على بعض العباد العاجزين نظر في عطفه، وتخيّل أنّه قادر على كلّ شيء. وهكذا يزداد عجباً وخيالاً إلى أن يدّعي الألوهية، أو يدّعي أنّ بإمكانه مقارعة الخالق المتعال. وقد وجد كثير من الطغاة الجبابرة يتشدّقون بذلك. وكثير منهم يبدي تواضعاً لله تعالى وخضوعاً للتمويه على الناس، وهو في قرارة نفسه لا يختلف عن الفراعنة والذين ادّعوا الألوهية ونحوها.

« فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» الغنى الكفاية. أي لم يكفهم في مواجهة غضب الله تعالى وعذابه كلّ ما بنوه من قصور ومباني، وكلّ ما تحصّنوا خلفه من قلاع وحصون، وكلّ ما جمعوه من جنود وعتاد، وكلّ ما ملأوا به الخزائن من ذهب وفضة، وكلّ ما أظهروه من سطوة وقوّة، وأخافوا به العباد، وتسلّطوا به على البلاد، وكلّ ما حقّقوا من علاقات دبلوماسية وصداقات مع سائر الجبابرة، وغير ذلك ممّا يفرح به الإنسان ويظنّ أنّه يكفيه يوم الشدّة، ولكنّه يجهل أو يغفل أنّ شيئاً من ذلك لا ينفعه في مواجهة الإرادة القاهرة الإلهية.

« فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ» أبى الله تعالى لرحمته بعباده التي غلبت غضبه ونقمته أن يعذّب قوماً في الحياة الدنيا عذاب الاستئصال، إلّا بعد أن يبعث فيهم رسولاً يدعوهم إلى الخضوع أمام الربّ تعالى، وعدم الطغيان على أوامره

ص: 503

ونواهيه. وعذاب الدنيا وإن لم يكن شيئاً يذكر إذا قيس بعذاب الآخرة إلّا أنّ عذاب الاستئصال يفقد الإنسان كلّ الفرص المتاحة للنجاة والتوبة والعود إلى رشده، كما أنّه يقضي على كلّ القابليات التي لم تصل إلى مرحلة النضج كالأطفال والشباب.

ولذلك لا يعجّل الله عذاب الأقوام الكافرة، والتي تشيّع فيها المنكرات والظلم والفساد حتّى يبعث فيهم الرسل، ويأتيهم الرسل بالآيات والأدلة الواضحة، والمعجزات التي لا يمكنهم تفسيرها بما أوتوا من العلم، وهي التي عبّر عنها في هذه الآية بالبينات.

« فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ »، أي اغترّوا بما وصلوا إليه من العلم والثقافة والحضارة، ولم يعجبهم ما أخبر به الرسل من أخبار الغيب عن المعاد وما بعد الموت، وما طالبوا به من ترك العادات والتقاليد البالية والتدين بما أمر به الله سبحانه، فتلقّوا كلامهم بالسخرية اللاذعة، واعتبروه تخلّفاً، وبعداً عن العلم والحضارة، كما نجده ونسمعه اليوم من المدّعين للعلم الذين يظنّون أنّ العلم منحصر في ما اكتشفوه من حقائق الطبيعة، مع أنّهم لا يعلمون إلّا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.

وهكذا واجهوا رسالات السماء بالاغترار بما لديهم من علم الدنيا الذي به تمكّنوا من تشييد المباني وبناء المدن واستهزؤوا بالرسل، وما كان يبدو على مظاهرهم من الفقر والضعف وبساطة العيش، واستهزؤوا بما يحذّرونهم منه من العذاب الإلهي، كما نسمعه اليوم أيضاً. بل طالبوا بالعذاب واستعجلوا به، كما هو الحال في عصرنا وما أشبه الليلة بالبارحة.

ص: 504

والتعبير عن علمهم بأنّه جاءهم لا يعني أنّه إلهام أو وحي من الله تعالى، و إنّما هوعلم اكتسبوه، وكلّ ما يكتسبه الإنسان فهو من الله تعالى.

« وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ »لمّا تمادوا في الغيّ وانتهت مدة الإمهال التي لا يعلمها إلّا الله تعالى حاق بهم، أي نزل بهم أو أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به عند سماع التهديد به من الرسل. وقد مرّ الكلام في معنى «حَاقَ » في تفسير الآية 45 .

وللمفسّرين أقوال غريبة في معنى قوله تعالى: « فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » لا حاجة إلى نقلها. وكأنّ بعضهم استبعد أن يعبّر عن ما كان لديهم بالعلم. مع أنّ العلم يصدق عليه بوضوح وقد قال تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »(1)، وقال تعالى نقلاً عن قارون في مواجهة ما وعظه به المؤمنون من قومه: «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي»(2) . ولعلّ بعضهم استغرب التعبير عن ذلك ب- «ما عِنْدَهُمْ» واستظهر منه أنّ المراد رسالات السماء مع أنّ كلّ ما لدينا فهو من الله تعالى، ولا حاجة إلى تأويل.

« فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ» البأس: الشدّة. والمراد به هنا العذاب الإلهي. والآية تنقل توبة الأقوام الكافرة والمعاندة للرسل بعد نزول العذاب، وأنّهم يعلنون إيمانهم بالله تعالى وحده لا شريك له في آخر لحظة من حياتهم، ويعلنون كفرهم بما أشركوا به. وهكذا الإنسان لا يرجع عن غيّه، ويستمرّ في مقارعة الحقّ، ولا يترك سبيل الباطل والشهوات، حتّى يواجه الحقيقة المرّة.

ص: 505


1- الروم (30): 7 .
2- القصص (28): 78 .

والإنسان أسير المغامرات يتلذّذ بركوبها، ويخيّل إليه دائماً أنّ المجال مفتوح لتصحيح الأخطاء، مع أنّه يجد أنّ كثيراً من الأخطاء لا يترك مجالاً للتفادي فالسائق المسرع في مغامراته يتصوّر أنّه ماهر في إيقاف العربة متى أراد. ومع أنّه يجد في كلّ يوم حوادث مؤسفة كلّها أو جلّها ناتجة عن هذا التصوّر الخاطئ، ولكنّه مع ذلك يغامر ويخاطر بنفسه ونفوس الآخرين. وفي لحظة الحادث ربّما لا يجد مجالاً حتّى لإظهار الندم.

وهكذا البشر في مواجهة وعيد الرسل بالعذاب الإلهي، فإنّ البشر كثيراً ما يخاطر ويغامر ، بل ربّما يطلب العذاب ويستعجل به ،وهو يظنّ أنّه إذا رأى بوادر العذاب سيؤمن ويخلّص نفسه، ولكنّ العذاب ربّما لا يمهل ولو أمهل فإنّ الإيمان في ذلك الوقت لا ينفع. وقد ورد التصريح بذلك في عدّة من الآيات الكريمة، ومنها هذا المقام .

« فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا» والسرّ في ذلك أنّ الإيمان المطلوب من البشر والمفيد له في رفع درجاته ومقامه هو الإيمان بالغيب، كما صرّح به في موارد عديدة أيضاً. وإذا تبيّن العذاب وشاهده الإنسان خرج عن كونه غيباً، فلا يفيده الإيمان حينئذ.

وغريب غباء الإنسان في مقابل إمهال ربّه، كما حدث لفرعون حيث قابل كلّ ما رآه من الآيات والمعجزات البيّنة الواضحة بالعناد أملا في أن يمهله الله تعالى أكثر فأكثر. وبلغ به الغباء غايته حينما رأى البحر قد فتح الطريق لموسى ومن معه ليفّروا من بأسه، فغامر بنفسه وجيشه أملا في أن يمهله الله حتّى يخرج من الجهة الأخرى، ويعيد بني إسرائيل إلى عبوديته، فأغرقه الله تعالى. وآنذاك قال: « آمَنْتُ

ص: 506

أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ » وجاءه الخطاب: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ »(1)، ولم يقبل الله تعالى منه إيمانه.

وهنا أيضاً يحكي الله سبحانه عن الأمم المتحضّرة السابقة كيف يواجهون العذاب الإلهي، ويعلنون إيمانهم بالله وحده، ورفضهم لما أشركوا به من قبل، وكفرهم بالآلهة المزيفة، ولكن لا ينتفعون بذلك.

« «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ » نعم! هذه سنة من سنن الله في جميع المجتمعات البشرية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً والسنة: الطريقة، والأصل فيه السير بسهولة كما في «معجم المقاييس». و «خلت» أي مضت وسنّة الله تعالى لا تتغيّر لأنّ الذي يغيّر سنّته إنّما يغيّرها لخطأ جهل به في ما سبق، وهو محال على الله تعالى

« وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ» النتيجة هى الخسارة المطلقة لمن كفر بربّه وعاند الحقّ واستمرّ في التسويف والتأخير، فإنّه يخسر فرصة العودة والرجوع إلى الله تعالى فيخسر نفسه وأهله. نسأل الله تعالى أن يوفقنا للتنبه قبل فوت الأوان إنّه سميع قريب. والحمد لله أوّلاً وآخراً والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين الهداة المنتجبين.

ص: 507


1- يونس (10): 90 - 91 .

ص: 508

تفسير سورة فصلت

اشارة

ص: 509

ص: 510

سورة فصّلت(1 – 8)

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

«فُصِّلَتْ » سورة مكية، وذلك واضح من سياقها وخطاباتها الموجهة إلى المشركين. ويقال: إنّها من أقدم السور المكية. و یدلّ على ذلك الحديث التالي المرويّ في «بحار الأنوار»، نقلاً عن كتاب «إعلام الورى بأعلام الهدى». ونحن ننقله من هذا المصدر، وإن روي في مصادر أخرى أيضاً من كتب العامّة والخاصّة بألفاظ مختلفة:

كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا يكفّ عن عيب آلهة المشركين ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمد ويقول بعضهم هو كهانة. ويقول بعضهم: هو خطب.

ص: 511

وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً، وكان من حكّام العرب يتحاكمون إليه... وكان من المستهزئين برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وكان عمّ أبي جهل بن هشام فقال له: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد أسحر ، أم كهانة، أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه.

فدنا من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو جالس في الحجر فقال: يا محمد أنشدني من شعرك. قال: ما هو بشعر ، ولكنّه كلام الله الذي بعث به انبیاءه ورسله فقال: أتل عليّ منه فقرأ عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم» فلمّا سمع الرحمن استهزأ فقال: أتدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرحمن قال: لا ولكنّي أدعو إلى الله، وهو الرحمن الرحيم.

ثم افتتح سورة حم السجدة، فلمّا بلغ إلى قوله « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ » (1) وسمعه اقشعرّ جلده، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش. فقالت قريش لأبي جهل: يا أبا الحكم ! صبا أبو عبد شمس إلى دين محمد، أما تراه لم يرجع إلينا، وقد قبل قوله ومضى إلى منزله، فاغتمّت قريش من ذلك غمّاً شديداً.

وغداً عليه أبو جهل، فقال: يا عمّ نكست برؤوسنا وفضحتنا. قال: وما ذاك يابن أخ؟ قال: صبوت إلى دين محمد قال: ما صبوت وإني على دين قومي وآبائي، ولكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود. قال أبو جهل: أشعر هو؟ قال: ما هو بشعر. قال: فخطب هي؟ قال : لا ، إنّ الخطب كلام متصل وهذا كلام منشور، ولا يشبه بعضه بعضاً له طلاوة. قال: فكهانة هي؟ قال: لا. قال: فما هو ؟ قال: دعني

ص: 512


1- فصّلت (41): 13 .

افكّر فيه فلمّا كان من الغد قالوا يا أبا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا هو سحر فإنّه آخذ بقلوب الناس فأنزل الله تعالى فيه : «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا... عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ »(1). (2)

«حم» من الحروف المقطعة، وربّما يقال إنّه اسم للسورة. وقد مرّ بعض الكلام حول هذه الحروف في تفسير سورة يس المباركة.

« تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» أي هذا القرآن تنزيل والتنزيل مصدر بمعنى اسم المفعول، أي منزل من الرحمن الرحيم.

والتعبير بالتنزيل ليس بمعنى أنّه أنزل من مكان مرتفع بل باعتبار العلو المعنوي، حيث إنّه أرسل إلى البشر من عند ربّ العالمين، أو بلحاظ أنّ مضامين هذا الكتاب معان عالية جدّاً لا يبلغها عقول البشر ، فنزلها الله تعالى إلى مستوى فهم الإنسان وإدراكه.

و « الرَّحْمَنِ » صفة مشبهة تدلّ على المبالغة في الرحمة من جهة الشمول والسعة. فهي تشمل الرحمة على الكافرين أيضاً ولكن في الدنيا. والرحيم أيضاً صفة مشبهة ولكنّها تدلّ على الثبات واللزوم، فهي تختص بالمؤمنين، حيث إنّ الرحمة لازمة لهم لا تنفكّ عنهم وتشملهم حتّى في الآخرة.

وفي حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) في تفسير البسملة قال الله (عزَّ و جلَّ) «والله إله كلّ شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة». (3)

وعليه فالتركيز على الاسمين الكريمين لعلّه للدلالة على أنّ القرآن الكريم

ص: 513


1- المدثر (74) : 11 - 30 .
2- بحار الأنوار 17: 211 .
3- الكافي 1: 114.

يفيد البشر فى الدنيا والآخرة، لأنّه منزّل من الرحمن، الاسم الذي يشير إلى الرحمة العامّة والرحيم الذي يشير إلى الرحمة الخاصّة. أو يفيد الكافر والمؤمن، أمّا الكافر فبهدايته إلى الإسلام والإيمان، وأمّا المؤمن فبتثبيت إيمانه، وإنارة طريقه إلى رضا الله تعالى.

والرحمة في الأصل رقّة في القلب تستدعي لطفاً وعناية. ولكن ذلك مستحيل على الله تعالى، فاذا نسبت إليه كانت بمعنى نفس اللطف والعناية.

« كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ » خبر بعد خبر. والمراد بالتفصيل التوضيح والتبيين ومنه أيضاً قوله تعالى في نفس هذه السورة في الآية 44 « وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ » ، فالتفصيل هنا في مقابل العجمة، حيث يكون المعنى مجهولاً لدى العربي.

والمقصود أنّ آيات هذا الكتاب واضحة المعاني وليست معقّدة، وإن لها بواطن ربّما لا يعلمها أحد إلّا بتبيين من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولكن لها معان ظاهرة وواضحة تكفي لإيصال الإنسان إلى الهدف المنشود.

ويمكن أن يكون التفصيل باعتبار أنّ هذا الكتاب يفيد كلّ أحد يرجع إليه ممّن يعرف اللغة على اختلاف المستويات الثقافية، وعلى اختلاف المذاهب والأديان، وعلى اختلاف الأذواق والأفكار، وعلى اختلاف المشاكل والحاجات، فالقرآن يمدّ كلّ أحد بما يناسبه.

« قُرْآنًا عَرَبِيًّا» حال من الكتاب، أي فصّلت حال كونه قرآناً عربياً. والقرآن مصدر من قرأ بمعنى جمع أي هو مجموعة من المطالب باللغة العربية الفصحى. ويمكن أن يكون مصدراً بمعنى القراءة، أي التلاوة، وإن كان الأصل فيها أيضاً

ص: 514

الجمع، فالمراد على ذلك أنّه مقروّ ومتلوّ، أي سهل القراءة ينتفع به الجميع.

« لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» متعلّق بقوله «فُصِّلَتْ» ولعلّ المراد الذين يعلمون اللغة العربية. ويمكن إرادة العلم بمعنى مطلق في مقابل من ليس له رصيد علمي أصلاً، فلا ينتفع بشيء منه، أو بمعنى من له قابلية العلم نظير قوله تعالى «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ »(1) أي من له قابلية اليقين، في مقابل المعاند.

« بَشِيرًا وَنَذِيرًا »حالان أيضاً من الكتاب لبيان الهدف من التنزيل، وهو تبشير المؤمنين بما يستقبلهم من رغد العيش في الحياة الآخرة، وإنذار لمن سمعه فأعرض عنه بما أعدّ له من العذاب في تلك الحياة الأبدية.

« فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ »استغراب من مقابلة كفار قريش لهذا الكتاب الذي أنزل بلغتهم ، وفُصّلت آياته وهو يبشّرهم ويحذّرهم وينذرهم بمستقبل خطير، ومع ذلك أعرضوا عنه ولم يهتمّوا به، کأنّهم لا يسمعون شيئاً. وكان المفروض ممّن يعقل أن يهتمّ بمستقبله ويسمع لأيّ تحذير. ولذلك نُزِّل عدم اهتمامهم بمنزلة عدم السماع إذ لا يعقل من الإنسان العاقل أن لا يهتمّ بمثل هذا الإنذار .

والأغرب من ذلك أنّ هؤلاء يشكّلون الأكثرية في هذا المجتمع. وهذا من الموارد التي يتبيّن منها ضعف أداء الأكثرية، وبطلان اللجوء إلى رأيها والاستناد إليها.

والظاهر أنّ الضمير في «أكْثَرُهُمْ» يعود إلى قوله تعالى « لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» أي العرب العالمين باللغة، أو من لهم شيء من العلم، أو قابلية العلم. ومهما كان

ص: 515


1- الجاثية (45) :20 .

فالمراد بالأكثر كفار مکّة، وربّما يقال: إنّ أهل مکّة أسلموا بعد ذلك فلماذا نسب الكفر والجحود إلى أكثرهم؟

والجواب أنّ الأكثرية قد يكون بلحاظ زمان نزول الآية، أو باعتبار أنّ أكثرهم ماتوا على الكفر ، أو باعتبار أنّ أكثر من أسلم منهم إنّما أسلم بعد الفتح كرهاً ونفاقاً.

«وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ »، «الأَكِنَّةٍ » جمع کنان كالأغطية جمع غطاء، وهو بمعنى الغطاء أيضاً. والمراد بالقلوب العقول، وكونها فی غطاء كناية عن عدم تأثرها بما يلقى عليهم من المعلومات، أي أنّهم لا يفهمون معنى ما يقوله الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وما يدعو إليه من حقائق كما قال قوم شعیب (علیه السلام): « مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ »(1).

والوقر في الأصل الثقل، فيطلق على الثقل في الحمل، وعلى الثقل في السمع، وهو الصمم. والمقصود أنّا لا نسمع كلامك، فضلاً عن فهم معانيها.

« وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ »، «مِنْ» زائدة، أي بيننا وبينك حجاب، والظاهر أنّها تؤكد البينية فتفيد أنّ الحجاب خاصّ بيننا وبينك وليس حجاباً عامّاً. والحجاب كلّ ما يستر شيئاً عن شيء والمراد به هنا ما يمنع الرؤية، فالمعنى أنّا لا نراك أصلاً، فضلاً عن السماع. وبذلك أرادوا أن يؤيسوا الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من إيمانهم لعلّه يتركهم وشأنهم.

وهم صادقون في ما قالوا، فهذا الحجاب والوقر والأكنّة أمور طبيعية، تحصل من عناد الإنسان في مواجهة الحق. وقد أخبر بها الله تعالى في موارد عديدة من

ص: 516


1- هود (11) :91 .

کلامه العزيز منها قوله تعالى «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا *وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًاً»(1).

« فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ» قيل : إنّ المراد أُتركنا واعمل بما تراه صحيحاً، ونحن أيضاً نعمل بما نراه ولكن هذا لا يناسب غطرسة القوم ، بل هو الذي كان يطالب به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأمر من الله، قال تعالى: «وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ »(2) وكانوا يرفضون هذه الفكرة.

والظاهر أنّ المراد به التهديد أي اعمل ضدّنا كما تشاء، وائتنا بما تعدنا، إنّا عاملون ضدّك بما نستطيع، أو إنّا ماضون على طريقتنا. ويؤيّده الجواب الذي يأتي في الآية التالية.

« قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ» أمر الله تعالى رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يرد على كلامهم بأنّه ليس إلّا بشراً مثلهم والعذاب إنّما يأتي به الله تعالى إذا أراد فهذا جواب على قولهم « فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ» وهو كما ذكرنا يؤيد التفسير المتقدم لهذه الجملة.

والآية تنبّه على أنّ الفرق بين الرسول وغيره من الناس أمر واحد، وهو أنّه يوحى إليه. ولعلّ بعض الناس يتوهّم أنّ هذا ينزل من شأن الرسول، وأنّ كلّ ما يقال في إكرام الرسل وأنّهم فوق مرتبة سائر الناس إنّما هو غلوّ في حقّهم، لأنّ الله تعالى يقول: إنّ الرسول بشر مثلكم، و إنّما هو بشر يوحى إليه.

ولكنّ الواقع أنّ هذا الفرق كبير جدّاً كالفرق بين السماء والأرض، فأين البشر

ص: 517


1- الإسراء (17): 45-46 .
2- الشورى (42): 15 .

المتوغّل فى الأمور المادية أو المهتّم بها، فضلاً عن الذي يجد بينه وبين الرسول حجاباً، والذي لا يسمع صوته، من البشر الذي يرتبط بالسماء، وتنزّل عليه الملائكة، ويوحي إليه ربّه ؟!

إنّ هذا الفرق الكبير أعظم من أن تناله أوهامنا وتصل إليه أفكارنا نعم! الرسول بشر مثلنا في جسمه، وما يتبعه من أوصاف نفسية بشرية، كالغضب والرضا، والحبّ والبغض، ولكنّه بشر انتخبه الله تعالى واصطفاه ليؤدّي رسالة السماء، وأمر الناس جميعاً بإطاعته، لأنّه معصوم لا يمكن أن يأمر بما يهواه ما لم ينزّل به الوحي الإلهي.

«أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» يبدو من الجملة انحصار الوحي في توحيد العبادة، وذلك لأنّه في مقام بيان الفارق بينه وبين سائر البشر، وأنّ الفرق ليس إلّا الوحي ثم حدّد متعلّق الوحي بالتوحيد فالسياق يقتضي الانحصار.

وليس هذا من المبالغة، بل هذا هو أساس كلّ ما يوحى إلى الرسل في جميع الشرائع: «لا تعبدوا إلّا الله » وهو أساس الوحدة الاجتماعية في البشر ««وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» (1)والبشر لولا الدين لاتحدّوا على الباطل، و إنّما تفرّقهم الأهواء «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ»(2) فالذي تدعو إليه الأديان وشرائع السماء هو الالتفاف حول كلمة التوحيد، ونبذ التفرّق على هذا الأساس.

قال تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ

ص: 518


1- آل عمران (3): 103 .
2- البقرة (2) :213 .

إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»(1) فهذا هو روح الشرائع.

والإله هو المعبود، فالمطلوب من الإنسان أن لا يعبد إلّا الله تعالى، وهذا يشمل عبادة الأصنام والبشر والمال والشيطان والهوى ونحوها وكلّ سعادة الإنسان تكمن في ذلك، فإنّ الإطاعة العمياء عبادة، فإذا لم يطع الإنسان بشراً ممّن لم يأمر الله تعالى بإطاعته، ولم يطع ما يلقيه إليه شياطين الجنّ والإنس، ولم يطع هواه، فإنّه يقرب من أن يكون معصوماً.

« فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ » تفريع على التوحيد والاستقامة هو الاعتدال، وعدم الانحراف يميناً أو شمالاً، وهو السير على الصراط المستقيم، ويفيد معنى الثبات أيضاً. وحيث ضُمّنت الاستقامة معنى التوجّه عُدّيت ب- «إلى» أي استقيموا في توجّهكم إليه. ومعنى ذلك أنّ مجرّد التوجه إلى الله تعالى غير کاف، بل لا بدّ من الاستقامة فيه ومتابعة الطريق الذي رسمه الله تعالى عن طريق الوحي وبواسطة رسله والثبات والعزم في الاستمرار عليه.

« وَاسْتَغْفِرُوهُ »لا بدّ للبشر من الاستغفار، إذ لا يخلو إنسان من الانحراف قليلاً يميناً أو شمالاً، فلا بدّ من الرجوع والاستغفار هو طلب المغفرة، أي الستر عمّا بدر من الإنسان المخطئ.

«وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» الويل دعاء بحلول الشر. وإذا صدر من الله تعالى فهو إحلال للشرّ. وقيل: كلمة يقال عندما يراد تقبيح فعل أو صفة. وهذا نتيجة لما سلف من أنّ المطلوب هو التوحيد، فمن أشرك بالله فقد حلّ عليه الشرّ.

« الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ» المراد بالزكاة مطلق الإنفاق في

ص: 519


1- الشورى (42) :13 .

سبيل الله فلا وجه لاستغراب بعضهم من جهة أنّ وجوب الزكاة إنّما شُرّع في المدينة، وهذه السورة مكّية، بل من أوائل ما نزل بمکّة.

والوجه في التعبير بالزكاة عن الإنفاق، تخصيصه بما يكون موجباً لتزكية النفس وتنميتها معنوياً، ولا يكون ذلك إلّا إذا قصد به التقرّب إلى الله تعالى فالإنفاق وإن كان في حدّ ذاته من مكارم الصفات، وقد قال الله تعالى « وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1) إلّا أنّه ليس بنفسه زكاة. وقد كان الجود صفة معروفة لكثير من المشركين، ولكنّ الذي كانوا يفقدونه هو ميزة التقرّب إلى الله تعالى. ولذلك لم يكن في جودهم تزكية للنفس.

ولعلّ السرّ في الاهتمام بهذا الأمر هنا هو تنبيه المشركين بأنّ ما ينفقونه من مال لا ينفعهم، بل يكون وبالاً عليهم قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً»(2).

ثمّ وصفهم بإنكار الآخرة، حيث إنّ مشركي الجزيرة كانوا ينكرونها، مع اعترافهم بالله تعالى. وهذه مفارقة غريبة. وتكرار الضمير للتأكيد على أنّ هذه صفتهم خاصّة، کأنّهم وحدهم من ينكرها مع أنّه ليس كذلك ولكن للتنبيه على غرابة هذا الإنكار أكّد على ذلك.

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» حيث طال الحديث عن المشركين وأقوالهم وما يؤول إليه أمرهم تعرّض لحال من هم بخلافهم من المؤمنين لئلّا يخلو من تبشير، كما هو الحال في موارد عديدة من الكتاب العزيز.

ص: 520


1- الحشر (59): 9 .
2- الأنفال (8): 36 .

و « مَمْنُونٍ» بمعنى مقطوع. وهو الأصل في معنى هذه الكلمة. والمراد أنّ أجرهم، أي الجنّة لا تقطع عنهم فهم خالدون فيها، كما قال تعالى: « «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ »(1) والمجذوذ أيضاً بمعنى المقطوع.

وقيل: إنّه بمعنى نفي المنّة عليهم، وأنّه بهذا الاعتبار سمّاه الله تعالى أجراً فکأنّهم نالوه عن استحقاق، ونفس هذا الأمر، أي عدم المنّ عليهم تفضّل من الله تعالى

ولكنّه غير صحيح فإنّه تعالى يمنّ على عباده بما أنعم عليهم، ويعد نعمه على أنبيائه أيضاً، والمنّ قبيح من غيره، وقد قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى»(2) وأمّا عدّ النعم والمنّة منه تعالى فزيادة إحسان وفضل.

ص: 521


1- هود (11) :108 .
2- البقرة (2): 264 .

سورة فصّلت(9 – 12)

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

«قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» أمر رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يوجّه إلى المشركين هذا الخطاب الذي يستنكر فيه كفرهم. وفيه إشارة إلى أنّهم لا يستحقّون خطاب الله تعالى، مع صدور هذا الأمر المستنكر منهم. ثمّ صدّر الجملة بالاستفهام، وبالتأكيد بحرف «إنّ» وبلام القسم من جهة استبعاد الأمر، مثلما تقول لمن يدّعى أمراً غريباً حقّاً تعتقد ذلك؟!

ثمّ إنّ الكفر بمعنى الإنكار، مع أنّهم لم ينكروا وجود الله سبحانه، من جهة أنّ شركهم واعتقادهم بأنّ لله تعالى أنداداً وهي الأصنام، وأنّها تتصرّف في الأمور كما يتصرّف الله سبحانه ليس إلّا إنكاراً لربّ العالمين، فإنّ الله تعالى إنّما يعرف بصفاته، فمن يعتقد بأنّ الله تعالى جسم جالس على كرسي ليس معتقداً بالله بل هو منكر له فإنّه ينكر الإله المحيط بكلّ الكون المدبّر لها، والقيّوم على كلّ شيء، لأنّه يعتقد بإله محدود مجسّم، والله تعالى لا يعرف بذاته المتعالية، و إنّما يعرف بالصفات الحسني التي ذكرها لنفسه.

ووصفه تعالى هنا بالخلق والتدبير لإثبات أنّ الخالق هو الربّ، لأنّه خلق

ص: 522

الكون بهذا النظم البديع الذي يوصله إلى الغرض الذي تقتضيه الحكمة.

فأوّل أمر نبّه عليه خلق الأرض، لأنّه أقرب إلى الإنسان فقال: « خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» ولا شكّ في أنّ المراد باليوم ليس هذا المعنى المعروف، لأنّه ينتج عن دوران الأرض حول نفسها، فلا معنى لفرضه قبل خلق الأرض.

ومن المضحك ما ورد في بعض الروايات الإسرائيليات تبعاً للتوراة من تسمية أيام خلق السماوات والأرض بأسماء أيام الأسبوع، وأنّه بدأ الخلق في يوم الأحد، وانتهى منه في يوم الجمعة، واستراح يوم السبت. ولذلك جعل اليهود يوم السبت يوم عطلة !!!

وربّما يقال: إنّ المراد باليوم قطعة من الزمان لا نعلم مقياسها، فاليوم يختلف في كلّ كوكب من الكواكب، وحيث لا نعلم المقياس الذي به حدّد اليوم قبل خلق الأرض، فيمكن أن ينطبق على ملايين السنين التي يقال إنهّا مرّت على الأرض، حتّى أصبحت بالوضع الحالي حيث تمكن الحياة عليها.

ولكنّ هذا أيضاً غير صحيح، لأنّه لا يبقى وجه لتثنية اليوم. فما هو أساس التعدد ؟!

والظاهر أنّ المراد باليوم مرحلة من مراحل التكوين، كما يقال يوم القيامة، ولا یراد به قطعة من الزمان بل مرحلة من مراحل الكون، فالمراد باليومين هنا أنّ الأرض مرّت بمرحلتين من التكوّن حتّى أصبحت بهذا الوضع، ولا يشير إلى قطعة من الزمان أيّاً كان مقياسه. وسيأتي الإشكال في هذا التعداد الذي لا ينحلّ إلّا بما ذكر. ولعلّ المراد بالمرحلتين مرحلة كونها غازاً أو تبدل الغاز إلى سائل ثمّ تصلبها وتجمّدها كما يقال أو غير ذلك.

ص: 523

ويبدو هنا سؤال، وهو أنّه ما هو الهدف من ذكر اليومين أو الأربعة أو السنّة، مع عدم وضوح المراد منها؟

ولعلّ السرّ هو الإشارة إلى أمور لا يصل إليها علم البشر في ذلك العصر، حتّى إذا بلغها علمه تبيّن له أنّ هذه الآيات إنّما نزلت من لدن حكيم خبير والقرآن ليس كتاباً علمياً يبحث عن حقائق الكون والطبيعة، حتّى يبيّن هذه الأمور بوضوح، ولو كان يبيّنها كذلك ما كان المخاطبون يفهمونها ولا يذعنون لها، بل ربّما كان ذلك مثاراً للسخرية والاستهزاء لديهم.

« وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا »الندّ هو المثل. والجملة عطف تفسير يفسّر المراد بكفرهم كما أشرنا إليه. ولا يختصّ الندّ بالأصنام، بل يشمل كلّ ما يجعل ندّا لله تعالى وكثيراً ما يشتبه الأمر على بعض المؤمنين بالله، فيتصوّر أنّ المخلوق يمكنه أن يستقلّ بالتأثير في الكون، فهذا يجعله ندّاً لله تعالى جهلاً بحقيقة الأمر.

« ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ »أشار إليه تعالى بأداة الإشارة للبعيد «ذَلِكَ» للتنويه على بعده عن هذا التصور الخاطئ، أو بعده تعالى عن متناول الأفهام، أو للإشارة إلى عظمته تعالى فإنّ العرب يشيرون إلى العظماء بإشارة البعيد.

وبهذه الجملة يردّ عليهم بأنّ الله الذي خلق الأرض، وجعل فيها كلّ مقوّمات الحياة للعالمين هو ربّهم، وليس له ندّ ولا شريك. وهذا هو التدبير الذي لا ينفكّ عن الخلق، فالخالق هو المدبّر، وهو الربّ لا ربّ غيره.

و « الْعَالَمِينَ »ليس جمعاً للعالم، إذ لا يمكن للعالم - وهو ما سوى الله تعالى - أن يتكرّر، فكلّ ما تفرضه عالماً آخر أو من عالم آخر ينطبق عليه أنّه ممّا سوى الله تعالى فيكون جزءاً من هذا العالم. ولذلك يقال: إنّ « الْعَالَمِينَ »ملحق بالجمع.

ص: 524

ويمكن أن يكون جمعاً باعتبار أنّ العالم يراد به مجموعة من المخلوقات، كما يقال عالم الإنسان وعالم الحيوان ونحو ذلك.

« وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا »، « مِنْ فَوْقِهَا »أَي على سطحها. وهذه الآية تشير إلى ثلاث مراحل من التحولات التي حدثت على الأرض بعد تكوّنها لتصبح قابلة لمعيشة الإنسان والحيوان:

الأولى مرحلة تكوّن الجبال، وسمّاها الرواسي بمعنى الثوابت وللجبال دور عظيم في حفظ خزائن الأرض، وأهمّها المياه العذبة التي تنزل من السماء، فإنّ الجبال هي التي تحتفظ بها بصورة مياه جوفية أو ثلوج، ثمّ تنتشر على الأرض من خلال الأنهار والعيون والقنوات والآبار تدريجاً. ولولا الجبال لامتصّت الأرض كلّ مياه الأمطار، ولم ينبت عشب، ولم يبق على وجه الأرض حياة. إلى غير ذلک من الفوائد العظيمة للجبال، ومنها ما أشير إليه في آيات أخرى من أنّها سبب التوازن الأرض ، ومنعها من الميدان والانحراف.

والثانية مرحلة البركة، وهي الخير الكثير الثابت من برك البعير إذا استقرّ على الأرض. ولعلّها إشارة إلى ما أوجده الله تعالى في الأرض من عناصر مختلفة يحتاج إليها الإنسان والحيوان للاستمرار في الحياة. وقد جعل الله تعالى لها نظاماً يقضي ببقائها أمداً طويلاً، حيث جعل في الأرض قابلية التغيير والتحويل.

والثالثة: تقدير الأقوات، وهذا أيضاً من غرائب التدبير، فقد جعل الله لكلّ موجود حيّ ما يقتات به، ويتناسب مع جهازه الهضمي، وجعل حوله البيئة التي تساعد على تكوّن القوت، وهيّأ له من الأسباب ما يمكنه من قوته فتجد بعض

ص: 525

الحيوان يأكل بعضاً آخر، فجعل للمفترس ما يحتاج إليه من أنياب ومخالب وغيرها، وتجد بعضه يأكل الأعشاب فجعل لها من الأسنان والجهاز الهضمي ما يساعد على ذلك وهكذا.

ويلاحظ مثلاً الإبل حيث يعيش في الصحراء، خلق الله تعالى له شوكاً لا يحتاج في بقائه إلى ماء كثير، فينبت في فصل المطر، ويبقى طوال الصيف، وهو له غذاء وماء، بل ودواء أيضاً حيث إنّه يحتوي على مادة تنظف المجاري البولية من الرسوبات التي تنشأ من قلّة السوائل في الجسم، وقد اكتشفها الإنسان منذ أمد بعيد، وأخذ يستخرجها من هذا الشوك ويتداوى بها.

ومن غباء الإنسان أن يتوهّم أنّ كلّ هذا التدبير الدقيق لا یدلّ على حكمة الخالق المدبّر ، وأنّها تكوّنت صدفة واتفاقاً.

وقوله تعالى « وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا» أي أوجد الأقوات لكلّ حيّ بما يتناسب مع جسمه وحاجاته. والقوت ما يمسك الرمق من الرزق. ولعلّ المراد خصوص الأقوات النباتية باعتبار أنّ الحيوان البدائي ما كان يقتات إلّا عليه، وأكل الحيوان للحيوان حدث بعد التطوّرات الحاصلة فيه، والكلام مسوق لبيان أصل خلقة الأرض، وإعدادها لمعيشة الإنسان والحيوان ويمكن إرادة ما يقتات به من الحيوان أيضاً باعتبار أنّه من الأقوات ولو بعد التطوّر.

« فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ » مرّ الكلام في معنى الأيّام، وأنّها أربعة مراحل، وسيأتي الكلام حولها. وقوله تعالى «« فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ » يمكن أن يكون قيداً لكلّ ما سبق ذكره بمعنى أنّ هذه التحولات الثلاثة حدثت في أربعة مراحل. ويمكن أن يكون قيداً لخصوص تقدير الأقوات، ولا نعلم شيئاً حتّى الآن من

ص: 526

هذه المراحل الأربعة في شيء ممّا ذكر .

وقوله تعالى «سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ »حال من الأقوات والظاهر أنّه يشير بذلك إلى تقدير الأقوات المختلفة حسب اختلاف الحيوان كما مرّ و « سَوَاءً » بمعنى متساوية ومتعادلة لكلّ سائل ومحتاج حسبما يحتاج إليه. فالسؤال ليس بمعنى الطلب اللفظي ونحوه، بل بالمعنى الذي يشمل الطلب الطبيعي، وإن لم يلتفت إليه السائل. وارتبك بعض المفسّرين في تأويل الآية حيث اعتبر السؤال استفهاماً. وبناءً على ما ذكرنا من كونه حالاً للأقوات فيمكن أن يكون ذلك قرينة على أنّ قوله « فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ »أيضاً قيد للأقوات لا لجميع ما مرّ لئلّا يلزم الفصل بين الحال وذي الحال بأجنبي. وهذا وإن كان موجباً لترجيح هذا الاحتمال ولكنّه لا يمنع من كون المراحل الأربعة عامّة لكلّ ما ذكر فيكون تأخير قوله «سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ » للمحافظة على أواخر الآيات.

وذهب بعضهم إلى أنّه حال للأيام فالمعنى أنّها أيام متساوية. وذلك على توهّم أنّ المراد بالأيام أيام الأسبوع. وأنّ يوماً منها للراحة!! تبعاً لما في التوراة. وقالوا إنّ المراد بالسائلين الطالبون للمعرفة، فلا يتعلّق بقوله « سَوَاءً».

ومهما كان فهنا يبدو إشكال: وهو أنّ الله تعالى ذكر في سبعة موارد من القرآن الكريم أنّه خلق السماوات والأرض في ستّة أيام، وهنا ذكر أنّ الأرض خلقت في يومين، وقدّر أقواتها في أربعة وخلق السماوات أيضاً في يومين فالمجموع ثمانية لاستّة.

ومن أغرب ما رأيت في هذا الباب أنّ بعض مواقع المُعادين للإسلام كان ينشر بياناً يستهزئ فيه بالقرآن، ويقول: إنّ مؤلّفه كان يجهل أبسط القواعد الرياضية وهو الجمع، فكان يجهل أنّ 2+2+4=8!!!

ص: 527

وهذا الكلام من السخف بحيث لا يستحقّ النقد، إذ كيف يمكن أن يقال في حقّ من أتى بهذا الكتاب العظيم - مع كلّ ما فيه من حقائق يخضع لها العلماء طيلة القرون - أن يجهل هذا الأمر البسيط ؟!

ودفعاً لهذا الإشكال ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ المراد بقوله تعالى «« فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ » أنّه أكمل كلّ ذلك في أربعة أيام، فيكون خلق الأرض في يومين، وتقدير الاقوات في يومين. وذكروا في توجيه ذلك أدبياً وجوهاً لا تخلو كلّها من غرابة وتكلّف. ولو لم يكن هذا الإشكال لكان من الواضح أنّ المراد من العبارة إيجاد هذه الأمور في أربعة أيام.

وذهب العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) إلى أنّ المراد كونها ظرفاً لتقدير الأقوات فقط، وأنّ المراد بها الفصول الأربعة المؤثرة في تكوّن الأقوات، أي النباتات المختلفة، وليس ظرفاً لخلقها، كما أنّه جعل السماوات سبعاً في يومين، وليس ظرفاً لأصل الخلقة. ولا ينافي ذلك كون مجموع الخلق في ستة أيام.

ولكنّ هذا الجواب لا يمكننا الاعتراف به لأمرين:

1- أنّ تأويل الأيام الأربعة بالفصول بعيد جدّاً، إذ هذا التقسيم ليس أمراً واقعياً تكوينياً، بل هو أمر اعتباري، ويمكنك التقسيم إلى أكثر من ذلك أو أقلّ، فالفارق الطبيعي هو تغير المناخ من الحرّ والبرد وتصاعدهما وتنازلهما، وهذا الأمر يحصل بالتدريج، ولا يرتبط بالفصول. وهناك مناطق ليس فيه-ا هذه الفصول، بل لا يختلف الجوّ طول السنة إلّا يسيراً.

2- أنّه لا دخل للفصول في تقدير الأقوات، و إنّما تختلف النباتات باختلافها. نعم لو كان ظرفاً للقوت لا للتقدير صحّ، فيكون المعنى وقدّر أقواتها للفصول

ص: 528

الأربعة. ولكن ذلك لا يتمّ في التعبير الموجود حتّى لو كانت الأيام بمعنى الفصول، و إنّما يتمّ لو كان التعبير هكذا «في الأيام الأربعة».

والذي أراه أنّ الإشكال غير وارد أساساً، لما أشرنا إليه من احتمال أن لا يكون المراد قطعة من الزمان كما فرضوه بل مرحلة من مراحل التكوين فالأيام الأربعة على هذا الاحتمال مراحل أربعة من التطوّرات الحاصلة في الأرض، تسبّبت في تكوّن الجبال والعناصر الأرضية المختلفة، وتكون النبات الذي هو قوت الحيوان على اختلاف الحيوانات في القوت.

وعلى هذا الاحتمال فلا مانع من أن يكون تكوّن مجموع السماوات والأرض مر بستة مراحل وحالات كما ورد في سبعة موارد في الكتاب العزيز، وتكونت الأرض بخصوصياتها في مرحلتين، وليستا هما من - من تلك المراحل الستة، لأنّ المرحلة هنا حالة خاصّة بالأرض في تطوّرها وليس جزءاً من الزمان، وتكوّن ما على الأرض من وسائل المعيشة في أربعة مراحل، ثمّ تكوّنت السماوات السبع أيضاً بخصوصياتها في مرحلتين وهما أيضاً ليستا من المراحل الستة كما هو واضح.

«ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ » « ثُمَّ » للتراخي في البيان، وليس للتراخي الزماني، بحيث يكون خلق السماء بعد خلق الأرض وخلق ما فيها من جبال وإنزال البركة وخلق الأقوات، وذلك لمنافاته مع قوله تعالى «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا *رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا *وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا *أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا *وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا » (1) فإنّ قوله «بعد ذلك» أظهر في

ص: 529


1- النازعات (79): 27 - 32 .

التراخي الزماني من « ثمّ» وإن احتمل أيضاً التراخي في الذكر، كقوله تعالى «عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ »(1) وعليه فالآيات ظاهرة بوضوح ف-ي كون إعداد الأرض لسكنى البشر بعد خلق السماء.

وإذا قلنا بأنّ قوله تعالى: « فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا »يحكي خطاب تكوين السماء والأرض كما سيأتي فهو یدلّ أيضاً على أنّهما لم تخلقا بعد.

وأمّا قوله « اسْتَوَى »فقد قيل: إنّه إذا عدي ب- «على» كان بمعنى استولى، وإذا عدي ب- «إلى» كان بمعنى قصد وتوجّه. وقد مرّ في بعض ما ذكرناه من التفسير أنّ هذه الكلمة وإن ضُمنت معنى الاستيلاء في ما إذا تعدّت ب- «على» إلّا أنّ انتخاب هذا التعبير لعلّه للتدليل على استواء نسبة الأشياء إليه تعالى وإلى قدرته فلا شيء أقرب إليه من شيء، ولا أهون عليه من شيء. وكذلك نقول في ما اذا تعدّى ب- «إلى» فيفيد معنى أنّه قصد السماء مع استواء نسبة كلّ جزء منه إليه، فإنّ الله تعالى لا يشغله شيء عن شيء.

ولكنّ الزمخشري في الكشاف فسّر الاستواء إذا عدي ب- «إلى» بأنّه يفيد معنى التوجّه إلى المكان توجهاً لا يلوي على شيء، وهو من الاستواء ضدّ الاعوجاج ، ومنه قوله تعالى « فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ». والمعنى ثمّ دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك.

وما ذكرناه هو الصحيح فإنّ ما ذكره يفيد العكس، وهو أنّ خلق السماء أشغله عن غيره. وهذا ممّا لا يجوز إسناده إلى الله تعالى.

ولعلّ المراد بالسماء هنا المادة التي تشكّلت منها الكواكب والأنجم، وإن

ص: 530


1- القلم (68): 13 .

كان السماء يقصد بها في القرآن تارة جهة العلوّ كموضع السحب، وتارة أخرى العالم العلوي الذي هو خارج عن الطبيعة وليس من الأجسام.

وقوله « وَهِيَ دُخَانٌ» جملة حالية. ولعلّ المراد أنّه حينما أراد الله تعالى خلق النجوم والكواكب كانت دخاناً، ولعلّه إشارة إلى مرحلة كونها غازاً، كما يقال في بعض الفرضيات الحديثة.

وربما يظهر من قوله تعالى « ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ» أنّهما كانتا كتلة واحدة آنذاك، كما ورد في قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا »(1) فقوله للكتلة الواحدة « ائْتِيَا »اي لتنفتق هذه الكتلة وتتحقّق السماء والأرض. ويوافق ذلك أيضاً بعض الفرضيات الحديثة .

ويحتمل أن يكون المراد ب-«السماء »عالم الملائكة وب«الأرض »عالم الطبيعة. وعلى هذا الاحتمال لا سبيل لنا إلى تفسير الدخان.

ولكنّ نفس الاحتمال بعيد عن سياق الآيات باعتبار أنّه تعالى اعتبر احدى هذه السماوات على الأقلّ سماء الكواكب والأنجم، وأيضاً باعتبار أنّ الظاهر من تقدير الأقوات اختصاص الأرض بهذا الكوكب.

« فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ »الظاهر أنّ هذا الخطاب ليس على حقيقته و إنّما هو تعبير عن إرادته تعالى المتعلقة بإيجاد الأشياء وتكوينها، فهو نظير خطاب «كن »في قوله تعالى للشيء إذا أراد أن يكون، إذ لا يمكن توجيه الخطاب للشيء قبل وجوده ، فالمراد بهذا التعبير الإشارة إلى أنّ

ص: 531


1- الأنبياء (21): 30 .

إيجاد الشيء لا يتوقّف على أمر أكثر من إرادته تعالى، وأنّ الكون طوع إرادته لا يتأبّى عليه شيء.

والخطاب هنا وإن كان موجّهاً في الظاهر إلى السماء والأرض إلّا أنّهما غير موجودين على حقيقتهما إلّا كمادة أوّليّة عبّر عنها بالدخان. ولعلّ المراد الحالة الغازيّة.

وقوله تعالى « طَوْعًا أَوْ كَرْهًا » لعلّه لإفادة أنّ إرادته تعالى تقهر كلّ شيء، ولا يقاوم إرادته أمر مهما كان.

وقوله تعالى « قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ » يفيد أنّ الأشياء طوع إرادته، لا تحاول أيّ مقاومة. فالمقاومة وإن كانت لا تجدي أمام إرادته القاهرة، ولكنّ الأشياء لا تقاوم إرادته، بل تطيعه تعالى. ولعلّ هذا هو المراد بسجود الأشياء في بعض الآيات.

والتعبير بالصيغة الخاصّة بذوي العقول «طَائِعِينَ» قد يكون بلحاظ التناسب مع إسناد القول إليهما وإن كان مجازاً، وقد يكون بلحاظ أنّ الأشياء تعقل في إطاعتها لله تعالى. وهذا الأمر ممّا يستفاد من عدّة مواضع في القرآن الكريم، وإن كانت عقولنا لا تدركه.

منها قوله تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ »(1) وقوله تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ »(2) وغير ذلك.

ص: 532


1- الإسراء (17): 44 .
2- النور (24): 41.

ولعلّ إتيان الخبر بصيغة الجمع المذكر « طَائِعِينَ » مع أنّ الخطاب موجّه إلى السماء والأرض، من جهة أنّ الجواب يصدر من كلّ جزء من أجزاء الكون والخطاب أيضاً موجّه إلى الكون بأسره، والسماء والأرض تعبير عن كلّ الكون.

« فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ » القضاء بمعنى فصل الأمر. ويقصد به هنا الإيجاد والتكوين أي أوجدهنّ سبعاً. ومرجع الضمير في قوله «فَقَضَاهُنَّ» السماء باعتبار المعنى وإن كان اللفظ مفرداً. ومثل هذه الآية قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » (1).

وهنا سؤالان: ما هي السماوات السبع ؟ وهل هي سبع واقعاً أم أنّه تعبير عن الكثرة؟

أمّا عن السؤال الأوّل فيحتمل أن يكون المراد بها بأجمعها الأجرام الفلكية، ويحتمل أن يكون المراد بها ما يشمل عالم الملائكة، وهي عوالم غيبية لا نعلم عنها شيئاً إلّا أنّها ليست أجساماً فوق هذه الأفلاك.

وهذه العوالم مساكن الملائكة الكرام كما في تعبير أمير المؤمنين (علیه السلام) و في «نهج البلاغة». وقد قال تعالى: «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى » (2) ولكن لا نعلم كيفية تعلقّهم بها.

وأمّا احتمال اختصاصها بالعوالم الغيبية ليكون المراد بالأرض كلّ عالم

ص: 533


1- البقرة (2) :29 .
2- النجم (53): 26 .

الطبيعة كما احتملناه في بعض الموارد من الكتاب العزيز فهو بعيد عن سياق الآيات كما مرّ آنفاً.

ولا بدّ من ملاحظة ما يمكن به ترجيح أحد الاحتمالين وهو أمران:

الأول: أن السماوات السبع - كما يبدو من الآية الكريمة - كلّها أجسام مخلوقة من المادة الغازية التي عبّر عنها بالدخان، فإنّ قوله « فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ» تكميل لقوله « ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ» فلا يراد بها ما يشمل العوالم الغيبية، وبذلك يتأيّد الاحتمال الأول. إلّا أنّ معنى الدخان غير واضح لنا، فلا يمكن الاعتماد على هذه القرينة بصورة قطعية ومع ذلك فهو الاحتمال الأقوى.

الثاني: قوله تعالى بعد ذلك « وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ» وكذلك قوله تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ »(1) وقوله «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ »(2) حيث يظهر من هذه الآيات أنّ كلّ ما نجده من أجرام فلكية نيّرة أو مستنيرة واقعة في السماء الدنيا، أي أقرب سماء إلينا، فيكون المراد بالستّ الأخرى العوالم الغيبية. وبذلك يتأيّد الاحتمال الثاني.

ولكنّ الصحيح أنّ هذه الآيات اعتبرت ما في السماء الدنيا زينة لها ولنا، فهي لا تنفي وجود أجرام فلكية وراء ما نشاهده من نجوم وكواكب ولا يصل إلينا نورها، فلا تعتبر زينة لنا، بل لا شكّ في أنّ بعض ما اكتشفه البشر أيضاً، بل أكثره لا يعدّ زينة حيث لا نراها بالعين المجرّدة. فقوله تعالى « وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا

ص: 534


1- الصافات (37): 6 .
2- الملك (67): 5 .

بِمَصَابِيحَ». لا یدلّ على أنّ كلّ الأجرام الفلكية من السماء الدنيا، بل الواقع أنّ وراء كلّ ما نراها من أجرام نيّرة سماوات ومجرّات وأجرام أخرى كثيرة جدّاً جداً لا يحصيها إلّا الله تعالى.

والحاصل أنّ حصر السماوات السبع في الأجرام الفلكية ممّا نرى وما لا نرى أمر محتمل كما أنّه يحتمل أن يكون المراد بالسماوات ما يشمل العوالم الغيبية التي ليست من الأجسام وهي مسكن الملائكة، ولكنّ الاحتمال الأوّل أظهر.

وأمّا عن السؤال الثاني فالظاهر من التحديد بالسبع في مثل هذا المقام هو التحديد الواقعي، فلا يكون كناية عن الكثرة، وإن احتمل ذلك في غير هذا المقام والدليل عليه أنّه اعتبر ذلك قضاءً وفصلاً، مضافاً إلى التأكيد على أنّها سبعة في مواضع متعدّدة من القرآن ممّا یدلّ على العناية بهذا العدد.

ولكن يبقى السؤال في وجه التحديد بالسبع، فإن قلنا بأنّ المراد بها مجموع العوالم الكونية من الطبيعية وغيرها غير كوكب الأرض، فيمكن أن يكون المراد بواحدة منها كلّ ما في هذا الكون الهائل من المجرّات، والمراد بالستّ الأخرى العوالم الغيبية.

وإن قلنا بأنّ المراد بها الأجرام الفلكية فحسب، فيمكن أن يكون بلحاظ تقسيم كلّ هذه المجرّات إلى سبعة ولا نعلم حتّى الآن وجه هذا التقسيم. ولعلّ الإنسان يصل في المستقبل إلى السرّ في ذلك، فيجد مثلاً أنّ هذه المجرات وما تحتوي عليها من أجرام تنقسم إلى سبع طبقات مختلفة.

وأمّا اليومان فقد مرّ أنّ المراد بهما مرحلتان من الخلق والتكوين، وعليه فإن كان المراد بالسماوات الأجرام الفلكية والمجرّات، فيمكن أن يكون المراد

ص: 535

باليومين مرحلة تبدل الغاز إلى سائل ومرحلة التصلب، كما مرّ في تكوّن الأرض أو غير ذلك. وإن كان المراد بالسماوات ما يشمل حقائق أخرى غير مادية فلعلّ المراد بالمرحلتين مرحلة تكوّن سماء الدنيا ومرحلة تكوّن العوالم العلوية المجرّدة.

كلّ ذلك على سبيل الاحتمال والله تعالى هو العالم بحقائق الأمور.

« َأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا» ذكر المفسّرون أنّ المراد بالأمر في الآية ما يختصّ بكلّ سماء من قوانين ونظم ، وهذا يناسب التعبير بالوحي. وأمّا ما نقل عن بعضهم من خلق ما تقتضيه الحكمة في كلّ منها فهو لا يصحّ إلّا بتأويل الوحي بأن يكون المراد به الإيجاد والخلق، وهو بعيد.

ولكنّ العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) فسّر الآية بأنّ المراد بالأمر ما يرسله الله تعالى إلى الأرض من أوامر تكوينية، حيث إنّها تتنزل من بين السماء كما قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ»(1) وقال أيضاً «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ»(2) فالسماوات التي هي مساكن الملائكة طرق نزول الأوامر الإلهية، وللأمر نسبة إلى كلّ سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها.

وما ذكره (رحمه الله ) بعيد عن لفظ الآية، فإنّ الظاهر أنّ الأمر الموحى في كلّ سماء أمر مختص بتلك السماء وليس من الأمر النازل إلى الأرض. فالظاهر أنّ القول الأول هو الصحيح.

« وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا» يبدو من هذه الجملة - كما مرّ - أنّ كلّ ما

ص: 536


1- الطلاق (65) :12 .
2- السجدة (32) :5 .

نراه من الكواكب والأنجم من مخلوقات السماء الدنيا، أي الأقرب إلينا معاشر أهل الأرض. ولكن ذلك لا ينافي وجود أجرام أخرى في السماء بعيدة عنّا لا نراها ولا نستضيء بها ولا تكون لنا زينة.

وعبّر عن النجوم بالمصابيح لإضاءتها لأهل الأرض، سواء ما كانت منها نيّرة بذاتها وما استنارت بغيرها. والتعبير یدلّ على أنّ تزيين الطبيعة أمر مقصود في أصل الخلق، وأنّ الله تعالى خلق الكواكب والأنجم لتزيين الطبيعة.

ويقال: إنّ رؤية الكواكب بهذه الصورة الجميلة التي نراها إنّما هي بسبب المجال الجوّي المحيط بالأرض ممّا یدلّ على أنّ الله تعالى هيّأ الوسائل الكفيلة بتحقّق هذا التزيين وإضفاء هذه الصورة الجميلة للكون.

وقوله «وَحِفْظاً» يمكن أن يكون مفعولاً مطلقاً لفعل مقدر أي وحفظناها حفظاً، أو بتضمين قوله «زَيَّنَّا» معنى جعلنا أي وجعلناها حفظاً. وقد مرّ بعض الكلام حول كون النجوم حفظاً للسماء من الشياطين في سورة الصافّات.

« ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » فهو الذي قدّر وقضى هذا الكون بما فيه. وهو عزيز لا يغلب على أمره، وعليم بالأسباب والمسبّبات والمصالح والمفاسد وما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي.

ص: 537

سورة فصّلت(13 – 18)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)

« فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ » الفاء للتفريع، أي بعد هذا البيان للحجج الدامغة والبراهين الواضحة من آيات الله تعالى في السماوات والأرض إذا أعرضوا عن قبول الحقّ والإيمان به ، فأنذرهم بالعذاب الذي حلّ بالسابقين من الأمم. ولعلّه أتى بصيغة فعل الماضي « أَنْذَرْتُكُمْ »لأنّه إنشاء للإنذار كقولك بعت وانكحت.

والصاعقة على ما في «مفردات الراغب»: «الصوت الشديد من الجوّ». وفي «معجم مقاييس اللغة»: «الصاد والعين والقاف أصل واحد یدلّ على صَلْقَة وشدّة صَوت من ذلك الصعق، وهو الصَّوت الشَّديد. يقال حمارٌ صَعق الصوت، إذا كان شديده. ومنه الصاعقة، وهي الوقع الشديدُ من الرَّعْد. ويقال إنَّ الصَّعاقِ الصوت الشديد. ومنه قولهم صعق اذا مات کأنّه أصابته صاعقة».

فالصاعقة كلّ ما يحدث صوتاً شديداً. وتطلق على البرق إذا أصاب شيئاً على

ص: 538

الأرض، كما تطلق على كلّ ما يوجب الهلاك. ولعلّها أطلقت هنا بهذا المعنى، إذ يصرّح فيما بعد أنّ التي أصابت قوم عاد ريح شديدة أو باردة، كما ورد ذلك في موارد أخرى منها سورة الحاقّة.

وأمّا ثمود ففي بعض الآيات وصف عذابهم بالرجفة كما في سورة الأعراف(1) وفي بعضها الصيحة كما في سورة هود (2) وهنا وصف بالصاعقة. فالصيحة والرجفة متلازمان والصاعقة يمكن أن تكون بمعنى ما يوجب الهلاك مطلقاً، ويمكن أن يكون العذاب مشتملاً على عدّة أمور.

وعاد وثمود قومان من الأمم القديمة، بقيت آثارهم إلى أيّام الرسالة المجيدة، فكان العرب يعرفون أخبارهم ويرون آثارهم. ولذلك اهتمّ بهم القرآن الكريم، ونبّه العرب على لزوم الاعتبار بشأنهم، فقوم عاد كانوا يعيشون في الأحقاف، وهي منطقة - على ما يقال - في حضرموت اليمن وأمّا ثمود فكانوا يعيشون في منطقة بين المدينة والشام على ما يقال وربّما يكون هي ما سمّي ب-«الحجر» في سورة الحجّ. وهل هي جزء من منطقة وادي القرى أم لا؟ فيه خلاف بين المؤرّخين وعلماء الآثار. والله العالم.

« إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ » ظرف لمجيء الصاعقة على عاد وثمود والإتيان بصيغة الجمع «الرُّسُلُ» لعلّه من جهة أنّ كلّ من جاء من الرسل قبلهم وبلغهم خبره فهو مرسل إليهم. ولذلك قال تعالى «كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ »(3) وهكذا ورد التعبير عن سائر الأمم في سورة الشعراء فإنّ

ص: 539


1- راجع: الأعراف (7): 88 .
2- راجع هود (31): 67.
3- الشعراء (26): 123 .

تكذيبهم لرسولهم تكذيب لجميع الرسل فکأنّهم بأجمعهم أتوا لجميع البشر.

والدعوة العامّة التي أتى بها جميع الرسل هي « أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» فالظاهر أنّ «أن» مفسّرة لقوله « جَاءَتْهُمُ » الذي يتضمّن معنى الدعوة وأساس الدعوة التوحيد، يعرفه كلّ من يسمع برسالات السماء ولكن الملفت أنّ التعبير لم يركّز على الجانب الإيجابي من الدعوة، وهو عبادة الله تعالى، بل ركّز على الجانب السلبي، وهو ترك عبادة غيره، واستثنى عبادة الله تعالى. ولعلّ الوجه في ذلك أنّ الواجب أولاً هو تخلية القلب من الركون إلى غيره تعالى، ثمّ تحليته وتزيينه بعبادته، وأنّه لا تفيد عبادة الله تعالى مع عبادة غيره، سواء كان ذلك الغير صنماً، أو كوكباً، أو بشراً ، أو شيطاناً، أو هوى متبعاً، أو مالاً، أو تعصباً لقبيلة، أو طائفة إلى غير ذلك.

وقوله « مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ» لعلّه بمعنى أنّهم أتوهم بمختلف الوسائل، وفي مختلف الأوقات والحالات، وفي كلّ محفل ومجمع، فکأنّهم حاصروهم بالبلاغات والأدلّة. ويمكن أن يكون إشارة إلى الرسالات التي سبقت وهي التي من خلفهم، والرسالات المعاصرة في مختلف بقاع الأرض التي كانوا يسمعون بها، وهي التي بين أيديهم أي كانت حاضرة أمامهم وفي عصرهم.

« قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً » هذا هو الجواب المتكرّر في الأمم السالفة، ومن لحقهم ويبتني على أساس استصغار الإنسان من أن ينزل عليه الوحي من الله تعالى. وعبّروا عن الله بالربوبية إيذاناً بأنّ ذلك مقتضى ربوبيته لنا، فإنّه إذا أراد أن يهدينا إلى هذا الصراط لأرسل ملائكة إلينا، لكي يقطع العذر ويتمّ الحجّة.

وقد ردّ هذا البيان بوجوه مختلفة في القرآن الكريم :

ص: 540

منها قوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ»(1) ولعلّ المراد بذلك أنّ نزول الملك على الناس - لو فرض إمكانه - فإنّه يقطع العذر، ولا يبقى مجالاً للإمهال والله تعالى يعلم أنّ عدم إيمان القوم ليس لعدم قناعتهم بالآيات، بل لعنادهم وإصرارهم على متابعة الآباء والأجداد فإرسال الرسول البشري يبقي لهم مجالاً للتشكيك ، فيُمهلون ريثما يعودوا إلى رشدهم ويتركوا العناد، وأمّا إذا عاندوا مع وضوح الحقّ بنزول آية من السماء واضحة - وهو المتوقع منهم كما سيأتي - فإنّ الإمهال لا مجال له بعد ذلك، فيعجلون بالعذاب، والله تعالى لرحمته بعباده يريد إمهالهم.

ويحتمل قويّاً أن يكون المراد أنّ الملائكة لا ينزلون إلّا ويجعلون كلّ شيء في موضعه، ومقتضى ذلك أن لا يمهل الكفار والمعاندون، كما قال تعالى: «مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ »(2) فقوله تعالى « بِالْحَقِّ » یدلّ على أنّ الملائكة إذا نزلوا إنّما ينزلون بكلّ الحقّ من دون مداهنة ومسامحة، فيوضع كلّ شيء في موضعه الحق.

ومنها قوله تعالى «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ »(3) والمعنى أنّ إنزال الملك لا يفيد البشر ، ولا يكون حجّة عليهم، ولا يمكنه التفاهم معهم، ولا يكون أسوة لهم، فإذا أردنا أن نرسل ملكاً لزم أن يكون بصورة رجل لكي يتمكّن من الارتباط بالناس والتكلّم معهم، فالملك بصورته الأصلية ليس جسماً، ولا يمكن أن يرتبط بالناس، وإذا ألبس صورة الإنسان رجع الإشكال

ص: 541


1- الأنعام (6): 8 .
2- الحجر (15): 8 .
3- الأنعام (6): 9 .

واللبس، فإنّهم لا يعلمون أنّه ملك، حيث يرونه بشراً فسيقولون لا نؤمن حتّى يبعث الله لنا ملكاً. وهذا معنى قوله « وَلَلَبَسْنَا » واللبس: الخلط.

وإلى هذا المعنى أيضاً يشير قوله تعالى «قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا »(1).

ومنها قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ »(2) ومعنى ذلك أنّه لا ينفعهم إنزال الملائكة فإنّ عدم إيمانهم ليس لعدم قناعتهم، ولا لقصور في الحجج والآيات، و إنّما هو لعنادهم قبال الحقّ، فهم لا يؤمنون حتّى لو نزل إليهم الملائكة أو كلّمهم الموتى، لأنّهم سيقولون إنّا مسحورون، كما قال تعالى «وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ *لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ » (3).

« فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ » الفاء للتفريع، أي حيث لم يرسل الله ملكاً إلينا فإنّا لا نصدّق رسالتكم. وليس المراد بقولهم هذا تصديقهم لأصل الرسالة وكفرهم بمضمونها، بل إنّما يعبّرون عنه بما أرسلوا به تهكّماً واستهزاء بدعوى الرسالة، نظير قول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ »(4).

« فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ » بيان تفصيلي لما واجهوا به الرسل وما لحقهم من العذاب بعد ما مرّ من الإجمال والاستكبار في الأرض يراد به

ص: 542


1- الإسراء (17): 95.
2- الأنعام (6): 111.
3- الحجر (15): 14 - 15 .
4- الشعراء (26): 27 .

الاستكبار على الناس والطغيان عليهم. وقوله «بغَيْرِ الحَقِّ» قيد توضيحي. إذ الاستكبار كلّه بغير الحق، فهو نظير قوله تعالى « وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»(1).

ويمكن أن يكون المراد بالاستكبار ،لازمه وهو استعباد الناس وفتح البلاد لتولّي شؤون الناس قهراً، كما كان يصنعه الملوك الجبابرة، فيكون بغير الحقّ بمعنى أنّ الله تعالى لم يجعل لهم ولاية على الناس، فمحاولتهم للتصدّي لشؤون الولاية كان على غير وجه الحقّ.

«وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً »هذه الجملة تبيّن أساس استكبارهم، فهم كانوا يرون أنفسهم أقوى الناس، حيث إنّهم كانوا - كما قيل - رجالاً أقوياء لهم بأس شديد وحضارة متقدّمة في ذلك العصر ومال كثير. وهكذا الإنسان الحقير يطغى إذا رأى في نفسه القوّة والمنعة. والله تعالى يرد عليهم:

« أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً »والتعبير بالرؤية یدلّ على أنّه وإن لم يكن أمراً محسوساً ومبصراً بالعين إلّا أنّه من الوضوح بمنزلة الشيء الذي تراه فخالق القوّة والقدرة أقوى وأقدر ، فلا يجوز للإنسان أن يطغى على ربّه الذي خلقه، وبالنتيجة لا يجوز أن يطغى على عبيده الآخرين الذين خلقهم الله مختلفين في القوة والضعف، فالاستكبار على الخلق استكبار على الله تعالى وطغيان عليه، ورفض للتسليم أمام أوامره ونواهيه.

« وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ »عطف على قوله فاستكبروا. وما بينهما تعليل للاستكبار كما قلنا. وهذا الجحود أيضاً ينشأ من الاستكبار، فهم مضافاً إلى استكبارهم في الأرض وعلى الناس جحدوا آيات الله ومعنى الجحود أنّهم

ص: 543


1- البقرة (2) :61 .

أنكروها بالرغم من علمهم بالحقّ، وبأنّها آيات الله تعالى. وقوله تعالى «کَانُوا» یدلّ على استمرارهم في الجحود.

«فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ» هذا جزاء طغيانهم وجحودهم وتكذيبهم للرسل بعد أن أرسل الله إليهم هوداً (علیه السلام) فكذّبوه واستكبروا عليه، فأهلكهم الله بعواصف شديدة لم تبق شيئاً من مبانيهم وقصورهم المشيدة التي كانوا يتباهون بها على الأمم. وقد حدّد الله مدة هذه العواصف في قوله تعالى «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ *سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ *فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ »(1).

والصرصر إمّا بمعنى شدة الصوت أو شدة البرد والنحسات جمع نحس في مقابل السعد، والمراد نحوسة الأيام عليهم، كما قيل. ولكن هناك من يقول إنّها أيام نحسة مشؤومة في نفسها، وأنّ الأيام منها نحس ومنها سعد. وهناك روايات تدلّ على ذلك إجمالاً، وروايات تنفي ذلك. ولكنّ الملفت للنظر تكرّر التأكيد على نحوسة أيّام العذاب على قوم عاد من دون تعرّض لذلك في غيرهم من الأمم السابقة، قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ »(2) .

وهذا یدلّ على أن النحوسة ليست من خصوصية تلك الأيام وإلّا لكانت نحساً على جميع الناس. وليس هناك دليل قاطع على اقتضاء بعض الأيام نحوسة بذاتها، بل هو بعيد في حدّ ذاته وان لم يكن مستحيلاً.

«ِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» الخزي الذلّ والهوان والفضيحة. ولعلّ

ص: 544


1- الحاقة (69): 6-8 .
2- القمر (54): 19 .

إضافة العذاب إلى الخزي باعتبار أنّه موجب له، فهو مضافاً إلى أنّه أبادهم وأهلكهم، أخزاهم وأذلّهم في الدنيا، وأصبحوا عبرة للآخرين، إذ يختلف أن يموت إنسان أو قوم بأجمعهم نتيجة حادث طبيعي يستجلب استرحام الناس لهم، وأن ينزل عذاب الاستئصال على قوم من السماء لكفرهم وطغيانهم فيبيدهم بأجمعهم في خزي وعار.

«وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ » نعم الأخرى والأوجب للمذلة من عذاب الاستئصال في الدنيا، عذاب الآخرة، فهناك ذلّة مستمرّة وصغار لا ينتهي، والإنسان حيّ يشعر به، وهو على مرأى ومسمع من الخلائق أجمعين، مضافاً إلى أنّه ليس هناك من ينصره، فلو كان في الدنيا من يودّ أن ينصر الأمّة المعذّبة وإن لم يقدر عليه، فهناك ليس من محاولة للتناصر ، بل لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.

«وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» ثمود ، قوم صالح (علیه السلام) وكانوا يعيشون في الجزيرة العربية أيضاً. وقد طلبوا من نبيّهم صالح آية تثبت رسالته. والظاهر أنّهم حدّدوها، وهي أن تخرج من الجبل ناقة خلقها الله من دون ولادة، فأخرج الله لهم ذلك، وكانت ناقة عظيمة تشرب ماء القوم في يوم واحد فأخبرهم الرسول بذلك «قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ »(1) فأزعجهم ذلك وأجمعوا على قتلها.

وكانت هذه محادّة صريحة وعلنية لإرادة الله تعالى. ومن الناس من يعجبه أن يبرز جرأته وشجاعته وتهوّره أمام أقوى قوّة يجدها أمامه، وإن كان في ذلك هلاكه، أو هلاك خلق كثير ، أو كان ذلك أمراً عظيماً لدى عامّة الناس. ولذلك

ص: 545


1- الشعراء (26) :155 .

تجد بعض الناس يعجبه أن يباهي بقتل الأنبياء والأئمة والملوك وكبار الشخصيات، أو من يتأبّى الإنسان من قتله كالنساء والأطفال.

وهكذا أبرز عضلاته أشقى القوم متحدياً إرادة الله تعالى لجهله وغبائه، وعقر الناقة المعجزة، فنزل الوحي أنّ لهم ثلاثة أيّام، ذلك وعد غير مكذوب، ثمّ نزل عليهم العذاب وأبادهم جميعاً، مع أنّ المستهتر كان واحداً إلّا أنّهم جميعاً ارتضوا فعله فشملهم العذاب.

وحيث إنّهم استكبروا، واحتقروا الرسول والرسالة، واستصغروا التهديد الإلهي بالعذاب وصف الله سبحانه عذابهم بصاعقة العذاب الهون. وقد مرّ الكلام حول الصاعقة وما تعنيه هذه الكلمة والهون بمعنى المذلّة. وهو مصدر وصف به العذاب من باب المبالغة فكأنّ عذابهم هو بنفسه الذلّ والهوان و إنّما أوجب العذاب لهم المذلّة والخزي لأنّه كان بادياً عليه أنّه من عذاب السماء ومن غضب الله عليهم ، ولم يشبه الحوادث الطبيعية. وهكذا يهين الله تعالى ويخزي من يستهين برسله ورسالاته.

ويبقى السؤال في هذه الآية ما هو المراد بالهداية في قوله فهديناهم؟

الظاهر في تفسيرها - كما هو المشهور - أنّ المراد بها إراءة الطريق. وبالطبع فإنّ ما ذكر هنا من الهداية لا يختصّ بقوم ثمود، كما أنّ ما ذكر في قوم عاد أيضاً لا يختصّ بهم. ولكنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المراد بها إيمانهم بعد ظهور الناقة فيكون أمراً خاصّاً بهم، حيث إنّهم بوجه عامّ آمنوا بالرسالة وبالآية الإلهية، ثم استحبّوا العمى على الهدى.

ولكن يبعد هذا الاحتمال أنّ الآيات التي وردت بشأن هذا القوم لا تشير إلى

ص: 546

ذلك نهائياً، ومن البعيد إغفال هذا الأمر في سرد قصّتهم، كما أنّ من البعيد أن يهتدي قوم بهداية الله تعالى، بمعنى الوصول إلى المطلوب ثمّ يرتدّ جميعهم.

فالصحيح هو ما ذكره الأكثر من أنّ المراد أنّ الله تعالى بعث إليهم الرسول، فتلا عليهم آياته، وأراهم سبيلي الحقّ والباطل، وخصّهم بمعجزة عظيمة لا يمكن إنكار كونها معجزة إلهية، ولكنّهم قدموا الباطل على الحق، واستحبّوا العمى على الهدى وورد التعبير بالهداية في القرآن عن إراءة الطريق مكرّراً منها قوله تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا »(1) وقال أيضاً: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ »(2).

«وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ » لعلّ هذه الجملة ترتبط بكلتا القصّتين، لأنّ هذه سنة الله تعالى في الأمم، فلا يُنزل العذاب الشامل الموجب للاستئصال إلّا بعد أن يأمر الرسول والذين آمنوا بالخروج من المجتمع الفاسد لئلّا يشملهم العذاب.

ولكنّ الآية تؤكّد أنّ الناجين لم يكونوا ممّن أظهروا الإيمان فقط، بل كانوا يتّقون الله تعالى فكان الإيمان قد خالط قلوبهم وضمائرهم، وسيطر على أعمالهم ونيّاتهم. وكان یدلّ على الاستمرار، وأنّ التقوى كانت لهم شيمة وخلقاً.

ص: 547


1- الدهر (76): 3 .
2- البلد (90): 10 .

سورة فصّلت(19 – 24)

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حتّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَهُمْ

« وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ »أي واذكر يوم. والحشر بمعنى الجمع، أي أنّهم يُجمعون ويُذهب بهم مجتمعين إلى النار. والمراد بأعداء الله الكافرون المعادون لرسالة السماء.

وقد ورد التعبير بالعداء لله تعالى في موارد عديدة من القرآن الكريم. قال تعالى: «مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ »(1)وقال: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ » (2) وقال تعالى: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ »(3) وقال تعالى عن كفّار مکّة و مشركي العرب «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ»(4).

ص: 548


1- البقرة (2) :98 .
2- الأنفال (8): 60 .
3- التوبة (9): 114.
4- الممتحنة (60): 1 .

ومن المعلوم أنّ المذكورين ما كانوا ينكرون وجود الله تعالى، بل يعتقدون أنّه خالق السماوات والأرض، وأنّه الرازق، ولكنّهم كانوا يعادون رسالة السماء والشريعة التي أرسلها الله إليهم، فاعتبرهم الله أعداء له.

وهذا أمر يدعو إلى التأمّل لمعرفة حدود هذه العداوة، وأنّها ربّما تشمل بعض المجرمين من الذين يزعمون أنّهم آمنوا بالله تعالى، ولكنّهم لا ينصاعون لشريعته التي أرسلها إليهم على أيدي رسله ،بل ربّما ينكرون لزوم متابعة الشريعة ويصرحون بها في مقالاتهم.

والعداء في الأصل بمعنى التجاوز. والمراد هنا التجاوز عن الحدّ المعقول في التنافر، فإنّه إلى حدّ ما ربّما يكون طبيعياً في ما لا يلائم مشتهيات الإنسان أو ذوقه، ولكن إذا تجاوز الحدّ بحيث يسعى كلّ منهما إلى إبادة الآخر سمّي عداءً وعداوة.

والعداوة بالنسبة إلى الله تعالى يتجلّى في معاداة رسالته وشريعته، وربّما يفرط الكافر في عدائه لله تعالى حتّى أنّه يشمئزّ من ذكره تعالى ذكره كما قال سبحانه: «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ »(1).

« فَهُمْ يُوزَعُونَ »اي يُمنعون. والمراد أنّه يمنع أوائلهم من التقدّم ليلحق بهم الأواخر، وهو كناية عن الجمع ومثله قوله تعالى «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ»(2). والحشر بذاته يفيد معنى الجمع. و إنّما يراد بهذه

ص: 549


1- الزمر (39): 45 .
2- النمل (27): 17 .

الجملة أنّهم يُجمعون بحيث لا يشذّ منهم أحد.

« حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ » « حَتَّى »لانتهاء الغاية، أي يوزعون ويجمعون إلى أن يصلوا إلى النار، فتشهد عليهم أعضاؤهم. و «ما» في « مَا جَاءُوهَا »زائدة وتفيد معنى التأكيد. والظاهر أنّ المراد التأكيد على أنّ الشهادة تتحقّق بمجرّد وصولهم إلى النار.

ولكن بعض المفسّرين ذكروا أنّ هنا تقديراً، وهو أنّهم لما وصلوا إلى النار سألهم خزنتها عمّا ارتكبوا فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم. والظاهر أنّه لا حاجة إلى تقدير بناءً على ما سيأتي من تفسير الشهادة.

والظاهر أنّ ذكر هذه الأعضاء من باب المثال لقوله تعالى «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ »(1) وقوله تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(2) بل الأمر لا يختصّ بالأعضاء، فالأرض أيضاً تشهد كما قال تعالى: «وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا »(3).

والظاهر أيضاً أنّ كلّ عضو يشهد على الإنسان بما اقترفه بواسطته، أو ما كانت الجريمة ترتبط بوظيفته، فالسمع يشهد بما استمع إليه ممّا حرم الله الاستماع إليه، ويشهد على أنّه سمع دعوة الرسول ولم يجبه، أو سمع استغاثة المظلوم قادراً على رفع الظلم فلم يغثه، أو سمع استعانة الفقير المسكين فلم يساعده.

والبصر أيضاً يشهد على ما نظر إليه ممّا حرم الله تعالى النظر إليه، وكذلك يشهد عليه أنّه رأى آيات الله فأعرض عنها ، ورأى المنكر فلم يغيّره بيد ولا

ص: 550


1- يس (36): 65 .
2- النور (24): 24.
3- الزلزلة : (99): 3 -4 .

بلسان، ورأى الظلم فلم يشارك في رفعه، بل ربّما شارك في الظلم بنحو من الأنحاء. وهكذا سائر الأعضاء.

والجلود أشمل الأعضاء في تحمّل الشهادة، فإنّها مع كلّ هذه الأعضاء ومع غيرها. ولعلّه لذلك ذكر بعضهم أنّها كناية عن الفروج، كما ورد في بعض الروايات أيضاً. وهو أمر محتمل بملاحظة أدب القرآن في التعبير، وبملاحظة أنّ الفروج ممّا يصدر منها كثير من الجرائم التي يخفيها الإنسان. ولكنّه خلاف ظاهر اللفظ، ولا موجب للحمل عليه.

ومهما كان فالكلام في كيفية شهادة الأعضاء، فقال بعضهم إنّ الله تعالى يخلق فيها النطق كما خلق في الشجرة حيث نادى موسى (علیه السلام). ولكن هذا يفقدها صفة الشهادة التي تتوقف على تحمّل الواقعة عن علم ثمّ أدائها، فإنّ هذا التأويل يبتني على عدم علم الأعضاء بالحوادث، وعدم تأثرها بها و إنّما تنطق بإرادة قاهرة من الله تعالى، فالتعبير بالشهادة يبتني على نوع من التسامح.

وقال بعضهم إنّ الله تعالى يخلق فيها العلم والإدراك ذلك اليوم فتشهد عن علم ودراية.

وهذا أيضاً كسابقه من حيث عدم كون الشهادة عن تحمّل للواقعة مع إدراكها حين التحمّل. وقيل غير ذلك.

وكلّ هذه التأويلات من جهة أنّهم التزموا بحمل النطق على المعنى المتعارف.

ولا يبعد أن لا يكون المراد النطق بالمعنى المتعارف، بل بمعنى إراءة نفس الحوادث، وهذه أقوى شهادة. وهذا هو ما يظهر من الآيات التي تدلّ على تجسّم

ص: 551

الأعمال، وأنّ الذي يظهر في ذلك الموقف للعيان هو نفس الأعمال بوجه آخر. ولا موجب لحمل النطق على المعنى المعروف لدينا - وهو التكلّم باللسان - حتّى يحتاج إلى تأويل خلق الكلام، فإنّ حقيقة النطق هو إبراز الحقائق، فإذا أمكن للشيء أن يبرز ما في ضميره بصورة حيّة يراه ويشعر به كلّ أحد فهو أقوى النطق، فإنّ الكلام ربّما يكون كذباً لا يحكي عن الواقع، وربّما يشتمل على مبالغة أو مجاز.

وحيث إنّ يوم القيامة يوم انكشاف الغطاء وبروز الحقائق، فينبغي أن يكون نقل الحقائق والاعتراف بها أيضاً على أساس إراءة نفس الحقيقة بوجه يشعر به كلّ ملاحظ شعوراً أقوى من الرؤية، ويلمس الحقيقة بكلّ وجوده.

بل لا يبعد أن يكون التعبير بالنطق والشهادة ونحو ذلك تعبيراً كنائياً معاكساً لما يحدث باعتبار أنّ النتيجة واحدة فالذي يحدث في تلك النشأة هو انكشاف الغطاء عن الإنسان بسبب تحرّره عن قيد الجسم والمادة، ويلازمه بروز الحقائق، فالتعبير بالنطق والشهادة تعبير عكسي يحكي عما هو ملازم لما يحدث واقعاً، ولعلّ السبب أنّ هذا التعبير أقرب إلى فهم المخاطبين.

ونظير ذلك التعبير عن صعود الإنسان إلى مرتبة يمكنه فيها محادثة الملائكة ورؤيتهم بعبارة تنزيل الملائكة، قال تعالى: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا »(1)، وكذلك قوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا *لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا » (2) إذ الظاهر أنّ نسف الجبال وجعل الأرض

ص: 552


1- الفرقان (25) :25 .
2- طه : (20) :105 - 107 .

قاعاً صفصفاً ليس فيها التواءات وتعاريج كناية عن انكشاف الحقائق أيضاً.

وممّا يشهد على ما ذكرنا من معنى النطق قوله تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » (1) مع التصريح بأنّ الألسنة أيضاً تشهد عليهم، قال تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(2) فكيف يجمع بين ختم الأفواه وشهادة الألسن؟!

و إنّما يتمّ الجمع بينهما بما مرّ من أنّ شهادة الأعضاء ليس بمعنى التكلّم والنطق المتعارف فختم الأفواه بمعنى أنّهم لا ينطقون ولا يتكلّمون، و إنّما تتكلّم ألسنتهم بمعنى أنّها تظهر الحقائق بأنفسها، لا أنّها تنطق كما تنطق في هذه الحياة، فإنّها هنا تعبّر عمّا في ضمير صاحبها بخلافها هناك حيث تحكي الواقع.

« وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا » يستنكر الإنسان من أعضائه أن تشهد عليه وهي جزء منه، فهذا سؤال إستنكاري. ولعلّ ذكر الجلود خاصّة ليس لخصوصية فيها، بل للاستغناء بذكرها عن ذكر سائر الأعضاء، فالتقدير وقالوا لجلودهم وسمعهم وأبصارهم كقوله تعالى « وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ » (3) أي والبرد. ولعلّ تخصيص الجلود من جهة أنّها موجودة مع سائر الأعضاء أيضاً.

« قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ » تعتذر الأعضاء بأنّها لم تنطق برغبة منها، بل إنّ الله تعالى الذي أنطق كلّ شيء هو الذي أنطقها، أي جعلها تنطق من غير اختيار. وقد مرّ أنّ المراد على ما يبدو هو إبراز الحقائق، لا النطق بالمعنى

ص: 553


1- يس (36) :65 .
2- النور (24): 24.
3- النحل (16): 81 .

المعروف، فإنّه أيضاً نوع من الإبراز، إلّا أنّ ما يحدث هناك هو أقوى إبراز للواقع، حيث إنّه يبدو بكلّ وجوده، ويشعر به الناس المخاطبون بكلّ وجودهم، وليس لفظاً يحتمل الصدق والكذب. وبهذا المعنى جعل الله النطق في كلّ شيء، وإن كنّا نحن في هذه الحياة لا نشعر به، فالحقائق الدفينة في الأشياء لا تصل إليها أفهامنا، ولا يعلم نطقها إلّا الله تعالى ومن أطلعه الله عليه.

وعليه فقوله تعالى « الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ »عامّ لكلّ الأشياء، ومطلق يشمل هذه النشأة أيضاً كما هو ظاهر اللفظ، وإن احتمل أن يكون المراد أنّه تعالى يُنطق كلّ شيء يوم القيامة.

ويمكن أن يكون السؤال « لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ») والجواب المذكور لسان الحال فحال الإنسان في ذلك اليوم حال مستغرب ومستنكر لشهادة أعضائه عليه، وحال الأعضاء يكشف للجميع أنّها تنطق وتبرز الحقائق قسراً وقهراً، فكما أنّ نفس حكايتها للوقائع كشف عنها لا نطق بالمعنى المعروف، كذلك اعتذارها كشف عن حقيقة حالها.

وقيل: إنّ المراد أنّه تعالى أنطق كلّ ناطق. وهذا تأويل بعيد جدّاً ولا موجب لهذا التخصيص، بل هو عامّ ومطلق كما قلنا. ومن هنا نقول إنّ قوله تعالى (أَنْطَقَ كُلِّ شَيْءٍ) قرينة على ما مرّ من توجيه معنى النطق، فإنّه هو النطق العامّ في كلّ شيء.

وربّما يتساءل: إذا كان النطق بإجبار من الله تعالى فكيف يكون حجة عليهم؟!

والجواب واضح على ما ذكرناه من أنّ النطق ليس بمعنى التحدث، بل هو

ص: 554

بمعنى إبراز الحقائق بعينها، فكأنّ الأعضاء تحمل شريطاً في ذاتها، وتكرّر ما حدث منها أو عليها على شاشة، فحجية الشهادة ليست من جهة كون الشاهد عادلاً صادقاً مختاراً، بل من جهة بروز الحقيقة للجميع بلا حجاب، أو بالأحرى من جهة انكشاف الغطاء عن الإنسان.

« وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » الظاهر من السياق أنّه تتمّة لقول الأعضاء فی ذلك الموقف، ويحتمل أن يكون تعقيباً من الله سبحانه. ولعلّ الوجه في بيان ذلك - بناء على كونه من الأعضاء - رفع الاستبعاد من نطقها وشهادتها على صاحبها بأنّها من عطاء الله لكم ، وليس أمرها إلّا بيده، لأنّه هو الذي خلقكم أوّل مرّة، أي في الحياة الدنيا، فهو الذي أعطاكم إياها، ووهبها لكم.

« وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » أي هو الذي يحاسبكم عليها، ويجازيكم حسب تعاملكم معها، فإنّها أمانات منه تعالى لديكم، وقد حدّد لكم وجوه استخدامها. ومعنى كون المرجع إليه تعالى هو الحضور أمامه بمسؤولية، ولذلك لم يعبّر عنه بالرجوع بل بالإرجاع، فالإنسان يُرجع إليه تعالى قهراً وقسراً.

وهناك تساؤل في هذه الجملة عن وجه الإتيان بالفعل المضارع « تُرْجَعُونَ » مع أنّه - بناءً على هذا الاحتمال - كلام أو نطق صادر يوم القيامة، وبعد رجوع الخلق إلى الله تعالى؟

والجواب واضح بناءً على ما ذكرنا من أنّ المراد بالإرجاع المحاسبة لا نفس الإحياء بعد الموت والكلام صادر حين المحاسبة لا بعدها.

وأمّا بناءً على كونه تعقيباً من الله تعالى في الكتاب الكريم، وبعد حكاية ما سيحدث في ذلك الموقف فلا مجال لهذا التساؤل، إلّا أنّ الذي يبعّد هذا

ص: 555

الاحتمال تقييد الخلق بكونه أوّل مرة ممّا يشعر بكون الجملة صادرة في وقت الخلق الجديد.

«وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ» يحتمل في هذه الآية أيضاً أن تكون من نطق الأعضاء على ما مرّ في تفسير النطق، وأن تكون تعقيباً من الله سبحانه.

وفي معناها احتمالان :

الأول: أنّكم كنتم تستترون في معاصيكم وقبائحكم، ولكن ما كنتم تستترون مخافة أن يشهد عليكم سمعكم أو أبصاركم أو جلودكم، و إنّما كنتم تستترون بتوهّم أنّ الله تعالى لا يراكم إذا استترتم ولا يعلم بأعمالكم.

الثاني: أنّكم ما كنتم تستخفّون من أعضائكم، أي ما كان لكم أن تستخفّوا منها، لأنّها كانت معكم، وكنتم تعملون بواسطتها، ولكنّ الذي هوّن عليكم المعاصي، أنّكم ظننتم أن الله تعالى لا يعلم ما تعملون ولم تحسبوا لرقابة الأعضاء عليكم حساباً. وعليه فالتقدير في الآية « ما كنتم تستترون من أن يشهد».

والاحتمال الثاني أقرب لأنّ الأول لا يتعرّض لما يناسب المقام، وهو الاهتمام بشهادة الأعضاء بل يقلّل من شأنها، والثاني يقتضي الاهتمام بها، وأنّها من طرق الرقابة على أعمال الإنسان. وأهميتها ليست من جهة التأثير في انكشاف الأمر، فإنّ الله تعالى محيط بكلّ شيء، و إنّما تكمن أهميّتها في إحساس الإنسان بوجود رقيب عليه من نفسه.

ولعلّه قال « كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ » لأنّ مورد الكلام من يعتقد بالله وبصفاته التي منها العلم ومع ذلك يظنّ هذا الظن بربّه. ويمكن أن لا يكون المراد بالظنّ الاعتقاد

ص: 556

التفصيلي الذي يلتفت إليه الإنسان، فإنّ الظنّ يطلق على ما في الارتكاز واللاشعور أيضاً. ولا يبعد أن يحصل هذا الظنّ بصورة خفية لكثير من المؤمنين بل أكثرهم ، ولولا ذلك لكثر المتّقون الخاشعون.

« وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ » « أَرْدَاكُمْ » أي أهلككم. وقوله « ظَنُّكُمُ » بدل عن اسم الإشارة، أي هذا الظنّ الذي ظننتموه بالله هو الذي أهلككم فخسرتم الخسارة العظمى قال تعالى « قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (1).

ومن هنا يتعيّن على الإنسان أن يحاول معرفة ربّه أكثر فأكثر، ولا يقتصر بما تمليه عليه الأفكار السائدة والتقاليد البالية، فإنّ معرفة الله مفتاح كلّ خير والجهل به وبصفاته الحسنى مفتاح الشرور والغرور والشيطان يزيد الإنسان غروراً بربّه، كما قال تعالى: « وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ » (2)، أي الشيطان.

« فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ » أي فلا ينفعهم الصبر. يا للغرابة! حتّى الصبر الذي يعد وسيلة للفلاح والنجاح لا ينفع هناك، فإنّ النار مثوى لهم صبروا أم لم يصبروا. والمثوى هو محل الاستقرار والمعنى أنّه ليس هناك أمل في أن ينتج لهم الصبر نفعاً، فإنّ النار يبقى مثوى نهائياً لهم كما قال تعالى: «اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ »(3).

والسرّ في ذلك أنّ الصبر إنّما يفيد في عالم الدنيا، حيث إنّه عالم الاختيار والتربية والتكامل فالصبر وتحمل الشدائد وعدم الجزع منها يقوّي النفس

ص: 557


1- الزمر (39): 15 .
2- الحديد (57) :14 .
3- الطور (52): 16 .

ويمنحها سعة وسلطة، وأمّا يوم القيامة فهو يوم حصول النتائج ولا أثر للصبر والتحمّل.

وجملة « فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ» سادّة مسدّ الجزاء. والتقدير: فلا ينفعه الصبر لأنّ النار تبقى مثوى لهم لا يتخلّصون منها.

« وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» الاستعتاب طلب العتاب والعتاب في الأصل: إظهار الموجدة، فإذا وجدت في نفسك شيئاً على أحد تحبّه ولا تتوقّع منه ذلك أظهرت له موجدتك. ولكن حيث إنّ هذا الإظهار يوجب زوال الموجدة عبّر عن الرضا أيضاً بالعتبى، فقولك «لك العتبى» بمعنى لك ما ترضى به.

والآية تحتمل المعنيين العتاب والرضا. فعلى الأوّل بمعنى أنّهم يطلبون العتاب فلا يعاتبون، إذ العتاب يختصّ بمن لا يتوقّع منه ما صدر منه، وهو دليل على الحبّ والتعلّق، كما أنّه يوجب زوال السخط والموجدة.

وعلى الثاني بمعنى أنّهم يطلبون الرضا، أي يحاولون استرضاء ربّهم، ولكنّهم لا يعطون ذلك، ولا يرضى عنهم ربّهم، إذ قد فات أوان الاسترضاء.

ص: 558

سورة فصّلت(25 – 29)

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

« وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ » التقييض - على ما يبدو من موارد استعمال اللفظ - هو جعل شيء مثيلاً لآخر، ومنه المقايضة بمعنى المعاوضة، فإنّ العوض يجعل في الاعتبار مثيلاً للمعوض.

وفي «تفسير الميزان» أن التقييض بمعنى التبديل، وأن الآية إشارة إلى أنّهم لو آمنوا واتقوا لأيدهم الله بمن يسددهم ويهديهم، لكنهم كفروا وفسقوا فبدل الله لهم قرناء من الشياطين.

ولكن التقييض ليس بمعنى التبديل، بل بمعنى جعل شيء مثيلاً لآخر. و یدلّ على عدم صحّة هذا التفسير قوله تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ »(1)، إذ لا يصحّ جعل التبديل هنا بدلاً عن التقييض كما هو واضح.

مضافاً إلى أنّ التقييض في الآية وقع على القرناء، حيث جعل مفعولاً به فلو كان معناه التبديل كان معنى الآية أنّ القرناء هم الذين بدّلهم الله تعالى وليسوا

ص: 559


1- الزخرف (43): 36 .

مبدلاً إليه ومقتضى ذلك أن يكون لهم قرناء قبل ذلك فبدّلهم الله تعالى إلى غيرهم. وهذا خلاف الفرض، مع أنّه لو أريد ذلك كان اللازم أن يقال قرناءهم مع أنّه في الآية نكرة.

وبعضهم فسّره بالسلطة، أي نسلّط عليه القرناء، باعتبار أنّ القيض هو القشر الأعلى من البيض. ولم يرد في اللغة استعمال التقييض بهذا المعنى، مع أنّه لا يناسب التعدّي باللام.

والصحيح أنّ المراد جعلنا لهم قرناء يماثلونهم في الصفات، وهم لكونهم شياطين يريدون الشرّ يزينون لهم أعمالهم الفاسدة.

ويبدو من الآية - بناءً على ما ذكر - أنّ هذا الشيطان نتاج عمل الإنسان وصفاته النفسية، ولعلّه ليس مخلوقاً من ذي قبل، و إنّما يخلقه الله تعالى بسبب عمل الإنسان أو أنّه نتيجة طبيعية لعمله يخلق ويوجد في دخيلة نفسه يزيّن له عمله .

وتزيين القبائح أمر مشهود في الإنسان، ولذلك نجده إذا تمادى في غيّه وعناده، وأصرّ على ضلاله يصل إلى مرحلة يرى ما يعمله من المنكر معروفاً، بل ربّما يجده واجباً، وأنّه يستحقّ عليه التبجيل والاحترام.

وأغرب منه أنّ المجتمع أيضاً يتحوّل تدريجاً، وينزل إلى هذا الحضيض إذا كثرت فيه المفاسد والمنكرات، كما ورد في الحديث المشهور عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

روى الكليني (رحمه الله ) عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ، فقيل له ويكون ذلك يا رسول الله ؟ فقال : نعم وشرّ من ذلك. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف، فقيل

ص: 560

له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً»(1).

ثمّ إنّ هذا القرين الذي يغوي الإنسان ويقيّضه الله له شيطان شرِّير فربّما يكون من الإنس، وربّما يكون من الجنّ. وقد ورد في الكتاب العزيز «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ »(2) وقال تعالى: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ *مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ » .

وكلاهما صنيعة يده، أمّا الجنّ فلعلّه - كما قلنا - يُخلق نتيجة عمله، وهو في دخيلة ذاته. وأمّا الإنس فإنّ أصدقاء الإنسان يتأثّرون بأخلاقه وصفاته، والإنسان الفاسد يُفسد من حوله، فتكون النتيجة أنّهم أيضاً يتبدّلون إلى أمثال له، وكأنّ كلّا منهم نسخة منه ، وهم جميعاً قرناء، وكلّ منهم يُغوي الآخر، ويحرضه على الجرائم والآثام، ويزيّن له القبائح، ويشجعه على ارتكاب العظائم.

وهكذا نجد أنّ المجرمين إذا تجمّعوا وتحزّبوا يشكّلون خطراً عظيماً على المجتمع، ويقومون بجرائم لا يقوم بها المجرمون الآحاد.

وقوله تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ » يحتمل العموم أيضاً، وكذلك يحتمله ما بعده، قال تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ *حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ *وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ » (3) .

فكلّ هذه الآيات تنطبق على قرناء الإنس والجنّ معاً. و یدلّ على إرادة العموم

ص: 561


1- الكافي 5: 59 .
2- الأنعام(6): 112.
3- الزخرف (43): 37 – 39.

هنا للصنفين قوله تعالى بعد ذلك في حكاية استغاثة الكافرين يوم القيامة «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ».

ومن هنا فإنّ من الضروري أن يراقب الإنسان قرينه فلا يصادق الفاسدين والذين لا يهتمّون بارتكاب الآثام، كما يجب على الآباء أن يراقبوا أصدقاء أولادهم، فكم من مؤمن تربّى في بيئة صالحة وأفسده الأخلّاء الفاسدون.

« فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » وقع الكلام في المراد بما بين أيديهم وما خلفهم. يحتمل أن يكون المراد التنبيه على إحاطة الشيطان أو القرين السوء بهم من كلّ جانب، فإنّ ما بين الأيدي كناية عن الإمام فهم محاطون من الإمام والخلف، وهو بدوره كناية عن عدم تمكنهم من الفرار عما نسجوه حول أنفسهم بسوء فعلهم.

ويحتمل أن يكون المراد ممّا بين أيديهم نفس العمل فإنّه أمامهم، وبما خلفهم النتائج المترتّبة عليه، سواء في الدنيا أو في الآخرة. وهذا ممّا يكثر التسويل فيه من قبل قرناء السوء من الجنّ والإنس، حيث إنّهم يزيلون الخوف من المغفّلين إذا استعظموا الجريمة، ولم يقتربوا منها خوفاً من العقوبات أو الفضائح، بوسوستهم أنّه لا ضير في ذلك، أو أنّه غير معلوم، أو أنّ اللذة لا تكون إلّا للجسور، ونحو ذلك.

« وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ » الظاهر أنّ المراد بالقول هو الجملة الأخيرة « إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ » فالخسارة بالحقيقة هي ما يخسره هؤلاء، لا الذي خسر ماله في الدنيا، كما قال تعالى: «قُلْ

ص: 562

إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (1).

وهؤلاء يدخلون ضمن أمم وجماعات كثيرة من الجنّ والإنس قد خلت من قبلهم، أي ماتوا قبل هذه الجماعة فهؤلاء يلحقون بهم.

والغرض من هذه الجملة بيان أنّ أكثر الجنّ والإنس خاسرون، فلا يغرنّكم ولا يخيفنّكم كثرة الفاسدين والمفسدين، وقلة الاتقياء والأخيار.

وتدلّ الآية كما نبّه عليه العلّامة الطباطبائي (رحمه الله ) أنّ الجنّ أيضاً يموتون.

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ». المراد بهم كفار قريش، حيث كانوا يأمرون جُهّالهم وشبابهم بأن لا يكتفوا بعدم الاستماع إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حين يتلو القرآن على الناس، بل يصيحوا أثناء قراءته بكلام لغو لا معنى له أو لا فائدة فيه حتّى لا يسمع الناس تلاوته، فتكون لهم الغلبة عليه في المجال الاعلامي.

وهذا دأب العجزة حيث لا يمكنهم مقارعة الحجّة بالحجة، ولا مقاومة تأثير الكلام الحقّ في المجتمع، فإذا لم يقدروا على إخماد أنفاس الدعاة إلى الحقّ وقتلهم أو حبسهم حاولوا منع تأثيره بإيجاد كلّ ما من شأنه أن يجلب انتباه الناس إليه حتّى يضيع الحقّ ويضلّ الناس عنه ويتركوه.

ونجد في عصرنا هذا أنواعاً مستحدثة من هذه المكيدة الشيطانية، كلّها تحاول صد المجتمع عن سبيل الله، فهناك الإعلانات والدعايات الفاسدة، وهناك الأغاني والموسيقي الصاخبة التي لا تبقي للشباب مجالاً للتفكير. وهناك مجامع اللهو والطرب، وهناك ميادين الرياضة، والمسابقات الفاقدة لأيّ هدف معقول

ص: 563


1- الزمر (39): 15 .

إلّا ملء كلّ أوقات الفراغ، حتّى لا يجتمع الناس حول ما يفيد دنياهم وآخرتهم إلى غير ذلك.

«فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ» يبدو من تعليق الحكم على عنوان الَّذِينَ كَفَرُوا أنّ العذاب الشديد جزاء كفرهم و عنادهم ومقارعتهم الحقّ بالباطل. والعذاب الشديد يمكن أن يكون في الدنيا أو في الآخرة. ولعلّ المراد به ما أصابهم يوم بدر وأمّا جزاء أسوأ أعمالهم، بل كلّها فإنّما هو في الآخرة.

وأمّا التعبير بأنّه يجزيهم بأسوأ أعمالهم فلا يعني أنّهم لا يجزون بما دون ذلك، بل يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى عملهم المذكور في الآية السابقة، وهو الصدّ عن سبيل الله، فيكون الغرض التنبيه على أنّ ذلك أسوأ أعمالهم، لأنّهم يحملون بذلك أوزار من يضلّ بفعلهم إلى يوم القيامة.

ويمكن أن يكون المراد أنّ مقياس موضعهم ودركتهم في النار هو أسوأ أعمالهم، نظير ما مرّ بيانه في قوله تعالى «وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ»(1).

«ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ» مرّ الكلام حول التعبير بأعداء الله في قوله تعالى «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ »(2)، وأنّ المراد بهم المعادون لشريعة السماء، وإن اعترفوا بالله تعالى ولم يصرّحوا بعداء له. وقوله « النَّارُ» بدل عن الجزاء أو عطف بيان .

ص: 564


1- الزمر (39) :35 .
2- فصلت (41): 19 .

« لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ» أي لكلّ منهم في النار دار يخلد فيه لا يخرج منه أبداً. والدار كلّ ما يدور حول الإنسان فليس في التعبير مسامحة أو تجوز.

« جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ » « جَزَاءً » مصدر بمعنى المكافأة، وهو إمّا مفعول لأجله، أي يخلدون في النار ليجازون بجحودهم، أو مفعول مطلق لفعل محذوف كما قالوا أي يجزون جزاء. والأوّل أولى.

و «ما » مصدرية أي جزاءً بجحودهم. وقوله تعالى « كَانُوا » یدلّ على استمرارهم في الجحود، فلم يكن ذلك منهم حالة عابرة، بل كان دأبهم وديدنهم كلّما واجهوا آية من آيات الله تعالى سواء الآيات الكونية والمعجزات والآيات النازلة من الكتاب العزيز.

والجحود هو الإنكار على علم، فهم كانوا يعلمون أنّ ما أتاهم به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الحقّ الصراح لا ريب فيه، ولكنّهم يكابرون ويعاندون بغياً منهم وحسداً واستكباراً، ولم يكتفوا بالجحود بل صدّوا عن السبيل، ومنعوا الناس من الوصول إلى الحقّ، فحقّت عليهم كلمة العذاب.

« وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ »، أي ويقول الذين كفروا و إنّما أتى بصيغة الماضي، لأنّه أمر قطعي فکأنّه وقع. والمراد ب- « الَّذِينَ كَفَرُوا » هنا الأتباع الذين غرّر بهم القرناء من الصنفين والتثنية بلحاظ الصنف.

والمستفاد من آيات كثيرة أنّ أهل النار يتعارفون فيما بينهم، والأتباع يعرفون من أضلّهم، ويخاصمونهم، ويتبرّؤون منهم. وقد ورد في القرآن الكريم ذكر مواقف عديدة من تخاصمهم، فلعلّ طلب الإراءة هنا ليس على حقيقته، وليس

ص: 565

دعاءً ولا أُمنية، و إنّما هو إعلان للبراءة عنهم، والمعاداة لهم وتحقيرهم بأنّ أتباعهم الذين نفّذوا أوامرهم - ومنها ما ورد في الآية السابقة من اللغو عند قراءة القرآن - يجعلونهم اليوم تحت أقدامهم و يريدون لهم أن يكونوا من الأسفلين بعد أن جعلوهم من الأعلين.

و هكذا تدور الدائرة عليهم. ومن يستعلي على الناس هنا ويتجبّر ويتكبّر يصبح في تلك النشأة محتقراً حتّى لدى الأتباع والأشياع.

ص: 566

سورة فصّلت(30 – 32)

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا » يتعرّض السياق لذكر المؤمنين الصادقين بعد ذكر الكافرين الجاحدين، ليكون حثّاً وتشويقاً لسلوك طريق الحقّ بعد التخويف من متابعة الكفر والباطل، وهذا من سنن الله تعالى في كتابه الكريم.

والمراد بقول « رَبُّنَا اللَّهُ » ليس هو اللفظ فقط كما هو واضح بل الإيمان الكامل باللسان والقلب والعمل، فإنّ مجرّد القول يصدر من المنافق أيضاً فضلاً عن ضعاف الإيمان والاستقامة: الاعتدال. وهي كناية عن الثبات وعدم الانحراف عن الطريق المستقيم، وعن مقتضى الإيمان بالله تعالى في مواجهة الظروف العصيبة التي قلّما يبقى الإنسان فيها محافظاً على دينه وإيمانه.

ويختلف الناس في المواضع التي توجب زلّة القدم من المال والجاه والجنس والخوف وغير ذلك. والمطلوب هو الثبات في جميع المواطن التي يبتلي الله فيها عباده. وكم نجد في التأريخ وفي الحياة المعاصرة من له صحيفة بيضاء طيلة عمره، ثمّ تزل قدمه في آخر أيامه فيضيع إيمانه ويبطل كلّ أعماله.

وفي «مجمع البيان» روي عن أنس قال قرأ علينا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هذه الآية ثمّ قال قد قالها ناس ثمّ كفر أكثرهم ، فمن قالها حتّى يموت فهو ممّن استقام عليها.

فمفاد هذا الحديث الاستمرار في الإيمان بالله وبدينه طيلة الحياة.

وفي «نهج البلاغة »عن أمير المؤمنين (علیه السلام): قال الله تعالى: « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ

ص: 567

ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » وقد قلتم ربّنا الله فاستقيموا على كتابه وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته. ثمّ لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها ولا تخالفوا عنها »(1).

والآية تدلّ على أنّ الجزاء المذكور فيها يترتب على الاعتقاد بانحصار الربوبية في الله تعالى، وذلك لتقديم الخبر على المبتدأ. ونتيجة ذلك أن يكون الإنسان واثقاً من أنّ كلّ ما يأتيه من ربّه في التكوين والتشريع هو مقتضى ربوبيته، فهو مؤثر في تربيته بما يصلح شأنه، فيسلّم أمره إلى الله تعالى. وهذا هو أساس السعادة في الدنيا والآخرة، وهو الذي يصعب الثبات عليه، فإنّ الغالب على الإنسان أنّه إذا واجه في حياته ما لا يلائم طبعه ولا يوافق هواه سخط على الكون وقوانينه، وإذا رأى من أحكام الله تعالى ما يضرّ بشؤونه المادية رفضه وتشبّث في ردّه بشتّى الأعذار والاستقامة والثبات في الاعتقاد بربوبية الله جلّ شأنه في جميع مراحل الحياة، توجب تسليم الإنسان لربّه ورضاه بقضائه في التكوين والتشريع.

وفي «بصائر الدرجات » عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عز وجل « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » قال : هم الأئمة من آل محمد (علیهم السلام). (2)

ولعلّ هذا الحصر لبيان أكمل الأفراد في الاستقامة والثبات على الإيمان. ولذلك ورد في بعض الأحاديث أنّ الآية تصدق على الشيعة.

ص: 568


1- نهج البلاغة: 253 ، الخطبة 176 .
2- بصائر الدرجات: 113 .

ففي «الكافي» عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن قول الله عزّ وجل: « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا » فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «استقاموا على الأئمة واحد بعد واحد تتنزّل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون »(1).

وفي «مجمع البيان » في ذيل هذه الآية روى محمد بن الفضيل، قال سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن الاستقامة فقال: «هي والله ما أنتم عليه».

والخطاب فيه للشيعة والغرض بيان أحد مصاديق الاستقامة، فإنّ الإيمان بالله لا يكمل إلّا بالإيمان برسله وكتبه، والإيمان بالرسول لا يكمل إلّا بالإيمان بكلّ ما أتى به، كما قال تعالى: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا »(2). وممّا أتى به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولاية أهل البيت (علیهم السلام) والاقتداء بالأئمة من بعده، فمن لم يتبع مذهب أهل البيت لم يكن مستقيماً على إيمانه بالله ورسوله.

وهذا نظير ما ورد في الحديث في قوله تعالى: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى »(3) أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال مخاطباً أمير المؤمنين (علیه السلام): «يعني إلى ولايتك». (4)

وفي «الكافي» في حديث عن الإمام الباقر(علیه السلام) أنّه تلا هذه الآية، ثمّ أشار إلى صدره وقال: «إلى ولايتنا»(5).

ص: 569


1- الكافي 1 :220 .
2- النساء (4): 65.
3- طه (20) :82 .
4- الأمالي، الصدوق: 584.
5- الكافي 1: 393 .

وروى الصدوق (رحمه الله ) بسنده عن داود بن كثير الرقي قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) ، فقلت له: جعلت فداك قوله تعالى «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى » فما هذا الهدى بعد التوبة والايمان والعمل الصالح؟ فقال: «معرفة الأئمّة والله». (1)

إلى غير ذلك من الأحاديث عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام).

والمراد على الظاهر أنّ ما في الآية الكريمة - وهو قانون إلهي عامّ - ينطبق في هذه الأمة على ولاية أهل البيت (علیهم السلام)، فإنّها هي التي تبقى من دعائم الإيمان بعد التوبة والإيمان بالله ورسوله والعمل الصالح، كما أنّه في أُمة موسى (علیهم السلام) ينطبق على متابعة هارون (علیهم السلام) ولذلك وقعت الآية مقدّمة لبيان قصة رجوع موسى إلى قومه بعد تفرّقهم عن هارون (علیهم السلام).

فمعنى الآية بناءً على ذلك أنّ الله تعالى يغفر لمن تاب عن الشرك، وآمن بالله ورسوله، وعمل عملاً صالحاً، ثمّ بعد وفاة الرسول أو غيابه اهتدى إلى متابعة خليفته. وهذا الخطاب لموسى (علیه السلام) يحدّد قبول الإيمان من بني إسرائيل بمتابعة هارون (علیه السلام). وفي ذلك إشارة إلى عدم قبول إيمان من خالفوا أمره بمتابعة السامريّ. وبذلك يرتفع الاستغراب من تأخّر الهداية عن الأمور المذكورة، ويندفع إشكال بعض المفسّرين من العامّة على هذه الأحاديث من جهة أنّ مورد الآية بنو إسرائيل، وأنّها لا تنطبق على هذه الأمة.

«تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » التنزّل على ما في لسان العرب - هو النزول على مهلة وعليه فهو يقتضي تعدّد

ص: 570


1- فضائل الشيعة :26 .

دفعات النزول، لأنّ الفعل أسند إلى الجمع، فإن كان نزولهم جميعاً على مهلة اقتضى التكرّر .

قيل: إنّ هذا الخطاب يتلقونه من الملائكة حين الموت، أو حينه وفي القبر وحين البعث وورد ذلك في بعض الروايات، وفي بعضها ما ينافيه ولا يصحّ شيء من القسمين سنداً. ولا يمتنع لفظ الآية أن يكون الخطاب في الدنيا، بل هو أوفق بقولهم بعد ذلك: «نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ».

ويبعد أن يكون المراد - كما في بعض التفاسير - إنا كنّا أولياؤكم في الدنيا، إذ لا يؤثّر ذلك في رفع الحزن والخوف، وظاهرها أنّ هذا القول إنّما يقال لهم لبعث الاطمئنان في نفوسهم. والمؤمن الراسخ في دينه يشعر بهذه الطمأنينة التي تلقّيها الملائكة في روعه وإن لم يشعر أنّها من إلقائهم.

و إنّما ذكروا ذلك لاستبعاد نزول الملائكة على المؤمنين في الدنيا وليس له وجه صحيح، و إنّما توقّف نزول الوحي الرسالي بوفاة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، مع أنّه لا دلالة في الآية على أنّ الملائكة يواجهون المؤمنين ويكلّمونهم، فلعلّهم يلقون مضمون الآية في قلوبهم ، نظير ما كانوا يعملونه في بدر قال تعالى ««إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا». (1)

ويؤيّد ذلك التعبير الوارد في الآية فإنّ فعل المضارع یدلّ على استمرار النزول، ومقتضاه أنّ هذا الإلقاء مستمرّ، بل صيغة التنزل كما مرّ تقتضي ذلك أيضاً، بل نفس النزول أيضاً يقتضي الاختصاص بالدنيا، فعلى القول الآخر لا بدّ من تخصيصه بوقت الموت، لأنّ الملائكة في الآخرة محيطون بالبشر صالحهم

ص: 571


1- الأنفال (8): 12 .

وطالحهم ويرتفع الحجاب فلا يصدق النزول.

وقيل: إنّ ممّا يقتضي الاختصاص بيوم القيامة أو حين الموت قولهم «كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» الظاهر في انقضاء وقت الوعد ولكن لا ظهور في ذلك فهذا التعبير يرد في استمرار الحالة أيضاً كقوله تعالى« إن كُنتُمْ صَادِقِينَ» و«إنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ» وأمثال ذلك في موارد عديدة.

والخوف هو القلق من مكروه متوقع حالاً أو مستقبلاً، والحزن هو التأسف على أمر لا يمكن تداركه. ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان ممّا يلاقيه في النشأة الأخرى، فإنّه مجهول تماماً، كما أنّه من الطبيعي أن يحزن على ما فاته من الفرص والملائكة يبشّرون المؤمنين الثابتين على إيمانهم أن لا داعي للخوف من ترتّب عقاب، ولا موجب للحزن على ما فات، بل استبشروا بالجنّة التي وعدكم الله على لسان أنبيائه ورسله والإبشار بمعنى السرور والفرح.

«نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ» أي لا تهتمّوا بكثرة الأعداء وقلّة الأصحاب، فإنّا أولياؤكم في الدنيا والآخرة والولاية - في الاصل - تتابع شيئين، ويطلق الولي على التابع والمتبوع والناصر والمنصور، ونحو ذلك.

والمراد هنا بالأولياء الذين يلون أمورهم بأمر من الله تعالى، حيث إنّهم وسائط الرحمة، والله تعالى هو الذي يتولّى الصالحين، وهو وليّ الذين آمنوا وولايتهم الخاصّة بالمؤمنين في الدنيا تتمثّل في التسديد والتثبيت على الحقّ ونحو ذلك، كما مرّ في سورة الأنفال، وفي الآخرة تتمثّل في إنالتهم الثواب والسلام والتكريم ونحوها، كما قال تعالى « وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »

ص: 572

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ »(1) وقال « حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ»(2) .

« وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ » تتمّة البشرى والضمير يعود إلى الجنّة المذكورة في الآية السابقة. واشتهاء النفس نزوعها إلى الشيء وحبّها له. والادّعاء افتعال من الدعوة أي الطلب، ويفيد تأكيده، ولعلّه لذلك فسّر بالتمنّي، فإنّه طلب ما لا يرجى فيتأكّد فيه الطلب، أي يطلب بإصرار. وعليه فالفرق بين ما تشتهيه الأنفس وما يدّعون أنّ الأوّل طلب ما يأملونه ويعرفونه من الملذّات، والثاني طلب ما لم يألفوه و إنّما يتمنّونه. وما أكثر أماني الإنسان، بل يحصل على ما لا يعرفه ولم يخطر بباله. وهذا غاية سعادة الإنسان فلا يتصوّر سعادة فوقه.

ولكن كيف يصل الإنسان إلى كلّ مشتهياته، مع أنّ الاستزادة جزء من طبيعته؟! ونحن نجد أنّ الإنسان في هذه الدنيا لا يقتنع بما يصل إليه، حتّى لو أعطي كلّ ما على وجه الأرض، فما الذي يحصل هناك؟ وما هو الشيء الذي يملأ النفس المستزيدة البشرية فلا يبتغي أمراً وراءه؟

كما أنّا نجد الإنسان في هذه النشأة يملّ كيفية خاصّة ونمطاً خاصّاً من الحياة، ويطلب دوما التجديد والتغيير، فما الذي يجده في الجنّة حيث تهدأ نفسه ويرضى به ولا يطلب غيره، كما قال تعالى: « لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا »؟(3)

الذي يملأ كلّ فراغ في قلب الإنسان، ولا يدع له أُمنية وراءه هو رضا الله

ص: 573


1- الرعد (13) : 23 - 24 .
2- الزمر (39) :73 .
3- الكهف (18): 108.

تعالى، فإذا بلغه الإنسان استراح واطمأنّ، فهذا هو غاية مطلوبه التي كان يبحث عنه فلا يجده، وهو ضالّته المنشودة التي كان يطلبها في الملذّات المادّية وغيرها.

« نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ » يضاف إلى كلّ ما يعطون في الجنّة إكرامهم بأنّ كلّ ذلك استضافة من الله تعالى لهم. وهذا غاية الإكرام من ربّ العالمين لعبيده الأتقياء والنزل : ما يقدّمه المضيف لضيفه.

ولعلّ وصفه تعالى بالغفور الرحيم للتنبيه على أنّ هذا الإكرام لم يكن ليتمّ لولا غفرانه ورحمته، إذ لا يخلو الإنسان من تقصير في أداء الحقّ تجاه ما أنعم الله عليه فلا يستحقّ أحد هذا الإكرام لولا غفران الله ورحمته .

ص: 574

سورة فصلت (33 – 36)

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

« وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا » لعلّ مناسبة الآيات لما سبق، التنديد بالذين كفروا حيث أمروا جهّالهم بأن يلغوا حين تلاوة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للقرآن، وهو يدعو إلى الله تعالى والجملة استفهام في معنى الإنكار أي لا أحد أحسن قولاً.

ومهما كان فالآية تحثّ على الدعوة إلى الله تعالى مع العمل الصالح، لأنّ الدعوة إليه تعالى هو أحسن القول، وأحسن ما يصدر من الكلام، وهو وظيفة الأنبياء والرسل والسبب في كونه أحسن القول واضح، لأنّه مضافاً إلى كونه عبادة لله تعالى بذاته يتسبّب في هداية الناس وإيصالهم إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة بالإيمان بالله تعالى.

والقول هو ما ينطق به الإنسان لإبراز ما في ضميره، وبه ينشر البشر علومه و معارفه و به امتاز البشر على ما عداه من الحيوان وهو الموجب لتكامله وتطوّره، ولولاه لبقي كلّ إنسان يعيش تجاربه، وجاء من بعده ليبدأ من نقطة الانطلاق، فما كان لهذا الركب أن يصل إلى ما وصل إليه. وحيث إنّ أهمّ المعارف والعلوم وأشرفها وأوجبها هو معرفة الله سبحانه، فالقول المشتمل على الدعوة إليه هو أحسن الأقوال، وأبلغها فائدة، إذ لا سعادة للبشرية إلّا باللجوء إلى

ص: 575

الإيمان بالله تعالى وطلب مرضاته.

ولكن هذه الدعوة إنّما تفيد وتؤثر إذا كان الداعي بنفسه مؤمناً بمحتواها إيماناً عميقاً يتجلّى فى عمله، وإلّا لكان تأثيره سلبياً، ومنفّراً للناس عن الدين كما نجده بوضوح في حياتنا. ولذلك عطف عليه قوله تعالى « وَعَمِلَ صَالِحًا » فالدعوة إلى الله إنّما يكون أحسن القول إذا انضمّ إليه العمل الصالح.

« وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ » قيل: إنّ المراد ليس هو القول باللفظ بل الاعتقاد، وإطلاق القول على الاعتقاد شائع. وقيل: إنّ المراد أن يكون مسلماً أمرَه لله تعالى فیدلّ على لزوم كونه مخلصاً في دعوته حتّى يكون قوله أحسن القول.

ولكن يبقى في الآية التركيز على قول خاصّ، وهو إعلان أنّه من المسلمين، فليس مفاده مجرّد كونه مسلماً، سواء بالقول أو الاعتقاد.

والذي يبدو لي أنّ المراد التواضع واعتبار الداعي نفسه أحد المسلمين لا يمتاز عليهم بشيء، وهذا أمر هامّ جدّاً لتأثير الدعوة في المجتمع. والأنبياء كانوا يتحلّون بهذه الصفة الحميدة، فلم يعتبروا أنفسهم أفضل من الناس لأنّهم داعون إلى الله تعالى، بل كانوا يتواضعون للجهّال من الناس فضلاً عن فضلائهم.

وناهيك في ذلك تواضع الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأخلاقه الحميدة، وعمق تأثيرها في قلوب الأعداء وكفار قريش فضلاً عن المؤمنين.

والآية وإن قيل باختصاصها بالرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلّا أنّ من الواضح أنّ الحكم فيه عامّ لجميع الدعاة، وفي مقدّمتهم الأنبياء والرسل والأئمة (علیهم السلام) ومن بعدهم العلماء والمصلحون.

« وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ »، «لا» الثانية زائدة للتأكيد، والمعنى واضح.

ص: 576

والغرض الحثّ على حسن التعامل مع الآخرين. والخطاب وإن كان للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولكنّ الحكم عامّ يشمل الناس جميعاً، وفي جميع مجالات الحياة، ويتأكّد الأمر بالنسبة للدعاة بصورة عامّة، حيث إنّ الآية وردت ضمن بيان الدعوة إلى الله تعالى، وأنّه أحسن القول فلزم بيان كيفية المواجهة مع أعداء الدعوة.

والمراد بالحسنة والسيّئة هنا ما يحدّده العرف في مجال التعامل مع الآخرين، ويختلف باختلاف الحضارات والأزمنة والأمكنة، فكلّ ما يستحسنه الطبع السليم في هذا المجال حسن ما لم يمنع عنه الشرع، وكلّ ما يستاء منه الطبع السليم سيّء إذا لم ينطبق عليه عنوان آخر يوجب حسنه. وللمفسرين أقوال شتّى في تحدیدهما بما لا دليل عليه.

« ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» أي إذا لقيت ما لا يرضيك في مواجهتك مع الآخرين فادفعه بالتي هي أحسن.

وفيه ثلاثة احتمالات :

الأول: أن تلاحظ ما يمكن أن تفعله كردّ فعل في مقابل عمل الخصم فتختار منها أحسنها، فإنّ تردّد الأمر مثلاً بين أن تقول له «شكراً» وإن تدفع له مالاً فادفع له المال.

والثاني: أن لا يكون ردّ فعلك إساءة إليه بدلاً عن إساءته، بل عامله بما يكون أحسن من عمله، فيكفي الإعراض وعدم التعرّض له.

والثالث: أن يكون المراد بالأحسن ما فيه حُسن لا الأحسن من غيره.

والظاهر هو الأول، إذ التعبير بالأحسن لا يناسب إذا أريد كلّ ما يقابل

ص: 577

الإساءة، إذ الإساءة لا حسن فيها ليكون هذا أحسن منها. وأمّا الثالث فهو خلاف ظاهر الصيغة.

وعليه فالمطلوب هو مقابلة الإساءة بالإحسان لتحصل المفاجأة غير المترقبة « فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » والولي هو الصديق. والحميم مأخوذ من الحُمّة بمعنى الحرارة كناية عن غاية قربه وإشفاقه. ولكنّه لم يقل إنّ العدو ينقلب صديقاً حميماً، بل يعاملك معاملة الصديق الحميم، حيث أتى بحرف التشبيه «كأنّ» والتشبيه يقتضي التغاير.

وهذا أمر غالبيّ، وهناك قلّة من الناس لا ينفع معهم إلّا المقابلة بالمثل، بل الأسوأ. ولذلك لمّا عفا الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن كفار قريش في فتح مکّة وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء استثنى بعض الطغاة وأمر بقتلهم أينما وجدوا.

«وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» الضمير يعود إلى ما سبق، أي مقابلة الإساءة بالإحسان والغرض أنّ هذا أمر صعب على الإنسان، ويتوقّف على صبر وكظم للغيظ، وحطّ عظيم من الخلق الرفيع. ولا يبعد أن يكون المراد بما ورد في الآية الكريمة الإشارة إلى عاملين مؤثرين في تحقق هذه الحالة للإنسان:

أحدهما ترويض النفس بالصبر، و كبح جماحها عند الغضب. وهذا من أصعب الأمور كما هو واضح، فالاتصاف بالسجايا الحميدة كلّها يحتاج إلى رياضة نفسية شاقة ومريرة، ولكنّ السيطرة على النفس عند الغضب والمفاجئات من أصعبها، بل لعلّه أصعبها على الإطلاق. ولا يحصل ذلك إلّا بتوفيق وتسديد من الله تعالى.

ولذلك عبّر عنه بالتلقي، وأتى بالفعل مبنياً للمجهول، وفاعل التلقية هو الله تعالى.

ص: 578

وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنّ هذه الصفة نعمة يتلقّاها الإنسان من الله تعالى.

الثاني: العوامل الوراثية والتربوية. فإنّها تؤثر بعمق في تكوّن النفس الإنسانية، وتخلّقها بالخصال الثابتة. وعبّر عن ذلك في الآية الكريمة بالحظّ العظيم، نظراً إلى أنّها أمور خارجة عن اختياره ، ولكنّها تؤثّر في تكوين شخصيته.

والحظّ: النصيب المقسوم وهو ما يحصل عليه الإنسان بتقدير من الله تعالى من دون أن يتعب نفسه. ومن الواضح أنّ هذا أيضاً لا يحصل إلّا بتوفيق من الله تعالى، ولذلك عبّر عنه أيضاً بالتلقي، وأتى بالفعل مبنياً للمجهول.

وليس معنى ذلك أنّ الإنسان مغلوب على أمره ، وليس له دور في الاتصاف بالسجايا الحميدة أو الخبيثة، بل هو قادر على التغلّب على كلّ هذه العوامل وعلى تكوين شخصيته وفق مراده، ولكنّه أصعب عليه بالقياس إلى من ساعدته الظروف الوراثية والتربوية، سواء في البيت أو المدرسة أو المجتمع.

« وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ » الاستعاذة من العوذ وهو اللجوء. ومعناه أن يلجأ إلى الله تعالى ويلوذ به بالدعاء وطلب الإعاذة.

وقد اختلف في معنى النزغ. ويبدو من موارد الاستعمال أنّ النزغ هنا بمعنى التسويل والوسوسة. وأمّا الدخول للإفساد بين القوم كما فسّر به فلا يناسب المقام، و إنّما يناسب مثل قوله تعالى «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ»(1) وقوله تعالى « مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» (2)حيث إنّ النزع فيهما تعلّق بما بين شخصين أو أشخاص بخلافه في ما نحن فيه.

ص: 579


1- الإسراء (17) : 53 .
2- يوسف (12): 100.

والعلّامة الطباطبائي (رحمه الله) رجّح تفسيره هنا بالنخس وتقليب الأمور بالوسوسة في قلوب الكافرين حتّى لا تنجح محاولة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، نظراً لعدم إمكان تفسيره بالوسوسة، إذ ليس للشيطان عليه سلطة.

ولكنّه غير صحيح، إذ ليس النخس بمعنى الإضرار وتقليب الأمور، فلو كان الخطاب للرسول فالنخس أيضاً تأثير من الشيطان في نفسه الشريفة.

والصحيح كما أشرنا إليه أنّ الخطاب عامّ لكلّ مخاطب وقارئ أو هو خاص ويقصد به غيره أو يقصد العموم. و شموله له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولا ضير فيه إذ لا يوجب سلطاناً عليه، لأنّ الشيطان يلقي في أمنيته - كما في الآية - وينسخ الله ما يلقي الشيطان، فعدم سلطانه من جهة نسخه تعالى إلقاءاته لا من جهة عدم وسوسته

ومهما كان فالظاهر أنّ المراد بوسوسة الشيطان في الآية تحريضه على مقابلة السيّئة بالمثل بل ربّما الأسوأ. ومثل هذا التعبير یدلّ أيضاً على أنّ ما يشعر به الإنسان في مثل هذا الحال من الميل إلى المقابلة بالسوء إنّما هو من وساوس الشيطان ونزغاته.

والآية تعالج ذلك بالاستعاذة بالله تعالى والدعاء والابتهال. ولا شكّ في أنّه أمر يهدّئ الأعصاب، ويفسح المجال للحكمة والتفكير الهادئ. وذكر الله تعالى يكفي للاستقرار والهدوء « أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » فالعلاج ناجع بإذن الله تعالى حتماً، إن كان الدعاء عن صدق نيّة وتوجّه. ولذلك ورد في الحديث النبوي قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لرجل اشتدّ غضبه على غيره: «إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». فقال له الرجل: أمجنوناً تراني، فتلا

ص: 580

الرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عليه الآية:« وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ». (1)

« إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » تعليل للأمر بالاستعاذة بأنّه تعالى هو السميع فيسمع استعاذتك، و هو العليم فيعلم بصدق نيّتك، فيمنعك من تأثير إلقائاته، أو يعلم حالك وما ينفعك في هذا المجال.

والتعبير یدلّ على حصر الوصفين فيه تعالى لمكان الألف واللام وضمير الفصل، والوجه فيه واضح، فإنّه تعالى هو السميع العليم على الإطلاق وبالذات فحسب، وأمّا غيره فيسمع ويعلم جزئياً وهو غير مستقلّ في ذلك، بل يسمع ويعلم بإذنه تعالى.

ص: 581


1- الدرّ المنثور 5 :365 .

سورة فصّلت(37 – 39)

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

« وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ » يعود السياق إلى التنبيه على وحدة الإله والتوحيد في العبادة، فالواو للاستيناف، والضمير يعود إلى الله سبحانه. والتذكير بالآيات الكونية ممّا تكرّر في القرآن بكثرة، ومنها الليل والنهار والشمس والقمر. ذوذلك لأنّ تكرّر عروض هذه الآيات وتجدّدها اليومي، وأنس الإنسان بها يوجب غفلته عن عظمتها، وعن أهمّية دورها في الحياة على هذا الكوكب ، مع أنّها من أهمّ نعم الله تعالى، بل لولاها ولولا تعاقبها لم يمكن تكوّن الحياة واستمرارها عليه، فلو كان الليل مستمرّاً لتجمّد وجه البسيطة، ولو كان النهار مستمرّاً لذابت عناصر الحياة بالحرارة، إلى غير ذلك من الآثار والنعم الإلهية التي تحصل بأصل وجود هذه الآيات وبتعاقبها ونظامها الخاصّ.

« لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ» قيل: إنّ بعض عرب الجزيرة كانوا يسجدون للشمس والقمر يظنّون أنّ فيه تقرّباً إلى الله تعالى باعتبار أنّهما من آياته الكبرى بنظرهم. ولكنّه غير ثابت. ويبعد أن يكون خطاباً للصابئة وأمثالهم ممّن قيل إنّهم يعبدون الشمس أو الكواكب.

ولا يبعد أن لا يكون الخطاب لفئة بعينها، وأن يكون المراد بالسجود مطلق

ص: 582

الخضوع والتعظيم، ولذلك أبدله بالتسبيح في الآية التالية. والظاهر أنّ ذكر الشمس والقمر من باب المثال لما يجلب انتباه الإنسان من مخلوقات الله تعالى ومن الأسباب الظاهرية.

والغرض أنّ الإنسان يجب أن لا يخضع لهذه الوسائط التي هي مخلوقات الله تعالى، بل يخضع ويسجد لله وحده الذي خلقها وبيده أمرها، وهي خاضعة لإرادته تعالى، بل هو الذي سخّر هذا الكون لمصلحة الإنسان، كما قال تعالى «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ»(1) فلا ينبغي للإنسان أن يخضع إلّا لربّه.

« وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» أي إن كنتم تعبدون الله تعالى فلا تشركوا معه في العبادة أحداً من خلقه.

« فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ » لا يسأمون أي لا يملّون والجملة الجزائية هنا بدل عن الجزاء الواقعي، أي فإن استكبر القوم عن عبادة الله تعالى والسجود له وحده فلا يحزنك ذلك، أو فإنّ ذلك لا يؤثّر في الكون، فإنّ الذين عند ربّك يسبّحون له دائماً ولا يملّون.

والظاهر أنّ المراد بالذين عند الله تعالى الملائكة الكرام (علیهم السلام). والتعبير بذلك عنهم للإشارة إلى قرب منزلتهم لديه تعالى ومثله قوله تعالى: « وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ »(2) وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ » (3).

ص: 583


1- النحل (16): 12 .
2- الأنبياء (21) :19 - 20 .
3- الأعراف (7): 206 .

وقيل: يشمل غيرهم من المقربين لديه من البشر أيضاً، ولكنّ التعبير بكونهم عند ربك يوحي بالاختصاص بالملائكة الكرام.

وكون التسبيح في الليل والنهار إشارة إلى استمراره ودوامه وعدم انقطاعه فلا ينافي عدم وجود ليل ونهار عندهم. وهذا أيضاً قرينة على الاختصاص بالملائكة إذ غيرهم من المقرّبين يشتغلون بأمور أخرى. وكذلك قوله تعالى « لَا يَسْأَمُونَ »أي لا يملّون ولا يتعبون، فإنّه أيضاً من خصائصهم.

وليس المراد أنّ استكبار المشركين لا يضرّ الله تعالى لوجود من يسبّح له ليلاً ونهاراً ، فإنّ غناه تعالى ليس من هذه الجهة بل هو مستغن عن الجميع، فلا حاجة له إلى تسبيح الملائكة أيضاً، بل تسبيح الإنسان أهمّ من تسبيحهم. ولذلك لمّا اعترض الملائكة بأنّ هذا الموجود يفسد في الأرض ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك أتاهم الجواب من ربِّ العزّة « قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ »(1). فإنّ فيه إشارة إلى الحكمة في خلق البشر وهي العبادة الاختيارية وفي ظرف وجود ما يجرّه إلى ملذّاته وشهواته التي تنافي العبادة.

فيقع السؤال حينئذ عن الغرض من التنبيه على هذا الأمر؟

يمكن أن يكون الغرض في هذه الآية الإشارة إلى أنّ المشركين بتركهم السجود الله تعالى يخالفون نظام الكون ويشذّون عن الخلائق وفي مقدمتهم الملائكة.

ويمكن أن يكون الغرض الإشارة إلى أنّ تركهم للسجود لا يضرّ بالهدف من النظام الكوني فإنّ عبادة الإنسان وإن كانت مهمة من جهة كونها اختيارية ،

ص: 584


1- البقرة (2) :30 .

وكونه في معرض وسوسة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، إلّا أنّ العبادة في كلّ النظام الكوني لا تختصّ بعبادة الإنسان وتسبيحه، فكلّ الكون يسبّح الله تعالى كما قال « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » (1) ومن الخلائق الملائكة وهم يسبّحون دائماً ولا يسأمون.

ولعلّ كلّ ما ورد في القرآن من عمومية التسبيح والسجود لله تعالى يقصد بها التنبيه على هذا المعنى، وتقلّل من أهمية عبادة الإنسان في النظام الكوني وهي آيات كثيرة.

وفي كلّ ذلك تسلية للمؤمنين أيضاً، حيث يجدون أنّ أكثر البشر لا ينتهجون منهجهم، ولا يعبدون الله تعالى، فيحزنون لذلك، فهذه الآية وأمثالها تبيّن لهم أنّكم لستم وحدكم في هذا الكون تعبدون الله تعالى، بل أكثر من في الكون وأقوى من فيه - وهم الملائكة - يعبدونه ليلاً ونهاراً لا يفترون ولا يسأمون.

« وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ» هذه أيضاً من الآيات المتكرّرة التي يمرّ عليها الإنسان غافلاً عن دلالاتها. والمراد بخشوع الأرض موتها وجفافها وعدم تحركها. فإذا نزل عليها المطر اهتزّت أي تحركّت، وربت أي ارتفعت. وهذا يقابل الخشوع وبذلك تكون الأرض نشيطة تنبض بالحياة.

والغرض أنّ الحياة بعد الموت - وهو مستمرّ في هذا الكون ومشهود للجميع - من آيات الله الباهرة التي تدلّ على حكمته وقدرته ومن مظاهرها حياة الأرض بعد موتها.

ص: 585


1- الإسراء (17): 44 .

« إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » أي الذي أحيى الأرض وهو الله تعالى سيحيي الموتى متى شاء. والحياة التي تعطي للإنسان وإن كانت تختلف عن هذه الحياة إلّا أنّ هذه الظاهرة المتكرّرة تدلّ على عموم قدرته تعالى فيشمل إحياء الإنسان بعد الموت.

والحاصل أنّ إحياء الأرض من الآيات التي تدلّ بوضوح على أنّه تعالى قادر على كلّ شيء ومنه إحياء الموتى. وعليه فقوله « إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » تعليل للجملة السابقة.

ص: 586

سورة فصّلت(40 – 43)

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)

« إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا » الإلحاد هو الميل والانحراف. ومنه اللحد وهو حفرة مائلة في القبر. والظاهر أنّ المراد بالآيات ما ورد ذكره في الآيات السابقة من الآيات الكونية. ولعلّ المراد بالإلحاد الانحراف عن دلالتها على ربوبية الخالق، كما كان شأن المشركين، حيث كانوا يعتقدون بأنّ الله تعالى هو الخالق، ولكنّهم يعبدون غيره، ويرون أنّ للكون أرباباً غير الله تعالى شأنه.

ويحتمل أن يراد بها آيات القرآن الكريم، أو جميع الكتب السماوية، أو كلّ آياته تعالى فتشمل الآيات الكونية وآيات الكتاب والمراد بالإلحاد في آيات الكتاب التكذيب أو التحريف، أو التأويل بما يناسب أهواءهم، أو اللغو حين تلاوتها لئلّا يسمعها الناس، كما مرّ في صدر السورة، فيشمل كلّ ما يقابل الاستقامة في التعامل معها فكلّ ذلك انحراف وإلحاد.

وقوله « لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا » تهديد، ويأتي في سياق الآيات السابقة التي تؤكّد على أنّ هلاك الإنسان يأتي من جهة ظنّه بأن الله تعالى لا يعلم كثيراً ممّا يعمل.

« أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ » هذا تصريح بما عرض به من التهديد في الجملة السابقة، ولكن بطريقة السؤال الذي ينتظر جواباً من

ص: 587

المخاطب والجواب واضح. وعبّر عن دخوله النار بإلقائه فيها تحقيراً وازدراءً به، کأنّه لا يعدّ إنساناً هناك، و إنّما هو حجر أو شيء مثله يلقى به.

ويقابله التعبير في الجانب الآخر وهو أنّه يأتي باختياره آمنا، ولم يعبّر بأنّ له الجنّة، بل هو آمن من كلّ شرّ، لأنّ الأمان هو أكبر نعمة في تلك النشأة، حيث يواجه الإنسان نتيجة أعماله ، وهي لا تخلو من شرّ أو نقص.

« اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» تهديد مرة أخرى، وإيذان بأنّهم أحرار تكويناً في هذه الحياة، لأنّ الله تعالى لا يخاف الفوت، ولا مفرّ منه لأحد، فهو يتركهم هنا يسرحون ويمرحون ثمّ يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ولذلك علّل هذه الحرّيّة بأنّه بما تعملون بصير. وهذا يستبطن أمراً آخر، وهو أنّه تعالى قد أعدّ لكلّ ما تعملون جزاء وفاقاً.

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ » المراد بهم مشركوا مکّة. والظاهر أنّه استيناف يتعرّض فيه لمواجهة المشركين للقرآن الكريم. وليس بدلاً عن الجملة السابقة كما قيل .

والمراد بالذكر القرآن لأنّه يُذكّر الإنسان الغافل الناسي بما تدعوه إليه فطرته من التوحيد والتوجّه إلى الله تعالى. ولم يذكر الجواب في الآية ليذهب المخاطب فيه كلّ مذهب، فإنّ الذي يكفر بمثل ذلك يستحقّ أشدّ العقوبات وأعنف اللوم والتقريع، فاكتفي عن ذكر الجزاء بتكريم الكتاب وبيان علوّ شأنه، فإنّه أبلغ بياناً في التنديد بهذا الكفر.

وقوله تعالى « لَمَّا جَاءَهُمْ » یدلّ على أنّهم كفروا به بمجرّد أن جاءهم من دون تأمّل ومن دون تحقيق، فلم يكن كفرهم ناشئاً عن خطأ في فهم المعنى، ولا عن

ص: 588

تدبّر في آياته، بل عناداً واستكباراً، وتعصّباً مقيتاً لما ألفوه من سنّة الآباء.

والحكم وإن ورد بشأن مشركي مکّة ككثير من الآيات الكريمة إلّا أنّ المضمون عامّ يشمل كلّ من اتّصف بصفاتهم. كما أنّ ما ورد من الخطاب للمؤمنين بالتكاليف والأحكام لا يختصّ بأهل ذلك العصر.

« وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ» العزّة ليست بمعنى عدم المثيل كما في «الميزان»، بل بمعنى الصلابة، و إنّما يطلق على ما هو نادر الوجود لأنّه صعب المنال، ولا يطلق على عديم المثيل. والعزّة هنا لعلّها بمعنى الجملة التالية « لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ »لأنّ معنى ذلك أنّه غير قابل للنفوذ، فلا يدخل فيه الباطل ويمكن أن تكون بمعنى الغلبة لأنّه أيضاً مقتضى الصلابة، وعدم قبول النفوذ. وغلبة القرآن على خصومه إنّما هو بقوة بيانه ونفوذ حجّته.

« لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ » اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة والذي يقوى في النظر أنّ المراد بإتيان الباطل إليه وقوع الكلام الباطل فيه. وقوله من بين يديه، أي من أمامه، ولعلّ وجه التعبير عن الاشتمال على الباطل بكونه من الأمام، باعتبار أنّ الكلام ينشأ من فكر قبله، فإن كان الفكر باطلاً كان الكلام باطلاً، والقرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، فلا يشتمل إلّا على الحقّ الصراح.

وأمّا إتيان الباطل من خلفه فلعلّه بمعنى أن يقع الخطأ في النقل، أو التحريف والدسيسة فيه، فربّما يفكّر الإنسان فكراً صحيحاً ، و يصل إلى نتيجة صحيحة، ثمّ حين النقل إلى غيره بالكلام ينسى أو يخطئ، أو يتعمّد التحريف، أو يتدّخل فيه المبطلون حين التداول، فيكون الكلام باطلاً، وإن كان الفكر في الأصل صحيحاً.

ص: 589

والقرآن مصون ومحفوظ من هذه الجهة أيضاً، لأنّ الله تعالى حفظه من

تدخّل المبطلين، وحفظ رسوله الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من النسيان والخطأ، وعصمه من تعمّد التحريف كما عصمه من كل ذنب. ومن هنا فهذا الكتاب لا يأتيه الباطل من حيث المنشأ والمبدأ، ولا من حيث الوصول والنتيجة.

والآية في هذا المعنى تشبه قوله تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »(1) ومن هنا ذكروا أنّ الآية تدلّ على عدم وقوع التحريف في نسخ القرآن كالآية المذكورة. ولكنّ الصحيح أنّه لا دلالة في شيء منهما على ذلك.

ومجمل القول أنّ الآيتين إنّما تدلان على أنّ الله تعالى يحفظ القرآن إلى حين نزوله على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أن يدسّ فيه الشياطين كما كان المشركون يظنّون أو يدّعون.

وقد تكرّر في القرآن الكريم الردّ على هذا التصوّر الخاطئ، كقوله تعالى

«وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ *إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ » (2) وقوله تعالى «وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ » (3) في سياق آية «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ » وقوله تعالى ««لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» (4)وغير ذلك، وهي كثيرة. ومن سذاجة الإنسان قديماً وحديثاً أنّه يتصوّر أنّ الشياطين لهم حول وقوة في قبال سلطان الله تعالى، وأنّهم يحاربون الله فربّما يغلبون وربّما يُغلبون، مع أنّهم

ص: 590


1- الحجر (15): 9 .
2- الشعراء (26): 210 - 212 .
3- الحجر (15): 16 - 18.
4- الواقعة (56): 79 .

ليسوا إلّا جزءاً من مجموعة الكون الذي هو بكامله تسير بتدبيره تعالى.

ومن السخافة أنّ بعض من يدّعي العلم كان يكتب في مقالاته أنّ كلّ الطرق إلى الله مستقيمة، وأنّه لو كانت كلّ هذه الديانات باطلة لكان إبليس غالباً على الإرادة الإلهية المتعلّقة بهداية البشر!!!

وهذا من غريب الكلام فإنّ إرادة الله التكوينية لم تتعلّق بهداية البشر، ولو تعلّقت لم يمكن التخلّف عنها، كما قال تعالى «وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ»(1) .

والحاصل أنّ مشركي مکّة أيضاً كانوا يتوهّمون أنّ الشياطين بإمكانها أن تتغلّب على الملائكة، وعلى إرادة الله تعالى فتدسّ في الوحي ما ليس منه، أو هكذا كانوا يلقون الشكوك في قلوب الناس، وهذه الآيات تردّ على هذا التوهّم، وتعلن أنّ الله تعالى يحفظ الوحي من تدخّل الشياطين.

كما أنّ هناك آيات تدلّ على أنّه تعالى يحفظ الرسول من النسيان والخطأ، وهو معصوم طبعاً من أن يزيد فيه أو ينقص عمداً، قال تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى»(2).

وأمّا عدم وقوع التحريف في المستقبل من قبل الناس فلا يمكن أن تتعرّض له الآيتان، ولا يمكن الاستدلال عليه بأيّ آية من القرآن الكريم.

أمّا عدم دلالة الآيتين فواضح ، لأنّ الضمير في قوله تعالى «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ» وفي قوله «وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» يعود إلى القرآن المنزل على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، لا إلى ما بأيدينا من المصاحف. فالذي لا يقع فيه التحريف هو ما نزل على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

ص: 591


1- النحل (16): 9 .
2- الأعلى (87): 6.

وتلاه على الناس، وأمّا كلّ ما يكتبه أو يطبعه أحد طيلة التأريخ ويوزعه على الناس فلا يشمله الحفظ.

هذا مضافاً إلى أنّ محاولات التحريف لا شكّ في أنّها حدثت، بل هناك اتّهامات بوجود مصاحف محرّفة حتّى الآن. وناهيك في ذلك إحراق عثمان لجميع المصاحف عدا واحداً، فلو كانت المصاحف كلّها متّحدة فما هو الوجه في الإحراق؟!

وأمّا عدم إمكان الاستدلال بأيّ آية من القرآن على عدم التحريف فلأنّه يقع السؤال حينئذ عن نفس هذه الآية، والدليل على كونها واقعية غير مدسوسة فالاستدلال بالمصحف الموجود على صحّة نفسه استدلال دوري باطل.

وقد يقال: إنّ الاستدلال ليس دوريّاً، لأنّ هذه الآيات مجمع على صحتها و إنّما الاختلاف في آيات أخرى من القرآن .

ولكنّ الاستدلال بالإجماع لا يغني شيئاً إذ لا دليل على حجية الإجماع ومجرّد أنّ طرفي النزاع لا يختلفان في ذلك لا يوجب صحّة الدليل، فنحن بحاجة إلى دليل يثبت عدم التحريف لكلّ من يلاحظ تأريخ نزول القرآن وانتشاره، وهو قد لا يعترف بالإجماع.

وربما يقال بأنّ هذا الإشكال يرد أيضاً على ما ذكرت من تفسير الآيتين بأنّ المراد بهما الحفظ من تدخّل الشياطين، إذ قد يقال: كيف نثبت أنّ هاتين الآيتين سلمتا من تدخّلهم.

ولكنّنا لا نستدلّ بهاتين الآيتين على سلامة القرآن من تدخّل الشياطين، بل لا يمكن الاستدلال على ذلك بأي شيء، إذ ليس لنا طريق إلى معرفة الشياطين

ص: 592

وكيفية تدخّلهم في مثل ذلك، وطرق مواجهتهم مع الملائكة، فهذه أمور غيبية لا تصل إليها أفهامنا، والآية إنّما تردّ على المشركين في ذلك الزمان، وهم يسمعون القرآن من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فيلقون هذه الشبهات بعد تسلّم كون القرآن نازلاً من عند الله تعالى، فيردّ عليهم القرآن بأنّ الشياطين لا يمكنهم التدخّل في ما ينزل من عند الله تعالى ولا يمكن الردّ عليهم بغير ذلك.

والصحيح أنّ الدليل على عدم التحريف، وأنّ هذا المصحف بكامله هو ما نزل على الرسول وجوه أخرى، كتواتر النقل والسيرة المستمرّة إلى زمان المعصوم القائمة على الاستناد إلى نفس هذا المصحف الذي بأيدينا في مختلف المسائل، والأمر بقراءته على ما هو عليه في الروايات المعتبرة، ونحو ذلك.

ويكفي في ذلك الروايات الكثيرة الواردة في عرض الروايات على القرآن وأنّ ما خالفه يطرح، ولا شكّ أنّ المراد به هو هذا القرآن الموجود بين أيدي الناس. فمنها ما رواه الكليني في «الكافي» عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:« قال رسول الله : إنّ على كلّ حق حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه».

وروى عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن أبي يعفور قال وحّدثني الحسين بن أبي العلاء أنّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإلّا فالذي جاءكم به أولى به».

وعن أيوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف».

ص: 593

وعن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «خطب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله »(1).

وغيرها من الروايات وهي كثيرة جدّاً.

«تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» خبر بعد خبر. ولعلّه في مقام التعليل لما سبق من أنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكونه حكيماً على الإطلاق وفي جميع ما يصدر منه يقتضي بالضرورة أن لا يشتمل كلامه على الباطل تعالى شأنه.

وكونه حميداً بمعنى أنّه يستحقّ الحمد والثناء على جميع أفعاله، ومنها تنزيله الكتاب يقتضي أن يحفظه من تدخّل الشياطين، وإلّا لم يكن في التنزيل فائدة، وإن كان أصل الكلام حقّا، والمفروض أنّه قادر على كلّ شيء. ولعلّه لذلك أتى بالوصفين قيداً للتنزيل، لا لنفس إنشاء الكلام.

«مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ » يبدو أنّ الجملة في سياق التعرّض لما كان كفار قريش يقولونه في مواجهة الآيات الكريمة التي تتلى عليهم ، كقولهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ونحو ذلك، فالمراد ما يقول لك المشركون والكفّار من قومك إلّا ما قد قال الكافرون في الأمم السابقة لرسلهم.

والغرض تسلية الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ ما يعانيه من سوء تعاملهم لا يختصّ به، بل يشاركه في ذلك الرسل طيلة التأريخ.

وعليه فالظاهر أنّ المراد بالجملة التالية «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ» أيضاً

ص: 594


1- الكافي 1: 69.

تقوية عزيمة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن لا يحزنه ما يراه من طيش الجاهلين، فإنّ الله تعالى وإن كان ذو مغفرة ولكنّه ذو عقاب أليم.

وقيل: إنّ المراد بالجملة الأولى أنّه ما يقال لك من قبل الله تعالى إلّا ما قد قيل للرسل من قبلك، والجملة التالية هي مقول القول والغرض بيان أنّ رسالات السماء كلّها تحاول أن تحفظ الموازنة في قلوب المؤمنين، فيبقى الإنسان المؤمن بين الخوف والرجاء، خوف من عقاب الله على سوء أعماله أو سوء نيته، ورجاء أكيد ووثيق برحمته ومغفرته.

والاحتمال الأوّل أقرب إذ على الاحتمال الثاني تكون هذه الجملة هي خلاصة الوحي الإلهي في جميع الشرائع، أو أنّها أهمّ ما تحمله الشرائع، أو أنّها أنسب شيء لما يتعرّض له السياق، ونحو ذلك. و ذلك لمكان الحصر «مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا » ولا نجد أيّ خصوصية في الجملة تستوجب ذكرها كأمر اتّفقت عليه الشرائع، فضلاً عن حصرها فيه.

وممّا يؤيّد الاحتمال الأوّل أنّه لم يركّز على المغفرة ولم يعمّمها أو يؤكّدها كما فعل في سائر الموارد كقوله تعالى «نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ »(1) بل اكتفى بذكر المغفرة نكرة وهذا يؤيد ما قلناه في وجه تعقيب الجملة على هذا الاحتمال وهو أنّ الله تعالى وإن كان ذو مغفرة إلّا أنّه ذو عقاب أليم.

هذا مضافاً إلى أنّ الاحتمال الثاني يوجب عدم ارتباط الآية بما قبلها وما بعدها.

ص: 595


1- الحجر :(15): 49 - 50 .

سورة فصّلت(44 – 46)

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

« وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ » يستمرّ السياق في التنديد بمواجهة المشركين للقرآن الكريم، حيث كانوا يعاندون ويلتمسون الأعذار لرفضه، بالرغم من اقتناعهم بأنّه من كلام الله تعالى.

قيل: إنّ هذه الآية جاءت ردّاً على اعتراض المشركين بأنّه لماذا نزل القرآن باللغة العربية؟! وکأنّه كان يضايقهم بفصاحته وبلاغته وإعجازه فيتمنّون أن يكون بلغة أخرى. ولعلّهم كانوا يشعرون بالضيق من جهة إتمام الحجة عليهم فيودّون لو كان بلغة أخرى لا يجيدونها فيكونوا معذورين في عدم الإيمان به، فجاءت هذه الآية ردّاً عليهم.

ولكن هذا التفسير لا أساس له إذ لا دليل على إسناد ما ذكر فيه إلى المشركين ويحتمل أن لا يكون في مقابلة كلام أو تمنّ منهم، بل لبيان غاية معاندتهم، فهم لمّا رأوه عربيّاً زعموا أنّه سحر. ولو كان أعجمياً لقالوا لولا فُصّلت آياته فهو نظير قوله تعالى «وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ *فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ » (1) ممّا یدلّ على تعصّبهم وعنادهم ورفضهم للرسول الأعجمي والغرض

ص: 596


1- الشعراء (26) :198 -199.

أنّه لم يبق لكم عذر في هذه المواجهة، فالرسول عربي ومن أعرق القبائل وأشرفها.

وكذلك في هذه الآية، فإنّ الكلام لو كان غير عربي أو غير فصيح لاستنكفوا من قبوله والانصياع له ولكنّ هذا الكلام في غاية الفصاحة والبلاغة فليس لهم عذر حتّى على منطقهم الفاسد والعجمة في مقابل الفصاحة والإبانة. ومنه التعبير عن غير العرب بالعجم، لأنّ غير العرب لا يفهم كلامهم فاعتبروه کأنّه لا يقدر على الإبانة، أي النطق.

وقولهم « لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ» التفصيل بمعنى فصل كلّ آية مرتبطة بموضوع عما ترتبط بموضوع آخر، وهذا بالطبع يستلزم الإبانة والإيضاح، لأنّ بيان حكم كلّ جزئي منفصلاً عن غيره يستلزم الوضوح، وبذلك عبّر عن الإيضاح بالتفصيل، فالمعنى أنّ القرآن لو كان بلغة غيرعربية لم يكن واضحاً لهم فكان من حقّهم أن يطلبوا الإيضاح

« أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ » استفهام إنكاري، وفي الجملة احتمالان :

1 - استنكار أن يأتي النبيّ العربيّ بكلام أعجميّ، بناءً على أنّ المراد بالعربي الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

2 - استنكار أن يخاطب العرب بلغة غير لغتهم، فالمراد بالعربي جنسه لا فرد خاصّ.

« قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ» هذا ليس جواباً عن قولهم المفترض « لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ» ، إذ لم يكن القرآن أعجميّاً ليقولوا ذلك. بل هو ردّ على عنادهم ومحاولاتهم المختلفة للتشكيك في القرآن وعدم تجاوبهم معه، فالله تعالى أمر

ص: 597

رسوله بأن يردّ عليهم. و إنّما أعرض عن مخاطبتهم تحقيراً لهم.

نعم ! إنّ القرآن لمن يؤمن به مصباح هداية ينير الدرب للوصول إلى الحقّ، وإلى ما فيه السعادة الأبدية، وهو شفاء للأمراض النفسية والروحية، يبعث في نفوسهم الطمأنينة، ويشدّهم إلى الله خالق الكون ومدبّره الذي لا تجري الأمور إلّا بأمره.

ولم يقل للذين آمنوا به كما أنّه قابلهم بالذين لا يؤمنون من دون ذكر المتعلّق، ولعلّ السرّ أنّ الفارق بين القبيلين يعود إلى النفوس، فهناك نفوس مطمئنّة تؤمن بالغيب، وقلوب تنفتح إذا رأت الآيات الواضحة، وهناك نفوس مغلقة لا تؤمن إلّا بما تحسّ به، وتحاول التشكيك في كلّ ما يتعلّق بالغيب.

«وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ » وهذا مجاراة لما قالوه وورد في صدر السورة

««وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ». والوقر هو الثقل، أي إنّهم لا يسمعون ما يتلى عليهم من القرآن وهذا بالرغم من أنّهم يسمعون، ولكن إصرارهم على عدم الاستجابة يثقل أسماعهم، بمعنى أنّ عقولهم لا تتقبّل ما ينتقل إليها عن طريق السمع من القرآن والدعوة إلى الله تعالى .

«وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» عمي عليه الأمر أي لم يفهمه، فمعاني الآيات لا تدخل أفهامهم المغلقة. والضمير إمّا أن يكون ضمير الشأن، أي الشأن أنّ عليهم عمى، أي لا يعقلون شيئاً، وإمّا أن يعود إلى القرآن، والمعنى أنّه يزيدهم عمى وجهلاً، كما قال تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا » (1).

ص: 598


1- الإسراء (17): 82 .

وقال أيضاً «وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ»(1).

ومن الغريب أنّ القرآن الذي هو مصباح الهدى ينقلب عليهم عمى وضلالاً، ويزيدهم رجساً وخساراً. والسبب أنّهم لمّا واجهوا القرآن بالعناد والاستكبار انقلبت قلوبهم وعقولهم ونفوسهم. وهكذا كلّما زاد الإنسان عناداً مع الحقّ اشتدّ مرضه وتعقّد أكثر فأكثر.

«أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ» يشبه تعاملهم مع الدعوة وعنادهم ورفضهم بمن ينادى من مكان بعيد فلا يسمع الصوت، أو لا يميّز الألفاظ فضلاً عن درك المعاني.

«وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» تسلية للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ تكذيب الناس للكتاب السماوي ليس أمراً جديداً، فقد آتينا موسى الكتاب وهو التوراة، فاختلف الناس فيه، أي قبله بعضهم ورفضه بعض آخر. فهذا اختلاف عريق له جذور في النفس البشرية والتأريخ البشري.

«وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ » قالوا: أي لولا أنّ الله تعالى قضى وقدّر أن يكون البشر أحراراً في ما يختارون في هذه الحياة وأن يمهلهم إلى يوم يلقونه لقضي بينهم في اختلافهم في القبول والرفض، والقضاء بالحقّ يقضي في مثل ذلك بأن يجازى المكذّبون في هذه الدنيا، ولا يساوى بين الفريقين. ولكن حيث سبقت من الله تعالى تلك الكلمة والقضاء الحتم بأن يمهل البشر في الدنيا أخّر القضاء بينهم إلى يوم القيامة.

ص: 599


1- التوبة (9): 124 - 125 .

ويحتمل أن يكون المراد أنّه لولا أنّ الله تعالى شاء أن يمتحن الناس ويبتليهم ، بأن يبقي مجالاً للشكّ ، ولا ينزل الآيات واضحة باهرة، كما قال تعالى: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»(1) لولا ذلك لقضي بينهم بأن ينزل ما لا يبقي مجالاً للشكّ.

فالمراد من الكلمة التي سبقت إرادته تعالى المتعلقة بامتحان البشر وابتلائهم، وبأن لا يكون الحقّ محسوساً وملموساً لأنّ المطلوب منهم الإيمان بالغيب. وذلك لأنّه هو الإيمان الذي يوجب سعة النفس وقدرتها، ويبعدها عن الإخلاد إلى الأرض، وإلى الأمور الماديّة، ويرفع عنها الأغلال والقيود التي حبستها في الدنيا، ويمنحها قابلية الصعود في مراقي الكمال و الانضمام إلى صفوف المقربين.

والمراد من القضاء بينهم وضوح الحقّ، وانكشاف الغطاء المادّي المانع من رؤيته، والإحساس به فيتّفقون جميعاً على الانصياع له، ويحسم النزاع.

ويؤيّد هذا الاحتمال الجملة التالية «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» فإنّ مقتضى السياق أن يكون المراد بهم قوم موسى (علیه السلام) لا كفّار مکّة كما قيل، وبناءً على الاحتمال الأوّل يبعد ذلك، إذ لا يبقى وجه لتعقيب الجملة بهذا المضمون، بخلاف ما إذا قلنا بالاحتمال الثاني فإنّ المعنى أنّ الله تعالى لو أراد لأنزل عليهم كتاباً واضحاً أو آية واضحة ملموسة لا يختلف فيه اثنان، ولكنّه لم يفعل ذلك، ولذلك فإنّهم بقوا في شكّ مريب.

ويحتمل أيضاً أن يكون عامّاً يشمل جميع الكافرين، كما يمكن التعميم في الجملة السابقة «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ » فإنّه لا يختصّ بقوم دون قوم.

ص: 600


1- الشعراء (26): 4.

ومهما كان فالشكّ المريب هو ما يكون مع اتّهام، ولم يبيّن من كان المتّهم عند بني إسرائيل؟ هل اتّهموا موسى (علیه السلام) بالافتراء والكذب، أم اتّهموا الله تعالى بأنّه لم يرسل الكتاب لصالحهم مثلاً، فإنّ اليهود حتّى المؤمنون منهم كانوا يسيؤون الظنّ بالله تعالى، قال سبحانه «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ»(1)، و إنّما قالوا ذلك حيث أمروا بالإنفاق في سبيل الله تعالى.

وقال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ»(2) . وقال أيضاً نقلاً عن اليهود حيث خاطبوا موسى (علیه السلام)عندما أمروا بدخول بيت المقدس «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ»(3).

وهذا الأمر لا يختصّ بهم، بل هناك من سائر المؤمنين من يختلج في نفسه هذه الأوهام، وربّما يصرّح به بعضهم، فهناك من يمنّ على الله تعالى بإيمانه، فإنّ المنّ على الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) منّ على الله تعالى. وقد قال سبحانه: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(4) فكأنّ هذا الإنسان الذي آمن ظاهراً يتوهّم أنّ الله تعالى بحاجة إلى إيمانه، وأنّه ينتفع به.

وربّما يسمع من بعض الناس من يقول: نحن نعم العبيد لله تعالى أو أنّه من أين سيأتي بمن يعبده مثلنا؟ ونحو ذلك من التعابير الحاكية عن اتّهامهم لله تعالى

ص: 601


1- آل عمران (3): 181 .
2- المائدة (5): 64 .
3- المائدة (5): 24 .
4- الحجرات (49): 17 .

ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّ الدعوة إلى الإيمان دعوة إلى مصلحة شخصية. وهناك من لا يقول بلسانه، ولكنّه ممّا تنطوي عليه سريرته.

وهناك فى هذه الأمّة أيضاً من يبخل بماله إذا أمره الله تعالى بالإنفاق ظنّاً منه أنّ الله تعالى بحاجة إلى ماله، قال تعالى: «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ *إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (1) فالآية تدلّ على أنّ من المؤمنين من يحمل الضغينة والحقد في نفسه من تشريع الإنفاق. وعلى من الضغينة؟ إنّها على الله تعالى وعلى شريعته المقدسة.

وفي آيات القتال أيضاً شواهد من ذلك منها قوله تعالى «وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ» (2).

والحاصل أنّ اتّهام الشريعة وسوء الظنّ بالله تعالى في الأحكام التي لا تعجب الإنسان ويصعب عليه العمل بها أمر شائع بين المؤمنين فضلاً عن المنافقين والكافرين.

«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا» قانون عامّ يبيّن للناس استغناء الله تعالى عنهم وعن عبادتهم وإيمانهم، فمن عمل صالحاً فإنّما ينفع نفسه، والله غني عنه. ومن أساء فيضرّ نفسه، ويعرض نفسه للجزاء الإلهي، ولا يضرّ الله شيئاً، وإن كان لا يرضى لعباده الكفر، كما قال تعالى: ««إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ»(3) .

ولعلّ وجه ارتباط الآية بالآيات السابقة التنبيه على أنّ عدم إيمانهم بالكتاب

ص: 602


1- محمّد (47): 36 - 37 .
2- النساء (4) :77 .
3- الزمر (39) :7 .

لا يضرّ الله تعالى، و إنّما يضرّون بذلك أنفسهم، والله غنيّ عن إيمانهم. ويقوى في النظر ارتباط الآية بالجملة الأخيرة على التوضيح الذي ذكرناه في الشكّ المريب، كما ورد التعقيب بذلك في موارد أخرى ممّا ينقل سوء الظنّ به تعالى وبأحكامه وبشريعته.

منها قوله تعالى «إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ *هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ »(1) وفي الجواب عن كونهم يمنّون بإيمانهم قال تعالى: «بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ »(2) .

«وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » ومن الظلم أن يُمنع أحد من أن ينال نتيجة عمله الصالح، أو يجازى أحد بسوء لم يعمل ما يوجبه ومن يظلم فإنّما يظلم لضعفه، وعدم قدرته على الوصول إلى مآربه، فيجبر نقصه بالظلم على الآخرين والله جلّ شأنه لا يحتاج إلى الظلم. وظلّام صيغة المبالغة، أي كثير الظلم.

وربّما يستغرب هذا التعبير لأنّ الله تعالى لا يظلم أحداً كما قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ» (3). والجواب أنّ هذا الظلم لو تحقق فهو ظلم عامّ يشمل كلّ عبيده فيكون المرتكب له ظلّاماً، فنفاه الله تعالى على عظمه وشموله.

ص: 603


1- محمّد (47): 37- 38 .
2- الحجرات (49): 17.
3- النساء (4): 40.

سورة فصّلت(47 – 51)

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)

« إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ » حيث كان الكلام في الآية السابقة عن العدل الإلهي يوم القيامة جاءت هذه الجملة ردّاً على سؤال متوقع عن توقيت هذا اليوم والساعة هي الجزء من الوقت، وهنا كناية عن الوقت الخاصّ أي يوم يقوم الناس لربّ العالمين، سُمّي بذلك لأنّه يتمّ بسرعة، كما عبّر عنه بنفخ الصور ونحوه.

والمراد بردّ علمه إليه تعالى أنّ كلّ من يُسأل عن الساعة ووقتها يرجع علمه إليه تعالى بأن يقول «الله العالم »لأنّه لا يعلمه، ولا يعلمه إلّا الله تعالى فهذا علم استأثر به الله ولم يعلمها رسله ولا ملائكته.

ولعلّ السرّ فيه أن يستمرّ المكلّفون في العمل بوظائفهم، وإمرار معاشهم، ولو علموا بموعدهم لاختلّ نظام المعاش.

« وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ » «الأكمام» جمع كمّ - بكسر الكاف - وهو غلاف الثمرة. و «ما» نافية وليس مبتدأ كما في

ص: 604

«الميزان » التعقيبه ب«الا» و «من» في قوله « مِنْ ثَمَرَاتٍ» و « مِنْ أُنْثَى »زائدة لتأكيد الشمول.

وذكر هذه الأمور - خروج الثمرة والحمل والوضع - من باب المثال فلا يمكن أن يحدث شيء في الكون إلّا بعلمه تعالى، ولعلّ الغرض من هذه الجملة بيان شمول العلم الإلهي لجميع الحوادث من جهة أنّه ممّا يتوقف عليه تحقيق العدالة المشار إليها في الآية السابقة.

وقيل: إنّ الغرض ذكر أمور مشهودة للإنسان، وهو لا يعلم بها وبحقيقتها، ليكون جواباً عن السؤال عن موعد الساعة الذي يقصد به الإنكار. فهذه الآية تبيّن للإنسان أنّه لا يعلم بهذه الأمور، فهل يجوز له إنكارها؟! ولكنّ الآية لم تنف علم الإنسان، ولم تحصر العلم بهذه الأمور في الله تعالى، و إنّما ورد في الآية أنّ هذه الأمور لا تتحقق إلّا بعلمه تعالى.

« وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي» أي واذكر يوم يناديهم. والضمير يعود إلى المشركين والتعبير ب « شُرَكَائِي» تهكّم واستهزاء بهم، حيث كانوا يجعلون لله تعالى شركاء، ومثله قوله تعالى «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ »(1) والمراد بهم الأصنام أو مطلق ما كانوا يعبدون من دون الله كبعض البشر. وقوله « أَيْنَ شُرَكَائِي» بتقدير القول كما ورد في سورة القصص.

وهؤلاء وإن كانوا موجودين في الساحة وهم يرونهم، بل يتخاطبون كما في آيات أخرى، ولكن السؤال وقع عن وجودهم بصفة الشراكة، فالأصنام هناك في النار، وكذلك الفراعنة وسائر من ادّعوا الألوهية أو مارسوها من طواغيت البشر.

ص: 605


1- القصص (28): 62 .

فالسؤال في الواقع عن مصير هذه الشراكة المزعومة .

والتعبير بالنداء وتوجيهه إلى الجمع يوحي بأنّ الخطاب يكون علناً وموجهاً إلى جميع القوم. والحساب هناك كما يكون فردياً قد يكون اجتماعياً، فالمجتمع بصفته الخاصّة عليه مسؤولياته الخاصّة به. وكما يحاسب الإنسان بأعماله الشخصية يحاسب بأعمال المجتمع وبما يصدر منه من موافقة، أو مخالفة، أو سكوت.

قال تعالى: «وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ »(1) .

يلاحظ في هذه القصة أنّ الله تعالى عذّب جميع القوم بما فيهم التاركون للنهي عن المنكر وإن لم يرتكبوه، بل اعتبرهم من الذين ظلموا مع أنّهم لم يوافقوهم أيضاً، ولكنّهم لم يعلنوا مخالفتهم.

ويلاحظ أيضاً أنّه تعالى اعتبر النهي عن المنكر معذرة إلى الله تعالى، ومعناه أنّهم بذلك يعتذرون إليه تعالى من بقائهم في هذا المجتمع الفاسد، ممّا یدلّ على أنّ الانسان مسؤول عن أعمال المجتمع، أي الأعمال التي تنتشر في المجتمع وتبتني عليها ثقافتهم، وليس المراد كلّ عمل فرديّ يقوم به بعض أفراد المجتمع.

ص: 606


1- الأعراف (7): 163 - 165 .

« قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» آذنّاك أي أعلمناك. وهذا إنشاء للأعلام وليس إخباراً عن إعلام سابق ،أي نعلمك أنّه ليس منا من يشهد على وجود شركاء لك. ونفي شهادتهم على الشراكة بمعنى عدولهم عن كلّ ما كانوا يزعمونه، أو بمعنى أنّهم لا يشاهدون شيئاً يعتبر شريكاً لله تعالى.

« وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ» ، « وَضَلَّ » في الأصل بمعنى ضاع، فالمراد أنّها غابت عن أعينهم، فلم يجدوهم في موضع الحاجة، وقد عقدوا الآمال عليهم في الدنيا، أو ضلّت عن أذهانهم حيث انكشف لهم الحقّ فعلموا بطلان أوهامهم، حينما كانوا يدعون الأصنام ويتوقّعون منها الشفاعة.

« وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ » المحيص اسم مكان أو مصدر من «حاص»، أي مال عن الشيء، فالمعنى ما لنا من طريق يميل بنا ويعدلنا عن العذاب الإلهي وهم هناك لا يظنّون، بل يعلمون أنّهم لا محيص لهم من العذاب، فليس المراد بالظنّ الاعتقاد الراجح، بل المراد كلّ اعتقاد يستند إلى أمارة كما في «مفردات» الراغب، ولعلّهم يحتملون أن تشملهم الرحمة الإلهية ولو بعد حين.

ووجه ارتباط هذه الجمل بأوّل الآية أنّه حيث ذكر شواهد ربوبيته تعالى، وأنّه لا يعلم وقت الساعة إلّا هو، ولا يحدث شيء إلّا بعلمه عقّبه بما يثير العجب من إشراك القوم غيره تعالى في الربوبية، وأشار إلى أنّهم سينتبهون إلى خطئهم يوم لا يفيدهم ذلك.

ومثله قوله تعالى «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ *إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ

ص: 607

بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ »(1).

« لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ » هذه الآيات تكشف عن حال الإنسان الكافر بدليل الآية التالية، و إنّما عبّر بالإنسان إيذاناً بأنّ هذا طبعه وصفته الأصلية لولم يؤمن بالله واليوم الآخر وشريعة السماء، فالذي يغيّره ويضفي عليه الكمال هو الإيمان.

وربّما تشمل الآية بعض من هو ضعيف في إيمانه، فالمؤمنون يختلفون في درجات إيمانهم ، وبعضهم أقرب إلى الكفر من الإيمان، وإن وصف بالمؤمن، كما قال تعالى عن المنافقين « هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ » (2) وحسب هذا الاختلاف يختلف حالهم في ما يذكر من صفات الكافرين.

وتذكّر هذه الآيات ثلاث خصال للإنسان الكافر:

الأولى : ما في هذه الآية، وهي أنّه لا يملّ من طلب الخير، والمراد به المال وما يستطيبه من الملذّات. والمراد بالدعاء الطلب، والعمل في سبيل الوصول إليها، فهو لا يشبع منها ولا يتعب بل كلّما بالغ في جمع الأموال زادت نهمته، كما أنّ الأكول كلّما زاد في الأكل اتّسعت معدته وطلب المزيد.

وأمّا إذا مسّه الشرّ فإنّه ييأس ويقنط والشر كلّ أمر سيّئ لا يرغب فيه أحد. والمراد به هنا ما لا سبيل إلى دفعه، وأمّا المشاكل التي يمكن حلّها، سواء في جسمه أو ماله، أو غير ذلك فهو داخل في العنوان الأول، وهو طلب الخير.

فإذا ابتلي الكافر بما لا حلّ له ولا بدّ له من التسليم فإنّه ييأس ويقنط، لأنّه لا

ص: 608


1- فاطر (35): 13-14 .
2- آل عمران (3) :167 .

أمل له في حياة اخرى ولا في ثواب من الله تعالى فلا يجد بديلاً لما يفقده من ملذّات الدنيا التي هام بها وعشقها، وصرف في جمعها حياته، وبذل في سبيلها كلّ جهده، فحقّ له أن ييأس ويقنط والظاهر أنّهما بمعنى واحد جيء بهما معاً للتأكيد .

ومثله قوله تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ». (1)

وبما ذكرناه في توضيح معنى الآية الكريمة يندفع ما يقال من أنّ الكفّار أيضاً لا ييأسون لمجرّد أن يمسّهم الشرّ. فإنّ الكفّار ييأسون حينما لا يبقى أيّ أمل للحلّ، وخصوصاً إذا تعلّق الأمر بالحياة. وهناك من المؤمنين أيضاً من ييأس بذلك لضعف إيمانه كما ذكرنا.

«وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي». الصفة الثانية: أنّه إذا أوتى الخير والرخاء والنعمة تكبّر وطغى، ونظر في عطفه، ونسب كلّ ذلك إلى نفسه، ورأى نفسه فوق الآخرين.

والآية تردّ عليه من بدو بيان حاله قبل أن يعقب عليه، فقوله تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا » يردّ على تصوّره الخاطئ بأنّ ما لقيته من نعمة إنّما هو رحمة من الله تعالى أذاقك فكان ينبغي لك أن تشكر ربّك، لا أن تطغى وتشمخ بأنفك.

والتعبير بالأذاقة لعلّه من جهة أنّ هذه النعم الدنيوية مهما عظمت في عين الإنسان فإنّها ليست في جنب رحمته الواسعة إلّا كطعم يذوقه. والضرّاء كلّ ما يضرّ الإنسان. وتقييد الرحمة بكونها بعد الضرّاء، لأنّها هي التي تلفت انتباه الإنسان واهتمامه، وأمّا النعم المستمرّة فيغفل عنها. ولم ينسب الضرّاء إلى نفسه

ص: 609


1- هود (11): 9 .

مع أنّه أيضاً منه تعالى لأنّه إنّما مسّته بسوء عمله، قال تعالى: ««وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» (1) .

وقوله « لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي» يحتمل أن يكون المراد أنّه كسبه بعلمه وقوّته وحصافة رأيه، وغرضه أن ينكر أنّه نعمة من الله تعالى عليه، فيتعلّق به حقّ شرعيّ، ويطلب منه أن ينفق منه على الفقراء وفي سبيل الله. و مثله قول قارون « إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي »(2). ويحتمل أن يكون المراد أنّه باق له لا يؤخذ منه، ولا تزول نعمته. وهذا الاحتمال أقرب لما يأتي من مجاراة الآية لآية سورة الكهف وفيها قوله « مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا».

« وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً » ينكر الآخرة ليبقى حرّاً في تصرفه لا يخاف عقوبة وراءه. ومعنى هذه العبارة أنّ احتمال قيام الساعة ضعيف، لأنّه لا ينفي الاحتمال و إنّما ينفي الظنّ. وهذا ممّا يؤخذ به على الإنسان، فإنّه لا يمكنه الإنكار بالمّرة، لعدم دليل على امتناعها، وحيث إنّ المحتمل في غاية الأهمّية فالمفروض عقلاً أن يحتاط الإنسان.

« وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى»، أي لو فرض قيام القيامة والمحاسبة، فإنّ لي أمام ربّي أحسن مقام وأرفع درجة. والحسنى أفعل تفضيل من الحسن وهي وصف لموصوف مقدّر كالدرجة الحسنى.

وهذا مجرّد فرض، فهو لا يعتقد بالآخرة، ولكنّه لاغتراره بنفسه يظنّ أنّه لو كانت هناك قيامة وحساب فإنّ الله تعالى ينعم عليه أيضاً كما أنعم عليه في

ص: 610


1- الشورى (42): 30 .
2- القصص (28): 78 .

الدنيا، فإنّ هذه النعمة والرخاء إن كان من الله فإنّما أعطاه لاستحقاقه وكرامته فهو يستحقّها هناك أيضاً.

ونظيره ما في سورة الكهف من حوار الصاحبين حيث يقول عن الغنيّ الكافر المغترّ بنعمته «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا»(1). ومثله أيضاً قوله تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ.» (2).

والإنسان يقع في هذا التصوّر الخاطئ نتيجة إعجابه بنفسه. وقد رأينا من الطغاة شواهد كثيرة له في التأريخ وفي حياتنا، وناهيك في ذلك خطاب السيدة زینب سلام الله عليها ليزيد لعنه الله: « أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك». (3)

« فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا » الفاء للتفريع، فإنّ ما يلقاه هناك متفرع وناتج من هذا التصوّر الخاطئ. والجملة مؤكدة بقسم محذوف، یدلّ عليه لام القسم وبالنون المؤكّدة.

ومعنى إنبائه يوم القيامة بعمله أنّه يرفع عنه الحجاب، فيكون بصره حديداً ونافذاً يصل إلى أعماق العمل، وإلى الأهداف التي تكمن وراءه. كما قال تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ »(4)، وحينئذ يظهر عمله

ص: 611


1- الكهف (18): 35 - 36 .
2- هود (11) :10 .
3- بحار الأنوار 45: 133 .
4- ق ( 50) :22 .

بذلك الوجه الكالح القبيح المنفّر ، ولو فرض أنّه أتى ببعض الأعمال الحسنة كمساعدة الفقراء وبناء المصالح العامّة، فإنّ سوء نيته يبين حقيقة عمله.

وهذا يصلح ردّاً على تصوّراته الخاطئة المتتالية، فإنّ سلسلة أخطائه تبتني على جهله بسوء عمله، كما قال تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا »(1) فإذا تبيّن له حقيقة عمله أنهار كلّ ما بنى عليه من التصورات الخاطئة.

« وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ » وهذا يصلح ردّاً على تصوّره أنّ له عند الله أرفع مقام ودرجة، بل يذيقه الله العذاب الغليظ، أي الشديد جزاءً لسيّئ أعماله.

«وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ». وهذه هي الصفة الثالثة التي تخصّ الكافر ومن بحكمه من المؤمنين في الظاهر، فهو في حال النعمة والرخاء ينسى ربّه، ولا يعترف به، بل يعرض عنه. و إنّما يذكره حينما تنسدّ أبواب الأمل في وجهه، ويجد نفسه مضطرّاً للجوء إليه فإنّه آخر أمل له.

والنأي: البعد فإمّا أن يكون المراد أنّه ينأى بنفسه فإنّ الجانب يكنّى به عن الشخص، أو المراد التكبر والإعراض ، فالجانب بمعنى الجنب. وهذه حالة من لا يعير اهتماماً بالشيء نظير الإعراض بالوجه والمراد بالدعاء العريض الإكثار منه، أو شدّة التضرّع.

وقد تكرّر في القرآن الكريم الإشارة إلى هذه الحالة في الإنسان. فمنها قوله تعالى «وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ

ص: 612


1- الكهف (18): 103 - 104 .

يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(1).

وقوله تعالى: «فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ» (2) وغير ذلك.

وهكذا الإنسان يتضرّع إلى ربّه في العسر وينساه في الرخاء، إلّا المؤمنين فإنّهم لا ينسون ربّهم أبداً، ولكنّ الحال يختلف باختلاف درجات الإيمان، فالصادقون منهم لا يختلف حالهم في هذا المجال في الشدّة والرخاء، بل ربّما ينتهزون فرصة الرخاء لبذل جهد أكبر في العبادة والدعوة إلى الله تعالى ويوكّلون أمرهم في الشدة إليه أيضاً، وينعمون براحة البال. وسائر المؤمنين يختلف حالهم في الشدّة والرخاء، ويزيد تضرّعهم وتوجّههم إلى الله تعالى في حال الشدّة، وهم مختلفون في هذا الاختلاف حسب درجات إيمانهم.

وربّما يتوهّم التنافي بين هذه الآية وقوله تعالى قبل آيتين « وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ » فإنّ كونه يؤوساً ينافي الدعاء المتوقّف على الرجاء. وأصرح في التنافي قوله تعالى «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا »(3). لوحدة الجملة الأولى فيهما الأمر الذي يقتضي وحدة الموضوع في الآيتين.

والعلّامة الطباطبائي (رحمه الله) لدفع الإشكال في تفسير الآية الأولى من هذه الآيات بأنّ المراد من يأسه وقنوطه يأسه من الأسباب والوسائل، ولا ينافي ذلك تعلّق رجائه بالله تعالى.

ص: 613


1- يونس (10): 12 .
2- العنكبوت (29): 65 .
3- الاسراء (17) :83 .

وهذا جواب غريب فإنّ ما ذكره إنّما هو من صفات المؤمنين الصادقين حيث لا يعلّقون الآمال إلّا بالله تعالى ولا علاقة له بهذه الحالة التي تندّد بها الآيات المذكورة. هذا مضافاً إلى أنّ هذا الجواب لا يصحّ في قوله تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ » (1) فقد جمع هنا بين اليأس والكفر.

ولكنّ الإشكال غير وارد على ما ذكرنا من أنّ المراد بالشر في الآية الأولى ونظائرها ما لا سبيل إلى دفعه كالمرض الذي لا علاج له قطعاً، فيحصل له اليأس والقنوط والكفران ، لأنّه لا ينتظر ثواباً من الله تعالى، ولا يسند الأمور إليه، بخلاف المؤمن. وأمّا الموارد التي يتوسّل فيها بالدعاء، ويتوجّه إلى ربّه فهي التي لم يقطع أمله من وجود طريق للحلّ فيها، ولكنّه بعيد المنال عادة كمسألة الغرق في البحر، وبعض حالات المرض. فهذه قرينة أخرى على ما ذكرناه من اختصاص الشرّ في الآية الأولى بما لا سبيل إلى دفعه.

ص: 614


1- هود (11) :9 .

سورة فصّلت(52 – 54)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

« قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ » ، « أَرَأَيْتُمْ » بمعنى «أخبروني» ويؤتى بهذا التعبير للتنبيه على إعلام أمر هامّ في صورة سؤال. واسم كان ضمير يعود إلى القرآن.

ومعنى الجملة انتبهوا إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذا القرآن يحتمل أن يكون من عند الله تعالى، فإن كان من عنده واقعاً، ثمّ كفرتم به وأصررتم على العناد والمخالفة الشديدة، فمن أضلّ منكم حينئذ؟! وذلك لأنّ القوم كفروا بالقرآن من دون دليل وحجّة، ولم يكن ذلك عن إيمان بهدفهم وطريقتهم، و إنّما كفروا به عناداً وحسداً للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فهذه الآية تحذّرهم من مغبّة ذلك، فإنّ احتمال الصحّة كاف في لزوم الاحتياط والتأمّل وعدم الإصرار على الكفر والعناد.

والشقاق البعيد كناية عن الاختلاف الشديد والإصرار على الإنكار، فإنّ الشقاق مفاعلة من الشقّ بمعنى المشاقّة، وهي أن يكون كلّ من الطرفين في شقّ وقسم غير شقّ الآخر، فإذا بعد الشقّان كانت المخالفة أشدّ.

ولم يقل «من أضلّ منكم »كما يقتضيه السياق، لكي يذكر السبب الموجب لصدق كونهم أضلّ من الجميع، وأنّه لا يوجد أضلّ منهم، وهو كونهم في شقاق بعيد ومخالفة شديدة، مع كونه من عند الله تعالى، والمفروض أن يحتاطوا

ص: 615

لاحتمال ذلك، ولا يتّخذوا هذا الموقف الشديد. و إنّما دعاهم إلى ذلك العناد والحسد.

« سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» في الآية محتملات حسب التفاسير نذكر بعضها:

الاحتمال الأول - و هو المعروف بينهم - : أنّ المراد بالضمير في « أَنَّهُ الْحَقُّ» يعود إلى القرآن الكريم، وأنّ المراد بالآيات في الآفاق والأنفس ظهور الإسلام وغلبته على المشركين وغيرهم في الجزيرة العربية وما حولها من البلدان على يد المسلمين في عهد الرسالة وبعدها. فآيات الآفاق بالنسبة لما عدا مکّة من مناطق الجزيرة العربية وغيرها. والأنفس بالنسبة لمشركي قريش. وهذا الظهور والغلبة حيث إنّها تحكي عن نصر الله تعالى لهذا الدين فيتبيّن أنّه الحق، فالكتاب الذي جاء به حق كلّه.

وحيث إنّ مجرّد الظفر والغلبة لا یدلّ على كون الدين حقاً، ولا تعتبر هذه الغلبة معجزة - كما يقول بعضهم - عدل العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) عن هذا البيان إلى القول بأنّ هذه الفتوحات وإن لم تكن بنفسها آية، إلّا أنّها حيث جاءت مصدّقة لما أخبر به القرآن الكريم من غلبة هذا الدين، ومن أنّ كفار قريش سيعذّبهم الله تعالى بأيدي المؤمنين، فبذلك يكون تحقّق ما أخبر به آية تدلّ على كونه حقاً.

ويؤيّد هذا الاحتمال أنّه المناسب لسياق الآيات التي تندّد بتكذيب كفّار قريش للقرآن الكريم.

الاحتمال الثاني: أنّ المراد بالآيات في الآفاق، الآيات الكونية الدالّة على

ص: 616

التوحيد وعلى حكمة الباري وقدرته والمراد بآيات الأنفس ما يشتمل عليه الجسم والروح البشرية من آيات الحكمة والقدرة والضمير في « أَنَّهُ الْحَقُّ » يعود إلى الله سبحانه. قالوا: والتسويف المدلول عليه بالسين في « سَنُرِيهِمْ » لا ينافي وجود الآيات دائماً، لأنّ المراد أنّ الله تعالى سيكشف لهم يوماً بعد يوم ع-ن آيات أخرى، فكلّما تقدّم العلم البشري وتوسّع برزت له آيات جديدة في هذا المجال.

ويُبعد هذا الاحتمال أولاً : أنّه لا يناسب السياق الخاصّ بتنديد مكذّبي القرآن.

وثانياً أنّه لا يناسب التسويف، فإنّ ظاهر العبارة أنّ الإراءة ستتمّ في المستقبل لا استمرارها، ولا إراءة آيات جديدة، فظاهر الآية أنّ إراءة الآيات لم تتمّ بعد. وهذا لا يصحّ بالنسبة للآيات الكونية.

وثالثاً أنّ تغيير ضمير المتكلّم في « آيَاتِنَا » إلى الغائب في « أَنَّهُ الْحَقُّ » یدلّ على اختلاف المرجع، فلا يصحّ أن يكون المراد بالثاني هو الله تعالى.

وأيّد بعضهم هذا الاحتمال في التفسير بوجوه ثلاثة :

الأول: أنّ الآيات يعبّر بها غالباً في مقام الدلالة على التوحيد.

ويردّه أنّ الآيات كلّ ما یدلّ على حكمة الله تعالى وقدرته، فما ورد في الاحتمال الأوّل أيضاً من الآيات ولا خصوصية لما یدلّ على التوحيد.

الثاني: أنّ التعبير بالآفاق والأنفس يناسب آيات التوحيد.

والجواب أنّ هذا التناسب إنّما حصل بعد تفسير هذه الآية بما ذكر، وبعد اشتهار هذا التفسير في كتب الفلسفة والعقائد، وإلّا فأصل التعبير بآيات الآفاق والأنفس لا يختصّ بآيات التوحيد.

ص: 617

الثالث: أنّ الجملة التالية «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ» إشارة إلى التوحيد أيضاً، وأنّ الآية التالية حول المعاد، فتناسب أن يكون المراد بهذه الآية ما يخصّ التوحيد.

وسيأتي بيان المناسبة بين الاحتمال الأول وتفسير الجملة التالية والآية التالية إن شاء الله تعالى .

الاحتمال الثالث: أنّ المراد ما يراه الإنسان لحظة وفاته من الآيات التي لا تبقي له شكاًّ في أنّ دعوة الأنبياء حقّ، وهذه الآيات كونية ونفسية، والضمير في « أَنَّهُ الْحَقُّ» يعود إلى القرآن أو الدين.

ولكنّ قوله تعالى «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» يقتضي أن يكون المقصود من إراءة الآيات إتمام الحجة عليهم حتّى يؤمنوا، ولا ينفع إيمانهم آنذاك.

الاحتمال الرابع: أنّ المراد ما يظهر من الآيات عند ظهور الإمام المهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف). وهي أيضاً آيات آفاقية وأنفسيّة. ويمكن إعادة الضمير إلى الدين أو القرآن أيضاً. ولكنّ الروايات الواردة تدلّ على أنّ الضمير يعود إليه القوّة أو إلى ظهوره.

فالصحيح الاحتمال الأول والرابع والأول أقرب.

« أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » الباء زائدة. و « بِرَبِّكَ »فاعل « يَكْفِ »وقوله « أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » ، بدل عن قوله «ربّك». أي أو لم يكفهم ربُّك أنّه على كلّ شيء شهيد. فالتقدير أولم يكفهم أنّ ربَّك على كلّ شيء شهيد. والجملة في مقام رفع الاستبعاد عن إخبارهم بالغيب في الجملة السابقة بكفاية أنّ المخبر هو الله تعالى، وهو شاهد على كلّ شيء، فلا يختلف عنده الغيب والشهود، وكلّ شيء مشهود له تعالى.

وبما ذكرناه يتبيّن أنّ هذه الجملة أيضاً تناسب الاحتمال الأول. ولكن العلّامة

ص: 618

الطباطبائي (رحمه الله ) حيث فسّر الشهيد بالمشهود، وفسّر الجملة بأنّه يكفي في الدلالة على الله تعالى أنّ كلّ شيء لافتقاره إليه يشهد عليه، أشكل عليه الأمر في ربط الجملتين. وما ذكره لا يصحّ لأنّ الشهيد لو كان بمعنى «مشهود» لزم أن يقال: إنّه لكلّ شيء شهيد.

« أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » المرية هي الشكّ، أي إنّهم لا يؤمنون بالآخرة، فإنّ لقاء الله تعالى يحصل في تلك النشأة والذي يحصل هناك هو حقيقة اللقاء. بوجه آكد وأقوى من لقاء الجسمين والشخصين في هذه النشأة، فإنّ الخطأ حتّى في الإحساس بالرؤية واللمس أمر محتمل.

ولكن ما يحصل هناك من اللقاء لا يدخل فيه أدنى شكّ، ولا يشبهه شيء في هذه النشأة إلّا إدراك الإنسان لنفسه، فإنّه هو الذي لا يمكن الشكّ فيه، وهو وصوله إلى نفس الحقيقة من دون واسطة، وأمّا سائر موارد الإدراك فتتوسّطها الصور العلمية التي تحكي عن المعلومات، ولا تلاقي النفس البشرية ذات الحقائق. وحيث يكشف الغطاء هناك عن الإنسان، فلا يمنعه مانع من الوصول إلى الحقائق بذاتها من دون توسّط الصور.

وهذا المعنى هو المراد ممّا ورد من التعبير بالرؤية والنظر واللقاء، وإلّا فالرؤية البصرية بالمعنى الدنيوي لا تمكن بالنسبة إلى الله تعالى في أيّ نشأة، إذ يستلزم التحديد والجسمية، و إنّما يشعر الإنسان بوجوده أمام ربّه، يشعر ذلك بكلّ وجوده لا بحاسّة من الحواسّ.

والمشركون في جزيرة العرب كانوا ينكرون الآخرة مع اعترافهم بوجود الله تعالى، وأنّه الخالق للكون. و إنّما نسب إليهم الشكّ هنا دون الإنكار، مع أنّه ينسب

ص: 619

إليهم الإنكار في غير موضع لأنّ مواجهة القرآن كانت تحدث الشكّ فيهم. وارتباط الآية بما قبلها من جهة أنّ إنكارهم ليوم القيامة، والحياة بعد الموت إنّما ينشأ من عدم اعتقادهم بأنّ الله على كلّ شيء شهيد، حيث كانوا يقولون كيف يحيي الله هذه العظام والرفات بعد مرور الآلاف والملايين من السنين، وبعد أن ضلّت اجزاؤهم وتفرّقت. ولو كانوا يعترفون بأنّه على كلّ شيء شهيد ما كانوا ينكرون القيامة ولقاء ربّهم. ولذلك عقّبه بقوله تعالى « أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » وهو في معنى كونه على كلّ شيء شهيد.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 620

فهرس المطالب

تفسير سورة الصافات

سورة الصافات (1-5) ...7

سورة الصافات (6-11) ...14

سورة الصافات (12 – 20)...25

سورة الصافات (21 -26) ...30

سورة الصافات (27 – 32)...35

سورة الصافات (33_39)...43

سورة الصافات ( 40 -49) ...48

سورة الصافات (50-.61) ...56

سورة الصافات (62-74) ...62

سورة الصافات (75 -82)...71

سورة الصافات (83 – 87)...79

سورة الصافات (88 – 98) ...85

سورة الصافات (99 – 113) ...94

سورة الصافات (114- 122). ..108

سورة الصافات (123- 132)...110

سورة الصافات (133 – 138)...116

ص: 621

سورة الصافات (139 – 148)...119

سورة الصافات (149-157). ..130

سورة الصافات (158- 170) ...142

سورة الصافات(171 – 179)...142

سورة الصافات (180 -182)...146

تفسير سورة ص

سورة ص (1 -11) ...151

سورة ص (12-16)...165

سورة ص (17 -20) ...168

سورة ص (21 - 26). ..174

سورة ص (27- 29)...187

سورة ص ( 30-40 ) ...192

سورة ص (41-44) ...204

سورة ص ( 45 - 48) ...208

سورة ص (49 - 54) ...214

سورة ص (55-64). ...218

سورة ص (65 - 66). ..225

سورة ص (67-74). ..228

سورة ص (75-85) ...236

سورة ص (86 - 88 ) ...245

تفسير سورة الزمر

سورة الزمر (1-4) ...249

سورة الزمر (5 - 6) ...260

سورة الزمر (7 – 10) ...271

سورة الزمر (11 - 16).. .283

ص: 622

سورة الزمر (17 -20)...288

سورة الزمر (21-22). ..292

سورة الزمر (23 - 26). ..297

سورة الزمر (27 -31) ...305

سورة الزمر (32-35). ..309

سورة الزمر ( 36-40) ...315

سورة الزمر ( 41-42) ...320

سورة الزمر (43-45) ...325

سورة الزمر ( 46 - 48). ..328

سورة الزمر (49-52) ...331

سورة الزمر (53-61)... 336

سورة الزمر ( 62 - 66). ..345

سورة الزمر ( 67-70). ..350

سورة الزمر (71- 72) ...362

سورة الزمر (73-75)...365

تفسیر سورة غافر

سورة غافر (1 -3) ...375

سورة غافر (4-6) ...383

سورة غافر (7 – 9) ...388

سورة غافر (10- 12)...397

سورة غافر (13- 20)...403

سورة غافر (21 – 22)...415

سورة غافر (23 – 27)...417

سورة غافر (28 - 35) ...424

سورة غافر (36 - 46) ...438

ص: 623

سورة غافر (47 - 55) ...450

سورة غافر (56 - 59) ...459

سورة غافر ( 60- 65) ...465

سورة غافر (66- 68) ...476

سورة غافر (69-78) ...484

سورة غافر (79- 81) ...499

سورة غافر (82 – 85) ...502

تفسير سورة فصلت

سورة فصلت (1- 8) ...511

سورة فصلت (9 -12) ...522

سورة فصلت (13 -18) ...538

سورة فصلت (19 - 24) ...548

سورة فصلت ( 25 - 29) ...559

سورة فصلت (30 -32) ...567

سورة فصلت (33 - 36) ...575

سورة فصلت (39-37) ...582

سورة فصلت ( 40 - 43) ...587

سورة فصلت (44 - 46) ...596

سورة فصلت (47 - 51) ...604

سورة فصلت (52-54) ...615

ص: 624

المجلد 3

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: مهری، سیدمرتضی، 1324 -

عنوان المؤلف واسمه: الهادي في تفسير القرآن الكريم [کتاب]/ العلّامة سيّد مرتضى المهري.

مشخصات نشر : قم : موسسة المعارف الاسلامیة، 1437ق.= 1395 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : موسسة المعارف الاسلامیة؛ 209، 219، 227.

شابک : دوره 978-600-146-015-9 : ؛ ج.1 978-600-146-016-6 : ؛ ج.3 978-600-146-019-7 : ؛ ج.4 978-600-146-030-2 : ؛ ج.5 978-600-146-031-9 : ؛ ج.6 978-600-146-039-5: ؛ ج.7 978-600-146-057-9 :

حالة الاستماع: فاپا

لسان: العربية.

ملحوظة : ج.3 (چاپ اول: 1394) .

ملحوظة : ج.4 (چاپ اول: 1395) .

ملحوظة : ج.5 (چاپ اول: 1397) (فیپا).

ملحوظة : ج.6 (چاپ اول: 1399).

ملحوظة : ج.7 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .

مندرجات : .- ج.3. تفسیر سورة الشوری.- ج.4. تفسیر سورة الاحقاف.- ج.5. تفسیر سورة الذاریات.- ج.6. تفسیر سورة حدید.- تفسیر سورة التحریم

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

معرف المضافة: موسسة المعارف الاسلامیة

تصنيف الكونجرس: BP98/م866ھ2 1395

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3483061

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الهادي في تفسير القرآن الكريم المجلّد الثالث

تأليف

العلامة سيّد مرتضى المهري

ص: 3

سرشناسه : مهری سید مرتضی 1324 کد ملی: 0386545146

عنوان و نام پدیدآور : الهادى فى تفسير قرآن کریم / سید مرتضی مهری

مشخصات نشر: : قم : بنیاد معارف اسلامی ، 1395) -... - 209 - 207 - 206)

مشخصات ظاهری :2ج

ISBN : دوره ای -9-015-146-600-978

ج 1) ج 978-600-146-017-3 ( 978-600-146-016-6 ( 978-600-146-019-7 BE ج 5)

وضعیت فهرست نویسی :فیا

یادداشت :عربی.

یاد داشت :ج 3 (چاپ اول: 1395) (فیا).

موضوع: تفاسیر شیعه - قرن 14

شناسه افزوده :بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : 1393 2 ه_ 866م / BP

رده بندی دیویی :297/179

شماره کتابشناسی ملی: 3483061

هوية الكتاب:

اسم الكتاب : الهادي في تفسير القرآن الكريم ج ٣

المؤلف : العلامة السيد مرتضى المهري

الناشر : مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة : الأولى ١٤٣٧ ه_ - ق

المطبعة : عترت

العدد : 1000نسخه

رقم الايداع الدولي للدورة : 978 - ٠١٥-١٤٦ - ٦٠٠

رقم الايداع الدولي / ج ٣ : 978 - 900 - 1٧-٠١-٤٦

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون : 09127488298 - 37732009 - فاکس ٣٧٧٤٣٧٠١ ص ب 3718٥/٧٦٨

www.maarefislami.com

E-mail: info@maarefislami.com

ص: 4

تفسير سورة الشورى

اشارة

ص: 5

ص: 6

سورة الشورى (١ - ٦)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حم(1) عَسقّ(2)كَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَبِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل (6)

سورة الشورى سورة مكية بشهادة السياق المناسب لأجواء مكّة. وقيل: إنّ بعض آياتها مدنية. ويبدو أنّ موضع الاهتمام فيها هو الوحي الرسالي وما يتعلّق به والتأكيد على وحدة الرسالة في جميع الشرائع.

(حم عسق) حروف مقطّعة، فالحرفان الأوّلان تكرّرا في مجموعة من السور تسمى الحواميم و (عسق) لم ترد إلا هنا. وقد مرّ الكلام حول هذه الحروف في تفسير سورة يس ولا حاجة إلى الإعادة. (كذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال العلامة الطباطبائي رحمه الله في «الميزان»: «الإشارة بقوله: (كذَلِكَ) إلى شخص الوحي بإلقاء

ص: 7

هذه السورة إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيكون تعريفاً لمطلق الوحي بتشبيهه بفرد مشار إليه مشهود للمخاطب، فيكون كقولنا في تعريف الإنسان _ مثلاً __ ه_و كزيد»؛(1) أي بمثل الوحي بهذه السورة أوحى الله إليك وإلى من قبلك من الرسل.

ولكن الظاهر أنّ ذلك» إشارة إلى طبيعة الوحي بوجه عام، لا إلى وحي خاصّ، أي مثل ذلك الإيحاء العجيب يوحي الله إليك وإلى سائر الأنبياء عليهم ،السلام فالمشبّه والمشبّه به واحد. ومثل هذا التعبير ،متعارف كقوله تعالى (وكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ)؛(2) إذ ليس في ما قبل هذه الآية شيء يشبّه به إنزال القرآن فالصحيح أنّه تشبيه بنفس هذا الإنزال، ويراد به أنّ هذا الشيء نسيج وحده، فلا يشبهه شيء، وإن أردت أن تشبّهه فلا تجد له مثيلاً فیلزمك أن تشبّهه بنفسه.

والإتيان باسم الإشارة إلى البعيد ذلك للتعظيم، ولولا ذلك لكان المفروض أن يقال: «هكذا». ويمكن أن يكون الوجه في كونها للبعيد أنّ المشار إليه مطلق الإيحاء الشامل لما كان سابقاً أيضاً. وقيل: إنّه إشارة إلى القرآن. وقيل: إلى هذه السورة. وما ذكرناه أولى.

وقيل: إنّه إشارة إلى الحروف المقطّعة، وأن المراد التنبيه على أنّ هذا القرآن وسائر ما يوحى من الله تعالى إلى الرسل مؤلّف من هذه الحروف، ومع ذلك لا يستطيع الإنس والجنّ أن يأتوا بمثله. وهذا أحد الأقوال في تفسير الحروف المقطّعة، ولكنّه لو صحّ في القرآن، فلا يصحّ في سائر ما أوحي؛ إذ لم تكن كلّها بالعربية، ولم تكن على وجه الإعجاز في الألفاظ.

ص: 8


1- الميزان فى تفسير القرآن :18 : 9.
2- طه (20) 113.

ومهما كان فالآية تدلّ على أنّ الوحي أمر مستمرّ طيلة تاريخ الإنسانية، وأنّ الله تعالى لم يترك البشر تائهين، بل أوحى إليهم عن طريق الرسل ما يضمن سعادتهم. وهذا البيان يؤكّد للمؤمنين في عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ارتباطهم برسالات الأنبياء السابقين علیهم السلام، وبالمؤمنين في الأمم السابقة، لكي لا يشعروا بالوحدة والعزلة في مواجهة المشركين حين كانوا يشكّلون الأكثرية والإتيان بالفعل المضارع مع أنّ الوحي على السابقين قد مضى زمانه للتنبيه على الاستمرار وعلى أنّ هذا الوحي امتداد للوحي على الرسل السابقين - سلام الله عليهم أجمعين. وتوصيفه تعالى بأنّه (الْعَزِيزُ) للتنبيه على أنّه تعالى لا يُغلبِ على أمره، ويوحي ما يشاء إلى من يشاء، ولا يمنعه مانع، فإنّ العزّة بمعنى المنعة والترفّع من أن يؤثّر فيه شيء.

وتوصيفه تعالى بأنه (الحَكِيمُ))؛ لأنّه وإن كان عزيزاً لا يؤثر فيه شيء إلا أنّه لا يصدر منه إلا ما تقتضيه الحكمة، سواء في أصل الإيحاء أم في مضمون الوحي والرسالات. فالحكمة تتجلّى في أصل الإيحاء وعدم إهمال أمر العباد، وكذلك في كلّ ما يوحي إليهم من شرائع ومعارف.

ولعلّ تأخير ذكر الفاعل لكون الغرض من هذه الجملة الإشارة إلى كون الوحي المرسل إلى الرسل جميعاً في سياق واحد، وذكر الفاعل مع الوصفين في مقام التعليل لهذه الوحدة، أي أنّ السياق واحد ؛ لأنّ الرسالات كلّها من قبل الله العزيز الحكيم وحده لا شريك له.

(لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم)، يمكن أن تكون هذه الجملة

ص: 9

في مقام التعليل للإيحاء وتشريع الأحكام، وذلك لأنّ ما في السماوات والأرض كناية عن الكون كلّه، ومعنى الجملة أنّه تعالى هو المالك لكلّ شيء ملكية حقيقية، حيث إنّ الأشياء في كينونتها وكيانها متقوّمة بإرادته تعالى، فمقتضى حكمته تعالى ورحمته أن يفعل ما هو صالح لعباده المملوكين، ومن ذلك الإيحاء بما يصلح شأنهم ويربّيهم ويوصلهم إلى الكمال المنشود. ولعلّ التنبيه على علوّه وعظمته للإشارة إلى ترفّعه وتعاليه عن الحاجة إلى هداية عبيده وأعمالهم وطاعتهم والإتيان بالضمير مع كون الوصف محلّى باللام يدلّ على الحصر، وأنّ العلوّ والعظمة لا تليقان إلا به تعالى وهو واضح.

ولعلّ الوجه في إعادة الموصول في قوله تعالى: (وَمَا في الأرضِ) بخلاف الموارد التي يرد فيها: (مَا فِي السَّمَوَات وَالأَرضِ ) هو الإشارة إلى أنّه تعالى لا تختلف لديه ما في السماوات عمّا في الأرض، فهو ربِّ الكلّ، ونسبة كلّ الأشياء سماوية وأرضية إليه نسبة واحدة، ولا تختلف ربوبيته لما في الأرض عن ربوبيته تعالى لما في السماوات وليس شيء أقرب إليه من شيء، رداً على توهّم المشركين أو بعضهم أنّه تعالى ربّ السماوات ، وللأرض وما فيها أرباب متفرّقون. وأمّا التعبير الآخر فيعتبر الكون كلّه شيئاً واحداً وهو صحيح أيضاً، ولكنّه لا يشتمل على هذا التفصيل، فلا يفيد هذه الفائدة.

(تكادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ»، «تفطّر» أي تصدّع وتشقّق. و«السماوات» يمكن أن يراد بها الأجرام العلوية التي نراها فوقنا. ويمكن أن يراد بها العوالم الغيبية التي ترتبط بها الملائكة، وهذا الاحتمال يناسب ذكر الملائكة بعدها. والظاهر أنّ الوجه في التفطّر الخشية الله تعالى واستشعار عظمته بقرينة ذكره بع_د

ص: 10

التوصيف ب_ (الْعَلِيُّ الْعَظيم) مباشرة ومن دون حرف العطف، فهو نظير قوله تعالى في شأن الحجارة: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله )(1) وقوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله )(2) وكون الانفطار من فوقهنّ لعلّه للتنبيه

على استشعار العظمة لإلهيّة من فوق، فإنّ جهة الفوق رمز للعظمة والعلوّ.

وفي تفسير «الميزان»(3) : أنّ المراد أنّها تكاد تنفطر لمرور الوحي فيها، فإنّها معابر الوحي حيث تتداوله الملائكة. وقد عبر القرآن عن السماوات بأنّها طرائق، قال تعالى: (ولَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)(4) ، وما هي إلا طرائق للوحي. واستدلّ بآية : (لوأنزَلنَا) على أنّ الجبل أيضاً يتأثّر بالوحي والتعبير بكون الانفطار من فوقهنّ من جهة أنّ الوحي ينزل عليها من فوقها أي من الله العلي العظيم. ثمّ إنّه رحمه لله ذكر الاحتمال الذي مرّ ذكره، ولكنّه قال: إنّ توجيه الفوقية على هذا الاحتمال بعيد.

ولكنّ سياق الآيات لا تساعد على إرادة هذا المعنى بملاحظة تعقيب الجملة الملائكة واستغفارهم لمن في الأرض واتّخاذ المشركين أولياء من دون الله تعالى، فالسياق ليس بصدد بيان ما يترتّب على الإيحاء وإن تقدّم ذكره. ثمّ إنّ الفوقية حيث كانت كناية عن كون الاستشعار من جهة العلوّ فالتوجيه مشترك بين الاحتمالين.

وهناك احتمال آخر ذكره جمع من المفسّرين، و هو أنّ المراد تفطّر

ص: 11


1- البقرة (٢) ٧٤
2- الحشر (٥٩) 21
3- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 10 - 11
4- المؤمنون (23): 17.

السماوات من شرك الناس لقوله تعالى: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأَرْضُ وَتَخِرُ الْجِبَالُ هَذَا ، أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَن وَلَدًا،)(1) ولكن لا قرينة ولا شاهد لهذا الاحتمال. وهذه الآية لا تدلّ على أن التفطر هنا أيضاً لنفس السبب المذكور في سورة مريم.

( وَالمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ) الباء في قوله تعالى: (بِحَمدِ رَبِّهِم ) للمصاحبة، أي يسبحّونه تعالى مع حمده، نظير ما نقول_ه ف_ي ذك_ر الركوع والسجود. ومعنى ذلك أن يجمع في إنشاء واحد بين تنزيهه تعالى عمّا لا يليق به وتمجيده بصفاته الحميدة وأسمائه الحسنى والآية تدلّ على أنّ الملائكة هذا شغلهم الشاغل يسبّحون الله ويحمدونه. ونعم ما اشتغلوا به، ولو علم البشر بحقائق الأمور لما اشتغل بغير عبادة الله وتسبيحه إلا بمقدار الضرورة، إذ ليس وراء خلق الكون غاية غير عبادة الله تعالى.

والبشر لجهله بالحقائق يشتغل بالملاهي ويتصوّر أنّها أهمّ الأمور في الحياة، فتجد حتّى المؤمنين بالله يرون أنّ العبادة لها وقتها، وأنّه لا بأس بها إذا فرغ الإنسان من أعماله مع أنّ كلّ ما يشتغل به ويهتمّ به ليس إلا لعباً ولهواً، حتى أموره الاقتصادية والسياسية، فإنّها بأجمعها أمور تافهة لا ينتفع الإنسان منها بشيء، بل تلهيه عن ما ينفعه، فيجب أن يكتفي منها بمقدار الضرورة. ولعلّه لذلك، ولأنّ الملائكة يرون من البشر هذا الجهل يستغفرون لهم.

ويمكن أن يكون المراد بتسبيح الملائكة وتحميدهم اعتقادهم وإدراكهم لهذه الحقائق ومعرفتهم بالله تعالى وكونه منزّهاً عن كلّ ما لا يناسب عظمته

ص: 12


1- مریم (19) 90 - 91

و محموداً متصفاً بكلّ صفات الكمال والجمال وليس هناك إنشاء للتسبيح والتحميد.

ويقول العلامة الطباطبائي رحمه الله: إنّ استغفارهم بمعنى أنّهم يطلبون من الله تعالى ما هو سبب المغفرة بأن يهديهم ويرسل إليهم الرسل والكتب ليهتدوا إلى سبيل الحقّ. (1)

وإنّما اضطرّ إلى هذا التأويل لأنّ الاستغفار لا يصح أن يشمل الكفار، والتعبير ب_ (مَنْ فِي الأَرْضِ ) يشملهم، مضافاً إلى أنّ هذا التأويل للاستغفار يناسب ك_ون السياق متعرّضا للوحي. ولكن قوله تعالى: (مَنْ فِي الأَرْضِ) مجم_ل ق_د بيّن_ه تعالى في موضع آخر حيث قال: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)(2) فالتعبير بقوله: (لمن في الأرض) لعلّه للإشارة إلى أنّهم من علوّهم المعنوي الذي يعبّر عنه بالسماء يشاهدون أهل الأرض، وانشغالهم باللّهو والتجارة وغير ذلك، فيشقّ عليهم، ويستغربون هذا الأمر منهم، فيستغفرون لهم أي لمن يستحقّ الاستغفار منهم وهم المؤمنون.

ولعلّك تقول : إنّ نتيجة ما ذكرت أنّ الأولى بالإنسان أن يترك كلّ أعمال الدنيا ويشتغل بالعبادة، وهذا مخالف لما ورد في الأحاديث من الحثّ على طلب الرزق، بل مخالف لسيرة المعصومين علیهم السلام .

والجواب: أنّ كسب الرزق الحلال بمقدار ما يحتاج إليه الإنسان لنفقته ونفقة عائلته واجب شرعاً، بل التوسعة على العيال أيضاً أمر مستحبّ ومندوب، بل.

ص: 13


1- الميزان فى تفسیر القرآن 18 11
2- غافر (٤٠): ٧

كسب المال من أجل مساعدة الفقراء والصرف في سبيل الله تعالى وإنجاز المشاريع العامة لنفع المسلمين ونشر حقائق الدين وهداية الخلق أمر مطلوب بل قد يكون ببعض مراتبه واجباً كفائياً، وكلّ ذلك لا يخرج عن دائرة العبادة وامتثال أوامر الله تعالى، ولكنّ الغالب من أعمال البشر لا يقصد بها إلا الأهداف

الدنية الدنيوية من قبيل كسب الشهرة والجاه والتوسّع في البذخ والترف.

(أَلا إِنَّ الله هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهذا إعلان من الله تعالى مبدوّ بكلمة التنبيه، ليعلم البشر أنّ الله تعالى يغفر ويرحم حتّى لو لم تستغفر الملائكة لهم، بل حتّى لو لم يتوبوا إلى الله تعالى، كما قال تعالى: (إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)(1) وقال أيضاً: (إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَنْ يَشَاءُ)(2). وهذا الغفران ليس للتوبة؛ فإنّ المشرك أيضاً يغفر له بالتوبة، بل ليس هناك غفور ورحيم غيره تعالى، لأنّ الآية تدلّ على الحصر ، قال تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا الله)(3) والرحمة كلّها منه حتى رحمة العباد بعضهم على بعض، فاستغفار الملائكة أيضاً ناش عن عموم رحمته تعالى وغفرانه، لا أنّ غفرانه تعالى ينشأ عن استغفارهم كما ربّما يتوهّم، ولكن لاستغفارهم ودعائهم أثر لا نعلمه، ولعلّه أيضاً من قبيل ما ذكرناه في التسبيح والتحميد، فيكون من مستلزمات توسطهم بين الله تعالى وبين خلقه، فه_م من جهة ينقلون من الأرض طلب الناس وحاجتهم الذاتية إلى غفرانه تعالى

حتّى ممّن لا يستغفر ، ومن جهته تعالى ينقلون الغفران وآثاره إلى الخلق.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ.) المراد بهم كلّ من كان يتبع

ص: 14


1- الزمر (39) ٥٣
2- النساء (٤): ٤٨
3- آل عمران (3) 135

أحداً غير الله تعالى، فالأولياء هنا بمعنى المتبوعين. والمراد خصوص من يجعل غيره تعالى في مقام الربوبية والألوهية، فليس كلّ متابعة شركاً أو كفراً. وهذا القيد يفهم من قوله تعالى: (مِن دُونِهِ)، أي بدلاً عنه، فيجعل هذا المتبوع في موضع الإله والربّ، ومقتضاه أنّه لا يعترف بولاية الله المطلقة، سواء أنكر وجوده تعالى رأساً أم أنكر ربوبيته أم أشرك معه غيره. وهذا لا يختصّ بالمشركين وعبدة الأصنام، فإنّ كلّ إنسان لا بدّ له من متابعة قانون ونظام، فمن كان يتبع القانون الوضعي الذي وضعه بشر، ولا يتبع شريعة الله في نفس المورد الذي وضع فيه القانون الوضعي مخالفاً لحكمه تعالى، ولا يعتقد وجوب الالتزام بشريعة الله، فقد اتّخذ ولياً من دون الله تعالى، فإنّ الحكم من شؤون الربوبيّة.

وقوله تعالى: (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيهِم ) جملة خبرية. والحفظ» متعلّق بالأعمال، أي أنّه تعالى يحفظ أعمالهم عليهم ، فلو كان الحفظ لهم أفاد أنّه لمصلحتهم، وحيث كان الحفظ عليهم، فمعناه تسجيل أعمالهم وجرائمهم للمحاسبة والجزاء نظير قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(1) وفي هذا تهديد بليغ. وصيغة (حفيظ) تفيد المبالغة في الحفظ، أي إنّه تعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها عليهم.

(وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل)، أي لست مسؤولاً عن أعمالهم ولا عن تسجيلها عليهم. فلست موكّلاً من قبل الله تعالى عليهم في هذا الشأن. وهذا الأمر ممّا تكرّر ذكره في القرآن الكريم بتعابير مختلفة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً)،(2)(فَإِنْ أعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظٌ إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ )،(3)( لَسْتَ عَلَيْهِمْ

ص: 15


1- الانفطار (82) 10
2- الإسراء (١٧): ٥٤
3- الشورى (٤٢): ٤٨

بِمُصَيْطِر)(1) وغيرها من الآيات والغرض من ذلك تسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ورفع المسؤولية عنه بعد بذل الجهد في سبيل تبليغ الدين، فإنّ عدم إيمانهم ليس من جهة قصور فى أداء واجب الرسالة.

ص: 16


1- الغاشة (88) 22

سورة الشوری (7 - 12) 17

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانَّا عَرَبِيًّا لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّلِمُونَ مَا هُم مِّن وَلِي وَلَا نَصِيرٍ(8)أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ كُيِ الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10)فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَمِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ، مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

(وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ امِ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَها)، الإشارة في قوله: (وكَذلِكَ) إلى الإيحاء بالقرآن. وقد مرّ الكلام في هذا النوع من التشبيه في أوّل السورة والقرآن مصدر بمعنى القراءة ويراد به المفعول، أي المقروء، وهو الكتاب ووصفه بكونه عربياً، أي نازلاً بلغة العرب. وقوله: (لِتُنذِر) تعليل لكون القرآن عربياً، ومعناه أنّ اختيار هذه اللغة من جهة أنّ موضع الرسالة بلاد العرب.

وذكر الإنذار كوظيفة للرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم -مع أنّ الرسول بصورة عامة منذر ومبشّر - من جهة أنّ الاهتمام إنّما هو بإنذاره وكأنّه هو الهدف الأساس، لأنّ دور الرسول هو إتمام الحجّة، وهو يتمّ بالإنذار، ولأنّ دفع الضرر أهمّ من جلب المنفعة.

وأُمّ القرى وهي مكّة، كانت تعرف بذلك لدى العرب. وفي «كتاب العين» «اعلم أنّ كلّ شيء يضمّ إليه سائر ما يليه فإنّ العرب تسمّي ذلك الشيء أُمّاً، فمن

ص: 17

ذلك أم الرأس وهو الدماغ»، إلى أن قال:«وأُمّ القرى مكّة وكلّ مدينة هي أمّ ما حولها من القرى».(1) وفي الإسناد تجوز أو تقدير، أي لتنذر أهل أمّ القرى.

وربّما يقال: إنّ الآية تدلّ على أنّ الدعوة خاصّة بالجزيرة العربية - مكّة وما حولها - فما هو الدليل على كونها عامّة للناس؟ وقد أجيب عنه بأنّ كلّ البلدان تعتبر حول مكّة، فهي مركز للكرة الأرضية. واستدلّوا على ذلك بما ورد من أنّ الله تعالى دحا الأرض من تحت مكّة، فهي أصل الأرض، وكلّ البلاد حولها؛

وهذا الجواب غير صحيح أوّلاً : لأنّ البلاد كلّها لا تعتبر عرفاً حول مكّة.

وثانياً: لأنّه لو صح ذلك لصحّ لكلّ بلد، إذ لا أثر لدحو الأرض من تحت الكعبة في صدق كونها حولها وعدمه.

وثالثاً: لأنّ هذا التقرير لو صحّ لصحّ في ما إذا كان التعبير «وما حولها» ليشمل البلاد التي دحيت من تحت الكعبة المشرّفة بناءاً على الرواية، وأمّا (وَمَنْ حَوْلَهَا) لا يشمل البلاد، بل الناس الذين يسكنون حول مكّة.

والجواب الصحيح أنّ الدعوة حين نزول الآية لم تكن عامة لجميع العالم كما أنّها في بدء الأمر كانت خاصّة بالأقربين، قال تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(2). ثمّ تعمّمت للجزيرة العربية في هذه الآية ونظائرها، كقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَها)(3) ومثلها قوله تعالى: ((لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا انْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)،(4) وما يشابهها. ثمّ تعمّمت الدعوة للعالمين

ص: 18


1- كتاب العين ٤٢٦:٨
2- الشعراء (٢٦): ٢١٤.
3- الأنعام (٦): ٩٢.
4- يس (٣٦) ١٦

كقوله تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَينَ)(1) وقوله تعالى في مطلع سورة الفرقان: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)(2) وغيرهما من الآيات وهي كثيرة.

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجُمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ) ، أي تنذر الناس باليوم الذي يُجمعون فيه، وه_و يوم القيامة، حيث يُجمع فيه بين جميع الأجيال البشرية منذ أقدم العصور إلى من تقوم عليهم الساعة. وهو أمر عجيب جدّاً. كما يجمع أيضاً بين مختلف الأديان والمذاهب، وبين الظالم والمظلوم، وبين الأنبياء وأممهم، وهكذا. ولعلّ التعبير بالجمع ليناسب التفريق بين الفريقين في الجملة التالية، فالله تعالى يجمعهم، ثمّ يفرّق بينهم ومثله قوله تعالى: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثم يفتحُ بيننا بالحى وَهُوَ الْفَتاحُ العليم).(3)

وتكرار كلمة الإنذار من جهة أنّه في الأولى ذكر المنذَرين - بفتح الذال - وفي الثانية ذكر مورد الإنذار. وقوله تعالى: (لا ريب فيه ) تأكيد للوعد الإلهي و«الريب»: الشكّ. ولعلّ القصد من مثل هذه التأكيدات المتكرّرة في الكتاب العزيز دفع توهّم أنّ ما يقال في هذا الباب مجرّد تهديد وتخويف. والتعبير بالإنذار دون التبشير ودون الجمع بينهما مع أنّ فريقاً من الناس في الجنّة، لأنّ الاهتمام في الرسالات بتخويف الناس من المستقبل الغامض وم__ن نتائج الأعمال.

(فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير). من لطيف التعبير الجمع بين اجتماع البشر

ص: 19


1- الأنعام (٦): ٩٠.
2- الفرقان (٢٥) ١.
3- سبأ (٣٤): ٢٦

بأجمعهم في ذلك اليوم وافتراقهم في آية واحدة، ففريق يدخل الجنّة وفريق في السعير. و«السعير» النار الملتهبة وهذا التفرّق نتيجة التفرّق في الحياة الدنيا، وهو ما حصل بعد نزول الوحي عليهم، فمن اتّبع الهدى النازل من عند رب_ّه دخ_ل ،الجنة ومن خالفه دخل النار.

(وَلَوْ شَاءَ الله جَعَلَهُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً) تبيّن من الآية السابقة أنّ الوحي هو الذي يفرّق الناس ويصنّفهم إلى فريق الجنة وفريق السعير، فيتّضح به المراد بهذه الآية، وهو أنّ الله تعالى لو شاء أن يجعلهم أمّة واحدة لا تختلف إلى فريقين لم ينزل ،الوحي، فكانوا كلّهم في سياق واحد بمعنى أنّه لا تتمّ الحجة عليهم، فلا يحاسبون على أعمالهم وعقائدهم وإن كان بعضهم يتّبع فطرة التوحيد وبعضهم يتّبع هواه.

(ولَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا هُمْ مِنْ وَليُّ وَلا نَصِير)، أي ولكنّه تعالى لم يشأ جعلهم أمّة واحدة بترك إرسال الحجّة؛ فإنّه منافٍ لحكمة الخلق، بل شاء أن يرسل الحجّة ويبعث الرسول لهداية الخلق، ثمّ يدخل من يشاء في رحمته وهم غير الظالمين بقرينة قوله: (وَالظَّالِمُونَ مَا هُم مِن وَلي وَلا نَصِيرٍ). فمن لم يظلم، أي اتبع الهدى والرسالة يدخله الله في رحمته إن شاء. والظلم وضع الشيء في غير موضعه والمراد بالظالمين هنا من أعرض عن هدايات الله تعالى.

والتعليق بالمشيئة للتنبيه على أنّ الله تعالى لا يُغلب على إرادته، وليس مقهوراً للقوانين والسنن التي وضعها. وهذا من الأمور الأساسية في العقيدة الإلهية، ولذلك يصرّ عليه القرآن ويكرّره في كلّ موضع. وهذا هو حقيقة البداء الذي يعتبره الناس - ممّا تختصّ به الإمامية - جهلاً من بعضهم وعناداً من آخرين. وقد

ص: 20

ورد في رواياتنا أنّه لم يبعث نبي إلا مع الاعتقاد بأنّ الله تعالى يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء.

روى الكليني بسند صحيح عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «ما بعث الله نبياً حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار له بالعبودية، وخلع الأنداد، وأنّ الله يُقدّم

ما يشاء ويُؤخر ما يشاء». (1)

والفرق بين الولي والنصير من جهتين الأول: أنّ الوليّ يتولى أمر المولّى عليه حتّى لو لم يطلب، بل حتّى لو لم يعلم ما هو صالح له، والثاني: أنّ الوليّ يكفيه فلا حاجة إلى أن يقوم هو أيضاً بالدفاع عن نفسه. والنصير بخلاف ذلك في الأمرين، فهو أوّلاً: يجيب استنصاره فقط، وثانياً: لا يكفيه الأمر، بل يساعده.

(أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)، «أم» منقطعة فتفي_د الإضراب والاستفهام مع_اً، والإضراب لعلّه باعتبار عدم الاهتمام بشأنهم والاستفهام للاستنكار أي اتركهم ولاحظ كيف اتخذوا من دون الله أولياء؟! وحيث ذكر في الآية السابقة أنّ الظالمين ليس لهم ولي ولا نصير، أراد أن يبيّن هنا أنّ ما اتخذوه وليّاً لا ينفعهم أيضاً.

وفي المراد بالولاية في هذه الآية احتمالان:

الأول: المتابعة، فإنّ الأصل في معنى اتخاذ الوليّ: المتابعة، لأنّ الولاية مأخوذة من وليه بمعنى تبعه وأتى بعده. ومن ذلك قوله تعالى: (فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حق عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الله وَتَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).(2)

ص: 21


1- الكافي :١ ١٤٧ ، باب البداء ، ح٣.
2- الأعراف (7): 30

ومتابعة الشياطين بمعنى العمل وفقاً لإلقاءاتهم ووساوسهم وإغراءاتهم.

ومن هذا الباب الولاية التشريعية، حيث يتولّى الإنسان أحداً في تشريع الأحكام، ويتّبعه ويطيعه، ويعتبر إطاعته فرضاً، وهو نوع من الشرك، إذ الحكم ليس إلا لله تعالى. وهذا يحصل بالنسبة إلى الأمراء والملوك ورؤساء القبائل ،والزعماء، والمجالس التشريعية والمنتحلين للخلافة والزعامة الدينية والولاية على الناس، والفقاهة والقضاء ونحو ذلك وما أكثرهم في عصرنا والولاية في هذه الآية إن كانت بهذا المعنى عاد الكلام إلى ما مرّ من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيهِم) وهو بعيد. الاحتمال الثاني: _ وهو الأقرب _ أن تكون الولاية هنا بمعنى الاستنصار والاستنجاد وطلب الحاجة، لأنّه يناسب الجملة السابقة: (وَالظَّالِمُونَ مَا هُم مِن وَلِيٍّ ولا نَصِير) وعليه فالمراد بالأولياء خصوص الأصنام أو كلّ ما يعتقدونه أرباباً تؤثّر في الكون باستقلال حسب زعمهم حتّى لو كانوا من البشر. ولا شكّ في جواز الاستنصار بغير الله، وهو تعالى اعتبر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أي بعضهم أنصار بعض. وإنّما لا يجوز أن يتخذ أحد غير الله وليّاً إن كان من دونه تعالى بأن يجعله في موضع الألوهية والربوبية، ويعتقد فيه أنّه مؤثّر بذاته، كما قال تعالى عن إبليس لعنه الله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)(1)، فهذا الاستبدال هو الكفر ، وهو محلّ الاستنكار هنا.

(فَالله هُوَ الْوَلِيُّ)، أي إن أرادوا اتخاذ وليّ، فالله هو الوليّ حصراً لا وليّ غيره، بمعنى أنّ غيره تعالى لا يضرّ ولا ينفع ولا يقدر على شيء إلا باذن الله، فالولاية

ص: 22


1- الكهف (18) 50

منحصرة فيه تعالى وفي من يعيّنه وليّاً، فتكون ولايته تبعية، والحصر يفه_م م_ن الضمير والألف واللام.

(وَهُوَ يُحْيِي الْمُوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). الظاهر أنّ ذكر إحياء الموتى كمثال واضح على عموم قدرته تعالى المذكورة في الجملة الثانية. كما أنّ الظاهر أنّ الغرض من التأكيد على عموم القدرة هنا للتنبيه على أنّ الذي ينبغي أن يُتخذ ولياً هو القادر على تلبية حاجات المولّى عليه وهو الله فحسب، وك_لّ ق_درة من غيره تعالى تنتهي إليه وتتوقّف على إرادته ، بل إنّ تحقّق الإرادة من غيره أيضاً متوقف على إرادته: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ)(1) وحاصل معنى الآية أنّ الولاية بمعنى أهلية الاستنجاد والاستنصار منحصرة في الله تعالى، لأنّه على كلّ شيء قدير حتى إحياء الموتى الذي هو أغرب الأمور.

وذكر بعض المفسّرين أنّ التوصيف بإحياء الموتى من باب أنّ الإنسان يهتمّ اتّخاذ الوليّ بما سيلاقيه بعد الموت، فهذا من هموم الإنسان، والآية تقول إنّ الله هو الذي يحيي الموتى، فأمر المعاد بيده.

ولكنّه بعيد جدّاً لأمرين:

الأوّل: أنّ الإنسان ليس بذاته مهتمّاً بأمر المعاد.

الثاني: أنّ هذا الوجه إنّما يصحّ لو كان التعبير بأنّ المعاد إليه تعالى وأنّهم إليه يرجعون ونحو ذلك، لا أنّه يحيي الموتى، فالعناية هنا ليس بالرجوع إليه، بل بكونه هو المحيي للموتى.

وأغرب منه ما قيل بأنّ المراد بإحيائه الموتى أنّه هو الذي يدخلكم الجنّة أو

ص: 23


1- التكوير (81) .29

يعذّبكم بالنار، فيكون حجّة على انحصار الولاية فيه تعالى. وهذا ما ورد في تفسير «الميزان» ومن تبعه.

ولكن يبقى السؤال - على هذا القول - عن وجه التعبير عن إدخال الجنّة والنار بإحياء الموتى، مع أنّه لا تلازم بينهما خارجاً، فضلاً عن دلالة اللفظ عليه بالعناية والمجاز!!!

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى الله ). الظاهر أنّ المراد بالاختلاف اختلاف المؤمنين مع المشركين والكفّار في العقيدة، فهو الاختلاف الذي يفهم من سياق الآيات السابقة. والمراد بكون الحكم إلى الله أنّه تعالى هو الذي يحكم بين الفريقين في الدنيا والآخرة ويفصل بينهم ، فهو نظير قوله تعالى: ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(1) وكذلك قوله تعالى: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)(2) وقوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)(3) وغير ذلك.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله: إنّ هذه الجملة وما قبلها أدلّة على أنّ الولاية الله تعالى، وأنّ المراد بالولاية أعمّ من التكوينية والتشريعية. وأنّ هذه الجملة تتكفّل لبيان أنّ الولاية في التشريع والقضاء أيضاً الله تعالى.(4)

ولكن لا نجد في هذه الجملة استدلالاً على أنّ الولاية التشريعية خاصّة به تعالى وإن كان هو الحقّ. وإنّما تنبّه الآية على أنّ الله تعالى هو الذي يرفع

ص: 24


1- النساء (٤) ١٤١
2- سبأ (٣٤) ٢٦
3- الأعراف (7) 89
4- راجع الميزان في تفسير القرآن :18 22 - 23

الاختلاف، والولاية التشريعية لا تختصّ بموارد الاختلاف، وإلا لكان للناس أن يتفقوا على أمر مخالف لما شرّعه الله، بل مقتضى اختصاص الولاية التشريعية به تعالى أنّه لا يجوز لأحد من البشر أن يحكم على الناس، وإنّما الحكم لله تعالى ولمن جعل الله له الحكم وأوجب طاعته، ولا تجب بل قد لا تجوز إطاعة أحد إلا من فرض الله طاعته .

والحاصل أنّ الآية لا تتعرّض للولاية التشريعية، وإنّما تفيد أنّ الله تعالى سيحكم بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فبعلوّ الكلمة وقوّة الحجّة، والنصر النهائي بظهور الإمام المهدي - عجّل الله فرجه وسلام الله عليه. وأمّا في الآخرة فبتبين الحقائق للجميع ، ثمّ افتراق الفريقين فريق في الجنّة وفريق في السعير، كما مرّ في الآيات السابقة.

(ذَلِكُمُ الله رَبِّي )؛ أي قُل من كانت هذه صفاته هو الله ربي والإشارة بالاسم الدالّ على البعيد للتعظيم، أي ذلك الذي لا تناله الأوهام ولا تحويه الأفكار و (الله) بدل عن اسم الإشارة و (رَبِّي ) خبره. ولا يصحّ ما قيل: إنّ اسم الجلالة خبر أوّل و (ربي) خبر ثان؛ لأنّ كون هذه الصفات صفات الله تعالى مذكور قبل هذا، فالقصد هذه الجملة إعتزاز الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ الله هو ربّه في مقابل اتخاذهم غيره أولياء. وهذا اعتزاز وافتخار وتشرّف لا يبلغه أي مجد وفخار والمؤمن لا يعتزّ بشيء كما يعتزّ بربّه.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) تقديم (عَلَيْهِ ) لإفادة الحصر؛ أي لا أتوكّل ولا أعتمد على غيره ولا أتولّى أحداً من دونه كما تفعلون.

(وَإِلَيْهِ أنيبُ)، «الإنابة» الرجوع؛ أي لا أرجع في جميع أموري إلا إليه ولا

ص: 25

أرجع إلى غيره؛ إذ كلّ ما أريده يحصل منه ولا يحصل من غيره. أو المعنى أعود إليه كلّما أبعدتني منه شؤون الدنيا. فالمؤمن يجب أن يكون توّاباً أوّاباً، كما وصف الله بهما أنبياءه المرسلين.

والتوبة والإنابة لا يشترط فيهما تقدّم الذنب، فإنّ الأنبياء لا يذنبون ولكنّهم يرجعون إليه تعالى باستمرار، ويرجعون إليه كلّما اشتغلوا بغيره وتوجّهوا إلى أمور الدنيا ،المباحة، وإن كانوا لا يتوجّهون إليها إلا بمقدار الضرورة والفرق بين التوبة والإنابة __ على ما يبدو _ أنّ التوبة بمعنى الرجوع مطلقاً، والإنابة بمعنى معاودة الرجوع مرّة بعد أخرى. وأمّا تفسير التوبة بالرجوع عن الذنب، فغير مستقيم؛ لأنّها تسند إلى الله أيضاً ، كما قال تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (1)

ولعلّه إنّما عبّر عن التوكّل بالفعل الماضي، والإنابة بالمضارع، لأنّ التوكّل فعل واحد لا يتكرّر ، بل هو سمته العامة الدائمة، والإنابة مستمرّة تتجدّد كلّما توجّه إلى شؤون الدنيا.

(فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) خبر آخر لقوله: (ذَلِكُمُ الله) أو لمبتدأ محذوف، أي هو فاطر السماوات والأرض.. و«الفطر» هو الشقّ. والسماوات والأرض تعبير عن الكون كلّه ، كما ذكرنا مراراً.

والمراد أنّه تعالى هو الذي أوجد الكون من العدم، فكأنّه شقّ العدم واستخرج منه الكون، إذ لم يكن قبل ذلك شيئاً، ولم يوجد من مادّة أو طاقة، وذلك لأنّك كلّما فرضت شيئاً أصلاً وأساساً للكون، فإنّ الكلام يعود إليه وأنّه من أيّ أصل

ص: 26


1- التوبة :(9) 118

انحدر، فلا بد من الوصول إلى شيء لم يكن موجوداً وإنّما الله تعالى أوجده بمجرّد إرادته. والغرض هنا تمجيده تعالى وبيان السرّ في التوكّل عليه، كما ورد في الآية السابقة، فهو خالق الأشياء ومدبّرها.

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) هذا ممّا يدلّ على التدبير الربوبي. وقوله: (من أنفُسِكُم) أي من جنسكم. و«الأزواج»: القرناء، وكلّ إنسان من ذكر وأنثى قرين لمثله. والزوج والزوجان: المثلان المتقارنان، ولا يطلق إلا إذا كان كلّ منهما مكمّلاً للآخر بوجه،كزوجي الباب والحذاء مثلاً ، ويطلق على الذكر والأنثى معاً من الإنسان والحيوان. فالخطاب في الآية للبشر لا للرجال خاصّة، كما قيل.

وخلق من الأنعام أيضاً أزواجاً، وكذلك من غيرها من الحيوان، وإنّما خصّ الأنعام بالذكر لما فيها من نعمة خاصّة على البشر. وقوله: (يَدْرَؤُكُم فيه ) أي يكثّركم بهذا التدبير، كما يكثّر الأنعام به أيضاً. و«الذرء» في الأصل: الزرع وإلقاء البذر ، وكنّي به عن الخلق والتكثير والضمير في (فيه) يعود إلى الجعل، و«في» للسببية، أي يكثّركم بجعل الأزواج. وفي عملية التزاوج والتناسل في البشر والحيوان من الحكمة والدقة ما يعجز عنه البيان. وهناك تخصّصات متعددة في الشؤون المتعلقة بهذا الأمر.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وهذه أيضاً من أهمّ أسس التوحيد. وهي أن يعتقد المؤمن أنّ الله تعالى لا يشبهه شيء، فكلّ ما يتصوّره الإنسان ويصفه ب_ه تعالى يجب تنزيهه منه. وكلّ ما نصفه به ممّا وصف به نفسه؛ فإنّما نعرف مفهومه اللفظي وأمّا حقيقته وكنهه فلا تمكننا معرفته. فإذا قلنا بأنّه تعالى عالم، فالعلم معناه ومفهومه

ص: 27

معلوم لدينا، وأمّا حقيقة العلم فلو فرض أنّه حصول صورة الشيء لدى العقل - كما يقال في الفلسفة - فلا ينطبق على علم الباري جلّ وعلا ، كما هو واضح. وإذا قلنا إنّه تعالى سميع بصير، فليس معناه أنّه يسمع بآلة، ويبصر بجارحة. وهكذا سائر الأوصاف. ولقد أخطأ كثير من المؤمنين بالله، فشبّهوه تعالى بخلقه ووقعوا في الكفر وهم لا يعلمون.

والكاف في (كَمِثْلِهِ ) يقال إنها زائدة ، فإنّ المعنى أنّه ليس مثله شيء. وفيه وجه آخر لطيف ذكره الزمخشري في «الكشّاف» وحاصله أنّ هذا من قبيل ما يقال: إنّ مثل فلان لا يعمل كذا ، والمقصود هو بذاته، وإنّما يقال مثله لا يفعل كذا، للتنبيه على أنّ الامتناع منه مقتضى شأنه الذاتي أو الاجتماعي.(1)

أقول: وهذا كقول الإمام الحسين علیه السلام مشيراً إلى يزيد لعنه الله: «مثلي لا يبايع مثله».(2) فالمراد هنا أنّ الله تعالى بما له من الصفات الحسنى لا يمكن أن يشبهه شيء.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) قلنا إن هذه الآية في مقام التعليل للتوكّل عليه تعالى، ومن هنا ورد ذكر هذين الوصفين، فإنّه تعالى سميع يسمع دعوات المتوكّلين وإن أخفتوا في طلبه_م، بل هو بصير بشؤونهم وحوائجهم وإن لم يتلفّظوا بها.

وربّما فسّر بعضهم هذين الوصفين بأنّه تعالى عالم بالمسموعات والمبصرات. ولكنّ الظاهر أنّهما يختلفان مفهوماً عن مفهوم العلم، ويختلفان معاً أيضاً، فمعنى السمع هو الإحساس بالصوت، ومعنى البصر هو الإحساس بالأحجام والألوان.

ص: 28


1- راجع الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢١٣.
2- بحار الأنوار ٤٤ 32٥

والإحساس عندنا إنّما يكون بآلة، وهو مستحيل على الله تعالى، ولكن حيث إنّ الموجودات كلّها حاضرة عند الله بتمام وجودها، ولا يغيب عنه شيء، فالسمع والإبصار بمفهومهما منطبق عليه تعالى، وإن كانت حقيقتهما تختلف عن السمع والبصر لدينا.

(لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ). «المقاليد» جمع مقلاد أو إقليد بمعنى المفتاح. والظاهر أنّه معرب «كليد» بالفارسية. وفي «العين» أنّه المفتاح بلغة أهل اليمن. ومهما كان فالمعنى أنّ مفاتيح السماوات والأرض الله تعالى. والمراد مفاتيح خزائن الكون والقرآن يذكر للكون خزائن؛ قال تعالى: (وَالله خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)(1) والسماوات والأرض تعبير عن الكون، كما قلنا مراراً، وخزائنهما تعبير عن كلّ ما في الكون ممّا تحتاجه المخلوقات، وكون مفاتيحها الله تعالى بمعنى أنّ أمرها بيده وقيل: إنّ «مقاليد» بمعنى الخزائن نفسها في اللغة. ومهما كان فهذه الجملة مقدّمة للجملة التالية.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ مَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ). «الرزق» هو العطاء والإنعام وبسط الرزق: توسعته والقدر والتقدير التضييق. وقد يطلق الرزق على ما يُرزق ويُعطى وهو ما يحتاجه الإنسان في معيشته في الحياة الدنيا، وإن كان الرزق بعنوانه لا يختصّ بالدنيا ، كما أنّه لا يختصّ بالإنسان والرزق يزيد وينقص بتأثير عوامل طبيعية كما قد تؤثّر فيهما عوامل غيبية، وكلّها بيد الله تعالى، ولا تؤثّر إلا بمشيئته، ومشيئته تتبع الحكمة ، فلا يبسط الرزق على أحد ولا يضيّقه عليه إلا لحكمة. والرزق - كسائر ما يقضي الله ويقدّر _ لا يحتم على الإنسان أمراً بحيث لا يكون

ص: 29


1- المنافقون (٦٣): 7

لنشاطه دخل فيه، ولكن هناك أمور خارجة عن اختيار الإنسان ودخيلة في الرزق والأجل وسائر ما يقضي الله ويقدّر، ولذلك نجد أنّ السعي ربّما لا يفيد، بل ربّما يضرّ أحياناً.

وليس معنى ذلك أن يترك الإنسان نشاطه الطبيعي لبلوغ مآربه، بل لابدّ من متابعة الأسباب الطبيعية للوصول إلى ما يقصده ولتجنّب ما يضرّه، وهو أيضاً جزء من القضاء والقدر، فإذا مارس التجارة وربح ينكشف أنّ المقضيّ هو نجاحه في التجارة، وليس هو حصوله على هذا الربح، سواء عمل بالتجارة أم جلس في البيت وربّما يحصل الإنسان على ربح من دون تعب ، فالمقضيّ هو ذاك. وينبغي التنبّه إلى أنّ القدر المذكور مع القضاء غير القدر المذكور في الآية الذي هو بمعنى التضييق، كما مرّ.

(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، هو عليم بعوامل استحقاق الرزق وعوامل عدمه وبم_ا ه_و الأصلح للإنسان، لأنّه عليم بكلّ شيء. وهو أيضاً عليم بالأسباب المؤثّرة في توسعة الرزق وتضييقه، فيدبّر للإنسان ما يوصله إلى التوسعة أو التضييق كما قدّر من دون أن يشعر. والجملة في مقام التعليل لتعليق البسط والتقدير على مشيئته تعالى، فهو لا يشاء أمراً جزافاً، بل لعلمه بما هو الأصلح. ولعلّ ذكر هذه المجموعة من أوصافه تعالى وأفعاله للتأكيد على أنّه هو الولي فحسب، ومن يتولّ غيره فقد خسر الدنيا والآخرة، كما قال تعالى في مطلع هذه المجموعة: (أم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَالله هُوَ الْوَلِيُّ).

ص: 30

سورة الشورى (١٣ - ١٦) ٣١

* شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَبَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَبٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ تحاجون في اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ مُجَتُهُمْ دَاحِضَةُ عِندَ رَهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(16)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)، (شَرَعَ) أي جعل الشريعة والمنهاج، أو بمعنى «أوضَحَ وبيَّن». والخطاب في قوله: (لَكُم) للمؤمنين. والآية في سياق الحديث عن الوحي من جهة وحدة الشرائع في رسالات الأنبياء. والغرض ليس وحدة الشريعة في كلّ الجزئيات والفروع، بل وحدة الأصول في العقائد والأحكام. أمّا العقائد فواضح؛ لأنّها حقائق لا تتغيّر. وأمّا الأحكام فكلّ الشرائع تدعو إلى الصلاة والصوم والزكاة، وإن اختلفت في كيفياتها، لاختلاف اللغات والشؤون التي تدعو إلى الخصوصية، فالصلاة موجودة حتّى الآن في الطقوس الدينية لليهود والنصارى وسائر الأديان والصوم كان في الأُمم السابقة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 31

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(1). والحجّ ممّا أذّن به إبراهيم علیه السلام.

والزكاة أيضاً موجودة في دعوات الأنبياء، كما قال عيسى علیه السلام في المهد: (وَأَوْصَانِي بالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً )(2) .

كما أنّ تحريم المحرمّات الأساسية لا تختلف فيه الأديان. وم_ا نج_ده م_ن النصارى من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير من جهة مخالفتهم لشريعتهم لأنّهما محرّمان في التوراة، واليهود ملتزمون بذلك حتّى الآن، والمسيح علیه السلام لم يأت بشريعة ناسخة لكلّ أحكام التوراة، بل كان مصدّقاً لها، وإنّما أحلّ بعض ما حرّم الله عليهم ، كما قال تعالى حكاية علیه السلام:( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)(3) وهو ما حرّمه الله تعالى على بني إسرائيل البغيهم، فكان ذلك عقوبة لهم. وهذا الأمر - أي الالتزام بأحكام التوراة _ مذكور في الإنجيل الحالي أيضاً، ولذلك يعبّرون عن التوراة بالعهد القديم. وكذلك حكم القصاص موجود في التوراة ، كما قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاص)(4). وهكذا تحريم الربا - مثلاً - كما قال تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ هُوا عَنْهُ)(5) وأمّا تحريم الزنا واللواط فواضح، وقصّة قوم لوط مشهورة.

والحاصل أنّ أصول الأحكام في الشرائع واحدة وإن اختلفت الطقوس. ولعلّه

ص: 32


1- البقرة (2) 183
2- مريم (19) 31
3- عمران (3) 50
4- المائدة (٥): ٤٥
5- النساء (٤): ١٦١

لذلك عبّر عن سائر الشرائع بالذي وصّاهم الله به، وعبّر عمّا في هذه الشريعة بما أوحي إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فإنّ الوصية لا تطلق على كلّ ما أبلغ_وا ب_ه، ب_ل ت_خ_ت_صّ بما يهتمّ به من الأمور وهي أُصول الشرائع المشتركة، فالدين الذي يجب اتّباعه مجموع ما أوحي إلى الرسول من التفاصيل وخصوص ما وصّى به الله تعالى في الشرائع السالفة، لا كلّ ما أوحي إليهم.

وبدأ بذكر نوح علیه السلام، لأنّه أقدم الأنبياء الذين أتوا بشريعة. والغرض من البدء بأقدمهم الإشارة إلى مبدأ هذا الدين، وأنّه متوغّل في أعماق التاريخ البشري. وأمّا قبل نوح علیه السلام، فالظاهر أنّه لم يكن إلا أوامر متفرّقة حيث لم تتشكّل حضارة

بشرية ولا اجتماع بشري يحتاجون إلى قوانين تنظم حياتهم.

ولعلّ تقديم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل للتنبيه على كونه أفضلهم كما قدّمه على جميعهم في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)(1). ويتبيّن من الآية أن هؤلاء الخمس هم أصحاب الشرائع، وأنّ سائر الأنبياء كانوا يتّبعون شرائعهم.

(أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) . (أنّ) إما مصدرية، والمصدر المأوّل بدل عن قوله: (مَا وَصَّى) وما بعده، وإمّا مفسّرة بلحاظ أنّ قوله : (وَصَّى) و (أوحَيْنَا) بمعنى القول. فالمعنى على الاحتمال الأوّل أنّه تعالى شرع لكم وجوب إقامة الدين وعدم التفرّق فيه، وعلى الاحتمال الثاني شرع لكم ما قاله لك وللأنبياء السابقين من وجوب إقامة الدين وعدم التفرّق فيه.

وربّما يتوهّم التنافي بين ما يفهم من الجملة السابقة من الإشارة إلى وحدة

ص: 33


1- الأحزاب (33): 7

الشرائع في الأصول كما أسلفنا، وبين هذه الجملة حيث تفسّر ما شرعه الله تعالى وأوصى به في الشرائع السابقة وأوحى به إلى الرسول صلى الله عليه و اله وسلم بهذين الأمرين فقط: إقامة الدين وعدم التفرّق فيه، فلا يشمل اُصول الشرائع.

ومن هنا قال في «الكشاف»: «ثمّ فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: (أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنّها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً )(1)... »(2)

فيبدو من كلامه أنّ الذي اتّحدت فيه شرائع السماء هو العقيدة فقط، بل هذا هو ما يظهر من عبارة بعض آخر أيضاً.

ولكنّ الجملة السابقة واضحة الدلالة على أنّ المراد التنبيه على وحدة الشرائع العملية في أصولها مضافاً إلى وحدة العقيدة، وذلك لأنّ المراد بالدين في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّين) القوانين والأحكام الشرعية وهو واضح، كما أنّ قوله (وَالَّذِي أوحَيْنَا إِلَيكَ) يشمل كلّ الشريعة ويبعد كل البعد تخصيصه بجملة واحدة.

والصحيح أنّ هذه الجملة لا تنافي دلالة الجملة السابقة على وحدة الشرائع، لأنّها إن كانت بدلاً فهي بدل اشتمال بمعنى أنّ الذي شرعه الله في جميع

ص: 34


1- المائدة (٥): ٤٨
2- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢١٥

الشرائع يشمل هذا الأمر ، وإن كانت مفسّرة - وهذا الاحتمال أولى - فمعناه أنّ الأمر الصادر من الله تعالى هو هذا الأمر، لأنّه مقول القول حسب الفرض إلا أنّ الجملة السابقة مستخلصة منه. وأمّا قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُم شِرعَةً وَمِنهَاجَاً) فناظر إلى تفاصيل الأحكام التي تختلف فيها الشرائع.

وهذا نظير أن يقال: «فرض الله عليكم الجهاد أن قاتلوا المشركين»، فالأمر هذا القول: «قاتلوا المشركين» بتأويل الفرض إلى القول، وأمّا المفعول وهو الجهاد فهو مستخلص منه. وهنا أيضاً القول الصادر هو(أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرّقوا فِيهِ ) ويستخلص منه أنّه تعالى شرع على جميع الأمم شريعة واحدة وديناً واحداً من حيث الأصول وإن اختلفت المناهج.

وأمّا كيف يستخلص منه ذلك، فتوضيحه أنّ المراد بإقامة الدين هو إقامة الدين العامّ الذي اشتركت فيه شرائع السماء. ومعنى إقامته العمل بكلّ الأحكام والالتزام بها وحفظها من التحريف والتغيير، لتنتقل سليمة إلى الأجيال الآتية، والمراد بعدم التفرّق فيه - أي في الدين - أن لا يوجب اختلاف الرسل والمناهج تفرّقاً بين الأمم، فالدين ،واحد قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1). وقال أيضاً: (قُلْ آمَنَّا بِالله وَمَا أنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ). (2)

فالمراد بعدم التفرّق ليس عدم تفرّق كلّ أُمّة في شريعتها الخاصّة فحسب، بل

ص: 35


1- آل عمران (3): 19
2- آل عمران (3): ٤ - ٨٥

الخطاب لجميع الأمم ، والمراد عدم تفرّقهم عن الدين، الأساس الجامع بين الشرائع. ومعنى ذلك أنّه لا يحقّ لمن يدعي متابعة موسى علیه السلام أن يرفض الانصياع الرسالة عيسى علیه السلام وكذلك كلّ من بقي من أتباع الأديان السابقة لا يجوز لهم

التعصّب لما يختصّون به بعد بعثة نبيّنا صلی الله علیه و آله وسلم. وعليه فمفاد هذه الآية هو بعينه ما صرّح به تعالى في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقُ لَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).(1) والتأكيد الوارد في هذه الآية وأخذ الميثاق والعهد من الرسل إنّما ه_و م_ن أج_ل تنبيه الأجيال الذين يأتون بعدهم ويتبعون ملّتهم، فلا تجوز لهم متابعة الشريعة السابقة بعد بعثة الرسول الجديد، خصوصاً أنّ الرسل السابقين كانوا يبشّرون بالرسالة القادمة، كما قال تعالى في حكاية كلام عيس علیه السلام: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.)(2)

وضمير (فيه) كما قلنا يرجع إلى الدين. ومعنى ذلك أنّ الوحدة المطلوبة هي الوحدة تحت راية الدين لا مطلق الوحدة ، كما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)(3)، فالمطلوب الاتحاد مع الاعتصام بحبله تعالى.

والواقع أنّ الدين حدّ فاصل. والحدود لا تكون حدوداً حقيقية إلا إذا كانت مانعة جامعة، فحدود البلد هي التي تشمل جميع أراضيه لا يشذّ منها شيء ولا تتجاوزها إلى حدود بلد آخر. والحدّ في التعريف لا يكون حدّاً صحيحاً إلا إذا

ص: 36


1- آل عمران (3) 81
2- الصف (٦١): ٦.
3- آل عمران (3) 103

شمل جميع أفراد المفهوم المعرّف ولم ينطبق على شيء من أفراد غيره. والدين أيضاً حدّ فاصل فلا يتمّ الالتزام به إلا إذا منع من الاتحاد بغير المتديّن والعداء مع المتديّن. قال تعالى: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(1) وليس معنى ذلك محاربة الغير، بل عدم موالاتهم.

والنهيّ عن التفرّق - كما أشرنا إليه _ يشمل تفرّق كلّ أُمّة في ما بينهم أيضاً. وهذا تحذير للمسلمين في عهد الرسالة بأن يحافظوا على ما شرع الله لهم من الدين ولا يختلفوا فيه حتّى يسلّموه إلى الأجيال الآتية. وستأتي في كلامه تعالى الإشارة إلى ما حصل للأديان والشرائع السابقة للتنبيه على أنّ هذه الأمة أيضاً ستبتلى بمثل ذلك.

(كَبُرَ عَلَ المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه) الظاهر أنّ المراد ممّا تدعوهم إليه هو الإيمان بالله تعالى وبرسالات الأنبياء لیهم السلام وما ينتج من هذا الإيمان من ضرورة الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات ونحو ذلك من لوازم الشريعة، فهذا هو الذي كبر عليهم وشقّ عليهم ،قبوله، مع أنّه امتداد لكلّ ما دعا إليه الرسل طيلة التاريخ البشري، ومنهم إبراهيم علیه السلام الذي يدّعي هؤلاء الانتماء إليه.

(الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) «الاجتباء» هو الاختيار والاصطفاء. وأصله من الجباية بمعنى الجمع، ومنه جباية الخراج والضريبة. ومن هن_ا ع_دّاه ب_«إلى» أي يجمع إليه من يشاء، أي يختارهم من بين الناس. و«الإنابة»: الرجوع والمراد التوبة.

وفي مرجع الضمير في «إليه» في الجملتين احتمالان:

ص: 37


1- الفتح (٤٨): ٢٩

الاحتمال الأوّل: أنّ يعود إلى اسم الجلالة. وعلى ذلك يحتمل أن يكون المراد اجتباء الرسل، ويكون ردّاً على المشركين وإن لم يشر إلى كلامهم، فإنّهم إنّما كبر عليهم ما دعا إليه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ، لإنّهم رفضوا اختياره رسولاً عليهم بدعوى أنّ فيهم من هو أولى منه، كما قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(1)، فرفضوا رسالته حسداً واستكباراً، وهذه الجملة تردّ عليهم بأنّ الله تعالى يجتبي إليه من يشاء من الرسل نظير قوله تعالى: (الله أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(2) والجملة التالية لبيان أن الله لا يهدي إليه إلا من ينيب، أي يتوب إليه تعالى.

الاحتمال الثاني: أن يعود الضمير في الموضعين إلى (مَا تَدْعُوهُم إِلَيهِ) وهو الدين، أي يجتبي من البشر من يشاء ويسوقه إلى الدين، فيكون الاجتباء مقدّمة للهداية، وتكون الجملة التالية مبيّنة لمورد تعلّق المشيئة، وهو الإنابة إلى الله تعالى، فيكون المعنى أنّه تعالى يختار من يشاء للهداية إلى الحقّ وهو ما تدعوهم إليه ولكنّه لا يختار جزافاً، بل يختار من ينيب إليه.

(وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) يعود السياق إلى الكلام عن الوحي في الرسالات السابقة، حيث مرّت الإشارة إلى أنّ الأمم أمروا أن يقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه، لينقلوه إلى الأجيال التالية بدون تحريف وبدون شكّ في ،مضامينه، ولكنّهم تفرّقوا بعد ما جاءهم العلم عن طريق الرسول، فلم يكونوا معذورين بالجهل. والظاهر أنّ المراد تفرّقهم بعد عهد الرسالة. وكان السبب في

ص: 38


1- الزخرف (٤٣) ٣١
2- الأنعام (٦): ١٢٤.

تفرقهم هو البغي بينهم. والبغي في الأصل الطلب. ويطلق الباغي على من يطلب شيئاً ليس له، فالسبب في تفرّقهم هو اعتداء بعضهم على بعض، وتطاولهم وطلب بعضهم ما ليس له. وهذا يتعلّق بما ورثته الأمّة من رسولها كالخلافة.

ويحتمل أن يكون التفرّق في هذه الآية مختلفاً عنه في الآية السابقة، فإنّ المنع هناك إنّما كان عن التفرّق في أصل الدين المشترك بين الشرائع بمعنى أنّ أتباع كلّ شريعة لا يتعصّبوا لشريعتهم في قبال سائر الشرائع السماوية، والبغي هنا تسبّب في تفرّق الأمّة الواحدة في دينهم وبذلك تشكّلت المذاهب المتفرّقة وكلّ فرقة تفسّر الدين بما يروق لها ويضمن مصالحها. ويحتمل أن يكون التفرّق الممنوع في تلك الآية شاملاً لهذا التفرّق.

(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في هذه الجملة احتمالان:

الأوّل: أن يكون المراد بالكلمة ما كتب الله على نفسه من إمهال الناس إلى وقت نزول العذاب في الدنيا أو إلى يوم القيامة، ومعنى سبق الكلمة سبق إرادته تعالى الأزلية. وقوله: (إلَى أَجَلٍ مُسَمّى) متعلّق بمحذوف يفهم من سبق الكلمة، حيث يدلّ على الإمهال، أي لولا كلمة سبقت من الله تعالى بأن يمهلهم إلى أجل مسمّى لقضي بينهم والأجل المسمّى موعد نزول العذاب أو موعد الموت أو يوم القيامة، ومعنى القضاء بينهم الحكم على بعضهم بالعذاب والهلاك وهم الباغون الظالمون، وإنّما يكون ذلك قضاءً وحكماً بينهم، لأنّه ينتهي لمصلحة الفريق الآخر، فيهلك بعض الناس وينجو بعض آخر.

الثاني: أن تكون الكلمة إشارة إلى إرادته تعالى إبقاء الأمور مبهمة غامضة،

ص: 39

ليتمّ الامتحان والابتلاء وقد مرّ في نظيرتها في سورة فصّلت احتمال أن يكون المراد بالقضاء بينهم تبيّن الحقائق، وبالأجل المسمّى يوم القيامة، كما صرّح به في آيات أخرى. فالمعنى أنّ الله تعالى لم يبيّن لهم حقائق الأمور ليتمّ الابتلاء إلى أن يأتي الأجل المسمّى، وهو موعد يوم القيامة، فتظهر الحقائق ويقضي الله بين الناس في ما كانوا فيه يختلفون. وهذا الاحتمال أقرب.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله: «إنّ المراد بالكلمة خطاب_ه تع_ال_ى ف_ي ب_دء هبوط الإنسان إلى الأرض ممّا يدلّ على استمرار التمتّع والاستقرار في الدنيا إلى يوم القيامة، وذلك كقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِينٍ)(1) ». (2)

ولكن لا حاجة إلى تقدير خطاب أو آية مذكورة في القرآن، كما يحاوله العلامة وجمع من المفسّرين في أمثال هذه الموارد، فلا مانع من أن تكون «الكلمة» في هذه الموارد كناية عن الإرادة الإلهية.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) المراد ب_ (الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ) الجيل المتأخرّ عن عهد الرسالة حيث ورثوا الكتاب من الجيل الأوّل وهم في شكّ منه، أي من الكتاب. والشك المريب، أي المصاحب للاتّهام. و«الريب»: التهمة. وهذا نتيجة تفرّقهم واختلافهم في العهد الأوّل، فإنّ الأجيال المتأخّرة توارثت الكتاب مع الشكّ، إمّا في أصله من احتمال التحريف في الألفاظ وإمّا في معناه من احتمال التحريف في التفسير، فإنّ كلّ فرقة تحاول تحريف النصّ أو تفسيره ليوافق أهواءها، كما نلاحظه في مذاهب

ص: 40


1- البقرة .(٢) .٣٦
2- راجع الميزان في تفسير القرآن ٣٤٧:٨

ديننا بالنسبة إلى الكتاب والسنّة.

وهذا هو الحاصل في الأمم السابقة. والآية الكريمة تحذّر الأمّة الإسلامية من الوقوع في نفس الخطأ _ وهي فعلاً قد وقعت فيه _ فاختلفوا بعد عهد الرسالة، ب_ل بدأت بوادره في عهدها المجيد، واستمرّ الاختلاف والتفرقة، وأثّر حتّى في الطقوس الدينية التي تتكرّر في اليوم مرّات كالصلاة والوضوء، بل حتّى الذي يعلن في المآذن، فإنّ الاختلاف وقع في الأذان، حتّى في أتباع المذهب الواحد، ناهيك عن الأحكام المهمّة السياسية، كلزوم تعيين الحاكم عن طريق الشورى أو النصب الإلهي، وغير ذلك.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1) وقوله تعالى في بني إسرائيل: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمر فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثمّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمر فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعُ أهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).(2)

وفي هذا المعنى آيات كثيرة. وأقربها إلى ما نحن فيه من حيث البدء بالتنبيه على وحدة الشرائع آية آل عمران، ومن حيث الأمر بالاستقامة التي جاء هنا أيضاً ما في سورة الجاثية، وأوضح منه قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلاً لا ليوفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أعْمَاهُمْ إِنَّهُ بمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ

ص: 41


1- آل عمران (3): 19
2- الجاثية (٤٥) 17 - 18

بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(1). وهذه الآيات في مقام تحذير المسلمين من الوقوع في التفرقة والاختلاف، وقد صرّح به في قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ هُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(2)

(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) الظاهر أن اللام في قوله: (فَلِذَلِكَ) بمعنى «إلى»، أي فادع إلى الدين الواحد الذي أنزله الله على رسوله، وتقديم الجارّ والمجرور يفيد الحصر، أي لا تدع إلى دين غيره. وهذا إعلام بأنّ ما يدعو إليه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هو ذلك الدين الموحد وليس أمراً جديداً.

وقيل: إنّ اللام للتعليل، أي حيث حدث هذا الافتراق والاختلاف في الأمم السابقة، أو حيث شرع الله لكم ما شرع للأمم السابقة فادع إلى الدين الإلهي الصحيح. وعلى هذا الاحتمال لا بد من تقدير المفعول للأمر بالدعوة، بخلاف

الاحتمال الأوّل.

وقوله تعالى: (وَاستَقِم كَمَا أُمِرتَ)، أي استقم على نشر هذه الدعوة، كما أمرك الله تعالى أي استقامةً كالاستقامة التي أمرك الله بها، والاستقامة بمعنى الاستواء والاعتدال، والأصل فيه القيام بمعنى الانتصاب، وباب الاستفعال يؤكّده، والانتصاب في العمل يلازم الثبات.

وفي هذا التعبير تنبيه على أنّ هذه الدعوة تستلزم التضحيات، وتستدعي حروباً ومشاكل كثيرة، كما هو المتوقّع في مثل تلك الظروف، وفي مثل هذه الدعوة. فالقصد من هذه الآية الكريمة تقوية عزيمة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والذين آمنوا

ص: 42


1- هود (11) 110 - 112
2- آل عمران (3) 105

معه حتّى لا تباغتهم المشكلات المستعصية، بل يكونوا عل_ى ح_ذر واستعداد لمواجهتها.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) وذلك لأنّ الأهواء لا تتّبع الحقّ، فكلُّ يهوى ما يستسيغه، وإن كان باطلاً أو أضرّ بالآخرين، كما قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ).(1) وكما أنّ متابعة الأهواء تضرّ في قيادة المجتمع كذلك تضرّ في نشر الدعوة الإلهية، وذلك لأنّ الدين __ كما تبيّن ___ واحد، والرسول يجب أن يدعو إلى هذا الدين الواحد، وهذا لا يتلاءم مع مراعاة أهواء كلّ مجموعة من أتباع الأديان السابقة، لما يوجد بينهم من مشاحنات وعصبيات. ومن هنا نهى الله تعالى رسوله من متابعة أهوائهم في نشر الدعوة.

والظاهر أنّ الضمير يعود إلى أهل الكتاب وبوجه أدقّ إلى الذين أورثوا الكتاب في عهد الرسول صلى الله عليه و له و سلم . وقد ورد النهي عن متابعة أهوائهم في مواضع أخرى أيضاً من الكتاب العزيز، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلا تَتَّبِعُ أهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحق لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ الله جَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضٍ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ).(2)

ويلاحظ في سياق الآيتين تشابه شديد بما ورد في هذه الآية، ففي الأولى تصديق هذا الكتاب للكتب السابقة، كما أمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هنا بإعلان إيمانه

ص: 43


1- المؤمنون (23): 71
2- المائدة (٥): ٤٨ - ٤٩

بالكتب. وفيها أيضاً الأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله تعالى وهو مشابه للأمر بالعدل بينهم، ثمّ كرّر في الآية الثانية الحكم بينهم بالعدل وعدم متابعة أهوائهم للتأكيد على الحكم السابق. ويبدو من ذيل ما نقلناه من الآية أنّ ما كانوا يهوونه، ويحاولون فيه جرّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى مكيدتهم هو صرفه عن نقل بعض ما يوحى إليه من القرآن الكريم.

(وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ)، أي أعلن لأهل الكتاب إيمانك بكلّ الكتب السماويّة السابقة، لأنّ مناط الإيمان هو أن يكون الكتاب والدين من قبل الله تعالى، ولا يختلف في ذلك الرسول المنزل عليه. والتعبير بما أنزل الله من كتاب لا بالكتب بوجه عام، لئلا يشمل الكتب المحرّفة.

وإعلان هذا الإيمان من أهمّ الخطوات للنفوذ في قلوب أتباع الديانات السابقة، كما أنّه تصريح رسمي بأنّ هذا الدين وهذه الدعوة امتداد لرسالات الأنبياء السابقين، ليكسب مكانته المناسبة في قلوب العرب، سواء آمنوا أم لم يؤمنوا. وفي نفس الوقت يحثّ المؤمنين على عدم التعصّب الأعمى، وأن لا يكون التفافهم حول هذه الدعوة بدواع قَبَلية أو طائفية، أو على أساس أنّ هذا دين العرب، أو أنّ القرآن نزل بلغتنا، أو نزل على آبائنا وأجدادنا. والحاصل أنّ هذا الإعلان يرفع هذا الدين عن مستوى العلاقات الاجتماعية الضيّقة إلى الدين العامّ الذي يؤمن به جميع المؤمنين بالأديان السماوية طيلة التاريخ البشري، كما يحاول تقريب صفوف المؤمنين برسالات السماء في ذلك العهد في مقابلة المشركين، وبذلك يبعث الرهبة والتهيّب في قلوبهم.

(وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمْ). اختلف في «الام» في قوله: (لأعْدِلَ) وأمثالها كقوله

ص: 44

تعالى: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمينَ)(1)؛ فقيل: زائدة بتقدير «أن»، وقيل: إنّها للتعليل وأنّ المفعول محذوف فيقدر هنا: «وأمرت بالعدل الأعدل بينكم» وقيل غير ذلك، ومهما كان فالملاحاظ من استعمالات القرآن الكريم أنّ هذا اللام التي تأتي بعد الأمر أو الإرادة تفيد معنى «أن» بحيث لو أبدلتها بها لم يختلف المعنى، ويتبيّن ذلك بوضوح بملاحظة قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بأَفْوَاهِهِمْ وَيَأبى الله إلا أن يُتم نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(2) وقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)،(3) وأيضاً قوله تعالى: (فَلا تُعْجِبُكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بها في الخيوةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)،(4) وقوله: (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَاهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ.)(5)

واختلف في المراد بالعدل، فقال بعضهم: إنّ المراد به تحقيق العدالة بين المتخاصمين فيختصّ بمورد القضاء، والمعنى أنّه إذا تخاصمتم إليّ فإنّي أعدل بينكم ولكنّ الظاهر - على فرض كون المراد تحقيق العدالة - أن يكون المراد ما يعمّ العدل في الشؤون الاجتماعية، والتعايش مع الآخرين. والسياق يقتضي أن يكون الخطاب موجّهاً إلى أهل الكتاب إلا أنّ ذلك لا يمنع من أن يكون المراد بضمير الخطاب عامّة الناس، فيكون المعنى أنّ هذا الدين يعدل بينكم يا أهل الكتاب وبينكم وبين غيركم. وهذا الإعلان الرسمي يعلنه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأمر من

ص: 45


1- الأنعام :(٦): 71
2- التوبة (9) 32
3- الصف (٦١): 8
4- التوبة (٩) ٥٥
5- التوبة (٩): ٨٥

الله تعالى، وهو في مكّة تحت الضغط والاضطهاد، ولكنّه برنامج الحكومة والنظام الذي سيفرضه على المجتمع، يعلنه ليكون من يريد اتّباعه عل_ى عل_م بذلك، فيؤمن وهو على بصيرة من أمره.

هذا إذا فرض أنّ المراد تحقيق العدالة في المجتمع، ولكنّ الأنسب أن يكون المراد المساواة في الدعوة، فلا يقدّم قوماً على قوم، فهذه الدعوة وهذا الدين ليس خاصّاً بقوم ولا قبيلة، ولا أهل لسان أو بلد، وليس دين بني هاشم ، ولا دين ،قريش، ولا دين العرب. وهذا ما يناسب وقوعه ضمن الأمر بالدعوة.

(الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) ثلاث جمل يؤمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أن يردّ بها محاجّة أهل الكتاب في الله تعالى، كما عبّر به في الآية التالية ومعنى محاجّتهم في الله دعواهم الاختصاص به، وأنّهم أحباؤه وأولياؤه دون سائر الناس، كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)(1) وغيرها من الآيات.

واستدلّ على نفي المحاجّة في الله تعالى بأمرين:

الأول: أنّه تعالى كما هو ربّكم كذلك هو ربّنا ومردّ هذا الاستدلال إلى أنّ العلاقة بالله تعالى ابتداءاً علاقة المربوب بربّه، وفي هذه العلاقة لا يختلف البشر فهو ربِّ الجميع، ربِّ المرسلين والمرسل إليهم، ربِّ المتقين والعاصين، ربّ الإنس والجنّ، ربِّ السماوات والأرضين، وربّ الخلق أجمعين، فلا ميزة لأحد من البشر في ذلك، ونسبة الخلائق كلّهم إلى الله تعالى نسبة واحدة.

الثاني: أنّ الاختصاص بالله تعالى إن كان من جهة العمل فلنا أعمالنا ولكم

ص: 46


1- المائدة (٥): 18

أعمالكم، أي لكلّ من الشرائع طريقة خاصّة من الله تعالى كما قال: (لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)(1) وكلّ الشرائع منتسبة إليه تعالى. واختلاف المناهج لا يوجب قرباً ولا بعداً من الله تعالى، وإنّما الذي يؤثّر في ذلك هو التصرّف الشخصي من خلوص النية وعدمه، ومن الالتزام بأوامره تعالى ونواهيه وعدمه.

والجملة الأخيرة، أي قوله تعالى: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) كالنتيجة للجملتين الأوليين؛ ومعناها أنّه لا يحقّ لأحد من الفريقين أن يحتجّ على الآخر ويدّعي الاختصاص بالله تعالى، فهو ربّ الجميع وهو مشرّع جميع الشرائع، فنفي الحجّة من البين بمعنى استنكار المحاجّة من قبلهم نظير قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي الله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ) (2).

وبهذا يتبين أنّ المراد بجملة: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) في الآيتين ليس هو اختصاص مسؤولية كلّ إنسان بأعماله، ولا عدم التزاحم، كما في «الميزان»،(3) ولا عدم تأثير السيء من الأعمال في مصير الطرف الآخر كما في «روح المعاني»،(4) ولا غير ذلك ممّا ورد في التفاسير؛ بل المراد أنّ اختصاص كلّ أمّة بشريعة ومنهج خاصّ لا يقتضي قربه ولا بعده، فكلّ ذلك من الله تعالى. والدليل على ذلك أنّهم احتجّوا بميزة خاصّة بهم كأمّة لا كأشخاص، ولم يحتجّوا بحسن العمل أو سوئه، فالجواب المناسب لاحتجاجهم هو أنّه ليس لكم ميزة تقرّبكم

ص: 47


1- المائدة (٥): ٤٨
2- البقرة (2) 139
3- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 34
4- راجع: روح المعاني ١٣: ٢٦

إلى الله تعالى كأمّة، لا من حيث أصل الانتساب إلى الله تعالى، لأنّ نسبة الجميع واحدة، وهي نسبة المربوب إلى الربّ، ولا من حيث الشريعة، لأنّها كلّها من الله تعالى.

ويتبيّن أيضاً ضعف ما ورد في التفاسير من أنّه لا بدّ من تأويل ما ورد في الآية الكريمة من نفي الحجّة، لأنّ الحجّة ثابتة للرسول صلی الله علیه و آله وسلم على أهل الكتاب فكيف يمكن نفي وجود الحجّة بين الفريقين ؟! فاضطرّوا إلى القول بأنّ المراد لا محاجّة ولا مخاصمة بيننا وبينكم، فحيث لا مخاصمة فلا وجه لإقامة الحجّة مع أنّ المحاجّة مستمرة بين الفريقين، فلا وجه لهذا التأويل. بل الصحيح أنّ نفي الحجّة بمعنى استنكار احتجاجهم في الله تعالى بدعوى القرب لديه، فإنّ هذا هو الذي يتنافى مع كونه تعالى ربِّ الجميع، ومع استناد الشرائع كلّها إليه، وهذا هو المصرّح به في الآية التي نقلناها من سورة البقرة.

نعم هناك فرق في التعبير بينهما، ففي سورة البقرة يستنكر احتجاجهم في الله، وهنا ينفي وجود الحجّة بين الفريقين، بمعنى أنّه كما لا يصحّ لكم أن تجادلوا في الله وتدّعوا الاختصاص به، كذلك لا يصحّ من قبلنا. وهذا الاختلاف في التعبير لعلّه من جهة موضع النزول، فهذه الآية نزلت في مكّة، ولم تحصل بين الفريقين مواجهة بالفعل، بينما نزلت سورة البقرة في المدينة، مضافاً إلى الفرق بين حالتي المسلمين في الموضعين.

ولا يتوهم أنّ الآية تدلّ على أنّ أعمالنا وأعمالهم صحيحة، وذلك لأنّ أعمال أتباع الشرائع السابقة صحيحة قبل نزول الشريعة المتاخرة الناسخة، وهذا ما صرّح به تعالى في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ

ص: 48

رَسُولٌ مُصَدِّقٌ مَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)،(1) فقوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ)، أي برسالته ومعنى ذلك متابعة شريعته، وليس المراد مجرّد الدعوة إلى النصرة. وهذا التأكيد الوارد في الآية من أخذ الميثاق والإقرار والشهادة ليس إلا لنسخ الشريعة الذي يصعب على الأمم قبوله.

(الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ) هذه الجملة ليست من صلب الاستدلال على نفي المحاجّة، بل هو ردّ لتوهّم آخر، وقد اختلفت الصياغة فيه بين الآيتين، ففي سورة البقرة أضاف إلى استنكار المحاجّة قوله تعالى: (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) وأضاف هنا هذه الجملة، والظاهر أنّ الغرض منهما الردّ على ما يمكن أن يتوهّم بعضهم من اختصاصهم بالفضل لما فيهم من الالتزام بالدين، والإخلاص الله تعالى، فأجاب عنه في سورة البقرة بأنّنا مخلصون له، وأجاب هنا بأنّ مصير الأشخاص منوط بأعمالهم وبنيّاتهم ، وهذا لا يتبيّن في هذه النشأة، فكلّ إنسان يمكنه أن يدّعي صحّة طريقه وخلوصه في العمل، وإنّما يتبيّن ذلك يوم الجمع حيث ينتهي المصير إليه تعالى، فيجمع بين الخلائق كلّهم ليحاسب كلّ أحد، ويجازيه بعمله.

والمراد بضمير التكلّم مع الغير في قوله: «بَينَنا» الفريقان، أي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ومن تبعه و آمن به، ويقابلهم الذين أورثوا الكتاب في ذلك العهد وهم المناوئون من اليهود والنصارى، والتركيز على الجمع بين الفريقين من جهة أنّ الفضل المزعوم لا يتبيّن صدقه وكذبه إلا بالجمع بينهما للمقايسة والموازنة وهذا الأمر

ص: 49


1- آل عمران (3) 81

يختلف عن مقارنة الشرائع، فإنّ المقارنة بينها ممكنة في هذه النشأة.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاخِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ...). اختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية، وفي المراد بالمحاجّة في الله تعالى، وفي خصوص مرجع الضمير في قوله : (اسْتُجِيبَ لَهُ)، وفي المراد بالاستجابة.

ويتبيّن بما ذكرناه في تفسير الآية السابقة أنّ المراد ب_ (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله ) أهل الكتاب ، وقلنا إنّ المراد أنّهم كانوا يدّعون الاختصاص به وأنّهم أبناء الله وأحباؤه، كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ)،(1) وأمّا ما ورد في بعض التفاسير من أنّ المراد احتجاجهم في دين الله أو أنّ المراد المشركون؛ لأنّهم يحاجّون في شأن الله وهو الوحدانية أو يحاولون نفي ربوبيته تعالى وإبطال دينه كما في «الميزان»، كلّ ذلك وغيرها خلاف الظاهر وتقدير بلا موجب بل هذا نظير قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي الله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)،(2) أي لِمّ تدعون اختصاصكم بالله وهو ربّ الجميع ؟! وقد مرّ الكلام حول هذه الآية آنفا. ومثله أيضاً قوله تعالى: (يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ)،(3) أي لِمّ تزعمون أن إبراهيم علیه السلام كان منكم مع أنّه كان قبل التوراة والإنجيل؟! فالاحتجاج هنا أيضاً بهذا النحو.

والظاهر أنّ المراد بالاستجابة استجابة الناس للدين الجديد، والوجه في خصوصية هذا الظرف وتأثيره في كون حجّتهم داحضة أنّهم كانوا قبل أن يؤمن

ص: 50


1- المائدة (٥): 18
2- البقرة (2) 139 .
3- عمران (3) ٦٥

الناس بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم هم أتباع شريعة السماء فحسب، فكانوا على حق إذا ادّعوا اختصاصهم بمتابعة الحقّ، لأنّهم كانوا في قبال المشركين، وأمّا بع_د استجابة الناس للرسالة الجديدة فليسوا هم أتباع شريعة السماء، بل هم كفّار ناقضون لعهده تعالى، وذلك للآية التي مرّت آنفاً، أي قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ مَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثم جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ مَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ

الشَّاهِدِينَ).(1)

والمراد من قوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إيمان أتباع الرسل ونصرتهم أيضاً، ولو كان الرسول بنفسه حيّاً لزمه الوفاء بالعهد، كما يلزمه إبلاغ هذا الأمر لأتباعه وقد عملوا بذلك، كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)،(2) فهو يصدّق ما مضى ويبشّر بما يأتي لتبقى الرسالات متواصلة بعضها ببعض ولا تتشكل أمم متخالفة في التوحيد، ولكن أهواء الناس ومتابعة الكبراء منعت من تحقّق هذا الأمر طيلة تاريخ الرسالات!!!

والحاصل أنّ المدّعين متابعة الشرائع السابقة لا تصحّ دعواهم بعد نزول الشريعة اللاحقة ولا تقبل منهم دعوى الأولوية بالقرب لدى الله تعالى إذا آمن الناس بالرسالة الجديدة، بل المؤمنون الجدد أولى منهم بالتقرّب إليه تعالى وأولى منهم بمتابعة الرسل، ولذلك قال تعالى: (إنَّ أولَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ

ص: 51


1- آل عمران :(3) 81
2- الصف (٦١): ٦.

وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا).(1)

ومن هنا يتبيّن الوجه فى التقييد باستجابة الناس بدلاً من التعبير بنزول الشريعة الجديدة أو بعث الرسول الجديد ؛ فإنّ استجابة الدعوة من الناس لها خصوصية من حيث تحقّق أُمّة هم أقرب إلى الرسالات ممّن يدّعون الانتماء إليها.

وعلى ما ذكرنا يمكن أن يعود الضمير في (لَهُ) إلى الله تعالى أي من بعد استجابة الناس لدعوته تعالى إلى الدين الجديد عن طريق الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ويمكن أن يعود إلى الرسول وان لم يسبق ذكره ، لأنّه يعلم من قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ) بلحاظ أنّه صلی الله علیه و آله وسلم طرف الاحتجاج، أي الذين یحاجون الرسول فإنّهم لا يحاجّون غيره صلی الله علیه و آله وسلم ولكن ارجاع الضمير إلى اسم الجلالة أولى، كما هو واضح.

و(دَاحِضَةٌ) بمعنى باطلة، و«الدحض في الأصل بمعنى الزلّة والانزلاق فالتعبير يدلّ على عدم الثبات والاستقرار وهو علامة البطلان. وقوله: (عِندَ رَبِّهِم) بمعنى أنّ احتجاجهم وإن لقي قبولاً عند بعض الناس، إلا أنّه عند الله تعالى احتجاج باطل لا أساس له وحيث إنّهم يعلمون بطلان حجّتهم عند الله تعالى، ومع ذلك يحاولون خداع عامة الناس بها، فعليهم غضب من الله تعالى

ولهم عذاب شديد يوم القيامة.

والسرّ في هذا التشديد عليهم - مع أنّ مجرّد بطلان الحجة ودعوى التقرّب إلى الله تعالى لا يستوجب ذلك _ هو ما ذكرناه من أنّ عدم إيمانهم بالرسالة الجديدة نقض لما عاهدوا عليه ربّهم عن طريق الرسل، كما صرّح به في الآية (81) من سورة آل عمران التي مرّ ذكرها.

ص: 52


1- آل عمران (3): ٦٨

سورة الشورى (17 - 20)

اللهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ مَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنْهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَلٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِیُّ الْعَزِيزُ (19)مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصيبٍ (20)

(الله الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالمِيزَانَ). حيث كان الكلام في الآية السابقة حول محاجّتهم في الله تعالى ساق الحديث في هذه الآية عن فعل من أفعاله تعالى يرتبط بالبشر، وبه يمتاز الخبيث منهم عن الطيّب وهو إنزال الكتاب والشريعة. و«الباء» في قوله: (بِالحَقِّ) للمصاحبة، أي أنزل الكتاب مصاحباً للحقّ، والحقّ هو ما يطابق الواقع، فليس في هذا الكتاب كذب أو خطأ، ولا أمور وهمية أو تخيّلات، بل هو مطابق للواقع تماماً. والميزان معطوف على الكتاب، وه_و م_ا توزن به الأشياء. وقد ورد ذكره في سورة الحديد أيضاً، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .(1)

ويبدو من التعليل أنّ الميزان وسيلة لإقامة القسط في المجتمع، وهو الدين الذي يحدّد للناس حقوقهم الاجتماعية والحدود الشرعية. وهذه الأحكام ليست كلّها مذكورة في الكتاب، فليس عطفاً للجزء على الكلّ كما قيل، بل كثيراً ما تكون الروايات مستند الأحكام الاجتماعية والحدود الشرعية. وبذلك يتبيّن أن

ص: 53


1- الحديد (٥٧) ٢٥

وجه التسمية بالميزان أنّه مناط تحقيق العدالة في المجتمع. ويمكن أن يراد به مطلق الأحكام الشرعية، لأنّها ميزان الأعمال يوم القيامة، وعلى أساسها تحاسب الأعمال ليجزى الإنسان بها. ويؤيّد هذا الاحتمال الجملة التالية.

(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)، أي ما يدريك أيّها الإنسان بزمان قيام الساعة التي تحاسب فيها على عملك، وينصب لك الميزان فلعلّه قریب و (مَا) للاستفهام ويفيد الإنكار، أي ليس هناك شيء يدريك عن وقت الساعة. وحكي عن ابن عباس أنّه قال: «كلّ ما في القرآن" ما أدراك" فقد أدراه، وكلّ ما فيه" ما يدريك" فقد طوي عنه».(1)

والفرق من جهة اللفظ أنّ نفي الدراية في الماضي لا ينافي الدراية في المستقبل، ولكنّ نفيها في المستقبل معناه أنّه ليس هناك شيء يدريك أبداً، ومن حيث التطبيق على الموارد أنّه تعالى عقّب قوله: (مَا أدْرَاكَ) في جميع موارده بما يبين حقيقة ذلك الأمر نوعاً مّا، كقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ)(2) وقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثمّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَملِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ الله)(3) وقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ الْفِ شَهْرٍ)(4) وقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُ رَقَبَةٍ * أو إِطْعَامُ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَة).(5)

ص: 54


1- الجامع لأحكام القرآن ١٩: ٢٤٩
2- المدثر (٧٤): 27 - 29
3- الانفطار (82) 17 - 19.
4- القدر (97) 2-3
5- البلد (90) ١٢ - ١٤.

ولم يبيّن حقيقة الأمر في تعقيب موارد قوله: (مَا يُدرِيكَ) وهي ثلاثة مواضع: اثنتان في تحديد وقت الساعة ولا يعلم به أحد، إحداهما هذا المورد، والأخرى قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً )،(1) وواحدة لا يخاطب فيه_ا النبي صلی الله علیه و آله وسلم، بل من كان يمنعه من التوجّه إلى الفقراء، قال تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)(2) والتزكّي من الغيب، فلا يعلمه أحد.

وقد وقع الكلام في وجه قوله تعالى: (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) حيث لم يقل «قريبة» ليوافق التأنيث في الساعة. وذكرت فيه وجوه عديدة:

منها: تقدير مضاف للساعة، فيكون اسم لعلّ «إتيان الساعة» أو «حلول الساعة» ونحو ذلك.

ومنها: تأويل الساعة بعنوان مذكر كالبعث.

ومنها: أنّ القريب بمعنى ذات ،قرب كما يقال في اللابن والتامر، وغير ذلك من الوجوه البعيدة.

والأمر لا يختصّ بهذه الآية، قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(3) ومثله التوصيف بالبعد؛ قال تعالى: (وَازْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ).(4)

وأفضل ما قيل في هذا الباب ما حكي عن الفرّاء من أنّ القرب والبعد إن أتي بهما لبيان القرابة النسبية وانتفائها لوحظ فيهما التذكير والتأنيث، وإن أتي بهما لبيان القرب والبعد المكاني أو الزماني ولو تجوّزاً لم يلاحظ التذكير والتأنيث

ص: 55


1- الأحزاب (٣٣): ٦٣.
2- عبس 3 :(80) .٣
3- الأعراف (٧): ٥٦
4- ق (٥٠): ٣١

للفرق بين المعنيين، ولأن الصفة في الواقع صفة للمكان أو الزمان. وليس معناه تقدير كلمة مكان ليختلّ النظم والتركيب، بل بمعنى أن تذكير الصفة بلحاظ أنّها في الواقع للمكان ولو تجوّزاً.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ) وذلك حيث كانوا يقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) ونحو ذلك . وهم يستعجلون بها استهزاءاً وتكذيباً. والمراد بهم كلّ من لا يؤمن بالآخرة ومنهم مشركو مكّة والجزيرة العربية، فإنّهم كانوا لا يؤمنون بها، كما ورد التعبير عنهم بذلك في موارد أخرى من الكتاب العزيز.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا). «الإشفاق» هو الخوف والمؤمنون إنّما يشفقون منها خوفاً من نتائج أعمالهم. وحقّ لهم أن يخافوا، فإنّ عذاب الله شديد، والإنسان لا يأمن من عمله، إذ لا يعلم ما يقبل منه وما يردّ، وهو يعلم من نفسه أنّه كثيراً ما أتى بما لا ينبغي، فهو لا يرجو إلا رحمة ربّه، ولا يعلم هل يستحقّها أم لا.

(وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحَقُّ ) لإيمانهم برسالة السماء، وبالكتب النازلة من عند ربّهم، فلا يبقى لهم شكّ في أن الآخرة حقّ. ويتبيّن منه أنّهم لم يشفقوا منها لمجرّد احتمال حدوثها، بل لعلمهم أنّها الحقّ والألف واللام في (الحَقّ) يدلّ على الحصر والمراد الحصر الإضافي.

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) المراء والمماراة: المجادلة، والأصل فيها المرية بمعنى الشك، ولعلّ الإطلاق من جهة أنّ المجادل يحاول إلقاء الشكّ في قلب الخصم والضلال البعيد بمعنى أن يضلّ الإنسان عن الطريق الصحيح، ويذهب بعيداً بحيث لا يؤمّل منه أن يهتدي، أو يصعب عليه

ص: 56

الرجوع إلى الجادّة. وإنّما صدق عليه هنا الضلال البعيد، لأنّه لم يكتف بالترديد والشكّ، بل قام يجادل المؤمنين فيها، وهو لا يعلم شيئاً عنها، فالشك وعدم العلم لا يمكن أن يكون منصّة للمجادلة والنقاش ، بل حتّى للإنكار، خصوصاً في ما لا يمكن إدراكه بالطرق الطبيعية والمجادلة ليست بمعنى البحث والنقاش لتكون

وسيلة للمعرفة، بل بمعنى محاولة إلقاء الشك من دون الاستناد إلى طريق علمي.

(الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ )، «اللطف» ل_ه معنيان: الرفق بالشيء، والثاني الدّقة وصنع الأشياء الدقيقة والوصول إلى الأهداف بخفية. ولعلّ من الأوّل قوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله وَالْحِكْمَةِ إِنَّ الله كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)(1) ويحتمل أن يكون من الثاني، كما أنّ منه قوله تعالى حكاية عن سيّدنا يوسف علیه السلام:( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَب حقاً... إِنَّ رَبِّ لَطِيفٌ مَا يَشَاءُ)،(2) وقوله تعالى في سورة لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أو فِي السَّمَوَاتِ أو فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).(3)

وهنا يحتمل الأمران، فإنّه تعالى يرزق الناس رأفة بهم ورحمة عليهم، كما يرزقهم بطرق خفية ودقيقة. ويمكن إرادة المعنيين معاً بأن يكون المراد أنّه تعالى لرفقه بعباده يوصلهم إلى رزقهم ولو خفية وبطريق غير مباشر، فهناك رزق متوقّع يطلبه الإنسان بالطرق العادية المتعارفة ويصل إليه. وهناك من الرزق ما يصل إلى الإنسان من حيث لا يحتسب. ولكن الأنسب من جهة تعدّي اللطف بالباء إرادة الرفق بهم والتوصيف بالوصفين الكريمين: (الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) تعليل لما مرّ من

ص: 57


1- الأحزاب (33): ٣٤
2- يوسف (12) 100
3- لقمان (31) ١٦

التعليق بالمشيئة الإلهية فإنّه تعالى يقوى على ما يريد، ولا يمنعه شيء، وهو معنى العزّة والغلبة.

وتناسب هذه الآية مع سابقتها حيث كان الحديث عن الآخرة من جهة أنّ الرزق يشمل رزق الدنيا ورزق الآخرة، كما يشمل أيضاً الرزق المادي والمعنوي، بل الثاني هو الرزق الواقعي، لأنّه يتعلّق بالحياة الأبدية. وهذه الآية مقدّمة أيضاً للآية التالية، حيث إنّه تعالى يرزق كلّ صنف ما يناسبه.

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْلِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، «الحرث» قيل: هو الزرع، وقيل: إلقاء البذر في الأرض، :وقيل: إثارة الأرض للزرع، وقيل: العمل في الأرض زرعاً كان أو غرساً، وقيل: معناه مطلق الكسب والجمع ، وقيل غير ذلك. ولو كان المعنى الزرع ونحوه

فالمراد ما يحصل منه من ثمر ونحوه. وهذا استعارة لما يحصل من عمل الإنسان في الدنيا والآخرة، وتشبيه له بمن يحرث الأرض ليزرع ويحصد.

والعمل - مهما كان - تارة تقصد به الآخرة، وتحصيل رضا الله تعالى وثوابه وتارة تقصد به منافع الدنيا فحسب. فالأوّل: يريد حرث الآخرة، والله تعالى يبارك له فيه ويزيد في حرثه أضعافاً مضاعفة، بل إلى ما لا نهاية له، فإنّه يبلغ إلى مكان له فيها ما يشاء، فيكون الوصول إلى غاية ومقصود لا يحتاج إلا إرادته. والثاني: يريد حرث الدنيا فقط، وهو يصل إلى شيء منه، ولا يصل إلى غايته القصوى أبداً، لأنّ طمع الإنسان لا ينتهي إلى حدّ، فهو يصل نادراً إلى كثي_ر م_ن مآربه. والغالب منهم لا يصل إلا إلى مقدار ضئيل من مقاصده. وأمّا في الآخرة فلا نصيب له بتاتاً، وذلك لأنّه لم يقصد بعمله إلا الدنيا. وأمّا الذي عمل للآخرة

ص: 58

فإنه يحصل على نصيبه من الدنيا، وربّما يكون رزقه في الدنيا واسعاً ايضاً.

وهكذا يتبيّن أنّ الله تعالى كيف يلطف ببعض عباده، فيرزقه رزقاً واسعاً في الدنيا والآخرة. ويتبيّن من الآية أنّ المناط في القسمين هو القصد، فربّما كان الإنسان بكسبه وتجارته يقصد الآخرة، وربّما يقصد بعبادته الدنيا حتّى لو لم يكن مرائياً، فهناك من الناس من يعبد الله تعالى ولا يريد منه إلا أن يزيد في رزقه المادّي، أو يوصله إلى مآربه الدنيوية.

ص: 59

سورة الشورى (٢١ - ٢٦)

أمْ لَهُمْ شُرَكَلُوا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّين مَا لَمْ يَأْذَنُ بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(21) تَرَى الظَّلِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(22)ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ قُل لَّا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَفْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورُ(23)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَ اللَّهُ تَختِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَنطِلَ وَتُحِقُ الحَقِّ بِكَلِمَتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24)وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ، وَالْكَفِرُونَ هُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)

(أَمْ هُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا هُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله ) ، «أم» منقطعة ففيها معنى «بل» للإضراب عن السياق السابق، وهمزة الاستفهام للاستنكار، فالآيات السابقة كانت تبيّن ما شرع الله تعالى لعباده من الدين، وما يترتّب على العمل به من نتائج. وهنا يضرب عنه وينتقل إلى شقّ آخر وهو السؤال عنهم: هل لهم شركاء شرعوا لهم ديناً غير ما شرّعه الله؟ والمراد بهم من يدّعون لهم الشركة في الربوبية، فهم بزعمهم شركاء الله تعالى، وإضافتهم إليهم بهذا الاعتبار. والمراد بالشركاء كلّ من يعتقدون فيه الشركة في الربوبية ومنها تشريع الأحكام وهذا السؤال للاستنكار، إذ لا يحقّ لأحد أن يشرّع قانوناً إلا بإذن الله تعالى، فإنّ الحكم ليس إلا له، وخصوصاً فيما إذا شرّع الله أمراً، فلا يجوز لأحد مهما كان أن يشرّع ما

ص: 60

يخالفه، فالمقصود من هذه الجملة الاستغراب من رفضهم لشريعة الله تعالى اذ ليس لها معادل، فمن لا يلتزم بمتابعة شرع الله بأيّ قانون يلتزم، مع أنّه لا يملك أحد حقّ التشريع ؟!

(وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). المعروف في التفاسير أنّ المراد بالكلمة إمهال الإنسان إلى يوم القيامة، وعدم التعجيل في عذابه، وأنّ المراد بالقضاء بينهم هو تنفيذ الحكم الجزائي عليهم في هذه الحياة. وقد ذكروا مثل ذلك في الآية 14 من هذه السورة، أي قوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). ولكن لو صحّ ما ذكروه هناك، فلا يصحّ هنا، لعدم مناسبته للتعبير عن الكلمة بكلمة الفصل. وقلنا في تفسير تلك الآية: إنّ المراد بالكلمة إرادته تعالى المتعلّقة بابتلاء الإنسان، وبقاء الأمر مبهماً إلى يوم القيامة، حيث تتبيّن الحقائق، وينكشف الغطاء، وهو المراد بالقضاء بينهم. وهنا نقول إنّ كلمة الفصل _ على الظاهر - هي ما تُظهر الحقّ يوم القيامة، وتفصل بين الحقّ والباطل، أي ولولا أنّ كلمة الفصل يجب أن تظهر في ذلك اليوم، لقضي بينهم في هذه النشأة، وتبيّن الحقّ من الباطل والضمير في قوله: (بَيْنَهُمْ) يعود إلى البشر.

(وَإِنَّ الظَّالِمينَ هُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهذا هو الحكم الذي يفصل بين الحقّ والباطل يوم القيامة. والظلم - كما قلنا مراراً _ لا يختصّ بالعدوان على أحد، بل كلّ ما يصدر من الإنسان في غير موضعه يعدّ ظلماً. ومنه إطاعة الطاغوت وكلّ مشرّع بدون إذنه تعالى.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ ما كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ). الخطاب في قوله: (تَرَى) لكلّ

ص: 61

مخاطب، فهو ترسيم لحالة الظالمين - الذين مرّ ذكرهم آنفاً - يوم القيامة، وهم ينتظرون ما سينزل بهم، وحالتهم حالة الإشفاق والحذر، والإشفاق: الخوف. وهو يقابل بيان حالة المؤمنين في آية سابقة: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِسْفِقُونَ مِنْهَا). فهم كانوا مشفقين في الدنيا وأفادهم ذلك حيث اتقوا ما يستلزم العذاب، وأمّا الظالمون فلم يشفقوا في الدنيا حين كان لهم مجال الحذر والتوقّي، وإنّما أشفقوا ممّا كسبوا، أي من عملهم بسبب العذاب المترتّب عليه حينما كان عملهم أو العذاب واقعاً بهم؛ والظاهر أنّ الوقوع ضُمّن معنى الإحاطة، فتعدّى بالباء، والمراد بالإحاطة قرب تحقّقه، إذ لا معنى للإشفاق بعد الوقوع والجملة حالية، أي تراهم حذرين من العذاب الذي اكتسبوه بعملهم حال كونه واقعاً ومحيطاً بهم ومصيبهم عن قريب، فلا فائدة في الإشفاق والحذر. وهذه الآية ممّا يدلّ بظاهره على تجسّم الأعمال؛ لأنّ الضمير في قوله: (وَهُوَ وَاقِعٌ) يعود إلى ما كسبوا وهو ظاهر في نفس العمل، ويمكن تأويله بالجزاء، فإن الإنسان يكسب الجزاء بعمله.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ هُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ). بعد بيان حال الظالمين وعاقبتهم يذكر حال المؤمنين الذين عملوا الصالحات أي ما يصلحهم لدخول الجنّة والتشرّف بكرامة الله تعالى ليكون حافزاً لعمل الخير بعد بيان ما هو وازع عن الظلم ومتابعة الطاغوت.

و«روضات الجنّات» مكان مميّز منها قيل: إنّ الروضة الأرض المخضرّة،وقيل: إنّها المكان الوسيع، وقيل: المكان المونق الحسن. والجنّة البستان كثير الشجر وملتفها بحيث يستر وجه الأرض، فالإضافة هنا بتقدير «من» أي في روضات من الجنّات والجمع باعتبار الأفراد، فكلّ منهم في روضة. ويظهر من

ص: 62

العبارة أنّه ثواب خاصّ بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلعلّه لا يشمل من لم يعمل الصالحات بل ارتكب السيئات، ثمّ تاب إلى الله تعالى وإن قبلت توبته. ويظهر اختصاص آخر أيضاً، وهو أنّهم لهم ما يشاءون، فلعلّ هذه أيضاً ميزة خاصّة وليس عامّاً لكلّ أهل الجنّة. وقد ورد هذا التعبير في موارد عديدة في شأن المتّقين ومن خشي الرحمن بالغيب. وغاية التنعم للإنسان أن يجد كلّ

ما يشاء.

وقوله: (عِندَ رَبِّهِم ) متعلّق بما تعلّق به (هم)، أي لهم عند ربّهم ما يشاءون. و معنى ذلك أنّه تعالى تعهّد لهم أن يهيّء لهم كلّ ما يشاءون، وهناك فرق بين أن تقول: لك ما تشاء وأن تقول: لك عندي ما تشاء. وقيل: هو خبر ثالث، فهم في روضات الجنّات ولهم ما يشاءون، وهم عند ربّهم، كما قال تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).(1)

(ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) إشارة إلى ما مرّ من الجزاء. و«الفضل» الزيادة. ويطلق على كلّ ما يمنح زيادة على مقدار الاستحقّاق. ولا شكّ في أنّ كلّ ما يعطيه الله تعالى أحداً فهو فضل؛ إذ لا يستحقّ أحد عليه شيئاً. ولكن توصيفه من قبل الله تعالى بكونه فضلاً كبيراً يدلّ على غاية العظمة.

(ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعود السياق هنا ليؤكّد على قيمة هذا الامتياز الذي منحه الله تعالى بفضله الكبير لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأشار إليه باسم الإشارة الخاصّ بالبعيد، إيذاناً بعظمته وعلوّ مكانه. وذكر أنّه بشارة من الله تعالى لعباده في الدنيا، فتكون البشارة بذاتها ثواباً

ص: 63


1- القمر (٥٤) ٥٥

معجَلاً. والتعبير عنهم بالعباد مضافاً إلى الضمير العائد إليه تعالى، يفي_د ن_وع_اً م_ن التشريف والاختصاص. وقوله: (الَّذِي يُبَشِّرُ الله)، أي الذي يبشّر به الله ليعود إلى الموصول. ولعلّ في تكرار التوصيف بالإيمان والعمل الصالح إشارة إلى ما مرّ من كون هذا الثواب ميزة لهم في قبال من دخل الجنّة بالتوبة فحسب.

(قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجراً إِلا الْمُوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، «المودّة» المحبّة. والحبّ أعم مورداً من الودّ، تقول: أحبّ الصلاة ولا تقول أودّها.

و«القربى» مصدر بمعنى القرب، ولكن يستعمل في القرابة في النسب فقط، فقربى الإنسان أقرباؤه في النسب بتقدير ذوي القربى والضمير في قوله: (عَلَيهِ) يعود إلى القرآن أو إلى تبليغ الرسالة. و«في» للظرفية المجازية، أي إظهار المودّة بشأن ذوي القربي.

والظاهر من ذكر الأجر أنّ المراد استثناء أجر واحد للرسالة يطلبها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأمر من الله تعالى، وهو التودد إلى قرباه. ولا شكّ في أنّ المراد ليس هو الحبّ في القلب، إذ لا أثر له لو صحّ الأمر به، بل المراد إعلان الحبّ والتودّد إليهم. وقد أكّد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على ذلك في أكثر من موطن وكرّره كثيراً حتّى نقلته الرواة متواتراً، على الرغم من كثرة الدواعي السياسية لإخفائه.

وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عيّنهم بقوله: «هم عليّ وفاطمة وأبناهما كما في «الكشّاف»(1) وغيره. والروايات في ذلك عن طرقنا كثيرة جدّاً، كما أنّ الروايات المطلقة في وجوب ولايتهم عن طرق القوم أيضاً متواترة قطعاً لا ينكرها إلا معاند ختم الله على قلبه.

ص: 64


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل :٤: ٢١٩ - ٢٢٠.

وفيما يلي نذكر بعض الأحاديث الخاصّة بهذه الآية تيّمناً:

روى البرقيّ في «المحاسن» بإسناده عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الرجل يحبّ الرجل ويبغض ولده، فأبى الله عزّ وجلّ إلا أن يجعل حبّنا مفترضاً أخذه من أخذه وتركه من تركه واجباً، فقال: (قُل لا أسألُكُم عَليه أجراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربى)(1)(2)

و عن سلام بن المستنير، قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (قُ_ل لا أسألُكُم عَلَيه أجراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)، فقال: «هي والله فريضة من الله على العباد لمحمد ال في أهل بيته».(3)

وعن حجّاج الخشّاب، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول لأبي جعفر الأحول: «ما يقول من عندكم في قول الله تبارك وتعالى: (قُل لا أسألُكُم عَلَيه أجراً إِلا المَوَدَّةَ في القُربَى؟ فقال: كان الحسن البصري يقول: في أقربائي من العرب، فقال أبو عبد الله علیه السلام:«لكنّي أقول لقريش الذين عندنا: هي لنا خاصّة، فيقولون: هي لنا ولكم عامّة، فأقول: خبّروني عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم إذا نزلت به شديدة من خصّ بها؟ أليس إيّانا خصّ بها، حين أراد أن يلا عن أهل نجران أخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام ،ويوم بدر قال لعليّ وحمزة وعبيدة بن الحارث؟! قال: فأبوا يقرّون لي أفلكم الحلو ولنا المرّ؟!».(4)

وعن عبد الله بن عجلان قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (قل

ص: 65


1- الأنعام (٦): 90
2- المحاسن ١ : ١٤٤
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر: ١٤٤ - ١٤٥

لا أسألُكُم عَلَيهِ أجراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربَى)؟ فقال: «هم الأئمة الذين لا يأكلون الصدقة ولا تحلّ لهم».(1)

وروى الكليني رحمه الله في «الكافي» بسنده عن زرارة، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر علیه السلام في قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربى)؟ قال: «هم

الأئمة علیهم السلام».(2)

وروى أيضاً بسنده عن إسماعيل بن عبد الخالق، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: «أتيت البصرة؟» فقال: نعم، قال: «كيف رأي_ت مسارعة الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال: والله إنّهم لقليل ولقد فعلوا وإنّ ذلك لقليل، فقال:«عليك بالأحداث، فإنّهم أسرع إلى كلّ خير»، ثمّ قال: «ما يقول أهل البصرة في هذه الآية ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى؟ قلت: جعلت فداك إنّهم يقولون: إنّها لأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبوا، إنّما نزلت فينا خاصّة، في أهل البيت، في عليّ وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء علیهم السلام».(3)

وروى الصدوق رحمه الله في «الأمالي» قصّة ورود سبايا أهل البيت إلى الشام إلى أن قال: «فأقيموا على درج المسجد حيث يقام السبايا، وفيهم عليّ بن الحسين علیهما السلام وهو يومئذ فتىّ شابّ، فأتاهم شيخ من أشياخ أهل الشام، فقال لهم: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وقطع قرن الفتنة فلم يأل عن شتمهم، فلمّا انقضى كلامه، قال له علي بن الحسين علیهما السلام: «أما قرأت كتاب الله عزّ وجل؟ قال: نعم. قال: «أما قرأت

ص: 66


1- المحاسن ١: ١٤٥
2- الكافي ٢: ٤١٣.
3- الكافي : ٩٣

هذه الآية (قُل لا أسألُكُم عَلَيهِ أجراً إلا المَوَدَّة في القُربَى)؟ قال: بلى، قال: «فنحن أولئك». ثمّ قال: «أما قرأت: (وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ؟ قال: بلى. قال: «فنحن ه_م». قال: «فهل قرأت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيرًا)؟ قال : بلى قال:«فنحن هم» فرفع الشامي يده إلى السماء، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أتوب إليك، ثلاث مرّات، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد، ومن قتلة أهل بيت ،محمّد، لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم.(1)

وروى الحاكم النيسابوري في «المستدرك» بسنده عن عمر بن عليّ، عن أبيه علي بن الحسين، قال: خطب الحسن بن عليّ الناس حين قتل عليّ علیه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأوّلون بعمل ولا يدركه الآخرون» .... ثمّ قال: «أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ وأنا ابن النبيّ وأنا ابن الوصيّ... وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم» فقال تبارك وتعالى لتنبيه صلی الله علیه و آله وسلم:(قُلْ لا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفُ حَسَنَةٌ نَزِدْ لَهُ فيها حُسْناً،) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».(2)

ورواه الهيثمي باختلاف عن أبي الطفيل، ثمّ قال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وأبو يعلى باختصار، والبزّار بنحوه... ورواه أحمد باختصار كثير. وإسناد أحمد وبعض طرق البزّار والطبراني في الكبير حسان.(3)

ص: 67


1- الأمالي (الصدوق): 230
2- مستدرك الحاكم ٣ :١٧٢ و ١١: ١١٤.
3- مجمع الزوائد ٩ :١٤٦

وروى الطبراني أيضاً بسنده عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس :قال: لمّا نزلت: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)، قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «عليّ وفاطمة وابناهما»رضي الله

عنهم.(1)

ثم إنّ القرآن الكريم ينقل عن الرسل - صلوات الله عليهم - أيضاً أنّهم خاطبوا أممهم بعدم المطالبة بأجر على الرسالة مطلقاً؛ قال تعالى حكاية عن مجموعة منهم: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)(2) وهذا هو المتوقّع منهم. وهو أمر طبيعي، فالذي يبلّغ عن الله تعالى لا يطلب أجراً إلا منه. ومن الواضح أنّ الرسل علیهم السلام حتّى من تمكّن منهم من تأسيس دولة وتبعهم الناس كانوا يعيشون عيشة الفقراء، ويبتعدون عن مظاهر البذخ والتجمّل، كما يفعله الملوك والرؤساء. وملك سليمان علیه السلام إنّما كان معجزته من الله تعالى وكانت معيشته

الشخصية معيشة الزهّاد.

والرسل ما كانوا يطلبون لأنفسهم من الناس شيئاً. ولكنّهم كانوا يطالبون ___ بطبيعة الحال ___ من الذين آمنوا بهم أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله. وبع_ض ذلك يجب أن يدفع إلى الرسول من حيث إنّه إمام الخلق ووليّ أمرهم، ليصرفه في المصالح العامّة. ولكنّ ذلك لا يعتبر أجراً، لأنّ الرسول لا ينتفع به لنفسه، بل يعود النفع فيه إلى الناس أنفسهم.

والله تعالی امر رسوله صلى الله عليه والله أيضاً بأن يعلن عدم مطالبته لأجر على الرسالة، قال

ص: 68


1- المعجم الكبير ١١ :٣٥١
2- الشعراء (26) 109 ، 127 ، ١٤٥، 1٦٤ ، 180

تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ)(1) ولم يقل له بصيغة النهي: «لا تسألهم أجراً»، بل أمره أن يخبرهم بصيغة النفي؛ لأنّه ما كان يطلب ذلك فعلاً،كما أخبر عنه صلی الله علیه و آله وسلم بقوله تعالى: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)(2) ولكنّه هنا طالب بأجر للرسالة، وهو المودّة في القربى، إلا أنّه أوضح في موضع آخر أنّ هذا الأجر يعود نفعه إليهم، وليس أجراً له، فهو نظير ما يأخذه من الأموال لينفقها في المصالح العامّة، قال تعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أجْرِيَ إِلا عَلَى الله)،(3) والوجه في رجوع النفع إلى الناس أنّ الله تعالى جعل ولا يتهم أساساً للوحدة ومانعاً من التفرّق، كما قالت الصدّيقة الطاهرة (عه) في خطبتها العظيمة بعد وفاة أبيها صلی الله علیه و آله وسلم: «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك... وطاعتنا نظاماً الا للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة».(4)

وذلك لأنّ الوحدة المطلوبة في مقابل التفرّق هي الوحدة في الاعتصام بحبل الله تعالى وإلا فالوحدة في سبيل آخر ليست مطلوبة، بل الواقع أنّ الناس أقرب إلى الوحدة والاتفاق لولا الدين والالتزام به. وقد قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(5) ويلاحظ أن دعوة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أحدثت الاختلاف في بادئ الأمر في المجتمع المكّي، ثمّ وحدتهم تحت راية الإسلام. ولذلك لم يأمر الله تعالى بالاتّحاد إلامع الاعتصام بحبله، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا

ص: 69


1- ص (٣٨): ٨٦
2- يوسف (١٢): ١٠٤.
3- سبأ (٣٤): ٤٧
4- الاحتجاج ١ :١٣٥
5- البقرة (2): 213

بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1) وفي رواياتنا أنّ ولا يتهم علیه السلام هي حبل الله المتين، ويدلّ عليه حديث الثقلين أيضاً.

ولعل المراد بقوله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)(2) هو الإشارة إلى أنّ هناك أجراً طلبه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم منهم، ولكنّه ليس الصالحه، بل هو سبيل إلى الله تعالى عرّفهم به، فمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً، فعليه أن يتمسّك به، وهو المودّة في القربى وإن كان الأقرب في معنى الآية أنّ الاستثناء منقطع، ومعناه: ولكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً، فهذا هو السبيل. وبتعبير آخر لا أريد منكم أجراً وإنّما أردت أن آتيكم بسبيل إلى ربِّكم لمن شاء أن يتّخذ سبيلاً اليه.

ومهما كان المعنى في هذه الآية وفي آية سورة سبأ، فإنّ المراد بالآية التي نفسّرها واضح، وهو أنّ الرسالة لها أجر وإن كان الأجر لصالح الأمّة أيضاً، وهو المودّة في القربى، أي قربي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ولعلّ التعبير بالأجر بنوع من المسامحة والتجوّز؛ لعدم صدق الأجر عرفاً على ما لا ينتفع به صاحب العمل منفعة مادية.

ولكنّ القوم أبوا إلا تأويل الآية وصرفها عن ظاهرها، وأصرّوا على إسناد ذلك إلى ابن عباس، لدفع الاتّهام عن أنفسهم، باعتبار أنّه من القربى. روى البخاري، عن ابن عبّاس أنّه سئل عن قوله: (إلا المُوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، فقال سعيد بن جبیر: «قربی آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم فقال ابن عباس: عجلت إنّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يكن

ص: 70


1- آل عمران (3): 103
2- الفرقان (٢٥): ٥٧

بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة».(1)

وقد فُسّرت الآية بناءاً على هذا الحديث بأنّ المعنى: إلا أن تكفّوا أذاكم مراعاة للقرابة، وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه، فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم. وبناءاً على هذا التفسير، فالخطاب للكفّار مع تقدير عدم قبولهم للرسالة. وهذا غير صحيح قطعاً، إذ لا معنى لطلب الأجر منهم على ذلك، فإنّ المفروض بناءاً على هذا أنّهم يعتبرون دعوى الرسالة جريمة يستحقّ عليها القتل، فهو يندّد بدينهم ودين آبائهم، ويسفّههم ويدعو إلى نبذ آلهتهم. فهل هذا موضع استحقاق الأجر حتّى يقول: إنّي لا أطلب عليه أجراً؟!

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الأنبياء كلّهم كانوا يخاطبون بذلك أممهم قبل أن يؤمن بهم أحد منهم، كما يظهر من خطاباتهم المحكية في سورة الشعراء.

والجواب: أنّهم إنّما كانوا يقولون ذلك على تقدير الإيمان، أي إنّي لا أطلب أجراً منكم على رسالتي لو آمنتم بي. ولذلك وقع كلّ ذلك عقيب قولهم: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(2)، فالمعنى أنّكم إن أطعتموني وآمنتم بي، فإنّي لا أطلب أجراً لنفسي. وأين هذا من مخاطبة المشركين الذين يعادون النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم بأنّي لا أطلب منكم أجراً، وإنّما أطلب أن لا تؤذوني من أجل القرابة ؟! فهذا كلام مضحك.

وربّما يُفسّر الكلام المنسوب إلى ابن عباس بأنّ المراد إلا أن تؤمنوا بي مودّة في القربى. وهذا أيضاً مهزلة أخرى، فالإيمان لا يكون على أساس المودّة والقرابة.

ص: 71


1- صحيح البخاري ٦ ٣٧، باب حم عسق.
2- الشعراء (2٦) 108 ، 110 ، 129 ، 131 ، ١٤٤، ١٥٠، ١٦٣ و ١٧٩.

وربّما يُفسّر بأنّ المراد لا أطلب أجراً إلا إذا دفعتم لي شيئاً لقرابتي منكم وهذا أفظع، فإنّه يطلب مالاً ولكن لا لأجر الرسالة، بل لقرابته منهم. حاشا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أن يطلب ذلك! فهو لم يطلب منهم قبل الرسالة أيضاً.

وقال بعضهم: إنّ المعنى أنّه لا يطلب منهم أجراً ، إنّما تدفعه المودّة للقربي _ وقد كانت له قرابة بكلّ بطن من بطون قريش _ ليحاول هدايتهم بم_ا مع_ه م_ن الهدى، ويحقّق الخير لهم، إرضاءاً لتلك المودّة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى. وهذا تنقيص من قدر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّه ما كان يدعوه شيء إلى الدعوة، وتحمّل هذه الأخطار والمشاقّ إلا المودّة في قرباه، وهم مشركون وأعداء ل_ه ولدينه وعقيدته. ثمّ إنّ هذا التفسير ينزل بهذه الدعوة إلى حضيض الديانة القوميّة الضيّقة، وكأنّه لم يبعث إلا إلى قريش حيث توجد له قرابة، مع أنّه صلی الله علیه و آله وسلم كان يدعو في مكّة كلّ من يلقاه.

وقيل في تفسير الآية الكريمة: إنّ المراد المودّة في أقربائكم. وهذا أغرب الوجوه، إذ لا معنى لاعتبار مودة الإنسان لأقربائه أجراً للرسالة التي هي تعب من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وربّما يقال: إنّ مودّة الإنسان لقرابته حيث كانت من الأعمال الصالحة، فلا يبعد أن تكون أجراً للرسالة من هذه الجهة.

والجواب: أنّ مودّة القرابة ليست دائماً من الأعمال الصالحة، فليس كلّ قريب يصلح للمودّة، خصوصاً إذا كان كافراً، والمؤمنون كانوا في ذلك العهد أقرباء للكفّار، مع أنّه لاخصوصية له من بين الأعمال الصالحة ليكون أجراً للرسالة.

ص: 72

وأغرب منه القول بأنّ المراد حبّ التقرّب إلى الله تعالى. مع أنّ القربى لا تستعمل إلا في النسب على ما في بعض كتب اللغة. والمودّة ليست مرادفة للحبّ، بل تشتمل على نحو من الحنان والرعاية. ثمّ ما معنى هذا الاستثناء؟ هل حبّ التقرّب أجر الرسالة أم أنّ الاستثناء منقطع، فالمعنى: ولكن أريد منكم أن تحبّوا التقرّب إلى الله؟ وما علاقة هذه الجملة بما قبل الاستثناء؟! ثمّ إنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يطلب منهم نفس التقرّب لا حبّه، مع أنّ المشركين أيضاً ما كان ينقصهم حبّ التقرّب، فكانوا يعتذرون عن عبادتهم للأصنام أنّهم ما يعبدونها إلا لتقرّبهم إلى الله زلفى. وعلى كلّ حال، فحمل هذا التعبير على هذا المعنى غريب جدّاً.

وبعضهم حاول تأويل القربي بحيث لا يختصّ بمن خصّهم بها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهم - كما مرّ- أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء وابناهما _ سلام الله عليهم أجمعين ... فقال بعضهم: إنّه كلّ آل عبد المطلب، أو كلّ بني هاشم، أو كلّ

قریش.

كلّ هذه المحاولات من أجل أن لا يعترفوا بفضل لأهل البيت علیهم السلام !!!

ولكنّ بعضهم اعتذر عن ذلك بأنّه لا يمكن حمل الآية على هذا المعنى _ وإن كان ظاهراً فيه _ لعدّة أمور:

الأوّل: أنّه ينافي مقام الرسالة، فإنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لا ينبغي أن يطلب أجراً على،رسالته لا لنفسه ولا لذويه.

والثاني: أنّه يوجب اتّهام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّه يقدّم أقاربه على عامّة الناس.

والثالث: أنّه ينافي قوله تعالى في سورة يوسف: (وَمَا تَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ

ص: 73

أجر)(1)حيث نفى الأجر بقول مطلق.

وقد تبيّن الجواب عن كلّ ذلك ممّا ذكرناه، فإنّ هذا الأجر ليس أجراً عائداً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بل هو لصالح المجتمع. ولذلك لو قيل: إنّ الاستثناء منقطع لم يكن بعيداً. وأمّا تخصيص ذوي قربي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بخصائص ماديّة، فهو أمر حاصل في الدين، وبأمر من ربّ العالمين، شاءت الأهواء أم أبت وناهيك في ذلك آية الخمس، وتحريم الزكاة عليهم، وتعليل ذلك من قبل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّها من أوساخ أيدي الناس.

هذا مضافاً إلى أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يأل جهداً في إعلان وجوب المودّة، وحرمة الإيذاء بالنسبة لأمير المؤمنين وفاطمة والحسنين علیهم السلام، ولزوم احترام ذرِّيته صلی الله علیه و آله وسلم بصورة عامة.

وأمّا تقوّل الناس فهو أمر متوقّع. وقد قال الشانئون ما قالوا في هذا الشأن، وفي أحكام النساء الخاصّة بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حتّى إنّ عائشة قالت له صلی الله علیه و آله وسلم بعد نزول تلك الآيات: «ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك» والحديث مروي حتّى في الصحيحين.(2)

وفي بعض الروايات أنّه صلی الله علیه و آله وسلم أجابها بقوله: «إنّك إن أطعت الله سارع في هواك».(3)

ولكنّ الله تعالى أعلن الأحكام المذكورة بالرغم من كلّ تلك الأقاويل، وذلك بعد بسط الإسلام سيطرته على جزيرة العرب وسيأتي في الآية التالية الجواب عن التقوّل في هذا المورد بالذات.

ص: 74


1- يوسف (12): ١٠٤ .
2- صحيح البخاري ٦ :٢٤
3- بحار الأنوار :22 181؛ تفسير نور الثقلين ٤ :٢٩٣

ولم أجد في التفاسير وجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها، فإنّ فيه خفاءاً، خصوصاً على ما ذكره القوم من المعنى، فإنّ ما قبلها وما بعدها مرتبط بالمؤمنين، فإن كانت هذه الجملة خطاباً للمشركين كان توسيطها بين هذه الجمل غير مناسب.

ولعلّ وجه ارتباطها - بناءاً على المعنى الظاهر الذي ذكرناه وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا - أنّه حيث بيّن مقام المؤمنين الذين عملوا الصالحات وأجرهم العظيم ، كان المتوقّع أن يكون له صلی الله علیه و آله وسلم أجراً في مقابل هذه البشارة العظيمة، فعقّبها فوراً بنفي الأجر ، إلا أنّه أراد حتّهم على العمل الصالح، فاستثنى المودّة في القربى الذي هو من أفضل الأعمال، بل هو أساس لبقاء الدين.

ولكنّه أيضاً ليس وجهاً تستريح إليه النفس، فلعلّ هذا أيضاً من الموارد التي جعلت الجملة في غير موضعها نظير قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَعْتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا)(1) وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(2) وقد ذكرنا الوجه في ذلك في تفسير سورة الأحزاب. ويلاحظ أنّ ما يوجب الإخفاء مشترك بين الموارد الثلاثة.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةٌ نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا)، «الاقتراف»: الاكتساب. وأصله من القرف، أي تقشير الشجر من لحائه. و«القرف» بكسر القاف قشر كلّ شيء. وزيادة الحسنة حسناً من الله تعالى تنميتها، أو إظهارها بوجه أكمل وأجمل أو مضاعفة ثوابها، كما ورد في آيات كثيرة. والمراد بالحسنة كلّ عمل يصلح

ص: 75


1- المائدة (٥): ٣
2- الأحزاب (33): 33

للتقرّب به إلى الله تعالى واقتران الجملة بما قبلها يوحي بأنّ المراد التأكيد على مودّة أهل البيت علیهم السلام باعتبارها من أبرز مصاديق الحسنة.

(إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ ) تعليل لما سبق، فلكونه تعالى غفوراً يقبل العمل الناقص، ويكمله ويزيد فيه حتّى يكون صالحاً لتكامل الإنسان وإدراجه في الصالحين. والسرّ في ذلك أنّ عمل الناس مهما كان لا يخلو عن نقص في الأجزاء أو الشروط أو النية، أو ما يخطر على البال من عجب ورياء، وإن لم يكن بحدّ يخرجه عن التعبّد لله تعالى، ولولا غفرانه وقبوله للأعمال الناقصة لم ينج أحد إلا المعصومين علیهم السلام.

ولابدّ للمؤمن من أعمال صالحة تهيّئ له الأرضية الصالحة، ليتقرّب إلى الله تعالى ويحظى برضوانه. ولذلك ورد في الروايات أنّ الله تعالى أمر بالنوافل، وجعلها ضعف الفرائض، ليكمل بها ما ينقص من الفرائض، وهو لا يقبل من الصلاة _ كما في الحديث - إلا ما كان العبد فيه مقبلاً عليه تعالى. وبجبر النقص بالنوافل ربّما يحصل للمؤمن ما يجعله لائقاً للتقرّب إلى الله تعالى، وهو الهدف والغاية النهائية لخلق الإنسان.

ولكونه تعالى شكوراً يظهر أعمال عباده ويزيّنها، فإنّ الشكر هو إظهار ما يتّصف به المشكور من صفة حميدة، كما أنّ الكفر هو سترها وإنكارها.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا فَإِنْ يَشَا الله يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ)، «أم» منقطعة، أي بل أيقولون ،افترى ويمكن أن يكون منشأ هذا الاتهام هو ما ورد في الآية السابقة من الأمر بالمودّة في القربى والظاهر أنّ ضمير الفاعل يعود إلى مشركي مكّة.

ولكن ورد في بعض الروايات أنّ بعض الأنصار عرضوا على الرسول صلى الله عليه و اله و سلم

ص: 76

مالاً ليستعين به على حوائجه، فنزلت الآية الأولى، ثمّ إنّ بعضهم قال: نعرض عليه المال فيطلب منّا أن ندافع عن قرابات_ه بع_ده!!! فنزلت الآية الثانية.(1) ولكن مقتضى ذلك أن تكون هذه الآيات مدنية، كما قيل بذلك. وهو بعيد.

ومهما كان، فالجواب من الله تعالى أنّه إن شاء الله يختم عل_ى قلب_ك، ف_لا يمكنك أن تنطق بهذا الكلام وبهذه الآيات والسور ، فحيث لم يختم يتبيّن منه أنّه وحيّ من الله تعالى وعليه فمعنى الختم على القلب ،انغلاقه، فلا ينفتح للمعارف والعلوم ولا يتسنى له الإتيان بهذا البيان المعجز. وأساس هذا الاستدلال أنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره، فإذا ادّعى أحد النبوّة لا يمكنه أن يظهر معجزاً إن لم يكن محقّاً، وإذا نطق بكتاب وادّعى أنّه من الله تعالى، تبيّن عليه الوضع إن كان كاذباً.

وليس المراد الاستدلال على كون الرسالة حقّاً بمجرّد أنّ الله تعالى لم يعاقبه، وأنّه لو كان مفترياً لعاقبه، فإنّ هذا الاستدلال سقيم ويشبه استدلال المشركين، كما قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ اشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا المُتَرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)(2) وهناك كثير من المدّعين للنبوّة والإمامة لا ينزل عليهم العذاب من السماء، فالمراد بالاستدلال أنّه لو كان مفترياً ما أنزل الله عليه هذا البيان المعجز.

وللمفسّرين أقوال أخر أقواها ما قاله الزمخشري، وهو أنّ المعنى: إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتّى تفتري عليه الكذب، فإنّه لا يجترئ الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله، وأنّه في البعد مثل الشرك بالله، والدخول في جملة المختوم

ص: 77


1- مجمع البيان ٩ - ٤٤:١٠
2- الأنعام (٨٤): ١٤٨.

على قلوبهم. ومثال هذا أن يخوّن بعض الأمناء، فيقول: لعلّ الله خذلني، لعلّ الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب، وإنّما يريد استبعاد أن يخوّن مثله، والتنبيه على أنّه ركب من تخوينه أمر عظيم.(1)

وما ذكره لا بأس به. ولكن ما مرّ ذكره أظهر.

(وَيَمْحُ الله الْبَاطِلَ وَيُحِقُ الحَقِّ بِكَلِمَاتِهِ). الجملة مستأنفة و (يَمْحُ) مرفوع اُسقط عنه الواو تبعاً للتلفّظ تخفيفاً، كما في قوله تعالى: (سَنَدْعُ الزَّبانِيَة)(2) وغيره. والظاهر أنّ الجارّ والمجرور متعلّق بالمحو والإحقاق ،معاً، أي أنّه تعالى بكلماته يمحي الباطل ويحقّ الحقّ والحمراد بالكلمات - على الظاهر- الوحي المنزل. ومعنى محو الباطل بالقرآن بيان بطلانه ويحصل ذلك بإحقاق الحقّ، أي إثباته، فالقرآن حيث يحمل معه الحقّ يبطل الباطل. والإتيان بفعل المضارع يدّل على الاستمرار، وأنّ ذلك سنة الله الجارية، فيمكن أن يكون المراد بهذه الجملة التأكيد على عدم إمكان الافتراء، وأنّه كيف يمكن أن تفتري على الله تعالى وهو الباطل ويحقّ الحق؟! والافتراء ،باطل فلا يبقى بل يمحوه الله تعالى بمعنى أنّه تعالى ينزّل ما يظهر به بطلانه. ويمكن أن يكون المراد بها وعد النبی صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ الله تعالى سيبطل أباطيلهم، ويحقّ ما أتيت به أي يثبته فلا تهتمّ باتّهاماتهم وأقاويلهم.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور) أي ما في الصدور من نوايا وأسرار، فلعلّ المراد أنّ_ه يمحي الباطل حتّى لو كان في السرّ، فلا يخفى عليه ما في قلب النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم و لا فوته شيء، فيكون تأكيداً على أنّه لا يبقي من الباطل شيئاً. وأنّ ما يقوله

ص: 78


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٢١ - ٢٢٢.
2- العلق .(٩٦): .18

النبي صلی الله علیه و آله وسلم هو الحق الناصع؛ إذ لو كان باطلاً مفترى لمحقه الله تعالى.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ). حيث تقدّم في الآيات السابقة الإنذار بالعذاب الشديد ناسب تلطيف الجِوّ بالترغيب إلى التوبة، والتنبيه على أنّ بابها مفتوح دائماً ولجميع الناس.

وفي (الكشاف» أنّ القبول إذا تعدّى ب_ «عن» كان معناه الإبانة، فكأنّه تعالى أخذ التوبة من عباده وتسلّمها.(1) وهذا تأكيد على قبول التوبة، فكأنّها هدية أهدى إليه تعالى وهو يتقبّلها من عباده المذنبين وهذا غاية اللطف والعناية.

و«التوبة» في الأصل الرجوع والمراد بها في مصطلح القرآن الرجوع إلى الله ،تعالى، سواءكان من معصية لأوامره تعالى ونواهيه، أو كان من توجّه إلى غيره تعالى، وانشغال باُمور الدنيا وإن كانت مباحة. ولذلك يوصف الرسل صلی الله علیه و آله وسلم بالتوّابين وهو مبالغة في الرجوع إلى الله تعالى مع أنّهم معصومون، وإنّما وصفوا بذلك لكثرة رجوعهم إليه تعالى في كلّ لحظة يغفلون عنه وعن ذكره ويشتغلون بغيره وإن كان ذلك مباحاً.

والتوبة عن الذنب تتحقّق بالندم على الفعل مع العزم على الترك. ولا تتوقّف على الاستغفار، وإن كانت تكمل به، بل لا يفيد الاستغفار في التوبة إن لم يتحقّق الندم. ويشترط في قبولها أن يصلح ما أفسده، فإن كان عليه قضاء أو كفارة أو دية أو قصاص أو وجوب استرضاء وتحلّل أو ضمان لمال أو وجوب إعادة لما غصب ونحو ذلك من التبعات وجب العمل بها، وإلا لم تقبّل التوبة.

ثمّ إنّ قبول التوبة هنا وإن كان مطلقاً، إلا أنّ له شروطاً ربّما لا نعلم كلّها،

ص: 79


1- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤ :٢٢٢

فمن تلك الشروط ما صرّح به في الكتاب العزيز؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنَا هُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).(1)

والمراد بالجهالة ليس هو الجهل بالحكم، بل السفاهة وعدم التعقّل. ويقابله العناد والكبر ونحوهما، كما كان يصدر من المشركين والمنافقين في عهد نزول الآية، وكما هو الحال في كثير من المتعصّبين الذين يرفضون الانصياع للحقّ تعصّباً لمذهب الآباء والأجداد، فإنّ هؤلاء يختم على قلوبهم فلا يتوبون. والظاهر أنّ المراد من التوبة من قريب ما يقابل ما ورد في الآية التالية من تأخير التوبة إلى حضور الموت. وهذا شرط التوبة الذي تعهد الله تعالى بقبولها، فلا يمتنع أن حين يقبل توبة أحد بغير هذه الشروط لسبب آخر من شفاعة ونحوها.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)(2) وهذه الآية تدلّ على أنّ التوبة المقبولة هي التوبة النصوح، أي الخالص. ولعلّ المراد هو صدق النيّة، فإنّ من الناس من يتوب إلى الله تعالى وهو غير عازم على ترك المعصية، فهو غير صادق توبته بل ربّما تكون توبته معصية، كما لو كان عازماً على الإتيان بعد ذلك، فقد ورد في الحديث أنّ هذا يعد استهزاءاً، وهو ذنب ربّما يكون أقبح من ذنبه الذي يتوب منه.

روى الكليني رحمه الله بسنده عن جابر، عن أبي جعفر علیه السلام قال: سمعته يقول: «التائب

ص: 80


1- النساء (2): 17 - 18
2- التحريم (٦٦): ٨

من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ».(1)

وروى عن ياسر ، عن الرضا علیه السلام قال: «مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه».(2)

وروى الصدوق رحمه الله فى «الخصال» حديثاً طويلاً فيه وصايا من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لأمير المؤمنين علیه السلام ومنها: «ولا تصر على الذنوب مع الاستغفار، فتكون كالمستهزئ بالله وآياته ورسله».(3)

ومهما كان، فليس للإنسان أن يتحتّم على الله تعالى بقبول توبته، وإنّما يرجو بذلك القبول، فيبقى بين الخوف والرجاء، حتّى في التوبة النصوح، أي الخالص،كما هو ظاهر قوله تعالى في الآية المذكورة: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، فليس هذا أمراً محتوماً.

(وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَاتِ) . يبدو من العطف أنّ العفو عن السيّئات مغاير لقبول التوبة، فلا يتوقّف عليها، وربّما يعفو الله تعالى عنها بدون التوبة أيضاً، كما ورد في قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(4)، وهذا العفو ليس لكلّ أحد يجتنب الكبائر، إذ قد يكون اجتنابه خوفاً من الفضيحة أو الجزاء الدنيوي أو لأي سبب آخر، بل هو جزاء لمن يجتنب الكبائر تورّعاً وتقرّباً إلى الله تعالى، وهو بنفسه من أعظم القربات، بل ربّما يكون أكبر وأعظم من كثير من العبادات. وبقرينة المقابلة يعلم أنّ

ص: 81


1- الكافي ٢: ١٠/٤٣٥
2- الكافي ٢ : ٣/٥٠٤
3- الخصال ٥٤٣
4- النساء (٤): ٣١.

المراد بالسيّئات هنا ما لا يعتبر من كبائر المعاصي.

وممّا يدلّ على أن الله تعالى قد يعفو عن السيّئة من دون توبة قوله تعالى: (إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ)(1) ولا شكّ في أنّ المراد المغفرة بدون التوبة، إذ التوبة توجب الغفران أو تقتضيه على الأقلّ حتّى عن الشركّ أيضاً، فالسبب هنا أمر آخر، فقد يكون عملاً صالحاً أو شفاعة مع عمل يسير.

(وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، أي لا يتوهم أحد منكم أنّ ما يفعله يخفى على الله تعالى، أو أنّ خلوص التوبة يخفى عليه، فهو يعلم بما تفعلون وبحدوده وبم_ا يصاحبه من نيّة.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) عطف على الجملة السابقة. فقوله: (يَسْتَجِيبُ) عطف على (يَقبَلُ)، أي وهو الذي يستجيب الذين آمنوا «والاستجابة» تتعدّى بنفسها كما هنا، وتتعدّى باللام كقوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ).(2) وقيل: (الَّذِينَ آمَنُوا) فاعل (يَسْتَجِيبُ)، ولكنّه لا يناسب السياق.

و«يستجيب» بمعنى يجيب، والمعنى أنّه تعالى يجيب دعاء الذين آمنوا ويلبّي دعوتهم، فهذا هو بنفسه غاية المطلوب، ولا شيء أغلى للمؤمن من أن يلبّي الله دعوته ويسمع له، ولكنّه تعالى لا يكتفي بذلك، بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من نعمه في الدنيا والآخرة.

(وَالْكَافِرُونَ هُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) ويكفيهم عذاباً أنّهم ابتعدوا عن ربّهم، فلم يشملهم بعنايته الخاصّة التي يستجيب بها للمؤمنين ويزيدهم من فضله.

ص: 82


1- النساء (٤): ٤٨ و ١١٦.
2- آل عمران (3): 195

سورة الشورى (27 - 31)

* وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنزِلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27) وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَتَطُوا وَيَشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ ءَايَتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِي وَلَا نَصِيرٍ(31)

(وَلَوْ بَسَط الله الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). شروع في ذكر آيات الله تعالى الدالّة على قدرته اللامتناهية وحكمته وتدبيره للكون. و«الرزق» العطاء، والمراد به هنا ما يحتاجه الإنسان في معيشته في الحياة الدنيا . و«بسطه) توسعته. و«البغي» هو الطغيان وطلب الإنسان ما ليس ل_ه والاعتداء على الآخرين.

وقوله : (يُنَزِّلُ بِقَدَر)، أي بتقدير ومحاسبة. ومعنى ذلك أنّ كلّ إنسان يحصل على نتيجة عمله حسب قانون الطبيعة والسنّة الإلهية. والتعبير بالتنزيل باعتبار أنّ كلّ حادث إنّما يتحقّق بإذنه تعالى، وليس هناك تنزيل من علوّ، كما هو واضح.

والتعليق بالمشيئة ممّا لا بدّ منه في كلّ أمر يستند إلى عوامل طبيعية أو غيبية لئلا يتوهّم أنّ الاُمور تجري في الكون حسب نظام الطبيعة أو ماوراءها من دون تدبير، بل كلّ حركة وسكون طبيعي أو غير طبيعي مستند إلى إرادته تعالى وتدبيره، فالله ليس صانعاً للكون، كما يصنع الإنسان مصنوعاته، فتبقى وتستمرّ

ص: 83

على حركته حتّى بعد فنائه، لأنّ الإنسان لا يصنع شيئاً من عدم، وإنّما يجمع بين عاملين أو أكثر في الطبيعة فينتج من الجمع شيء آخر، والله تعالى خلق الكون من لا شيء، بل بإرادته فقط، فكلّ أجزاء الكون منتسبة في كينونتها _ لا في حدوثها فحسب - إلى إرادته تعالى ومتعلّقة بها، لا كيان لها نهائياً من دون إرادته

تعالى.

والجملة الأخيرة تعليل لما سبق، وتحديد للقدر الذي على أساسه ينزل الرزق، فهو يتحدّد بمقتضى عوامل طبيعية وغيبية لا يعلمها ولا يعلم مقتضياتها إلا الله تعالى، وهو خبير بشؤون عباده وما يصلحها ويفسدها، وبصير بحاجاتهم وحالاتهم. و«الخبير» يستعمل عادة في العلم بالأمور الدقيقة، و«البصير» في

الأمور المحسوسة.

وفي المراد من الآية احتمالان:

الأوّل: أنّ الله تعالى لم يبسط أسباب الرزق في الأرض، بل جعلها محدودة بمقتضى قانون الطبيعة. ولو غيّر قانون الطبيعة وبسط أسباب الرزق كلّ البسط بحيث ينال الإنسان كلّ مبتغاه في الحياة الدنيا لبغوا وطغوا ولم يعبدوا الله تعالى، فمن حكمته، بل ومن رحمته أيضاً لم ينزل الرزق على الأرض إلا بقدر يناسب الحياة الدنيا، ويتمكّن الإنسان من الاستمرار في الحياة، من دون أن يصيبه الطغيان، ووعده بالرزق التامّ في الجنّة إن اتّبع هداياته.

الثاني: أنّه تعالى لو بسط الرزق لأيّ إنسان ضمن قانون الطبيعة، لبغى في الأرض وطغى، كما قال تعالى:(كَلا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(1)، فهذا

ص: 84


1- العلق (٩٦) : ٦-٧

قانون عام والله تعالى يلطف بعباده، فلا يبسط أسباب الرزق لهم لئلا يصيبهم الطغيان والبغي.

ولكن هناك من البشر أناس بسط الله لهم الرزق، وهم فعلاً يطغون ويعتدون إلا القليل منهم والسبب في ذلك أنّ الله تعالى أراد استدراجهم من حيث لا يعلمون أو أراد امتحانهم وابتلاءهم، أو أراد أن يعذّبهم في الدنيا بالمال وإن يستحقّوا بطغيانهم أشدّ العذاب في الآخرة، كما قال تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أولادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبْهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)(1). وقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهَا نُمْلِ هُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا تُعيل همْ لِيَزْدَادُوا إِنَّمَا وَهُمْ نُمْلِي عَذَابٌ مُهِينٌ).(2)

والاحتمال الأوّل أظهر .

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْتَهُ) التعبير بقوله: (وَهُوَ الَّذِي) يدلّ على الحصر وأنّ هذا من رحمته تعالى ومن الرزق الذي ينزّله بقدر، كما في الآية السابقة والغرض منه التركيز على الفاعل وتنبيه المشركين على خطائهم حيث كانوا يسندون المطر إلى الكواكب ويقولون: «مطرنا بنوء كذا..»، بل تنبيه كلّ من يسند الأمور الطبيعية إلى عواملها، من دون أن يذكر الله، مع أنّه تعالى هو المؤثّر في الكون وحده، كما بيّناه آنفاً.

و«الغيث»: المطر. وقيل: يختصّ بما إذا كان نافعاً؛ لأنّه مأخوذ من الإغاثة، فلا ينطبق على المطر الذي يضرّ بالزرع أو بسائر شؤون الحياة، وكذا ما لا يضرّ منه

ص: 85


1- التوبة (٩): ٥٥
2- آل عمران (3): 178

ولا ينفع. وقيل: يختصّ بما إذا كان بعد الجدب، فإنّ الناس يستغيثون ب_ه تعالى فيغيثهم به.

و«القنوط»: اليأس، والمراد به هنا اليأس الحاصل من تتابع سنين الجدب. ولعلّ المراد بنشر الرحمة نفس المطر حيث ينتشر في بقاع مختلفة أو ما يحصل من النفع بعد سقوط المطر من وفور الماء للسقي والزرع وتلطيف الجوّ وغير ذلك.

(وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)، أي هو الذي يتولّى شؤونهم، وهو محمود ف_ي ك_لّ م_ا يفعل في تولّي شؤونهم، حتّى لو كان بحسب الظاهر موجباً لليأس والقنوط كتأخير الغيث، لأنّه لا يفعل ذلك إلا لحكمة. ومن هنا يتبيّن أنّ الوصفين معاً يعتبران وصفاً واحداً في هذا المجال.

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ). في هذه الجملة احتمالان:

الاحتمال الأوّل: ما فهمه المفسّرون من أنّ المراد كون السماوات والمجرّات بما فيها من النجوم والكواكب والمذنّبات على كثرتها الهائلة وما يحكمها من النظام الدقيق وما بينها من البعد الشاسع، وارتباط بعضها ببعض وعدم تصادمها، وهي تسبح في هذا الفضاء العظيم من آيات الله تعالى، وكذلك الأرض بما فيها من نعم ينتفع بها الإنسان، ومنها اختلاف الليل والنهار والفصول، وبما فيها من الجبال والبحار والأنهار والغابات والبراري وما تشتمل عليه من العجائب من آياته تعالى، فحسن التدبير ووحدة النظام الحاكم على كلّ أجزاء الكون من المجرّات العظيمة إلى جزئيات المادة وذرّاتها دليل واضح على تحكّم الإرادة الإلهية، وأنّ كلّ شيء تحت قدرته وسلطانه تعالى.

الاحتمال الثاني: - ولعلّه الأقوى - أنّ المراد أصل تكوين السماوات والأرض و ابتداعهما من العدم، لا إيجاد الجزئيات التي تشتملان عليها، فهناك فرق في

ص: 86

التعبير عن الآيات بذكر أعيانها، كقوله تعالى: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا)، وبين هذا التعبير، فلعلّ المراد أنّ نفس الخلق وهو الإحداث من العدم من آياته تعالى، بل ه_و م_ن أكبر الآيات، كما قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)(1) والمراد ابتداع الكون وخلقه من العدم، حيث لم يخلق الكون من شيء وكلّ ما يفرض مادة أوّلية له ينتقل الكلام إليه ولا بدّ من الوصول إلى أمر لم يسبق له وجود ولم يوجد إلا بمحض إرادته تعالى كما قال: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّها يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(2) وهو معنى الفطر أيضاً، كما مرّ في قوله تعالى:

(فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) الآية ١١ من هذه السورة.

وبناءاً على ذلك، فيمكن أن يكون المراد بالسماوات والأرض هنا الكون المادي فحسب، كما يمكن أن يكون المراد الكون بكامله، أي ما سوى الله تعالى فيشمل ماوراء الطبيعة وإن لم يشعر به الإنسان، فإنّ المفروض أنّ الآية خلق الكون إجمالاً لا نفس الجزئيات، فيمكن أن يكون المراد خلق ما سوى الله، ويمكن إرادة خلق عالم الطبيعة فحسب.

وهذه الآيات ونظائرها تدلّ على أنّ العالم حادث وأنّ الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، كما ينسب إلى الحديث، وقد قال أمير المؤمنين علیه السلام : «وَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لا شَيْءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلا وَقْتٍ وَلا مَكَانٍ وَلا حِينٍ وَلا زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الأَجَالُ وَالأوْقَاتُ وَزَالَتِ السِّنُونَ وَالسَّاعَاتُ فَلا شَيْء إِلا الله الواحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَميع الأمور».(3) والمراد أنّ

ص: 87


1- غافر (٤٠): ٥٧
2- البقرة (2): 117
3- نهج البلاغة، الخطبة: ١٨٦.

الأوقات والسنين والساعات والمكان والزمان تتحقّق نتيجة لتحقّق الطبيعة؛ فقبل تكوّنها وبعد فنائها لا يوجد زمان ولا مكان.

وروى الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال سمعته يقول: «كان الله عزّ وجلّ ولا شيء غيره ولم يزل عالماً بما يكون فعلمه به قبل کونه کعلمه به بعد کونه». (1)

وروى الصدوق في مكاتبة لعبد الرحيم القصير عن الإمام الصادق علیه السلام حيث قال في الجواب: «كان الله عزّ وجلّ ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول». (2)

وروى الكليني والصدوق عن أبي الحسن الرضا علیه السلام أنّه قال: «لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقائه، وبطل قول من زعم أنّه كان قبله أو كان معه شيء، وذلك أنّه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقاً له؛ لأنّه لم يزل معه، فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه». (3)

وهناك رأي في الفلسفة الإلهية يقول بأنّ العالم قديم، وذلك لأنّ حاجة العالم إلى العلة بسبب إمكانه لا حدوثه، وقال بعضهم في إثبات قدم العالم عن طريق العقل: «إنّ قدرته تعالى هي مبدئيته للإيجاد، وعلّيته لما سواه، وهي عين الذات المتعالية، ولازم ذلك دوام الفيض واستمرار الرحمة وعدم انقطاع العطية، ولا يلزم من ذلك دوام عالم الطبيعة».(4)

وهذا _ مع أنّه مردود بما مرّ من الآيات والروايات وغيرها وهي كثيرة __ غير

ص: 88


1- الكافي ١: ١٠٧
2- التوحيد: 227
3- الكافي :1: 121؛ التوحيد .188. والغريب أنّ الكليني رواه مرسلاً ورواه الصدوق عنه مسنداً.
4- آخر فصل من نهاية الحكمة .

صحيح في نفسه؛ أمّا استمرار الرحمة وعدم انقطاع العطية فهما من صفات الفعل وينتزعان من عنايته تعالى بما خلق ولا رحمة ولا عطية قبل الخلق ليستدلّ بهما على لزوم الخلق، وأمّا دوام الفيض فلا أثر له في الآثار. وما اشتهر من توصيفه تعالى بالفيّاض لا أساس له ولا يصحّ توصيفه تعالى ب_ه ___ بناءاً على توقيفية الأسماء والصفات - إذ لم يرد في الكتاب والسنّة، مع أنّ معناه في أصل اللغة أيضاً لا يناسب مقام الخالق المتعال ؛ لأنّه بمعنى الإناء الذي يمتلئ فيفيض ويجري منه الماء، وهذا التعبير يوهم أنّ الوجود يسري منه تعالى إلى الخلق بهذه الطريقة، وهذا باطل لا يقول به مؤمن، لأنّه تعالى خالق مختار مريد، ولا يتولّد منه شيء : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)(1)وقد استعمل هذا اللفظ كثير من الأعلام غفل_ة ع_ن معناه الأصلي وأرادوا به كثرة نعمه تعالى، فإنّ الفيضان يستعمل بمعنى الكثرة مجازاً حتّى أنّ بعضهم صرّح بأنّه من أسمائه تعالى وهو خطأ فادح.

(وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ ) ، «الدابة» من الدَبّ بمعنى الحركة الخفيفة، قال في «العين)»: «دَبّ القوم يدبّون دبيباً إلى العدوّ، أي مشوا على هيئتهم ولم يسرعوا ثمّ قال: «وكلّ شيء مما خلق الله يسمّى دابة، والاسم العامّ الدابة لما يركب» ولعلّه يقصد بقوله: «كل شيء مما خلق الله»، أي ممّا يتحرّك. ولذلك يصحّ إطلاق الدابة على كلّ حيوان وعلى الإنسان أيضاً. والتأمّل في الحياة التي تدبّ في الأحياء بأمر إلهي يكشف عن عمق الحكمة والتدبير الحاكمين على الخلق. والحياة من أسرار الكون التي لم تكتشف حتّى الآن.

والكلام هنا في أنّ الضمير في قوله تعالى: (فِيهمَا) يعود إلى السماوات

ص: 89


1- الإخلاص (112): 3

والأرض، و«البثّ»: النشر، فما هو المراد بالدوابّ المنتشرة في السماوات؟

قيل: المراد بها الطير، فهي تدبّ على الأرض وتطير في السماء، كما قال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ).(1) وهو بعيد؛ لأنّ المراد بالسماوات في هذه الآية إمّا الأجرام الفلكية أو العوالم الغيبية، ويبع_د ج_دّاً إرادة ما يشمل الغلاف الجويّ المحيط بالأرض وإن صحّ التعبير عنه بالسماء مفرداً.

وقيل: المراد بثّ الدوابّ في مجموع السماوات والأرض وإن كان البثّ في الواقع منحصراً في أحدهما وقالوا: إنّ ذلك نظير قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُما اللُّؤْلُؤُ وَالمُرْجَانُ)(2)، فإنّ الضمير يعود إلى البحرين الحلو والمالح، مع أنّ اللؤلؤ والمرجان في المالح فقط. ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)(3) فإنّ الضمير يعود إلى السماوات مع أنّ القمر في واحدة منها.

ولكنّ الظاهر أنّ هناك فرقاً بين الموردين فالقول بأنّ القمر في السماوات إنّما يصحّ باعتبار أنّه في مجموعة السماوات، كما تقول: «زيد في البلد وهو في دار منه، وأمّا في البحرين فإنّه لا موجب لضمّ ما لا يستخرج منه اللؤلؤ إلى ما يستخرج منه وليست هنا مجموعة يسمّى البحران، بل هما أمران مختلفان، ومورد الكلام أيضاً من هذا القبيل، فالضمير في قوله: (فيهِمَا)) لا يعود إلى مجموعة مركبة من السماوات والأرض ، كما في قوله تعالى: (فِيهِنَّ). وسيأتي الكلام حول وجود اللؤلؤ والمرجان في المياه العذبة في تفسير سورة الرحمن إن شاء الله.

ص: 90


1- النحل (١٦): 79
2- الرحمن (٥٥): ٢٢
3- نوح (٧١): ١٦

وقيل: إنّ العرب إذا ذكروا أمرين وتعلّق شيء بأحدهما نسبوه إليهم_ا وم_ن ذلك قوله تعالى: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي)(1)؛ فإنّ الرسل كلّهم من البشر.

ولم تثبت نسبة ما ذكر إلى العرب ولو صحّت، فالظاهر أنّه نوع من التسامح، وفي الآية المذكورة توجيه آخر لا يتوقّف على ما ذكر، وه_و ش_م_ول الرسل لكلّ من يأتي بأخبار رسل السماء وإن لم يكن هو بنفسه مرسلاً من قبل الله تعالى. ومن هذا القبيل من ورد ذكرهم في قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنَّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ

مُنْذِرِينَ).(2)

وقيل: إنّ المراد بها الملائكة. وردّه العلامة الطباطبائي رحمه الله(3) وغيره بعدم تعارف إطلاق الدابّة عليهم. وهو كذلك في التعبير المتعارف إلا أنّ القرآن لا يحمل على ذلك، فلو صحّ التعبير حسب اللغة، فلا مانع من حمله على هذا المعنى. ويبدو من عبارة «العين» التي نقلناها صدق الدابة على كلّ ما خلق الله تعالى ممّا يتحرّك، بل يعبّر في اللغة عن كلّ ما يسري سرياناً غير محسوس بالدبّ، فيق_ال - مثلاً - دبّ الخوف في نفسي ودبّ السقم في الجسم، فلا مانع من التعبير عن حركة الملائكة بالدبّ. ولعلّ إطلاق الحركة أيضاً على نشاطهم غير مطابق للواقع بدقّة إلا أنّه تعبير أرضي عن أرضي عن ذلك النشاط السماوي المجهول. ويمكن أن تكون في السماوات كواكب يعيش عليها أحياء والدابّة تصدق

ص: 91


1- الأنعام (٦):130
2- الأحقاف (٤٦): ٢٩
3- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 58 .

على كلّ متحرّك حيّ وإن كان غاية في الصغر. وهذا ما لم يستبعده العلم الحديث. والله العالم.

وقد يقال بأنّه لا يمكن تفسير الآية بالملائكة ولا بالموجودات الحيّة في الكواكب؛ لأنّها لا تعتبر من آيات الله تعالى، لأنّ الإنسان لا يشعر بها، فكيف تكون آية له؟!

ويمكن دفع الإشكال بما ذكرناه من أنّ المقصود بالآية هنا الإيجاد من العدم، وهذا يعرفه الإنسان إجمالاً وإن لم يعرف خصوصية الأشياء والدوابّ.

(وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إذا يَشَاءُ قَدِيرٌ)، «الجمع» في مقابل البثّ والنشر. و«إذا» ظرفية وهي قليلاً ما ترد على المضارع كما هنا. والمراد على ما يبدو أنّ هذا البثّ والتفرّق في كلّ أجزاء الكون لا يمنع من جمعهم متى شاء الله تعالى. وعظمة هذا الأمر تظهر إذا لاحظت هذه الكرة الأرضية وما انتشر فيها من دوابّ وحيوان في البرّ والبحر والجبال والجوّ وتحت أعماق الأرض من شتّى أنواع الحيوان كبيرها وصغيرها حتّى ما لا ترى بالعين المجرّدة، فإنّ التمكّن من جمعها بمجرّد الإرادة يدلّ على هيمنة القدرة والتدبير على كلّ شيء من دون تحديد.

وقيل: إنّ الجمع بمعنى الحشر يوم القيامة. ولكنّ الآية لا تدلّ على تحقّق الجمع، بل على إمكانه إذا شاء الله تعالى.

وربّما يستدلّ على ثبوت الحشر للحيوانات بقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثمّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).(1) ولا يمتنع عقلاً حشر الحيوانات ومحاسبتها أيضاً بمقدار ما آتاها الله تعالى من

ص: 92


1- الأنعام (٦): 38

إدراك، كما ورد في بعض الروايات الضعيفة، ولكن كون هذا الحشر إلى الله تعالى بمعنى إحيائهم يوم القيامة للجزاء ومحاسبة الأعمال، كما يحشر الناس غير واضح فرجوع الأشياء إليه تعالى عامّ يشمل كلّ شيء، ولكن لا يجب أن يكون بهذا المعنى. والله العالم.

(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَيا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير). ظاهر الآية بمقتضى مضمونها أنّها خطاب للبشر بأجمعهم، وليس كما يتوهّم خطاباً لأه_ل ع_ه_د النزول، فضلاً عن الاختصاص بالمشركين كما قيل، وذلك لأنّها تتعرّض لسنّة عامّة من السنن الإلهية في المجتمع البشري ويظهر منها أنّ كلّ ما يصيب الإنسان من مصيبة في الدنيا إنّما هو عقاب من الله تعالى على ذنوبه، وأنّه تعالى يعفو عن كثير من الذنوب، فلا يؤاخذ الإنسان عليها. ولعلّ التعرّض لهذا الأمر هنا بمناسبة نزول المطر بعد القنوط للإشارة إلى التأخير.

وبهذا المضمون قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)(1) وقوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).(2)

وما أكثر ما يعفو الله عنه من معاصينا ومخازينا، حتّى بلغ بنا الأمر أن نأمن عقابه ولا نشعر بسخطه من عثراتنا وهفواتنا، كما ورد في بعض الأدعية: «وآمن سخطه عند كلّ شرّ»(3) وفي بعضها «عند كلّ عثرة»،(4) وكنت أستشكل هذا التعبير فيما

ص: 93


1- النحل (١٦): ٦١
2- فاطر (٣٥): ٤٥
3- الإقبال بالأعمال الحسنة ٣: 211
4- الكافي ٤: ٥٥٩

سبق وأراه مخالفاً لقوله تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)(1) ولم أجد من يفسّره بما يرفع الإشكال، ورأيت في «صراط النجاة» جواباً منسوباً إلى السيّد الخوئي قدس سره وهو أنّ الظاهر من الدعاء إرادة العذاب الفعلي، فلا ينافي له الآية الكريمة.

ولكنّ العذاب المتوقّع في بعض المعاصي عذاب فعلي، ولا ينبغي للمؤمن أن يستبعده ولا يتقيه. والواقع أنّ هذا الدعاء لا يدلّ ولا يبتني على أنّ هذا الأمان موقف صحيح في العبد حتّى ينافي الآية، بل المراد تمجيده تعالى في سعة رحمته وعموم عفوه، بحيث وصل العبد إلى هذه الدرجة من الوهم أن يرجو منه تعالى كلّ خير في حين أنّه لا يخاف غضبه عند كلّ عثرة ومعصية، وهذا هو الواقع الذي نشعر به ونلمسه، فنحن لا نواجه عقاباً في كثير من عثراتنا ونشعر بالأمان من كلّ ما نفعله؛ ويلاحظ أنّ الإشكال لو تمّ لشمل الجملة الأولى أيضاً، فلا ينبغي للإنسان أن يتوقّع كلّ ما يراه خيراً ويطلبه من الله تعالى، فرجاء كلّ ما نظنّه خيراً أيضاً ليس ممّا ينبغي، ولكنّنا تعوّدنا ذلك من كثرة ما نراه من الخير من ربّنا، سواء ما طلبناه وما لم نطلبه.

والحاصل أنّ التعبير المذكور الوارد في بعض الأدعية يقصد به تمجيده تعالى لكثرة ما أولانا من النعم، وعفا عنّا من الهفوات. ومثله المقطع الوارد في عدّة من الأدعية المأثورة، منها ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله عن الإمام الكاظم علیه السلام: اللّهمّ إنّ عفوكّ عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصفحك عن ظُلمي، وسِترَكَ على قبيح عملي، وحلمَك عن كثير جُرمي، عندما كان من

ص: 94


1- الأعراف (7): 99

خطأي وعمدي، أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجِبُه منك الذي رزقتني من رحمتك، وعرّفتني من إجابتك، وأريتني من قُدرتك، فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً، مُدِلاً عليك فيما قَصدتُ به إليك، فإن أبطأ عنّي عتبتُ بجهلي عليك»(1) وورد قريب منه في دعاء الافتتاح المعروف ومن الواضح أنّ هذا الأمان وعدم الخوف والوجل، بل الإدلال على الله تعالى ليس ممّا ينبغي من العبد فالمراد تمجيده تعالى بأنّ لطفه ورحمته وعفوه وصفحه أدّى إلى حدوث هذه الحالة لدينا.

وقد وقع الإشكال في تفسير الآية بظاهرها من جهة شمولها للمعصومين علیهم السلام، وما أكثر ما ابتلي به المعصومون من المصائب، فكيف يمكن أن يكون السبب ذلك ما كسبت أيديهم؟! وكذلك تشمل الآية ما يصيب الأطفال من في المصائب ولا ذنب لهم.

وقد أجيب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في تفسير «الميزان» من أنّ الخطاب للمجتمع وليس للأفراد، فالمصائب التي تصيب المجتمعات كالقحط والغلاء والوباء والزلازل إنّما تصيبهم بسبب معاصيهم. وهذا نظير قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(2) وقوله تعالى: (إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(3)

ص: 95


1- تهذيب الأحكام 3: 88
2- الروم (٣٠): ٤١
3- الرعد (13): 11 .راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 59

وما ذكره لا بأس به في حدّ ذاته، ولكن لا دليل في الآية على الاختصاص بالمصائب الاجتماعية، بل يشملها ويشمل المصائب الفردية، بل لعلّ ظاهرها الانحلال إلى خطابات موجّهة إلى كلّ فرد فيكون المعنى أنّ كلّ ما يصيب الإنسان من مصيبة نتيجة عمله.

وفي الروايات الواردة عن الفريقين ما يدلّ على ذلك:

ففي «الكافي» بسند صحيح عن أبي عبد الله علیه السلام: «أما إنّه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب. وذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ). ثمّ قال: «وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به».(1)

وفيه بسند صحيح أيضاً عن أبي جعفر علیه السلام.« ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به». (2)

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال:«كان أمير المؤمنين علیه السلام يقول: لا تبدينّ عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة، ولا يأمن البيات من عمل السيّئات».(3)

قوله علیه السلام : «لا تبدينّ عن واضحة» أي لا تضحك والواضحة الأسنان التي تبدو عند الضحك. و«البيات» أي أخذ الله تعالى بياتاً والإنسان نائم أو غافل.

وروى أيضاً بسند معتبر عن أبي عبد الله علیه السلام: «إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم».(4)

وروى عنه علیه السلام أنّه قال: كان أبي يقول: «إنّ الله قضى قضاءاً حتماً ألا ينعم على العبد

ص: 96


1- الكافي ٢ : ٣/٢٦٩
2- نفس المصدر / ٤.
3- نفس المصدر /٥
4- نفس المصدر: ٢٧٢ / ١٦.

بنعمة فيسلبها إيّاه حتّى يحدث العبد ذنباً يستحقّ بذلك النقمة.(1)

وفي مجمع البيان عن علي علیه السلام أنّه قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «خير آية في كتاب الله هذه الآية. يا عليّ ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب. وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده.(2)

وروته العامة أيضاً عنه صلی الله علیه و آله وسلم بتعابير مختلفة. إلى غير ذلك من الروايات وهي كثيرة جدّاً.

وربّما يعترض على ما ذكره العلامة رحمه الله من أنّ المراد بالمصيبة في الآية الكريمة المصائب التي تصيب المجتمعات، بأنّ المعاصي عامّة بين البشر، فلماذا ينزل العذاب على بعضهم ويترك الآخرون، بل ربّما تترك المجتمعات المتوغلة في المعاصي والمفاسد وهذا الإشكال كثيراً ما يتردّد على الألسنة كلّما حدثت فاجعة طبيعية في بلد من بلاد المسلمين أو المجتمعات الفقيرة، ويقال بأنّ العذاب لماذا تخطّى الكفّار والظلمة ونزل على المسلمين والفقراء؟!

قال العلامة رحمه الله في الجواب عن ذلك: هذه سنّة إلهية في المجتمعات. وربما ترد عليه سنّة إلهية أخرى كسنّة الابتلاء والاستدراج، فلا يعذّبون لا للعفو عنهم، بل لإمهالهم ليستحقّوا عذاباً أكبر، كما قال تعالى: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).(3)

وما ذكره صحيح إلا أنّ هناك ملاحظة على أصل اعتبار البلايا العامّة هی

ص: 97


1- نفس المصدر / ٢٢.
2- مجمع البيان ٩ - ٤٧:١٠.
3- الأعراف (7): 95 .راجع: الميزان في تفسير القرآن :١٨ : ٥٩

المقصودة من الآية، وأنّها عذاب من الله تعالى من جهة أنّ بعض هذه المصائب أمور طبيعية لابدّ منها، وإنّما الخطأ من الإنسان حيث يسكن ويصنع مدن_ه ف_ي مسير السيل أو في الأماكن المعرّضة للزلازل، ولا يهيّئ لنفسه ما يحفظه من الحوادث الطبيعية، ومن الخطأ الفادح اعتبار كلّ هذه الحوادث الكونية عذاباً من الله تعالى كما اشتهر بين الناس وبعض هذه المصائب من آثار الحروب واعتداء الآخرين، وفي هذا القسم يمكن أن لا يكون الإنسان المصاب مخطئاً، فلا يمكن اعتبار ما أصابه مصيبة سماوية، وربّما يكون من خطئه في التقدير وفي مواجهة

العدوّ، فلا يلومنّ إلا نفسه ولا يعتبر ما أصابه عقاباً من الله تعالى على ذنوبه.

الوجه الثاني: ما في تفسير الميزان» أيضاً، ولكن على تقدير انحلال الخطاب إلى خطابات موجهة للجميع ، وأنّ المراد بالمصائب ما يصيب الفرد، فقال: إنّ الآية لا تشمل من لا ذنب له؛ لأنّ المراد بما كسبت الأيدي الذنوب والمعاصي، فهم خارجون من الآية تخصّصاً.(1) وقال بذلك أيضاً العلامة المجلسي رحمه الله في «مرآة العقول».(2)

ولا بأس بهذا الجواب بالنسبة لما يصيب الأطفال خصوصاً غير المميّز منهم لعدم انطباق ما كسبت الأيدي على ما يفعله الطفل أو انصرافه عنه، أمّا بالنسبة إلى المعصومين فتمكن المناقشة فيه بأنّه لا دليل على اختصاص ما كسبته الأيدي بالمعاصي، بل لا يبعد شموله لكلّ فعل لا ينبغي أن يصدر من الإنسان ممّا يترتّب عليه بعض التبعات غير المطلوبة بمقتضى سنن الله تعالى في الكون، ويتبع ذلك مكانة الإنسان وقربه لدى الله تعالى، فما لا ينبغي أن يصدر من الرسول ربّما

ص: 98


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن :١٨ : ٥٩ - ٦٠
2- راجع: مرآة العقول ٤٠٠:٩

يتوقّع من غيره، بل ربما يكون حسناً من غيره، كعباداتنا التي نرجو أن يثيبن_ا الله تعالى عليها؛ فإنّها لو صدرت من نبيّ أو إمام، فإنّه يعتبر ذنباً ل_ه تبعاته. وم_ن هن_ا قيل: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين»؛ كما أنّ ما يتوقّع من العالم ليس كما يتوقّع من الجاهل، ولا يتسامح من الكهل ما يتسامح فيه من الشابّ، والمتوقّع ممّن يعيش في بيئة مؤمنة ليس كما يتوقّع ممّن يعيش في بلاد الكفر ويتربّى في بيئة كافرة.

والحاصل أنّ الآية تشمل ما يعدّ تركاً للأولى صادراً من معصوم، كما حدث لسيّدنا يونس علیه السلام والمعصوم ليس معصوماً عن كلّ ما لا يتوقّع من المعصوم وإنّما عصم عن الذنوب والمحرّمات.

الوجه الثالث: أنّ مقتضى الجمع بين الآيات الخاصّة بهذا المعنى ه_و خ_روج المعصومين عن هذا الحكم والفرق بين هذا الوجه والوجه السابق، أنّ موضوع الآية حسب الوجه السابق لا يشمل المعصومين؛ لأنّ الموضوع هو أصحاب المعاصي، ولكن حسب هذا الوجه لا يشملهم الحكم وإن شملهم الموضوع فالحاصل من ملاحظة مجموع الآيات أن ما يصيب المعصومين أو بعض ما يصيبهم ليس إلا لرفع درجاتهم وقربهم لدى الله سبحانه. وهذا م_ا دلّت علي_ه بعض الروايات أيضاً.

ففي «الكافي» بسند صحيح عن عليّ بن رئاب، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عزّ وجل: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أرأيت ما أصاب عليّاً وأهل بيته علیه السلام من بعده هو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم كان يتوب إلى الله ويستغفره كلّ يوم وليلة مائة مرّة من غير ذنب، إنّ الله يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب».(1) استشهد الإمام علیه السلام في هذا

ص: 99


1- الكافي ٢ : ٤٥٠.

الحديث باستغفار الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لبيان أنّ هذه المصائب لم تكن لذنب، كما أنّ استغفاره لم يكن لذنب أيضاً.

وفيه أيضاً مرفوعاً:«لما حمل عليّ بن الحسين عليهما السلام إلى يزيد بن معاوية فأوقف بين يديه، قال يزيد لعنه الله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: «ليست هذه الآية فينا إنّ فينا قول الله عزّ وجلّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ)(1)».(2)

وفي خبر ضريس الكناسي، قال: كنّا عند أبي جعفر علیه السلام جماعة وفينا حمران بن أعين فقال له حمران جعلت فداك قول الله عزّ وجلّ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أرأيت ما أصاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم وأمير المؤمنين علیه السلام وأه__ل بيته علیهم السلام من المصائب بذنب؟ فقال: «يا حمران أصابهم ما أصابهم من المصائب بغير ذنب، ولكن يطول عليهم بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب».(3)

فالحاصل من الروايات أن هذه الآية لا تعمّ الجميع، وهناك كثي_ر م_ن المصائب لها مصالح تعود إلى المصاب. والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ

مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).(4)

ص: 100


1- الحديد :(٥٧): ٢٢
2- الكافي ٢: ٤٥٠
3- مشكاة الأنوار: 509
4- البقرة :(2) 155 - 157

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ). هناك من البشر من يتوهّم أنّه يتمكّن من الغلبة على إرادة الله تعالى وتخليص نفسه من تبعات أعماله فتردّ عليه هذه الآية بأنّ البشر في الأرض لا يعجز الله الذي بيده ملكوت السماوات والأرض.

وهذا التوهّم يقوى عند البشر بعد ما يجد أنّه قد تغلب على كثير من العوامل الطبيعية، وتمكّن من تغيير بعض المسارات في الطبيعة، ومن علاج كثير من الأمراض المستعصية، والتوغّل في أعماق الفضاء، وتحطيم الذرّة، وغير ذلك ممّا حصل عليه البشر بفضل العلوم الطبيعية والتكنولوجيا، فيتصوّر أنّه ما من شيء في الكون إلا ويمكن إخضاعه للبشر، فليست هناك إرادة غالبة على إرادته، ولو كان هناك إله للكون، فإنّه أيضاً لا يتمكّن من كبح جماح هذا العفريت المارد وهو الإنسان. وهذه الآية تبيّن له أنّه مهما بلغ من العلم، ومهما تغلّب على العوامل وتعرّف على أسرار في الكون، فإنّها كلّها تتحقّق بإرادته تعالى، وأنّه هو الذي سمح له بذلك، ومنحه الحرّيّة وهو لا يتمكّن من إعجاز ربّه متى شاء أن يعاقبه. وقوله تعالى: (في الأرض)، أي في أيّ مكان من الأرض، فلا يفيدكم الهرب من عذاب الله تعالى ولا خصوصية في الأرض، ولكن حيث لم يكن للإنسان أن يهرب إلى مكان آخر خوطب بذلك، وإلا فهو أينما يذهب فلن يخرج عن سلطة خالق الكون تعالى.

(وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، (مِنْ دُونِ الله ) أي بدلاً عن الله تعالى وفي موضع الربوبية. وذلك لأنّ كلّ من ينتصر به فهو أيضاً مخلوق الله تعالى داخل تحت سلطانه. وبما ذكرناه من معنى (مِن دُونِهِ) يتبيّن أنّ ذلك لا ينافي وجود أولياء تحت ولاية الله تعالى، كولاية الأب والرسول والإمام. وقد مرّ في تفسير الآية ٨ بيان الفرق بين الولي والنصير.

ص: 101

سورة الشورى (32 - 39)

وَمِنْ ءَايَتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلَامِ(32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَنتِ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)أَوْ يُوبِقَهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ تُجُدِلُونَ فِي وَايَنتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ(35) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَعُ الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَىٰ رَهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ تَجْتَنِبُونَ كَبَلِيرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَيهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْتَهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى هُمْ يَنتَصِرُونَ (39)

(وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعلام) عود إلى التذكير بآية من آيات الله تعالى ونعمه على البشرية لتسهيل سبل المعيشة، ولتكون دليلاً على قدرته تعالى وحكمته ورحمته وهي جريان السفن في البحر حيث تحمل الناس والمتاع وتنقلهم عبر البلاد.

و«الجوار» جمع جارية حذف منه الياء للتخفيف وقرئ بالياء أيضاً، وهي صفة للسفينة. والتعبير عن السفن بصفتها، أي الجواري للتنبيه على وجه كونها آي_ة ونعمة وهو جريانها في البحر. و«الأعلام» جمع عَلَم: الأثر الذي يعلم به الشيء، كعلم الطريق وعلم الجيش، ومنه إطلاق العلم على الجبل. والظاهر أنّ المراد بالأعلام هنا الجبال، شبّه بها السفن لارتفاع أشرعتها على سطح الماء.

وجري السفن على الماء بنفسه آية من آيات الله تعالى، حيث جعل النظام السائد في الكون بهذا الوجه، وهيّأ كلّ هذه الظروف الطبيعية المؤثّرة في حركة السفن، مضافاً إلى أنّ أوّل سفينة صنعت على وجه الأرض إنّما صنعت على يد

ص: 102

سيّدنا نوح علیه السلام وكان ذلك بوحي من الله تعالى وعناية خاصّة منه، كما قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)(1) وكان قومه يسخرون منه حيث لم يعلموا ما الذي يريد أن يصنع. ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (وَآيَةٌ هُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ المشحُونِ * وَخَلَقْنَا هُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ)(2) بناءاً على ما ذكرنا في تفسير الآية من أنّ المراد بالفلك سفينة نوح علیه السلام فإنّ قوله تعالى: (وَخَلَقْنَا هُمْ مِنْ مِثْلِهِ) يدلّ على أنّ كلّ ما صنع من السفن بعدها خلقت بالمماثلة لها، أي بتقليدها.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ)، الضمير في: (فَيَظْلَلْنَ) عائد إلى السفن، و (رَوَاكِدَ) جمع راكدة، وظهر البحر سطحه الظاهر منه. وهذه الجملة تبيّن وجه كون السفن آية، ولذلك أتت الجملة متّصلة من دون عطف، وذلك لأنّ من نعم الله تعالى وآياته إرسال الرياح الموافقة لحركة السفن الشراعية القديمة، فلو شاء أسكن الريح فتظلّ السفن راكدة على ظهر البحر أيّاماً. وهذه كانت من مشاكل الأسفار البحرية سابقاً.

والحاصل أنّ الآية المباركة تنبه الإنسان أنّه وإن تمكّن من استخدام الطبيعة في شؤون حياته إلا أن ذلك لا يتمّ إلا بلطف من الله تعالى ورحمته، فلو شاء ذلك في أيّ مجال من مجالات الحياة، ففي السفن الجارية في البحر يكفي أن يسكن الريح، فلا تتحرّك السفن ويبقى الإنسان حائراً وسط البحر، ولعلّ الغرض من ذلك تنبيهه بوجه عام أن لا يتوهم استقلاله في استخدام الطبيعة

لمنعه من وإن بلغ من العلم ما بلغ.

ص: 103


1- هود (11): 37
2- يس (٣٦): ٤١ - ٤٢

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يقول جمع من المفسّرين: إنّ المراد بالصبّار الشكور المؤمن؛ لأنّه يصبر على الضرّاء ويشكر على السرّاء، وإنّما اختصّ به؛ لأنّه هو الذي ينتفع بالآيات دون الكافر.

ولكن لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى أنّ من يبتلى بسكون الريح وتوقّف السفينة في البحر أيّاماً حال السفر، فيصبر على تلك الحالة، ثمّ تدركه الرحمة الإلهية، ويأتي الله بالريح المؤاتية فيشكر ربّه، هو الذي يدرك عظمة هذه الآية الإلهية.

وأتى بصيغة المبالغة فيهما، للإشارة إلى شدّة البلاء ممّا يستدعي أن يكون الإنسان صبّاراً، أي شديد الصبر، ولنفس السبب يكون شكوراً، أي كثير الشكر بعد أن أفرج الله تعالى عنه.

والحاصل أنّه إشارة إلى أنّ أهمية هذا الأمر لا يدركها إلا من ابتلي به.

وفي «الميزان» أنّ الأصل في الصبر الحبس، والأصل في الشكر إظهار نعمة المنعم بقول أو فعل، فالمراد به من حبس نفسه عن التدخّل في ما لا يعنيه واختلى بنفسه يتفكّر في نعمه تعالى فإنّه نوع من الشكر.(1) وهو تأويل في غاية البُعد. ولو فرض صحّة هذا التأويل بقي الكلام في وجه اختيار هذا التعبير.

(أوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ) عطف على: (يُسْكِنُ الرِّيحَ ) أي إن يشأ يسكن الريح وإن يشأ يوبقهنّ. والضمير يعود إلى الجواري، أي السفن والإيباق: الإهلاك. والمراد إرسال الرياح العاصفة الموجبة لهلاك السفن بالغرق، والمراد هلاك أهلها، وه_ عذاب يستحقّونها بما كسبوا من الجرائم والمعاصي، وهذا تطبيق لما مرّ من قوله

ص: 104


1- راجع الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٦١.

تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

(وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ) قرئت الكلمة بالواو ويعفو»، فتكون الجملة مستأنفة والمعنى واضح على هذه القراءة، أي يعفو عن كثير من مرتكبي الجرائم، فلا يهلكهم بها، وقد مرّ أنّ الله تعالى يعفو عن كثير من الذنوب، فلا تترتّب عليها التبعات في الدنيا، وإلا لم يترك على ظهر الأرض من دابة، ومن هذا الباب العفو عن كثير من ركّاب السفن.

والمشهور القراءة بالجزم، فالظاهر أنّها معطوفة على: (يُوبِقْهُنَّ) وتعتبر جواباً ثانياً للشرط المقدّر، أي إن يشأ يهلكهم بذنوبهم ويعف عن كثير، فلا يهلكهم. قال في «الكشّاف»: «فإن قلت : فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جُرْمَ جَزْمَه؟ قلت: معناه أو إن يشأ يهلك ناساً ويُنج ناساً على طريق العفو عنهم».(1) ومراده أنّ الإيباق يتمّ بإرسال العواصف فيهلك بها أناس وينجو منها أناس بالعفو عنهم ، فيكون مورد العفو من أصيب بالعاصفة ونجا منها.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا هُمْ مِنْ بَحِيصٍ). الظاهر أنّ قوله: (وَيَعْلَمَ) منصوب باللام المقدّرة أي وليعلم. وهو عطف على محذوف يدلّ عليه قوله تعالى في الآية السابقة: (بِمَا كَسَبُوا )؛ أي يوبقهنّ ليجازيهم بما كسبوا، وليعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص . ونظير ذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَليَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ)(2) ولعلّ تقدير المعطوف عليه في هذه الآية «جزاءاً له».

ص: 105


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٢٧
2- الأنعام (٦): ٧٥

والمحيص اسم مكان أو مصدر من حاص، أي حادّ واجتنب عن الطريق. والمراد به هنا المفرّ والمهرب، أي إنّهم ليس لهم بدّ من الاستمرار على الطريق الذي رسمه القضاء الإلهي مترتّباً على سوء، أعمالهم.

و«المجادلة» و«الجدال»: المنازعة بالكلام بشدّة وقوّة، سواء كان بحقّ أو باطل وأصل الجدل الاستحكام. والمراد به هنا ما يلازم الجدال وهو الرفض وعدم الانصياع والذين يجادلون في الآيات هم الذين يشكّكون فيها من دون دليل ومستند. والمعنى أنّه ممّا يترتّب على معاقبة بعض الناس بالغرق في البحر أن يعلم المشكّكون في آيات الله أنّهم لا مفرّ لهم من عذاب الله في الدنيا أيضاً قبل الآخرة؛ وذلك لأن الإنسان وإن حاول أن يحفظ نفسه من الحوادث، فإنّه لا يمكنه أن يخرج من هذه الطبيعة، وهي بكلّ عواملها تحت إرادة الله تعالى، ومتى شاء أن يعذّب أحداً، فهناك وسائل كثيرة في الطبيعة كفيلة بذلك، والله تعالى بالغ

أمره، والإنسان محصور محبوس في مخالب الطبيعة.

قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَحْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أو يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثم لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أم أمِنْتُمْ أنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيح فَيُغْرِقَكُمْ بمَا كَفَرْتُمْ ثم لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا).(1) وقال أيضاً: (أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمَورُ * أم أمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير).(2)

ص: 106


1- الإسراء (17): ٦٧ - ٦٩
2- الملك (٦٧): ١٦ - ١٧

(فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ). الفاء للتفريع وهذه الحقيقة تتفرّع على كلّ ما مرّ بيانه من ذكر نعم الله تعالى وسعة رزقه والعفو عن كثير من الذنوب التنبيه بعد ذلك على أنّ الذي يجب أن يهتمّ به الإنسان هو السعادة في الآخرة لا الدنيا. والخطاب موجه لعامة الناس. و«ما أوتيتم» مبتدأ ولكنّ الموصول

يتضمّن معنى الشرط فوردت الفاء على الخبر. والتعبير بالمبني للمجهول «أوتيتم» دون إسناده إلى الله تعالى للاستهانة بمتاع الدنيا. وهذا العنوان يعمّ كلّ ما في هذه الحياة حتّى العلم، إلا ما جعل منه وسيلة إلى معرفة الله سبحانه، أو تحصيل ثواب الآخرة.

و«المتاع» ما ينتفع به مدّة طويلة نسبياً، أو ما يتلذّذ به كما قيل. وقد أتى به نكرة في قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ)(1) وذلك للدلالة على حقارته بحيث لا يكاد يذكر. وصرّح بقلته مطلقاً في قوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)(2) وبقلّته في مقابل ثواب الآخرة في قوله تعالى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ).(3)

(وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في المقابل عبّر عن ثواب الآخرة ب_ (مَا عِندَ الله ) للدلالة على أنّ ميزة تلك النعم أنّها عند الله، مع أنّ النعم كلها من الله تعالى، حتّى ما كان من متاع الدنيا، ولكن تلك النعم تمتاز بكونها عنده، فهي كلّها رحمة خالصة، لا يشوبها شيء من الابتلاء والفتنة والمحاسبة. وهي خير النعم، وهي خير من متاع الدنيا، وهي أبقى أيضاً، فمهما تدوم النعمة

ص: 107


1- الرعد (13): ٢٦
2- النساء (٤): ٧٧
3- التوبة (9): 38

في الدنيا فهي أيّام قلائل بمقدار عمر الإنسان على هذا الكوكب، وأين هي من النعمة الأبدية الخالدة التي لا تزول؟!

وقوله تعالى: (لِلَّذِينَ آمَنُوا) متعلق بمحذوف ، أي هو خاصّ بهم. وليس متعلّقاً بقوله: (خَيْرٌ وَأَبْقَى؛ إذ النعمة هناك خاصّة بهم أساساً ولا تشمل غيرهم، لا أنّ كونها أبقى خاصّ بهم.

ومن هنا يبدأ بذكر أوصاف الذين يستحقّون النعيم الأبدي الخالد، وكرامة كونهم عند الله تعالى. فأوّل ذلك الإيمان ثمّ التوكّل، وهو يحكي عن درجة الإيمان بالله الموجب لتوكّله عليه. ثمّ أمران سلبيّان يرتبطان بتخلية النفس من الرذائل، ثمّ خمس أمور إيجابية ترتبط بالتحلّي بالفضائل والمكارم اثنان منها يرتبطان بالشؤون الفردية وثلاثة بالشؤون الاجتماعية.

ولعلّه إنّما قدّم الأمرين السلبيين؛ لأنّ النفس إذا كانت متّصفة بالرذائل وغارقة في المعاصي ، فالأعمال الحسنة وإن كانت صحيحة واجدة للشرائط، ولعلّ الإنسان يثاب عليها أيضاً، ولكنّها لا تصعد به إلى المقامات العالية، ولا تكون لائقة للتقرّب إلى الله تعالى، ومرافقة الأنبياء والأولياء والصالحين. فلا بدّ قبل التحلية بالصفات الحسنة والإتيان بالأعمال الصالحة من تجنّب المساوئ وتزكية النفس بمكارم الأخلاق.

والإيمان هو الشرط الأوّل والأساس لدخول الجنّة. ولم يذكر متعلّق الإيمان، فيمكن أن يكون المراد الإيمان بالله تعالى بقرينة الجملة التالية. ويمكن أن يكون المراد الإيمان بالغيب، فإنّه هو المتبادر من الإيمان بقول مطلق؛ فهناك من الناس من لا يؤمن إلا بما يحسّ به ويشاهده، ومنهم من يؤمن بالغيب إذا قامت عليه

ص: 108

الحجّة، فالمهمّ أن يبلغ الإنسان في تربية النفس إلى مقام لا ينحصر إدراكه في المحسوسات.

والخصلة الثانية التي يمتاز بها أهل الجنّة هي التوكّل على الله تعالى. ولعلّ التعبير بالربّ يشير إلى أنّ التوكّل على الله تعالى باعتبار ربوبيته، وأنّه هو المربّي العباده، فكلّ ما يفعل بعبده هو الأصلح في تربيته، وبلوغه إلى الكمال المنشود. وحيث إنّه قادر على كلّ شيء، ولطيف لما يشاء، فلا يحول دون بلوغه الهدف شيء. وهذا هو السر في التوكل على الله تعالى، فإذا آمن الإنسان بهاتين الركيزتين الربوبية والقدرة، فإنّه يثق بربّه كمال الوثوق ويوكل كلّ أموره إليه وتطمئنّ نفسه وتستقرّ، ولا يخاف شيئاً إلا ما يعود إلى إهماله لوظائفه.

وللتوكّل على الله تعالى مراتب. ويتبع ذلك مرتبة إيمان الإنسان بربّه وبعموم قدرته تعالى ورحمته وربوبيته، فهناك الأنبياء والأولياء المخلصون الذين يوكّلون كلّ أمورهم إلى الله تعالى ولا يعبأون بكلّ ما يحوم حولهم من أخطار ومشاكل. والله تعالى يتولّى أمورهم بلطفه وعنايته الخاصّة. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أمره قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ).(1) وينبغي التأمّل في أنّ الأنبياء والأولياء ما كانوا يهملون الأمور في مواضع التوكّل على الله تعالى، بل كانوا يأتون بوظائفهم بأحسن وجه، و كانوا يتحمّلون المشاقّ ويتكبّدون الخسائر ويجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فليس معنى التوكّل ترك الأمور وإهمالها، بل معناه أن لا يكون الإنسان متخوّفاً قلقاً ممّا يمكن أن يحدث من الموانع إن لم يكن ذلك باختياره، فهو يأتي بما يجب عليه،

ص: 109


1- الطلاق (٦٥): ٣

ويترك الأمر توكّلاً على الله تعالى واثقاً من أنّ ما يحصل هو الأصلح بحاله.

وقد رأينا في حياتنا من الأجلاء الصالحين من كان بهذه المثابة من الإيمان بالله تعالى والتوكّل عليه، ولذلك كان يهابه الأعداء، وتطمئنّ إلى كلامه نفوس المؤمنين، وهو سيّدنا الإمام الخميني - قدّس الله روحه-.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ) وهذه هي الخصلة الثالثة لهم. وه_ي اجتنابهم عن الآثام والمعاصي، وتصفية النفس من الرذائل الخُلّقية. وهذا أمر سلبيّ، وهذه الصفة من أهمّ الشروط لبلوغ الكمال، إذ لا يمكن للإنسان الغارق في المعاصي أن يبلغ الكمال المادّيّ فضلاً عن المعنوي.

والله تعالى خالق البشر، وهو أعلم بطاقاته ونوازعه، ويعلم أنّه لا يمكنه ترك أهوائه دائماً ، فأفسح له المجال، ورضي منه بأن يترك الكبائر والفواحش، ب_ل صرّح باستثناء اللمم ، قال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَاكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُرَكُوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).(1)

و«اللمم» المقاربة وألمّ بالشيء، أي اقترب منه. فالمعنى أنّهم ربما يقتربون من الكبيرة ولكن لا يرتكبونها. وربّما يعبّر به عن ارتكاب الصغائر باعتبار أنّ ارتكابها يقرّب الإنسان من الكبائر. وفي «الكشّاف أنّ: «اللمم ما قلّ وصغر. ومنه اللمم المسّ من الجنون، واللوثة منه، وألمّ بالمكان إذا قلّ فيه لبثه، وألمّ بالطعام قلّ منه أكله».(2) وعليه فإطلاقه على الصغائر من دون عناية.

ص: 110


1- النجم (٥٣) : 32
2- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤ : ٤٢٥

ولكن في روايات أهل البيت علیهم السلام أنّ اللمم ارتكاب الإثم مع التوبة وفي أزمنة متباعدة من دون إصرار وتكرار. وتمام الكلام في تفسير سورة النجم.

وقد علّل في هذه الآية الكريمة استثناء اللمم بأمرين:

الأمر الأوّل: أنّه تعالى واسع المغفرة، فيعفو عن عبيده المخطئين. ولولا أنّ رحمته وسعت كلّ شيء، وأنّ رحمته سبقت غضبه لم تقم للخلق قائمة، وما ترك على ظهرها من دابة.

والأمر الثاني: أنّه تعالى أعلم بخلقه، وأعلم بالنوازع البشرية، وما تقتضيه طبيعته الأرضية، فلا يتوقّع منه ترك الصغائر. ولعلّ قوله تعالى: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) إشارة إلى ما يقتضيه التوارث والمؤثرات البيئية.

وقال تعالى: (إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(1) وبقرينة ذكر الكبائر يعلم أنّ المراد بالسيّئات في هذه الآية الصغائر من الذنوب.

ولكنّ الكلام في تحديد الكبائر والصغائر، ففي بعض الكتب الفقهية أنّ الكبيرة ما صُرّح في النصوص بكونها كبيرة؛ كقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)(2) وقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَاهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)(3) و نحو ذلك. أو ورد فيها الوعيد بالعقاب عليه ؛ كقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)،(4) أو عدّ

ص: 111


1- النساء (٤): ٣١
2- البقرة (2): 219
3- النساء (٤): ٢
4- النساء (٤): 93

أكبر من بعض الكبائر؛ كقوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(1) وزاد بعضهم أن يعدّ في النصوص كونه مثل بعضها.

ونفى بعضهم تحديد الكبائر والصغائر باعتبار أنّ الكبر والصغر أمران نسبيّان فكلّ كبير صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه ، وكذا العكس. وهناك أمور جانبية ترفع من مستوى الذنب أو تنزله، فربّما يعدّ إثم من أحد كبيراً، لكونه عالماً، أو كبيراً في السنّ، أو قيادياً في المجتمع، ولا يعدّ كبيراً لغيره. وتختلف في ذلك أيضاً المجتمعات والتربية الدينية والأمكنة والأزمنة. وإذا كان اعتداءاً فيختلف باختلاف المعتدى عليه، فقتل المؤمن العادي ليس كقتل الإمام أو النبي والقتل الأشهر الحرم أو في الحرم ليس كغيره. كما أنّ هناك حالات نفسية تغيّر من درجة الإثم، فالذي يرتكب إثماً ويستصغره مع علمه بأنّه عصيان الله تعالى فق_د ارتكب كبيرة، وهذا بخلاف ما لو استعظمه واستشعر في نفسه الخوف ممّا بدر منه. وهناك أيضاً الإصرار على الصغيرة، فإنّه يوجب دخولها في الكبائر. وقد وردت بهذه المضامين كلّها أحاديث في كتب الفريقين.

ولكن ذلك كلّه لا يمنع من التحديد الذي يقتضيه قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ممّا يدلّ على وجود نوعين من الآثام، وأنّ هناك تحديداً لهما. ولكن يبدو أنّ التحديد غير واضح، فليس هناك حدّ فاصل يميّز الصغائر.

ولعلّ الحكمة فيه أن يجتنب المؤمن كلّ إثم خوفاً من أن يكون موجباً لسخط الباري جلّ وعلا، وفي الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام: «إنّ الله تبارك وتعالى

ص: 112


1- البقرة :(2): 217

أخفى أربعة في أربعة أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته، فربّما وافق رضاه وأنت لا تعلم وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرنّ شيئاً من معصيته، فربّما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرنّ شيئاً من دعائه، فربّما وافق إجابته وأنت لا تعلم وأخفى وليّه في عباده، فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربّما يكون وليّه وأنت لا تعلم».(1)

و امّا فاحشة وأما الفواحش، فهي جمع من الفحش، وهو التجاوز عن الحدّ في القبح والشناعة. والظاهر أنّه لا يطلق على كلّ الكبائر، بل على ما عظمت شناعته كالزنا واللواط، وقد عُبّر عنهما في القرآن بالفاحشة.

وسيأتي بعض الكلام في هذا الموضوع في تفسير سورة النجم إن شاء الله تعالى.

(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) هذه هي الخصلة الرابعة لمن يستحقّ الجنّة. وهذا أيضاً أمر سلبيّ ونوع من الرياضة النفسية، كترك ارتكاب الكبائر. ولعلّه أشقّ في بعض الحالات، وهو العفو والتسامح، بل المغفرة والإغضاء عن اعتداء الآخرين، وذلك في صورة الغضب، وهذا هو المهم، وهو الشرط الذي جعله شاقّاً، فإنّ الإنسان ربّما يتمكّن من كظم غيظه والسيطرة على نفسه إذا تدبّر في الأمر و حاسب الظروف، ولكنّ الرياضة النفسية الصعبة أن يسيطر على نفسه الجموح في لحظة الغضب.

وهذا هو الذي تؤكّده «ما» الزائدة في قوله تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا) فإنّ مفادها أنّهم بمجرّد أن يغضبوا فإنّهم يغفرون للمخطئ فوراً. وهذا غاية في الحلم وكظم

ص: 113


1- الخصال الصدوق): 31/210

الغيظ والإتيان بالضمير المنفصل يؤكّد ترتّب الجزاء على الشرط. ولكن في «الكشّاف» أنّه يدلّ على الاختصاص بمعنى أنّ هذه الصفة خاصّة بأهل الجنّة.(1)

وهو بعيد لفظاً ومعنىّ، فهناك من الكفّار أيضاً من تظهر منه هذه الصفة بوضوح.

ثمّ إنّ الغفران أكبر من التسامح والعفو، فإنّهما لا يستلزمان الستر على المخطئ بينما يستلزمه الغفران، فإنّ معناه الستر.

(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) وهذه خامسة الخصال. ومنها تبدأ الأمور الإيجابية التي تجعل النفس الإنسانية لائقة لدخول جنّة الخلد، والتشرّف برضوان الله تعالى وهي الاستجابة للرّبّ. ويبدو من ذكر الربّ أنّ المراد بالاستجابة هو تقبّل النفس لما يصل إليها من التربية الإلهية، فإنّ ربوبيته تعالى من رحمته وهي واسعة تشمل كلّ شيء، إلا أنّ هناك من النفوس ما لا تتقبّل الرحمة والربوبية،

فالنقص والقصور منها. وعليه فالاستجابة بمعنى تقبّل النفس لما يلقى إليها من ربّه ممّا يكملها ويرفعها. ويمكن أن يكون المراد الاستجابة للدعوة الإلهية، كما قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)؛(2) أي فليستجيبوا لدعوتي إلى الدعاء والصلاة والإيمان بربّهم.

وستأتي في هذه السورة الدعوة إلى الاستجابة للربّ سبحانه وتعالى. وتشمل هذه الدعوة كلّ الأوامر والنواهي الشرعية. وذكر الصلاة وغيره_ا في_م_ا بع_د م_ن باب ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام به.

ص: 114


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٢٨.
2- البقرة (٢): ١٨٦.

(وَأَقَامُوا الصَّلوةَ) وهذه سادسة الخصال. ولإقامة الصلاة عدّة معانٍ يمك_ن إرادة بعضها أو كلّها، فقد تكون بمعنى الإتيان بها بجميع حدودها وشروطها وما يدخل في كمالها. ومن أهمّها - بل هو أهمّها على الإطلاق - التوجّه إلى الله تعالى، فإنّه روح الصلاة.

وقد تكون بمعنى إدامتها، فإنّ من معاني الإقامة الإدامة ومنها الإقامة في المكان، أي البقاء فيه.

وقد تكون بمعنى المحافظة على أوقاتها، والاهتمام بها، وجعلها من أهمّ الأولويات، بخلاف الكثير من المصلّين، فإنّ الصلاة عندهم في آخر الأولويات ولا يذكرونها إلا بعد الانتهاء من كلّ ما يهمّهم من شؤون الدنيا، بل ربّما يصرّحون إذا نودوا بالصلاة بأنّهم مشغولون، وكأنّ الصلاة فرضت لملء أوقات الفراغ، مع أنّها أهمّ من كلّ الأمور. وعلى المؤمن أن يفرغ نفسه لها، بل يفرغ باله لها أيضاً، فيتهيّأ ويركّز ويستشعر في نفسه عظمة الخالق، وأنّه سيمثل أمامه، ويخاطبه ويناجيه.

ويمكن أن يكون المراد بإقامة الصلاة الحثّ عليها، ودعوة الناس، وبناء المساجد، وإعلان الأذان، وكلّ ما يؤثّر في نشرها وإعلانها في المجتمع، بحيث يلاحظ المراقبون أنّ هذا مجتمع متعوّد على الصلاة ومهتمّ بها، فالمساهمة في إيجاد هذه الحالة في المجتمع هي من إقامة الصلاة.

(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وهذه الخصلة السابعة. وهي من الأمور الإيجابية التي تدخل في شروط كمال الإنسان، ومن الشؤون الاجتماعية التي تؤثّر في تربية المجتمع، وممّا يوجب تماسك المجتمع، واهتمام كلّ شخص بمصالح الآخرين.

ص: 115

وربّما تفسّر الجملة بأنّ المراد تشاور الناس فيما بينهم في اُمورهم الخاصّة والشخصية؛ لكنّ الظاهر أنّ المراد بها الشؤون الاجتماعية، وذلك لأنّ عنوان الأمر وإن كان يشمل كلّ شؤون الحياة إلا أنّ الإتيان ب_ه مفرداً ومضافاً إلى الجمع (أمْرُهُمْ) يدلّ على أنّ المراد به أمر الجماعة، وما يخصّ الشؤون الاجتماعية. ويقتضيه أيضاً قوله: (شُورَى بَيْنَهُمْ)، اذ لو كان المراد به التشاور في الأمور الفردية لم يصحّ أن يقال: الأمر شورى بينهم، بل يقال: يتشاورون في أمورهم فالظاهر من الآية توصيف المجتمع المؤمن بأنّ اُمورهم الاجتماعية إنّما تتمّ على أساس الشورى فيما بينهم.

ولم يحدّد الشرع حسب هذه الآية آلية خاصّة للشورى، فهو أمر راجع إلى الناس، وهو ممّا يتغيّر ويتطوّر حسب تطوّر الإنسان في حياته. وقد توصّل الإنسان في العصر الحديث إلى تأسيس المجالس النيابية بشتّى صورها للتشاور وهي آلية تحقّق العدالة نوعاً مّا، وإن كانت لا تخلو من قصور في الأداء، ومعظمه ينتج من تدخل الحكومات، وتقييد طرق الانتخاب. ومع ذلك فهو أفضل طريق في الوقت الحاضر لتحقيق الشورى.

وقد تمسّك بعض مرضى القلوب بهذه الآية للقول بأنّ النظام الاجتماعي وتشكيل الحكومة في الإسلام يستند إلى الشورى في محاولة لإنكار الإمامة. وقد فنّدنا هذه المحاولة في رسالتنا التي لم تكتمل «دفع أباطيل الكاتب» وقلنا بأنّه لو تمّ ذلك لكان مقتضى الآية أن تكون ولاية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أيضاً بالشورى، وأنّه إنّما تجب إطاعته إذا بايعه الناس، كما ربّما يلهج ب_ه بع_ض م_ن ي_دّع_ي الإسلام، ويعتنق الديموقراطية. والله تعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ

ص: 116

بإِذْنِ الله)،(1) فالناس يجب عليهم أن يبايعوا الرسول، ويجب أن يطيعوه، وكذلك الإمام المعصوم، لأنّه المقصود باُولي الأمر في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا الله وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأمر مِنكُمْ).(2) وعليه فالمراد بالأمر فى هذه الآية هو سائر الاُمور الاجتماعية ما عدا إطاعة الإمام المعصوم، نعم يشمل ذلك تعيين الحاكم في زمان الغيبة.

والملفت للنظر أنّ الآية - على ما يبدو - نزلت في مكّة والمؤمنون لم يؤسّسوا حكومة، بل ولا مجتمعاً مستقّلاً ونظاماً خاصّاً بهم، ومع ذلك فإنّ من سماتهم التي يُمدحون بها ويثابون عليها هو أنّ الأمر بينهم .شورى وهذا ممّا يدلّ على أنّه من خصائص الإيمان، وليس سمة من سمات النظام الاجتماعي.

و«الشورى» قيل إنّه مصدر بمعنى التشاور، فيكون الإطلاق من باب المبالغة، أي أمرهم تشاور. وقيل: اسم بمعنى ما يتشاور فيه والمشورة مأخوذة من الشَور بمعنى الأخذ من شار العسل، أي اجتناه باعتبار أنّ المستشير يحاول أخذ الرأي ممّن يستشيره والتشاور والمشاورة محاولة أخذ الرأي من عدّة بعضهم من بعضهم، ومثله المؤامرة. ويمكن أن يكون مأخوذاً من الإشارة، حيث يطلب كلّ منهم أن يشير الآخرون إلى ما هو الصحيح.

(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) وهذه هي الخصلة الثامنة. وهي أنّهم لا يبخلون بأموالهم، بل ينفقونها في سبيل الله لمساعدة الفقراء، أو لبناء المباني التي يحتاجها الناس، أو للدفاع عن الدين والمسلمين، ونحو ذلك من المصالح العامّة.

ص: 117


1- النساء (٤): ٦٤
2- النساء (٤): ٥٩

والإنفاق من أهمّ الأعمال التي يقرّب المؤمن إلى الله تعالى، ويؤثّر في تكامل النفس وترفّعها عن حبّ الدنيا وهو رأس كلّ خطيئة. قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1) والتعبير عن أموالهم ب_: (مَا رَزَقْنَاهُمْ) للتنبيه على أنّه لا منّة لأحد إذا أنفق ماله في سبيل الله، فإنّه لم يحصل عليه إلا بإعطاء ورزق من الله تعالى.

(وَالَّذِينَ إذا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) وهذه الخصلة الأخيرة. و«البغي» هو الاعتداء، وإن كان في الأصل بمعنى الطلب. وإصابة البغي بمعنى وقوع الاعتداء عليهم. والانتصار طلب النصرة والعون.

والمدح فيه من جهتين:

الأولى: أنّهم يتناصرون، أي ينصر بعضهم بعضاً إذا أصاب بعضهم البغي ممّا يدلّ على التعاضد الاجتماعي.

والثانية: أنّهم يقاومون الظلم ولا يستسلمون له. وهذا في حد ذاته محمود وإن كان العفو أفضل في بعض الموارد، كما ستأتي الإشارة إليه والضمير المنفصل لتأكيد ترتّب الجزاء، كما مرّ في قوله تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ولا يدلّ على اختصاص الأمر بالمؤمنين - كما قيل - مع أنّ عدم الاختصاص واضح.

ولا يخفى أنّ ذكر هذه الخصال من باب المثال ولا تقتصر الخصال الحميدة، بل الذي يجب على المؤمن أن يتحلّى بها في هذه المجموعة.

ص: 118


1- الحشر :(٥٩): 9

سورة الشورى (٤٠ - ٤٣)

وَجَزَاؤُا سَيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ، لَا تُحِبُّ الظَّلِمِينَ (40)وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأَوْلَتِبِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَوْلَتَبِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(43)

(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) تعليل لانتصار المؤمنين على الباغي، كما ورد في الآية السابقة، فهو نظير قوله تعالى: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(1) حيث رتّب الأمر بالاعتداء والمعاملة بالمثل على كون الحرمات قصاصاً.

وتسمية الجزاء سيئة إمّا للمجاراة في التعبير كتسميته اعتداء في الآية الثانية وإمّا من جهة أنّه يسوء المعتدي فهو سيّئة بالنسبة إليه وإن لم يكن في حدّ ذاته أمراً سيئاً.

والمراد بالمماثلة عدم تجاوز المتعارف في مثله لا المماثلة التامة، فإنّه غير ميسور غالباً، فالقاتل يقتل ولكن لا يجب أن يكون القتل بنفس الطريقة.

(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله) الحكم بالمجازاة هو القاعدة الأساسية، وعليه يبتني تحكيم العدل والقانون في المجتمع. ولذلك قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)،(2) فلا بدّ من مجازاة المعتدي لئلا يستشري الظلم

والعدوان.

ص: 119


1- البقرة (٢) ١٩٤
2- البقرة (2): 179

ولكن هناك استثناءات، فربّما يجد وليّ الدم من المعتدي الندم الشديد ويتيقّن منه أنّه لن يعود إلى مثل ذلك، وأنّ العفو عنه لا يجرّى الآخرين على ارتكاب الجريمة بعد أن قبضت عليه العدالة، وأدين بمقتضى القانون، وأطلق ي_د الوليّ ليقتصّ منه، فإنّ العفو والمسامحة في هذا الظرف ترسيخ للأخوّة في الدين، وتقوية لأواصر الحبّ والوداد بين شرائح المجتمع. ولذلك ندب إليه الشرع بأبلغ بيان حيث جعل أجره على الله تعالى، وهو إجمال له من التعظيم ما لا يسعه البيان. ويكفي العبد عزّاً وفخراً أن يضمن الله تعالى أجره. ولعلّ إضافة الإصلاح إلى العفو، للإشارة إلى أنّ العفو ربّما يستتبع إذلالاً وقطيعة، فليس هو الموضوع لهذا الأجر العظيم، بل العفو المستتبع لإصلاح ما فسد بين الفريقين هو موضوع الأجر المضمون.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ)، الظاهر أنّه تعليل للجملة الأولى حيث قيّد مجازاة السيّئة بسيّئة مثلها، بحيث لا يتجاوز عنها كمّاً وكيفاً، فإنّ التجاوز عنها ظلم، وإن كان هو بادئاً بالعدوان. وعليه فذكر حكم العفو جملة معترضة قدمها للتعجيل في التحريض على العفو.

وقيل: إنّه تعليل لما قبله، أي إنّ أجر العافي المصلح على الله تعالى؛ لأنّ الانتقام وإن كان حقّاً له، إلا أنّه ربّما يتجاوز عن المقدار المجاز، فإنّه عرضة ل_ه، خصوصاً مع كونه في حال الغضب، فالعفو أصلح له؛ لأنّ الله لا يحبّ الظالمين. والأول أقرب.

وقيل: إنّه إشارة إلى أنّ الترغيب في العفو ليس للإبقاء على الظالم وتفضّلاً عليه، فإنّ الله لا يحبّ الظالمين، وإنّما هو تفضّل على وليّ الدم، لينال بعفوه

ص: 120

الجزاء. وهذا بعيد جدّاً عن اللفظ.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلِ»، «اللام» لام الابتداء ويؤكّد مضمون الجملة. و «مَن» شرطية والفاء» للجزاء. وقوله: (ظُلْمِهِ) من إضافة المصدر إلى المفعول أي من انتصر على الظالم بعد وقوع الظلم عليه فلا سبيل عليه أي لا يؤاخذ إذا انتقم من الظالم. و «مِن» زائدة تؤكّد نفي السبيل. وهو في الأصل الطريق، ويكنّى به عن كلّ ما يتوصّل به إلى شيء، والمراد هنا ما يتوصّل به إلى الانتقام. وهذه الجملة للتأكيد على ما ورد في الآيات السابقة من جواز معاملة السيّئة بالسيّئة، والانتصار على الباغي. وأتى بضمير المفرد في «ظلمه»

للرجوع إلى لفظ الموصول، وعبّر بالجمع في جملة الجزاء باعتبار المصاديق.

(إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقَّ)، «إنّما» تفيد الحصر إمّا مطلقاً أو إذا اقتضى المقام، كما هنا لورود هذه الجملة بعد نفي السبيل، أي أنّ الإدانة تختصّ بمن يظلم الناس ابتداءاً ويتجاوز عن حدّه. والجملة التالية عطف تفسير.

و«البغي» في الأصل بمعنى الطلب، إلا أنّه يستعمل غالباً في خصوص ما إذا طلب الإنسان ما لا يحقّ له، وقوله: (بغَيرِالحَقِّ) ليس قيداً، بل هو تأكيد لما يفهم من البغي مطلقاً. ويفهم من قوله (في الأرْضِ) أنّ بغيهم لا يختصّ بقوم ومكان وزمان وظروف خاصّة، فهم يطلبون ما يتمكّنون منه من حقّ الناس في الأرض أينما كان.

(أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الظاهر أنّ المراد به عذاب الآخرة. وهذا غير ما يدانون به من السبيل، والمعاملة بالمثل، والانتقام في الدنيا.

ص: 121

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) تكرار لام الابتداء في هذه الجملة و تصدير الجملة الثانية بحرف (إنّ) للتاكيد. والمضمون في نفسه تكرار لآية العفو السابقة للتأكيد أيضاً. وأضاف هنا الإشارة إلى أنّ العفو لا يكون إلا مع الصبر، فإنّ ترك الانتقام بعد الظفر بالباغي ممّا يشقّ على الإنسان.

ثمّ إنّه أبدل العفو بالغفران تأكيداً على نسيان الأمر والستر عليه. والعزم __ على ما في «مفردات» الراغب - هو عقد القلب على إمضاء الأمر.(1) وعليه فالمعنى أنّ ذلك من الأمور التي تتوقّف على العزم والجدّ.

ص: 122


1- مفردات ألفاظ القرآن: ٥٦٥

سورة الشورى (٤٤ _ ٤٨)

وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِى مِنْ بَعْدِهِ، وَتَرَى الظَّلِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍ مِّن سَبِيلٍ (44) وَتَرَنَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفِ خَفِي وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ الخَسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّلِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (46)أَسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمَ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَلْجَإِ يَوْمَن وَمَا لَكُم مِّن نَكِيرِ(47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَعُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِيهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَينَ كَفُورٌ(48)

(وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) تأتي هذه الآيات في سياق ذكر الفريقين، حيث ذكر صفات المؤمنين الذين يحظّون بالنعم الإلهية في الآخرة، ثمّ أعقبه هنا بذكر الظالمين، الذين أضلّهم الله تعالى نتيجة لعنادهم وكفرهم بعد إتمام الحجّة الواضحة، فإنّ الضلال حينئذ يكون مسجّلاً عليهم بصورة طبيعية، لأنّ معاندة الحقّ والمكابرة في مقابل الدليل الواضح تستلزم البعد عن الهداية والرشاد بعداً لا أمل فيه للرجوع والاستبصار. وهذا هو معنى إضلال الله تعالى، فإنّ كلّ نتيجة طبيعية للعمل مستند إليه تعالى، وإذا تمّ الإضلال منه، فإنّه لا يبقى للإنسان وليّ يأخذ بيده ويخرجه من الظلمات إلى النور ولا يمكن لشيء أن يقاوم إرادة الله تعالى، كما نجده بالعيان في الأمور الطبيعية الحتمية. وقوله: (مِنْ بَعْدِهِ)، أي بعد إضلاله تعالى أو بعد الله بمعنى غيره، لا البعدية الزمانية، فهو كقوله تعالى:

ص: 123

(فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلا الضَّلال).(1)

(وَتَرَى الظَّالِمينَ لمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدُّ مِنْ سَبِيلٍ)، تصوير مرعب لحالۀ الظالمين المتجبّرين يوم القيامة، وبعد مواجهتهم لعذاب الله تعالى، الذي هو نتيجة أعمالهم وطغيانهم في الحياة الدنيا والظلم لا يختصّ بالاعتداء على الغير، بل كلّ عمل في غير موضعه الصحيح ظلم والمراد به هنا الظلم الديني، أي مخالفة أوامر الله تعالى ونواهيه الإلزامية، أو خصوص ما كان مرتبطاً بأصل الايمان. والخطاب في قوله: (وَتَرَى الظَّالِمينَ ) للرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أو لكلّ من يسمع أو يتلو القرآن. و«المردّه»: مصدر بمعنى الرجوع، أي يقولون بلهفة وتحسّر ويأس: هل من سبيل ووسيلة نتمكّن بها من الرجوع إلى الدنيا؟

وهذا التحسّر يبدأ من أوّل الموت، ويتكرّر في كلّ موضع، قال تعالى: (حَتَّى إذا جَاءَ أحَدَهُمُ الموتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)(2) وهذا مجرد أمنيّة تدلّ على شدّة اللهفة وإلا فهو أمر مستحيل، والشيء لا يعود بعد تطوّره وتكامله إلى مرحلة سابقة، فالكهل لا يعود طفلاً، والطفل لا يعود جنيناً، و

الجنين لا يعود نطفة، وهكذا.

(وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ) الخطاب هنا أيضاً _ كما مرّ في الآية السابقة واُعيد التنبيه على الرؤية - للتأكيد على تحقّق هذه الحالة وأنّها مرئية للجميع ولتهويل ما يحدث. والضمير في (عَلَيْهَا) يعود إلى النار أو جهنّم، وهي المقصودة بالعذاب في الآية السابقة، وبهذا الاعتبار كان الضمير مؤنثاً. و«العرض

ص: 124


1- يونس (10): (32
2- المؤمنون (23): 99 - 100.

على النار» ليس بمعنى نفس تذوّق العذاب كما ربّما يتوهّم، لقوله تعالى: (يَنظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٌّ ) ممّا يدلّ على أنّ ذلك قبل دخولهم النار، بل بمعنى إراءتهم إيّاها؛ فإمّا أن يكون من باب القلب، كقولهم: «عرضت البعير على الماء»، فإن الأصل فيه عرض الماء على البعير، فإنّ الماء لا يشعر بشيء. وإمّا أن يكون بلحاظ اعتبار جهنّم مدركة شاعرة، كما في قوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ جَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزيد)،(1) فكأنّها تتوعّدهم حين يعرضون عليها. وربّما يكون لها إدراك وشعور واقعاً وإن خفي ذلك علينا. و«الخشوع» هو الإط_راق والانتكاس، وهو قد يكون من حياء أو إجلال. ولكنّه هنا من ذلّ وخزي.

(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِي)، «الطرف» في الأصل جفن العين، لأنّه طرفها، أي جانبها. ويطلق بالمعنى المصدري على تحريك الجفن، ثمّ أطلق على العين بنفسها بالمناسبة. وهو المقصود هنا على الظاهر، فالمعنى أنّهم لا يفتحون عيونهم للإبصار، بل ينظرون إلى النار باستراق خوفاً ورهبة، كالمحكوم بالإعدام ينظر

إلى المشنقة.

(وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). هذا إعلان يندّد بالظالمين ويكبتهم، فهذا القول وإن لم يتضمّن حكماً جزائياً ولكنّه تشميت وإذلال للظالمين. ولعلّ المراد ب_ «الذين آمنوا الخواصّ منهم، أي الأنبياء والأولياء المخلصون، كما نبّه عليه العلامة الطباطبائي رحمه الله،(2) فإنّهم الذين بيدهم أزمّة الأمور يوم القيامة بإذن الله تعالى. وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى:

ص: 125


1- ق (50): 30
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٠: ٦٦

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ).(1) وفي الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: «أنا ذلك المؤذّن».(2)

وقال بعض ممّن في قلوبهم مرض إنّ ذلك ليس امتيازاً ل_ه علیه السلام حيث يكون مجرّد مؤذّن ومعلن. وقد تغافل عن ما ذكره هو بنفسه في موضع آخر من أنّ النداءات يوم القيامة ليست مجرّد أقوال، بل هي حقائق تظهر، فيعبّر عن ظهورها بذلك. فهذا الأذان في الواقع عبارة عن جعل اللعنة عليهم، وهذا ليس شأن عامّة

المؤمنين، بل هو شأن من بيده الثواب والعقاب بأمر من الله تعالى.

ونظيره أيضاً كلام أصحاب الأعراف الذي ورد بعد الآية السابقة في سورة الأعراف، حيث يخاطبون أصحاب الجنّة، أي المستحقّين لها وهم لم يدخلوها بعد: (ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ).(3)

وهنا أيضاً يعلنون أنّ الخسارة واقعاً هو أن يخسر الإنسان نفسه وأهله القيامة، أي ليست الخسارة أن يموت الإنسان في الدنيا شابّاً أو فقيراً أو يفقد أهله فكلّ ذلك خسارة يمكن جبرها، وأمّا الخسارة يوم القيامة فلا جابر لها. ومن هنا جاءت العبارة بما تفيد الحصر، أي إنّ الخاسر هو هذا لا غيره. والظاهر أنّ المراد بالأهل أهلهم في الدنيا، وخسارتهم بمعنى فقدانهم، فإنّهم في جهنّم لا يجتمعون، ولا يرغب بعضهم في بعض، بل يفرّ كلّ امرئ من أهله، بخلاف أصحاب الجنّة.

وقيل: إنّ المراد ما ادُّخر لهم من الحور والولدان على تقدير إيمانهم، فهم

ص: 126


1- الأعراف (٧): ٤٤
2- معاني الأخبار: ٥٩؛ الكافي ١: ٤٢٦ و راجع: تفسير العيّاشي ٢: ١٧ .
3- الأعراف (٧): ٤٩.

يخسرونهم بكفرهم. وهو بعيد لعدم صدق الأهل عليهم.

(ألا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ)، أي عذاب دائم من الإقامة بمعنى الإدامة، كما مرّ في إقامة الصلاة. والجملة تحتمل أن تكون من تمام الإعلان السابق، فتكون بمنزلة التعليل، وتبيين كون الخاسر منحصراً فيهم، وذلك من جهة خلود العذاب، فهي خسارة لا جبر لها، بخلاف ما يخسره الإنسان في الدنيا، فإنّها خسارة مؤقتة، ويمكن أن يتعقّبها ربح جابر. ويحتمل أن تكون الجملة تعقيباً من الله تعالى.

(وَمَا كَانَ هُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ الله)، أي يجدون أنفسهم ذلك اليوم من دون ناصر ومعين، بل يعلمون أنّه لم يكن لهم نصير من قبل، وإنّما كانوا يتوهّمون نصرة الأصنام وغيرها ممّن كانوا يدعونهم من دون الله تعالى. فهذا الأمر يظهر لهم بوضوح، ويتبيّن أنّه ما من أحد يمكنه أن ينصر أحداً من دون الله في الدنيا ولا في الآخرة. ولذلك عبر عن نفي الأولياء بنفي الكون في الماضي: (وَمَا كَانَ هُم).

والنصرة من دون الله تقابلها النصرة بإذن الله تعالى، فإنّها حاصلة لأوليائه و عباده المخلصين وهي الشفاعة. ومعنى النصرة من دون الله تعالى أن تغنيه عن نصرة الله تعالى. و «من» في قوله: (مِنْ أوْلِيَاءَ) زائدة تفيد التأكيد.

(وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)، أي لا سبيل له إلى الهداية. و «من» زائدة أيضاً. وهذا تأكيد لما في أوّل هذه المجموعة من الآيات.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله )، بعد التحذير والإنذار ممّا يصيب الظالمين يوم القيامة وجّه الدعوة إلى كلّ البشر: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) و«الاستجابة إجابة الداعي، أي اقبلوا دعوته إلى الصلاة والصلاح فهو ربّكم

ص: 127

ولا يريد لكم أمراً إلا ما هو دخيل في حسن تربيتكم، وإكمال نفوسكم لتصلحوا لما أراد لكم ربّكم من نعم خالدة، ولا تؤجّلوا الرجوع إلى الله، وإلى امتثال أوامره، ولا يغرّتّكم الإمهال واجتنبوا التسويف، فسيأتي يوم تسدّ فيه أبواب القبول، وهو يوم لا مردّ له من الله.

و «مردّ» مصدر بمعنى الردّ. و «من» متعلقة بمردّ، أي لا ردّ له من الله تعالى. والردّ _ على ما قالوا _ بمعنى المنع، فالمراد أنّه تعالى لا يمنع من تحقّقه. ويمكن أن يكون الردّ بمعنى الرجوع، فالمراد أنّه تعالى لا يرجع عن هذا القرار، فهو قضاء حتم. وهذا الأمر مما تكرّر التأكيد عليه في القرآن الكريم، وهو أنّه أمر حتمي قد قضى الله فيه قضاءاً حتماً، فلا تمنّوا أنفسكم باحتمال أن يتغيّر فيه القضاء. والاحتمال الثاني أقرب.

(مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) جملة مستأنفة تبيّن حال الظالمين يوم القيامة، ففي هذا اليوم لا ملجأ لهم من عذاب الله والملجأ اسم مكان من اللجوء، فالمعنى أنّهم لا يجدون مكاناً يأوون إليه فراراً من العذاب. ويمكن أن يكنّى به عن الناصر، أي ليس لكم ناصر يوم القيامة والنكير مصدر بمعنى الإنكار. أي لا يمكنكم إنكار ما فعلتموه، فإنّ الأفعال والأقوال كلّها حاضرة أمام الله تعالى وبمرأى ومسمع من الجميع.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغ)، أي فإن أعرضوا عن الاستجابة لدعوة ربّهم. وهذا التفات من مخاطبة الناس إلى مخاطبة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لرفع الحرج عنه، لكي لا يشعر بالتقصير في أداء الواجب حيث واج_ه عن_ادهم وكفرهم. وهذا الشعور أمر طبيعي لمن يهتمّ بهداية الناس ويشعر بالمسؤولية،

ص: 128

فإنّه إذا واجه صدود الناس وإعراضهم يحذر من أن يكون السبب تقصيره في الأداء. وجزاء الشرط محذوف، فيمكن أن يقدر: (فلا حرج عليك في ذلك) وما ورد في الجزاء سبب له، أي ليس دورك إلا التبليغ وقد أدّيته بأحسن وجه.

وقد تكرّر التنبيه على هذا الأمر في القرآن الكريم، وبالنسبة لجميع الرسل، فدور الرسول منحصر في التبليغ ، ولم يبعثه الله حفيظاً على العباد، ليكون مسؤولاً عن عدم استجابتهم للدعوة الإلهية. وقد مرّ في تفسير الآية ٦ أنّ الحفيظ إذا تعدّى ب_ «على» كان معناه تسجيل أعمالهم عليهم للمحاسبة والجزاء. وفي ذلك

ب_ تهديد مبطّن، وإعلام بأنّ هناك حفظاء يسجّلون عليهم الأعمال، فليأخذوا حذرهم.

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ). اختلف في موقع هذه الجملة وتناسبها مع ما تقدمها، ففي «الميزان»: أنّ المراد بالآية حيث كان تسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بيّن بهذه الجملة حالة الإنسان واشتغاله بنفسه في الرخاء والشدة، فهو فرح بطرفي الرخاء، وكفور في البلاء، ولا تنفعه موعظة.(1)

وقيل: إنّ التسلية تتمّ بهذه الجملة من جهة التنبيه على أنّ هذا حال الإنسان مع ربّه فكيف بالرسول؟!

والذي يبدو لي أنّ هذه الجملة يقصد بها التنبيه على أنّ الله تعالى لم يكتف بدعوة هذا الإنسان الظلوم ولا بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج ونصب الأئمّة، بل ذكر الإنسان بربّه عن طريق الرخاء والشدة، والنعمة والنقمة

ص: 129


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٠: ٦٨

لعلّه ينتبه إلى شكر المنعم والتخوف من المنتقم ، ولكنّه أصرّ على الكفران. ولذلك صدّر الجملة بضمير المتكلم: (وإنَّا ) ولم يقل: وإنّ الإنسان إذا أذقناه، تنبيهاً على أنّ مصبّ الكلام هو تكميل الدعوة بهذا التذكير وهو فعله تعالى.

والتعبير بالإذاقة بدلاً عن الإنعام ونحوه ، ينبّه على أنّ الإنسان قد ذاق النعمة وتلذّذ بها، فلم تكن مجرّد نعمة ولو مجهولة. ولكنّه مع ذلك لم يتجاوز عن التلذّذ بالنعمة إلى شكر المنعم والإيمان بلطفه وعنايته، ب_ل ف_رح بالنعمة ذاتها ومكث فيها لا يتجاوزها.

ويلاحظ في تعبير الآية الكريمة أنه تعالى نسب الرحمة إلى نفسه، وأكّد على ذلك بتقديم الضمير مع التأكيد ب_ «إنّ» وكرّر الضمير بقوله: (أذقنَا) وأضاف إليه أن الرحمة منه تعالى أيضاً ، فكرّر ضمير المتكلّم ثلاث مرّات، وكان من الممكن أن يقول «وإذا أذقنا الإنسان رحمة»، ولكنّه في جانب السيّئة نسب الفعل إليها وذكر السبب، وأنّه من فعل الإنسان نفسه وممّا قدّمت يداه، مع أنّ إصابة السيئة أيضاً من فعل الله تعالى. وذلك لأنّ الغرض التنديد بالإنسان وتعامله مع ما يذكّره بالله تعالى، فكان الأنسب أن ينبّه على السبب في إصابة السيئة، وهو ما يرتكبه الإنسان من الآثام، كما مرّ في نفس السورة: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ) إذ لو اكتفي بذكر الإصابة أوهم أنّه ربّما يكون على حقّ في كفران_ه بالنعم بعد أن أصابه البلاء، فلزم التنويه على أنّ ما أصابه من السيّئة إنّما هو نتيجة لما قدمت يداه من الذنوب، ولم يكن مبادرة من نظام الكون، ومع ذلك فإنّه لا يصبر على البلاء، بل يكفر بربّه، وينسى كلّ ما أذاقه من الرحمة، بدلاً من أن

يكون ذلك حافزاً لتنبّهه وتوبته، وإقلاعه عن الذنوب لئلا تصيبه السيئات.

ص: 130

والمراد بالسيّئة ما يسوء الإنسان من مصائب الدنيا وبما قدمت أيديهم المعاصي التي ارتكبوها، فإنّها تتقدّمهم، ويجدونها حاضرة قبل حضورهم ي_وم القيامة. والتعبير بالأيدي باعتبار أنّ أكثر الأعمال المشهودة في الدنيا مستندة إليهما، فيقال: هذا ما كسبته يداه، مع أنّ كثيراً من الأعمال مستندة إلى جوارح اُخرى كالعين واللسان والتعبير بالإنسان بدلاً عن الناس، لعلّه للتنبيه على أنّ من خصائص النوع، ولعلّه لذلك أيضاً كرّر ذكر الإنسان في آخر الجملة بدلاً عن الضمير. ولعلّ في اختيار التعبير بالجمع في الإصابة بالسيّئة للتحذير من عذاب عامّ يشمل الجميع.

ص: 131

سورة الشورى (٤٩ - ٥٠)

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تَخَلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَنا وَتَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

(الله مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ،) اختلفوا في بيان وجه التناسب بين هاتين الآيتين وما سبق، فقال بعضهم: إنّ الآية في سياق الكلام عن الرزق في الآية ٢٧ حيث عبّر هنا عن تقدير الأولاد بالهبة، وهذا التعبير يناسب الرزق. وأرى أنّ نفي لزوم التناسب بين الآيات أهون من ذلك.

وقيل: إنّها تناسب الآية السابقة من جهة أنّ الإنعام وإصابة السيّئة ربّما تثير سؤالاً عن الوجه في ذلك، فالآية تجيب بأنّه تعالى يخلق ما يشاء.

ولكن من الواضح أنّ الغرض من هذه الآية ما بعد هذه الجملة من هبة الأولاد، وأنّ هذه الجملة مقدّمة لها، وهبة الأولاد لا علاقة لها بالآية السابقة.

والظاهر أنّه لا موجب للقول بلزوم التناسب بين الآيات دائماً، بل حتّى في الآية الواحدة ربّما يتغيّر موضوع الكلام، كما في بعض الروايات، فإن كان ولابد، فلعلّ الآيتين يعود سياقهما إلى ما مرّ في أوائل السورة من التأكيد على عموم الربوبية، ومن المعروف أنّ دأب القرآن الرجوع في آخر السورة إلى ب_دو الحديث.

ومهما كان، فالجملة الأولى تؤكّد أنّ الملكية الحقيقية في الكون بأجمعه الله ،تعالى، وتقديم الجارّ والمجرور يفيد الحصر، فليس لغيره تعالى ملك في السماوات والأرض. وقد ذكرنا مراراً أنّ السماوت والأرض كناية عن الكون كلّه. و«الملك» بضم الميم، هو التمكّن من التصرّف وغيره تعالى لا يتمكّن من

ص: 132

التصرف إلا في حدود ما أذن له، فالسلطة المطلقة والعامة والذاتية ليست إلا له تعالى، وهو الذي يملك القدرة في كلّ ما يحدث من تغيير، وكلّ ما يستقر من نظام، وعليه فهو يخلق ما يشاء. وكلّ ما يتكوّن في الطبيعة أو خارجها فه_و م_ن صنعه تعالى.

والغرض من التأكيد على المشيئة في الخلق والتدبير، التنبيه على أنّ الأمور وإن كانت تسير وفقاً للقوانين الكونية التي لا تتبدّل إلا أنّ كلّ ذلك يتبع مشيئة الله تعالى وهو لا يشاء جزافاً، بل لحكمة لا يعلمها بالتحديد غيره.

(يَهَبُ مَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَو يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً،) ومن عموم ملكه وسلطانه وربوبيته وخلقه لما يشاء، وفقاً للحكمة في الكون أنّه تعالى يجعل بعض الناس لا يولد له إلا الذكور، وبعضهم لا يولد له إلا الإناث، و بعضهم يولد له الصنفان وبعضهم عقيماً لا يولد له ولد.

وليس المراد أنّ هذه الحالات الطارئة على الإنسان مرتبطة بالغيب وبإرادته تعالى بوجه خاصّ، وأنّها مستثناة من سائر ما في الطبيعة، حيث تخضع للعوامل الطبيعية، بل إنّ كلّ واحدة من هذه الظواهر لها علل و عوامل طبيعية، ويمكن تغييرها طبقاً للسنن الطبيعية أيضاً، ولكنّها في نهاية الأمر من خلق الله تعالى، فإنّه هو واضع السنن، بل هو المسيّر للأمور، فلا يؤثّر عامل أثره إلا بإرادته وهذا الاعتقاد هو أساس الدين، وهو المائز بين الشرك والإيمان، فإنّ المشركين كانوا يعتقدون بخالقيته تعالى، ولكنّهم كانوا يرفضون عموم الربوبية.

والتعبير بالهبة لبيان أنّ الأولاد من الصنفين نعمة يهبها الله تعالى للوالدين، وفي ذلك تعريض بما كان متداولاً بين العرب من تحقير البنات، حتّى نزل فيهم

ص: 133

قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءٍ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أم يَدُسُّهُ في التُّرَابِ ألا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)،(1) فالله تعالى اعتبر البنات هبة منه تعالى، بل قدّم ذكرهنّ على البنين. و«التزويج»: القرن بين شيئين متناسبين. و«الزوجان»: المثلان المتقارنان فقوله: (أو يُزَوِّجُهُمْ )، أي يهبهم الزوجين، أي اثنين من كلّ صنف واحداً أو أكثر، فيولد لهم الذكر والأنثى. و«العقيم» من لا يولد له.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ )،عليم بالأسباب فيتوصّل إلى كلّ شيء بسببه، بل هو المسبّب لها. وهو القادر على كلّ شيء بجعل أسبابه. أو أنّه عليم بما يصلح لكلّ أحد وقادر على ذلك.

وهنا يبدو سؤال، وهو أنّ الظاهر من الآية أنّ الإنسان لا يتمكّن من التحكّم في الولد، فإن كان عقيماً فلا سبيل له إلى الإيلاد، وإن كان مئناثاً فلا سبيل له إلى ولد ذكر ، وكذا العكس ، مع أنّ التقدّم العلمي أوصل الإنسان إلى أمنيّته فيمكنه أن يحصل على ما يريده من ولد متى شاء، فكيف توجّه الآية؟

والجواب: أنّ المراد بالآية من يهبه الله إناثاً أو ذكوراً ولو بالواسطة، فلا يختصّ بمن هو كذلك بطبعه، سواء كانت الواسطة طبيعية، كالمعالجة بالعقاقير والأدوية القديمة، أو تناول الأغذية التي تؤثّر حسب التجارب البشرية، أو التوصّل إلى ذلك بطرق العلاج الحديثة، أو غير طبيعية، كما كان يحصل للناس بالتوسل بالدعاء، أو التوسل بأولياء الله تعالى، كما حصل لوالد الشيخ الصدوق رحمه الله. ونحن ننقل القصة هنا عن لسان الشيخ الصدوق نفسه في كتابه القيّم

ص: 134


1- النحل (١٦): ٥٨ - ٥٩.

«كمال الدين وتمام النعمة» تيمّناً وتبرّكاً، قال رحمه الله:

حدّثنا أبو جعفر محمّد بن عليّ الأسود رضی الله عنه، قال: سألني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه رضی الله عنه- وهو والد الشيخ الصدوق - بعد موت محمّد بن عثمان العمري رضی الله عنه- النائب الثاني لصاحب الأمر عجّل الله فرجه - أن أسأل أبا القاسم الروحي - أي الحسين بن روح النائب الثالث - أن يسأل مولانا صاحب الزمان علیه السلام أن يدعو الله عزّ وجلّ أن يرزقه ولداً ذكراً. قال: فسألته فأنهى ذلك _ أي فأوصل الرسالة إلى الإمام علیه السلام- ثمّ أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام أنّه قد دعا لعلي بن الحسين و أنّه سيولد له ولد مبارك ينفع الله به وبعده أولاد.

قال أبو جعفر محمّد بن علي الأسود رضی الله عنه: وسألته في أمر نفسي أن يدعو الله لي أن يرزقني ولداً ذكراً، فلم يجبني إليه. وقال: ليس إلى هذا سبيل. قال: فول_د لعلي بن الحسين رضی الله عنه محمّد بن علي - وهو الشيخ الصدوق - وبعده أولاد ولم يولد لي شيء.

ثمّ قال الصدوق: قال مصنّف هذا الكتاب رضی الله عنه كان أبو جعفر محمّد بن علي الأسود رضی الله عنه كثيراً ما يقول: إذا رآني أختلف إلى مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضی الله عنه وأرغب في كتب العلم وحفظه، ليس بعجب أن تكون لك هذه الرغبة في العلم وأنت ولدت بدعاء الإمام رضی الله عنه.(1)

والحاصل أنّ المراد بهبة الله تعالى لبعض إناثاً ولبعض ذكوراً وجعل بعض الناس عقيماً، لا يختصّ بمن يكون كذلك بحسب طبعه، أو يكون كذلك بعلاج، فكلّ ذلك يعود أمره إلى الله تعالى، ولا يتحقّق من دون إذنه. والعلاج ليس أمراً

ص: 135


1- كمال الدين وتمام النعمة: ٣١/٥٠٢

مستحدثاً، بل البشر طيلة التأريخ كان يحاول ذلك، ويعالج نوعاً مّا. وهناك موارد كثيرة لا يمكن علاجها، وبعض أنواع الإيلاد لا يعتبر واقعاً إي_لاداً من الرجل نفسه، بل هو تبنّي لولد الغير، كالاستفادة من حويمن رجل آخر وكذلك بالنسبة البويضات المرأة.

وينبغي أن ننبّه هنا على ملاحظة أساسية لمن يريد أن يكتب عن الدين أو يفسّر القرآن والحديث، وهي أنّه لا يصحّ الاعتماد على ما بلغ إليه العلم أو لم يبلغه حتّى الآن في تفسير كلام الله تعالى مع سرعة التغيّرات والمفاجئات العلمية وتبيّن الأخطاء. ونجد في هذا المجال أنّ بعض المفسّرين الجدّد حاول أن يستخلّص معجزة من هذه الآية، حيث إنّها تدلّ على أنّ العقم والإيلاد، وك_ون الرجل مثناثاً أو مذكاراً أمر يختصّ به تعالى وليس للبشر فيه حول ولا قوّة؛ لأنّ العلم بالرغم من كلّ تقدّمه وتطوّره لم يتمكّن من تغيير ذلك.

وهذا قد تبيّن ضعفه بعد مدّة قصيرة من كتابة تفسيره، مع أنّ البشر - كما ذكرنا _ حاول العلاج طيلة التأريخ وتمكّن منه نوعاً مّا.

ص: 136

سورة الشورى (51 - 53)

*وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيا أَوْ مِن وَرَآيِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيُّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلَا الْإِيمَنُ وَلَكن جَعَلْتَهُ نُورًا تَهْدِى بِهِ، مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(52)صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ(53)

(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلا وَحْياً أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَو يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)، يعود سياق السورة في ثلاث آيات من نهايتها إلى ما ابتدأ به من الكلام عن الوحي. وفي هذه الآية يحدد إمكان تلقّي البشر الكلام من الله تعالى في ثلاثة أوجه.

وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ) يدلّ على أنّ البشر لا يتحمّل غير ذلك، وإلا فالأمر ليس مستحيلاً في حدّ ذاته، والله تعالى قادر على كلّ شيء، فالنقص في القابل. ولذلك لم يقل: «ما كان الله أن يكلّم البشر»، كما قال تعالى: (مَا كَانَ الله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ)،(1) لأنّ ذلك أمر مستحيل في حدّ ذاته. وقوله: (وَحياً) بتقدير «أن يوحي وحياً» كما أنّ قوله: (يُرْسِلَ رَسُولاً) بتقدير «أن».

و«التكليم» هو إلقاء الكلام على أحد مع الوصول إليه، ولا يختصّ بالتحدّث باللسان، وإخراج الصوت من الفم، ومن مقاطع الحروف، بل يصدق أيضاً مع إيجاد الكلام بآلة أو بدونها، مع وصول الصوت إلى المخاطب، بحيث يعلم أنّ مصدر الكلام هو المتكلّم بالذات. وهذا الأمر يتحقّق في زماننا هذا بالأجهزة

ص: 137


1- مريم (19): 35

الالكترونية الحديثة، كالأجهزة المنصوبة على الهواتف تتحدّث إليك إذا اتصلت بالرقم، ويعلمك بما أودع فيه من المعلومات المختلفة. فهذا أيضاً نوع من التكليم، والصوت من الجهاز وليس تسجيلاً لصوت إنسان، ولكن هناك من يتحمّل مسؤولية هذا الكلام، وإن كان ربّما لا يعلم بوصول الكلام إليك بالخصوص.

والحاصل أنّه لا مانع من التعبير عن ما يخلقه الله من صوت ويحدّث به بشراً كموسى علیه السلام بالتكليم، وهو تعبير على الحقيقة لا المجاز، وإن كان التكليم المتعارف لا يحدث بهذا النحو، ولكن الكيفية المتعارفة ليست دخيلة في مفهوم التكليم. ومثله كلّ ما ينسب إلى الله تعالى من صفات تحمل في كيفيتها المتعارفة ما لا يليق به تعالى،كالسمع والبصر والعلم وغير ذلك.

ولا وجه لتأويل تكليم الله تعالى بإلقاء العلم في روع الأنسان، فإنّه ليس من التكليم في شيء، وإلا لم يختصّ الأمر بموسى علیه السلام بل كان كلّ البشر ممّن كلّمه الله تعالى، لأنّ كلّ ما لدينا من علم فإنّما هو منه تعالى شأنه.

والصور الثلاث التي يمكن أن يتحقّق بها تكليم الله تعالى للبشر حسب هذه الآية هي:

١- الوحي، وهو في اللغة الإشارة والكتابة والإلهام، وكلّ إعلام بخفاء. ويبدو أنّ المقصود هنا هو المعنى الأخير، أي الإعلام بخفاء، سواء في اليقظة أو المنام فيشمل ما اُلقي على إبراهيم علیه السلام في الرؤيا من الأمر بذبح ابنه، وكلّ إلقاء في القلب يشعر الإنسان به آنّه من الله تعالى وتطمئنّ له نفسه، ولا يشمل الإلهامات التكوينية أو ما يسمّى بالغريزة، كقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ

ص: 138

الْجِبَالِ بُيُوتاً)،(1) فإنّ هذا ليس من تكليم الله تعالى. وبذلك يتبيّن أنّ الوحي من الله تعالى أعمّ من تكليمه. والظاهر أنّ منه قوله تعالى بشأن يوسف علیه السلام (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنتتَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)،(2) وقوله تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ)(3) ونحو ذلك، وهو كثير، كما يمكن أن يكون المراد بالوحي في هذه الموارد محادثة الملك، فيكون التعبير بالإيحاء باعتبار أنّ الملك يوحي إلى الرسول، كما ورد في القسم الثالث.

والاحتمالان يأتيان في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إلى أم مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)،(4) فيحتمل أن يكون من قبيل الإلهام ويحتمل أن يكون من قبيل محادثة الملك، كما حدث لمريم علیها السلام. ومهما كان، فلا شكّ في أنّ أم موسى عليها السلام كانت تعلم أنّه من الله جلّ شأنه، ولذلك قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ)(5) ممّا يدلّ على أنّها كانت تعتبره وعداً منه تعالى.

ومن هذا القبيل أيضاً ما ورد من المقاولة بين الله تعالى وبعض الرسل، فيحتمل فيها الأمران، كقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمُوْتَى قَالَ أوَلَمْ تُؤْمِنُ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلبِي)(6) وغير ذلك، وهو كثير أيضاً بناءاً على ما سيأتي من اختصاص التكليم المباشر بموسى علیه السلام.

ص: 139


1- النحل (١٦): ٦٨.
2- يوسف (12): ١٥
3- الشعراء (٢٦): ٦٣
4- القصص (28): 7
5- القصص (28): 13
6- البقرة (٢): ٢٦٠

2 - أن يكون من وراء حجاب، أي يكلّمه الله تعالى من وراء حجاب. ومعنى ذلك أنّه يسمع الكلام ولا يجد أحداً، فهذا في الواقع تكليم من الله تعالى مباشرة وليس وحياً وإلقاءاً للعلم في خفاء، ولا يتوسّط بين الرسول وربّ_ه ملك. ومنه خطاب موسى علیه السلام في الطور. ولا أعلم موضعاً صرّح فيه بمثل هذا التكليم غيره.

ويظهر الاختصاص بوضوح من قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لم نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً)،(1) حيث يلاحظ أنّه تعالى عبّر عن رسالة كلّ الأنبياء بالوحي، وأشار إلى مجموعة منهم، وذكر فيهم أولي العزم إلا موسى علیه السلام

فأفرده بالقول: (وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً ) ويتبيّن منه أنّ كلّ ما ورد من القول بين الله تعالى وسائر الأنبياء علیهم السلام ليس من التكليم المباشر، كما مرّ.

ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:(قال يا موسى إني اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالاتي وَبِكَلامي)؛(2) فإنّه يفيد اختصاصه من بين الناس باجتماع الأمرين: الرسالة والكلام، بخلاف غيره من الرسل.

٣- أن يكون بواسطة ملك، وهو المراد بقوله تعالى: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) ولعلّ هذا هو الغالب في إرسال الرسالات والمراد بالرسول الملك. وقوله: (فَيُوحِيَ) فاعله الملك، فالمعنى أنّه تعالى يرسل الملك، وهو

ص: 140


1- النساء (٤): ١٦٣ - ١٦٤.
2- الأعراف (٧): ١٤٤

يوحي إلى الرسول ما يشاء الله إبلاغه به، وذلك بإذن منه تعالى.

والتعبير عن إلقاء الملك بالوحى لعلّه من جهة أنّه أيضاً ليس من قبيل المحادثات بين البشر. ونحن لا نعلم كيفية تلقي الإنسان الرسول ما أوحى الله تعالى من الملك الرسول. والوارد في بعض الروايات أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كان يعرض عليه شبه الغشوة حين تلقي الوحي، وأنّه كان يثقل حتّى لو كان على دابّة لم تتحمّل ثقله ولصقت بالأرض، وإن لم يثبت ذلك ولم يرد في الروايات المعتبرة.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)،(1) قال: «وقد كان ثقله مشهوداً من حال النبي صلی الله علیه و آله وسلم بما كان يأخذه من البُرَحاء وشبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة».(2) والبُرَحاء: الحمى الشديدة.

ولعلّه يقصد بذلك أحاديث العامة؛ إذ لم يرد في كتبنا المعتبرة، بل في بعض رواياتنا ما ينافي ذلك وإن لم يثبت ذلك أيضاً عن طريق معتبر، وقد ورد في الروايات أنّ الرسول صلى الله عليه و اله و سلم كان يخبر عمّا يأتي به جبرئيل علیه السلام وه_و ف_ي وضع طبيعي ويقول: «هذا جبرئيل يأمرني بكذا وكذا أو يخبرني بكذا وكذا وهو مقبل على الناس يحدّثهم، ولكن لا نعلم كيف كان جبرئيل علیه السلام يخبره صلی الله علیه و آله وسلم فلعلّه أيضاً بالإيحاء، أي الإعلام بخفاء.

منها ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث طوي_ل ع_ن حجّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم وفيه: «فَلَا فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ وَهُوَ عَلَ الْمَرْوَةِ اقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَحَمِدَ الله

ص: 141


1- المزمل (73): ٥
2- الميزان في تفسير القرآن ٢٠ ٦٢

وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثمّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا جَبْرَئِيلُ - وَأَوْمَا بِيَدِهِ إِلى خَلْفِهِ - يَأْمُرُنِي أنْ آمُرَ مَنْ لَمْ يَسُقُ هَدْياً أنْ يُحِلَّ وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا أَمَرْتُكُمْ».(1)

وهناك موارد تحدّث فيها الملك مع الإنسان مواجهة كما تتحادث البشر بعضها مع بعض، وليس ذلك من الإيحاء، كما ورد في قصة لوط علیه السلام أنّ الملائكة نزلت عليه بصورة إنسان وأنّه اشتبه عليه الأمر، فقال : (هَذا يَومٌ عَصِيبٌ )،(2)حيث خاف عليهم من اعتداء أهل المدينة عليهم وه_م ش_ب_اب ح_س_ان الوجوه. وكذلك نزلوا بأنفسهم قبل ذلك على إبراهيم علیه السلام بصورة ضيوف وأتى إليهم بعجل حينذٍ، بل كلّموا زوجته وبشّروها بإسحاق علیه السلام. وأيضاً تمثّل الملك المريم علیها السلام بشراً سوياً وتحدّث إليها وخافت منه حيث ظنّته بشراً.

ولعلّ الثقل الذي كان يظهر على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم- لو صحّ النقل _ لم يكن من جهة محادثة الملك، بل من جهة ثقل الكلام، كما قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)،(3)ولعلّه لذلك أيضاً ما كان الوحي الرسالي ينزل على مسامعه، بل ينزل على قلبه، كما قال تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً الجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(4) وقال :تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ). (5)

فلا يبعد القول بأنّ هناك فرقاً بين رسالة السماء التي يبعثها الله تعالى إلى أهل الأرض عن طريق الرسول، وبين ما تتحدّث به الملائكة مع الرسل أو غيرهم في

ص: 142


1- الكافي ٤ : ٢٤٦
2- هود (11): 77
3- المزمّل (73): 5.
4- البقرة (2): 97
5- الشعراء :(٢٦): 193 - ١٩٤

مختلف الأمور، فالأوّل كلام ثقيل لا ينتقل من الملك إلى الرسول إلا عن طريق الإيحاء إلى القلب، والثاني يحدث بصورة محادثة عادية بين الإنسان والملك المتمثّل في صورة إنسان أو غير المتمثّل كقوله صلی الله علیه و آله وسلم: «هذا أخي جبرئيل يخبرني بكذا وكذا».(1)

ومهما كان، فمن الواضح أنّ المراد بالرسول في هذه الآية الملك ومن الغريب ما ورد في تفسير الكشّاف من أنّ المراد به الرسول الإنسان، فيكون عنوان البشر في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله) يشمل من يلقي الرسول عليهم رسالة السماء من الأمّة.(2)

وهذا غير صحيح قطعاً، لأن هذا لا يعتبر تكليماً من الله تعالى وإنّما هو إرسال رسالة وإيصال علم، وليس من قبيل إرسال الملك إلى الرسل، فإنّه رابط غيبي يوصل الوحي من الله تعالى ولذلك كان يحدث بارتباطه مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ما يحدث حين نزول الوحي - لو صحّ النقل - لأنّ الملك ليس إلا واسطة لانتقال تكلّم الله مع البشر، وليس ناقلاً للكلام، كما ربّما يتوهم.

وقوله تعالى: (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)، تأكيد على أنّ الملك لا يوحي من قبله شيئاً، وإنّما يوحي ما يشاؤه الله تعالى مشيئة تكوينية وبإذن وعناية خاصّة منه. ولذلك اعتبر هذا الوحي والرسالة تكليماً من الله تعالى.

(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). الظاهر أنّه تعليل لما سبق، فالله تعالى لعلوّه ونزاهة ساحته لا يكلّم البشر مباشرة، بمعنى أنّ البشر لا يستطيع أن يتلقّى من ربّه مباشرة في هذه الحياة الدنيا إلا بأحد هذه الوجوه، مهما كان رفيع الدرجة عند ربّه. وهو تعالى

ص: 143


1- راجع: بحار الأنوار 7: 237 و 22: 78.
2- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٣٣.

لحكمته اختار لكلّ أحد، وفي كلّ موضع ما يناسبه من كيفية الإلقاء وإيصال الرسالة.

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا). ظاهر لفظ الآية أنّ المراد بالروح القرآن أو الشريعة، وأنّ الإشارة في قوله: (وَكَذَلِكَ) إلى ما مرّ من طرق التكليم، أي وبمثل هذه الطرق أوحينا إليك القرآن والظاهر أنّه إشارة إلى مطلق الطرق المذكورة، لا إلى كلّها كما قيل بناءاً على ما مرّ من أنّ الظاهر أنّ التكلّم من وراء حجاب كان خاصّاً بسيدنا موسى علیه السلام والله العالم.

ولعلّه عبّر عن القرآن بالروح لأنّه منشأ الحياة المعنوية للإنسان، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا الله وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لَا يُحْيِيكُمْ)(1) ومثل هذا التعبير ورد في قوله تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوح مِنْ أمره عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ انْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ)(2) وأيضاً فى قوله تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمره عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ).(3) والظاهر أنّ «من» في قوله تعالى: (مِن أمرِنَا) بيانية، أي الأمر الإلهي الذي يبعث بالروح ويحيي الإنسان، فحياته المعنوية تحصل بمتابعة الأوامر الإلهية، ويحتمل أن يراد بالأمر م_ا يع_مّ النهي. وعليه فالمراد بالأمر شريعة السماء. وكذلك قوله تعالى: (مِن أمرِنَا) في سورتي النحل وغافر. وقيل المراد بالأمر قضاؤه تعالى، فالمعنى الروح الذي نشأ من قضائه وإرادته تعالى. وهو بعيد إذ لا يختصّ ذلك بالشريعة.

ص: 144


1- الأنفال (٨): ٢٤
2- النحل (١٦): ٢
3- غافر (٤٠): ١٥

هذا هو الظاهر من الآيات، ولكن هناك اختلاف كثير في تفسير الروح وكونه من الأمر في المواضع الثلاث، ومن المفسّرين من أهمل كلمة الأمر ولم يفسّرها واكتفى بتفسير الروح وأنّه القرآن أو الوحي أو الشريعة أو النبوّة، ومن هؤلاء الشيخ الطوسي رحمه الله في «التبيان»(1) والطبرسي في «مجمع البيان»(2) ومنهم من فسّره يجبرئيل علیه السلام(3) لقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ)،(4) وهناك روايات تدلّ على أنّه خلق آخر أعظم من جبرئيل وميكائيل،(5) ويظهر منها أنّه ليس من الملائكة.(6)

روى الكليني رحمه الله في باب «الروح التي يسدّد الله بها الأئمّة» عدّة روايات تدلّ على ذلك، ولكن لا يصحّ منها، إلا رواية أبي بصير، وقد رواها بثلاث وجوه وبثلاث طرق كلّها معتبرة، قال في إحداها: سألت أبا عبد الله علیه السلام ع_ن ق_ول الله تبارك وتعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ)، قال: «خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يخبره ويسدّده وهو مع الأئمّة من بعده» وأضاف في اُخرى: «وهو من الملكوت» وفي الثالثة: «لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمد صلی الله علیه و آله وسلم وهو مع الأئمّة يسدّدهم، وليس كلّ ما طلب وجد».(7)

ص: 145


1- راجع: التبيان في تفسير القرآن 9 : 178
2- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن ٩ - ١٠: ٥٨
3- راجع: تفسير نور الثقلين ٤: ٥٩٠.
4- الشعراء (٢٦): ١٩٣ - ١٩٤.
5- راجع: بحار الأنوار ١٨: ٢٥٤ تفسير القمي 2: 279
6- راجع: تفسير نور الثقلين ٣: ٢١٥.
7- الكافي 1: 273

وفي «بصائر الدرجات» أكثر من ثلاثين حديثاً كلّها بهذا المضمون.(1)

وظاهر هذه الروايات وغيرها أنّ هذا الروح ليس من الملائكة وإن قورن بجبرئيل وميكائيل، حيث عبّر عنه أنّه خلق من خلق الله، مضافاً إلى أنّه لا يناسب التعبير عن الملك بأنّه أوحي إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بل صرّح بذلك في بعض الروايات، كما سيأتي وإن لم يصحّ السند.

ويبدو ممّن فسّر «الروح» في الآية الكريمة بالقرآن من علمائنا أنّهم لم يقبلوا هذه الروايات؛ مع أنّها كانت بمرأى منهم.(2) ولعلّ الوجه في ذلك، أنّ هناك بعض الملاحظات عليها ممّا يوجب عدم الوثوق بصدورها وإن صحّ السند:

الملاحظة الأولى: أنّ ظاهر هذه الروايات وصريح بعضها أنّ هذا الروح بقي مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة من بعده علیهم السلام، فهذا مقتضى المعية الواردة في كلّ هذه الروايات، وقد صرّح في عدّة من روايات بصائر الدرجات» أنّه لم يصعد إلى السماء منذ هبط إلى الأرض، وهذا الأمر مخالف لقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)،(3) حيث تدلّ على أنّ الروح ينزل في ليلة القدر كل عام.

ويمكن أن يدفع الإشكال بأنّ الروح في هذه الآية غير الروح في الآيات الثلاث وإن ورد الاستدلال بهذه الآية أيضاً في أنّ الروح غير الملائكة في بعض الروايات، وسيأتي ذكرها إلا أنّها ضعيفة سنداً.

الملاحظة الثانية: ما ورد في النصّ الثالث من الروايات المذكورة عن أبي

ص: 146


1- راجع: بصائر الدرجات: ٤٧٥.
2- كما في تصحيح اعتقادات المفيد ص 80 وتفسير التبيان ومجمع البيان وغيرها.
3- القدر (97): ٤

بصير، وسنده معتبر أيضاً، من أنّ هذا الروح لم يكن لأحد قبل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أنّ ظاهر الآيات أنّه تعالى يلقيه على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق أو ينذر أنّه لا اله إلا هو، ومعنى ذلك أنّ هذا الروح كان مع جميع الرسل علیهم السلام. ولكن هذه الملاحظة تختصّ بهذه الرواية أو بهذا النقل في رواية أبي بصير، بناءاً على أنّ كلّ ما روي عنه في هذا الموضوع بأجمعها رواية واحدة.

الملاحظة الثالثة: أنّ هذه الروايات مخالفة للقرآن الكريم؛ فإنّ صريح الآيات أن القرآن أتى به جبرئيل علیه السلام وهو الذي كان يخبر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالشريعة وبغيرها، بل عبّر في سورة التكوير أنّ القرآن من قوله كما سيأتي، بل ه_و ال_روح الذي أيّد الله به عيسى علیه السلام أيضاً، كما قال تعالى: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس)(1)، فإنّ المراد به جبرئيل بقرينة قوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس مِنْ رَبِّكَ بالحقِّ).(2)بضميمة ما دلّ على أنّه هو الذي أنزل القرآن كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً الجبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله).(3) ولعلّه أيضاً هو الملك الذي وكّل بالرسول صلى الله عليه و اله و سلم منذ صغره على ما ورد في «نهج البلاغة» من قول أمير

المؤمنين علیه السلام في بيان أوصاف الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: « وَلَقَدْ قَرَنَ اللَّهِ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِياً أعْظَمَ مَلَكِ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ وَتَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ»،(4) فإِنّ الظاهر أنّ جبرئيل هو أعظم الملائكة، لقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ

ص: 147


1- البقرة (2): 87
2- النحل (١٦): 102
3- البقرة (2): 97
4- نهج البلاغه (الصبحي صالح): 300

عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينِ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينِ).(1)

ولكن يمكن أن يقال: إنّ هذا الروح شيء آخر كان مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام يسدّدهم ويخبرهم، ولعلّ جبرئيل علیه السلام أتى به كما يدلّ عليه قوله

تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ).(2)

الملاحظة الرابعة: أنّ الروايات تدلّ على أنّ الروح أعظم من جبرئيل وقد مرّ آنفاً أنّه علیه السلام أعظم الملائكة. وهذا إنّما يصحّ لو فرض كون الروح من الملائكة، وقد بيّنا أنّ ظاهر الروايات أنّه ليس منها، فلا مانع من كونه أعظم من جميعهم حتّى جبرئيل لیه السلام وقد صرّح بذلك في بعض الروايات؛ فقد روى الكليني في حديث طويل عن أبي بصير، عن أبي عبدالله علیه السلام قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ الرُّوحُ لَيْسَ هُوَ جَبْرَئِيلَ؟ قَالَ: «الرُّوحُ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ جَبْرَئِيلَ إِنَّ جَبْرَئِيلَ مِنَ الملائِكَةِ وَإنَّ الرُّوحَ هُوَ خَلق أعظمُ مِنَ المَلائِكَةِ، أَلَيْسَ يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوح)(3)».(4)

وروى أيضاً عن سعد الإسكاف، قال: أتَى رَجُلٌ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَیهِ السَلام يَسْأَلُهُ عَن الرُّوحِ أَلَيْسَ هُوَ جَبْرَئِيلَ؟ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَیهِ السَلام «الجَبْرَئِيلُ مِنَ المَلائِكَةِ وَالرُّوحُ غَيْرُ جَبْرَئِيلَ». فَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قُلْتَ عَظِيماً مِنَ الْقَوْلِ، مَا أَحَدٌ يَزْعُمُ أنَّ الرُّوحَ غَيْرُ جَبْرَئِيلَ. فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَیهِ السَلام: «إِنَّكَ ضَالٌ تَرْوِي عَنْ أهل الضَّلالِ، يَقُولُ الله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلی الله علیه و آله وسلم:(أتى أمْرُ الله فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

ص: 148


1- التكوير (81): 19 - 21 .
2- النحل (١٦): (٢
3- القدر (٩٧): ٤
4- الكافي ١: ٣٨٧

* يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ)(1) وَالرُّوحُ غَيْرُ المَلائِكَةِ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ).(2)

ولكنّ الاستدلال الوارد في الروايتين ضعيف؛ لأنّ العطف لا يدلّ على التغاير، لإمكان عطف الخاصّ على العامّ لميزة في الخاص، كما أنّ الروح في آية سورة النحل قد يكون بمعنى الوحي أو الشريعة، كما هو محلّ البحث هنا. والروايتان ضعيفتان سنداً.

ويمكن أن يستدلّ بقوله تعالى: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).(3) أنّه أعظم موجود من الخلائق يدافع عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فينا في ما تدلّ عليه الروايات إلا إذا كان المراد بالعظمة أمراً آخر.

الملاحظة الخامسة: أنّ التعبير بالإيحاء لا يناسب أن يكون المراد بالروح حقيقة عينية، كما يظهر من التعبير بكونه أعظم من جبرئيل وميكائيل، وأنّه يسدّد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة من بعده علیهم السلام، بل يخبرهم بالحقائق، فالإيحاء لا يصحّ إلا في المفاهيم والأوامر والنواهي التي تلقى إلى الرسل. والغريب أنّ الروايات وردت في تفسير هذه الآية بالخصوص، وإلا لأمكن القول بأنّ المراد بالروح في هذه الآية يختلف عن المراد به في سورتي النحل وغافر، ولم يعبّر فيهما

بالإيحاء.

وأجاب العلامة عن الإشكال، فقال: «ويمكن أن يوجّه التعبير عن الإنزال بالإيحاء بأنّ أمره تعالى على ما يُعرفه في قوله: (إنَّما أمره إذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ

ص: 149


1- النحل (١٦): ١-٢
2- الكافي ١: ٢٧٤
3- التحريم (٦٦): ٤.

كُنّ)(1) هو كلمته، والروح من أمره، كما قال: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي)(2) فهو كلمته، ويُصدق ذلك قوله في عيسى بن مريم (إِنَّمَا المُسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)،(3) وإنزال الكلمة تكليم، فلا ضير في التعبير عن إنزال الروح بإيحائه، والأنبياء مؤيّدون بالروح في أعمالهم، كما أنّهم يوحى إليهم الشرائع ،به قال تعالى: (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ).(4) .(5)

ولكن لا دليل على كون المراد بالروح في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوح قُلْ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي)(6) هو نفس المراد بالروح في قوله تعالى: (رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) فإنّ الروح الذي وقع مورد السؤال من قبل المشركين، هو روح الإنسان قطعاً؛ إذ لا يعلمون للروح معنى غيره والجواب الوارد في الآية لا يطابق السؤال؛ إذ لم يبيّن لهم حقيقة الروح، وإنّما بيّن أنّه مخلوق بأمره تعالى، ولعلّ الجواب الحقيقي هو قوله تعالى بعد ذلك: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً).

وليس معنى قوله تعالى: (مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أنّه من جنس الأمر، كما قال العلامة رحمه الله في عدّة موارد؛ إذ الأمر ليس إلا قولاً كما قال تعالى: (إِنَّهَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(7) مع أنّه تعالى قال: (إِنَّما أمره إذا أرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)،(8)

ص: 150


1- يس (٣٦): ٨٢
2- الإسراء (17): 85
3- النساء (٤): ١٧١.
4- البقرة (2): 87
5- الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٧٦
6- الإسراء (17): 85
7- النحل (١٦): ٤٠
8- يس (٣٦): ٨٢

فالمراد بالأمر هو هذا القول، بل ليس قولاً باللفظ وإنّما هو إرادة، ولعلّه إشارة إلى أنّ خلق الروح لا يمرّ بمراحل طبيعية وإنّما تتكوّن حقيقته بمجرّد الإرادة، كما قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).(1) ولهذا عبّر عنه علیه السلام بكلمته التي ألقاها إلى مريم في الآية التي تمسّك بها العلامة وليس هذا من التكليم في شيء ولا يصدق عليه الإيحاء، بل هو مجرّد إرادة. فقوله تعالى: (مِن أمرِ رَبِّي ) بمعنى أنّه نشأ ووجد من الأمر، لا أنّه من جنس الأمر.

وقد ذكرنا في مقدمة هذا التفسير، أنّ من الأخطاء المتداولة في ما يدعى بالتفسير القرآني للقرآن محاولة فهم معنى الآية بملاحظة نفس الكلمة في سائر الموارد من دون الالتفات إلى احتمال الاختلاف في المعنى، وكون اللفظ مشتركاً.

والواقع أنّ هذه الملاحظة على الروايات يصعب الجواب عنها، فلا بدّ من ردّ علمها إليهم علیه السلام على فرض الصدور، ولكن مع ذلك لا يسعنا الجزم بمعنى الروح في الآيات الثلاث إلا أنّ الظاهر منها هو القرآن كما مرّ ذكره وهو المذكور في أكثر التفاسير.

والجدير بالذكر أنّ هذا الإشكال لا يختصّ بالروايات، بل يرد على كلّ من فسّر الروح في الآية الكريمة بجبرئيل علیه السلام، وقد نسبه القرطبي إلى الربيع.(2) وفي تفسير الآلوسي: «وعليه فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى أرسلناه بالوحي إليك، لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله».(3) ولكن هذا التأويل بعيد جدّاً.

ص: 151


1- آل عمران (3): 59 .
2- الجامع لأحكام القرآن ١٦: ٥٥
3- روح المعاني ١٣: ٥٧

وفي تفسير أبي السعود: «ومَعنى إيحائه إليه علیه السلام إرساله إليه بالوحي».(1) وهو أيضاً تأويل بعيد ينزّه عنه تعبير القرآن الكريم إلا أنّ هذا القول نادر لم يذكر عن غير الربيع، بل لم ينقل عنه في سائر الكتب. نعم، ورد في التفسير المنسوب إلى ابن عباس: « أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا))، يَعْنِي جِبريل بالقُرْآن». والنسبة غير ثابتة والمنقول عنه في التفاسير هو تفسيره بالنبوّة.

ويمكن أن يكون ما ورد في الروايات من باطن القرآن، كما ينبئ عنه تكرار المركّب المذكور - أي الروح مع كونه من أمر الله تعالى _ في هذه الموارد ممّا يدلّ على عناية خاصّة به، مع كونه مبهماً يتوقّف معرفته على مراجعة أهل بيت الوحي علیهم السلام ولا ينافي أن يكون المعنى الظاهر مراداً أيضاً. وهذا من عجائب هذا الكتاب العظيم الذي لا تنقضي عجائبه، فكثيراً ما يرد فيه بيان حقيقة بلغة مبهمة يمكن حملها على معنى ظاهري وهو مراد أيضاً، ولكنّ الحقيقة التي تخفى وراء هذا الإبهام والإجمال يبقى لغزاً لا يحلّه إلا أهله.

ولكنّ العلامة الطباطبائي رحمه الله حاول أن يثبت نفس المعنى عن طريق الآيات نفسها بالطريقة التي أشرنا إليها آنفاً، ومن الغريب أنّه هنا تردّد في تأويل التعبير بالإيحاء وتكلّف في ذلك، كما نقلنا بعض كلامه مع أنّ هذه الآية هي مورد الروايات، ولكنّه في تفسير سورة النحل جزم بأنّ الروح هو هذا المعنى، أي المخلوق ،الأمري، بل استشهد بهذه الآية أنّ مقتضى التعبير بالإيحاء هو ذلك، قال : «فتحصّل أنّ الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيئته، ولذلك سمّاه وحياً، وعدّ إلقاءه وإنزاله على نبيّه إيحاء في قوله:

ص: 152


1- تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (38:8.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنا)؛(1) فإن الوحي هو الكلام الخفي والتفهيم بطريق الإشارة والإيماء، فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة ___ إلى قلب النبي صلی الله علیه و آله وسلم وحياً للروح إليه، فافهم ذلك».(2) وبأدنى تأمل يتبيّن أنّ الروح ليس كلمة الحياة، بل مخلوق بكلمة الحياة.

(مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) خطاب للرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أي أنّك كنت جاهلاً قبل الوحي بالكتاب والإيمان، فليست هذه الرسالة من إبداعك ولا من علمك، بل لم تكن تعلم منها شيئاً قبل الوحي الإلهي؛ أمّا عدم علمه بالكتاب فواضح، لأنّه لم يخاطب به بعد ولم ينزل عليه الوحي والرسول صلی الله علیه و آله وسلم كغيره من الخلائق لا يعلم شيئاً إلا ما علّمه الله تعالى.

وأمّا عدم الإيمان، فقد أشكل الأمر على بعضهم أنّه صلی الله علیه و آله وسلم كان مؤمناً قبل الرسالة أيضاً، فلابدّ من تأويل الآية، فذكروا فيها وجوهاً من التأويل، فقيل: إنّ المراد نفي إيمانه بالكتاب. وقيل: ال_م_راد ه_و التصديق والعمل، ولم يكن لديه قبل ذلك برامج عملية. وقيل: المراد الإيمان بالرسالة، ولم يكن قبل ذلك رسولاً. وقيل: المراد الإيمان بالمعارف الاعتقادية التي لا تحصل إلا عن طريق الوحي، كبعض خصوصيات يوم القيامة. وقيل غير ذلك. وأق_وى م_ا ذك_ر هو الأخير.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ المراد أنّه لم يكن يعلم شيئاً من الكتاب ولا الإيمان قبل تعليم الله إيّاه وإلهامه التوحيد، لا قبل نزول القرآن، وهذا الإلهام أيضاً جزء

ص: 153


1- الشورى (٤٢): ٥٢
2- الميزان في تفسير القرآن ١٢: ٢٠٦

من الروح الذي أوحي إليه صلی الله علیه و آله وسلم بناءاً على ما ذكرناه من التفسير، وأمّا بناءاً على الروايات فواضح.

وقد ورد في رواية الإشارة إلى ذلك، فقد روى الكليني رحمه الله بسند ضعيف فيه محمّد بن الفضيل وهو الأزدي الصيرفي - الذي ضعّفه الشيخ و وقال يرمى بالغلو - عن أبي حمزة، قال: سألت أبا عبدالله علیه السلام عن العلم أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال أم في الكتاب عندكم تقرأونه فتعلمون منه؟ قال: «الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ

تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمان)) ثمّ قال : ( أي شيء يقول أصحابكم في هذه الآية، أيقرّون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت لا أدري _ جعلت فداك __ م_ا

يقولون. فقال: «بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتّى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في الكتاب، فلمّا أوحاها إليه، علم بها العلم والفهم وهي الروح التي يعطيها الله تعالى من شاء، فإذا أعطاها عبداً علّمه «الفهم».(1)

فالآية نظير قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ صَالاً فَهَدَى)(2) والرسول صلى الله عليه واله و سلم لم يكن ضالاً في يوم من الأيام ولكن حيث كانت هدايته بتأييد وإلهام من الله تعالى فهو ضالّ لولا هدايته تعالى. وفي «نهج البلاغة»: «وَلَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ صلی الله علیه و آله وسلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِياً أعْظَمَ مَلَكِ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ) .(3)

(وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً تَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)، أي ليس القرآن من إبداعك

ص: 154


1- الكافي ١: ٢٧٣
2- الضحى (93): 7
3- نهج البلاغه لصبحي صالح: 300

وعلمك، بل أرسلناه إليك وجعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وهناك من الناس من يسمع القرآن أو يقرأه ولا يستضيء بنوره ولا يهتدي به، بل يزيده القرآن ضلالاً وعتوّاً، كما قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمينَ إِلا خَسَارًا )،(1) والسبب أنّ عدم إيمانه ليس لشكّ فيه، بل لمكابرته الحقّ وعناده. وكلّما تكرّرت مواجهة الآيات الواضحة والبراهين الساطعة تضاعفت عليه الحجّة، وهو مصرّ على عناده، فيزيده ذلك خسراناً.

و قد تكرّر في الكتاب العزيز تعليق الهداية على المشيئة الإلهية، وقلنا: إنّ ذلك لا يعني أنّ الإنسان مسيّر في ضلاله وهدايته، وأنّه ليس له أن ينتخب المسير، بل معناه أنّ الإنسان بسوء اختياره يسلك طريق الضلال ويصرّ عليه ويعاند الحقّ، فتحقّ عليه كلمة الضلال ويختم الله على قلبه، فلا يمكنه العود. وهذا الختم والطبع والإضلال نتيجة طبيعية لمعاندة الحقّ بعد وضوحه، وكلّ ما هو نتيجة طبيعية فهو مستند إلى الله تعالى، كما قال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).(2)

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) من لطيف التعبير أنّه تعالى جمع في آية واحدة نفي الهداية والعلم من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأثبت له بكلّ تأكيد أنّه يهدي إلى صراط مستقيم فالمراد أنّه لا يتمّ ذلك إلا بفضل من الله تعالى حيث جعل الإنسان الأمّي الذي لا يقرأ ولا يكتب ولم يكن حاملاً لعلم، ولم يظهر منه نبوغ ومعرفة ولم يقل شعراً ولم يخطب خطابة طيلة أربعين عامّاً، جعله في لحظة

ص: 155


1- الإسراء (17): 82
2- الأنعام (٦): ١١٠.

واحدة هادياً لجميع البشر إلى صراط مستقيم.

و«الصراط»: الطريق الواضح وأصله السراط وإنّما أبدلت السين صاداً في التلفّظ لتناسب الطاء وتجوز القراءة بالوجهين، والسراط في أصل اللغة الابتلاع واُطلق على الطريق باعتبار أنّ المسافر يغيب فيه، فكأنّه ابتلعه.

والمراد باستقامة الصراط، أنّه طريق لا ينحرف عن الحقّ وليس بمعنى كونه خطّاً مستقيماً في مقابل الخطوط المنحنية. وهذا تعبير متعارف يق_ص_د ب_ه ع_دم الانحراف إلى الأهواء والآراء الفاسدة. ومثله قول أمير المؤمنين علیه السلام: «الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ»،(1) فكلّ ما عدا الصراط المستقيم منحرف عن الطريق الحقّ وينتهي بالإنسان إلى الضلال والهلكة.

ولكن ورد في «الميزان» في تفسير قوله تعالى في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) معنى آخر للاستقامة، قال رحمه الله: «إنّ الله سبحانه قرّر في كلامه لنوع الإنسان، بل لجميع من سواه سبيلاً يسلكون به إليه سبحانه، فقال تعالى: (يا أيُّها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق:6) وقال تعالى: (وَإِلَيْهِ المَصِيرُ) (التغابن:3) وقال: (ألا إلى الله تَصِيرُ الأُمُورُ) (الشورى: ٥٣)، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلالة على أنّ الجميع سالكو سبيل، وأنّهم سائرون إلى الله سبحانه. ثمّ بيّن أنّ السبيل ليس سبيلاً واحداً ذا نعت واحد، بل هو منشعب إل_ى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: (الَم أَعْهَدُ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس: ٦٠ - ٦١)، فهناك طريق مستقيم وطريق آخر وراءه، وقال تعالى: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعَانِ

ص: 156


1- نهج البلاغه الصبحي صالح: 58.

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: ١٨٦)، وقال تعالى: (ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:٦٠)، فبيّن تعالى أنّه قريب من عباده وأنّ الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثمّ قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (فصّلت: ٤٤) ، فبيّن أنّ غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة. فتبيّن أنّ السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين، وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم».(1)

وحاصل ما ذكره أنّ الصراط المستقيم أقرب الطرق إلى الله تعالى وس_ائر الطرق بعيدة ولكنّها بأجمعها تنتهي إليه تعالى، وكلّ الناس بل كلّ المخلوقات سائرة إليه، فالصراط المستقيم هو الصراط القريب في مسير البشر إلى الله، والآخرون يتعبون أنفسهم في سلوك الطرق البعيدة المنحنية. واستدلّ على سير عامة البشر إلى الله سبحانه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)، حيث إنّ الخطاب لنوع الإنسان وليس للمؤمنين خاصّة.

ولكنّ الصحيح أنّ الآية لا تنظر إلى سلوك السبل إلى الله تعالى، بل المراد أنّ الإنسان مهما كان وفي أيّ طريق، فإنّه سينتهي إلى الله تعالى ويحاسبه على أعماله، كما فصّل بعد ذلك بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)،(2) فاللقاء يتمّ قسراً وقهراً وليس بسلوك الإنسان في سبيل ينتهي إليه، فالمراد بالسبيل الذي ينتهي إليه تعالى الصراط المستقيم بالذات، والمراد بانتهائه إلى الله الانتهاء إلى تحصيل

ص: 157


1- الميزان في تفسير القرآن 1: 28
2- الانشقاق (٨٤): 7

رضاه والتقرّب لديه تعالى، وليس هذا سبيل غير المؤمنين، كما يبدو من عبارته رحمه الله.

وقد ذكر هو بنفسه في تفسير الآية في سورة الانشقاق: «أنّ المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه، من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب».(1) وهذا ينافي ما يبدو من كلامه في سورة الفاتحة من أنّ سير الإنسان إلى الله كسير سائر المخلوقات، كما أنّ استدلاله على سير سائر المخلوقات إلى الله بقوله تعالى: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ينافي ما ذكره بنفسه في تفسيره من أنّ المراد به البعث وهو خاصّ بالإنسان. وأمّا قوله تعالى: (الا إلى الله تَصِيرُ الأمُورُ) فليس بمعنى السير إلى الله كما سيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، حيث استدلّ به على قربه تعالى من عباده إذا توجّهوا إلي_ه بال_دعاء، فيك_ون ه_و الطريق الأقرب، فيردّه أنّه لا شكّ في أنّ القرب في هذه الآية ليس بمعنى قرب الطريق من جهة الإنسان، ليدلّ على أنّ الدعاء أقرب الطرق، بل بمعنى أنّه محيط بكلّ شيء وقريب إلى كلّ شيء، فيسمع كلّ دعاء ويجيب كلّ داع، حتّى لو لم يكن في الصراط المستقيم، فهذا القرب من جهته تعالى وليس من جهة الإنسان، والخطاب فيه عامّ لكلّ العباد.

وأغرب من كلّ ذلك استدلاله على بعد سبيل الكافرين بقوله تعالى: (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيد) وقد قال رحمه الله في تفسير الآية: «أي فلا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص، وهو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة ولا يعقلون

ص: 158


1- الميزان في تفسير القرآن ٢٤٣:٢٠

الحجّة»؛(1) وأين هذا من قرب الطريق إلى الله وبعده؟!!!

فالحاصل أنّ ما صدر منه في تفسير الصراط المستقيم ليس دقيقاً ومناسباً لعل_وّ مقامه العلمي رحمه الله. والله العاصم.

(صِرَاطِ الله ) بدل عن الصراط المستقيم ، أي إنّ الصراط المستقيم الذي تهدي إليه ليس أمراً من إبداعك وإنشائك، بل هو صراط الله، فأنت الهادي إلى صراطه تعالى وإضافة الصراط إليه تعالى باعتبار أنّه ينتهي إليه، أي إلى معرفته وتحصيل مرضاته، أو باعتبار أنّه هو الطريق الذي رسمه الله لعباده. وصراط الله هو كلّ ما يشتمل عليه الكتاب والسنّة من العقائد والأحكام والمعارف.

(الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، (مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) تعبير عن الكون بكامله، فالكون كلّه له، أي مضاف إليه تعالى، وملك له ملكية حقيقية بمعنى أنّه في كيانه ووجوده مفتقر ومستند إليه تعالى.

ولعلّ هذا التوصيف في هذا المقام للإشارة إلى أنّ الأحكام والأوامر والنواهي التي هي عبارة عن الصراط والطريق الحقّ، حيث كانت صادرة من الله الذي له ملك السماوات والأرض، فالواجب امتثالها والالتزام بها وإن لم يعلم الإنسان وجه الحكمة فيها، بل حتّى لو وجدها منافية للحكمة حسب ظنّه، فإنّ الذي أمره بها هو المالك له ولكلّ شيء، ولا يحقّ لأحد أن يعترض على أمره أو يسأل عن وجه الحكمة في أوامره، ليتوقّف الامتثال على فهمها والاعتراف بها، بل يجب عقلاً على كلّ أحد أن يتعبّد بأوامره تعالى ونواهيه لا لشيء إلا لأنّه المالك لكلّ شيء.

ص: 159


1- الميزان في تفسير القرآن ١٧: ٤٠٠

ولذلك قلنا في أصول الفقه: إنّ وجوب إطاعته تعالى عقلاً في الأحكام المولوية لا يتوقف على وجوب دفع الضرر وهو العقاب، بل هو واجب حتّى لو لم يشتمل الحكم المولوي على حكم جزائي وإن كان الداعي النفسي للإطاعة لا يتحقّق في الإنسان غالباً من دون خوف من العقاب أو طمع في الثواب

(ألا إلى الله تَصِيرُ الأُمُورُ)،«ألا» أداة تنبيه تتقدّم الجملة التي يهتمّ بها. وتقديم الجارّ والمجرور (إلى الله)، على الفعل لإفادة الحصر أي لا تنتهي الأمور إلا إليه، بمعنى أنّ الأمور كلّها صائرة إليه تعالى باستمرار، فتدلّ الجملة الأولى، أي (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) على أنّه مبدأ كلّ شيء، والثانية على أنّه المنتهى. والثانية بمنزلة النتيجة للأولى؛ لأنّه إذا كان كلّ شيء ملكه ومفتقراً إليه في كيانه، فأمره فى النهاية أيضاً بيده.

توضيح ذلك: أنّ الشيء إذا كان علّة لوجود شيء فقط ولم يستند إليه في البقاء، فليس نهايته مرتبطة به؛ أمّا الكون بتمامه، حيث إنّه مفتقر حدوثاً وبقاءاً وبكلّ كيانه إليه ،تعالى فنهايته أيضاً بيده فيكون مفاد الجملة الثانية نتيجة الأولى والله العالم. والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ونسأل الله التوفيق في الاستمرار.

ص: 160

تفسير سورة الزخرف

اشارة

ص: 161

ص: 162

سورة الزخرف (1-8)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حم(1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْتَهُ قُرْءَ نا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّتِي فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبي إلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِهُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ(8)

سورة الزخرف سورة مكّية تتناول بعض أوهام المشركين وتردّ عليهم وتن_دّد بهم، وتذكر بعض الأنبياء السابقين، وما جرى بينهم وبين قومهم وتنتهي بذكر بعض أوصاف القيامة والجنّة والنار.

(حم) من الحروف المقطّعة وقد مرّ الكلام حولها في تفسير سورة يس.

( وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَيل حَكِيمٌ). المراد بالكتاب القرآن الكريم وقد أقسم تعالى بالقرآن على أنّه جعله بمستوى فهم العامّة، والحال أنّه في أمّ الكتاب أسمى من تناول الناس. والكتاب مصدر بمعنى المفعول، أي المكتوب وهو بمعنى المجموع قال في «معجم مقاييس اللغة»: «كتب أصل صحيح واحد يدلّ على جمع شيء إلى

ص: 163

شيء»(1)؛ فالمراد هذه المجموعة من الألفاظ والمعاني، سواء كتبت في مصحف أم لا.

و«المبين» من الإبانة، بمعنى الإظهار وله معنيان: الموضّح لغيره والأمر الواضح بنفسه، والقرآن مبين بمعنى أنّه أبان الحقّ من الباطل في المعارف الإلهية وهي أهمّ ما يعرفه الإنسان؛ لأنّها ترتبط بخالقه ووظائفه تجاهه وبمستقبله الدائم وأظهر للإنسان الحقائق المخفية عليه، التي لا يصل إليها إلا عن طريق الوحي ما تتعلّق بالأمور الغيبية، كصفات الله تعالى وأخبار الملائكة وحوادث يوم القيامة وأحكام الله تعالى في ما يتعلّق بأعمال الإنسان. وهو مبين أيضاً بمعنى أنّه واضح لا لبس فيه، وإن كان التعمّق والتدبّر فيه، بحيث يفتح آفاقاً جديدة بحاجة إلى علم غزير ودقّة وتأمّل وتوفيق من الله تعالى. وهو مجال مفتوح لا ينتهي الإنسان من الخوض فيه ولا يبلغ عمقه مهما أوتي من علم ودقّة.

ويلاحظ تناسب المقسم به والمقسم عليه، حيث أقسم بالقرآن على عظمته وكونه هادياً وموجباً لتعقل الإنسان والقسم بنفسه أيضاً يدل على عظمته، لأنّ القسم في الأخبار ربط اعتباري بين كرامة المقسم به وصحّة الخبر، وما يقسم ب_ه الله تعالى لا يشدّ عن ذلك إلا أنّه تعالى لا يقسم لإثبات دعوى، ليقال كي_ف يقسم بالشيء نفسه على عظمته، وإنّما يقسم للتأكيد على المضمون فحسب.

و«القرآن» مصدر، بمعنى اسم المفعول أي المقروء، والأصل في القراءة أيضاً الجمع - على ما قاله كثير من اللغويين - ؛ فإطلاقه على التلاوة من جهة ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض قال الراغب:«ولذلك لا تطلق القراءة على

ص: 164


1- معجم مقاييس اللغة ٥: ١٥٨

التلفظ بحرف واحد».(1) والظاهر أنّ المراد بقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) الجعل المركّب، وذلك بلحاظ أنّ قوله تعالى في الآية التالية: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ )جملة حالية، فالمراد أنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، والحال أنّه في أصل الكتاب ممّا لا تناله الأفهام.

وفي هذا تنبيه على النعمة التي خصّ الله تعالى بها العرب، حيث أنزل هذا الكتاب العظيم بلغتهم واهتمّ بهم ليكونوا هم المبلّغين عن دينه في آفاق الأرض، وحمّلهم هذه المسؤولية الخطيرة. ولكنّ بعضهم - مع الأسف - لم يحترموا هذه النعمة ولم يؤدّوا واجبهم تجاهها ، ولم يقوموا بما كُلّفوا به، بل إنّ بعضهم حاول تحريف الدين من أساسه واتبع كثير منهم السلطة الغاشمة الجاهلية، واختلقوا الأحاديث لصدّ الناس عن الدين القويم.

ولعلّ قائلاً يقول: ولماذا خصّ العرب بذلك، وما هي ميّزتهم على سائر الشعوب؟

والجواب: أنّ وجه الحكمة لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكن لو لاحظنا الأمر، لرأينا في العرب من العناصر المفضّلة ما لا يعرف قدره إلا الله تعالى وهم محمّد وآل محمّد _ صلوات الله عليهم أجمعين - ولوجودهم في هذه الأمّة قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله )(2) ولولاهم، لم تنطبق الآية على هذه الأمّة، فإنّ كثيراً من هذه الأمّة ومن تسلّطوا عليها، ومن صَفَّق لهم لم يصدر منهم إلا الأمر بالمنكر وإشاعته والنهي عن المعروف وإبادته.

ص: 165


1- راجع: مفردات ألفاظ القرآن: ٦٦٨
2- آل عمران (3): 110

وقوله تعالى: (لَعَلَّكُم تَعْقِلُون) ليس للترجّي. كما يقال حتّى يبحث عن وجه نسبة الترجّي إلى الله تعالى، بل معناه أنّ كون الكتاب بِلُغَتكم يهيَء الأرضية الصالحة لتعقّلكم وإدراككم للحقائق، ولكنّ الموانع، ربّما تمنع من حصول ذلك، والعقل هو المنع والحبس. ويطلق على إدراك المفاهيم والمعاني باعتبار أنّ

الإنسان يحفظ هذه المفاهيم في ذهنه ويحبسها.

و«أمّ الكتاب» أصل الكتب السماوية، فإنّ الأمّ بمعنى الأصل، أي المنشأ، والمراد بالكتاب جنسه؛ فيشمل كلّ ما نزل من السماء ومنشأ كلّ الكتب السماوية وكلّ ما يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه ليبلّغوه إلى الخلائق من حقائق عالم الغيب والأحكام الشرعية، هو ما في علمه تعالى من هذه الحقائق، وقد ورد التعبير عنه باُمّ الكتاب في قوله تعالى: (يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمِ الْكِتَابِ)(1) وليس هناك شيء آخر وراء علمه إلا أنّ المراد ليس هو العلم بنفسه، ب_ل الم_راد مجموعة من الحقائق لا يعلمها إلا الله تعالى.

وقوله: (لَدَينَا) صفة لأمّ الكتاب، أي أصل الكتب الذي هو لدينا. وهذا الوصف توضيح وليس احترازاً، إذ ليس للكتب أصل غيره ويطابق قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحفُوظ)،(2) وكذا قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)(3) و «المكنون»: المستور، أي محفوظ ومكنون عند الله تعالى.

وقوله تعالى: (في أم الكِتَابِ) ظرف لقوله: (لَعَلَّ حَكِيمٌ) وليس خبراً كما

ص: 166


1- الرعد (13): 39
2- البروج (85): 21 - 22.
3- الواقعة :(٥٦): 7-78

قيل، وقوله: (لَعَلِيُّ حَكِيمٌ) خبر إن، فليس المعنى أنه في اُمّ الكتاب وأنّه أيضاً عليّ حكيم، بل هو عليّ حكيم في أمّ الكتاب والدليل عليه ورود ال_لام عل_ى الوصفين فقط.

والظاهر أنّ المراد بكونه علياً في ذلك المقام، أنّه أعلى من أن تناله الأفهام وبكونه حكيماً، أنّه منيع لا يصل إليه إدراك الناس، فإنّ الحكمة بمعنى المنع وبذلك يتبّين تناسب ذكر ذلك، مع التنبيه على كونه منزلاً في هذه النشأة بلغة عربية ليعقله الناس، ويتبيّن أيضاً أنّ الواو في هذه الجملة حالية، كما ذكرنا، أي جعلناه لكم قرآناً عربياً لتعقلوا معانيه، والحال أنّه في أصل الكتاب ممّا لا

تناله الأفهام.

و النتيجة أنّ هذين الوصفين هنا يخصّان بذلك الوجه من القرآن الذي هو مكنون ومحفوظ، ولا ينافي أن يكون هذا القرآن المنزل والمصحف الكريم الذي بأيدينا عليّاً وحكيماً، بالمعنى الذي ذكره المفسّرون، وهو أنّ المراد بالعليّ علو رتبته بين الكتب السماوية، لإعجازه واشتماله على الأسرار، وأنّ المراد بالحكيم، أنّه مشتمل على الحِكَم أو أنّه محكم لا ينسخه كتاب غيره.

وللعلامة الطباطبائي رحمه الله في «الميزان» رأي حول المراد من الوجه المكنون للقرآن وهو - باختصار - أنّ له وجوداً بسيطاً لا تفصيل فيه ولا أجزاء، وأنّه بهذا الوجود، هو الذي نزل في ليلة القدر نزولاً دفعياً قبل النزول التدريجي قبلية رتبية لا زمانية، وأنّ هذه الآيات والسور تفصيل لذلك الوجود الذي ليس هو من قبيل

المفاهيم والمعاني.(1)

ص: 167


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٨٤

وقد تبيّن بما مرّ أنّه لا حاجة إلى هذا التأويل الذي لا دليل عليه، لا من لفظ الكتاب ولا من الروايات. وسيأتي بعض الكلام حوله في تفسير سورة الدخان إن شاء الله تعالى.

وقال أيضاً في معنى الحكمة هنا، إنّه بمعنى كونه غير مفصّل ولا مجزّاً إلى سور وآيات وكلمات،(1) واستفاد ذلك من قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير)(2) ولم أجد أساساً لتفسير الحكمة بهذا المعنى من حيث اللفظ وجذوره في اللغة. ولعلّ معنى الآية أنّ آياته محكمات من باب توصيف الشيء ء بصفة ،معظّمة، فإنّ منها الآيات المتشابهات، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ).(3)والإحكام - كما قلنا - بمعنى المنع والمراد منعها من احتمال إرادة خلاف الظاهر، فيكون بمعنى المبيّن والواضح ويقابله المتشابه، كما ورد في سورة آل عمران. وأمّا «ثُمَّ» فيمكن أن لا يكون للتراخي الزماني أو الرتبي، بل التراخي في الذكر، كما تقول زيد عالم ثمّ إنّه عادل أيضاً.

وربّما يقال: لعلّ المراد بالإحكام، منعه من التجزئة والفصل بين الأجزاء، فيكون بمعنى الأمر الموحد المندمج فيه المعاني من دون تفصيل ويكون الإحكام بمعنى المنع. ولكن هذا لا يصحّ لأنّه لو كان القرآن في مرحلة من وجوده ممنوعاً من ورود التفصيل، فلا معنى لقوله تعالى: (ثُمَّ فُصِّلَت) وهذا

تناقض واضح.

ص: 168


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٨ : ٨٤
2- هود (11): 1.
3- آل عمران (3): 7

أفَتَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)، «الضرب» هنا كناية عن الصرف، اُخذ من ضرب الحيوان ونحوه ، لصرفه عن فعله أو عن سيره في اتّجاه خاصّ، ومنه قولهم: «ضرب الغرائب عن الحوض»، أي صرف الإبل الغريبة عن حوضه، فحيث كان الصرف هناك يتحقّق بالضرب، جعل الضرب كناية عن الصرف والمراد بالذكر معناه اللغوي لا خصوص القرآن و«الصفح» جانب الوجه. أي أنّصرف وجه الذكر عنكم؟ فصرف الوجه عن أحدٍ، معناه الإعراض عنه وعدم الاهتمام به، وصرف وجه الذكر عن أحدٍ، معناه عدم الاهتمام به في تذكيره بما يحتاج إليه.

وقوله: (أنْ كُنتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) تعليل للصرف والإعراض بتقدير اللام، أي «لأن كنتم» أي لكونكم، والخطاب موجّه إلى مشركي مكّة. و«الإسراف» التجاوز عن الحدّ. والمعنى أنّ إسرافكم وتجاوز كم الحدّ في الظلم والعتوّ والطغيان أو في تكذيب الآيات، هل يستوجب الإعراض عن تذكيركم أو عن الاستمرار في تذكيركم بالآيات؟! والإتيان بكلمة (قوماً)، لعلّه للإشارة إلى أنّ الإسراف أصبح ميّزة لمجتمعكم وليس صفة فردية.

و«الفاء» في قوله تعالى: (افَنَضْرِبُ)، يحتمل أن تكون لتفريع هذا السؤال على الآية السابقة، ويحتمل التفريع على جملة مقدّرة أي أفنهملكم فنعرض عنكم؟! والاستفهام للإنكار الإبطالي، فيقتضي نفي ما بعده، أي أنّه تعالى أرسل لكم القرآن تذكيراً لكم، وإسرافكم لا يستوجب الإعراض عن تذكيركم. وهذا غاية اللطف والرحمة بالعباد، حيث إنّهم مهما توغّلوا في الكفر وأسرفوا على أنفسهم أو أصرّوا على الإنكار والتكذيب، فإن الله تعالى لا يمنعهم عنايته بالتذكير.

ص: 169

وقيل: إنّ الاستفهام للتهديد والمعنى إن أسرفتم في التكذيب وأصررتم على الكفر، فسنصرف الذكر عنكم ولكنّه بعيد، خصوصاً بملاحظة الآية التالية، ب_ل الظاهر أنّ الغرض من الآية، الإشارة إلى أنّ القوم يتوقّعون أن لا يرسل الله إليهم رسولاً منذراً؛ فيعكّر صفو حياتهم ويمنعهم من بعض ما يشتهون كما ورد في كلام مؤمن آل فرعون حيث قال: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً).(1)

وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، «كم» اسم استفهام يفيد التعجيب من الكثرة، أي ما أكثر الأنبياء الذين أرسلناهم في الأولين؟! أي في الأقوام السابقين. وقوله: (وَمَا يَأْتِيهِم) في مقام الحال، فالتعجيب من جهة كثرة المرسلين، مع أنّ الأقوام المرسل إليهم كانوا يستهزئون بهم، هو الحال في هذه الأمّة. وفي ذلك تسلية للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وتشجيع على الصبر وتحمّل الأذى، وهو في نفس الوقت شاهد على ما مرّ في الآية السابقة، فإن_ّه ل_و كانت سنّة الله تعالى جارية على صرف الذكر عن الناس إذا كانوا مسرفين، لم يبعث الله رسولاً ،قطّ، فكم أرسل رسلاً وأنبياء في الأقوام السابقة وهم يستهزئون بهم، بل كان هذا دأبهم في مواجهة كلّ نبي ورسول ومع ذلك استمرّت الرسالات.

(فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً)، «البطش» هو الأخذ بشدّة وعنف والضمير في قوله: (مِنهُم) يرجع إلى كفّار قريش، أي أهلكنا المستهزئين من الأمم السابقة وهم كانوا أشدّ من هؤلاء بطشاً. وكان مقتضى السياق أن يقال: فأهلكناهم، أي

ص: 170


1- غافر :(٤٠): ٣٤

الأمم السابقة، وإنّما عدل عن ذكر الضمير إلى ذكر الوصف، ليكون تهديداً لكفّار قريش. ومع أنّ الخطاب كان متوجهاً إليهم في قوله تعالى: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمْ الذِّكْرَ صَفْحاً) إلا أنّه عدل عن مخاطبتهم وخاطب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم تحقيراً لهم ولا يصحّ عود الضمير في (مِنهُم) إلى الأوّلين، إذ الهلاك شملهم جميعاً، لا خصوص من كان أشدّ منهم بطشاً، مع أنّه لو اُريد ذلك لقيل: «الأشدّ بطشاً منهم».

(وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ ) . المعروف بين المفسّرين في تفسير هذه الجملة أنّها للتنبيه على أنّ ذكر الأوّلين وما جرى عليهم من العذاب الإلهي قد مضى في آيات نزلت سابقاً من القرآن الكريم. ولكنّه تفسير بعي_د غ_اي_ة البعد، إذ لا فائدة في هذا التنبيه، مع أنّه أمر واضح ولا يناسب سياق الآيات، مضافاً إلى أنّ التعبير عن حديثهم بالمثل بحاجة إلى تأويل بعيد، وقد قالوا إنّ الوجه في ذلك أنّ قصّتهم ينبغي أن تُتَخذ مثلاً يعتبر بها.

والذي يبدو لي أنّ المراد بالمثل ما يمثّلهم ويذكّر بهم، فإنّ المثل مأخوذ من المثول وهو الانتصاب، ولذلك يطلق على كلّ ما ينصب علامة لشيء. والمراد بالمضيّ هلاكهم، أي هلك وزال كلّ ما يمثّلهم حيث لم يبق لهم أثر ولا نسل إلا بقية من الآثار التي تحكي عن هلاكهم الجماعي، فيكون الغرض منه التنبيه على أنّهم بادوا وباد نسلهم وبادت حضارتهم وثقافتهم، حيث نزل عليهم العذاب الإلهي الذي لا يبقي شيئاً، كما قال تعالى: (فَاصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)،(1) أي كأن لم يكونوا مقيمين فيها. وقال أيضاً: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى هُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ) .(2)

ص: 171


1- هود (11): ٩٤ - ٩٥
2- الحاقة (19): 7 - 8

سورة الزخرف (9-14)

وَلَبِن سَأَلْتَهُم مِّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَيمِ مَا تَرَكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَنَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ(14) .

(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، السلام في قوله: (وَلَئِنْ) لام موطّئة وهي التي تدلّ على قسم مقدّر وذلك لتأكيد المضمون وكذلك لام الجواب في قوله: (لَيَقُولُنَّ) ون_ون التأكيد. والضمير يعود إل_ى مشركي مكّة، كما قلنا في الآية السابقة. ولعلّ الغرض من هذه الآية التنبيه على أنّهم وإن كذّبوا الرسل واستكبروا عن عبادة الله تعالى وتنزلّوا إلى عبادة الأصنام إلا أنّهم في قرارة أنفسهم يقرّون بأنّ خالق الكون هو الله تعالى ولكنّهم بحاجة إلى من ينبههم ويكفي في ذلك أن تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ ولعلّه إنّما أتى بكلّ هذه المؤكّدات في الجملة، لغرابة مضمونها خصوصاً بملاحظة الجملة الآتية :أي: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً)(1) ولمخالفة هذا الإقرار لظاهر حالهم وأعمالهم. وهذا المضمون قد تكرّر في القرآن الكريم، حيث نسب إليهم الإعتراف بأنّ الله تعالى هو الخالق للكون وهكذا عقيدة الوثنية وإن كانوا لا يعتقدون بعموم ربوبيته تعالى.

ص: 172


1- الزخرف :(٤٣) : ١٥

والجمل الآتية في الآيات التالية التي تذكر بعض نعم الله تعالى، ليست من تتمّة كلامهم قطعاً، وإنّما وردت تعقيباً لكلامهم وكأنّها قطعة منه، تنبيهاً على أنّ من تعتقدون بخالقيته، هو الذي خلقها على هذا الوجه ممّا يدلّ على أنّه هو ربّ الكون الذي هيّأ كلّ الوسائل لتنظيمه. ونظيره كثير في الكتاب العزيز.

ولكن هل الوصفان المذكوران هنا (العَزِيزُ العَلِيمُ) من تتمّة كلامهم، كما هو ظاهر اللفظ، أم أنّهما أيضاً من الله تعالى، بمعنى أنّه أبدل تعبيرهم إلى ذلك، فهم يقولون في الجواب: «خلقهنّ الله»، ولكنّه في مقام النقل بدلّ العبارة إلى ذكر الوصفين الجليلين تنبيهاً على أنّ من تعتقدون فيه أنّه الخالق هو العزيز العليم؟ فيه اختلاف بين المفسرين.

والظاهر هو الثاني، لأنّ العرب لم يكونوا يعرفون الله بهذه الصفات، ولم نجد كلامهم وشعرهم ما ينبئ عن معرفتهم لهذه المفاهيم واعتبارها من صفات الله تعالى. خصوصاً بملاحظة وجه التوصيف هنا، حيث إنّ توصيفه تعالى بالعزّة والغلبة من جهة أنّه لا يمنعه مانع من خلق ما يشاء، وليس هناك غيره من يتمكّن من خلق ما يشاء، إذ الموانع الطبيعية وغيرها تحول دون بلوغ المراد وتوصيفه بالعلم من جهة أنّ الخلق بهذا النظام الدقيق ينبئ عن علم شامل أزلي أبدي، ولذلك أتى به بنحو الصفّة المشبهة الدالّة على الثبات والذاتية.

ويشهد لهذا الوجه التعبير المنقول عنهم في الموارد المشابهة، كقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله... وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله)،(1) وقوله تعالى:

ص: 173


1- العنكبوت (29) : ٦١ - ٦٣ .

(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله).(1) وسيأتي في هذه السورة الآية 87 قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ).

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). الموصول صفة للعزيز العليم. ومن هنا يبدأ في التنبيه على النعم الإلهية التي تدلّ على عموم ربوبيته تعالى، والتي تستوجب شكر المنعم، وهو بدوره يقتضي وجوب معرفته. و«المهد» و«المهاد»: المكان المهيّأ ،والموطّأ، فالمعنى أنّ الله تعالى هيّأ الأرض لمعيشة الإنسان وجعلها موضعاً لراحته واستقراره، وأعدّ له كلّ ما يحتاج إليه من طعام وشراب وهواء وغير ذلك.

والمراد من «السبل»، الطرق الطبيعية الموجودة على وجه الأرض بين الجبال ونحوها فيحتمل أن يكون المراد من الاهتداء الوصول إلى الأماكن المقصودة، ويحتمل أن يكون المراد الاهتداء إلى الله تعالى وأنّه مترتّب على الأمرين: جعل الأرض مهداً وجعل السبل فيها. والظاهر هو الأوّل، بدليل تكرّر الاهتداء بعد ذكر السبل، كما في قوله تعالى: (وَالْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ وَالمهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).(2) ويلاحظ الاهتداء في الآية الثانية وهو يتعلّق بالطرق بلا ريب. وكذلك قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَميدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).(3)والعلامة الطباطبائي رحمه الله مع أنّه استظهر من الاهتداء في هذا المورد وغيره الهداية إلى الله تعالى،(4) ولكنّه في سورة الأنبياء

ص: 174


1- لقمان :((31) (25؛ الزمر (39): 38
2- النحل(16):15-16.
3- الأنبياء (21): 31
4- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٨: ٨٦

جزم أنّه بمعنى الاهتداء إلى المقاصد،(1) ولعلّه من جهة أنّ تعليل خلق الرواسي بعدم الميد يرجّح أن يكون وضع السبل لغرض الوصول إلى المقاصد. ولكن يلاحظ عليه أنّ ذلك يصحّ أن يكون قرينة على أنّ الاهتداء في كلّ مورد يعقب جعل السبل بهذا المعنى.

وتكرار قوله: (لَكُمُ) في الجملتين للمنّة على الإنسان والتركيز على أنّ الخلق بهذه الكيفية التي توجب انتفاع الإنسان بالطبيعة مقصود في التدبير الربوبي.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ، صفة أخرى للعزيز العليم وبيان لنعمة عظيمة أخرى تتوقّف عليها الحياة وهي المطر. و«الق_در» م_ص_در بمعنى التقدير. قيل: إنّ المراد به أنّ نزول المطر لا يتمّ إلا بإرادته تعالى. ولكنّه ،بعيد، لأنّ كونه مراداً معلوم من إسناده إليه تعالى فيكون تكراراً، مضافاً إلى أنّ التقييد بالإرادة لا يختصّ بنزول المطر. والظاهر أنّ المراد تحديد مقداره فلا ينزل كثيراً مضرّاً ولا قليلاً غير نافع، فيكون هذا التوصيف للتأكيد على كونه نعمة مقصودة.

وربّما يقال: إنّ المطر قد ينزل كثيراً مضرّاً وقد يقلّ فلا ينفع. وأجيب بأنّ المراد هو الغالب، وأنّه لا ينافي وجود بعض الاستثناءات. ويمكن الجواب بأنّ المراد ليس بيان أنّ كلّ ما ينزل من المطر نافع حتّى يرد الإشكال، بل المراد أنّه إذا نزّله بقدر يحيي به الأرض الميتة، وأمّا إذا أنزله غزيراً موجباً لانحدار السيل؛ فإنّه لغرض ،آخر ، فالذي يعتبر نعمة يُمنَ بها على الإنسان هو ما ينزّله بقدر. وليس المراد تقدير القطرة من المطر أو كمية القطرات، بل تقدير العوامل

ص: 175


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٤: ٢٧٩

الموجبة لنزوله بحيث ينزل المقدار المفيد.

و«الإنشار»: الإحياء، وأصل النشر البسط، وحيث إنّ منح الحياة يوجب بسط القدرة والحركة استخدم بمعنى الإحياء. و«الميّت» مخفف الميّت ويطلق على الأرض الهامدة التي لا نبت فيها. ويلاحظ الالتفات من الضمير الغائب في قوله: (نَزَّلَ) إلى المتكلّم في قوله: (فَأَنشَرنَا). وقيل في ذلك بأنّه للتأكيد على

اختصاص إحياء الموتى به تعالى.

وهذا الالتفات متكرّر في موارد مشابهة، كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)،(1) وقوله تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ).(2) فهل يصحّ هذا الوجه في كلّ ذلك؟! وربّما يأتي الالتفات في أصل إنزال الماء، كقوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)،(3) مع أنّ ما قبله أولى بالاختصاص، وخصوصاً خلق السماوات. فلعلّ الأولى أن يقال: إنّه للتفنّن في التعبير. والله العالم.

(كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)، أي كما يحيي الله تعالى الأرض الميتة، كذلك يخرجكم من الأرض أحياء يوم النشور ، وقد تكرّر في القرآن الكريم التنبيه على أنّ من أحيا الأرض الميتة قادر على إحياء الموتى، ولعلّ الوجه في تشبيه إحياء الموتى بإحياء الأرض، أنّ موت البشر ليس فناء ،وزوالاً، كما يتصوّره بعض الناس، فإنّ

ص: 176


1- طه (20): 53
2- النمل (٢٧) ٦٠
3- لقمان (31): 10.

حقيقة الإنسان روحه التي لا يعرضها الموت، وإنّما يموت جسمه، فموته كموت الأرض، حيث تكمن فيها الحياة، ويتوقّف إحياؤها على المطر.

(وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا)، عطف على ما سبق من أوصافه تعالى. و«الزوج» ما يقرن بالشيء إذا كان مثله، ف_ «الأزواج»: الأمثال المتقارنة، و«الزوجان: المثلان المتقارنان، ومنه الزوجان بالمعنى المعروف. وقيل: إنّه هنا بمعنى الصنف، أي خلق جميع الأصناف من كلّ شيء. ولكنّ الظاهر أنّ المراد ب_ه، المعنى الأوّل، ولاحاجة إلى تأويله بالأصناف، إذ الغرض على ما يبدو ه_و بي_ان النعم، فالمراد الذكر والأنثى من أصناف النبات والحيوان ممّا يستخدمه الإنسان في شؤونه. ووجود الصنفين ظاهرة عامة في النبات والحيوان.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)، «الفلك»: السفن، يطلق على المفرد والجمع. والسفينة وإن صنعها الإنسان إلا أنّ مادّتها وهي الخشب موجودة في الطبيعة، والله تعالى هو الذي جعل فيها هذه الخاصية حيث تبقى على سطح الماء وتتحرّك بالرياح والأشرعة. وهناك نظم وقوانين كونية عديدة ممّا خلقها الله تعالى وعليها تبتني هذه النعمة، وهو الذي ألهم الإنسان صنع ما يصنع، بل منحه العقل والدقّة في التفكير، بل في خصوص السفينة أوحى الله تعالى إلى نوح علیه السلام أن يصنعها وعلّمه طريقته، كما قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)(1) والظاهر أنّها أوّل سفينة صنعت على وجه الأرض.

و«الأنعام» تطلق على الإبل والبقر والغنم سمّيت بها، لأنّها نعمة عظيمة. والمراد بالأنعام هنا الإبل خاصّة، لأنّها التي تركب منها فحسب. وقوله تعالى:

ص: 177


1- هود (11): 37

تَركَبُونَ) بتقدير الضمير وهو العائد على «ما» ، أي ما تركبونه وقالوا: إنّ الركوب يتعدّى إلى الأنعام بنفسه، وإلى السفينة بحرف «في» وإنّما اكتفي بذكر المتعدّي بنفسه تغليباً له على المتعدّي بالحرف ولكنّ الظاهر صحّة التعبير بركوب السفينة من دون تقدير حرف، كما ورد في روايات كثيرة وفي النصوص العربية.

(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)، «اللام» بمعنى «كي» ولبيان الغرض أو النتيجة، أي جعل لكم الفلك والأنعام لتركبوها و«الاستواء» في الأصل، تعادل أجزاء الشيء، وإذا عدي ب_ «على» كان بمعنى الاستيلاء والاستقرار والضمير في الاستيلاء والاستقرار والضمير في (ظُهُورِهِ) يعود إلى «ما» الموصولة في الآية السابقة. وحينئذٍ، فالتعبير بالظهور من باب التغليب؛ إذ ركوب السفينة لا يقتضيه، كما أن الضمير في (اسْتَوَيْتُمْ) يعود إلى الموصول أيضاً لا إلى الظهور.

وفي بعض التفاسير أنّ ذكر النعمة، بمعنى أن يتذكّرها قلباً، ثمّ يحمده تعالى ويشكره عليها، ثمّ يقول: (سُبْحَانَ الَّذِي). ولكن لا يبعد أن يكون القول المذكور بياناً لذكر النعمة، فيكون قوله : (وَتَقُولُوا) تفسيراً لما قبله، أي تذكّروا النعمة بهذا القول. وفي «الميزان» أنّ ذكر النعمة لا يكون إلا بشكرها.(1) وهذا القول لا يشتمل على الشكر ، بل هو تسبيح الله تعالى. ولكن لا دليل على اختصاص ذكر النعمة بالشكر، فالتسبيح المذكور حيث اشتمل على ذكر النعمة يكفي في الذكر، ب_ل يعتبر شكراً عليها أيضاً؛ لأنّه يشتمل على استعظامها.

وقوله: (مُقْرِنِينَ) بمعنى: مطيقين. وأصله من جعل الشيء قريناً لغيره وحيث إنّ

ص: 178


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 : 88

الضعيف لا يقدر على الحيوان المستعصي، يقال: لا تقرن الضعيف بالصعبة، أي الدابّة الصعبة، فاستعير معنى الإقران للإطاقة والقدرة على المركوب أو مطلقاً. فالمراد أنّ هذه الدوابّ ما كانت مسخّرة لنا لولا أن الله تعالى سخّرها لنا مع عظم أجسامها وقوّتها، فتجد البعير الضخم، بل مجموعة كبيرة من الإبل أو البقر منقادة لولد لم يبلغ الحلم. وكذلك تسخير الفلك وغيرها من وسائل النقل الحديثة. ولعلّ اختيار التسبيح لإظهار التعجب من هذا التسخير، وفيه استعظام

للنعمة، كما مرّ.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ)، «الانقلاب»: الرجوع. وهذا من تتمّة التسبيح المذكور، ولعلّ الغرض منه التنبيه على أنّ الإنسان ينبغي أن يتذكّر في كلّ حال خصوصاً في حال السفر، أنّ النعم الدنيوية ليست باقية، وأنّ مصيرنا إلى الله سبحانه وتعالى، ففي نفس الوقت الذي يتنعم الإنسان فيه بنعمة الله تعالى ويشكره عليها، يجب أن يكون متذكّراً أنّ هذه النعمة كغيرها زائلة، وأنّه سينقلب إلى ربّه، فيحاسب على كيفية تعامله مع ما أنعم الله به عليه.

ص: 179

سورة الزخرف (15-19)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَن لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا تَخلُقُ بَنَاتِ وَأَصْفَلكُم بِالْبَنِينَ (16)وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمُ (17) أَوَمَن يُنَشِّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَدُ الرَّحْمَنِ إِنَا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَدَهُمْ وَيُسْتَلُونَ (19)

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا). الجملة تتّبع قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَالتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ)، أي إنّهم مع اعترافهم بأنّ الله تعالى هو خالق الكون جعلوا له من عباده جزءاً، حيث قالوا بأنّ الملائكة بنات الله سبحانه، وعلى هذا الأساس كانوا يعبدونهم ويصنعون الأصنام لتمثيلهم للعبادة، والآي_ات ت_ردّ عل_ى هذا التوهّم. والغرض من هذه الآيات تثقيف العرب بثقافة الدين، ليتسنّى لهم معرفة الله سبحانه بقدر الإمكان.

وأساس الردّ فى الآية الأولى، أنّ الولد لا يكون إلا جزءاً من الوالد ينفصل عنه ويتربّى إلى أن يكمل ويكون كوالده. والله تعالى لا جزء له؛ إذ المركّب من أجزاء يفتقر في كينونته إلى الأجزاء. والله تعالى غني عن كلّ شيء. ثمّ إنّ هؤلاء الذين جعلتموهم جزءاً لله تعالى عباد ،له والعبودية هنا بمعنى الذلة المطلقة فكيف يكون العبد جزءاً وولداً؟!

(إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)، «الكفور» مبالغة في الكفر ، والمراد به كفران النعم وقد مرّ في الآيات السابقة ذكر بعض نعم الله سبحانه وكفرانه هنا يتجلّى في إنكاره أنّ النعم من الله تعالى، وإسنادها إلى بعض عباده وهم الملائكة.

ص: 180

و«المبين» إمّا بمعنى أنّ كفره واضح أو أنّه يظهر كفره ويعلنه من دون حياء. وفي الجملة إشارة إلى أنّ الإنسان بطبعه كفور للنعم، فكأنّه جُبل عليه، ولا يختصّ ذلك بكفره بنعم الله تعالى، بل هذه صفة مشهودة للإنسان، فهو يحاول التهرّب من الاعتراف بالجميل حتّى من إنسان آخر، لئلا يطالب بمقابلة الجميل بالجميل.

(أمِ اتَّخَذَ ما يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ)، «أم» منقطعة، ففيها معنى الاستفهام والإضراب والاستفهام للإنكار. والإضراب بمعنى أنّه على افتراض أنّهم لا يقولون بكون الملائكة أولاداً حقيقيين له تعالى حتّى يقال: إنّه كيف يكون له جزء ؟! بل يقولون بأنّه تعالى اتخذهم أولاداً، واتخاذ الولد ليس بمعنى كونه ذا ولد، بل هو أمر اعتباري، فالإنسان أيضاً ربّما يتّخذ ولداً لمصالح، كما لو لم يكن له ولد أو كان الولد ممّن له ميزة تؤهله للاتخاذ وقد حكى الله سبحانه عن عزيز مصر قوله: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)(1)، وعن امرأة فرعون قولها: (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنَا أو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)(2) فيمكن أن يتوهّم أنّ الله تعالى وإن لم يكن له ولد ولكن لا مانع من أن يتّخذ أولاداً له.

وهذا التوهّم باطل من دون ريب، لأنّ اتخاذ الولد أيضاً لا يكون إلا لرفع حاجة. والله تعالى منزّه عن الفقر والحاجة، قال تعالى: (قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ).(3) وفي هذه الآية يردّ عليهم هذا التوهّم من جهة اُخرى، وهي أنّهم

ص: 181


1- يوسف (12): 21
2- القصص (28): 9
3- يونس (10): 28

ينسبون إليه تعالى اتخاذ البنات حيث كانوا يزعمون أنّ الملائكة إناث!! فلو فرض - وهو فرض محال - أنّه تعالى اتخذ ولداً ممّا يخلق، فلماذا اختار البنات كما تزعمون، والحال أنّه أصفاكم بالبنين، بمعنى أنّه جعل البنين لكم خاصّة وأنتم تعتقدون أنّ البنين أشرف من البنات؟! ولعلّه أتى بالفعل المضارع، أي (يَخلُقُ)) لإفادة الاستمرار في الخلق، وهو يستوجب مزيداً من الاستغراب من قولهم؛ لأنّه تعالى مستمرّ في خلق الذكور والأناث، ومع ذلك يتخذ البنات لنفسه ويصفيهم بالبنين باستمرار!!

(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) المراد بما ضرب للرحمن مثلاً البنات. وإنّما عبّر عنهنّ بذلك تنديداً بهم، حيث يجعلون الله البنات وهم يستاءون إلى هذه الدرجة إذا ولدت لهم .بنت. والمثل __ بفتحتين _ بمعنى المثل _ بكسر الميم - أي إذا بشّر أحدهم بالأنثى، ظلّ وجهه مسودّاً، ومع ذلك فهو يجعلها مثلاً لله تعالى، فإنّ القول بأنّ الملائكة بنات الله يستلزم القول بأنّهم مثله، لأنّ الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ومثلاً له. واسوداد الوجه كناية عن الخجل والاستحياء، كأنّه قد اقترف ذنباً لا يغفر أو كناية عن شدّة الكآبة والغمّ لما أصابه.

و (ظَلَّ) فيه معنى الصيرورة والبقاء، فكأنّه قال صار مسودّاً واستمرّ كذلك. و«الكظم» الحبس، ولكن لا بقول مطلق، فيقال لمن حبس نفسه: إنّه كظيم، ولمن تجرّع الغصّة: إنّه كظيم، كقوله تعالى (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)،(1) ولمن حبس غيظه أنه كاظم له، قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ

ص: 182


1- يوسف :(١٢): ٨٤

الْغَيْظَ»،(1) و«الكظوم» إمساك البعير عن الجرّة. وقد ورد تفسير الكلمة في «معجم مقاييس اللغة» بالحبس(2) وهو أولى من تفسيرها بامتلاء الباطن غيظاً، كما في سائر المعاجم وإن كانا متلازمين عادة إلا أنّ حبس الغيظ هو الصفة الممدوحة لا امتلاء الباطن منه.

ومهما كان، فالمراد هنا أنّه مملوء غيظاً وحابس نفسه عليه. وهكذا كان حالهم في الجاهلية، بل بعدها أيضاً، فكانوا يستاء ون إلى هذه الدرجة من أن تولّد لهم بنت، وذلك ازدراءاً لها واحتقاراً، فالآية تؤنّبهم بأنّكم إذا كنتم تحتقرون الاُنثى إلى هذه الدرجة، فكيف ترضون بنسبة البنات إلى الله تعالى، ثمّ تجعلونها له مثلاً لما مرّ من مماثلة الوالد والولد؟!

وقد ورد نظير ذلك في قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ الله الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ يُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أم يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ إِلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).(3)

(أوَمَنْ يُنشأ في الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ). «الهمزة» للاستفهام الإنكاري والمراد بمن ينشّأ في الحلية الإناث. والتذكير بلحاظ كلمة «من» لا المصداق. والتعبير بالتنشئة دون النشوء، من جهة أنّه ليس أمراً طبيعياً وذاتياً، بل يستند إلى العادات والتربية، حيث يهتمّ الأولياء بتزيين البنات منذ الصغر، فهي تُنشأ في الحلية لا تَنشَأ فيها بذاتها. «والواو» يعطف الإنكار على الإنكار في قوله تعالى:

ص: 183


1- آل عمران (3): 1٣٤
2- معجم مقاييس اللغة ٥: ١٨٤ - ١٨٥.
3- النحل :(١٦): ٥٧ - ٥٩

(أمْ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ ) كما قيل، أو يعطف الإنكار على التعجيب المذكور في الآية السابقة، أي أوَ تجعلون لله المثل من الصنف الذي يُنشَأ في الحلية؟!

وذكر هنا خصلتين من خصال النساء، ممّا يستلزم ضعفهنّ وبعدهنّ عن كلّ ما يحتاج إلى القدرة والدقّة إحداهما: أنّ أنوثة المرأة وحبّها الشديد لإظهار جمالها وفتنتها يحبّب إليها التزيّن بحيث تهيم به ويعتبر شغلهنّ الشاغل؛ لأنّهنّ نشأن في الحلية وتربّين عليها منذ الصغر.

والأخرى: أنّ شدّة تأثّرهنّ بالعواطف يمنعهنّ من التركيز في مقام المحاجّة والمخاصمة، فقلّما تجد امرأة تتمكّن من إبانة مرادها وفرضه على الآخرين بقوّة الاحتجاج، ولذلك يتمسّكن في الغالب بالبكاء وتحريك المشاعر والأحاسيس. وهذا بالطبع ليس كلّياً وإنّما هو الصبغة العامة للنساء، ومنهنّ من تتعالى على أقوى الرجال حجّة وبياناً، كما ظهر من سيدة النساء علیها السلام في خطبتها في المسجد، وكذا من ابنتها زينب علیها السلام أمام الملأ في الكوفة وأمام الطاغوتين يزيد وابن زياد- عليهما اللعنة -. والآية تشمل الخصام في الحرب أيضاً وعدم إبانتها هناك

أوضح.

وليس القصد من ذلك التقليل من شأن المرأة، فهذا أمر طبيعي من صنعه تعالى، وليس في صنعه إلا الحسن، كما قال: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)(1) وإنّما القصد التنديد بمقالة المشركين، وأنّه ينشأ من ضعف تعقّلهم وإدراكهم، حيث إنّهم ينسبون إلى الله اتّخاذ الولد ولا يكتفون بذلك، بل ينسبون إليه اتخاذ الجنس الأضعف ولداً.

ص: 184


1- السجدة (32): 7

(وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً). هذا ردّ على بُعد آخر من معتقدهم الفاسد، فإنّ اعتقادهم بكون الملائكة بنات الله يشتمل على جهتين، من الجهل والكفر تعرضت الآيات السابقة لإحداهما وهي إسناد الولادة إلى الله تعالى، وهذه الآية تتعرّض لجهة أخرى، وهي اعتبار الملائكة إناثاً؛ فإنّه مقتضى قولهم إنّهم بنات الله تعالى.

ومعنى الجعل هنا التسمية، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى)(1) أو الاعتبار والحكم، أي اعتبروا الملائكة إناثاً أو حكموا عليهم بالأنوثة، ومن الغريب أنّ هذا التصوّر سائد في مجتمعات كثيرة حتّى اليوم، فإذا أرادوا تصوير الملائكة صوّروهم إناثاً، والعرب وغيرهم يسمّون بناتهم ملاكاً أو ما يرادفه في لغتهم!!!

والله تعالى يردّ على هذا التوهّم في مواضع عديدة من القرآن، وهنا يصفهم بأنّهم عباد الرحمن. ولعلّ في ذلك إشارة إلى أنّ العبد لا يطلق على الأنثى وليس المراد أنّهم ،ذكور، فإنّهم منزّهون عن الذكورة والاُنوثة، ويمكن أن يكون الردّ بلحاظ أنّهم عباد مختصّون بالله تعالى ووسائط لرحمته، فكيف يوصفون بالاُنوثة؟! وهذا يستفاد من التعبير بالرحمن. وقد قرئت الكلمة: «الذين هم الرحمن»، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)،(2) ومثله قوله تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)،(3) ممّا يدلّ على غاية قربهم إلى الله تعالى واختصاصهم

ص: 185


1- النجم (٥٣): ٢٧
2- الأعراف (٧): ٢٠٦
3- الأنبياء (21): 19

به فيكون الردّ عليهم من هذا الباب.

(اشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ) الاستفهام إنكاري، أي أنّ هذا أمر لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل؛ فإمّا أن يكون لهم علم بالغيب وليس لهم ذلك بالطبع، وإمّا أن يستندوا إلى وحي أو رسالة أو كتاب سماوي، وهم أبعد ما يكون عن هذه الوسائل، فلم يبق لهم إلا أن يدّعوا أنّهم شهدوا خلقهم، ولا يمكن ذلك أيضاً، كما هو واضح. ولكنّهم من دون أيّ مستند لهم يشهدون بذلك!!!

(سَتَكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) وكلّ قول بغير علم شهادة زور، ويسجل على الإنسان، كما يسجل كلّ أعماله وأقواله، ثمّ يسأل يوم القيامة عن مستنده، وحيث لا يهتدي إلى مستند فيؤاخذ به، خصوصاً إذا كان ممّا يتعلّق بالمقدسات. وهذا التحذير لا يختصّ بهم، فلا يجوز لأحد أن يتخرّص في الحقائق الغيبية مطلقاً من

دون مستند وثيق.

ص: 186

سورة الزخرف (20-28)

وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدَنَهُم مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (20) أَمْ ءاتَيْتَهُمْ كِتَبًا مِن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا وَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى وَاثَرِهِم مُهْتَدُونَ (22)وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى وَاثَرِهِم مُقْتَدُونَ (23) * قَبْلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَفِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِة إِنَّى بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِى فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةٌ بَاقِيَةً فِي عَقِيهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)

(وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، أي وقال المشركون، وأمّا الضمير في قوله (مَا عَبَدْنَاهُمْ)، فالظاهر أنّه يعود إلى كلّ من يعتبرونهم أرباباً وإن لم يسبق لهم ذكر ؛ لأنّ السياق يدلّ عليهم. وأمّا احتمال أن يعود إلى الملائكة لسبق ذكرهم فيبعد من جهة أنّهم ما كانوا يعبدونهم، أو ما كانوا يعلمون ذلك، وما كانوا منتبهين لفكرة تمثيل الأصنام للملائكة، كما هو المعروف ولو عاد الضمير إليهم فلابدّ من عدم اعتباره مقولاً لهم، بل نقلاً لكلامهم بالمعنى؛ لأنّ المفروض أنّهم يعتبرونهم إناثاً، بل لابدّ من ذلك على كلّ حال؛ لأنّ المشركين ما كانوا يعترفون باسم الرحمن، قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ هُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ).(1)

ومهما كان، فالغرض بيان نوع من التفكير الخاطئ السائد بين المشركين، بل عامّة الناس وهو أنّ الله تعالى لو شاء أن يمنعنا من عبادة الأصنام وارتكاب ما يعدّ

ص: 187


1- الفرقان (٢٥): ٦٠

إثماً لمنعنا تكويناً من ذلك، وهو قادر على ما يريد وعالم بما نعمل، فيستنتجون ذلك أنّه تعالى راض بعملنا، بل ربّما يقولون إنّه أمر بها، كما قال تعالى: (وَإِذَا من فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى

الله ما لا تَعْلَمُونَ).(1)

وهناك من عامّة الناس من يظنّ أنّ إمهال الطغاة من قبل الله تعالى ليس إلا لأنّه يؤيّدهم ويعزّهم، بل يظنّون أنّهم - وبنفس الدليل ___ على حقّ في كلّ ما يعملونه من ظلم و فساد وحاصل استدلالهم أنّ الله تعالى راض بعملنا، إذ لو لم يرض به لم يخيّرنا تكويناً، بل منعنا عنه وهو قادر على ما يريد.

وبالمناسبة فإنّ بعض المعجبين بأنفسهم كان يطرح أفكاراً شاذّة مضحكة في تفسير القرآن وغيره من معارف الدين ولم يكن من حملة العلم، ويستدلّ على صحة آرائه بأنّه طلب من الله تعالى أن يعلّمه التفسير، وأنّ استجابة هذا الدعاء لا يضرّ أحداً، فلا بدّ من أن يكون الله تعالى قد استجاب دعاءه وقلت له: إنّ هذا الدعاء يدعوه كلّ أحد، فلو صحّ هذا الاستدلال لاقتضى صحّة كلّ هذه الأقوال المتعارضة، فلم يحر جواباً ولكنّه استمرّ في طريقه.

(مَا هُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) والجواب أنّ هذا تخرّص على الغيب، فه_و ن_ظي_ر شهادتهم على أنوثة الملائكة ستكتب ويسألون. والقرآن يشدّد كثيراً على الافتراء على الله تعالى وإسناد ما لم يقل إليه سبحانه وهو المناط في حرمة البدعة وحاصل الجواب أن استكشاف رضا الله تعالى بعملهم من عدم منعه تكويناً لا يستند إلى علم، وأنّى لهم أن يعلموا برضاه؟! وعدم المنع تكويناً لا

ص: 188


1- الأعراف (7): 28

يدلّ على ذلك؛ إذ لعلّه لمصلحة اُخرى وهو إبقاؤهم أحراراً مختارين ليمتحنهم ويحاسبهم.

(إنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ)، أي ليس هذا منهم إلا تخرّصاً على الغيب «والخِرص» في اللغة الحزر في العدد والكيل، ويطلق غالباً على حزر الثمرة على الشجر، أي الأخذ بالظنّ والتخمين. وكلّ قول بغير علم خرص، سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً.

وقد حكى الله تعالى عنهم هذا القول في مواضع اُخرى بوجوه اُخر، منها قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ اشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُم إلا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلله الْحَجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).(1) وهذه الآية تردّ عليهم أيضاً بالتخرّص على الغيب، وتضيف إليه أنّه تعالى لو كان يجبركم على ما يريده تشريعاً، فيشاؤه تكويناً لشاء هدايتكم جميعاً؛ إذ لا شك أنّ هذا هو الأصلح لجميع البشر ، ولا شكّ أنّهم ليسوا جميعاً مهتدين وإلا لم يختلفوا فيما بينهم فالنتيجة أنّه تعالى لا يشاء تكويناً إجبار البشر على اتخاذ طريقة مّا، فلا يمكن الاستدلال بعدم ممانعته تكويناً على رضاه تشريعاً بالأمر، وهذه هي الحجّة البالغة.

(أمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) إضراب عن عدم علمهم واستفهام إنكاري، أي إن لم يكن هذا تخرصاً على الغيب، فلا بدّ من أن يستندوا فيه إلى ،دلیل وليس هناك دليل على ما قاله الله تعالى وأذن فيه أو أمر به إلا كتبه ورسله،

ص: 189


1- الأنعام (٦): ١٤٨ - ١٤٩.

والعرب لم ينزل عليهم كتاب قبل القرآن ليتمسّكوا به في إسناد القول إلى الله تعالى و «مِن» زائدة للتأكيد، والضمير في (قَبلِهِ) يعود إلى القرآن من دون ذكر صريح، لكونه مفهوماً من السياق، والاستمساك والتمسّك بمعنى الاعتصام، والأصل في الاستفعال الطلب والتحرّي، فكأنّ المعتصم بالشيء يتحرّى ويحاول تشديد إمساكه به أو إمساكه من كلّ جانب.

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ). هذا هو أساس الضلال فيهم وفي كثير من الناس والإضراب في قوله: (بَل) إبطال للتمسّك بأيّ حجّة بمعنى أنّهم لا يستندون في ذلك إلى حجّة؛ لا عقلية ولا نقلية وإنّما حجّتهم تقليد الآباء. و«الأمّة»، الدين كما في «العين».(1) والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على أنّهم مستمرّون ومصرّون على متابعة آثارهم. و«الأثر» ما يبقى على الأرض من رسم الأرجل والحوافر حين المشي، والمراد أنّهم لا يتخطّون طريقتهم أصلاً. وهكذا عامّة الناس يتبعون أسلافهم من دون تفكير، بل يفتخر بعضهم بأنّهم سلفيون. والسلفية ليست إلا متابعة الآباء والأجداد متابعة عمياء، ولو كانوا يتبعون الحقّ لقالوا: إنّ ما نتبعه هو ما يقتضيه العقل أو يأمر به الكتاب والسنّة.

ومن المؤسف، أنّا نجد متابعة الآباء سارية حتّى في انتخاب المرجعية لدينا، فإذا اتّبع أبو الأسرة مرجعاً من المراجع لما ثبت له من كونه جامعاً للشرائط مثلاً اتّبعته الأسرة، بل يبحثون عن خليفة المرجع إذا توفّي؛ لأنّ أسرتهم تقلد هذا الخط من المرجعية، وكأنّ هذا هو العذر المقبول لدى الله تعالى إذا سئلوا عن دينهم ممّن أخذوه.

ص: 190


1- كتاب العين ٤٢٧:٨.

(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، أي وكما يقول هؤلاء قالت الأمم السابقة بأسرها، فهذا ليس غريباً ولا بدعاً من الأمر، بل هذا ديدن المترفين. وهذه الآية تصرّح بالشمول للجميع، حيث نفى أن يكون قد أرسل رسول إلى قوم لم يواجه هذا الكلام. والتعبير بقوله تعالى: (أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ) لتسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ ما تجده من قومك ليس جديداً وخاصّاً بهم، بل هو شيمة البشر وسيرتهم في مواجهة الرسالات. و «من» في قوله: (مِنْ نَذِيرٍ) زائدة للتأكيد على الشمول. كما أنّ قوله: (فِي قَرْيَةٍ) أيضاً يؤكّد الشمول وهو معلوم من دونه. و«القرية» بمعنى المجتمع وتطلق على البشر وعلى المكان الذي يجمعهم. وأصله من قرى يقري، أي جمع.

وتفيد الآية أنّ هذا شأن التَرَف وهو التنعّم والطغيان فيه، فالمُترَفون الذين لا يألون جهداً في التوسَع في الشهوات والملذّات لا ينصاعون لما يأتي به رسل الله تعالى، حيث إنّ الشرائع والأديان كلّها تفرض قيوداً على الحرّيات، وليست لدى المترفين حجّة في مواجهة الرسل، وإنّما يتشبثون بتقاليد الآباء. وهنا عبّر بالاقتداء بدلاً عن الاهتداء في الآية السابقة للإشارة إلى أنّهم لا تهمّهم الهداية، فليس هناك هدف منشود ليحاولوا الاهتداء إليه، وإنّما يقتدون بآبائهم في طريقتهم مهما آلت إليه الطرق.

(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأهْدَى مَا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، أي قال النذير: هل تبقون على متابعة الآباء وإن كان ما جئتكم به أهدى؟! فالاستفهام للانكار ،التوبيخي، أي كيف يصحّ متابعة الآباء في هذا الفرض؟! «والواو» في قوله: (أوَلَوْ) للعطف على مقدّر وهو - كما قلنا - البقاء على متابعة الآباء. والنذير

ص: 191

وهو الرسول لحسن أدبه، لا يصرّح بأنّ ما أخذوه من آبائهم ضلال محض، بل يقول باحتمال أن يكون ما جاءهم به أهدى ممّا كانوا عليه، أي أقرب إلى الهداية حتّى لو فرض في طريقتهم نوع من الهداية.

والمترفون لم يردّوا على هذه المبادرة الجميلة بأيّ حجّة أو منطق يِبرّر موقفهم، بل ردّوا على الرسل بكلّ عناد ولجاج: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) أي منكرون. هكذا وبكلّ صراحة ووقاحة إنّا نكفر به مهما كان، ولا يهمّنا أن يكون أهدى أو هو الصحيح فقط . والإتيان بضمير الجمع في قوله: (أرْسِلْتُمْ) باعتبار تعدّد الرسل والأمم.

(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ)، هذه نتيجة موقف المعاندين للرسل وهي واضحة بالطبع، فإنّ قوماً هذا شأنهم لا يستحقّون إلا العذاب والانتقام الإلهي ، فإنّهم مجرمون، ولا جريمة أكبر من مواجهة المنطق والهداية الإلهية بالاستكبار والعناد. و «الانتقام»: المعاقبة. و«النقم» في الأصل، بمعنى المبالغة في الإنكار وينطبق على المعاقبة، فإنّها غاية الإنكار. ثمّ تأمر الآية الرسول أو كلّ مخاطب وسامع أن ينظر كيف كانت عاقبتهم، حي_ث كذّبوا الرسل، فيعتبر المشركون بها ويتسلّى المؤمنون.

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّني بَرَاءٌ لَما تَعْبُدُونَ)، «إذ» ظرفية. أي واذكر الزمان الذي قال فيه إبراهيم ذلك لأبيه وقومه والتنبيه على هذا الموقف الذي اتخذه إبراهيم علیه السلام تجاه قومه وأبيه يأتي في سياق الردّ على ما حكي عن القوم في الآيات السابقة من تقليد الآباء والأسلافة، فالآية الكريمة تردّ عليهم بالاستشهاد بموقف إبراهيم علیه السلام من جهتين:

ص: 192

الأولى: أنّه ينبغي لمشركي مكّة التأسّي به، وهو جدهم الذي يفتخرون ب_ه ويدّعون أنّهم أتباعه، حيث خالف أباه وقومه، ولم يكتف بعدم المتابعة، ب_ل جابههم بكلّ شدّة وصرامة، وأعلن براءته منهم ومن سننهم الباطلة، بل كسر أصنامهم، وأين هذا من متابعة الآباء القدامى والأسلاف البعداء؟

والثانية: أنّه لو صحّ متابعة الآباء والأسلاف، فليتبعوا أباهم إبراهيم علیه السلام، وهو شيخ الأنبياء، فلماذا يختارون من بين أسلافهم المشركين الجهلة؟

هذا، وقد مرّ في تفسير سورة الصافات وغيرها، أنّ المراد بأبيه هو الذي ربّاه، وأنّه لم يكن والده، كما يظهر من دعائه في أواخر حياته: (رَبَّنَا اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيَّ)،(1) مع أنّه امتنع من الاستغفار له بعد أنّ علم أنّه عدو الله، كم_ا ق_ال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ الله تَبَرَّاً مِنْهُ).(2)

ومهما كان، فقد واجههم إبراهيم علیه السلام وقال لهم : (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ). و «براء» مصدر يطلق على المتبري من باب المبالغة في التبرّي، وهو الابتعاد عمّا يكره.

(إلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ). المشهور بين المفسّرين إنّ الاستثناء منقطع؛ لأنّ قومه ما كانوا يعبدون الله تعالى، ولكن يحتمل أن يكون متصلاً، فلعلّ قومه كانوا يجمعون بين عبادة الله وعبادة الأصنام. وإذا قلنا إنّ العبادة تشمل الدعاء __ كما هی كذلك -، فإنّ مشركي الجزيرة أيضاً كانوا يدعون الله تعالى. وكلمة «اللهمّ» ليست مستحدثة في الإسلام، وكانت صحيفة قريش في مقاطعة النبي صلی الله علیه و آله وسلم مبدوّه

ص: 193


1- إبراهيم (١٤): ٤١
2- التوبة (٩): ١١٤.

بجملة: «باسمك اللهمّ»، بل كانوا يستغفرون الله تعالى،كما قال سبحانه: (وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)؛(1) فإنّ مقتضى السياق أنّ الضمير يعود إلى المشركين، وما كانوا ينكرون الله تعالى ولا ينكرون تأثيره في الكون، وإنّما كانوا يشركون بالله ويعتقدون لغيره أيضاً تأثيراً بالاستقلال.

وفي هذا التوصيف استدلال على التوحيد، فإنّ «الفط» هو الشقّ، ويعبّر عن الخلق بالفطر، إذا كان بالإيجاد من العدم، وهذا خاصّ بالله تعالى، فإنّ غيره وإن أمكن أنّ يخلق شيئاً بإذنه تعالى إلا أنّه يغيّر صور الأشياء، ولا يمكن لأحد أن يوجد شيئاً من العدم، وإنّما يصدق الفاطر على الله تعالى، حيث أبدع السماوات والأرض، والتعبير عنه بالفطر تشبيه كأنّه شقّ العدم وأخرج منه الوجود. ولكن يقع السؤال عن خلق الإنسان كيف يعبّر عنه بالفطر، مع أنّه يتكوّن في أحضان الطبيعة ويولد من أمّه وأبيه ؟ فيه احتمالان:

الأول: أنّه يعبّر عنه بذلك باعتبار أنّه جزء من الكون الذي خلقه الله من العدم، فيصدق ذلك على الإنسان باعتبار أنّه جزء من الكون، فكان هناك زمان لم يكن الإنسان موجوداً، حيث لم تكن الطبيعة موجودة، والله تعالى فط_ر الإنسان بخلق النواة الأولى للطبيعة، واستمرار قائمة العلل والمعاليل. وهذا وجه قوي وعامّ.

الثاني - وهو خاصّ بالإنسان - : أنّ جسم الإنسان الذي تربّى في الطبيعة ليس هو حقيقة الإنسان، بل حقيقته هي الروح الذي نفخه الله فيه، كما قال تعالى في خلق آدم علیه السلام: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)،(2)

ص: 194


1- الأنفال (8): 33
2- الحجر (1٥): 29

بل قال في خلق عامّة البشر : (وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ * ثمّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ)،(1) فإنّ الظاهر أنّ المراد بنفخ الروح في هذه الآية كلّ إنسان وإن احتمل رجوع الضمير إلى آدم علیه السلام كما أنّه هو المقصود ظاهراً بقوله تعالى: (ثُمَّ انْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ)(2) فهو إنشاء وإبداع لخلق جديد، ويظهر منه أنّ هذا الروح ليس جزءاً من الطبيعة، ب_ل هو ممّا أبدعه الله تعالى.

ومهما كان، فإنّ ابراهيم علیه السلام يستدلّ بفاطريته تعالى على أنّه هو الربّ وهو المعبود والإله؛ لأنّه خلقني من العدم وجعل لي من البدو هذه القابليات والغرائز التي بها أتكامل، وأصل إلى غاية الكمال المنشود لي كأيّ شيء آخر، فإذا كانت هذه القابليات من بدو الخلقة ومن صنع المبدع، فهو الذي يسير بالأشياء

في هذا المسار الطويل إلى غاياتها، فهو هاديها والمربّي لها. والربّ هو الذي يجب أن يُعبَد، لأنّه هو الضارّ النافع وليس غيره من ينفع أو يضرّ إلا بإذنه، فهو الذي يُخاف ،ويُرجى والإنسان إنّما يعبد ما يعبد دفعاً للمضرّة وجلباً للمنفعة، فإذا ثبت أنّ النافع الضارّ بالذات هو الله تعالى، ولا ينفع غيره ولا يضرّ إلا بإذنه، فالإله المعبود منحصر في ذاته المتعالية.

وعقّب التوصيف بالفطرة بأنّه تعالى هو الهادي. و«الفاء» للتفريع، فتدلّ على أنّ هدايته تعالى تتّبع كونه هو الفاطر؛ لأنّه _ كما مرّ __ م_ن ش_ؤون الربوبية، كما قال تعالى حكاية لكلام موسى علیه السلام (رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلِّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثم هَدَى)،(3)

ص: 195


1- السجدة (32): 7-9
2- المؤمنون (23): ١٤ .
3- طه (٢٠): ٥٠

ولكلام إبراهيم علیه السلام:(إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ)؛(1) فالهداية مترتّبة على الربوبية، والظاهر أنّ مراده علیه السلام الهداية في جميع شؤون الدنيا والآخرة، وهذا القول إنّما قاله حين خروجه من عند قومه، كما قال عنه تعالى: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(2) ولكنّه لم يشعر بالوحدة والوحشة، ولم يخف شيئاً من حوادث الدهر، لوثوقه بعناية ربّه وأنّه سيهديه إلى الطريق الصحيح في كلّ شؤونه، ومثله قال موسى علیه السلام حين خروجه من مصر، كما قال تعالى: (وَلا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ

عَسَى رَبِّ أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).(3)

وقد ورد مثل هذا البيان بصورة أكثر تفصيلاً في قوله تعالى: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثم يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).(4) ومن سياق هذه الآيات يتبيّن بوضوح أنّ المراد بالهداية ليس خصوص الهداية الدينية إلى الصراط المستقيم كما في «الميزان»(5) وغيره، بل مطلق الهداية، ولذلك عطف عليه الإطعام والسقي والشفاء ممّا تتوقّف عليه الحياة المادّية.

وقد أشكل الأمر على بعض المفسّرين من جهة التعبير بسين الاستقبال، ممّا يقتضي عدم الهداية في الحال، فقال بعضهم: إنّ الجمع بين القول في هذه الآية

ص: 196


1- الصافات (37): (99
2- العنكبوت (٢٩): ٢٦
3- القصص (28): 22
4- الشعراء (٢٦): 75 - 82
5- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٥: ٢٨٠

وقوله تعالى: (فَهُوَ يَهْدِينِ) في سورة الشعراء يقتضي أنّ الهداية موجودة في الحال ومستمرة؛ لأنّهما يحكيان عن قضية واحدة، والصحيح أنّ مفاد الجملتين أمر واحد، وهو ترتّب الهداية على الفطرة ،والخلق، وأنّ الخالق تعالى لا يمكن أن يترك مخلوقه من دون هداية، ولعلّ الاستقبال بلحاظ حال الخلق، أي أنّه تعالى يهدي بعد الخلق لا محالة.

(وَجَعَلَهَا كَلِمَةٌ بَاقِيَةٌ فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، «العقب» مؤخر الرجل ويعبّر به عن الأولاد والنسل، والظاهر أنّ فاعل الجعل هو إبراهيم علیه السلام وضمير المفعول المؤنث يعود إلى الجملة السابقة ومفادها التوحيد، فجعلها كلمة باقية مستمرة في نسله وذريّته وذلك بالوصية، كما حكى الله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)،(1) فهو علیه السلام ليس كأهل الدنيا همهم في حياتهم المال، وإذا أوصوا أيضاً جلّ اهتمامهم معيشة أولادهم وكيفية

تقسيم أموالهم، بل هو لا يهتمّ إلا بدينهم، فيوصيهم بأن لا يموتوا إلا مسلمين.

وكذلك كان علیه السلام يختلف في دعائه عن الناس، فنحن إذا دعونا لأولادنا، فإنّ غاية ما نطلبه المال والعافية وطول العمر وإبراهيم علیه اسلام يدعو ربّه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ)،(2) ومن دعائه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلوةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي).(3)ولما جعله الله تعالى للناس إماماً، قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)،(4) فهو يدعو أن تكون ذريّته مقيمين للصلاة وأئمّة يهدون المجتمع ويدعونهم إلى الهدى والصلاح.

ص: 197


1- البقرة (2): 132
2- إبراهيم (1٤): 35
3- إبراهيم (١٤): ٤٠
4- البقرة (٢): ١٢٤

وهو علیه السلام البنفسه نشر التوحيد وتحمّل في سبيله المصاعب وترك قومه وعشيرته وهاجر إلى ربّه يدعو الناس إلى التوحيد، ولم يكتف بذلك، بل طلب من أولاده وذرّيّته إلى يوم القيامة أن يتّبعوا طريقه، وكان كما أراد، فإنّ الأنبياء المذكورين في القرآن أكثرهم من ذريّتّه، ولذلك يدعى أبا التوحيد، ولذلك أيضاً جازاه الله تعالى في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ مَنَ الصَّالِحِينَ)،(1) (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)،(2) (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).(3) ولعلّ من أجره فى الدنيا أن جعل من ذريّتّه الرسل والأنبياء والأئمّة والصالحين.

والضمير في قوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، يعود إلى عقبه، وإنّما أتى بضمير الجمع باعتبار أنّ المراد به الأقوام الذين يأتون بعده من نسله، والمراد بقوله: (يَرْجِعُونَ) الرجوع إلى الله تعالى، حيث إنّ التوجهّ إلى ملذّات الدنيا ونعيمها بطبيعة الحال يبعد الإنسان عن ربّه، فأراد ابراهيم علیه السلام أن يرجع ذريّتّه إلى الله تعالى وإلى

عبادته، كلّما استهوتهم الدنيا ولذائذها وأبعدتهم عنه، فجعل لهم كلمة التوحيد مناراً وملاذاً يرجعون إليها كلّما توغّلوا في شؤون الدنيا.

وقيل : إنّ ضمير الفاعل في: (جَعَلَهَا ) يعود إلى الله تعالى واختاره العلامة الطباطبائي رحمه الله،(4) ولكنّ السياق يأبى ذلك، وإنّما ألجأهم إلى هذا التكلّف القول بأنّ ذلك ليس من فعل إبراهيم علیه السلام فإنّه لا يؤثّر بعد موته، فكيف جعله_ا

ص: 198


1- البقرة (2): 130
2- النحل (١٦): 122
3- العنكبوت (29): 27
4- راجع: الميزان فى تفسير القرآن ١٠ : ٩٦

كلمة بعده؟! وقالوا الوصية لا تستلزم الجعل.

والجواب: أنّ الوصية وإن كانت لا تستلزم ذلك ولا توجبه بصورة طبيعية، فلا يصدق الجعل التكويني بمجرّد الإيصاء، ولكنّ مصحح هذا التعبير أنّه بوصيته وإصراره على ترسيخ هذا الأمر في المجتمع، وباعتبار كونه عنصراً مؤثّراً في المجتمع بنفسه وبأولاده تسبّب في بقاء هذه الكلمة فيما بعده، فالجعل هنا باعتبار

جعله للسبب.

ص: 199

سورة الزخرف (29-35)

بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَفِرُونَ (30)وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مِّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَنتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُحْرِيًّا وَرَحمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)وَزُخْرُفًا وَإِن كُل ذَلِكَ لَمّا مَتَنعُ الحَياةِ الدُّنْيَا ٢ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

(بَلْ مَتَعْتُ هَؤُلاء وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقِّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ)، (هَؤلاء) إشارة إلى أهل مكّة ومشركي الجزيرة العربية والظاهر أنّ الجملة إضراب عن قوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) حيث إن الجملة السابقة تشملهم، فإنّهم من ذريّة إبراهيم علیه السلام ولكنّهم لم يرجعوا كما أراد وكما كان مرجوّاً ومتوقعاً منهم، بل متّعهم الله تعالى فاشتغلوا بما متّعهم به، كما متّع آباءهم أيضاً، فالتعبير بالتمتيع إشارة إلى لازمه وهو الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا عمّا أراده لهم جدّهم إبراهيم علیه السلام وظلّوا على التهائهم بالدنيا إلى أن جاءهم الحقّ، فكان المتوقّع أن لا يتوانوا عن قبوله ولكنّهم كفروا به والمراد بالحقّ القرآن أو الرسالة.

وجاءهم أيضاً رسول مبين «والمبين» من الإبانة، أي الإيضاح، فهو يوضح لهم حقائق الدين، أو من الوضوح، فإنّ رسالته واضحة بمعجزاته وبما كانوا يعلمون منه قبل ذلك من الصدق والأمانة، ومن أنّه لم يكتب ولم يقرأ قبل ذلك

ص: 200

ولم يسبق منه كلام يدلّ على علم أو نبوغ أو حكمة، ولم يقل قبل ذلك شعراً ولا كلاماً منسّقاً أدبياً، كلّ ذلك ممّا يبيّن كونه رسولاً يوحى إليه من الغيب، فهو رسول ،مبين أي واضح معالم رسالته وارتباطه بالغيب.

ولعلّ ذكر تمتيع الآباء لإكمال الردّ على مقولة تقليد الآباء، بأنّهم أيضاً كانوا من عقب إبراهيم علیه السلام وكان المفروض أنّ يتأثّروا بكلمته التي أورثها لهم وأوصاهم بها ، ولكنّهم أيضاً اشتغلوا بمتاع الدنيا وملاهيها، فانظروا من تقلّدون وبأيّ آبائكم تقتدون؟! (وَلا جَاءَهُمُ الحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ). نعم لمّا جاءهم الحقّ لم يؤمنوا به، بل عاندوه وقالوا هو سحر ولم يقولوا ذلك جهلاً منهم بالحقّ ولا بالسحر، بل كانوا يعلمون أنّه ليس سحراً، وإنّما كانوا يطلبون المعاذير حتّى لا يؤمنوا بالحقّ، ولإغواء الناس وإبعادهم عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، يدلّ على ذلك قصّة الوليد بن المغيرة، فقد روي أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنّه رقّ له فبلغ ذلك أبا جهل، فقال: يا عمّ إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً فيعطوكه، فإنّك أتيت محمداً لتصيب ممّا عنده، قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنّك منكر له وأنّك كاره له؛ قال: وماذا أقول، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إنّ لقوله الذي يقوله حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنّه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنّه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه. قال: دعني حتّى أفكّر ، فلمّا فكّر ، قال ما هو إلا سحر يؤثر ، فعجبوا بذلك، وفيه نزلت آيات

ص: 201

سورة المدَثر: (إِنَّهُ) فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)(1) ورويت القصّة بوجوه أخرى. وقولهم: (إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ) يدلّ على تماديهم واستمرارهم على الكفر، حيث أتوا به جملة اسمية مؤكّدة ب_ «إنّ». و«الكفر»: الإنكار.

(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظيم) حكي عنهم القول بأنّه لو أراد الله أن ينزّل القرآن من عنده على بشر، فلا بدّ أن يختار رجلاً عظيماً من إحدى القريتين العظيمتين في المنطقة مكّة والطائف. و «لولا» في الأصل للحثّ والتحضيض، والقصد منها هنا التعجيب من عدم تنزيل القرآن على رجل بهذا

الوصف، وتنزيله على من ليست له هذه الصفة ليتوصّل بذلك إلى إنكار رسالة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وقيل: إنّهم سمّوا الرجلين المقترح إنزال الكتاب عليهما وإنّ أحدهما الوليد بن المغيرة والآخر عروة بن مسعود الثقفي، وقيل غير ذلك ولا يهمّنا التعيين، فمهما كان، فإنّهم قصدوا بالعظمة المال والجاه، شأنهم في ذلك شأن عامّة الناس في كلّ المجتمعات، فإنّ مقياس العظمة عندهم غالباً _ إن لم يكن دائماً - هو المال والجاه، وهؤلاء لجهلهم بالمقاييس الإلهية يتصورّون أنّ الوحي أيضاً يجب أن ينزل على من له مال وجاه وبنون. وفي الآيات التالية يهدم الله تعالى بنيانهم في القيّم التي بنوا عليها المجد والفخار ويبيّن لهم تفاهة قيمهم وسفاهة آرائهم.

(أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ). الجواب واضح ، فالرسالة رحمة من الله تعالى، رحمة للرسول ورحمة للمرسل إليهم وهو العليم بمن يستحقّها، كما قال في

ص: 202


1- المدثر (٧٤): 18 - 19

موضع آخر(الله أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)،(1) ومن غاية الكبر والخيلاء أن يتوهّم الإنسان أنّ له حقّ التدخل في شؤون الربوبية. وهذا الأمر لا يختصّ بهم، فهو مشهود في عصرنا أيضاً. والاستفهام للإنكار وتقديم الضمير المنفصل لأنّ التركيز في الإنكار أن يكون تقسيم الرحمة إليهم. وفي إضافة الرحمة إلى الربّ المضاف إلى شخص المخاطب وهو النبي صلی الله علیه و آله وسلم إشارة إلى أنّ إرسال هذه الرسالة اليك خاصّة من بينهم يتبع التربية الخاصّة بك، فالله تعالى ربّاك من أجل الرسالة، كما قال لموسى علیه السلام: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ).(2)

(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) تقديم الضمير المنفصل هنا للتركيز على الفاعل، أي أنّ تقسيم المعائش والأرزاق بينهم من فعله تعالى ولا يمكّنهم التحكّم فيه، فكيف بالرسالة وهي أمر يرتبط بشريعة السماء، وليس للناس إلا الاستجابة لها والإيمان بها ؟! فهذا جواب واضح على اقتراحهم من جهة أنّ الأمور الدنيوية التي لهم فيها حدّ من الاختيار بإذنه تعالى، ليست تحت اختيارهم تماماً، فالرزق وكلّ ما تتقوّم المعيشة به في الحياة الدنيا، وإن كان الإنسان يتحكّم فيه نوعاً مّا بإذن الله تعالى إلا أنّ هناك كثيراً من الأمور الدخيلة في ذلك لا يمكنه التحكّم فيها، ولذلك يختلف الناس في معائشهم، وليست ك_لّ الاختلافات تنشأ من أمور اختيارية، بل أكثرها لا يتبع الاختيار كالقدرة الجسمية والنفسية والعقلية والبيئة المناسبة والنظام الاجتماعي والتوارث وغير ذلك من الشؤون التي تغيّر مسار الحياة وتؤثر تأثيراً مباشراً في الغنى والفقر

ص: 203


1- الأنعام (٦): ١٢٤.
2- طه (٢٠): ٤١

وغيرهما وهي خارجة عن الاختيار.

وهذا هو المراد بتقسيم المعائش ورازقية الله تعالى، فانّه قلّما يبعث رزقاً محدداً لأحد على وجه الإعجاز ، كما حدث للسيدة مريم علیها السلام، فالرازقية بوجه عامّ بمعنى تهيئة وسائل المعيشة لكلّ حي، كما قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُهَا )(1) فهو برازقيته جعل لكلّ حيوان صائد وسائل صيده، وهيّأ له في موضع معيشته الفريسة المناسبة، كما هيّأ لكلّ حيوان آكل للعشب ما يحتاج إليه من الكلأ حتّى أنّ أسنان الحيوانات تختلف حسب حاجاتها، وهناك في هذا الباب عجائب وغرائب في الطبيعة. وبما ذكرنا يتبيّن ضعف ما يقال من أنّ إطلاق المعايش يقتضي الشمول للحلال والحرام، فالصحيح أنّ القسمة ليست

بمعنى إيصال المعيشة كما تبيّن.

(وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً)، «السخري» يأتي مصدراً بمعنى التسخير، ويأتي نعتاً بمعنى المسخَّر، وهناك اختلاف في كتب اللغة، فقيل: إنّ سخرياً _ بضم السين - بمعنى المسخّر، و _ بكسر السين __ بمعنى من يُستهزأ به والمشهور بينهم أنّهما بالوجهين يستعملان في المعنيين، بل في«معجم مقاييس اللغة»(2) أنّ سخر أصل مطّرد مستقيم يدلّ على احتقار واستذلال، فالمعنى واحد عامّ يشمل المعنيين. والمقصود هنا هو التسخير لا الاستهزاء. واختلفوا أيضاً في معنى التسخير، فالمعروف أنّه بالنسبة للإنسان، إلزامه بعمل من دون مقابل وهو الظاهر من عبارة «معجم المقاييس» و «المفردات» وغيرهما،

ص: 204


1- هود (11): ٦
2- راجع: معجم مقاييس اللغة ٣: 144.

ولكنّ المنقول عن بعض آخر من القدماء، أنّه يشمل الأجير، وهو الظاهر من الآية الكريمة.

والمراد برفع الدرجات اختلاف الناس في معايشهم، وهذا أمر لابدّ منه، فأيّ نظام اجتماعي واقتصادي يُتّبع لا يمكن أن يمنع من اختلاف طبقات الناس في المعيشة، وإنّما ينبغي أن يحاول تقليل الاختلاف أو وصول كلّ أحد إلى الحدّ الأدنى من مستلزمات المعيشة وإلا فالاختلاف يتبع في الغالب، اختلاف الناس في مواهبهم ومؤهلاتهم، ومن أكبر الأخطاء الاقتصادية، منع الناس من استخدام مواهبهم بغية توحيد الطبقات.

واللام في قوله تعالى: (ليَتَّخِذَ)، يمكن أن تكون للغاية والنتيجة، بمعنى أنّ الله تعالى وهبهم طاقات مختلفة، وهذا الأمر ينتهي بالطبع إلى أن يسخّر بعضهم بعضاً لحاجاته وإن لم يكن هذا التسخير مقصوداً بالذات. وهذا هو المتعيّن إن كان معنى التسخير إلزام الإنسان وقهره لغيره، كي يعمل ما هو المطلوب بلا مقابل وأمّا إن كان يشمل القهر الطبيعي الحاصل من احتياج الإنسان إلى العمل، فيؤجر نفسه من أجل الحصول على الأجرة، فاللام لام الغرض ويبيّن المقصود من اختلاف المواهب، وذلك لأنّ تسخير الناس بعضهم لبعض بهذا المعنى هو أساس التعايش الاجتماعي، حيث إنّ كلّ واحد من الناس له مواهب خاصّة به، فيخدم المجتمع بمواهبه والآخر يخدم بمواهبه الأخرى وكلّ مسخّر لبعض آخر، فالعامل مسخّر لصاحب المعمل، وصاحب المعمل أيضاً مسخر للأيدي العاملة، وإنّما ينشأ الظلم والاستغلال المقيت من كثرة الأيدي العاملة وإلا فليس أص_ل التسخير موجباً للاستغلال.

ص: 205

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ ما يَجْمَعُونَ). لمّا آل الكلام إلى المقارنة بين معائش الحياة الدنيا ورسالة السماء، التي عبّر عنه سبحانه بأنّه رحمة ربّك، اقتضى المقام أن يزيل الوهم عن تساويهما عند الله تعالى، وهذه الجملة كفيلة بذلك، فالرسالة خير من كلّ ما يجمعونه من مال ويحصلون عليه من جاه وسلطة والخيرية هنا لیست بمعنى أنّ ما يجمعون فيه خير والرسالة أكثر خيراً، بل يصدق الخيرية حتّى مع عدم وجود خير في ما يجمعون، بل مع كونه شرّاً محضاً، فهو كقوله :تعالى: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أم مَنْ يَأْتِي أَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(1) ونظائره كثيرة.

والحاصل أنّه لا تمكن المقارنة بين الرسالة وما يجمعونه من مال خصوصاً أنّ أكثره من الحرام، وإنّما يقال: إنّه خير حسب توهمهم الخير في متاع الدنيا. ولا شك أنّ الرسالة خير في المقاييس الإلهية لا تقاس بشيء، فإنّها أكرم مقام يمنحه الله تعالى لبشر وأعظم نعمة على الناس أجمعين.

(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا مَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُونِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِثُونَ * وَزُخْرُفاً)، تعقيباً على التقليل من شأن الدنيا في ذيل الآية السابقة، جاءت هذه الآية لتبين بوضوح تفاهة ما يهتمّ به البشر من زينة الحياة الدنيا، وليندّد بتفاخرهم بكثرة المال والولد، وتكالبهم على الجاه والسلطة، واعتبارهم كلّ ذلك من القيم التي يشتاقون إليها، ويجعلونها نصب أعينهم وغاية لكلّ حركة ونشاط، كما نجده بوضوح في من حولنا من دون استثناء إلا نادراً لا يذكر، وليس القصد منه المنع من التزيّن، بل القصد أوّلاً: عدم اعتباره قيمة أساسية، وثانياً: ال_ح_دّ من_ه وع_دم

ص: 206


1- فصلت (٤١): ٤٠

الإفراط فيه خصوصاً بملاحظة أنّه ما من ثراء مفرط وإسراف في التزيّن إلا وبجانبه حقّ مضيّع وفقر مدقع.

وظاهر التعبير أنّه لولا أنّ الناس ينبغي أن يكونوا أمّة واحدة لجعلنا كذا وكذا للكفّار. ولكنّ المفسرين قالوا: إنّ التقدير هنا لولا كراهة أو مخافة أن يجتمع الناس على الكفر ، فيكونوا أمّة واحدة لما يرون من سعة الرزق على الكافر لجعلنا لهم كذا وكذا. وما ذكروه وربّما اتفقوا عليه غير صحيح؛ إذ لا وجه للتعبير عن هذا المعنى بكونهم أمّة واحدة، كأنّ الأمر الذي لا ينبغي هو الوحدة، مع أنّ المقصود حسب هذا التفسير هو الكفر، فكان ينبغي أن يقال: ولولا أن يكفر الناس جميعاً... ولا وجه للعدول عنه إلى التعبير بالوحدة.

والصحيح ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من أنّ المراد أن يكونوا كلّهم يتّبعون النظام الكوني وقانون العلّة والمعلول، فيكون لكلّ أحد من المتاع بمقدار جهده ومواهبه، ولا يخصّص الله تعالى قوماً بمتاع من أجل كفرهم أو إيمانهم ولولا أنّ الله تعالى أراد أن يكون الناس أمّة واحدة بهذا المعنى، لخصّص الكافرين بهذا المتاع الباذخ والزينة الفاخرة دون المؤمنين، والغرض من بيان ذلك، التنبيه على مهانة الحياة الدنيا ومتاعها عند الله سبحانه، بحيث لا يليق إلا بالكافرين.(1)

وعليه فلا حاجة إلى تقدير المخافة والكراهة، بل تبقى الآية على ظاهرها من أنّ الذي يدعو إلى عدم هذا الجعل هو أن يكون الناس أمّة واحدة من جهة الوصول إلى الأهداف والأغراض الدنيوية.

ص: 207


1- راجع: الميزان فى تفسير القرآن 10 :100

ولعلّ التعبير بالرحمن للإشارة إلى أنّهم يكفرون بمن يستشعرون سعة رحمۀ ويسعدون بنعمه. و«الرحمن» مبالغة من الرحمة وتدلّ على السعة والشمول، فيشمل الرحمة على الكافر. وقوله: (لِبُيُوتِهم)، بدل من: (مَن يَكْفُرُ). و«المعارج»: المصاعد. ويظهرون أي يصعدون، كما قال تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ)(1) و«الزخرف»: الذهب أو الزينة، فقد اختلف أهل اللغة أنّه في الأصل بمعنى الزينة أو أنّه بمعنى الذهب، واُطلق بهذه المناسبة على كلّ زينة، ولعلّه يتأيّد بالتعبير عن كلّ شيء مموّه بالذهب بأنّه مزخرف ومهما كان، فقد ورد بمعنى الزينة في قوله تعالى: (حَتَّى إذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ)،(2) وورد بمعنى الذهب في قوله تعالى: (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتُ مِنْ زُخْرُفٍ).(3) وهنا يحتمل الأمرين، أي جعلنا لبيوتهم زينة أو جعلنا لها ذهباً.

ثمّ إنّ المعارج والأبواب والسرر يحتمل أن يراد بها كونها من فضة وذهب، كما هو مقتضى كونه عطفاً على «من فضّة»، ويحتمل أن يراد أصل جعلها، فإنّ ذلك أيضاً في تلك الأزمنة كان من البذخ والترف، ولم تكن البيوت ذوات طوابق ومعارج، وحتّى الأبواب لم تكن إلا لبيوت الأثرياء. ويمكن أن يكون المراد بالأبواب، أنّا نجعل لكلّ بيت من بيوتهم أبواباً متعددة، فيدلّ على فخامة البيت وسعته. وتوصيف السرر بأنّهم يتّكئون عليها، للإشارة إلى أنّهم لغاية الشراء والترف لا يعملون عملاً ولا يتعبّون أنفسهم، فكلّ حاجاتهم حاضرة لديهم كأنّهم أصحاب الجنّة.

ص: 208


1- الكهف (18): 97
2- يونس (١٠): ٢٤ .
3- الإسراء (17): 93

وبعض ما ذكر في هذه الآية وإن كان في عصرنا هذا أمراً متعارفاً حتّى للمؤمنين، بل حتّى في العصور القديمة، كان هناك كثير من البشر يبنون القصور الفخمة، ولكنّ الكلام هنا أنّ الله تعالى يجزي الكفّار أجمعين بذلك، فلولا أن يكون الناس أُمّة واحدة لجعل الله جزاء الكفر سعة الثراء والبذخ وذلك استهانة بالدنيا لا تقديراً للكفر.

(وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ، (إن) نافية. و «لمّا» بمعنى «إلا»، أي كلّ ذلك ليس إلا متاعاً في هذه الحياة الدنيئة أو القريبة. و«المتاع» يطلق على كلّ ما يستمتع به الإنسان، ولكنّه لا يفيد شيئاً وليس له تأثير عميق في تكوين ذاته وشخصيته ولا يوجب كمالاً له، مضافاً إلى أنّه ليس دائماً، بل هو زائل، إمّا في هذه الحياة أو بزوال هذه الحياة وانتقال الإنسان إلى العالم الآخر. وهكذا يقرّر القرآن قاعدة أساسية ممّا يدعو إليه الدين، وهي الزهد في الدنيا وعدم الاهتمام بشؤونها إلا بمقدار الضرورة والحاجة، وهكذا علّمنا الأنبياء والأئمّة علیهم السلام بسيرتهم في الحياة الدنيا، ولكنّ الغالب من الناس لا يعمل إلا للدنيا حتّى الكثير ممّن تقمّص لباس الدين. ومن يعمل للآخرة تجده زاهداً فيها، فيكتفي بأقلّ الواجب في هذا المجال، بل يحاول الفرار حتّى من أقلّ الواجب بما يسمّى بالحيل الشرعية، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالمال، بل يصرّح بعضهم بأنّه يكفينا في تلك

الحياة أن لا ندخل النار ولا تسمع تشوّقاً إلى مقامات المقربين إلا نادراً جدّاً.

(وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)، أي والحياة الآخرة عند الله تعالى خاصّة بالمتقين. ويفهم - بقرينة السياق وذكر النعم والملذّات الدنيوية قبلها _ أنّ المراد اختصاص السعادة والنعمة في الحياة الآخرة بهم، وقوله: (عِنْدَ رَبِّكَ) يدلّ على تشريف

ص: 209

خاصّ وله نظائر في القرآن كقوله تعالى: (وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا)(1) وهو هنا نعت لنعيم الآخرة.

وقيل: المراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك والكفر ، ليشمل فسّاق المسلمين وهو خلاف الظاهر؛ إذ لا دليل على التقييد بالشرك، بل المراد الذين اتقوا ربّهم مطلقاً، ولكن درجات التنعّم والقرب مختلفة باختلاف درجات التقوى وم_ن فسّاق المسلمين من هو في أسفل دركات الجحيم وقد قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أهل الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيّاً وَلا نَصِيراً).(2) وإنّما لجأ بعضهم إلى هذا التأويل نتيجة لهذه الأماني الكاذبة.

ص: 210


1- الشورى (٤٢): ٣٦
2- النساء (٤): 123

سورة الزخرف (٣٦ - ٤٥)

وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّض لَهُ شَيْطَئًا فَهُوَ لَهُ، قَرينٌ(36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّوهُمْ عَن السَّبِيلِ وَتَحْسَبُونَ أَنهُم مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَنلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ (39)مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمّى وَمَن كَانَ فِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ

(40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكَ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرُ لكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْتَلُونَ (44) وَسْئَلَ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ وَالِهَةً يُعْبَدُونَ(45)

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُفَيْضُ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِين). عشا يعشو: ساء بصره أو عمي. والأصل فيه الظلمة ومنه العشاء، أي آخر النهار وأوّل الليل، فم_ن ه_ذا الباب اُطلق على الظلمة في الإبصار، وبعض اللغويين خصّه بالإبصار بالليل، وبعضهم عمّمه للنهار أيضاً. والمراد هنا الإعراض والتعامي عن ذكر الرحمن. و«الذكر» إمّا أن يراد به الكتاب السماوي كالقرآن فيكون من الإضافة إلى الفاعل، وإمّا أن يراد به كلّ ما يُذكّر بالله تعالى فيكون من الإضافة إلى المفعول. والأوّل أقرب بقرينة قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) وما بعده. ولعلّ التخصيص باسم الرحمن للتأكيد على أنّ ما أنزله الله إنّما هو رحمة للعالمين.

وأمّا تقييض الشيطان، فقد مرّ الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: (وَقَيَّضْنَا هُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا هُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)(1) وقلنا لا يبعد أن يكون مأخوذاً م_ن ق_اض

ص: 211


1- فصّلت (٤١): ٢٥

الشيء بالشيء أي مثّله به والقَيضان المثلان ومنه المقايضة بمعنى المبادلة والمعاوضة، فمعنى (نُقَيِّضَ لَهُ) نجعل له مماثلاً، ولعلّ المراد هو خلق المماثل. واحتملنا أن يكون بالنسبة للشيطان الجنّي خلقاً لذاته، فنحن لا نعلم حقيقة الجنّ، ولعلّ بعض شياطين الجنّ يوجد ببعض أفعالنا، وبالنسبة للشيطان الإنسي لا يبعد أن يكون المراد تكوين شخصيته، فإنّ الإنسان يؤثّر في تكوين شخصية أصدقائه. والقرناء كلّ منهم يؤثّر في الآخر، فإن كان القرين فاسداً يغويه ويحرضه عل_ى الأعمال الأجرامية، كما هو مشهود بوضوح.

وأمّا ما ذكره المفسّرون من أنّه من القيض وهو قشر البيضة الأعلى، وأنّه بهذه المناسبة يطلق على التسليط، فقد قلنا: إنّ التقييض لم يستعمل بهذا المعنى، مع انّه غير مناسب لما اُخذ منه، ومضافاً إلى أنّه لو كان بهذا المعنى لكان المناسب أن

يقال: «نقيض عليه» لا «نقيض له». وقوله: (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) يدلّ على أنّه يبقى قرينه بصورة مستمرة يغويه ويوسوس في صدره ويزيّن له أعماله، كما بيّن في الآية التالية، و«الفاء» تدلّ على الترتّب، وهذه أيضاً قرينة اُخرى على ما ذكرناه في معنى التقييض؛ إذ لو كان بمعنى التسليط لم يترتّب عليه كونه قريناً له، فإنّ المقارنة لا تناسب السلطة وإنّما تناسب المماثلة. فالمعنى أنّ الذي يعرض عن ذكر الله تعالى ويتعامى عنه، نجعل له مثيلاً من الشيطان، فيكون قرينه إلى آخر عمره.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الضمير في: (إِنَّهُمْ) يعود إلى الشيطان، وإنّما أتى بضمير الجمع لتعدّد المصاديق بتعدد العاشين عن الذكر. وسائر الضمائر للعاشين. وهذه الآية تبيّن دور القرناء الشياطين، فإنّهم وبكلّ

ص: 212

تأكيد _ والتأكيد يفهم من حرف إنّ ولام القسم - يمنعونهم من سلوك السبيل الصحيح والصراط المستقيم. و«الصدّ» هو المنع والتعبير بفعل المضارع يدلّ على أنّ هذا الصدّ والمنع مستمرّ.

وإنّما يصدّونهم بتزيين أعمالهم، فيحسب المساكين أنّهم مهتدون وهذا أمر طبيعي، فإنّ الإنسان إذا لم يجد في عمله نقصاً أو خطأ استمرّ عليه، بل ربّما يجد الخطأ في خلافه، نتيجة لتزيين شياطين الجنّ والإنس، كما نلاحظه في ما حولنا، فرسل الشيطان قد ملأوا الصحف والمجلات والإذاعات وكلّ وسائل الأعلام المتكثّرة المنتشرة بتزيين ما حرمه الله تعالى، بحيث يجد الإنسان المغت_رّ أن_ّه ه_و الصحيح وإنّ الخطأ هو ما يخالفه، كما ورد في الحديث أنّ المنكر يعدّ معروفاً والمعروف منكراً. وقال تعالى: (قُلْ هَلْ تُنبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(1) وهذا غاية الشقاء، فيقضي الإنسان حياته في ضلال وهو يبتعد عن الحقّ أكثر كلّما أسرع في مشيه، ولا يلتفت إلى من حوله من السائرين على الدرب، بل ربّما يتأسّف على ضلالهم وابتعادهم عمّا هو الصحيح. وهكذا ينتهي الأمر بمن يتعامى عن ذكر الله حتّى يحسب الهداية في عدم متابعة طريق الله تعالى.

(حَتَّى إذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المُشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)، قوله: (حَتَّى) يدلّ أيضاً على أنّ هذا التزيين مستمر للإنسان المسكين الذي ألقى قياده بيد الشياطين إلى أن يفاجئه الموت، فيحضر أمام ربّه وينكشف له الحقّ فجأة، ويرفع عنه الغطاء الذي كان يمنعه من رؤية الحقّ والباطل بوجههما الواقعيين كما قال

ص: 213


1- الكهف (١٨) : ١٠٣ - ١٠٤ .

تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)،(1) فينظر إلى قرينه الذي لم يتركه لحظة ويخاطبه : (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المُشْرِقَيْنِ). والمراد بهما المشرق والمغرب من كلّ اُفق، ويطلق عليهما المشرقان من باب التغليب،

كما يقال للشمس والقمر: القمران ولصلاتي المغرب والعشاء: العشاءان. والمراد ببعدهما تباعدهما، أي البعد الذي بينهما، وهذا غاية التباعد المحسوس على الأرض. والظاهر أنّ قوله: (فَبِئْسَ الْقَرينُ) تتمّة كلامه، وقال بعضهم: إنّه من تعقيب القرآن، وهو بعيد.

وإنّما يتبرأ منه هناك، بعد أن انكشف له الحقّ. وفي سورة «ق» ما يدلّ على أنّ كلاً منهما يتبرأ من الآخر : قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)،(2) نعم لو لم تأت الكتب السماوية والرسالات بالإنذار الكافي، أمكن أن يعتذّر الإنسان بأنّه أعمي عن مشاهدة الحقّ، ولكنّ الله تعالى أتمّ الحجّة وأنذر الإنسان بأنّه سيبتلى بهذه القرناء إذا تعامى عن ذكر الرحمن، فلا تقبل منه الأعذار وهو يتعامى عنه باختياره.

ثمّ إنّ هذا التمنّي وإن كان بحسب الظاهر يعود إلى الماضي، أي أنّه يتمنّى لو كان بينهما في الدنيا هذا البعد، كما أنّ ظاهر قوله: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) يعود إلى مقارنتهما في الدنيا أيضاً. ولكن بعض المفسّرين حمله على تمنّي البعد في الآخرة، وأنّهما متقارنان هناك حتّى قال بعضهم: إنّهما يربطان بسلسلة واحدة؛ ويمكن أن تكون في الآية التالية قرينة على ذلك.

ص: 214


1- ق (٥٠): ٢٢
2- ق(50): 27 - 28

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ). قيل في تفسير الآية وإعرابها : إنّ فاعل (يَنْفَعَكُم) قوله: (أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ) و (إِذْ ظَلَمْتُمْ) في مقام التعليل، أي حيث إنّكم كلّكم ظالمون سواء الشياطين المسؤلون أم الغاوون العاشون - فإنّهم أيضاً ظلموا حيث عشوا عن ذكر الرحمن ممّا تسبب في تقييض الشيطان لهم - فلا ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، فإنّ الاشتراك في العذاب ربّما يفيد في الدنيا، حيث يتسلّى الإنسان بغيره، وقد قيل «المصيبة إذا عمّت طابت» وهذا أمر طبيعي، فالإنسان يتأذّى بالمصيبة الخاصّة أكثر ممّا يتأذّى بالمصاب الجماعي، ولكنّ الاشتراك يوم القيامة لا يفيد حتّى في تخفيف الشعور بالعذاب وذلك لدوامه وعظمه.

وقيل: إنّ فاعل (يَنْفَعَكُم) ضمير يعود إلى التمنّي المذكور أو التأسف والندم على ما استوجب الاقتران، ويكون 0أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ) بتقدير لام التعليل، فالمعنى لا ينفعكم تمنّي البعد ولا التأسّف على متابعة الشياطين، فإنّكم مشتركون في العذاب، أي أنّ هذا الندم والتأسّف قد مضى وقته ولات حين ندم.

ويمكن أن يكون التمنّي _ كما مرّ _ متعلقاً بالابتعاد في تلك النشأة، حيث يقترنون بمن تسبّب في شقائهم، كما يتمنّى الإنسان بعده عن عمله اللاصق ب_ه، قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَداً بَعِيداً)،(1) فيأتيهم الخطاب أنّ هذا التمنّي لن ينفعكم اليوم، إذ لا ينفع الابتعاد هناك، وإنّما كان ينفع الابتعاد في الحياة الدنيا، وأمّا هنا فالعذاب يشملكم معاً، فإنّ كلاً من الغاوين والمغوين يستحقّون العذاب مستقلاً، فالابتعاد عنهم لا

ص: 215


1- آل عمران (3): 30

يبعدكم عن العذاب. ويؤيّد هذا الاحتمال قراءة «إِنَّكُم» بالكسر، حيث يكون ظاهراً في التعليل.

ولكن يبقى السؤال على هذا الفرض في قوله: (إِذْ ظَلَمْتُمْ)، حيث إنّه أيضاً تعليل لعدم النفع والجواب: أنّ الاشتراك في العذاب علّة لعدم النفع، وظلمهم علّة للاشتراك في العذاب، فإنّه هو المناط له وهو موجود في الفريقين، وحاصل المعنى: أنّ تمني التباعد لا ينفع اليوم؛ لأنّكم معاً معذّبون، سواء إن تباعدتم أم اقترنتم، والسبب أنّكم كلّكم ظالمون، إمّا بالإغواء أو بالتعامي والإعراض ع_ن ذكر الله تعالى.

وربّما يتوهّم التنافي بين التأبيد المستفاد من «لن» والتقييد باليوم الدالّ على الوقت الحاضر. وهذا غفلة عن أنّ المراد باليوم ليس يوماً واحداً، بل المراد النشأة الآخرة التي لا انتهاء لها.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أو تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). يعود السياق إلى مخاطبة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وتسليته عمّا كان يشعر به من أذى نتيجة عدم انصياع قومه لدعوته إلى الله تعالى. وقد تكرّر هذا المعنى في القرآن ، كقوله تعالى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المؤتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)،(1) و«الفاء» لتفريع عدم الفائدة في دعوتهم على ما مرّ من تسلّط الشياطين عليهم نتيجة تعاميهم عن ذكر الله تعالى. و«الهمزة» هنا للاستفهام الإنكاري، أي لا تحاول إسماعهم، فإنّك لا تُسمع الصمّ، وهو جمع الأصمّ. ولا تهدي العمي بإراءة الطريق من دون أخذ اليد، وهو لا يكون إلا في ظروف خاصّة وبإذن خاصّ من الله تعالى، فإنّ الوظيفة العامّة

ص: 216


1- النمل (27): 80

للرسول إراءة الطريق فحسب.

وقوله: (وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) عطف تفسير للصمّ والعمي، ويدلّ على أنّهم إنّما عمّوا وصمّوا لعنادهم وإصرارهم على الضلال المبين، حيث إنّ توصيفه بالمبين يدلّ على وضوح ضلالة من يعبد الأصنام التي يصنعها بيده، فبقاؤهم على هذا الضلال الواضح ليس إلا للعناد، وهو يجرّ الإنسان إلى العمى والصمم. وليس القصد من هذه الآية نهي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عن الاستمرار في الدعوة حتّى مع إصرارهم على الضلال، بل المراد تسلية خاطره وإيناسه من إيمانهم.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنتَقِمُونَ * أو نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)، (إمّا ) مركّب من ((إن)) الشرطية ) و ( ما ) الزائدة التي تفيد التأكيد، أي تأكيد الربط بين الشرط والجزاء. والظاهر أنّ المراد بالذهاب به صلی الله علیه و آله وسلم الوفاة، كما في قوله تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ)(1) وغيرها من الآيات. ومن هنا يتبيّن أنّه لا يصحّ ما ورد في بعض التفاسير من أنّ المراد به الهجرة من مكّة إلى المدينة، مضافاً إلى أنّ التعبير بالذهاب به لا يناسب الهجرة؛ لأنّه عمل اختياري ولا قرينة على إرادة هذا المعنى.

والمراد بالانتقام ما يعمّ العذاب في الآخرة بقرينة الآية المذكورة، حيث يختصّ التهديد بما بعد الرجوع إليه تعالى، وكذلك في قوله: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّهَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)،(2) وقوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)،(3) بل ظاهر الآيات دالّة على خصوص عذاب

ص: 217


1- يونس (١٠): ٤٦
2- الرعد (13): ٤٠
3- غافر (٤٠):77.

الآخرة. والمراد بالذي وعدهم الله تعالى عذاب الدنيا والقصد من قوله: (أو نُرِيَنَّكَ ) وقوع عذاب الدنيا عليهم في حياته صلی الله علیه و آله وسلم وقد حدث في يوم بدر.

ولكنّ السؤال هنا أنّه ما علاقة الانتقام منهم بوفاته صلی الله علیه و آله وسلم وما علاق_ة الاق_ت_دار عليهم بإراءته ما وعدهم الله تعالى؟ والجواب: أنّ الغرض تهديد المشركين وتسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ الانتقام والعقوبة آتيهم لا محالة؛ إمّا في الدنيا وفي حياة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو في الآخرة بالعذاب الدائم والترديد في مثل هذه الموارد يبقي المخاطب مهدّداً بعذاب الدنيا _ والناس يخافون منه أكثر من عذاب الآخرة، لجهلهم بحقائقها ولاستعجالهم بنتائج الأعمال - وفي نفس الوقت يبقي لاحتمال الإمهال مجالاً لئلا يصيبه اليأس، فيترك إصلاح نفسه.

وعليه فالجزاء في الجملتين ليس جزاءاً واقعياً ولذلك أتى به في الآيات الثلاث جزاءاً واحداً في الفرضين، وهو الرجوع إلى الله تعالى أو أنّ عليه الحساب ممّا يدلّ على أنّهم يجازون يوم القيامة بأعمالهم، فالمعنى أنّه سواء نزل عليهم العذاب في الدنيا في حياتك أو بعد مماتك أو لم ينزل أصلاً، فإنّ موعد الانتقام يوم القيامة، فالجزاء الواقعي أنّهم لا يتركون، سواء عُذّبوا في الدنيا باستعجال أو بإمهال أم لم يعذّبوا أصلاً. ويشهد لذلك أنّ قوله تعالى: (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) لا يمكن أن يكون جواباً أساساً، وإنّما هو دليل على إمكان تحقّق الإراءة.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، بعد التنديد بأع_داء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم و تهديدهم ، يعود السياق ليؤكّد عليه استقامة طريقه لئلا يصيبه ترديد أو ضعف من عناد قومه الكفرة الطواغيت و«الفاء» للتفريع على ما قبله

ص: 218

وهو قوله تعالى: (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)، أي حيث إنّ الله تعالى قادر عليهم _ وهو واضح - فلا تحذر ،مكائدهم ولا تتوان في التمسّك بطريقتك.

والاستمساك والتمسّك بالشيء الاعتصام به كما مرّ في تفسير الآية ٢١. وجملة: (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعليل لوجوب الاستمساك. والرسول كان عالماً بأنّه على صراط مستقيم ومصرّاً على تمسّكه بالوحي، ولم يصبّه شكّ ولم يتردّد لحظة، ولكن هذه التأكيدات تقوّي عزمه وتسلّيه؛ لأنّها من ربه تعالى، مضافاً إلى أنها تبرّر أمام الناس تصلّبه ورفضه لأيّ تنازل عن الحقّ؛ إذ أنّ هناك المتظاهرين بالإسلام من تدعوه ميوعته وضعفه إلى الإصرار على ترك التشدّد في الدين، كما نراه ونسمعه في عصرنا، بل نجده يزداد يوماً فيوماً، بل يُستنكر التشدّد والتصلّب في الدين ويُعتبر عيباً وعاراً وهو من صلب الإيمان.

ومن الواضح أنّا نقصد التشدّد والتصلّب في الأفكار الخاصّة بمذهب متطرّف يدعو إلى نبذ الآخرين حتّى من يشاركونه في أصل الدين والعقيدة الأساسية، بل القصد التأكيد على أصول الدين، وخصوصاً أصل الأصول وهو التوحيد.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ). الضمير يرجع إلى قوله تعالى: (مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ)، أي إنّ القرآن الكريم ذكر لك ولقومك وإنّكم جميعاً ستسألون يوم القيامة عن موقفكم اتّجاهه.

واختلف المفسّرون في المراد بكونه ذكراً ، هل هو ما ورد في سائر الموارد من أنّه يُذكر الإنسان بربّه وبمعاده وبما يجب عليه أم أنّه بمعنى كونه شرفاً له ولقومه، حيث إنّه يرفع ذكرهم وصيتّهم في الدنيا؟ وأكثر المفسّرين اختاروا المعنى الثاني، نظراً إلى أنّه هو الذي يختصّ به وبقومه دون المعنى الأوّل.

ولكنّه بعيد بالنسبة إلى السياق، وإن ورد الذكر بهذا المعنى في قوله تعالى:

ص: 219

(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)،(1) ولكن التعبير بأنّه ذكر لك ولقومك غير ظاهر في هذا المعنى، كما أنّه ليس مناطاً للسؤال يوم القيامة، فلا يناسبه التعقيب بالسؤال، وإنّما المناط ما يُذكّرهم بربّهم وبوظائفهم، فرفع الذكر في الدنيا وإن كان نعمة يمنّ الله بها عليهم ولكنّه ليس ممّا يناط به السؤال.

هذا، مع أنّ الآية غير ظاهرة في اختصاص كونه ذكراً بهم، ولا تنافي كونه ذكراً للبشرية جمعاء. ولئن خصّ أهل اللغة بالخطاب، فلأنّهم أولى بأن يؤثّر فيهم الذكر، وهم أوّل من ذُكّر به، ولذلك يسألون قبل غيرهم.

وقد اختلفوا في المراد بالقوم هنا، فقيل: إنّ المراد الأمة الإسلامية في جميع الأعصار. وقيل العرب خاصّة. وقيل: قبيلة قريش. ولا يبعد أن يكون المراد عرب الجزيرة آنذاك وهم المخاطبون أو العارفون باللغة عامّة، كما أشرنا إليه. وقد ورد في رواياتنا أنّ المراد أهل بيته علیهم السلام. وقيل في توجيهها: إنّهم أكمل المخاطبين وأعرفهم بمقاصد الكتاب. وعليه فالروايات تبيّن أوضح المصاديق ولا تحدّد المراد.

ولكنّ الظاهر منها _ لو لم يكن الصريح - هو التحديد، فلنلاحظ الروايات:

روى الكليني رحمه الله بسند فيه ضعف عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر علیه السلام في قول الله عزّوجلّ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ):(2) «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: الذكر أنا والأئمّة أهل الذكر»، وقول الله عزّ وجلّ: (وَإِنَّهُ لَذِكْرُ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) قال أبو جعفر علیه السلام: «نحن قومه ونحن المسؤولون».(3)

ص: 220


1- الشرح (٩٤): ٤.
2- النحل (١٦): ٤٣ الأنبياء (21): 7
3- الكافي ١: ١/٢١٠

وروى بسند ضعيف جدّاً عن عبدالرحمن بن كثير وهو ضعيف أيضاً، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: «الذكر محمّد صلی الله علیه و آله وسلم ونحن أهله المسؤولون» قال قلت قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) قال: «إيّانا عنى ونحن أهل الذكر ونحن المسؤولون».(1)

وروی بسند صحيح عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله عزّ وجلّ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، «فرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذكر وأهل بيته المسؤولون وهم أهل الذكر». (2)

وبسند صحيح أيضاً عن الفضيل عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله تبارك وتعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) قال: «الذكر القرآن ونحن قوم_ه ون_ح_ن المسؤولون».(3)

وروى الصفار عدّة روايات كلّها بهذا المضمون أو أصرح في الحصر،(4) ومنها ما رواه عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر علیهالسلام عن شهادة ولد الزنا تجوز؟ قال: (لا) فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز. فقال: «اللهمّ لا تغفر له ذنب_ه م_ا ق_ال الله للحكم: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) فليذهب الحكم يميناً وشمالاً فوالله لا يوجد العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل علیه السلام».(5) ورواها الكليني أيضاً بسند ضعيف.

ص: 221


1- الكافي ١: ٢/٢١٠ ٢.
2- الكافي ١: ٤/٢١١.
3- الكافي ١: ٢١١/ ٥
4- راجع: بصائر الدرجات: ٥٧.
5- بصائر الدرجات: ٣٠

وعلّق السيّد الخوئي رحمه الله على حديث أبي بصير في مقدمة «معجم رجال الحديث»: «ولتفنيد القول بقطعية روايات الكافي بقوله : لو كان المراد بالذكر في الآية المباركة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فمن المخاطب ؟! ومن المراد من الضمير في قوله :تعالى: (لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ؟! وكيف يمكن الالتزام بصدور مثل هذا الكلام من المعصوم علیه السلام فضلاً عن دعوى القطع بصدوره؟!».(1)

ولكنّ الظاهر من الجواب في الصحيحة: أنّ السؤال كان عن آية: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) فهناك خطأ في النقل ويتأيّد ذلك بالروايتين الأوليين وإن كانتا ضعيفتين، ويحتمل أن يكون السؤال وقع فيها عن الآيتين، كما ورد في الأوليين، فسقط قسم من الحديث ولكنّه غير معلوم ، ومهما كان، فلا يمكن الاعتماد على رواية أبي بصير في تفسير هذه الآية، لاحتمال كون السؤال عن آية (فَاسْأَلُوا)، كما هو مقتضى الجواب، ولأنّه لو كان موردها هذه الآية، فلا ينطبق عليها الجواب، كما قال السيّد الخوئي رحمه الله والروايتان الأوليان لا يمكن الاعتماد عليهما أيضاً لضعف السند.

وأمّا صحيحة الفضيل، فلا تخلو من شبهة أيضاً، لأنّ قوله علیه السلام:«الذكر القرآن» لا يناسب هذه الآية، بل يناسب آية (فَاسْأَلُوا)، لأنّ الذكر في هذه الآية خبر وليس مورداً للكلام والسؤال. والضمير في: (وَإِنَّهُ) يرجع إلى القرآن بلا خلاف. وإنّما الكلام فى المراد بالذكر في آية: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)، حيث إنّ المخالفين فسّروا الذكر بالتوراة، وأهله بعلماء اليهود، ورواياتنا تردّ عليهم بأنّهم لو سئلوا لأرشدوهم إلى دين اليهود، وأنّ الصحيح تفسير الذكر بالقرآن وأنّ

ص: 222


1- معجم رجال الحديث ١: ٣٦

الأئمّة هم أهل الذكر، فيظهر من الخطأ في نقل الرواة للآية الكريمة في كثير من الروايات، منها ما رواه الصفّار بسنده عن عمرو بن يزيد، قال: قال أبو جعفر علیه السلام: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) قال: «رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته أهل الذكر وهم المسؤولون» ، فإنّ التعبير بأنّهم علیه السلام أهل الذكر يناسب قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) ويقوي احتمال الخطأ في نقل الرواة للآية الكريمة. ومثله رواية عبدالرحمن بن كثير في «الكافي».

وفي الروايات التي وردت في تفسير هذه الآية إشكال آخر، وهو أنّ القرآن لا شكّ أنّه ذكر للعالمين جميعاً، كما صرّح به الكتاب العزيز ولا يختصّ بقوم دون قوم وليس في تخصيصه بهم علیه السلام من حيث كونه ذكراً وفضيلة ومزية، نعم التعبير بأنّهم أهل الذكر فيه خصوصية وفضيلة، كما أنّ قوله تعالى: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) لا يشتمل على مزيّة وفضيلة، بناءاً على ما هو الظاهر منه وهو أنّهم يسألون عن موقفهم اتّجاهه، فالسؤال لا يختصّ بقوم، بل كلّ من بلغه يقع مورداً للسؤال وليس فيه مزيّة، ولذلك أوّل المجلسي رحمه الله في «البحار»(1) أنّ المراد بالسؤال أنّ الناس يسألونهم عن تفسيره وهو تأويل بعيد، ولا يناسب كونه ذكراً. وإنّما المزيّة والفضيلة في تطبيق آية (فَاسْأَلُوا) عليهم وكونهم المسؤولين فيها؛ ومنه يظهر بوضوح وقوع الخلط والخطأ في نقل الروّاة للآية مورد السؤال.

والحاصل أنّ حصول الوثوق بتفسير هذه الآية بالأئمّة علیهم السلام من الروايات مع كثرتها في مقابل ظهور الآية بذاتها مشكل جدّاً. والله العالم.

(وَاسْأَلُ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ المَةٌ يُعْبَدُونَ)، خطاب

ص: 223


1- راجع: بحار الأنوار 2: 92

للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وقوله : (أجَعَلْنَا ) جملة استئنافية تبيّن السؤال المأمور به بتعبير آخر؛ لأنّ صيغة السؤال يجب أن تكون عن جعل الله تعالى والمعنى واضح ولاکن حيث ورد الأمر بالسؤال من الرسل، مع عدم كونهم معاصرين للرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا يمكن ذلك على حقيقته، فاختلف المفسّرون في توجيهه، فذهب بعضهم تبعاً للروايات الواردة عن الفريقين إلى أنّ المراد السؤال عنهم ليلة المعراج حيث التقى بهم في عالم آخر. وهذا الأمر وإن لم يكن تحقّقه بعيداً إلا أنّ إرادته من الآية بعيد، حيث إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشكّ في الأمر حتّى قبل نزول الوحي، فإنّه لم يشرك بالله طرفة عين، فالسؤال عن الرسل ليس إلا لإقناع الآخرين وهو لا يتحقّق بالسؤال في المعراج.

وقال بعضهم: إنّ المراد السؤال عن أهل الكتاب بما أنّهم يحكون ما في كتب المرسلين أو باعتبار أنّهم من اُمم الرسل فيتبيّن به أنّ الرسالات كلّها كانت تدعو إلى التوحيد.

وقال آخرون إنّه تعبير أدبي، كما يقال: سل الديار أو اسأل التأريخ، فالمراد التوجيه إلى ملاحظة ما أرسل إلى الرسل. وهذا أولى وأظهر ممّا قبله.

ولعلّ التعبير بالرحمن في الآية للتنبيه على أنّ الأمر أو الموافقة مع الشرك ينافي الرحمانية؛ لأنّ ذلك يضرّ بالكمال البشري. ويظهر من الآية أنّ المشركين كانوا يقترحون على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أن يتنازل عن تشدّده في نفي الآلهة، ويقبل بهم ولو جزئياً، فيكون ذلك أساس التصالح بين الفريقين. والآية ترجعهم إلى الرسالات السابقة وأنّ هذا أمر مرفوض في جميع الرسالات وليست هذه الرسالة أمراً مبتدعاً، بل هي أيضاً تسير على ذلك النهج القويم.

ص: 224

وفيها أيضاً ردّ على قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) بأنّ خير من يقتدى به الرسل، وفيهم أيضاً من يعتبرون من آبائهم، ولم يكن في شرائعهم ذكر لآلهة تعبد من دون الله تعالى. والآية تنفي جعل أحد إلهاً يعبد جعلاً تشريعياً، وهذا ليس ردّاً على من يعتقد أنّ هناك أرباباً في الكون تجب عبادتهم، وإنّما يردّ على من يدّعي أنّه يعبد الأصنام ليقرّبوه إلى الله زلفى، وأساس الردّ أنّه تعالى لم يأذن بذلك، فكيف يحصل التقرّب إليه بما لم يأذن فيه ؟! ولعلّ مشركي قريش كلّهم أو جلّهم كانوا من هذا القبيل.

ص: 225

سورة الزخرف (4٦ - 50)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِنَايَتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ، فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(46) فَلَمَّا جَاءَهُم بِنَايَتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47)وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلَّا هِيَ اَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَنهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَتَأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُتُونَ (50)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). حيث كان الحديث عن قول المشركين: هذا سحر وأن_ا ب_ه كافرون، ثمّ استبعادهم نزول رسالة السماء على إنسان فقير، وأنّه ينبغي أن ينزّل على رجل من القريتين عظيم، وبعد الردّ على ذلك بالآيات السابقة، انتقل السياق إلى الاستشهاد برسالة موسى علیه السلام كما استشهد بقصة إبراهيم علیه السلام للردّ على تمسّكهم بسنّة آبائهم.

والتشابه بين قصّة موسی علیه السلام وما دار من الحديث هنا أنّ فرعون وقومه أيضاً وصفوا الآيات المرسلة إليهم بواسطته علیه السلام بأنّها سحر، وذكر فرعون نفس الاستبعاد المذكور، وأنّ موسى فقير وليس له أسورة من ذهب وأنّه هو صاحب الثراء والسلطان، كأنّه يريد أن يقول: لو كانت هناك رسالة من السماء تنزل على بشر لكانت تنزل عليّ!!

والمراد بالآيات المعاجز الواضحة التي كانت معه علیه السلام بقرينة قوله تعالى بع_د ذلك: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) وهي تسع كما قال تعالى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْع آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)،(1) وقد اختلف المفسّرون في

ص: 226


1- النمل (27): 12

تطبيقها. فقيل _ كما في «الميزان»(1) وغيره - هي العصا واليد البيضاء والسنين، أي الجدب، ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.

أمّا العصا واليد البيضاء فهما الآيتان الأوليان اللتان بعث بهما إلى فرعون كما ورد في قوله تعالى: (فَالْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ للنَّاظِرِينَ)،(2) وذكر خمسة منها في قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلات).(3)

وورد ذكر السنين قبل هذه الخمس، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)،(4) والمراد بها السنين التي لم تنزل فيها المطر، فأصيب الناس بالقحط والغلاء. ويبدو من سياق الآيات أنّ هذا الجدب كان قبل هذه الخمس.

ولكن الكلام في التاسع، فذكر بعضهم النقص في الثمرات، واعتبره مغايراً للسنين. وذكر بعضهم فلق البحر باعتبار أنّ نقص الثمرات عط_ف تفسير وهو نفس المجاعة، والظاهر أنّه هو الصحيح. والمراد بكون «العصا» آية تبدّلها إلى ثعبان لا كلّ ما صدر من الآيات بسببها ليشمل فلق البحر. ولعلّ أعظم الآيات هو فلق البحر وكانت آخر آية شاهدها فرعون وملؤه وما اعتبروا بها، فما أغباك يا أيّها الإنسان؟!

و«الملأ» هم أعيان القوم الذين يملأون أعين الناس بمالهم وجاههم. وإنّما

ص: 227


1- الميزان في تفسير القرآن :18: 109
2- الشعراء (٢٦): 32 - 33
3- الأعراف (7): 133.
4- الأعراف (7): 130

خاطب فرعون وملأه خاصّة؛ لأنّه علیه السلام كانت له رسالة خاصّة إليهم غير الرسالة العامّه وهو يرتبط بإرسال بني إسرائيل. واختصر بيان رسالته، فقال: (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمينَ) وكفى أن يكون الرسول مرسلاً من قبل ربّ العالمين في وجوب إطاعته وامتثال أوامره. والآية لم تذكر جواب القوم ، ولكنّه يعلم من الجملة التالية: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا ) فتدلّ على أنّهم طلبوا منه آية ودليلاً على رسالته.

(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إذا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ)، «إذا» فجائية. ووجه الإتيان بها أنّه غير متوقّع؛ فإنّهم بأنفسهم طلبوا منه دليلاً، ولا يمكن للرسول أن يأتي بدليل على ارتباطه بالغيب إلا بإتيان المعجز، وكانت حجّته باهرة فقد ألقى عصاه وانقلب ثعباناً مبيناً ارتاع منه فرعون، وعلم أنّه أمام رسالة حقيقية، وأنّ الله تعالى يؤيّده بالمعاجز، فما كان منه إلا الاستكبار والعناد. ثمّ إنّهم لم يأتوا في قبال معجزه الواضح بدليل مقنع أو وجه منطقي للشكّ، وإنّما ضحكوا واستهزأوا به. فجاءتهم الآيات متتالية، كما مرّ ذكرها، فكانت تنزل عذاباً لهم من جهة وحجة دامغة من جهة أخرى.

(وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) أي وما كنّا نريهم، وربّما يستغرب هذا التعبير من جهة أنّه كيف تكون كلّ آية أكبر من الأخرى؛ إذ النتيجة أنّ الأخرى أيضاً أكبر من هذه الآية، وهذا تناقض واضح. وأجيب بأنّ هذا تعبير متداول، والمقصود أنّ كلّ واحدة منها بالغة غاية الوضوح في الإعجاز فكلّ منها كبيرة غاية الكبر، فإذا لاحظت كلاً منها في نفسها، تجدها أكبر من أخواتها، وحينما تلاحظ الأخرى تجدّها أيضاً كذلك، بخلاف ما إذا لاحظتها جميعاً مع بعض بملاحظة واحدة، فترى وجوه الفرق. ومثل هذا التعبير يق_ال ف_ي ل_غ_ات اُخ_رى

ص: 228

أيضاً. ولكن يمكن أن يكون المراد من اُختها، أي التي قبلها خاصّة، فكانت كلّ آية أعظم وأوضح دلالة من التي قبلها.

(وَاخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أي لم يكن القصد من العذاب الانتقام وإلا لاستأصلهم عن بكرة أبيهم. وقد مرّ مراراً أنّ «لعلّ» ليست للترجّي كما اشتهر بل لبيان أنّه أمر متوقّع، فالعذاب إنّما أتاهم لتكون الأرضية صالحة لرجوعهم عن معاندة الحقّ.

(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا مُهْتَدُونَ) طلبوا منه علیه السلام أن يدعو ربّه ليكشف عنهم العذاب، وتعهّدوا بأنّهم سيهتدون إذا رفع عنهم العذاب. والغرض من «الاهتداء» الإيمان بما جاء به موسى علیه السلام وليس فيه اعترافاً بالضلال، هذا هو الظاهر من العبارة الحاكية لخطابهم، ولكن ربّما يبدو بعض التنافي بين التعبير بالساحر، وفيه تهكّم واستخفاف؛ ثمّ التعبير بربّك دون «ربنا» أو «الله» مثلاً، ثمّ قولهم: (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) دون ما «وعدنا» مثلاً أو نحو ذلك ممّا يكون حافزاً لاستجابة الطلب، فهناك نوع تنافٍ بين هذه التعبيرات وبين طلب رفع العذاب، وهناك تنافٍ آخر بين ما ورد في هذه الآية وما ورد في سورة الأعراف في نفس الموضوع، حيث قال تعالى: (وَلا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيل)(1) فلم يرد هناك التعبير بالساحر.

وحاول المفسّرون رفع التنافي، فقال بعضهم: إنّ الساحر عالم ومحترم عندهم، فليس التعبير به تهكّماً واستخفافاً. ولكنّ هذا غير صحيح حتّى لو كان الساحر

ص: 229


1- الأعراف (٧): (١٣٤

محترماً عندهم، فإنّ توصيف من يدّعي رسالة السماء بأنّه عالم أو شاعر أو إنسان عبقري وذكي وغير ذلك من الأوصاف التي تعتبر في حدّ ذاتها أوصافاً جميلة ليس إلا تكذيباً لرسالته، ومن هنا فإنّ من المؤسف أنّ بعض المسلمين يعجبه تعبير بعض المستشرقين عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بمثل هذه التعابير، مع أنّ ذلك ليس إلا خبثاً ومكراً، فهم يكذبون الرسالة بهذه الطريقة المستحسنة.

وقال بعضهم: إنّ التعبير بالساحر لم يرد في كلامهم بقرينة آية سورة الأعراف، ولكنّ الله تعالى نسب إليهم هذا التعبير بمناسبة المقام، نظير ما ورد في قوله تعالى: (إِنَّا قَتَلْنَا المُسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله)(1) وهم لا يعترفون برسالته. وهذا أيضاً غير صحيح، لإنّ التعقيب هناك من الله تعالى إمّا باعتبار أنّهم في قرارة أنفسهم يعلمون ذلك أو أنّه تمّت الحجّة عليهم أو لوجه آخر، ولكنّه على كلّ حال، توصيف حسب الواقع ولكنّ التعبير هنا على خلاف الواقع، فإن لم يكن صادراً عنهم فلا وجه له.

وأمّا ما ورد في سورة الأعراف، فلا يدلّ على عدم ورود التعبير بالساحر لاحتمال تعدّد الواقعة، بل لعلّه الظاهر من سياق آيات سورة الأعراف حيث قال تعالى: (وَما وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ... فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إلى أجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إذا هُمْ يَنْكُتُونَ)،(2) فإذا لاحظنا تعدّد وقوع الرجز عليهم، فالظاهر أنّه كلّما وقع عليهم طلبوا منه كشفه، فلمّا كشفه عنهم نكثوا العهد، فلعلهم في بعض ذلك عبّروا بالساحر وفي بعضه بموسى.

ص: 230


1- النساء (٤): ١٥٧
2- الأعراف (٧): ١٣٤ - ١٣٥.

ولو فرضت وحدة الواقعة فيحتمل صدور هذا التعبير عن بعض دون بعض ولو فرضت وحدة التعبير، فالظاهر أنّهم عبّروا بالساحر ، ولكنّ الله تعالى لم يعبّر به في سورة الأعراف؛ لعدم الحاجة إلى التركيز على ذلك في عبارتهم ولا وجه للعكس كما مرّ بيانه.

ومهما كان، فالظاهر أنّ تعبيرهم بالساحر هنا وسائر م_ا م_رّ إنّما يدلّ على تعنّتهم واستكبارهم حتّى في هذا الحال. وبالطبع فإنّهم لم يكونوا يلجأون إلى الاستدعاء وإظهار الحاجة إلا بعد استنفاد كلّ الوسائل، وبعد الاضطرار والضيق الشديد واليأس من كلّ السبل الطبيعية؛ وفي هذا الحال أيضاً كان الكبر والغرور بادياً على وجوههم ونطقهم - وهذا دأب المستكبرين في الدنيا - فهم حتّى إذا دعوا ربّهم في أشدّ الضيق يستنكفون من التذلّل وإظهار العبودي_ة. والغ_رض م_ن التركيز على بيان ذلك، تسلية المؤمنين بأنّ ما يشاهدونه من تعنّت طواغيت العرب ليس بدعاً من الأمر وأنّ الله تعالى يمهلهم، كما أمهل السابقين فقوم فرعون بالرغم من هذا الطغيان الواضح استجاب موسى طلبهم ودع__ا ربّه واستجاب الله دعاءه وكشف عنهم الرجز، وهم مع ذلك عادوا إلى كفرهم ونكثوا ما عاهدوا الله عليه.

والظاهر أنّ المراد بقوله : (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بالكيفية التي عهد عندك الدعاء. و«العهد» بهذا المعنى يتعدّى ب_ «إلى» أيضاً، كقوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ)(1) وأصله بمعنى إلقاء العهد إليه وإيصائه بحفظه والالتزام به. وفي «الميزان» وغيره أنّ المراد عهده بأنّه يكشف العذاب إذا آمنوا، وهو بعيد، فإنّه

ص: 231


1- يس (٣٦): ٦٠

على ذلك لا حاجة إلى الدعاء.

(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إذا هُمْ يَنْكُثُونَ)، «النكث» هو النقض أي نقضوا عهدهم المذكور في الآية السابقة، فلم يؤمنوا بموسى علیه السلام ولم يرسلوا بن_ي إسرائيل وعادوا إلى طغيانهم، وهذا من عجيب أمر الإنسان وإصراره وعن_اده للحقّ. وقد مرّ وجه التعبير ب_ «إذا» الفجائية، فإنّ الغرض - على الظاهر - هو أنّهم على خلاف ما يتوقّع من الإنسان العاقل نكثوا العهد بعد ذلك الضيق والشدّة التي ألجأتهم إلى ذلك التعهّد والالتزام. ويزيد الأمر غرابة واستهجاناً ما يظه_ر م_ن سورة الأعراف - كما مرّ بيانه - من تكرّر هذا التعهد، ثمّ النكث في كلّ مرحلة من مراحل العذاب أو في بعضها.

وربّما تستغرب استجابة موسى علیه السلام لدعائهم بعد النكث المتكرّر منهم، ولكن لا غرابة فيها، فإنّ هذا الأمر من الله تعالى، وهو خبير بهم وبنكثهم من أوّل الأمر، وإنّما يستجيب الدعاء والتوبة؛ لأنّ رحمته سبقت غضبه، ولإتمام الحجّة وليرجع

من يرجع وإن كان نادراً، وهكذا يفعل الله التوّاب الرحيم بكلّ عباده.

ص: 232

سورة الزخرف (٥١-56)

وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَنقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَرُ تَجْرِى مِن تَحْتى أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبين (52)فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَبِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَسِقِينَ (54) فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْتَهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْتَهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (55)

(وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ) هذه المجموعة من الآيات تبيّن موضع الشاهد من قصّة فرعون بالنسبة لقول المشركين: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فإنّ فرعون أيضاً نادى بنفس المقاييس واعتبر نفسه فوق الجميع لملكه وثرائه، ورفض رسالة موسى بحجّة أنّه فقير لا يملك مالاً ولا سلطة.

والظاهر من التعبير بالنداء، أنّ المراد من قومه جمع من شعبه وهم الملأ لا كلّهم، حيث كانوا يجتمعون به، فنادى فيهم بهذه الكلمات، ولا يمكن أن ينادي جميع الشعب، وقيل المراد شعب مصر جميعاً، فيحمل النداء على إبلاغ كلامه إليهم عن طريق المنادين ويبعد هذا الاحتمال من جهة أنّ مقتضى سياق الآيات أنّ هذا القوم الذين سمعوا النداء هم الذين اتّبعوه وأنّهم أغرقوا أجمعين، وسيأتي أنّ المغرَقين هم فرعون وجنوده، لا كلّ الناس فالنتيجة أنّ المراد بقومه في هذه الآية بعض منهم وهم الملأ.

ويبدو من التعبير بالنداء أيضاً أنّه كان في لحظة غضب وانفعال وأنّه لم يملك السيطرة على نفسه كما يبدو ذلك من ألفاظه أيضاً، فلعلّ السبب أنّه أراد بهذا

ص: 233

الكلام والنداء إخفاء شعوره بالهزيمة أمام موسى علیه السلام حيث اضطرّ إلى طلب الدعاء منه أن يرفع عنهم العذاب أو أنّه أراد به تضليلهم ومنعهم من أن يؤمنوا به علیه السلام برسالته، فالخوف والضعف باديان على كلامه والاستفهام في قوله:

(اليس لي ) تقريري.

(وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) عطف على: (لي مُلْكُ مِصْرَ)، أي أليست هذه الأنهار تجري من تحتي، أو عطف على: (مُلْكُ مِصْرَ)، أي أليست لي هذه الأنهار التي تجري من تحتي فتكون جملة: (تَجرِي) وصفية. قيل: ومعنى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، أي من تحت قصري إمّا حقيقة، فلعلّه كان في قصره أنهار أو بلحاظ كون القصر مشرفاً عليها. ويمكن أن يكون المراد تجري في ملكي وتحت سلطتي، والمراد بها الأنهار المتشعبّة من النيل.

وقوله: (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تأكيد للاستفهام التقريري الأول، ويبدو منه بوضوح تخوّفه من تأثّر عامة الناس من شعبه بمعاجز موسى علیه السلام وكراماته الباهرة، فيلتمس منهم الأبصار والتأمّل في حدود ملكه وسلطانه يقصد بذلك التهويل وتعظيم شأنه والتقليل من شأن موسى علیه السلام.

(أمْ أنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) الظاهر أنّ «أم» منقطعة، أي بل ألست خيراً من هذا؟! ولعلّ الإضراب باعتبار أنّه يقول: حتّى لو فرضنا لم يكن لي هذا الملك العظيم ولكن لا مجال للمقارنة مع هذا، ويشير به إلى موسى علیه السلام. وقيل: إنّه_ا متّصلة بالجملة السابقة والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون أنّي أنا خير. فقوله: (أنا خَيْرٌ) وضع موضع المسبب بدعوى أنّ كونه خيراً سبب الأبصارهم بنظره، فإنّه يرى أنّهم لو كانوا يبصرون لعلموا أنّه خير منه و (مَهِينٌ) فعيل من المهانة بمعنى

ص: 234

الحقارة ولم يذكره علیه السلام باسمه الشريف احتقاراً.

(وَلا يَكَادُ يُبينُ )، «الإبانة»: الإظهار أي لا يستطيع أن يبين نفسه لضعفه، ولأنّه ليس له أعوان ينصرونه، ولذلك عقّبه باستنكار عدم وجود الملائكة معه لنصرته. وهذا أولى ممّا قيل من أنّه لا يبين مقاصده لضعفه في الكلام، فإنّه لم يكن ضعيفاً - كما يتبيّن من منطقه الأوّل في المجادلة مع اللعين، ولا وجه للإشارة ب_ه إل_ى ضعفه السابق - فإنّه بعد أن دعا ربّه بقوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةٌ مِنْ لِسَانِي)(1) استجاب الله دعاءه وقال: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى).(2)

(فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)، «الفاء» للتفريع، أي حيث كان مهيناً فلا يمكن أن يكون رسولاً ، فلولا ألقي عليه الذهب لتقوية جانبه. والأصل في «لولا» الحثّ والتحضيض، ويقصد بها هنا التعجيب من عدم إلقاء الذهب عليه، ليتوصّل بذلك إلى إنكار رسالته علیه السلام و«الأسورة» جمع سوار وهو من حلي المرأة ما يزين به المعصم وهو معرّب «دستواره» بالفارسية. والمراد بإلقاء الأسورة من ذهب إيتاؤه أموال الطائلة بذلك أو أنّه كناية - كما قالوا - عن إيتائه الملك، لأنّهم كانوا يلقون الأسورة على من نصبوه ملكاً. «والملقي» على هذا الفرض هو الناس، وعلى الأوّل يمكن أن يراد به الله سبحانه أو الملائكة. ومهما كان فالمراد نفي إيتاء الأموال أو الملك من قبل الله تعالى، كدليل على رسالته علیه السلام.

(أَوْ جَاءَ مَعَهُ المُلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) يمكن أن يكون قوله: (مَعَهُ) متعلقاً ب_ (مُقْتَرِنِينَ) أي جاء الملائكة مقترنين معه، ويمكن أن يتعلّق بالمجيء ويكون قوله:

ص: 235


1- طه (20): 27
2- طه (20): ٣٦

(مُقْتَرِنِينَ) حالاً من الملائكة، بمعنى أنّهم مقترنون مع بعض فيشكلون جموعاً كثيرة ليكونوا له أعضاداً وتقوى بهم شوكته أو يؤيدون مقالته، كما قال غيره: (لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)(1) وقد تكرّر حكاية هذا الكلام من الكفّار، حيث يطلبون أن يكون الرسول ملكاً أو يكون معه ملك. والغرض على كلّ تقدير أنّه لو كان رسولاً لكان رجلاً عظيماً له أموال طائلة وملك عظيم وأعوان وأعضاد، فلو أراد الله أن يبعث رسولاً لبعثني وأنا الملك العظيم، ولا يعقل أن ينتخب من بين الناس للرسالة أفقرهم وأبعدهم عن الملك والرئاسة وهذا هو بعينه ما نادى به كفّار قريش، حيث قالوا: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عظيم).(2)

(فَاسْتَخَفْ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)، أي استخفّ عقولهم وأحلامهم واعتبرهم حمقى وسفهاء تنطلي عليهم هذه الأكاذيب والسفاهات، ومع ذلك اتبعوه وأطاعوه. وهكذا شأن الجموع الجاهلة أتباع كلّ ناعق، فإن استخفّهم الكبراء والأمراء وخدعوهم بالأمور التافهة انخدعوا بها واتّبعوهم وأطاعوهم، ولذلك نجد الحكومات والطغاة في زماننا يحاولون نشر المفاسد

والملاهي بحجّة الترفيه وإبقاء الابتسامة على شفاه المواطنين، والهدف انتهاز سفاهتهم ليتسلّطوا على رقابهم وأموالهم.

ثمّ علّل إطاعتهم بفسقهم وخروجهم عن طاعة الله سبحانه وذلك لأنّ المؤمن المطيع الله لا يطيع غيره إلا بأمر منه، فعبودية الله تعالى تستلزم التحرّر عن كلّ

ص: 236


1- الفرقان (٢٥): 7
2- الزخرف (٤٣): ٣١

العبوديات. لا أقول إنّ عبادة الله تعالى مطلوبة لذلك، بل أنّ هذه ميزة تحصل للمؤمنين بالله تعالى والإيمان والتعبّد لله تعالى والتقرّب إليه مطلوب لذاته.

(فَلَا أَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، «الأسف» يطلق على الحزن وعلى الغضب، فالمعنى أنّهم أغضبونا واستوجب عملهم غضب الله عليهم وذلك لتكرّر طلبهم من موسى علیه السلام أن يطلب من ربّه رفع العذاب ليؤمنوا به ويرسلوا بني إسرائيل، ثمّ عودهم إلى طغيانهم وكفرهم فاستحقّوا النقمة والعذاب الإلهي و«الانتقام»

المعاقبة.

وإسناد الغضب والرضا إلى الله تعالى كثير في القرآن والحديث، وقد أوّله بعضهم بأنّ المراد إرادة العقاب والثواب، كما في «الميزان»(1) وغيره، وهو بعيد؛ لأنّ الله تعالى اعتبر رضوانه أعظم من كلّ ما في الجنّة من ثواب قال تعالى: (وَعَدَ الله المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةٌ فِي جَنَّاتٍ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)،(2) فرضوانه تعالى غير الثواب، كما أنّ سخطه ربّما يتجلّى في غير العقوبة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ هُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)،(3) فعدم التكلّم وعدم النظر إليهم غير العذاب، وهذا ما يحكي عن سخطه تعالى عليهم.

ولعلّ الرضا تعبير عن نوع من العلاقة بین الله تعالى وعباده لا ندركها في هذه الحياة، والسخط سلب تلك العلاقة. ويدلّنا على ذلك أيضاً ما ورد في دعاء كميل

ص: 237


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 111
2- التوبة (9): 72
3- آل عمران (3): 77

من قول أمير المؤمنين علیه السلام: «فهبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك» وهذا بالطبع صورة خفيفة من السخط يعبّر عنه بالفراق والنظر إلى كرامة الله تعالى يخصّ بها أولياءه ويشقى من يحرم عنها.

وفي بعض الروايات أنّ محل الرضا والغضب نفوس مطهّرة أنزل الله تعالى حبّها وبغضها ورضاها وغضبها منزلة حبّه وبغضه ورضاه وغضبه. وتأويل الآيات بذلك مستبعد جداً، والله العالم.

(فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) بيان للانتقام. والمراد بهم فرعون وجنوده فأغرقهم الله جميعاً ولم ينج منهم أحد، كما أنّه نجا موسى ومن معه جميعاً. والظاهر أنّ فرعون خرج بكلّ ملائه وكبراء قومه، وأنّ ذلك كان نهاية ملكهم وسلطانهم. بل صريح بعض الآيات أنّ الله تعالى أباد قصورهم وبيوتهم، فلعله عذاب آخ_ر ن_زل على مدينتهم بعد ذلك، قال تعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).(1)

(فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ)، «السلف» كلّ أمر متقدم، فالمعنى أنّ ذلك كان نهاية قوم فرعون بأجمعهم لم يبق منهم أحد ولم يبق لهم شيء إلا ذكرهم على الألسن وفي القصص والتواريخ. والظاهر أنّ المراد بهم الملأ منه الملأ منهم وجنود فرعون، إذ لم يخرج أهل المدينة بقضّهم وقضيضهم معه، وقد ورد في الآي_ات أنّ الله تعالى أغرق فرعون وجنوده.

وقيل: إنّ المراد بكونهم سلفاً، كونهم أئمة يدعون إلى النار، كما قال تعالى

ص: 238


1- الأعراف (7): 137

بشأنهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ)(1) ولا دلالة في كونهم سلفاً على ذلك.

وأمّا كونهم (مثلاً فبمعنى كونهم عبرة للآخرين، ومثلاً يضرب به لقوم قاوموا الحقّ وصارعوه بعد الظهور والوضوح إلى نهايتهم المؤسفة.

و«الآخرين» - بكسر الخاء - أي الذين يأتون بعدهم وليس بمعنى آخر من يأتي مماثلاً لهم كما قيل، بل كلّ من يأتي بعدهم من الناس.

ص: 239


1- القصص (٢٨): ٤١

سورة الزخرف (57-65)

* وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُواْ وَأَلِهَتُنَا خَيْرُ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَةٌ بَلْ هُمْ قَوْمُ خَصِمُونَ(58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدُ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْتَهُ مَثَلاً لَّبَنِي إِسْرَاءِيلَ (59)وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَتَبِكَةً فِي الْأَرْضِ تَخَلَفُونَ

(60)وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٍ (61)وَلَا يَصُدَّ نَكُمُ الشَّيْطَنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَتِ قَالَ قَدْ جنتكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيْنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

(وَلا ضُربَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ). سياق الآيات يشهد بأنّ الاستشهاد بما حدث للأنبياء السابقين في مواجهتهم للطغاة من قومهم إنّما هو لغرض تشبيه حالة المشركين في مكّة بحال الأمم السالفة والتنبيه على أنّ هذا مقتضى طبيعة البشر، وأنّ عليهم أن ينتظروا مثل ما جرى على أولئك من العذاب والعواقب السيّئة، فإنّ سنة الله لا تتبدّل. ومن هنا تعرّض في هذه الآيات لمواجهة عيسى علیه السلام لبني إسرائيل، وابتدأ بالتعليق على نوع من تعامل المشركين مع قصة عیسی علیه السلام مقدمة لذكر ما جرى بينه وبين قومه.

واختلف المفسّرون في تفسير هذه المجموعة من الآيات، ومن الواضح أنّها نازلة بشأن حادثة خاصّة، والمشهور في تفسيرها أنّها نزلت بشأن مجادلة أبداها عبدالله بن الزبَعْرَى، وملخصها أنّ رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم لمّا تلا على أهل مكّة قوله

ص: 240

تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)(1) اعترض عليه عبد الله بن الزبعرى بأنّ عيسى علیه السلام أيضاً يجب أن يكون في النار، فضجّت قريش فرحاً لهذا النقض الواضح، فنزل قوله تعالى: (إِنّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ انْفُسُهُمْ خَالِدُونَ)(2) ويقال في التفسير: إنّ هذه الآيات تشير إلى تلك القصة وأنّ (يَصِدُّونَ) بمعنى يضجّون ضحكاً وفرحاً.

وهذه القصّة مروية في كتب العامّة، وليس لها سند معتبر حتّى ع_ن_دهم. وق_د حكيت بوجوه اُخر منها: ما في «تفسير القمي» حيث قال في تفسير قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَمَا وَارِدُونَ): في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر علیه السلام قال: «لما نزلت هذه الآية وجد منها أهل مكّة وجداً شديداً، فدخل عليهم عبد الله بن الزبعرى وكفّار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعرى: أمحمّد تكلّم بهذه الآية؟ قالوا: نعم، قال ابن الزبعرى: إن اعترف بها لأخصمنه، فجمع بينهما فقال: يا محمّد أرأيت الآية التي قرأت آنفاً أفينا وفي الهتنا أم في الاُمم الماضية وآلهتهم؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم: بل فيكم وفي الهتكم وفي الاُمم الماضية إلا من استثنى الله. فقال ابن الزبعرى: خاصمتك والله الست تثني على عيسى خيراً وقد عرفت أنّ النصارى يعبدون عيسى وأمّه، وإنّ طائفة من الناس يعبدون الملائكة أفليس هؤلاء مع الآلهة في النار ؟ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: لا. فضحكت قريش وضحك وقالت قريش: خصمك ابن الزبعرى، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: قلتم الباطل، أما قلت إلا من استثنى الله ؟!».(3)

ص: 241


1- الأنبياء (21): 98
2- الأنبياء (21): 101 - 102.
3- تفسير القمي ٢ : ٧٦ .

وهذه أيضاً ليس لها سند، ولكنّها أسلم من رواية العامة، لأنّها لا تخلط بین الآيتين ولا تنافي ما يقال ما يقال من أنّ سورة الزخرف مقدمة ترتيباً على سورة الأنبياء، فلا يمكن أن تكون هذه الآية ناظرة إلى تلك الآية، مضافاً إلى استبعاد نزول آيتين في قضية واحدة كلّ منهما جزء لسورة مع اختلاف تاريخ النزول بالطبع. والحاصل أنّ القصّة حتّى لو ثبتت، فلا ترتبط من حيث شأن النزول بهذه الآيات، وإنّما ترتبط بآيات سورة الأنبياء لو صحّ النقل.

وقيل: إنّ هذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُراب)،(1) فالذي ضرب المثل هو الله تعالى ومعنى (يَصدُّون) أي يعرضون عنه.

وهذا الوجه باطل قطعاً؛ لأنّ سورة آل عمران مدنية وهذه السورة مكية، ولأنّ الله تعالى ضرب لعيسى علیه السلام مثلاً وهو آدم علیه السلام، ولم يضرب عيسى مثلاً. ولم يقل في الآية «عنه يصدون» حتى يفسّر بالإعراض، بل منه «يصدون». ولو فرض

لمشركي قريش ردّ فعل في هذا التمثيل، فهو الاعتراض لا الإعراض عنه.

وقيل : معناه أنّ النبي صلی الله علیه و آله وسلم لمّا مدح المسيح وأمّه علیه السلام وأنّه كآدم في الخاصية، قالوا: إنّ محمداً يريد أن نعبده، كما عبدت النصارى عيسى حكاه في «مجمع البيان» عن قتادة.(2)

وهو كلام غريب في حدّ ذاته وتطبيق الآية عليه أغرب.

وذكر في «مجمع البيان» وجهاً رابعاً نسبه إلى رواية سادة أهل البيت، عن علي - عليهم الصلاة والسلام - حيث قال _ على ما في «المجمع» _ «جئت إلى رسول

ص: 242


1- آل عمران (3): 59
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 9 - 10: 80 .

الله صلی الله علیه و آله وسلم يوماً فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إليّ، ثمّ قال: يا عليّ إنّما مثلك في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم، أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد في_ه ق_وم فنجوا، فعظم ذلك عليهم، فضحكوا وقالوا يشبهه بالأنبياء والرسل، «فنزلت الآية». (1)

وورد هذا الحديث بطرق متعدّدة وبوجوه مختلفة، ولكنها بأجمعها ضعيفة السند، بل في كثير منها مناكير لا يقبلها العقل ولا يوافق القرآن الكريم، وعلى فرض صحّة الحديث ولو ببعض وجوهه، فهو أشبه بأن يكون تطبيقاً للآية وليس شأناً للنزول.

ويمكن أن يكون المراد بالآية الكريمة أنّ بعضهم ضرب به علیه السلام المثل في عبادة غير الله تعالى لتبرير موقف المشركين، وأنّه ليس بدعاً من الأمر، فهناك من أتباع الديانات السابقة والعريقة من يعبد بشراً، وعليه يكون «الصد» أيضاً بمعنى الضجة فرحاً وابتهاجاً، ولعلّ هذا الوجه أقرب الوجوه مع قطع النظر عن القصّه، وخصوصاً بالنظر إلى الآية التالية.

(وَقَالُوا الفِتْنَا خَيْرٌ أم هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)، معنى الآية بناءاً على القصّة المعروفة أنّهم احتجّوا بأنّ عيسى علیه السلام _ بناءاً على ما تقولون _ خير من ،آلهتنا، فإن كان هو حصب جهنّم، فلتكن آلهتنا أيضاً كذلك. فالاستفهام

تقريري، والقصد منه أخذ الإقرار من الخصم أنّ عيسى علیه السلام خير من آلهتهم.

والآية تردّ عليهم بأنّهم ما احتجّوا وما ضربوا به مثلاً إلا للمجادلة والمراء، وقوله تعالى: (جَدَلاً) مفعول لأجله، أي ما ضربوا به المثل إلا لأجل المجادلة،

ص: 243


1- مجمع البیان 9 - 10: 80 - 81

ومقارعة الحقّ بالباطل، فهم يعلمون أنّهم على خطأ ويعلمون أنّ قوله تعالى: (وَمَا تَعْبُدُونَ) لا يشمل ذوي العقول وأنّه خطاب للمشركين ولا يشمل النصارى، مضافاً إلى أنّ عيسى علیه السلام - حسب تقرير القرآن الكريم - أمرهم بعبادة الله وحده ونهاهم عن عبادة غيره، ولا يمكن أن يؤخذ بذنب غيره، خصوصاً أنّهم لم يتّخذوه إلهاً في حياته، وإنّما هو شيء أحدثوه بعد تغيّب_ه م_ن ب_ي_ن ظهرانيهم، فالاستشهاد به ليس إلا مماراة للحقّ بعد وضوحه.

وقوله تعالى: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) إضراب عن كون هذا المراء أمراً طارئاً حصل في هذه المجادلة، وبيان أنّ هذا ليس بدعاً من أمرهم، بل هم بطبيعتهم أهل مراء وعصبية ولا ينصاعون للحقّ الواضح و«الخَصِم» - بالفتح ثمّ الكسر - صفة مشبّهة تدلّ على الثبات والاستقرار فتعني أنّ المخاصمة والمراء من صفاتهم العريقة.

وأمّا بناءاً على ما ذكرنا من الاحتمال فالمعنى _ والله العالم __ أنّ آلهتن_ا خي_ر منه وأقرب إلى أن يكونوا معبودين بعكس ما ورد في الوجه السابق. وذلك على أساس أنّ الأصنام عندهم تمثّل الملائكة، فهم يعبدونها، لأنّها تمثّلهم وهم مقرَّبون لدى الله تعالى.

والجواب: أنّهم ما ضربوا به المثل إلا جدلاً، وإلا فهم يعلمون أنّ أساس التوحيد نفي الألوهية عن غير الله مطلقاً وأنّه لا مبرر لأحد أن يدّعي الألوهية لعيسى علیه السلام أو لغيره من الرسل أو الملائكة، فالاستشهاد بألوهية عيسى لا وجه له أساساً، ولكنّهم قوم خصمون والجدال والمراء جزء من طبيعتهم.

وبما ذكرنا يتبيّن أنّ الوجه الذي ذكرناه أقرب من الوجه المشهور؛ لأنّه بناءاً عليه يجب تأويل هذه الآية بأنّ عيسى علیه السلام عندكم أفضل من آلهتنا، وهذا خلاف

ص: 244

ظاهر اللفظ، حيث إنّ ظاهر الاستفهام التقريري التأكيد على أنّ مضمونه مقبول لديهم، وهو بناءاً على ما ذكرنا أنّ معبودهم في الواقع هم الملائكة وهم أفضل من عيسى علیه السلام عندهم وعند بعض المسلمين أيضاً.

(إنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) هذه الآية بناءاً على وجهي التفسير تكمل الردّ عليهم وتبيّن حقيقة أمر عيسى علیه السلام وأنّه لم يكن إلا عبداً الله تعالى أنعم عليه بما أنعم به على سائر الأنبياء المرسلين من نزول الوحي والإمداد بالمعاجز والعصمة الإلهية. والتأكيد على كلمة «عبد» لنفي الألوهية المزعومة.

(وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ). «المَثَل» في الأصل مأخوذ من المثول، أي القيام و الانتصاب، فيطلق على كلّ ما ينصب علامة لشيء أو لطريق أو يكون موضع اهتمام وتوجّه لعامّة الناس. وعليه فيمكن أن يكون المراد بكونه علیه السلام مثلاً كونه موضع الإعجاب من جهة الآيات والمعاجز التي ظهرت على يدي_ه م_ن إب_راء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، مضافاً إلى أصل كونه آية، حيث خلقه الله تعالى من دون أب كما قال تعالى في شأن أمّه : (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)(1) كلّ ذلك يجعله مثلاً يضرب به ويسير به الركبان إعجاباً واستعظاماً.

ويمكن أن يكون المراد: أنّ الله تعالى جعله مثلاً وقدوة لبني إسرائيل، فالمثل بمعنى من يقتدى به. والغرض بيان أنّه لم يكن وجه لاعتباره إلهاً إلا أنّهم أخطأوا حين رأوه ممتازاً من بين البشر بهذه الصفات العجيبة، فبدلاً من الاقتداء به _ كما أمر به الله - اعتبروه إلهاً فعبدوه، وفي نفس الوقت تشير الآية إلى أنّ السبب في افتتانهم هو هذه الصفات التي اختصّه الله تعالى بها.

ص: 245


1- الأنبياء (21): 91

والحاصل - بناءاً على ما ذكرنا _ أنّ كفار قريش كانوا يضربون المثل بعیسی علیه السلام الليبرّروا موقفهم، فيقولوا إنّ آلهتنا تمثل الملائكة وهم أفضل من عيسى، حيث إنّه بشر ومع ذلك عبده النصارى واتّخذوه إلهاً وهم أصحاب ديانة سماوية محترمة عندكم. والجواب: أن اعتباره إلهاً شرك وكفر، بل هو عبد أنعم

الله عليه

(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةٌ فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) المعروف في تفسيرها أنّ «من» في قوله: (مِنكُمْ) للبدلية، فالمعنى أنّه تعالى لو شاء لأفناكم وجاء بالملائكة بدلاً منكم يخلفونكم ويعيشون في الأرض. وعلى هذا فيقع السؤال في الغرض من بيان ذلك، فقيل: إنّه للتهديد والتحذير، نظير قوله تعالى: (إنْ يَشَأْ يُذهِبكُمْ أيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً)(1) واستبعده بعضهم لعدم استلزام المقام تهديداً.

وقيل: إنّ الغرض إبطال قول المشركين ببنوّة الملائكة الله تعالى بمناسبة تعرّض السياق لنفي بنوّة عيسى علیه السلام ووجه الردّ على قوله بهذه الآية أنّه تعالى جعلهم سكنة السماوات، وبإمكانه أن يجعلهم سكنة الأرض، فمجرّد كونهم في السماء لا يبرّر القول ببنوّتهم له تعالى ويردّ هذا الاحتمال أنّ السياق لم يتعرّض لبنوّة عيسى علیه السلام بل لألوهيته، مضافاً إلى أنّ مجرّد إمكان خلق الملائكة في الأرض لا ينفى البنوّة.

والصحيح ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله وهو - بتقريب منّا _ أنّ هذه الآية متّصلة بما قبلها والغرض بيان رفع الاستبعاد عن أنّ الله تعالى خلق بشراً من دون

ص: 246


1- النساء (٤): 133

أب، وأنّ ذلك لا يبرّر اتخاذه إلهاً، ولو شاء الله لجعل من البشر، أي بعضهم ملائكة وهم حسبما تعتقدون أفضل الخلائق، ومع ذلك يجعلهم خلفاء في الأرض، كما أنتم عليه وكما كان عيسى علیه السلام، بمعنى أنّ بعضهم يخلف بعضاً وهذا الوصف خاصّ بالبشر، فالغرض بيان أنّهم يبقون بشراً في الظاهر وهم يملكون خصائص الملائكة أيضاً، وهذا التركيب أعجب من خلق بشر بدون أب، فالله تعالى قادر على كلّ شيء وكلّ هذا من آيات حكمته وقدرته. وبناءاً على هذا فقوله: (مِنكُمْ)، أي من أنفسكم أو من جنسكم، والمراد بقوله تعالى: (يَخلُفُونَ)، أي يخلف بعضهم بعضاً.(1)

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَتَرُنَّ بِهَا). المعروف بين المفسّرين أنّ الضمير في (إنّهُ) يعود إلى عيسى علیه السلام وكونه علماً للساعة، بمعنى أنّ نزوله يوجب العلم بها؛ لأنّه ينزل قبيل قيام الساعة، فيكون من علاماته. وقيل: إنّه قرئ بفتحتين، أي «لَعَلَم» وهو أوضح دلالة على هذا المعنى. ولكن تفريع النهي عن الامتراء على ذلك لا يخلو من تكلّف وغرابة، ولذلك عدل عنه العلامة الطباطبائي رحمه الله إلى القول الآخر وهو أنّه علیه السلام بتكوّنه علم للساعة، باعتبار أنّه خلق من غير أب، فهو دليل على إمكان أن يخلق الله البشر مرّة أخرى بعد فناء أجسامهم.(2) وهو أيضاً بعيد والتكلّف فيه أوضح.

وحكي عن الحسن وقتادة وابن جبير وأبي مسلم، أنّ الضمير يعود إلى القرآن وكونه علماً بمعنى أنّه يوجب العلم بما ورد فيه من أدلّة وبراهين على

ص: 247


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 117
2- راجع: الميزان فى تفسير القرآن 18: 118

إمكانه. وأرى أنّ هذا القول أقرب من غيره. واعترض عليه بأنّه لم يرد ذكر القرآن وأنّه مخالف للسياق.

والجواب: أنّه لا يبعد أن تكون الجملة عطفاً على قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وما بينهما جمل اعتراضية، ويلاحظ أنّ القرآن هو محور الكلام في السورة من بدوها، مضافاً إلى أنّ هذه الجملة بمنزلة الاستنتاج ممّا مرّ من التعليق على تعامل القوم مع القرآن الكريم، وما ورد فيه من ذكر الأنبياء والرسل، وبيان قصص الأقوام السابقين، والتحذير من الوقوع في نفس المحاذير، فالنتيجة أنّ هذا القرآن يحذّركم بأسوأ ممّا حدث لهم في الدنيا وه_و ع_ذاب الآخرة، فلا تمترّن بها ولا تتّبعوا تسويلات الشيطان. والتحذير من الساعة هو الهدف الأساس في القرآن دائماً. ومهما كان فالامتراء إمّا بمعنى الشكّ، أي لا تشكّوا فيها، أي في الساعة، وإمّا بمعنى المجادلة، أي لا تجادلوا فيها.

(وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) فيه احتمالان؛ إذ لا يصحّ التعبير بمتابعة الله تعالى، فإمّا أن يكون المقدّر: اتبعوا آياتي وهداي، أو يكون حكاية لكلام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو لما يجب أن يقوله لهم. «وهذا» إشارة إلى اتّباعه صلی الله علیه و آله وسلم أو إلى الطريق الذي يسلكه، فالمعنى حينئذٍ اسلكوا طريقي، فإنّه صراط مستقيم. ولعلّ التنكير بلحاظ تعدد الطرق بتعدد الرسالات وإن كانت اُصول الشريعة واحدة، فيدلّ على أنّ الأمر بالاتباع بلحاظ السنن والأحكام الخاصّة بهذه الشريعة.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، «الصدّه» هو المنع، أي لا يمنعكم الشيطان من الإيمان بالساعة، فإنّه أساس السعادة البشرية والذي لا يؤمن بيوم القيامة يجد الكون تافهاً وبلا هدف، والحياة عنده لا معنى لها إلا الأكل والشرب واللذة كالحيوان، وهذا هو الذي يريده الشيطان للإنسان؛ لأنّه يريد أن يسلبه ما

ص: 248

يسعد به في الحياة الأبدية، بل مطلقاً وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد أكّد الله تعالى في كتابه العزيز على العداء القديم الذي يكنّه الشيطان للبشر، حيث إنّ الله تعالى أمره بالسجود لآدم علیه السلام فأبى وأخرجه الله تعالى من الجنّة فآلى على نفسه أن يغوي ذرّيّة آدم إلى يوم القيامة.

(وَلا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ)، المراد بالبينات الأدلّة الواضحة والمعجزات التي اثبتت ،نبوته، فالقصد من هذا التقييد أنّه لم يأت بدعوى فارغة، فيكون الاختلاف الذي حدث بينهم نتيجة عدم وضوح الرسالة، بل اختلفوا بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم،كما قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1) وكغيرها من الآيات، والمراد بالحكمة الشريعة التي أتى بها أو الكتاب المشتمل على الأحكام وهو الإنجيل. والحكمة ما يمنع الإنسان من السفاهة والجهل وشرائع السماء تشتمل على أبلغ الحكم.

(وَلا بَيْنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ). طبيعة الحال تقتضي الاختلاف بعد الرسول بين أتباعه لا يشذّ من ذلك قوم، فكان هناك بين بني إسرائيل اختلاف عقائدي، فمنهم من ينكر الآخرة مثلاً ومنهم من يثبتها، واختلاف في الأحكام والشريعة واختلاف في المنهج، فبعض يدعو إلى التقشف والزهد، وبعض يدعو إلى التمتّع بالحياة الدنيا، واختلاف بين القبائل والطوائف وغير ذلك من أنحاء الاختلاف. وأنزل إلى السيّد المسيح علیه السلام من الكتاب ما يبّين لهم الحقّ في بعض موارد الاختلاف. ولعلّ المراد مجال العقيدة والشرع، وأمّا الاختلافات القبلية

ص: 249


1- آل عمران (3): 19

ونحوها فلا يمكن رفعها بالكتاب والشرع، وربّما لا يمكن رفع بعضها مطلقاً.ولذلك قيد البيان ببعض موارد الاختلاف.

(فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ)، وصية من عامّة الأنبياء يحدّد الإيمان العملي، فالإيمان في مرحلة العمل له جانبان: تقوى الله تعالى في جميع الحالات، وإطاعة الرسول. ولا يتمّ الإيمان إن لم يطع الرسول في جميع ما أمر به ونهى عنه وليس مورد الإطاعة ما ينقله من أحكام الله تعالى الواصلة إليه عن طريق الوحي، فإنّ_ه م_ن التصديق لا الإطاعة وعدم تصديق الرسول ولو في بعض ما أتى به كفر وخروج عن ربقة الإسلام. بل مورد الإطاعة كلّ ما يأمر به من أوامر خاصّة أو عامّة حسب المصالح المتغيّرة، وكلّ ما يطبقه من عناوين موضوعة لحكم إلهي، وكلّ حكم قضائي يحكم به بين العباد؛ بل هناك مجال آخ_ر خ_اصّ بالرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم من بين ولاة الشرع وهو تشريع السنن الواجبة. وتفصيله في مباحث الأصول.

ومن هنا يتبيّن أهمية أحاديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وسخافة القول بالاكتفاء بكتاب الله تعالى وأنّ هذا ينتهي إلى إبعاد الناس عن دينهم الحقّ، فالدين لا يستقيم إلا بهذين العمودين: تقوى الله وإطاعة الرسول، وكذب من زعم أنّه يتقي الله ولا يطيع الرسول. وقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله ).(1)

(إنَّ الله هُوَ رَبِّ وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). يركز القرآن على نقل هذه العبارة منه علیه السلام هنا وفي سورتي آل عمران ومريم ، حيث يؤكّد على أنّ الله تعالى ربّه وربّ الناس جميعاً، وليس لهم ربّ غيره - كما يظهر من ضمير الفصل _

ص: 250


1- النساء (٤): ٦٤

وأنّه ليس إلا رسولاً يوصي الناس بعبادة الله تعالى، وأنّ عبادته هي الصراط المستقيم الذي يؤدّي إلى السعادة، وينهى عن عبادة غيره، فإنّها تؤدي إلى الشقاء في الدنيا والآخرة، وهو بذلك يشير إلى أنّ ما سيؤول إليه أمر أتباعه من الغلو فيه واعتباره إلهاً يعبد أو اعتباره أحد أقانيم الألوهية ونحو ذلك إنّما هو انحراف عن الصراط المستقيم الذي رسمه بأمر من الله تعالى لأتباعه.

(فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) يبدو من العبارة أنّهم تحزّبوا قبل أن يختلفوا، فلم يكن أساس التحزّب الاختلاف في العقيدة وفي تفسير ما جاء به المسيح اعلیه السلام. ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بالحقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(1) حيث يدلّ على أنّهم إنّما اختلفوا في الكتاب بغياً بينهم، وهى آية عامّة تشمل أتباع كلّ الرسالات.

ومثلها قوله تعالى: (إنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ)(2) وقوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)،(3) وقوله تعالى حول بني إسرائيل: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمر فما اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).(4)

ص: 251


1- البقرة (2): 213
2- آل عمران (3): 19
3- الشورى (٤٢): ١٤
4- الجاثية (٤٥): ١٧

فهذه الآيات تدلّ على أنّ منشأ الاختلاف هو الأمور المادية من المال والجاه والزعامة والخلافة وإنّما ينّبه القرآن بذلك هذه الأمّة ليكونوا حذرين ممّا سيصيبهم من الاختلاف وأنّه أيضاً ينشأ من البغي والعدوان وطلب بعضهم ما ليس له، وقد أشير في مواضع من القرآن وفي الأحاديث الشريفة أنّ ما أصاب السابقين سيصيب

هذه الأمّة.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ). طبيعة الحال تقتضي أن يكون م_ن ب_ي_ن الذين اختلفوا من هو على الحقّ، ولذلك لم يعمّهم بالعذاب، بل خصّ ذلك بالذين ظلموا وهم في ما اختلفوا فيه من العقائد من اشركوا بالله وجعلوه أحد الأقانيم أو اعتبروا عيسى علیه السلام إلهاً أو ابناً لله تعالى ونحو ذلك العقائد الفاسدة، وفي مورد البغي الذي هو أساس الاختلاف هم الذين طلبوا ما ليس لهم من الزعامة والولاية والإمامة وغير ذلك من الشؤون التي يتقاتل عليها الناس.

ص: 252

سورة الزخرف (٦٦ - ٧٣)

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)الْأَخِلَّاءُ

يَوْمَبِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67) يَنعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِفَايَتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحبَرُونَ(70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(72) لَكُمْ فِيهَا فَيكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ(73)

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةٌ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، الظاهر أنّ الكلام حول كفّار قريش لا الذين ظلموا من قوم عيسى علیه السلام المذكورين قبله، فإنّ ذكرهم إنّما كان في جملة معترضة، ردّاً على استشهاد قریش به علیه السلام وبقومه.

(هَلْ يَنْظُرُونَ)، أي هل ينتظرون، والاستفهام إنكاري، أي لا ينتظرون إلا الساعة - وهم بالطبع لا ينتظرون الساعة - فضلاً عن انحصار انتظارهم فيها، فالمراد بيان حالتهم الواقعية التي هم غافلون عنها، أي أنّ القيامة هي مستقبلهم الأكيد، فكأنّهم لا يترقّبون أمراً إلا قيام الساعة.

و «الساعة» جزء من الزمان وتطلق على جزء قليل منه، كقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(1) وإطلاقها على يوم القيامة باعتبار تحقّقه فوراً وفي لحظة، ولذلك يعبّر عن سبب تحقّقه بالنفخ في الصور أو النقر في الناقور. وهناك يومان يطلق عليهما الساعة وكلّ منهما يتحقّق بسرعة: ي_وم ف_ن_اء العالم ويوم قيام الناس لربّهم، ولا يعلم ما بينهما إلا الله. قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي

ص: 253


1- الأعراف (٧): ٣٤

الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ الله ثم نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)(1) فأيّ اليومين يقصد بالساعة هنا؟

الظاهر أنّ المراد بها هنا يوم فناء العالم، فإنّه اليوم الذي يتوقّعه الناس وتبغتهم وتأتيهم فجأة وهم لا يشعرون، كما قال تعالى: (مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخصُمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةٌ وَلا إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)(2) وأمّا ما تعقّبه من خصائص يوم القيامة، فلا يستوجب ذكرها أن يكون هو المراد وإنّما ذكرت هنا بلحاظ أنّ الإنسان لا يشعر بالفصل بين اليومين، بل حتّى بالفصل بين يوم موته ويوم القيامة، وقد ورد في آيات عديدة أنّ الناس لا يشعرون به كقوله تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ).(3)

وقوله (أنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من الساعة، أي ينتظرون أن تأتيهم الساعة والمراد بقوله : (لا يَشْعُرُونَ) أنّهم غافلون عنها غير متهيّئين لها. والمباغتة لا تستلزم الغفلة، فليس تكراراً؛ إذ ربّما يأتي الموت فجأة، ولكنّ الإنسان متهيّء له، والآية تنبّه الإنسان ليكون متهيّئاً لقيام الساعة التي لا يعلم وقتها ولساعة الموت أيضاً؛ لأنّ الإنسان إذا مات فقد قامت قيامته كما في الحديث.(4)

(الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا المُتَّقِينَ)، «الأخلاء»:

جمع خليل من الخلّة - بالضمّ - أي الحبيب والصديق، فالمتصادقون والمتحابّون في الدنيا يتعادّون في الآخرة مهما توسعت خُلّتهم وتعمّقت، حتّى أنّ أحبّ الناس إلى الإنسان يفرّ منه،

ص: 254


1- الزمر (39): ٦٨
2- يس (٣٦): ٤٩ -٥٠.
3- يونس (١٠): ٤٥
4- راجع: بحار الأنوار ٧:٥٨

قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).(1) والسرّ فيه أنّ كلاً كان يساعد الآخر في ضلاله وفجوره وعصيانه، ولكن جهلهم بواقع الحال كان موجباً لعدم انتباههم بأنّه يسعى في ضلاله وإنزال أكبر الضرر عليه. وهذا نظير من يقدّم لصديقه المخدّر أو المسكر أو الدخان، فإنّه يعتبره مع الجهل حبّاً ووداً وصداقة، فإذا تبيّن له مدى الإضرار اللاحق به علم أنّه لم يكن صديقاً، ب_ل كان من أعدى أعدائه. وهكذا يظهر للإنسان يوم القيامة _ حين تظهر حقائق الأشياء عارية - أنّ كلّ من كان يساعده على ضلاله وفجوره أو يسكت عنه فإنّما كان عدوّاً له وإن كان أباه أو أمّه.

و من هنا يتبيّن السرّ في استثناء المتّقين، فإنّهم لا يسكتون على المنكر من أحد، خصوصاً إذا كانوا يحبّونه، فربّما يمتعض الولد من تشدّد والديه في سوقه إلى الصلاة وتجنيبه ما يهواه من الشرور، وربّما يكنّ لهما حنقاً وبغضاً لذلك، ولكنّه حينما تبدو الحقائق يعلم أنّهما أرادا به كلّ الخير، فيحبّهما أكثر ممّا كان يحبّهما في الدنيا. والله سبحانه للطفه بهم يزيل عن قلوبهم الأحقاد لتمتلئ حبّاً وودّاً وصفاءاً، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلْ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).(2)

(يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)، خطاب من الله جلّ جلاله يوجّه إلى المتقين تكريماً لهم ، وأيّ تكريم أعظم من إضافة العباد إلى نفسه تعالى شأنه، وأيّ نعمة أعظم من هذا الوعد الجميل: (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). «اليوم» هو يوم الخوف المطلق و الحزن الدائم، أمّا عباد الله تعالى فهم

ص: 255


1- عبس (80): ٣٤ - ٣٦
2- الحجر (١٥): ٤٧

بعيدون عنهما. و«الخوف» يتعلّق بالمكروه المحتمل والحزن على مكروه لا مفرّ منه، ولا يصحّ ما يقال: إنّ الأوّل يتعلّق بالمستقبل والحزن بالماضي، فإنّ الإنسان ربّما يخاف من أمر في الحال الحاضر ، ولكنّه غير معلوم وهو يحذر من وجوده واقعاً، وربّما يحزن من أمر لم يحصل بعد، ولكنّه يحصل قطعاً والناس _ إلا من عصمه الله - في خوف ذلك اليوم وحزن خوف من عذاب يستقبلهم وحزن على ما فاتهم.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) وصفهم بالإيمان والإسلام، والمراد بالإسلام هنا التسليم لأمر الله تعالى الذي هو مرحلة أعلى من الإيمان، لا الإسلام بمعنى التشهد بالشهادتين الذي هو مناط ترتّب الأحكام والحقوق الخاصّة بالمسلمين، ويصدق حتّى على المنافق، والذي ورد في قوله تعالى: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَم تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(1) والتعبير بأنّهم كانوا مسلمين يدلّ على الاستمرار، أي ليست ميزتهم أنّهم أسلموا أمرهم إلى الله تعالى في موقف واحد، بل كان هذا دأبهم وديدنهم وميزتهم المستمرّة في كلّ موطن وموقف.

ولعلّ الوجه في تعليق الإيمان بالآيات أنّهم لم يؤمنوا بالله فحسب، بل آمنوا بكلّ آياته، ومنها الرسل والكتب والأحكام، فيكون ذكر الآيات للدلالة على أنّ إيمانهم بالله أمر مفروغ عنه. وهذا أمر دقيق، فالإيمان بالله تعالى وحده لا يكفي في انتفاء الحزن والخوف يوم القيامة، بل لابد من الإيمان بكلّ ما جاءت به الرسل من آيات وأحكام، ثمّ يكون الإنسان مسلماً نفسه في العمل بها والرضا

ص: 256


1- الحجرات (٤٩): ١٤

والقناعة بمضمونها، وهذا ليس أمراً يسيراً، فإنّا نجد كثيراً من المؤمنين إذا ابتلي بتكليف من الله تعالى يتعلّق بالتضحية في سبيله بالنفس والنفيس، لا يؤمن به ويحاول التكذيب والإنكار فإنّ لم يمكن واضطرّ إلى التصديق؛ فإنّه يكذبه في مرحلة العمل ولا يسلم نفسه لأمر الله تعالى.

(ادْخُلُوا الجنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)، «تحبرون» من الحَبرة - بالفتح - والحُبور أي النعمة، فالمعنى: تُنعمون وتُكرمون أو بمعنى السرور، أي تُسَرّون، بالبناء على المجهول. وقيل: إنّه من الحبار - بالفتح أو الكسر - أي الأثر والمعنى أنّ أثر النعمة بادية على وجوههم، كما قال تعالى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)(1) ولكنّه بعيد ؛ لأنّ الحبار ليس بمعنى أثر النعمة خاصّة، بل مطلق الأثر ومنه الحبر المستعمل في الكتابة، فالأوّل هو الصحيح.

والمراد بالأزواج نساؤهم المؤمنات في الدنيا، وكذلك الأزواج المؤمنون، فإن خطاب: (يَا عِبَادِ) لا يختصّ بالرجال. وهذه الآية من الآيات التي تشير إلى الجمع بين المؤمنين وأزواجهم في الجنّة والوعد بلمّ الشمل ممّا تكرّر ذكره في الكتاب العزيز، قال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)(2) وقال تعالى نقلاً عن الملائكة: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)(3) وغير ذلك. وقد مرّ الكلام حول هذه الآيات في تفسير سورة غافر، وأنّها تدلّ على نوع من الشفاعة.

وقيل: إنّ المراد بالأزواج الحور العين. وهو بعيد؛ لأنّهنّ في الجنّ_ة ف_لا

ص: 257


1- المطففين (83): ٢٤.
2- الرعد (13): 23
3- غافر (٤٠): ٨

يُؤمرنَّ بالدخول ولا يُبشّرن بالحبور.

(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ). بيان لتكريمهم في الجنّة فيعامل معاملة الضيوف المكرمين طيلة حياتهم الخالدة، فهم على سرر متّكئين متقابلين ويطاف عليهم بالمأكول والمشروب و«الصحاف»جمع صحفة وهي إناء واسع يؤكل منه، وقيل: إنّه يشبع خمسة رجال وحيث تورّعوا عن آنية الذهب والفضة في الدنيا اكرمهم الله تعالى في الآخرة فقدم لهم الاكل في أوان من الذهب. والاكواب جمع كوب وهو إبريق لا عروة له ولا خرطوم ويتداول في محافل الشاربين استعماله لإدارة الخمر وملء الكؤوس منه.

(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ)، أي تلذّه أو تلذّ به الأعين وهي فاعل «تلذ» وإسناد اللذّة إلى العين تجوّز ، فإنّ التلذّذ صفة الإنسان بواسطة العين. قال الطبرسي رحمه الله: «الواجتمع الخلائق كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان»(1)، والسبب أنّه لم يترك شيئاً ممّا يمكن أن يتلذّذ به الإنسان أو تشتهيه نفسه.

ولكن يقع السؤال في الفرق بين ما تشتهيه الأنفس وما تلذّ به الأعين، فهل هذا من ذكر الخاصّ بعد العامّ أم أنّ هناك فرقاً بينهما؟

الظاهر أنّ هناك فرقاً، فما تشتهيه الأنفس لا بدّ فيه من إحساس سابق، وعلم به ولو إجمالاً عن طريق الإحساس بما يشابهه في الدنيا،كالمأكولات والمشروبات ونحوها؛ إذ لا يشتهي الإنسان ما لم يذقه ولم يعلم خصائصه. وأمّا ما يتلذّذ ب_ه الأعين، فإنّه يشمل ما يمكن أن لا يكون له نظير في الدنيا من مظاهر الجمال

ص: 258


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 9 - 10: 85

والزينة التي تبعث بالبهجة في النفوس.

ثمّ إنّ ما تشتهيه الأنفس يشمل كلب ما يطلبه الإنسان. ولكن يختلج في الخواطر، بل يسجّل في الصحف وحتّى التفاسير سؤال، وهو أنّه ربّما يطلب الإنسان شيئاً ممّا تتوق إليه نفسه في الدنيا وهو أمر سخيف، بل ربّما يكون من المحرّمات ومن المخازي الذي لا ينبغي للمؤمن أن يطلبه، أو أنّه ينافي الطهارة التي هي من صفات أهل الجنّة، فهل يتحقّق كلّ ما يطلبه أهل الجنّة حتّى مثل ذلك؟!

وقد ورد في بعض الروايات ذكر من يسأل: هل هناك جمل في الجنّة؟ وم_ن يسأل: هل للمؤمنين أولاد؟ فإنّ هذا أيضاً ممّا يشتهيه الإنسان، خصوصاً م_ن ل_م يولد له في الدنيا. وقد ورد في الجواب أنّ كلّ ما يطلبه يحصل عليه وأنّ الولد يتكوّن لمن أراده دون حمل وولادة ونحو ذلك. كما أنّ هناك أسئلة تدور على الألسن حول هذا الأمر، ومنها أنّ الله تعالى لم يذكر أمراً خاصّاً بالنساء، كما ذكر الحور العين وبشّر الرجال بهنّ ونحو ذلك من الطلبات. وهذا الأمر لا يتوقّف عند حدّ، فلسائل أن يسأل: أنّ أحبّ شيء لديّ هو الانتقام ممّن ظلمني ، حتّى لو تاب وآمن وعمل صالحاً، فهل يحصل هذا المؤمن على ما يطلبه؟ والجواب طبعاً أنّ ذلك لا يكون ، والسبب أنّ الله تعالى يقول: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلْ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)،(1) فحبّ الانتقام يزول عن قلبه بإرادة من الله تعالى وتصفو القلوب وتطمئنّ النفوس.

ومثل هذا يقال في سائر الموارد، فإنّ الإنسان بعد تكامله وبلوغه أعلى مراتب

ص: 259


1- الحجر (١٥): ٤٧

الكمال والتقرّب لدى الله تعالى تتغيّر مشتهياته وتتغيّر نظرته إلى الكون، فلا يشتهي هذه الأمور التافهة. بل لا يبعد أن يكون ذكر الفواكه ونحوها لتقريب المعنى إلى الذهن، وأنّ النعمة هناك تختلف عمّا هنا في أصولها وحقائقها ولا تشبه شيئاً ممّا هنا.

ولذلك يفرّق بين المقرّبين والأبرار في كلّ شيء حتّى الفواكه، ففي سورة الرحمن مثلاً : (وَلَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَتَّتَانِ... فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)،(1) ثمّ يقول: (وَمِنْ دُونِهَا جَتَّانِ... فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)،(2) وهذا ينافي ما ورد هنا من أنّ فيها ما تشتهيه الأنفس. وهل يمكن أن يمنع الله تعالى في الجنّة عباده المؤمنين م_ن فواكه لم يمنعهم عنها في الدنيا ؟! لا شكّ أنّه ليس كذلك، فلا يبعد أن يكون ما ذكر إشارة إلى أمور أخرى لا بدّ فيها من التفريق بين المؤمنين حسب مقاماتهم وقربهم لدى الله تعالى، فمن الظلم الذي ينزه عنه الله سبحانه التسوية بين الأنبياء

والأئمة المعصومين علیهم السلام وبين عامّة المؤمنين مهما بلغوا من الكمال والتقوى.

والحاصل أنّه لا يبعد أن يكون المراد بذكر الفواكه في بعض الموارد على الأقلُ أمور أخرى تخصّ تلك الحياة ومتطلباتها، ولا تصل إليها أفكارنا فيعبر عنها بذلك تقريباً لها إلى الأذهان.

وتغيّر المتطلبات بتغيّر مراحل الكمال أمر مشهود حتّى في هذه الحياة؛ فالإنسان في صغره وصباه تتوق نفسه إلى الألعاب والصور المتحرّكة ونحوها ممّا يثير تخيّله ويذهب بأفكاره إلى آفاق بعيدة يتمنّاها ولا يصل إليها، فإذا تنامي

ص: 260


1- الرحمن (٥٥): ٤٦ - ٥٢. .
2- الرحمن (٥٥): 62 - 68.

عقله وفكره واصطدم بالحقائق المرّة والحلوة في الحياة تغيّرت نظرته إليها و تغيّرت متطلّباته وكلّما تكامل فكره تغيّرت آماله و تكاملت كما أنّها تتغيّر أيضاً بكبر سنّه واختلاف حالاته، وتكامل مجتمعه ثقافياً ومالياً، فلا شكّ أنّ السائل الذي ورد ذكره في الروايات أنّه سأل عن حصوله على جمل في الجنّة، لو كان يبقى إلى عصرنا هذا كان يسأل عن حصوله على أحدث سيّارة أو طائرة ونحو ذلك. وهكذا سائر البشر. فالنتيجة أنّ الجنّة تشتمل على كلّ ما تشتهيه الأنفس آنذاك وفي تلك الحياة وبعد تكامل النفوس واختلاف الأنظار والمتطلبات.

(وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهذا أعظم شيء ممّا يشتهيه الإنسان، ولا يحصل له إلا في تلك الحياة، فإنّ الإنسان ربّما يتمكّن في هذه الحياة من بلوغ كلّ مآربه ومقاصده ومشتهياته في حدود نظرته القصيرة والقاصرة إلى الكون وإلى الكمال البشري، وهناك من المغفلين من يتصوّر أنّه بلغ الذروة في تحقيق المآرب كما مرّ في هذه السورة من تبجّح فرعون بما أوتي من مال وسلطة، حتّى انجرّ به الأمر إلى دعوى الألوهية، وهناك في عصرنا أيضاً من يتصوّر أنّه بلغ الغاية في تحقيق ما يهواه ويطلبه. والبشر حريص على ذلك غاية الحرص حتّى أنّه يحاول تحقيق ذلك ولو في تخيّله وأوهامه، ولذلك يلجأ إلى المسكرات والمخدّرات لينسى فقدانه لما يهواه. ولكنّ الأمر الوحيد الذي يقضّ مضجع الإنسان مهما بلغ من السلطة والثراء هو الموت، وهذه الجملة التي يخاطب بها المؤمنون تبشير من تعالى بأنّهم خالدون في النعمة، فلا يخافون زوالها أبداً .

(وَتِلْكَ الجنّة التي أورتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)»، «تلك»، اسم إشارة للبعيد وإنّما أتي

ص: 261

به هنا تنبيهاً على عظمة الجنّة، وهذا تعبير متعارف حيث يعبّر عن المخاطب بمثل ذلك أيضاً إذا كان رفيع المقام عظيم الشأن والغرض من الخطاب التنبيه على أنّ الجنّة لا يستحقّها إلا العاملون وإن كان الجزاء رحمة من الله تعالى والإنسان لا يستحقّ شيئاً على ربّه مهما حسنت أعماله إلا أنّه يستحقّها بوعد منه تعالى، فإنّه لا يخلف الميعاد.

وقد مرّ الكلام في معنى وراثة الجنّة في تفسير قوله تعالى: (وَقَالُوا الحَمْدُ الله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ)(1) ورجّحنا أن يكون معنى الوراثة اختصاصهم بالجنّة، وأنّهم هم الباقون على قيد الحياة يتمتّعون من نعم الله دون غيرهم، حيث إنّ أهل النار يذوقون الموت وإن لم يموتوا وهم كانوا متمتّعين بالنعم في الحياة الدنيا وزالت عنهم، وكلّ من يخلف قوماً على النعم فهو الوارث، فالتعبير مبنيّ على أنّه لولا هذا الاختلاف في نتيجة الأعمال لكان الكلّ متنعّماً على وتيرة واحدة، كما كانوا في الدنيا.

(لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ). لعلّ السرّ في التعبير عن مأكولات الجنّة بالفاكهة أنها ليست من مقوّمات الحياة كطعام الدنيا، فكلّ ما يؤكل هناك إنّما يؤكل للتفكّه والتلذّذ فحسب، فليس هناك جوع يراد سدّه بالطعام. ولعلّ قوله: (مِنْهَا تَأْكُلُونَ) إشارة إلى أنّكم مهما تأكلون منها، فإنّها لا نهاية لها وكلّ ما

تأكلون إنّما هو جزء منها، فهو تأكيد على الكثرة المصرّحة بها.

ص: 262


1- الزمر (39): ٧٤

سورة الزخرف (74-80)

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَلِدُونَ (74) لَا يُفَتَرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)وَمَا ظَلَمْتَهُمْ وَلَيَكن كَانُوا هُمُ الظَّلِمِينَ (76)وَنَادَوْا يَمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مِّنكُثُونَ (77) لَقَدْ جِفْتَتكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ(78) أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)أَمْ تَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَنهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ(80)

(إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ). يقابل ذلك الخلود بالخلود في العذاب وهذا جزاء المجرمين. وأصل الجَرم القطع. وقال بعض أهل اللغة: ومنه أخذ الجُرم بمعنى الكسب، وأنّ الجريمة التي هي بمعنى الجناية، والذنب مأخوذة منه أيضاً باعتبار أنّ المجرم يكتسب إثماً بذلك. ولكن لو صحّ ذلك لاقتضى إطلاقه على من يكتسب ثواباً أيضاً.

ولا يبعد أن يكون إطلاق الجريمة على الجناية باعتبار أنّ المجرم يقاطع المجتمع ويقطع علاقته به، ولذلك لا يطلق على الذنوب الشخصية إذا لم يكن لها تأثير سيّء في المجتمع. والظاهر أنّ المراد بالمجرم في لسان الشرع من قطع العلاقة بربّه وهو الكافر ومن نُزِّل منزلته، كقاتل المؤمن عمداً.

ومهما كان، فالمجرم هو الجاني ولا يختص بالكفّار، كما يقول بعض المفسّرين معوّلاً على مقابلته بالمؤمنين، ومستدلاً بأنّ المؤمن لا يخلد في النار. والجواب: أنّ المقابل لهم المتّقون الذين آمنوا بآيات الله وأسلموا الأمر له، وليس كلّ من تشهّد الشهادتين - كما مرّ _ وأمّا الخلود في النار، فلا يختصّ

ص: 263

بالكافر، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فيهَا)(1) ولكنّ الإجرام لا يشمل كلّ ذنب، كما قلنا.

( لا يُفَتَرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) يكرّر القرآن ويؤكّد على أنّ ذلك العذاب وتلك النار لا يقاسان بما يجده الإنسان في هذه الدنيا من العذاب، حيث إنّه يتحوّل تدريجاً وتخفّ وطأته، كما أنّ الإنسان يتعوّد عليه ويتحمّله، وعذاب الآخرة ليس كذلك فهو لا يفتّر. و«الفتور» - كما قال الراغب _ سكون بعد حدّة، ولين بعد شدّة، وضعف بعد قوّة.(2) و«الإبلاس» _ على ما يبدو من كتب اللغة _ هو اليأس، (3) قيل : ومنه اشتقّ إبليس، حيث يئس من رحمة الله تعالى. ويقال لمن سكت واجماً: أبلس، فهو أيضاً من اليأس الشديد والحزن العميق.

والحاصل أنّ المجرمين آيسون هناك من الخلاص، فهم يعلمون أنّهم لا نجاة لهم من النار، وهذا عذاب نفسي أشدّ من نفس النار التي يفترض أن تكون عذاباً جسمياً، وإن كان الظاهر أنّها عذاب لهما كما قال تعالى: (نَارُ الله الموقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ).(4)

(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ). هذه الآية تردّ على سؤال واستغراب يخطر بالبال حول هذه الشدّة في العذاب، وأنّها لا تناسب الجريمة، وهو ظلم عليهم، ولكلّ جرم عذاب يناسبه، فإذا حكم القانون مثلاً على السارق بالإعدام

ص: 264


1- النساء (٤): 93
2- مفردات ألفاظ القرآن: ٦٢٣
3- راجع: مجمع البيان 7-8: 465: المعجم في فقه القرآن وسرّ بلاغته ١: ١٦١.
4- الهمزة (١٠٤): ٦ - ٧ .

فإنّه يعتبر ظلماً ومغالاة في الجزاء، فكيف بهذا العذاب الأبدي واليأس والخلود وعدم الفتور لحظة.

والجواب: أنّ العذاب هناك نتيجة طبيعية للعمل وليس مجازاة للعامل لكي يتأدّب وليكون عبرة للآخرين، كما هو الشأن في الجزاء والغرامة في القوانين الوضعية، فالذي يواجه عذاب الآخرة إنّما يواجه نتيجة أعماله في الدنيا، فهو الذي ظلم نفسه، ولو رفع الغطاء عن عينه في هذه الحياة لرأى ما يصنع هو بنفسه. والنتائج الطبيعية للعمل كثيراً ما تكون غير مناسبة له بنظر العرف الاجتماعي إلا أنها ممّا لا مناص منها، فالإنسان ربّما يخطئ خطأ صغيراً في سياقة السيّارة مثلاً، ولكنّه يفضي إلى هلاكه وهلاك من معه.

وقوله تعالى: (كَانُوا هُمُ الظَّالِمينَ ) يحصر الظالم فيهم بضمير الفصل وبالألف واللام في كلمة: (الظَّالمينَ) حتّى لا يتوهّم أنّ الظلم في هذا العذاب الشديد يسند إليهم وإلى غيرهم، بل هم الظالمون لا غيرهم.

ثمّ إنّ التعبير بالظلم في المقام مبني على تصوّر البشر أنّ لهم حقّاً وأنّ هذا اعتداء عليه، وإلا فالواقع أنّه ليس لأحد حقّ على الله تعالى وكلّ ما يفعله بعبده لا يمكن أن يكون ظلماً واعتداءاً، فإنّ الخلائق كلّها ملك له تعالى والملكية هنا حقيقية وليست بالاعتبار، فكلّ شيء في أصل كيانه ووجوده مفتقر إلي_ه تعالى ومرتبط بإرادته ، بل ليس هو شيئاً مفتقراً، وإنّما هو عين الفقر والحاجة، فلا مجال لتصوّر الظلم أساساً حتّى ينفى أو يثبت.

(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )،«مالك» اسم للملك الموكّل بالنار، كما يقتضيه النداء في الآية وكما ورد في الأثر، ولم يرد ذكره في الكتاب العزيز إلا

ص: 265

هنا، وإنّما ورد التعبير بخزنة جهنّم في موضع آخر. وقد طلبوا في هذا الخطاب أن يقضي الله تعالى عليهم بمعنى إهلاكهم وإفنائهم، وليس بمعنى الموت، حتّى يقال بأنّهم جربّوا الموت وعلموا أنّه لا يوجب الخلاص.

وربّما يستغرب أنّهم لماذا طلبوا ذلك من الملك ولم يطلبوه من الله تعالى مباشرة؟ وأجاب عنه العلامة الطباطبائي رحمه الله(1) بأنّهم محجوبون عن ربّهم، كما قال تعالى: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ)،(2) بل منعوا من الكلام والخطاب لربّهم قال تعالى:

(قَالَ اخْسَنُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُون).(3)

أقول: ويؤيّد ذلك أنّ هذا الخطاب، أي قوله تعالى: (احْسَنُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونَ) وُجّه إليهم قبل اليأس، فإنّه جواب عن طلبهم الإخراج من النار، حيث قالوا: (رَبَّنَا أخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالُونَ)؛(4) وهذا الاستدعاء المذكور هنا حصل بعد اليأس لقوله تعالى: (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) والظاهر أنّ قولهم: (رَبُّكَ ) يحكي أيضاً عن هذا المنع والإبعاد، فلذلك لم يقولوا: «ربّنا» مثلاً.

(قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)، «المكث» - كما في المفردات _ ثبات مع انتظار وقريب منه، في معجم مقاييس اللغة. والمراد أنّكم لا تموتون، بل ماكثون في النار ولكنّكم تنتظرون الفرج، فأبقوا منتظرين؛ فهذا إمّا استهزاء بهم - كما قيل - أو أنّه تنكيل من جهة إبقائهم على حالة الانتظار لما لا يكون أبداً، كما دلت عليه

آيات كثيرة.

ص: 266


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 123
2- المطففين (83): ١٥
3- المؤمنون (23): 108
4- المؤمنون (23): 107

(لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بالحقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) يحتمل أن يكون هذا تتمة كلام «مالك» خازن النار، فالإتيان بضمير المتكلّم باعتبار ك_ون_ه م_ن الملائكة، وه_م الذين حملوا الوحي وأنزلوه إلى البشر، وعليه فهذا ردّ على طلبهم وبيان لسبب خلودهم في النار وهو كراهة الحقّ ومواجهته بالإنكار والاستنكار. وهذا الخطاب يسدّ عليهم باب الاعتذار ؛ فقد أتمّ الله تعالى الحجّة على الناس وأرسل إليهم الرسل والكتب وجاءهم بالحقّ الذي لو اتّبعوه لكانوا من المفلحين. ولكنّ الإشكال فيهم أعمق من الجهل بالحقائق وهو كراهتهم للحقّ، ولو لم يكونوا كارهين له لكفاهم العقل والوجدان السليم والضمير الحيّ.

وبناءاً عليه، فالخطاب للمجرمين ونسبة الكراهة إلى الأكثر باعتبار أنّ بعضهم لا يعرفون الحقّ وإنّما يقلّدون الكبراء جهلاً وسفاهة، وإنّما يعتبرون من المجرمين ، لأنّهم ليس لهم في تقليدهم عذر مقبول.

ويحتمل قوياً أن يكون من كلامه تعالى والخطاب للبشر عامّة، فالمراد أنّ أكثر البشر يكرهون الحقّ بوجه عامّ، فإنّهم لا يتّبعون إلا أهواءهم ومصالحهم الشخصية العاجلة؛ فالمراد بالحقّ الذي يكرهونه ليس هو خصوص ما أوحي إلى الرسل، بل هم يكرهون كلّ حقّ وإن هداهم إليه العقل والوجدان. ويؤيّد هذا الاحتمال الآيات التالية، فإنّ السياق فيها يعود إلى بيان حال المشركين ومكائدهم ضدّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

ويحتمل أيضاً أن يكون الخطاب في هذه الآية لأهل مكّة أو عرب الجزيرة. (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ)، «أم» منقطعة فتفيد إضراباً واستفهاماً. والاستفهام للإنكار والتوبيخ و «الإبرام» هو الإحكام أي هل أبرموا كيداً ضدّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 267

و«الفاء» للترتب، أي إن كانوا أبرموا أمراً ضدّ الرسالة، فإنّا مبرمون كيداً ضدّهم.

ونظيره قوله تعالى: (أمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المكيدُونَ)،(1) والإضراب فيها لعلّه من جهة أنّهم لم يكتفوا بكراهة الحقّ وعدم الانصياع له، كما أشير إليه في الآية السابقة، بل أحكموا المكيدة ضدّه، وحيث إنّهم أحكموا مكيدة ضد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فإنّا أيضاً نُحكم أمراً ضدّهم. وما يكيدونه سيكون مآله الخيبة والخسران، كما قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ منه الجبال).(2)

(أمْ يَحْسَبُونَ أَنا لا تَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ)، «أم» منقطعة أيضاً، والاستفهام إنكاري أيضاً، أي يستنكر منهم هذا الحسبان. و «السرّ» ما يخفيه الإنسان في نفسه و«النجوى» ما يبوح الإنسان به من السرّ لآخر متخفياً عن غيره، فهم كانوا يجتمعون ويتناجون فيما بينهم ويكيدون المكائد، ويظنّون أنّ الله تعالى لا يعلم ما يتناجون به، ففي «الدرّ المنثور»: «أخرج ابن جرير، عن محمّد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم ترون الله . كلامنا، فقال واحد: إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع، فنزلت:0أمْ يَحْسَبُونَ أَنا لا تَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجَواهُمْ) الآية).(3)

ويحتمل أن يكون المراد أنّ حالهم كحال من يظنّ أنّ الله لا يسمع سرّهم ونجواهم من جهة عدم اهتمامهم بذلك.

ص: 268


1- الطور (٥٢): ٤٢
2- إبراهيم (١٤): ٤٦
3- الدرّ المنثور ٦: ٢٣.

(بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)، «بلی» جواب للنفي المذكور في حسبانهم ويفيد الإثبات، ومعناه: أنّا نسمع سرّهم ونجواهم، بل ومضافاً إلى ذلك لديهم رسلنا وهم الملائكة - يكتبون ما يعملون وما يقولون، كما قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(1)و«الكتابة» أصله الجمع، فالرسل يجمعون ويحفظون أقوالهم وأفعالهم، وليس المراد الكتابة في قرطاس ونحوه، كما يتوهّم، بل هو أدقّ من ذلك، فهم يأتون يوم القيامة بنفس الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا).(2)

ص: 269


1- ق (50): 18
2- الكهف (١٨): ٤٩

سورة الزخرف (81-89)

قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَبِدِينَ(81) سُبْحَنَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَنَّهُ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهُ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَبِن سَأَلْتَهُم مِّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ، يَرَتِ إِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)فَأَصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(89)

(قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ). يأمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأن يخاطب مشركي مكّة والجزيرة العربية بهذه الجملة الشرطية. فإنّ السورة بوجه عامّ تندّد بأفكارهم الخاطئة، وخصوصاً نسبة الولد إلى الله تعالى وأنّ الملائكة بناته. ومفاد هذه الآية أنّه لو كان الله تعالى ولد - كما تزعمون - لكنت أوّل من يعبده أي .الولد. ولعلّ التعبير بالعبودية باعتبار أنّ الإله لو كان له ولد، لكان مثله إلهاً، أو باعتبار أنّ العبادة تشمل الخضوع والطاعة بالمعنى العامّ الذي لا يختصّ بالإله. والتوجيه الأوّل أولى.

وإنّما عبّر بحرف «إن» مع أنّ الأنسب التعبير بحرف «لو» الدالّ على الامتناع، مماشاة للخصم وعدم مجابهته بما يدلّ على امتناع ما يدّعيه.

وهناك وجوه أخرى في تفسير الآية، منها ما عن الخليل بن أحمد رحمه الله حيث :قال: «العبد: الأنفة والحمية من قول يستحى منه ويستنكف، ومنه: (فَأَنَا أَوَّلُ

ص: 270

العَابِدِينَ)، أي الآنفين من هذا القول - إلى أن قال _ ويروى عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: «عَبِدْتُ فَصَمَتُ»؛ أي أنفت فسكتّ».(1)

ولم أجد مصدراً لهذا الحديث إلا في كتب اللغة، ولو صحّ فمعناه أنّه علیه السلام ابتلي بما يرفضه فأخذته الأنفة، أي الحمية والغيرة، ولكنّه صمت وسكت ولم يطالب بحقّه، وكأنّه يشير إلى حادثة الخلافة. وفي «معجم مقاييس اللغة» أنّ أصله من العَبَدة، أي القوّة والصلابة.(2)

ولعلّ تكرار اسم «الرحمن» في السور المكّية للردّ على كفّار مكّة، حيث كانوا يستنكرون هذا الاسم، كما قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ هُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ مَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا).(3)

(سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) تنزيه الله تعالى عمّا يدّعيه المشركون من نسبة الولد إليه ، وقوله : (عَمَّا يَصِفُونَ)، أي عمّا يصفون الله به وهو كونه والداً. وتوصيفه تعالى بربوبية السماوات والأرض للاستدلال على ذلك، فإنّ المراد بالسماوات والأرض الكون كلّه بناءاً على أنّ السماوات تعبير عن العوالم التي وراء الطبيعة، والأرض تعبير عن عالم الطبيعة بأجمعه، والله تعالى هو مدبّر الكون كلّه، فكلّ من هو دونه مربوب له، فلا يمكن أن يكون نداً له وكفأ ، والولد كفء للوالد.

و«العرش» تعبير عن الحاكمية في الكون، وتوصيفه تعالى بربّ العرش لعلّه بمعنى أنّه صاحب العرش - والربّ يأتي بمعنى الصاحب أيضاً، كما في «معجم

ص: 271


1- كتاب العين 2: 50.
2- معجم مقاييس اللغة ٤ : 20٦
3- الفرقان (٢٥): 60.

المقاييس»(1)- فله الحاكمية المطلقة في الكون. وفي ذكر العرش إشارة إلى أنّ الكون ليس سائراً على قانون ونظام فحسب، بل هناك إله يحكمه ويضع ك_لّ شيء موضعه حتّى في الحياة الدنيا إلا ما أفسده الإنسان بسوء اختياره، حيث منحه الله تعالى هذا الاختيار وأعطاه القدرة على التصرّف نوعاً مّا في الطبيعة.

ولعلّ تكرار كلمة «الربّ» من أجل الاختلاف في المعنى، فكونه تعالى ربّ الكون بمعنى أنّه مدبّرها، وكونه ربّ العرش بمعنى أنّه صاحب المالكية المطلقة.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)؛ «درهم» أي اتركهم. وهذا وإن كان ظاهره الأمر بتركهم وعدم التعرّض لهم، ولكنّ المراد تهديدهم واحتقارهم والاستخفاف بشأنهم، فلا وجه لما قيل من أنها منسوخة بآية السيف، إذ لا تنافي بينهما . و«الخوض»: الولوج في الماء واقتحامه بحيث يغمره الماء. قال تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ)(2) ويعبّر بالخوض عن الاشتغال بالملاهي والكلام الباطل.

وفي هذا التعبير إشارة إلى أنّ ما يعتقدونه من نسبة الولد إلى الله تعالى لا يستند إلى تفكير وبرهان، وإنّما هو خوض في الباطل الذي توارثوه؛ لأنّهم مشغولون باللهو واللعب، وليسوا أهل تفكّر وتدبّر، فليس اعتقادهم الباطل ناشئاً خطأ في الفهم، وإنّما نشأ عن اشتغالهم باللهو واللعب عن بذل الجهد في معرفة الحقائق في ما ينسبونه إلى الله تعالى.

والمراد باليوم الموعود يوم القيامة، حيث يلاقون جزاء اشتغالهم باللهو

ص: 272


1- معجم مقاييس اللغة 2 : 381
2- المؤمنون (٢٣): ٥٤.

واللعب. وقيل: إنّه يوم بدر باعتبار أنّه يوم عذاب الدنيا. وهو بعيد؛ إذ لا يوجد وعد مؤكّد بالنسبة لعذاب الدنيا. وقيل: يوم الموت ولكنّه ليس يوماً موعوداً، بل هو مصير محتوم للجميع.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهُ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهُ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) هذه الآية تؤكّد على وحدة الإله في الكون في قبال التصور السائد في بعض المجتمعات البشرية من أنّ لكلّ مجموعة في الكون إلهاً وأنّ إله الأرض يختلف عن إله السماء. و«الإله» بمعنى المعبود؛ فأهل السماء يعبدون إلها يشعرون به ويحسّونه، وأهل الأرض لا بدّ لهم من آلهة يشعرون بها. ولذلك عمدوا إلى تأليه الأصنام وغيرها؛ والآية تردّ عليهم بأنّ الإله واحد في جميع الكون وفي السماء والأرض وهو الله سبحانه؛ لأنّه هو الربّ وهو الضارّ النافع، فلا يعبد إلا إيّاه. والتعبير يفيد الحصر، فليس إلا هو من يتّصف بكونه إلها في السماء وإلهاً في الأرض ؛ ثمّ وصفه بالحكمة والعلم تنبيهاً على أنّ الألوهية لا تليق إلا بالربّ الذي يحكم بالحكمة والمصلحة، والذي يعلم موضع كلّ شيء فيجعل كلّ شيء في موضعه اللائق به.

( وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُما ) . «البركة» بمعنى الخير الكثير الثابت المستقرّ وصيغة «تفاعل» لإفادة أنّ البركة إنّما منه تعالى فهو اتّخذ لنفسه البركة وهي الخير الكثير الدائم المستقرّ، ولا يصحّ إسناد التبارك والتقدّس والتعالي والتكبّر إلا إليه ،تعالى، وأمّا غيره فربما يكون مباركاً أو مقدّساً إذا أراد الله سبحانه. وأخطأ من عبّر عنه تعالى بالمبارك والمقدّس. وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة غافر الآية ٦٤.

والغرض من هذه الآية الثناء عليه تعالى والإشارة إلى أنّ الألوهية لا تليق إلا

ص: 273

به؛ لأنّ البركة وهي الخير المستقرّ في الكون ليس إلا منه تعالى، وهذا التعبي_ر حثّ على عبادته حبّاً له وتعظيماً لا خوفاً ورهبة.

ثمّ وصفه تعالى بأنّ السماوات والأرض وما بينهما _ وهو تعبير عن الكون كلّه - ملك له. ولعلّ المراد بما بينهما الملائكة الكرام الذين ينتقلون بين السماء والأرض لحمل الوحي وغيره ومالكية الباري للأشياء بمعنى تعلّقها بكلّ كيانها بأمره وإرادته، وهذه الصفة أيضاً تقتضي انحصار الألوهية في ذاته المتقدّسة؛ لأنّ كلّ ما يفرض من شيء في الوجود، فلا كيان له إلا الفقر والتعلقّ بإرادته تعالى، فلا يمكن أن يكون إلهاً.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) تقديم الظرف لإفادة الحصر، وأنّ العلم بالوقت الموعود خاصّ به تعالى لم يُعلِم أحداً به. والمراد بالساعة يوم القيامة، عبّر عنه بذلك الحدوثه بغتة ومن دون تدرّج كما في حوادث الطبيعة والساعة جزء من الزمان. وحيث لا أحد في الكون يعلم مصيره ونهايته، فلا أحد يمكن أن يكون إلهاً يعبد

ويخاف ويرجى وهو فقير محتاج في أهمّ الأمور وهو مستقبله وعاقبته.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهنا أيضاً تقديم الجارّ والمجرور، لإفادة الحصر، وأنّ مرجع الجميع إليه تعالى فيُحضرون عنده يوم القيامة قهراً ورغماً على إرادتهم، كما يقتضيه الفعل المبني للمجهول؛ وهذا أيضاً ممّا يقتضي بالطبع أن لا يعبد إلا إيّاه؛ لأنّ المستقبل الدائم الأبدي هو أهمّ ما يجب أن يلاحظ في كلّ ما يخاف ويرجى، فكلّ شيء زائل إلا ما عنده تعالى ومع أنّ كلّ ما في الكون منه ولكن ربّما يتوهّم الإنسان أنّ هناك عوامل وأسباب طبيعية تغنيه من الرجوع إلى الله تعالى في شؤون الدنيا، ولكنّ لا مجال لأيّ توهّم في المآل يوم القيامة، فلا

ص: 274

يرجى إلا فضله ولا يخاف إلا عدله، مع أنّ العاقل الفطن يعلم أنّ كلّ ما يصل إليه عن طريق الأسباب أيضاً منه تعالى.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الآية الكريمة تنفي الشفاعة عن كلّ من يدعونهم من دون الله تعالى، وتثبتها لمن شهد بالحقّ والمراد بالدعاء طلب الحاجة. والمشركون أو بعضهم كانوا يطلبونها من الأصنام بدعوى أنّها تشفع لهم عند الله تعالى ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى)(1) والقرآن ينفي ذلك في آيات كثيرة ويبيّن أنّ الشفاعة لدى الله تعالى ليست إلا بإذنه، وحتّى الملائكة لا يشفعون إلا بإذنه تعالى كما قال: (وَكَمْ مِنْ مَلَك فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)(2) وهذه الآية أيضاً في هذا السياق، فإذا أريد من الذين يدعون خصوص الأصنام باعتبار أنّ الخطاب لمشركي مكّة، فاستثناء من شهد بالحقّ استثناء منقطع، وإن اُري_د ب_ه كلّ من يدعى من دون الله تعالى فالاستثناء متّصل.

والمراد ب_ (مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ الذي يشهد بكلّ ما هو حقّ، و تخصيصه بالتوحي_د - كما في بعض التفاسير - لا دليل عليه وإن كان هو أهمّ ما يقصد به. والتقييد بالجملة الحالية: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) للتأكيد على علو مرتبة الشفعاء، فهم يشهدون بالحقّ كلّه، ويعلمون الحقّ كلّه، وبالطبع لا يكون ذلك إلا بتعليم من الله تعالى، فالشفعاء هم المقرّبون عند الله الحائزون على مرتبتي العلم بالحقّ والشهادة به. ولعلّ المراد بالشهادة إبرازهم للحقّ ومجاهدتهم دونه، لأنّ الشهادة به بصورة

ص: 275


1- الزمر (39): 3
2- النجم (٥٣): ٢٦

مطلقة وفي كلّ موطن تستتبع ذلك، ولا ينطبق هذا إلا على الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين _ عليهم جميعاً سلام الله.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله). هذه من الآيات الكثيرة التي تشتمل على الإشارة إلى أنّ المشركين يعتقدون بأنّ الخالق للكون هو الله تعالى أو أنّهم يرجعون إلى ضمائرهم في بعض الحالات، ومنها حالة السؤال وهذا أمر طبيعي ونحن نجد كثيراً من الناس يظهرون أموراً غير واقعية، فإذا سئلوا عن حقيقة الأمر اعترفوا بخلافه، كأنّ السؤال يحرّك ضمائرهم اللاشعورية، خصوصاً إذا كان السؤال من شخصية قوية كالرسول صلی الله علیه و آله وسلم بناءاً على ما هو ظاهر الخطاب وإن احتمل أن يكون خطاباً لكلّ قارئ أو سامع.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) تعقيب واستغراب، فإن كان الخالق هو الله تعالى فلماذا يعبدون غيره ؟! و «أنّى» قيل: بمعنى أين وكيف فمعناه هنا أين يصرفون وكيف يصرفون إلى غيره. و «الإفك»: قلب الشيء وصرفه عن جهته الطبيعية، ولذلك يقال للكذب: الإفك. والتعبير بصيغة المبني للمجهول لعلّه للإشارة إلى أنّهم يصرفون عكس ما تدعو إليه فطرتهم، فكأنّهم يساقون عنوة ودون إرادة. (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ»، «قيل» مصدر بمعنى القول، قال تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً)(1) والضمير يعود على الظاهر إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بقرينة السياق، والجملة تحكي تضرّعاً وشكوى من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى ربّه، ويأساً من إيمان القوم.

ونسب إلى ابن مسعود أنّه قرأ: «وقال الرسول وقرئ «قيله» بالجرّ وهو

ص: 276


1- النساء (٤): ١٢٢.

المشهور، وبالنصب والرفع، واختلف المفسّرون والأدباء في تركيب الآية وفي ما عطف عليه القيل على اختلاف قراءاته، فقال بعضهم: إنّه ___ بناءاً على الجرّ _ عطف على الساعة، أي وعنده علم قيله، فالمراد التهديد بأنّ الله تعالى يعلم بقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الدالّ على يأسه منهم. وقال الزمخشري: «إنّ الواو للقسم وإنّ المقول «يارب» والجملة التي بعده هو المقسم به».(1) وهو بعيد غاية البعد.

وعلى قراءة الرفع لا يبعد أن يكون استينافاً، فهو مبتدأ وخبره الجملة التي بعده. وعلى قراءة النصب يمكن تقدير: «وقال» أي وقال قوله كذا، وعلى الجرّ يمكن تقدير: «واسمع إليّ»، فالمهم أنّ الآية تدلّ على أنّ الرسول بلغ إلى حدّ اليأس من إيمان القوم. (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، «الصفح» هو الإعراض بالوجه مأخوذ من الصفحة، أي صفحة الوجه، والمراد الأمر بتركهم وعدم الاهتمام بشأنهم، كما مرّ في قوله تعالى: (فَذَرْهُمْ)، وأما قوله: (وَقُلْ سَلامٌ) فليس بمعنى التسليم عليهم واقعاً، بل هو نظير قوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ).(2) ولكنّه على أيّ تقدير يدلّ على المتاركة وعدم المحاربة في الوقت الحاضر، وذلك لأنّه سيحين موعد المواجهة ونزول العذاب بأيدي المؤمنين عليهم، وهذا هو ما يستبطنه التهديد بعد ذلك بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) والله العالم. وله الحمد أوّلاً وآخراً والصلاة على نبيّه الكريم وآله الطاهرين.

ص: 277


1- راجع: روح المعاني ١٣: 107
2- الفرقان (٢٥): ٦٣

ص: 278

تفسير سورة الدخان

اشارة

ص: 279

ص: 280

سورة الدخان (1-8)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حمَ(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْتَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تُحْيِ ، وَيُمِيتُ رَبِّكُمْ وَرَبُّ ءَابَايِكُمُ الأَولِينَ (8)

سورة الدخان من السور المكّية، وتتناول على قصرها الإشارة إلى تأريخ نزول القرآن الكريم وتقدير أمور البشر، ثمّ الإنذار بعذاب الدنيا والاستشهاد ببعض الأمم السالفة، ثمّ الإنذار العامّ بيوم القيامة والبشارة للمؤمنين، ثمّ العود إلى التذكير بنعمة إنزال القرآن.

(حم) من الحروف المقطّعة، وقد مرّ الكلام فيها بشيء من التفصيل في تفسير سورة يس

(وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) قسم بالكتاب وهو القرآن الكريم، وقد مرّ بعض الكلام في مثل هذه الآية في بداية تفسير سورة الزخرف. ومن

ص: 281

اللطيف أنّه أقسم بالقرآن على أنّ نزوله في ليلة مباركة، أي التي بارك فيها الله تعالى وهي ليلة القدر. و«البركة»: الخير الكثير الدائم، فالمعنى أنّ الله تعالى جعل في هذه الليلة خيراً كثيراً ثابتاً مستمرّاً. ومن هذا الخير الكثير نزول القرآن الكريم فيها وهو أفضل خير وبركة.

(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) تعليل لأصل إنزال القرآن المشتمل على إنذار البشر بيوم القيامة لا زمان إنزاله. وحيث إنّ الإنذار أهمّ من التبشير اعتبر الكتاب منذراً فحسب، والتعليل يفيد أنّ الإنذار من شؤون الربوبية وأنّه أمر مستمرّ ومستقرّ، كما تفيده لفظة «كنا» حيث تدلّ على أنّ الله تعالى أنذر الأقوام السابقة أيضاً باستمرار عن طريق الرسل والكتب، وبذلك يردّ على توهّم المشركين أنّه تعالى لا يرسل رسولاً ولا ينزل كتاباً، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إذ قَالُوا مَا أَنْزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).(1)

والدليل على أنّ المراد بالليلة المباركة ليلة القدر قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)،(2) وليلة القدر عند الإمامية مردّدة بين ليلتين من شهر رمضان الحادية والعشرين، والثالثة والعشرين، وذلك لأنّ الروايات تدلّ على أنّها إحداهما، وأمّا ليلة التاسع عشر فالظاهر أنّها ليست من ليالي القدر. وسيأتي ذكر الروايات إن شاء الله تعالى. وقيل: إنّها ليلة النصف من شعبان وهو غير صحيح؛ لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(3)حيث يدلّ - بضميمة ما مرّ من الآيات _ على

ص: 282


1- الأنعام (٦): ٩١.
2- القدر (97): 1
3- البقرة (٢): ١٨٥.

أنّ ليلة القدر في شهر رمضان.

وربّما يستظهر من الآيات والروايات أنّ ليلة القدر ليلة واحدة في جميع البلاد، ولكنّ الصحيح أنّها تختلف حسب الآفاق بناءاً عل_ى م_ا ه_و الصحيح من اختلاف بداية الشهر العربي باختلاف الأفق، فلا تكفي رؤية الهلال في بلد لسائر البلاد، بل حتّى لو قلنا بكفاية رؤيته في بلد لما يشترك معه في الليل أو في معظمه - كما قيل - فإنّه أيضاً يستوجب الاختلاف إجمالاً.

وأمّا الاختلاف في الرؤية وفي ثبوتها واختلاف الأنظار الفقهية في مناطات ثبوت الهلال، فلا يوجب الاختلاف في واقعها، فعلى من يحاول أن يدرك الأعمال المستحبّة فيها أن يعمل في ليلتين، بل أربع وقد ورد ذلك في بعض الروايات.

روى الكليني بسنده عن علي بن أبي حمزة الثمالي(1) قال: كنت عند أبي عبد الله علیه السلام فقال له أبو بصير: جعلت فداك الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال: «في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين»؛ قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: «ما أيسر

ليلتين فيها تطلب»؛ قلت فربّما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى، فقال: «ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها» الحديث.(2)

إنّما الإشكال في أنّه كيف يوفّق بين نزول القرآن في ليلة واحدة _ كما صرّحت به الآيات - وبين الواقع التاريخي الواضح وهو أنّ القرآن نزل في غضون ثلاث وعشرين سنة ؟

ص: 283


1- وفي بعض النسخ علي بن أبي حمزة البطائني والظاهر أنّه الصحيح.
2- الكافي ٤: ٢/١٥٦

وقد حاول العلماء الجمع بينهما بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ المراد بالآيات تحديد موعد نزول أوّل آية من القرآن، فليلة القدر تاريخ بدء النزول التدريجي الذي استمرّ ثلاثاً وعشرين سنة. وهذا قول كثير من المفسّرين ولا بأس به في حدّ ذاته إلا أنّه يعارض ما اتفقت عليه الإمامية من أنّ البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وإن لم نجد له دليلاً واضحاً، فالروايات التي تشتمل على ذلك كلّها ضعيفة، ولكن قد يكفي فيه هذا الاتفاق وعلى تقدير الثبوت يمكن أن يكون هذا اليوم، أي السابع والعشرين من شهر رجب هو اليوم الذي أوتي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فيه النبوّة، كما أنّه كانت له ارهاصات طيلة حياته، فلا ينافي أن تكون ليلة القدر موعد نزول أوّل مجموعة من آيات القرآن الكريم وهي مطلع سورة العلق على المشهور، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

الوجه الثاني: ما ذكره جمع قديماً وحديثاً تبعاً لبعض الروايات من أنّ القرآن نزل جملة واحدة إلى البيت المعمور في شهر رمضان وهو بيت في السماء محاذ للكعبة المشرّفة - كما في الحديث - ثمّ نزل تدريجاً في غضون ثلاث وعشرين سنة.

روى الكليني عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله علیهالسلام قال: سألته عن قول الله عزّ وجل: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وإنّما اُنزل في عشرين سنة بين أوّله وآخره؟ فقال أبو عبد الله علیه لسلام:«نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة»، ثمّ قال: قال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، واُنزلت التوراة لستُّ مضين من شهر رمضان، واُنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، واُنزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان،

ص: 284

وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان».(1) ورواه الصدوق عنه أيضاً،(2) والسند فيهما ضعيف.

وربّما يعترض على هذا الوجه باستغراب تفسير البيت المعمور ببيت في السماء باعتبار أنّ المراد به في قوله تعالى: (وَالْبَيْتِ المُعمُورِ)(3) الكعبة المعظَمة. ولكن هذا التفسير وارد في روايات كثيرة في كتب الفريقين،(4) والاستغراب لا وجه له؛ إذ لا يبعد أن يكون له معنيان بل يمكن أن يكون المراد بالآية في سورة الطور أيضاً ذلك، ولعلّ المراد بالبيت الذي في السماء غير ما هو المتفاهم من اللفظ لدينا.

واعترض عليه أيضاً بأنّه لا فائدة في نزول القرآن على البيت المعمور أو أي موضع آخر في السماوات، وهذا الاعتراض بهذا البيان ضعيف جدّاً؛ إذ مجرَد عدم فهمنا للفائدة لا يدلّ على عدم الفائدة، ونحن نجهل كثيراً من وجوه الحكمة في التكوين والتشريع، بل أكثرها.

نعم يمكن أن يقال: إنّ اعتبار ليلة القدر مبدأ لتاريخ نزول القرآن يكون بلحاظ تأثير له في المجتمع البشري حتّى يعتبر ممّا م_نّ الله به علين_ا م_ن بركات ليلة القدر، ولا نعلم للنزول في البيت المعمور تأثيراً، بل هو أمر لا نشعر به لو كان أمراً واقعياً.

ويمكن الاستدلال بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ

ص: 285


1- الكافي ٢ : ٦/٦٢٨
2- الأمالي ( الصدوق): 119
3- الطور (٥٢): ٤.
4- منها صحيحة زرارة، راجع: الكافي ٣: ١/٣٠٢

وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(1) على أنّ المراد بالنزول في ليلة القدر يجب أن يكون بمعنى يؤثّر في المجتمع البشري، وذلك لأنّ النزول هنا اعتبر وصفاً للشهر ورتّب عليه وجوب الصيام فيه بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، فيظهر منه أنّ السبب في وجوب الصوم في هذا الشهر هو نزول القرآن فيه؛ فكأنّه شكر على هذه النعمة الجليلة، بل تدلّ على أنّ النزول فيه كان معلوماً لدى عامّة المسلمين في ذلك العصر؛ إذ لم يرد بصورة الإخبار به بل بصورة التوصيف ممّا يدل على أنّهم كانوا يعرفونه بهذا الوصف.

ولذلك عمد بعضهم إلى تفسير البيت المعمور بقلب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، كما في المقدمة التاسعة من «تفسير الصافي».(2) ولكنّه لا دليل عليه، والروايات صريحة في أنّه بيت في السماء، فإن لم نعتمد الروايات فلا حاجة إلى هذا التأويل أساساً.

نعم، لو لم يقصد بذلك تأويل الروايات، بل تفسير الآيات ابتداءاً بأنّ النزول الدفعي كان على قلب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في ليلة القدر، ثمّ نزل تدريجاً طيلة السنين كان له وجه، وسيأتي بعض الكلام فيه.

وعبارة الشيخ الصدوق رحمه الله غير واضحة في أنّه يقصد تفسير الروايات أو الآية بذلك، حيث قال: «اعتقادنا في ذلك أنّ القرآن نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ نزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة، وأنّ الله عزّ وجل أعطى نبيّه صلی الله علیه و آله وسلم العلم جملة وقال له: (وَلا تَعْجَلْ

ص: 286


1- البقرة (٢): ١٨٥
2- راجع: تفسير الصافي ١: ٦٥

بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْصَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(1) وقال تعالى: (لا تُحَرُكَ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِه).(2)

فبملاحظة أنّ ما بين المعقوفتين ورد في بعض النسخ ومع حذفه يحتمل أنّه أراد بإعطاء النبي صلی الله علیه و آله وسلم العلم جملة واحدة تفسير البيت المعمور بقلبه صلی الله علیه و آله وسلم وأمّا مع هذه النسخة فيبدو أنّ إعطاء العلم أمر آخر.

ولكن هنا إشكال آخر يأتي في هذا الوجه، سواء قيل بنزوله في البيت المعمور أو على قلب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو أنّ القرآن المنزل تدريجاً لا يمكن جمعه في زمان قبل ذلك مطلقاً، قال الشيخ المفيد رحمه الله: «الذي ذهب إليه أبو جعفر - أي الشيخ الصدوق - في هذا الباب أصله حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالاً بحال يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، وذلك أنّه قد تضمن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلا بحدوثه عند السبب، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَقَوْهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)،(3) وقوله: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا هُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ)،(4) وهذا خبر عن ماض، ولا يجوز أن يتقدّم مخبره، فيكون حينئذ جزاءاً (خبراً) عن ماضٍ وهو لم يقع، بل هو في المستقبل. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة. وقد جاء الخبر بذكر الظهار وسببه، وأنّها لما جادلت

ص: 287


1- طه (٢٠): ١١٤
2- القيامة (٧٥): ١٦ - الاعتقادات: 82
3- النساء (٤): ١٥٥
4- الزخرف (٤٣): 20

النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الظهار أنزل الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)(1) وهذه قصة كانت بالمدينة، فكيف ينزل الله تعالى الوحي بها بمكّة قبل الهجرة، فيخبر بها أنّها قد كانت ولم تكن ؟!».(2)

وحاصل ما ذكره أنّ الجمل الواقعة في ما بأيدينا من الكتاب ممّا يحكي قضية ماضية بلحاظ زمان النزول - كالتي نزلت بعد غزوة بدر وغزوة اُحد وغ_ي_ر من الحوادث - لا يمكن أن تكون نازلة قبل الحدوث بلفظ الماضي. وأضاف بعضهم في شرح كلامه أنّ في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، فكيف يمكن نزولهما مع بعض؟!

وأضاف إليه السيّد المرتضى رحمه الله وجوهاً اُخرى من الاستبعاد، منها: أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كان يتوقّف عند حدوث حوادث، كالظهار وغيره على نزول ما ينزل إليه من القرآن، ويقول: «ما اُنزل إليّ في هذا شيء»، ولو كان القرآن أنزل جملة واحدة لما جرى ذلك.(3)

والجواب عنه: أنّ الله تعالى علام الغيوب وكلّ مستقبل في علمه بمنزلة الماضي، ولا يزيد علمه بتحقّق الأمور المستقبلية. والماضي والمستقبل حاضر لديه تعالى، فلا مانع من أن ينزّل القرآن بصيغة الماضي بلحاظ زمان التلاوة. والرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يكن مأموراً بالتلاوة آنذاك. ونظيره في القرآن ما يخبر ب_ه ع_ن ما يقع يوم القيامة بلفظ الماضي وهي كثيرة أيضاً، فكما يقال هناك: إنّ الإتيان

ص: 288


1- المجادلة (٥٨): ١.
2- تصحيح اعتقادات الإمامية: 123
3- رسائل الشريف المرتضى ١: ٤٠٣

بلفظ الماضي باعتبار أنّه محقّق الوقوع، كذلك في غيره؛ لأنّ كلّ ما يخبر به الله تعالى محقّق الوقوع وهو لا تختلف عنده الأزمنة.

وأمّا وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات، فهو أيضاً لا يمنع من نزولهما معاً على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مع افتراض أنّه غير مأمور بالإبلاغ، فتبقى الآيات معلّقة إلى زمان الأمر به وإنّما تضرّ معرفة الناس بالناسخ قبل زمان النسخ، ولا تضرّ معرفة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم به ، بل نحن نعتقد أنّ الله تعالى يُعلمه بمثل ذلك من علم الغيب، بل هناك في نفس الآيات المنسوخة ما تدلّ على أنّها ستنسخ كقوله تعالى: (وَاللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أو يَجْعَلَ الله طَنَّ سَبِيلاً)،(1) فإنّ السبيل - على ما قيل ___ إشارة إلى ما سينزل من نسخ الحكم بآية الجلد.

وأمّا ما ذكره الشريف المرتضى رحمه الله من أنّه صلی الله علیه و آله وسلم كان يجيب في بعض موارد السؤال عنه: أنّه لم ينزل عليه وحي في ذلك، وهذا لا يصدق مع افتراض النزول جملة واحدة، فعلى فرض ثبوت ذلك بنقل معتبر يحتمل أن يكون بلحاظ أنّه غير مأمور بإبلاغه واعتباره حكماً شرعياً، فهو ينتظر زمان الأمر به.

والحاصل أنّ نفي هذا الوجه كإثباته لا يستند إلى دليل قطعي. الوجه الثالث: ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله وهو في الواقع تعديل للوجه الثاني بحيث لا يرد عليه الإشكال. قال في «الميزان» في تفسير قوله تعالى: (شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرآنِ) ما ملخصه:

«إنّ الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنّما عبّرت

ص: 289


1- النساء (٤): ١٥

عن ذلك بلفظ الإنزال الدالّ على الدفعة دون التنزيل، كقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(1) وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)(2) وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(3) واعتبار الدفعة إمّا بلحاظ اعتبار الكتاب أو البعض النازل منه مجموعة واحدة، ولذلك عبّر عنه بالإنزال دون التنزيل، وإمّا لكون الكتاب ذا حقيقة اُخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرّق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحّح لكونه واحداً غير تدريجي ونازلاً بالإنزال دون التنزيل.

وهذا هو اللائح من الآيات الكريمة، كقوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثمّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(4) فإنّ هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعل_ه فصلاً فصلاً وقطعة قطعة، فالإحكام كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأنّ هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرأ عليه بعد كونه محكماً غي_ر مفصل.

وأوضح منه قوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابِ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق)(5) وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي

ص: 290


1- البقرة (٢): ١٨٥
2- الدخان (٤٤): ٣.
3- القدر (97): 1
4- هود (11): 1.
5- الأعراف (٧): ٥٢ - ٥٣

بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(1) فإنّ الآيات الشريفة وخاصّة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أنّ التفصيل أمر طارٍ على الكتاب، فنفس الكتاب شيء والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر.

وأوضح منه قوله تعالى: (حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أم الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمٌ)،(2) فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مبيناً عرض عليه، جعله مقروّاً عربياً، وإنّما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنّه - وهو في أمّ الكتاب - عند الله، «عليّ» لا يصعد إليه العقول، «حكيم» لا يوجد فيه فصل وفصل، وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربي المبين.

وفي هذا المساق أيضاً قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)،(3) فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وأنّ التنزيل بعده، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار، وهو الذي عبّر عنه في آيات الزخرف، بأمّ الكتاب وفي سورة البروج باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ تَحْفُوظٍ)(4) وهذا اللوح إنّما كان محفوظاً لحفظ_ه م_ن ورود التغيّر ع_لي_ه، وم_ن المعلوم أنّ القرآن المنزل تدريجاً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ، وعن التدريج

ص: 291


1- يونس (10) 37 .
2- الزخرف (٤٣): ١ - ٤.
3- الواقعة (٥٦): 75 - 80
4- البروج (٨٥): ٢١ - ٢٢.

الذي هو نحو من التبدّل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن ومحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنّما هذا بمنزله اللباس لذاك.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين - ونحن نسمّيه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبّس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحّح، لأن يطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب، كما في قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ محفُوظٍ)(1) إلى غير ذلك. وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: (شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، وقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، وقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم دفعة، كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدعوة النبوية.

وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْل أنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(2) وقوله تعالى: (لا تُحَرُكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأَنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثم إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)(3) فإنّ الآيات ظاهرة في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له علم بما سينزل عليه، فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي».(4)

ولنا ملاحظتان على ما ذكره رحمه الله :

الملاحظة الأولى: أنّ ما ذكره تبعاً لما في «مفردات الراغب»(5) من أنّ الإنزال

ص: 292


1- البروج (85): 21 - 22
2- طه (20): ١١٤
3- القيامة (75): 19 - 19
4- راجع: الميزان في تفسير القرآن ٢: ١٦ - ١٨.
5- راجع: مفردات ألفاظ القرآن: 799

يدلّ على كونه دفعياً، والتنزيل على كونه تدريجياً، وأنّ الآيات التي تضمّنت النزول في ليلة القدر أو في شهر رمضان أو في ليلة مباركة كلّها بصيغة الإنزال مما يدلّ على كونه دفعياً، وما ورد بصيغة التنزيل ورد في النزول التدريجي لا أساس له في اللغة ولا في استعمالات القرآن الكريم، ففي قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ لِتُثْبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)،(1) صرّح بالتنزيل مع إرادة النزول الدفعي لقوله: (جُمْلَةً وَاحِدَةً)، ومثله قوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ)(2) وقوله تعالى: (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً).(3)

وإذا لاحظنا موارد التعبير بالإنزال الظاهر في نفس هذا القرآن الذي بأيدينا حصل القطع ببطلان هذا التفصيل، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)،(4) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)،(5) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ)(6) وغيرها من الآيات وهي كثيرة جدّاً، وكذلك ما ورد في إنزال الماء من السماء كقوله تعالى: (وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(7) وهي أيضاً كثيرة. والمطر لا ينزل دفعة، كما هو واضح.

وأمّا ما ذكره في توجيه من أنّه في المطر وسائر الموارد يلاحظ

ص: 293


1- الفرقان (٢٥): ٣٢
2- الأنعام (٦): ٧.
3- الإسراء (17): 95
4- البقرة (٢): ٤.
5- المائدة (٥): ٤٤
6- البقرة (٢): ١٧٤
7- البقرة (٢): ١٦٤

المجموع شيئاً واحداً، فلا يصحح استعمال اللفظ في غي_ر م_ورده؛ إذ يمكن دعوى ذلك في جميع الموارد، فمن أين يستكشف أنّ الاستعمال اللغوي يفرق بين الموردين بعد افتراض إمكان استعمال كلّ منهما في المورد الآخر بمجرّد اختلاف اللحاظ؟!

الملاحظة الثانية: أنّ ما استفاده رحمه لله من التعبير بالإحكام في مقابل التفصيل في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثم فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير)(1) ومن قوله تعالى في سورة الزخرف: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أم الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلى حَكِيمٌ)(2) وكذا سائر الآيات التي استند إليها، قد مرّ بعض الكلام فيه في تفسير سورة الزخرف.

وحاصل ما ذكرنا هناك أنّ الإحكام ليس في مقابل التفصيل، ب_ل الق_رآن محكم وفي نفس الوقت مفصّل، و«ثمّ» ليس للتراخي الزماني، ب_ل التراخي ف_ي الذكر، ومثله كثير تقول مثلاً : زيد عالم، ثمّ هو عادل أيضاً، والإحكام لا يعني الاندماج والإبهام والإجمال ونحو ذلك ممّا رامه؛ إذ ليس لهذا التفسير في كتب اللغة أيّ ،أثر، بل أصله في اللغة المنع ، ولعلّه هنا بمعنى منعه من ورود التشابه لمقابلتهما في قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)(3) ولعل أمّ الكتاب هنا بمعنى معظمه، كما عن الخليل.(4)

وأمّا جعله قرآناً عربياً جعلاً مركباً، فيمكن أن يكون المراد بالمجعول تلك

ص: 294


1- هود (11): 1
2- الزخرف (٤٣) : ٣ - ٤
3- ال عمران (3): 7
4- راجع: كتاب العين ١: ٣٤٢

المعاني والحقائق التي صيغت في هذا اللفظ، وأمّا أنّه في أمّ الكتاب عليّ حكيم، فلعلّ المراد بأمّ الكتاب هنا أصله، وهو ما في علم الله من الحقائق والمعاني التي شكلت القرآن والعلو باعتبار ترفّعه عن وصول الأفهام إليه قبل أن يلبس لباس اللفظ، ومعنى ذلك أنّها معارف لا يمكن للبشر أن يصل إليها لو لم ينزل الوحي. وحكمته أيضاً بمعنى امتناعه من أن يصل إليه أحد أو تمنّعه من ورود الخطأ والسهو فيه. ومهما كان، فإنّ التدبّر لا يوصلنا إلى ما أراد، والأدلّة ضعيفة جدّاً، ولكنّنا لا نمنع ذلك أساساً، فكلّ من الإثبات والنفي بحاجة إلى حجّة مفقودة.

الوجه الرابع: ما ذكره سيّدنا العلامة أيضاً، حيث إنّه بعد التأكيد في الجزء الثاني من «الميزان» على الوجه المذكور ورفضه احتمال النزول جملة على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، عدل في تفسير سورة الدخان وفي ذيل قوله تعالى: (فِيهَا يَفْرَقُ كُلَّ أمْرٍ حَكِيمٍ)، فقال: «ولعلّ الله سبحانه أطلع نبيّه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته وما يقارن منها نزول آية أو آيات أو سورة من كتابه، فيستدعي نزولها وأطلعه على ما ينزل منها، فيكون القرآن نازلاً عليه دفعة وجملة قبل نزوله تدريجاً ومفرّقاً، ومآل هذا الوجه اطلاع النبي صلی الله علیه و آله وسلم على القرآن في مر مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الأرض واستقراره في مرحلة العين، وعلى هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرّتين بالإجمال والتفصيل، كما تقدم في الوجه الأوّل».(1) ومراده بالوجه الأوّل ما نقلناه منه آنفاً.

وعلى ذلك فيكون هذا توجيهاً آخر، وهو أنّ القرآن نزل عليه صلی الله علیه و آله وسلم تفصيلاً لا إجمالاً ودمجاً، ولكن في ضمن إعلام الله تعالى له بتفاصيل ما سوف يقضي ب_ه

ص: 295


1- الميزان: فى تفسير القرآن 18: 132

من حوادث تستتبع نزول الآيات، فيكون بذلك قد اطّلع على الآيات ضمناً. وهذا الوجه مذكور في كلام جماعة من العلماء، ولا بأس به أيضاً.

وعليه فكلّ من الوجوه الأربعة محتملة في المقام، وبكلّ منها يمكن توجيه الآيات المذكورة ورفع التنافي بينها وبين النزول التدريجي والحمد الله. ولكنّ الوجه الأوّل أقرب.

(فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، (فِيهَا) أي في ليلة القدر. و«الفرق»: الفصل، فيمكن أن يكون المراد هنا الحكم الفصل بمعنى تثبيت الأمور وقضائها قضاءاً حتمياً قطعيا ويمكن أن يكون المراد تفصيل الأمور المجملة والمبهمة بمعنى بيان تفاصيل المقضيّات والمقدّرات. وتوصيف الأمر بالحكيم بلحاظ أنّه مقتضى الحكمة أو لأنّه منيع لا يعرضه التغيير والتبديل فهو قضاء حتم. والجملة تعليل لإنزال القرآن في ليلة القدر بلحاظ أنّها ليلة الحكم الفصل وإنجاز الأمور المهمة والحكيمة.

وللعلامة الطباطبائي رحمه الله رأي يستند إلى تفسيره السابق للحكمة، وهو أنّها حيث قوبلت بالتفريق، فمعناها ما لا يتميّز بعض أجزائه من بعض والتفريق فصل الشيء عن الشيء بحيث يتمايزان، وقال: «إنّ للأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتين؛ مرحلة الإجمال والإبهام ومرحلة التفصيل».(1) ويتبّين بما ذكرناه سابقاً أنّ تفسير الحكمة بهذا المعنى لا أساس له.

وقد ورد في فضل ليلة القدر وأنّها الليلة التي تقدّر فيها الأمور روايات كثيرة في كتب الفريقين، وهناك اختلاف بينهما في تحديد الليلة، فالعامّة غالباً يعتبرون

ص: 296


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 132

الليلة السابعة والعشرين ليلة القدر، وعند الشيعة مردّدة بين التاسعة عشر والحادية والعشرين والثالثة والعشرين. ولكنّ الظاهر أنّ التاسعة عشر ليست من ليالي القدر، وإنّما يدور الأمر بين الأخريين؛ وهناك روايات تدلّ على أنّها إحدى ليالي العشر الأواخر من دون تحديد.

ويبدو من الروايات أنّ هناك تعمّداً من قبل المعصومين علیهم السلام بإخفائها في العشر الأواخر ، وذلك حتّاً للناس على أن يبتهلوا إلى الله تعالى في كلّ هذه الليالي واهتمّ أئمّة أهل البيت علیهم السلام بالترديد بين الحادية والثالثة منها. ونذكر هنا بعض ما صحّ من الروايات عن طرقنا:

روى الصدوق بسنده _ وهو صحيح _ عن زرارة، عن أبي جعفر علیه السلام: «أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم لمّا انصرف من عرفات وسار إلى منى دخل المسجد، فاجتمع إليه الناس يسألونه عن ليلة القدر، فقام خطيباً فقال بعد الثناء على الله عزّ وجلّ : أمّا بعد فإنّكم سألتموني عن ليلة القدر ولم أطوها عنكم، لأنّي لم أكن بها عالماً، اعلموا أيّها الناس أنّه من ورد عليه شهر رمضان وهو صحيح سوي فصام نهاره وقام ورداً من ليله وواظب على صلاته وهجر إلى جمعته وغدا إلى عيده، فقد أدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الربّ عزّ وجلّ».(1) وقال ابو عبد الله لیه السلام: «فازوا والله بجوائز ليست كجوائز العباد»؛(2) أي أنّها ليست من نعم الدنيا.

وهذا الحديث يدلّ بوضوح على أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يبيّن موعد ليلة القدر لكي يهتمّ الناس بشهر رمضان وبالتعبّد فيه إلى يوم العيد، وأخفاها في كلّ الشهر ولم يحدّدها بالعشر الأواخر منه. ويلاحظ أنّه صلی الله علیه و آله وسلم أضاف إلى الصوم وأعمال الليالي حضور الجمعة والعيد.

ص: 297


1- الفقيه ٢: ٩٧ / ١٨٣٤
2- الفقيه 2: 98 / 1835

وروى الكليني بسند صحيح عن حسان بن مهران عن أبي عبد الله

علیه السلام :قال سالته عن ليلة القدر، فقال: «التمسها في ليلة إحدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين».(1)

وروى بسند صحيح أيضاً عن الفضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم، عن حمران أنّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (إنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) قال: «نعم ليلة القدر وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر، قال الله عزّ وجلّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل خير وشرّ وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق، فما قدّر في تلك السنة وقضى فهو المحتوم والله عزّوجلّ فيه المشيئة» قال: قلت: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ الفِ شَهْرٍ﴾ أيّ شيء عنى بذلك ؟ فقال: «العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا، ولكنّ الله يضاعف لهم الحسنات بحبّنا».(2)

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله: «قوله علیه السلام «فهو المحتوم والله عزّوجل فيه المشيّة»؛ أي أنّه محتوم من جهة الأسباب والشرائط، فلا شيء يمنع من تحقّقه إلا أن يشاء الله

ذلك».(3)

نعم استثناء المشيئة لا ينافي الحتمية، فالله تعالى في كتابه العزيز يستثني خلود أهل النار والجنّة فيهما بالمشيئة أيضاً، قال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ).(4)

ص: 298


1- الكافي :٤ ١/١٥٦
2- الكافي ٤: ١٥٧ / ٦.
3- الميزان في تفسير القرآن ١٨: ١٣٤
4- هود (11): 107 و 108

والتقدير لا ينافي الاختيار أيضاً، فإنّه جزء من الأسباب، ولم يقدّر الله تعالى أن هذا الأمر يقع حتّى لو لم يتحقّق السبب، بل قدّر أنّه يتحقّق السبب، فيتحقّق الأمر، ومن السبب إرادة الإنسان واختياره.

وروى الشيخ بسند موثّق عن زرارة، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: سألته عن ليلة القدر، قال: «هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين». قلت: أليس إنّما هي ليلة؟ قال: «بلی». قلت: فأخبرني بها فقال: «وما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين».(1)

ويلاحظ من مجموع الروايات محاولة إخفائها، ولكنّها مختلفة في ذلك، ففي مجموعة من الروايات أُخفيت بين ليلتين: الحادية والثالثة بعد العشرين، وفي صحيحة حمران أخفاها الإمام علیه السلام في العشر الأواخر، وفي صحيحة زرارة الأولى أخفاها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في كلّ الشهر، بل اشترط بلوغ ثوابها بحضور الجمعة والعيد، بل ورد إخفاؤها في كلّ السنة في صحيحة الحلبي، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «إذا كان الرجل على عمل، فليدم عليه سنة، ثمّ يتحوّل عنه إن شاء إلى غيره» وذلك أنّ ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك ما شاء الله أن يكون».(2)

ولعلّ المستفاد من هذه الصحيحة أنّ ليلة القدر ربّما تتغيّر من سنة إلى سنة وأنّها غير متعيّن في الواقع، بمعنى أنّ تعيين الليلة التي يقدّر فيها الأمور يعود إليه ،تعالى ولكن احتمال مصادفتها للحادية والعشرين والثالثة والعشرين من شهر رمضان وخصوصاً الثانية أقوى منه بالنسبة إلى سائر الأيّام، كما أنّ احتمال وقوعها في العشر الأواخر منه أقوى من غيره وللبحث تتمه سيأتي إن شاء الله

ص: 299


1- التهذيب ٣: ٣/٥٨
2- الكافي ٢: ٣/٨٢ .

في تفسير سورة القدر، والله العالم.

(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في (أَنْزَلْنَاهُ)، أي أنزلنا القرآن حال كونه أمراً من عندنا إلى الخلق أو المعنى: أنزلناه بأمر من عندنا. ويحتمل أن يكون حالاً من الأمر في الآية السابقة، فالمعنى: أنّ كلّ أمر حكيم يفرق ويفصل حال كونه أمراً من عندنا، والتنكير للتفخيم، أي أمراً عظيماً وكونه من عنده تعالى يزيده عظمة وفخامة وهذا يشمل إنزال القرآن أيضاً لما مرّ من أنّ الآية السابقة تعليل له.

وقوله: (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) تعليل لإنزال القرآن أيضاً. وقوله: (كُنا) يدلّ على أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب من شؤون ربوبيته تعالى، كما يأتي ذكره في الآية التالية. ولذلك لم تخل أُمّة من نذير أرسله إليهم. ويلاحظ أنّ هذا التعليل يناسب أن يكون قوله: (أمْراً) حالاً من القرآن. وأمّا إذا أريد به كلّ أمر حكيم ليشمل

،القرآن فلا يناسب التعليل.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)؛ قيل يمكن أن تكون (رَحْمَةً) مفعولاً للإرسال ولكنّه بعيد؛ لأنّ الأوفق بالسياق حينئذٍ أن يقول: «رحمة منا»، فالظاهر أنّه مفعول لأجله لإنزال الكتب وإرسال الرسل. وإضافة الربّ إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم المزيد العناية به، حيث إنّه هو المرسل وعليه أنزل الكتاب، فهو طريق نزول الرحمة إلى العالمين من ربّهم. والتعليل بأنّه تعالى هو السميع العليم المفيد للحصر من جهة أنّه الذي يسمع دعوات الناس وطلبهم لمعرفة الحقائق المغيبة عنهم وهو العليم بحاجاتهم الواقعية وإن لم يسألوها، وأنّ أهمّها معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وكتبه وآياته وأحكامه، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب.

ص: 300

(رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ). توصيفه تعالى بأنّه ربّ الكون كلّه لئلا يتوهم متوهّم أنّه ربّ للرسول صلی الله علیه و آله وسلم فحسب، كما ورد في الآية السابقة، حيث إنّ الوثنيين يعتبرون لكلّ مجموعة في الكون ربّاً، فالآية تؤكّد لهم مرّة أخرى أنّه ربّ الكون كلّه. ولعلّ المراد بالسماوات ماوراء الطبيعة، و بالأرض عالم الطبيعة، وبما بينهما الملائكة التي تنتقل بينهما لتدبير الأمور ولرفع الأعمال وإنزال الوحى وأوامر الله التكوينية.

والربّ صفة مشبهة من ربب وربّى والتربية _ كما في «المفردات»(1) - إنشاء شيء حالاً فحالاً إلى التمام وفسّر في «معجم المقاييس» وغيره بإصلاح أمر الشيء، فالربّ هو المصلح وهو القائم بالأمور ، وحيث إنّه تعالى ربّ كلّ شيء، فكلّ الخير والشرّ بيده، ولا مؤثّر في الكون غيره.

وأمّا الشرط: (إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ ) فمعناه أنّ ملاحظة السماوات والأرض والنظام الساري فيها يكفي لكي تؤمنوا به إن كنتم من الموقنين؛ أي الذين يحصل لهم اليقين والوثوق من مجاريها الطبيعية المتعارفة في مقابل أهل الوسوسة والاضطراب النفسي، الذين لا يحصل لهم اليقين حتّى بالرؤية والإحساس المباشر.

(لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) لعلّ موقع هذه الجملة التي تنفي الألوهية عن غيره تعالى أنّها نتيجة قطعية لكونه ربِّ السماوات والأرض ، أي الكون كلّه، فإن الربِّ - كما قلنا هو الذي يربّي الشيء وبيده الخير والشرّ. و«الإله» هو المعبود. والتأله: التنسّك والعبادة. وكانت العرب تسمّي الشمس إلاهة حيث عبدوها. والإنسان لا يعبد

ص: 301


1- مفردات ألفاظ القرآن: ٣٣٦

بمقتضى طبيعته إلا لجلب الخير ودفع الشرّ، ومن هنا كانوا يعبدون ما يظنّون أنّه يجلب لهم المطر والرزق، أو أنّه يتسبّب في نزول الشرّ، كالحروب والبلايا والأمراض، فكانوا يعبدون بعض الأصنام أو الكواكب دفعاً لشرّها، فإذا ثبت أنّ الله تعالى هو ربّ السماوات والأرض لا ربّ غيره في الكون وبيده الخير والشرّ والنفع والضرر، فهو الإله وحده لا إله إلا هو.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ) توصيفه تعالى بأنّه هو المحيي والمميت، تأكيد على معنى الربوبية والإتيان بالفعل المضارع يدلّ على استمرار الإحياء والإماتة. والحياة والموت حالتان متكرّرتان في الطبيعة في مختلف المجالات، فالأرض تحيا وتموت والأشجار تحيا وتموت والحيوان يحي_ا ويموت،وكلّ خلية من جسمه أيضاً تحيا وتموت، والمجتمعات البشرية تحيا

وتموت، والثقافات تحيا وتموت، وهكذا... ويبقى الله تعالى هو الحيّ الذي لا يموت، وبيده الحياة والموت والحياة من أسرار الكون التي لم يستطع أحد حتّى الآن فكّ طلاسمها ومعرفة رموزها، وكلّ ما يصنعه الإنسان إعداد للبيئة المناسبة للحياة، وليس إلا تصرّفاً في الكون وفقاً للقوانين المتحكّمة فيه.

ثمّ التوصيف بأنّه تعالى ربّكم وربّ آبائكم الأوّلين لردعهم عن متابعة الآباء الوثنيين، فإنّهم لم يعبدوا ربّهم الذي كان الواجب عليهم أن يعبدوه.

ص: 302

سورة الدخان (٩- ١٦)

بَلْ هُمْ فِي شَكٍ يَلْعَبُونَ(9)فَأَرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ(10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13)ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّم مَجنُونُ(14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَابِدُونَ(15) يَوْمَ تَبْطِسُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16)

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ»، «بل» إضراب عمّا سبق من حتّهم على الإيمان بربّهم وربّ آبائهم، وأن يكونوا من الموقنين، وإعلان عن حالهم بأنّهم في شك وليسوا من الموقنين. والتنكير للتعظيم، أي هم في شك عميق لا يزول عن قلوبهم. والضمير يعود إلى مشركي مكّة والمراد شكّهم في رسالة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والكتاب الذي أتى به.

وقوله: (يَلْعَبُونَ) خبر بعد خبر أو حال عنهم. وفيه إشارة إلى أنّ الشكّ ينبغي أن يوجب لهم الخوف، فإنّ احتمال الضرر العظيم يوجب الخوف والحذر، ولكنّهم لغبائهم مشغولون باللعب ويمكن أنّ يكون إشارة إلى أنّ منشأ شكّهم هو اشتغالهم باللعب، فلا يتفكّرون في الأمر، وليسوا كمن يحاول المعرفة فلا يصل إليها.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِين)،الارتقاب والترقّب مأخوذ من الرقبة، وهو توقّع أمر قريب بحيث يمدّ الإنسان عنقه ليرى حدوثه. والخطاب للرسول صلی الله علیه و آله وسلم تسلية له وتهديداً للمشركين. و (يَوْمَ ) مفعول للارتقاب، أي انتظر وتوقّع قريباً ذلك اليوم الذي ينزل فيه من السماء دخان واضح يراه الناس جميعاً، ولا يدلّ

ص: 303

التعبير أنّه واقع حتماً، بل هو متوقّع ولو باعتبار تحقّق المقتضي. وسيأتي الكلام حول المراد بهذا الدخان بعد الانتهاء من تفسير هذه الآيات.

(يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي يغطّيهم الدخان ويحيط بهم. وهذا توصيف للدخان المفروض، ولا يدلّ على تحقّقه حتماً. وقوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) إِمّا من كلام الناس كالجملة التي بعده أو من كلام الله تعالى أو الملائكة، ويحتمل أن يكون من لسان الحال والمقام.

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أي يقول الناس ربّنا... و«كشف العذاب» إزالته وقولهم : (إنّا مُؤْمِنُونَ) يحتمل أن يكون وعداً بأنّهم سيؤمنون بعد الكشف. ويحتمل أن يكون إعلاناً لإيمانهم بالفعل بعد أن رأوا العذاب.

(أَنَّى هُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثم تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ تَجَنُونٌ).

هذا جواب عن قولهم: (إِنَّا مُؤْمِنُونَ). و «أنّى» اسم استفهام عن المكان، أي من أين؟ وهو تعبير مجازي عن السبب. و«الذكرى» اسم يأتي بمعنى الذكر كما هنا، وبمعنى التذكير، والمراد تذكّر ما هو الواجب عليهم، أي كيف يتذّكرون؟ وبأيّ سبب حادث يؤمنون؟ والاستفهام للإنكار، أي لا يوجد سبب للتذكّر.

وقوله : (وَقَدْ جَاءَهُمْ) جملة حالية تفيد التعليل أي كيف يمكن أن يتذكّروا بعد نزول العذاب، مع أنّهم قد جاءهم قبل ذلك رسول مبين، ومع ذلك تولوا عنه وقالوا معلِّم مجنون؟! و«المبين» أي الواضح أي أنّهم كفروا وكذّبوا بالرسول الذي أتاهم برسالة واضحة وبراهين واضحة، وهم كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أنّه رسول حقّاً لما رأوه من الآيات والمعجزات، ولأنّه كان طيلة حياته في غاية الطهارة والصدق وفي سلامة كاملة في عقله ونفسياته، وقد لبث فيهم

ص: 304

عمراً من قبله، فعدم إيمانهم ورميهم له بالجنون لم يكن لضعف في الدليل وإنّما كان لكبر وحسد وطغيان في أنفسهم ولمتابعتهم الأهواء، وهذه العلّة باقي_ة ب_ع_د زوال العذاب فسيعودون كما كانوا.

وقوله: (تَوَلَّوا عَنْهُ)، أي ابتعدوا معرضين وقالوا إنّه معلَّم يعلمه غلام رومي، كما ورد في قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبٍ مُبِينٌ).(1)

وقالوا: إنّه مجنون وإنّ ما يتلوه من آيات إنّما ينشأ من جنونه. ومن الواضح لكلّ إنسان له أدنى إدراك أنّ ما يتلوه عليهم من أقوى الكلام وممّا لا يمكن لكلّ الناس أن يأتوا بمثله حتّى لو اجتمعوا بأجمعهم، بل حتّى لو اجتمعت الجنّ والإنس وكان بعضهم لبعض ظهيراً، وكان هذا معترفاً به لديهم، ولذلك ل_م يحاولوا مجاراته بالرغم من تكرر التحدّي في القرآن الكريم، وبالرغم من غرورهم وتبجّحهم في الشعر والفصاحة والبلاغة.

وفي هذا المعنى آيات كثيرة، بل في بعضها أنّ الكافرين حتّى بعد الحشر يوم القيامة ورؤيتهم أهوالها بأعينهم، بل مباشرتهم لها بكلّ كيانهم ووجودهم لو أعيدوا إلى الدنيا لعادوا إلى كفرهم قال تعالى: (بَلْ بَدَا هُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)،(2) بل لا يبعد أن يقولوا بعد الرجوع المفترض: إنّ ما رأوه وعاينوه إنّما هو سحر ،مبين، كما قال تعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُوا فِيهِ يَعْرُجُونَ *

ص: 305


1- النحل (١٦): 103 .
2- الأنعام (٦): ٢٨ - ٢٩ .

لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ).(1)

(إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ). المعروف في تفسير هذه الآية أنّه_ا جواب عن طلبهم كشف العذاب، فهو وعد من الله تعالى بكشفه قليلاً إتماماً للحجّة. وقوله : (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) بمعنى أنّهم يعودون بعد الكشف إلى عنادهم وإنكارهم.

وفيها احتمال آخر، وهو أنّ المراد بالعذاب معنى عامّ يشمل عذاب الآخرة، والمراد بكشفه عن الناس عدم ابتلائهم به كما قال تعالى: (إِلا قَوْمَ يُونُسَ ما آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا)(2) ولم يكن العذاب نازلاً عليهم. فالتعبير في هذه الآية بالكشف باعتبار أنّهم يستحقّونه وأنّه ينتظرهم في الحال الحاضر، أو باعتبار أنّه محيط بهم وهم في الدنيا وإن لم يشعروا به، كما قال تعالى: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ مُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)(3) وقال أيضاً: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)،(4) فهذه النار التي يأكلونها غير السعير الذي سيصلونها، ولكنّهم لا يشعرون أنّ ما يأكلونه نار، وإنّما يظهر لهم ذلك يوم القيامة ولا نعلم كيف يظهر؟ وبأيّ صورة؟ ولعلّ المراد بكونه ناراً عذاب الضمير الذي لا يشعر به الإنسان في الدنيا.

والحاصل أنّ العذاب محيط بمن يستحقّه وهو في الدنيا، ولكنّه لا يشعر ب_ه وهذا هو معنى كشف العذاب عنهم.

ص: 306


1- الحجر (١٥): ١٤ - ١٥.
2- يونس (10):98.
3- العنكبوت (٢٩): ٥٤
4- النساء (٤): ١٠.

وقوله تعالى: (قليلاً)، أي بمقدار بقائكم في الدنيا، أي نمهلكم في هذه الحياة ونترككم تخوضون وتلعبون ونفسح لكم المجال، ولا ننزّل عليكم عذاب الاستئصال ولا نضيّع عليكم الفرص، ولكنّكم ستعودون إلينا وتذوقون ما تستحقّونه من العذاب.

وقوله تعالى: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) بمنزلة التعليل للجملة السابقة، فإنّ معناه أنّ هذا الكشف والإمهال لا ينقذكم من براثن العذاب الإلهي، فإنّكم عائدون إليه ومحضرون لديه، والعذاب الذي هو نتيجة أعمالكم بانتظاركم، فهذا الكشف الموقّت لا ينافي الحكمة التي تستدعي عذابكم.

(يَوْمَ تَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ)، «البطش» أخذ الشيء بقهر وغلبة وقوّة. و«يوم» ظرف لما قبله أي عائدون إلينا يوم نبطش البطشة الكبرى؛ أي يوم القيامة. وأمّا بناءاً على التفسير المعروف، فاليوم ليس ظرفاً لقوله: (عَائِدُونَ)، ب_ل لكلمة «ننتقم» مقدّرة تدلّ عليها الجملة التالية.

وبناءاً على ما ذكرنا، فقوله: (إنا مُنتَقِمُونَ) تعليل للجملة السابقة، والمراد أنّ الانتقام من شؤون الربوبية، كما قال تعالى: (وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ»(1) و«الانتقام» من النقمة وهي في الأصل بمعنى الإنكار ، وهو قد يكون باللسان وقد يكون بالعقوبة.

والوجه في كون الانتقام من شؤون الربوبية أنّه مقتضى العدالة والحكمة، فالكون لو كان مطلقاً لا يحكمه نظام يبتني على أساس العدالة ووضع كلّ شيء في محلّه الواقعي لم ينتقم الله من أحد ؛ لأنّ الانتقام بالمعنى الذي يتعارف بيننا مستحيل عليه تعالى؛ فإنّه بمعنى التشفّي وهو تعالى لا يتأثّر بشيء ليتشفّى منه،

ص: 307


1- آل عمران (3): ٤

ولكنّه حكيم، وبنى الكون على أساس القسط والعدل والحكمة، وذلك يقتضي أن يوضع كلّ شيء موضعه الحقيقي، ومن هنا يستحيل أن يترك الإنسان سدى ولا يجد نتيجة عمله، وهذا هو معنى انتقامه تعالى.

وقد وقع الكلام في أنّ الدخان والعذاب المشار إليه في هذه الآيات هل حدث فعلاً أو أنّه سيحدث في الدنيا أو يوم القيامة؟ فيه أقوال:

القول الأول: ما ذكره كثير من المفسّرين من أنّ المراد به ما حدث لأهل مكّة من المجاعة، بحيث كانوا يرون بينهم وبين السماء دخاناً من شدة الجوع. وعليه فهو تعبير مجازي.

وربّما قيل: إنّ العرب تسمّي الشرّ الغالب دخاناً. ورووا في ذلك حديثاً رواه أحمد والبخاري وغيرهما. ففي صحيح البخاري: «عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدَّثُ فِي عِنْدَةَ فَقَالَ: يَجِيءُ دُخَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ يَأْخُذُ الْمُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزَّكَامِ فَفَزِعْنَا فَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَكَانَ مُتَّكِناً فَغَضِبَ فَجَلَسَ ، فَقَالَ: مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ الله أعْلَمُ، فَإِنَّ مِنْ الْعِلْم أن يَقُولُ لِمَا لا يَعْلَمُ لا أَعْلَمُ فَإِنَّ الله قَالَ لِنَبِيِّهِ صلی الله علیه و آله وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ المُتكَلِّفِينَ) وَإِن قُرَيْشاً أَبْطَلُوا عَنْ الإِسْلامِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله وسلم، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعِ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وَأَكَلُوا الْمُتَةَ وَالْعِظَامَ وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ»، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا محمّد جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ الله، فَقَرَأَ - أي ابن مسعود -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ - إلى قَوْلِهِ - عَائِدُونَ)؛ أفَيُكْشَفُ عَنْهُمْ

ص: 308

عَذَابُ الآخِرَةِ إِذا جَاءَ ثمّ عَادُوا إلى كُفْرِهِمْ...»(1) الحديث.

وفي ذلك روايات أخرى أيضاً ولم أجد ذلك عن طرقنا إلا ما رواه مرسلاً ابن شهر آشوب في المناقب كمعجزة للرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وهذا الاحتمال بعيد جدّاً من جهة أنّ الآية صريحة في أنّه دخان تأتي به السماء، وأنّه دخان ،مبين أي واضح، فحمله على هذا المعنى المجازي تأويل بعيد جدّاً.

القول الثاني: ما ذهب إليه جمع آخر من أنّ ذلك من أشراط الساعة، وفي ذلك أيضاً عدة روايات من الفريقين، فقد روى الشيخ الطوسي رحمه الله في كتاب «الغيبة» بسنده عن عامر بن واثلة عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: قال رسول صلی الله علیه و آله وسلم عشر قبل الساعة لا بدّ منها : السفياني والدجال والدخان والدابّة وخروج القائم علیه السلام وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى علیه السلام وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر».(2)

وروت العامّة عدّة أحاديث بمضمون مقارب مع اختلاف في عدّ الأشراط وبعضها عن أبي الطفيل وهو عامر بن واثلة المذكور، ولكنّه عندهم يروي الحديث عن حذيفة بن أسيد. وعلى هذا الاحتمال يبقى الدخان بمعناه الحقيقي.

القول الثالث: أنّه إشارة إلى عذاب يوم القيامة، والدخان يبقى على هذا الاحتمال أيضاً بمعناه الحقيقي.

ويردّ هذين القولين قوله تعالى: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَاب)؛ فإنّ عذاب يوم

ص: 309


1- تفسير البغوي ٤: 17٥؛ صحيح البخاري، باب فلا يربو عند الله،ح4401.
2- الغيبة (الطوسي): ٤٣٦

القيامة وكذا ما يتقدّمه من الأشراط لا يكشف عن الناس، كما حكى ذلك ع_ن عبدالله بن مسعود في حديث البخاري الآنف الذكر.

مضافاً إلى أنّ ظاهر الآية، بل صريحها أنّ هذا العذاب يصيب مشركي مكّة خصوصاً بملاحظة قوله تعالى: (أَنَّى هُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)،(1) وهذا لا يشمل من تقوم عليهم الساعة، فلا يمكن أن يكون من أشراطها.

والذي يخطر بالبال احتمال أن يكون المقصود من الآيات تصوير حالتهم إذا نزل عليهم ،العذاب وأنّهم كيف يتعاملون معه؟ وكيف يلجأون إلى الله تعالى، ويدعون بكشف العذاب عنهم ويعدون بالإيمان؟ ثمّ يؤكّد أنّهم لا يمكن أن يتذكّروا ويؤمنوا حتّى بعد رؤية العذاب؛ لأنّ عدم إيمانهم بالرسالة لم يكن بسبب قصور في الحجّة، وإنّما قابلوها بالتكذيب لمرض في قلوبهم، فلو كشف العذاب عنهم لعادوا إلى شركهم.

والحاصل أنّ الآيات وإن أوهمت تحقّق العذاب إلا أنّه يحتمل فيها أن يكون المقصود التهديد باحتمال تحقّقه باعتبار أنّهم يستحقّونه. فقوله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) يمكن أن يكون المراد به توقّع ذلك وليس وعداً بتحقّقه جزماً.

ومثل ذلك يمكن أن يقال في موارد أخرى من الآيات المتضمّنة لعذاب الدنيا ونزوله على مشركي مكّة، كقوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ *

ص: 310


1- الدخان (٤٤): ١٣ - ١٤ .

أفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثمّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَا مُنْذِرُونَ).(1) فالمتبادر من هذه الآيات أيضاً أنّهم سيرون العذاب الأليم، وأنّه ينزل عليهم بغتة وهم لا يشعرون، وأنّهم يطالبون بالإمهال أيضاً. وقد فُسّرت الآيات بما نزل عليهم يوم بدر وهو غير صحيح؛ لأنّه لم يكن مفاجئاً، فلا ينطبق عليه قوله تعالى: (فَيَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

وقيل: إنّ ضربهم بالسيف مفاجأة وهو كلام غريب، فإنّ المقاتل يوطن نفسه على القتل حينما يدخل المعركة، فليس فيه مفاجأة. وأوضح منه أنّهم حسب هذه الآية لا يشعرون به قبل نزوله، ومن الواضح أنّه لا يصدق على الحرب التي تهيّأوا لها.

فلا يبعد أن يكون المراد بهذه الآيات استحقاقهم لعذاب الاستئصال واحتمال نزوله عليهم لوجود المقتضي من دون أن يشير إلى وجود المانع ليبقى الخوف والحذر. وليس في سياق الآيات تصريح بوقوع العذاب.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخْرْنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ تُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبع الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ).(2)

وقد حمله القوم على عذاب يوم القيامة لسبق ذكره، مع أنّ السياق مختلف. وهذا إنذار بعذاب الاستئصال كما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله والدليل عليه

ص: 311


1- الشعراء (٢٦): ٢٠١ - ٢٠٨
2- إبراهيم (١٤): ٤٤ - ٤٥

طلبهم تأخير العذاب إلى أجل قريب وهم لا يطلبون ذلك يوم القيامة - كما هو واضح - وإنّما يطلبون هناك الرجوع إلى الدنيا، كما في آيات عديدة، وإنّما حملوه على عذاب يوم القيامة؛ لأنّ الظاهر من الآيات الإنذار بعذاب مؤكّد مع أنّه لم يقع، وحيث تبين أنّه لا يصحّ حمله على ما ذكروه، فلا بدّ من حمله على ما ذكرناه من أنّه تهديد بالوقوع، وبأنّهم يستحقّونه وتصوير لحالتهم إذا وقع، ومن أجل هذا التصوير يفرض العذاب واقعاً وليست صريحة في الوقوع.

وكذا قوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَتَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إذا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).(1)

فهذه الآيات تدلّ على أنّ هناك عذاباً نازلاً عليهم من قبل ولكنّهم لم ينتبهوا. ولعلّ المراد به الجدب المذكور في الأخبار، ولكنّه يهددهم بعذاب شديد يبلسون فيه، أي ييأسون. وظاهر الآية أنّه سينزل، ولكنّه لم ينزل على أهل مكّة المعاندين، والسياق واضح في أنّهم هم المراد بالآيات، كما أنّه هددهم بقوله تعالى: (فَإِنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)،(2) ولكنّ الصاعقة ما أتتهم مع أنّهم أعرضوا ، ولقد صرّح بعدم الإنزال في قوله تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؛(3) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالعذاب الأكبر عذاب الاستئصال، كما ذكره العلامة رحمه الله.

وممّا هو كالصريح فيما ذكرنا قوله تعالى: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوب

ص: 312


1- المؤمنون (23): ٧٤ - ٧٧
2- فصلت (٤١): ١٣.
3- السجدة (32): 21

أصْحَابهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)،(1) فإنّ الآيتين ورد تا بعد ذكر ما نزل بالأمم السالفة من العذاب، والمراد بالذين ظلموا مشركو مكّة.

و«الذنوب»: النصيب والآية تصرّح بأنّ لهم نصيباً من العذاب كنصيب أصحابهم ، والمراد بهم الأمم السالفة، بل يصرّح في الآية التالية بأنّ لهم يوماً موعوداً وويل لهم من ذلك اليوم. والمفسرون حملوه على ما لحق بهم يوم بدر، ولكنّه ليس كذنوب أصحابهم ولم يعمّ العذاب كلّ الظالمين منهم، فلا يبعد في كلّ ذلك وغيرها أن يقال: إنّ الظاهر غير مراد، وإنّما اُريد التهديد بالعذاب لاستحقاقهم ذلك.

والحاصل أنّ ما ورد بشأن نزول العذاب على مشركي مكّة من الآيات بعضها خاصّ بعذاب الآخرة وبعضها يمكن حمله على ما أصابهم يوم بدر، وبعضها لا يمكن حمله على شيء منهما، بل يبدو أنّ المراد بها عذاب الاستئصال، فإن لم يمكن حمل الآيات على إرادة قوم آخرين غير مشركي مكّة _ كما حاول بعض

المفسّرين - فلا بدّ من حملها على ما ذكرناه

ص: 313


1- الذاريات :(٥١): ٥٩ - ٦٠ .

سورة الدخان (17-24)

* وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمُ(17) أَنْ أَذُوا إِلَى عِبَادَ اللهِ إِنّى لَكُمْ رَسُولُ أَمِينٌ(18) وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِني وَاتِيكُم بِسُلْطَنٍ مُّبِينٍ(19)وَإِنِّي عُذْتُ بِرَتِي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ(20) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ(21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ(22) فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ (23)وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ(24)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) الآيات مستمرّة في مخاطبة طواغيت قريش، وهنا يستشهد بقوم طغاة قبلهم لم يؤمنوا أيضاً برسولهم، بالرغم من وضوح آياته وبراهينه ففوّض الله كيانهم وهدم بنيانهم، وإنّما يستشهد بهم ليعتبر المخاطبون بهم. ولعلّ وجه اختيار فرعون وقومه أنّ المخاطبين كانوا على علم بقصّتهم لكثرة علماء بني إسرائيل بين ظهرانيهم، وأنّ قوم فرعون كانوا أقوى منهم بكثير وأطغى، ومع ذلك أهلكهم الله تعالى، فلا يغترّ هؤلاء بكثرتهم وقوّتهم.

و«الفتنة» أصلها الإحراق _ على ما حكي عن الخليل رحمه الله(1) _ وقد استعملت بهذا المعنى في قوله تعالى: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)،(2) ثمّ استعملت في إذابة الذهب بالنار لتخليصه من الشوائب أو لمعرفة جودته. وبمناسبة هذا المعنى استعملت في ما يمتحن به الإنسان، فيظهر به جوهره وقابلياته أو يخلص ممّا لا ينبغي أن يتّصف به. وقيل: إنّها في الأصل بمعنى إذابة الذهب، ثمّ استعملت في الإحراق.

ومهما كان فالمراد بها هنا امتحان الإنسان وابتلاؤه ليظهر جوهره ولتتكوّن

ص: 314


1- راجع: معجم مقاييس اللغة ٤: ٤٧٣.
2- الذاريات (٥١): ١٣

شخصيته وكلّ ما في هذه الحياة من عسر ويسر يفتتن به الإنسان ويبتلى، كما قال :تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةٌ)(1) وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً هَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(2) وقد ابتلي قوم فرعون وهم أقباط مصر بالأمرين، فق_د آتاهم الله من النعم والقوّة والمال ما تمكّنوا بها من بسط سلطتهم على أقوام آخرين واستعبادهم ومنهم بنو إسرائيل، ومن جهة اُخرى ابتلاهم الله بعد أن بعث إليهم موسى علیه السلام بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فكان كلّ منها عذاباً مريراً ولكنّهم لم يتنبهوا بها.

(وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)، أي موسى علیه السلام و «الكريم» كلّ ما شرف من الإنسان وغيره، فيقال: حجر كريم ونبات كريم، قال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).(3)

وموسى علیه السلام كان شريفاً بالذات في قومه، ثمّ تربّى وترعرع في قصر فرعون، ثمّ أظهر قوّته وشكيمته ومروءته في الدفاع عن قومه بالبطش بالعدو القبطي فقتله، ثمّ تسنّم إلى أعلى ما يمكن أن يصل إليه البشر، حيث اختاره الله للرسالة وأظهر على يده أعجب المعجزات، فكان الجدير بالقوم أن يؤمنوا به ويطيعوه، ولكن فرعون الذي يدّعي الربوبية والألوهية استنكف أن يتنازل عن عرشه لمن تربّى تحت يده وجرت عليه نعمته، ثمّ هو من قوم استعبدهم!! وحيث لا يمكن أن ينصاع فرعون لرسالته، مع أنّه كان عالماً بصدقه في دعواه لقوله تعالى: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً)(4)

ص: 315


1- الأنبياء (21): 35
2- الكهف (18): 7
3- لقمان (31): 10.
4- الإسراء :(17): 102

بادر إلى تضليل ،قومه كما هو شأن سائر الطواغيت.

( أنْ أدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أمِينٌ)، «أن» تفسيرية وتفسّر الرسالة التي دلّ عليها قوله: (رَسُولٌ كَرِيمٌ). و«الأداء» دفع الحقّ، كأداء الأمانة. وفي هذه الجملة احتمالان:

الأوّل: أنّ عباد الله مفعول أدّوا، أي اتركوهم معي لأذهب بهم حيث يشاؤون. والمراد بهم بنو إسرائيل، والتعبير عنهم بعباد الله ردّ على مزاعمهم أنّهم عبيد لهم.

والثاني: أنّ عباد الله ،منادى، أي يا عباد الله أدوا إليّ الحقّ الذي يجب أن يؤدى إلى الرسل من الإيمان والطاعة والمتابعة والأوّل أقرب.

والجملة التالية تعليلية على الاحتمالين أي اتركوا عباد الله، لأنّ هذا أمر من الله تعالى وأنا رسوله إليكم وأنا أمين في أداء الرسالة، والتعليل على الاحتمال الثاني واضح.

(وَأنْ لا تَعْلُوا عَلَى الله إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) تأكيد على أنّ الأمر من الله تعالى وأنه مجرّد رسول يبلغهم رسالة السماء، فلا تترفّعوا على أمر الله تعالى وأطيعوه. والجملة التالية تتضمّن تهديداً واضحاً، فإنّ المراد بالسلطان البرهان والدليل الواضح الموجب لتسلّط صاحبه على غيره، وهو الثعبان وإخراج اليد بيضاء وما تعقبهما من الآيات التي أوقعتهم في حرج شديد.

والحاصل أنّه هدّدهم بأنّهم إذا لم يطيعوا أمر ربّهم، فسينزل عليهم أنواع من العذاب وقوله : (آتِيكُمْ) إمّا فعل مضارع أو اسم فاعل من أتى.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أنْ تَرْجُمُونِ) الظاهر أنبه إنشاء للاستعاذة، أي إنّي أعوذ

ص: 316

بربّي وربّكم أن ترجمون؛ والتأكيد على أنّ الذي يعوذ ب_ه ه_و ربّه وربّهم أيضاً يشتمل على ترغيب وترهيب، فهو يعوذ به لأنّه ربّه، ومن شأن الربّ أن يحفظ المربوب خصوصاً إذا كان رسولاً له. وأيضاً يعوذ به لأنّه ربّهم ومن شأنه أن يعاقبهم إذا ارتكبوا ما لا يرضى به.

و«الرجم» هو الرمي بالحجارة، وهو ممّا كانوا يفعلونه بمن يريدون طرده باحتقار، ولذلك ربّما يطلق على نفس الطرد، وبهذا المعنى اُطلق الرجيم على الشيطان.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله فسّر الاستعاذة هنا بأنّه إخبار عن استعاذته سابقاً وإعلام لهم بأنّ الله تعالى أعاذه من شرّهم،(1) حيث جاءه الخطاب: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)؛(2) ولعلّه إنّما قال ذلك؛ لأنّه فعل ماض ولأنه لا ينبغي له أن يستعيذ بعد أن أعاده الله.

ولكنّ الفعل الماضي يستعمل في الإنشاء كما قلنا، والاستعاذة يمكن أن تكون من أجلهم لا من أجله، فمعنى كلامه علیه السلام أنّه يستعيذ بالله من أن يرتكبوا ذلك، فينالهم عذابه وغضبه. (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لي (فَاعْتَزِلُونِ) وهذا يؤيّد ما ذكرناه أنّه في الجملة السابقة يخاف عليهم من أن يرجموه ، وهنا يحذّرهم من أن ينالوا منه فينالهم سخط من الله، فيطلب منهم أن يعتزلوه إن لم يؤمنوا له ولم يصدّقوه إرفاقاً بهم، كما هو شأن الرسل علیه السلام. والكسرة في النون في قوله: (فَاعْتَزِلُونِ) للدلالة على الياء المحذوفة؛ أي فاعتزلوني.

ص: 317


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 :139
2- طه (٢٠): ٤٦

و«الإيمان بمعنى التصديق، وهو يتعدى بالباء تارة وباللام أخرى، والظاهر أنّه إذا تعدّى بالباء فمعناه التصديق بوجوده أو بمقامه كالإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر، فهو تصديق بوجود الله و بربوبيته وبرسالة الرسول وبوجود اليوم الآخر، وإذا تعدّى باللام فهو بمعنى تصديق كلامه، فمعنى قوله: (إنْ لَمْ تُؤْمِنُوالي)، أي إن لم تصدّقوا كلامي وما أدّعيه.

ويدلّ على ما مرّ من الفرق قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)،(1) فإيمانه صلی الله علیه و آله وسلم بالله تعالى تصديق بذاته وصفاته وربوبيته. وإيمانه للمؤمنين بمعنى تصديقه لكلامهم. ومن هنا قالوا له: إنّه أذن، أي يصدق كلّ ما يقال له في قصّة معروفة بينه صلی الله علیه و آله وسلم وبين بعض المنافقين.

(فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ)، الفاء تدلّ على تقدير جزء من القصّة يناسب ترتّب الدعاء عليه، إذ لا يترتّب على ما حكي عنه علیه السلام في الآيات السابقة والمقدّر أنّهم أجرموا واستمرّوا في استعبادهم للمؤمنين وقتل أولادهم واستحياء نسائهم، وكأنّ ما وجدوه من صبر موسى علیه السلام في مواجهة طغيانهم هو الذي دعاهم إلى التمادي في إجرامهم، حتّى أنّهم كلّما نزل عليهم العذاب جاءوا إليه وطلبوا منه أن يدعو ربّه ليكشف عنهم العذاب، فكان يدعو ويكشف عنهم العذاب، ثمّ يعودون إلى كفرهم وعنادهم. وأخيراً طفح الكيل وانتهى صبر موسى علیه السلام فدعا عليهم.

قوله: (أنّ هؤلاء) مأوّل بالمصدر، فلا بدّ من تقدير حرف الباء ليتعلّق بقوله

ص: 318


1- التوبة (٩): ٦١

«دعا»، والمعنى فدعا ربّه عليهم بأنّ هؤلاء قوم مجرمون، أي دعا بهذا الدعاء. ومثله قوله تعالى: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ).(1) ولم يذكر ما دعا به عليهم وكأنه علیه السلام اكتفى بالقول إنّهم مجرمون، وهو السبب في الدعاء عليهم، والظاهر أنّ المطلوب أن ينالوا جزاء المجرمين. وقد ذكرنا مراراً أنّ الإجرام بمعنى القطع وأنّ الإجرام في المجتمع لا يطلق على كلّ عمل مخالف للقانون أو العرف، وإنّما يطلق على الأعمال الفظيعة التي تستوجب قطع أواصر العلاقة بالمجتمع كالقتل، وإذا اعتبر الإنسان في الدين مجرماً فلعلّه من جهة قطع علاقة العبودية والربوبية بينه وبين الله تعالى. ولا شكّ أنّ جزاءه عذاب شديد.

(فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ). التعبير كلّه مبني علي الاختصار، فحذف ك_لّ ما يدلّ عليه الكلام وما يقتضيه المقام. والمقدّر هنا: «قلنا فأسر...» والفاء للتفريع؛ أي إن كان كذلك فأسر. و «الإسراء» السير ليلاً، فقوله: (لَيْلاً) للتأكيد على أن لا يخرجوا نهاراً. وعباد الله بنو إسرائيل، وعلّله بأنّهم متّبعون، فليكن السير ليلاً حتّى تكون لهم فرصة الفرار، وأمّا النهار فلا يمكن فيه خروج جمع عظيم من البلد بدون موافقة الحكّام.

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ) اختلف اللغويون وأهل التفسير في معنى الرهو، فقيل: إنّه بمعنى الساكن والمراد اتركه كما هو ولا تضربه بعصاك ليعود كما كان. وقيل: إنّ السكون صفة لموسى علیه السلام بالنسبة إلى البحر، أي لا تحدث حركة، بل اتركه بحاله. وقيل: إنّه بمعنى الطريق المنفرج. وقيل: كلّ منخفض بين مرتفعين. وقيل: الطريق الواسع ومهما كان فالمراد واضح وهو نهيه عن تغيير حالة البحر.

ص: 319


1- القمر (٥٤): 10

واختصر الكلام هنا، فلم يذكر قصّة ذهابهم وتحيّرهم أمام البحر، وقول موسی علیه السلام (الكَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)،(1) ونزول الوحي عليه أن اضرب بعصاك البحر وانفلاقه بحيث كان كلّ فرق كالطود العظيم وتجاوزهم ووصولهم إلى الساحل. واكتفى هنا بالإشارة إلى أنّه وجد أمامه طريقاً في البحر يبساً، فسلكه وبعد اختصار كلّ ذلك ذكر الأمر النازل عليه بما معناه: «واترك البحر خلفك ساكناً أو منفرجاً» ليغرق فرعون وقومه. ولم يرد ذكر هذا الأمر في غير هذا المورد من موارد نقل قصته علیه السلام.

(إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) تعليل للحكم السابق بأنّ البحر يجب أن يبقى بحاله ليدخله فرعون وقومه؛ لأنّهم جند مغرقون أي أراد الله تعالى إغراقهم. وتوصيفهم بأنّهم جند للإشارة إلى أنّهم بأجمعهم مغرقون.

ص: 320


1- الشعراء (٢٦): ٦٢.

سورة الدخان (٢٥- ٣٣)

كُمْ تَرَكُوا مِن جَنَّتٍ وَعُيُونٍ(25)وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26)وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَيكِهِينَ(27)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ(28)فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29) وَلَقَدْ نَجَيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ(30)مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ(31)وَلَقَدِ اخْتَرْتَهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَاتَيْنتهُم مِّنَ الاَيَتِ مَا فِيهِ بَلَتَوا مُّبِين(33)

(كُمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ)، «كم استفهام للتعجيب من الكثرة، أي ما أكثر ما تركوا وراءهم من جنّات وعيون وزروع. وفي الكلام اختصار عن كلّ ما حدث، فإنّ التعبير بأنّهم تركوا يدلّ على أنّهم أغرقوا وماتوا وبقي ما كانوا يتنعّمون به. وفي بيان كثرة ما ترك_وا م_ن ن_ع_م مزيد من الاعتبار، وتنبيه للمخاطبين بأنّ من سبقكم كانوا في أحسن عيش وأوفر نعمة وسلبت منهم لكفرهم وطغيانهم، فلا يغرّنّكم بأسكم وأموالكم.

و«المقام»: موضع الإقامة، أي المسكن. والمقام الكريم، أي الممتاز الذي له شرف ورفعة من بين المساكن، فبلادهم كانت من أحسن البلدان وبيوتهم كانت من أحسن البيوت، وكانوا يقيمون في بلاد متحضّرة وقصور فخمة وفي رفاهية من العيش. ويمكن إرادة المقام المعنوي بمعنى كونهم موضع احترام وتقدير بين سائر المجتمعات البشرية في ذلك العصر.

و «النعمة» - بالفتح - مصدر بمعنى التنعّم - وبالكسر _ م_ا يت_نعّم ب_ه. والإتيان بالمصدر أبلغ في بيان وفور النعمة. والتعبير بأنّهم كانوا فيها للدلالة على كونهم مغمورين بالنعمة محاطين بها.

ص: 321

و«فاكهين» أي ناعمين متلذّذين بالنعمة معجبين بها.

(كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ)، «كذلك»، أي كان الأمر كذلك. وهذا التعبير يؤتى به للتأكيد على أنّ ما ذكر هو الواقع، ولعلّ الغالب فيه ما يستغرب وقوعه؛ فيؤكد بمثل هذا التعبير.

وأورثنا تلك النعم قوماً آخرين وهم بنو إسرائيل، لقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزِ وَمَقَام كَرِيم كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيل)(1) والإرث كلّ ما يصل إليك من غيرك من غير معاملة - كما في «المفردات»(2) _ أو كلّ ما يصل إلى قوم من قوم سابقين من مال ومجد.

ولا شكّ أنّ المراد ليس رجوع بني إسرائيل في نفس الوقت إلى مصر واستيلائهم على موروث الفراعنة، فإنّ ذلك مخالف لقوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ هُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهَا كَمَا هُمْ آلِةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(3) وكذا ما يتبيّن من ملاحظة سائر الآيات الواردة في قصة بني إسرائيل، كما أنّ التأريخ وما ورد في التوراة أيضاً يخالفه.

وقال بعضهم: إنّ مخالفة الظاهر تختصّ بآية الشعراء، ولا بدّ من تأويلها، وأمّا هذه الآية، فالمراد بالقوم الآخرين ملك القبط الذي استولى على العرش بعد فرعون وهو بعيد؛ لأنّ انتقال الممتلكات إلى الورثة أمر طبيعي لا موجب للتنبيه عليه، كأمر يدعو إلى الاعتبار وإنّما العبرة بانتقالها إلى المستضعفين في ذلك العصر، وهو ما وعد الله به بني إسرائيل في قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ

ص: 322


1- الشعراء (٢٦): ٥٧ - ٥٩
2- مفردات ألفاظ القرآن: ٨٦٣
3- الأعراف (7): 138

اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).(1) وقال تعالى في الوفاء بوعده: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).(2)

ويمكن أن يقال: إنّ المراد تسلّطهم على تلك المناطق ولو بعد زمان طويل، حيث تسلّط عليها سليمان علیه السلام وإيراث الأرض في التعبير القرآني لا يعني أنّ نفس القوم بأعيانهم يرثون تلك الأرض، بل حتّى لو ورثتهم الأجيال المتأخّرة منهم يطلق عليها أنّهم ورثوه. ولا شكّ أنّ بني إسرائيل ما كانوا مؤهلين في تلك الحقبة لوراثة الأرض، بل كان لا بدّ من تربيتهم ليتأهّلوا لحمل الرسالة الإلهية، ولنشر العدل وسلطة الشريعة والرسالة على البشر، فهم كانوا مستعبدين في مصر قروناً ولم يمتلكوا نفسيات مساعدة تؤهلهم لهذا الأمر الخطير، ولذلك أخذهم موسی علیه السلام إلى أماكن بعيدة عن مواطن تلك الذكريات المرة ليستعيدوا مقتضيات الفطرة البشرية من طلب الحرّية والاستقلال إلى أن بلغوا في أجيال متأخّرة ما أراد الله تعالى لهم من وراثة مشارق الأرض ومغاربها بما صبروا.

(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ ) إكمال لتنبيه القوم كي يعتبروا ب_م_ا م_رّ عل_ى فرعون وملئه، حيث إنّهم على كلّ ما وصلوا إليه من تقدّم حضاري وسلطة وقوّة، أهلكهم الله تعالى فلم تبكهم السماء ولا الأرض، وعدم بكاء السماء والأرض كناية عن أنّهم هلكوا كهلاك غيرهم من الأقوام، فلم يتأثّر الكون من هلاكهم

ص: 323


1- القصص (28): ٥
2- الأعراف (7): 137.

ولا أخلّ ذلك بنظام المجتمع البشري، وهذا احتقار لهم بعد تلك العظمة، كقوله تعالى: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا تَخَافُ عُقْبَاهَا)(1) ومن الملفت للنظر أنّ الله تعالى أبقى على رفات فرعون ليكون آية لمن خلفه وعبرة لمن يعتبر، وليعلم الناس أنّه لو كان إلهاً - كما زعموا - لم يذق هذا الذلّ والهوان.

(وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)؛ «الإنظار»: الإمهال . أي لم يمهلهم الله تعالى بعد أن قضى عليهم بالهلاك، فغشيهم العذاب فجأة، مع أنّه أمهلهم قبل ذلك زماناً طويلاً وكرّر عليهم الآيات. وفي الآية إشارة إلى إظهار فرعون للإيمان بعد أن أحسّ بالنهاية المؤلمة حين الغرق، فلم يمهله الله تعالى كما قال (حَتَّى إذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ).(2)

(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) تسلية وتطييب خاطر للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وللمؤمنين، مع أنّهم لم يصابوا بمثل ما أصاب بني إسرائيل من العذاب المهين، حيث كان فرعون وقومه يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم، كما قال تعالى: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءُ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(3) ومع أنّ طواغيت مكّة لم يبلغوا تلك السلطة التي بلغها فرعون، حيث قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)،(4) فإذا لم يمهل الله فرعون وقومه، ونجّا بني إسرائيل على غاية ضعفهم وهوانهم، حيث كانوا عبيداً للأقباط، فالأمر بالنسبة للمؤمنين في مكّة أهون

ص: 324


1- الشمس (91): ١٤ - ١٥
2- یونس (10): 90 - 91
3- البقرة (٢) :٤٩
4- النازعات (٧٩): ٢٤

وهكذا أراد الله تعالى أن يبعث فيهم الطمأنينة.

والمراد بكون فرعون عالياً أنّه كان متعالياً ومتكبّراً يستعبد الناس ويذلّهم، كما قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الأَرْضِ)(1) وكان من المسرفين، أي الذين تجاوزوا الحدّ المتعارف من الطغيان، فالطغاة كثيرون ولكن هناك حدّ لا يتجاوزونه غالباً، وتجاوزه فرعون كما تجاوزه بعض فراعنة عصرنا إلى أن سلّط الله عليه أولياءه فأذلّوه وأذاقوه الهوان والحمد لله ربّ العالمين.

(وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). الضمير يعود لبني إسرائيل، والله تعالى اختارهم على العالمين في ذلك العهد، حيث ولاهم السلطة والقدرة وتمكّنوا من السيطرة على مناطق من الأرض إلى أن تجبّروا وطغوا، فأهلكهم الله تعالى على

يد بعض عباده، كما ورد في سورة الإسراء، ويقال: إنّه يدعى «نبوخذ نصر».

أو اختارهم على العالمين جميعاً، حيث جعل منهم الأنبياء وأرسلهم إلى شتّى بقاع الأرض، وهذه نعمة عظيمة، بل هو أعظم النعم اختصّ الله به هذا القوم لما كان فيهم من خصال حميدة، فإنّ النبوة والرسالة لا تكون إلا في أرضية صالحة لمقام العصمة، وهي نادرة جدّاً. وفي هذا القوم كثرت هذه الأرضية الخصبة الجلالة قدر أجدادهم يعقوب وإسحاق وإبراهيم علیه السلام.

وقوله تعالى: (عَلَى عِلْمٍ)، أي لم يكن الاختيار جزافاً _ تعالى الله عن ذالک _ وإنّما اختارهم لعلمه تعالى بصلاحيتهم لذلك، وهكذا كلّ ما يختاره الله تعالى. وليس معنى ذلك أنّ كلّ من يتسنّم عرش السلطة، فقد اختاره الله كما يتوهّم _ تعالى الله عن ذلك أيضاً - بل من يختاره الله تعالى للنبوة والإمامة، فإنّما يختار

ص: 325


1- القصص (٢٨): ٤.

لعلمه بكونه صالحاً لتحمل المسؤولية الكبرى.

وهناك من يقول: إنّ كثرة الأنبياء فيهم لا تدلّ على ميزة وصلاحية، بل السبب فيه شيوع المفاسد فيهم فاحتيج إلى كثرة الأنبياء.

وهذا كلام فاسد؛ فإنّ الأنبياء لا يبعثهم الله تعالى إلا مع العصمة، ولا بدّ من صلاحية البشر لذلك. وفي القرآن آيات كثيرة تدلّ على أنّ الله فضّلهم على العالمين، ولا ينافي ذلك وجود جماعة كبيرة منهم يفسدون في الأرض ويقتلون النبيّين.

(وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءُ مُبِينٌ). من الواضح أنّ الله تعالى ميّز هذا القوم بكثرة ما ظهر بينهم من المعجزات والآيات وفي ذلك بلاء مبين وامتحان واضح، فإنّ كثرة الآيات يقطع العذر ويكمل الحجّة عليهم، فكثرة الآيات _ من جهة _ نعمة عظيمة يزيد في إيمان الناس، ولكنّها من جهة أخرى بلاء وامتحان، كما أنّ كلّ النعم الإلهية بلاء وامتحان، وكثر في بني إسرائيل من لم يخرج من الامتحان فائزاً فسلط الله عليهم من أذاقهم الذلّ مرّة أخرى.

ص: 326

سورة الدخان (٣٤ - ٤٢)

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ(34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35)فَأْتُوا بِمَابَابِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (36)أَهُمْ خَيْرُ أَمْ قَوْمُ تُبْعِ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَعِبِينَ(38) مَا خَلَقْتَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَوْلَى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41)إِلَّا مَن رّحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

(إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ)، يعود السياق إلى الحديث السابق عن مشركي قريش، فالإشارة في قوله: (هَؤُلاء) إلى المشركين والتعبير عنهم بذلك لا يخلو من احتقار.

و«هي» ضمير القصة» أي لا يواجهنا في نهاية هذه الحياة إلا موتة واحدة وليس بعدها حياة.

و«الإنشار» بمعنى النشر، وهو في الأصل بمعنى البسط، ويكنّى به عن إحياء الموتى. والغرض التنديد بإنكارهم ليوم المعاد، فإنّ الوثنية لا تعترف بعالم آخر بعد هذه الحياة، كما هو الحال في كفرة هذا العصر. وهذا منهم مجرّد استبعاد؛ إذ لا يملك أحد دليلاً على نفيه.

وقد وقع الكلام في التعبير الوارد في هذه الآية إذ ربّما يقال: إنّ الأنسب أن يقولوا: إن هي إلا حياتنا الأولى أو الدنيا، كما في موضع آخر، وأمّا موتتن_ا الأولى، فإنّه لا يناسب للردّ على من يدّعي حياة اُخرى.

وذكروا وجوهاً في توجيه العبارة، والأقرب ما ذكره ابن منير في حاشية

ص: 327

«الكشّاف» أنّ التوصيف بالأولى في مقابل الحياة الأخرى لا في مقابل الموتة الثانية، ومعنى ذلك أنّهم ينكرون أن يكون بعد هذه الموتة أيّ شيء من الحياة أو الموت، ولكن حيث وُعدوا على لسان الرسل أنّ بعد الموت حياة، فهنا أمران: أمر قطعي محسوس وهو الموت، وأمر موعود يعتبر عندهم موهوماً ومرفوضاً وهو الحياة بعد الموت، فيقولون هنا لا يوجد شيء إلا الأمر الأوّل وهو الموت، فتوصيف الموتة بالأولى باعتبار أنّ الحياة الموعودة أمر ثانٍ.(1)

(فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ). هذه حجّة متكرّرة طالما تمسّك بها المنكرون للمعاد، وهي المطالبة بالآباء السابقين، وأنّه لو كانت هناك حياة بعد الموت، فلماذا لا يرجعون؟! ومنهم من يستبعد إحياء كلّ هذه الملايين الغابرة والاحتفاظ بهم في عالم آخر، فأين هم الآن؟! وكيف يعودون؟! وكيف تدبّ الحياة في هذه العظام النخرة التي أصبحت تراباً، بل عادت وأصبحت بشراً أو حيواناً أو نباتاً، ثمّ عادت تراباً وهكذا الدائرة غير المنتهية ؟! والجواب عن كلّ ذلك أنّ الله على كلّ شيء قدير، وهو الذي خلقهم أوّل مرّة، والإعادة أهون في حدّ ذاتها.

(أَهُمْ خَيْرٌ أم قَوْمُ تُبعِ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الآية الكريمة تهوّن من شأنهم في أعينهم، فإنّهم كانوا يتصوّرون أنّ لهم شأناً بين الناس، فكذلك أمام الله تعالى فلا ينزل عليهم العذاب. والآية تنبّههم أنّ الله تعالى أهلك من هو أعظم منهم شأناً حتّى في أعينهم، وهم قوم تبّع، حيث يقال: إنّهم فتحوا البلاد العظيمة وتسلّطوا على كلّ المنطقة، وكذا من كان قبلهم من الأقوام الذين

ص: 328


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٧٩

بنوا حضارات وأسّسوا دولاً، وقد أهلكهم الله جميعاً وأبادهم ولم يبق منهم إلا اسم في التأريخ، وآثار من مساكنهم ليعتبر من بعدهم. وقوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) بيان لسبب الإهلاك. فمن أجرم فلينتظر نفس العاقبة. وقد مرّ الكلام في معنى الإجرام في تفسير الآية (فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ).(1)

و«تُبَّع» من ملوك اليمن ويسمّون التبابعة، والظاهر أن المراد به ملك خاصّ من بينهم ، ولعلّه من ذكر في التأريخ باسم أسعد أو سعد أبو كرب، وقد ورد ذكره في روايات كثيرة،(2) وأنّه ممّن بشِّر أهل المدينة في عصره بظهور الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بينهم، وأنّه أمرهم وأمر أولاده بمتابعته ونصرته، وحكي عنه أنّه تمنّى أن يكون في عصره ليخدمه، وروي عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهى عن سبه؛ لأنّه أسلم، وروي أنّه أوّل من كسى الكعبة المشرّفة. ولعلّه لذلك لم يرد في الآية تُبع وقومه، بل قوم تُبع وورد ذكرهم في سورة «ق» أيضاً هكذا.

والآية توسّطت بين إنكار المشركين للمعاد والجواب عنه، ولكن لا ترتبط بنفس الموضوع والظاهر أنّ الغرض منها التعجيل في التنديد بالمكابرة التي أعلنوا عنها بطلبهم إحياء الآباء وتهديدهم بعذاب الاستئصال الذي أصاب المجرمين قبلهم.

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) المراد بالسماوات _ كما قلنا مراراً _ عالم ماوراء الطبيعة، وبالأرض عالم الطبيعة، ولعلّه لذلك اعتبرهما شيئين، فأتى بضمير التثنية لما بينهما مع أنّ السماوات جمع، ولا حاجة إلى تأويل

ص: 329


1- تقدّم في الصفحة 321
2- راجع: بحار الأنوار ١٤: ٥١٣ ، الباب 33

أنّ المراد جنس السماوات، بل هو غير صحيح، ولا أظنّ القائل مقتنعاً به، ومهما كان فالمراد بالتعبير الكون كلّه وحتّى لا يشذّ شيء ذكر ما بينهما، ولعلّ المراد الملائكة كما مرّ في نظيره.

والذي يلاحظ الكون بكلّ أجزائه الصغيرة والكبيرة يجد نظاماً عجيباً متناسقاً، فهذا يدلّ بوضوح أنّ له صانعاً حكيماً وأنّ أجزاء الكون لم تترابط بالصدفة وم_ن دون تنسيق، ويتبيّن بوضوح أيضاً أنّ الصانع الحكيم لم يخلق هذا النظام عبثاً ولعباً، بل هناك هدف وغرض تسير نحوه كلّ أجزاء الكون متناسقة متكاتفة. ومن الطبيعي أنّه يجب في مثل هذا النظام المتكامل أن يقع كلّ شيء موقعه، ونجد أنّ كلّ شيء في الطبيعة واقع موقعه إلا ما دخلت في_ه ي_د الإنسان الذي جعله الله حرّاً طليقاً، فأفسد في الأرض، كما قالت الملائكة قبل خلق البشر: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)(1) وكما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس ).(2)

والإنسان بنفسه لم يوضع موضعه، فهناك كثير من المجرمين يصعدون مدارج الحكم ويتسلّطون على رقاب الناس ويهلكون الحرث والنسل، بل يبقى الفساد بعدهم وبسببهم سنّة جارية مئات السنين، ويحرّفون الدين وينشرون البدع ويميتون السنّة، ومع ذلك تجد أكثر الناس يقتدون بهم ويتّخذونهم أئمة، وفي المقابل نجد أنّ أكثر الأنبياء والأئمّة والمصلحين والأتقياء يقتلون ويسجنون

ويشرّدون، بل تهان ،کرامتهم، وينال منهم في وسائل الإعلام إلى غير ذلك من

ص: 330


1- البقرة (٢): ٣٠
2- الروم (٣٠): ٤١

المظالم المنتشرة في بقاع الأرض وطيلة التأريخ البشري، فلا بدّ من أن يكون هناك عالم آخر ينال كلّ إنسان جزاءه ويقع كلّ إنسان موقعه وإلا لما كان لخلق الإنسان ولخلق هذا الكون الذي خلق لأجله حكمة وغاية.

(مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أعاد ضمير التثنية مرّة أخرى إلى مجموع السماوات والأرض وهذا يؤكّد ما ذكرناه. و«الباء» في قوله (بِالحَقِّ) للملابسة، أي ما خلقناهما إلا ملابساً للحقّ بمعنى أنّ الكون يتحكم فيه الحقّ، وهو النظام الإلهي المبتني على الحكمة. و«الحقّ» هو الأمر الثابت، وليس هناك شيء في الطبيعة أشدّ ثباتاً من النظام الكوني. ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، ويتصوّرون أنّ الكون لا يحكمه نظام عادل، ولعلّهم إنّما يتوهّمون ذلك لما يجدونه من الظلم المتفشّي بين البشر أو ما يجدونه في الطبيعة ولا يعلمون ل_ه حكمة.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) حيث كان الأساس في الدليل السابق تفشّي الظلم في الأرض وفي خصوص المجتمع البشري أكّدت الآية بأنّ الحكمة إنّما تتمّ بتحقيق العدالة في يوم ما وهو يوم الفصل، أي اليوم الذي يفصل فيه الحقّ عن الباطل، وتتبيّن فيه حدود الحقّ واضحة، لا غبار عليها، وينال كلّ إنسان رتبته، ويفصل بين أهل الحقّ وأهل الباطل، ويفصل بين كلّ ظالم ومن ظلمه، ويفصل أعمال الخير وأعمال الشرّ، فربّما نرى في هذه الحياة عملاً في غاية الحسن بحيث يحسد عليه صاحبه، ثمّ نجده يوم القيامة من أسوأ الأعمال وكذلك العكس، فربّما نستصغر عملاً من أحد أو حتّى من أنفسنا، ثمّ نجد أنّه هو الذي

ينقذنا من العذاب، فإنّ مقاييس محاسبة الأعمال دقيقة لا تصل إليها أفهامنا

ص: 331

والحاصل أنّ ذلك اليوم يوم الفصل وتبيّن الحقائق، فلا غبار ولا ضبابية، ولا يولج الليل في النهار ولا النهار في الليل، ولا يدمج الحقّ بالباطل، كما في هذه النشأة.

والتعبير باليوم بمعنى أنّه مرحلة من مراحل الكون، وليس بمعنى اليوم بالمعنى المعروف كما هو واضح . و«الميقات» أي الموعد المحدّد، وأصله من الوقت، وهو بمعنى تحديد الشيء من حيث الزمان أو المكان أو غيرهما، ولا يختصّ بالزمان، كما يوهم اللفظ، ومنه مواقيت الإحرام وهي أن أمكنة. قال في «معجم المقاييس»: «أصل يدلّ على حدّ شيء وكنهه في زمان وغيره»(1) والظاهر أنّ منه _ في غير الزمان والمكان - الموقوت في قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلوةَ كَانَتْ عَلَى المؤْمِنِينَ كِتاباً موقوتاً).(2)

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلى عَنْ مَوْلَى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)، «يوم» بدل عن يوم الفصل. والمولى الأوّل هو المتبوع، والثاني هو التابع، وكلمة «مولى» يتّحد فيها اسم الفاعل والمفعول، وأصلها من «ولي»، أي أتى الشيء بعد الشيء تباعاً من دون فاصل. وقيل: إنّ الأصل فيها هو القرب، ولذلك تطلق على الأقارب.

والمعنى في الآية واضح وهو أنّ الأسياد في الدنيا لا يغنون شيئاً يوم الحاجة الملحّة، وهو يوم القيامة. والحكم عامّ لكلّ البشر ولا يختصّ بالمشركين، كما يتوهم، كما أنّ ضمير «هم» في قوله: (وَلا هُمْ) يعود إلى جميع البشر. وهم المقصودون بالضمير في الآية السابقة أيضاً.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تجري نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا

ص: 332


1- معجم مقاييس اللغة ٦: ١٣١
2- النساء (٤): ١٠٣

شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(1) وقوله تعالى: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ الله)(2) وغير ذلك.

وقيل: الفرق بين النصرة والإغناء أنّ النصرة بمعنى المساعدة، فلا يستقلّ بها المولى، وأمّا الإغناء بمعنى أنّه يقوم به مستقلاً. وبناءاً عليه فهذا الفرق يظهر يوم القيامة في الشفاعة، فإن لم يكن للمشفوع عمل يستحقّ به دخول الجنّة أو النجاة من النار، فالمنفي هو الإغناء، إذ لو كان الشفيع يفيده لكان مغنياً له عن العمل. وإن كان له عمل فالمنفي هو النصرة ، فيكون المعنى أنّ عمله غير كافٍ فهو بحاجة إلى من ينصره ويقويه، والشفيع لا ينصره إلا من رحم الله. ولكن فيه احتمال آخر سيأتي إن شاء الله تعالى. وعلى كلّ حال، ففي ذلك اليوم لكلّ امرئ منهم شأن يغنيه، فلا يقوم بالنصرة والإغناء أحد ولو قام لم يؤثّر شيئاً؛ إذ يسقط في ذلك اليوم تأثير الأسباب الطبيعية، كما قال تعالى: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب).(3)

(إِلا مَنْ رَحِمَ الله إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ؛ قيل : إنّه استثناء عن الضمير في: (وَلا هُمْ يُنصَرُونَ)، أي لا ينصر منهم أحد إلا من رحمه الله تعالى. وقد يقال: إنّه استثناء منقطع؛ لأنّ من رحمه الله تعالى لا يحتاج إلى نصرة أحد، فالمعنى: ولكن من رحمه الله تعالى هو الذي ينجو من العذاب.

وقيل: إنّه استثناء عن المولى الأوّل الذي هو فاعل الإغناء، ويفيد أنّ من رحمه الله يمكنه أن يغني عن مواليه بالشفاعة.

ص: 333


1- البقرة (٢): ٤٨
2- الانفطار (82): 19
3- البقرة (٢): ١٦٦

واعترض عليه العلامة الطباطبائي رحمه الله بأن الإغناء - بناءاً على ما ذكر _ يتحقّق في ما إذا لم يكن للمشفوع أيّ عمل يفيده يوم القيامة، فتكون الشفاعة كافية ل_ه وهذا غير ممكن؛ لأنّ الشفاعة لا تكون إلا لمن له على الأقلّ دين مرضىّ وعليه فلا بدّ من إرجاع الاستثناء إلى النصرة فقط.(1)

ولكن في رواية زيد الشحّام أنّه استثناء من المولى الأوّل، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام ونحن في الطريق في ليلة الجمعة: «اقرأ _ فإنها ليلة الجمعة _ قرآناً» فقرأت: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلَى عَنْ مَوْلَى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَنْ رَحِمَ الله فقال أبو عبد الله علیه السلام: «نحن والله الذي رَحِمَ الله ونحن والله الذي استثنى الله لكنّا نغني عنهم».(2)

وفي نسخة «فكنا نغني عنهم»، وعليها فالمعنى واضح، وأمّا على نسخة «لكنّا نغني عنهم»، فليس استدراكاً عن الآية، بل المراد أنّ معنى الآية مع الاستثناء: «لا يغني مولى لكنا نغني». وعليه فالشفاعة بمعنى الإغناء ثابتة بناءاً على هذه الرواية. ولكنّ السند ضعيف.

والصحيح أنّ الفرق بين «الإغناء» و«النصرة» بالوجه الذي ذكره المفسّرون غير صحيح؛ لأنّ الإغناء ليس بمعنى أنّه يكفيه كلّ شيء، بل بمعنى أنّه يكفيه ما يحتاجه، فإن كان له دِين وعمل صالح ، ولكن كان عليه مؤاخذة لبعض المعاصي أو لنقص في عمله، فالشفاعة تغنيه عن مقدار حاجته وهي التي تحتاج إلى استثناء، وأمّا النصرة فهي لا تكون إلا في مقابل من يعاديه ويريد ب_ه ش_رّاً، وه_ذا

ص: 334


1- الميزان في تفسير القرآن 18 : ١٤٧ - ١٤٨
2- الكافي ١: ٤٢٣.

غير ممكن في المقام بدون استثناء؛ إذ ليس في مقابل إرادة الله أيّ شيء يفيده أو ينصره.

فما ذكروه من أنّ الاستثناء يكون من النصرة ليس صحيحاً، بل هو استثناء من المولى الأوّل كما فى الرواية. ويمكن أيضاً أن يكون استثناءاً من المولى الثاني ولكنّه على كلّ حال استثناء عن الإغناء، والاستثناء متصل على الفرضين؛ لأنّ مورد الآية _ كما قلنا - جميع البشر .

والحاصل - بناءاً على ما ذكرنا في معنى الآية - أنّه لا ينفع شفيع ذلك اليوم إلا من رحمه الله من الشفعاء أو من المشفوع لهم، ولا ينصر أحد أحداً ب_دون استثناء.

وقوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) جملة تعليلية. والإتيان بصفة «العزيز» يناسب نفي تأثير الشفاعة في من لا يأذن له الله تعالى، فهو عزيز لا يقهر إرادته شيء، وصفة «الرحيم» تناسب تأثير الشفاعة بإذنه تعالى.

ص: 335

سورة الدخان (43 - 50)

إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِي الْبُطُونِ (45)كَغَلّى الْحَمِيمِ (46)خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ(47) ثُمَّ صُبُوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ(48) ذُق إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ(49) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ * طَعَامُ الأَثيم). مرّ بعض الكلام في شجرة الزقّوم في سورة الصافات الآية ٦٢ وقلنا: إنّه لم يثبت إطلاق الزقّوم على شيء في هذه الدنيا وإن قال بعض أهل اللغة: إنّه يطلق على شجر له أوراق طعمها مرّ وتخرج منه مادة بيضاء تضرّ بالجسم. وقال بعضهم: زقم، أي ابتلع وزقم بطنه من الشراب، أي

ملأه به ولكنّه غير ثابت.

والظاهر أنّ كلّ ما قيل في معناه حدث بعد نزوله في القرآن، وأنّ العرب لم تسمع به قبل ذلك، بل حكي عن بعض المشركين أنّه كان يستهزئ بهذه الكلمة ويقول: وما الزقّوم؟! وكيف كان فلا مانع من أن يكون هذا مصطلحاً أو تسمية قرآنية لطعام أهل النار.

و«الأثيم» صفة مشبّهة تفيد معنى الثبوت والاستقرار، فالمراد من كان الإثم صفته الثابتة ويحصل ذلك بالإكثار من المعاصي.

هذا، وقد مرّ في تفسير سورة الصافات احتمال أن يكون المراد بالنار وما فيها من العذاب معنى آخر لا يصل إليه عقولنا، فالنار هناك ينبت فيها الشجر، أي شجرة الزقّوم والبشر المحترقون فيها لا يموتون، وهي تحرق الأرواح قبل الأجسام، ولا تبيد الجسم ولا تفنيه، فلعلّها إشارة إلى حقيقة اُخرى لا نفهمها.

ص: 336

وإنّما اختير هذا التعبير لأنّ النار أفظع شيء يعذّب به الإنسان في هذه الحياة، فاللفظ الدالّ عليها أقرب لفظ يفيد ذلك المعنى الذي ليس له لفظ يحكي عنه، والألفاظ إنّما تحكي عمّا اعتاده البشر في معيشته.

(كَالمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَعَل الحَمِيمِ)، «المُهل»: دُردِي الزيت، وهو ما يبقى في أسفله أو النحاس والصفر المذاب. و«الحميم»: الماء شديد الحرارة. وقوله: (كَالْمُهْلِ) و (يَغْيلي) خبران ثان وثالث لقوله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ)، أو أنّهما خبران لمبتدأ محذوف، أي وهو كالمهل يغلي.

و(كَغَلَيِ الْحَمِيم) صفة لمفعول مطلق أي غلياً كغلي الحميم . وهذا أمر غريب أن يكون الطعام كالنحاس المذاب في البطن وهو يغلي لا كغلي النحاس، بل كغلي الماء الحار. وهذا غاية في الحرارة. وأغرب منه أنّ الجسم لا يحترق به أو يحترق ولكنّه يعود كما كان.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إلى سَوَاءِ الجَحِيمِ)، «العتل» هو الجذب أو الدفع العنيف والإلقاء. و«سواء»: وسط الشيء، حيث يستوي إليه نسبة كلّ من الحدود، والمراد مركزه حيث تكون النار أشدّ. وهذا أمر من الله سبحانه إلى ملائكة العذاب.

(ثمَّ صُبُوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحَمِيم) عذاب بعد عذاب، والإضافة في عذاب الحميم إضافة بيانية.

(ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَتَرُونَ). يمكن أن يكون خطاباً يوجّه إليه ليكون مزيداً من العذاب وهو عذاب نفسي، حيث يحتقر ويهان، ثمّ يذكّر بما كان يتوهّمه، بل ربّما يصرّح به وهو أنّه عزيز كريم. والمراد أنّك كنت العزيز في قومك والكريم عندهم، أو كنت تتوهّم أنّك كذا وكذا، ولكنّك غفلت

ص: 337

عن هذه العاقبة وهذا اليوم حيث انقلبت عزّتك وكرامتك ذلاً وهواناً، فهذا الخطاب استهزاء وتحقير.

يقال: إنّ أباجهل كان يقول: «إنّي أنا العزيز الكريم»، ويقال: إنّه خاطب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بما معناه: «لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً إنّي أعزّ أهل هذا الوادي وأكرمها»؛(1) ويقال: إنّ الآية نزلت فيه والامتراء هو الشكّ.

ص: 338


1- راجع: تفسير القمي 2: 293

سورة الدخان ( ٥١ - ٥٩)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينِ (51)فِي جَنَّتٍ وَعُيُون(52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُس وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَبِلِينَ(53) كَذَلِكَ وَزَوِّجْتَهُم يحُورٍ عِينٍ(54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَكَهَةٍ وَامِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَنهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (59)

(إنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَام أمِينِ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). من دأب القرآن الكريم أنّه إذا تعرّض لذكر عذاب المجرمين ذكر ثواب المتّقين أيضاً، ليجمع بين الإنذار والتبشير. و«المقام»: موضع الإقامة. و«الأمين» بمعنى أنّه ذو أمن والأمان هناك أمان مطلق، فالمقيم فيه آمن من كلّ جهة لا يصيبه مكروه أبداً . وقوله: (في جَنَّاتٍ ) إمّا بدل عن: (فِي مَقامٍ)، فيكون المراد بالمقام الجنّات، أو ظرف للمقام، أي موضع إقامتهم في جنّات.

وجمع «الجنّات» باعتبار أنّ لكلّ واحد من المتقين جنّة، فالمجموع جنّات أو أنّ لكلّ واحد جنّات.

و«العيون» عطف على الجنّات والظرفية بالنسبة للعيون باعتبار اشتمال الجنّات عليها أو بلحاظ المجاورة، كما يقال في أشجار وورود.

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ)، «السندس»: الحرير الرقيق الناعم. «والاستبرق» الحرير الغليظ، وهو معرّب ستبر بالفارسية بمعنى الغليظ.

وهنا سؤال يخطر بالبال، وهو أنّه لماذا الاختلاف في ملابس أهل الجنّة،فليس هناك حرّ وبرد حتّى يختلف اللباس باختلاف الفصل.

ص: 339

والجواب: أنّ هذا لعلّه كاختلاف الأطعمة لاختلاف الأذواق أو أنّهم يلبسون على أجسامهم الحرير الناعم وعليها الحرير الغليظ للإناقة.

وكونهم متقابلين إشارة إلى التوادد بينهم، حيث ينزع الله ما في صدورهم من غلّ، فيكونون إخواناً متقابلين على أسرتهم. والتقابل أحسن هيئة في جلسات الأحباب.

0كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِين)، كذلك أي يكون الأمر كذلك

وهو تأكيد للمضمون السابق ورفع للاستبعاد، كما مرّ في تفسير الآية ٢٨.

و«التزويج بالحور العين» يمكن أن يكون المراد بهالاقتران، فيشمل الرجال والنساء ولذلك عدي بالباء، فإنّ التزويج بمعنى النكاح يتعدّى بنفسه.

واختلف اللغويون في معنى الحور، وهو مأخوذ من الحَوَر، قال الخليل في «العين»: «إنّه شدّة بياض العين وشدّة سوادها ولا يقال: امرأة حوراء إلا لبيضاء مع حَوَرها».(1)

وقال الراغب: «قيل: إنّه ظهور قليل من البياض في العين من بين السواد»، قال: «وذلك نهاية الحسن في العين».(2)

وقيل: إنّ الحَوَر هو البياض.(3) وحوّرت الثياب، أي بيّضتها،(4) وعليه فالحور بمعنى النساء البيض. وقيل غير ذلك.

و«العين» جمع عيناء، أي المرأة حسنة العين أو ذات العين الواسعة.

ص: 340


1- كتاب العين : 288
2- المفردات فى غريب القرآن: ٢٦٢.
3- راجع: تاج العروس ٦: ٣١٤
4- معجم مقاييس اللغة ٢: ١١٦ ..

(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ)، أي يطلبون أيّاً ما شاءوا من الفاكهة، فيجاب طلبهم. و«الفاكهة» ما يؤكل للتلذّذ. وهكذا طعام الجنّة؛ إذ لا جوع هناك ولا اجة إلى طعام.

و«آمنين» حال منهم والمراد بقرينة الفاكهة أمنهم من ضررها، كما ربّما يحصل من أكلها في الدنيا أو أمنهم من نفادها.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلا الْمُوْتَةَ الأولى)، «الموت» أدهى ما يخافه الإنسان في حياته. والنعمة لا ينغّصها شيء كذكر الموت. وقديماً حاول الإنسان أن ينقذ نفسه منه، وكلّما بحث عن حلّ لأحد موجباته ظهرت له عوامل أخرى. وهو الشيء الوحيد الذي تأبى على الإنسان أن يقضي عليه، بل وصل الحدّ إلى اليأس عنه، فلا يفكّر فيه أبداً، وإنّما يحاول أن يمحي عن ذاكرته فكرة الموت حتّى لا تنغّص لذات حياته بذكره، ولكن شبح الموت لا يتركه ويجده في كلّ تغيّر مفاجئ في جسمه، وفي كلّ تحوّل خطير في الطبيعة، وفي أمراضه وأسفاره وحروبه وغيرها ممّا يصعب إحصاؤها.

ومن هنا فإنّ عين الحياة هي الأمنيّة التي تعقبها الإنسان طيلة القرون ولفّق حولها القصص والأساطير، والله تعالى يناديه ويدعوه إلى عين الحياة الأبدية التي لا تنضب ولا يقلّ ماؤها، ولا حاجة للوصول إليها إلى تكلّف الأسفار والمخاطرة

بالنفس، بل طريقه سهل التناول لا يحتاج إلا إلى الإيمان بالله ورسله وكتبه وتقواه والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه فيصل بعد الموت عن هذه الدار المشحونة بالمكاره إلى دار لا يذوق فيها الموت أبداً، وهذا غاية أمانيه.

واستثناء الموتة الأولى ليس على حقيقته، فهو استثناء منقطع؛ لأنّ هذه الموتة

ص: 341

قد ذاقها في هذه الحياة، فهذا الاستثناء للتأكيد على أنّه ليس هناك موتة أبداً، نظير ما يقال: «جاء القوم إلا حماراً» والحمار ليس من القوم، فمعناه أنّه لم يشذّ منهم أحد، فلو كان الحمار منهم لأتى أيضاً.

وأمّا توصيفها بالأولى فيمكن أن يكون في مقابل الموت الذي يذوقه الكفّار دون أن يفارقوا الحياة؛ فإنّ هذا هو الذي يقابل نعمة أهل الجنّة، قال تعالى: (وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّت).(1)

ومن هنا يتبيّن الجواب عن سؤال آخر وهو أنّه لماذا اختصّ أهل الجنّة بذلك، مع أنّ الكفّار أيضاً لا يموتون؟ فالجواب: أنّهم يذوقون الموت ولا يموتون، ب_ل الموت لهم أمنية وعدمه عذاب، ولذلك يطلبون من مالك الجحيم: (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ).(2)

وهنا سؤال آخر وهو أنّ مقتضى قوله تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)(3) أنّهم قد ذاقوا موتة أخرى من الحياة البرزخي_ة إل_ى ي_وم القيامة، فلماذا اختصّ الاستثناء بالموتة الأولى؟

ويمكن أن يجاب عنه بوجهين:

الأوّل: أنّ الموت من الحياة البرزخية والانتقال إلى الحياة الآخرة ليس كالموت في الدنيا وليس عذاباً ولا فيه حرمان من لذّة، والتعبير عنه بالموت في تلك الآية لمجرّد بيان أنّه انتقال من حياة إلى حياة لأنّهم إنّما ذكروا ذلك مقدمة

ص: 342


1- إبراهيم (١٤): ١٧
2- الزخرف (٤٣): ٧٧
3- غافر (٤٠): ١١

لطلبهم الانتقال مرّة أخرى إلى الحياة الدنيا أو حياة كتلك الحياة يمكنهم فيها إبراز قابلياتهم.

الثاني: أنّه لعلّ الموت من الحياة البرزخية لا يشمل كلّ أحد، ولعلّ المتقين والصالحين يستمرّون في حياتهم إلى يوم القيامة. والله العالم.

(وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ) تطمين لهم بأنّ عذاب الجحيم _ الذي إلتهم ملايين الملايين من البشر - لا يقربهم أبداً، فهم مخلّدون في النعيم.

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) حال من النعم المذكورة أو مفعول لأجله. والفضل هو الزيادة. والمراد به هنا ما يزيد على الاستحقاق، وحيث لا يستحقّ أحد على الله شيئاً، فكلّ ما يمنحه لعباده فضل منه تعالى. وقوله: (مِنْ رَبِّكَ) تشريف عظيم للرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا يخلو من إيماء إلى أنّه الواسطة والسبب في نزول هذه الرحمة والنعمة على العباد.

ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، «الفوز»: النجاة والظفر بالأمنيّة والخير. والفوز العظيم هو أن ينال الإنسان من فضل ربّه، سواء في الدنيا أم في الآخرة، فليس المراد أنّ ذلك النعيم هو الفوز العظيم، بل شمول فضل الله لهم هو الفوز العظيم. وغاية الغايات فيما يفوز به الإنسان من أمنيّة وخير هو أن تغمره رحمة ربّه، قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ ما يَجْمَعُونَ).(1)

(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ختام يعيد السياق إلى ما ابتدأ به السورة من تكريم القرآن والحثّ على التذكّر به، وعلى الارتقاب أيضاً، حيث قال تعالى في أوائلها: (وَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ)، و«الفاء» لتفريع هذه الفذلكة على كلّ

ص: 343


1- يونس (10): 58

ما ورد في السورة المباركة.

و«التيسير» التسهيل، أي سهّلنا فهمه لعامة الناس. وضُمِّن التيسير معنى الجعل، أي وجعلناه بلسانك، أي لغتك وهي لغة القوم، وإنّما أضافه اليه صلی الله علیه و آله وسلم تكريماً له. وإنّما يسّر فهمه لعامّة الناس لعلّهم يتذكّرون عهدهم مع ربّهم الذي تنادي به

الفطرة.

ومن الواضح أنّ القرآن مع كونه في غاية الدّقة ومفاهيمه في غاية العلوّ والرفعة، وبعيد عن متناول العامّة والخاصّة إلا أنّ كلّ أحد يجيّد اللغة العربية أو يعرفها نوعاً مّا يمكنه الاعتراف من معينه ويستفيد منه في حياته الدنيا ليجعله_ا وسيلة لنيل السعادة الأبدية في الحياة الأخرى.

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)، «الارتقاب» مأخوذ من الرقبة، وحيث إنّ الانتظار والتوقّع يكون عادة مع مدّ العنق يعبّر عنه بالارتقاب. والمراد هنا انتظار النصر الكاسح أو انتظار نزول العذاب عليهم. و «الفاء» للتفريع على الجملة السابقة من جهة أنّهم لا يؤمنون به مع هذا التسهيل وتمكنّهم من معرفة الحقّ الواضح.

وقوله :(إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) تعليل لارتقابه وانتظاره صلی الله علیه و آله وسلم باعتبار أنّ هذا الانتظار ليس مستبعداً، فإنّهم أيضاً مترقبون ومتوقّعون لنزول العذاب، وذلك إشارة إلى أنّهم مع عنادهم يعلمون أنّ ما يقوله الرسول حقّ وأنّ ما يتوعّدهم من العذاب آتٍ لا محالة، فهم يتوقّعون دائماً أن ينزل عليهم عذاب الله تعالى، ومثله في القرآن كثير ، وبذلك يتبيّن أنّ التعبير بارتقابهم وتوقّعهم ليس تهكّماً كما قيل، بل هو أمر واقعي.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله الأمين وآله الطاهرين.

ص: 344

تفسير سورة الجاثية

اشارة

ص: 345

ص: 346

سورة الجاثية (1-6)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حمَ(1) تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ وَايَتْ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)وَاخْتِلَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيحِ وَايَتْ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ ايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَمَايَتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)

الجاثية سورة مكّية، كما هو واضح من مضامينها، حيث تشتمل على التذكير بآيات الله الكونية، والدعوة إلى الإيمان بالله وبآياته التي أنزلها على رسوله لهدايتهم، والتنديد بموقف المشركين اتّجاه الرسالة والدعوة والإشارة إلى عاقبة الإيمان والكفر يوم الحساب وسميت بهذا الاسم لاختصاصها من بين السور بورود هذه الكلمة فيها.

(حم) من الحروف المقطّعة وقد مرّ بعض الكلام حولها في تفسير

سورة يس.

ص: 347

(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) مرّ الكلام في نظيرة الآية في ابتداء سورة الزمر ، ومجمل القول أن (تَنْزِيلُ الْكِتَاب) مبتدأ وخبره (مِنَ اللهِ) أو خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا ،تنزيل، والكتاب أي المكتوب بمعنى المجموع، ويطلق على كلّ مجموعة من الألفاظ أو المعاني والمراد التأكيد على أنّ هذا الكتاب منزل من الله تعالى وليس من إنشاء البشر.

و«العزيز» بقول مطلق الغالب الذي لا يؤثّر فيه شيء، ولعلّه إشارة إلى أنّ مقتضى عزّته المطلقة أن لا تتمكّن الشياطين من التدخّل في هذا الوحي، كما ظنّه المشركون. ووصف «الحكمة» لعلّه للردّ على أنحاء الشبهات التي ترد على الرسالة من اختيار شخص الرسول واللغة والزمان وغير ذلك. فالجواب العامّ أنّ ذلك مقتضى حكمته تعالى والبشر لا يمكنه أن يدرك وجه الحكمة في كلّ ما

خلقه الله ودبّره.

(إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) يمكن أن يكون المراد بالسماوات والأرض الكون كلّه بما فيه الملائكة والعوالم الغيبية، كما هو الحال في سائر موارد هذا التعبير، ويمكن أن يكون المراد خصوص العالم المحسوس باعتبار أنّه هو الذي يمكن أن يكون آية للناس. و«الآية»: العلامة. فكلّ أجزاء العالم المشهود علامات على وجود الخالق القادر الحكيم، فهي تدلّ على الله تعالى من جهة إمكانها وحاجتها في كينونتها وبقائها إلى سبب ومن جهة النظام المستقرّ فيها، ومن جهة بديع تركيبها وجمالها، ومن جهة الهدف والغرض المشهود من الدقّة في أجزائها وغير ذلك، فأينما تدور بعينك في الكون تجد الآيات واضحة بيّنة. فالنظام المستقرّ في الأجرام الفلكية التي تدور ملايين السنين دونما أيّ تغيّر

ص: 348

وانحراف، ودون أي خطر يهدّد كيانها آية عظيمة من آياته تعالى ونظام المجموعة الشمسية التي نحن فيها بالذات وما فيه من خصائص تساعد على تكوّن الحياة على هذا الكوكب آية أخرى، وما نجده في كلّ ذرّة من ذرّات الكون من النظام الحاكم في أجزائها والموجب لتكوّنها وتكوّن الأجسام منها آية أيضاً، ثمّ إذا لاحظنا كلّ مجموعة من المخلوقات على الأرض وما فيه_ا م_ن نظام، ثمّ ما بينها من تناسب وتناسق لتبقى دائرة الحياة على هذا الكوكب مستديمة لكان فيها ما يكفي لمن يتدبّر ولا يعاند.

ولا يمكن عدّ آياته تعالى في الكون: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله ).(1) ومن العجيب أنّ المتعمّقين في أجزاء هذا الكون وفي نظامه المتكامل كلّما زادوا تعمّقاً وغوراً زادوا بعداً عن الله تعالى وكفراً به، وقلّ من تجده مؤمناً منهم. ويحاولون تفسير الكون بما لا يبقى معه مجال لفرض وجود خالق ،مدبّر، فكأنّهم إذا اكتشفوا النظام الموجود في الكون وعلموا سبب ترابط الأجزاء المبعثرة تراجعت فكرة وجود الخالق وكأنّ الاعتقاد بوجود المدبّر الحكيم يبتني على عدم وجود قانون في الطبيعة، وكأنّه تعالى يدير الكون من غير نظام بينما العكس هو الصحيح. وأنّ النظام الموحد المتكامل الذي يحقّق ترابط الأشياء صغيرها وكبيرها لهو أقوى دليل على وجود الصانع ووحدته وحكمته وتدبيره.

ويلاحظ أنّ هؤلاء يصفون المؤمنين بأنّهم سُدّج وبسطاء، ولكنّ الواقع أنّ المؤمنين من أفطن الناس وأذكاهم، فلهم عقلية تحاول كسر الحواجز والوصول

ص: 349


1- لقمان (31): 27

إلى ما وراء هذه الظواهر، وهؤلاء هم الذين إذا رأوا الآيات رأوا فيها اليد الصانعة، وشعروا بما وراءه من حكمة ،وتدبير وليسوا كهؤلاء السذّج الذين يتعمّقون في هذا الظاهر ولا يتجاوزونه، فهم كما قال الله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ).(1)

ومن غريب ما نسمعه من ملاحدة العصر أنّهم يقولون: لماذا نبحث عن حقيقة لا يمكننا الوصول إليها وهي غير محسوسة ولا مرئية حتّى بالأجهزة؟! وم_ا ه_و الداعي لتكلّف الإيمان به مادام الوضع المادي لا يتغيّر عمّا ه_و ع_ل_ي_ه، فسواء عرفناه أم لم نعرفه، فالأسباب الطبيعية هي التي توصلنا إلى أهدافنا؟! فما لنا نبحث عن أنّه هل هناك خلف هذه الأسباب من يديرها أم ليس وراءها أحد؟ فحسبنا أن نعرف الأسباب و نتمسّك بها!

ويقال لهم: لو سلّمنا أنّه لا فائدة تعود علينا في هذه الدنيا من معرفة الخالق الحكيم، ولو سلّمنا أنّه لا يجب علينا عقلاً ومنطقاً أن نشكر المنعم، ولو سلّمنا أيضاً أنّنا لا نستوحش من تصوّر العالم يسير بلا إدارة وبلا حكمة، وكأنّه جهاز لا يحكمه إلا زرّ التشغيل، ولكن ما الذي يؤمّننا من العذاب المحتمل الذي وعد به الأنبياء والرسل ونزلت به كتب السماء ؟! ونحن نعلم أنّ الأنبياء ما كانوا أناساً كذّابين أو دجّالين أو يبحثون عن مصالحهم، بل نعلم عنهم أنّهم زهّاد في الدنيا، جاهدوا في سبيل تعليم الناس وتزكيتهم وإعلان الخطر المحدق بهم وتحمّلوا في سبيل ذلك أصعب المشاقّ وبذلوا النفس والنفيس وقُتّلوا وشُرِّدوا ولم يتركوا جهادهم، فهم ليسوا ممّن يحاول أن ينتفع بسذاجة الناس، بل كانوا هم أوّل من

ص: 350


1- الروم (30): 7

يلتزم بالطريقة التي يبلغون عنها؛ اذن فاحتمال صدقهم في ما يدعونه احتمال قويّ يبعث الإنسان العاقل على الاهتمام به والبحث عن الحقيقة من أجله.

وربّما يسأل عن وجه التقييد في الآية بالمؤمنين، فإنّ المفروض أنّ هذه الآيات طريق للإيمان، فالذي يحتاج إليها هو الذي لم يؤمن حتّى الآن لا المؤمن؟

والجواب أوّلاً: أنّ المؤمن أيضاً يحتاج إلى ما يقوّي إيمانه حتّى لا يتأثّر بالأعلام المعادي؛ وثانياً: أنّه لعل المراد بالمؤمنين من يمتلك الأرضية الصالحة للإيمان، فلا يعاند الحقّ مع وجود الأدلّة والبراهين الواضحة، ولا يخالف نداء الفطرة، ولا يعادي الله تعالى ولا يكون ممّن لا يؤمن إلا بما يراه، بل ربّما يشكك حتّى فيما يراه ويشعر به أيضاً.

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). الآية السابقة تلفت الأنظار إلى الآيات في الكون بكامله وهذه الآية تعيد بالإنسان إلى نفسه وإلى ما يماثله من بين الأشياء، أي الحيوان. انظر وتدبّر في كلّ جارحة وعضو في جسمك تجد عجباً. ويكفي الإنسان في معرفة ربه وحسن تدبيره أن يلاحظ ما آتاه الله من أعضاء داخلية وخارجية، وما آتاه من قوى وغرائز، سواء كمل علمه بمعرفة وظائف الأعضاء وأدوارها وتطوّرها وارتباط بعضها ببعض، وكيفية تغذيها ومقاومتها لما يهجم عليها من جراثيم، أم كانت له معرفة بدائية لا يعلم من العين إلا أنّها تبصر ومن الأذن إلا أنّها تسمع، فكلُّ حسب معرفت_ه ي_شع_ر بع_ظ_م_ة م_ن أودع فيه هذه الأعضاء ونظمها على هذا الترتيب الأنيق الجميل بحيث يعمل كلّ عضو عمله ولا يزاحم الآخر ، ومع ذلك فهي زينة لصاحبها وجمال لمظهره.

ص: 351

والبحث في وظائف الأعضاء أعظم من أن يسجّل في مقال أو كتاب، ب_ل أعظم من أن يختصّ بها شخص واحد، فلكلّ عضو، ب_ل لكلّ جزء م_ن ع_ض_و خبير متخصص، وهم مع ذلك يعترفون بأنّهم لم يبلغوا غايته ولن يبلغوا بالطبع، وكلّ ما فتح لهم باب علموا أنّ هناك مجاهيل كثيرة. ولقد قرأت قبل سنين في مجلة لا تعترف بالله وتحاول تفسير الكون بما لا يكون فيه مجال للاعتراف بالله تعالى، قرأت فيها تقريراً لسلسلة الأعصاب التي تشتمل عليها العين، والكاتب المتخصّص يحاول أن يقول: إنّها من صنع الطبيعة ومع الطبيعة ومع ذلك لمّا خاض في شرح

ارتباط هذه الأعصاب لم يتمالك نفسه فكتب الله أكبر!

وأعجب من جسم الإنسان الذي هو _ فيما يبدو ___ أشدّ تعقيداً م_ن ك_لّ مخلوق على الأرض روحه الذي لم يصل إلى فهم خباياه وزواياه العلم مهما توسعت دائرته، بل لم يكشف العلم حتّى الآن وجوده، ومن يدّعون بالعلماء ينكرون حقيقة وراء جسم الإنسان تختصّ به، ولكنّ الله تعالى الذي خلقه أخبر عن هذه الحقيقة، فقال: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِه)(1) وقال أيضاً: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثمّ انْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقين)(2) وهو الذي يتوفّاه الله تعالى حين موت الإنسان، بل حين نومه أيضاً، كما قال تعالى: (الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمتُ في مَنامِها).(3)

ثمّ انظر إلى ما حولك من الحيوان - والدابة كلّ ما يدبّ على الأرض -

ص: 352


1- السجدة (32): 9
2- المؤمنون (23) : ١٤ .
3- الزمر (٣٩): ٤٢

وتدبّر في صغيرها وكبيرها واسأل نفسك: من نظّم أمورها وتكفّل رزقها وجعل لكلّ واحد منها ما يحتاجه من الأعضاء المناسبة لكيفية أكله وشربه وتكاثر نسله وجعل بعضها غذاءاً لبعض آخر؟ ومن نظم هذه الحلقة المستديرة في طبيعة الحيوان بحيث لولا ذلك لاختل نظام البيئة؟

وأخيراً عرف الإنسان الجاني على نفسه وغيره أنّه أضرّ بنفسه أيضاً وأضرّ بالبيئة التي يسكنها ، حيث تسبّب في إزالة بعض هذه الحلقة من الوجود وهو الآن يحاول أن يصحّح أخطاءه، ولكن لا يعود إلى نفسه فيتفكّر في من دبر هذا الكون وكلّ أجزائه، وهل الطبيعة العمياء تحمل هذا الذكاء البارع فتكون نفسها؟!

و«البث: النشر والتفريق والفعل المضارع يدلّ على الاستمرار و (مَا يَبُثُ) عطف على (خَلْقِكُمْ)، أي وفيما يبثّ وينشر من دابة آيات والمراد إيجادها بمختلف أنواع الإيجاد، فمنها ما يخلق بالولادة ومنها ما يوجد بالتبييض ومنها ما يوجد بأسباب أخرى، فالحياة والدبّ والحركة لا تختصّ بما نسميّه حيواناً في المصطلح العرفي. والحياة سرّ لم ينكشف حتّى الآن، ولعلّها تبقى إلى الأبد سرّاً غامضاً.

نعم في كلّ ذلك آيات لقوم يوقنون، أي من ليس مضطرباً في التفكير، كأهل الوسوسة حيث لا يحصل لهم يقين بشيء حتّى ما يجدونه برأي العين. وليس معنى اليقين ما ذكره المفسّرون من أنّه زيادة في الإيمان وبلوغ مرحلة اليقين ونحو ذلك ممّا قالوه في وجه اختلاف التعبير في الآيات، بل المراد أنّ هذه الآيات تفيد من له نفس مطمئنة سليمة يمكنه أن يحصل على اليقين إذا تأمّل وتفكّر، ولا يختصّ يقينه بما يراه ويشعر به ولذلك أتى به بصيغة المضارع ليدلّ

ص: 353

على الاستمرار، بخلاف الآية السابقة حيث جعل الآية للمؤمنين؛ لأنّها توجب حصول الإيمان الثابت؛ ومن هنا لزم إقحام كلمة «القوم» ليتأتى الإتيان بالمضارع.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) ، أي «وفي اختلاف»، فالحرف هنا مقدّر. وهذه الآي__ة تنبّه الإنسان بما حوله من ظواهر الطبيعة التي ألفناها، فلم نعد نشعر بإعجازها وغرابتها، ودلالتها على الخالق الحكيم الرحيم، فمنها اختلاف الليل والنهار. ول__ه معنيان:

أحدهما: الاختلاف بمعنى التعاقب، فالليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، ولو استمرّ الليل أو النهار لاختل النظام وكم من مفاسد تترتّب ومصالح تفوت بذلك ممّا يطول شرحها.

والثاني: اختلافهما طولاً وقصراً وهذا أيضاً أحد معنيي قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)(1) وهذا الاختلاف الذي ينشأ من انحراف مدار الأرض هو الذي يتسبّب في حدوث الفصول المختلفة وما يترتّب على ذلك من آثار عظيمة على هذا الكوكب.

(وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) عطف على (اخْتِلافِ اللَّيْلِ) مع تقدير حرف الجرّ، أي «و في ما أنزل».

والمراد بالرزق النازل من السماء المطر. قيل: عبّر عنه بالرزق، لأنه سببه، فبالمطر يحصل الإنسان على ما يريده من نبات الأرض. ولكنّ الصحيح أنّ المطر هو بنفسه أعظم رزق للإنسان والحيوان والنبات، وعليه تتوقّف الحياة لكلّ الأحياء.

ص: 354


1- الحجّ (22) : ٦١ لقمان (31): (29؛ فاطر :(35) 13؛ الحديد (٥٧): ٦

فانظر كيف دبّر الله تعالى الكون لإنجاز هذه المهمّة وكيف سخّر له الشمس والرياح والبحار وغير ذلك. ولولا نزول المطر لم يكن على وجه الأرض ماء عذب، فكلّ الأنهار والعيون ونحوها مخازن للأمطار. والأرض تموت بانقطاع المطر بمعنى أنّها لا تنبض بالحركة والإنبات فإذا أنزل الله ماء السماء اهتزّت وربت وانبتت من كلّ زوج بهيج. ويعبّر عن هذه الحركة والنشاط الحادث في الأرض بعد موتها، بالحياة.

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ)، أي «وفي تصريف الرياح» والمراد به تغيير مسار الرياح، وله آثار عظيمة في الحياة على الأرض، فبهذا التصريف ينتقل الهواء البارد إلى الأماكن الحارّة، فتتلطّف الجوّ، وبه أيضاً تنتقل الغيوم إلى ما شاء الله أن ينزل عليها رزقه وبه تتنقل الأدخنة والغبار والروائح الكريهة.

(آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في كلّ ذلك آيات لمن يعقل. وليس معن_ى ذل_ك م_ا ذكروه من أنّه مرحلة أعلى من الإيمان واليقين أو أنّه بمعنى التفكّر في خلق الله، بل المراد أنّ الذي يتأثّر من مشاهدة هذه الآيات فتدلّه إلى الله تعالى، هم الذين يعقلون. والعقل في الأصل هو الحبس، ومنه عقال البعير، والعاقل من يحبس

نفسه ممّا يعمله السفهاء والعقل ما به تدرك الحقائق وتكتسب العلوم ، ووجهه أنّ العاقل يحبس في ذهنه ما يدركه من الجزئيات، ثمّ يستنتج منها علماً ولذلك قال تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)،(1) ومعناه أنّ عدم التعقّل يترتّب على الصمّ والبكم والعمى، فمن لا يتمكّن من إدراك الجزئيات لفقدانه الحواس لا يتمكّن حبس الجزئيات، فلا يعقل شيئاً ولا يكسب علماً، ومثل هذا لا يتأثّر بمشاهدة

ص: 355


1- البقرة (2): 171

الآيات ولا ينتقل منها إلى معرفة ربّه.

واختلاف التعبير في هذه الآيات لا يدلّ على خصوصية في كلّ منها، فتختصّ الأولى بالمؤمنين والثانية بأهل اليقين والثالثة بأهل العقل كما قيل، بل المراد أنّ هذه الآيات مع أنّها واضحة بيّنة إلا أنّها لا تفيد إلا من تكون له هذه الخصال الثلاث:

أولاً: الاستعداد للإيمان بالغيب، فلا ينحصر فهمه بالمحسوسات ولا يعاند،وهذه نفسيّة خاصّة تساعد على الإيمان؛ ونحن نعلم أنّ كثيراً من الكافرين يحملون نفوساً عنيدة، فلا يقبلون ولا يستسلمون للحقّ حتّى لو كان واضحاً ونعلم أنّ هناك من الناس من طبعه العناد والمكابرة.

ثانياً: إمكان الوصول إلى اليقين، فلا يكون مضطرب النفس لا يستقرّ ذهنه على شيء، فمثل هذا لا يؤمن، وإن وجدت مؤمناً مضطرباً فاعلم أنّ إيمانه وراثي وليس بالتفكّر والتدبّر.

ثالثاً: أن يكون من أهل التعقّل، أي يكون مدركاً للحقائق، فالذين لا يعقلون ولا يشعرون وهم كثير من الناس، بل هم الأكثر لا يؤمنون بالله تعالى وبآياته الدالّة على حكمته وتدبيره وربوبيته، كما قال تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).(1)

ولكنّ المفسّرين ذكروا وجوهاً في سرّ الاختلاف لا تخلو من ضعف، نذكر وجهين منها لعلّهما أقوى ما ذكر، ففي «الميزان» (2)ما ملخّصه أنّ آية السماوات

ص: 356


1- يوسف (12): 103
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن ١٨: ١٥٧

والأرض تدلّ بدلالة بسيطة ساذجة على أنّها لم توجد نفسها بنفسها، بل لها موجد، فاعتبر ذلك آية للمؤمنين بوجه عامّ، وأمّا أنّه خلق الإنسان والحيوان الذي له شعور، فكونه آية الله إنّما هو بلحاظ أنّ نفوسها من عالم وراء عالم المادة وهو الملكوت، وقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ)(1) فتختصّ الدلالة بأهل اليقين، وأمّا آية الحوادث الكونية فتحتاج إلى مزيد من التعقّل والتفكّر ولا تنال بالفهم البسيط، فاختصّت بهم.

وذكر بعضهم أنّ الوجه في الاختلاف أنّ الإنسان يمرّ بمراحل ثلاث في معرفة الله تعالى، فالأوّل هو التفكّر، ثمّ اليقين، ثمّ الإيمان، ولكنّه ذكرها بالعكس الشرافة الإيمان، ثمّ اليقين، ثمّ التفكر.

وأظنّ أنّ التكلّف الواضح فيهما وفي غيرهما يغنينا عن التعرّض لما فيهما من الضعف، مع أنّهما أوضح ما قيل في الباب، وما ذكرناه لعله أوضح، والحمد لله أولاً وآخراً.

(تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحقِّ). الإشارة يمكن أن تكون إلى الآيات الكونية، ومعنى تلاوتها بيانها، كقوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا اتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(2) ويمكن أن تكون إشارة إلى آيات الكتاب التي تتضمّن الإشارة إلى آيات الكون والتلاوة واضحة فيها. والتلاوة «بالحقّ» قد تكون بتقدير التلبّس، أي نتلوها متلبّسة بالحقّ، بمعنى كون آيات الكتاب مطابقة للواقع.

ويمكن أن يكون «بالحقّ» قيداً للتلاوة، نظير قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ

ص: 357


1- الأنعام (٦) : ٧٥
2- الأنعام (٦): ١٥١.

يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)،(1) و«التلاوة بالحق» هي التي لا تزيد ولا تنقص، فيكون المراد أنّ القرآن ينزل من عند الله تعالى مأموناً من تدخّل الشياطين، وعليه فتكون الآي_ة حاكية عن لسان الملائكة من دون إسناد إليهم وله نظائر في القرآن، كقوله تعالى: (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ)(2) وقوله تعالى: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ).(3)

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)، أي إن لم يؤمنوا بهذا الحديث مع أنّه من الله تعالى، فبأيّ حديث يؤمنون؟! والاستفهام للإنكار، أي إنّهم لا يؤمنون بأيّ حديث آخر إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث، ومعنى ذلك أنّهم ممّن لا يحصل لهم الإيمان بشيء وهو ما يدلّ عليه تقييد الآيات بالمؤمنين على ما أوضحناه.

وربّما يتصوّر إشكال في هذا التعبير، مع أنّه متكرّر في القرآن وغيره من جهة أنّ الله تعالى ليس له قبل ولا بعد، ومن جهة أنّه ليس حديثاً، فما هو المصحّح لهذا التعبير؟

قال في «الكشّاف»: «أي بعد آيات الله ، كقولهم: أعجبني زيد وكرمه، يريدون أعجبني كرم زيد. ويجوز أن يراد «بعد حديث الله» وهو كتابه وقرآنه، كقوله تعالى: (الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيث)(4)».(5)

والتوجيه الأوّل أحسن، وإنّما يقال مثل ذلك في ما إذا كان التركيز على

ص: 358


1- البقرة (2): 121
2- الصافات (37): ١٦٤-١٦٦
3- مريم (١٩): ٦٤
4- الزمر (39): 23
5- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل ٤: ٢٨٥ .

المضاف إليه والمقام من هذا القبيل، فالاهتمام بالآيات والاستغراب من عدم الإيمان بها من جهة أنّها مضافة إلى الله تعالى.

ولكن هناك احتمال آخر لم يذكروه، وهو أنّ المراد بالله في الآية الحديث المتعلّق به تعالى، لا حديثه بمعنى اضافته إلى الفاعل، فمعنى الآية أنّهم إذا لم يؤمنوا بالله تعالى وبآياته الكونية فبماذا يؤمنون؟! والغرض من ذلك بيان وضوح الأمر، فهو كقوله تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أفي الله شَكٍّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ).(1)

ص: 359


1- إبراهيم (١٤): ١٠

سورة الجاثية (7-13)

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَاكِ أَثِيم(7) يَسْمَعُ وَايَتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَتِنَا شَيْئًا أَغْخَذَهَا هُرُوا أَوْلَئِبِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(9) مِّن وَرَآبِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمُ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِنَايَتِ رَبهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِجْزِ أَلِيمُ (11)*اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِى الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَنتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13)

(وَيْلٌ لِكُلِّ أنَّاكِ أنيم)، «الويل» كلمة تقال للتنديد بأحد، وقيل: إنّ معناها قبحاً له. وأمّا ما يقال: إنّه مكان في جهنم، فليس تفسيراً للكلمة في اللغة، ولا دليل عليه في اصطلاح الشرع. والظاهر أنّ معناها تختلف حسب اختلاف الموارد، ولعلّها هنا تفيد التهديد بالعذاب.

و«الأفاك» مبالغة من الإفك وهو الكذب. و«الأثيم» مبالغة تدلّ على ثبات الوصف، فهو بمعنى من يكثر منه الإثم، فكأنّه صفة ملاصقة به.

وذكر هذه الجملة بعد استغراب عدم إيمانهم بالله وآياته للتنبيه على أنّ من لم يؤمن بالله مع وضوح آياته، فإنّما هو أفّاك أثيم، بمعنى أنّه يكذب في دعواه أنّه غير مقتنع بالآيات، وأنّها لا تدلّ على الصانع الحكيم، وهو أثيم بمعنى أنّ شدّة لصوقه بالآثام تمنعه من التفكير في وجود الصانع؛ لأنّ النتيجة المتوقّعة من هذا التفكير تقضّ مضجعه وتقلق باله، فهو يبحث في هذه الحياة عن الحرّية المطلقة ويتهرّب من كلّ ما يقيّده ويمنعه من التوسّع في لذائذه وشهواته.

ولعلّ التعبير عنه بالأفّاك أي بصيغة المبالغة من جهة أنّه يكذب حتّى على

ص: 360

نفسه ويحاول التهرّب من الحقائق التي لا تعجبه فهو يظهر للناس أنّه غير مقتنع بالآيات وهو يكذب في ما يدّعيه، بل هو يرى الحقيقة ويحاول أن لا يراها ويتغاضى عنها عمداً.

(يَسْمَعُ آيَاتِ الله تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وهكذا يتجلّى العناد بأبشع صوره، وذلك في مقابلة الحقّ الواضح، وهو أوضح الحقّ وأعظمه وأهمّه، وهو تلاوة آيات الله تعالى، أي القرآن الكريم، فإذا سمع الآيات عاند وأصرّ على كفره حال كونه مستكبراً، أي الذي يدعوه إلى معاندة الحقّ هو الاستكبار، فهو يرى نفسه أكبر من أن يصغي إلى هذه الكلمات.

ويلاحظ هذا الاستكبار بين الناس بصور ودرجات مختلفة، فنجد مثلاً في طغاة المسلمين نفس هذه الصفة في مقابل آيات الله تعالى، وهم يدّعون الإسلام، بل قيادة المسلمين، بل هناك من عامّة الناس من يستعلي على الله ويستنكف من أن يخاطب بآية من القرآن، وهناك من إذا قلت له: إنّ الله حرّم هذا، يضحك من كلامك. وهناك من يكتب في الصحف ويعلن أنّنا غير ملتزمين بما ورد في الدين، بل ملتزمون بالقانون الوضعي. كلّ هذا استكبار على الحقّ واستنكاف عن متابعة كتاب الله تعالى وآياته.

وفعل المضارع في قوله: (يَسْمَعُ ) و (يُصِرُّ) يدلّ على الاستمرار والتكرّر، وهو ما يجعله أفاكاً مبالغاً في الكذب على نفسه وعلى الناس، وأثيماً ملازماً للإثم والاستكبار. وقوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ) أي «كأنّه» وقال في موضع آخر: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)(1) وهم يعترفون ب_ه عل_ى م_ا

ص: 361


1- لقمان (31): 7

حكاه الله تعالى عنهم، كما قال: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقَرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ).(1)

والتعبير بالبشارة بالنسبة للعذاب تهكّم واستهزاء يستحقه المستكبر على الله تعالى.

(وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ هُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) هذه مرحلة اُخرى للمستكبر المذكور لا يسعه أن يولي، كأنّه لا يسمع حيث إنّه يسمع الآية، فيعلمها ويدرك معناها، ولكنّه يواجهها بالسخرية والاستهزاء والهُزُو والهُزء مصدر بمعنى السخرية، وهو هنا بمعنى المفعول به، فهو يتخذّ آيات الله مهزوءاً بها، أي يستهزئ بها. ويفهم من العبارة أنّه يسمع من الآيات شيئاً ويستهزئ بجميعها، كما يظهر من الضمير المؤنث حيث يعود إلى (آياتِنَا) . والسرّ فيه أنّه لا يهمه المعنى والمضمون وإنّما يستهزئ بها جميعاً؛ لأنّها بأجمعها تدعوه إلى الإيمان بالله وملازمة التقوى، وهذا هو الذي يستفزّه ويبعثه للمعاندة. ومثل هذا يستحقّ عذاباً مهيناً يذلّه بين الناس جزاءاً على استكباره واستهزائه.

والاستهزاء أقبح ما يتعامل به بعض المعاندين للحقّ، كما نجده في القرآن كثير منهم في الأمم السالفة، وذلك لأنّه بالرغم من تأثيره الوسيع والعميق في المجتمع لا تمكّن مواجهته من قبل الأنبياء والعلماء والمصلحين؛ إذ يعتمد على منطق ليواجه بالمنطق والبرهان وهم أرفع قدراً من أن يواجهوه نقلاً عن بمثله.

ويلاحظ أنّ الكفرة المعاندين في هذا العصر أيضاً يتّبعون نفس الأسلوب في

ص: 362


1- فصّلت (٤١): ٥

مواجهة الأديان عامّة والإسلام بالخصوص، وقد ملأوا صحفهم بالصور المشينة ويصرّون على تكريرها وتكثيرها.

(مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)، «جهنّم» اسم للنار التي خلقها الله تعالى للعصاة ال_م_ردة، والظاهر أنّها في الأصل كلمة عبرية. وقوله تعالى: (مِنْ وَرَائِهِمْ) أي عاقبة أمرهم جهنّم، فكونها وراءهم باعتبار أنّها هي العاقبة.

وقيل: إنّ قوله تعالى: (مِنْ وَرَائِهِمْ)، أي من أمامهم وأنّ الوراء يشمل الأمام، فإنّه مأخوذ من المواراة، فكلّ شيء يواريه الجسم فهو وراءه، سواء كان أمامه أو خلفه. وهو تأويل بعيد ويُفقد التعبير لطفه.

ويمكن أن يقال: إنّ اعتبارها وراءهم بلحاظ أنّها تتعقّبهم وتطلبهم، فكأنّها حيوان مفترس تحاول الهجوم عليهم من ورائهم، ونظير هذا التعبير متعارف لدى الناس يقال: إنّ وراءنا عمل أو دراسة ونحو ذلك، والمقصود أنّ العمل والدرس يطلبان منّا الاستعداد لهما.

(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءَ وَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، الإغناء: الكفاية. وأغنى عنه أي كفاه «وشيئاً» مفعول «يغني» والمراد شيئاً من العذاب أو شيئاً من الإغناء، أي لا أثر له نهائياً، فوجوده كعدمه. والمراد بما كسبوا يمكن أن يكون المال، فإنّ الأثرياء يظنّون أنّ كلّ مشكل يمكن حلّه بالمال. وهذا وإن لم ينطق به بعضهم فهو مستقرّ في نفوسهم حيث يجدون أنّ كلّ ما حلّ بهم من أمر أمكنهم أن ينقذوا أنفسهم ببذل المال، فيظنّون أنّه سينفعهم يوم القيامة أيضاً والله تعالى يقول: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ)(1) ويقال: إنّه

ص: 363


1- الشعراء (٢٦): ٨٨

كان هناك في العصور القديمة من يأمر بأن يدفن القديمة من يأمر بأن يدفن معه المال لينتفع به في الحياة الأخرى.

ويمكن أن يكون المراد بما كسبوا أعمالهم التي تصوّروا أنّها تنفعهم وهي لا تنفع لكفرهم حتّى لو كانت في ذاتها صالحة، كالإحسان إلى المحتاجين وبناء المدارس والمستشفيات، ولعلّ كثيراً من الطغاة والمفسدين الذين يعملون بعض هذه الأعمال يظنّون أنّه لو كانت هناك حياة أخرى فستنفعهم، والله تعالى يقول: (وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلِ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْشُورًا)؛(1) لأنّهم لم يعملوا هذه الأعمال تقرّباً إلى الله تعالى، فلا يحقّ لهم أن يتوقّعوا جزاءاً منه، وإنّما عملوه لإرضاء الناس، فليتوقّعوا منهم الأجر والثواب.

وكذلك لا تنفعهم ولايتهم لمن اتخذوهم أولياء من دون الله تعالى، والولي هنا بمعنى المتبوع ولا يختصّ بالأصنام - كما قيل - بل كلّ ما اعتبر ولي_اً م_ن دون الله تعالى، فإنّه لا ينفع شيئاً يوم القيامة؛ فإن الله هو الولي.

ومعنى اتخاذ وليّ من دون الله تعالى أن يعتبره مؤثّراً باستقلال، فيجعله ولياً له بدلاً من ولاية الله تعالى أي يعتقد فيه الربوبية، وهذا هو الكفر أو الشرك، سواء كان ذلك صنماً أو ملكاً أو بشراً، كما يعتقد النصارى في السيّد المسيح علیه السلام وهذا لا يشمل من يوالي أولياءه تعالى من جهة أنّهم أولياؤه، فإنّه ليس من اتخاذ الولي من دونه، بل ولايتهم تتّبع ولاية الله تعالى شأنه.

(هَذَا هُدى) إشارة إلى القرآن الكريم «والهُدى» مصدر وحمله على القرآن من باب المبالغة، كأنّه هو الهداية نفسها.

ص: 364


1- الفرقان (٢٥): ٢٣

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ هُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزِ أَلِيمٌ)، يمكن أن يراد بالآيات ما يشمل القرآن وغيره من كتب السماء والآيات الكونية. ويمكن أن يراد خصوص القرآن كما هو ظاهر السياق. وإنّما ذكرت الآيات للإشارة إلى العلّة، فهؤلاء يستحقّون هذا العذاب؛ لأنّ تكذيبهم للقرآن كفر بآياته تعالى.

و«الرجز» يقال: إنّه إبدال من الرجس، وهو القذارة، أي عذاب أليم من القذارات. وفيه تحقير وإذلال و«الأليم» مبالغة في إيجاب الألم، وعلى هذا الاحتمال ينبغي أن يكون مرفوعاً وصفاً للعذاب، كم_ا ه_و ف_ي المصحف الموجود.

وقيل: إنّ أصل الرجز الاضطراب، فيمكن أن يراد أصله أيضاً، فإنّ عذاب الاضطراب في الدنيا من أشدّ العذاب وهو بالفعل عذاب من يكفر بآيات الله تعالى؛ لأنّه لا يمكنه الإنكار على حقيقته، فإذا لم يؤمن بقي حائراً مضطرباً. و«أليم» على هذا الاحتمال مرفوع أيضاً.

وقيل: إنّ الرجز هو العذاب مطلقاً، فلا بدّ من أن تكون «من» بيانية، ولا يناسب رفع كلمة «أليم»، بل يناسب الجرّ، كما هو قراءة الأكثر على ما قالوا، لتكون صفة للرجز، ويصحّ كونه بياناً للعذاب المطلق، ولكنّه في المصحف الموجود بأيدينا مرفوع.

(الله اللَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بعد التنديد بمن يكفر بآيات الله ينبّه الإنسان على نعمه تعالى المحيطة ،به ليتبيّن له فظاعة الكفر بآياته وأنّه يستحقّ عليه العذاب، ولذلك لم يوجهه _هه إلى الآيات البعيدة، بل إلى النعم القريبة منه والمحيطة به وتقديم اسم الجلالة وهو

ص: 365

مسند إليه يفيد الحصر، وأنّ هذه النعم ليست إلا منه تعالى؛ وللتنبيه على أنّ محلّ الاهتمام في الكلام المسوق لذكر النعم هو التعريف بالمنعم الذي يجب شكره.

ولعلّ اختيار البحر من بين النعم من جهة عظمته وضخامته وقوّته وخوف الإنسان من أهواله، فيبيّن الله تعالى له أنّك على ضعفك أمام هذه القوّة الجبارة؛ انظر كيف سخّره الله تعالى لك وجعله طريقاً سهلاً للسفن التي تشقّ عبابه بأحجامها المختلفة وتنقل البشر وأحماله حيثما يشاء. كلّ ذلك بأمر منه تعالى، وهو الأمر التكويني الذي جعل البحر بطبيعته مستجيباً لطلب الإنسان استخدامه للتحرّك فيه حسب النظام الذي أعدّه الله تعالى فإذا كانت سفينة شراعية فإنّها تسير حسب الرياح المسخرة بأمره تعالى، وإن كانت تسير بأجهزة، فتسير حسب القوة التي أودعها الله فيها وفي وقودها.

و«الابتغاء»: الطلب. و«الفضل»: الزيادة. وكلّ ما ينعم الله تعالى به على عباده فضل منه تعالى وزيادة؛ إذ لا يستحقّ أحد عليه شيئاً. والمراد بالفضل هنا رزقه تعالى، فقوله: (وَلْتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتطلبوا من رزقه بالسفر بحراً إلى أماكن بعيدة للتجارة، فإنّ كلّ ما يحصل عليه الإنسان بكدّ يمينه ليس إلا رزقاً من الله تعالى وهو الذي هيّأ له الأسباب.

واللام في قوله: (سَخَّرَ لَكُمْ) تحتمل التعدية بمعنى كون البحر بذاته مسخّراً ومذللاً لإرادة الإنسان يتصرّف فيه كما يشاء حسبما أوتي من قدرة ودهاء، ويحتمل التعليل بمعنى كونه مسخّراً لمصلحة الإنسان، نظير تسخير الشمس والقمر، كما قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ)،(1) فإنّ الإنسان لا يمكنه

ص: 366


1- إبراهيم (١٤) : ٣٣

التصرّف فيهما ولكنّهما مسخّران بإرادته تعالى لمصلحة الإنسان.

وذكر لهذا التسخير ثلاث غايات: جريان الفلك في البحر، وطلب الرزق، والغاية القصوى لكلّ نعمة هو إيجاد الأرضية الصالحة لشكر المنعم. وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ ) يفيد هذا المعنى، أي خلق الأرضية الصالحة للشكر، ولم يقل «ولتشكروا»؛ إذ قد لا يشكرون، وقد قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).(1) ويلاحظ الاهتمام على الإضافة إلى الله تعالى في كلّ جملة، فجريان الفلك بأمره وطلب الرزق من فضله وأخيراً تشكرونه على نعمه.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) تعميم بعد ذكر الخاصّ، فالتسخير لا يختصّ بالبحر ، بل كلّ ما في السماوات وما في الأرض مسخّر لكم. وقوله تعالى: (جَميعاً) يؤكّد أنّه لا يشذّ عن ذلك شيء. وليس معنى التسخير هنا أنّ الإنسان له القدرة في التصرّف في كلّ ذلك، بل بمعنى أنّها مسخرة لمصلحة الإنسان، فكلّ حركة الأفلاك والنجوم والمجرات الهائلة تصب في مصلحة الإنسان، فضلاً عن كلّ ما على وجه الأرض وما في باطنها، ولعلّه يستغرب أن تكون للمجرّات البعيدة تأثير على الحياة البشرية ولكن لا يبعد أن يكون لكلّ منها تأثير في حركة النجوم والكواكب والنظام الكوني، وبالتالي تؤثّر على نظام حركة الأرض وما نجده من الليل والنهار وغير ذلك.

ويمكن أن يقال: إنّ معنى التسخير أنّ الله تعالى جعل له الحقّ والاختيار في أن يتصرّف في الكون كيف ما يستطيع، فالمجال مفتوح أمامه وإن كانت قدراته محدودة، ولعلّ في ذلك حتّاً على محاولة التوسّع في القدرات.

ص: 367


1- سبأ (٣٤): ١٣

هذا بناءاً على أنّ المراد بالسماوات هنا الأجرام العلوية، والمراد بالأرض الكرة الأرضية ، ولكن لا يبعد أن يراد المعنى الذي ذكرناه مراراً، في__راد بالسماوات العوالم العلوية التي هي مسكن ملائكة الله تعالى، ويراد بالأرض عالم الطبيعة بأجمعها، وذلك لأن الملائكة أمرت أن تسجد لآدم علیه السلام وهو رمز البشرية، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثم قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا)،(1) وهذا ربّما يدلّ على أنّ البشر هو المسجود للملائكة، واحتملنا في موضعه أن يكون المراد بالسجدة نوعاً من التسخير، فإنّ كلّ حركة وسكون في الطبيعة لا يكون إلا بأمر من ورائها والملائكة هم الذين يدبّرون أمور الطبيعة، كما قال تعالى: (فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)(2) وهم الذين ينزلون بأوامر الله تعالى إل_ى ك_لّ

شيء في الكون، فلعلّ الأمر بالسجود بمعنى أنّ الله تعالى جعل لهذا الكائن الاختيار في ما يريد أن يفعل ، وأمر ملائكته بتنفيذ أوامره، ولولا ذلك لم يكن للإنسان أن يختار.

وأمّا قوله تعالى: (مِنْهُ) فيدلّ على أنّ كلّ هذا الاختيار من الله تعالى. ولع_لّ ذلك التنبيه على أنّ هذا التسخير ليس بمعنى التفويض، وليس للإنسان أن يتصرّف في شيء إلا بإرادته تعالى، والله لا يفوّض أمر الربوبية إلى أحد حتّى فيما يخصه، كما قال: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أحَداً)(3) ولا يبعد أن يكون حرف الجرّ مع متعلّقه حالاً للتسخير، أي سخّر لكم حال كون التسخير حاصلاً

الغرض من

ص: 368


1- الأعراف (7): 11
2- النازعات (79): 5.
3- الكهف (١٨): ٢٦

من إرادته تعالى المستمرة، فإن لم يشأ التسخير انتفى فوراً، فلا يبقى مجال لاختيار الإنسان، بل يكون كغيره حينئذٍ مسيّراً ضمن النظام العامّ.

وللقوم محاولات في بيان التركيب النحوي لهذه الكلمة وأحسن ما قيل: إنّه حال ممّا في السماوات والأرض ، أي سخّرها حال كونها مبتدأة منه تعالى؛ لأنّه هو الموجد لها. وما ذكرناه أدقّ وأنسب للعبارة.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)؛ في الكون آيات كثيرة لا تحصى ولك_ن لمن يتفكّر ويتدبّر النظام الكوني المتماسك، وأين موقع اختيار الإنسان منه؟ وكيف يتناسق الاختيار البشري مع جبرية النظام؟ وكيف سخّر الله الكون لهذا الكائن؟ ولماذا؟ وكيف تؤثّر إرادته في ملكوت السماوات وبدونه يستحيل

الاختيار ؟

ص: 369

سورة الجاثية ( 14 - 17)

قُل لِلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ وَآتَيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ الْكِتَبَ والحكم والنبوة وَرَزَقْتَهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْتَهُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ(16)وَآتَيْنَهُم بَيِّنَتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(17)

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله) الآية تحرّض المؤمنين على التسامح مع المشركين وتحمّل استكبارهم و استهزائهم. وتوصيفهم بأنّهم لا برجون أيّام الله بمنزلة التعليل للحكم، أي اصفحوا عنهم؛ لأنّهم لا يرجون يوماً للقاء الله تعالى ولا يوماً يجدون فيه ثوابه ولا يرجون اليوم الآخر ولا يوماً يمنّ الله عليهم بالنصر على الأعداء، وهذه كلّها أيّام الله تعالى يرجوها المؤمن، أي يتوقّعها، بينما الكافر لا ينتظر من المستقبل إلا الموت، وبه ينتهي كلّ شيء حسبما يراه، كما قال تعالى: (إنْ تَكُونُوا تَأْلُونَ فَإِنَّهُمْ يَألُونَ كَمَا تَأْلُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لا يَرْجُونَ)،(1) فالآية في مقام الاستعطاف على هذا البشر الجاهل، فتطلب من المؤمنين المترفّعين عليهم واقعاً _ وإن كانوا بحسب الظاهر أدنى منهم في المراتب الاجتماعية الكاذبة - أن يغفروا لهم جهلهم وسفاهتهم وطيشهم وكبرياءهم، ولا يحزنوا إذا لم يتمكّنوا من مجازاتهم، فإنّ الله تعالى لهم بالمرصاد ويكفيهم الجزاء يوم القيامة.

ص: 370


1- النساء (٤): ١٠٤

وليس المراد العفو عنهم واقعاً فهم لا يستحقّون العفو، وإنّما المراد الإعراض عنهم وعدم مشاكستهم في الوضع الحالي، فهو نظير قوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(1) وقوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أهل الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ هُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(2) وغيرهما من الآيات.

ثمّ إنّه لم يأمر بذلك ابتداءاً وإنّما أمر رسوله أن يقول ذلك للمؤمنين، فلعلّ السرّ فيه أنّه نوع من الأوامر الحكومية التي تتّبع المصالح المؤقتة وليس من أصل الشريعة، ولذلك قيل: إنّه نسخ بآية القتال.

والمعروف في إعراب قوله: (يَغْفِرُوا) أَنَّه جواب شرط مقدّر، فإنّه ليس هو المقول، بل المقول: «اغفروا»، والتقدير: قل لهم اغفروا، فإن تقل لهم يغفروا، ومثله قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا كَما رَزَقْنَاهُمْ سِراً وَعَلانية)(3) ولكنّه بعيد، إذ لا ملازمة بين الأمر والطاعة، ولذلك اضطرّ بعضهم إلى

توجيه ذلك بأنّه من جهة حسن الظنّ بالمؤمنين، ولكن هذا التعبير لا يختصّ بهذه الموارد، ولعلّ الأولى ما قاله بعض آخر: إنّه بتقدير لام الأمر، أي «قل لهم ليغفروا».

والمراد بأيّام الله الأيام التي تظهر فيها آيات خاصّة ل_ه تعالى، كما قال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي

ص: 371


1- الزخرف :(٤٣): 89
2- البقرة (2): 109 .
3- إبراهيم (١٤): 31.

ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)،(1) والمراد في هذه الآية الأيّام التي منّ الله فيها على بني إسرائيل وأهلك أعداءهم، ولذلك جاء في الآية التي بعدها: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).(2)

والظاهر أنّ المراد بها في المقام ما يشمل أيّام النصر الإلهي في الدنيا وأيّام الجزاء في الآخرة.

(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). اللام لتعليل الغفران، أي اغفروا لهم ليجزيهم الله، وهو في الواقع علّة لأمر آخر مترتّب على الغفران، وهو توقّع الجزاء و انتظاره فالمعنى اغفروا لهم وانتظروا جزاءه تعالى، والظاهر أنّ تنكير القوم ليشمل الطرفين، أي يجزي كلّ قوم ، فالمعنى اغفروا لهم وانتظروا يوماً يجازى فيه كلّ أحد بما عمل، فلا تستعجلوا لهم العذاب ولأنفسكم ،النصر، فإنّ يوم الانتقام الحقيقي والنصر الحقيقي هو يوم القيامة. ويدلّ على ذلك الآية التالية، حيث ذكر حكم الفريقين.

ولعلّ القصد من التنبيه على أنّ موعد جزاءهم الواقعي يوم القيامة هو أنّ كثيراً من الناس حتّى المؤمنين لا يهمّهم جزاء الآخرة، ويشعرون بالكآبة والحرمان إذا لم ينتقم الله تعالى لهم في الدنيا، والله تعالى يشير إلى ذلك في بعض المواضع، كقوله تعالى: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)،(3) ففي ذلك

ص: 372


1- إبراهيم (١٤) : ٥
2- إبراهيم (١٤): ٦- ٧
3- الصف (٦١): ١٣.

إشارة إلى أنّ المهمّ هو الجزاء في الآخرة، ولكنّكم تحبون النصر الدنيوي، وهو جهل من الإنسان وضعف في إيمانه.

واختلف المفسّرون ، فمنهم من فسّر «القوم» بالمؤمنين واعتبر التنكير للتعظيم، مع أنّه ليس من موارده ولا يناسب السياق ،تعظيمهم، مضافاً إلى أنّه لو فرض لكان المناسب أن يقال: ليجزي الله قوماً بغفرانهم، لا بما كانوا يكسبون. ومنهم من فسّره بالكفّار، واعتبر التنكير للتحقير. ولا نجد فيه تحقيراً لهم، والتعميم أولى وأوفق بالسياق.

ويمكن أن تكون اللام تعليلاً لقوله: (يَرْجُونَ) والمراد بأيّام الله أيّام الجزاء في القيامة، أي اغفروا للذين لا يتوقّعون الجزاء أيّام الجزاء، لأنّهم لا يؤمنون بالآخرة، فيكون الجزاء في الآية منفياً بنفي الرجاء، وهذا وجه بديع لم أجده في التفاسير وهو أنسب بالتعميم في القوم.

والحاصل أنّ الآية تدعو إلى نوع من التسامح الديني وهو عدم اللجوء إلى العنف ما لم يضطرّ إليه الإنسان، وأمّا نفي العنف والتسامح مع كلّ ما يريده الإنسان ويعتقده من شرك وكفر والسماح لكلّ المبتدعين والمنحرفين والداعين إلى الفساد والفسق أن يظهروا أمرهم ويفسدوا المجتمع، فليس أمراً يقبل_ه دي_ن الله، فإنّ الدين أتى لهداية الناس، فإذا تمكّن الدين من بسط قوّته و هيمنته وتولّى إدارة المجتمع، فلا يجوز أن يسمح للأصنام أن تبقى ولا للباطل أن ينشر.

وما يقال في أبواق الأعلام الفاسد من الدعوة إلى عدم الدعوة إلى عدم العنف مطلقاً، فهو هراء وليس أمراً عملياً، بل الداعون إليه يرتكبون أشدّ العنف ضد شعوب أخرى بكاملها. وما ينسب إلى غاندي أنّه قال: «مبدأ العين بالعين يجعل العالم كلّه

ص: 373

أعمى كلام باطل؛ فإنّ مبدأ القصاص يمنع من تكرار القتل والاعتداء، كما قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ)(1) وقالت العرب: «القتل أنف_ى للقتل» وهو ما يؤكّده التجربة أيضاً، والعالم الإسلامي طبّق قانون العين بالعين قروناً ولم يتحوّل المجتمع إلى مجتمع أعمى، كما قاله غاندي لو صحت النسبة.

والدعوة إلى التسامح الديني المطلق إنّما تصحّ على مبادئ المادية الإلحادية التي لا تؤمن بحياة أخرى، فغاية الغايات في هذه الحياة عندهم هو الاقتصار على هذه الحياة، فلا بدّ من السعي لإبقائها بأيّ ثمن ولا بدّ من السعي لإسعاد البشر في هذه الحياة، فإنّه إذا مات فقد انتهى أمره. وأمّا على مبادئ الدين الإلهي فالغاية في هذه الحياة كسب السعادة في حياة أخرى، فالتسامح مع الأفكار المخالفة لهذا المبدأ وتركها تنتشر بين الناس إغراء وإغواء وتضليل، ولذلك فهو أشدّ من القتل، كما قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(2) وفي موضع آخر: (وَالْفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)(3) والمراد بالفتنة إضلال الناس عن دينهم.

ولكن ليس معنى ذلك أن يمنع من كان بيده القدرة كلّ فكر يخالف فكره ويمنع من البحث والمناظرة وبسط الأفكار بحجّة أنّها منحرفة وباطلة، وربّما يسمّون كلّ فكر مخالف لفكرهم شركاً وبدعة وانحرافاً وفساداً ليتاح لهم منعه، بل قتل من يعتنقه، كما نجده متداولاً لدى المتشدّدين والمتعصبّين. فالصحيح أن يسمح لكلّ صاحب عقيدة أن يظهر عقيدته ويردّ عليه من يخالفه بالبحث والمناظرة، فإنّ الحقّ ليس أبلج واضحاً دائماً.

ص: 374


1- البقرة (2): 179
2- البقرة (2): 191
3- البقرة (2): 217

والبحث العلمي هو الذي يوصلنا إلى الحقّ، وربّما يكون الحقّ في مسألة من المسائل مع المذهب المخالف، وربّما يكون الحقّ في جهة أخرى غير ما نعتقده ويعتقدونه، وربّما يكون بعض الحقّ معنا وبعضه معهم، فلا ينبغي أن يحكم بشيء قبل البحث الجادّ الموضوعي.

(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) ، تفصيل لما أجمل في الجملة السابقة من مجازاة كلّ قوم بما كسبوا فإن كان العمل صالحاً، أي يصلح للتقرّب إلى الله تعالى ونيل رضاه وثوابه انتفع به العامل؛ و (صالحاً) صفة للمفعول المقدّر، أي عملاً صالحاً، والتنكير يفيد أنّ العمل مهما كان لا يترك بل يجازى عليه، كما قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)، ولا يكون العمل صالحاً إلا بالنية الصالحة، وهي قصد القربة وامتثال الأمر الإلهي وطلب رضاه، ولا يفوز بذلك إلا المؤمنون المخلصون. وأمّا من أساء فمن الطبيعي أنّ سوء عمله يعود عليه بالضرر يوم تظهر الأعمال بصورتها الواقعية.

(ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)، «ثمۀ» للتراخي، أي بعد أن عملتم في هذا العالم أعمالكم الصالحة والسيئة ترجعون إلى ربّكم للمحاسبة الدقيقة وأتى بالفعل مبنياً للمجهول؛ لأنّ الرجوع ليس بالاختيار وإنّما يُرجع الإنسان إلى ربّه قهراً وقسراً.

والتعبير بالرجوع يوحي أنّكم منه وإليه، وليس معناه أنّ الإنسان كان بين المبدأ والمعاد بعيداً عن ربّه وخارجاً عن سلطانه تعالى، ولكنّه حيث منح الاختيار توهّم الاستقلال، ثمّ ارتفع الغشاء وانكشف الغطاء فرأى نفسه أمام ربّه ومعه أعماله.

ص: 375

(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ينتقل السياق إلى تحذير المسلمين ممّا لحق بالأديان والشرائع السابقة من الاختلاف الموجب لفقدهم سلطتهم وقيادتهم التي وهبهم الله في تلك الفترة، وضرب المثل ببني إسرائيل لوضوح أمرهم ولقربهم للعرب، ولأنّهم شكّلوا حكومة على أساس الدين، وإلا فالأمر لا يختصّ بهم، كما قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةٌ وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(1) ومهما كان، فإنّ الله تعالى منّ على بني إسرائيل بأن آتاهم الكتاب والحكم والنبوّة.

والمراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإنجيل والزبور. وقيل: المراد به خصوص التوراة، لأنّها الكتاب المشتمل على الشريعة، والأوّل أولى. والمراد بالحكم الحكومة؛ لأنّ الله تعالى جعل منهم ملوكاً وحتّى الأنبياء منهم كانوا يحكمون المجتمع، والحكم متفرّع على نزول الكتاب عليهم، قال تعالى: (إِنَّا انْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ اسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأخبار بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)(2)، ومن فضل الله عليهم كثرة الأنبياء فيهم .ومنهم. قيل : إنّ منهم أربعة آلاف من الأنبياء، والله تعالى يعد جمعاً كبيراً منهم في القرآن ويشير إلى آخرين.

(وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ). لعلّه إشارة إلى أنّ الله تعالى جعل لهم الأرض المقدّسة وكتبها لهم موطناً، وهي أرض مليئة بالخيرات والبركات، ويمكن أن

ص: 376


1- البقرة (2): 213
2- المائدة (٥): ٤٤

يراد بالطيّبات المنّ والسلوى حيث اختصّهم الله تعالى بهما في سفرهم مع موسى علیه السلام والطيّبات كلّ ما يستلذّه الإنسان ويستسيغه من النعم.

(وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، ورد هذا التعبير في عدّة موارد والمراد تفضيلهم بكثرة وجود الأنبياء فيهم ومنهم، أو المراد تفضيلهم على العالمين في عصرهم، حيث جعل الله لهم القيادة والحكم والنبوّة.

(وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ) إشارة إلى المعجزات والآيات الواضحة التي منّ الله بها عليهم، ولا شكّ في أنّ نزولها في المجتمع نعمة عظيمة توجب الوثوق والإيمان وإن كانت في نفس الوقت حجّة على الإنسان وفتنة له، وكذلك هي إشارة إلى البراهين والأدلة الواضحة التي وردت في الكتاب أو على ألسنة النبييّن. ومن وظائف النبي أن يبيّن للناس الحقائق والمعارف الإلهية ويأتي بالأدلّة القاطعة المقنعة.

والحاصل أنّ من ارتدّ أو شكّ منهم لم يكن عن عذر ونقص في البيّنات، فالأمر كان واضحاً، وإنّما كان ذلك لسبب آخر، كما سياتي.

والمراد بالأمر في الآية أمر الدين بوجه عام، و «من» تفيد معنى «في» على ما قالوا.

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)، «الفاء» للتفريع، أي نتيجة للبيّنات التي آتيناهم كانوا عالمين بما هو الحقّ ومن له الحقّ، ولكنّهم إنّما اختلفوا في ما بينهم لعدوان بعضهم على بعض طلباً لما لا يستحقّونه.

و«البغي» في الأصل هو الطلب، ويغلب إطلاقه على طلب ما ليس بحقّ و«ابغياً» مفعول لأجله، أي اختلفوا طلباً للباطل.

ص: 377

والمراد بالاختلاف ما يسبّب تمزّق المجتمع وصيرورته مذاهب وفرقاً مختلفة، كما حصل في المجتمع الإسلامي أيضاً، فالآي_ة كنظائرها تحذّر المسلمين من وقوع هذا التمزّق والاختلاف نتيجة للبغي وطلب بعضهم ما ليس لهم بحقّ، وهو الذي حصل بالفعل بعد عهد الرسالة المجيدة واستمرّ إلى يومنا هذا. وهذا من إخبار القرآن بالغيب.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) تهديد من الله سبحانه له_م ولنا بأنّ القضاء وهو الحكم الفصل سيكون من الله تعالى يوم القيامة، وذلك بتبيّن الحقائق وكشف الغطاء ووضوح الحقّ ومجازاة المجرمين.

والتعبير بربّك يشير إلى أنّ ذلك حاصل في المجتمع الذي يخصّك وأنت متكفّل بتربيته، حيث إنّهم سيختلفون بعدك، وربّك هو الذي يقضي بالحقّ ي_وم القيامة؛ لأنّه ربّك وعليه إكمال المسيرة التي ابتدأتها برسالتك، وحرّف الباغون مسارها، وهم الذين عبّر عنهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالفئة الباغية.

و فی ذلك وعد للمظلومين في هذه المواجهة بأنّ الله سيأخذ حقّهم، ولكن يجب على المؤمن أن يوطّن نفسه أنّ النصر الحقيقي والانتقام الحقيقي إنّما يحصل يوم القيامة. وهذا لا ينافي ظهور الإمام المهدي علیه السلام فإنّه المصلح على وجه الأرض، ولكنّه لا يمكن أن ينتقم من كلّ الباغين، حيث لا مجال لإعادة

التأريخ.

ص: 378

سورة الجاثية (18 - 23)

ثُمَّ جَعَلْتَكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(18)إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)هَذَا بَصَبِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن تَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ سَوَاءٌ تَحْيَاهُمْ وَمَمَاهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَئيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَنهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ، غِشَوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(23)

(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ) ، «الشريعة» هي الطريق الموصل إلى الماء،وهنا كناية عن الطريق الموصل إلى المطلوب، وهو رضا الله سبحانه.

والمراد بالأمر أمر الدين و«ثمّ» للتراخي الزماني، أي بعد أن انتهت مدّة قيادة بني إسرائيل للمجتمع الديني بسبب اختلافهم وتمزّقهم اختارك الله تعالى لتقود البشرية إلى الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله تعالى، وجعل لك الشريعة الحقّة النهائية المناسبة للإنسان إلى الأبد.

(فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هذا هو الحكم الفصل، فالمقياس هو الشريعة ومتابعتها وكلّ من يخالف الشريعة ويرى رأياً يخالفها، فهو جاهل الأمور وجاهل بالمصالح والمفاسد، وإنّما يتكلّم على هواه فلا يجوز اتّباعه. وهكذا يتحدّد واجب كلّ إنسان وهو متابعة الشريعة فقط.

إنّما الكلام في معرفة الشريعة بعد أن لعبت الأهواء دورها وقلّبت المقاييس

ص: 379

وبغى الباغون وأزالوا الشريعة عن مسارها الأصلي وغيّروا حتّى معالمها الأساسية، فاللازم في هذا الحال معرفة الشريعة الواقعية ومتابعتها وربّما يكون ذلك صعباً بعد أن اختلطت الطرق، وتمكنت السلطة من أخفاء معالم الطريق الصحيح. والأمر وإن كان متوجّهاً إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلا أنّ الحكم عامّ.

ويبدو أنّ الآية نزلت في مواجهة الاقتراحات المتكرّرة التي كان المشركون یقترحونها على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ليتنازل عن بعض ما يدعو إليه ممّا لا ويخالف أهواءهم، كشرط لإتمام الصلح بينهم وبينه. وما كان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يتنازل قيد أنملة، ولكنّ الآيات الكريمة تدعمه وتقوّي جانبه وتبعث في نفسه الطمأنينة، وكذا في نفوس المؤمنين، مضافاً إلى أنّه يقدّم له ولهم ذريعة وحجّة في مقابل أصحاب الاقتراح، حيث إنّ رفضهم للاقتراح يستند إلى أمر من الله تعالى لا تجوز لهم ،مخالفته، ومن جهة أخرى تؤيس المشركين حتّى لا يستمرّوا في إبداء المقترحات الفاسدة.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً) كلام واضح لا غبار عليه، ومن يغني أحداً من الله تعالى؟! ومعنى «الإغناء» الكفاية، فالكفاية من الله تعالى بمعنى أنّ أحداً يقوم بالأمر الذي يقوم به الله تعالى. وهذا واضح الاستحالة، فإنّ كلّ من يعمل شيئاً ويؤثّر أثراً في الكون مهما عظم شأنه فإنّما هو يعمل بإذن من الله تعالى؛ إذ لو ل_م يأذن لم يؤثّر أيّ شيء أثره، فلا النار تحرق ولا الماء يبرد، فكيف يمكن أن يغني أحد أو شيء من الله تعالى شيئاً؟!

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالله وَليُّ المُتَّقِينَ)، الآية تزيد من تمسّك الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمنين بدينهم وتقوّي عزيمتهم وتزيل تخوّفهم من الظالمين

ص: 380

وعدوانهم وتهديداتهم، حتّى لا يهتموا بما يقترحونه كأساس للصلح، ويظلّوا صامدين في تمسّكهم بما أنزل الله تعالى من الشريعة، وذلك لأنّ الله يتولّى أمر المتّقين وينصرهم ويهديهم لما يجب أن يعملوه أو يتركوه وه_و الع_ال_م بحقائق الأمور، وهو لا يتولّى أمر الظالمين ولا ينصرهم، وإنّما يتولّى بعضهم بعضاً وهم لا يغنون ولا ينفعون شيئاً، فأين هذه الولاية من تلك؟!

ولم يعبّر بالمؤمنين والكافرين بل بالظالمين والمتّقين، ومعنى ذلك أنّ الله لا يتولّى أمر كلّ من أسلم ظاهراً ولم يتّق الله في شؤونه، وفي هذا تحذير للمسلمين أن لا يغترّوا بأنفسهم ولا ينسبوا كلّ ما يحصلون علي_ه م_ن ف_ت_ح ظاهري وبسط للسلطة إلى ولاية الله تعالى وتوفيقه، فإنّهم ربّما يدخلون في الفريق الآخر وهم الظالمون، فيكون ما حصلوا عليه نتيجة تعاون الظالمين بعضهم مع بعض. ونجد اليوم أنّ كثيراً من المسلمين يتولّون الكفّار ويأتمرون بأوامرهم ويركنون إليهم، فهم جميعاً ظالمون وبعضهم يتولّى بعضاً.

(هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ)، «هذا» إشارة إلى القرآن الكريم، و«البصائر» جمع بصيرة و معناه العقل والفطنة وما يسمّى برؤية القلب، أي الإدراك لا عن طريق الحواس الظاهرية. وإطلاق ذلك على القرآن باعتبار اشتماله على ما يوجب بصيرة الإنسان ورؤيته لحقائق من المعارف الإلهية ما كان يمكنه إدراكها لولا إخبارالوحی بها- وأتى بالخبر جمعاً باعتبار أنّ القرآن يشتمل على حقائق كثيرة متنوعة توجب البصيرة.

(وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، «الهدی» مصدر، فحمله على القرآن من جهة أنّه يوجب الهداية فهو من باب المبالغة. وهو رحمة، أي سبب لنزول الرحمة من الله

ص: 381

تعالى على من يعمل بما فيه، أو أنّه نزل عليهم رحمة بمعنى أنّه نشأ من رحمته تعالى على الناس.

و«الرحمة» في الأصل رقّة وعطف، ولكنّه حيث ينشأ منه الإحسان أطلق على نفس الإحسان. قيل: وبهذا الاعتبار يسند إلى الله تعالى؛ إذ لا يصحّ إسناد المعنى الحقيقي وهو رقّة القلب. وهذا هو المشهور في توجيه إسناد بعض الصفات إليه تعالى كالرضا والغضب. ولكنّا ذكرنا مراراً أنّ الظاهر أنّ ما يسند من الأوصاف لا يمكن تفسيرها ،بلوازمها، فإنّ رضوان الله تعالى لا يقاس بسائر نعم الجنّة، كما أنّ غضبه وانتقامه وسخطه لا يقاس بالنار وعذابها والرحمة من الله تعالى نوع عطف و توجّه وعناية وهي السبب في الإحسان إلى الخلق.

والظاهر أنّ قوله تعالى: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) متعلّق بالهدى والرحمة، فالقرآن بصائر للناس جميعاً، ولكن إنّما يهتدي به الذين يوقنون، فتكون رحمة عليهم وقلنا سابقاً إنّه لا يبعد أن يكون المراد بمثل هذا التعبير الذين يحصل لهم اليقين بمشاهدة آيات الله تعالى، لا خصوص من حصل لهم اليقين بالفعل فإنّ من يكون مضطرب النفس لا يحصل له اليقين بالغيب، فلا يؤمن ولا يهتدي بهذا

القرآن.

والقرآن إنّما هو كتاب رحمة لمن يهتدي به، وأمّا بالنسبة إلى غيره فليس رحمة، أي سبباً للرحمة، بل هو يزيدهم خساراً، كما قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً).(1) والسبب أنّه يتمّ الحجّة عليهم وحيث لا يؤمنون به فيزيدهم خسراناً، بل من جهة أخرى يزيدهم طغياناً

ص: 382


1- الإسراء (17): 82

وكفراً وحسداً، كما حدث ذلك بالنسبة إلى النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم، فإنّ ال_ق_وم م_ا كانوا يعادونه لولا نزول القرآن والوحي عليه، وكلّ ما أظهروه من عداوة، خسارة ووبال عليهم. فالنتيجة أنّه ليس هدى ورحمة إلا لقوم يوقنون.

(أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ تَحْيَاهُمْ وَتَماتُهُمْ )، «أم» منقطعة والاستفهام فيها للاستنكار، وتقدير «بل» للإضراب عن الحديث السابق، حيث خصّ الهداية والرحمة بقوم يوقنون أو الحديث عن الفرق بين الظالمين والمتّقين، أي ولكن حسب الذين اجترحوا... والاستنكار يدلّ على بطلان هذا الحسبان.

و«الاجتراح» افتعال من الجرح وهو بمعناه والظاهر من كلام اللغويين أنّ للجرح معنيين في أصل اللغة، أحدهما: الاكتساب خيراً كان أو شرّاً. والثاني: شقّ الجلد. ولكن لا يبعد أن لا يكون له معنيان؛ لأنّ الظاهر من موارد الاستعمال أنّه لا يستعمل إلا في موارد كسب الشرّ، فلا يبعد أن يكون أيضاً من الجرح بالمعنى الثاني، والإطلاق بلحاظ أنّ الذي يكتسب الشرّ كأنّه بعمله يجرح ويخدش الضمير الاجتماعي والوجدان البشري، ومن ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ).(1) واجتراح السيئات لا يختصّ بالكفار، بل قد اُطلقت السيّئات في القرآن على صغار المعاصي فضلاً عن الكبائر، قال تعالى: (إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)(2)؛ وأطلقت على بعض الكبائر، كقوله تعالى في قوم لوط علیه السلام

ص: 383


1- الأنعام (٦): ٦٠
2- النساء (4):31.

(وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)،(1) ولكن سياق الآية يقتضي الاختصاص بالكافر، فإنّ الذي يعتقد أنّه لا فرق بين المؤمن وغيره في المحيا والممات، وخصوصاً في الممات لا يكون مؤمناً ، ولا أقلّ من إنكاره للمعاد، ويؤيّده أيضاً الآيات التالية، فتكون الآية من جهة هذا التعبير مشابهة لقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)،(2) بناءاً على أنّ المراد بهم المشركون، ومع فإنّ اختيار هذا التعبير لا يبعد أن يكون للدلالة على تعميم الحكم للظلمة الطغاة ممّن يدّعون الإيمان بالله تعالى، حيث يدلّ عملهم على إنكارهم المعاد قلباً.

وقوله تعالى: (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) يقتضي أن يكونوا مؤمنين بالله تعالى وبأنّه خالق الكون، بل ربِّ العالمين؛ لأنّ هذا الأمر من شؤون الربوبية. ولكن يمكن توجيه هذا التعبير بأنّه ليس جزءاً من حسبانهم، وإنّما هم يحسبون وحدة العاقبة والنتيجة من دون أن يسندوها إلى الله تعالى إلا أنّه حيث كان على تقدير صحّة الحسبان من شؤون الربوبية أعتبروا كأنّهم ينسبون ذلك إلى الله تعالى.

وقوله: (سَوَاءٌ)، أي متساوية محياهم ومماتهم. وهذا جزء من الحسبان الباطل، أي إنّ الذين اجترحوا السيّئات يحسبون أنّ محياهم كمحي_ا المؤمنين ومماتهم كمماتهم. والمحيا والممات يمكن أن يكونا مصدرين، فالمراد أنّه لا تتساوى حياتهم ولا موتهم، ويمكن أن يكونا اسمي زمان، أي لا يتساوون في زماني

حياتهم وموتهم، والنتيجة واحدة.

وربّما يقال: إنّ محياهم متساو بالفعل، بل لعلّ المفسدين والفاسقين أحسن

ص: 384


1- هود (11): 78
2- العنكبوت (29): ٤

حالاً في الحياة من جهة عدم المبالاة في كسب المال وفي بلوغ الأماني والشهوات، فالفاسق يشعر بالحرّية في كلّ أفعاله وأقواله، والمؤمن ملجم وكالقابض على الجمر، ولذلك أوّل بعضهم المحيا تارةً بأنّ المراد به الحياة في الآخرة، وتارةً بأنّ المراد نفي المجموع، لا كلّ واحد بمعنى أنّهم إذا تساووا في الحياة، فهل نجعلهم يتساوون في الممات أيضاً؟!

ولكن يجب أن يلاحظ أنّ الكفّار والمنكرين للمعاد والظالمين الذين يرتكبون أفظع الجرائم دون أيّ مبالاة وخوف وتوقّع للحساب والجزاء، ماذا يحسبون وكيف يتصوّرون، ليتبيّن المراد بالآية الكريمة؟ والملاحظ أنّهم يرون أن لا ميزة للإيمان والعمل الصالح، لا في الحياة ولا في الممات، أي في ما بعد الموت، أمّا في الحياة فهم يرون أنّ السعادة والشقاء يدوران مدار عم_ل الإنسان وجهده، فلا فرق بين الكافر والمؤمن، ونجد من كلّ فرقة أناساً سعداء في الحياة الدنيا وأناساً يعيشون حياة البؤس والشقاء، وأمّا في ما بعد الموت فهم ينكرون حياة بعده، فلا فرق أيضاً بين الفريقين، وهذا كما يصرّح به الكافر، ويعتقد ب_ه الظالم الذي لا يعبأ بما يفعل وما يرتكب من الجرائم وإن كان يظهر الإيمان بالله واليوم الآخر.

فهذا هو الأمر الذي نجده ممّا يحتسبه المنكرون للمعاد، وهذه الآية ترد عليهم بأنّ هذا حسبان باطل وسيء، وأنّ الله تعالى لا يجعل الفريقين متساويين في الحياة ولا في الممات. أمّا بعد الموت، فالأمر واضح لمن يعتقد بالآخرة، وأمّا فی هذه الحياة فالمؤمن الذي يعمل الصالحات ويتقرّب بها إلى ربِّه يشعر بأجنحة

الرحمة ترفرف عليه فيسعد بها وتطمئنّ نفسه، ويحسّ برضا الربّ، حيث إنّه

ص: 385

راض عن ربّه، فإنّ المقياس - كما في الروايات - أنّ المؤمن إذا رضي بما آتاه ربّه، فالله راضٍ عنه، ولا شكّ أنّ الشعور برضا الربّ يجعل الحياة الدنيا كجنّة الخلد؛ لأنّه أعظم نعمة في الجنّة.

وأمّا الذي يعرض عن ذكر ربّه، فهو كما قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)،(1) أي له في الدنيا معيشة ضيّقة؛ والذي يجترح السيّئات إمّا كافر معرض عن ذكر ربّه أو هو كالكافر أو أسوأ حالاً منه، ولا يسعد بالشعور برضاه تعالى: فيصعب عليه تحمّل مشاكل الحياة وتضيق به الدنيا على رُحبها، وربّما يلجأ إلى الانتحار نتيجة للضيق الذي يشعر به، وهو لا يرجو من موته إلا الفناء والدمار، ومع ذلك يلجأ إليه فراراً من مضائق الدنيا، فتفاجئه مضائق أشدّ وأهوال أعظم، فهو شقيّ في الحالتين. (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، «ما» مصدرية، أي حكمهم بتساوي المؤمنين الصالحين والفسّاق الفجّار حكم سيّء، فالفارق بين الفريقين كبير وعظيم، ويظهر من الجملة أنّ الأمر لم يكن مجرّد حسبان في نفوسهم، بل كانوا يحكم_ون ب_ه ويتبجّحون.

(وَخَلَقَ الله السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ) جملة استينافية تفيد معن__ى الح_ال للاستنكار السابق فكأنّه قال: كيف تحكمون بذلك وقد خلق الله السماوات والأرض بالحقّ؟! أي لم يخلق الكون عبثاً ولعباً. فهذه الآية بمنزلة الدليل للآية السابقة، وذلك لأنّ التساوي بين المفسد والمصلح إنّما يصحّ لو لم يكن لخلق السماوات والأرض هدف وغاية، فلا يختلف أن يكون الإنسان مؤمناً صالحاً أو

ص: 386


1- طه (٢٠): ١٢٤.

فاجراً طالحاً، ولا يهمّه شيء إلا أن يقضي عمره في سعادة ورفاهية، ولكن إذا كان هناك هدف منشود لخلق الكون وهو أن يصل الإنسان إلى غاية كماله وأن يتقرّب إلى ربّه فلا بدّ من التفريق بين فريق يسعى للوصول إلى تلك الغاية، وفريق يبتعد عنها مسرعاً في سيره المعاكس.

(وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، الواو لعطف الجملة على قوله: (بالحقِّ) أي خلق الله السماوات والأرض بالحقّ، وخلقها لتجزى كلّ نفس، فهذا هو بيان للغاية المنشودة من خلق الكون والإنسان.

وربّما يظهر من الآيات أنّ جزاء الإنسان هو نفس عمله وليس جزاءاً وضعياً يناسب العمل، وعليه فتكون الباء للتعدية. أمّا إذا كان الجزاء أمراً آخر، فالباء للسببية. والآيات التي تدلّ بظاهرها على تجسّم الأعمال وأنّها بنفسها تقع جزاءاً للإنسان كثيرة. ولعلّه لذلك عقّبه بقوله: (وَهُمْ لا يَظْلِمُونَ)؛ إذ لو كان الجزاء أمراً آخر أمكن أن يقال: إنّه غير متناسب مع عمله، ولكنّه نفس عمله يتجلّى بصورته الواقعية، فليس ظلماً.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، الفاء للتفريع، والظاهر أنّ الآيات السابقة لمّا كانت في سياق تقسيم الناس إلى الفريقين، فهذه الآية تبيّن الوجه في إصرار الضالّين على ضلالهم، بحيث لا تنفعهم البصائر التي نزلت للهداية والرحمة وقوله: (اتَّخَذَ) من الأفعال الملحقة بأفعال القلوب، والتي تدخل على المبتدأ والخبر

فتجعلهما مفعولين.

وقيل في الاستفهام في مثل هذا المورد إنّه للتعجيب، أي لإيجاد التعجّب في المخاطب، فكأنّه يقول: انظر إلى هذا كيف اتخذ إلهه هواه؟! مع أنّ الاستفهام

ص: 387

مثله للتعجب إلا أنّهم لم يعبّروا به، لعدم جواز إسناد التعجّب إلى الله تعالى؛ ولكنّ الصحيح أنّه لا مانع من إسناد إنشاء التعجّب إلى الله وإن لم يمكن إسناد التعجّب إليه تعالى حقيقة؛ لأنّ إنشاءه لا يدلّ على تحقّق صفة التعجّب له تعالى، بل هو إنشاء بداعي تفهيم أمر آخر، كالاستفهام الإنكاري.

ومهما كان، فكون الاستفهام هنا للتعجّب أو التعجيب يبتني على تقسيم الآية إلى شقّين منفصلين في المعنى، فالشقّ الأوّل: تعجيب من هذا الإنسان أو تعجّب منه، والشقّ الثاني: قوله: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله ). ولكنّ الأنسب أن تكون الجملتان بصدد معنى واحد، فتكون هذه الجملة مع ما بعدها من الجمل لتحديد الموضوع ليرتب عليه قوله: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله) ومثل هذا يقال في قوله تعالى: (قَالَ أرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ)(1) وقوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُ الْيَتِيمَ)(2) ونظائرهما.

وقد وقع الخلاف في أنّ الترتيب في الآية على أصله، فيكون «إلهه» مفعولاً أوّلاً أم بالعكس، فعلى الأوّل يكون المعنى أنّه ينتخب إلهه على هواه، ولا يعب_د من يستحقّ العبادة، بل من يجد في عبادته ما يهواه، ومن هنا فسّرها بعض المفسّرين القدامى بمن كان يتّخذ له إلها من حجر ، فإذا رأى ما هو أحسن منه مظهراً أبدله به، فقد روى الطبري عن بعضهم أنّه قال: «كانت قريش تعبد العزّى وهو حجر أبيض حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأوّل وعبدوا الآخر، فأنزل الله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهُ هَواه».(3)

ص: 388


1- الكهف (18): ٦٣
2- الماعون (107): 1 - 2.
3- جامع البيان في تفسير القرآن 25: 91

ولكن هذا التفسير يتوقّف على تقدير، كأن يقدّر «اتّخذ إلهه موافقاً لهواه» أو ما يفيد ذلك.

وقال في «الميزان»: «المراد بقوله: (اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَواهُ) حيث قدّم «إلهَهُ» على (هَواهُ) أنّه يعلم أنّ له إلهاً يجب أن يعبده _ وهو الله سبحانه _ لكنّه يبدّله من هواه ويجعل هواه مكانه فيعبده، فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، ولذلك عقّبه بقوله: (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ)، أي أنّه ضالّ عن السبيل وهو يعلم».(1)

وبناءاً عليه لا يجب التقدير إلا أن ما ذكره الله لا يفهم من الآية. وأمّا إذا قلنا بأنّ «إلهه» مفعول ثانٍ مقدّم فالمعنى: «من جعل هواه إلهاً له»، أي معبوداً بمعنى أنّه يطيع هواه طاعة عمياء، وهو حقّ العبادة؛ والوجه في تقديم المفعول الثاني هو إفادة الحصر، فالمعنى: أنّه لا يعبد إلا ه_واه، وعليه فالآية لا تشمل كلّ من يتّبع هواه ولو جزئياً، بل من يكون معبوده منحصراً في الهوى، وقد يكون بظاهره مسلماً يعبد الله تعالى، ولكنّه منافق لا يعبد إلا هواه، فإذا رأى أنّ الأنسب لما يقتضيه الهوى هو الدخول في سلك المؤمنين، دخل وتبعهم في طقوسهم. وهذا المعنى هو الأنسب. ومثل هذه الآية في كلّ ما ذكرنا قوله تعالى:

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً).(2)

(وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلمٍ) «على علم» أي مع كونه عالماً وغريب أمر هذا الإنسان يضلّ الطريق وهو يعلم، فلا يضلّ عن جهل، وها نحن نجد كثيراً م_ن الناس يرتكب ما لا ينفعه بل يضرّه أشدّ الضرر، وهو ضرر محسوس في الدنيا،

ص: 389


1- الميزان فى تفسير القرآن 18: 172.
2- الفرقان (٢٥): ٤٣.

ولكنّه يتّبع هواه، فلا يمكنه الإقلاع عنه، كالمدخّن والمتعاطي للمخدرات ،وغيرهم، ولا مبالغة إن قلنا: إنّ هذه صفة أكثر الناس. وكذلك بالنسبة للعقاب الأخروي، فهو أمر متوقّع على الأقلّ وهو خطر عظيم يكفي فيه أقلّ احتمال ولكنّ المتّبع للهوى حتّى لو علم به لا يترك ما يهواه، فقد أضله الله على علم.

ولكن بعض المفسّرين اعتبر العلم من الله تعالى أي إنّ الله يعلم أنّه لا يهتدي ،فأضله، وفسّر بعضهم الإضلال بإهماله وعدم اللطف به وعدم هدايته، فه_و ي_ض_لّ من نفسه؛ ولكنّ الصحيح أنّ الله تعالىّ يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، ولكنّه لا يضلّ إلا القوم الفاسقين، فهناك إصرار من الإنسان على عدم الإيمان بالله أو عدم امتثال أوامره، فيستحقّ الإنسان أن يضلّه الله، وفي ما بعدها من الجمل يبيّن كيفية الإضلال.

(وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ). ورد التعبير بالختم والطبع على السمع والقلب في موارد من القرآن ومعناه أنّه مغلق، وعلى الأغلاق ختم، فلا يمكن فتحه. والختم من الله تعالى فمن يفتحه غيره؟! والمراد بالختم على السمع أنّه لا يتأثّر بما يسمعه ولا يعيه ولا يحفظه ولا يفهمه، وما أكثر من نجدهم بهذه

الصفة.

والمراد بالقلب القوّة الشاعرة وقوّة الإحساس، فربّما يفهم الإنسان شيئاً ويعلم به علم اليقين ولكنّه بقلبه لا يدركه ولا يحسّ به، ولا يتنافى العلم مع عدم الإحساس بالقلب، ولذلك تجد كثيراً من الناس لا يؤمن بالله، مع أنّه رجل عالم، بل ربّما يكون عالم دين أيضاً، والإيمان لا يلازم العلم، ولذلك نجد أكثر الناس يخافون الميّت ولا يبيتون عنده، ويخافون الظلام، ويخافون الدخول في

ص: 390

المقابر ليلاً لما حيك حولها من أساطير، وهو يعلم أنّها أكاذيب، ولكنّه لا يؤمن ولا يطمئنّ قلبه، وكذلك العكس، فهناك من لا يعلم الأدلّة والبراهين ولكنّه يؤمن أقوى الإيمان بالله تعالى، وكان منهم من قال عنه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان».(1) وأمّا الغشاوة على البصر، فإنّا نجد من يرى آيات الله تعالى ويرى العواقب السيّئة للمفسدين ويرى الموت يحصد من حوله أمثاله ولا يتّعظ، فعلی بصره غشاوة، كأنّه لا يرى شيئاً. والغشاوة: الغطاء.

(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله )؛ هذا الضلال نتيجة طبيعية حتمية لعناده، حيث إنّه لم يؤمن بآيات الله تعالى، مع أنّه علم بها، قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)،(2) فإذا أصرّ على كفره وعناده في أوّل رؤية للحقّ رؤية واضحة عاقبه الله تعالى بقلب القلب، فهو لا يفهم بعد ذلك ولا يشعر حتّى لو علم علم اليقين، بل هو لا يبصر من الآيات إلا ظاهرها.

ص: 391


1- روى الكليني بسند معتبر عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صلّي بالناس الصبح، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفراً ،لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقناً،فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعرفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة، يتنعمون في الجنّة ويتعارفون وعلى الأرائك متّكنون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون ،مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لأصحابه : هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان، ثمّ قال له: ألزم ما أنت عليه، فقال الشابّ: ادع الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر» (الكافي ٢ ٥٣)
2- الأنعام (٦): ١١٠.

وإذا أراد الله شيئاً فلا يقاوم إرادته شيء، فمن يهديه بعد أن أراد الله إضلاله؟! وإذا ختم الله على غلق فمن يفتح قفله؟!

وقوله: (مِنْ بَعْدِ الله) بمعنى من بعد إضلال ،الله، فالبعدية زمانية، أو من دون الله تعالى أي غيره، فليست البعدية زمانية.

(أَفَلا تَذَكَّرُون) التذكّر بعد النسيان، والمراد هنا التنبّه بعد الغفلة، أي أنتم تشاهدون حولكم كثيراً من هذه النماذج، أفلا يكفي ذلك لتنبّهكم واجتنابكم الآثام وإنابتكم إلى الله خوفاً من أن ينجرّ الأمر إلى الختم على أسماعكم وقلوبكم؟!

ص: 392

سورة الجاثية (٢٤ - ٢٦)

وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَتَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا هُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَتُنَا بَيْنَتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا أَنْتُوا بِمَابَابِنَا إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ تُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

(وَقَالُوا مَا هِيَ إلاحياتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيا). الضمير يعود لمشركي العرب وهم وثنيون يعترفون بأنّ الله تعالى خالق الكون ولكن لا يعترفون بربوبيته المطلقة ولا بالمعاد.

وقيل: القائل بهذا الكلام الدهريون المنكرون للخالق، وذلك لأنّ قولهم: (وَمَا يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ) ليس من كلام المعترفين بأنّ الله هو الخالق للكون. وسيأتي البحث عنه.

ومهما كان، فضمير «هي» يعود إلى الحياة وهي معلومة من السياق، أي ليست الحياة إلا حياتنا الدنيا وليست هناك حياة أخرى بعد الموت. وأما قولهم: (نَمُوتُ وَنَحْيَا)، فالظاهر أنّ المراد به موت جيل ونشأة جيل آخر، وليس فيه اعتراف بالحياة بعد الموت كما يتوهم، مع أنّ مجرد ذكر الحياة بعد الموت لا دلالة فيه على الترتيب الزمني، فلا يختلف في التعبير عن تعاقب الحالتين في المجتمع البشري بين تقديم أيّ منهما، فالمهمّ بيان هذا التعاقب للدلالة على أنّه ليس وراءهما حياة أخرى، ولعلّ اختيار هذا التعبير لتناسب القافية مع الدنيا.

(وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ)، «الدهر» - كما في العين __ هو الأبد الممدود.(1) وفي

ص: 393


1- كتاب العين ٤ :٢٣

المفردات،(1) مدّة وجود العالم من ابتدائه إلى انقضائه، وهو في الواقع تفسير لما في العين.

وإسناد الإهلاك إلى الزمان المستمرّ مجازي، كإسناد أمور أخرى إليه في الشعر ونحوه، مع أنّها مستندة في الظاهر إلى عواملها الطبيعية، فمعنى كلامهم إسناد الموت إلى العوامل الطبيعية وإنكار إسناده إلى الإله المدبّر للكون المحيي المميت، ولذلك سيأتي جوابهم بأنّ الله تعالى هو المحيي ،والمميت ولا يلازم ذلك إنكار وجوده تعالى أو إنكار خالقيته، ليصحّ القول بأنّ المراد بالقائلين الملحدون، وإنّما يلازم إنكار ربوبيته المطلقة.

(وَمَا هُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ)، من الطبيعي أنّ المنكر للمعاد وه_و الهدف الأساس من قولهم المذكور لا يمكن أن يستند إلى دليل علمي؛ لأنّ غاية ما يصل إليه علم الإنسان في هذا المجال هو عدم العلم بشيء، ولا يمكنه نفي ما وراء هذه الحياة، فالمنكرون إنّما يستندون إلى أنّهم لم يجدوا دليلاً مقنعاً، وأوّل جواب عنهم أنّه يكفي للإنسان أن يحتمل ذلك، فهو احتمال خطير يبعث العاقل إلى الاحتياط واجتناب الخطر. والمراد بالظنّ الاعتقاد الذي لا يستند إلى دليل علمي ولا إلى رؤية وإحساس مباشر.

(وَإِذَا تُتْلَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي إذا تليت عليهم آيات القرآن المشتملة على الأدلّة الواضحة البيّنة المثبتة للمعاد، لم يكن لهم في المقابل حجّة لإنكاره إلا المطالبة بإحياء الآباء السابقين الذين أصبحوا تراباً في الأرض، أو تبدّلوا إلى أشياء أخرى، وهذه حجّة متكرّرة

ص: 394


1- راجع: المفردات فی غریب القرآن: 319

من منكري المعاد وهي ليست بحجّة - كما هو واضح - بل هو كلام باطل؛ إذ لا يُغيّر الله سنّة الكون ليثبت لهم إمكان المعاد، مع وجود البراهين الواضحة.

وتوصيف كلامهم الباطل بالحجّة للتأكيد على نفي أيّ حجّة لهم، أي ليس لهم حجّة إلا هذا الكلام الذي ليس بحجّة، كما تقول: فلان ليس له ذنب إلا حبّ أهل البيت عليهم السلام. وقولهم : (انتّوا) خطاب للمؤمنين؛ لأنّهم كانوا يذكرون هذا المضمون في مختلف المحادثات الاحتجاجية التي تحدث بين الفريقين.

(قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) وهذه حجّة واضحة على أنّ الله تعالى قادر على إعادة الخلق، وذلك لأنّه هو الذي أحياكم أوّل مرّة وخلق الحياة من مادّة ميّتة، فهو قادر على إعادتها في مرحلة أخ_رى م_ن

التطوّر.

و«الإحياء» عملية مستمرّة في الطبيعة، ولذلك أتى بالفعل المضارع، فالخطاب للمجموع لا لكلّ فرد ثمّ هو الذي يميتكم وليس الدهر، وذلك لأنّ الموت بفعل العوامل الطبيعية وهي كلّها طوع إرادته، فهو يحييكم مرّة أخرى ويجمعكم إلى يوم القيامة، أي يجمع كلّ الأجيال البشرية إليه.

قالوا: إنّ «إلى» بمعنى «في». ولكنّ الظاهر أنّ التعبير به لمناسبة معنى الجمع وتضمينه معنى الانتهاء؛ إذ يدلّ ذلك على أنّهم متفرّقون، فهو يجمعهم وينتهي بهم إلى مجمع واحد يوم القيامة. وقوله: (لا رَيْبَ فِيهِ) تأكيد منه تعالى حتّى لا يتوهّم أحد أنّه من الوعيد والتهديد بأمر يمكن أن لا يقع أو يحدث فيه تغيير والسبب في حتميته، كما ورد

ص: 395

في آيات أخرى أنّه ممّا تقتضيه العدل والحكمة؛ أمّا العدل فلِكَي ينال كلّ أحد جزاءه ويوضع موضعه، وأمّا الحكمة؛ لأنّه لولا ذلك لم يكن لخلق الإنسان، بل الكون أيّ هدف وغاية.

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، أي يجهلون هذه الأدلّة والبراهين ولا يعلمون أنّ الإعادة يوم القيامة مقتضى العدل والحكمة وأكثر الناس حتّى المؤمنين لا ،يعلمون، فالإيمان بالآخرة ضعيف فينا، وإلا لعملنا لها أكثر ممّا نعمل لدنيانا، وقلّ من نوّر الله قلبه للإيمان فهو يرى أهل الجنّة في نعيمهم وأهل النار في عذابهم،

كما مرّ في الرواية المعتبرة.(1)

ص: 396


1- راجع: الصفحة ٣٩١

سورة الجاثية (٢٧ - 37)

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَبِذٍ تَحْسَرُ الْمُبْطِلُونَ(27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَبِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(28) هَذَا كِتَبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(29) فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ(30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكَبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنَّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ(32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33)وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَنكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَنَكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَصِرِينَ (34) ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا تُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

(وَالله مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ). هذه الجملة دليل آخر على إمكان المعاد، وذلك لأنّ السماوات والأرض أي الكون كلّه ملك الله تعالى، وهذه ملكية حقيقية وليست اعتبارية بمعنى أنّ كيان الكون ووجوده متقوّم بإرادته تعالى، فبدونها لا يبقى شيء، فهو المتصرّف فيه كيف يشاء لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ولا يحاسب على فعله.

وهذا الدليل يختلف عمّا سبق، حيث استند الاستدلال هناك على حكمته تعالى وعدله، وهنا يستند على عموم ملكه وسلطانه، بمعنى أنّه لو فرض أنّ

ص: 397

الحكمة والعدل لا يقتضيان ذلك، فلا أحد يحقّ له أن يقاضي الله تعالى في ما يفعل ولا يتمكّن منه أحد، فكلّ ما تتصوّر غيره فهو مخلوق ل_ه وت_ابع لإرادته ومتقوّم به، فلا يتوقّف الاستدلال على أنّ قيام القيامة موافق للعدل والحكمة، بل يكفي أنّ الله تعالى أراد ذلك والكون كلّه له يفعل فيه ما يشاء.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ). هذه الجملة أيضاً تؤكّد كون المعاد أمراً واقعاً لا محالة، والإنسان لا يمكنه أن يشعر بهذا اليوم، فإثباته ونفي_ه خ_ارج عن حيطة فهمه وإدراكه؛ لأنّه مرتبط بعالم آخر وليس له طريق إلى معرفته إلا الإيمان والتصديق بالغيب.

و (يَوْمَئِذٍ ) بدل عن قوله: (يَوْمَ تَقُومُ) ، ويؤكّد أنّ الظرف الحقيقي للخسارة هو هذا اليوم.

و«المبطلون أي الذين يعتقدون الباطل، ويشير بذلك إلى الذين كذّبوا بيوم القيامة من دون علم، وخسارتهم أعظم خسارة؛ لأنّهم يخسرون أنفسهم وأهليهم، كما في الآية الكريمة: (قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الا ذَلِكَ هُوَ الخَسْرَانُ المُبِينُ)،(1) أي ليس الخاسر غيره ؛ لأنّ كلّ خسارة في الدنيا يمكن جبرها ولو لم يمكن أيضاً يمكن تحمّلها والصبر عليها؛ لأنّ أيّام الدنيا قصيرة وإنّما الخسارة الواقعية من يخسر نفسه يوم القيامة، مضافاً إلى أنّه يخسر أهله، فإن كانوا صالحين فهم في الجنّة وهو في النار، وإن كانوا مثله فلا علاقة بي_ن_ه_م، ب_ل ل_ي_س بينهم إلا العِداء، كما قال تعالى: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا المُتَّقِينَ).(2)

ص: 398


1- الزمر (39): ١٥
2- الزخرف (٤٣): ٦٧.

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ)، يعرض القرآن هنا مشهداً من مشاهد القيامة لم يذكر في موضع آخر.

و «الأمّة» كلّ مجموعة من الناس يج_ مجموعة من الناس يجمعهم هدف واحد وعقيدة واحدة، وهذا المعنى له توسّع كثير ، فربّما يطلق اللفظ على المجموعة من الناس الذين بعث لهم رسول ،واحد وتارةً يطلق على خصوص من اتبعوه، والمراد هنا أخصّ من ذلك بكثير، فالأمّة الإسلامية ربّما تطلق في عرفنا على مجموعة يكفّر بعضهم بعضاً، بل لا شكّ أنّ بعضهم يعتبر خارجاً عن ربقة الإسلام، وأما هناك حيث لا تطلق الألفاظ إلا على حقائقها الواقعية، فهذه الأمّة تنقسم إلى مجموعات كثيرة، أكثر بكثير من المذاهب التي نقسّم المسلمين إليها، فإنّ أتباع كلّ مذهب أيضاً لا يتّفقون حتّى في الأصول، بل لعلّه أخصّ من أتباع المذهب، كما يتبيّن من الجملة التالية المتضمّنة لوحدة صحيفة الأعمال، فهذا الأمر يقتضي وحدة أخصّ من ذلك ترتبط بعملهم.

و «جاثية» اسم فاعل من الجُتُوّ وهو الجلوس على الركبتين، وفي ذلك تذلّل وتسليم واستعداد لما يورد عليهم من الجزاء. وقيل: «إنّ جاثية» بمعنى مجتمعة، ونسب ذلك إلى ابن عباس، ولكن لا يبعد أنّه أراد بذلك دلالة الجملة على اجتماع كلّ أمّة مع بعض، وهذا يستفاد من كلمة «أمّة»؛ فالمعنى أنّك ترى كلّ مجموعة متحدة في أهدافها وعقائدها مجتمعة بعضها مع بعض، وكلّها جاثية على الركب مستعدّة لما يتلى عليها من حكم الله تعالى.

والخطاب في قوله: (تَرَى) للرسول صلى الله عليه و اله وسلم أو لكلّ سامع وقارئ.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كتابها). يظهر من الآية أنّ هناك كتباً لأعمال المجتمع غير

ص: 399

الكتب التي تحفظ أعمال الأفراد وليس المراد بالكتاب المعنى المعهود منه، وإنّما المراد التنبيه على أنّ محاسبة المجتمعات تختلف عن محاسبة الأفراد، وبذلك يتبيّن أنّ الإنسان مسؤول هناك عن أعماله الاجتماعية، كما هو مسؤول عن أعماله الشخصية، فتارةً يحاسب وحده، وتارةً يحاسب مع الجمع الذي كان فيهم، ويمكن أن لا يكون له دور إلا الوقوف على حافّة الشارع والمشاهدة، وربّما بعض الهتاف ممّا يستفاد منه الرضا والتأييد لما يعمله المجتمع أو السكوت عنه.

ومن هنا يجب أن ينتبه الإنسان إلى أنّه مسؤول عمّا يجري في مجتمعه، فإن أمكنه أن يغيّر المفاسد ويمنعها وجب ذلك، وإن لم يتمكّن فليعترض بلسانه، وإن لم يتمكّن فليخرج من بينهم إن أمكنه ذلك.

ولكن بعض المفسّرين أوّل الآية بأنّ المراد بالكتاب جنسه، فالمراد بكتاب الأمّة كتب أفرادها. وهو بعيد مع أنّه لا يناسب اجتماع الأمّة جاثية تنتظر حساب الجمع.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، الآية واضحة الدلالة على أنّ الجزاء هناك هو نفس العمل يتجلّى بصورته الواقعية، فيكون على الإنسان عذاباً .ونكالاً.

(هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) الظاهر أنّه إشارة إلى كتاب الأعمال وإضافته إلى الله تعالى؛ لأنّه من صنعه وتدبيره. والتعبير بالنطق باعتبار أنّ هذا الكتاب يعكس نفس الأعمال بحقيقتها، فليست هناك ألفاظ وكلمات، وإنّما ينطق بإتيان نفس الموضوع وهو أقرب النطق إلى الواقع فإنّ النطق باللسان يراد ب_ه ن_ق_ل المعنى إلى ذهن المخاطب بذكر كلمة أو صوت يدلّ عليه ويوجب تبادره إلى ذهنه، ولا شك أنّه كثيراً ما يشتبه على السامع لاشتراك الألفاظ أو تقارب لفظ

ص: 400

الكلمات أو تقارب المعاني، وأمّا إذا تمكّن الشخص من إتيان نفس الشيء فهو أوضح النطق. وهو لا ينطق بالباطل ولا يغيّر الأشياء عمّا هي عليه، بل ينط_ق بالحقّ؛ لأنّه يأتي بنفس الفعل تماماً كما كان، فلا يمكن التشكيك فيه.

وقيل: إنّ المراد بالكتاب القرآن، ولكنّه لا يناسب الجملة التالية وتعدّي النطق ب_«على» لا يفيد كونه ضدّ المخاطبين، كما ربّما يتوهّم، بل هو باعتبار أنّ النطق يستلزم إلقاء مضمون على مسامعهم ولو بعناية.

(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). اختلف في معنى النسخ، فقيل: هو إزالة شيء وإثبات غيره مكانه، كقولهم: نسخت الشمس الظلّ، ومنه نسخ الحكم بالحكم.

وقيل: هو تحويل شيء إلى شيء. وهذا الثاني يعمّ الأوّل وغيره، كنسخ الكتاب، فإنّه لا يستلزم إزالة الأوّل، بل نقل ألفاظه إلى كتاب آخر، ومهما كان فالمراد هنا بالنسخ نقل الأعمال بنحو من الأنحاء.

ولكن لماذا عبّر بالاستنساخ، أي بصيغة الاستفعال؟

قال بعضهم: إنّ الاستنساخ طلب النسخ، وحيث إنّه من كلام الله فالمراد أنّه تعالى يأمر الملائكة بالنسخ.

وقال بعضهم: إنّه من كلام الملائكة، ومعناه إنّا كنّا نطلب النسخ من اللوح المحفوظ. ووردت في ذلك روايات عن طرق الخاصّة والعامّة؛ وفي بعضها أنّ النسخ لا يكون إلا من أصل فلا بدّ من أن تكون الأعمال مكتوبة في كتاب آخر وينسخ منه في صحيفة الأعمال. وكلّ ذلك بعيد عن اللفظ وعن سائر الآيات التي تعبّر بالكتابة لا النسخ، كقوله تعالى: (وَتَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ).(1)

ص: 401


1- يس (٣٦): ١٢

والظاهر أنّ المراد بالاستنساخ هو النسخ بذاته بلحاظ أنّه طلب لنسخة من الشيء، فصيغة الاستفعال لا تغيّر المعنى والنسخ بمعنى نقل العمل إلى صورة دائمة أبدية لا تفنى فيؤتى به يوم عرض الأعمال ولا حاجة إلى هذه التكلّفات.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ المُبِينُ)، تفصيل لما يؤدّي إليه استنساخ الأعمال، فإذا كان العمل صالحاً والعامل مؤمناً فهناك النجاح الواضح، فلا يكون الفوز والنجاح إلا بالإيمان والعمل الصالح معاً، ولا ينفع عمل بدون إيمان ولا إيمان بدون عمل، ولكن هناك الأكثر الذين يخلطون الصالح بالسيّء، وقد ورد حكمهم في قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيْناً عَسَى الله أن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ).(1)

والإدخال في الرحمة إمّا بمعنى موضع الرحمة، أي الجنّة، أو بمعنى أنّ الرحمة تغمرهم من كلّ جانب، وفي التعبير بأنّ ربّهم يدخلهم، إشارة إلى أنّ ذلك مقتضى تربيتهم التربية الصالحة حتّى استعدّوا لدخول رحمته.

و(الْفَوْزُ المُبِينُ)، أي الظفر الواضح حيث يظفرون بأغلى الأماني ومنتهى المقاصد والسعادة الدائمة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ)؛ الفاء في قوله: (أَفَلَمْ) فاء الجزاء بتقدير «يقال»، أي فيقال لهم، والاستفهام للتقرير، أي لأخذ الإقرار منهم بالذنب. وهذه الجملة ممّا يخاطبون به فعلاً أو تقديراً، وفيه_ا

لوم وتنديد.

وتقديم هذا الخطاب على العذاب لأنّه أوّل نتيجة تحصل بعد إراءة أعمالهم،

ص: 402


1- التوبة (9): 102

فالخطاب يبيّن لهم أن لا عذر لهم في كفرهم، حيث إنّ الآيات كانت تتلى عليهم فيقابلونها بالاستكبار والإجرام؛ وأيّ جرم أفظع من الاستكبار في مقابلة الحكم الإلهي ودعوة الرسل إلى إصلاح النفس، لتليق بالدخول في الرحمة الإلهية؟! مع أنّهم أجرموا فوق ذلك جرائم ضد الرسل وضدّ المؤمنين. وللتأكي_د على فظاعة استكبارهم أتى بضمير المفرد المتكلّم للتنبيه على أنّ الآيات التي تليت عليكم لم يكن من نبي أو ملك، بل كانت منّي بالذات.

وتوهّم بعض المفسّرين أنّ السياق اقتصر على ذكر هذا اللوم والعتاب في بيان ،مجازاتهم فقال: إنّه أشدّ من العذاب.

والصحيح أنّ الآية التالية متّصلة بهذه الآية في بيان الخطاب الموجّه إليهم، ثمّ يأتي بعد ذلك بيان عقابهم وأنّه هو نفس العمل، ثمّ مأواهم النار.

والآية لا تختصّ بمن كان في عهد الرسالة ونزول الآيات وسماعها من الرسول، بل تشمل كلّ من سمعها ولو بعد قرون، بل الظاهر أنّ الحكم يشمل من بلغه خبر الرسالة وخبر نزول الآيات فلم يهتمّ بها ولم يسأل عنها استكباراً عن متابعة الرسل أو عن الاهتمام بالدين بوجه عامّ، كما نشاهده اليوم في كثير من الناس.

نعم، الآية لا تشمل من كان عدم إيمانه ناشئاً من ضعف في الفهم، فأصبح تابعاً لأسياده المستكبرين.

(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ). الجملة عطف على الجملة السابقة التي ورد عليها الاستفهام، أي ألم تكونوا بحيث إذا قيل لكم: إنّ وعد الله حقّ... قلت..... والحقّ هو الشيء

ص: 403

الثابت، فالمراد إمّا التأكيد على أنّ الله تعالى وعد بقيام القيامة ودار الجزاء، فهو حقّ بمعنى أنّه _ أي نفس الوعد - أمر واقع وإمّا التأكيد على أنّ ما وعد به الله تعالى فهو حقّ سيقع لا محالة؛ لأنّه قادر على كلّ شيء وعالم بكلّ شيء، فإذا وعد لا يمكن أن يخلف وعده، فإنّ الخلف لا يكون إلا لجهل بالمستقبل أو

لعدم القدرة على الوفاء.

وقوله تعالى: (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا ) عطف تفسيري على جملة: (إنّ وَعْدَ الله حَقُّ)؛ فإنّ المراد بوعده تعالى هو الوعد بقيام الساعة، فيترتّب على كون الوعد حقّاً أنّ الساعة لا ريب فيها؛ لأنّها من وعده تعالى، وقولهم: (مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) استهزاء واحتقار يقصد به الإنكار، لا إظهار الجهل واقعاً، وإنّما قالوا ذلك استكباراً وعتوّاً، فهم يعلمون المراد بالساعة، ولذلك صحّ الجمع بين قولهم: (ما نَدْرِي) والظنّ به فقولهم: (إنْ نَظُنُّ إلا ظَنّاً) تعبير آخر عن الإنكار أيضاً. و(إنب) نافية، أي لا نظنّ إلا ظنّاً.

وربّما يستغرب هذا التعبير حيث إنّه استثنى الظنّ من نفسه. وقد أجابوا عنه بوجوه، وأحسن ما قيل وجهان: أحدهما أنّ التقدير أن نظنّ إلا ظنّاً ضعيفاً، والثاني - وهو أولى - أنّ المراد بالظنّ الأوّل الاعتقاد مطلقاً، فالجملة تعود إلى معنى: «ما نعتقد إلا ظنّاً»، وأوضحوا في الجملة التالية المراد بالظنّ بأنّه لا يبلغ حدّ اليقين، فمعناه أنّهم يحتملون ذلك ولكنّهم لا يعلمون فهم متردّدون.

و«الاستيقان» بمعنى اليقين، وفي «العين» ما معناه: أنّ «يقن» و«أيقن» و«تيقّن» و«استيقن» كلّه واحد.(1)

ص: 404


1- كتاب العين ٥: 220

والجواب الواضح عن مقالتهم هو أنّه يكفي الاحتمال لأهمّية المحتمل مع أنّ قيام القيامة لمن تأمّل الكون ووجد فيه غاية الدقّة في النظام ممّا لا ريب فيه.

(وَبَدَا هُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) هذا عطف على الجواب في: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا )، أي أنّهم يقال لهم ذلك، ثمّ يبدو لهم سيّئات أعمالهم.

والإتيان بفعل الماضي من جهة أنّه أمر محقّق جزماً. وإضافة السيّئات بتقدير (من) أي بدت لهم السيّئات من أعمالهم ويظهر منه أنّه لا يعتدّ بغير السيّئات من أعمالهم؛ وذلك لقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْشُورًا)،(1) فلا يبقى لهم إلا السيّئات وهي لا تحتاج إلى عرض أو تبيين، بل يكفي أن تبدو لهم كما هي، فهي بنفسها عذاب أليم وهي عذاب في الدنيا أيضاً، فلو قُدَّر لأحد أن يرى بالعيان كلّ أعماله السابقة وما ارتكبه من ظلم وعدوان وقبائح وكفر وعناد الحق، للاقى من ذلك شرّ العذاب إن كان له ضمير حيّ ووجدان بشري صادق.

(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، «حاق» أي نزل به عاقبة فعله أو مكره، قال تعالى: (وَلا يَحِيقُ المكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ)،(2) وفي «المفردات»: «قيل وأصله حقّ فقلب، نحو زلّ وزال»؛(3) وعليه فهو بمعنى الثبوت.

والمراد ب_ (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِبُونَ) عذاب القيامة أو النار.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ، القائل هو الله تعالى ولم يذكر القائل احتقاراً لهم، حيث لا يستحقّون أن يخاطبهم الله جلّ جلاله.

ص: 405


1- الفرقان (٢٥): ٢٣
2- فاطر (٣٥): ٤٣
3- المفردات في غريب القرآن: ٢٦٦

والمراد بالنسيان عدم الاستجابة لتضرّعهم ودعواتهم. وقيل: إنّه كناية عن الإهمال والإعراض والترك. ولكنّه غير صحيح؛ لأنّهم لا يهملون ولا يتركون. وهذا تعبير متكرّر في القرآن.

والكاف في قوله تعالى: (كَمَا نَسِيتُمْ ) تشبيه يفيد التعليل، كقوله تعالى: (وَقُلْ ربِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).(1)

والمراد بنسيانهم لقاء اليوم، أي اللقاء المتحقّق في هذا اليوم وهو لقاء الله تعالى ولقاء الجنّة أو النار، ولقاء الناس بعضهم لبعض، ولقاء الحساب.

ومعنى نسيانهم أنّهم أهملوه ولم يهتمّوا به. وهذا يشمل حتّى من آمن به إيماناً ظاهرياً ولكنّه لم يهتمّ به في عمله؛ وأمّا الذي يؤمن به إيماناً واقعياً، فلا يمكن أن يهمله.

(وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ)، «المأوى»: المكان الذي يأوي إليه الإنسان ويلجأ من الحرّ والبرد وغير ذلك، فهو في الواقع محلّ استراحته. والتعبير عن نار جهنم بالمأوى من باب التهكّم ومن باب التأكيد على أنّهم لا مأوى لهم ولا ملجأ من العذاب إلا العذاب، وهو ليس بملجأ طبعاً، فمعناه نفي المأوى مؤكداً.

(وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). ربّما يتصوّر أنّ الأولى أن يكون المنفى مفرداً؛ لأنّ نفي الجمع لا ينافي إثبات المفرد، فنفي وجود ناصرين لهم لا يثبت أنّه لا ناصر لهم أصلاً، مع أنّه هو المقصود ولكن يمكن أن يكون الجمع بلحاظ تعدّد المخاطبين، أي ليس لأيّ واحد منكم ناصر ينصره.

وقد تكرّر نفي وجود الناصر يوم القيامة ممّا يدلّ على أنّ القوم كانوا يتوقّعون

ص: 406


1- الإسراء (١٧): ٢٤

النصرة من قبيلتهم أو أسيادهم أو أصنامهم. والمشكل الأساس في الإنسان أنّه لا يتمكّن من تصور عالم ليس فيه خصائص هذا العالم، فكلّ ما يقال له عن يوم القيامة والحضور أمام الله تعالى والسؤال والمحاكمة يتصوّر محكمة من المحاكم الدائرة في الدنيا، وأنّه واقف أمام قاضٍ يقاضيه، وعنده أنصاره وأهله وذووه؛ وهذا الخطأ الفادح في تصوّر ذلك العالم وما يجري فيه أدى إلى هذه الأوهام الخاطئة.

(ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا)، «الهُزُو» و«الهُزء» مصدر بمعنى السخرية، وهو هنا بمعنى المفعول به، أي اتخذتم آيات الله مهزوءاً بها، أي استهزأتم بها، فهذا العذاب والتحقير تستحقّونهما، لأنّكم استصغرتم شأن آيات الله واستكبرتم عليها واستهزأتم بها.

والاستهزاء أقبح شيء يقوم به الناس؛ إذ لا يمكن للرسل والأئمّة والمصلحين والعلماء أن يواجهوها بحزم وتدبير، فلو كان المخالف يأتي بدليل أمكن مواجهته بدليل ولو كان يحارب أمكنت محاربته، وأمّا الاستهزاء فلا يقابل بشيء، وهو في نفس الوقت يؤثّر سلبياً على المجتمع تأثيراً قوياً، ويفرق العامّة عن الرسل والمصلحين، ولا يسمح للعامّة أن يتدبّروا في أمرهم، فإنّ هذه مصيبة المجتمع الذي يراد إصلاحه، ولذلك قابله الله تعالى بالاستهزاء والتحقير وتشديد العذاب.

(وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، «التغرير»: الخداع. وفي هذه الجملة يحدّد الخطاب السرّ في عدم إيمانهم ومعاندتهم للحقّ، وهو الاغترار بالدنيا وما فيها من زينة وبهرجة، فلم يكن عدم إيمانهم لنقص في الحجّة عليهم ولا لعدم إدراكهم، بل

ص: 407

لأنّ الإيمان بدعوة الرسل كان يستوجب تركهم لكثير من الملذّات والشهوات، فلم تطاوعهم نفوسهم المغترّة بالدنيا.

(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا) التفات من الخطاب إلى الغيبة، ولعلّه بعد التصريح باستهزائهم لآيات الله لا يليقون بالمخاطبة فتصرف عنهم احتقاراً لهم، والضمير في قوله: (مِنْهَا) يعود إلى النار.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). الأصل في العتب الموجدة والغضب. و«العت_اب» ه_و إظهار الغضب، فإذا وجدت في نفسك شيئاً على أحد تحبّه أو لا تتوقّع منه ذلك، أظهرت له موجدتك وهذا هو العتاب ولكن حيث إنّ هذا الإظهار يوجب زوال الموجدة عبّر عن الرضا أيضاً بالعتبى، فقولك: «لك العتبى» بمعنى ل_ك ما ترضى به، وأعتبه أعطاه العتبى، فالاستعتاب بمعنى طلب العتبى والرضا فقوله تعالى: (وَلا هُمْ يُسْتَعْتُبُونَ)، أي لا يُطلب منهم أن يحاولوا إرضاء ربّهم لفوات أوان الاسترضاء. والطلب هنا بمعنى السماح ، أي لا يفسح لهم المجال للاسترضاء.

(فَلله الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أي ليس الحمد إلا له تعالى، وهذا الحصر مستفاد من تقديم الجارّ والمجرور.

و«الفاء» لتفريع الحمد على ما مرّ من حشر الناس يوم القيامة ليصل كلّ أحد إلى غايته وينال جزاءه ويوضع في مرتبته التي تليق به وهذا هو شأن الربوبية؛ إذ مقتضاها أن يوصل المربوب إلى غايته ، فله كلّ الحمد على ربوبيته، ومثله قوله تعالى: (وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحق وقيل الحَمْدُ الله رَبِّ الْعَالَمينَ).(1)

ص: 408


1- الزمر :(39): 75

ولذلك وصفه تعالى بكونه ربِّ السماوات والأرض، فكما أنّ مقتضى ربوبيته للأرض إعداد كلّ وسائل الحياة والتنعّم على هذا الكوكب، كذلك مقتضى ربوبيته لكلّ الكون أن يكمل مسيرة الإنسان ليصل إلى غايته في جميع المراحل وفي جميع العوالم؛ ولعلّ المراد بالسماوات العوالم العلوية بما في ذلك عالم

الآخرة.

ولعله لذلك كرّر لفظ «الربّ» للإشارة إلى اختلاف مقتضى الربوبية في عالم السماوات عن مقتضاها في عالم الأرض والطبيعة. ثمّ وصفه بربّ العالمين ولم يعطفه بالواو، لأنّه ليس بمعنى ربوبية أخرى وفي عالم آخر، بل هو ربّ جميع العوالم، فكأنّه إجمال بعد تفصيل. هذا إذا أريد بالعالمين جمع العالم، وإذا قلنا إنّه لا يشمل إلا ذوي العقول فقط ، فالمراد التركيز على كونه ربِّ الإنس والجنّ جميعاً في جميع العوالم ويعود إلى نفس المفاد.

وقيل: إنّ الغرض من تكرار «الربّ» أنّه ليس إلهاً للمجموع فقط، فيكون لكلّ عالم أيضاً إله، بل هو إله كلّ عالم أيضاً ولا إله غيره. ثمّ أبدله بربّ العالمين ليكون تصريحاً بشمول الربوبية. وما ذكرناه لعلّه أوفق بالسياق وأدقّ.

(وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، «الكبرياء»: العظمة. وفيه نوع من المبالغة في الكبر، وقيل: إنّه يختصّ بالعظمة في الأمور غير الحسية، بل قيل: إنّه يختصّ بالله تعالى ولا يطلق على غيره؛ ويردهما قوله تعالى في سورة يونس حكاية ل_م_ا قاله قوم فرعون لموسى وهارون علیهما السلام: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ).(1)

ومهما كان فالمراد بالآية أنّ العظمة المطلقة ليست إلا له، ولذلك قدّم الجارّ

ص: 409


1- يونس (10): 78

والمجرور وكلّ ما يطلق عليه العظمة فليس بشيء إلا عظمته تعالى والمراد بالسماوات والأرض الكون كلبه. ولعلّ مناسبة هذه الجملة لهذا المقام هو ظهور تلك العظمة في ذلك اليوم، فهو نظير قوله تعالى: (مَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ اللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)،(1) مع أنّ الملك له دائماً وأبداً، ولكن في ذلك اليوم يظهر للجميع أن لا أحد يملك شيئاً حتّى نفسه.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، «العزيز» هو الذي لا يقهر ولا يغلب على أمره،كما قال تعالى: (إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِه)(2) فهو تعالى عزيز لا يقهر وحكيم لا يعمل شيئاً إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة، وكلّ ذلك للإشارة إلى أنّ قيام القيامة وتأسيسها ممّا لا ريب فيه؛ لأنّ الله تعالى أراد ذلك وهو العزيز القهّار، وليس ذلك إلا لحكمته البالغة التي تقتضي أن لا يكون خلق السماوات والأرض باطلاً، وأن يكون لهذا الكون هدف، فعزّته تعالى وغلبته لا يستوجبان أن يفعل بعباده ما لا تقتضيه الحكمة البالغة.

ولله الحمد أوّلاً وآخراً وصلى الله على رسوله محمّد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 410


1- غافر (٤٠): ١٦
2- الطلاق (٦٥): ٣

فهرس المطالب

تفسیر سوره شوری

سورة الشورى (١-٦) .............................7

سورة الشورى (7- 12) ..........................17

سورة الشورى (١٣-١٦) .........................31

سورة الشورى (17- 20) .........................53

سورة الشورى (٢١-٢٦) .........................60

سورة الشورى (27- 31) .........................83

سورة الشورى (32- 39) ........................102

سورة الشورى (40 -43) ........................119

سورة الشورى (٤٤ - ٤٨) .......................123

سورة الشورى (٤٩ -٥٠).........................132

تفسیر سوره الزخرف

سورة الزخرف (1 - 8) ...........................163

سورة الزخرف (٩ -14) ..........................172

سورة الزخرف (١٥ - ١٩) .........................180

سورة الزخرف (20 -28)...........................187

ص: 411

سورة الزخرف (29 - 35) ......................... 200

سورة الزخرف (٣٦- ٤٥) .......................... 211

سورة الزخرف (٤٦-٥٠) ............................226

سورة الزخرف (٥١ - ٥٦) ......................... 233

سورة الزخرف (٥٧ - ٦٥) ......................... 240

سورة الزخرف (٦٦ - ٧٣) ......................... 253

سورة الزخرف (٧٤ - ٨٠) ......................... 263

سورة الزخرف (81-89) ............................270

تفسیر سورة الدخان

سورة الدخان (1 - 8) ..............................281

سورة الدخان (٩-١٦) ..............................303

سورة الدخان (١٧- ٢٤) ............................314

سورة الدخان ( ٢٥ - ٣٣) ..........................321

سورة الدخان (٣٤ - ٤٢) ...........................327

سورة الدخان (٤٣ - ٥٠) ...........................336

سورة الدخان (٥١- ٥٩) ...........................339

تفسير سورة الجاثية

سورة الجاثية (١ - ٦) .............................347

سورة الجاثية (13-7) ............................ 360

سورة الجاثية (١٤ - ١٧) ..........................370

سورة الجاثية (18 - 23) ..........................379

سورة الجاثية (٢٤ - ٢٦) ......................... 393

سورة الجاثية (27- 37) ..........................397

ص: 412

المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: مهری، سیدمرتضی، 1324 -

عنوان المؤلف واسمه: الهادي في تفسير القرآن الكريم [کتاب]/ العلّامة سيّد مرتضى المهري.

مشخصات نشر : قم : موسسة المعارف الاسلامیة، 1437ق.= 1395 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : موسسة المعارف الاسلامیة؛ 209، 219، 227.

شابک : دوره 978-600-146-015-9 : ؛ ج.1 978-600-146-016-6 : ؛ ج.3 978-600-146-019-7 : ؛ ج.4 978-600-146-030-2 : ؛ ج.5 978-600-146-031-9 : ؛ ج.6 978-600-146-039-5: ؛ ج.7 978-600-146-057-9 :

حالة الاستماع: فاپا

لسان: العربية.

ملحوظة : ج.3 (چاپ اول: 1394) .

ملحوظة : ج.4 (چاپ اول: 1395) .

ملحوظة : ج.5 (چاپ اول: 1397) (فیپا).

ملحوظة : ج.6 (چاپ اول: 1399).

ملحوظة : ج.7 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .

مندرجات : .- ج.3. تفسیر سورة الشوری.- ج.4. تفسیر سورة الاحقاف.- ج.5. تفسیر سورة الذاریات.- ج.6. تفسیر سورة حدید.- تفسیر سورة التحریم

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

معرف المضافة: موسسة المعارف الاسلامیة

تصنيف الكونجرس: BP98/م866ھ2 1395

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3483061

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الهادي في تفسير القرآن الكريم

المجلد الرابع

تأليف

العلامة سيّد مرتضى المهري

ص: 3

سرشناسه : مهری سید مرتضی 1324 -

عنوان و نام پدیدآور : الهادى فى تفسير قرآن کریم/ سید مرتضی مهری

مشخصات نشر :: قم : بنیاد معارف اسلامی ، 1393) - (219 - 209 - 207 - 206)

مشخصات ظاهری : ج.

ISBN : دوره ای: 015-9-146-600-978

ج 1 6-016-146-600-978 ج ) 3-017-146-600-978 0919-7 - 978-600-146 ج 4 2-030 146 م (4) 2-030- 146-600-978

وضعیت فهرست نویسی : فیبا

یادداشت :عربي.

یاد داشت : ج. 3 چاپ اول (1395) (فیا).

یاد داشت : ج4 چاپ اول: (1395) (فیپا).

مندرجات : ج 4: تفسیر سوره احقاف

موضوع : تفاسیر شیعه - قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : 1393 2 ه- 866م / 98 BP

رده بندی دیویی: 297/179 :

شماره کتابشناسی ملی: 3483061 :

هوية الكتاب:

اسم الكتاب :... الهادي في تفسير القرآن الكريم ج 4

المؤلف : .... العلامة السيد مرتضى المُهري

الناشر : ..... مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة :....... الأولى 1438 ه- - ق

المطبعة :......... عترت

العدد ......... 1000 ن

رقم الايداع الدولي للدورة : .......978-600-146-015-9

رقم الايداع الدولي / ج 4 :....... 978-600-146-030-2

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون : 09127488298 - 37732009 - فاكس 37743701 ص ب 168 / 37185 37185/768

www.maarefislami.com

E-mail : info@maarefislami.com

جمعیه خیریه رقمیه: مرکز خدمه مدرسه اصفهان

المحرر الدیجیتالی :سیدعبدالله رضوی مالستانی

ص: 4

تفسير سورة الأحقاف

اشارة

ص: 5

ص: 6

سورة الأحقاف (1-6)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حمَ(1) تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2) مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَعَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَبٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَابِهِمْ غَيفِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَفِرِينَ )

سورة الأحقاف مكّية تشتمل على إثبات الوحدانية والربوبية المطلقة للكون، وإثبات المعاد والرسالة، وأنّ القرآن هو الكتاب المنزل من عند الله تعالى والإشارة إلى بعض ما جرى على الأمم السالفة، وورد في نهايتها قصّة إيمان الجنّ بالقرآن وبالرسالة.

(حم)، مرّ الكلام حول الحروف المقطعة في تفسير سورة يس.

ص: 7

«تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»؛ مرّ تفسيرها في بداية سورة الجاثية.

«مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ»، الآية تستدلّ على لزوم حشرالناس يوم القيامة. والظاهر أن المراد بالسماوات هنا ، الأجرام الفلكية التي نراها فوقنا، و بالأرض الكرة الأرضية؛ وإضافة مَا بَيْنَهُما لكي يشمل التعبير كل الكون المشهود، أي عالم الطبيعة ، وقد ذكرنا مراراً أن السماوات قد يراد بها - في القرآن - العوالم العلوية التي ترتبط بها الملائكة الكرام إلا أن قوله تعالى: (وَأَجَلٍ مُسَمًّى يقتضي أن لا يراد بالسماوات عالم الملائكة هنا، وإن احتمل أن يكون للسماوات بمعنى ماوراء الطبيعة أجل أيضاً، كما ربما يفهم من قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ»(1) إِلّا أَنه لا علاقة له بهذا الاستدلال، فإنه يبتني على فناء الحياة الدنيا وزوال النظام الكوني في عالم الطبيعة كما سيتبيّن إن شاء الله تعالى.

والباء في قوله تعالى: (بالحَقّ) للملابسة، أي ما خلقنا الكون إلا خلقاً على أساس الحق، وهو كونه لغاية وهدف، وهذا الأمر مع توصيفه تعالى في الآي-ة السابقة بالعزيز الحكيم يقتضي لزوم تعقب هذه الحياة بحياة أخرى ينال فيها الإنسان جزاء أعماله الصالحة والفاسدة، ويوضع موضعه اللائق به، فإن هذا هو مقتضى العدل والحكمة، والنظام الكوني يدلّ على أن الكون مبتن عليهما، وأن خالقه عزيز حكيم لا يعمل إلا بمقتضى الحكمة، وهو العزيز والغالب المطلق الذي لا يمنعه شيء من تحقق ما يريد.

وإذا لاحظنا الكون، نجد أنّ كلّ شيء في موضعه الذي ينبغي أن يكون إلّا

ص: 8


1- الزمر (39): 68

هذا الإنسان فإنّا نجد أنّ كثيراً من البشر يستحقّون أشدّ العذاب، ومع ذالک فهم يعيشون في رفاهية ونعمة وسعة من العيش، ونجد كثيراً ممّن يستحقّون التبجيل والاحترام، لا يُعرف قدرهم ولا يُكرمون، بل يقضون حياتهم في بؤس وعناء، بل نجد المجتمع البشري يقلّب الموازين طيلة القرون، ويكرّم ويعظم الظلمة والأشرار أكثر من إكرام الأنبياء والمصلحين، فضلاً عما لا قوة في حياتهم من ظلم وتشريد ،وقتل، فلا بد لتحقق الحكمة من خلق الإنسان الذي سخّر الله له هذا الكون، أن يعود إلى عالم آخر يوضع فيه كلّ إنسان موضعه، ويرى كل أحد نتيجة أعماله.

«وَأَجَلٍ مُسَمًّى» عطف على الحقّ، أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما

إلا بأجل مسمى، أي ملابساً للأجل.

والمسمّى، أي المعيّن. والأجل المدّة المضروبة، والغاية المحدّدة للشيء ولعلّه بتقدير كلمة «بتقدير» ونحوه؛ لأن الذي يلابس الخلق ليس هو الأجل نفسه، بل تقديره وتحديده. وكون الخلق ملابساً لتقدير الأجل، بمعنى أنه من بدو الخلق كان مؤجّلاً ومحدوداً لحدّ معيّن من الزمان، والمراد به الأجل الطبيعي لهذا النظام الكوني.

ولعلّ القصد من ذكر الأجل المسمّى الإشارة إلى أنّ هذا النظام وهذه الحياة فانیان لا محالة، وهو مقدّر من بدو الخلق، بمعنى أنّ خلق هذا النظام يلازم الفناء، فلم يخلق الله الطبيعة بحيث تبقى إلى الأبد، فلا يمكن أن تتحقق الحكمة والعدالة في هذه الحياة وفي هذه المرحلة من الكون، وهنا يستنتج أنه لا بد من حياة أخرى وعالم آخر ومرحلة أخرى من التكوين، لتتحقق فيها العدالة التي تقتضيه الحكمة الإلهيّة.

ص: 9

وقيل: إنّ المراد بالأجل المسمّى يوم القيامة، ونسب إلى ابن عباس وتبع-ه المفسّرون فإن أريد به يوم النفخة الأولى أو فناء الكون، فهو صحيح إلا أن التعبير عنه بيومه القيامة غير دقيق ويوهم أن المراد يوم النفخة الثانية وإحياء الناس، وقيام نظام جديد وهو غير مراد في الآية قطعاً، كما يلاحظ من التعبير ب-«الأجل الذي هو نهاية مدة بقاء هذا النظام، ولأن الآية بصدد الاستدلال على لزوم تحقق يوم القيامة، فكيف يكون هو بنفسه جزءاً من الاستدلال؟!

وقيل: إنّ المراد به آجال البشر، فلكلّ أحد أجله المسمّى، وهو أقرب إلى الحقيقة من التعبير بيوم القيامة، بمعنى أن موت الإنسان يمكن أن يكون جزءاً من الاستدلال، فإنّه لو كان مخلّداً في هذه الحياة، أمكن أن يأتي الله تعالى بيوم ينال كلّ إنسان جزاءه في الدنيا، ولكن حيث إنه يموت من دون أن ينال جزاء أعماله خيراً أو شرّاً - فلا بدّ من حياة أخرى وعالم آخر.

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أَنْذِرُوا مُعْرِضُونَ» ، أي بالرغم من أنّ الكتاب منزل من عند الله العزيز الحكيم، ومنذر لما يأتي بعد أجل السماوات والأرض، وبالرغم من أن الكون مليء بالآيات الدالة على أنه مخلوق بالحقّ وأجل مسمّى، مع ذلك كلّه تجد الذين كفروا - بوجه عامّ أو خصوص مشركي مكّة والجزيرة العربيّة؛ لأنّ الخطاب موجّه إليهم - معرضين عن ما أنذروا به، وهو الخطر المحدق بهم، والمراد به يوم القيامة، فتكون (مَا) موصولة.

ويمكن أن تكون مصدرية، أي تجدهم معرضين عن نفس الإنذار والآيات

المتضمنة له والسياق يفيد التعجيب من حالهم.

والإعراض بمعنى صرف الوجه، فالمراد أنهم يصرفون وجوههم حتّى لا يواجهوا الحقيقة؛ فإنّهم لا يريدون أن يسمعوا ما لا يعجبهم وإن كان حقاً.

ص: 10

وهكذا الإنسان في جميع شؤونه؛ فإنه إذا حُذِر عن عاقبة فعله --- ح-تّ-ى ل-و ك-ان التحذير لأمر دنيوي محسوس، وحتّى لو كان الأمر خطيراً يتعلّق بالموت والحياة، ولكنّه لا يوافق ميوله - فهو لا يحبّ أن يسمع، فضلاً عن التدبّر والتفكّر، وفضلاً عن الانتهاء عن فعله، كما نجده من المدمنين للتدخين أو استعمال المخدرات أو الكحول أو نحو ذلك ممّا يتعاطاه أهل الأهواء والشهوات.

«قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله ». المعروف بين المفسرين أن قوله: «أرأيتُمْ» بمعنى أروني وأخبروني، وأن قوله: «أرُونِي » بعد ذلك تأكيد له. ولكن الظاهر، أن قوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ»، أي انظروا إلى ما تدعون من دون الله، أي الأصنام وغيرها، فهو توطئة للجملة التالية.

والمراد بقوله: «مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله،» ما يعتقد بعض البشر أنّهم يؤثَرون في الكون تأثيراً فاعلياً غيبياً بالاستقلال، فيدعونهم بدلاً عن الله، كما كان المشركون المخاطبون يعتقدون ذلك في الملائكة أو في الأصنام، لأنّها تمثّل الملائكة وكما يعتقد ذلك في بعض الأنبياء والأولياء. «وتَدْعُونَ» بمعنى أنكم تطلبون منهم حاجاتكم، وتظنّون أنهم يغنون عنكم من الله شيئاً. ودعاؤهم من دون الله، بمعنى أنّهم لا يدعون الله، ويدعون هذه الأصنام وغيرها بدلاً منه.

وعليه فكلّ من يعتقد أنّ لشيء ما تأثيراً فاعلياً غيبي-اً ف-ي الك-ون بدلاً عن الله تعالى، بمعنى أنّه لا يستند في فعله وتأثيره إلى إرادته تعالى، فهو يدعو أحداً من دونه تعالى، وهو مخاطب بهذا الخطاب.

«أرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض»، هذه الجملة تفنّد ربوبية غيره تعالى، فإنّ الربوبيّة لا تنفك عن الخلق؛ لأنّ التأمّل في نظام الكون يقضي بأنّ الربّ المدبّر

ص: 11

هو الخالق الذي وضع كلّ شيء موضعه، وهيّأ لكلّ شيء ما يحتاج إليه في ذاته وفي ما حوله، وهو الذي أنشأ هذا النظام المتناسق والمتكامل، بحيث يكمل كلّ جزء منه سائر الأجزاء.

فالسؤال أن ما تعتبرونهم أرباباً، هل خلقوا من الأرض شيئاً ليكونوا ربه وما الذي خلقوه؟ ومن الطبيعي أنّ الجواب هو النفى فهذا مجرّد تنبيه لما غفلوا عنه، حيث اعتبروا من لا دور له في الخلق ربّاً مؤثراً في الكون، توهّماً منهم أن الربّ ليس هو الخالق، وأن هناك من يؤثر في الكون تأثيراً مباشراً ومستقلاً، غير الخالق الحكيم جل شأنه.

«أمْ هُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ،» «أمْ» منقطعة، ففيها معنى الإضراب عن السؤال الأوّل وهو الخلق في الأرض، واستفهام أمر آخر وهو اشتراكهم في شيء من السماء. ومن الواضح أنّ الأصنام وغيرها، لا تؤثر شيئاً في السماوات ولم يكن المشركون يعتقدون ذلك؛ فالاستفهام للتقرير، أي أخذ الإقرار منهم ولكي ينتبهوا إلى أنّ الكون واحد متناسق فخالق السماوات ومدبّرها هو خالق الأرض ومدبّرها أيضاً؛ إذ لا يمكن أن تنفصل إدارة الأرض عن إدارة السماء، فإذا أقررتم بأنّ الأرباب المزعومين لا دخل لهم ولا تأثير في السماوات، فهو ملازم لنفي تأثيرهم في الأرض أيضاً. وإنّما أتى بضمير ذوي العقول مع أنّ المراد ب-ه الأصنام؛ لأنّ إسناد التدبير والربوبية إليها يستلزم ذلك، فهو نوع من التهكّم. «ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أو أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»، لعلّ الغرض أنّكم حيث لا يمكنكم الإتيان بشواهد خارجية تدلّ على تأثير الأصنام في الكون، فأتوني بدليل نقلي من كتب السماء، يدلّ على ربوبية الأصنام أو غيرها، وهذا

ص: 12

على غرار ما مرّ من الاستدلال على ربوبية الله تعالى بالكتاب المنزل من عنده وبآيات التكوين التي ملأت الكون والإشارة في قوله: «مِنْ قَبْلِ هَذَا » إلى القرآن الكريم. والأثارة والأثر، ما يبقى من الشيء؛ فالمراد ما بقي لديكم من علوم الأولين وهو عطف على الكتاب، أي ائتوني بمستند سماوي أو علم بشري يدلّ على ربوبية غير الله تعالى.

وقوله:« إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ» شرط جزاؤه محذوف يدلّ عليه الطلب السابق، أي إن كنتم صادقين في دعواكم، فائتوني بكتاب أو أثارة.

«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»،استفهام إنكاري، أي ليس هناك أضل من هؤلاء الذين يدعون غير الله بدلاً عن الله، بمعنى أنهم يعتبرونهم آلهة وأرباباً يؤثرون في الكون استقلالاً، مع أن الأصنام التي يدعونها لا يستجيبون لهم ولا يردّون عليهم، بل لا يسمعون دعاءهم، كما قال تعالى: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ».(1)

وقوله: «إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» يمكن أن يكون كناية عن التأبيد، كقوله تعالى: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْض».(2) ويمكن أن يكون بمعناه الظاهر ولكن ليس له مفهوم، فليس معناه أنّهم يستجيبون لهم يوم القيامة، بل معناه أنّ حالهم مع هؤلاء يوم القيامة، يختلف عن حالهم في الدنيا، وذلك لأنّهم يوم القيامة يكونون لهم أعداء ويكفرون بعبادتهم وشركهم، كما مرّ في الآية

ص: 13


1- فاطر(35) 14 .
2- هود (11) 107 و 108 .

المذكورة، وسيأتي في الآية التالية.

«وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ» هذا بمعنى قوله تعالى: «لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ»، ولكنّه عبّر هنا بالغفلة، مع أنّ الأصنام جماد لا توصف بالغفلة؛ فهو إما من جهة أنّهم يسندون إليها ما لا يسند إلّا إلى عاقل، ففيه نوع من التهكّم والاستهزاء، وإمّا باعتبار أن الجمادات أيضاً لها نوع من الشعور عند الله تعالى، وفي ذل-ك ش-واهد كثيرة في الكتاب العزيز، كقوله تعالى: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»،(1) فإسناد الغفلة إلى الأصنام من جهة أنّها لا تشعر بأن هذا الدعاء موجّه إليها؛ لأنّها تعلم أنّه-ا غي-ر قادرة على شيء فلا تصدّق ذلك.

«وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا هُمْ أعْدَاء». الضمير في قوله: «هم» لا يرجع إلى الناس بل إلى المشركين خاصّة، أي أنّ الأصنام التي يتّخذونها آلهة تعاديهم يوم يحشر الناس جميعاً. والأعداء جمع عدوّ وهو مشتقّ من العدوّ أي التجاوز. وكلّ من يتجاوز الحد الطبيعي في المنافرة فهو عدوّ ، وقد لا يكون عداؤه عن قصد، كما قال تعالى: «یَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ»، (2)فإنّه تعالى لا يحذر ممّن يعادي علناً من الأزواج والأولاد، بل المراد من لا يظه-ر من-ه عداوة ولا يقصدها أيضاً، بل ربما يقصد الخير ولكنّه يجر الإنسان إلى ما لا يرضى الله تعالى به، والإنسان ينجر وراءه حبّاً لولده وزوجته ويقع في المفسدة والبلاء من حيث لا يدري. ومن هذا القبيل عداوة الأصنام للمشركين وهي تعاديهم في هذه الدنيا أيضاً؛ لأنّها كسائر المخلوقات مؤتمرة بأوامر الله تعالى

ص: 14


1- فصلت (41): 11.
2- التغابن (64): 14.

مطيعة له، بخلاف المشركين المتآمرين على ربّهم، ولكن هذا العداء لا يظهر إلا يوم القيامة، حيث تبرز الحقائق الكامنة علانية.

«وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ». الكفر بمعنى الإنكار، فالمراد أنّ الأصنام تنكر عبادة المشركين لها واقعاً، كما قال تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ»،(1) وليس ذلك كذباً منها؛ لأنّ المشركين يعلمون حين عبادتهم أنّ الأصنام لا تسمع شيئاً ولا تعمل عملاً، فهم لا يدعونها ولا يعبدونها بجدّ، وإنّما يدعونها تثبيتاً لما يجمعهم وتجتمع عليه أحزابهم من العقيدة الفاسدة التي تبنّوها كذباً وزوراً، كما قال تعالى في حكاية قول سيدنا إبراهيم علیه السلام : «وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانَا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » ؛(2) أي من أجل إبقاء المودّة وترسيخها بين الأتباع، وهكذا كل دعاة الباطل وأتباع المذاهب الفاسدة الواضحة الفساد. وهذه الآية تحاول أن تنبههم إلى ما يغفلون أو يتغافلون عنه.

ص: 15


1- فاطر (35): 14 .
2- العنكبوت (29) 25.

سورة الأحقاف (7-10)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَايَتُنَا بَيْنَت قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَنَهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ، فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعَا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ب قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاوِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فَقَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ.

«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ مَا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ»، المراد ،بالآيات القرآن الكريم، و «بَيِّنَاتٍ» حال لها أي تتلى عليهم الآيات حال كونها، بينة واضحة، بمعنى أنهم يعلمون أنها آيات نزلت من عند الله تعالى وأنها ليست من إنشاء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا يمكن أن يكون هو المنشئ لها، فهم يعلمون ذلك بمقتضى خبرتهم ومعرفتهم بخصائص الرسول صلی الله علیه و آله وسلم و سوابقه وصدقه وبع-ده ع-ن الشعر والكلام المسجّع، وكونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وأن مثل هذا البيان لا يمكن أن يصدر منه ولا من غيره من البشر، ولذلك لم يذكر بعد ذلك ضميراً يعود إلى الآيات، بل أبدله بكلمة «الحق» للإشارة إلى أنهم علموا أنّه الحقّ، ومع ذلك قالوا فيه إنّه سحر واضح، وهم بذلك يعترفون بتأثيره العجيب وإخضاعه لمن يسمعه، ولكنّهم يأبون من الاعتراف بأنه حق بالرغم من إحساسهم بذلك؛ فيعلّلون تأثيره بالسحر.

ومثله التعبير بالذين كفروا، بدلاً عن الضمير للتأكيد على كفرهم وعنادهم. وقوله :« لمَّا جَاءَهُمْ» لعلّه للتأكيد على أنّهم بمجرّد سماعه حكموا عليه بذلك، م-ن

ص: 16

دون تردّد وتروّ مكابرةً منهم وعناداً. واللام في «لِلْحَقِّ» ليس لتعدية القول؛ إذ ليس هذا خطاباً للحق، بل للتعليل، أي من أجل الحق باعتبار أن-ه ك-لام ح-ول-ه وتعبير عنه وتوصيف في شأنه.

«أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاه» «أمْ» منقطعة، ففيها معنى الإضراب والاستفهام، والإضراب

الذي تتضمّنه بمعنى أنهم لم يكتفوا بالقول بأنّه سحر، بل اتهموا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّه ،افتراه والاستفهام للإنكار.

«قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً »، المتداول في التفاسير أن المراد بهذا الجواب أنه لو كان مفترياً لعاقبه الله تعالى ومنعه وهو قادر على كل شيء. فجزاء الشرط - في الواقع - ليس هو الجملة الواردة في الآية، بل هذه تتمة الجزاء، والجزاء المقدّر: «فهو قادر على أن يمنعني ولا تتمكنون من منعه، لأنكم لا تملكون لي من الله شيئاً، والملك في الأصل يدلّ على قوة في الشيء وصحة على ما في «معجم المقاييس»(1)، والمراد به هنا القدرة أي لا تقدرون على منعه تعالى من أي ضرر يريد إيقاعه علي.

وفيما ذكروه ملاحظتان :

الأولى: أنه ليس للمخاطبين خصوصية في الدفاع عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، إذا أراد الله به شراً؛ فلماذا يخاطبهم بقوله: «فَلا تَمْلِكُونَ لي » ؟ بل لا يتوقّع منهم أن يدفعوا عنه حتى لو تمكّنوا من فعل شيء.

وقد انتبه المفسّرون لورود هذا الإشكال عليهم؛ فقال بعضهم في الشرح: «لا تقدرون أنتم ولا غيركم، ومرد ذلك إلى أن توجيه الخطاب إليهم من باب أنهم

ص: 17


1- معجم مقاييس اللغة 5: 351

من الخلق وكلّ الخلق ليست لهم القدرة. ولكن من الواضح أن هذا التوجيه لا يحل الإشكال ولا يبرّر مخاطبتهم بذلك مما تظهر منه الخصوصية.

وقال أكثرهم في الشرح : «والمراد كيف أفترى على الله من أجلكم وأنتم لا

تقدرون على دفع عقابه عنّي إن افتريت عليه ؟!» كما في «مجمع البيان» وغيره؛(1) فأضافوا قولهم من أجلكم ليكون مبرراً لتوجيه الخطاب إلى المشركين، كأنه صلی الله علیه و آله وسلم يقول لهم: «إنّي لو افتريت فقد افتريته من أجلكم مع أنكم لا تقدرون على مساعدتي إن عاقبني الله على افترائي، وهو لا شك يعاقب على ذلك فلا موجب لهذا الافتراء». ومن الواضح أنه أبعد من الصواب من الوجه الأول؛ إذ لا وجه لكون الافتراء من أجلهم، إلا أنه لمصلحتهم في الآخرة، والمفروض أنه افتراء فأيّ مصلحة لهم فيه ؟! بل ليس لهم فيه حسب دعواهم إلا الضرر.

الملاحظة الثانية: أنّ هذا الجواب يشبه قول المشركين كما قال تعالى «سَيَقُولُ الَّذِينَ أشركوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرِكنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء»،(2) وقال أيضاً: «وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا هُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا تَخْرُصُونَ»، (3)" وغير ذلك.

وحاصله أن الله تعالى قادر على منعهم من الشرك ونحوه، وحيث لم يمنعهم یكشف ذلك عن رضاه بعملهم، وقد ردّ عليهم القرآن - كما في الآية الثانية - بأنهم ليس لهم علم برضاه تعالى، وعدم التعجيل في المؤاخذة لا يدل على الرضا. ونفس هذا الجواب يأتي هنا أيضاً.

ص: 18


1- راجع مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 126؛ جامع البيان في تفسير القرآن: 122
2- الأنعام (6): 148 .
3- الزخرف (43): 20

وتمسك بعضهم في تفسير هذه الآية بقوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ»،(1) حيث استظهروا من الآيات أنها أيضاً بصدد الاستدلال على كون القرآن حقاً، بأنّه تعالى يعاقبه أشدّ العقاب لو تقول على الله بشيء.

وهذا الكلام غير صحيح؛ فما أكثر من ادعى النبوّة كذباً وافتراءاً، وما أكثر

من نسبوا إلى الله تعالى ما لم يقله من دعاة الدين والملوك والفراعنة وغيرهم وفى القرآن الكريم نسب الافتراء إلى المشركين وأهل الكتاب، مع أنّه تعالى لم ينزّل عليهم عذاباً من السماء ولا منعهم من الافتراء عليه تكويناً. وستأتي تتمّة الكلام في تفسيرها إن شاء الله تعالى.

والظاهر أنّ المراد من الآية المباركة ليس هو الجواب عن اتهامهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالافتراء، بل هو إعلام لمقاطعتهم؛ لأنّهم لا يكذّبونه جهلاً بمقامه بل هم يعلمون بوضوح أنّه صادق في دعواه، وأنّه لم يقل كذباً طيلة حياته، وقد لبث فيهم عمراً من قبله، وإنّما يتّهمونه بالكذب والافتراء عناداً ومكابرةً، فه-م لا يستحقّون الجواب، ومعنى هذه الجملة أنّه إذا افترى على الله تعالى - وحاشاه --- فإنَّ الله هو الذي يجازيه في الآخرة، وليس لهم دور في الموضوع ولا عليهم مسؤولية، ومثله قوله تعالى: «أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجرِمُونَ»،(2) وقوله تعالى: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِى عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيتُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ». (3)ويشهد لهذا التفسير الجملات التالية؛ وأم-ا عل-ى م-ا ذك-ره

ص: 19


1- الحاقة (69): 44 - 47.
2- هود (11) 35
3- يونس (10): 41

المفسّرون، فلا علاقة لهذه الجملة بما يليها.

«هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ»، الإفاضة في الحديث هو الخوض والاندفاع في-ه والاشتغال به عن غيره. وحديث مستفاض، أي ذائع ومنتشر بكثرة، استعير من إفاضة الماء، أي أسالته بكثرة. ويتبيّن منه أن القوم كانوا يصرّون على نشر اتهامه صلی الله علیه و آله وسلم بالكذب والافتراء، وهكذا شأن الطغاة إذا واجهوا الحق، فإنّهم يسعون بمبالغة في التكذيب والتنقيص، حتّى لا يبقى له أيّ تأثير في المجتمع.

وفي هذا الخطاب تهديد لهم بأن الله تعالى هو محاسبهم على ذلك. ويتبيّن بوضوح أنّها لا تناسب التفسير المعروف، وإنّما تناسب ما ذكرناه من أنّ الجملة تدلّ على المقاطعة وإيكال أمرهم إلى الله تعالى.

«كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ »، الشهيد بمعنى الشاهد أي كفى به شاهداً على ما يقع بيني وبينكم من الخصومة والاحتجاج، حيث إنّه أعلم بما يقولون وأعلم بنيّاتهم وبدوافعهم وهو القادر على مجازاتهم وهو الحكم العدل، فتكفيني شهادته. وهذه الجملة أيضاً تهديد وتحذير.

«وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». لعلّ هذه الجملة لإكمال التهديد بما قبلها، حيث إنّ-ه ربما يتوهّم المشركون أنّه حيث هو الأعلم بما نخوض فيه وهو الشهيد بيننا وبينك، فَلِمَ لا يعذّبنا بذنوبنا، فأكمله بقوله: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، أي لا يغرنّكم تأخير العقوبة لعنادكم وكفركم، فإنّ-ه تعالى غفور رحيم يمهلكم لعلّكم

ترجعون، ويمكن أن تكون لدفع اليأس عنهم وترغيبهم على التوبة والرجوع.

«قُل مَا كُنتُ بدعاً مِّنَ الرُّسُلِ»، البدع صفة مشبّهة من الإبداع، أي إيجاد الشيء من غير مثال. والبدع يطلق على الفاعل والمفعول، وهنا يحتمل المعنيين، فعلى اسم الفاعل معناه أنّي لست مبدعاً ولم آت بطريقة جديدة في الرسالة؛ فأنا كباقي

ص: 20

الرسل، من حيث إنّي أبلغ ما أُرسلت به وعلى المفعول، أي مبدّعاً معناه : أنّ الله تعالى لم يرسلني بكيفية مبدّعة، أي جديدة، بل كما أرسل سائر الرسل. والحاصل أنّ الله تعالى سنّة في إرسال الرسل وبعثهم، حيث يبعث معهم الآيات ويأمرهم بالإبلاغ، وأنا أيضاً كما سبقني من الرسل أحذو حذوهم، وليس معناه أنه لم يأت بشريعة جديدة وأنه يتبع الشرائع السابقة، بل المراد أنّ سبيله في الإبلاغ سبيل الرسل السابقين.

والظاهر أنّ الآية في سياق الردّ عليهم باتّهامه بالسحر أو الافتراء، باعتبار أنّه لم يأت بأمر غريب، وإنّما هو رسول كسائر الرسل، ويمكن أن يكون ردّاً لبعض طلباتهم، حيث كانوا يطلبون منه صلی الله علیه و آله وسلم أن يأتي بمعجزات خاصّة، كما ورد في سورة الإسراء: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أو تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أو تَأْتِيَ بِالله وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أو يَكُونَ لَكَ بَيْتُ مِنْ زُخْرُفٍ أو تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيكَ حتى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً » . (1)

«وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ»، قوله تعالى: (وَلا بِكُمْ)، أي ولا أدري ما يفعل بكم، فحذف بعض الكلام لدلالة الجملة السابقة عليه. والجملة تؤكّد المضمون السابق وهو أنه صلی الله علیه و آله وسلم ليس إلا رسولاً كسائر الرسل، وأنّه لا يدّعي أمراً وراء ذلك ليكون مستغرباً. ونظير ذلك قوله تعالى: «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أقُولُ لَكُمْ إنّي مَلَكُ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَى» (2)، وقوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ

ص: 21


1- الإسراء (17) 90-93
2- الأنعام (6) : 50 .

لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إلا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»،(1) وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشر مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ » (2)، وفي حكاية كلام نوح علیه السلام : «وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أقُولُ إِنِّي مَلَكٌ » (3). " وغير ذلك ممّا يدلّ على أنّ الأنبياء كانوا ينفون عن أنفسهم أنهم فوق البشر؛ لئلا يتوقّع الناس منهم معاجز غير ما أعطاهم الله تعالى.

وهناك إشكال يخطر في الأذهان في الآية الكريمة من جهة نفي علمه صلی الله علیه و آله وسلم بما يؤول إليه أمره ، مع أنّه لا شكّ في أنّه شافع مشفّع يوم القيامة. ويمكن أن يجاب عنه بأنّ المراد نفي علمه بالغيب في مستقبل الحياة الدنيوية، وفي نفس الوقت إظهار للعجز أمام إرادة الله تعالى، وأنّ التقدير بيده يفع-ل ب-ي وب-ك-م م-ا يشاء. أمّا في الآخرة، فهو يعلم أنّ الله تعالى يدخله الجنّة. نعم يمكن أن ينفي العلم بتفاصيل ما يحدث وإن كان بعيداً أيضاً، للروايات المتواترة إجمالاً، التي تشتمل على تفاصيل ما يحدث في مختلف مواقف يوم القيامة.

وفي روايات العامّة ما يدلّ على نفي علمه صلی الله علیه و آله وسلم بما يؤول إليه أمره في الآخرة؛ ففي «صحيح البخاري» بسنده عن خارجة بن زيد: «أَنَّ أُمَّ العلاء - امْرَأَةٌ مِنْ الأنصار، بَايَعَتْ النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتِيمَ الْمُهَاجِرُون قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَان بْن مَظْعُونِ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسل وَكُفَّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ الله عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ

ص: 22


1- الأعراف (7) (188 .
2- الكهف (18) 110 .2.
3- هود (11) 31

فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله وسلم:« وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكْرَمَهُ». فَقُلْتُ: بأبي أنتَ يَا رَسُولَ الله فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللهُ. فَقَالَ: «أمّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَالله إنِّي لأرْجُو لَهُ الخَيْرَ وَاللهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي». قَالَتْ فَوَاللَّهُ لَا أَزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ أبداً».(1) ورواه في «الدرّ المنثور» (2)عن أحمد والنسائي وابن مردويه أيضاً، ورواه بوجوه أخر عن غيرهم.

و نسب بعضهم إلى ابن عباس القول بأن الآية منسوخة بقوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» ،(3) ولكن لا معنى للنسخ هنا، فهذا ليس حكماً شرعياً، وإنّما هو إخبار عن حقيقة قائمة لا تتبدّل إلا إذا أُريد بالنسخ أن-ه صلی الله علیه و آله وسلم م-ا ك-ان يعلم أنّ الله تعالى غفر له ذنبه وأنّه يدخله الجنّة إلا بعد نزول سورة الفتح، وهي من أواخر السور وهذا بعيد جداً، ومخالف للروايات المتواترة التي مرّت الإشارة إليها، خصوصاً على روايات القوم، حيث رووا بشارة العشرة بالجنّة واعتمدوها.

فالصحيح أنّ المراد عدم العلم بما يحدث في المستقبل من حوادث الدنيا. ويمكن أن يقال: إنّها أيضاً كانت معلومة له صلی الله علیه و آله وسلم بالوحي؛ فهو كان عالماً بأنه سينتصر على المشركين مثلاً؛ بل أخبر بحوادث كثيرة تحدث بعده، وقد جمعت الأحاديث الغيبية في كتاب بهذا الاسم، وقد وقع كثير مما ورد فيها. ولكن لا يبعد القول هنا بعدم العلم بالتفاصيل أيضاً، كما قال تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا

ص: 23


1- صحيح البخاري 4 464 ، باب الدخول على الميت.
2- الدر المنثور 6 38
3- الفتح (48): 2

نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ،» (1)فممّا لا شك فيه بمقتضى الآيات، أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم م-ا كان يعلم الغيب بذاته، وإذا أخبر بالغيب فإنّما هو وح-ي أنزل عليه أو أخب-ر ب-ه بوجه آخر لا نعلمه.

والله تعالى لا يخبره عن كلّ الغيب، فإنّ ذلك ليس من صالحه ولا من صالح الأمة. قال تعالى: «وَمَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»،(2) وقال أيضاً: «وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ». (3)وهناك فرق بين المعرفة بالسيماء والهيئة والمعرفة بلحن القول. ويتبيّن من الآيتين وغيرهما ، أنّه ما كان يعرف كلّ المنافقين والأعداء، أو أنه يعرف بعضهم بلحن القول مما لا يوجب علماً قطعياً.

والحاصل أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وكذلك الأئمة علیهم السلام إنما يعلمون بعض الغيب بإذنه تعالى، كما هو الحال في سائر الأنبياء ، فهناك آيات تدل على إخبارهم بالغيب كقول عيسى علیه السلام «وأنبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ»،(4) وهناك آيات تنفي علم الغيب عنهم، كقوله تعالى نقلاً عن سيدنا نوح علیه السلام: «وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ».(5) فالجمع بين الآيات يقتضي أنّهم علیهم السلام ما كانوا يعلمون الغيب بأنفسهم، وإنما كانوا يعلمون بالوحي من الله تعالى، كما أن قدرة الأنبياء على الإعجاز أيضاً ليست منهم، وإنّما هو بإذنه تعالى، كما قال خطاباً لعيسى علیه السلام:

ص: 24


1- الأعراف (7): 188
2- التوبة (9) 101
3- محمد (47) 30
4- آل عمران (3) 49
5- هود (11) 31

«وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي». (1)والأمر لا يختص بعلم الغيب ولا بالمعجزات؛ فكلّ ما يحدث في الكون لا يتم إلا بإذنه تعالى، وإنما يقال ذلك بالنسبة لعلم الغيب والإعجاز، لدفع توهم أنهم الله لهم قدرة ذاتية على معرفة الغيب وفعل المعجزات.

وبذلك يندفع الإشكال على الأنبياء والأئمة علیهم السلام أنهم كيف كانوا يعملون م-ا يتضرّرون به لو كانوا يعلمون الغيب كشرب الإمام السمّ وتعرض بعضهم للقتل أو المرض؟! ومن الغريب ما قال بعضهم - تأييداً لما ورد من الحديث: «ما منا إلا مسموم أو مقتول»،(2) - إنّ النبى والإمام لا يمكن أن يموت بمرض، لأنه يعلم بكل شيء يضرّه، فلا يرتكبه ، فلم يبق طريق لموتهم علیهم السلام إلا القتل. وهذا باطل قطعاً، لأنهم كثيراً ما كانوا يمرضون ويتعالجون، وربما يطول بهم المرض وهذا وارد في روايات كثيرة.

وورد في بعض الأحاديث إشارة إلى ما ذكرناه من الوجه؛ فقد روى الكليني بسنده عن الحسن بن الجهم، قال: «قلت للرضا علیه السلام :إنّ أمي--رالمؤمنين علیه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه، وقوله لما سمع صياح الإوز في الدار صوائح تتبعه-ا ن-وائ-ح، وقول أم كلثوم: ل-و صلّيت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس، فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف علیهم السلام أنّ ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف،

ص: 25


1- المائدة (5): 110 .
2- بحار الأنوار 27: 217؛ و 44 139 :

كان هذا مما لم يجز تعرّضه، فقال: «ذلك كان ولكنّه خيّر في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عز وجل. (1)

وقوله علیه السلام «خيّر في تلك الليلة» قرئ بالحاء المهملة، فيكون المعنى أنّه أبهم عليه الوقت في تلك الليلة، فكان يعلم علیه السلام أنّ استشهاده في تلك الليلة، ولكن لا يعلم الوقت بدقة، وهذا هو ما ذكرناه. وأمّا بناءاً على نسخة الخاء، فمعناه أنّه خيّر بين لقاء الله والشهادة؛ فاختار الشهادة ولكن هذا الأمر يدفع عنه علیه السلام إشكال ع-دم التعرّض لقاتله، بمعنى أنّه لم يجب عليه شرعاً التعرّض له لحفظ نفسه، ولكن يبقى الإشكال في أنّه بناءاً عليه يكون هو علیه السلام قد شارك في قتل نفسه ولكن لم يكن محرّماً عليه وهو بعيد جدّاً، خصوصاً في مثل شرب الإمام الحسن علیه السلام للسمّ الذي دفعته إليه زوجته فيكون قد أقدم على قتل نفسه ، ولكنه كان مخيّراً شرعاً، فلا يبقى وجه لكلّ ما يقال من كونه مظلوماً ومسموماً.

هذا مضافاً إلى أن الوارد في الحديث، تعليل التخيير بمضي مقادير الله عزّ وجلّ، وهذا التعليل لا يناسب التخيير، إذ كان بإمكانه الاختيار البقاء، وإنما يناسب إبهام الوقت عليه لئلا يدافع عن نفسه؛ فتقضي مقادير الله تعالى. وبذلك

يتبيّن أن الصحيح هو القراءة بالحاء المهملة. ومهما كان، فسند الرواية ضعيف.

وللعلامة الطباطبائي من بحث فلسفي في تفسير الميزان حول هذا الأمر، و حاصله أن العلم الغيبي في هذه الموارد يتعلّق بالحادث بعلله المستوجبة لتحققه في الخارج بالضرورة، فلا يمكن أن لا يتحقق وليس كالعلم المتعلّق بالسبب فقط، المؤثر في الإرادة، بحيث يتمكن العالم من ترك الفعل؛ فهذا العلم هو جزء

ص: 26


1- الكافي :1 4/259 ، باب أنّ الأئمّة يعلمون متى يموتون.

العلّة التامة للحادث، فالإمام علیه السلام كان يعلم أنّ ابن ملجم رافع سيفه وأنّه

سيضربه وأنّه سيُقتل بهذه الضربة؛ فالعلم متعلّق بالمجموع وليس كالعلم المتعلّق بنفس رفع السيف فقط، فيؤثّر في إرادته ويمكنه المنع، ليجب عليه الدفاع عن نفسه. ولا يمكن أن يقع هذا العلم في سلسلة العلل؛ لأنّ المفروض تحقّق العلّة التامّة والعلم الغيبي متعلّق بمجموع السلسلة.(1)

ثمّ قال: «فمثله كمثل أهل الجحود والعناد من الكفار، يستيقنون بأنّ مصيرهم مع الجحود، إلى النار، ومع ذلك يصرّون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود وهذا منهم هو العلم العادي بوجوب الفعل. قال تعالى في قصة آل فرعون: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَتَتْها أَنْفُسُهُمْ).(2) وبهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصوّر علم يقيني بالخلاف، مع عدم تأثيره في الإرادة، فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقّق علم على هذا الوصف، وجه الاندفاع: أنّ مجرّد تحقّق العلم بالخلاف، لا يستوجب تحقّق الإرادة مستندة إليه وإنّما هو العلم الذي يتعلّق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مرّ في جحود أهل الجحود وإنكارهم الحقّ، مع يقينهم به. ومثله الفعل بالعناية؛ فإنّ سقوط الواقف على جذع عال منه على الأرض، بمجرّد تصوّر السقوط لا يمنع عنه ،علمه بأنّ في السقوط هلاكه القطعي». (3)

ومعنى ذلك أنّ الإمام علیه السلام كان يعلم أنّ ابن ملجم خلفه وهو رافع سيفه، ولكن علمه لا يتعلّق به فحسب، فليس كعلم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ اللحم مسموم مثلاً

ص: 27


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 192 - 193
2- النمل (27): 14
3- الميزان في تفسير القرآن 18: 193

حيث تركه ولم يأكله، بل الإمام كان يعلم أنّه سيقتله بهذه الضربة ولا يمكنه الدفاع، لأنّ هذا العلم الغيبي لا يمكن أن يؤثّر في إرادته ليقوم بالدفاع عن نفسهه. يقول العلامة: لأنّ العلم الذي يحقّق الإرادة هو ما يتعلّق بوجوب الفعل، مع التزام النفس به، وهنا لا يتحقّق الالتزام، كما لم يتحقّق في الذين جحدوا بالرسالة، مع تيقّنهم بأنّها حقّ وأنّ الجحود موجب لهلاكهم.

ولكن يبقى السؤال في ما هو الموجب لعدم التزام النفس، فإنّ عدم التزام الجاحدين بمقتضى علمهم، إنّما كان متابعة الهوى، فما هو الموجب هنا؟ هل هو التخيير من الله تعالى، كما ورد في رواية «الكافي» السابقة على إحدى النسخ، فيكون الإمام علیه السلام قد آثر لقاء الله تعالى على البقاء، والمفروض جواز تعرّضه للموت بوجه خاص؟ فإن كان هذا هو السبب، فيكون ذلك انتحاراً جائزاً شرعاً وهو أمر مستغرب جدّاً.

ولا يقاس ذلك بالتخيير الذي ورد في مقتل الحسين علیه السلام، فقد روى الكليني بسنده عن عبدالملك بن أعين، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «أنزل الله تعالى النصر على الحسين علیه السلام حتّى كان [ما] بين السماء والأرض، ثمّ خيّر: النصر أو لقاء الله، فاختار لقاء الله تعالى».(1) فإنّه علیه السلام كان يجاهد القوم وإنّما خيّر بالنصر بالملائكة على فرض صحّة الحديث، وليس كالتخيير بين الدفاع عن النفس والتسليم للقتل. وأوضح منه، شرب السمّ كما في قضيّة الإمام الحسن علیه السلام.

ومن جهة أخرى، هذا التخيير لا يوجب عدم إمكان تأثيره في الإرادة، كما

ذكره العلامة أوّلاً وإنّما يوجب اختياره. قال رحمه الله: «فلو فرض حصول علم بحقائق

ص: 28


1- الكافي :1: 8/260 باب أنّ الأئمّة يعلمون متى يموتون.

الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يوثّر ذلك في إخراج حادث منها وإن كان اختيارياً عن ساحة الوجوب إلى حدّ الإمكان.(1) فالمفروض أن يبقى تحقق القتل ضرورياً ولا يتبدّل إلى الإمكان، بالرغم من علم الإمام علیه السلام بوقوعه ولا يكون ذلك إلا مع عدم تمكّنه من الدفاع فالسؤال أنّه ما هو الموجب لعدم التمكّن؟ مع أنّ غاية ما ذكره في آخر كلامه عدم اللزوم، كما هو مقتضى التعبير بعدم التزام النفس ومقتضى التمثيل بجحود الكافر، مع تيقّنه؛ إذ لا ريب في تمكّنه من عدم الجحود.

وأمّا ما ذكره رحمه الله من التشبيه بجحود الكافر، مع علمه بأنّه موجب للهلاك، فليس من قبيل عدم التأثّر بالعلم أو عدم تأثيره في الإرادة. فإنّ الكافر وغيره يرجّح المعصية على الطاعة، إمّا لعدم علمه بعظم العقاب وإن علم بأصله، أو لمخادعته نفسه، بأنّه سيتوب في آخر الأمر، أو لأنّه يستبعد المؤاخذة أو شدّتها، أو لا يهتمّ بها لتأخّر موعدها، ويرجّح الفائدة أو اللذة المستعجلة، كما هو الحال في كثير من البشر، حتّى بالنسبة للتبعات القطعية في الدنيا، كمن يستعمل التدخين أو المخدّرات مع علمه بالضرر البليغ، أو لغير ذلك، ومهما كان فالإنسان على كلّ حال، يراجع نفسه ويلاحظ معلوماته ويرجّح الفعل أو الترك على ضوئها.

وأمّا ما أشار إليه في آخر كلامه رحمه الله من التشبيه بالفاعل بالعناية، فهو - عل-ى م-ا ذكروه في الفلسفة - كالواقف على شاهق؛ فإنّه إذا نظر إلى الأرض وتصوّر السقوط، فإنّه يسقط وهو فعل اختياري، ينشأ من نفس التصوّر وإلا فإنّه لو راجع

ص: 29


1- الميزان في تفسير القرآن 18: 193

نفسه ولاحظ أنّ مكانه أكثر أمناً من السقوط، لم يبادر إليه. قالوا: ومثله الحيوان إذا رأى سبعاً فجأة، فإنّه يحدث أنّه يذهب إليه بدلاً من الفرار، وعبّروا عنه

،بالاستسباع، قالوا: وهذا يفعله الحيوان بالإرادة، ولكن من دون ملاحظة تجاربه

ومعلوماته السابقة وترجيح الفعل على الترك.

ولكنه رحمه الله ردّ ذلك في «نهاية الحكمة» واعتبره من الفعل بالقصد، وعللّه «بأنّ تصوّر السقوط ممّن قام على جذع عال، مثلاً علم واحد موجود في الخائف الذي أدهشه تصوّر السقوط فيسقط، وفيمن اعتاد القيام عليه بتكرار العمل فلا يخاف ولا يسقط كالبنّاء مثلاً فوق الأبنية والجدران العالية جدّاً. فالصاعد فوق جدار عالٍ القائم عليه يعلم أنّ من الممكن أن يثبت في مكانه، فيسلم أو يسقط منه فيهلك، غير أنّه إن استغرقه الخوف والدهشة الشديدة وجذبت نفسه إلى الاقتصار على تصوّر السقوط، سقط بخلاف المعتاد بذلك، فإنّ الصورتين موجودتان عنده من دون خوف ودهشة، فيختار الثبات في مكانه فلا يسقط. وفقدان هذا الفعل العنائي للغاية الصالحة العقلائية، لا يوجب خلوّه من مطلق ،الداعي، فالداعي أعمّ من ذلك».(1)

وهذا على افتراض أن يكون هذا الفعل إرادياً، ومن الواضح أنّه لا يمكن معرفة ذلك، ومن الممكن أن يكون ذلك أمراً غير اختياري، فيكون سقوطه غير اختياري لا أنّه يُسقط نفسه.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ)، (إن) نافية، أي أنّه صلی الله علیه و آله وسلم يخطّط لمستقبله، المرتبط بمستقبل الأمّة والرسالة، وإنّما يتبع ما يوحى إليه من ربّه؛ وه-ذا ه-و ال-م-ائ-ز ب-ي-ن

ص: 30


1- نهاية الحكمة: 9

الرسل وغيرهم، وهو أمر عظيم جدّاً، وربما يستصغره بعض الناس جهلاً، نظراً إلى قوله تعالى: (قُلْ إِنما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)،(1) فيتوهم أنّ الرسول وفقاً لهذه الآية، لا يختلف عن سائر البشر، ولكن هذه غفلة عن الفرق الكبير والهوة السحيقة، التي بين الوحي وعدمه، فهو بشر له كلّ خصائص البشرية، إلا أنّه بلغ من الكمال حدّاً يرتبط بالسماء مباشرة وينزل عليه الوحي من الله تعالى، وأي-ن هذا ممّن هو عاجز من أن يرتبط بالسماء من جانب واحد، فيعبد الله تعالى كأنّه

حاضر أمامه، يشعر بعطفه ورضاه. فكيف بتلقي الأوامر والإرشادات مباشرة؟! إنّ الفاصل كبير بين الرسول وغيره من البشر ، والواقع أنّ ما نجده من الفروق والمميّزات كلّها نتيجة هذا الفارق الذي يعبّر عنه في القرآن بجملة قصيرة، (يُوحَى إِلَيَّ ) ؛ فهو بذلك يأتي بالمعجزات ويمتلك العصمة الإلهية، ويخبر عن الغيب ويعلم ما لا يعلمه بشر ويشفع المذنبين يوم القيامة ويصعد مدارج الكمال، فيبلغ مقاماً لا تبلغه الملائكة المقرّبون.

(وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، النفي والاستثناء يدلان معاً على الحصر، فهو تحدي-د لدور الرسول في مرحلة التبليغ، وهو الإنذار، مع أنّه لا يختصّ به واقعاً، فإنّه مضافاً إلى ذلك، يبشر بالجنّة، بل يأتي بالشريعة والأحكام، بل يطبّقها وينفّذها؛ فالتركيز على الإنذار وحده، يتضمّن تهديداً وليس في مقام الحصر الحقيقي، ب-ل الغرض بيان أنّ أهمّ ما يحمله الرسول للبشرية، هو الإنذار بما هو آتٍ لا محالة وهم غافلون عنه، فهو حصر إضافي. وتوصيفه بالمبين باعتبار أنّه لا ينذر بإجمال، بل يفصّل القول في ما ينذر به ويفصّل القول في ما يترتّب على المخالفة، وفي ما

ص: 31


1- الكهف (18): 110 .

يمكن به تفادي العقوبة وتجنبّها وغير ذلك من الشؤون.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ). قوله: (أَرَأَيْتُمْ)، أي أخبروني والضمائر في (كَانَ) و (به) و (مِثْلِهِ)، تعود إلى القرآن الكريم، وقوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ)، عطف على الجملة الشرطية، والوجه في عطف هذه الجملة، الإشارة إلى إتمام الحجّة عليهم بوجود شاهد على مثله. والشرط هنا ليس على حقيقته؛ لأنّ مضمون الشرط أمر واقع وليس مقدّراً، وإنّما المراد التنازل عن الإصرار على كونه أمراً واقعاً إلى افتراض أنّه قد يكون واقعاً؛ فإنّه أمر ممكن على أقلّ تقدير.

وجواب الشرط مقدّر ، تدلّ عليه الجملة التالية أي فإن كان ذلك واقعاً - وهو

واقع فعلاً- ماذا أنتم فاعلون بعد ما يتبيّن الحقّ وينكشف الغطاء والحال أنّكم قد كفرتم به مع وجود شاهد حجّة، وقد آمن هو به، أو يقدر الجزاء: «فمن أضلّ منكم» ونحو ذلك.

والهدف من الآية بعث الشكّ والريب في قلوب المشركين. وهذه مرحلة من الدعوة، تخصّ المعاندين المستكبرين الذين يكذّبون الرسالة، دون أيّ بحث وتمحيص، أو حتّى توقّفٍ وإمعانٍ، كما كان دأب العرب الجاهلي، ويبدو أنّ طبيعة الصحراء أيضاً مؤثّرة في هذه النفسية العنيدة؛ ففي مثل هذا الحال ينبغي أن يثار في قلوبهم الشكّ، وأنّ نزول القرآن من عند الله، أمر محتمل على الأقلّ ليتأمّلوا ويتريّثوا ولا يبادروا بالتكذيب والعناد؛ فإنّ الإنسان بطبعه يوازن بين أهميّة المحتمل وقوّة الاحتمال ، وإذا كان المحتمل أمراً خطيراً جدّاً، فإنّه يهتمّ بأقلّ احتمال منطقي، ولا خطر أعظم من الشقاء الأبدي.

ص: 32

وقد وقع الكلام في المراد من هذا الشاهد، ففي «تفسير القمي» - لو صحّت

نسبة الكتاب إليه - أنّ المراد به أمير المؤمنين علیه السلام واستشهد بقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)(1) حيث ورد في روايات كثيرة أنّ المراد بالشاهد أمير المؤمنين علیه السلام(2) ولكن هذا الاحتمال مردود قطعاً لتصريح الآية بأنّه من بني إسرائيل.

وقال بعض المفسّرين إن المراد به موسى علیه السلام، وإنّ المراد بمثله المشهود عليه هو التوراة؛ (3) وهذا أيضاً غير صحيح، لوجوه عديدة؛ منها أنّه لا يصحّ أن يعتبر موسی علیه السلام شاهداً للمشركين وهم لم يشهدوه ولم يعلموا به إلا في ما يرويه أتباعه.

وقال جمع كثير منهم: إنّ المراد به عبد الله بن سلام ورووا في ذلك روايات عديدة من طرق أهل السنّة، كما أنّهم رووا في فضله كثيراً واعتبروه مورداً لنزول آيات أخرى أيضاً، ولكن شيئاً من ذلك لم يصحّ عن طرقنا، والتأريخ يشهد بأنّه من دعائم الحكم الأموي وممّن حاول الوضّاعون من أتباعهم رفع شأنه، والظاهر أنّه من الإسرائيليين الذين مكروا بالإسلام وأهله. ومهما كان، فتفسير الآية به غير ممكن، لأنّ السورة مكّية وهو ممّن أسلم في المدينة. ولكن مفسّري العامّة أصرّوا على ذلك وتبعهم بعض المحقّقين من الشيعة غفلةً عن حقيقة الرجل، وقالوا بأنّ كون الآية المدنيّة ضمن سورة مكّية ليس بعزيز. ولكن كيف يمكن أن تكون الآية مدنيّة وهي تخاطب المشركين وفي سياق مخاطبات مكّة، كما هو واضح ؟!

ص: 33


1- هود (11): 17
2- راجع: تفسير القمي2: 297
3- راجع: أطيب البيان في تفسير القرآن 12: 140؛ الميزان في تفسير القرآن 18 :194

وقيل: إنّها مكّية، ولكنّها تستشهد بالمستقبل، لأنّه محقّق الوقوع؛ ولكنّه أيضاً غير صحيح؛ فإنّ الخطاب لمشركي مكّة، فكيف يخاطبون بما سيحدث في المدينة ويستشهد به، وهو لم يتحقّق بعد؟!

ولذلك قال بعضهم: إنّ المراد به بعض أهل الكتاب الذين آمنوا في مكّة. ورُدّ هذا القول بأنّ هذا الرجل غير معروف، ولو كان فهو من عامّة الناس، وليس من أكابرهم وأحبارهم، ليصحّ أن يقال: إنّه شاهد على رسالة الرسول صلى الله عليه و اله و سلم وعلى كون القرآن منزلاً من عند الله تعالى.

ولكن يبدو من آيات أخرى أنّ من اليهود ومن علمائهم، من آمن وشهد برسالة الرسول صلى الله عليه و اله و سلم قبل الهجرة ، فمنها قوله تعالى في سورة الشعراء وهي مكّية أيضاً: (أوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)،(1) وسياق الآيات يأبى أن تعتبر الآية مدنيّة، وتدلّ على أنّ الذين شهدوا بمعرفة القرآن، مجموعة من علماء اليهود وليس شاهداً واحداً.

وعلى هذا، فيمكن أن يقال في هذا الموضع: إن المراد بالشاهد جنسه، بمعنى أن هناك من يشهد منهم ويؤمن به ولا يحدّده بالعدد، بل ورد في التأريخ أن كثيراً من علماء أهل الكتاب كانوا يبشرون به صلی الله علیه و آله وسلم قبل البعثة، وفي القرآن أيضاً ما يدلّ على ذلك، كقوله تعالى: (وَلا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ مَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ)،(2) فقوله تعالى: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) إشارة إلى أنّ اليهود كانوا قبل البعثة إذا

ص: 34


1- الشعراء .(26): 197
2- البقرة (2): 89

قاتلهم المشركون أو آذوهم يهدّدونهم بأنّ الله تعالى سيبعث رسولاً في هذه المنطقة، فينتصرون ،به ولكنّهم على ما يبدو كانوا يرجون أن يكون الرسول منهم، لتصوّرهم أنّ النبوة لا تكون إلا فيهم وهذا هو السرّ في هجرتهم إلى يثرب. فإنّ كلّ قبيلة منهم كانت تأمل أن يكون النبيّ الموعود منها، فلمّا رأوا أنّه من أولاد إسماعيل علیه السلام ورأوا فيه صلی الله علیه و آله وسلم العلامات النبيّ الموعود والصفات التي رأوها في كتبهم واعترفوا بها قبل ذلك، كفروا به بغياً منهم.

والحاصل أنّ اعتبار الآية مدنيّة لا يناسب السياق ولا الخطاب، فهو غير

صحيح؛ فإن أمكن حمله على علماء اليهود الذين شهدوا بصدق الرسالة قبل

الهجرة، بل الذين بشّروا بها قبل البعثة فهو وإلا فلا وجه لحمله-ا عل-ى يهود المدينة خاصّة أو على فرد واحد منهم. وذلك لأنّ الآية لا تخبر عن وجود شاهد بالفعل، وإنّما تفرضه فرضاً كما تفرض كونه من عند الله فرضاً أيضاً؛ ليرتّب عليه كونهم في غاية الضلال على هذا الفرض فيمكن أن لا يكون إشارة إلى فرد خاصّ، بل إلى مجمل شهادة القوم به وهي معروفة منهم.

وفي الآية الكريمة سؤال آخر ، وهو أنّه لم يقل: «شهد عليه»، ب-ل ش-ه-د عل-ى مثله، فما هو المراد بالمثل وكيف يكون ذلك، شهادة على صحّة الرسالة؟

والجواب: أنّ العالم منهم لا يمكنه أن يشهد مباشرة بصحّة الرسالة، إلا بمعنى ما يشهد به غيره ممّن لا خبرة له بالكتب السابقة، وإنّما يشهد بمقتضى إيمانه بالمعجز، فما يختصّ به العالم بالكتب السابقة، هو أنّه يتمكّن من الشهادة على مثله، بمعنى أنّه يشهد بأنّ مضمون هذه الآيات وارد في الكتب السابقة، ليكون دليلاً على صدق كونه نازلاً من عند الله سبحانه. وفي قوله تعالى: ﴿فَآمَنَ

ص: 35

وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) إشارة إلى أنّ عدم إيمانهم بالرسالة ليس لعدم اقتناعهم به-ا وع-دم ثبوت الإعجاز في القرآن بل ليس إلا لاستكبارهم وعنادهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). هذه الجملة - كم-ا م-رّ --- ت-دلّ على الجملة الجزائية المحذوفة وتعلّل مضمونها، فالتقدير: فمن أضلّ منكم» أو ما يفيد معناه. وهذه الجملة تعلّل ضلالهم بأنّ الله لا يهديهم، ومن لا يهديه الله فما له من هادٍ، وإنّما لا يهديهم الله تعالى لظلمهم وعدوانهم، وقلنا - مراراً - : إنّ الظلم لا يحتاج لصدقه إلى وجود مظلوم؛ فكلّ عمل مخالف للحقّ ظلم وعدوان والظلم وضع الشيء في غير موضعه، والذي لا ينصاع للحقّ مع وضوحه ،ظالم، فلا حاجة إلى القول بأنّه ظالم لنفسه أو لمجتمعه.

ص: 36

سورة الأحقاف (11-14)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ(11) وَمِن قَبْلِهِ، كِتَبُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَبٌ مُصَدِّقُ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ(12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(13) أُوْلَئكَ أَصْحَبُ الجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(14)

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، اللام في قوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا)، للتعليل، ومعناه أنّهم قالوا ذلك في شأنهم، وليس الخطاب لهم، كما هو واضح. وقد مرّ مثله في قوله تعالى: (قالَ الَّذينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ مَا جَاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبين)، أي قالوا ذلك في شأن الحقّ والضمير في قولهم: (كَانَ خَيْراً)، يعود إلى الإيمان والمعنى أنّ الإيمان لو كان خيراً لكنّا سبّاقين له، كما نحن سبّاقون في كلّ خير.

والمراد بالذين كفروا كفّار مكّة، كما هو مصطلح القرآن في هذا التعبير؛ فالقول بأنّ المراد كفّار أهل الكتاب غير صحيح، وإنّما قاله من توهّم أنّ المراد بالذین آمنوا عبدالله بن سلام ومن آمن معه من اليهود، وهو في حدّ ذاته مردود لما مرّ من أنّ الآية مكّية، مضافاً إلى أنّ عبد الله كان عظيماً في قومه، فلا يناسبه ما ورد في هذه الآية من تحقير.

فالصحيح أنّ الآية تشير إلى قول كفّار مكّة حول الذين آمنوا بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حيث إنّ أكثرهم كانوا من الفقراء والضعفاء والعبيد؛ فاعتبر المستكبرون إيمانهم بهذا الدين دليلاً على ضعفه، وأنّه ليس شيئاً يعتمد عليه ، وهذا شأن المستكبرين في كلّ عهد، كما قال الكفّار من قوم نوح علیه السلام: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أرَاذِلنا

ص: 37

بَادِيَ الرَّأيِ)،(1) فأجابهم نوح علیه السلام في ما أجابهم: (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إني إذاً لمنَ الظَّالِمينَ).(2)

وهذا في الواقع غلوّ في الإعجاب بالنفس لدى المستكبرين وأصحاب الجاه والثراء، فيزعمون أنّهم هم أصحاب الرأي الثاقب، وأنّ الفقراء ليس لهم إدراك قويّ، مع أنّ الذكاء والغباء لا يرتبط بالجاه والمال، بل ربما يكون الغالب في أصحاب الثراء وخصوصاً في الجيل المتأخر، الذي حصل على الثراء بالإرث، هو الغباء والحمق، بسبب توغّلهم في الرفاه والراحة ممّا يوجب فقدان النشاط الفكري لديهم، كما هو مشهود بوضوح.

وأغرب من ذلك أنّا نجد عامّة الناس يهتمّون بآراء أصحاب الجاه والمال

أكثر من غيرهم، وكأنّ المقياس في حصافة الرأي هو المال والجاه ، و کلّما تنزّلت الثقافة العامّة في المجتمع رأيت هذا الداء فيهم أعمّ وأدوم، حتّى أنّهم

ينتخبون لمجالسهم النيابيّة أصحاب الثراء، دون إلتفات إلى مدى ثقافتهم.

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ). (إِذْ ) للتعليل، أي حيث إنّهم لم يهتدوا به لاستكبار في نفوسهم، بحثوا عن ذريعة لعنادهم، فسيقولون هذا إفك قديم، ليكون حجّة لهم في عدم التسليم للدين، كما قالوا في موضع آخر: (أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)، وهم بذلك يعلنون كفرهم بجميع الديانات السماويّة، وإن

كانوا يظهرون أنّهم إنما يكذّبون الرسول صلى الله عليه و اله و سلم في رسالته ولا يكفرون بالله تعالى، ولكنّهم يكذبون في ذلك، كما قال تعالى فى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ

ص: 38


1- هود (11): 27
2- هود (11): 31

فإنّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُون).(1) كما أنّ قولهم: (إِفْكٌ قَدِيمٌ) يدلّ على أنّهم يعتبرونه امتداداً للرسالات السابقة ويعتبرونها بأجمعها إفك-اً، ومثله قولهم: (أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)؛ بل حكي عنهم في القرآن كفرهم بالتوراة صريحاً، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلِّ كَافِرُونَ).(2)

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةٌ.) لعلّ الجملة في معنى الحال، أي أنّهم يقولون في القرآن ذلك، مع أنّ الذي قبله - وهو المشار إليه بقولهم إفك قديم - کتاب موسی علیه السلام، أي التوراة، ولعلّ التعبير عنه بكتاب موسى للتنبيه على دور الرسول في إتيان الكتاب، كما أتى لهم الرسول صلی الله علیه وآله وسلم بالقرآن، وقوله: (إمَاماً وَرَحْمَةٌ)، حالان من الكتاب.

والإمام هو القدوة. والتعبير عن الكتاب السماوي بالإمام، باعتبار أنّه يخطّط للمؤمن سبل حياته، بحيث يكون عمله مرضياً عند الله تعالى، والإم-ام ه-و المقتدى، ولذلك يعبّرون عن شاقول البنّاء بالإمام، وقال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)،(3) في إشارة إلى صحيفة عمل الإنسان، التي بموجبها يتحدّد مساره وطريقه ويتعيّن مقامه ومنزلته.

والكتاب السماوي رحمة أيضاً في نفس الوقت لما يشتمل عليه من الآيات التي تبعث في الإنسان الإيمان والطمأنينة، وتنير له الطريق وتبيّن له خيره وشرّه

ص: 39


1- الأنعام (6): 33
2- القصص (28) : 48
3- يس (36): 12

في الدنيا والآخرة، وتشفيه من الأمراض النفسية، كالجهل والكبر والحسد

ونحو ذلك.

(وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً). تكرّر هذا المضمون في القرآن الكريم، للتأكيد على أنّ هذه الرسالة امتداد للرسالات السابقة، وأنّ هذا الكتاب على نفس الصراط والطريق، الذي رسمته الكتب السماويّة القديمة، فالقرآن يصدّق ما نزل في التوراة والإنجيل، كما أنّ الإنجيل مصدّق للتوراة. ولا اختلاف بين أصول الشرائع أساساً، كما مرّ في تفسير سورة الشورى. وفي التنوي-ه عل-ى ك-ون-ه عربياً، إمتنان على القوم وإتمام للحجّة عليهم بأنّ الكتاب نزل بلغتكم، ف-لا ع-ذر لكم. وقوله: (لِسَاناً عَرَبِيّاً)، حال من الكتاب.

(لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)، بيان للهدف من إرسال الكتاب

والرسالة، وهو إنذار الظالمين بعذاب ينتظرهم وبشرى للمحسنين و (وبُشْرَى).

مفعول لأجله، معطوف على محل (ليُنْذِرَ). وقد مرّ الكلام حول الظلم، وأنّه لا

يتوقّف في صدقه على وجود مظلوم؛ بل هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن لم يتبع الحقّ وعانده، فهو ظالم وإن لم يتعدّ على حقّ أحد، ولذلك قوبل بالمحسنين والإحسان: الإتيان بالأعمال الحسنة. ولا يخرج من المجموعتين إلا من لم تتمّ عليه الحجة مطلقاً وهو قليل.

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). هذه الآية تشير إلى مصداق واضح للمحسنين وهم الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، ففي قولهم: (رَبُّنَا الله) حصر للربوبيّة فيه تعالى، حيث لا يعترفون بأيّ ربّ غيره، ولا يدينون لاحد إلا له تعالى، واستقاموا على هذه العقيدة في مرحلة العمل، وهذه هي

ص: 40

المرحلة الصعبة في الإيمان، فهناك من الناس من يعلن كلمة التوحيد ويتشدّق بها، ويعلن دفاعه عنها، بل ربما يدافع بلسانه ويأتي بالأدلة والحجج الدامغة لإثباتها، ولكنّه في مرحلة العمل وفقاً لها ضعيف الإيمان، فلا يتحمّل في سبيل الله المشاقّ، بل ربما لا يتحمّل في سبيل إطاعته التنازل عن شيء من المال، كما نجده في كثير من الناس، وأصعب منه بذل النفس في سبيله وفي سبيل أحياء دينه، فقلّما تجد مؤمناً يستقيم في هذه المرحلة، بل يحاول الأكثر - ل-و ل-م ن-ق-ل الجميع - اختلاق المعاذير للتهرّب من المسؤولية، بل الغالب ذلك، حتّى لو لم يتوقّف الأمر على بذل النفس، فيتهرّب الإنسان عن أدنى مشقّة وتعب في سبيل العقيدة. وكثير من الناس ينكر الحكم الشرعي أو يستنكره، حتّى لو كان صريح القرآن في ما إذا عارض مصالحه.

فالاستقامة والثبات على الدين في مرحلة العمل هو الشرط الأساس للفوز، ولذلك عطف على أصل الاعتقاد، واعتبر شرطاً في صفة المؤمن الذي لا يخاف ولا يحزن، أي لا يخاف من سوء العاقبة؛ فإنّ عاقبته مضمونة بما وعده ربّه من الحسنى، ولا يحزن على ما فاته من متاع الدنيا؛ فإنّه يعلم أنّه لا قيمة له في قبال ما يحصل عليه من فضل ربّه وأهمّه رضوان الله تعالى.

والعطف ب- «ثمّ» لإفادة التراخي، فإنّ المراد بالاستقامة، الثبات في مقام العمل - كما قلنا - وهو متأخّر عن الاعتقاد، وهو المراد بقولهم: (رَبُّنَا الله) ، إذ لا يراد به التلفّظ فحسب، فإنّ المنافق أيضاً يقوله، ولكنّه لا يفيده، فالمعتبر الاعتقاد الراسخ بربوبيّته ووحدانيّته تعالى بحيث يستوجب الثبات في مرحلة العمل، وهذا التوحيد يستلزم نفي ما عدا رضاه تعالى من الدواعي في العمل والاستقامة التامّة

ص: 41

لا تتحقّق إلا من المعصوم. وقد تقدّم بعض الكلام في نظيرة هذه الآية في تفسير سورة فصّلت، الآية 30.

(أُولَئِكَ أصحاب الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، تأكيد على أنّ الإنسان مجزي بعمله، فالمقرّبون أيضاً لم يقرّبهم إلى الله شيء إلا أعمالهم. والعبرة ليست بحجم العمل، فربما يعيش المؤمن قرناً أو أكثر وهو صالح ويعمل الصالحات، ولكن لا يقاس عمله بعمل أحد المقرّبين الذي يترك الدار الدنيا - وهي دار العمل - في عنفوان شبابه، كما اتّفق لجمع من الأنبياء والأئمّة علیهم السلام ولسيّدتنا الزهراء - سلام الله عليها ، فالعبرة بالنيّة والخلوص والاستقامة، وهنا يصعب الاختبار ويشتدّ البلاء، بحيث يؤثّر أحدنا أو كلّنا حرمانه من تلك المنازل والمراتب على الابتلاء بما يوصله إليها.

ص: 42

سورة الأحقاف (15 - 16)

وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَنًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَلُهُ ثَلَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَلِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَلِحًا تَرْضَهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي يَّتي إني تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَبِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَب الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا

يُوعَدُونَ (16)

(وَوَصَّيْنَا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً). لعلّ المناسبة بين هذه الآية وما سبقها، أنّه بعد أن بيّن أنّ القرآن ينذر الذين ظلموا ويبشّر المحسنين، ثمّ بيّن صفة الموحدين الذين استقاموا على التوحيد في كلّ أعمالهم، بيّن هنا صفة أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ولكنّه جعله في أطار الوصيّة بالوالدين، للإشارة إلى أنّ العامل الأساس في نشأة المجتمع الصالح هو التربية الصالحة تحت ظلّ الوالدين الصالِحَين. ولكنّ الآية تنبّه على أنّ التربية الصالحة وصلوح الوالدين لا يكفيان لنشأة الجيل الصالح، فيذكر هنا نموذجين من البشر، تربّى كل منهما في بيئة مؤمنة صالحة، ولكن أحدهما تبع طريق الوالدين والآخر خالفهما.

والوصية بمعنى العهد، والأصل فيها الوصل، كأنّ من يوصي بشيء يوصل الكلام إلى الموصى إليه، والمراد بما أوصاه الله تعالى ما فرضه على البشر. وقوله: (إحْسَاناً) لا يبعد أن يكون بتقدير: «أن يحسن إليهما إحساناً». وقد مرّ الكلام حول الوصيّة بالوالدين في سورتي العنكبوت ولقمان، وقلنا: إنّ الآية الكريمة تخبر أنّ الله تعالى قد أوصى الإنسان - بصورة عامّة - بالإحسان إلى الوالدين

ص: 43

والاهتمام بشأنهما ، ولم يقل:« نوصيه»، فيكون إنشاءاً، فالظاهر أنّه إخبار عن وصيّة سابقة وقد خوطب بها جنس الإنسان لا قوم خاصّ، ولا صنف خاصّ؛ فلعلّ المراد بهذه الوصيّة هو ما أودع في الإنسان من نداء الفطرة، أو المراد أنّه

تعالى أوصى بذلك في جميع شرائع السماء.

وهنا يبدو سؤال واستغراب من جهة أنّ الله تعالى أكّد على حقّ الأبوين على الأولاد، ولم ينبّه على ما للأولاد من حقّ عليهما، مع أنّه أيضاً مذكور في الشرع، ووردت الإشارة إلى بعضه في القرآن، ولكن لم يرد هذا التأكيد عليه؛ ويلاحظ أن هناك من الأبوين من الأبوين من لا يراعي حقوق أولاده، بل يظلمهم ويتجنّى عليهم، بل منهم من يستحقّ الإعدام لجرائمه بالنسبة إلى أولاده ولكن هذا نادر جداً. والحالة العامّة هو أنّ الآباء والأمّهات يعطفون ويحنّون على أولادهم بدافع ذاتي وهوحنّان أودعه الله تعالى في فطرة الإنسان والحيوان عامّة، مضافاً إلى بعض الدوافع الماديّة، التي يتوقّعها الإنسان من أولاده في المستقبل وإن كان ذلك في الغالب مغفولاً عنه، ولكنّه ربما يكون من الدواعي الارتكازية في اللاشعور.

وأمّا احترام الأولاد للأبوين وحبّهما والعطف عليهما، فيختلف ذاتياً حسب

مراحل حياة الإنسان ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة حاجته إليهما في أيّام صغره وضعفه، فحبّه وحنانه إليهما في هذه المرحلة أمر طبيعي، حيث إنّه لا يجد مأوى أدفأ من حضنهما،

بدون منّة عليه وتوقّع أمر يثقل على كاهله، فلا شكّ أنّه يحترمهما ويحبّهما.

والمرحلة الثانية: مرحلة استغنائه عنهما مع عدم احتياجهما إليه، وتبادل الحبّ والحنان في هذه المرحلة أمر طبيعي أيضاً ويؤكّده حاجات الطرفين وشعور كلّ

ص: 44

منهما بالراحة والاطمئنان باللجوء إلى الآخر.

والمرحلة الثالثة: مرحلة حرجة جدّاً، وهي مرحلة احتياجهما إليه بعد بلوغهما الكبر ، وعدم تمكّنهما من تأمين الحوائج إلا بمساعدة من يحنّ عليهما، فهما بحاجة إلى قوّة الشباب، بل ربما إلى المال أيضاً وأحوج ما يحتاجان إليه الحبّ والحنان والكلمة الطيّبة ،والشكر لما أسدياه من جميل للأولاد طيلة الحياة وهنا تبدأ المشكلة، فالولد ليس له في الغالب دافع ذاتي للإحسان إليهما وتحمّل المتاعب في سبيل إسعادهما، خصوصاً أنّ الإنسان في الكبر بحاجة إلى عناية مركّزة ومساعدة في جميع الحالات، وهو أكثر حاجة من الطفل وأضعف، والعناية به أشقّ على الإنسان وأصعب، والدوافع الذاتية بالنسبة إليه تكاد تكون

معدومة، ومن هنا فإنّ الوضع بحاجة إلى حثّ وتحريض شديد من الله سبحانه،

لإيجاد دافع عرضي، يعتمد على وعد من الله تعالى بالجزاء في الدنيا والآخرة. ومن هنا أوصى الله الإنسان بأبويه وأكّد على احترامهما في زمان الكبر والحاجة، حتّى منع من التضجّر منهما وقال: (فَلا تَقُلْ هُمَا أُفٍّ)،(1) ولم يرد مثل هذا التأكيد في التوصية بالأولاد وإن كان لهم أيضاً حقوق على الأبوين، كحقّ النفقة والحضانة والتربية وغير ذلك، ولكن ليست بهذه المثابة من الأهميّة. (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً)، خصّ الأمّ بالذكر بعد الإيصاء بهما معاً، وفيه إشارة إلى أنّ حقّها أكبر وشأنها أعظم، وإن كانت الولاية في الصغر للأب وليس للاُمّ ولكنّ الإحسان إليها وإرضاءها أهمّ، وإذا تعارض رضاهما فرضا الأمّ مقدّم على رضا الأب، كما دلّت عليه الروايات الواردة في كتب الفريقين، منها

ص: 45


1- الإسراء (17): 23

صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و اله وسلم فقال: يا رسول الله من أبّر؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أباك».(1)

والمراد بحمله كرهاً، ليس الكره حين العلوق بالطبع، بل أثناء الحمل، والمراد بكونه كرهاً تحقّق أمور تكرهها وإن كانت راضية، بل فرحة مسرورة بأصل

الحمل، فهي طيلة هذه المدّة تلقى مصاعب كثيرة؛ فإنّ الجنين لا ينمو في بطن أمّه إلا باستنزاف قواها، وذلك بالطبع يؤدي إلى تضرّرها وتدهور صحّتها وضعفها، كما قال تعالى في سورة لقمان: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنا عَلَى وَهْنٍ).(2) والوهن هو الضعف، والمراد أنّها تزداد ضعفاً على ضعف كلّما تكامل الولد وتطوّر في مراحله الجنينية، وهذا أمر طبيعي وتضعه أيضاً على كره، لأنّها تتحمّل ألماً شديداً، وتخاطر بنفسها حين الوضع، وكم من والدة لم تر ولدها بعد الوضع أو لم تشبع من رؤيته.

(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). وهكذا تستمرّ الأمّ في إسداء الخدمة لولدها، فترضعه إلى الفصال، وهو القطع، والمراد بيان مدّة الحمل والرضاع، وإنّما عبّر بالفصال لأنّه آخر الرضاع، والغالب فيه هو الإكمال عامّين، ويستحسن أن تفطمه حينئذٍ ويجوز قبل ذلك. قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لَنْ أَرَادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)،(3) ويظهر من الآية أنّه لا تنبغي الزيادة عليهما. قيل: وفي ذلك إشارة إلى أنّ مجموع الحمل والرضاع ينبغي أن لا يزيد على

ص: 46


1- الكافي 2: 9/159، باب برّ الوالدين
2- لقمان (31): 14
3- البقرة :(2): 233

ثلاثين شهراً، وأنّه إذا كان الحمل تسعة أشهر، فالرضاع التامّ واحد وعشرون شهراً. وهذا بعيد جدّاً، بل غير صحيح؛ لأنّه يستلزم أن يحمل قوله تعالى:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) على خصوص ما إذا كان الحمل ستّة أشهر وهو فرض نادر.

والآية وردت في مورد الطلاق مع وجود الولد وحاجته إلى الرضاع؛ فتدلّ على أنّ الأمر في مدّة الرضاع بيد الوالد وهو المراد بقوله: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) وأنّه إذا أراد الإتمام، فمدته الكاملة حولان وإذا طرحنا الحولين من ثلاثين شهراً بقيت ستّة أشهر، ولذلك ورد في أحاديثنا أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر، وهو المفتى به في الفقه ويظهر الأثر الشرعي في ما إذا ولدت المرأة بعد ستّة أشهر من أوّل لقاء مع زوجها، فإنّ الولد يلحق به شرعاً ولا يلحق به إذا كانت المدّة أقلّ من ذلك.

ولكنّ الداعي إلى التنبيه على هذا الأمر هنا ليس هو الحكم الشرعي، بل الإشارة إلى المدّة الطويلة التي تسهر فيها الأمّ، وتضحّي بعصارة جسمها لكي

يبقى هذا الطفل الوليد وينمو، فتمدّه بما يحتاج إليه من العناصر، لتكوّن الجسم أيّام الحمل عن طريق الدمّ مباشرة، وبعد الولادة عن طريق اللبن. هذا مع سائر ما تستلزمه الرعاية والحضانة من تنظيف وتداوٍ وتدفئة وتعليم وتربية وغير ذلك، فأقلّ ما تستلزمه هذه العناية من زمان ثلاثون شهراً وإن كان الغالب أكثر من ذلك، لأنّ مدّة الحمل غالباً تسعة أشهر وربما يزيد وأمّا ما يقال من أنّ أكثره أربع سنين، بل أكثر منه - كما في كتب العامّة - فهو كلام باطل ومضحك، وإنّما قصد بذلك تنزيه ساحة بعض من ولدوا بعد آبائهم بهذه المدّة من الاتهام بعدم شرعيّة النسب.

ص: 47

ننقل هنا كلام أحدهم وهو الشيخ ابن عثيمين، قال في شرح زاد المستقنع»: «وقوله: «أو دون أربع سنين» بناءاً على المشهور من المذهب أنّ أكثر مدّة الحمل أربع سنين، وسيأتينا - إن شاء الله - في كتاب العدد، ولا دليل على أكثر الحمل، لكن قالوا: لأنّ هذا أكثر ما وجد، فنقول: تقييد الحكم بالوجود يحتاج إلى دليل؛ لأنّه قد تأتي حالات نادرة غير ما حكمنا به، وهذا هو الواقع، فقد وجد من لم يولد إلا بعد سبع سنين! ولد وقد نبتت أسنانه، ووجد أكثر من هذا إلى عشر سنين، وهو في بطن أمّه حيّاً، لكنّ الله - عزّ وجلّ - منع نموّه، فالصحيح أنّه لا حَدَّ لأكثره وأنّه خاضع للواقع، فما دمنا علمنا أنّ الولد الذي في بطنها من زوجها وما جامعها أحد غيره، وبقي في بطنها أربع سنين، أو خمس سنين أو عشر سنين فه-و لزوجها».(1)

ورووا في ذلك روايات فمن ذلك ما رواه البيهقى بسنده عن داود بن رشيد: «قال سمعت الوليد بن مسلم يقول: قلت لمالك بن أنس إنّي حدّثت عن عائشة - رضي الله عنها - أنّها قالت: لا تزيد المرأة على حملها على سنتين قدر ظ-لّ المغزل. فقال: سبحان الله من يقول هذا ؟! هذه جارتنا امرأة محمّد بن عجلان، امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كلّ بطن أربع سنين».(2) وروى في نفس الصفحة، عن محمّد بن عمر بن واقد، في ذكر مالك بن أنس أنّ أمّه حملت به في البطن ثلاث سنين !!!

(حَتَّى إذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةٌ)، أي استمرّ في النموّ والرشد جسماً وروحاً

ص: 48


1- الشرح الممتع 13: 311
2- السنن الكبرى 443:7

إلى أن بلغ الأشدّ. واختلفوا في معنى الأشدّ، بل اختلفوا في كونه جمعاً مفرده الشدّة أو أنّه جمع لا مفرد له أو مفرد لا جمع له. وقال بعضهم: إنّ المراد به بلوغ ثمانية عشر سنة، وبعض آخر اعتبره بلوغ الثلاثين. وقيل: إنّ بلوغ الأربعين في الآية عطف تفسيري، وقيل غير ذلك.

ويظهر بمراجعة الاستعمالات القرآنيّة، أنّ معناه يختلف حسب الموارد، فقد ورد هذا التعبير كشرط في دفع أموال اليتيم إليه، كما في سورة الأنعام والإسراء وهما مكيتان: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).(1) وقد فسرّ ذلك في سورة النساء وهي مدنية بقوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حتى إذا بَلَغُوا النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَاهُمْ)،(2) فيتبيّن من بلوغ النكاح في هذه الآية، أنّ المراد ببلوغ الأشدّ في تلك الآيتين البلوغ الجنسي، مضافاً إلى الرشدّ في الأمور المالية. وإنّما أخرّ التفسير إلى السورة المدنيّة، لعدم الحاجة بالفعل إلى هذه الأحكام في مكّة قبل الهجرة، فاكتفي بالإشارة المبهمة الإجمالية. والظاهر أنّ المراد بالبلوغ الجنسي هو سنّ التكليف الشرعي.

وورد التعبير ببلوغ الأشدّ أيضاً في مورد بعث الرسل أو إيتائهم الحكم والعلم، قال تعالى في شأن سيّدنا يوسف علیه السلام: ﴿وَما بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً)؛(3) وفي شأن سيّدنا موسى علیه السلام: ﴿وَلمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً)،(4) ولعلّ المراد به هنا، تكامل قواه العقلية والجسمية، ولعلّ هناك أموراً أخ-رى دخيل-ة ف-ي هذا

ص: 49


1- الأنعام :(6): 152؛ الإسراء (17): 34.
2- النساء (4): 6.
3- يوسف (12): 22
4- القصص (28): 14

الشأن ومهما كان، فلا شكّ أنّ العبارة هنا لا يمكن حمله على ما أريد في المورد السابق.

وعلى ضوء ما مرّ، وهو اختلاف المعنى حسب الموارد، يمكن أن يقال: إنّ المراد به هنا هو الكمال العقلي، فإنّه هو الشرط لمعرفته بالحقائق التي يبتني عليها صدور الكلام التالي منه. وإنّما اشترط ذلك لعدم كفاية بلوغ الأربعين؛ إذ لعلّه يكون فاقد العقل والبصيرة، فإذا كمل عقله وبلغ أربعين سنة، حيث تكمل ق-واه الجسمية، ويكتسب في هذه السنين خبرة وتجربة، ويحصل على رصيد وافر من العلوم والمعارف المختلفة من هنا وهناك، لو لم يكن طالب علم، ومن جهة أخرى تدعوه فطرته إلى التوحيد والتوجّه إلى الربّ، مضافاً إلى تربيته في بيئة صالحة، فحينئذٍ ينتبه إلى ربّه ويدعوه: (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ). قيل: إنّ معنى أوزعني ألهمني، وقيل: أولعني والغالب في استعمال الوزع هو الكفّ والمنع، وله استعمالات أخرى؛ منها التوزيع بمعنى التقسيم، ويمكن أن يكون ذلك أيضاً من هذا الباب باعتبار منع إعتداء ك-لّ م-ن الموزّع عليهم على نصيب الآخر. ومنها الجمع، كما في قوله تعالى: (وَحُشر لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)،(1) أي يجمعون على أحد الاحتمالين، ولعله باعتبار منعهم من التفرّق. وأما هنا، فلعلّه من جهة أنّ الإلهام أو الحثّ من الله تعالى، يمنع الإنسان من ترك الشكر ومهما كان، فالمعنى هنا - كما في أكثر التفاسير - ألهمني أن أشكر نعمتك أو أبعثني وأولعني على ذلك، فالمراد الاستعانة بالله تعالى على شكره.

ص: 50


1- النمل (27): 17

والشكر ليس بمعنى التحدّث بالنعم وحمده تعالى على ما أنعم، وإن كان

ذلك نوعاً من الشكر، ولكن ما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)،(1) هو العمل بمقتضى ما أمر الله تعالى به بالنسبة إلى كلّ من هذه النعم، فلا يستخدم العين واليد وغيرهما من الأعضاء إلا في ما أمر به ويعمل بهداياته ووصاياه، التي أنزلها في كتبه وعلى لسان رسله؛ فإنّها أيضاً من نعمه تعالى وإرسال الأنبياء ونصب أئمّة الهدى - عليهم جميعاً سلام الله تعالى - من أكبر نعمه وألطافه. وشكره على ذلك بمتابعتهم وإظهار الحبّ والولاء لهم، وعدم تقديم غيرهم عليهم.

ثمّ إنّه كما يهتمّ بما أنعم الله عليه ويشكره عليها، يهتمّ أيضاً بما أنعم على والديه ويشكره عليها، إمّا لأنّ تلك النعم تسري بوجه من الوجوه إليه خصوصاً، إذا لاحظنا أنّ الاهتمام منصبّ على نعمة الدين والإيمان بالله وكتبه ورسله، ولا شكّ أنّ إيمان الأبوين يؤثّر تأثيراً عميقاً في إيمان الأولاد. وإمّا لأنّه يريد أن يتحمّل شطراً من مسؤولية الوالدين تجاه النعم الإلهية؛ فالإنسان مهما عمل وأخلص العبادة، فإنّه لا يبلغ شكر جزء يسير من النعم الإلهية المعلومة لدينا، وما خفي أعظم. وينبغي للمؤمن البارّ بوالديه، إن يشركهما في عباداته وطاعاته، ويطلب من الله تعالى أن يبعث ثواب عباداته إليهما، خصوصاً بعد وفاتهما، فهما أحوج إلى البرّ والإحسان حينئذٍ.

والحاصل أنّ الآية لا يبعد أن تكون إشارة إلى إشراك الأبوين في ثواب

العبادات والطاعات، نظراً إلى أنّ الشكر لا يقصد به الشكر اللفظي فحسب.

ص: 51


1- سبأ (34): 13.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ). قوله: (صَالِحاً) صفة للمفعول المقدر، أي أعمل عملاً صالحاً ، و (تَرْضَاهُ) جملة وصفية للعمل أيضاً. وهذه حاجة أخرى يطلبها من ربّه وهي أن يبعثه على أن يعمل عملاً صالحاً يرضاه الله تعالى، فرض-اه ه-و غ-اي-ة المقصود والصلوح - كما قلنا مراراً - يختلف باختلاف الموارد، وقوله: (تَرْضَاهُ) يحدّد الصلوح هنا، فالمراد العمل الذي يصلح لكسب مرضاته تعالى. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)، أي واجعل الصلاح في ذريّتي. يطلب بذلك استمرار الصلاح في ذريّته، ليتّصل الإيمان والصلاح جيلاً بعد جيل، والتعبير بكون صلاح الذريّة له، يدلّ على مدى تأثّر الآباء بصلاح أولادهم، وهذا النموذج الصالح، كما عمل الصالحات لأبويه يطلب من الله تعالى أن يستمرّ ذريّته على العمل الصالح بعده، ليثاب هو عليه؛ فإنّ التربية الصالحة هي التي تؤثّر في متابعة الأولاد لآبائهم في سلوك طريق الحقّ ومنهج الصلاح، وهذا خير عمل للآباء، وهذا كما ورد في الحديث: من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء».(1)

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ) سياق الآية يفيد أنّ هذه الجملة تعليل لما سبق، فالذنوب هي العوائق من انتشار الصلاح في المجتمع وانتقاله إلى الأجيال التالية، وهذا النموذج الصالح يتخلّى ويتبرأ من ذنوبه ويتوب إلى الله تعالى، ليصلح أن يكون همزة وصل بين الجيل الصالح السابق «الوالدين» والجيل التالي المرجوّ صلاحه والإنسان غير المعصوم لا يخلو من ذنوب، فلا بدّ من التوبة باستمرار.

ص: 52


1- الكافي 5: 9 ، باب وجوه الجهاد.

ثمّ إنّه يعلن أنّه من المسلمين، ولا شكّ أنّه لا يريد به الإسلام الظاهري الذي يتحقّق بالشهادتين ويتفرّع عليه أحكام الإسلام؛ فإنّ المنافق أيضاً مسلم بهذا المعنى، بل يريد بهذا القول أنّه أسلم أمره إلى الله تعالى، فحقّ له أن يتوقّع من ربّه أن يصلح له في ذريّته ويوفّقهم لهذا الإسلام والتسليم لأمر الله تعالى. ولم يقل: «إنّي مسلم»، بل اعتبر نفسه جزءاً من مجموعة المسلمين، لئلا يعجب بنفسه، كأنّ له ميزة على الناس وهذا نظير قوله تعالى: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).(1)

وهذا يذكّرنا بوصية إبراهيم ويعقوب علیهما السلام، قال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبراهيم إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُمْ مُسْلِمُونَ).(2) فقوله تعالى: (وَوَصَّى بها)، يعود الضمير فيه إلى إسلامه الذي أعلنه لربّه وهو الإسلام الواقعي، أي التسليم المطلق لما يريده الله تعالى والرضا به. وهذا هو الدين الحقّ الذي اصطفاه الله تعالى لأنبيائه، وهو الذي نطلبه من الله تعالى في الأدعية المأثورة، كما في دعاء كميل: «وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً»(3)

ويتبيّن من سياق الآيات وما تليها أنّ الغرض -- كما أشرنا إلي-ه ---- ب-ي-ان نموذجين من البشر صالح وطالح، مع أنّهما معاً تربّي-ا ف-ي بيئة مؤمنة، وليست الآيات واردة في مورد خاصّ بعينه، ولكن جهاز وضع الأحاديث راقٍ له أن يصنع حديثاً في أنّ هذه الآيات نزلت في أبي بكر بدليل أنّه لم يكن في الصحابة

ص: 53


1- التحريم (66): 12
2- البقرة (2): 130 - 132
3- مصباح المتهجد 2: 845

غيره من أسلم هو وأبواه وأولاده جميعاً. وهذا - مع أنّه كذب محض وهناك كثير من الصحابة بهذا الوصف - لا يدلّ على هذا الاختصاص، مضافاً إلى أنّ أبا قحافة إنّما أسلم يوم الفتح والآيات نزلت بمكّة.

(أولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا). (أُولَئِكَ) إشارة إلى الإنسان المذكور في أوّل الآية السابقة، والإشارة باسم الجمع باعتبار أنّ المراد به جنس الإنسان مع هذه الصفات قيل: إنّ التقبّل يدلّ على قبول مع جزاء. وقيل: إنّه أبلغ من القبول. ولكنّ الظاهر عدم الفرق، لقوله تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُول حَسَنٍ».(1) و«عن» هنا بمعنى «من» وليست للمجاوزة، بدليل قوله تعالى: (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمٌ)(2) وغيرها، فلا وجه لما حاول بعضهم فيها من التأويل. ولعلّ الإتيان باسم الموصول يفيد الحصر ، ولكن ليس معناه أنّ هذا الجزاء خاصّ بمن يقول هذه الكلمات، بل المراد من يكون من الإيمان بهذه المنزلة.

ويقع السؤال في وجه اختصاص القبول في هذه الآية ونظائرها بأحسن الأعمال، دون كلّ ما هو حسن من الأعمال وأجيب بأنّ المراد بأحسن ما عملوا، أعمالهم الواجبة ،والمستحبّة، وأمّا الأعمال المباحة فهي قد تكون حسنة، ولكنّها لا تتقبّل لعدم كونها مقرّبة إلى الله تعالى؛ فمفاد الآية أنّ المؤمن قد تنقسم أعماله إلى ثلاثة أنحاء، عمل سيّئ فيتجاوز الله تعالى عنه، وعمل حسن في مقابل السيّئ،ولكنّه ليس من الواجبات والمستحبّات، بل هو مباح، فلا معنى لقبوله من الله تعالى وعمل أحسن وهو الواجب والمستحبّ وهو ما يتقبله الله.

ص: 54


1- آل عمران (3): 37
2- ال عمران (3): 35

وهذا الجواب وإن تلقّوه بالقبول، إلا أنّه خلاف الظاهر؛ فإنّ الأحسن من الأعمال ظاهر في كونه أحسن من جميعها، حتّى الواجبات والمستحبّات، مضافاً إلى أنّ مناط الحسن عند الله تعالى ليس إلا قصد التقرّب إليه، فالأحسن من الأعمال ما يكون القصد فيه أقرب إلى الإخلاص الكامل، والمباحات ليس لها شيء من الحسن، إذ لا تشتمل على التقرّب.

وقد مرّ مثل هذا السؤال في سورة الزمر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)،(1) وقلنا: إنّهم ذكروا وجوهاً في ذلك؛ منها: أنّ الله تعالى يجزي كلّ أعمالهم بجزاء أحسنها، فيجعل ذلك مقياساً لثواب كلّ عمل. ومنها: أن يكون من باب الإضافة إلى غير الجنس، أي بجزاء أحسن ممّا كانوا يعملون، كما قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)(2) ولكنّ الوجهين لا يأتيان هنا، لأنّ المذكور هنا قبول العمل لا الجزاء.

وذكرنا هناك أنّه يمكن أن يكون الجزاء مبيّناً لدرجة قربهم وهو الجزاء الأوفى، أي أنّه تعالى يجعل درجة قربهم لديه على أساس أحسن ما كانوا يعملون، فهو مقياس تعيين درجة كلّ واحد منهم وإن كانوا يجزون على كلّ أعمالهم، وهذا يمكن القول به في هذا المقام أيضاً، بل هذه الآية أولى بهذا الوجه، لأنّ المذكور هنا هو القبول وهو أمر آخر غير الجزاء، فلا مانع من أن يجزى الإنسان بكلّ عمل أتى به بقصد القربة، ولكنّ القبول يختصّ ببعضه، ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث من أنّ الله تعالى لا يقبل من الصلاة إلا

ص: 55


1- الزمر (39): 35
2- النمل (27): 89

ما كان العبد مقبلاً فيه على ربّه.

روى الكليني رحمه الله بسند صحيح عن محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام: إنّ عمّار الساباطي روى عنك رواية قال: وما هي؟ قلت: روى أنّ السنّة فريضة، فقال: «أين يذهب؟! أين يذهب ؟! ليس هكذا حدّثته، إنّما قلت له: من صلّى فأقبل على صلاته، لم يحدّث نفسه فيها ، أو لم يسه فيها، أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربّما رُفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها، وإنّما اُمرنا بالسنّة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة».(1) ولعلّ المراد بالتقبّل في الآية المباركة هو ما عبّر عنه بالإقبال في هذه الصحيحة.

(وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، التجاوز عن الذنب تركه وعدم المؤاخذة به، والسيّئات كلّ ما لا ينبغي فعله وتشمل المعاصي الصغيرة والكبيرة إلا أنّ قوله تعالى: (إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)،(2) يقتضي أن يكون هؤلاء ممَن يجتنب الكبائر، وأنّ السيّئات التي تجاوز عنها الله تعالى هي الصغائر فحسب. (في أصحاب الجنَّةِ) حال من الضمير في قوله: (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ)، أي حال كونهم

في أصحاب الجنّة، والظرفية مجازية، أي يدخلون في سلكهم.

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)، الظاهر أنّه منصوب بفعل مقدّر، أي نوفّي لهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به عن طريق الرسل والكتب السماويّة. والصدق مصدر بمعنى اسم الفاعل والإضافة من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الوعد الصادق وهو الوعد الذي يتحقّق في الخارج، فيصدق وينطبق.

ص: 56


1- الكافي 3: 363
2- النساء (4): 31.

سورة الأحقاف (17 - 20)

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا

يَسْتَعِينَا اللَّهَ وَيْلَكَ وَا مِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَطِيرُ الْأَوَّلِينَ(17) أَوْلَئكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَسِرِينَ(18) وَلِكُلِّ دَرَجَتْ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَلَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْهُم بِمَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الظاهر أنّه مبتدأ خبره: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِم)، والإشارة للجمع بلحاظ تعدّد المصداق. وهذا هو النموذج الثاني من البشر يضرب الله به المثل والمفروض أنّ النموذجين تربّيا في بيئة إسلامية، وبين أبوين مؤمنين صالحين واختلفا في العقيدة والعمل. والآية تصوّر وقاحة هذا الإنسان قبل شركه ،و كفره، فهو يتضجّر من دعوة أبويه إياه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وبكلّ وقاحة يعلن تضجّره وسأمه منهما بقوله: (أُفٍّ لَكُمَا) . و (أفٌ) كلمة تقال عند التبرّم والتضجّر ، وفيه نوع من التحقير والإزدراء بهما، بل قيل: إنّها في الأصل بمعنى الأوساخ، ويقال تعبيراً عن كراهة الشيء، وربما يكون في الأصل اسم صوت للتعبير عن التبرّم بالشيء، كما هو المتعارف، ثمّ أطلق بالمناسبة على كلّ ما يتنفّر منه الإنسان كالأوساخ.

(اتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ)، أي أتخوّفانني من الخروج من القبر، والحال أنّ قروناً من البشر ماتوا قبلي ودفنوا ولم يسمع بأحدهم خرج من القبر، يريد بذلك أن ينفي

ص: 57

احتمال قيام القيامة وحياة الإنسان بعد موته، مع أنّ المدّعى ليس هو الحياة في الدنيا، بل في مرحلة من التكوين متكاملة، غير هذه المرحلة وهذه الحياة وهذا العالم. هكذا ذكره المفسّرون في شرح مراده من قوله: (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي).

ويمكن أن يراد به استبعاد إحياء ملايين الملايين من البشر، الذين ماتوا من

قبل وأصبحوا تراباً ولم يبق لهم عين ولا أثر ، ولا يمكن معرفة أجزائهم المنتشرة والمتناثرة في الأرض والمتبدّلة إلى عناصر أخرى، وقد مرّت على الكرة الأرضية وحياة الإنسان عليها من القرون ما لا يعلم حدّه وحصره أحد من البشر. أو استبعاد كون الإنسان محاسباً بما عمل في هذه الدنيا، ولا يمكن محاسبة أعمال الملايين الذين ماتوا ولا يعلم عن أعمالهم أحد.

وعلى هذه الاحتمالات، يمكن حمل قول فرعون على ما في سورة طه: (قَالَ

فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى)،(1) ولذلك ردّ عليه موسى علیه السلام: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)(2)، فإنّ الخطأ الكبير الذي يرتكبه الإنسان في هذا المجال هو قیاس صفات الله تعالى ،بصفاته، وعلمه تعالى بعلمه.

(وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ)، الوالدان لا يتحمّلان سماع هذا الكفر والعناد من ولدهما من جهتين، فمن جهة يستعظمان صدور ذلك من أيّ إنسان كان، حيث يشتمل على الكفر ، ومن جهة اُخرى يشفقان على ولدهما م-ن عذاب يوم القيامة فيستغيثان الله، أي يطلبان منه تعالى أن يغيثهما، أي ينصرهما

ص: 58


1- طه (20): 51
2- طه (20): 52

ويعينهما في مهمتهما، وهي هداية الولد والغوث هو النصر، ويقولان للولد: (وَيْلَكَ آمِنُ) وكلمة ويل اسم فعل بمعنى قبحاً لك، فهما يستقبحان منه هذا الكفر والعناد والوقاحة، وفي نفس الوقت يطلبان منه بإصرار أن يؤمن بالله واليوم الآخر.

والسياق والتعبير يصوّران حالة الأبوين وتضرّعهما، وهما يطلبان منه الإيمان بالله تعالى شفقة منهما عليه ويستدلان على قيام القيامة ومحاسبة الإنسان بأعماله على الوعد الذي تكرّر بواسطة الرسل والكتب السماوية: (إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ)، فلا يمكن ردّ هذا البيان بأيّ استبعاد، فإنّ الله تعالى إذا وعد شيئاً فهو كائن لا محالة، ولا شيء يتأبى على قدرته غير المتناهية ولا يمكن أن يخلف الله وعده؛ إذ لا يخلف الوعد إلا ضعيف أو جاهل.

(فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)، ولا يكون من هذا الإنسان المعاند الذي نجد من أمثاله الكثير الكثير إلا الاستمرار في العناد والجهل، فيستنكف من قبول الحقّ، ويصف الآيات النازلة من السماء على رسل الله تعالى بأنّها أساطير الأوّلين، وأنّ ما قيل في هذا الباب لا يدعمه دليل علمي ولم يكتشفه البشر بمجاهره ومناظيره. والأسطورة ما سُجِّل وسُطِّر. وأساطير الأوّلين يطلق على

الخرافات القديمة التي لا يقبلها عقل البشر المتحضر.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الحِنِّ وَالإِنْس)، الموضوع في الآية السابقة وإن كان مفرداً إلا أنّه عن-وان ينطبق على مصاديق كثيرة وكثيرة جدّاً؛ فأتى باسم الإشارة الخاصّة بالجمع، فالموضوع عامّ لا يختصّ بفرد، وإنّما ذكره بصورة مثال فردي ليكون أكثر تأثيراً. وقوله تعالى: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)، أي ثبت وانطبق عليهم ، والمراد ب- «القول» ما وعده الله تعالى من العذاب

ص: 59

يوم القيامة لكفرهم وعنادهم واتّباعهم لإبليس وجنوده في الدعوة إلى الكفر والضلال. وقوله تعالى: (في أُمَمٍ) حال، أي حال كونهم دخلوا بذلك في أمم كثيرة من البشر، الكافرة طيلة القرون. وقوله: (مِنَ الجِنِّ) يدلّ على أنّ الجنّ أيضاً يموتون وأنّهم أيضاً محاسبون كالإنس وأنّهم مختلفون، فمنهم مؤمن ومنهم کافر، كما ورد في آيات أخرى.

(إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) وهذه هي الخسارة الكبرى، ولذلك ورد في الحديث: «المؤمن كَيْسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ».(1) فإنّه يقدّم خير الآخرة على الدنيا، والجاهل المغفل يحسبه إنساناً بسيطاً لا يعرف خيره من شرّه، لأنّه يشتغل بالعبادة ولا يهتمّ بجمع الأموال وتشييد العمارات.

(وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا). المعروف والمتداول بين المفسّرين تفسير الآية بأنّ لكلِّ إنسان من الفريقين درجته الخاصّة به، فالنتيجة أنّ أهل الجنّة وأهل النار ليسوا في مرتبة واحدة، بل يوضع كلّ إنسان موضعه اللائق به، ومنشأ اختلاف الدرجات هو الأعمال و«مِن» في قوله: (يما عَمِلُوا) لبيان المنشأ. وقالوا: إنّ الدرجات وإن كانت خاصّة بأهل الجنّة ويقال في مراتب أهل النار دركات، إلا أنّ الإطلاق هنا من باب التغليب.

ولا شك في صحّة أصل المعنى، وهو اختلاف منازل أهل الجنّة والنار؛ إذ لا يمكن أن يكون الصالحون من عامّة المؤمنين في درجة الأنبياء والأئمّة المعصومين - عليهم جميعاً سلام الله - كما لا يمكن أن يكون المذنب الخاطئ أو الكافر من عامّة الناس في نفس الموضع الذي يليق بالمعاندين والطغاة الظلمة في النار.

ص: 60


1- بحار الأنوار 64: 307.

ولكن سياق الآية يأبى ذلك، بل ظاهرها الاختصاص بالأمم الخاسرة من الجنّ والإنس، حيث جاءت عقيب التعرّض لحالهم، مع أنّ الآية لو شملت أهل الجنّة لدلّت على أنّ المؤثّر في اختلاف درجاتهم هو العمل فقط دون النوايا، والصحيح أنّ درجات الصالحين في الجنّة تختلف باختلاف النوايا أيضاً وليست كمراتب أهل النار ، لأنّهم ليس لهم منازل في القرب لدى الله تعالى، وإنّما تختلف درجات عقابهم.

والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبُكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)،(1) فإنّ الآية تدلّ بوضوح على أنّ الإنسان محاسب بما يخفيه في نفسه، فإذا ضمّمنا هذه الآية إلى ما دلّ من الروايات على أنّ الله تعالى لا يؤاخذ الإنسان بما نوى إن لم يتلبّس بالعمل، تحصّل أنّ ما ينويه الإنسان ويركّز عليه - لا مجرّد الخطور الخارج عن الاختيار - يؤثّر في منزلته ودرجته عند الله تعالى، فإنّ ذلك مقتضى الجمع بين محاسبته على ما يخفيه في نفسه وعدم معاقبته عليه؛ إذ لا يبقى له أثر إلا أن يكون دخيلاً في تحديد منزلته ورتبته عند الله تعالى.

ولا ينافي ذلك قوله تعالى: (فَيَغْفِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)، إذ يمكن أن يختصّ ذلك بما أبداه، وأمّا ما أخفاه فإنّه يغفر له. هذا مع أنّه يمكن أن يكون من النوايا ما لا يغفر كالعجب والرياء، إنّما الكلام في التعميم المستفاد من الآية

الكريمة.

وممّا يؤيّد هذا الاستنتاج أنّ النوايا والأهداف - حتّى لو لم تصل إلى مرحلة

ص: 61


1- البقرة :(2): 284

العمل - تؤثّر في نفسيّة الإنسان وتكوين شخصيته، ولنضرب مثلاً حيّاً، وهو أنّ الحسد وهو غيظ الإنسان وحقده على غيره، لتفوّقه في جهة من الجهات، سواء كانت ماديّة أو معنويّة، ربما يصل بالإنسان إلى مرحلة العمل على وفقه فيضرّ بالمحسود إمّا بيده أو بلسانه، ويحاول إسقاطه من أعين الناس. وهذا إثم يعاقب عليه وربما لا يصل إلى هذا الحدّ، ولكن باطنه يغلي حقداً وحسداً، ويبغض ذلك الإنسان أشدّ البغض، ولكنّه خوفاً من الله أو من الناس لا يبدي شيئاً، فلا يكون معاقباً في الآخرة إلا أنّ هذه الحالة تؤثّر في تكوين شخصيته، وبالتالي تؤثّر أيضاً في منزلته عند الله تعالى.

بل يمكن أن تكون الخواطر أيضاً مؤثّرة، لأنّها وإن كانت غير اختيارية إلا أنّ مبادئها اختيارية، فالإنسان الصالح الذي لا يسرح باختياره في الأهواء الشيطانية والنوايا الفاسدة، قلّما يقع فريسة للخواطر الشيطانية، التي تهجم على الإنسان من دون اختيار، وبعكسه الإنسان الذي يسرح دائماً وفي الخلوات وعند الفراغ الفكري في الأفكار الشهوانية والشيطانية، ويصنع لنفسه من الأوهام والأحلام قصوراً وأموالاً هائلة، فإنّ الشيطان يتمكّن من نفسه ويسيطر على أفكاره وأمنياته،ولذلك تجد المؤمن الصالح لا يتمنّى إلا الخير والصلاح والتقرّب إلى الله تعالى، وكلّ أفكاره تحوم حول هذا المحور، وأمّا غيره حتّى لو لم يكن فاسداً في مرحلة العمل، فإنّ أمنياته تحوم حول محور المال والجاه وسائر الشهوات الدنيئة.

ونستنتج ممّا مرّ أنّ درجات أهل الجنّة تتحدّد، لا بخصوص الأعمال، بل بكلّ ما يكوّن شخصيّة الإنسان، وأمّا درجات أهل النار فلا يحدّدها إلا أعمالهم، لأنّ درجاتهم ليست بمعنى منازل القرب أو البعد بل ليس لهم درجات بهذا المعنى،

ص: 62

وإنّما درجاتهم بمعنى نوعية عقابهم، والله تعالى لا يجازيهم إلا بأعمالهم، فإنّه تعالى وعد أن يجزى المحسنين بأضعاف ما عملوا ، وأمّا السيّئة فلا تجازي إلا بمثلها، كما ورد في آيات عديدة، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أصْحَابَ الْيَمِينِ)،(1) فالإنسان بوجه عامُ رهين بعمله إلا أصحاب اليمين، فإنّ جزاءهم ليس مرهوناً بأعمالهم، بل إنّ الله تعالى يضاعف لهم الجزاء بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فتقييد الدرجة بالعمل خاصّ بأهل النار، وأمّا المتّقون فمن جهة تحديد الدرجة والمنزلة عند الله تعالى لا يختصّ التحديد بالعمل، بل يحاسب عليه كلّ ما في نفسه، حتّى لو أخفاه، بل لا يبعد أنّ الذنوب التي تاب منها تؤثّر أيضاً في ذلك، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له في الثواب والعقاب، لا في منزلته وقربه لدى الله تعالى، ومن المستحيل أن تتساوى منزلة المعصومين والمذنبين ،التائبين، وأمّا من جهة الجزاء فالمتّقون لا يتحدّد جزاؤهم بأعمالهم، بل يضاعفه الله تعالى أضعافاً مضاعفة، بخلاف مرتكبي السيّئات.

وأما قولهم: إنّ الدرجات خاصّة بأهل الجنّة والدركات بأهل النار، فغير واضح من حيث المدلول اللغوي، فإنّ الدرجة في الأصل مأخوذة من الدرج، بمعنى المضي في الشيء ولا اختصاص له بالصعود، بل يشمل مراتب الحركة ويفهم الصعود أو النزول من القرائن ولا دليل على اختصاصها بالصعود، بل الدليل على خلافه، وهو القرينة السابقة وما بعدها في الآية الكريمة، ومثلها قوله تعالى: (يَا مَعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا

ص: 63


1- المدّثر (74): 38 - 39

كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ لِما عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)،(1) والدرجات هنا أيضاً خاصة بأهل النار عل-ى م-ا ه-و واضح من السياق، وإن ذهب المفسّرون إلى التعميم أيضاً.

(وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَاهُمْ)، وهذه قرينة أخرى على الاختصاص بأهل النار. فإنّ المتّقين لا يجازون بأعمالهم فحسب كما مرّ والتوفية إيصال الشيء بكامله دون نقص، واللام للتعليل، والظاهر أنّه علّة لجعل كلّ أحد في درجته ومنزلته الخاصّة، والعطف بالواو يدلّ على أنّ هناك عدّة أهداف تترتّب على ذلك؛ منها توفية الأعمال، ومنها بالطبع مجازاة المسيء، ومنها الانتقام للمظلومين وشفاء صدورهم، ونحو ذلك ممّا يترتّب على عقاب الطغاة والكفرة.

والآية تدلّ على تجسّم الأعمال، وأنّ الإنسان يجازي بنفس عمله إلا أنّه بصورته الكاملة، فنحن الآن لا نرى مدى تأثير أعمالنا، فلكلّ عمل صداه وتأثيره في المجتمع وفي الكون، ولكنّ الإنسان غافل عنه، فهناك آثار طبيعية نغفل عنها، فكيف بالآثار الغيبية، وكم من كلمة أورثت حروباً طاحنة، والمتكلّم لا يعلم بأثرها، وكم من عمل يستتبع تقليد الآخرين ممّا يستوجب فساد أُمّة، بل ربما يستمرّ الفساد قروناً متتالية، وها نحن الآن نشهد تمزّق الأمّة الإسلامية وضعف

كيانها لجملة واحدة قالها رجل حينما طلب الرسول صلى الله عليه و اله وسلم دواة وكتفاً ليوصي الأمّة بما يحفظ وحدتها وعزّتها وكرامتها واستمرار سيرها على النهج القويم.

ومن الكلام ما يؤثّر في الكون ونحن لا نشعر به، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شيئاً إذاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأَرض وَتَخِرُ الْجِبَالُ هَذَا أَنْ

ص: 64


1- الأنعام (6): 130 - 132.

دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً)،(1) هذا حال الكلام فكيف بسائر الأعمال؟!

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، تأكيد على أنّ عقابهم ودرجتهم ليس إلا نفس أعمالهم يتلقّونها كاملة، مع كلّ ما يترتّب عليها من آثار سيّئة، وليس الجزاء وضعيّاً حتّى يقال: إنّ الجزاء لا يناسب العمل، بل هو أعظم منه بكثير، فالجزاء الوضعي هو الذي يمكن أن يقال فيه ذلك. وأمّا إذا كان العمل بنفسه جزاءاً، فلا يمكن أن يكون ظلماً إلا أنّ العمل في الدنيا لا يتجلّى بصورته الحقيقية، فلا يشعر الإنسان إلا بما يتلذّذ به. ولو كان الإنسان يشعر بحقيقة ما يعمل، لتعذّب به في الحياة الدنيا، فكان ذلك حافزاً على تركه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).(2) وقد نبّه الله سبحانه وتعالى على كيفية تعذّب الإنسان بعمله في الدنيا، مع أنّه لا يتجلّى بصورته الكاملة، حيث شبّه يوم القيامة بالضمير الإنساني، قال تعالى: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ).(3)

ثمّ إنّ قوله تعالى: (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يدلّ أيضاً على أنّه لو لم يجعل الله تعالى لكلّ إنسان درجة، وكان يخلط الظلمة والفساق كما ربما يتوهّم، كان ذلك ظلماً لكثير منهم.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ)، الظرف يتعلّق بفعل مقدّر، أي واذك-ر ي--وم يعرض قيل: بل الفعل المقدّر هو القول للجملة التالية، أي يوم يعرض يقال لهم أذهبتم. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ص: 65


1- مریم (19) 88-91
2- النساء (4): 10.
3- القامة (75): 1-2.

والعرض في الأصل ما يقابل الطول، والمراد بهذا التعبير إراءة عرض الشيء لأحد، كما يقال عرض الجند على الأمير. ومن هنا وقع الكلام في معنى العرض في الآية من جهة أنّ المعروض عليه ليس من ذوي العقول. ففي «الكشاّف» أنّ المراد به نفس التعذيب بالنار من قبيل ما يقال: عرض بنو فلان على السيف، حيث تضرب أعناقهم، فالمراد يوم يدخلون النار يقال لهم كذا.(1) ولكن هذا لا يناسب - كما في تفسير «الميزان»(2) - قوله تعالى في آخر السورة: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)، حيث فرع الأمر بتذوق العذاب، على العرض، وما يجري هناك من الحديث ممّا يدلّ على أنّ العرض أمر يحدث قبل الدخول في النار.

وقال بعضهم: إنّ العرض هنا مقلوب، فإنّ المعروض واقعاً هو النار، تعرض على الذين كفروا كما في قوله تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً)،(3) فإنّ الأشياء تعرض على الإنسان ولا يعرض الإنسان على الأشياء. وقال آخرون:إنّ جهنم لا تعتبر من غير ذوي العقول لقوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزيد).(4)

ولكنّ الظاهر أنّ هذا وأمثاله كقوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ

والأرض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)،(5) تعبير أدبي لا يتوقّف على كون

ص: 66


1- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 313:4.
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 205
3- الكهف (18): 100
4- ق (50): 30
5- الأحزاب (33): 72

المعروض عليه عاقلاً واقعاً، بل يفترض كونه عاقلاً ولو في الإدعاء، فلا موجب لدعوى القلب.

والحاصل أنّ الظاهر من الآية إراء تهم إيَّاها مقدّمة لتعييرهم أو تكميل محاسبتهم ببيان سبب العذاب والحرمان عن الطيّبات، وهو في حدّ ذاته لا يخلو من تعذيب نفسي. وينبغي أن يعلم أنّ المراد بالتعذيب في الآخرة ليس هو الانتقام، فالله تعالى غني عن عذاب الخلق ومنزّه عن التشفّي، بل هو بمعنى ظهور الحقائق التي توجب عذاب الإنسان.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)، المعروف أنّ هذه الجملة خطاب من الله تعالى لهم وأنّ التقدير: «يقال لهم حين العرض: أذهبتم طيباتكم....،» ولكن لا يبعد أن يكون المراد تفسير العرض بهذه الجملة بمعنى أنّ هذا العرض يفهم منه هذا الخطاب، وكثيراً مّا يدلّ الفعل على معنى مقصود بأصرح من اللفظ وأبلغ.

وظاهر قوله: (اذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) إفناؤها بإنفاقها والانتفاع بها. ولكنّ السؤال الوارد هنا:ما المراد بالطيّبات التي تنفق ويستمتع بها في الدنيا، بحيث يكون سبباً للحرمان في الآخرة؟

قيل: إنّ المراد بها النعم الإلهية التي يمكن استخدامها في الحلال والحرام، كالمال والشباب والقوّة والعقل والحواس، فاستخدامها في الحرام هو الموجب

للحرمان يوم القيامة.

وإنّما قيل بذلك، لأنّ التمتّع بالطيّبات ليس محرّماً وممنوعاً بذاته، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بها كلّ تمتّع بالنعم حتّى لو لم يكن في حدّ ذاته محرّماً، إلا أنّ

ص: 67

استنفادها في التمتّع بنعم الدنيا وعدم ادّخار شيء للآخرة هو الموجب لذلك، فالمال إذا صرف بعضه على نفسه وأنفق بعضه في سبيل الله تعالى بقي له شيء في الآخرة، وهكذا سائر ما أوتي الإنسان من نعم، فالمبالغة في الاستمتاع يوجب الحرمان. والكافر لا يدّخر شيئاً نهائياً، لأنّه لو أنفق لا ينفق في سبيل الله تعالى، بل ينفق لشأن من شؤون الدنيا حسب معتقده

ومن هنا يتبيّن أنّ الإنسان كلّما ترك الاستمتاع بنعمة طلباً لمرضاة الله تعالى، فهو موجب لتنعّمه في الآخرة، وكلّما تنعّم بنعمة زائدة على حاجته، فقد خسر م-ا يعادل الإنفاق به في الآخرة، وهكذا يتبيّن وجه ما ورد في الحديث من تزهّد النبي صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام عن الأطعمة اللذيذة ونحوها من متاع الدنيا، فكلّ ما تأكله وتنفقه على نفسك فقد خسرته، وكلّ ما أنفقته في سبيل الله فقد ربحته.

قال أمير المؤمنين - سلام الله عليه - في كلام طويل في زهد النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم وسائر الأنبياء علیهم السلام: «وَلَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الأرض ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَحْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِي وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ ، فَيَقُولُ: يَا فُلانَةُ - لإحْدَى أَزْوَاجِهِ - غَيْبِيبِهِ عَنِّي فَإِنِّي إذا نَظَرْتُ إِليه ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا». وقال علیهم السلام نفسه: «وَالله لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لي قَائِل : ألا تَنْبِدُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحَ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى».(1) والسرى أي السير ليلاً، فالذي يسير طول الليل يتعب، ولكنّه إذا أصبح ووجد نفسه قد بلغ المقصد يثني على ما فعل، وهكذا من يتحمّل الشدائد في

ص: 68


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 228 - 229 / الخطبة 160.

هذه الحياة الزائلة تقرّباً إلى الله تعالى، فإنّه سيجد نتيجة عمله يوم القيامة ويفرح

بما تحمّل.

وفي حديث: «اُتي - أي النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم- بخبيص، فأبى أن يأكله» فقيل: أتحرّمه؟ فقال: «لا ولكنّي أكره أن تتوق إليه نفسي»، ثمّ تلا الآية: (اذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا).(1) والخبيص نوع من الحلواء. والخبص هو الخلط.

وفي مجمع «البيان» في ذيل الآية الكريمة: «قد روي في الحديث أنّ عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم، وأنّه لمضطجع على خصفة وأنّ بعضه على التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفاً، فسلمت عليه، ثمّ جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبيّ الله وصفوته وخيرت-ه خلقه و كسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «أولئك قوم عُجِّلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنّما اُخرت لنا طيّباتنا».(2) والخصفة: جُلّة التمر التي تنسج من خوص النخل.

وفي حديث عائشة: «أنّهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «ما بقي منها؟»، قالت: ما بقي منها إلا كتفها قال: «بقي كلّها غير كتفها».(3)

والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)، أي حيث استنفدتم كلّ طيّباتكم للتمتّع في الدنيا ولم تدّخروا شيئاً للآخرة، فاليوم تجزون العذاب والهون المذلّة والخفّة. ولا شكّ أنّ نتيجة الاستكبار في

ص: 69


1- محاسن البرقي 2: 409
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 133:9
3- سنن الترمذي 4 : 58

الأرض هو الهوان والذلّ يوم القيامة، حيث تتجسّم الأعمال وتبرز الحقائق. والفسق هو الخروج، والمراد الخروج عن طاعة الله تعالى. وقوله تعالى: (كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) يدلّ على الاستمرار والإصرار.

وقيل: إنّ قوله تعالى: (بِغَيْرِالحَقَّ) توضيح وليس تقييداً؛ فإنّ الاستكبار لا يكون بحقّ، ولكن يمكن أن يكون تقييداً أيضاً؛ لأنّ الاستكبار هو طلب الرفعة

والعلوّ، وهو في حدّ ذاته غير مذموم بل هو غريزة بشرية يترتّب عليه-ا تق-دّم الحضارة الإنسانية. وإنّما المذموم أن يطلب الإنسان رفع-ة وع-ل-واً ع-ل-ى الآخرين بغير حقّ، كمن يطلب السلطة على رقاب الناس من دون أن تكون له ولاية من قبل الله تعالى، فلو كان يطلب الرفعة بعلم أو بفنّ أو بقوّة جسمية وكمال يكتسبه، لم يكن استكباراً بغير الحقّ، وأمّا من يطلب الرفعة على الناس من دون أن تكون له مؤهلات خاصّة، فهو استكبار بغير حقّ، لا أقول: إنّ من له العلم والقوّة يحقّ له أن يستعلي على الناس ويتوقّع من غيره الخضوع له، بل أقول: إنّ طلب العلم والقوّة ونحو ذلك في حدّ ذاته طلب للرفعة والعلوّ حقيقة وهو مطلوب وليس مذموماً.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر الاستكبار في الآية إشارة إلى الذنب المتعلّق بالاعتقاد، وقوله تعالى: ﴿وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)، إشارة إلى الذنب المتعلّق بالعمل.(1)وهذا يتمّ في ما إذا كان المراد الاستكبار أمام الله تعالى، لا في قبال الخلق، وهناك كثير من البشر يستكبر في مقابل الله تعالى، فمنهم من يصرّح به وهم الفراعنة الطغاة، ومنهم من لا يصرّح إلا أنّه يأبى من التسليم لحكم الله تعالى

ص: 70


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 : 206

وشرعه ويستنكف من الخضوع والطاعة لأمره ونهيه.

ولكنّ الشأن في انطباق الآية، فإنّ ظاهر قوله تعالى: (تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ)، أي في المجتمع البشري وفي مقابل الخلق، كقوله تعالى: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ)،(1) ومثله الكبرياء في الأرض، كقوله تعالى حكاية عن فرعون: (قَالُوا أَجِبْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ)،(2) والعلوّ في الأرض، كقوله تعالى: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالِ فِي الأَرْضِ)،(3) ويشهد لذلك قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أو نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُنُوا كَبِيراً)،(4) فعبّر عن استكبارهم أمام الله تعالى باستكبارهم في أنفسهم.

ص: 71


1- القصص (28): 39
2- یونس (10): 78
3- یونس (10): 83
4- الفرقان (25): 21

سورة الأحقاف (21 - 25)

* وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(21) قَالُوا أَجِبْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَاهِتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَأَبْلُغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ، وَلَكِنِّي أَرَنكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَتِهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَكُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ). أمر الله رسوله أن يذكر قوم عاد وما جرى عليهم بعد الإنذار والتكذيب، ليتذكّر قومه ويتنبّهوا ويعلموا عاقبة تكذيب الرسل، وفي ذلك أيضاً تسلية للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وللمؤمنين لئلا ينزعجوا من تكذيب القوم واستهزائهم . و (عَادٍ) قوم كانوا يسكنون الجزيرة العربية وكانت آثارهم باقية في عهد الرسالة، قال تعالى: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ)،(1) بل هي باقية إلى الآن وإنّما غمرتها الرمال وقد اختلف في موضعهم، وورد في القرآن الكريم أنّهم هم الذين بنوا مدينة إرم وأنّها كانت ذات أعمدة كثيرة لم يخلق مثلها في البلاد، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ)،(2) وقد اكتشفت آثار مدينة قديمة بهذا الوصف في صحراء اليمن وهناك شواهد لعلّها تدلّ على أنّها هي التي سمّيت بإرم في القرآن الكريم؛

ص: 72


1- العنكبوت (29): 38
2- الفجر :(89): 6-8

ولكن كثيراً من المفسّرين قالوا: إنّ إرم اسم جدّهم، وسيأتي الكلام فيه إن شاء

الله تعالى.

وربما يستغرب أن يكون موضعهم في هذه الصحراء القاحلة لقوله تعالى في شأنهم: (أمَدَّكُمْ بِأَنْعَامِ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)،(1) ممّا يدلّ على أنّ بلدهم كان في منطقة مليئة بالأشجار والأنهار، وأين هذا من الربع الخالي؟! ولذلك قال بعضهم: إنّ الأحقاف اسم جبل بالشام، وهذا ليس له مستند. ولكنّ الغريب أنّ الاكتشافات الحديثة تؤيّد وجود أنهار في المنطقة عفيت آثارها بالرمال، فما هو وجه التعبير عنها بالأحقاف؟! وهي جمع حقف - بكسر الحاء - أي الكثيب الرملي المرتفع الذي فيه انحناء وتعاريج.

هذا مع أنّه من المستبعد جدّاً أن تكون هذه المدينة العظيمة والحضارة التي لم يكن لها مثيل في ذلك العصر، في قلب الصحراء الرملية والظاهر أنّ التعبير عنه بالأحقاف إنّما كان بلحاظ زمان نزول الآية، وظاهر التعبير أنّها علم للمنطقة

وهو مقتضى لام التعريف، فلا ينافي كونها منطقة خضراء في عصور سابقة. والتعبير بالأخ عن الرسول ورد في عدّة موارد من الكتاب العزيز، وربما يقال

بأنّ الوجه فيه هو كونه من نفس القوم، ولكنّه لا ينطبق على لوط علیه السلام على ما في الروايات وربما يقال: إنّه إشارة إلى عطفه وحنانه عليهم، ولكن هذا الوجه لا يصحّح التعبير عن القوم بالإخوان، كما ورد في قوم لوط أيضاً: ﴿وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ).(2) والصحيح أنّه تعبير عن كلّ نوع من المشاركة والمصاحبة، كقوله

ص: 73


1- الشعراء (26): 133 - 134.
2- ق (50): 13

تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا)،(1) وقوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ اُخْتِهَا).(2) والتعبير العربي مشحون بذلك، كأخي الجهد في شعر امرئ القيس:

عشيّة جاوزنا حماة وسيرنا ***أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا(3)

ويقصد به السير بجهد وكذلك تعبيرهم بأخي الخير وأخي الشرّ ونحو ذلك. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ). خلت أي مضت، فيقتضي أن يكون المراد بالجملة، بيان أنّ إنذاره لم يكن شيئاً جديداً مستغرباً، فقد سبقه النذر وه-و جمع نذير أو جمع إنذار ، ولكن وقع الكلام في المراد بقوله تعالى: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)، فقال بعضهم: إنّ المراد بهم من كانوا قبله ومن جاءوا بعده، وقال بعضهم بالعكس، وحاولوا تأويل المعنى بحيث يلائم المضي المفهوم من قوله:

(خَلَت)، والصحيح أنّ المراد بهم جميعاً من كانوا قبله إلا أنّ بعضهم كان في

الماضي القريب، فعبّر عنهم بمن بين يديه وبعضهم كان في الماضي البعيد.

(ألا تَعْبُدُوا إِلا الله)، مهما كان النذر ، فالمنذر به شيء واحد وهو حصر المعبودية في الله تعالى، وهذا روح الرسالات وجوهرها وهو الهدف الأسمى من الخلق والتكوين، وهذا يشتمل على جزء سلبي وجزء إيجابي أن لا يعبد الإنسان غير الله تعالى وهذا هو الحرّية الحقيقيّة، وغير الله لا يختصّ بالأصنام ولا بالبشر المتسلّط كالطغاة الفراعنة، بل يشمل الأهواء والآمال وكلّ قوى الشرّ والفساد في داخل الإنسان وخارجه، فالمطلوب من الإنسان أن يكون حرّاً طليقاً لا

ص: 74


1- الأعراف (7): 38
2- الزخرف (43): 48
3- لسان العرب 14 :23

يتحكّم في إرادته إلا أمر الله تعالى ونهيه وهذا التحكّم هو الجزء الإيجابي من التوحيد؛ فإنّ الإنسان لا بدّ له من أن يتبع شيئاً، فهل الصحيح أن يتبع هواه أم عقله أم غير هما ؟ الصحيح أن لا يتبع شيئاً إلا ما أمر الله تعالى به.

وروّاد الحضارة والتقدّم العلمي اليوم وإن دعوا إلى الحرّية حسب الظاهر إلا أنّ الدعوة في الواقع وعند التأمّل الدقيق تشتمل على أسوأ أنواع العبودية وهي عبودية الهوى والميول؛ فالإنسان المتحضّر في هذا العصر ليس حرّاً كما زعموا وأعلنوا في وسائل الأعلام، بل هو عبد ذليل يقوده هواه إلى الردى والهلاك، وإنّما هو أسوأ، لأنّه يتصوّر نفسه حرّاً طليقاً فلا يقاوم، بل لا يتألم من سياط

الاستعباد.

(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، الظاهر أنّ المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا لا عذاب يوم القيامة، بقرينة الآيات التالية وما جرى بينهم وبين-ه م-ن الحديث. وتوصيف اليوم بالعظمة باعتبار كون العذاب فيه مهوّلاً أو كونه يوماً مصيرياً يحسم فيه أمرهم، كما عبّر عنه في سورة الحاقة بقوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسوماً).(1)

(قَالُوا أَجِبْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلهِتِنَا)، هذا ردّ منهم على دعوته إلى ترك عبادة غير الله تعالى والاستفهام للاستنكار، فكأنّه ارتكب جريمة ألهذا جئت؟ والإفك هو الصرف والتحويل أي أجئتنا لتصرفنا عن عبادة الأصنام التي تعوّدنا عليها؟! والإنسان الجاهل متمسّك بما دأب عليه واعتاد لا تختلف في ذلك العصور والحضارات والتغيير في العادات الاجتماعية من أصعب الأمور، ولذلك نجد أنّ

ص: 75


1- الحاقة (69): 7

التحوّل في العقائد والمذاهب لا يحصل في المجتمعات البشرية إلا بتطوّر بطيء جدّاً. نعم ربما تحصل الطفرة نحو الانحلال الخلقي في كثير من المجتمعات، وذلك لموافقته مع الأهواء والميول الحيوانية، ثمّ يستتبع ذلك الابتعاد عن القائد والإيمان بالغيب. وأمّا العقائد الخرافية التي دأب عليها الناس وورثوه-ا م-ن أسلافهم، فلا يزالون متمسّكين بها مهما تحضّروا واختلفت أنماط حياتهم المادّية ودرجوا في مدارج العلم، ولذلك تجد في أتباع المذاهب الخرافية كثيراً من العلماء والمخترعين والأطبّاء وأمثالهم!!!

(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، جواب منهم على تهديده علیه السلام بعذاب ي-وم عظيم. ومعنى كلامهم أنّنا مستمرّون في عبادتنا للأصنام، فإن كنت صادقاً في تهديدك بالعذاب، فأنزله علينا من دون تأخير. وهذا جهل آخر منهم يدلّ على توغّلهم في الحمق والسفاهة، فإنّ احتمال ترتّب العذاب العظيم الذي يستأصل المجتمع، يكفي للتريّث والتأمّل، فكيف به إذا حذّرهم منه إنسان صالح من قومهم لم يعرفوا منه إلا الصدق والأمانة، ولم يروا منه إلا النصح والإرشاد، وهو مع ذلك يخبر به من عند ربّهم العزيز الجبار المقتدر ؟ وإنّما استعجلوا به تكذيباً للرسول أو استخفافاً بعذاب الله تعالى أو بوعيده، كما هو شأن كثير من البشر، حيث لا يعتبرون بمن قبلهم وما نزّل عليهم ويغفلهم ما يشعرون به من الإمهال، ولا يتفطّنون إلى كونه استدراجاً لهم. ولذلك نجد أنّ هذا الكلام أو ما يشابهه ممّا تداولته الأقوام طيلة التأريخ باختلاف لغاتهم وحضاراتهم، فكأنّهم تواصوا بذلك، كما قال تعالى: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ

طَاغُونَ).(1)

ص: 76


1- الذاريات (51): 53

(قَالَ إِنّما العلمُ عِنْدَ الله وَأبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ)، جوابه علیه السلام على استعجالهم للعذاب أنّي لا أعلم موعد استحقاقكم، بل ولا أصل نزول العذاب، فإنّ ذلك ليس بيدي ولست موكَلاً بالتعذيب، وإنّما أنا رسول أبلّغكم ما أرسلت به وأنذركم أنّ هذا النهج يوجب استحقاق العذاب. وأمّا تنفيذه وموعده، فلا علم لي به، وإنّما العل-م عند الله، أي العلم بذلك خاصّ به تعالى قد استأثر به ولم يُعلِمه أحداً. وهو علیه السلام لم يعلن ورود العذاب بصورة حتمية وإنّما أبدى تخوّفه من ذلك، إمّا لأنّه لم يُبلغ إلا أصل الاستحقاق أو لأنّه لم يبلّغ بالعذاب أصلاً، وإنّما تخوّف منه بملاحظة حال الأقوام السابقة وما آل إليه أمرهم وهو كاف في التخوّف.

(وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)، أي أنا أعمل بواجبي وهو التبليغ، ولكنّي أراكم قوماً تجهلون ولا تتأثّرون بهذا الإنذار، و لعلّ المراد بالجهل ما يقابل العقل والحكمة لا العلم، فهم أناس سفهاء، لا تهمّهم المصالح والمفاسد، وإنّما يتّبعون الأهواء والتقاليد والخرافات. ويمكن أن يراد به ما يقابل العلم باعتبار أنّهم يجهلون دور الرسل، وأنّه ليس إلا التبليغ والإنذار باستحقاق العذاب، ولم يوكّل إليه الإخبار بالحتمية، ولا تعيين الوقت أو النوع. وإقحام كلمة القوم للتنبيه على أنّ هذا ميزة مجتمعهم الفاسد ولا يختصّ ببعض دون بعض.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)، الظاهر أنّ الضمير في (رَأَوْهُ) مبهم، يفسّره عارضاً وهذا أفصح وأعرب - كما قال الزمخشري(1) -- م-ن القول بأنّه يرجع إلى بِمَا (تَعِدُنَا)، وهو واضح لمن ألمّ بالعربية وطرق البيان فيها. والعارض: السحاب الذي يعرض في الأفق. والحاصل أنّهم ابتهجوا لمّا رأوا

ص: 77


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4 :307

سحاباً تبدو عليه أمارات الإمطار، ولعلّ منها كونه عارضاً على الأفق وابتهج-وا أيضاً، لمّا رأوه يستقبل أوديتهم ممّا يشعر بنزول المطر على مزارعهم ومراتعهم، ولعلّهم - كما قيل - أصيبوا بالجفاف والجدب مدّة طويلة، ولعلّهم أيضاً خرجوا من بيوتهم يستقبلون المطر مسرورين فرحين وهم يقولون: هذا عارض ممطرن-ا أو هو لسان الحال، كما أنّ الجواب كذلك وإن قيل: إنّه من كلام هود علیه السلام .

(بَل هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي السحاب الذي رأيتموه ليس إلا العذاب الذي استعجلتم به حيث قلتم فأتنا بما تعدنا. وقوله: (رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ ألِيمٌ) بدل عنه. ووصَفَ الريح بأنّ فيها عذاباً اليماً، كأنّ الريح تحمل معها العذاب فهي ظرف له. وفي هذا الكلام تقريع لهم، حيث استعجلوا بالعذاب إن كان كلاماً لهود علیه السلام ولا يبعد أن يكون بياناً للواقع وتعقيباً من الله تعالى على توهّمهم أنّه سحاب ممطر.

وفائدة هذا التعقيب تنبيه الآخرين بأمرين: الأوّل: أنّ هناك من أمور الدنيا ما يواجههم بصورة مستحسنة، وظاهر أنيق بديع وهو يحمل في طياته عذاباً أليماً، ليكونوا على حذر ولا ينخدعوا بظواهر الأمور. والثاني: أنّ هذه عاقبة استعجال

العذاب والاستخفاف به.

(تُدَمِّرُ كُلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبَّهَا)، الريح العاصفة الشديدة بطبيعتها تقلع الأشجار وتدمّر كثيراً من المباني، ولكنّها لا تدمّر كلّ شيء، وهناك كثير من البشر يحتمّون بما يتمكّنون منه ويسلمون من البلاء والحيوانات غالباً ما تعلم بالعاصفة قبل حدوثها وتغادر مكان النكبة، ولكن هذه الريح تختلف عن مثيلاتها بأنّها مأمورة بتدمير كلّ شيء باستثناء آثار المساكن - على ما يبدو - كما في الآية، فلا يبقى إنسان

ص: 78

ولا حيوان ولا شجر ولا زرع ولا مبنى ولا مصنع. ومع ذلك، فهناك أشياء لم تتدمّر كالجبال والحجارة ووجه الأرض، فما هو مغزى التعبير بكلّ شيء؟ الجواب: أنّ هذا التعبير يستخدم لبيان أنّ كلّ ما من شأنه أن يُدمّر بالعاصفة،

فقد دُمّر ولم يبق مجال لفرار الإنسان والحيوان، ولم تبق المباني على حالها، ونظير ذلك قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(1) في حكاية كلام الهدهد بشأن ملكة سبأ، فإنّ المراد أنّها أوتيت كلّ مستلزمات الملوك وليس المراد كلّ شيء

بالطبع.

والحاصل أنّ العاصفة المذكورة لم تبق شيئاً على وجه الأرض إلا آثار مساكنهم للعبرة. وأمّا هودعلیه السلام ومن آمن معه فقد نجّاهم الله تعالى قبل نزول العذاب،كما قال: (فَانْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ).(2) وهكذا سنّته تعالى في سائر الأقوام، حيث لا ينزل عذاب الاستئصال إلا بعد إخراج الرسل ومن آمن معهم.

وقد ورد تفصيل عذابهم في قوله تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأَهْلِكُوا بِرِيحِ صَرْ صَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى هُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ).(3) والصرصر: الريح شديدة الهبوب، والأصل في-ه شدّة الصوت وتكرّره والعاتية شديدة العصف. والحسوم، أي الأيّام التي حسم فيها أمرهم ومصيرهم.

وهكذا العذاب الإلهي عذاب الاستئصال، يقلع المجتمع وكلّ ما أسّسه م-ن

ص: 79


1- النمل (27): 23 .
2- الأعراف (7): (72
3- الحاقة (69): 6 - 8

الحضارة من جذورها ولا يبقي لهم إلا آثاراً يستدلّ به-ا عل-ى وج-وده-م وسبق كينونتهم على الأرض، لتكون عبرة للأجيال الآتية.

(فَاصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ)، المراد بالإصباح الصيرورة؛ إذ لم ينزل العذاب ليلاً، بل نهاراً، فإنّهم رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم، بل بقي العذاب سبع ليال وثمانية أيّام، والظاهر أنّ المقصود من المساكن آثارها لا أصلها.

(كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ). الظاهر أنّ هذا التعقيب تهديد للمخاطبين وهم كفّار مكّة ومن حولها، وتنبيه لهم بأنّ سنة الله تعالى لا تختصّ بهم، فالعذاب يستحقّه المجرمون أينما كانوا وفي أيّ زمان، ولذلك أتى بالفعل المضارع. وإقحام كلمة القوم للإشارة إلى أنّ هذا عذاب المجتمع الفاسد لا كلّ مجرم والإجرام لا يصدق على كلّ معصية ولا على كلّ جريمة اجتماعية؛ فإنّه في الأصل بمعنى القطع ، فإذا أطلق على عمل يخالف قانون المجتمع فلا بدّ من أن يكون موجباً لقطع الصلة بينه وبين المجتمع، ولا يطلق على كلّ ما يخالف القانون، وإذا أطلق في الشرع، فالمراد به ما يوجب قطع العلاقة بين العبد وربّه.

ص: 80

سورة الأحقاف (26 - 28)

وَلَقَدْ مَكَّنهُمْ فِيمَا إِن مُكُنكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَرًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَرُهُمْ وَلَا أَفْئِدَهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا تَجْحَدُونَ بِشَايَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا

الاَيَتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءاهِةٌ

بَل ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ). «ما» موصولة و(إنّ) نافية، والتمكين جعل الشيء مستقرّاً في مكان وهو كناية عن جعل أحد قادراً على أمر أو مسلطاً على شيء، فالمعنى أنّا بسطنا لقوم عاد القدرة على أمور وسلّطناهم على موارد في الطبيعة لم تجعل لكم مثلها. والخطاب لأهل مكّة وهو واضح، فإنّ أهل مكّة ما كانوا يملكون من مستلزمات الحضارة السائدة آنذاك شيئاً، فلم يكن لديهم أنهار ولا غابات ولا صناعة ولا زراعة، بينما كان قوم عاد في عهدهم أصحاب حضارة قويّة ومتينة وآثارهم الباقية في عهد الرسالة تدلّ على ذلك. وهذه الآية تكمل التهديد الذي انطوت عليه الجملة السابقة: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

وقال بعضهم: إنّ المعنى مكّناهم في مثل ما مكّناكم فيه، وهو غير صحيح. والقرآن يؤكّد مراراً أنّ الأقوام السابقة كانوا أكثر من أهل مكّة قوّة وآثاراً في الأرض وهو واضح.

(وَجَعَلْنَا هُمْ سَمْعاً وَأبْصَاراً وَأَفْئِدَةً)، هذا متمّم للمعنى السابق، فلو مكّن الله تعالى قوماً من الموارد الطبيعية ولكن لم يجعل لهم قوّة جسمية يتمكّنون بها من التصرف في الموارد الطبيعية، لم يحصلوا على شيء، فالمراد أنّهم تمكّنوا من

ص: 81

استخدام الموارد الطبيعية لبناء حضارتهم ، ولكن كلّ ذلك لم يمنعهم من الله تعالى فكيف بكم وأنتم محرومون من تلك الموارد وتلك الحضارة والقوّة؟! والسمع مصدر يراد به آلة السمع، ولذلك يستوي فيه الجمع والمفرد، فلا فرق بين السمع والأسماع والأفئدة بمعنى القلوب ويراد بها آلة التعقّل والإدراك وليس بمعنى مضخة الدم.

(فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ). (مِنْ) زائدة وتفيد التأكيد، أي لم تغن عنهم شيئاً، بل جزءاً من شيء. والإغناء: الكفاية، أي ل-م تنفعهم هذه الحواس شيئاً في دفع العذاب عن أنفسهم. وهذا تنبيه وعبرة للمخاطبين، فإنّ هؤلاء لم ينقصهم إدراك ولا حواس، فماذا كان السبب في عدم إغناء ذلك عنهم شيئاً؟ ولماذا لم يتمكّنوا بقوّتهم وعقولهم أن يمنعوا أنفسهم ويحفظوها من البلاء الذي ألمّ بهم وداهمهم؟ الجواب في الجملة التالية.

(إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ). (إِذْ) ظرفية تفيد معنى التعليل، فالمعنى أنّهم لم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وبما مكّنّاهم فيه، لأنّهم كانوا يجحدون بآيات الله تعالى وينكرونها. والجحود ضد الإقرار -- كم-ا ف-ي «العين»(1) - فهو إنكار مع علم وفعل (كَانُوا) يدلّ على الاستمرار، ومعنى ذلك أنّ الجحود أصبح عادتهم، وهذا ليس إلا عناداً مع الحقّ ومكابرة، فلذلك غضب الله عليهم وأنزل عليهم العذاب وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فلم تنفعهم أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وعلومهم وحضارتهم؛ إذ لم يكن م-ا ن-زّل م-ن البلاء أمراً طبيعيّاً، بل كان عذاباً من الله تعالى.

ص: 82


1- راجع: کتاب العین 3: 72

و(حَاقَ)، أي نزل به عاقبة فعله أو مكره، قال تعالى: (وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئ إلا بِأهْلِهِ).(1) ولا يبعد أن يكون أصله حقّ، فقلب إلى حاق نحو زلّ وزال، كما في «المفردات».(2) وقيل: إنّه بمعنى أحاط به وعليه فلعلّه مأخوذ من الحوق وهو

بمعنى الإحاطة، فقلب ياءاً. والمراد بقوله: (كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) العذاب الإلهي، حيث قالوا لرسولهم باستهزاء: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، وهذه الجملة معطوفة على قوله: (كَانُوا يَجْحَدُونَ)، وجزء من العلّة والظرف أي أنّ عدم إغناء السمع والأبصار تحقّق بسبب جحودهم المستمر المستتبع للعذاب الإلهي، فمجموع السبب والمسبّب علّة عدم الإغناء، ولو لم يستتبع العذاب لم يصدق عدم الإغناء.

وفي «الميزان» أنّ المعنى: «لم تغن عنهم ولم تنفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئاً عند ما جحدوا آيات الله، فما الذي يؤمنكم من عذاب الله وأنتم جاحدون لآيات الله».(3) وحاصله أنّ قوله : (إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ) بمعنى الظرفية لا التعليل، أي أنّ السمع والأبصار لم تنفعهم يوم جحدوا بآيات الله، ونزل عل-ي-ه-م الع-ذاب بسبب ذلك، بمعنى أنّهم لم يتمكّنوا من تخليص أنفسهم من العذاب في ذلك اليوم. ولكنّه لا يناسب الإتيان بفعل (كَانُوا) ، الدالّ على استمرار الجحود، وإنّما يصحّ ما ذكره لو كان الجحود يوم نزول العذاب.

وفي «المجمع» وغيره أنّ المراد بالآية، أنّا جعلنا لهم السمع ليسمعوا كلام الله ورسالاته، والأبصار ليبصروا آياته وعبر الماضين، والأفئدة ليدركوا عظمة الخالق

ص: 83


1- فاطر (35): 43
2- مفردات ألفاظ القرآن: 266
3- الميزان في تفسير القرآن 18: 213

من خلال التأمّل في الآيات، ولكنّهم حيث جحدوا بآيات ربّهم فما أغنت عنهم سمعهم ولا أبصارهم، بمعنى أنّهم لم يستخدموها في المجال المخصّص له.(1) ولكنّه لا يناسب عطف الحيق عليه.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى)، الظاهر أنّ في قوله: (حَوْلَكُمْ)، تقديراً، أي

حول قريتكم. وهذا خطاب آخر لأهل مكّة ينبّههم أنّ القرى والمدن التي كانت حول قريتكم في قديم الزمان وكانت مسكناً لأقوام من البشر، أهلكناهم بعذاب الاستئصال ولم يموتوا حتف أنوفهم ولا بعوامل طبيعيّة، بل بمؤثّرات طبيعية عليها أمارات العذاب الإلهي، كما أسلفنا بيانه؛ أليس في هذا عبرة لكم. ولعلّ المراد بالقرى - مضافاً إلى مدينة عاد المعبّر عنها بإرم ذات العماد - مدينة سدوم التي كان يسكنها قوم لوط علیه السلام والحجر الذي سكنها ثمود، قوم صالح علیه السلام، ومدين مسكن قوم شعيب علیه السلام، فكلّ هذه المدن كانت في المنطقة العربيّة يعلم بها وبتأريخها أهل مكّة. والقرى جمع قرية، بمعنى المكان الذي يجتمع فيه الناس، وبمعنى الناس المجتمعين أيضاً من قرى الشيء، أي جمعه.

(وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لعلّهمْ يَرْجِعُونَ)، التصريف هو التغيير، أي لم نكتف بآي-ة واحدة، بل أتتهم آيات كثيرة مختلفة في الأداء وفي المدلول؛ فمنها ما تدلّ على عظمة الله تعالى وقدرته ومنها ما تدلّ على رسالة الرسول وأنّ الله تعالى يريد من البشر متابعته، وغير ذلك، لعلّهم يرجعون عن كفرهم وعنادهم. وهذا أيضاً تنبيه لأهل مكّة بأنّكم إنّما تتّبعون سننهم، حيث تواجهون الآيات بعناد أشدّ، فانتظروا مصيراً كمصيرهم.

ص: 84


1- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 10- 9 : 138

(فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله قُرْبَاناً آلةٌ)، «لولا للتوبيخ ، أي أنّ آلهتهم حسب معتقدكم يجب أن ينصروهم، فلماذا لم يفعلوا؟! وقوله: (قُرْبَاناً) إما حال، أي اتخذوهم آلهة متقرّبين بهم إلى الله تعالى أو مفعول لأجله، أي للتقرّب إليه. وقربان مصدر يحتمل الأمرين، و (آلِهَة) مفعول ثانٍ، والأوّل هو الضمير العائد إلى الموصول، أي الذين اتخذوهم آلهة، ولا يمكن أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً، إذ لا يستقيم المعنى؛ فإنّهم لم يتّخذوهم قرباناً من دون الله، أي بدلاً عنه، ب-ل اتخذوهم آلهة من دونه.

والحاصل أنّ الأقوام المذكورين كانوا مثلكم يعتمّدون على آلهتهم، ويظنّون أنّهم سينصرونهم إذا أراد الله بهم سوءاً، وأنّهم يمنعونهم من الحوادث والبلايا، وكانوا يتّخذونهم آلهة كما أنتم عليه، ويرونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم بزعم أنّهم يقرّبونهم إلى الله تعالى كما قال عن لسانهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلى الله زُلْفَى).(1) ومن الغريب أنّهم أعرضوا عن عبادة الله تعالى وهي لا تليق إلا به، وتقرّبوا بعبادة غيره إليه، من دون أن يكون قد أمرهم به أو أجازه لهم أو أنزل به وحجّة. والآية هنا تؤنّبهم بأنّ الآلهة الشفعاء لم تنصرهم ولم تشفع لهم، أليس في ذلك حجّة عليكم وأنتم تتّبعون نفس النهج وتتّخذون نفس الآلهة قرباناً

إلى الله تعالى؟!

(بَل ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). الضلال بمعنى الضياع وعدم الاهتداء للطريق. و (بَلْ) للإضراب، أي أنّهم لم ينصروهم كما توقّعوا، بل فوق ذلك ضلّوا عنهم، كما هو مقتضى طبيعة كونهم جمادات لا عقل لها. والتعبير

ص: 85


1- الزمر (39): 3

بالضلال عنهم، كناية عن عدم انتباههم لهم. وفي التعبير تهكّم فإنّ الأصنام لیست مورداً للضلال والهداية، ولكن دعوى كونها آلهة تستلزم كونها ذوات عقل وتدبير، فعبّر بذلك تهكّماً واستهزاءاً من دعوى الألوهية والشفاعة لما لا يعقل شيئاً. وهذا هو الوجه أيضاً في التعبير عن الأصنام بالاسم الموصول الخاصّ بذوي العقول وهكذا الضمائر. وقوله: (ذَلِكَ) إشارة إلى دعوى كونهم آلهة ينصرونهم، فهذا إفكهم وكذبهم وافتراؤهم الذي يتبيّن لهم فساده ذلك اليوم. والإفك في الأصل بمعنى الصرف والتحويل، ومنه قوله تعالى: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).(1) ويعبّر به عن الكذب، لأنّه صرف للكلام عن موافقة الواقع وهو الأصل فيه. والافتراء - كما في «العين»(2) - بمعنى اختلاق الكذب، لا النطق به مطلقاً.

ص: 86


1- الزخرف (43): 87
2- كتاب العين 280:8

سورة الأحقاف (29 - 32)

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَنقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَبًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ(30) يَنقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُحِرَكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)

وَمَن لَّا تُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزِ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَبِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(32)

(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ). قيل: إنّ هذه الآيات لتنبيه الكفّار بأنّ هذا القرآن أثّر في نفوس الجنّ - فضلاً عن البشر - تأثيراً عميقاً، فانظروا كم أنتم بعيدون عن الحقّ ومعاندون له؟! ولكنّه بعيد، فإنّ التأثير في الجنّ وإيمانهم به ليس أمراً محسوساً حتّى يحتجّ به عليهم، فالأرجح أن يكون بياناً لحقيق-ة ت-ف-ي-د المؤمنين. ولعلّ تلك الحقيقة التنديد بالبشر المشرك والكافر في معاندتهم للحقّ مع أن الجنّ آمنوا به، بل أخذوا يدعون إليه.

و(إِذْ) متعلّق بمقدّر، أي: «واذكر إذ صرفنا...». والصرف ---- كم-ا ف--ي«المفردات»(1)- ردّ الشيء من حالة إلى حالة فالمعنى أنّهم أتوا إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بتأثير غيبي من الله تعالى، حيث أوجد في نفوسهم الداعي إلى ذلك، ولا ينافيه أنّهم أتوه بداعٍ طبيعي؛ فقد ورد في الحديث أنّهم كانوا يبحثون عن سبب منعهم السماء أو أيّ داعٍ آخر، كما هو الحال في سائر الموارد، فالله تعالى ينسب هجوم الملك الآشوري نبوخذ نصر - وهو كافر - على بني إسرائيل وسحقهم

ص: 87


1- راجع: مفردات ألفاظ القرآن: 482.

وهم مؤمنون - إلى نفسه، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)،(1) مع أنّه إنّما قام بذلك بداعي الطغيان والعدوان؛ فالقلوب كسائر الأشياء كلّها بيده تعالى يقلّبها كيفما شاء.

والنفر يطلق على مجموعة من الناس، وإطلاقه على الجنّ من التوسّع، ولا یختصّ بما بین الثلاثة والعشرة كما قيل والجنّ - على ما يبدو من الآيات - موجود ذو شعور وإدراك، غائب عن الأبصار ، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).(2) ومن هنا سمّوا بالجنّ وهو بمعنى الشيء المستور عن الحواس. وقد ورد ذكر بعض خصائص الجنّ في القرآن وفي الروايات ومرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة سبأ، وسيأتي بعضه في تفسير سورة الجنّ إن شاء الله تعالى والروايات مليئة بأمور خرافية، هي من صنع الوضّاعين.

وقوله: (يَسْتَمِعُونَ) حال من النفر أو صفة لهم وفي المعنى تعليل، أي صرفناهم ليستمعوا. والآية هنا تذكر حادثة ورود جمع منهم إلى مكان، حيث كانوا يسمعون الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو يقرأ القرآن. ومنه يعلم أنّهم كانوا يفهمون الكلام ويدركون معانيه؛ فلعلّهم كانوا يفهمون لغة العرب لقربهم منهم.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا)، أي حضروا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو يقرأ القرآن أو حضروا القرآن أي قراءته. ويتبيّن من هذه الجملة تأثّرهم العميق بالتلاوة الكريمة وبمفاهيم الآيات ولحنها وصوت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فقال بعضهم لبعض: (انْصِتُوا)، والإنصات - كما في «العين»(3)- السكوت لاستماع شيء.

ص: 88


1- الإسراء (17): 5
2- الأعراف (7): 27
3- راجع: كتاب العين 7: 106.

(فَلَمَّ قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ). (قُضِيَ)، أي انتهى، والضمير يعود إلى القرآن، بالمعنى المصدري كما مرّ و (وَلَّوْا) أي أدبروا ورجعوا إلى قومهم. والقوم الجماعة من الرجال، وإنّما أطلق على الجنّ توسعاً، كم-ا م-رّ في التعبير

بالنفر. و(مُنْذِرِينَ) حال.

ويبدو من هذه الجملة، أنّهم بمجرّد سماع الآيات ودرك المفاهيم آمنوا بالرسالة وعلموا أنّ ما سمعوه إنّما هو من آيات الله سبحانه، فلم ينتظروا لحظة بعد انتهاء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من التلاوة، بل ولّوا مسرعين إلى قومهم لينذروهم بعذاب الله إن لم يؤمنوا بالرسالة الجديدة.

(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) بهذه الكلمات أو ما يفيد معناها بدأوا بإنذار قومهم. ويتبيّن من بيانهم أنّهم كانوا يؤمنون بالرسالات السابقة، فلم يكن خبر الدين الجديد غريباً عليهم، ولكن حيث أخذ الله ميثاق النبييّن أن يؤمن أتباعهم بكلّ رسالة متأخّرة، علموا أنّ من واجبهم الإيمان بالكتاب الجديد، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ مَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).(1)

وربما يستغرب من ذكرهم موسى علیه السلام مع أنّ الإنجيل نزل بعد التوراة، فيمكن أن لا يكونوا عالمين بذلك أو أنّهم لم يذكروه، لأنّ الإنجيل لا يشتمل على شريعة جديدة، بل يأمر بمتابعة التوراة، وإنّما نزل بتغييرات طفيفة وكان الغالب فيها هو رفع العقوبات عن بني إسرائيل، حيث إنّهم لكفرهم وبغيهم وعنادهم

ص: 89


1- آل عمران (3): 81

المستمرّ ابتلاهم الله تعالى بأحكام شاقّة جزاءاً لهم، فلما بعث عيسى علیه السلام رفع عنهم العذاب. قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(1)، وقال: (وَعَلَى الذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرِ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أوِ الْحَوَايَا أو مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)،(2) وقال أيضاً: (وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِنتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).(3)

(مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾. (مُصَدِّقاً) حال للكتاب. وما «بين يديه»، أي ما تقدّمه

الكتب السماويّة. وهذه ميزة تدلّ على كون الكتاب من عند الله تعالى ومعنى كونه مصدقاً أنّه بخطوطه العريضة يدعو إلى نفس المنهج ونفس الدعوة وأصل الدين في جميع الشرائع أمر واحد قال تعالى: (شرعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).(4)

(يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ). يبدو أنّهم كانوا أه-ل عل-م ومعرفة بالدين الحقّ وبالطريق المستقيم، حيث وجدوا في مضامين هذا الكتاب أنّه يهدي إليهما. والحقّ هو الأمر الثابت ويقابله الباطل. والطريق المستقيم، أي الطريق الذي يهدي إلى الكمال المطلوب الذي أراد الله تعالى لخليفته في الأرض أن يحاول الوصول إليه، وتقابله الطرق المنحرفة التي لا توصل، بل كلّما ازددت

ص: 90


1- النساء (4): 160 .
2- الأنعام (6): 146 .
3- آل عمران (3): 50 .
4- الشورى (42): 13.

فيها ،توغّلاً ازددت بعداً عن الكمال المطلوب

ولا يصحّ ما قيل من أنّ سائر الطرق أيضاً توصل إلى نفس الهدف ولكنّها

ملتوية وتسير بخطوط منحنية، فيطول الطريق ويبعد الهدف ويتعب الإنسان قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ).(1) ! ولو كانت كلّها تنتهي إلى نفس الهدف، لكانت تصل في النهاية إلى سبيله. وتوغّل في الضلال من قال: إنّ كلّ الطرق مستقيمة. وقد مرّ بعض الكلام حول هذا الموضوع في تفسير الآية 52 من سورة الشورى.

(يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُحِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). الظاهر أنّ المراد بالداعي، هو الرسول صلی الله علیه و آله وسلم واُضيف إلى الله تعالى، لأنّه يدعو إليه أو لأنّ الله تعالى هو الذي بعثه ليدعو الناس. ومن ذلك يعلم أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مبعوث للإنس والجنّ، وأنّه يجب على الجميع أن يؤمنوا به وبرسالته، ولا يكفي إيمانهم بالله وبالرسالات السابقة، ولذلك لم يكتفوا بالأمر بإجابة الداعي بم-ا أنّه داع إلى الله تعالى، بل يجب الإيمان به كرسول تجب إطاعته ومتابعته. وهذا بناءاً على عود الضمير في (وَآمِنُوا بِهِ) إلى الداعي لبعد احتمال رجوعه إلى الله، لأنّ الظاهر أنّهم كانوا مؤمنين بالله تعالى وبرسالة موسی علیه السلام ولا منافاة بين عود هذا الضمير إلى الداعي وعود ضمير الفاعل في قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ)، إلى الله تعالى. ومعنى ذلك أنّه يترتّب على إجابة الدعوة والإيمان بالداعي أنّ الله تعالى يغف-ر ذنوبكم ويجيركم من عذاب أليم، والمراد ب-ه ع-ذاب يوم القيامة؛ والإجارة الإعاذة مأخوذة من الجوار، أي يجعلكم في جواره، فإنّ الجار يحتمي بجاره.

ص: 91


1- الأنعام (6): 153

وهل أنّ (مِنْ) زائدة، فيغفر الله تعالى كلّ ذنوبهم إذا آمنوا - كما هو مقتضى أنّ الإسلام يجبّ ما قبله - أم هي تبعيضية - كما هو ظ-اه-ر اللفظ - فيغ-ف-ر بع-ض ذنوبهم؟

فيه كلام في التفاسير، ولكن لو فرضت تبعيضية فليس معناها أنّه لا يغفر بعض الذنوب، إذ ليس له مفهوم فيصدق مع غفران الكلّ أيضاً؛ فيمكن أن يكون التعبير بلحاظ احتمال عدم الغفران في ما إذا تعلّق بحقوق الآخرين أو لأيّ جهة أخرى، فإنّ غفران الذنوب ليس أمراً حتميّاً، والعبد يجب أن يكون بين الخوف والرجاء. وسيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة نوح في قوله تعالى: (يَغْفِرُ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).(1)

(وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزِ فِي الأَرْضِ) ، أي أنّه لا يعجز الله تعالى م-ن محاسبته ومعاقبته في الدنيا والآخرة. وقوله: (في الأرْضِ)، تأكيد على عدم وجود المهرب ، أي أنّ الأرض على رحبها ليس فيها مهرب له، فأين ما ذهب فهو تحت السيطرة، وليس معناه التحديد بالكرة الأرضية، بل لا مهرب له في الكون كلّه، وإنّما هو تعبير عن ضيق الخناق عليه أين ما كان.

(وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ)، أي لا يمكنه الفرار بنفسه وليس هناك من ينصره من دون الله والولي هنا بمعنى الناصر ، ومعنى الجملة أنّه لا ناصر له إلا الله وهو لا ينصره، فإن معنى (مِنْ دُونِهِ) أي غيره وبدلاً عنه، فلو كان له ناصر فهو الله تعالى وهو لا ينصره، وذلك لأنّ النصرة في مواجهة عقاب الله تعالى وإرادته غير ممكن لأيّ شيء؛ إذ كلّ ما في الوجود مخلوق له وتحت إرادته وسلطانه، فلا ي-ق-اوم

ص: 92


1- نوح (71): 4.

إرادته شيء ولا يمكن لأيّ شيء ولأيّ أحد أن يسير في اتّجاه غير ما أراده الله تعالى وأذن به إذناً تكوينيّاً.

(أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ، المراد بالمشار إليه من لا يجيب داعي الله تعالى من الجنّ والإنس وهو يتوهّم أنّ هناك في الكون مفرّاً ومهرباً من عذاب الله تعالى ومحاسبته. والإتيان باسم الإشارة للجمع باعتبار المصاديق وإن كان التعبير مفرداً قبل ذلك. وإنّما كانوا في ضلال واضح، لأنّهم يتوهمون أنّ بإمكانهم مقاومة إرادة الله تعالى ولم يعلموا أنّ كلّ ما يفعلونه من خطأ وصواب ليس إلا تحت السيطرة ولا يمكنهم فعل شيء إلا بإذنه.

ويبدو من البيان أنّ من الجنّ أيضاً من هو بهذه الدرجة من الغباء ويخفى عليه هذا الأمر الواضح، فمن الخطأ الفادح ما يتوهمه بعض المغفلين من أنّ الجنّ لا يخفى عليهم شيء، ويحسبون أنّ لهم قدرة خارقة في معرفة الأشياء والتصرّف فيها، ولذلك عمدوا إلى التوسّل بهم لحلّ مشاكلهم. قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً)،(1) وقال أيضاً: (فَلَا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أن لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِين).(2)

ص: 93


1- الجنّ (72): 6
2- سبأ (34): 14

سورة الأحقاف (33 - 35)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَدِرٍ عَلَى أَن تَحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(33)وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(34)فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل هُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا

موج يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَلعْ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَسِقُونَ (35)

(أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الموْتَى) الضمير في (يَرَوْا) يعود إلى كفّار مكّة، والسياق يعود إل-ى م-ا إبتدأ ب-ه السورة من خطاب المشركين المنكرين للمعاد، بدعوى عدم إمكان الإحياء بعد الموت. والمراد بالرؤية العلم، إذ ليس هذا الأمر من المبصرات، بل يدرك بالتأمل والمقايسة إلا أنّ المعلوم إن كان واضحاً جدّاً يعبر عن العل-م ب-ه بالرؤية، كأنّه من شدّة وضوحه محسوس ومبصر. والأمر هنا كذلك، فإنّ القادر على إيجاد الأشياء من العدم وإبداعها من غير مثال يحتذى، قادر على إعادة الحياة إلى الأموات بطريق أولى والسماوات والأرض - كما قلنا مراراً -- تعبي-ر ع-ن الكون كلّه، ولا شكّ في أنّه أوجد بعد إن لم يكن موجوداً. والله تعالى خلق الكون من دون أن يؤثّر فيه ذلك شيئاً، فهو لا يعجز ولا يتعب ولا يتحيّر، وبكلّ ذلك فسّر العيّ.

(بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (بَلَى) يؤتى بها جواباً للنفي وتفيد نفي النفي، كقوله :تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)،(1) أي أنت ربّنا والنفي هنا وإن ورد على الرؤية،

ص: 94


1- الأعراف (7): 172

ولكنّ المعنى: أليس الله بقادر؛ ولذا أتي بالباء على الخبر، والباء زائدة يؤتى بها للتأكيد على خبر النفي نحو وما هو بميت».

والنتيجة التي تحصّل من ملاحظة خلق الكون من دون أيّ تأثّر هو عموم القدرة على كلّ شيء، والمراد بالشيء هنا كلّ ما يمكن أن يوجد في حدّ ذاته. والاعتراف بوجود الله تعالى ملازم للاعتراف بعموم القدرة، لأنّ قولنا هذا الشيء يمكن أن يوجد مساوق للقول بأنّ الله تعالى قادر على إيجاده؛ إذ لا وجود إلا منه، فإمكان وجوده مساوٍ لقدرة الله عليه.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ اليْسَ هَذَا بِالحَقِّ) أي واذكر يوم يعرض. وقد مرّ الكلام في معنى العرض في تفسير الآية 20 من نفس السورة، وأنّ المراد إراءة النار لهم لا الدخول فيها، والإتيان بالجملة التالية: (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ) من دون أن يذكر قبلها «قيل» مثلاً، لبيان أنّ العرض كان لذلك، فلا بدّ من تقدير القول.

والاستفهام هنا للتقرير، وأخذ الإقرار منهم بعد أن كانوا ينكرونها ويصرّون على الإنكار مستكبرين، وفي هذا تحقير وتهكّم وتعذيب، وقد مرّ أنّ المراد بالتعذيب ظهور الحقائق جليّة ممّا يتعذّب منها الإنسان بالطبع، ومنها ظه-ور العذاب ،ومصدره أي جهنّم ، فهم يتعذّبون من نفس ظهور الحقيقة التي أنكروها. والغرض من بيان ذلك منع الإنسان من التسرّع إلى إنكار ما لا يمكنه دركه، فإنّه يتعذّب بظهوره يوم القيامة أو قبلها، كمن ينكر ظهور الإمام المهدي - سلام الله عليه - لا لشيء إلا لأنّه يستحيل عنده بقاء الإنسان حيّاً طيلة هذه المدّة، أو أنّه يستغرب وجود إنسان لا يعلم بمكانه أو بشخصيته أحد، أو أنّه أنّ ذلك ينافي الحكمة!!! وكلّ هذا من جهل الإنسان بمقام ربّه، وهذا الإنكار ليس إلا

ص: 95

كإنكار يوم القيامة لاستبعاد إحياء كلّ هذا البشر الذي مربت على موتهم وفنائهم القرون.

(قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا)، لماذا الحلف وهو واضح بالعيان؟ قيل: كأنّهم يحلفون طمعاً في النجاة، وهو بعيد، ويمكن أن لا يكون هناك استفهام ولا جواب ولكنّ العرض بنفسه يقتضي السؤال والجواب وكذلك يقتضي الحلف، فإنّه في الواقع يشتمل على أمرين؛ التأكيد على الأمر الواقع وأنّهم قد أدركوه ولا يسعهم إنكاره، والثاني: الإقرار بالربوبية، وكلّ هذا يظهر منهم بوضوح، حتّى لو لم ينطقوا به، فليس كلّ ما يعبّر عنه ب- «القول» يوم القيامة نطق وقول، كما هو المعهود، بل هو بروز الحقّ من الشيء كأنّه يقوله، بل هو أبرز وأقوى دلالة من القول. ومنه ما ينسب من القول إلى جهنّم وإلى الأصنام مثلاً، ومن ذلك أيضاً ما ينسب من القول إلى الكفّار ، فهم يعترفون بكلّ وجودهم - لا باللسان فحسب - بأنّ الله تعالى ربّهم، وهم يجدون ويشعرون بكلّ وجودهم أيضاً أنّ ما حصل لهم ليس إلا مقتضى ربوببية ربّهم، وأنّ ما يعذّبون به هو النتيجة الطبيعية لعملهم.

(قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)، الضمير في (قال) يعود إلى الربّ جلّ وعلا. وهذا أيضاً من قبيل ما سبق ذكره، فإنّ هذه الجملة قد لا تكون خطاباً في الحقيقة من الله تعالى في ذلك اليوم، وإنّما هي كناية عن بروز هذه الحقيقة، أي تذوّقهم للعذاب بسبب كفرهم، فإنّ ظهور الحقائق لمن كان يكفر بها موجب لتذوّق العذاب وهو أمر طبيعي، ونحن لا نشعر في هذه الحياة مدى تأثير هذه الأمور في تعذيب الإنسان، وإنّما يتبيّن هذا في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الحقائق بصورتها الواقعية.

ص: 96

(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، أي حيث إنّ الحقائق ستظهر في ذلك اليوم، فاصبر على كفرهم وعنادهم وتكذيبهم، كما صبر الرسل من قبلك. وفي هذه الجملة تسلية للرسول صلی الله علیه و آله وسلم و تطمين لخاطره الشريف، وفي نفس الوقت تأكيد على أنّ الدعوة إلى الله تعالى طريق شائك، لا بدّ فيه من الصبر والمقاومة، وقد أدّب الله تعالى رسوله وملأ قلبه صبراً وقوّة، فكان يصبر على إيذاء الجهّال والفسّاق من قومه صبراً عظيماً حتّى بلغ غايته، وتمكّن من نشر دعوته بالرغم من قساوة أعدائه وشقائهم.

والسؤال هنا: من هم أولوا العزم من الرسل؟ وما هو المراد بالعزم؟

قيل : هم أصحاب الشرائع، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبيّنا - سلام عليهم - وقد ورد التصريح به في عدّة من الروايات وعلى ذلك يكون المراد بالعزم الشريعة - باعتبار شمولها - على ما يجب العمل به قطعاً والعزم في اللغة القطع ، ويقابل العزيمة الرخصة. وقد ورد ذكر هذه المجموعة من الرسل بما يلوح منه أنّهم هم أصحاب الشرائع في سورة الشورى، قال تعالى: (شرعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).(1) وورد ذكرهم بالخصوص بعد ذكر النبيّين عامّة في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً).(2)

هذا، ولكن لم يرد في القرآن توصيفهم بأولي العزم. وأمّا الروايات التي أشرنا

ص: 97


1- الشورى (42): 13
2- الأحزاب (33): 7

إليها، فلا يصح شيء منها سنداً، والأنسب بالمعنى اللغوي للعزم وهو القطع أن يكون المراد بالعزم في الآية الكريمة العزيمة والجدّ. وقد ورد العزم بعد ذكر الصبر في قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(1)، ومثلها قوله تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).(2) وقوله: (وَلَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).(3) وهنا أيضاً ورد بعد الأمر بالصبر - ممّا يدلّ بوضوح - على أنّ المراد بالعزم ما يناسب الصبر، فلا يختصّ بأصحاب الشرائع من الرسل، ب-ل كلّ من كان منهم صابراً على ما أوذي في سبيل الله تعالى، ولذلك قال بعضهم: إنّ (مِنْ) بيانية وليست تبعيضية، وذكر المفسّرون في تحديد أولي العزم وجوهاً من دون مستند

و مع ذلك، فلا مانع من توصيف من ذكر من الرس-ل ب-أولي العزم، بمعنى

أصحاب الشرائع لما ذكرناه. إنّما الكلام في حمل الآية على هذا المعنى، والأنسب بالأمر بالصبر هو أن يكون المراد بالعزم الجدّ وتحمّل المشاكل. وهذا الأمر مشهود في سيرة كثير من الرسل، بل كلّهم، ولا يختصّ بأصحاب الشرائع، بل لعلّه ظهر من بعض الرسل من غيرهم أكثر ممّا ظهر من بعض أصحاب

الشرائع. (وَلا تَسْتَعْجِلُ هُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ). خطاب للرسول صلی الله علیه و آله وسلم مترتّب على الأمر بالصبر والعزم، أي لا تستعجل لمجازاتهم، فإنّ يوم القيامة ليس بعيداً كما يتوهّمون، وقد قال الله تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ

ص: 98


1- آل عمران (3): 186
2- لقمان (31): 17
3- الشورى (42): 43.

قَرِيباً).(1) والآية تصوّر حالة الإنسان يوم القيامة - وهو اليوم الذي يرون فيه ما يوعدون، أي نتائج أعمالهم في الدنيا، فهم في ذلك اليوم يشعرون أنّهم لم يلبثوا

إلا ساعة من نهار.

والساعة تطلق على أيّ جزء من الزمان، قليلاً كان أو كثيراً. وتقييد الساعة بكونها من نهار، لعله للتنبيه على كونهم إيقاظاً منتبهين لما يدور حولهم، فليس عدم إحساسهم بطول الزمان ناشئاً من نومهم طيلة هذه المدّة، كما حصل لأصحاب الكهف. ومثلها قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشرهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ).(2)

والكلام هنا في أنّه ما هو المراد من اللبث هل المراد بقاء الإنسان في الحياة

الدنيا أم بقاؤه في عالم البرزخ بعد الموت إلى قيام الساعة؟

يمكن أن يقال بالأوّل باعتبار أنّ الذي يلاحظ الأبدية عند قيامه يوم القيامة لا يعتبر أمد الحياة الدنيا بأسرها زماناً طويلاً مهما طالت المدة، أو باعتبار أنّ كلّ

إنسان يلاحظ مدّة بقائه شخصيّاً، وهو زمان قصير جدّاً، ولا يلاحظ مع-ه زم-ان بقائه في البرزخ، لأنّ قيامة كلّ إنسان تتحقّق بموته.

ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالآية تقليل الفاصلة بين الدنيا والآخرة، أي عالم البرزخ لا اعتبار زمان الدنيا قليلاً بالنسبة إلى الآخرة. فإنّ الإنسان يتوهّم أنّ الأمد بعيد إلى يوم القيامة، حيث مرّت القرون على القرون السابقة ولم تقم القيامة، وسيمرّ علينا أيضاً قرون، وغريب أمر هذا الإنسان الظلوم الجهول أنّ طول الأمد

ص: 99


1- المعارج (70): 6- 7
2- يونس (10): 45

يغريه ويغويه، مع أنّه لو عقل الأمر لم يكن يهتمّ به؛ فإذا كان المفروض أنّ الحساب واقع لا محالة وأنّ الإنسان باق إلى الأبد، فلا فرق بين كونه بعيداً وقريباً. ولكن هكذا يمنّي الإنسان نفسه، والله تعالى يبّين له في هذه الآية وغيرها أنّ الأمد ليس بعيداً ، وأنّ هذه القرون تعبر على الإنسان من دون أن يشعر بها،

فإذا قامت القيامة ورأى ما وعده ربّه يجد أنّه لم يمكث طويلاً بعد موته.

وهذا المعنى ورد في آيات أخرى أيضاً منها آية سورة يونس التي مرّت آنفاً، ومنها قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً)،(1) وقوله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْماً)،(2) وقوله تعالى: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَو بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ لم إلا قليلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)،(3) وقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العلم والإيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابٍ الله إلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)،(4) وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةٌ أو ضُحَاهَا).(5) ومرّ الكلام حولها في تفسير سورة الروم، وحاصل ما ذكرنا أنّ الآيات - على الظاهر - تشير كلّها إلى حقيقة واحدة وهي أنّ الإنسان يتوهّم في هذه الحياة أنّ القيامة بعيدة وأنّ الآلاف من السنين، بل لعلّ

ص: 100


1- الإسراء (17): 52
2- طه (20): 102 - 0104
3- المؤمنون (23): 112 - 114.
4- الروم (30): 55-56
5- النازعات (79): 46

الملايين منها تمرّ علينا قبل أن تقوم القيامة. ولكنّه يصطدم يوم الحشر بأمر

غريب، وهو انّه يجد ويشعر أنّه لم يمض عليه إلا زمان ،قصير عبّر عنه في القرآن في موضع بأنّه يوم، وفي موضع أنّه عشيّة أو ضحاها، وفي موضع أنّه

ساعة من النهار.

ويبدو من بعض الآيات أنّ ذلك مجرّد توهم وليس على وجه الحقيقة، كما هو ظاهر الظنّ في قوله تعالى: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً)،(1) وأيضاً آية سورة الروم؛ فإنّ المعنى على الظاهر أنّ أهل العلم والإيمان، وهم الأنبياء والأئمّة المعصومون علیهم السلام ينبهون الناس أنّهم بقوا في تقدير الله تعالى ما شاء الله إل-ى ي--وم البعث، ولا يعلم أمده إلا هو، والناس على ما ورد في الآيات والروايات مختلفون؛ فبعضهم عند ربّهم يرزقون، وبعضهم يعرضون على النار بكرةً وعشيّاً، وأكثر الناس يمرّ عليهم الزمان وهم في غفلة، ولذلك يظنّون أنّهم ما لبثوا غير ساعة أو يوماً أو عشراً، وبذلك يتبيّن وجه التشبيه في قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ) وأنّ ذلك بلحاظ توهّمهم، وليس أمراً واقعياً، ومهما كان فالزمان يمرّ عليهم وهم لا يشعرون.

وقد ورد في «الكافي» عدّة أحاديث متقاربة المعنى وبعضها معتبرة سنداً؛ منها رواية أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «لا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ إِلا مَنْ تَحَضَ الإيمان مَحْضاً أو مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً، والآخَرُونَ يُلْهَى عَنْهُمْ».(2)

والمفسّرون غالباً يفرّقون بين الآيات فيفسّرون بعضها على أنّ المراد مقدار

ص: 101


1- الإسراء (17): 52
2- الكافي 3: 235.

الحياة في الأرض ، وبعضها على أنّ المراد عالم البرزخ أو مجموع المرحلتين، ولكن حمل الآيات على الحياة الأرضية لا يصح، لأنّهم يعلمون مقدار الحياة الدنيا إلا إذا كان المراد أنّهم يقارنون بين زماني الحياتين الدنيا والآخرة، ويجدون أنّ الحياة الدنيا كأنّها ساعة بالنسبة إلى الحياة الأبدية هناك. ولكن هذا المعنى لا يناسب ما يظهر من الآيات من أنّهم يظنّون ذلك ويشعرون به، وكذلك ما يظهر منها من أنّ هذا التقدير يبرزونه بمجرّد الحشر والحضور في تلك النشأة،مع أنّ المقارنة لا تتمّ إلا بعد الشعور بالأبدية وطول المدّة.

مضافاً إلى أنّه لم يظهر للتنبيه عليه هنا وجه. وأمّا ما ذكرناه، فإنّ وجهه - كما

ذكرنا - تسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بعدم استعجال العذاب لهم، فإنّ العقاب ال- الأخروي ليس بعيداً عنهم كما يظنّون، فإنّهم لا يشعرون بمرور القرون، بل يرونها يوماً واحداً وأمّا أنّ حياتهم في الدنيا مهما طالت فإنّها قصيرة بالقياس إلى الأبدية، فإنّه لا يناسب عدم الاستعجال.

(بلاغ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)، (بلاغ) خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا بلاغ، وهو إمّا مصدر من بلغ يبلغ بلوغاً وبلاغاً، ومعناه الكفاية، والمعنى أنّه أيّ القرآن أو هذا البيان غاية في الوعظ ، فلا يمكن الوعظ بأبلغ منه، فهو كافٍ لم-ن كان له قلب واعٍ، وأطلق المصدر للمبالغة، وإمّا اسم مصدر من الإبلاغ والتبليغ، فالمعنى أنّه إبلاغ وتبليغ للجميع والاستفهام بعده للإنكار، أي لا يهلك إلا القوم الفاسقون.

والهلاك في الأصل - على ما يبدو - بمعنى السقوط، كما في «معجم

ص: 102

المقاييس»،(1) فيطلق على الموت، كقوله تعالى: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ)،(2) ويطلق على الزوال والانعدام أيضاً، كقوله تعالى: (هَلَكَ عَنِّي سلطانية)،(3) ويطلق على سوء العاقبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، كقوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).(4) والإهلاك هنا بهذا المعنى وفاعله هو الله تعالى. والفسق من مصطلحات القرآن ولم يرد في كلام العرب وصفاً للإنسان وإنّما قالوا: «فسقت الرطبة»، إذا خرجت عن قشرتها، ولعلّ المصطلح القرآني ناظر إلى خروج الفاسق عن طاعة ربّه، فلا يختصّ بالكافر والمشرك كما قيل.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله الطاهرين.

ص: 103


1- معجم مقاييس اللغة 6: 63
2- النساء (4): 176
3- الحاقة (69): 29
4- الأنعام (6): 26.

ص: 104

تفسیر سورة محمد صلی الله عله وآله وسلم

اشارة

ص: 105

ص: 106

سوره محمّد(1-3)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَلَهُمْ (1) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن بّهِمْ كَفَرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَاهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَتَّبَعُوا الْبَنطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُوا الحَقِّ مِن نَهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَلَهُمْ (3)

هذه السورة مدنيّة كما هو واضح من سياق آياتها، وسميت سورة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم لذكر اسمه الشريف في بدء السورة، وتسمّى سورة القتال أيضاً، لما ورد فيها من الأمر بالقتال، بل هو الطابع العامّ لها، وفيها أيضاً تعرّض لحال المنافقين وصفاتهم وموقفهم من الحرب، ولها صبغة خاصّة حيث تكرّر التعرّض للفرق بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين وصفاتهم وجزائهم يوم القيامة، وكذلك المؤمنين والمنافقين، ولذلك ورد في الحديث عن أهل البيت علیهم السلام أنّها نزلت آية فينا وآية في عدوّنا،(1) وروى بعض العامة عن أمير المؤمنين علیه السلام لأنّها نزلت آية فينا وآية في

ص: 107


1- راجع: تفسير القمي 2: 301

بني أمية،(1) ولعلّ المقصود انطباق آياتها بوضوح في الموردين وإن كانت عامّة شاملة.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيل الله أضَلَّ أعْمَاهُمْ). تبدأ السورة بمقارنة بين مشركي مكّة والمؤمنين الصالحين والعنوان في كلّ من الفريقين يشير إلى الاختلاف الجوهري بينهما، فالمشركون ميّزتهم الكفر والصد عن سبيل الله

تعالى والمؤمنون ميّزتهم الإيمان والعمل الصالح والإيمان بالرسالة وبالحقّ. وتشير الآيات إلى ما يترتّب على هذا الفرق، فالقسم الأوّل عملهم باطل هباء، حتّى لو كان في حدّ ذاته خيراً، والقسم الثاني تظهر أعمالهم الصالحة وتُمحى سيّئاتهم كأنّهم لم يرتكبوها، فشتّان ما بين الفريقين.

ويتّضح من السياق أنّ السرّ في البدء بهذه المقارنة مع التصريح بتأييد المؤمنين وتفنيد كيد الكافرين، هو التمهيد للأمر بالقتال وتحريض المؤمنين وتقوية شوكتهم وصلابتهم وعزيمتهم لمواجهة جنود الشيطان، الذين لا يرتدعون ولا يبغون في الأرض إلا الفساد.

ويبدو من موارد إطلاق هذا العنوان: (الَّذِينَ كَفَرُوا) في الكتاب العزيز، أنّ المراد بهم مشركو مكّة، الذين ناصبوا العداء والحرب للإسلام، ولم يتركوا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يستمرّ في دعوته ويمارس واجبه الإلهي حتّى بعد أن تركهم والتجأ إلى يثرب.

والصدّ يستعمل في معنيين: الإعراض والمنع وكلاهما ينطبق-ان عليهم، فهم أعرضوا عن سبيل الله تعالى واتّبعوا سبيل الهوى والفساد في الأرض، وهم أيضاً

ص: 108


1- راجع: الدر المنثور 6: 46

كانوا يمنعون الناس من التوجه إلى الرسول صلى الله عليه و اله و سلم والاستماع لكلامه والإيمان به. وكانوا يبذلون غاية جهدهم ولا يتوانون عن أيّ عمل في سبيل منع الناس من الالتفاف حوله صلی الله علیه و آله وسلم، سواء قبل الهجرة وبعدها، وكانوا يمنعون القبائل من التوجّه إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ويقطعون الطرق ويصرفون الأموال في سبيل ذلك.

وظاهر الآية هو الشمول لكلّ من يصدّ عن سبيل الله على اختلاف طرقهم ومشاربهم، وقيل: إنّها نزلت في أشخاص بعينهم؛ لأنّهم نحروا الإبل في تأليب الناس لحرب بدر وتسابقوا في ذلك وتفاخروا.

والمراد بسبيل الله السبيل الذي عيّنه الله تعالى للناس، ليسلكوه في شؤون

حياتهم، أي الشريعة أو السبيل الذي يوصل إلى رضاه والزلفى لديه تعالى. وإضلال الأعمال، بمعنى جعلها تضلّ طريقها ولا تصل إلى الهدف المقصود

بها، فكأنّها قافلة ضلّت الطريق في الصحراء.

وأمّا الأعمال، فيحتمل أن يكون المراد بها كلّ ما يعتبرونه عملاً صالحاً ومفيداً يأملون أن ينالوا به الخير في الدنيا، بل حتّى في الآخرة على تقدير وجودها وإن كانوا لا يؤمنون بها. وإضلالها يتمّ في الدنيا بعدم نيلهم الخير الذي يتوقّعون؛ وفي الآخرة بإحباطها، فكأنّها لم تقع من أصلها، كما ورد في آيات عديدة، كقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً).(1)

ويحتمل أن يكون المراد بها جهودهم التي كانوا يبذلونها لإخماد ن-ور الإسلام والإطاحة بقدرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وإضلالها يتمّ بعدم بلوغها أهدافها، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَاهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ

ص: 109


1- الفرقان (25): 23

عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشرونَ).(1) وهذا المعنى أقرب وأنسب لآيات القتال وحالة الحرب المعلنة.

ولكن ربما يقال: إنّ المعنى الأوّل أنسب بالمقابلة، لتكفير السيّئات للمؤمنين، وذلك على أساس أنّ إضلال أعمال الكفّار، بمعنى أنّ أعمالهم الحسنة تضلّ

وتُمحى وتبطل في ظلمات كفرهم وسيّئاتهم بخلاف المؤمنين، فإنّ سيّئاتهم تنمحي في ظلّ إيمانهم وأعمالهم الصالحة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَاهُمْ).

تبيّن من السياق أنّ السورة إنّما نزلت لتحريض المؤمنين على القتال ذلك ومع

فالقرآن لا يترك الدور التربوي، الذي هو الهدف الأسمى من الرسالة، فلا يعبّر عن فريق المؤمنين بالذين آمنوا فقط، حيث يشمل كلّ من آمن ظاهراً وبايع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بل يقيّد الإيمان بالعمل الصالح لإخراج المنافقين والذين في قلوبهم مرض، بل حتّى ضعفاء الإيمان، حيث لا يظهر أثر الإيمان بارزاً في عملهم.

ثمّ إن التقييد بالإيمان بما نزّل على محمبد صلی الله علیه و آله وسلم، مع أنّه جزء من الإيمان المذكور قبله على الظاهر؛ لعلّه للتأكيد على أنّ الإيمان بالله تعالى لا يكفي في سلوك سبيل الله تعالى والانخراط في الصفّ المقابل للصفّ الكافر، بل لابدّ من الإيمان بالرسول والرسالة معاً، كما يشير إليه توصيف الرسالة والكتاب بأنّه نُزِّل على محمّد صلی الله علیه و آله وسلم.

ص: 110


1- الأنفال (8): 36

ومن هنا يتبيّن الوجه في التصريح بالاسم الكريم دون التعبير برسول الله والنبيّ ونحو ذلك، كما هو الحال في سائر المواضع. ويبدو من هذا الأمر أنّ النفاق في ذلك العهد كان مشابهاً لما في هذا العهد، حيث يحاول بعض المنافقين الاستهانة بدور الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بل النيل من شخصيته الكريمة، وأنّه لم يكن إلا وسيطاً في الإبلاغ، وأنّ من يسمع كلام الله تعالى عن طريقه، قد يكون أدقّ فهماً لمغزى الكتاب من الرسول الذي جاء به!!! فكما نجد اليوم أشخاصاً من هذا القبيل كذلك كان في عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

والجملة المعترضة: (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لتعليل إيمانهم بذلك، فهم لإيمانهم بربّهم يؤمنون بكلّ ما ينزل من قِبلَه والألف واللام في قوله: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ) لإفادة

الحصر، والمراد به الحصر الإضافي، فالثقافات الدينيّة الموجودة في ذلك العهد، كلّها باطلة إلا ما نزّل على الرسول صلى الله عليه و اله و سلم ولا ينافي كون الشرائع السابقة حقّاً نازلاً من عند الله تعالى.

هذا، والعلامة الطباطبائي رحمه الله(1) اعتبر التقييد بالإيمان الثاني تقييداً احترازياً بدعوى أنّ الإيمان الأوّل إيمان بالله تعالى، فلا يختصّ بالمؤمنين بالرسالة ولكنّه بعيد؛ لأنّ المراد بالذين كفروا في مصطلح القرآن مشركو مكّة، كما صرّح به العلامة نفسه في عدّة موارد، ويقابلهم المؤمنون بالرسالة، لا كلّ من آمن بالله تعالى، كما صرّح أيضاً بأنّ المراد بالذين آمنوا في مصطلح القرآن كلّ من آمن بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم.(2)

ص: 111


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 :223 .
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 9 :141

نعم، لو لم يقيّد بالعمل الصالح، أمكن القول بأنّ التقييد بالإيمان الثاني لإخراج المنافقين ونحوهم، حيث إنّهم لم يؤمنوا بكلّ ما نزل على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وإن أسلموا ظاهراً، ولكن يكفي في إخراجهم التقييد بالعمل الصالح.

وتكفير السيّئات بمعنى سترها، وقد ورد تكفيرها في مواضع متعدّدة من الكتاب العزيز، والمراد أنّ الله تعالى بسبب بعض الأعمال يستر السيّئات عن المؤمنين، مضافاً إلى تجنيبهم العقوبة يوم القيامة، حتّى لا يصيبهم الخجل ولا يفتضحون بسبب أعمالهم السيّئة.

وليس المراد بالسيّئات كلّ عمل محرّم وكلّ جريمة وجناية، بقرينة مقابلتها

بالكبائر في قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).(1) ويحتمل أن يكون المراد به هنا - بمناسبة أنّ الهدف من السورة المباركة الحثّ على الجهاد - ستر الأعمال غير الصالحة التي تنافي الاستعداد للمواجهة، ويتمّ التكفير بمنعها من البروز والتأثير في نفوس المجاهدين.

واختلف في معنى «البال»، فقيل: إنّه بمعنى الحال الذي يكترث به ويهتمّ. وعليه فيمكن أن يراد بإصلاحه، جعله صالحاً لبلوغ المقصد والغاية. وهذا يشمل كلّ الجوانب التي يحتاج المجتمع الرسالي إلى إصلاحها قبل دخوله الصراع، مع المناوئين للرسالة التي تحمّل أعباء ،تبليغها، سواء كان من الجانب المادّي أو المعنوي، ولذلك فإنّ كلّ مستلزمات الانتصار على الأعداء كانت مهيّأة للمجتمع ،الإسلامي، آنذاك بفضل الله ورحمته.

ويمكن أن يراد ما هو أعمّ من ذلك، أي لا يختصّ بشؤون مواجهة الأعداء،

ص: 112


1- النساء (4): 31

فيكون إصلاح ب-ال المؤمنين بمعنى إصلاح أحوال الأشخاص من الجهات النفسية والمعنوية؛ فإنّ المؤمن لإيمانه بالله تعالى وركونه إلى القدرة اللامتناهية ووثوقه بها لا يهزّ كيانه شيء ولا تزعزع إيمانه الأباطيل ولا ينتابه اليأس والقنوط. وأمّا الشؤون المادية، فتتّبع معرفة الإنسان بالعوامل الطبيعيّة والأسباب التي جعلها الله تعالى، وتتّبع أيضاً همّته وإرادته.

وقيل : معنى البال، رخاء العيش ومعنى إصلاحه واضح، إلا أنّه لا يناسب

آيات القتال.

وقيل معناه الشأن وهو معنى عامّ وهو المراد حين يقال: م-ا بال-ك؟ كما قال تعالى: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ (الأولى).(1) وإصلاحه يشمل م-ا م-رّ في تفسيره بالحال المكترث به ولعلّ التفسيرين يرجعان إلى معنى واحد.

وفي «معجم المقاييس: «البال بال النفس، يقال ما خطر ببالي، أي ما اُلقي في رُوعي. ومن هذا الباب تفسيره بالخاطر ونحوه»؛(2) وعليه فالمراد بإصلاحه إلهامهم الطمأنينة والاستقرار وثبات القلب وهو أنسب بآيات القتال.

والظاهر أنّ كلّ ما قيل في تفسيرها صحيح، فهي كلمة لها معان متعدّدة حسب موارد الاستعمال.

(ذلِكَ بأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتْبَعُوا الْبَاطِلَ وَانَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)، تعليل للتفصيل المتقدم و (ذَلِكَ) مبتدأ وما بعده خبره. قيل : هذا التعليل توضيح لتعليل مفهوم من نفس الكلام السابق وهو ما يسمّيه علماء البيان تفسيراً، وذلك لأنّ قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَاهُمْ)، يشعر بأنّ العلّة في الإضلال،

ص: 113


1- طه (20): 51
2- معجم مقاييس اللغة 1: 321

هو الكفر والصدّ، كما أنّ الجملة التالية تشعر بأنّ العلّة في التكفير وإصلاح البال، هو الإيمان والعمل الصالح؛ فهذه الجملة التعليلية تبيّن ما انطوت عليه الآيتان من التعليل وتفسّره.

وهذا غير صحيح وينافي ما ورد بعد الجملة التعليلية، من أنّ هذا ضرب للأمثال وبيان للقاعدة الأساسية للناس حتّى يطبّقوها على أنفسهم، ويعلم بذلك أنّ الحكم لا يختصّ بذلك العصر وبالكافرين والمؤمنين، فالسبب الحقيقي لإضلال أعمال الكافر وإصلاح بال المؤمن، هو أنّ الكافر يتّبع الباطل والباطل ذاهب وزاهق لا أساس له ولا جذور. وربما يكون له ظاهر أنيق ولكن باطنه فاسد؛ والمؤمن يتّبع الحقّ الذي يأتيه من ربّه، والحقّ هو الأمر الثابت الذي يعتمد على ما أنزله الله تعالى من البيّنات؛ فلذلك ضلّت أعمال الكافر وصلح بال المؤمن وسترت سيّئاته. وعلّة الحكم تعمّم وتخصّص؛ فإنّ المناط ليس هو الكفر ،والإيمان بل متابعة الحقّ والباطل.

بيان ذلك، أنّ الذي يتّبع الحقّ يستهدف بعمله هدفاً صحيحاً واقعياً ويسلك طريقاً صحيحاً موصلاً؛ فلا شك أنّه يصل إلى هدفه وهو الحقّ؛ والذي يتّبع الباطل يرى سراباً وخيالاً وأمراً موهوماً. ولو فرض أنّه رأى هدفاً واقعياً صحيحاً، إلا أنّه يسلك طريقاً معوجّاً منحرفاً، يبعّده عن الهدف كلّما توغل فيه. وفي الواقع من لا يؤمن بالله ليس له هدف طويل الأمد، فهو لا يرى الآخرة، وإنّما يستهدف بأعماله الغايات الدنيئة الزائلة في الحياة الدنيا، وهي ليست في الواقع هدفاً يناسب الإنسان وكرامته وعقله ومواهبه وإنّما تناسب الحيوانات، فالإنسان يوم القيامة حينما تنكشف له الحقائق، يعلم أنّه إنّما كان يركض وراء خيال وسراب، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَاهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً

ص: 114

وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).(1)

وهناك من يؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر فهدفه حقّ، ولكنّه يسلك طريقاً خاطئاً، فلا يتّبع الرسول ولا يأتمر بأوامره ولا ينتهي عن نواهيه أو يدّعي متابعته، ولكنّه يأخذ الشريعة عن غير الطريق الذي عيّنه الرسول من بعده؛ فإنّ كلّ هذه الطوائف يتّبعون الباطل، ونحن نعلم أنّ رسولنا الكريم صلی الله علیه و آله وسلم قال وقد تواتر عنه: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(2) فمن سلك غير طريق العترة الطاهرة عليها السلام فإنّه يتّبع الباطل وإن آمن بالله ورسوله واليوم الآخر. والحكم في الآية وإن كان معلقاً على الكفر ، إلا أنّ الجملة التالية تعمّمه.

(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْنَاهُمْ)، الضمير يعود إلى الناس واسم الإشارة إلى ما مرّ من بيان حال الكفّار والمؤمنين، والأساس الذي ابتنى عليه حالهم؛ فالكافر يضلّ عمله، لأنّه يتّبع الباطل، والمؤمن يصلح باله وتستر سيّئاته، لأنّه يتّبع الحقّ من ربّه، فهذا هو الأساس والقاعدة؛ وعليه فالحكم لا يختصّ بالمجموعتين: کفّار مكّة والجزيرة العربيّة من جهة، والذين آمنوا بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم من جهة أخرى، بل يشمل كلّ من يتّبع الحقّ أو يتّبع الباطل، سواء كان ضمن المجموعتين أو خارجهما، وهذه الجملة لتعميم الحكم.

والأمثال جمع مَثَل بفتحتين، ما ينصب علامة لأمر مّا. والأصل فيه المثول والقيام، والمراد هنا أنّ ذكر الكافرين والمؤمنين في هذا الموضع من باب التمثيل لأمر عامّ يشمل جميع الناس.

ص: 115


1- النور (24): 39
2- بحار الانوار :2: 100

سوره محمّد(4-6)

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتَّى إِذَا أَنتُمُوهُم فَشُدُوا الوَثَاقَ فَإما منا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَا نَتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن ليَبْلُوا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَلَكُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَاهُمْ(5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ). من هنا يبدأ ببيان الحكم في القتال وهو المقصود بالذات في السورة والفاء للتفريع، فالحكم بالقتال في مواجهة الكفّار والشدّة في التعامل معهم في الحرب ، متفرّع على أنّ الله تعالى وعد المؤمنين بأنّه يصلح بالهم، وأنّه يُضل أعمال الكافرين ويُفنّد كيدهم.

واللقاء يراد به المواجهة في الحرب، وهذا تعبير عربي متعارف يعبّرون عن يوم الحرب بيوم اللقاء، ومن الغريب ما ينسب إلى بعض المعادين للإسلام، استناداً إلى هذه الآية أنّ الإسلام يأمر بقتل الكافر، بمجرّد اللقاء به.

وضرب الرقاب، مصدر سدّ مسدّ الفعل، فهو مفعول مطلق بتقدير «اضربوا»، أي اضربوا رقابهم وهو كناية عن القتل، وليس المراد خصوص هذا النوع من القتل وإنّما عبّر به تشنيعاً لهم وتأكيداً على عدم الإبقاء؛ فإنّ ضرب العنق يؤول إلى الموت لا محالة، ففي الآية تأكيد على عدم الإمهال وعدم المداهنة معهم.

ثمّ إنّ الآية لا تحثّ على الحرب ابتداءاً، وإنّما يأمر بالقتل والإبادة إذا

حصلت المواجهة. والمراد بالذين كفروا - كما مرّ - هم مشركو مكّة الذين

استمرّوا في منع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من نشر رسالته حتّى بعد الهجرة.

(حَتَّى إذا أَنْخَبْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ). الإثخان: الإثقال والثقل كناية عن عدم

ص: 116

التمكّن من الحركة يقال أثخنته الجرّاح، أي منعته من النهوض والحركة، والمراد أنّه إذا قتلتم منهم مقتلة عظيمة، بحيث لا يستطيعون بعده النهوض للصدّ عن سبيل الدعوة؛ فشدّوا الوثاق وهو كناية عن الأسر. والوثاق ما يوثق ب-ه م-ن حبل ونحوه والمراد بالجملة، أنّه لا يؤسر أحد قبل الإثخان والقتل العظيم الذي

يوجب منعهم من الحركة.

والسبب في هذا التشدّد معهم والإصرار على إبادتهم على ما يبدو، هو أنّ الحجّة قد تمّت عليهم، بحيث لا يحتمل بعد ذلك إيمانهم واقعاً بالرسالة؛ فلو آمنوا فإنّما يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويزيدون عدد المنافقين لا المؤمنين؛ فالغرض الأصلي يجب أن يكون منعهم من التحرّك ضدّ الدعوة، فلا يجوز الاستعجال في الأسر، بل لا بدّ من إفناء أكبر عدد ممكن، ولا يُلجأ إلى الأسر إلا بعد الوثوق من عدم وجود خطر من بقائهم.

وهذا ليس حكماً خاصّاً بغزوة بدر، كما يقال، بل ولا بالوضع القائم في الجزيرة العربية آنذاك، بل هو حكم الرسل والأنبياء جميعاً، قال تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُنْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1) أي لا يليق بالأنبياء أن يأسروا أحداً في الحرب قبل استئصال الفساد والسرّ فيه أنّ الملوك والجبابرة ومن يحذو حذوهم، كانوا يقاتلون من أجل الأسر والاستعباد وكان لهم في ذلك غرض اقتصادي، فالعبيد كانوا يشكلون قوّة رخيصة للعمل وهذا ليس شأن الأنبياء؛ فهم لا يأسرون للاستعباد ولا يحقّ لهم أن يريدوا عرض الحياة الدنيا، كما ورد في الآية؛ فلا يأسر النبيّ

ص: 117


1- الأنفال (8): 67

إلا بعد أن أثخن في الأرض، بمعنى أنّه قطع دابر الكافرين وأمن شرّهم، فالأسر هنا له دوافع أخرى.

والتعبير بالإثخان في الأرض، يوحي بأنّه لا يتوقّف الحكم بالإثخان في الحرب الواقعة حالياً، بل يجب أن يستمرّ القتل إلى أن يؤمن من شرّهم في الأرض. وليس معنى ذلك إبادتهم جميعاً، بل كسر شوكتهم بحيث لا يتمكّنون

من الصدّ عن سبيل الله.

وتبيّن بذلك ضعف ما قيل من أنّ الآية بصدد بيان حكم عسكري للمسلمين وهو انّه لا يجوز الاشتغال الأسرى والغفلة عن القتال مع الأعداء إلا بعد إثخانهم.

(فَإِمَّا مَناً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً). مَناً و فِدَاء مصدران، سدّا مسد الفعل، كما مرّ في ضرب الرقاب ، أي إمّا أن تمنّوا عليهم مناً بعد الأسر ، فتطلقون سراحهم، وإمّا أن يفدوا أنفسهم فداءاً، إمّا بالمال وإمّا بالمبادلة مع أسرى من المسلمين. والملفت في هذه الجملة أنّه لم يذكر من الخيارات الاسترقاق ولا القتل. ولكنّ العلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر الاسترقاق أحد وجوه المنّ عليهم؛(1) ولعلّ الوجه ذلك أنّه يستحقّ القتل بمحاربته للإسلام؛ فإذا أبقي عليه ولو بالاستعباد، فهو أيضاً نوع من المنّة عليه. وهذا لا بأس به في حدّ ذاته إلا أنّه بعيد عن الآية، بلحاظ مقابلة المنّ بالفداء. فلو أريد به مجرّد الإبقاء لم تصحّ المقابلة، إذ الفداء

أيضاً وجه للإبقاء عليه؛ فلا بدّ من حمل المنّ على إطلاق السراح بلا مقابل. وأمّا ما ورد في السيرة والروايات من أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قتل بعض الأسرى، فلا

ص: 118


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 225

ینافی الایه، وذالک لوجهین:

الأوّل: أنّه كان قبل الإثخان في الأرض، فلم يتحقّق موضوع الآية.

والثاني: أنّ الذين قتلوا كانوا محكومين بالقتل قبل الأسر، لأعمال إجرامية أخرى. ومشاركتُهم في القتال الذي انجرّ إلى الأسر ، لا توجب مزيّة لهم ليُعفوا من القتل قطعاً.

وأمّا الاسترقاق، فلم نجد في السيرة مورداً أمر فيه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم باستعباد الرجال من أسرى الحرب، وإنّما ورد في الذراري والنساء وهو خارج ع-ن م-ورد الآية الكريمة ولعلّه كان لمصلحة خاصّة.

(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) الوزر هو الثقل. وأثقال الحرب، إمّا معدّاته أو

الجرائم التي لا ينفكّ عنها والمصائب والمصاعب التي يستتبعها، ومهما كان، فهو كناية عن انتهاء الحرب. والظاهر أنّه غاية لكلّ ما سبق من الحكم، فالمعنى أنّه يجب أن تضرب الرقاب حتّى تنتهي الحرب. ويعمّ السلام ليتمكّن الدعاة من نشر الدعوة إلى الله تعالى، وعليه فهذه الآية مساوقة لقوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ الله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ).(1)

(ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضِ). (ذَلِكَ)، إشارة إلى ما مرّ من حكم القتال مع الكفّار وهو متعلّق بمحذوف، أي خذ ذلك أو الحكم ذلك أو افعلوا ذلك ونحو ذلك. وفسّر الانتصار هنا بالانتقام، ولذلك عدي ب- «من». ومهما كان فالمراد بالانتصار هنا ليس الانتصار بغيره تعالی بل بسطوته وقهره، فيفيد معنى الانتقام.

ص: 119


1- البقرة (2): 193

وحيث كانت الجملة السابقة تفيد - كما ذكرنا - أنّ القتال يجب أن يكون

مستمرّاً إلى أن يضعف الكافرون ولا يتمكّنوا من صدّ الدعوة إلى الله تعالى، وكان ذلك موهماً أنّ الله تعالى بحاجة إلى قتال المؤمنين لصدّ الكافرين، استدرك الأمر بهذه الجملة، ليبيّن أنّه تعالى غني عن كلّ شيء، ولو أراد لأهلكهم بعذاب من عنده، كما أهلك من قبلهم وإنّما يأمر بالقتال لامتحان

الناس.

والبلاء هو لامتحان و الاختیار و کلّ ما فی هذه الحیاه من خیر و شرّ امتحان للإنسان، وليس معنى الاختبار أنّه تعالى يريد بذلك معرفة الناس وجواهره هم وأحوالهم وإيمانهم؛ فإنّه لا يعزب عن علمه شيء، وإنبما يعني ذل-ك ب-روز خبايا الناس ودفائن نفوسهم وحدود إيمانهم وقابلياتهم؛ فإنّ الأثر المقصود من تربية الإنسان، لا يترتّب على نفس القابلية الدفينة، بل على بروزه وظهوره.

والثواب والعقاب أيضاً لا يترتّبان على طيب النفس وخبثه، بل على العمل السيئ والصالح.

والمراد بابتلاء بعض الناس هنا ببعض ،آخر ابتلاء الكافرين بالمؤمنين

وبالعكس؛ فالكافر يتبيّن خبث طينته وسوء سريرته بالتعامل السيّئ مع المؤمنين ومخالفته لأمر ربّه والمؤمن تتبيّن قوّة إيمانه وعزيمته بامتثاله لأوامر ربّه

ومقاومته للأعداء.

ولا تقتصر نتيجة الابتلاء بالأعداء والأمراض والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية وسائر مشاكل هذه الحياة في بروز الحقائق الدفينة ومعرفة جواهر الرجال، بل هذه المصاعب والمصائب هي التي تكوّن شخصية الإنسان وتنمّي

ص: 120

النفس الإنسانية وتربّيها وتمنحها قوّة المقاومة، كما أنّ ابتلاء الجسم بالجراثيم الموجبة للأمراض، ومن ثَمّ مقاومة الجسم لها هو العامل الضروري لنموّ الجسم وتكامله على ما يقال.

وهذا الأمر لا يختصّ بالفرد أيضاً، بل هو كذلك على الصعيد الاجتماعي؛

فالمجتمع الذي ينعم بالرفاه والراحة وأكل المال بدون تعب، مجتمع متخلّف

ضعيف لا يمكنه أن يستقلّ علمياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً ولا عسكرياً. وإذا

ابتلي بالحروب والفقر وحاول إنقاذ نفسه من المشاكل بنفسه، فسيكون مجتمعاً

قويّاً مستقلاً متكاملاً، وينتصر على أعدائه حتّى لو قلّت أفراده في مقابل العدوّ.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَاهُمْ فِي سَبِيلِ الله)، ليس قيداً لقتلهم، فإنّه فعل القاتل وهو لم يقتلهم في سبيل الله، وليس قيد المقتولية؛ لأنّه ليس فعل الشهيد أيضاً، وإنّما هو شيء أوقع عليه وقد لا يكون قاصداً إيّاه؛ وإنّم-ا ه-و ق-ي-د لخروجه إلى الجهاد ومقاتلته ممّا أدّى إلى مقتله، وهذا لا يختصّ بالمحارب، بل يشمل كلّ من يعمل عملاً في سبيل الله ممّا يثير غضب أعدائه تعالى فيقتلونه، ولذلك قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ الله ثمّ قُتِلُوا أو مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).(1) وهذا هو نفس الرزق الذي ذكر في قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبيل الله أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).(2)

وقد مرّ الكلام في إضلال العمل، وأنّه بمعنى جعله تائهاً لا يوصل إلى المطلوب، سواء في الدنيا أم في الآخرة؛ فالمراد هنا أوّلاً: أعمالهم الفردية التي

ص: 121


1- الحج (22): 58
2- آل عمران (3): 169

أتوا بها للتقرّب إلى الله تعالى كالعبادات. ولعلّ المراد بعدم إضلالها، أنّ الله تعالى يكفّر كلّ سيّئة من شأنها أن تحبط الأعمال، فيبقى العمل الصالح سليماً مؤثّراً في تحديد مر ا في تحديد مرتبته ومقامه عند ربّه.

وثانياً: نفس هذا العمل الذي قاموا به في مقابلة الأعداء، حيث جاهدوهم وقاتلوهم حتّى قُتلوا؛ فالله تعالى يعدهم أنّ هذه المجاهدات لن تذهب سدىّ ولن تضلّ فى الدنيا أيضاً، كما لا تضلّ في الآخرة؛ فستنتج النتيجة المطلوبة وهي غلبة الحقّ على الباطل وإقامة دين الله في الأرض ولو بعد حين.

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَاهُمْ). ربما يتوهّم أنّ الهداية تختصّ بهذه الحياة، فالإنسان بعد انتقاله منها ليس في مسير وتكامل، حتّى يهتدي إلى طريق الحقّ ويتجنّب الباطل، بل تنكشف الحقائق بعد الموت، فلا تحيّر ولا ضلال ولا هداية، ولعلّه لذلك قرأ بعضهم الكلمة في الآية السابقة بالألف، أي «قاتلوا»، ولكنّ الصحيح أنّ الإنسان كغيره من الموجودات لا يستغني من هداية الله تعالى في أيّ عالم من العوالم ولكنّ الهداية هنا ليست بمعنى إراءة الطريق، بل الإيصال إلى المطلوب.

وقد مرّ معنى إصلاح البال إلا أنّ المراد في المورد السابق إصلاحه في الدنيا، وفي هذه الآية إصلاحه في الآخرة أو في عالم البرزخ، حيث دلّت الآية الآنفة الذكر على أنّهم أحياء بعد الموت عند ربّهم يرزقون.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر إصلاح البال عطفاً تفسيرياً على الهداية، وقال: «إنّ المراد به إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء».(1)

واستفاد ذلك من ضمّ هذه الآية بالآية المذكورة آنفاً. ولعلّ مراده أنّه حيث

ص: 122


1- الميزان في تفسير القرآن 18: 226

اعتبرهم في تلك الآية أحياء وأنّهم عند ربّهم، فاستنتج أنّ الإحضار لهذا المعنى هو المراد بالهداية وإصلاح البال في هذه الآية ولكن لا يبعد شمول إصلاح البال لما ذكره ولغيره، ومنها الرزق المذكور في الآية ولا يعلم حقيقته إلا الله

.تعالى

(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) قوله : (عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾، جملة استئنافية. وقيل: حالية

بتقدير«وقد». ولعلّ المراد بالتعريف توصيفها في الكتاب والسنّة.

ويمكن أن يخصّهم الله تعالى بتعريف آخر خاصّ بجنّتهم الخاصّة؛ وقد ورد في بعض الروايات أنّ المؤمن يرى موضعه من الجنّة، منها: ما رواه الصدوق مرسلاً عن الإمام الصادق لیه السلام أنّه قال: «ما يخرج مؤمن من الدنيا إلا برضاً منه وذلك أنّ الله تعالى يكشف له الغطاء حتّى ينظر إلى مكانه من الجنّة».(1)

وقيل: المراد بالتعريف التحديد وأنّ لكلّ أحد جنّة تخصّه. وقيل: التعريف

من العرف - بضمّ العين - أي الرائحة الطيّبة.

ص: 123


1- من لا يحضره الفقيه 1: 134.

سوره محمّد(7-11)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرُكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَلَهُمْ (8)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَلَهُمْ (9) * أَفَلَمْ يَسمُرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَفِرِينَ أَمْثَلُهَا (10)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَفِرِينَ لَا

مَوْلَى لَهُم (11)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). المراد بنصرة المؤمنين الله تعالى نصرة دينه وهو واضح والمراد بنصرة الله تعالى للمؤمنين، هو تهيئة الوسائل في الجهات الخارجة عن اختيارهم، ليتمكّنوا من الظفر على أعدائهم. وذلك لأنّ الإنسان مهما كان قويّاً وشديد العزم والإرادة وأعد للحرب عدّته، فإنّ هناك من الأسباب ما هو خارج عن اختيار البشر، وبذلك ربما تتغيّر المعادلة وينهزم الجيش الأقوى.

هذا مضافاً إلى أن الثبات وقوّة الإرادة والعزيمة أيضاً إلهام من الله تعالى، ومضافاً إلى أنّ كلّ نصر من الله تعالى والهزيمة أيضاً منه وكلّ شيء منه. قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).(1)

وهذه الآية وعد صريح بأنّه تعالى ينصر المؤمنين إذا قاتلوا في سبيله، فإذا وجدنا من ينصر الله ظاهراً ولم ينصره الله تعالى، فلعلّ السبب فيه أنّه لم ينصر الله حقّاً، فهذا يتبع قصده؛ وكثير من المقاتلين في صفّ المؤمنين يقصدون الوصول إلى أهداف ماديّة شخصية أو اجتماعية، وكثير من الحروب التي تقام باسم

ص: 124


1- آل عمران (3): 126

الدين لا يراد بها إلا المزيد من الفتوحات وتوسعة رقعة الحكم والسلطة. والتأريخ يسجلها بأحرف بارزة ويعتبرها فتوحات إسلامية ولم يكن الهدف منها إقامة دين الله تعالى، حيث إنّ زعماء الحرب وأصحاب الراية لم يكونوا بأنفسهم ملتزمين بأحكام الله تعالى، ناهيك عن الحروب التي تقام باسم الوطن أو القومية

العربية ونحوهما.

وثبات الأقدام في الحرب كناية عن الصبر والمقاومة حتّى النهاية؛ فالحرب لا بدّ فيها من التضحية، ومَن توقّع أن يقلّ القتلى في جانبه حتّى يكون هو المنتصر، فقد أخطأ؛ وإنّما المنتصر هو الجيش الصابر حتّى النهاية مهما اشتدّ

الموقف عليه وكثر فيه القتلى.

وذكر تثبيت الأقدام بعد النصر ، لعلّه من ذكر الخاصّ بعد العام؛ فإنّ التثبيت من عوامل الانتصار. ومن هنا يعلم أنّ الهزيمة في بعض الحروب - كما حدث في أحُد - لا ينافي النصر الإلهي في النهاية. وأمّا ما حدث لبعض الأنبياء والأئمّة عليهم السلام من القتل فهو كالقتل الذي أصاب بعض المجاهدين في غزوات الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا ينافي أنّ النصر النهائي كان لهم ولكلمتهم وهدفهم.

ويمكن أن يشمل تثبيت الأقدام ما بعد الانتصار، فيكون المراد التثبيت على

العقيدة والإيمان وعدم البطر والإفراط في الفرح بالنصر وبالغنائم والأموال التی يحصل عليها الجيش المنتصر. وهكذا كانت تدور الدوائر على الحضارات المستحدثة، سواء الدينية وغيرها. والمسلمون أيضاً لم يشذّوا من هذه القاعدة، فالانتصارات والفتوحات والأموال الطائلة التي حصلوا عليها بالاستيلاء على البلدان كانت هي منشأ الداء العضال الذي انتشر في المجتمع الإسلامي وهو

ص: 125

الرفاهية والانحياز إلى الراحة، والبطر، حتّى جُرّ البساط من تحت أرجلهم وهم

لا يشعرون.

فلعلّ الآية الكريمة تشير إلى أنّ تثبيت الأقدام على النصر الواقع، يرتبط أيضاً

ببقاء المجتمع على تعهّده بالاستمرار في نصر الله تعالى ونصر دينه وشريعته وأحكامه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَمْساً هُمْ وَاضَلَّ أَعْمَاهُمْ). قال في «العين»: «التعس ألا ينتعش من صرعته وعثرته وأن يُنكَّس في السفال»،(1) أي ينحدر مقلوباً. وهذا إما دعاء عليهم، كقوله تعالى: (قَاتَلَهُمُ الله)،(2) أو بتقدير قضى الله لهم تعساً ونكساً. والدعاء من الله تعالى هو القضاء أيضاً، لأنّه تعالى لا يطلب ذلك من غيره وإنّما يقضي عليهم التعاسة تكويناً.

ومهما كان، فهذا أيضاً جزء من نصره تعالى للمؤمنين، حيث إنّه يتعس

الكافرين في مواجهتهم ويقضي له-م ص-رعة وعثرة على وجوههم لا يقومون

منها. ويذكر تعاسة الكافرين في مقابل تثبيت أقدام المؤمنين في الآية السابقة. وقد مرّ الكلام في إضلال الأعمال، ولعلّ المراد بأعمالهم في مقام نصر المؤمنين، هو ما يكيدونه ضدّهم في الحرب والإضلال هو الإبطال وهو يتحقّق في هذا المقام بعدم السماح لأعمالهم الكيدية بالتأثير والإيصال إلى المطلوب، فتفنّد بذلك حيلهم وينتصر المؤمنون.

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ). هذا التعليل هو القاصم للظهر؛ فالمؤمنون أيضاً

ص: 126


1- كتاب العين 1: 325
2- التوبة (9): 30؛ المنافقون (63) : 4.

يجب أن ينتبهوا بأنّ الله تعالى لا يعادي قوماً من البشر إلا لمواقفهم وأعمالهم، فالسبب في القضاء عليهم بالتعاسة والنكس هو أنّهم كرهوا ما أنزل الله تعالى من الرسالات وهذا الامتحان والابتلاء هو أساس الحكمة في التشريع، فإنّ الله تعالى لا يحتاج إلى عبادة منّا ولا إلى شروط فيها، ولكنّه يبتلي بذلك عباده؛ وليس كلّ حكم شرعي مناسباً لأذواقنا وأهوائنا بالطبع، فإن كرهنا حكماً من أحكام الله تعالى وشرائعه فإنّ مصيرنا هو نفس المصير التعس الذي قضاه الله للكافرين ولا ينفعنا ما ندعيه من الإيمان.

والجدير بالذكر أنّه تعالى لم يعلّق الحكم على مرحلة العمل، بل على مرحلة الحبّ والكراهة؛ فمجرّد كراهة حكم الله تعالى توجب هذا الانحطاط والتعاسة،

حتّى لو عملت به على مضض.

(فَأَحْبَطَ أَعْمَاهُمْ). الحبط في الأصل داء يصيب الدابة ويوجب انتفاخها بالأكل فتموت. ولعلّ التعبير بحبط الأعمال الوارد في القرآن الكريم، لتشبيه العمل الباطل الذي لا يفيد صاحبه شيئاً بالانتفاخ في الدابّة الموهم للسمن، وهو في الواقع لا يفيد، بل يضرّ. ومنه عمل المرائي مثلاً، فقد يكون حجم العمل كبيراً وظاهره جميلاً ولكنّه في الواقع يوجب الهلاك في المعايير الإلهية. والكافر أيضاً ربما تكون له أعمال حسنة، وإذا كان معتقداً بالله تعالى، فلعلّه يعمل بعض الأعمال لوجهه تعالى، وكان المشركون يستغفرون الله، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبْهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).(1) والآية لم ترد في المؤمنين، كما ربما يتوهّم، بل موردها كفّار مكّة، كما هو واضح من السياق.

ص: 127


1- الأنفال (8): 33

وهذه الأعمال لا تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة لشركهم ولكراهتهم ما أنزل الله تعالى من الرسالات، سواء في العقيدة أو الأحكام، ولا ينافي ذلك ما ورد في الآية المذكورة من عدم العذاب لاستغفارهم؛ فإنّ عذاب الاستئصال له حكم خاصّ، فلا ينزل على القوم والرسول بينهم حتّى لو كانوا يؤذونه، ولا ينزل عليهم ما داموا يستغفرون الله تعالى.

وبذلك يتبيّن أنّ المراد بالأعمال المُحبَطة في هذه الآية غير الأعمال المذكورة في الآية السابقة التي أضلّها الله تعالى فإنّ المراد بها في الآية السابقة، كلّ ما يعملونه للوصول إلى هدف دنيوي، والإضلال يمنعها من الوصول. والمراد في آية الحبط أنّ أعمالهم التي يمكن أن تكون مفيدة لهم في الحياة الدنيا على الأقل تُحيط بمجرّد كراهتهم لما أنزل الله تعالى ممّا لا يناسب أهواءهم، فيحبط الله كلّ ما عملوه من خير واستغفار وتوجه إلى الله ،تعالى، فلا يبقى لهم ما يشفع لهم، فيقضي الله عليهم بالتعاسة والهلاك في مواجهة المؤمنين.

وإذا لاحظنا قوله تعالى في ما سبق من السورة: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أمْنَاهُمْ)، بدا واضحاً أنّ الحكم لا يخصّ الكفّار؛ فعلى المؤمنين أن يلاحظوا أنفسهم ويراقبوها ويحاكموها ويتساءلوا فيما بينهم: هل هم أيضاً يكرهون ما أنزل الله تعالى ويضيقون به ذرعاً إن لم يناسبهم؟ فإن كانوا كذلك، فلا يحقّ لهم أن ينتظروا نصراً من الله تعالى، بل نكساً وتعاسة.

وليعلم أنّ هناك ممّن آمن بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم ظاهراً من أعلن عدم موافقته مع بعض الأحكام الشرعية أمام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كمتعة الحجّ، حيث قال الرجل: يا

ص: 128

رسول الله نخرج حجاجاً ورؤوسنا تقطر ؟! فقال له الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «إنّك لن تؤمن بهذا أبداً».(1)

ومنهم من استنكف من نصب علي علیه السلام ولياً وإماماً بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حتّى نزلت فيه الآية: (سَألَ سائِلُ بِعَذاب واقِع)،(2) حسب بعض الروايات،(3) وإن استبعدنا ذلك بمقتضى سياق الآيات ولأنّ السورة مكّية.

ومنهم من رفضه ولم يستسلم له بعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم بحجّة أنّ العرب لا تسلّم أمرها إلى شابّ أو أنّهم يكرهون أن يجمعوا الرسالة والملك في اُسرة واحدة، وأمثال ذلك من المعاذير. وكلّ هذا يدخل تحت عنوان كراهة ما أنزل الله تعالى. ولذلك ورد في بعض الروايات عن الإمام الباقر علیه السلام أنّ المراد بقوله تعالى: (مَا أَنْزَلَ اللهُ) ما أنزله في علي علیه السلام.(4) وهذا من باب الجري والتطبيق، وليس من شأن النزول.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استفهام ،تقريري، أي أنّهم قد ساروا في الأرض. والذين ساروا في الأرض بعض القوم طبعاً إلا أنّه يكفي لاطلاع الجميع على الآثار الباقية من الأمم الأمم السالفة، وهم كانوا يخرجون في تجارتهم إلى الشام ويمرّون على مدن أصابها العذاب الإلهي، كمدينة سدوم وهي مسكن قوم لوط علیه السلام والأيكة وهي مسكن قوم شعيب علیه السلام أو بعضهم. وقد قال تعالى بعد ذكر ما جرى عليهما: (وَإِنَّها لَبِإِمَامٍ مُبِين)،(5) والإمام

ص: 129


1- الكافي 4: 249/ 6 ، والحديث صحيح.
2- المعارج (70): 1.
3- راجع: الميزان في تفسير القرآن 6 : 55
4- راجع: تفسير القرآن الكريم : 305؛ تأويل الآيات الظاهره 2: 6/583
5- الحجر (15) : 79

الطريق؛ فالمدينتان الخربتان كانتا على طريق المارّة بين الشام والحجاز، وهم يشاهدون الآثار، فكان عليهم الاعتبار. وهو في نفس الوقت حثّ للسير في الأرض وملاحظة عاقبة الكافرين قبلهم - كما ورد في موارد عديدة - لتنبيههم على نماذج من عقاب الاستئصال.

والعاقبة من كلّ شيء آخره مأخوذ من العقب، أي مؤخّرة القدم. وفي التعبير بها تنبيه للبشر أن لا يغترّوا بما أنعم عليهم الله تعالى في وضعهم الحالي من رغد العيش وسعة الرزق؛ فقد لا تكون عاقبة أمرهم خيراً، كما كانت كذلك في الأمم السالفة.

وقوله تعالى: (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ)، جملة استينافية، تبيّن عاقبة السابقين. والدمار: الهلاك، دمَرَ القومُ أي هلكوا ودمّر أي أهلك ، والمفعول محذوف، أي دمّر عليهم مساكنهم، فلم يكن مجرّد هلاك بمرض أو حرب، بل دمّرت بيوتهم واستؤصلوا استئصالاً، ولم يبق منهم ومن أولادهم وحضارتهم شيء إلا بعض

الآثار للعبرة.

(وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَاها)؛ الضمير يعود إلى العقوبة أو العاقبة. والمراد بالكافرين كفّار مكّة والجزيرة العربيّة، أي ثبت للكفّار أمثال تلك العقوبة التي نزلت بالسابقين أو أمثال تلك العاقبة؛ فيكون تطبيقاً لما نبّه عليه من الاعتبار بآثار السابقين وتحذيراً للقوم بأنّهم يستحقّون أن ينزل عليهم أمثال تلك العقوبات. ولعلّ جمع المثل باعتبار أنّهم يستحقّون وجوهاً من عذاب الاستئصال وإن كان المتحقّق وجه واحد لا محالة.

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى هُمْ). لعلّ اسم الإشارة يعود

ص: 130

إلى الفرق بين المؤمنين والكافرين في العاقبة، حيث يتبيّن بما تقدّم أنّ الله تعالى ينزّل عذاب الاستئصال على الكافرين دون المؤمنين، حتّى في الأقوام السابقة، وقد ورد في موارد أخرى أنّ الله تعالى ينجّي الرسل والذين آمنوا معه، ثمّ ينزّل العذاب؛ والسبب في ذلك أنّه تعالى مولى المؤمنين، وأمّا الكافرون فلا مولى لهم ينصرهم وينجّيهم من عذاب الله؛ إذ لا يمكن لأيّ مخلوق أن ينصر أحداً إذا راد الله به سوءاً.

والمراد بالمولى الذي يتولّى اُمورهم ويسدّد خطاهم ويهديهم ويصلح بالهم، فلا ينافي قوله تعالى: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إلى الله مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)؛(1) فإن المراد بالمولى هناك، الربّ والمتصرّف في شؤونهم.

ص: 131


1- يونس (10): 30

سوره محمّد(12-15)

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَبْرُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَمُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ(12) وَكَأَين من

قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ(13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيْنَةٍ مِّن رَّبِّهِ، كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم(14) مَّثَلُ الْجَنَّةِ التي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَهْرٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ اسِنٍ وَأَهْرٌ مِّن لَّبَنِ لَّمْ يَتَغَيَّر طَعْمُهُ، وَأَنْهَرٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّرِينَ وَأَنهَرٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن بِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَلِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءٌ حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ). في هذا المقطع، يبيّن الله تعالى الفارق الكبير في النتيجة بين الفريقين ليتبيّن أنّ الفرق ليس في ما ينزّل في هذه الدنيا من عذاب الاستئصال، ب-ل الف-ارق الأكبر في القيامة، والله يريد الآخرة وإن كان الإنسان لضيق نظره ينظر إلى

العاجل ويهتمّ به أكثر ، حتّى أنّ كثيراً من المؤمنين يستغربون من حسن ح-ال الكفّار في الدنيا وتمتّعهم، ويحسبون أنّ ذلك إكرام من الله تعالى، فهذه الآي-ة تدفع هذا الاستغراب وتبيّن أنّ العاقبة للمؤمنين. ولكنّه هنا يفرق بين الناس، لا

على أساس الفريقين المؤمنين والكافرين - كما مرّ في الآية السابقة وما قبله-ا -- بل على أساس الإيمان الواقعي الذي يستتبع العمل الصالح؛ فيتبيّن منه أنّ هناك فِرَقاً من المؤمنين في الظاهر يدخلون في فريق الكفّار يوم القيامة وإن شملتهم الرحمة الخاصّة بالمؤمنين في الدنيا.

ومن الملفت أنّ التعبير هنا لم يركّز على دخول الجنّة، كما في كثير من

ص: 132

الآيات، بل عبّر عن ذلك بأنّ الله تعالى هو الذي يدخلهم، ولذلك قدّم اسم الجلالة لإظهار أنّ الاهتمام من هذه الجهة، وهذا التعبير يوحي بأنّ هذا إكرام لهم من عنده تعالى، وهذه هي النعمة الكبرى التي يسعد بها الإنسان، غاية السعادة إذا شعر به، سواء كان في الدنيا أم في الآخرة.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ). وفي المقابل ليس للكافرين إلا الأكل والتمتّع في الدنيا، كأكل الحيوان وتمتّعه. وفيه إش-ارة إلى أنّ أكل المؤمن وتمتّعه ليس كأكل الكافر؛ فهو يتحرّى في أكله أن لا يكون حراماً، بل ربما يكون هادفاً، فلا يأكل إلا بمقدار الحاجة ويتصدّق بالفضل، كما قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).(1)

والكافر حيث لا يعتقد بالله ولا بالحياة الآخرة، فلا يهمّه إلا بطنه وتمتّعاته

وشهواته. ولا فرق بينه وبين الأنعام والبهائم.

وتشبيه أكلهم بأكل الأنعام ليس من حيث الكثرة، فليسوا كلّهم كذلك، بل من حيث إنّه هو الهدف، حتّى لو لم يعترفوا به، بل أظهروا خلافه، فإنّ أعمالهم وطريقتهم في الحياة تظهر بوضوح أنّ الأكل - والمراد مطلق التمتّع بالدنيا وحبّ المال والجاه - هو الغاية لكلّ نشاط لهم ، ومن هنا يتبيّن أنّ كثيراً من المؤمنين في الظاهر يدخلون تحت هذا العنوان.

ثمّ وبعد ذلك عاقبتهم النار؛ فهم شرّ مكاناً من الأنعام، كما قال تعالى: (أُولَئِكَ

كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ).(2) والمثوى مكان الإقامة.

ص: 133


1- البقرة (2): 219
2- الأعراف (7): 179

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةٌ مِنْ قَرْيَنِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ). اسم استفهام، بمعنى كم ويفيد التكثير وهو هنا مبتدأ خبره (أهلكنَاهُم)، والغرض تسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمنين، وتهديد كفّار مكّة وإنذارهم بعذاب ينزّل عليهم من السماء أو بأيدي المؤمنين؛ وذلك بالاستشهاد بالمجتمعات الكافرة طيلة التأريخ، حيث أفسدوا في الأرض وقتلوا النبيّين أو أخرجوهم وقتلوا المؤمنين؛ فأنزل الله عليهم عذاب الاستئصال وأفناهم عن آخرهم ولم يكن لهم من ينصرهم من بأس الله وهم كانوا أشدّ قوّة من أهل مكّة كما يشهد به بقايا حضاراتهم، ممّا كان أهل مكّة يشاهدونها في أسفارهم إلى الشام وغيرها.

قيل : والمراد بالقرية أهلها بقرينة قوله (أهْلَكْنَاهُمْ)، ولكنّ الظاهر أنّه يصحّ إطلاقها على الناس وعلى الموضع، بل لعلّ إطلاقها على الناس أولى، لأنّها في الأصل - كما في معجم مقاييس اللغة»(1) - مأخوذة م-ن ق-رى، بمعنى جمع، والاجتماع صفة للناس في الحقيقة، وإنّما يطلق على الموضع؛ لأنّه مكان اجتماعهم.

وأمّا الإتيان بالضمير المفرد المؤنث، أي قوله: (هِيَ) وقوله: (أَخْرَجَتْكَ) بلحاظ لفظ القرية. وتوصيفهم بأنّهم أخرجوا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم باعتبار أنّهم ضيّقوا عليه وعلى المؤمنين حتّى اضطرّوا إلى الخروج.

وفي إضافة القرية إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وتوصيفها بأنّها أخرجته، مع أنّها قريته أي وطنه، تعريض بالمشركين بأنّهم لم يراعوا حقّ المواطنة والقرابة، وهو في نفس الوقت إشارة إلى الظلم الذي وقع عليه صلی الله علیه و آله وسلم. ويبدو منه أنّه كان يشعر بالضيم

ص: 134


1- معجم مقاييس اللغة 5: 78

والضيق لهذا السبب، وإن كان في مدينته المنوّرة في غاية العزّة والمنعة

والكرامة.

والتذييل بقوله: (فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) تفريع على إهلاكه تعالى لهم؛ فإنّ المشركين كانوا يعوّلون على أنّ العرب من حولهم يمنعونهم من كلّ اعتداء وينصرونهم في الحروب إكراماً للبيت العتيق وسدنته. والآية الكريمة تنبّههم بأنّ الإهلاك إن كان من الله تعالى فلا ناصر لهم، والإتيان بلا النافية للجنس يؤكّد أنّه لا يوجد

ناصر لهم بتاتاً.

(أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ). عود إلى بيان الفرق بين الفريقين؛ ففريق يعتمد الأدلّة الواضحة البيّنة المبيّنة النازلة من ربِّهم التي تنير لهم الدرب؛ فهو يسير بخطى واثقة مطمئنة، يعرف طريقه ويعرف مصيره لا يشوبه أدنى شكّ ولا ريب، وفريق يعمل السيّئات ويتّبع هواه، وهو نفسه مثقّفاً عالماً، وأنّه اختار الطريق الأصلح في الحياة، فلا يجد الطريق الصحيح ولا يهتدي بهدى الله تعالى ولا يظنّ بنفسه الضلال، ليبحث عن الحقّ، لأنّه يرى عمله السيّئ حسناً وليس معذوراً في جهله هذا، لأنّه أصيب به بسوء اختياره.

والاستفهام للإنكار ، أي ليس الفريقان متماثلين والفاء للاستئناف، وأتى بالضمير المفرد في قوله : (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) بلحاظ لفظ الموصول، فإنّه مفرد، وأتى بالجمع في قوله: (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) باعتبار المصاديق. وهذا الاختلاف حسب الاعتبارين إنّما يأتي لغرض ما ، ولعلّه هنا رعاية التناسب في آخر الآيات؛ فإنّ روعة التعبير مقصودة في القرآن

ص: 135

والبيّنة: الحجّة الواضحة والموضّحة. والاستعلاء مجازي، كأنّه على طريق واضح يسير فيه، فهو لا يشكّ في صحة طريقه، وذلك لأنّه من ربّه، وليس كلّ وثوق بالطريق حجّة ، فلا يغرنّ الإنسان مجرّد كونه واثقاً مطمئناً؛ فإنّه ربما يثق بمن لا معرفة له بسبل الخير، كما نجد كثيراً ممّن يتخبّطون في شؤون الحياة، وهم واثقون من صحة طريقهم إلى أقصى الحدود، بحيث تهوّن عليهم أنفسهم في سبيل غايتهم، مع أنّها ممّا لا يقبله العقل السليم كمن ينتحر وه-و م-سل-م م-ن أجل إبادة المسلمين حتّى الأطفال والنساء والمرضى والشيوخ، فمثل هذا الوضوح لا يفيد الإنسان وليس حجّة له؛ لأنّه ليس من ربّه.

وتزيين الأعمال ورد هنا مبنيّاً للمجهول، وفاعله الشيطان، كما قال تعالى: (وَزَيَّنَ هُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَاهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ).(1) وسيأتي في هذه السورة أيضاً: ( الشَّيْطَانُ سَوَّلَ هُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)(2) وينسب إلى الإنسان نفسه أيضاً، كقوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً).(3) وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)،(4) والتسويل: التزيين.

وبالطبع فإنّه كسائر الحوادث ينسب إلى الله تعالى خالق الكون، كقوله تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا هُمْ أَعْمَاهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ).(5)

قيل : إنّ قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) لبيان النتيجة وأنّ التزيين سبب لمتابعة

ص: 136


1- النمل (27): (24 العنكبوت (29): 38
2- محمد (47): 25
3- يوسف (12): 18 و 83
4- طه (20): 96
5- النمل (27): (4

الهوى، ولكنّ الظاهر أنّ العكس هو الصحيح ومتابعة الهوى سبب لتزيّن العمل السيّئ، فإنّه في حدّ ذاته أمر غريب وغير طبيعي، حيث إنّ الله تعالى زوّد الإنسان بجهاز الإدراك ليدرك الأمور على واقعها، فكيف ينقلب الأمر ويتراءى له العمل السيّئ جميلاً مزيّناً ؟!

السبب أنّ جهاز الإدراك يتأثّر بالعادات السيّئة، فإن اعتاد الإنسان متابعة هواه فإنّه تدريجاً يفقد إدراكه للحسن و القبح، وذلك لأنّه في أوّل مرّة يدرك قبح الفعل، ولكنّه لشدّة تعلّقه بهواه لا يكبح جماح نفسه فيفعله مدركاً قبحه، وبالطبع فإنّه مقدّمة لإتيانه، لا بدّ له من أن يبرّر عمله بعذر يضفي على العم-ل ن-وع-اً م-ن الحسن ولو من جهة الضرورة أو الحرج أو عدم القدرة على المقاومة ونحو ذلك من الأعذار الواهية، وإذا تكرّر الأمر يضعف عنده إدراك القبح، وهكذا بالتدريج تتبدّل لديه المقاييس، حتّى يتصوّر الشيء القبيح حسناً، بل يرى الشيء الحسن قبيحاً. وللأعلام المنحرف عن الحقّ أيضاً دور كبير في ذلك.

وهذا الأمر مشهود ومحسوس لدينا جميعاً في جميع شؤون الحياة، فك-م م-ن أمر كنّا نعتبره قبيحاً لا نطيق رؤيته وأصبحنا اليوم نمرّ عليه مرّ الكرام لا يثير فينا أقلّ درجة من الاستياء ولا ننهى عنه، بل ربما نتحدّث إلى صاحبه بكلّ حفاوة وارتياح، ولم يحصل هذا التحوّل فجأة، وإنّما حصل بالتدريج بسبب التعوّد على هذا الوضع المزري، وهذا أمر خطير جدّاً ينبغي التنبّه له، ولا يمكن حلّه إلا بالابتعاد عن المجتمعات الفاسدة أو عدم الانخراط معهم لو اضطررنا للبقاء فيهم.

(مَثَلُ الجنَّةِ الَّتي وُعِدَ المَتَّقُونَ فِيهَا الهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِن وَأَنْهَارُ مِنْ لَبَن لَم يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى).

ص: 137

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ خبره (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّار)، وفي الجملة تقدير الاستفهام الإنكاري، أي: أمَثَل الجنّة كمن هو خالد في النار ؟ ولا بدّ من تقدير آخر ليتكافاً طرفا المقارنة، فإمّا أن يقدّر أمثل ساكن الجنّة كمن هو خالد... أو يقدّر أمثل الجنّة كجزاء من هو خالد.. وعلى كلّ تقدير فجملة: (فِيهَا أنْهَارُ) جملة وصفية.

وفي حذف همزة الاستفهام دلالة أخرى مضافاً إلى إنكار المماثلة، فهناك فرق بين أن تقول لأحد في مقام الإنكار: «هل يستوي لديك العالم والجاهل؟ وأن تقول مستنكراً ومتعجباً:«يستوي لديك العالم والجاهل؟» بتقدير الهمزة؛ فإنّك في الجملة الثانية توهم أنّك تثبت عليه ما تستنكره. وكذلك الآية الكريمة فإنّ حذف الهمزة يوهم أنّ المخاطبين وهم الغالب من البشر يساوون ب-ي-ن المصيرين الخلود في الجنّة والخلود في النار؛ لأنّ هذا هو الذي يتبيّن من عملهم وسيرتهم وإن لم يعترفوا به لساناً.

والمشهور في تفسير الآية - كنظائرها في القرآن - أنّه توصيف حقيقي لما في الجنّة من ملذّات ومناظر حتّى أنّ بعضهم فسّر كلمة مثل بالصفة، فالمعنى أنّ صفة الجنّة أنّ فيها أنهاراً من ماء غير آسن و...

والآسن: الماء الذي تغيّرت رائحته فلا يشربه أحد من نتنه، وأمّا إذا لم يبلغ

هذا الحدّ يقال له آجن.

قالوا: وإنّما ذكر هذه الأمور الأربعة لأنّها التي يحتاج إليها الإنسان في حياته الدنيا؛ فأوّل شيء يبحث عنه هو الماء العذب النقي، ثمّ الغذاء المناسب، ثمّ ما يتذوّقه للتلذّذ ورفع الهموم، ثمّ ما يتداوى ويتقوّى به؛ فالتعبير يوحي بأنّ كلّ

ذلك مهيّأ له في الجنّة بوفور وبكيفية خيالية لا يمكن مثلها في الدنيا إلا في

ص: 138

التصوّرات والأحلام والأماني، فهناك أنهار من ماء لا تتغيّر رائحته ولا طعمه وليس كالماء في الدنيا حيث تتغيّر رائحته وطعمه بأدنى مماسة للموادّ الخارجية، ويصبح آسناً يضرّ ولا يفيد.

واللبن غذاء صحّي طبيعي، ولكنّ الإنسان يحتاج لتحصيله إلى حلب البقرة ،ونحوها، ثمّ يحتاج إلى حفظه من التغيّر ، ومع ذلك فهو قليل يحتفظ به في علب؛ وأمّا هناك فاللبن يأتيه من دون حلب وفي أنهار ولا يتغيّر طعمه أبداً؛ ولعلّ تعدّد النهر باعتبار الأفراد، فلكلّ في جنّته نهر من لبن أو باعتبار تعدّد الأنواع، وكذلك في العسل والخمر، بل وحتّى الماء.

والخمر يشربه الإنسان أو يحبّ أن يشربه ليتلذّذ وينسى هموم الدنيا وهو هناك ليست له هموم ولكنّه يحبّ التلذذ ، ولعلّه كان معتاداً بالخمر فتركه لنهيه تعالى. والعرب قبل الإسلام كانوا مهتمّين بها جدّاً، بل بعده أيضاً.

وقد حكي أنّ الأعشى جاء مادحاً الرسول صلى الله عليه واله وسلم قاصداً الإسلام فانتبه شياطين قريش أنّه سيمثل دعاية قوية لخصمهم فاعترضوا طريقه وقالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا الأسلم، قالوا: إنّه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك وعدّوا له أموراً فاستهان بها، فقالوا الخمر. قال: أوّه! أرجع إلى صبابةٍ قد بقيت لي في المهراس فأشربها. وانطلق إلى بلده، فلمّا كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فمات.(1)

هكذا كانت الخمر عندهم، ولذلك تدرّج الدين في النهي عنه كما هو معروف. واللذة في قوله تعالى: (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) إمّا صفة مشبّهة مؤنث الل-ذّ

ص: 139


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 6 : 134؛ بحار الأنوار 131:89.

كالصعب، أو مصدر وصفت به الخمر من باب المبالغة.

والعسل الذي هو شفاء وغذاء أيضاً يأتيه في أنهار ، فلا حاجة له إلى تعقّب

النحل ليتناول منه العسل بعد انتظار طويل، حيث تذهب إسراب النحل إلى الأزهار لتناول الشهد منها، ثمّ تعود ليخرج من كلّ واحدة قط-رة م-ن ع-س-ل ويصبر الإنسان ليجتمع منه ما يملأ به إناءاً أو أكثر، بل يأتيه هناك بكلّ أنواعه في أنهار ولا يحتاج أيضاً إلى تصفية ، بل هو مصفّىُ من الشوائب ومن الشمع.

هذا هو التفسير المشهور، ولكنّ هنا احتمالاً آخر في معنى المثل، وهو أنّ هذه الأوصاف تمثّل وتقرّب إلى الأذهان ما يوجد في تلك الحياة من اللذائذ المادية والمعنوية، وقد لا يكون المراد نفس هذه المواد بذاتها، بل المراد توصيف الجنّة وما فيها بذكر ما يماثل أوصافها تقريباً ولو في بعض الجهات من الصفات المعروفة للإنسان والحاضرة لديه في هذه الحياة لتقريب مفهوم جنّة الخلد التي وعد المتّقون إلى الأذهان؛ فإنّه مفهوم غير مأنوس للبشر، وعن-وان الجنّة لا يكفي لتصوّرها حتّى إجمالاً، فهي ليست كسائر الجنان التي نشاهدها، ولذلك قيّدها بالتي وعد المتّقون.

والسرّ في التقريب أنّ الجنّة أعلى وأرفع مكاناً من أن يحيط بها اللفظ، فالألفاظ موضوعة لهذه المواد الدنيوية ولا يمكنها أن تعبّر عن تلك الشؤون ولا طريق إلى بيانها وتوصيفها إلا التقريب، ولذلك قال تعالى عنها: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِي هُم مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).(1)

ولعلّ ذكر الخمر في الجنّة من هذا الباب أيضاً، فالتعبير يلاحظ فيه ما يهتمّ به

ص: 140


1- السجدة (32): 17

المخاطبون، وإلا فليس ما يعبّر عنه بالخمر في الجنّة كالخمر هنا كما هو واضح، فهي خمر لا تضرّ كما قال تعالى:(لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ)(1) والغول: الهلاك التدريجي بحيث لا يشعر به الإنسان، ومنه القتل غيلة. وقال تعالى: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ﴾،(2) بل هي لا توجب سكراً أيضاً. كما أنّ سائر ما ذكر ليس كما هو موجود في الدنيا، وكيف يمكن أن يجري اللبن في النهر ولا يتغيّر ؟!

والحاصل أنّه بناءاً على هذا الاحتمال لا يراد بهذه التعابير إلا الإفصاح عن حقيقة غريبة عن أذهان المخاطبين وتصوراتهم، ولا شكّ أنّ الإنسان تتغيّر نفسياته وتوقعاته وملذّاته باختلاف مراحل العمر وباختلاف مراحل التكامل المعنوي، فالإنسان في طفولته يتلذّذ بأمور تناسب روحه وجسمه وهو لا يهواها ولا يتلذذ بها في الكبر، بل كلّما تقادم به العمر تغيرت أهواؤه وملذاته. وهكذا التحوّل في الكمال المعنوي، فإذا تدرّج الإنسان في مدارج العلم، سواء كان مادياً أو معنوياً، فإنّه يتلذّذ بالوصول إلى أيّ معلومة يكتشفها أكثر من أيّ لذّة

مادية، وإذا وصل الإنسان إلى معرفة الله تعالى، وتدرّج في مدارجه، فإنّه يشعر بلذّة ما مثلها لذّة ولا يمكن توصيفها ولا تقريبها إلى الذهن، وخصوصاً إذا شعر

الإنسان بلطف من الله تعالى يغمره، بل حتّى لو أحسّ الإنسان بضربة موجعة منه تعالى لتأديبه ومنعه ممّا لا يناسب شأنه، فإنّ في ذلك لطفاً وعناية خاصّة وإشعاراً بالاهتمام به، والله تعالى لا يؤدّب من لا حاجة له فيه، كما ورد في الحديث.

ص: 141


1- الصافات (37): 47 .
2- الواقعة (56): 19

روى الكليني رحمه الله بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب»؛(1) أي من لا تصيبه مصيبة ف-ي مال-ه ولا بدنه، وإنّما اعتبر ذلك نصيباً الله تعالى، لأنّه يبتلي الإنسان بما يصيبه في بدنه وماله فتكون زكاة له.

ويوم القيامة ينكشف الغطاء للإنسان ويدرك حقائق ما كان يمكنه إدراكها

في هذه الحياة حتّى يتلذّذ بها، فهو يحظى هناك بلقاء الله تعالى، وأيّ سعادة أعظم منه ؟! ولقاؤه تعالى يحصل للإنسان في مراحل ودرجات، فأوّل مرحلة منه يحصل لكلّ إنسان، وذلك حين ،الموت، فإنّ الموت أوّل مراحل تخلّص الإنسان من سجن الطبيعة ومن سجن الجسم ومن قيود المادّة والزمان والمكان ومن الغريب أنّ الإنسان يكره الموت أشدّ كراهة حتّى مع إيمانه بالحياة الأبدية بعده، مع أنّه بالموت يخرج إلى عالم فسيح وهو فيه حرّ طليق، وأعظم ما فيه أنّه يحظى بلقاء ربّه، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)،(2)

ومثل الإنسان في هذه الدنيا كطفل يولد في السجن ولم يشعر بما في خارجه من المناظر البهيجة، فإذا أخبر أنّه سيخرج من بين من أنس بهم طيلة حياته فإنّه

ينزعج، ومهما يُحدّث عن زينة الدنيا فإنّه لا تنقطع علاقته بما حوله.

وفي مرحلة أخرى، إذا فاز الإنسان بدخول الجنّة فإنّه يحظى برضوان من الله تعالى، وهو أعظم ما في الجنّة من ثواب بل ليس في الجنّة ما يقاس به، والمؤمنون في ذلك درجات وبذلك تتحدّد درجات الجنّة ومراتبها ويبعد جدّاً

ص: 142


1- الكافي :2 21/214 ، باب شدّة ابتلاء المؤمن.
2- العنكبوت (29): 5.

أن يكون هناك اختلاف في اللذائذ المادية، فالله تعالى أكرم من أن يمنع أولياءه هذه اللذائذ، وقد قال تعالى: (هُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)،(1) فلا يبعد أن يكون اختلاف الدرجات في اختلاف القرب والحظوة لديه تعالى، ونحن لا نشعر ولا ندرك هنا وفي هذا السجن الرهيب مدى أهمية هذه الدرجات، ولذلك نزهد فيها ونقنع بأن ندخل الجنّة إن كنّا أهلاً لها وإن كان ذلك في أدنى مراتبها. ولا يبعد أن يكون في الاختلاف المشار إليه في الفاكهة والعيون ونحو ذلك أيضاً إشارة إلى هذا الاختلاف، كما ورد في سورة الرحمن والواقعة والإنسان والمطففين وغيرها ببيان لطيف جدّاً لا يشبع الإنسان من تكراره.

قال تعالى في سورة المطففين: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَختُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمِ * عَيْناً يَشرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)؛(2) والرحيق هو الخمر، وقيل: هو أحسنه، والظاهر أنّ كونه مختوماً إشارة إلى نفاسته والاهتمام به، كم-ا ه-و الشأن في خمور الدنيا وغيرها، ولكن الختام هناك ليس من الطين أو غيره من الموادّ التافهة، بل من المسك ؛ ويمكن أن يكون بمعنى أنّ ما يختتم به الشرب رائحة لطيفة كالمسك، بخلاف خمور الدنيا. ولكنّ المهمّ في ذلك أنّه مع نفاسته أنّ الله تعالى يدعو إلى التنافس في تحصيله إلا أنّه يمزج بما هو أعلى منه وأنفس، وهو ما يؤتى به من عين في الجنّة سمّاه الله هنا تسنيماً، وهو مأخوذ من السنام بمعنى الرفعة وهي عين يشرب بها المقرّبون، وهنا يتبيّن الفرق بين

ص: 143


1- ق (50): 35
2- المطففين (83): 22 - 28

الفريقين الأبرار والمقرّبين. ويبعد جدّاً أن يكون الفرق في لذائذ مادية، وأنّه تعالى يبخل على الأبرار بتلك العين.

ويشهد لذلك أنّ نفس هذا الفرق بين الفريقين عبّر عنه في سورة الإنسان بوجه آخر وباسم ، آخر ، قال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشرِبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً . عَيْناً يَشربُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)؛(1) فالعين الخاصّة بعباد الله تعالى هنا هي الكافور، ويمزج بها ما يشرب به الأبرار ، وأضاف إلى ذلك أنّ عباد هم الذين يفجّرون العين تفجيراً، فهم صنّاع العين في الجنّة، والظاهر أنّه حكاية حالهم في الدنيا بقرينة قوله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)؛ وسيأتي إن شاء الله تتمة الكلام في تفسيرها.

ويمكن أن يكون التدرّج في ذكر هذه النعم أيضاً للإشارة إلى مراتب الاختلاف في القرب لدى الله تعالى؛ فالماء غير الآسن مرحلة نازلة، ثمّ يصل إلى مرحلة اللبن الذي لم يتغيّر طعمه، وهناك فرق كبير بين ماء لم تتغيّر رائحته ولم ينتن وبين لبن لم يتغيّر طعمه، ثمّ يأتي بعد ذلك الخمر الذي يتلذّذ به الشارب، ثمّ إلى العسل المصفّى.

ويحتمل أن يتكامل الإنسان في تلك المرحلة من التكوين أيضاً، وإن لم يمكن ذلك بلحاظ عمله فقد انتهى وقت العمل إلا أنّ رحمة الله تعالى قد ترفع بالإنسان إلى مدارج الكمال من دون عمل هناك، ولذلك صحّ من المؤمنين الدعاء، قال تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اثْمُ لَنَا نُورَنَا)،(2) فيحتمل أن يكون العسل المصفّى

ص: 144


1- الإنسان (76): 5-
2- التحريم (66): 8

آخر مرحلة للكمال البشري يحصل عليه بعد أن هام في حبّ ربّه وشرب من الخمر الطهور، كما قال تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شراباً طَهُوراً)،(1) وزالت عنه كلّ العلائق حتّى ما يتعلّق بنعيم الجنّة، فله بعد ذلك أن يتلذّذ بالعسل المصفّى ويصل إلى معدن العظمة ويتعلّق روحه بعزّ قدسه، كما في المناجاة الشعبانية. (وَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)؛ أي الفواكه والتعبير عن طعام أهل الجنّة بالفواكه، لأنّها لا تؤكل لسدّ الجوع، بل للتلذّذ. والجنّة ليس بها جوع. والجملة تدلّ على أنّ المتّقين بأجمعهم لا يُمنعون من أيّ نوع من الثمرات، وهو مقتضى قوله تعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا) كما مرّ. مع أنّه تعالى في سورة الرحمن خصّص الجنّتين الأوليين الخاصّتين بالمقرّبين بأنّهما تشتملان على كلّ فاكهة، قال تعالى: (فِيهِمَا مِنْ كُلَّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)،(2) وأمّا اللتين من دونهما فقال عنهما: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)؛(3) والجمع بين الموردين يقتضي ما لم نستبعده آنفاً من أنّ المراد بما ورد في سورة الرحمن بيان الاختلاف في درجات القرب لدى الله تعالى فلا منافاة بين قوله تعالى هنا أنّ لهم جميعاً من كلّ الثمرات وبين التفصيل المذكور في سورة الرحمن.

(وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ)، يظهر من ذكر المغفرة في هذا السياق أنّها من النعم المستمرّة التي يتنعم بها أهل الجنّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ المغفرة لا بدّ منها مقدّماً على دخول الجنّة؛ إذ لا يدخلها الإنسان إذا لم تغفر له ذنوبه، فم-ا ه-و ال-م-راد بالمغفرة التي تضفى عليهم باستمرار في الجنّة مع أنّهم في دار القدس ليس فيها

ص: 145


1- الإنسان (76): 21
2- الرحمن (55): 52
3- الرحمن (55): 68

ذنب ولا قبيح. الظاهر أنّ المراد ستره تعالى على عيوبهم التي كانوا عليها في الدنيا حتّى لا يتذكّرها أحد منهم؛ لا بالنسبة إلى نفسه فيتأذى من وخز الضمير

ويتنغص عيشه، كما هو الحال في الدنيا، ولا بالنسبة إلى غيره فينتقص م-ن ق-در أحدهم في عيون إخوانه.

(كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيباً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)، أي أَمَثَلُ ساكن الجنّة كمن هو خالد في النار سجين فيها أبداً لا يفارقها ؟! على م-ا م-رّ بيانه. وبدلاً م-ن تلك الأنهار التي مضى وصفها وصف حال هذا البائس بأنّه يسقى من ماء حمیم، أي حارّ شديد الحرارة يقطّع أمعاءهم، وهم بحاجة إلى الماء بسبب النار. وك-لّ ذلك أيضاً لا يبعد أن يكون توصيفاً لحالة من العذاب الشديد لا يمكن توصيفه فی هذه الدنيا وحسب مفاهيمها ولغتها إلا بهذا التعبير، فالنار هناك ليست كالنار هنا وقد وصفها الله تعالى بأنّها تطّلع على الأفئدة، قال تعالى: (نَارُ الله الموقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)،(1) والمراد بها الأرواح فهي تُحرقها قبل الأجسام والروح لا يحترق بنار الدنيا. وهكذا سائر ما ورد في وصفها ووصف الماء الذي يسقون والطعام الذي يؤتون، كقوله تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الحَمِيمِ)،(2) وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة الصافات الآية 62 وسورة الدخان الآيات الآنفة الذكر.

ص: 146


1- الهمزة (104): 6- 7 .
2- الدخان (44): 43 - 46.

سورة محمّد (16 - 19)

وَمِنْهُم مِّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أَوْلَتَبِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ(16)وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَنهُمْ تَقوَهُمْ (17) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِهم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطهَا فَأَنّى لَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ ذِكْرَهُمْ(18) فَأَعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَبَكُمْ وَمَثْوَنكُمْ(19)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العلمَ مَاذَا قَالَ آنفاً). يظهر بوضوح من سياق الآيات أنّ المراد بهذا القوم المنافقون، فهم الذين كانوا يخالطون المسلمين ويحضرون مجلس الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ولكنّهم لم يكونوا مؤمنين في الواقع إنّما الكلام في مرجع الضمير، فإنّه لم يسبق لهم ذكر وإنّما سبق ذكر الكفّار والمسلمين. فقيل : إنّ الضمير يمكن إرجاعه إلى الكافرين باعتبار أنّ المنافقين منهم واقعاً، ويمكن إرجاعه إلى المسلمين باعتبارهم منهم ظاهراً، فيكون الغرض من الآية التنبيه على أنّ الذين آمنوا ظاهراً ليسوا كلّه-م على وتيرة واحدة وإن كانوا جميعاً يعتبرون من صحابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ويحضرون صلاته ومجالسه ويستمعون كلامه ويقاتلون في صفوف المؤمنين. ولكنّ الظاهر أنّه لا حاجة إلى إرجاع الضمير إلى الكفّار أو المؤمنين، بل يعود الضمير إلى الناس أو إلى من هم حول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فالغرض التنبيه على وجود المنافقين في صفوف من يحضرون عنده.

والقرآن مشحون بالتنديد بالمنافقين وتحذير المؤمنين من مكائدهم، لأنّهم شرّ من الكفّار وخطرهم أكبر من خطرهم، ولذلك قال تعالى: (إِنَّ المُنافِقِينَ فِي

ص: 147

الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)،(1) وبالفعل فإنّ الإسلام تمكّن من السيطرة على الكافرين وردّ كيدهم إلى نحورهم، ولكنّهم دخلوا في ملابس النفاق وتمكّنوا من تشتيت المسلمين وتفريق كلمتهم، بل تطاولوا على أعظم كلمة في الدين بعد التوحيد والرسالة، وهي الكلمة التي على أساسها كمل الدين وتمّت النعمة ويئس الذين كفروا من الإسلام ومن النيل منه، فحاولوا حذف هذه الكلمة وهي كلمة الولاية من قاموس الإسلام ولم يتمكّنوا ولكنّهم تمكّنوا من منع تأثيرها في السواد الأعظم، ولولا التضحيات التي قدمها أهل البيت علیهم السلام وشيعتهم لتمكّنوا من طمس آثار النبوّة وتحريف أساس الدين، كما كانت هي المكيدة التي أرادوها، فقد صرّح بعضهم بلزوم دفن اسم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حتّى لا يذكر على المنائر والمنابر، ولكنّ الله تعالى أهلكه ولم يبلغه مراده.

ومن التنديد الوارد بالمنافقين ما أشير إليه في هذه الآية وهو العمى والصمم

الذي أصابهم نتيجة لمتابعة الهوى، فكانوا بالرغم من القرب إلى الرسول والحضور لديه وهو منبع النور كأنهم لا يرونه، وكانوا يستمعون إليه وكأنهم لا يسمعون كلامه كما قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأَنَا جَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجن والإنس هم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)،(2) والتعبير الوارد في الآية يدلّ على أنّهم يظهرون أنفسهم حين الحضور بمظهر الاهتمام لكلامه صلی الله علیه و آله وسلم، فإنّ ذلك هو المفهوم من الاستماع، و مع ذلك كانوا إذا خرجوا من عنده سألوا أهل العلم من الصحابة ماذا قال آنفاً؟

ص: 148


1- النساء (4) : 145 .
2- الأعراف (7): 179

و آنفاً ظرف؛ أي في الوقت السابق القريب منّا وأنف كلّ شيء طرفه وأوّله، ومنه العضو المعروف في الوجه.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال وهو أنّه ما السبب في التنديد بهم إذا جهلوا معنى كلام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فسألوا أهل العلم عن ذلك؟! ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنّ السؤال لم يكن على وجه الاستعلام حقيقة، وإنّما كان تحقيراً أو استهزاءاً بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وبكلامه، كأنّهم يريدون بذلك أن يظهروا عجبهم من اهتمام الصحابة بكلامه المقدسي صلی الله علیه و آله وسلم. مع أنّه لا يحتوي على أمر مفهوم. ولكن يمكن الاعتراض على هذا الوجه بأنّه لو كان كذلك فلا وجه لتخصيص السؤال بالذين أوتوا العلم من الصحابة، بل المناسب حينئذٍ أن يوجّه السؤال إلى أهل الهوى والذين في قلوبهم مرض أو المغفّلين والبسطاء من الناس ليتمكّنوا من زرع بذور

الشك في نفوسهم.

والحاصل أنّ السؤال من أهل العلم يقتضي أن يكون على وجه الاستعلام حقيقة وهو ليس عيباً. ولكنّ الظاهر أنّ السؤال ليس عن الغرض أو مغزى الكلام أو تفسيره، وإنّما كانوا يسألون عن نفس القول، فالمراد أنّهم حاضرون ويستمعون، ولكن لا يسمعون القول من جهة عدم اهتمامهم بما يقوله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ). في هذه الجملة يبيّن الله

سبحانه السرّ في عدم فهمهم ووعيهم، وهو الطبع على قلوبهم والمراد بالقلب ليس هو العضو الذي يضخّ الدم في الجسم، بل هو النفس الإنسانية التي تدرك الحقائق، والتعبير يشبه النفس بوعاء يحتوي المعارف والعلوم والطبع إنّما يكون

ص: 149

بعد الإغلاق، فقلوبهم ونفوسهم مغلقة لا يدخلها شيء من المعلومات بل هی مطبوعة عليها، فلا يمكن فتح أغلاقها. والطبع من الله تعالى، وما أغلقه الله وطبع عليه فمن ذا الذي يفتحه ؟! والتعبير بالختم على القلوب والطبع عليها وارد في موارد كثيرة من الكتاب العزيز.

وهذا بدوره يثير سؤالاً، وهو أنّه لماذا يطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون؟ وأنّه لو كان ذلك من الله تعالى، فما ذنبهم إذا لم يفقهوا كلام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهم هذه الجهة بحكم المجانين حيث لا تكليف عليهم؟ والجواب يأتي في الجملة التالية: (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) نظير ما مرّ في قوله تعالى: ﴿كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ)،(1) وهما من باب واحد، فالسبب في الطبع على القلوب أيضاً منهم وهو متابعة الأهواء، ويأتي فيه التوضيح الذي ذكرناه هناك؛ وذلك لأنّ الطبع ليس بمعنى أنّه لا يفهم أيّ شيء، بل ربما يكون من أذكى الناس ويكون خبيراً في مجال واسع ودقيق من العلوم البشرية، ولكنّه لا يفهم شيئاً ممّا يتعلّق بما وراء الطبيعة والغيب، وإنّما يؤمن بما يراه ،بعينه مع أنّه بإمكانه أن يفهم تلك الحقائق، فإذا رفض الانصياع للكلام المشتمل على هذه الأمور مع إدراكه أنّه حقّ وأنّه من الله تعالى، وإنّما رفض لأنّه لا يناسب ما يهواه، فإنّه يطبع على قلبه، فلا يدرك الحقائق بعد ذلك أبداً، بل ولا يسمع الكلام، وربما لا يرى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، كما قال تعالى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِليه وَفِي آذَانِنَا وَقَرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ )،(2)ويظهر من القرآن الكريم أنّ هذا الطبع يحصل في أوّل مرّة يمتنع الإنسان من

ص: 150


1- محمد (47): 14
2- فصلت (41): 5

الإيمان بالغيب مع إدراكه للحقّ، ولا يحتاج إلى التكرار كما اسلفنا في تزيين العمل، وذلك لقوله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).(1) ويختصّ ذلك بالطبع بمن يكون جحوده عناداً فهو لا يرجع عن عناده، وإذا شوهد من بعضهم التظاهر بالإيمان فهو نفاق.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). المقابلة بين هذه الآية والتي قبلها تبيّن بوضوح أنّ الله تعالى لا يهدي ولا يضلّ إلا بعد أن يبدأ الإنسان بمحاولة الاهتداء إلى الحقّ أو يبدأ بمعاندة الحقّ، فالمهتدون هم الذين يتقبّلون الحقّ إذا بدا لهم واضحاً ولا يعاندونه إذا خالف هواهم، وهؤلاء يزيد الله تعالى في هدايتهم كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)،(2) ويفتح الله تعالى عليهم أبواباً من العلم ومن الناحية العملية يبعث في قلوبهم التقوى وه-و ف-ي الواقع حصيلة الإيمان والمعرفة، فكلّما زاد الإنسان معرفة بمقام ربّه زاد منه قرباً وزاد في قلبه الخشوع والتقوى، بل يزيد حبّاً الله تعالى فيتّقيه حبّاً لا خوفاً وهو المقام الأرفع. وذهب بعضهم إلى أنّ المراد بإيتاء التقوى إيتاء ثوابه، كأنّه استعظم أن يكون التقوى من الله تعالى وهو خطأ عظيم، فكلّ شيء من الله تعالى، والتقوى كما قلنا يحصل في القلب نتيجة للإيمان بالله وعرفان مقامه، وك-لّ م-ا يحصل كنتيجة طبيعية فهو من الله تعالى.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أشراطهَا). الفاء لتفريع هذا الأمر المستغرب على الإنذار الذي اشتملت عليه الآيات السابقة بمحاسبة الأعمال يوم

ص: 151


1- الأنعام (6): 110.
2- العنكبوت (29): 69

القيامة. وقوله: (يَنْظُرُونَ)، أي ينتظرون ، والضمير يعود إلى البشر عامة والاستفهام إنكاري ، أي لا ينتظرون إلا الساعة وهم بالطبع لا ينتظرون الساعة، بل ربما لا يعتقدون بها فضلاً عن انحصار انتظارهم فيها، فالمراد بيان حالتهم الواقعية التي هم غافلون عنها وهو المستقبل الأكيد، فكأنّهم لا يترقّبون أمراً إلا قيام الساعة؛ والمراد بالساعة يوم فناء العالم بقرينة حدوثه بغتة، أي مفاجأة، لا يوم قيام القيامة حيث يقوم الناس. ويحتمل أن يكون المراد ساعة الموت.

وقوله: (أنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من الساعة، أي ينتظرون مجيء الساعة. وقوله: (بَغْتَةً) حال من مجيء الساعة وليس قيداً للانتظار، كما هو واضح، والمراد تحذيرهم من عاقبة الأمر، فإنّ الساعة تأتي بغتة ولا فائدة للتذكّر بعد مجيئها، فعليه أن يتنبّه للخطر الداهم قبل وقوعه.

وغريب أمر هذا الإنسان، فهو يحسب لكلّ خطر محتمل على حياته في الدنيا حسابه ويأخذ حذره، مع أنّه أمر محتمل وليس قطعياً وليس بتلك الأهمية، فهو ميت في النهاية لا محالة ولا يحسب للخطر الداهم الدائم وهو آتٍ لا محالة، مع أنّه يكفي الاحتمال!!! حتّى أنّ المؤمنين الذين يحسبون له الحساب ويهتمّون ب-ه ويتّقون ربّهم، فإنّهم أيضاً لا يهتمّون به كاهتمامهم بسلامتهم في الدنيا، فتجد الكثير، بل الأكثر ترتعد فرائصه ويصفرّ لونه، بل ربما يموت فجأة إذا أخبر بأنّ الورم الذي في جسمه - مثلاً - ورم سرطاني، مع أنّه من المحتمل معالجته، ولا تجده يهتمّ ذلك الاهتمام البليغ إذا احتمل كون ما يعمله والمسير الذي انتخبه مورداً لسخط الله تعالى. وهكذا الأمر بالنسبة لمن يحبّه، فإذا أخبر بأنّ ابنه نقل إلى المستشفى لحادث خطير تجد الارتباك والاضطراب باديين عليه، وأمّا إذا

ص: 152

أخبر أنّه ارتكب محرّماً فلا أثر يبدو على وجهه.

والأشراط جمع شرط بفتحتين بمعنى العلامة أي أنّهم لم يتذكّروا ويتنبهوا برؤية أشراط الساعة وعلاماتها، فلم يبق إلا أن ينتبهوا عند مجيئها وذلك لا ينفعهم، فالفاء في قوله: (فَقَدْ جَاءَ) لتعليل عدم انتباههم للساعة إلا عند حدوثها، وهذا هو المفهوم من انتظارهم للساعة، فالمعنى أنّ العلامات تحقّقت فلم ينتبهوا لها فيبدو أنّهم لا ينتبهون إلى أن تأتيهم بغتة ولا ينفعهم الانتباه آنذاك.

والكلام هنا في ما هو المراد بعلامات الساعة، فيحتمل أن يكون المراد علامات قرب وقوعها وهو الظاهر من استغراب عدم تنبّه الإنسان لها، مع أنّه ل-م يبق إلا وقوعها، فمعنى ذلك أنّها قد قربت.

وهناك آيات من القرآن تدلّ على قرب الساعة، كقوله تعالى: (أَزِفَتِ

الآزِفَةُ)،(1) وقوله: (إقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)،(2) وقوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً)،(3) ولكن ما هي العلامات التي جاءت لتدلّ على قربها؟ ظاهر آية القمر أنّ

شقّ القمر من علامات قربها. وقد ورد في حديث مشهور: (يا معشر المسلمين إنّي إنّما بعثت أنا والساعة كهاتين»، قال: ثمّ ضمّ السباحتين»،(4) وفي نقل آخر: «وجمع بين سبّابتيه»،(5) وفي بعض الروايات بين السبابة والوسطى»،(6) ومعنى ذلك أنّ رسالة

ص: 153


1- النجم (53): 57
2- القمر (54): 1.
3- المعارج (70): 6- 07
4- أمالى المفيد: 188
5- بحار الأنوار 16: 256
6- بحار الأنوار :6: 315؛ الجعفريات: 212

السماء النهائية بنفسها من علامات قرب الساعة، وذكر من أشراط الساعة نزول القرآن باعتبار أنّه آخر الكتب السماوية، وذكرت أمور أخرى لم تثبت كونها

علامات ولا أنّها وقعت.

ولكن السؤال لا ينتهي بناءاً على هذا الاحتمال، فإنّ المراد بالقرب أيضاً غير واضح، لأنّ القرب والبعد أمران إضافيان والواقع أنّ القرب لا يمكن أن يلاحظ بالنسبة إلى عمر المخاطبين بأن يكون المقصود أن وقوعها قريب منهم بحيث تقوم الساعة عليهم، فإنّها لم تقم وقد مضت القرون عليهم، فربما يكون المراد قربها بلحاظ عمر الطبيعة بمعنى أنّ ما بقي من عمر الطبيعة أقلّ بكثير ممّا مضى، كما ورد في بعض أحاديث العامّة، ولكن هذا الأمر لا أثر له بالنسبة للمخاطبين، والأولى أن يقال في توجيه القرب بأحد وجهين:

الأوّل: أنّ الموت هو أوّل مراحل الساعة بالنسبة لكلّ إنسان، فإنّه بموته ينقطع الدنيا ويكون رهيناً بعمله، وقد انتهت فرصته للعمل وللتوبة، ولذلك ورد أنّ

من مات فقد قامت قيامته.(1)

الثاني: أنّهم بعد الموت لا يشعرون بمضي زمان طويل، فتقوم الساعة عليهم

وهم يظنّون أنّهم ما لبثوا إلا عشية أو ضحاها؛ كما ورد في عدة من الآيات. ويحتمل أن يكون المراد بالساعة ساعة الموت، فإنّها أيضاً كثيراً ما تأتي بغتة وعلاماتها تختلف حسب الأشخاص ولا أقلّ من مشاهدة موت الآخرين؛ ويحتمل أن يكون المراد بالأشراط علامات أصل ثبوت الساعة وهي الأدلة التي تقتضي ذلك، ويؤيده أنها هي التي ينبغي أن تكون منبهة للإنسان، فلا حاجة إلى

ص: 154


1- راجع :شرح الكافي للمولى صالحي المازندراني 4: 274

عدّ ما يتحقّق قبيل الساعة وإثبات أنّها من علاماتها، مع أنّ الساعة لا يعلم موعدها إلا الله تعالى ولا دخل للعلامات القريبة، فإنّ الإنسان ينبغي أن يتذكّر بمجرّد ما يثبت له هذا الواقع العظيم ولا يختلف طول الزمان وقربه، وممّا يدلّ على ثبوته الآيات البيّنات التي نزلت في الكتب السماوية، ومنها ملاحظة عدل الله تعالى وعلمه وحكمته وقدرته ، فإنّ العقل يحكم بأنّه لا بدّ من مرحلة من التكوين بعد هذه الحياة ينال كلّ أحد جزاءه من خير وشرّ، فإنّ المشهود في هذه المرحلة هو عدم نيل الجزاء وعدم وضع كلّ أحد موضعه، وهذا ينافي حكمة الله تعالى وعدله وعلمه وقدرته.

(فَأَنَّى هُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ)، الفاء للتفريع والاستنتاج بعدم الجدوى لتذكّرهم ذلك اليوم . و (أَنَّى) أداة استفهام بمعنى أين وكيف وهي خبر مقدّم، وذكراهم مبتدأ. وجملة: (إِذَا جَاءَتْهُمْ) معترضة، أي كيف يذكرون بعد أن جاءتهم. والمراد أنّه لا ينفع التذكّر حينه، كما قال تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ الخِيَانِي)،(1) فلا يبقى لديه إلا التمنّي، بل لا يفيد التذكّر قبله، فالإنسان إذا جاءه الموت لا تنفعه التوبة لقوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ)،(2)كما لا ينفع حين نزول العذاب الإلهي ، ولذلك لم يقبل من فرعون توبته وإيمانه، كما قال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).(3)

ص: 155


1- الفجر (89): 23 - 24.
2- النساء (4): 18.
3- يونس (10): 90 - 91

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله)، الظاهر أنّه تفريع على ما يعلم إجمالاً من مجموع ما سبق من أنّ الأمر بيد الله تعالى، فهو الناصر وهو الخاذل وهو الذي يطبع على قلوب المنافقين ويزيد في هداية المهتدين ويؤتيهم تقواهم، فعلى الإنسان أن ذلك في نفسه ويطمئنّ بربّه، ويعلم أنّه لا ملاذ إلا إليه، فالأمر كلّه بيده، يعبد غيره ولا يطيع غيره ولا يقصد غيره لحاجته، بل لا يطلب غيره، فإنّه غاية

مراد المريدين.

وأوّل سؤال يتبادر إلى الذهن من هذه الجملة أنّه كيف يؤمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ يعلم ذلك وقد علمه وعلّمه الآخرين؟

والجواب أوّلاً: أنّ الخطاب قد لا يكون متوجّهاً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم الخاصة ، بل لكلّ من يسمع أو يقرأ.

وثانياً: أنّ المقصود الثبات والاستمرار على الإيمان بالتوحيد وتعميمه وتعميقه، فالتوحيد، بكلّ معنى الكلمة لا بدّ من تكريره والتأكيد عليه ليستقرّ في القلب ويدخل في عامّة شؤون الحياة، حتّى لا يطلب الإنسان حاجته إلا من الله تعالى، بل لا يتوجّه في أيّ عمل من أعماله إلا إليه تعالى، بل لا يطلب في مسيره إلا الله تعالى، فيكون هو منتهى أمله وغاية مناه؛ فإنّ الإله لا يختصّ بالعبادة بالمعنى الأخصّ وهي طقوس خاصّة تتبنّاها كلّ فرقة حسب دينه ومذهبه، ب-ل الإله هو الصمد الذي يصمد إليه الناس في حاجاتهم، بل هو الذي يجب أن يقصده الإنسان في كلّ شؤونه ويقصد رضاه ويتوجّه نحوه بل هو المطلوب الذي يبحث الإنسان عنه في كلّ حياته جاداً كادحاً.

ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى

ص: 156

عِلمٍ)،(1) وهذا يصدق على أكثر الناس، ولكنّهم لا يعبدون الهوى بمعنى أنّهم يسجدون له، وإنّما يعتبرون من عبّاد الهوى، لأنّه هو المطلوب الأساس لهم، فالإله هو المطلوب والمحبوب، وهذا المعنى منحصر عند أهل المعرفة في الله تعالى، والتوحيد الكامل هو الانقطاع إليه، ولذلك ورد بعده أمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالاستغفار لذنبه، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّ ذنبه ليس إلا في هذا المجال.

هذا وما كان يعلّمه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من الحقائق إنّما علمها بتعليم من الله تعالى وبنزول الآيات القرآنية، وهذا أيضاً قد حصل قبل هذه الآية، ولكنّه أمر هامّ لا بدّ من التنبيه والتأكيد عليه في كلّ مناسبة، ولهذا قلنا إنّه لا بدّ فيه من التعميم والتعميق، فالتعميم بحيث يشمل كلّ جوانب الحياة والتعميق بالتكرار حتّى لا يغفل عنه الإنسان.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، يتفرّع أيضاً على معرفة مقام الربّ لزوم الاستغفار من الذنوب والرسول صلی الله علیه و آله وسلم معصوم من الذنب بالمعنى المعروف إلا أنّ الذنب بالمعنى اللغوي له معنى وسيع وهو تبعة العمل، سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، وسواء كانت تبعة مجعولة كالعقوبة والجزاء أو تبعة طبيعية أو عرفية، وبذلك نفسّر قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)،(2) ويشهد له قوله تعالى في حكاية قول موسى علیه السلام: (وَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)(3) وما فعله علیه السلام لم يكن ذنباً، بل كان واجباً شرعياً ولذلك اعتبره علیه السلام ذنباً لهم عليه، وبعد أن غف-ر

ص: 157


1- الفرقان (25): 43
2- الفتح (48): 2.
3- الشعراء (26): 14

الله تعالى له: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)،(1) أي أنّه يستمرّ في مواجهته للكفّار، فالتعبير عنه بالذنب بمعنى أنّه تبعة لعمله حسب قانونهم ونظامهم ومعتقدهم، ولذلك أيضاً قلنا: إنّ المغفرة في هذا المورد وفي سورة الفتح بمعنى حفظه والستر عليه من التبعات الدنيوية وما يقصد به الأعداء من السوء.

والحاصل أنّ الذنب بهذا المعنى يتعلّق بأفعال المعصومين علیهم السلام، ب-ل ه-م عادۀ في معرضه لأنّهم يواجهون الأعداء في مسيرتهم. ول-ه بالنسبة لهم معنى آخر وهو معروف أيضاً وهو ما يعبّر عنه بأنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.

ولتوضيحه نقول: إنّ كثيراً من عباداتنا، بل أكثرها لو لم يكن كلّها خالية عن التوجّه الكامل والخلوص الكامل، فمن جهة التوجّه لا نتمكّن من التركيز على ما بدأنا به من النية ونغفل عن أنّنا متوجّهون إلى الله تعالى وأنّنا بحضرته، وكثيراً ما نفقد الخشوع والخضوع، وإنّما نأتي بالعمل صحيحاً للاعتياد، ومن الجهة الثانية لو لم يتدخّل في نيّتنا قصد الرياء والعجب، فلا أقلّ من أنّنا نقصد بلوغ المآرب الدنيوية بصلاتنا وسائر عباداتنا بل هي المقصد الأسمى لأكثرنا والأولياء المخلصون لا يقصدون بعملهم حتّى النعم الأخروية، كم-ا م-رّ الكلام حوله. وحينئذٍ فإذا تمّت لنا صلاة مع الخشوع والتوجّه والخلوص بدرجة متدنية، فإنّه-ا تعدّ من أحسن حسناتنا، وهي بالنسبة للرسل والأئمة المعصومين علیهم السلام تعتبر سيئة، لأنّهم لا يتوقّع منهم أن يفقدوا التوجّه الكامل حتّى لحظة واحدة، ولا يتوقّع منهم أن يقصدوا بعملهم حتّى المنافع الأخروية وإن لم يكن ذلك ذنباً وقبيحاً، فإذا برز

ص: 158


1- القصص (28): 17

منهم ذلك فإنّهم يستغفرون ربّهم منه، وحقّ لهم الاستغفار والتوبة، ولذلك فإنّ

الله تعالى يمتدح رسله بأنّهم أوّابون، أي يكثر منهم الرجوع إلى الله تعالى. وليعلم أنّ المعصومين إنّما عصموا من الذنوب التي يبتلى بها عامة الناس وليسوا معصومين من الذنب بهذا المعنى، وهم مع ذلك مختلفون في درجات القرب، فيختلفون في درجات التوقّع، والله تعالى يطالب كلّ أحد حسبما أنعم عليه، فكما أنّه لا يتوقّع ممّن تربّى في بيئة كافرة كما يتوقّع ممّن أبواه مؤمنان لاختلاف ما أنعم الله عليهما، كذلك لا يتوقّع من كلّ واحد من الرسل كما يتوقّع من سيّد المرسلين صلی الله علیه و آله وسلم، ولذلك كان كثير العبادة والخشوع والبكاء، فإذا سئل عن السرّ في ذلك مع أنّه قد غفر ذنبه ما تقدّم وما تأخّر، قال: «ألا أكون عبداً شكوراً».(1)

هذا، وفي الأمر بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات إشارة إلى حاجتنا إلى

استغفاره صلی الله علیه و آله وسلم و لنا كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ هُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(2) وهذا يدخل في باب الشفاعة، ويتبيّن منه أنّه لا يكفي المؤمنين أن يستغفروا لأنفسهم، بل عليهم أن يلوذوا بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم ويطلبوا منه الاستغفار. والمغفرة أهمّ الحاجات، فإذا جاز ذلك جاز طلب سائر الحاجات بواسطته بأن نطلب منه أن يطلب من ربّه حاجاتنا، وهو معنى التوسل والاستشفاع والرسول حيّ يرزق من دون ريب، لأنّ الله تعالى :يقول: (وَلا تَقُولُوا لَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيل الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ)،(3) فإذا كان

ص: 159


1- الكافي 2: 95
2- النساء (4): 64.
3- البقرة (2): 154

المقتول في سبيل الله حيّاً فالرسول صلى الله عليه و اله سلم أولى بذلك.

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)، تذكير للمؤمنين مرّة أخرى بهذه الحقيقة

المغفول عنها، وهي أنّ الله تعالى محيط بهم وشاهد لكلّ أعمالهم فليتّقوا ربّهم وليحذروه. وقد اختلف المفسّرون في معنى المتقلّب والمثوى، فقيل: إنّ-ه التصرّف في الدنيا والاستقرار في الآخرة، وقيل: التقلّب من الأصلاب إلى الأرحام والسكون في الأرض، وقيل: التصرّف في اليقظة والسكون في المنام، وقيل: التصرّف في المعايش والأعمال والاستقرار في المنازل.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله: المتقلب بمعنى الانتقال من حال إلى حال، والمثوى بمعنى الاستقرار والسكون، فالمراد أنّه يعلم كلّ أحوالكم من الأحوال المتغيّرة والثابتة. وقال: إنّ هذا المعنى أظهر وأعمّ ممّا ذكروه.(1)

وهذا صحيح، ولكن مناسبة الحال تقتضي أن يراد هنا معنى خاصّ وهو تقلّب الإنسان في عقيدته وإيمانه وعاقبة أمره، فالإنسان يتحوّل كثيراً طيلة حياته، فيوماً مؤمن قوي الإيمان شديد الخشوع، ويوماً متردّد وشاكّ، ويوماً فاسق فاجر، وربما يبلغ الكفر، وهكذا يتحوّل من حال إلى حال، ولكنّه يستقرّ في عاقبة أم-ره عل-ى حالة، فلعلّ المراد بالمثوى عاقبة الإنسان من حيث العقيدة والعمل.

ولعلّ السرّ في التذكير به الخطر المحدق بالإنسان في عاقبة أمره، فكم كان من الناس من جاهد في سبيل الله تعالى وتحمّل المشاقّ وانتهى الأمر به إلى الارتداد أو النفاق، والسبب في ذلك هو متابعة الهوى والتوغّل في المعاصي، ولذلك لا بدّ من الاستغفار والتوسّل بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام

ص: 160


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 238

لضمان المستقبل و العاقبۀ الحمیدۀ.

واللطيف في الآية الكريمة أنّها تجمع بين التوحيد من جهة، والتوسّل والاستشفاع من جهة أخرى، ليعلم الإنسان أنّه لا تنافي بين التوحيد وحبّ أوليائه تعالى، لأنّنا لا نحبّهم ولا نتوّلاهم إلا لأنّهم أولياؤه تعالى والمقرّبون لديه، فحبّهم من حبّ الله وولايتهم من ولايته تعالى كما أنّ التوحيد واعتقاد أنّ الله تعالى ه-و القادر وهو الشافي والرازق والقاضي للحوائج، وأنّه لا مؤثّر في الوجود غيره تعالى لا ينافي التوسّل بأوليائه والتمسّك بهم للتوسط في قضاء الحوائج، بل لا ينافي طلب الحاجة منهم بما أنّهم عباد الله المخلصين الذين آتاهم الله القدرة على قضاء الحوائج بإذنه تعالى كما منح عيسى علیه السلام القدرة على إحياء الموتى وشفاء المرضى بإذنه.

ص: 161

سوره محمّد(20-28)

وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْلَا تُزَلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ(20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ

(21)فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أَوَلَئِكَ

الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى

قُلُوبِ أَقْفَالُهَا(24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَرِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ(25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَتطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ(26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَئكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَرَهُمْ(27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ, فَأَحْبَطَ أَعْمَلَهُمْ (28)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)، ورد هذا المقطع أيضاً في سياق التنديد بالمنافقين والتحذير من خطرهم، والخطر هنا يكمن في تثبيطهم المؤمنين عن القتال وتأثيرهم السلبي في هذا المجال، وهو موضوع البحث في هذه السورة كما مر . والظاهر أنّ المراد بالذين آمنوا في أوّل الآية عامّة المسلمين لا خصوص المؤمنين المخلصين في مقابل المنافقين كما قيل؛ إذ لو كان كذلك لم يكن وجه لاستغراب تخوّف الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون كما سيأتي، فإنّ الاستغراب إنّما هو من اقتراحهم نزول سورة تأمر بالقتال، ثمّ إظهار التخوّف منه، فلا بدّ من اعتبار المنافقين ضمن المقترحين.

والمراد بالسورة التي يطالبون بها خصوص ما يذكر فيها القتال، وإنّما لم

ص: 162

توصف بذلك اكتفاءاً بالجملة التالية لئلا يتكرّر الوصف، فالمراد بتقديم هذه الجملة التنبيه على أنّ تقاعس المنافقين عن الحرب بعد الأمر به من قبل الله سبحانه لم يكن بعد أمر ابتدائي ليشقّ تحمله، بل جاء الأمر بالحرب في ظروف خاصّة استوجبت مطالبة المجتمع الإسلامي بذلك، حيث طلبوا من ربّهم أن ينزّل عليهم سورة يأمرهم فيها بالقتال مع الأعداء. وقد وقع مثل ذلك لبني إسرائيل، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لنبى هُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقَاتِلُ فِي سَبيل الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا ألا تُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أَخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَاتِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوا إلا قليلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)،(1) فالآية الكريمة هنا تنبّه على وقوع مثل ذلك في هذه الأمّة أيضاً.

(فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمُغْشِيٌّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ)، المحكم من الحكمة بمعنى المنع، وهو ما لا يدخله الشكّ فهو واضح وصريح، كأنّه منع من ورود الشكّ والشبهة، ويقابله المجمل والمتشابه، فالغرض من هذا التوصيف التنبيه على أنّ الأمر بالقتال ورد صريحاً واضحاً غير قابل للتأويل.

والظاهر أنّ المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون، ولكن بوصف كونهم ممّن في قلوبهم مرض، ولعلّ اختيار هذا التعبير للإشارة إلى أنّ حالة الهلع والخوف الذي تبدو على وجوههم ليست طبيعية، وإنّما يبدو عليهم ذلك لمرض في قلوبهم وهدف فاسد يقصدونه وهو تثبيط عزائم المؤمنين الخالصين. والدليل

ص: 163


1- البقرة :(2): 246

على الاختصاص بالمنافقين قوله تعالى في الآية :29: (أمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ)، فالأضغان أي الأحقاد - كما سيأتي إن شاء الله - يدلّ على أنّ المراد بهم المنافقون، حيث كانوا يبطنون العداء للإسلام والمسلمين، وأمّا ضعفاء الإيمان فما كانوا يحملون حقداً للمؤمنين. والآيات التالية صريحة في أنّ المراد بهذه المجموعة من الآيات من هم من أشدّ المنافقين حقداً وبغضاً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وللمسلمين.

ولكن في تفسير «الميزان» أنّ المراد بهم ضعفاء الإيمان دون المنافقين،(1) وهذا لا دليل عليه في الآية ولا وجه له، وحمل الآية على ذلك يوجب خروجه-ا ع-ن سياق الآيات التي تتعرّض لموقف المنافقين من الجهاد، وإنّما اختاره العلامة رحمه الله لما يظهر من بعض الآيات في غير هذا المقام من جعل المنافقين مقابلاً للذين في قلوبهم مرض، فالمقابلة بين الفريقين تدلّ على اختلافهما. ولكنّ الظاهر في هذه الموارد أنّه من قبيل ذكر العام مع الخاص، فالذين في قلوبهم مرض عنوان عام يشمل المنافقين وغيرهم، فإنّ النفاق أيضاً مرض من الأمراض التي تصيب القلب، أي النفس والروح البشرية.

والمراد بالمغشيّ عليه من الموت المحتضر في أواخر حالاته، حيث يغشى عليه وتبقى عيناه مسمرتين كأنه ينظر بهما إلى نقطة خاصّة لا يتجاوزها، وهذه الحالة تحصل لبعض الناس في الخوف الشديد الذي يسيطر على مشاعر الإنسان وأحاسيسه، فتجده واجماً لا يتحرك ولا يستطيع القيام بأيّ ردّ فعل في مقابل الخطر الداهم، والتعبير يصوّر الجماعة كأنّهم بلغ بهم الذعر إلى هذه الحالة

ص: 164


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 239

التعيسة، ولا يمكن تصوير الخوف والهلع أكثر ممّا يصوّره هذا التعبير. ولكن هل كان ذلك واقعياً أم كانوا يتظاهرون به للتأثير في نفوس المؤمنين؟ التعبير يحتمل الأمرين ولكنّ السياق أوفق بالثاني.

(فَأَوْلَى هُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ). اختلفوا أيضاً في تفسير هذه القطعة؛ فمنهم من اعتبرها جملة واحدة، والمعنى واضح على ذلك، أي أنّ الأولى لهم أن يطيعوا وإن يقولوا قولاً معروفاً، والمعروف في مقابل المنكر بمعنى القول المناسب للمقام عرفاً .

ولكنّ الأكثر على أنهما جملتان، فالجملة الأولى قوله تعالى: (فَأَوْلَى لَهُمْ) ومثله قوله : (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)،(1) وجملة (أوْلَى لَكَ) جملة معروفة بين العرب وردت في أشعار الجاهلية، و(أوّلى) مأخوذ من «ولي» بمعنى قرب، فمعناها أقرب لك وهو خبر لمبتدأ محذوف، وحكي عن الأصمعي أنّه ق-ال معناها «قاربك ما يهلكك»، فقيل: إنّه يفيد التهديد والوعيد، وقيل: إنّه دعاء على المخاطب ولا يبعد أن يكون المعنى مختلفاً حسب الموارد، ولكنّ الغالب فيه التهديد، كما يشاهد ذلك في اللهجة العامية؛ وفي لغات أخرى حيث يستعمل كتهديد مبطن لكلّ من يواجه الإنسان بصلابة وعناد، فيهدّده بإبهام لأسباب مختلفة. وبناءاً على هذا فقوله: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) جملة مستقلة أيضاً، والتقدير أمرهم وشأنهم طاعة معروفة وقول ،معروف، أو طاعتهم طاعة معروفة وقولهم قول معروف. وهذا كناية عن أنّهم معروفون بعدم الطاعة وبالقول الفاسد، وإنّ من الواضح لدى الجميع كونهم مخادعين.

ص: 165


1- القيامة (75): 34 - 35

والذي يشبه هذه الآية في القرآن قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُفْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)،(1) وهذه الآية قرينة على المراد من هذه الجملة هنا، فإن الصحيح في تفسير تلك الآية أن قوله: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) تعريض بهم ، ومعناه أنّ طاعتهم طاعة معروفة بمعنى أنّ من المعروف لدى الجميع أنّهم لا يطيعون أوامر الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم، فالأقرب في معنى الآية هنا أيضاً أنّهما جملتان وأنّ الأولى تهديد أو دعاء عليهم، والثانية تنديد بهم من جهة خداعهم ومكرهم ونفاقهم، فهم يدّعون الطاعة ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فتقدير الجملة طاعتهم طاعة معروفة وقولهم قول معروف والمراد أنّ نفاقهم أمر واضح ومعروف لا حاجة إلى التنبيه عليه. وأمّا القول بأنّهما جملة واحدة فينافي التشدّد والاستنكار الذي تحفل به الآية، إذ التعبير بأنّ الأولى لهم أن يطيعوا وأن يقولوا قولاً معروفاً لا يناسبه وإن كان ذلك ربما يناسب الجملة التالية.

(فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)، العزم هو الجدّ أي إذا جدّ الأمر ولزم القتال فخير لهم إن يكونوا صادقين في إيمانهم بالله تعالى ولزوم إطاعته. ومن الواضح أنّ الخير هنا ليس بمعنى كونه أفضل وأولى، بل بمعنى أنّ الخير في ذلك فحسب. والمراد بالصدق الوفاء بالعهد، فإنّ الإيمان بالله عهد من العبد بالإطاعة، وهذا العهد مأخوذ من كلّ إنسان بالفطرة، كما تدلّ عليه قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا

ص: 166


1- النور (24): 53

بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)(1) ومأخوذ أيضاً من كلّ مؤمن بتشهّده الشهادتين، ومأخوذ أيضاً ممّن آمن بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم في ذلك العهد بالبيعة، فالعهد على تلك الجماعة مأخوذ ثلاث مرّات فيجب أن يكونوا صادقين في عهدهم أوفياء به.

وعليه فقوله: (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) جواب الشرط في قوله: (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ). وقيل: إنّ جوابه محذوف، أي فإذا عزم الأمر كرهوا الحرب أو تهاونوا ونحو ذلك، والجملة التالية مستأنفة تدلّ على المحذوف. وهذا التفسير لا يناسب السياق بناءاً على ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: (فَأَوْلَى هُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، وإنّما يناسب تفسيره بأنّ المراد أنّ الأولى لهم أن يطيعوا ويقولوا قولاً معروفاً، فإذا عزم الأمر فالأولى لهم أن يثبتوا. ولكن كلّ ذلك لا يناسب السياق الذي يظهر منه التشديد عليهم والاستنكار.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)، الاستفهام للاستنكار ، و(عَسَيْتُمْ) لبيان المقاربة والتوقّع، أي هل المتوقّع منكم إن أعرضتم عن الدين وارتددتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، كما كنتم في الجاهلية، ومعنى ذلك أنّه هو المتوقّع وهو مستنكر وليس معنى (هَلْ) التحقيق كما يقال، بل هو الاستنكار ولكن لا يستنكر إلا ما هو واقع، إلا أنّ (عَسَى) يخفّف الأمر فلا يواجههم في الخطاب بشدّة بأن يحكم عليهم بالفساد قطعاً، ولكنّه المتوقّع ، لأنّه طبيعة القوم؛ وإنّما منعهم من الاستمرار فيه تظاهرهم بالدين. وقد مرّ مراراً أنّ التعبير ب- «عسى» ولعلّ في القرآن الكريم، بل في كلّ تعبير

ص: 167


1- الأعراف (7): 172

ليس بمعنى الترجّي أو الاحتمال حتّى يستغرب صدوره من علام الغيوب، ويأوّل بأنّه من الله يدلّ على الثبوت والوجوب كما قيل بل هو بمعنى أنّ هذا هو المتوقّع منكم، وأنّ الجاهلية تحقّق الأرضية المستعدّة للفساد في الأرض وقطع الأرحام.

والكلام مستمرّ حول المنافقين الذين حاولوا التأثير على عزيمة المؤمنين في الجهاد، وهنا يعود السياق إلى مخاطبتهم بعد أن كان الحديث عنهم غيابياً ليكون أبلغ في التأثير وألصق بهم. ويبدو من الآية أنّ بعضهم كانوا يشيعون في الناس أنّه لا ينبغي محاربة مشركي مكّة، لأنّه من الفساد في الأرض وقطع الأرحام، ويبدو منه أنّهم كانوا ممّن لهم قرابة فيهم فلعلّهم من بعض المهاجرين، ولا يستغرب وجود منافقين فيهم وسيأتي في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)(1) أنّ النفاق كان في مكّة ومن أوائل الإسلام.

وتبيّن بما ذكرناه أنّ المراد بالتولّي هو الإعراض عن الدين والرجوع إلى الجاهلية، وهو الأنسب بالسياق وبما سيأتي من توصيفهم بالارتداد الذي ه-و الأمر المناقض لقوله: (فَلَوْ صَدَقُوا الله) في الآية السابقة، فالمعنى أنّكم إن أعرضتم ولم تصدقوا الله تعالى وعُدتم إلى جاهليتكم الأولى فالمتوقّع منكم أن تعودوا إلى صفاتكم وعاداتكم في الجاهلية من الفساد في الأرض بالقتل والغصب وقطيعة الرحم وغيرها من الجرائم والكبائر.

وقيل: إنّ المراد بالتولّي الأخذ بزمام الحكم، وورد في بعض الأحاديث أنّه خطاب لبني أُميّة، ولعلّ ذلك من باب الجري والتطبيق، فإنّهم تول-وا الأم-ور

ص: 168


1- الحاقة (69): 49

وأفسدوا في الأرض أيّما فساد، وقتلوا المؤمنين الصالحين وقطّعوا الأرحام، لأنّ بي هاشم من أرحامهم فقتلوهم وشرّدوهم. ولكن حمل الآية على هذا المعنى بعيد جدّاً ولا يناسب سياق الآيات.

والرحم موضع الجنين في بطن المرأة، والمراد بالأرحام من يشارك الإنسان في رحم مع كونه في نفس الوقت يعدّ من الأقارب عرفاً، فيشمل الوالدين والإخوة والأعمام والأخوال وأولادهم وغير ذلك، والمراد بقطع الرحم ترك المواصلة معهم بالإحسان إليهم حين الحاجّة والتفقّد عنهم وزيارتهم إن اقتضته

المناسبة، وعيادة مرضاهم وحضور جنائزهم وقضاء حوائجهم، فترك المواصلة قطع للرحم فضلاً عن الإساءة إليهم وقتلهم والتنكيل بهم، كما فعل-ت ب-ن-و ام-ي-ة وبنو العباس.

(أولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، الإشارة إلى الذين تولّوا

وأعرضوا عن إطاعة الله ورسوله، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، وهذا إنّما يتمّ في من لا مجال لهدايته، ولذلك فرّع عليه إصمام آذانهم وإعماء أبصارهم، فهم لا يسمعون آيات الله تعالى فيعونها ولا يبصرونها فيؤمنوا بها، وهذا الجزاء إنّما يلحق بمن عاند الحق ولم يؤمن به بالرغم من إتمام الحجّة

عليه. ولعلّ السبب في لعنهم وإعمائهم هو الارتداد، ويشهد له قوله تعالى بعد ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبَارِهِمْ)، فالظاهر أنّ المراد بهم نفس المذكورين سابقاً. والارتداد شرّ من عدم الإيمان من البداية. ولم يكن السبب في ارتدادهم الشكّ المستند إلى عدم الاقتناع، بل السبب هو متابعة الأهواء وحبّ الدنيا بعد أن رأوا الآيات وعلموا أنّها الحقّ، ولذلك حقّت عليهم العماية والصمم واللعن،

ص: 169

ويشهد لذلك أنّ الارتداد من عوامل الطبع على القلوب، كما هو الظاهر من قوله تعالى في المنافقين: (ذَلِكَ بِالَهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطَبعَ عَلَى قُلُوبهمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).(1)

هذا ما يقتضيه التأمّل، ولكنّ المفسّرين ذكروا أنّ الإشارة إلى المفسدين وقاطعي الأرحام، وحيث إنّ هذا الأمر بمجرّده لا يوجب الطبع والختم على الأبصار والأسماع حاولوا توجيه ذلك بحيث يكون المصداق من يستحقّ هذا الجزاء وتبيّن بما ذكرناه أنّه لا حاجة إلى التأويل.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا)، التدبّر هو النظر في دُبُر الشيء أي آخره وما يترتّب عليه، والمراد التعمّق في مقاصد القرآن وعدم الاكتفاء بما يبدو من ظاهره، ويمكن أن يكون المراد هنا التعمّق فيه من جهة خاصّة وهي كونه معجزة تهدي الإنسان إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليكون مناسباً للإعراض والارتداد الذي يتعرّضون له، ومثله قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)،(2) فإنّ قوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله) يرشد الإنسان إلى ما يقتضي كون القرآن كتاباً منزلاً من عند الله تعالى.

والاستفهام للاستنكار، فالحاصل أنّ الآية الكريمة تستنكر منهم عدم التدبّر في حقيقة القرآن لينتهوا بذلك إلى الإيمان بالله تعالى وبالرسالة، ثمّ قابل ذلك بعدم تمكنهم من التدبّر ، لأنّ قلوبهم مغلقة وعليها أقفال وعليه ف-- (أم) هنا متّصلة، والسؤال الذي يقصد به الاستنكار أنّهم هل تركوا التدبّر مع تمكّنهم أم أنّهم تركوه للأقفال وهم على كلا التقديرين محكوم عليهم باللعن والطرد؛ أمّا

ص: 170


1- المنافقون (63): 3
2- النساء (4): 82

على الأوّل فواضح، وأمّا على الثاني، فلأن القلوب إنّما أغلقت وأقفل عليها، لأنّهم اتبعوا أهواءهم وعاندوا الحقّ بعد مواجهتهم للآيات البيّنة الواضحة، كما

مرّبيان ذلك.

وهنا سؤالان: الأوّل عن الوجه في تنكير القلوب حيث يتوهّم أنّ الأولى أن

يقال: أم على قلوبهم أقفال ؟ والثاني عن إضافة الأقفال إلى القلوب.

والجواب عن الأوّل أنّه يحتمل فيه الإبهام لئلا يعمّ جميعهم، ونظير ذلك ما يرد في كثير من الموارد في القرآن الكريم من نسبة الجهل والعناد إلى الأكثر دون التعميم، وهذا من أدب القرآن ومن الدقّة في التعبير. وعلى هذا الأساس يمكن أن يشمل غيرهم أيضاً ممّن يكون فيه نفس المناط، فهذا التنكير يفي-د التخصيص والتعميم. ويحتمل - كما قيل - أن يكون التنكير للتفخيم، أي على قلوب قاسية أيّما قساوة. وأمّا إضافة الأقفال إلى القلوب فللتنبيه على أنّها أقفال خاصّة بها تنشأ من معاندتها للحقّ.

وفي الآية دلالة - كما في مجمع البيان(1) - على بطلان القول بعدم جواز تفسير شيء من القرآن إلا بخبر وسمع. وأوضح منه في حثّ الجميع على التفكّر في الآيات والتعمّق فيها قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أولُو الألْبَابِ).(2)

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ). الارتداد هو الرجوع. والأدبار جمع دُبُر، ودَبر بمعنى الخلف، أي رجعوا القهقرى، وهذا التعبير ربما يراد به الارتداد عن الدين

ص: 171


1- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 158
2- ص (38): 29

وربما يعبّر به عن الفرار في الحرب أو مخالفة البيعة والعهد وغير ذلك، ولكنّ

المراد هنا هو الارتداد عن الدين بقرينة قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ هُمُ الْهُدَى).

وقد اختلفوا في أنّ المراد هل هم المنافقون أو اليهود أو غيرهم؟ ففي «الكشّاف»(1) أنّ المراد بهم اليهود، لأنّهم تبيّن لهم الهدى حيث رأوا علامات النبوّة الواردة في التوراة مجتمعة في الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو بعيد جدّاً، لأنّهم مع تبيّن الهدى لم يؤمنوا، لا أنّهم آمنوا ثمّ ارتدوا. وقيل: إنّه لا ينطبق على المنافقين أيضاً، لأنّهم لم يبدّلوا دينهم ولم يرتدّوا، وإنّما آمنوا ظاهراً وهم كفّار باطناً، ف-لا ينطبق عليهم الارتداد، وإنّما المراد قوم من ضعاف الإيمان دخلوا الدين ثمّ ارتدّوا وخرجوا منه جهارا.

ولكنّ الظاهر أنّ المراد بهم المنافقون الذين سبق ذكرهم، والسياق مستمرّ في والتحذير من خطرهم، والمرتدّون لم يعبأ بشأنهم ولم يكونوا ذوي خطر وشأن مضافاً إلى أنّ الآيات التالية أيضاً لا تنطبق إلا على المنافقين فهم الذين قالوا لليهود أو المشركين: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ). وأما أنّهم لم يرتدّوا فيردّه قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثم كَفَرُوا فَطُبعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)،(2) وقوله تعالى في سورة النساء: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُن الله لِيَغْفِرَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً * بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأَنَّ هُمْ عَذَاباً اليما).(3)

ويظهر من هذه الآية أنّهم قد تكرّر منهم الارتداد، فليس المراد به إعلان

ص: 172


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 326
2- المنافقون (63): 3.
3- النساء (4): 137 - 138

الكفر والخروج عن ربقة الإسلام جهاراً، بل المراد أنّهم كانوا يظهرون ما يخفونه من الكفر في كلامهم وفي أفعالهم مع أنّهم كانوا في نفس الوقت يظهرون الإسلام كقول عبد الله بن أبي: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ)،(1) وقول بعضهم للنبي صلی الله علیه و آله وسلم (هُوَ أُذُنٌ)(2) وغير ذلك من الأفعال والأقوال ممّا ورد في الكتاب العزيز وفي التاريخ وكتب السيرة وهي كثيرة جدّاً، يظهر منها بوضوح كفرهم في الباطن، فكلّ ما يبدو منهم شيء من ذلك يعتبر ارتداداً،ثمّ إذا دخلوا في صفوف المسلمين وصلّوا معهم وأظهروا الإيمان اعتبروا مسلمين وهكذا.

(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ هُمُ الْهُدَى)، وهذا بيت القصيد ومناط الشقاء والتعاسة، فإنّ

ارتدادهم إنّما كان بعد تبيّن الهدى، فلم يكن كفرهم عن جهل وعدم اقتناع أو من تأثير الإعلام المضاد، بل إنّما ارتدّوا عن الإيمان ومستلزماته، لأنّه كان مناقضاً لأهوائهم ، وأمنياتهم، ومنهم من تمكّن من الإخفاء أكثر من المنافقين الذين أعلنوا عداءهم مراراً حتّى سنحت لهم الفرص، فغيّروا دين الله وحرّفوا معاني الكتاب وغيّروا سنن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأخذوا ثأرهم منه بقتل ذرّيته، كما صرّح به سفهاؤهم وأخفاه حلماؤهم، وهؤلاء أجدر بأن يوصفوا بالنفاق، حيث إنّ الذين عرفوا به سقط قناعهم وأصبحوا - حسب النصّ القرآني - فرقة في قبال المؤمنين؛ وأمّا هؤلاء فقد اندسّوا في صفوف المؤمنين، وربما اعتبروا م-ن كبرائهم جهلاً بحالهم ولم يرد على الإسلام والمسلمين أدهى ممّا كادوهم ب-ه،

ص: 173


1- المنافقون (63): 8
2- التوبة (9): 61

حيث فرّقوا صفوفهم وقتلوا سادتهم وخيارهم وبدّلوا دينهم ودسّوا في أحاديثهم واستأجروا الوضّاعين ولو أمهلهم الله تعالى لحرّفوا كتابهم.

(الشَّيْطَانُ سَوَّلَ هُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)، الجملة خبر ل- (إنَّ)، والتسويل هو تزيين الفعل القبيح، وأصله - كما في بعض كتب اللغة (1)- قد يكون من السؤل أي الأمنية، فخفّف إلى الواو، والمعنى أنّه جعل الفعل القبيح سؤلاً وأمنية لهم. ولكن في «الكشّاف»: «سوّل لهّم: سهّل لهم ركوب العظائم من السول وهو الاسترخاء، وقد اشتقّه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً»؛(2) وم-ا ذك-ره أيضاً وجيه ولكن لا وجه للتشنيع على القول الأوّل. ويختلف المعنى قليلاً على القولين، فعلى كونه من التسهيل يكون الشيء بذاته سؤلاً وأمنية للفاعل، ولكنّه يستعظمه فيتجنّبه، والشيطان أو غيره يغويه بسهولة الأمر؛ وعلى ك-ون-ه م-ن السؤل قد لا يكون الفعل أمنية للفاعل ذاتاً لا أنّه يتمنّاه ويستعظم نتائجه، فالشيطان يزيّن له الفعل ليتمنّاه، وهذا المعنى أنسب من جهة كثرة التعبير بالتزيين في القرآن الكريم.

والإملاء مأخوذ من الملاوة وهي امتداد الزمان قال تعالى في حكاية ق-ول إبراهيم علیه السلام الأبيه: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً)،(3) أي زماناً طويلاً، وقال تعالى: (وَأُمْلي همْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ )،(4) أي أمهلهم زماناً طويلاً، وعليه فالمراد هنا أنّ الشيطان يلقي في قلوبهم أنّ أمامهم متّسعاً من الوقت يمكنهم فيه التوبة والرجوع، فلا بأس

ص: 174


1- راجع: مفردات ألفاظ القرآن: 437
2- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4 : 326.
3- مريم (19): 46
4- الأعراف (7): 183؛ القلم (68): 45.

بالاستعجال حالياً بما يهوونه. ولكن في بعض التفاسير أنّ المراد أنّه يمنيهم

بالآمال الطويلة والأماني البعيدة، وهو غير مناسب لمعنى الإملاء ولا للارتداد. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ)، يمكن أن يكون (ذَلِكَ)) إشارة إلى الارتداد ويكون الغرض من الآية بيان وجه ارتدادهم وأنّه في أيّ مجال ظهر منهم ذلك فبيّن أنّهم ارتدّوا حينما قالوا كذا؛ ويمكن أن يكون إشارة إلى التسويل والإملاء، والمعنى أنّ السبب في تسلّط الشيطان عليهم وتسويلهم هذا القول منهم، لأنّهم بذلك خانوا الله ورسوله، فتمكّن الشيطان من النفوذ في عقولهم وقلوبهم وتسويل النفاق لهم حتّى ارتدّوا عن دينهم.

والظاهر أنّ المراد بالذين كرهوا ما نزّل الله اليهود والمشركون، حيث ينطبق العنوان عليهم جميعاً؛ أمّا المشركون فلأنّ القرآن أبطل اعتقادهم وأهان آلهتهم فكرهوه، وقد وصفوا بذلك في الآية 4 من هذه السورة، حيث قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ)؛ وأمّا اليهود فلأنّهم كانوا ينتظرون الرسالة المبشّر بها في كتبهم، وكانوا يعلمون أنّها ستكون في هذه المنطقة، ولكنّهم توهّموا أنّ الرسالة لا تكون إلا فيهم، فكلّ قبيلة منهم توقّعت أن يكون الرسول منها، ولهذا تركوا الأراضي المقدّسة وهاجروا إلى هذه المنطقة التي لا يرغب فيها أحد لزعمهم أنّهم شعب الله المختار وأنّ الرسالة لا تكون إلا فيهم، فلما رأوا الآيات مجتمعة في الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم كرهوا ما أنزل الله عليه وأنكروا رسالته حسداً وحقداً.

وقول المنافقين لأعداء الرسالة: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ) إِنّما أرادوا بذلك أنّهم يتستّرون بظاهر الإسلام فلا يتّبعون الشرك والكفر ظاهراً، ولكنّهم يعملون لهم ولصالحهم في الباطن، وهم فعلاً أطاعوهم في ما أرادوا ووصلوا بذلك إلى

ص: 175

بعض أهدافهم وهو عرقلة مسيرة الرسالة وإن لم يتمكّنوا من إطفاء نورها، بل أتمّه الله تعالى ليستنير به البشر الطالب للهداية طيلة القرون المتمادية. وقد ورد مثل ذلك في سورة الحشر ، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا تُطِيعُ فِيكُمْ أحَداً أبداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَتَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).(1)

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) تهديد وتوبيخ فالمشكلة لديهم تكمن في عدم إيمانهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بأنّه علام الغيوب، ومن الغريب أنّ الإنسان يحاول أن يتغلّب على إرادة الله تعالى، فالذين آمنوا به أيضاً تنقصهم المعرفة، قال تعالى في حكاية حال اليهود: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا اتحدثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أولا يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)،(2) ومثلهم إخوانهم المنافقون، حيث كانوا يظنّون أنّ بإمكانهم التخفّي عن الله تعالى والمكيدة به وبدينه ولا يعلمون أنّه تعالى يعل-م إسرارهم. والإسرار مصدر بمعنى الإخفاء.

(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المُلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)، أي فكيف حالهم يوم تتوفّاهم الملائكة وتقبض أرواحهم، حيث يضربون وجوههم وأدبارهم. وضرب الوجوه والأدبار كناية عن التعذيب والهتك والتحقير، حيث إنّ الأجسام تفقد الإحساس بعد الموت، وربما يفقد الإنسان معالم جسمه حين الموت، فليس هناك وجوه وأدبار. والتوفّي عبارة عن أخذ الشيء كاملاً، وفيه إشارة إلى أنّ

ص: 176


1- الحشر (59): 11
2- البقرة :(2): 76-77

حقيقة الإنسان متقوّمة بروحه وهي نفسه الناطقة، والملائكة وكلّها الله تعالى لقبض الأرواح البشرية حين الموت تشريفاً للروح الإنسانية، ولكنّ الإنسان بسوء عمله يوجب لنفسه الهتك والمذّلة. وقد ورد نظير هذه الآية في عاقبة الكفّار في قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ).(1)

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَاهُمْ)، (ذَلِكَ) إشارة إلى ضرب الوجوه والأدبار حين التوفّي، ويلاحظ أنّ آية الأنفال الآنفة الذكر الواردة في الكفّار ذكر فيها تعليل هذا الأمر بأعمالهم وما قدمت أيديهم، فالظاهر أنّ المنافقين حيث أظهروا الإيمان وشاركوا المؤمنين في بعض الأعمال، فربما يتوهّم أنّ أعمالهم توجب فرقاً بينهم وبين الكفّار من حيث العاقبة، فالآية هنا تبين أن الله تعالى أحبط أعمالهم، لأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، فكانت عاقبتهم كعاقبة الكفّار.

وفسرت متابعة ما أسخط الله تعالى بمتابعة الأهواء - كما في الميزان(2) - ولكنّ الظاهر أنّ متابعة الهوى بنفسها لا تستلزم دائماً سخط الله سبحانه وإن كانت مذمومة، بل هي أمّ الفساد، ولكن ليست كلّ متابعة للهوى بهذه المنزلة حتّى توجب حبط الأعمال وإلا لم يبق للمؤمنين عمل، فإنّ الفائز بترك متابعة اله-وى مطلقاً من أخصّ الخواصّ، فالظاهر أنّ المراد بها في هذا المقام متابعة أعداء الدين والمشاركة في المكائد التي كانت تحاك من قبل المشركين واليهود ضد

ص: 177


1- الأنفال (8): 50 - 51
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 242

الرسالة المجيدة، وإن كانت متابعة ما أسخط الله التي توجب حبط الأعمال أعمّ من ذلك.

ولذلك عطف عليه أنّهم كرهوا ،رضوانه، فهناك فرق بين عدم الاهتمام بتحصيل رضاه تعالى، لأنّه يتنافى مع المشتهيات والملذّات، وبين كراهة رضوانه؛ ولا مبرّر للقول بأنّ المراد كراهة ما يوجب رضوانه من الطاعات والأعمال، كما في التفاسير، فإنّهم بناءاً على ذلك لا يكرهون الطاعات بما هي طاعة، بل بما أنّها تنافي أهواءهم، ومردّ ذلك إلى أنّ الكراهة ليست متعلّقة بالرضوان أساساً، وهو خلاف الظاهر من العبارة، فإنّ الظاهر منها أنّهم كرهوا نفس الرضوان واستحبّوا سخطه فهم أعداء الله تعالى باطناً وإن أظهروا الإيمان.

و غريب أمر هذا الإنسان كيف يهوي إلى هذا المهوى السحيق، فيعادي ربّه ويبغضه ويطلب غضبه، ونحن نجد في زماننا هذا من هذا القبيل أناساً يدّعون العلم ويتسلّمون كراسي التدريس في الجامعات وتشمئزّ نفوسهم من ذكر اسم

الله تعالى ويبذلون قصارى جهدهم في إنساء ذكره تعالى، وهناك من الناس من تأثّروا بالإلحاد الحديث يظهر عداؤهم الله تعالى على ألسنتهم وأعمالهم مع أنّهم يحملون أسامي إسلامية ويعتبرون مسلمين في الهوية الشخصية، فتجد الاهتمام البليغ في أقوالهم وأفكارهم لنشر الإلحاد والكفر في المجتمع

الإسلامي، وإضعاف روح الإيمان في الجيل الناشئ والشباب المسلم. والحاصل أنّ ظاهر الآية الكريمة أنّ المنافقين أعداء الله تعالى، وإن كان هذا العداء يحصل من جهة أنّ الإيمان به تعالى يتنافى مع الأهواء والأماني، إلا أنّ الأمر وصل بهم إلى حدّ المعاداة لفكرة التوحيد، كما نشاهده في الملحدين

ص: 178

الجدد، وهناك فرق بين عدم الإيمان أو ضعفه وبين معاداة الفكرة والسعي ضدّها وبذل الجهد والمال في سبيل إطفاء نورها، وهذا هو ما نلاحظه في بعض الملحدين الجدد لا كلّهم؛ وفي بعض المنافقين الجدد والقدماء. وهذا العداء هذه الآية تحبط الأعمال، فلو كان لهم عمل صالح واقعاً أو ظاهراً، فإنّ الله تعالى يحبطه لمعاداتهم له تعالى. وقد مرّ بيان حبط الأعمال في تفسير الآية 9 من نفس السورة، ونتيجة لهذا الحبط يلقون تلك العاقبة المشيئة والمهينة حين موافاة الأجل.

ثمّ إنّ إسناد الرضا والسخط إلى الله تعالى يختلف عن إسنادهما إلى غيره، فهو ليس محلاً للعوارض ، وقد ورد في الحديث أنّ رضاه وغضبه ثوابه وعقابه، و معنى ذلك أنّ هذه الصفات التي تدلّ على تبدّل الحالة في الإنسان ونحوه إذا أسندت إلى الله تعالى فإنّما يراد به حدوث الفعل منه، إذ لا تطرأ عليه حالة؛ والسبب واضح، وهو أنّ عروض الحالات وتبدّلها ينشأ من الجهل بالمستقبل، فحيث يجد الإنسان من غيره ما لا يناسب طبعه يغضب منه، كما أنّه إذا وجد منه ما يناسبه يرضى منه والله تعالى عالم الغيب والشهادة لا تختلف عنده الأزمنة، فالماضي والحال والاستقبال كلّها حاضرة لديه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يصحّ إسناد الرضا والغضب إليه تعالى بالمعنى المتعارف وهو تناسب الشيء للطبع وعدم تناسبه، وإنّما يرضى الله تعالى بما هو خير وحسن ويكره الشرّ وفعل القبيح لا لأنّ شيئاً يناسبه وشيئاً لا يناسبه، بل لأنّ الأشياء تختلف بذاتها من جهة كونها واقعة في موقعها المناسب في الكون وعدمه. وأمّا تفسير الرضا والغضب بفعل الثواب والعقاب، بمعنى نفي أصل الرضا

ص: 179

والغضب والحبّ والكراهة ونحو ذلك فهو مخالف لصريح القرآن الكريم الذي ورد فيه إسناد هذه الصفات إليه تعالى في موارد كثيرة، فهناك أناس مقرّبون رضي الله عنهم ورضوا عنه ويحبّهم ويحبّونه، وهناك أعمال يرضى بها وأمور لا يرضى بها، قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)،(1) وهناك أناس ملعونون مطرودون لا يكلّمهم الله القيامة ولا ينظر إليهم، فالقرب والبعد لديه تعالى موضع تأكيد من الآيات المباركة، ولا شك أنّ القرب والبعد يتبع صفات الإنسان وسجاياه وأعماله. نعم لا يحدث من الله تعالى شيء إلا الثواب والعقاب بالمعنى الأعمّ الشامل للقرب والبعد، ولا

تطرأ عليه حالة الرضا والغضب ولا أيّ حالة أخرى.

ص: 180


1- الزمر (39): 7

سوره محمّد(29-31)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن تُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَتَهُمْ(29) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْتَكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَلَكُمْ(30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّبِرِينَ وَنَبْلُواْ أَخْبَارَكُمْ (31)

(أمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَاتَهُمْ)، (أم) منقطعة، ففيها معنى الإضراب والاستفهام، ولعلّه إضراب عن قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ)،حيث يدلّ على أنّهم توهّموا أنّه تعالى لا يعلم ما يدور بينهم وبين الأعداء المجاهرين بالعداء من اليهود والمشركين، فهنا أضرب عن ذلك وقال: أم أنّهم لا يتوهّمون ذلك، ولكن يظنّون أنّه تعالى لا يخرج أضغانهم وأحقادهم أبداً، حيث رأوا أنّ ما يدور بينهم من إظهار العداء للرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمنين لم يظهر لهم، فتوهّموا أنّ الله تعالى يستر عليهم إلى الأبد، فهذه الآية تنبّههم أنّه ليس كذلك. وهناك ظروف تستدعي أن يفضحهم الله تعالى ويخرج أحقادهم، بل ربما يريهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ويعرفه بهم كما ورد في الآية التالية.

ويتبيّن بذلك أنّ الاستفهام الذي تدلّ عليه (أم) إنكاري لتخطئة هذا الحسبان، كما يتبيّن وجه الإتيان ب- (لَن) الدالة على نفي الأبد. والمراد ب- «الذين» في قلوبهم مرض» المنافقون، فإنّهم هم الذين كانوا يحملون حق-داً دفين-اً على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمنين ، ولا وجه لحمل-ه عل-ى ضعاف الإيمان كما في «الميزان»؛(1) إذ لا موجب لحقدهم. ولعلّ العلامة الطباطبائي رحمه الله إنّما فسرّه بذلك لئلا يختصّ بالمنافقين الذين عرفوا بالنفاق، نظراً إلى أنّ عنوان المنافقين خاصّ

ص: 181


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 242

بهم حسب المصطلح القرآني.

وكيف كان، فالظاهر أن المراد بهم المنافقون بالمعنى العامَ، لا خصوص من

عرفوا به، بل يشمل غير المعروفين بطريق أولى، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويمكن أن يكون المراد بأنّ الله تعالى يخرج أضغانهم، أنّها تظهر للناس بصورة طبيعية إذا استمرّوا عليه كما هو الغالب، أو أنّها تظه-ر ب-وح-ي م-ن الله تعالى والضغن، الحقد الدفين الذي يحاول صاحبه اخفاءه، قال في «معجم المقاييس»: إنّه يدلّ على تغطية شيء في ميل واعوجاج.(1) ولكن في «مفردات الراغب»: أنّه خصوص الحقد الشديد(2) ولم أجده لغيره.

(وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ)، السيما مأخوذ من الوسم، أي العلامة، وهذا من تبديل مواضع الحروف، كما يقال: ما أطيبه وما ايطبه. والمراد أنّ الله تعالى لو شاء الأعلم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بعلامات محدّدة يميز بها المنافقين عن غيرهم، وظاهر الآية أنّ الله تعالى لم يشأ ذلك فلم يعرفهم بهذا الوجه، وذلك لمكان (لَوْ). وهذه الجملة قرينة واضحة على أنّ المراد بهم ليس خصوص من عرفوا بالنفاق الذين سقط عنهم القناع، بل الأولى أن يراد بهم خصوص من لم يعرفوا به، ولكنّ الظاهر من الروايات أنّ الرسول صلى الله عليه و اله و سلم كان يعرف القسم الثاني أيضاً بأشخاصهم، بل عرّفهم لبعض أصحابه، فلعلّ المراد بالمنفي هنا تعريفهم لعامّ-ة الناس وإن كان الخطاب له صلی الله علیه و آله وسلم ومثله كثير.

(وَلَتَعْرِ فَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) اللام للقسم المحذوف، فالمعنى محقّق بكلّ تأكيد

ص: 182


1- معجم مقاييس اللغة 3: 364
2- مفردات ألفاظ القرآن: 509

وهو أنّ الرسول صلى الله عليه و اله وسلم بل وعامّة المؤمنين يعرفونهم في لحن القول، وهذا هو الطريق الطبيعي لبروز الأضغان كما أشرنا إليه، وفي «نهج البلاغة» عن أمير المؤمنين علیه السلام : «ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه».(1)

واللحن - كما في المفردات (2) - صرف الكلام عن سننه الجاري عليه، والمراد به هنا صرفه عن الصراحة إلى التعريض والكناية، وفي هذا المجال تتبيّن الأهداف والأحقاد، فالعدوّ يتحيّن الفرص ليلقي كلاماً ظاهره معسول وهو يكني به عن ما يسيء إلى المخاطب ويثير عليه.

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)، ظاهره مخاطبة المؤمنين، ولكنّه تحذير للمؤمنين والمنافقين جميعاً بأنّ الله تعالى يعلم حقائق الأعمال، وكثيراً ما يعمل الإنسان عملاً ظاهره الخير وهو يقصد به البلوغ إلى مقاصد شريرة، وعامّة الناس لا يعلمون ذلك فيمتدحونه، وكثيراً ما لا تظهر المقاصد من الأعمال ولا في لحن القول، فالآية تنبّه الجميع أنّه لو فرض عدم التبيّن من لحن القول، فإنّ الله تعالى يعلم بالنيات ولا يمكن إخفاء شيء عنه فاحذروه وفي الآية إشارة إلى أنّ النفاق ربما يكون أمراً سارياً في أعمال بعض المؤمنين أيضاً، فلا يكفي مجرّد كون الشخص ممّن لم يبرز نفاقه للعامّة في خروجه عن معسكر النفاق، بل ربما يكون بعض من يعتبر من المؤمنين من أشدّ المنافقين ضغناً وحقداً - كما قلن-ا --- ولكنّ الناس يجهلون موضعه الحقيقي فيرفعون من شأنه، ولكنّ الله تعالى يعلم عمله وقصده وخبثه فليحذر ربِّه.

ص: 183


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 26/472 .
2- مفردات ألفاظ القرآن: 738

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)، أي نبتليكم بالحروب

وبالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية ليتبيّن المؤمنون عن المنافقين، وهذا الابتلاء ربما يظهر به حقائق الناس للعامة أيضاً، فإنّ المنافق الذي يظهر الإيمان ويبرئ من النفاق يظهر ضعفه في ميادين القتال والمؤمن بالله واليوم الآخر حقّاً وصدقاً لا يخاف الموت ويلقي بنفسه في أتون الحرب، ولا يحذر من قتل الكفّار أعداء الدين والرسالة، ولا يهمّه أن تحمل العرب عليه الأحقاد ، كما كان أمير المؤمنين علیه السلام ولكنّ المنافق وإن أظهر براءته من المنافقين والمشركين إلا أنّك تجده لا يضرب في الحرب سيفاً ولا يخوض المعركة خوفاً من الموت وحذراً من أن يبتلى بقتل أحد من الكفّار فيحقدوا عليه، هذا إذا لم يكن محبّاً لهم ومتورعاً عن قتلهم. ولعمري إنّ ميادين الحرب في تلك الحقبة خير مضمار ليتبيّن لطالب الحقّ من يخلص الله تعالى وللرسول صلی الله علیه و آله وسلم ومن يحمل الأحقاد للإسلام والمسلمين ويتربّص بهم الدوائر. والمراد بحصول العلم الله تعالى هو ظهور حقيقة الأمر، كما بيّنا ذلك مراراً، فالله تعالى لا يحدث له العلم ولا غيره من العوارض ولا يختلف عنده ما حدث وما سيحدث، ولكنّ الأثر من الثواب والقرب عند الله تعالى لا يترتّب على إمكان الجهاد والصبر أو استعداد الإنسان للتضحية والجهاد، بل إنّما يترتّب عليهما بالفعل، فلا بدّ من تحقيق الأرضية التي تتبيّن بها حقائق الضمائر وجواهر الرجال.

(وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، الأخبار الأقوال التي تحكي عن الحوادث ونحوها، وفي التفاسير أنّ المراد بها الأعمال، لأنّها ممّا يخبر بها، فالاختبار يتعلّق تارة بذات

ص: 184

الإنسان وأنّه مجاهد وصابر أم لا، وتارة بأعماله.

ويلاحظ على هذا التفسير أوّلاً: أنّ الاختبار الأوّل أيضاً يتعلّق بالعمل، فيكون

تكراراً وتأكيداً وهو خلاف الظاهر.

وثانياً: أن (نَبْلُوَ) عطف على (نَعْلَمَ)، فيكون الاختبار الثاني نتيجة للاختبار

الأوّل وليس اختباراً في عرضه.

ولعلّ المراد بالأخبار هنا الدعاوي التي يتبجّح بها الإنسان فيدّعي أنه مؤمن وأنّه سيكون صابراً فى الضرّاء والسراء أو يقول لغيره يجب أن تكون كذا وكذا، فهذه الدعاوي تكون منشأ للاختبار ليتبين الصادق في دعواه عن المراوغ المنافق. والأرضية الصالحة لهذا الاختبار هي ميادين الجهاد، ولذلك اعتب-ر ه-ذا الاختبار نتيجة لاختبار الإنسان في خوض المعارك حيث عطف (نَبْلُوَ) على (نَعْلَمَ). فالمعنى أنّنا نبلوكم بالحروب ليتبيّن المجاهدون الصابرون ولنميز من هو صادق في دعواه عن الكاذب.

ص: 185

سوره محمّد(32-35)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ أَهْدَى لَن يَضُرُواْ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَلَهُمْ (32) يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَلَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَلَكُمْ الله(35)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ هُمُ اهْدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أعمَالَهُم)، يعود السياق إلى م-ا ب-دأ ب-ه ال-س-ورة وه-و ح-ثّ المؤمنين على مواصلة الجهاد ضدّ الكافرين الذين يصدّون عن سبيل الله ويمنعون من انتشار الدعوة ، فالظاهر أنّ المراد بالذين كفروا مشركو مكّة، كما هو مصطلح القرآن الكريم، ويمكن أن يشمل اليهود وغيرهم ممّن اجتمعت فيهم الصفات، ولكن لا وجه لتخصيصه باليهود كما قيل، والظاهر أنّ المناط في لزوم الجهاد والمحاربة هو الصدّ عن سبيل الله والمنع من انتشار الدعوة، وأمّا مجرّد الكفر فلا يستوجب الحثّ على المواجهة. والصدّ: المنع.

والمشاقّة مأخوذ من الشقَّ، أي القطعة، وهي كناية عن العداء، والمواجهة على أساس أنّ المشاقَة بمعنى كون كلّ منهما في شق غير شق الآخر. وقي-ل ف-ي وجهه غير ذلك. ومهما كان فالشقاق بمعنى العداء والمخالفة وأساس التنديد هنا أنّ الشقاق والخلاف إنّما هو في مقابلة رسول ربّ العالمين بعد تبيّن الهدى بمشاهدة المعاجز والآيات البيّنات، وإن أريد بهم اليهود، فالمراد من تبيّن الهدى مشاهدة علائم النبوّة الموجودة في ما لديهم من الكتب في الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

ص: 186

ومهما كان فهؤلاء وأولئك لن يضرّوا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم؛ أمّا عدم الإضرار فراضح ، لأنّ الله تعالى هو القاهر فوق عباده ولا يتأبى على إرادته شيء، فلو أراد لأهلك من في الأرض جميعاً، بل لا يضرّون دينه أيضاً ولا يمكنهم منع الدعوة من أن تسير سيرها الطبيعي، والغرض أنّ مشاقتهم للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وصدّهم عن سبيل الله تعالى محاولة منهم لمواجهة ربّهم، فهم في الواقع أعداء الله ولكنّهم لا يضرّون بذلك إلا أنفسهم، والله تعالى لا يتضرّر بشيء حتّى لو كفر الناس جميعاً. والظاهر بقرينة السياق أنّ المراد بحبط الأعمال هنا حبط مكائدهم و محاولاتهم لمنع انتشار الدعوة. وقيل: إنّ المراد حبط أعمالهم الصالحة، فلا يترتّب عليها ثواب، وهو بعيد عن السياق، مع أنّه لا يختصّ بهؤلاء، بل يشمل كلّ كافر حتّى لو كان معاهداً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ)، في هذه الجملة أيضاً عود إلى السياق السابق وهو حثّ المؤمنين على الطاعة في مجاهدة الأعداء وإن كان وجوب الإطاعة عامّاً، ولكنّ التأكيد هنا على الإطاعة في مجال الدفاع عن الدين والعقيدة. ووجوب إطاعة الله ممّا يحكم به العقل، فالأمر به ليس إلا إرشاداً وتنبيهاً لحكم العقل، وليكون مقدمة للحكم بإطاعة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ووجوبها حكم شرعي. والفرق أنّ وجوب إطاعة الله تعالى لا يمكن أن يستند إلى أمره تعالى للزوم الدور الباطل، وإنّما يستند إلى حكم العقل بلزوم اتقاء الضرر الحاصل من معصية الله تعالى حيث تتضمّن أوامره المولوية حكماً جزائياً بالعقوبة - على مبنى سيّدنا الأستاذ السيستاني حفظه الله - أو يستند إلى حكم العقل بوجوب التذلل والخضوع الله تعالى، حيث إنّ الإنسان إذا عرف ربّه مهما

ص: 187

كانت المعرفة فإنّه يشعر بلزوم التذلّل والإطاعة حبّاً له أو تعظيماً لمقامه، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الجنَّةَ هِى المأوى).(1) ولعلّه للفرق بين الإطاعتين كرّر الأمر.

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)، تحذير للمؤمنين العاملين المطيعين لله ورسوله، فإنّ المرحلة الخطيرة بعد العمل هي المحافظة عليه، فربما يعمل الإنسان أعمالاً صالحة وبنيّة خالصة طيلة عمره، ثمّ يبطلها بأعمال سيّئة، وهناك مجموعة من الأمور ورد ذكرها في القرآن واعتبرت محبطة للأعمال؛ منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)،(2) ومنها ما يبطل بعض الأعمال كالمنّة المبطلة للصدقة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمُنَّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ)،(3) ومنها العجب والرياء حتّى لو كان بعد العمل، فإنّ الكلام ليس في البطلان الموجب للقضاء، حيث ذكر الفقهاء عدم بطلان العمل بالرياء بعده، وإنّما الكلام في عدم ترتّب الأثر المطلوب عليه؛ ففي الحديث عن الإمام الباقر علیه السلام «يصل الرجل بصلة وينفق نفقة الله وحده لا شريك له، فتكتب له سرّاً، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياءاً»(4) والنهي عن إبطال العمل كما تبيّن - لا علاقة له ببطلان العمل فقهياً، فلا وجه لما ورد في بعض الكتب الفقهية من دلالة الآية على عدم جواز إبطال الفريضة.

ص: 188


1- النازعات (79): 40 - 41.
2- الحجرات (49): 2
3- البقرة (2): 264
4- الكافي 2 296 / 16.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيل الله ثمّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ هُمْ)، هذه الآية تبيّن مصير الكفّار المعاندين يوم القيامة وتبعث فيهم الأمل من جهة أخرى، كما دأب القرآن الكريم وهو مقتضى الرحمة الإلهية، فبعد كلّ هذا التهديد والتنديد علّق عدم المغفرة بموتهم حال الكفر ، فباب التوبة مفتوح حتّى لهؤلاء المعاندين الصادّين عن سبيل الله.

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)، الفاء فصيحة تنبئ عن شرط مقدّر، أي إذا تبيّن أنّ الله تعالى موهن كيد الكافرين وأنّهم لن يضرّوا الله شيئاً فلا تهنوا والوهن هو الضعف والمنهي هنا هو إظهار الضعف والمذلّة، وقوله: ﴿وَتَدْعُوا) عط-ف عل-ى تهنوا فيشمله النهي، ويبدو من السياق أنّ المنهي هو الدعوة إلى السلم وهو الصلح إذا كان منشؤها الضعف أمام طغيان المعاندين وظلمهم، فمن الواضح أنّ الحرب لم يبدأها المسلمون ولم يطلبوها، وإنّما كان همّهم نشر الدعوة ليهلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ولم يكن بينهم وبين الطغاة الظالمين ثأر، وإنّما كان المشركون يحاربون الدعوة إلى الله كفراً منهم وعنادا فلم يجز الصلح معهم.

(وَانْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، جملات حالية، أي لا تدعوا إلى السلم في هذا الحال وأنتم الأعلون، وذلك لأنّ الحرب آنذاك إنّما كان بالقوّة البشرية والشجاعة والصبر والإيمان، وكلّ هذه العوامل كانت مجتمعة في معسكر المسلمين، فهم أعلى وأكثر قوّة من الكفّار وإن كثر عددهم، وأهمّ ما لديهم هو الشعور بأنّ الله معهم، أي ينصرهم، كم-ا وع-د ب-ه ف-ي ه-ذه الآيات

وغيرها والله لا يخلف وعده.

ص: 189

وقوله: (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، أي لن ينقص من أعمالكم شيئاً وهو من الوتر، أي الفرد، يقال: وَتَر الرجلَ في أهله وماله إذا قتل قريبه من ولد أو أخ أو نحوهما نهب ماله كأنّه أفرده عنهم، و(أعْمَالَكُمْ) منصوب بنزع الخافض، أي يتركم في أعمالكم أو من أعمالكم. ومهما كان، فالغرض حثّ المؤمنين على مواصلة الجهاد، لأنّهم هم الأعلون وأنّ الله معهم، ولأنّ كلّ ما يبذلونه في هذا السبيل لن يذهب سدى فلا تجزعوا من الموت أو نقص العضو أو الخسارة المادية، فكلّ ما تبذلونه في هذا السبيل يوف إليكم يوم القيامة أضعافاً مضاعفة ولن ينقص الله من أعمالكم شيئاً.

ص: 190

سورة محمد (36 - 38)

إنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْتَلَكُمْ أَمْوَلَكُمْ(36)إِن يَسْتَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَتُخْرِجْ أَضْغَنكُمْ(37) هَتَأَنتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مِّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلَ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمثلكم(38)

(إنَّما الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ)، تأتي هذه الجملة أيضاً في سياق الترغيب في بذل المال والنفس في سبيل الله، فالذي يمنع الإنسان من التقدّم في هذا المضمار هو حبّ الدنيا والإخلاد إليها، وهذه الآية تنبّهه على عدم الركون إليها، فإنّها ليست إلا لعباً ولهواً، وكلّ ما نعمله من الأعمال الخاصّة بهذه الحياة يدخل في هذين العنوانين، وهذا هو مقتضى الحصر المستفاد من (إنَّمَا)، فإنّها تفيد الحصر إذا اقتضته القرينة أو مطلقاً، والسياق هنا قرينة عليه ولا يراد به حصر كلّ ما يحدث في هذه الحياة في اللهو واللعب، إذ من الواضح أنّ الأعمال الصالحة التي يأتي بها الصالحون من البشر ويقصد بها وجه الله تعالى ليس منهما، فالمراد حصر كلّ ما يطلب به شؤون هذه الحياة من دون ارتباط بالآخرة فيهما.

واللعب هو الاشتغال بما لا يترتّب عليه مصلحة، وإنّما الداعي إليه الوهم كألعاب الأطفال ويقابله الجدّ. واللهو كلّ ما يشغل الإنسان عن أمر أهمّ، وحيث إنّ المهمّ هو الحياة الأبدية والسعادة فيها، فالاشتغال بأيّ أمر آخر لا يفي-د ف-ي الآخرة يعتبر لهواً ، أي اشتغالاً بأمر سخيف عن الأمر المهمّ. وإذا قيست الأعمال التي يقصد بها الدنيا إلى أعمال الآخرة نجد أنّها في الواقع لا تترتّب عليها

ص: 191

مصلحة ، بل توجب تفويت المصلحة الواقعية، والاشتغال بها ليس إلا لهواً وابتعاداً عن الأمر المهمّ، فالذي يأخذ الحياة بمأخذ الجدّ هو الذي يعمل لآخرته فحسب، حتّى ما يعمله من أعمال الدنيا أيضاً يقصد بها الآخرة وإلا فهو

لهو ولعب.

وهذا يشمل حتّى الأعمال المفيدة للمجتمع البشري كالتطوّر العلمي والخدمات الطبية إذا لم يقصد بها التقرّب إلى الله تعالى، فإنّ غاية ما تفي-ده ه-ذه الأعمال هو إطالة عمر إنسان أو عمر الإنسان بصورة عامّة وتأمين متطلّباته في الحياة الدنيا ورفع مستواه المعيشي ونحو ذلك ممّا يهتمّ به البشر في هذه الدنيا، وكلّ ذلك ليس أمراً مهمّاً إذا قارناها بالعمل من أجل الآخرة، والسرّ في ذلك أنّ الحياة هي تلك الحياة وهذه الحياة ليست إلا ممرّاً ومعبراً، والإنسان فيها كمسافر تمنح له فرصة يسيرة ليتمكّن فيها من جمع أكثر ما يمكن جمعه من الزاد لتلك الحياة، كما قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا هَوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ هِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)،(1) وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ حَيَاتِي).(2)

ومن هنا فإنّ كلّ ما يعمله الإنسان في سبيل تطوير العيش في الحياة الدنيا يعدّ في نظر من يلاحظ الحياتين لعباً ،ولهواً، أي لا هدف له أصلاً أو الهدف منه الاشتغال والالتهاء بأمر تافّه عن الأمر المهمّ، كمن يترك شأناً هامّاً من شؤون الحياة الدنيا كالدفاع عن النفس والأهل والوطن، ويشتغل بالخمر والميسر

ص: 192


1- العنكبوت (29): 64.
2- الفجر(89): 23-24.

ونحوهما، فإنّ هذا لا يقبل له عذر عند العقلاء.

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ)؛ استدراك عن دور هذه الحياة في سعادة الإنسان، فالنشاط فيها وإن كان كلّه لعباً ولهواً إلا أنّ الإنسان إذا آمن بربّه واتقى فإنّه يحصل على أجر عمله في الحياة الأبدية، فلا يكون ما عمله في هذا السبيل لعباً ولا لهواً. ولا يطلب الله تعالى من الناس أن يبذلوا أموالهم في هذا السبيل حتّى يشقّ عليهم، فالله أعلم بحالهم ويعلم أنّ بذل المال شاقّ عليهم ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها. ولكن يقع السؤال عن أنّ بذل المال واجب شرعاً في الزكاة والخمس والنفقات الواجبة والكفّارات والهدي وما يستوجبه حفظ الثغور وغير ذلك، فكيف التوفيق؟ ويلاحظ أنّ الآية الأخيرة تصرّح بالدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى فهذه قرينة واضحة على أنّ المراد هنا معنى لا ينافي وجوب بذل المال في هذه الموارد.

وقد اختلف المفسّرون في تأويل الآية ورجّح الأكثر أنّ المراد أنّه تعالى لا يسألكم جميع أموالكم وقالوا إنّه هو الظاهر من إضافة الجمع إلى ضمير الخطاب في قوله: (أمْوَالَكُمْ)، ولكنّ الظاهر أنّ الإضافة لا تدلّ على الاستغراق، فيصدق (أمْوَالَكُمْ) على بعضها أيضاً.

وربما يقال: إنّ قوله تعالى في الآية التالية: (فَيُحْفِكُمْ) يدلّ على ذلك، لأنّ الإحفاء بمعنى المبالغة في الطلب، فكما يصدق مع الإلحاح في السؤال حتّى لوكان المطلوب قليلاً يصدق مع المبالغة من جهة كثرة المطلوب.

ولكنّه لا يقتضي أن يكون المطلوب جميع الأموال، إذ تصدق المبالغة حتّى

مع كونه كثيراً شاقّاً على المكلّف.

ص: 193

ويبقى على هذا الوجه الإشكال من جهة أنّ مفهوم الآية بناءاً على هذا التأويل هو أنّه تعالى يسأل مع عدم الإيمان أو التقوى، فإنّ الجملة الشرطية لها مفهوم. والتزم بهذا المفهوم بعضهم وقال: إنّ الكافر يؤخذ منه أمواله، ولعلّ المراد به عدم حرمة ماله على المسلم. ويردّه أنّ هذا ليس هو المفهوم من الآية، بل مفهومها أنّ الله تعالى يطلب منه جميع هذا و غیر صحیح.

هذا مع أنّ المفهوم يشمل المؤمن غير المتّقي، لأنّ مفهوم الآية بناءاً على هذا التأويل هو: «وإن لم تؤمنوا وتتقوا يسألكم جميع أموالكم»، فيشمل الحكم من آمن ول--م يتّق الله. ولكن يمكن دفع الإشكال بأنّ المفهوم انتفاء مجموع الأمرين في الجزاء إيتاء الأجر وعدم السؤال فيكفي في صدقه أنّ الكافر وغير المتّقي لا يعطى أجراً.

هذا مع أنّ المطالبة بجميع الأموال أمر مستغرب جدّاً وغير محتمل، فيبعد جدّاً

أن يمنّ الله تعالى على المؤمنين المتّقين بنفيها.

وقال بعضهم: إنّ المراد ليس هو الجميع، بل المبلغ الكثير الذي يكون دفعه شاقاً عليهم. ولكنّه بعيد، إذ يقتضي أن يكون المراد من أموالكم بعضها من دون نصب قرينة في نفس الجملة على تحديد البعض، والمفروض عدم إمكان إرادة البعض بقول مطلق، فيشمل أقلّ شيء ممكن لكونه خلاف الواقع.

والأقرب في معنى الآية ما ذكره بعضهم من أنّه تعالى لا يسألكم شيئاً من أموالكم كأجر للرسالة، بل هو الذي يؤتيكم الأجر على أعمالكم دون أن يسألكم مالاً، وإنّما تدعون لتنفقوا في سبيل الله تعالى لمصلحتكم ولحفظ ثغوركم، ومع ذلك فإنّ الله تعالى يؤتيكم الأجر على ذلك لكون القصد أن يكون في سبيله تعالى،

ص: 194

فيكون نفي المطالبة بمال كأجر للرسالة مقدمة للمطالبة بالمال لمصلحتهم.

(إِنْ يَسْأَلُكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ). الضمير يعود للأموال. والإحفاء هو المبالغة في الطلب كما مرّ، والظاهر أنّ المراد به هنا الإيجاب، والله تعالى أعلم بحال خلقه، فهو يعلم أنّه إذا أوجب مالاً عليهم يدفع للرسول صلى الله عليه و اله وسلم ليصرفه على نفسه وفي مصالحه الخاصّة يبخل غالب الناس عن دفعه ويشقّ عليهم ذلك الأضغان والأحقاد، كما نجده في موارد مشابهة. ويظه-ر م-ن التعبير التنديد بهم من جهة البخل أوّلاً، ثمّ من جهة ضعف إيمانهم بحيث يحقدون على ربّهم أو على رسوله صلی الله علیه و آله وسلم إذا طولبوا بالمال، وهذا شأن أبناء الدنيا، والمطلوب من المؤمن أن لا يتعلّق قلبه بزخارفها فضلاً عن أن يقدمها على حبّه الله وللرسول صلی الله علیه و آله وسلم

(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله)، (هَا) للتنبيه وكرّرت للتأكيد، و (أَنْتُمْ) مبتدأ خبره (تَدْعَوْنَ) و(هَؤُلاءِ) بدلّ عن المبتدأ، ولعلّ الإبدال لدفع توهّم شمول الخطاب لسيّد المخاطبين صلی الله علیه و آله وسلم أو للتأكيد. وقيل: (أَنْتُمْ) مبتدأ و (هَؤُلاءِ) خبره والإشارة إلى من ذكر وصفه في الآية السابقة، والجملة التالية مستأنفة. ولعلّه أتى بفعل: (تَدْعَوْنَ) مبنياً للمجهول تعظيماً للداعي أو للإشارة إلى أنّ المناط هو المدعوّ إليه وهو الإنفاق في سبيل الله ولا يهمّ دور الداعي. والجملة في مقام الاستشهاد لما ورد في الآية السابقة من أنّهم لو أمروا بالإنفاق للرسول صلی الله علیه و آله وسلم البخلوا وخرجت أضغانهم، فيقولها أنتم تدعون للإنفاق في سبيل الله وللمصلحة العامّة، فمنكم من يبخل، فكيف لو دعيتم إلى الإنفاق كأجر للرسالة؟! وقيل: إنّه استشهاد لبخلهم في إنفاق الجميع.

(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلُ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ). من حسن أدب القرآن أنّه لم

ص: 195

ينسب البخل هنا إلى أكثرهم أو إليهم على سبيل الإجمال، بل نسبه إلى بعضهم تحقيراً لشأنه وإعلاماً بأنّ الغالب ليسوا كذلك. وحيث كان الهدف من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو تربية الإنسان والرفع من شأنه، فالدين يحاول أن يأخذ بيد هذه الفرقة القليلة أيضاً ويزيل عنهم داء البخل، فإنّ شحّ النفس مانع من الكمال، قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)،(1) ولولا ذلك لأمكن أن يؤخذ المال من الناس قهراً، كما تفعله الأنظمة الحكومية البشرية، ولكن نظام الرسالة تحاول هداية الإنسان إلى الطريق الصحيح، فيبيّن له أنّ الإنفاق في هذا المجال إنّما هو لمصلحتك الشخصية، فكما تنفق على نفسك في المأكل والمشرب، فعليك أن تنفق لحفظ دينك وبلدك وعرضك. ولذلك فإنّ من يبخل عن الإنفاق في هذا السبيل إنّما يبخل عن نفسه ويضرّ نفسه، والإنفاق في هذا الوجه أهمّ من الإنفاق في سبيل المأكل والملبس ونحوهما. هذا مضافاً إلى أنّه يضرّ نفسه ضرراً بليغاً حيث يخسر السعادة الأبدية في الدار الآخرة ويمنع نفسه من تحصيل رضوان الله تعالى وثوابه الجزيل.

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَانْتُمُ الْفُقَرَاءُ)، هذا تأكيد على أنّ الهدف من هذا الحثّ والترغيب هو تربية الإنسان ليبلغ الكمال المنشود، والله تعالى هو الغني بقول مطلق، أي لا يمكن فيه أيّ حاجة وفقر وغناه لا حدّ له وله ملك السماوات والأرض، والخلق كلّهم فقراء والفقر ميزتهم، فكلّ مخلوق محتاج إلى غيره، فالإنسان مثلاً لا يمكنه أن يعيش بنفسه، فهو محتاج إلى طعام وماء وغيرهما، كما هو محتاج إلى غيره من الناس، بل كلّ ممكن الوجود فقير في وجوده إلى علل وجوده، وكلّ

ص: 196


1- الحشر :(59): (9 التغابن (64): 16

الموجودات مفتقرة إلى الله تعالى في كيانها وبقائها.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، قيل: إنّه معطوف على ما سبق من قوله تعالى: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) وأنّ التولّي بمعنى الإعراض عن الإيمان، وعلى هذا فيكون المراد به الارتداد عن الدين ومثله قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).(1)

ولكن يمكن أن يكون عطفاً على قوله : (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا)، وتعبيراً آخر عن البخل في الإنفاق في سبيل الله تعالى أي وإن تعرضوا عن الإطاعة في الدعوة إلى الإنفاق، فالله تعالى يستبدل قوماً غيركم، أي يهلككم ويأتي بقوم آخرين يؤمنون به وليسوا أولئك من قبيلكم، بل يطيعون ربّهم ويقومون بواجبهم في حفظ ثغور المسلمين والاستبدال على هذا يمكن أن يكون إشارة إلى نتيجة طبيعية للإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تعالى، لأنّهم إذا أمسكوا عن ذلك فهم عن بذل النفس أبخل، والنتيجة ستكون غلبة الكفّار عليهم في شتّى المجالات، فإمّا أن يهلكوا في الحرب معهم أو يبقوا فاقدين لهويتهم الدينية مغلوبين على أمرهم، فيبعث الله قوماً آخرين يرفعون راية الإسلام ويدافعون عن حريمه ويقومون بوظيفة الإبقاء على الرسالة الخالدة وإيصالها سالمة إلى الأجيال المتأخّرة.

ويبقى السؤال في أنّه هل تحقّق هذا الشرط فحرموا من هذا المقام وح-از ب-ه آخرون أم أنّه مجرّد إنذار وترهيب، وأنّهم قاموا بالمسؤولية بأحسن وجه وإن

ص: 197


1- المائدة .(5): 54

أتى الله بعدهم بقوم لهم تلك الصفات المذكورة في سورة المائدة؟

وقد ورد حديث في كتب العامّة - وصفوه بأنّه صحيح - أنّ المراد بهذا القوم

الفرس ونحن ننقله عن «روح المعاني» قال: والمراد بهؤلاء القوم أهل فارس، فقد أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في «الأوسط» والبيهقي في «الدلائل» والترمذي وهو حديث صحيح على شرط مسلم أبي هريرة، قال: تلا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - هذه الآية (وَإِن تَتَوَلَّوْا) الخ فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا، ثمّ لا يكونون أمثالنا ؟ فضرب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - على منكب سلمان، ثمّ قال:«هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريّا لتناوله رجال من (فارس».(1)

وفي تفسير «مجمع البيان» عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «قد والله أبدل بهم خيراً الموالي»(2) وهذا يدلّ على أنّهم تولّوا ولم يقوموا بالواجب فأبدل الله بالفعل خيراً منهم وهم وهم الموالي، أي غير العرب والمراد بهم الفرس، كما يظهر من روايات عديدة منها ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ مَا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).(3)

ولعلّ المراد إعراضهم عن أداء الواجب بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حيث تركوا نصرة الإمام الذي عيّنه خليفة عليهم بعد أن بايعوه في حياته بل تركوا نصرة أهل بيته في مقابل أعدائه القدامى حتّى قتلوا واستبيحت أموالهم وكرامتهم.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ص: 198


1- روح المعاني 13: 236.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 164؛ راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 250
3- الجمعة (62): 3

تفسیر سوره الفتح

اشارة

ص: 199

ص: 200

سوره فتح (1- 3 )

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيرًا (3)

سورة الفتح سورة مدنيّة كما هو واضح من مضامينها بمعنى أنها نزلت بعد الهجرة وإن ورد في الروايات أنّها نزلت في طريق عودة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم من الحديبية وتتناول السورة قصّة صلح الحديبية وأنّه الفتح المبين، وتتعرّض لما حدث للمسلمين قبله وبعده ولمبايعتهم الرسول صلى الله عليه و آله سلم تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان، وتتعرض أيضاً للمخلّفين من الأعراب وحكمهم، وتنتهي السورة بمدح بليغ للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والذين معه.

«إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مبيناً»، الخطاب للرسول الكريم صلّی الله علیه و آله و سلّم والتعبير بالفتح يدلّ على أنّ هناك انغلاقاً قبل ذلك، ولا شكّ أنّ التعبير بالفتح كنائي في مثل فتح البلدان بمعنى السيطرة عليها، ولعلّ الأصل فيه أنّ البلد كان له في القديم بوابات، والعسكر المهاجم إنّما يسيطر على البلد إذا تمكن من فتح البوابة، فاعتبر كلّ

ص: 201

سيطرة على البلد فتحاً، ثمّ كلّ غلبة في الحرب فتحاً. وفي مورد نزول الآية أيضاً لا بدّ من أن يكون هناك انغلاق على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والمؤمنين ففتح الله تعالى لهم. واللام للتعليل، أي فتحنا من أجلك. و «فَتْحًا» مفعول مطلق. ووصفه بأنّه فتح مبين بمعنى أنّ كونه فتحاً أمر واضح بيّن لكثرة فوائده وغنائمه.

والسؤال أنّه ما هو هذا الفتح المبين؟

ليس هناك اختلاف في أنّ السورة نزلت بعد صلح الحديبية وبشأنه، وفي آياتها شواهد على ذلك، والروايات بهذا الصدد كثيرة أيضاً، وإنّما الاختلاف في المراد بالفتح في هذه الآية؛ فإنّ المعروف أنّ المراد به صلح الحديبية وتدلّ عليه روايات، ولكن بعضهم كالزمخشري قال: «إنّ المراد به فتح مكّة، وقيل: فتح خيبر، وقيل: الفتح العام والغلبة النهائية، وقيل: الغلبة المعنوية». (1) والسرّ في كلّ ذلك واحد وهو استبعاد أن يعبّر عن الصلح بالفتح.

ومن الغريب أنّ هذا الاستبعاد بدا من بعض الصحابة في ذلك الوقت، ولعلّه كان بعد تعبير الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم عنه بأنّه فتح. فقد روى في «الدرّ المنثور» عن البيهقي، قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه و آله سلم - من الحديبية راجعاً، فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه و آله و سلم: - والله ما هذا بفتح لقد صُدِدنا عن البيت وصُدَّ هدينا، وعكف رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - بالحديبية وردّ رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - قول رجال من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح، فقال رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - : «بئس الكلام، هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح [جمع

ص: 202


1- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 331 - 333.

راحة أي الأكفّ] عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإياب، وقد كرهوا منكم ما كرهوا. وقد أظفركم الله عليهم، وردّكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح. أنسيتم يوم اُحد: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ»،(1) وأنا اُدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب: «إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا»؟ (2)» قال :المسلمون صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منّا. فأنزل الله سورة الفتح.(3)

ويظهر من الحديث أنّ ذلك كان رأي جمع كثير منهم، ويظهر من الروايات أنّ الجوّ العامّ كان جوّ استياء مما حدث وشعور بالهزيمة والضيم والمذلّة. ويلاحظ أنّ الأصحاب رجعوا عن رأيهم بعد بيان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وخصوصاً بعد نزول الآية، ولكن بعض المفسّرين بقوا على نفس الفكرة واستبعدوا أن يراد بالفتح الصلح، خصوصاً بعد شعورهم بأنّ الصلح فرض على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ولم يكن راغباً فيه، مع أنّ هذا خطأ كبير، والصلح كان هو الهدف الأساس للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ولكلّ رسول في كلّ زمان، فإنّ الرسول لا يقصد السيطرة على الناس وليست الحكومة هدفاً لأصحاب الرسالات، بل هدفهم نشر هدايات الله تعالى بين الناس وهذا الأمر لا يتمّ إلا في ظلّ الهدوء والسلام والأمن. والرسل لا يطلبون حرباً ابتداءاً أبداً، وإنّما تفرض عليهم فرضاً فما حصل عليه الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم

ص: 203


1- آل عمران (3) 153.
2- الأحزاب (33) 10.
3- الدرّ المنثور 6: 68.

كان أعظم من كلّ ما اغتنمه في سائر الحروب، بل لا يقاس ذلك بالغنائم والفتوح المتعارفة أبداً، فأحسن تعبير عنه هو التعبير الإلهي: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فتحاً مبيناً».(1)

ولذلك ورد في حديث عنه صلّی الله علیه و آله و سلّم «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» (2) وفي «الدرّ المنثور»: «وأخرج البيهقي عن المسور ومروان في قصّة الحديبية قالا: ثمّ انصرف رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - راجعاً فلمّا كان بين مكّة والمدينة نزلت سورة الفتح من أوّلها إلى آخرها، فلمّا أمن الناس وتفاوضوا لم يكلّم أحداً بالإسلام إلا دخل فيه، فلقد دخل في تلك السنين في الإسلام أكثر ممّا كان فيه قبل ذلك، فكان صلح الحديبية، فتحاً عظيماً».(3) وفي «جوامع الجامع» عن الزهري: «لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام». (4)

وفي صلح الحديبية روايات كثيرة ننقل إحداها عن «مجمع البيان» قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتّى إذا كانوا بذي الحليف قلّد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حتّى إذا كان بغدير الأشطاط

ص: 204


1- الفتح (48): 1.
2- راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل :409:16؛ بحار الأنوار 30: 565.
3- الدرّ المنثور :6 68 - 69.
4- جوامع الجامع 4: 132.

قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعي، فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا جموعاً وهم قاتلوك أومقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال : صلّی الله علیه و آله و سلّم: «روحوا»، فراحوا حتّى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم: «إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين». فسار حتّى إذا كان بالثنية بركت راحلته فقال صلّی الله علیه و آله و سلّم: «ما خلأت القصواء - خلأت: بركت من دون علّة والقصواء اسمها - ولكن حبسها حابس الفيل». ثمّ قال: والله لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إيّاها، ثمّ زجرها فوثبت به».

قال: فعدل حتّى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنّما يتبرّضه الناس تبرّضاً - أي يأخذونه قليلاً قليلاً - فشكوا إليه العطش فانتزع سهماً من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوه في الماء، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتّى صدروا عنه. فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم من أهل تهامة، فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ومعهم العوذ المطافيل - أي النساء والصبيان، العوذ جمع عائذ: المرأة أو كلّ اُنثى ولدت لسبعة أيّام، سميت بذلك لأنّ ولدها يعوذ بها، والمطافيل جمع مُطفل: المراة التي معها طفلها - وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم : «إنّا لم نجئ لقتال أحد، وإنّا جئنا معتمرين وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدّة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا - بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة، أي استراحوا - وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لاُقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي - يكنى به عن الموت والسالفة أعلى العنق - أو لينفذنّ الله تعالى أمره»، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.

ص: 205

فانطلق حتّى أتى قريشاً، فقال: إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وإنّه يقول: كذا وكذا. فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها ودعوني آته، فقالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلّم النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و نحواً من قوله البديل - إلى أن قال - ثمّ إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم إذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدروا أمره، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له.

قال: فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت - أي ما رأيت - ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلمّا أشرف عليهم قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «هذا فلان وهو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها»، فبعثت له واستقبله القوم يلبّون فلمّا رأى ذلك، قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدّوا عن البيت.

فقام رجل يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني ،آته فقالوا: ائته، فلمّا أشرف عليهم، قال النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم : «هذا مكرز وهو رجل فاجر»، فجعل يكلّم النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم فبينما هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم: «قد سهل عليكم أمركم» فقال: اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم علي بن أبي طالب، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهمّ، فقال المسلمون: والله لا نكتب إلا بسم الله

ص: 206

الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم : «اكتب باسمك اللهمّ، هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله» فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمّد بن عبد الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم : «إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني»، ثمّ قال لعليّ: «امح رسول الله»، فقال: «يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة»، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فمحاه.

ثمّ قال: «اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله وسهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، وعلى أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن على دمه وماله، وإنّ بيننا عيبة

مكفوفة - لعلّه كناية عن عدم الغدر، فالعيبة الوعاء، ومكفوفة أي معقودة - وأنّه لا إسلال ولا إغلال - أي لا سرقة ولا خيانة -، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه». فتواثبت خزاعة، :فقالوا: نحن في عقد محمّد وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف»، فقال سهیل: والله ما تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب.

فقال سهيل على أنّه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، ومن جاءنا ممّن معك لم نرده عليك، فقال المسلمون: سبحان الله كيف يُردّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم «من جاءهم منّا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً».

ص: 207

فقال سهيل: وعلى أنّك ترجع عنّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكّة، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف في القراب وسلاح الراكب، وعلى أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه لا تقدّمه علينا، فقال: نحن نسوق وأنتم تردون. فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمّد أوّل ما اُقاضيك عليه أن تردّه، فقال النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم «إنّا لم نقض بالكتاب بعد»، قال: والله إذاً لا اُصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم «فأجره لي»، فقال: ما أنا بمجيره لك، قال: «بلى فافعل»، قال : ما أنا بفاعل؛ قال مكرز: بلى قد أجرناه؛ قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين أاُردّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت وكان قد عُذّب عذاباً شديداً. فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذٍ فأتيت النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم فقلت : ألست نبي الله ؟ فقال: «بلی»، قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلی»، قلت: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: «إنّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري» قلت: أولست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف حقّاً؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنّك تأتيه وتطوف به»، فنحر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بُدنَه فدعا بحالقه فحلق شعره. الحديث.(1)

«لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»؛ اللام للتعليل كما هو ظاهر اللفظ. وظاهر العبارة أنّ الفتح سبب لأربعة اُمور: الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصر. وحيث استغرب بعض المفسّرين أن يكون الفتح سبباً للغفران، حاولوا تأويل

ص: 208


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 177 - 180.

الآية بوجوه ركيكة لا حاجة إلى ذكرها ؛ وقد استقصاها العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير «الميزان» وردّها.(1) والسبب في هذا الاستغراب هو توهّم أنّ الذنب هنا بمعناها المتبادر، أي المعصية، وأنّ الغفران بمعنى العفو، فالاستغراب على هذا في محلّه، فإنّ إسناد المعصية إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم منافٍ للعصمة فحاولوا تأويله.

ولكنّ الصحيح أنّ الذنب ليس بمعنى المعصية وإن ورد كذلك في كثير من كتب اللغة، ولكنّ الوجه في التعبير به عن المعصية أو الجريمة هو ما يستتبعه من الذمّ أو الجزاء، قال العسكري في «الفروق»: «الذنب ما يتبعه الذمّ أو ما يتتبّع عليه العبد من قبيح فعله، وذلك أنّ أصل الكلمة الاتباع»،(2) وقال الراغب في «المفردات»: «الذنب في الأصل الأخذ بذنب الشيء، يقال: ذنبته، أي أصبت ذنبه، ويستعمل في كلّ فعل يستوخم عقباه اعتباراً بذنب الشيء، ولهذا يسمّى الذنب تبعة اعتباراً لما يحصل من عاقبته».(3) فالمراد به هنا تبعة الأعمال في الدنيا، وقد يكون العمل واجباً شرعياً إلا أنّه يستوجب تبعات غير محمودة للإنسان في المجتمع، ومعنى الغفران ستر هذه التبعات بمعنى المنع من تأثيرها الأثر غير المحمود.

ومثله ما حصل لموسى علیه السّلام فإنّه أدّى واجباً عليه وهو نصرة المؤمن على الكافر، وحيث أدّى إلى قتله - ولعلّه لم يقصد القتل - فاعتبر ذلك ذنباً لمّا يستتبع من مشاكل في المجتمع، فاستغفر ربّه فغفر له، وليس معنى الاستغفار الندم على ما حصل، ولذلك لمّا غفر له ، قال علیه السّلام: «رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ

ص: 209


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 253 - 256.
2- الفروق في اللغة: 228.
3- مفردات ألفاظ القرآن 331.

ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ»؛(1) ومعناه أنّه سيستمرّ في الدفاع عن المؤمنين حيث إنّ الله تعالى في عونه ويدافع عنه ويحفظه من كيد الأعداء. ولذلك أيضاً اعتبره ذنباً لهم عليه كما قال: «وَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ»،(2) فهو ذنب في نظرهم.

والمراد هنا أيضاً ما صدر من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بالنسبة لقريش في مكّة بعد ذلك في المدينة من تسفيه آرائهم وتحقير آلهتهم والاستخفاف بكبرائهم وتقاليدهم، ودعوتهم إلى التوحيد وإلى الاعتراف بنبوّته، فالمراد بما تقدّم هو ما تقدّم على الهجرة، حيث كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم تحت ضغط المشركين في مكّة، ذلك لم يأل جهداً في التنديد بأعمالهم وتسفيه كبرائهم، وبما تأخّر ما صدر منه صلّی الله علیه و آله و سلّم في المدينة من محاربتهم وكسر شوكتهم في المنطقة العربية.

والمراد بالمغفرة ستر هذه التبعات الاجتماعية بالفتح والنصر والغلبة، فإنّ عامّة الناس - كما هو المشهود - تبهرهم القوّة والغلبة، فإذا قام أحد بثورة لتغيير المعايير الاجتماعية ولم ينجح، بل استؤصلت ثورته وصار سبباً لقتل جماعة وسجن آخرين وغير ذلك من المشاكل الاجتماعية التي تحصل في الثورات، فإنّ عامّة الناس، بل حتّى الخاصّة منهم غالباً يعيّرونه ويعتبرون ما قام به جريمة اجتماعية لا تغفر حتّى لو كانت دعوته حقّة، وأمّا إذا تمكّن من قلب النظام والسيطرة على الوضع وتغيير المعايير، فإنّهم يعتبرونه بطلاً قومياً وإماماً متّبعاً. وهكذا كان الوضع العامّ لدى قريش والجزيرة العربية بالنسبة للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

وبذلك يرتفع الإشكال من جهة إسناد الذنب إلى المعصوم ومن جهة تعليل

ص: 210


1- القصص :(28) 17.
2- الشعراء (26): 14.

الفتح بالمغفرة، وذلك لأنّ الفتح والغلبة يبرّر ما قام به صاحب الثورة من تغيير للسنن الاجتماعية ومخالفة للتقاليد الموروثة، كما نجده في جميع المجتمعات والعصور، وهذا ما صرّح به الإمام الرضا علیه السّلام في جواب المأمون حيث قال للإمام علیه السّلام: فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: «ليَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَاخَرَ» قال الرضا علیه السّلام : لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستّين صنماً، فلمّا جاءهم صلّی الله علیه و آله و سلّم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: «أجَعَل الألمة إلهاً واحداً إن هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ المَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آهِتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ * ما سَمِعْنا بهذا في المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هذا إلا اختلاق»،(1) فلمّا فتح الله عزّ وجلّ على نبيّه مكّة، قال له: يا محمّد إنّا فتحنا لك مكّة فتحاً مُبِيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم وما تأخّر؛ لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم» فقال المأمون: الله درك يا أبا الحسن.(2)

وظاهر الحديث أنّ المراد بالفتح فتح مكّة وهو خلاف ظاهر الآية كما مرّ، ولعلّه سهو من الراوي، ويمكن أن يعتبر صلح الحديبية فتحاً لمكة أيضاً؛ لأنّه من مقدماته. ولذلك قال جابر بن عبدالله الأنصاري - رضوان الله عليه - على ما روي: «ما كنّا نعدّ فتح مكّة إلا يوم الحديبية».(3)

ص: 211


1- ص (38): 5-7.
2- عيون أخبار الرضا علیه السّلام 2: 180.
3- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 26.

وفي الآية التفات حيث أسند الفتح إلى ضمير المتكلم مع الغير: «إِنَّا فَتَحْنَا»، ثمّ أسند الغفران وما بعده إلى الله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ» وكان مقتضى السياق أن يقال: «لنغفر لك»، ولعلّ الوجه فيه أنّ الغفران وما بعده أغراض ومصالح مترتّبة ومقصودة الله تعالى بالذات، فكان الأنسب أن يسند إلى الذات المتعالية، وأمّا الفتح فهو متوقّف على عوامل طبيعية عديدة وأرضية صالحة وإن كان مراداً للهتعالى أيضاً، ولكنّه لا يتحقّق إلا بأسبابه العادية المؤثّرة بإرادته تعالى، والظاهر أنّ القرآن الكريم ينسب ما كان كذلك إلى ضمير المتكلّم مع الغير، إيذاناً بأنّه أمر طبيعي حدث في موعده المحدّد بأسبابه العادية والعوامل المؤثّرة بإرادته تعالى.

«وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ»، لا يبدو من الآية الاختصاص بنوع من النعم، فيمكن أن يكون المراد النعمة بالمعنى العامّ، الشامل لكلّ النعم المادية والمعنوية إلا أنّ مقتضى التعليل أن يكون المراد بالنعمة ما يترتّب على الفتح والغلبة، فلعلّ المراد خصوص ما يتعلّق بانتشار الدعوة واستسلام المشركين في الجزيرة العربية لحكم الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

ولكن إذا لاحظنا أنّ الله تعالى اعتبر نصب أمير المؤمنين علیه السّلام يوم الغدير وليّاً وإماماً للمسلمين إكمالاً للدين وإتماماً للنعمة بقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلام دِيناً»(1) فلا يبعد أن يكون المراد بإتمام النعمة هنا أيضاً هذا المعنى، وهذه النعمة وإن كانت عامّة لجميع المسلمين والله تعالى منّ عليهم جميعاً بها، حيث قال: «وأتمْتُ عَلَيْكُمْ» إلا أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سّلم حظي بها أكثر من غيره، كما هو واضح.

ص: 212


1- المائدة (5): 3.

والغرض من الآية - بناءاً على ذلك - أنّ هذا الفتح هيّأ الأرضية الاجتماعية الصالحة لهذا النصب الخطير، حيث كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يحذر الفتنة وعدم تقبّل المجتمع لذلك، حتّى أنزل الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِن لَم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»،(1) وكما كان الفتح علّة للغفران الاجتماعي كذلك هو سبب لتقبّل المجتمع مثل هذا النصب الإلهي المثير للأحقاد الجاهلية. وقد جاء إعلان هذا النصب المبارك بعد صلح الحديبية وفي حجّة الوداع.

«وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً» الصراط هو الطريق، وأصله السراط اُبدل صاداً لتناسب الطاء وهو من سرط الطعام إذا ابتلعه، كأنّ الطريق يبتلع السائر فيه ويغيبه الأنظار. والاستقامة بمعنى عدم الانحراف عن الحقّ، وليس بمعنى كونه خطّاً مستقيماً في مقابل الخطوط المنحنية، وهذا تعبير متعارف عن الطريق الصحيح الذي لا ينحرف عن الحقّ إلى جهة اُخرى.

وقد اختلفوا في المراد بهدايته صلّی الله علیه و آله و سلّم إلى صراط مستقيم، حيث إنّه كان مهدياً إليه منذ أن بعث، فقيل: إنّ المراد الزيادة في هدايته بتشريع أحكام أخرى؛ وقيل: المراد تثبيته على الصراط؛ والصحيح أنّ الإنسان مهما بلغ علماً وكمالاً، فإنّه لا يستغني عن هداية الله تعالى إلى الصراط المستقيم في جميع شؤونه باستمرار، ومن هنا فإنّ الواجب على كلّ مسلم أن يكرّر يومياً عدّة مرّات ضمن صلاته «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» والرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أحوج ما يكون إلى هذه الهداية، فإنّ أقلّ خطأ منه في سبيل الدعوة يسبّب كارثة في الدين، فاحتياجه إلى هداية الله تعالى

ص: 213


1- المائدة (5): 67.

في كلّ حركة وسكون في هذا المضمار أكثر وأكبر. هذا ولكن مقتضى التعليل أن يكون المراد ما هو مناسب للفتح والغلبة، فالظاهر أنّه الصراط المستقيم الموصل إلى المقصود في نشر الدعوة، وهو التمكّن من إيصال الرسالة إلى شتّى أقطار العالم لتتمّ الحجّة على الناس وإن كانت الحاجة إلى الهداية أوسع من ذلك.

«وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً». العزيز من العزّة وهي القوّة والشدّة والصلابة، يقال: أرض عزاز إذا لم تؤثر فيها المعاول، ويعبّر به عن الغالب الذي لا يمنع من تحقّق ما يريده شيء، وعلى الشيء النادر الذي لا يوجد مثله أو قلّما يوجد، والظاهر أنّ توصيف النصر به هنا بهذا المعنى، لأنّه نصر لا مثيل له أو يندر أن يحصل لأحد، ولعلّ المراد الانتصار الذي تحقّق للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في فتح مكة، فإنّ صلح الحديبية مقدّمة له، ولعلّ العزّة فيه من جهة أنّ الله تعالى أذلّ له الرقاب دون حرب وقتال.

ص: 214

سوره فتح ( 4-7)

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَنًا مِّعَ إِيمَنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُتَنفِقِينَ وَالْمُنَفِقَتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَتِ الظَّائِينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَابِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا» (7)

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ». السكينة من السكون وهو الاطمئنان والاستقرار. والإنزال من الله تعالى إيجاد للشيء، قال تعالى: «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجِ»،(1) ومثله قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ»،(2) وكلّ خلق من الله تعالى إنزال من سماء الأمر والملكوت إلى أرض الخلق.

وكان المؤمنون في سفر العمرة الذي انتهى إلى صلح الحديبية بأمسّ الحاجة إلى هذه السكينة بعد ما أقلقهم الوضع غير المتوقّع، حيث إنّهم خرجوا لأجل العمرة وحُرموا منها، وكانوا يتوقّعون وفقاً للرؤيا التي رآها النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم - كما ورد في آخر السورة - أن يوفّقوا للعمرة في تلك السنة، ورأوا ما لم يتوقّعوه فمُنعوا من الاعتمار، وصالح النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم المشركين وتنازل لمندوبهم في كلّ ما أراد في وثيقة الصلح، فمسح البسملة، ومسح وصف رسول الله عن اسمه الكريم، ورضي

ص: 215


1- الزمر (39): 6.
2- الحديد (57): 25.

أن يردّ إلى المشركين من أسلم منهم، واستجار بالمسلمين، فرأى كثير منهم أنّ في هذا الصلح مذلّة، وشكّ بعضهم في الدين وتزلزلت عقائدهم، فأنزل الله السكينة والاطمئنان عليهم ليزول عنهم الشكّ والاضطراب ويزدادوا إيماناً.

«لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ»، اللام للتعليل ويظهر منه أنّ الغرض من إنزال السكينة لم يكن إزالة الشكّ العارض فحسب، بل الغرض أن يزداد إيمانهم. وقد وقع البحث والكلام لدى المفسّرين والمتكلّمين في أنّ الإيمان هل هو ممّا يقبل الزيادة والنقصان أم لا؟ والأكثر يقولون بقبوله الزيادة كما هو واضح، ولكن ذهب جماعة - منهم على ما يقال أبو حنيفة - إلى عدم قبوله للازدياد، وقد عرّفوا الإيمان بالتصديق البالغ حدّ الجزم، وقالوا: إنّ الأمر فيه يدور بين السلب والإيجاب ولا معنى لزيادة التصديق، وأوّلوا الآية وأمثالها بوجهين:

الأول: أنّ المراد بالازدياد عدم وجود فترات ينعدم فيها الإيمان، فالذي يقلّ إيمانه معناه أنّه يكفر بالله تعالى في بعض الفترات.

وهذا التأويل لا وجه له، لأنّه يستلزم كثرة الارتداد في المؤمنين ممّا لا ينبغي نسبته إليهم، بل يستلزم لوازم فقهية مترتّبة على ارتدادهم لا يمكن الالتزام بها. وربما يستشهد لذلك بقوله تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلا وَهُمْ مُشركونَ»،(1) ولكنّه يدلّ على شركهم حين الإيمان، لأنّ الجملة: «وَهُمْ مُشْرِكُونَ» حالية ومقتضاه عدم خلوص الإيمان في أكثرهم ممّا يدلّ على اختلاف المؤمنين في زيادة الإيمان ونقصه. ويدلّ على ما ذكرنا أنّه لو كان المراد بالزيادة ما ذكر لم يصحّ التعبير بأنّه زيادة إيمان إلى إيمانهم، بل هو حدوث إيمان بعد زواله.

ص: 216


1- يوسف (12): 106 .

الثاني: أنّ المراد زيادة ما يؤمنون به، فكلّ حكم وكلّ خبر ينزل بالوحي ويؤمنون به يزدادون إيماناً، بمعنى زيادة مورد الإيمان. ومن الواضح أنّ هذا لا يترتّب على إنزال السكينة، بل على إنزال الحكم والحقائق الغيبية، والآية صريحة في أنّ الإيمان يزداد بإنزال السكينة في قلوبهم ممّا يدلّ بوضوح على أنّ الإيمان الذي يزداد من جنس السكينة والاطمئنان.

ولكن يبقى الكلام في أنّه ما هو حقيقة الإيمان، هل هو العلم اليقيني أو هو، التصديق بالشيء أو هو العلم مع الالتزام وعقد القلب؟ والبحث أشبه ما يكون ببحث لفظي، حيث إنّه يدور على معنى الكلمة، وحيث إنّ الإيمان موضوع لكثير من الأحكام الشرعية، فلا بدّ من القول فيه بأنّه وبمقتضى ظاهر القرآن، بل صريحه أمر يقبل الزيادة والنقصان، فلا يصحّ تأويله بمعنى لا يقبل ذلك.

والصحيح أنّه ليس مجرّد العلم بالشيء، بل هو - كما قال العلامة الطباطبائي رحمه الله - العلم مع الالتزام وعقد القلب به، بحيث يترتّب عليه لوازمه من العمل، وليس هو نفس العمل، بل العمل من لوازمه، حيث إنّه يصدر من المنافق أيضاً، فما ورد من تفسيره بالعمل تفسير باللازم، ويقصد به أنّ الإيمان لا يصدق إلا إذا كان مؤثّراً في مرحلة العمل. والمراد بالعلم الذي هو أحد جزءي الإيمان العلم العرفي لا اليقين القاطع، بحيث لا يكون هناك احتمال للخلاف، فالعرف يطلق العلم على الاحتمال القوي الذي لا يعتنى باحتمال الخلاف فيه، وهذا بنفسه ممّا يقبل الزيادة والنقصان. ونحن نجد من أنفسنا في ما نعلمه من الأمور الخارجية أنّ الاطمئنان يزيد لدينا كلّما زادت الشواهد حتّى نصل إلى الاطمئنان الكامل بالمشاهدة ونحوها.

ص: 217

وممّا يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمُوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»،(1) فالآية صريحة في أنّ الإيمان يزداد برؤية الشواهد التي تدلّ على الأمر الغيبي وإن كان إبراهيم علیه السّلام مؤمناً بقدرة ربّه بدرجة عالية جدّاً من الإيمان إلا أنّه مع ذلك قابل للازدياد، فالإيمان هو الاطمئنان وسكون النفس وهو ذو مراتب، وكلمّا زادت الشواهد زاد الاطمئنان.

هذا بالنسبة إلى جزء من الإيمان وهو العلم وانكشاف الواقع، وفيه جزء آخر وهو عقد القلب وهو أمر اختياري، فالإنسان ربما يحصل له العلم بالشيء ولكنّه لا يؤمن به، كما كان ذلك دأب المعاندين من الكفّار، قال تعالى في شأن قوم فرعون: «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ»(2) ومن الواضح أنّ المراد ليس هو الإنكار باللفظ والاعتقاد بالقلب، فإنّ المؤمن أيضاً قد يضطرّ إلى ذلك، بل المراد أنّهم أنكروا آيات الله مع تيقّنهم وعلمهم وانكشاف الأمر لهم، بحيث لم يحتمل الخلاف أو كان احتماله ضعيفاً جدّاً لا يعتنى به، ولذلك وصف الآيات بأنّها مبصرة، فهناك أمر اختياري قلبي في الإیمان.

ونظير ذلك الحبّ والبغض فإنّهما يحصلان عادة من دون اختيار، وهذا المعنى لا يمكن أن يتعلّق به أمر أو نهي مع أنّ الشرع يأمر بحبّ أولياء الله تعالى وبغض أعدائه، وليس المراد خصوص الإبراز والعمل، بل عقد القلب فالإنسان يمكنه أن يعقد قلبه على حبّ شيء أو بغضه، وكذلك يمكنه أن يعقد القلب

ص: 218


1- البقرة (2): 260.
2- النمل (27): 13 - 14.

على قبول شيء أو رفضه. وهذا الأمر أيضاً قابل للشدّة والضعف.

«وَاللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ والأرْض وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً». الظاهر أنّ المراد بالجنود العلل والعوامل الطبيعية وغير الطبيعية المؤثرّة في الكون، فلعلّ المراد بجنود السماوات الملائكة وهي الوسائط بين الله تعالى وخلقه، وبجنود الأرض العوامل الطبيعية، وكونها الله تعالى واضح، لأنّها متقوّمة به وبإرادته، ولا كيان لها مستقلّة عن إرادته تعالى، وكلّها تسير وتؤثّر بأمره. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر وهو واضح.

إنّما الكلام في الغرض من التنبيه على هذه الحقيقة في هذا الموضع، ولا يبعد أن يكون المراد التنبيه على الحقيقة التي توجب السكينة للمؤمنين، فكان عليهم أن ينتبهوا أنّ الله تعالى على كلّ شيء قدير وكلّ شيء يؤثّر بأمره، فلو أراد لأهلك أعداء الرسالة في لحظة، ولكنّه عليم حكيم يعلم عواقب الاُمور ولا يعمل إلا ما تقتضيه الحكمة. ولو انتبهوا إلى هذه الحقيقة لم يحدث فيهم أيّ اضطراب وقلق، بل سكنت قلوبهم واطمأنت نفوسهم أنّ الأمر بيد العليم الحكيم القادر على كلّ شيء. ولعلّ التعبير بالجنود للتناسب مع الغلبة على الأعداء.

ومن الطريف تكرار الجملة بعد بيان عاقبة أمر الفريقين وأنّ فريقاً منهما في الجنّة وفريقاً في النار، ليتبيّن وجه الحكمة في تأخير الغلبة الظاهرية للمؤمنين عليهم، وأنّ الهدف الأسمى عند الله تعالى ليس هو الغلبة في الدنيا؛ بل هو استحقاق الثواب والعقاب في الآخرة، كما قال تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ».(1) والتعبير بلفظ الماضي «وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً» مع أنّه حقيقة أزلية

ص: 219


1- الأنفال (8): 67.

أبدية لعلّه للتنبيه على أنّ كلّ ما حدث في ما مضى ممّا أثار فيكم الشكّ كان الله تعالى ونابعاً عن علمه وحكمته، وليس هناك أيّ تغيير وتبديل، مضافاً إلى أنّ «كَانَ» في مثل هذه المواضع قد تكون منسلخة عن الزمان.

«لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا». يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلاً لإنزال السكينة باعتباره سبباً لزيادة الإيمان وهو السبب في دخول الجنّة. وأضاف المؤمنات إلى المؤمنين مع أنّ السكينة هنا نزلت على الرجال الحاضرين في تلك الواقعة لدفع توهّم اختصاص الجنّة والثواب بالرجال. ويصحّ أن نقول: إنّ نزول السكينة على الحاضرين سبب لزيادة إيمان الغائبين رجالاً ونساءاً بعد اطّلاعهم على ما حدث لكونه آية من آيات الله تعالى. ويحتمل أيضاً أنّ السكينة نزلت على الجميع الحاضرين والغائبين بعد اشتراكهم في الاستياء ممّا حدث، فيكون ذكر المؤمنين من باب التغليب. ويحتمل أيضاً وجود مجموعة من المؤمنات مع الرجال.

ولكنّ الأولى أن تكون الجملة تعليلاً لمضمون الجملة السابقة «ولله جُنُودُ السَّمَوَاتِ» حيث إنّ المراد بها التنبيه على أنّه تعالى ربّ الكون كلّه وأنّ العوامل المؤثّرة في السماوات والأرض إنّما تؤثّر بإرادته تعالى، فهذا التعليل يدلّ على أنّ خلقه تعالى لهذا الكون وتدبير أموره إنّما هو من أجل حياة اُخرى وعالم آخر يعقب هذا الكون يجازى فيه الإنسان بأعماله، فهو نظير قوله تعالى: «وَالله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرض لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى»(1) على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير الآية المباركة. وبناءاً على هذا،

ص: 220


1- النجم (53): 31.

فالجملة تبيّن العلّة الغائية لخلق السماوات والأرض وما فيهما من جنود، وليست تعليلاً لنفس السلطة والملكية الإلهية.

ويؤيّد هذا الاحتمال عطف تعذيب المنافقين على إدخال المؤمنين الجنّة، فإنّه لا يمكن أن يكون نتيجة لإنزال السكينة على المؤمنين إلا أن يقال: إنّه تعليل للتخصيص بالمؤمنين ، فيكون المعنى أنزل السكينة على المؤمنين دون المنافقين ليدخل المؤمنون الجنّة ويعذّب المنافقون وهو بعيد.

ومن الغريب أنّ العلامة الطباطبائي قدّس سرّه رفض هذا التفسير هنا، مع أنّه قال في تفسير الآية المذكورة في سورة النجم: «وقوله: «وَالله ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الأَرْضِ» إشارة إلى ملكه تعالى للكلّ، ومعناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم، فالملك ناشئ من الخلق وهو مع ذلك منشأ للتدبير، فالجملة دالّة على الخلق والتدبير، كأنّه قيل: ولله الخلق والتدبير. وبهذا المعنى يتعلّق قوله: «ليَجْزِيَ» إلخ واللام للغاية، والمعنى: له الخلق والتدبير وغاية ذلك والغرض منه أن يجزي الذين أساءوا إلخ».(1) وهذا هو نفس ما مرّ في تفسير هذه الآية وهما من باب واحد، بل مثلهما أيضاً قوله تعالى: «إِنَّهُ يَبْدَا الخَلْقَ ثم يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ»،(2) فإِنّ الجزاء ورد في الآية علّة لبدء الخلق وإعادته لا للإعادة فقط.

«وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ». التكفير هو الستر. وإنّما سمّي الكافر كافراً لأنّه يستر الحقّ وينكره. والعطف لا يدلّ على الترتيب، فلا ينافي كون التكفير قبل دخول

ص: 221


1- الميزان في تفسير القرآن 42:19.
2- يونس (10) 4.

الجنّة، مضافاً إلى ما مرّ في تفسير قوله تعالى، «وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ»(1) من ستر سيّئات أهل الجنّة بعضهم عن بعض حتّى لا يحتقر بعضهم بعضاً ولو في نفسه، فهو نظير إزالة الضغائن، كما قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلْ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ».(2)

«وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الله فَوْزاً عَظِيماً»، «ذَلِكَ» إشارة إلى دخول الجنّة. والفوز هو النجاة والاختصاص بالشيء، فالفائز هو الغالب في المسابقة حيث يختصّ بالجائزة، ولا شكّ أنّ الفوز العظيم هو الفوز بالجنّة، بل هو الفوز فحسب، كما قال تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ»(3) حيث يظهر منه الحصر. وإنّما قيّد ذلك بكونه عند الله تعالى، لأنّ الناس حتّى المؤمنين منهم يهتمّون بالظفر والغلبة في الدنيا أيضاً اهتماماً بالغاً لا يقلّ عن اهتمامهم بالجنّة، ولذلك قال تعالى: «وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ»(4) ولكنّ الله تعالى لا يعير اهتماماً به إلا كسبب لدخول الجنّة، كما قال عزّ من قائل: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ».(5)

«وَيُعَذِّبَ المُنافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمشركينَ وَالمشركاتِ» عطف على «يدخل» كما هو واضح، وقد مرّ أنّ الأولى أن تكون الجملتان تعليلاً لقوله تعالى: «وَلله جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ» وقدّم ذكر المنافقين، لأنّ ضررهم أشدّ على الإسلام وأهله

ص: 222


1- محمّد (47): 15.
2- الحجر (15): 47.
3- آل عمران (3): 185.
4- الصف (61): 13.
5- الأنفال (8) 67.

لكونهم بين ظهرانيهم، ولذلك كان عذابهم أيضاً أشدّد، قال تعالى: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)».(1)

«الضَّانِّينَ بِالله ظَنَّ السَّوْءِ». المراد بالظنّ الاعتقاد الذي قد لا يستند إلى دليل وشاهد، ومن خصائص المؤمن المتّقي حسن الظنّ بالله تعالى، وورد في حديث معتبر عن الإمام الرضا علیه السّلام أنّه قال: «أحسن الظنّ بالله، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً».(2) والمتّقون إنّما يحسنون الظنّ به تعالى لأنّهم يعلمون أنّه لا يريد بهم إلا الخير حتّى لو أصابهم أشدّ المصائب، فإنّهم يعلمون أن الله تعالى يريد أن يجزيهم جزاءاً عظيماً لا يستحقّونه إلا بالصبر على هذه المصائب، فهم دائماً في راحة بال وسكينة واطمئنان. وأما الكافر والمنافق بل حتّى ضعفاء الإيمان فإنّهم حتّى لو كانوا في بُلَهِنية من العيش فإنّهم يتوقّعون الشرّ دائماً، فهم أبداً في قلق واضطراب، لعدم ركونهم في الحياة إلى ركن وثيق، والحال أنّ الحياة في هذه الدنيا مليئة بالأخطار.

والمراد بظنّ السوء هنا ما سيأتي في الآية 12: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ والمؤمِنُونَ إلى أهْلِيهِمْ أبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً»، فإنّهم إنّما ظنّوا ذلك لاعتقادهم أنّ الله تعالى لا ينصر رسوله، فيعود هذا الظنّ، إلى سوء الظنّ به تعالى. وربما يقال بأنّ اعتبار هذا الأمر من ظنّ السوء بالله يستلزم إيمانهم به تعالى، وبأنّ كلّ ما يحدث فهو منه، وأنّه هو المؤثّر في كلّ شيء، حيث يتوقّع منه أن ينصر نبيّه فلم يفعل.

ص: 223


1- النساء (4): 145.
2- الكافي 2: 3/72، باب حسن الظنّ بالله.

والجواب أنّه لا يستلزم ذلك، لأنّ ظنّهم بعدم نصرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يمكن أن يكون من جهة ظنّهم أنّه تعالى غير قادر على ذلك، أو من جهة ظنّهم أنّه تعالى لا يؤثّر شيئاً في الكون، فهذا أيضاً من سوء الظنّ به تعالى وعدم المعرفة بشأنه، كما قال تعالى: «مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»(1) و «السوء» بالفتح مصدر وبالضمّ اسم للمصدر.

«عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ». الدائرة ما يصيب الإنسان من مكروه، كأنّه يدور حوله ويحيط به، قال تعالى: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ»،(2) وقال أيضاً: «وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ»،(3) وإضافة الدائرة إلى السوء بيانية. والجملة هنا دعاء عليهم أو قضاء وحكم من الله تعالى أو إخبار عن مستقبلهم. وعطف قوله: «وَأَعَدَّهُمْ جَهَنَّمَ» يؤيّد كونه قضاءاً أو إخباراً. وإذا كان دعاءاً فالدعاء من الله تعالى ليس على حقيقته، فإنّه المدعوّ في كلّ دعاء، فالقصد منه لو كان دعاءاً هو الحكم عليهم أيضاً أو التنديد بهم وإظهار الغضب منهم.

«وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ هُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً». مرّ الكلام مراراً حول إسناد الغضب والرضا إلى الله تعالى. واللعن هو الطرد وهو غاية الغضب الإلهي. والباقي واضح.

«وَلله جُنُودُ السَّمَوَاتِ والأرض وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً». مرّ الكلام في نظيره

ص: 224


1- الحج (22): 74.
2- المائدة (5): 52.
3- التوبة (9): 98.

والتكرار من جهة اختلاف المورد، فهناك يبيّن للمؤمنين أنّه تعالى قادر على إنزال السكينة عليهم أو قادر على نصرهم وإهلاك عدوهم، وهنا ينّبه المنافقين والمشركين أنّه قادر على إنجاز ما يوعدهم به، ولذلك اختلف التعبير في صفاته تعالى، فالتنبيه على العزّة لبيان أنّه غالب على أمره ولا يمنع من تحقّق مراده شيء، ولكنه لحكمته يؤخر العقوبة والانتقام.

ص: 225

سوره فتح (8-10)

إِنَّا أَرْسَلْتَكَ شَهدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُتُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشراً وَنَذِيراً» الظاهر أن الآيات بصدد ربط المؤمنين المجاهدين بالله تعالى مباشرة، ليستشعروا عظمة الموقف وضخامة المسؤولية الملقاة على عواتقهم، ولا يظنّوا أنّهم يواجهون مسؤولية بشرية أمام الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كالمسؤولية أمام أيّ زعيم اجتماعي، فالموقف هنا خطير جدّاً والبيعة التي بايعوها إنّما بايعوا فيها الله تعالى مباشرة، ودور الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في هذه البيعة دور الوسيط بالرغم من عظمة مقامه كوسيط بين الله تعالى وخلقه.

وفي المقابل توهّم بعض المفسّرين أنّ السياق هنا بصدد تضخيم دور الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وبيان عظمته وعلوّ مقامه ليشعر المؤمنون خطورة الموقف من هذه الجهة، وليعلم المعترضون على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم فداحة خطأهم في التعامل معه. وهذا الاختلاف يؤثّر في فهم معنى الآية كما سيأتي.

وقد وصف الله تعالى رسوله الكريم هنا بثلاثة أوصاف: الشهادة والبشارة والإنذار. والمراد بالبشارة والإنذار واضح، فالرسالة الإلهية دائماً تحوم حول هذين الركنين والأهمّ منهما هو الإنذار ، حيث إنّ البشرية كالقطيع الغافل لما حوله من أخطار لا يرى إلا زينة هذه الحياة وآلامها، وواجب الرسل في الأساس هو تنبيههم على أخطار الحياة الآخرة وعواقب اُمورهم ونتائج أعمالهم.

إنّما الكلام في المراد بالشهادة وقد مرّ بعض الكلام في تفسير قوله تعالى:

ص: 226

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» (1) وقلنا: إنّ الاحتمالات في معنى الشهادة ثلاثة:

1 - شهادة القائد السياسي والإمام لأعمال الناس الظاهرة ممّا تنبئ عن خبايا أسرارهم واتجاهاتهم وإيمانهم به وبرسالته أو كفرهم أو نفاقهم. وعلى هذا الاحتمال فالرسول كغيره من زعماء المجتمع يلاحظ من أعمال كلّ أحد وجهة تأثيره الاجتماعي. و ربما يحمل قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ»(2) على ذلك بقرينة أنّ رؤية المؤمنين ليست إلا على هذا الوجه.

2 - أنّ الملائكة تعرض أعمال العباد على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وكذلك على الأئمة من بعده علیهم السّلام فهم شهود على خبايا أعمالهم لا على ظواهرها وتأثيراتها الاجتماعية فحسب. وبهذا المعنى وردت روايات تدلّ بعضها على أنّ الأعمال تعرض على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم حتّى بعد وفاته، وبعضها على أنّها تعرض بعده على الإمام، وأنّ المراد بالمؤمنين في الآية المذكورة هو أمير المؤمنين علیه السّلام أو الأئمّة كلّهم علیهم السّلام،(3) ونحن لا نعلم حقيقة هذا العرض ولا كيفيته وحدوده.

3- الشهادة بمعنى كونه مثلاً يحتذى به ومقياساً للصلاح والعبودية، فالرسول أو الإمام بعمله وسيرته شاهد في الدنيا يقتدى بهم، وفي الآخرة تقاس بهم الأعمال، ومنه ما ورد في الزيارة الجامعة: «أنتم الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء».(4) ويدلّ على كون الإمام شاهداً بمعنى كون عمله مقياساً يوم

ص: 227


1- الأحزاب (33): 45.
2- التوبة (9): 105.
3- راجع: الكافي :1: 219، باب عرض الأعمال على النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وبصائر الدرجات: 447 ، باب عرض الأعمال على الأئمّة علیهم السّلام.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 613.

القيامة قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً»(1) ويفهم من فاء التفريع أنّ دعوة الإمام يوم القيامة لتمييز من تبعه واقتدى به لیؤتی کتابه بيمينه، ومنه يظهر أنّ المراد بالإمام في الآية الإمام الحقّ والله العالم.

ويستفاد من بعض الآيات أنّ شهادة الرسل تختصّ بحال حياتهم، كقوله تعالى في حكاية كلام عيسى علیه السّلام يوم القيامة : «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»،(2) ولعلّه يستفاد أيضاً من قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً».(3) وأوضح منه قوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً»،(4) وقوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ»(5) بلحاظ أنّ الإشارة لا تكون إلا إلى الموجودين، فالمراد بقوله:

«هَؤُلاءِ» المؤمنون بالرسالة في عصرها.

وفي مقابل ذلك ما ربما يدلّ على شهادتهم بعد الموت أيضاً - كما دلّت عليه بعض الروايات(6) - كقوله تعالى بشأن عيسى علیه السّلام: «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ

ص: 228


1- الإسراء (17): 71.
2- المائدة (5): 117.
3- البقرة (2): 143.
4- النساء (4): 41.
5- النحل (16): 89.
6- منها رواية سماعة عن أبي عبدالله علیه السّلام قال سمعته يقول: «ما لكم تسوءون رسول الله صلّی الل علیه و آله و سلّم فقال رجل: كيف نسوءه؟ فقال: «أما تعلمون أنّ أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوءوا رسول الله وسرّوه». الكافي (1): 219

قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً» (1) بناءاً على أنّ الضمير في «موته» يعود إلى «أحد»، فإنّ التقدير: وإن أحد من أهل الكتاب، وبناءاً على أنّ هذه الآية تشمل أهل الكتاب الباقين بعد وفاته علیه السّلام السواء قلنا بأنّه الآن حيّ أو ميّت، فإنّه سيموت لا محالة. ولعلّ وجه الجمع بين المجموعتين من الآيات اختلاف معنى الشهادة، فالرسول ما دام حيّاً يعتبر مسؤولاً عن قومه إن لم يتمّ تبليغ الرسالة، وبهذا المعنى يسأل الله المرسلين يوم القيامة كما قال تعالى: «فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ»(2) ولا يكون مسؤولاً عمّا يحدث بعده من ارتداد أو تحريف، ولكنّه یعتبر شاهداً على الجميع بالمعنى الثالث فهو الأسوة والمثل، وأعماله وسيرته شاهد وإمام ومقياس. فالجمع بين الآيات أنّ الرسول ليس شاهداً على الأمّة بعد وفاته بالمعنى الأوّل ولكنّه شاهد بالمعنى الثالث.

ويشهد لذلك ما ورد في مسألة عیسی علیه السّلام یوم القيامة وجوابه قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ الهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لي بِحَقِّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ هُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(3) ومعناه أنّه ليس مسؤولاً عن ارتدادهم بعده.

ويستفاد أيضاً من بعض الآيات أنّ الشهادة لا تختصّ بالرسل، كما هو صريح

ص: 229


1- النساء (4): 159.
2- الأعراف (7): 6.
3- المائدة (5): 116 - 117.

الآية المذكورة آنفاً: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» ومثلها قوله تعالى: «وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبراهيم هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»،(1) وقد ورد في بعض الروايات(2) أنّ المراد بهؤلاء الشهداء الأئمّة علیهم السّلام، ولو فرض عدم الاختصاص فيمكن أن يكون المراد بالآية حثّ المخاطبين على الجهاد في سبيل الله حقّ جهاده وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله ليكونوا اُسوة لمن بعدهم ولسائر الاُمم في أصل الالتزام بأحكام الشرع، وليس معناه أنّه تعالى جعلهم شهداء على الناس كالمعصومين ليكون عملهم أو قولهم حجّة.

وليس معناها أيضاً أنّ الشهادة صفة لكلّ من كان في عهد الرسالة وإن لم يجاهد في سبيل الله، بل حتّى لو غيّر وبدّل لتكون دليلاً على عدالة جمیعهم - كما يتوهم - فإنّه يستلزم التناقض وجواز التأسّي بالمجاهدين والقاعدين على حدّ سواء، وهذا غير صحيح قطعاً. وصريح قوله تعالى: «وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ»(3) أنّ ذلك شأن بعضهم حيث يتّخذ منهم شهداء وهو في حدّ ذاته أمر واضح، إذ منهم المنافقون ومنهم ضعفاء الإيمان ومنهم الذين آذوا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ونزلت فيهم آيات الارتداد والنفاق، فكيف يمكن أن يكونوا اُسوة؟!

ص: 230


1- الحج (22): 78.
2- راجع الكافي 1: 4/191، باب «أنّ الأئمة شهداء الله على خلقه» والسند صحيح.
3- آل عمران (3): 140.

وربما يتوهّم التنافي بين الشهادة يوم القيامة وبين قول الرسل: «لا عِلْمَ لَنَا»، كما ورد في قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ»،(1) والجواب أنه لعل المراد عدم علمهم في مقابل علمه تعالى فهم لا يعلمون إلا ظاهراً منهم، وأمّا البواطن فلا علم لهم بها إلا بالمقدار الذي أعلمهم الله تعالى بالوحي، وهذا لا ينافي الشهادة بمقتضى علمهم وإلا لم يكن وجه للسؤال، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا ربّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»(2) بناءاً على عدم اختصاص القوم بالموجودين في ذلك الزمان. وبناءاً على أنّ هذا القول يحكي عن شكواه صلّی الله علیه و آله و سلّم يوم القيامة عن أمّته. هذا وأمّا الشهادة بمعنى كونه مقياساً يوم القيامة، فلا علاقة لها بجواب الرسل في سورة المائدة كما لا يخفى.

«لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» أي أنّ الغرض من إرسال الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّما شاهداً ومبشراً ونذيراً هو إيمان الناس بالله وبالرسول. ومن هذا التعبير واعتبار الإيمان بالرسول جزءاً من هدف الرسالة تتبيّن عظمة مقام الرسول وسخافة قول من يقلّل من شأنه ويقول: إنّه مجرّد واسطة ومخبر، ومن يقول بكفاية كتاب الله تعالى، فالإيمان بالرسالة ليس من باب أنّه طريق للإيمان بالله تعالى - كما يتوهّم البعض - بل هو هدف وغرض أساسي، فالله تعالى يريد من الناس أن يعبدوه عن طريق متابعة الرسول وليس الإيمان به تعالى كافياً حتّى لو كان طرق أخرى كالإيمان عن طريق العلم والفلسفة. وهناك من الحكماء

ص: 231


1- المائدة (5): 109.
2- الفرقان (25): 30.

والفلاسفة والعرفاء من يحكى عنهم القول بعدم احتياجهم إلى الرسالات وأنّهم يصلون إلى الله عن طريق العلم أو تزكية النفس من دون حاجة إلى متابعة رسول وكتاب سماوي. وهذا - مع أنّه باطل في نفسه - إيمان غير مقبول عند الله تعالى كما هو صريح آيات الكتاب العزيز.

ولعلّه إنّما أتى بضمير الخطاب لأنّ الإيمان بالرسالة مطلوب من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أيضاً، ولذلك كان يشهد بذلك في مواضعه كتشهد الصلاة على ما روي. ولعلّ من قرأ بالضمير الغائب «ليؤمنوا» استبعد وجوب الإيمان بالرسالة على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والمشهور المتّبع القراءة بالخطاب.

والتعزير، قيل: هو التفخيم والتوقير ، وقيل : هو النصر بتوقير وتعظيم، قال تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَيْنْ اقمْتُمُ الصَّلوةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكوةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُكُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»(1) ويكثر استعمال التعزير في الضرب دون الحدّ، وفي «معجم مقاييس اللغة» (2) أنّه أصل له معنيان. ولكن لا يبعد أن يكون التعزير في الأصل بمعنى المنع والردّ كما في «تهذيب اللغة»،(3) فيشمل التأديب، لأنّه يمنعه بذلك من ارتكاب الجرم، ويشمل النصر، لأنّه يمنع عنه الأعداء ويردّهم. وتفسير التعزير بالنصر أولى من التوقير بنفسه لئلا يلزم التكرار مع قوله «وَتُوَقِّرُوهُ».

والتوقير بمعنى التفخيم والتعظيم، قال تعالى: «مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ الله وَقَاراً»،(4) أي

ص: 232


1- المائدة (5): 12.
2- راجع: معجم مقاييس اللغة 311:4.
3- راجع تهذيب اللغة: 221.
4- نوح (71): « 13 ).

تطلبون له عظمة واحتراماً في أعين الناس أو في قلوبكم. وأصل الوقر الثقل قال تعالى: «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقَرٌ».(1) والوقار السكون والحلم.

والتسبيح في اللغة التنزيه والتبرئة، وفي «معجم المقاييس»(2) أنّه في الأصل الصلاة النافلة، ثمّ اُطلق على تنزيهه تعالى عمّا لا ينبغي له من الأوصاف. ولم يقل بذلك غيره من أهل اللغة. وقال الأزهري في «تهذيب اللغة»: «ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه من قولك: سبحت في الأرض إذا أبعدت فيها». (3) والظاهر أنّه لا يستعمل إلا في تنزيه الله تعالى عن كلّ ما لا يليق به، ولا يستعمل في تنزيه غيره. وقيل: إنّه عام في أصل اللغة وروى ابن دريد في «الجمهرة»،(4) في ذلك بعض الأشعار وقال: إنّ بعض ما ورد بمعنى البراءة كقول الأعشى: «سبحان من علقمة الفاخر»، ومعناه أنّه يتبرأ من فخره؛ وبعضه بمعنى التعجّب كقول الشاعر: «سبحان من فعلك يا قطام». ولعلّه يقصد أنّ التقدير «سبحان الله»، فإنّه يستعمل للتعجب. وفي «الصحاح»(5) أنّ ما ورد في شعر الأعشى للتعجّب، ولا يبعد وعليه فلا دليل على ورود استعمال التسبيح في تبرئة غيره تعالى في اللغة، كما قال آخرون أيضاً.

والبُكرة: الغداة أي أوّل النهار، والأصل في معناه أوّل الشيء وبدؤه، ومنه البكر أوّل ما يولد للرجل. والأصيل: العشيّ ويطلق على آخر النهار وأوّل الليل

ص: 233


1- فصلت (41): 44.
2- معجم مقاييس اللغة 3: 125.
3- تهذيب اللغة: 196.
4- جمهرة اللغة 1: 278.
5- الصحاح: 372.

على ما يبدو من كتب اللغة.(1) والمراد بالتسبيح في هذين الزمانين الاستمرار على التسبيح ليلاً ونهاراً.

ولا شكّ أنّ التسبيح هنا خاصّ بالله تعالى حتّى لو كان في أصل اللغة عامّاً، ولكن حيث كان التوقير والتعزير أنسب بالرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ذهب جمع من المفسّرين إلى اختلاف مرجع الضمائر ، واستند بعضهم في ذلك إلى أنّ الغرض من الآية التنبيه على عظمة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كما مرّ، والظاهر أنّ بعضهم لم يجد من المناسب الأمر بتعزير الله تعالى، أي الدفاع عنه؛ لأنّه لا يحتاج إلى دفاع، وأنّه لم يرد في الكتاب العزيز التعبير به في مورده تعالى، وبذلك رجّحوا اختلاف الضمائر مع أنّه بعيد في نفسه. وقد تبيّن بما ذكرناه آنفاً أنّ الغرض من الآيتين وما بعدهما التنبيه على أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وسيط في العلاقة بينكم وبين ربّكم، وأنّ التعامل إنّما هو مع الله سبحانه، فلا مانع من إرجاع الضمائر كلّها إليه تعالى. والتعزير وإن كان في الأصل بمعنى المنع إلا أنّ المراد به النصر، وقد اتضح أنّ نصر الرسول ونصر الدين نصر الله تعالى.

«إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ». يأتي هذا التعبير أيضاً في سياق التنبيه على خطورة الموقف، فالبيعة مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ليست كالبيعة مع غيره من زعماء البشر كما يظنّ بعض الناس، ولعلّ بعض المسلمين حدّثته نفسه بالخذلان، فالآية الكريمة تنّبههم على أنّ البيعة ليست في الواقع مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وإنّما هي بيعة مع الله تعالى. والتعبير بالفعل المضارع من جهة أنّ الحكم لا يختصّ بالبيعة في الحديبية وإن كان هو محطّ النظر إلا أنّ الحكم عامّ.

ص: 234


1- راجع كتاب العين 2: 188؛ معجم مقاييس اللغة 4: 322.

والبيعة كانت في ذلك العهد تعني الالتزام بالطاعة للزعيم والدفاع عنه وعن مبادئه، وعبّر عنه بالبيعة كأنّه باع نفسه للزعيم، وكانت تتحقّق البيعة عندهم بالمصافحة باليد، كما أنّ البيع كان كذلك. والمروي أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم كان إذا بايع وضع يده على يد المبايع، فالمبايع هو الذي يمدّ يده أوّلاً، ثمّ يضع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يده على يده، ولذلك جاءت الآية بهذه العبارة: «يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»، أي أنّ اليد التي تبايعهم بها حال كونها، على أيديهم ليست هي يدك، بل يد الله تعالى. وهذا نوع من الاعتبار، نظير ما ورد من أنّ الحجر الأسود يمين الله في

الأرض، ولذلك يستحبّ أن يستلم ويقبّل وتمسح به اليد أو يشار إليه بها.

وقد عبّر الله تعالى عن هذا البيع بقوله: «إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَاهُمْ بِأنَّ هُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حقاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبشروا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»،(1) ولعلّ التصريح بالاشتراء والبيع في هذه الآية إنّما هو بالنظر إلى الاعتبار الذي ورد في سورة الفتح من كون يد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يده تعالى،(2) فالذي بايعهم في الواقع هو الله ، فالاشتراء وقع منه تعالى حقيقة.

«فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ». النكث نقض العهد والبيعة والفاء للتفريع يعني حيث كانت البيعة مع الله تعالى وهو غني عن عباده فلا يضرّه نكث من نكث البيعة وإنّما يضرّ الناكث نفسه.

«وَمَنْ أوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً» وعد جميل من ربّ الكون

ص: 235


1- التوبة (9): 111.
2- راجع: الفتح (48): 10.

والملفت فيه أنّه لم يحدّد الأجر ولم يذكر أنّه جنّات تجري من تحتها الأنهار، وإنّما وصفه بالعظمة ويكفيه عظمة أن يصفه ربِّ الكون بالعظمة، فلا يعلم قدره إلا الله تعالى. وقرأ حفص الهاء في «عَلَيْهُ» بالضم وهي القراءة المشهورة وهو مخالف للمشهور في التلفظ العربي، وقد حاول بعضهم توجيهه بأنّه يسبّب قراءة اسم الجلالة بالتفخيم فيناسب المعاهدة، وهو وجه ضعيف جدّاً، ولم أجد له وجهاً آخر، ولكنّه على كلّ حال صحيح، لأنّه القراءة المشهورة بين الناس وقد أمرنا الأئمّة علیهم السّلام باتباعها.

ص: 236

سوره فتح (11-14)

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ . بِكُمْ ضَرًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنتُم أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيّننَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَن لَّمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.(14)

«سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِالْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ». المخلَّف هو الذي تُرك خلف القوم. والأعراب على ما يبدو جمع لا مفرد له، وليس جمع العرب، لأنّه اسم جنس، وإنّما ينسب إليه المفرد فيقال: «أعرابي» ويطلق على أهل البداوة من العرب الذين لم يتحضّروا ويسكنوا المدن، وفي «التهذيب»: أنّه يطلق على غير العرب أيضاً من الموالي إذا كانوا أهل بداوة.(1) وقولهم : «شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا»، أي شغلتنا عن النفير معك، والظاهر أنّ المراد بالأموال الإبل والماشية، فإنّها تحتاج إلى حفظ ورعاية أو مطلق الأموال خوفاً من إغارة الأعداء. والأهلون جمع أهل على غير قياس، والإتيان بالجمع باعتبار أنّ كلّ واحد منهم له أهل.

والمراد بهم جمع من القبائل الساكنة في أطراف المدينة ممّن أسلموا ظاهراً ولم يتمكّن الإيمان من قلوبهم، فكانوا يتحينون الفرص للمشاركة في

ص: 237


1- تهذيب اللغة 2: 218.

الغنائم دون الحروب، بل تدلّ الآية على أنّهم كانوا منافقين، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فهذا تصريح بنفاقهم وعدم إيمانهم واقعاً بالرسالة وبلزوم الإطاعة وبأنّ قلوبهم لا تعترف بلزوم الاعتذار ولا الاستغفار، وستأتي شواهد أخرى على نفاقهم في الآيات التالية، ولكن بعض المفسّرين يحاول توجيه كلامهم بأنّه لا يدلّ إلا على ضعف الإيمان دون النفاق.

ولمّا خرج الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وأصحابه إلى مكّة عام الحديبية مع إعلام أنّه يريد العمرة استنفرهم ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت، وأحرم الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وساق معه الهدي ليعلم أنّه لا يريد حرباً ورأى أولئك الأعراب - على ما في التفاسير وكتب السيرة والتاريخ - أنّه صلّی الله علیه و آله و سلّم سيواجه عدداً كبيراً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكّة والأحابيش، فلم يخرجوا معه وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟! وقالوا: لن يرجع محمّد ولا أصحابه من هذه السفرة.

ولمّا كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في طريق العودة أخبره الله تعالى بهذه الآيات - وهو من الأخبار الغيبية - أنّ الاعراب المذكورين سيعتذرون إليه عن تخلّفهم بهذه المعاذير وهو الاشتغال بالأهل والمال بمعنى أنّهم كانوا يخافون على أهلهم وأموالهم من الأعداء، وأنّه لم يكن عندهم من يحافظ عليهم، وأنّهم يطلبون منه صلّی الله علیه و آله و سلّم أن يستغفر لهم عن تخلّفهم، وفي ذلك إظهار للندم على ما بدر منهم، ولكنّهم يكذبون في ذلك فما كان لهم من عذر أوّلاً، وهم لا يطلبون الاستغفار بصدق ثانياً، بمعنى أنّهم يكذبون في طلب الاستغفار، وإنّما يطلبون ذلك ليظهروا الندامة ويحافظوا على مكانتهم بين المسلمين م غير نادمين واقعاً. وطلبهم

ص: 238

الاستغفار يدلّ على اعترافهم بأنّ العذر ليس موجّهاً وهو واضح، فالمحافظة على الأهل والأولاد لا يبرّر التقاعس عن الخروج لنصرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ولو فرض كونه عذراً لكان الواجب أن يعرضوا حالهم عليه قبل الخروج.

«قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شيئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَراً أو أرَادَ بِكُمْ نَفْعاً» ردّ عليهم وعلى كلّ من يظنّ نفس الظنّ في المواقف المشابهة، فالإنسان يحاول دفع الضرر عن نفسه ويتشبّث بكلّ وسيلة حتّى لو كانت غير مبرّرة وهو غافل عن أنّ النفع والضرر بيد الله تعالى، فهناك من الناس من أو كلوا أمرهم إلى الله تعالى وخرجوا لطاعته فدفع الله عنهم الشرّ بعنايته، وكثير منهم عصوا ربّهم وحاولوا الابتعاد عن الشرّ فوقعوا فيه من حيث لم يتوقّعوا، وقد وجدنا لذلك أمثلة كثيرة في حياتنا. وقد حكى لي أحد المجاهدين في الحرب التي أشعلها صدّام ضد إيران الإسلامية أنّ جماعة منهم خرجوا لأداء مهمّة في الحرب ولمّا اقتربوا من مواضع إلقاء القذائف وسمعوا الأصوات المخيفة والقذائف تقترب منهم خاف أحدهم والتجأ إلى غار هناك ولم يتقدّم مع أصحابه ولم يفد في إقناعه كلّ حديث وذهب الجمع وأدّوا مهمّتهم ورجعوا بأجمعهم سالمين غانمين ووصلوا إلى الغار وإذا بصاحبهم قتلته قذيفة وهو في ملجئه.

وليس معنى ذلك أنّ الإنسان لا يجب عليه أن يحافظ على نفسه، وإنّما الكلام في أنّه لا يصحّ أن يبرّر ترك الواجب لذلك، بل لابدّ من المحاسبة، فإن كان الواجب أهمّ فلا يجوز تركه لحفظ الأهل والمال، وإلا فلا شكّ أنّ الواجب هو المحافظة عليهم.

و«مَنْ» للاستفهام الإنكاري، أي لا يملك أحد من الله شيئاً. والملك في الأصل

ص: 239

يدلّ على قوّة في الشيء وصحّة على ما في «معجم المقاييس»(1) والمراد به هنا القدرة، أي لا يقدر أحد أن يفعل شيئاً يمنعه تعالى من أيّ ضرر يريد إيقاعه عليكم. وقوله: «لَكُمْ» أي لنفعكم ومصلحتكم، ومنه يظهر أنّ الاستفهام الإنكاري يتعلّق بإرادة الضرّ واستغني عن ذكر مماثله في إرادة النفع. والتقدير: ومن يمنعه إن أراد بكم نفعاً؟! ومثله قوله تعالى: «قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أرَادَ بِكُمْ سُوءاً أو أرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً»؛(2) فإنّ العصمة إنّما هي من السوء. فالتقدير: ومن يمنعه إن أراد بكم رحمة.

«بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً». التعبير يحمل تهديداً مبطّناً، فالله تعالى كان عالماً بما تضمرون في أنفسكم من الشرّ وهو القادر على أن يجازيكم عليه. وإنّما أتى بفعل «كان» لأنّ مورده ممّا مضى، فالمعنى أنّكم اضمر تم شيئاً ظنّاً منكم أنّ أحداً لا يعلم به وكان الله تعالى خبيراً به، كما هو خبير بكلّ شيء. والخبير هو العليم بالشيء على حقيقته، قال العسكري في «الفروق»: «الخبر هو العلم بكنه المعلومات على حقائقها، ففيه معنى زائد على العلم» ثمّ قال: «هو من قولك خبرت الشيء إذا عرفت حقيقة خبره».(3)

ويبدو من الآية أنّهم لم يكتفوا بترك الخروج مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، بل عملوا في الخفاء ما يدلّ على خيانتهم، وهذا ما تقتضيه الظروف أيضاً.

ويبعد جدّاً ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بعملهم ظنّهم أن لن ينقلب الرسول؛ كما في الآية التالية لعدم صدق العمل عليه. وما ذكرناه يحتمل أن يكون هو

ص: 240


1- راجع: معجم مقاييس اللغة 5: 351 - 352.
2- الأحزاب (33): 17.
3- الفروق فى اللغة: 86.

الوجه في الإتيان ب- «بل»؛ لأنّها للإضراب، ومعناها بناءاً على ذلك أنّ الذي صدر منكم لم يكن مجرّد تخلّف عن نصرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ، بل صدر منكم من العمل ما يعلمه الله ويجازيكم عليه.

«بَلْ ظَنَنتُمْ أنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أبَداً» ؛ أي لم يكن السبب في قعودكم وتخلّفكم ما أظهر تموه، بل هو هذا الظنّ وهذا هو ما جاء في الخبر عنهم حيث قالوا: «لن يرجع محمّد وأصحابه من هذه السفرة»، والانقلاب الرجوع إلى المأوى. والأهلون جمع أهل كما مرّ، و«لن» تفيد نفي الأبد وأكدّه :بقوله : «أبداً»، ويفهم منه أنّهم كانوا جازمين بهذه العقيدة، وهذه قرينة اُخرى على نفاقهم وعدم إيمانهم بأصل الرسالة وبأنّ الله تعالى هو الذي أرسل الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وأنّه سيحميه وينصره.

«وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ»؛ أي زيّن ذلك الظنّ في قلوبكم بمعنى أنّه تمكن من قلوبهم فاعتمدوا عليه واعتبروه أمراً مسلّماً لا ريب فيه، أو زيّن ذلك المظنون في قلوبكم بمعنى أنّ عدم رجوع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وأصحابه إلى المدينة أصبح اُمنية لهم، فاخذوا يعدّون العدّة لحياة جديدة يعودون فيها إلى الجاهلية الأولى.

«وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً». قيل: إنّه تكرار للظنّ السابق، وفي تفسير «الميزان» أنّ المراد به ظنّهم بأن الله تعالى لا ينصر رسوله، فظنّ السوء هنا من ظنّهم بالله تعالى، إمّا من جهة أنّهم لا يعتقدون أنّه تعالى يؤثّر في الكونِ أو أنّهم لا يعتقدون أنّه ينصر رسوله أو يقدر على ذلك. والسوء بالفتح مصدر كما مرّ.

ويمكن أن يكون المراد كلّ ما رتّبوه في أمانيهم على عدم رجوع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم فكلّ منهم ربما كانت له أهداف وآمال لا يمكنه أن يصل إليها في

ص: 241

ظلّ السلطة القائمة، فكانوا يتوقّعون أن تعود المياه إلى مجاريها السابقة فيعودون إلى أغراضهم الدنيئة.

والبور مصدر بمعنى الفساد أو الهلاك اُطلق على الفاسدين مبالغة، أو هو جمع بائر بمعنى الفاسد أو الهالك، فالمراد أنّهم فسدوا أو اهلكوا أنفسهم بالكفر والنفاق. ولعلّ في التعبير بالماضي: «وَكُنتُمْ» إشارة إلى إمكان أن تتحوّلوا وتكونوا صالحين لئلا يشعروا بانسداد باب الصلاح عليهم، ويمكن أن يكون بمعنى صار، أي صرتم بذلك هلكى أو فاسدين، ويمكن - كما قيل - أن يكون بمعنى كونهم قبل ذلك فاسدين أو هلكى.

«وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً» بيان لنتيجة عملهم وموقفهم الذي يدلّ على كفرهم بالله ورسوله لينتبهوا ويعودوا إلى رشدهم، وفيه إشارة إلى أنّ موقفهم من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ينبع من عدم إيمانهم بالله تعالى. ولعلّه لم يقل: أعتدنا لهم، بل قال: «لِلْكَافِرِينَ» لأمرين: لتوصيفهم بالكفر، وهم يأبون عنه كغيرهم من المنافقين، وللتنبيه على السبب، وهو الكفر، فربما يتوهّم أنّ الكفر بنفسه ليس سبباً للعذاب. وأنّ الإنسان إنّما يؤاخذ بظلمه للناس وليس الأمر كذلك؛ فإنّ الكفر أكبر ظلم وأقبحه. والسعيرة النار الملتهبة ولعلّ التنكير للتهويل، كأنّه يقول: إنّه سعير أيّما سعير.

«وَالله مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرض» «السماوات والأرض» تعبير عن الكون كلّه، فكلّ الوجود ملكه تعالى، والملكية هنا حقيقية بمعنى أنّ الكون كلّه متقوّم في كيانه وذاته بإرادته تعالى، وحيث حذّر المخلّفين في الآية السابقة أنّهم يدخلون ضمن الكفّار إلى السعير ، فلعلّه يوجب استغراباً ويستبعد أنّ الله تعالى يدخلهم النار لتخلّفهم عن نصرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ويتوهّم أنّ العقاب غير متناسب مع الذنب،

ص: 242

وهذا التوهّم يحصل لكثير من الناس في كثير من الموارد، ويصرّح بعض الناس باستبعاده أن يدخل الله أحداً النار لمجردّ أنّه ترك الصلاة أو أفطر في شهر رمضان من غير عذر أو ترك الحجّ أو أتى بكلّ الأعمال فاقداً للولاية ونحو ذلك، وكأنّ الإنسان يتصوّر أنّ الله تعالى يحكم بمقاييس الناس وأنّه يتبع القوانين الوضعية، فهذه الآية تنبّه الجميع أنّه تعالى لا يتبع إرادة أحد ولا يعمل وفقاً لمنطق الناس وإدراكهم، فالكون كلّه له يفعل فيه ما يشاء، فلو أراد أن يغفر لكلّ المجرمين العتاة المردة لم يكن لأحد الحقّ في الاعتراض، ولا يمكن الاعتراض ولا أثر له، وكذلك لو أراد أن يدخل الناس كلّهم في النار، ولكنّه لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة.

«يَغْفِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِياً» وهذه نتيجة حتمية للجملة السابقة، فالمغفرة والعذاب وكلّ ما يحدث في الكون يرتبط بمشيئته تعالى ولا يتوقّف على أمر آخر، إلا أنّ المشيئة على أساس الحكمة والتدبير، فهو لا يشاء أبداً أن يغفر للمشركين إن لم يتوبوا، كما قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشرك بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ»؛(1) كما أنّه لا يعذّب أحداً إلا بسوء عمله، بل إنّ مغفرته ورحمته سبقت غضبه، والمشاهد في الكون أنّ الغالب هو آثار رحمة الله تعالى، وقلّ ما نجد في الكون آثاراً لغضبه، ولعلّه لذلك قدّم الغفران على العذاب، ثمّ أکّد على كونه غفوراً رحيماً، فلا يؤاخذ العباد بكلّ ما اقترفوا، كما قال تعالى: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ».(2)

ص: 243


1- النساء (4): 48 و 116 .
2- النحل (16): 61.

سوره فتح (15-17)

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا أَنطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعُكُمْ يُريدُونَ أن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَل تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً (15) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يُدْخِلْهُ جَنَّتِ تجرى مِن تَحْتِهَا الأَخبَرُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أليماً(17)

«سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا تَتَّبِعْكُمْ» هذا خبر غيبي آخر، والمراد بالمخلّفين هنا من سبق ذكرهم، والمعروف أنّ المراد بالمغانم ما حصل للمسلمين من مغانم خيبر، ولم يرد فيه خبر، وربما يشهد له استخدام حرف السين في قوله تعالى: «سَيَقُولُ» ممّا يدلّ على المستقبل القريب وأنّ غزوة خیبر كانت أقرب المغانم بعد الحديبية. ويبدو من الآية حيث لم يقل: «إذا انطلقتم إلى حرب أو إلى عدوّ»، بل قال «إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا» أن غزوة خيبر كان الأمر فيها محسوماً من قبل، والنتيجة واضحة والغلبة قطعية، فالسفر لم يكن لصدّ العدوّ، بل لأخذ غنائمه كما هو مذكور في كتب التاريخ أيضاً. و«مغانم» جمع مغنم وهو مصدر ميمي، أي الغنيمة، ويطلق على ما يغنم. ويظهر من قولهم المنقول «ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ» أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم سيمنعهم من اللحوق بالمؤمنين؛ لأنّ هذه المغانم ممّا وعد الله تعالى من شارك في الحديبية

ص: 244

خاصّة بهم، كما يظهر من الجملة التالية أيضاً.

«يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله» يظهر منه - كما مرّ - أنّ الله تعالى كان قد أخبر أنّه يعوّض المؤمنين عن ما أصابهم من الأسف والأذى - لعدم تمكّنهم من الاعتمار وغير ذلك ممّا أصابهم في قضية الصلح - بغنائم يأخذونها ولعلّها غنائم خيبر، فالوحي النازل بذلك كان أمراً من جهة وإخباراً من جهة اُخرى، فأمر الله تعالى أن لا يشاركهم فيها أحد، وأخبر أنّه لا يشاركهم فعلاً وأنّها تخصّهم، ويبدو أنّ المخلّفين كانوا قد سمعوا بذلك فأرادوا مشاركتهم لوجهين: الحصول على الغنائم الكثيرة السهلة الميسورة، وتبديل كلام الله تعالى بأن يعملوا على خلاف ما أخبر به الله تعالى ليكون بذلك شاهداً على نفي الرسالة. وبهذا يتبيّن أنّهم كانوا منافقين ويعادون الرسالة، فقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا» يدلّ على أنّهم كان لهم في ذلك غرض منشود. وبذلك يظهر أيضاً أنّ ما ورد في السيرة من تخصيص الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم تلك الغنائم بمن كان معه في الحديبية لم يكن لاختياره ذلك، بل بأمر من الله تعالى.

«قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ». قيل: إنّ المراد بالنفي المؤبّد التأكيد على النهي وهو أمر متعارف؛ فإنّ النهي إذا اُتي به بصيغة النفي أفاد التأكيد بذاته، فهناك فرق بين أن تقول: «لا تفعل» وأن تقول: «إنّك لا تفعله» وأنت تريد نهيه عن ذلك، فإنّ النفي هنا يدلّ على أنّك لا تصدق أنّه يفعل ذلك، فإذا أتيت بالنفي المؤبّد كان ذلك آكد، فالمعنى نهيهم نهياً باتاً، وعليه فمعنى الجملة التالية أنّ الله تعالى نهى عن ذلك مؤكّداً. ولكن إذا لاحظنا ما مرّ في تفسير قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ» من أنّه تعالى أخبر بأنّهم لن يتمكّنوا من اللحوق بهم،

ص: 245

تبيّن أنّ النفي هنا ليس بمعنى النهي، بل بمعناه الحقيقي، أي أنّكم لا تستطيعون أن تفعلوا ذلك أبداً؛ لأنّ الله تعالى أخبر بذلك فلا يمكن أن يحدث لا محالة.

«فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا»، أي أنّ المخلّفين لجشعهم ونفاقهم معاً سيكذّبون الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ويردّون عليه بأنّ الله تعالى لم يقل ذلك، وإنّما تمنعوننا منها لحسدكم ورفض نفوسكم أن نشارككم في الغنائم.

«بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلاً» وهذا ردّ عليهم بأنّهم لا يفقهون إلا قليلاً من اُمور الدنيا، وذلك لأنّهم لا يهمّهم إلا المال والغنائم كقوله تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»،(1) وهكذا أبناء الدنيا حيث يفسّرون كلّ ما يواجهونه من حقائق بتفسير مادي، حتّى الرسالات وأعمال الرسل وكراماتهم، ولا يشعرون أيّ فرق بينهم وبين غيرهم ممّن هو على شاكلة أنفسهم من عشّاق المال.

«قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أو يُسْلِمُونَ»، تكرار التعبير عنهم بالمخلّفين وعدم الاكتفاء بالضمير للتركيز على التنديد بهذه الصفة التي تشتمل على القدح والتحقير، حيث إنّ المخلّف هو الذي تُرك مع أنّهم كانوا متخلّفين ولم يُتركوا لعدم الاعتناء بهم إلا أنّهم حيث تركوا الواجب وأخلدوا إلى الأرض وقدّموا الدنيا على الآخرة استحقّوا هذا التحقير، فاعتبروا كأنّهم تُركوا لعدم الاهتمام بشأنهم. وأيضاً التأكيد على كونهم من الأعراب فيه نوع تحقير لهم وانتقاص من ثقافتهم.

والآية الكريمة تفتح لهم مجالاً للعودة والتوبة، ولكن لا يمكن ذلك. ، مع

ص: 246


1- الروم (30): 7.

الخلود إلى الراحة وانتهاز الفرص للسيطرة على الغنائم، وإنّما تقبل منهم التوبة إذا فازوا في امتحان أصعب ممّا مضى حيث يُدعون لمقاتلة قوم أولي بأس شديد، فليسوا كاليهود متستّرين بالحصون للمحافظة على أموالهم، ومن جهة اُخرى لا يكفي في القتال أن يستسلم القوم أو يهربوا أو يدفعوا الجزية، بل عليهم أن يقاتلوهم إلى أن يسلموا فهو امتحان صعب. وهكذا يبتلي الله تعالى عبده بمحنة، فإن تهرّب عنها وقع في محنة أصعب ليتبيّن صفاء روحه وقوة إيمانه ومدى تسليمه لأمر الله تعالى.

وقد وقع الخلاف في المراد بهذا القوم، فقيل: هم هوازن في غزوة حنين، وقيل: ثقيف في غزوة الطائف، وقيل: مشركو مكّة في فتح مكّة وقيل: الروم في غزوة مؤتة، وقيل: المراد دعوتهم إلى حروب المسلمين بعد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كالمرتدّين مع مسيلمة أو الفُرس، وكلّ منهم أشدّاء ذوو بأس شديد إلا أنّه يبعد إرادة الروم؛ لأنّهم كانوا أهل كتاب والحرب معهم لا يستمرّ إلى الإسلام، بل تقبل منهم الجزية، فقوله تعالى: «تُقَاتِلُونَهُمْ أو يُسْلِمُونَ» يدلّ على أنّهم مشركون. وكذلك لا يصحّ إرادة الفرس؛ لأنّهم كانوا مجوساً وحكمهم في الحرب كأهل الكتاب، ويبعد إرادة أهل مكّة؛ لأنّ ظاهر الآية أنّهم قوم غير من دعوا إلى محاربتهم في هذه القضية، وإلا لقال: ستدعون إلى قتال هؤلاء مرّة أخرى، وظاهر قوله: «سَتُدْعَوْنَ» أنّه يتمّ في المستقبل القريب، فيبعد أيضاً حمله على ما بعد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، فالصحيح أنّ المراد بهم هوازن أو ثقيف أو كلاهما.

«فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيماً» الغرض من هذا البيان أنّ الامتحان لا يتمّ إلا بالابتعاد عن الجشع والمطامع

ص: 247

المادية وإلا فأنتم باقون على النفسية السابقة، فإن وطّنتم أنفسكم على قتال عدوّ شديد البأس لا تتركونهم حتّى يسلموا من دون أن يكون لكم مطمع في مال، بل يكون هدفكم بلوغ رضوان الله تعالى ونيل ثوابه و اجتناب عذابه يوم القيامة، فقد فزتم وإلا فإنّ الله تعالى يعذّبكم عذاباً أليماً، ولعلّه لذلك لم يفصل ذكر الأجر أيضاً، بل أبهمه ليكون قصد التقرّب إليه وامتثال أمره هو الهدف الأساس.

ومن الغريب أنّ بعض من يصرّ على أنّ هؤلاء قوم مؤمنون، فسّر هذه الآية بأنّها نزلت للتخفيف عنهم بأنّكم ستنالون غنائم في حروب آتية، وإنّما كان المنع في غنائم خيبر لمصلحة خاصّة مع أنّ الآية لا تدلّ على ذلك، وإنّما وعدوا بالأجر الحسن. والأجر الحسن لم يكن في الدنيا، بل في الآخرة.

وقوله تعالى: «كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ»، أي في الحديبية، وفيه تهديد لهم بأنّ ذلك التولّي يستلزم العذاب الأليم، ولكنّ الله تعالى يعفو عنهم إذا أطاعوا في غزوة أخرى. والتولّي عن الشيء الإدبار والإعراض عنه، فلا بدّ من تقدير، أي تتولّوا

عن الإطاعة، ولذلك يعبّر به عن العصيان.

«لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً». يبدو أنّ المعوّقين كالأعمى والأعرج وكذلك المرضى ممّن تخلّفوا، وربما شاركوا الأصحاء في ظنّ السوء وبثّ الدعايات ضدّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لمّا رأوا أنّ التوبة والرجوع اُنيط بالدعوة إلى القتال أصابهم الهلع والخوف من أنّهم لا يقدرون على ذلك، فكيف يضمنون قبول التوبة، فنزلت الآية الكريمة تعفيهم عن القتال، ولكنّها في نفس الوقت تطالبهم بإطاعة الله ورسوله، فمجال الإطاعة واسع ومن

ص: 248

لا يستطيع القتال، يمكنه بذل النصح للرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم وللاُمّة، ولذلك عقّبه بقوله :تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وعبّر عن العاصي بنفس التعبير الوارد في من ترك القتال وَمَنْ يَتَوَلَّ» للتنبيه على أنّ دور العاجز خلف جبهات القتال لا يقصر عن دور المقاتل.

ص: 249

سوره فتح (18-23)

* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)وَمَغَائِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزيزا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَائِمَ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا فَعَجَلَ لَكُمْ هَندَه، وَكَفَّ أَيْدِى النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(20) وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (23)

«لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ». الآية تشير إلى بيعة المؤمنين مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يوم الحديبية وتسمى بيعة الشجرة، لوقوعها تحت شجرة سمرة هناك، ويقال: إنّ المؤمنين كانوا يتبرّكون بها مدّة من الزمان إلى أن قطعت بأمر عمر على ما روى السيوطي في «الدر المنثور» قال: «أخرج ابن أبى شيبة في المصنّف عن نافع، قال: بلغ عمر بن الخطاب أنّ ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت».(1)

وتسمّى هذه البيعة بيعة الرضوان أيضاً لمكان هذه الآية الكريمة، والقصّة مشهورة في كتب السيرة والتاريخ، ففي «مجمع البيان»: «إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم لمّا نزل بالحديبية دعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكّة ليأذنوا له بأن يدخل مكّة ويحلّ من عمرته وينحر هديه، فقال: يا رسول الله ما لي بها حميم وإنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيَّاها، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان

ص: 250


1- الدرّ المنثور 6: 73.

بن عفان، فقال: صدقت، فدعا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عثمان، فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم والمسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال صلّی الله علیه و آله و سلّم: لا نبرح حتّى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة، فقام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى الشجرة فاستند إليها وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا».(1)

ولكن هناك تساؤلات حول هذه القصّة تمنع من قبولها، مع أنّها مشهورة، فمنها أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كان مؤيّداً من عند الله تعالى يخبره بما يحدث، فكيف خُدع بما بلغه من مقتل عثمان؟! ولا يمكن القول بأنّه صلّی الله علیه و آله و سلّم تظاهر بالانخداع ليأخذ من الناس البيعة، ومن غريب ما في القصّة ما ذكره جمع من المفسّرين ومنهم الآلوسي في «روح المعاني»، حيث قال: «وصحّ أنّه - صلّى الله عليه و آله و سلّم - ضرب بيده اليمنى على يده الاُخرى وقال: هذه بيعة عثمان»،(2) فكيف يبايع الرسول عنه وهو مقتول؟!

ويؤيّد هذا التشكيك ما رواه البلاذري في «أنساب الأشراف» قال: «وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - فلمّا رآه قال: إلا أنّه قدمت عليكم دويبة سوء من تمش على طعامه يقيء ويسلح فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكنّي صاحب رسول الله - صلى الله عليه و آله و سلّم - يوم بدر، ويوم بيعة الرضوان، ونادت عائشة، أي عثمان، أتقول هذا لصاحب

ص: 251


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 177.
2- روح المعاني 13: 260.

رسول الله - صلى الله عليه وسلّم ؟!».(1)

وكان - كما قيل - يعرض بعثمان، حيث تغيب في هذين اليومين، ولو كانت بيعة الرضوان من أجل ما ذكر من خبر مقتله لم يكن وجه للتعريض به، بل كان فخراً له، فالغالب في الظنّ أنّه غاب عن هذه البيعة لسبب ما، فاختلقت أجهزة وضع الحديث الأموية وحاكت كلّ هذه القصة لتبرير موقفه ولجعله منقبة له.

وقد مرّ الكلام حول إسناد الرضا والغضب إلى الله تعالى، وقلنا: إنّه لا يمكن بظاهره؛ إذ لا يمكن عروض الحالات عليه تعالى مضافاً إلى أنّ المعنى الظاهري للرضا هو الملاءمة مع الطبع ولا معنى لإسناد ذلك إليه سبحانه، ولذلك ورد في رواياتنا أنّ رضا الله ثوابه وغضبه عقابه، بمعنى أنّ الذي يحدث هو فعل الله تعالى وهو الثواب والعقاب، والظاهر أنّ الثواب والعقاب هنا يشمل القرب والبعد، فالمراد بهذا التفسير على ما يبدو هو أنّ ما يحدث إنّما هو في الإنسان وهو دخوله في مقام القرب لدى الله تعالى أو في حضيض البعد عن رحمته.

وقوله تعالى: «إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» ظرف يفيد التعليل، ومعناه أنّ ما أوجب كون المؤمنين مرضيين لديه تعالى هو مبايعتهم تحت الشجرة للظروف الخاصّة المحيطة بهم، ولِما وطّنوا عليه أنفسهم من الوفاء للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وقصدوا بذلك الزلفى لديه تعالى، فالرضا وإن تعلّق بذات الإنسان إلا أنّه ليس مطلقاً وليس معناه أنّ هذا الإنسان معصوم أو مؤيّد من عند الله تعالى، وإنّما يدلّ على أنّ هذا العمل ممّا يرضى به الله تعالى، فمن عمله فهو داخل في مرضاة الله، وقد مرّ أنّ رضا الله إنّما يتعلّق بالسجايا والأعمال، فالذي يحدث بعمل الإنسان هو

ص: 252


1- أنساب الأشراف 2: 269 (على ما في المكتبة الشاملة).

وروده في دائرة الرضا المتعلّق بعمله، ولا ينافي ذلك مغضوباً علیه بارتداد أو قتل مؤمن ونحو ذلك. ونظيره ما ورد مستفيضاً في أحاديث الفريقين من أنّه تعالى يغفر للواقفين بعرفة بأجمعهم، فإنّه لا يعني أنّه يغفر له ما يأتي من ذنوبه مستقبلاً، فربما يذنب متعمّداً في نفس الموقف بعد استغفاره وقبول التوبة منه.

ثمّ إنّ الرضا المتعلّق بالجماعة ليس معناه الرضا عن كلّ فرد فرد، ومن الغريب إصرار المتشبّثين بالحشائش بمثل هذا التعبير، لإثبات أنّ كلّ فرد منهم مخاطب بذلك يقول بعضهم: «يا الله ! كيف تلقوا - اُولئك السعداء - تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي؟ التبليغ الذي يشير إلى كلّ أحد في ذات نفسه ويقول له: أنت أنت بذاتك. يبلّغك الله لقد رضي عنك وأنت تبايع تحت الشجرة وعلم ما في نفسك فأنزل السكينة عليك إنّ الواحد منّا ليقرأ أو يسمع: «اللهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا»(1) ... فيسعد يقول في نفسه : ألست أطمع أن أكون داخلاً في هذا العموم؟ ويقرأ أو يسمع: «إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»(2) فيطمئن يقول في نفسه: ألست أرجو أن أكون من هؤلاء الصابرين؟ وأولئك الرجال يسمعون ويبلّغون واحداً واحداً أنّ الله يقصده بعينه وبذاته ويبلغه: لقد رضي عنه وعلم ما في نفسه ورضي عمّا في نفسه..».(3)

ولا يكاد ينقضي العجب من هذا الكلام!! ما هو الفرق بين التعبير بالصابرين والذين آمنوا حيث إنّهما يدلان على العموم ويشملان الفرد بعموم اللفظ، وبين

ص: 253


1- البقرة (2): 257.
2- البقرة (2): 153؛ الأنفال (8): 46.
3- في ظلال القرآن 6: 3326.

التعبير بالمؤمنين الوارد في الآية الكريمة ؟!!! أليس هذه أيضاً كلمة تدلّ بعمومها على الأفراد؟! فالصحيح أنّ اللفظ عامّ يشمل الجميع، ولكن قوله تعالى: «فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ» عنوان يختلف فيه الناس اختلافاً فاحشاً، وليس كلّ أولئك بمنزلة واحدة في النّية والخلوص، بل لا شكّ أنّ فيهم ضعاف الإيمان والمنافقون، وفيهم المخلصون غاية الإخلاص، وفيهم المتوسّطون؛ ويقال إنّهم بأجمعهم بايعوا إلا جدّ بن قيس كان منافقاً فتستّر ولم يبايع. وأكثر منه نفاقاً من تستّر ببيعته. ويدلّ على ما ذكرناه من الاختصاص قوله تعالى في نفس هذه البيعة: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُتُ عَلَى نَفْسِهِ» ولو لم يكن هناك من يقصد النكث لم يذكر الله تعالى ذلك، وقد روى في «الدرّ المنثور» عن ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: تعالى: «فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ» قال: «إنّما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء».(1)

«فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَانْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً». الظاهر أنّ الجملة معطوفة على قوله : «يُبَايِعُونَكَ»، أي علم ما انطوت عليه ضمائرهم من حسن النيّة والعزم على الوفاء للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم فأنزل السكينة والاطمئنان في قلوبهم ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم. ومنه يظهر أنّ السكينة لا تنزل لمجرّد الاضطراب والقلق كما يتصوّر ، بل لابدّ من عمل وخلوص ليستحقّوا نزولها. ونسب إلى «مقاتل» أنّ المراد بما في قلوبهم كراهة البيعة والحرب،(2) ولعلّه إنّما فسّره بذلك ليناسب نزول السكينة، كأنّه تصوّر أنّ الإنسان لا يحتاج إليها إلا إذا كان مضطرباً وهو خطأ

ص: 254


1- الدرّ المنثور 6: 74.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 10-9: 176.

واضح، وقد أنزل الله تعالى سكينته على رسوله كما سيأتي في هذه السورة، وقد ورد أيضاً في قوله تعالى: «فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا».(1)

والإثابة بمعنى إعطاء الثواب، أي الجزاء وأصله من الثوب، أي الرجوع، يقال: ثاب إلى الله وتاب وأناب كلّها بمعنى واحد، وهذا التعبير بلحاظ أنّ ثواب الإنسان وجزاءه كأنّه نفس عمله اُرجع إليه. والظاهر أنّ المراد بالفتح القريب فتح خيبر، لأنّه كان بعد الحديبية مباشرة.

«وَمَغَائِمَ كَثِيرَةٌ يَأخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِياً» عطف على الفتح القريب فهي جزء من الثواب، والمراد غنائم خيبر وهي كانت كثيرة فعلاً؛ لأنّ اليهود كانت تجمع الأموال كما هو شأنهم وديدنهم دائماً؛ وتوصيفها بأنّهم يأخذونها لعلّه للتأكيد على أنّها مغانم مادية وأموال لئلا يتوهّم أنّ المراد مغانم معنوية، فتصغر في نفوس من يسترخصها، وقيل: إنّ التوصيف بذلك للإشارة إلى أنّ كلّ الحاضرين في البيعة المخاطبين بهذا الخطاب يأخذونها فلا يهلك منهم أحد قبله. وهو بعيد عن اللفظ؛ إذ الخطاب العامّ في مثل ذلك لا يستلزم الانحلال إلى خطابات بحسب الأفراد، مضافاً إلى أنّه لا ينطبق على نفس هذا الوصف حيث ذكر في الآیة التالیة و یقصد بالخطاب فیه کلّ المسلمین علی ما یبدو.

و «كَانَ» منسلخة عن الدلالة على الزمان وتدلّ على مطلق الثبوت. والعزّة والحكمة واضحتان ممّا حدث، فالله تعالى عزيز وغالب على أمره، فإذا أراد أن يجازي قوماً محسنين جزاءاً عاجلاً وفيراً فالأمر كلّه بيده يقرب البعيد ويبعد القريب، وإنّما يتأخّر الجزاء في أكثر الموارد لحكمته تعالى، فإنّ الدار دار

ص: 255


1- التوبة (9): 40.

امتحان وابتلاء ولو كان كلّ مؤمن يلقى جزاء إحسانه في العاجل وبصورة واضحة تميّزه عن غيره لكان ذلك من أشدّ المغريات تأثيراً واستجلاباً للناس ولدخلوا في الدين طواعية بالملايين من دون أن يُمَحَّصوا وتخلّص جواهر نفوسهم وتزكّوا أرواحهم، وهذا خلاف المصلحة والحكمة من هبوط الإنسان إلى الأرض.

«وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّفَ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» الظاهر أنّ المراد بالمغانم مطلق المغانم التي وعد بها المسلمون بصورة عامة على لسان الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم وإن قوله «هذه» إشارة إلى غنائم خيبر. وقيل: إنها إشارة إلى صلح الحديبية، فهو مغنم معنوي، وربّما يؤيّده قوله: «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» بناءاً على أنّ الناس كفّار مكّة، ولكن ما ذكرناه من وجه التوصيف بالأخذ ينافيه، فإنّه يقتضي أن تكون الغنيمة مادية.

وأمّا المراد بالناس فقد قيل: إنّهم يهود خيبر أو بنو أسد وغطفان من حلفائهم، حيث أرادوا النزول إلى المعركة لحماية اليهود، فأنزل الله في قلوبهم الرعب وردّهم. ولكنّ الأظهر أنّ المراد بهم مشركو مكّة، حيث كان من المتوقّع أن يقاتلوا المسلمين لمنعهم من دخول مكّة مع كلّ ما بينهم من العداء، بل الثأر المطلوب فكفّ الله أيديهم، ولذلك ورد في عبارة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم عن فتح الحديبية - كما أسلفنا - : «هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم»(1) ويؤيده أيضاً الآيات التالية.

«وَلِتَكُونَ آيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً». الضمير في «لِتَكُونَ» يعود إلى

ص: 256


1- مكاتيب الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم 3: 96.

الغنيمة المشار إليها بقوله «هَذِهِ» والواو للعطف، فالجملة معطوفة على مقدّر ولعلّ التقدير: «التغنموا» أو «ليحقق الله وعده»، ولتكون الغنيمة آية للمؤمنين، فبناءاً على كون المراد بها صلح الحديبية - كما قيل - فهو آية عظيمة فتح الله به

للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم طريق النفوذ في القبائل العربية ونشر الدعوة، ثمّ لمّا لم تتحمّل قريش نتائج ما آلت إليه المصالحة من دخول الناس في دين الله أفواجاً نقضت العهد، ففتح الباب للهجوم الكاسح بآلاف من المسلمين، ففتح الله مكّة لرسوله بدون قتال. ولكنّ الصحيح - كما مرّ - هو أنّ المراد بها غنائم خيبر، فكونها آية من جهة تحقّق ما أخبر الله به على لسان نبيّه صلّی الله علیه و آله و سلّم فيقوى بذلك إيمانهم بالله ورسوله. والظاهر أنّ الهداية إلى الصراط المستقيم تترتّب على كون الغنيمة آية، حيث يزدادون إيماناً وتمسكاً بعقيدتهم فيهتدون إلى الصراط المستقيم الذي دعاهم الله تعالى إليه.

«وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً». «أُخْرَى» صفة لمقدّر، والمقدّر معطوف على قوله: «هَذِهِ» في الآية السابقة، أي وعجّل لكم غنيمة أخرى. وجملة «لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا» وصفية، وقوله: «لَمْ تَقْدِرُوا» يدلّ على نفي القدرة فيما مضى، فالمعنى أنّهم حاولوا الوصول إليها ولم يقدروا، فالأقرب أن يكون المراد دخول مكّة وفتحها، حيث تمّت المحاولة في قضية الحديبية وحصلوا على هذه الغنيمة في فتح مكة.

وقوله تعالى: «قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا» جملة وصفية أيضاً، والإحاطة بالشيء بمعنى الإحداق والإطافة به من كلّ جهة، فقد يراد بها العلم بكلّ جوانبها، وقد يراد بها القدرة الكاملة عليها بحيث لا يمنعه مانع وهما في الحقيقة مختصّان به تعالى،

ص: 257

كما قال: «ألا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطُ»(1) والمراد بالإحاطة هنا إحاطة قدرة، أي أنّ هذا الأمر وإن لم يكن مقدوراً لكم إلا أنّه كغيره تحت إحاطته تعالى وقدرته، فهو قدير على كلّ شيء و «كَانَ» - كما مرّ - منسلخة عن الزمان وتدلّ على أصل - الثبوت ولو أريد بها ما يدلّ على الماضي صحّ أيضاً، وتفيد التنبيه على أنّه تعالى كان قادراً عليها حين عجزكم وإنّما أخّرها لمصلحة وحكمة.

«وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً». المراد بالذين كفروا مشركو مكّة، ويبدو أنّ بعض الناس كانوا يظنّون أنّ الخطر كان محدقاً بالنبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وأصحابه من جهة المشركين، وأنّه كان من الخطأ النزول في عقر دارهم لقلّة عددهم وعدم استعدادهم للقتال، وقد وصلوا إلى مشارف مكّة، فإنّ الحديبية قريبة جدّاً منها وهي من حدود الحرم. فهذه الآية ترد على هذه الظنّون بأنّ المسلمين كانوا هم الغالبين لو كان يحدث بينهم قتال وأنّ المشركين كانوا ينهزمون في الحرب ويولّون ،أدبارهم وأمّا الاتكال على الأعراب والأحابيش فلا أثر له، فإنّ الله تعالى إذا شاء يقذف في قلوبهم الرعب، كما ألقى في قلوب اليهود وحلفائهم، فلو قاتلوكم ما كانوا يجدون ولياً يتولّى أمورهم ويدافع عنهم، بل ولا نصيراً يؤازرهم.

وأتى بحرف «لَوْ» للدلالة على أنّهم يهابّون المسلمين ولا يقاتلونهم أساساً؛ لأنّ «لَوْ» تدلّ على الامتناع. وتولية الدبر بمعنى الفرار، و«ولّى» أي أتبع الشيئ بالشيء، فإن قيل: ولاه وجهه، أي أقبل إليه، كما قال تعالى: «فَوَلٌ وَجْهَكَ شَطْرَ

ص: 258


1- فصّلت (41): 54.

الَمسجِدِ الحَرَامِ»(1) وإن قيل: ولاه دبره، أي خلفه، فيكون بمعنى الإعراض أو الفرار.

«سُنَّةَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا». «سُنَّةَ الله» مفعول مطلق لفعل مقدّر، أي سنّ الله سنّته التي... و «خَلَتْ» بمعنى مضت، أي ليس هذا بدعاً من الأمر، بل هو سنّة الله تعالى في نصرة أنبيائه السابقين، كما قال تعالى: «كَتَبَ الله لأغْلبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»،(2) فهذا أمر مكتوب وقضاء حتم، والجملة الأخيرة المبدؤة بنفي الأبد للتأكيد على أنّ هذه السنّة باقية لم تتغيّر ولن تتغيّر.

وليس المقصود أنّ الأنبياء لا يهزمون في قتال أو لا يظلمون، فقد ورد في القرآن التنديد بمن قتلوا النبيين علیهم السّلام. والهزيمة قد وقعت في صفوف المسلمين أيضاً كما حدث في اُحد، ولكنّ المقصود أنّهم هم الغالبون في النهاية. مضافاً إلى أنّ المستفاد من الآيات الكريمة أنّه تعالى يؤيّد المؤمنين وينصرهم إذا أطاعوا الله ورسوله ونصروا دين الله، كما قال تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»،(3) وهذه سنّته في كلّ ما كان من غزوات وحروب، ولم يهزم المسلمون إلا في المواقف التي خالفوا فيها أمر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وإنّما كان الحكم هنا هو الانتصار الحتمي، لأنّهم أخلصوا النّية وبايعوا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم حتّى الموت أو على عدم الفرار، وعلم الله منهم الصدق والوفاء، فأنزل السكينة عليهم وكان النصر لهم حتماً حتّى لو وقع القتال بينهم وبين المشركين.

ص: 259


1- البقرة (2): 144.
2- المجادلة (58): 21.
3- محمد (47): 7.

سوره فتح(24-26)

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَهْدَى مَعَكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَعُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذِّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقِّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِم.)

الآية مرتبطة بصلح الحديبية ولا وجه لتخصيصها من بين آيات السورة بفتح مكة. وتقديم الضمير المسند إليه للتركيز على الفاعل، أي أنّ الله تعالى هو الذي فعل ذلك ولم يكن الأمر من تدبيركم، وهو الذي تولى أموركم ليتمّ الفتح المبين لرسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم والكفّ هو المنع، فالله تعالى بتصرّفه في القلوب - وهو يحول بين المرء وقلبه - منع كلاً من الفريقين أن يهاجم الآخر، مع أنّ الوضع بصورة اعتيادية كان يستلزم المواجهة، فالثأر والعداء بينهما راسخان والمسلمون قلة لم يستعدوا للحرب، وهاهم بلغوا مشارف مكّة، والتعبير بأنّهم في بطن مكّة إما للمبالغة أو باعتبار إطلاق الاسم على المدينة المقدّسة وما حولها من الضواحي، كما هو المتعارف. والحديبية أوّل الحرم الشريف. والبطن، يطلق على داخل الشيء بخلاف الظهر، ومثلهما الباطن والظاهر. ومع كلّ ذلك لم تحصل

ص: 260

أيّ مواجهة ولم يمنع منها إلا قدرة الله تعالى، حيث منع كلاً منهما أن يقصد الآخر ليبلغ الغاية المتوخّاة، وهو فتح مكّة بدون قتال، ليبقى حرم الله تعالى مصوناً من سفك الدماء فيه، والله بالغ أمره.

وأما قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» فالظاهر أنّ المراد به الظفر على المشركين عامّة من جهة أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم تمكّن من دخول مشارف مكّة قليل، ومن دون أن يحملوا عتاد الحرب وأن يرغمهم على قبول الصلح، وكان هذا بنفسه فوزاً عظيماً، ولذلك عدّه الله سبحانه فتحاً مبيناً. ولكن كثيراً من المفسّرين رووا روايات تدلّ على أنّ الآية نزلت في شأن قوم خاصّ من المشركين أرادوا الفتك بالمسلمين، فأمكن الله منهم وقبضوا عليهم وأطلقهم الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، والروايات متخالفة ولا اعتبار بإسنادها، وبعضها واضح الكذب لاشتمالها على أنّ خالد بن الوليد هو الذي أسرهم بأمر النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم مع أنّه لم يكن مسلماً ذلك اليوم، فكأنّ الواضع خانته ذاكرته.

«وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً». لا شكّ أنّه تعالى بصير بكلّ شيء، وإنّما القصد هنا التنبيه على أنّ الأمور كانت تحت عنايته الخاصّة، كما قال تعالى خطاباً لموسى علیه السّلام: «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْني»،(1) فالمراد أنّ الأمور ما كانت تسير سيرها الطبيعي المتوقّع، بل كانت عناية الله سبحانه وتأييده ولطفه تسير الأمور على الوجه الخاصّ، بحيث ينتهي الأمر إلى ما يريده تعالى وهو الصلح المستتبع لفتح مكّة من دون قتال والله غالب على أمره.

«هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ يَحِلَّهُ». هذه

ص: 261


1- طه (20): 39.

الآية تثبت استحقاق المشركين لأن يعذبهم الله تعالى بأيدي المؤمنين، بل يبيدهم عن آخرهم، وتبيّن السبب في تأخير ذلك. أما وجه استحقاقهم للعذاب فأمور ثلاثة الكفر، وهو بنفسه يكفي مبرراً للعقاب إذا تمّت الحجّة عليهم وقد تمّت بالفعل؛ والثاني أنّهم منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام، والثالث منعهم الهدي من أن تبلغ محلّها وتذبح أو تنحر؛ فقوله تعالى: «وَالهَدْيَ» عطف على الضمير المنصوب في «صَدُّوكُمْ»، أي وصدّوا الهدي. والصدّ: المنع. والمعكوف، أي المحبوس ومنه الاعتكاف، حيث يحبس الإنسان نفسه في المسجد. والهدي ما يهدى إلى الكعبة من النعم قربة إلى الله تعالى. والمحلّ، أي الموضع الذي يحلّ فيه ذبحه أو نحره وهو مكّة في العمرة المفردة، حيث يستحبّ فيها الهدي. وكان منع الهدي من بلوغ مكّة يعتبر جريمة في عرف العرب الجاهلي، بل كانوا يُشعرون الهدي أو يقلّدونه فلا يتعرّض له أحد بأذىً إلى أن يبلغ مكّة للذبح أو النحر.

«وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَتُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بغَيْرِ عِلْمٍ». وهذا بيان للسبب في تأخير العقوبة وهو - على ما هو المعروف في تفسير الآية - وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في مكّة لا يعرفهم المسلمون بأشخاصهم، فينالهم سوء بسبب الحرب وينتهي الأمر بما يوجب حرجاً على المسلمين. وقوله : «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» جملة وصفية للرجال والنساء، أي لم تعرفوهم و «أنْ تَطَنُّوهُمْ» بدل عن رجال ونساء، أي لولا أن تطئوا هؤلاء. والوطء هو الدوس بالأرجل، وهو كناية عن الإهلاك كما قيل. والمعرّة، المكروه وما يصيب الإنسان من الإثم، كما في «العين»(1) وأصله العرّ بمعنى الجرب واللطخ بالقذارة

ص: 262


1- راجع کتاب العین 1: 85.

والعيب. والمراد به - على هذا التفسير - أنّكم إذا قتلتم مؤمناً خطأ فإنّكم تصابون بالأسف، كما أنّه يستلزم عاراً ،ومسبّة، فيقال: إنّ أتباع دينهم أيضاً لم يسلموا منهم. وقوله: «وَلَوْلا» شرط جوابه محذوف، أي لولا ذلك لسلّطكم الله عليهم. وهناك اختلاف في متعلّق قوله: «بِغَيْرِ عِلْمٍ»، فقال في «الكشّاف»: إنّه متعلّق ب- «أنْ تَطَئُوهُمْ»، يعني أن تطئوهم غير عالمين بهم.(1) ولكنّه يكون تكراراً لقوله: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ».

وقيل: إنّ المراد بهذا العلم، العلم بلحاق المعرّة، فيختلف عن العلم في «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» المتعلّق بإيمانهم. ولكنّه قيد لا فائدة فيه، فإنّ إصابة المعرّة محذور، سواء علم بها أم لم يعلم، مضافاً إلى أنّ المعرّة إنّما تصيبهم بعد تبيّن إيمانهم وهم حينئذٍ يعلمون بالإصابة فلا تصيبهم من غير علم.

وقيل: إنّ المراد بالعلم الأوّل العلم بالوطأة، أي تقتلونهم من دون شعور بهم، والعلم الثاني متعلّق بإيمانهم، وكلاهما غير صحيح؛ فإنّ العلم الأوّل تعلّق بهم، لقوله: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» فلا يمكن أن يتعلّق بالوطأة، والثاني لا علاقة له باعتبار الإيمان.

وقيل: إنّ المراد بالثاني عدم علم من يعترّض عليكم بأنّكم معذورون في قتلهم، لعدم العلم بهم وهو أبعد من الجميع. ومن الواضح ارتباك التفاسير في توجيه هذه الكلمة وأكثرهم مرّ عليها مرور الكرام.

والسّر في ذلك هو أنّهم لم يتعرّضوا لسؤال واضح هنا أو لم يتأمّلوا في ما هو الجواب الصحيح وإن أشار إليه بعضهم. والسؤال البارز هنا أنّه من هم هؤلاء

ص: 263


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 343:4.

الرجال والنساء، وكيف لم يعرفهم المؤمنون وفيهم كثير من أهل مكّة؟ ولم يرد في تفاسير القوم شيء مأثور إلا ما ورد في «الدرّ المنثور» قال: «أخرج الحسن بن سفيان وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن قانع والباوردي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم بسند جيد عن أبي جمعة حنيبذ بن سُبيع، قال: قاتلت النبي - صلّى الله عليه و آله و سلّم - أوّل النهار كافراً وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، فينا نزلت: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِناتٌ» وكنّا تسعة نفر، سبعة رجال وامرأتين».(1) وعلى ضوء هذه الرواية ورد في بعض تفاسيرهم أنّهم هم المراد بالآية. وهو بعيد جداً، أوّلاً من جهة أنّ ظاهر الآية أن تكون النساء أكثر من اثنتين وثانياً لأنّ الرواية تشتمل على ما هو خلاف الواقع من حدوث حرب بين المسلمين والمشركين، وثالثاً أنّه وفقاً لهذه الرواية لم يكن الراوي قبل الحرب من المسلمين فلا تشمله الآية. وعدّ بعضهم من هؤلاء جمعاً من الذين أسلموا ولم يهاجروا كأبي جندل بن سهيل بن عمرو. ولكن هؤلاء قوم معروفون!! ولذلك اكتفى أكثر المفسّرين بالإشارة إلى احتمال وجود مؤمنين غير معروفين بين المشركين.

ويبدو أنّ الآية كانت مثار هذا السؤال في تلك الأعصار أيضاً، كما نجده في عدّة من رواياتنا، وورد فيها أنّ المراد بهم من هم في أصلاب الرجال، فقد روى الصدوق رحمه الله بسنده عن ابن أبي عمير، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال: قلت له: ما بال أمير المؤمنين علیه السّلام يقاتل مخالفيه في الأوّل؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالى «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً»(2)». قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟

ص: 264


1- الدرّ المنثور 6: 79.
2- الفتح (48): 25.

قال: ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين وكذلك القائم علیه السّلام لن يظهر أبداً حتّى تخرج ودائع الله عزّ وجلّ، فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عزّ وجلّ فقتلهم».(1) وروى مثله أيضاً عن طريق آخر ، وروى أيضاً في نفس الباب عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله علیه السّلام القتل في قول الله عزّ وجلّ: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَلَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أليِماً»، «لو أخرج الله عزّ وجلّ ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذَّب الذين كفروا». علل الشرائع 1: 148؛ بحار الأنوار 29: 437.

ويمكن الاعتراض على هذه الروايات بما يلي:

الاعتراض الأوّل: أنّ إسنادها ضعيفة.

والجواب: أنّ رواية ابن أبي عمير لا إشكال في سندها إلا في من يروي عنه الصدوق مباشرة وهو جعفر بن محمّد بن مسرور ولم يذكر بمدح أو ذمّ، ولكنّ الصدوق رحمه الله ترحّم عليه وذكره بخير، وهذا وإن لم يدلّ على التوثيق إلا أنّه يعتبر ممدوحاً ويكفي ذلك في التفسير، وأمّا إرسال ابن أبي عمير فلا يضرّ عند كثير العلماء حتّى في الفقه. وأمّا رواية منصور بن حازم فكلّ رواة سنده من الأجلاء إلا من يروي عنه الصدوق وهو أيضاً ممدوح عنده. والحاصل أنّ الروايات المذكورة ممّا يمكن الاعتماد عليها في التفسير مع سلامة المتن.

الاعتراض الثاني: أنّ ظاهر الآية المباركة أنّهم رجال ونساء موجودون بالفعل ومؤمنون، كما أنّ قوله تعالى: «لَوْ تَزَيَّلُوا». يدلّ أيضاً على أنهم مختلطون لأنّ التزيّل التفرّق.

ص: 265


1- علل الشرائع 1: 147؛ كمال الدين وتمام النعمة: 641.

والجواب: أنّه ليس في مجرّد التوصيف دلالة على أنّهم موجودون بالفعل، فهو كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ اذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(1) وأمّا التزيّل فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

الاعتراض الثالث: أنّه لا يصحّ التعبير بالوطء والإهلاك لمن في الأصلاب، فلا يقال إنّ من قتل أحداً فقد قتل كلّ من كان بالإمكان أن يولد منه، فمن الواضح أنّ المراد بالآية وجود اناس بالفعل بين المشركين لا يعرفهم المسلمون بأعيانهم فيقتلونهم جهلاً.

والجواب: أنّه لم يعبّر بالقتل والإهلاك، وإنّما فسّر الوطء بذلك، ولعلّ اختيار هذا التعبير قرينة على أنّ المراد بهم من ليس موجوداً بالفعل، فالوطء أي الدوس بالأرجل باعتبار أنّ قتل الآباء لا يبقي مجالاً لوجودهم.

الاعتراض الرابع: أنّ هذا النوع من القتل لو صحّ التعبير لا توجب إصابة معرّة، فلا يلام أحد إذا قتل أحداً مستحقّاً للقتل بأنّك منعت نسله من الوجود، مع احتمال أن يكونوا مؤمنين! خصوصاً أنّه أمر غير معلوم، ولا أثر للاحتمال.

والجواب: أنّ هذا الإشكال إنّما ينشأ من تفسير إصابة المعرّة بما ذكر، ولكنّ الصحيح بناءاً على هذا التفسير أنّ إصابة المعرّة بمعنى النقص الوارد على المسلمين حيث ينقص عددهم، والمعرّة تصدق على كلّ مكروه وعيب، ولعلّه لهذا السبب اختير هذا التعبير غير الواضح.

الاعتراض الخامس: أنّه لو أريد بالآية مثل ذلك لزم المنع من قتل كثير من

ص: 266


1- المائدة (5): 54.

الكفّار في كثير من الحروب؛ إذ لو كان الكافر يبقى لكان من المحتمل أن يولد من نسله مسلم، كما هو الغالب في المجتمع الإسلامي.

والجواب: أنّ الآية لم تمنع القتل في الحرب وإنّما ذكرت السرّ في أنّ الله تعالى منع تكويناً تحقّق الحرب في خصوص هذا المورد؛ لأنّه كان يستوجب قتل كثير من الناس، ولعلّه كان يفعل مثل ذلك فى موارد اُخرى أيضاً مشابهة من دون أن يشعر به أحد.

ومن هنا يتبّين أنّه ليس المراد بالآية الكريمة حسب هذا التفسير وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في الأصلاب بقضاء حتمي من الله تعالى، بل المراد قابلية الآباء لإيلادهم، وقابلية الأولاد المفترضين للاندماج في المجتمع الإسلامي، كما هو الغالب حيث إنّهم لو ولدوا في هذا المجتمع وهذه الظروف فسيكونون مسلمين قطعاً، وأيضاً قابليتهم للوصول إلى مرحلة الإيمان الكامل وهذا أمر لا يختصّ بهؤلاء، بل هو سار في كلّ من كانوا في ذلك العصر وتلك المنطقة، فالغرض من هذه الآية - حسب تفسير هذه الروايات - أنّ الله تعالى أراد أن يبقي على هذا النسل ويمنع من هلاك جمع كثير من الناس، لأنّهم هم الذين يشكّلون في المستقبل السواد الأعظم للمؤمنين رجالاً ونساءاً.

«لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ» أي أخّر الله في عذاب المشركين ومنع من نشوب الحرب بينهم ليفسح المجال أمام من يريد الهداية منهم ومن الأجيال الآتية ليؤمن ويدخل في رحمته تعالى. والتعليق على المشية يراد به من اقتضت حكمته تعالى أن يدخله في رحمته، إذ هو لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة، والمراد صلاحيته للهداية. وهذا التعليل أنسب بما ورد في الروايات من أنّ المراد بهم من في الأصلاب.

ص: 267

«لَوْ تَزيلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِياً» التزيّل التفرّق، كما قال تعالى: «ثُمَّ تقُولُ لِلَّذِينَ أشركوا مَكَانَكُمْ أنْتُمْ وَشركاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ»؛(1) أي فرّقنا بينهم. والتفسير المعروف لهذه الجملة أنّهم لو انفصل بعضهم عن بعض وأمكن عذاب الكافرين منهم من دون أن يصيب المؤمنين لعذّبناهم عذاباً أليماً، ولم يبيّن أنّه بأيدي المؤمنين أو بغيرها، فيشملهما معاً، وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى يدفع العذاب العامّ عمّن يستحقّه إذا كان في البلد من لا يستحقّه، ويدلّ عليه أيضاً ما جاء في الآيات من أنّه تعالى كان ينجي الأنبياء والمؤمنين قبل نزول العذاب، كقوله تعالى: «وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ» (2) وقوله تعالى: «فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ» (3) وقوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (4) وغيرها من الآيات الكريمة.

ولكنّ الروايات المذكورة تدلّ على أنّ المراد بالتفرّق تفرّق المؤمنين من الجيل المتأخّر عن آبائهم الكافرين، وهو أمر لا يحدث إلا بالتدرّج، فالواقع أنّ هذا التزيّل وما يترتّب عليه من عذاب الكافرين ممّا لا يحدث أبداً، وإنّما المراد بیان استحقاق الجيل الحاضر وقت نزول الآية لعذاب الله تعالى، ولعلّ المراد به عذاب الاستئصال، كما هو ظاهر اللفظ عند الإطلاق، فلا وجه لما قيل من أنّ المراد عذابهم بأيدي المؤمنين، فالمعنى حسب هذا التفسير أنّ الله تعالى لا ينزل العذاب على هذا القوم - مع استحقاقهم - بسبب وجود جيل مؤمن في ذريتهم.

ص: 268


1- يونس (10): 28.
2- النمل (27): 53.
3- الذاريات (51): 35.
4- الأنفال (8): 33.

ويؤيّد هذا المعنى ما ورد في دعاء سيّدنا نوح علیه السّلام: «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً»(1) ممّا يدلّ على أنّهم لو كان في عليهم، ولعله ال علم أصلابهم مؤمن لم يدع الله علیهم و لعلّه علیه السّلام علم بذلك من هذا الوحي حيث قال تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَنِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»؛ (2) إذ لو كان في ذرّيتهم مؤمن لكان من قومه أيضاً. ومن هنا فإنّ هذا التفسير هو الصحيح من بين كلّ ما قيل في تفسير الآية الكريمة، فإنّ الكافرين في مكّة وقت نزول الآية لم يكن بينهم مؤمنون إلا من كانوا معروفين بأشخاصهم وكان بإمكانهم الهجرة، خصوصاً بعد توسّع الإسلام وسيطرته على الجزيرة العربية.

وبهذا التفسير يتبيّن الجواب عن عدّة أسئلة في الآية الكريمة:

السؤال الأوّل: وجه التعبير بقوله تعالى: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» بدلاً من «لا تعرفونهم» الذي هو المناسب لو كان هنالك أشخاص مؤمنون لا يعرفون بسيماهم، فالتعبير بعدم العلم بهم من جهة أنّ أصل وجودهم غير معلوم.

السؤال الثاني: التعبير بالوطء بدلاً عن القتل؛ إذ لو كان هنالك أشخاص لكان التعبير بالقتل هو الأولى.

السؤال الثالث: التعبير بإصابة المعرّة وهو تعبير غامض ينطبق على أمور كثيرة ولو كان المراد قتل الأشخاص لكان يعبّر عمّا يوجب الأسف الشديد.

السؤال الرابع: التعبير بالتزيّل ولو كانوا أشخاصاً لقال: «لو هاجروا» أو «لو خرجوا».

ص: 269


1- نوح (71): 26 - 27.
2- هود (11): 36.

وهكذا نجد أنّ تفسير الآيات المشكلة لا نجده إلا في روايات أئمّة أهل البيت علیهم السّلام ولو كانت أبوابهم مفتوحة للناس لما وقعوا في متاهات الجهل.

«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَميَّةَ الجَاهِلِيَّةِ». يحتمل أن تكون «إذ» تعليلية وتكون لبيان علّة استحقاق العذاب في الآية السابقة، ويمكن أن تكون ظرفاً لقوله: «صَدُّوكُمْ» ولا حاجة إلى تقدير اذكر ونحوه كما قيل. والحميّة من

الحَمْي وهو شدّة الحرّ، والمراد ثوران الغضب، فإنّ الإنسان يشعر بحرارة شديدة إذا اشتدّ غضبه، ثمّ فسّر الحميّة بحميّة الجاهلية، والجاهلية صفة لمقدّر، أي حميّة الملّة الجاهلية أو أنّها اُضيفت إلى صفته، فالحمية التي جعلوها في قلوبهم هي التي ورثوها من الجاهلية. والجاهلية تطلق على عادات العرب قبل الإسلام وما يدعى بزمان الفترة.

ولعلّك تسأل: لماذا ذكر الحميّة أوّلاً، ثمّ أبدلها أو بيّنها بحميّة الجاهلية ولم يقتصر على حميّة الجاهلية فقط وهي أخصر؟ والجواب: أنّ هذا التعبير يفيد استقباح عملهم من جهتين: الأولى: أنّه ليس بدافع العقل والمنطق، بل الحميّة؛ والثانية: أنّ هذه الحميّة من تركة الجاهلية.

والموصول فاعل «جَعَلَ» كما هو واضح فهم بأنفسهم جعلوا في قلوبهم الحميّة، ولا وجه لما قيل من أنّ فاعله هو الله تعالى، ولا تستقيم معه العبارة وإنّما قيل ذلك استبعاداً لاحتمال جعلهم ذلك بأنفسهم، وإنّما لم يقل: «جعل الله» ليدلّ الكلام على أنّهم اختاروا هذه الحميّة، وهذا النهج الفاسد بسوء الفاسد بسوء اختيارهم. فلم تكن هذه الحميّة مودعة في قلوبهم رغماً عليهم، بل هم بأنفسهم جعلوا ذلك في قلوبهم وأرسخوها وبنوا عليها نهجهم، وما يتّخذونه من موقف تجاه الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم

ص: 270

وأصحابه، وعلى هذا الأساس الفاسد منعوهم من الطواف بالبيت ومن نحر الهدي في محلّه، مع أنّه مخالف لسننهم، حتّى أنّ صاحب الثأر كان يجد قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له، ولكنّهم استسلموا لعصبيتهم الجاهلية ورأوا أنّ دخول القوم في مكّة لعلّه يعتبر عند بعض العرب ارغاماً لآنافهم فمنعوهم، وكان ذلك السبب في أنّ الله تعالى أرغم آنافهم في مدّة قصيرة، وفتح مكّة لرسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم وللمؤمنين فتحاً باهراً.

«فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ». هذه السكينة في مقابل تلك الحميّة ولذلك صدّر الجملة بفاء التفريع، فالحميّة من صنعهم ومن جعلهم، والسكينة من الله تعالى. والحميّة ثورة لا تستند إلى منطق وعقل وثقافة والسكينة اطمئنان في القلب وحلم في السيرة. ومن هنا اتخذوا ذلك الموقف الهادئ بعد أن بايعوا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم حتّى الموت وقبلوا كلّ ما أبدى الجاهليون من أعذار واهية لتغيير مضمون الصلح، وهم واثقون من أنّ ذلك لا ينتج إلا الخير لهم، وأنّ العاقبة للمتقين. وإنّما كرّر لفظة «عَلَى» لاختلاف السكينة النازلة عليه صلّی الله علیه و آله و سلّم عمّا نزل في قلوب المؤمنين، كما أنّ ما نزل في كلّ قلب من قلوبهم أيضاً من السكينة تختلف عن غيره، فكلّ أحد حاز منها ما هو المناسب لوعائه، ولعلّ منهم من لم يشعر بأيّ سكينة كالمنافقين.

«وَالْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى» قيل : المراد بكلمة التقوى «لا إله إلا الله»، وقيل غيرها من الكلمات، فكأنّه يجب أن يكون كلاماً، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بها روح الإيمان، كما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله(1) إنّه الذي يبعث بالتقوى في قلب

ص: 271


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 290.

الإنسان والكلمة كلّ ما له تأثير، قال تعالى: «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً»،(1) ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»،(2) فالإيمان كلمة كتبها الله في قلوب المؤمنين. والإلزام جعل الشيء لازماً لشيء، فالمراد أنّه تعالى جعل كلمة التقوى ملازمة لهم لا ينفكّون عنها، فإنّ رعاية التقوى في بعض الحالات دون بعض لیست ميزة يمتازون بها.

«وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا»، أي كانوا أجدر بها من غيرهم حيث إنّهم أبلوا بلاءاً حسناً واتقوا ربّهم وأطاعوه فاستحقّوا أن يكتب الإيمان في قلوبهم، وأمّا قوله: «وَأهْلَهَا» فالمراد أنّهم لم يكونوا أحقّ من غيرهم فحسب، بل لم يستحقّها أحد ذلك الزمان غيرهم حيث إن قوله: «أحَقَّ» ربما يوهم أنّ من الآخرين أيضاً من يستحقّها ولو بدرجة خفيفة، فبهذا التعبير بيّن أنّهم لا يستحقّونها أبداً، بل المؤمنون هم أهلها فحسب.

«وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً»، فهو يعلم ما تخفيه الضمائر وما يجعله الإنسان في قلبه من حبّ أو بغض وما يستحقه من حميّة أو سكينة.

ص: 272


1- الكهف (18): 109.
2- المجادلة (58): 22.

سوره الفتح (27-29)

لقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّمْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ وَامِنِينَ مُحلِقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(28)مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَنْهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَنَةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْلَهُ فَكَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ مِنْهُم مِّغْفِرَةً وَأَجْرًا

عَظِيمًا (29)

«لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ». اللام لام القسم المقدّر، أي والله لقد صدق؛ و «صَدَقَ» يتعدّى إلى مفعولين، كما قال تعالى: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذ تَحْشُونَهُمْ بِإِذْنِهِ»(1) أو تقدر «في» أي صدق رسوله في الرؤيا وفي وعده. وقوله: «بالحقِّ» متعلّق بمحذوف، أي متلبّساً بالحقّ وهو حال للرؤيا، أي أنّها رؤيا حقّة وليست من أضغاث الأحلام، ويمكن أن يكون متعلّقاً بقوله: «صَدَقَ» وعلى الفرضين تأكيداً للصدق. والمعنى أنّ الله تعالى أراه صلّی الله علیه و آله و سلّم رؤيا صادقة، وذلك حيث رأى الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم في منامه أنّه دخل المسجد الحرام مع أصحابه وطافوا بالبيت فأخبرهم بذلك ففرحوا واستبشروا ، ولمّا خرجوا إلى مكّة ووصلوا الحديبية ومنعهم المشركون من دخول الحرم شكّ بعضهم ، فقيل: إنّ المنافقين منهم بثّوا

ص: 273


1- آل عمران (3): 152.

الدعايات وسخروا من وعد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وكذّبوه في الرؤيا التي أخبرهم بها، قال الآلوسي في «روح المعاني»: «قال على طريق الاعتراض عبد الله بن اُبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت. وقد روي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنّه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه ..»(1) !!! فلما سألوا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم عن ذلك، قال لهم ما معناه: ما أخبرتكم أنّه يقع هذا العام.

«لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ» جواب لقسم مقدّر أيضاً، أي والله لتدخلنّ المسجد الحرام تصديقاً للرؤيا التي رآها النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وهذا قسم بعد قسم. وهذا من الأخبار الغيبية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم عن الله تعالى، ووقع فعلاً في العام التالي. وهناك سرّ في هذا التأخير وفي الإعلام عنه قبل عام، وفي خروج الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في عام الحديبية، وهو أن يتبيّن المنافقون والذين في قلوبهم مرض

والشاكّون في دينهم، ولكن عامّة الناس لم ينتبهوا إلى الحكمة في ذلك.

والتعليق على المشيئة قيل: إنّه لتعليم الناس أن يعلّقوا كلّ ما يخبرون بوقوعه بذلك، فإنّ الاُمور كلّها معلّقة على المشيئة والصحيح أنّه ليس للتعليم، بل حتّى ما وعده الله تعالى معلّق عليها مع أنّه واقع لا محالة، فليس معنى التعليق على المشيئة التردّد في تحقّق الشيء كما يتوهّم، بل المعنى هو تعليق كلّ الوقائع عليها واقعاً، فإنّ الله تعالى ليس ملزماً بشيء، وليس هناك أيّ قانون يلزم الله تعالى بأن يفعل شيئاً أو لا يفعله، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولذلك علّق الله تعالى الخلود في الجنّة والنار أيضاً بذلك، قال تعالى في سورة هود: «فَأَمَّا الَّذِينَ

ص: 274


1- روح المعاني 13: 273.

شَقُوا فَفِي النَّارِ هُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَات والأرض إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّال لما يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأرض إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءٌ غَيْرَ مَجُذُوذٍ»(1) ويلاحظ أنّ استثناء المشيئة اتبع بما يدلّ على أنّ الخلود ثابت لا محالة، فقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ فَعَالٌ لِمَا يُرِيدُ» في أهل النار یراد به - على الظاهر - رفع الاستبعاد عن الخلود في النار، وقوله تعالى: «عَطَاءٌ غَيْرَ مَجُذُوذٍ» في أهل الجنّة واضح في الدلالة على أنّه غير منقطع بمشيئة الله تعالى وعطائه.

«آمِنِينَ مُخَلقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ» وعد بأنّهم يدخلونها آمنين لا يخافون اغتيال المشركين ، وقوله : «لا تَخَافُونَ» مؤكّد للأمن. وكان كما وعد الله تعالى، حيث إنّه ألقى في قلوبهم أن يخرجوا من مكّة لئلا يروا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وكان ذلك موجباً لأمان أكثر للمسلمين وما أظنّهم تفطّنوا لذلك، وإنّما خرجوا حقداً وحنقاً ولكنّ الله تعالى بالغ أمره. والآية تدلّ على الخيار في الحلق والتقصير في العمرة المفردة، ولعلّ ذكرهما من بين الأعمال للتأكيد على إكمال أعمالهم وخروجهم عن الإحرام وهم باقون في مكّة، فليسوا مستعجلين للخروج منها، وورد في الحديث أنّ المشركين أرسلوا رسولاً إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بل انتهاء المدّة يذكرونه بما وعد ويطالبون عدم التأخير.

«فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً»، أي أنّ الرؤيا كانت صادقة، ولعلّه كان من المناسب أن يقع ما وعده الله تعالى في نفس السنة خصوصاً مع خروج الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم للاعتمار ، ولكنّه تعالى علم أنّ المصلحة تقتضي تأخیر

ص: 275


1- هود (11): 106 - 108.

العمرة لوجوه كثيرة منها تبيّن المنافق عن المؤمن وتبيّن درجات المؤمنين ولكنّه أبدلكم من ذلك بفتح قريب هو فتح الحديبية وهو أعظم بكثير من الاعتمار كما تبيّنت نتائجه. فقوله: «مِنْ دُونِ ذَلِكَ» أي بدلاً عنه.

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِالله شَهِيداً»، أي لا غرابة في أنّه تعالى يظهر رسوله على المشركين فيدخل مكّة رغماً على اُنوفهم، ويعتمر هو وأصحابه آمنين مطمئنين، فإنّ الغاية المتوخاة أكبر من ذلك، فإنّه تعالى لم يرسل رسوله ليغلب قوماً ضعيفاً كمشركي مكّة، بل أرسله ليغلب دينه كلّ ما على الكرة الأرضية من دين، فما تجدونه من تقدّم وغلبة ليس إلا مقدّمة للفتح الأعظم وهو الغلبة العامّة. يلاحظ أنّ هذا الكلام يلقى على الناس في عهد لم تتجاوز سيطرة الإسلام أطراف المدينة وهو بعد لم يتمكّن من فتح مكّة، ولكنّ الله تعالى يشهد لهم بأنّ هذا سيكون وكفى بالله شهيداً.

والباء في الآية للمصاحبة، أي أرسله الله تعالى مصاحباً للهدى ودين الحقّ، والمراد بالهدى يمكن أن يكون القرآن الكريم أو هداية الله تعالى له صلّی الله علیه و آله و سلّم في جميع اُموره بأن يوفّقه لما هو الأصلح له ولدينه ولأمّته أو ما تضمّنه الكتاب وسيرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم من الآيات والمعاجز التي توجب هداية الناس ومعرفتهم بربّهم. والمراد بالدين الشريعة والقوانين والأحكام الإلهية في العبادات والمعاملات. وقوله: «دِينِ الْحَقِّ» من باب الإضافة إلى الصفة، أي الدين الذي هو الحقّ.

واللام في قوله : «لِيُظْهِرَهُ» لام العاقبة لتبيّن ما سيؤول إليه أمر الرسالة وليس بياناً لسبب ،الإرسال فإنّ السبب ليس إلا هداية الإنسان إلى ما يوجب سعادته

ص: 276

الأبدية بتحصيل رضا الله تعالى. والظهور: الغلبة. والضمير يعود إلى دين الحقّ، أي ليظهر دينه على الدين كلّه. وقيل يعود إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وهو بعيد. والباء في قوله: «وَكَفَى بِاللهِ» زائدة، أي كفاه الله سبحانه شهيداً، فلا حاجة إلى استدلال بشيء ولا حاجة إلى ذكر شواهد ولا إلى شهادة شهود، فالله تعالى شاهد يخبر

به وخبره الحقّ.

والمذكور في التفاسير أنّ المراد بالظهور الغلبة من حيث الدليل والبرهان، ولكنّ الظاهر من اللفظ هو الغلبة الخارجية وهي تتحقّق إمّا بأن يكون هذا الدين هو دين أغلب الناس أو بأن تكون السلطة السياسية لأتباع هذا الدين ولا يقتضي بالطبع زوال سائر الأديان، بل ظاهر العبارة بقاء الأديان على مغلوبيتها، وهذه الغلبة لم تحصل حتّى الآن إلا إذا أريد به الغلبة في الجزيرة العربية، وهو بعيد عن السياق، فالظاهر أنّه إشارة إلى ما وعده الله سبحانه على لسان رسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم من قيام الإمام المهدي - عليه أفضل الصلاة والسلام وعجّل الله تعالى فرجه - حيث يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ورد في الحديث النبوي المتواتر،(1) فتكون له السلطة التامّة على كلّ البلاد، وبذلك يتحقّق الوعد الإلهي لا خصوص ما ورد في هذه الآية فحسب، بل ما ورد في كلّ الرسالات، فإنّ الله تعالى قال: «كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»،(2) وقال تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ هُمُ المَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا هُمُ الْغَالِبُونَ».(3)

ص: 277


1- راجع: الأمالي (للصدوق): 26؛ كمال الدين و تمام النعمة 1: 256؛ بحار الأنوار 12: 195.
2- المجادلة (58): 21.
3- الصافات (37): 171 - 173.

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله»، الظاهر أنّ قوله: «مُحَمَّدٌ» مبتدأ خبره رسول الله. وقيل: إنّه خبر لمبتدأ محذوف وهو ضمير يعود إلى قوله: «أَرْسَلَ رَسُولَهُ»، أي هو محمّد رسول الله. قالوا: لأنّ المراد ليس إخبار أنّه رسول الله، بل إخبار أنّ الرسول المذكور سابقاً الذي صدقه الله الرؤيا وأرسله ليظهر دينه هو محمّد صلّی الله علیه و آله و سلّم. ولكن هذا يستلزم تكرار التوصيف بالرسالة مع أنّه معلوم لا حاجة إلى ذكره، فالرسول في هذا السياق لا يحتمل غيره صلّی الله علیه و اله و سلّم. وقيل : إنّ «رَسُولُ الله» صفة «وَالَّذِينَ مَعَهُ» معطوف عليه وقوله : «أشِدَّاءُ» خبر. وكأنّ هذا المتكلّف استبعد أن لا يشمل التوصيف بهذه الأوصاف الكريمة الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله و سلّم وغفل عن أن توصيفه

بالرسالة يغني عن كلّ وصف فيكفيه كمالاً وجمالاً وجلالاً أن يرسله الله تعالى مبعوثاً إلى الناس ووسيطاً بينه وبين خلقه.

«وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ». لا شكّ أنّ المراد بالذين معه ليس كلّ المعاصرين وفيهم ألدّ أعدائه صلّی الله علیه و آله و سلّم، ولا كلّ من كانوا تحت سلطته أو الذين بايعوا معه وأظهروا الإسلام وفيهم المنافقون الذين هم أشدّ عداءاً له من المشركين، بل المراد الذين كانوا معه صلّی الله علیه و آله و سلّم في هدفه وفي عقيدته وفي مواقفه. ومن الملاحظ أيضاً أنّ هذه الصفات ما كانت متوفّرة في كلّهم بالفعل، وإنّما كانت في بعضهم وهم أيضاً كانوا مختلفين في ذلك شدّة وضعفاً. نعم كانت الصبغة العامّة للمجتمع الصحابي هي ما تذكره الآيات، فكانوا على وجه العموم أشدّاء على الكفّار لا يظهرون ليناً تجاههم ولذلك صعب عليهم تحمّل ما اقترحه المشركون في الصلح ، كما أنّهم كانوا رحماء بينهم فلم تكن شدّتهم مع الكفّار لخشونة في طباعهم، بل لتشدّدهم في ذات الله . ولكن لم يكن كلّهم كذلك، بل

ص: 278

كان فيهم من كان يهادن المشركين ويتعاطف معهم، بل يراسلهم وفيهم من لم يصدر منه ضربة موجهة إلى أحدهم لا في الحرب ولا بعد الأسر.

«تَرَاهُمْ رُكَعاً سُجَّداً». قيل: إنّ المراد بذلك الصلاة لاشتمالها على الركوع والسجود، ولأنّهما ركنان من أركانها، ولكن ظاهر قوله «تَرَاهُمْ» استمرارهم على ذلك كأنّهم دائماً في حال ركوع وسجود، فلا يبعد أن يكون المراد بهما خشوعهم لله تعالى حيث إنّه باد على وجوه الصالحين بصورة مستمرّة وفي كلّ الأحوال، والسجود ليس اسماً للحالة الخاصّة، بل هو عبارة عن الخشوع التامّ وبهذا المعنى ورد في قوله تعالى: «وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً»؛(1) إذ لا يمكن دخول الباب في حالة السجود بالمعنى الأخصّ. ويمكن أن يكون المراد كثرة الصلاة منهم.

«يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً». إذا كانت الجملة تعليلاً للذي قبلها فالمعنى أنهم يصلّون يبتغون بذلك فضله ورضوانه، وإذا كانت توصيفاً مستقلاً فظاهر الجملة أنّهم لا يقصدون بأعمالهم إلا الفضل من الله ورضوانه، وهذا غاية المدح ونهاية الكمال، فهم لا يبتغون في كلّ أعمالهم ونشاطاتهم إلا فضل الله ورضوانه، فإذا بذلوا الجهد لكسب مال أو صحّة وعافية أو أيّ أمر آخر ممّا يعود إلى المصالح الدنيوية فإنّهم لا ينتظرون إلا فضلاً من الله تعالى في أن يرزقهم ويعافيهم و... وهذا يعود إلى اعتقادهم بأنّ كلّ ما يكسبونه من مال أو يحصلون عليه من جاه أو يضفى عليهم من صحّة وعافية كلّ ذلك فضل من الله تعالى وليس نتاج عملهم وجهدهم، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن فلا يجد نعمة إلا

ص: 279


1- البقرة (2): 58 والاعراف (7): 161 وفي سورة النساء (4): 154: «وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً».

ويحمد الله تعالى عليها ولا يعتبر لجهده تأثيراً في ذلك، بخلاف الكافر فإنّه يقول كما قال قارون: «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي»(1) وكذلك من كان مثله وإن ادّعى الإسلام، فإنّه وإن لم يقلها باللفظ إلا أنّه هو ما انطوت عليه سريرته، ويبرز من كلّ أعماله وسيرته، فلو كان يعتقد أنّه من الله لدفع ما أوجبه عليه من حقّ ومن جهة أخرى فإنّهم لا يطلبون بعملهم إلا رضوانه تعالى بمعنى أنهم لا يطلبون من الدنيا إلا ما هو مقدمة للآخرة. وإذا عملوا للآخرة فلا يجدون أنفسهم مستحقّين لأجر وجزاء من الله تعالى، بل يعلمون أنّ كلّ ما يثابون عليه فإنّما هو فضل من الله تعالى، ثمّ إنّهم لا يهتمّون بدخول الجنّة بقدر ما يهتمّون بتحصيل رضوان الله تعالى، فالغرض الأسمى لهم وغاية الغايات هو تحصيل رضوان الله تعالى وهذا غاية في المعرفة والكمال.

«سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ». السيما: العلامة وهو مقلوب من الوسم، والمعنى أنّ أثر السجود بيّن عليهم؛ إمّا بمعنى أنّ أثر الخشوع الله تعالى واضح من وجوههم ومن أعمالهم وسيرتهم وتواضعهم، فيكون التعبير بكونه في وجوههم بمعنى أنّه بيّن عليهم، وهذا أمر مشهود من المؤمن الصالح، فإنّ الخشوع الله يمنع من الكبر والخيلاء، فإذا رأيت الإنسان مختالاً فخوراً يتبختر في مشيه وفي ثيابه وفي مركبه وغير ذلك، فاعلم أنّه لا يخشع لله تعالى، وإمّا بمعنى تأثير السجدة على جباههم، فإنّهم - رضوان الله عليهم - ما كانوا يسجدون على الثياب أو الفرش وإنّما يسجدون على التراب أو الحصر والبواري فتؤثر السجدات الطويلة على جباههم، ومن الناس من أنكر أن يكون هذا أمراً مطلوباً بدعوى أنّه رياء،

ص: 280


1- القصص (28): 78.

و هو خطأ فاحش، فالرياء أمر قلبي وليس كلّ ما يتظاهر به الإنسان من إطاعة أو خشوع رياءاً، بل المطلوب شرعاً من المؤمن أن يحسن ظاهره وأن يشترك في صفوف الجماعة في الصلاة وفي سائر الاجتماعات ليتبيّن للمجتمع صلاحه

ويقتدي به غيره.

«ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ». الظاهر أن «ذَلِكَ» إشارة إلى ما مرّ ذكره من الصفات. والمثل كلام أو غيره يمثّل حقيقة بصورة اُخرى، فهذه الصفات المذكورة في التوراة تمثّل شخصية أصحاب الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

«وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» تشبيه لهم بحقيقة عينية واردة في الإنجيل على ما هو الظاهر من كونه جملة مستأنفة. وقال جمع من المفسّرين : إنّه عطف على «مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ» وقوله: «كَزَرْع» مستأنف. (1) وهو بعيد؛ إذ لا وجه لتكرار «مَثَلُهُمْ».

والشطأ، فرخ النبات يخرج من جذوره ثمّ يقطع ويزرع، والمراد هنا أنّ هذا الفرخ يستعين بالشجرة الاُمّ، والاُمّ تؤازره، أي تعاونه في النمو إلى أن يستغلظ ويقوى ويستوي على سوقه وهو جمع الساق، ويدلّ التعبير على وجود مجموعة من الفروخ كلّ منها يستوي على ساقه، وهذا النمو والاستغلاظ يحدث في هذه الفروخ بسرعة غير معتادة بحيث يعجب الزرّاع. والمراد بالتشبيه أنّ المؤمنين الذين هم حول الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ينمو عددهم نمواً هائلاً، فكلّ واحد منهم يهدي أحداً أو جمعاً من الناس ويربّيه حتّى يستكمل دينه فيستقلّ عن أصله وربما يزيد عليه، وأنّ هذا التنامي يعجب المجتمع البشري وهم المراد بالزرّاع. وقيل: إنّ

ص: 281


1- راجع: روح المعاني 13: 278؛ التفسير الوسيط للقرآن الكريم 13: 289.

الشجرة الأمّ هو الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والشطأ هم الصحابة، وهو بعيد عن السياق. ولعلّ في التنبيه على هذه الجملة بعد صلح الحديبية أثراً عميقاً في خروج جمع من الصحابة لنشر الدعوة في القبائل العربية.

«لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ». الظاهر أنّه تعليل لهذا الجعل التكويني، أي أنّ الله تعالى جعلهم كذلك كما وصفهم في الإنجيل، ليغيظ بتكاثرهم وتناميهم الكفّار. وقيل: إنّه تعليل لهذا التشبيه، وهو بعيد إذ لا يعلم به أكثرهم، بل كلّهم إن اُريد بهم مشركو مكّة والجزيرة العربية. ولعلّ ما بأيدينا اليوم من الكتابين لا يوجد فيهما هذان المثلان، إذ لم يحصل الباحثون على تصريح بهما، وما ذكره بعضهم ليس كما ورد في القرآن.

ونسب إلى بعض فقهاء العامّة الاستدلال بالآية الكريمة على كفر الشيعة، لأنّهم يغتاظون من الصحابة ومن كثرتهم، ولئن صحّت النسبة فهو دليل على عدم فقهه. وليس من الشيعة من يبغض أحداً من الصحابة الذين آزروا النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم واتبعوه في ساعة العسرة وبايعوه حتّى الموت وتفانوا في حبّه والدفاع عنه. وفي ما نزور به سيّدنا حمزة علیه السّلام وشهداء اُحد - رضوان الله عليهم - دليل واضح على عدم فقه الرجل لو صحّت النسبة وهي بعيدة. وليس من الصحابة من نبغضه إلا عدداً يسيراً جدّاً أظهروا بغضهم وعداءهم لأهل بيت النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم ونحن واثقون من أنّهم كانوا يبغضون الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ولم يتمكّنوا من إظهاره في حياته، بل أنّ بعضهم أظهره في مواقف لا تخفى على من راجع التاريخ بإنصاف، ومنهم الذين آذوا رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم في حياته وبعد مماته. وهل تشمل هذه الآية المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار ؟ وهل المنافقون اسم لجماعة بأعيانهم أو

ص: 282

المقياس هو صفة النفاق؟! وأخطر المنافقين من لا يعرفهم الناس وقد قال تعالى: «أمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ»(1) وقال أيضاً: «وَمَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النَّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ».(2)

«وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً». المعنى واضح ومن العجيب ما حاوله أغلب المفسّرين من العامّة من اعتبار «من» بيانية، فيكون الوعد شاملاً لجميع من كان مع النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم. ولو صح ذلك لم تكن حاجة إلى ذكر هذه الجملة مع هذا البيان، فإنّ كونهم مؤمنين ويعملون الصالحات مفروغ عنه، بل هذه الأوصاف صعد بهم إلى أعلى مراتب الكمال، فلا وجه لبيان هذا العنوان العامّ الذي يشمل كثيراً ممّن هو دونهم، فالصحيح الذي لا مناص منه هو أنّ «من» تبعيضية، فتكون في الآية إشارة إلى أنّ هذه الصفات هي الصبغة العامّة ومنهم من ليس كذلك، وهذا ممّا لا ريب فيه ولا شكّ يعتريه.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطاهرين.

ص: 283


1- محمّد (47): 29 - 30.
2- التوبة (9): 101.

ص: 284

تفسیر سورة الحجرات

اشارة

ص: 285

ص: 286

سورة الحجرات (1- 5)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَأَيها الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخَرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا هُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)

سورة الحجرات مدنية كما تشهد به مواضيعها، وتشتمل على آداب في التعامل مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ومع المجتمع الإسلامي ومع سائر الناس، وتنتهي ببيان الفرق بين الإسلام والإيمان.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ»، تصدير الآية بهذا الخطاب ينبئ عن أن الالتزام بما يأتي من الحكم هو مقتضى الإيمان، فكأنّه يقول: إن كنتم

ص: 287

مؤمنين فلا تقدّموا، وقد قرئت الآية بوجهين؛ فالقراءة المشهورة: «لا تُقَدِّمُوا» بضم التاء وكسر الدال من التقديم، وقرئت بفتح التاء والدال من التقدّم، أي لا تتقدّموا فحذف أحد التاءين، والمعنى على القراءة الثانية واضح، فإنّ التقدّم بمعنى السبق، فيكون المراد: لا تسبقوا حكم الله تعالى والرسول صلى الله عليه و آله و سلّم في أيّ شيء؛ وأمّا بناءاً على القراءة المشهورة، فيحتمل أن يكون بنفس المعنى، ففي «تهذيب اللغة» للأزهري: «ويقال قَدَّم فلان يقدّم ، وتقدّم يتقدّم، وأقدم يقدم، واستقدم يستقدم بمعنى واحد، قال الله جلّ وعزّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ». (1) ويحتمل أن يكون بمعنى جعل شيء قبل شيء، كما قال تعالى: «إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةٌ» (2) وهو تفعيل من قَدَم يقدُم إذا كان أمام القوم، قال تعالى: «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ»،(3) فإذا أتى من باب التفعيل كان معناه جعل شيء قُدّام شيء.

و «بين اليدين» كناية عن الإمام باعتبار أنّ الإمام بالنسبة للإنسان يقع بين يديه، والأصل في التقديم أن يكون له مفعول، فيمكن أن يكون حذفه هنا لإفادة التعميم، أي لا تقدّموا أيّ عمل على حكم الله ورسوله، ويمكن أن يكون النهي عن فعل التقديم، كقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ»(4) من دون ذكر المتعلّق، أي يفعل الحياة والموت كما في «الكشّاف».(5)

ص: 288


1- تهذيب اللغة 9: 58.
2- المجادلة (58): 12.
3- هود (11): 98.
4- المؤمنون (23): 80.
5- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 349.

ومهما كان، فالمراد النهي عن التقدّم عليهما فيما يخصّ أمر الدين أو الشؤون الاجتماعية، أي لا تأمروا بأمر في هذا الباب ولا تعملوا عملاً إلا بعد ورود الأمر الله تعالى أو من رسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم. ولا يراد قطعاً النهي عن أيّ عمل شخصي لم يرد فيه نهي من الشارع، فيكون مخالفاً لإجراء أصالة الإباحة، وإنمّا يراد النهي عن إصدار حكم شرعي قبل ورود الأمر أو النهي أو التحليل من الله تعالى، وذلك فيما هو من شؤون الدين، وكذلك النهي عن أيّ عمل في مجال السياسة وإدارة المجتمع في ذلك العهد قبل أمر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أو نهيه، فإنّه هو الحاكم المفترض الطاعة.

ويشمل هذا النهي كلّ اقتراح يتقدّم به أحد في مجال الحكم الشرعي، وكذلك في شؤون إدارة المجتمع في ذلك العهد إلا ممّن يستشيره الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، وما كان يستشير استفهاماً فهو كان غنياً عنهم بفضل ربّه، ولكنّه كان يستشيرهم عطفاً ورحمة، كما قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ هُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه».(1)

ومن الغريب بعد ذلك ومع هذا النهي الصريح أن يعتبر بعض ما كان يتقدّم به بعض الصحابة من حكم شرعي قبل نزول الوحي فضيلة له، ويُدّعى أنّ الله تعالى تبعه في إصدار الحكم، وورد أحاديث في صحاح القوم بهذا الشأن في موارد عديدة على لسان الرجل نفسه متباهياً بذلك وعلى لسان غيره!! وكأنّه تعالى كان غافلاً عن أنّ الوقت قد حان لإصدار هذا الحكم فنبهه عليه بشر ممّن خلق، وهذا غاية العجب والغلو.

ص: 289


1- آل عمران (3): 159.

وممّا ذكرنا يتبيّن أنّ ذكر الله تعالى مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم من جهة أنّ بعض الأمور لا يجوز التقدّم فيها على الله تعالى، لأنّه مجال الحكم الشرعي، وبعضها يتوقّف على أمر أو نهي من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، وذلك في مجال إدارة شؤون المجتمع في عهد ولايته العامّة، وليس السبب في ذكره تعالى هو تشريف الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وتعظيمه كما قيل.

والحكم والتشريع خاصّ بالله تعالى، كما قال: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(1) ولكن بمقتضى الروايات قد أذن الله لرسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم في ذلك بالنسبة للتشريعات الأساسية؛ مثل ما ورد في تشريع الصلاة أنّ الله تعالى فرضها ركعتين،(2) ثمّ سنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ركعة وأضافها إلى المغرب، وأضاف إلى الظهرين والعشاء ركعتين. وما ورد في تشريع الزكاة من أنّه تعالى فرضها والرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وضعها في تسعة أشياء وعفا عمّا سواهن(3) وغير ذلك. والوارد في روايات الباب أنّ الله تعالى فوّض ذلك إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ومع ذلك فقد أجاز الله تعالى حكمه ونفّذه.

ومن هنا انقسمت الأحكام أو التقديرات الشرعية إلى فرائض الله وسنن رسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم ويقصد بها السنن الواجبة لا المستحبّة. كما أنّه صلّی الله علیه و آله و سلّم يحقّ له التشريع في مجال إدارة نظام الحكم وهو المراد بقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله»(4) وغيره من الآيات؛ وكذلك لولاة الأمر المعصومين علیهم السّلام بعده.

والحاصل أنّ المقصود بالآية النهي عن التقدّم على تشريع الله وتشريع

ص: 290


1- الأنعام (6): 57؛ يوسف (12): 40 و 67.
2- راجع الكافي 1: 266، باب التفويض إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم.
3- راجع الكافي 3: 509، باب ما وضع رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم الزكاة عليه.
4- النساء (4): 64.

الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أو حكمه الولائي بأن يشرع الإنسان حكماً تشريعياً من جانبه أو أو يعمل عملاً في المجال التشريعي أو الولائي من دون ترخيص وإذن من الولي الشرعي وهو الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم في عهده. والمراد بالتشريع أن يعتقد الإنسان أو يحكم بأنّ شيئاً حرام أو حلال وقد تكرّرت الآيات الكريمة في التنديد به، وأكثر هذه الآيات وإن وردت في مخاطبة المشركين إلا أنّ الحكم لا يختصّ بهم، قال تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ الْسِتْكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهُ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ».(1)

وليس معنى ذلك أن لا يعتبر الإنسان شيئاً مباحاً حتّى ينزل فيه الحكم الشرعي؛ إذ قد يكون ما نستحلّه أمر مستحدث لم يرد فيه حكم، ولكنّ الحلّ الذي هو حكم شرعي غير الإباحة الأصلية التي تبتني على عدم وصول منع من الشريعة، فالحلّ في الأصل حلّ العقدة كما قال تعالى: «وَاحْلُلْ عُقْدَةٌ مِنْ لِسَانِي» (2) وفي الشرع عبارة عن حلّ عقدة الحظر، كما أفاده سيّدنا الأستاذ دام علاه،(3) فإن كان الشيء محرّماً قبل ذلك، إمّا في هذا الشرع أو في شرع سابق أو في العرف الخاطئ الذي يحرّم من عند نفسه أو في القوانين الوضعية التي تحرم بغير حقّ أو كان مورداً لتوهّم الحظر، ثمّ أحله الله تعالى فقد انحلّت عقدته، نظير قوله تعالى: «أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلى نِسَائِكُمْ»،(4) وقوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ

ص: 291


1- النحل (16): 116.
2- طه (20): 27.
3- أي مرجع الأمة وملاذها السيّد السيستاني حفظه الله تعالى.
4- البقرة (2): 187.

مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ»،(1) وقوله تعالى: «وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً».(2)

وهناك من الناس من يحرّم ما لم يحرمه الله تعالى بدعوى أنّه محدث وكلّ محدث بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار!! وهو الذي يدخل النار بقوله هذا، لأنّه يحرّم ما لم يحرّمه الله تعالى، فهو المبتدع والمعتدي على التشريع الإلهي وأمّا من يرتكبه من دون أن يحكم بأنّه ممّا أحلّه الله تعالى وإنّما يستحلّه؛ لأنّه تعالى لم يحرّمه وأنّه على إباحته الأصلية، فهو متّبع لشرع الله وليس مبتدعاً. وهذا باب واسع يدخل فيه كثير ممّا يتسرّع فيه الجهلة المتلبّسون لباس الفقهاء بالحكم بالابتداع والضلالة.

نعم، لا يجوز أن يدخل في الدين ما ليس فيه، فيحكم بأنّ هذا واجب أو حرام أو حلال شرعاً والشرع لم يحكم فيه بشيء. والطريف أنّ أكثر موارد التنديد في القرآن الكريم هو التحريم الجاهلي لا التحليل، فكانوا يحرّمون على أنفسهم أنواعاً من الإبل كالوصيلة والحامي والبحيرة والسائبة، فأنزل الله تعالى: «مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ».(3)

والآيات التي تندّد بالتحريم الجاهلي كثيرة، وربما يتعجّب الملاحظ من هذا الاهتمام والتأكيد، وربما يتصوّر أنّه ليس بتلك المثابة من الأهمية، ولكنّ الواقع

ص: 292


1- المائدة (5): 96.
2- النساء (4): 24.
3- المائدة (5): 103.

أننا كثيراً ما نستخفّ بأمر وهو عند الله عظيم، كما قال تعالى: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ الله عَظِيمٌ» (1) والتشريع شأن إلهي لا يحقّ لأحد أن يتلبّس به.

«وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». الأمر بالتقوى بعد الأمر السابق يوحي إلى المخاطب أنّ الأمر بالغ الأهمية، فلا يتوهّم أنّه ليس عليه رقيب وأنّ بإمكانه أن يقول ما يقول ويفعل ما يفعل إذا كان وحده، فالله تعالى معه ورقيب عليه يسمع أقواله ويعلم أفعاله. وإنّما لم يقل بصير، لأنّ الفعل هنا ربما يكون قلبياً فإنّ اتصاف الفعل بكونه تشريعاً محرماً أمر قلبي، وذلك لأنّ اتصافه بذلك يتبع نيّته بأنّ هذا وارد في الشرع أو مع نسبة التحريم أو الإيجاب إلى الله تعالى، وإن كان ذات الفعل أمراً مشهوداً إلا أنّ اتصافه بكونه تشريعاً محرّماً يتبع نيّته.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» ؛ إعادة النداء تفيد الاهتمام بما بعده وتفيد التنبيه على أنّه حكم خاصّ، وليس من فروع الحكم السابق. وهذا حكم شرعي في باب مراعاة الأدب عند النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم، ويبدو أنّ بعض من كان يحضر عنده صلّی الله علیه و آله و سلّم، من عرب البادية، بل غيرهم أيضاً ممّن فيه جفوة الأعراب ما كانوا يراعون احترام النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم فيرفعون أصواتهم عنده، وكان هذا قلّة أدب ومخالفاً للتوقير، ولعلّه كان أيضاً يؤذي النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم فنهى الله عنه، وكان النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم كثير الحياء تتأبّى نفسه الزكية من مصارحتهم باحترامه وتوقيره وتنبيههم على ما هو مقتضى الأدب، ولكنّ الله تعالى لا يستحيي من الحقّ. وقوله: «فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» يبيّن حدّ الرفع الممنوع، فالمعنى أنّهم حينما يتكلّمون في محضره صلّی الله علیه و آله و سلّم سواء كان صامتاً أو يكلّمهم أو يكلّم غيرهم أو يخطب، فالواجب أن يكون

ص: 293


1- النور (24): 15.

صوتهم دون صوته لتكون له العلوّ والرفعة في الظاهر، كما هو في الواقع، وهذا واضح فيما لو كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يتكلّم ، أمّا إذا كان صامتاً فيجب أن يكون الصوت خافتاً جدّاً لا يسمعه إلا المخاطب.

«وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» الفرق بينه وبين الحكم السابق أنّ الأوّل ليس في مقام المحادثة معه صلّی الله علیه و آله و سلّم كما تبيّن ، ولذلك استند إليه بعضهم في عدم جواز رفع الصوت عند قبره صلّی الله علیه و آله و سلّم أيضاً ، وهذا الحكم خاصّ بمقام المحادثة لقوله تعالى: «لَهُ»، ففي المقام الأوّل يجب أن يكون الصوت أخفض من صوت النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم إذا كان يتكلّم، سواء كان يخطب أو يتكلّم معه أو مع غيره، ويجب أن يكون خافتاً إذا كان النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم ساكتاّ، كما يفعله الناس بمحضر العظماء، وليس في البشر أعظم من رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم ولكنّه حيث كان يعيش بينهم كأحدهم، بل كأحد فقرائهم فما كان الجهلة يعرفون قدره، وفي المقام الثاني وهو مقام المحادثة، يجب الإخفات فلا يجهر بالقول كما يجهر مع غيره إجلالاً له وتعظيماً، والجهر ربما يصدق على الصوت الذي لا يعتبر رفيعاً، فهناك فرق آخر بينهما؛ فإنّ الجهر يقابله الإخفات ورفع الصوت يقابله خفضه وإن كان جهراً والجهر بمعنى الإعلان. ويظهر من قوله: «كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» أنّ الجهر المتعارف المعتاد بين المتخاطبين ممنوع صلّی الله علیه و آله و سلّم.

«أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ». مرّ الكلام في حبط الأعمال في سورة محمّد صلّی اللهعلیه و آله و سلّم(1) وقلنا في تفسير قوله تعالى: «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ»(2) إِنّ هناك من

ص: 294


1- في تفسير الآيات 9 و 28 و 33.
2- محمد (47): 33.

المعاصي ما يحبط بعض الأعمال ومنها ما يحبط كلّها. وذهب بعض المفسّرين إلى أنّه لا يحبط العمل إلا الكفر ، وهذا من موارد نزاع الأشاعرة والمعتزلة ومن أصحابنا أيضاً من قال به.

قال في «مجمع البيان»: «قال أصحابنا أنّ المعنى في قوله: «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ» أَنّه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنّهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وتوقيره لاستحقّوا الثواب، فلمّا فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم، فلا تعلّق لأهل الوعيد بهذه الآية، ولأنّه تعالى علّق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل، وهم يعلّقونه بالمستحقّ على العمل وذلك خلاف الظاهر».(1)

ويقصد بقوله: «أهل الوعيد» المعتزلة. ومن الواضح أنّ ما قاله ونسبه إلى الأصحاب هو خلاف الظاهر، فإنّ إضافة الأعمال إلى الضمير تدلّ على العموم ومعناه حبط جميع الأعمال، مع أنّ هذا العمل لا ثواب فيه حتّى لو لم يكن برفع الصوت والجهر بالقول، فقد يكون القول في محضر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لأمر دنيوي يعود نفعه إلى المتكلّم، بل قد يكون بذاته محرّماً أيضاً فضلاً أن يكون عملاً صالحاً يثاب عليه كالغيبة والنميمة والبهتان وغيرها.

وقوله: «وَأنتُم لا تَشْعُرُونَ» بمعنى أنّهم ما كانوا يشعرون أنّ هذا العمل محبط للأعمال، بل كانوا ما يتوقّعون ذلك. والسرّ في كونه محبطاً أنّه هتك لمقام الرسالة، والظاهر أنّ من كانوا يرفعون أصواتهم يستهينون بمقامه صلّی الله علیه و آله و سلّم وإن لم يصرّحوا بذلك، وقد وضعت أحاديث لإثبات أنّ بعض الصحابة تغيّر موقفهم

ص: 295


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 -9: 196.

وعملهم في هذا المقام بعد نزول الآية، وهذا بنفسه يدلّ على سلبية مواضعهم قبلها، ولكنّ الواقع أنّ بعض الناس لم يغيّروا موضعهم أساساً حتّى آخر أيّام حياته صلّی الله علیه و آله و سلّم ولم يراعوا مرضه فضلاً عن مقام الرسالة واتهموه بالهجر والهذيان فما أكذب هذه الأحاديث؟!

«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ الله أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى هُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» تأكيد على أهمية الحكم وإشارة إلى أنّه كما أنّ رفع الصوت عند النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم موجب للحبط، كذلك خفضه عنده موجب للمغفرة، بل موجب لأجر عظيم ويكفيه عظمة أنّ الله تعالى يعدّه عظيماً، والتنكير أيضاً يفيد التعظيم.

وغضّ الصوت: خفضه. والامتحان: الاختبار. ومنه قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِينَ».(1) وهناك محاولات في التفاسير وكتب اللغة لتأويل الامتحان هنا أو البحث عن معان اُخرى في الاستعمالات اللغوية، لأنّ الاختبار لا يدلّ بذاته على الفوز ولا يختص بمن حصل على مرتبة عالية، فكلّ الناس معرّضون للامتحان للتقوى. فقيل: إنّ معنى الآية أخلص الله قلوبهم للتقوى. وقيل: بمعنى صفّاها. وقيل: وسّعها. وقيل: وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّه سببها، فكأنّه قال عرف أنّها لائقة للتقوى. وقيل غير ذلك.

ويمكن أن يكون المراد بهم من كانوا يغضّون الصوت عنده صلّی الله علیه و آله و سلّم قبل أن تنزل الآية، أي أنّ الوعد بالمغفرة والأجر العظيم هنا لا يشمل من ائتمر بهذا الأمر بعد نزوله فغضّ صوته أمام الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، بل خاصّ بمن كانوا يغضّون الصوت

ص: 296


1- الممتحنة (60): 10.

عنده تلقائياً ممّا يدلّ على أنّهم كانوا يعرفون مقام الرسالة وقدرها عند الله، فهم بطبيعتهم كانوا يخضعون للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ويتواضعون ويتهيّبون جلالة قدره، فيغضّون أصواتهم من دون أن يكون هناك أمر وطلب وتنبيه، فأراد الله تعالى أن يبيّن السبب في تنبّه هؤلاء قبل نزول الأمر وهو أنّهم ممّن تكرّر امتحان قلوبهم للتقوى في مجالات كثيرة، فتدرّبت نفوسهم عليه وتذلّلت. وعليه فلا حاجة إلى تأويل.

وفي تغيير التعبير من النبي في الآية السابقة إلى رسول الله إشارة إلى أن تعظيمه وإكرامه إنّما هو من أجل كونه رسول الله، وتوقيره وتعظيمه توقير وتعظيم له تعالى: كما أنّ هتكه وقلّة الأدب لديه يعدّ قلّة أدب لدى الله تعالى شأنه.

«إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» قيل: إن شأن نزول الآية أنّ قوماً من العرب أتوا إلى المدينة فأخذوا حسب عادتهم في تعاملهم مع الآخرين ينادون الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم من وراء الجدار: يا محمّد اخرج إلينا. والحجرات جمع حجرة من الحَجْر ، أي المنع يطلق على المكان المحجور ببناء أو نحوه، ويقال : إنّ حجراته صلّی الله علیه و آله و سلّم كانت من جريد النخل عليها من الخارج مسوح من الشعر الأسود: وكانت حجراته تسع بعدد نسائه وبقيت إلى عهد بني اُمية، فادخلوها في المسجد وليس القصد توسعة المسجد، بل إبادة آثار الرسالة لئلا يقيس الناس بينها وبين قصور من يدّعون خلافته.

وقيل في قوله تعالى: «اكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» إنّه بمعنى كلّهم، ولعلّهم إنّما أوّلوا ذلك لأنّهم كلّهم لا يعقلون. ولكن من المحتمل أن يكون التعبير بلحاظ أنّ

ص: 297

بعضهم كان يتعمّد ذلك هتكاً أو إيذاءاً فلم يكن ذلك لغبائه أو جفائه، ويحتمل أن يكون ذلك من أدب القرآن الكريم لاحتمال كون بعضهم مكرهين أو غافلين. ولا تظنّنّ أنّ كلّهم ترك هذه العادة السيّئة وإن وضع القوم في ذلك الأحاديث حتّى قيل: إنّ بعضهم كان إذا تكلّم بعد ذلك في محضر رسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لم یسمع كلامه فيستفهم، وقيل: إنّ قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ» نزلت في الشیخین.

ولمعرفة ما آل إليه الوضع بعد ذلك ننقل الحديث التالي عن صحيح مسلم حرفياً والقصّة وقعت في آخر أيّام حياة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: «وحَدَّتِنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْد أَخْبَرَنَا وقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ الله بْن عَبْدِ الله بن عُتْبَةَ، عَنْ ابْن عَبَّاس لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتاباً لا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ، حَسْنَا كِتَابُ الله، فَاخْتَلَفَ أهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرَّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ؛ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتِلافِ عِنْدَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا». قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسِ يَقُولُ: إِنَّ الرزيَّةَ كلّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَن يَكتب لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ».(1)

ص: 298


1- صحيح مسلم 5: 75، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء یوصي فيه.

قوله: «لمّا حُضِر»، أي حضرته الوفاة صلّی الله علیه و آله و سلّم. واللغط: صوت وضجّة لا يفهم معناه. ويظهر من الحديث بوضوح أنّ هؤلاء عِلْيَة الأصحاب وبطانة رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم ولم يكن لغطهم وصياحهم واختلافهم عن عادة سيّئة فحسب، بل أنّ بعضهم قصد بذلك إيذاء الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وقد بلغ من تأذّيه - وهو على فراش الموت - أن أخرجهم من بيته ولم يكن ذلك من خلقه الكريم.

«وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً هُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ليس المراد بقوله: «خَيْراً» التفضيل، بل المراد أنّه هو الخير فحسب، إذ أنّ ما فعلوه لم يكن فيه شيء من الخير، بل هو شرّ كلّه. والتعقيب بالمغفرة والرحمة من غاية لطفه

تعالى وعنايته بعباده المقصّرين في حقّه وحقّ رسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم.

ص: 299

سوره الحجرات (6- 8)

«یَأیُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَندِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمّي لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أَوْلَتَبِكَ هُمُ الرَّشِدُونَ (7) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَةٍ فَتَبَيَّنُوا»، الآية على ما ذكره المفسّرون ووردت به روايات الخاصّة والعامّة نزلت في شأن الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمّه وكان من حديثه - على ما قالوا - أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بعثه إلى قوم لأخذ الزكاة منهم، فرجع إليه وادعى أنّهم منعوه الزكاة وأرادوا قتله واختلفوا في سرد القضية بما لا يؤثّر في أصلها، قالوا: فأراد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم غزوهم وأنّه بعث إليهم خالد بن الوليد فتبيّن كذب الوليد فنزلت الآية. كذا في بعض الروايات وهي كثيرة ومختلفة.

وفي بعضها أنّ الحارث بن ضرار الخزاعي آمن على يد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم فجعل له موعداً يبعث إليه رسولاً لأخذ الزكاة منه ومن قومه، فبعث إليه الوليد فرجع مع اتهامه لهم من دون أن يصل إليهم أو وصل إليهم وخافهم على نفسه أو لغرض، في قلبه، فلمّا رأى الحارث تأخّر المبعوث ظنّ أنّه لسخط من الله ورسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم، فأتى مع كبراء قومه إلى المدينة ليستعلم الحال، فسأله الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم عمّا أخبر به الوليد، فأنكر ذلك وبيّن حقيقة الحال، فنزلت الآية، ويبدو أنّ هذا هو الصحيح فلم يبعث الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أحداً لغزوهم وليس من شأنه أن يستعجل في مثل ذلك،

ص: 300

ويشهد له أنّ الآية إنّما نزلت لتنبيه المؤمنين على عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق وليس فيه خطاب للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وإلا لقال: «يا أيها النبي...»، إذ هو المناسب لو كان هو الذي قصد الغزو، وفي الآية التالية شاهد واضح على ذلك.

وفي الآية تصريح بفسق الوليد، ومع ذلك فإنّ عثمان ولاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص، فصلّى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً، ثمّ قال: هل أزيدكم؟ فعزله عثمان عنهم بعد هذه الفضيحة، ولم يجر عليه الحدّ إلى أن ثار الناس وشكوا أمره إلى عائشة واعترضت عليه اعتراضاً شديداً، وكذا بعض الصحابة. ويبدو من الروايات أنّه شهد عليه رجلان أحدهما شهد على شربه والآخر على تقيئه، ولمّا كثر الاعتراض اضطرّ عثمان إلى تحكيم أمير المؤمنين علیه السّلام ولعلّه توقّع أن يردأ عنه الحدّ لاختلاف الشهادة. فقبل علیه السّلام الشهادة وقال: لم يتقيأه إلا وقد شربه وأجرى عليه الحدّ، ولذلك كان يسبّ أمير المؤمنين علیه السّلام طول حياته حيث كان قاتل أبيه أيضاً.

وفي الآية أيضاً ردّ واضح على من ادعى عدالة جميع الصحابة، حيث صرّح بفسق الوليد وهو منهم، مع أنّه لا يحتاج إلى دليل بعد ثبوت جرائم بعضهم التي يصغر عندها شرب الخمر، كالخروج على الإمام وقتل النفس المحترمة. والفسق في الأصل بمعنى الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها، واُطلق في القرآن على من خرج عن طاعة ربّه، وقيل: إنّه لم يسبق في كلام العرب إطلاق الفاسق على إنسان.

والنبأ: الخبر. وقيل: خصوص الخبر المهمّ الذي له شأن.

ويعلم من تنكير الفاسق والنبأ عموم الحكم لكلّ فاسق وكلّ نبأ، أو لكلّ نبأ

ص: 301

وإن لم يكن المخبر فاسقاً بناءاً على ما سيأتي من عدم دخالة الفسق في الحكم لئلا يتوهّم اختصاص الحكم بمورد النزول أو بمشابهاتها.

والتبيّن، من البين بمعنى الفصل والفراق، ويستعمل في الوضوح والإيضاح، لأنّه بذلك ينفصل الحقّ عن الباطل ويستعمل لازماً ومتعدياً، فإذا قلت تبيّن الأمر أي اتّضح، وإذا قلت تبيّنتُ الأمر، أي بحثت عن الحقّ فيه حتّى اتضح لي، ومورد الاستعمال هنا هو الثاني، فالمعنى: إن جاءكم فاسق خارج عن الدين أو عن طاعة ربّه بخبر هامّ فتريّثوا ولا تستعجلوا في قبوله، بل تبيّنوا الأمر حتّى يتبيّن لكم الحقّ من الباطل.

واستدلّ بالآية على قبول خبر العادل وحجّيته، وفي ذلك بحث طويل في كتب الاُصول، والصحيح عدم الدلالة، وأنّ الظاهر من الآية عدم العناية بكونه فاسقاً، بل مصبّ الاهتمام فيها هو لزوم التثبّت وعدم الاستعجال في قبول الخبر المهمّ وترتيب الآثار عليه، خصوصاً مثل هذا الأثر وهو الغزو والقتال حتّى لو كان المخبر عادلاً، بل عادلين ، فليست الآية في مقام بيان ما هو الحجّة من الأخبار ، بل في مقام المنع من الاستعجال في الحكم. ووصف «الفاسق» على ما يبدو ليس له دخل في الحكم، وإنّما أتى به للتنديد بالمخبر الذي لا يهمّه ما يترتّب على خبره من المفاسد، بل يتبع في ذلك هواه على ما ذكروه من وجود عداوة بينه وبين القوم.

والصحيح في باب حجّية الخبر هو حجّية ما يوجب الوثوق الشخصي فلا يجوز لأحد الاعتماد في ترتيب الآثار الشرعية وقبول الأحكام على خبر لا يثق بصدقه وإن رواه العدول، فضلاً عن الثقاة، نعم يعمل بشهادة العدلين في

ص: 302

تشخيص بعض الموضوعات وهذا أمر آخر.

وأمّا ما قيل من أنّ بناء العقلاء على حجّية خبر الثقة وهو من يوثق بنقله عادة فضلاً عن العادل، وأنّ اُمور الناس في حياتهم الاجتماعية لا تدور إلا على ذلك فمردود بأنّه دعوى لا يدعمها الاستقراء، والناس عادة في اُمورهم المهمّة لا يعتمدون على خبر الثقة ولا العادل إلا إذا اقترن بما يؤكّد صدقه.

نعم ربما يعتمدون على خبر الفاسق وغير الثقة أيضاً في مقام الاحتياط والتأكد، فإذا جاء لأحدهم خبر عن خيانة وكيله مثلاً حتّى لو لم يكن مؤكّداً وموجباً للوثوق، بل حتّى لو كان من فاسق، فإنّه ربما يهتمّ به فيعزله إن لم يترتّب على عزله ضرر، وليس هذا معنى حجّية الخبر، بل هذا للاحتياط في الاُمور المهمّة وهو مورد تأكيد الآية، ولذلك استدلّ بعضهم بها على أنّ الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن وجه للأمر بالتبيّن، بل كان المفروض أن يرفض من أساسه، فالآية تدلّ على لزوم الاهتمام بخبر الفاسق إن كان مورده خبراً مهمّاً ولكن لا يعتمد عليه.

واستدلّ بعضهم على حجّية خبر الثقة بأنّ الاعتماد على ذلك أساس التاريخ وأنّه لو حذفنا خبر الثقة لبطل كثير من التراث العلمي والمعارف المتعلّقة بالمجتمعات القديمة، بل المعاصرة أيضاً بل تتوقّف عجلة الحياة!!!

أمّا التراث العلمي فهو كلام العلماء بأنفسهم وآراؤهم التي ذكروها في كتبهم وليس خبراً عنهم. نعم، يمكن أن يعتبر الكتاب كلّه خبراً عن مؤلفه إلا أنّه إذا لم تتوفّر القرائن المفيدة للعلم أو الوثوق باستناد الكتاب إلى مؤلفه، فإنّ القول لا يمكن اسناده إليه، ولكنّه لا يوجب حذف القول عن قائمة التراث العلمي فهو قول عالم مجهول الهوية.

ص: 303

وإن أريد بالتراث العلمي التاريخ، فما أكذبه وما أظلمه قديماً وحديثاً وها نحن نجد في عصرنا مع توفّر وسائل الإعلام وسرعة نقل المعلومات كثرة الأكاذيب والتفاسير الخاطئة المترتّبة عليها، فكيف بالتاريخ القديم؟! ونحن لا نعتمد على ما يرويه المؤرّخون إلا ما توفّرت فيه قرائن الصدق أو كان ممّا يحتجّ به على الخصماء لكونه مأخوذاً من منابعهم. ومن هنا فإنّ التاريخ بحاجة إلى تحديث وإلى تمحيص. ومن المؤسّف أن المؤرّخين الجدد خصوصاً في الكتب الدراسية التي تملأ بها أوعية الجيل الناشئ يتعمدون الكذب وتحريف التاريخ، فيا حبّذا لو كانوا يكتفون بما كذب أسلافهم.

«أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»؛ أي مخافة أو كراهة أن تصيبوا قوماً وهو مفعول لأجله، أي يجب التبيّن حتّى لا تقعوا في هذا المحذور وهو غزو المؤمنين.

والجهالة بمعنى السفاهة والطيش والعمل من دون روية وحكمة. وليس المراد الجهل بمعنى عدم العلم؛ إذ ليس كلّ تعامل مع الآخرين من دون علم موجباً للندامة، كما لو كان العمل موافقاً للاحتياط والحكمة.

والباء تفيد الحال، أي تصيبوهم حال كونكم جاهلين، أو للسببية، أي بسبب جهالتكم وسفهكم. وتصبحوا بمعنى تصيروا. والندم هو الغمّ، على ما فعله الإنسان غمّاً شديداً مستمراً. والمعنى واضح.

واستدلّ بهذا التعليل على عدم حجّية الخبر مطلقاً ما لم يوجب العلم أو الوثوق؛ لأنّ التعليل يعمّم ويخصّص فصدر الآية وإن كان خاصّاً بالفاسق إلا أنّ التعليل يقتضي التعميم، فالنتيجة أنّه لا يجوز الاعتماد على الخبر مطلقاً حتّى لو كان المخبر عادلاً. والصحيح أنّها لو دلّت على ذلك فإنّما تدلّ على عدم الحجّية

ص: 304

في خصوص ما يترتّب عليه مثل هذا الأثر، ويحتمل فيه تعقّب الندامة، ولكنّ الكلام في أصل حجيّة الخبر، إذ لا موجب للحكم بحجّيته ما لم يوجب وثوقاً وعلماً.

«وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله» تعبير ينبئ عن لزوم الحذر والحيطة والقوم كانوا يعلمون أنه صلّی الله علیه و آله و سلّم رسول الله ويشهدون به، ومع ذلك فقد يغفل الإنسان عن بعض الحقائق التي تحيط به وهو يشعر بها ليلاً ونهاراً. ولذلك لم يقل: «واعلموا أنّه رسول الله» بل قال: «أنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ»، فالحقيقة التي يغفل الإنسان عنها هي هذه النعمة الجليلة التي لا تقدّر بثمن وهي أعظم النعم على الإطلاق، خصّ الله تعالى ذلك القوم بها وهي أنّ رسول الله بين أظهرهم، فيا لها من سعادة!!

والحاصل أنّ الآية تنبّه المؤمنين على عظمة النعمة التي أنعم الله عليهم بها من جهة، وعلى خطر المسؤولية تجاه هذه النعمة من جهة أخرى.

ولعلّ كلّ ما تقدّم من لزوم عدم التقدّم على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في الحكم والعمل في مجال التشريع الأساسي أو الحكومي، ولزوم المتابعة والتعبّد المحض بأوامره صلّی الله علیه و آله و سلّم، كما هو الحال في أوامر الله تعالى، وما تقدّم من لزوم رعاية الأدب عند الحضور لديها صلّی الله علیه و آله و سلّم بالسكوت وخفض الصوت، كلّ ذلك كان مقدمة للتنبيه على هذا الأمر المهمّ، فيثير فيهم بهذه الآية تنّبهاً وحيطة أكثر، فإنّ الذي بين أظهرهم ليس بشراً كسائر الناس ولا زعيماً سياسياً ولا قائداً عسكرياً، بل هو رسول الله، وهذا مقام لا يصل إليه بشر إلا بعناية خاصّة. وقد مرّ في تفسير قوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ»(1) أنّ جمعاً من المفسّرين اعتبر الصفات

ص: 305


1- الفتح (48): 29.

المذكورة صفات للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والذين معه جميعاً، حيث شقّ عليهم أن يعتبروها خاصّة بمن معه ونسوا أنّ توصيفه بالرسالة يغنيه عن كلّ توصيف.

كما أنّ قوله تعالى: «قُلْ إنّما أنا بشر مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ»(1) ليس في مقام تنزيل مقام الرسالة إلى مستوى البشر العادي كما يتوهّم، بل هو بيان للفارق الكبير بين الرسول وبين الناس فارق فاصل كالذي بين السماء والأرض وهو الوحي، فإنّ غاية ما يمكن أن يصل إليه الإنسان هو أن يكلّمه الله تعالى أو يوحي إليه فهو فوق الغاية التي من أجلها خلق البشر وهو ارتباط العبد بالله تعالى أي العبادة. وهناك فاصل كبير بين أن يرتبط العبد بربّه وبين أن يرتبط الله تعالى بعبده. وأين هذا من ذاك مهما خلصت العبادة وجلّ محتواها ؟!

ولذلك نحن نعتقد أن خلافة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ليست كخلافة الملوك وما يسمّى ولاية العهد، وأنّ الذي ينتقل إلى خليفة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ليس الحكومة كما يتوهّم، بل هو مقام ربّاني ومنصب إلهي لا يكون إلا للمعصوم، فتفترض طاعته من الله تعالى، كما فرضت طاعة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم ولذلك أيضاً نقول: إنّ أولي الأمر في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولي الأمر مِنكُمْ»(2) ليس بمعنى كلّ من تولّى أمور الناس بأيِّ سبب كان كما يقولون، بل حتّى لو كان باختيار أهل الحلّ والعقد أو اختيار كلّ المسلمين بل المراد بهم من جعلهم الله تعالى أولياء لأمور المسلمين. ونعتقد أنّ الآية الكريمة تدلّ على أن أولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين وإلا لم يصحّ الأمر المطلق بالإطاعة، وأنّ المراد بهم

ص: 306


1- الكهف (18): 110.
2- النساء (4): 59.

خصوص الأئمة الطاهرين الإثني عشر الذين أخبر بهم الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم في روايات كثيرة بعضها متّفق عليها بين الفريقين وهي التي تذكر العدد فقط.

وعلى كلّ حال، فمن الخطأ الفادح الذي ابتليت به الأمّة أن يعتبر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم مجرّد حاكم نصبه الله تعالى للحكومة فيخلفه كلّ حاكم، إنّما الفرق أنّ الحاكم بعده يختاره الناس، بل ذهب بعض الكّتاب الجدد وعشّاق

الديموقراطية إلى أنّ شرعية حكومة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كانت ببيعة الناس أيضاً!!!

«لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمر لَعَنِتُمْ» هذا تفريع على الجملة السابقة ويبدو من الآية أنّ جمعاً من المؤمنين كانوا يطالبون الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بترتيب الأثر على نبأ الفاسق ومعاقبة بني المصطلق، فنهاهم الله تعالى أوّلاً عن متابعة خبر الفاسق من دون تثبّت عن الأمر، ثمّ بيّن لهم أنّه لا يجوز لهم أن يتوقّعوا من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أن يطيعهم في كلّ ما يطلبون، فإنّه لو أطاعهم في كثير منها لوقعوا في مشقّة وضيق.

والعنت المشقّة. والإتيان بالفعل المضارع للدلالة على الاستمرار، أي لا تتوقّعوا ذلك في المستقبل أبداً. والتعبير بالإطاعة للإشارة إلى قبح ما يتوقّعون فإنّ المفروض أنّه هو القائد المطاع فلا ينبغي أن يكون مطيعاً وهو المؤيّد من عند الله تعالى ولا يحتاج إلى اقتراحكم ورأيكم ومشورتكم، والغرض تنبيههم على أنّ توقّعكم يعود إلى توقّع الإطاعة منه.

وإنّما قيّده بالكثرة، لأنّ بعض ما يطالبون به صحيح وفي موضعه، وهذا من أدب القرآن كما قلنا مراراً. والآية تدلّ على ما مرّ في تفسير الآية السابقة من أنّ الخطاب إنّما هو للمؤمنين وليس للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

ويبدو من الآية الكريمة أنّ التوقّع العامّ فيهم كان هو تقبّل الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم منهم

ص: 307

ما يرونه مناسباً، ولعلّ السبب في هذا التوقّع والانتظار هو اللين واللطف في خلقه الكريم صلّی الله علیه و آله و سلّم، كما قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ هُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله»؛(1) مضافاً إلى ما ورد من الأمر بالمشاورة معهم في الآية إلا أنّه لم يكن مأموراً بالقبول، ولذلك عقّب الأمر بالمشاورة بقوله تعالى: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله».

وربما استدلّ بعض الناس بالآية الكريمة على اعتبار رأي العامّة للأمر بالتشاور معهم، ولكنّ الصحيح أنّ المشاورة لم يؤمر بها الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كمنهج عملي، بل لخفض الجناح للمؤمنين واحترامهم وتطييب نفوسهم، ولذلك ورد الأمر بالمشاورة بعد الأمر بالعفو والاستغفار لهم.

والحاصل أنّ الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله و سلّم الخلقه العظيم ولأمر من الله تعالى كان يشاور المؤمنين، فلعلّه تسبّب في خلق جوّ من التوقّع الباطل وهو لزوم العمل وفقاً لآرائهم، فنبّههم الله تعالى بهذه الآية على خطئهم.

«وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَره إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ». الكلام هنا في وجه هذا الاستدراك وأنّه استدراك من أيّ مضمون ممّا سبق؛ والغالب في التفاسير أنّ المخاطب في هذه الجملة مجموعة اُخرى من المؤمنين، فالمعنى أنّه ليس توقّع الإطاعة صفة الكلّ، بل إنّ منكم من حبّب الله إليه الإيمان وهو بعيد عن سياق الآية، بل ظاهرها أنّ الخطاب في الموردين للجماعة وليس معناه بالطبع توجيهه لكلّ فرد بل الخطاب موجّه إلى المجموعة،

ص: 308


1- آل عمران (3): 159.

ففي المورد الأوّل، أي قوله تعالى: «لَوْ يُطِيعُكُمْ» كان التوقّع المذكور حالة عامّة في المجتمع المسلم؛ وأمّا في المورد الثاني أي التحبيب والتكريه فالظاهر أنّهما أيضاً من الشؤون العامّة فيهم على اختلاف مراتبهم في الإيمان.

والذي يخطر بالبال أنّه استدراك عن التنديد بتوقّعهم إطاعة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لهم ومعنى هذه الجملة: ولكنّكم لا تتوقعون ذلك، لأنّه ينافي الإيمان، بل يناسب الكفر والفسوق والعصيان، وحيث حبّب الله تعالى إليكم الإيمان، فأنتم لا تتوقّعون ذلك، مع أنّهم كانوا يتوقّعون، فهو نظير الجملة الخبرية التي يراد بها الطلب فتقول - مثلاً - : «تفعل كذا» تريد أن تقول: «افعل كذا»، ولكنّك تخبر أنّه سيفعله قطعاً تأكيداً على وجوبه، كأنّك واثق منه أنّه لا يتركه، فالآية أيضاً تريد أن تنهاهم عن هذا التوقع المشين فتنّبههم بهذه الطريقة اللطيفة.

وفي الآية الكريمة إشارة إلى التوفيق الإلهي ولطفه الموجب لانجذاب المجتمع نحو الإيمان. والواقع أنّ الذي حصل من الانجذاب في ذلك المجتمع البدوي الجاهل والغارق في الفساد الأخلاقي والاجتماعي كان في حدّ ذاته معجزة، والآية تنبّه على سرّ هذا الإعجاز وهو أنّ الله تعالى حبّب إليهم الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم وزيّنه في قلوبهم، والإنسان منجذب بالفطرة نحو الزينة والجمال، بل كرّه إليهم ما كان مستقرّاً في قلوبهم وورثوه من آبائهم من الكفر والفسوق والعصيان.

والكفر، هو تغطية النعم بالجحود. والفسوق: الخروج عن الطاعة. والعصيان: التأبي، يقال عِرقٌ ،عاصٍ، أي يأبى التوقّف من نزف الدم. والظاهر أنّ المراد بالفسوق والعصيان أمر واحد يعبّر عنه تارة بالفسوق؛ لأنّه خروج عن طاعة الربّ،

ص: 309

وتارة بالعصيان؛ لأنّه امتناع عن الطاعة والانقياد، ويمكن أن يكون الفسوق أشدّ، فيختصّ بالمعاصي الكبيرة والإصرار على المعصية والبعد فيها، والعصيان يشمل كلّ مخالفة.

والآية تدلّ على أنّ الله تعالى لا يجبر الإنسان على الإيمان أو الكفر، وإنّما يحبّب إليه الإيمان ويكرّه إليه الكفر والفسوق فهو يتبع ما تميل إليه نفسه. والتحبيب والتكريه قد يكونان بتأثير غيبي من دون استناد إلى العوامل الطبيعية، بحيث يلقي الله تعالى في قلب العبد حبّ الإيمان والتقوى وكراهة الكفر والنفاق، وقد يتحقّقان بإيجاد الدواعي النفسية بصورة طبيعية من دون أن يكون هناك تأثير غيبي مباشر، فمثلاً إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً لسبب أوجب استحقاقه، فربما يوفّقه بلطف وبطريقة خفية للعيش في مجتمع يحبّب إليه الإيمان ويبعدّه عن الكفر، كما يمكن أن يضلّه لاستحقاقه بالعناد، فيمهّد له الطريق ليعيش في مجتمع يجرّه إلى الكفر والفسوق والعصيان. ونحن نجد كثيراً من الناس اهتدوا إلى الطريق الصحيح بعد أن كانوا ضالّين، لأسباب طارئة خارجة عن اختيارهم ألزمتهم البقاء في ظروف جرّتهم إلى الهداية من حيث لا یشعرون، فكأنّهم كانوا على موعد ولم يكونوا كذلك، كما نجد بالعكس اُناساً كانوا على الصراط السوي فتغيّرت وجهة معايشهم واضطرّوا إلى السكنى في مجتمع سلبهم الإيمان أو جرّهم إلى الفساد والانحلال، وكأنّهم أيضاً كانوا على موعد ، والله لطيف لما يشاء.

ويوضّح ذلك قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشرِحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا

ص: 310

يُؤْمِنُونَ»(1) وذيل هذه الآية يدفع إشكالاً يختلج في الأذهان وهو أنّه تعالى لماذا يفرق بين عباده فيهدي بعضاً ولو بالتوفيق لا الإجبار، ويضلّ بعضاً ولو بسلب التوفيق لا الإجبار أيضاً؟! أليسوا كلّهم عباده؟! وخصوصاً في مورد الإضلال، إذ الهداية وشرح الصدر نعمة يخصّ الله بها بعض عباده لحكمة، ولكنّ الإضلال وجعل الصدر ضيّقاً حرجاً ربما يعتبر ظلماً ينزه الله تعالى عنه.

والجواب أنّه تعالى لا يجعل الرجس إلا على الذين لا يؤمنون، والمراد به أنّه تتمّ لهم رؤية الحقّ ومعرفته، فلا يؤمنون به فيسلبون التوفيق كما قال تعالى «وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»(2) والسبب في ذلك أنّهم لا يمنعهم شيء من الإيمان إلا معاندة الحقّ. والعناد ينشأ إمّا من الكبر والغرور والعصبية الجاهلية، وإمّا من الحسد، كما كان في كثير من صناديد قريش بالنسبة إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

«أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ»؛ الرشد خلاف الغي بمعنى الاهتداء وإصابة الطريق الصحيح، والإشارة إلى الذين حبّب الله تعالى إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر والفسوق، فهم الذين اهتدوا إلى الحقّ وإلى الطريق المستقيم. ولعلّ تغيير التعبير عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنّ الأمر لا يخصّ المخاطبين، فكلّ من حبّب الله إليه الإيمان فاختاره فهو راشد، كما أنّه لا يعمّ جميع المخاطبين، بل يخصّ من حبّب الله إليه الإيمان بالفعل ومن المخاطبين من لم يكن كذلك، كالمنافقين والذين في قلوبهم مرض.

ص: 311


1- الأنعام (6): 125.
2- الأنعام (6): 110.

«فَضْلاً مِنَ الله وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، كلّ من «فَضْلاً» و «نِعْمَةً» مفعول لأجله والعامل فيهما «حَبَّبَ» و «كَرَّة»، أي أنّ هذا التحبيب والتكريه كان لفضل منه تعالى عليكم وللإنعام عليكم، وهما شيء واحد يعبّر عنه بالفضل؛ لأنّ كلّ ما أنعم الله تعالى به فهو فضل منه تعالى، وليس في مقابل حقّ لأحد عليه ولا لتوقّع شيء من أحد، ولا هو واجب عليه تعالى بموجب عقد وإنّما يؤتيه الله تعالى فضلاً، والفضل هو الزيادة، ويعبّر عنه أيضاً بالنعمة؛ لأنّ الهداية أعظم نعمة من الله تعالى، والنعمة كلّ ما ينعم به الإنسان، أي يعيش معه في نعومة ورخاء، وقد قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً» والله عليم بمن يستحقّ الإفضال والإنعام، وحكيم لا ينعم بالهداية إلا على من يستحقّها.

ص: 312

سوره حجرات (9- 10)

وَإِن طَابِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَتْهُمَا عَلَى الأخرى فَقَتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما»؛ حكم عامّ يحدّد وظيفة المجتمع الإسلامي فيما إذا وقع اختلاف بين بعض الطوائف من المسلمين ممّا يمكن أن تؤدّي إلى الاقتتال، ولا يختصّ بزمان ومكان. والاقتتال والتقاتل بمعنى واحد وهو ظاهر في الحرب ومحاولة كلّ طائفة قتل الاُخرى، وقيل بتعميم الحكم لكلّ اختلاف، وهو بعيد عن لفظ الآية، نعم يمكن أن يقال بأنّ المراد إرادة الاقتتال أو كونهما في معرضه، فيشمل كلّ اختلاف شديد يحتمل فيه الانجرار إلى المقاتلة.

والإتيان بضمير الجمع بدلاً عن التثنية بلحاظ أنّ المرجع جمع من جهة المعنى، فإنّ الطائفتين مجموعتان من الناس، ولعلّ اعتبارهم جمعاً حين القتال من جهة أنّه لا يكون إلا مع الاجتماع.

والمراد بالإصلاح إصلاح الشأن بينهما، فإن كان النزاع لسوء تفاهم فالإصلاح يتمّ بتبيين الحقّ، وإن كان لمجرّد تبادل كلام مشين بينهما فالإصلاح يتمّ بالعفو والإغماض، وإن كان لإعتداء من بعضهم على حقّ من حقوق الجانب الآخر فالاصلاح لا يتمّ إلا بإعادة الحقّ إلى صاحبه. وليس المراد بالآية إلزام المظلوم بقبول الظلم وتنازله عن حقّه مطلقاً، لأنّه ظلم وليس إصلاحاً بالعدل،

ص: 313

كما ورد في الآية. ولكنّ الظاهر أنّ الفرض الأخير خارج عن هذه الجملة و داخل في الجملة التالية.

«فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله»؛ البغي في الأصل مطلق الطلب ويستعمل كثيراً في طلب الإنسان ما ليس له. والفيء هو الرجوع. والمراد بأمر الله حكمه في القضية. وقيل: المراد بالبغي رفض الصلح، والمراد بأمر الله الصلح. ولا يصحّ ذلك على إطلاقه، فإنّه يقتضي أن يكون المطلوب من المتقاتلين قبول الصلح مهما كان، فإن طالب أحدهما بحقّه ورفض الصلح من دونه فهو باغ. وهذا ظلم لا يمكن أن يكون هو المقصود، كما تبيّن آنفاً. فالمراد بالبغي هنا طلب ما ليس له ظلماً وعدواناً، سواء كان هو الأمر الذي تسبّب للنزاع أو غيره، ولذلك أتى بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار.

والوارد في التفاسير أنّ مورد هذه الجملة هو نفس المورد الأوّل بمعنى أنّ الطائفتين إذا اقتتلا ورفض أحدهما الصلح أو بغى على الأخرى بعد الصلح، فهي التي تقاتَل إلى أن يقبل بالصلح، ولكنّ الظاهر أنّ مورد هذه الجملة غير الاُولى، فمورد الإصلاح ما لم يكن هناك بغي واعتداء، كما إذا كان الاختلاف لسوء تفاهم أو خطأ من بعضهم، وأمّا إذا كانت إحدى الطائفتين معتدية على الاُخرى فالواجب أوّلاً هو رفع الظلم وإعادة الحقّ إلى أهله، فالأمر بالقتال ليس على إطلاقه، بل يجب القتال إلى أن يتحقّق الرجوع إلى أمر الله، أي التسليم لحكم الشرع فالمطلوب أوّلاً هو الانصياع لحكم الله تعالى، فإن رفضت الفئة الباغية تحارَب إلى أن تنصاع وتطيع ، ثمّ يكون الإصلاح بعد ذلك.

وهناك فرق آخر بين الموردين، وهو أنّ الأمر بالإصلاح متوجّه إلى الجميع

ص: 314

على نحو الكفاية، فيجب أن يقوم به كلّ من يعلم بالأمر ويستطيع الإصلاح والظاهر أنّ هذا الحكم لا يختص بنزاع الطائفتين، بل يشمل كلّ اختلاف و نزاع خطير ولو بين فردين، وإذا قام بالواجب أحد أو مجموعة سقط التكليف عن الآخرين، كما هو الشأن في كلّ واجب كفائي. وأمّا الأمر بالقتال في هذا الأمر فلا يمكن أن يوجّه إلى عامّة المؤمنين، فإنّه يستلزم الفوضى واتساع رقعة الفساد، بل المأمور به هو الإمام كالأمر بإجراء الحدود.

«فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ»، وهذه الجملة تبيّن بوضوح أنّ المراد بالإصلاح ليس على إطلاقه، بل المراد الإصلاح على أساس العدل وتطبيق الحقّ وإرجاع حق كلّ أحد إليه.

والقسط - بالكسر - هو السهم والنصيب و - بالفتح - هو الجور، والقاسط الذي يأخذ نصيب الآخرين ويجور، قال تعالى: «وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لجَهَنَّمَ حَطَبَاً»(1) والمُقسط: العادل كأنّ باب الإفعال يفيد رفع القَسط، أي الجور. والجملة الأخيرة تبيّن أنّ الهدف في هذه العملية يجب أن يكون هو التقرّب إلى الله تعالى بالعمل بما يحبّه وهو يحبّ المقسطين الذين يجهدون لإيصال الحقّ إلى أهله.

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»؛ الآية في مقام التعليل للحكم السابق والحثّ عليه فتُبيّن أنّ العلاقة بين المؤمنين من أوثق العلاقات وهي علاقة الأخوة وهذه اُخوة اعتبارية، كما قال العلامة في «الميزان»: وليس تشبيهاً وتمثيلاً، كما ذكره بعضهم، فهناك اُخوة حقيقية تنشأ من الاشتراك في النسب وهناك اُخوة

ص: 315


1- الجنّ (72): 15.

اعتبارية يعتبرها المشرّع ، ليرتّب عليها أحكاماً خاصّة، وليس معنى ذلك ترتّب كلّ أحكام الاُخوة الحقيقية التي منها الميراث وصلة الرحم، بل المراد لزوم المحافظة على أواصر الودّ والسلام بوجه عامّ.(1)

وقد وردت في الروايات حقوق للاُخوة في الإيمان بعضها واجب وبعضها مستحب، فمن الحقوق الواجبة ردّ السلام وعدم الاغتياب، بل ربما يقال بوجوب الدفاع عنه إذا اغتيب والنصيحة إذا استنصحه، بل مطلقاً، وعدم الانتقاص والنيل منه، واحترامه وعدم الاستهانة به، وتجهيزه إذا مات فهو واجب كفائي، وهذا لا يجب للكافر. ومن الحقوق المستحبّة أن يسلم عليه ويغفر زلّته ويعوده في مرضه ويشهد ميّته ويجيب دعوته ويقبل هديّته ويقضي حاجته، وغير ذلك ممّا ورد في

الروايات.

واللطيف في تعبير الآية أنّه يحثّ المؤمنين على إصلاح ذات البين باعتبار أنّ كليهما أخ لكم، ومن الطبيعي أنّ الإنسان حريص على الإصلاح بين أخويه، لأنّ كلّ ضرر يمسّهما يعدّ ضرراً له.

«وَاتَّقُوا اللهَ لعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»، لعلّ الأمر بالتقوى في هذا الموضع للتأكيد على أنّ الإصلاح يجب أن يكون مع مراعاة أحكام الله تعالى والمحافظة على حقوق المتنازعين، ولعلّه إشارة إلى أنّ محاولة الإصلاح بينهما بنفسه من شؤون التقوى.

وهنا أيضاً يؤكّد على أنّ الهدف الأسمى يجب أن يكون هو التقرّب إلى الله تعالى ونيل رحمته لا تحقيق أهداف دنيوية فحسب. والتقوى سبب لنزول

ص: 316


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 315 - 316.

الرحمة لولا المانع، فيمكنكم أن تتوقّعوا الرحمة إذا اتقيتم، وقلنا مراراً أنّ «لعلّ» و«عسى» ونحوهما تدلّ على أنّ الأمر متوقّع. ويمكن أن يكون المراد ترتّب رحمة الله تعالى على التقوى في امتثال هذا الأمر خاصّة، فإنّ صيانة المجتمع من التفكّك والتباغض سبب لنزول رحمة الله تعالى عليهم، وهو أمر طبيعي كما لا يخفى.

ص: 317

سوره حجرات (11- 13)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نسَاءٍ عَسَى أَن يَكُن خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَتِبِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ (11) یَأَیُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنَ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَتُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْتَنكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَلَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ»؛ القوم : هم الرجال يعبّر به عنهم، لأنّهم يقومون بالاُمور الهامّة في المجتمع أو لأنّهم قوّامون على العائلة. والسُخر: الاستهزاء والاحتقار. قال القرطبي: «السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه، وقد تكون بالمحاكاة بالفعل أو القول أو الإشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته».(1) والتنكير لإفادة الشمول، أيّ لا يسخر أيّ قوم من أيّ قوم، فهناك تعميم في جهة الساخرين وفي جهة المسخور منهم.

وهنا سؤال يثار غالباً، وهو أنّه لماذا لم يوجه النهي إلى الأفراد ليشمل سخرية الفرد، إذ كثيراً ما لا يسخر القوم من القوم وإنّما يسخر الفرد من الفرد؟ وذكر الزمخشري في الجواب وجهاً حسناً تبعه غيره، وهو أنّ في ذلك إشعاراً بأنّ الفرد غالباً لا يسخر إلا في جمع من الناس وسائر القوم يضحكون معه ولا ينهونه، بل

ص: 318


1- راجع: الجامع لأحكام القرآن 16: 324 - 325؛ روح المعاني 13: 303.

ربما يكرّرون مقاله، فتعود سخرية الفرد عملاً جماعياً، والآية تريد استفظاع ما كانوا عليه من الحال. ولكن يبقى السؤال عن الجمع في المسخور منه، فهذا الوجه لا يفيد جواباً عنه وهو أمر غفل عنه المفسّرون.

والظاهر أنّ هذه الآية كسابقتها تحاول تصحيح الوضع الاجتماعي، فكما أنّ الآية السابقة لم تتعرّض للنزاع الفردي، وإنّما تعرّض لتنازع الفِرَق والطوائف كذلك هذه الآية منعت من سخرية كلّ طائفة من طائفة أخرى واحتقارها، وهذا يختلف قبحاً وتأثيراً عن سخرية الفرد من الفرد أو الجماعة من الفرد، ومنه يتبيّن أنّ موضع الاهتمام في الآية منع الطائفية والتعصّب العرقي والقومي والقبلي، ولعلّ أكثر ما كان شائعاً آنذاك هو التعصّب القومي والقبلي، وهذا أمر خطير يوجب تفكّك المجتمع المجتمع المسلم، وهو في بدء تكوّنه بحاجة ماسّة إلى التعاضد والتكاتف، بل المجتمع بحاجة إلى ذلك دائماً، سواء كان أساس الوحدة فيه الدين أو الوطن، كما يحاول اليوم أن يكون هو الأساس في المجتمعات، ولكن دين الله تعالى يعتبر الإسلام والاعتصام بحبل الله تعالى أساس الوحدة والتماسك، ويقبح جدّاً أن يتفرّق المجتمع الإسلامي لاختلاف الفرق والطوائف والقبائل.

«عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ» جملة مستقلّة وهي جواب عن سؤال مقدّر حول سبب النهي، وهو أنّ كلّ قوم يجب أن لا يفترضوا أنّهم هم القوم المختار عند الله تعالى كما ظنّ اليهود، فليس هناك قوم يختارهم الله تعالى لقوميتهم، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى».(1)

ص: 319


1- مستدرك الوسائل 12: 89، باب كراهة الافتخار.

وظاهر الآية أنّه يمكن أن يكون قوم خيراً من قوم. وكلمة «عسى» على ما قلنا مراراً ليست للترجّي، كما ورد في بعض التفاسير، بل لبيان أنّه أمر متوقّع، فيجب على كلّ قوم وطائفة أن يتوقّعوا كون الطائفة الأخرى خيراً منهم. فيعود السؤال عن وجه الخيرية، إذ لا يكون الفضل إلا بالتقوى وهي صفة فردية، والآية هنا تمنع كلّ قوم من احتقار قوم عسى أن يكون القوم الآخر خيراً منهم، فما هو الموجب لكون قوم خيراً من قوم؟

والجواب أنّ الآية الكريمة لم تقل إنّ القوم الآخر أكرم عند الله تعالى، وإنّما أشارت إلى احتمال أن يكون القوم الآخر من جهة المقوّمات التي تعتبر عند الناس مناطاً للفضيلة كالذكاء والجود ونحو ذلك خيراً منهم، فلا بدّ لكلّ قوم يحتقر قوماً أن يحتمل ذلك، فإنّ الغالب أنّ كلّ قوم لهم ممّيزات حسنة، وربما كانت لهم صفات عامّة سيّئة أيضاً، ولكنّ الأفضلية لا تناط بصفة خاصّة، فربما كانوا بملاحظة مجموع القيم خيراً من القوم الساخر، وليس الأمر كما ورد في التفاسير من أنّ النهي من جهة احتمال الفضل والكرامة عند الله تعالى وأنّ مناط الفضل عنده هو التقوى ولا يعلم به أحد. وذلك لأنّ التفاضل هنا بين الأقوام لا الأفراد.

«وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» يتبيّن بما مرّ معنى هذه الآية، ولكن يبقى هنا سؤال، وهو أنّ الآية لا تشمل سخرية الرجال من النساء وكذا العكس. ولعلّ الوجه أنّ الغالب هو سخرية الرجال من الرجال والنساء من خصوصاً في ذلك المجتمع حيث كانت مجالس النساء ومجامعهنّ خاصّة بهنّ كما ينبغي، بل يجب أن يكون كذلك دائماً.

ص: 320

وفيه وجه آخر، وهو أنّ منع الرجال يكفي عن منع نع الرجال يكفي عن منع النساء، كما أنّ أكثر الأحكام يذكر فيها الرجل ولا يعني ذلك الاختصاص، وإنّما ذكر حكم النساء هنا مستقلاً، لأنّ نوعية السخرية بين النساء تختلف عن نوعيتها في الرجال، فكلّ من الجنسين يحتقر الأفراد والأقوام بمناط خاصّ هو موضع الاهتمام عندهم، فالرجال مثلاً يعيبون غيرهم من الرجال غالباً بالجبن والبخل وضعف التعبير ونحو ذلك، والنساء يعبن غيرهنّ من النساء غالباً بالنقص في ما يتميّز في نظرهنّ من الجمال والتجمّل والتبعّل وحضانة الأولاد ونحو ذلك.

«وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ»؛ اللمز والهمز والغمز في الأصل بمعنى الدفع والضغط الخفيف، واستعير للطعن والانتقاص، كما أنّ الطعن أيضاً كذلك، وقيل: إنّ اللمز في المواجهة والهمز في الغياب، وقيل غير ذلك. والغرض من الآية النهي عن الانتقاص من سائر المؤمنين، وإنّما عبّر بالانتقاص من النفس بلحاظ أنّ المؤمنين مجموعة واحدة متّحدة كأنّهم شخص واحد، فتعيير أحدهم تعيير للكلّ، فإذا صدر هذا التعيير من أحدهم فكأنّه عيّر نفسه وعابها. وهذا الإسناد حقيقي وليس مجازياً، فإنّ العيب في كلّ مؤمن يعتبر عيباً للجميع في تلك الظروف الخاصّة، حيث كان المجتمع العربي يبحث بدقّة ويضع كلّ حركة من الجماعة المؤمنة تحت المجهر، كما هو الحال في نظائرهم، فإنّا نجد في مجتمعنا مثلاً أنّه إذا صدر ما لا ينبغي من رجل دين معمّم فإنّه يصيب الجميع، وليس كذلك سائر الطوائف، والسبب هو ما أشرنا إليه من أنّ الأعداء يضعون كلّ صغيرة منهم تحت المجهر ويكبّرونه أضعافاً ويعمّمونه على الجميع.

«وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ»؛ النبز: التلقيب، أي وضع اللقب للآخرين ولكنّه يستعمل

ص: 321

في ألقاب السوء ويتداول في كثير من المجتمعات المتخلفة وضع الألقاب السيّئة للناس احتقاراً لهم وإيذاءاً، وهكذا كان المجتمع العربي آنذاك والإسلام منعهم ذلك، فالآية بل السورة بكاملها من أهمّ الآيات والسور في مجال تربية المجتمع الإسلامي وتكوين اُسسه.

«بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان»؛ الاسم، هو العلامة ويطلق على اللقب والكنية أيضاً، وحيث كانوا يطلقون على من سبق منه معصية لقباً يدلّ على ذلك، منعهم من التلقيب بما يدلّ على الفسوق، فإنّ السمة الواضحة للإنسان المؤمن هو إيمانه حتّى لو صدر منه ما لا ينبغي، فلا يجوز أن يسمّى بما ينافي الإيمان. وقيل: إنّ المراد بالاسم الذكر، كما يقال: خلد اسمه أو رفع اسمه، أي ذكره، فالمعنى بئس الذكر أن يذكر المؤمن بفسقه.

«وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»؛ تبشير وإنذار معاً، فالجملة تدعو إلى التوبة و تبشر بأنّ ما مرّ منكم من الأخطاء والذنوب تغفر لكم بالتوبة، وإنذار لمن لم يترك السنن الجاهلية ولم يتب إلى الله تعالى، فإنّه سيكون من الظالمين، بل التعبير يدلّ على الحصر. فالظالم هو الذي لا يتوب ويصرّ على العادة السّيئة ليس غيره، فإنّ التائب لا يكون ظالماً بعد ذلك وإن كان ما صدر منه ظلماً بحقّ أخيه.

«يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»، الآية الكريمة تمنع بعض ما يهدّد كيان المجتمع ووحدته وتماسكه، وهي اُمور مهمّة جدّاً في ترسيخ النظام الاجتماعي وتأمين الحياة السعيدة للإنسان وحفظ حقوقه الشخصية وكرامته. فأوّل تلك الأمور التي يوصي بها الله سبحانه من آمن به وبرسوله وبدينه تجنّب الظن السيّء بالآخرين. وجعل المخاطب في ذلك: «الَّذِينَ آمَنُوا» إيذاناً بأنّ

ص: 322

الالتزام بذلك مقتضى الإيمان بالله ورسوله.

والاجتناب بمعنى الابتعاد مأخوذ من الجانب، أي كن على جانب من ذلك فلا تقربّه. وقد اختلف اللغويون في تحقيق معنى الظنّ وهو - على ما يبدو من موارد استعماله - الاعتقاد الذي لا يستند إلى دليل، سواء كان قطعياً أو فيه نوع تردّد، فالمراد هنا تجنّب الاعتماد في تقييم الأشخاص على التهمة والاعتقاد الذي لا يستند إلى دليل قاطع أو حجّة شرعية.

وليس المراد بالطبع الاجتناب عن نفس الظنّ فإنّه أمر غير اختياري، فالإنسان إذا واجه اُموراً تدلّ ولو بوجه ظنّي ضعيف على حالة أو عمل، فإنّه يحصل له الظنّ بذلك والناس مختلفون في التأثّر بهذه العوامل، فهناك من يحصل له اليقين بأدنى أمارة وعلامة، وهناك من يحصل له الظنّ، وهناك من يتردّد إلى غير ذلك، وإنّما المنهيّ عنه هو ترتيب الأثر على الظنّة والتهمة ومؤاخذة الناس به فعلاً أو قولاً.

وليس المراد أيضاً حسن الظنّ بالناس والاعتماد على كلّ أحد بمجرّد كلام معسول وعدم اتخاذ الحيطة على النفس أو المال أو نحو ذلك، حتى لو ظنّ بأحد شرّاً، فإنّ ذلك من السذاجة ويؤدي إلى أضرار كثيرة. ومن الواضح أنّه ليس من الإساءة بالظنّ أن يحتاط الإنسان إذا ظنّ بأحد شرّاً، إذ المنهيّ عنه هو ترتيب الأثر على سوء الظنّ وليس معناه العمل بحسن الظنّ، بل ربما تتغيّر المقاييس بتغيّر الزمان ويكون الأولى بوجه عامّ هو الاحتياط وعدم الاعتماد على الناس، كما عن أمير المؤمنين علیه السّلام: «إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله، ثمّ

ص: 323

أحسن رجل الظن برجل فقد غرر».(1)

ومن هنا يتبّين الوجه في أنّه تعالى لم يأمر باجتناب الظن مطلقاً، بل الكثير منه، فإنّ الغالب من موارد الظنّ بالسوء ما يتلقّفه الناس لينشروه فيما بينهم ويجعلونه حديث المجالس للانتقاص من الآخرين، وقليل من موارده يستلزم الاحتياط في مقام العمل، وهذه الموارد واضحة للجميع والناس بطبيعتهم يحتاطون في موارد لزوم الاحتياط بسبب سوء الظنّ بالشخص، كما نلاحظه في رجال الأمن مثلاً، فإنّهم يبحثون عن المجرمين بأدنى مظنّة للسوء وهو ما ينبغي أن يفعل إذا كان القصد المحافظة على أمن المجتمع.

وقيل في تفسير الآية: إنّ التقييد بالكثير من جهة أنّ ما يقابله هو الظنّ بالخير وهو قليل، وإنّما الغالب الظنّ بالسوء ؛ وقال بعضهم: إنّ ظنّ السوء كثير في نفسه ولا يراد أنّه الأكثر. ولكنّ الصحيح الواضح من السياق أنّ المراد بالظنّ هو ظنّ السوء خاصّة، فالكثرة باعتبار أنّ بعض الظنّ بالسوء يجوز العمل على طبقه في مورده، بل لا يجوز الاجتناب عنه وهو موارد لزوم الاحتياط كما قلنا، لكن ليس معناه أن نتّهم أحداً ونجازيه بمجرّد الظنّ إنّما الواجب هو الاهتمام به وأخذ الحيطة. وبذلك يتبيّن أيضاً المراد بقوله تعالى: «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ».

والأصل في الإثم - على ما قال العسكري في فروق اللغة - التقصير.(2) وقال «الكشّاف»: «هو الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب»،(3) وفي «المفردات»

ص: 324


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 489 / الحكمة: 114.
2- الفروق في اللغة: 227.
3- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 372.

و «مقاييس اللغة»: «أنّ أصله التباطؤ وهو يناسب التقصير»،(1) والمراد هنا التباطؤ عن الخير ومنه سمّي الذنب إثماً.

ومهما كان فالآية تمنع هنا من إساءة الظنّ بالناس، ولم يخصّص الحكم بالمؤمنين أو المتّقين والصالحين، فالظاهر أنّ الهدف هو بناء مجتمع يبتني على أساس حسن الظنّ بالناس، كما نجده اليوم في المجتمعات المتحضّرة وهذا الأمر يوجب رخاءاً اجتماعياً وهناءاً في العيش وراحة للضمير وتأدّباً عامّاً، ويحثّ عامّة الناس على عدم الإضرار بالآخرين، ومتابعة النظام والقانون والابتعاد عن الشرّ والفوضى. والناس بصورة عامّة تواقّون للخير والاستثناء شاذّ، فلا بدّ من حسن الظنّ بهم حتّى لا يظنّوا بأنفسهم الشرّ، ولا يهون الشرّ في أعينهم فتميل إليه نفوسهم، ولكن ليس معنى ذلك عدم أخذ الحيطة، بل القرآن يؤكّد على أن يكتب كلّ دين ولا يكتفى بحسن الظنّ، قال تعالى: «وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أو كَبِيراً إلى أجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأدْنَى الا تَرْتَابُوا»،(2) بل رغّب في أخذ الرهان إن لم يمكن الكتابة.

«وَلا تَجَسَّسُوا» وهذا هو الأمر الثاني ممّا أوصى به الله تعالى لتنظيم المجتمع الصالح. والتجسّس من الجسّ، وهو كما قال ابن فارس في «معجم المقاييس»: «تعرّف الشيء بمسّ لطيف، يقال جسست العِرق وغيره جسّاً، والجاسوس فاعول من هذا، لأنّه يتخبّر ما يريده بخفاء ولطف».(3) والنهي عنه بعد المنع من إساءة

ص: 325


1- راجع مفردات ألفاظ القرآن: 63؛ معجم مقاييس اللغة 1: 60.
2- البقرة (2): 282.
3- معجم مقاييس اللغة 1: 464.

الظنّ يدلّ على أنّه إذا أسأت الظنّ، فلا تتحقّق ولا تبحث عن ما يستره المظنون، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: «ثلاث لازمات لاُمّتي الطيرة والحسد وسوء الظنّ» فقال رجل ما يذهبهنّ يا رسول الله ممّن هنّ فيه ؟ قال : «إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقّق وإذا تطيّرت فامض».(1)

والمراد بالتجسّس الممنوع البحث عن الشؤون الشخصية للناس، كما إذا رأيت أحداً يحمل قارورة يشبه قوارير الخمر فإنّه لا يجوز لك أن تتحقّق وتسأل، بل يجب أن يحمل على الصحّة ما دام له محمل، كما ورد عن أمير المؤمنين علیه السّلام: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير محملاً»،(2) وغير ذلك من الأحاديث وهي كثيرة جدّاً وموردها جميعاً الاُمور الشخصية. ومنها ما روي عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم: «لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإنّ من تتّبع عثرات أخيه تتّبع الله عثراته، ومن تتّبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته»(3)، وربما يستفاد من الآية عدم اختصاصه بالمؤمنين لإطلاق النهي. نعم ربما تضطرّ الحكومات إلى التجسّس لمعرفة الأعداء إذا أرادوا إيقاع الشرّ أو إثارة الحرب، وكان للنبي صلّی الله علیه و آله و سلّم عيون، أي جواسيس يخبرونه عمّا يدور حوله من حوادث، فقد كان محاطاً بكثير من الأعداء، بل ربما يتوقّف الأمر على التجسّس على بعض الناس في بيوتهم أو التنصت إلى مكالماتهم ولا يجوز ذلك في الظروف المعتادة، وإنّما يجوز في الحالات الطارئة وبالنسبة لمن يظنّ به أنّه

ص: 326


1- بحار الأنوار 55: 320.
2- الكافي 2: 362، باب التهمة وسوء الظنّ.
3- الكافي 2: 354 ، باب من طلب عثرات المؤمنين.

يقصد إيقاع الشرّ بالمجتمع، خصوصاً في زماننا هذا حيث يمكن لأيّ واحد من الناس أن يفجّر مجتمعاً سكنياً أو تجارياً برمّته ويهلك عدداً هائلاً من الأبرياء، فلا يجوز في مثل ذلك التمسّك بالمنع عن التجسّس أو لزوم رعاية الحرّيات الشخصية أو الكرامة الإنسانية.

«وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» وهذا هو الأمر الثالث من هذه الوصايا. والاغتياب والغيبة - بالكسر - مأخوذ من الغيبة - بالفتح - وهي الغياب عن البصر، والمراد به الوقيعة في الناس في غيابهم، وقد اختلف في تعريف الغيبة التي حرّمها الله تعالى، فقيل : هو ذكرك أخاك بما يكرهه. وعرّفه كثير من الفقهاء بأنّه ذكر المؤمن بعيب في غيبته، سواء أكان بقصد الانتقاص أم لم يكن ، وسواء أكان العيب في بدنه أم في نسبه أم في خلقه أم في فعله أم في قوله أم في دينه أم في دنياه أم في غير ذلك ممّا يكون عيباً مستوراً عن الناس.

ويظهر من الآية الكريمة أنّ حرمته خاصّة بالمؤمنين، حيث قال: «لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» ولذلك قلنا بأنّ النهي في الموردين السابقين لا يختصّ بالمؤمنين، فالقرينة على ذلك هو تخصيص هذا الحكم بالمؤمنين.

وقد شنّع الله تعالى ذلك أشدّ تشنيع، حيث شبّهه بأكل لحم الأخ ميتاً، ومن بدائع القرآن أنّه لا يكتفي في مثل هذه الموارد بالنهي والمنع، بل يحاول تنفير النفوس من الأمر؛ ومن الواضح والضروري أنّ النفس تشمئزّ غاية الاشمئزاز من رؤية هذا المشهد، فضلاً عن القيام به: أخ يأكل لحم أخيه بعد موته!! وإنّما شبّهه تعالى بذلك، لأنّ المؤمنين إخوة - كما سبق ذكره في هذه السورة - وغيابه يشبه

ص: 327

موته، لأنّه لا يستطيع الدفاع عن نفسه كالميت، والوقيعة في عرض الأخ يشبه أكل لحمه إن لم يكن أشدّ منه، ولذلك ورد في بعض الروايات أنّ حرمة عرض المؤمن كحرمة دمه وماله، كالحديث النبوي المشهور: «المؤمن حرام كلّه عرضه

وماله ودمه».(1)

وفي الآيات تأكيد من جهات اُخرى أيضاً، كذكره ضمن استفهام إنكاري، والتعبير بقوله: «أيُحِبُّ أحَدُكُمْ» النافي لأن يكون أيّ أحد منهم محبّاً لذلك، وقوله تعالى: «فَكَرِهْتُمُوهُ» وهو بتقدير جملة، أي عرض عليكم هذا فكرهتموه. فكراهة هذا الأمر وجداني طبيعي، فلتكن كراهة الغيبة أيضاً كذلك.

والمنع من الغيبة يزيد المجتمع تماسكاً، بل يمنحه نوعاً من الشعور بالمسؤولية تجاه غيره من المؤمنين بصورة واقعية، فإنّ ذلك - يعني أنّ المودّة والمحبّة بين أفراد المجتمع - يجب أن لا تكون من المجاملات التي تتعارف في المجتمعات البشرية، بل الشعور بالاُخوة يجب أن يكون واقعياً ينبع من إيمان كلّ فرد بربّه وبدينه حتّى في غياب أخيه المؤمن، وهذا من خصائص المجتمع الديني، ولذلك اختصّ النهي عنها بالمؤمنين في ما بينهم. وقد تأكّد النهي عن الغيبة في الروايات الكثيرة من الفريقين بحيث أصبح تحريمه والتنديد به من الأمور الواضحة في الدين لا يكاد يخفى على أحد.

واستثنى الفقهاء من حرمة الغيبة بعض الموارد حيث تقتضي الحكمة تجويزها، بل إيجابها ، فمنها: مورد التظلّم لقوله تعالى: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ».(2)

ص: 328


1- المؤمن (للحسين بن سعيد) 199/72.
2- النساء (4): 148.

ومنها: مقام النصيحة للمؤمن في ما إذا استشار بل مطلقاً، وهذا باب و فقد واسع يستشير المؤمن للزواج أو للمشاركة أو الاستيجار أو أيّ نوع من التعامل مع الآخرين وهو لا يعرف صاحبه، فعلى أخيه المؤمن إذا عرف أنّه لا يصلح له أن ينصحه ويمنعه من الوقوع في المشاكل.

ذلك ومن مورد انتخاب أحد لتصدّي رئاسة الجمهورية أو أيّ مقام آخر يتوقّف على الانتخاب، كالمجلس التشريعي فإنّ المصلحة العامة تقتضي أن لا يخفي الإنسان ما يعلمه من المرشّحين، ومن هو الأصلح للناس، ولا يجوز أن يخفي شيئاً من ذلك تذرّعاً بحرمة الغيبة، ولكن لا يجوز أيضاً أن يتذرّع بالمصلحة وينشر بين الناس كلّ ما لا ينبغي أن يقال من الأسرار، وإنّما عليه أوّلاً أن لا يقول إلا ما يعلمه بوجه قطعي؛ وثانياً أن يقتصر على المقدار الذي يكفي لامتناع الناس من التصويت له، وهكذا في سائر موارد الاستشارة أو النصيحة بوجه عامّ.

ومنها: ما لو كانت الغيبة لمصلحة المغتاب مصلحة أهمّ من فضح سرّه وذكر عيوبه، كما لو كان يترتّب على ذلك حفظه من الوقوع في ضرر متوقّع من الظالمين ونحوهم، أو كان يترتّب على ذلك منعه من الاستمرار في المنكر إذا لم يمكن ردعه عنه بوجه آخر.

وذكروا موارد اُخرى، منها: التجاهر بالفسق والظاهر أنّه خارج عن الغيبة، لأنّه ليس عيباً مستوراً، أمّا لو كان الشخص متجاهراً أمام مجموعة من الناس فقط، فلا يجوز فضحه أمام غيرهم، كما أنّه لا يجوز اغتيابه في عيب من عيوبه أو فسق آخر ممّا لا يتجاهر به.

ص: 329

ومنها: غيبة من يخاف على الدين أو المجتمع الإسلامي منه لكونه مبتدعاً أو منحرفاً أو جاهلاً يظهر نفسه بمظهر العلماء ونحو ذلك، وهذا يدخل في باب النصيحة. ويمكن أن يدخل في ذلك أيضاً ما ذكروا من جرح الشهود والقدح في المقالات الباطلة، والردّ على العلماء ونفي الاجتهاد أو الأعلمية أو سائر شروط المرجعية عن مدعيها ونحو ذلك.

وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في أنّ التوبة عن الغيبة هل يكفي مطلقاً، أو في خصوص ما إذا لم يمكن الاعتذار من المغتاب أو لا يكفي مطلقاً، بل لابدّ من الاعتذار أو الاستغفار له؟ بل ربما قيل: إنّه لا يغفر له إن لم يغفر له المغتاب، سواء تمكّن من الاعتذار أم لا، بل روي ذلك في بعض الروايات وعلّل به أنّ الغيبة أشدّ من بعض الكبائر، لأنّه يكفي فيها التوبة والغيبة لا تغفر. حتى يغفر له المغتاب.

ولكن جمعاً من الفقهاء المحقّقين ومنهم سيّدنا الأستاذ حفظه الله(1) يقولون بكفاية التوبة في كلّ الموارد، وأنّ حرمة المؤمن حقّ الله تعالى، ولذلك لا يجوز للمؤمن نفسه أيضاً أن يذلّ نفسه ولا أثر لإعلانه مسبقاً بأنّه راضٍ عن اغتيابه، فالحرمة باقية حتّى مع هذا الإعلان، ولا يجب الاعتذار، بل ربما لا يجوز إذا كان موجباً لإيذائه وكثيراً ما يوجب ذلك تنافراً ومزيداً من التصدّع في المجتمع، فالأولى للإنسان أن يكتفي بالكفّ عن أعراض الناس والاستغفار وليست الغيبة بأشدّ من سائر الكبائر.

وهل يجب الدفاع عن المغتاب والانتصار له؟ ورد ذلك في بعض الروايات

ص: 330


1- سماحة السيّد السيستاني دام ظله.

وأفتى به بعض الفقهاء، وورد أنّه إذا لم يرده ولم ينصره خذله الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأنّ عليه كوزر المغتاب. ولكن ذلك غير ثابت والروايات ضعيفة، خصوصاً أنّ السامع ربما لا يعرف المغتاب وأنّه هل يستحقّ الغيبة أم لا؛ نعم يجب النهي عن المنكر مع اجتماع شرائطه، ومنها العلم بكونه منكراً وأنّه خارج عن موارد الاستثناء وأنّ القائل منتبه لكونه غيبة، إذ لا يعتبر منكراً في غير هذا الحال، وتختلف الموارد في ذلك، فربما يذكر القائل أحد العلماء أو الأولياء الصالحين ممّن لا يحتمل فيهم جواز الغيبة ولا يحتمل الغفلة، بل يقطع بكون القائل يقصد بذلك الطعن في الدين وفي رجاله، وهنا يجب قطعاً التصدّي له والدفاع عن الدين ورجاله.

«وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحيمٌ»، تأكيد على لزوم اجتناب الغيبة وأنّه ينافي التقوى، وتحذير من غضبه تعالى. وربما يستغرب التعليل، حيث يتوهّم أنّ المناسب في تعليل التقوى هو التأكيد على كونه منتقماً وذا عقاب شديد لا كونه توّاباً رحيماً، ولكنّ الظاهر أنّ التعليل بلحاظ أنّ الغيبة كثيراً ما يتداولها الناس، بل يستسيغونها، وحيث شدّد النكير عليه فربما يتصور الإنسان أنّه غير قابل للمغفرة بالتوبة كما مرّ ذكره فعلّل تعالى الأمر بالتقوى و اجتناب الغيبة في المستقبل بأنّه تعالى توّاب رحيم، فلا تستبعدوا أن يقبل توبتكم إذا رجعتم إليه وتركتم الذنب.

وهذه الجملة تدلّ على كفاية التوبة إلى الله تعالى، ولا يتوقّف قبولها على الاسترضاء والاعتذار.

والتواب مبالغة في التوبة، أي الرجوع. والتوبة من العبد هي الرجوع إلى الله تعالى باجتناب نواهيه والائتمار بأوامره واستغفار ما مضى منه. والتوبة من الله

ص: 331

تعالى توبتان توبة قبل توبة العبد حيث يوفّقه للتوبة، كما قال تعالى: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»؛(1) وتوبة بعدها وهو قبول توبته وإدخاله في رحمته.

روى الآلوسى الآلوسي «في روح المعاني»: أنّ سلمان الفارسي - رضي الله تعالى عنه - کان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنّه نام يوماً فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئاً غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخباء مضروب، فلمّا جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم- يطلب لهما إداماً فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك، قال: «ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا»، فرجع - رضي الله تعالى عنه - فأخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم- فقالا: والذي بعثك بالحقّ ما أصبنا طعاماً منذ نزلنا قال: «إنّكما قد ائتدمتها بسلمان»، فنزلت.(2)

وروى أيضاً عن أنس قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاماً، فقالا: إنّ هذا لنؤوم فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله - صلّى الله عليه و آله وسلّم- فقل له: إنّ أبا بكر وعمر يقرءانك السلام ويستأدمانك، فقال: «إنّها ائتدما»، فجاءا فقالا: يا رسول الله بأيِّ شيء ائتدمنا؟ قال: «بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إنّي لأرى لحمه بين ثناياكما»، فقالا: استغفر لنا يا رسول الله، قال: «مراه فليستغفر لكما».(3)

ص: 332


1- التوبة (9): 118.
2- روح المعاني 13: 310.
3- روح المعاني 13: 310.

والظاهر أنّ مورد الروايتين قصّة واحدة، والرواية الاُولى تدلّ على أنّ الآية نزلت في هذا الشأن، ويظهر من الثانية أن الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لم يستغفر لهما، وإنّما أمرهما أن يطلبا من سلمان أن يغفر لهما ممّا يدلّ على أنّ الله تعالى لا يغفر للمغتاب إلى أن يغفر له من اغتابه، وقد مرّ الكلام فيه.

ويظهر من القصّتين أنّ بعض المحدّثين أو المؤلّفين كانوا يحذفون بعض الأسامي ويستبدلونها بتعابير عامّة كالرجل أو الرجلين لأهداف سياسية أو غيرها، و من ذلك حديث الدواة والكتف.

«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»؛ كان الخطاب في الآيات السابقة موجّهاً إلى الذين آمنوا ولكنّ الخطاب في هذه الآية ورد بعنوان الناس، فربما يقال: إنّ الخطاب فيه موجّه واقعاً إلى البشر جميعاً، نظراً إلى أنّ نبذ التمييز العنصري والتعصّب القبلي أمر حضاري لا بدّ من ترسيخه في البشرية لتنظيم الحياة الاجتماعية على الأرض، ولكنّه بعيد عن سياق الآية وعن أهداف القرآن الكريم؛ لأنّ الآية لا تنفي التفاضل بين البشر، كما هو الهدف من نبذ التمييز، بل تحدّد للتمييز مقياساً لا يعرفه المجتمع البشري وهو التقوى، فليست الآية في مقام نفي التمييز ، بل لتحديد مقياس التفاضل عند الله تعالى.

ومن جهة اُخرى فإنّ الدين الإلهي لا ينظر إلى الحياة الدنيا وشؤونها إلا كمقدمة لنيل السعادة في الآخرة، قال تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ»،(1) فلا يهمّ الدين ما يخصّ الشأن الدنيوي والحضارة البشرية.

والخطابات في القرآن بعضها يخصّ المؤمنين لبيان أحكام الشريعة أو غيرها،

ص: 333


1- الأنفال (8): 67.

فإنّ الدين يهمّه شأنهم حتّى لو كان لتنظيم الحياة الاجتماعية، ولكن من جهة الحكم الشرعي فقط كأحكام النكاح والطلاق والإرث والبيع والإجارة وغيرها، ولا يتعرّض الدين للشأن الاقتصادي ولا لغيره من شؤون الحياة، بل يبيّن الحكم الشرعي فحسب، وهو يمنع بعض ما نراه مفيداً لنا اقتصادياً، لا أنّه يقترح علينا طرقاً مفيدة.

وبعض خطابات القرآن موجهة لعامّة البشر ، ولكن بهدف هدايتهم وسوقهم إلى الإيمان بالله تعالى لا تنظيم حياة الناس الاجتماعية، ويختلط الأمر كثيراً على الباحثين فيحسبون أنّ الدين يشمل علم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وليس

كذلك، وإلا لكان يغني المؤمنين في الطبّ والتكنولوجيا وغيرهما أيضاً.

وعليه فلا يبعد أن يكون المخاطب في هذه الآية أيضاً هم الذين آمنوا إلا أنّه خاطبهم باعتبار أنّهم بشر، ولعلّ السرّ في انتخاب هذا التعبير في الخطاب حثّ المؤمنين على عدم التفاخر والتفاضل على غيرهم من البشر بالعنصر والقبيلة ونحوهما، كما لا يجوز أن يفتخروا في ما بينهم بها، وليعلموا أنّ التميز إنّما هو بالتقوى.

وفيه وجه آخر وهو أنّ هذا الأمر، أي كون اختلاف الشعوب بهدف التعارف فحسب لا يختصّ بالمؤمنين، فخوطبوا بما أنّهم مؤمنون. ويحتمل أن يكون الخطاب للبشر جميعاً ويكون تنبيهاً لهم على سخافة ما يعتبرونه في أعرافهم مناطاً للأفضلية، وأنّ الفضيلة ليست إلا بالتقوى.

ويذكر المفسّرون أنّ المراد بالذكر والاُنثى آدم وحواء، فالمعنى أنّ البشر كلّهم ينتمون في النهاية إلى أصل واحد، فالأجدر بهم أن لا يفتخر بعضهم على

ص: 334

بعض بأصله ومَحْتِده ، ولكن هذا المعنى بعيد في نفسه وبعيد ترتيبه على ما ذكر؛ أمّا في نفسه، فلأنّه لاشكّ في تأثير العوامل الوراثية في سعادة الإنسان وفي أمّا في اختياره لمنهج الحياة وفي اعتناقه للدين والمذهب وفي كثير ممّا يبرّر الافتخار والتباهي، فلا شكّ في أنّ الانتماء إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم شرف للإنسان، ونجد في الآثار مباهاة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بجدّه عبد المطلب، وكذلك مباهاة الأئمة علیهم السّلام بجدهم الكريم، بل بسائر من ينتمي إلى هذه الشجرة الطيبة كحمزة وجعفر علیهما السّلام، بل حتّى بمن يأتي بعدهم كالإمام المهدي علیه السّلام.

وأمّا عدم ترتّبه على ما ذكر، فمن الواضح أنّ مجرّد كوننا جميعاً من نسل آدم وحواء لا ينافي التباهي والتفاخر بالآباء الأقربين، بل حتّى لو كانوا مشاركين في الجدّ القريب، ونحن نجد الفرق الواضح بين بني هاشم الأطيبين وبني اُمية

الذين هم أولاد عبد شمس، وهما أخوان، فالفريقان يشتركان في عبد مناف.

وقيل: إنّ المراد بهما الرجل والمرأة، والمعنى أنّ كلّ واحد منكم مخلوق من أب وأمّ، فلا فخر لأحد على أحد إلا بمميّزاته الذاتية؛ ولكنّه غير صحيح، إذ أنّه كالقول بأنّ الإنسان خلق من نطفة، فالأصل في الجميع واحد وإن اختلفت النطف، وإنّما يمتاز الإنسان بصفاته الخاصّة به لا بأصله ومحتده، ولا بأيّ جهة من الجهات الأخرى التي ربما يتفاخر بها، ومن الواضح أنّ مجرّد وجود وجه مشترك بين الجميع لا ينفي التفاضل، كما أنّ هناك وجوهاً مشتركة بين الإنسان والحيوان ولا تنافي هذه الوجوه فضل البشر وكرامته.

ويحتمل أن تكون «مِن» بيانية وإن لم يذكر في التفاسير، فالمعنى: «أنّا خلقناكم رجالاً ونساءاً وجعلناكم شعوباً»، ولعلّ القصد من التعميم إلى الذكر

ص: 335

والأنثى لدفع توهّم أنّ الذكورة ممّا يوجب الفخر والتباهي، فكما أنّ الاختلاف في الشعوب والقبائل للتعارف ولا يبرّر التفاخر كذلك الاختلاف في الذكورة والاُنوثة، فالتقوى هو مناط التفضيل عند الله حتّى بين الرجل والمرأة، ولا فضيلة للرجل على المرأة إلا بالتقوى وهذا الأمر ممّا أكّد عليه القرآن الكريم في مواضع عديدة، كقوله تعالى: «فَاسْتَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ أني لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض»،(1) وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً»(2) ونحوهما.

وهكذا ينبّه القرآن على أمر غريب في ذلك المجتمع، بل في كثير من المجتمعات المتخلّفة المعاصرة حتّى الذين يدّعون الإسلام، حيث نجد أكبر الظلم على المرأة. وأمّا رسالة السماء منذ البدو فلم تفرّق بين الرجل والمرأة في كسب المنزلة والثواب لدى الله تعالى.

وحاصل معنى الآية أن هذه الاختلافات إنّما هي ممّيزات شخصية لتعيين الأشخاص ورسم هوياتهم، حتّى يكون لكلّ أحد عنوانه الخاصّ به، وهو أمر هامّ يتقوّم به كثير من الشؤون الاجتماعية، وهذا معنى قوله تعالى: «لِتَعَارَفُوا»، أي ليعرف بعضكم بعضاً، ولا يوجب ذلك كرامة عند الله، إنّما الكرامة عنده بالتقوى وكلّ من كان أتقى فهو أكرم عند الله تعالى، ولا ينافي ذلك وجود تفاضل في المجتمع بأسباب اُخرى، كالعلم والفنّ والشجاعة وسائر الامتيازات التي تستلزمها الحاجات الاجتماعية، كما لا ينافي شرفاً وافتخاراً بالانتساب إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم،

ص: 336


1- آل عمران (3): 195.
2- النساء (4): 124؛ وراجع أيضاً: النحل (16): 97 و غافر (40): 40.

نعم لا شرف لمن ينتمي إلى هذا النسب الشريف إن لم يكن مؤمناً؛ لأنّه خالف سنّة جده وسيرته.

والحاصل أنّ الآية لا تمنع التفاضل والتفاخر، ولا تنفي شرف الانتساب بوجه عامّ وإنّما تحدّد الكرامة عند الله تعالى وإنّ المناط فيها هو التقوى، فمن لم يكن متّقياً لا كرامة له عند الله تعالى حتّى لو كان ابن نبي، وكلّ ما زادت التقوى زادت الكرامة ولا ينافي ذلك شرف الانتساب ولزوم الاحترام لذلك في الدنيا إذا كان مؤمناً متّقياً، بل إنّ ذلك ينفع المؤمن يوم القيامة أيضاً، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ»،(1) وقوله تعالى: «رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ»،(2) وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانِ الْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا الَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ».(3)

وقد بيّنا في التفسير أنّ هذه الآيات تدلّ على أنّ الله تعالى يدخل الجنّة من الآباء والأزواج والذريّة من يكون صالحاً بشفاعة المؤمن المقرّب، وذلك لأنّه لو كان المراد بهم من يستحقّ الجنّة بنفسه استحقاقاً كاملاً لم يكن وجه للإلحاق؛ لأنّه داخل في القسم الأوّل فلا معنى للالحاق ولا لتوهّم التنقيص من العمل، كما في سورة الطور، فقوله تعالى: «وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْء» يراد به دفع توهّم أنّ الإلحاق إنّما يكون بالتنقيص من عمل الأوّلين وتسجيله في صحيفة عمل الملحقين. والتقييد بالصلوح يدلّ على أنّ الشفاعة لا تشمل الكافر والمنافق وربما

ص: 337


1- الرعد (13): 23.
2- غافر (40): 8.
3- الطور (52): 21.

بعض المؤمنين أيضاً، ولعلّ المراد به صلاحية الدخول في الجنّة وإن بعض الموانع لبعض أعماله السيّئة.

واختلف كلام اللغويين والمفسّرين في أنّ الشعب - بفتح الشين - حي من القبيلة أو أنّه يجمع القبائل ولا طائل تحت هذا الاختلاف، إذ يصدق الشعب لغة على كلّ مجموعة من الناس، والغرض أنّ الانتماءات القبلية - سواء القريبة ام البعيدة - إنّما تفيد في التعارف وليس مناطاً بذاتها للتقرّب إلى الله تعالى.

والسبب في إثارة هذا الأمر هو أنّ كثيراً من العرب كانوا يعتبرون هذه العناوين والانتماءات مناطاً للشرف واقعاً، بل حتّى في مناطات الأحكام الدينية وكانوا ينتقصون الموالي ومن ليس لهم أصل في العرب، والرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كان يحارب هذه الظاهرة بشدّة ويأمر الأشراف بأن يزوّجوا بناتهم من الموالي، وقد تكرّر ذلك في عدّة موارد حتّى أنّه أمر أن يزوّج زيد بن الحارثة زينب بنت جحش وهي بنت عمّته صلّی الله علیه و آله و سلّم، ومن الغريب أنّ هذه الظاهرة بقيت في القوم مع كلّ هذه المحاولات حتّى أنّ بعض الخلفاء فرّقوا بين العرب وغيرهم في العطاء من بيت المال، بل فرّقوا بين الأشراف وغيرهم، بل بين أقاربهم وغيرهم إلى أن جاء أمير المؤمنين علیه السّلام فمنع كلّ ذلك.

وأغرب من ذلك أنّ بعضهم فسّر هذه الآية أيضاً بما ينافي الهدف الواضح منها؛ روى السيوطي في «الدر المنثور» عن عمر بن الخطاب أنّه قال: «هذه الآية خاصّة بالعرب والموالي أي قبيلة لهم وأي شعاب؟!»(1) فمغزى هذا الكلام أنّ الآية إنّما تمنع وجود تفاضل واقعي عند الله بين العرب لا بين العرب وغيرهم

ص: 338


1- الدرّ المنثور 6: 98.

بقرينة أنّه تعالى اعتبر الشعوب والقبائل للتعارف، والشعوب والقبائل خاصّة بالعرب، والموالي لا ينتمون إلى شعب وقبيلة!! وهذا من غرائب الكلام، فإنّ كلّ البشر لهم شعوب وقبائل، ولكنّهم حيث كانوا لا يجدون الأعجمي المؤمن في المدينة منتمياً إلى قبيلة من العرب كانوا يتصوّرون أنّه ليس له قبيلة في بلده أيضاً!!!

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله اتقاكُمْ». الكرامة هي مناط التقييم، فيطلق الكريم على كلّ شيء شريف قيّم، ويقال للأحجار النفيسة الأحجار الكريمة، ويقال للعينين الكريمتان ولابنة الرجل كريمته، كما في الأحاديث، فالأكرم عند الله تعالى أي الأشرف والأنفس. والتقوى مصدر من الوقاية وهي التحفّظ. وتقوى الله تعالى أي التحفّظ ممّا يسخطه ويكرهه، فكلّما كان الإنسان أبعد من معاصي الله تعالى كان أتقى وأحفظ لنفسه من التعرّض لغضبه وعذابه.

«إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». الظاهر أنّ الجملة في مقام التعليل لكون الكرامة والشرف عند الله تعالى بالتقوى، ولعلّ التوصيف بالعلم لأنّ معرفة المناط الحقيقي للكرامة تتوقّف على العلم بحقائق الأمور، والله تعالى لعلمه بها هو الذي يحدد مناط الكرامة لا البشر الجاهل بها.

والخبير من الخبرة وهي معرفة دقائق الأمور التي لا يعرفها عامّة الناس. ولعلّ توصیفه تعالى بالخبرة من جهة اعتبار مناط الكرامة درجة التقوى لمكان أفعل التفضيل في قوله تعالى: «أَتْقَاكُمْ» ومعرفة ذلك صعبة للغاية، بل مستحيلة لعامّة الناس؛ لأنّ تمييز من هو أتقى من غيره يتوقّف على معرفة ضمائر البشر ودخائل نفوسهم وهي أمر غير متاح للبشر بوجه عامّ وإنّما يعرفها علام الغيوب جلّ وعلا.

ص: 339

سوره حجرات (14- 18)

قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَا يَلِيكُم مِّنْ أَعْمَلِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ هُمُ الصَّدِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَى إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَنَكُمْ لِلْإِيمَنِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

«قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا». الآيات تشير إلى حالة كثير من الناس قديماً وحديثاً، ومورد الآية جمع من الأعراب أسلموا ومنّوا على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بذلك ، كما يمنّ به حتّى الآن كثير من الناس على الله ورسوله ومن يلقونه من رجال الدين. وبالطبع فإنّه ليس موقف الأعراب كلّهم لقوله تعالى: «وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ الله وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ». (1) وقد مرّ الكلام حول معنى الأعراب في تفسير سورة الفتح، وقلنا: إنّه جمع لا مفرد له وليس جمع العرب، لأنّه اسم جنس، وإنّما ينسب إليه المفرد، فيقال: «أعرابي» ويطلق على أهل البداوة من العرب الذين لم يتحضروا ويسكنوا المدن، وقيل: إنّه يطلق على غير العرب أيضاً إذا كانوا أهل بداوة.

وقيل: إنّ قوماً من بني أسد أسلموا، ثمّ قالوا للرسول صلّى الله عليه و آله وسلّم آمنّا بك ولم نقاتلك

ص: 340


1- التوبة (9): 99.

كما قاتلك بنو فلان، فنزلت الآية. وقيل غير ذلك. ولا يهمّنا شأن النزول، فللآية شأن مستمرّ كسائر آيات الكتاب العزيز. والذي تركّز عليه هذه الآية هو الفرق بين الإسلام والإيمان. والمطلوب من الناس هو الإيمان بالله تعالى ورسوله، وأمّا الإسلام باللسان والتسليم لسلطة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والانخراط في صفوف المسلمين بالشهادتين فلا يوجب إلا حكماً ظاهرياً بحقن الدماء وصحّة المناكح والمواريث، وليس هو الهدف الأسمى من إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع. وليس معنى ذلك أنّه يحقّ للإنسان أن يمنّ على الله ورسوله بإيمانه، بل الله يمنّ عليه بالهداية، كما سيأتي.

ثمّ، إن الإسلام ربما يطلق ويراد به معنى أخصّ من الإيمان بالقلب وهو التسليم لأمر الله تعالى، وهو لا يحصل إلا للمخلصين في إيمانهم والعارفين الله تعالى، ومثل هؤلاء لا يمنّون على النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم بإسلامهم، ولكنّ المراد به هنا - كما ذكرنا - هو إظهار الإيمان والنطق بالشهادتين الذي يجتمع مع النفاق وإبطان الكفر ، وكان هناك ممّن أسلم ظاهراً من لا يقصد بذلك إلا الشؤون المادية، فبعضهم أسلم لِما رأى من قوّة المسلمين وشوكتهم، وبعضهم أسلم لِما سمعه من أحبار اليهود والنصارى وغيرهم من أنّ لهذا الدين شأن، ولعلّ بعض من أسلم في مكّة أيضاً لم يقصد بإسلامه إلا بلوغ المآرب الدنيوية، وبعضهم علم أنّه حقّ ولكنّه مع ذلك لم يؤمن بقلبه؛ وقد ذكرنا في مواضع من هذا التفسير أنّ العلم لا يستلزم الإيمان، وكان كثير من المشركين يعلمون أنّه حقّ ولم يؤمنوا، به كما قال موسی علیه السّلام الفرعون حسبما ورد في قوله تعالى: «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ

ص: 341

هَؤُلاءِ إلا ربّ السَّمَوَاتِ والأرض بَصَائِرَ وَإِني لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثبُوراً»،(1) وهذه الآية تدلّ بوضوح أنّ هناك ممّن أسلم في عهد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ورآه وعاصره من لم يؤمن به قلباً، فلا بدّ من تجديد النظر في تعريف الصحابة إن قلنا بكونهم جميعاً مؤمنين، فضلاً عن القول بعدالة الجميع الذي لا يستند إلى أيّ دليل.

فقوله تعالى: «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا» تكذيب لهم حيث ادعوا الإيمان وهو لا يكون إلا في القلب ويظهر في العمل كما سيأتي، فتكذيبهم إخبار عن الغيب وعمّا يختلج في نفوسهم. ولم يقل: «قل لا تقولوا آمنّا»، لأنّه يتراءى منه النهي عن أمر مطلوب وهو الإيمان، فاكتفى بإخبارهم عمّا في قلوبهم، وهو أبلغ من التكذيب الصريح، ثمّ عرض بهم في آية اُخرى بقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» ممّا يفيد الحصر، أي أمّا أنتم فكاذبون في دعواكم . ولم يقل لهم أيضاً: «ولكن أسلمتم»، وإنّما عبّر ذلك بالأمر بالقول: «قُولُوا أَسْلَمْنَا» لئلا يتوهّم منه الاعتداد بإسلامهم على أساس أنّه مرحلة ممّا هو المطلوب؛ إذ ليس كذلك واقعاً وإنّما ينتفعون بإسلامهم في الحياة الدنيا وظاهر الأمر.

«وَمَا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ» لا يتوهّم أنّ هذا تكرار لنفي الإيمان الذي سبق، فإنّ المعنى يختلف، فالنفي الأوّل أفاد نفي تحقّقه سابقاً ممّا يدلّ على كذبهم، وهذه الجملة تنفيه حتّى هذه اللحظة، ولكن مع إفادة التوقّع في المستقبل، فمعناها أنّه لم يتحقّق حتّى الآن ولكن ينبغي أن يتحقّق، والهدف التربوي منه واضح.

«وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلتُكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شيئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». قال بعض

ص: 342


1- الإسراء (17): 102.

المفسّرين : إنّ المراد بهذا الشرط الإيمان بالقلب والعمل جرياً عليه وترك النفاق، ولكنّ الظاهر أنّ مورد هذه الجملة هو نفس الحالة المذكورة سابقاً، أي إظهار الإسلام مع عدم الإيمان الواقعي، فالغرض بيان أنّ الله تعالى لا ينقص من عملهم شيئاً وإن لم يؤمنوا بقلوبهم، وعليه فالمراد بإطاعة الله العمل بفرائضه انصياعاً لأمره تعالى، وبإطاعة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم الاول العمل بسنّنه الواجبة وبأوامره الحكومية من باب إطاعة ولي الأمر وإن لم يكن مؤمناً بقلبه إيماناً كاملاً، كما سياتي بيانه في الآية التالية، والناس بطبيعة الحال يختلفون في درجات الإيمان، ويؤثّر ذلك في قبول العمل ودرجته، ولكنّ الله تعالى لا يظلم أحداً ويحسب لكلّ إنسان عمله حسب طاقته.

و «يَلتُكُمْ» مأخوذ من لات يليت ليتاً، أي نقصه، أو من ألت يألت بنفس المعنى أيضاً، وكذلك قوله تعالى: «وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»،(1) فهو إمّا فعل ماضٍ من ألت مجرّداً، أو من لات من باب الإفعال. وقوله: «إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» تعليل لما وعده من عدم النقص من أعمالهم بسبب عدم إيمانهم واقعاً.

ولولا غفرانه تعالى ورحمته بالناس لما تقبل من أعمالهم إلا القليل، فإنّه قلّما يكون العمل خالصاً من الشوائب.

«إِنَّمَا المؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ» تعليل لما مرّ من عدم إيمانهم واقعاً بحصر الإيمان في من يجتمع فيه عدّة شروط، وهي لم تكن محقّقة فيهم، فلا يشملهم عنوان المؤمن، كما لا يشمل كثيراً ممّن أسلموا وإن أظهروا الإيمان وخدعوا البسطاء من الناس للوصول إلى مآربهم الخاصّة. و «إِنَّمَا» هنا تفيد الحصر حتّى لو

ص: 343


1- الطور (52): 21.

قلنا: إنّها لا تفيده بحسب الوضع اللغوي، وذلك للقرينة على أن السياق يريد منع كونهم مؤمنين.

وقد ذكر من الشروط أوّلاً الإيمان بالله ورسوله، ثمّ عدم الارتياب، ثمّ الجهاد بالنفس والمال. والتقييد بالإيمان بالرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يخرج كثيراً من الناس، حيث كانت تبدر منهم في مناسبات خاصّة ما يدلّ على عدم إيمانهم به إيماناً كاملاً، فهناك من المسلمين من شكّك في عدله صلّی الله علیه و آله و سلّم، (1) وهناك من رفض الانصياع لبعض الأحكام كالذي امتنع من قبول متعة الحجّ، بل هناك من النساء من قالت له: «ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك» (2) وفي هذا الكلام تعريض به صلّی الله علیه و آله و سلّم وبما نزل عليه خصائصه، بل في التعبير عن الله تعالى بأنّه ربّه ما لا يخفى، وهناك من اتّهمه بالهجر والهذيان ممّا يسقط اعتبار كلامه صلّی الله علیه و آله و سلّم و حجّيته ، وذلك في آخر عهدهم به وغيرهم وغيرهم. والقرآن يؤكّد على أنّ الإيمان بالله تعالى غير كافٍ ما لم يؤمن العبد بالرسالة وينصاع لأوامر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، قال تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً». (3)

«ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيل الله»، «ثُمّ» للتراخي، والوجه في

ص: 344


1- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بلالٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبِضُ مِنْهَا وَيُعْطِي النَّاسِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ قَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، لَقَدْ حَبْتَ وَخَسِرْتَ إِن لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله دَعْنِي أَقْتَلُ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ: «مَعَاذَ الله أن يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أقْتُلُ أصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآن لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهُمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ». «سنن النسائي (7: 286)
2- الدرّ المنثور 5: 211؛ روح المعاني 11: 237 .
3- النساء (4): 65.

الإتيان بها أنّه لا يكفي عدم الترديد حين الإيمان، بل يجب أن يستمرّ ذلك طيلة الحياة. والارتياب بمعنى الشكّ، فالمؤمن واقعاً لا يشكّ في إيمانه ولا تزلّ قدمه في هذا الصراط، لأنّه لم يَبْن إيمانه على شعار أو تأثّر سريع بالمشاهد المثيرة للاندفاع أو طلب لما يهواه أو خوف ممّا يضرّه، بل بناه على تأمّل في الكون وتعمّق في آيات الله تعالى. ولا بدّ لهذا الإيمان من الثبات في كلّ موقف، فالله تعالى يبتلي عباده بالخير والشرّ. والمؤمن الحقيقي لا يرتاب في إيمانه في كلّ تلك المواقف. أمّا الذي أسلم ظاهراً ولم يؤمن واقعاً فإنّ زلات لسانه تفضحه وهي تدلّ بوضوح على تزعزع إيمانه أو عدم إيمانه أساساً.

ولا يكفي الإيمان بالقلب إن لم يصدقه في مرحلة العمل، ولم يذكر من العمل هنا الصلاة والعبادة والذكر والتسبيح، فإنّ المتظاهر أيضاً لا يمتنع منها وضعفاء الإيمان أيضاً لا يمتنعون من العبادة والصلاة، بل والزكاة أيضاً، ولكنّ الابتلاء الأقوى الذي يظهر به مدى إيمان العبد هو الجهاد بالأموال والأنفس، والجهاد بالأموال لا يكتفى فيه بدفع الزكاة الواجبة وإن شق ذلك أيضاً على كثير من المسلمين، فالجهاد هو بذل غاية الطاقة وتحمّل المشاقّ والمصاعب، كما نجده في الجهاد بالنفس في مقابلة العدوّ، والجهاد بهذا المعنى إذا تعلّق بالمال يراد إلا التخلّي عن كلّ ما يملك أو أكثره لو اقتضته الضرورة، كما يحدث في بعض الحروب.

ولا يكفي ذلك أيضاً، بل لا بدّ من الجهاد بالنفس وبذل الروح وركوب الأهوال في سبيل إقامة الدين إذا أمر به الرسول أو الإمام أو اقتضته ضرورة الدفاع عن الإسلام، وهنا تظهر المروءات، ويظهر الصدق والكذب، ويتبيّن

ص: 345

المؤمن الحقيقي عن الذين كانوا ينادون بأعلى أصواتهم بالإيمان ولم تظهر منهم طيلة أيّام الجهاد الصعبة التي استشهد فيها جمع كثير من الصحابة الأخيار ضربة واحدة بالسيف أو طعنة واحدة بالرمح أو رمية واحدة بالنبل أو حتّى بحجر، اللهمّ إلا التبجح بضرب أعناق الأسرى، حيث يعلمون أنّ الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم لا يسمح بذلك، ولو احتملوا إذنه لم يظهروا ذلك أيضاً خوفاً من معاداة أقوام الأسرى من المشركين، فهم ما كانوا يضحّون في سبيل الدين حتّى بمودّة المشركين. وبهذا المقياس للإيمان يُغَربَل المدّعون ولا يبقى من المسلمين إلا القليل في جميع العصور.

«أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» الجملة واضحة في حصر الصادقين في من مرّ ذكره، وهو تعريض بأنّ غيرهم يكذب في دعوى الإيمان ولا يحقّ له ذلك، وإنّما هو مسلم بالمعنى العامّ وبمعنى أنّه أسلم نفسه للمجتمع المسلم ولولي الأمر ليحفظ بذلك دمه وماله وعرضه، ويدخل فيما دخل فيه المسلمون من المصالح العامّة والحماية والأمن، وليشمله توزيع الغنائم والزكوات ونحو ذلك.

وربما يقال: إنّ الحصر هنا إضافي، فمعنى قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ» وكذلك قوله: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» نفي الإيمان عن أولئك الأعراب، ولا يقصد به نفي الإيمان عن كلّ من لم تكن فيه هذه الصفات؛ لأنّ المجاهدة في سبيل الله تعالى قد لا تتهيّأ للمؤمن أو قد يكون معذوراً، فلا يمكن نفي الإيمان بمجرّد ذلك.

وهذا كلام باطل وهو مخالف لصريح الآية الكريمة أو ما هو كالصريح، والحصر حقيقي، ولكنّ المراد بالمجاهدة أن يكون المؤمن مستعدّاً للتضحية في سبيله تعالى إذا اقتضى الأمر، ومن لم يكن مستعدّاً لذلك فهو ليس بمؤمن إلا

ص: 346

باللفظ ولم يؤمن بقلبه. هذا مضافاً إلى أنّ المجاهدة في سبيل الله تعالى لها صور كثيرة ربما تتحقّق بعضها لكثير من الناس حتّى في أيّام السلم، فالذي يتحمّل المشاقّ لتبليغ دين الله تعالى في أيّام السلم ولا يهتمّ بالأخطار المحيطة به مجاهد في سبيله تعالى، وربما لا يكون الخطر يهدّد حياته، ولكنّه يهدّد شؤونه الاجتماعية ويحطّ من كرامته عند الناس، فلا يعتني بها في سبيل امتثال أوامر الله تعالى.

«قُلْ أَتُعَلَّمُونَ اللهَ بدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض»؛ الاستفهام للإنكار، والمراد بالتعليم الإعلام، ولذلك تعدّى بالباء. قيل: إنّ جمعاً منهم بعد نزول الآيات السابقة أتوا النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وحلفوا أنّهم صادقون في إيمانهم وكأنّهم أرادوا بذلك الردّ على ما ورد من الوحي فيهم، فأتاهم الجواب صاعقاً وساخراً منهم ومن دعواهم. فمن المضحك أن يحاول الإنسان أن يُعلم الله بأمر وهو عالم الغيب ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض. والإنسان لا يعلم ما في نفسه وكثيراً ما ينخدع بجهله هذا، وكثيراً ما يتصوّر الإنسان أنّه مخلص في عمله ويتبيّن له يوم القيامة ما فيه من شوائب، ويمكنه معرفة ذلك هنا إذا راجع ضميره.

وقيل: إنّ هذه الرواية لا أساس لها، وإنّ المراد بإعلامهم دينهم هو نفس دعواهم الإيمان؛ ولكنّ الذي يبدو من الآية أنّها ردّ على أمر آخر غير دعواهم السابقة، فإنّهم في تلك الدعوى لم يحاولوا إعلام ربّهم بدينهم، وإنّما ادعوا ذلك فحسب، فسواء صحّ الخبر أم لم يصحّ لا بدّ من تقدير أمر آخر غير الدعوى الأولى ليكون هذا ردّاً عليه، وما ورد من الخبر يناسب مضمون الآية. وتؤيّده

ص: 347

إعادة الأمر بقوله «قُلْ» ممّا يدلّ على أنّه محادثة اُخرى غير ما سبق.

«وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». العليم صفة مشبّهة تدلّ على الثبات والدوام، فالعالم يمكن أن يكون علمه حادثاً ويمكن أن يزول، والله تعالى علمه بكلّ شيء أزلي وأبدي لم يحدث ولن يزول، فلا معنى لمحاولة إعلامه بشيء.

«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمدُّوا عَلَى إِسْلامَكُمْ». المنّ بمعنيين: القطع والإنعام. ويقال لمن يعدّ نعمه على المنعم عليه إيذاءاً له: إنّه من عليه؛ إمّا بمعنى أنّه قطع نعمته بذلك، أو بمعنى أنّه اعتبر ما أسداه إليه نعمة، مع أنّه لا ينبغي أن يعتبره نعمة منه، فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى. والمراد بالمنّ هنا هو هذا المعنى، أي أنّهم اعتبروا إسلامهم نعمة منهم عليك، والإتيان بفعل المضارع يدلّ على استمرارهم على ذلك أو أنّه ثابت في سريرتهم لا يزول، وهكذا كثير من الناس، فإنّهم يمنّون على الله تعالى وعلى رجال الدين بأنّهم مؤمنون مسلمون؛ وكأنّ ذلك نعمة يقدّمونها إلى الله تعالى وإلى الدين ورجاله، والآية تعالج هذه المشكلة النفسية التي تمنع من نفوذ الإيمان في القلوب.

والظاهر أنّ المراد به نفس ما ذكر أوّلاً من قولهم: «آمنّا» ولكنّه بدلّ التعبير عنه بالإسلام، فلم يعتبره إيماناً، لما مرّ من نفي الإيمان عنهم. ثمّ نهاهم عن المنّ عليه بالإسلام لأمرين:

أحدهما: أنّ الإسلام والإيمان ليس ممّا يمنّ به على أحد، بل هو نعمة أنعمها الله عليكم.

والثاني: أنّه صلّی الله علیه و آله و سلّم رسول من الله تعالى ووسيط، فلو كانت لهم نعمة ومنّة لكان ذلك على الله تعالى وهو لا يُمنّ ولا يُنعم عليه، بل هو الذي يمنّ على من سواه

ص: 348

وكلّ شيء منه، فقوله: «لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ» يشير إلى الأمرين.

«بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». في هذه الجملة أيضاً إشارتان، فمن جهة منع أن يكون إسلام الناس أو إيمانهم نعمة منهم على أحد، بل هو نعمة من الله تعالى على الناس؛ ومن جهة اُخرى أبدل الإسلام بالإيمان، لأنّ الإسلام الظاهري ليس هو المقصود بالذات، فهو لا يفيد في الآخرة شيئاً والله تعالى يريد الآخرة، وإنّما الذي يعتبر نعمة من الله تعالى وليس منكم هو هدايته لكم إلى الإيمان إن كنتم صادقين في قولكم الأوّل: «آمَنَّا»، وقد بيّن سابقاً أنّهم كاذبون، فهذه الجملة مبنيّة على مجرّد افتراض الصدق. ولا شك أنّ الإيمان من أجلّ نعم الله تعالى، بل هو أجلهّا على الإطلاق؛ لأنّ النجاة لا تكون إلا به، وهو الهدف الأساس من الخلق.

«إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ والأرْضِ» الغيب هو ما يغيب عن الأبصار، فلا يمكن أن يشاهد، وهو تارة نسبي، وتارة غيب على الإطلاق، فالنسبي ما يكون غيباً لبعض دون بعض، فكلّ من غاب عن الحادث اعتبر ذلك غيباً له لا يمكن له العلم به إلا بواسطة، والغيب المطلق ما لم يوجد بعد، فلا تمكن مشاهدته للجميع. والغيب بالمعنى الأوّل لا معنى له بالنسبة إلى الله تعالى؛ فإنّه محيط بالكون والكلّ حاضر لديه لا يغيب عنه شيء، وهو عالم بالغيب المطلق، أي ما لم يوجد بعد بل بعبارة أدقّ لا يغيب عنه المستقبل أيضاً. وعلى هذا المعنى فالمراد بالغيب ما يكون غيباً لغيره.

«وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». الظاهر أنّه تكميل للاستدلال، فالله عالم بالغيب، فكيف بما هو مبصر وحاضر وهو أعمالكم، ومنها الإسلام والإيمان. وقد قلنا

ص: 349

مراراً، إنّ كونه تعالى بصيراً ليس بمعنى كونه عالماً بالمبصرات، بل بمعنى كونها حاضرة عنده، فهو يبصرها ولا يغيب عنه شيء في السماوات والأرض. والحاصل أنّ الآية استدلال بوجه آخر لسفاهتهم، حيث يحاولون إعلامه تعالى بدينهم.

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 350

تفسیر سورة ق

اشارة

ص: 351

ص: 352

سوره ق (1- 5)

ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكَفِرُونَ هَذَا مى عجيبُ (2) أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَبُ حَفِيظٌ (4) بَل كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (5)

سورة ق مكّية بشهادة آياتها، حيث تتناول التنديد بكفر المشركين وإنكارهم للقيامة، مع الإشارة إلى أدلّتها والتحذير من عواقب الكفر وما لحق بالاُمم السالفة، ثمّ ذكر بعض حقائق تلك المرحلة من الكون ممّا هو غريب عن ذهن الإنسان، والتأكيد على قدرة الله تعالى في خلق الكون وإعادة الحياة للإنسان.

«ق» من الحروف المقطّعة، وقد مضى بعض الكلام حولها في تفسير سورة يس.

«وَالْقُرْآنِ المُجِيدِ» قسم بالكتاب العزيز. والله تعالى يقسم في مواضع كثيرة بكتابه وبكثير ممّا خلق. والقسم إنشاء علاقة اعتبارية بين ما يراد بيانه أو الالتزام به، وبين عزّة ما يقسم به وكرامته كما هو واضح من الأقسام العرفية، حيث

ص: 353

يقسم الإنسان بحياة ابنه أو أبيه ونحو ذلك، وقسم الله تعالى أيضاً لا يشذّ عن هذا الأمر، و وكرامة ما يقسم به الله تعالى من جهة استناده إليه وتعلّقه به، وهو يختار من بين ما يقسم به ما يناسب الأمر المقسم عليه، وهنا يقسم بالقرآن للتأكيد على الرسالة والردّ على اعتراض المشركين وإن لم يصرّح.

والمجد، بلوغ الغاية في الكرم والشرف والعظمة، فالمجيد المطلق هو تعالى، وقيل: إنّ توصيف القرآن به لأنّه كلام المجيد وهو بعيد، بل هو بنفسه أيضاً مجيد؛ لكونه بلغ النهاية في العظمة من بين أنحاء الكلام وفي الكرم، كما وصفه تعالى به حيث قال: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ»،(1) والكرم بمعنى كون الشيء قيّماً، ولذلك توصف به الأحجار الكريمة، والقرآن فوق كلّ كريم، ولا يمكن لأحد أن يحدّد له قيمة. وبلغ النهاية في الشرف، لأنّه كلام الله تعالى.

ومهما كان فهو قسم حذف جوابه، ونظيره ما وقع في أوّل سورة ص، ويمكن أن يقدّر جوابه بأحد الوجوه التالية أو غيرها:

1- أن تكون الجملة المقدّرة: «لا أقول إلا الحقّ» أو ما يفيد معناها، وهذه هي الجملة التي يطلب من الشاهد أن يقولها أمام القاضي، فلا يبعد أن تكون الأقسام التي وردت في القرآن الكريم من دون ذكر المقسم عليه كلّها من هذا القبيل، فحذفت الجملة اعتماداً على وضوحها.

2- أن تكون الجملة: «إنّك لمن المنذِرين» أو ما يفيد معناها، مثل ما ورد في أوّل سورة يس: «وَالْقُرْآنِ الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ»،(2) وذلك بقرينة أنّ الكافرين

ص: 354


1- الواقعة (56): 77.
2- یس (36): 2-3.

أظهروا عجبهم من كون المنذر منهم، بناءاً على أنّ الجملة التالية تدلّ على العجب من جهتين ولكنّه بعيد.

3- أن تكون الجملة ما يدلّ على حشر الناس يوم القيامة بقرينة استغرابهم ذلك، كما هو مفاد الجملة التالية.

«بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» إضراب عن الجملة المقدّرة جواباً للقسم، فإن قدّرنا الجملة الاُولى فمعنى الإضراب أنّهم لا يشكّون في أنّ ما يقوله الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم هو الحقّ، ولكنّهم استغربوا الإنذار، ولكنّه ليس عجيباً كما سياتي.

وإن قدّرنا الجملة الثانية، فمعناه أنّهم لم يكذّبوه في رسالته وإنّما عجبوا من هذا الإنذار.

وإن قدّرنا الجملة الثالثة، فمعناه أنّهم لا يمكنهم إنكار القيامة بدليل إذ لا سبيل إلى هذا الإنكار ، وإنّما هم يستغربون تحقّقها لخطأ منهم، كما سياتي بيانه في الآيات التالية.

والضميران في «عَجِبُوا» و «مِنْهُمْ» يعودان إلى كفّار مكّة وإن لم يذكروا سابقاً إلا أنّ السياق يدلّ عليهم وهم مذكورون في الجملة التالية.

والإنذار: الإعلام بما يُحذر منه، والمراد إنذارهم بالحشر يوم القيامة وهو التعجّب كما صرّح به في الجملة التالية.

وقوله: «مِنْهُمْ» يمكن أن يكون بمعنى من جنسهم، فيكون منشأ آخر للتعجّب، لأنّهم كانوا يستغربون كون الرسول بشراً مثلهم، ويظنّون أنّه يجب أن يكون من جنس الملك، كما يرويه القرآن الكريم من الأقوام السابقة، ولكنّ الأقرب أن يكون المراد من قوله: «مِنْهُمْ»، أي من قومهم، فلا يكون مورداً

ص: 355

للتعجّب، بل يكون التنبيه عليه لمزيد من التنديد بهم، حيث كان المفروض أن يهتمّوا بإنذاره، لأنّه لا يريد بهم إلا الخير، خصوصاً بملاحظة أنّهم عرفوا منه الصدق والأمانة.

«فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ»، الفاء للعطف، أي قالوا ذلك نتيجة لاستغرابهم. وأتى بالاسم الظاهر أي «الْكَافِرُونَ» بدلاً عن الضمير ليدلّ على الضمير، وللتنبيه على أنّ السبب في إنكارهم وإبدائهم للاستغراب هو الكفر ، أي ستر الحقّ، فهم يدركون أنّه الحقّ من ربّهم ولكنّهم يكفرون به تعنّتاً حيث إنّهم عرفوه أميناً صادقاً، ولم يسمعوا منه كلاماً يدلّ على نبوغ في العلم أو الأدب طيلة أربعين سنة، فلا يبقى مجال للشكّ في أنّ ما يأتي به إنّما هو من الله تعالى. وقولهم: «هَذَا» إشارة إلى الإنذار المذكور في قوله: «مُنْذِرٌ».

«أئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعَ بَعِيدٌ». هذا بيان لوجه استغرابهم أو ما يظهرونه وجهاً لذلك تمويهاً على السذّج من الناس. والرجع: الرجوع. والمراد بالبعد الاستبعاد العقلي، والمعنى واضح ومتكرّر منهم وممّن قبلهم وبعدهم ، والرجوع في الواقع غريب على الإنسان الذي لا يؤمن بالله، وأمّا الذي يعتقد بأنّ الله تعالى هو خالق الكون لا ينبغي أن يستبعد ذلك، والوثنيون كانوا يعترفون بذلك، فالذي خلق الكون من البدو ولم يكن شيئاً، وإنّما أبدعه بإرادته لا يستبعد منه أن يعيد خلقه بعد الفناء. وقد حذفت جملة الجواب، أي: «أنذا متنا وكنّا تراباً نرجع»، ولعلّ الوجه في حذفه التنويه على أنّه لغرابته لا يمكن التصريح به.

«قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ» جواب عن الاستغراب

ص: 356

المذكور، وهو أنّ الله تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض، فهو يعلم بما تأخذ الأرض من أجزائهم ويحوّلها تراباً ويعلم أين هي. والكتاب أي المجموعة، وكتب بمعنى جمع، فلا يجب أن يكون مكتوباً بالمعنى المتعارف. والحفيظ مبالغة في الحفظ، فالمراد أنّ كلّ الأجزاء المنتشرة، بل وصورة الإنسان الشخصية معلومة ومحفوظة لديه تعالى، ويمكنه الإتيان بها وإعادة صنعها وبثّ الحياة فيها متى شاء. ولعلّه أتى بفعل الماضي: «قَدْ عَلِمْنَا» ولم يقل: نعلم مع أنّهم لم يتحوّلوا تراباً آنذاك للتنبيه على أنّ علمه تعالى أزلي.

وفي الآيات هنا أربعة وجوه من الاستدلال على إمكان المعاد، هذا أوّلها وهو استدلال بالعلم الإلهي ردّاً على استبعاد المعاد من جهة تشتّت الأجزاء وتفرّقها.

والوجه الثاني: ما يستفاد من قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلى السَّمَاءِ» وما بعده من أنّ خالق الكون قادر على خلق مثله.

والوجه الثالث: يفيده قوله تعالى: «كَذَلِكَ الْخُرُوجُ»، فإنّ إحياء الموتى لا يختلف عن إحياء الأرض بعد موتها وهو متكرّر طيلة القرون.

والوجه الرابع: يفهم من قوله تعالى: «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ»، حيث يفيد أنّ بدء الخلق وإبداعه لم يعجز الله تعالى، فكيف يعجزه إعادته؟!

«بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ»، أي ليس استغرابهم وإنكارهم مستنداً إلى شكّ واقعي أو بحث علمي، بل هم أدركوا أنّ الذي جاءهم هو الحقّ من ربّهم ولكنّهم كذبوا بالحقّ لغرض في نفوسهم وحقد وحسد، وإذا قاوم الإنسان الحقّ الصريح الواضح اختلطت عليه الاُمور، فهو يتخبّط في موقفه لا يستقرّ على فكرة واحدة وطريق واحد، وهذا هو المراد بالمريج؛ فإنّ المرج هو

ص: 357

الخلط. وكان الخلط والتناقض واضحاً في مواقفهم تجاه الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، فتارة يقولون إنّه ساحر أو كاهن، وتارة يرمونه بالجنون، وتارة يتّهمونه بالكذب والافتراء مع اعترافهم بأنّه الصادق الأمين طيلة حياته بينهم، وتارة يقولون إنّ القرآن شعر، وتارة يقولون إنّه كلام عادي ولو شئنا لقلنا مثل هذا، وتارة يعترفون بأنّه لا يشبه كلام الشعراء وإنّما هو سحر مفترى يسحر الناس بتأثيره، وغير ذلك من أنحاء التخبّط.

ص: 358

سوره ق (6- 15)

أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَهَا وَزَيَّنَهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ، جَنَّتِ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَت مَا طَلْعُ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيْتًا كَذَلِكَ الخرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَبُ الرِّسِ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَبُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبع كُلِّ كَذَّبَ الرُّسُلَ لَحَقِّ وَعِيدِ (14) أَفَعَمِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْس مِنْ خَلْقٍ جَدِيدِ (15)

«أفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَا مِنْ فُرُوجٍ». مجموعة من الآيات تدعو الناس إلى تدبّر الأمور الكونية للوصول إلى جواب آخر عن السؤال المذكور، وهو الاستدلال بقدرته تعالى - وهو خالق الكون العظيم - على الإحياء بعد الموت، فتدعوهم أوّلا إلى النظر إلى السماء فوقهم، والمراد به النظر بالعين فلا حاجة إلى دقّة علمية وبحث فلسفي. والفاء في قوله «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا» للتفريع، يعني إذا استغربوا المعاد فلماذا لا ينظرون إلى الكون ليتبيّن لهم أنّ الخالق الذي أبدع هذا الكون العظيم الجميل البديع قادر على إنهائه وإبداع خلق جديد وعلى إعادة الحياة للإنسان بعد موته؟! ومثله قوله تعالى: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرض بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ العَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذا أَرَادَ شيئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(1)

وقوله تعالى: «كَيْفَ بَنَيْنَاهَا» لا يراد به دفعهم إلى معرفة كيفية الخلق والصنع،

ص: 359


1- يس (36): 81-82.

فهو أمر لا شأن للقرآن به مع أنّه ممّا لا يمكن للبشر معرفته خصوصاً في ذلك العهد، ولم يكن الإنسان يتطلّع إلى ذلك، وإنّما المراد - والله العالم - التأمّل قليلاً في خلق الكون وفي دقّته و حسن نظامه الظاهر لكلّ متأمل في شروق الشمس وغروبها وحركة القمر والنجوم، حيث لم يختلف هذا النظام قيد أنملة طيلة القرون المتمادية. والتعبير بالبناء ربما يدلّ على نوع من التدرّج، حيث إنّه لا يتمّ إلا بضمّ جزء إلى جزء.

ولا شكّ أنّ الإنسان كثيراً ما ينظر إلى السماء وتبهره بزينتها وعظمتها، ولكنّ المهمّ هو النظر إليها بما أنّها مخلوقة الله تعالى، لتدلّ على عظمة الخالق وسعة قدرته، وإلا فالنظر فيها مهما كان طويلاً ودقيقاً لا يفيد الهدف المنظور إن لم يتجاوزها.

ومن الملفت التنبيه إلى زينة السماء ممّا يدلّ على أنّ جمال الطبيعة في كلّ جوانبها أمر مقصود وهو ممّا يدلّ على أنّها لم توجد بمجرّد صدفة، كما يظنّ الأغبياء، بل هناك يد صانعة زيّنت الطبيعة لهدف عظيم، وهو الدلالة على الخالق، فكما أن الاستحكام والدقّة يدلان على الصانع الحكيم، كذلك الزينة والجمال.

والفروج ، جمع فرج وهو الشقّ بين شيئين، ولكن ما هو المراد بالسماء؟ ربما يقال: إنّها هي المجموعة الفلكية التي نراها فوقنا فهي مبنية باستحكام، وهي زينة لمن في الأرض، ولكن ما المراد بأنّها ليس لها فروج وشقوق وتصدّعات؟ قيل: إنّ المراد به أنّها متماسكة وتسير بانتظام لا يتخلّل نظامها شيء. ولكنّه بعيد من مع أنّ الآية تقول: «زَيَّنَّاهَا» ولم تقل: «جعلناها زينة لمن في الأرض»

ص: 360

وهناك فرق بينهما، فتزيين السماء بمعنى خلقها جميلة جذّابة بذاتها، وهذا هو المذكور في الآية، وأمّا إذا قلنا بأنّها زيّنة لمن في الأرض، فيصدق إذا كان كذلك في أعيننا، وإن لم تكن في الواقع جميلة، وهذا التأويل لا يستلزم كونها جميلة، كما هو ظاهر الآية.

والظاهر أنّ المراد بها هي السماء الزرقاء التي نراها وهي الغلاف الجوي وكلّ ما نراه فوقنا فهو سماء. والسماء جهة العلوّ. والقرآن ليس كتاب علوم طبيعية ولا يهتمّ ببيان حقائق الكون، فهو شأن بشري، حيث يحاول حل ألغاز الكون، وليس شأن الدين أن يفتح له الأبواب في هذا المسار، وإنّما شأنه أن يهدي الإنسان إلى خالق الكون وهو يخاطب بهذه الآيات كلّ البشر، سواء تقدّموا في العلم أم تأخّروا، بل المخاطبون مباشرة هم من لا سبيل لهم لمعرفة حقائق الكون، والقرآن يخاطبهم بما يفهمونه، ويطلب منهم النظر إلى هذه السماء التي فوقهم وهي مبنية باستحكام لا تتغيّر معالمها على مرّ الدهور والقرون، وهي مزينة بما وراءها من أجرام فلكية، وبسبب الغازات المكوّنة للغلاف، وليس لها فروج وتصدعات، ولا شأن للقرآن في بيان حقيقة هذا الجرم وأنّه غلاف جوي يحفظ الأرض أم أنّه شيء آخر، كما أنّه لا شأن له ببيان أنّ السماء بهذا المعنى لو كان لها فروج وشقوق لتسرّبت منها الأشعة الضارّة بالحياة، كما يذكره بعض المفسّرين، فهذا أمر لا يعرفه المخاطبون، بل المهمّ هو أن يعترف الإنسان بعظمة خالق الكون من خلال نظره إلى الطبيعة بما فيها من بناء وزينة حسب إدراكه وفهمه وتطوّره في العلم والمعرفة.

«وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَالْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ». ونظرة أخرى إلى الأرض وأنّ الله تعالى

ص: 361

مدّها وبسطها ليتمكّن الإنسان من استخدامها في مآربه. وهنا أيضاً لا ينظر القرآن إلى الجانب العلمي وأنّ الأرض كروية أم مسطّحة، كما كان يظنّ الأقدمون، وإنّما ينظر إلى ما نشعر به من تسطّح الأرض نسبياً، حيث تتيح لنا التمكّن من استخدامها لحاجاتنا.

والجملة معطوفة على الجملة السابقة، و «الأرْضَ» مفعول لفعل مقدّر يفسّره قوله: «مَدَدْنَاهَا»، أي ومددنا الأرض، ويمكن أن يكون منصوباً بنزع الخافض و معطوفاً على السماء، أي أولم ينظروا إلى الأرض...، وهذا أولى ليشملها الأمر بالنظر.

والرواسي، هي الجبال من رسا الشيء إذا ثبت. والإلقاء، إفعال من اللقاء بمعنی إیجاد الملاقاة بين شيئين، وليس دائماً بمعنى النبذ والطرح كما يتوهّم، فالذي يدلّ عليه اللفظ هنا هو أنّ الجبال لم تكن موجودة ابتداءاً على سطح الأرض فأوجدها الله تعالى على سطحها لغرض، فتحقّقت الملاقاة بينهما وهو معنى الإلقاء. وقد تكرّر في القرآن الكريم التنبيه على أنّ الجبال تؤثّر في ثبات الأرض وعدم ميدانها وانحرافها، ولعلّ المراد انحرافها عن مسارها حول الشمس أو حول نفسها. ولم تثبت علمياً علاقة بين وجود الجبال على سطح الأرض وعدم انحرافها عن مدارها، ولكنّها محتملة، وليس هناك ما يمنع هذا الاحتمال ولعلّه يظهر فيما بعد. ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى منعها من حدوث بعض الاضطرابات والزلازل وحركة سطح الأرض، فإنّا نجد أنّ هذه القشرة التي نسكنها ونعتمد عليها تتغيّر وتتحرّك، ولعلّ الثبات النسبي الموجود الذي نحتاج إليه في حياتنا على هذا الكوكب يستند إلى وجود الجبال الرواسي، وقال بعض

ص: 362

المفسّرين: إنّ هناك من النظريات العلمية ما يؤيّد ذلك.

«وَانْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج»، الزوج المثلان المتقارنان، يقال لهما: زوج وزوجان، سواء في البشر أو الحيوان أو غيرهما، ويطلق أيضاً ويراد به الصنف، كما قيل، ولم أجد في القرآن ما لا يمكن حمله على المعنى الأوّل الذي هو الظاهر منه، ولعلّهم اضطرّوا إلى فرض المعنى الثاني لعدم تعقلّهم الزوجية في النبات إلا في بعض أنواعه كالنخل، وقد تكرّر في القرآن الكريم الإشارة إلى ذلك، والعلم يثبت أنّ كلّ نبات فيه زوجان بل ربما يظهر من قوله تعالى: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1) أنّ الزوجية في كلّ شيء، وهذا أيضاً اربك المفسرّين، بل زاد من التعقيد، إذ لا يمكن حمله على الصنف؛ لأنّ الأشياء أصناف وليست صنفين، وسيأتي الكلام حوله في تفسير سورة الذاريات إن شاء الله تعالى.

ومرّة اُخرى يذّكرنا الله تعالى بالزينة المبهرة للعيون على الأرض بقوله: «زَوْجِ بَهِيجٍ». والبهجة في اللغة قد تطلق على الحسن والنضارة، وقد تطلق على السرور، قال ابن دريد في «الجمهرة»: «للبهجة موضعان؛ فمنهما أن تقول هذا شيء ليس عليه بهجة، أي ليس عليه طلاوة، ومنهما قولهم: أبهجني هذا الأمر وبهجني إذا سرّك»(2) ويظهر من بعضهم أنّه الحسن الموجب للسرور، ومهما كان فلا شكّ في استعمال البهجة في نفس السرور حتّى لو لم يكن من التأثر بالحسن، وتستعمل أيضاً في الحسن الناضر من النبات، كما قال تعالى: «حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ»،(3) فلعلّ

ص: 363


1- الذاريات (51): 49.
2- جمهرة اللغة 1: 272.
3- النمل (27): 60.

المراد بالبهيج هنا النبات النضر الحسن الذي يوجب السرور والابتهاج.

«تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» مفعول لأجله، أي بنينا وزيّنّا وأنبتنا ليكون كلّ ذلك تبصرة وذكرى. والتبصرة من باب التفعيل، أي إيجاداً للبصيرة في القلوب والنفوس. والإنسان يرى كلّ ما في الطبيعة ويتنعّم بها، ولكن قلّ من تجده يتبصرّ بها ما وراءها، وقلّ من يبصر من خلالها آيات الله سبحانه وإن كان يتوغّل في النظر إليها ويدقّق في أعماقها، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السّلام بقوله في وصف الدنيا: «مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَ إليها أعْمَتُهُ»،(1) أي من تأمّل في جوانب الحياة الدنيا وما فيها من حقائق ليعرف الخالق الحكيم ، فإنّ دقائق الكون تبصّره، أي تجعله بصيراً عارفاً بربّه، وأمّا من نظر إليها وتعمّق فيها من دون أن يتجاوزها ويحاول معرفة خالقها فإنّ الدنيا تعميه فلا يرى ربّه ولا يجد من خلال حقائق الكون اليد الخالقة القادرة.

والذكرى اسم مصدر للتذكير - كما في «العين»(2) - والتذكير يقتضي أن يكون الإنسان عالماً بالأمر، وإنّما طرأت عليه الغفلة، فهو إمّا باعتبار أنّ الإنسان المؤمن بربّه يغفل عنه إذا اشتغل بالدنيا وهمومها ومشاكلها أو زينتها وزخارفها، وإمّا باعتبار أنّ الإنسان يعرف ربّه بفطرته، وإنّما ينساه ويغفل عنه نتيجة الخوض في الدنيا فيحتاج إلى تذكير فقط، والقرآن يؤكّد على هذه الحقيقة وأنّ القرآن وكلّ كتب السماء ذكرٌ للإنسان وأنّ هذه الحياة سبقتها معرفة له بحقائق الكون، بل اعتراف بها، كما قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

ص: 364


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 106 / الخطبة 82.
2- كتاب العين 5: 346.

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ السْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين»،(1) ومهما كان فكلّ ما في الكون من آيات الله تعالى تذكر الإنسان بتلك الحقيقة التي يغفل عنها نظراً إلى اشتغاله بالدنيا وبعده عن ربّه.

والإنابة الرجوع ومثلها التوبة. والمراد أنّ هذه الآيات تبصّر وتذكّر كّل عبد من عباده تعالى يريد أن يرجع إليه بعد اشتغاله بالدنيا وبعده عن ربّه. ومعنى ذلك أنّ التبصّر والتذكّر لا يتمّان إلا إذا كان في العبد رغبة في الإنابة والرجوع.

«وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ»؛ ومن النعم الجسيمة التي لا تستغني عنها الحياة على هذا الكوكب نزول المطر، والله تعالى يعبّر عنه بأنّه ماء مبارك، والبركة هي الخير الكثير المستقرّ، ومن خصائص المطر أنّه يستقرّ خيره في الأرض وليست نعمة عابرة، فيستقرّ نفس الماء في الجبال والأراضي المرتفعة ويخرج من العيون والقنوات والآبار، كما يستقرّ خيره بإنبات الأرض وإخصابها ومنع تصاعد الغبار وتصفية الجوّ وتغيير المناخ وغير ذلك ممّا يعلمه البشر أو لا يعلمه. والمراد بالسماء هنا جهة العلوّ، حيث يكون السحاب. وتعلّق الإنبات بالجنات فيه نوع من الإسناد المجازي، فإنّ الإنبات يتعلّق بالزرع والشجر.

والجنّة: الأرض ذات الشجر الكثير بحيث يسترها. ويمكن أن يكون التجوّز في اللفظ، فيراد بالجنّات نفس الشجر وهو أنسب بعطف الحَبّ عليه.

والحصيد فعيل بمعنى المفعول، أي المحصود وهو الزرع، فإضافة الحبّ إليه على حقيقتها؛ فإنّ الزرع يشتمل عليه. والمراد به الحنطة والشعير والأرز ونحوها،

ص: 365


1- الأعراف (7): 172.

ويمكن أن يكون الحصيد صفة للحبّ، فتكون من قبيل إضافة الموصوف إلى الوصف.

«وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعُ نَضِيدٌ» عطف على حبّ الحصيد أو على الجنّات إذا اُريد بها الشجر، فيكون من عطف الخاصّ على العامّ. وباسقات حال من النخل. والبسوق: الطول. وصف النخل به لأنّ جمالها بطولها، وهنا أيضاً تطرّق لزينة الخلق، وكذلك في وصف الطلع بالنضيد.

والطلع: ما يطلع من النخلة من النور، ثمّ يصير تمراً إن كانت اُنثى، وإن كانت ذكراً لم يصر تمراً، بل يؤكل طريّاً أو يترك على النخلة أيّاماً معلومة حتّى تتكوّن فيه مادة بيضاء مثل الدقيق، ولها رائحة زكيّة فيلقح به الاُنثى.

والنور - بالفتح - الزهر الذي يكون مبدأً للثمرة.

والنضيد، أي المنضود حيث إنّ الطلع المذكور منظم بترتيب واتّساقٍ بعضه على بعض. والنضد: ضمّ شيء إلى شيء أو عليه باتّساق ونظم.

«رِزْقاً لِلْعِبَادِ». الرزق هو العطاء المحدّد لوقت خاصّ، ثمّ اُطلق على غير المحدود أيضاً، وهو هنا مفعول لأجله، أي نزّلنا المطر وأنبتنا ما أنبتنا رزقاً للعباد، وقد قلنا غير مرّة إنّ المراد بالرزق في الحياة الدنيا هو تدبير الطبيعة بحيث يتمكّن كلّ حيّ من الوصول إلى ما يحتاجه لاستمرار حياته بصورة طبيعية، وهذه الآية صريحة في أنّ هذا هو المراد بالرزق، وليس إيصال الرزق لكلّ فرد من الحيوان والإنسان وإن لم يحاول الوصول إلى مطعمه ومشربه بالوسائل المتاحة له في الطبيعة كما يتوهّم.

«وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً». وهذا بيان لفائدة اُخرى للمطر وهو حياة الأرض الميتة،

ص: 366

ويعبّر بموتان الأرض عن عدم استعدادها للإنبات بسبب الجفاف، فالمطر يهيّج الأرض ويبثّ فيها الحركة للإنبات وهو المراد بحياتها، وبذلك يتبيّن أنّه ليس تكراراً لما مرّ من الإنبات.

والبلدة تطلق على كلّ موضع مستحيَز من الأرض عامر أو غير عامر، خالٍ أو مسكون كما في «العين».(1) والميت مخفف الميّت. وأتى بالوصف مذكّراً بتأويل المكان أو البلد.

«كَذَلِكَ الْخُرُوجُ» خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر. والمراد بالخروج خروج البشر من القبور يوم القيامة، ويشير بقوله: «ذَلِكَ» إلى إحياء الأرض بعد موتها، أي إعادة البشر ليس إلا كإحياء الأرض.

وقد أجاب عن استغراب المشركين أمر المعاد بوجهين فيما مضى من الآيات: علم الله تعالى بكلّ أجزاء الموتى المقصود بقوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ» وقدرته المطلقة حيث قال: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ»، وهنا يشير إلى الدليل الثالث على إمكان المعاد ردّاً عليهم، وذلك لأنّ الإحياء أمر متكرّر، فالأرض الموات تحيا بالمطر وتموت بالجدب ثانية وتحيا بعدها فلا وجه لاستبعاد إعادة الحياة للإنسان، بل هناك من الأراضي الموات ما تبقى مواتاً سنين متمادية لا عشب فيها لتوالي الجدب، ثمّ تحيا بالمطر بأحسن وجه.

«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسُ وَثَمُودُ * وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ» تهديد لمكذبي المعاد والرسالة، وتسلية لخاطر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وللاُمة المسلمة بأنّ هؤلاء ليسوا وحدهم من يكذّبون، ولكنّ الله تعالى لهم جميعاً بالمرصاد. والقرآن يؤكّد

ص: 367


1- كتاب العين 8: 42.

في أكثر من موضع على أن الأمم تتّبع بعضها بعضاً ويكرّر كلّ قوم متأخّر أقوال من تقدّمهم، والعجيب أنّ البشر في العصر الحاضر وبعد ما حقّقه من التقدّم العلمي وكشف حقائق الكون يكرّر أيضاً سفاهات المتقدّمين. وقوم نوح علیه السّلام من

أقدم الأقوام البشرية أو هم الأقدم مطلقاً أو أنّهم أقدم من بعث إليهم رسول.

والرسّ، قيل: اسم لواد معروف، وقد ورد ذكره في شعر زهير بن أبي سلمى: فهنّ ووادي الرسّ كاليد في الفم. (1)

وقال الخليل: «بئر البقية من قوم ثمود». (2) وقيل: بمعنى البئر التي لم تُطوَ، أي لم تُبْنَ بالحجارة، وأنّ هؤلاء كذّبوا نبيّهم فانخسفت بهم البئر. وقيل: رسّوه في البئر، أي دفنوه. وكثر الكلام حول ذلك بما لا دليل عليه. وعن أمير المؤمنين علیه السّلام: «أينَ الْعَالِقَةُ وَابْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَينَ أصحاب مَدَائِنِ الرَّسُ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَأطْفَئُوا سُنَنَ المُرْسَلِينَ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ»(3) ممّا يدلّ على أنّهم كانت لهم مدائن. وأمّا الأوصاف التالية في كلامه علیه السّلام فيمكن أن تكون لكلّ من سبق، فلا تدلّ على أنّهم ممّن جاءهم جمع من الأنبياء.

وعاد وثمود قومان من الأمم القديمة، ويبدو من بعض الآيات أنّ آثارهم كانت باقية ومعروفة في عهد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، ولذلك اهتمّ بذكرهم القرآن الكريم، ونبّه الناس على الاعتبار بهم وبعاقبة أمرهم، وقوم عاد ونبيّهم هود علیه السّلام كانوا يعيشون في الأحقاف، وهي منطقة - على ما يقال - في حضرموت اليمن، وقد مرّ بعض الكلام حولهم في تفسير سورة الأحقاف.

ص: 368


1- لسان العرب :6: 98؛ فتح القدير 4: 76.
2- كتاب العين 7: 190.
3- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 263 / الخطبة 182.

وأمّا ثمود فنبيّهم صالح علیه السّلام وكانوا يعيشون في منطقة بین المدینة و الشام علی ما يقال. وربما تكون هي ما سمي بالحِجر في قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ المُرْسَلِينَ»؛(1) ويحتمل بعض المؤرّخين وعلماء الآثار أن تكون جزءاً من منطقة وادي القرى وما يعرف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك والله العالم.

ومهما كان فقصّتهم وعقرهم للناقة معروفة ومذكورة في موارد عديدة في الكتاب العزيز. والغالب في موارد ذكرهم في القرآن أن يذكر قوم عاد قبل ثمود لكونهم أسبق، كما قال تعالى نقلاً عن صالح علیه السّلام، «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ»،(2) ويبدو أنّ السبب في التغيير هنا رعاية القوافي.

والمراد بفرعون هو وقومه، والمراد بإخوان لوط علیه السّلام قومه الذين اُرسل إليهم، والتعبير بالأخ لا يقتضي القرابة ولا كونه من نفس القوم، فإنّ القرآن كثيراً ما يعبّر عن رسول القوم بأخيهم، وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى: «وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ»(3) وقلنا: إنّه تعبير عن كلّ نوع من المشاركة والمصاحبة، كقوله تعالى: «كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا»(4) وقوله تعالى: «وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا»،(5) والتعبير العربي مشحون بذلك كأخي الجهد في شعر امرئ القيس:

ص: 369


1- الحجر (15): 80.
2- الأعراف (7): 74.
3- الأحقاف (46): 21.
4- الأعراف (7): 38.
5- الزخرف (43): 48.

عشيّة جاوزنا حماة وسيرنا *** أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا(1)

ويقصد به السير بجهد. وكذلك تعبيرهم بأخي الخير وأخي الشرّ ونحو ذلك.

«وَأصْحابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّع». الأيكة: الشجر الكثير المُلْتَفّ أو الأجمَة التي فيها السدر والأراك من ناعم الشجر. والمراد بهم قوم شعیب علیه السّلام لقوله تعالى: «كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ هُمْ شُعَيْبٌ ألا تَتَّقُونَ».(2)

و «تُبَّع» من ملوك اليمن ويسمّون التبابعة، والظاهر أنّ المراد به هنا أحدهم وهو من ذكر في التاريخ باسم أسعد أو سعد أبو كرب. وقد ورد ذكره في الروايات وأنّه ممّن بشّر أهل يثرب في عصره بظهور الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في هذا البلد، وأنّه أمرهم وأمر أولاده بمتابعته ونصرته.

روی الصدوق بسند معتبر عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إنّ تبعاً قال للأوس والخزرج كونوا ها هنا حتّى يخرج هذا النبي أمّا أنا فلو أدركته لخدمته ولخرجت معه».(3)

وروِي أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم نهى عن سبّه ، لأنّه أسلم وأنّه أوّل من كسا الكعبة المعظمة.(4) والمراد بإسلامه إيمانه بالله تعالى وبالرسالات. ولعلّه لذلك لم يرد في الآية تُبّع، بل قوم تُبّع وورد مثله أيضاً عند ذكرهم في سورة ص.

«كُلِّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقِّ وَعِيدِ»، أي كلّ منهم كذّب الرسل إمّا بمعنى أنّ كلّ قوم كذّبوا رسولهم، فالمراد بالرسل آحاد الرسل في كلّ قوم، أو بمعنى أنّ

ص: 370


1- دیوان امرئ القيس: 46؛ الدرّ المصون 2: 234.
2- الشعراء (26): 176 - 177.
3- كمال الدين وتمام النعمة: 171.
4- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 100 - 101؛ الميزان في تفسير القرآن 18: 152.

تكذيبهم لرسولهم تكذيب لكلّ الرسل، فإنّهم كانوا يُكذّبون الرسالات. والوعيد مضاف إلى ياء المتكلّم ، أي فحقّ عليهم وعيدي. وتدلّ الجملة على أنّ هناك وعيد عامّ منه تعالى لكلّ من كذّب الرسل، فحقّ على هؤلاء ذلك الوعيد السابق أي ثبت. والمراد - بالطبع - القوم الذين اُرسل إليهم رسول فكذّبوه، ولا يشمل تكذيب من لم يروا بينهم رسولاً .

«أفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ» يعود السياق للاستدلال على المعاد بوجه رابع، وهو أنّه تعالى لم يعجز عن الخلق الأوّل وهو أغرب وأبعد عن العقول فكيف بإعادة. الخلق، وهذا الأمر أيضاً ممّا تكرّر التنبيه عليه، كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ».(1)

والعيّ - بكسر العين - بمعنى العجز، وقيل: إنّه بمعنى التعب، ولكنّ الظاهر من موارد الاستعمال - كما قال بعض اللغويين(2) - أنّ الإعياء بمعنى التعب، والعِيّ بمعنى العجز. ووجه الاستدلال واضح، فإنّ بدء الخلق لم يكن هناك شيء فأوجد الله الكون من لا شيء وبمحض الإرادة فالقادر على ذلك قادر بطريق أولى على إعادة الخلق بعد إفنائه، فإن الخلق الثاني له اُصول وله نماذج وصور في علم الله تعالى.

«بَلْ هُمْ في لَبْس مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ». الإضراب باعتبار أنّهم لا ينكرون قدرة الله تعالى على الخلق الأوّل، فهم يعترفون به، بل هم في شكّ واختلاط ولبس من خلق جديد للكون أو للإنسان، وهذا استغراب من إنكارهم وكفرهم، حيث إنّهم

ص: 371


1- الروم (30): 27.
2- راجع: المغرب 2: 96.

يعترفون بما هو أهمّ وأصعب وأبعد عن العقل، ويلتبس عليهم الأمر في إمكان الخلق الجديد، مع كونه أسهل وأقرب إلى الإمكان حسب عقول البشر؛ وأمّا بالنسبة إلى إرادة الله تعالى وقدرته فليس هناك سهل وأسهل ولا صعب وأصعب، بل نسبة كلّ الأمور إليه تعالى نسبة واحدة.

ص: 372

سوره ق (16- 29)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَابِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِيتُهُ، هَذَا مَا لَدَى عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَمٌ كُلِّ كَفَّارِ عَنيد (24) منَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدِ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَيْهَا وَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشِّدِيدِ (26) قَالَ قَرِيتُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ، وَلَئِكن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَى وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدِّلُ الْقَوْلُ لَدَى وَمَا أنا بِظُلْمٍ لِلْعَبِيدِ (29)

مجموعة آيات تبيّن مسيرة الإنسان في الحياة من بدء خلقه، ثمّ تقلّبه في شؤون الدنيا تحت هيمنة علم الله تعالى عليه، والرقابة المشدّدة وتسجيل كلّ ما يقول إلى أن يحين موته وما يعرض عليه حين الموت، ثمّ إحياؤه من جديد ليحضر أمام خالقه ومرّبيه.

«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ». الآية تذكّر الإنسان ببدء خلقه لينّبهه على إمكان خلقه من جديد وإحيائه للحساب، وأنّ كلّ أعماله وحتّى خطرات قلبه محفوظة مسجلة عليه؛ وتقديم ذكر الخلق مؤكّداً باللام و «قد» مقدمة للتنبيه على نفوذ علمه تعالى، فإنّ الذي خلق الإنسان أعلم بما فيه وبما ينطوي عليه ضميره، فإنّ خلق الله تعالى ليس كما يصنع البشر حيث يركّب مواداً

ص: 373

ويصنع هيئة لآلة أو دواء أو معجون أو أيّ هيئة تركيبية اُخرى لبلوغ مقاصده وهو يجهل كثيراً من حقائق هذا المركّب. يجهل حقائق موادّه ويجهل كثيراً من خصائص التركيب، وكثيراً ما يتبيّن له بعد عدّة تجارب أنّ ما صنعه من دواء - مثلاً - له منافع اُخرى أو له مضارّ لم يتفطّن لها، وأمّا الخالق الذي يبدع الشيء ويصنع مادّته وتركيبه من غير مثال محتذى ومع سبق العدم المطلق، فإنّه يعلم بكلّ خصائصه؛ لأنّه أعطاه الوجود ولم يكن شيئاً مذكوراً.

والوَسوسة والوسواس - بكسر الواو - مصدر ، والوسواس - بالفتح - اسم لمن يوسوس في صدور الناس، قال تعالى: «مِنْ شرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ»؛(1) والأصل في مثل هذه الكلمات هو تكرّر الشيء، فالذبذبة تكرّر الذبّ وهو الدفع فيفيد معنى الاضطراب وتكرّر الحركة، ومثله زلزل ودبدب وكبكب وغيرها. والوسوسة تكرّر الوسّ وهو الصوت الخفي كصوت حُلِيّ المرأة وصوت من يريد الصيد. ومن الوسوسة ما يلقي الشيطان في النفوس وكذلك شياطين الإنس، ومنها أيضاً هواجس النفس وخواطرها، مع أنّها ليست أصواتاً في الغالب إلا أنّها تُشبّه بها من جهة كونها إلقاءات خفيّة في النفس. وفي الآية ضمير مقدّر والتقدير ما توسوسه به نفسه.

والإنسان يحدّث نفسه كما تحدّثه نفسه، وهما أمران مختلفان وليس مجرّد اختلاف في التعبير، كما ذكر في اللغة وبعض التفاسير، فالمراد بتحديثه لنفسه ما ينشئه الإنسان من أفكار وتخيّلات وأوهام ونحوها ويلقّيها على نفسه، كأنّه يلقّي محاضرة وكأنّ هناك من يسمعه ويتلّقى منه؛ وهذه الأمور منها خير ومنها شرّ،

ص: 374


1- الناس (114) : 4 - 5.

والمراد بتحديث النفس له الهواجس والخواطر التي تخطر بالبال من خير وشرّ، أيضاً، وهي في الغالب ترد النفس من دون اختيار، وربما تهيمن عليها وتستعبده و تسيطر عليه وتجرّه إلى ما لا يحمد عقباه إذا لم يكن الإنسان مذلِّلاً نفسه مروِّضاً إيّاها بالرياضات النفسية دينية كانت أو غيرها.

والمراد بالوسوسة في الآية الكريمة هذه الخواطر النفسية التي ربما لا يشعر بها الإنسان، وإنّما ينقاد لها ويتحرّك وفقاً لإلقاءاتها، فالله تعالى عليم بكلّ هذه الخواطر التي تخطر بالبال حتى لو غاب عن شعور الإنسان نفسه.

والغرض واضح من الآية الكريمة، وهو تنبيه الإنسان على شدّة الرقابة عليه ومحاسبة كلّ شيء يتعلّق به حتّى ما كان من قبيل الخواطر التي لا يشعر بها.

ولعلّك تقول : ما شأن الإنسان بهذه الخواطر، فهي ليست من صنعه، بل ربما يتألّم من هجومها عليه وهو لا حول له ولا قوة في قبالها؟

والجواب: أنّ المراد ليس محاسبة الإنسان على هذه الخواطر، بل تنبيهه على غاية إحكام الرقابة عليه بحيث لا يغيب عن الرقيب وهو الله تعالى حتّى هذه الخواطر السريعة. هذا مضافاً إلى أنّها وإن لم تكن بذاتها تحت سيطرة الإنسان إلا أنّه بإمكانه أن يهيّئ المناخ المناسب للخواطر الحسنة، ويطرد عن نفسه الخواطر السيّئة التي ربما تجرّه إلى المعاصي والمهالك، ويذلّل نفسه للابتعاد عنها، فعروض الخواطر السيّئة وإن لم يكن اختيارياً بذاته إلا أنّ مقدماته في الغالب اختيارية.

ومضافاً إلى أنّ المحاسبة لا تعني المعاقبة والإنسان يحاسَب على اُمور كثيرة لا يعاقَب عليها؛ كما قال تعالى: «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ

ص: 375

لَمِنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»،(1) والله تعالى لا يعاقب على النوايا، كما ورد في عدّة روايات؛ منها رواية أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها، فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات؛ وإنّ المؤمن ليهمّ بالسّيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه».(2)

ولكن ذلك لا ينافي المحاسبة، وربما تؤثّر في درجة الإنسان وقربه لدى الله تعالى. بل ربما يظهر من الآية المذكورة أنّه یستحقّ العقاب على النوايا أيضاً، ولكن الله تعالى يغفر له إن شاء، كما يغفر ما ينسى ويخطئ، والمغفرة فيهما ليس

ضرورياً بالعقل، قال تعالى: «رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أخطأنا»؛(3) إذ لو كان ضرورياً لم يكن وجه للدعاء.

«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليه مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ»؛ الوريد عرق في الجسم سمّي به لأنّ الدم يرد فيه؛ قالوا: ويرد فيه الروح أيضاً، وذلك لما رأوه من الموت السريع بقطعه فتوهّموا أنّ الروح يخرج منه، واختلف أهل اللغة في تحديد المراد بهذا العرق والأكثر على أنّه عرقان على صفحتي العنق وهما الودجان اللذان يقطعان من الحيوان في التذكية، وقيل إنّه العرق المتّصل بالقلب والكبد، وقيل: إنّه المنتشر في الجسم.

ومهما كان فالمراد به العرق الذي بقطعه يموت الإنسان والحيوان، وإضافة الحبل إليه بيانية، وعبّر عنه بالحبل كأنّه سبب اتصال الإنسان بروحه، وبقطعه ينفصل الروح عن الجسم حيث يموت، والغرض بيان أن الله تعالى أقرب إلى

ص: 376


1- البقرة (2): 284.
2- الكافي 2: 2/428 ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة.
3- البقرة (2): 286.

الإنسان من روحه؛ أقرب إليه علماً وقدرة، فهو أعلم بما في نفسه من أقدر على تغيير نفسياته منه. والإنسان ربما يخدع نفسه فيتصور أنّه يعمل العمل لوجه الله تعالى مثلاً ولا ينتبه إلى الدوافع الأخرى التي تدفعه، والله تعالى يعلم بها ويُعلِمُه بها يوم القيامة. كما أنّه يُقلّب نفس الإنسان ويغيّر أحواله وهو لا يتمكّن من السيطرة على نفسه إلا جزئياً، وذلك أيضاً بإلهام من الله تعالى وإقدار منه.

ومثله قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»،(1) فالله تعالى أقرب إلى الإنسان من قلبه، أي نفسه وروحه، كما أنّه أقرب إلى قلبه منه فيقلبه كيفما يشاء ويتحكّم، في إرادته ويصرفه عمّا يشاء. والغرض من هذا التعبير تنبيه الإنسان على إمكان هذه السيطرة التي يصعب عليه تصوّرها، فهو يعلم أنّ بالإمكان رقابة الإنسان حسب ظاهر حاله، وعلى أساس ذلك يتوهم أنّ الرقابة الإلهية أيضاً لا تتعدّى ظواهر أعماله وأحواله كرقابة الدوائر الأمنية في الدنيا.

«إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ»؛ التلقّي مطاوعة اللقاء أو الإلقاء، ولذلك يأتي بمعنى الاستقبال إذا أراد أحد لقاءه، وبمعنى الأخذ إذا ألقى إليه أحد شيئاً أو كلاماً؛ والمراد به هنا تلقّي ما يفعله الإنسان، وحذف مفعول التلقّي لدلالة الآية التالية عليه. و «إذ» ظرف متعلّق بمقدّر، أي اذكر، والظاهر أنّ الخطاب للإنسان بوجه عامّ، فالمراد تنبيهه أنّ هناك ملكين يتلقّيان كلّ ما يفعله من خير وشرّ ويسجّلان عليه، ولعلّ اليمين والشمال رمز للخير والشرّ كما رمز بهما في التعبير بأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فالملكان يسجّلان عليه ما يفعله من خير وشرّ ولا نعلم كيف يتلقّيان؟ وكيف يسجّلان؟ وما معنى

ص: 377


1- الأنفال (8): 24.

التسجيل؟ وقد أخبرنا الله سبحانه أنّ الإنسان يجد ما عمله حاضراً يوم القيامة.

والقعيد بمعنى الجليس كما في «العين»،(1) فهو تعبير عن ملازمتهما ودوام حضورهما مع الإنسان، فليسا عابرين، بل هما لا يفارقانه في حلّه وترحاله وليله ونهاره.

وقد ذكر المفسّرون ورووا روايات غريبة في كيفية جلوسهما على اليمين والشمال وكيفية كتابتهما وتسجيلهما ونوع مدادهما، وبعض ذلك تخرّص على الغيب وأكثرها ممّا يحتاج إلى تأويل ولم تثبت صحّة شيء من تلك الروايات.

وقيل: إن «إذ» ظرف لقوله تعالى: «أَقْرَبُ» في الآية السابقة، والمعنى أنّه تعالى حين تلقّي الملكين أقرب إليه من حبل الوريد تنبيهاً على أنّه ليس بحاجة إليهما، وإنّما خلقهما ووكّلهما به لمصلحة اُخرى كالتسجيل عليه بنحو من أنحاء التسجيل، أو ليكون في تنبيهه بذلك توجّس أكثر من جهة الشعور بوجود رقيب عليه؛ ومهما كان فالمراد بناءاً على هذا الوجه بيان أنّ الله تعالى لا يحتاج إلى رقابة الملائكة، كما لا يحتاج إلى وساطتهم في سائر الشؤون، فهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

ولكن هذا الوجه مع لطفه بعيد عن العبارة - كما في «الميزان»(2) - فإنّ الظاهر أنّها تنبّه على رقابة الملكين وتنظر إليها نظرة مستقلّة، ومقتضى هذا الوجه أنّ ذكر تلقّي الملكين إنّما هو لبيان عدم الحاجة إليهما في الرقابة الإلهية فحسب وهو بعيد.

ص: 378


1- كتاب العين 1: 143.
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 348.

ويبدو من الآية أنّ الملكين جليسان للإنسان وأنّهما خارجان عن روحه ولا يتغلغلان في ذاته، ولعلّه لذلك لا يعلمان بما تنطوي عليه سريرته، كما ورد في دعاء كميل رحمه الله: «وكنت أنت الرقيب عليَّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم»(1) وهذا من فضله تعالى على البشر حيث لم يجعل للملائكة سبيلاً للدخول في أعماق روحه. وقد ورد التصريح بذلك في رواية رواها الكليني رحمه الله بسند صحيح عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إن المؤمنَيِن إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلا وجه الله ولا يريدان غرضاً من أغراض الدنيا، قيل لهما: مغفور لكما فاستانفا، فإذا أقبلا على المسالة قالت الملائكة بعضها البعض تنحّوا عنهما، فإنّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما». قال إسحاق فقلت: جعلت فداك فلا يكتب عليهما لفظهما وقد قال الله عزّ وجلّ «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»،(2) قال فتنفس أبو عبد الله الصعداء، ثمّ بكى حتّى أخضلت دموعه لحيته وقال: «يا إسحاق إنّ الله تبارك وتعالى إنّما أمر الملائكة أن تعتزل عن المؤمنَين إذا التقيا إجلالاً لهما، وإنّه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ولا تعرف كلامهما، فإنّه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السرّ وأخفى».(3)

وهناك رواية ربما يستفاد منها أنّ المراد بالقعيدين ملك وشيطان، فقد ورد في صحيحة حماد، عن أبي عبد الله علیه السّلام: «ما من قلب إلا وله اُذنان على إحداهما ملك مرشد وعلى الاُخرى شيطان مفتن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها، وهو قول الله عز وجل: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشَّمالِ

ص: 379


1- مصباح المتهجد و سلاح المتعبّد 2: 849.
2- ق (50): 18.
3- الكافي 2: 184 / 2 ، باب المعانقة.

فَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».(1)

والمراد بالقلب روح الإنسان. ولكن يمكن أن يكون استشهاد الإمام علیه السّلام بالآية الثانية وأنّ المراد بالرقيب العتيد الملك الذي يمنعه من ارتكاب المعصية، فلا ينافي كون القعيدين ملكين، كما لا ينافي أن يكون الرقيب العتيد يجمع بين الوظيفتين الزجر عن المعاصي وتسجيلها عليه.

«ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». الرقيب صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل من الرقابة، أي الذي يراقب ويرصد أقواله. والعتيد أي الحاضر والمهيّأ لأمر مّا. والصفتان صفة للملك الذي يسجّل السّيئات، وأمّا الآخر الذي يسجّل الحسنات فلا علاقة له بالموضوع، وهذا الملك يسجّل كلّ أعماله السّيئة لا خصوص الأقوال، ولكن حيث إنّ القول عميق التأثير وخفيف المؤونة فيغفل عنه الإنسان ولا يهتمّ به أكّد القرآن عليه بالخصوص، ليكون الإنسان على حذر ممّا يتلفّظ به، وكم من كلام غيّر مجرى التاريخ، وكم من كلام تسبّب في سفك الدماء واندلاع الحروب، وكم من كلمة سدّ الطريق على الأنبياء علیهم السّلام ومنعهم من بلوغ مقاصدهم الإلهية وتسبّب في ابتعاد الناس عنهم، كالقول الذي منع من کتابه الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وصيته التي لو كان يكتبها لم يختلف بعده من الأمّة اثنان.

«وَجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ». الجملة عطف على ما قبلها، خلق الله الإنسان وسار على منهجه الطبيعي وهو غافل عن الرقابة المشدّدة عليه، وأنّ كلّ ما يقوله مسجّل عليه فضلاً عن ما يفعله، بل إنّ كلّ ما توسوس به نفسه محفوظ لدى علام الغيوب، ثمّ جاءته سكرة الموت أي غشيته والإغماء الحاصل حين الموت،

ص: 380


1- الكافي 2: 266 / 1 ، باب إنّ للقلب اُذنين.

والسُكر يقابل الصحو. والظاهر أنّ الباء للملابسة، أي جاءت سكرة الموت، لأنّه حقّ ثابت لا مناص منه. وقيل: إنّها للمصاحبة، أي أتت بالحقّ إلى الإنسان حيث إنّه مع الموت يجد الحقّ، أي يصل إلى حقائق الاُمور وينكشف عنه الغطاء.

«ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ»، «مَا» موصولة. والحَيد: الميل والانحراف، أي أنّ الموت هو الأمر الذي كنت تحاول أيّها الإنسان أنّ تميل عنه وتعدل كناية عن الفرار. والإنسان ككلّ موجود حيّ لا يفرّ من شيء كفراره من الموت وهو أمر طبيعي، فالحيّ يحبّ الحياة، لأنّه يشعر أنّ بها كينونته وبقاءه، فإذا عرف الحقّ وعلم أنّه لا يفنى بالموت، بل يدخل عالماً أوسع من هذه الحياة الضيّقة بكثير لم يخش الموت، وقلّ من يبلغ ذلك، قال الإمام أمير المؤمنين علیه السّلام: «وَاللِه لابنُ أبِي طَالِبٍ آنس بِالُمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ اُمِّهِ».(1)

«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ»، انتهى عالم البرزخ وقامت القيامة ليبرز الإنسان بصحيفة أعماله إلى ربّه. والنفخ هنا يراد به النفخة الثانية التي بها تقوم القيامة، لا النفخة الأولى التي بها يصعق من في الكون. والصور قرن الثور كانوا ينفخون فيه قديماً لإعلان الحرب ونحوه، وهو كناية عن سرعة الحدوث والمفاجأة وعدم التدرّج، كما قال تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ»،(2) أي بمجرّد النفخ يقومون فجأة. والإشارة في قوله تعالى: «ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ» إلى وقت نفخ الصور. والوعيد بحذف المضاف، أي يوم تحقّق الوعيد، وأمّا ظرف الوعيد فهو الحياة الدنيا والمراد كلّ ما توعد الله تعالى به العصاة والكفّار، لأنّه

ص: 381


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 52 / الخطبة 5.
2- الزمر (39): 68.

وإن كان من الوعد وهو عامّ يشمل الخير والشرّ إلا أنّ الوعيد لا يستعمل إلا في الشرّ، كما في «معجم المقاييس»(1) وغيره. والإتيان بالفعل الماضي هنا وفي العبارات التالية من جهة حتمية الوقوع.

«وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سَائِقٌ وَشَهِيدٌ»، التعبير يصوّر حضور الإنسان يوم القيامة، وأنّه لا يحضر من تلقاء نفسه، بل يساق سوقاً ليحاكم على ما فعل. والسوق حثّ الدابة على السير من ورائها، بخلاف القيادة فإنّها من الأمام. وظاهر الآية أنّ الأمر عامّ يشمل جميع الناس لقوله: «كُلُّ نَفْسٍ» ولكن لا شكّ أنّ العموم بلحاظ أنّه حكم الغالب وإلا فالأبرار المتّقون لا يساقون ولا يخاطبون بالخطابات التالية. والتعبير بالسوق في قوله تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً»(2) من باب المشاكلة مع سوق الذين كفروا مضافاً إلى أنّ هذا السوق إلى الجنّة وليس إلى الحساب. والظاهر أنّ السائق غير الشهيد، فملك يسوقه وملك يشهد عليه، ولعلّ الشهيد تعبير عن كلّ ما يشهد عليه من الملائكة وأعضاء جسمه والأرض وغيرها.

«لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»، هذا خطاب يخاطب به الإنسان المذكور في الآية السابقة، وهم يشكّلون أكثر البشر. والخطاب لا يجب أن يكون صوتاً مسموعاً، بل يكفي أن يكون إعلاماً له بوجه من وجوه الإعلام، ومنها أنّه يدرك هذه الحقيقة كسائر الحقائق بكلّ وجوده، فكأنّه يلمسها. والإشارة في قوله تعالى: «مِنْ هَذَا» إلى الحضور أمام الله

ص: 382


1- معجم مقاييس اللغة 6: 125.
2- الزمر (39): 73.

للمحاسبة والغفلة تقتضي أن يكون ذلك أمراً معلوماً للإنسان في الحياة الدنيا، ولكنّه لتلهّي الإنسان بملذّات الدنيا وزينتها غفل عن هذه الحقيقة وبالفعل، فإنّ هذه الحقيقة معلومة للإنسان بإبلاغ الأنبياء علیه السّلام.

ولعلّ المراد بالغطاء ما يستلزمه الكون على هذا الكوكب من القيود والحدود التي تمنع الروح الإنسانية من الاتصال بسائر الموجودات إلا في الأطر الخاصّة التي تفرضها قوانين الطبيعة كالإدراك بالحواسّ الخمس. وينكشف الغطاء بالموت والتحرّر من هذه القيود والحدود، فتسبح الروح في عالم الواقع العريض والعميق حرّاً طليقاً، وترتبط بكلّ الموجودات ارتباطاً مباشراً، فتدرك حقائق الاُمور على ما هي عليها وتصل إلى أعماق الحقيقة بدون حجاب، وهذا هو معنى كون بصره حديداً، فليس البصر بمعنى العين الجارحة. والإنسان يمكنه أن يصل إلى كثير من الحقائق المبصَرة عن غير طريق البصر بنحو أشدّ وآكد، بل بنحو لا يمكن فيه الشكّ بينما يمكن التشكيك في كثير من المبصَرات، بل نعلم أنّ كثيراً منها من خداع العين. وأقوى إدراك للإنسان في هذه الحياة المعتمة هو إدراكه لنفسه، فهو يشعر بنفسه شعوراً مباشراً حضورياً لا يشوبه أدنى شكّ، وارتياب، ولا يتوقّف ذلك على الإبصار ولا على اللمس، وهذا الإدراك على الظاهر هو الذي يحصل عليه الإنسان بعد موته وتحرّره من ظلمات الجسم والمادّة بالنسبة إلى كلّ الأشياء وكلّ الحقائق، سواء كانت جسمية أم ممّا وراء الطبيعة. وقريب من ذلك ربما يحصل للإنسان في الرؤيا الصادقة حيث يتحرّر الروح جزئياً من قيود المادّة.

«وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ». القرين هو المقرون بالشيء لا يفارقه إلا نادراً،

ص: 383

والضمير يعود للإنسان المذكور، والعتيد بمعنى الحاضر المهيّأ كما مرّ. وقد اختلف المفسّرون في أنّه من المراد بهذا القرین؟ فقال جمع: إنّه الشیطان الذي يغويه والذي ورد ذكره في قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضُ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرين»،(1) وقوله: «وَقَيَّضْنا هُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم»،(2) والشاهد على ذلك قوله تعالى بعد ثلاث آيات: «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ»،(3) ولا شكّ أنّ المراد به الشيطان كما سيأتي. قالوا: إنّ الإشارة - بناءاً على هذا الاحتمال - إلى الإنسان، والمعنى أنّ هذا هو الذي عندي وفي ملكتي مهيّأ لجهنّم بإغوائي. هكذا ورد في «الكشّاف» و «روح المعاني»،(4) ولعلّ المراد من قوله: «في ملكتي»، أي تحت سلطاني.

وقال آخرون ولعلّهم الأكثر: إنّ المراد به الملك الذي يسوقه أو الشهيد، وقد مرّ ذكر الملكين السائق والشهيد، فهما قرينان له هناك، فإن كان المراد به الملك السائق فالظاهر أنّ «هَذَا» إشارة إلى الإنسان المسوق، ومعنى الجملة إعلام أنّه مهيّأ للحكم عليه بما يستحقّه، وإن كان المراد به الملك الذي يشهد عليه، فيمكن أن تكون الإشارة إليه أيضاً، ويمكن أن تكون إلى صحيفة أعماله التي يعرضها أمام ربّه.

وهذا الاحتمال هو الأقرب، كما أنّ الأقرب فيه أن يكون المراد به هو السائق، لأنّ الشهيد يأتي دوره حينما يطلب للشهادة، والجملة هنا إعلام لحضور المتّهم،

ص: 384


1- الزخرف (43): 36.
2- فصلت (41): 25.
3- ق (50): 27.
4- راجع الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 386؛ روح المعاني 13: 335 - 336.

وهذا دور السائق الذي يسوق المتهم إلى المحكمة.

والاحتمال الأوّل بعيد جدّاً من جهة أنّ الشيطان المضلّ لا دور له في ذلك المشهد ليعلن عن شيء، خصوصاً مع التعبير الوارد في «الكشّاف» و«روح المعاني»، فإّن التعبير بما يدلّ على السلطة هناك لا يحقّ لأحد فضلاً عن الشيطان. والمُلك ذلك اليوم لله الواحد القهار ، بل الشياطين في ذلك اليوم من المحضرين والمسوقين، فأنّى لهم هذا البيان؟! نعم ربما يتكلّم الشيطان لمخاصمة الإنسان والدفاع عن نفسه، كما في الآية الآتية وكما يتخاصم المستكبرون والمستضعفون من أهل النار.

«الْقِيا في جَهَنَّمَ كُلُّ كَفَّارٍ عَنيدٍ» الخطاب على الظاهر للملكين السائق والشهيد. أمّا توجيه الخطاب إلى السائق فواضح، وأمّا الشهيد فلأنّه سبب دخوله جهنّم واستحقاقه العذاب، لأنّه الذي يشهد على أعماله. والتعبير عنه بالإلقاء يصوّر زوال كرامة هذا الإنسان، فهو يلقى في جهنم وكأنّه من القمامة. والكَفّار مبالغة في الكفر وهو الستر يوصف به الكافر، لأنّه ينكر ربّه ونعمة ربّه، والمبالغة إمّا من جهة تشدّده في الإنكار أو لعظمة ما ينكره. وتوصيفه بالعنيد يخرج من كان إنكاره لضعف إدراكه وعدم فهمه. والعناد: العتوّ والطغيان والعدول عن طريق الاستقامة. وقيل: العنود المعجب بما عنده وهو أساس الطغيان. والمبالغة في الكفر يستلزم العناد، فإنّ الذي يصرّ على كفره وإنكاره لأوضح الحقائق خصوصاً مع إدراكه لحقيقة الأمر يتحوّل إلى عنيد لا يمكنه درك الحقائق، كما قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ».(1)

ص: 385


1- الأنعام (6): 110.

«مَنَّا لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ». المنّاع مبالغة في المنع، ويصدق على من لا يعمل الخير وعلى من يمنع الآخرين من عمل الخير. ويبعد أن يكون المراد به خصوص المنع عن المال، كما في «الكشّاف»،(1) بل يشمل من يمنع من اهتداء الناس إلى الدين وهو خير الخير مطلقاً فهو أولى به. والاعتداء هو تجاوز الإنسان حقّه إلى حقّ غيره، والإنسان إذا لم يكن لديه وازع من الدين قلّما يتقيّد بضميره، فلا يعتدي على غيره، وهذا في خصوص الحقوق الاجتماعية، وأمّا حقّ الله تعالى وسائر ما جعله الله من حقوق على الإنسان فالكافر لا يلتزم بها بالطبع، واعتداؤه عليها ينبع من عدم إيمانه بها. والريب هو الشكّ. والإرابة بمعنى أنّه يبعث بالشكّ في قلوب الآخرين وهو بمعنيين؛ فتارة أمره مريب؛ أي يبعث بالشكّ في نواياه بالنسبة للمجتمع بمعنى أنّه لا يؤمن من شرّه، وهذا واضح إذا قيس المؤمن بالكافر؛ وتارة يبعث بالشكّ في قلوب الآخرين بالنسبة لحقائق الكون، فهو لا يكتفي بكفره تجاه ربّه، بل يحاول أن يضلّ غيره أيضاً عن طريق التشكيك في المعتقدات، وهذا ما نجده بوضوح من وسائل الإعلام الكافرة في عصرنا.

«الَّذي جَعَلَ مَعَ الله إلهاً آخَرَ فَالْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّديدِ» وهذا هو الوصف الأخير له وهو أقبح أوصافه حيث يجعل الله ندّاً وشريكاً في العبادة. والفاء تفريع على الإلقاء الأوّل للتأكيد، نظير قوله تعالى: «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا آتَوُا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ».(2)

ص: 386


1- راجع الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 387.
2- آل عمران (3): 188.

ويحتمل أن تكون هذه جملة مستقلّة والموصول يتضمّن معنى الشرط والفاء للجزاء، ولعلّ هذا التخصيص بالذكر للإشارة إلى أنّ الشرك هو أسوأ الشرور والصفات الرذيلة، ولذلك وصف عذابه بالشديد. ولو لاحظ الإنسان الصفات الرذيلة بنظرة اجتماعية تتبع المصالح البشرية، فلعلّه لا يصل إلى هذه النتيجة، كما أنّه لا يصل إلى أهمية العبادة ومعرفة الله تعالى، ولكن خالق الكون حيث أعلن أنّه إنّما خلق الإنس والجنّ ليعبدوه، فإنّه يعتبر الشرك أعظم جريمة، ولذلك قال تعالى: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشرك بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لَنْ يَشاء»؛(1) والسبب واضح، لأنه يسير في اتجاه معاكس لما وضعه خالق الكون طريقاً له إلى كماله. وربما يتوهّم أنّ هناك ما هو أفظع من الشرك وهو إنكار وجود الخالق، ولكنّ الصحيح أنّ الشرك أعظم منه، لأنّ المشرك يعبد ربّاً غير الله تعالى، فهو يستخفّ بربّه وينزّل من شأنه ويجعل له مناوئاً وشبيهاً من خلقه وهو أعظم من إنكار وجوده رأساً.

«قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ». الطغيان تجاوز الحدّ في العصيان. ويبدو من هذه الجملة أنّ الإنسان المجرم بعد صدور الحكم بحقّه يحاول أن يدافع عن نفسه؛ فيلقي اللوم على الشيطان أو الإنسان الذي أضلّه، كما يظهر ذلك أيضاً من قوله تعالى: «لا تَخْتَصِمُوا» حيث يدلّ على أنّ كليهما يتحدّثان هناك، ولكنّ السياق لا يتعرّض لكلامه للاستغناء عنه بذكر جواب القرين، والظاهر أنّ المراد به هنا من كان قريناً له في الدنيا، والقرين في الآية السابقة هو من جاء قريناً له في المشهد جاء قريناً له في المشهد يوم القيامة وهو الملك السائق له كما مرّ،

ص: 387


1- النساء (4): 48.

والقرين هنا لعلّه الشيطان الذي قيضه الله له في الدنيا بعد أن غفل عن ذكر ربّه، كما قال تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضُ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ»،(1) ويمكن أن يكون إنساناً مضلاً فإنّه أيضاً قرين له غالباً، كما قال تعالى في حكاية كلام المؤمن في الجنّة: «قَالَ قَاتِلُ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ اإِنَّكَ لَنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ».(2)

ومهما كان فإنّ هذا القرين يرعبه الخطاب الإلهي بالإلقاء في العذاب، فيحاول تبرئة نفسه ممّا آل إليه أمر قرينه فيعتذر قائلاً: «رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ» أي لست مسؤولاً عن طغيانه على ربّه فلست من جعله طاغياً، ولكنّه كان بنفسه في ضلال بعيد، والتعبير بالبعيد يعني أنّه كان بعيداً عن طريق الحقّ لا تؤمل فيه الهداية، فهناك إنسان ضالّ عن الطريق إلا أنّه قريب منه فيؤمل منه الاهتداء، وأمّا إذا بُعد في التوغّل في الضلال فإنّه لا يؤمل منه العود. والشيطان أو الإنسان المضلّ لا ينفي بالطبع، إغواءه ووسوسته، وإنّما ينفي إجباره على ذلك، كما حكى الله تعالى عن الشيطان قوله يوم القيامة : «وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ».(3)

«قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ». الاختصام والمخاصمة أي المنازعة ومطالبة كلّ من الطرفين حقّه. والاختصام ليس ممنوعاً أمام الله تعالى يوم القيامة، بل هو يوم تخاصم الناس ومطالبة المظلومين حقوقهم من الظالمين،

ص: 388


1- الزخرف (43): 36.
2- الصافات (37): 51-53.
3- إبراهيم (14): 22.

وقد قال تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ»(1) وهو خطاب للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ومناوئيه. وإنّما النهي هنا عن اختصام الضالّين والمضلّين، فإنّ الله تعالى قد أنذر وحذّر وعهد إلى الإنسان أنّ الشيطان له عدوّ ، كما قال تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»،(2) كما حذّر الشيطان بقوله تعالى: «لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ»،(3) وجملة «وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ» حالية، أي مع هذا التقديم والإنذار لا معنى للتخاصم، ومعنى ذلك أنّه لا يعذر الشيطان، سواء كان من الإنس أو الجنّ، لأنّه بإغوائه كان يؤثّر في ضلال الناس، فهو مشارك في آثامهم، ولا يعذر الإنسان المخدوع، لأنّ الإغواء والإغراء مهما كان فليس بحيث يوجب عنه سلب القدرة على التفكير أو الاختيار. فالنهي عن الاختصام هنا بمعنى أنّه لا ينتهي إلى حلّ، فالحكم بالعقاب عامّ شامل للطرفين ولا عذر لأحدهما.

ومعنى قدّم له وقدّم إليه: سبق القول منه قبل مداهمة الأمر. فالمراد أنّ الوعيد بالعذاب جاءهم من الله تعالى قبل نزول العذاب يوم القيامة يوم كان الخيار بیدهم.

«مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ». في هذه الجملة احتمالان:

الأوّل: أنّه تعالى لا يبدّل، قوله فلا معنى للاعتذار والمخاصمة حيث إنّ الحكم صادر من قبل في حقّ الضالّين والمضلّين، والله تعالى لا يبدّل حكمه.

وربما يقال: إنّ هذا ينافي المغفرة، فالله تعالى قد أوعد المذنبين بالعذاب مع

ص: 389


1- الزمر (39): 31.
2- يس (36): 60.
3- ص (38): 85.

أنّه ربما يغفر لهم، أليس هذا من تبديل القول؟ والجواب: أنّه أيضاً على أساس قول آخر وهو وعده بغفران الذنوب في ظروف خاصّة، وهذا الوعد لا يشمل المشرك وهو المخاطب هنا لقوله تعالى: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشرك بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمَنْ يَشَاءُ».(1)

والاحتمال الثاني: أن المراد بالقول قول المتخاصمين، أي لا ينفعكم تبديل القول لديّ وإنّما كان ينفعكم التبديل القول لدیّ و إنّما کان ینفعکم التبدیل والتغيير في الحياة الدنيا، وحيث فارقتموها مشرکین و كافرين، فلا ينفعكم الإيمان والتوحيد هنا، وهذا واضح ولكنّ الاحتمال الأوّل أوفق بالسياق.

«وَما أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبيدِ» سبحانه وتعالى أن يظلم أحداً، فما يفعله هو العدل المطلق؛ إذ لا حاجة له إلى ظلم أحد ولئن استوجب اختيار الإنسان في هذه الحياة أن لا يوضع كلّ أحد موضعه الحقيقي لظلم الناس بعضهم بعضاً فلا مجال هناك حتّى لهذا الظلم، وكلّ إنسان ينال حقّه ويوضع موضعه ولا يجزى إلا بعمله.

والسؤال في هذه الآية في التعبير بالظلام وهي صيغة المبالغة، فلعله يوهم أنّه لا يبالغ في الظلم، وأمّا الظلم الطفيف فيمكن أن يحصل مع أنّه مستحيل في حقّه تعالى.

والجواب أنّ المراد أنّه لو كان يظلم أحداً في تلك الحياة لكان الظلم فظيعاً وكبيراً ولكان الله سبحانه ظلاماً وليس به، فلا يظلم أحداً ولا مثقال ذرّة. أو المراد أنّه لو كان يظلم الناس حقّهم لكان ظلاماً باعتبار كثرة موارد الظلم. ويمكن أن يكون «ظلام» بمعنى ظالم كما قيل.

ص: 390


1- النساء (4): 48 و 116.

سوره ق (30- 35)

يَوْمَ تَقُولُ لِجَهَهُ هَلِ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأَزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِیدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٌ (32) مِّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) الهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

«يَوْمَ نَقُولُ جَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزيدٍ». هذه الآية مثار لعدّة أسئلة:

السؤال الأوّل: ما هو متعلّق الظرف: «يَوْمَ نَقُولُ»؟ وأجيب أنّه متعلّق بظلام في الآية السابقة، والمعنى أنّه تعالى ليس ظلاماً للعبيد حين يملأ منهم جهنّم. وهو بعيد؛ لأنّه تعالى لا يظلم أحداً مطلقاً وفي أيّ ظرف لا في خصوص هذا اليوم إلا أن يحمل الكلام على أنّ المراد نفي كون هذا الأمر، أي ملء جهنّم من الجنّة والناس أجمعين ظلماً، ولكنّه لا يناسب صيغة المبالغة ولا يأتي فيه ما مرّ من التوجيه، فلا بدّ أن يقال: إنّ هذا ليس ظلماً لأحد.

والصحيح في الجواب أنّه متعلّق بمحذوف، أي اذكر يوم نقول، وذلك لأنّ هذه الآية تنبّه الإنسان في هذه الحياة إلى أمر آخر من حقائق الكون لا يرتبط بالآية السابقة، وهو أنّ الله تعالى لم يخلق شيئاً لأمر إلا وهو قائم بما اُريد من بكماله وتمامه، وذلك لدفع توهّم بعض البسطاء من الناس أنّ جهنّم مهما كانت واسعة فإنّها لا تسع كلّ هذه الخلائق الكافرة وهم أكثر الخلق، فيمنّي الإنسان الجاهل نفسه بإمكان التخلّص من العذاب فالله تعالى ينبّهه أنّ العذاب يوم القيامة كسائر حقائقها لا يقاس بما نجده في هذه الحياة، وجهنّم كافية للجميع مهما بلغ عددهم.

ص: 391

السؤال الثاني: كيف تخاطب جهنّم وكيف تجيب وهي جماد؟ واُجيب تارة بأنّ الخطاب للخزنة والجواب منهم وهو تأويل بعيد. واُخرى بأنّ الله تعالى يخلق للجمادات يوم القيامة عقولاً فتتكلّم الجنّة والنار، وتشهد الألسنة والأيدي والأرجل والجلود، أو بأنّ الجمادات لها نوع من الشعور والإدراك لا نشعر بها، ولذلك يخاطب الله تعالى السماء والأرض ويردّان الجواب، ويوحي إلى النحل و نحو ذلك.

ولا يبعد القول بأنّ لكلّ الأشياء أمام ربّها نوعاً من الإدراك والشعور، حتّى لو أمكن تأويل ما ورد من توجيه الخطاب إليها، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»،(1) وقوله تعالى: «لَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ والأرض وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلِّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ»؛(2) ولكنّ الظاهر أنّ هذه الخطابات المحكية عن يوم القيامة ليست من قبيل القول بالمعنى المتعارف، بل هي إشارات وكنايات تدلّ على حقائق، وقد قلنا مراراً إن التعبير بالقول يوم القيامة قد لا يحكي عن كلام، بل عن أمر آخر؛ فقول الملائكة: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ»(3) ربما يكون المراد به إثبات حقيقة السلامة لهم تكويناً، و كذلك اللعن، فلا يبعد أن يكون ما ورد من الخطاب لجهنّم وجوابها بياناً رمزياً لحقيقة عينية، وسيأتي ذكرها.

السؤال الثالث: أنّ ظاهر هذا السؤال والجواب أنّ جهنّم لم تمتلئ بمن فيها من أهلها وهو ينافي التعبير بملء جهنّم في أكثر من مورد، منها قوله تعالى: «وَتَمَّتْ

ص: 392


1- الإسراء (17): 44.
2- النور (24): 41.
3- الزمر (39): 73.

كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»؟(1)

واُجيب بوجوه أحدها: أنّ المراد بالسؤال المذكور في جواب جهنّم: «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» الاستفهام الإنكاري، أي ليس فيها من مزيد. وعليه فيكون المراد بالمزيد مزيداً من الحيّز والمكان وهو بعيد عن اللفظ بعداً شاسعاً، ويصحّ أن يقال إنّ من الواضح أنّ المراد مزيد من المستحقّين للعذاب. ويدلّ على ذلك أيضاً أنّ الغرض هذا السؤال والجواب واضح بناءاً على أنّ المراد طلب المزيد، وهو بيان أنّ جهنّم كافية للمجرمين مهما كثر عددهم دفعاً لتوهّم بعضهم أنّ الكافرين والمشركين والمجرمين هم أكثر أهل الأرض وطيلة القرون المتمادية لا يحصون عدداً، فكيف يحصرون في جهنّم؟! فالآية تردّ عليهم بأنّ جهنّم لا تمتلئ بكلّ هؤلاء، بل تطلب المزيد، فقوله: «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» لبيان الطلب كناية عن كفايتها، بل زيادتها ردّاً على هذا التوهّم، وأمّا بناءاً على كونه إنكاراً للمزيد، فلا يتبيّن منه غرض صحيح.

وقيل: إنّ المراد بالامتلاء أنّه لا يخلو طبقة منها من السكنة ولا ينافي وجود فراغات فيها وهو كلام سخيف يبتني على تصوّر أنّ جهنم بلدة فيها مبان وطبقات.

وقيل: إنّ عدم الامتلاء قبل أن يلقى فيها باقي أهلها والامتلاء بعد ذلك؛ وهو أيضاً سخيف، إذ لا يبقى معنى لعرض هذا الخطاب والجواب، فما هو الغرض من السؤال هل امتلأت؟ وكأنّ هذا القائل تصوّر أنّ الله تعالى يستفسر جهنّم أو خزنتها واقعاً. هل هناك مجال ليلقي فيها مجموعة اُخرى من المجرمين أم لا؟ ولا

ص: 393


1- هود (11): 119.

أدري على هذا التصوّر لو لم يكن فيها مجال، هل كان يبنى لهم سجن آخر أم ماذا ؟!

والصحيح في الجواب أنّ المراد بقوله تعالى: «الأملانُ جَهَنَّمَ مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ» ليس هو سدّ الخلل والفرج في جهنّم من الجنّة والناس، إذ لا يناسب المقام التركيز على ذلك، بل المناسب في مقام تهديد العصاة والمردة أنّه تعالى لا يأبه لإدخال الجنّة والناس أجمعين في جهنّم، فمصبّ الاهتمام إنّما هو كلمة «أجْمَعِينَ» دفعاً لما يستغرب - وإلى يومنا هذا - من إلقائه تعالى كلّ كافر ومنافق وعاصٍ في جهنّم وهم كلّ البشر على ما نرى وكلّ الجنّ أيضاً على ما يبدو، ولا يبقى للجنّة إلا النادر، وهذا الاستغراب أبداه الشيطان من أوّل يوم، فردّ الله تعالى عليه بأنّ ذلك لا يهمّه وأنّ جهنّم مهيّأة لكلّ من يتبعه، ولو كفر كلّ من في الأرض لألقاهم جميعاً في جهنّم ولا يبالي.

والحاصل أنّ المراد ليس هو الملء بمعنى عدم وجود الفراغ، بل بمعنى عدم استثناء من يستحقّ العذاب وأنّه تعالى لا يهمّه كثرة العدد. والقصد من ذلك الردّ على فكرة خاطئة لدى الإنسان وهي متابعة الأكثرية، فالإنسان يلاحظ في هذه الحياة أنّ الغلبة دائماً للأكثرية الساحقة وأنّ الحكام لا يسعهم مواجهة العدد الهائل من المعارضين، ومن هنا يتصوّر كثير من الناس أنّ الفلاح والنجاح دائماً السواد الأعظم، فالله تعالى ينبّه البشر على أنّ الأكثرية الساحقة مصيرهم جهنّم بحيث لا يبقى إلا القليل، فيصحّ التعبير بأنّه تعالى ملأ جهنم من الجنّة والناس أجمعين.

ومن الطريف ما ورد في هذا الباب من الروايات في صحاح العامّة ممّا

ص: 394

اضطرّهم إلى تأويلها لاستلزامها القول بالتجسيم وغيره من الاعتقاد الباطل والسخيف. ففي «روح المعاني»: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن إنس قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم -: «لا تزال جهنّم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قطّ قطّ وعزّتك وكرمك، ولا يزال في الجنّة فضل حتّى ينشئ الله لها خلقاً آخر، فيسكنهم في فضول الجنّة».(1)

وقال: أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و آله وسلّم -: «تحاجّت الجنّة والنار، فقالت النار: أو ثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين؛ وقالت الجنّة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، فقال الله تعالى للجنّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنّما أنت عذابي اُعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منكما ملؤها، فأمّا النار فلا تمتلئ حتّى يضع رجله، فتقول قطّ قطّ، فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأمّا الجنّة فإنّ الله تعالى ينشيء لها خلقاً».(2)

«وَازْلِفَتِ الجنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعيدٍ». شروع في بيان حال المتّقين بعد بيان تعاسة حال الكافرين والعاصين و «أزلِفَتْ»، أي قربّت. قالوا: إنّ الأمر ينبغي أن يكون بالعكس حيث إنّ المتّقين يقرّبون إلى الجنّة إلا أنّ ذلك تشريف من الله لهم حيث تقرّب الجنّة إليهم؛ وقالوا: إنّ ذلك ليس بعيداً من قدرته تعالى. وقال بعضهم: إنّ التعبير إنّما هو للتشريف والتكريم، والواقع أنّهم هم الذين يقرَبون إلى الجنّة. ويرد القول الأوّل التصريح بالعكس في قوله تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا

ص: 395


1- روح المعاني 13: 338.
2- نفس المصدر.

رَبَّهُم إلى الجَنَّةِ زُمَراً حتّى إذا جاؤُهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقالَ هُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ».(1)

ولا يبعد ان يكون المراد بالإزلاف التقريب المعنوي بمعنى التسامح معهم في الحساب ليدخلوا الجنّة، كما قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابُ الْيَمِينِ»،(2) وقال أيضاً: «إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم»(3) بخلاف غيرهم الذين يحاسبون سوء الحساب ويؤخذ عليهم كل صغيرة وكبيرة، كما قال تعالى: «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ هُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ هُمْ سُوءُ الحِسابِ».(4)

وقوله تعالى: «غَيْرَ بَعِيدٍ» حال من الجنّة، وقيل: إنّه تأكيد للقرب، نظير قولهم: عزيز غير ذليل. ولعلّ الوجه في مثل هذا التأكيد دفع توهّم التجوز في التوصيف بالعزّة أو القرب. ويمكن أن يكون تأسيساً باعتبار أنّ التقريب لا يستلزم القرب؛ لأنّه أمر إضافي فيمكن أن يقرب الشيء إلى الشيء بمعنى تقليل المسافة، ولكنّه يبقى بعيداً أيضاً في حدّ ذاته وإن صار أقرب من ذي قبل، فالتوصيف بأنّها غير بعيد يدلّ على أنّها قربت بحيث أصبحت قريباً من متناول يدهم.

ووقع الكلام في وجه الإتيان بالحال مذكّراً، وقد مرّ البحث عنه في تفسير قوله تعالى: «وَمَا يُدْرِيكَ لعل السَّاعَةَ قَرِيبٌ»،(5) وقلنا: إنّ أفضل ما قيل في هذا الباب ما حكي عن الفراء من أنّ القرب والبعد إن أتي بهما لبيان القرابة النسبية

ص: 396


1- الزمر (39): 73.
2- المدثر (74): 38 - 39.
3- النساء (4): 31.
4- الرعد (13): 18.
5- الشورى (42): 17.

وانتفائها، لوحظ فيهما التذكير والتأنيث، وإن اُتي بهما لبيان القرب والبعد المكاني أو الزماني ولو تجوّزاً لم يلاحظ التذكير والتأنيث، للفرق بين المعنيين ولأنّ الصفة في الواقع صفة للمكان أو الزمان، وليس معناه تقدير كلمة مكان ليختل النظم والتركيب، بل بمعنى أنّ تذكير الصفة بلحاظ أنّها في الواقع للمكان ولو تجوّزاً، ومثله قوله تعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ».(1)

«هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابِ حَفِيظٌ» إشارة إلى الجنّة بذاتها لا إلى لفظ الجنّة، فلا ينافي تذكير الضمير، وهذه جملة قيل: إنّها تقال لهم حين يسار بهم إلى الجنّة أو تُقرّب الجنّة إليهم، وبناءاً على ما مرّ من الاحتمال يمكن أن لا يكون هناك قول وخطاب، بل هذا لسان الحال. ثمّ إنّه لو كان هناك قول وقائل في ذلك اليوم، فلا بدّ من تقدير في الجملة، أي ما كنتم توعدون في الحياة الدنيا. ويمكن أن يكون انشاءاً في هذه الحياة لا خطاباً هناك. أي يقال في القرآن المنزل خطاباً للمتقين: «هَذَا مَا تُوعَدُونَ».

وقوله: «لِكُلِّ أَوَّابٍ» بدل عن «لِلْمُتَّقِينَ»، وجملة: «هَذَا مَا تُوعَدُونَ» معترضة بين البدل والمبدل منه. والأوّاب مبالغة في الأوب وهو الرجوع، كالتّواب، وقد وصف الله بهما عباده المخلَصين كالأنبياء والمرسلين. والرجوع يقتضي ذهاباً ولا يستلزم ذنباً، فليس كلّ تائب أو توّاب مذنب، بل يكفي اشتغاله بغيره تعالى، فإنّ العارف بمقام ربّه يعتبر كلّ اشتغال بغيره مخالفاً لما تقتضيه العبودية في محضر الربّ تعالى، فلا بدّ له من توبة وأوبة ورجوع. وعلى هذا فالأوب والرجوع هنا يختلف باختلاف الموارد. وكثرة الرجوع ليس بمعنى كثرة موارد الاشتغال

ص: 397


1- الأعراف (7): 56.

بغيره، بل هو في حين الاشتغال أيضاً يرجع ويرجع، فلا يتوغّل في الذهاب بعيداً عن خدمة ربّه. والحفيظ بمعنى أنّه يحفظ عهد ربّه وميثاقه ويحفظ نفسه من الزلات قدر المستطاع ويحفظ دينه وتقواه.

«مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ». الخشية: الخوف. ولخشية الله تعالى بالغيب معنيان: الأوّل: أنهم يتّقون الله ويخشونه في مواضع الخلوة حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى.

والثاني: أنّهم يخشونه وهم لا يرونه، وعلى هذا المعنى فقوله: «بِالْغَيْبِ» ليس تقييداً؛ إذ ليس هناك من يخشاه وهو يشاهده تعالى، فكلّ من يخشاه يخشاه بالغيب، وإنّما اُتي به للدلالة على أنّ مناط استحقاق الجنّة هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»،(1) وهذا هو سرّ الكمال، فالإنسان متشبّث بعالم المادّة وزخارفها ومعجب بها، وكلّما توغّل في هذا الأمر سقط إلى الحضيض، وبعد عن سماء الكمال البشري والقرب لدى الله سبحانه وكلّما انقطع عن هذه الظواهر وارتبط بالغيب وتعلق به ازداد كمالاً وتوسعت نفسه وروحه، فكمال الإنسان كامن في إيمانه بالغيب، أي بما لا يُرى ولا يُحسّ. ولذلك فإنّ الإيمان لا ينفع إذا اتضح الأمر كلّ الوضوح فلم يعدّ غيباً، بل كان شهوداً، كما قال تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أو يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ».(2)

ص: 398


1- البقرة (2): 3.
2- الأنعام (6): 158.

وفي اختيار اسم الرحمن هنا - مع أنّه ربما يتوهّم أنّ الأنسب أن يعبّر عنه بما يدلّ على انتقامه وغضبه - إشارة لطيفة إلى أنّ خشيتهم ليست من عذابه وعقابه، بل إنّهم مع استشعار رحمته الواسعة المدلول عليها بصيغة المبالغة، أي: «الرَّحْمَن» يخشونه، فهم يخافون مقام ربّهم، كما قال تعالى: «وَمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ»، (1) وقال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ المَأوَى»،(2) فالخشية من الرحمن ليست خشية من عقابه، بل هي إكرام وإعظام للربّ؛ سواء كان المراد بالغيب خشيته تعالى في الخفاء، فإنّهم يتّقونه تعالى إعظاماً له، أم كان المراد الخشية مع عدم الرؤية، فهم بقلوبهم يشعرون عظمة الخالق. وهذا هو السرّ الآخر في الكمال البشري، فإنّ الخوف من العقاب أمر طبيعي لا يدلّ على عظمة في النفس وتكامل في الروح، وإنّما الكمال لمن يتّقي الله تعالى إجلالاً له ومعرفة بمقامه الرفيع.

وقد وصف الله تعالى ملائكته بالخشية وهم معصومون لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمره يعملون، فلماذا الخشية ولماذا الخوف؟ قال تعالى في توصيف الملائكة: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا مَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون»،(3) وقال أيضاً: «وَالله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض مِنْ دَابَّةٍ وَالمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»،(4) فهم لا يخشون عذاباً

ص: 399


1- الرحمن (55): 46.
2- النازعات (79): 40 - 41 .
3- الأنبياء (21): 26 - 28.
4- النحل (16): 49 - 50.

وإنّما يخافون مقام ربّهم بمعنى أنّهم يخافون من التقصير في حقّه تعالى وأن لا يكون عملهم على ما ينبغي من إجلاله تعالى وإعظامه. وهذا هو الذي أشار إليه سيّد الموحدين وأمير المؤمنين - عليه أفضل الصلاة والسلام - على ما نسب إليه: «ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1) وإن لم أجد له مستنداً في كتب الحديث.

«وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ»، أي جاء إلى ربّه بقلب منيب، وفيه إشارة إلى بقائه على خشوعه وخشيته وإنابته الله تعالى إلى يوم لقائه، فكثيراً ما يقضي الإنسان عمره في الطاعة والعبادة، ثمّ يتحوّل إلى إنسان عاص لربّه، فالمهمّ هو أن يبقى على هدايته إلى آخر الطريق. والإنابة هو الرجوع وقد مرّ الكلام حوله. ولعلّ في توصيف القلب بالإنابة إشارة إلى أنّه قد يبقى الإنسان على عادته من العبادة الصورية؛ لأنّها شيء تعوده فيشقّ عليه تركه ولكن قلبه يصاب بالمرض نتيجة حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة.

«ادْخُلُوها بِسَلامِ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ». قالوا: إنّه خطاب من الله تعالى أو الملائكة بأمره تعالى موجه للمتقين، وقد قلنا مراراً: إنّ الأقوال هناك لعلّها تعبير عن الأفعال، فهذا الأمر بيان لما يحدث تكويناً في تلك الحياة من الإذن لهم في الدخول. والسلام، أي السلامة من كلّ عيب ونقص، ومن كلّ ما يكدر صفو الحياة، فليس هناك مرض ولا فقر ولا جهل ولا أيّ أمر يحزن الإنسان أو يحذر منه ويخافه، فليس هناك خوف من أمر في المستقبل ولا حزن على ما مضى.

ويوم الخلود أي مرحلة الخلود، وليس المراد باليوم معناه المتعارف، فإنّه

ص: 400


1- بحار الأنوار 67: 186؛ عوالي اللئالي 2: 11 / 18.

زمان محدود فيتنافى ذلك مع الخلود؛ وأوّله بعضهم بأنّ المراد يوم ابتداء الخلود أو يوم إعلامه، وما ذكرناه أوضح. والخلود بمعنى الدوام والبقاء. والآيات الدالّة بوضوح على خلود أهل الجنّة في الجنّة كثيرة جدّاً، وكذلك في خلود أهل النار في النار وإن ناقش بعض المفسّرين والباحثين في ذلك، وقالوا إنّهم يفنون في النهاية بفناء النار.

«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فيها وَلَدَيْنا مَزيدٌ». الجملة الاُولى غير محدودة وغير مقيدة، فلأهل الجنّة فيها كلّ ما يشاؤون والتقييد ليس إلا بالمشيئة، فلابدّ من أن يكون المراد بالمزيد ما لا يشاءونه، ولا شكّ أنّهم يشاءون كلّ ما تصبو إليه النفس من النعم، وليس لمشيئة الإنسان حدّ إلا التعقّل بمعنى أنّه لا يشاء ما لا يعقله، فتكون النتيجة أنّ المزيد الذي ينعم الله به عليهم ممّا لا يتعقّلونه وإلا لشاءوه ولم يكن مزيداً. والظاهر أنّه ممّا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويبعد أن يكون المراد رضوان الله تعالى، فإنّه قد صرّح به في القرآن الكريم فهو ممّا يعلمه كثير منهم؛ نعم يمكن أن يكون من اللذات المعنوية التي لا تخطر ببال أحد.

ص: 401

سوره ق (36- 40)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَتَقْبُوا فِي الْبِلَادِ هَل مِن مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبُ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ الَّيْلِ فَسَيْحْهُ وَأَدْبَرَ السُّجُودِ (40)

«وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحيصِ» القرن مأخوذ من قرن الشيء بالشيء، أي جمعهما، فالمعنى كلّ مجموعة من البشر أو الزمان، فيقال القرن المجموعة من السنين كمائة سنة وكلّ مجموعة من البشر وهو المراد هنا، والضمير في قوله: «قَبْلَهُمْ» يعود إلى مشركي مكّة، والغرض التهديد والتحذير لمنكري الرسالات. وقد ورد نظيره في موارد عديدة من الكتاب العزيز وكان كثير من الأقوام السابقة أشدّ بطشاً وقوة وحضارة من مشركي مكّة، كما تدلّ عليه آثارهم الباقية، وقد اُبيدوا بالعذاب الإلهي لتكذيبهم الرسل. والبطش قيل: هو أخذ الشيء بقوّة وقهر وغلبة، ولا يبعد أن يكون بمعنى إعمال القهر والغلبة، سواء صدق الأخذ أم لم يصدق. والتنقيب: الحفر، فهو والتنقير بمعنى واحد، والتنقيب في البلاد بمعنى السير فيها، إمّا من جهة أنّه يستلزم غالباً الكشف عن اُمور جديدة، فكأنّه حفر ووصل إلى مخابئ وإمّا من جهة أنّ السير كان قديماً بالإبل ونحوه وهي تحفر الأرض بإخفافها، والغرض هنا أنّهم لم يكتفوا بمواطنهم، بل نقبّوا في البلاد لبسط سيطرتهم أو طلباً للمزيد من المال وأسس الحضارة.

ص: 402

والظاهر أنّ قوله: «هَلْ مِنْ مَحِيصٍ» خطاب منه تعالى المشركي مكّة، أي هل لكم من محيص من أمره تعالى، فلو كان هناك مهرب من العذاب لكان لتلك الامم ولما هلكوا ولا بادوا وبادت حضارتهم. والمحيص: المحيد والمهرب، أي لا مهرب لكم من عذاب الله تعالى، كما لم يكن لهم. وقيل: إنّه تكميل للجملة السابقة، أي بحثوا في البلاد هل لهم مهرب من عذاب الله تعالى، وهذا يبتني على إمهالهم بعد نزول العذاب وهو بعيد.

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى مِنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»؛ الذكرى اسم مصدر من التذكير كما في «العين».(1) أي في ما مرّ من الآيات أو في ملاحظة أحوال الاُمم السالفة تذكير للإنسان، فتدلّ الآية على أنّ ما يحصل عليه الإنسان من ملاحظة الآيات والعبر تذكّراً، وليس تعلّماً جديداً في إشارة إلى أنّ الإنسان بطبعه وفطرته يعترف بربوبية الله سبحانه، وهو أساس الرسالات، وإنّما يغفل عنها بتوغّله في شؤون الحياة الدنيا وفي شهواته ولذّاته. وهذا ممّا أكّد عليه القرآن الكريم في أكثر من مورد، ومن الآيات التي تدلّ على كون الإنسان مؤمناً بفطرته قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَاشْهَدَهُمْ عَلَى انْفُسِهِمْ السْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ».(2)

ثمّ إنّ التذكير يختصّ بمن كان له قلب أو سمِعَ ما يوجب التذكّر من غيره، والمراد بالقلب القوّة العاقلة للإنسان لا العضو الذي يضخّ الدم، فإنّه ليس له دور في الفهم والتعقّل، وقد كثر استعمال القلب في هذا المعنى في القرآن الكريم.

ص: 403


1- كتاب العين 5: 346.
2- الأعراف (7): 172.

ولا يقابله من لا عقل له، أي المجنون والسفيه، فإنّه خارج عن مورد الكلام، بل يقابله من لا يدرك الاُمور المعنوية، ويلاحظ أنّ أكثر الناس شديد التعقّل والإدراك في مرحلة الفهم وشديد الاهتمام أيضاً في مقام العمل وأخذ الحيطة إلى حدّ الوسوسة لما يخصّ حياته في الدنيا وسعادته وصحّته، بل تمكّنه من جمع قدر أكبر من المال ونحو ذلك من الشؤون الدنيوية، ولكنّه ضعيف الإدراك بل فاقده في الأمور المعنوية وما يتعلّق بالغيب وبالآخرة، ونجد كثيراً ممّن يسمّون بالعلماء لهم نبوغ وفطنة خارقة للعادة في درك ما يخصّ شؤون الدنيا، ولكنّهم لا يتجاوزون عنها ولا يتفطّنون لوجود الخالق الحكيم المدبّر للكون، فيا لهم من أغبياء نوابغ؟! فمثل هذا وإن كان له قلب بمعنى ما يتعقّل به، ولكنّه لا يتعقّل ما وراء الحسّ فكأنّه لا عقل له.

وفي محل الكلام، أي الاعتبار بالعبر الباقية من الأمم السالفة نجد المجتمع البشري اليوم يهتمّ أشدّ الاهتمام بالاحتفاظ بآثارهم ويصرف الأموال الطائلة لصيانتها والحثّ على زيارتها، ولكن ليس في ذلك أيّ اعتبار بما جرى عليهم، بل ربما يهتمّ بشأن آثارهم باعتبار أنّها تدلّ على حضارة قديمة وتمدن بائد ومفاخر للآباء السالفين وأمجاد للملوك القدماء، ولكنّ القرآن يحرّض على السير في الأرض لملاحظة آثار الاُمم السابقة، والاعتبار بما جرى عليهم من عذاب الله تعالى.

ومن لا يدرك الاُمور المعنوية بنفسه يمكن أيضاً أن يتأثّر ويعتبر إذا ألقى السمع وهو شهيد. والمراد بإلقاء السمع هو الإصغاء بدقّة، فكأنّه ألقى سمعه تحت اختيار القائل، ويشترط في ذلك أن يكون شهيداً، أي شاهداً وحاضراً، فربما

ص: 404

يستمع الإنسان ويسمع القول ولكن قلبه مشغول بغيره، فلا يؤثّر فيه ما يتلى عليه.

والترديد بين الصنفين بلحاظ أنّ المعتبر بالعبر قد يكون عالماً بنفسه متفطّنا لما يستخلّص من الآثار من عبر، وقد يكون متعلّماً يستمع إلى العلماء بدقّة وتنّبه، وأمّا إذا لم يعقل بنفسه ولم يسمع لتنبيه العلماء المخلصين فمصيره الهلاك، كما قال تعالى: «وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أو تَعْقِلُ مَا كُنَّا في أصحاب السَّعِيرِ»،(1) وقال أمير المؤمنين : «النَّاسُ ثَلاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَنْبَاعُ كُلَّ نَاعِقِ يَمِيلُونَ مَعَ كلّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِينُوا بِنُورِ العلمِ وَلَمْ يَلْجَأوا إلى رُكْنٍ وَثِيق.(2)

«وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ». مرّ الكلام حول هذه الحقيقة في تفسير سورة «فصّلت» وقلنا: إنّ المراد بالأيام مراحل تكوين العالم كما هو واضح. واللغوب: التعب.

والآية تردّ على المشركين حيث ينكرون المعاد استبعاداً له، فالله تعالى يقول: إنّ خلق الكون من العدم في ستّة مراحل من التكوين أعظم بكثير ولم يمسّه تعالى من هذا الخلق تعب ولا نصب، لأنّ القدرة الإلهية لا حدّ لها، فلا يمكن أن يكون شيء أهون عنده من شيء. ويرد أيضاً على اليهود حيث قالوا: إنّ الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام واستراح يوم السبت واستلقى على عرشه، فأوّلوا الأيّام بأيام الاُسبوع ونسبوا إليه تعالى التعب. وهو كلام مضحك، لأنّ اليوم بهذا المعنى لا يمكن أن يتحقّق قبل خلق السماوات والأرض، وهذا من علائم التحريف في التوراة؛ فإنّ الذين جمعوها بعد دهر من ضياعها لم

ص: 405


1- الملك (67): 10.
2- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 147/495.

يكونوا يحفظون منها إلا اُموراً مبهمة، فيضيفون إليها ما يفسّرها حسب نظرهم.

وقال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية مدنية بقرينة الردّ على اليهود،(1) وهذا لا وجه له حتّى لو فرض كونها ردّاً عليهم بالخصوص، فهناك آيات كثيرة نزلت في مكّة بشأن أهل الكتاب، كقوله تعالى: «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابِ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ»،(2) على ما مرّ الكلام في تفسيرها. وكان أهل مكّة أيضاً يعلمون أخبارهم وعقائدهم وكانوا يختلفون إليهم ويتحاكمون لديهم.

«فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ» تفريع على بطلان عقائد المشركين واستبعادهم للمعاد، وتطييب لخاطر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وتهديد للمشركين، فإنّ الأمر بالصبر هنا إيكال أمرهم إلى الله تعالى، فهو لهم بالمرصاد، ولذلك عقّبه بالأمر بالتسبيح والحمد. ونظيره قوله تعالى: «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوع الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى».(3)

ويبدو أنّ الغرض التنبيه على أنّ العنصر الأساس لتحقيق المقاومة أمام ضغوط النفاق والكفر هو الالتجاء إلى ذكر الله تعالى وتسبيحه وعبادته، وقد تكرّر ذلك في الكتاب العزيز، منها قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ

ص: 406


1- راجع: بيان المعاني 1: 266 - 267.
2- الشورى (42): 15.
3- طه (20): 130.

بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ».(1) وهذا الأمر لا يختصّ بالرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، بل يشمل كلّ الدعاة والمصلحين، وكلّ من يواجه ضغوط الكفر والنفاق في نشاطه الديني.

والباء في قوله «بِحَمْدِ رَبِّكَ» للمصاحبة، أي سبّحه مع الحمد؛ فالتسبيح أي تنزيهه تعالى من كلّ ما لا يليق بشأنه الكريم من العجز الذي اعتقده المشركون والتعب الذي توهّمه اليهود ومن غير ذلك، وليكن ذلك مصاحباً لحمده والثناء عليه بما يليق بذاته المتقدّسة.

والظاهر أنّ ذكر الأزمنة المختلفة إشارة إلى استمرار الذكر والتنزيه والثناء، :وقيل: إنّه إشارة إلى أوقات الصلاة، فقبل الطلوع وقت صلاة الصبح، وقبل الغروب وقت الظهرين، وقوله: «مِنَ اللَّيْلِ» إشارة إلى العشاءين، وأدبار السجود، أي أدبار الفرائض والمراد بها النوافل.

ولكنّه تأويل بعيد، فالتعبير عن وقت الظهر، بل العصر أيضاً بما قبل الغروب بعيد؛ فإنّ وقتهما وإن امتدّ إلى الغروب إلا أنّ مبدأه الظهر، ولا يقال له قبل الغروب، بل التعبير بما قبل الطلوع عن صلاة الصبح بعيد أيضاً، والنوافل ليست كلّها بعد الفرائض، ويقوى الإشكال في سورة طه حيث أضاف إلى آناء الليل أطراف النهار، فالأقرب ما ذكرناه.

وورد في رواية أنّ المراد به الذكر قبل الطلوع والغروب، روى الصدوق رحمه الله في «الخصال» بسند مجهول عن إسماعيل بن الفضل، قال: سالت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها»،(2) فقال:

ص: 407


1- الحجر (15): 97 - 99.
2- طه (20): 130.

فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرّات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير». الحديث.(1) وهو وإن كان وارداً في آية سورة طه إلا أنّ العبارة إلى هنا فيهما واحدة، ولكنّ السند ضعيف كما قلنا، نعم هناك روايات اُخرى أيضاً حول الذكر في هذين الوقتين من دون ذكر الآية؛ ولم أجد ما يصحّ سنده ولم يظهر من الرواية أنّها بصدد تفسير الآية.

و«مِن» في قوله: «وَمِنَ اللَّيْلِ» للتبعيض، أي وسبّحه شطراً من الليل، ولعلّ المراد غير حال النوم، ومثله قوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ»(2) حيث يؤمّر الرسول بالتسبيح و الحمد طول أوقات قیامه، أي غير حال النوم. وشطراً من الليل، أي قبل أن ينام وبعد قيامه، فالمراد الاستمرار طول الوقت بذكره تعالى، وهكذا كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، فقد كان ذاكراً لله تعالى مع كلّ قول وفعل وفي كلّ حال من حالاته.

و «أدْبَارَ» جمع دبر بضمتين أو بضمة فسكون بمعنى آخر الشيء، ولا يبعد أن يكون المراد بالسجود الصلاة كما يعبّر عنها بالركوع أيضاً، وكما يعبّر عن جزء منها بالركعة، كلّ ذلك من باب تسمية الشيء باسم جزئه المهمّ، وهذا أمر بالتسبيح بعد الصلاة وينطبق ذلك على التعقيب بعدها، وقد ورد التأكيد عليه في الروايات الشريفة. وقرئ «إدبار» بكسر الهمزة بمعنى الانتهاء، فيكون واقعاً موقع الظرف أي وقت الانتهاء من الصلاة.

ص: 408


1- الخصال: 452.
2- الطور (52): 48 - 49.

ولكن ورد في بعض الروايات تطبيق الآية على نافلة المغرب، منها ما رواه الكليني بسند صحيح، عن أبي جعفر علیه السّلام حديثاً وفي ذيله: قلت: «وَأَدْبَارَ السُّجُودِ»؟ قال: «ركعتان بعد المغرب».(1)

ص: 409


1- الكافي 3: 444، باب صلاة النوافل.

سوره ق (41- 45)

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخروج (42) إِنَّا نَحْنُ في وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرُ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن تَخَافُ وَعِيدِ (45)

«وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ المَنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ». يحتمل في قوله تعالى: «وَاسْتَمِعْ» أن يكون للتنبيه، فليس له مفعول، والخطاب للإنسان أو لكلّ من يسمع أو يقرأ أو للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، وعلى هذا الاحتمال فالجملة التالية مستأنفة ومضمونها الأمر الذي يجب التنبه له بقوله: «وَاسْتَمِعْ»، وعليه فالظرف: «يَوْمَ يُنَادِ» متعلّق بما يدلّ عليه قوله: «ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ»، أي يخرجون يوم ينادي المنادي. والمجموع جواب للمشركين المنكرين للمعاد والذين يسألون عن موعده.

ويحتمل أن يكون التقدير: واستمع للنداء، فيكون الظرف متعلّقاً بالاستماع، والمعنى: كن متأهباً لسماع النداء يوم ينادي المنادي، وذلك لأنّ الاستماع إنّما يؤمر به حين يقرب النداء، والغرض بيان أنّ النداء قريب زماناً وأنّ توهّمه الإنسان بعيداً، وعليه فقوله: «ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» جملة مستقلّة. ويحتمل بعيداً - وإن اختاره العلامة الطباطبائي رحمه الله (1) - أن يكون الاستماع مضمناً معنى الانتظار، فيكون اليوم مفعولاً ، أي انتظر يوم النداء مستمعاً له.

واختلف في المنادي أنّه جبرئيل أو إسرافيل أو ملك آخر أو هو الله سبحانه، ولا طائل تحت هذا الاختلاف، فالمهمّ هو أنّ هذا النداء قريب زماناً ومكاناً،

ص: 410


1- الميزان في تفسير القرآن 18: 360 - 361.

والمراد به نفخة الصور الثانية التي تحيا بها الخلائق، كما قال تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فإِذا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»؛(1) أمّا أنّه قريب زماناً - كما يفهم من هذه الآية ومن قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً»(2) - فلأنّ الإنسان إذا مات فقد قامت قيامته، لأنّ الزمان مطوي في تلك النشأة، وإذا قام الناس فإنّ أمثلهم طريقة من يقول: «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْماً»،(3) وليس هذا وهماً وخطاً، بل هو حقيقة وإن كنّا نستغرب طي الزمان ولكنّا نشعر به في هذه الحياة أيضاً في عالم الرؤيا، فالإنسان لا يحفظ من رؤياه إلا ما يجده في اللحظة الأخيرة التي يكون فيها بين اليقظة والمنام، وربما تكون ثانية أو أقلّ منها وهو يرى مشهداً طويلاً ربما يستمرّ ساعات، وقد لا يكون وهماً وخيالاً، بل رؤيا حقيقية تحكي عن أمر واقع مغيب عنه في نفس الوقت أو في المستقبل.

وأمّا أنّه قريب مكاناً فهو ما صرّح به في هذه الآية، ومعنى ذلك أنّ الصوت يسمعه كلّ أحد قريباً منه، وليس ذلك لعلوّ الصوت، بل منشأ الصوت قريب من كلّ أحد، كما هو صريح الآية، فالمكان أيضاً مطوي والفواصل قليلة أو منعدمة. والنداء يوجّه إلى الأرواح التي هي نفس النفوس البشرية حقيقة، لأنّه النداء الثاني الذي يعقّب النداء الأوّل، وهو الموجب لصعوق من في السماوات والأرض، كما قال تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ ثمّ نُفِخَ فِيهِ أُخرى فإذا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»،(4) فلم تبق إلا الأرواح.

ص: 411


1- الزمر (39): 68.
2- المعارج (70): 6- 7.
3- قال تعالى: «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَريقَةً إِن لِبثْتُمْ إِلا يَوْماً». (طه (20): 104)
4- الزمر (39): 68.

«يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ» وهذا بدل عن «يَوْمَ يُنَادِ» وقوله: «بِالْحَقِّ» بمعنى أنّهم يسمعونه واقعاً وليس خيالاً ووهماً، ولعلّ الصيحة صيحة انفجار يتعقّبه نشوء الكون الجديد، كما أنّ الصيحة الأولى يحتمل أن تكون صيحة انفجار يهدم النظام الكوني القائم. والآية تنبه على أنّ البشر يسمعون الصيحة، فهم موجودون وأحياء لهم أسماع، وإن لم يكن لهم آذان وأجسام ولكنهم في عالم آخر وبحياة اُخرى نجهل كيفيتها ومقوّماتها.

«ذلِكَ يَوْمُ الخروجِ»؛ أي يوم الخروج من القبور، وربما يكون هذا تعبيراً يراد به عود الأرواح إلى الأجسام والبدء بحياة اُخرى. والغرض الردّ على السؤال عن التوقيت، كما ورد في القرآن مكرّراً أنّهم يقولون: «مَتَى هَذَا الْوَعْدُ».(1)

«إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ». هذه الجملة ترفع الاستغراب عن الإحياء بعد الموت، فإنّ الإحياء والإماتة أمران مستمرّان وهذا ما يدلّ عليه فعل المضارع. وتعاقب الإحياء والإماتة لم يتوقّف لحظة في الكون، فالأرض تموت وتحيا، وما عليها من نبات تموت وتحيا، وكذلك الإنسان والحيوان، بل كلّ خلية. والحياة لا تختلف في الخلية الواحدة عنها في مجموعة الخلايا المكونة لجسم نبات أو حيوان أو إنسان، ونحن نعاصر دائماً موت الملايين من خلايا أجسامنا، وتكوّن خلايا حية بدلاً عنها، وكلّ ذلك من الله تعالى كما أكّد عليه بالضمير المنفصل: «إِنَّا نَحْنُ»، بل كلّ شيء وكلّ حركة وسكون منه تعالى إلا أنّ التأكيد على ذلك في الإحياء والإماتة لغرابتهما وعدم وصول الإنسان إلى مبادئهما الطبيعية.

«وَإِلَيْنَا المصيرُ». المصير هو المرجع والمآل أي أنّ مرجع الإنسان إلى الله

ص: 412


1- يس (36): 48؛ الملك (67): 25.

تعالى، فالكلّ راجع إليه قهراً ليحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، وليبين لهم الحقِّ من الباطل ويرفع عنهم الغشاوة، وليجزي كلاً بعمله ويضع كلّ أحد موضعه اللائق به. والإنسان كغيره من الخلق لم يخرج عن سلطانه تعالى، ولم يستغن عن رحمته لحظة واحدة، فالرجوع ليس بمعنى أنّه يرجع إلى سلطانه، بل بمعنى أنّه يصل إلى مرحلة من الكون لا تحكم فيها القوانين الطبيعية ويسلب فيها الإنسان اختياره ويكشف عنه الغطاء، فيلقى ربّه ويدرك حقائق الكون إدراكاً واقعياً مباشراً لا بتخلّل الحواس والصور، وهناك يتحقّق قوله تعالى: «مَن الملك الْيَوْمَ اللهُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ».(1)

«يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً». يمكن أن تكون «يَوْمَ» ظرفاً للجملة السابقة «وَالَيْنَا المَصِيرُ» ويمكن أن تكون بدلاً عن: «يَوْمَ يَسْمَعُونَ»، فتكون بدلاً بعد بدل وقوله: «تَشَقَّقُ» مضارع أصله : تتشقّق حذفت إحدى التاءين. وقرئت أيضاً بتشديد الشين، وذلك لقلب التاء شيناً وإدغامها فيها. والمراد بتشقّق الأرض عنهم خروج الناس منها، وهو تعبير كنائي عن إحياء الموتى؛ إذ ليسوا كلّهم في قبور، فملايين الملايين من البشر لم يبق لهم أثر إلا أنّ هذه الأجزاء موجودة على الأرض أو في باطنها، والله تعالى هو العالم بكيفية الإحياء.

و «سِرَاعاً» حال من ضمير عنهم، أي مسرعين، والظاهر أنّه جمع سريع. وقيل: مصدر بمعنى اسم الفاعل، ولم نجده في كتب اللغة. وقد ورد هذا التعبير أيضاً في قوله تعالى: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصْبِ يُوفِضُونَ»،(2) ومثله

ص: 413


1- غافر (40): 16.
2- المعارج (70): 43.

التعبير بالمهطعين، قال تعالى: «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ»،(1) وقال أيضاً: «مُهْطِعِينَ إِلى الدَّاعِ»(2) والإهطاع الإسراع في ذلّ وانقياد، وكذلك قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ»(3) أي يسرعون. والسؤال إنّما هو عن المراد بالإسراع هل هم يركضون؟ ولماذا الركض؟ يحتمل أن يكون المراد سرعة الإجابة وأنّهم لا يلوون على شيء ولا يتريثون ولا ينظرون يميناً أو شمالاً، بل يسرعون نحو الداعي، كما قال تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ»،(4) وكذلك قوله تعالى: «إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» وقوله: «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ» وقوله: «مُقْنِعِي رُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ».(5)

والحاصل أنّهم مسيّرون لا خيار لهم يساقون قهراً نحو الداعي وهو ربّهم، كما قال: «إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ»،(6) وهم أذلاء لا يرتدّ إليهم طرفهم.

«ذلِكَ حَسْرٌ عَلَيْنا يَسيرٌ». الحشر : الجمع بسوق وازعاج. واليسير: السهل. وهذا الحشر يوم القيامة أمر غريب القيامة أمر غريب حقّاً. عدد هائل من البشر تواتروا على هذا الكوكب في قرون متمادية لا يعلمها إلا الله تعالى يجمعهم في ذلك اليوم، ولكنّه أمر سهل عليه تعالى لأنه على كلّ شيء قدير، وليس شيء أسهل عليه من غيره، فنسبة الأشياء والأمور إليه واحدة. وتقديم الجارّ والمجرور يفيد الحصر، فهو يسير على الله تعالى وليس أمراً هيّناً بذاته.

ص: 414


1- إبراهيم (14): 43.
2- القمر (54): 8.
3- يس (36): 51.
4- طه (20): 108.
5- إبراهيم (14): 43.
6- يس (36): 51.

«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ» تهديد للكافرين وتسلية للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والمراد بما يقولون إنكارهم للبعث وتكرارهم للسؤال: «مَتَى هَذَا الْوَعْدُ»(1)؟ يقولونه استهزاءاً واستعجالاً. ولعلّ المراد بالآية أنّه تعالى أعلم بنواياهم حينما يسألون. «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ»؛ «الجبّار» مبالغة في الجبر، أي قهر الآخرين وإجبارهم على ما يريد. الخطاب للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم حيث كان يتألّم من عدم قبول الناس للهداية وهو أمر طبيعي، فهو يرى أيّ مستقبل أسود ينتظرهم فيحزن ويتأسّف حتّى نزل فيه قوله تعالى: «فَلعَلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً»؛(2) بخع نفسه أي قتلها غيظاً. وهكذا سائر الأنبياء علیهم السّلام وقد تكرّر في القرآن تسلية الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بأنّك لا تستطيع إجبارهم على الهدى، ولكنّه أمر ممكن والله قادر على ذلك، ولو شاء لآمن من في الأرض جميعاً ولكنّه لا يجبرهم على ذلك، والسبب واضح، فإنّ الله تعالى أسكن الإنسان على هذا الكوكب ليمتحنه ولا يكون ذلك إلا أن يختار طريقه بكامل حرّيته، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.

«فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ»، الفاء للتفريع حيث إنّك لا تستطيع الإجبار، فعليك أداء الدور المطلوب منك في هذا الامتحان وهو التذكير وهو من الذكر، أي استحضار ما في حفظ الإنسان من معلوماته السابقة، والتذكير أن يجعل غيره يذكر ما نسيه وينبّهه عليه. وأمره أن يذكّرهم بواسطة القرآن، ففيه كلّ ما يحتاجه الإنسان في هذا السبيل ممّا كانت مستودعة في فطرته، فنسيه بسبب توغّله في

ص: 415


1- يس (36): 48.
2- الكهف (18): 6.

شؤون الدنيا. والوعيد مصدر كالوعد ولكنّه اختصّ في الاستعمال بالشرّ والتهديد، وكذلك الإيعاد يقال: أوعده، أي هدّده.

وهذا التذكير وإن حصل للجميع إلا أنّه في الواقع ليس إلا لمن يخاف وعيدي، والكسرة على الدال بدل عن ياء المتكلّم. وهذا العنوان لا يختصّ بالمؤمن، فالعرب وهم المخاطبون بالقرآن كانوا يعترفون بالله ويعتقدون بأنّه الخالق الرازق ويخافون بطشه، وقد رأوا ما صنع بأصحاب الفيل وغيرهم، فهم يخافون وعيد الله تعالى، ولكنّهم لا يعترفون بالقيامة، فيجب تنبيههم على أنّ الخطر الأعظم هو ما يحدث في ذلك العالم، وهذه الغفلة تصيب المؤمن أيضاً فنرى كثيراً منهم يخاف عذاب الله تعالى في الدنيا ولا يخاف الآخرة حتّى أنّ بعضهم يعبد الله من أجل الدنيا ولو لم يعترف به، فالإنسان يغفل عن دواعيه الواقعية، ولذلك نجد أكثر الناس يهتمّون بالفطرة دون زكاة المال، لأنّهم سمعوا من الوعاظ أنّ الفطرة تحفظهم إلى فطر آخر، مع أنّه غير صحيح وهم يشاهدون أنّه لا يوافق الواقع ومع ذلك يهتمّون بها رجاء تأثيرها في حفظهم إلى فطر آخر، ويهتمّون بالصدقة دون الخمس لكثرة ما ورد من أنّها تدفع البلاء، وهكذا دأبهم في سائر الأمور، فهؤلاء يخافون الله تعالى ولا يخافون عذابه يوم القيامة.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 416

فهرس المطالب

تفسیر سورة الأحقاف

سورة الأحقاف (1 - 6) ... 7

سورة الأحقاف (7- 10) ... 16

سورة الاحقاف (11 - 14) ... 37

سورة الأحقاف (15 - 16) ... 43

سورة الأحقاف (17 - 20) ... 57

سورة الأحقاف (21 - 25) ... 72

سورة الأحقاف (26 - 28) ... 81

سورة الأحقاف (29 - 32) ... 87

سورة الأحقاف (33 - 35) ... 94

تفسیر سورة محمّد

سورة محمد (1 - 3) ... 107

سورة محمد (4 - 6) ... 116

سورة محمد (7 - 11) ... 124

سورة محمد (12 - 15) ... 132

سورة محمّد (16 - 19) ... 147

سورة محمد ( 20 - 28) ... 162

سورة محمد (29 - 31) ... 181

سورة محمد (32 - 35) ... 186

ص: 417

سورة محمّد (36 - 38) ... 191

تفسیر سورة الفتح

سورة الفتح (1 - 3) ... 201

سورة الفتح (4 - 7) ... 215

سورة الفتح (8 - 10) ... 226

سورة الفتح (11 - 14) ... 237

سورة الفتح (15 - 17) ... 224

سورة الفتح (18 - 23) ... 250

سورة الفتح (24 - 26) ... 260

سورة الفتح (27 - 29) ... 273

تفسير سورة الحجرات

سورة الحجرات (1 - 5) ... 287

سورة الحجرات (6 - 8) ... 300

سورة الحجرات (9 - 10) ... 313

سورة الحجرات (11 - 13) ... 318

سورة الحجرات (14 - 18) ... 340

تفسير سورة ق

سورة ق (1 - 5) ... 353

سورة ق (6 - 15) ... 359

سورة ق (16 - 29) ... 373

سورة ق (30 - 35) ... 391

سورة ق (36 - 40) ... 402

سورة ق (41 - 45) ... 410

ص: 418

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.