أحاديث ومعجزات المعصومين علیهم السلام
من كلمات الإمام الحسين عليه السلام
من كلمات الإمام الحسن العسكري عليه السلام
الجزء الأوّل
والدة آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
ص: 1
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
ص: 3
ص: 4
إلى بضعة الرسول المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الأسوة لجميع المؤمنين والمؤمنات، بل الأسوة للأئمة المعصومين (عليهم السلام) كما ورد عن ابنها الإمام الحجّة المهدي (عليه السلام) في ابنة رسول اللّه لي أسوة حسنة(1).
نهدي هذا الجهد المتواضع في تحقيق ونشر مجموعة مؤلّفات والدة آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه) الحاجّة زينب معاش وفّقها اللّه لمراضيه، وهي التي حاولت أن تتأسّى بسيدة نساء العالمين (عليها السلام) في مختلف أبعاد حياتها العامرة بحبّ أهل البيت (عليهم السلام) .
نسأل اللّه أن يتقبّله بقبول حسن يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
ص: 5
ص: 6
حينما يكون الأمل يحلّ الإبداع، وحينما توجد نقاء السريرة تثمر الكلمة الصادقة، وكلما امتلأت القلوب بالإخلاص لله (جلّ وعلا) أشرقت بقبس الإيمان وأضاءت بأريج الفضيلة، فالفيض الإلهي يغمر تلك النفوس الطاهرة التي تنقّت من شوائب الدنيا وأخلصت له في سرّها وعلنها ليحلّها في مسار الخلود ويبوّأها مبوّأ صدق في جنته.
فاللّه (جلّ جلاله) هو الحقّ وهو الحقيقة، ومن آمن بالحقّ نطق بلسانه، ومن تحصّن بالحقيقة أمن من الزلل، ودرأ عن نفسه متاهات الجهل، وسلك بها النهج القويم، تحوطه إشراقات الحكمة وتغمره أنوار العلم.
من هذا الاتجاه بدأت سليلة بيت العلم والأخلاق والفضيلة السيدة الجليلة والدة آية اللّه الشهيد السيد محمد رضا الشيرازي (أعلى اللّه درجاته)، رحلتها مع التأليف يحدوها هاجس السمو عن متعلّقات الحياة الفانية، متعلّقة بحبل الخلود، متجاوزة كل الصعاب والمشاق والحواجز لتتخذ موقعها في مصاف الخالدين مجسّدة ذاتها وما جُبلت عليه من الأدب والأخلاق والفضيلة والصبر والإيمان المطلق باللّه وبنبيه وأهل بيته (عليهم السلام) في كتاباتها.
إنّه ذلك الحبّ الخالص لله والذي ينهل من منبع الخلود فيفيض على الجوارح، وما زالت شعلة الأمل باللّه والرجاء به متّقدة في الروح فلا مجال
ص: 7
هنالك لليأس، لقد ذرفت على الخمسين ولا يزال حلمها يراودها ويحثّها على الارتقاء، فتساءلت مع نفسها...، هل بمقدوري ذلك؟ فجاء الجواب من أعماقها: نعم.
إذاً إنّه الخلود في الدنيا والسعادة في الآخرة، فكان السعي والمثابرة والتضحية والعمل لسنوات طوال بجهد كبير للوصول إليه، إنّه ليس كالخلود الفاني الذي يسعى إليه البعض لشهرة أو تأكيداً للأنا أو لشيء من هذا القبيل، بل إنّه الخلود السرمدي الخالص حينما يتعلّق باللّه وأفضل خلقه نبيه وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) ، وأيّ خلود أسمى وأرقى وأبهى من هذا الخلود في الدارين؟
لقد فتحت هذه السيدة الكريمة عينها في هذه المدينة المقدّسة التي عبق ترابها بالدماء الطاهرة وتشرّفت باحتضان جسد سيد الشهداء والأجساد الزكية من أهل بيته وأصحابه (صلوات اللّه عليهم)، فكانت أصوات المنائر من الضريحين المقدّسين وهي تصدح بكلمة (اللّه أكبر) تشق طريقها إلى روحها قبل أذنها، فبذرت فيها الروح المؤمنة باللّه، الخالصة له، الموالية لأوليائه والمعادية لأعدائه، ونمت تلك البذرة، وتبرعمت، وأثمرت... .
في ذلك المحيط المقدّس وجدت الجو الملائم لها، وجدت بيتاً غمرته التقوى والصلاح والعمل الصالح، كانت تشاهد والدها الذي حمل صفات اسمه (صالح) وهو يتبتّل في آناء الليل وأطراف النهار يكثر من الصلاة والدعاء، مواظباً عليهما، كثير الإهتمام بالفقراء والمحتاجين مجدّاً في السعي لسدّ احتياجاتهم، فورثت عنه خصاله.
كان ذكر اللّه لا يفارق شفتيها، وكانت نفسها تتوق إلى صوت الأذان
ص: 8
للتفرغ للعبادة بكل جوارحها، وذات يوم جاء أبوها كعادته من صلاتي المغرب والعشاء اللتين كان يؤديهما مقتدياً بالمرجع الكبير السيد ميرزا مهدي الشيرازي في الصحن الحسيني الشريف ليخبرها عن طلب يدها من قبل المرجع لولده الأكبر السيد محمد الشيرازي، لتبدأ رحلة جديدة في حياتها، رحلة مع العلم والفقه والمعارف لكنّها في الوقت نفسه محفوفة بالصعاب والمشاق وضنك العيش فأكملتها وهي في درجة عالية من الصبر والإيمان.
لقد كان ذلك الزواج نقطة تحوّل مضيئة في حياتها نقلتها إلى ما وصلت إليه بفضل جهود زوجها المرجع الكبير، فقد كان زوجها الراحل شديد الاهتمام بإلقاء النصائح والإرشادات على من حوله باذلاً جهوداً كبيرة من أجل تعليم الناس وتدريسهم، فكيف بمن اختارها أمّا لأولاده ورفيقة لحياته؟ فكان يدأب في إعدادها وتدريسها لتكون إنموذجاً سامياً، ومثالاً عالياً للمرأة المسلمة المؤمنة المتسلّحة بسلاح العلم والتقوى، كان يلقي دروسه عليها يومياً رغم مشاغله ومتاعبه وتحمّله أعباء المرجعية ومسؤوليته المناطة تجاه الناس، وبالمقابل فقد وجد السيد المرجع منها أذناً صاغية واعية.
فكانت تتلقّى تلك الدروس العلمية والأخلاقية باهتمام بالغ ووعي واسع فوجدت فيها ضالتها المنشودة وكرّست لها نفسها بالعلم والتطبيق، ولم تنتزع منها مشاغلها البيتية وتربية أولادها رغبتها في التعلم واستلهام العبر والحكمة، وكان أرق ما يتلقّاه قلبها المؤمن ونفسها الموالية من هذه الدروس من زوجها هي فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) فكانت تتلهف لسماع فضيلة له حتى وإن كانت تلك الفضيلة قد طرقت سمعها مرات ومرات!!
ص: 9
نعم لقد غمر حبّ علي (عليه السلام) قلبها فكانت مصداقاً لحديث النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ياعلي لا يحبك إلا مؤمن تقي ولا يبغضك إلا منافق شقي(1)، فلم تفقد هذه الروح الإيمانية رغم المصائب التي حلّت بها والمصاعب التي واجهتها في حياتها بل زادتها إيماناً باللّه وصبراً على بلائه، ولم تنقطع - رغم معاناتها وضعفها وكبر سنّها - عن صلاة الليل وقراءة القرآن وزيارة أضرحة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) والتأليف في فضائلهم وإبراز مظلوميتهم.
إنّه من النادر بل من النادر جداً أن تجد امرأة واجهت الكثير من المتاعب في حياتها خصوصاً إذا كانت قد أفنت حياتها في تربية أولادها وبناتها الذين بلغ عددهم ثلاثة عشر وواجهت الصعوبات وعاشت ضنك الحياة في تربيتهم وتنشأتهم حيث كان زوجها مثالاً للزهد والتقوى وعالجت كل المشاكل التي واجهتها بصبر ويقين ووعي وقد جاوزت أعتاب الخمسين لتبدأ رحلتها مع التأليف والكتابة، ويقيناً إنّ من يسمع ذلك عن أيّ إنسان فإنّه سيتخيل إنّه سيكتب مذكراته التي عاشها وما واجهه من الصعاب في حياته، لكنّها لم تكتب حرفاً واحداً من ذلك، ! بل إنّها سلّمت أمرها إلى اللّه محتسبة عنده، صابرة على قضائه، مؤمنة بأنّه لن يضيع أجرها وصبرها، فواصلت رحلتها في مسيرة الخلود باقتفاء نهج أهل البيت (عليهم السلام) والسير على خطى أتباعهم المخلصين لتؤلّف في سيرهم فكتبت من الكتب:
1- الأخلاق.
2- المحاضرات.
ص: 10
3- لقاء الموعود.
4- من كلمات الإمام العسكري (عليه السلام) .
5- من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) .
6- من معاجز الأئمة (عليهم السلام) .
7- نبذة عن حياة المعصومين (عليهم السلام) .
8- خلفاء السقيفة في محكمة التاريخ.
ولعل أهم مايميّز مؤلّفاتها هو الخزين الثر الذي احتوته هذه المؤلفات من الأحاديث والروايات والحوادث التاريخية، أمّا مضامينها فتجري في تيار المفاهيم الإسلامية العظيمة.
لقد دأبت في مؤلفاتها على توضيح تلك المفاهيم والأسس العظيمة التي قام عليها الإسلام المحمّدي الأصيل والممتد بمنهج أهل البيت العظيم بصورة ناصعة ومباشرة خالية من المواراة وبإسلوب واضح خالٍ من التعقيد ودعمت في طرحها لتلك الأسس والمفاهيم بأحاديث وروايات عالية المضامين داعية إلى الرجوع إلى تلك المبادئ العظيمة التي دعى إليها نبيّنا الكريم وأئمتنا الهداة (عليهم السلام) والسير على منهجهم لبناء مجتمع حرّ كريم يسوده الخير والصلاح.
ومن أهم القضايا التي طرحتها السيدة المؤلّفة والتي هي من صميم ديننا هي قضايا مهمّة ومغيّبة نفضت الغبار عنها سنستعرض بعضها بإيجاز.
ففي كتابها (الأخلاق) والتي عنونته بمفهوم مهم من مفاهيم الإسلام وصفة من صفات النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما جاء في القرآن الكريم {وَإِنَّكَ
ص: 11
لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1) بيّنت ما لهذه الفضيلة من درجة عالية عند اللّه كما بيّنت تأثيرها في المجتمع بقولها: إن أفضل وأسهل وأسرع وأعمق العوامل لزرع المحبّة في القلوب هي الأخلاق الفاضلة والمعاملة الإنسانية العطوفة مع الناس، ثم يظهر الأثر البالغ للدروس التي كان يلقيها عليها زوجها الإمام السيد محمد الشيرازي فتقتطف باقة من كلامه بخصوص هذا الموضوع تعبق بشذا هذه الصفة العظيمة حيث يقول: الطابع العام للمسلم هو حسن الخلق فمن لا يحسن خلقه لا يكون مسلماً كاملاً، وقد احتوى الكتاب على أربعة عشر فصلاً جمعت فيها المؤلّفة كل ما جاء ذكره عن هذه الفضيلة في ديننا الحنيف والرسالات السماوية وأقوال النبي وأئمتنا الميامين (عليهم السلام) وما جاء في الكتب التاريخية مدعومة بذكر المصادر وهذه الفصول هي:
1- ما جاء في الآيات القرآنية والأحاديث القدسية.
2- ما روي عن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
3- ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) .
4-5- ما روي عن الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) .
6-7- ما روي عن الإمامين زين العابدين ومحمد الباقر (عليهما السلام) .
8- ما روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) .
9-10- ما روي عن الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام) .
11- ما روي عن الإمامين الجواد والعسكري (عليهما السلام) .
12- القصص والعبر.
ص: 12
13- الأقوال والحكم.
14- الأشعار.
ولا يخفى على القارئ الهدف النبيل والغاية العظيمة من وراء تأليف هذا الكتاب وطرح هذا الموضوع في زمن انسلخ أغلب المسلمين عن مبادئ دينهم وطغت الهمجيّة والفوضى على مسرح الحياة حتى كادت الأخلاق التي هي من صميم ديننا أن تمحى من حياتنا.
أمّا في كتاب (المحاضرات) وهي مجموعة من المحاضرات التي ألقتها بمحضر جمع من النساء في بيتها، فقد استعرضت فيها العديد من الجوانب العقائدية، وسلّطت الضوء على أمور وقضايا مهمّة تخصّ المذهب بالإضافة إلى الحديث عن فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وإبراز مظلوميتهم لما له من أهمية كبيرة في هذا الزمن الذي يشهد هجمات شرسة على أتباع المذهب الإمامي الحقّ، حيث تكالبت عليه القوى التكفيرية الناصبية، وحشدت الكثير من الطاقات من أجل تحقيق مآربها الدنيئة، ومن هذه الطاقات كانت الطاقة الإعلامية المدعومة بالمال الوهابي التكفيري، فالإعلام - كما هو معروف - له دوره الواضح في التأثير على الرأي العام خصوصاً مع ما نشهده من انفتاح على صعيد الميديا والإلكترونيات المتسارعة. لذلك كان لابد من التصدي لهذه الهجمة الشرسة بإعلام مماثل يكون بمواجهة الزيف التكفيري الناصبي. فكانت تلك المحاضرات معدة للتصدي علمياً وفكرياً ومعرفياً مستنداً على كل ما له علاقة بالبحث العلمي والتوثيق التاريخي وآلياته واشتراطاته.
فقد وجهت المحاضرات إلى عقول أعداء أهل البيت وبعض أتباعهم
ص: 13
ممّن التبست عليهم بعض الأمور معاً كما في قضية قبول إمامنا الرضا (صلوات اللّه عليه) بولاية عهد المأمون العباسي في عدة مفاصل من هذا الكتاب فتقول بهذا الصدد:
كانت الأوضاع السياسية قبل تولّي الإمام الرضا (عليه السلام) شديدة جداً على الشيعة خاصة العلويين منهم، ومن هنا وجد المأمون العباسي المعروف بدهائه نفسه أمام خيارين فإمّا أن يحذو حذو من مضى قبله من العباسيين ويفتك بالشيعة العلويين، أو ينهج منهجاً آخراً يخمد من خلاله غضب الشيعة وفي مقدّمتهم العلويين فاختار النهج الثاني وابتدع حيلة ولاية العهد التي فرضها على الإمام الرضا (عليه السلام) .
فتؤكد المؤلفة هنا على اتخاذ المأمون مساراً جديداً لتدعيم حكمه الجائر مخالفاً بذلك المسارات العباسية السابقة، لكن هذه الحيلة لم تكن لتخفى على الإمام (عليه السلام) حيث رفض في بداية الأمر هذا الموضوع لكن تم إكراهه على ذلك كما تؤكد المؤلفة:
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) عارفاً بأهداف المأمون لذا رفض في البداية ولاية العهد لكنه أرغم على القبول مكرهاً.
وتتوسع السيدة الجليلة في بحثها لتبيان الأهداف الحقيقية للمأمون العباسي من هذه الخطوة فتلخّص هذه الأهداف بتهدئة الأوضاع المضطربة خصوصاً بعد صراعه وحربه مع أخيه الأمين، وكسب ودّ الشيعة فضلاً عن إضفاء الشرعية حيث تؤكد المؤلّفة أنّ وصول المأمون للحكم كان (نابعاً من الترغيب والترهيب واستسلاماً للأمر الواقع)، وكذلك لإبعاد الإمام عن قواعده وأتباعه خصوصاً في مدينة جدّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وليكون تحت أنظاره
ص: 14
ليراقب تحركاته والأهم من كل ذلك هو سعي المأمون لتشويه سمعة الإمام حين صرّح بهذا الأمر بقوله: نحتاج أن نضع منه قليلاً حتى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحق هذا الأمر.
وتختم المؤلفة بحثها القيم بتأكيد فشل هذا المخطط لينقلب السحر على الساحر.
وفي جانب آخر تؤكد على حقيقة السيدة رقية بنت الحسين (عليهما السلام) من خلال بحثها (السيدة رقية حقيقة لا تنكر) حيث تبدأ بتتبّع المصادر التأريخية التي تناولت بنات الإمام الحسين (عليه السلام) مستعرضة الآراء المتعدّدة والمتباينة حول السيدة رقية وعدد بنات الإمام وأنّ هناك أكثر من اسم للبنت الواحدة، فالسيدة سكينة (عليها السلام) اسمها هذا لقب وأنّ اسمها الحقيقي (أميمة) أو (أمينة) أو (آمنة) لتصل من خلال تتبّعها الموضوعي إلى أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لديه ثلاث بنات، وهو جوابها لمن يخالف المشهور بقوله أنّ له ابنتين فقط.
وفي موضوعها الرئيس عن السيدة رقية (عليها السلام) تنقل عن مصادر أنّ اسمها زبيدة أو زينب ثم تطرح أسئلة على المشككين بحقيقة وجودها وكل هذه الأسئلة جديرة بالتأمل والتقصي والبحث العلمي.
ثم تنتقل لتضيء نقطة طالما طبل لها المخالفون من النواصب وأرقت الكثير من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) لتميط اللثام عن قضية الهدنة بين الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية لتجيب عن الأسئلة المتعلّقة بدواعي هذه الهدنة أو (الصلح) كما يسمّى في بعض الأدبيات التأريخية مشخّصة بعض الأمور التي ينبغي معرفتها ومنها: تغلغل المنافقين في جيش الإمام، وكانوا في
ص: 15
مبايعتهم له مرتابين، كما أنّ أكثرهم كانوا من طلاب الغنائم.
والأهم من كل ذلك تؤكد على أنّ الإمام وضع - بهذه الخطوة - معاوية في أمرين بغاية الحراجة (فإمّا أن يلتزم ببنود الصلح وهو بعيد جداً أو ينقض العهد والميثاق ويكشف للناس حقيقته المخفيّة)، وهذه هي الرؤية الأصوب إذ سرعان ما نقض معاوية عهوده لتكون خطوة الإمام الحسن (عليه السلام) بمثابة المفتاح الذي فتح به شقيقه الإمام الحسين (عليه السلام) باب الثورة وإعطائه الضوء الأخضر لمواجهة كل الإنحرافات الأموية والتي جرت الويلات على المسلمين ولا تزال آثارها تنهش في جسد الإسلام.
وتطالب المؤلّفة في ختام بحثها بإنصاف الإمام الحسن (عليه السلام) وعدم تغييب معالم حياته التي دُسَّت فيها الأكاذيب والافتراءات مطالبة المؤمنين بتحمّل مسؤولياتهم إزاء هذه الظلامة ودفع هذه الشبهات.
أمّا كتابها (خلفاء السقيفة في محكمة التاريخ) فيُعدّ وثيقة مهمّة تدين الإعتداء الآثم على سيدة نساء العالمين الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وغصبها حقّها وانتزاع الخلافة من زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقد انطلقت المؤلّفة في سردها لتلك الحوادث المؤلمة من مبدأ مهم وهو البراءة من أعداء أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) ومنكري فضائلهم وغاصبي حقوقهم الذي يعد من الأساسيات التي تكتمل بها ولاية من يواليهم.
ومن هذا المبدأ تنصب المؤلفة محكمة فكرية تاريخية لمحاكمة رموز النفاق والكفر من الأوائل الذين حرّفوا المسيرة في سقيفة بني ساعدة، لأنّ مفهوم الولاية اختلط على الكثير لذلك لابد من توضيح لهذا الموضوع البالغ الأهمية، فليس من المنطق أن تنسب كل المعايب التي لحقت
ص: 16
بالإسلام إلى انحرافات الأمويين وبطش العباسيين من دون الرجوع إلى جذور الإنحراف الأولى واستئصالها.
ولا يخفى أنّ المنافقين على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانوا يتحيّنون الفرص للخلاص منه والإجهاز على دينه الذي أعاد للإنسان كرامته وقيمته المهدورة، وقضى على جاهليتهم وحطّم أصنامهم، وتشير الشواهد والأحداث أنّهم خطّطوا أكثر من مرّة لاغتياله حتى تحقّق لهم مرادهم الشيطاني ومضى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شهيداً مسموماً لينتهزوا فرصة انشغال أمير المؤمنين (عليه السلام) بتجهيزه فيجتمعوا في سقيفة بني ساعدة التي شهدت بذور الإنحراف الأولى عن النهج المحمدي الأصلي والتي أثمرت ما أثمرت حتى يومنا هذا.
ولم يأت اعتباطاً خوض هذه السيدة الجليلة في موضوع البراءة من أعداء محمد وآله، فهي على معرفة ودراية بالروايات الكثيرة التي تحثّ المؤمنين الموالين على إكمال ولايتهم لآل محمد بالتبرّي من أعدائهم، وقبل الروايات كان قول اللّه تعالى يطرق سمعها وهي تتلوه: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}(1).
وقد قيل للإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ فلاناً يواليكم إلا أنّه يضعف عن البراءة من عدوّكم، فقال (عليه السلام) : هيهات، كذب من ادّعى محبّتنا ولم يتبرّأ من أعدائنا(2).
وجاء في كتاب (صفات الشيعة) عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)
ص: 17
قوله: من واصل لنا قاطعاً أو قطع لنا واصلاً أو مدح لنا عائباً أو أكرم لنا مخالفاً فليس منّا ولسنا منه(1). وروي في صفات الشيعة أيضاً عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: إنّ ممّن يتخذ مودّتنا أهل البيت لمن هو أشدّ فتنة على شيعتنا من الدجّال، فقيل له: يا ابن رسول اللّه بماذا؟ قال: بموالاة أعدائنا ومعاداة أوليائنا إنّه إذا كان كذلك اختلط الحقّ بالباطل واشتبه الأمر فلم يعرف مؤمن من منافق(2).
وجاء في بحار الأنوار: قال الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِۦ}(3) عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لايجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ اللّه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه فيحب بهذا ويبغض بهذا، فأما محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لاكدر فيه، فمن أراد أن يعلم حبّنا فليمتحن قلبه فإن شاركه في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا(4).
إذن، لابد من تعرية رموز النفاق وكشف الوجه القبيح لهم بإزاحة القناع عنهم وهو مافعلته المؤلّفة في كتابها (خلفاء السقيفة في محكمة التأريخ) ليكون كتابها هذا وثيقة فكرية عقائدية ترسّخ فكرة الولاية المكتملة لأهل البيت (عليهم السلام) بالبراءة من أعدائهم وهو جهد مبارك لن يضيع أجره.
تبدأ المؤلّفة بمحاكمة أبي بكر عتيق بن أبي قحافة مستعرضة سيرته التي
ص: 18
أخفيت عن العامة وكيف أنّ إسلامه كان ظاهرياً فقط ولم يدخل الإيمان قلبه والعجيب كيف لشخص مثل هذا أن ينال المقام الرفيع والمكانة المحترمة عند عامة المسلمين الذين لم يطّلعوا على هذه السيرة من حياته؟
وتنقل المؤلّفة ما قاله أبو بكر في مرضه الذي هلك فيه: أما إنّي لا آسي من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتها، وددت أنّي تركتها، وثلاث تركتها وددت أني فعلتها، وثلاث وددت أنّي سألت عنهن رسول اللّه، أمّا التي وددت أنّي تركتها، فوددت أنّي لم أكن كشفت بيت فاطمة وإن كان أعلن عليَّ الحرب، وودت أنّي لم أكن حرّقت الفجاءة وأنّي قتلته سريحاً أو أطلقته نجيحاً، ووددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - عمر أو أبي عبيدة - فكان أميراً وكنت وزيراً(1).
والمتأمّل في كلام أبي بكر في هذا النص المروي عند جمهور علماء العامّة كالطبري في تأريخه وابن قتيبة في الإمامة والسياسة والمسعودي في مروج الذهب وغيرها من المصادر التي روت هذا الكلام بأسانيد صحيحة لرجال ثقات عندهم، يجد أنّه يؤكد حالة الإعتداء على بيت السيدة الزهراء (صلوات اللّه عليها) ولكن من المؤسف أن نجد من يشكك في هذه الحادثة من قبل البعض ممّن يتولّى أهل البيت فأيّ دليل يريدون أكثر من رواية تروى عن مصادر المخالفين تؤكد حدوث هذا الإعتداء الإجرامي؟
كما نجد أنّ هذه الحادثة قد اعترف بها الكثير من المؤرّخين المتقدّمين والمحدّثين من كتاب العامّة على اختلاف مذاهبهم ولكن العجيب - بل من
ص: 19
أعجب الأعاجيب - أن نرى من يجعلها في مناقب عمر ويعتبرها شجاعة له!!
عمر الذي لم يكن له موقف واحد ولو بقدر ضئيل في ساحات القتال يدل على أنه شجاع ولم يرد له أيّ ذكر في مبارزة مع أحد الكفار بل دلّت روايات في مصادر العامة على جبنه وفراره من لقاء العدو يأتي من المتأخّرين ليضفي عليه ألقاباً وفق معايير مغلوطة ومعكوسة فيجعل هجومه على دار سيدة نساء العالمين والمعصومة من الزلل بنص القرآن شجاعة!!
ولا يمكن تصور حدود الانقياد للهوى والتعصّب المقيت الذي بلغ مداه عند حافظ إبراهيم ليقول في قصيدته (العمرية):
وقولة لعليٍ قالها عمرٌ***أكرم بسامعها أعظم بملقيها
أحرقتُ داركَ لا أبقي عليك بها***إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص بقائلها***أمام فارس عدنان وحاميها!!
اللّه أكبر أيّة شهادة شجاعة مزوّرة تسجّلها للتاريخ؟ بل أيّة مهزلة؟ بل أية مأساة؟؟!!
ألم تسأل نفسك قبل قولك هذا: أين كانت هذه الشجاعة في يوم أحد وقد فر عمر مع من فر وكذلك في حنين؟
ألم تسأل نفسك أين كانت هذه الشجاعة يوم خيبر يومها رجع عمر يجبن أصحابه ويجبنونه؟
أما كان الأولى أن يحرق باب الحصن وأن يبارز مرحبا؟
أما كان الأولى لك يا حافظ ولغيرك ممّن سار على منوالك في نسج تلك المناقب المضحكة المبكية أن يقرأوا التاريخ بتمعّن وتأمّل ووعي، لا قراءة عوراء والنظر إلى الحقيقة بالمقلوب؟
ص: 20
عمر الذي رأى عمل أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في السكوت عن حقّه من أجل مصلحة الإسلام فاستغل ذلك بالهجوم على أطهر وأقدس بيت في الوجود وتعدّها شجاعة!! اللّه أكبر قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون!
وقد تجلّت هذه الحقيقة - الحقيقة التاريخية - بأدقّ صورها وتفاصيلها عند السيدة المؤلّفة في الفصل الثاني الذي تحاكم فيه عمر بن الخطاب صاحب البدع الكثيرة كصلاة التراويح والطلاق وتحويل المقام عن موضعه وتغيير مقام إبراهيم وغيرها من البدع التي فصّلتها المؤلفة فضلاً عن نزعته العنصرية وجهله بالأحكام الشرعية الإسلامية والتلاعب بحدود اللّه إضافة لدوره في إبعاد الخليفة الشرعي لرسول اللّه واعتدائه على بيت سيدة نساء العالمين.
ثم تنتقل لمحاكة عثمان والتداعيات الكثيرة التي حصلت أثناء فترة حكمه من تفضيله بني أميّة وإيواء طريد رسول اللّه والتلاعب ببيت المال والتلاعب بالصلاة، واستعرضت المؤلّفة آراء لأمير المؤمنين (عليه السلام) فيه، ثم تنقل حادثة خلافه مع عائشة التي اتهمته بأنه ترك سنة رسول اللّه فصعد المنبر ووصفها بالزعراء قائلاً:
إنّ هذه الزعراء عدوة اللّه وضرب اللّه مثلها ومثل صاحبتها حفصة في الكتاب فردت عائشة عليه: يانعثل ياعدو اللّه، إنّما سمّاك رسول اللّه باسم نعثل اليهودي الذي باليمن، وظلت تقول: اقتلوا نعثلاً قتل اللّه نعثلاً فقد أبلى سنة رسول اللّه وهذه ثيابه لم تبل... .
ونكتفي بهذا القدر من استعراض مواضيع هذه المؤلّفات القيمة لكي لا نخفف من توق القارئ في الاطلاع على باقي مضامينها.
وفي الختام لا نستطيع إلا أنّ نجل هذا الجهد الفكري الكبير للسيدة
ص: 21
الفاضلة والدة آية اللّه الشهيد السيد محمد رضا الشيرازي (أعلى اللّه درجاته) والكفيل بتوعية الأمة. من خلال سبر أغوار المواضيع العقائدية، ولاشك أنه محاولة جادّة وواثقة لسد جوع الفقر العلمي والفكري خصوصاً في الجانب النسوي، فنادرٌ ما نشاهد جهداً تقدمه امرأة ويتناول الموضوعات المختلفة والتي صار البحث فيها ضرورة ملحّة عسى أن تحذو أخريات حذو هذه السيدة الجليلة من أجل تبيان الحقائق ورفع راية آل محمد.
وبالتأكيد سيشاركنا القارئ هذا الإجلال والإكبار لهذا الجهد المضني الذي قامت به هذه السيدة الجليلة في إعداد هذه الكتب والإصرار النسوي النادر على الصعيد الفكري والعلمي، فهذه المؤلّفات تناولت الكثير من الجوانب الأخلاقية والعقائدية التي غُيّبت بإرادات معروفة لتكون سلسلة رائعة مترابطة مدعمة بجهد واستقصاء رائعين جامعة بذلك فضائل من طهّرهم اللّه بنصّ كتابه العظيم لتكون سراجاً يضيء العتمة الإيمانية التي أوجدت لها مساحة واسعة على خريطة الرأي العام الإسلامي بسبب الإبتعاد عن أهل البيت (عليهم السلام) وعدم الخوض في سيرهم المضيئة ومنهجهم المستقى من منهج جدهم صلوات اللّه عليهم أجمعين.
وحتماً سيجد القارئ الكريم نفسه في سياحة فكرية متعددة الاتجاهات التي تصب في ترسيخ الوعي الإيماني لديه.
نسأل اللّه تبارك وتعالى أن يتقبّل هذا الجهد من السيدة أمّ محمد رضا بقبول حسن، وأن يتقبّل من الأخوة القائمين بإعداد وتحقيق ونشر مؤلفاتها بفضله وكرمه، إنّه قريب مجيب.
وصلّى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ص: 22
رفيقة القمر... مسيرة العطاء والألم(1)
بسم اللّه الرحمن الرحيم
{مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2).
صدق اللّه العلي العظيم
لطالما شخصت بين ثنايا التاريخ رموزا إنسانية كان لها دورا محوريا في رسم مراحله، كان لوجودها تأثيرا في صناعة الأحداث معنويا تارة وماديا تارة أخرى، لتضفي بصمة راسخة وترسم ملامح فترات بالغة الأهمية في نسج الوجوه وبلورة النتائج، إذ لا يحتاج المراقب والمتابع سوى لشيء بسيط من التمعّن، ليتوجّس تأثير تلك الرموز الإنسانية وعمق مساهمتها في تغيير الأوضاع أو الارتقاء بها، سيما أنّها تبذل بصمت جهدا بالغ الأهمية في بث الطاقة الإيجابية في الدائرة القريبة أو البعيدة بصورة ملحوظة.
وبعيدا عن الإطالة ورغبة بسرعة الإحاطة، نطّلع اليوم على سيرة امرأة كانت ولا تزال حتى هذه السويعات رافدا ماديا ومعنويا، يفيض برحابة منقطعة النظير بالكثير من العطاء الإنساني والإسلامي، باذلة مهجتها في سبيل
ص: 23
الحقّ، وإعلاء شأن كل ذي شأن، ابتداء من إحياء أمر آل بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما انسحب على ذلك من قضايا فكرية وفقيهة واجتماعية وإنسانية عامة.
إذ تتدفّق بين أيدينا ونحن على أعتاب الاطلاع على سيرة السيدة الجليلة والدة آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) ، الكثير من المشاعر ذات الدفق الإيماني، لننهل ممّا سيسعفنا المقام لذكره من تلك السيرة الكثير من القيم والأخلاق والمبادئ، التي تنبثق من عمق عقيدتها الإسلامية البحته، المتجذّرة في محبّة آل البيت (عليهم السلام) ، لم تتدخر جهدا في إذكاء مكارمهم وتعاليمهم عبر جملة من المؤلّفات القيّمة الزاخرة بالعلوم الدينية والفقهيه، بعد أن وظفت مسيرتها الخالدة مع زوجها الراحل المرجع السيد محمد الحسيني الشيرازي في خدمة الدين والمذهب والمجتمع، باذلة في سبيل رسالته الإنسانية العظمى عطاء لا ينضب.
ولدت الحاجّه أمّ سيد محمد رضا في كنف عائلة كربلائية ذاع صيتها بالمروءة والكرم والتقوى عام 1363 هجرية، وترعرعت بين جنبات مكارم الأخلاق، على يد أب كريم اليد جوَاد عطاء لم يدّخر جهدا طيلة سني عمره في مساعدة المحتاجين والفقراء، مواظبا على طاعة اللّه طالبا رضاه في الواجبات والمستحبّات من الطاعات، لتتلقف منذ نعومة أضفارها الصفات الحميدة والطباع الكريمة، وتغدو ذو نشأة قويمة مترسخة الجذور، إيمانا وتقوى وعفاف، ملتزمة أشد الالتزام بفروض الطاعة، ابتداء من الصلوات الواجبة والمستحبة، مرورا بالالتزام في أداء الزيارات المخصوصة والعامة لمراقد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وأخيرا وليس آخرا المدوامة على قراءة القرآن والأدعية المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) .
ص: 24
وأسوة بمعظم أقرانها من البنات في ذلك العهد زجّت الحاجة زينب لدى مقرءات القرآن لتعلمه، بالإضافة إلى تعلّم الأحكام الشرعية والتعاليم الإسلامية، بعد أن آثر والدها عدم إدخالها بالمدارس الحديثة التي كانت تتسم بالشبهات إبان تلك الفترة نظرا لحداثة تأسيسها.
ولم يستغرق القدر سوى بضع سنين حتى يخط لها منهاجها على طريق الصبر والجهاد، ليمضي في حياتها إرادة اللّه عزّ وجل، وتقترن الحاجة بشخصية شابة تتقد عنفوانا ونشاطا وعطاء، ليكون لها وتكون له نعم العون والسند في مخاض سنينهما المليئة بالأحداث ذات الشأن الدولي والإقليمي.
فعلى حين غرّة، استيقظت الحاجة زينب من رؤية القدر التي وأتتها في المنام، تجسد خلالها البدر متلئلأ يحط في أحضانها، فيما لم يجد ذووها تفسيرا لرؤيتها سوى عند آية اللّه العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) ، متنبّأ لها الاقتران برجل ذي شأن عظيم.
ولم تمض سوى أيام حتى بدءت الخطبة ثم مشروع تزويج وزفاف راسخ، ونواة جيل جديد من العلماء والفقهاء والأساطين العلمية على مستوى العالم، كما سيأتي تباعا.
فقد كان السيد محمد الشيرازي لا يزال في مقتبل العمر، ذو اطلالة مهلهلة، باسم الثغر دائما، غضّ العود لكن قوي الشكيمة وصلب العزيمة، جميل الهيئة والخلق، متفقه حليم ذو رؤية وبصيرة ثاقبة كما يصفه جميع من رافقه في شبابه.
وكعادته في استباق كل عمل خير، لم يتردّد المرجع الراحل السيد الميزرا مهدي الشيرازي في استدعاء ولده البكر الشاب في حينه السيد
ص: 25
محمد الشيرازي، مفاتحا إيّاه بما تداوله مع الحاج صالح معاش بشأن الخطبة المباركة، وما هي لحظات بين استخارة ومداولة، حتى هلّت المباركة من جميع الأطراف وقبل مغادرة الصحن الحسيني المقدّس حيث تم الاجتماع.
يقول سماحة السيد محمد رضا القزويني، حدّثني ابن عمّنا المغفور له سماحة العلامة السيد محمد كاظم القزويني بعد أن صاهر آية اللّه العظمى المغفور له السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) عن قصّة زواج ولده الأكبر آية اللّه السيد محمد الشيرازي في ستينات القرن الماضي.
فقال، «في ليلة من ليالي الجمعة و بعد الانتهاء من صلاة المغرب و العشاء و التي كان يقيمها في صحن سيدنا الحسين (عليه السلام) جاءه الحاج صالح معاش الذي كان معروفاً بالتدين والصلاح، قصّ عليه رؤية ابنته وطلب من السيد تفسير لها، وكانت قد رأت البنت (كأن القمر ليلة كماله قد نزل و هبط بكل رفق في حجرها)».
ويتابع السيد كاظم القزويني روايته، «أجابه السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) بأنّ ابنته ستتزوج رجلاً عظيماً إن شاء اللّه».
حريّ بنا قبل أن نشير إلى اقتران هذه السيدة الكريمة بالمرجع الديني السيد محمد الشيرازي (رضوان اللّه عليه) أن ننقل الكلام حول المرجع الراحل ونتطرّق إلى نبذة من حياته ثم نسوق الحديث إلى الزواج المبارك بينهما.
فهو من سلالة أهل بيت الرسالة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) إذ يتصل نسبه بزيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين (عليهم السلام) ، من أسرة آل الشيرازي العريقة التي عُرفت بأعلامها ورجالاتها.
ص: 26
توسّل والده المقدّس الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) بأهل البيت (عليهم السلام) كي يرزق بابن عظيم يحمل لواء الدين، فولد السيد محمد رضوان اللّه ببركة هذه التوسّلات في النجف الأشرف سنة 1347ه- .
نشأ وترعرع في أقدس بقاع الأرض كربلاء المقدّسة مدينة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، وبالرغم أنه ترعرع في أحضان أسرة عريقة - أسرة آل الشيرازي - التي أنارت التأريخ بمواقفها، إلا أنه (رحمه اللّه) لم يكن ممّن يفتخر ويتغنّى بأمجاد الآباء والأجداد، بل خطّ بنفسه منهاج كفاحه الطويل وانكبّ على تعلّم علوم أهل البيت (عليهم السلام) ونشر معارفهم الإلهية في سنّ مبكر، فاستطاع بكفاءة أن يدرّس طلابه كتاب (كفاية الأصول) وهو من أهم كتب الأصول في الحوزات العلمية ولم يكن عمره يتجاوز الثامنة عشر عاماً.
وبقي سماحته (رحمه اللّه) ينهل من علوم أهل البيت (عليهم السلام) ويغترف من معارفهم القيّمة مستفيداً من أكابر أساتذة الحوزات العلمية أمثال والده السيد الميرزا مهدي الشيرازي والسيد محمد هادي الميلاني وغيرهما من فطاحل الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة.
تصدّى للمرجعية بعد وفاة والده الميرزا مهدي سنة 1380ه- ولم يكن عمره آنذاك يتجاوز الثلاثة والثلاثين عاماً، ونهض بأعبائها الثقيلة على أحسن وجه.
وقد شهدت مدينة كربلاء المقدسة أيامه حركة علمية قوية، ونشاطات دينية حيوية حيث فعّل سماحته الساحة الدينية وأكثر من تأسيس المراكز والمؤسّسات الدينية في شتى أنحاء العراق خاصة كربلاء المقدسة.
إلى ذلك يشير المجدد الشيرازي (رحمه اللّه) في كتابه (عشت في كربلاء) قائلاً،
ص: 27
فقد قمت - ومنذ عشرين سنة تقريباً - بباكورة أعمالي في حقل الخدمة العامة، بمعونة جملة من علمائنا الأعلام والتجّار المحترمين، بتأسيس مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الأهلية في كربلاء المقدسة.
وهناك الكثير من تفاصيل حياة هذا المرجع العظيم في العراق والكويت وإيران لايسع المقام لذكرها تقصد في مظانها من الكتب التي ألفت عن حياته (رضوان اللّه عليه).
لم يمض عام واحد حتى منَ اللّه على تلك الزيجة المباركة بوليد بكر سيكون له شأن عظيم في قادم الأيام قبل أن تغيبه المنايا قسريا، هو السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) ، الذي أتحف الساحة الفكرية والثقافية والإسلامية بمحاضراته القيّمة، والتي نفذت إلى القلوب تاركة أثرا بالغا في نفس متلقّيها في مختلف أرجاء المعمورة، وقد وصفه سماحة المرجع الديني الكبير السيد صادق الحسيني الشيرازي بأنّه (أشبه الأحفاد بجدّه آية اللّه العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي أعلى اللّه درجاته).
وفي هذا المقام لا يسعنا إلا أن نفرد بعض السطور لاستعراض جانب من سيرة السيد الجليل الابن البكر للحاجه زينب معاش، فقد ولد السيد محمد رضا رضوان اللّه عليه في كربلاء المقدّسة سنة 1379ه- ونشأ وترعرع بجوار سيد الشهداء (عليه السلام) ، وتحت ظل والده المجدّد فتهذّب بأدبه وتعلّم من علومه ونهل من أخلاقه.
وقد بدأ دراسته الأولية في مدرسة حفاظ القرآن الكريم ثم التحق بالحوزة العلمية في كربلاء المقدّسة حيث درس مقدّمات العلوم الدينية
ص: 28
لدى أساتذة كبار.
هاجر برفقة والده إلى الكويت بعد الضغوط الكبيرة التي لاقاها والده في العراق، وقد واصل دراسته الحوزوية فيها، فقرأ الرسائل والمكاسب على عمّه المرجع السيد صادق الشيرازي، ومنذ ذلك الوقت كان يبلّغ الشباب ويرشدهم من خلال محاضراته.
ثم هاجر بمعيّة والده إلى إيران سنة 1399ه- فنزل مدينة قم المقدّسة حيث واصل دراسة السطوح حتى أكملها وشرع بدراسة السطوح العالية لدى والده المرجع الراحل رضوان اللّه عليه، بالإضافة إلى كبار مراجع التقليد في مدينة قم المقدّسة.
وقد بلغ مرتبة من العلم بحيث صار من أعلام الحوزة وأساتذتها المعروفين الذين يشار إليهم بالبنان حيث انكبّ على تدريس العلوم المختلفة، فشرع بالتدريس من المقدّمات ومروراً بالسطوح إلى بحث خارج الفقه.
أمّا سجاياه الأخلاقية فقد كان آية في التقى والورع والتديّن الواقعي، وقد وصفه عمّه المرجع آية اللّه العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي قائلا، «فإنّني عشت معه منذ ولادته ولم أر منه غير ما ينبغي للذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين وصفهم القرآن الكريم بهذا الوصف».
وأضاف: «كانت السمة البارزة لأخي في العلم وابن أخي في النسب آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) التي لعلّي لمستها أكثر من غيري، ولمسها كل من عاشره ولو لنصف ساعة، والأكثر أكثر، التمثيل الشخصي للإنسان المسلم الصحيح، في أقواله وفي سيرته، وفي استماعه، وفي دعوته وإجابته، وهذا ممّا يندر وجوده في كل زمن ولاسيما زماننا هذا».
ص: 29
ظاهرا كلام السيد المرجع «وكل من كان أقرب إليه كان أكثر معرفة بهذا الأمر، فلقد كان (رحمه اللّه) يمثّل الإيمان والعمل الصالح، ونِعم ما أعدّ نفسه طيلة حياته لمثل هذا اليوم.
حتى الذين عاشوا معه في عالم الطفولة والأيام التي كان يرتاد فيها الصف الأول والثاني من مدرسة حفّاظ القرآن الكريم في كربلاء المقدّسة التي أسسّها أخي الأكبر لا أتصوّر أنّهم لديهم إنطباعاً غير حسن عنه، حتى لمرّة واحدة».
نعم هذا السيد الجليل تربّى في أحضان هذه السيدة الجليلة وهو من مفاخرها حيث قدّمت للبشرية هذه الشخصية العظيمة التي خدمت المذهب أية خدمة بفكره وعلمه ولسانه وقلمه.
وكما أراد القدر أن يتم القِران خلال أيام قليلة، تجسّدت مشيئة اللّه في أن تكون الحاجه والدة السيد محمد رضا نعم السند والعون لزوجها الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) ، سيما أنّ حياته ورسالته الدنيوية كانت بعيدة الأفق، عابرة للحدود، كانت ولا تزال نهجا إنسانيا قلّ نظيره.
وأسوة بمختلف العظماء والقادة، لم تكن المسيرة مفروشة بالورود، بل كانت معبّدة بالمشاق والهموم والمعاناة والعداء والترهيب والترغيب، فطاول بمنطقه الطغاة، وبكلمته العتاة، وتحدّى أكثر الأنظمة والديكتاتوريات شراسة في إيران أو العراق على مدّ عمره (رحمه اللّه) .
فلا تنفصل مسيرة السيد الراحل محمد الشيرازي عن الحاجة زينب معاش، ولا سيما أنّها واكبته طيلة سني حياته الزاخرة بالعلم والعمل
ص: 30
والجهاد، إلا أنّنا سنسعى لفرد سيرتها بصورة شبه مستقلّة على الرغم من صعوبة الإلمام بجميع أوجه هذا المراد.
ينقل شقيقها الحاج رسول معاش، حادثة تعكس مدى صلابة هذه المرأة وقوّة عقيدتها وإيمانها وإخلاصها، فيقول: كانت والدة السيد محمد رضا حافظة لأسرار السيد (رحمه اللّه) ، وعندما اختفى السيد جراء إعتقال الشهيد السيد حسن الشيرازي لم يكن أحد يعرف عن اختفائه شيئاً سواها.
ويتابع، في أحد الأيام زرتها في بيتها ولما قصدت الخروج، قالت لي: إبق عندنا هذه الليلة فامتنعت رغم اصرارها على بقائي، وفي صباح اليوم الثاني أُخبرت أنّ السيد سافر فعلمت أنّ السيد كان يريد السفر وأحبّت رضيعتنا أن أبقى لأودّعه بدون أن تبيّن لي الوجه في ذلك ورغبتها الشديدة في توديع السيد، ولكن حفظها للسرّ حال دون أن تخبرني بالأمر.
كما يستشهد العلامة السيد عباس المدرسي بحادثة لا تقلّ جسامة وألما عن سابقتها، فيقول: في إيران حيث اُضطهد زوجها السيد محمد الشيرازي أشدّ الاضطهاد، وهاجر ابناها السيد رضا - بعد أن اعتقل لبضع ساعات - والسيد جعفر خوفاً من بطش الظالمين، قبل أن يتعرّض ابنها السيد المرتضى للحبس الشديد لأكثر من سنة دون أن تعلم عنه شيئاً، اضطربت أيّما اضطراب لكنّها صبرت واحتسبت كل ذلك عند اللّه، فكانت تخرج إلى صحن الدار و تكشف عن رأسها تحت السماء وتدعو للفرج، وعندما أفرج عنه رأت آثار التعذيب على رقبته وسائر بدنه لم تجزع أو تفزع، بل التزمت الصبر واحتسبت ذلك عند من لا تضيع عندها الودائع.
ويضيف السيد المدرّسي: عندما اُعتقل ابنها المهدي لشهور اشتدّت
ص: 31
آلامها حيث عايشت الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي ألمّت بمرجعية زوجها، فكانت خير عضيد له تخفّف من آلامه وتشاركه المحنة و تصبّره و تصبر.
وعودة على ذي بدء، رزق اللّه الحاجّه زينب معاش والسيد محمد الشيرازي سبعة ذكور وستة إناث، هم كل من السادة الرضا ثم علي الذي توفّاه الأجل صغيرا، ثم مرتضى ثم جعفر، وهم من مواليد مدينة كربلاء المقدّسة، فيما تلاهم السادة، مهدي ثم محمد علي في دولة الكويت، وأخيرا، السيد محمد حسين الذي ولد في مدينة قم المقدّسة.
وكما أسلفنا، لم تدّخر أمّ السيد محمد رضا جهدا في العناية بزوجها من جهة، وبأولادها المباركين من جهة أخرى، فكانت نعم الزوج والأم والمعلّمة.
وعلى الرغم من حجم المسؤولية التي كانت تقع على عاتقها، إلا أنّها آلت الاعتماد على نفسها في قضاء صغار الأمور وكبارها، ابتداء من رعاية وتلبية الاحتياجات المنزلية، وانتهاء بالرسالة الإنسانية والإسلامية التي تصدّت لها بكل عزم وإرادة.
فبين أخلاق جبل عليها الزوجان نفسيهما وأبنائهما، جمعت بين الإيثار والزهد والصبر الجميل على بلاء الدنيا، فترعرت الأسرة على القيم الإسلامية والإنسانية البحته، مفضّلين شظف العيش على البهرجة الكاذبة، متأسيّن بالإمام علي وزوجته الزهراء صلوات اللّه عليهما، لم تغرّهم الدنيا بألوانها، بالرغم من اضطرارهما التعايش مع مجتمعات مختلفة الأذواق والتقاليد، ابتداء من كربلاء المقدّسة ومن ثم الكويت، قبل أن يستقرّ بهما
ص: 32
المقام في قم المقدّسة، حيث ترقرقت روح زوجها السيد محمد الحسيني الشيرازي إلى بارئها عزّ وجل.
فقد كانت كما يروي جميع المقرّبين منها، تتكفّل بجميع الأعمال المنزلية، طبخا وكنسا وتنظيفا وغسلا للملابس باليد، دون أن تفكر باتخاذ خادم لها على الرغم من تيسّر الأمر لمثيلاتها.
والجدير ذكره أنّ الحاجة أمّ محمد رضا رعت جدّة أطفالها من الأب لمدّة ثمان سنوات قبل أن توافي الأخيرة المنيّة، وهي والدة السيد محمد الشيرازي، والذي بدوره تصدّى لشؤون المرجعية الدينية في كربلاء المقدّسة بعد وفاة والده السيد ميرزا مهدي الشيرازي مباشرة، لتبدأ من حينها الفترة الأكثر إعياء وجهدا على كاهل الزوجين، والذي يستطيع القارئ الكريم تأمله من خلال الاطلاع على سيرة الإمام الشيرازي رضوان اللّه عليه.
تشير ابنتها السيدة أمّ مهدي إلى أنّ والدتها كانت ترعى شؤون جدّتنا (أمّ زوجها) المعروفة ب- (خانم بزرك) في الكويت، بالرغم من أنّ لديها بنات آنذاك، إلا أنّ الوالدة آثرت أنّ تقوم بكل ذلك بمفردها، وتبدّل لها ملابسها وتطهّرها وتنظّفها وتسهر على شؤونها، وقد خصصت إحدى الغرف لها مع قلّة غرف الدار وكثرة الأطفال وكانت مقعدة في تلك الفترة لا تستيطع الحركة، فكانت الوالدة أول الصباح تحضر لها الفطور، ثم تبدء بتنظيفها بنفسها، وكانت تحضر لها الإبريق والطشت للتطهير، وإبريقاً آخر لغسل يديها.
وحول البيت الذي تقطنه فيه مع زوجها يشير صهرها الأكبر العلامة السيد عباس المدرسي في حديث له حول زهد المجدّد الشيرازي، قائلاً، رغم إقبال الدنيا عليه في مدينة كربلاء المقدّسة، فإنّه أبقى على بيته
ص: 33
المتواضع الذي تزوّج فيه، ولم يكن تتجاوز مساحته السبعين متراً مربعا فقط، حتى بعد أن كثر أولاده وتزايد المراجعون له.
يتابع المدرسي حديثه، فيقول: عندما هاجر المرجع الراحل إلى الكويت، بقي في شقّة صغيرة، رغم عائلته الكبيرة حتى أنّه لم يكن يجد مكاناً ليؤلّف فيه كتبه، فاضطرّ أن يتّخذ من الطابق الأعلى من سرير الأطفال ذي الطوابق الثلاثة مكاناً يصعد إليه فيؤلّف فيه كتبه.
ويضيف أيضاً: في مدينة قم المقدّسة سكن منزلاً متواضعاً متداعياً في جوانبه، وفي نفس البيت زوّج جميع أولاده، وكلّما زّوج أحد أبنائه فرد له حجرة وخرج من تقدّم عليه في الزواج إلى منزل مستقل.
وقد كانت الحاجّة أم محمد رضا بحاجة إلى المال لإقامة بعض مراسيم الزواج لأولادها وبناتها، إلا أنّ السيد (رحمه اللّه) كان يرفض ذلك لشدّة زهده ومراعاته لحال أضعف الناس من الفقراء مع أنّ الملايين كانت تجري بين يديه، وقد توافق على هذا الأمر مع زوجته.
وتنقل ابنتها السيدة أم عباس: لم يقدّم والدي لزواجي من المال إلا بمقدار شراء بعض الأواني. مشيرة، بأنه كان السيد يعطيها راتباً بمقدار مايعطيه لسائر بناته وزوجات أبناءه ولم يكن يفضّل أحداً على أحد.
على صعيد متصل، تلقفت الحاجة أم محمد رضا بكل أرحبية رغبة زوجها المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي، والتي تمثلّت في دراستها العلوم الفقهية والإسلامية والاجتماعية والإنسانية بشكل عام، دون أن تغفل في الوقت ذاته رسالتها السماوية المنصبّة على تنشأة ورعاية جيل جديد من
ص: 34
العلماء الأفذاذ الذين سيبصرون النور في دوحتهم العلمية الصغيرة خلال السنوات التي تلت الاقتران.
فتتلمذت على يدي زوجها، لتتعلّم الفقه والنحو والصرف، ومن نوافل الذكر، أنّه (رحمه اللّه) كرّس وقتا خاصا لتأليف كتاب (المنصورية)، وهو كتاب جميل مزج فيه بين النحو والصرف، سهر على تدريسه لها بشكل يومي على مدى عام كامل.
ولا يسعنا إغفال أمر بالغ الأهمية في سيرتها، فكما طوعت نفسها في أداء العبادات والزيارات المقدّسة ورعاية زوجها الراحل وأبنائها الكرام، كرّست وقتا للتأليف وإصدار الكتب الإسلامية كما سيأتي ذكره.
فعمدت إلى ترجمة الثقافة والتعاليم الدينية التي تلقّتها على يد زوجها الإمام الشيرازي الراحل (رحمه اللّه) إلى إصدارات قيّمة تنتفع بها عامة الناس، بلغة جزلة سهلة قادرة على إفادة من يتلقّاها بشكل وافر، سواء على الصعيدين الفقهي أو العلمي.
فأصدرت العديد من الكتب الخاصة في فقه الولاية والبرائة والأخلاق وهي بين الخمسين والستين من عمرها، ومن جملة تلك الكتب: كتاب (من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) )، وكتاب (من كلمات الإمام العسكري (عليه السلام) ) وكتاب (الأخلاق)، وكتاب (نبذة عن حياة المعصومين (عليهم السلام) )، وكتاب (خلفاء السقيفة في محكمة التاريخ)، وأيضاً كتاب (من معاجز المعصومين (عليهم السلام) )، وكتاب (المحاضرات) وكتاب (الأربعون حديثا).
ولتسليط الضوء بشكل أكبر على هذا المنحى المهم في سيرة الحاجة أم محمد رضا، تستحضر الكثير من المواقف والتجليات اليومية التي كانت
ص: 35
تواظب عليها دون كلل أو وجل، مستعصمة بنهج الأئمة والعلويات الشريفات من ذرية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، دافعة بيقين حسن العاقبة والباقيات الصالحات كل إعياء أو رهق ألمّ بها، أو ضنكة حاصرتها بهمومها، غير مبالية بالحياة الفانية ومصاعبها أو مآسيها التي كانت تحلّ في محطاتها بين الفينة والأخرى، وهذا إن دل فهو يدلّ على السمات التي تتمتّع بها وجمال الخصال الحميدة المتجذّرة في قرارة نفسها الطيّعة في سبيل اللّه.
إذ لا تزال الحاجّه أم محمد رضا أشد التعلّق باللّه كثيرة الدعاء والتضرّع، تطيل في الأذكار والتعقيبات والنوافل بعد كل صلاة، فضلاً عن التزامها بقراءة أجزاء كثيرة من القرآن الكريم يومياً، وعادة ما تحرص على إمرار إصبعها على الآيات التي تتلوها للاستشفاء، فتمسح إصبعها على المرضى ليمنّ اللّه عليهم بالشفاء وتقول: فيها بركة القرآن.
كما أنّها شديدة التعلّق بأهل البيت (عليهم السلام) ، ومن خصوصيات هذه السيدة الصالحة أيضاً هي شدّة محبّتها وولائها لأهل البيت (عليهم السلام) خاصة المولى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فما من يوم إلا وتذكر فضائله وتطلب من الذين حولها أن ينقلوا فضائله لها، وتصغي إلى الفضائل باهتمام بالغ حتى لو كانت الفضيلة مكرّرة، وكان ابنها السيد محمد رضا (رحمه اللّه) ملتزماً بنقل تلك الفضائل لها يومياً وكذلك بعض أولادها و بناتها.
وليس ذلك فقط، بل لها علاقة شديدة بزيارة مراقد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، فما أن سقط طاغية العراق حتى قصدت العراق لزيارة المراقد الشريفة ولم تكن ترغب إطلاقا في مفارقة العراق لكن ظرفها الصحّي وسوء الإمكانات ألجأها للرجوع إلى قم، وبقيت تسافر إلى العراق مرّة كل سنة تمكث فيها
ص: 36
ثلاثة أشهر في الفندق إلى أن استقر بعض أولادها في النجف وكربلاء.
أمّا في مدينة قم المقدّسة فتزور السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) كل ليلة خاصة ليالي الجمعة وتطيل البقاء في الحرم الشريف، وقد استمرت على ذلك حتى لما اشتد مرضها في الأونة الأخيرة، فبالرغم من أنّها لا تخرج من الدار إلا أنّها تذهب إلى الحرم كل يوم و تبقى فيه ساعات و هي على الكرسي المتحرّك.
وتنقل ابنتها (أم مهدي) حرم الخطيب الشهير السيد باقر الفالي، فتقول: أتذكر أنّها كانت تذهب إلى حرم السيدة المعصومة (عليها السلام) كل يوم صباحاً، ولمّا اشتد ألم رجلها أخبرت السيد الوالد بالأمر واستأذنته أن تذهب بالسيارة، فقال لها: اتكئي على عصاة واذهبي للحرم مشياً، لا نريد أن نترفّع على عامّة الناس ممّن لا يمتلكون سيارة، ومع كل ذلك لم تكن تترك الذهاب إلى الحرم يوماً واحداً.
أمّا إذا رغبنا في استعراض خصيصة الصبر لديها فالحديث يطول وذي شجون وغصص وآهات، ويكفي بها صبرا وفخرا أنّها اختارت العيش بعزّ وإباء إلى جانب بعلها المجاهد الذي لم يعرف يوماً الراحة في الحياة، فكانت له خير معين وسند في الحياة.
تأثّرت السيدة أم محمد رضا حين وفاة زوجها الإمام الشيرازي (رحمه اللّه) كثيرا، حيث فقدت عملاقاً عظيماً أبكى فقده عيون العدو والصديق، وأمضّ فراقه قلوب الجميع، فكانت مصيبة وفاته عظيمة عليها، ومع ذلك كانت صابرة أمام مصيبة كهذه محتسبة.
ص: 37
كيف لا وقد أصاب العالم الإسلامي أجمع فقدان رجل كالسيد محمد الحسيني الشيرازي حسرة ولوعة، رجل كان سيدا في الوسطية والاعتدال، متمسكا بمبادئ أهل البيت (عليهم السلام) ، أغنى الساحة الإسلامية والثقافية بمئات الإصدارات الفقهيّة والعلميّة والاجتماعية القيّمة، حتى نال بجدارة استحقاق ألقاباً عدّة، كالمجدّد الثاني وسلطان المؤلّفين وغيرها من الألقاب الفخرية والعلمية.
لقد كان الإمام الشيرازي فكراً نيّراً، استطاع من خلال سنّي كفاحه وجهاده إرساء مبادئ اللاعنف والتسامح والاعتدال في نفوس الملايين من مريديه واتباعه في أدنى المعمورة واقصاها.
لم تغفل الحاجة أم محمد رضا أطال اللّه عمرها في ترك إرث لها على أكثر من صعيد، تقربا لله تعالى، وتشفعا بأهل بيت النبوة صلى اللّه عليهم أجمعين، فجهدت كما أسلفنا في تأليف الكتب الإسلامية ذات الأبعاد الثقافية والفقهيه والفكرية، وسعت ببالغ جهد في تأسيس دار للخدمة الحسينية في مدينة كربلاء المقدسة، إلا أنّ عسر الحال أجل بلورة هذا المشروع لفترة طويلة.
ولكن، ما كان لله ينمو، فقد قرر ورثة الحاج صالح معاش (أبيها) بيع داره في كربلاء المقدّسة و تقسيم الإرث إلى الورثة فكان سهم الحاجّة ما يعادل ثمانية آلاف دولار، فقررت أن تشتري بها قطعة أرض في كربلاء المقدّسة لتكون صدقة جارية لكن المبلغ كان ضئيلاً جداً، فباعت ما تمتلك من مصوغات ذهبية، وأضافت إليه مبلغاً من المال، وبقيت كلما تحصل على
ص: 38
شيء من الهدايا تضيفه إليه، ثم أخذت تجمع التبرّعات واستدانت مبلغاً من المال إلى أن اجتمع ما يكفي لشراء قطعة أرض بمساحة مئتي متر في منطقة البوبيات الواقعة مايقرب من كيلو متر من الحرم الحسيني الشريف.
وبقيت الأرض معطلّة عدّة سنين لعدم توفر المال الكافي لبنائها، ثم شرع بناء حسينية في طابقين للرجال وللنساء، وفي أعلى الحسينية ثلاثة طوابق شقق سكنية لسكن طلبة العلوم الدينية من أولادها الذكور.
وفي بناء هذه الحسينية عبرة لمن اعتبر حيث يمكن لامرأة كبيرة تجاوزت السبعين وهي لا تملك من حطام الدنيا شيء الاهتمام ببناء المؤسّسات والمشاريع الخيرية، فهي صدقة جارية فإنّ شقّ تمرة يدفعها المؤمن في حال حياته أفضل من أطنان يوصي بها بعد وفاته كما هو مضمون حديث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
حرصت الحاجة أم محمد رضا أطال اللّه عمرها أن ترسّخ في نفوس أبنائها وأحفادها وأرحامها جميعا جملة من القيم والمبادي الإسلامية والإنسانية، تارة من خلال سلوكها وتارة من خلال وصايا كانت تتحف بها كل من التقاها، إيمانا وتمسّكا بإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) .
فكان من جملة تلك الوصايا:
1- التأكيد على صلوات أول الوقت وصلوات أول الشهر، والغفيلة، إقامة الصلاة بين الظهر والعصر من يوم الجمعة والتي تكرّر فيها تلاوة سورة التوحيد 7 مرات حفاظا على عافية المصلّي إلى الأسبوع الثاني، وتعقيب كل صلاة بسجدة الشكر كونها ترغم أنف الشيطان، إلى جانب تشديدها
ص: 39
على ضرورة إقامة نوافل شهر رجب وشعبان وشهر رمضان.
2- التأكيد على الالتزام بأداء الصلوات المستحبّة ليالي شهر رمضان، وغيرها من الصلوات المستحبّة المذكورة في مفاتيح الجنان، لا سيما إقامة نافلة الفجر ونافلة الليل.
3- التأكيد على ضرورة قراءة حديث الكساء دائما وقراءة زيارة الجامعة الكبيرة، وقراءة زيارة عاشوراء، وقراءة دعائي الكميل والسمات.
4- التأكيد على ضرورة قراءة الفاتحة عصر يوم الخميس, وسورة الجمعة والمنافقون في صلاة الظهر من يوم الجمعة، فضلا عن أهمية تلاوة سورة يس والملك.
5- التأكيد على غسل الجمعة.
6- التأكيد على ذكر فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) .
7- التأكيد على أهمية البر بالوالدين وخاصة إقامة صلاة الوالدين كل ليلة.
8- التأكيد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
9- التأكيد على زيارة العتبات المقدّسة، ولبس السواد في أيام استشهاد المعصومين (عليهم السلام) .
10- تقليد الدعاء وطلبه من المؤمنين والمؤمنات وطلب قراءة حمد الشفاء للمرضى.
11- التأكيد على التواصل مع الفقراء والمستضعفين وتقديم المساعدات المادية والمعنوية، وخدمة الأرحام وعامة الناس.
12- التأكيد على النظافة الشخصية، والوضوء دائما خاصة قبل النوم.
ص: 40
13- التأكيد على البساطة في العيش وعدم الإسراف.
14- التأكيد على الزواج المبكر البسيط والالتزام بمهر السنة النبوية، والحثّ على تكثير النسل والذرية.
15- التأكيد على البنات الحفاظ على آداب الحجاب وعدم لبس الملابس الضيّقة والفاضحة والنهي عن الرقص في الأعراس.
16- الحثّ على التأليف والكتابة و خاصة الأحاديث.
ص: 41
ص: 42
ص: 43
ص: 44
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد اللّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة علی أعدائهم أجمعين، من الآن إلی قيام يوم الدين.
قال اللّه تعالی في كتابه الكريم:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۢ بِإِذْنِ رَبِّهَاۗ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).
من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلی بيان: أنّ الحضارة الإنسانية تعتد علی عنصر (التراكم).
فخبرات الأجيال المتتابعة وتجاربهم ورؤاهم تتجمع كلّها لتصنع (الحضارة).
ولو بدأ كل جيل من نقطة الصفر، وشرع المسيرة من حيث شرع الآخرون لكنّا نعيش الآن كما كان يعيش أجدادنا الأوائل قبل ملايين السنوات.
والكلمة - مسموعة ومقروءة - من أهم العوامل التي ساهمت في عنصر التراكم الحضاري.
ص: 45
فلو لا الكلمة لما استطاع الجيل السابق أن ينقل تجاربه وخبراته ورؤاه إلی الجيل اللاحق، ولما استطاع الجيل اللاحق أن يستمدّ من تلك الرؤی والتجارب: البصيرة والخبرة.
والكلمة الطيبة تمتاز عن غيرها من الكلمات بخصيصتي الثبات والعطاء.
فالكلمة الخبثة تشبه شجرة خبيثة اُجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار، بينما الكلمة الطيّبة تشبه شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
لقد انمحت كلمات الجبابرة والطغاة وذابت كما تذوب حبّة من الملح في المحيط، ولم يبق منها أثر، بينما بقيت كلمات الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والمصلحين علی مرّ القرون الطريق للأجيال.
والكلمة الطيّبة كالشجرة المثمرة، ذات عطاء، بل هي ذات أثمار وعطاء.
وليس هذا العطاء خاصاً بجيل دون آخر، أو بوقت دون وقت، بل إنّها تؤتي اُكلها كل حين بإذن ربّها.
و كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) من أبرز مصاديق الكلمة الطيّبة.
لقد حركت كلمات الامام الحسين (عليه السلام) الأجيال ودفعتها إلی خوض ميادين الجهاد المقدّس، وأسقطت العروش الظالمة علی امتداد القرون.
و لا زالت هذه الكلمات مؤثّرة حتی الآن، وستبقی كذلك إلی أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
و في هذا الكتاب: جمعنا بعض الكلمات التي نطق بها سيّد الشهداء صلوات اللّه وسلامه عليه، ولم نستقص جميع تلك الكلمات، إذ ذلك يحتاج إلی مجلّدات ضخمة.
ص: 46
ص: 47
ص: 48
من كلامه له (عليه السلام) في التوحيد، قال: أيّها الناس! اتقوا هؤلاء المارقة الّذين يشبّهون اللّه بأنفسهم، يضاهئون قول الّذين كفروا من أهل الكتاب بل هو اللّه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير، استخلص الوحدانيّة والجبروت، وأمضی المشيّة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شيء من أمره، ولا كفو له يعادله، ولا ضدّ له ينازعه، ولا سمّي له يشابهه، ولا مثل له يشاكله، لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث، ولا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر علی القلوب مبلغ جبروته لأنّه ليس له في الأشياء عديل ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التّفكير بتفكيرهم إلا بالتّحقيق، إيقاناً بالغيب، لأنّه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين وهو الواحد الصّمد، ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه، ليس بربّ من طرح تحت البلاغ ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء هو في الأشياء كائن، لا كينونة محظور بها عليه ومن الأشياء بائن لا بينونة غائب عنها، ليس بقادر من قارنه ضدّ، أو ساواه ندّ، ليس عن الدّهر قدمه، ولا بالناحية أمّمه.
احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وعمَّن في السماء
ص: 49
احتجابه كمن في الأرض، قربه كرامته، وبعده إهانته، لا تحلّه في، ولا توقّته إذ، ولا تؤامره إن، علوّة من غير توقّل(1)، ومجيئه من غير تنقّل، يوجد المفقود ويفقد الموجود، ولا تجمع لغيره الصّفتان في وقت، يصيب الفكر منه الإيمان به موجوداً ووجود الإيمان، لا وجود صفة، به توصف الصفات لا بها يوصف، وبه تعرف المعارف لا بها يعرف، فذلك اللّه لا سمّي له، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(2).
صف لي إلهك الذي تعبده، فأطرق ابن عباس إعظاما لقوله، فأقبل نافع نحو الإمام الحسين (عليه السلام) فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) :
يا نافع، إنّ من وضع دينه علی القياس لم يزل الدهر في الالتباس سائلاً ناكباً عن المنهاج، ظاعناً بالاعوجاج، ضالاً عن السبيل، قائلاً غير الجميل، يابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه وأعرّفه بما عرّف به نفسه لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، قريب غير ملتصق، وبعيد غير منتقص، يوحّد ولا يبعّض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال.
فبكي ابن الأزرق، وقال: يا حسين ما أحسن كلامك.
فقال له الحسين (عليه السلام) : بلغني أنّك تشهد علی أبي وعلی أخي بالكفر وعليّ؟! فقال له الحسين (عليه السلام) : إنّي سائلك عن مسألة فقال: سل، فسأله عن
ص: 50
هذه الآية: {وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ}(1)
فقال: يابن الأزرق، من حفظ في الغلامين؟ قال ابن الأزرق: أبوهما؟ فقال الحسين (عليه السلام) : أبوهما خير أم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟
فقال ابن الأزرق: قد أنبأ اللّه تعالی أنّكم قوم خصمون(2).
كتب (عليه السلام) إلی أهل البصرة جواباً علی كتابهم إليه يسألونه عن معنی الصمد:
بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه ولا تتكلموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «من قال في القرآن بغير علم، فليتبوّأ مقعده من النّار، وإنّ اللّه سبحانه قد فسّر الصّمد، فقال: {ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ}(3) ثمّ فسّره فقال: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُۢ}(4).
لَمْ يَلِد: لم يخرج منه شيء كثيف كالولد، وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعّب منه البدوات كالسّنة والنّوم، والخطرة والهمّ، والحزن والبهجة، والضّحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسّأمة، والجوع والشبع. تعالی أن يخرج منه
ص: 51
شيء، وأن يتولّد منه شيء كثيف، أو لطيف. وَلَمْ يُوْلَدْ: لم يتولّد من شيء، ولم يخرج من شيء كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثّمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللّطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللّسان، والمعرفة والتميز من القلب، وكالنار من الحجر.
لا بل هو اللّه الصّمد، الذي لا من شيء، ولا في شيء ولا على شيء، مبدع الأشياء، وخالقها، ومنشيء الأشياء بقدرته، يتلاشی ما خلق للفناء بمشيته، ويبقي ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم اللّه الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ولم يكن له كفواً أحد(1).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) حدّثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي (عليه السلام) أنه قال: الصّمد الذي لا جوف له، والصّمد الذي قد انتهی سؤدده والصّمد الذي لا يأكل ولا يشرب، والصّمد الذي لا ينام والصّمد الدائم الذي لم يزل ولا يزال(2).
كتب الإمام الحسين (عليه السلام) إلی الحسن البصري لما سأله في كتاب له عن معنی القدر:
فاتبع ما شرحت لك في القدر ممّا أفضی إلينا أهل البيت، فإنّه من لم
ص: 52
يؤمن بالقدر خيره وشرّه فقد كفر، ومن حمل المعاصي على اللّه عزّوجلّ فقد افترى على اللّه افتراء عظيماً، إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه، ولا يعصى بغلبة ولا يهمل العباد في الهلكة، لكنه المالك لما ملكهم، والقادر لما عليه أقدرهم. فإن ائتمروا بالطاعة، لم يكن اللّه صادّا عنها مبطئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول بينهم وبين ما ائتمروا به فعل. وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسراً، ولا كلّفهم جبراً.
بل بتمكينه إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم، طوقهم ومكنهم وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم، وترك ما عنه نهاهم جعلهم مستطيعين لأخذ ما أمرهم به من شي ء غير آخذيه. ولترك ما نهاهم عنه من شي ء غير تاركيه، والحمد للّه الذي جعل عباده أقوياء لما أمرهم به ينالون بتلك القوة، وما نهاهم عنه. وجعل العذر لمن يجعل له السبيل حمداً متقبلاً فأنا على ذلك أذهب وبه أقول واللّه وأنا وأصحابي أيضاً عليه وله الحمد(1).
ص: 53
ص: 54
ص: 55
ص: 56
سأله رجل فقال: أخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمْ}(1)؟
قال (عليه السلام) : إمام دعا إلی هدى فأجابوه إليه، وإمام دعا إلی الضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، وهو قوله عزّوجلّ {فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ}(2)(3).
أيّها الناس إن اللّه جلّ ذكره، ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه.
فقال له رجل: يا ابن رسول اللّه بأبي أنت وأمّي فما معرفة اللّه؟
قال: معرفة أهل كلّ زمان إمامَهُم الذي يجب عليهم طاعَتُه(4).
من عرف حقّ أبويه الأفضلين محمد وعلي، وأطاعَهُمَا حقّ الطَّاعة، قيل
ص: 57
له تَبَحْبَحْ في أيَّ الجِنَان شِئْتَ(1).
دخل عليه رجل فسلّم، فرد الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقال: يا ابن رسول اللّه مسألة؟
فقال (عليه السلام) : هاتِ!
قال: كم بين الإيمان واليقين؟
قال (عليه السلام) : أربعُ أصابع.
قال: كيف؟
قال (عليه السلام) : الإيمان ما سمعناه، واليقين ما رأيناه، وبين السمع والبصر أربع أصابع.
قال: فكم بين السماء والأرض؟
قال (عليه السلام) : دعوةٌ مستجابة.
قال: فكم بين المشرق والمغرب؟
قال (عليه السلام) : مسيرة يوم للشّمس.
قال: فما عزّ المرء؟
قال (عليه السلام) : استغناؤه عن الناس.
قال: فما أقبح شي ء؟
قال (عليه السلام) : الفسق في الشيخ قبيح، والحدّة في السلطان قبيحة، والكذب في ذي الحسب قبيح، والبخل في ذي الغناء، والحرص في العالم.
ص: 58
قال: صدقت يا ابن رسول اللّه، فأخبرني عن عدد الأئمة (عليهم السلام) بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟
قال (عليه السلام) : اثنا عشر عدد نقباء بني اسرائيل.
قال: فسمّهم لي قال. فأطرق الحسين (عليه السلام) ! ثمّ رفع رأسه.
فقال: نعم اُخبرك يا أخا العرب! إنّ الإمام والخليفة بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن وأنا وتسعة من ولدي، منهم علي ابني، وبعده محمد ابنه، وبعده جعفر ابنه، وبعده موسى ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده محمد ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده الحسن ابنه وبعده الخلف المهدي، هو التاسع من ولدي يقوم بالدين في آخر الزّمان(1).
ذات يوم خطب الإمام الحسين (عليه السلام) وحمد اللّه وأثنی عليه، ثم صلی علی النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسمع رجلاً يقول: من هذا الذي يخطب؟ فقال (عليه السلام) :
نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأقربون وأهل بيته الطّيبون وأحد الثّقلين اللَّذَينِ جعلنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثاني كتاب اللّه تبارك وتعالی، الذي فيه تفصيل كلّ شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والمعوّل علينا في تفسيره ولا يبطئنا تأويله، بل نتبع حقائقه، فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة، قال اللّه عزّوجلّ: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ}(2).
ص: 59
وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُ مِنْهُمْۗ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَٱتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا}(1).
وأحذّركم الإصغاء إلی هتوف(2) الشيطان بكم فإنّه لكم عدوّ مبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: {لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ...}(3) فتلقون للسّيوف ضرباً وللرّماح وَرَداً وللعمد حَطماً وللسّهام غرضاً، ثم لايقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً(4).
لما بويع أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه بالخلافة، خرج إلی المسجد، ومعه الحسن والحسين (عليهما السلام) ، وخطب خطبة، ثم قال للحسن: قم فاصعد المنبر، فتكلّم بكلام لايجهلك قريش من بعدي...، فصعد الحسن (عليه السلام) المنبر، فحمد اللّه بمحامدَ بليغة شريفة وصلى على النبي وآله صلاة موجزة، ثم قال:
أيّها الناس سمعت جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وهل تدخل المدينة إلا من بابها؟ ثم نزل، فوثب إليه علي (عليه السلام) فتحمله وضمّه إلی صدره.
ثم قال للحسين (عليه السلام) : يا بني قم فاصعد المنبر، فتكلّم بكلام لايجهلك
ص: 60
قريش بعدي...، وليكن كلامك تبعاً لكلام أخيك، فصعد الحسين (عليه السلام) المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّی علی نبيّه صلوة موجزة ثم قال:
معاشر الناس سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقول: إنّ علياً هو مدينة هدی، فمن دخلها نجی ومن تخلّف عنها هلك.
ثم نزل فوثب إليه الإمام علي وضمّه إلی صدره، وقَبّله وقال:
معاشر الناس، اشهدوا أنّهما فرخا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ووديعته، التي استودعنيها، وأنا استودعكموها، معاشر الناس ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سائلكم عنهما(1).
ذات يوم ذكر الإمام الحسين (عليه السلام) أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) فقال: رحمك اللّه أبا محمد، أن كنتَ لَتُباصِرُ الحق مظانّه وتؤثر اللّه عند تداحض الباطل، في مواطن التّقيّة بحسن الّرويّة، وتستشف جليل معاظم الدّنيا بعين لها حاقرة، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف، نقيّة الأسرة وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة عليك، ولا غرو وأنت ابن سلالة النّبوة ورضيع لبان الحكمة، فإلی روح وريحان، وجنّة ونعيم، أعظم اللّه لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السّلوة وحسن الأسی عنه(2).
قال (عليه السلام) : منّا اثنی عشر مهدياً أوّلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم التاسع من ولدي، وهو: الإمام القائم بالحقّ يحيي اللّه
ص: 61
به الأرض بعد موتها، ويظهر به دين الحق علی الدين كلّه ولو كره المشركون، له غيبة يرتدّ فيها أقوام ويثبت علی الدين فيها آخرون فيؤذون ويقال لهم: متی هذا الوعد ان كنتم صادقين؟ أما أنّ الصابر في غيبته علی الأذی والتكذيب، بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).
قال (عليه السلام) : في التاسع من ولدي سنّة من يوسف، وسنّة من موسی بن عمران (عليهما السلام) ، وهو قائمنا أهل البيت يصلح اللّه تعالی أمره في ليلة واحدة(2).
قال (عليه السلام) : قائم هذه الأمّة هو التاسع من ولدي، وهو صاحب الغيبة، وهو الذي يقسّم ميراثه وهو حيّ(3).
وقال (عليه السلام) : لايكون الأمر الذي تنتظرونه (يعني ظهور المهدي) حتی يبرأ بعضكم من بعض، ويتفلُ بعضكم في وجوه بعض ويشهد بعضكم علی بعض بالكفر ويلعن بعضكم بعضاً.
قال الراوي: فقلت: ما في ذلك الزمان من خير!
فقال (عليه السلام) : الخير كلّه في ذلك الزمان يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله(4).
ص: 62
وقال (عليه السلام) : لصاحب هذا الأمر غيبتان: أحدهما تطول حتی يقول بعضهم مات، وبعضهم ذهب، ولا يطّلع علی موضعه أحدٌ من ولي ولا غيره، إلا المولى الذي يلي أمره(1).
قال (عليه السلام) : لو قام المهدي، لأنكره الناس، لأنّه يرجع إليهم شابّاً موفَّقاً وإنَّ مِن اعظم البلية أن يخرج اليهم صاحبهم شاباً، وهم يحسبونه شيخاً كبيراً(2).
عن عيسی الخشاب، قال: قلت للحسين بن علي (عليه السلام) :
أنت صاحب هذا الأمر!
قال (عليه السلام) : لا ولكن صاحب هذا الأمر، الطّريد الشّريد الموتور بأبيه، المكنّی بعمّه، يضع سيفه علی عاتقه ثمانية أشهر(3).
مرّ الإمام الحسين (عليه السلام) علی حلقة من بني أمية وهم جلوس في مسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فقال (عليه السلام) : أما واللّه لاتذهب الدّنيا حتّی يبعث اللّه منّي رجلاً يقتل منكم ألفاً ومع الألف ألفاً، ومع الألف ألفاً.
ص: 63
فقلت: جعلت فداك إنّ هؤلاء أولاد كذا وكذا لايبلغون هذا!
فقال: ويحك إنّ في ذلك الزمان يكون للرجل من صلبه كذا وكذا رجلاً، وأنّ مولی القوم من أنفسهم(1).
وقال (عليه السلام) : للمهدي خمس علامات: السّفياني، واليماني، والصّيحة من السماء، والخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكية(2).
وقال (عليه السلام) : يملك المهدي تسعة عشر وأشهر(3).
قال له رجل يا ابن رسول اللّه أنا من شيعتكم!
فقال (عليه السلام) : اتّق اللّه ولا تدّعيّنّ شيئاً، يقول اللّه لك كذبت وفجرت في دعواك، إنّ شيعتنا من سلمت قلوبهم من كلّ غِشّ وغِلّ ودَغَل، ولكن قل: أنا من مواليكم ومحبّيكم(4).
جاء رجل إلی أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال أخبرني إن كنتَ عالماً عن الناس وعن أشباه الناس، وعن النسناسِ؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يا حسين
ص: 64
أجب الرجل!
فقال (عليه السلام) : أمّا قولك أخبرني عن الناس، فنحن الناس، ولذلك قال اللّه تعالی ذكره في كتابه: {أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ}(1) رسول اللّه الذي أفاض بالناس، وأمّا قولك أشباه الناس فهم شيعتنا، وهم موالينا وهم منّا، ولذلك قال إبراهيم (عليه السلام) : {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(2)
وأمّا قولك النّسناس هم السّواد الأعظم.
وأشار إلی جماعة الناس.
ثم قال: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(3)(4).
وقال (عليه السلام) : من أحبّنا لله، وردنا نحن وهو علی نبيّنا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هكذا ضمّ أصبعيه، ومن أحبّنا للدّنيا، فإنّ الدّنيا تسع البرّ والفاجر(5).
قال (عليه السلام) قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الزموا مودّتنا أهل البيت فإنّ من لقي اللّه يؤم القيامة وهو يودّنا دخل بشفاعتنا(6).
ص: 65
وقال (عليه السلام) : ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة أو دمعت دمعة إلا بوّأه اللّه بها في الجنة حُقُباً(1).
وقال (عليه السلام) : من أتانا لم يعدم خصلة من أربع: آيةً محكمة، وقضيّةً عادلة، وأخاً مستفاداً، ومُجالَسَةَ العلماء...(2).
قال أبان بن تغلب: قال الإمام الشهيد صلّی اللّه عليه: من أحبّنا كان منّا أهل البيت! فقلت: منكم أهل البيت؟ فقال: منّا أهل البيت، حتی قالها: ثلاثاً، ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أما سمعت قول العبد الصّالح: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}(3)؟
قيل: مرّ المنذر بن الجارود بالإمام بالحسين (عليه السلام) ، فقال: كيف أصبحت جعلني اللّه فداك يابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟
فقال: أصبحت العرب تَعتدُّ علی العجم بأنّ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منها، وأصبحت العجم مقرّة لها بذلك، وأصبحنا وأصبحت قريش يعرفون فضلنا، ولا يرون ذلك لنا، ومن البلاء علی هذه الأمّة أنّا إذا دعوناهم لم يجيبونا وإذا تركناهم
ص: 66
لم يهتدوا بغيرنا(1).
وفي رواية أخری أنّه اجتاز وقد اُغضِبَ فقال:
ما ندري ما تنقم الناس منّا أنّا لبيت الرحمة، وشجرة النبوة ومعدن العلم(2).
ونُقل أنّ ابناً له مات (عليه السلام) فلم ير كآبة عليه فعوتب علی ذلك، فقال:
إنّا أهل بيت نسأل اللّه عز وجل فيعطينا، فإذا أراد ما نكره فيما يحب رضينا(3).
قال (عليه السلام) : من عادانا فلرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعادى(4).
قال (عليه السلام) : إنّا وبني أميّة تعادينا في اللّه، فنحن وهم كذلك إلی يوم القيامة، فجاء جبرئيل (عليه السلام) براية الحقّ فركزها بين أظهرنا، وجاء أبليس براية الباطل، فركزها بين أظهرهم، وإنّ أوّل قطرة سقطت علی وجه الأرض من دم المنافقين دم عثمان بن عفّان(5).
ص: 67
وقال (عليه السلام) : إنّ عثمان جيفةٌ علی الصّراط، من أقام عليها أقام علی أهل النار، ومن جاوزه جاوز إلی الجنّة(1).
عن حبيب بن مُظَاهر الأسدي أنه قال للإمام الحسين (عليه السلام) :
أيّ شيء كنتم قبل أن يخلق اللّه عزّوجلّ آدم (عليه السلام) ؟
فقال (عليه السلام) : كنّا أشباح نور ندور حول عرش الرحمن، فنعلّم للملائكة التّسبيح والتّهليل والتحميد(2).
وقال (عليه السلام) : إنّ أبابكر وعمر عمدا إلی الأمر، وهو لنا كلُّهُ، فجعلا لنا فيه سهماً كسهم الجدّة، أما واللّه ليهمّ بهما أنفسُهُمَا يوم يطلب النّاسُ فيه شفاعتنا(3).
ما أحداً علی ملّة إبراهيم، إلاّ نحن وشيعتنا وسائر النّاس منها برآءٌ(4).
عن نضر بن مالك، قال: قلت للحسين بن علي: يا أبا عبداللّه حدّثني عن
ص: 68
قول اللّه عزّوجلّ: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ}(1).
قال (عليه السلام) : نحن وبنو أميّة اختصمنا في اللّه عزّوجلّ! قلنا: صدق اللّه، وقالوا: كذب اللّه، فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة(2).
قال الحارث الأعور للحسين بن علي (عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه جعلني اللّه فداك أخبرني! عن قول اللّه في كتابه المبين: {وَٱلشَّمْسِ وَضُحَىٰهَا}(3)؟
فقال (عليه السلام) : ويحك يا حارث! محمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قال: قلت: {وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا}(4)؟
قال: ذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يتلو محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قال: قلت: {وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا}(5)؟
قال: ذلك القائم من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يملأ الأرض عدلاً وقسطاً.
قال: قلت: {وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰهَا}(6)؟
قال: بنو أميّة(7).
ص: 69
ص: 70
ص: 71
ص: 72
قال (عليه السلام) : من عبد اللّه حقّ عبادته، آتاه اللّه فوق أمانيه وكفايته(1).
وقال (عليه السلام) : إنّ قوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التّجّار، وإنّ قوماً عبدوا اللّه رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة(2).
سئل (عليه السلام) : لم افترض اللّه علی عبيده الصوم؟
فقال (عليه السلام) : ليجد الغني مسّ الجوع، فيعود بالفضل علی المساكين(3).
سئل عن الجهاد سنة أو فريضة؟
فقال (عليه السلام) : الجهاد علی أربعة أوجه، فجهادان فرض، وجهاد سنّة لايقام إلاّ مع فرض، وجهاد سنّة، فأمّا أحد الفرضين فجهاد الرّجل نفسه عن
ص: 73
معاصي اللّه، وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذّين يلونكم من الكفّار فرض، وأمّا الجهاد الذي هو سنّة لايقام إلاّ مع فرض، فإنّ مجاهدة العدوّ فرض علی جميع الأمّة، لو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب، وهذا هو من عذاب الأمّة وهو سنّة علی الإمام، وحَدُّهُ أن يأتي العدوّ مع الأمّة فيجاهدهم، وأمّا الجهاد الذي هو سنّة فكلّ سنّة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وأحيائها، فالعمل والسّعي فيها من أفضل الأعمال، لإنّها إحياء سنّة.
وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلی يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً(1).
وقال (عليه السلام) لرجل: أيّهما أحبّ إليك: رجل يروم قتل مسكين قد ضعف تنقذه من يده أو ناصب يريد إضلال مسكين مؤمن من ضعفاء شيعتنا، تفتح عليه ما يمتنع به منه، ويفحمه ويكسره بحجج اللّه تعالی؟
قال: بل إنقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا النّاصب! إنّ اللّه تعالی يقول: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا}(2) أي ومن أحياها وأرشدها من كفر إلی إيمان فكأنّما أحيا النّاس جميعاً من قبل أن يقتلهم بسيوف الحديد(3).
ص: 74
وقال (عليه السلام) : ما كفل لنا يتيماً قطعته عنّا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه، حتی أرشده وهداه، قال اللّه عز وجل له: يا أيّها العبد الكريم المواسی، أنا أولی بهذا الكرم اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كلّ حرف علّمه ألف ألف قصر، وضمّوا إليها ما يليق بها من سائر النّعم(1).
قال (عليه السلام) : اعتبروا أيّها النّاس بما وعظ اللّه به أوليائه، من سوء ثنائه علی الأحبار، إذ يقول: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلْإِثْمَ}(2)،
وقال: {لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(3).
و إنّما عاب اللّه ذلك عليهم، لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة ممّا يحذرون واللّه يقول: {فَلَا تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ}(4).
وقال: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ}(5).
ص: 75
فبدأ اللّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أدّيت وأقيمت، استقامت الفرائض كلّها، هيّنها وصعبها، وذلك أنَّ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، دعاء إلی الاسلام، مع ردّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها، ووضعها في حقّها.
ثم أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة، وباللّه في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لافضل لكم عليه، ولا يَدَ لَكُم عنده تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيئة الملوك وكرامة الأكابر، أليس كل ذلك إ نّما نلتموه بما يرجی عندكم من القيام بحقّ اللّه، وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصرون، فاستخففتم بحق الأئمة، فأمّا حقّ الضعفاء فضيعتم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم فلا مالاً بذلتموه، ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات اللّه، أنتم تتمّنون علی اللّه جنته، ومجاورة رسله، وأماناً من عذابه، لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون علی اللّه، أن تحلّ بكم نقمة من نقماته لأنكم بلغتم من كرامة اللّه منزلة فضلتهم بها ومن يعرف باللّه لاتكرمون، وأنتم في عباده تكرمون، وقد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذّمة رسول اللّه محقورة(1) والعمي والبكم، والزَّمنى في المدائن مهملة لاترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعنون(2)
ص: 76
وبالأدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك ممّا أمركم اللّه به، من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون، وأنتم أعظم أناس مصيبة، لما غلبتم عليه من منازل العلماء، لو كنتم تشعرون، ذلك بأنّ مجاري الأمور، والأحكام علی أيدي العلماء باللّه، الأمناء علی حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرّقكم عن الحقّ، واختلافكم في السنة بعد البيّنة الواضحة، ولو صبرتم علی الأذی، وتحمّلتم المؤنة في ذات اللّه، كانت أمور اللّه عليكم تردّ وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلّطهم علی ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحيوة التي هي مفارقتكم، فاسلمتم الضعفاء في أيديهم فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف، علی معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار، وجرأة علی الجبّار، في كل بلد منهم علی منبره خطيب يصقع؟ فالأرض لهم شاغرة(1)، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول(2)، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة علی الضعفة شديد، مطاع لايعرف المبدی المعيد، فيا عجباً، ومالي لا أعجب، والأرض من غاش غشوم، ومتصدّق ظلوم، وعامل علی المؤمنين بهم غير رحيم، فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.
ص: 77
اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام. ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم وحسبنا اللّه وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير(1).
ص: 78
ص: 79
ص: 80
ومن كلام له (عليه السلام) مع أبي ذر رضوان اللّه عليه لما أخرج إلی الربذة بأمر من عثمان، فقال:
يا عمّاه إنّ اللّه قادر أن يغيّر ما قد تری، واللّه كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلی ما منعتهم، فاسأل اللّه الصّبر والنّصر واستعذ به من الجشع والجزع فإنّ الصّبر من الدين والكرم، وإن الجشع لايقدم رزقاً، والجزع لايؤخر أجلاً(1).
قام (عليه السلام) حمد اللّه وأثنی عليه ما هو أهله، وقال:
يا أهل الكوفة أنتم الأحبّة الكرماء، والشّعاردون الدّثار(2)، جدّوا في إطفاء ما دثر بينكم، وتسهيل ما توعّر عليكم، إلا أنّ الحرب شرّها ذريع(3)، وطمعها فظيع، فمن أخذ لها أهبّتها، واستعدّ لها عدّتها ولم يألم كلومها قبل حلولها، فذاك صاحبها، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها، فذاك قَمِنٌ أن لا ينفع قومه، وأن يهلك نفسه نسأل اللّه بقوّته أن يدعمكم
ص: 81
بالفيئة(1).
روي أنّ محمد بن بشر الهمداني وسفيان بن ليلی الهمداني أتيا للإمام الحسين بعد صلح الإمام الحسن (عليهما السلام) ، فقال: ليكن كل امرئ منكم حلساً(2) من أحلاس بيته مادام هذا الرجل حيّاً فإن يهلك وأنتم أحياء رجونا أن يخير اللّه لنا ويؤتينا رشدنا ولا يكلنا إلی أنفسنا، فإنّ اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون(3).
و لما استشهد الإمام الحسن المجتبی (عليه السلام) اجتمعت الشيعة ومعهم بنو جعدة وأمّ هاني وأمّ جعدة في دار سليمان بن صرد الخزاعي فكتبوا إلی الإمام الحسين (عليه السلام) كتاباً بالتعزية وقالوا في كتابهم:
إنّ اللّه قد جعل فيك أعظم الخلف ممّن مضی ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك المحزونة بحزنك المسرورة بسرورك المنتظرة لأمرك.
وكتب بنو جعدة إليه يخبرونه بحسن رأي أهل الكوفة وحبّهم لقدومه ويسألونه الكتابة إليهم برأيه فكتب الإمام الحسين (عليه السلام) إليهم:
إنّي لأرجو أن يكون رأي أخي (رحمه اللّه) في الموادعة، ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً، فالصقوا بالأرض، واخفوا الشخص، واكتموا الهدی، واحترسوا من الأظاء مادام ابن هند حيّاً فإن يحدث به حدث وأنا حيّ
ص: 82
يأتكم رأيي إن شاء اللّه(1).
لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه، قال للإمام الحسين (عليه السلام) : يا أبا عبد اللّه! هل بلغك ما صنعتُ بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال (عليه السلام) : لا، فقال: قتلناهم، وكفّناهم، وصلّينا عليهم، فضحك الإمام الحسين (عليه السلام) وقال:
خصمك القوم يوم القيامة، يا معاوية! أما واللّه لو ولينا مثلها من شيعتك ما كفنّاهم ولا صلّينا عليهم، ولقد بلغني وُقوعُك بأبي حسن وقيامك به واعتراضك بني هاشم بالعيوب، وأيم اللّه لقد أوترت غير قوسك ورميت غير غرضك وتناولتها بالعداوة من مكان قريب ولقد أطعت امرءاً ما قدم إيمانه ولا حدث نفاقه وما نظر لك فانظر لنفسك أودع (يريد عمرو بن العاص)(2).
من الحسين بن عليّ إلی معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن، تحمل مالاً وحللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودّعها خزائن دمشق، وتعلّ بها بعد النّهل بني أبيك، وإنّي احتجت إليها فأخذتها، والسّلام(3).
حمد اللّه وصلی علی الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال:
ص: 83
أمّا بعديا معاوية فلن يؤدّي القائل، وإن أطنب في صفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من جميع جزءاً وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من إيجاز الصّفة والتنكب عن استبلاغ النعت وهيهات هيهات يا معاوية فضح الصّبح فحمة الدّجی، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضّلت حتی أفرطت واستأثرت حتی أجحفت، ومنعت حتی محلت وجزت حتی جاوزت، ما بذلت لذي حقّ، من اسم حقّه بنصيب حتی أخذ الشّيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.
وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تريد أن توهّم النّاس في يزيد كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ من نفسه علی موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة(1) عند التهارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقيان(2) ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقی اللّه من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فواللّه ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتی ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدّم علی عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ومنعتنا عن آبائنا تراثاً، ولقد لعمر اللّه أورثنا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولادةً وجئت لنا بها، أما حججتم به القائم عند موت الرسول، فاذعن للحجّة بذلك وردّه الإيمان إلی
ص: 84
النصف فزكيتم [فركبتم] الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون حتی أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولی الأبصار.
وذكرت قيادة الرجل القوم بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتأميره له وقد كان ذلك ولعمروبن العاص يومئذٍ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له وما صار لعمرو واللّه يومئذ مبعثهم حتی أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه وعدّوا عليه أفعاله فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لاجرم معشر المهاجرين لايعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف تحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أوكد الأحكام وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت [ضاهيت] بصاحب تابعاً وحولك من لا يؤمن في صحبته ولا يعتمد في دينه وقرابته، وتتخطّاهم إلی مسرف مفتون، تريد أن تلبس النّاس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه وتشقی بها آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين واستغفر اللّه لي ولكم(1).
لما كثر اختلاف أشراف الحجاز ورجال العراق إلی الإمام الحسين (عليه السلام) حجبهم الوليد بن عتبة حاكم المدينة عن الإمام الحسين ومنعهم عن ملاقاته (عليه السلام) ، فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) : يا ظالماً لنفسه وعاصياً لربّه علام تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمّك؟!
فقال الوليد: ليت حلمنا عنك لايدعو جهل غيرنا إليك فجناية لسانك مغفورة لك ما سكنت يدك فلا تخطر بها فتخطر بك، ولو علمت ما يكون
ص: 85
بعدنا لأحببتنا كما أبغضتنا(1).
كتب يزيد إلی الوليد، وأمره بأخذ البيعة علی أهل المدينة عامة، وعلی الإمام الحسين (عليه السلام) خاصة.
فبعث الوليد إلی الإمام الحسين فجائه في ثلاثين نفراً من أهل بيته ومواليه وجری بينهما كلامٌ فغضب الإمام الحسين (عليه السلام) ثم أقبل علی الوليد، فقال: أيّها الأمير.
إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح اللّه، وبنا ختم اللّه، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق.
ومثلي لايبايع مثله ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالبيعة والخلافة ثم خرج(2).
وفي الأمالي قال الإمام الحسين (عليه السلام) : قد علمت، إنّا أهل بيت الكرامة، ومعدن الرسالة، وأعلام الحق، الذين أودعه اللّه عزّوجلّ قلوبنا، وأنطق به ألسنتنا، فنطقت بإذن اللّه عزّوجلّ، ولقد سمعت جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنّ الخلافة محرّمة علی ولد أبي سفيان وكيف أبايع أهل بيت قد قال فيهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هذا(3).
ص: 86
وقال (عليه السلام) لمروان لما أشار عليه بالبيعة ليزيد وقال: إنّي ناصح فأقبل نصيحتي فإنّها خير لك في دنياك وآخرتك.
قال الإمام الحسين (عليه السلام) : ما ذاك قل حتى أسمع؟
قال: آمرك ببيعة يزيد...!
فقال الإمام الحسين (عليه السلام) :
وعلی الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براع مثل يزيد(1).
خرج الإمام الحسين (عليه السلام) ليلاً من منزله إلی قبر جدّه، فقال: السلام عليك يا رسول اللّه أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك وسبطك الذي خلّفتني في أمتك فاشهد عليهم يا نبي اللّه أنّهم خذلوني وضيّعوني ولم يحفظوني وهذه شكواي إليك حتّی ألقاك(2).
جاء الإمام الحسين (عليه السلام) في الليلة الثانية إلی قبر جدّه فصلّی ركعات فلما فرغ من صلوته جعل يقول:
اللّهم إنّ هذا قبر نبيّك محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا ابن بنت نبيك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهم إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر وإنّي أسئلك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه، إلا اخترت لي من أمري ما هو
ص: 87
لك رضی ولرسولك رضی.
وجعل (عليه السلام) يبكي عند القبر حتی إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه علی القبر فأغفی فإذا هو برسول اللّه قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله حتی ضمّ الإمام الحسين إلی صدره وقبّل بين عينيه، وقال (عليه السلام) :
حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرملاً بدمائك مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أمّتي وأنت مع ذلك عطشان لاتُسقی وظمآن لاتروی وهم مع ذلك يرجون شفاعتي لا أنالهم شفاعتي يوم القيامة.
ثم أتی قبر أمّه وأخيه ففعل كذا.
وعند ذلك رأی جدّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنام وأمره بالخروج إلی العراق وتهيّأ (عليه السلام) وأخوته وشيعته وخرج منها قائلاً:
ربّ نجّني من القوم الظالمين(1).
لما علم محمد بن الحنفية عزم الإمام الحسين (عليه السلام) علی الخروج من المدينة، ولم يدر أين يتوجّه، فقال له: يا أخي:
أنت أحبّ النّاس إليّ، وأعزّهم عليّ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك، وأنت أحقّ بها، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية، وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلی الناس فادعهم إلی نفسك، فإن بايعك الناس وبايعوا لك، حمدت اللّه علی ذلك، وان اجتمع الناس علی غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك، ولا عقلك، ولا تذهب به مروتك ولا
ص: 88
فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار، فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخري عليك، فيقتتلون، فتكون لأول الأسنّة [غرضا]، فإذا خير هذه الأمّة كلّها، نفساً وأباً وأمّا، أضيعها دماً وأذلّها أهلاً(1).
وفي رواية: أنّ محمد بن الحنفية قال لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) :
أخرج إلی مكة إن اطمانت بك الدار فذاك الذي تحب واُحب، وإن تكن الأخری خرجت إلی بلاد اليمن فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً وأرجحهم عقولاً، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلا لحقت بالرمال وشعوب الجبال وصرت من بلد إلی بلد حتی تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ويحكم اللّه بيننا وبين القوم الفاسقين، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) :
يا أخي واللّه لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوی لما بايعت واللّه يزيد بن معاوية ابداً... فقطع محمد بن الحنيفة الكلام وبكی فبكی الإمام الحسين (عليه السلام) ساعة ثم قال:
جزاك اللّه يا أخي عفي جزاك اللّه خيراً ولقد نصحت وأشرت بالصواب وأنا أرجو أن يكون ان شاء اللّه رأيك موفقاً مسدداً، وإني قد علی الخروج إلی مكة وقد تهيأت لذلك أنا وأخوتي وبنو أخي وشيعتي وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم لاتخف علي شيئاً من أمورهم ثم دعا بكتاب وكتب وصية(2).
ص: 89
ودخل أبوبكر بن الحارث بن هشام علی الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقال:
يابن عم إنّ الرحم يظائرني عليك ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك، فقال: يا أبابكر ما أنت ممّن يستغش ولايتهم، قال أبوبكر: كان أبوك أقدم سابقة وأحسن في الإسلام أثرا أشدّ بأساً والناس له أرجی ومنه أسمع وعليه أجمع فسار إلی معاوية والناس مجتمعون عليه إلا أهل الشام وهو أعزّ منه فخذلوه وتثاقلوا عنه حرصاً علی الدنيا وضنّاً بها فجرّعوه الغيظ وخالفوه حتی صار إلی ما صار إليه من كرامة اللّه ورضوانه.
ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا وقد شهدت ذلك كلّه ورأيت ثم أنت تريد أن تصير إلی الذين عدوا علی أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشام وأهل العراق ومن هو أعدّ منك وأقوی والناس منه أخوف وله أرجی؟ فلو بلغهم سيرك إليهم لاستطغوا الناس بالأموال وهم عبيد الدنيا فيقاتلك من وعدك أن ينصرك ويخذلك من أنت أحب إليه ممّن ينصره، فاذكر اللّه في نفسك، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) :
جزاك اللّه خيراً يابن عم فقد اجهدك رأيك ومهما يقضي اللّه يكن، فقال: إنا لله وعند اللّه نحتسب يا أبا عبداللّه ثم دخل علی الحارث بن خالد والي مكة وهو يقول:
كم نری ناصحاً يقول فيعصی***و ظنين المغيب يُلفى نصيحاً
فقال؟ وما ذاك؟ فأخبره بما قال للإمام الحسين (عليه السلام) ، فقال: نصحت له ورب الكعبة(1).
ص: 90
وفي المناقب: فلما عزم الحسين (عليه السلام) علی الخروج نهاه عمرو بن عبد الرحمن بن هشام المخزومي، فقال (عليه السلام) :
جزاك اللّه خيراً يابن عم مهما يقض يكن وأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح(1).
وفي أنساب الأشراف: قال له عمرو: بلغني أنّك تريد العراق وأنا مشفق عليك من مسيرك لأنّك تأتي بلداً له فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال وإنّما الناس عبيد الدينار والدرهم فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه، فقال له: قد نصحت ويقضي اللّه(2).
إن للإمام الحسين (عليه السلام) مع أخيه محمد بن الحنفية موقفين، الأول في المدينة وقد ذكرناه سابقاً.
الثاني: في مكة المكرّمة، فإنّ محمد بن الحنفية اجتمع في موسم الحج مع الإمام الحسين (عليه السلام) وجری بينهما في مكة كلام وأخبره الإمام (عليه السلام) بما أمره جدّه في المنام.
روی ابن طريح: أنّ محمد ابن الحنفية، لما بلغه أنّ الحسين خارج من مكة، يريد العراق، كان بين يديه طشت فيه ماء وهو يتوضّأ، فجعل يبكي بكاءً شديداً حتی سمع وكفّ دموعه في الطشت، مثل المطر، ثم إنّه صلّی
ص: 91
المغرب، ثم صار إلی أخيه الحسين، فلما صار إليه، قال له: يا أخي إنّ أهل الكوفة، قد عرفت غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك، وإنّي أخشي عليك أن يكون حالك كحال من مضی من قبلك، فإن أطعت رأيي، أقم بمكة وكن أعزّ من في الحرم المشرّف، فقال (عليه السلام) : يا أخي أخشی أن يغتالني جنود بني أميّة في مكة، فأكون أنا الذي يستباح دمه في حرم اللّه، فقال محمد: يا أخي فسر إلی اليمن أو إلی بعض النواحي البر فإنّك أمنع الناس، فقال الحسين (عليه السلام) :
يا أخي لو كنت في بطن صخرة لاستخرجوني منها فيقتلوني، ثم قال له: يا أخي سأنظر فيما قلت.
فلما كان وقت السحر عزم الإمام الحسين (عليه السلام) علی الرحيل إلی العراق فجائه أخوه محمد وأخذ بزمام ناقته التي هو راكبها، وقال: يا أخي ما سبب إنك عجلت؟ فقال (عليه السلام) :
إنّ جدّي رسول اللّه أتاني بعد ما فارقتك وأنا نائم، فضمّني إلی صدره، وقبّل ما بين عيني، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لي: يا حسين، يا قرّة عيني اُخرج إلی العراق، فإنّ اللّه قد شاء أن يراك قتيلاً، مخضباً بدمائك، فبكی محمد ابن الحنفية بكاءً شديداً وقال له: يا أخي إذا كان الحال كذا، فما معنی لحملك هؤلاء النسوة ؟ فقال (عليه السلام) :
يا أخي قد قال جدّي أيضاً: إنّ اللّه قد شاء أن يراهن سبايا، مهتكات، يساقون في أسر الذلّ وهنّ أيضاً لايفارقنني ما دمت حياً(1).
ص: 92
فبكی محمد بكاءاً شديداً وجعل يقول: أودعتك اللّه يا حسين في دعة اللّه يا أخي.
رُوي أن الإمام الحسين (عليه السلام) لما عزم علی الخروج إلی العراق بعد أن كاتبه أهل الكوفة ووجّه مسلم بن عقيل إليهم علی مقدمته فكان من أمره ما كان وأراد الخروج بعثت أمّ سلمة، من قال له: إنّي أذكرك اللّه أن لاتخرج الى العراق فإني، سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: يقتل ابني الحسين بالعراق وأعطاني من التربة في قارورة فقال الحسين (عليه السلام) إليها:
واللّه وإنّي لمقتول لا محالة فأين المفر من قدر المقدور؟ وإنّي لأعرف اليوم والساعة والتي اُقتل فيها، البقعة التي فيها اُدفن، كما اعرفك فإن أحببت أن اُريك مضجعي ومضجع اصحابي ومكانهم فعلت. قالت: قد شئت ثم حضرته فتكلّم الإمام الحسين باسم اللّه عزّوجلّ الأعظم فانخفضت الأرض حتي أراها مضجعه ومضجعهم وأعطاها من التربة حتى خلطتها بما كان معها، ثم قال لها: إنّي اُقتل في يوم عاشوراء وهوموم السبت(1).
وفي مروج الذهب: لمّا همّ الحسين (عليه السلام) بالخروج إلی العراق أتاه ابن عباس، فقال له: يابن عمّ قد بلغني أنّك تريد العراق وأنّهم أهل غدر وإنّما يدعونك للحرّب فلا تعجل وإن أبيت إلا محاربة هذا الجبّار وكرهت المقام بمكة فأشخص إلی اليمن فإنّها في عزلة ولك فيها أنصار وأخوان فأقم بها
ص: 93
وبث دعاتك واُكتب إلی أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيخرجوا أميرهم فإن قووا علی ذلك ونفوه عنها ولم يكن بها أحد يعاديك أتيتهم وما أنا بغدرهم بآمن وإن لم يفعلوا أقمت بمكانك إلی أن يأتي اللّه بأمره فإنّ فيها حصوناً وشعاباً، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) :
يابن عمّ إنّي لأعلم أنّك لي ناصح وعلي شفيقٌ ولكن مسلم بن عقيل كتب الي باجتماع اهل المصر على بيعتي ونصرتي وقد اجمعت على المسير.
قال: إنّهم من خبرت وجرّبت وهم أصحاب ابيك وأخيك وقتلتك مع أميرهم غداً أنك لو قد خرجت فبلغ ابن زياد خروجك استنفزهم إليك وكان الذين كتبوا إليك أشدّ من عدوّك فإن عصيتني وأبيت إلا الخروج إلی الكوفة فلا تخرجن نسائك وولدك معك فو اللّه إنّي لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونسائه وولده ينظرون إليه.
وقال الإمام الحسين (عليه السلام) في جوابه: لأن اُقتل واللّه بمكان كذا أحبّ إليّ من أن أستحلّ بمكة، فيئس ابن عباس منه وخرج من عنده فمّر بعبداللّه بن الزبير، فقال: قرّت عينك يابن الزبير وأنشد:
يا لك من قبرة بمعمر***خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقّري(1)
ونُقل أيضاً عن البلاذري: أنّ عبداللّه بن عباس أتی الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقال له: يابن عمّ إنّ الناس قد أرجفوا(2) بأنك سائر إلی العراق، فقال: نعم، قال ابن عباس: فإنّي اُعيذك باللّه من ذلك، أتذهب رحمك اللّه إلی قوم قد
ص: 94
قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، فإن كانوا قد فعلوا فسر إليهم وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعمّاله يجبون خراج بلادهم، فإنّما دعوك إلی الحرب والقتال فلا آمن أن يغروك ويكذّبوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك.
ثم عاد ابن عباس مرّة أخری إليه، فقال: يابن عمّ إنّي أتصبّر فلا أصبر إنّي أتخوّف عليك الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر فأقم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز، فإن أرادك أهل العراق وأحبّوا نصرك فاكتب إليهم أن ينفو عدوّهم ثم سر إليهم وإلا فإنّ في اليمن جبالاً وشعاباً وحصوباً ليس بشيء من العراق مثلها، واليمن أرض طويلة عريضة ولأبيك بها شيعة فأتها ثم أثبت دعاتك وكتبك يأتك الناس.
فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) : يابن عمّ أنت الناصح الشفيق ولكنّي قد أزمعت المسير ونويته. فقال ابن عباس: فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك، فو اللّه إنّي لخائف أن تُقتل كما قتل عثمان ونسائه ينظرن إليه، ثم خرج ابن عباس ومرّ بعبداللّه بن الزبير(1).
لم يكن علی ابن الزبير أثقل من الإمام الحسين (عليه السلام) وقد غمّه مكانه بمكة لأنّ الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين (عليه السلام) ولم يكن شيء أحبّ إليه من شخوص الحسين (عليه السلام) عن مكة.
ولما بلغ ابن الزبير أنّه (عليه السلام) يريد الخروج أتاه وقال: يا أبا عبداللّه ما عندك
ص: 95
فو اللّه لقد خفت اللّه في ترك جهاد هؤلاء القوم علی ظلمهم واستذلالهم الصالحين من عباداللّه، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : قد عزمت علی إتيان الكوفة، فقال: وفّقك اللّه أما لو أنّ لي مثل أنصارك ما عدلت عنها ثم خاف أن يتّهمه، فقال: ولو أقمت بمكانك دعوتنا وأهل الحجاز أي بيعتك أجبناك وكنّا إليك سراعاً وكنت أحقّ بذلك من يزيد وأبي يزيد(1).
وروي أنّ عبداللّه بن الزبير إنّما أراد بذلك أن لا يتهمه وأن يعذر في القول، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) :
لأن أ ُقتل خارجاً من مكة بشبر أحبّ إليّ من أن اُقتل فيها، ولأنّ اُقتل خارجاً بشبرين أحبّ إليّ من أن اُقتل خارجاً منها بشبر(2).
وفي المناقب عن كتاب الإبانة: قال بشر بن عاصم: سمعت أنّ عبداللّه بن زبير يقول: قلت للحسين بن علی: إنّك تذهب إلی قوم قتلوا أباك وخذلوا أخاك؟ فقال (عليه السلام) .
لئن اُقتل بمكان كذا وكذا أحبّ إلیّ من أن استحلّ بي مكة عرض به(3).
وروي عن عبداللّه بن سليم والمنذر الأسديين قالا: خرجنا حاجّين من الكوفة حتی قدمنا مكة فدخلنا يوم التروية فإذا نحن بالحسين وعبداللّه بن الزبير وهو يقول للحسين (عليه السلام) : إنّ شئت أن تقيم أقمت فولّيت هذا الأمر فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.
ص: 96
فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وتوليني الأمر فتطاع ولا تعصی، فقال (عليه السلام) : وما أريد هذا أيضاً. قالا: ثم إنّهما أخفيا كلامهما دوننا فما زالا يتناجيان حتی سمعنا دعاء الناس رائحين متوجّهين إلی منی عند الظهر، قالا: فطاف الإمام الحسين (عليه السلام) بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّ من شعره وحلّ من عمرته ثم توجّه نحو الكوفة وتوجهنا نحو الناس علی منی(1).
قال البلاذري: لمّا أراد الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج من مكة إلی الكوفة، قال له ابن عمر حين أراد توديعه: أطعني وأقم ولا تخرج فو اللّه مازواها اللّه عنكم إلا وهو يريد بكم خيراً، فلما ودّعه، قال: استودعك اللّه من مقتول (قتيل)(2).
وعن الشعبي: أنّ ابن عمر كان بماء له فقدم المدينة فأخبر بخروج الإمام الحسين (عليه السلام) فلحقه علی مسيرة ثلاث ليال من المدينة، فقال له: أين تريد؟ قال: العراق. قال: لاتأتهم لأنّك بضعة من رسول اللّه واللّه لا يليها منكم أحد أبداً وما صرفها اللّه عنكم إلا لما هو خير لكم(3).
وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : يا أبا عبدالرحمن، أما علمتَ إنّ من هوان الدنيا علی اللّه أنّ رأس يحيی بن زكريا اُهدي إلی بغي من بغايا بني إسرائيل، أما تعلم أنّ بني اسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلی طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم
ص: 97
يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل اللّه عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام، اتق اللّه يا أبا عبدالرحمن ولا تدع نصرتي(1).
ونُقل أنّ عبداللّه بن عمر لما رأی إبائه (عليه السلام) عن الانصراف، قال: يا أبا عبداللّه اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقبّله منك، فكشف الحسين (عليه السلام) عن سرّته فقبّلها ابن عمر ثلاثاً، وبكی وقال: استودعك اللّه يا أبا عبداللّه فإنّك مقتول في وجهك(2).
قال (عليه السلام) : والذي نفس حسين بيده، لاينتهي بني أميّة ملكهم حتی يقتلوني، وهم قاتلي، فلو قد قتلوني لم يصلوا جميعاً أبداً، ولم يأخذوا عطاءاً في سبيل اللّه جميعاً أبداً، إنّ اوّل قتيل هذه الأمّة أنا وأهل بيتي، والذي نفس حسين بيده لاتقوم السّاعة، وعلی الأرض هاشميّ يطرق(3).
وقال (عليه السلام) : أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلاّ بكی(4).
قال (عليه السلام) : الحمدلله، وما شاء اللّه، لا حول ولا قوة إلا باللّه صلى اللّه على رسوله، خطّ الموت علی ولد آدم مخطّ القلادة علی جيد الفتاة، وما أولهني إلی
ص: 98
أسلافي اشتياق يعقوب إلی يوسف، وخيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تتقطعها عسلان(1) الفلوات، بين النّواويس وكربلاء فيملان منّي أكراشاً جوفاً، وأجربةً سغباً، لا محيص عن يومٍ خطّ بالقلم، رضی اللّه رضانا أهل البيت، نصبر علی بلائه، ويوفّينا أجور الصّابرين، لن يشذ عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه، وينجز لهم وعده، من كان فينا باذلاً مهجته، وموطّناً علی لقائنا نفسه، فليرحل فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء اللّه(2).
قال (عليه السلام) : أمّا بعد فإنّه لم يشاقق اللّه ورسوله، من دعا إلی اللّه عزّوجلّ وعمل صالحاً، وقال: إنّني من المسلمين، وقد دعوت إلی الأمان والبرّ والصّلة، فخير الأمان أمان اللّه، ولن يؤمن اللّه يوم القيامة، من لم يخفه في الدّنيا فنسأل اللّه مخافته في الدّنيا، توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي، فجزيت خيراً في الدّنيا والآخرة والسّلام(3).
بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أوصی به الحسين ابن عليّ بن أبي طالب إلی أخيه محمّد المعروف بابن الحنفيّة: أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحق، وأنّ
ص: 99
الجنّة والنّار حقّ، وأنّ السّاعة آتية لاريب فيها وأنّ اللّه يبعث من في القبور.
وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي، اريد أن آمر بالمعروف وانهن عن المنكر واسير بسيرة جدي وأبي عليّ بن ابيطالب (عليهما السلام) ، فمن قبلني بقبول الحقّ، فاللّه أولی بالحقّ، ومن ردّ علی هذا أصبر حتی يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين وهذه وصيّتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا باللّه، عليه توكلت وإليه اُنيب(1).
ثم طوی الكتاب وختمه بخاتمه ودفعه إلی أخيه.
فقال (عليه السلام) : لو لم أعجل لأخذت.
ثم سأله عن الناس بالكوفة، فعرفه بأنّ السيوف عليه؛ فقال (عليه السلام) :
صدقت لله الأمر، وكلّ يوم ربّنا في شأن؛ إن نزل القضاء بما نحبّ، فنحمد اللّه علی نعمائه، وهو المستعان علی أداء الشّكر؛ وإن حال القضاء دون الرّجاء، فلم يَبعُد من كان الحقّ نيّته؛ والتّقوی سريرته.
ثمّ سلّم عليه وافترقا(2).
وقد وجّهوا أبياتاً إليه كانت ليزيد ولم يعلموه أنّها منه، فلما نظر إليها علم أنّها منه كتب إليهم في الجواب:
ص: 100
بسم اللّه الرحمن الرحيم {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(1)(2).
بسم اللّه الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ (عليه السلام) إلی مالك بن مسمع، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلام عليكم، أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلی إحياء، معالم الحقّ وإماتة البدع، فإن تجيبوا تهتدوا سبل الرّشاد(3).
بسم اللّه الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلی بني هاشم أمّا بعد فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسّلام(4).
بسم اللّه الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلی محمّد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم، أمّا بعد فكأنّ الدّنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزل والسّلام(5).
اما بعد فإنّ اللّه اصطفی محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علی خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره
ص: 101
برسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أرسل به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكنا أهله واولياءه واوصياءه وورثته وأحقّ بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا وكرمنا الفرقة وأحببنا العافية ونحن نعلم انا احق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه وقد احسنوا واصلحوا وتحروا الحق. فرحمهم اللّه وغفر لنا ولهم وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلی كتاب اللّه وسنّة نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإن سمعتم قولي تطيعوا أمري أهديكم إلی سبيل الرشاد، والسّلام عليكم ورحمة اللّه(1).
أمّا بعد فإنّ كتابك ورد عليّ فقرأته، وفهمت ما فيه، اعلم إنّي قد رأيت جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منامي فأخبرني بأمر أنا ماض له، كان لي الأمر أو عليّ، واللّه يا ابن عمي لو كنت في حجر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني ويقتلوني، واللّه ليعدين عليّ كما عدت اليهود على السبت والسّلام(2).
بسم اللّه الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ (عليه السلام) إلی أخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو أمّا بعد فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جائني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملأكم علی نصرنا والطّلب بحقّنا، فسألت اللّه أن يحسن لنا الصّنيع وأن
ص: 102
يثيبكم علی ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم الترّوية، فإذا قدم إليكم رسولي فانكمشوا(1)
في أمركم وجدّوا فإنّي قادم عليكم في أيامي هذه والسّلام عليكم ورحمة اللّه(2).
بسم اللّه الرحمن الرحيم من الحسين بن عليّ إلی الملأ من المسلمين والمؤمنين. أمّا بعد فإنّ هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم وكانا آخر من قدم عليّ من رُسُلِكُم، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم أنّه ليس علينا إمام فاقبل، لعلّ اللّه أن يجمعنا بك علی الهدی، وأنا باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي ومن أهل بيتي، فإن كتب إليّ أنّه قد أجمع رأيُ أحداثكم وذوي الفضل منكم علی مثل ما قدمت به رسلكم وتواترت كتبكم، أقدم إليكم وشيكاً، إن شاء اللّه، ولعمري ما الإمام إلا الحاكم، القائم بالقسط. الدّائن بدين اللّه الحابس نفسه علی ذات اللّه والسّلام(3).
لمّا علم بقتل ابن عمّه مسلم بن عقيل وغدر أهل الكوفة به عقد اثنتی عشر راية فأمر جمعاً أن يحمل كل واحد راية منها وحملوا الرايات وبقيت راية منها، فقال بعضهم: سيدي تفضّل عليّ بحملها، فجزاه الإمام
ص: 103
الحسين (عليه السلام) خيراً، وقال: يأتي إليها صاحبها ثم كتب:
من الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلی الرجل الفقيه حبيب بن مظاهر. أمّا بعد يا حبيب فأنت تعلم قرابتنا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنت أعرف بنا من غيرك، وأنت ذوشيمة وغيرة فلا تبخل علينا بنفسك يجازيك جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم القيامة(1).
خطبها بذي حسم لما منعه الحر وأصحابه عن قدومه إلی الكوفة والرجوع إلی المدينة؛ حمد اللّه وأثنی عليه؛ ثم قال:
أيّها النّاس، إنّها معذرة إلی اللّه وإليكم، إنّي لم آتكم، حتی أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم إن أقدم علينا. فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ اللّه أن يجمعنا بك علی الهدی والحقّ؛ فإن كنتم علی ذلك، فقد جئتكم؟ فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين، انصرفت عنكم إلی المكان الذي جئت منه إليكم(2).
بعد ما حمد اللّه وأثنی عليه، قال:
أمّا بعد أيّها النّاس فإنّكم إن تتّقوا اللّه وتعرفوا الحقّ لأهله، يكن أرضی اللّه عنكم، ونحن أهل بيت محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أولی بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسّائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم
ص: 104
إلا الكراهة لنا، والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم(1).
و من كلام له (عليه السلام) بالرهيمة(2)
أجاب به أباهرم (باهرة) لما قال له: يا ابن رسول اللّه ما الذي أخرجك عن حرم جدّك؟ فقال (عليه السلام) :
يا أباهرم، إنّ بني أميّة وشتموا عرضي فصبرت، أخذوا مالي فصبرت، وطلبوا دمّي فهربت، وأيم اللّه ليقتلونني فيلبسهم اللّه ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، ولَيُسلطنَّ عليهم من يذلّهم، حتی يكونوا أذلّ من قوم سبأ، إذ ملكتهم امرأة، فحكمت في أموالهم ودمائهم(3).
ومن خطبة له (عليه السلام) في (زبالة(4)) وفيها بيان غدر أهل الكوفة
لما انتهی الإمام الشهيد إلی منزل زبالة، وقد أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في زرود قبل هذا المنزل، فأخرج كتاباً وقرأ علی الناس.
بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد فإنّه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وعبداللّه بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف، فلينصرف، في غير حرج وليس عليه ذمامٌ(5).
ص: 105
قال (عليه السلام) بعد الحمد والثناء:
أيّها النّاس إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من رأی سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً علی اللّه أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيّطان، وتركوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام اللّه، وحرّموا حلال اللّه، وإنّي أحقّ من غير قد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم: أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فان تممتم على رشدكم، وأنا الحسين بن عليّ، ابن فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نفسي مع أنفسكم، وأهلى مع أهليكم فلكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من اعناقكم، فلعمري ماهي منكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، والمغرور ما اغترّبكم، فحضكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنّما ينكث علی نفسه، وسيغنيي اللّه عنكم، والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته(1).
حمد اللّه وأثنی عليه؛ ثم قال:
إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإنّ الدّنيا تغيّرت وتنكرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعی
ص: 106
الوبيل، ألا ترون إلی الحقّ لا يعمل به، وإلی الباطل لا يتناهی عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقاً حقاً، فإنّي لا أری الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً(1)(2).
ولما نزل الحسين (عليه السلام) أرض كربلاء، قال: ما يقال لهذه الأرض؟ قالوا: العقر(3)
فقال (عليه السلام) : اللّهم إنّي أعوذ بك من العقر. وفي رواية قالوا: كربلاء، ويقال لها: أرض نينوی، فبكی (عليه السلام) وقال: كرب وبلاء أخبرتني أمّ سلمة إلی آخر الحديث(4).
وفي رواية: قال (عليه السلام) : اللّهم انّي أعوذبك من الكرب والبلاء، انزلوا هاهنا محطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، وهُنا محلّ قبورنا، بهذا حدّثني جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (5).
وروي أنّه لما وصل كربلاء جمع ولده وأخوته وأهل بيته، ثم نظر إليهم، فبكی ساعة ثم قال:
اللّهم إنّا عترة نبيّك محمد، وقد اُخرجنا وطردنا واُزعجنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أميّة علينا، اللّهم فخذ لنا بحقّنا، وانصرنا علی القوم الكافرين!(6)
ص: 107
قال (عليه السلام) : إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لي: يا بنيّ إنّك ستساق إلی العراق، وهي أرض قد التقی بها النّبيّون وأوصياء النّبيّين، وهي أرض تدعی عموراً، وإنّك تستشهد بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك لايجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: {يَٰنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ}(1) يكون الحرب برداً وسلاماً عليك وعليهم، فابشروا فو اللّه لئن قتلونا فإنّا نردّ علی نبيّنا، ثم أمكث ماشاء اللّه، فأكون أول من تنشقّ الأرض عنه، فأخرج خرجة توافق ذلك خرجة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقيام قائمنا، وحياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم لينزلنّ عليّ وفد من السماء من عنداللّه لم ينزلوا إلی الأرض قطّ، ولينزلنّ اليّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجنود من الملائكة (إلی أن قال:) ولا يبقی رجل من شيعتنا إلا أنزل اللّه إليه ملكاً يمسح عن وجهه التراب ويعرّفه أزواجه ومنزلته في الجنّة، ولا يبقی علی وجه الأرض أعمی ولا مقعد ولا مبتلی إلا كشف اللّه عنه بلاءه بنا أهل البيت، ولينزلنّ البركة من السماء إلی الأرض، حتی أنّ الشّجرة لتقصف بما يزيد اللّه فيها من الثّمرة، ولتأكلنّ ثمرة الشتاء في الصّيف، وثمرة الصّيف في الشتاء، وذلك قوله عزّوجلّ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2) ثم إنّ اللّه ليهب لشيعتنا كرامةً لا يخفى عليهم شيء في الأرض وما كان فيها، حتی أنّ الرجل منهم يريد أن
ص: 108
يعلم علم أهل بيته، فيخبرهم بعلم ما يعلمون(1).
اعلموا أنكم خرجتم معي لعلمكم إنّي أقدم علی قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر، واستحوذ عليهم الشّيطان، فأنساهم ذكر اللّه، والآن ليس لهم مقصد إلا قتلي، وقتل من يجاهد بين يديّ، وسبّي حريمي بعد سلبهم، وأخشی أنّكم ما تعلمون وتستحيون، والخدع عندنا أهل البيت محرّم فمن كره منكم ذلك فلينصرف، فالليل ستير، والسبيل غير خطير والوقت ليس بهجير، ومن واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان، نجيا من غضب الرحمن، وقد قال جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ولدي حسين يُقتل بطفّ كربلاء غريباً وحيداً عطشاناً فريداً؛ فمن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة»(2).
أثنی علی اللّه أحسن الثناء وأحمده علی السرّاء والضرّاء
اللّهمّ إنّي أحمدك علی أن أكرمتنا بالنّبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً فاجعلنا لك من الشاكرين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفی ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللّه عنّي خيراً. ألا وإنّي أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد رأيت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم
ص: 109
منّي ذمام، وهذا ليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ثمر ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج اللّه، فان القوم انما يطلبونى ولو قد اصابوني لهوا عن طلب غيري(1).
وقال لأهل بيته:
قد جعلتكم في حلّ من مفارقتي، فإنّكم لا تطيقونهم لتضاعف أعدادهم وقواهم، وما المقصود غيري، فدعوني والقوم، فإنّ اللّه عزّوجلّ يعينني ولا يخليني من حسن نظره، كعادته في أسلافنا الطّيّبين.
فأمّا عسكره ففارقوه، وأما أهله والأدنون من أقربائه وأصحابه فأبوا، وقالوا: لانفارقك ويحل بنا ما يحل بك، ويحزننا ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنّا أقرب ما يكون إلی اللّه إذا كنّا معك، فقال لهم:
فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم علی ما قد وطّنت نفسي عليه، فاعلموا أنّ اللّه يهب المنازل الشّريفة لعباده لصبرهم باحتمال المكاره، وأنّ اللّه كان خصّني مع من مضی من أهلي، الذين أنا آخرهم بقاء في الدنيا من الكرامات بما يسهل معها علیّ احتمال الكريهات، فإنّ لكم شطر ذلك من كرامات اللّه تعالى، واعلموا أنّ الدنيا حلوها ومرّها حُلُم، والانتباه في الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشّقيّ من شقي فيها، أولا أ حدثّكم بأوّل أمرنا وأمركم، معاشر أوليائنا ومحبينا والمعتصمين بنا ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له معرضون؟ قالوا: بلی يا ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال: إنّ اللّه تعالى لمّا خلق آدم واستواه
ص: 110
وعلّمه أسماء كلّ شيء وعرضهم علی الملائكة، جعل محمداً وعليا وفاطمة والحسن والحسين «عليهم الصلاة والسّلام» أشباحاً خمسةً في ظهر آدم، وكانت أنوارهم تضيء في الآفاق، من السماوات والحجب والجنان والكرسيّ والعرش، فأمر اللّه تعالى الملائكة بالسجود لآدم تعظيماً له، إنّه قد فضّله بأن جعله وعاءً لتلك الأشباح التي قد عمّ أنوارها الآفاق، فسجدوا إلا ابليس، أبی أن يتواضع لجلال عظمة اللّه وأن يتواضع لأنوارنا أهل البيت، وقد تواضعت لها الملائكة كلّها واستكبر وترفّع، وكان بإبائه ذلك وتكبّره من الكافرين(1).
الحمدلله خلق الدنيا، فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال؛ فالمغرور من غرّته، والشّقيّ من فتنته، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم علی أمر قد أسخطتم اللّه فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الرّبّ ربّنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثمّ أنّكم زحفتم علی ذرّيته وعترته، تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللّه العظيم، فتبّاً لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظّالمين...
فتقدّم شمر لعنه اللّه، وقال: أفهمنا حتی نفهم.
ص: 111
فقال (عليه السلام) أقول:
اتّقوا اللّه ربّكم ولا تقتلوني، فإنّه لا يحلّ لكم قتلي، ولا انتهاك حرمتي، فإنّي ابن بنت نبيكم، وجدّتي خديجة زوجة نبيكم، ولعلّه قد بلغكم قول نبيكم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة».
ثم نادی بأعلی صوته يا أهل العراق:
أيّها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجّلوا حتی أعظكم بما يحقّ لكم عليّ، وحتی أعذر عليكم فإن أعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النّصف من أنفسكم، فاجمعوا رأيكم ثم لايكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّي اللّه الذي نزّل الكتاب وهو يتولّی الصالحين(1).
يا أصحابي إنّ هذه الجنّة قد فتحت أبوابها، واتصلت أنهارها وأينعت أثمارها، وزيّنت قصورها، وتألّفت ولدانها [وحورها]، وهذا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والشّهداء الذين قتلوا معه وأبي (عليه السلام) ، يتوقّعون قدومكم، ويتباشرون بكم وهم مشتاقون اليكم فحاموا عن دين اللّه وذبّوا عن حرم الرّسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).
حمداللّه وأثنی عليه، ثم قال:
أمّا بعد، فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلی أنفسكم وعاتبوها،
ص: 112
فانظروا هل يصلح ويحلّ لكم قتلي، وانتهاك حرمتي؟ ألست أنا ابن بنت نبيّكم، وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين باللّه، والمصدّق برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشّهداء عمّي؟ أو ليس جعفر الطّيار في الجنّة بجناحين عمّي؟ أو لم يبلغكم ما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لي ولأخي: «هذان سيّدا شباب أهل الجنّة»؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، واللّه ما تعمّدت كذباً مذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من لو سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبداللّه الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد السّاعدي، وزيد ابن أرقم، أو أنس بن مالك، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لي ولأخي، أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟
ثم قال (عليه السلام) لهم:
فإن كنتم في شك من هذا، فتشّكون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فو اللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟
فأخذوا لايكلّمونه.
فنادی: يا شبث بن ربعي، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا اليّ أن قد أينعت الثمار، وأخضرّ الجناب؟ وإنّما تقدم علی جند لك مُجندٍ؟
فقال له قيس بن الأشعث: ماندري ما تقول؛ ولكن انزل علی حكم بني عمّك، فإنّهم لن يروك إلا ما تحب.
فقال (عليه السلام) له:
ص: 113
لا واللّه اعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ولا أفر فِرَار العبيد...، عباداللّه إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لايؤمن بيوم الحساب(1).
اُنشدكم اللّه هل تعرفونني؟
قالوا: نعم أنت ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسبطه.
قال: اُنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ أبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: اُنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ امّي فاطمة بنت محمّد؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: اُنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ جدّتي خديجة بنت خويلد، أوّل نساء هذه الأمّة إسلاماً؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: اُنشدكم هل تعلمون إن حمزة سيد الشهداء عم أبي؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: اُنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ الطّيار في الجنّة عمّي؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: فاُنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنا متقلّده؟
قالوا: اللّهم نعم.
ص: 114
قال: اُندشكم اللّه هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنا لابسها؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: اُنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ علياً (عليه السلام) كان أوّل القوم إسلاماً، وأعلمهم علماً، وأعظمهم حلماً، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال فبم تستحلّون دمي وأبي الذّائد عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصّادر عن الماء، ولواء الحمد في يد أبي يوم القيامة؟
قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتی تذوق الموت عطشاً(1).
حمداللّه وأثنی عليه، ثم قال:
إنّ اللّه عز وجل قد أذن في قتلكم اليوم وقتلي، وعليكم بالصّبر والجهاد(2).
قال (عليه السلام) بعد الحمد والثناء:
عباد اللّه اتّقوا اللّه وكونوا من الدنيا علی حذر، فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد، وبقي عليها أحد، لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولی بالرّضا، وأرضی
ص: 115
بالقضاء، غير أنّ اللّه خلق الدنيا للبلاء وخلق أهلها للفناء، فجديدها بال، ونعيمها مضمحلّ، وسرورها مكفهّر، والمنزل بلغة، والدّار قلعة، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ}(1){وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2)(3).
كان (عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه، تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: أنظروا لايبالي بالموت!؛
قال (عليه السلام) لهم:
صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة تَعيُرُ بكم عن البؤس والضراء إلی الجنان الواسعة، والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلی قصر، وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلی سجن وعذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر» والموت جسر هؤلاء إلی جناتهم وجسر هؤلاء إلی جحيمهم ما كذبت ولا كذّبت(4).
عن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ، قال: إنّي جالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرضني إذا اعتزل أبي في
ص: 116
خباء له وعنده جون مولی أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول: يا دهر أفّ لك (إلی آخر)، فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتی فهمتها وعرفت، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أنّ البلاء قد نزل.
وأمّا عمّتي فإنّها سمعت ما سمعت... ولم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وأنّها لحاسرة حتی انتهت إليه، فقالت:
واثكلاه ليت الموت أعدمنی الحياة، اليوم ماتت أمّي فاطمة وأبي عليّ وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي فنظر إليها الحسين (عليه السلام) ، فقال لها:
يا أخية لايذهبنّ حلمك الشيطان وترقرقت عيناه بالدموع، وقال: لو ترك القطاة لنام. فقالت: يا ويلتاه أفتغتصب نفسك إغتصاباً فذلك أقرح لقلبي وأشد علی نفسي. ثم لطمت علی وجهها وهوت إلی جيبها فشقّته وخرّت مغشياً عليها، فقام إليها الحسين (عليه السلام) فصبّ علی وجهها الماء، وقال لها:
يا أختاه اتقي اللّه وتعزّي بعزاء اللّه واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لايبقون، وأنّ كل شيء هالك إلا وجه اللّه الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق يعودون وهو فرد وحده، وأبي خير منّي، وأمّي خير منّي وأخي خير منّي، ولي ولكل مسلم برسول اللّه أسوة حسنة...
يا أخية إنّي أقسمت عليك فأبّري قسمي، لاتشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولاتدعي عليّ بالويل والثبور، إذا أنا هلكت، ثم جاء بها حتی أجلسها عند عندي ثم خرج إلی أصحابه وأمرهم أن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض وأن يكونوا بين البيوت ويستقبلون القوم بوجه واحد(1).
ص: 117
تبّاً(1)
لكم أيّتها الجماعة وترحاً(2)، أحين استصرختمونا ولهين(3)، فأصرخناكم مؤدين مستعدّين، سللتم علينا سيفاً لنا في رقابنا، وحششتم علينا نار الفتن خبأها عدوكم وعدونا فأصبحتم ألباً علی أوليائكم، ويداً عليهم لأعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم إلا الحرام من الدنيا انالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه من غير حدث كان منّا، ولا رأي ٍ تفيّل لنا، فهلاّ لكم الويلات، اذكرهتمونا وتركتمونا، تجهّزتموها والسيف لم يُشهر، والجأش طامن(4)، والرّأي لما يستصحف، ولكن أسرعتم عليا كطيرة الذباب(5)، وتداعيتم كتداعي الفراش، فقبحاً لكم فإنّما أنتم من طواغيت الأمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة(6) الشيطان، وعصبة الآثام ومحرّفي الكتاب، ومطفيء السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيرى عترة الأوصياء وملحقي العهار(7) بالنسب، مؤذي المؤمنين، صراخ أئمّة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين، وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون، وإيانا تخاذلون، أجل واللّه الخذل فيكم معروف! وشجّت عليه
ص: 118
عروقكم، فروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث لشيء سنخاً للناصب، وأكلة للغاصب، ألا لعنة اللّه علی النّاكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلاً، فأنتم واللّه هم، ألا وإنّ الدّعي ابن الدعي، قد ركز بين اثنتين، بين السّلة(1) والذّلة، وهيهات ما آخذ الدنية، أبى اللّه ذلك ورسوله وجدود طابت، وحجود طهرت، أنوفً حميّة، ونفوس أبّية لا تؤثر مصارع اللّئام علی مصارع الكرام، ألا قد أعذرت وأنذرت، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العتاد، وخذلة الأصحاب.
- ثم تمثّل بأبيات فروة بن مسيك المرادي -
فإن نهزم فهزّامون قدماً***و إن نهزم فغير مهزمينا
و ما إن طبّنا جبن ولكن***منايانا ودولة آخرينا
ثم قال: ألا ثم لاتلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتی تدور بكم الرحی، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم كيدون جميعاً فلاتنظرون إنّي توّكلت علی اللّه ربّي وربّكم، ما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي علی صراط مستقيم، اللّهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنّي يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف، يسقيهم كأس مصبرة(2)، ولا يدع فيهم أحداً إلا قتله قتلة بقتلة، وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي، منهم، فإنّهم غرّونا
ص: 119
وكذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير(1).
أعلی قتلي تحاثّون، أما واللّه لاتقتلون بعدي عبداً من عباداللّه أسخط عليكم لقتله منّي، وأيم اللّه إنّي لأرجو أن يكرمني اللّه بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم، من حيث لاتشعرون. أما واللّه أن لو قد قتلتموني لقد ألقی اللّه بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثم لايرضی لكم، حتی يضاعف لكم العذاب الأليم(2).
وقال: اشتدّ غضب اللّه علی اليهود، اذ جعلوا له ولداً، وعلی النّصاری إذ جعلوه ثالث ثلاثة، وعلی المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتدّ غضبه علی قوم اتفقت علی قتل ابن بنت نبيّهم، واللّه لاأجيبهم إلی شيء ممّا يطلبون حتی ألقی اللّه تعالى، وأنا مخضّب بدمي.
قال (عليه السلام) : استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ اللّه تعالى حافظكم وحاميكم وسينجّيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلی خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم اللّه عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة
ص: 120
فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم(1).
إيه! يا منتحلة دين الإسلام، ويا أتباع شرّ الأنام، هذا آخر مقام أقرع به أسماعكم، واحتجّ به عليكم، زعمتم أنّكم بعد قتلي تتنعّمون في دنياكم، وتستظلّون قصوركم، هيهات هيهات، ستحاطون عن قريب بما ترتعد به فرائصكم، وترجف منه أفئدتكم، حتی لا يؤويكم مكان، ولا يظّلكم أمان، وحتی تكونوا أذّل من فرام(2) الأمة، وكيف لاتكونوا كذلك، وقد آليتم علی أنفسكم أن تسفكوا دم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتقتلوا ذرّيّته، وتظمئوا صبيّته وتؤسروا نسوته، ولقد خيّرتكم بين خلال ثلاث فأبيتم، ومنّتكم شوكتكم، إنّي أنقاد لطاغيتكم الملحد معاذاللّه، نفوس أبيّة وأنوف حميّة، تقعدنا عن الدّنيّة وتنهض بنا في العزّ إلی ورود حياض المنيّة وما أشوقني إلی اللحوق بهذه الفتية - وأشار بيده إلی مصارع الأحبّة - والوفاء بعهدي لربّي فخذوا حذركم ثم كيدوني جميعاً ولا تنظرون(3).
ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلی أحسابكم إذ كنتم أعرابا،
ص: 121
فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟
فقال: أقول أنا الذي اُقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم(1) عن التعرّض لحرمي مادمت حيا(2).
ص: 122
ص: 123
ص: 124
الحمدلله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صنع صانع، وهو الجواد الواسع، فطر الناس أجناس البدائع، وأتقن بحكمته الصّنائع، لاتخفی عليه الطّلائع، ولا تضيع عنده الودائع،(1)
جازي كلّ صانع، ورائش كلّ قانع، وراحم كلّ ضارع، منزل المنافع والكتاب الجامع، بالنّور السّاطع، وهو للدّعوات سامع، وللكربات دافع، وللدّرجات رافع، وللجبابرة قامع، فلا إله غيره، ولا شيء يعدله، وليس كمثله شيء وهو السّميع البصير اللّطيف الخبير، وهو علی كلّ شيء قدير.
اللّهم إنّي أرغب إليك وأشهد بالربوبيّة لك، مقرّ بأنّك ربّي و[أنّ] إليك مردّي، ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً [و]، خلقتني من التراب، ثم أسكنتني الأصلاب، آمناً لريب المنون، واختلاف الدّهور والسنين، فلم أزل ظاعناً من صلب إلی رحم في تقادم من الأيام الماضية، والقرون الخالية، لم تخرجني لرأفتك بي ولطفك لي [بي] وإحسانك إليّ في دولة أئمّة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذّبوا رسلك.
لكنّك أخرجتني [رأفة منك وتحنّناً عليّ] للذي سبق لي من الهدی الذي
ص: 125
له يسّرتني وفيه أنشأتني، ومن قبل ذلك رؤفت بي بجميل صنعك وسوابغ نعمك، فابتدعت خلقي من منيّ يمنی، وأسكنتني في ظلمات ثلاث، بين لحم ودم، وجلد، لم تشهدني خلقي [لم تشهرني بخلقي]، ولم تجعل إليّ شيئاً من أمري، ثم أخرجتني للذي سبق لي من الهدی إلی الدنيا تامّاً سويا، وحفظتني في المهد طفلاً صبياً، ورزقتني من الغذاء لبناً مرياً، وعطفت عليّ قلوب الحواضن، وكفّلتني الأمّهات الرّواحم، وكلأتني من طوارق الجانّ، وسلّمتني من الزيادة والنقصان، فتعاليت يا رحيم يا رحمن، حتی إذا استهللت ناطقاً بالكلام، أتممت عليّ سوابغ الإنعام، وربّيتني زائداً في كل عام، حتی إذا اكتملت فطرتي واعتدلت مرّتي أوجبت عليّ حجّتك، بأن الهمتني معرفتك، وروّعتني بعجائب حكمتك، وأيقظتني لما ذرأت في سمائك وأرضك من بدائع خلقك، ونبّهتني لشكرك وذكرك، وأوجبت عليّ طاعتك وعبادتك، وفهّمتني ما جاءت به رسلك، ويسّرت لي تقبّل مرضاتك، ومننت عليّ في جميع ذلك بعونك ولطفك، ثم إذ خلقتني من خير [حُرّ] الثّری، لم ترض لي يا إلهي نعمةً [بنعمة] دون أخری، ورزقتني من أنواع المعاش وصنوف الرياش بمنّك العظيم الأعظم عليّ، وإحسانك القديم إليّ، حتی إذا أتممت عليّ جميع النعم، وصرفت عنّي كلَّ النقم.
لم يمنعك جهلي وجرأتي عليك أن دللتني إلی ما يقرّبني إليك، ووفّقتني لما يزلفني لديك، فإن دعوتك أجبتني، وإن سألتك أعطيتني، وإن أطعتك شكرتني، وإن شكرتك زدتني، كلّ ذلك إكمالُ لأنعمك عليّ، وإحسانك إليّ.
فسبحانك سبحانك من مبدئ، معيد حميد مجيد، وتقدّست أسماؤك، وعظمت آلاؤك، فأيّ نعمك يا إلهي أ ُحصي عدداً وذكراً، أم أيّ عطاياك
ص: 126
أقوم بها شكراً؟! وهي يا ربّ أكثر من أن يحصيها العادّون، أو يبلغ علماً بها الحافظون، ثم ما صرفت ودرأت عنّي اللّهم من الضّرّ والضّرّاء أكثر ممّا ظهر لي من العافية والسّراء وأنا [فأنا] أشهد يا إلهي بحقيقة إيماني وعقد عزمات يقيني، وخالص صريح توحيدي، وباطن مكنون ضميري، وعلائق مجاري نور بصري، وأسارير صفحة جبيني، وخرق مسارب نفسي، وخذاريف مارن عِرنيني، ومَساربِ سِماخ [صماخ] سمعي، وما ضُمّت وأطبقت عليه شفتاي، وحركات لفظ لساني، ومَغرَزِ حَنَك فمي وفكي، ومنابت أضراسي ومساغ مطعمي ومشربي، وحِمالة اُمّ رأسي وبلوغ فارغ حبائل عنقي، وما اشتمل عليه تامُورُ صدري، وحمائل حبل وتيني، ونياط حجاب قلبي، وأفلاذ حواشي كبدي، وما حوته شراسيفُ أضلاعي، وحقاق مفاصلي، وقبض عواملي، وأطراف أناملي، ولحمي ودمي وشعري وبشري، وعصبي وعظامي ومخّي وعروقي، وجميع جوارحي، وما انتسج علی ذلك أيام رضاعي، وما أقلّت الأرض منّي، ونومي ويقظتي وسكوني وحركات ركوعي وسجودي.
أن لو حاولتُ واجتهدت مدی الأعصار والأحقاب لو عُمّرتها أن اؤدّي شكر واحدة من أنعمك، مااستطعت ذلك إلا بمنك الموجب عليّ به شكرك أبداً جديداً، وثناءاً طارفاً عتيداً، أجل ولو حرصت أنا والعادّون من أنامك أن نحصي مدی إنعامك سالفه وآنفه، ما حصرناه عدداً، ولا أحصيناه أمداً، هيهات أنّی ذلك! وأنت المخبر في كتابك الناطق، والنّبأ الصادق {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَاۗ}(1) صدق كتابك اللّهم وإنباؤك، وبلّغت أنبياؤك ورسلك ما أنزلت عليهم من وحيك، وشرعت لهم وبهم من دينك.
ص: 127
غير أنّي يا إلهي أشهد بجهدي وجدّي، ومبلغ طاعتي [طاقتي] ووسعي، وأقول مؤمناً موقناً: الحمدلله الذي لم يتخذ ولداً فيكون موروثاً، ولم يكن له شريك في ملكه فيضادّه فيما ابتدع، ولا وليّ من الذلّ فيرفده فيما صنع، فسبحانه سبحانه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا}(1).
وتفطّرتا، سبحان اللّه الواحد الأحد، الصمّد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، الحمدلله حمداً يعادل حمد ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وصلى اللّه علی خيرته محمّد خاتم النبيّين، وآله الطّيبين الطاهرين المخلصين وسلّم.
ثم شرع الإمام الحسين (عليه السلام) في مسألة الباري عزّوجلّ وأخذ يدعو اللّه ويقول بعد أن جرت الدموع علی وجناته المتلالئة:
اللّهم اجعلني أخشاك، كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتی لاأحبّ تعجيل ما أخّرت ولا تأخير ما عجّلت، اللّهم اجعل غناي في نفسي، واليقين في قلبي، والاخلاص في عملي، والنّور في بصري، والبصيرة في دينی، ومتّعني بجوارحي، واجعل سمعي وبصري الوارثَين منّي، وانصرني علی من ظلمني، وأرني فيه ثأري ومآربي، وأقرّ بذلك عيني.
اللّهم اكشف كربتي، واستر عورتي، واغفر لي خطيئتي، واخسأ شيطاني، وفك رِهاني، واجعل لي يا الهي الدرجة العليا في الآخرة والأولی، اللّهم لك الحمد كما خلقتني، فجعلتني سميعاً بصيراً، ولك الحمد كما خلقتني، فجعلتني خلقاً [حيا] سويا، رحمةً بي وقد كنت عن خلقي غنياً.
ص: 128
ربّ بما برأتني فَعَدَّلت فطرتي، ربّ بما أنشأتني فأحسنت صورتي، رب بما إليّ [بي] وفي نفسي عافيتي، ربّ بما كلأتني ووفّقتني، ربّ بما أنعمت عليّ فهديتني، ربّ بما أوليتني، ومن كلّ خير أعطيتني، ربّ بما اطعمتني وسقيتني، ربّ بما أغنيتني وأقنيتني، ربّ بما أعنتني وأعززتني، ربّ بما ألبستني من سِترك الصّافي ويسّرت لي من صنعك الكافي: صلّ علی محمّد وآل محمد وأعنّي علی بوائق الدهور، وصروف الليالي والأيام، ونجّني من أهوال الدنيا وكربات الآخرة، واكفني شرّ ما يَعملُ الظّالمون في الأرض.
اللّهم ما أخاف فاكفني، وما أحذر فقني، وفي نفسي وديني فاحرسني، وفي سفري فاحفظني، وفي أهلي ومالي فاخلفني، وفيما رزقتني فبارك لي، وفي نفسي فذلّلني، وفي أعين الناس فعظّمني، ومن شرّ الجنّ والإنس فسلّمني، وبذنوبي فلا تفضحني، وبسريرتي فلا تخزني، وبعملي فلا تبتلني، ونعمك فلاتسلبني، وإلی غيرك فلا تكلني، إلهی إلی من تكلني؟ إلی قريب فيقطعني؟ أم إلی بعيد فيتجهَّمُني؟ أم إلی المستضعفين لي، وأنت ربّي ومليك أمري؟ أشكو إليك غربتي، وبعد داري، وهواني علی من ملكته أمري، إلهي: فلا تحلل عليّ غضبك فإن لم تكن غضبت عليّ فلا أبالي [سواك]، سبحانك غير أنّ عافيتك أوسع لي.
فأسألك يا ربّ بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسموات وكشفت [وانشكفت] به الظلمات وصلح به أمر الأولين والآخرين، أن: لاتميتني علی غضبك ولا تنزل بي سخطك، لك العتبی حتی ترضی قبل ذلك، لا إله إلا أنت ربّ البلد الحرام، والمشعر الحرام، والبيت العتيق الذي أحللته البركة وجعلته للناس أمناً.
ص: 129
يا من عفا عن عظيم الذنوب بحلمه، يا من أسبغ النّعماء بفضله، يا من أعطی الجزيل بكرمه، يا عدّتي في شدّتي، يا صاحبي في وحدتي، يا غياثي في كربتي، يا وليّي في نعمتي، يا إلهي وإله آبائي: إبراهيم، وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وربّ جبرئيل وميكائيل [و ميكال] وإسرافيل، وربّ محمّد خاتم النّبيين وآله المنتجبين [و] منزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومنزل كهيعص وطه ويس والقرآن الكريم، أنت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها، وتضيق بي الأرض برُحبها [بما رحبت] ولو لا رحمتك لكنت من الهالكين، وأنت مقيلُ عثرتي، ولو لا سترك إيّاي لكنت من المفضوحين، وأنت مؤيّدي بالنّصر علی أعدائي ولولا نصرك إياي [لي] لكنت من المغلوبين.
يا من خصّ نفسه بالسموّ والرفعة، فأولياؤه بعزّه يعتزّون، يا من جعلت له الملوك نير المذلّة علی أعناقهم، فهم من سطواته خائفون، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وغيب ما تأتي به الأزمنة والدهور، يا من لايعلم كيف هو إلا هو، يا من لايعلم ما هو إلا هو، يا من لا يعلمه إلا هو يا من كبس الأرض علی الماء وسدّ الهواء بالسماء، يا من له أكرم الأسماء، يا ذا المعروف الذي لاينقطع أبداً، يا مقيّض الرَّكب ليوسف في البلد القَفر ومخرجه من الجبّ وجاعله بعد العبوديّة ملكاً، يا رآدّه علی يعقوب بعد أن ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم، يا كاشف الضّر والبلوی عن أيّوب، ويا ممسك يَدَي إبراهيم عن ذبح ابنه بعد كبر سنّه وفناء عمره، يا من استجاب لزكريا فوهب له يحيی ولم يدعه فرداً وحيداً، يا من أخرج يونس من بطن الحوت، يا من فلق البحر لبني إسرائيل فأنجاهم وجعل فرعون وجنوده من المغرقين، يا من
ص: 130
أرسل الرياح مبشّرات بين يدي رحمته، يا من لم يعجّل علی من عصاه من خلقه، يا من استنقذ السّحرة من بعد طول الجحود وقد غدوا في نعمته يأكلون رزقه ويعبدون غيره وقد حآدّوه ونآدّوه وكذّبوا رسله.
يا اللّه يا اللّه يا بدئ يا بديع لا ندّ لك يا دائماً لا نفاد لك، يا حياً حين لاحيّ، يا محيي الموتی، يا من هو قائم علی كلّ نفس بما كسبت، يا من قلّ له شكري فلم يحرمني، وعظمت خطيئتي فلم يفضحني، ورآني علی المعاصي فلم يشهرني [يخذلني]، يا من حفظني في صغري، يا من رزقني في كبري، يا من أياديه عندي لا تحصی، ونعمه لا تُجازی، يا من عارضني بالخير والإحسان وعارضته بالاسآءة والعصيان، يا من هداني للإيمان من قبل أن أعرف شكر الامتنان، يا من دعوته مريضاً فشفاني، وعرياناً فكساني، وجائعاً فأشبعني، وعطشاناً فأرواني، وذليلاً فأعزّني، وجاهلاً فعرّفني، ووحيداً فكثّرني، وغائباً فردّني، ومقلاًّ فأغناني، ومنتصراً فنصرني، وغنياً فلم يسلبني، وأمسكت عن جميع ذلك فابتدأني.
فلك الحمد والشكر، يا من أقال عثرتي ونفّس كربتي، وأجاب دعوتي، وستر عورتي، وغفر ذنوبي، وبلّغني طلبتي، ونصرني علی عدوّي، وإن أعدّ نعمك ومننك وكرائم منحك لا أحصيها.
يا مولاي أنت الذي مننت، أنت الذي أنعمت، أنت الذي أحسنت، أنت الذي أجملت، أنت الذي أفضلت، أنت الذي أكملت، أنت الذي رزقت، أنت الذي وفّقت، أنت الذي أعطيت، أنت الذي أغنيت، أنت الذي أقنيت، أنت الذي آويت، أنت الذي كفيت، أنت الذي هديت، أنت الذي عصمت، أنت الذي سترت، أنت الذي غفرت، أنت الذي أقلت، أنت الذي مكنت،
ص: 131
أنت الذي أعززت، أنت الذي أعنت، أنت الذي عَضَدتَ، أنت الذي أيّدت، أنت الذي نصرت، أنت الذي شفيت، أنت الذي عافيت، أنت الذي أكرمت، تباركت وتعاليت فلك الحمد دائماً ولك الشكر واصباً أبداً.
ثم أنا يا إلهي المعترف بذنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أسأت، أنا الذي أخطأت، أنا الذي هممت، أنا الذي جهلت، أنا الذي غفلت، أنا الذي سهوت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذي تعمّدت، أنا الذي وعدت، وأنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت، أنا الذي أقررت، أنا الذي اعترفت بنعمتك عليّ وعندي وأبوء بذنوبي فاغفرها لي، يا من لا تضّره ذنوب عباده وهو الغنيّ عن طاعتهم والموفّق من عمل صالحاً منهم بمعونته ورحمته، فلك الحمد إلهي وسيّدي.
إلهي أمرتني فعصيتك، ونهيتني فارتكبت نهيك، فأصبحت لاذا برآءةٍ لي فاعتذر، ولاذا قوّة فانتصر، فبأيّ شيء أستقبلك يا مولاي؟ أبسمعي، أم ببصري، أم بلساني، أم بيدي، أم برجلي؟ أليس كلّها نعمك عندي وبكلّها عصيتك يا مولاي؟ فلك الحجّة والسبيل عليّ، يا من سترني من الآباء والأمّهات أن يزجروني، ومن العشائر والإخوان أن يعيّروني، ومن السلاطين أن يعاقبوني، ولو اطّلعوا يا مولاي علی ما اطّلعت عليه منّي إذاً ما أنظروني، ولرفضوني وقطعوني.
فها أنا ذا يا إلهي بين يديك يا سيّدي خاضع ذليل حصير حقير، لاذو برآءة فأعتذر ولاذو قوة فانتصر، ولا حجّة فاحتج بها، ولا قائل لم اجترح ولم أعمل سوءاً، وما عسی الجحود ولو جحدت يا مولاي ينفعني، كيف وأنّی ذلك، وجوارحي كلّها شاهدة عليّ بما قد عملت؟ وعلمت يقيناً غير
ص: 132
ذي شك أنّك سائلي من عظائم الأمور، وأنّك الحكم [الحكيم] العدل الذي لاتجور، وعدلك مهلكي، ومن كلّ عدلك مهربي، فإن تعذّبني يا إلهي فبذنوبي بعد حجّتك عليّ، وإن تعف عنّي فبحلمك وجودك وكرمك. لاإله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين، لا إله الا أنت سبحانك إني كنت من المستغفرين.
لا إله الا أنت سبحانك إنّي كنت من الموحّدين، لا إله الا أنت سبحانك إنّي كنت من الخائفين، لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الوجلين، لا إله الا أنت سبحانك إنّي كنت من الراجين، لا إله الا أنت سبحانك إنّي كنت من الراغبين، لا إله الا أنت سبحانك إنّي كنت من المهلّلين، لا إله الا أنت سبحانك إ نّي كنت من السّائلين، لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من المسبّحين، لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من المكبّرين، لا إله الا أنت سبحانك ربّي وربّ آبائي الأولين.
اللّهم هذا ثنائي عليك ممجّداً، وإخلاصي لذكرك موحّداً، وإقراري بآلائك معدّداً وإن كنت مقرّاً أنّي لم أحصها لكثرتها وسبوغها وتظاهرها وتقادمها إلی حادث مالم تزل تتعهّدني [تتغمّدني] به معها منذ خلقتني وبرأتني من أول العمر من الإغناء من [بعد] الفقر، وكشف الضّرّ، وتسبيب اليسر، ودفع العسر، وتفريج الكرب، والعافية في البدن والسّلامة في الدين، ولو رفدني علی قدر ذكر نعمتك جميع العالمين من الأولين والآخرين ماقدرت، ولا هم علی ذلك.
تقدّست وتعاليت من رب كريم عظيم رحيم لاتحصی الآؤك، ولا يبلغ ثناؤك، ولا تكافی نعماؤك، صلّ علی محمّد وآل محمّد، وأتمم علينا نعمك
ص: 133
وأسعدنا بطاعتك، سبحانك لا إله إلا أنت.
اللّهم إنّك تجيب المضطرّ وتكشف السّوء، وتغيث المكروب، وتشفي السقيم، وتغني الفقير، وتجبر الكسير، وترحم الصغير وتعين الكبير، وليس دونك ظهير، ولا فوقك قدير، وأنت العلي الكبير، يا مُطلِقَ المكبّل الأسير، يا رازق الطفل الصغير، يا عصمة الخائف المستجير، يا من لاشريك له ولا وزير، صلّ علی محمّد وآل محمّد، وأعطني في هذه العشيّة أفضل ما أعطيت وأنلت أحداً من عبادك، من نعمة توليها، والآء تجدّدها، وبليّة تصرفها، وكربة تكشفها، ودعوة تسمعها، وحسنة تتقبّلها، وسيئة تتغمّدها، إنّك لطيف بما تشاء خبير، وعلی كلّ شيءٌ قدير.
اللّهم إنّك أقرب من دعي، وأسرع من أجاب وأكرم من عفا، وأوسع من أعطی، وأسمع من سئل، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، ليس كمثلك مسؤول، ولا سواك مأمول، دعوتك فأجبتني، وسألتك فأعطيتني، ورغبت إليك فرحمتني، ووثقت بك فنجّيتني، وفزعت إليك فكفيتني، اللّهم فصلّ علی محمّد عبدك ورسولك ونبيّك وعلی آله الطّيبين الطاهرين أجمعين، وتمّم لنا نعماءك، وهنّئنا عطآؤك، واكتبنا لك شاكرين، ولالآئك ذاكرين، آمين آمين ربّ العالمين.
اللّهم يا من ملك فقدر، وقدّر فقهر، وعصی فستر، واستغفر فغفر، يا غاية الطالبين الراغبين، ومنتهی أمل الراجين، يا من أحاط بكلّ شيء علماً، ووسع المستقيلين رأفةً ورحمةً وحلماً، اللّهم إنّا نتوجّه إليك في هذه العشيّة التي شرّفتها وعظّمتها، بمحمّد نبيّك ورسولك، وخيرتك من خلقك، وأمينك علی وحيك البشير النّذير، السراج المنير الذي أنعمت به علی المسلمين، وجعلته
ص: 134
رحمةً للعالمين.
اللّهم فصلّ علی محمّد وآل محمّد، كما محمّد أهلٌ لذلك منك ياعظيم، فصلّ عليه وعلی آله المنتجبين الطّيبين الطاهرين أجمعين وتغمّدنا بعفوك عنّا، فإليك عجّت الأصوات بصنوف اللغات، فاجعل لنا اللّهم في هذه العشيّة نصيباً من كل خير تقسمه بين عبادك، ونور تهدي به، ورحمة تنشرها، وبركة تنزلها، وعافية تجلّلها، ورزق تبسطه، يا أرحم الراحمين.
اللّهم اقلبنا في هذا الوقت منجحين مفلحين، مبرورين غانمين، ولا تجعلنا من القانطين، ولا تخلنا من رحمتك ولا تحرمنا ما نأمّله من فضلك، ولا تجعلنا من رحمتك محرومين، ولالفضل ما نأمّله من عطائك قانطين، ولا تردّنا خائبين، ولا من بابك مطرودين، يا أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، إليك أقبلنا موقنين ولبيتك الحرام آمّين قاصدين، فأعنّا علی مناسكنا، وأكمل لنا حجّنا، وأعف عنّا، وعافنا فقد مددنا إليك أيدينا، فهي بذلّة الاعتراف موسومة.
اللّهم فأعطنا في هذه العشية ما سألناك واكفنا ما استكفيناك، فلا كافي لنا سواك، ولا ربّ لنا غيرك نافذ فينا حكمك، محيط بنا علمك، عدل فينا قضاؤك، اقض لنا الخير، واجعلنا من أهل الخير، اللّهم أوجب لنا بجودك عظيم الأجر، وكريم الذخر، ودوام اليسر، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ولا تهلكنا مع الهالكين، ولا تصرف عنّا رأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللّهم اجعلنا في هذا الوقت ممّن سألك فأعطيته وشكرك فزدته، وثاب [تاب] إليك فقبلته، وتنصّل إليك من ذنوبه كلّها، فغفرتها له، يا ذاالجلال والإكرام.
ص: 135
اللّهم ونَقِّنا [وفقنا]، وسدّدنا [واعصمنا] واقبل تضرّعنا، يا خير من سئل، ويا أرحم من استرحم، يا من لايخفی عليه إغماض الجفون، ولالحظُ العيون، ولا ما استقر في المكنون ولا ما انطوت عليه مضمرات القلوب ألا كلّ ذلك قد أحصاه علمك ووسعه حلمك، سبحانك وتعاليت عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، تسبّح لك السموات السبع، والأرضون ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبّح بحمدك، فلك الحمد والمجد، وعلوّ الجّد، يا ذا الجلال والإكرام والفضل والإنعام، والأيادي الجسام، وأنت الجواد الكريم الرّؤوف الرحيم.
اللّهم أوسع عليّ من رزقك الحلال، وعافني في بدني وديني، وآمن خوفي، واعتق رقبتي من النار، اللّهم لا تمكر بي، ولا تستدرجني، ولا تخدعني، ادرأ عنّي شرّ فسقة الجنّ والإنس.
ثم رفع بصره إلی السماء وقال برفيع صوته:
يا أسمع السامعين! ويا أبصر الناظرين ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، صلّ علی محمّد وآل محمّد السّادة الميامين.
وأسألك اللّهم حاجتي التي إن أعطيتنيها لم يضرني مامنعتني، وإن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني، أسألك فكاك رقبتي من النار، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد، وأنت علی كلّ شيء قدير، يا ربّ يا ربّ؟!
قال المحدّث القمّي (رحمه اللّه) : إلی هنا نقل الكفعمّي والعلاّمة المجلسي هذا الدعاء ولكن السيّد (رحمه اللّه) في الإقبال ذكر بعد ذكر يا رب يا رب (هذه الزيادة):
إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي، إلهي إنّ اختلاف تدبيرك
ص: 136
وسرعة طواء مقاديرك منعا عبادك العارفين بك عن السكون إلی عطآء واليأس منك في بلاء، إلهي منّي مايليق بلؤمي ومنك مايليق بكرمك، إلهي وصفت نفسك باللّطف والرأفة لي قبل وجود ضعفي افتمنعني منهما بعد وجود ضعفي؟ إلهي إن ظهرت المحاسن منّي فبفضلك ولك المنّة عليّ، وإن ظهرت المساوي منّي فبعدلك ولك الحجّة عليّ، إلهي كيف تكلني وقد تكفّلت لي وكيف أضام وأنت الناصر لي، أم كيف أخيب وأنت الحفيّ بي؟! ها أنا أتوسّل إليك بفقري إليك، وكيف أتوسّل إليك بما هو محال أن يصل إليك، أم كيف أشكو إليك حالي وهو لا يخفی عليك، أم كيف أترجم بمقالي وهو منك برز إليك، أم كيف تخيّب آمالي وهي قد وفدت إليك، أم كيف لاتحسن أحوالي وبك قامت، إلهي ما ألطفك بي مع عظيم جهلي، وما أرحمك بي مع قبيح فعلي، إلهي ما أقربك منّي وأبعدني عنك وما أرأفك بي فما الذي يحجبني عنك؟ إلهي علمت باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليّ في كلّ شيء حتی لا أجهلك في شيء إلهي كلّما أخرسني لؤمي انطقني كرمك. وكلّما آيستني أوصافي أطمعتني مننك، إلهي من كانت محاسنه مساوي فكيف لاتكون مساويه مساوي، ومن كانت حقايقه دعاوي فكيف لاتكون دعاويه دعاوي؟! إلهي حكمك النّافذ ومشيّتك القاهرة لم يتركا لذي مقال مقالاً ولا لذي حال حالاً، إلهي كم من طاعة بنيتها وحالة شيّدتها، هدّم اعتمادي عليها عدلك بل أقالني منها فضلك، إلهي إنّك تعلم أنّي وإن لم تدم الطّاعة منّي فعلاً جزماً فقد دامت محبّة وعزماً، إلهي كيف أعزم وأنت القاهر وكيف لا أعزم وأنت الآمر؟!
إلهي تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني
ص: 137
إليك، كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ماليس لك، حتی يكون هو المظهر لك، متی غبت حتی تحتاج إلی دليل يدلّ عليك، ومتی بعدت حتی تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لاتراك عليها رقيباً، وخسرت صفقةُ عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً.
إلهي أمرت بالرجوع إلی الآثار فأرجعني إليك بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار حتی أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السر عن النظر إليها، ومرفوع الهمّة عن الاعتماد عليها، إنك على كل شيء قدير، إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدلُّ عليك، فاهدني بنورك إليك. وأقمني بصدق العبوديّة بين يديك.
إلهي علّمني من علمك المخزون، وصنّي بسترك المصون، إلهي حقّقني بحقايق أهل القرب، واسلك بي مسلك أهل الجذب.
إلهي أغنني بتدبيرك عن تدبيري، وباختيارك عن اختياري واوقفني علی مراكز اضطراري، إلهي أخرجني من ذلّ نفسي وطهّرني من شكي وشِركي قبل حلول رمسي.
بك انتصر فانصرني، وعليك أتوكل فلاتكلني، وإيّاك أسئل فلا تخيّبني، وفي فضلك أرغب فلا تحرمني، وبجنابك انتسب فلا تبعدني، وببابك أقف فلا تطردني.
إلهي تقدّس رضاك أن يكون له علّة منك فكيف تكون له علّة منّي، إلهي أنت الغنّي بذاتك أن يصل إليك النفع منك، فكيف لاتكون غنياً عنّي، إلهي إنّ القضاء والقدر يمنّيني، وإنّ الهوی بوثائق الشهوة أسرني، فكن أنت النصير
ص: 138
لي حتی تنصرني وتبصّرني، وأغنني بفضلك حتی استغني بك عن طلبي.
أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتی عرفوك ووحّدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتی لم يحبّوا سواك، ولم يلجئوا إلی غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم.
ماذا وجد من فقدك، وماالذي فقد من وجدك؟
لقد خاب من رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغی عنك متحوّلاً.
كيف يرجی سواك وأنت ما قطعت الإحسان، وكيف يطلب من غيرك، وأنت ما بدّلت عادة الامتنان؟
يا من أذاق أحبّائه حلاوة المؤانسة، فقاموا بين يديه متملّقين، ويا من ألبس أوليائه ملابس هيبته، فقاموا بين يديه مستغفرين.
أنت الذاكر قبل الذاكرين، وأنت البادي بالإحسان قبل توجّه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء قبل طلب الطالبين، وأنت الوهّاب ثم لما وهبت لنا من المستقرضين.
إلهي أطلبني برحمتك حتی أصل إليك، واجذبني بمنّك حتی أقبل عليك، إلهي إنّ رجائي لاينقطع عنك وإن عصيتك، كما أنّ خوفي لايزايلني وإن أطعتك، فقد دفعتني العوالم إليك، وقد أوقعني علمك بكرمك عليك.
إلهي كيف أخيب وأنت أملي؟ أم كيف أهان وعليك متّكلي؟ إلهي كيف استعزّ وفي الذّلّة أركزتني؟ أم كيف لا استعزّ وإليك نسبتني؟ إلهي كيف لا افتقر وأنت الذي في الفقراء أقمتني؟ أم كيف افتقر وأنت الذي بجودك أغنيتني؟
ص: 139
وأنت الذي لا إله غيرك، تعرّفت لكل شيء، فما جهلك شيء، وأنت الذي تعرّفت إليّ في كلّ شيء، فرأيتك ظاهراً في كلّ شيء، وأنت الظاهر لكل شيء.
يا من استوی برحمانيّته فصار العرش غيباً في ذاته، محقت الآثار بالآثار، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار.
يا من احتجب في سرادقات عرشه عن أن تدركه الأبصار، يا من تجلّی بكمال بهائه، فتحقّقت عظمته الاستواء، كيف تخفی وأنت الظاهر، أم كيف تغيب وأنت الرقيبُ الحاضر؟ إنّك علی كلّ شيء قدير، والحمدلله وحدَه(1).
وقال: اللّهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعُدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصّديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته وأنت وليّ كل نعمة وصاحب كلّ حسنة، ومنتهی كل رغبة(2).
اللّهم من آوی إلی مأویً فأنت مأواي، ومن لجأ إلی ملجأ فأنت ملجأي، اللّهم صلّ علی محمّد وآله، واسمع نداي، وأجب دعاي، واجعل عندك مَئَابي ومثواي، واحرسني في بلواي من افتنان الامتحان، ولمّة الشيطان
ص: 140
بعظمتك التي لايشوبها ولع نفس بتفتين، ولا وارد طيف بتظنين، ولا يلمّ بها فرج حتی تقلّبني إليك بإرادتك غير ظنين ولا مظنون، ولا مراب، ولا مرتاب، إنّك أرحم الراحمين(1).
يا من شأنه الكفاية، وسرادقه الرعاية، يا من هو الغاية والنّهاية، يا صارف السوء والسواية والضَّرّ، اصرف عنّي أذيّة العالمين من الجن والإنس أجمعين بالأشباح النّورانية وبالأسماء السُريانيّة، وبالأقلام اليونانيّة وبالكلمات العبرانيّة وبما نزل في الألواح من يقين الإيضاح، اجعلني اللّهم في حزبك وفي حرزك، وفي عياذك وفي سترك، وفي حفظك وفي كنفك، من شرّ كلّ شيطان مارد، وعدّو راصد، ولئيم معاند، وضدٍّ كَيُود، ومن كلّ حاسد ببسم اللّه استشفيت، وبسم اللّه استكفيت، وعلی اللّه توكلت وبه استعنت وإليه استعديت علی كلّ ظالم ظلم، وغاشم غشم، وطارق طرق، وزاجر زجر، فاللّه خير حافظاً وهو أرحم الراحمين(2).
اللّهم منك البداء، ولك المشيّة، ولك الحول، ولك القوّة وأنت اللّه الذي لا إله إلا أنت، جعلت قلوب أوليائك مسكناً لمشيّتك ومَكمَناً لإرادتك، وجعلت عقولهم مناصب أوامرك ونواهيك، فأنت إذا شئت ما تشاء حرّكت
ص: 141
من أسرارهم كوامن ما أبطنت فيهم، وأبدأت من إرادتك علی ألسنتهم ما أفهمتهم به عنك في عقودهم بعقول تدعوك، وتدعو إليك بحقائق ما منحتهم وإنّي لاعلم ممّا علّمتني ممّا أنت، المشكور علی ما منه أريتني وإليه آويتني.
اللّهم وإنّي مع ذلك كلّه عائذ بك، لائذ بحولك وقوّتك، راض بحكمك الذي سقته إليّ في علمك، جار بحيث أجريتني، قاصد ممّا أمّمتني، غير ضنين بنفسي فيما يرضيك عنّي إذ به قد رضيتني، ولا قاصر بجهدي عمّا إليه ندبتني، مسارع لما عرّفتني، شارع فيما أشرعتني مستبصرٌ ما بصّرتني، مراع ما أرعيتني، ولا تخلني من رعايتك، ولا تخرجني من عنايتك، ولا تقعدني عن حولك، ولاتخرجني عن مقصدٍ أنال به إرادتك، واجعل علی البصيرة مدرجي وعلی الهداية محجتي، وعلی الرشاد مسلكي، حتی تنيلني وتنيل بي أمنّيتي وتحلّ بي علی ما به أردتني وله خلقتني وإليه آويتني، وأعذ أوليائك من الافتنان بي وفتّنهم برحمتك لرحمتك في نقمتك تفتين الاجتباء والاستخلاص بسلوك طريقتي، واتّباع منهجي، وألحقني بالصالحين من آبائي، وذوي رحمي(1).
اللّهم إنّي أسألك توفيق أهل الهدی، وأعمال أهل التقوی، ومناصحة أهل التوبة، وعزم أهل الصّبر، وحذر أهل الخشية، وطلب أهل العلم، وزينة أهل الورع، وحذر أهل الجزع.
ص: 142
حتی أخافك اللّهم مخافة تحجزني عن معاصيك وحتی أعمل بطاعتك عملاً استحقّ به كرامتك، وحتی أناصحك في التوبة خوفاً لك، وحتی أخلص لك في النصيحة حبّاً لك، وحتی أتوكل عليك في الأمور حسن ظنّ بك، سبحان خالق النّور، وسبحان لله العظيم وبحمده(1).
اللّهم اسقنا سقياً واسعة، وادعة عامّة نافعة غير ضارة تعمّ بها حاضرنا وبادينا، وتزيد بها في رزقنا وشكرنا. اللّهم اجعله رزق إيمان وعطاء إيمان، إنّ عطائك لم يكن محظوراً، اللّهم أنزل علينا في أرضنا سكنها، وأنبت فيها زينتها ومرعاها(2).
لما جاء أهل الكوفة إلی الإمام علي (عليه السلام) ، فشكوا إليه إمساك المطر، وقالوا له: استق لنا، فقال للإمام الحسين (عليه السلام) : قم واستق! فقام (عليه السلام) وحمد اللّه وأثنی عليه وصلى علی النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال:
اللّهم معطي الخيرات، ومنزل البركات، أرسل السماء علينا مدراراً، واسقنا غيثاً مغزاراً واسعاً غدقاً مجلّلاً سحّاً سفوحاً ثجاجاً، تنفّس به الضعف من عبادك، وتحيي به الميت من بلادك، آمّين ربّ العالمين(3).
ص: 143
كلمات إذا قلتهن ما أبالي عمّن اجتمع عليّ من الجن والإنس:
بسم اللّه وباللّه، وإلی اللّه، وفي سبيل اللّه، وعلی ملّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، اللّهم اكفني بقوتك وحولك وقدرتك شرّ كل مُغتَال، وكيد الفجار، فإني أحبّ الأبرار، وأوالي الأخيار وصلی اللّه علی محمّد النبي وآله وسلم(1).
ص: 144
ص: 145
ص: 146
وذلك لما خطب الناس علی منبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذكر في خطبته أنه أولی بالمؤمنين من أنفسهم، فقال (عليه السلام) له من ناحية المسجد:
إنزل أيّها الكذّاب عن منبر أبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لامنبر أبيك.
فقال له: فمنبر أبيك لعمري يا حسين، لامنبر أبي، من علّمك هذا؟ أبوك علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟ فقال له:
إن اطع أبي فيما أمرني، فلعمري إنّها لهادٍ، وأنا مهتدٍ به، وله في رقاب الناس البيعة علی عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نزل بها جبرئيل من عند اللّه تعالى، لاينكرها إلا جاحد بالكتاب، قد عرفها الناس بقلوبهم، وأنكروها بألسنتهم، وويل للمنكرين حقّنا أهل البيت، ماذا يلقاهم به محمّد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من إدامة الغضب وشدّة العذاب؟
فقال له عمر: يا حسين من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة اللّه، أمّرنا الناس فتأمّرنا ولو أمّروا أباك لأطعنا، فقال له (عليه السلام) :
يا ابن الخطّاب! فأيّ الناس أمّرك علی نفسه؟ قبل أن تؤمّر أبابكر علی نفسك، ليؤمّرك علی الناس بلا حجّة من نبيّ، ولارضى من آل محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فرضاكم كان لمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رضى ورضا أهله كان له سخطاً؟ أما واللّه لو أنّ للّسان مقالاً يطول تصديقه، وفعلاً يُعِينُهُ المؤمنون لما تخطأتَ رقاب آل
ص: 147
محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ترقی منبرهم، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزّل فيهم لاتعرف معجمه، ولا تدري تأويله، إلا سماع الأذان، المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك اللّه جزاءك، وسألك عمّا أحدثت سؤالاً حَفِيّاً(1).
وذلك لما قبض الإمام الحسن (عليه السلام) وضع علی سريره وانطلق به إلی مصلّی رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فصلی عليه، ثم حمل فأدخل المسجد، فلما أوقف علی قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بلغ عائشة الخبر، وقيل لها: إنّهم قد أقبلوا بالحسن بن عليّ ليدفن مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخرجت مبادرة علی بغل مسرج، فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجاً، فوقفت، فقالت: نحّو ابنكم عن بيتي، فإنّه لايدفن فيه شيء، ولا يهتك علی رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حجابه! قال (عليه السلام) لها:
قديماً هتكت أنت وأبوك حجابَ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأدخلت بيته من لايحبّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قربَه، وإنّ اللّه يسألك عن ذلك يا، عائشة إنّ أخي أمرني أن أقربه من أبيه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليحدث به عهداً، واعلمي أنّ أخي أعلم الناس باللّه ورسوله، وأعلم بتأويل كتابه، من أن يهتك علی رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ستره لأنّ اللّه تبارك وتعالی يقول: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}(2).
وقد أدخلت أنت بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرجال بغير اذنه، وقد قال اللّه
ص: 148
عزّوجلّ: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ}(1)، ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند أذُن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعاول، وقد قال اللّه عزّوجلّ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَٰتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ}(2) ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه علی رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقربهما منه، الأذی، ومارَعَياً من حقّه ما أمرهما اللّه به علی لسان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّ اللّه حرّم علی المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياء وتاللّه يا عائشة لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عند أبيه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جائزاً فيما بيننا وبين اللّه لعلمت إنّه سيدفن، وإن رغم مَعطِسُك.
ثم تكلّم محمّد بن الحنفية، وقال: (يا عائشة يوماً علی بغل ويوماً علی جمل فما تملكين نفسك، ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم).
قالت: يا ابن الحنفية هؤلاء الفواطم يتكلّمون فما كلامك؟ قال (عليه السلام) لها:
وأنت تُبعدين محمّداً من الفواطم؟ فواللّه لقد ولدته ثلاث فواطم، فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة ابن حجر بن معيص بن عامر(3).
أمّا بعد فقد بلغني كتابك، وتعييرك إيايّ، بأنّي تزوّجت مولاتي، وتركت
ص: 149
أكفّائي من قريش، فليس فوق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منتهی في شرف، ولا غاية في نسب، وإنّما كانت ملك يميني، خرجت عن يدي بأمر التمست فيه ثواب اللّه، ثم ارتجعتها علی سنّة نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد رفع اللّه بالإسلام الخسيسة، ووضع عنّا به النقيصة، فلا لوم علی امرئٍ مسلم، إلا في أمر مأثم، وإنّما اللّؤم لؤم الجاهليّة(1).
أمّا بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه تذكرا انه قد بلغك عنّي أمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات لايهدي لها، ولا يسدّد إليها إلا اللّه. وأمّا ماذكرت أنّه انتهى إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون، المشّاؤون بالنميم ما أريد لك حرباً، ولا عليك خلافاً، وأيم اللّه إنّي لخائف لله في ترك ذلك وما اظن اللّه راضياً بترك ذلك ولا عاذراً الإعذار فيه إليك وفي أوليائك القاسطين الملحدين، حزب الظلمة وأولياء الشياطين.
ألست القاتل أخا كندة والمصلّين العابدين، كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في اللّه لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم الأيمان المغلّظة، والمواثيق المؤكدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بإحنة في نفسك أولست قاتل عمروبن الحمق صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) العبد الصالح، الذي ابلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه؟ بعد ما أمّنته وأعطيته من عهود اللّه ومواثيقه، مالو اعطيته طائراً لنزل من رأس الجبل ثم قتلته جرأة على ربك واستخفافاً بذلك العهد؟!
ص: 150
أولست بمدّعي زياد بن سميّة المولود علی فراش عبيد ثقيف، فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)؟ فتركت سنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدیً من اللّه، ثم سلّطته علی أهل العراقين يقطّع أيدي المسلمين وارجلهم، ويسمل أعينهم، ويصلّبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك؟
أولست قاتل الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم علی دين عليّ (صلوات اللّه عليه)؟ فكتبت إليه أن أقتل كلّ من كان علی دين عليّ فقتلهم، ومثّل بهم بأمرك، ودين علي (عليه السلام) واللّه الذي كان يضرب عليه اباك ويضربك به جلست مجلسك الذي جلست، ولو لا ذلك لكان شرفك وشرف ابيك الرحلتين وقلت فيما قلت: اُنظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنّه قربة إلی اللّه، وإن تركته فإنّي استغفراللّه لذنبي، وأساله توفيقه لإرشاد أمري.
وقلت فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدالك فإنّي أرجو أن لايضرّني كيدك، وأن لايكون علی أحد أضرّ منه علی نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك وتحرّصت علی نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان، والعهود والمواثيق فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا.
فابشر يا معاوية! بالقصاص، واستيقن بالحساب واعلم أنّ لله تعالی كتاباً، لايغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وليس اللّه بناس لأخذك بالظنّة،
ص: 151
وقتلك أولياءه علی التّهم، ونفيك أولياءه من دورهم إلی دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب.
لا أعلمك إلا قد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغششت رعيّتك، وأخزيت أمانتك، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل، وأخفت الورع التّقيّ لأجلهم والسّلام(1).
لما قال مروان الإمام الحسين (عليه السلام) : لو لا فخركم بفاطمة (عليها السلام) بم كنتم تفتخرون علينا؟ فوثب (عليه السلام) وكان شديد القبضة، فقبض علی حلقه فعصره، ولوی عمامته علی عنقه حتی غشي عليه، ثم تركه وأقبل علی جماعة من قريش وقال:
اُنشدكم باللّه إلا صدّقتموني إن صدقت؟ أتعلمون أنّ في الأرض حبيبين كانا أحبّ إلی رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منّي ومن أخي، أو علی ظهر الأرض ابن بنت نبيٍّ غيري وغير أخي الحسن؟ قالوا: لا، قال: وإنّي لا أعلم أنّ في الأرض ملعون ابن ملعون اكثر من هذا وأبيه طريد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واللّه مابين جابلقا وجابلصا، ممّن ينتحل الإسلام أعدی لله ولرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولأهل بيته منك ومن أبيك إن كان، وعلامة قولي فيك إنّك إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبيك.
قال الراوي: فواللّه ماقام مروان من مجلسه حتی غضب فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه(2).
ص: 152
ومن خطبة له (عليه السلام) في منى
وقد جمع - من بني هاشم رجالهم ونساءهم مواليهم وشيعتهم ومن أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبنائهم، والتابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح أكثر من سبعمائة رجل ومن التابعين ونحو من مأئتي رجل...، فلما اجتمعوا قام خطيباً في سرادقة عامتهم.
فحمد اللّه وأثنی عليه، ثم قال:
أمّا بعد: فإنّ هذا الطّاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإنّي أريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبت فكذّبوني، وأسألكم بحقّ اللّه عليكم، وحقّ رسول اللّه وحق قرابتي من نبيكم، لمّا سترتم مقامي هذا، ووصفتم مقالتي، ودعوتم أجمعين في أنصاركم من قبائلكم من أمنتم من الناس.
«وفي رواية أخری»: «بعد قوله: وإن كذبت فكذبوني»:
اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي، ثم ارجعوا إلی أمصاركم وقبائلكم، فمن ائتمنتم من الناس ووثقتم به، فادعوهم إلی ما تعلمون من حقّنا، فإنّي أتخوّف أن يدرس هذا الأمر، ويذهب الحقّ ويغلب {وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦوَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ}(1).
«قال الراوي»: وما ترك شيئاً ممّا أنزل اللّه فيهم من القرآن إلا تلاه وفسّره، ولا شيئاً ممّا قاله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أبيه وأخيه وأمّه وفي نفسه وأهل بيته إلا
ص: 153
رواه، وكل ذلك يقول أصحابه: اللّهم نعم وقد سمعنا وشهدنا، ويقول التابعي: اللّهم قد حدّثني به من أصدّقه وأئتمنه من الصحابة. فقال:
أنشدكم اللّه إلا حدّثتم به من تثقون به وبدينه.
«قال سليم»: فكان فيما ناشدهم الحسين (عليه السلام) وذكرهم أن قال:
1- «أنشدكم اللّه، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخاً لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين آخی بين أصحابه، فآخی بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا: اللّهمّ نعم.
2- قال: أنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اشتری موضع مسجده ومنازله، فابتناه، ثم ابتنی فيه عشرة منازل: تسعة له، وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثم سدّ كلّ باب شارع إلی المسجد غير بابه، فتكلّم في ذلك من تكلّم، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ اللّه أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه؟
3- ثم نهی الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يجنّب في المسجد، ومنزله في منزل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فولد لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وله فيه أولاد؟ قالوا: اللّهم نعم(1).
4- قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حرص علی كوّة قدر عينه، يدعها من منزله إلی المسجد فأبی عليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم خطب، فقال: إنّ اللّه أمرنی أن ابني مسجداً طاهراً، لايسكنه غيري وغير أخي وابنيه؟ قالوا: اللّهم نعم.
5- قال: أنشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبّه يوم غدير خمّ،
ص: 154
فنادی له بالولاية وقال: ليبلّغ الشاهد الغائب؟ قالوا: اللّهم نعم.
6- قال: أنشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال له في غزوة تبوك: أنت منّي بمنزلة هارون من موسی، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا: اللّهم نعم.
7- قال: أنشدكم اللّه أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين دعا النصاری من أهل نجران إلی المباهلة، لم يأت إلا به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا: اللّهم نعم.
8- قال: أنشدكم اللّه، أتعلمون أنّه دفع إليه اللّواء يوم خيبر ثم قال: لأدفعه إلی رجل يحبّه اللّه ورسوله، ويحب اللّه ورسوله، كرّار غير فرّار يفتحها اللّه علی يديه؟ قالوا: اللّهم نعم.
9- قال: أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعثه ببراءة وقال: لايبلغ عنّي إلا أنا أو رجل منّي؟ قالوا: اللّهم نعم.
10- قال: أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تنزل به شدّة قطّ إلا قدّمه لها ثقةً به.
11- وأنّه لم يدعه باسمه قطّ إلا يقول: يا أخي وادعوا لي أخي؟ قالوا: اللّهم نعم.
12- قال: أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قضی بينه وبين جعفر وزيد، فقال: يا عليّ أنت منّي وأنا منك، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي.؟ قالوا: اللّهم نعم.
13- قال: أتعلمون أنّه كانت له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كلّ يوم خلوةٌ وكلّ ليلة دخلةٌ، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت ابداه؟ قالوا: اللّهم نعم.
14- قال: أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضّله علی جعفر وحمزة حين قال لفاطمة عليها السّلام: زوجتك خير أهل بيتي، أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟ قالوا: اللّهم نعم.
ص: 155
15- قال: أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أنا سيد ولد آدم (عليه السلام) وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيدة نساء اهل الجنّة، والحسن والحسين ابناي سيدا شباب أهل الجنّة؟ قالوا: اللّهم نعم.
16- قال: أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمره بغسله وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا: اللّهم نعم.
17- قال: أتعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في آخر خطبة خطبها: «إنّي تركت فيكم الثّقلين: كتاب اللّه وأهل بيتي، فتمسّكوا بهما لن تظلّوا»؟ قالوا: اللّهم نعم.
فلم يدع شيئاً أنزله اللّه في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا علی لسان نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا ناشدهم فيه، فيقول الصحابة: اللّهم نعم قد سمعنا، ويقول التابع: اللّهم نعم قد حدّثنيه من أثق به فلان وفلان.
18- ثم ناشدهم إنّهم قد سمعوه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «من زعم أنّه يحبّني ويبغض علياً فقد كذب، ليس يحبّني ويبغض علياً، فقال له قائل: يا رسول اللّه وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منه، من أحبّه فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض اللّه؟ فقالوا: اللّهم نعم قد سمعنا».
وتفرّقوا علی ذلك(1).
مرّ الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) ، علی عبداللّه بن عمرو بن العاص، فقال
ص: 156
عبد اللّه: من أحب أن ينظر إلی أحبّ أهل الأرض إلی أ هل السماء، فلينظر إلی هذا المجتاز، وما كلّمته منذ ليالي صفين، فأتی به أبو سعيد الخدري إلی الحسين (عليه السلام) ، فقال الحسين (عليه السلام) : أتعلم أنّی أحبّ أهل الأرض إلی أهل السماء، وتقاتلني وأبي يوم صفين، واللّه إنّ أبي لخير منّي فاستعذر، وقال: إنّ النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لي: أطع أباك، فقال له الحسين (عليه السلام) : إنّما الطاعة في المعروف، لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق(1).
أنا ابن ماء السماء وعروق الثری، أنا بن من ساد أهل الدنيا بالحسب الثاقب والشرف الفائق والقديم السابق، أنا بن من رضاه من رضی الرحمن وسخطه سخط الرحمن.
ثم ردّ وجهه للخصم، فقال: هل لك أب كأبي، أو قديم كقديمي، فإن قلت: لا، تغلب، وإنت قلت: نعم، تكذب، فقال الخصم: لا، تصديقاً لقولك، فقال الحسين (عليه السلام) : أبلج لايزيغ سبيله والحق يعرفه ذوو الألباب(2).
كتب معاوية بن أبي سفيان إلی مروان، وهو عامله علی الحجاز، يأمره أن يخطب أمّ كلثوم، بنت عبداللّه بن جعفر، لابنه يزيد، فأتی عبداللّه بن جعفر، فأخبره بذلك، فقال عبداللّه: إنّ أمرها ليس إلي، إنّما هو إلی سيدنا الحسين (عليه السلام) وهو خالها، فأخبر الحسين بذلك، فقال: أستخير اللّه تعالی،
ص: 157
اللّهم وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد، فلما اجتماع الناس في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أقبل مروان حتی جلس إلی الحسين (عليه السلام) ، وعنده من الجلّة، وقال: إنّ أمير المؤمنين أمرني بذلك (أي أخطب أمّ كلثوم ليزيد) وأن أجعل مهرها حكم أبيها، بالغاً مابلغ، مع صلح مابين هذين الحيين، مع قضاء دينه، وأعلم أنّ من يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم والعجب كيف يستمهر يزيد، وهو كفو من لا كفو له، وبوجهه يستسقی الغمام فرد خيراً يا أبا عبداللّه، فقال الحسين (عليه السلام) : الحمدلله اختارنا الذي لنفسه وارتضانا لدينه واصطفانا علی خلقه... .
ثم قال: يا مروان قد قلت فسمعنا، أمّا قولك: مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، فلعمري لوأردنا ذلك، ما عدونا سنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بناته ونسائه وأهل بيته، وهو ثنتا عشرة أوقية يكون أربعمأة وثمانين درهماً.
أمّا قولك: مع قضاء دين أبيها، فمتی كن نسائنا يقضين عنّا ديوننا، وأمّا صلح مابين هذه الحيين: فإنّا قوم عاديناكم في اللّه، ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلعمري فلقد أعيا النسب فكيف السبب.
وأمّا قولك: العجب ليزيد كيف يستمهر، فقد استمهر من هو خير من يزيد، ومن أبي يزيد ومن جدّ يزيد، وأمّا قولك: أنّ يزيد كفؤ من لا كفؤ له، فمن كان كفوه قبل اليوم، فهو كفوه اليوم، مازادته أمارتهٌ في الكفائة شيئاً.
وأمّا قولك: بوجهه يستسقي الغمام، فإنّما كان بوجه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأمّا قولك: من يغبطنا به أكثر ممن يغبطه بنا، فإنّما يغبطنا به أهل الجهل، ويغبطه بنا أهل العقل.
ثم قال بعد كلام: فاشهدوا جميعاً، أنّي قد زوّجت أمّ كلثوم بنت عبداللّه
ص: 158
بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر، علی أربعمأة وثمانين درهماً، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة، أو قال: أرضي بالعقيق، وأنّ غلتها في السنّة ثمانية آلاف دينار، ففيها لهما غنی، إن شاء اللّه، قال: فتغيّر وجه مروان، وقال: غدراً يا بني هاشم، تأبون إلا العداوة فذكره الحسين (عليه السلام) خطبة الحسن، عائشة وفعله، ثم قال: فأين موضع الغدر يا مروان، فقال مروان:
أردنا صهركم لنجد وداً***قد أخلقه به حدثُ الزمان
فلما جئتكم فجبهتموني***و بحتم بالضمير من الشنان
فأجابه ذكوان مولی بني هاشم:
أماط اللّه منهم كل رجس***و طهرهم بذلك في المثاني
فمالهم، سواهم من نظير***ولا كفو هناك ولا مداني
أتجعل كل جبار عنيد***إلی الأخيار من أهل الجنان
ثم إنه كان الحسين (عليه السلام) تزوّج بعايشة بنت عثمان(1).
ص: 159
ص: 160
ص: 161
ص: 162
وقال (عليه السلام) : البخيل من بخل بالسّلام(1).
قال رجل: إنّ المعروف إذا أسدي إلی غير أهله ضاع.
فقال (عليه السلام) : ليس كذلك، ولكن تكون الصّنيعة مثل وابل المطر، فتصيب البّر والفاجر(2).
وقال (عليه السلام) لرجل إغتاب عنده رجلاً:
يا هذا كفّ عن الغيبة فإنّها إدام كلاب النار(3).
وقال (عليه السلام) : من أحجم عن الرأي وعييت به الحيل كان الرفق مفتاحه(4).
وقال (عليه السلام) : لو لا التقية ما عرف ولينا من عدّونا، ولولا معرفة حقوق الإخوان، ما عرف من السيئات شيء إلاّ عوقب علی جميعها لكنّ اللّه عزّوجلّ يقول: {وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن
ص: 164
يا أيّها الناس نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوا، واكسبوا الحمد بالنجح، ولا تكتسبوا بالمطل ذمّاً، فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة له، رأی أنّه لايقوم بشكرها، فاللّه له بمكافاته، فإنّه أجزل عطاء، وأعظم أجراً.
واعلموا أنّ حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عليكم، فلا تملّوا النعم فتحور نقماً.
واعلموا أنّ المعروف مكسب حمداً، ومعقب أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً، رأيتموه حسناً جميلاً، يسر الناظرين، ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجاً مشوّها، تنفر منه القلوب، وتغص دونه الأبصار.
أيّها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذُل، وإنّ أجود الناس من أعطی من لايرجوه، وإنّ أعفی الناس من عفی عن قدرة، وإنّ أوصل الناس من وصل من قطعه، والأصول علی مغارسها بفروعها تسمو، فمن تعجّل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً، ومن أراد اللّه تبارك وتعالی بالصنيعة إلی أخيه، كافاه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه، ومن نفّس كربة مؤمن فرّج اللّه عنه كرب الدنيا والآخرة، ومن أحسن أحسن اللّه إليه واللّه يحبّ المحسنين(3).
ص: 165
روي أنّ رجلاً قال له (عليه السلام) : أجلس حتی نتناظر في الدين!
فقال (عليه السلام) : يا هذا أنا بصير بديني، مكشوف عليّ هداي فإن كنت جاهلاً بدينك فاذهب فاطلبه، مالي وللمماراة، وإنّ الشيطان ليوسوس للرّجل ويناجيه، ويقول: ناظر النّاس في الدين، لئلا يظنّوا بك العجز والجهل، ثم المراء لايخلو من أربعة أوجه، إمّا أن تتماری أنت وصاحبك فيماتعلمان، فقد تركتما بذلك النّصيحة، وطلبتما الفضيحة، وأضعتما ذلك العلم، أو تجهلانه فأظهرتما جهلاً وخاصمتما جهلاً، وإمّا تعلمه أنت فظلمت صاحبك بطلبك عثرته، أو يعلمه صاحبك فتركت حرمته، ولم تنزله منزلته، وهذا كلّه محال، فمن أنصف وقبل الحقّ، وترك المماراة فقد أوثق إيمانه وأحسن صحبة دينه، وصان عقله(1).
وقال (عليه السلام) يوماً لابن عباس: لاتتكلّمنّ فيما لايعنيك فإنّي أخاف عليك الوزر، ولا تتكلّمنّ فيما يعنيك حتی تری للكلام موضعاً، فربّ متكلّم بالحقّ فعيب، ولا تمارين حليماً ولا سفيها، فإنّ الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك، ولا تقولنّ في أخيك المؤمن إذا تواری عنك إلا ماتحبّ أن يقول فيك إذا تواريت عنه، واعمل عمل رجل يعلم أنّه مأخوذ بالإجرام، مجزيٌ بالإحسان والسّلام!(2)
ص: 166
وقال (عليه السلام) : احذروا كثرة الحلف، فإنّه يحلف الرجل لخلال أربع: إمّا لمهانة يجدها في نفسه، تحثّه علی الضّراعة إلی تصديق الناس إيّاه، وإمّا لعي في المنطق، فيتخذ الإيمان حشواً وصلةً لكلامه، وإمّا لتهمةٍ عرفها من الناس له، فيری أنّهم لايقبلون قوله إلا باليمين، وإمّا لارساله لسانه من غير تثبيتٍ(1).
وقال (عليه السلام) : إذا كان يوم القيامة، نادی منادٍ: أيها النّاس من كان له علی اللّه أجر فليقم! فلا يقوم إلا أهل المعروف!(2)
القدرة تذهب الحفيظة(1).
اصبر علی ماتكره فيما يلزمك الحقّ، واصبر عمّا تحبّ فيما يدعوك إلی الهدی(2).
قيل له (عليه السلام) : من أعظم الناس قدراً؟
فقال (عليه السلام) :من لم يبال الدّنيا في يدي من كانت!!(3).
قيل: سأل أمير المؤمنين ابنه الحسين، فقال: يابني ما السؤدد؟
فقال (عليه السلام) : اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة.
قال: فما الغنی؟
قال: قلّة أمانيك، والرّضا بما يكفيك.
قال: فما الفقر؟
قال: الطّمع وشدّة القنوط.
قال: فما اللؤم؟
قال: احراز المرء نفسه، واسلامه عِرسه.
ص: 168
قال: فما الخُرق؟
قال: معاداتك أميرك، ومن يقدر علی ضرّك ونفعك.
ثم التفت إلی الحارث الأعور، فقال: يا حارث علّموا هذه الحكم أولادكم فإنّها زيادة في العقل والحزم والرأي(1).
مالك إن لم يكن لك كنت له، فلاتبق عليه فإنّه لايبقی عليك، وكُلهُ قبل أن يأكلك(1).
كتب (عليه السلام) لرجل من اهل الكوفة بعد ماكتب إليه: يا سيدي أخبرني بخير الدّنيا والآخرة.
بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد فإنّ من طلب رضى اللّه بسخط الناس، كفاه اللّه أمور الناس، ومن طلب رضى بسخط اللّه وكلّه اللّه إلی الناس، والسّلام(2).
كتب (عليه السلام) لرجل مجيباً عن سؤال كتبه اليه.
من حاول أمراً بمعصية اللّه، كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء مايحذر(3).
جاء رجل من الأنصار يريد أن يسأله حاجة.
فقال (عليه السلام) : يا أخا الأنصار صن وجهك عن بذلةٍ في المسألة وارفع حاجتك في رقعةٍ فإنّي آتٍ فيها ما سرّك إن شاء اللّه.
ص: 170
فكتب إليه: يا أبا عبداللّه إنّ لفلان عليّ خمسمائة دينار وقد ألح بي فكلّمه ينظرني إلی ميسرة.
فلمّا قرأ (عليه السلام) الرقعة دخل إلی منزله، فأخرج منها صرّة فيها ألف دينار، قال (عليه السلام) : أمّا خمسمائة فاقض بها دينك، وأمّا خمسمائة فاستعن بها علی دهرك، ولا ترفع حاجتك إلاّ إلی أحد ثلاثةٍ: إلی ذي دين أو مروّةٍ أو حسبٍ، أمّا ذو الدين فيصون دينه، وأمّا ذو المروّة فإنّه يستحيي لمروّته، وأمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهك أن تبذل له في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك(1).
فأمر (عليه السلام) له بمائة دينار(1).
قال له رجل ابتداءاً: كيف أنت عافاك اللّه؟
فقال (عليه السلام) : السّلام قبل الكلام عافاك اللّه.
ثم قال (عليه السلام) : لا تأذنوا لأحدٍ حتی يسلّم(2).
صاحب الحاجة لم يكرم وجهه عن سؤالك فأكرم وجهك عن ردّه(3).
سئل (عليه السلام) عن معنی قول اللّه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(4).
فقال (عليه السلام) : أمره أن يحدّث بما أنعم اللّه به عليه في دينه(5).
شرّ خصال الملوك: الجبن من الأعداء، والقسوة علی الضعفاء، والبخل عن الإعطاء(6).
إيّاك وما تعتذر منه فإنّ المؤمن لا يسيء ولا يعتذر، والمنافق كل يوم
ص: 172
يسيء ويعتذر(1).
قيل له (عليه السلام) : ما أعظم خوفك من ربّك؟
فقال (عليه السلام) : لا يأمن يوم القيامة إلاّ من قد خاف اللّه في الدنيا(1).
أوصيكم بتقوی اللّه، وأحذركم أيّامه، وأرفع لكم أعلامه، فكان المخوف قد أفد بمهول، وروده ونكير حلوله وبشع مذاقه فاعتلق مهجكم وحال بين العمل وبينكم، فبادروا بصحّة الأجسام في مدّة الأعمار، كأنكم ببغتات طوارقه فتنقلكم من ظهر الأرض إلی بطنها، ومن علّوها إلی أسفلها، ومن أنسها إلی وحشتها، ومن روحها وضوئها إلی ظلمتها، ومن سعتها إلی ضيقها، حيث لايزار حميم، ولا يعاد سقيم، ولا يجاب صريخ، أعاننا اللّه وإيّاكم علی أهوال ذلك اليوم، ونجّانا وإياكم من عقابه، وأوجب لنا ولكم الجزيل من ثوابه، عباد اللّه! فلو كان ذلك قصر مَرمَاكم، ومدی مظعنكم كان حسب العالم شُغُلاً يستفرغ عليه أحزانه، ويذهله عن دنياه، ويكثر نصيبه لطلب الخلاص منه، فكيف وهو بعد ذلك مرتهن باكتسابه مستوقف علی حسابه لا وزير له يمنعه ولا ظهير عنه يدفعه ويومئذٍ: {لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًاۗ قُلِ ٱنتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ}(2) أوصيكم بتقوی اللّه، فإنّ اللّه قد ضَمِنَ لمن اتّقاه، أن يحوّله
ص: 174
عمّا يكره إلی ما يحبّ {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(1) فإيّاك أن تكون ممّن يخاف علی العباد من ذنوبهم، ويأمن العقوبة من ذنبه فإنّ اللّه تبارك وتعالی لايخدع ولا ينال ما عنده إلاّ بطاعته إن شاء اللّه(2).
يا ابن آدم تفكر، وقل: أين ملوك الدنيا وأربابها، الّذين عمّروا خرابها واحتفروا أنهارها وغرسوا أشجارها ومدّنوا مدائنها فارقوها وهم كارهون، وورثها قومٌ آخرون، ونحن بهم عمّا قليل لاحقون.
يا ابن آدم! أذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعك وموقفك بين يدي اللّه تشهد جوارحك عليك يوم تزل فيه الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، وتبيّض وجوه وتسود وجوه وتبدو السرائر، ويوضع الميزان للقسط.
يا ابن آدم! أذكر مصارع آبائك وأبنائك كيف كانوا وحيث حلّوا؟ وكأنّك عن قليلٍ قد حللت محلّهم وصرت عبرة المعتبر.
و أنشد شعراً:
أين الملوك التي عن حفظها غفلت؟***حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
تلك المدائن في الآفاق خالية***عادت خراباً وذاق الموت بانيها
أموالنا لذوي الورّاث نجمعها***و دورنا لخراب الدهر نبنيها(3)
ص: 175
يابن آدم: إنّما أنت أيام، كلما مضی يوم ذهب بعضك(1).
وقال (عليه السلام) : مالك إن لم يكن لك، كنت له منفقاً، فلا تبقه بعدك فيكن ذخيرةً لغيرك، وتكون أنت المطالب به المأخوذ بحسابه، واعلم أنّك لاتبقی له، ولا يبقی عليك، فكُلُهُ قبل أن يأكلك(2).
وقال (عليه السلام) : دراسة العلم لقاح المعرفة، وطول التجارب زيادة في العقل، والشّرف والتقوی، والقنوع راحة الأبدان، من أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك(3).
قال له رجل: عظني يا ابن رسول اللّه! وأنا رجل عاص ولم أقدر علی ترك المعصية.
فقال (عليه السلام) : افعل خمسة أشياء واذنب ماشئت، فأوّل ذلك: لا تأكل رزق اللّه! واذنب ما شئت!، والثاني: اُخرج من ولاية اللّه واذنب ما شئت!، والثالث: اُطلب موضعاً لايراك اللّه! واذنب ما شئت!، والرابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك! واذنب ما شئت!، والخامس: إذا ادخلك
ص: 176
مالك في النار، فلا تدخل في النار! واذنب ما شئت!(1)
وقال (عليه السلام) : الأخوان أربعة: فأخ لك وله، وأخ لك، وأخ عليك، وأخ لا لك ولا له.
فسئل عن معنی ذلك، فقال (عليه السلام) :
الأخ الذي هو لك وله، فهو الأخ الذي يطلب بإخائه بقاء الإخاء، ولا يطلب بأخائه موت الإخاء فهذا لك وله، لأنّه إذا تمّ الإخاء طابت حياتهما جميعاً، وإذا دخل الإخاء في حال التناقض بطلا جميعاً، والأخ الذي هو لك، فهو الأخ الذي قد خرج بنفسه عن حال الطمع إلی حال الرغبة، فلم يطمع في الدنيا إذا رغب فی الإخاء، فهو مُوَفَرٌ عليك بكلّيته، والأخ الذي هو عليك فهو الأخ الذي يتربّص بك الدّوائر ويفشي السرائر، ويكذّب عليك بين العشائر، وينظر في وجهك نظر الحاسد، فعليه لعنة الواحد، والأخ الذي لا لك ولا له فهو الذي قد ملأه اللّه حمقاً فأبعده سحقاً، فتراه يؤثر نفسه عليك ويطلب شحّاً ما لديك(2).
وقال (عليه السلام) : إنّ المؤمن اتّخذ اللّه عصمته وقوله مرآته، فمرّةً ينظر في نعت المؤمنين، وتارةً ينظر في وصف المتجبّرين فهو منه في لطائف، ومن نفسه في تعارف، ومن فطنته في يقين، ومن قدسه علی تمكين(3).
ص: 177
قال له رجل: بنيت داراً أحبّ أن تدخلها وتدعو اللّه؛ فدخلها فنظر إليها،
ثم قال (عليه السلام) : أخربت دارك، وعمّرت دار غيرك، عزّك من في الأرض، ومقتك من في السماء(1).
قيل له: كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟
فقال (عليه السلام) : أصبحت ولي ربّ فوقي، والنّار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحبّ، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذّبني، وإن شاء عفا عنّي، فأيّ فقير أفقر منّي؟(2)
ص: 179
ص: 180
يا رب يا رب أنت مولاه***فارحم عبيداً إليك ملجاه
يا ذا المعالي عليك معتمدی***طوبی لمن كنت أنت مولاه
طوبی لمن كان خائفاً أرقاً***يشكوا إلی ذي الجلال بلواه
وما به علّة ولا سقم***أكثر من حبّه لمولاه
إذا اشتكی بثّه وغصته***أجابه اللّه ثم لبّاه
إذا ابتُلِيَ بالظلام مبتهلاً***أكرمه اللّه ثم أدناه
فنودي (عليه السلام) بهذه الأبيات
لبّيك لبّيك أنت في كنفي***وكلّما قلت قد علمناه
صوتك تشتاقه ملائكتي***فحسبك الصوت قد سمعناه
دعاك عندي يجول في حجب***فحسبك الستر قد سفرناه
لو هبّت الريح في جوانه***خرّ صريعاً لما تغشاه
سلني بلا رغبة ولا رهب***ولا حساب إني أنا اللّه
و في المناقب، عن كتاب عيون المجالس، أنّه (عليه السلام) ساير أنس بن مالك.
فأتی قبر خديجة، فبكی ثم قال: اذهب، قال أنس: فاستخفيت عنه، فلما طال وقوفه في الصلاة، سمعته قائلاً: يا رب إلی آخر المناجاة، فنودی لبّيك لبيك إلی آخر ما تقدّم(1).
ص: 181
إذا ماعضك الدهر فلا تجنح إلی خلق***ولا تسئل سوی اللّه تعالی قاسم الرزق
فلو عشت وطوفت من الغرب إلی الشرق***لما صادفت من يقدر أن يسعد أو يشقي(1)
أين الملوك التي عن حفظها غفلت***حتی سقاها بكأس الموت ساقيها
تلك المدائن في الآفاق خالية***عادت خراباً وذاق الموت بانيها
أموالنا لذوي الورّاث نجمعها***و دورنا لخراب الدهر نبنيها(2)
ناديت سكان القبور فاسكتوا***فأجابني عن صمتهم ندب الجثا
قالت: أتدري ما صنعت بساكني***مزقت لحمهم وخرقت الكسا
وحشوت أعينهم تراباً بعدما***كانت تباينت المناصل والشوا
قطعت ذا من ذا، ومن هذا كذا***فتركتها ومما يطول بها البلا(3)
مضی أمسك الماضي شهيداً معدلاً***و خلفت في يوم عليك شهيد
فإن أنت بالأمس اقترفت إساءة***فقيّد بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير يوماً إلی غد***لعل غداً يأتي وأنت فقيد(4)
ص: 182
يا أهل لذّة دنيا لابقاء لها***إنّ اغتراراً بظل زائل حمق(1)
ما يحفظ اللّه يصن***ما يصنع اللّه يهن
من يسعد اللّه يلن***له الزمان أن خشن
أخي اعتبر لا تغترر***كيف تری صرف الزمن
يجزي بما أوتي من***فعل قبيح أو حسن
أفلح عبد كشف***الغطاء عنه ففطن
وقرّ عيناً من رأی***إنّ البلاء في اللسن
فماز، من ألفاظه***في كلّ وقت ووزن
وخاف من لسانه***عزباً حديداً فحزن
و من يك معتصماً***باللّه ذي العرش فلن
يضرّه شيء ومن***يُعدي علی اللّه ومن
من يأمن اللّه يخف***وخائف اللّه أمن
و ما لما يثمره ال***خوف من اللّه ثمن
يا عالم السر كما***يعلم حقّاً ما علن
صل علی جدّي أبي***القاسم ذي النور المبن
أكرم من حي ومن***لفف ميتاً في الكفن
وامنن علينا بالرضا***فأنت أهل للمنن
واعفنا في ديننا***من كل خسر وغبن
ما خاب من خاب كمن***يوماً إلی الدنيا ركن
ص: 183
طوبی لعبد كشفت***عنه غيابات الوسن
والموعد اللّه وما***يقض به اللّه مكن(1)
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها***علی الناس طراً قبل أن تتفلت
فلا الجود يفنيها إذهي أقبلت***ولا البخل يبقيها إذا ما تولت
قاله، لما علم عبدالرحمن السامي ولده، سورة الحمد، فلما قرأها علی أبيه، أعطاه (أي: المعلم) ألف دينار، وألف حلّة، وحشا فاه دراً، فقيل له في ذلك، قال (عليه السلام) : وأين يقع هذا من عطائه، يعني تعليمه، ثم أنشد الشعر، إذا جادت الدنيا، إلی آخره(2).
قدم أعرابي المدينة، فسأل عن أكرم الناس، فدلّ علی الإمام الحسين (عليه السلام) ، فدخل المسجد، فوجده مصلياً فوقف بإزائه وأنشأ:
لم يخب الآن من رجاك ومن***حرّك من دون بابك الحلقة
أنت جواد وأنت معتمد***أبوك قد كان قاتل الفسقة
لو لا الذي كان من أوائلكم***كانت علينا الجحيم منطبقة
فسلّم الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: يا قنبر، هل بقي شيء من مال الحجاز؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فقال (عليه السلام) : هاتها، قد جاء من هو أحقّ بها منّا، ثمّ نزع برديه، ولف الدنانير فيها، وأخرج يده من شق الباب، حياء من الأعرابي، وأنشأ (عليه السلام) :
ص: 184
خذها فإني إليك معتذر***واعلم بأنّي عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصا***أمست سماناً عليك مندفقة
لكن ديب الزمان ذو غير***والكف منّي قليلة النفقة
فأخذه الأعرابي، وبكی، فقال (عليه السلام) له: لعلك استقللت ما أعطيناك، قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك(1).
وروي أنّ الأعرابي أنشد تلك الأبيات بعد ما بكی:
مطهّرون نقيات ثيابهم***تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
وأنتم السادة الأعلون عندكم***علم الكتاب وما جاءت به السور
من لم يكن علوياً حين تنسبه***فما له في قديم الدهر مفتخر(2)
كلما زيد صاحب المال مالاً***زيد في همه وفي الاشتغال
قد عرفناك يا منغصة العيش***ويا دار كل فان وبال
ليس يصفو لزاهد طلب الزهد***اذا كان مثقلاً بالعيال(3)
لعمرك انني لأحب داراً***تحل لها سكينة والرباب
اُحبهما وأبذل جلّ مالي***و ليس للائم فيها عتاب
ص: 185
ولست لهم وإن عتبوا مطيعاً***حياتي أو يغيبني التراب(1)
قال محمد بن طلحة الشافعي: نُقل أنّ أعرابياً دخل المسجد، فوقف علی الإمام الحسن (عليه السلام) وحوله حلقة، فقال لبعض جلساء الحسن: من هذا الرجل؟ فقال له: الحسن بن عليّ بن أبي طالب: فقال الأعرابي: إيّاه أردت، فقال له: وما تصنع به يا أعرابي؟ فقال: بلغني أنهم يتكلّمون، فيعربون في كلامهم، وإنّي قطعت واديا وقفاراً، واودية وجبالاً، وجئت لا طارحه الكلام؛ وأسئله عن عويص العربية، فقال له جليس الحسن (عليه السلام) : ان كنت جئت لهذا، فأبدأ بذلك الشاب، وأومی إلی الإمام الحسين (عليه السلام) ، فوقف عليه وسلّم، فقال (عليه السلام) :
و ما حاجتك، فقال: جئتك من الهرقل والجعلل والأنيم ولهمم، فتبسّم الإمام الحسين (عليه السلام) وقال: يا أعرابي، لقد تكلّمت بكلام ما يعقله إلا العالمون، فقال الأعرابی: وأقول أكثر من هذا، فهل مجيبي علی قدر كلامي؟ فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) : قل ما شئت، فإنّي مجيبك، فقال الأعرابي: إنّي بدوي أكثر مقالي الشعر، وهو ديوان العرب فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) : قل ما شئت فإنّي مجيبك.
فأنشأ الأعرابي يقول:
هفا قلبي إلی اللّهو***وقد ودع شرخيه(2)
ص: 186
وقد كان انيقا***عصر تجراری ذيليه
عيالات ولذات***فيا سقيا لعصريه
فلما عمم الشيب***من الرأس نطاقيه
وأمسی قد عناني***منه تجديد خضابيه
تسليت عن اللّهو***وألقيت قناعيه
و في الدهر أعاجيب***لمن يلبس حاليه
فلو يعمل ذو رأي***أصيل فيه رأييه
لألفى عبرة منه***له في كرّ عصريه
ولما قال الأعرابي الأبيات، أجابه الإمام الحسين (عليه السلام) إرتجالاً فقال (عليه السلام) :
فما رسم شجاني قد***محت آيات رسميه
سفور درّجت ذيلين***في بوغاء(1) قاعيه
هتوف حرجف(2) تتری***علی تلبيد ثوبيه
وولاج(3) من المزن(4)***دنا نوء سماكيه
أتی مثعنجر(5) الودق***بجود من خلاليه
وقد أحمد برقاه***فلا - ذم لبرقيه
فقد جلل رعداه***فلا - ذم لرعديه
ثجيج الرعد ثجاج***إذا أرخی نطاقيه
فأضحی دارساً فقراً***لبينونة أهليه
ص: 187
فلما سمعها الأعرابي، قال: ما رأيت كاليوم قطّ مثل الغلام أعرب منه كلاماً، وادرب لساناً، وافصح منه منطقاً(1) فقال له الحسن (عليه السلام) :
هذا غلام كرّم الرحمن***بالتطهير جديه
كساه القمر القمقام***من نور سنائيه
ولو عدد طماح***نفحنا عن عداديه
وقد أرخيت من شعري***وقومت عروضيه(2)
سبقت العالمين إلی المعالي***بحسن خليقة وعلو همّة
ولاح بحكمتي نور الهدی في***ليال في الضلالة مدلهمة
يريد الجاحدون ليطفئوه***و يأبي اللّه إلا أن يتمّه(3)
من كان يبأى بجدّ***فإنّ جدّي الرسول
أو كان يبأى بأمّ***فإنّ اُمّي البتول
أو كان يبأى بزور***فزورنا جبرئيل
فنحن لم نبأ إلا***بما يطاع الجليل(4)
إذا استنصر المرء أمراً لايدي له***فناصره والخاذلون سواء
ص: 188
أنا ابن الذي قد تعلمون مكانه***و ليس علی الحقّ المبين طخاء(1)
أليس رسول اللّه جدّي ووالدي***أنا البدر، إن خلا النجوم خفاء
ألم ينزل القرآن خلف بيوتناً***صباحاً ومن بعد الصباح مساء
ينازعني واللّه بيني وبينه***يزيد وليس الأمر حيث يشاء
فيا نصحاء اللّه أنتم ولاته***وأنتم علی أديانه أمناء
بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة***تناولها عن أهلها البعداء(2)
أنا الحسين بن عليّ بن أبي***طالب البدر بأرض العرب
ألم تروا وتعلموا أنّ أبي***قاتل عمرو ومبير مرحب
ولم يزل قبل كشوف الكرب***مجلّياً ذلك عن وجه النبي
أليس من أعجب عجب العجب***أن يطلب الأبعد ميراث النبي
واللّه قد أوصى بحفظ الأقرب(3)
إذا المرء لايحمي بنيه وعرسه***وعشرته كان اللئيم المسببا
ومن دون ما نبغي يريد بنا غداً***يخوض بحار الموت شرقاً ومغرباً
ونضرب ضرباً كالحريق مقدماً***إذا ما رأی ضيغم فرّ مهرباً(1)
أنشأه لما خرج من المدينة، وركب الجادّة، فقال له ابن عمّه مسلم بن عقيل: يا ابن رسول اللّه لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادّة، كما فعل عبداللّه بن الزبير، كان عندي الرأي، أنّا نخاف ان يلحقنا الطريق الطلب، فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) : لا واللّه يابن العمّ لا فارقت هذا الطريق أبداً، أو أنظر أبيات مكة، ويقضي اللّه في ذلك ما يحب ويرضی؛ ثم أنشأ الشعر(2).
عن الفاضل النيشابوري في كتاب خلق الإنسان: أنّ الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) كان كثيراً ما ينشد تلك الأبيات تزعم الرواة أنّها ممّا أملته نفسه.
لئن كانت الأفعال يوماً لأهلها***كمالاً فحسن الخلق أبهی وأكمل(3)
وإن تكن الأرزق رزقاً مقدّراً***فقلّة جُهد المرء في الكسب أجمل
وإن تكن الدنيا تعد نفيسة***فدار ثواب اللّه أعلی وأنبل
وإن تكن الأبدان للموت اُنشأت***فقتل امريء بالسيف في اللّه أفضل(4)
وإن تكن الأموال للترك جمعها***فما بال متروك به المرء يبخل
ص: 190
سأمضي وما بالقتل عار علی الفتی***إذا في سبيل اللّه يمضي ويقتل(1)
عليكم سلام اللّه يا آل أحمد***فإني أراني عنكم سوف أرحل
وفي المناقب: لما نزل (عليه السلام) شقوق أتاه رجل فسأله عن العراق، فأخبره بحاله، فقال (عليه السلام) : إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء، ربّنا تبارك كل يوم هو في شأن، فإن نزل القضاء، فالحمد لله علی نعمائه، وهو المستعان علی أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء؛ فلم يبعد من كان الحقّ نفيه، ثم أنشد؛ وإن تكن الدنيا إلی آخره(2).
سأمضي وما بالموت عار علی الفتی***إذا مانوی حقّاً وجاهد مسلماً
وواسی الرجال الصالحين بنفسه***وفارق مذموماً وخالف مجرماً
أقدم نفسي لا اُريد بقائها***لنلقي خميساً في الوغى وعرمرما
فإن عشت لم اُذمم وإن متّ لم اُلم***كفی بك ذلّاً أن تعيش فترغما
روي أنه (عليه السلام) لما وصل إلی شطّ الفرات، سأل عن اسمه، قالوا كربلاء، فعند ذلك بكی وقال: هي دار أرض كرب وبلاء، وأمر بنصب الخيام، وجعل يصلح سيفه، ويقول:
أهل العراق مالكم خليل***وما بكم في جمعكم فضيل
والأمر في ذلكم جليل***وكل حيّ عنده سبيل
ص: 191
وقد قرب النقلة والرحيل
وكل شيء حوله دليل(1)
روي السيد ابن طاووس: انّ الإمام الحسين (عليه السلام) لمّا نزل بكربلاء جلس ناحية يصلح سيفه والحرّ في ناحية أ ُخری ويقول الأمام (عليه السلام) :
يا دهر اُف لك من خليل***كم لك بالإشراق والأصيل
من طالب وصاحب قتيل***والدهر لايقنع بالبديل
وكل حيّ سالك سبيلي***ما أقرب الوعد من الرحيل(2)
وإنّما الأمر إلی الجليل
منها ما أنشده في رثاء أخيه الإمام المسموم الحسن المجتبی (عليه السلام) ويظهر منه شدّة تأثّره وتألّمه من شهادة أخيه (عليهما السلام) :
أأدهن رأسي ام أطيب مجالسي***ورأسك معفور وأنت سليب
أو أستمتع الدنيا بشيء أحبّه***ألا كل ما أدنی إليك حبيب
فلا زلت أبكي ما تغنّت حمامة***عليك، وما هبت صبا وجنوب
وما هملت عيني من الدمع قطرة***وما أخضر في دوح الحجاز قضيب
بكائي طويل والدموع غزيرة***وأنت بعيد والمزار قريب
غريب وأ طراف البيوت تحوطه***ألا كل من تحت التراب غريب
ولا يفرح الباقي خلاف الذي مضی***وكل فتی للموت فيه نصيب
فليس حريب من اُصيب بماله***ولكن من واری أخاه حريب
ص: 192
نسيبك من أمسی يناجيك طرفه***وليس لمن تحت التراب نسيب(1)
إن لم أمت أسفاً عليك فقد***أصبحت مشتاقاً إلی الموت(2)
يا نكبات الدهر دولي دولي***واقصري إن شئت أو أطيلي
رميتني رمية لا مقيل***بكل خطب فادح جليل
وكل غيب أيد ثقيل***أول ما رزئت بالرسول
وبعد بالطاهرة البتول***والوالد البر بنا الوصول
وبالشقيق الحسن الجليل***والبيت ذي التأويل والتنزيل
وزورنا المعروف من جبرئيل***فما له في الزرء من عديل
مالك عنّي اليوم من عدول***وحسبي الرحمن من منيل(3)
ذهب الذين أ ُحبّهم***وبقيت فيمن لا أ ُحبّه
فيمن أراه يسبّني***ظهر المغيب ولا اُسبّه
يبغي فسادي ما استطاع***وأمره ممّا لا أدبه
حتفاً يدبّ إلی الضراء***وذاك ممّا لا أدبّه
ويری ذباب الشرّ من***حولي يطنّ ولا يذبّه
وإذاجنا وغر الصدور***فلا يزال به يشّبه
أفلا يعيج بعقله***أفلا يتوب إليه لبه
ص: 193
أفلا يری أنّ فعله***ممّا يسور إليه غبّه
حسبي بربّي كافياً***ما أختشی والبغي حسبه
ولقلّ من يُبغَى عليه***فما كفاه اللّه ربّه
تعديتم يا شرّ قوم ببغيكم***وخالفتم قول النبي محمد
أما كان خير الرسول وصاكم بنا***أما نحن من نسل النبي المسدد
أما كانت الزهراء أمي دونكم***أما كان من خير البرية أحمد
لعنتم واخزيتم بما قد جنيتم***فسوف تلاقوا حرّ نار توقد(1)
لنعم الحرّ حرّ بني رياح***صبور عند مختلف الرماح
ونعم الحرّ إذنادی حسيناً***فجاد بنفسه عند الصباح
فيا ربّي أضفه في جنان***و زوجه مع الحور الملاح(2)
ونعم الحّر في رهج(3) المنايا***إذالأبطال تخفق بالصفاح(4)
لقد فاز الذي نصروا حسيناً ***وفازوا بالهداية والصلاح(5)
غريبون عن أوطانهم وديارهم***تنوح عليهم في البراري وحوشها
وكيف لاتبكي العيون لمعشر***سيوف الأعادي في البراري تنوشها
ص: 194
بدور تواری نورها فتغيّرت***محاسنها ترب الفلاة تعوشها(1)
أنشدها، إتماماً للحجّة علی النّاس، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيي من حيّ عن بينة:
أبي عليّ وجدّي خاتم الرسل***والمرتضون لدين اللّه من قبلي
واللّه يعلم والقرآن ينطقه***أنّ الذي بيدي من ليس يملك لي
ما يرتجی بامرء لاقائل عذلاً***ولا يزيغ إلی قول ولا عمل
ولا يری خائفاً في سرّه وجلاً***ولا يُحاذر من هفو ولا زلل
يا ويح نفسي ممّن ليس يرحمها***أما له في كتاب اللّه من مثل
أماله في حديث الناس معتبر***عن العمالقة العادية الأول
يا أيّها الرجل المغبون شيمته***أنّي ورثت رسول اللّه عن رسل
اعتللت، وما في الدين من علل***أأنت أولی به من آله فبما تری(2)
قال الأربلي: وهي طويلة.
وكان يرتجز يوم عاشوراء، ويقول (عليه السلام) :(3)
الموت خير من ركوب العار***والعار خير من دخول النار
(واللّه من هذا وهذا)
روي أنّه (عليه السلام) حرك إليهم (عسكر يزيد) فرسه وسيفه مصلت في يده،
ص: 195
جاري وهو آيس من نفسه، وعاز علی الموت، أنشد الأبيات.
أنا بن عليّ الخير من آل هاشم***كفاني بهذا مفخراً حين أفخر
وجدّي رسول اللّه أكرم من مضى***فنحن سراج اللّه في الأرض نزهر
وفاطم أمّي من سلالة أحمد***وعمّي يُدعي ذوالجناحين جعفر
وفينا كتاب اللّه اُنزل صادعاً***وفينا الهدی والوحي بالخير يذكر
ونحن أمان اللّه في الخلق كلّهم***نسر بهذا في الأنام ونجهر
ونحن ولاة الحوض نسقي محبنا***بكأس رسول اللّه ما ليس ينكر
وشيعتنا فيا في القيام محبنا***ومبغضنا يوم القيامة يخسر(1)
فطوبی لعبد زارنا بعد موتنا***بجنة عدن صفوها لا يكدر(2)
أنا الحسين بن عليّ***أحمي عيالات أبي
آليت أن لا أنثني***أمضي علی دين النبي(3)
يا نفس صبراً فالمنی بعد العطش***وأن روحي في الجهاد منكمش
لا أرهب الموت إذا الموت وحش***جدّي رسول اللّه ما فيه فحش(4)
الحمدلله العلي الواحد***نحمده في سائر الشدائد
ص: 196
يا ربّ لاتغفل عن المعاند***قد قتلونا قتلة المناكد
فاصله يا ربّ نار السرمد***وأنت بالمرصاد غير خائد(1)
يا ربّ لا تتركني وحيداً***بين اُناس أظهروا الجحودا
وصيرونا بينهم عبيداً***يرضون في أفعالهم يزيدا
وكل شخص قد مضی شهيدا***مجنّد لاقی دمه فريدا(2)
أمّا أخي فقد مضی شهيدا***مغَفراً بدمه وحيداً
في وسط قاع مفرداً بعيداً***وأنت بالمرصاد لن تحيدا(3)
كفر القوم وقدما رغبوا***عن ثواب اللّه رب الثقلين
قتلوا قدماً عليا وابنه الحسن***الخير الكريم الطرفين
حنقاً منهم وقالوا اجمعوا***نفتك اللآن جميعاً بالحسين
يالقوم من اُناس رذل***جمعوا الجمع لأهل الحرمين
ثم ساروا وتواصوا كلّهم***باجتياحي لرضاء الملحدين
لم يخافوا اللّه في سفك دمي***لعبيد اللّه نسل الكافرين
وابن سعد قدر ماني عنوة***بجنود كوكوف الها طلين
لا لشيء كان منّي قبل ذا***غير فخري بضياء الفرقدين
بعليّ الخير من بعد النبي***والنبيّ القرشي الوالدين
ص: 197
خيرة اللّه من الخلق أبي***ثم أمّيّ فأنا ابن الخيرتين
فضّة قد خلصت من ذهب***فأنا الفضّة وابن الذهبين
فاطم الزهراء أمّي وأبي***وارث الرسل ومولی الثقلين
طحن الأبطال لما برزوا***يوم بدر وبأحد وحنين
وله في يوم اُحد وقعة***شفت الغل بغض العسكرين
وله في يوم اُحد وقعة***شفت الغل بغض العسكرين
ثم بالأحزاب والفتح معاً***كان فيها حتف أهل الفيلقين
وأخو خيبر إذ بارزهم***بحُسام صارم ذي شُفرتين
منفي الصفين عن سيف له***وكذا أفعاله فی القبلتين
والذي أردی جيوشاً أقبلوا***يطلبون الوتر في يوم حنين
في سبيل اللّه ماذا صنعت***اُمّة السوء معاً بالعترتين
عترة البر النقي المصطفی***وعليّ القرم يوم الجحفلين
من له عم كعمّي جعفر؟***وهب اللّه له اجنحتين
من له جدّ، كجدّي في الوری***و كشيخي وأنا بن العلمين؟
والدي شمس، وأمّي قمر***فأنا الكوكب وابن القمرين
جدّي المرسل مصباح الهدی***وأبي الموفی له بالبيعتين
بطل قرم هزير ضيغم ***ماجد سمح قوي الساعدين
عروة الدين عليٌ ذاكم***صاحب الحوض مصلّي القبلتين
مع رسول اللّه سبعاً كاملاً***ما علی الأرض مصلّ غير ذين
ترك الأوثان لم يسجدلها***مع قريش مذنشأ طرفه عين
عبداللّه غلاماً يافعاً***وقريش يعبدون الوثنين
يعبدون اللات والعزّی معاً***وعلی قائم الحسنين
وأبي كان هزبراً ضيغماً***يأخذ الرمح فيطعن طعنتين
كتمشي الأسد بغياً فسقوا***كأس حتف من نجيح الحنظلين
ص: 198
وفي الاحتجاج لما قُتل أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وأقاربه، وبقي فريداً ليس معه إلا ابنه عليّ زين العابدين وابن آخر في الرضاع اسمه عبداللّه، فتقدم الحسين، إلی باب الخيمة فقال: ناولوني ذلك الطفل حتی أ ُودّعه، فناولوه الصبي، جعل يقبّله وهو يقول: يا بني، ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قيل: فإذا بسهم قد أقبل حتی وقع في لبّة الصبي فقتله، فنزل الحسين (عليه السلام) عن فرسه، وحفر للصبي بجفن سيفه ورمله بدمه ودفنه، ثم وثب قائماً وهو يقول:
كفر القوم وقدما رغبوا إلی آخر الأبيات.
فإن نهزم فهزّامون قدماً***وإن نغلب فغير مغلبينا
وما أن طبنا جبن ولكن***منايانا ودولة آخرينا
إذا ما الموت رفع عن أُناس***كَلاكِلهُ أناخ بآخرينا
فأفَنى ذلكم سروات قومي***كما افنى القرون الأولينا
فلو خلد الملوك إذا خلدنا***ولو بقي الكرام إذا بقينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا***سيلقی الشامتون كما لقينا(1)
أ ذل الحيات وذلّ الممات***وكلاً أراه طعاماً وبيلاً
فإن كان لابد من إحداهما***فسيري إلی الموت سيراً جميلاً(2)
ص: 199
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي***منك البكاء إذ الحمام دهاني
لاتحرقي قلبي بدمعك حسرة***مادام منّي الروح في جثماني
فإذا قُتلت فأنت أولی بالذي***تأتينه يا خيرة النسوان(1)
فابكی وقولي انهد ركني بعد ما***كانت تزعزع ركنه بالأركان
قد كنت آمل أن أعيش بظله***أبداً أمد الأيام ما يرعاني
اُدني إلیّ سكينة عاجلاً***حتی أودعك وداع الفاني
أوصيك بالولد الصغير وبعده***بالال والأيتام والجيران
فإذا قتلت فلا تشقّي معجراٌ***أيضاً ولا تدعي ثبور هوان
لكن صبراً يا سكينة في القضاء***ها نحن أهل الصبر والإحسان
لي أسوة بأبي وجدّي وأخوتي***قصدوا حقوقهم من بنو الطغيان(2)
لقد كان القطاة بأرض نجد***قرير العين لم يجد الغر لما
تولته البزاة فهيمته***ولو ترك القطا لغفاو ناما(3)
أيا شمر خاف اللّه واحفظ قرابتي***من الجدّ منسوبا إلی القائم المهدي
أيا شمر تقتلني وحيدرة أبي***وجدّي رسول اللّه أكرم مهتدي
وفاطمة أمّي والزكي ابن والدي***وعمّي هو الطيّار في جنة الخلد
ص: 200
أنادي ألا يا زينب يا سكينة***أيا ولدي من ذا يكون لكم بعدي
ألا يا رقيّة يا أم كلثوم أنتم ***وديعة ربّي اليوم قد قرب الوعد
أيا شمر ارحم ذا لعليل وبعده***حريماً بلاكفل يلي أمرهم بعدي
سيبكي لكم جدّي وأسعد من بكی***علی رزئكم والفوز في جنة الخلد
سلام عليكم ما اُمر فراقكم***فقوموا لتوديعي فذا آخر العهد(1)
ص: 201
ص: 202
ص: 203
ص: 204
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
ص: 205
ص: 206
إليك... يا ريحانة رسول اللّه
إليك... يا بضعة نبي اللّه
إليك... يا زوجة ولي اللّه
إليك... يا أم الحسنين
إليك... يا أم الأئمة الأطهار
إليك... يا سيدة نساء العالمين
إليك... يا فاطمة الزهراء
اقدم هذه المجموعة العطرة من كلمات ولدك الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
وكلي رجاء أن تتقبليها بقبول حسن.
المؤلفة
ص: 207
ص: 208
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين آمين رب العالمين.
... بعد أن وفقني اللّه لجمع مجموعة من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) رأيت أن اسأل اللّه عزّوجلّ كي يوفّقني في جمع ما تيّسر لي من كلمات الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وذلك أداءاً لبعض الواجب أمام هذا الإمام الهمام.
علماً بأنّ هذه الكلمات والروايات نور كما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة: (كلامكم نور) وهي مدرسة متكاملة تضمن لمن عمل بها خير الدنيا والآخرة.
وقد رتبت الكتاب على فصلين وخاتمة:
الفصل الأول: نبذة مختصرة عن حياة الإمام العسكري (عليه السلام) .
الفصل الثاني: من كلمات الإمام العسكري (عليه السلام) .
الخاتمة: في زياراته (عليه السلام) .
وفي الختام أسأل اللّه التوفيق والقبول وأن ينفع بهذا الكتاب المؤمنين، إنّه قريب مجيب.
قم المقدّسة
والدة السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
ص: 209
ص: 210
ص: 211
ص: 212
الاسم الشريف: الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
الأب: الإمام علي الهادي (عليه السلام) .
الأم: السيدة سليل(1)،
ويقال لها: حديث(2)،
حديثة(3)،
الجدّة، سوسن(4)،
حريبة(5).
الأجداد الطاهرون: الإمام محمد الجواد، بن الإمام علي الرضا، بن الإمام موسى الكاظم، بن الإمام جعفر الصادق، بن الإمام محمد الباقر، بن الإمام علي السجاد، بن الإمام الحسين، بن الإمام علي بن أبي طالب، صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
كنيته: أبو محمد(6)، وكان يعرف بابن الرضا(7) أيضاً.
ص: 213
ألقابه: العسكري، الزكي، الهادي، التقي، السراج، الصامت، المرضي، الرفيق، المضيء، الشافي، الفاضل، الميمون، الطاهر، النقي، الأمين، الصادق، العلاّم، الشفيع، المهتدي، الموفي، السخي، المستودع، النادب، المعطي، الناطق عن اللّه، المؤمن باللّه، المرشد إلى اللّه، ولي اللّه، خزانة الوصيين.
محل ولادته: دار أبيه (عليه السلام) في المدينة المنوّرة.
زمان ولادته: يوم الجمعة في الثامن من شهر ربيع الثاني عام 232 الهجري(1)،
وقيل: في العاشر من هذا الشهر، وقيل: في الليلة الرابعة منه. قال الشيخ الحر العاملي:
مولده شهر ربيع الآخر***وذاك في اليوم الشريف العاشر
في يوم الاثنين وقيل: الرابع***وقيل: في الثامن وهو شائع
أوصافه: بين السمرة والبياض(2)،
أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن، له جلالة وهيبة(3).
ولده: الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) .
زوجته: السيدة نرجس، وهي مليكة بنت يشوعا بن قيصر الروم، وأمّها من ولد الحواريين تنسب إلى وصي السيد المسيح (عليه السلام) شمعون.
ص: 214
إخوته: محمد، الحسين، جعفر(1).
محل إقامته: جاء مع أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامراء المقدّسة وبقي فيها حتى يوم استشهاده (عليه السلام) .
بوّابه: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري(2).
ملوك عصره: المعتز، المهتدي، المعتمد.
بعض أصحابه: الشيخ أبو علي احمد بن اسحاق الأشعري، أحمد بن محمد المطهّر، أبو سهل إسماعيل بن علي إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت، محمد بن صالح بن محمد الهمداني(3).
مدّة عمره الشريف: 29 سنة(4).
مدّة إمامته: 6 سنوات(5).
نقش خاتمه: «سبحان من له مقاليد السماوات والأرض»(6).
اعتقاله: حبس أكثر من مرة، وعاش فترة من عمره الشريف في سجون الحكام الثلاثة الظالمين، وكانوا يضيّقون عليه في السجن.
استشهاده: يوم الجمعة الثامن من شهر ربيع الأول عام 260 للهجرة(7)،
ص: 215
وقيل: الأربعاء، وقيل: الأحد(1).
قاتله: المعتمد العباسي.
قبره: دفن بجوار أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) في داره بسامراء المقدّسة(2) حيث مرقده الآن.
أمّا أمّه الكريمة؛ فكانت أفضل نساء عصرها، من السيّدات الزاكيات في عفّتها وورعها وطهارتها... ويقول الرواة: إنّها كانت من العارفات الصالحات وقد أثنى عليها الإمام علي الهادي (عليه السلام) ثناءاً عطراً وأشاد بمكانتها وسموّ منزلتها فقال: (سليل - وهو اسمها - مسلولة من الآفات والأرجاس والأنجاس) وكفى بها فخراً وشرفاً، إنّها لم تلوّث بالأرجاس والأدناس ولا بما يشين المرأة وينقصها في شرفها وعفّتها، واختلف الرواة في اسمها الكريم، فقالوا: سليل، سوسن، حديثة، حريبة(3). والظاهر أنّها كانت تسمّى بجميع هذه الأسامي.
اختلف المؤرّخون أيضاً في المكان الذي حظي بولادة الإمام (عليه السلام) ، فقال بعض: في المدينة المنوّرة، وقال آخرون: في سامراء.
ص: 216
كما اختلفوا في الزمان الذي ولد فيه الإمام (عليه السلام) ، فقالوا: ولد سنة 230 ه- في شهر ربيع الأول، وقالوا: ولد سنة 231 ه، وقالوا: ولد سنة 232 ه، وقالوا: ولد سنة 233ه(1).
ولكن ورد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري الثاني (عليه السلام) ، قال: «كان مولدي في ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين» بالمدينة(2).
عن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على مولاي علي بن الحسين (عليه السلام) وفي يده صحيفة... فقلت: ما هذه الصحيفة؟ فقال: هذه نسخة اللوح الذي أهداه اللّه تعالى إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفيه اسم اللّه تعالى ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و... ابنه الحسن العسكري...(3).
قال جابر بن عبد اللّه الأنصاري في حديث اللوح المقدّس الذي كان محفوظاً عند الزهراء (عليها السلام) : ... أبو محمد الحسن بن علي الرفيق...(4).
عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: ... حدّثني جبرئيل عن ربّ العزّة جلّ جلاله أنه قال:
ص: 217
من علم أنّه لا إله إلاّ أنا وحدي... فقام جابر بن عبد اللّه الأنصاري، فقال: يا رسول اللّه ومن الأئمة من ولد علي بن ابي طالب قال: ... ثم الزكي الحسن بن علي...(1).
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الليلة التي كانت فيها وفاته لعلي: يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة، فأملأ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع، فقال: يا علي إنّه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً... فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه الحسن الفاضل...(2).
عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّه دخل جندل بن جنادة اليهودي من خيبر على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: يا محمد أخبرني... بالأوصياء بعدك لأتمسّك بهم؟ فقال: يا جندل أوصيائي من بعدي بعدد نقباء بني إسرائيل... فإذا انقضت مدّة علي قام بالأمر بعده الحسن ابنه يُدعى بالأمين...(3).
عن أبي هريرة قال: كنت عند النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... إذ دخل الحسين بن علي فأخذه وقبّله... وقال: اللّهم إنّي أحبّه فأحبّه، وأحبّ من يحبّه، يا حسين أنت الإمام ابن الإمام أبو الأئمة تسعة من ولدك أئمة أبرار... ويخرج من صلب
ص: 218
علي، الحسن الميمون النقي الطاهر الناطق عن اللّه وأبو حجّة اللّه...(1).
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ... أخبرني ربّي جلّ جلاله أنّه سيخلق من صلب الحسين ولداً سمّاه عنده علياً... ثم يخرج من صلبه ابنه وسمّاه الحسن مؤمن باللّه مرشد إلى اللّه ويخرج من صلبه كلمة الحق...(2).
عن سلمان الفارسي، قال: خطبنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: ... إذا افتقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنجوم الزاهرة... وأمّا النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين... والصادقان علي والحسن...(3).
عن سلمان الفارسي، قال: دخلت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلمّا نظر إلي قال: يا سلمان إنّ اللّه تبارك لم يبعث نبياً ولا رسولاً إلا وجعل له اثني عشر نقيباً... ثم خلق منّا ومن صلب الحسين تسعة أئمة... ثم الحسن بن علي الصامت الأمين على سرّ اللّه...(4).
عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ... الأئمة من بعدي الهادي والمهتدي والناصر والمنصور والشفاع والنفّاع والأمين والمؤتمن والإمام والفعال والعلاّم ومن
ص: 219
يصلّي خلفه عيسى بن مريم...(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : إذا حضرت أحدكم الحاجة فليصم يوم الأربعاء... فيصلّي ركعتين ثم يمدّ يده إلى السماء ويقول: ... وأتقرّب إليك بوليّك الحسن بن علي...(2).
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنا واردكم على الحوض... والحسن بن علي سراج أهل الجنة يستضيئون به...(3).
قال أبو جعفر (عليه السلام) : من دعا بهذا الدعاء مرّة واحدة في دهره كتب في ورق ودفع في ديوان القائم... وأدع به وأنت طاهر تقول: اللّهم يا إله يا واحد... وبالحسن بن علي الطاهر الزكي خزانة الوصيين...(4).
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ... يا علي أنا نذير أمتيّ وإنك هاديها... و الحسن بن علي نادبها ومعطيها...(5).
ص: 220
واشتهر أيضاً بألقاب شريفة ك- : الهادي، المهتدي، المضيء، الشافي، المرضي، الخالص، الخاص، التقي، الشفيع، الموفي، السخي، المستودع... .
ومن ألقابه في كتب الرجال: الفقيه، الرجل، الأخير، العالم.
أمّا السنة التي انتقل فيها الإمام العسكري (عليه السلام) إلى جوار ربّه فهي سنة 260 ه- باتفاق المؤرّخين وإن اختلفوا في شهر الوفاة ويومها على أقوال:
الأول: في اليوم الأول من شهر ربيع الأول سنة 260 من الهجرة.
الثاني: في اليوم السادس من شهر ربيع الأول سنة 260 من الهجرة.
الثالث: في اليوم الثامن من شهر ربيع الأول سنة 260 من الهجرة.
الرابع: في شهر ربيع الثاني سنة 260 من الهجرة.
الخامس: في اليوم الثامن من شهر جمادى الأولى.
وأمّا المشهور بين هذه الأقوال فهو القول الثالث كما صرّح به الشيخ المفيد والطبرسي وابن الصباغ والكنجي الشافعي وكثير من المؤرّخين.
قال المفيد في (الإرشاد): مرض أبو محمد (عليه السلام) في أول شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين ومات يوم الجمعة لثمان خلون من هذا الشهر(1).
روى الجعفري، قال: قال لي أبو محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : قبري بسرّ من رأى أمان لأهل الجانبين(1).
لقد سجّل التاريخ الكثير عن علمه (عليه السلام) وعبادته وأخلاقه وكرمه ممّا هو خارج عن المقصود في هذا الكتاب، ولا بأس هنا ببعض الإشارة إلى ذلك، كما يمكن الحصول على بعضها بمراجعة قسم الكرامات.
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث له: ومن أحبّ أن يَلقى اللّه وهو من الفائزين فليتولّ الحسن العسكري(2).
عن عبد اللّه بن محمد الأصفهاني، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام) : صاحبكم بعدي الذي يصلّي عليّ، قال: ولم نعرف أبا محمد (عليه السلام) قبل ذلك فخرج أبو محمد بعد وفاته فصلّى عليه(3).
هذا بالإضافة إلى ما ورد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عدّة روايات أنه عيّن خلفاءه الاثني عشر وسمّاهم بأسمائهم، وهكذا ما ورد عن سائر الأئمة (عليهم السلام) في هذا الباب.
روى الصقر بن أبي دلف، فقال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) يقول: إنّ الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه(1).
روى علي بن مهزيار، فقال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إن كان كون وأعوذ باللّه فإلى من؟ قال: عهدي إلى الأكبر من ولدي(2).
عن داود بن القاسم، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) : الخلف من بعدي الحسن(3).
عن أبي هاشم الجعفري في حديث له: ... فأقبل علي أبو الحسن (عليه السلام) فقال: ... وأبو محمد ابني الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه ومعه
ص: 223
آلة الإمامة(1).
عن شاهوية بن عبد اللّه الجلاب، قال: كتب إليّ أبو الحسن (عليه السلام) في كتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك، فلا تغتم فإنّ اللّه عزّ وجل لا يضل {قَوْمَۢا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}(2)
وصاحبك بعدي أبو محمد ابني وعنده ما تحتاجون إليه يقدم ما يشاء اللّه ويؤخّر ما يشاء اللّه: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٖ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَاۗ}(3) قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان(4).
عن أبي بكر الفهفكي، قال: كتب إلي أبو الحسن (عليه السلام) : أبو محمد ابني أنصح آل محمد غريزة وأوثقهم حجّة، وهو الأكبر من ولدي، وهو الخلف وإليه ينتهي عُرى الإمامة وأحكامها، فما كنت سائلي فسله عنه، فعنده ما يُحتاج إليه(5).
كان أحمد بن عبيد اللّه بن خاقان(6) على الضياع والخراج بقم، فجرى
ص: 224
يوماً في مجلسه ذكر العلوية ومذاهبهم وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت (عليهم السلام) ، فقال: ما رأيت ولا عرفت بِسُرّ مَنْ رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم وتقديمهم إيّاه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة الناس، فأنيّ كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل حُجَّابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فعجبتُ ممّا سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكن عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنّى، فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدثٍ السن، له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطى، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاّه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه وجعل يكلّمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجّب ممّا أرى منه، إذ دخل الحاجب، فقال: الموفّق قد جاء، وكان الموفّق إذا دخل على أبي يقدمه حجّابه وخاصة قوّاده فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مُقبلاً على أبي محمد يحدّثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة، فقال: حينئذ إذا شئت جعلني اللّه فداك، ثم قال لحجّابه: خذوا به من خلف السماطين لا يراه هذا، يعني الموفّق، فقام وقام أبي وعانقه ومضى.
فقلت لحجّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنّيتموه على أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقال: هذا علوي يقال له الحسن بن علي يُعرف
ص: 225
بابن الرضا، فازددت تعجّباً ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت منه حتى كان الليل وكانت عادته أن يصلّي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان.
فلمّا صلّى وجلس جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد ألك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه، فإن أذنت سألتك عنها، فقال: قد أذنت...، قلت: يا أبة مَن الرجل الذي رأيتك الغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا وإن هذا ليستحقها في لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه واستزدته في فعله...، فلم تكن لي همّة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره، فما سألت أحداً من بني هاشم والقُوّاد والكُتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه فعظم قدره عندي إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه...
فلما ذاع خبر وفاته صارت سر من رأى ضجّة واحدة وعطّلت الأسواق وركب بنو هاشم والقوّاد وساير الناس إلى جنازته فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة(1).
ص: 226
عن محمد بن إسماعيل العلوي، قال: حبس أبو محمد (عليه السلام) عند علي بن أوتامش وكان شديد العداوة لآل محمد (عليهم السلام) غليظاً على آل أبي طالب، وقيل له: إفعل به وافعل، فما أقام إلا يوماً حتى وضع خديه له وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولاً فيه(1).
عن بذل مولى أبي محمد (عليه السلام) ، قال: رأيت من عند رأس أبي محمد (عليه السلام) نوراً ساطعاً إلى السماء وهو نائم(2).
كان المعتمد يسأل عن أخباره (عليه السلام) في كل وقت وهو في السجن، فيُخبر أنّه يصوم النهار ويصلّي الليل(1).
عن محمد بن إسماعيل، قال: دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حبس أبو محمد (عليه السلام) ، فقال له: ضيّق ولا توسّع، فقال صالح: ما أصنع به وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم؟ ثم أمر بإحضار الموكّلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم الليل كلّه لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين(2).
عن أبي نعيم، قال: وجّه قوم من المفوّضة والمقصّرة كامل بن إبراهيم المدني إلى أبي محمد (عليه السلام) ، قال كامل: فقلت في نفسي: أسأله لا يدخل الجنة إلاّ من عرف معرفتي وقال بمقالتي، قال: فلمّا دخلت على سيّدي أبي محمد (عليه السلام) نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه، فقلت في نفسي: وليُّ اللّه وحجّته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لُبس مثله؟ فقال مبتسماً: يا كامل - وحسّر عن ذراعيه فإذا مسح أسود خشن
ص: 228
على جلده(1) - فقال: هذا لله وهذا لكم(2).
قال محمد الشاكري: كان أستاذي... قليل الأكل، كان يحضره التين والعنب والخوخ فما يشاكله فيأكل منه الواحدة والثنتين ويقول: شِل هذا يا محمد إلى صبيانكم...(3).
ص: 229
ص: 230
ص: 231
ص: 232
عن سهل بن زياد، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيّدي أصحابنا في التوحيد منهم من يقول: هو جسم، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيّدي أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوّزه فعلت متطولاً على عبدك، فوقّع بخطه (عليه السلام) : سألت عن التوحيد وهذا عنكم معزول، اللّه واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم، ويصوّر ما يشاء وليس بصورة، جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أن يكون له شبه هو لا غيره ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(1).
عن يعقوب بن إسحاق، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه؟ فوقّع (عليه السلام) : يا أبا يوسف جلّ سيّدي ومولاي والمنعم علي وعلى آبائي أن يرى(2).
ص: 233
قال أبو هاشم: إنّي قلت في نفسي: أشتهي أن أعلم ما يقول أبو محمد (عليه السلام) في القرآن أهو مخلوق أم غير مخلوق؟ والقرآن سوى اللّه؟
فأقبل عليّ، فقال (عليه السلام) : أوما بلغك ما روي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : لما نزلت: {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} خلق اللّه لها أربعة آلاف جناح، فما كانت تمرّ بملإ الملائكة إلاّ خشعوا لها، وقال هذه نسبة الرب تبارك وتعالى(1).
وجاء في الثاقب المناقب: فبدأني وقال: إنّ اللّه خالق كل شيء وما سواه مخلوق(2).
عن يعقوب بن إسحاق، قال: سألته هل رأى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ربّه؟ فوقّع (عليه السلام) : إنّ اللّه تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب(3).
روى أبو هاشم، قال: سمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: إنّ اللّه ليعفو يوم القيامة عفواً لا يخطر على بال العباد حتى يقول أهل الشرك: {وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}(4)، فذكرت في نفسي حديثاً حدّثني به رجل من أصحابنا من أهل مكة أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قرأ: {إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا}(5)، فقال رجل:
ص: 234
ومن أشرك؟ فأنكرت ذلك وتنمّرت(1) للرجل فأنا أقوله في نفسي، إذ أقبل عليّ، فقال: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(2) وبئس ما قال هذا بئس ما روى(3).
عن الحسن بن علي بن محمد (عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} فقال: اللّه هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كل من دونه وتقطع الأسباب من جميع من سواه، يقول: بسم اللّه أي: أستعين على أموري كلّها، باللّه الذي لا تحق العبادة إلاّ له، المغيث إذا استغيث والمجيب إذا دُعي، وهو ما قال رجل للصادق (عليه السلام) : يا بن رسول اللّه دلّني على اللّه ما هو، فقد كثر علي المجادلون وحيّروني؟ فقال له: يا عبد اللّه هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: نعم، قال الصادق (عليه السلام) : فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حيث لا منجي وعلى الإغاثة حيث لا مغيث(4).
قال (عليه السلام) : الإشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود
ص: 235
في الليلة المظلمة(1).
روى محمد بن الربيع الشيباني، فقال: ناظرت رجلاً من الثنوية(2)
بالأهواز، ثم قدمت سرّ من رأی وقد علق بقلبي شيء من مقالته، فإنّي لجالس على باب أحمد بن الخضيب إذ أقبل أبو محمد (عليه السلام) من دار العامّة يوم الموكب، فنظر إليّ وأشار بسبابته: أحد أحد، فوحّده، فسقطت مغشياً عليّ(3).
عن أبي هاشم، قال: سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد (عليه السلام) عن قول اللّه {يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ}(4)
فقال أبو محمد (عليه السلام) : هل يمحو اللّه إلاّ ما كان وهل يثبت إلاّ ما لم يكن؟، فقلت في نفسي: هذا خلاف ما يقول هشام بن الحكم: لا يعلم الشيء حتى يكون، فنظر إليّ أبو محمد (عليه السلام) ، فقال: تعالى الجبّار الحاكم العالم بالأشياء قبل كونها، الخالق إذ لا مخلوق، والرب إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه، فقلت: أشهد أنّك ولي اللّه وحجّته والقائم بقسطه وأنّك على منهاج أمير المؤمنين وعلمه(5).
ص: 236
عن أبي هاشم أنّه قال: سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد (عليه السلام) عن قول اللّه: {لِلَّهِ ٱلْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنۢ بَعْدُ}(1) فقال أبو محمد: له الأمر من قبل أن يأمر به وله الأمر من بعد أن يأمر بما شاء، فقلت في نفسي: هذا قول اللّه: {أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ}(2) قال: فنظر إليّ وتبسّم ثم قال: {أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ}(3).
قال أبو هاشم: سمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: من الذنوب التي لا تغفر، قول الرجل: ليتني لم أؤخذ إلا بهذا، فقلت في نفسي: إنّ هذا لهو الدقيق وقد ينبغي للرجل أن يتفقّد من نفسه كل شيء، فأقبل (عليه السلام) عليّ فقال: صدقت يا أبا هاشم إلزم ما حدّثتك نفسك فإنّ الإشراك في اللّه أخفى من دبيب النمل على الصفاء في الليلة الظلماء، ومن دبيب الذر على المسح الأسود(4).
عن علي بن عاصم الكوفي، قال: دخلت على أبي محمد العسكري (عليه السلام) بالعسكر، فقال لي: يا علي بن عاصم، انظر إلى ما تحت قدميك، فنظرت
ص: 237
ثلاثاً، فوجدت شيئاً ناعماً، فقال لي: يا علي، أنت على بساط قد جلس عليه ووطأه كثير من النبيين والمرسلين والأئمّة الراشدين. فقلت: يا مولاي لا أنتعل ما دمت حيّاً إعظاماً لهذا البساط، فقال: يا علي إنّ هذا الذي في قدمك من الخفّ جلد ملعون نجس رجس لم يقرّ بولايتنا وإمامتنا، وقلت: وحقّك يا مولاي لا لبست خفّاً ولا نعلاً، فقلت في نفسي: كنت أشتهي أن أرى هذا البساط بعيني. فقال: أدن يا علي، فدنوت فمسح بيده المباركة على عيني فعدت باللّه بصيراً فأدرت عيني في البساط...
فقال لي: هذا قدم آدم (عليه السلام) وموضع جلوسه، وهذه قدم قابيل إلى أن لُعن وقتل هابيل، وهذا قدم هابيل، وهذا أثر شيث، وهذا أثر أخنوخ، وهذا أثر قيدار، وهذا أثر هابيل، وهذا أثر نادر، وهذا أثر إدريس، وهذا أثر متوشلخ، وهذا أثر نوح، وهذا أثر سام، وهذا أثر أرفخشد، وهذا أثر أبو يعرب، وهذا أثر هود، وهذا أثر صالح، وهذا أثر لقمان، وهذا أثر لوط، وهذا أثر إبراهيم، وهذا أثر إسماعيل، وهذا أثر إلياس، وهذا أثر أبي قصيّ الناس، وهذا أثر إسحاق، وهذا أثر يعوسا، وهذا أثر إسرائيل، وهذا أثر يوسف، وهذا أثر شعيب، وهذا أثر موسى بن عمران، وهذا أثر هارون، وهذا أثر يوشع بن نون، وهذا أثر زكريا، وهذا أثر يحيى، وهذا أثر داود، وهذا أثر سليمان، وهذا أثر الخضر، وهذا أثر ذي الكفل، وهذا أثر اليسع، وهذا أثر ذي القرنين الإسكندري، وهذا أثر سابور، وهذا أثر لؤي، وهذا أثر كلاب وهذا أثر قصي، وهذا أثر عدنان، وهذا أثر هاشم، وهذا أثر عبد المطلب، وهذا أثر عبد اللّه، وهذا أثر السيد محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا أثر أمير المؤمنين، وهذا أثر الحسن، وهذا أثر الحسين، وهذا أثر علي بن الحسين، وهذا أثر محمد بن علي، وهذا أثر جعفر بن محمد، وهذا أثر موسى بن جعفر، وهذا أثر علي بن موسى بن جعفر، وهذا
ص: 238
أثر محمد بن علي، وهذا أثر علي بن محمد، وهذا أثر الحسن، وهذا أثر ابني محمد المهدي إنه قد وطأه وجلس عليه.
فقال علي بن عاصم: فخُيّل لي واللّه من ردّ بصري ونظري إلى ذلك البساط وهذه الآيات كلّها أنّي نائم وإنّي أحلم بما رأيت، فقال لي أبو محمد (عليه السلام) : أثبت يا علي فما أنت بنائم ولا بحلم، فانظر إلى هذه الآثار وأعلم أنّها لمن أهم دين اللّه، فمن زاد فيهم كفر ومن نقص أحداً كفر والشاك في الواحد منهم كالشاك الجاحد لله، غضّ طرفك يا علي، فغضضت طرفي محجباً، فقلت: يا سيّدي ممّن تقول إنّهم في مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي أهؤلاء... ثم قال: إذا علم ما قال لم يأثم، فقلت: يا سيّدي ما علمي علمهم حتى لا أزيد ولا أنقص منهم. قال: يا علي، الأنبياء والرسل والأئمة هؤلاء الذين رأيت آثارهم في البساط لا يزيدون ولا ينقصون والمائة الألف وأربعة وعشرين ألف تنبؤا من أنبياء اللّه ورسله وحججه فآمنوا باللّه وعملوا ما جاءت به الرسل من الكتب والشرائع فمنهم الصدّيقون والشهداء والصالحون وكلّهم هم المؤمنون وهذا عددهم عند هبوط آدم من الجنة إلى أن بعث اللّه جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقلت: الحمد لله والشكر لذلك الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه(1).
عن محمد بن الريان، قال: كتبت إلى العسكري (عليه السلام) : جعلت فداك روي لنا أنّ ليس لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الدنيا إلاّ الخمس؟ فجاء الجواب: إنّ الدنيا وما
ص: 239
عليها لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).
قال الإمام العسكري (عليه السلام) : قد صعدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوّة والولاية، ونوّرنا السبع الطرائق بأعلام الفتوّة، فنحن ليوث الوغى وغيوثُ الندى، وفينا السيف والقلم في العاجل، ولواء الحمد والعلم في الآجل، وأسباطنا خلفاء الدين وحلفاء اليقين ومصابيح الأمم ومفاتيح الكرم، فالكليم ألبس حلّة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء، وروح القُدُس في جنان الصاقورة(2) ذاق من حدائقنا الباكورة، وشيعتنا الفئة الناجية والفرقة الزاكية صاروا لنا ردءاً وصوناً وعلى الظلمة ألبا وعوناً، وسينفجر لهم ينابيع الحيوان بعد لظى النيران لتمام الطواوية(3) والطواسين من السنين(4).
قال داود بن القاسم الجعفري: سألت أبا محمد (عليه السلام) عن قول اللّه عزّوجلّ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِۦ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُۢ بِٱلْخَيْرَٰتِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ}(1) فقال (عليه السلام) : كلّهم من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، الظالم لنفسه الذي لا يقر بالإمام، قال: فدمعت عيني وجعلت أفكر في نفسي في عظم ما أعطى اللّه آل محمد على محمد وآله السلام، فنظر إلي أبو محمد (عليه السلام) ، فقال: الأمر أعظم مما حدّثتك نفسك من عظيم شأن آل محمد، فاحمد اللّه فقد جُعلت متمسّكاً بحبّهم تدعى يوم القيامة بهم إذا دعي كل إنسان بإمامهم فأبشر يا أبا هاشم فإنّك على خير(2).
قال أبو هاشم: كنت عند أبي محمد (عليه السلام) فسأله محمد بن صالح الأرمني عن قول اللّه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا}(3) قال الإمام أبو محمد (عليه السلام) : ثبتت المعرفة ونسوا ذلك الموقف وسيذكرونه ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه، قال أبو هاشم: فجعلت أتعجّب في نفسي من عظيم ما أعطى اللّه وليّه وجزيل ما حمله، فأقبل أبو محمد (عليه السلام) عليّ فقال: الأمر أعجب ممّا عجبت منه يا أبا هاشم وأعظم، ما ظنّك بقوم من عرفهم عرف اللّه ومن
ص: 241
أنكرهم أنكر اللّه فلا مؤمن إلا وهو بهم مصدّق وبمعرفتهم موقن(1).
قال علي بن عاصم: قلت للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : إنّي عاجز عن نصرتكم بيدي وليس أملك غير موالاتكم والبراءة من أعدائكم واللعن لهم في خلواتي، فكيف حالي يا سيدي؟ فقال (عليه السلام) : حدّثني أبي عن جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: من ضعف على نصرتنا أهل البيت ولعن في خلواته أعداءنا بلّغ اللّه صورته إلى جميع الملائكة، فكلّما لعن هذا الرجل أعداءنا ساعدته الملائكة ولعنوا من لا يلعنهم، فإذا بلغ صورته إلى الملائكة استغفروا له وأثنوا عليه، وقالوا: اللّهم صل على روح عبدك هذا الذي بذل في نصرة أوليائه جهده ولو قدر على أكثر من ذلك لفعل، فإذا النداء من قبل اللّه تعالى يقول: يا ملائكتي إنّي قد أجبت دعاءكم في عبدي هذا وسمعت نداءكم وصلّيت على روحه مع أرواح الأبرار وجعلته مع المصطفين الأخيار(2).
عن سفيان بن محمد الضبعي، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله عن الوليجة وهو قول اللّه: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}(3) فقلت في نفسي لا في الكتاب: من ترى المؤمنين ههنا؟ فرجع
ص: 242
الجواب: الوليجة الذي يقام دون ولي الأمر، وحدّثتك نفسك عن المؤمنين من هم في هذا الموضع فهم الأئمة الذين يؤمنون على اللّه فيجيز أمانهم(1).
عن إدريس بن زياد الكفرتومائي، قال: كنت أقول فيهم قولاً عظيماً، فخرجت إلى العسكر للقاء أبي محمد (عليه السلام) ، فقدمت وعليّ أثر السفر وعثاؤه(2)، فألقيت نفسي على دكان(3) حمّام فذهب بي النوم، فما انتبهت إلاّ بمقرعة أبي محمد (عليه السلام) قد قرعني بها حتى استيقظت فعرفته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقمت قائماً أقبّل يده وفخذه وهو راكب والغلمان من حوله، فكان أول ما تلقّاني به أن قال: يا إدريس: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِۦ يَعْمَلُونَ}(4) فقلت: حسبي يا مولاي وإنّما جئت أسألك عن هذا، قال: فتركني ومضى(5).
عن أبي نعيم محمد بن أحمد الأنصاري، قال: وجّه قوم من المفوّضة والمقصّرة كامل بن إبراهيم المدني إلى أبي محمد (عليه السلام) ، قال كامل: فقلت في نفسي أسأله: لا يدخل الجنة إلاّ من عرف معرفتي وقال بمقالتي، قال: فلما دخلت على سيّدي أبي محمد (عليه السلام) نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه،
ص: 243
فقلت في نفسي: ولي اللّه وحجّته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الأخوان وينهانا عن لُبس مثله، فقال مبتسّماً: يا كامل وحَسَرَ ذراعيه فإذا مسح أسود خشن على جلده! فقال: هذا لله وهذا لكم، فسلّمت وجلست إلى باب عليه ستر مُرخى فجاءت الريح فكشفت طرفه فإذا أنا بفتى كأنّه فلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها، فقال لي: يا كامل بن إبراهيم! فاقشعررت من ذلك وألهمت أن قلت: لبّيك يا سيّدي، فقال: جئت إلى وليّ اللّه وحجّته وبابه تسأله هل يدخل الجنة إلاّ من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟ فقلت: أي واللّه، قال: إذن واللّه يقلّ داخلها واللّه إنّه ليدخلها قوم يقال لهم الحقية، قال: يا سيّدي ومن هم؟ قال: قوم من حبّهم لعلي (عليه السلام) يحلفون بحقّه ولا يدرون ما حقّه وفضله.
ثم سكت صلوات اللّه عليه عنيّ ساعة ثم قال: وجئت تسأله عن مقالة المفوّضة، كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة اللّه فإذا شاء شئنا واللّه يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ}(1)، ثم رجع الستر إلى حالته فلم استطع كشفه، فنظر إليّ أبو محمد (عليه السلام) متبسّما فقال: يا كامل ما جلوسك وقد أنباك بحاجتك الحجّة من بعدي، فقمت وخرجت ولم أعاينه بعد ذلك(2).
عن الفضل بن الحارث، قال: كنت بسرّ من رأى وقت خروج سيّدي أبي الحسن، فرأينا أبا محمد (عليه السلام) ماشياً قد شقّ ثوبه فجعلت أتعجّب من جلالته
ص: 244
وهو له أهل ومن شدّة اللون والأدمة وأشفق عليه من التعب، فلما كان الليل رأيته (عليه السلام) في منامي، فقال: اللون الذي تعجّبت منه اختيار من اللّه لخلقه يُجريه كيف يشاء وإنّها لعبرة في الأبصار، لا يقع فيه غير المختبر ذمّ ولسنا كالناس فنتعب ممّا يتعبون، فاسأل اللّه الثبات والتفكّر في خلق اللّه فإنّ فيه متّسعاً، أعلم إنّ كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة(1).
عن بعض أهل المدائن، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) : روي لنا عن آبائكم (عليه السلام) : أنّ حديثكم صعب مستصعب لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان، قال: فجاءه الجواب: إنّما معناه أنّ الملك لا يحتمله في جوفه حتى يخرجه إلى ملك مثله، ولا يحتمله نبي حتى يخرجه إلى نبي مثله، ولا يحتمله مؤمن حتى يخرجه إلى مؤمن مثله، إنّما معناه أن لا يحتمله في قلبه من حلاوة ما هو في صدره حتى يخرجه إلى غيره(2).
قال أبو هاشم: سمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: إنّ لكلام اللّه فضلاً على الكلام كفضل اللّه على خلقه، ولكلامنا فضل على كلام الناس كفضلنا عليهم(3).
ص: 245
عن محمد بن الحسن بن ميمون، قال: كتبت إليه أشكو الفقر، ثم قلت في نفسي: أليس قد قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : الفقر معنا خير من الغنى مع عدونا، والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا، فرجع الجواب: إنّ اللّه عزّوجل يخص أولياءنا إذا تكاثفت ذنوبهم بالفقر، وقد يعفو عن كثير منهم، وهو كما حدّثتك نفسك الفقر معنا خير من الغنى مع عدونا، ونحن كهف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استضاء بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبّنا كان معنا في السنام الأعلى، ومن انحرف عنّا مال إلى النار(1).
قال محمد بن الأقرع: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله عن الإمام هل يحتلم؟ وقلت في نفسي الاحتلام شيطنة وقد أعاذ اللّه أولياءه من ذلك، فردّ الجواب: الأئمة في الفنوم حالهم في اليقظة لا يغيّر النوم منهم شيئاً، قد أعاذ اللّه أولياءه من لمة(2) الشيطان كما حدّثتك نفسُك(3).
قال الحسن بن ظريف: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله ما معنى قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) : من كنت مولاه فهذا مولاه، قال (عليه السلام) : أراد بذلك أن يجعله علماً يعرف به حزب اللّه عند الفرقة(4).
ص: 246
خرج إلى قاسم بن علاء الهمداني وكيل أبي محمد (عليه السلام) : أنّ مولانا الحسين (عليه السلام) ولد يوم الخميس لثلاث مضين من شعبان(1).
عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري: أنّ العالِم كتب إليه، يعني الحسن بن علي (عليه السلام) : إنّ اللّه تعالى بمنّه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه، بل رحمة منه إليكم، لا إله إلا هو، ليميز الخبيث من الطيّب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحّص ما في قلوبكم، ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنّته، ففوّض عليكم الحج والعمرة وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصوم والولاية، وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأوصياء (عليهم السلام) من ولده كنتم حيارى كالبهائم، لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تدخل قرية إلا من بابها؟ فلما مَنّ اللّه عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال اللّه عزّوجل: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا}(2) وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً فأمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم، ويعرفكم بذلك البركة والنماء والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، وقال اللّه تبارك وتعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
ص: 247
ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰۗ}(1)، فاعلموا أنّ من يبخل فإنّما يبخل على نفسه، إنّ اللّه هو الغني وأنتم الفقراء إليه، لا إله إلا هو، فاعملوا من بعد ما شئتم، فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون، ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون، والعاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين(2).
عن محمد بن علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر، قال: ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: أمضِ بنا حتى نصير إلى هذا الرجل - يعني أبا محمد - فإنّه قد وصف عنه سماحة، فقلت: تعرفه؟ فقال: ما أعرفه ولا رأيته قط، قال: فقصدناه، فقال أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمائة درهم مائتا درهم للكسوة، ومائتا درهم للدين، ومائة درهم للنفقة، فقلت في نفسي: ليته أمر لي بثلاثمائة درهم: مائة أشتري بها حماراً، ومائة للنفقة، ومائة للكسوة فأخرج إلى الجبل.
قال: فلما وافينا الباب خرج إلينا غلامه، فقال: يدخل علي بن إبراهيم ومحمد ابنه، فلما دخلنا عليه وسلمنا قال لأبي: يا علي ما خلّفك عنّا إلى هذا الوقت؟ فقال: يا سيّدي استحييت أن ألقاك على هذه الحال، فلمّا خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرّة فيها دراهم، فقال: هذه خمسمائة درهم مائتان للكسوة ومائتان للدين ومائة للنفقة! وأعطاني صرّة، فقال: هذه ثلاثمائة درهم اجعل مائة في ثمن حمار ومائة للكسوة ومائة للنفقة ولا تخرج إلى
ص: 248
الجبل وصر إلى سوراء(1)! قال: فصار إلى سوراء وتزوج امرأة منها فدخله اليوم ألفا دينار، ومع هذا يقول بالوقف. فقال محمد بن إبراهيم: فقلت له: ويحك أتريد أمراً أبين من هذا؟ قال: فقال هذا أمرٌ قد جرينا عليه(2).
عن أبي حمزة نصير الخادم، قال: سمعت أبا محمد (عليه السلام) غير مرّة يكلّم غلمانه بلغاتهم تُرك ورُوم وصقالبة(3)، فتعجّبت من ذلك، وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن (عليه السلام) ولا رآه أحد، فكيف هذا؟ أحدّث نفسي بذلك فأقبل علي فقال: إنّ اللّه تبارك وتعالى بيّن حجّته من سائر خلقه، وبكل شيء، ويعطيه اللغات ومعرفة الأنساب والآجال والحوادث، ولو لا ذلك لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرق(4).
قال الحسن بن ظريف: اختلج في صدري مسألتان أردت الكتاب فيهما إلى أبي محمد (عليه السلام) ، فكتبت إليه أسأله عن القائم إذا قام بما يقضي وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس؟ وأردت أن أسأله عن شيء لحمّى(5) الربع، فأغفلت خبر الحمّى، فجاء الجواب: سألتَ عن القائم (عليه السلام) فإذا قام
ص: 249
قضى بين الناس بعلمه كقضاء داوود (عليه السلام) لا يسأل البيّنة، وكنتَ أردت أن تسأل لحمى الربع فأنسيت فاكتب في ورقة وعلّقه على المحموم: فانه يبرأ بإذن اللّه إن شاء اللّه {يَٰنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ}(1)، فعلقنا عليهما ذكى ابو محمد (عليه السلام) فافاق(2).
عن جماعة من أصحابنا، قالوا: سلّم أبو محمد (عليه السلام) إلى نحرير وكان يضيّق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق اللّه فإنّك لا تدري من في بيتك، وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت: إنّي أخاف عليك منه، فقال: واللّه لأرمينّه للسباع، ثم استأذن في ذلك فأذن له، فرمى به إليها ولم يشكّوا في أكلها له، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال، فوجدوه (عليه السلام) قائماً يصلّي وهي حوله فأمر بإخراجه إلى داره(3).
عن هارون بن مسلم، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) بعد مضي أبي الحسن (عليه السلام) أنا وجماعة نسأله عن وصي أبيه؟ فكتب (عليه السلام) : قد فهمت ما ذكرتم وإن كنتم إلى هذا الوقت في شك فإنّها المصيبة العظمى، أنا وصيّه وصاحبكم بعده (عليه السلام) ، بمشافهة من الماضي، أشهد اللّه تعالى وملائكته وأوليائه على ذلك فإن شككتم بعد ما رأيتم خطّي وسمعتم مخاطبتي فقد
ص: 250
أخطأتم حظّ أنفسكم وغلطتم الطريق(1).
قال أبو محمد (عليه السلام) حين ولد الحجّة (عليه السلام) : زعم الظلمة أنّهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل فكيف رأوا قدرة اللّه؟ وسمّاه: المؤمل(2).
عن أحمد بن محمد، قال: خرج عن أبي محمد (عليه السلام) حين قتل الزبيري: هذا جزاء من افترى على اللّه في أوليائه، زعم أنّه يقتلني وليس لي عقب فكيف رأى قدرة اللّه؟ وولد له ولد سّماه م ح م د سنة ست وخمسين ومائتين(3).
عن ضوء بن علي العجلي، عن رجل من أهل فارس - سمّاه - قال: أتيت سرّ من رأى فلزمت باب أبي محمد (عليه السلام) فدعاني من غير أن استأذن، فلما دخلت وسلّمت قال لي: يا أبا فلان كيف حالك؟ ثم قال لي: أ ُقعد يا فلان، ثم سألني عن رجال ونساء من أهلي ثم قال لي: ما الذي أقدمك علي؟ قلت: رغبة في خدمتك، فقال: الزم الدار، قال: فكنت في الدار مع الخدم، ثم صرت اشتري لهم الحوائج من السوق، وكنت أدخل عليه من غير إذن إذا كان في دار الرجال، فدخلت عليه يوماً وهو في دار الرجال فسمعت حركة
ص: 251
في البيت فناداني: مكانك لا تبرح، فلم أجسر أخرج ولا أدخل، فخرجت عليّ جارية ومعها شيء مغطّى، ثم ناداني: أدخل. فدخلت، ونادى الجارية فرجعت، فقال لها: اُكشفي عمّا معك فكشفت عن غلام أبيض حسن الوجه وكشفت عن بطنه فإذا شعر نابت من لبّته إلى سرته(1) أخضر ليس بأسود، فقال: هذا صاحبكم، ثم أمرها فحملته، فما رأيته بعد ذلك حتى مضى أبو محمد (عليه السلام) ، قال ضوء بن علي: فقلت للفارسي: كم كنت تقدّر له من السنين؟ فقال: سنتين، قال العبدي: فقلت لضوء: كم تقدّر له الآن في وقتنا؟ قال: أربعة عشر سنة(2).
عن حكيمة بنت محمد بن علي الرضا (عليه السلام) ، قالت: بعث إليّ أبو محمد (عليه السلام) سنة خمس وخمسين ومائتين في النصف من شعبان، وقال: يا عمّة اجعلي الليلة إفطارك عندي فإنّ اللّه عزّوجلّ سيسرك بوليّه وحجّته على خلقه، خليفتي من بعدي، قالت حكيمة: فتداخلني لذلك سرور شديد وأخذت ثيابي علي وخرجت من ساعتي حتى انتهيت إلى أبي محمد (عليه السلام) وهو جالس في صحن داره وجواريه حوله، فقلت: جعلت فداك يا سيّدي، الخلف ممّن هو؟ قال: من سوسن، فأدرت طرفي فيهن فلم أر جارية عليها أثر غير سوسن، قالت حكيمة: فلما أن صلّيت المغرب والعشاء الآخرة أتيت بالمائدة فأفطرت أنا وسوسن وبايّتها في بيت واحد فغفوت غفوة ثم
ص: 252
استيقظت فلم أزل مفكرة فيما وعدني أبو محمد (عليه السلام) من أمر ولي اللّه (عليه السلام) ، فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم في كل ليلة للصلاة فصلّيت صلاة الليل حتى بلغت إلى الوتر، فوثبت سوسن فزعة وخرجت فزعة، وخرجت وأسبغت الوضوء ثم عادت فصلّت صلاة الليل وبلغت إلى الوتر، فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب فقمت لأنظر فإذا بالفجر الأول قد طلع، فتداخل قلبي الشك من وعد أبي محمد (عليه السلام) فناداني من حجرته: لا تشكّى وكأنّك بالأمر الساعة قد رأيته إن شاء اللّه تعالى، قالت حكيمة: فاستحييت من أبي محمد (عليه السلام) وممّا وقع في قلبي، ورجعت إلى البيت وأنا خجلة فإذا هي قد قطعت الصلاة وخرجت فزعة فلقيتها على باب البيت، فقلت: بأبي أنت وأمّي هل تحسين شيئاً؟ قالت: نعم يا عمّة إنّي لأجد أمراً شديداً، قلت: لا خوف عليك إن شاء اللّه تعالى، وأخذت وسادة فألقيتها في وسط البيت وأجلستها عليها وجلست منها حيث تقعد المرأة من المرأة للولادة، فقبضت على كفّي وغمزت غمزة شديدة ثم أنّت أنّة وتشهّدت ونظرت تحتها فإذا أنا بولي اللّه صلوات اللّه عليه متلقّياً الأرض بمساجده فأخذت بكتفيه فأجلسته في حجري فإذا هو نظيف مفروغ منه، فناداني أبو محمد (عليه السلام) : يا عمّة هلمّي فأتيني بابني، فأتيته به فتناوله وأخرج لسانه فمسحه على عينيه ففتحها ثم أدخله في فيه فحنّكه ثم أدخله في أذنيه وأجلسه في راحته اليسرى فاستوى ولي اللّه جالساً فمسح يده على رأسه، وقال له: يا بني أنطق بقدرة اللّه، فاستعاذ ولي اللّه (عليه السلام) من الشيطان الرجيم واستفتح: {بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ
ص: 253
وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}(1) وصلّى على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) واحداً واحداً حتى انتهى إلى أبيه، فناولنيه أبو محمد (عليه السلام) وقال: يا عمّة ردّيه إلى أمّه حتى تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أنّ وعد اللّه حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون فرددته إلى أمّه وقد انفجر الفجر الثاني فصلّيت الفريضة وعقبت إلى أن طلعت الشمس ثم ودعت أبا محمد (عليه السلام) وانصرفت إلى منزلي، فلّما كان بعد ثلاث اشتقت إلى ولي اللّه فصرت إليهم فبدأت بالحجرة التي كانت سوسن فيها فلم أر أثراً ولا سمعت ذكراً فكرهت أن أسأل فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) فاستحييت أن أبدأه بالسؤال، فبدأني فقال هو: يا عمّة في كنف اللّه وحرزه وستره وغيبه حتى يأذن اللّه له، فإذا غيّب اللّه شخصي وتوفّاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثقات منهم وليكن عندك وعندهم مكتوماً فإنّ ولي اللّه يغيّبه اللّه عن خلقه ويحجبه عن عباده فلا يراه أحد حتى يقدم له جبرئيل (عليه السلام) فرسه ليقضي اللّه أمراً كان مفعولاً(2).
عن موسى بن محمد، قال: حدّثتني حكيمة بنت محمد (عليه السلام) بمثل معنى الحديث الأول إلا أنّها قالت: فقال لي أبو محمد (عليه السلام) : يا عمّة إذا كان اليوم السابع فأتينا، قالت حكمية: فلما أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمد (عليه السلام) وكشفت عنه الستر لأتفقّد سيّدي فلم أره، فقلت له: جعلت فداك ما فعل
ص: 254
سيّدي؟ فقال: يا عمّة استودعناه الذي استودعت أمّ موسى، قالت حكيمة: فلما كان اليوم السابع جئت فسلّمت وجلست، فقال: هلمّوا ابني فجيئت بسيّدي (عليه السلام) وهو في الخرقة ففعل به كفعله الأول ثم أدلى لسانه في فيه كأنّما يغذّيه لبناً وعسلاً، ثم قال: تكلّم يا بني، فقال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وثنّى بالصلاة على محمد وعلى أمير المؤمنين (عليهما السلام) والأئمة (عليهم السلام) حتى وقف على أبيه ثم قرأ: {بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ - إلى قوله - مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}(1)(2).
عن محمد بن إبراهيم، عن حكيمة بمثل معنى الحديث الأول إلا أنّه قال: قالت: بعث إليّ أبو محمد (عليه السلام) ليلة النصف من شهر رمضان(3) سنة خمس وخمسين ومائتين، قالت: وقلت له: يابن رسول اللّه من أُمّه؟، قال (عليه السلام) : نرجس. قالت: فلما كان في اليوم الثالث أشتدّ شوقي إلى ولي اللّه فأتيتهم عائدة فبدأت بالحجرة التي فيها الجارية فإذا أنا بها جالسة في مجلس المرأة النفساء وعليها أثواب صفر وهي معصّبة الرأس، فسلّمت عليها والتفت إلى جانب البيت وإذا بمهد عليه أثواب خضر، فعدلت إلى المهد ورفعت عنه الأثواب فإذا أنا بوليّ اللّه نائم على قفاه غير محزوم ولا مقموط، ففتح عينيه وجعل يضحك ويناجيني بإصبعه، فتناولته وأدنيته إلى فمي لأقبّله فشممت منه رائحة ما شممت قط أطيب منها، وناداني أبو
ص: 255
محمد (عليه السلام) : يا عمّتي هلمّي فتاي إليّ، فتناوله، وقال: يا بني أنطق وذكر الحديث. قالت: ثم تناولته منه وهو يقول: يا بني استودعك الذي استودعته أمّ موسى، كن في دعة اللّه وستره وكنفه وجواره، وقال: ردّيه إلى أمّه يا عمّة واكتمي خبر هذا المولود علينا ولا تخبري به أحداً حتى يبلغ الكتاب أجله، فأتيت أمّه وودّعتهم، وذكر الحديث إلى آخره(1).
عن جماعة من الشيوخ: أنّ حكيمة حدّثت بهذا الحديث وذكرت: أنه كان ليلة النصف من شعبان وأنّ أمّه نرجس... وساقت الحديث إلى قولها: فإذا أنا بحس سيّدي وبصوت أبي محمد (عليه السلام) وهو يقول: يا عمّتي هاتي ابني إليّ، فكشفت عن سيّدي فإذا هو ساجد متلقيّاً الأرض بمساجده وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: {جَاءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(2) فضممته إليّ فوجدته مفروغاً منه فلففته في ثوب وحملته إلى أبي محمد (عليه السلام) ، وذكروا الحديث إلى قوله: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه وأنّ علياً أمير المؤمنين حقّاً، ثم لم يزل يعد السادة والأوصياء إلى أن بلغ إلى نفسه، ودعا لأوليائه بالفرج على يديه ثم أحجم، وقالت: ثم رفع بيني وبين أبي محمد (عليه السلام) كالحجاب فلم أر سيدى، فقلت لأبي محمد: يا سيّدي أين مولاي؟ فقال: أخذه من هو أحقّ منك ومنّا. ثم ذكروا الحديث بتمامه وزادوا فيه: فلما كان بعد أربعين يوماً دخلت على أبي محمد (عليه السلام)
ص: 256
فإذا مولانا الصاحب يمشى في الدار فلم أر وجهاً أحسن من وجهه ولا لغة أفصح من لغته، فقال أبو محمد (عليه السلام) : هذا المولود الكريم على اللّه عزّوجلّ، فقلت: سيّدي أرى من أمره ما أرى وله أربعون يوماً؟ فتبسّم وقال: يا عمّتي أما علمت إنّا معاشر الأئمة ننشأ في اليوم ما ينشأ غيرنا في السنة؟ فقمت فقبّلت رأسه وانصرفت ثم عدت وتفقّدته فلم أره، فقلت لأبي محمد (عليه السلام) : ما فعل مولانا؟ فقال: يا عمّة استودعناه الذي استودعت أمّ موسى(1).
عن إبراهيم بن إدريس، قال: وجّه إليّ مولاي أبو محمد (عليه السلام) بكبش، وقال: عقّه عن ابني فلان وكل وأطعم عيالك، ففعلت ثم لقيته بعد ذلك فقال لي: المولود الذي ولد لي مات، ثم وجّه إلي بكبشين وكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم عقّ هذين الكبشين عن مولاك وكل هناك اللّه وأطعم إخوانك، ففعلت ولقيته بعد ذلك فما ذكر لي شيئاً(2).
سأل أحمد بن إسحاق أبا محمد (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر؟ فأشار بيده، أي إنّه حيّ غليظ الرقبة(3).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمد (عليه السلام) : جلالتك تمنعني من
ص: 257
مسألتك فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل، قلت: يا سيّدي هل لك ولد؟ فقال: نعم. فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: بالمدينة(1).
عن إبراهيم بن مهزيار في حديث له، قال: خرج عليّ... م ح م د ابن الحسن (عليه السلام) ... ثم قال: إنّ أبي (عليه السلام) عهد إليّ أن لا أوطن من الأرض إلاّ أخفاها وأقصاها، إسراراً لأمري وتحصيناً لمحلّي، لمكائد أهل الضلال والمردة من أحداث الأمم الضوال، فنبذني إلى عالية الرمال، وجبت صرائم الأرض(2) ينظرني الغاية التي عندها يحلّ الأمر وينجلي الهلع(3)، وكان (عليه السلام) أنبط لي من خزائن الحكم(4) وكوامن العلوم ما أن أشعت إليك منه جزءاً أغناك عن الجملة.
واعلم يا أبا إسحاق أنه قال (عليه السلام) : يا بني إنّ اللّه جلّ ثناؤه لم يكن ليخلي أطباق أرضه وأهل الجد في طاعته وعبادته بلا حجّة يستعلي بها وإمام يؤتمُّ به ويُقتدى بسبيل سنّته ومنهاج قصده، وأرجو يا بني أن تكون أحد من أعدّه اللّه لنشر الحق ووطئ الباطل وإعلاء الدين وإطفاء الضلال، فعليك يا بني بلزوم خوافي الأرض وتتبّع أقاصيها، فإنّ لكلّ ولي من أولياء اللّه عزّ وجل عدوّاً مقارعاً وضداً منازعاً افتراضاً لمجاهدة أهل النفاق وخلاعة أولي الإلحاد والعناد فلا يوحشنّك ذلك.
ص: 258
واعلم أنّ قلوب أهل الطاعة والإخلاص نزع إليك(1) مثل الطير إلى أوكارها، وهم معشر يطلعون بمخائل الذلّة والاستكانة(2)، وهم عند اللّه بررة أعزّاء يبرزون بأنفس مختلّة محتاجة، وهم أهل القناعة والاعتصام، استنبطوا الدين فوازروه على مجاهدة الأضداد، خصّهم اللّه باحتمال الضيم(3) في الدنيا ليشملهم باتساع العزّ في دار القرار وجبلهم(4) على خلائق الصبر لتكون لهم العاقبة الحسنى وكرامة حسن العقبى.
فاقتبس يا بني نور الصبر على موارد أمورك، تفز بدرك الصنع في مصادرها، واستشعر العزّ فيما ينوبك تحظ بما تحمد غبّه إن شاء اللّه(5)، وكأنّك يا بني بتأييد نصر اللّه وقد آن، وتيسير الفلج وعلو الكعب وقد حان(6)، وكأنّك بالرايات الصفر والأعلام البيض تخفق على أثناء أعطافك(7) ما بين الحطيم وزمزم، وكأنّك بترادف البيعة وتصافي الولاء يتناظم عليك تناظم الدرّ في مثاني العقود، وتصافق الأكف على جنبات الحجر الأسود،
ص: 259
تلوذ بفنائك من ملأ بَرَاهم اللّه من طهارة الولادة ونفاسة التربة، مقدّسة قلوبهم من دنس النفاق، مهذّبة أفئدتهم من رجس الشقاق، ليّنة عرائكهم(1) للدين، خشنة ضرائبهم عن العدوان، واضحة بالقبول أوجههم، نضرة بالفضل عيدانهم(2)، يدينون بدين الحق وأهله، فإذا اشتدت أركانهم، وتقوّمت أعمادهم فدّت بمكانفتهم(3) طبقات الأمم إلى إمام، إذ تبعتك في ظلال شجرة دوحة تشعّبت أفنان غصونها على حافات بحيرة الطبرية(4) فعندها يتلألأ صبح الحق وينجلي ظلام الباطل، ويقصم اللّه بك الطغيان ويعيد معالم الإيمان، يُظهر بك استقامة الآفاق، وسلام الرفاق، يودّ الطفل في المهد لو استطاع إليك نهوضاً، نواشط(5) الوحش لو تجد نحوك مجازاً، تهتزّ بك أطراف الدنيا بهجة، وتنشر عليك أغصان العزّ نضرة وتستقر بواني الحق في قرارها، وتؤوب شوارد الدين(6) إلى أوكارها، تتهاطل عليك سحائب الظفر فتخنق كل عدو، وتنصر كل وليّ، فلا يبقى على وجه الأرض جبّار قاسط ولا جاحد غامط، ولا شانئ مبغض، ولا معاند كاشح {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمْرِهِۦ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٖ
ص: 260
قال إسماعيل بن علي: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) في المرضة التي مات فيها وأنا عنده إذ قال لخادمه عقيد وكان الخادم أسود نوبياً قد خدم من قبله علي بن محمد وهو رَبَّي الحسن (عليه السلام) ، فقال له: يا عقيد أغل لي ماء بمصطكي(3)، فأغلى له ثم جاءت به صقيل الجارية أمّ الخلف (عليه السلام) ، فلما صار القدح في يديه وهمّ بشربه، فجعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن (عليه السلام) فتركه من يده، وقال لعقيد: أدخل البيت فإنّك ترى صبيّاً ساجداً فأئتني به، قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء، فسلّمت عليه فأوجز في صلاته فقلت: إنّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه إذ جاءت أمّه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن (عليه السلام) ، قال أبو سهل: فلما مثل الصبي بين يديه سلّم وإذا هو درّي اللون وفي شعر رأسه قطط مفلّج الأسنان، فلما رآه الحسن (عليه السلام) بكى، وقال: يا سيّد أهل بيته أسقني الماء فإنّي ذاهب إلى ربّي، وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده ثم حرّك شفتيه ثم سقاه، فلما شربه قال: هيّؤوني للصلاة، فطرح في حجره منديل فوضّأه الصبي واحدة واحدة ومسح على رأسه وقدميه، فقال له أبو محمد (عليه السلام) : أبشر يا بني فأنت
ص: 261
صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجّة اللّه على أرضه، وأنت ولدي ووصيّي، وأنا ولدتك وأنت محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ، ولدك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنت خاتم الأوصياء الأئمة الطاهرين وبشّر بك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسمّاك وكنّاك وبذلك عهد إلي أبي عن آبائك الطاهرين صلى اللّه على أهل البيت ربّنا إنه حميد مجيد. ومات الحسن بن علي من وقته صلوات اللّه عليهم أجمعين(1).
حدّثنا أبو الأديان، قال: كنت أخدم الحسن بن علي... وأحمل كتبَهُ إلى الأمصار، فدخلت إليه في علّته التي توفّي فيها (صلوات اللّه عليه) فكتب معي كتاباً وقال: تمضي بها إلى المدائن فإنّك ستغيب خمسة عشر يوماً فتدخل إلى سرّ من رأى اليوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل، قال أبو الأديان: فقلت: يا سيّدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم بعدي. فقلت: زدني، فقال: من يصلّي علي فهو القائم بعدي، فقلت: زدني، فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي...(2).
عن أحمد بن عبد اللّه الهاشمي، قال: حضرت دار أبي محمد الحسن بن
ص: 262
علي (عليه السلام) بسرّ من رأى يوم توفّي وأخرجت جنازته ونحن تسعة وثلاثون رجلاً قعود ننتظر حتى خرج علينا غلام عُشَارِيٌ حاف عليه رداء قد تقنّع به، فلما أن خرج قمنا هيبة له من غير أن نعرفه فتقدّم وقام الناس فاصطفوا خلفه فصلّى عليه ومشى فدخل بيتاً غير الذي خرج منه(1).
عن أبي جعفر العمري، قال: لما ولد السيد (عليه السلام) قال أبو محمد (عليه السلام) : ابعثوا إلى أبي عمرو فبعث اليه، فصار إليه، فقال: اشتر عشرة آلاف رطل خبزاً وعشرة آلاف رطل لحماً وفرّقه أحسبه على بني هاشم وعقّ عنه بكذا وكذا شاة(2).
عن أحمد بن الحسن بن إسحاق القمّي، قال: لما وُلد الخلف الصالح (عليه السلام) ورد من مولانا أبي محمد الحسن بن علي إلى جدّي أحمد بن إسحاق كتاب فإذا فيه مكتوب بخطّ يده (عليه السلام) الذي كان ترد به التوقيعات عليه وفيه: ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً فإنّا لم نظهر عليه إلاّ الأقرب لقرابته والولي لولايته أحببنا إعلامك ليسرّك اللّه له مثل ما سرّنا به والسلام(3).
عن أبي غانم الخادم، قال: ولد لأبي محمد (عليه السلام) ولد فسمّاه محمداً،
ص: 263
فعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال: هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً(1).
عن جماعة من الشيعة، قالوا: اجتمعنا إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) نسأله عن الحجّة من بعده وفي مجلسه أربعون رجلاً، فقام إليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمري، فقال له: يا بن رسول اللّه أريد أن أسألك عن أمر أنت أعلم به منيّ، فقال له: اجلس يا عثمان، فقام مغضباً ليخرج، فقال: لا يخرجن أحد، فلم يخرج منّا أحد إلى أن كان بعد ساعة فصاح (عليه السلام) بعثمان، فقام على قدميه، فقال: أخبركم بما جئتم؟ قالوا: نعم يا بن رسول اللّه، قال: جئتم تسألوني عن الحجّة من بعدي، قالوا: نعم، فإذا غلام كأنّه قِطَعُ قمر أشبه الناس بأبي محمد (عليه السلام) ، فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ألا وأنّكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتمّ له عُمُرٌ، فاقبلوا من عثمان ما يقوله وانتهوا إلى أمره، واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه(2).
عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً:
ص: 264
يا أحمد بن إسحاق إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض وبه ينزل الغيث وبه تخرج بركات الأرض، قال: فقلت له: يابن رسول اللّه فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين، وقال: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على اللّه وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا إنّه سميّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكنيّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يا أحمد بن إسحاق مثله في هذه الأمة مثل الخضر (عليه السلام) ومثله مثل ذي القرنين، واللّه ليغيبنّ غيبةً لا ينجو من الهلكة فيها إلا من ثبّته اللّه تعالى على القول بإمامته ووفقه للدعاء بتعجيل فرجه، قال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي فهل من علامة تطمئن قلبي؟
فنطق الغلام بلسان عربي فصيح، فقال: أنا بقيّة اللّه في أرضه والمنتقم من أعداء اللّه فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق. قال أحمد بن إسحاق: فخرجت فرحاً مسروراً فلما كان من الغد عدت إليه فقلت له: يا ابن رسول اللّه لقد عظم سروري بما مننت به عليّ فما السنّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟ قال (عليه السلام) : طول الغيبة يا أحمد. قلت: يابن رسول اللّه وإنّ غيبته لتطول؟ قال: أي وربّي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به ولا يبقى إلا من أخذ اللّه عهده لولايتنا وكتب في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه، يا أحمد بن إسحاق هذا أمر من أمر اللّه وسرّ من سرّ اللّه وغيب من غيب اللّه فخذ ما أتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في عليين(1).
ص: 265
عن أحمد بن إسحاق، قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) يقول: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه اللّه تبارك وتعالى في غيبته ثم يظهره فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً(1).
عن عيسى بن صبيح، قال: دخل الحسن العسكري (عليه السلام) علينا الحبس وكنت به عارفاً وقال: لك خمس وستون سنة وأشهراً ويوماً، وكان معي كتاب دعاء وعليه تاريخ مولدي وإنّني نظرت فيه فكان كما قال، وقال: هل رزقت من ولد؟ قلت: لا. قال: اللّهم أرزقه ولداً يكون له عضد فنعم العضد الولد ثم تمثّل:
من كان ذا عضد يدرك ظلامته***إن الذليل الذي ليست له عضد
قلت: ألك ولد؟ قال: أي واللّه سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فأمّا الآن فلا، ثم تمثّل:
لعلك يوماًً أن تراني كأنّما***بنى حوالي الأسود اللوابد
فإنّ تميماًً قبل أن يلد الحصى***أقام زماناً وهو في الناس واحد(2)
عن موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي (عليه السلام) يقول: كأنّي بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي، أما إنّ
ص: 266
المقرّ بالأئمة بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المنكر لولدي كمن أقر بجميع أنبياء اللّه ورسله ثم أنكر نبوة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والمنكر لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كمن أنكر جميع أنبياء اللّه، لأنّ طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، أما إنّ لولدي غيبةً يرتاب فيها الناس إلا من عصمه اللّه عزّوجلّ(1).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت محبوساً مع أبي محمد (عليه السلام) في حبس المهتدي بن الواثق، فقال (عليه السلام) لي: إنّ هذا الطاغي أراد أن يتعبّث باللّه في هذه الليلة وقد بتر اللّه عمره وَسَاءَ رزقُهُ فلما أصبحنا شغب الأتراك على المهتدي فقتلوه وولي المعتمد مكانه وسلّمنا اللّه(2).
عن داود بن قاسم الجعفري، قال: كنت عند أبي محمد (عليه السلام) ، فقال: إذا قام القائم يهدم المنار والمقاصير التي في المساجد. فقلت في نفسي: لأيّ معنى هذه؟ فأقبل علي فقال: معنى هذا إنّها محدّثة مبتدعة لم يبنها نبي ولا حجّة(3).
عن يعقوب بن منقوش، قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) وهو جالس على دكان(4) في الدار وعن يمينه بيت عليه ستر
ص: 267
مسبل(1)، فقلت له: سيّدي من صاحب هذا الأمر؟ فقال (عليه السلام) : أرفع الستر، فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك واضح الجبين، أبيض الوجه، درّي(2) المقلتين شثن(3) الكفّين، معطوف الركبتين(4)، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة(5)، فجلس على فخذ أبي محمد (عليه السلام) ، فقال لي: هذا صاحبكم، ثم وثب، فقال له: يا بني أدخل إلى الوقت المعلوم، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثم قال لي: يا يعقوب أنظر من في البيت، فدخلت فما رأيت أحداً(6).
قال (عليه السلام) : الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه اللّه تبارك وتعالى في غيبته ويظهره فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(1).
عن محمد بن عثمان العمري (قدس اللّه روحه)، قال: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي (عليه السلام) وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام) : أنّ الأرض لا تخلو من حجّة اللّه على جميع خلقه إلى يوم القيامة، وأنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، فقال: إنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حقّ. فقيل له: يا بن رسول اللّه فمن الحجّة والإمام بعدك؟
فقال: ابني محمد هو الإمام والحجّة بعدي، فمن مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما أنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون ويهلك فيها المبطلون ويكذب فيها الوقّاتون ثم يخرج فكأنّي انظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة(2).
قال بشر بن سليمان النخاس - وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد (عليه السلام) وجارهما بسر من رأى - : أتاني كافور الخادم، فقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) يدعوك إليه،
ص: 269
فأتيته، فلما جلست بين يديه، قال لي: يا بشر إنّك من ولد الأنصار وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بها بسر أطلعك عليه وأنفذك في ابتياع أمّة، فكتب كتاباً لطيفاً بخطّ رومي ولغة رومية وطبع عليه خاتمه وأخرج شقيقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: خذها وتوجّه بها إلى بغداد واحضر مَعبَرَ الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وترى الجواري فيها ستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشرذمة من فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فاشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخاس عامّة نهارك، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا لابسة حريرين صفيقين تمتنع من العرض ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها وتسمع صرخة رومية من وراء ستر رقيق، فاعلم أنّها تقول: واهتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين على ثلاثمائة دينار: قد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول له بالعربية: لو برزت في زيّ سليمان بن داود وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك، فيقول النخّاس: فما الحيلة ولابد من بيعك؟ فتقول الجارية: وما العجلة ولابد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقل له: إنّ معك كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخطّ رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حدّه لي مولاي أبو الحسن (عليه السلام)
ص: 270
في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاءً شديداً وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرَّجة والمغلّظة أنّه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحُّهُ في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عليه السلام) من الدنانير، فاستوفاه منّي وتسلّمت الجارية ضاحكة مستبشرة وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت أوى إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا (عليه السلام) من جيبها وهي تلثمه وتطبقه على جفنها وتضعه على خدّها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجّباً منها: تلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه، فقالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء أعرني سمعك وفرغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم وأمّي من وُلد الحواريين تنسب إلى وصيّ المسيح شمعون أنبئك بالعجب: إنّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين من القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار منهم سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقوّاد العسكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهى ملكه عرشاً مصنوعاً من أصناف الجوهر إلى صحن القصر ورفعه فوق أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه وأحدقت الصلب وقامت الأساقفة عكفاً ونشرت أسفار الإنجيل تسافلت الصلب من الأعلى فلصقت بالأرض وتقوّضت أعمدة العرش فانهارت إلى القرار وخرّ الصاعد من العرش مغشياً عليه فتغيّرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدّي: أيّها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال دولة هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطيّر
ص: 271
جدّي من ذلك تطيراً شديداً وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان واحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جدّه لأزوّجه هذه الصبيّة فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني مثل ما حدث على الأول وتفرّق الناس، وقام جدّي قيصر مغتمّاً فدخل منزل النساء وأرخيت الستور ورأيت في تلك الليلة كأنّ المسيح وشمعون وعدّة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدّي ونصبوا فيه منبراً من نور يباري السماء علّواً وارتفاعاً في الموضع الذي كان نصب جدّي فيه عرشه ودخل عليهم محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وختنه ووصيه (عليه السلام) وعدّة من أبنائه (عليهم السلام) ، فتقدّم المسيح إليه فاعتنقه فيقول له محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا روح اللّه إنّي جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، أومأ بيده إلى أبي محمد (عليه السلام) ابن صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون، وقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك رحم آل محمد (عليهم السلام) ، قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر فخطب محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وزوّجني من ابنه وشهد المسيح (عليه السلام) وشهد أبناء محمد (عليهم السلام) والحواريون، فلما استيقظت أشفقت أن أقصّ هذه الرؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل فكنت أسرّها ولا أبديها لهم وضرب صدري بمحبّة أبي محمد (عليه السلام) حتى امتنعت من الطعام والشراب فضعفت نفسي ودقّ شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدّي وسأله عن دوائي فلما برح به اليأس، قال: يا قرّة عيني وهل يخطر ببالك شهوة فأزوّدكيها في هذه الدنيا، فقلت: يا جدّي أرى أبواب الفرج عليّ مغلقة فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدّقت عليهم ومنيتهم الخلاص رجوتُ أن يهب لي
ص: 272
المسيح وأمّه عافية، فلما فعل ذلك تجلّدت في إظهار الصحّة من بدني قليلاً وتناولت يسيراً من الطعام، فسرّ بذلك وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم، فأريت أيضاً بعد أربع عشرة ليلة كأنّ سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السلام) قد زارتني ومعها مريم ابنة عمران وألف من وصائف الجنان فتقول لي مريم: هذه سيدة نساء العالمين أمّ زوجك أبي محمد (عليه السلام) فأتعلّق بها وأبكي واشكوا إليها امتناع أبي محمد (عليه السلام) من زيارتي، فقالت سيدة النساء (عليها السلام) : إنّ ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة باللّه على مذهب النصارى وهذه أختي مريم بنت عمران تبرأ إلى اللّه تعالى من دينك، فإن ملت إلى رضى اللّه ورضى المسيح ومريم (عليهما السلام) وزيارة أبي محمد إيّاك فقولي: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ أبي محمداً رسول اللّه، فلمّا تكلّمت بهذه الكلمة ضمّتني إلى صدرها سيدة نساء العالمين (عليها السلام) وطيّبت نفسي، وقالت: الآن توقّعي زيارة أبي محمد فإنّي منفذته إليك، فانتبهت وأنا أقول وأتوقّع لقاء أبي محمد (عليه السلام) ، فلما كان في الليلة القابلة رأيت أبا محمد (عليه السلام) وكأنّي أقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أن أتلفت نفسي معالجة حبّك، فقال: ما كان تأخّري عنك إلا لشركك فقد أسلمت وأنا زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع اللّه تعالى شملنا في العيان، فما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية، قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في الأسارى، فقالت: أخبرني أبو محمد (عليه السلام) ليلة من الليالي: إنّ جدّك سيسيّر جيشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا ثم يتبعهم فعليك باللحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت ذلك فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وشاهدت وما شعر بأنّي ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية أحد سواك
ص: 273
وذلك باطلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت: نرجس، فقال: اسم الجواري، قلت: العجب أنّك روميّة ولسانك عربي، قالت: نعم من ولوع جدّي وحمله إيّاي على تعلّم الآداب أن أوعز إلى امرأة ترجمانة لي في الاختلاف إلي وكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربية حتى استمر لساني عليها واستقام.
قال بشر: فلما انكفأت بها إلى سرّ من رأى دخلت على مولاي أبي الحسن (عليه السلام) ، فقال: كيف أراك اللّه عزّ الإسلام وذلّ النصرانية وشرف محمد وأهل بيته (عليهم السلام) ؟ قالت: كيف أصف لك يا بن رسول اللّه ما أنت أعلم به منّي، قال: فإنّي أحببت أن أكرمك فما أحب إليك عشرة آلاف دينار أم بشرى لك بشرف الأبد؟ قالت: بشرى بولد لي، قال لها: أبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. قالت: ممّن؟ قال: ممّن خطبك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له ليلة كذا في شهر كذا من سنة كذا بالرومية، قالت: من المسيح ووصيّه؟ قال لها: ممّن زوجّك المسيح (عليه السلام) ووصيه، قالت: من ابنك أبي محمد (عليه السلام) ؟ فقال: هل تعرفينه؟ قالت: وهل خلت ليلة لم يرني فيها منذ الليلة التي أسلمت على يد سيدة النساء (صلوات اللّه عليها)؟! قال: فقال مولانا: يا كافور أدع أختي حكيمة، فلما دخلت قال لها: ها هية فاعتنقتها طويلاً وسرت بها كثيراً، فقال لها أبو الحسن (عليه السلام) : يا بنت رسول اللّه خذيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن فإنّها زوجة أبي محمد وأمّ القائم (عليهما السلام) (1).
ص: 274
قال يحيى بن المرزبان: التقيت رجلاً من أهل السيب(1)
سيماه الخير وأخبرني أنه كان له ابن عم ينازعه في الإمامة والقول في أبي محمد (عليه السلام) ، فقلت: لا أقول به أو أرى علامة، فوردت العسكر في حاجة، فأقبل أبو محمد (عليه السلام) ، فقلت: في نفسي متعنّتاً إن مدّ يده إلى رأسه فكشفه ثم نظر إليّ ورده قلت به، فلما حاذاني مدّ يده إلى رأسه فكشفه ثم برق عينيه فيّ ثم ردّها ثم قال: يا يحيى ما فعل ابن عمك الذي تنازعه في الإمامة؟ فقلت: خلفته صالحاً، فقال: لا تنازعه ومضى(2).
روي عن أحمد بن محمد بن مطهر، قال: كتب بعض أصحابنا من أهل الجبل إلى أبي محمد (عليه السلام) يسأله عمّن وقف على أبي الحسن موسى (عليه السلام) أتولاهم أم أتبرّأ منهم؟ فكتب إليه: لا تترحّم على عمّك، لا رحم اللّه عمّك وتبرّأ منه، أنا إلى اللّه منه بريء فلا تتولَّاهم ولا تعد مرضاهم ولا تشهد جنائزهم ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً، سواء من جحد إماماً من اللّه أو أزاد إماماً ليست إمامته من اللّه اوجحد او قال ثالث ثلاثة، إنّ الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أوّلنا، والزايد فينا كالناقص الجاحد أمرنا، وكان هذا أي السائل لا يعلم أنّ عمّه منهم فأعلمه ذلك(3).
ص: 275
عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنت في الحبس المعروف بحبس حسيس في الجوسق الأحمر(1)، أنا والحسن بن محمد العقيقي ومحمد بن إبراهيم العمري وفلان وفلان، إذ دخل علينا أبو محمد الحسن (عليه السلام) وأخوه جعفر، فخففنا له وكان المتولّي لحبسه صالح بن وصيف وكان معنا في الحبس رجل جُمَحِيٌّ يقول: أنه علوي، قال: فالتفت أبو محمد (عليه السلام) فقال: لولا أنّ فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرّج عنكم، وأومأ إلى الجمحى أن يخرج، فقال أبو محمد: هذا ليس منكم فاحذروه فإنّ في ثيابه قِصّة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما تقولون فيه، فقام بعضهم: ففتّش ثيابه فوجد القصة يذكرنا فيها بكل عظيمة، وكان الحسن (عليه السلام) يصوم فإذا أفطر أكلنا معه من طعام كان يحمله غلامه إليه في جونة مختومة وكنت أصوم معه، فلما كان ذات يوم ضعفت فأفطرت في بيت آخر على كعكة وما شعر واللّه به أحد، ثم جئت فجلست معه، فقال لغلامه: أطعم أبا هاشم شيئاً فإنّه مُفطر، فتبسّمت، فقال: ما يضحكك يا أبا هاشم؟ إذا أردت القوة فكل اللحم فإنّ الكعك لا قوّة فيه، فقلت: صدق اللّه ورسوله وأنتم، فقال لي: أفطر ثلاثاً فإنّ المنّة لا ترجع إذا نهكها الصوم في أقل من ثلاث. فلما كان في اليوم الذي أراد اللّه أن يفرّج عنه جاءه الغلام فقال: يا سيّدي أحمل فطورك، فقال: أحمل وما أحسُبُ أنا نأكل منه، فحمل الغلام الطعام للظهر وأطلق عنه عند العصر وهو صائم، وقال: كلوا
ص: 276
هنّأكم اللّه(1).
عن محمد بن الحسن، قال: وافت جماعة من الأهواز من أصحابنا وخرج السلطان إلى صاحب البصرة، فخرجنا نريد النظر إلى أبي محمد (عليه السلام) فنظرنا إليه ماضياً معه وقد قعدنا بين الحائطين بسرّ من رأي ننتظر رجوعه، فرجع، فلما حاذانا وقرب منّا وقف ومدّ يده إلى قلنسوته فأخذها عن رأسه وأمسكها بيده وأمر يده الأخرى على رأسه وضحك في وجه رجل منّا، فقال الرجل مبادراً: أشهد أنّك حجّة اللّه وخيرته، فقلنا: يا هذا ما شأنك؟ قال: كنت شاكاً فيه فقلت في نفسي: إنّ رجع وأخذ القلنسوة من رأسه قلت بإمامته(2).
عن أبي يعقوب يوسف بن زياد وعلي بن سيار (قال): حضرنا ليلة على غرفة الحسن بن علي بن محمد (عليه السلام) وقد كان ملك الزمان له معظّماً وحاشيته له مبجّلين إذ مرّ علينا والي البلد - والي الجسرين - ومعه رجل مكتوف، والحسن بن علي (عليه السلام) مشرف من روزنته، فلمّا رآه الوالي ترجّل عن دابته إجلالاً له. فقال الحسن بن علي (عليه السلام) :
عد إلى موضعك، فعاد وهو معظِّمٌ له، وقال: يا بن رسول اللّه أخذت هذا في هذه الليلة على باب حانوت صيرفي فاتهمته بأنّه يريد نقبه والسرقة منه
ص: 277
فقبضت عليه، فلمّا هممت أن أضربه خمسمائة سوط - وهذا سبيلي فيمن أتهمه ممّن آخذه لئلا يسألني فيه من لا اطيق مدافعته ليكون قد شقي ببعض ذنوبه قبل أن يأتيني من لا أطيق مدافعته - فقال لي: اتق اللّه ولا تتعرّض لسخط اللّه فإنّي من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وشيعة هذا الإمام، أبي القائم بأمر اللّه (عليه السلام) ، فكففت عنه وقلت: أنا مارّ بك عليه فإن عرفك بالتشيّع أطلقت عنك، وإلاّ قطعت يدك ورجلك بعد أن أجلدك ألف سوط وجئتك يا بن رسول اللّه، فهل هو من شيعة علي (عليه السلام) كما ادّعى؟
فقال الحسن بن علي (عليه السلام) :
معاذ اللّه ما هذا من شيعة علي (عليه السلام) وإنّما ابتلاه اللّه في يدك لاعتقاده في نفسه أنه من شيعة علي (عليه السلام) .
فقال الوالي: الآن كفيتني مؤونته، الآن أضربه خمسمائة لا حرج عليّ فيها. فلما نحّاه بعيداً فقال: أبطحوه، فبطحوه وأقام عليه جلاّدين واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، وقال: أوجعاه، فأهويا إليه بعصيهما فكان لا يصيبان أسته شيئاً، إنّما يصيبان الأرض فضجر من ذلك، فقال: ويلكم تضربون الأرض، اضربوا إسته، فذهبوا يضربون إسته فعدلت أيديهما فجعلا يضرب بعضهما بعضاً ويصيح ويتأوّه، فقال لهما: ويحكما مجانين أنتما؟ يضرب بعضكما بعضاً، أضربا الرجل، فقالا: ما نضرب إلاّ الرجل وما نقصد سواه ولكن يعدل أيدينا حتى يضرب بعضنا بعضاً، قال: فقال: يا فلان ويا فلان حتى دعا أربعةً وصاروا مع الأولين ستة، وقال: أحيطوا به، فأحاطوا به فكان يعدل بأيديهم ويرفع عصيهم إلى فوق فكانت لا تقع إلاّ بالوالي فسقط عن دابته، وقال: قتلتموني قتلكم اللّه، ما هذا؟ فقالوا: ما ضربنا إلاّ إياه، ثم قال
ص: 278
لغيرهم: تعالوا فضربوه هذا، فجاءوا فضربوه بعد. فقال: ويلكم إيّاي تضربون؟ فقالوا: واللّه ما نضرب إلاّ الرجل، قال الوالي: فمن أين لي هذه الشجّات برأسي ووجهي وبدني إن لم تكونوا تضربوني؟! فقالوا: شُلّت أيماننا إن كنّا قد قصدناك بضرب، فقال الرجل: يا عبد اللّه أما تعتبر بهذه الألطاف التي بها يُصرف عنّي هذا الضرب؟ ويلك ردّني إلى الإمام وامتثل فيّ أمره. قال: فردّه الوالي بعد إلى بين يدي الحسن بن علي (عليه السلام) فقال: يا بن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عجبنا لهذا، أنكرت أن يكون من شيعتكم ومن لم يكن من شيعتكم فهو من شيعة إبليس وهو في النار، وقد رأيت له من المعجزات ما لا يكون إلاّ للأنبياء، فقال الحسن بن علي (عليه السلام) : قل أو للأوصياء، فقال: أو للأوصياء.
فقال الحسن بن علي (عليه السلام) للوالي: يا عبد اللّه إنه كذب في دعواه أنه من شيعتنا كذبة لو عرفها ثم تعمّدها لابتُلى بجميع عذابك، ولبقي في المطبق ثلاثين سنة ولكن اللّه تعالى رحمه لإطلاق كلمة على ما عنى لا على تعمّد كذب وأنت يا عبد اللّه، فاعلم أنّ اللّه عزّ وجل قد خلّصه بأنه من موالينا ومحبيّنا وليس من شيعتنا.
فقال الوالي: ما كان هذا كلّه عندنا إلاّ سواء، فما الفرق؟
قال له الإمام (عليه السلام) : الفرق أنّ شيعتنا هم الذين يتّبعون آثارنا ويطيعونا في جميع أوامرنا ونواهينا فأولئك من شيعتنا، فأمّا من خالفنا في كثير ممّا فرضه اللّه عليه فليسوا من شيعتنا، قال الإمام (عليه السلام) للوالي: وأنت قد كذبت كذبة لو تعمّدتها وكذبتها لابتلاك اللّه عزّ وجل بضرب ألف سوط وسجن ثلاثين سنة في المطبق.
ص: 279
قال: وما هي يا بن رسول اللّه؟ قال: بزعمك أنّك رأيت له معجزات أنّ المعجزات ليست له إنّما هي لنا أظهره اللّه فيه إبانة لحجّتنا وإيضاحاً لجلالتنا وشرفنا، ولو قلت: شاهدت فيه معجزات لم أنكره عليك، أليس إحياء عيسى (عليه السلام) الميّت معجزة أهي للميت أم لعيسى، أوَ ليس خلقه من الطين كهيئة الطير فصار طيراً بإذن اللّه؟ أهي للطائر أو لعيسى، أوَ ليس الذين جعلوا قردة خاسئين معجزة؟ فهي معجزة للقردة أو لنبي ذلك الزمان؟
فقال الوالي: استغفر اللّه ربّي وأتوب إليه.
قال الحسن بن علي (عليه السلام) للرجل الذي أنه أنا من شيعة علي (عليه السلام) : يا عبد اللّه لست من شيعة علي (عليه السلام) إنّما أنت من محبّيه، وإنّما شيعة علي (عليه السلام) الذين قال عزّ وجل فيهم: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(1) هم الذين آمنوا باللّه ووصفوه بصفاته ونزّهوه عن خلاف صفاته وصدّقوا محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أقواله وصوّبوه في كلّ أفعاله ورأوا علياً بعده سيداً إماماً وقرماً هُماماً لا يعدله من أمّة محمد أحد ولا كلّهم لو جمعوا في كفّة يوزنون بوزنه، بل يرجح عليهم كما ترجح السماء علی الأرض والأرض على الذرّة، وشيعة علي (عليه السلام) هم الذين لا يبالون في سبيل اللّه أ وقع الموت عليهم أو وقعوا على الموت، وشيعة علي (عليه السلام) هم الذين يؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وهم الذين لا يراهم اللّه حيث نهاهم ولا يفقدهم من حيث أمرهم، وشيعة علي (عليه السلام) هم الذين يقتدون بعلي (عليه السلام) في إكرام إخوانهم المؤمنين، ما عن قولي أقول لك هذا
ص: 280
بل أقوله عن قول محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فذلك قوله تعالى: {وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ} قضوا الفرائض كلّها بعد التوحيد واعتقاد النبوّة والإمامة، وأعظمها: قضاءُ حقوق الإخوان في اللّه واستعمال التقية من أعداء اللّه عزّ وجلّ(1).
عن عيسى بن مهدي الجوهري في حديث له: ... لما دخلنا على سيدنا أبي محمد الحسن (عليه السلام) بدأنا بالبكاء... فجهرنا بالبكاء بين يديه ونحن ما ينيف عن سبعين رجلاً من أهل السواد، فقال (عليه السلام) : إنّ البكاء من السرور بنعم اللّه مثل الشكر لها فطيبوا نفساً وقرّوا عيناً إنّكم على دين اللّه الذي جاءت به ملائكته وكتبه ورسله، وإنّكم كما قال جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: إيّاكم أن تزهدوا في الشيعة فإنّ فقيرهم الممتحن المتقي عند اللّه يوم القيامة له شفاعة عند اللّه يدخل فيها مثل ربيعة ومُضر، فإذا كان هذا لكم من فضل اللّه عليكم وعلينا فيكم فأيّ شيء بقي لكم؟ فقلنا بأجمعنا: الحمد لله والشكر له ولكم يا سادتنا فبكم بلغنا هذه المنزلة فقال: بلغتموها باللّه وبطاعتكم إيّاه واجتهادكم بطاعته وعبادته وموالاتكم لأوليائه ومعاداتكم لأعدائه...(2).
نقل أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار - وكانا من الشيعة الإمامية - فقالا: كان أبوانا إماميين، وكانت
ص: 281
الزيدية هم الغالبون بأسترآباذ، وكنّا في إمارة الحسن بن زيد العلوي الملقّب ب- (الداعي إلى الحق)، إمام الزيدية، وكان كثير الإصغاء إليهم، يقتل الناس بسعاياتهم، فخشينا على أنفسنا، فخرجنا بأهلينا إلى حضرة الإمام أبي محمد الحسن بن علي بن محمد أبي القائم (عليه السلام) .
فأنزلنا عيالاتنا في بعض الخانات، ثم استأذنا على الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) ، فلما رآنا قال: مرحباً بالآوين إلينا الملتجئين إلى كنفنا، قد تقبّل اللّه تعالى سعيكما، وأمن روعتكما وكفاكما أعداءكما، فانصرفا آمنين على أنفسكما، وأموالكما، فعجبنا من قوله ذلك لنا مع أنّا لم نشك في صدق مقاله.
فقلنا: فماذا تأمرنا أيّها الإمام أن نصنع في طريقنا إلى أن ننتهي إلى بلد خرجنا من هناك؟ وكيف ندخل ذلك البلد، ومنه هربنا وطلب سلطان البلد لنا حثيث ووعيده إيّانا شديد؟ فقال (عليه السلام) : خلفا علي ولديكما هذين لأفيدهما العلم الذي يشرّفهما اللّه تعالى به، ثم لا تحفلا بالسعاة ولا بوعيد المسعي إليه، فإنّ اللّه عزّوجلّ يقصم السعاة ويلجئهم إلى شفاعتكم فيه عند من قد هربتم منه.
قال أبو يعقوب وأبو الحسن: فأتمرا بما أمرا وخرجا وخلفانا هناك وكنّا نختلف إليه فيتلقانا ببر الآباء وذوي الأرحام الماسّة، فقال لنا ذات يوم: إذا أتاكما خبر كفاية اللّه عزّوجلّ أبويكما واخزائه أعدائهما وصدق وعدي إيّاهما، جعلت من شكر اللّه عزّوجلّ أن أفيدكما تفسير القرآن، مشتملاً على بعض أخبار آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيعظم اللّه تعالى بذلك شأنكما. قالا: ففرحنا وقلنا: يا بن رسول اللّه فإذاً نأتي على جميع علوم القرآن ومعانيه، قال: كلا إنّ الصادق (عليه السلام) علَّم ما أريد إن أعلمكما بعض أصحابه ففرح بذلك، وقال:
ص: 282
يا بن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد جمعت علم القرآن كلّه، فقال: قد جمعت خيراً كثيراً وأوتيت فضلاً واسعاً، لكنّه مع ذلك أقلّ قليل أجزاء علم القرآن إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: {قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِۦ مَدَدًا}(1) ويقول: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَٰمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنۢ بَعْدِهِۦ سَبْعَةُ أَبْحُرٖ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِ}(2)، وهذا علم القرآن ومعانيه وما أودع من عجائبه فكم ترى مقدار ما أخذته من جميع هذا ولكن القدر الذي أخذته قد فضلك اللّه تعالى به على كل من لا يعلم كعلمك ولا يفهم كفهمك، قالا: فلم نبرح من عنده حتى جاءنا فيج(3) قاصد من عند أبوينا بكتاب يذكر فيه أن الحسن بن زيد العلوي قتل رجلاً بسعاية أولئك الزيدية واستصفى ماله ثم أتته الكتب من النواحي والأقطار المشتملة على خطوط الزيدية بالعذل(4) الشديد والتوبيخ العظيم يذكر فيها أن ذلك المقتول كان من أفضل زيدي على ظهر الأرض وأنّ السعاة قصدوه لفضله وثروته فتنكّر لهم، وأمر بقطع أنافهم وآذانهم، وأنّ بعضهم قد مثل به لذلك وآخرين قد هربوا. وأنّ العلوي ندم، واستغفر وتصدّق بالأموال الجليلة بعد أن ردّ أموال ذلك المقتول على ورثته، وبذل لهم أضعاف ديّة وليهم المقتول، واستحلّهم؟ ففقالوا: أمّا الدية فقد أحللناك منها وأما الدم فليس إلينا إنّما هو إلى المقتول واللّه الحاكم، وأنّ العلوي نذر لله عزّوجلّ أن لا
ص: 283
يعرض للناس في مذاهبهم، وفي كتاب أبويهما أنّ الداعي إلى الحق الحسن بن زيد قد أرسل إلينا ببعض ثقاته بكتابه وخاتمه وأمانه وضمن لنا ردّ أموالنا وجبر النقص الذي لحقنا فيها وإنا صائران إلى البلد ومتنجزان ما وعدنا، فقال الإمام (عليه السلام) : إنّ وعد اللّه حق، فلما كان اليوم العاشر جاءنا كتاب أبوينا أنّ الداعي إلى الحقّ قد وفى لنا بجميع عداته وأمرنا بملازمة الإمام العظيم البركة الصادق الوعد، فلما سمع الإمام (عليه السلام) بهذا قال: هذا حين إنجازي ما وعدتكما من تفسير القرآن، ثم قال: قد وظّفت لكما كل يوم شيئاً منه تكتبانه فالزماني وواظبا علي يوفّر اللّه تعالى من السعادة حظوظكما، فأول ما أملى علينا أحاديث في فضل القرآن وأهله، ثم أملى علينا التفسير بعد ذلك فكتبنا في مدّة مقامنا عنده وذلك سبع سنين نكتب في كل يوم منه مقدار ما ننشط له(1).
عن الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال: أعرف الناس بحقوق إخوانه، وأشدّهم قضاءاً لها، أعظمهم عند اللّه شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللّه من الصدّيقين، ومن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) حقّاً.
ولقد ورد على أمير المؤمنين (عليه السلام) إخوان له مؤمنان: أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما، وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين أيديهما، ثم أمر بطعام، فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب، ومنديل لليُبس، وجاء ليصبّ على يد الرجل ماءاً، فوثب أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخذ
ص: 284
الإبريق ليصبّ على يد الرجل فتمرّغ الرجل في التراب، وقال يا أمير المؤمنين، اللّه يراني وأنت تصبّ على يدي؟!، قال: أقعد واغسل يدك فإنّ اللّه عزّ وجل يراك وأخوك الذي لا يتميّز منك ولا يتفضّل عليك يخدمك! يريد بذلك في خدمة في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها، فقعد الرجل. فقال له علي (عليه السلام) : أقسمت عليك بعظيم حقّي الذي عرفته وبجلته وتواضعك لله بأن ندبني لما شرّفك به من خدمتي لك، لما غسلت مطمئناً كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبراً، ففعل الرجل، فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية، وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن اللّه يأبى أن يسوّي بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان لكن قد صبّ الأب على الأب فليصبّ الابن على الابن، فصبّ محمد بن الحنفية على الابن. ثم قال الحسن العسكري (عليه السلام) : فمن اتبع علياً (عليه السلام) على ذلك فهو الشيعي حقّاً(1).
عن عيسى بن مهدي الجوهري، قال: خرجت أنا والحسن بن مسعود والحسين بن ابراهيم وعتاب وطالب ابنا حاتم ومحمد بن سعيد وأحمد بن الخطيب وأحمد بن جنان من جُنبُلا إلى سامراء في سنة سبع وخمسين ومائتين، فعدلنا من المدائن إلى كربلاء، فرأينا أثر سيدنا أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان، فلقينا إخواننا المجاورين بسامراء لمولانا أبي محمد الحسن (عليه السلام) لنّهنئه بمولد مولانا المهدي (عليه السلام) ، فبشّرنا
ص: 285
إخواننا أنّ المولود كان طلوع الفجر من يوم الجمعة لثمان ليال خلت من شعبان وهو ذلك الشهر، فقضينا زيارتنا ببغداد، فزرنا أبا الحسن موسى بن جعفر... وصعدنا إلى سامراء فلمّا دخلنا على سيدنا أبي محمد الحسن (عليه السلام) بدأنا بالبكاء قبل التهنئة، فجهرنا بالبكاء بين يديه ونحن ما ينيف عن سبعين رجلاً من أهل السواد.
فقال (عليه السلام) : إنّ البكاء من السرور بنعم اللّه مثل الشكر لها، فطيبوا نفساً وقرّوا عيناً، فواللّه إنّكم على دين اللّه الذي جاءت به ملائكته وكتبه ورسله، وإنّكم كما قال جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إنّه قال: إيّاكم أن تزهدوا في الشيعة فإنّ فقيرهم الممتحن المتقي عند اللّه يوم القيامة له شفاعة عند اللّه يدخل فيها مثل ربيعة ومضر، فإذا كان هذا لكم من فضل اللّه عليكم وعلينا فيكم فايّ شيء بقي لكم؟ فقلنا بأجمعنا: الحمد لله والشكر له ولكم يا سادتنا، فبكم بلغنا هذه المنزلة، فقال (عليه السلام) : بلغتموها باللّه وبطاعتكم إيّاه، واجتهادكم بطاعته، وعبادته وموالاتكم لأوليائه ومعاداتكم لأعدائه.
قال عيسى بن مهدي الجوهري: فأردنا الكلام والمسألة، فأجابنا قبل السؤال: أما فيكم من أظهر مسألتي عن ولدي المهدي؟ فقلنا: وأين هو؟ فقال: استودعته اللّه كما استودعت أمّ موسى ابنها، حيث ألقته في اليم إلى أن ردّه اللّه إليها. فقالت طائفة منّا: أي واللّه لقد كانت هذه المسألة في أنفسنا. قال (عليه السلام) : ومنكم من سأل عن اختلاف بينكم وبين أعداء اللّه وأعدائنا من أهل القبلة والإسلام وأنا أنبئكم بذلك فافهموا، فقالت طائفة أخرى: أي واللّه يا سيدنا لقد أضمرنا. فقال (عليه السلام) : إنّ اللّه عزّ وجل أوحى إلى جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّي قد خصصتك وعلياً وحججي منه ليوم القيامة
ص: 286
وشيعتكم بعشر خصال: صلاة الخمسين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والأذان والإقامة مثنى، وحيّ على خير العمل، والجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، والآيتين والقنوت، وصلاة العصر والشمس بيضاء نقية، وصلاة الفجر مغسلة واختضاب الرأس واللحية، والوشمة، فخالفنا من أخذ حقّنا وحزبه في الصلاة فجعل أصل التراويح في ليالي شهر رمضان عوضاً من صلاة الخمسين، كل يوم وليلة، وكتّف أيديهم على صدورهم عوضاً عن تعفير الجبين، والتختّم باليسرى عوضاً عن التختّم باليمين، والفاتحة فرادى خلاف مثنى، والصلاة خير من النوم خلاف حي على خير العمل، والإخفاء عن القنوت، وصلاة العصر إذا اصفرّت الشمس خلافاً على بيضاء نقيّة، وصلاة الفجر عند تلاحف بزوغ الشمس خلافاً على صلاتها مغسّلة، وهجر الخضاب والنهي خلاف على الأمر به واستعماله.
فقال أكثرنا: فرّحت عنّا يا سيّدنا. قال (عليه السلام) : نعم، في أنفسكم ما تسألون عنه وأنا أنبئكم به: والتكبير على الميّت خمساً عمّنا حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه وأسد رسوله، فإنّه لما قتل قلق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قلقاً شديداً وحزن عليه حتى عدم صبره وعزاؤه، فقال رسول اللّه: واللّه لأقتلنّ عوض كل شعرة سبعين رجلاً من مشركي قريش، فأوحى اللّه سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّٰبِرِينَ * وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(1) وإنّما أحبّ اللّه جلّ ثناؤه يجعل ذلك في المسلمين
ص: 287
لأنّه لو قتل بكل شعرة من حمزة (عليه السلام) ألف رجل من المشركين ما كان يكون عليهم في قتالهم حرج، وأرادوا دفنه بغير غسل، فأحبّ أن يدفن مضرّجاً بدمائه وكان قد أمر بتغسيل الموتى فدفن بثيابه فصارت سنّة في المسلمين، لا يغسّل شهداؤهم، وأمره اللّه أن يكبّر عليه خمساً وسبعين تكبيرة ويستغفر له بين كل تكبيرتين منها، فأوحى اللّه سبحانه إليه إنّي قد فضّلت حمزة بسبعين تكبيرة لعظم منزلته عندي وكرامته عليّ ولك يا محمد فضل على المسلمين وكبّر على كل مؤمن ومؤمنة فإنّي أفرض عليك وعلى أمّتك خمس صلوات في كل يوم وليلة، والخمس تكبيرات عن خمس صلوات في كل يوم وليلة وثوابها، واكتب له أجرها.
فقام رجل منّا، فقال: يا سيدنا من صلى الأربعة؟ فقال (عليه السلام) : ما كبّرها تيميّاً ولا عدويّاً ولا ثالثهما من بني أميّة ولا من بني هند، فمن كبّرها طريد جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّ طريده مروان بن الحكم، لأنّ معاوية وصّى يزيد بأشياء منها. وقال: خائف عليك يا يزيد من أربعة، من عبد اللّه بن عمر، ومن مروان بن الحكم، وعبيد اللّه بن زياد، والحسين بن علي، ويلك يا يزيد منه، فأمّا مروان بن الحكم فإذا أنا متّ جهزتموني ووضعتموني على نعشي للصلاة فسيقولون: تقدّم صلّ على أبيك قل: قد كنت أعصي أمره فقد أمرني أن لا يصلّي عليه إلاّ شيخ بني أميّة مروان فقدّمه وتقدّم على ثقات موالينا فكبّر أربع تكبيرات واستدعي بالخامسة، فقال: ألا يسلّم فاقتلوه فإنّك تراح منه وهو أعظمهم عليك، فسمى الخبر إلى مروان فأسرّها في نفسه وتوفّي معاوية وحمل على نعشه وجعل الصلاة عليه. فقالوا إلى يزيد يقدم،
ص: 288
فقال ما أوصاه أبوه، فقدّموا مروان وخرج يزيد من الصلاة فكبّر أربعاً وتأخّر عن الخامسة قبل الدعاء فاشتغل الناس، وقالوا: الآن ما كبّر الخامسة وقلق مروان بن الحكم وقام مروان وآل مروان الأخبار الكاذبة عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أنّ التكبير على الميّت أربع لئلا يكون مروان مبدعاُ.
فقال قائل منّا: يا سيدنا يجوز أن يكون أربعة تقيّة؟ فقال: هي خمسة لا تقيّة فيها، التكبيرات على الميّت خمس والتعفير في أدبار كل صلاة، وتُرفع القيود، وترك المسح على الخفيّن، وشرب المسكر السني، فقال سيّدنا: إنّ الصلوات الخمس وأوقاتها سنّة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا الخمس منزلة في كتاب اللّه.
فقال قائل منّا: رحمك اللّه ما استسن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ ما أمره اللّه به.
فقال: أمّا الصلوات الخمس فهي عند أهل البيت كما فرض اللّه سبحانه وتعالى على رسوله وهي إحدى وخمسين ركعة في ستة أوقات أبيّنها لكم من كتاب اللّه تقدّست أسماؤه، وهو قوله في وقت الظهر: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ}(1) فأجمع المسلمون أنّ السعي صلاة الظهر، وأبان وأوضح في حقّها في كتاب اللّه كثيراً، وصلاة العصر بينهما في قوله تعالى: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّئَِّاتِ}(2)، الطرف صلاة العصر ومختلفون بإتيان هذه الآية وتبيانها في حقّ صلاة العصر، وصلاة الصبح، وصلاة المغرب، فأساخ تبيانها في كتابه العزيز قوله تعالى: {حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ
ص: 289
وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ}(1) وفي المغرب في إيقاع كتابه المنزل. وأمّا صلاة العشاء فقد بيّنها اللّه في كتابه العزيز: {أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ}(2) وإنّ هذه في حق صلاة العشاء لأنه قال إلى غسق الليل ما بين الليل دلوك الشمس حكم وقضى ما بين العشاء وبين صلاة الليل، وقد جاء بيان ذلك في قوله ومن بعد صلاة العشاء فذكرها اللّه في كتابه وسمّاها ومن بعدها صلاة الليل حكى في قوله: {يَٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا}(3) وبيّن الضعف والزيادة وقوله عزّ وجلّ: {أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ}(4) إلى آخر السورة، وصلاة الفجر فقد حكى في كتابه العزيز: {وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}(5) وحكى في حقّها: {ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}(6) من صباحهم لمسائهم وهاتين الآيتين وما دونهما في حقّ صلاة الفجر لأنّها جامعة لصلاة، فمنها إلى وقت ثان إلى الانتهاء وفي كميّة عدد الصلاة وإنّها الصلاة تتشعّب منها مبدأ الضياء وهي السبب والواسطة ما بين العبد ومولاه والشاهد من كتاب اللّه على أنّها جامعة قوله تعالى: {إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}(7) لأنّ
ص: 290
القرآن من بعد فراغ العبد الصلاة، فإنّ القرآن كان مشهوداً أي في معنى الإجابة واستماع الدعاء من اللّه عزّ وجلّ، فهذه الخمس أوقات التي ذكره اللّه عزّ وجل وأمر بها، الوقت السادس صلاة الليل وهي فرض(1)
مثل الأوقات الخمس ولولا صلاة ثمان ركعات لما تمت واحد وخمسون ركعة، فضججنا بين يديه (عليه السلام) بالحمد والشكر على ما هدانا إليه(2).
خرج أبو محمد (عليه السلام) في جنازة أبي الحسن (عليه السلام) وقميصه مشقوق، فكتب إليه أبو عون قرابة نجاح بن سلمة: من رأيت أو بلغك من الأئمة شقّ ثوبه في مثل هذا؟ فكتب إليه أبو محمد (عليه السلام) : يا أحمق وما يدريك ما هذا، قد شق موسى على هارون(3).
عن بعض فصّادي العسكر من النصارى: إنّ أبا محمد (عليه السلام) بعث إليّ يوماً في وقت صلاة الظهر فقال لي: أفصد هذا العِرق، قال: وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد، فقلت في نفسي: ما رأيت أمراً أعجب من هذا، يأمر لي أن أفصد في وقت الظهر وليس بوقت فصد، والثانية عرق لا أفهمه، ثم قال لي: انتظر وكن في الدار، فلما أمسى دعاني وقال لي: سرّح الدم، فسرحت، ثم قال لي: أمسك، فأمسكت، ثم قال لي: كن في الدّار، فلمّا كان
ص: 291
نصف الليل أرسل إليّ وقال لي: سرّح الدم، قال: فتعجّبت أكثر من عجبي الأوّل وكرهت أن أسأله، قال: فسرحت فخرج دمّ أبيض كأنه الملح.
قال: ثم قال لي: احبس، قال: فحبست، قال: ثم قال: كن في الدّار، فلما أصبحت أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير فأخذتها، وخرجت حتى أتيت ابن بختيشوع النصراني، فقصصت عليه القصة، قال: فقال لي: واللّه ما أفهم ما تقول ولا أعرفه في شيء من الطب ولا قرأته في كتاب ولا أعلم في دهرنا أعلم بكتب النصرانية من فلان الفارسي. فاخرج إليه، قلت: فاكتريت زورقاً إلى البصرة وأتيت الأهواز، ثم صرت إلى فارس إلى صاحبي فأخبرته الخبر، قال: وقال: أنظرني أياماً، فأنظرته، ثم أتيته متقاضياً، قال: فقال لي: إنّ هذا الذي تحكيه عن هذا الرجل فعله المسيح في دهره مرة(1).
حكى بعض الثقاة بنيسابور لإسحاق بن إسماعيل من أبي محمد (عليه السلام) توقيع أوليائنا: يا إسحاق بن إسماعيل سترنا اللّه وإيّاك بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه، فهمت كتابك يرحمك اللّه، ونحن بحمد اللّه ونعمته أهل بيت نرقّ على أوليائنا ونسر بتتابع إحسان اللّه إليهم وفضله لديهم، ونعتد بكل نعمة ينعمها اللّه عز وجل عليهم، فأتمّ اللّه عليكم بالحق ومن كان مثلك ممّن قد رحمه وبصّره بصيرتك ونزع عن الباطل ولم يقم في طغيانه بعَمَهٍ، فإنّ تمام النعمة دخولك الجنة، وليس من نعمته وإن جلّ أمرها وعظم
ص: 292
خطرها إلا والحمد لله تقدّست أسماؤه عليها يؤدّي شكرها، وأنا أقول: الحمد لله مثل ما حمد اللّه به حامد إلى أبد الأبد بما منَّ به عليك من نعمته ونجّاك من الهلكة وسهّل سبيلك على العقبة، وأيم اللّه إنّها لعقبة كؤود(1)، شديد أمرها صعب مسلكها، عظيم بلاؤها، طويل عذابها، قديم في الزُّبر الأولى ذكرها، ولقد كانت منكم أمور في أيام الماضي (عليه السلام) إلى أن مضى لسبيله صلى اللّه على روحه، وفي أيامي هذه كنتم فيها غير محمودي الشأن ولا مسدّدي التوفيق. يا إسحاق إنّ من خرج من هذه الحياة الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً، إنّها يا بن إسماعيل ليس تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وذلك قول اللّه عزّ وجل في محكم كتابه للظالم: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} قال اللّه عزّ وجل: {كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنسَىٰ}(2) وأي آية يا إسحاق أعظم من حجّة اللّه عزّ وجل على خلقه وأمينه في بلاده وشاهده على عباده من بعد ما سلف من آبائه الأولين من النبيين وآبائه الآخرين من الوصيين عليهم أجمعين رحمة اللّه وبركاته؟ فأين يتاه(3) بكم؟ وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم؟
عن الحق تصدفون وبالباطل تؤمنون، وبنعمة اللّه تكفرون، أو تكذبون؟ فمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم ومن غيركم إلاّ خزي في الحياة الدنيا الفانية، وطول عذاب الآخرة الباقية، وذلك
ص: 293
واللّه الخزي العظيم.
إنّ اللّه بفضله ومنّه لما فرض عليكم الفرائض، لم يفرض عليكم لحاجة منه إليكم، بل رحمة منه لا إله إلا هو عليكم، ليميز اللّه الخبيث من الطيب وليبتلي ما في صدوركم، وليمحّص ما في قلوبكم ولتألفوا إلى رحمته، لتتفاضل منازلكم في جنّته.
ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والولاية، وكفا بهم لكم باباً ليفتحوا أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله ولولا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأوصياء من بعده لكنتم حيارى كالبهائم، لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل يدخل قرية إلاّ من بابها.
فلما منّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيه قال اللّه عزّ وجل لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1) وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها إليهم، ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم، يعرفكم بذلك النماء والبركة والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، قال اللّه عزّ وجل: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰۗ}(2).
واعلموا أنّ من يبخل فإنّما يبخل على نفسه، وأنّ اللّه هو الغني وأنتم الفقراء لا إله إلا هو. ولقد طالت المخاطبة فيما بيننا وبينكم فيما هو لكم وعليكم، فلولا ما يجب من تمام النعمة من اللّه عزّ وجل عليكم، لما أريتكم
ص: 294
منّي خطاً ولا سمعتم منّي حرفاً من بعد الماضي (عليه السلام) .
أنتم في غفلة عمّا إليه معادكم، ومن بعد الثاني رسولي وما ناله منكم حين أكرمه اللّه بمصيره إليكم ومن بعد إقامتي لكم إبراهيم بن عبدة، وفّقه اللّه لمرضاته وأعانه على طاعته، وكتابه الذي حمله محمد بن موسى النيسابوري واللّه المستعان على كل حال، وإنّي أراكم مفرطين في جنب اللّه فتكونون من الخاسرين.
فبعداً وسحقاً لمن رغب عن طاعة اللّه، ولم يقبل مواعظ أوليائه، وقد أمركم اللّه عزّ وجل بطاعته لا إله إلا هو، وطاعة رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بطاعة أولي الأمر (عليه السلام) فرحم اللّه ضعفكم وقلّة صبركم عمّا أمامكم، فما أغرّ الإنسان بربه الكريم... ولو فهمت الصم الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب لتصدّعت قلقاً وخوفاً من خشية اللّه، ورجوعاً إلى طاعة اللّه عزّ وجل، فاعملوا من بعد ما شئتم فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون والعاقبة للمتقين والحمد لله كثيراً ربّ العالمين(1).
ومن كتابه (عليه السلام) الى أهل قم: إنّ اللّه تعالى بجوده ورأفته قد منّ على عباده بنبيه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشيراً ونذيراً، ووفّقكم لقبول دينه، وأكرمكم بهدايته، وغرس في قلوب أسلافكم الماضين رحمة اللّه عليهم وأصلابكم الباقين، تولّى كفايتهم وعمّرهم طويلاً في طاعته حبّ العترة الهادية، فمضى
ص: 295
من مضى على وتيرة الصواب ومنهاج الصدق وسبيل الرشاد، فوردوا موارد الفائزين، واجتنوا ثمرات ما قدموا، ووجدوا غبّ ما أسلفوا ومنها: فلم تزل نيّتنا مستحكمة ونفوسنا إلى طيب آرائكم ساكنة، القرابة الراسخة بيننا وبينكم قويّة، وصية أوصى بها أسلافكم وعهد عهد إلى شباننا ومشايخكم، فلم يزل على حملة كاملة من الاعتقاد لما جمعنا اللّه عليه من الحال القريبة والرحم الماسة يقول العالم (سلام اللّه عليه) إذ يقول: المؤمن أخو المؤمن لأمّه وأبيه(1).
كتب الإمام أبو محمد (عليه السلام) رسالة إلى الفقيه الجليل أبي الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابوية القمي:
بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين والعاقبة للمتقين، والجنة للموحّدين، والنار للملحدين، ولا عدوان إلا على الظالمين ولا إله إلا اللّه أحسن الخالقين والصلاة على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين.
أمّا بعد: أوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي أبا الحسن علي بن الحسين القمّي وفّقك اللّه لمرضاته وجعل من صلبك أولاداً صالحين برحمته بتقوى اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فإنّه لا تقبل الصلاة من مانعي الزكاة، وأوصيك بمغفرة الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، ومواساة الإخوان والسعي في حوائجهم في العسر واليسر، والحلم عند الجهل، والتفقّه في الدين، والتثبّت في الأمور، والتعهّد للقرآن، وحسن الخلق، والأمر
ص: 296
بالمعروف والنهي عن المنكر، قال اللّه عزّوجل: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِۢ بَيْنَ ٱلنَّاسِ}(1)،
واجتناب الفواحش كلّها، وعليك بصلاة الليل فإنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أوصى علياً (عليه السلام) ، فقال: يا علي عليك بصلاة الليل ثلاث مرّات، ومن استخفّ بصلاة الليل فليس منّا، فاعمل بوصيّتي وأمر شيعتي حتى يحملوا عليه وعليك بالصبر بانتظار الفرج، فإنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فاصبر يا شيخي وأمر جميع شيعتي بالصبر {إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِۦ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2)، والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا ورحمة اللّه وبركاته وحسبنا اللّه ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير(3).
وخرج في بعض توقيعاته (عليه السلام) عند اختلاف قوم من شيعته في أمره: ما مُني أحد من آبائي (عليهم السلام) بمثل ما منيت به من شك هذه العصابة فيّ، فإن كان هذا الأمر اعتقدتموه ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع فللشك موضع وإن كان متصلاً ما اتصلت أمور اللّه عز وجل فما معنى هذا الشك؟(4).
ص: 297
بعث الإمام أبو محمد (عليه السلام) الرسالة التالية إلى بعض مواليه: لقد نعى فيها ما هم فيه من الاختلال والفرقة والانحراف عن الدين: بسم اللّه الرحمن الرحيم استوهب اللّه لكم زهّادة في الدنيا، وتوفيقاً لما يرضى، ومعونة على طاعته، وعصمة عن معصية، وهداية من الزيغ وكفاية، فجمع لنا ولأوليائنا خير الدارين.
أما بعد: فقد بلغنني ما أنتم عليه من اختلاف قلوبكم، وتشتيت أهوائكم، نزغ الشيطان حتى أحدث لكم الفرقة والإلحاد في الدين، والسعي في هدم ما مضى عليه أوائلكم من إشادة دين اللّه وإثبات حق أوليائه، وأمالكم إلى سبيل الضلالة، وصدق بكم عن قصد الحق، فرجع أكثركم القهقرى، على أعقابكم تنكصون كأنّكم لم تقرؤوا كتاب اللّه جلّ وعز، ولم تعنوا شيئاً من أمره ونهيه.
ولعمري لئن كان الأمر في إتكال سفهائكم على أساطيرهم لأنفسهم وتأليفهم روايات الزور بينهم لقد حقّت كلمة العذاب عليهم، ولئن رضيتم بذلك منهم ولم تنكروه بأيديكم وألسنتكم وقلوبكم ونياتكم إنكم لشركائهم فيما اجترحوه من الافتراء على اللّه تعالى وعلى رسوله وعلى ولاة الأمر من بعده، ولئن كان الأمر كذلك لما كذب أهل التزيد(1) في دعواهم، ولا المغيّرة(2) في اختلافهم، ولا الكيسانية(3) في صاحبهم، ولا من سواهم من المنتحلين ودّنا والمنحرفين عنّا، بل أنتم شرّ منهم قليلاً وما شيء يمنعني
ص: 298
والباطل فيكم بدعوة تكونوا فيها شامتاً لأهل الحق إلا انتظار فيهم وسيفيء أكثرهم إلى أمر اللّه إلا طائفة لو شئت لأسميتها ونسبتها استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه ومن نسي ذكر اللّه تبر منه فسيصليه جهنم وساءت مصيرًا. وكتابي هذا حجّة عليهم وحجّة لغائبكم على شاهدكم الا من بلغه فأدّى الأمانة، وأنا أسأل اللّه أن يجمع قلوبكم على الهدى ويعصمكم بالتقوى ويوفّقكم للقول بما يرضى وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته(1).
قال (عليه السلام) : من آنس باللّه استوحش من الناس، وعلامة الأنس باللّه الوحشة من الناس(2).
قال (عليه السلام) : السهر ألذ للمنام، والجوع أزيد في طيب الطعام(3).
وقال (عليه السلام) : إنّ للسخاء مقداراً فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقداراً فإن زاد عليه فهو جبن، وللاقتصاد مقداراً فإن زاد عليه فهو بخل، وللشجاعة مقداراً فان زاد عليه فهو تهوّر(4).
ص: 299
قال (عليه السلام) : قلب الأحمق في فمه وفم الحكيم في قلبه(1).
قال (عليه السلام) : اللحاق بمن ترجو خير من المقام مع من لا تأمن شرّه(1).
قال (عليه السلام) : المقادير الغالبة لا تدفع بالمغالبة، والأرزاق المكتوبة لا تنال بالشرة ولا تدفع بالإمساك عنها(2).
قال (عليه السلام) : إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فأقصروها على الفرائض(3).
قال (عليه السلام) : الوحشة من الناس على قدر الفطنة بهم(4).
وقال (عليه السلام) لشيعته: أوصيكم بتقوى اللّه، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا أورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه من الناس،
ص: 302
قيل: هذا شيعي فيسرّني ذلك، اتقوا اللّه، وكونوا زيناً، ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كل مودّة، وادفعوا عنّا كل قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب اللّه وقرابة من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتطهير من اللّه لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب، أكثروا ذكر اللّه، وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإنّ الصلاة على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر حسنات، احفظوا ما وصيتكم به واستودعكم اللّه وأقرأ عليكم السلام(1).
قال (عليه السلام) : ادفع المسألة ما وجدت التحمّل يمكنك، فإنّ لكل يوم رزقاً جديداً، واعلم أنّ الإلحاح في المطالب يسلب البهاء، ويورث التعب والعناء، فاصبر حتى يفتح اللّه لك باباً يسهل الدخول فيه، فما أقرب الصنيع من الملهوف والأمن من الهارب المخوف، فربما كانت الغير نوعاً من أدب اللّه، والحظوظ مراتب فلا تعجل على ثمرة لم تدرك، فإنّما تنالها في أوانها، واعلم أنّ المدبّر لك أعلم بالوقت الذي يصلح حالك فيه، فثق بخيرته في جميع أمورك يصلح حالك، فلا تعجل بحوائجك قبل وقتها فيضيق قلبك وصدرك ويغشاك القنوط، واعلم أنّ للسخاء مقداراً فإن زاد عليه فهو سرف، وإنّ للحزم مقداراً فإن زاد على ذلك فهو تهوّر، واحذر كل ذكي ساكن الطرف، ولو عقل أهل الدنيا خربت(2).
ص: 303
قال (عليه السلام) : إنّكم في آجال منقوصة، وأيام معدودة، والموت يأتي بغتة، من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة، لكل زارع ما زرع، لا يسبق بطيء بحظّه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، من أعطي خيراً فاللّه أعطاه، ومن وقي شراً فاللّه وقاه(1).
ورفع بعض الشيعة إلى الإمام (عليه السلام) رسالة يستغيث فيها من ظالم ظلمه واعتدى عليه فأجابه (عليه السلام) :
نحن نستكفي باللّه جلّ وعز في هذا اليوم مؤونة كل ظالم وباغ وحاسد، وويل لمن قال: ما يعلم اللّه جلّ وعز خلافه، ماذا يلقى من ديّان يوم الدين، فإنّ اللّه جلّ وعز للمظلومين ناصر وعضد، فثق به جلّ ثناؤه وتوكل عليه واستغن به يريك محبتك ويبلغك املك ويكفك شرّ كل ذي شر فعل اللّه جل وعز ذلك بك ومنّ علينا فيك إنّه على كل شيء قدير، واستدرك اللّه كل ظالم في هذه الساعة، ما أحد ظلم وبغى فأفلح، الويل لمن أخذته أصابع المظلومين، فلا تغتم وثق باللّه وتوكل عليه، فما أسرع فرحك واللّه عزّوجل مع الذين صبروا والذين هم محسنون(2).
وأرسل الإمام أبو محمد (عليه السلام) إلى بعض مواليه: كل مقدور كائن، فتوكل
ص: 304
على اللّه جلّ وعز يكفك، وثق به لا يخيبك، وشكوت أخاك فاعلم يقيناً أنّ اللّه جلّ وعز لا يعين على قطيعة رحم، وهو جل ثناؤه من وراء ظلم كل ظالم، ومن بغي عليه لينصرنه اللّه إنّ اللّه قوي عزيز، وسألت الدعاء إنّ اللّه جلّ وعز لك حافظ وناصر وساتر وأرجو من اللّه الكريم الذي عرفك من حقّه وحق أوليائه ما أعمى عنه غيرك أن لا يزيل عنك نعمة أنعم بها عليك أنه ولي حميد(1).
عن بهلول قال: بينما أنا ذات يوم في بعض شوارع البصرة وإذا بالصبيان يلعبون بالجوز واللوز وإذا بصبي ينظر إليهم ويبكي، فقلت: هذا صبي يتحسّر على ما في أيدي الصبيان ولا شيء معه فيلعب به، فقلت: أي بني ما يبكيك؟ استرى لك ما تلعب به مع الصبيان؟ فرفع بصره إلي وقال: يا قليل العقل ما للعب خلقنا، فقلت: فلم إذاً خلقنا؟ قال: للعلم والعبادة، قلت: من أين لك ذاك بارك اللّه فيك؟ قال: من قول اللّه عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(2)،
قلت له: أي بني أراك حكيماً فعظني، وأوجز فأنشأ يقول:
أرى الدنيا تجهزّ بانطلاق***مشمّرة على قدم وساق
فلا الدنيا بباقية لحيّ***ولا حيّ على الدنيا بباق
كأنّ الموت والحدثان فيها***إلى نفس الفتى فرساً سباق
ص: 305
فيا مغرور بالدنيا رويداً***ومنها خذ لنفسك بالوساق
ثم رمق إلى السماء بعينه وأشار بكفّه ودموعه تنحدر على خدّيه وانشأ يقول:
يا من إليه المبتهل***يا من عليه المتكل
يا من إذا ما آمل***يرجوه لم يخط الأمل
قال: فلما أتم كلامه خرّ مغشيّاً عليه، فرفعت رأسه إلى حجري ونفضت التراب عن وجهه بكمى، فلما أفاق قلت له: أي بني ما أنزل بك وأنت صبي صغير لم يكتب عليك ذنب؟ قال: إليك عنّي يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا يتقد إلاّ بالصغار وأنا أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم.
فقلت له: أي بني أراك حكيماً فعظني، فأنشأ يقول:
غفلت وحادي الموت في أثري يحدو***فلم أرح يوماً فلابدّ أن أغدو
انعمّ جسمي باللباس ولينه***وليس لجسمي من لباس البلى بدُّ
كأنّي به قد مرّ في برزخ البلا***ومن فوقه ردم ومن تحته لحد
وقد ذهبت مني المحاسن وانمحت***ولم يبق فوق العظم لحم ولا جلد
أرى العمر قد ولّى ولم أدرك المنى***وليس معي زاد وفي سفري بعد
وقد كنت جاهرت المهيمن عاصياً***وأحدثت أحداثاً وليس لها رد
وأرخيت خوف الناس ستراً من الحيا***وما خفت من سرى غدا عنده يبدو
بلى خفته ولكن وثقت بحلمه***وإن ليس يعفو غيره فله الحمد
فلو لم يكن شيء سوى الموت والبلى***ولم يكن من ربّي وعيد ولا وعد
لكان لنا في الموت شغل وفي البلى***عن اللّهو لكن زال عن رأينا الرشد
ص: 306
عسى غافر الزلاّت يغفر زلتي***فقد يغفر المولى إذا أذنب العبد
أنا عبد سوء خنت مولاي عهده***كذلك عبد السوء ليس له عهد
فكيف إذا أحرقت النار جثتي***ونارك لا يقوى لها الحجر الصلد
أما الفرد عند الموت والفرد في البلى***وابعث فرداً فارحم الفرد يا فرد
قال بهلول: فلما فرغ من كلامه وقعت مغشيّاً عليّ، وانصرف الصبي، فلما أفقت ونظرت إلى الصبيان فلم أره معهم، فقلت لهم: من يكون ذلك الغلام؟ قالوا: وما عرفته؟ قلت: لا، قالوا: ذاك من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب (رضوان اللّه عليهم أجمعين) فقلت: قد عجبت من أين يكون هذه الثمرة إلاّ من تلك الشجرة(1).
قال (عليه السلام) : من التواضع السلام على كل من تمرّ به، والجلوس دون شرف المجلس(1).
قال (عليه السلام) : من كان الورع سجيته والإفضال حليته انتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه وتحصّن بالذكر الجميل من وصول نقص إليه(1).
قال (عليه السلام) : أولى الناس بالمحبّة منهم من أملوه(1).
قال (عليه السلام) : نائل الكريم يحببك إليه ويقربك منه، ونائل اللئيم يباعدك منه ويبغضك إليه(2).
قال (عليه السلام) : من كان الورع سجيّته والكرم طبيعته والحلم خلّته كثر صديقه والثناء عليه وانتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه(3).
قال (عليه السلام) : الجهل خصم، والحلم حكم، ولم يعرف راحة القلب من لم يجرعه الحلم غصص الصبر والغيظ(4).
عن أبي هاشم، قال: سمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: إنّ في الجنة باباً يقال له المعروف لا يدخله إلا أهل المعروف، فحمدت اللّه تعالى في نفسي وفرحت بما أتكلّفه من حوائج الناس، فنظر إلي أبو محمد (عليه السلام) وقال: نعم قد علمت ما أنت عليه فإنّ أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في
ص: 310
الآخرة جعلك اللّه منهم يا أبا هاشم ورحمك(1).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: سمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا، فقلت في نفسي: إنّ هذا لهو الدقيق ينبغي للرجل أن يتفقّد من نفسه كل شيء، فقال: صدقت يا أبا هاشم الزم ما حدثتك به نفسك، فإنّ الشرك في الناس أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في الليلة الظلماء(2).
قال أبو محمد العسكري (عليه السلام) : من أكثر المنام رأى الأحلام(3).
قال (عليه السلام) : من الجهل الضحك من غير عجب(4).
عن يحيى القنبري، قال: كان لأبي محمد (عليه السلام) وكيل قد اتخذ معه في الدار حجرة يكون فيها، معه خادم أبيض، فاراد الوكيل الخادم على نفسه فأبى أن يأتيه بنبيذ، فاحتال له بنبيذ ثم أدخله عليه، وبينه وبين أبي
ص: 311
محمد (عليه السلام) ثلاثة أبواب مغلقة.
قال فحدّثني الوكيل، قال: إنّي لمنتبه إذ أنا بالأبواب تفتح حتى جاء بنفسه فوقف على باب الحجرة، ثم قال: يا هؤلاء اتقوا اللّه خافوا اللّه، فلما أصبحنا أمر ببيع الخادم وإخراجي من الدار(1).
قال (عليه السلام) : من القواصم الفواقر التي تقصم الظهر جار السؤ إن رأى حسنة أخفاها، وإن رأى سيئة أفشاها(2).
قال (عليه السلام) : ليس من الأدب إظهار الفرح عند المحزون(1).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: لما مضى أبو الحسن (عليه السلام) صاحب العسكر اشتغل أبو محمد ابنه بغسله وشأنه وأسرع بعض الخَدَم إلى أشياء احتملوها من الثياب ودراهم وغيرهما.
فلمّا فرغ أبو محمد من شأنه صار إلى مجلسه فجلس ثم دعا أولئك الخدم، فقال: إن صدقتموني فيما أسألكم عنه فأنتم آمنون من عقوبتي، وإن أصررتم على الجحود دللت على كل ما أخذه كلّ واحد منكم وعاقبتكم عند ذلك بما تستحقونه منّي، ثم قال: يا فلان أخذت كذا وكذا، وأنت يا فلان أخذت كذا وكذا، قالوا: نعم، قالوا: فردّوه، فذكر لكلّ واحد منهم ما أخذه وصار إليه حتى ردّوا جميع ما أخذوه(1).
كتب محمد بن حجر إلى أبي محمد (عليه السلام) يشكو عبد العزيز بن دلف ويزيد بن عبد اللّه فكتب إليه: أمّا عبد العزيز فقد كفيته، وأمّا يزيد فإنّ لك وله مقاماً بين يدي اللّه، فمات عبد العزيز وقتل يزيد محمد بن حجر(2).
عن شاهويه بن عبد ربه، قال: كان أخي صالح محبوساً فكتبت إلى سيّدي أبي محمد (عليه السلام) أسأله أشياء، فأجابني عنها وكتب: إنّ أخاك يخرج
ص: 314
من الحبس يوم يصلك كتابي هذا، وقد كنتَ أردت أن تسألني عن أمره فأُنسيت، فبينا أنا أقرأ كتابه إذ أناس جاؤوني يبشرونني بتخلية أخي فتلقيته وقرأت عليه الكتاب(1).
روي أنّ يحيى بن قتيبة الأشعري أتاه بعد ثلاث مع الأستاذ فوجداه يصلّي والأسود حوله، فدخل الأستاذ الغيل(2) فمزّقوه وأكلوه وانصرف يحيى في قومه إلى المعتمد، فدخل المعتمد على العسكري (عليه السلام) وتضرّع إليه وسأل أن يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة، فقال (عليه السلام) : مدّ اللّه في عمرك فأجيب وتوفّي بعد عشرين سنة(3).
وقع الإمام (عليه السلام) وهو طفل ببئر وأبوه يصلّي فصاح النسوان، فلمّا فرغ من صلاته، قال (عليه السلام) : لا بأس، فرأوه وقد ارتفع به الماء إلى رأس البئر وابو محمد على رأس الماء بلعب بالماء(4).
عن محمد بن الحسن بن شمون، قال: كتب إليه (عليه السلام) ابن عمّنا محمد بن زيد يشاوره في شراء جارية نفيسة بمائتي دينار لابنه فكتب (عليه السلام) إليه: لا تشترها فإنّ بها جنوناً، وهي قصيرة العمر مع جنونها، قال: فما ضربت عن
ص: 315
أمرها، ثم مررت بعد أيام ومعي ابني علي، فقلت: أشتهي أن أستعيد عرضها وأراها فأخرجها إلينا فبينا هي واقفة بين أيدينا حتى صار وجهها في قفاها، فلبثت على تلك الحال ثلاثة أيام وماتت(1).
عن أبي جعفر محمد بن عيسى بن أحمد الزرجي، قال: رأيت بسرّ من رأى رجلاً شاباً في المسجد المعروف بمسجد زبيد في شارع السوق وذكر أنّه هاشمي من ولد موسى بن عيسى، لم يذكر أبو جعفر اسمه وكنت أصلّي فلما سلّمت، قال لي: أنت قمّي أو زائر؟ قلت: أنا قمّي مجاور بالكوفة في مسجد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال لي: تعرف دار موسى بن عيسى التي بالكوفة؟ فقلت: نعم، فقال: أنا من ولده، قال: كان لي أب وله أخوان وكان أكبر الأخوين ذا مال ولم يكن للصغير مال فدخل على أخيه الكبير فسرق منه ستمائة دينار، فقال الأخ الكبير أدخل على الحسن بن علي بن محمد ابن الرضا (عليه السلام) وأسأله أن يلطف للصغير لعلّه أن يردّ مالي فإنّه حلو الكلام، فلما كان وقت السحر بدا لي عن الدخول على الحسن بن علي (عليه السلام) وقلت: أدخل على أسباس التركي صاحب السلطان وأشكو إليه.
قال: فدخلت على أسباس التركي وبين يديه نرد يلعب به، فجلست أنتظر فراغه، فجاءني رسول الحسن بن علي (عليه السلام) ، فقال: أجب، فقام معه فلما دخل على الحسن (عليه السلام) قال له: كان لك إلينا أول الليل حاجة ثم بدا لك عنها وقت السحر، اذهب فإنّ الكِيس الذي أُخذ من مالك رُدّ ولا تشك أخاك وأحسن
ص: 316
إليه وأعطه، فإن لم تفعل فابعثه إلينا لنعطيه، فلمّا خرج تلقّاه غلامه يخبره بوجود الكِيس(1).
حدّثنا أبو الحسين محمد بن محمد بن أبي محمد، هارون بن موسى التلعكبري... قال: أنفذني والدي مع بعض أصحابه إلى صاعد النصراني لأسمع منه ما روى عن أبيه من حديث مولانا أبي محمد الحسن بن علي العسكري (صلوات اللّه عليه) فوصلنا إليه، فرأيت رجلاً معظماً، فأعلمته قصدي فأدناني، وقال: حدّثني أبي: أنّه خرج هو وأخوته وجماعة من أهله من البصرة إلى سرّ من رأى لأجل ظلامة من العامل، فأنا بسرّ من رأى في بعض الأيام إذ بمولانا أبي محمد (عليه السلام) على بغلة وعلى رأسه شاشة وعلى كتفه طيلسان، فقلت في نفسي: هذا الرجل يدّعي بعض المسلمين أنّه يعلم الغيب فإن كان الأمر على هذا فليحوّل مقدّم الشاشة إلى مؤخّرها، ففعل، فقلت: هذا اتفاق ولكن فليحوّل طيلسانه الأيمن إلى الأيسر والأيسر إلى الأيمن، ففعل ذلك وهو يسير، فوصل إليّ، فقال: يا ثابت لم لا تشتغل بأكل حيتانك عمّا لا أنت منه ولا إليه، قال: وكنّا نأكل السمك... وأسلم صاعد وكان وزيراً للمعتمد(2).
قال أبو جعفر: قلت للحسن بن علي (عليه السلام) : أرني معجزة خصوصية أحدّث
ص: 317
بها عنك، فقال (عليه السلام) : يا بن جَرِير لعلّك ترتد، فحلفت له ثلاثاً، فرأيته غاب في الأرض تحت مصلاّه ثم رجع ومعه حوت عظيم، فقال: جئتك به من الأبحر السبعة، فأخذته معي إلى مدينة السلام وأطعمت منه جماعة من أصحابنا(1).
عن كافور الخادم: كان يونس النقّاش يغشى سيّدنا الإمام ويخدمه، فجاءه يوماً يُرعَد، فقال: يا سيّدي أوصيك بأهلي خيراً. قال: وما الخبر؟ قال: عزمت على الرحيل، قال: ولم يا يونس، وهو يبتسم؟. قال: وجّه إليّ ابن بغا بفصٍ ليست له قيمة أقبلت أنقشه فكسرته باثنين وموعده غدٌ وهو ابن بغا، إمّا ألف سوط أو القتل. قال: امض إلى منزلك إلى غد فَرُح فما يكون إلاّ خيراً، فلما كان من الغد وافاه بكرةً يُرعد، فقال: قد جاء الرسول يلتمس الفَص، قال: امض إليه فلن ترى إلاّ خيراً، قال: وما أقول له يا سيدي؟ قال: فتبسّم وقال: امض إليه واسمع ما يخبرك به فلا يكون إلاّ خيراً، قال: فمضى وعاد، وقال: قال لي يا سيدي: الجواري اختصمن فيمكنك أن تجعله اثنين حتى نغنيك، فقال (عليه السلام) : اللّهم لك الحمد إذ جعلتنا ممّن يحمدك حقاً، فأيّ شيء قلت له؟ قال: قلت له أمهلني حتى أتأمّل أمرَهُ، فقال: أصبت(2).
عن أبي هاشم، قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) وكان يكتب كتاباً فحان
ص: 318
وقت الصلاة الأولى فوضع الكتاب من يده وقام (عليه السلام) إلى الصلاة، فرأيت القلم يمر على باقي القرطاس من الكتاب ويكتب حتى انتهى إلى آخره فخررت ساجداً، فلما انصرف من الصلاة أخذ القلم بيده وأذن للناس(1).
عن جماعة: أنّ الحسن بن إسماعيل بن صالح كان في أول خروجه إلى سرّ من رأى للقاء أبي محمد (عليه السلام) ومعه رجلان من الشيعة وافق قدومهم ركوب أبي محمد (عليه السلام) ، قال الحسن بن إسماعيل: فتفرقنا في ثلاث طرق وقلنا: إن رجع في أحدهما رآه رجل منّا، فانتظرناه فعاد (عليه السلام) في الطريق الذي فيه الحسن بن إسماعيل، فلما طلع وحاذاه، قال: قلت في نفسي: اللّهم إن كان حجّتك حقّاً وإمامنا فليمس قلنسوته، فلم أستتم ذلك حتى مسّها وحرّكها على رأسه، فقلت: يا رب إن كان حجّتك فليمسّها ثانياً، فضرب بيده فأخذها عن رأسه ثم ردّها، وكثر عليه الناس بالسلام عليه والوقوف على بعضهم، فتقدّمه إلى درب آخر فلقيت صاحبيّ وعرّفتهما ما سألت اللّه في نفسي وما فعل، فقالا: فتسأل ونسأل الثالثة، فطلع فقربنا منه فنظر إلينا ووقف علينا ثم مدّ يده إلى قلنسوته فرفعها عن رأسه وأمسكها بيده وأمرّ يده الأخرى على رأسه وتبسّم في وجوهنا وقال: كم هذا الشك؟ قال الحسن: فقلت: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أنك حجّة اللّه وخيرته. قال: ثم لقيناه بعد ذلك في داره وأوصلنا إليه ما معنا من الكتب وغيرها(2).
ص: 319
حدث بطريق متطبّب بالري قد أتى عليه مائة سنة ونيف، وقال: كنت تلميذ بختيشوع طبيب المتوكل وكان يصطفيني، فبعث إليه الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا (عليه السلام) أن يبعث إليه بأخصِّ أصحابه عنده ليفصده فاختارني، وقال: قد طلب منّي ابن الرضا من يفصده، فصرت إليه وهو أعلم في يومنا هذا بمن هو تحت السماء فاحذر أن لا تعترض عليه فيما يأمرك به، فمضيت إليه فأمرني إلى حجرة، وقال: كن إلى أن أطلبك، قال: وكان الوقت الذي دخلت إليه فيه عندي جيداً محموداً للفصد فدعاني في وقت غير محمود له وأحضر طشتاً عظيماً ففصدت الأكحل، فلم يزل الدم يخرج حتى امتلأ الطشت. ثم قال لي: اقطع، فقطعت وغسل يده وشدها وردّني إلى الحجرة، وقد قدم من الطعام الحار والبارد شيء كثير وبقيت إلى العصر، ثم دعاني فقال: سرّح ودعا بذلك الطشت، فسرّحت وخرج الدم إلى أن امتلأ الطشت فقال: اقطع، فقطعت وشدّ يده، وردّني إلى الحجرة فبتّ فيها، فلما أصبحت واظهرت الشمس دعاني وأحضر ذلك الطشت وقال سرّح فسرّحت، فخرج الدم مثل اللبن الحليب إلى أن امتلأ الطشت، فقال: اقطع فقطعت، فشدّ يده وقدم لي بتخت ثياب وخمسين ديناراً، وقال: خذ هذا واعذر وانصرف، فأخذت وقلت: يأمرني السيد بخدمة؟ قال: نعم، تُحسن صحبة من يصحبك من دير العاقول. فسرت إلى بختيشوع وقلت له القصة، فقال: اجتمعت الحكماء على أنّ أكثر ما يكون في بدن الإنسان سبعة أمنان من الدم وهذا الذي حكيت لو خرج من عين ماء لكان عجباً، وأعجب ما فيه اللبن، ففكر ساعة ثم مكثنا ثلاثة أيام بلياليها نقرأ الكتب على أن نجد
ص: 320
لهذه الفصدة ذكراً في العالم فلم نجد، ثم قال: لم يبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول فكتب إليه كتاباً يذكر فيه ما جرى، فخرجت وناديته فأشرف عليّ، وقال: من أنت؟ قلت: صاحب بختيشوع. قال: أمعك كتابه؟، قلت: نعم، فأرخى لي زنبيلاً فجعلت الكتاب فيه فرفعه فقرأ الكتاب ونزل من ساعته، فقال: أنت الرجل الذي فصدت الرجل؟ قلت: نعم، قال: طوبى لأمّك، وركب بغلاً ومرّ فوافينا سرّ من رأى وقد بقي من الليل ثَلُثُهُ، قلت أين تحب، دار أستاذنا أو دار الرجل؟ قال: دار الرجل. فصرنا إلى بابه قبل الأذان، ففتح الباب وخرج إلينا غلام أسود، وقال أيّكما راهب دير العاقول؟ فقال: أنا جعلت فداك. فقال: انزل وقال لي الخادم: احتفظ بالبغلين، وأخذ بيده ودخلا، فأقمت إلى أن أصبحنا وارتفع النهار، ثم خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية، ولبس ثياباً بيضاً وأسلم، فقال: خذني الآن إلى دار أستاذك، فصرنا إلى دار بختيشوع، فلمّا رآه بادر يعدو إليه ثم قال: ما الذي أزالك عن دينك؟، قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده. قال: وجدت المسيح؟ قال: أو نظيره، فإنّ هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلاّ المسيح وهذا نظيره في آياته وبراهينه ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات(1).
قال بورق: خرجت إلى سرّ من رأى ومعي كتاب يوم وليلة فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) وأريته ذلك الكتاب، فقلت له: جعلت فداك إن رأيت أن
ص: 321
تنظر فيه، فنظر فيه وتصفّحه ورقة ورقة، وقال: هذا صحيح ينبغي أن يُعمل به، فقلت له: الفضل بن شاذان شديد العلّة ويقولون أنّه من دعوتك بموجدتك عليه لما ذكروا عنه أنه قال: وصي إبراهيم خير من وصي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يقل جعلت فداك هكذا كذبوا عليه، فقال: نعم كذبوا عليه ورحم اللّه الفضل، رحم اللّه الفضل، قال بورق: فرجعت فوجدت الفضل قد مات في الأيام التي قال أبو محمد (عليه السلام) : رحم اللّه الفضل(1).
عن سعد بن عبد اللّه القمّي في حديث له مع أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) وأحمد بن إسحاق الوكيل في حديث الصرر التي أظهر القائم (عليه السلام) الحلال والحرام منها، وقال أبو محمد (عليه السلام) : صدقت يا بني، ثم قال: يابن إسحاق احتملها بأجمعها لتردّها أو توصي بردّها على أربابها، فلا حاجة لنا في شيء منها وائتنا بثوب العجوز، قال أحمد: وكان ذلك الثوب في حقيبة لي فنسيته، فلما انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إليّ أبو محمد (عليه السلام) ، فقال: ما جاء بك يا سعد؟ فقلت: شوّقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا. قال: والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟ قال: على حالها يا مولاي، قال: فسل قرّة عيني وأومأ إلى الغلام - يعني القائم (عليه السلام) - ثم ساق الحديث بالمسائل والجواب عنها وقد هيّأ سعد أربعين مسألة يسأل عنها إلى أن قال سعد في الحديث: ثم قام مولانا الحسن بن علي الهادي (عليه السلام) للصلاة مع الغلام فانصرفت عنهما وطلبت أثر أحمد بن إسحاق فاستقبلني باكياً،
ص: 322
فقلت: ما أبطأك ما أبكاك؟ قال: قد فقدت الثوب الذي سألني مولاي إحضاره، فقلت: لا عليك فأخبره فدخل عليه مسرعاً، وانصرف من عنده مبتسّماً وهو يصلّي على محمد وآل محمد، فقلت: ما الخبر؟ قال: وجدت الثوب مبسوطاً تحت قدمي مولانا (عليه السلام) يصلّي عليه. قال سعد: فحمدنا اللّه على ذلك وجعلنا نختلف بعد ذلك إلى منزل مولانا (عليه السلام) أياماً فلا نرى الغلام بين يديه(1).
روى أبو هاشم: أنه ركب أبو محمد (عليه السلام) يوماً إلى الصحراء، فركبت معه فبينما يسير قدّامي وأنا خلفه إذ عرض لي فكر في دين كان عليّ قد حان أجله فجعلت أفكر في أيّ وجه قضاؤه، فالتفت إليّ وقال: اللّه يقضيه، ثم انحنى على قربوس سرجه فخطّ بسوطه خطّة في الأرض، فقال: يا أبا هاشم أنزل فخذ واكتم، فنزلت وإذا سبيكة ذهب، قال: فوضعتها في خفّي وسرنا، فعرض لي الفكر، فقلت: إن كان فيها تمام الدين وإلاّ فإنّي أرضي صاحبه بها ويجب أن ننظر في نفقة الشتاء وما نحتاج إليه فيه من كسوة وغيرها، فالتفت إليّ ثم انحنى ثانية فخطّ بسوطه مثل الأولى، ثم قال: أنزل وخذ واكتم، قال: فنزلت فإذا بسبيكة فجعلتها في الخفّ الآخر وسرنا يسيراً، ثم انصرف إلى منزله وانصرفت إلى منزلي فجلست وحسبت ذلك الدَّين وعرفت مبلغه ثم ورنت الذهب فخرج بقسط ذلك الدَّين ما زادت ولا نقصت، ثم نظرت ما نحتاج إليه لشتوتي من كل وجه فعرفت مبلغه الذي لم
ص: 323
يكن بدٌّ منه على الاقتصاد بلا تقتير ولا إسراف. ثم وزنت سبيكة الفضة فخرجت على ما قدرته ما زادت ولا نقصت(1).
قال سعد: فلمّا كان يوم الوداع دخلت أنا وأحمد بن إسحاق وكهلان من أهل بلدنا وانتصب أحمد بن إسحاق بين يديه قائماً، وقال: يا بن رسول اللّه قد دنت الرحلة واشتدّ المحنة، فنحن نسأل اللّه أن يصلّي على المصطفى جدّك، وعلى المرتضى أبيك، وعلى سيدة النساء أمّك، وعلى سيّدي شباب أهل الجنة عمّك وأبيك، والأئمّة الطاهرين من بعدهما آبائك، وأن يصلّي عليك وعلى ولدك، ونرغب إلى اللّه أن يعلي كعبك ويكبت عدوّك، ولا جعل اللّه هذا آخر عهدنا من لقائك، قال: فلمّا قال هذه الكلمة، استعبر مولانا (عليه السلام) حتى استهلت دموعه وتقاطرت عبراته، ثم قال: يا بن إسحاق لا تكلّف في دعائك شططاً، فإنّك ملاق اللّه تعالى في صدرك هذا. فخرّ أحمد مغشيّاً عليه، فلما أفاق، قال: سألتك باللّه، وبحرمة جدّك إلا ما شرفتني بخرقة أجعلها كفناً، فأدخل مولانا (عليه السلام) يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهماً، فقال: خذها ولا تنفق على نفسك غيرها، فإنّك لم تعدم ما سألت، وإن اللّه تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً. قال سعد: فلما صرنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا (عليه السلام) من حلوان على ثلاثة فراسخ حمّ أحمد بن إسحاق وثارت عليه علّة صعبة آيس من حياته فيها، فلمّا وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات دعا أحمد بن إسحاق برجل من أهل بلده كان
ص: 324
قاطناً بها ثم قال: تفرّقوا عنّي هذه الليلة واتركوني وحدي، فانصرفنا عنه ورجع كل واحد منّا إلى مرقده، قال سعد: فلما حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكره ففتحت عيني فإذا أنا بكافور الخادم خادم مولانا أبي محمد (عليه السلام) وهو يقول: أحسن اللّه بالخير عزاكم، وجبر بالمحبوب رزيتكم، قد فرغنا من غسل صاحبكم ومن تكفينه فقوموا لدفنه، فإنّه من أكرمكم محلاً عند سيدكم. ثم غاب عن أعيننا فاجتمعنا على رأسه بالبكاء والعويل حتى قضينا حقّه وفرغنا من أمره رحمه اللّه(1).
نقل أبو الحسن الموسوي الخيبري، فقال: حدّثني أبي أنه كان يغشى أبا محمد (عليه السلام) بسرّ من رأى كثيراً، وأنه أتاه يوماً فوجده وقد قدّمت إليه دابته ليركب إلى دار السلطان وهو متغيّر اللون من الغضب، وكان يجيئه رجل من العامّة فإذا ركب دعا له وجاء بأشياء يشيع بها عليه، فكان (عليه السلام) يكره ذلك، فلما كان ذلك اليوم زاد الرجل في الكلام وألح فسار حتى انتهى إلى مفرق الطريقين وضاق على الرجل أحدهما من الدواب، فعدل إلى طريق يخرج منه ويلقاه فيه فدعا (عليه السلام) ببعض خدمه وقال له: امض فكفّن هذا، فتبعه الخادم، فلما انتهى (عليه السلام) إلى السوق ونحن معه خرج الرجل من الدرب ليعارضه، وكان في الموضع بغل واقف فضربه البغل فقتله، ووقف الغلام فكفّنه كما أمره وسار (عليه السلام) وسرنا معه(2).
ص: 325
كتب أبو عون الأبرش إلى أبي محمد: إنّ الناس قد استوهنوا من شقّك على أبي الحسن (عليه السلام) (1)، فقال: يا أحمق ما أنت وذاك قد شقّ موسى على هارون (عليهما السلام) ، إنّ من الناس من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً، وإنّك لا تموت حتى تكفر ويتغيّر عقلك. فما مات حتى حجبه ولده عن الناس حبسوه في منزله، في ذهاب العقل والوسوسة، ولكثرة التخليط، ويرد على أهل الإمامة، وانكشف عمّا كان عليه(2).
كتب إليه أبو الهيثم بن سيابة - لما أمر المعتزّ بدفعه إلى سعيد الحاجب عند مضيه إلى الكوفة وأن يحدث فيه ما يحدث به الناس بقصر ابن هبيرة - : جعلني اللّه فداك بلغنا خبر قد أقلقنا وأبلغ منّا. فكتب (عليه السلام) إليه: بعد ثالث يأتيكم الفرج فخُلع المعتزّ اليوم الثالث(3).
عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري (رحمه اللّه) ، قال: كنت في دهليز أبي علي محمد بن همام (رحمه اللّه) على دكّة، إذ مرّ بنا شيخ كبير عليه دراعة(4)، فسلّم على أبي علي محمد بن همام فرد (عليه السلام) ومضى، فقال لي: أتدري من
ص: 326
هذا؟ فقلت: لا، فقال: هذا شاكري لسيدنا أبي محمد (عليه السلام) ، أفتشتهي أن تسمع من أحاديثه عنه شيئاً؟ قلت: نعم، ... فقال له أبو علي: يا أبا عبد اللّه محمد حدّثنا عن أبي محمد (عليه السلام) ، فقال: كان أستاذي صالحاً من بين العلويين لم أر قط مثله، وكان يركب بسرج صفته بزيون مسكي(1) وأزرق، قال: وكان يركب إلى دار الخلافة بسرّ من رأى في كل أثنين وخميس.
قال: وكان يوم النوبة يحضر من الناس شيء عظيم، ويغص الشارع بالدواب والبغال والحمير والضجة فلا يكون لأحد موضع يمشي ولا يدخل بينهم.
قال: فإذا جاء أستاذي سكنت الضجّة، وهدأ صهيل الخيل ونُهَاق الحمير قال: وتفرّقت البهائم حتى يصير الطريق واسعاً لا يحتاج أن يتوقّى من الدواب بخفة، ثم يدخل فيجلس في مرتبته التي جعلت له، فإذا أراد الخروج وصاح البوابون هاتوا دابة أبي محمد سكن صياح الناس وصهيل الخيل فتفرّقت الدواب حتى يركب ويمضى.
وقال الشاكري: واستدعاه يوماً الخليفة وشقّ ذلك عليه وخاف أن يكون قد سعى به إليه بعض من يحسده على مرتبته من العلويين والهاشميين، فركب ومضى إليه، فلما حصل في الدار قيل له: إنّ الخليفة قد قام ولكن أجلس في مرتبتك أو انصرف، قال: فانصرف فجاء إلى سوق الدواب وفيها من الضجّة والمصادمة واختلاف الناس شيء كثير، فلما دخل إليها سكنت الضجة بدخوله وهدأت الدواب، قال: وجلس إلى نخّاس كان يشتري له
ص: 327
الدواب، قال: فجىء له بفرس كبوس(1) لا يقدر أحد أن يدنو منه، قال: فباعوه إيّاه بوكس(2)، فقال لي: يا محمد قم فاطرح السرج عليه، قال فقلت: إنّه لا يقول لي ما يؤذيني، فحللت الحزام وطرحت السرج عليه فهدأ ولم يتحرّك.
وجئت به لأمضي به فجاء النخّاس، فقال لي: ليس يباع، فقال لي: سلّمه إليهم، قال: فجاء النخّاس ليأخذه، فالتفت إليه التفاتة ذهب منه منهزماً.
قال: وركب ومضينا فلحقنا النخّاس، فقال صاحبه يقول: أشفقت أن يردّه فإن كان قد علم ما فيه من الكبس فليشتره، فقال لي أستاذي: قد علمت، فقال: قد بعتك، فقال لي: خذه فأخذته، قال: فجئت به إلى الإصطبل فما تحرّك ولا آذاني ببركة أستاذي، فلما نزل جاء إليه وأخذ أذنه اليمنى فرقاه، ثم أخذ أذنه اليسرى فرقاه، فو اللّه لقد كنت أطرح الشعير له فافرقه بين يديه فلا يتحرّك، هذا ببركة أستاذي.
قال أبو محمد: قال أبو علي بن همّام: هذا الفرس يقال له: الصؤول(3)، قال: يزحم بصاحبه حتى يرجم به الحيطان، ويقوم على رجليه ويلطم صاحبه(4).
ص: 328
قال محمد الشاكري: كان أستاذي أصلح من رأيت من العلويين والهاشميين ما كان يشرب النبيذ كان يجلس في المحراب ويسجد فأنام وانتبه وأنام وهو ساجد وكان قليل الأكل يحضره التين والعنب والخوخ وما شاكله فيأكل منه الواحدة والثنتين ويقول: شل هذا يا محمد إلى صبيانك، فأقول: هذا كلّه؟ فيقول: خذه كله، ما رأيت قط اشهى منه(1).
عن أبي جعفر العمري، قال: إنّ أبا طاهر بن بلبل حج فنظر إلى علي بن جعفر الهماني وهو ينفق النفقات العظيمة، فلما انصرف كتب بذلك إلى أبي محمد (عليه السلام) فوقّع في رقعته: قد كنّا أمرنا له بمائة ألف دينار، ثم أمرنا له بمثلها فأبى قبولها إبقاء علينا ما للناس والدخول في أمرنا فيما لم ندخلهم فيه(2).
عن محمد بن الحسن بن شمون، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله أن يدعو اللّه لي من وجع عيني، وكانت إحدى عيني ذاهبة والأخرى على شرف ذهاب، فكتب إليّ: حبس اللّه عليك عينك، فأفاقت الصحيحة ووقّع في آخر الكتاب: آجرك اللّه وأحسن ثوابك، فاغتممت لذلك ولم أعرف في أهلي أحداً مات، فلما كان بعد أيام جائتني وفاة ابني طيّب فعلمت أنّ التعزية له(3).
ص: 329
عن عمر بن أبي مسلم، قال: قدم علينا بسرّ من رأى رجل من أهل مصر يقال له: سيف بن الليث، يتظلّم إلى المهتدي في ضيعة له قد غصبها إيّاه شفيع الخادم وأخرجه منها، فأشرنا عليه أن يكتب إلى أبي محمد (عليه السلام) يسأله تسهيل أمرها، فكتب إليه أبو محمد (عليه السلام) : لا بأس عليك ضيعتك تردّ عليك فلا تتقدّم إلى السلطان والق الوكيل الذي في يده الضيعة وخوفه بالسلطان الأعظم اللّه رب العالمين، فلقيه فقال له الوكيل الذي في يده الضيعة: قد كتب إليّ عند خروجك من مصر أن أطلبك وأرد الضيعة عليك، فردّها عليه بحكم القاضي ابن أبي الشوارب وشهادة الشهود ولم يحتج إلى أن يتقدّم إلى المهتدي، فصارت الضيعة له وفي يده ولم يكن لها خبر بعد ذلك(1).
عن سيف بن الليث، قال: خلّفت ابناً لي عليلاً بمصر عند خروجي عنها، وابناً لي آخر أسنّ منه كان وصيي وقيّمي على عيالي وفي ضياعي، فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله الدعاء لابني العليل، فكتب إليّ: قد عوفي ابنك المعتل ومات الكبير وصيّك وقيمك فاحمد اللّه ولا تجزع فيحبط أجرك. فورد عليّ الخبر أنّ ابني قد عوفي من علّته ومات الكبير يوم ورد علي جواب أبي محمد (عليه السلام) (2).
عن محمد بن القاسم أبو العيناء الهاشمي مولى عبد الصمد بن علي عتاقة
ص: 330
قال: كنت أدخل على أبي محمد (عليه السلام) فأعطش وأنا عنده فأجلّه أن ادعو بالماء، فيقول: يا غلام اسقه، وربما حدّثت نفسي بالنهوض فأفكر في ذلك، فيقول: يا غلام دابته(1).
روي عن أبي الفرات، قال: كان لي على ابن عم لي عشرة آلاف درهم فطالبته بها مراراً فمنعنيها، فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله الدعاء فكتب إلي: أنّه راد عليك مالك وهو ميّت بعد جمعة قال: فردّ ابن عمّي عليّ مالي، فقلت له: ما بدا لك في ردّه وقد منعتنيه.
قال: رأيت أبا محمد (عليه السلام) في المنام، فقال: إنّ أجلك قد دنا فردّ على ابن عمّك ماله(2).
روي عن علي بن الحسن بن سابور، قال: قحط الناس بسرّ من رأى في زمن الحسن الأخير (عليه السلام) فأمر المتوكل بالخروج إلى الاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام يستسقون ويدعون فما سقوا، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ومعه النصارى والرهبان فكان فيهم راهب، فلما مدّ يده هطلت السماء بالمطر، وخرجوا اليوم الثاني فهطلت السماء، فشك أكثر الناس وتعجّبوا وصبوا إلى دين النصرانية، فأنفذ المتوكل إلى الحسن (عليه السلام) وكان محبوساً فأخرجه من حبسه، وقال: ألحق أمّة جدّك فقد هلكت، فقال: إنّي خارج من الغد ومزيل
ص: 331
الشك إن شاء اللّه، فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه، وخرج الحسن (عليه السلام) في نفر من أصحابه فلما بصر بالراهب وقد مدّ يده أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ويأخذ ما بين إصبعيه، ففعل وأخذ منه عظماً أسود، فأخذه الحسن (عليه السلام) بيده وقال: استسق الآن، فاستسقى وكانت السماء مغيمة فتقشعت وطلعت الشمس بيضاء، فقال المتوكل: ما هذا العظم يا أبا محمد، فقال (عليه السلام) : هذا الرجل عبر بقبر نبي من أنبياء اللّه فوقع في يده هذا العظم وما كشف عن عظم نبي إلا هطلت السماء بالمطر(1).
عن علي بن زيد بن علي بن الحسين بن زيد، قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) وإنّي لجالس عنده إذ ذكرت منديلاً كان معي فيه خمسون ديناراً، فقلقت لها...، فقال أبو محمد (عليه السلام) : لا بأس هي مع أخيك الكبير سقطت منك حين نهضت فأخذها وهي محفوظة معه إن شاء اللّه، فأتيت المنزل فردها إلي أخي(2).
عن جعفر بن محمد بن موسى، قال: كنت قاعداً بالعشي فمرّ (عليه السلام) بي وهو راكب، وكنت اشتهي الولد شهوة شديدة، فقلت في نفسي: ترى أرزق ولداً، فقال برأسه: أي نعم، فقلت: ذكراً، فقال برأسه: لا، فولدت لي ابنة(3).
ص: 332
حدّث أبو يوسف الشاعر القصير شاعر المتوكل، قال: ولد لي غلام وكنت مضيقاً، فكتبت رقاعاً إلى جماعة استرفدهم، فرجعت بالخيبة، قال: قلت: أجيء فأطوف حول الدار طوفة، وصرت إلى الباب، فخرج أبو حمزة ومعه صرّة سوداء فيها أربعمائة درهم، فقال: يقول لك سيّدي (عليه السلام) : أنفق هذه على المولود بارك اللّه لك فيه(1).
حدّث أبو القاسم كاتب راشد، قال: خرج رجل من العلويين من سرّ من رأى في أيام أبي محمد إلى الجبل يطلب الفضل، فتلقّاه رجل بحلوان(2)، فقال: من أين أقبلت؟ قال: من سرّ من رأى، قال: هل تعرف درب كذا وموضع كذا؟ قال: نعم، فقال: عندك من أخبار الحسن بن علي (عليه السلام) شيء؟ قال: لا، قال: فما أقدمك الجبل؟ قال: طلب الفضل، قال: فلك عندي خمسون ديناراً فاقبضها وانصرف معي إلى سرّ من رأى حتى توصلني إلى الحسن بن علي (عليه السلام) ، فقال: نعم، فأعطاه خمسين ديناراً وعاد العلوي معه فوصلا إلى سرّ من رأى فاستأذنا على أبي محمد (عليه السلام) فأذن لهما، فدخلا وأبو محمد (عليه السلام) قاعد في صحن الدار، فلما نظر إلى الجبلي، قال له: أنت فلان بن فلان. قال: نعم، قال: أوصى إليك أبوك وأوصى لنا بوصيّة فجئت
ص: 333
تؤدّيها ومعك أربعة آلاف دينار هاتها. فقال الرجل: نعم، فدفع إليه المال ثم نظر إلى العلوي، فقال: خرجت إلى الجبل تطلب الفضل فأعطاك هذا الرجل خمسين ديناراً فرجعت معه ونحن نعطيك خمسين ديناراً فأعطاه(1).
عن جعفر بن الشريف الجرجاني، قال: حججت سنة، فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) بسرّ من رأى وقد كان أصحابنا حملوا معي شيئاً من المال، فأردت أن أسأله إلى من أدفعه؟ فقال قبل أن قلت ذلك: ادفع ما معك إلى المبارك خادمي.
ففعلت وقلت: شيعتك بجرجان يقرؤون عليك السلام. قال: أولست منصرفاً بعد فراغك من الحج؟ قلت: بلى.
قال: فإنّك تصير إلى جرجان من يومك هذا إلى مائة وتسعين يوماً، وتدخلها يوم الجمعة لثلاث ليال مضين من شهر ربيع الآخر في أول النهار، فأعلمهم إنّي أوافيهم في ذلك اليوم آخر النهار، فامض راشداً، فإنّ اللّه سيسلّمك ويسلّم ما معك فتقدّم على أهلك وولدك، ويولد لولدك الشريف ابن، فسمّه الصلت، وسيبلغ ويكون من أوليائنا.
فقلت: يا بن رسول اللّه إنّ إبراهيم بن إسماعيل الجلختي وهو من شيعتك كثير المعروف إلى أوليائك، يخرج إليهم في السنة من ماله أكثر من مائة ألف درهم وهو أحد المبتلين في نعم اللّه بجرجان.
فقال: شكراً لله لأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل صنيعه إلى شيعتنا،
ص: 334
وغفر له ذنوبه ورزقه ذكراً سوياً قائلاً بالحق، فقل له: يقول لك الحسن بن علي: سم ابنك أحمد.
فانصرفت من عنده، وحججت، وسلّمني اللّه حتى وافيت جرجان في يوم الجمعة أول النهار لثلاث ليال مضين من شهر ربيع الآخر على ما ذكر (عليه السلام) وجاءني أصحابي يهنئوني فأعلمتهم أنّ الإمام وعدني أن يوافيكم في آخر هذا اليوم فتأهّبوا لما تحتاجون إليه وأعدوا مسائلكم وحوائجكم كلّها.
فلما صلّوا الظهر والعصر اجتمعوا كلّهم في داري، فو اللّه ما شعرنا إلاّ وقد وافى أبو محمد (عليه السلام) فدخل ونحن مجتمعون فسلّم هو أولاً علينا فاستقبلناه وقبّلنا يده، ثم قال: إنّي كنت وعدت جعفر بن الشريف أن أوافيكم آخر هذا اليوم فصلّيت الظهر والعصر بسرّ من رأى وصرت إليكم لأجدّد بكم عهداً وها أنا قد جئتكم الآن فأجمعوا مسائلكم وحوائجكم كلّها.
فأول من انتدب لمسألته النضر بن جابر، فقال: يا بن رسول اللّه إنّ ابني جابراً أصيب ببصره فادع اللّه أن يردّ عينيه، قال: فهاته، فجاء به فمسح يده على عينيه فعاد بصره، ثم يقدم رجل فرجل يسألونه حوائجهم، فأجابهم إلى كل ما سألوه، حتى قضى حوائج الجميع ودعا لهم بخير وانصرف من يومه ذلك(1).
روي عن علي بن زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين، قال: صحبت أبا محمد (عليه السلام) في دار العامّة إلى منزله، فلمّا صار إلى داره
ص: 335
وأردت الانصراف، قال: أمهل ودخل، فأذن لي فدخلت فأعطاني مائة دينار، وقال: صيّرها في ثمن جارية فإنّ جاريتك فلانة ماتت، وكنت خرجت من المنزل وعهدي بها أنشط ما كانت، فمضيت، فقال الغلام: ماتت جاريتك فلانة الساعة، قلت: ما حالها؟ قال: شربت ماءً فشرقت فماتت(1).
عن علي بن زيد، قال: اعتلّ ابني أحمد، فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله الدعاء، فخرج توقيعه: أما علم علي أنّ لكل أجل كتاب؟ فمات الابن(2).
عن علي بن جعفر الحلبي، قال: اجتمعنا بالعسكر وترصّدنا لأبي محمد (عليه السلام) يوم ركوبه... وإلى جانبي شاب، فقلت: من أين أنت؟ قال: من المدينة. قلت: ما تصنع ههنا؟ قال: اختلفوا عندنا في أبي محمد (عليه السلام) ، فجئت لأراه واسمع منه أو أرى منه دلالته ليسكن قلبي وإنّي من ولد أبي ذر الغفّاري، فبينما نحن كذلك إذ خرج أبو محمد (عليه السلام) مع خادم له، فلما حاذانا نظر إلى الشاب الذي بجنبي، فقال: أغفاري أنت؟ قال: نعم. قال: ما فعلت أمّك حمدوية؟ فقال: صالحة، ومرّ. فقلت للشاب: أكنت رأيته قط وعرفته بوجهه قبل اليوم؟ قال: لا. قلت: فينفعك هذا؟ قال: ودون هذا(3).
ص: 336
عن حمزة بن محمد، قال: كان أبي بُلي بالشلل وضاق صدره، فقال: لأقصدنّ هذا الذي تزعم الإمامية أنّه إمام - يعني الحسن بن علي (عليه السلام) - قال: فاكتريت دابة وارتحلت نحو سرّ من رأى فوافيتها وكان يوم ركوب الخليفة إلى الصيد، فلما ركب الخليفة ركب معه الحسن بن علي (عليه السلام) ، فلما ظهروا واشتغل الخليفة باللّهو وطلب الصيد اعتزل أبو محمد (عليه السلام) وألقى إلى غلامه الغاشية فجلس فجئت إلى خرابة بالقرب منه، فشددت دابتي وقصدت نحوه، فناداني: يا أبا محمد لا تدن منّي فإنّي عليّ عيوناً وأنت أيضاً خائف. قال: فقلت في نفسي هذا من مخاريق الإمامة، ما يدري ما حاجتي! قال: فجاءني غلامه ومعه صرّة فيها ثلاثمائة دينار، فقال: يقول لك مولاي: جئت تشكو إليّ الشلل وأنا أدعو اللّه بقضاء حاجتك، كثّر اللّه ولدك وجعل فيكم أبراراً خذ هذه الثلاثمائة دينار بارك اللّه لك فيها، قال: فما خلاّني من ثلاثمائة دينار وكانت معه...(1).
عن محمد بن علي بن إبراهيم الهمداني، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله أن يدعو اللّه أن أرزق ولداً ذكراً من ابنة عمّي، فوقّع: رزقك اللّه ذكراناً، فولد لي أربعة(2).
روي عن عمر بن محمد بن زياد الصيمري، قال: دخلت على أبي أحمد
ص: 337
عبيد اللّه بن عبد اللّه وبين يديه رقعة أبي محمد (عليه السلام) وفيها: إنّي نازلت اللّه في هذا الطاغي - يعني الزبير بين جعفر - وهو آخذه بعد ثلاث. فلما كان اليوم الثالث قتل(1).
عن أبي هاشم، قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله ما أصوغ به خاتماً أتبرّك به، فجلست وأنسيت ما جئت له، ثم ودّعته ونهضت فرمى إليّ بخاتم، فقال لي: أردت فضّة فأعطيناك خاتماً ربحت الفصّ والكراء(2)، هنّأك اللّه يا أبا هاشم. فقلت: يا سيّدي أشهد أنّك ولي اللّه وإمامي الذي أدين اللّه بفضله وطاعته، فقال: يغفر اللّه لك يا أبا هاشم(3).
عن الحجّاج بن سفيان العبدي، قال: خلفت ابني بالبصرة عليلاً وكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله الدعاء، فكتب: رحم اللّه ابنك إنّه كان مؤمناً. قال حجاج: فورد عليّ كتاب من البصرة أنّ ابني مات في اليوم الذي كتب إلي أبو محمد (عليه السلام) بموته(4).
عن محمد بن درياب الرقاشي، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله عن المشكاة وأن يدعو اللّه لامرأتي - وكانت حاملاً على رأس ولدها - أن
ص: 338
يرزقني اللّه ولداً ذكراً، وسألته أن يسمّيه فرجع الجواب: المشكاة قلب محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يجبني عن امرأتي بشيء وكتب في آخر الكتاب: عظّم اللّه أجرك وأخلف عليك، فولدت ولداً ميّتاً وحملت بعده فولدت غلاماً(1).
قال عمر بن أبي مسلم: كان سميع المسمعي يؤذيني كثيراً ويبلغني عنه ما أكره، وكان ملاصقاً لداري، فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله الدعاء بالفرج منه، فرجع الجواب: أبشر بالفرج سريعاً وأنت مالك داره، فمات بعد شهر، واشتريت داره فوصلتها بداري ببركته(2).
قال أبوبكر: عرض علي صديق أن أدخل معه في شراء ثمار من نواحي شتى، فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) : أشاوره، فكتب: لا تدخل في شيء من ذلك، ما أغفلك عن الجراد والحشف(3). فوقع الجراد فأفسده وما بقى منه تحشّف، وأعاذني اللّه من ذلك ببركته(4).
عن أحمد بن الحرث القزويني، قال: كنت مع أبي بسرّ من رأى وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمد (عليه السلام) ، قال: وكان عند المستعين بغل لم ير مثله حسناً وكبراً، وكان يمنع ظهره واللجام، وكان قد جمع عليه الرَّافضة(5)
ص: 339
فلم يمكن لهم حيلة في ركوبه، فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين ألا تبعث إلى الحسن بن علي بن الرضا حتى تجيء فإمّا أن يركبه وإمّا أن يقتله... قال: فبعث إلى أبي محمد ومضى أبي معه، فلما دخل أبو محمد الدار كنت مع أبي فنظر أبو محمد إلى البغل واقفاً في صحن الدار فعدل إليه فوضع يده على كفله. قال: فنظرت إلى البغل قد عرق حتى سال العرق منه، ثم صار إلى المستعين فسلّم عليه فرحّب به وقرّبه، وقال: يا أبا محمد ألجم(1) هذا البغل، فقال: أبو محمد لأبي: ألجمه يا غلام، فقال له المستعين: ألجمه أنت، فوضع أبو محمد طيلسانه(2) وقام فألجمه، ثم رجع إلى مجلسه وجلس، قال له: يا أبا محمد أسرجه. فقال لأبي: يا غلام أسرجه، فقال المستعين: أسرجه أنت، فقام ثانية فأسرجه ورجع إلى مجلسه، فقال له: ترى أن تركبه، فقال أبو محمد: نعم. فركبه من غير أن يمتنع عليه ثم ركضه في الدار. ثم حمله على الهملجة(3) فمشى أحسن مشي يكون ثم رجع فنزل، فقال له المستعين: كيف رأيته؟ قال: ما رأيت مثله حسناً وفراهة...، فقال له المستعين: فإنّ الأمير قد حملك عليه، فقال أبو محمد لأبي: يا غلام خذه، فأخذ أبي فقاده(4).
عن الحسن بن ظريف، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) وقد تركت
ص: 340
التمتّع منذ ثلاثين سنة وقد نشطت لذلك، وكان في الحيّ امرأة وصفت لي بالجمال فمال قلبي إليها، وكانت عاهراً لا تمنع يد لامس فكرهتها، ثم قلت: قد قال: تمتّع بالفاجرة فإنّك تخرجها من حرام إلى حلال، فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أشاوره في المتعة، وقلت: أيجوز بعد هذه السنين أن أتمتّع؟، فكتب: إنّما تحيي سنّة وتميت بدعة، فلا بأس وإيّاك وجارتك المعروفة بالعهر وإن حدّثتك نفسك أنّ آبائي قالوا: تمتّع بالفاجرة فإنّك تخرجها من حرام إلى حلال، فهذه امرأة معروفة بالهتك وهي جارة وأخاف عليك استفاضة الخبر فيها. فتركتها ولم أتمتّع بها وتمتّع بها شاذان بن سعد رجل من إخواننا وجيراننا فاشتهر بها حتى علا أمره وصار إلى السلطان وأغرم بسببها مالاً نفيساً وأعاذني اللّه من ذلك ببركة سيدي(1).
عن محمد بن حمزة السروري، قال: كتبت على يد أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري وكان لي مواخياً إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله أن يدعو لي بالغنى وكنت قد أملقت، فأوصلها وخرج الجواب على يده: أبشر فقد أجلّك اللّه تبارك وتعالى بالغنى، مات ابن عمّك يحيى بن حمزة وخلّف مائة ألف درهم وهي واردة عليك فاشكر اللّه، وعليك بالاقتصار وإيّاك والإسراف فإنّه من فعل الشيطنة فورد علي بعد ذلك قادم معه سفاتج(2) من حران، وإذا ابن عمي قد مات في
ص: 341
اليوم الذي رجع إلي أبو هاشم بجواب مولاي أبي محمد (عليه السلام) فاستغنيت وزال الفقر عنّي كما قال سيدي، فأدّيت حقّ اللّه في مالي وبررت إخواني وتماسكت بعد ذلك - وكنت رجلاً مبذّراً - كما أمرني أبو محمد (عليه السلام) (1).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: شكوت إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) الحاجة، فحكّ بسوط الأرض فأخرج منها سبيكة نحوه الخمسمائة دينار، وقال: خذها يا أبا هاشم واعذرنا(2).
كتب أبو علي المطهري إليه من القادسية يعلمه بانصراف الناس عن المضي إلى الحج وأنّه يخاف العطش إن مضى، فكتب (عليه السلام) : أمضوا فلا خوف عليكم إن شاء اللّه، فمضى من بقي سالمين لم يجدوا عطشاً(3).
قال علي بن الحسن بن الفضل اليماني: نزل بالجعفري من آل جعفر خلق كثير لا قبل له بهم، فكتب إلى أبي محمد (عليه السلام) يشكو ذلك، فكتب إليه: تكفونهم إن شاء اللّه. قال: فخرج إليهم في نفر يسير والقوم يزيدون على عشرين ألفاً وهو في أقل من ألف فاستباحهم(4).
ص: 342
عن أبي هاشم الجعفري، قال: شكوت إلى أبي محمد (عليه السلام) ضيق الحبس وكتل القيد(1)، فكتب إليّ: أنت تصلّي الظهر اليوم في منزلك، فأخرجت وقت الظهر فصلّيت في منزلي كما قال، وكان مضيقاً فأردت أن أطلب منه دنانير في الكتاب الذي كتبته فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجّه إليّ مائة دينار وكتب إلي: إذا كانت لك حاجة فلا تستحي ولا تحشتم وأطلبها فإنّك على ما تحب إن شاء اللّه(2).
قال إسماعيل بن محمد: قعدت لأبي محمد (عليه السلام) على ظهر الطريق، فلمّا مرّ بي شكوت إليه الحاجة وحلفت له أنّه ليس عندي درهمٌ واحد فما فوقه ولا غداء ولا عشاء، قال: فقال: تحلف باللّه كاذباً وقد دفنت مأتي دينار وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية، أعطه يا غلام ما معك، فأعطاني غلامه مائة دينار، ثم أقبل عليّ، فقال لي: إنّك تحرمها أحوج ما تكون إليها...، وصدق (عليه السلام) ... واضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه وانغلقت عليّ أبواب الرزق فنبشت عنها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب فما قدرت منها على شيء(3).
كتب أبو محمد (عليه السلام) إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت
ص: 343
المعتزّ بنحو عشرين يوماً: ألزم بيتك حتى يحدث الحادث، فلما قتل بُريحة كتب إليه قال: حدث الحادث فما تأمرني؟ فكتب إليه: ليس هذا الحادث الحادث الآخر: فكان من المعتزّ ما كان.
وكتب (عليه السلام) إلى رجل آخر: يقتل ابن محمد بن داود عبد اللّه قبل قتله بعشرة أيام، فلما كان في اليوم العاشر قتل(1).
قال علي بن زيد بن علي بن الحسين: كان لي فرس وكنت له معجباً أكثر ذكره في المحال، فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) يوماً، فقال: ما فعل فرسك؟ فقلت: ... هو على بابك الآن نزلت عنه، فقال: استبدل به قبل المساء إن قدرت على مشتري لا تؤخّر ذلك، ودخل علينا داخل وانقطع الكلام، فقمت من مكاني مفكّراً ومضيت إلى منزلي، فأخبرت أخي، قال لي: ما أدري ما أقول في هذا وشححت به ونفست على الناس ببيعه وأمسينا، فلما صلّينا العتمة جاءني السايس، فقال: نفق فرسك الساعة، فاغتممت وعلمت أنه عنّي هذا بذلك القول، ثم دخلت على أبي محمد (عليه السلام) بعد أيام وأنا أقول في نفسي: ليته أخلف علي دابة، فلما جلست قال (عليه السلام) : نعم نُخلِفُ دابة عليك، يا غلام أعطه برذوني(2) الكميت، ثم قال: هذا خير من فرسك وأوطأ وأطول عمراً(3).
ص: 344
قال أحمد بن محمد: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) حين أخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيّدي الحمد لله الذي شغله عنك فقد بلغني أنه يتهدّدك ويقول: واللّه لاُخلينهم عن جديد الأرض، فوقّع أبو محمد (عليه السلام) بخطّه: ذلك أقصر لعمره، وعد من يومك هذا خمسة أيام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف بموته، فكان كما قال(1).
عن محمد بن عبد اللّه، قال: لما أمر سعيد بحمل أبي محمد (عليه السلام) إلى الكوفة قد كتب إليه أبو الهيثم: جعلت فداك بلغنا خبر قلقنا وبلغ منّا، فكتب (عليه السلام) : بعد ثلاث يأتيكم الفرج، فقتل المعتزّ يوم الثالث.
قال: وفقد له غلام صغير فلم يوجد، فأخبر بذلك وقال: اطلبوه في البركة، فطلب فوجد في بركة الدار ميّتاً(2).
قال هارون بن مسلم: ولد لابني أحمد ابن فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) وذلك بالعسكر اليوم الثاني من ولادته أسأله أن يسمّيه ويكنّيه وكان محبّتي أن أسمّيه جعفراً واكنّيه بأبي عبد اللّه، فوافاني رسوله في صبيحة اليوم السابع ومعه كتاب: سمّه جعفراً وكنّه بأبي عبد اللّه ودعا لي(3).
ص: 345
خرج إلى علي بن محمد بن زياد توقيع أبي محمد (عليه السلام) : فتنة تخصّك، فكن حلساً(1) من أحلاس بيتك. قال: فنابتني نائبة فزعت منها، فكتبت إليه أهي هذه؟ فكتب لا، أشد من هذه، فطلبت بسبب جعفر بن محمد ونودى علي من أصابني فله مائة ألف درهم(2).
قال محمد بن علي السمري: دخلت على أبي أحمد عبيد اللّه بن عبد اللّه وبين يديه رقعة أبي محمد (عليه السلام) ، فيها: إنّي نازلت اللّه في هذا الطاغي يعني الزبيري وهو أخذه بعد ثلاث، فلمّا كان في اليوم الثالث فعل به ما فعل(3).
عن محمد بن علي السمري أيضاً، قال: كتب إليّ أبو محمد (عليه السلام) : فتنة تظلّكم فكونوا على أهبة، فلما كان بعد ثلاثة أيام وقع بين بني هاشم وكانت له هَنَة(4) لها شأن، فكتب إليه أهي هذه؟ قال: لا ولكن غير هذه فاحترسوا، فلما كان بعد أيام كان من أمر المعتزّ ما كان(5).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت عند أبي محمد (عليه السلام) إذ دخل عليه
ص: 346
شاب حسن الوجه، فقلت في نفسي: من هذا؟ فقال أبو محمد (عليه السلام) : هذا ابن أمّ غانم صاحبة الحصاة التي طبع فيها آبائي وقد جاءني أطبع فيها، هات حصاتك، فأخرج حصاة فإذا فيها موضع أملس، فطبع فيها بخاتم معه فانطبع(1).
عن جعفر بن محمد القلانسي، قال: كتب محمد أخي إلى أبي محمد (عليه السلام) وامرأته حامل مقرب أن يدعو اللّه أن يخلّصها ويرزقه ذكراً ويسمّيه، فكتب يدعو اللّه بالصلاح ويقول: رزقك اللّه ذكراً سوياً ونعم الاسم محمد وعبد الرحمن. فولدت اثنين في بطن، أحدهما في رجله زوائد في أصابعه والآخر سوي، فسمّى واحداً محمداً والآخر صاحب الزوائد عبد الرحمن(2).
عن جعفر بن محمد القلانسي، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) مع محمد بن عبد الجبار وكان خادماً يسأله عن مسائل كثيرة ويسأله الدعاء لأخ له خرج إلى أرمنية يجلب غنماً، فورد الجواب بما سأل ولم يذكر أخاه فيه بشيء، فورد الخبر بعد ذلك أنّ أخاه مات يوم كتب أبو محمد (عليه السلام) جواب المسائل، فعلمنا أنّه لم يذكر لأنّه علم بموته(3).
ص: 347
عن أبي سليمان المحمودي، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله الدعاء بأن أرزق ولداً، فوقّع (عليه السلام) : رزقك اللّه ولداً وأصبرك عليه، فولد لي ابن ومات(1).
عن عبد الحميد بن محمد ومحمد بن يحيى الخرقي، قالا: دخلنا على أبي الحسن علي بن بشر وهو عليل قلق، فلما رآنا استغاث بنا، وقال: ادعوا اللّه بالإقالة وانفذوا خطيّته بيدي إلى مولاي أبي محمد الحسن (عليهما السلام) مع من تتقون به، فقلنا: يا علي أين الكتاب؟ فقال: جنبي، فأدخلنا أيدينا تحت مصلاّه فأخذناه وفضضناه لنقرأه، فإذا نحن في رأس الكتاب ترقيعاً ونحباً، وإذا فيه: قد قرأنا كتابك وسألنا اللّه عافيتك وإقالتك فإنّ اللّه مدّ بعمرك تسعاً وأربعين سنة من بعد ما مضى من عمرك، فاحمد اللّه واشكره واعمل بما فيه وبما تُبقِيهِ ولا تأمن إن أسأت أن يبتر عمرك، فإنّ اللّه يفعل ما يريد. فقلنا: يا علي قد قرأ سيدنا كتابك وهذا خطّه بكلّما أصابك فقام في الوقت، أرضى جاريته وتصدّق بها، فلما كان بعد ثلاثة أيام وردت سفتجة من أبي عمر عثمان بن سعد العمري السمّان من سامراء على بعض تجّار الكرخ يحمل مالاً إلى علي بن بشر، فحمله إليه فحسب ما تصدّق به من ماله فوجد المال المحمول إليه ثلاثة أضعاف، فكان هذا من دلائله (عليه السلام) (2).
ص: 348
عن ابراهيم بن محمد الخزري أنّه قال: قد خفي عليّ وعلى أخي مكان أبي، فخرجنا من المدينة رجاء أن نعثر على مكانه، فقلت في نفسي: إنّه لا طريق إلى ذلك إلاّ بمصاحبة مولاي الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) ، أو السؤال عنه كي يخبرني بمكانه، فقصدت سرّ من رأى إلى أن دخلتها، فمشيت إلى باب دار أبي محمد (عليه السلام) في وقت الحر، فلم أر أحداً ببابه، فجلست أنتظر خروج أحد من الدار، فإذا بالباب فتحت وخرجت جارية من داخل البيت، وقالت: يا ابراهيم بن محمد الخزري، فبكيت، وقلت: لبيك أنا إبراهيم بن محمد الخزري، فقالت الجارية: إنّ مولاي يبلغك السلام ويقول: إنّ هذا سيوصلك إلى أبيك، وأعطتني صرّة وكان فيها عشرة دنانير. فأخذت الصرّة ورجعت فذكرت في الطريق أنّي نسيت أن أسأل مولاي عن خبر أبي ومقامه، فأردت الرجوع إليه ثانياً، فذكرت قول الجارية بأنّ هذه الصرّة توصلك إلى أبيك، فعلمت أنّي سأصل إلى أبي، فخرجت في طلبه إلى أن وصلت إلى طبرستان فأدركته عند الحسن بن زيد وقد بقي من الدنانير العشرة دينار واحد، فقصصت عليه القصّة وكيفية وصولي إليه وكنت عنده إلى أن سمّه الحسن بن زيد، فرحلت بعد وفاته منها قاصداً آبة(1).
عن أحمد بن صالح، قال: خرجت من الكوفة إلى سامراء فدخلت على مولاي أبي محمد الحسن (عليه السلام) في سنة تسع وخمسين ومائتين وكان لي
ص: 349
أربع بنات، فقال لي: يا أحمد أيّ شيء كان من بناتك؟ فقلت: بخير يا مولاي. فقال: أمّا الواحدة آمنة فقد ماتت بهذا اليوم، وأمّا سكينة تموت في غد، وخديجة وفاطمة فتموتان بأول يوم من الهلال المستهلّ، فبكيت. فقال (عليه السلام) : رقّة عليهن أم اهتماماً بتجهيزهن؟ فقلت: يا مولاي ما خلفت ما يستر الواحدة منهن، فقال: قم ولا تهتم فقد أمرنا عثمان بن سعيد بانفاذ ورق بتجهيزهن ويفضل لك بعد تجهيزهن بالأكياس ثلاثة آلاف درهم وهي ما إن سألت. قال: قد كان قصدي يا مولاي أن أسألك ثلاثة آلاف درهم حتى أزوّجهن وأخرجهن إلى أزواجهن، فجهزتهن إلى الآخرة وذخرت الثلاثة آلاف درهم عليّ، وأقمت إلى أول يوم من الهلال ودخلت عليه، فقال: أخرج يا أحمد بن صالح إلى الكوفة فقد عظّم اللّه أجرك في بناتك، فخرجت حتى وردت الكوفة مع الثلاثة آلاف درهم، فلم يزل إخواني من أهل الكوفة وسائر السواد، يستمدّون من تلك الدراهم وفرّقتها عليهم، وما أنفقت منها على نفسي ثلاثين درهماً، ورجعت من قابل ودخلت على مولاي الحسن (عليه السلام) يوم الجمعة لثمان ليال خلت من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين، وكان هذا من دلائله (عليه السلام) (1).
عن أبي بكر الفهفكي، قال: أردت الخروج بسرّ من رأى لبعض الأمور وقد طال مقامي بها، فغدوت يؤمّ الموكب وجلست في شارع أبي قطيعة بن داود، إذ طلع أبو محمد (عليه السلام) يريد دار العامّة، فلمّا رأيته قلت في نفسي:
ص: 350
أقول له: يا سيّدي إن كان الخروج عن سرّ من رأى خيراً فأظهر التبسّم في وجهي، فلمّا دنا منّي تبسّم تبسّماً جيّداً، فخرجت من يومي فأخبرني أصحابنا أنّ غريماً كان له عندي مال قدم يطلبني، ولو ظفر بي لهتكني لأنّ ماله لم يكن عندي شاهداً(1).
عن محمد بن همام، قال: كتب أبي إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) يعرّفه أنّه ما صحّ له حمل بولد، ويعرّفه أنّ له حملاً يسأله أن يدعو اللّه في تصحيحه وسلامته وأن يجعله ذكراً نجيباً من مواليهم، فوقّع (عليه السلام) على رأس الرقعة بخطّ يده: قد فعل اللّه ذلك، فصحّ الحمل ذكراً(2).
عن أبي جعفر أحمد القصير البصري، قال: حضرنا عند سيدنا أبي محمد (عليه السلام) بالعسكر فدخل عليه خادم من دار السلطان، جليل، فقال له: الأمير يقرأ عليك السلام ويقول لك: كاتبنا أنوش النصراني يريد أن يطهّر ابنين له، وقد سألنا مسألتك أن تركب إلى داره وتدعو لابنيه بالسلامة والبقاء فأحب أن تركب وأن تفعل ذلك، فإنّا لم نجشمك هذا العناء، إلاّ لأنّه قال: نحن نتبرّك بدعاء بقايا النبوّة والرسالة، فقال مولانا (عليه السلام) : الحمد لله الذي جعل النصارى أعرف بحقّنا من المسلمين، ثم قال: أسرجوا لنا، فركب حتى
ص: 351
وردنا أنوش فخرج إليه مكشوف الرأس حافي القدمين، وحوله القسيسون والشماسة والرهبان، وعلى صدره الإنجيل، فتلقّاه على باب داره، وقال له: يا سيدنا أتوسّل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعرف به منّا إلا غفرت لي ذنبي في عنائك وحقّ المسيح عيسى بن مريم وما جاء به من الإنجيل من عند اللّه، ما سألت الأمير مسألتك هذا إلاّ لأنّا وجدناكم في هذا الإنجيل مثل المسيح عيسى بن مريم عند اللّه، فقال مولانا (عليه السلام) : الحمد لله ودخل على فرسه والغلمان على منصّة وقد قام الناس على أقدامهم، فقال: أمّا ابنك هذا فباق عليك، وأما الآخر فمأخوذ عنك بعد ثلاثة أيام، وهذا الباقي يسلم ويحسن إسلامه ويتولاّنا أهل البيت. فقال أنوش: واللّه يا سيّدي إنّ قولك الحق وقد سهل علي موت ابني هذا لمّا عرّفتني أنّ الآخر يسلم، ويتولاّكم أهل البيت. فقال له بعض القسيسين: مالك لا تُسلم؟ فقال له أنوش: أنا مسلم ومولانا يعلم بذلك. فقال مولانا (عليه السلام) : صَدَق ولولا أن يقول الناس: إنّا أخبرناك بوفاة ابنك ولم يكن كما أخبرناك، لسألنا اللّه بقاؤه عليك. فقال أنوش: لا أريد يا سيّدي إلاّ ما تريد.
قال أبو جعفر القصير: مات واللّه ذلك الابن بعد ثلاثة أيام، وأسلم الآخر بعد سنة ولزم الباب معنا إلى وفاة سيدنا أبي محمد (عليه السلام) (1).
عن عمر بن أبي مسلم، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) وجاريتي حامل أسأله أن يسمّي ما في بطنها، فكتب (عليه السلام) : سمّ ما في بطنها إذا ظهرت، ثم
ص: 352
ماتت بعد شهر من ولادتها، فبعث إليّ بخمسين ديناراً على يد محمد بن سنان الصواف، وقال: اشتر بهذه جارية(1).
قال محمد بن بلبل: تقدّم المعتزّ إلى سعيد الحاجب: أن أخرج أبا محمد إلى الكوفة ثم اضرب عنقه في الطريق، فجاء توقيعه (عليه السلام) إلينا: الذي سمعتموه تكفونه، فخُلع المعتزّ بعد ثلاث وقتل(2).
قال (عليه السلام) : إنّ الوصول إلى اللّه عزّوجل سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل(3).
قال (عليه السلام) : ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنّما العبادة كثرة التفكّر في أمر اللّه(4).
قال أبو محمد عبد اللّه بن محمد العابد بداليه: سألت مولاي أبا محمد الحسن ابن علي (عليه السلام) في مسير له بسرّ من رأى سنة خمس وخمسين ومائتين أن يمنّ عليّ الصلاة على النبي وأوصيائه (عليه وعليهم السلام) وأحضرت
ص: 353
معي قرطاساً كثيراً فأملى عليّ لفظاً من غير كتاب.
اللّهم صلّ على محمد كما حمل وحيك وبلّغ رسالاتك، وصلّ على محمد كما أحلّ حلالك وحرّم حرامك وعلّم كتابك، وصلّ على محمد كما أقام الصلاة وآتى الزكاة ودعا إلى دينك، وصلّ على محمد كما صدّق بوعدك واشفق من وعيدك، وصلّ على محمد كما غفرت به الذنوب وسترت به العيوب وفرجت به الكروب، وصلّ على محمد كما دفعت به الشقاء وكشفت به الغمّاء وأجبت به الدعاء ونجّيت به من البلاء، وصلّ على محمد كما رحمت به العباد وأحييت به البلاد وقصمت به الجبابرة وأهلكت به الفراعنة، وصلّ على محمد كما أضعفت به الأموال وأحرزت به من الأهوال وكسرت به الأصنام ورحمت به الأنام، وصلّ على محمد كما بعثته بخير الأديان وأعززت به الإيمان وتبرّت به الأوثان وعظمت به البيت الحرام، وصلّ على محمد وأهل بيته الطاهرين الأخيار وسلّم تسليماً(1).
اللّهم صلّ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أخي نبيّك ووليّه وصفيّه ووزيره، ومستودع علمه، وموضع سرّه، وباب حكمته، والناطق بحجّته، والداعي إلى شريعته، وخليفته في أمّته، ومفرّج الكرب عن وجهه، قاصم الكفرة ومرغم الفجرة، الذي جعلته من نبيّك بمنزلة هارون من موسى، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من نصب له من الأولين والآخرين، وصلّ عليه أفضل ما
ص: 354
صلّيت على أحد من أوصياء أنبيائك يا رب العالمين(1).
اللّهم صلّ على الصديقة فاطمة الزكيّة، حبيبة حبيبك ونبيّك، وأمّ أحبّائك وأصفيائك، التي انتجبتها وفضّلتها واخترتها على نساء العالمين، اللّهم كن الطالب لها ممّن ظلمها واستخفّ بحقّها، وكن الثائر اللّهم بدم أولادها، اللّهم وكما جعلتها أمّ الأئمة الهدى، وحليلة صاحب اللواء، والكريمة عند الملأ الأعلى، فصلّ عليها وعلى أمّها خديجة الكبرى صلاة تكرم بها وجه أبيها محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتقرّ بها أعين ذرّيتها، وأبلغهم عنّي في هذه الساعة أفضل التحيّة والسلام(2).
اللّهم صلّ على الحسن والحسين، عبديك وولييك، وابني رسولك، وسبطي الرحمة، وسيّدي شباب أهل الجنة، أفضل ما صلّيت على أحد من أولاد النبيّين والمرسلين، اللّهم صلّ على الحسن بن سيّد النبيين وصي أمير المؤمنين، السلام عليك يا بن رسول اللّه، السلام عليك يا بن سيد الوصيين، أشهد أنّك يا بن أمير المؤمنين أمين اللّه وابن أمينه، عشت مظلوماً ومضيت شهيداً، وأشهد أنّك الإمام الزكي الهادي المهدي، اللّهم صلّ عليه وبلّغ روحه وجسده عنّي في هذه الساعة أفضل التحيّة والسلام.
اللّهم صلّ على الحسين بن علي المظلوم الشهيد، قتيل الكفرة وطريح
ص: 355
الفجرة، السلام عليك يا أبا عبد اللّه، السلام عليك يا بن رسول اللّه، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين، أشهد موقناً أنّك أمين اللّه وابن أمينه، قُتلت مظلوماً، ومضيت شهيداً، وأشهد أنّ اللّه تعالى الطالب بثارك، ومنجز ما وعدك من النصر والتأييد في هلاك عدوك وإظهار دعوتك، وأشهد أنّك وفيت بعهد اللّه، وجاهدت في سبيل اللّه، وعبدت اللّه مخلصاً حتى أتاك اليقين، لعن اللّه أمّة قتلتك، ولعن اللّه أمّة خذلتك، ولعن اللّه أمّة ألّبت(1) عليك، وأبرأ إلى اللّه تعالى ممّن أكذبك واستخفّ بحقّك واستحل دمك، بأبي أنت وأمّي يا أبا عبد اللّه، لعن اللّه قاتلك، ولعن اللّه خاذلك، ولعن اللّه من سمع واعيتك فلم يجبك ولم ينصرك، ولعن اللّه من سبا نساءك، أنا إلى اللّه منهم بريء، وممّن والاهم ومالأهم وأعانهم عليه، وأشهد أنّك والأئمة من ولدك كلمة التقوى، وباب الهدى، والعروة الوثقى، والحجّة على أهل الدنيا، وأشهد أنّي بكم مؤمن، وبمنزلتكم موقن، ولكم تابع بذات نفسي، وشرائع ديني، وخواتيم عملي، ومنقلبي في دنياي وآخرتي(2).
اللّهم صل على علي بن الحسين سيّد العابدين الذي استخلصته لنفسك وجعلت منه أئمة الهدى الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، اخترته لنفسك وطهرته من الرجس واصطفيته وجعلته هادياً مهدياً، اللّهم فصل عليه أفضل ما صليت على أحد من ذرية انبيائك حتى تَبلُغَ به ما تقر به عينه في الدنيا
ص: 356
والآخرة إنك عزيز حكيم(1).
اللّهم صل على محمد بن علي باقر العلم، وإمام الهدى، وقائد أهل التقوى، والمنتجب من عبادك، اللّهم وكما جعلته علماً لعبادك، ومناراً لبلادك، ومستودعاً لحكمتك، ومترجماً لوحيك، وأمرت بطاعته وحذّرك من معصيته، فصلّ عليه يارب أفضل ما صلّيت على أحد من ذرية أنبيائك وأصفيائك ورسلك وأمنائك يارب العالمين(2).
اللّهم صلّ على جعفر بن محمد الصادق، خازن العلم، الداعي إليك بالحقّ النور المبين، اللّهم وكما جعلته معدن كلامك ووحيك، وخازن علمك ولسان توحيدك، وولي أمرك ومستحفظ دينك، فصلّ عليه أفضل ما صلّيت على أحد من أصفيائك وحججك إنّك حميد مجيد(3).
اللّهم صلّ على الأمين المؤتمن موسى بن جعفر، البرّ الوفي، الطاهر الزكي، النور المبين المنير، المتهجّد المحتسب، الصابر على الأذى فيك. اللّهم وكما بلّغ عن آبائه ما استودع من أمرك ونهيك، وحمل على المحجّة وكابد أهل العزّة والشدّة فيما كان يلقى من جهّال قومه، ربّ فصل عليه
ص: 357
أفضل وأكمل ما صلّيت على أحد ممّن أطاعك ونصح لعبادك إنّك غفور رحيم(1).
اللّهم صلّ على علي بن موسى، الذي ارتضيته ورضيت به من شئت من خلقك، اللّهم وكما جعلته حجّة على خلقك، وقائماً بأمرك، وناصراً لدينك، وشاهداً على عبادك، وكما نصح لهم في السرّ والعلانية، ودعا إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنه، فصلّ عليه أفضل ما صلّيت على أحد من أوليائك وخيرتك من خلقك إنّك جواد كريم(2).
اللّهم صلّ على محمد بن علي بن موسى، علم التقى، ونور الهدى، ومعدن الوفاء، وفرع الأزكياء، وخليفة الأوصياء، وأمينك على وحيك. اللّهم فكما هديت به من الضلالة، واستنقذت به من الحيرة، وأرشدت به من أهتدى، وزكّيت به من تزكّى، فصلّ عليه أفضل ما صلّيت على أحد من أوليائك، وبقيّة أوصيائك، إنّك عزيز حكيم(3).
اللّهم صلّ على علي بن محمد، وصيّ الأوصياء، وإمام الأتقياء، وخلف أئمة الدين، والحجّة على الخلائق أجمعين، اللّهم كما جعلته نوراً يستضيء
ص: 358
به المؤمنون فبشّر بالجزيل من ثوابك، وأنذر بالأليم من عقابك، وحذّر بأسك، وذكّر بآياتك وأحلّ حلالك، وحرّم حرامك، وبيّن شرائعك وفرائضك، وحضّ على عبادتك، وأمر بطاعتك، ونهى عن معصيتك، فصلّ عليه أفضل ما صلّيت على أحد من أوليائك وذريّة أنبيائك يا إله العالمين(1).
اللّهم صلّ على الحسن بن علي بن محمد، البرّ التقي، الصادق الوفي، النور المضيء، خازن علمك، والمذكّر بتوحيدك، وولي أمرك، وخلف أئمة الدين، الهداة الراشدين، والحجّة على أهل الدنيا، فصلّ عليه يارب أفضل ما صلّيت على أحد من أصفيائك وحججك وأولاد رسلك يا إله العالمين(2).
اللّهم صلّ على وليّك وابن أوليائك، الذين فرضت طاعتهم، وأوجبت حقّهم، وأذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيراً. اللّهم انصره وانتصر به لدينك، وانصر به أولياءك وأولياءه وشيعته وأنصاره واجعلنا منهم. اللّهم أعذه من شرّ كل باغ وطاغ، ومن شرّ جميع خلقك، واحفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، واحرسه وامنعه أن يوصل إليه بسوء، واحفظ فيه رسولك وآل رسولك، وأظهر به العدل وأيّده بالنصر، وانصر ناصريه، واخذل خاذليه، واقصم به جبابرة الكفر، واقتل به الكفّار والمنافقين، وجميع الملحدين حيث كانوا من مشارق الأرض ومغاربها،
ص: 359
وبرّها وبحرها، واملأ به الأرض عدلاَ، وأظهر به دين نبيّك عليه وآله السلام، واجعلني اللّهم من أنصاره وأعوانه وأتباعه وشيعته، وأرني في آل محمدٍ ما يأملون، وفي عدوّهم ما يحذرون إله الحق آمين(1).
صلاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : أربع ركعات، الركعتان الأوليان بالحمد مرّة وإذا زلزلت خمس عشرة مرّة، وفي الأخيرتين كل ركعة الحمد مرّة والإخلاص خمس عشرة(2).
عن الحسن العسكري (عليه السلام) : من صلّى يوم الأحد أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة الملك بوّأه اللّه في الجنّة حيث يشاء(3).
عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، قال: من صلّى يوم الثلاثاء ستّ ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآمن الرسول إلى آخرها وإذا زلزلت مرّة غفر اللّه له ذنوبه حتى يخرج منها كيوم ولدته أمّه(4).
عن العسكري (عليه السلام) ، قال: من صلّى يوم الأربعاء أربع ركعات يقرأ في كل ركعة الحمد والإخلاص وسورة القدر مرّة واحدة تاب اللّه عليه من كل
ص: 360
ذنب، وزوّجه بزوجة من الحور العين(1).
عن الحسن العسكري (عليه السلام) ، قال: من صلّى يوم الخميس عشر ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو اللّه أحد عشراً قالت له الملائكة: سل تعط(2).
عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : وليكن ممّا يدعو به بين كل ركعيتن من نوافل شهر رمضان: اللّهم اجعل فيما تقضي وتقدّر من الأمر العظيم المحتوم، وفيما تفرق من الأمر الحكيم في ليلة القدر أن تجعلني من حجّاج بيتك الحرام، المبرور حجّهم، المشكور سعيهم، المغفور ذنبهم، وأسألك أن تطيل عمري في طاعتك، وتوسّع لي في رزقي يا أرحم الراحمين(3).
قال جعفر بن محمد بن حمزة العلوي: كتبت إلى أبي محمد الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) أسأله: لم فرض اللّه الصوم؟ فكتب إليّ: فرض اللّه تعالى الصوم ليجد الغني مسّ الجوع ليحنو على الفقير(4).
عن محمد بن الحسين الكرخي، قال: سمعت الحسن بن علي (عليه السلام) يقول
ص: 361
لرجل في داره: يا أبا هارون من صام عشرة أشهر رمضان متواليات دخل الجنة(1).
عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، قال: كنت عند مولاي أبي محمد الحسن بن علي العسكري (صلوات اللّه عليه) إذ وردت إليه رقعة من الحبس من بعض مواليه يذكر فيها ثقل الحديد وسوء الحال وتحامل السلطان، وكتب إليه: يا عبد اللّه، إنّ اللّه عزّ وجل يمتحن عباده ليختبر صبرهم فيثيبهم على ذلك ثواب الصالحين، فعليك بالصبر، واكتب إلى اللّه عزّ وجل رقعة وأنفذها إلى مشهد الحسين بن علي (صلوات اللّه عليه) وارفعها عنده إلى اللّه عزّ وجل وادفعها حيث لا يراك أحد واكتب في الرقعة:
إلى اللّه الملك الديّان الممتحن المنّان ذي الجلال والإكرام، وذي المنن العظام، والأيادي الجسام، وعالم الخفيّات، ومجيب الدعوات، وراحم العبرات، الذي لا تشغله اللغات، ولا تحيّره الأصوات، ولا تأخذه السنات، من عبده الذليل البائس الفقير المسكين الضعيف المستجير، اللّهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يرجع السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، والمنن العظام، والأيادي الجسام، الهي مسنّي وأهلي الضر وأنت أرحم الراحمين، وأرأف الأرافين، وأجود الأجودين، وأحكم الحاكمين، وأعدل الفاصلين، اللّهم إنّي قصدت بابك، ونزلت بفنائك، واعتصمت
ص: 362
بحبلك، واستغثت بك واستجرت بك، ياغياث المستغيثين أغثني، يا جار المستجيرين أجرني، يا إله العالمين خذ بيدي، إنّه علا الجبابرة في أرضك، وظهروا في بلادك، واتخذوا أهل دينك خولا، واستأثروا بفيء المسلمين، ومنعوا ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلتها لهم وصرفوها في الملاهي والمعازف، واستصغروا آلائك وكذّبوا أولياءك، وتسلّطوا بجبروتهم ليعزّوا من أذللت ويذلّوا من أعززت، واحتجبوا عمّن يسألهم حاجة أو من ينتجع(1) منهم فائدة، وأنت مولاي سامع كل دعوة، وراحم كل عبرة، ومقيل كل عثرة، سامع كل نجوى، وموضع كل شكوى، لا يخفى عليك ما في السماوات العلى والأرضين السفلى، وما بينهما وما تحت الثرى، اللّهم إنّي عبدك ابن أمّتك، ذليل بين بريتك، مسرع إلى رحمتك، راج لثوابك، اللّهم إنّ كل من أتيته فعليك يدلّني، وإليك يرشدني، وفيما عندك يرغّبني، مولاي وقد أتيتك راجياً، سيّدي وقد قصدتك مؤمّلاً، يا خير مأمول، ويا أكرم مقصود، صلّ على محمد وعلى آل محمد، ولا تخيّب أملي، ولا تقطع رجائي، واستجب دعائي، وارحم تضرّعي يا غياث المستغيثين اغثني، يا جار المستجيرين أجرني، يا إله العالمين خذ بيدي، أنقذني واستنقذني ووفقني واكفني، اللّهم إنّي قصدتك بأمل فسيح وأمّلتك برجاء منبسط، فلا تخيّب أملي، ولا تقطع رجائي، اللّهم إنّه لا يخيب منك سائل، ولا ينقصك نائل، يا ربّاه يا سيّداه يا مولاه يا عماداه يا كهفاه يا حصناه يا حرزاه يا لجاءاه، اللّهم إيّاك أملت يا سيّدي ولك أسلمت، مولاي ولبابك قرعت،
ص: 363
فصلّ على محمد وآل محمد ولا تردّني بالخيبة محزوناً، واجعلني ممّن تفضلّت عليه بإحسانك، وأنعمت عليه بتفضلّك، وجدت عليه بنعمتك، وأسبغت عليه آلاءك، اللّهم أنت غياثي وعمادي، وأنت عصمتي ورجائي، ما لي أمل سواك، ولا رجاء غيرك، اللّهم فصلّ على محمد وآل محمد، وجد عليّ بفضلك، وأمنن عليّ بإحسانك، وافعل بي ما أنت أهله، ولا تفعل بي ما أنا أهله، يا أهل التقوى وأهل المغفرة، وأنت خير لي من أبي وأمّي ومن الخلق أجمعين، اللّهم إنّ هذه قصّتي إليك لا إلى المخلوقين، ومسألتي لك إذ كنت خير مسؤول وأعزّ مأمول، اللّهم صل على محمد وآل محمد، وتعطّف عليّ بإحسانك، ومنّ عليّ بعفوك وعافيتك، وحسّن ديني بالغنى، واحرز أمانتي بالكفاية، واشغل قلبي بطاعتك، ولساني بذكرك، وجوارحي بما يقرّبني منك، اللّهم ارزقني قلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً وطرفاً غاضّاً، ويقيناً صحيحاً حتى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت ولا تقديم ما أجّلت، يا رب العالمين، ويا أرحم الراحمين، صلّ على محمد وآل محمد، واستجب دعائي، وارحم تضرّعي وكفّ عنّي البلاء، ولا تشمت بي الأعداء، ولا حاسداً، ولا تسلبني نعمة ألبستنيها، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً يا رب العالمين، وصلّ على محمد وآله وسلم تسليماً(1).
دعاء الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : يا عزيز العزّ في عزّه، ما أعزّ عزيز العزّ في عزّه، يا عزيز أعزّني بعزك، وأيّدني بنصرك، واطرد عنّي همزات
ص: 364
الشياطين، وادفع عنّي بدفعك، وامنع عنّي بمنعك، واجعلني من خيار خلقك، يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد یا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٌ(1).
وقال (عليه السلام) : ... فإذا أردت التوجّه في يوم قد حذرت فيه فقدّم أمام توجّهك: الحمد لله ربّ العالمين، والمعوذتين، وآية الكرسي، وسورة القدر، وآخر آية في سورة آل عمران، وقل: اللّهم بك يصول الصائل، وبقدرتك يطول الطائل، ولا حول لكلّ ذي حول إلاّ بك، ولا قوّة يمتازها ذو قوّة إلاّ منك، وبصفوتك من خلقك، وخيرتك من بريّتك محمد نبيك وعترته وسلالته عليه وعليهم السلام، صلّ عليهم، واكفني شرّ هذا اليوم وضره، وارزقني خيره ويمنه، واقض لي في متصرّفاتي بحسن العافية، وبلوغ المحبّة، والظفر بالأمنية، وكفاية الطاغية الغوية، وكل ذي قدرة لي على أذيّة حتى أكون في جنّة وعصمة من كل بلاء ونقمة، وأبدلني من المخاوف أمناً، ومن العوائق فيه يسراً، وحتى لا يصدّني صاد عن المراد، ولا يحلّ بي طارق من أذى العباد، إنّك على كل شيء قدير، والأمور إليك تصير، يا من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(2).
قال (عليه السلام) : بسم اللّه الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من سواد
ص: 365
العين إلى بياضها(1).
عن أبي هاشم، قال: كتب إليه بعض مواليه يسأله أن يعلّمه دعاء، فكتب (عليه السلام) إليه أن أدع بهذا الدعاء: يا اسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أعزّ الناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلّ على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومدّ لي في عمري، وامنن عليّ برحمتك، واجعلني ممّن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل بي غيري، قال: أبو هاشم فقلت في نفسي: اللّهم اجعلني في حزبك، وفي زمرتك، فأقبل عليّ أبو محمد (عليه السلام) ، فقال: أنت في حزبه وفي زمرته إذ كنت باللّه مؤمناً، ولرسوله مصدّقاً، ولأوليائه عارفاً، ولهم تابعاً، فابشر ثم ابشر(2).
قال أبو الخير صالح بن أبي حمّاد، قال: كتبت إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) أسأله عن الغسل في ليالي شهر رمضان؟ فكتب (عليه السلام) : إن استطعت أن تغتسل ليلة سبعة عشرة، وليلة تسعة عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، فافعل فإنّ فيها ترجى ليلة القدر، فإن لم تقدر على إحيائها فلا يفوتنّك إحياء ليلة ثلاث وعشرين، تصلّي فيها مائة ركعة تقرأ في كل ركعة الحمد مرّة وقل هو اللّه أحد عشر مرات(3).
ص: 366
عن أبي سهل البلخي، قال: كتب رجل إلى أبي محمد (عليه السلام) يسأله الدعاء لوالديه، وكانت الأمّ غالية والأب مؤمناً فوقّع: رحم اللّه والدك(1).
وكتب آخر يسأل الدعاء لوالديه، وكانت الأمّ مؤمنة والأب ثنوياً، فوقّع: رحم اللّه والدتك. والتاء منقوطة بنقطتين من فوق(2).
يا كبير كلّ كبير، يا من لا شريك له ولا وزير، يا خالق الشمس والقمر المنير، يا عصمة الخائف المستجير، يا مطلق المكبّل الأسير، يا رازق الطفل الصغير، يا جابر العظم الكسير، يا راحم الشيخ الكبير، يا نور النور، يا مدبّر الأمور، يا باعث من في القبور، يا شافي الصدور، يا جاعل الظلّ والحرور، يا عالماً بذات الصدور، يا منزل الكتاب والنور والفرقان والزبور، يا من تسبّح له الملائكة بالإبكار والظهور، يا دائم الثبات، يا مُخرج النبات بالغدو والآصال، يا محيي الأموات، يا منشىء العظام الدارسات، يا سامع الصوت، يا سابق الفوت، يا كاسي العظام البالية(3) بعد الموت، يا من لا يشغله شأن عن شأن، يا من يردّ بألطف الصدقة والدعاء عن أعنان السماء ما حتم وأبرم من سوء القضاء، يا من لا يحيط به موضع ولا مكان، يا من يجعل الشفاء في
ص: 367
ما يشاء من الأشياء، يا من يُمسك الرمق من المدنف(1) العميد بما قلّ من الغذاء، يا من يزيل بأدنى الدواء ما غلظ من الداء، يا من إذا وعد وفى وإذا توعّد عفا، يا من يملك حوائج السائلين، يا من يعلم ما في ضمير الصامتين، يا عظيم الخطر، يا كريم الظفر، يا من له وجه لا يبلى، يا من له نور لا يطفأ، يا من له ملك لا يفنى، يا من فوق كل شيء أمره، يا من في البرّ والبحر سلطانه، يا من في جهنّم سخطه، يا من في الجنّة رحمته، يا من مواعيده صادقة، يا من أياديه فاضلة، يا من رحمته واسعة، يا غياث المستغيثين، يا مجيب دعوة المضطرّين، يا من هو بالمنظر الأعلى وخلقه بالمنزل الأدنى، يا رب الأرواح الفانية، يا رب الأجساد البالية، يا أبصر الناظرين، يا أسمع السامعين، يا أسرع الحاسبين، يا أحكم الحاكمين، يا أرحم الراحمين، يا واهب العطايا، يا مطلق الأسارى، يا رب العزّة، يا أهل التقوى وأهل المغفرة، يا من لا يُدرك أمده، يا من لا يُحصى عدده، يا من لا ينقطع مدده، أشهد والشهادة لي رفعة وعدة، وهي منّي سمع وطاعة وبها أرجو المفازة يوم الحسرة والندامة، إنّك أنت اللّه لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأنّ محمداً عبدك ورسولك صلواتك عليه وآله، وأنّه قد بلّغ عنك وأدّى ما كان واجباً عليه لك، وأنّك تعطي دائماً وترزق، وتعطي وتمنع، وترفع وتضع، وتغني وتفقر، وتخذل وتنصر، وتعفو وترحم، وتصفح وتجاوز عمّا تعلم، ولا تجور ولا تظلم، وأنّك تقبض وتبسط، وتمحو وتثبت، وتبدئ وتعيد، وتحيي وتميت، وأنت حيّ لا تموت، فصلّ على محمد وآله واهدني من
ص: 368
عندك، وأفض عليّ من فضلك، وانشر عليّ من رحمتك، وأنزل عليّ من بركاتك، فطالما عوّدتني الحسن الجميل، وأعطيتني الكثير الجزيل، وسترت عليّ القبيح، اللّهم فصلّ على محمد وآله وعجّل فرجي، وأقل عثرتي وارحم عبرتي، وارددني إلى أفضل عادتك عندي، واستقبل بي صحّة من سقمي، وسعة من عدمي، وسلامة شاملة في بدني، وبصيرة نافذة في ديني، ومهّدني وأعنّي على استغفارك واستقالتك قبل أن يفنى الأجل وينقطع العمل، وأعنّي على الموت وكربته، وعلى القبر ووحشته، وعلى الميزان وخفّته، وعلى الصراط وزلّته، وعلى يوم القيامة وروعته، وأسألك نجاح العمل قبل انقطاع الأجل، وقوّة في سمعي وبصري، واستعمال العمل الصالح ممّا علمتني وفهّمتني، إنّك أنت الربّ الجليل وأنا العبد الذليل، وشتّان ما بيننا، يا حنّان يا منّان، يا ذا الجلال والإكرام، وصلّ على من به فهمتنا وهو أقرب وسائلنا إليك ربّنا محمد وآله وعترته الطاهرين(1).
خرج إلى القاسم بن علاء الهمداني وكيل أبي محمد (عليه السلام) : أنّ مولانا الحسين (عليه السلام) ولد يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان فصم وادع فيه بهذا الدعاء:
اللّهم إنّي أسألك بحقّ المولود في هذا اليوم، الموعود بشهادته قبل استهلاله وولادته، بكته السماء ومن فيها، والأرض ومن عليها، ولما يطأ لابتيها(2)، قتيل العبرة وسيّد الأسرة، الممدود بالنصرة يوم الكرّة، المعوّض من
ص: 369
قتله أنّ الأئمة من نسله، والشفاء في تربته، والفوز معه في أوبته(1) والأوصياء من عترته بعد قائمهم وغيبته، حتى يدركوا الأوتار، ويثأروا الثأر، ويُرضوا الجبار، ويكونوا خير أنصار صلى اللّه عليهم مع اختلاف الليل والنهار، اللّهم بحقّهم إليك أتوسّل وأسأل سؤال مقترف معترف مسيء إلى نفسه ممّا فرط في يومه وأمسه، ويسألك العصمة إلى محلّ رمسه(2)، اللّهم فصلّ على محمد وعترته، واحشرنا في زمرته، وبوّئنا معه دار الكرامة، ومحلّ الإقامة، اللّهم وكما أكرمتنا بمعرفته فأكرمنا بزلفته، وارزقنا مرافقته وسابقته، واجعلنا ممّن يسلّم لأمره، ويكثر الصلاة عليه عند ذكره، وعلى جميع أوصيائه وأهل أصفيائه الممدودين منك بالعدد الإثني عشر، النجوم الزهر، والحجج على جميع البشر، اللّهم وهب لنا في هذا اليوم خير موهبة، وانجح لنا فيه كل طلبة كما وهبت الحسين لمحمد جدّه وعاذ فطرس بمهده، فنحن عائذون بقبره من بعده نشهد تربته وننتظر أوبته آمين رب العالمين.
ثم تدعو بعد ذلك بدعاء الحسين (عليه السلام) وهو آخر دعاء دعا به الحسين (عليه السلام) يوم كثرت أعدائه يعني يوم عاشوراء: اللّهم أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا ما دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، وشكور إذا شُكرت، وذكور
ص: 370
إذا ذكرت، أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، واستعين بك ضعيفاً، وأتوكّل عليك كافياً، أحكم بيننا وبين قومنا بالحقّ، فإنّهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا، وقتلونا ونحن عترة نبيّك وولد حبيبك محمد بن عبد اللّه الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً برحمتك يا أرحم الراحمين(1).
وكان (عليه السلام) إذا قنت في صلاته يدعوا بهذا الدعاء الشريف: يا من غشي نوره الظلمات، يا من أضاءت بقدسه الفجاج(2) المتوعّرات، يا من خشع له أهل الأرض والسماوات، يا من بخع له بالطاعة كل متجبّر عات(3)، يا عالم الضمائر المستخفيات، وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتّبعوا سبيلك، وقهم عذاب الجحيم، وعاجلهم بنصرك الذي وعدتهم إنّك لا تخلف الميعاد، وعجّل اللّهم اجتياح أهل الكيد، وأوبهم إلى شرّ دار في أعظم نكال وأقبح مثاب.
اللّهم إنّك حاضر أسرار خلقك، وعالم بضمائرهم، ومستغن، لولا الندب باللجأ إلى تنجّز ما وعدت اللاجئين عن كشف مكامنهم، وقد تعلم يا رب ما أسرّه وأبديه، وأنشره وأطويه، وأظهره وأخفيه، على متصرّفات أوقاتي وأصناف حركاتي في جميع حاجاتي، وقد ترى يا رب ما قد تراطم فيه
ص: 371
أهل ولايتك، واستمر عليهم من أعدائك غير ظنين(1) في كرم، ولا ضنين(2) بنعم، لكن الجهد يبعث على الاستزادة، وما أمرت به من الدعاء إذا أخلص لك اللجا يقتضي إحسانك شرط الزيادة.
وهذه النواصي والأعناق خاضعة لك بذلّ العبودية، والاعتراف بملكة الربوبية، داعية بقلوبها ومشخصات إليك في تعجيل الإنالة، وما شئت كان وما تشاء كائن، أنت المدعوّ المرجو المأمول المسؤول، لا ينقصك نائل وإن أتسع، ولا يلحفك(3) سائل وإن ألحّ وضرع، ملكك لا يخلقه التنفيذ، وعزّك الباقي على التأبيد، وما في الاعصار من مشيّتك بمقدار، وأنت اللّه لا إله إلا أنت الرؤوف الجبّار، اللّهم أيّدنا بعونك، واكنفنا بصونك، وأنلنا منال المعتصمين بحبلك، المستظلّين بظلّك(4).
ودعا (عليه السلام) في قنوته وأمر أهل قم بذلك لما شكوا من موسى بن بغا:
الحمد لله شاكراً لنعمائه، واستدعاء لمزيده، واستخلاصاً به دون غيره، وعياذاً به من كفرانه، والإلحاد في عظمته وكبريائه، حمد من يعلم أنّ ما به من نعمائه فمن عند ربه، وما مسّه من عقوبته فبسوء جناية يده، وصلّى اللّه على محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وذريعة المؤمنين إلى رحمته وآله الطاهرين ولاة أمره.
ص: 372
اللّهم إنّك ندبت إلى فضلك، وأمرت بدعائك وضمنت الإجابة لعبادك، ولم تخيّب من فزع إليك برغبة، وقصد إليك بحاجة، ولم ترجع يد طالبة صفراً من عطائك، ولا خائبة من نحل هباتك، وأيّ راحل رحل إليك، فلم يجدك قريباً، أو أيّ وافد وفد عليك فاقتطعته عوائد الردّ دونك، بل أيّ محتفر من فضلك لم يمهه فيض جودك، وأيّ مستنبط لمزيدك أكدى(1) دون استماحة سجال(2) عطيتك.
اللّهم وقد قصدت إليك برغبتي، وقرعت باب فضلك يد مسألتي، وناجاك بخشوع الاستكانة(3) قلبي، ووجدتك خير شفيع لي إليك، وقد علمت ما يحدث من طلبتي قبل أن يخطر بفكري أو يقع في خلدي، فصل اللّهم دعائي إيّاك بإجابتي، واشفع مسألتي بنجح طلبتي.
اللّهم وقد شملنا زيغ الفتن(4)، واستولت علينا غشوة الحيرة، وقارعنا الذلّ والصغار، وحكم علينا غير المأمونين في دينك، وابتز(5) أمورنا معادن الأُبن(6) ممّن عطّل حكمك، وسعى في إتلاف عبادك وإفساد بلادك، اللّهم
ص: 373
وقد عاد فيئنا(1) دولة بعد القسمة، وامارتنا غلبه بعد المشورة، وعدنا ميراثاً بعد الاختيار للأمة، فاشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة، وحكم في إبشار المؤمنين أهل الذمّة، وولي القيام بأمورهم فاسق كل قبيلة، فلا ذائد يذودهم عن هلكة، ولا راع ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرّى من مسغبة(2)، فهم أولو ضرع بدار مضيعة، واُسراء مسكنة وخلفاء كآبة وذلّة.
اللّهم وقد استحصد(3) زرع الباطل وبلغ نهايته، واستحكم عموده، واستجمع طريده(4)، وخذرف وليده(5)، وبسق(6) فرعه، وضرب بجرانه(7).
اللّهم فأتح له من الحقّ يداً حاصدة تصرع قائمه، وتهشم سوقه، وتجب سنامه، وتجدع(8) مراغمه، ليستخفي الباطل بقبح صورته، ويظهر الحقّ بحسن حليته.
اللّهم ولا تدع للجور دعامة إلا قصمتها، ولا جنّة إلا هتكتها، ولا كلمة
ص: 374
مجتمعة إلا فرّقتها، ولا سريّة ثقل إلا خفّفتها، ولا قائمة علو إلاّ حططتها، ولا رافعة علم إلا نكستها، ولا خضراء إلاّ أبرتها.
اللّهم فكوّر شمسه، وحطّ نوره، واطمس ذكره، وارم بالحقّ رأسه، وفضّ جيوشه، وأرعب قلوب أهله، اللّهم ولا تدع منه بقية إلا أفنيت ولا بنية إلا سويت ولا حلقة إلا فصمت ولا سلاحاً إلا أفللت ولا كراعاً إلا اجتحت ولا حاملة علم إلا نكّست.
اللّهم وأرنا أنصاره عباديد بعد الإلفة وشتى بعد اجتماع الكلمة ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الأمة، وأسفر لنا عن نهار العدل وأرناه سرمداً لا ظلمة فيه ونوراً لا شوب معه، وأهطل علينا ناشئته وأنزل علينا بركته وأدل له ممن ناواه وأنصره على من عاداه.
اللّهم وأظهر به الحق واصبح به في غسق الظلم وبهم الحيرة.
اللّهم وأحي به القلوب الميتة، وأجمع به الأهواء المتفرقة والآراء المختلفة، وأقم به الحدود المعطلة والأحكام المهملة، واشبع به الخماص الساغبة، وأرح به الأبدان المتعبة، كما ألهجتنا بذكره وأخطرت ببالنا دعاؤك له ووفقتنا للدعاء إليه وحياشة أهل الغفلة عليه وأسكنت في قلوبنا محبته والطمع فيه وحسن الظن بك لإقامة مراسمه.
اللّهم فأت لنا منه على أحسن يقين، يا محقق الظنون الحسنة، ويا مصدق الآمال المبطئة، اللّهم وأكذب المتالين عليك فيه وأخلف به ظنون القانطين من رحمتك والآيسين منه.
اللّهم اجعلنا سبباً من أسبابه، وعلماً من أعلامه، ومعقلاً من معاقله، ونضر
ص: 375
وجوهنا بتحليته، وأكرمنا بنصرته، واجعل فينا خيراً تظهرنا له وبه، ولا تشمت بنا حاسدي النعم والمتربصين بنا حلول الندم ونزول المثل، فقد ترى يا رب براءة ساحتنا وخلو ذرعنا من الأضمار لهم على أحنة والتمني لهم وقوع جائحة وما تنازل من تحصينهم بالعافية وما أضبوا لنا من انتهاز الفرصة وطلب الوثوب بنا عند الغفلة.
اللّهم وقد عرفتنا من أنفسنا وبصرتنا من عيوبنا خلالاً نخشى أن تقعد بنا عن استيهال إجابتك، وأنت المتفضل على غير المستحقين والمبتدئ بالإحسان على السائلين، فآت لنا في أمرنا على حسب كرمك وجودك وفضلك وامتنانك، إنك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد إنا إليك راغبون ومن جميع ذنوبنا تائبون.
اللّهم والداعي إليك، والقائم بالقسط من عبادك، الفقير إلى رحمتك، المحتاج إلى معونتك، على طاعتك، إذ ابتدأته بنعمتك، وألبسته أثواب كرامتك، وألقيت عليه محبّة طاعتك، وثبّت وطأته في القلوب من محبّتك، ووفقته للقيام بما أغمض فيه أهل زمانه من أمرك، وجعلته مفزعاً لمظلومي عبادك، وناصراً لمن لا يجد له ناصراً غيرك، ومجدّداً لما عطّل من أحكام كتابك، ومشيّداً لما ردّ من أعلام سنن نبيّك، عليه وآله سلامك وصلواتك ورحمتك وبركاتك، فاجعله اللّهم في حصانة من بأس المعتدين، وأشرق به القلوب المختلفة من بغاة الدين، وبلّغ به أفضل ما بلّغت به القائمين بقسطك من اتباع النبيّين، اللّهم وأذلل به من لم تسهم له في الرجوع إلى محبّتك، ومن نصب له العداوة، وارم بحجرك الدامغ من أراد التأليب على دينك
ص: 376
بإذلاله، وتشتيت جمعه، واغضب لمن لا ترة(1) له ولا طائلة، وعادى الأقربين والأبعدين فيك منّاً منك عليه لا منّاً منه عليك.
اللّهم فكما نصب نفسه غرضاً فيك للأبعدين، وجاد ببذل مهجته لك في الذبّ عن حريم المؤمنين، وردّ شرّ بغاة المرتدّين المريبين حتى أخَفِيَ ما كان جهر به من المعاصي، وأبدى ما كان نبذه العلماء وراء ظهورهم ممّا أخذت ميثاقهم على أن يبيّنوه للناس ولا يكتموه، ودعا إلى إفرادك بالطاعة وألا يجعل لك شريكاً من خلقك يعلو أمره على أمرك مع ما يتجرّعه فيك من مرارت الغيظ الجارحة بمواس القلوب، وما يعتوّره من الغموم، ويفرغ عليه من أحداث الخطوب، ويشرق به من الغصص التي لا تبتلعها الحلوق، ولا تحنو عليها الضلوع من نظرة إلى أمر من أمرك، ولا تناله يده بتغييره ورده إلى محبّتك، فاشدد اللّهم أزره بنصرك، وأطل باعه في ما قصر عنه من أطراد الراتعين(2) حماك، وزد في قوّته بسطة من تأييدك، ولا توحشنا من أنسه، ولا تخترمه(3) دون أمله من الصلاح الفاشي في أهل ملّته، والعدل الظاهر في أمّته.
اللّهم وشرّف بما استقبل به من القيام بأمرك لدى موقف الحساب مقامه، وسرّ نبيّك محمد صلواتك عليه وآله برؤيته، ومن تبعه على دعوته، وأجزل له على ما رأيته قائماً به من أمرك ثوابه، وابن قرب دنوه منك في حياته، وارحم استكانتنا من بعده واستخذاءنا لمن كنّا نقمعه به، إذ أفقدتنا وجهه،
ص: 377
وبسطت أيدي من كنّا نبسط أيدينا عليه لنردّه عن معصيته، وافتراقنا بعد الألفة والاجتماع تحت ظل كنفه، وتلهفنا عند الفوت على ما أقعدتنا عنه من نصرته وطلبنا من القيام بحق ما لا سبيل لنا إلى رجعته، واجعله اللّهم في أمن مما يشفق عليه منه ورد عنه من سهام المكايد ما يوجهه أهل الشنآن إليه وإلى شركائه في أمره ومعاونيه على طاعة ربه الذين جعلتهم سلاحه وحصنه ومفزعه وأنسه الذين سلوا عن الأهل والأولاد، وجفوا الوطن، وعطّلوا الوثير من المهاد، ورفضوا تجاراتهم، وأضرّوا بمعايشهم، وفقدوا في أنديتهم، بغير غيبة عن مصرهم، وخالفوا البعيد ممّن عاضدهم على أمرهم، وقلّوا القريب ممّن صدّ عنهم وعن جهتهم، فائتلفوا بعد التدابر والتقاطع في دهرهم، وقلعوا الأسباب المتصلة بعاجل حطام الدنيا، فاجعلهم اللّهم في أمن حرزك وظل كنفك، وردّ عنهم بأس من قصد إليهم بالعداوة من عبادك، وأجزل لهم على دعوتهم من كفايتك ومعونتك، وأيّدهم بتأييدك ونصرك وازهق بحقّهم باطل من أراد إطفاء نورك، اللّهم واملأ كلّ أفق من الآفاق، وقطر من الأقطار قسطاً وعدلاً ومرحمة وفضلاً، واشكرهم على حسب كرمك وجودك ما مننت به على القائمين بالقسط من عبادك، وادخرت لهم من ثوابك، ما ترفع لهم به الدرجات إنّك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد(1).
عن ابراهيم بن عقبة، قال: كتبت إلى العسكري (عليه السلام) : جعلت فداك قد
ص: 378
عرفت هؤلاء الممطورة(1) فاقنت عليهم في صلواتي، قال (عليه السلام) : نعم أُقنت عليهم في صلواتك(2).
بسم اللّه الرحمن الرحيم، احتجبت بحجاب اللّه، النور الذي احتجب به عن العيون، واحتطت على نفسي وأهلي وولدي ومالي وما اشتملت عليه عنايتي ببسم اللّه الرحمن الرحيم، وأحرزت نفسي وذلك كلّه من كلّ ما أخاف وأحذر باللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات والأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيّه السماوات وما في الأرض، ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، ومن أظلم ممن ذكّر بآيات ربّه فأعرض عنها ونسي ما قدّمت يداه، إنّا جعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه، وفي أذانهم وقراً، وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبداً، أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون، أولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأولئك هم الغافلون.
ص: 379
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً، وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً، وصلّى اللّه على محمد وآله الطاهرين(1).
بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا عدّتي عند شدّتي، ويا غوثي عندكربتي، ويا مؤنسي عند وحدتي، اُحرسني بعينك التي لا تنام، واكفني بركنك الذي لا يرام(2).
قال (عليه السلام) : من تعدّى في طهوره كان كناقصه(3).
كتب محمد بن الحسن إلى أبي محمد (عليه السلام) : هل يجوز أن يغسّل الميّت وماؤه الذي يصبّ عليه يدخل إلى بئر كنيف، أو الرجل يتوضّأ وضوء الصلاة أن يصبّ ماء وضوئه في كنيف؟ فوقّع (عليه السلام) : يكون ذلك في بلاليع(4).
ص: 380
وقال (عليه السلام) : ليس في الغسل ولا في الوضوء مضمضة ولا استنشاق(1).
روى الحسن النصيببي، قال: خطر في قلبي عرق الجنب هل هو طاهر؟ فأتيت إلى باب أبي محمد الحسن (عليه السلام) لأسأله وكان ليلاً فنمت، فلما طلع الفجر خرج من داره فرآني نائما فأيقظني وقال (عليه السلام) : إن كان حلالاً فنعم، وإن كان من حرام فلا(2).
عن محمد بن الريّان، قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام) : هل يجري دمّ البقّ مجرى دمّ البراغيث؟ وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على البراغيث فيصلّي فيه وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقّع (عليه السلام) : يجوز الصلاة والطهر منه أفضل(3).
كتب محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : كم حدّ الماء الذي يغسل به الميّت، كما رووا أنّ الجنب يغتسل بستّة أرطال، والحائض بتسعة أرطال، فهل للميّت حدّ من الماء الذي يغسل به؟ فوقّع (عليه السلام) : حدّ غسل الميّت أن يغسل حتى يطهر إن شاء اللّه تعالى(4).
ص: 381
عن علي بن مهزيار، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله عن الصلاة في القرمز(1)، وأنّ أصحابنا يتوقّفون عن الصلاة فيه، فكتب (عليه السلام) : لا بأس فيه مطلقٌ والحمد لله ربّ العالمين(2).
عن محمد بن عبد الجبار، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب (عليه السلام) : لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض، وإن كان الوبر ذكيّاً حلّت الصلاة فيه إن شاء اللّه تعالى(1).
كتب ابراهيم بن مهزيار إليه (عليه السلام) في الرجل يجعل في جبّته بدل القطن قزّاً هل يصلي فيه؟ فكتب (عليه السلام) : نعم، لا بأس به(2).
عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام) قال: إذا انتصف الليل ظهر بياض في وسط السماء شبه عمود من حديد تضيء له الدنيا، فيكون ساعة ثم يذهب ويظلم، فإذا بقي ثلث الليل ظهر بياض من قبل المشرق فأضاءت له الدنيا، فيكون ساعة ثم يذهب، وهو وقت صلاة الليل، ثم يظلم قبل الفجر، ثم يطلع الفجر الصادق من قبل المشرق. قال: ومن أراد أن يصلّي صلاة الليل في نصف الليل فذلك له(3).
عن عبد اللّه بن جعفر، قال: كتبت إليه - يعني أبا محمد (عليه السلام) - يجوز
ص: 383
للرجل أن يصلّي ومعه فأرة مسك؟ فكتب (عليه السلام) : لا بأس به إذا كان ذكيّاً(1).
قال الفقيه العسكري (عليه السلام) : يجب على المسافر أن يقول في دبر كل صلاة يقصر فيها: سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر ثلاثين مرّة، لتمام الصلاة(2).
عن محمد بن أحمد بن مطهر أنه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام) يخبره بما جاءت به الرواية أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يصلّي في شهر رمضان وغيره من الليل ثلاث عشر ركعة منها الوتر وركعتا الفجر، فكتب (عليه السلام) : فضّ اللّه فاه، صلّى من شهر رمضان في عشرين ليلة كل ليلة عشرين ركعة، ثماني بعد المغرب واثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة، واغتسل ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وصلى فيهما ثلاثين ركعة: اثنتي عشرة بعد المغرب، وثماني عشرة بعد عشاء الآخرة، وصلّى فيهما مائة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو اللّه أحد عشر مرات، وصلّى إلى آخر الشهر كل ليلة ثلاثين ركعة كما فسرت لك(3).
عن أبي الهيثم محمد بن إبراهيم المعروف بأبي رمثة، من أهل كفرتوثا
ص: 384
بنصيبين، قال: حدّثني أبي قال: دخلت على الحسن العسكري (صلوات اللّه عليه) في أول يوم من شهر رمضان والناس بين متيقّن وشاك، فلما بصر بي قال لي: يا أبا ابراهيم في أيّ الحزبين أنت في يومك؟ قلت: جعلت فداك يا سيّدي إنّي في هذا قصدت، قال: فإنّي أعطيك أصلاً إذا ضبطته لم تشكّ بعد هذا أبداً. قلت: يا مولاي منّ عليّ بذلك. فقال: تعرف أيّ يوم يدخل المحرّم فإنّك إذا عرفته كفيت طلب هلال شهر رمضان. قلت: وكيف يجزي معرفة هلال محرّم عن طلب هلال شهر رمضان؟ قال: ويحك إنّه يدلّك عليه فتستغني عن ذلك. قلت: بيّن لي يا سيّدي كيف ذلك؟ قال: فانتظر أيّ يوم يدخل المحرّم، فان كان أوّله الأحد فخذ واحداً، وإن كان أوّله الاثنين فخذ اثنين، وإن كان الثلاثاء فخذ ثلاثة، وإن كان الأربعاء فخذ أربعة، وإن كان الخميس فخذ خمسة، وإن كان الجمعة فخذ ستة، وإن كان السبت فخذ سبعة، ثم احفظ ما يكون وزد عليه عدد أئمتك وهي اثنا عشر ثم اطرح ممّا معك سبعة سبعة فما بقي مما لا يتم سبعة فانظر كم هو فإن كان سبعة فالصوم السبت، وإن كان الستة فالصوم الجمعة، وإن كان خمسة فالصوم الخميس، وإن كان أربعاً فالصوم الأربعاء، وإن كان ثلاثة فالصوم الثلاثاء، وإن كان اثنين فالصوم يوم الاثنين، وان كان واحداً فالصوم يوم الأحد، وعلى هذا فابن حسابك تصبه موافقاً للحقّ إن شاء اللّه تعالى(1).
كتب حمزة بن محمد إلى أبي محمد (عليه السلام) : لم فرض اللّه الصوم؟ فورد
ص: 385
في الجواب: ليجد الغني مسّ الجوع فيمن على الفقير(1).
كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) في رجل مات وعليه قضاء من شهر رمضان عشرة أيام، وله وليّان، هل يجوز لهما أن يقضيا عنه جميعاً خمسة أيام أحد الوليين وخمسة أيام الآ خر؟ فوقّع (عليه السلام) : يقضي عنه أكبر وليّيه عشرة أيام ولاءً إن شاء اللّه(2).
عن علي بن بلال قال: كتبت إلى الطيّب العسكري (عليه السلام) : هل يجوز أن يُعطى الفطرة عن عيال الرجل وهم عشرة أقل أو أكثر رجلاً محتاجاً موافقاً؟ فكتب (عليه السلام) : نعم، افعل ذلك(3).
كتب إبراهيم بن مهزيار إ لى أبي محمد (عليه السلام) : أنّ مولاك علي بن مهزيار أوصى أن يحجّ عنه من ضيعة صيّر ربعها لك حجّة في كل سنة بعشرين ديناراً، وأنّه قد انقطع طريق البصرة تضاعفت المؤونة على الناس فليس يكتفون بعشرين دينار، وكذلك أوصى عدّة من مواليك في حججهم، فكتب (عليه السلام) : يجعل ثلاث حجج حجّتين إن شاء اللّه(1).
كتب علي بن محمد الحضيني إلى الإمام أبي محمد (عليه السلام) : إنّ ابن عمّي أوصى أن يحجّ عنه بخمسة عشر ديناراً في كل سنة فليس يكفي، فما تأمرني في ذلك؟ فكتب (عليه السلام) : تجعل حجّتين في حجّة إنّ اللّه عالم بذلك(2).
عن أبي علي أحمد بن محمد بن مطهر، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) إنّي دفعت إلى ستّة أنفس مائة دينار وخمسين ديناراً ليحجّوا بها فرجعوا ولم يشخص بعضهم وأتاني بعض فذكر أنّه قد أنفق بعض الدنانير وبقيت بقيّة وأنّه يرد علي ما بقي وإنّي قد رمت مطالبة من لم يأتني بما دفعت إليه، فكتب (عليه السلام) : لا تعرض لمن لم يأتك ولا تأخذ ممّن أتاك شيئاً ممّا يأتيك به والأجر قد وقع على اللّه عزّوجل(3).
ص: 387
قال أبو هاشم: دخل الحجّاج بن سفيان العبدي على أبي محمد (عليه السلام) فسأله المبايعة، قال: ربما بايعنا الناس فتواضعتهم المعاملة إلى الأصل، قال (عليه السلام) : لا بأس الدينار بالدينارين بينهما خرزة، فقلت في نفسي: هذا شبه ما يفعله المربّيون! فالتفت إليّ، فقال: إنّما الربا الحرام ما تقصد به الحرام، فإذا جاوزت حدود الربا وزويت عنه فلا بأس، الدينار بالدينارين يداً بيد ويكره أن لا يكون بينهما شيء يوقع عليه البيع(1).
كتب محمد بن الحسن إلى أبي محمد (عليه السلام) : رجل استأجر أجيراً يعمل له بناء غيره وجعل يعطيه طعاماً وقطناً وغير ذلك ثم تغيّر الطعام والقطن من سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة أيحتسب له بسعر يوم أعطاه أو بسعر يوم حاسبه؟ فوقّع (عليه السلام) : يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه إن شاء اللّه.
وأجاب (عليه السلام) في المال يحلّ على الرجل فيعطى به طعاماً عند محلّه ولم يقاطعه ثم تغيّر السعر، فوقّع (عليه السلام) : له سعر يوم أعطاه الطعام(2).
كتب محمد بن الحسن إلى أبي محمد (عليه السلام) رجل اشترى من رجل ضيعة أو خادماً بمال أخذه من قطع الطريق أو من سرقة، هل يحلّ له ما يدخل عليه من ثمرة هذه الضيعة أو يحلّ له أن يطأ هذا الفرج الذي اشتراه من السرقة أو
ص: 388
من قطع الطريق؟ فوقّع (عليه السلام) : لا خير في شيء أصله حرام ولا يحلّ استعماله(1).
عن محمد بن الحسن الصفار، قال: كتبت إليه في رجل كان له على رجل مال، فلمّا حلّ عليه المال أعطاه بها طعاماً أو قطناً أو زعفراناً ولم يقاطعه على السعر، فلما كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الزعفران والطعام والقطن أو نقص بأيّ السعرين يحسبه قال لصاحب الدَّين سعر يومه الذي أعطاه وحلّ ماله عليه أو السعر الثاني بعد شهرين أو ثلاثة يوم حاسبه؟ فوقّع (عليه السلام) : ليس له على حسب سعر وقت ما دفع إليه الطعام إن شاء اللّه(2).
عن محمد بن الحسن، قال: كتبت إليه (عليه السلام) في رجل باع بستاناً له في شجر وكرم(3)، فاستثنى شجرة منها، هل له ممرّ إلى البستان إلى وضع شجرته التي استثناها وكم لهذه الشجرة التي استثناها من الأرض التي حولها بقدر أغصانها أو بقدر موضعها التي هي نابتة فيه؟، فوقّع (عليه السلام) : له من ذلك على حسب ما باع وأمسك، فلا يتعدّى الحقّ في ذلك إن شاء اللّه(4).
كتب محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد (عليه السلام) في رجل اشترى من رجل أرضاً بحدودها الأربعة وفيها زرع ونخل وغيرهما من الشجر، ولم
ص: 389
يذكر النخل ولا الزرع ولا الشجر في كتابه وذكر فيه أنّه قد اشتراها بجميع حقوقها الداخلة فيها والخارجة منها، أيدخل الزرع والنخل والأشجار في حقوق الأرض أم لا؟، فوقّع (عليه السلام) : إذا ابتاع الأرض بحدودها وما أغلق عليه بابها فله جميع ما فيها إن شاء اللّه(1).
عن محمد بن الحسن أنّه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام) : رجل كان له قطاع أرضين فحضره الخروج إلى مكة والقرية على مراحل من منزله ولم يؤت بحدود أرضه وعرف حدود القرية الأربعة، فقال للشهود: اشهدوا أنّي قد بعت من فلان جميع القرية التي حدّ منها كذا والثاني والثالث والرابع، وإنّما له في هذه القرية قطاع أرضين، فهل يصلح للمشتري ذلك وإنّما له بعض هذه القرية وقد أقرّ له بكلّها؟ فوقّع (عليه السلام) : لا يجوز بيع ما ليس يملك، وقد وجب الشراء على البائع على ما يملك(2).
روي عن محمد بن علي بن محبوب، قال: كتب رجل إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل أو لرجلين، فأراد صاحب القرية أن يسوق الماء إلى قريته في غير هذا النهر الذي عليه هذه الرحى ويعطّل هذه الرحى، أله ذلك أم؟ لا فوقّع (عليه السلام) : يتقي اللّه ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضارّ أخاه المؤمن(3).
ص: 390
سئل (عليه السلام) عن رجل كانت له قناة في قرية، فأراد رجل آخر أن يحفر قناة أخرى فوقها، فما يكون بينهما في البعد حتى لا يضر بالأخرى في أرض إذا كانت صعبة أو رخوة؟ فوقّع (عليه السلام) : على حسب أن لا يضرّ أحدهما بالآخر إن شاء اللّه تعالى(1).
كتب محمد بن الحسن الصفّار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) يقول: رجل يبذرق(2) القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف ويشارطونه على شيء مسمّى، أله أن يأخذ منهم أم لا؟ فوقّع (عليه السلام) : إذا آجر نفسه بشيء معروف أخذ حقّه إن شاء اللّه(3).
كتب محمد بن الحسن الصفّار (رحمه اللّه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : في رجل اشترى من رجل بيتاً في دار له بجميع حقوقه وفوقه بيت آخر، هل يدخل البيت الأعلى في حقوق البيت الأسفل ام لا؟ فوقّع (عليه السلام) : ليس له إلاّ ما اشتراه باسمه وموضعه إن شاء اللّه(4).
كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) محمد بن الحسن الصفّار (رحمه اللّه) :
ص: 391
رجل قال لرجل: أشهد أنّ جميع الدار التي لي في موضع كذا وكذا بحدودها كلّها لفلان بن فلان، وجميع ماله في الدار من المتاع، هل يصلح للمشتري ما في الدار من المتاع أي شيء هو؟ فوقّع (عليه السلام) : يصلح ما أحاط الشراء بجميع ذلك إن شاء اللّه(1).
روي عن محمد بن علي بن محبوب، قال: كتب رجل إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل دفع ثوباً إلى القصّار(2) ليقصره فدفعه القصّار إلى قصّار غيره ليقصّره فضاع الثوب، هل يجب على القصّار أن يردّ ما دفعه إلى غيره إن كان القصّار مأمونا؟ فوقّع (عليه السلام) : هو ضامن له إلا أن يكون ثقة مأموناً إن شاء اللّه(3).
كتب محمد بن الحسن الصفّار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : في امرأة طلقّها زوجها، ولم يجر عليها النفقة للعدة وهي محتاجة هل يجوز لها أن تخرج وتبيت عن منزلها للعمل والحاجة؟ فوقّع (عليه السلام) : لا بأس بذلك إذا علم اللّه الصحّة منها(4).
كتب عبد اللّه بن جعفر الحميري إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) في امرأة أرضعت ولد الرجل أيحل لذلك الرجل أن يتزوّج
ص: 392
ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقّع (عليه السلام) : لا يحلّ ذلك له(1).
كتب محمد بن الحسن الصفّار إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : في امرأة مات عنها زوجها وهي في عدّة منه، وهي محتاجة لا تجد من ينفق عليها وهي تعمل للناس هل يجوز لها أن تخرج وتعمل وتبيت عن منزلها للعمل والحاجة في عدّتها؟ فوقّع (عليه السلام) : لا بأس بذلك إن شاء اللّه(2).
روي عن محمد بن علي بن محبوب، قال: كتب رجل إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل دفع إلى رجل وديعة وأمره أن يضعها في منزله أو لم يأمره، فوضعها الرجل في منزل جاره فضاعت، هل يجب عليه إذا خالف أمره أو أخرجها من ملكه؟ فوقّع (عليه السلام) : هو ضامن لها إن شاء اللّه تعالى(3).
كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه)، إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : رجل حلف بالبراءة من اللّه عزّوجل أو من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحنث ما توبته وما كفارته؟ فوقّع (عليه السلام) : يطعم عشرة مساكين لكل مسكين مدّ، ويستغفر اللّه عزّوجل(4).
ص: 393
عن محمد بن الحسن الصفار، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان مؤقّتاً فهو صحيح ممضى، قال قوم: إنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، قال: وقال آخرون: هذا مؤقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، والذي هو غير مؤقّت أن يقول: هذا وقف ولم يذكر أحداً، فما الذي يصحّ من ذلك وما الذي يبطل؟ فوقّع (عليه السلام) : الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء اللّه(1).
كتب محمد بن الحسن الصفّار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) في الوقوف وما روى فيها عن آبائه (عليهم السلام) فوقّع (عليه السلام) : الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّه تعالى(2).
عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، قال: سألته (عليه السلام) في كتاب عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة أو شاة أو غيرها للأضاحي أو غيرها، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جواهر أو غير ذلك من المنافع، لمن
ص: 394
يكون ذلك وكيف يعمل به؟ فوقّع (عليه السلام) : عرّفها البائع فإن لم يعرفها فالشيء لك رزقك اللّه إيّاه(1).
عن محمد بن يحيى، قال: كتب محمد إلى أبي محمد (عليه السلام) : رجل يكون له على رجل مائة درهم فيلزمه فيقول له: انصرف إليك إلى عشرة أيام وأقضي حاجتك، فإن لم انصرف فلك عليّ ألف درهم حالّة من غير شرط وأشهد بذلك عليه، ثم دعاهم إلى الشهادة؟ فوقّع (عليه السلام) : لا ينبغي لهم أن يشهدوا إلاّ بالحقّ، ولا ينبغي لصاحب الدين أن يأخذ إلاّ الحقّ إن شاء اللّه(2).
كُتب إليه (عليه السلام) : هل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرض التي له فيها إذا تعرف حدود هذا القطاع بقوم من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولاً؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم، يشهدون على شيء مفهوم معروف(3).
كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر ويسمع كلامها إذا شهد عدلان أنّها فلانة
ص: 395
بنت فلان التي تشهدك وهذا كلامها، أو لا تجوز الشهادة عليها حتى تبرز وتثبتها بعينها؟ فوقّع (عليه السلام) : تتنقّب وتظهر للشهود إن شاء اللّه(1).
وكتب إليه في رجل يشهده أنّه قد باع ضيعة من رجل آخر وهي قطاع أرضين ولم يعرف الحدود في وقت ما أشهده، وقال: إذا أتوك بالحدود فاشهد بها، هل يجوز له ذلك أو لا يجوز له أن يشهد؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم يجوز والحمد لله(2).
كُتب إليه هل يجوز أن يشهد على الحدود إذا جاء قوم آخرون من أهل تلك القرية فشهدوا أنّ حدود هذه الضيعة التي باعها الرجل هي هذه، فهل يجوز لهذا الشاهد الذي أشهده بالضيعة ولم يسمّ الحدود أن يشهد بالحدود بقول هؤلاء الذين عرفوا هذه الضيعة وشهدوا له، أم لا يجوز لهم أن يشهدوا وقد قال لهم البائع: أشهدوا بالحدود إذا أتوكم بها؟ فوقّع (عليه السلام) لا تشهد إلا على صاحب الشيء وبقوله إن شاء اللّه(3).
عن سهل بن زياد، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) : رجل كان له ابنان فمات أحدهما وله ولد ذكور وإناث فأوصى لهم جدّهم بسهم أبيهم، فهذا
ص: 396
السهم الذكر والأنثى فيه سواء أم للذكر مثل حظ الأنثيين؟ فوقّع (عليه السلام) : ينفذّون وصيّة جدّهم كما أمر إن شاء اللّه(1).
عن محمد بن عبد الجبار، قال: كتبت إلى العسكري (عليه السلام) : امرأة أوصت إلى رجل وأقرّت له بدين ثمانية آلاف درهم وكذلك ما كان لها من متاع البيت من صوف وشعر وشبه وصفر ونحاس وكل ما لها أقرّت به للموصى إليه وأشهدت على وصيّتها وأوصت أن يحجّ عنها من هذه التركة حجّتين ويعطى مولاة لها أربعمائة درهم، وماتت المرأة وتركت زوجاً فلم ندر كيف الخروج من هذا واشتبه علينا الأمر، وذكر الكاتب أنّ المرأة استشارته فسألته أن يكتب لها ما يصح لهذا الوصي فقال: لا تصح تركتك لهذا الوصي إلاّ بإقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة الشهود تأمريه بعد أن ينفذ ما توصيه به، فكتبت له بالوصية على هذا وأقرت للوصي بهذا الدين فرأيك أدام اللّه عزّك في مسألة الفقهاء قبلك عن هذا وتعريفنا ذلك لنعمل به إن شاء اللّه.
فكتب (عليه السلام) بخطّه: إن كان الدين صحيحاً معروفاً مفهوماً فيخرج الدين من رأس المال إن شاء اللّه، وإن لم يكن الدين حقّاً أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف(2).
عن محمد بن عبدوس، قال: أوصى رجل بتركته متاعٍ وغير ذلك لأبي
ص: 397
محمد (عليه السلام) ، فكتبت إليه جعلت فداك رجل أوصى إليّ بجميع ما خلف لك وخلّف ابنتي أخت له فرأيك في ذلك. فكتب إليّ (عليه السلام) : بع ما خلّف وابعث به إليّ، فبعت وبعثت به إليه. فكتب إليّ: قد وصل(1).
عن الحسن بن راشد، قال: سألت العسكري (عليه السلام) عن رجل أوصى بثلثه بعد موته فقال بعد موتي بين موالي ومَولَيَاتي ولأبيه موال يدخلون موالي أبيه في وصيته بما يسمّون مواليه أم لا يدخلون؟ فكتب (عليه السلام) : لا يدخلون(2).
كتب محمد بن يحيى: هل للوصيّ أن يشتري شيئاً من مال الميت إذا بيع فيمن زاد فيزيد ويأخذ لنفسه؟ فقال: يجوز إذا اشترى صحيحاً(3).
كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) : هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع (عليه السلام) : إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين.
وكتب إليه: أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً بحق له على الميت أو على غيره وهو القابض للوارث الصغير وليس للكبير بقابض؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم، وينبغي للوصي أن يشهد بالحق ولا يكتم شهادته.
ص: 398
وكتب إليه: أو تقبل شهادة الوصي على الميّت بدين مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (عليه السلام) : نعم من بعد يمين(1).
كتب محمد بن الحسن إلى أبي محمد (عليه السلام) : رجل أوصى إلى ولده وفيهم كبار قد أدركوا وفيهم صغار أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيّته ويقضوا دينه لمن صح على الميّت بشهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم على الأكابر من الولدان أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك(2).
كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : رجل أوصى إلى رجلين أيجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة والآخر بالنصف؟ فوقّع (عليه السلام) : لا ينبغي لهما أن يخالفا الميّت ويعملان على حسب ما أمرهما إن شاء اللّه(3).
كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلى محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : رجل أوصى بثلث ماله في مواليه ومَولَيَاتِهِ الذكر والأنثى فيه سواء أو للذكر مثل حظّ الأنثيين من الوصية؟ فوقع (عليه السلام) : جائز للميّت ما أوصى به على ما أوصى به إن شاء اللّه تعالى(4).
ص: 399
كتب سهل بن زياد الآدمي إلى أبي محمد (عليه السلام) : رجل له ولد ذكور وإناث فأقر بضيعة أنها لولده ولم يذكر أنها بينهم على سهام اللّه وفرائضه الذكر والأنثى فيه سواء، فوقع (عليه السلام) : ينفذون وصية أبيهم على ما سمى فإن لم يكن سمى شيئاً ردوها على كتاب اللّه عزوجل إن شاء اللّه(1).
كتب محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : رجل كان وصي رجل فمات وأوصى إلى رجل آخر هل يلزم الوصي وصية الرجل الذي كان هذا وصيه؟ فكتب (عليه السلام) : يلزمه بحقه إن كان له قبله حق إن شاء اللّه(2).
عن عبد اللّه بن جعفر قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) : امرأة ماتت وتركت زوجها وأبويها أو جدّها وجدّتها كيف يقسم ميراثها؟ فوقع (عليه السلام) : للزوج النصف وما بقي فللأبوين(3).
كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : رجل مات وترك ابنة ابنته وأخاه لأبيه وأمه لمن يكون
ص: 400
الميراث؟ فوقع (عليه السلام) : في ذلك الميراث للأقرب إن شاء اللّه(1).
عن أبي هاشم قال: سُئل أبو محمد (عليه السلام) ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين؟ فقال (عليه السلام) : إن المرأة ليست عليها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة إنما ذلك على الرجل، فقلت في نفسي: قد كان قيل لي: إن ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن هذه المسألة فأجابه بهذا الجواب، فأقبل أبو محمد (عليه السلام) علي فقال: نعم هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منا واحد إذا كان معنى المسألة واحداً جرى لآخرنا ما جرى لأولنا وأولنا وآخرنا في العلم سواء ولرسول اللّه عليه وآله السلام ولأمير المؤمنين فضلهما(2).
عن محمد بن عبد العزيز البلخي قال: أصبحت يوماً فجلست في شارع الغنم، فإذا بأبي محمد (عليه السلام) قد أقبل من منزله يريد دار العامة، فقلت في نفسي: ترى ان صحت أيها الناس هذا حجة اللّه عليكم فاعرفوه، يقتلوني، فلما دنى مني أومأ بإصبعه السبابة عليَّ فيه أن أسكت، ورأيته تلك الليلة يقول: إنما هو الكتمان أو القتل فاتق اللّه على نفسك(3).
كتب عبد اللّه بن جعفر الحميري إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) : أنه
ص: 401
روى عن الصالحين (عليهم السلام) أن اختنوا أولادكم يوم السابع يطهروا، فإن الأرض تضج إلى اللّه عزوجل من بول الأغلف، وليس جعلني اللّه فداك لحجامي بلدنا حذق بذلك ولا يختنونه يوم السابع وعندنا حجام من اليهود فهل يجوز لليهود أن يختنوا أولاد المسلمين أم لا؟ فوقّع (عليه السلام) : يوم السابع فلا تخالفوا السنن إن شاء اللّه(1).
إنّ إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه وأخذ في تأليف (ما زعمه من) تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرّد به في منزله، وإنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، فقال له أبو محمد (عليه السلام) : أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمد (عليه السلام) : أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك. قال: نعم. قال: فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك إنّه من الجائز لأنّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعلّه أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه؟
ص: 402
فصار الرجل إلى الكندي وتلطّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال أمرني به أبو محمد (عليه السلام) . فقال: الآن جئت به وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت، ثم إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه(1).
قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لأبي هاشم الجعفري: سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة، وقلوبهم مظلمة متكدّرة، السنّة فيهم بدعة، والبدعة فيهم سنّة، المؤمن بينهم محقّر والفاسق بينهم موقّر، أمراؤهم جاهلون جائرون وعلماؤهم في أبواب الظلمة سائرون، أغنياؤهم يسرقون زاد الفقراء، وأصاغرهم يتقدّمون على الكبراء، وكل جاهل عندهم خبير، وكل محيل عندهم فقير، لا يتميّزون بين المخلص والمرتاب، ولا يعرفون الضأن من الذئاب، علماؤهم شرار خلق اللّه على وجه الأرض، لأنّهم يميلون إلى الفلسفة والتصوّف، وأيم اللّه إنّهم من أهل العدول والتَحرّف، يبالغون في حبّ مخالفينا ويضلّون شيعتنا وموالينا، فإن نالوا منصباً لم يشبعوا من الرشاء، وإن خذلوا عبدوا اللّه على الرياء، ألا أنّهم قطّاع طريق المؤمنين، والدعاة إلى نحلة الملحدين، فمن أدركهم فليحذرهم وليصن دينه وإيمانه،
ص: 403
ثم قال: يا أبا هاشم هذا ما حدّثني به أبي عن آبائه عن جعفر بن محمد (عليهم السلام) وهو من أسرارنا فاكتمه إلاّ عن أهله(1).
قال (عليه السلام) : لو جعلت الدنيا كلّها لقمة واحدة ولقمتها من يعبد اللّه خالصاً لرأيت أنّي مقصّر في حقّه، ولو منعت الكافر منها حتى يموت جوعاً وعطشاً ثم أذقته شربة من الماء لرأيت إنّي قد أسرفت(2).
كتب الإمام (عليه السلام) إلى عبد اللّه بن حمدوية البيهقي: وبعد فقد نصبت لكم إبراهيم بن عبده ليدفع النواحي وأهل ناحيتك حقوقي الواجبة عليكم إليه، وجعلته ثقتي وأميني عند موالي هناك، فليتّقوا اللّه وليراقبوا، وليؤدّوا الحقوق فليس لهم عذر في ترك ذلك، ولا تأخيره، ولا أشقاهم اللّه بعصيان أوليائه، ورحمهم اللّه وإيّاك معهم برحمتي لهم، إنّ اللّه واسع كريم(3).
قال يوسف بن محمد بن زياد وعلي بن محمد بن سيّار عن أبويهما أنّهما قالا: فقلنا للحسن أبي القائم (عليه السلام) : فإنّ قوماً عندنا يزعمون أنّ هاروت وماروت ملكان اختارهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم وأنزلهما اللّه مع ثالث لهما إلى الدنيا وإنّهما افتتنا بالزهرة، وأرادا الزنا بها، وشربا الخمر وقتلا
ص: 404
النفس المحترمة، وإنّ اللّه تبارك وتعالى يعذبهما ببابل، وأنّ السحرة منهما يتعلّمون السحر، وإنّ اللّه مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الذي هو الزهرة.
فقال الإمام (عليه السلام) : معاذ اللّه من ذلك، إنّ ملائكة اللّه معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف اللّه، قال اللّه عزّ وجل فيهم: {لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(1) وقال اللّه عزّ وجل: {وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ} يعني الملائكة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (2) وقال عزّ وجل في الملائكة أيضاً: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِۦ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِۦ مُشْفِقُونَ}(3) ثم قال (عليه السلام) : لو كان كما يقولون كان اللّه قد جعل هؤلاء الملائكة خلفاء على الأرض وكانوا كالأنبياء في الدنيا أو كالأئمّة فيكون من الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) قتل النفس والزنا. ثم قال (عليه السلام) : أو لست تعلم أنّ اللّه عزّ وجل لم يخل الدنيا قط من نبي أو إمام من البشر، أو ليس اللّه عزّ وجل يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} يعني إلى الخلق {إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰۗ}(4) فأخبر أنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمّة وحكاماً وإنّما أرسلوا إلى أنبياء اللّه. قالا: قلنا له: فعلى هذا لم يكن إبليس أيضاً ملكاً. فقال: لا بل كان من الجن أما تسمعان اللّه عزّ وجل يقول: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا
ص: 405
إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ}(1) فأخبر عزّوجل أنّه كان من الجن وهو الذي قال اللّه عزّ وجل: {وَٱلْجَانَّ خَلَقْنَٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ}(2) قال الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) : حدّثني أبي عن جدّي عن الرضا عن آبائه عن علي (عليهم السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ اللّه عزّ وجل اختارنا معاشر آل محمد، واختار النبيين واختار الملائكة المقرّبين، وما اختارهم إلاّ على علمٍ منه بهم أنّهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته وينقلعون به عن عصمته وينتمون به إلى المستحقّين لعذابه ونقمته.
قالا: فقلنا له: فقد روي لنا أنّ علياً (عليه السلام) لما نص عليه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإمامة عرض اللّه عزّ وجل ولايته في السماوات على فئام(3) من الناس وفئام من الملائكة، فأبوها فمسخهم اللّه ضفادع. فقال (عليه السلام) : معاذ اللّه هؤلاء المكذّبون لنا المفترون علينا، الملائكة هم رسل اللّه فهم كسائر أنبياء اللّه ورسله إلى الخلق فيكون منهم الكفر باللّه؟ قلنا: لا، قال: فكذلك الملائكة، إنّ شأن الملائكة لعظيم وإنّ خطبهم لجليل(4).
عن أحمد بن إسحاق، قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد، فقال: نعم. ثم قال: يا أحمد إنّ الخطّ سيختلف عليك من بين القلم الغليظ إلى القلم الدقيق فلا تشكن، ثم دعا
ص: 406
بالدواة فكتب وجعل يستمد إلى مجرى الدواة، فقلت في نفسي وهو يكتب: استوهبه القلم الذي كتب به، فلما فرغ من الكتابة أقبل يحدّثني وهو يمسح القلم بمنديل الدواة ساعة، ثم قال: هاك يا أحمد فناولنيه، فقلت: جعلت فداك إنّي مغتم لشيء يصيبني في نفسي، وقد أردت أن أسأل أباك فلم يقض لي ذلك، فقال: وما هو يا أحمد؟ فقلت: يا سيّدي روي لنا عن آبائك أنّ نوم الأنبياء على أقفيتهم ونوم المؤمنين على أيمانهم ونوم المنافقين على شمائلهم ونوم الشياطين على وجوههم، فقال (عليه السلام) : كذلك هو فقلت: يا سيّدي فإنّي اجهد أن أنام على يميني فما يمكنني ولا يأخذني النوم عليها، فسكت ساعة ثم قال: يا أحمد أدن منّي، فدنوت منه، فقال: أدخل يدك تحت ثيابك فأدخلتها فأخرج يده من تحت ثيابه وأدخلها تحت ثيابي فمسح بيده اليمنى على جانبي الأيسر وبيده اليسرى على جانبي الأيمن ثلاث مرّات، فقال أحمد: فما أقدر أن أنام على يساري منذ فعل ذلك بي (عليه السلام) وما يأخذني نوم عليها أصلاً(1).
عن القاسم الهروي، قال: خرج توقيع من أبي محمد (عليه السلام) إلى بعض بني أسباط، قال: كتبت إليه أخبره عن اختلاف الموالي وأسأله إظهار دليل، فكتب إليّ: وإنّما خاطب اللّه عزّوجل العاقل وليس أحد يأتي بآية ويظهر دليلاً أكثر ممّا جاء به خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، فقالوا: ساحر وكاهن وكذّاب وهدى اللّه من اهتدى، وغير أنّ الأدلّة يسكن إليها كثير من الناس،
ص: 407
وذلك أنّ اللّه عزّوجل يأذن لنا فنتكلّم ويمنع فنصمت، ولو أحب أن لا يظهر حقّاً ما بعث النبيّين مبشّرين ومنذرين يصدعون بالحق في حال الضعف والقوّة وينطقون في أوقات ليقضي اللّه أمره وينفذ حكمه، الناس في طبقات شتّى: المستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلّق بفرع أصل غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه، وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الردّ على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسداً من عند أنفسهم فدع من ذهب يذهب يميناً وشمالاً، فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي، وذكرت ما أختلف فيه موالي فإذا كانت الرفعة والكبر فلا ريب، ومن جلس مجالس الحكم فهو أولى بالحكم، أحسن رعاية من استرعيت، وإيّاك والإذاعة وطلب الرياسة فإنّهما يدعوان إلى الهلكة، ذكرت شخوصك إلى فارس فاشخص خار اللّه لك وتدخل مصر إن شاء اللّه، آمناً واقرأ من تثق به موالي السلام ومُرهم بتقوى اللّه العظيم وأداء الأمانة وأعلمهم أنّ المذيع علينا حرب لنا.
قال: فلما قرأت: وتدخَلُ مصر إن شاء اللّه آمناً لم أعرف معنى ذلك، فقدمت بغداد وعزيمتي الخروج إلى فارس فلم يتهيّأ ذلك فخرجت إلى مصر(1).
وكتب (عليه السلام) إلى رجل سأله دليلاً: من سأل آية أو برهاناً فأُعطى ما سأل ثم رجع عمّن طلب منه الآية عذب ضعف العذاب ومن صبر أُعطى التأييد
ص: 408
من اللّه والناس مجبولون على حيلة إيثار الكتب المنشرة، نسأل اللّه السداد فإنّما هو التسليم أو العطب ولله عاقبة الأمور(1).
سئل الحسن بن علي بن محمد (عليهم السلام) عن الموت ما هو؟ فقال: هو التصديق بما لا يكون...(2).
عن أم أبي محمد (عليه السلام) قالت: قال لي يوماً من الأيام: تصيبني في سنة ستين ومائتين خزازة أخاف أن انكب منها نكتة، قالت: فأظهرت الجزع وأخذني البكاء، فقال: لابدّ من وقوع أمر اللّه، لا تجزعي، فلما كان في صفر سنة ستين أخذها المقيم والمقعد وجعلت تخرج في الأحايين إلى خارج المدينة وتحسّس الأخبار حتى ورد عليها الخبر حين حبسه المعتمد في يدي علي جرين وحبس جعفراً أخاه معه، وكان المعتمد يسأل علياً عن أخباره في كل وقت فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل، فسأله يوماً من الأيام عن خبره فأخبره بمثل ذلك فقال له: امض الساعة إليه واقرأه مني السلام وقل له انصرف إلى منزلك مصاحباً علي جرين، فجئت إلى باب الحبس فوجدت حماراً مسرحاً فدخلت عليه فوجدته جالساً وقد لبس خفه وطيلسانه وشاشه فلما رآني نهض، فأديت إليه الرسالة، فركب فلما استوى على الحمار وقف فقلت له: ما وقوفك يا سيدي؟ فقال لي: حتى يجيء
ص: 409
جعفر، فقلت: إنما أمرني بإطلاقك دونه، فقال لي: ترجع إليه فتقول له خرجنا من دار واحده جميعاً فإذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك ما لا خفاء به عليك، فمضى وعادا فقال: يقول لك قد أطلقت جعفراً لك لأني حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلّم به وخلّى سبيله فصار معه إلى داره(1).
عن أبي يعقوب وأبي الحسن أنّهما قالا: حضرنا عند الحسن بن علي أبي القائم (عليهم السلام) فقال له بعض أصحابه: جاءني رجل من إخواننا الشيعة، قد امتحن بجهّال العامّة يمتحنونه في الإمامة ويحلفونه، فكيف يصنع حتى يتخلّص منهم، فقلت له: كيف يقولون؟ قال: يقولون: أتقولون أنّ فلاناً هو الإمام بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ فلابدّ لي أن أقول نعم، وإلاّ أثخنوني ضرباً، فإذا قلت: نعم، قالوا لي: قل واللّه، فقلت لهم: نعم، وأريد به نعماً من الأنعام الإبل والبقر والغنم. قلت: فإذا قالوا: واللّه، فقل: ولىّ، أي تريد عن أمر كذا، فإنّهم لا يميّزون وقد سلمت. فقال لي: فإن حقّقوا عليّ، فقالوا: قل واللّه، وبيّن الهاء. فقلت: قل واللّهُ برفع الهاء، فإنّه لا يكون يميناً إذا لم يخفض. فذهب ثم رجع إليّ، فقال: عرضوا علي وحلّفوني، فقلت كما لقنتني. فقال له الحسن (عليه السلام) : أنت كما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الدال على الخير كفاعله، لقد كتب اللّه بتقيّته بعدد كل من استعمل التقيّة من شيعتنا وموالينا ومحبّينا حسنة، وبعدد من ترك التقيّة منهم حسنة، أدناها حسنة لو قوبل بها ذنوب
ص: 410
مائة سنة لغفرت ولك بإرشادك إيّاه مثل ما له(1).
عن أبي غانم، قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) يقول: في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي، ففيها قبض أبو محمد (عليه السلام) وتفرقت شيعته وأنصاره(2).
كتب (عليه السلام) إلى شيعته ومواليه حول وكالة ابراهيم بن عبده: وكتابي الذي ورد على إبراهيم بن عبده بتوكيلي إيّاه لقبض حقوقي من موالينا هناك، نعم هو كتابي بخطّي إليه، أعلي إبراهيم بن عبده لهم ببلدهم حقّاً غير باطل، فليتق اللّه حق تقاته، وليخرّجوا من حقوقي، وليدفعوها إليه، فقد جوّزت له ما يعمل به فيها وفّقه اللّه، ومنّ عليه بالسلامة من التقصير برحمته(3).
عن أبي علي أحمد بن إسحاق أنّه سأل أبا الحسن صاحب العسكري (عليه السلام) ، وقال: من أعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك فعنّى يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون(4).
ص: 411
عن أبي علي أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان وما قالا فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك(1).
من كتابه إلى إسحاق بن إسماعيل: فلا تخرجن من البلد حتى تلقى العمري (رضي اللّه عنه) برضائي عنه فتسلّم عليه وتعرفه ويعرفك فإنّه الطاهر الأمين العفيف القريب منّا وإلينا، فكل ما يحمل إلينا من شيء من النواحي، فإليه يصير آخر أمره ليوصل ذلك إلينا والحمد لله كثيراً(2).
عن محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد اللّه الحسينيان قالا: دخلنا على أبي محمد الحسن (عليه السلام) بسرّ من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته حتى دخل عليه بدر خادمه، فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن، في حديث طويل يسوقانه إلى أن ينتهي إلى أن قال الحسن (عليه السلام) لبدر: فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري، فما لبثنا إلاّ يسيراً حتى دخل عثمان، فقال له سيدنا (عليه السلام) : امض يا عثمان فإنّك الوكيل والثقة المأمون على مال اللّه واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال، ثم ساق الحديث إلى أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: يا سيدنا واللّه إنّ عثمان
ص: 412
لمن خيار شيعتك ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وأنّه وكيلك وثقتك على مال اللّه، قال: نعم واشهدوا على أنّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأنّ ابنه محمداً وكيل ابني مهديكم(1).
جاء في توقيع من الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) إلى إسحاق بن إسماعيل: ويا إسحاق اقرأ كتابنا على البلالي (رضي اللّه عنه) فإنّه الثقة المأمون، العارف بما يجب عليه، واقرأه على المحمودي عافاه اللّه فما أحمدنا له لطاعته، فإذا وردت بغداد فاقرأه على الدهقان وكيلنا وثقتنا والذي يقبض من موالينا...(2).
قال أبو داود: دخل فضل بن شاذان النيسابوري على أبي محمد العسكري (عليه السلام) فلمّا أراد أن يخرج سقط عنه كتاب من تصنيفه، فتناوله أبو محمد (عليه السلام) ونظر فيه وترحّم عليه وذكر أنّه قال: اغبط أهل خراسان لمكان الفضل وكونه بين أظهرهم، وكفاه بذلك فخراً(3).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: عرضت على أبي محمد العسكري (عليه السلام) كتاب يوم وليلة ليونس، فقال لي: تصنيف من هذا؟ قلت: تصنيف يونس
ص: 413
مولى آل يقطين فقال: أعطاه اللّه بكلّ حرف نوراً يوم القيامة(1).
عرض أحمد بن عبد اللّه بن خانبه كتابه على مولانا أبي محمد الحسن بن علي بن محمد صاحب العسكر (عليه السلام) ، فقرأه وقال: صحيح فاعملوا به(2).
كتب (عليه السلام) إلى علي بن بلال في سنة إثنتين وثلاثين ومأتين: بسم اللّه الرحمن الرحيم، أحمد اللّه إليك وأشكر طوله وعوده وأصلّي على محمد وآله صلوات اللّه ورحمته عليهم، ثم إنّي أقمت أبا علي مقام الحسين بن عبد ربّه، وائتمنه على ذلك بالمعرفة بما عنده الذي لا يقدمه أحد وقد أعلم أنّك شيخ ناحيتك فأحببت إفرادك وإكرامك بالكتاب بذلك، فعليك بالطاعة له والتسليم إليه جميع الحق قبلك وأن تخص موالي على ذلك وتعرفهم من ذلك ما يصير سبباً إلى عونه وكفايته فذلك توفير علينا ومحبوب لدينا ولك به جزاء من اللّه وأجر فإنّ اللّه يعطي من يشاء ذو الإعطاء والجزاء برحمته وأنت في وديعة اللّه وكتبت بخطّي وأحمد اللّه كثيراً(3).
عن الحلبي، قال: اجتمعنا بالعسكر وترصّدنا لأبي محمد (عليه السلام) يوم ركوبه فخرج توقيعه: ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ولا يشير بيده ولا يوميء أحدكم
ص: 414
فإنّكم لا تَأمنون على أنفسكم...(1).
عن داود بن الأسود - وقّاد حمام أبي محمد (عليه السلام) - قال: دعاني سيّدي أبو محمد (عليه السلام) فدفع إليّ خشبة كأنّها رجل باب مدوّرة طويلة ملء الكف، فقال: صر بهذه الخشبة إلى العمري. فمضيت فلما صرت إلى بعض الطريق عرض لي سقّاء معه بغل، فزاحمني البغل على الطريق فناداني السقّاء: صح على البغل، فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت البغل فانشقت، فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كتب، فبادرت سريعاً فرددت الخشبة إلى كمّي، فجعل السقّاء يناديني ويشتمني ويشتم صاحبي، فلما دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب، فقال: يقول لك مولاي أعزّه اللّه: لم ضربت البغل وكسرت رجل الباب؟ فقلت له: يا سيدي، لم أعلم ما في رجل الباب. فقال: ولم احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه، إيّاك بعدها أن تعود إلى مثلها، وإذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرت بها، وإيّاك أن تجاوب من يشتمنا، أو تعرّفه من أنت، فإنّنا ببلد سوء ومصر سوء، وامض في طريقك فإنّ أخبارك وأحوالك ترد إلينا فاعلم ذلك(2).
سئل الشيخ يعني أبا القاسم (رضي اللّه عنه) عن كتب ابن أبي العزاقز بعد ما ذمّ وخرجت فيه اللعنة، فقيل له: فكيف نعمل بكتبه منها ملاءٌ؟ فقال:
ص: 415
أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي (صلوات اللّه عليهما) وقد سئل عن كتب بني فضّال، فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاءٌ؟ فقال صلوات اللّه عليه: خذوا بما رووا وذروا ما رأوا(1).
قال سعد: حدثني العبيدي قال: كتب إلى العسكري (عليه السلام) ابتداء منه: أبرأ إلى اللّه من الفهري والحسن بن محمد بن بابا القمّي فأبرأ منهما، فإنّي محذّرك وجميع موالي، وإنّي ألعنهما، عليهما لعنة اللّه مستأكلين يأكلان بنا الناس فتّانين مؤذيين آذاهما اللّه، وأركسهما في الفتنة ركساً، يزعم ابن بابا إنّي بعثته نبيّاً وأنّه باب، ويله لعنه اللّه، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن اللّه من قبل منه ذلك، يا محمد إن قدرت أن تشدخ رأسه بحجر فأفعل فإنّه قد آذاني، آذاه اللّه في الدنيا والآخرة(2).
خرج التوقيع من الإمام (عليه السلام) إلى القاسم بن العلاء: قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع ابن هلال لا رحمه اللّه بما قد علمت لم يزل لا غفر اللّه له ذنبه ولا أقاله عثرته دخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضى يستبد برأيه، فيتحامى من ديوننا، لا يمضي من أمرنا أياه إلاّ بما يهواه ويريد إرادة اللّه في نار جهنم، فصبرنا عليه حتى بتر اللّه عمره بدعوتنا، وكنّا قد عرفنا خبره قوماً من موالينا في أيامه، لا رحمه اللّه وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاص من موالينا
ص: 416
ونحن نبرأ إلى اللّه من ابن هلال لا رحمه اللّه وممّن لا يبرأ منه، وأعلم الإسحاقي سلّمه اللّه وأهل بيته ممّا أعلمناك من حال هذا الفاجر وجميع من كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين، ومن كان يستحق أن يطلع على ذلك، فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم سرّنا ونحمله إيّاه إليهم وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء اللّه.
وقال أبو حامد فثبت قوم على إنكار ما خرج فيه فعاودوه فيه فخرج: لا شكر اللّه قدره لم يدع المرزئة بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه وأن يجعل ما من به عليه مستقراً ولا يجعله مستودعاً، وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان عليه لعنة اللّه وخدمته وطول صحبته فأبدله اللّه بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل فعاجله اللّه بالنقمة ويمهله(1).
خرج لإسحاق بن إسماعيل من أبي محمد (عليه السلام) توقيع: ... فما أغر الإنسان بربّه الكريم، واستجاب اللّه دعائي فيكم، وأصلح أموركم على يدي، فقد قال اللّه جلّ جلاله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمْ}(2)، وقال اللّه جلّ جلاله: {جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًاۗ}(3) وقال اللّه جل جلاله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
ص: 417
تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ}(1) فما أحب أن يدعو اللّه جلّ جلاله بي ولا بمن هو في أيامي إلاّ حسب رقّتي عليكم، وما انطوى لكم عليه من حب بلوغ الأمل في الدارين جميعاً والكينونة معنا في الدنيا والآخرة. فقد يا إسحاق يرحمك اللّه ويرحم من هو وراءك بيّنت لكم بياناً، وفسّرت لكم تفسيراً، وفعلت بكم فعل من لم يفهم هذا الأمر قط ولم يدخل فيه طرفة عين، ولو فهمت الصم الصلاب بعض ما في هذا الكتاب لتصدّعت قلقاً وخوفاً من خشية اللّه ورجوعاً إلى طاعة اللّه عزّ وجل، فاعملوا من بعد ما شئتم {فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ} ثم تردون {إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2) والعاقبة للمتقين والحمد لله كثيراً رب العالمين، وأنت رسولي يا إسحاق إلى إبراهيم بن عبده وفّقه اللّه، أن يعمل بما ورد عليه في كتابي مع محمد بن موسى النيسابوري إن شاء اللّه ويقرأ إبراهيم بن عبده كتابي هذا ومن خلفه ببلده، حتى لا يتساءلون وبطاعة اللّه يعتصمون والشيطان باللّه عن أنفسهم يجتنبون ولا يطيعون، وعلى ابراهيم بن عبده سلام اللّه ورحمته وعليك يا إسحاق وعلى جميع موالي السلام كثيراً، سددكم اللّه جميعاً بتوفيقه، وكل من قرأ كتابنا هذا من موالي من أهل بلدك ومن هو بناحيتكم ونزع عمّا هو عليه من الانحراف عن الحق فليؤدّ حقّنا إلى إبراهيم ليحمل ذلك إبراهيم بن عبده الرازي (رضي اللّه عنه) أو إلى من يسمّى له الرازي فإنّ ذلك عن أمري ورأيي إن شاء اللّه، ويا
ص: 418
إسحاق أقرأ كتابي على البلالي رضي اللّه عنه فإنّه الثقة المأمون العارف بما يجب عليه وأقرأه على المحمودي عافاه اللّه فما أحمدنا له لطاعة، فإذا وردت بغداد فأقرأه على الدهقان وكيلنا وثقتنا والذي يقبض من موالينا وكل من أمكنك من موالينا، فأقرأهم هذا الكتاب وينسخه من أراد منهم نسخة إن شاء اللّه ولا يكتم أمر هذا عمّن يشاهده من موالينا إلاّ من شيطان مخالف لكم، فلا تنثرن الدرّ بين أظلاف الخنازير ولا كرامة لهم وقد وقعنا في كتابك بالوصول والدعاء لك ولمن شئت، وقد أجبنا شيعتنا عن مسالته والحمد لله فما بعد الحق إلاّ الضلال فلا تخرجن من البلدة حتى تلقى العمري رضي اللّه عنه برضاي عنه وتسلّم عليه وتعرفه ويعرفك فإنه الطاهر الأمين العفيف القريب منّا وإلينا فكل ما يحمل إلينا من شيء من النواحي فإليه يصير آخر أمره ليوصل ذلك إلينا والحمد لله كثيراً، سترنا اللّه وإيّاكم يا إسحاق بستره وتولاك في جميع أمورك بصفة والسلام عليك وعلى جميع موالي ورحمة اللّه وبركاته وصلى اللّه على سيدنا محمد النبي وآله وسلم كثيراً(1).
عن علي بن سلمان، قال: كان عروة بن يحيى يلعنه أبو محمد (عليه السلام) وذلك أنّه كان لأبي محمد (عليه السلام) خزانة وكان يليها أبو علي بن راشد (رضي اللّه عنه) فسلّمت إلى عروة فأخذها لنفسه ثم أحرق باقي ما فيها يغايظ بذلك أبا محمد (عليه السلام) فلعنه وبرئ منه ودعا عليه فما أمهل يومه ذلك وليلته حتى قبضه
ص: 419
اللّه إلى النار، فقال (عليه السلام) : جلست لربي في ليلتي هذه كذا وكذا جلسة فما انفجر عود الصبح ولا انطفأ ذلك النار حتى قتل اللّه عروة لعنه اللّه(1).
قال محمد بن الحسن لقيت من علّة عيني شدّة فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله أن يدعو لي، فلما نفذ الكتاب قلت في نفسي: ليتني كتبت إليه أن يصف لي كحلاً أكحلها، فوقّع بخطّه يدعو لي بسلامتها إذ كانت إحداهما ذاهبة، وكتب بعده أردت أن أصف لك كحلاً عليك أن تُصيِّر مع الإثمد كافوراً وتوتيا فإنّه يحلو ما فيها من الغشاء وييبس من الرطوبة، قال: فاستعملت ما أمرني به (عليه السلام) فصحت(2).
عن محمد بن يحيى، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد (عليه السلام) يشكو إليه دماً وصفراء، فقال: إذا احتجمت هاجت الصفراء وإذا أخرت الحجامة أضرّني الدم، فما ترى في ذلك؟ فكتب (عليه السلام) : إحتجم وكل على أثر الحجامة سمكاً طريّاً كباباً، قال: فأعدت عليه المسألة بعينها فكتب (عليه السلام) : احتجم وكل أثر الحجامة سمكاً طرياً كباباً بماء وملح، قال: فاستعملت ذلك فكنت في عافية وصار غِذَايَ(3).
ص: 420
ص: 421
ص: 422
روي عن بعضهم (صلوات اللّه عليهم) أنه قال: إذا أردت زيارة قبر أبي الحسن علي بن محمد وأبي محمد الحسن بن علي (عليهم السلام) : تقول بعد الغسل ان وصلت الى قبريهما وإلا أومأت بالسلام من عند الباب الذي على الشارع الشباك، تقول:
السلام عليكما يا وليي اللّه، السلام عليكما يا حجتي اللّه، السلام عليكما يا نوري اللّه في ظلمات الأرض، السلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما، أتيتكما زائراً عارفاً بحقكما معادياً لأعدائكما موالياً لأوليائكما مؤمنا بما آمنتما به كافراً بما كفرتما به محققاً لما حققتما مبطلاً لما أبطلتما، أسأل اللّه ربي وربكما أن يجعل حظي من زيارتكما الصلاة على محمد وآله وان يرزقني مرافقتكما في الجنان مع آبائكما الصالحين، وأسأله أن يعتق رقبتي من النار ويرزقني شفاعتكما ومصاحبتكما ويعرف بيني وبينكما ولا يسلبني حبكما وحب آبائكما الصالحين وان لا يجعله آخر العهد من زيارتكما ويحشرني معكما في الجنة برحمته، اللّهم ارزقني حبهما وتوفني على ملتهما، اللّهم العن ظالمي آل محمد حقهم وانتقم منهم، اللّهم العن الأولين منهم والآخرين وضاعف عليهم العذاب وأبلغ بهم وبأشياعهم
ص: 423
ومحبيهم ومتبعيهم أسفل درك من الجحيم إنك على كل شيء قدير. اللّهم عجل فرج وليك وابن وليك واجعل فرجنا مع فرجهم يا أرحم الراحمين.
وتجتهد في الدعاء لنفسك ولوالديك وتخير من الدعاء فان وصلت اليهما (صلوات اللّه عليهما) فصل عند قبريهما ركعتين واذا دخلت المسجد وصليت دعوت اللّه بما أحببت انه قريب مجيب، وهذا المسجد الى جانب الدار وفيه كانا يصليان (عليهما السلام) (1).
إذا وصلت إلى محله الشريف بسر من رأى فاغتسل عند وصولك غسل الزيارة والبس أطهر ثيابك وامش على سكينة ووقار إلى أن تصل إلى الباب الشريف فإذا بلغته فاستأذن وقل:
أأدخل يا نبي اللّه، أأدخل يا أمير المؤمنين، أأدخل يا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، أأدخل يا مولاي الحسن بن علي، أأدخل يا مولاي الحسين بن علي، أأدخل يا مولاي علي بن الحسين، أأدخل يا مولاي محمد بن علي، أأدخل يا مولاي جعفر بن محمد، أأدخل يا مولاي موسى بن جعفر، أأدخل يا مولاي علي بن موسى، أأدخل يا مولاي محمد بن علي، أأدخل يا مولاي يا أبا الحسن علي بن محمد، أأدخل يا مولاي يا أبا محمد الحسن بن علي أأدخل يا
ص: 424
ملائكة اللّه الموكلين بهذا الحرم الشريف.
ثم تدخل مقدماً رجلك اليمنى وتقف على ضريح الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) مستقبلاً القبر ومستدبراً القبلة وتكبر اللّه مائة مرة وتقول:
السلام عليك يا مولاي يا أبا محمد الحسن العسكري بن علي الهادي المهتدي ورحمة اللّه وبركاته، السلام عليك يا ولي اللّه وابن أوليائه السلام عليك يا حجة اللّه وابن حججه، السلام عليك يا صفي اللّه وابن أصفيائه، السلام عليك يا خليفة اللّه وابن خلفائه وأبا خليفته، السلام عليك يا بن خاتم النبيين، السلام عليك يا بن خاتم الوصيين، السلام عليك يا بن سيد المرسلين، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين، السلام عليك يا بن سيد الوصيين، السلام عليك يا بن سيدة نساء العالمين، السلام عليك يا بن الأئمة الهادين، السلام عليك يا بن الأوصياء الراشدين، السلام عليك يا عصمة المتقين، السلام عليك يا إمام الفائزين، السلام عليك يا ركن المؤمنين، السلام عليك يا فرج الملهوفين، السلام عليك يا وارث الأنبياء المنتجبين، السلام عليك يا خازن علم وصي رسول اللّه، السلام عليك أيها الداعي بحكم اللّه، السلام عليك أيها الناطق بكتاب اللّه، السلام عليك يا حجة الحجج، السلام عليك يا هادي الأمم، السلام عليك يا ولي النعم، السلام عليك يا عيبة العلم، السلام عليك يا سفينة الحلم، السلام عليك يا أبا الإمام المنتظر الظاهرة للعاقل حجته والثابتة في اليقين معرفته المحتجب عن أعين الظالمين والمغيب عن دولة الفاسقين والمعيد
ص: 425
ربنا به الإسلام جديداً بعد الإنطماس والقرآن غضاً بعد الإندراس أشهد يا مولاي أنك أقمت الصلاة وأتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت اللّه مخلصاً حتى أتاك اليقين، أسأل اللّه بالشأن الذي لكم عنده أن يتقبل زيارتي لكم ويشكر سعيي إليكم ويستجيب دعائي بكم ويجعلني من أنصار الحق وأتباعه وأشياعه ومواليه ومحبيه والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته.
ثم قبل ضريحه وضع خدك الأيمن عليه ثم الأيسر وقل:
اللّهم صل على سيدنا محمد وأهل بيته وصل على الحسن بن علي الهادي إلى دينك والداعي إلى سبيلك، علم الهدى ومنار التقى ومعدن الحجى ومأوى النهى وغيث الورى وسحاب الحكمة وبحر الموعظة ووارث الأئمة والشهيد على الأمة المعصوم المهذب والفاضل المقرب والمطهر من الرجس، الذي ورثته علم الكتاب وألهمته فصل الخطاب ونصبته علماً لأهل قبلتك وقرنت طاعته بطاعتك وفرضت مودته على جميع خليقتك، اللّهم فكما أناب بحسن الإخلاص في توحيدك وأردى من خاض في تشبيهك وحامى عن أهل الإيمان بك فصل يارب عليه صلاة يلحق بها محل الخاشعين ويعلو في الجنة بدرجة جده خاتم النبيين وبلغه منا تحية وسلاماً وآتنا من لدنك في موالاته فضلاً وإحساناً ومغفرة ورضواناً إنك ذو فضل عظيم ومنٍّ جسيم.
ص: 426
ثم تصلي صلاة الزيارة فاذا فرغت فقل:
يا دائم يا ديموم يا حي يا قيوم يا كاشف الكرب والهم ويا فارج الغم ويا باعث الرسل ويا صادق الوعد ويا حي لا إله إلا أنت أتوسل إليك بحبيبك محمد ووصيه علي ابن عمه وصهره على ابنته الذي ختمت بهما الشرائع وفتحت التأويل والطلائع فصل عليهما صلاة يشهد بها الأولون والآخرون وينجو بها الأولياء والصالحون، وأتوسل إليك بفاطمة الزهراء والدة الأئمة المهديين وسيدة نساء العالمين المشفعة في شيعة أولادها الطيبين، فصل عليها صلاة دائمة أبد الآبدين ودهر الداهرين، وأتوسل إليك بالحسن الرضي الطاهر الزكي والحسين المظلوم المرضي البر التقي سيّدي شباب أهل الجنة الإمامين الخيرين الطيبين التقيين النقيين الطاهرين الشهيدين المظلومين المقتولين فصل عليهما ما طلعت شمس وما غربت صلاة متوالية متتالية، وأتوسل إليك بعلي بن الحسين سيد العابدين المحجوب من خوف الظالمين وبمحمد بن علي الباقر الطاهر النور الزاهر الإمامين السيدين مفتاحي البركات ومصباحي الظلمات فصل عليهما ما سرى ليل وما أضاء نهار صلاة تغدو وتروح، وأتوسل اليك بجعفر بن محمد الصادق عن اللّه والناطق في علم اللّه وبموسى بن جعفر العبد الصالح في نفسه والوصي الناصح الإمامين الهاديين المهديين الوافيين الكافيين فصل عليهما ما سبح لك ملك وتحرك لك فلك صلاة تنمى وتزيد ولا تفنى ولا تبيد، وأتوسل إليك بعلي
ص: 427
بن موسى الرضا وبمحمد بن علي المرتضى الإمامين المطهرين المنتجبين فصل عليهما ما أضاء صبح ودام صلاة ترقيهما إلى رضوانك في العلّيين من جنانك، وأتوسل إليك بعلي بن محمد الراشد والحسن بن علي الهادي القائمين بأمر عبادك المختبرين بالمحن الهائلة والصابرين في الأحن المائلة فصل عليهما كفاء أجر الصابرين وإزاء ثواب الفائزين صلاة تمهد لهما الرفعة، وأتوسل إليك يارب بإمامنا ومحقق زماننا اليوم الموعود والشاهد المشهود والنور الأزهر والضياء الأنور والمنصور بالرعب والمظفر بالسعادة فصل عليه عدد الثمر وأوراق الشجر وأجزاء المدر وعدد الشعر والوبر وعدد ما أحاط به علمك وأحصاه كتابك صلاة يغبطه بها الاوّلون والآخرون، اللّهم واحشرنا في زمرته واحفظنا على طاعته واحرسنا بدولته واتحفنا بولايته وانصرنا على أعدائنا بعزته واجعلنا يا رب من التوابين يا أرحم الراحمين. اللّهم وإن إبليس المتمرد اللعين قد استنظرك لإغواء خلقك فأنظرته واستمهلك لإضلال عبيدك فأمهلته بسابق علمك فيه وقد عشش وكثرت جنوده وازدحمت جيوشه وانتشرت دعاته في أقطار الأرض فأضلوا عبادك وأفسدوا دينك وحرفوا الكلم عن مواضعه وجعلوا عبادك شيعاً متفرقين وأحزاباً متمردين وقد وعدت نقوض بنيانه وتمزيق شأنه فأهلك أولاده وجيوشه وطهر بلادك من اختراعاته واختلافاته وأرح عبادك من مذاهبه وقياساته واجعل دائرة السوء عليهم وابسط عدلك وأظهر
ص: 428
دينك وقوّ أولياءك وأوهن أعداءك وأورث ديار إبليس وديار أوليائه أوليائك وخلدهم في الجحيم وأذقهم من العذاب الأليم واجعل لعائنك المستودعة في مناحس الخلقة ومشاويه الفطرة دائرة عليهم وموكلة بهم وجارية فيهم كل مساء وصباح وغدو ورواح، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا برحمتك عذاب النار يا أرحم الراحمين.
ثم ادع بما تحب لنفسك ولإخوانك(1).
تدخل مقدما رجلك اليمنى فاذا وقفت على قبريهما (صلوات اللّه عليهما) فقف عندهما واجعل القبلة بين كتفيك وكبر اللّه مائة تكبيرة وقل:
السلام عليكما يا وليي اللّه، السلام عليكما يا حبيبي اللّه السلام عليكما يا حجتي اللّه، السلام عليكما يا نوري اللّه في ظلمات الأرض، السلام عليكما يا أميني اللّه، السلام عليكما يا سيّدي الأمة، السلام عليكما يا حافظي الشريعة، السلام عليكما يا تاليي كتاب اللّه، السلام عليكما يا وارثي الأنبياء، السلام عليكما يا خازني علم الأوصياء، السلام عليكما يا علمي الهدى، السلام عليكما يا مناري التقي، السلام عليكما يا عروتي اللّه الوثقى، السلام عليكما يا محلي معرفة اللّه، السلام عليكما يا مسكني ذكر اللّه، السلام عليكما يا حاملي سر اللّه،
ص: 429
السلام عليكما يا معدني كلمة اللّه، السلام عليكما يا بني رسول اللّه، السلام عليكما يا بني وصي رسول اللّه، السلام عليكما يا قرتي عين فاطمة سيدة النساء، السلام عليكما يا بني الأئمة المعصومين، السلام عليكما وعلى آبائكما الطاهرين، السلام عليكما وعلى ولدكما الحجة على الخلق أجمعين، السلام عليكما وعلى أرواحكما وأجسادكما وابدانكما ورحمة اللّه وبركاته، بأبي أنتما وأمي وأهلي ومالي وولدي يا بني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اتيتكما زائراً لكما عارفاً بحقكما مؤمناً بما آمنتما به كافراً بما كفرتما به محققا لما حققتما مبطلاً لما أبطلتما موالياً لكما معادياً لأعدائكما ومبغضاً لهم سلماً لمن سالمتما محارباً لمن حاربتما عارفاً بفضلكما محتملاً لعلمكما محتجباً بذمتكما مؤمناً بآبائكما مصدقاً بدولتكما مرتقباً لأمركما معترفاً بشأنكما وبالهدى الذي أنتما عليه مستبصراً بضلالة من خالفكما وبالعمى الذي هم عليه، اسأل اللّه ربي وربكما أن يجعل حظي من زيارتي إياكما الصلاة على محمد وآله وأن يرزقني شفاعتكما ولا يفرق بيني وبينكما ولا يسلبني حبكما وحب آبائكما الصالحين وان يحشرني معكما ويجمع بيني وبينكما في جنته برحمته وفضله.
ثم تنكب على قبر كل واحد منهما فتقبله وتضع خدك الأيمن عليه والأيسر ثم ترفع رأسك وتقول:
اللّهم ارزقني حبهم وتوفني على ولايتهم، اللّهم العن ظالمي آل
ص: 430
محمد حقهم وانتقم منهم، اللّهم العن الأولين والآخرين منهم وضاعف عليهم العذاب الأليم إنك على كل شيء قدير، اللّهم عجل فرج وليك وابن نبيك واجعل فرجنا مقروناً بفرجهم يا أرحم الراحمين، اللّهم إني قد أتيت لزيارة هؤلاء الأئمة المعصومين رجاءً لجزيل الثواب وفراراً من سوء الحساب، اللّهم إني أتوجه إليك بأوليائك الدالين عليك في غفران ذنوبي وحط سيئاتي وأتوسل إليك في هذه الساعة عند أهل بيت نبيك في هذه البقعة المباركة الشريفة، اللّهم فتقبل مني وجازني على حسن نيتي وصالح عقيدتي وصحة موالاتي أفضل ما جازيت أحداً من عبيدك المؤمنين وأدم لي ما خولتني واستعملني صالحاً فيما آتيتني ولا تجعلني أخسر وارد إليهم وأعتق رقبتي من النار وأوسع علي من رزقك الحلال الطيب واجعلني من رفقاء محمد وآل محمد وحل بيني وبين معاصيك حتى لا أعصيك وأعني على طاعتك وطاعة أوليائك حتى لا تفقدني حيث أمرتني ولا تراني حيث نهيتني، اللّهم صل على محمد وآل محمد واغفر لي وارحمني واعف عني وعن جميع المؤمنين والمؤمنات، اللّهم صل على محمد وآل محمد وأعذني من هول المطلع ومن فزع يوم القيامة ومن شر المنقلب ومن ظلمة القبر ووحشته ومن مواقف الخزي في الدنيا والآخرة، اللّهم صل على محمد وآل محمد واجعل جائزتي في موقفي هذا غفرانك وتحفتك في مقامي هذا عند أئمتي وموالي صلوات اللّه عليهم أن تقيل عثرتي وتقبل معذرتي وتتجاوز
ص: 431
عن خطيئتي وتجعل التقوى زادي وما عندك خيراً لي في معادي وتحشرني في زمرة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتغفر لي ولوالديّ فإنك خير مرغوب إليه وأكرم مسؤول اعتمد عليه ولكل وافد كرامة ولكل زائر جائزة فاجعل جائزتي في موقفي هذا غفرانك والجنة لي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، اللّهم وأنا عبدك الخاطئ المذنب المقر بذنبه فأسألك يا اللّه يا كريم بحق محمد وآل محمد ولا تحرمني الأجر والثواب من فضل عطائك وكريم تفضلك يا مولاي يا أبا الحسن علي بن محمد ويا مولاي يا أبا محمد الحسن بن علي أتيتكما زائراً لكما أتقرب إلى اللّه عزوجل والى رسوله وإليكما والى أبيكما والى أمكما بذلك، أرجو بزيارتكما فكاك رقبتي من النار فاشفعا لي عند ربكما في إجابة دعائي وغفران ذنوبي وذنوب والدي وإخواني المؤمنين وأخوتي المؤمنات يا اللّه يا اللّه يا اللّه يا اللّه يا رحمان يا رحمان يا رحمان يا رحمان لا إله إلا أنت الحليم الكريم لا إله إلا اللّه العلي العظيم سبحان اللّه رب السموات السبع ورب الارضيين السبع وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ورب العرش وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد النبي واله الطاهرين وسلم تسليما كثيراً.
فإذا فرغت رفعت يديك إلى السماء وقلت:
اللّهم أنت الرب وأنا المربوب وأنت الخالق وأنا المخلوق وأنت المالك وأنا المملوك وأنت المعطي وأنا السائل وأنت الرازق وأنا
ص: 432
المرزوق وأنت القادر وأنا العاجز وأنت القوي وأنا الضعيف وأنت المغيث وأنا المستغيث وأنت الدائم وأنا الزائل وأنت الكبير وأنا الحقير وأنت العظيم وأنا الصغير وأنت العزيز وأنا الذليل وأنت الرفيع وأنا الوضيع وأنت المدبِّر وأنا المدبَّر وانت الباقي وأنا الفاني وأنت الديان وأنا المدان وأنت الباعث وأنا المبعوث وأنت الغني وأنا الفقير وأنت الحي وأنا الميت، تجد من تعذب يارب غيري ولا أجد من يرحمني غيرك، اللّهم إني اسألك بحرمة من عاذ بذمتك ولجأ إلى عزك واستظل بفيئك واعتصم بحبلك ولم يثق إلا بك، يا جزيل العطايا يا فكّاك الأُسارى يا من سمى نفسه من جوده الوهاب أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد ولا تردني من هذا المقام خائباً فإن هذا مقام تغفر فيه الذنوب العظام وترجى فيه الرحمة من الكريم العلام مقام لا يخيب فيه السائلون ولا يرد فيه الراغبون مقام من لاذ بمولاه رغبة وتبتل إليه رهبة مقام الخائف من يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين ولا تنفع فيه شفاعة الشافعين إلا من أذن له الرحمان وكان من الفائزين ذلك يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وقيل لهم هذا ما كنتم توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب، اللّهم فاجعلني من المخلصين الفائزين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم الدين وألحقني بالصالحين وأخلف على أهلي وولدي في الغابرين واجمع بيننا جميعاً في مستقر من رحمتك
ص: 433
يا أرحم الراحمين وسلمني من أهوال ما بيني وبين لقائك حتى تبلّغني الدرجة التي فيها مرافقة أوليائك وأحبائك الذين عليهم دللت وبالإقتداء بهم أمرت واسقني من حوضهم مشرباً روياً لا ظمأ بعده أبداً واحشرني في زمرتهم وتوفني على ملتهم واجعلني في حزبهم وعرفني وجوههم في رضوانك والجنة فإني رضيت بهم أئمة وهداة وولاة فاجعلهم أئمتي وهداتي في الدنيا والآخرة ولا تفرق بيني وبينهم طرفة عين أبداً يا أرحم الراحمين، اللّهم صل على محمد وآل محمد وارحم ذلي بين يديك وتضرعي إليك ووحشتي من الناس وأنسي بك يا كريم تصدق علي في هذه الساعة برحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلم بها شعثي وتبيض بها وجهي وتكرم بها مقامي وتحط بها عني وزري وتغفر بها ما مضى من ذنوبي وتعصمني بها فيما بقي من عمري وتوسع لي بها في رزقي وتمد بها في أجلي وتستعملني في ذلك كله بطاعتك وما يرضيك عني وتختم لي عملي بأحسنه وتجعل لي ثوابه الجنة وتسلك بي سبيل الصالحين وتعينني على صالح ما أعطيتني كما أعنت الصالحين على صالح ما أعطيتهم ولا تنزع مني صالح ما أعطيتنيه أبداً ولا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ولا أقل من ذلك ولا أكثر يا ارحم الراحمين، اللّهم صل على محمد وآل محمد وأرني الحق حقاً فأتبعه والباطل باطلاً فأجتنبه ولا تجعله علي متشابهاً فأتبع هواي بغير هدى منك واجعل هواي متبعاً لرضاك
ص: 434
وطاعتك وخذ رضا نفسك من نفسي واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم(1).
تقف عليهما وأنت على غسل وتقول:
السلام على رسول اللّه السلام على محمد بن عبد اللّه، السلام على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، السلام على الأئمة المعصومين من ولده المهديين الذين أمروا بطاعة اللّه وقربوا أولياء اللّه واجتنبوا معصية اللّه وجاهدوا أعداءه ودحضوا حزب الشيطان الرجيم وهدوا إلى الصراط المستقيم، السلام عليكما أيها الإمامان الطاهران الصديقان اللذان استنقذا المؤمنين من مخالطة الفاسقين وحقنا دماء المحبين بمداراة المبغضين، أشهد أنكما حجتا اللّه على عباده وسراجاً أرضه وبلاده وتجرعتما في ربكما غيظ الظالمين وصبرتما في مرضاته على عناد المعاندين حتى أقمتما منار الدين وأبنتما الشك من اليقين فلعن اللّه مانعكما الحق والباغي عليكما من الخلق.
ثم ضع خدك الأيمن على القبر وقل:
اللّهم ان هذين الإمامين قائداي وبهما وبآبائهما أرجو الزلفة لديك يوم قدومي عليك، اللّهم إني أشهدك ومن حضر من ملائكتك أنهما عبدان لك اصطفيتهما وفضلتهما وتعبدت خلقك بموالاتهما وأذقتهما
ص: 435
المنية التي كتبت عليهما وما ذاقا فيك أعظم مما ذاقا منك وجمعتني وإياهما في الدنيا على صحة الاعتقاد في طاعتك فاجمعني وإياهما في جنتك يا من حفظ الكنز بإقامة الجدار وحرس محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالغار ونجَّى إبراهيم (عليه السلام) من النار، اللّهم إني أبرأ إليك ممن اعتقد فيهما اللاهوت وقدم عليهما الطاغوت، اللّهم العن الناصبة الجاحدين والمسرفين الغالين والشاكين المقصرين والمفوضين، اللّهم إنك تسمع كلامي وترى مقامي وعلمك محيط بما خلفي وأمامي فأجرني من كل سوء يخرج ديني وأكفني كل شبهة تشكك يقيني وأشرك في دعائي إخواني ومن أمره يعنيني، اللّهم ان هذا موقف خُضت إليه المتالف وقطعت دونه المخاوف طلباًُ أن تستجيب فيه دعائي وان تضاعف فيه حسناتي وان تمحو فيه سيئاتي اللّهم وأعطني فيه وإخواني من آل محمد وشيعتهم وأهل حزانتي وأولادي وقراباتي من كل خير مزلف في الدنيا ومحظ في الآخرة واصرف عن جمعنا كل شر يورث في الدنيا عدماً ويحجب غيث السماء ويعقب في الآخرة ندماً، اللّهم صل على محمد وآل محمد واستجب وصل على محمد وآل محمد(1).
اذا أردت وداع الإمامين قف على ضريحهما وقل:
السلام عليكما يا وليي اللّه، السلام عليكما يا حجتي اللّه السلام
ص: 436
عليكما يا نوري اللّه، السلام عليكما وعلى آبائكما وعلى أجدادكما وأولادكما، السلام عليكما وعلى أرواحكما وأجسادكما، السلام عليكما سلام مودع لا سئم ولا قال ولا مال ورحمة اللّه وبركاته، السلام عليكما سلام ولي غير راغب عنكما ولا مستبدل بكما غيركما ولا مؤثر عليكما يا بني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أستودعكما اللّه وأسترعيكما وأقرأ عليكما السلام، آمنت باللّه وبالرسول وبما جاء به من عند اللّه، اللّهم صل على محمد وآل محمد وأكتبنا مع الشاهدين، اللّهم لا تجعله آخر العهد مني وارددني إليهما وارزقني العود ثم العود إليهما ما أبقيتني فإن توفيتني فاحشرني معهما ومع آبائهما الأئمة الراشدين، اللّهم صل على محمد وآل محمد وتقبل عملي واشكر سعيي وعرفني الإجابة في دعائي ولا تخيب سعيي ولا تجعله آخر العهد مني وارددني إليهما ببر وتقوى وعرفني بركة زيارتهما في الدنيا والآخرة، اللّهم صل على محمد وآل محمد ولا تردني خائباً ولا خاسراً وارددني مفلحاً منجحاً مستجاباً دعائي مرحوماً صوتي مقضياً حوائجي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي واصرف عني شر كل ذي شر وشر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
ثم انصرف مرحوما إن شاء اللّه(1).
ص: 437
يوم الخميس وهو يوم الحسن بن علي صاحب العسكر (صلوات اللّه وسلامه عليه) وقل في زيارته (عليه السلام) :
السلام عليك يا ولي اللّه، السلام عليك يا حجة اللّه وخالصته، السلام عليك يا إمام المؤمنين ووارث المرسلين وحجة رب العالمين، صلى اللّه عليك وعلى آل بيتك الطاهرين، يا مولاي يا أبا محمد الحسن بن علي أنا مولى لك ولآل بيتك وهذا يومك وهو يوم الخميس وأنا ضيفك فيه ومستجير بك فيه فأحسن ضيافتي وإجارتي بحق آل بيتك الطيبين الطاهرين.
(***)
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته المعصومين.
ص: 438
الإهداء... 5
مقدمة الناشر... 7
رفيقة القمر... مسيرة العطاء والألم... 23
نبذة عن زوجها... 26
الابن البكر... 28
الزوجة والأم والسند... 30
مسيرة الصبر والجهاد... 32
الكتابة والبحث والتأليف... 34
رحيل زوجها... 37
الباقيات الصالحات... 38
الخاتمة... 39
من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)
المقدمة... 45
الفصل الأول: إلهيّات... 47
فذلك اللّه... 49
صفات اللّه... 50
معنى الصّمد... 51
مفهوم القدر... 52
الفصل الثاني: ولائيات... 55
أئمة الهدى وأئمة الضلال... 57
ص: 439
طريق معرفة اللّه... 57
جزاء المعرفة... 57
عدد الأئمة (عليهم السلام) ... 58
فضائل العترة... 59
الإمام عليّ (عليه السلام) مدينة هدى... 60
في تأبين الإمام الحسن (عليه السلام) ... 61
غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) ... 61
سنن الأنبياء (عليهم السلام) ... 62
يقسّم ميراثه وهو حيّ... 62
الخير كلّه في ذلك الزمان... 62
الغيبة الكبرى... 63
يرجع إليهم شابا... 63
أشهر في الحرب... 63
في مجمع بني أمية... 63
خمس علامات... 64
مدّة حكومة الإمام المهدي (عليه السلام) ... 64
بين الشيعي والمحبّ... 64
إن هم إلا كالأنعام... 64
من أحبّنا لله... 65
الزموا مودّتنا... 65
البكاء لأهل البيت (عليهم السلام) ... 66
من أتانا... 66
كان منّا... 66
قريش وأهل البيت (عليهم السلام) ... 66
بيت الرحمة... 67
الرضا بقضاء اللّه... 67
ص: 440
من عادانا... 67
نحن وبنو أميّة... 67
عثمان على الصراط... 68
قبل خلق آدم (عليه السلام) ... 68
غصبا حقّنا... 68
على ملّة إبراهيم (عليه السلام) ... 68
اختصمنا في اللّه... 68
النور والظلمة... 69
الفصل الثالث: عباديات... 71
جزاء العبادة... 73
أقسام العبادة... 73
فلسفة الصيام... 73
أقسام الجهاد... 73
كأنّما أحيا النّاس جميعاً... 74
ثواب الإرشاد... 75
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 75
الفصل الرابع: جهاديات... 79
مع أبي ذر الغفاري رضوان اللّه عليه... 81
ومن خطبة له (عليه السلام) : يدعو الناس للمسير إلى الشام مع أبيه (عليهما السلام) ... 81
كلامه في السكون في زمان الهدنة وانتظار الفرصة... 82
و من كلام له (عليه السلام) : لمعاوية في توبيخه على شنائع أفعاله... 83
كتابه (عليه السلام) إلى معاوية... 83
و من خطبة له (عليه السلام) : لما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد... 83
كلامه (عليه السلام) : لحاكم المدينة في منع الناس عن ملاقاته... 85
ومثلي لايبايع يزيد... 86
وعلى الإسلام السلام... 87
ص: 441
عند قبر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 87
الإمام الحسين (عليه السلام) لايريد إلا رضى اللّه ورضى رسوله ورضى المؤمنين... 87
مع محمد بن الحنفية... 88
مع أبي بكربن الحارث... 90
مع عمرو بن عبدالرحمن... 91
مع أخيه محمد في مكة... 91
مع أمّ سلمة... 93
مع عبداللّه بن عباس... 93
مع عبداللّه بن الزبير... 95
مع عبداللّه بن عمر... 97
حتى يقتلوني... 98
أنا قتيل العبرة... 98
خطبة له (عليه السلام) : عند عزمه على المسير إلى العراق... 98
كتابه (عليه السلام) : عند توجهه إلى العراق وهو جواب كتاب كتب إليه عمرو بن سعيد... 99
كتابه (عليه السلام) المحتوي على وصية لأخيه محمد ابن الحنفيّة لما عزم على المسير إلى العراق... 99
ومن كلام له (عليه السلام) : للفرزدق لما سأله ما أعجلك يا ابن رسول اللّه عن الحج؟... 100
كتابه (عليه السلام) إلى أهل المدنية... 100
كتابه (عليه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم لنصرته... 101
كتابه (عليه السلام) إلى بني هاشم... 101
كتابه (عليه السلام) إلى محمد ابن الحنفيّة... 101
كتابه (عليه السلام) إلى أهل البصرة: يدعوهم لنصرته... 101
كتابه (عليه السلام) جواباً عن كتاب كتبه إليه ابن عمّه عبداللّه بن جعفر الطيار رضوان اللّه عليهما... 102
كتابه (عليه السلام) إلى أهل الكوفة عند توجهه إلى العراق... 102
كتابه (عليه السلام) جواباً عن كتاب لأهل الكوفة إليه... 103
كتابه (عليه السلام) في مسيره إلى الكوفة إلى حبيب بن مظاهر... 103
ومن خطبة له (عليه السلام) ... 104
ص: 442
ومن خطبة له (عليه السلام) بذي حسم لما صلّى بالحر وأصحابه... 104
و من كلام له (عليه السلام) بالرهيمة... 105
ومن خطبة له (عليه السلام) في (زبالة) وفيها بيان غدر أهل الكوفة... 105
و من خطبة له (عليه السلام) في البيضة خطب بها الحر وأصحابه... 106
ومن خطبة له (عليه السلام) في إدبار الدنيا... 106
كلامه حين ورد أرض كربلاء... 107
ومن كلامه (عليه السلام) لأصحابه وفيه بيان شهادته ورجعته... 108
ومن كلام له (عليه السلام) لأصحابه في نقض البيعة... 109
ومن خطبة له (عليه السلام) في وفاء أصحابه... 109
ومن كلامه (عليه السلام) لعسكره وأهل بيته... 110
ومن خطبة له (عليه السلام) يعظ بها أهل العراق... 111
ومن كلام له (عليه السلام) يبشر أصحابه بالجنّة وقصورها... 112
ومن خطبة له (عليه السلام) في الاحتجاج على أهل الكوفة... 112
ومن خطبة له (عليه السلام) متوكئاً على قائم سيفه نادى بأعلى صوته... 114
ومن خطبة له (عليه السلام) عقيب صلاة الصبح في يوم عاشوراء يحث أصحابه على القتال... 115
ومن خطبة له (عليه السلام) : بالطفّ في التحذير عن الدنيا... 115
ومن كلام له (عليه السلام) : يأمر أصحابه بالصبر ويرغّبهم في الآخرة... 116
وصيته (عليه السلام) أخته بالصبر ليلة عاشوراء... 116
ومن خطبة له (عليه السلام) في ذمّ أهل الكوفة... 118
ومن كلام له (عليه السلام) مخاطباً لأهل الكوفة وهو يقاتل على رجليه... 120
ومن كلام له (عليه السلام) لما نظر إلى كثرة من قتل من أصحابه قبض على شيبته المقدّسة... 120
ومن كلام له (عليه السلام) به ودع عياله وأمرهم بالصبر... 120
الخطبة المنسوبة إليه (عليه السلام) ... 121
كلامه (عليه السلام) لشيعة آل سفيان لما حالوا بينه وبين خيامه... 121
الفصل الخامس: أدعية... 123
ومن دعائه (عليه السلام) يوم عرفه... 125
ص: 443
ومن دعاء له (عليه السلام) في اليوم العاشر من المحرم لما أصبحت الخيل رفع يديه... 140
ومن دعائه (عليه السلام) في قنوته... 140
ومن دعائه (عليه السلام) ... 141
ومن دعواته (عليه السلام) ... 141
ومن دعائه (عليه السلام) ... 142
ومن دعاء له (عليه السلام) للاستسقاء... 143
ومن خطبة له (عليه السلام) في الاستسقاء... 143
دعاء في مواقع الخطر... 144
الفصل السادس: احتجاجات... 145
ومن كلام له (عليه السلام) : احتج به على عمر... 147
ومن كلام له (عليه السلام) لعائشة في مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 148
كتابه (عليه السلام) جواباً لما كتب اليه معاوية يعيره في تزويجه (عليه السلام) جارية بعد ما أعتقها... 149
كتابه (عليه السلام) في الشؤون العامّة جواباً عن كتاب معاوية إليه... 150
ومن كلام له (عليه السلام) ذمّ به مروان بن الحكم... 152
ومن خطبة له (عليه السلام) في منى... 153
وقد تضمّنت من فضائل عليّ (عليه السلام) ومناقبه مالا تتضمنها خطبه... 153
احتجاجه (عليه السلام) على عبداللّه بن عمرو بن العاص... 156
ومن كلامه (عليه السلام) في مجلس معاوية... 157
احتجاجه (عليه السلام) على مروان... 157
الفصل السابع: أخلاقيات ومواعظ... 161
الفضل والأضداد... 163
العزّة... 163
الكبر... 163
ماهو الاستدراج؟... 163
من هو البخيل... 164
الإحسان للجميع... 164
ص: 444
الغيبة... 164
الرفق... 164
حقوق الناس... 164
خطبته (عليه السلام) في مكارم الأخلاق... 165
المناظرة... 166
نصائح... 166
الحلف... 167
أهل المعروف في يوم القيامة... 167
الناس عبيد الدنيا... 167
لاتعب أحداً... 167
شكر النعمة... 167
العدوة... 168
الصبر... 168
أعظم النّاس قدراً... 168
أسئلة وأجوبة... 168
كمال العقل... 169
الفضل والنقص... 169
خير المال... 169
المال النافع... 170
رضااللّه... 170
المعصية... 170
إحسان وإرشاد... 170
من قبل عطائك... 171
متى تصلح المسألة؟... 171
السلام قبل الكلام... 172
لاتردّ سائلاً... 172
ص: 445
فحدّث... 172
شر خصال الملوك... 172
لايسيء ولا يعتذر... 172
عند الملمّة... 173
من علامات القبول... 173
من تأمن؟... 173
البكاء نجاة... 173
البكاء رحمة... 173
إلاّ من يوم القيامة... 174
من وصية له (عليه السلام) ... 174
ومن كلام له (عليه السلام) في اتخاذ الزهد متاعاً في الدنيا... 175
إنّما أنت أيام... 176
استفد من ثروتك... 176
أربعة كلمات... 176
تجنّب المعصية... 176
الأخوان أربعة... 177
المؤمن والقرآن... 177
عمّرت دار غيرك... 178
كيف أصبحت؟... 178
لا تصف لملك دواءاً 178
الفصل الثامن: أشعار... 179
في المتفرقات من أشعاره (عليه السلام) في مناجاته مع اللّه... 181
في التوكل على اللّه... 182
في الوعظ والنصيحة... 182
حين زار الشهداء بالبقيع... 182
لاترج فعل الخير... 182
ص: 446
في عدم الاغترار بالدنيا... 183
في الوعظ... 183
في الحث على الجود والإنفاق... 184
في جواب السائل... 184
في صفاء الزهد... 185
في حبه (عليه السلام) لسكينة والرباب... 185
في جواب الأعرابي... 186
في تقدمه (عليه السلام) على العالمين... 188
في مفاخره (عليه السلام) ... 188
في التأسف على تقدم البعداء على الامناء... 188
في ذلك المعنى أيضاً... 189
لو انصف الدهر الخؤون... 189
المنايا يرصُدْ نني... 189
يخوض بحار الموت... 190
وفي الهدف الإنساني الأعلى... 190
ومن تمثلاته في ذلك المعنى... 191
عند شاطيء الفرات... 191
حينما نزل كربلاء... 192
أشعاره (عليه السلام) في الرثاء... 192
وله أيضاً... 193
في مصائب الدهر... 193
في ذلك الموضوع أيضاً... 193
في أخيه العباس (عليه السلام) ... 194
في رثاء الحر بن يزيد الرياحي... 194
بعد شهادة القاسم (عليه السلام) ... 194
في أراجيزه يوم الطف... 195
ص: 447
منها: في مناقبة يوم الطف... 195
واللّه من هذا وهذا جاري... 195
حمل (عليه السلام) على الميسرة يوم عاشوراء وأنشد مرتجزاً... 196
في أمره (عليه السلام) أصحابه بالصبر... 196
في دعائه؛ على الأعداء حين اشتد العطش بأصحابه... 196
بعد قتل الأصحاب... 197
لما قتل أصحابه ونظر إلى يمينه ويساره ورأى نفسه فريداً قال:... 197
اُرجوزته (عليه السلام) عند القتال... 197
ومن تمثلاته (عليه السلام) يوم قتل... 199
ومن منظومه يوم قتل (عليه السلام) ... 199
عند وداع أهل بيته... 200
وزاد الأسفرائني له (عليه السلام) ... 200
ونسب إليه ايضاً... 200
في آخر لحظات عمره الشريف... 200
من كلمات الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
الإهداء... 207
المقدمة... 209
الفصل الأول: نبذة مختصرة: عن حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ... 211
الإمام العسكري (عليه السلام) في سطور... 213
لمحة عن أحواله الشخصية (عليه السلام) ... 216
والدته المكرّمة (عليه السلام) ... 216
مكان وزمان الولادة... 216
ألقابه (عليه السلام) ... 217
1. العسكري... 217
2. الرفيق... 217
ص: 448
3. الزكي... 217
4. الفاضل... 218
5. الأمين... 218
6-9. الميمون، النقي، الطاهر، الناطق عن اللّه... 218
10-11. المؤمن باللّه المرشد إلى اللّه... 219
12. تمسكوا بالنجوم الزاهرة... 219
13-14. الأمين على سرّ اللّه... 219
15. العلاّم... 219
16. ولي اللّه... 220
17. سراج أهل الجنة... 220
18. خزانة الوصيين... 220
19-20. النادب، المعطي... 220
ومن ألقابه أيضاً:... 221
سنة الشهادة... 221
القبر الشريف... 221
قبري أمان... 222
من عظمة الإمام العسكري (عليه السلام) ... 222
ولاية الإمام العسكري (عليه السلام) ... 222
صاحبكم بعدي... 222
النص عليه... 222
قوله قول أبيه... 223
الأكبر من ولدي... 223
الخلف من بعدي... 223
عنده علم ما يحتاج اليه... 223
صاحبك بعدي... 224
إليه ينتهي عُرى الإمامة... 224
ص: 449
ما رأيت ولا عرفت مثل الحسن بن علي (عليه السلام) ... 224
ينقلب العدوّ صديقاً... 227
النور الساطع... 227
من عبادته (عليه السلام) ... 227
يصوم في السجن... 227
يصوم النهار ويصلّي الليل... 228
لا يتشاغل بغير العبادة... 228
زهده (عليه السلام) ... 228
قليل الأكل... 229
الفصل الثاني: من كلمات الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ... 231
إلهيات... 233
التوحيد... 233
جلّ أن يرى... 233
ما سواه مخلوق... 234
أراه نور عظمته... 234
عفوه سبحانه وتعالى... 234
حيث لا منجي... 235
الشرك الخفي... 235
أحد أحد... 236
يمحو اللّه ما يشاء... 236
لله الأمر من قبل ومن بعد... 237
من مصاديق الشرك باللّه... 237
نبويّات... 237
بساط الأنبياء والأولياء... 237
الدنيا وما عليها 239
ولائيّات... 240
ص: 450
نحن ليوث الوغى... 240
واللّه متم نوره... 240
شأن آل محمد (عليهم السلام) ... 241
من عرفهم عرف اللّه... 241
لا أملك غير موالاتكم... 242
الأئمة (عليهم السلام) ... 242
بل عباد مكرمون... 243
قلوبنا أوعية لمشيئة اللّه... 243
لسنا كالناس... 244
حديثنا صعب مستصعب... 245
لكلامنا فضل... 245
من أحبّنا كان معنا... 246
حالهم في المنام... 246
من كنت مولاه فعلي مولاه... 246
ولادة الإمام الحسين (عليه السلام) ... 247
لولا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأوصياء من ولده... 247
من علائم الإمامة... 248
معرفته باللغات... 249
يقضي كقضاء داوود (عليه السلام) ... 249
السباع حوله... 250
أنا وصيّه... 250
فكيف رأوا قدرة اللّه... 251
ولادة الحجّة (عليه السلام) ... 251
هذا صاحبكم... 251
يا عمّة هو في كنف اللّه... 252
ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض... 254
ص: 451
اكتمي خبر هذا المولود... 255
المولود الكريم على اللّه... 256
عقّ هذين الكبشين... 257
صاحب هذا الأمر... 257
هل لك ولد؟... 257
عندها يتلألأ صبح الحق... 258
وفي لحظات الوداع... 261
فهو القائم بعدي... 262
غلام عشاري... 262
لما ولد السيد (عليه السلام) ... 263
أحببنا إعلامك... 263
هذا خليفتي عليكم... 263
كأنّه قطع قمر... 264
أنا بقيّة اللّه... 264
أشبه الناس برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 266
سيكون لي ولد... 266
غيبة ولدي... 266
سأرزق ولداً... 267
إذا قام القائم (عليه السلام) ... 267
هذا صاحبكم... 267
يريدون قتلي... 268
اسمه محمد... 268
أشبه الناس برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 269
ابني هو الإمام... 269
إنّها أمّ القائم (عليه السلام) ... 269
لا تنازعه... 275
ص: 452
من جحد إماماً... 275
هذا ليس منكم... 276
أشهد أنّك حجّة اللّه... 277
من هم شيعة علي (عليه السلام) ... 277
شفاعة الشيعة يوم القيامة... 281
إنّ وعد اللّه حق... 281
فهو الشيعي حقاً... 284
جوابه عن بعض الأسئلة... 285
الشعائر... 291
هذا ما فعله المسيح (عليه السلام) ... 291
رسائل... 292
رسالته (عليه السلام) إلى إسحاق بن إسماعيل... 292
رسالته (عليه السلام) إلى أهل قم... 295
رسالته (عليه السلام) إلى ابن بابويه... 296
ومن توقيعاته (عليه السلام) ... 297
رسالته إلى بعض مواليه... 298
حكم ومواعظ... 299
الأنس باللّه... 299
السهر والجوع... 299
لا إفراط ولا تفريط... 299
بين المنع والعطاء... 300
من لا يطلب منه الصفا 300
رزق مضمون... 300
لماذا الضراعة؟... 300
المؤمن بركة... 300
من ترك الحق... 300
ص: 453
صديق الجاهل... 300
قلب الأحمق... 301
خير من الحياة... 301
ردّ المعتاد عن عاداته... 301
من لم يتق اللّه... 301
بين البلية والنعمة... 301
لا تكرم هكذا... 301
إذا نشطت القلوب... 301
من لا تأمن شرّه... 302
المقادير والأرزاق المكتوبة... 302
إقبال القلوب وإدبارها... 302
الوحشة من الناس... 302
وصايا لشيعته (عليه السلام) ... 302
إدفع المسألة والإلحاح... 303
الموت يأتي بغتة... 304
الويل لمن أخذته أصابع المظلومين... 304
فتوكل على اللّه... 304
ما للعلب خلقنا... 305
فضائل... 307
من كان في طاعة اللّه... 307
أحسن ظنك... 307
من فوائد الشكر... 307
من مصاديق التواضع... 308
من آداب المجلس... 308
أورع الناس... 308
نعمة لا يحسد عليها... 308
ص: 454
من وعظ أخاه... 308
كفاك أدباً... 308
من ثمرات الورع... 309
نفع الأخوان... 309
حب الأبرار... 309
من هو الشاكر؟... 309
خير إخوانك... 309
جمال الباطن... 309
المحبّة... 310
نائل الكريم... 310
كيف تكسب الأصدقاء... 310
الحلم... 310
أهل المعروف... 310
رذائل... 311
من الذنوب التي لا تغفر... 311
كثرة النوم... 311
الضحك بلا سبب... 311
اتقوا اللّه في النبيذ... 311
الجار السوء... 312
لا تمازح... 312
الغضب... 312
أقل الناس راحة... 312
من أسباب العقوق... 312
ليس من الأدب... 313
رغبة تذله... 313
ذو الوجهين واللسانين... 313
ص: 455
مدح غير المستحق... 313
أضعف الأعداء... 313
ركوب الباطل... 313
مفتاح الخبائث... 313
كرامات... 314
إخباره (عليه السلام) بما أخذوه... 314
فقد كفيته... 314
يخرج من الحبس... 314
مدّ اللّه في عمرك... 315
الوقوع في البئر... 315
إنّها قصيرة العمر... 315
لا تشك أخاك... 316
إسلام النصراني... 317
من الأبحر السبعة... 317
لن ترى إلاّ خيراً... 318
حينما يمرّ القلم على القرطاس... 318
كم هذا الشك؟... 319
وجدت المسيح (عليه السلام) ... 320
رحم اللّه الفضل... 321
ائتنا بثوب العجوز... 322
اللّه يقضيه... 323
فإنّك ملاق اللّه... 324
كفّن هذا 325
لا تموت حتى تكفر... 326
يأتيكم الفرج... 326
لم أر قطّ مثله... 326
ص: 456
ما رأيت أسدى منه... 329
ما للناس والدخول في أمرنا... 329
الشفاء ببركته (عليه السلام) ... 329
السلطان الأعظم... 330
قد عوفي ابنك... 330
يا غلام اسقه... 330
انه رادّ عليك مالك... 331
قصة الجاثليق والاستسقاء... 331
مع أخيك... 332
ترزق ولداً... 332
انفق هذا على المولود... 333
خرجتَ إلى الجبل... 333
سأوافيكم في ذلك اليوم... 334
ماتت جاريتك... 335
لكل أجل كتاب... 336
أغفاري أنت؟... 336
من مخاريق الإمامة... 337
رزقك اللّه ذكراناً... 337
الدعاء على الطاغي... 337
أردتَ فضة... 338
رحم اللّه ابنك... 338
عظّم اللّه أجرك... 338
أبشر بالفرج... 339
ما أغفلك... 339
معرفة الحيوان... 339
إيّاك والتمتّع بها... 340
ص: 457
مات ابن عمّك... 341
خذها واعذرنا... 342
لا خوف عليكم... 342
تكفونهم إن شاء اللّه... 342
تصلّي الظهر اليوم في منزلك... 343
دفنتَ مائتي دينار... 343
الزم بيتك... 343
استبدل به قبل المساء... 344
يقتل في اليوم السادس... 345
سيأتيكم الفرج... 345
سمّه جعفراً... 345
فتنة تخصّك... 346
بعد ثلاث... 346
فتنة تظلّكم... 346
الطبع على الحصاة... 346
نعم الاسم... 347
العلم بالموت... 347
أصبرك عليه... 348
مدّ اللّه بعمرك... 348
هذه الصرّة توصلك إلى أبيك... 349
عظم اللّه أجرك في بناتك... 349
التبسّم الجيد... 350
قد فعل اللّه ذلك... 351
النصارى أعرف بحقّنا 351
اشتر بهذه جارية... 352
تكفون ما سمعتموه... 353
ص: 458
عبادات وأدعية... 353
الوصول إلى اللّه... 353
ما هي العبادة؟... 353
الصلوات على النبي والأئمة (عليهم السلام) ... 353
الصلاة على أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 354
الصلاة على السيدة فاطمة (عليها السلام) ... 355
الصلاة على الحسن والحسين (عليه السلام) ... 355
الصلاة على علي بن الحسين (عليه السلام) ... 356
الصلاة على محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ... 357
الصلاة على جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ... 357
الصلاة على موسى بن جعفر (عليه السلام) ... 357
الصلاة على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ... 358
الصلاة على محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ... 358
الصلاة على علي بن محمد النقي (عليه السلام) ... 358
الصلاة على الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) ... 359
الصلاة على وليّ الأمر المنتظر الحجّة بن الحسن (عليه السلام) ... 359
من صلاته (عليه السلام) ... 360
صلاة في يوم الأحد... 360
صلاة في يوم الثلاثاء... 360
صلاة في يوم الأربعاء... 360
صلاة في يوم الخميس... 361
دعاء بين كل ركعتين من نوافل شهر رمضان... 361
من فلسفة الصوم... 361
من صام عشرة رمضانات متوالية... 361
رقعة من السجن إلى مشهد الحسين بن علي (عليه السلام) ... 362
من دعائه (عليه السلام) ... 364
ص: 459
دعاء الشروع في الحاجة... 365
الأقرب إلى اسم اللّه الأعظم... 365
ادع بهذا الدعاء... 366
ليلة القدر... 366
رحم اللّه والدك... 367
رحم اللّه والدتك... 367
دعاؤه (عليه السلام) في كل صباح... 367
دعاء يوم الثالث من شعبان... 369
من دعائه (عليه السلام) في القنوت... 371
ومن دعائه (عليه السلام) في قنوته... 372
اُقنت عليهم... 378
حرز الإمام العسكري (عليه السلام) ... 379
حرز آخر له (عليه السلام) ... 380
أحكام... 380
من تعدّى في طهوره... 380
ماء الغسل والوضوء... 380
لا تجب المضمضة والاستنشاق... 381
عرق الجُنب... 381
دم البق... 381
غسل الميّت... 381
الصلاة في القرمز... 382
اجمع بين الصلاتين... 382
الصلاة في الحرير... 382
الصلاة في الابريسم... 382
الصلاة في وبر الحيوان... 383
الصلاة في القز... 383
ص: 460
وقت صلاة الليل... 383
فأرة مسك... 383
ما يستحب للمسافر... 384
من نوافل شهر رمضان... 384
متى يكون أول شهر رمضان؟... 384
من فلسفة الصوم... 385
من يقضي الصوم؟... 386
مصرف زكاة الفطرة... 386
ممّا يجب فيه الخمس... 386
إذا لم يكف المبلغ للحج... 387
حجّتين في حجّة... 387
من أحكام الحج... 387
ليس هذا من الربا 388
إذا تغيّرت الأسعار... 388
لا خير في شيء أصله حرام... 388
الدين واختلاف الأسعار... 389
لا يتعدّى الحق... 389
إذا ابتاع الأرض بحدودها 389
بيع ما ليس يملك... 390
لا يضارّ أخاه المؤمن... 390
من مصاديق قاعدة لاضرر... 391
إذا آجر نفسه بشيء معروف... 391
ليس له إلا ما اشتراه... 391
ما أحاط الشراء به... 391
هو ضامن... 392
خروج المرأة للعمل... 392
ص: 461
من أحكام الرضاع... 392
من أحكام المرأة في العدّة... 393
من أحكام الوديعة... 393
كفّارة الحنث... 393
الوقوف على ما وقفها أهلها... 394
من أحكام الوقف... 394
من أحكام اللقطة... 394
لا شهادة إلا بالحقّ... 395
يشهدون على شيء معروف... 395
تتنقّب وتظهر للشهود... 395
جواز الشهادة... 396
لا تشهد... 396
تنفيذ الوصيّة كما هي... 396
من أحكام الوصايا... 397
الوصيّة للإمام (عليه السلام) ... 397
لا يدخلون في الوصيّة... 398
يجوز للوصي ذلك... 398
شهادة الوصي... 398
قضاء دين الميّت... 399
الوصيّة إلى رجلين... 399
من أوصى لمواليه... 399
ينفذون وصيّة أبيهم... 400
وصي الوصي... 400
من أحكام الإرث... 400
الميراث للأقرب... 400
ما بال المرأة تأخذ سهما؟... 401
ص: 462
من موارد التقية... 401
الختان... 401
متفرّقات... 402
لا تناقض في القرآن... 402
لا للفلسفة والتصوّف... 403
الدنيا والمؤمن... 404
فليتقّوا اللّه وليراقبوا... 404
إنّ شأن الملائكة لعظيم... 404
من آداب النوم... 406
الناس طبقات شتّى... 407
من سأل آية أو دليلاً... 408
الموت... 409
حتى يجيء جعفر... 409
الدال على الخير كفاعله... 410
تفترق شيعتي... 411
صحّة وكالة إبراهيم بن عبده... 411
العمري ثقتي... 411
العمري وابنه... 412
في مدح العمري... 412
فإنّك الوكيل والثقة المأمون... 412
اقرأ كتابنا... 413
أغبط أهل خراسان... 413
أعطاه اللّه بكل حرف نورا... 413
اعملوا به... 414
كتابه إلى علي بن بلال... 414
لا يسلمنّ عليّ أحد... 414
ص: 463
إننا ببلد سوء... 415
خذوا بما رووا وذروا ما رأوا... 415
أبرء إلى اللّه من فلان وفلان... 416
لا رحمه اللّه... 416
يرحمك اللّه... 417
قتله اللّه... 419
من إرشاداته الطبيّة... 420
من فوائد الحجامة... 420
خاتمة: في زياراته (عليه السلام) ... 421
الزيارة الأولى للإمام العسكري (عليه السلام) ... 423
الزيارة الثانية للإمام العسكري (عليه السلام) ... 424
الزيارة الثالثة للإمامين العسكريين (عليهما السلام) ... 429
الزيارة الرابعة للإمامين العسكريين (عليهما السلام) ... 435
زيارة الوداع... 436
زيارته (عليه السلام) في يوم الخميس... 438
فهرس المحتويات... 439
ص: 464
أحاديث ومعجزات المعصومين
نبذة عن حياة المعصومين عليهم السلام
الجزء الثاني
والدة آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
ص: 1
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
أمّا بعد: فهذا مختصر في أحوال المعصومين الأربعة عشر (عليهم أفضل الصلاة والسلام) بدءً من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وانتهاءً بالإمام المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
أسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفقنا للإقتداء بهم والإهتداء بنورهم وأن ينفع بهذا الكتاب إنه سميع الدعاء.
قم المقدسة
والدة السيد محمدرضا الحسيني الشيرازي
ص: 5
ص: 6
ص: 7
ص: 8
الاسم: محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .
الألقاب: حبيب اللّه، صفي اللّه، عبد اللّه، خاتم النبيين، إلى غيرها من الألقاب الكثيرة (1).
ص: 9
الكنية: أبو القاسم، وأبو الطاهر، وأبو الطيّب، وأبو المساكين، وأبو الدرّتين، وأبو الريحانتين، وأبو السبطين، وفي التوراة: أبو الأرامل، وكنّاه جبرئيل (عليه السلام) بأبي إبراهيم(1).
الأب: عبد اللّه.
الأم: آمنة بنت وهب.
الأجداد: عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر، ابن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن الياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن
ص: 10
عدنان. روي أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا»(1). وكلّهم كانوا مؤمنين باللّه عزّوجلّ، وهكذا جدّاته (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى آدم وحواء (عليهما السلام) .
محل الولادة: داره المباركة بمكة المكرمة.
زمان الولادة: عند طلوع الفجر من يوم الجمعة 17 ربيع الأول بعد قدوم الفيل بشهرين وستة أيام (2).
المرضعة: ثويبة عتيقة أبي لهب، ثم حليمة السعدية(3).
بعض المعاجز التي حدثت عند ولادته: حُجب إبليس والشياطين عن السماوات السبع، سقوط جميع الأصنام على وجهها، وارتجس أيوان كسرى وانشق من وسطه وسقطت منه أربعة عشر شُرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف سنة، ورأى المؤبذان في تلك الليلة في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً حتى عبرت دجلة وانسربت في بلادهم، وانفصم طاق كسرى من وسطه وانخرقت عليه دجلة العوراء، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً والملك مخرساً لا يتكلّم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها (4).
ص: 11
بعض الأوصاف: كان (صلی الله عليه وآله وسلم) وسيماً جميلاً عدلاً سوياً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب، واسع الجبين، له نور يعلوه، قيل لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : صف لنا نبينا (صلی الله عليه وآله وسلم) كأننا نراه، فإنّا مشتاقون إليه، فقال (عليه السلام) : «كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أبيض اللون مشرباً بحمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، كثّ اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة، كأنما عنقه إبريق فضة، يجري في تراقيه الذهب، له شعر من لبتّه إلى سرّته كقضيب خيط إلى السرّة، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن(1) الكفّين والقدمين، شثن الكعبين، إذا مشى كأنّما ينقلع من صخر، إذا أقبل كأنّما ينحدر من صبب، إذا التفت التفت جميعاً بأجمعه كلّه، ليس بالقصير المتردّد، وبالطويل الممعّط، وكان في وجهه تداوير، إذا كان في الناس غمرهم، كأنّما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرقه أطيب من ريح المسك، ليس بالعاجز وباللئيم، أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة، وأجودهم كفّاً، من خالطه بمعرفة أحبه، ومن رآه بديهه هابه، غرة بين عينيه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى اللّه عليه وآله وسلم تسليما»(2).
البعثة النبوية: يوم الاثنين 27 رجب، بعد أربعين سنة من مولده الشريف وقد تكامل واشتدت قواه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
الزوجات: خديجة (عليها السلام) ولم يتزوّج عليها في حياتها (عليها السلام) بأخرى، ثم تزوّج
ص: 12
بعدها بأم سلمة، ومارية القبطية، وأمّ حبيبة، وعائشة، وحفصة وغيرها.
وفي (إعلام الورى) ذكر أزواجه (صلی الله عليه وآله وسلم) كالتالي:
الأولى: خديجة بنت خويلد.
الثانية: سودة بنت زمعة.
الثالثة: عائشة بنت أبي بكر.
الرابعة: أمّ شريك، وأسمها غزية بنت دودان.
الخامسة: حفصة بنت عمر.
السادسة: أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وأسمها رملة.
السابعة: أمّ سلمة، وهي بنت عمّته عاتكة بنت عبد المطلب، وقيل: هي عاتكة بنت عامر بن ربيعة من بني فراث بن غنم.
الثامنة: زينب بنت جحش.
التاسعة: زينب بنت خزيمة الهلالية.
العاشرة: ميمونة بنت الحارث.
الحادية عشرة: جويرية بنت الحارث من بني المصطلق.
الثانية عشرة: صفية بنت حي بن أخطب النضري.
وقد تزوّج (صلی الله عليه وآله وسلم) عالية بنت ضبيان وطلقّها حين أُدخلت عليه.
وقد تزوّج قتيلة بنت قيس أُخت الأشعث، فمات (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل أن يدخل بها وقيل: إنه (صلی الله عليه وآله وسلم) طلقّها.
وتزوّج فاطمة بنت الضحّاك وخيّرها حيث نزلت آية التخيير، فاختارت الدنيا وفارقها، وتزوّج (صلی الله عليه وآله وسلم) سني بنت الصلت فماتت قبل أن تدخل عليه، وتزوّج (صلی الله عليه وآله وسلم) أسماء بنت النعمان وطلقّها ولم يدخل بها، وتزوّج (صلی الله عليه وآله وسلم)
ص: 13
مليكة الليثية وسرّحها ومتّعها، وتزوّج (صلی الله عليه وآله وسلم) عمرة بنت يزيد وردّها، وتزوّج (صلی الله عليه وآله وسلم) ليلى بنت الخطيم وأقالها، ومات (صلی الله عليه وآله وسلم) عن عشر، واحدة لم يدخل بها، وقيل: عن تسع(1).
الأولاد: القاسم، عبد اللّه، إبراهيم، أمّ كلثوم، رقية، زينب، فاطمة، وكلّهم من خديجة، وإبراهيم من مارية القبطية(2).
مدة العمر الشريف: 63 سنة.
تاريخ الوفاة: يوم الاثنين 28 صفر سنة 11 هجرية.
مكان الوفاة: في بيت فاطمة (عليها السلام) بالمدينة المنوّرة.
المدفن: في داره (صلی الله عليه وآله وسلم) بالمدينة المنوّرة وهو اليوم في المسجد النبوي الشريف.
غسّله وكفّنه ودفنه: الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) .
خليفته ووصيه والإمام من بعده: علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم السجاد، ثم الباقر، ثم الصادق، ثم الكاظم، ثم الرضا، ثم الجواد، ثم الهادي، ثم العسكري، ثم المهدي المنتظر (صلوات اللّه عليهم أجمعين).
لم تبرز على طول التاريخ شخصية مثل شخصية النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ وذلك أولاً لما شرّفه اللّه عزّوجلّ حيث اختاره من بين الخلق أجمعين وجعله سيد أنبيائه والمرسلين وأشرف المخلوقين من الأولين والآخرين.
ص: 14
وثانياً، لما قام به النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) من تغييرات جذرية في التاريخ الإنساني، وقد اعتبر أحد الكتّاب الغربيين في كتابه (الخالدون المائة) الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) في المرتبة الأولى من عظماء التاريخ البشري، كما واعتبره أعظم شخصية في تاريخ العالم بما حقّقه من نجاح عظيم في إبلاغ رسالته وتأسيسه لدولة إسلامية كبيرة، وحضارة عريقة ظلّت تغذّي العالم بالعلم والمعرفة والعطاء لقرون عديدة، بل وستبقى خالدة إلى يوم يبعثون.
يقول الدكتور (مايكل هارث) أستاذ الرياضيات والفلك والفيزياء في الجامعات الأمريكية وخبير هيئة الفضاء الأمريكية:
«لقد اخترت محمداً أول هذه القائمة.. ولابد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار ومعهم حق في ذلك.. ولكن محمد هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي.. وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً وبعد 13 قرناً من وفاته، فإنّ أثر محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ما يزال قوياً متجدداً»(1).
من الأسس التي قامت عليها حركة الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) وانطلقت عبرها نحو النجاح، هي الأخلاق الرفيعة التي تمثّلت في شخصية رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، حتى أثنى اللّه عزوجل على أخلاقه في القرآن الكريم، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(2).
ص: 15
وكان (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول في دعائه: «اللّهم حسّن خُلقي»(1).
ويقول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «اللّهم جنبني منكرات الأخلاق»(2).
فاستجاب اللّه تعالى دعاءه وأنزل عليه القرآن وأدَّبه به، فكان خُلقه القرآن، كما ورد في الروايات.
قال سعد بن هشام: دخلت على عائشة فسألتها عن أخلاق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟
فقالت: أما تقرأ القرآن.
قلت: بلى.
قالت: كان خلق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) القرآن (3).
نعم، إنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أُدّب بالقرآن وأدّب الخلق به، ومن هنا قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق»(4).
ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيء.
فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه... خلّوا عنها، فإنّ أباها كان يحب مكارم الأخلاق وإنّ اللّه يحب مكارم الأخلاق.
فقام أبو بردة بن دينار، فقال: يا رسول اللّه، اللّه يحب مكارم الأخلاق؟
فقال: والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا حسن الأخلاق» (1).
ومن سجايا أخلاقه (صلی الله عليه وآله وسلم) العظيمة: التواضع في كل شيء حتى إنّ فراشه كان من أشمال وادي القرى محشوّاً وبراً، وقيل: كان طوله ذراعين أو نحوهما وعرضه ذراع وشبر(2).
وإنه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يتخذ مضجعاً، إن فرشوا له اضطجع، وإن لم يفرش له اضطجع على الأرض.
وروي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير(3).
وقد وصف اللّه تعالى خاتم أنبيائه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) في الكتب السماوية قبل أن يبعثه، ففي التوراة في السفر الأول قال: أحمد عبدي المختار، لا فظّ ولا
ص: 17
غليظ، ولا صخّاب(1) في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته طيبة، وملكه بالشام(2) يأتزر على وسطه، هو ومن معه وعاة للقرآن والعلم، يتوضّأ على أطرافه.
وكذلك نعته في الإنجيل، فعن سهل مولى عتيبة: إنه كان نصرانياً من أهل مريس(3) وكان يقرأ الإنجيل، قال: فأخذت مصحفاً لعمّي فقرأته حتى مرّت بي ورقة فأنكرت كتابتها حين مرّت بي ومسستها بيدي، قال: فنظرت فإذا فصول الورقة ملصق بغراء - أي كانت ملصقة بما قبلها بمادة صمغية - قال: ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) : أنه لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرين، بين كتفيه خاتم، يكثر الإحتباء(4)، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصاً مرقوعاً، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد(5).
نعم كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حسن الخُلق حتى مع أعدائه، وكم من المشركين والكفار أسلموا لما رأوه من عظيم خلقه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
ففي حرب جاء رجل من المشركين حتى قام على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟
ص: 18
فقال: «اللّه»، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) السيف وقال: «من يمنعك مني»؟
فقال: كن خير آخذ.
قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «قل: أشهد أن لا إله إلا اللّه».
فقال الأعرابي: لا أقاتلك ولا أكون معك ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
فخلّى (صلی الله عليه وآله وسلم) سبيله.
فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس(1).
روى أنس: أن يهودية أتت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بشاة مسمومة ليأكل منها فيموت، فجيء بها إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فسألها عن ذلك؟
فقالت: أردت لأقتلك.
فقال: «ما كان اللّه يسلطك على ذاك».
قالوا: ألا تقتلها.
قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لا»(2).
وقد آذى المشركون رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بشتى أنواع الأذية، فقابلهم (صلی الله عليه وآله وسلم) بالعطف والحنان، فلم يدعُ عليهم بنزول العذاب، بل أخذ يستغفر لهم ويدعو لهم بالرحمة ويقول: «اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»(3).
ص: 19
فإنّ المشركين كانوا يحضّون سفهاءهم لإلقاء التراب على وجهه ورأسه (صلی الله عليه وآله وسلم) . وإنهم كانوا يطرحون الفرث والدم والشوك على بابه وربما على رأسه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
وإنّ أميّة بن خلف تجاوز على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في وجهه، فاحمر وجه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم يقل شيئاً.
وقد كثر تعدّيهم وإيذائهم لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ما أُوذي نبي مثل ما أُوذيت»(1).
ولكنه (صلی الله عليه وآله وسلم) عفا عن جميعهم وصفح، وقال لهم جميعاً حينما دخل مكة منتصراً: «اذهبوا فأنتم الطُلقاء»(2).
وهل هناك في التأريخ قائد بهذه العظمة وبهذا الخلق السامي غير رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟
المرأة في المجتمع الجاهلي لم يكن لها أيّ احترام وتقدير، بل كان يتعامل معها كما يتعامل مع الدواب أو أقل شأناً، فلا حقوق للنساء ولا قيمة لهن عند الجاهليين.
وخلاصة القول: إنّ كلمة المرأة كانت تعني الذليلة، الحقيرة، حتى إنهم كانوا يئدونها وهي حيّة، فقال تعالى: {وَإِذَا ٱلْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(3).
ص: 20
في هكذا مجتمع بعث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأمر بإكرام المرأة واحترامها، وكان هو (صلی الله عليه وآله وسلم) خير أسوة حسنة في ذلك، فكان تعامله (صلی الله عليه وآله وسلم) مع نسائه وبناته وغيرهن من النساء كأخته الرضاعية، في غاية اللطف والمحبة والتقدير، حتى روي عن أنس أنه قال: «ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1).
ولم يحدّثنا التاريخ قط أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ضرب يوماً ما زوجته أو شتمها أو صاح في وجهها مع أنّ بعض أزواج النبي كنّ يؤذينه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا يراعين الآداب والأخلاق المناسبة مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى أنزل قول اللّه تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ إِن تَتُوبَا إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمَلَٰئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَٰتٖ مُّؤْمِنَٰتٖ قَٰنِتَٰتٖ تَٰئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَٰئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبْكَارًا}(2).
فكان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يعفو ويصفح ويبتسم ويغض الطرف..
وفي يوم من الأيام جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهي خولة بنت حكيم السلمي - على بعض الروايات - ووهبت نفسها للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر؟
فنزلت الآية المباركة: {وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ...}(3).
ص: 21
فقالت عائشة: ما أرى اللّه إلا يسارع في هواك!
فقال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بكل أخلاق وعفو وصفح: «إنّك إن أطعت اللّه سارع في هواك»(1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عند عائشة ذات ليلة، فقام يتنفّل، فاستيقظت عائشة فضربت بيدها فلم تجده، فظنّت أنه قد قام إلى جاريتها، فقامت تطوف عليه، فوطئت على عنقه و هو ساجد باك يقول: سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء إليك بالنعم، وأعترف لك بالذنب العظيم، عملت سوءً وظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إنه لا يغفر الذنب العظيم إلا أنت، أعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ برحمتك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا أبلغ مدحك والثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، أستغفرك وأتوب إليك، فلما انصرف قال: يا عائشة لقد أوجعت عنقي، أيّ شي ء خشيت أن أقوم إلى جاريتك»(2).
وهكذا في عشرات الموارد التاريخية التي يتجلى فيها عظيم أخلاقه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع زوجاته، بل ومع كل امرأة، ويتضح شديد احترامه للمرأة وتقديره لها.
وببركة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أخذت المرأة مكانتها في المجتمع آنذاك، ووصلت إلى ما وصلت إليه من مراحل عالية في مختلف ميادين الحياة مع رعاية الموازين الشرعية.
ص: 22
وفي يومنا هذا نرى الغرب قد جعل من المرأة سلعة اقتصادية ودعائية فحسب، فحطّ من كرامتها وعزّتها، فصارت المرأة تعاني من مشاكل كثيرة لم تر مثلها طيلة التاريخ، ولا حلّ لها إلا بالرجوع إلى التعاليم الإسلامية التي سنّها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بأقواله وأفعاله الحكيمة تجاه المرأة.
كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في قمّة الأخلاق عند ما يتعامل مع أصحابه، فإنّ الإنسان الخلوق مع أعدائه يكون ذا خلق سام مع أصدقائه وأصحابه بطريق أولى.
وقد وصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بقوله: «كان أجود الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمّة، وألينهم عريكة(1)،
وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله (صلی الله عليه وآله وسلم) »(2).
وينقل الإمام الحسن (عليه السلام) عن الإمام الحسين (عليه السلام) في حديث له، قال: سألت أبي عن سيرته (صلی الله عليه وآله وسلم) في جلسائه، فقال (عليه السلام) : «كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) دائم البُشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّاب، ولا مدَّاح، يتغافل عمّا لايشتهي، فلا يؤيس منه، ولا يخيب فيه مؤمّليه»(3).
ص: 23
وهناك روايات كثيرة وردت عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حُسن الأخلاق، نكتفي ببيان بعضها رعاية للإختصار:
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه تعالى حفّ الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال»(1).
وعن معاذ قال: أوصاني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال: «وأوصيك بتقوى اللّه، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ولين الكلام، وبذل السلام، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، وحُسن العمل، وقصر الأمل، وحُب الآخرة، والجزع من الحساب، ولزوم الإيمان، والفقه في القرآن، وكظم الغيظ، وخفض الجناح، وإياك أن تشتم مسلماً، أو تطيع آثماً، أو تعصي إماماً عادلاً، أو تكذّب صادقاً، أو تصدّق كاذباً، واذكر ربك عند كل شجر وحجر، وأحدث لكل ذنب توبة، السر بالسر والعلانية بالعلانية»(2).
قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «لما أراد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يتزوج خديجة بنت خويلد (عليها السلام) أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش، حتى دخل على ورقة ابن نوفل عم خديجة، فابتدأ أبو طالب بالكلام، فقال: الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا
ص: 24
الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إنّ ابن أخي هذا - يعني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) - ممّن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلّاً في المال، فإنّ المال رفد(1) جار وظل زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله ورب هذا البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل.
ثم سكت أبو طالب (عليه السلام) ، وتكلّم عمّها وتلجلج(2) وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر، وكان رجلاً من القسيسين، فقالت خديجة مبتدئة: يا عمّاه إنك وإن كنت أولى بنفسي منّي في الشهود، فلست أولى بي من نفسي، قد زوّجتك يا محمد نفسي والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمّك فلينحر ناقة فليوالم بها وأدخل على أهلك.
قال أبو طالب: أشهدوا عليها بقبولها محمداً وضمانها المهر في مالها.
فقال بعض قريش: يا عجباه المهر على النساء للرجال!.
فغضب أبو طالب (عليه السلام) غضباً شديداً وقام على قدميه وكان ممّن يهابه الرجال ويكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوّجوا إلا بالمهر الغالي.
ونحر أبو طالب ناقة، ودخل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بأهله.
فقال رجل من قريش يقال له عبد اللّه بن غنم:
ص: 25
هنيئاً مريئاً يا خديجة قد جرت***لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجته خير البرية كلّها***ومن ذا الذي في الناس مثل محمد محمد
وبشّر به البرَّان عيسى ابن مريم***وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرت به الكتّاب قدماً بأنّه***رسول من البطحاء هاد ومهتد»(1)
بعث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) نبياً إلى البشرية في يوم الاثنين 27 من شهر رجب، بعد أربعين سنة من مولده الشريف في غار حراء، حيث نزل عليه جبرائيل وقال له: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ}(2) وأبلغه بأنه قد بعث من قبل رب العالمين بالدين الإسلامي وأنه خاتم الأنبياء وأنّ الإسلام خاتم الأديان.
وفي الحديث عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) أنه قال: «فلما استكمل أربعين سنة ونظر اللّه عزّوجلّ إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها، أذن لأبواب السماء ففتحت، ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا، ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأُنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور طاووس الملائكة هبط إليه،وأخذ بضبعه(3) وهزّه، وقال: يا محمد اقرأ.
قال: وما أقرأ؟
ص: 26
قال: يا محمد {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ * ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلْأَكْرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(1).
ثم أوحى إليه ربه عزّ وجلّ»(2).
من علائم النبوة المعجزات، حيث إنّ اللّه عزّوجلّ يمنح رسله المعاجز، حتى يتبيّن للناس صدقهم، فمن معاجز النبي موسى (عليه السلام) كانت العصا، ومن معاجز النبي عيسى (عليه السلام) كان شفاؤه للأكمه والأبرص وإحيائه للموتى بإذن اللّه.
أمّا معاجز نبي الإسلام محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فهي كثيرة جداً، حتى ذكر ابن شهر آشوب أنّه كانت للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أربعة آلاف وأربعمائة وأربعين معجزة.
وقد كان له (صلی الله عليه وآله وسلم) معاجز جميع الأنبياء (عليهم السلام) إضافة إلى معاجزه الخاصة التي لم تكن لغيره من الأنبياء والمرسلين (صلوات اللّه عليهم أجمعين)(3).
إنّ أقوى وأبقى معجزة من معاجزه (صلی الله عليه وآله وسلم) هو القرآن الكريم، الذي عجزت الجن والإنس أن يأتوا حتى بجزء سورة من مثله.
وقد عجز بلغاء العرب وفصحاؤها عن ذلك، واعترفوا بهذا العجز والانكسار، بعد أن حاولوا كراراً ومراراً بإتيان مثله، ولا يخفى أنّهم كانوا سادة البلاغة بحيث لم يتفوّق على بلاغتهم أحد، وكانوا يعلقون أشعارهم
ص: 27
وقصائدهم البليغة على الكعبة ويتفاخرون بها(1) ولكن مع ذلك باءت محاولاتهم بالفشل؛ لأنّ القرآن لم يكن كلام البشر حتى يتمكنوا من الإتيان بمثله بل هو كلام اللّه عزّوجلّ.
روى أكثر المفسرين في قوله تعالى: {ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ}(2)، أنه بعدما طلب مشركوا قريش في مكة من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) معجزة أشار النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى القمر فانشق فلقتين، وفي رواية: أنها كانت في ليلة الرابع عشر من ذي الحجّة.
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «اجتمع أربعة عشر رجلاً من أصحاب العقبة ليلة أربع عشرة من ذي الحجة، فقالوا للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : ما من نبي إلا وله آية، فما آيتك في ليلتك هذه؟
فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : ما الذي تريدون؟
فقالوا: إن يكن لك عند ربك قدر فأمر القمر أن ينقطع قطعتين.
فهبط جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا محمد، إنّ اللّه يُقرئك السلام ويقول لك: إنّي قد أمرت كل شيء بطاعتك.
فرفع رأسه، فأمر القمر أن ينقطع قطعتين فانقطع قطعتين، وسجد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) شكراً لله وسجد شيعتنا...» الحديث(3).
ص: 28
عن أسماء بنت عميس، قالت: إنّ علياً (عليه السلام) بعثه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حاجة في غزوة حنين، وقد صلّى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) العصر ولم يصلّها علي (عليه السلام) .
فلما رجع وضع (صلی الله عليه وآله وسلم) رأسه في حجر علي (عليه السلام) وقد أوحي إليه، فجلّله بثوبه ولم يزل كذلك حتى كادت الشمس تغيب، ثم إنه سري عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال: «أصلّيت يا علي».
فقال: «لا».
قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «اللّهم ردّ على علي الشمس».
فرجعت حتى بلغت نصف المسجد، قالت أسماء: وذلك بالصهباء(1)(2).
ومن معاجزه (صلی الله عليه وآله وسلم) تكلّم الحيوانات معه وشهادتها برسالته (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فقد روي: أنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يمشي في الصحراء، فناداه مناد: يا رسول اللّه، مرّتين.
فالتفت فلم ير أحداً.
ثم ناداه، فالتفت فإذا هو بظبية موثقة.
فقالت: إنّ هذا الأعرابي صادني ولي خشفان(3) في ذلك الجبل، أطلقني حتى أذهب وأرضعهما وأرجع.
ص: 29
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «وتفعلين»؟
قالت: نعم إن لم أفعل عذّبني اللّه عذاب العشّار.
فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت فأوثقها.
فجاء الأعرابي، فقال: يا رسول اللّه أطلقها.
فأطلقها (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فخرجت تعدو وتقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه(1).
عن ابن عباس قال: دخل أبو سفيان على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يوماً فقال: يا رسول اللّه، أريد أن أسألك عن شيء.
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن شئت أخبرتك قبل أن تسألني؟».
قال: افعل.
قال: «أردت أن تسأل عن مبلغ عمري».
فقال: نعم يا رسول اللّه.
فقال: «إني أعيش ثلاثاً وستين سنة».
فقال: أشهد إنك صادق.
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «بلسانك دون قلبك»(2).
وهناك المئات من المعاجز التي ذكرها التاريخ لنا ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب (مدينة المعاجز) (3) وقد اكتفينا بهذا المقدار تيمناً وتبركاً.
ص: 30
لقد أسري برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليلاً بجسده الشريف وفي حال اليقظة من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، والتقى هناك بالأنبياء (عليهم السلام) وصلى بهم إماماً، ثم أسري به من بيت المقدس إلى مسجد الكوفة ثم عرج بشخصه بصحبة جبرئيل إلى السماوات، فرأى مكتوباً على باب كل سماء، وعلى كل حجاب من حجب النور، وعلى كل ركن من أركان العرش: «لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين».
فلما بلغ سماء الدنيا رأى آدم (عليه السلام) فرحب آدم به (صلی الله عليه وآله وسلم) وأقر بنبوته وولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثم عرج به إلى السماء الثانية والثالثة إلى السابعة ولقي فيها الأنبياء (عليهم السلام) وكلهم يرحب به ويسلم عليه ويقر بنبوّته وولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثم رفع إلى سدرة المنتهى ورأى فيها بخط من نور: استوص بعلي خيراً؛ فإنه سيد المسلمين، وإمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجلين.
ثم دنا (صلی الله عليه وآله وسلم) من ربّه، أي من ملكوت ربّه، لأنّ اللّه ليس بجسم وليس له مكان، فناجاه ربّه، فكان مما ناجاه به: «بك وبعلي وبالأئمة من ولده أرحم عبادي وإمائي، وبالقائم منكم أعمر أرضي»(1).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «عُرج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) مائة وعشرين مرّة، ما من مرة إلا وقد أوصى اللّه عزّ وجلّ فيها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بالولاية لعلي والأئمة (عليهم السلام) أكثر ممّا أوصاه بالفرائض»(2).
ص: 31
بعض غزوات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) (1)
في السنة الثانية من الهجرة خرج تسعمائة وخمسون رجلاً من مشركي قريش من مكة لقتال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، حاملين أدوات الطرب ومصطحبين النساء المغنيّات للهو واللعب. وخرج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه من المدينة إلى أن وصلوا إلى أرض بدر، وبدأت الحرب أوزارها بعد أن بعث إليهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من ينصحهم ويدعوهم إلى الإسلام، ولكنهم أبوا إلا أن يحاربوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فوقع الحرب بينهم، وكان الإمام علي (عليه السلام) يهجم على القوم كالليث الغضبان، حتى قتل منهم ستة وثلاثين رجلاً، وقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «لقد تعجبت يوم بدر من جرأة القوم وقد قتلت الوليد بن عتبة، إذ أقبل حنظلة بن أبي سفيان فلما دنا منّي ضربته ضربة بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض قتيلاً»(2).
وقُتل من المشركين في معركة بدر سبعون رجلاً من أبطالهم، وانهزم جيش المشركين بفضل اللّه تعالى.
أُحد: هو جبل معروف بالقرب من المدينة المنورة، كان يبعد عنها فرسخاً واحداً، وقد هجم كفار مكة على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لينتقموا من قتلاهم في بدر ويقتلوا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمين كافة، فبدأ القتال وبان
ص: 32
الانكسار على المشركين، ولكن بعض المسلمين خالفوا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما أمرهم به، فاستغلّها الكفار وهجموا ثانية على المسلمين فقتلوا الكثير منهم، حيث استشهد في هذه الغزوة سبعون رجلاً من أصحاب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفرّ الكثير من المسلمين، وبقي مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الخلّص الأوفياء وعلى رأسهم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى هتف جبرائيل: «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي »(1).
وكان من الشهداء حمزة عم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) سيد الشهداء، وجاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) على جسده، فلما رأى ما فعل به حزن حزناً شديداً وبكى عليه، فلما رجع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة كان يسمع بكاء النوائح على قتلاهن، فترقرقت عيناه وبكى ثم قال: «لكن حمزة لا بواكي له اليوم»، فسمعه جماعة فقالوا لنساء الأنصار: لا تبكيّن امرأة قتيلها حتى تبكي حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) ثم تبكي على قتيلها، فاتُخذت سنّة فإذا مات الميّت منهنّ بدأن البكاء على حمزة ثم بكين على ميّتهن(2).
وفي السنة الخامسة من الهجرة اجتمع المشركون والكفار لقتال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من كل قبيلة وحزب، واتفقوا مع اليهود في محاربة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فخرج أبو سفيان بأربعة آلاف رجل من قبائل أسلم وأشجع وكنانة وفزرة وغطفان، وهكذا كانت القبائل تلتحق بهم إلى أن بلغوا عشرة
ص: 33
آلاف نفراً.
فلما بلغ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تجمّع الأعداء بهذا الكم الهائل لقتاله شاور المسلمين في أمرهم، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، فاستحسن رأيه، وأمر (صلی الله عليه وآله وسلم) بحفر الخندق، فكان كل عشرة رجال يحفرون أربعين ذراعاً..
وكان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بنفسه الشريفة يعمل معهم ويساعدهم ترغيباً لهم، إلى أن كمل حفر الخندق.
فأقام المشركون على الخندق بضعة وعشرين ليلة في تشديد وتضييق على المسلمين حتى عبر عمرو بن عبد ود الخندق وكان شجاعاً يُخاف منه، فأصاب المسلمين الذعر والخوف الشديد إلى أن قتله أمير المؤمنين في قصة مفصلة، وقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حقّ علي (عليه السلام) يومذاك: «ضربة علي يوم الخندق تعدل (أو أفضل من) عبادة الثقلين إلى يوم القيامة»(1).
إنّ من أهم الأُسس التي قامت عليها مسيرة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والتي كان لها الدور الأساسي في نجاحها هو أسلوب السلم واللاعنف، وعدم اللجوء إلى العنف والإرهاب، وهذا الأسلوب هو من معاجزه الكبيرة التي تدل على عظمته وعبقريّته (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فمع كل المواجهات الصعبة والمضايقات التي لاقاها من أعدائه لم يلجأ إلى العنف أبداً، ولم يبدأهم بحرب إطلاقاً، فكانت حروبه دفاعية بأجمعها يدافع فيها عن المسلمين.
فالسلام هو شعار الإسلام، ولذلك يقول اللّه تعالى: {ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ
ص: 34
كَافَّةً}(1)
ولهذا السبب تقدّم الإسلام واستطاع أن يغزو العالم وينشر حضارته وأفكاره في كل بقعة من بقاع الأرض، وبه تحقّق ذلك النجاح التاريخي الكبير.
يقول اللّه تعالى حول استخدام سياسة السلم واللين، والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو، والاعتماد على منهج الشورى، كأسلوب في الإقناع والتفاهم الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ}(2).
ولقد عفا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عن كفار قريش الذين قاتلوه وآذوه وقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(3)، وأمر أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) بأن ينادي: اليوم يوم المرحمة.. اليوم تحفظ الحرمة(4).
وقد أعطاهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حرب حنين الغنائم الكثيرة، وعفا عن وحشي قاتل عمه حمزة، وعن غيره...
وعلى إثر ذلك أخذ الإسلام ينتشر انتشاراً سريعاً بعد أن انبهر الناس بأخلاقيات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعفوه وحلمه وصبره وسلمه.
يقول المستشرق (إميل دير مانجم) في كتابه (حياة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ):
«إنّ محمداً رسول الإسلام قد أبدى في أغلب حياته اعتدالاً لافتاً للنظر،
ص: 35
فقد برهن انتصاره النهائي على عظمة نفسيته قلّ أن يوجد لها مثيل في التاريخ، إذ أمر جنوده بالعفو عن الضعفاء المسنّين والأطفال والنساء، وحذّرهم من أن يهدموا البيوت أو يسلبوا التجار أو يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم أن لا يجرّدوا السيوف إلا في حالة الضرورة القاهرة»(1).
في السنة العاشرة من الهجرة النبوية حج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حجّته الأخيرة المسمّاة بحجّة الوداع، وعند الرجوع من مكة إلى المدينة نزل بغدير خم، وكان سبب نزوله في هذا المكان نزول القرآن بتنصيب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) خليفة في الأمة من بعده، حيث قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ}(2).
فخطب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في الناس وقال في خطبته: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟»
قالوا: اللّهم بلى.
فقال لهم - وقد أخذ بضبعی(3) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فرفعهما حتى بان بياض إبطيهما - : «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».
ص: 36
ثم أمر (صلی الله عليه وآله وسلم) المسلمين أن يهنّئوا علياً (عليه السلام) بخلافته من بعده ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ويبايعوه على ذلك، ففعل الناس كلّهم.
ثم أمر (صلی الله عليه وآله وسلم) جميع النساء بذلك، حيث وُضع طست فيه ماء وكفّ علي (عليه السلام) في الماء فكانت المرأة تأتي وتجعل كفّها في الماء وتبايع علياً (عليه السلام) .
ويذكر المؤرخون: أن من جملة من بايع علياً (عليه السلام) في ذلك اليوم عمر بن الخطاب حيث جاء إليه وقال: (بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة)(1).
وأنشأ حسّان بن ثابت قصيدة في ذلك حيث قال:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم***بخم واسمع بالرسول مناديا
وقال فمن مولاكم ووليكم***فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
إلهك مولانا وأنت وليّنا***ولن تجدنّ منّا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنّني***رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه***فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا: اللّهم وال وليه***وكن للذي عادا علياً معاديا(2)
بعد قصة الغدير بأشهر قليلة، مرض النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كان يوم الاثنين 28 من شهر صفر سنة 11 من الهجرة النبوية التحق بالرفيق الأعلى، وقيل:
ص: 37
سنة 10 من الهجرة(1)، وكان لرسول اللّه 63 سنة، فحينما كان (صلی الله عليه وآله وسلم) في مرض موته نزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: «السلام عليك يا أبا القاسم».
فقال: «وعليك السلام يا جبرئيل، أدن منّي حبيبي جبرئيل».
فدنا منه، فنزل ملك الموت - ودخل على الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بإذن منه (صلی الله عليه وآله وسلم) - فقال له جبرئيل: «يا ملك الموت، احفظ وصيّة اللّه في روح محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) » وكان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وملك الموت آخذ بروحه (صلی الله عليه وآله وسلم) (2).
وروي عن ابن عباس: أنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في ذلك المرض كان يقول: ادعوا إليّ حبيبي، فجعل يُدعى له رجل بعد رجل فيعرض عنه، فقيل لفاطمة: أمضي إلى علي، فما نرى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يريد غير علي، فبعثت فاطمة (عليها السلام) إلى علي (عليه السلام) فلما دخل، فتح رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عينيه، وتهلّل وجهه ثم قال: «إليّ يا علي إليّ يا علي»، فما زال (صلی الله عليه وآله وسلم) يدنيه حتى أخذه بيده وأجلسه عند رأسه ثم أُغمي عليه.
فجاء الحسن والحسين (عليهما السلام) يصيحان ويبكيان، حتى وقعا على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فأراد علي (عليه السلام) أن ينحّيهما عنه، فأفاق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال: «يا علي، دعني أشمُهما ويشمّاني وأتزوّد منهما ويتزوّدان مني، أما إنّهما سيظلمان بعدي ويُقتلان ظلماً، فلعنة اللّه على من يظلمهما» يقول ذلك ثلاثاً.
ثم مدّ (صلی الله عليه وآله وسلم) يده إلى علي (عليه السلام) فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه، ووضع فاه على فيه، وجعل يناجيه مناجاة طويلة، حتى خرجت
ص: 38
روحه الطيبة (صلوات اللّه عليه وآله)، فانسلّ علي (عليه السلام) من تحت ثيابه وقال: «أعظم اللّه أجوركم في نبيّكم، فقد قبضه اللّه إليه».
فارتفعت الأصوات بالضجّة والبكاء.
فقيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : ما الذي ناجاك به رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟
فقال: «علّمني ألف باب يفتح لي من كل باب ألف باب»(1).
ولا يخفى أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فارق الدنيا مسموماً.
فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «سمّت اليهودية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في ذراع. قال: وكان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يحب الذراع والكتف ويكره الورك لقربها من المبال قال: لما أُتي بالشواء أكل من الذراع وكان يحبّها فأكل ما شاء اللّه ثم قال الذراع: يا رسول اللّه إنّي مسموم، فتركه وما زال ينتقض به سمّه حتى مات (صلی الله عليه وآله وسلم) »(2).
وقيل غير ذلك.
فإنا لله وإنا اليه راجعون.
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ما من خطوة أحب إلى اللّه من خطوتين: خطوة يسد بها مؤمن صفّاً في سبيل اللّه، وخطوة يخطوها مؤمن إلى ذي رحم قاطع يصلها، وما من جرعة أحب إلى اللّه من جرعتين: جرعة غيظ يردّها مؤمن
ص: 39
بحلم، وجرعة جزع يردّها مؤمن بصبر، وما من قطرة أحب إلى اللّه من قطرتين: قطرة دم في سبيل اللّه، وقطرة دمع في سواد الليل من خشية اللّه»(1).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «قال عزّوجلّ: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبّهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني»(2).
عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال: «قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : من لم يؤمن بحوضي فلا أورده اللّه حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله اللّه شفاعتي، - ثم قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : - إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل»(3).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «حبّي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط»(4).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة ما لم
ص: 40
يُحدث»، قيل: يا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وما الحدث؟ قال: «الغيبة»(1).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إيّاكم والدَّين فإنّه همّ بالليل وذلّ بالنهار»(2).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الدَّين راية اللّه عزّوجلّ في الأرض، فإذا أراد أن يذلّ عبداً وضعه في عنقه»(3).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الغيبة أشد من الزنا» فقيل: ولم ذاك يا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟ قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «صاحب الزنا يتوب فيتوب اللّه عليه، وصاحب الغيبة يتوب فلا يتوب اللّه عليه، حتى يكون صاحبه الذي يحلّه»(4).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «كثرة المزاح يذهب بماء الوجه، وكثرة الضحك يمحو الإيمان، وكثرة الكذب يذهب بالبهاء»(5).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فإنّي سمعت جبرئيل يقول: إنّ المكر والخديعة في النار.
ص: 41
ثم قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : ليس منّا من غشّ مسلماً وليس منّا من خان مسلماً.
ثم قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : إنّ جبرئيل الروح الأمين نزل عليّ من عند رب العالمين، فقال: يا محمد، عليك بحسن الخُلق، فإنّ سوء الخُلق يذهب بخير الدنيا والآخرة، ألا وإنّ أشبهكم بي أحسنكم خُلقاً»(1).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أربع من سنن المرسلين: العطر والنساء والسواك والحناء»(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت»(3).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «استحيوا من اللّه حق الحياء».
قالوا: وما نفعل يا رسول اللّه؟
قال: «فإن كنتم فاعلين فلا يبيتنّ أحدكم إلا وأجله بين عينيه، وليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر القبر والبلى، ومن أراد الآخرة فليدع زينة الحياة الدنيا»(1).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إذا عملت أمّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء».
قيل: وما هي يا رسول اللّه؟
قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «اتخذوا الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمّه، وبرّ صديقه وجفا أباه، وشرب الخمر ولبس الحرير والديباج، واتخذوا المعازف والقيان(2)،
وأُكرم الرجل مخافة شرّه، وكان زعيم القوم أرذلهم، ولعن آخر هذه الأمة أولها، وارتفعت الأصوات في المساجد فليتوقّعوا خلالاً ثلاثاً ريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً»(3).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «تعلّموا من الغراب خصالاً ثلاثاً: استتاره بالسفاد(4)،
ص: 43
وبكوره في طلب الرزق، وحذره»(1).
ص: 45
ص: 46
الاسم: علي (عليه السلام) .
الألقاب: أمير المؤمنين، وهذا يختص به (عليه السلام) دون غيره. ومنها: يعسوب الدين، والمرتضى، والصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، والولي، والوصي، و...(1).
ص: 47
ص: 48
ص: 49
الكنى: أبو الحسن، أبو الحسين، أبو تراب، أبو الريحانتين، أبو السبطين، أبو شبّر، أبو النورين.
الأب: أبو طالب بن عبد المطلب بن هشام.
الأم: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
الأجداد: عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن نضر، ابن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان. وكلّهم كانوا مؤمنين باللّه عزّوجلّ، وهكذا جدّاته إلى آدم وحواء (عليهما السلام) .
محل الولادة: الكعبة المعظّمة، حيث لم يولد ولن يولد فيه أحد سواه من لدن آدم (عليه السلام) وإلى يوم القيامة(1) وهذه فضيلة خصّه اللّه تعالى بها إجلالاً لمحلّه ومنزلته وإعلاء لقدره.
زمان الولادة: يوم الجمعة 13رجب، بعد ثلاثين سنة من عام الفيل(2)، وقبل البعثة النبوية بعشر سنوات.
مدة عمره الشريف: 63 سنة.
تاريخ استشهاده: ضُرب بالسيف على رأسه في فجر 19/ شهر رمضان/ 40ه- وكان في محراب مسجد الكوفة يصلي إلى ربه، وانتقل إلى رحمة اللّه تعالى في ليلة الجمعة 21 من نفس الشهر.
ص: 50
قاتله: أشقى الأولين والآخرين ابن ملجم المرادي(1).
مدفنه: النجف الأشرف حيث مزاره الآن.
زوجاته: فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولم يتزوّج عليها في حياتها، ومن بعدها تزوج بخولة بنت جعفر بن قيس الحنفية، وأمّ حبيبة، وأمّ البنين بنت حزام الكلابية، وليلى بنت مسعود، وأسماء بنت عميس الخثعمية، وأمّ مسعود، وأمّ سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفية، وأمامة بنت أبي العاص وهي بنت زينب بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وكان يوم قتله (عليه السلام) عنده أربع حرائر في نكاح وهن: أمامة بنت أبي العاص، وليلى بنت مسعود التميمية، وأسماء بنت عميس الخثعمية، وأمّ البنين الكلابية، وأمّهات أولاد ثمانية عشر أمّ ولد(2).
أولاده: من فاطمة الزهراء (عليها السلام) : الحسن والحسين ومحسن وزينب وأمّ كلثوم، وقيل: وسكينة أيضاً(3).
ص: 51
المتولّي لغسله وكفنه ودفنه: كان الإمام الحسن (عليه السلام) يغسله، والإمام الحسين (عليه السلام) يصب الماء عليه، وكان جبرائيل وميكائيل يحملان مقدّم الجنازة والإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) مؤخّرها حتى وصلوا إلى النجف الأشرف ودفنوه في حفرته.
ص: 52
لقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أول من آمن بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من الرجال، وكانت أمّ المؤمنين خديجة أول امرأة آمنت به (صلی الله عليه وآله وسلم) .
وفي الحديث عن سلمان (رحمه الله) عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «أولكم وروداً على الحوض أولكم إسلاماً: علي بن أبي طالب»(1).
وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) : «زوّجتكِ أقدمهم سلماً وأكثرهم علماً»(2).
وروى الشيخ المفيد (رحمه الله) عن يحيى بن عفيف عن أبيه قال: كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب بمكة قبل أن يظهر أمر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فجاء شاب فنظر إلى السماء حين تحلقت الشمس، ثم استقبل الكعبة فقام يصلي، ثم جاء غلام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا، فقلت: يا عباس، أمر عظيم.
فقال العباس: أمر عظيم، أتدري من هذا الشاب؟ هذا محمد بن عبد اللّه ابن أخي.
أتدري من الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب ابن أخي. أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنّ ابن أخي هذا حدّثني: إنّ ربّه ربّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا واللّه ما على ظهر
ص: 53
الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة(1).
وعن أبي ذر الغفاري (رحمه الله) قال: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السلام) : «أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصدّيق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل...»(2).
وقد ورد في الأخبار الكثيرة المعتبرة، المتواترة من طرق الخاصة والعامة، أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(3).
وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام) : «سلوني قبل أن تفقدوني فإنّي بطرق السماء أخبر منكم بطرق الأرض»(4).
وقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أقضاكم علي»(5).
في رواية أخرى عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «... أعلمكم علي»(6).
ومثلها عشرات الروايات التي ذكرها الفريقان في علم علي (عليه السلام) وفضائله، حيث يستفاد منها أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان أعلم الناس بعد
ص: 54
رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) (1).
وكان (عليه السلام) ملجأ لتفسير القرآن ولفهم الأحكام الشريعة الإسلامية، وكان هو المرجع دون غيره حينما كان يختلف المسلمون فيما بينهم، حتى أنّ عمر بن الخطاب صرّح في عشرات المواضع لعلّها تبلغ السبعين بقوله المشهور: «لولا علي لهلك عمر»(2).
كان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الأول في جهاده ودفاعه عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في الحروب والغزوات، فلا أحد من المسلمين يصل إليه في هذه الفضيلة، ولم يدّع ذلك أحد.
فقد قتل في غزوة بدر الكبرى صناديد العرب وشجعان المشركين وفرسانهم، فإنّ نصف قتلى المشركين في تلك المعركة قُتلوا على يده (عليه السلام) والنصف الآخر على يد سائر المسلمين والملائكة التي نزلت لنصرتهم(3).
وفي غزوة أحد كان هو في رأس الصامدين الذين لم يفرّوا بل بقوا
ص: 55
يحمون رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى أُثخن بالجراح وقتل أبطال المشركين وصناديدهم فنادى جبرئيل (عليه السلام) بين الأرض والسماء: «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي»(1).
وفي يوم الأحزاب (الخندق) قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حقّه حينما قتل عمرو بن عبد ود فوقع الفتح والظفر للمسلمين: «ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين»(2).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لمبارزة علي بن أبي طالب (عليه السلام) لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة»(3).
وفي غزوة خيبر قتل مرحب اليهودي وأخذ باب الحصن فقلعها بيده الشريفة وقذفها مسافة أربعين ذراعاً ولم يقدر على رفعها خمسون نفراً، وكان النصر على يديه (صلوات اللّه عليه)(4).
وفي غزوة حنين خرج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في عشرة آلاف مقاتل فتعجّب البعض من كثرتهم فحسدهم وانهزم جيش المسلمين على كثرتهم، ولم يبق مع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلا نفر قليل كان على رأسهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) فجاهد بشجاعة لم ير مثلها، وقاتل جيوش المشركين إلى أن هزمهم وبعد ذلك رجع المسلمون المنهزمون(5).
ص: 56
إلى غيرها من الغزوات التي كتب اللّه النصر للمسلمين فيها ببركة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) المباركتين.
كان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الخليفة الأول لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث نص الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على خلافته وإمامته من بعده كراراً ومراراً، وأخذ البيعة من المسلمين على ذلك، ولكن بعض المسلمين تآمروا بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وانقلبوا على أعقابهم، فتركوا علياً (صلوات اللّه عليه) وأجبروا المسلمين على بيعة من عيّنوه، كما أجبروا علياً (عليه السلام) على البيعة لكنه لم يبايع، وكان يقول: إنّي أحق بهذا الأمر منكم.
وممّا يدل على خلافة الإمام وإمامته (عليه السلام) مضافاً إلى أفضليته على جميع الخلق بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وكونه الأعلم والأفقه والأقضى، أحاديث كثيرة رواها الفريقان، نشير إلى بعضها:
عن قيس عن أبي هارون قال: أتيت أبا سعيد الخدري فقلت له: هل شهدت بدراً؟
قال: نعم.
قال سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لفاطمة (عليها السلام) وقد جاءته ذات يوم تبكي وتقول: يا رسول اللّه عيرّتني نساء قريش بفقر علي!.
فقال لها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : أما ترضين يا فاطمة أنّي زوّجتك أقدمهم سلماً وأكثرهم علما، إنّ اللّه تعالى اطلع إلى أهل الأرض اطلاعة فاختار منهم أباك فجعله نبياً، واطلع إليهم ثانية فاختار منهم بعلك فجعله وصياً، وأوحى
ص: 57
اللّه إليّ أن أنكحك إيّاه، أما علمت يا فاطمة أنك لكرامة اللّه إيّاك زوّجك أعظمهم حلماً وأكثرهم علماً وأقدمهم سلماً، فضحكت فاطمة (عليها السلام) واستبشرت.
فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يا فاطمة إنّ لعلي ثمانية أضراس(1) قواطع لم يجعل اللّه لأحد من الأولين والآخرين مثلها، هو أخي في الدنيا والآخرة وليس ذلك لأحد من الناس، وأنت يا فاطمة سيدة نساء أهل الجنة زوجته، وسبطا الرحمة سبطاي ولده، وأخوه المزيّن بالجناحين في الجنة يطير مع الملائكة حيث يشاء، وعنده علم الأولين والآخرين، وهو أول من آمن بي وآخر الناس عهداً بي، وهووصيّي ووارث الوصيين»(2).
وروى أحمد بن حنبل (بسنده) قال: نشد علي (عليه السلام) الناس في الرحبة: من سمع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم إلاّ قام، قال: فقام من قبل سعيد ستة ومن قبل زيد ستة فشهدوا أنّهم سمعوا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السلام) يوم غدير خم: «أليس اللّه أولى بالمؤمنين؟»، قالوا: بلى، قال: «اللّهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»(3).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه تبارك وتعالى اصطفاني واختارني وجعلني رسولاً وأنزل عليّ سيد الكتب، فقلت: إلهي، وسيدي! إنك أرسلت موسى إلى فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيراً، تشد به عضده
ص: 58
وتصدق به قوله، وإنّي أسألك يا سيدي وإلهي، أن تجعل لي من أهلي وزيراً تشدّ به عضدي، فجعل اللّه لي علياً وزيراً وأخاً، وجعل الشجاعة في قلبه وألبسه الهيبة على عدوّه، وهو أول من آمن بي وصدّقني، وأول من وحد اللّه معي، وإني سألت ذلك ربي عزّوجلّ فأعطانيه، فهو سيد الأوصياء، اللحوق به سعادة والموت في طاعته شهادة، واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي، وزوجته الصديقة الكبرى ابنتي، وابناه سيدا شباب أهل الجنة ابناي، وهو وهما والأئمة من بعدهم حجج اللّه على خلقه بعد النبيين، وهم أبواب العلم في أُمّتي، من تبعهم نجا من النار، ومن اقتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم، لم يهب اللّه عزّوجلّ محبّتهم لعبد إلا أدخله اللّه الجنة»(1).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لعلّي (عليه السلام) : «هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر، وهذا الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المسلمين والمال يعسوب الظالمين(2) - وفي موضع آخر - والمال يعسوب الكفار»(3).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب»(4).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يا علي! أنت صاحب حوضي وصاحب لوائي،
ص: 59
ومنجز عداتي، وحبيب قلبي ووارث علمي، وأنت مستودع مواريث الأنبياء من قبلي، وأنت أمين اللّه على أرضه، وأنت حجّة اللّه على بريّته، وأنت ركن الإيمان وعمود الإسلام، وأنت مصباح الدُجى وأنت منار الهدى، وأنت العلم المرفوع لأهل الدنيا، من اتّبعك نجا ومن تخلّف عنك هلك، وأنت الطريق الواضح، وأنت الصراط المستقيم، وأنت قائد الغر المحجلين، وأنت يعسوب المؤمنين، وأنت مولى من أنا مولاه، وأنا مولى كل مؤمن ومؤمنة، لا يحبّك إلاّ طاهر الولادة، ولايبغضك إلاّ خبيث الولادة، وما عرج بي ربي عزّوجلّ إلى السماء وكلمني ربي إلاّ قال لي: يا محمد اقرأ علياً منّي السلام، وعرِّفه أنه إمام أوليائي، ونور أهل طاعتي، فهنيئاً لك هذه الكرامة»(1).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «عليّ باب علمي ومبيّن لأمّتي ما أُرسلت به من بعدي، حبّه إيمان وبغضه نفاق، والنظر إليه برأفة ومودّة وعبادة» الحديث(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «علي بن أبي طالب أقدم أُمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأصحّهم ديناً، وأفضلهم يقيناً، وأحلمهم حلماً، وأسمحهم كفّاً، وأشجعهم قلباً، وهو الإمام والخليفة بعدي»(3).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «نزل جبرائيل صبيحة يوم فرحاً مستبشراً... وقال: ... قرّت عيني بما أكرم اللّه به أخاك ووصيك وإمام أُمتك عليّ بن أبي طالب! فقلت: ولم أكرم اللّه أخي وإمام أمّتي؟ قال: باهى بعبادته البارحة
ص: 60
ملائكته وحملة عرشه، وقال: ملائكتي! انظروا إلى حجّتي في أرضي بعد نبيي وقد عفّر خدّه بالتراب تواضعاً لعظمتي، أُشهدكم أنه إمام خلقي ومولى بريتي»(1).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يا علي، أنت أخي وأنا أخوك، أنا المصطفى للنبوة وأنت المجتبى للإمامة، وأنا صاحب التنزيل وأنت صاحب التأويل، وأنا وأنت أبوا هذه الأمة. يا علي، أنت وصيي وخليفتي ووزيري ووارثي وأبو ولدي، شيعتك شيعتي وأنصارك أنصاري وأولياؤك أوليائي وأعداؤك أعدائي. يا علي، أنت صاحبي على الحوض غداً، وأنت صاحبي في المقام المحمود، وأنت صاحب لوائي في الآخرة، كما أنت صاحب لوائي في الدنيا، لقد سعد من تولاك وشقي من عاداك، وإنّ الملائكة لتتقرّب إلى اللّه تقدّس ذكره بمحبّتك وولايتك، واللّه إنّ أهل مودّتك في السماء لأكثر منهم في الأرض، يا علي أنت أمين أمّتي وحجّة اللّه عليها بعدي، قولك قولي، وأمرك أمري، وطاعتك طاعتي، وزجرك زجري، ونهيك نهيي، ومعصيتك معصيتي، وحزبك حزبي وحزبي حزب اللّه، {وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ}(2)(3)».
وفي مسند أحمد بسنده عن عمرو بن ميمون، قال: إنّي لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط(4) فقالوا: يا ابن عباس، إمّا أن تقوم معنا وإما أن
ص: 61
تخلونا هؤلاء، قال: فقال ابن عباس: بل أقوم معكم، قال: وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى، قال: فابتدءوا فتحدّثوا فلا ندري ما قالوا، قال: فجاء ينفض ثوبه ويقول: أفّ وتفّ وقعوا في رجل له عشر، وقعوا في رجل قال له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لأبعثنّ رجلاً لا يخزيه اللّه أبداً يحبّ اللّه ورسوله» قال: فاستشرف لها من استشرف، قال: «أين علي؟» قالوا: هو في الرحل يطحن، قال: «وما كان أحدكم ليطحن؟» قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر، قال: فنفث (صلی الله عليه وآله وسلم) (1) في عينيه ثم هزّ الراية ثلاثاً فأعطاها إيّاه، فجاء بصفيّة بنت حيي.
قال: ثم بعث فلاناً بسورة التوبة فبعث علياً خلفه فأخذها منه قال: «لايذهب بها إلا رجل منّي وأنا منه».
قال: وقال لبني عمّه: «أيّكم يواليني في الدنيا والآخرة» قال: وعلي معه جالس فأبوا، فقال علي: «أنا أواليك في الدنيا والآخرة» قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أنت وليّي في الدنيا والآخرة» قال: فتركه ثم أقبل على رجل منهم فقال: «أيّكم يواليني في الدنيا والآخرة» فأبوا، قال: فقال علي: «أنا أواليك في الدنيا والآخرة» فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) :«أنت وليّي في الدنيا والآخرة».
قال: وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة.
قال: وأخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين فقال: «{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(2)».
ص: 62
قال: وشرى علي نفسه لبس ثوب النبي (عليه السلام) ثم نام مكانه، قال: وكان المشركون يرمون رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فجاء أبو بكر وعلي نائم، قال: وأبو بكر يحسب أنه نبي اللّه، قال: فقال: يا نبي اللّه، قال: فقال له علي: «إنّ نبي اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه» قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، قال: وجعل علي يُرمى بالحجارة كما كان يُرمى نبي اللّه وهو يتضوّر(1)
قد لفّ رأسه في الثوب لايخرجه حتى أصبح ثم كشف عن رأسه، فقالوا: ...كان صاحبك نرميه فلايتضوّر وأنت تتضوّر وقد استنكرنا ذلك.
قال: وخرج بالناس في غزوة تبوك قال: فقال له علي: «أخرج معك؟» قال: فقال له نبي اللّه: «لا» فبكى علي، فقال له: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي».
قال: وقال له رسول اللّه: «أنت وليّي في كل مؤمن بعدي».
وقال: «سدّوا أبواب المسجد غير باب علي»، فقال: فيدخل المسجد جُنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره.
قال وقال: «من كنت مولاه فإنّ مولاه علي» (2) الحديث.
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنّ وصيّي وخليفتي وخير من أترك بعدي، ينجز موعدي ويقضي ديني عليّ بن أبي طالب»(3).
ص: 63
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا بني عبد المطلب.. إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني اللّه تبارك وتعالى أن أدعوكم، فأيّكم يُوَازرني على أمري على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ ... قال (عليه السلام) : ... قلت: أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثمّ قال: هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا...» (1).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث: «... ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ إنّ علياّ منّي وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن بعدي»(2).
وعن ابن عباس قال: تصدّق عليّ (عليه السلام) بخاتمه وهو راكع، فقال النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) للسّائل: «من أعطاك هذا الخاتم؟» قال: ذاك الراكع، فأنزل اللّه فيه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ}(3)(4).
وروی الحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل : عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ}. قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) (5).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه قد فرض عليكم طاعتي ونهاكم عن معصيتي، وفرض عليكم طاعة علي بعدي ونهاكم عن معصيته، وهو وصيي
ص: 64
ووارثي، وهو منّي وأنا منه، حبّه إيمان وبغضه كفر، محبّه محبّي ومبغضه مبغضي، وهو مولى من أنا مولاه، وأنا مولى كل مسلم ومسلمة، وأنا وهو أبوا هذه الأمة»(1).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي اللّه عزّوجلّ، يسبّح اللّه ذلك النور ويقدّسه قبل أن يخلق اللّه آدم بألف عام، فلمّا خلق اللّه آدم (عليه السلام) أودع ذلك النور في صلبه، فلم يزل أنا وعلي في شيء واحد، حتى افترقنا في صلب عبد المطلب فَفِيَّ النبوة وفي عليّ الخلافة» (2).
وعن أنس بن مالك قال: كنت جالساً مع النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) فقال النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يا أنس أنا وهذا حجّة اللّه على خلقه» (3).
وعن جابر بن عبد اللّه، قال: لقد سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «في علي خصالاً لو كانت واحدة منها في رجل اكتفى بها فضلاً وشرفاً: قوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فعلي مولاه، وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي منّي كهارون من موسى.
وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي منّي وأنا منه. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي منّي كنفسي طاعته طاعتي ومعصيته معصيتي. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : حرب علي حرب اللّه وسلم علي سلم اللّه. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : ولي علي ولي اللّه وعدّو علي عدّو اللّه. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي حجّة اللّه على عباده، وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : حب علي إيمان وبغضه كفر. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : حزب علي حزب اللّه وحزب أعدائه حزب الشيطان. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي مع
ص: 65
الحق والحق معه لا يفترقان. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي قسيم الجنة والنار. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : من فارق علياً فقد فارقني ومن فارقني فقد فارق اللّه. وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة» (1).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ ابن أبي طالب، فإنّه أوّل من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو معي في السماء الأعلى، وهو الفاروق بين الحق والباطل»(2).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان كذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب فإنّه الفاروق بين الحق والباطل»(3).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في مرض موته: «أيّها الناس يوشك أن أُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرة منّي إليكم، ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب اللّه عزّوجلّ وعترتي أهل بيتي، ثمّ أخذ بيد عليّ (عليه السلام) فرفعها فقال: هذا مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض فأسألهما ما خُلّفت فيهما»(4).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «تكون بين الناس فرقة واختلاف فيكون هذا وأصحابه على الحق - يعني عليّاً (عليه السلام) - »(5).
ص: 66
هناك مجموعة كبيرة من خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) نتطرّق إلى بعضها بإيجاز واختصار.
1: نصرة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في الضّراء والسّراء كما قال تعالى: {فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(1).
والمراد من صالح المؤمنين هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2).
2: اتخاذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) أخاً لنفسه دون غيره، حيث آخى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين بعضهم البعض، وآخى بينه وبين علي (عليه السلام) مرّتين(3).
3: الصعود على كتف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لكسر الأصنام(4).
ص: 67
يقول ابن العرندس في قصيدته:
وصعود غارب أحمد فضل له***دون القرابة والصحابة أفضلاً(1)
4: فضيلة خبر الطائر، حيث أكل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع علي (عليه السلام) الطائر المشوي الذي أنزله جبرئيل من الجنة(2).
5: حديث المنزلة، حيث قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنّ المدينة لا تصلح إلا بي أو بك فأنت خليفتي.. أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى
ص: 68
إلا أنه لا نبّي بعدي»(1).
6: حديث الراية، حيث قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لأعطيّن الراية غداً رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويحبّه اللّه ورسوله، كرّار غير فرّار»(2).
7: حديث يوم الغدير الذي هو أشهر من النار على علم، ورواه متواتراً الفريقان في كتبهم المعتبرة(3).
8: ردّ الشمس مرّتين، منها بحضرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث قال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «اللّهم إنّ عبدك علي احتبس نفسه على نبيك فردّ عليه شرقها»(4).
ومرّة أخرى بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) (5).
9: كونه (عليه السلام) بمنزلة نفس رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بصريح الآية الشريفة : {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰذِبِينَ}(6). حيث صرّح المفسّرون أنّ المراد من {أَنفُسَنَا} علي بن أبي طالب (عليه السلام) (7).
10: زواجه (عليه السلام) من فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث ورد أنه لولا علي (عليه السلام) لم يكن لفاطمة (عليها السلام) كفو، وقد ورد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)
ص: 69
عن أبيه عن آبائه عن علي (عليه السلام) ، قال: «قال لي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا علي لقد عاتبتني رجال من قريش في أمر فاطمة وقالوا: خطبناها إليك فمنعتنا وتزوّجت علياً، فقلت لهم: واللّه ما أنا منعتكم وزوّجته، بل اللّه تعالى منعكم وزوّجه، فهبط عليّ جبرئيل (عليه السلام) ، فقال: يا محمد إنّ اللّه جلّ جلاله يقول: لو لم أخلق علياً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه»(1).
إلى غيرها من الخصائص والفضائل الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.
أكابر قريش وبعضهم من أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال خطبوا فاطمة الزهراء (عليه السلام) ولكن كلما ذكرها له (صلی الله عليه وآله وسلم) أحدهم، أعرض عنه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بوجهه حتى كان الرجل منهم يظن أنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ساخط عليه، فقيل لعلي (عليه السلام) : لم لا تخطب فاطمة؟ فواللّه ما نرى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يحبسها إلا عليك.
فتقدم علي (عليه السلام) لخطبتها، فلما عرض أمره على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) تهلّل وجهه (صلی الله عليه وآله وسلم) فرحاً وسروراً، وقال له: فهل معك شيء أزوّجك به؟.
فقال علي (عليه السلام) : أملك سيفي ودرعي وناضحي وما لي شيء غير هذا.
فقال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : أمّا سيفك تجاهد به في سبيل اللّه، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، ولكني قد زوّجتك بالدرع ورضيت بها منك، يا علي أبشر فإنّ اللّه تعالى قد زوّجكما في السماء قبل أن أزوّجك في الأرض.
فانطلق علي (عليه السلام) وباع الدرع بأربعمائة درهم وأتى به إلى رسول
ص: 70
اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فأمر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بعض أصحابه أن يشتري بالدراهم ما يصلح لفاطمة (عليها السلام) في بيتها، فانطلق واشترى:
1: فرشاً من خيش مصر محشوّاً بالصوف.
2: نطعاً من أدم.
3: وسادة من أدم حشوها من ليف النخل.
4: عباءة خيبرية.
5: قربة للماء.
6: كيزاناً.
7: جراراً.
8: مطهرة للماء.
9: سراً من صوف.
10: رحى لليد.
فلما وضع ما اشتراه بين يدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) نظر إليه فبكى وجرت دموعه ثم رفع يده إلى السماء وقال: اللّهم بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف(1).
وهذا الدعاء يشمل من حينه كل زواج يتم ببساطة وسهولة وبلا تشريفات وتعقيدات إلى يوم القيامة، وعلينا إذا أحببنا أن يشملنا هذا الدعاء ويشمل أبناءنا وبناتنا أن نلتزم بذلك، ولا نطلب سوى الكفاءة والأهلية من حسن الخلق والتدين، كما في الحديث الشريف: «إذا جاءكم من ترضون
ص: 71
خلقه ودينه فزوّجوه»(1).
من أهم ما يراه المتتبّع في أحوال أمير المؤمنين (عليه السلام) زهده (عليه السلام) ، حيث كان (عليه السلام) أزهد الناس بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلم يشبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً، والأهم في كل ذلك أنه لم يتغيّر زهده حتى طيلة فترة حكمه وخلافته، حيث كان يحكم أكبر دولة على وجه الأرض، فكانت بلاده تشتمل على ما يقارب خمسين دولة حسب خارطة اليوم، ولكنه كان بنفس الزهد الذي كان فيه قبل خلافته.
قال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب(2).
وروي عن نضر بن منصور عن عقبة بن علقمة، قال: دخلت على علي (عليه السلام) فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟
فقال لي: «يا أبا الجنوب كان رسول اللّه (عليه السلام) يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا - وأشار إلى ثيابه - فإذا لم آخذ به خفت ألا ألحق به»(3).
قد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في منتهى درجة الخوف من اللّه عزّوجلّ،
ص: 72
فكان يغشى عليه بعض الليالي خوفاً من اللّه وخشية منه تعالى.
يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) : - وهو سيد الساجدين الذي لم يكن يفتأ عن عبادة اللّه تعالى حتى لقّب بذي الثفنات وزين العابدين - : «من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب»(1).
نعم كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كما وصفوه: أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً.
إن فضائل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أكثر من أن تعدّ أو تحصى، حيث إنّ اللّه عزّوجلّ أخذ يباهي بعلي (صلوات اللّه عليه) ملائكة السماء(2)
وقد أنزل في شأنه (عليه السلام) أكثر من ثلاثمائة آية في كتابه العزيز، على أقل التقادير، حيث روى القندوزي الحنفي في كتابه (ينابيع المودة)، قال: أخرج الطبراني عن ابن عبّاس قال: نزلت في علي (عليه السلام) أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه(3).
وقد ذكر الفقيه المحقّق آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي في كتابه
ص: 73
القيّم (علي في القرآن) أكثر من سبعمائة آية نزلت في فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
وكيف لا يكون كذلك، وقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) «ذكر علي عبادة»(1).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «النظر إلى وجه علي عبادة»(2).
نعم كان ما ذكرناه فهو إشارة عابرة إلى شيء من عظيم فضائله (عليه السلام) التي ملأت الخافقين على رغم أنه قد كتم شيعته فضائله خوفاً، وكتم أعداؤه فضائله حسداً، ومع ذلك ترى الإنس والجن عجزوا عن عدّ فضائله.
وفي الصراط المستقيم: في حديث الدوانيقي كم تروي في علي حديثاً؟ فقال: عشرة آلاف، قال رجل لابن عباس: ما أكثر مناقب علي إنّي لأحسبها ثلاثة آلاف! فقال: أو لا تقول هي إلى ثلاثين ألف أقرب. قال المرتضى سمعت عمر بن شاهين وهو شيخ مقدّم في الرواية يقول: جمعت من فضائل علي ألف جزء، وقال ابن حنبل: ما جاء لأحد من الصحابة ما جاء لعلي.
وروى المطرزي عن الخوارزمي مسندا إلى ابن عباس قول النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : لو أنّ الغياض(3)
أقلام والبحار مداد والجن حساب والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب.
أبا حسن لو أنّ ذا الخلق تاجروا***بحبّك يا مولاي ما كان أخسروا
ولو كانت السبع السماوات كاغذا***وكانت بعون اللّه تطوى وتنشر
وكانت جميع الإنس و الجن كتب***وكان مداد القوم سبعة أبحر
ص: 74
ولو كانت الأشجار جمعاً بأسره***تقصص أقلام وتبرى وتحضر
لكلّت أياديهم وأفنى مدادهم***وما حصلوا معشار من فضل حيدر(1)
كان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أول مظلوم بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، حيث غصب حقّه وهتكت حرمته ولم يعرفوه حقّ معرفته، حتى ضاق صدره من الدنيا وما فيها، وكان (عليه السلام) يخبر مراراً عن استشهاده بيد أشقى الأولين والآخرين ابن ملجم، وكان يقول وهو يمسح لحيته الشريفة: «ما يحبس أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم»(2)، وصعد المنبر في شهر رمضان الذي استشهد فيه وأخبر أصحابه بأنّهم سيحجّون هذا العام ولا يكون هو فيهم(3).
وكان (عليه السلام) يبيت في ذلك الشهر ليلة عند ولده الإمام الحسن (عليه السلام) وليلة عند الإمام الحسين (عليه السلام) وليلة عند زينب (عليها السلام) وليلة عند أمّ كلثوم (عليها السلام) ، وكان يفطر عندهم ولم تتجاوز لقماته الثلاث، فسئل عن سبب ذلك، فأجاب (عليه السلام) إنه قد دنا أجله ويريد لقاء ربّه وهو خميص(4).
ولما كان في يوم الثامن عشر من شهر رمضان صلّى العشائين وأفطر على قرص واحد وملح الجريش، ثم أخذ يأتي إلى صحن الدار وينظر إلى
ص: 75
السماء ويقول: هي واللّه الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) (1).
وكان يكثر في تلك الليلة قراءة قوله تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2).
وكان يقول: «اللّهم بارك لنا في لقائك»(3).
فلما أصبح (عليه السلام) وأراد الخروج للصلاة أنشد يقول:
اُشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيكا***ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا(4)
ثم ذهب للصلاة إلى مسجد الكوفة، فكان في الركعة الأولى بعد أن رفع رأسه من السجود إذ ضربه اللعين ابن ملجم على أم رأسه.
فسقط في المحراب وهو يقول: فزت وربّ الكعبة(5).
ونادى جبرئيل بين السماء والأرض: تهدمت واللّه أركان الهدى، وانطمست واللّه نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت واللّه العروة الوثقى، قُتل ابن عم محمد المصطفى، قُتل الوصي المجتبى، قُتل علي المرتضى(6).
قال أبو الفرج: لما ضُرب علي (عليه السلام) جمع له أطباء الكوفة فلم يكن منهم أعلم بجرحه من أثير بن عمرو، فلما نظر إلى جرح أمير المؤمنين (عليه السلام) دعا بريّة شاة حارّة، فاستخرج منها عرقاً، فأدخله في الجرح، ثم نفخه ثم
ص: 76
استخرجه فإذا عليه بياض الدماغ، فقال: يا أمير المؤمنين أعهد عهدك فإنّ عدوّ اللّه قد وصلت ضربته إلى أمّ رأسك(1).
ولما كان في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان فاضت روحه المقدسة إلى رياض القدس والجنان، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(2).
قال الإمام الحسن (عليه السلام) : «لما حضرت أبي الوفاة أقبل يوصي فقال:
هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أخو محمد رسول اللّه وابن عمّه وصاحبه، وأول وصيتي: أنّي أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأنّ محمداً رسوله وخيرته، اختاره بعلمه وارتضاه لخيرته، وإنّ اللّه باعث من في القبور، وسائل الناس عن أعمالهم، وعالم بما في الصدور.
ثم إنّي أوصيك يا حسن، وكفى بك وصياً بما أوصاني به رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإذا كان ذلك يا بني - أي إذا ظهرت الفتن عليك وخانك الناس ولم تنصرك - فالزم بيتك وابك على خطيئتك، ولا تكن الدنيا أكبر همّك.
وأوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها، والزكاة في أهلها عند محلّها، والصمت عند الشبهة، والاقتصاد في العمل، والعدل في الرضا والغضب، وحسن الجوار، وإكرام الضيف، ورحمة المجهود وأصحاب البلاء، وصلة الرحم، وحب المساكين ومجالستهم، والتواضع فإنّه من أفضل العبادة، وقصر الأمل، وذكر
ص: 77
الموت، والزهد في الدنيا، فإنك رهن موت وغرض بلاء وطريح سقم.
وأوصيك بخشية اللّه في سر أمرك وعلانيته، وأنهاك عن التسرّع بالقول والفعل، وإذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به، وإذا عرض شيء من أمر الدنيا فتأنّه حتى تصيب رشدك فيه، وإيّاك ومواطن التهمة، والمجلس المظنون به السوء، فإنّ قرين السوء يغيّر جليسه، وكن لله يا بني عاملاً، وعن الخنى(1) زجوراً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً، وواخ الإخوان في اللّه، وأحب الصالح لصلاحه، ودار الفاسق عن دينك، وأبغضه بقلبك، وزايله بأعمالك، لئلّا تكون مثله، وإيّاك والجلوس في الطرقات، ودع المماراة ومجاراة من لا عقل له ولا علم.
واقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك، وعليك فيها بالأمر الدائم الذي تطيقه، والزم الصمت تسلم، وقدّم لنفسك تغنم، وتعلّم الخير تعلم، وكن لله ذاكراً على كل حال، وارحم من أهلك الصغير، ووقر منهم الكبير، لا تأكلن طعاماً حتى تصدّق منه قبل أكله، وعليك بالصوم فإنه زكاة البدن وجنّة لأهله، وجاهد نفسك، واحذر جليسك، واجتنب عدوّك، وعليك بمجالس الذكر، وأكثر من الدعاء، فإنّي لم آلك يا بنّي نصحاً، وهذا فراق بيني وبينك» الحديث(2).
ولما وصل خبر استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية فرح بذلك،
ص: 78
وقال: إنّ الأسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه، ثم تمثل بهذا الشعر وقال:
قل للأرانب تربّع حيثما سلكت***وللظباء بلا خوف ولا وحذر(1)
نبذة من كلماته (عليه السلام) الشريفة(2)
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «كانت الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم
ص: 79
بعضاً، كتبوا بثلاث ليس معهن رابعة: من كانت الآخرة همّه كفاه اللّه همه من الدنيا، ومن أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، ومن أصلح فيما بينه وبين اللّه أصلح اللّه فيما بينه وبين الناس»(1).
مرّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) برجل يتكلّم بفضول الكلام، فقال: «يا هذا إنك تملي على كاتبيك كتاباً إلى ربك فتكلّم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك»(2).
وقال (عليه السلام) : «صدر العاقل صندوق سره، ولا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا مال أعود من العقل، ولا عقل كالتدبير»(3).
وقال (عليه السلام) عندما سُئل عن القدر: «طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسرّ اللّه فلا تتكلّفوه»(1).
وقال (عليه السلام) لشيعته: «كونوا في الناس كالنحلة في الطير، ليس شيء من الطير إلا وهو يستضعفها، ولو يعلمون ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها، خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم، لكل امرئ ما اكتسب وهو يوم القيامة مع من أحب»(2).
وقال (عليه السلام) : «ازهدوا في هذه الدنيا التي لم يتمتّع بها أحد كان قبلكم، ولا تبقى لأحد من بعدكم، سبيلكم فيها سبيل الماضين، قد تصرّمت وآذنت بانقضاء، وتنكر معروفها، فهي تخبر أهلها بالفناء، وسكانها بالموت، وقد أمرّ منها ما كان حلواً، وكدر منها ما كان صفواً، فلم تبق منها إلا سملة كسملة الإداوة، أو جرعة الإناء، لو تمززها العطشان لم ينقع بها، فأذِّنوا بالرحيل من هذه الدار المقدّر على أهلها الزوال، الممنوع أهلها من الحياة، المذلّلة فيها أنفسهم بالموت، فلا حي يطمع في البقاء، ولا نفس إلا مذعنة بالمنون، ولا يعلّلكم الأمل، ولا يطول عليكم الأمد، ولا تغروا منها بالآمال. ولو حننتم حنين الوله العجال، ودعوتم مثل حنين الحمام، وجأرتم جأر متبتلي
ص: 81
الرهبان، وخرجتم إلى اللّه تعالى من الأموال والأولاد، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده، أو غفران سيئة أحصتها كتبته وحفظتها ملائكته لكان قليلاً فيما أرجو لكم من ثوابه، وأتخوف عليكم من عقابه، جعلنا اللّه وإياكم من التائبين العابدين»(1).
وقال (عليه السلام) : «عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء، فأمّا الدعاء فيدفع عنكم به البلاء، وأمّا الاستغفار فيمحي ذنوبكم»(2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «جمع الخير كلّه في ثلاث خصال: النظر والسكوت والكلام، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، فطوبى لمن كان نظره عبرة، وسكوته فِكرةً، وكلامه ذكراً، وبكى على خطيئته، وأمن الناس من شره»(3).
وقال (عليه السلام) : «كم من غافل ينسج ثوباً ليلبسه وإنّما هو كفنه، ويبني بيتاً ليسكنه وإنّما هو موضع قبره»، وقيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : ما الاستعداد للموت؟ قال: «أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم، ثم
ص: 82
لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، واللّه ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه»، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه: «أيها الناس، إنّ الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء، فحذوا من ممرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا يخفى عليه أسراركم، واخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففي الدنيا حييتم - حبستم - وللآخرة خلقتم، وإنّما الدنيا كالسم يأكله من لا يعرفه، إنّ العبد إذا مات قالت الملائكة: ما قدّم، وقال الناس: ما أخّر، فقدّموا فضلاً يكن لكم، ولا تؤخّروا كلاً يكن عليكم، فإنّ المحروم من حرم خير ماله، والمغبوط من ثقل بالصدقات والخيرات موازينه، وأحسن في الجنة بها مهاده، وطيب على الصراط بها مسلكه»(1).
وقال (عليه السلام) : «قال اللّه تبارك وتعالى لموسى (عليه السلام) : يا موسى، احفظ وصيّتي لك بأربعة أشياء: أولهن ما دمت لا ترى ذنوبك تغفر فلا تشتغل بعيوب غيرك، والثانية ما دمت لا ترى كنوزي قد نفدت فلا تغتمّ بسبب رزقك، والثالثة ما دمت لا ترى زوال ملكي فلا ترج أحداً غيري، والرابعة ما دمت لا ترى الشيطان ميتاً فلا تأمن مكره»(2).
وقال (عليه السلام) : «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد
ص: 83
بعدي، الإسلام: هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل، إنّ المؤمن أخذ دينه من ربّه ولم يأخذه عن رأيه، أيّها الناس دينكم دينكم تمسّكوا به، ولا يزيلنّكم ولا يردنّكم أحد عنه، لأنّ السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، لأنّ السيئة فيه تغفر والحسنة في غيره لاتقبل»(1).
وقال (عليه السلام) : «الدنيا كلّها جهل إلا مواضع العلم، والعلم كلّه حجّة إلا ما عمل به، والعمل كلّه رياء إلا ما كان مُخلَصاً، والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم له»(2).
وقال (عليه السلام) : «العلم وراثة كريمة، والآداب حلل حسان، والفكرة مرآة صافية، والاعتبار منذر ناصح، وكفى بك أدباً لنفسك تركك ما كرهته من غيرك»(3).
وقال (عليه السلام) : «من أوقف نفسه موقف التهمة فلا يلومنّ من أساء به الظن، ومن كتم سرّه كانت الخيرة في يده، وكل حديث جاوز اثنين فشا، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت
ص: 84
من أخيك سوءً وأنت تجد لها في الخير محملاً، وعليك بإخوان الصدق فكثر في اكتسابهم عدة عند الرخاء، وجنداً عند البلاء، وشاور حديثك الذين يخافون اللّه، وأحبب الأخوان على قدر التقوى»(1).
وقال (عليه السلام) : «المتعبّد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح، وركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل؛ لأنّ العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه، وتأتي الجاهل فينسفه نسفاً، وقليل العمل مع كثير العلم خير من كثير العمل مع قليل العلم والشك والشبهة»(2).
وقال (عليه السلام) : «للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا اثني عليه، وينقص إذا ذم»(3).
وقال (عليه السلام) : «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء، فإنّي سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم...»(4).
ص: 85
ص: 86
ص: 87
ص: 88
الاسم: فاطمة (عليها السلام) .
ومن ألقابها (عليها السلام) : الصدّيقة، المباركة، الطاهرة، الزكية، الرضية، المرضية، المحدّثة، الزهراء(1)،
البتول، الحوراء، الحرّة، السيدة، العذراء، مريم الكبرى، الصدّيقة الكبرى، ويقال لها في السماء: النورية، السماوية، الحانية(2).
الكنية: أمّ أبيها، أمّ الحسنين، أمّ الحسن، أمّ الحسين، أمّ المحسن، أمّ الأئمة(3).
الأب: رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .
الأم: السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) .
زمان الولادة: 20/ جمادى الثانية/ 5 سنوات بعد البعثة(4).
مكان الولادة: مكة المكرّمة.
الزوج: الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) .
ص: 89
الأولاد: الحسن، الحسين، زينب، أمّ كلثوم، محسن السقط.
مدّة العمر: 18 سنة وسبعة أشهر(1).
زمان الاستشهاد: بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ب- 40 أو 72 أو 75 أو 90 يوماً، وقيل: أربعة أشهر(2).
مكان الاستشهاد: المدينة المنوّرة.
المدفن: المدينة المنوّرة، لكن لا يعلم أين موضع قبرها وذلك عملاً بوصيتها لتبقى ظلامتها(3).
قام بتغسيلها وتكفينها ودفنها: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
عن المفضّل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : كيف كان ولادة فاطمة (عليها السلام) ؟
فقال (عليه السلام) : «نعم، إنّ خديجة لما تزوّج بها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) هجرتها نسوة مكة، فكن لا يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمّها حذراً عليه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلما حملت بفاطمة، كانت فاطمة (عليها السلام) تحدّثها من بطنها وتصبرها، وكانت تكتم ذلك من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فدخل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يوماً فسمع خديجة تحدث
ص: 90
فاطمة، فقال لها: يا خديجة من تحدّثين؟
قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني.
قال: يا خديجة هذا جبرئيل يخبرني [يبشرني] أنّها أنثى وإنها النسلة الطاهرة الميمونة، وإنّ اللّه تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه»(1).
عن يونس أنّه قال: «..قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : أتدري أيّ شيء تفسير فاطمة؟» قلت: أخبرني يا سيدي، قال: «فطمت من الشر»(2).
وقد روت الخاصة والعامة بطرق معتبرة أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّما سُميت فاطمة فاطمة لأنّ اللّه عزّوجلّ فطم من أحبها من النار»(3).
وفي رواية أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) سُئل ما البتول؟ فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «البتول التي لم تر حمرة قط»(4).
قال العلّامة المجلسي (رحمه الله) : إنّ الصدّيقة بمعنى المعصومة.
والمباركة: بمعنى كونها ذات بركة في العالم والفضل والكمالات والمعجزات والأولاد.
والطاهرة: بمعنى طهارتها من صفات النقص.
ص: 91
والزكية: بمعنى نموها في الكمالات والخيرات.
والراضية: بمعنى رضاها بقضاء اللّه تعالى.
والمرضيّة: بمعنى مقبوليتها عند اللّه تعالى.
والمحدّثة: بمعنى حديث الملائكة معها.
والزهراء: بمعنى نورانيتها ظاهراً وباطناً(1).
في الحديث القدسي عن اللّه عزّوجلّ: «لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(2).
وعن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «فاطمة بضعة منّي، من سرّها فقد سرّني، ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعزّ الناس عليّ»(3).
وعن عائشة أنّها قالت: ما رأيت من الناس أحداً أشبه كلاماً وحديثاً برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحب بها، وقبّل يديها، وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه فرحبت به وقبّلت يديه(4).
وعن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لو كان الحُسن هيئة لكانت فاطمة، بل هي أعظم، إنّ فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً»(5).
ص: 92
وعن فاطمة الزهراء (عليها السلام) : «إنّ اللّه تعالى خلق نوري وكان يسبّح اللّه جلّ جلاله ثم أودعه شجرة من شجر الجنة فأضاءت»(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «لولا أنّ أمير المؤمنين تزوّجها لما كان لها كفؤ إلى يوم القيامة على وجه الأرض، آدم فمن دونه»(2).
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) : «لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم محمد أو أحمد أو علي أو الحسن أو الحسين.. أو فاطمة من النساء»(3).
وعن الإمام الحجة (عليه السلام) : «وفي ابنة رسول اللّه لي أسوة حسنة»(4) الحديث.
وقد استدل الفقهاء بهذه الأحاديث على أفضلية فاطمة الزهراء (عليها السلام) على جميع الخلق من الأنبياء والأولياء وغيرهم، عدا أبيها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبعلها أمير المؤمنين (عليه السلام) (5).
عن الإمام الحسن (عليه السلام) أنه قال: «رأيت أمّي فاطمة (عليها السلام) قائمة في محرابها ليلة الجمعة، فلم تزل راكعة ساجدة حتى انفجر عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت: يا أمّاه لم تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟، قالت: يا بني
ص: 93
الجار ثم الدار»(1).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لسلمان: «يا سلمان، ابنتي فاطمة ملأ اللّه قلبها وجوارحها إيماناً إلى مشاشها(2) تفرّغت لطاعة اللّه»(3) الحديث.
وقال الحسن البصري: إنّه ما كان في الدنيا أعبد من فاطمة (عليها السلام) كانت تقوم حتى تتورّم قدماها(4).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «رأى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) وعليها كساء من أجلة(5) الإبل، وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة.
فقالت: يا رسول اللّه، الحمد لله على نعمائه والشكر على آلائه، فأنزل اللّه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ}(6)»(7).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إنّها (عليها السلام) كانت عندي... وأنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت(8) يداها، وكسحت
ص: 94
البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد...»(1).
عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: «استأذن أعمى على فاطمة (عليها السلام) فحجبته، فقال لها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : لم تحجبينه، وهو لا يراك؟
قالت (عليها السلام) : يا رسول اللّه إن لم يكن يراني فإنّي أراه وهو يشمّ الريح.
فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : أشهد أنّك بضعة منّي»(2).
وقال (عليه السلام) : «سأل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أصحابه: عن المرأة ما هي؟
قالوا: عورة.
قال: فمتى تكون أدنى من ربها؟
فلم يدروا.
فلما سمعت فاطمة ذلك، قالت: «أدنى ما تكون من ربّها أن تلزم قعر بيتها»، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنّ فاطمة بضعة منّي»(3).
وقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لها: «أيّ شيء خير للمرأة؟».
قالت: «أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل»، فضمّها إليه وقال: «ذرّية بعضها من بعض»(4).
ص: 95
قد كثرت الأحاديث في فضل تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) وثوابه، ومنها ما جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «ما عبد اللّه بشيء أفضل من تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فاطمة، إنّ تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) في كل يوم دبر كل صلاة، أحب إليَّ من صلاة ألف ركعة في كل يوم»(1).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «يا أبا هارون، إنّا لنأمر صبياننا بتسبيح فاطمة (عليها السلام) كما نأمرهم بالصلاة، فالزمه فإنّه ما لزمه عبد فشقي»(2).
أمّا كيفية تسبيح الزهراء (عليها السلام) أن تقول: أربعاً وثلاثين مرّة (اللّه أكبر)، وثلاثاً وثلاثين مرّة (الحمد لله)، وثلاثاً وثلاثين مرّة (سبحان اللّه)، فيكون المجموع مائة(3)، والدوام عليه يوجب السعادة ويبعد الإنسان عن الشقاء وسوء العاقبة كما ورد في بعض الروايات.
روي عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنّها - خاطبت سلمان الفارسي (رحمه الله) - فقالت: «إنّ سرك أن لا يمسّك أذى الحُمّى ما عشت في دار الدنيا، فواظب عليه» أي الدعاء.
ثم قال سلمان: علِّميني هذا الحرز، فقالت:
ص: 96
«بسم اللّه الرحمن الرحيم، بسم اللّه النور، بسم اللّه نور النور، بسم اللّه نور على نور، بسم اللّه الذي هو مدبّر الأمور، بسم اللّه الذي خلق النور من النور، الحمد لله الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطور، في كتاب مسطور، في رقّ منشور، بقدر مقدور، على نبيّ محبور، الحمد لله الذي هو بالعزّ مذكور، وبالفخر مشهور، وعلى السرّاء والضرّاء مشكور، وصلى اللّه على سيّدنا محمد وآله الطاهرين».
قال سلمان: فتعلمتهن فواللّه ولقد علمتهن أكثر من ألف نفس من أهل المدينة ومكة ممّن بهم علل الحُمّى فكل برئ من مرضه بإذن اللّه تعالى(1).
وقد روي أنه «إذا كانت لك حاجة إلى اللّه وضقت بها ذرعاً، فصلّ ركعتين، فإذا سلّمت كبّر ثلاثاً وسبّح تسبيح فاطمة (عليها السلام) ثم اسجد وقل مائة مرّة: (يا مولاتي فاطمة أغيثيني) ثم ضع خدّك الأيمن على الأرض وقل كذلك، ثم ضع خدّك الأيسر على الأرض وقل كذلك، ثم عد إلى السجود وقل كذلك مائة مرّة وعشر مرّات، واذكر حاجتك تُقضى»(2).
روي عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنّها قالت: «دخل عليّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد افترشت فراشي للنوم، فقال لي: يا فاطمة لا تنامي إلا وقد عملت أربعة، ختمت القرآن، وجعلت الأنبياء شفعاءك، وأرضيت المؤمنين عن نفسك،
ص: 97
وحججت واعتمرت!...
فقلت: يا رسول اللّه أمرت بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال.
فتبسّم (صلی الله عليه وآله وسلم) وقال: إذا قرأت: {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} ثلاث مرّات فكأنّك ختمت القرآن، وإذا صلّيت عليّ وعلى الأنبياء قبلي كنّا شفعائك يوم القيامة، وإذا استغفرت للمؤمنين رضوا كلّهم عنك، وإذا قلت: «سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر» فقد حججت واعتمرت(1).
شهادتها (عليها السلام) (2)
تُعد أكبر مصيبة في تاريخ الإسلام فقد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والذي تلته شهادة الزهراء (عليها السلام) .
وقد كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يصف ابنته فاطمة (عليها السلام) بأنها بضعة منه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنّها أمّ أبيها، وقد قال (صلی الله عليه وآله وسلم) مراراً وكراراً: فداها أبوها... .
ولكن القوم لم يراعوا فيها حق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا حقها، حيث جرت على فاطمة الزهراء (عليها السلام) مصائب عظيمة وجليلة.
فقد هجم الثاني - بأمر الأول - مع مجموعة من الأوباش على دارها، وجمعوا حطباً، فأمر بحرق الدار ثم ضرب برجله الباب، ولما أحسّ بأنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) لاذت وراء الباب عصرها (عليها السلام) بين الحائط والباب حتى انكسر ضلعها وأسقطت جنينها الذي سمّاه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مُحسناً، ولكزها
ص: 98
الملعون قنفذ بنعل السيف، وضربها بالسوط على عضدها حتى صار كمثل الدُملج، فمرضت (عليها السلام) مرضاً شديداً، ومكثت أربعين ليلة في مرضها، وقيل: 75 يوماً، وقيل: 90 يوماً، وهي تعاني من آلامها وتشكو إلى اللّه من ظلمها، ومن بعد ذلك توفّيت شهيدة مظلومة، وقد أوصت بأن يُخفى قبرها ولا يحضر جنازتها من ظلمها، وبذلك أثبتت ظلامتها وظلامة بعلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفضحت الظالمين والغاصبين للخلافة إلى يوم القيامة.
صُبّت عليّ مصائب لو أنّها***صبّت على الأيام صرن لياليا
روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن ابن عباس، قال: إنّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن (عليه السلام) فلمّا رآه بكى (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثم قال: «إليّ إليّ يا بنيّ»، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى.
ثم أقبل الحسين (عليه السلام) فلمّا رآه (صلی الله عليه وآله وسلم) بكى، ثم قال: «إليّ إليّ يا بنيّ»، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.
ثم أقبلت فاطمة (عليها السلام) ، فلمّا رآها بكى (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال: «إليّ إليّ يا بنية»، فأجلسها بين يديه.
ثم أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) فلمّا رآه بكى (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثم قال: «إليّ إليّ يا أخي»، فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن.
فقال له أصحابه: يا رسول اللّه، ما ترى واحداً من هؤلاء إلا بكيت، أو ما فيهم من تسرّ برؤيته؟.
ص: 99
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «والذي بعثني بالنبوّة، واصطفاني على جميع البرّية، إني وإيّاهم لأكرم الخلق على اللّه عزّوجلّ، وما على وجه الأرض نسمة أحب إليّ منهم.
أمّا علي بن أبي طالب (عليه السلام) : فإنّه أخي وشقيقي، وصاحب الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيّي وخليفتي على أهلي وأمّتي في حياتي وبعد موتي، محبّه محبّي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمّتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة، وإنّي بكيت حين أقبل لأنّي ذكرت غدر الأمة به حتى أنه ليُزال عن مقعدي وقد جعله اللّه له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يُضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته... .
وأمّا ابنتي فاطمة: فإنّها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة منّي، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربّها جلّ جلاله ظهر نورها لملائكة السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول اللّه عزّوجلّ لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي، قائمة بين يديّ ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أُشهدكم أنّي قد آمنت شيعتها من النار.
وإنّي لما رأيتها ذكرتُ ما يصنع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذلّ بيتها، وانتهكت حرمتها، وغُصبت حقّها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها وهي تنادي: يا محمداه، فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث،
ص: 100
فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش إذا جنها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجدت بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة... .
فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدّم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللّهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وذلّل من أذلّها، وخلّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول الملائكة عند ذلك: آمين» الحديث(1).
وروى سليم بن قيس الهلالي عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لابنته فاطمة (عليها السلام) : «... إنّك أول من يلحقني من أهل بيتي وأنت سيدة نساء أهل الجنة، وسترين بعدي ظلماً وغيظاً حتى تضربي ويكسر ضلع من أضلاعك، لعن اللّه قاتلك ولعن اللّه الآمر والراضي والمعين والمظاهر عليك وظالم بعلك وابنيك...»(2).
وقد أشار بعض علماء العامّة أيضاً إلى ظلامة الزهراء (عليها السلام) وما ورد عليها من المصائب:
يقول البلاذري وهو من علماء العامّة في كتابه (أنساب الأشراف)(3): «إنّ أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فتيلة، فتلقته
ص: 101
فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا بن الخطاب، أتراك مُحرقاً عليَّ بابي؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك».
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(1):
«جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ البيت عليكم... ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً حتى بايعوا أبا بكر».
وقال اليعقوبي في (تاريخه) (2): «وبلغ أبا بكر وعمر أنّ جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار وخرج علي ومعه السيف، فلقيه... عمر فصرعه وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة، فقالت: واللّه لتخرجنّ أو لأكشفنّ شعري ولأعجنّ إلى اللّه...».
وقال الطبري في (تاريخه)(3): «أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: واللّه لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة».
وذكر ابن عبد ربّه في (العقد الفريد)(4): «الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر: علي والعباس والزبير وسعد بن عبادة، فأمّا علي والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة، حتى بعث إليهم أبوبكر، عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت
ص: 102
فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة، فقالت: يا ابن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة».
وقال ابن قتيبة الدينوري في كتابه (الإمامة والسياسة): «وإنّ أبابكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند علي (كرم اللّه وجهه)، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها.
فقيل له: يا أبا حفص، إنّ فيها فاطمة.
فقال: وإن.
فخرجوا فبايعوا إلا علياً، فإنّه زعم أنّه قال: «حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن».
فوقفت فاطمة (رضي اللّه عنها) على بابها، فقالت: «لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّاً».
فأتى عمر أبا بكر، فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟
فقال أبوبكر لقنفذ وهو مولى له: أذهب فادع لي علياً.
قال: فذهب إلى علي، فقال له: «ما حاجتك؟»
فقال: يدعوك خليفة رسول اللّه.
فقال علي: «لسريع ما كذبتم على رسول اللّه».
فرجع فأبلغ الرسالة.
قال: فبكى أبو بكر طويلاً، فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلّف عنك
ص: 103
بالبيعة.
فقال أبوبكر لقنفذ: عد إليه فقل له: خليفة رسول اللّه يدعوك لتبايع.
فجاءه قنفذ فأدّى ما أمر به، فرفع علي صوته، فقال: «سبحان اللّه لقد ادّعى ما ليس له».
فرجع قنفذ، فأبلغ الرسالة.
فبكى أبو بكر طويلاً، ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة، فدقّوا الباب، فلمّا سمعت (فاطمة) أصواتهم نادت بأعلى صوتها: «يا أبت يا رسول اللّه، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة».
فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين وكادت قلوبهم تنصدع وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا علياً، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع.
فقال: «إن أنا لم أفعل فمه»؟
قالوا: إذاً واللّه الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك.
فقال: «إذاً تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله».
قال عمر: أمّا عبد اللّه فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لايتكلّم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟
فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.
فلحق علي (عليه السلام) بقبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يصيح ويبكي وينادي يا: {ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي}(1).
ص: 104
فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة، فإنّا قد أغضبناها.
فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما.
فأتيا علياً فكلّماه، فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها، فلم ترد عليهما السلام.
فتكلّم أبو بكر، فقال: يا حبيبة رسول اللّه، واللّه إنّ قرابة رسول اللّه أحبّ إليّ من قرابتي، وإنك لأحب إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أنّي مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك وميراثك من رسول اللّه إلا أنّي سمعت أباك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «لا نورّث، ما تركناه صدقة»!.
فقالت: «أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) تعرفانه وتفعلان به؟»
قالا: نعم.
فقالت: «نشدتكما اللّه ألم تسمعا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟»
قالا: نعم سمعناه من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
قالت: «فإنّي أشهد اللّه وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه».
فقال أبو بكر: أنا عائذ باللّه تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبوبكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: «واللّه لأدعونّ عليك في كل صلاة أصلّيها»، ثم خرج باكياً، فاجتمع إليه الناس، فقال لهم:
ص: 105
يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته، مسرورا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي».(1)
الحديث
إلى غير ذلك ممّا هو كثير...
وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
ورد أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) لما نُعيت إليها نفسها دعت أمّ أيمن وأسماء بنت عميس ووجّهت خلف علي (عليه السلام) وأحضرته، فقالت: «يا ابن عم، أنه قد نُعيت إليَّ نفسي وإنّني لأرى ما بي لا أشك إلا أنّني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي».
قال لها علي (عليه السلام) : «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه»، فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت.
ثم قالت: «يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني؟».
فقال (عليه السلام) : «معاذ اللّه أنت أعلم باللّه وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من اللّه أن أوبخك غداً بمخالفتي، فقد عزّ عليّ بمفارقتك بفقدك، إلا أنه أمر لابد منه، واللّه جدّد عليّ مصيبة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقد عظمت وفاتك وفقدك فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضّها وأحزنها، هذه واللّه مصيبة لا عزاء عنها، ورزية لا خلف لها».
ثم بكيا جميعاً ساعة، وأخذ علي (عليه السلام) رأسها وضمها إلى صدره، ثم قال:
ص: 106
«أوصيني بما شئت فإنّك تجديني وفياً أمضي كل ما أمرتني به وأختار أمرك على أمري».
ثم قالت: «جزاك اللّه عنّي خير الجزاء يا ابن عم، أوصيك أولاً: أن تتزوّج بعدي بابنة أمامة فإنّها لولدي مثلي، فإنّ الرجال لابد لهم من النساء».
ثم قالت: «أوصيك يا ابن عم أن تتخذ لي نعشاً فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته».
فقال لها: «صفيه إليّ».
فوصفته، فاتخذه لها، فأول نعش عمل في الأرض ذاك.
ثم قالت: أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي؛ فإنّهم أعدائي وأعداء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأن لا يصلّي عليّ أحد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار...»(1).
وقد عمل بكامل وصيتها (عليها السلام) أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه).
لما حضرتها (عليها السلام) الوفاة أمرت أسماء بنت عميس أن تأتيها بالماء، فتوضأت، وقيل: اغتسلت ودعت الطيب فتطيّبت به، ودعت ثياباً جدد فلبستها، وقالت لأسماء: «إنّ جبرئيل (عليه السلام) أتى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لما حضرته الوفاة بكافور من الجنة فقسّمه أثلاثاً، ثلث لنفسه وثلث لعلي وثلث لي، وكان أربعين درهماً، فقالت: يا أسماء ائتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا
ص: 107
وكذا، فضعيه عند رأسي، فوضعته، ثم تسجّت بثوبها وقالت: «انتظريني هنيهة، وثم ادعيني، فإن أجبتك وإلّا فاعلمي أنّي قد قدمت على أبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ».
فانتظرتها هنيهة، ثم نادتها... فلم تجبها... فنادت: يا بنت محمد المصطفى، يا بنت أكرم من حملته النساء، يا بنت خير من وطأ الحصى، يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى، قال: فلم تجبها.. فكشفت الثوب عن وجهها، فإذا بها قد فارقت الدنيا [مظلومة شهيدة]، فوقعت عليها تقبّلها وهي تقول: فاطمة إذا قدمت على أبيك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأقرئيه عن أسماء بنت عميس السلام.
فبينا هي كذلك دخل الحسن والحسين (عليهما السلام) فقالا: «يا أسماء ما يُنيم أمّنا في هذه الساعة؟».
قالت: يا ابني رسول اللّه ليست أمكما نائمة قد فارقت الدنيا... .
فوقع عليها الحسن يقبّلها مرّة، ويقول: «يا أمّاه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني» قالت: وأقبل الحسين يقبّل رجلها ويقول: «يا أمّاه أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت».
قالت لهما أسماء: يا ابني رسول اللّه انطلقا إلى أبيكما عليّ فأخبراه بموت أمّكما.
فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء، فابتدرهما جميع الصحابة، فقالوا: ما يبكيكما يا ابني رسول اللّه، لا أبكى اللّه أعينكما، لعلّكما نظرتما إلى موقف جدكما (صلی الله عليه وآله وسلم) فبكيتما شوقاً إليه؟
فقالا: «لا أو ليس قد ماتت أمنّا فاطمة (صلوات اللّه عليها).
قال: فوقع علي (عليه السلام) على وجهه يقول: «بمن العزاء يا بنت محمد؟ كنت
ص: 108
بك أتعزّى ففيم العزاء من بعدك؟»(1).
ولما توفيّت (عليها السلام) صاحت أهل المدينة صيحة واحدة واجتمعت نساء بني هاشم في دارها فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهنّ وهن يقلن: يا سيدتاه يا بنت رسول اللّه.
وأقبل الناس إلى علي (عليه السلام) وهو جالس والحسن والحسين (عليهما السلام) بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما، وخرجت أمّ كلثوم وعليها برقعة وتجر ذيلها متجلّلة برداء عليها تسحبها وهي تقول: يا أبتاه يا رسول اللّه الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً.
واجتمع الناس فجلسوا وهم يرجون أن تخرج الجنازة فيصلّون عليها، وخرج أبو ذر، فقال: انصرفوا فإنّ ابنة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد أخّر إخراجها في هذه العشية، فقام الناس وانصرفوا... .
فلما أن هدأت العيون ومضى من الليل، أخرجها علي والحسن والحسين (عليهم السلام) وعمار والمقداد وعقيل والزبير وأبوذر وسلمان وبريدة ونفر من بني هاشم وخواصه، صلّوا عليها ودفنوها(2).
وروي: ولما صار بها إلى القبر المبارك خرجت يد تشبه يد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فتناولها(3).
ص: 109
نعم دفنت فاطمة الزهراء (عليها السلام) في جوف الليل وسوىّ علي (عليه السلام) أربعين قبراً حتى لا يعرف قبرها، وذلك عملاً بوصيتها (عليها السلام) ليكون حجة لمن أراد أن يعرف الحق إلى يوم القيامة(1).
ولما دفنها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في تلك الليلة نفض يده من تراب القبر فهاج به الحزن فأرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه إلى قبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال: «السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقيعك، المختار اللّه لها سرعة اللحاق بك، قلّ يا رسول اللّه عن صفيّتك صبري، وضعُف عن سيدة النساء تجلّدي، إلّا أنّ في التأسّي لي بسنتك والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزّي، ولقد وسدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري وغمّضتك بيدي وتوليت أمرك بنفسي.
نعم، وفي كتاب اللّه أنعم القبول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2)، قد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول اللّه، أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد، لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار اللّه لي دارك التي فيها أنت مقيم، كمد مقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرّق اللّه بيننا والى اللّه أشكو. وستنبئك ابنتك بتظاهر أمّتك عليّ وعلى هضمها حقّها فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها، لم
ص: 110
تجد إلى بثه سبيلاً وستقول ويحكم اللّه وهو خير الحاكمين.
سلام عليك يا رسول اللّه، سلام مودع لاسئم ولا قال، فإن انصرف فلا عن ملالة وإن أُقم فلا عن سوء ظنّي بما وعد اللّه الصابرين، الصبر أيمن وأجمل ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً، والتلبّث عنده معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين اللّه تدفن بنتك سراً، ويهتضم حقّها قهراً، ويمنع إرثها جهراً، ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر، فإلى اللّه يا رسول اللّه المشتكى، وفيك أجمل العزاء، فصلوات اللّه عليها وعليك ورحمة اللّه وبركاته»(1).
وأنشأ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بعد وفاة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الأبيات:
أرى علل الدنيا علي كثيرة***وصاحبها حتى الممات عليل
***
لكل اجتماع من خليلين فرقة***وكل الذي دون الفراق قليل
وإن افتقادي فاطماً بعد أحمد***دليل على أن لا يدوم خليل(2)
وأنشأ (عليه السلام) أيضاً:
نفسي على زفراتها محبوسة***يا ليتها خرجت مع الزفرات
ص: 111
لا خير بعدك في الحياة وإنّما***أبكي مخافة أن تطول حياتي(1)
قالت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) : «واحمدوا الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السماوات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته ومحل قدسه، ونحن حجّته في غيبه ونحن ورثة أنبيائه»(2).
وقالت (عليها السلام) : «من أصعد إلى اللّه خالص عبادته أهبط اللّه عزّوجلّ له أفضل مصلحته»(3).
وقالت (عليها السلام) : «خياركم ألينكم مناكب وأكرمهم لنسائهم»(4).
وعن أبي محمد (عليه السلام) قال: «قالت فاطمة (عليها السلام) وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتا في شيء من أمر الدين، إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحاً شديداً، فقالت فاطمة (عليها السلام) : إنّ فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإنّ حزن
ص: 112
الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها، وإنّ اللّه عزّوجلّ قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها، واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معانداً مثل ألف ألف ما كان معداً له من الجنان»(1).
وقالت (عليها السلام) : «البشر في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنة، والبشر في وجه المعاند المعادي يقي صاحبه عذاب النار»(2).
وقالت (عليها السلام) : «أبوا هذه الأمة محمد وعلي، يقيمان أودهم، وينقذانهم من العذاب الدائم إن أطاعوهما، ويبيحانهم النعيم الدائم إن وافقوهما»(3).
وقالت (عليها السلام) : «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه»(4).
ولما مُنعت (عليها السلام) من فدك وخاطبت القوم...، قالوا لها: يا بنت محمد، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ما عدلنا بعلي أحداً، فقالت (عليها السلام) :
ص: 113
«وهل ترك أبي يوم غدير خم لأحد عذراً»(1).
وقال رجل لامرأته: اذهبي إلى فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فسليها عني أنا من شيعتكم أو لست من شيعتكم؟
فسألتها، فقالت (عليها السلام) : «قولي له: إن كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه، فأنت من شيعتنا وإلا فلا».
فرجعت فأخبرته فقال: يا ويلي ومن ينفك من الذنوب والخطايا؟ فأنا إذاً خالد في النار، فإنّ من ليس من شيعتهم فهو خالد في النار.
فرجعت المرأة فقالت لفاطمة (عليها السلام) ما قال لها زوجها.
فقالت فاطمة (عليها السلام) : «قولي له: ليس هكذا، [فإن] شيعتنا من خيار أهل الجنة، وكل محبّينا وموالي أوليائنا ومعادي أعدائنا والمسلم بقلبه ولسانه لنا ليسوا من شيعتنا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا في سائر الموبقات، وهم مع ذلك في الجنة، ولكن بعدما يطهّرون من ذنوبهم بالبلايا والرزايا، أو في عرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطبق الأعلى من جهنم بعذابها إلى أن نستنقذهم بحبنا منها وننقلهم إلى حضرتنا»(2).
وعن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال: «وحضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر
ص: 114
صلاتها شيء وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك.
ثم ثنت، فأجابت، ثم ثلثت فأجابت إلى أن عشرت، فأجابت ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول اللّه.
قالت فاطمة (عليها السلام) : هاتي وسلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكرائه مائة ألف دينار أيثقل عليه؟
فقالت: لا.
فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من مليء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ»(1).
إلى غيرها من الروايات والخطب الواردة عن فاطمة الزهراء (صلوات اللّه عليها)، وعلى رأسها خطبتها العظيمة في المسجد النبوي الشريف التي احتجت فيها على القوم، فطالبت بحق زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلافة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وحقّها في فدك، وأتمت الحجّة على الجميع.
ومن أراد التفصيل فعليه بمراجعة كتاب «من فقه الزهراء (عليها السلام) » للإمام الشيرازي (قدس سره) و«العوالم ومستدركاتها» للبحراني (رحمه الله) المجلّد الخاص بفاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وكتاب «الاحتجاج» للطبرسي (رحمه الله) وكتاب «سليم بن قيس الهلالي» وغيرها.
ص: 115
ص: 116
ص: 117
ص: 118
الاسم: الحسن (عليه السلام) .
الأب: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
الأم: السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
الكنية: أبو محمد وأبو القاسم(1).
الألقاب: السيد، السبط، الأمير، الحجّة، البر، التقي، الأثير، السبط الأول، الزكي، المجتبى، الزاهد، و...(2).
بعض أوصافه (عليه السلام) : كان أبيض مشرباً بحمرة، أدعج العينين(3)، سهل الخدّين، دقيق المسربة(4)، كثّ اللحية، ذا وفرة، كأنّ عنقه إبريق فضة، عظيم الكراديس(5)، بعيد ما بين المنكبين، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير،
ص: 119
من أحسن الناس وجهاً، وكان يخضب بالسواد، وكان جعد الشعر حسن البدن(1).
تاريخ الولادة: ليلة الثلاثاء، ليلة النصف من شهر رمضان المبارك، السنة الثالثة من الهجرة النبوية الشريفة(2).
مكان الولادة: المدينة المنورة.
مدة العمر: 47 عاماً.
تاريخ الشهادة: 7 صفر، عام 50 للهجرة، وقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة سبع وأربعين للهجرة(3).
مكان الشهادة: المدينة المنورة.
القاتل: جعدة بنت الأشعث بن قيس، وقيل: جون بنت الأشعث(4)، بأمر من معاوية.
وسيلة القتل: السم الذي أرسله معاوية بعد أن كان قد ضمن لجعدة مبلغ مائة ألف درهم وأن يزوّجها يزيد ابنه(5).
المدفن: البقيع الغرقد في المدينة المنورة.
نقش خاتمه: العزّة لله(6).
ص: 120
عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: «لما ولدت فاطمة (عليها السلام) الحسن (عليه السلام) قالت لعلي (عليه السلام) : سمّه. فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فجاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... ثم قال لعلي (عليه السلام) : هل سمّيته؟
فقال: ما كنت لأسبقك باسمه.
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : وما كنت لأسبق باسمه ربّي عزّوجلّ.
فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى جبرئيل: أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط، فاقرأه السلام وهنّه وقل له: إنّ علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون.
فهبط جبرئيل (عليه السلام) فهنّأه من اللّه تعالى ثم قال: إنّ اللّه جلّ جلاله يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون.
قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : وما كان اسمه؟
قال: شبّر.
قال: لساني عربي.
قال: سمّه الحسن، فسمّاه الحسن»(1).
وعن عمران بن سلمان وعمرو بن ثابت قالا: الحسن والحسين اسمان من أسامي أهل الجنة ولم يكونا في الدنيا(2).
ص: 121
عن البراء بن عازب، قال: رأيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والحسن (عليه السلام) على عاتقه وهو يقول: «اللّهم إنّي أحبّه فأحبّه»(1).
وعن عائشة: أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ حسناً فيضمّه إليه ثم يقول: «اللّهم، إنّ هذا ابني وأنا أحبّه فأحبّه وأحبّ من يحبّه»(2).
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»(3).
وعن أبي ذر الغفاري (رضوان اللّه عليه) قال: رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقبّل الحسن والحسين (عليهما السلام) وهو يقول: «من أحبّ الحسن والحسين وذريتهما مخلصاً، لم تلفح النار وجهه ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج(4)، إلا أن يكون ذنبه ذنباً يخرجه من الإيمان»(5).
وعن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبّني ومن أبغضهما فقد أبغضني»(6).
وعن حذيفة بن اليمان، قال: بينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في جبل - إلى قوله - : إذ أقبل الحسن بن علي (عليهما السلام) يمشي على هدوء ووقار، فنظر إليه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) -
ص: 122
إلى قوله - فقال (عليه السلام) : «إنّ جبرئيل يهديه وميكائيل يسدّده وهو ولدي والطاهر من نفسي، وضلع من أضلاعي، هذا سبطي وقرّة عيني، بأبي هو» وقام رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقمنا معه وهو يقول له: «أنت تفاحتي وأنت حبيبي ومهجة قلبي»، وأخذ بيده فمشى معه ونحن نمشي حتى جلس وجلسنا حوله، فنظر إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو لا يرفع بصره عنه، ثم قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنّه سيكون بعدي هادياً مهدياً، هذا هديّة من رب العالمين لي ينبئ عنّي، ويعرِّف الناس آثاري، ويحيي سنّتي، ويتولّى أموري في فعله، ينظر اللّه إليه فيرحمه، رحم اللّه من عرف له ذلك، وبرَّني فيه وأكرمني فيه»(1).
وروي عن أبي هريرة أنه قال: رأيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يمص لعاب الحسن والحسين كما يمصّ الرجل التمرة(2).
وعن عبد اللّه بن شيبة عن أبيه أنه: دعي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى صلاة والحسن متعلّق به فوضعه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) مقابل جنبه وصلّى، فلما سجد أطال السجود، فرفعت رأسي من بين القوم فإذا الحسن على كتف رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فلما سلّم قال له القوم: يا رسول اللّه لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها كأنّما يوحى إليك؟ فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لم يوح إليّ ولكن ابني كان على كتفي فكرهت أن أعجله حتى نزل» أو في رواية: «إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته»(3).
ص: 123
وقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إن الحسن والحسين شنّفا(1) العرش، وإن الجنة قالت: يا رب أسكنتني الضعفاء والمساكين، فقال اللّه لها: ألا ترضين أني زينت أركانك بالحسن والحسين؟ قال: فماست كما تميس العروس فرحاً»(2).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «حدّثني أبي عن أبيه (عليهما السلام) : إنّ الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً وربما مشى حافياً، وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على اللّه تعالى ذكره، شهق شهقة يُغشى عليه منها، وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّوجلّ، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم، ويسأل اللّه الجنة ويعوذ به من النار، وكان (عليه السلام) لا يقرأ من كتاب اللّه: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ} إلا قال: لبيك اللّهم لبيك، ولم ير في شيء من أحواله إلا ذاكراً لله سبحانه، وكان أصدق الناس لهجة وأفصحهم منطقاً»(3).
وحج خمساً وعشرين حجّة ماشياً وقاسم اللّه تعالى ماله مرّتين وفي خبر: قاسم ربّه ثلاث مرات(4).
وجاء في روضة الواعظين عن الفتّال: أنّ الحسن بن علي (عليه السلام) كان إذا
ص: 124
توضّأ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: «حقّ على كل من وقف بين يدي رب العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله». وكان (عليه السلام) إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه ويقول: «إلهي، ضيفك ببابك، يا محسن، قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم»(1).
جاء بعض الأعراب إلى الإمام الحسن (عليه السلام) ، فقال (عليه السلام) : «أعطوه ما في الخزانة» فوجد فيها عشرون ألف دينار، فدفعها إلى الأعرابي، فقال الأعرابي: يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي وأنثر مدحتي؟
فأنشأ الحسن (عليه السلام) :
نحن أُناس نوالنا خضل***يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا***خوفاً على ماء وجه من يسل
لو علم البحر فضل نائلنا***لغاض من بعد فيضه خجل(2)
وروي: أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) سمع رجلاً يسأل ربه تعالى أن يرزقه عشرة آلاف درهم فانصرف الحسن (عليه السلام) إلى منزله فبعث بها إليه(3).
وجاءه (عليه السلام) رجل يشكو إليه حاله وفقره وقلّة ذات يده بعد أن كان مشرباً، فقال (عليه السلام) له: «يا هذا حق سؤالك يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك يكبر لديّ، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات اللّه عزّوجلّ قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عنّي
ص: 125
مؤونة الاحتفال والاهتمام بما أتكلّفه من واجبك فعلت».
فقال: يا ابن رسول اللّه، أقبل القليل وأشكر العطية واعذر على المنع.
فدعا الحسن (عليه السلام) بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها، وقال: «هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم» فأحضر خمسين ألفاً.
قال: «فما فعل الخمسمائة دينار؟».
قال: هي عندي.
قال: «أحضرها».
فأحضرها فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل، وقال: «هات من يحملها لك»، فأتاه بحمَّالين، فدفع الحسن (عليه السلام) إليه رداءه لكِرى الحمَّالين، فقال مواليه: واللّه ما بقي عندنا درهم، فقال (عليه السلام) : «لكنّي أرجو أن يكون لي عند اللّه أجر عظيم»(1).
مرّ الإمام الحسن (عليه السلام) على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: هلمّ يا ابن بنت رسول اللّه إلى الغداء.
فنزل وقال: «إنّ اللّه لا يحب المستكبرين» وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا، والزاد على حاله ببركته (عليه السلام) ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم(2).
عن نجيح قال: رأيت الحسن بن علي (عليه السلام) يأكل وبين يديه كلب، كلما
ص: 126
أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له: يا ابن رسول اللّه ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟
قال: «دعه، إنّي لأستحيي من اللّه عزّوجلّ أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه»(1).
وروي أنّ غلاماً له (عليه السلام) جنى جناية توجب العقاب فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي {وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ}(2).
قال: «خلّوا عنه».
فقال: يا مولاي {وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ}(3).
قال: «عفوت عنك».
قال: يا مولاي {وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}(4).
قال (عليه السلام) : «أنت حرّ لوجه اللّه ولك ضعف ما كنت أعطيك»(5).
روي: أن شامياً رأى الإمام الحسن (عليه السلام) راكباً، فجعل يلعنه والحسن (عليه السلام) لايرد، فلما فرغ أقبل الحسن (عليه السلام) فسلم عليه وضحك، فقال: «أيّها الشيخ
ص: 127
أظنك غريباً ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا اعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً».
فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنّك خليفة اللّه في أرضه {ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(1)، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللّه إليّ، والآن أنت أحبّ خلق اللّه إليّ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم(2).
عن محمد بن إسحاق، قال: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما بلغ الحسن (عليه السلام) ، كان يبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما مرّ أحد من خلق اللّه إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فمرّ الناس، ولقد رأيته في طريق مكة ماشياً فما من خلق اللّه أحد رآه إلا نزل ومشى(3).
وعن أنس، قال: لم يكن منهم أحد أشبه برسول اللّه من الحسن بن علي(4).
ص: 128
وقيل له: فيك عظمة قال: «لا بل فيّ عزّة، قال اللّه تعالى: {وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(1)»(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(3).
إنّ من أهم القضايا السياسية في تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) صلحه مع معاوية ابن أبي سفيان.
فإنّ صلح الإمام الحسن (عليه السلام) كان بأمر من اللّه ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وكان مطابقاً للحكمة والسياسة الرشيدة، وفي صالح المسلمين والمؤمنين تماماً(4)،
مضافاً إلى أنّ الإمام (عليه السلام) استطاع بذلك أن يفضح معاوية لجميع الناس ويسلب الشرعية منه، ولولا صلح الإمام الحسن (عليه السلام) لاندرست معالم الدين وقواعده ولما تمكن الإمام الحسين (عليه السلام) من نهضته المباركة... .
فبعدما حارب الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية... أخذ معاوية يخدع جيش الإمام بالمال ويشتري أنصار الإمام (عليه السلام) واحداً بعد واحد وفوجاً بعد فوج، ثم طرح على الإمام (عليه السلام) الصلح وأراد أن يصوّر للناس أنّ الإمام يطلب الرئاسة الدنيوية ولا يهتم بإراقة دماء المسلمين.
ص: 129
فرأى الإمام (عليه السلام) أن استمرار القتال يوجب إضعافاً لجبهته (وهي جبهة الحق) وانتصاراً لجبهة الباطل (وهي جبهة معاوية) كما يوجب القضاء على ذرّية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأجمعهم من دون جدوى ومن دون أن ينفضح بذلك معاوية، فيكون ذلك تقوية لبني أمية وسبباً للعبهم بالإسلام والمسلمين.
فلم يكن استمرار الحرب موجباً لفضح معاوية وإنّما الذي يفضحه كان هو الصلح المشروط، وذلك لأنّ معاوية سيخالف جميع بنود الصلح على رغم توقيعه عليها، وسيعرف المسلمون غدره وخيانته وعدم أهليّته للخلافة... فلكل ذلك ولحقن دماء الأبرياء ولفضح معاوية وسلب الشرعية عنه، قبل الإمام (عليه السلام) بالصلح المشروط.
وممّا يدل على هذا الكلام: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) عاش إماماً بعد أخيه الحسن (عليه السلام) في عهد معاوية طيلة عشرة سنوات ولم يقم بثورته المباركة، ولكن بعد ما جاء يزيد وكان متجاهراً بالفسق والفجور، قام الإمام الحسين (عليه السلام) بتلك النهضة المباركة وقتل فيها شهيداً ليحيي دين جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بدمه الطاهر.
نعم قد خالف معاوية تلك الشروط التي كانت في معاهدة الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) ، وكفى بمخالفته وزراً عليه... فعرف التاريخ كذب معاوية ومكره ولعبه بدين اللّه وبالمسلمين، وقد قال معاوية: إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولالتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون(1).
ص: 130
قال الطبرسي (رحمه الله) في كتابه الاحتجاج، عن زيد بن وهب الجهني، قال: لما طُعن الحسن بن علي (عليه السلام) بالمدائن أتيته وهو متوجّع، فقلت: ما ترى يا ابن رسول اللّه فإن الناس متحيّرون؟ فقال: - مشيراً إلى أصحابه الذين تركوه وخالفوه - «ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي، واللّه لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وأؤمن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي!، واللّه لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً، واللّه لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير أو يمنّ عليّ، فيكون سنة(1) على بني هاشم آخر الدهر، ولمعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت»(2).
وفي تحف العقول عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اعلم أنّ الحسن بن علي (عليه السلام) لمّا طُعن واختلف الناس عليه سلّم الأمر لمعاوية فسلّمت عليه الشيعة: (عليك السلام يا مذلّ المؤمنين)!، فقال (عليه السلام) : ما أنا بمذلّ المؤمنين ولكنّي معزّ المؤمنين، إنّي لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلّمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها»(3).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «قال الحسن (عليه السلام) لأهل بيته إنّي أموت بالسم، كما مات رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
ص: 131
فقالوا: ومن يفعل ذلك؟
قال: امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس، فإنّ معاوية يدسّ إليها ويأمرها بذلك.
قالوا: أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك.
قال: كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً ولو أخرجتها ما قتلني غيرها، وكان لها عذر عند الناس.
فما ذهبت الأيام حتى بعث إليها معاوية مالاً جسيماً، وجعل يمنّيها بأن يعطيها مائة ألف درهم أيضاً، ويزوّجها من يزيد، وحمل إليها شربة سم لتسقيها الحسن (عليه السلام) ، فانصرف (عليه السلام) إلى منزله وهو صائم، فأخرجت له وقت الإفطار وكان يوماً حاراً شربة لبن وقد ألقت فيها ذلك السم، فشربها وقال: يا عدوة اللّه قتلتيني، قتلك اللّه، واللّه لا تصيبين منّي خلفاً ولقد غرّك وسخر منك، واللّه يخزيك ويخزيه»(1).
فاسترجع الإمام (عليه السلام) وحمد اللّه على نقله له من هذه الدنيا إلى تلك الدنيا الباقية ولقائه جده وأبيه وعميه حمزة وجعفر (عليهم السلام) فمكث (عليه السلام) يومين ثم مضى.
قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «لما حضرت الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الوفاة بكى، فقيل له: يا ابن رسول اللّه أتبكي ومكانك من رسول اللّه الذي أنت به، وقد قال فيك رسول اللّه ما قال، وقد حججت عشرين حجة ماشياً، وقد قاسمت ربك مالك ثلاث مرات، حتى النعل والنعل؟
ص: 132
فقال (عليه السلام) : إنما أبكي لخصلتين: لهول المطلع وفراق الأحبة»(1).
عن جنادة بن أبي أمية، قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي أسقاه معاوية لعنه اللّه، فقلت: يا مولاي، مالك لا تعالج نفسك؟
فقال: «يا عبد اللّه بماذا أعالج الموت؟»
قلت: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2).
ثم التفت إليّ فقال: «واللّه، لقد عهد إلينا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منّا إلا مسموم أو مقتول»، ثم رفعت الطست وبكى (صلوات اللّه عليه).
قال: فقلت له: عظني يا ابن رسول اللّه.
قال: «نعم، استعدّ لسفرك وحصّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك، واعلم أنّ في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك، فإن كان ذلك حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فأخذت
ص: 133
كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فإنّ العتاب يسير، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية اللّه إلى عزّ طاعة اللّه عزّوجلّ، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدَّق قولك، وإن صلت شد صولك، وإن مددت يدك بفضل مدَّها، وإن بدت عنك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك، وإن نزلت إحدى الملمّات به ساءك، من لا تأتيك منه البوائق(1)، ولا يختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسماً آثرك».
قال: ثم انقطع نفسه، واصفرّ لونه حتى خشيت عليه، ودخل الحسين (صلوات اللّه عليه) والأسود بن أبي الأسود، فانكب عليه حتى قبّل رأسه وبين عينيه، ثم قعد عنده فتسارا جميعاً.
فقال أبو الأسود: إنّا لله، إنّ الحسن قد نُعيت إليه نفسه، وقد أوصى إلى الحسين (عليه السلام) (2).
عن ابن عباس، قال: دخل الحسين بن علي (عليه السلام) على أخيه الحسن بن علي (عليه السلام) في مرضه الذي توفّي فيه، فقال له: «كيف تجدك يا أخي؟».
ص: 134
قال: «أجدني في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأعلم أنّي لا أسبق أجلي...» ثم أمره (عليه السلام) بكتابة الوصية، فقال: «اُكتب هذا:
هذا ما أوصى به الحسن بن علي إلى أخيه الحسين بن علي: أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأنه يعبده حقّ عبادته لا شريك له في الملك، ولا ولي له من الذلّ، وأنه {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٖ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(1)،
وأنه أولى من عبد وأحق من حمد، من أطاعه رشد، ومن عصاه غوى، ومن تاب إليه اهتدى، فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك: أن تصفح عن مسيئهم وتقبل من محسنهم وتكون لهم خلفاً ووالداً، وأن تدفنني مع جدّي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فإنّي أحق به وببيته ممّن أدخل بيته بغير إذنه ولا كتاب جاءهم من بعده، قال اللّه تعالى فيما أنزله على نبيّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في كتابه: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}(2) فواللّه ما أذن لهم في الدخول عليه في حياته بغير إذنه، ولا جاءهم الإذن في ذلك من بعد وفاته، ونحن مأذون لنا في التصرّف فيما ورثناه من بعده، فإن أبت عليك الإمرأة فأنشدك اللّه بالقرابة التي قرب اللّه عزّوجلّ منك، والرحم الماسّة من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أن لا تهريق فيَّ محجمة من دم حتى نلقى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فنختصم إليه ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده»(3).
ثم قُبض (عليه السلام) ، فغسّله الإمام الحسين (عليه السلام) .
ص: 135
ثم لما أراد أن يدفنه مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، حال دون ذلك مروان بن الحكم وآل أبي سفيان وغيرهم، ورموا جثمان الإمام (عليه السلام) بالسهام حتى أخرج من جنازته سبعون سهماً، فأراد بنو هاشم المجادلة، فقال الإمام الحسين: «اللّه اللّه لا تضيّعوا وصية أخي واعدلوا به إلى البقيع؛ فإنّه أقسم عليَّ إن أنا منعت من دفنه مع جده (صلی الله عليه وآله وسلم) أن لا أخاصم فيه أحداً، وأن أدفنه بالبقيع مع أمّه (عليها السلام) » فعدلوا به ودفنوه بالبقيع معها (عليها السلام) . وقبره (عليه السلام) جنب جدته فاطمة بنت أسد (عليها السلام) (1)، حيث مزاره الآن، وقد هدمه أعداء الإسلام، نسأل اللّه أن يوفّق المسلمين لإعادة بناء تلك الأضرحة المباركة في البقيع الغرقد.
ولما وضعوه في لحده أنشد الإمام الحسين (عليه السلام) :
أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي محاسني***ورأسك معفور وأنت سليب
أو أستمتع الدنيا لشيء أحبّه***ألا كل ما أدنى إليك حبيب
فلا زلت أبكي ما تغنت حمامة***عليك وما هبت صبا وجنوب
وما هملت عيني من الدمع قطرة***وما أخضر في دوح الحجاز قضيب
بكائي طويل والدموع غزيرة***وأنت بعيد والمزار قريب(2)
وقال (عليه السلام) :
إن لم أمت أسفاً عليك فقد***أصبحت مشتاقاً إلى الموت(3)
ص: 136
كان قبر الإمام الحسن (عليه السلام) في البقيع الغرقد مزاراً للمسلمين والمؤمنين أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، إلى أن جاء الوهابيون فهدموا تلك القبور الطاهرة، في 8 شوال عام 1344ه(1).
قل للذي أفتى بهدم قبورهم***أن سوف تصلى في القيامة ناراً
فقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في ابنه الإمام الحسن (عليه السلام) : «... فلا يزال الأمر به حتى يُقتل بالسم ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كل شيء حتى الطير في جو السماء والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام»(2).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «بينا الحسن بن علي (عليه السلام) في حجر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إذ رفع رأسه، فقال: يا أبه ما لمن زارك بعد موتك؟، قال: يا بني من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنة، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنة، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنة، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنة»(3).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إنّ الحسين بن علي (عليه السلام) كان يزور قبر
ص: 137
الحسن ابن علي (عليه السلام) كل عشية جمعة»(1).
وروي: كان محمد بن الحنفية (رضي اللّه عنه) يأتي قبر الحسن بن علي (عليهما السلام) ، فيقول: «السلام عليك يا بقية المؤمنين، وابن أول المسلمين، وكيف لا تكون كذلك وأنت سليل الهدى وحليف التقى وخامس أصحاب الكساء، غذّتك يد الرحمة، ورُبّيت في حجر الإسلام، ورضعت من ثدي الإيمان، فطبت حياً وطبت ميتاً، غير أنّ الأنفس غير طيبة لفراقك ولا شاكة في الجنان لك، ثم يلتفت إلى الحسين (عليه السلام) فيقول: السلام عليك يا أبا عبد اللّه وعلى أبي محمد السلام»(2).
قال الإمام الحسن المجتبى (صلوات اللّه وسلامه عليه): «القريب من قرّبته المودة وإن بعد نسبه، والبعيد من بعّدته المودة وإن قرب نسبه، لا شيء أقرب إلى شيء من يد إلى جسد، وإنّ اليد تغل فتقطع، وتقطع فتحسم»(3).
وقال (عليه السلام) : «إنّ التقية يصلح اللّه بها أمة، لصاحبها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أمة، تاركها شريك من أهلكهم، وإنّ معرفة حقوق الإخوان يحبب إلى الرحمن، ويعظّم الزلفى لدى الملك الديّان، وإنّ ترك قضائها
ص: 138
يمقت إلى الرحمن ويصغر الرتبة عند الكريم المنان»(1).
وقال (عليه السلام) : «من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه، ومن ازداد حرصاً على الدنيا لم يزدد منها إلا بعداً، وازداد هو من اللّه بغضاً، والحريص الجاهد والزاهد القانع كلاهما مستوف أكله غير منقوص من رزقه شيئاً، فعلام التهافت في النار؟! والخير كلّه في صبر ساعة واحدة تورث راحة طويلة، وسعادة كثيرة»(2).
وقال (عليه السلام) : «إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها» قيل: يا بن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن أهلها؟ قال: «الذين قص اللّه في كتابه وذكرهم، فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ}(3) قال: هم أولو العقول»(4).
وقال (عليه السلام) : «في المائدة اثنتا عشرة خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها، أربع منها فرض، وأربع سنّة، وأربع تأديب، فأمّا الفرض: فالمعرفة والرضا والتسمية والشكر، وأمّا السنّة: فالوضوء قبل الطعام والجلوس على الجانب الأيسر والأكل بثلاث أصابع ولعق الأصابع، وأمّا التأديب فالأكل
ص: 139
ممّا يليك وتصغير اللقمة وتجويد المضغ وقلّة النظر في وجوه الناس»(1).
عن محمد بن علي (عليه السلام) قال: «قال الحسن (عليه السلام) : إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرّة من المدينة على رجليه»(2).
وقال (عليه السلام) : «من كفل لنا يتيماً قطعته عنّا محنتنا [محبتنا](3)
باستتارنا، فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال اللّه عزّوجلّ: يا أيّها العبد الكريم المواسي، أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر وضمّوا إليها ما يليق بها من سائر النعم»(4).
وقال (عليه السلام) : «الناس طالبان، طالب يطلب الدنيا حتى إذا أدركها هلك، وطالب يطلب الآخرة حتى إذا أدركها فهو ناج فائز»(5).
وقال (عليه السلام) : «من دفع فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) على جميع مَن بعد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد كذّب بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر
ص: 140
كتب اللّه المنزلة؛ فإنّه ما نزل شيء منها إلا وأهم ما فيه بعد الأمر بتوحيد اللّه تعالى والإقرار بالنبوة: الاعتراف بولاية علي والطيبين من آله (عليهم السلام) »(1).
وقال (عليه السلام) : «أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها، أعظمهم عند اللّه شأناً، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند اللّه من الصديقين، ومن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) حقّاً»(2).
وقال (عليه السلام) في صلح معاوية: «أيها الناس، إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا(3) رجلاً جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما وجدتم غيري وغير أخي، وإنّ معاوية نازعني حقاً هو لي، فتركته لصلاح الأمة وحقن دمائها، وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، وقد رأيت أن أسالمه، وأن يكون ما صنعت حجّة على من كان يتمنّى هذا الأمر، وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين»، وفي رواية أخرى قال (عليه السلام) : «إنّما هادنت حقناً للدماء وصيانتها وإشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي»(4).
وروي أنّه قال (عليه السلام) : «يا أهل العراق إنّما سخى عليكم بنفسي ثلاث:
ص: 141
قتلكم أبي! وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي»(1).
وقال (عليه السلام) : «إنّ لله مدينتين إحداهما في المشرق والأخرى في المغرب، فيها خلق لله لم يهموا بمعصية اللّه تعالى قط، واللّه ما فيهما ولا بينهما حجّة لله على خلقه غيري وغير أخي الحسين»(2).
وقال (عليه السلام) : «من عبد اللّه، عبَّد اللّه له كل شيء»(3).
وقال (عليه السلام) : «إن لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه ممّا تكره، فلا تطعها فيما تحملك عليه فيما تهوى»(4).
وقال (عليه السلام) : «إنّ اللّه تعالى لم يجعل الأغلال في أعناق أهل النار لأنّهم أعجزوه، ولكن إذا أطفأ بهم اللّهب أرسبهم في قعرها».
ثم غشي عليه (عليه السلام) فلما أفاق من غشوته، قال: «يا ابن آدم نفسك نفسك فإنّما هي نفس واحدة إن نجت نجوت وإن هلكت لم ينفعك نجاةٌ من نجاةٍ»(5).
ص: 142
وقال (عليه السلام) : «لقد أصبحت أقوام كانوا ينظرون إلى الجنة ونعيمها والنار وجحيمها يحسبهم الجاهل مرضى وما بهم مرض، أو قد خولطوا وإنّما خالطهم أمر عظيم خوف اللّه ومهابته في قلوبهم، كانوا يقولون: ليس لنا في الدنيا من حاجة وليس لها خلقنا ولا بالسعي لها أمرنا، أنفقوا أموالهم وبذلوا دماءهم واشتروا بذلك رضى خالقهم، علموا أنّ [اللّه] اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنة فباعوه، وربحت تجارتهم وعظمت سعادتهم، وأفلحوا وانجحوا، فاقتفوا آثارهم رحمكم اللّه واقتدوا بهم»(1).
وقال (عليه السلام) : «العقل حفظ قلبك ما استودعته، والحزم أن تنتظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك، والمجد حمل المغارم وابتناء المكارم، والسماحة إجابة السائل وبذل النائل، والرقة طلب اليسير ومنع الحقير، والكلفة التمسّك لمن لا يؤاتيك والنظر بما لا يعنيك، والجهل سرعة الوثوب على الفرصة قبل الاستمكان منها والامتناع عن الجواب، ونعم العون الصمت في مواطن كثيرة وإن كنت فصيحاً»(2).
قل للمقيم بغير دار إقامة***حان الرحيل فودع الأحبابا
ص: 143
إنّ الذين لقيتهم وصحبتهم***صاروا جميعاً في القبور ترابا(1)
وله (عليه السلام) :
ذري كدر الأيام إن صفاءها***تولى بأيام السرور الذواهب
وكيف يغر الدهر من كان بينه***وبين الليالي المحكمات التجارب(2)
وله (عليه السلام) :
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني***وشربة من قراح الماء تكفيني
وطمرة من رقيق الثوب تسترني***حياً وان مت تكفيني لتكفيني(3)
ص: 144
ص: 145
ص: 146
الاسم: الحسين (عليه السلام) .
الأب: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
الأم: السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
الكنية: أبو عبد اللّه، والخاص أبو علي(1).
الألقاب: الشهيد، السعيد، الرشيد، الطيب، الوفي، الزكي، المبارك، التابع لمرضاة اللّه، السبط، السيد، الدليل على ذات اللّه عزّوجلّ، سيد شباب أهل الجنة، سيد الشهداء(2).
ص: 147
نقش الخاتم: كان له خاتمان نقش أحدهما: (إنّ اللّه بالغ أمره)، ونقش الآخر: (لا إله إلا اللّه عُدَّةً للقاء اللّه)(1).
مكان الولادة: المدينة المنوّرة.
زمان الولادة: يوم الخميس أو يوم الثلاثاء 3 شعبان عام 4 من الهجرة النبوية المباركة، عام الخندق(2).
مدة العمر الشريف: 56 سنة وأشهراً، منها ست سنين وأشهر مع جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وثلاثون سنة مع أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وكان مع أخيه الحسن (عليه السلام) بعد وفاة أبيه (عليه السلام) عشر سنين، وبقي بعد وفاة أخيه (عليه السلام) إلى وقت مقتله (عليه السلام) عشر سنين(3).
زمان الشهادة: يوم العاشر من محرم الحرام عام 61 هجري وقيل: عام 60 ه- وهو بعيد(4).
مكان الشهادة: أرض كربلاء / العراق.
القاتل: شمر بن ذي الجوشن بأمر من عبيد اللّه بن زياد ويزيد بن معاوية
ص: 148
ابن أبي سفيان.
المدفن: كربلاء المقدسة، حيث مزاره الآن.
روي عن أسماء أنّها قالت: لما ولدت فاطمة (عليها السلام) الحسين (عليه السلام) جاءني النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال: «هلمّي ابني يا أسماء».
فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسن (عليه السلام) ، قالت: وبكى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال: «إنه سيكون لك حديث، اللّهم ألعن قاتله، لا تعلمي فاطمة بذلك».
قالت أسماء: فلما كان في يوم سابعه جاءني النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال: «هلمّي ابني، فأتيته به ففعل به كما فعل بالحسن (عليه السلام) ، وعقّ عنه كما عقَّ عن الحسن كبشاً أملح وأعطى القابلة الورك ورجلاً، وحلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر ورقاً(1)، وخلّق رأسه بالخلوق(2)، وقال: «إنّ الدم من فعل الجاهلية» قالت: ثم وضعه في حجره ثم قال: «يا أبا عبد اللّه عزيز عليّ»، ثم بكى.
فقلت: بأبي أنت وأمي فعلت في هذا اليوم وفي اليوم الأول فما هو؟
قال: «أبكي على ابني، تقتله فئة باغية كافرة من بني أمية لعنهم اللّه لاأنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر باللّه العظيم».
ثم قال: «اللّهم إني أسألك فيهما - الحسن والحسين (عليهما السلام) - ما سألك
ص: 149
إبراهيم (عليه السلام) في ذريته، اللّهم أحبهما وأحبّ من يحبّهما والعن من يبغضهما ملء السماء والأرض»(1).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الحسين بن علي (عليه السلام) لما وُلد أمر اللّه عزّوجلّ جبرئيل أن يهبط في ألف من الملائكة فيهنئ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من اللّه ومن جبرئيل.
قال: فهبط جبرئيل، فمرّ على جزيرة في البحر فيها ملك يقال له: فطرس، كان من الحملة، بعثه اللّه عزّوجلّ في شيء فأبطأ عليه، فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة، فعبد اللّه تبارك وتعالى فيها سبعمائة عام حتى وُلد الحسين بن علي (عليه السلام) ، فقال الملك لجبرئيل: يا جبرئيل أين تريد؟
قال: إنّ اللّه عزّوجلّ أنعم على محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بنعمة فبعثت أهنئه من اللّه ومنّي.
فقال: يا جبرئيل احملني معك لعل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) يدعو لي.
قال: فحمله.
قال: فلما دخل جبرئيل على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) هنأه من اللّه ومنه وأخبره بحال فطرس.
فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : قل له تمسّح بهذا المولود وعد إلى مكانك، فتمسّح فطرس بالحسين بن علي (عليه السلام) وارتفع.
فقال: يا رسول اللّه، أما إنّ أمتك ستقتله وله عليّ مكافأة ألا يزوره زائر إلا
ص: 150
أبلغته عنه، ولا يسلِّم عليه مسلّم إلا أبلغته سلامه، ولا يصلّي عليه مصلّ إلا أبلغته صلاته ثم ارتفع»(1).
وروي في أحاديث عديدة من طرق الخاصة والعامّة أنّه طالما كانت تنام فاطمة الزهراء (عليها السلام) فإذا بكى الحسين (عليه السلام) في المهد يأتي جبرئيل (عليه السلام) ويحرّك مهده ويتكلّم معه حتى يسكت من البكاء، ولما كانت تفيق من النوم ترى المهد يتحرّك وتسمع الكلام لكن لا ترى أحداً، فلما سألت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، قال لها: «إنّه جبرئيل»(2).
روى ابن شهر آشوب في مناقبه عن الإمام محمد بن علي (عليه السلام) أنه قال:
«أذنب رجل ذنباً في حياة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فتغيب حتى وجد الحسن والحسين (عليهما السلام) في طريق خال، فأخذهما فاحتملهما على عاتقيه، وأتى بهما النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال: يا رسول اللّه، إنّي مستجير باللّه وبهما.
فضحك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى رد يده إلى فمه، ثم قال للرجل: اذهب وأنت طليق.
وقال للحسن والحسين (عليهما السلام) : قد شفّعتكما فيه أي فتيان، فأنزل اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ
ص: 151
ٱللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}(1)»(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ اللّه من أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط»(3).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء، فلينظر إلى الحسين»(4).
وعن سلمان الفارسي (رحمه الله) ، قال: دخلت على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فإذا الحسين (عليه السلام) على فخذيه وهو يقبّل عينيه ويلثم فاه وهو يقول: «أنت سيد بن سيد، أنت إمام ابن إمام، أنت حجّة بن حجّة أبو حجج، تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم»(5).
وعن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: «دخلت أنا وأخي على جدّي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأجلسني على فخذه وأجلس أخي الحسن على فخذه الأخرى ثم قال لنا: بأبي أنتما من إمامين صالحين اختاركما اللّه منّي ومن أبيكما وأمّكما، واختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم قائمهم كلّهم في الفضل والمنزلة سواء»(6).
ص: 152
وعن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول للحسين (عليه السلام) : «يا حسين، أنت الإمام ابن الإمام، تسعة من ولدك أئمة أبرار تاسعهم قائمهم» فقيل: يا رسول اللّه، كم الأئمة بعدك؟ قال: «اثنا عشر من صلب الحسين»(1).
عن أم سلمة أنّها قالت: إنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) دخلا على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبين يديه جبرئيل، فجعلا يدوران حوله يشبّهانه بدحية الكلبي، فجعل جبرئيل (عليه السلام) يوميء بيده كالمتناول شيئاً، فإذا في يده تفاحة وسفرجلة ورمانة فناولهما، وتهلّل وجهاهما، وسعيا إلى جدّهما، فأخذ منهما فشمّهما، ثم قال: «صيرا إلى أمكما بما معكما وابدءا بأبيكما»، فصارا كما أمرهما، فلم يأكلوا حتى صار النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إليهم فأكلوا جميعاً، فلم يزل كلّما أكل منه عاد إلى ما كان حتى قبض رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، قال الحسين (عليه السلام) : «فلم يلحقه التغيير والنقصان أيام فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى توفّيت، فلما توفّيت فقدنا الرمان، وبقي التفّاح والسفرجل أيام أبي، فلما استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد السفرجل وبقي التفّاح على هيئته عند الحسن (عليه السلام) حتى مات في سمّه، وبقيت التفاحة إلى الوقت الذي حوصرت عن الماء فكنت أشمّها إذا عطشت فيسكن لهب عطشي، فلما اشتدّ عليّ العطش عضضتها وأيقنت بالفناء»، قال علي بن الحسين (عليه السلام) : «سمعته يقول ذلك قبل مقتله بساعة، فلما قضى نحبه وجد ريحها في مصرعه فالتمست ولم ير لها
ص: 153
أثر، فبقي ريحها بعد الحسين (عليه السلام) ، ولقد زرت قبره فوجدت ريحها تفوح من قبره، فمن أراد ذلك من شيعتنا الزائرين للقبر فليلتمس ذلك في أوقات السحر فإنّه يجده إذا كان مخلصاً»(1).
روى العياشي وغيره أنه مرّ الحسين بن علي (عليه السلام) بمساكين قد بسطوا كساءً لهم فألقوا عليه كسراً فقالوا: هلمّ يا ابن رسول اللّه.
فثنّى وركه فأكل معهم، ثم تلا: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ}(2).
ثم قال: «قد أجبتكم فأجيبوني».
قالوا: نعم يا ابن رسول اللّه وتعمى عين، فقاموا معه حتى أتوا منزله، فقال للرباب: «أخرجي ما كنت تدّخرين»(3).
قدم أعرابي المدينة فسأل عن أكرم الناس بها، فدلّ على الحسين (عليه السلام) ، فدخل المسجد فوجده مصلياً، فوقف بإزائه وأنشأ:
لم يخب الآن من رجاك ومن***حرّك من دون بابك الحلقة
أنت جواد وأنت معتمد***أبوك قد كان قاتل الفسقة
لولا الذي كان من أوائلكم***كانت علينا الجحيم منطبقة
قال: فسلّم الحسين (عليه السلام) وقال: «يا قنبر هل بقي شيء من مال الحجاز؟».
ص: 154
قال: نعم أربعة آلاف دينار.
فقال: «هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منّا»، ثم نزع (عليه السلام) بُرديه ولفّ الدنانير فيهما وأخرج يده من شق الباب حياءً من الأعرابي وأنشأ:
خذها فإنّي إليك معتذر***واعلم بأنّي عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصاً***أمست سمانا عليك مندفقة
لكن ريب الزمان ذو غير***والكف منّي قليلة النفقة
قال: فأخذها الأعرابي وبكى، فقال له: «لعلك استقللت ما أعطيناك»؟.
قال: لا ولكن كيف يأكل التراب جودك(1).
وعن عمرو بن دينار، قال: دخل الحسين (عليه السلام) على أسامة بن زيد وهو مريض وهو يقول: واغمّاه.
فقال له الحسين (عليه السلام) : «وما غمّك يا أخي؟».
قال: ديني وهو ستون ألف درهم.
فقال الحسين (عليه السلام) : «هو عليّ».
قال: إني أخشى أن أموت.
فقال الحسين (عليه السلام) : «لن تموت حتى أقضيها عنك».
قال: فقضاها قبل موته(2).
هذا وقد وجدوا على ظهر الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الطف أثراً، فسألوا الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك؟
فقال:«هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى
ص: 155
والمساكين»(1).
وقد نُسب إليه فيما أنشده (عليه السلام) في الجود والكرم:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها***على الناس طراً قبل أن تتفلّت
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت***ولا البخل يبقيها إذا ما تولّت(2)
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: «مات رجل من المنافقين، فخرج الحسين بن علي (عليه السلام) يمشي، فلقي مولى له فقال له: أين تذهب؟
فقال: أفرّ من جنازة هذا المنافق أن اُصلي عليه.
قال: قم إلى جنبي فما سمعتني أقول فقل، قال: فرفع يده وقال: اللّهم العن عبدك ألف لعنة مختلفة، اللّهم أخز عبدك في بلادك وعبادك، اللّهم أصله حر نارك، اللّهم أذقه أشد عذابك، فإنه كان يوالي أعدائك ويعادي أوليائك ويبغض أهل بيت نبيك»(3).
قال سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات اللّه وسلامه عليه) في وصيته (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية يبين فيها (صلوات اللّه عليه) بعض أهداف خروجه، فدعا بدواة وبياض وكتب:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي
ص: 156
طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لاشريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأنّ الجنة والنار حق، {وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ}(1)، وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي (صلی الله عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق {وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ}(2)، وهذه وصيتي يا أخي إليك {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(3)»(4).
وعن عبد اللّه بن منصور وكان رضيعا لبعض ولد زيد بن علي قال: سألت جعفر بن محمد بن علي الحسين (عليهما السلام) ، فقلت: حدّثني عن مقتل ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فقال: حدّثني أبي عن أبيه (عليه السلام) ، قال: «لما حضرت معاوية الوفاة دعا ابنه يزيد لعنه اللّه فأجلسه بين يديه فقال له: يا بني إنّي قد ذللّت لك الرقاب الصعاب ووطدت لك البلاد وجعلت الملك وما فيه لك طعمة، وإنّي أخشى عليك من ثلاثة نفر يخالفون عليك بجهدهم، وهم: عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، وعبد اللّه ابن الزبير والحسين بن علي، فأمّا عبد اللّه بن عمر فهو
ص: 157
معك فالزمه ولا تدعه، وأمّا عبد اللّه بن الزبير فقطّعه إن ظفرت به إرباً إرباً، فإنّه يجثو لك كما يجثو الأسد لفريسته ويؤاربك(1) مؤاربة الثعلب للكلب، وأمّا الحسين فقد عرفت حظّه من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو من لحم رسول اللّه ودمه، وقد علمت لا محالة أنّ أهل العراق سيخرجونه إليهم، ثم يخذلونه و يضيعونه، فإن ظفرت به فاعرف حقّه و منزلته من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا تؤاخذه بفعله، ومع ذلك فإنّ لنا به خلطة ورحماً، وإيّاك أن تناله بسوء أو يرى منك مكروهاً.
قال: فلما هلك معاوية وتولّى الأمر بعده يزيد (لعنه اللّه) بعث عامله على مدينة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو عمّه عتبة بن أبي سفيان، فقدم المدينة وعليها مروان بن الحكم وكان عامل معاوية، فأقامه عتبة من مكانه وجلس فيه لينفذ فيه أمر يزيد، فهرب مروان فلم يقدر عليه، وبعث عتبة إلى الحسين بن علي (عليهما السلام) ، فقال: إنّ أمير المؤمنين! أمرك أن تبايع له.
فقال الحسين (عليه السلام) : يا عتبة قد علمت إنّا أهل بيت الكرامة ومعدن الرسالة وأعلام الحق، الذين أودعه اللّه عزّوجلّ قلوبنا وأنطق به ألسنتنا، فنطقت بإذن اللّه عزّوجلّ، ولقد سمعت جدّي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّ الخلافة محرّمة على ولد أبي سفيان، وكيف أبايع أهل بيت قد قال فيهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) هذا؟!
فلما سمع عتبة ذلك دعا الكاتب وكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلى عبد اللّه يزيد أمير المؤمنين! من عتبة بن أبي سفيان، أما بعد فإنّ الحسين بن علي ليس يرى لك خلافة ولا بيعة، فرأيك في أمره والسلام.
ص: 158
فلما ورد الكتاب على يزيد لعنه اللّه كتب الجواب إلى عتبة: أمّا بعد فإذا أتاك كتابي هذا فعجّل عليّ بجوابه وبيّن لي في كتابك كل من في طاعتي أو خرج عنها، وليكن مع الجواب رأس الحسين بن علي (عليه السلام) .
فبلغ ذلك الحسين (عليه السلام) فهمّ بالخروج من أرض الحجاز إلى أرض العراق، فلما أقبل الليل راح إلى مسجد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ليودع القبر، فلما وصل إلى القبر سطع له نور من القبر فعاد إلى موضعه، فلما كانت الليلة الثانية راح ليودع القبر، فقام يصلّي فأطال فنعس وهو ساجد، فجاءه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو في منامه، فأخذ الحسين وضمّه إلى صدره وجعل يقبّل عينيه ويقول: بأبي أنت، كأنّي أراك مرملاً بدمك بين عصابة من هذه الأمة يرجون شفاعتي ما لهم عند اللّه من خلاق، يا بنيّ، إنّك قادم على أبيك وأمّك وأخيك وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة، فانتبه الحسين (عليه السلام) من نومه باكياً، فأتى أهل بيته فأخبرهم بالرؤيا، وودّعهم وحمل أخواته على المحامل وابنته وابن أخيه القاسم بن الحسن ابن علي (عليه السلام) ، ثم سار في أحد وعشرين رجلاً من أصحابه وأهل بيته، منهم أبو بكر بن علي ومحمد بن علي وعثمان بن علي والعباس بن علي وعبد اللّه بن مسلم بن عقيل وعلي بن الحسين الأكبر وعلي بن الحسين الأصغر (عليه السلام) .
وسمع عبد اللّه بن عمر بخروجه فقدم راحلته وخرج خلفه مسرعاً فأدركه في بعض المنازل، فقال: أين تريد يا ابن رسول اللّه؟
قال: العراق.
قال: مهلاً ارجع إلى حرم جدك.
فأبى الحسين (عليه السلام) عليه.
ص: 159
فلما رأى ابن عمر إباءه، قال: يا أبا عبد اللّه، اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقبّله منك.
فكشف الحسين (عليه السلام) عن سرته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى، وقال: أستودعك اللّه يا أبا عبد اللّه، فإنّك مقتول في وجهك هذا.
فسار الحسين (عليه السلام) وأصحابه، فلما نزلوا ثعلبية وردّ عليه رجل يقال له: بشر ابن غالب، فقال: يا ابن رسول اللّه أخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ}(1).
قال: إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وهو قوله عزّوجلّ: {فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ}(2).
ثم سار (عليه السلام) حتى نزل العذيب، فقال فيها قائلة الظهيرة، ثم انتبه من نومه، فقال له ابنه: ما يبكيك يا أبة؟
فقال: يا بني إنّها ساعة لا تكذّب الرؤيا فيها وإنّه عرض لي في منامي عارض، فقال: تسرعون السير والمنايا تسير بكم إلى الجنة.
ثم سار (عليه السلام) حتى نزل الرهيمة، فورد عليه رجل من أهل الكوفة يكنّى: أبا هرم، فقال: يا ابن النبي ما الذي أخرجك من المدينة؟
فقال (عليه السلام) : ويحك يا أبا هرم، شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم اللّه، ليقتلني ثم ليلبسنهم اللّه ذلّاً شاملاً
ص: 160
وسيفاً قاطعاً وليسلطنّ عليهم من يذلّهم.
قال: وبلغ عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه الخبر و إنّ الحسين (عليه السلام) قد نزل الرهيمة، فأرسل إليه الحر بن يزيد في ألف فارس، قال الحر: فلما خرجت من منزلي متوجهاً نحو الحسين (عليه السلام) نوديت ثلاثاً: يا حر أبشر بالجنة، فالتفت فلم أر أحداً، فقلت: ثكلت الحر أمه يخرج إلى قتال ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) و يبشر بالجنة! فرهقه عند صلاة الظهر، فأمر الحسين (عليه السلام) ابنه فأذّن وأقام، وقام الحسين (عليه السلام) فصلّى بالفريقين، فلما سلّم وثب الحر بن يزيد، فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.
فقال الحسين: وعليك السلام من أنت يا عبد اللّه؟
فقال: أنا الحر بن يزيد.
فقال: يا حر، أعلينا أم لنا؟
فقال: الحر واللّه يا ابن رسول اللّه، لقد بعثت لقتالك، وأعوذ باللّه أن أحشر من قبري وناصيتي مشدودة إلى رجلي، ويدي مغلولة إلى عنقي، وأكبّ على حرّ وجهي في النار، يا ابن رسول اللّه، أين تذهب ارجع إلى حرم جدّك فإنّك مقتول.
فقال الحسين (عليه السلام) :
سأمضي فما بالموت عار على الفتى***إذا ما نوى حقاً و جاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه***وفارق مثبوراً و خالف مجرما
فإن متّ لم أندم وإن عشت لم ألم***كفى بك ذلاً أن تموت و ترغما
ص: 161
إلى أن قال: ثم سار (عليه السلام) حتى نزل كربلاء، فقال: أيّ موضع هذا؟
فقيل: هذا كربلاء يا ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فقال (عليه السلام) : هذا واللّه يوم كرب وبلاء، وهذا الموضع الذي يهراق فيه دماؤنا، ويباح فيه حريمنا.
فأقبل عبيد اللّه بن زياد بعسكره حتى عسكر بالنخيلة، وبعث إلى الحسين (عليه السلام) رجلاً يقال له: عمر بن سعد في أربعة آلاف فارس، وأقبل عبد اللّه بن الحصين التميمي في ألف فارس، يتبعه شبث بن ربعي في ألف فارس، ومحمد بن الأشعث بن قيس الكندي أيضاً في ألف فارس، وكتب لعمر بن سعد على الناس، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوه، فبلغ عبيد اللّه بن زياد أنّ عمر بن سعد يسامر الحسين (عليه السلام) ويحدّثه ويكره قتاله، فوجّه إليه شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف فارس، و كتب إلى عمر بن سعد: إذا أتاك كتابي هذا، فلا تمهلنّ الحسين بن علي وخذ بكظمه، وحل بين الماء وبينه كما حيل بين عثمان وبين الماء يوم الدار.
فلما وصل الكتاب إلى عمر بن سعد لعنه اللّه أمر مناديه فنادى: أنا قد أجلنا حسيناً وأصحابه يومهم وليلتهم.
فشقّ ذلك على الحسين (عليه السلام) وعلى أصحابه، فقام الحسين (عليه السلام) في أصحابه خطيباً، فقال: «اللّهم إني لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون وأنتم في حلّ من بيعتي ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وتفرّقوا في سواده؛ فإنّ القوم إنما يطلبوني ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري».
ص: 162
فقام عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال: يا ابن رسول اللّه، ماذا يقول لنا الناس إن نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيّدنا وابن سيّد الأعمام وابن نبيّنا سيّد الأنبياء؟ لم نضرب معه بسيف ولم نقاتل معه برمح لا واللّه، أو نرد موردك ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، فإذا نحن فعلنا ذلك فقد قضينا ما علينا وخرجنا مما لزمنا.
وقام إليه رجل يقال له: زهير بن القين البجلي، فقال: يا ابن رسول اللّه، وددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت ثم نُشرت فيك وفي الذين معك مائة قتلة، وإنّ اللّه دفع بي عنكم أهل البيت.
فقال (عليه السلام) له ولأصحابه: جزيتم خيراً.
ثم إنّ الحسين (عليه السلام) أمر بحفيرة فحفرت حول عسكره شبه الخندق، وأمر فحشيت حطباً، وأرسل علياً ابنه (عليه السلام) في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء وهم على وجل شديد.
وأنشأ الحسين (عليه السلام) يقول:
يا دهر أف لك من خليل***كم لك في الإشراق و الأصيل
من طالب و صاحب قتيل***والدهر لا يقنع بالبديل
وإنّما الأمر إلى الجليل***وكل حيّ سالك سبيلي
ثم قال لأصحابه: قوموا فاشربوا من الماء، يكن آخر زادكم وتوضأوا واغتسلوا واغسلوا ثيابكم لتكون أكفانكم.
ثم صلّى (عليه السلام) بهم الفجر وعبّأهم تعبئة الحرب وأمر بحفيرته التي حول عسكره فأضرمت بالنار ليقاتل القوم من وجه واحد.
إلى أن قال: فبلغ العطش من الحسين (عليه السلام) وأصحابه فدخل عليه رجل
ص: 163
من شيعته يقال له: يزيد بن الحصين الهمداني، قال إبراهيم بن عبد اللّه - راوي الحديث - : هو خال أبي إسحاق الهمداني، فقال: يا ابن رسول اللّه، تأذن لي فأخرج إليهم فأكلّمهم، فأذن له فخرج إليهم، فقال: يا معشر الناس، إنّ اللّه عزّوجلّ بعث محمداً بالحق بشِيراً ونذِيراً {وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(1) وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها، وقد حيل بينه وبين ابنه!
فقالوا: يا يزيد، فقد أكثرت الكلام فاكفف، فواللّه ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله.
فقال الحسين (عليه السلام) : اقعد يا يزيد.
ثم وثب الحسين (عليه السلام) متوكئاً على سيفه فنادى بأعلى صوته، فقال: أنشدكم اللّه هل تعرفوني؟
قالوا: نعم، أنت ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وسبطه.
قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ أمي فاطمة بنت محمد؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ أبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجة بنت خويلد أول نساء
ص: 164
هذه الأمة إسلاماً؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ سيد الشهداء حمزة عمّ أبي؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: فأنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ جعفر الطيار في الجنة عمّي؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول اللّه وأنا متقلّده؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول اللّه أنا لابسها؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: فأنشدكم اللّه هل تعلمون أنّ علياً كان أولهم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً وأنّه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟
قالوا: اللّهم نعم.
قال: فبم تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض غداً يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء ولواء الحمد في يدي جدّي يوم القيامة؟
قالوا: قد علمنا ذلك كلّه ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً.
فأخذ الحسين (عليه السلام) بطرف لحيته وهو يومئذ ابن سبع و خمسين سنة ثم قال: اشتدّ غضب اللّه على اليهود حين قالوا: {عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ}(1) واشتد غضب اللّه على النصارى حين قالوا: {ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ}(2)
واشتد غضب اللّه
ص: 165
على المجوس حين عبدوا النار من دون اللّه، واشتد غضب اللّه على قوم قتلوا نبيّهم، واشتد غضب اللّه على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم.
وهجم القوم على الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، فقتلوا جميع أصحابه وأقربائه وإخوانه وأولاده حتى الطفل الرضيع حيث ذبحوه من الوريد إلى الوريد ومن الأذن إلى الأذن.
ولم يبق إلا الإمام الحسين (عليه السلام) وحيداً فريداً بين الأعداء، فأخذ ينادي: هل من ناصر ينصرني هل من معين يعينني هل من ذاب يذب عن حرم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولكنهم هجموا عليه فأخذ يقاتلهم مقاتلة الأبطال، حتى اثخن بالجراح، فقتله اللعين شمر بن ذي الجوشن وسنان الأيادي(1).
في الرواية: أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) بعد استشهاد أنصاره وأهل بيته وقف وحيداً فريداً في ظهر عاشوراء، فنظر يميناً وشمالاً فلم ير أحدا فرفع رأسه إلى السماء، فقال: «اللّهم إنّك ترى ما يصنع بولد نبيك»، وحال بنو كلاب بينه وبين الماء... .
وقد رُمي الإمام (عليه السلام) بسهم فوقع في نحره، وخرّ عن فرسه، فأخذ السهم فرمى به وجعل يتلقّى الدم بكفه فلما امتلأت لطّخ بها رأسه ولحيته ويقول: «ألقى اللّه عزّوجلّ وأنا مظلوم متلطّخ بدمي»، ثم خرّ على خدّه الأيسر صريعاً.
وأقبل عدوّ اللّه سنان بن أنس الأيادي وشمر بن ذي الجوشن العامري
ص: 166
(لعنهما اللّه) في رجال من أهل الشام حتى وقفوا على رأس الحسين (عليه السلام) ، فقال بعضهم لبعض: ما تنتظرون أريحوا الرجل، فنزل سنان بن أنس الأيادي (لعنه اللّه) وأخذ بلحية الحسين (عليه السلام) وجعل يضرب بالسيف في حلقه وهو يقول: واللّه إنّي لأجتز رأسك وأنا أعلم أنك ابن رسول اللّه وخير الناس أباً وأماً... .
وأقبل فرس الحسين (عليه السلام) حتى لطّخ عرفه وناصيته بدم الحسين وجعل يركض ويصهل، فسمعت بنات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) صهيله فخرجن فإذا الفرس بلا راكب فعرفن أنّ حسيناً (عليه السلام) قد قُتل... .
وخرجت أمّ كلثوم بنت الحسين (عليه السلام) واضعة يدها على رأسها تندب وتقول: «وا محمداه... هذا الحسين بالعراء قد سلب العمامة والرداء»(1).
ثم هجموا على خيام الرسالة فأحرقوها ونهبوا ما فيها، ثم أخذوا العيال والأطفال أسارى إلى الكوفة وإلى الشام ومعهم الرؤوس الطاهرة.
وأقبل سنان حتى أدخل رأس حسين بن علي (عليه السلام) على عبيد اللّه بن زياد وهو يقول:
املأ ركابي فضة و ذهبا***إنّي قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أماً وأبا***وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال له عبيد اللّه بن زياد: ويحك فإن علمت أنّه خير الناس أباً وأمّاً لم قتلته إذاً؟!
ص: 167
فأمر به فضربت عنقه، وعجل اللّه بروحه إلى النار(1).
إلى آخر ما جرى من مصائب عظيمة على عيال الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) في الكوفة وفي الشام وفي الطريق.
ورد في الروايات: عن أبي عمارة المنشد قال: ما ذكر الحسين (عليه السلام) عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) في يوم قط فرئي أبو عبد اللّه في ذلك اليوم متبسّماً قط إلى الليل(2).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «قال الحسين بن علي (عليه السلام) : أنا قتيل العبرة لايذكرني مؤمن إلا استعبر»(3).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : «إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتك فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حرمة في أمرنا، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا يا أرض كرب وبلاء أورثتنا الكرب البلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء يحط الذنوب العظام»، ثم قال (عليه السلام) : «كان أبي (عليه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة
ص: 168
أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) »(1).
عن ميثم التمار عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أنّه يبكي عليه - أي على الحسين (عليه السلام) - كل شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحر، والطير في السماء، ويبكي عليه الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض، ومؤمنو الإنس والجن وجميع ملائكة السماوات والأرضين، ورضوان ومالك وحملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً»(2).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن أبا عبد اللّه (عليه السلام) لما مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، ومن فيهن وما بينهن، ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا، وما يرى وما لا يرى»(3).
وعن عمار بن أبي عمار قال: أمطرت السماء يوم قتل الحسين (عليه السلام) دماً عبيطاً(4).
وعن نضرة الأزدية قالت: لما قتل الحسين أمطرت السماء دماً وحبابنا وجرارنا صارت مملوءة دماً(5).
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «يا زرارة، إنّ السماء بكت على الحسين (عليه السلام) أربعين
ص: 169
صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإنّ الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنّ الجبال تقطعت وانتثرت، وإنّ البحار تفجرّت، وإنّ الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين (عليه السلام) ، وما اختضبت منا امرأة ولا ادَّهنت ولا اكتحلت ولا رجَّلت حتى أتانا رأس عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه، وما زلنا في عبرة بعده، وكان جدّي (عليه السلام) إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته، وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه، وإنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة»(1).
وسُمع نوح الملائكة في أول منزل نزل جيش يزيد قاصدين إلى الشام، ومعهم الأسرى والرؤوس الطاهرة:
أيّها القاتلون جهلاً حسيناً***أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم***من نبي ومرسل وقبيل
قد لعنتم على لسان ابن داود***وموسى وصاحب الإنجيل(2)
ولما قُتل الحسين (عليه السلام) بكت عليه الجنّ وسُمع لهم هذه الأبيات:
يا عين جودي بالعبر***وابكي فقد حقّ الخبر
ابكي ابن فاطمة الذي***ورد الفرات فما صدر
الجن تبكي شجوها***لما أتي منه الخبر
ص: 170
قُتل الحسين ورهطه***تعساً لذلك من خبر
فلأبكينك حرقة***عند العشاء وبالسحر
ولأبكينك ما جرى***عرق وما حمل الشجر(1)
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «بأبي وأمّي الحسين المقتول بظهر الكوفة، ولكأنِّي أنظر إلى الوحش مادة أعناقها على قبره من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتى الصباح، فإن كان ذلك فإياكم والجفا»(2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «بكت الإنس والجن والطير والوحش على الحسين بن علي (عليه السلام) حتى ذرفت دموعها»(3).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «اتخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم فإنّها تلعن قتلة الحسين (عليه السلام) ولعن اللّه قاتله»(4).
لقد شارك الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) الإمام الحسين (عليه السلام) في مصيبته وواسوه ببكائهم عند ذكره (عليه السلام) وربما بدمائهم أيضاً عند وصولهم إلى أرض كربلاء المقدّسة، وذلك محبّة منهم للسبط الشهيد (عليه السلام) ومواساة لجدّه الحبيب (صلی الله عليه وآله وسلم) مع أنّ واقعة عاشوراء لم تكن حدثت بعدُ، وربما كان
ص: 171
الفاصل بين مواساة الأنبياء (عليهم السلام) والواقعة آلاف السنين، ولكن وعلى الرغم من ذلك ولعظمة الفاجعة فقد واسوه (عليه السلام) وشاطروه بالمصاب.
وهناك روايات عديدة في هذا المجال ممّا يدل على استحباب المواساة مع الإمام الحسين (عليه السلام) بالدم وبمختلف أنواع العزاء، وقد أفتى بذلك الفقهاء والمراجع.
ففي الروايات: «إنّ آدم (عليه السلام) لما هبط إلى الأرض لم ير حواء فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء فاغتم وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) ، حتى سال الدم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي هل حدث منّي ذنب آخر(1) فعاقبتني به؟ فإني طفت جميع الأرض، وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض.
فأوحى اللّه تعالى إليه: يا آدم ما حدث منك ذنب، ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين (عليه السلام) ظلماً، فسال دمك موافقة لدمه.
فقال آدم: يا رب أيكون الحسين (عليه السلام) نبياً؟
قال: لا، ولكنّه سبط النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فقال: ومن القاتل له؟
قال: قاتله يزيد لعين أهل السماوات والأرض.
فقال آدم: فأيّ شيء أصنع يا جبرئيل؟
فقال: العنه يا آدم، فلعنه أربع مرات ومشى خطوات إلى جبل عرفات
ص: 172
فوجد حوّاء هناك»(1).
وروي: «أنّ نبي اللّه نوح لما ركب في السفينة طافت به جميع الدنيا، فلما مرّت بكربلاء أخذته الأرض وخاف نوح الغرق، فدعا ربّه، وقال: إلهي طفت جميع الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض... .
فنزل جبرئيل (عليه السلام) ، وقال: يا نوح في هذا الموضع يقتل الحسين (عليه السلام) سبط محمد خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء.
فقال: ومن القاتل له يا جبرئيل؟
قال: قاتله لعين أهل سبع سماوات وسبع أرضين، فلعنه نوح أربع مرات، فسارت السفينة حتى بلغت الجوديّ واستقرّت عليه»(2).
وروي: «أنّ نبي اللّه إبراهيم (عليه السلام) مرّ في أرض كربلاء وهو راكب فرساً فعثرت به وسقط إبراهيم وشجّ رأسه وسال دمه، فأخذ في الاستغفار، وقال: إلهي أيّ شيء حدث منّي؟
فنزل إليه جبرئيل (عليه السلام) ، وقال: يا إبراهيم ما حدث منك ذنب، ولكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء، فسال دمك موافقة لدمه.
فرفع إبراهيم (عليه السلام) يديه ولعن يزيد لعناً كثيراً، وأمّن فرسه بلسان فصيح، فقال إبراهيم لفرسه: أيّ شيء عرفت حتى تؤّمن على دعائي؟
ص: 173
فقال: يا إبراهيم أنا أفتخر بركوبك عليّ، فلمّا عثرتُ وسقطت عن ظهري عظمت خجلتي وكان سبب ذلك من يزيد لعنه اللّه تعالى»(1).
وروي: «أنّ نبي اللّه اسماعيل (عليه السلام) كانت أغنامه ترعى بشط الفرات، فأخبره الراعي أنّها لا تشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً، فسأل ربّه عن سبب ذلك، فنزل جبرئيل (عليه السلام) ، وقال: يا إسماعيل سل غنمك فإنّها تجيب عن سبب ذلك... .
فقال لها: لم لا تشربين من هذا الماء؟
فقالت بلسان فصيح: قد بلغنا أنّ ولدك الحسين (عليه السلام) سبط محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) يقتل هنا عطشاناً فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزناً عليه.
فسألها عن قاتله، فقالت: يقتله لعين أهل السماوات والأرضين والخلائق أجمعين.
فقال إسماعيل: اللّهم العن قاتل الحسين (عليه السلام) »(2).
وروي: «أنّ نبي اللّه موسى (عليه السلام) كان ذات يوم سائراً ومعه يوشع بن نون (عليه السلام) ، فلما جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه(3)، ودخل الخسك في رجليه وسال دمه، فقال: إلهي أيّ شيء حدث منّي؟
ص: 174
فأوحى اللّه إليه أنّ هنا يقتل الحسين (عليه السلام) ، وهنا يسفك دمه، فسال دمك موافقة لدمه.
فقال: رب ومن يكون الحسين (عليه السلام) ؟
فقيل له: هو سبط محمد المصطفى وابن علي المرتضى (عليهما السلام) .
قال: ومن يكون قاتله؟
فقيل: هو لعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء.
فرفع موسى (عليه السلام) يديه ولعن يزيد ودعا عليه وأمن يوشع بن نون على دعائه ومضى لشأنه»(1).
وروي: «أنّ نبي اللّه سليمان كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء، فمرّ ذات يوم وهو سائر في أرض كربلاء، فأدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتى خاف السقوط فسكنت الريح، ونزل البساط في أرض كربلاء.
فقال سليمان للرّيح: لم سكنتي؟
فقالت: إنّ هنا يقتل الحسين (عليه السلام) .
فقال (عليه السلام) : ومن يكون الحسين؟
فقالت: هو سبط محمد المختار، وابن عليّ الكرار.
فقال: ومن قاتله؟
قالت: لعين أهل السماوات والأرض يزيد.
فرفع سليمان يديه، ولعنه ودعا عليه وأمّن على دعائه الإنس والجن
ص: 175
فهبّت الريح وسار البساط»(1).
وروي: «أنّ نبي اللّه عيسى (عليه السلام) كان سائحاً في البراري ومعه الحواريّون فمرّوا بكربلاء، فرأوا أسداً كاسراً قد أخذ الطريق، فتقدّم عيسى (عليه السلام) إلى الأسد، فقال له: لم جلست في هذا الطريق؟ وقال: لا تدعنا نمر فيه؟
فقال الأسد بلسان فصيح: إنّي لم أدع لكم الطريق حتى تلعنوا يزيد قاتل الحسين (عليه السلام) .
فقال عيسى (عليه السلام) : ومن يكون الحسين (عليه السلام) ؟
قال: هو سبط محمد النبي الأمّي وابن علي الوليّ (عليهما السلام) .
قال: ومن قاتله؟
قال: قاتله لعين الوحوش والذباب والسّباع أجمع خصوصاً أيام عاشوراء.
فرفع عيسى (عليه السلام) يديه ولعن يزيد ودعا عليه وأمّن الحواريّون على دعائه، فتنحّى الأسد عن طريقهم ومضوا لشأنهم»(2).
من أهم المستحبات الشرعية هي إقامة الشعائر الحسينية بمختلف أصنافها، من إقامة المجالس وعقد الندوات والمواكب والبكاء واللطم والزنجيل والتطبير وما أشبه، وقد أفتى الفقهاء بجوازها بل استحبابها(3).
ص: 176
وقد ورد عن الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: «ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة، أو دمعت عيناه فينا دمعة إلا بوّأه اللّه بها في الجنة حقباً»(1).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : «من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(2).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «من ذكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على اللّه عزّوجلّ، ولم يرض له بدون الجنة»(3).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى اللّه له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل اللّه عزّوجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه، ومن سمّى يوم عاشوراء يوم بركة وادخر فيه لمنزلة شيئاً لم يبارك له فيما ادخر، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد اللّه بن زياد وعمر بن سعد لعنهم اللّه إلى أسفل درك من النار» (4).
ص: 177
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الحسين بن علي عند ربّه ينظر إلى موضع معسكره ومن حله من الشهداء معه، وينظر إلى زواره، وهو أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وبدرجاتهم ومنزلتهم عند اللّه عزّوجلّ من أحدكم بولده، وإنّه ليرى من يبكيه فيستغفر له ويسأل آباءه (عليهم السلام) أن يستغفروا له ويقول: لو يعلم زائري ما أعدّ اللّه له كان فرحه أكثر من جزعه، وإنّ زائره لينقلب وما عليه من ذنب»(1).
وعن الرضا (عليه السلام) : «يا بن شبيب، إن سرّك أن تلقى اللّه عزّوجلّ ولا ذنب عليك فزر الحسين (عليه السلام) »(2).
عن داود الرقي، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) إذا استسقى الماء، فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثم قال: «يا داود لعن اللّه قاتل الحسين (عليه السلام) وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين وأهل بيته ولعن قاتله إلا كتب اللّه عزّوجلّ له مائة ألف حسنة، وحطَّ عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنّما اعتق مائة ألف نسمة، وحشره اللّه عزّوجلّ يوم القيامة ثلج الفؤاد»(3).
ص: 178
قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «إيّاك وما تعتذر منه، فإنّ المؤمن لا يسيء ولايعتذر، والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر»(1).
وقال (عليه السلام) : «مالك إن لم يكن لك كنت له فلا تبق عليه، فإنّه لا يبقى عليك وكله قبل أن يأكلك»(2).
وقال (عليه السلام) لابن عباس يوماً: «يا ابن عباس، لا تكلمنّ فيما لا يعنيك فإنّني أخاف عليك فيه الوزر، ولا تكلمنّ فيما يعنيك حتى ترى للكلام موضعاً، فرب متكلّم قد تكلّم بالحق فعيب، ولا تمارين حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يقليك، والسفيه يرديك، ولا تقولن في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلا مثل ما تحب أن يقول فيك إذا تواريت عنه، وأعمل عمل رجلٍ يعلم أنه مأخوذ بالإجرام، مجزى بالإحسان والسلام»(3).
وسأله رجل عن خير الدنيا والآخرة؟ فقال (عليه السلام) : «بسم اللّه الرحمن الرحيم أمّا بعد، فإنّ من طلب رضا اللّه بسخط الناس كفاه اللّه أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط اللّه وكله اللّه إلى الناس والسلام»(1).
وقال (عليه السلام) : «من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم»(2).
وقال رجل للحسين بن علي (عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه أنا من شيعتكم.
قال (عليه السلام) : «اتق اللّه ولا تدعينّ شيئاً يقول اللّه تعالى لك كذبت وفجرت في دعواك، إنّ شيعتنا من سلمت قلوبهم من كل غش وغل ودغل(3)، ولكن قل: أنا من مواليكم ومن محبّيكم»(4).
أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) على الحسين ابنه (عليه السلام) ، فقال له: «يا بني ما السؤود؟».
قال: «اصطناع العشيرة احتمال الجريرة».
قال: «فما الغنى؟» قال: «قلّة أمانيك والرضا بما يكفيك».
ص: 180
قال: «فما الفقر؟» قال: «الطمع وشدّة القنوط».
قال: «فما اللؤم؟» قال: «إحراز المرء نفسه وإسلامه عرسه».
قال: «فما الخرق؟» قال: «معاداتك أميرك ومن يقدر على ضرك ونفعك».
ثم التفت (عليه السلام) إلى الحارث الأعور، فقال: «يا حارث علّموا هذه الحكم أولادكم؛ فإنّها زيادة في العقل والحزم والرأي»(1).
وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : «صاحب الحاجة لم يكرم وجهه عن سؤالك فأكرم وجهك عن ردّه»(2).
وقال (عليه السلام) : «للسلام سبعون حسنة، تسع وستون للمبتدئ، وواحدة للرادّ»(3).
وقال (عليه السلام) لرجل: «يا هذا، لا تجاهد في الرزق جهاد المغالب، ولا تتكل على القدر اتكال مستسلم، فإنّ ابتغاء الرزق من السنة، والإجمال في الطلب من العفّة، ليست العفّة بمانعة رزقاً، ولا الحرص بجالب فضلاً، وإنّ الرزق مقسوم، والأجل محتوم، واستعمال الحرص طالب المأثم»(4).
ص: 181
وقال (عليه السلام) : «من أتانا لم يعدم خصلة من أربع: آية محكمة، وقضية عادلة، وأخاً مستفاداً، ومجالسة العلماء»(1).
وقال (عليه السلام) : «أنا قتيل العبرة قتلت مكروباً، وحقيق عليَّ أن لا يأتيني مكروب قط إلا ردّه اللّه وأقلبه إلى أهله مسروراً»(2).
وقال (عليه السلام) : «من قرأ آية من كلام اللّه تعالى عزّوجلّ في صلاته قائماً يكتب اللّه له بكل حرف مائة حسنة، فإن قرأها في غير الصلاة كتب اللّه له بكل حرف عشراً، فإن استمع القرآن كان له بكل حرف حسنة، وإن ختم القرآن ليلاً صلّت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن ختمه نهاراً صلت عليه الحفظة حتى يمسي، وكانت له دعوة مجابة، وكان خيراً له مما بين السماء إلى الأرض».
قلت: هذا لمن قرأ القرآن فمن لم يقرأه؟
قال: «يا أخا بني أسد، إنّ اللّه جواد ماجد كريم، إذا قرأ ما سمعه معه أعطاه اللّه ذلك»(3).
ذكر عنده (عليه السلام) رجل من بني أمية تصدق بصدقة كثيرة، فقال (عليه السلام) :
ص: 182
«مثله مثل الذي سرق الحاج وتصدّق بما سرق، إنّما الصدقة صدقة من عرق فيها جبينه، واغبر فيها وجهه، مثل علي (عليه السلام) ، ومن تصدّق بمثل ما تصدق به؟»(1).
وقال (عليه السلام) : «من دخل المقابر فقال: اللّهم ربّ هذه الأرواح الفانية، والأجساد البالية، والعظام النخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليهم روحاً منك وسلاماً منّي، كتب اللّه بعدد الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات»(2).
قيل للحسين بن علي (عليه السلام) : كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟
قال (عليه السلام) : «أصبحت ولي ربّ فوقي، والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، ولا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذبني، وإن شاء عفا عنّي، فأي فقير أفقر مني»(3).
وقال (عليه السلام) : «العلم لقاح المعرفة، وطول التجارب زيادة في العقل، والشرف التقوى، والقنوع راحة الأبدان، ومن أحبّك نهاك، ومن أبغضك
ص: 183
أغراك»(1).
وقال (عليه السلام) : «يا أيّها الناس نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم، ولاتحتسبوا بمعروف لم تعجلوا، واكسبوا الحمد بالنجح، ولا تكتسبوا بالمطل ذمّاً، فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة له رأى أنه لا يقوم بشكرها فاللّه له بمكافأته، فإنّه أجزل عطاءً، وأعظم أجراً.
واعلموا أنّ حوائج الناس إليكم من نعم اللّه عليكم فلا تملّوا النعم فتحور نقماً.
واعلموا أنّ المعروف مكسب حمداً ومعقّب أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين، ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجاً مشوهاً تنفر منه القلوب وتغضّ دونه الأبصار.
أيّها الناس، من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإنّ أجود الناس من أعطى من لا يرجو، وأن أعفى الناس من عفا عن قدرة، وإن أوصل الناس من وصل من قطعه، والأصول على مغارسها بفروعها تسمو، فمن تعجّل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً، ومن أراد اللّه تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه، ومن نفّس كربة مؤمن فرّج اللّه عنه كرب الدنيا والآخرة، ومن أحسن أحسن اللّه إليه، واللّه يحب المحسنين»(2).
ص: 184
وقال (عليه السلام) : «كتاب اللّه عزّوجلّ على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء»(1).
وقال (عليه السلام) : «أي بني، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا اللّه جلّ وعزّ»(2).
وقال (عليه السلام) : «أوصيكم بتقوى اللّه وأحذركم أيامه وأرفع لكم إعلامه، فكان المخوف قد أفد بمهول وروده، ونكير حلوله، وبشع مذاقه، فاعتلق مهجكم وحال بين العمل وبينكم، فبادروا بصحة الأجسام في مدّة الأعمار، كأنكم ببغتات طوارقه فتنقلكم من ظهر الأرض إلى بطنها، ومن علوّها إلى سفلها، ومن أنسها إلى وحشتها، ومن روحها وضوئها إلى ظلمتها، ومن سعتها إلى ضيقها، حيث لا يزار حميم، ولا يعاد سقيم، ولا يجاب صريخ، أعاننا اللّه وإياكم على أهوال ذلك اليوم، ونجانا وإياكم من عقابه، وأوجب لنا ولكم الجزيل من ثوابه.
عباد اللّه، فلو كان ذلك قصر مَرْماكم ومدى مظعنكم، كان حسب العامل شغلاً يستفرغ عليه أحزانه، ويذهله عن دنياه، ويكثر نصبه لطلب الخلاص
ص: 185
منه، فكيف وهو بعد ذلك مرتهن باكتسابه، مستوقف على حسابه، لا وزير له يمنعه، ولا ظهير عنه يدفعه، ويومئذ {لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًا قُلِ ٱنتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ}(1).
أوصيكم بتقوى اللّه فإنّ اللّه، قد ضمن لمن اتقاه أن يحوّله عما يكره إلى ما يحب، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(2) فإيّاك أن تكون ممّن يخاف على العباد من ذنوبهم، ويأمن العقوبة من ذنبه، فإنّ اللّه تبارك وتعالى لا يخدع عن جنته، ولا ينال ما عنده إلا بطاعته إن شاء اللّه»(3).
قيل للإمام الحسين (عليه السلام) يوماً: ما أعظم خوفك من ربك؟ قال: «لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف اللّه في الدنيا»(4).
ص: 186
ص: 187
ص: 188
الاسم: علي (عليه السلام) .
الأب: الإمام الحسين (عليه السلام) .
الأم: شاه زنان(1) بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وقيل: إنّ اسمها (شهربانو)(2).
الكنية: أبو محمد، والخاص: أبو الحسن، ويقال: أبو القاسم(3).
الألقاب: زين العابدين، سيد الساجدين، سيد العابدين، الزكي، الأمين، السجاد، ذو الثفنات(4).
بعض الأوصاف: أسمر دقيق.
نقش الخاتم: وما توفيقي إلا باللّه(5).
مكان الولادة: المدينة المنورة.
ص: 189
زمان الولادة: يوم الخميس 15 جمادى الآخرة، وقيل: يوم الخميس لتسع خلون من شعبان، سنة 38 للهجرة، قبل وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) بسنتين. وقيل: سنة 37، وقيل: سنة 36، فبقي مع جده أمير المؤمنين (عليه السلام) أربع سنين ومع عمه الحسن (عليه السلام) عشر سنين ومع أبيه عشر سنين. وقيل: مع جدّه سنتين ومع عمّه اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه ثلاث عشر سنة(1).
مدة العمر: 57 عاماً.
زمان الشهادة: 25/ محرم/ 95 ه، وقيل: سنة 94 ه(2).
مكان الشهادة: المدينة المنورة.
القاتل: هشام بن عبد الملك حيث سمّه بأمر الوليد بن عبد الملك(3).
المدفن: البقيع الغرقد في المدينة المنورة مع عمه الإمام الحسن (عليه السلام) (4)،
حيث مزاره الآن، وقد هدم الوهابيون هذه البقاع الطاهرة.
وقف على الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) رجل فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: «قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه».
فقالوا له: نفعل ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول.
ص: 190
قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}(1)،
فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به، فقال: «قولوا له هذا علي بن الحسين».
قال: فخرج إلينا متوثّباً للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه.
فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام) : «يا أخي إنك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فاستغفر اللّه منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ فغفر اللّه لك».فقبّل الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به(2).
وورد أيضاً أنه قد انتهى الإمام (عليه السلام) ذات يوم إلى قوم يغتابونه، فوقف عليهم فقال: «إن كنتم صادقين فغفر اللّه لي، وإن كنتم كاذبين فغفر اللّه لكم»(3).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «كان بالمدينة رجل بطال يضحك الناس منه، فقال: قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه، يعني علي بن الحسين (عليه السلام) .
قال: فمرّ علي (عليه السلام) وخلفه موليان له، فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته ثم مضى، فلم يلتفت إليه علي (عليه السلام) ، فاتبعوه وأخذوا الرداء منه فجاءوا
ص: 191
به فطرحوه عليه، فقال لهم: من هذا؟
فقالوا له: هذا رجل بطّال يضحك أهل المدينة.
فقال: قولوا له: إنّ لله يوماً يخسر فيه المبطلون»(1).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خدم الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم فرآه رجل فعرفه، فقال لهم: أتدرون من هذا؟
قالوا: لا.
قال: هذا علي بن الحسين (عليهما السلام) .
فوثبوا فقبّلوا يده ورجله وقالوا: يا بن رسول اللّه أردت أن تصلينا نار جهنم، لو بدرت منّا إليك يد أو لسان، أما كنا قد هلكنا آخر الدهر، فما الذي يحملك على هذا؟
فقال: إني كنت سافرت مرة مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما لا أستحق، فإنّي أخاف أن تعطوني مثل ذلك فصار كتمان أمري أحبّ إليّ»(2).
روي: أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي باباً باباً، فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه،
ص: 192
وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه.
فلما توفّي (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان علي بن الحسين (عليه السلام) .
ولما وُضع (عليه السلام) على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين»(1).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «لقد كان - علي بن الحسين (عليهما السلام) - يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضراء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان لهم منهم عيال حمله من طعامه إلى عياله، وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ ويتصدق بمثله»(2).
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «لقد حج الإمام زين العابدين (عليه السلام) على ناقة له عشرين حجّة فما قرعها بسوط، فلما توفّت أمر بدفنها لئلا تأكلها السباع»(3).
أتت فاطمة بنت علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى جابر بن عبد اللّه، فقالت له: يا صاحب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، إنّ لنا عليكم حقوقاً، ومن حقّنا عليكم إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه اللّه وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا
ص: 193
علي بن الحسين (عليه السلام) بقية أبيه الحسين (عليه السلام) قد انخرم أنفه ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه، أذاب نفسه في العبادة.
فأتى جابر إلى بابه واستأذن، فلما دخل عليه وجده في محرابه، قد أنصبته العبادة، فنهض علي (عليه السلام) فسأله عن حاله سؤالاً خفياً، أجلسه بجنبه.
ثم أقبل جابر يقول: يا بن رسول اللّه، أما علمت أنّ اللّه خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟
فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : «يا صاحب رسول اللّه، أما علمت أنّ جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، فلم يدع الاجتهاد له، وتعبّد هو بأبي وأمّي حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً!».
فلما نظر إليه جابر وليس يُغِني فيه قول، قال: يا بن رسول اللّه، البقيا على نفسك، فإنّك من أسرة بهم يستدفع البلاء، وتستكشف اللأواء، وبهم تستمسك السماء.
فقال: «يا جابر، لا أزال على منهاج أبوي مؤتسياً بهما حتى ألقاهما».
فأقبل جابر على من حضر، فقال لهم: ما رئي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين (عليه السلام) إلا يوسف بن يعقوب (عليه السلام) ، واللّه، لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف(1).
ص: 194
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «لقد دخل ابنه أبو جعفر (عليه السلام) عليه - أي على الإمام السجاد (عليه السلام) - فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر (عليه السلام) : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي وقال:
يا بنيّ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) »(1).
وعن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : «كان علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا قام في الصلاة تغيّر لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفضّ عرقاً»(2).
عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة... .
وكان إذا قام في صلاته غشي لونَهُ لَونٌ آخر.
وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل.
ص: 195
كانت أعضاؤه ترتعد من خشية اللّه.
وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً»(1).
عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إنّ أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) ما ذكر نعمة اللّه عليه إلا سجد.
ولا قرأ آية من كتاب اللّه عزّوجلّ فيها سجود إلا سجد.
ولا دفع اللّه تعالى عنه سوءً يخشاه أو كيد كايد إلا سجد.
ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد.
ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد.
وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، فسمي السّجاد لذلك»(2).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين زين العابدين؟ فكأنّي أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) يخطر بين الصفوف»(3).
عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «لقد كان يسقط منه كل سنة سبع ثفنات
ص: 196
من مواضع سجوده؛ لكثرة صلاته وكان يجمعها فلمّا مات دفنت معه»(1).
وقال الإمام محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) : «كان لأبي (عليه السلام) في موضع سجوده آثار ناتية، وكان يقطعها في السنة مرّتين في كل مرّة خمس ثفنات فسمّي ذا الثفنات لذلك»(2).
عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «لقد صلّى - علي بن الحسين (عليه السلام) - ذات يوم، فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك؟
فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت، إن العبد لا تقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه.
فقال الرجل: هلكنا.
فقال: كلا إنّ اللّه عزّوجلّ متمّم ذلك بالنوافل»(3).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ولقد سألت عنه - الإمام السجاد (عليه السلام) - مولاة له، فقالت: أطنب أو اختصر؟
فقيل: بل اختصري.
فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً، ولا فرشت له فراشاً ليلاً قط»(4).
ص: 197
عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «قال علي بن الحسين (عليه السلام) مرضت مرضاً شديداً فقال لي أبي (عليه السلام) : ما تشتهي؟
فقلت: أشتهي أن أكون ممّن لا أقترح على اللّه ربّي سوى ما يدبره لي.
فقال لي: أحسنت، ضاهيت إبراهيم الخليل (عليه السلام) حيث قال له جبرئيل (عليه السلام) : هل من حاجة؟ فقال: لا أقترح على ربّي بل حسبي اللّه ونعم الوكيل»(1).
عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، قال: «نظر علي بن الحسين (عليهما السلام) يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس، فقال: ويحكم أغير اللّه تسألون في مثل هذا اليوم؟!، إنّه ليرجى في مثل هذا اليوم لما في بطون الحبالى أن يكون سعيداً»(2).
قال له رجل: إنّي لأحبّك في اللّه حباً شديداً، فنكس (عليه السلام) رأسه ثم قال: «اللّهم إنّي أعوذ بك أن أُحَبَّ فيك وأنت لي مبغض» ثم قال له: «أحبك للذي تحبّني فيه»(3).
إنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان حاضراً في يوم عاشوراء، وقد شاء اللّه
ص: 198
عزّوجلّ أن تحفظ ذرية رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأن لا تخلو الأرض من الحجّة، فأصيب الإمام (عليه السلام) بمرض شديد لا يقوى على الحركة والقيام، فلم يتمكن من الدفاع عن أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) والشهادة في سبيله، إلا أنه كان السر في إحياء واقعة عاشوراء وعدم طمسها.
فقد بدأ الإمام (عليه السلام) بعد واقعة عاشوراء بتوعية الأمة، وفضح بني أمية، وذلك عبر مدرسة الدعاء والبكاء.
فالصحيفة السجادية تشتمل على عشرات الأدعية المأثورة عن الإمام علي ابن الحسين (عليه السلام) في مختلف المجالات، وهي مدرسة متكاملة توجب وعي الأمة وسوقها إلى الإيمان والفضيلة والتقوى.
أمّا البكاء، فهو سلاح المظلوم، وقد كان بكاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) ثورة في وجه الطغاة، حيث كان الإمام (عليه السلام) يبكي وبشدّة على ظلامة أبيه الحسين (عليه السلام) في كل موقف وعند كل مناسبة وأمام جميع الناس وكان يذكّرهم بأنّ أباه الحسين (عليه السلام) قتل عطشاناً مظلوماً.
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «ولقد كان (عليه السلام) بكى على أبيه الحسين (عليه السلام) عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له: يا ابن رسول اللّه، أما آن لحزنك أن ينقضي؟
فقال له: ويحك، إنّ يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشرة ابناً، فغيب اللّه عنه واحداً منه، فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي
ص: 199
حزني؟»(1).
وكان (عليه السلام) إذا أخذ إناء ليشرب الماء - تذكر عطش أبيه الحسين (عليه السلام) ومن معه - فيبكي حتى يملأها دمعاً.
فقيل له في ذلك.
فقال: «وكيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش»(2).
وكان الإمام (عليه السلام) يحث الناس على البكاء على أبيه الحسين (عليه السلام) ويبيّن لهم ثواب ذلك.
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتى تسيل على خدّه بوّأه اللّه تعالى في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خدّيه فيما مسّنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوّأه اللّه منزل صدق، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده من مضاضة أو أذى فينا صرف اللّه من وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار»(3).
وكان الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يشتري العبيد والإماء، ثم يربيهم تربية
ص: 200
إسلامية حسنة ويثقفهم بالمعارف الدينية والأحكام الشرعية، ويعلّمهم أخلاق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وتفسير القرآن، ثم يعتقهم في سبيل اللّه عزّوجلّ، فكانوا نواة الخير في المجتمع آنذاك والناس يرجعون إليهم في معرفة أحكام الدين والقرآن.
عن أبي الخير علي بن يزيد أنه قال: كنت مع علي بن الحسين (عليه السلام) عندما انصرف من الشام إلى المدينة، فكنت أحسن إلى نسائه، وأتوارى عنهم إذا نزلوا وأبعد عنهم إذا رحلوا، فلما نزلوا المدينة بعثوا إليّ بشيء من حليهن، فلم آخذه وقلت: فعلت هذا لله ولرسوله... .
فأخذ علي بن الحسين (عليه السلام) حجراً أسود صمّاً فطبعه بخاتمه، وقال: «خذه وسل كل حاجة لك منه».
قال: فواللّه الذي بعث محمداً بالحق لقد كنت أسأله الضوء في البيت فينسرج في الظلماء، وأضعه على الأقفال فتفتح لي، وآخذه بيدي وأقف بين أيدي السلاطين فلا أرى إلا ما أحب(1).
روي: أنه حج هشام بن عبد الملك فلم يقدر على الاستلام - استلام الحجر - من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام، فبينما
ص: 201
هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين (عليه السلام) وعليه إزار ورداء من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحّى الناس حتى يستلمه هيبة له.
فقال شامي: من هذا يا أمير؟
فقال: لا أعرفه، لئلّا يرغب فيه أهل الشام.
فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكنّي أنا أعرفه.
فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟
فأنشأ:
يا سائلي أين حلّ الجود والكرم***عندي بيان إذا طلّابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته***والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم***هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي أحمد المختار والده***صلّى عليه إلهي ما جرى القلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه***لخرّ يلثم منه ما وطي القدم
هذا علي رسول اللّه والده***أمست بنور هداه تهتدي الأمم
هذا الذي عمّه الطيار جعفر***والمقتول حمزة ليث حبه قسم
هذا ابن سيدة النسوان فاطمة***وابن الوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأته قريش قال قائلها***إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته***ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وليس قولك من هذا بضائره***العرب تعرف من أنكرت والعجم
ينمي إلى ذروة العز التي قصرت***عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يغضي حياء ويُغضى من مهابته***فما يكلّم إلا حين يبتسم
ينجاب نور الدجى عن نور غرته***كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
ص: 202
بكفّه خيزران ريحه عبق***من كف أروع في عرنينه شمم
ما قال لا قط إلا في تشهده***لولا التشهّد كانت لاؤه نعم
مشتقة من رسول اللّه نبعته***طابت عناصره والخيم والشيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا***حلو الشمائل تحلو عنده نعم
إن قال قال بما يهوى جميعهم***وإن تكلم يوما زانه الكلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله***بجده أنبياء اللّه قد ختموا
اللّه فضله قدما وشرفه***جرى بذاك له في لوحه القلم
من جدّه دان فضل الأنبياء له***وفضل أمته دانت لها الأمم
عمّ البرية بالإحسان وانقشعت***عنها العماية والإملاق والظلم
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما***يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره***يزينه خصلتان الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميموناً نقيبته***رحب الفناء أريب حين يعترم
من معشر حبّهم دين وبغضهم***كفر وقربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبّهم***ويستزاد به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر اللّه ذكرهم***في كل فرض ومختوم به الكلم
إن عُدّ أهل التقى كانوا أئمتهم***أو قيل من خير أهل الأرض قيل هُم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم***ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت***والأُسد أُسد الشرى والبأس محتدم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم***خيم كريم وأيد بالندى هضم
لا يقبض العسر بسطاً من أكفّهم***سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا
إن القبائل ليست في رقابهم***لأولية هذا أو له نعم
من يعرف اللّه يعرف أولية ذا***فالدين من بيت هذا ناله الأمم
بيوتهم في قريش يستضاء بها***في النائبات وعند الحكم إن حكموا
ص: 203
فجده من قريش في أرومتها***محمد وعلي بعده علم
بدر له شاهد والشعب من أحد***والخندقان ويوم الفتح قد علموا
وخيبر وحنين يشهدان له***وفي قريظة يوم صيلم قتم
مواطن قد علت في كل نائبة***على الصحابة لم أكتم كما كتموا
فغضب هشام ومنع جائزته وقال: ألا قلت فينا مثلها؟!
قال: هات جداً كجدّه، وأباً كأبيه، وأمّاً كأمّه، حتى أقول فيكم مثلها.
فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك علي بن الحسين (عليه السلام) فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال: «أعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به».
فردّها وقال: يا ابن رسول اللّه، ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليه شيئاً.
فردّها إليه وقال: «بحقّي عليك لما قبلتها فقد رأى اللّه مكانك وعلم نيتّك فقبلها»(1).
خرج علي بن الحسين (عليه السلام) إلى مكة حاجاً حتى انتهى إلى بين مكة والمدينة، فإذا هو برجل يقطع الطريق، فقال لعلي بن الحسين (عليهما السلام) : أنزل.
قال (عليه السلام) : «تريد ماذا؟».
قال: أريد أن أقتلك وآخذ ما معك.
قال (عليه السلام) : «فأنا أُقاسمك ما معي وأحلّلك».
ص: 204
قال: فقال اللص: لا.
قال: «فدع معي ما أتبلّغ به».
فأبى.
قال: «فأين ربّك؟».
قال: نائم!.
قال: فإذا أسدان مقبلان بين يديه فأخذ هذا برأسه وهذا برجليه.
قال: «زعمت إنّ ربك عنك نائم»(1).
روي: بينا علي بن الحسين (عليهما السلام) كان جالساً مع أصحابه إذ أقبلت ظبية من الصحراء حتى قامت بحذاه وضربت بذنبها وحمحمت، فقال بعض القوم: يا ابن رسول اللّه، ما تقول هذه الظبية؟
قال: «تزعم أنّ فلان بن فلان القرشي أخذ خشفها بالأمس وأنّها لم ترضعه منذ أمس شيئاً»، فوقع في قلب رجل من القوم شيء.
فأرسل علي بن الحسين (عليهما السلام) إلى القرشي فأتاه، فقال له: «ما لهذه الظبية تشكوك؟».
قال: وما تقول؟
قال: «تقول: إنّك أخذت خشفها(2)
بالأمس في وقت كذا وكذا، وأنّها لم ترضعه شيئاً منذ أخذته، وسألتني أن أبعث إليك فأسألك أن تبعث به إليها
ص: 205
لترضعه وتردّه إليك».
فقال الرجل: والذي بعث محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) بالحق لقد صدقت عليّ.
قال: فأرسل إلى الخشف فجيء به.
قال: فلما جاء به أرسله إليها، فما رأته حمحمت وضربت بذنبها ثم رضع منها... .
فقال علي بن الحسين (عليهما السلام) للرجل: «بحقّي عليك إلا وهبته لي».
فوهبه له.
ووهبه علي بن الحسين (عليهما السلام) لها، وكلّمها بكلامها.
فحمحمت وضربت بذنبها وانطلقت وانطلق الخشف معها.
فقالوا: يا ابن رسول اللّه ما الذي قالت؟
قال: «دعت لكم وجزتكم خيراً»(1).
وقد سمّه الوليد بن عبد الملك، فقضى نحبه مسموماً شهيداً، ودفن في البقيع الغرقد(1) حيث مزاره الآن، وقد هدم الوهابيون تلك المزارات الطاهرة.
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لما حضرت علي بن الحسين (عليه السلام) الوفاة ضمّني إلى صدره، ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي (عليه السلام) حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به، قال: يا بنيّ إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا اللّه»(2).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «لما حضر علي بن الحسين (عليه السلام) الوفاة، أغمي عليه ثلاث مرّات، فقال في المرة الأخيرة: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ}(3) ثم توفّي (عليه السلام) »(4).
قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) يوماً لأصحابه: «إخواني، أوصيكم بدار الآخرة، ولا أوصيكم بدار الدنيا؛ فإنّكم عليها حريصون وبها متمسكون، أما بلغكم ما قال عيسى بن مريم (عليه السلام) للحواريين، قال لهم: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال: أيكم يبني على موج البحر داراً، تلكم الدار الدنيا
ص: 207
فلاتتخذوها قراراً»(1).
عن أبي حمزة الثمالي، قال: إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) كان يقول لأصحابه: «إن أحبكم إلى اللّه عزّوجلّ أحسنكم عملاً.
وإن أعظمكم عند اللّه عملاً أعظمكم فيما عند اللّه رغبة.
وإنّ أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية لله.
وإنّ أقربكم من اللّه أوسعكم خلقاً.
وإنّ أرضاكم عند اللّه أسبغكم على عياله.
وإنّ أكرمكم عند اللّه جلّ وعزّ أتقاكم لله تعالى»(2).
قيل له (عليه السلام) : ما الموت؟
قال (عليه السلام) : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطأ المراكب وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب»(3).
وقال (عليه السلام) : «ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم
ص: 208
ولهم عذاب أليم: من جحد إماماً من اللّه، أو ادّعى إماماً من غير اللّه، أو زعم أنّ لفلان وفلان في الإسلام نصيباً»(1).
وقال (عليه السلام) : «فقد رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس، ومن لم يرج الناس في شيء وردّ أمره في جميع أموره إلى اللّه عز وجل استجاب اللّه عز وجل له في كل شيء»(2).
وقال (عليه السلام) : «يغفر اللّه للمؤمن كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية، وتضييع حقوق الإخوان»(3).
وقال (عليه السلام) في جملة وصاياه (عليه السلام) لابنه: «يا بني اصبر على النوائب، ولاتتعرّض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له»(4).
وقال (عليه السلام) : «إنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا.
ص: 209
ألا وكونوا من الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة.
ألا إنّ الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطاً والتراب فراشاً والماء طيباً وقرضوا من الدنيا تقريضاً.
ألا ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب.
ألا إنّ لله عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار معذّبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياماً قليلة، فصاروا بعقبى راحةٍ طويلة، أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، وهم يجأرون إلى ربهم، يسعون في فكاك رقابهم، وأمّا النهار فحكماء علماء، بررة أتقياء، كأنّهم القداح، قد براهم الخوف من العبادة، ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى، وما بالقوم من مرض، أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار وما فيها»(1).
عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: «أوصاني أبي، فقال: يا بني، لاتصحبنّ خمسة، ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق.
فقلت: جعلت فداك يا أبة من هؤلاء الخمسة؟
قال: لا تصحبّن فاسقاً، فإنّه يبيعك بأكلة فما دونها.
فقلت: يا أبة وما دونها؟
ص: 210
قال: يطمع فيها ثم لا ينالها.
قال: قلت: يا أبة ومن الثاني؟
قال: لا تصحبنّ البخيل، فإنّه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه.
فقلت: ومن الثالث؟
قال: لا تصحبنّ كذاباً، فإنّه بمنزلة السراب يبعد منك القريب ويقرب منك البعيد.
قال: فقلت: ومن الرابع؟
قال: لا تصحبنّ أحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك.
قال: قلت: يا أبة من الخامس؟
قال: لا تصحبنّ قاطع رحم فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب اللّه في ثلاثة مواضع»(1).
وقال (عليه السلام) : «ألا إنّ للعبد أربع أعين، عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه، وعينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد اللّه بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته، وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه»(2).
وقال (عليه السلام) : «كَفّ الأذى رفض البذاء، واستعن على الكلام بالسكوت فإنّ
ص: 211
للقول حالات تضر، فاحذر الأحمق»(1).
وقال (عليه السلام) : «خير مفاتيح الأمور الصدق، وخير خواتيمها الوفاء»(2).
جاء رجل إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) يشكو إليه حاله، فقال (عليه السلام) : «مسكين ابن آدم، له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا، فأمّا المصيبة الأولى: فاليوم الذي ينقص من عمره.
قال: وإن ناله نقصان في ماله اغتم به، والدرهم يخلف عنه والعمر لا يرده شيء.
والثانية: أنه يستوفي رزقه فإن كان حلالاً حوسب عليه، وإن كان حراماً عوقب عليه.
قال: والثالثة أعظم من ذلك».
قيل: وما هي؟
قال: «ما من يوم يمسي إلا وقد دنا من الآخرة مرحلة لا يدري على الجنة أم على النار»(3).
وقال (عليه السلام) : «أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يلد من أمه».
ص: 212
قالت الحكماء: ما سبقه إلى هذا أحد(1).
وقال (عليه السلام) : «لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وشفاعة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وسعة رحمة اللّه»(2).
وقال (عليه السلام) : «خف اللّه تعالى لقدرته عليك واستحي منه لقربه منك»(3).
وقال (عليه السلام) : «لا تعاديّن أحداً وإن ظننت أنه لا يضرك، ولا تزهدن في صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ينفعك؛ فإنّه لا تدري متى تخاف عدوك ومتى ترجو صديقك، وإذا صليت فصل صلاة مودع»(4).
وقال (عليه السلام) : «لا تمتنع من ترك القبيح وإن كنت قد عرفت به، ولا تزهد في مراجعة الجميل وإن كنت قد شهرت بخلافه، وإيّاك والرضا بالذنب فإنّه أعظم من ركوبه، والشرف في التواضع والغنى في القناعة»(5).
ص: 213
ص: 214
ص: 215
ص: 216
الاسم: محمد (عليه السلام) .
الأب: الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
الأم: فاطمة بنت الإمام الحسن (عليه السلام) ، وهو هاشمي من هاشميين وعلوي من علويين.
الكنية: أبو جعفر.
الألقاب: الباقر، الشاكر، الهادي، الأمين، الشبيه، الصابر، الشاهد(1).
الأوصاف: ربع القامة، دقيق البشرة، جعد الشعر، أسمر، له خال على خدّه، وخال أحمر في جسده، ضامر الكشح، حسن الصوت، مطرق الرأس(2).
نقش الخاتم: (العزّة لله جميعاً) (3)، وقيل: إنّه (عليه السلام) كان يتختّم بخاتم جدّه الحسين (عليه السلام) ونقشه: (إنّ اللّه بالغ أمره)(4).
مكان الولادة: المدينة المنورة.
زمان الولادة: يوم الثلاثاء، وقيل: يوم الجمعة، أول رجب ، وقيل: الثالث
ص: 217
من صفر، سنة 57 هجري(1).
مدّة العمر: 57 سنة.
مدّة إمامته: 19 سنة، وقيل: 18 سنة(2).
وكان (عليه السلام) حاضراً في واقعة الطف وعمره 4 سنوات(3).
مكان الشهادة: المدينة المنورة.
زمان الشهادة: يوم الاثنين 7 / ذو الحجة / 114 هجري، وقيل: قبض في شهر ربيع الأول 114 هجري(4).
القاتل: إبراهيم بن الوليد بن يزيد(5).
وسيلة القتل: السم.
المدفن: البقيع الغرقد في المدينة المنورة.
وقد هدم الوهابيون قبره الشريف في 8 شوال 1344 هجرية(6).
عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: فإذا مضى للحسين أقام بالأمر بعده علي ابنه وهو الحجة والإمام ويخرج اللّه من صلبه ولداً سميي وأشبه الناس بي، علمه علمي، وحكمه حكمي، هو الإمام والحجة بعد أبيه...(7) الحديث.
ص: 218
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إنّ جابر بن عبد اللّه الأنصاري كان آخر من بقي من أصحاب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو معتجر(1) بعمامة سوداء، وكان ينادي: يا باقر العلم، يا باقر العلم، فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر.
فكان يقول: واللّه ما أهجر، ولكنّي سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: إنك ستدرك رجلاً منّي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذاك الذي دعاني إلى ما أقول.
قال: فبينا جابر يتردّد ذات يوم في بعض المدينة إذا مرّ بطريق في ذاك الطريق كُتَّاب فيه محمد بن علي، فلما نظر إليه قال: يا غلام أقبل، فأقبل.
ثم قال له: أدبر، فأدبر.
ثم قال: شمائل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والذي نفسي بيده، يا غلام ما اسمك؟
قال: اسمي محمد بن علي بن الحسين.
فأقبل عليه يقبّل رأسه ويقول: بأبي أنت وأمّي، أبوك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقرئك السلام»(2).
كان الإمام الباقر (عليه السلام) أعلم أهل زمانه، وقد استفاد من مدرسته العلمية آلاف من التلامذة، وقد عرّفهم الإمام (عليه السلام) علوم الإسلام وتفسير القرآن
ص: 219
والأحكام الشرعية وسنة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) .
وقد اعترف بكثير علمه جميع المسلمين.
عن عمرو بن شمر، قال: سألت جابر بن يزيد الجعفي فقلت له: ولم سُمّي الباقر باقراً؟
قال: لأنه بقر العلم بقراً، أي شقّه شقّاً وأظهره إظهاراً(1).
وفي الصواعق المحرقة: «أبو جعفر محمد الباقر سمّي بذلك: من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها؛ فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، صفا قلبه وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة اللّه، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة، وكفاه شرفاً: أنّ ابن المديني روى عن جابر أنه قال له وهو صغير: رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يسلّم عليك، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً عنده والحسين في حجره وهو يداعبه، فقال: يا جابر يولد له مولود اسمه علي إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيد العابدين، فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمد، فإن أدركته يا جابر فأقرئه منّي السلام.
توفّي (عليه السلام) سنة سبع عشرة عن ثمان وخمسين سنة مسموماً كأبيه، وهو
ص: 220
علوي من جهة أبيه وأمّه، ودفن أيضاً في قبّة الحسن والعباس بالبقيع، وخلّف ستة أولاد»(1).
وكان (عليه السلام) علماً يضرب به الأمثال بكثرة علمه ويقال:
يا باقر العلم لأهل التقى***وخير من لبّى على الأجبل(2)
وعن عبد اللّه بن عطاء المكي أنه قال: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنّه صبي بين يدي معلّمه(3).
وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي (عليه السلام) شيئاً قال: حدّثني وصي الأوصياء ووارث علوم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) (4).
وعن محمد بن مسلم أنه قال: ما شجرني في قلبي شيء قط إلا سألت عنه أبا جعفر (عليه السلام) ، حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث(5).
كان الإمام الباقر (عليه السلام) قمّة في العبادة والتقوى، والزهد عن الدنيا.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
«كان أبي (عليه السلام) كثير الذكر لقد كنت أمشي معه وإنه ليذكر اللّه، وآكل
ص: 221
معه الطعام وإنه ليذكر اللّه، ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر اللّه، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول: لا إله إلا اللّه، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر»(1).
روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) عن محمد بن سليمان عن أبيه، قال:
كان رجل من أهل الشام يختلف إلى أبي جعفر (عليه السلام) وكان مركزه بالمدينة فكان يقول له: يا محمد، ألا ترى أنّي إنّما أغشي مجلسك حياءً منّي منك ولا أقول إنّ أحداً في الأرض أبغض إليّ منكم أهل البيت، وأعلم إنّ طاعة اللّه وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكن أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحسن لفظ، فإنّما اختلافي إليك لحسن أدبك!.
وكان أبو جعفر (عليه السلام) يقول له خيراً، ويقول: لن تخفى على اللّه خافية.
فلم يلبث الشامي إلا قليلاً حتى مرض واشتدّ وجعه، فلما ثقل دعا وليّه وقال له: إذا أنت مددت عليّ الثوب فأت محمد بن علي (عليهما السلام) وسله أن يصلّي عليّ، وأعلمه إنّي أنا الذي أمرتك بذلك.
قال: فلما أن كان في نصف الليل ظنّوا أنه قد برد وسجوّه، فلما أن أصبح الناس خرج وليه إلى المسجد، فلما أن صلّى محمد بن علي (عليهما السلام) وتورّك، وكان إذا صلى عقب في مجلسه، قال له: يا أبا جعفر إنّ فلان الشامي قد
ص: 222
هلك وهو يسألك أن تصلّي عليه.
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «كلا إنّ بلاد الشام بلاد صرد والحجاز بلاد حرّ ولهبها شديد، فانطلق فلا تعجلنّ على صاحبك حتى آتيكم».
ثم قام (عليه السلام) من مجلسه فأخذ (عليه السلام) وضوءً، ثم عاد فصلّى ركعتين ثم مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء اللّه، ثم خرّ ساجداً حتى طلعت الشمس ثم نهض (عليه السلام) ، فانتهى إلى منزل الشامي فدخل عليه، فدعاه فأجابه، ثم أجلسه وأسنده ودعا له بسويق فسقاه وقال لأهله: «املئوا جوفه وبرّدوا صدره بالطعام البارد».
ثم انصرف (عليه السلام) فلم يلبث إلا قليلاً حتى عوفي الشامي، فأتى أبا جعفر (عليه السلام) فقال: أخلني، فأخلاه فقال: أشهد أنك حجّة اللّه على خلقه وبابه الذي يؤتى منه، فمن أتى من غيرك خاب وخسر وضلّ ضلالاً بعيداً.
قال له أبو جعفر (عليه السلام) : «وما بدا لك؟».
قال: أشهد أنّي عهدت بروحي وعاينت بعيني فلم يتفاجأني إلا ومناد ينادي أسمعه بأذني ينادي وما أنا بالنائم: ردّوا عليه روحه فقد سألنا ذلك محمد ابن علي (عليه السلام) .
فقال له أبو جعفر: «أما علمت أنّ اللّه يحب العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحب عمله» - أي إنك كنت مبغوضاً لدى اللّه لكن عملك وهو حبّنا مطلوباً عنده تعالى - .
قال الراوي: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر (عليهما السلام) (1).
ص: 223
قال نصراني للإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) : أنت بقر!.
قال: «أنا باقر».
قال: أنت ابن الطباخة.
قال: «ذاك حرفتها».
قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية.
قال: «إن كنت صدقت غفر اللّه لها، وإن كنت كذبت غفر اللّه لك».
فأسلم النصراني(1)
ببركة أخلاقه (عليه السلام) .
قال سفيان: ما لقينا أبا جعفر (عليه السلام) إلا وحمل الينا النفقة والصلة والكسوة، فقال: «هذه معدة لكم قبل أن تلقوني»(2).
وعن الحسن بن كثير قال: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) الحاجة وجفاء الإخوان!.
فقال (عليه السلام) : «بئس الأخ أخ يرعاك غنياً ويقطعك فقيراً»، ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم، فقال: «استنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني»(3).
ص: 224
عن أبي عيينة قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدخل رجل، فقال: أنا من أهل الشام أتولاكم وأبرأ من عدوكم وأبي كان يتولى بني أميّة وكان له مال كثير ولم يكن له ولد غيري، وكان مسكنه بالرملة وكانت له جنينة يتخلّى فيها بنفسه، فلما مات طلبت المال فلم أظفر به ولا أشك أنه دفنه وأخفاه منّي.
قال أبو جعفر (عليه السلام) : «أفتحب أن تراه وتسأله أين موضع ماله؟».
قال: إي واللّه إنّي فقير محتاج.
فكتب أبو جعفر (عليه السلام) كتاباً وختمه بخاتمه ثم قال: «انطلق بهذا الكتاب الليلة إلى البقيع حتى تتوسطه، ثم تنادي: يا درجان يا درجان، فإنّه يأتيك رجل معتم فادفع إليه كتابي وقل: أنا رسول محمد بن علي بن الحسين، فإنه يأتيك به فاسأله عمّا بدا لك».
فأخذ الرجل الكتاب وانطلق.
قال أبو عيينة: فلما كان من الغد أتيت أبا جعفر (عليه السلام) لانظر ما حال الرجل فإذا هو على الباب ينتظر أن يؤذن له، فأذن له فدخلنا جميعاً، فقال الرجل: اللّه يعلم عند من يضع العلم، لقد انطلقت البارحة وفعلت ما أمرت، فأتاني الرجل فقال: لا تبرح من موضعك حتى آتيك به، فأتاني برجل أسود فقال: هذا أبوك!.
قلت: ما هو أبي.
ص: 225
قال: بل غيره اللّهب ودخان الجحيم والعذاب الأليم.
فقلت له: أنت أبي؟
قال: نعم.
قلت: فما غيّرك عن صورتك وهيئتك؟
قال: يا بني، كنت أتولى بني أمية وأفضلهم على أهل بيت النبي بعد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فعذبني اللّه بذلك، وكنت أنت تتولاهم فكنت أبغضك على ذلك، وحرمتك مالي فزويته عنك، وأنا اليوم على ذلك من النادمين، فانطلق يا بني إلى جنينتي فاحتفر تحت الزيتونة وخذ المال وهو مائة ألف وخمسون ألفاً، فادفع إلى محمد بن علي (عليه السلام) خمسين ألفاً والباقي لك.
ثم قال: فأنا منطلق حتى آخذ المال وآتيك بمالك.
قال أبو عيينة: فلما كان من قابل دخلت على أبي جعفر فقلت: ما فعل الرجل صاحب المال؟
قال: «قد أتاني بخمسين ألف درهم فقضيت منها ديناً كان عليّ وابتعت منها أرضاً بناحية خيبر، ووصلت منها أهل الحاجة من أهل بيتي»(1).
عن قيس بن الربيع قال: كنت ضيفاً لمحمد بن علي (عليه السلام) وليس في منزله غير لبنة، فلما حضر العشاء قام فصلى وصليت معه، ثم ضرب بيده إلى اللبنة فأخرج منها مشعلاً ومائدة مستوٍ عليها كل حار وبارد، فقال: «كل...».
فأكلت، ثم رفعت المائدة في اللبنة، فخالطني الشك حتى إذا خرج
ص: 226
لحاجته قلّبت اللبنة فإذا هي لبنة صغيرة، فدخل (عليه السلام) وعلم ما في قلبي، فأخرج من اللبنة أقداحاً وكيزاناً وجرة فيها ماء فشرب وسقاني، ثم أعاد ذلك إلى موضعه وقال: «مثلك معي مثل اليهود مع المسيح (عليه السلام) حين لم يثقوا به»، ثم أمر اللبنة أن تنطق، فتكلمت(1).
عن جابر بن يزيد قال: خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) وهو يريد الحيرة، فلما أشرفنا على كربلاء قال لي: «يا جابر هذه روضة من رياض الجنة لنا ولشيعتنا، وحفرة من حفر جهنم لأعدائنا»، ثم قضى ما أراد والتفت إليّ وقال: «يا جابر».
قلت: لبيك.
قال لي: «تأكل شيئاً؟».
قلت: نعم...
فأدخل (عليه السلام) يده بين الحجار فأخرج لي تفاحة لم أشم قط رائحة مثلها لا تشبه فاكهة الدنيا، فعلمت أنها من الجنة فأكلتها، فعصمتني عن الطعام أربعين يوماً لم آكل ولم أحدث(2).
عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أنا مولاك ومن شيعتك، ضعيف ضرير اضمن لي الجنة.
ص: 227
قال: «أو لا أعطيك علامة الأئمة؟».
قلت: وما عليك أن تجمعها لي؟
قال: «وتحب ذلك؟».
قلت: كيف لا أحب؟
فما زاد أن مسح (عليه السلام) على بصري، فأبصرت جميع ما في السقيفة التي كان فيها جالساً.
قال: «يا أبا محمد، مدّ بصرك فانظر ماذا ترى بعينيك».
قال: فواللّه ما أبصرت إلا كلباً وخنزيراً وقرداً.
قلت: ما هذا الخلق الممسوخ؟
قال: «هذا الذي ترى هذا السواد الأعظم لو كشف الغطاء للناس ما نظر الشيعة إلى من خالفهم إلا في هذه الصور، - ثم قال: - يا أبا محمد إن أحببت تركتك على حالك هكذا وحسابك على اللّه، وإن أحببت ضمنت لك على اللّه الجنة ورددتك إلى حالتك الأولى».
قلت: لا حاجة لي إلى النظر إلى هذا الخلق المنكوس، ردّني ردّني، فما للجنة عوض.
فمسح (عليه السلام) يده على عيني فرجعت كما كنت(1).
قُبض الإمام الباقر (عليه السلام) بالمدينة في ذي الحجة، وقيل: في شهر ربيع الأول، سنة (114ه) وله (عليه السلام) من العمر سبع وخمسون سنة(2).
ص: 228
وقد سمّه إبراهيم بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ودفن في البقيع الغرقد(1) حيث مزاره الآن وقد هدم الوهابيون تلك البقاع الطاهرة.
روي أنّ أبا جعفر (عليه السلام) أوصى بثمانمائة درهم لمأتمه(2)
وكان يرى ذلك من السُنة... .
وروي أيضاً عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال لي أبي: «يا جعفر، أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تَندُبنَنِي عشر سنين بمنى أيام منى»(3).
وأولاد الإمام الباقر (عليه السلام) سبعة: منهم جعفر الصادق وهو الإمام من بعده، وكان يكنّى به، وعبد اللّه الأفطح، وعبد اللّه، وإبراهيم، وعلي، وأمّ سلمة، وزينب من أمّ ولد، وقيل: له (عليه السلام) ابنة واحدة هي أمّ سلمة(4).
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «ما شيب شيء بشيء أحسن من حلم بعلم»(5).
وقال (عليه السلام) : «الكمال كل الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة،
ص: 229
وتقدير المعيشة»(1).
وقال (عليه السلام) : «ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جهل عليك»(2).
وقال (عليه السلام) في وصيته لجابر بن يزيد الجعفي: «يا جابر، اغتنم من أهل زمانك خمساً: إن حضرت لم تعرف، وإن غبت لم تفتقد، وإن شهدت لم تشاور، وإن قلت لم يقبل قولك، وإن خطبت لم تزوّج.
وأوصيك بخمس: إن ظُلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن، وإن كُذّبت فلا تغضب، وإن مدحت فلا تفرح، وإن ذممت فلا تجزع.
وفكّر فيما قيل فيك، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك، فسقوطك من عين اللّه جلّ وعزّ عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة ممّا خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك، فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.
واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا إنّك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا إنّك رجل صالح لم يسرك ذلك.
ولكن أعرض نفسك على كتاب اللّه، فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه، فاثبت وأبشر؛ فإنّه لا يضرك ما
ص: 230
قيل فيك.
وإن كنت مبايناً للقرآن، فماذا الذي يغرك من نفسك؟ إنّ المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبّة اللّه، ومرّة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه اللّه فينتعش، ويقيل اللّه عثرته فيتذكر ويفزع إلى التوبة والمخافة، فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف، وذلك بأنّ اللّه يقول: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(1).
يا جابر، استكثر لنفسك من اللّه قليل الرزق تخلصاً إلى الشكر، واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله إزراء على النفس وتعرضاً للعفو، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرّز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة، وتوقّ مجازفة الهوى بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم، واستبق خالص الأعمال ليوم الجزاء، وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلّص إلى راحة النفس بصحة التفويض، واطلب راحة البدن بإجمام القلب، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخطأ، وتعرّض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن، وتحرّز من إبليس بالخوف الصادق، وإياك والرجاء
ص: 231
الكاذب؛ فإنّه يوقعك في الخوف الصادق، وتزيّن لله عزّوجلّ بالصدق في الأعمال، وتحبب إليه بتعجيل الانتقال، وإيّاك والتسويف؛ فإنّه بحر يغرق فيه الهلكى، وإيّاك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب، وإيّاك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون، واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم وكثرة الاستغفار، وتعرّض للرحمة وعفو اللّه بحسن المراجعة، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء والمناجاة في الظلم، وتخلّص إلى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق واستقلال كثير الطاعة، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر، والتوسل إلى عظيم الشكر بخوف زوال النعم، واطلب بقاء العز بإماتة الطمع، وادفع ذلّ الطمع بعز اليأس، واستجلب عزّ اليأس ببعد الهمّة، وتزوّد من الدنيا بقصر الأمل، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة، ولا إمكان كالأيام الخالية مع صحة الأبدان، وإيّاك والثقة بغير المأمون فإنّ للشرّ ضراوة كضراوة الغذاء.
واعلم، أنّه لا علم كطلب السلامة، ولا سلامة كسلامة القلب، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا خوف كخوف حاجز، ولا رجاء كرجاء معين، ولا فقر كفقر القلب، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى، ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك الدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك، ولا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق، ولا شرف كبعد الهمة، ولا زهد كقصر الأمل، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات، ولا عدل كالإنصاف، ولا تعدّي كالجور، ولا جور كموافقة الهوى، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا خوف كالحزن، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا عدم عقل كقلّة اليقين، ولا قلّة يقين كفقد الخوف، ولا فقد خوف كقلة الحزن على فقد الخوف،
ص: 232
ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب ورضاك بالحالة التي أنت عليها، ولا فضيلة كالجهاد، ولا جهاد كمجاهدة الهوى، ولا قوة كرد الغضب، ولا معصية كحب البقاء، ولا ذلّ كذلّ الطمع.
وإيّاك والتفريط عند إمكان الفرصة، فإنّه ميدان يجري لأهله بالخسران»(1).
وقال (عليه السلام) لجابر يوماً: «أصبحت واللّه يا جابر محزوناً مشغول القلب».
فقلت: جعلت فداك، ما حزنك وشغل قلبك كل هذا على الدنيا؟
فقال (عليه السلام) : «لا يا جابر، ولكن حزن هم الآخرة.
يا جابر، من دخل قلبه خالص حقيقة الإيمان شغل عمّا في الدنيا من زينتها، إنّ زينة زهرة الدنيا إنّما هو لعب ولهو، {وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلْأخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ}(2).
يا جابر، إنّ المؤمن لا ينبغي له أن يركن ويطمئن إلى زهرة الحياة الدنيا.
واعلم أنّ أبناء الدنيا هم أهل غفلة وغرور وجهالة، وأنّ أبناء الآخرة هم المؤمنون العاملون الزاهدون، أهل العلم والفقه، وأهل فكرة واعتبار واختبار، لايملّون من ذكر اللّه.
واعلم يا جابر، إنّ أهل التقوى هم الأغنياء، أغناهم القليل من الدنيا، فمئونتهم يسيرة، إن نسيت الخير ذكروك، وإن عملت به أعانوك، أخروا
ص: 233
شهواتهم ولذّاتهم خلفهم، وقدّموا طاعة ربهّم أمامهم، ونظروا إلى سبيل الخير وإلى ولاية أحبّاء اللّه فأحبّوهم وتولوهم واتبعوهم، فأنزل نفسك من الدنيا كمثل منزل نزلته ساعة ثم ارتحلت عنه، أو كمثل مال استفدته في منامك ففرحت به وسررت، ثم انتبهت من رقدتك وليس في يدك شيء؛ وإنّي إنّما ضربت لك مثلاً لتعقل وتعمل به إن وفّقك اللّه له.
فاحفظ يا جابر ما أستودعك من دين اللّه وحكمته، انصح لنفسك وانظر ما اللّه عندك في حياتك، فكذلك يكون لك العهد عنده في مرجعك، وانظر فإن تكن الدنيا عندك على غير ما وصفت لك فتحول عنها إلى دار المستعتب اليوم، فلرب حريص على أمر من أمور الدنيا قد ناله، فلما ناله كان عليه وبالاً وشقي به، ولرب كاره لأمر من أمور الآخرة قد ناله فسعد به»(1).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كان رجل جالساً عند أبي، فقال: «اللّهم أغننا عن جميع خلقك.
فقال له أبي (عليه السلام) : لا تقل هكذا، ولكن قل: أغننا عن شرار خلقك؛ فإنّ المؤمن لا يستغني عن أخيه المؤمن»(2).
وقال (عليه السلام) : «ما من عبد يمتنع من معونة أخيه المسلم والسعي له في حاجته قضيت أو لم تقض إلا ابتلي بالسعي في حاجة من يأثم عليه
ص: 234
ولايؤجر»(1).
وقال (عليه السلام) : «ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما رضي اللّه، إلا أُبتلي أن ينفق أضعافاً فيما يسخط اللّه»(2).
وقال (عليه السلام) لجابر: «يا جابر، أيكتفي من انتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فواللّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع، وكثرة ذكر اللّه، والصوم والصلاة، والتعهّد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء».
فقال جابر: يا ابن رسول اللّه لست أعرف أحداً بهذه الصفة.
فقال (عليه السلام) : «يا جابر لا يذهبنّ بك المذاهب، أحسب الرجل أن يقول: أحب علياً (عليه السلام) وأتولاّه؟! فلو قال: إنّي أحب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ورسول اللّه خير من علي (عليه السلام) ثم لا يعمل بعمله ولا يتبع سنته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى اللّه وأكرمهم عليه أتقاهم له، وأعملهم بطاعته، واللّه ما يتقرّب إلى اللّه جلّ ثناؤه إلا بالطاعة، ما معنا براءة من النار ولا على اللّه لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، لا تنال ولايتنا إلا
ص: 235
بالورع والعمل»(1).
ص: 237
ص: 238
الاسم: جعفر (عليه السلام) .
الأب: الإمام الباقر (عليه السلام) .
الأم: فاطمة أمّ فروة، بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر(1).
الكنية: أبو عبد اللّه، وأبو إسماعيل، وأبو موسى(2).
الألقاب: الصابر، الفاضل، الطاهر، الصادق، القائم، الكافل، المنجي(3).
الأوصاف: ربع القامة(4)،
أزهر الوجه، حالك الشعر جعد، أشم الأنف(5)، أنزع رقيق البشرة على خدّه خال أسود، وعلى جسده خيلان حمرة(6).
نقش الخاتم: «اللّه وليّي وعصمتي من خلقه»(7).
مكان الولادة: المدينة المنورة(8).
ص: 239
زمان الولادة: عند طلوع الفجر من يوم الجمعة(1) 17/ ربيع الأول/ 83 هجري(2).
مدة العمر: 65 سنة(3).
مدة الإمامة: 34 سنة(4).
مكان الشهادة: المدينة المنورة.
زمان الشهادة: 25/ شوال/ 148هجري(5).
القاتل: المنصور العباسي، حيث قتله بالسم(6).
وسيلة القتل: العنب المسموم.
المدفن: البقيع الغرقد في المدينة المنورة، وقد هدم الوهابيون قبره الشريف مع قبور سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في البقيع.
وقد تتلمذ على يديه وفي جامعته العلمية أكثر من أربعة آلاف رجل(7)، وقيل: عشرون ألفاً.
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) وأبيه الإمام الباقر (عليه السلام) أكثر الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حيث انتشر الوعي الإسلامي والفقه المحمدي ببركتهم.
ص: 240
سئل أبو حنيفة: من أفقه من رأيت؟
قال: جعفر بن محمد (عليه السلام) ، لما أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له من مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة.
ثم بعث إليَّ أبو جعفر وهو بالحيرة، فأتيته فدخلت عليه وجعفر (عليه السلام) جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه، فأومأ إليّ فجلست، ثم التفت إليه، فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة.
قال: «نعم أعرفه».
ثم التفت إليّ فقال: يا أبا حنيفة، ألق على أبي عبد اللّه من مسائلك.
فجعلت ألقي عليه، فيجيبني، فيقول: «أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعناكم وربما تابعناهم، وربما خالفنا جميعاً»، حتى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخل منها بشيء.
ثم قال أبو حنيفة: «أليس إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟»(1).
عن مالك بن أنس إمام المالكية إنه قال:
كان جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإما ذاكراً، وكان (عليه السلام) من عظماء العبّاد وأكابر الزهاد الذين
ص: 241
يخشون اللّه عزّوجلّ، وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) اخضرّ مرّة واصفرّ أخرى حتى ينكره من يعرفه. ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الإحرام، كان كلما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد أن يخرّ من راحلته، فقلت: قل يا ابن رسول اللّه، ولابد لك من أن تقول، فقال (عليه السلام) : «يا ابن أبي عامر كيف أجسر أن أقول: (لبيك اللّهم لبيك) وأخشى أن يقول عزّوجلّ لي: لا لبيك ولا سعديك»(1).
دخل على أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) بعض أصحابه فرأى عليه قميصاً فيه قب(2)
قد رقعه، فجعل ينظر إليه، فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «ما لك تنظر؟».
فقال: قب ملقى في قميصك.
قال: فقال لي: «اضرب يدك إلى هذا الكتاب، فاقرأ ما فيه».
وكان بين يديه كتاب أو قريب منه، فنظر الرجل فيه، فإذا فيه: لا إيمان لمن لا حياء له، ولا مال لمن لا تقدير له، ولا جديد لمن لا خلق له(3).
أتى رجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقال: إنّ فلاناً ذكرك، فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة إلاّ قاله فيك.
ص: 242
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) للجارية: «ائتيني بوضوء».
فتوضأ (عليه السلام) ودخل.
فقلت في نفسي: يدعو عليه.
فصلّى (عليه السلام) ركعتين، فقال: «يا رب، هو حقّي قد وهبته، وأنت أجود منّي وأكرم فهبه لي، ولا تؤاخذه بي، ولا تقايسه».
ثم رقّ فلم يزل يدعو، فجعلت أتعجب(1).
بعث أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) غلاماً له في حاجة فأبطأ، فخرج الصادق (عليه السلام) في أثره، فوجده نائماً!.
فجلس (عليه السلام) عند رأسه يروّحه حتى انتبه.
فلما انتبه قال (عليه السلام) : «يا فلان، واللّه ما ذاك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار»(2).
روي أنّ سفيان الثوري دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) فرآه متغيّر اللون، فسأله عن ذلك؟
فقال: «كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت، فدخلت فإذا جارية من جواريّ ممّن تربّي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرت بي ارتعدت وتحيّرت وسقط الصبي إلى الأرض فمات، فما تغيّر
ص: 243
لوني لموت الصبي وإنّما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب».
وقال لها الإمام (عليه السلام) : «أنتِ حرّة لوجه اللّه مرّتين لا بأس عليك» مرتين(1).
عن سالمة مولاة أبي عبد اللّه (عليه السلام) قالت: كنت عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) حين حضرته الوفاة وأغمي عليه، فلما أفاق قال: «أعطوا فلاناً سبعين ديناراً وأعطوا فلاناً كذا وفلاناً كذا».
فقلت: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟!
قال: «تريدين أن لا أكون من الذين قال اللّه عزّوجلّ: {وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ ٱلْحِسَابِ}(2).
نعم يا سالمة، إنّ اللّه تعالى خلق الجنة فطيّبها وإن ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم»(3).
عن معلّى بن خنيس، قال: خرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) في ليلة قد رشّت السماء وهو يريد ظلّة بني ساعدة(4)، فاتبعته فإذا هو قد سقط منه شيء، فقال: «بسم اللّه اللّهم ردّ علينا».
ص: 244
قال: فأتيته فسلّمت عليه.
فقال: «أنت معلّى؟».
قلت: نعم جعلت فداك.
فقال لي: «التمس بيدك فما وجدته من شيء فادفعه إليّ».
قال: فإذا بخبز منتشر فجعلت أدفع إليه ما وجدت، فإذا أنا بجراب من خبز، فقلت: جعلت فداك أحمله عنك؟
فقال: «لا، أنا أولى به منك، ولكن امض معي».
قال: فأتينا ظلة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت ثوب كل واحد منهم حتى أتى على آخره، ثم انصرفنا.
فقلت: جعلت فداك يعرف هؤلاء الحق؟
فقال: «لو عرفوا لواسيناهم بالدقة، والدقة هي الملح، إنّ اللّه لم يخلق شيئاً إلا وله خازن يخزنه إلا الصدقة، فإنّ الرب تبارك وتعالى يليهما بنفسه، وكان أبي إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتده منه وقبله وشمّه ثم ردّه في يد السائل؛ وذلك أنها تقع في يد اللّه قبل أن تقع في يد السائل، فأحببت أن أناول ما ولاها اللّه تعالى، إنّ صدقة الليل تطفئ غضب الرب وتمحق الذنب العظيم وتهون الحساب، وصدقة النهار تثمر المال وتزيد في العمر، إنّ عيسى ابن مريم (عليه السلام) لما مر على البحر ألقى بقرص من قوته في الماء، فقال له بعض الحواريين: يا روح اللّه وكلمته، لم فعلت هذا هو من قوتك؟ قال: فعلت هذا لتأكله دابة من دواب الماء وثوابه عند اللّه العظيم»(1).
ص: 245
عن أبي عمرو الشيباني، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصابّ عن ظهره، فقلت: جعلت فداك أعطني أكفك.
فقال لي: «إنّي أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة»(1).
كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الإمام الصادق (عليه السلام) في حجّه كل سنة، فينزله أبو عبد اللّه (عليه السلام) في دار من دوره في المدينة، وطال حجّه ونزوله في بيت الإمام (عليه السلام) فأعطى الرجل أبا عبد اللّه (عليه السلام) عشرة آلاف درهم ليشتري له داراً في المدينة(2)، وخرج إلى الحج.
فلما انصرف من الحج أتى إلى الإمام (عليه السلام) فقال: جعلت فداك اشتريت لي الدار؟
قال: «نعم».
وأتى (عليه السلام) بصكّ فيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما اشترى جعفر بن محمد لفلان بن فلان الجبلي، له دار في الفردوس حدّها الأول رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والحدّ الثاني أمير المؤمنين (عليه السلام) والحدّ الثالث الحسن بن علي (عليه السلام) والحدّ الرابع الحسين بن علي (عليه السلام) ».
فلما قرأ الرجل ذلك قال: قد رضيت جعلني اللّه فداك.
ص: 246
قال: فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إنّي أخذت ذلك المال ففرقته في ولد الحسن والحسين وأرجو أن يتقبل اللّه ذلك ويثيبك به الجنة».
قال: فانصرف الرجل إلى منزله، وكان الصك معه.
ثم اعتل علّة الموت، فلما حضرته الوفاة جمع أهله وحلّفهم أن يجعلوا الصك معه، ففعلوا ذلك.
فلما أصبح القوم غدوا إلى قبره فوجدوا الصك على ظهر القبر مكتوب عليه: «وفى وليّ اللّه جعفر بن محمد»(1).
عن أبي بصير، قال: كان لي جار يتّبع السلطان، فأصاب مالاً فاتخذ قياناً(2)، وكان يجمع الجموع ويشرب المسكر ويؤذيني، فشكوته إلى نفسه غير مرّة فلم ينته، فلما ألححت عليه قال: يا هذا أنا رجل مبتلى وأنت رجل معافى فلو عرّفتني لصاحبك رجوت أن يستنقذني اللّه بك.
فوقع ذلك في قلبي، فلما صرت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) ذكرت له حاله.
فقال (عليه السلام) لي: «إذا رجعت إلى الكوفة فإنه سيأتيك، فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دع ما أنت عليه وأضمن لك على اللّه الجنة».
قال: فلما رجعت إلى الكوفة أتاني فيمن أتى فاحتبسته حتى خلا منزلي فقلت: يا هذا إني ذكرتك لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال: «اقرأه السلام وقل له: يترك ما هو عليه وأضمن له على اللّه الجنة».
ص: 247
فبكى، ثم قال: اللّه أقال لك جعفر هذا؟
قال: فحلفت له أنّه قال لي ما قلت لك.
فقال لي: حسبك. ومضى، فلما كان بعد أيام بعث إليّ ودعاني فإذا هو خلف باب داره عريان، فقال: يا أبا بصير، ما بقي في منزلي شيء إلا وقد أخرجته وأنا كما ترى.
فمشيت إلى إخواننا فجمعت له ما كسوته به، ثم لم يأت عليه إلا أيام يسيرة حتى بعث إليّ أني عليل فأتني.
فجعلت أختلف إليه وأعالجه حتى نزل به الموت، فكنت عنده جالساً وهو يجود بنفسه، ثم غشي عليه غشية، ثم أفاق، فقال: يا أبا بصير قد وفى صاحبك لنا، ثم مات.
فحججت فأتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) فاستأذنت عليه، فلما دخلت قال ابتداءً من داخل البيت، وإحدى رجليّ في الصحن وأخرى في دهليز داره: «يا أبا بصير قد وفينا لصاحبك»(1).
عن داود بن كثير الرقي أنه قال: كنت جالساً عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) إذ قال لي مبتدئاً من قبل نفسه: «يا داود، لقد عرضت عليَّ أعمالكم يوم الخميس، فرأيت فيما عرض عليَّ من عملك صلتك لابن عمك فلان فسّرني ذلك، أنّي علمت أن صلتك له أسرع لفناء عمره وقطع أجله».
ص: 248
قال داود: وكان لي ابن عم معاند خبيث بلغني عنه وعن عياله سوء حاله، فصككت له نفقة قبل خروجي إلى مكة، فلما صرت بالمدينة أخبرني أبو عبد اللّه (عليه السلام) بذلك(1).
عن أبي حازم عبد الغفار بن الحسن أنه قال: قدم إبراهيم بن أدهم الكوفة وأنا معه، وذلك على عهد المنصور، وقدمها أبو عبد اللّه جعفر بن محمد العلوي، فخرج جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يريد الرجوع إلى المدينة، فشيّعه العلماء وأهل الفضل من الكوفة، وكان فيمن شيّعه سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم، فتقدم المشيّعون له (عليه السلام) فإذا هم بأسد على الطريق.
فقال لهم إبراهيم بن أدهم: قفوا حتى يأتي جعفر (عليه السلام) ، فننظر ما يصنع.
فجاء جعفر (عليه السلام) فذكروا له حال الأسد.
فأقبل أبو عبد اللّه (عليه السلام) حتى دنا من الأسد، فأخذ بأذنه حتى نحّاه عن الطريق، ثم أقبل عليهم، فقال: «أما إنّ الناس لو أطاعوا اللّه حقّ طاعته لحملوا عليه أثقالهم»(2).
روي عن مأمون الرقي، قال: كنت عند سيدي الصادق (عليه السلام) إذ دخل سهل ابن حسن الخراساني فسلّم عليه ثم جلس، فقال له: يا ابن رسول اللّه،
ص: 249
لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حقّ تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟
فقال له (عليه السلام) : «اجلس يا خراساني رعى اللّه حقّك».
ثم قال: «يا حنفية، أسجري التنور»، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيضّ علوّه، ثم قال (عليه السلام) : «يا خراساني، قم فاجلس في التنور».
فقال الخراساني: يا سيدي يا ابن رسول اللّه، لا تعذبني بالنار، أقلني أقالك اللّه.
قال: «قد أقلتك».
فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللّه.
فقال له الصادق (عليه السلام) : «ألق النعل من يدك واجلس في التنور».
قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور.
وأقبل الإمام (عليه السلام) يحدّث الخراساني حديث خراسان حتى كأنّه شاهد لها، ثم قال: «قم يا خراساني وانظر ما في التنور».
قال: فقمت إليه فرأيته متربعاً، فخرج إلينا وسلّم علينا.
فقال له الإمام (عليه السلام) : «كم تجد بخراسان مثل هذا؟».
فقلت: واللّه ولا واحداً.
فقال (عليه السلام) : «لا واللّه ولا واحداً، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»(1).
ص: 250
عن جمع من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) أنّهم قالوا:
كنّا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال: «لنا خزائن الأرض ومفاتيحها، ولو شئت أن أقول بإحدى رجلي: أخرجي ما فيك من الذهب لأخرجت».
قال: فقال بإحدى رجليه فخطّها في الأرض خطاً فانفجرت الأرض، ثم قال بيده، فأخرج سبيكة ذهب قدر شبر فتناولها، ثم قال: «انظروا فيها حساً حسناً لاتشكوا - ثم قال -: انظروا في الأرض»، فإذا سبائك في الأرض كثيرة بعضها على بعض يتلألأ.
فقال له بعضنا: جعلت فداك أعطيتم كل هذا وشيعتكم محتاجون؟!
فقال: «إنّ اللّه سيجمع لنا ولشيعتنا الدنيا والآخرة يدخلهم جنات النعيم ويدخل عدونا الجحيم»(1).
عن المفضّل بن عمر، قال: كنت أمشي مع أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليهما السلام) بمكة إذ مررنا بامرأة بين يديها بقرة ميتة وهي مع صبية لها تبكيان.
فقال (عليه السلام) لها: «ما شأنك؟».
قالت: كنت أنا وصبياني نعيش من هذه البقرة وقد ماتت، لقد تحيّرت في أمري.
قال: «أفتحبين أن يحييها اللّه لك؟».
ص: 251
قالت: أو تسخر منّي مع مصيبتي؟.
قال: «كلّا ما أردت ذلك».
ثم دعا (عليه السلام) بدعاء، ثم ركلها برجله وصاح بها، فقامت البقرة مسرعة سوية.
فقالت: عيسى ابن مريم ورب الكعبة.
فدخل الصادق (عليه السلام) بين الناس فلم تعرفه المرأة(1).
عن جابر أنه قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فبرزنا معه فإذا نحن برجل قد أضجع جدياً ليذبحه فصاح الجدي، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «كم ثمن هذا الجدي؟».
فقال: أربعة دراهم.
فحلّها من كمه ودفعها إليه وقال: «خلّ سبيله».
قال: فسرنا، فإذا بصقر قد انقضّ على دراجة، فصاحت الدراجة، فأومأ أبو عبد اللّه (عليه السلام) إلى الصقر بكمّه فرجع عن الدراجة.
فقلت: لقد رأينا عجباً من أمرك؟!
قال: «نعم، إنّ الجدي لما أضجعه الرجل ليذبحه وبصر بي قال: أستجير باللّه وبكم أهل البيت ممّا يُراد بي، وكذلك قالت الدراجة، ولو أنّ شيعتنا استقامت لأسمعتهم منطق الطير»(2).
ص: 252
توفّي الإمام الصادق (عليه السلام) مسموماً شهيداً في شهر شوال سنة (148ه)، وقد أطعمه المنصور الدوانيقي العنب المسموم، وكان عمره الشريف حين استشهاده خمساً وستين سنة، وقيل: كان عمره الشريف ثمان وستين سنة(1).
قال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) : «إنّي كفنّت أبي في ثوبين شطويين(2) كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وعمامة كانت لعلي بن الحسين (عليه السلام) ، وفي برد اشتريته بأربعين ديناراً»(3).
وروي عن عثمان بن عيسى عن عدّة من أصحابنا، قال: لما قبض أبو جعفر (عليه السلام) أمر أبو عبد اللّه (عليه السلام) بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتى قبض أبو عبد اللّه، ثم أمر أبو الحسن موسى (عليه السلام) بمثل ذلك في بيت أبي عبد اللّه (عليه السلام) حتى أُخرج به إلى العراق ثم لا أدري ما كان(4).
وعن أبي بصير أنه قال: دخلت على أمّ حميدة أعزّيها بأبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال: «اجمعوا لي كل من بيني وبينه قرابة»، قالت: فلم نترك أحداً إلا جمعناه، قالت: فنظر إليهم ثم قال: «إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة»(5).
ص: 253
قال الإمام الصادق (عليه السلام) لحمران بن أعين: «يا حمران، أنظر من هو دونك في المقدرة، ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة؛ فإنّ ذلك أنفع لك ممّا قسم لك، وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربّك عزّوجلّ.
واعلم أنّ العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند اللّه عزّوجلّ من العمل الكثير على غير يقين.
واعلم أنّه لا ورع أنفع من تجنب محارم اللّه عزّوجلّ، والكفّ عن أذى المؤمنين واغتيابهم، ولا عيش أهنأ من حسن الخلق، ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزئ، ولا جهل أضرّ من العُجب»(1).
وقال (عليه السلام) : «عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنه لابد لكم من الناس، إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته... والناس لابد لبعضهم من بعض»(2).
وقال (عليه السلام) : «من زار أخاه لله لا غير، التماس موعد اللّه وتنجّز ما عند اللّه، وكّل اللّه به سبعين ألف ملك ينادونه: ألا طبت وطاب لك الجنة»(3).
ص: 254
وقال (عليه السلام) : «اتّقوا اللّه وكونوا إخوة بررة متحابّين في اللّه، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه»(1).
وقال (عليه السلام) : «لأن أمشي مع أخ لي في حاجة حتى أقضي له، أحب إليّ من أن أعتق ألف نسمة وأحمل على ألف فرس في سبيل اللّه مسرجة ملجمة»(2).
وقال رجل لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أوصني، فقال (عليه السلام) : «أعد جهازك، وقدّم زادك لطول سفرك، وكن وصي نفسك، ولا تأمن غيرك أن يبعث إليك بما يصلحك»(3).
روي: أن أبا عبد اللّه (عليه السلام) كان إذا صام يتطيّب بالطيب، ويقول: «الطيب تحفة الصائم»(4).
وقال (عليه السلام) في وصيّته لعبد اللّه بن جندب: «يا عبد اللّه، لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور، فما يقصد فيها إلا أولياءنا، ولقد جلت الآخرة في
ص: 255
أعينهم حتى ما يريدون بها بدلاً».
ثم قال: «آه آه على قلوب حشيت نوراً وإنّما كانت الدنيا عندهم بمنزلة الشجاع الأرقم والعدو الأعجم، أنسوا باللّه واستوحشوا ممّا به استأنس المترفون، أولئك أوليائي حقّاً وبهم تكشف كل فتنة وترفع كل بلية.
يا ابن جندب، حقّ على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها؛ لئلّا يخزى يوم القيامة، طوبى لعبد لم يغبط الخاطئين على ما أوتوا من نعيم الدنيا وزهرتها، طوبى لعبد طلب الآخرة وسعى لها، طوبى لمن لم تلهه الأماني الكاذبة».
ثم قال (عليه السلام) : «رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم، ليس كمن يذيع أسرارنا.
يا ابن جندب، إنّما المؤمنون الذين يخافون اللّه ويشفقون أن يسلبوا ما أعطوا من الهدى، فإذا ذكروا اللّه ونعماءه وجلوا وأشفقوا وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً؛ ممّا أظهره من نفاذ قدرته وعلى ربّهم يتوكلون.
يا ابن جندب، قديماً عمر الجهل وقوي أساسه، وذلك لاتخاذهم دين اللّه لعباً حتى لقد كان المتقرّب منهم إلى اللّه بعلمه يريد سواه، أولئك هم الظالمون.
يا ابن جندب، لو أنّ شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة ولأظلّهم الغمام ولأشرقوا نهاراً ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما سألوا اللّه شيئاً إلا أعطاهم.
يا ابن جندب، لا تقل في المذنبين من أهل دعوتكم إلا خيراً، واستكينوا
ص: 256
إلى اللّه في توفيقهم وسلوا التوبة لهم، فكل من قصدنا ووالانا ولم يوال عدونا وقال ما يعلم وسكت عمّا لا يعلم أو أشكل عليه فهو في الجنة.
يا ابن جندب يهلك المتكل على عمله، ولا ينجو المجترئ على الذنوب الواثق برحمة اللّه».
قلت: فمن ينجو؟
قال: «الذين هم بين الرجاء والخوف، كأنّ قلوبهم في مخلب طائر شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العذاب.
يا ابن جندب، من سرّه أن يزوّجه اللّه الحور العين ويتوجّه بالنور فليدخل على أخيه المؤمن السرور.
يا ابن جندب، أقلّ النوم بالليل والكلام بالنهار، فما في الجسد شيء أقل شكراً من العين واللسان، فإنّ أمّ سليمان قالت لسليمان (عليه السلام) : يا بنّي إيّاك والنوم؛ فإنّه يفقرك يوم يحتاج الناس إلى أعمالهم.
يا ابن جندب، إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها فتحاموا شباكه ومصائده».
قلت: يا ابن رسول اللّه وما هي؟
قال: «أمّا مصائده فصد عن بر الإخوان، وأمّا شباكه فنوم عن قضاء الصلوات التي فرضها اللّه، أما إنه ما يعبد اللّه بمثل نقل الأقدام إلى بر الإخوان وزيارتهم، ويل للساهين عن الصلوات النائمين في الخلوات المستهزئين باللّه وآياته في الفترات، أولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
يا ابن جندب، من أصبح مهموماً لسوى فكاك رقبته فقد هون عليه الجليل، ورغب من ربّه في الربح الحقير، ومن غشّ أخاه وحقّره وناوأه
ص: 257
جعل اللّه النار مأواه، ومن حسد مؤمناً إنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء.
يا ابن جندب، الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه يوم بدر وأحد، وما عذّب اللّه أمة إلا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم.
يا ابن جندب، بلّغ معاشر شيعتنا وقل لهم: لا تذهبنّ بكم المذاهب فو اللّه لا تنال ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد في الدنيا ومواساة الإخوان في اللّه، وليس من شيعتنا من يظلم الناس.
يا ابن جندب، إنّما شيعتنا يعرفون بخصال شتى: بالسخاء و البذل للإخوان، وبأن يصلوا الخمسين ليلاً ونهاراً، شيعتنا لا يهرون هرير الكلب ولا يطمعون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدواً، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً، شيعتنا لا يأكلون الجري ولا يمسحون على الخفّين، ويحافظون على الزوال، ولا يشربون مسكراً».
قلت: جعلت فداك فأين أطلبهم؟
قال (عليه السلام) : «على رؤوس الجبال وأطراف المدن، وإذا دخلت مدينة فسل عمّن لا يجاورهم ولا يجاورونه فذلك مؤمن، كما قال اللّه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ}(1)، واللّه لقد كان حبيب النجار وحده.
يا ابن جندب، كل الذنوب مغفورة سوى عقوق أهل دعوتك، وكل البر مقبول إلا ما كان رئاء.
ص: 258
يا ابن جندب، أحبب في اللّه واستمسك بالعروة الوثقى واعتصم بالهدى يقبل عملك، فإنّ اللّه يقول: إلا مَن {وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ}(1)
فلا يقبل إلا الإيمان، ولا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بيقين، ولا يقين إلا بالخشوع، وملاكها كلها الهدى، فمن اهتدى يقبل عمله وصعد إلى الملكوت متقبلاً، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
يا ابن جندب، إن أحببت أن تجاور الجليل في داره وتسكن الفردوس في جواره فلتهن عليك الدنيا، واجعل الموت نصب عينك، ولا تدّخر شيئاً لغد، واعلم أنّ لك ما قدّمت وعليك ما أخّرت.
يا ابن جندب، من حرم نفسه كسبه فإنّما يجمع لغيره، ومن أطاع هواه فقد أطاع عدوه، من يثق باللّه يكفه ما أهمّه من أمر دنياه وآخرته، ويحفظ له ما غاب عنه، وقد عجز من لم يعد لكل بلاء صبراً، ولكل نعمة شكراً، ولكل عسر يسراً، صبّر نفسك عند كل بلية في ولد أو مال أو رزية، فإنّما يقبض عاريته ويأخذ هبته؛ ليبلو فيهما صبرك وشكرك، وارج اللّه رجاء لا يجرّيك على معصيته، وخفه خوفاً لا يؤيسك من رحمته، ولا تغترّ بقول الجاهل ولا بمدحه؛ فتكبر وتجبر وتعجب بعملك، فإنّ أفضل العمل العبادة والتواضع، فلا تضيع مالك وتصلح مال غيرك، ما خلفته وراء ظهرك، واقنع بما قسمه اللّه لك، ولا تنظر إلا إلى ما عندك، ولا تتمن ما لست تناله، فإنّ من قنع شبع، ومن لم يقنع لم يشبع، وخذ حظّك من آخرتك، ولا تكن بطراً في الغنى ولا جزعاً في الفقر، ولا تكن فظاً غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن
ص: 259
واهناً يحقّرك من عرفك، ولا تشار من فوقك، ولا تسخر بمن هو دونك، ولا تنازع الأمر أهله، ولا تطع السفهاء، ولاتكن مهيناً تحت كل أحد، ولا تتكلنّ على كفاية أحد، وقف عند كل أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل أن تقع فيه فتندم، واجعل قلبك قريباً تشاركه، واجعل عملك والداً تتبعه، واجعل نفسك عدواً تجاهده وعارية تردّها، فإنّك قد جعلت طبيب نفسك وعرفت آية الصحة وبين لك الداء ودللت على الدواء، فانظر قيامك على نفسك، وإن كانت لك يد عند إنسان فلا تفسدها بكثرة المن والذكر لها، ولكن أتبعها بأفضل منها، فإنّ ذلك أجمل بك في أخلاقك، وأوجب للثواب في آخرتك، وعليك بالصمت تعد حليماً، جاهلاً كنت أو عالماً، فإنّ الصمت زين لك عند العلماء وستر لك عند الجهال.
يا ابن جندب، إنّ عيسى بن مريم (عليه السلام) قال لأصحابه: أرأيتم لو أنّ أحدكم مرّ بأخيه فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته أكان كاشفاً عنها كلّها أم يردّ عليها ما انكشف منها؟ قالوا: بل نردّ عليها، قال: كلّا، بل تكشفون عنها كلّها، فعرفوا أنّه مثل ضربه لهم، فقيل: يا روح اللّه وكيف ذلك؟ قال: الرجل منكم يطلع على العورة من أخيه فلا يسترها.
بحق أقول لكم إنّكم لا تصيبون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، إيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبكم كهيئة العبيد، إنّما الناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا المبتلى، واحمدوا اللّه على العافية.
ص: 260
يا ابن جندب، صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلّم على من سبّك، وأنصف من خاصمك، واعف عمن ظلمك، كما أنّك تحب أن يعفى عنك فاعتبر بعفو اللّه عنك، ألا ترى أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ مطره ينزل على الصالحين والخاطئين.
يا ابن جندب، لا تتصدّق على أعين الناس ليزكوك، فإنك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك؛ فإنّ الذي تتصدق له سراً يجزيك علانية على رؤوس الأشهاد في اليوم الذي لا يضرّك أن لا يطلع الناس على صدقتك، واخفض الصوت إنّ ربك الذي يعلم ما تسرّون وما تعلنون، قد علم ما تريدون قبل أن تسألوه، وإذا صمت فلا تغتب أحداً، ولاتلبسوا صيامكم بظلم، ولا تكن كالذي يصوم رئاء الناس، مغبرّة وجوههم شعثة رؤوسهم يابسة أفواههم؛ لكي يعلم الناس أنّهم صيامى.
يا ابن جندب، الخير كلّه أمامك وإنّ الشر كلّه أمامك، ولن ترى الخير والشر إلا بعد الآخرة؛ لأنّ اللّه جلّ وعزّ جعل الخير كلّه في الجنة والشر كلّه في النار؛ لأنّهما الباقيان، والواجب على من وهب اللّه له الهدى، وأكرمه بالإيمان، وألهمه رشده، وركب فيه عقلاً يتعرف به نعمه، وآتاه علماً وحكماً يدبر به أمر دينه ودنياه، أن يوجب على نفسه أن يشكر اللّه ولا يكفره، وأن يذكر اللّه ولاينساه، وأن يطيع اللّه ولا يعصيه؛ للقديم الذي تفرد له بحسن النظر، وللحديث الذي أنعم عليه بعد إذ أنشأه مخلوقاً، وللجزيل الذي وعده والفضل الذي لم يكلّفه من طاعته فوق طاقته وما يعجز عن القيام به، وضمن له العون على تيسير ما حمله من ذلك، وندبه إلى الاستعانة على قليل ما كلّفه، وهو معرض عمّا أمره، وعاجز عنه قد لبس ثوب
ص: 261
الاستهانة فيما بينه وبين ربه، متقلّداً لهواه، ماضياً في شهواته، مؤثراً لدنياه على آخرته، وهو في ذلك يتمنّى جنان الفردوس، وما ينبغي لأحد أن يطمع أن ينزل بعمل الفجار منازل الأبرار، أما إنّه لو وقعت الواقعة وقامت القيامة وجاءت الطامة ونصب الجبار الموازين لفصل القضاء وبرز الخلائق ليوم الحساب أيقنت عند ذلك لمن تكون الرفعة والكرامة، وبمن تحل الحسرة والندامة، فاعمل اليوم في الدنيا بما ترجو به الفوز في الآخرة.
يا ابن جندب، قال اللّه جلّ وعزّ في بعض ما أوحى: إنّما أقبل الصلاة ممن يتواضع لعظمتي، ويكف نفسه عن الشهوات من أجلي، ويقطع نهاره بذكري، ولا يتعظم على خلقي، ويطعم الجائع ويكسو العاري، ويرحم المصاب، ويؤوي الغريب، فذلك يشرق نوره مثل الشمس، أجعل له في الظلمة نوراً، وفي الجهالة حلماً، أكلؤه بعزّتي، واستحفظه ملائكتي، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، فمثل ذلك العبد عندي كمثل جنات الفردوس لا يسبق أثمارها، ولا تتغير عن حالها.
يا ابن جندب، الإسلام عريان، فلباسه الحياء، وزينته الوقار، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبّنا أهل البيت.
يا ابن جندب، إنّ لله تبارك وتعالى سوراً من نور محفوفاً بالزبرجد والحرير منجداً بالسندس والديباج، يضرب هذا السور بين أوليائنا وبين أعدائنا، فإذا غلى الدماغ وبلغت القلوب الحناجر ونضجت الأكباد من طول الموقف، أدخل في هذا السور أولياء اللّه فكانوا في أمن اللّه وحرزه، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلّذ الأعين، وأعداء اللّه قد ألجمهم العرق وقطعهم الفرق
ص: 262
وهم ينظرون إلى ما أعد اللّه لهم، فيقولون: {مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلْأَشْرَارِ}(1)
فينظر إليهم أولياء اللّه فيضحكون منهم، فذلك قوله عزّوجلّ: {أَتَّخَذْنَٰهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلْأَبْصَٰرُ}(2)
وقوله: {فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}(3)
فلا يبقى أحد ممّن أعان مؤمناً من أوليائنا بكلمة إلا أدخله اللّه الجنة بغير حساب»(4).
وقال (عليه السلام) : «مع التثبّت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة، ومن ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه»(5).
وقال (عليه السلام) : «إنّا لنحب من شيعتنا من كان عاقلاً عالماً فهماً فقيهاً حليماً مدارياً صبوراً صدوقاً وفياً».
ثم قال (عليه السلام) : «إنّ اللّه تبارك وتعالى خصّ الأنبياء (عليهم السلام) بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد اللّه على ذلك ومن لم تكن فيه فليتضرع إلى اللّه وليسأله إياه».
قال: قلت: جعلت فداك وما هي؟
قال (عليه السلام) : «الورع والقنوع والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء
ص: 263
والشجاعة والغيرة والبر وصدق الحديث وأداء الأمانة »(1).
وقيل له (عليه السلام) : ما المروءة؟ فقال (عليه السلام) : «لا يراك اللّه حيث نهاك ولا يفقدك من حيث أمرك»(2).
وقال (عليه السلام) : «اتقوا اللّه، اتقوا اللّه، عليكم بالورع وصدق الحديث وأداء الأمانة وعفّة البطن والفرج، تكونوا معنا في الرفيع الأعلى»(3).
وقال (عليه السلام) : «إنّ أحق الناس بالورع آل محمد وشيعتهم؛ كي تقتدي الرعية بهم»(4).
وقال (عليه السلام) : «إنّما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه، واشتد جهاده وعمل لخالقه، ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر»(5).
وكان من دعاء له (عليه السلام) حينما استدعاه المنصور فكفى اللّه شرّه:
ص: 264
«اللّهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، واغفر لي بقدرتك عليَّ، ولا أهلك وأنت رجائي، اللّهم أنت أكبر وأجل ممّا أخاف وأحذر، اللّهم بك ادفع في نحره واستعيذ بك من شره»(1).
كان الإمام الصادق (عليه السلام) تحت الميزاب ومعه جماعة إذ جاءه شيخ، فسلّم ثم قال: يا ابن رسول اللّه، إنّي لأحبّكم أهل البيت وأبرأ من عدوكم، وإنّي بليت ببلاء شديد وقد أتيت البيت متعوذاً به ممّا أجد وتعلقت بأستاره، ثم أقبلت إليك وأنا أرجو أن يكون سبب عافيتي مما أجد، ثم بكى وأكب على أبي عبد اللّه (عليه السلام) يقبّل رأسه ورجليه.
وجعل أبو عبد اللّه (عليه السلام) يتنحّى عنه، فرحمه وبكى ثم قال: «هذا أخوكم وقد أتاكم متعوذاً بكم فارفعوا أيديكم»، فرفع أبو عبد اللّه (عليه السلام) يديه ورفعنا أيدينا ثم قال:
«اللّهم إنّك خلقت هذه النفس من طينة أخلصتها، وجعلت منها أولياءك وأولياء أوليائك، وإن شئت أن تنحّي عنها الآفات فعلت، اللّهم وقد تعوّذنا ببيتك الحرام الذي يأمن به كل شيء، اللّهم وقد تعوّذ بنا وأنا أسألك يا من احتجب بنوره عن خلقه، أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، يا غاية كل محزون وملهوف ومكروب ومضطر مبتلى، أن تؤمنه بأماننا مما يجد، وأن تمحو من طينته ما قدر عليها من البلاء، وأن تفرّج كربته يا أرحم الراحمين». فلما فرغ (عليه السلام) من الدعاء انطلق الرجل فلما بلغ
ص: 265
باب المسجد رجع وبكى، ثم قال: {ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(1)، واللّه ما بلغت باب المسجد وبي مما أجد قليل ولا كثير ثم ولى(2).
قال (عليه السلام) : «ما أحب اللّه عزّوجلّ من عصاه»، ثم تمثل فقال:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه***هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته***إن المحب لمن يحب مطيع(3)
ص: 267
ص: 268
الاسم: موسى (عليه السلام) .
الأب: الإمام الصادق (عليه السلام) .
الأم: حميدة المصفاة.
الكنية: أبو الحسن الأول، أبو الحسن الماضي، أبو علي، أبو إبراهيم(1)، وقيل: أبو إسماعيل(2).
الألقاب: الكاظم، الصابر، العبد الصالح، الأمين، باب الحوائج، النفس الزكية، زين المجتهدين، الوفي، الزاهر، السيد، الطيب، المأمون و...(3).
الأوصاف: كان (عليه السلام) أزهر إلا في الغيظ لحرارة مزاجه، ربع تمام، خضر حالك، كث اللحية(4).
نقش الخاتم: (حسبي اللّه)(5)، وفيه وردة وهلال، وفي رواية: «الملك لله وحده»(6).
ص: 269
مكان الولادة: الأبواء(1).
زمان الولادة: يوم الأحد / 7 صفر / 128 هجرية، وقيل: عام 129 هجرية(2).
مدة العمر الشريف: 55 سنة.
مدة الإمامة: 35 سنة.
مكان الشهادة: بغداد، في سجن السندي بن شاهك.
زمان الشهادة: يوم الجمعة 25/رجب/ 183 هجرية(3).
القاتل: السندي بن شاهك بأمر من هارون العباسي.
وسيلة القتل: السُم الذي دسه في الرطب(4).
المدفن: مقابر قريش وتعرف اليوم بالكاظمية، بجنب بغداد.
عاش فترة طويلة من عمره الشريف في ظلمات سجون حكام العباسيين.
عن هشام بن أحمر قال: قال الصادق (عليه السلام) : «يا ابن أحمر، إنّها - أمّ الإمام الكاظم - تلد مولوداً ليس بينه وبين اللّه حجاب»(5).
وقال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في حقّه:
هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكثير التهجّد، الجاد في الاجتهاد،
ص: 270
والمشهود له بالكرامات، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي كاظماً، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني عليه بعفوه عنه، ولكثرة عباداته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف في العراق بباب الحوائج إلى اللّه، لنجح المتوسلين إلى اللّه تعالى به، كراماته تحار منها العقول، وتقضي بأنّ له عند اللّه تعالى قدم صدق ولا يزول(1).
وقال ابن الأثير: كان (عليه السلام) يلقّب الكاظم لأنه كان يحسن إلى من يسيء إليه وكان هذا عادته أبداً(2).
عن يزيد بن سليط أنه قال: لقينا أبا عبد اللّه (عليه السلام) في طريق مكة ونحن جماعة، فقلت له: بأبي أنت وأمّي، أنتم الأئمة المطهرّون، والموت لا يعرى أحد منه، فأحدث إليّ شيئاً ألقيه إلى من يخلفني.
فقال لي: «نعم، هؤلاء ولدي، وهذا سيّدهم - وأشار إلى ابنه موسى (عليه السلام) - وفيه العلم والحكم والفهم والسخاء والمعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسن الخلق وحسن الجوار، وهو باب من أبواب اللّه تعالى عزّوجلّ، وفيه أخرى هي خير من هذا كلّه».
فقال له أبي: وما هي بأبي أنت وأمي؟
قال: «يخرج اللّه منه عزّوجلّ غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها
ص: 271
وفهمها وحكمها وخير مولود»(1)
الحديث.
روي أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) كان يقوم الليل للتهجّد والعبادة حتى الفجر، فيصلّي صلاة الفجر ويبدأ بالتعقيب إلى طلوع الشمس، ثم يظلّ ساجداً إلى قبيل الزوال، وكان كثيراً ما يقول: «اللّهم إنّي أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب» ويكرّر هذا الدعاء(2).
وكان من دعائه (عليه السلام) أيضاً: «عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك»(3).
وكان (عليه السلام) يبكي من خشية اللّه حتى تخضل لحيته بالدموع، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل(4).
عن عبد اللّه الفروي عن أبيه قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي: أدن، فدنوت حتى حاذيته، ثم قال لي: أشرف إلى البيت في الدار، فأشرفت.
فقال: ما ترى في البيت؟
قلت: ثوباً مطروحاً.
ص: 272
فقال: أنظر حسناً.
فتأملت ونظرت فتيقنت، فقلت: رجل ساجد.
فقال لي: تعرفه؟
قلت: لا.
قال: هذا مولاك.
قلت: ومن مولاي؟
فقال: تتجاهل عليّ.
فقلت: ما أتجاهل ولكني لا أعرف لي مولى.
فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) إني أتفقده الليل والنهار، فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها(1).
وعن هشام بن أحمر، قال: كنت أسير مع أبي الحسن (عليه السلام) في بعض أطراف المدينة إذ ثنى رجله عن دابته فخر ساجداً فأطال وأطال، ثم رفع رأسه وركب دابته.
فقلت: جعلت فداك قد أطلت السجود؟!.
فقال (عليه السلام) : «إنّني ذكرت نعمة أنعم اللّه بها عليّ، فأحببت أن أشكر ربي»(2).
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) أكثر صلة لرحمه من غيره، وأكثر صلة لفقراء
ص: 273
المدينة حتى أنه كان يحمل إليهم كل ليلة الذهب والفضة والخبز والتمر، وهم لايعرفونه(1)، ومن كرمه إعتاق ألف مملوك في سبيل اللّه عزّوجلّ.
وروي عنه (عليه السلام) الأحاديث الكثيرة، وكان (عليه السلام) أفقه أهل زمانه، وأحفظهم لكتاب اللّه، وأحسنهم صوتاً لتلاوة القرآن، وكان يتلوه بحزن حتى كان يبكي كل من سمعه، ولقّبه أهل المدينة بزين المجتهدين، وقيل له (عليه السلام) الكاظم لما كظمه من الغيظ وصبره على ما لقي من ظلم الظالمين حتى قتل في سجنهم(2)،
وكان (عليه السلام) يقول: «إنّي لأستغفر كل يوم خمسة آلاف مرة»(3).
وقال الخطيب البغدادي: أخبرنا الحسن بن محمد يحيى العلوي حدثني قال: كان موسى بن جعفر (عليه السلام) يُدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده، روى أصحابنا: أنه دخل مسجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فسجد سجدة في أول الليل وسمع وهو يقول في سجوده: «عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة» فجعل يرددها حتى اصبح(4).
وفي خبر: أنّ المأمون قال لما رأى الإمام (عليه السلام) داخلاً على هارون العباسي: «إذ دخل شيخ مسخّد قد أنهكته العبادة كأنه شنّ(5) بال، قد كُلِم من السجود وجهه وأنفه»(6).
ص: 274
وقد ورد في الصلوات الواردة على الإمام الكاظم (عليه السلام) : «حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة»(1).
لقد تعرض الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى الكثير من المعاناة ومن ظلم الطغاة في عصره، حتى اشتهر (عليه السلام) باسم الكاظم للغيظ، على إثر ما لاقاه من ظلم الحكام والناصبين والحاقدين على أهل بيت النبوة (عليهم السلام) .
وقد وردت في هذا الشأن روايات كثيرة، فعن صالح بن علي بن عطية، قال: كان السبب في وقوع موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى بغداد أنّ هارون العباسي أراد أن يقعد الأمر لابنه محمد بن زبيدة، وكان له من البنين أربعة عشر ابناً، فاختار منهم ثلاثة: محمد بن زبيدة وجعله ولي عهده، وعبد اللّه المأمون وجعل الأمر له بعد ابن زبيدة، والقاسم المؤتمن وجعل له الأمر من بعد المأمون، فأراد أن يحكم الأمر في ذلك ويشهره شهرة يقف عليها الخاص والعام، فحج في سنة تسع وسبعين ومائة وكتب إلى جميع الآفاق، يأمر الفقهاء والعلماء والقراء والأمراء أن يحضروا مكة أيام الموسم، فأخذ هو طريق المدينة.
قال: علي بن محمد النوفلي فحدثني أبي أنه كان سبب سعاية يحيى بن خالد بموسى بن جعفر (عليه السلام) وضع هارون ابنه محمد بن زبيدة في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث، فساء ذلك يحيى وقال: إذا مات هارون
ص: 275
وأفضي الأمر إلى محمد انقضت دولتي ودولة ولدي، وتحوّل الأمر إلى جعفر بن محمد بن الأشعث وولده، وكان قد عرف مذهب جعفر في التشيّع، فأظهر له أنه على مذهبه فسر به جعفر، وأفضى إليه بجميع أموره، وذكر له ما هو عليه في موسى بن جعفر (عليهما السلام) .
فلما وقف على مذهبه سعى به إلى هارون، وكان هارون يرعى له موضعه وموضع أبيه من نصرة الخلافة، فكان يقدم في أمره ويؤخر، ويحيى لا يألو أن يخطب عليه، إلى أن دخل يوماً إلى هارون فأظهر له إكراماً وجرى بينهما كلام مزية جعفر لحرمته وحرمة أبيه، فأمر له هارون في ذلك اليوم بعشرين ألف دينار، فأمسك يحيى عن أن يقول فيه شيئاً حتى أمسى، ثم قال لهارون: يا أمير، قد كنت أخبرتك عن جعفر ومذهبه فتكذب عنه، وهاهنا أمر فيه الفيصل، قال: وما هو؟ قال: إنّه لا يصل إليه مال من جهة من الجهات إلا أخرج خمسه فوجه به إلى موسى بن جعفر، ولست أشك أنه قد فعل ذلك في العشرين الألف دينار التي أمرت بها له.
فقال هارون: إنّ في هذا لفيصلاً، فأرسل إلى جعفر ليلاً، وقد كان عرف سعاية يحيى به فتباينا، وأظهر كل واحد منهما لصاحبه العداوة، فلما طرق جعفر رسول هارون بالليل خشي أن يكون قد سمع فيه قول يحيى، وأنّه إنّما دعاه ليقتله، فأفاض عليه ماء ودعا بمسك وكافور فتحنّط بهما، ولبس برده فوق ثيابه وأقبل إلى هارون، فلما وقعت عليه عينه وشم رائحة الكافور ورأى البردة عليه، قال: يا جعفر، ما هذا؟
فقال: يا أمير، قد علمت أنه سعى بي عندك، فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن أن يكون قد قرح في قلبك ما يقول علي، فأرسلت إليّ
ص: 276
لتقتلني.
قال: كلّا ولكن قد خبرت أنك تبعث إلى موسى بن جعفر من كل ما يصير إليك بخمسه، وأنك قد فعلت بذلك في العشرين الألف دينار، فأحببت أن أعلم ذلك؟
فقال جعفر: اللّه أكبر يا أمير، تأمر بعض خدمك يذهب فيأتيك بها بخواتيمها، فقال هارون لخادم له: خذ خاتم جعفر وانطلق به حتى تأتيني بهذا المال، وسمّى له جعفر جاريته التي عندها المال، فدفعت إليه البدر بخواتيمها، فأتى بها هارون، فقال له جعفر: هذا أول ما تعرف به كذب من سعى بي إليك، قال: صدقت يا جعفر، انصرف آمنا فإنّي لا أقبل فيك قول أحد.
قال: وجعل يحيى يحتال في إسقاط جعفر(1).
قيل: وكان ممّن سعى بموسى بن جعفر (عليه السلام) يعقوب بن داود، وكان يرى رأي الزيدية(2).
وعن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي البلاد قال: كان يعقوب بن داود يخبرني أنه قد قال بالإمامة، فدخلت عليه بالمدينة في الليلة التي أخذ فيها موسى بن جعفر (عليه السلام) في صبيحتها فقال لي: كنت عند الوزير الساعة - يعني يحيى بن خالد - فحدثني أنه سمع هارون يقول: عند قبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كالمخاطب له: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، إني أعتذر إليك من أمر قد عزمت عليه، فإنّي أريد أن آخذ موسى بن
ص: 277
جعفر فأحبسه؛ لأنّي قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم!! وأنا أحسب أنه سيأخذه غداً، فلما كان من الغد أرسل إليه الفضل بن الربيع، وهو قائم يصلي في مقام رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فأمر بالقبض عليه وحبسه(1).
وقال الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) : «لما دخلت على هارون سلمت عليه، فرد عليّ السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتين يجبى إليهما الخراج؟
فقلت: يا أمير، أعيذك باللّه {أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ}(2)
وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بما علم ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟
فقال: قد أذنت لك.
فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت فناولني يدك جعلني اللّه فداك.
فقال: ادن، فدنوت منه، فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلاً، ثم تركني وقال: اجلس يا موسى فليس عليك بأس، فنظرت إليه فإذا أنه قد دمعت عيناه فرجعت إلى نفسي، فقال: صدقت وصدق جدك (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لقد تحرّك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت عليّ الرقة وفاضت عيناي، و أنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم أسأل عنها أحداً،
ص: 278
فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك، ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني أنك لم تكذب قط، فاصدقني عمّا أسألك ممّا في قلبي.
فقلت: ما كان علمه عندي فإنّي مخبرك إن أنت آمنتني.
قال: لك الأمان إن صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.
فقلت: ليسأل الأمير عمّا شاء.
قال: أخبرني لم فضلّتم علينا، ونحن وأنتم من شجرة واحدة، وبنو عبد المطلب، ونحن وأنتم واحد إنا بنو العباس وأنتم ولد أبي طالب وهما عما رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقرابتهما منه سواء؟
فقلت: نحن أقرب.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لأنّ عبد اللّه وأبا طالب لأب وأمّ، وأبوكم العباس ليس هو من أمّ عبد اللّه ولا من أمّ أبي طالب.
قال: فلم ادّعيتم أنكم ورثتم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والعم يحجب ابن العم وقبض رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقد توفّي أبو طالب قبله والعباس عمّه حيّ؟
فقلت له: إن رأى الأمير أن يعفيني من هذه المسألة ويسألني عن كل باب سواه يريده.
فقال: لا أو تجيب.
فقلت: فآمنّي.
فقال: قد آمنتك قبل الكلام.
ص: 279
فقلت: إنّ في قول علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذ ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلا للأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعمّ مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب، إلا أن تيماً وعدياً وبني أميّة قالوا: العم والد رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ومن قال بقول علي (عليه السلام) من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي (عليه السلام) وقد حكم به، وقد ولّاه الأمير المصرين، الكوفة والبصرة، وقد قضى به، فأنهي إلى الأمير ، فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله، منهم: سفيان الثوري وإبراهيم المدني والفضيل بن عياض، فشهدوا أنّه قول علي (عليه السلام) في هذه المسألة، فقال لهم: فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز، فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن دراج؟ فقالوا: جسر نوح وجبناً، وقد أمضى الأمير قضيته بقول قدماء العامة عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (علي أقضاكم)، وكذلك قال عمر بن الخطاب: علي أقضانا، وهو اسم جامع، لأنّ جميع ما مدح به النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أصحابه من القراءة والفرائض والعلم داخل في القضاء.
قال: زدني يا موسى.
قلت: المجالس بالأمانات و خاصة مجلسك.
فقال: لا بأس عليك.
فقلت: إنّ النبي لم يورّث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر.
فقال: ما حجّتك فيه؟
فقلت: قول اللّه تبارك وتعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن
ص: 280
وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ}(1) وإنّ عمّي العباس لم يهاجر.
فقال لي: أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشيء؟
فقلت: اللّهم لا، وما سألني عنها إلا الأمير.
ثم قال: لم جوزّتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ويقولون لكم يا بني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنتم بنو علي، وإنّما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) جدّكم من قبل أمكم؟
فقلت: يا أمير، لو أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟
فقال: سبحان اللّه ولم لا أجيبه، بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.
فقلت: لكنّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لا يخطب إليّ ولا أزوجه.
فقال: ولم؟
فقلت: لأنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ولّدني ولم يلدك.
فقال: أحسنت يا موسى.
ثم قال: كيف قلتم إنّا ذرية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يعقّب، وإنّما العقب للذكر لا للأنثى وأنتم ولد الإبنة ولا يكون لها عقب؟
فقلت: أسألك بحقّ القرابة والقبر ومن فيه إلا ما أعفيتني عن هذه المسألة.
فقال: لا أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم
ص: 281
وإمام زمانهم كذا أنهي إليّ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب اللّه تعالى، فأنتم تدّعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلا وتأويله عندكم واحتججتم بقوله عزّوجلّ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ}(1) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم؟
فقلت: تأذن لي في الجواب؟
قال: هات.
قلت: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم {بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ}(2) من أبو عيسى يا أمير؟
فقال: ليس لعيسى أب.
فقلت: إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام) وكذلك ألحقنا بذراري النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من قبل أمنا فاطمة (عليها السلام) ، أزيدك يا أمير؟
قال: هات.
قلت: قول اللّه عزّوجلّ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰذِبِينَ}(3) ولم يدع أحد أنه أدخل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين، فكان تأويل قوله عزّوجلّ: {أَبْنَاءَنَا} الحسن والحسين و
ص: 282
{نِسَاءَنَا} فاطمة و{أَنفُسَنَا} علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
إنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئيل (عليه السلام) قال يوم أحد: يا محمد إنّ هذه لهي المواساة من علي قال: لأنّه منّي وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنّا منكما يا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، فكان كما مدح اللّه عزّوجلّ به خليله (عليه السلام) إذ يقول: {فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَٰهِيمُ}(1) إنا معشر بني عمّك نفتخر بقول جبرئيل: أنه منّا.
فقال: أحسنت يا موسى ارفع إلينا حوائجك، فقلت له: أول حاجة أن تأذن لابن عمّك أن يرجع إلى حرم جدّه وإلى عياله.
فقال: ننظر إن شاء اللّه تعالى(2).
ولكنه أنزله عند السندي بن شاهك، ثم أمر بقتله (عليه السلام) بالسم.
استعمل هارون العباسي مختلف أساليب التعذيب الروحي والجسدي لإيذاء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) .
وقد أرسل يوماً إلى السجن جارية لها جمال ووضاءة ليرى ما يفعله الإمام (عليه السلام) .
وأنفذ الخادم ليتفحّص عن حالها، فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها وهي تقول: «قدوس، سبحانك سبحانك».
فأتى بها ترتعد شاخصة نحو السماء بصرها.
ص: 283
فقال: ما شأنك؟
قالت: هكذا رأيت العبد الصالح.
فما زالت كذلك حتى ماتت(1).
عن إسماعيل بن سلام وابن حميد قالا: بعث إلينا علي بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين وتجنبا الطريق ودفع إلينا مالاً وكتباً حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) ولا يعلم بكما أحد.
قالا: فأتينا الكوفة فاشترينا راحلتين وتزودنا زاداً وخرجنا نتجنب الطريق، حتى إذا صرنا ببطن الرمة(2)،
شددنا راحلتنا ووضعنا لهما العلف وقعدنا نأكل، فبينا نحن كذلك إذا راكب قد أقبل ومعه شاكري(3)، فلما قرب منّا فإذا هو أبو الحسن موسى (عليه السلام) فقمنا إليه وسلمنا عليه ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا.
فأخرج (عليه السلام) من كمه كتباً فناولنا إياها فقال: «هذه جوابات كتبكم».
قال: قلنا: إن زادنا قد فني، فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة فزرنا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وتزودنا زاداً.
ص: 284
فقال: «هاتا ما معكما من الزاد» فأخرجنا الزاد إليه، فقلّبه بيده، فقال: «هذا يبلغكما إلى الكوفة، وأمّا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد رأيتماه، إنّي صليت معهم الفجر، وأنا أريد أن أصل معهم الظهر انصرفا في حفظ اللّه»(1).
عن يعقوب السرّاج أنه قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى (عليه السلام) وهو في المهد فجعل يسارّه طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه فقال لي: «أدن إلى مولاك فسلّم عليه».
فدنوت فسلمت عليه!.
فردّ عليّ بلسان فصيح، ثم قال لي: «اذهب فغيّر اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنّه اسم يبغضه اللّه»، وكانت ولدت لي بنت فسميتها بالحميراء، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «انته إلى أمره ترشد»، فغيرت اسمها(2).
عن علي بن يقطين أنه قال: استدعى هارون العباسي رجلاً يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ويقطعه ويخجله في المجلس، فانتدب له رجل معزم(3)،
فلما أحضرت المائدة عمل ناموساً(4)
على الخبز، فكان كلما رام خادم أبي الحسن (عليه السلام) تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه، واستفز هارون الفرح والضحك لذلك.
ص: 285
فلم يلبث أبو الحسن (عليه السلام) أن رفع رأسه إلى أسد مصور على بعض الستور فقال له: «يا أسد اللّه خذ عدوّ اللّه».
قال: فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع فافترست ذلك المعزم.
فخرّ هارون وندماؤه على وجوههم مغشياً عليهم وطارت عقولهم خوفاً من هول ما رأوه.
فلما أفاقوا من ذلك بعد حين، قال هارون لأبي الحسن (عليه السلام) : أسألك بحقّي عليك لما سألت الصورة أن تردّ الرجل.
فقال (عليه السلام) : «إن كانت عصا موسى (عليه السلام) ردّت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيّهم فإنّ هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل» فكان ذلك أعمل الأشياء في إفاقة نفسه(1).
ومثل هذه المعجزة وردت أيضاً عن الإمام الرضا (عليه السلام) والمأمون العباسي في قصة مفصلة(2).
عن علي بن أبي حمزة البطائني أنه قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) في طريق، إذ استقبلنا أسد ووضع يده على كفل بغلته، فوقف له أبو الحسن (عليه السلام) كالمصغي إلى همهمته، ثم تنحّى الأسد إلى جانب الطريق وحول أبو الحسن (عليه السلام) وجهه إلى القبلة، وجعل يدعو بما لم أفهمه، ثم
ص: 286
أومئ إلى الأسد بيده أن أمض، فهمهم الأسد همهمة طويلة وأبو الحسن (عليه السلام) يقول: «آمين آمين» وانصرف الأسد.
فقلت له: جعلت فداك عجبت من شأن هذا الأسد معك؟
فقال: «إنّه خرج إليّ يشكو عسر الولادة على لبوته، وسألني: أن أسأل اللّه أن يفرج عنها، ففعلت ذلك، وألقي في روعي أنها تلد ذكراً، فخبرته بذلك.
فقال لي: امض في حفظ اللّه فلا سلّط اللّه عليك، ولا على ذريتك، ولا على أحد من شيعتك، شيئاً من السباع، فقلت: آمين»(1).
حُبس علي بن المسيب مع الإمام الكاظم (عليه السلام) في بغداد، وبعدما طال حبسه واشتد شوقه إلى عياله قال (عليه السلام) له: اغتسل.
فاغتسل.
فقال: غض عينيك.
فغض.
فقال: افتح.
ففتح، فرآه عند قبر الحسين (عليه السلام) فصليا عنده وزاراه.
ثم قال: غمض... وقال: افتح فرآه معه عند قبر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فقال: هذا بيتك فاذهب إلى عيالك وجدّد العهد وارجع إليّ، ففعل.
فقال: غمض... وقال: افتح ففتح، فرآه معه فوق جبل قاف(2)، وكان
ص: 287
هناك من أولياء اللّه أربعون رجلاً فصلى (عليه السلام) وصلوا مقتدين به، ثم قال: غمّض... وقال: افتح، ففتح فرآه معه في السجن(1).
عن المفضل بن عمر، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فبينا أنا جالس عنده إذ اقبل موسى (عليه السلام) ابنه وفي رقبته قلادة فيها ريش غلاظ، فدعوت به فقبلته وضممته إليّ، ثم قلت لأبي عبد اللّه: جعلت فداك أي شيء هذا الذي في رقبة موسى (عليه السلام) ؟
فقال: «هذا من أجنحة الملائكة».
قال: فقلت: وإنّها لتأتينكم؟
قال: «نعم، إنّها لتأتينا وتتعفر في فرشنا، وإنّ هذا الذي في رقبة موسى من أجنحتها»(2).
مرّ الإمام الكاظم (عليه السلام) على دار بشر ببغداد، فسمع أصوات الغناء والطرب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البيت فرمت بها في الدرب، فقال (عليه السلام) لها: يا جارية صاحب هذا الدار حرّ أمّ عبد؟
فقالت: بل حرّ.
فقال (عليه السلام) : صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه...
فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأك علينا؟
ص: 288
فقالت: حدثني رجل بكذا...
فخرج بشر حافياً حتى لقي مولانا الكاظم (عليه السلام) فتاب على يديه(1).
لقد قضى الإمام الكاظم (عليه السلام) عدّة سنين من حياته الشريفة في ظلمات السجون، بعيداً عن أهله وأصحابه وشيعته، وممنوعاً من نشر علومه، فقد أمر هارون العباسي بإلقاء القبض على الإمام (عليه السلام) فألقت الشرطة عليه القبض وهو (عليه السلام) قائم يصلي عند رأس جده رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقطعوا عليه صلاته ولم يمهلوه أن يتمها، فقيدوه في ذلك الحرم الشريف، وهو (عليه السلام) يشكو إلى جده قائلاً: «إليك أشكو يا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(2).
فسير بالإمام (عليه السلام) معتقلاً إلى البصرة، فلما انتهوا به (عليه السلام) إلى البصرة دفعوه إلى عيسى بن أبي جعفر فحبسه.
فتفرّغ الإمام (عليه السلام) في الحبس للعبادة وأقبل على عبادة اللّه فارغ البال، يقضي أغلب أوقاته في الصلاة والسجود والدعاء... واعتبر تفرّغه للعبادة من أعظم نعم اللّه التي منحها له، فكان (عليه السلام) يشكر اللّه على تلك الحالة، ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهم إنك تعلم إني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهم وقد فعلت فلك الحمد»(3).
فأوعز هارون العباسي إلى عيسى في البصرة يطلب منه اغتيال الإمام (عليه السلام)
ص: 289
وقتله!، فكتب إليه عيسى طلب إعفاءه من ذلك وقال: قد اختبرت طول مقامه بمن حبسته معه عيناً عليه... فلم يكن منه سوء قط، ولم يكن عنده تطلع إلى ولاية ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا... فإن رأى الأمير أن يعفيني من أمره، أو ينفذ من يتسلمه مني، وإلا سرحت سبيله(1).
فأمره هارون بحمل الإمام (عليه السلام) إلى بغداد.
فحُمل (عليه السلام) إلى بغداد مقيداً...
فانتهوا به إلى بغداد وأخبروا هارون بذلك، فأمر باعتقاله (عليه السلام) عند الفضل ابن الربيع، فبقي عنده مدّة طويلة.
فأراده هارون على شيء من أمره، فأبى، فكتب إليه بتسليمه إلى الفضل ابن يحيى، فتسلّمه منه وجعله في بعض حجر داره، ووضع عليه الرصد وكان (عليه السلام) مشغولاً بالعبادة، يحيي الليل كله صلاة وقراءة للقرآن ودعاء واجتهاداً، ويصوم النهار في أكثر الأيام ولا يصرف وجهه من المحراب.
فوسّع عليه الفضل بن يحيى و أكرمه.
فاتصل ذلك بهارون وهو بالرقة، فكتب إليه ينكر عليه توسعته على موسى (عليه السلام) ، ويأمره بقتله، فتوقف عن ذلك، ولم يقدم عليه.
فاغتاظ هارون لذلك، ودعا مسروراً الخادم فقال له: اخرج على البريد في هذا الوقت إلى بغداد، وادخل من فورك على موسى بن جعفر (عليه السلام) فإن وجدته في دعة ورفاهية، فأوصل هذا الكتاب إلى العباس بن محمد ومره بامتثال ما فيه، وسلّم إليه كتابا آخر إلى السندي بن شاهك يأمره فيه بطاعة
ص: 290
العباس بن محمد.
فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد، ثم دخل على موسى بن جعفر (عليهما السلام) فوجده على ما بلغ هارون، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي بن شاهك، فأوصل الكتابين إليهما، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى فركب معه وخرج مشدوهاً دهشاً، حتى دخل على العباس بن محمد فدعا العباس بسياط وعقابين وأمر بالفضل فجرد وضربه السندي بين يديه مائة سوط وخرج متغير اللون خلاف ما دخل، وجعل يسلم على الناس يميناً و شمالاً.
فأمر هارون بتسليم موسى (عليه السلام) إلى السندي بن شاهك(1).
يقول الفضل بن الربيع: قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله، فلم أجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أنّي لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني(2).
وعلى رغم محاولات هارون العباسي لكنه شاع ذكر الإمام (عليه السلام) وانتشرت فضائله ومآثره في بغداد وفي كثير من البلاد الإسلامية، فضاق هارون من ذلك وعزم على قتل الإمام (عليه السلام) ، فلم يجد شريراً أسوء من (السندي بن شاهك)، فنقل الإمام (عليه السلام) إلى سجنه، وأمره بالتضييق عليه، فبالغ السندي في أذى الإمام (عليه السلام) والتضييق عليه، ثم أمره هارون بأن يقتل الإمام (عليه السلام) بالسم، فناوله رطباً مسموماً، فقضى الإمام (عليه السلام) نحبه مظلوماً
ص: 291
مسموماً شهيداً (1).
قال الإمام الكاظم (عليه السلام) لعلي بن يقطين: «كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان»(2).
وقال (عليه السلام) لما حضر عند قبر من القبور: «إنّ شيئاً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإنّ شيئاً هذا أوله لحقيق أن يخاف من آخره»(3).
وقال (عليه السلام) : «كلما أحدث الناس من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعدون»(4).
وقال (عليه السلام) : «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة اللّه، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات، لا تحدّثوا أنفسكم بفقرٍ
ص: 292
ولا بطول عمرٍ، فإنّه من حدث نفسه بالفقر بخل، ومن حدّثها بطول العمر يحرص، اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال وما لا يثلم المروّة وما لاسرف فيه، واستعينوا بذلك على أمور الدين، فإنّه روي: ليس منّا من ترك دنياه لدينه أو ترك دينه لدنياه»(1).
وقال (عليه السلام) : «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه فهو في نقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة»(2).
وقال (عليه السلام) : «ليس حسن الجوار كفّ الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى»(3).
وقال (عليه السلام) : «إنّما هلك من كان قبلكم بما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، إنّ اللّه جلّ وعلا بعث ملكين إلى مدينة ليقلباها على أهلها، فلما انتهيا إليها وجدا رجلاً يدعو اللّه ويتضرّع إليه، فقال أحدهما لصاحبه: أما ترى هذا الرجل الداعي؟
فقال له: رأيته ولكن امضي إلى ما أمرني به ربّي.
ص: 293
فقال الآخر: ولكنّي لا أحدث شيئاً حتى ارجع، فعاد إلى ربه فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلاناً يدعو ويتضرع إليك؟!
فقال عزّوجلّ: امضِ لما أمرتك فإنّ ذلك رجل لم يتغيّر وجهه غضباً لي قط»(1).
وقال (عليه السلام) : «يعرف شدة الجور من حكم به عليه»(2).
وقال (عليه السلام) : «إنّ عيال الرجل أسراؤه فمن أنعم اللّه عليه نعمة فليوسع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول عنه تلك النعمة»(3).
وقال (عليه السلام) : «ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر، واعلم أنّ نفقتك على نفسك وعيالك صدقة، والكاد على عياله من حل كالمجاهد في سبيل اللّه»(4).
وقال (عليه السلام) : «إذا أخذت من شعر رأسك فابدأ بالناصية ومقدّم رأسك والصدغين إلى القفا، فكذلك السنة، وقل:
بسم اللّه وباللّه وعلى ملّة إبراهيم وسنة محمد وآل محمد حنيفاً مسلماً وما
ص: 294
أنا من المشركين، اللّهم أعطني بكل شعرة وطاقة في الدنيا نوراً يوم القيامة، اللّهم أبدلني مكانه شعراً لا يعصيك، تجعله زينة لي ووقاراً في الدنيا، ونوراً ساطعاً يوم القيامة.
ثم تجمع شعرك وتدفنه وتقول: اللّهم اجعله إلى الجنة ولا تجعله إلى النار وقدس عليه ولا تسخط عليه، وطهّره حتى تجعله كفارة وذنوباً تناثرت عني بعدده، وما تبدله مكانه، فاجعله طيباً وزينة وقاراً ونوراً في القيامة منيراً يا أرحم الراحمين، اللّهم زيّني بالتقوى وجنّبني وجنّب شعري وبشري المعاصي وجنبني الردى، فلا يملك ذلك أحد سواك»(1).
وقال (عليه السلام) : «ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم فإنّه بمنزلة البناء، قليله يجر إلى كثيره»(2).
عن محمد بن رباح القلاء، قال: رأيت أبا إبراهيم (عليه السلام) يحتجم يوم الجمعة، فقلت: جعلت فداك تحتجم يوم الجمعة؟!
قال (عليه السلام) : «أقرأ آية الكرسي، فإذا هاج بك الدم ليلاً كان أو نهاراً فاقرأ آية الكرسي واحتجم»(3).
ص: 295
وقال (عليه السلام) : «خلق اللّه عالمين متصلين: فعالم علويّ وعالم سفليّ، وركب العالمين جميعاً في ابن آدم، وخلقه كروياً مدوراً، فخلق اللّه رأس ابن آدم كقبة الفلك، وشعره كعدد النجوم، وعينيه كالشمس والقمر، ومنخريه كالشمال والجنوب، وأذنيه كالمشرق والمغرب، وجعل لمحه كالبرق، وكلامه كالرعد، ومشيه كسير الكواكب، وقعوده كشرفها، وغفوه كهبوطها، وموته كاحتراقها.
وخلق في ظهره أربعاً وعشرين فقرة كعدد ساعات الليل والنهار، وخلق له ثلاثين معى(1)، كعدد الهلال ثلاثين يوماً، وخلق له اثنى عشر عضواً... وعجنه من مياه أربعة:
فخلق المالح في عينيه، فهما لا يذوبان في الحر ولا يجمدان في البرد، وخلق المر في أذنيه لكي لا تقربهما الهوام، وخلق المني في ظهره لكيلا يعتريه الفساد، وخلق العذب في لسانه، فشهد آدم أن لا إله إلا اللّه، وخلقه بنفس وجسد وروح، فروحه التي لا تفارقه إلا بفراق الدنيا، وبنفسه التي يرى بها الأحلام والمنامات، وجسمه هو الذي يبلى ويرجع إلى التراب»(2).
عن معاوية بن حكيم قال: سمعت عثمان الأحول يقول: سمعت أبا
ص: 296
الحسن (عليه السلام) يقول:
«ليس من دواء إلا وهو يهيج داءً، وليس شيء في البدن أنفع من إمساك اليد إلا عما يحتاج إليه»(1).
وقال (عليه السلام) : «علامات الدم أربع: الحكة، والبثرة، والنعاس، والدوران»(2).
عن الرضا (عليه السلام) قال: «كان أبي (عليه السلام) إذا خرج من منزله قال:
بسم اللّه الرحمن الرحيم خرجت، بحول اللّه وقوته لا بحولي وقوتي، بل بحولك وقوتك يا رب، متعرضاً به لرزقك، فأتني به في عافية»(3).
وقال (عليه السلام) : «من تكلّم في اللّه هلك، ومن طلب الرئاسة هلك، ومن دخله العجب هلك»(4).
وقال (عليه السلام) : «اشتدت مؤونة الدنيا ومؤونة الآخرة، فأمّا مؤونة الدنيا فإنّك لا تمدّ يدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه، وأمّا مؤونة الآخرة فإنّك لاتجد أعواناً يعينونك عليه»(5).
ص: 297
وقال (عليه السلام) : «أربعة من الوسواس: أكل الطين، وفتّ الطين، وتقليم الأظفار بالأسنان، وأكل اللحية، وثلاث يجلين البصر: النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء الجاري، والنظر إلى الوجه الحسن»(1).
وقال (عليه السلام) : «داووا مرضاكم بالصدقة، واستشفوا بالقرآن، فمن لم يشفه القرآن فلا شفاء له»(1).
وقال (عليه السلام) : «عونك للضعيف من أفضل الصدقة»(1).
وقال (عليه السلام) : «تعجّب الجاهل من العاقل أكثر من تعجب العاقل من الجاهل»(2).
وقال (عليه السلام) : «المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان»(3).
وقال (عليه السلام) : «لو ظهرت الآجال افتضحت الآمال، من ولده الفقر أبطره الغنى، من لم يجد للإساءة مضضاً لم يكن للإحسان عنده موقع، ما تسابّ اثنان إلا انحط الأعلى إلى مرتبة الأسفل»(4).
عن أبي عبد اللّه بن الفضل عن أبيه الفضل، قال: كنت أحجب هارون فأقبل عليّ يوماً غضبان وبيده سيف يقلّبه، فقال لي: يا فضل بقرابتي من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لئن لم تأتني بابن عمي الآن لآخذن الذي فيه عيناك!.
ص: 300
فقلت: بمن أجيئك؟
فقال: بهذا الحجازي.
فقلت: وأيّ الحجازي؟
قال: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
إلى أن قال: فدخلت على هارون فإذا هو كأنّه امرأة ثكلى قائم حيران، فلما رآني قال لي: يا فضل.
فقلت: لبيك.
فقال: جئتني بابن عمي؟
قلت: نعم.
قال: لا تكون أزعجته؟
فقلت: لا.
قال: لا تكون أعلمته أني غضبان، فإنّي قد هيجت على نفسي ما لم أرده؟ إئذن له بالدخول.
فأذنت له، فلمّا رآه وثب إليه وعانقه. ورحّب به ثم أمر بإكرامه وأذن له بالانصراف.
فتبعته (عليه السلام) فقلت له: ما الذي قلت حتى كفيت أمر هارون؟
فقال: «دعاء جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان إذا دعا به ما برز إلى عسكر إلا وهزمه، ولا إلى فارس إلا قهره، وهو دعاء كفاية البلاء».
قلت: وما هو؟
قال: «قلت: اللّهم بك أساور، وبك أحاول، وبك أجاور، وبك أصول،
ص: 301
وبك انتصر، وبك أموت، وبك أحيا، أسلمت نفسي إليك، وفوّضت أمري إليك، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
اللّهم إنك خلقتني ورزقتني، وسترتني عن العباد بلطف ما خوّلتني وأغنيتني، إذا هويت رددتني، وإذا عثرت قوّمتني، وإذا مرضت شفيتني، وإذا دعوت أجبتني، يا سيدي إرض عنّي فقد أرضيتني»(1).
عن علي بن يقطين، قال: أنهي الخبر إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) وعنده جماعة من أهل بيته، بما عزم موسى بن المهدي في أمره.
فقال لأهل بيته: «ما تشيرون؟».
قالوا: نرى أن تتباعد عنه، وأن تغيّب شخصك منه فإنه لا يؤمن شرّه.
فتبسم أبو الحسن (عليه السلام) ثم قال:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها***وليغلبن مغلب الغلاب
ثم رفع (عليه السلام) يده إلى السماء فقال:
«اللّهم كم من عدو شحذ لي ظبة مديته، وأرهف لي شبا حدّه، وداف لي قواتل سمومه، ولم تنم عنّي عين حراسته، فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن ملمّات الحوائج، صرفت عنّي ذلك بحولك وقوتك، لابحولي وقوتي، فألقيته في الحفير الذي احتفره لي خائباً مما أمّله في دنياه، متباعداً مما رجاه في آخرته، فلك الحمد على ذلك قدر استحقاقك سيدي. اللّهم فخذه بعزتك، وافلل حدّه عنّي بقدرتك، واجعل له شغلاً فيما يليه،
ص: 302
وعجزاً عمّن يناويه، اللّهم وأعدني عليه عدوى حاضرة تكون من غيظي شفاءً ومن حقّي عليه وفاءً، وصل اللّهم دعائي بالإجابة، وانظم شكايتي بالتغيير، وعرّفه عمّا قليل ما وعدت الظالمين، وعرفني ما وعدت في إجابة المضطرين، إنك ذو الفضل العظيم، والمن الكريم».
قال: ثم تفرق القوم، فما اجتمعوا إلا لقراءة الكتاب الوارد عليه بموت موسى بن المهدي(1).
عن الفضل بن يونس عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال: «أكثر من أن تقول: اللّهم لا تجعلني من المعارين، ولا تخرجني من التقصير».
قال: قلت: أما المعارون فقد عرفت أنّ الرجل يعار الدين، ثم يخرج منه، فما معنى: لا تخرجني من التقصير؟
فقال: «كل عمل تريد به اللّه عزّوجلّ فكن فيه مقصّراً عند نفسك، فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين اللّه مقصّرون، إلا من عصمه اللّه عزّوجلّ»(2).
لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها***إحدى ثلاث خلال حين نبديها
ص: 303
أما تفرد بارينا بصنعتها***فيسقط اللوم عنّا حين نأتيها
أو كان يشركنا فيه فيلحقه***ما سوف يلحقنا من لائم فيها
أو لم يكن لإلهي في جنايتها***ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها(1)
ص: 305
ص: 306
الاسم: علي (عليه السلام) .
الأب: الإمام الكاظم (عليه السلام) .
الأم: نجمة، وفي المناقب: أمّه أمّ ولد يقال: لها (سكن النوبية)، ويقال: (خيزران المرسية) ويقال: (نجمة) رواه ميثم، ويقال: (صقر) وتسمّى (أروى أمّ البنين)، ولما ولدت الرضا (عليه السلام) سمّاها (الطاهرة)(1).
الكنية: أبو الحسن، والخاص أبو علي(2).
الألقاب: الرضا(3)، الصابر، الفاضل، الرضي، قرة عين المؤمنين، سراج اللّه، نور الهدى، كفو الملك، ربّ السرير، والصديق(4).
نقش الخاتم: (ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه)(5).
مكان الولادة: المدينة المنورة.
زمان الولادة: الخميس 11/ ذي القعدة / 148ه(6)، أو يوم الجمعة،
ص: 307
وقيل: يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 153ه(1)
وروى الإربلي: أمّا ولادته (عليه السلام) ففي الحادي عشر. ذي الحجّة سنة 153ه- بعد وفاة جده أبي عبد اللّه جعفر (عليه السلام) بخمس سنين(2).
مدة العمر الشريف: 49 سنة(3).
مدة الإمامة: عشرون سنة(4).
مكان الشهادة: خراسان.
زمان الشهادة: آخر شهر صفر 203 هجرية، وقيل 202هجرية(5).
القاتل: المأمون العباسي.
وسيلة القتل: العنب المسموم، وفي كشف الغمة: ماء الرمان ، المسموم(6).
المدفن: أرض طوس بخراسان حيث مزاره الآن، في القبة التي فيها هارون إلى جانبه ممّا يلي القبلة (7).
عن يزيد بن سليط في حديث عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال مشيراً
ص: 308
إلى أولاده: «هؤلاء ولدي، وهذا سيدهم - وأشار إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) - وفيه العلم والحكم والفهم والسخاء والمعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم...».
ثم قال: «يخرج اللّه عزّوجلّ منه غوث هذه الأمة وغياثها، وعلمها ونورها، وفهمها وحكمها، وخير مولود وخير ناشئ، يحقن اللّه به الدماء، ويصلح به ذات البين، ويلمّ به الشعث، ويشعب به الصدع، ويكسو به العاري، ويشبع به الجائع، ويؤمن به الخائف، وينزل به القطر، ويأتمر به العباد، خير كهل وخير ناشئ، يبشر به عشيرته قبل أوان حلمه، قوله حكم، وصمته علم، يبين للناس ما يختلفون فيه»(1).
عن سليمان بن حفص، قال: كان موسى بن جعفر (عليهما السلام) يسمي ولده علياً (عليه السلام) : الرضا، وكان يقول: «ادعوا إليّ ولدي الرضا، وقلت لولدي الرضا، وقال لي ولدي الرضا، وإذا خاطبه قال: يا أبا الحسن (عليه السلام) »(2).
عن السيدة نجمة (عليها السلام) والدة الإمام الرضا (عليه السلام) أنّها قالت: «لما حملت بابني لم أشعر بثقل الحمل، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً من بطني، فيفزعني ذلك، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً، فلما وضعته وقع إلى الأرض واضعاً يده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء يحرك شفتيه كأنه يتكلّم،
ص: 309
فدخل إليّ أبوه موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال لي: هنيئاً لك يا نجمة كرامة ربك.
فناولته إيّاه في خرقة بيضاء، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات وحنكه به، ثم رده إليّ فقال: خذيه فإنّه بقية اللّه في أرضه»(1).
عن إبراهيم بن العباس أنه قال:
ما رأيت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) جفا أحداً بكلامه قط.
وما رأيت قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه.
وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها.
ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قط.
ولا اتكأ بين يدي جليس له قط.
ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط.
ولا رأيته تفل قط.
ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسّم.
وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس.
وكان (عليه السلام) قليل النوم بالليل، كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ويقول: «ذلك صوم الدهر».
ص: 310
وكان (عليه السلام) كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنّه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه(1).
عن محمد بن أبي عباد أنه قال: «كان جلوس الرضا (عليه السلام) على حصير في الصيف ، وعلى مسح في الشتاء، ولبسه الغليظ من الثياب، حتى إذا برز للناس تزين لهم»(2).
عن إبراهيم بن العباس أنه قال: ما رأيت الرضا (عليه السلام) يُسأل عن شيء قط إلا علم، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن، وكان يختمه في كل ثلاثة ويقول: «لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة تختمت، ولكنّي ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها، وفي أيّ شيء نزلت، وفي أيّ وقت؛ فلذلك صرت أختم في كل ثلاثة أيام»(3).
عن اليسع بن حمزة، قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أحدثه، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل
ص: 311
عليه رجل طوال آدم، فقال له: السلام عليك يا ابن رسول اللّه، رجل من محبّيك ومحبّي آبائك وأجدادك (عليهم السلام) مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليّ نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدّقت بالذي توليني عنك؛ فلست موضع صدقة.
فقال له (عليه السلام) : «اجلس رحمك اللّه»، وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا، فقال: «أتأذنون لي في الدخول؟».
فقال له سليمان: قدم اللّه أمرك.
فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة، ثم خرج ورد الباب وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: «أين الخراساني؟».
فقال: ها أنا ذا.
فقال: «خذ هذا المائتي دينار واستعن بها في مئونتك ونفقتك وتبرك بها، ولا تصدّق بها عنّي، واخرج فلا أراك ولا تراني».
ثم خرج (عليه السلام) فقال له سليمان: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟
فقال: «مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : المستتر بالحسنة يعدل سبعين حجّة، والمذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له، أما سمعت قول الأول:
متى آته يوماً لأطلب حاجةً***رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه»(1)
ص: 312
قال موسى بن سيار: كنت مع الرضا (عليه السلام) وقد أشرف على حيطان طوس، وسمعت واعية فاتبعتها، فإذا نحن بجنازة.
فلما بصرت بها رأيت سيدي وقد ثنى رجله عن فرسه، ثم أقبل نحو الجنازة فرفعها، ثم أقبل يلوذ بها كما تلوذ السخلة بأمها.
ثم أقبل عليّ وقال: «يا موسى بن سيار، من شيع جنازة وليّ من أوليائنا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا ذنب عليه».
حتى إذا وضع الرجل على شفير قبره رأيت سيدي قد أقبل، فأخرج الناس عن الجنازة حتى بدا له الميت، فوضع يده على صدره، ثم قال: «يا فلان بن فلان أبشر بالجنة فلا خوف عليك بعد هذه الساعة».
فقلت: جعلت فداك هل تعرف الرجل، فواللّه إنّها بقعة لم تطأها قبل يومك هذا؟
فقال لي: «يا موسى بن سيار، أما علمت أنا معاشر الأئمة تعرض علينا أعمال شيعتنا صباحاً ومساءً، فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا اللّه تعالى الصفح لصاحبه، وما كان من العلو سألنا اللّه الشكر لصاحبه»(1).
روي عن ياسر الخادم أنه قال: كان الرضا (عليه السلام) إذا خلا جمع حشمه كلّهم عنده، الصغير والكبير، فيحدّثهم ويأنس بهم ويؤنسهم.
وكان (عليه السلام) إذا جلس على المائدة لا يدع صغيراً ولا كبيراً حتى السائس
ص: 313
والحجّام إلا أقعده معه على مائدته(1).
عن ياسر الخادم ونادر قالا: قال لنا أبو الحسن (عليه السلام) : «إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون فلا تقوموا حتى تفرغوا».
ولربما دعا (عليه السلام) بعضنا فيقال له: هم يأكلون، فيقول: «دعوهم حتى يفرغوا»(2).
عن الحسين بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي، قال: كنّا حول أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ونحن شبّان من بني هاشم، إذ مرّ علينا جعفر بن عمر العلوي وهو رثّ الهيئة، فنظر بعضنا إلى بعض وضحكنا من هيئة جعفر بن عمر.
فقال الرضا (عليه السلام) : «لترونّه عن قريب كثير المال كثير التبع»(3).
فما مضى إلا شهر أو نحوه حتى ولّيَ المدينة وحسنت حاله، فكان يمرّ بنا ومعه الخصيان(4) والحشم(5).
عن أبي حبيب النباجي أنه قال: رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في المنام وقد
ص: 314
وافى النباج(1) ونزل في المسجد الذي ينزل الحجّاج في كل سنة، وكأنّي مضيت إليه وسلّمت عليه ووقفت بين يديه، فوجدت عنده طبقاً من خوص نخل المدينة فيه تمر صيحاني، وكأنّه قبض قبضةً من ذلك التمر فناولني، فعددته فكان ثماني عشرة تمرة، فتأوّلت إنّي أعيش بعدد كل تمرة سنة... .
فلما كان بعد عشرين يوماً كنت في أرض تعمر بين يدي للزراعة، إذ جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من المدينة ونزوله ذلك المسجد، ورأيت الناس يسعون إليه.
فمضيت نحوه فإذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت فيه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وتحته حصير مثل ما كان تحته (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وبين يديه طبق خوص فيه تمر صيحاني، فسلمت عليه.
فردّ السلام عليّ واستدعاني فناولني قبضة من ذلك التمر، فعددته فإذا عدده مثل ذلك العدد الذي ناولني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... .
فقلت له: زدني منه يا ابن رسول اللّه.
فقال (عليه السلام) : «لو زادك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لزدناك»(2).
عن الريّان بن الصلت أنه قال: لما أردت الخروج إلى العراق وعزمت على توديع الرضا (عليه السلام) فقلت في نفسي: إذا ودّعته سألته قميصاً من ثياب
ص: 315
جسده لأكفّن به، ودراهم من ماله أصوغ بها لبناتي خواتيم.
فلما ودعته شغلني البكاء والأسف على فراقه عن مسألة ذلك، فلما خرجت من بين يديه صاح بي: «يا ريّان ارجع»، فرجعت.
فقال (عليه السلام) لي: «أما تحب أن أدفع إليك قميصاً من ثياب جسدي تكفّن فيه إذا فني أجلك؟
أو ما تحب أن أدفع إليك دراهم تصوغ بها لبناتك خواتيم؟».
فقلت: يا سيدي قد كان في نفسي أن أسألك فمنعني الغم بفراقك.
فرفع (عليه السلام) الوسادة وأخرج قميصاً فدفعه إليّ، ورفع جانب المصلى فأخرج دراهم فدفعها إليَّ، وعددتها فكانت ثلاثين درهماً(1).
عن محمد بن حفص، قال: حدثني مولى العبد الصالح أبي الحسن موسى ابن جعفر (عليهما السلام) ، قال: كنت وجماعة مع الرضا (عليه السلام) في مفازة(2)
فأصابنا عطش شديد ودوابنا حتى خفنا على أنفسنا.
فقال لنا الرضا (عليه السلام) : «ائتوا موضعاً» وصفه لنا فإنّكم تصيبون الماء فيه.
قال: فأتينا الموضع فأصبنا الماء وسقينا دوابنا حتى رويت وروينا ومن معنا من القافلة، ثم رحلنا فأمرنا (عليه السلام) بطلب العين، فطلبناها فما أصبنا إلا بعر الإبل ولم نجد للعين أثراً(3).
ص: 316
روي عن محمد بن الفضل، قال: لما كان في السنة التي بطش هارون بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد ونزل بهم ما نزل، كان أبو الحسن (عليه السلام) واقفاً بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه فسئل عن ذلك؟
فقال: «إنّي كنت أدعو اللّه على البرامكة قد فعلوا بأبي (عليه السلام) ما فعلوا فاستجاب اللّه لي فيهم اليوم». فلما انصرف لم يلبث إلا يسيراً حتى بطش بجعفر وحبس يحيى وتغيرت أحوالهم(1).
قال مسافر: كنت مع الرضا (عليه السلام) بمنى فمرّ به يحيى بن خالد مع قوم من آل برمك فغطى وجهه من الغبار، فقال الرضا (عليه السلام) : «مساكين لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة».
ثم قال (عليه السلام) : «وأعجب من هذا هارون وأنا كهاتين (وضمّ بين إصبعيه)».
قال: مسافر فما عرفت معنى حديثه حتى دفناه معه(2).
عن الريان بن الصلت أنه قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) بخراسان وقلت في نفسي: أسأله عن هذه الدنانير المضروبة باسمه.
فلما دخلت عليه قال لغلامه: «إنّ أبا محمد يشتهي من هذه الدنانير التي عليها اسمي فهلم بثلاثين درهماً منها».
فجاء بها الغلام فأخذتها ثم قلت في نفسي: ليته كساني من بعض ما عليه.
ص: 317
فالتفت (عليه السلام) إلى غلامه فقال: «وقل لهم لا يغسلون ثيابي وتأتي بها كما هي»، فأتيت بقميص وسروال ونعل(1).
عن الحسن بن علي الوشاء، قال: دعاني سيدي الرضا (عليه السلام) بمرو، فقال (عليه السلام) : «يا حسن، مات علي بن أبي حمزة البطائني في هذا اليوم، وأدخل في قبره الساعة ودخلا عليه ملكا القبر فسألاه من ربك؟
فقال: اللّه.
ثم قالا: من نبيك؟
فقال: محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .
فقالا: من وليك؟
فقال: علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
قالا: ثم من؟
قال: الحسن (عليه السلام) .
قالا: ثم من؟
قال: الحسين (عليه السلام) .
قالا: ثم من؟
قال: علي بن الحسين (عليه السلام) .
قالا: ثم من؟
قال: محمد بن علي (عليه السلام) .
ص: 318
قالا: ثم من؟
قال: جعفر بن محمد (عليه السلام) .
قالا: ثم من؟
قال: موسى بن جعفر (عليه السلام) .
قالا: ثم من؟
فلجلج.
فزجراه وقالا: ثم من؟
فسكت.
فقالا له: أفموسى بن جعفر أمرك بهذا.
ثم ضرباه بمقمعة(1)
من نار فألهبا عليه قبره إلى يوم القيامة».
فخرجت من عند سيدي فأرّخت ذلك اليوم فما مضت الأيام حتى وردت كتب الكوفيين بموت البطائني في ذلك اليوم، وإنه دخل قبره في تلك الساعة(2).
قال أحمد بن عمر الحلال: سمعت الأخرس بمكة يذكر الرضا (عليه السلام) فنال منه، قال: فدخلت مكة فاشتريت سكيناً فرأيته فقلت: واللّه لأقتلنّه إذا خرج من المسجد، فأقمت على ذلك.
فما شعرت إلا برقعة أبي الحسن (عليه السلام) : «بسم اللّه الرحمن الرحيم بحقّي
ص: 319
عليك لما كففت عن الأخرس فإنّ اللّه ثقتي وهو حسبي»(1).
عن سليمان الجعفري، قال: كنت مع أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حائط له، إذ جاء عصفور فوقع بين يديه وأخذ يصيح ويكثر الصياح ويضطرب، فقال لي: «يا سليمان تدري ما تقول العصفور؟».
قلت: لا.
قال: «إنّه يقول: إنّ حيّة تريد تأكل أفراخي في البيت، فقم فخذ النبعة في يديك - يعني العصا - وأدخل البيت واقتل الحية».
فأخذت النبعة ودخلت البيت وإذا حية تجول في البيت فقتلتها(2).
إنّ المأمون العباسي لما رأى ضعف الدولة العباسية لكثرة الحروب الداخلية، ولمعرفة الناس بأنّ بني العباس قد غصبوا الخلافة التي هي حق آل محمد وأهل بيته الأطهار (عليهم الصلاة والسلام) ورأى المكانة الكبيرة التي يمتاز بها الإمام الرضا (عليه السلام) خاف على ملكه، فأخذ يحتال للسيطرة على الأمور، حيث لم يكن بإمكانه أن يسجن الإمام (عليه السلام) ويقتله كما سجن أبوه هارون العباسي من قبل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) .
فرأى أفضل طريقة للسيطرة على الأمور هو أن يتظاهر بحبّ أهل البيت (عليهم السلام) وحب الإمام الرضا (عليه السلام) ، ويدعو الإمام إلى خراسان ويعرض
ص: 320
عليه الخلافة، فإذا لم يقبل أجبره على قبول ولاية العهد، ثم يقضي على الإمام (عليه السلام) بالسم، فتلتبّس الأمور على الناس.
فدعا المأمون الإمام (عليه السلام) إلى خراسان وأجبره على الخروج من المدينة، فأخذ الإمام (عليه السلام) يودع أهله وعياله ويبكي ويقول: هذا سفر لا رجعة فيه والملتقى يوم القيامة عند اللّه عزّوجلّ.
فلما وصل الإمام الرضا (عليه السلام) إلى خراسان عرض المأمون عليه السلطة فلم يقبل الإمام (عليه السلام) بذلك، ثم عرض عليه ولاية العهد فلم يقبل أيضاً.
فأجبر الإمام (عليه السلام) وهدده بالقتل!.
فرضي الإمام (عليه السلام) كارهاً لذلك، وشرط على المأمون شروطاً أدت إلى فضح المأمون وكشفت عن حيلته وخداعه للناس، حيث شرط الإمام (عليه السلام) أن لايتدّخل في أي أمر حكومي، ولا ينصب أحداً، ولا يعزل شخصاً أبداً، إلى غير ذلك من الشروط، وكانت النتيجة في صالح الإمام (عليه السلام) وقد عرف الناس أن الحق في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) دون غيره(1).
قد مرّ الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان على العديد من البلاد التي وقعت في طريقه، وكان الناس يجتمعون حوله لكي يستضيئوا بنور وجهه ويهتدوا بهديه، ويروا ملامح رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في وجهه المشرق، وكانوا يطلبون منه أن يحدّثهم بحديث عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وآبائه الأطهار (عليهم السلام) .
ص: 321
فلما وصل الإمام (عليه السلام) إلى نيسابور، اجتمع عنده عشرات الآلاف وعد من المحابر أربع وعشرون ألفاً... فحدّثهم بحديث (سلسلة الذهب)، وقال (عليه السلام) :
«حدّثني أبي موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) قال:
حدّثني أبي جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) ، قال:
حدّثني أبي محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) ، قال:
حدّثني أبي علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) ، قال:
حدّثني أبي الحسين بن علي شهيد أرض كربلاء (عليهما السلام) ، قال:
حدّثني أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) شهيد أرض الكوفة، قال:
حدّثني أخي وابن عمي محمد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، قال:
حدّثني جبرئيل (عليه السلام) ، قال:
سمعت ربّ العزّة سبحانه وتعالى يقول:
كلمة لا إله إلا اللّه حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي».
فقال الراوي: صدق اللّه وصدق جبرئيل وصدق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وصدق الأئمة (عليهما السلام) .
ثم قال (عليه السلام) : «بشروطها، وأنا من شروطها»(1).
عن أبي الصلت الهروي، قال: بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال لي: «يا أبا الصلت أدخل هذه القبة التي فيها قبر
ص: 322
هارون فأتني بتراب من أربع جوانبها».
قال: فمضيت فأتيت به.
فلما مثلت بين يديه قال لي: «ناولني من هذا التراب» وهو من عند الباب، فناولته فأخذه وشمّه ثم رمى به.
ثم قال: «سيحفر لي ههنا قبر وتظهر صخرة لو جمع عليها كل معول بخراسان لم يتهيأ قلعها».
ثم قال في الذي عند الرجل والذي عند الرأس مثل ذلك.
ثم قال: «ناولني هذا التراب فهو من تربتي».
ثم قال: «سيحفر لي في هذا الموضع فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل وأن يشق لي ضريحة فإن أبوا إلا أن يلحدوا فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً، فإنّ اللّه عزّوجلّ سيوسعه لي ما شاء، فإذا فعلوا ذلك فإنك ترى عند رأسي نداوة، فتكلّم بالكلام الذي أعلمك فإنه ينبع الماء حتى يمتلئ اللحد وترى فيه حيتاناً صغاراً فتفتت لها الخبز الذي أعطيك فإنها تلتقطه، فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة، فالتقطت الحيتان الصغار حتى لا يبقى منها شيء ثم تغيب، فإذا غابت فضع يدك على الماء وتكلّم بالكلام الذي أعلمك، فإنّه ينضب ولا يبقى منه شيء ولا تفعل ذلك إلا بحضرة المأمون... .
ثم قال (عليه السلام) : «يا أبا الصلت، غداً أدخل إلى هذا الفاجر فإن خرجت وأنا مكشوف الرأس فتكلم أكلمك، وإن خرجت وأنا مغطى الرأس فلا تكلمني».
قال أبو الصلت: فلما أصبحنا من الغد لبس (عليه السلام) ثيابه وجلس في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون فقال له: أجب الأمير.
ص: 323
فلبس (عليه السلام) نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتبعه حتى دخل على المأمون وبين يديه طبق عنب، وأطباق فاكهة بين يديه وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه.
فلما بصر المأمون بالرضا (عليه السلام) وثب إليه وعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ثم ناوله العنقود، وقال: يا ابن رسول اللّه هل رأيت عنباً أحسن من هذا؟
فقال الرضا: «ربما كان عنباً حسناً يكون من الجنة».
فقال له: كل منه.
فقال له الرضا (عليه السلام) : «أو تعفيني منه؟».
فقال: لابد من ذلك، ما يمنعك منه لعلك تتهمنا بشيء؟ فتناول العنقود فأكل منه ثم ناوله... .
فأكل منه الرضا (عليه السلام) ثلاث حبّات ثم رمى به وقام.
فقال له المأمون: إلى أين؟
قال: «إلى حيث وجهتني».
وخرج (عليه السلام) مغطّى الرأس، فلم أكلمه حتى دخل الدار، ثم أمر أن يغلق الباب، فغلق ثم نام على فراشه... .
فمكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً، فبينما أنا كذلك إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه، قطط الشعر(1)،
أشبه الناس بالرضا (عليه السلام) ، فبادرت إليه فقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟
فقال: «الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار
ص: 324
والباب مغلق».
فقلت له: ومن أنت؟
فقال لي: «أنا حجّة اللّه عليك، يا أبا الصلت أنا محمد بن علي».
ثم مضى نحو أبيه (عليه السلام) فدخل، وأمرني بالدخول معه، فلما نظر إليه الرضا (عليه السلام) وثب إليه وعانقه، وضمّه إلى صدره، وقبّل ما بين عينيه، ثم سحبه سحباً إلى فراشه، وأكبّ عليه محمد بن علي (عليه السلام) يقبّله ويساره بشيء لم أفهمه، ورأيت على شفتي الرضا (عليه السلام) زبداً أشد بياضاً من الثلج، ورأيت أبا جعفر يلحسه بلسانه، ثم أدخل يده بين ثوبه وصدره، فاستخرج منها شيئاً شبيهاً بالعصفور فابتلعه أبو جعفر، وقضى الرضا (عليه السلام) .
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «قم يا أبا الصلت فائتني بالمغتسل والماء من الخزانة».
فقلت: ما في الخزانة مغتسل ولا ماء.
فقال: «ائتمر بما آمرك به».
فدخلت الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء، فأخرجته وشمرّت ثيابي لأغسله معه، فقال لي: «تنح يا أبا الصلت، فإنّ لي من يعينني غيرك»، فغسّله.
ثم قال لي: «ادخل الخزانة فأخرج إليّ السفط(1) الذي فيه كفنه وحنوطه».
فدخلت، فإذا أنا بسفط لم أره في تلك الخزانة، فحملته إليه، فكفنه وصلّى عليه، ثم قال: «ائتني بالتابوت».
فقلت: أمضي إلى النجار حتى يصلح تابوتاً.
ص: 325
قال: «قم، فإنّ في الخزانة تابوتاً».
فدخلت الخزانة فإذا فيه تابوتاً لم أر مثله [لم أره قط]، فأتيته فأخذ الرضا (عليه السلام) بعد أن كان صلّى عليه، فوضعه في التابوت وصفّ قدميه، وصلّى ركعتين لم يفرغ منهما حتى علا التابوت وانشقّ السقف، فخرج منه التابوت ومضى.
فقلت: يا ابن رسول اللّه الساعة يجيئنا المأمون فيطالبني بالرضا (عليه السلام) فما أصنع؟
فقال: «اسكت فإنّه سيعود يا أبا الصلت، ما من نبي يموت في المشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا جمع اللّه عزّوجلّ بين أرواحهما وأجسادهما».
فما تمّ الحديث حتى انشق السقف ونزل التابوت، فقام (عليه السلام) فاستخرج الرضا (عليه السلام) من التابوت ووضعه على فراشه، كأنّه لم يغسل، ولم يكفن، وقال: «يا أبا الصلت، قم فافتح الباب للمأمون».
ففتحت الباب فإذا المأمون والغلمان بالباب، فدخل باكياً حزيناً! قد شقّ جيبه ولطم رأسه! وهو يقول: يا سيداه، فجعت بك يا سيدي، ثم دخل وجلس عند رأسه، وقال: خذوا في تجهيزه، وأمر بحفر القبر.
فحضرت الموضع وظهر كل شيء على ما وصفه الرضا (عليه السلام) ، فقال بعض جلسائه: ألست تزعم أنه (عليه السلام) إمام.
قال: نعم، قال: لا يكون إلا مقدّم الرأس، فأمر أن يحفر له في القبلة.
فقلت: أمرني أن أحفر له سبع مراقي، وأن أشق له ضريحه.
فقال: انتهوا إلى ما يأمركم به أبو الصلت، سوى الضريحة، ولكن يحفر ويلحد، فلما رأى ما ظهر من النداوة والحيتان وغير ذلك، قال المأمون: لم
ص: 326
يزل الرضا (عليه السلام) يرينا عجائبه في حياته حتى أراناها بعد وفاته(1).
عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: «قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : ستدفن بضعة منّي بأرض خراسان لا يزورها مؤمن إلا أوجب اللّه عزّوجلّ له الجنة وحرّم جسده على النار»(2).
قال رجل من أهل خراسان لأبي الحسن (عليه السلام) : يا ابن رسول اللّه، رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في المنام كأنّه يقول لي : كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي واستحفظتم وديعتي وغيّب في ثراكم نجمي؟
فقال الرضا (عليه السلام) : «أنا المدفون في أرضكم، وأنا بضعة من نبيّكم، وأنا الوديعة والنجم، ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب اللّه تبارك وتعالى من حقّي وطاعتي، فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة، ومن كنّا شفعاءه يوم القيامة نجى، ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجن والإنس»(3).
وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «واللّه، ما منا إلا مقتول شهيد».
ص: 327
فقيل له: فمن يقتلك يا ابن رسول اللّه؟
قال: «شرّ خلق اللّه في زمانه، يقتلني بالسم ويدفنني في دار مضيّعة وبلاد غربة، ألا فمن زارني في غربتي كتب اللّه عزّوجلّ له أجر مائة ألف شهيد، ومائة ألف صدِّيق، ومائة ألف حاج ومعتمر، ومائة ألف مجاهد، وحشر في زمرتنا وجعل في الدرجات العليا من الجنة رفيقا»(1).
وقال (عليه السلام) : «من زارني على بعد داري ومزاري أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتّى أخلّصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً، وعند الصّراط، وعند الميزان»(2).
وقال (عليه السلام) : «إن اللّه يبغض القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال»(1).
وقيل له (عليه السلام) كيف أصبحت؟
فقال (عليه السلام) : «أصبحت بأجل منقوص، وعمل محفوظ، والموت في رقابنا، والنار من ورائنا، ولا ندري ما يفعل بنا»(2).
وقال (عليه السلام) : «من رضي من اللّه عزّوجلّ بالقليل من الرزق رضي منه بالقليل من العمل»(3).
وقال (عليه السلام) : «من تذكّر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(4).
وقال (عليه السلام) : «فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذّنوب العظام».
ثم قال (عليه السلام) : «كان أبي (عليه السلام) إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً
ص: 329
وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّامٍ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الّذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) »(1).
وقال (عليه السلام) : «من زار قبر أبي ببغداد كمن زار قبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقبر أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه إلا أنّ لرسول اللّه ولأمير المؤمنين صلوات اللّه عليها فضلهما»(2).
وقال (عليه السلام) : «إسراج السّراج قبل أن تغيب الشّمس ينفي الفقر»(3).
وقال (عليه السلام) : «ينبغي للرّجل أن لا يدع أن يمسّ شيئاً من الطّيب في كلّ يومٍ، فإن لم يقدر فيومٌ ويومٌ لا، فإن لم يقدر ففي كلّ جمعةٍ لا يدع ذلك»(4).
وقال (عليه السلام) في قول اللّه عزّوجلّ: {فَٱلْمُقَسِّمَٰتِ أَمْرًا}(5):
«الملائكة تقسّم أرزاق بني آدم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس، فمن ينام فيما بينهما
ص: 330
ينام عن رزقه»(1).
عن الحسين بن النضر، قال: قال الرضا (عليه السلام) : «ما العلّة في التّكبير على الميّت خمس تكبيراتٍ؟».
قال: رووا أنّها اشتقّت من خمس صلواتٍ.
فقال (عليه السلام) : «هذا ظاهر الحديث، فأمّا في وجهٍ آخر فإنّ اللّه فرض على العباد خمس فرائض: الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والولاية، فجعل للميّت من كلّ فريضةٍ تكبيرةً واحدةً، فمن قبل الولاية كبّر خمساً، ومن لم يقبل الولاية كبّر أربعاً، فمن أجل ذلك تكبّرون خمساً ومن خالفكم يكبّر أربعاً»(2).
وعن أبي الصلت الهروي، قال: قلت للرضا (عليه السلام) : ما علامة القائم فيكم إذا خرج؟
قال: «علامته أن يكون شيخ السن شاب المنظر، حتى أنّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة ودونها، وإنّ من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيام والليالي حتى يأتيه أجله»(3).
وقال (عليه السلام) : «إنّ للقلوب إقبالا وإدباراً ونشاطاً وفتوراً، فإذا أقبلت بصرت
ص: 331
وفهمت، وإذا أدبرت كلّت وملّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها»(1).
وقال (عليه السلام) : «في الديك خمس خصال من خصال الأنبياء: معرفته بأوقات الصلوات والغيرة والشجاعة والسخاوة وكثرة الطروقة»(2).
وقال (عليه السلام) : «لا تبذل لإخوانك من نفسك ما ضرّه عليك أكثر من نفعه لهم»(3).
وقال (عليه السلام) : «ثمانية أشياء لا تكون إلا بقضاء اللّه وقدره: النوم واليقظة والقوة والضعف والصحة والمرض والموت والحياة»(4).
وقال (عليه السلام) : «قيل لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا رسول اللّه، هلك فلان، يعمل من الذنوب كيت و كيت، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : بل قد نجا، ولا يختم اللّه تعالى عمله إلا بالحسنى، وسيمحو اللّه عنه السيئات ويبدلها له حسنات، إنّه كان مرّة يمّر في طريق عرض له مؤمن قد انكشف عورته، وهو لا يشعر فسترها
ص: 332
عليه، ولم يخبره بها مخافة أن يخجل، ثم إنّ ذلك المؤمن عرفه في مهواه، فقال له: أجزل اللّه لك الثواب وأكرم لك المآب ولا ناقشك الحساب، فاستجاب اللّه له فيه، فهذا العبد لا يختم له إلا بخير بدعاء ذلك المؤمن، فاتصل قول رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بهذا الرجل، فتاب وأناب، وأقبل إلى طاعة اللّه عزّوجلّ، فلم يأت عليه سبعة أيام حتى أغير على سرح المدينة، فوجه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في أثرهم جماعة، ذلك الرجل أحدهم، فاستشهد فيهم»(1).
عن الريّان بن الصلت أنه قال أنشدني الرضا (عليه السلام) لعبد المطلب:
يعيب الناس كلّهم زماناً***وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا***ولو نطق الزمان بنا هجانا
وإنّ الذئب يترك لحم ذئب***ويأكل بعضنا بعضاً عياناً
لبسنا للخداع مُسُوكَ طيب***وويل للغريب إذا أتانا (2)
وروي أنّ المأمون كتب للرضا (عليه السلام) فقال: عظني.
فكتب (عليه السلام) إليه:
إنّك في دنيا لها مدة***يقبل فيها عمل العامل
ص: 333
أما ترى الموت محيطاً بها***يسلب منها أمل الآمل
تعجل الذنب بما تشتهي***وتأمل التوبة من قابل
والموت يأتي أهله بغتة***ما ذاك فعل الحازم العاقل(1)
روى محمد بن يحيى بن أبي عباد عن عمّه أنه قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يوماً ينشد شعراً، وقليلاً ما كان ينشد شعراً:
كلنا نأمل مداً في الأجل***والمنايا هن آفات الأمل
لا تغرنك أباطيل المنى***والزم القصد ودع عنك العلل
إنّما الدنيا كظل زائل***حل فيه راكب ثم رحل(2)
حضر أحدهم مجلس الإمام الرضا (عليه السلام) فقال: شكا رجل أخاه، فأنشأ يقول (عليه السلام) :
أعذر أخاك على ذنوبه***واستر وغط على عيوبه
واصبر على بهت السفيه***وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضلا***وكل الظلوم إلى حسيبه(3)
ص: 334
ص: 335
ص: 336
الاسم: محمد (عليه السلام) .
الأب: الإمام الرضا (عليه السلام) .
الأم: سبيكة (1).
الكنية: أبو جعفر الثاني(2)
والخاص أبو علي (3).
الألقاب: التقي، الجواد، المختار، المنتجب، المرتضى، القانع، العالم، النجيب، المتوكل، المتقي، الزكي.
الأوصاف: أبيض معتدل، وقيل: شديد الأدمة(4).
نقش الخاتم: نعم القادر اللّه.
مكان الولادة: المدينة المنورة.
زمان الولادة: 10/ رجب / 195 للهجرة.
مدة العمر: خمس وعشرون سنة(5).
مدة الإمامة: 17 سنة.
ص: 337
مكان الشهادة: بغداد.
زمان الشهادة: يوم السبت / آخر ذي القعدة / 220 هجري.
القاتل: المعتصم، وذلك بواسطة زوجة الإمام (عليه السلام) أمّ الفضل بنت المأمون العباسي(1).
وسيلة القتل: السم.
المدفن: دفن بجنب جدّه الإمام الكاظم (عليه السلام) في الكاظمية.
عن حكيمة بنت الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) أنها قالت:
لما حضرت ولادة الخيزران أم أبي جعفر (عليه السلام) دعاني الرضا (عليه السلام) فقال لي: «يا حكيمة أحضري ولادتها وادخلي وإيّاها والقابلة بيتاً»، ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا... .
فلما أخذها الطلق، طفئ المصباح وبين يديها طست، فاغتممت بطفئ المصباح، فبينما نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر (عليه السلام) في الطست، وإذ عليه شيء رقيق كهيئة الثوب، يسطع نوره حتى أضاء البيت فأبصرناه، فأخذته فوضعته في حجري ونزعت عنه ذلك الغشاء... .
فجاء الرضا (عليه السلام) ففتح الباب وقد فرغنا من أمره، فأخذه فوضعه في المهد، وقال لي: «يا حكيمة ألزمي مهده».
قالت: فلما كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر يمينه ويساره ثم قال: «أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأشهد أنّ محمداً رسول اللّه».
ص: 338
فقمت ذعرة فزعة، فأتيت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت له: لقد سمعت من هذا الصبي عجباً.
فقال: «وما ذاك؟».
فأخبرته الخبر.
فقال: «يا حكيمة ما ترون من عجائبه أكثر»(1).
عن كليم بن عمران أنّه قال: قلت للرضا (عليه السلام) : ادع اللّه أن يرزقك ولداً.
فقال: «إنّما أرزق ولداً واحداً وهو يرثني».
فلما ولد أبو جعفر (عليه السلام) قال الرضا (عليه السلام) لأصحابه: «قد ولد لي شبيه موسى ابن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى ابن مريم قدست أمّ ولدته، قد خلقت طاهرة مطهرة».
ثم قال الرضا (عليه السلام) : «يقتل غصباً فيبكى له وعليه أهل السماء، ويغضب اللّه تعالى على عدوّه وظالمه، فلا يلبث إلا يسيراً حتى يعجّل اللّه به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد».
وكان (عليه السلام) طول ليلته يناغيه في مهده(2).
عن أبي يحيى الصنعاني، قال: كنت عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فجيء
ص: 339
بابنه أبي جعفر (عليه السلام) وهو صغير، فقال: «هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه»(1).
عن زكريا بن آدم قال: إنّي لعند الرضا (عليه السلام) إذ جيء بأبي جعفر (عليه السلام) له وسنّه أقل من أربع، فضرب بيده إلى الأرض ورفع رأسه إلى السماء وهو يفكر، فقال له الرضا (عليه السلام) : «بنفسي أنت لم طال فكرك؟».
فقال: «فيما صنع بأمّي فاطمة، أمَ واللّه لأخرجنّهما ثم لأحرقنّهما ثم لأذرينّهما ثم لأنسفنّهما في اليم نسفاً».
فاستدناه (عليه السلام) وقبّل ما بين عينيه ثم قال: «أنت لها» (يعني الإمامة)(2).
كان الإمام الجواد (عليه السلام) يبعث إلى المدينة كل عام بأكثر من ألف ألف درهم.
وأتاه رجل فقال له: أعطني على قدر مروءتك.
فقال (عليه السلام) : «لا يسعني».
فقال: على قدري.
فقال (عليه السلام) : «أما ذا فنعم، يا غلام أعطه مائة دينار»(3).
ص: 340
حج إسحاق بن إسماعيل في السنة التي خرجت الجماعة إلى أبي جعفر (عليه السلام) ، قال إسحاق: فأعددت له في رقعة عشرة مسائل لأسأله عنها وكان لي حمل، فقلت: إذا أجابني عن مسائلي سألته أن يدعو اللّه لي أن يجعله ذكراً.
فلما سألته الناس قمت والرقعة معي لأسأله عن مسائلي، فلما نظر إليّ قال لي: «يا أبا يعقوب سمّه أحمد».
فولد لي ذكراً فسميته أحمد(1).
عن علي بن جرير، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له، فأخذوا بعض الجيران يجرونهم إليه يقولون: أنتم سرقتم الشاة.
فقال لهم أبو جعفر: «ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم، الشاة في دار فلان، فأخرجوها من داره».
فخرجوا فوجدوها في داره.
فأخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه وهو يحلف أنه لم يسرق هذه الشاة، إلى أن صاروا به إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال: «ويحكم ظلمتم الرجل، فإنّ الشاة دخلت داره وهو لا يعلم».
ثم دعاه فوهب له شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه(2).
ص: 341
وعن محمد بن عمير بن واقد الرازي، قال: دخلت على أبي جعفر بن الرضا (عليه السلام) ومعي أخي وبه بهر(1) شديد، فشكا إليه ذلك البهر، فقال (عليه السلام) : «عافاك اللّه ممّا تشكو».
فخرجنا من عنده وقد عوفي، فما عاد إليه ذلك البهر إلى أن مات(2).
وعن القاسم بن المحسن، قال: كنت فيما بين مكة والمدينة فمر بي أعرابي ضعيف الحال، فسألني شيئاً فرحمته، فأخرجت له رغيفاً فناولته إيّاه، فلما مضى عنّي هبت ريح زوبعة فذهبت بعمامتي من رأسي فلم أرها كيف ذهبت ولا أين مرّت.
فلما دخلت المدينة صرت إلى أبي جعفر بن الرضا (عليه السلام) ، فقال لي: «يا قاسم، ذهبت عمامتك في الطريق؟».
قلت: نعم.
فقال: «يا غلام أخرج إليه عمامته».
فأخرج إليَّ عمامتي بعينها.
قلت: يا ابن رسول اللّه، كيف صارت إليك؟
قال (عليه السلام) : «تصدقت على الأعرابي، فشكره اللّه لك ورد إليك عمامتك
ص: 342
وإنّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين»(1).
عن حكيمة بنت الرضا (عليه السلام) قالت: لما توفّي أخي محمد بن الرضا (عليه السلام) صرت يوماً إلى امرأته أمّ الفضل بسبب احتجت إليها فيه، قالت: فبينا نحن نتذاكر فضل محمد (عليه السلام) وكرمه وما أعطاه اللّه من العلم والحكمة، إذا قالت امرأته أمّ الفضل: يا حكيمة، أخبرك عن أبي جعفر بن الرضا (عليه السلام) بأعجوبة لم يسمع أحد مثلها.
قلت: وما ذاك؟
قالت: إنه كان ربما أغارني مرّة بجارية ومرّة بتزويج فكنت أشكو إلى المأمون فيقول: يا بنية، احتملي فإنّه ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فبينا أنا ذات ليلة جالسة إذ أتت امرأة، فقلت: من أنت وكأنّها قضيب بان أو غصن خيزران؟
قالت: أنا زوجة لأبي جعفر.
قلت: من أبو جعفر؟
قالت: محمد بن الرضا (عليه السلام) وأنا امرأة من ولد عمار بن ياسر.
قالت: فدخل عليَّ من الغيرة ما لم أملك نفسي فنهضت من ساعتي فصرت إلى المأمون وقد كان ثملاً من الشراب، وقد مضى من الليل ساعات فأخبرته بحالي وقلت: إنّه يشتمني ويشتمك ويشتم العباس وولده!.
قالت: وقلت ما لم يكن، فغاظه ذلك منّي جداً ولم يملك نفسه من السكر، وقام مسرعاً، فضرب بيده إلى سيفه وحلف أنه يقطعه بهذا السيف ما بقي في يده وصار إليه.
ص: 343
قالت: فندمت عند ذلك، وقلت في نفسي: ما صنعت هلكت وأهلكت.
قالت: فعدوت خلفه لأنظر ما يصنع، فدخل إليه وهو نائم، فوضع فيه السيف فقطعه قطعة قطعة، ثم وضع السيف على حلقه فذبحه وأنا أنظر إليه وياسر الخادم، وانصرف وهو يزبد مثل الجمل.
قالت: فلما رأيت ذلك هربت على وجهي حتى رجعت إلى منزل أبي فبت بليلة لم أنم فيها إلى أن أصبحت، قالت: فلما أصبحت دخلت إلى المأمون وهو يصلي وقد أفاق من السكر.
فقلت له: يا أمير، هل تعلم ما صنعت الليلة؟
قال: لا واللّه، فما الذي صنعت ويلك؟
قلت: فإنّك صرت إلى ابن الرضا (عليه السلام) وهو نائم فقطعته إرباً إرباً، وذبحته بسيفك، وخرجت من عنده.
قال: ويلك ما تقولين؟
قلت: أقول ما فعلت.
فصاح: يا ياسر، وقال: ما تقول هذه الملعونة ويلك؟
قال: صدقت في كل ما قالت.
قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هلكنا وافتضحنا، ويلك يا ياسر، بادر إليه فأتني بخبره، فركض إليه ثم عاد مسرعاً فقال: يا أمير البشرى.
قال: فما وراءك؟
قال: دخلت إليه فإذا هو قاعد يستاك وعليه قميص ودواج(1)، فبقيت
ص: 344
متحيّراً في أمره، ثم أردت أن أنظر إلى بدنه هل فيه شي من الأثر فقلت له: أحب أن تهب لي هذا القميص الذي عليك أتبرك به، فنظر إليَّ وتبسّم كأنّه علم ما أردت بذلك.
فقال: «أكسوك كسوة فاخرة».
فقلت: لست أريد غير هذا القميص الذي عليك، فخلعه وكشف لي بدنه كله، فو اللّه، ما رأيت أثراً، فخرّ المأمون ساجداً ووهب لياسر ألف دينار، وقال: الحمد لله الذي لم يبتلني بدمه.
ثم قال: يا ياسر، أما مجيء هذه الملعونة إليَّ وبكاؤها بين يدي فأذكره، وأمّا مضيي إليه فلست أذكره.
فقال ياسر: يا مولاي، واللّه ما زلت تضربه بسيفك وأنا وهذه ننظر إليك وإليه حتى قطعته قطعة قطعة، ثم وضعت سيفك على حلقه فذبحته وأنت تزبد كما يزبد البعير.
فقال: الحمد لله.
ثم قال لي: واللّه لئن عدت بعدها في شيء ممّا جرى لأقتلنّك.
ثم قال لياسر: احمل إليه عشرة آلاف دينار، وقد إليه الشهري الفلاني، وسله الركوب إليّ، وابعث إلى الهاشميين والأشراف والقواد ليركبوا معه إلى عندي ويبدؤوا بالدخول إليه والتسليم عليه.
ففعل ياسر ذلك، وصار الجميع بين يديه وأذن للجميع بالدخول، وقال: «يا ياسر، هذا كان العهد بيني وبينه؟»
قلت: يا ابن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليس هذا وقت العتاب، فو حق محمد وعلي (عليهما السلام) ما كان يعقل من أمره شيئاً.
ص: 345
فأذن للأشراف كلّهم بالدخول... ثم قام فركب مع الجماعة وصار إلى المأمون فتلقّاه وقبل ما بين عينيه وأقعده على المقعد في الصدر، وأمر أن يجلس الناس ناحية، فخلا به فجعل يعتذر إليه.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام) : «لك عندي نصيحة فاسمعها منّي».
قال: هاتها.
قال: «أشير عليك بترك الشراب المسكر».
فقال: فداك ابن عمك قد قبلت نصحك(1).
عن إبراهيم بن سعيد، قال: رأيت محمد بن علي (عليه السلام) يضرب بيده إلى ورق الزيتون فيصير في كفه ورقاً(2)
فأخذت منه كثيراً وأنفقته في الأسواق فلم يتغير(3).
عن عمارة بن زيد، قال: رأيت محمد بن علي (عليه السلام) فقلت له: يا ابن رسول اللّه ما علامة الإمام؟
قال: «إذا فعل هكذا» ووضع يده على صخرة فبان أصابعه فيها، ورأيته يمدّ الحديدة بغير نار، ويطبع الحجارة بخاتمه(4).
ص: 346
ذكر القطب الراوندي في كتابه عن ابن أرومة أنه قال: إن المعتصم دعا بجماعة من وزرائه، فقال: اشهدوا لي على محمد بن علي بن موسى (عليه السلام) زوراً واكتبوا أنه أراد أن يخرج.
ثم دعاه فقال: إنك أردت أن تخرج عليّ.
فقال (عليه السلام) : «واللّه ما فعلت شيئاً من ذلك».
قال - المعتصم -: إن فلاناً وفلاناً شهدوا عليك، واُحضروا، فقالوا: نعم هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك.
قال وكان جالساً في بهو، فرفع أبو جعفر (عليه السلام) يده، فقال: «اللّهم إن كانوا كذبوا عليّ فخذهم».
قال: فنظرنا إلى ذلك البهو(1)
كيف يزحف ويذهب ويجيء، وكلما قام واحد وقع.
فقال المعتصم: يا ابن رسول اللّه إنّي تائب ممّا فعلت فادع ربك أن يسكنه.
فقال: «اللّهم سكنه، وإنّك تعلم أنّهم أعداؤك وأعدائي فسكن»(2).
عن إسماعيل (عياش) بن عباس الهاشمي، قال: جئت إلى أبي جعفر (عليه السلام) يوم عيده فشكوت إليه ضيق المعاش، فرفع المصلى وأخذ من التراب
ص: 347
سبيكة من ذهب، فأعطانيها، فخرجت بها إلى السوق فكان فيها ستة عشر مثقالاً من ذهب(1).
عن الحسين بن أحمد التميمي، قال: استدعى - الإمام الجواد (عليه السلام) - فاصداً في أيام المأمون، فقال: «أفصدني في العرق الزاهر».
فقال له: ما أعرف هذا العرق يا سيدي ولا سمعته، فأراه إيّاه، فلما فصده خرج منه ماء أصفر فجرى حتى امتلأ الطست، ثم قال: «أمسكه».
فأمر (عليه السلام) بتفريغ الطست ثم قال: «خل عنه» فخرج دون ذلك، فقال: «شدّه الآن» فلما شدّ يده أمر له بمائة دينار فأخذها وجاء إلى بخناس، فحكى له ذلك!.
فقال: واللّه ما سمعت بهذا العرق مذ نظرت في الطب، ولكن ههنا فلان الأسقف قد مضت عليه السنون فامض بنا إليه، فإن كان عنده علمه وإلا لم نقدر على من يعلمه. فمضينا ودخلا عليه وقص القصص، فاطرق ملياً، ثم قال: يوشك أن يكون هذا الرجل نبياً أو من ذرية نبيّ(2).
دعا أبو جعفر (عليه السلام) يوماً بجارية فقال: «قولي لهم يتهيئون للمأتم».
قالوا: مأتم من؟
قال: «مأتم خير من على ظهرها».
ص: 348
فأتى خبر أبي الحسن (عليه السلام) بعد ذلك بأيام، فإذا هو قد مات في ذلك اليوم(1).
عن أبي سلمة، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وكان بي صمم شديد فخبر بذلك لما أن دخلت عليه.
فدعاني إليه فمسح يده على أذني ورأسي، ثم قال: «اسمع وعه».
فو اللّه، إني لأسمع الشيء الخفي عن أسماع الناس من بعد دعوته(2).
وعن أبي هاشم الجعفري، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة، فاشتبهت عليّ فاغتممت لذلك غماً.
فتناول إحداهن وقال: «هذه رقعة ريّان بن شبيب».
ثم تناول الثانية، فقال: «هذه رقعة محمد بن حمزة».
وتناول الثالثة، وقال: «هذه رقعة فلان» فبهت فنظر إليَّ وتبسم (عليه السلام) (3).
جعل المعتصم العباسي يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) فأشار على ابنة المأمون زوجة الإمام (عليه السلام) بأن تسمّه، لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه، لتفضيله أمّ أبي الحسن ابنه (عليه السلام) عليها.
ص: 349
فأجابته إلى ذلك وجعلت سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه... .
فلما أكل (عليه السلام) منه، ندمت وجعلت تبكي، فقال: «ما بكاؤك واللّه ليضربنك اللّه بعقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر» فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها، صارت ناصوراً فأنفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة، حتى احتاجت إلى الاسترفاد(1).
وقبض (عليه السلام) مسموماً مظلوماً في سنة عشرين ومائتين من الهجرة في يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة، وله أربع وعشرون سنة وشهور، لأنّ مولده كان في سنة خمس وتسعين ومائة، عليه السلام(2).
وقال (عليه السلام) : «كيف يُضيَّع من اللّه كافله، وكيف ينجو من اللّه طالبه، ومن انقطع إلى غير اللّه وكله اللّه إليه، ومن عمل على غير علم ما أفسد أكثر مما يصلح»(1).
وقال (عليه السلام) : «إيّاك ومصاحبة الشرير، فإنّه كالسيف يحسن منظره ويقبح أثره»(2).
وقال (عليه السلام) : «المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من اللّه، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه»(3).
وقال (عليه السلام) : «لا تعاد أحداً حتى تعرف الذي بينه وبين اللّه تعالى، فإن كان محسناً لا يسلّمه إليك، وإن كان مسيئاً فإنّ علمك به يكفيكه فلا تعاده»(4).
وقال (عليه السلام) : «من أطاع هواه أعطى عدوّه مناه»(5).
قال له رجل: أوصني، قال (عليه السلام) : «وتقبل»؟ قال:نعم.
ص: 351
قال (عليه السلام) : «توسّد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم أنّك لن تخلو من عين اللّه فانظر كيف تكون»(1).
وقال (عليه السلام) : «التوبة على أربعة دعائم: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم أن لا يعود».(1)
وقال (عليه السلام) : «ثلاث من عمل الأبرار: إقامة الفرائض، واجتناب المحارم، واحتراس من الغفلة في الدين»(2).
وكان من دعاء للإمام الجواد (عليه السلام) :
«يا من لا شبيه له ولا مثال، أنت اللّه لا إله إلا أنت، ولا خالق إلا أنت، تفني المخلوقين وتبقى أنت، حلمت عمّن عصاك، وفي المغفرة رضاك»(3).
ومن دعاء له (عليه السلام) :
«يا ذا الذي كان قبل كل شيء ثم خلق كل شيء ثم يبقى ويفنى كل شيء، يا ذا الذي ليس كمثله شيء، ويا ذا الذي ليس في السماوات العلى ولا في الأرضين السفلى ولا فوقهن ولا تحتهن ولا بينهن إله يعبد غيره لك الحمد حمداً لا يقوى على إحصائه إلا أنت فصل على محمد وآل محمد صلاة لا يقوى على إحصائها إلا أنت»(4).
ص: 353
ص: 354
ص: 355
ص: 356
الاسم: علي (عليه السلام) .
الأب: الإمام الجواد (عليه السلام) .
الأم: السيدة سمانة المغربية.
الكنية: أبو الحسن(1)،
ويقال له (عليه السلام) : أبو الحسن الثالث.
الألقاب: النقي، الهادي، النجيب، المرتضى، العالم، الفقيه، الناصح، الأمين، المؤتمن، الطيب، المتقي، المتوكل، العسكري(2)،
المفتاح. وأشهرها الهادي.
الأوصاف: ربع القامة، وسيع الحاجبين، له وجه حسن، يميل إلى الحمرة والبياض(3).
نقش الخاتم: (اللّه ربي وهو عصمتي من خلقه).
وقيل: نقشه ثلاثة أسطر: (ما شاء اللّه، لا قوة إلا باللّه، استغفر اللّه)(4).
مكان الولادة: المدينة المنورة، قرية صريا(5).
ص: 357
مدّة العمر: 42 سنة وسبعة أشهر، وقيل: إنّ عمره الشريف 40 سنة(1).
مدّة الإمامة: 33 سنة، وقيل: وتسعة أشهر(2).
مكان الشهادة: سرّ من رأى (سامراء)(3).
زمان الشهادة: 3 / رجب / 254 ه، وقيل: سنة 250 يوم الاثنين من رجب، وقيل: 8/ رجب/ 254 ه(4).
القاتل: المعتز العباسي، قتله بالسم(5).
المدفن: مدينة سامراء في العراق حيث مزاره الآن.
السجن: عاش الإمام (عليه السلام) مدّة من عمره الشريف في سجون الظالمين.
كانت والدة الإمام (عليه السلام) من المؤمنات القانتات الصادقات الصابرات الخاشعات المتصدّقات الصائمات العفيفات الذاكرات لله كثيراً.
روى علي بن مهزيار عن الإمام (عليه السلام) أنّه قال: «أمّي عارفة بحقّي وهي من أهل الجنة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبّار عنيد، وهي مكلوءة(6)
بعين اللّه التي لا تنام، ولا تتخلف عن أمّهات الصدّيقين والصالحين»(7).
ص: 358
وربما يفهم من هذا الحديث عصمتها الصغرى، كما هو الحال بالنسبة إلى سائر أمهات الأئمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين).
عن أبي هاشم الجعفري، قال: أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) فأذن لي.
فلما جلست قال: «يا أبا هاشم، أيّ نعم اللّه عزّوجلّ عليك تريد أن تؤدّي شكرها؟».
قال أبو هاشم: فوجمت(1)
فلم أدر ما أقول له.
فابتدأ (عليه السلام) فقال: «رزقك الإيمان فحرم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل.
يا أبا هاشم، إنّما ابتدأتك بهذا لأنّي ظننت أنك تريد أن تشكو إليّ من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها»(2).
كان (عليه السلام) قمّة في الأخلاق الإسلامية، فكان أطيب الناس مهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت علته هيبة الوقار، وإذا تكلّم سماه البهاء(3).
ص: 359
عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه، قال: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه في العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟
فقال: «يا علي عمل باليد من هو خير منّي ومن أبي في أرضه».
فقلت: ومن هو؟
قال: «رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وآبائي كلهم (عليهم السلام) عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيين والمرسلين والصالحين»(1).
كان الإمام الهادي (عليه السلام) كثير العبادة والدعاء والتسبيح لله عزّوجلّ.
قال (عليه السلام) : «هذا الدعاء كثيراً ما أدعو به عند الحوائج فتقضى، وقد سألت اللّه عزّوجلّ أن لا يدعو به بعدي أحد عند قبري إلا أستجيب له وهو:
يا عدّتي عند العدد، ويا رجائي والمعتمد، ويا كهفي والسند، ويا واحد يا أحد، ويا قل هو اللّه أحد، أسألك اللّهم بحقّ من خلقته من خلقك، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحداً، أن تصلّي عليهم وأن تفعل بي كذا وكذا»(2).
وكان من تسبيحه (عليه السلام) : «سبحان من هو دائم لا يسهو، سبحان من هو
ص: 360
قائم لا يلهو، سبحان من هو غني لا يفتقر، سبحان اللّه وبحمده»(1).
روى الشيخ عن كافور الخادم، قال: قال لي الإمام علي بن محمد (عليه السلام) : «اترك لي السطل الفلاني في الموضع الفلاني لأتطهّر منه للصلاة»، وأنفذني في حاجة، وقال: إذا عدت فافعل ذلك ليكون معدّاً إذا تأهبت للصلاة.
واستلقى (عليه السلام) لينام، ونسيت ما قال لي، وكانت ليلة باردة فأحسست به وقد قام إلى الصلاة، وذكرت أننّي لم أترك السطل، فبعدت عن الموضع خوفاً من لومه، وتأمّلت له حيث يشقى بطلب الإناء، فناداني، فقلت: إنّا لله، أيش عذري أن أقول نسيت مثل هذا ، ولم أجد بداً من إجابته.
فقال لي: «يا ويلك أما عرفت رسمي أننّي لا أتطهّر إلا بماء بارد، فسخنت لي ماء وتركته في السطل».
قلت: واللّه يا سيدي ما تركت السطل ولا الماء.
قال: «الحمد لله، واللّه لا تركنا رخصة ولا رددنا منحة، الحمد لله الذي جعلنا من أهل طاعته، ووفقنا للعون على عبادته، إنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّ اللّه يغضب على من لا يقبل رخصه»(2).
كان الإمام الهادي (عليه السلام) أعلم أهل زمانه، كما هو شأن كل إمام معصوم (عليه السلام) ، وكان الناس يسألونه مختلف المسائل فيجيبهم عليها.
ص: 361
كتب ملك من ملوك الروم إلى الحاكم العباسي كتاباً يذكر فيه:
إنّا وجدنا في الإنجيل أنه من قرأ سورة خالية من سبعة أحرف حرم اللّه تعالى جسده على النار وهي الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء، فإنّا طلبنا هذه السورة في التوراة فلم نجدها، وطلبناها في الزبور فلم نجدها، فهل تجدونها في كتبكم؟
فجمع العلماء فسألهم في ذلك فلم يجيبوا عن ذلك، إلا الإمام النقي علي ابن محمد بن الرضا (عليه السلام) فقال: إنّها سورة الحمد فإنّها خالية من هذه السبعة أحرف.
فقيل: ما الحكمة في ذلك؟
فقال: إن الثاء من الثبور، والجيم من الجحيم، والخاء من الخيبة، والزاي من الزقوم، والشين من الشقاوة، والظاء من الظلمة، والفاء من الفرقة.
فلما وصل إلى قيصر وقرأ فرح بذلك فرحاً شديداً وأسلم لوقته ومات على الإسلام.
وقال سهل بن زياد: كتب إليه بعض أصحابنا يسأله: أن يعلّمه دعوة جامعة للدنيا والآخرة، فكتب (عليه السلام) إليه: «أكثر من الاستغفار والحمد، فإنّك تدرك بذلك الخير كلّه»(1).
عن فتح بن يزيد الجرجاني، قال: ضمّني وأبا الحسن طريق منصرفي من
ص: 362
مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق، فسمعته وهو يقول: «من اتقى اللّه يُتقى، ومن أطاع اللّه يُطاع».
قال: فتلطفت إلى الوصول إليه، فسلّمت عليه.
فردّ عليّ السلام وأمرني بالجلوس، وأول ما ابتدأني به أن قال: «يا فتح، من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحل به الخالق سخط المخلوق. وإنّ الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحدّه والأبصار عن الإحاطة به، جل عمّا يصفه الواصفون وتعالى عمّا ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيّف الكيف فلا يقال: كيف، وأيّن الأين فلا يقال: أين؛ إذ هو منقطع الكيفية والأينية، هو الواحد الأحد الصمد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ}(1) فجل جلاله.
أم كيف يوصف بكنهه محمد وقد قرنه الجليل باسمه وشركه في عطائه وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته؛ إذ يقول: {وَمَا نَقَمُواْ إِلَّا أَنْ أَغْنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}(2).
وقال يحكي قول من ترك طاعته وهو يعذبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها: {يَٰلَيْتَنَا أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولَا۠}(3).
أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله، حيث
ص: 363
قال: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}(1) وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ}(2) إلى اللّه وإِلى {ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ}(3) وقال: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا}(4) وقال: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(5).
يا فتح كما لا يوصف الجليل جلّ جلاله والرسول والخليل وولد البتول، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا، فنبينا أفضل الأنبياء، وخليلنا أفضل الأخلاء، ووصيه أكرم الأوصياء، اسمهما أفضل الأسماء، وكنيتهما أفضل الكنى وأحلاها، لو لم يجالسنا إلا كفو لم يجالسنا أحد، ولو لم يزوجنا إلا كفو لم يزوجنا أحد. أشد الناس تواضعاً أعظمهم حلماً، وأنداهم كفّاً، وأمنعهم كنفاً. ورث عنهما أوصياؤهما علمهما، فاردد إليهما الأمر، وسلّم إليهم. أماتك اللّه مماتهم وأحياك حياتهم، إذا شئت رحمك اللّه».
قال فتح: فخرجت فلما كان الغد تلطفت في الوصول إليه، فسلمت عليه، فرد عليّ السلام.
فقلت: يا ابن رسول اللّه، أتأذن لي في مسألة اختلج(6) في صدري أمرها ليلتي؟
قال: «سل وإن شرحتها فلي، وإن أمسكتها فلي، فصحّح نظرك وتثبت في
ص: 364
مسألتك، وأصغ إلى جوابها سمعك، ولا تسأل مسألة تعنت، واعتن بما تعتني به، فإنّ العالم والمتعلّم شريكان في الرشد، مأموران بالنصيحة، منهيان عن الغش، وأمّا الذي اختلج في صدرك ليلتك فإن شاء العالم أنبأك بإذن اللّه، إنّ اللّه لم {يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(1) فكل ما كان عند الرسول كان عند العالم، وكل ما اطلع عليه الرسول فقد اطلع أوصياؤه عليه؛ كيلا تخلو أرضه من حجّة، يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته.
يا فتح، عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أودعتك، وشككك في بعض ما أنبأتك، حتى أراد أزالتك عن طريق اللّه وصراطه المستقيم، فقلت من أيقنت أنّهم كذا، فهم أرباب، معاذ اللّه، إنّهم مخلوقون مربوبون مطيعون لله، داخرون راغبون، فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به».
فقلت: جعلت فداك فرجت عنّي وكشفت ما لبس الملعون عليّ بشرحك، فقد كان أوقع بخلدي أنكم أرباب.
قال: فسجد أبو الحسن (عليه السلام) وهو يقول في سجوده: «راغماً لك يا خالقي، داخراً خاضعاً».
قال: فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي.
ثم قال (عليه السلام) : «يا فتح، كدت أن تُهلك وتَهلك، وما ضر عيسى إذا هلك من هلك، فاذهب إذا شئت رحمك اللّه».
قال: فخرجت وأنا فرح بما كشف اللّه عنّي من اللبس بأنّهم هم، وحمدت
ص: 365
اللّه على ما قدرت عليه، فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متك وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان في خلدي: أنه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفة، والإمام غير مأوف.
فقال: «اجلس يا فتح، فإنّ لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون {وَيَمْشُونَ فِي ٱلْأَسْوَاقِ}(1) وكل جسم مغذو بهذا، إلا الخالق الرازق؛ لأنّه جسم الأجسام، وهو لم يجسم، ولم يجزأ بتناه، ولم يتزايد ولم يتناقص، مبرأ من ذاته ما ركب في ذات من جسمه الواحد الأحد الصمد الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ}(2) منشئ الأشياء، مجسم الأجسام، {وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ}(3)، {ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ}(4) الرءوف الرحيم، تبارك وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً. لو كان كما يوصف لم يعرف الربّ من المربوب، ولا الخالق من المخلوق، ولا المنشئ من المنشأ، ولكنّه فرق بينه وبين جسمه، وشيء الأشياء إذ كان لا يشبهه شيء يرى، ولا يشبه شيئا»(5).
عن أبي هاشم الجعفري أنّه قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فكلمني
ص: 366
بالهندية، فلم أحسن أن أرد عليه.
وكان بين يديه ركوة(1)
ملأى حصى، فتناول حصاة واحدة ووضعها في فيه ومصها ملياً، ثم رمى بها إليّ، فوضعتها في فمي، فواللّه، ما برحت مكاني حتى تكلّمت بثلاث وسبعين لساناً أولها الهندية(2).
روي: أنّ المتوكل العباسي أمر عسكره وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسر من رأى أن يملأ كل واحد مخلاة(3) فرسه من الطين الأحمر ويجعلوا بعضه على بعض في وسط برية واسعة هناك.
ففعلوا، فلما صار مثل جبل عظيم صعد فوقه واستدعى أبا الحسن (عليه السلام) وأستصعده وقال: استحضرتك لنظارة خيولي، وكان أمرهم أن يلبسوا التجافيف(4) ويحملوا الأسلحة، وقد عرضوا بأحسن زينة وأتم عدة وأعظم هيبة، وكان غرضه أن يكسر قلب كل من يخرج عليه، وكان خوفه من أبي الحسن (عليه السلام) أن يأمر أحداً من أهل بيته أن يخرج عليه.
فقال له أبو الحسن (عليه السلام) : «وهل تريد أن أعرض عليك عسكري؟»
قال: نعم.
فدعا اللّه سبحانه، فإذا بين السماء والأرض من المشرق إلى المغرب
ص: 367
ملائكة مدججون.
فغشي على المتوكل.
فلما أفاق قال أبو الحسن (عليه السلام) : «نحن لا ننافسكم في الدنيا، نحن مشتغلون بأمر الآخرة فلا عليك شيء ممّا تظن»(1).
روى أبو هاشم الجعفري، أنه شكى إلى أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) ما يلقى من الشوق إليه إذا انحدر من عنده إلى بغداد، ثم قال: يا سيدي ادع اللّه لي فربما لم أستطع ركوب الماء، فسرت إليك على الظهر وما لي مركوب سوى برذوني(2)
هذا على ضعفه، فادع اللّه لي أن يقوّيني على زيارتك.
فقال (عليه السلام) : «قوّاك اللّه يا أبا هاشم وقوّى برذونك».
قال الراوي: وكان أبو هاشم يصلّي الفجر ببغداد ويسير على ذلك البرذون فيدرك الزوال من يومه ذلك في عسكر سرّ من رأى، ويعود من يومه إلى بغداد إذا شاء على تلك البرذون بعينه، فكان هذا من أعجب الدلائل التي شوهدت(3).
روي أنّه أتى النقي - الإمام الهادي (عليه السلام) - رجل خائف وهو يرتعد ويقول: إنّ ابني أخذ بمحبتكم، والليلة يرمونه من موضع كذا ويدفنونه تحته.
ص: 368
قال (عليه السلام) : «فما تريد؟»
قال: ما يريد الأبوان.
فقال (عليه السلام) : «لا بأس عليه، اذهب فإنّ ابنك يأتيك غداً».
فلما أصبح أتاه ابنه، فقال: يا بني ما شأنك؟
فقال: لما حفر القبر وشدّوا لي الأيدي أتاني عشرة أنفس مطهرة عطرة وسألوا عن بكائي فذكرت لهم.
فقالوا: لو جعل الطالب مطلوباً تجرد نفسك وتخرج وتلزم تربة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟
قلت: نعم.
فأخذوا الحاجب فرموه من شاهق الجبل ولم يسمع أحد جزعه، ولا رآني الرجال وأوردوني إليك، وهم ينتظرون خروجي إليهم وودّع أباه وذهب... .
فجاء أبوه إلى الإمام (عليه السلام) وأخبره بحاله، فكان الغوغاء تذهب وتقول: وقع كذا وكذا، والإمام (عليه السلام) يتبسّم ويقول: «إنّهم لا يعلمون ما نعلم»(1).
عن أبي هاشم الجعفري أنّه قال: كان للمتوكل مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه، قد جعل فيها الطيور التي تصوّت، فإذا كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس، فلا يَسمع ما يقال له ولا يُسمع ما يقول من اختلاف أصوات تلك الطيور، فإذا وافاه علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام)
ص: 369
سكتت الطيور!، فلا يسمع منها صوت واحد إلى أن يخرج (عليه السلام) من عنده، فإذا خرج من باب المجلس عادت الطيور في أصواتها.
قال: وكان عنده عدّة من القوابج(1) في الحيطان، وكان يجلس في مجلس له عال ويرسل تلك القوابج تقتتل وهو ينظر إليها ويضحك منها، فإذا وافى علي بن محمد (عليه السلام) إليه في ذلك المجلس لصقت تلك القوابج بالحيطان فلا تتحرّك من موضعها حتى ينصرف، فإذا انصرف عادت في القتال(2).
عن أبي الحسن محمد بن أحمد، قال: حدّثني عمّ أبي قال: قصدت الإمام - الهادي (عليه السلام) - يوماً فقلت: إنّ المتوكل قطع رزقي وما أُتّهم في ذلك إلا علمه بملازمتي لك، فينبغي أن تتفضّل عليَّ بمسألته.
فقال (عليه السلام) : «تكفى إن شاء اللّه».
فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولاً فجئت إليه فوجدته في فراشه، فقال: يا أبا موسى يشتغل شغلي عنك وتنسينا نفسك، أيّ شيء لك عندي؟
فقلت: الصلة الفلانية، وذكرت أشياء.
فأمر لي بها وبضعفها.
فقلت للفتح: وافى علي بن محمد (عليه السلام) إلى ههنا أو كتب رقعة؟
قال: لا.
ص: 370
قال: فدخلت على الإمام (عليه السلام) فقال لي: «يا أبا موسى، هذا وجه الرضا».
قلت: ببركتك يا سيدي، ولكن قالوا: إنّك ما مضيت إليه ولا سألت؟!
قال: «إنّ اللّه تعالى علم منّا أنا لا نلجأ في المهمّات إلا إليه، ولا نتوكل في الملمّات إلا عليه، وعودنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا»(1).
روي إنّ الإمام الهادي (عليه السلام) دخل دار المتوكل فقام يصلي فأتاه بعض المخالفين فوقف حياله فقال له: إلى كم هذا الرياء؟
فأسرع (عليه السلام) الصلاة وسلّم ثم التفت إليه فقال: إن كنت كاذباً سحتك اللّه، فوقع الرجل ميتاً فصار حديثاً في الدار(2).
كان المتوكل يخاف من التفاف الناس حول الإمام (عليه السلام) فكان يضيّق عليه ويؤذيه باستمرار، وقد أسكن الإمام (عليه السلام) في منطقة العسكر ليراقب تحركاته (عليه السلام) من قرب، وربما استدعى الإمام (عليه السلام) ليلاً وأمر جلاوزته بأن يهجموا دار الإمام ويأتوا به على حاله!.
وقد سُعي إلى المتوكل بالإمام علي (الهادي) بن محمد الجواد (عليهما السلام) أنّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وإنّه (عليه السلام) عازم على الوثوب بالدولة.
فبعث إليه جماعة من الأتراك.
ص: 371
فداهموا داره ليلاً، فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن.
فحُمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة... .
وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب فدخل (عليه السلام) عليه والكأس في يده، فلما رأى المتوكل الإمام (عليه السلام) هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده!
فقال (عليه السلام) : «واللّه ما يخامر لحمي ودمي قط، فاعفني».
فأعفاه.
فقال المتوكل: أنشدني شعراً.
فقال (عليه السلام) : إنّي قليل الرواية للشعر.
فقال: لابد.
فأنشده (عليه السلام) وهو جالس عنده:
باتواد على قلل الأجبال تحرسهم***غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم***وأسكنوا حفراً يا بئسما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهم***أين الأساور والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة***من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم***تلك الوجوه عليها الدود تقتتل
قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا***وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد اُكلوا
ص: 372
قال: فبكى المتوكل حتى بلّت لحيته دموع عينيه.
وبكى الحاضرون.
ودفع المتوكل إلى الإمام الهادي (عليه السلام) أربعة آلاف دينار ثم ردّه إلى منزله مكرّماً(1).
عن صالح بن سعيد، قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع، خان الصعاليك؟
فقال: «ههنا أنت يا ابن سعيد».
ثم أومأ بيده وقال: «انظر».
فنظرت، فإذا أنا بروضات آنقات وروضات ناصرات فيهن خيرات عطرات، وولدان كأنّهن اللؤلؤ المكنون وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري والهاً، وحسرت عيني.
فقال (عليه السلام) : «حيث كنا فهذا لنا عتيد ولسنا في خان الصعاليك»(2).
توفّي الإمام الهادي (عليه السلام) مسموماً شهيداً مظلوماً كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) وكان ذلك على يد المعتمد العباسي، في يوم الثلاثاء الثالث من رجب سنة
ص: 373
254ه- ، وقيل: يوم الاثنين لثلاث بقين من جمادى الآخرة نصف النهار، وله يومئذٍ أربعون سنة، وقيل: واحد وأربعون وسبعة أشهر(1).
وقد دفن في بيته بسامراء حيث مرقده الآن.
ولما توفّي الإمام (عليه السلام) حضر جميع الأشراف والأمراء لتشييع جنازته الطاهرة، وشقّ الإمام العسكري (عليه السلام) جيبه، ثم انصرف إلى غسله وتكفينه ودفنه، ودفنه في الحجرة التي كانت محلاً لعبادته، واعترض بعض الجهلة على الإمام في أن شقّ الجيب لا يناسب شأنك، فوقع (عليه السلام) إلى من قال ذلك: «يا أحمق وما يدريك ما هذا، قد شقّ موسى على هارون»(2).
ولعلّ قوله (عليه السلام) بهذا التعبير للدلالة على مدى أهمية العزاء لأهل البيت (عليهم السلام) وتعظيم شعائرهم المقدسة.
وقال (عليه السلام) : «من رضي عن نفسه، كثر الساخطون عليه»(1).
وقال (عليه السلام) : «المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان»(2).
وقال (عليه السلام) : «من جمع لك وده ورأيه فاجمع له طاعتك»(1).
وقال (عليه السلام) : «إنّ الظالم الحالم يكاد أن يعفى على ظلمه بحلمه، وإنّ المحق السفيه يكاد أن يطفئ نور حقّه بسفهه»(2).
وقال (عليه السلام) : «إنّ اللّه جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً»(3).
وقال (عليه السلام) : «الناس في الدنيا بالأموال، وفي الآخرة بالأعمال»(4).
وقال (عليه السلام) : «خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم حامله، وشر من الشر جالبه، وأهول من الهول راكبه»(5).
وقال (عليه السلام) : «إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن تظن
ص: 376
بأحد سوءاً حتى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً حتى يبدو ذلك منه»(1).
وقال (عليه السلام) : «المراء يفسد الصداقة القديمة ويحلل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة والمغالبة أس أسباب القطيعة»(2).
وقال (عليه السلام) : «الغضب على من لا تملك عجز، وعلى من تملك لؤم»(3).
وقال (عليه السلام) : «ألقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها، واعلموا أنّ النفس أقبل شيء لما أعطيت، وأمنع شيء لما منعت»(4).
وقال (عليه السلام) : «من أمن مكر اللّه واليم أخذه تكبر حتى يحل به قضاؤه ونافذ أمره، ومن كان على بينة من ربه هانت عليه مصائب الدنيا ولو قرض ونشر»(5).
وقال (عليه السلام) : «من اتقى اللّه يُتقى، ومن أطاع اللّه يُطاع، ومن أطاع الخالق لم
ص: 377
يبال سخط المخلوقين، ومن اسخط الخالق فلييقّن أن يحل به سخط المخلوقين»(1).
قال داود الضرير: أمرني سيدي بأشياء وحوائج كثيرة، فقال (عليه السلام) : «كيف تقول؟» فلم احفظ مثل ما قال لي.
فمد الدواة وكتب: «بسم اللّه الرحمن الرحيم أذكر إن شاء اللّه والأمر بيدك كلّه».
فتبسّمت.
فقال (عليه السلام) لي: «مالك؟».
فقلت له: خير.
فقال: «أخبرني».
فقلت له: ذكرت حدّيثاً حدثني به رجل من أصحابنا أنّ جدك الرضا (عليه السلام) كان إذا أمر بحاجة كتب: «بسم اللّه الرحمن الرحيم اذكر إن شاء اللّه»(2) الحديث.
ص: 378
ص: 379
ص: 380
الاسم: الحسن (عليه السلام) .
الأب: الإمام الهادي (عليه السلام) .
الأم: حُدَيث، وقيل: سوسن(1)، وقيل: سليل، وكانت من العارفات الصالحات(2).
الكنية: أبو محمد. وكان (عليه السلام) هو وأبوه وجده (عليهم السلام) يعرف كل منهم في زمانه بابن الرضا.
الألقاب: العسكري، الزكي(3)، الخالص، الهادي، المهتدي، النقي، الصامت، الرفيق، السراج، المضيء، الشافي، المرضي.
الأوصاف: بين السمرة والبياض(4)، أعين(5)، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، له جلالة وهيبة(6).
ص: 381
نقش الخاتم: (سبحان من له مقاليد السماوات والأرض)(1).
مكان الولادة: المدينة المنورة، وقيل: سرّ من رأى(2).
زمان الولادة: يوم الجمعة 8 / ربيع الآخر/ 232 هجري(3)، وقيل: عام 231ه(4).
مدّة العمر الشريف: 28 سنة(5)، وقيل: 29 سنة(6).
مدّة الإمامة: 6 سنوات، وقيل: 5 سنوات وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً(7).
مكان الشهادة: مدينة سامراء (سرّ من رأى).
زمان الشهادة: يوم الجمعة 8 / ربيع الأول / 260 هجرية(8).
القاتل: قتله (عليه السلام) المعتضد باللّه العباسي بالسم، وروي عن الصدوق (رحمه الله) أنه سمّه المعتمد العباسي(9).
المدفن: سامراء / العراق ، دفن مع أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) في داره(10).
ص: 382
وقد عاش (عليه السلام) مدّة من عمرة الشريف في سجون الظالمين.
ومن آثاره (عليه السلام) : كتاب التفسير.
وكان بوابه: عثمان بن سعيد العمري(1)، والحسين بن روح النوبختي.
كان الإمام العسكري (عليه السلام) أعلم أهل زمانه في كل العلوم، خاصة ما يرتبط بالشريعة الإسلامية وتفسير القرآن الحكيم.
وهكذا كان (عليه السلام) أكثر علماً من غيره حتى في علم الطب وما أشبه.
عن محمد بن الحسن المكفوف، قال: حدّثني بعض أصحابنا عن بعض فصّادي العسكر من النصارى: أنّ أبا محمد (عليه السلام) بعث إليّ يوماً في وقت صلاة الظهر، فقال لي:«افصد هذا العرق».
قال: وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تُفصد، فقلت في نفسي: ما رأيت أمراً أعجب من هذا، يأمرني أن أفصد في وقت الظهر وليس بوقت فصد، والثانية عرق لا أفهمه.
ثم قال لي: «انتظر وكن في الدار».
فلما أمسى دعاني وقال لي: «سرِّح الدم» فسرحت.
ثم قال لي: «أمسك» فأمسكت.
ثم قال لي: «كن في الدار»، فلما كان نصف الليل أرسل إليّ وقال لي: «سرِّح الدم».
قال: فتعجّبت أكثر من عجبي الأول، وكرهت أن أسأله، قال: فسرحت،
ص: 383
فخرج دم أبيض كأنّه الملح.
قال: ثم قال لي: «احبس».
قال: فحبست.
قال: ثم قال: «كن في الدار»، فلما أصبحت أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير فأخذتها وخرجت حتى أتيت ابن بختيشوع النصراني، فقصصت عليه القصة.
قال: فقال لي: واللّه ما أفهم ما تقول ولا أعرفه في شي ء من الطب، ولا قرأته في كتاب، ولا أعلم في دهرنا أعلم بكتب النصرانية من فلان الفارسي، فاخرج إليه.
قال: فاكتريت زورقاً إلى البصرة وأتيت الأهواز، ثم صرت إلى فارس - إلى صاحبي - فأخبرته الخبر.
قال: وقال: انظرني أياماً.
فانظرته ثم أتيته متقاضياً.
قال: فقال لي: إنّ هذا الذي تحكيه عن هذا الرجل فعلّه المسيح (عليه السلام) في دهره مرةً(1).
كان الإمام العسكري (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، فكان كثير الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن والصيام.
ص: 384
روي: أنّ البهلول رأى الإمام (عليه السلام) وهو صبي يبكي، والصبيان يلعبون، فظن أنّه يتحسّر على ما بأيديهم، فقال له: اشتري لك ما تلعب به؟
فقال: «يا قليل العقل ما للعب خلقنا».
فقال له: فلماذا خلقنا؟
قال: «للعلم والعبادة».
فقال له: ومن أين لك ذلك؟
فقال: «من قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(1)».
ثم سأله أن يعظه، فوعظه (عليه السلام) بأبيات، ثم خرّ الحسن (عليه السلام) مغشياً عليه، فلما أفاق، قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟
فقال: «إليك عنّي يا بهلول، إنّي رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تقد إلا بالصغار، وإنّي أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم»(2).
عن كامل بن إبراهيم المدني، قال في حديث: ... فلما دخلت على سيدي أبي محمد - العسكري - (عليه السلام) نظرت إلى ثياب بياض ناعمة، فقلت في نفسي: وليّ اللّه وحجّته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله!
ص: 385
فقال متبسّماً: «يا كامل»، وحسر عن ذراعيه فإذا مسح أسود خشن على جلده، فقال: «هذا لله وهذا لكم»(1).
روي أنّه: دخل العباسيون على صالح بن وصيف ودخل صالح بن علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبو محمد العسكري (عليه السلام) ، فقال له: ضيّق عليه ولا توسّع.
فقال لهم صالح: ما أصنع به، وقد وكلت به رجلين شر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم، ثم أمر بإحضار الموكلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟
فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كلّه، لا يتكلّم ولايتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين(2).
كان تسبيح الإمام العسكري (عليه السلام) في اليوم السادس عشر والسابع عشر من الشهر:
«سبحان من هو في علوه دان، وفي دنّوه عال، وفي إشراقه منير، وفي سلطانه قوي، سبحان اللّه وبحمده»(3).
ص: 386
وكتب (عليه السلام) إلى بعض مواليه (لما طلب منه دعاء) ادع بهذا الدعاء:
«يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أنظر الناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلّ على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومدّ لي في عمري، وأمنن عليّ برحمتك، واجعلني ممّن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل به غيري»(1).
وكان من دعائه (عليه السلام) : «بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا عدّتي عند شدّتي، ويا غوثي عند كربتي، ويا مؤنسي عند وحدتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام»(2).
روي أنّ الإمام أبا محمد العسكري (عليه السلام) سُلّم إلى نحريرٍ(3)، فقالت له امرأته: اتّق اللّه فإنّك لا تدري من في منزلك، وذكرت عبادته وصلاحه، وأنا أخاف عليك منه.
فقال: لأرمينّه بين السباع.
ثم استأذن في ذلك، فأذن له، فرمي به إليها ولم تشكّ في أكلها له.
فنظروا من الغد إلى الموضع ليعرفوا الحال، فوجدوه قائماً يصلّي وهي
ص: 387
حوله، فأمر بإخراجه(1).
عن علي بن عاصم الكوفي الأعمى أنه قال: دخلت على سيدي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام وقال: «مرحباً بك يا ابن عاصم، اجلس، هنيئاً لك يا ابن عاصم أتدري ما تحت قدميك؟»
فقلت: يا مولاي إنّي أرى تحت قدمي هذا البساط كرّم اللّه وجه صاحبه.
فقال لي: «يا ابن عاصم اعلم أنّك على بساط جلس عليه كثير من النبييّن والمرسلين».
فقلت: يا سيدي ليتني كنت لا أفارقك ما دمت في دار الدنيا، ثم قلت في نفسي: ليتني كنت أرى هذا البساط.
فعلم الإمام (عليه السلام) ما في ضميري، فقال: «أدن مني».
فدنوت فمسح يده على وجهي فصرت بصيراً بإذن اللّه.
ثم قال: «هذا قدم أبينا آدم (عليه السلام) ، وهذا أثر هابيل (عليه السلام) ، وهذا أثر شيث (عليه السلام) ، وهذا أثر إدريس (عليه السلام) ، وهذا أثر هود (عليه السلام) ، وهذا أثر صالح (عليه السلام) ، وهذا أثر لقمان (عليه السلام) ، وهذا أثر إبراهيم (عليه السلام) ، وهذا أثر لوط (عليه السلام) ، وهذا أثر شعيب (عليه السلام) ، وهذا أثر موسى (عليه السلام) ، وهذا أثر داود (عليه السلام) ، وهذا أثر سليمان (عليه السلام) ، وهذا أثر الخضر (عليه السلام) وهذا أثر دانيال (عليه السلام) ، وهذا أثر ذي القرنين (عليه السلام) ، وهذا أثر عدنان (عليه السلام) ، وهذا أثر عبد المطلب (عليه السلام) ، وهذا أثر عبد اللّه (عليه السلام) ، وهذا أثر عبد مناف (عليه السلام) ، وهذا أثر جدّي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)
ص: 388
وهذا أثر جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ».
قال: علي بن عاصم: فأهويت على الأقدام فقبّلتها، وقبّلت يد الإمام (عليه السلام) وقلت له: إنّي عاجز عن نصرتكم بيدي وليس أملك غير موالاتكم والبراءة من أعدائكم واللعن لهم في خلواتي، فكيف حالي يا سيدي؟
فقال (عليه السلام) : «حدّثني أبي عن جدّي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: من ضعف عن نصرتنا أهل البيت، ولعن في خلواته أعداءنا بلغ اللّه صوته إلى جميع الملائكة، فكلما لعن أحدكم أعداءنا صاعدته الملائكة ولعنوا من لا يلعنهم، فإذا بلغ صوته إلى الملائكة استغفروا له وأثنوا عليه، وقالوا: اللّهم صلّ على روح عبدك هذا الذي بذل في نصرة أوليائه جهده ولو قدر على أكثر من ذلك لفعل، فإذا النداء من قبل اللّه تعالى يقول: يا ملائكتي إنّي قد أحببت دعاءكم في عبدي هذا، وسمعت نداءكم وصلّيت على روحه مع أرواح الأبرار، وجعلته من المصطفين الأخيار»(1).
روي عن أبي هاشم الجعفري أنّه قال: سمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: «من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا».
فقلت في نفسي: إنّ هذا لهو الدقيق ينبغي للرجل أن يتفقّد من أمره ومن نفسه كل شيء.
فأقبل عليَّ أبو محمد (عليه السلام) ، فقال: «يا أبا هاشم، صدقت فالزم ما حدّثتك به نفسك، فإنّ الإشراك في الناس أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة
ص: 389
الظلماء ومن دبيب الذر على المسح الأسود»(1).
عن أبي هاشم قال: ... وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه - الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - دنانير في الكتاب فاستحييت.
فلما صرت إلى منزل لي وجّه إلي بمائة دينار وكتب إليّ:
«إذا كانت لك حاجة فلا تستحي ولا تحتشم واطلبها، فإنّك ترى ما تحب إن شاء اللّه»(2).
عن أبي هاشم، قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) وكان يكتب كتاباً، فحان وقت الصلاة الأولى، فوضع الكتاب من يده وقام (عليه السلام) إلى الصلاة.
فرأيت القلم يمرّ على باقي القرطاس من الكتاب ويكتب، حتى انتهى إلى آخره!
فخررت ساجداً.
فلما انصرف من الصلاة أخذ القلم بيده، وأذن للناس (بالدخول)(3).
روي عن عيسى بن صبيح أنّه قال: دخل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) علينا الحبس وكنت به عارفاً، فقال لي: «لك خمس وستون سنة وشهر
ص: 390
ويومان».
وكان معي كتاب دعاء، عليه تاريخ مولدي، وإنّي نظرت فيه فكان كما قال.
وقال: «هل رزقت ولداً؟»
قلت: لا.
فقال: «اللّهم ارزقه ولداً يكون له عضداً، فنعم العضد الولد، ثم تمثل (عليه السلام) :
من كان ذا عضد يدرك ظلامته***إنّ الذليل الذي ليست له عضد
قلت: ألك ولد؟
قال: «إيّ واللّه، سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فأمّا الآن فلا» ثم تمثل:
لعلّك يوماً أن تراني كأنّما***بنى حوالي الأسود اللوابد
فإن تميماً قبل أن يلد الحصى***أقام زماناً وهو في الناس واحد(1)
توفّي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مسموماً شهيداً مظلوماً كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) ، وكان ذلك بالسم الذي ناوله المعتضد العباسي، وقيل: المعتمد العباسي(2).
وقد استشهد في اليوم الثامن من ربيع الأول سنة 260 للهجرة، وكان
ص: 391
عمره الشريف تسعاً وعشرين سنة، كان مقامه مع أبيه (عليه السلام) ثلاثاً وعشرين سنة وأشهراً وبقي (عليه السلام) بعد أبيه خمس سنين وشهوراً(1).
قال إسماعيل بن علي: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) في المرضة التي مات فيها وأنا عنده، إذ قال لخادمه عقيد، وكان الخادم أسود نوبياً(2)، خدم من قبله علي بن محمد (عليه السلام) وهو ربي الحسن (عليه السلام) فقال: «يا عقيد، اغل لي ماء بمصطكي(3)».
فأغلى له.
ثم جاءت به صقيل الجارية أمّ الخلف (عليه السلام) فلما صار القدح في يديه وهم بشربه فجعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن (عليه السلام) فتركه من يده، وقال لعقيد: «ادخل البيت فإنّك ترى صبياً ساجداً فأتني به».
قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى، فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء، فسلّمت عليه.
فأوجز في صلاته.
فقلت: إنّ سيدي يأمرك بالخروج إليه، إذا جاءت أمه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن (عليه السلام) .
قال أبو سهل: فلما مثل الصبي بين يديه سلّم، وإذا هو دُرّي اللون وفي
ص: 392
شعر رأسه قطط، مفلج(1) الأسنان.
فلما رآه الحسن (عليه السلام) بكى وقال: «يا سيّد أهل بيته اسقني الماء فإنّي ذاهب إلى ربّي».
وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده ثم حرّك شفتيه ثم سقاه، فلما شربه، قال: «هيئوني للصلاة».
فطرح في حجره منديل فوضّأه الصبي واحدة واحدة ومسح على رأسه وقدميه.
فقال له أبو محمد (عليه السلام) : «أبشر يا بنيّ فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجّة اللّه على أرضه، وأنت ولدي ووصيي، وأنا ولدتك، وأنت محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وَلدك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنت خاتم الأوصياء الأئمة الطاهرين، وبَشّر بك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وسمّاك وكنّاك، وبذلك عهد إليّ أبي عن آبائك الطاهرين، صلّى اللّه على أهل البيت ربّنا إنه حميد مجيد»، ومات الحسن بن علي من وقته، صلوات اللّه عليهم أجمعين(2).
قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : «لا تمار فيذهب بهاؤك، ولا تمازح
ص: 393
فيُجترأ عليك»(1).
وقال (عليه السلام) : «من التواضع السلام على كل من تمر به، والجلوس دون شرف المجلس»(2).
وقال (عليه السلام) : «أورع الناس من وقف عند الشبهة.
أعبد الناس من أقام على الفرائض.
أزهد الناس من ترك الحرام.
أشد الناس اجتهاداً من ترك الذنوب»(3).
وقال (عليه السلام) : «من أنس باللّه استوحش من الناس، وعلامة الأنس باللّه الوحشة من الناس»(4).
وقال (عليه السلام) : «إنّ للسخاء مقداراً، فإن زاد عليه فهو سرف.
وللحزم مقداراً، فإن زاد عليه فهو جبن.
وللاقتصاد مقداراً، فإن زاد عليه فهو بخل.
ص: 394
وللشجاعة مقداراً، فإن زاد عليه فهو تهور.
كفاك أدباً تجنّبك ما تكره من غيرك»(1).
وقال (عليه السلام) : «خير إخوانك من نسي ذنبك وذكر إحسانك إليه»(2).
وقال (عليه السلام) : «جعلت الخبائث في بيت وجعل مفتاحه الكذب»(3).
وقال (عليه السلام) : «من كان الورع سجيته والإفضال حليته انتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه، وتحصّن بالذكر الجميل من وصول نقص إليه»(4).
وكان ومن وصية له (عليه السلام) : «إنّكم في آجال منقوصة وأيام معدودة، والموت يأتي بغتة، من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة، لكل زارع ما زرع، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، من أعطي خيراً فاللّه أعطاه، ومن وقي شراً فاللّه وقاه»(5).
وقال (عليه السلام) : «ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنما العبادة كثرة التفكر
ص: 395
في أمر اللّه»(1).
وقال (عليه السلام) : «الغضب مفتاح كل شر»(2).
وقال (عليه السلام) : «أقل الناس راحة الحقود»(3).
وقال (عليه السلام) : «من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه»(4).
وقال (عليه السلام) : «خير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت الحياة، وشرّ من الموت ما إذا نزل بك أحببت الموت»(5).
وقال (عليه السلام) : «… احذر كل ذكي ساكن الطرف... خير إخوانك من نسي ذنبك إليه. أضعف الأعداء كيداً من أظهر عداوته. حسن الصورة جمال ظاهر وحسن العقل جمال باطن، من أنس باللّه استوحش من الناس، من لم يتق وجوه الناس لم يتق اللّه... إذا نشطت القلوب فأودعوها وإذا نفرت
ص: 396
فودعوها. اللحاق بمن ترجو خير من المقام مع من لا تأمن شره. من أكثر المنام رأى الأحلام»(1).
وقال (عليه السلام) : « الجهل خصم والحلم حكم.
ولم يعرف راحة القلب من لم يجرعه الحلم غصص الغيظ.
إذا كان المقضي كائنا فالضراعة لماذا.
نائل الكريم يحببك إليه ونائل اللئيم يضعك لديه»(2).
وقال (عليه السلام) : «من مدح غير المستحق فقد قام مقام المتهم»(3).
وقال (عليه السلام) : «لا يعرف النعمة إلا الشاكر ولا يشكر النعمة إلا العارف»(4).
وقال (عليه السلام) : «ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك، فإنّ لكل يوم رزقاً جديداً، واعلم أنّ الإلحاح في المطالب يسلب البهاء ويورث التعب والعناء، فاصبر حتى يفتح اللّه لك باباً يسهل الدخول فيه، فما أقرب الصّنع إلى الملهوف والأمن من الهارب المخوف، فربما كانت الغير نوع أدب من اللّه،
ص: 397
والحظوظ مراتب، فلاتعجل على ثمرة لم تدرك وإنّما تنالها في أوانها، واعلم أنّ المدبّر لك أعلم بالوقت الذي يصلح حالك، ولا تعجل بحوائجك قبل وقتها فيضيق قلبك وصدرك ويغشاك القنوط»(1).
ووجد بخطه (عليه السلام) مكتوباً على ظهر كتاب: «قد صعدنا ذرى(2) الحقائق بأقدام النبوة والولاية، ونوَّرنا السبع الطرائق بأعلام الفتوة، فنحن ليوث الوغى وغيوث الندى، وفينا السيف والقلم في العاجل، ولواء الحمد والعلم في الآجل، وأسباطنا خلفاء الدين وحلفاء اليقين ومصابيح الأمم ومفاتيح الكرم، فالكليم ألبس حلّة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء، وروح القدس في جنان الصاقورة(3) ذاق من حدائقنا الباكورة، وشيعتنا الفئة الناجية والفرقة الزاكية صاروا لنا ردءاً وصوناً وعلى الظلمة ألباً وعوناً، وسينفجر لهم ينابيع الحيوان بعد لظى النيران، لتمام الطواوية والطواسين من السنين»(4).
كتب (عليه السلام) إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري:« سترنا اللّه وإياك بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه، فهمت كتابك يرحمك اللّه، ونحن بحمد
ص: 398
اللّه ونعمته أهل بيت نرقّ على أوليائنا، ونسر بتتابع إحسان اللّه إليهم وفضله لديهم، ونعتد بكل نعمة ينعمها اللّه تبارك وتعالى عليهم، فأتم اللّه عليك يا إسحاق، وعلى من كان مثلك ممّن قد رحمه اللّه وبصره بصيرتك نعمته، وقدر تمام نعمته دخول الجنة، وليس من نعمة وإن جلّ أمرها وعظم خطرها إلا والحمد لله تقدّست أسماؤه عليها مؤد شكرها.
وأنا أقول: الحمد لله أفضل ما حمده حامده إلى أبد الأبد، بما منَّ اللّه عليك من رحمته ونجّاك من الهلكة وسهّل سبيلك على العقبة، وأيم اللّه إنها لعقبة كئود، شديد أمرها، صعب مسلكها، عظيم بلاؤها، قديم في الزبر الأولى ذكرها، ولقد كانت منكم في أيام الماضي (عليه السلام) إلى أن مضى لسبيله وفي أيامي هذه أمور، كنتم فيها عندي غير محمودي الرأي ولا مسدّدي التوفيق، فاعلم يقيناً يا إسحاق، أنّه من خرج من هذه الدنيا أعمى {فَهُوَ فِي ٱلْأخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا}(1).
يا إسحاق ليس {تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ}(2)، وذلك قول اللّه في محكم كتابه حكاية عن الظالم إذ يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنسَىٰ}(3).
وأيّ آية أعظم من حجّة اللّه على خلقه وأمينه في بلاده وشهيده على عباده من بعد من سلف من آبائه الأولين النبيين وآبائه الآخرين الوصيين عليهم أجمعين السلام ورحمة اللّه وبركاته.
ص: 399
فأين يتاه بكم وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم، عن الحق تصدفون وبالباطل تؤمنون وبنعمة اللّه تكفرون، أو تكونون ممّن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ}(1) ومن غيركم {إِلَّا خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا}(2) وطول عذاب في الآخرة الباقية، وذلِكَ واللّه الخزي العظيم.
إنّ اللّه بمنّه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليكم، بل رحمة منه لا إله إلا هو عليكم ليميز الخبيث من الطيّب وليبتلي ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم، لتسابقوا إلى رحمة اللّه ولتتفاضل منازلكم في جنته، ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية، وجعل لكم باباً تستفتحون به أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله، لولا محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والأوصياء من ولده (عليهم السلام) لكنتم حيارى كالبهائم لاتعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تدخل مدينة إلا من بابها، فلما منَّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم قال اللّه في كتابه: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا}(3) ففرض عليكم لأوليائه حقوقا أمركم بأدائها؛ ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومآكلكم ومشاربكم، قال اللّه: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ}(4) واعلموا أنّ من يبخل {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن
ص: 400
نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاءُ}(1) لا إله إلا هو.
ولقد طالت المخاطبة فيما هو لكم وعليكم، ولولا ما يحب اللّه من تمام النعمة من اللّه عليكم لما رأيتم لي خطا ولا سمعتم منّي حرفاً من بعد مضي الماضي (عليه السلام) ، وأنتم في غفلة مما إليه معادكم.
ثم قال (عليه السلام) : واللّه الْمُسْتَعانُ على كل حال، وإيّاكم أن تفرطوا في جنب اللّه فتكونوا من الخاسرين، فبعداً وسحقاً لمن رغب عن طاعة اللّه ولم يقبل مواعظ أوليائه، فقد أمركم اللّه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، رحم اللّه ضعفكم وغفلتكم و صبركم على أمركم، فما أغر الإنسان بربه الكريم، ولو فهمت الصم الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب لتصدعت قلقاً وخوفاً من خشية اللّه ورجوعاً إلى طاعة اللّه، اعملوا ما شئتم {فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2) والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وصلى اللّه على محمد وآله أجمعين»(3).
ص: 401
ص: 402
ص: 403
ص: 404
الاسم: م ح م د (عليه السلام) .
الأب: الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
الأم: السيدة نرجس (عليها السلام) .
الكنية: أبو القاسم.
الألقاب: المهدي، القائم، الخاتم، المنتظر، الحجّة، الصاحب، الغريم(1)، صاحب الزمان، صاحب الدار والحضرة، الناحية المقدسة، الرجل، الغلام.
الأوصاف: قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على المنبر: «يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان، أبيض مشرب حمرة، مبدح البطن(2)
عريض الفخذين عظيم مشاش المنكبين، بظهره شامتان، شامة على لون جلده، وشامة على شبه شامة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) »(3).
وقال (عليه السلام) : «هو شاب مربوع حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه، ويعلو نور وجهه سواد لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الإماء»(4).
نقش خاتمه: (أنا حجّة اللّه وخاتمه).
ص: 405
مكان الولادة: سامراء - العراق.
زمان الولادة: ليلة الجمعة 15/شعبان/ 255ه.
مدّة العمر: لا يزال حياً بإذن اللّه تعالى حتى يظهره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
مدّة الإمامة: هو خاتم الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) .
محل ظهوره: مكة المكرمة.
محل بيعته: بين الركن والمقام.
رايته: مكتوب عليها (البيعة لله).
غيبته الصغرى: (69) سنة(1)،
وقيل: (75) سنة(2)،
وكان الإمام (عليه السلام) في هذه الفترة يتصل بشيعته عبر سفرائه الأربع، واحداً تلو الآخر كالتالي، الأول: أبو عمرو عثمان بن سعيد، الثاني: ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان، الثالث: أبو القاسم الحسين بن روح، الرابع: أبو الحسن علي بن محمد السمري.
غيبته الكبرى: بدأت بعد وفاة السفير الرابع، وهي مستمرة حتى يأذن اللّه له بالخروج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً إن شاء اللّه تعالى، ولم تكن في هذه الفترة وكالة خاصة أو سفارة أو نيابة، بل أرجع (عليه السلام) الشيعة إلى الفقهاء العدول الذين اجتمعت فيهم شرائط التقليد.
عن السيدة حكيمة عمة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنّها قالت:
بعث إليّ أبو محمد الحسن بن علي (عليه السلام) فقال: «يا عمّة، اجعلي إفطارك
ص: 406
الليلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ اللّه تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة (عليه السلام) وهو حجّته في أرضه».
قالت: فقلت له: ومن أمّه؟
قال لي: «نرجس».
قلت له: جعلني اللّه فداك، واللّه ما بها أثر؟!.
فقال: «هو ما أقول لك».
قالت: فجئت فلما سلمت وجلست جاءت تنزع بخفي وقالت لي: يا سيدتي كيف أمسيت؟
فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي.
قالت: فأنكرت قولي! وقالت: ما هذه يا عمّة؟
فقلت لها: يا بنية، إنّ اللّه تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة.
قالت: فخجلت واستحيت.
فلما أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة وأخذت مضجعي فرقدت، فلما أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادثة، ثم جلست معقبة، ثم اضطجعت، ثم انتبهت فزعة وهي راقدة، ثم قامت وصلّت ونامت.
قالت حكيمة: وخرجت أتفقّد الفجر وإذا بالفجر الأول كذنب السرحان(1) وهي نائمة، قالت حكيمة: فدخلتني الشكوك، فصاح بي أبو
ص: 407
محمد (عليه السلام) من المجلس فقال: «لاتعجلي يا عمّة، فهاك الأمر قد قرب».
وقالت: فجلست وقرأت (ألم السجدة) و(يس)، فبينما أنا كذلك إذ انتبهت فزعة فوثبت إليها فقلت: اسم اللّه عليك، ثم قلت لها: تحسّين شيئاً؟
قالت: نعم يا عمّة.
فقلت لها: أجمعي نفسك وأجمعي قلبك؛ فهو ما قلت لك.
قالت حكيمة: ثم أخذتني فترة وأخذتها فترة، فانتبهت بحس سيدي فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به (عليه السلام) ساجداً يتلقى الأرض بمساجده، فضممته إليّ فإذا أنا به نظيف منظَّفٌ، فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) : «هلمّي إليّ ابني يا عمّة».
فجئت به إليه فوضع يديه تحت اليتيه وظهره فوضع قدمه على صدره، ثم أدلى لسانه في فيه وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثم قال: «تكلّم يا بني».
فقال: «أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله»، ثم صلّى على أمير المؤمنين وعلى الأئمة (عليهم السلام) إلى أن وقف على أبيه ثم أحجم.
ثم قال أبو محمد (عليه السلام) : «يا عمّة اذهبي به إلى أمّه ليسلّم عليها وائتني به».
فذهبت به فسلّم ورددته ووضعته (عليه السلام) في المجلس ثم قال: «يا عمّة إذا كان يوم السابع فائتينا».
قالت حكيمة: فلما أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمد (عليه السلام) وكشفت الستر لأتفقّد سيدي (عليه السلام) فلم أره فقلت: جعلت فداك ما فعل سيدي؟
فقال: «يا عمّة قد استودعناه الذي استودعت أمّ موسى (عليه السلام) ».
قالت حكيمة: فلما كان يوم السابع جئت وسلّمت وجلست، فقال: «هلمّي إليّ ابني».
ص: 408
فجئت بسيدي (عليه السلام) وهو في الخرقة ففعل به ما فعل في الأولى، ثم أدلى لسانه في فيه كأنّما يغذيه لبناً أو عسلاً ثم قال: «تكلّم يا بني».
فقال (عليه السلام) : «أشهد أن لا إله إلا اللّه» وثنى بالصلاة على محمد وعلى أمير المؤمنين وعلى الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين حتى وقف على أبيه (عليه السلام) ثم تلا هذه الآية {بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}(1)».
قال موسى: فسألت عقبة الخادم عن هذه؟
فقالت: صدقت حكيمة(2).
وعن محمد بن عبد اللّه الطهوي، قال: قصدت حكيمة بنت محمد (عليه السلام) بعد مضي أبي محمد (عليه السلام) أسألها عن الحجّة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها؟
فقالت لي: اجلس، فجلست ثم قالت: يا محمد - إلى أن قالت - ولابد للأمة من حيرة يرتاب فيها المبطلون ويخلص فيها المحقّون؛ كي لا يكون للخلق على اللّه حجّة وإنّ الحيرة لابد واقعة بعد مضي أبي محمد الحسن (عليه السلام) .
فقلت: يا مولاتي هل كان للحسن (عليه السلام) ولد؟
فتبسّمت ثم قالت: إذا لم يكن للحسن (عليه السلام) عقب فمن الحجّة من بعده
ص: 409
وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين (عليه السلام) ؟
فقلت: يا سيدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته (عليه السلام) .
قالت: نعم كانت لي جارية يقال لها: نرجس فزارني ابن أخي فأقبل يحدق النظر إليها فقلت له: يا سيدي لعلّك هويتها فأرسلها إليك؟
فقال لها: «لا يا عمّة ولكنّي أتعجّب منها».
فقلت: وما أعجبك منها؟
فقال (عليه السلام) : «سيخرج منها ولد كريم على اللّه عزّوجلّ الذي يملأ اللّه به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً».
فقلت: فأرسلها إليك يا سيدي؟
فقال: «استأذني في ذلك أبي (عليه السلام) ».
قالت: فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن (عليه السلام) فسلّمت وجلست، فبدأني (عليه السلام) وقال: «يا حكيمة، ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمد».
قالت: فقلت: يا سيدي على هذا قصدتك على أن أستأذنك في ذلك.
فقال لي: «يا مباركة إنّ اللّه تبارك وتعالى أحبّ أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيباً».
قالت حكيمة: فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزينتها ووهبتها لأبي محمد (عليه السلام) وجمعت بينه وبينها في منزلي، فأقام عندي أياماً ثم مضى إلى والده (عليه السلام) ووجهت بها معه.
قالت حكيمة: فمضى أبو الحسن (عليه السلام) وجلس أبو محمد (عليه السلام) مكان والده وكنت أزوره، كما كنت أزور والده.
فجاءتني نرجس يوما تخلع خفي، فقالت: يا مولاتي ناوليني خفّك،
ص: 410
فقلت: بل أنت سيدتي ومولاتي؛ واللّه لا أدفع إليك خفّي لتخلعيه ولالتخدميني، بل أنا أخدمك على بصري.
فسمع أبو محمد (عليه السلام) ذلك، فقال: «جزاك اللّه يا عمّة خيراً».
فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس، فصحت بالجارية وقلت: ناوليني ثيابي لأنصرف.
فقال (عليه السلام) : «لا يا عمّتا، بيتي الليلة عندنا، فإنّه سيولد الليلة المولود الكريم على اللّه عزّوجلّ الذي يحيي اللّه عزّوجلّ به الأرض بعد موتها».
فقلت: ممّن يا سيدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل؟
فقال: «من نرجس لا من غيرها».
قالت: فوثبت إليها فقلبتها ظهراً لبطن فلم أر بها أثر حبل!
فعدت إليه (عليه السلام) فأخبرته بما فعلت، فتبسّم ثم قال لي: «إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لأنّ مثلها مثل أمّ موسى (عليه السلام) لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها؛ لأنّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى (عليه السلام) وهذا نظير موسى (عليه السلام) ».
قالت حكيمة: فعدت إليها فأخبرتها بما قال، وسألتها عن حالها؟
فقالت: يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا!
قالت حكيمة: فلم أزل أرقبها إلى وقت طلوع الفجر وهي نائمة بين يدي لا تقلب جنباً إلى جنب، حتى إذا كان آخر الليل وقت طلوع الفجر، وثبت فزعة فضممتها إلى صدري وسمّيت عليها، فصاح إلي أبو محمد (عليه السلام) وقال: «اقرئي عليها {إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ}(1)».
ص: 411
فأقبلت أقرأ عليها وقلت لها: ما حالك؟
قالت: ظهر بي الأمر الذي أخبرك به مولاي.
فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ مثل ما أقرأ وسلّم عليّ.
قالت حكيمة: ففزعت لما سمعت.
فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) : «لا تعجبي من أمر اللّه عزّوجلّ، إنّ اللّه تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً ويجعلنا حجّة في أرضه كباراً».
فلم يستتم الكلام حتى غيبت عني نرجس، فلم أرها كأنّه ضرب بيني وبينها حجاب، فعدوت نحو أبي محمد (عليه السلام) وأنا صارخة، فقال لي: «ارجعي يا عمّة فإنّك ستجديها في مكانها».
قالت: فرجعت فلم ألبث أن كشف الغطاء الذي كان بيني وبينها، وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشي بصري، وإذا أنا بالصبي (عليه السلام) ساجداً لوجهه، جاثياً على ركبتيه، رافعاً سبابتيه وهو يقول: «أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لاشريك له، وأنّ جدّي محمداً رسول اللّه، وأنّ أبي أمير المؤمنين» ثم عدّ إماماً إماماً إلى أن بلغ إلى نفسه ثم قال: «اللّهم أنجز لي ما وعدتني، وأتمم لي أمري، وثبّت وطأتي واملأ الأرض بي عدلاً وقسطاً».
فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) ، فقال: «يا عمّة تناوليه وهاتيه».
فتناولته وأتيت به نحوه، فلما مثلت بين يدي أبيه وهو على يديّ سلّم على أبيه، فتناوله الحسن (عليه السلام) منّي والطير ترفرف على رأسه، وناوله لسانه فشرب منه، ثم قال: «امضي به إلى أمه لترضعه وردّيه إلي».
قالت: فتناولته أمّه فأرضعته، فرددته إلى أبي محمد (عليه السلام) والطير ترفرف
ص: 412
على رأسه فصاح بطير منها فقال له: «احمله واحفظه وردّه إلينا في كل أربعين يوماً».
فتناوله الطير وطار به في جو السماء واتبعه سائر الطير، فسمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: «أستودعك اللّه الذي أودعته أمّ موسى موسى».
فبكت نرجس (عليها السلام) ، فقال لها: «اسكتي فإنّ الرضاع محرّم عليه إلا من ثديك وسيعاد إليك كما رد موسى إلى أمّه؛ وذلك قول اللّه عزّوجلّ {فَرَدَدْنَٰهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}(1)».
قالت حكيمة: فقلت: وما هذا الطير؟
قال (عليه السلام) : «هذا روح القدس الموكل بالأئمة (عليه السلام) يوفقهم ويسدّدهم ويربيهم بالعلم».
قالت حكيمة: فلما كان بعد أربعين يوماً ردّ الغلام ووجه إليَّ ابن أخي (عليه السلام) فدعاني فدخلت عليه، فإذا أنا بالصبي متحرّك يمشي بين يديه، فقلت: يا سيدي هذا ابن سنتين؟!
فتبسّم (عليه السلام) ثم قال: «إنّ أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشؤون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإنّ الصبي منّا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة، وإنّ الصبي منّا ليتكلّم في بطن أمّه ويقرأ القرآن ويعبد ربه عزّوجلّ، وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزّل عليه صباحاً ومساءً».
قالت حكيمة: فلم أزل أرى ذلك الصبي في كل أربعين يوماً إلى أن رأيته رجلاً قبل مضي أبي محمد (عليه السلام) بأيام قلائل فلم أعرفه، فقلت لابن
ص: 413
أخي (عليه السلام) : من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟
فقال لي: «هذا ابن نرجس، وهذا خليفتي من بعدي وعن قليل تفقدوني، فاسمعي له وأطيعي».
قالت حكيمة: فمضى أبو محمد (عليه السلام) بعد ذلك بأيام قلائل وافترق الناس كما ترى، وواللّه إنّي لأراه صباحاً ومساءً، وإنّه لينبئني عمّا تسألون عنه فأخبركم، وواللّه إنّي لأريد أن أسأله عن الشيء فيبدأني به، وإنه ليردّ عليَّ الأمر فيخرج إليَّ منه جوابه من ساعته من غير مسألتي، وقد أخبرني البارحة بمجيئك إليَّ وأمرني أن أخبرك بالحق.
قال محمد بن عبد اللّه: فواللّه لقد أخبرتني حكيمة بأشياء لم يطلع عليها أحد إلا اللّه عزّوجلّ، فعلمت أنّ ذلك صدق وعدل من اللّه عزّوجلّ؛ لأنّ اللّه عزّوجلّ قد أطلعه على ما لم يطلع عليه أحداً من خلقه(1).
في الحديث: أنّ الإمام المهدي (عليه السلام) شبيه برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) خلقاً وخُلقاً، وأنّ شمائله شمائل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) (2).
وكان (عليه السلام) أبيض مشرباً حمرة، أجلى الجبين، أقنى الأنف، غائر العينين،
ص: 414
مشرب الحاجبين، له نور ساطع، يغلب سواد لحيته رأسه، بخدّه الأيمن خال، وعلى رأسه فرق بين وفرتين كأنّه ألف بين واوين، أفلج الثنايا، برأسه حزاز، عريض ما بين المنكبين، أسود العينين، ساقه كساق جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) وبطنه كبطنه(1).
وورد عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «المهدي طاووس أهل الجنة»(2).
وفي كمال الدين: إنّ وجهه كالقمر الدرّي عليه جيوب(3) النور تتوقّد بشعاع ضياء القدس، ليس بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللازق، بل مربوع القامة، مدور الهامة، صلت الجبين(4)، أزج(5)
الحاجبين، أقنى الأنف(6)، سهل الخدين، على خدّه الأيمن خال، كأنّه فتات مسك على رضراضة(7) عنبر، له سمت ما رأت العيون أقصد منه(8).
وروي عن يعقوب بن منقوش أنّه قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) وهو جالس على دكان في الدار وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت له: يا سيدي، من صاحب هذا الأمر؟
فقال: «ارفع الستر» فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسيّ له عشر أو ثمان أو
ص: 415
نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، درّي المقلتين، شثن(1) الكّفين، معطوف الركبتين، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمد (عليه السلام) ، ثم قال لي: «هذا صاحبكم» ثم وثب فقال له: «يا بني ادخل إلى الوقت المعلوم» وأنا انظر إليه ثم قال لي: «يا يعقوب انظر في البيت» فدخلت فما رأيت أحداً (2).
عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري أنّه قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة اللّه على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض».
قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فمن الخليفة والإمام بعدك؟
فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت ثم خرج وعلى عاتقه غلام، كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين، وقال: «يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على اللّه وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنّه سميّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وكنيّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأمة مثل الخضر (عليه السلام) ومثله مثل ذي القرنين، واللّه ليغيبنّ غيبة لا ينجو من الهلكة فيها إلا من ثبته اللّه عزّوجلّ
ص: 416
على القول بإمامتهم(1) ووفقه للدعاء بتعجيل الفرج».
قال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي فهل من علامة يطمئن إليها قلبي؟
فنطق الغلام بلسان عربي فصيح، فقال: «أنا بقيّة اللّه في أرضه، والمنتقم من أعدائه فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق».
قال أحمد: فخرجت مسروراً فرحاً، فلما كان من الغد عدت إليه فقلت له: يا ابن رسول اللّه، لقد عظم سروري بما مننت عليَّ، فما السنّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟
فقال: «طول الغيبة يا أحمد».
فقلت له: يا ابن رسول اللّه وإنّ غيبته لتطول؟.
قال: «إي وربّي، حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، فلا يبقى إلا من أخذ اللّه عهده بولايتنا وكتب في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه، يا أحمد بن إسحاق، هذا أمر من اللّه، وسر من سر اللّه، وغيب من غيب اللّه، فخذ ما آتيتك واكتمه، وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في عليين»(2).
القرآن الكريم والمهدي المنتظر (عليه السلام) (3)
عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّوجلّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(4) قال: «هي في القائم (عليه السلام) وأصحابه»(5).
ص: 417
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّوجلّ: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًا}(1) قال: «يعني يوم خروج القائم المنتظر منّا».
ثم قال (عليه السلام) : «يا أبا بصير، طوبى لشيعة قائمنا، المنتظرين لظهوره في غيبته والمطيعين له في ظهوره، أولئك أولياء اللّه الذين {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(2)»(3).
وعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في معنى قوله عزّوجلّ: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَئًْا}(4)، قال: «نزلت في القائم (عليه السلام) وأصحابه»(5).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «القائم من ولدي اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنّته سنّتي، يقيم الناس على ملّتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربّي عزّوجلّ، من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني، ومن كذّبه فقد كذّبني، ومن صدّقه فقد
ص: 418
صدّقني، إلى اللّه أشكو المكذّبين لي في أمره، والجاحدين لقولي في شأنه، والمضلّين لأمّتي عن طريقته، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»(1).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «المهدي يقفو أثري لا يخطئ»(2).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «... يسير فيهم بسنّة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ويعمل فيهم بعمله»(3).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «ما لباسه إلا الغليظ وما طعامه إلا الشعير الجشب»(4).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : «المهدي وأصحابه يملّكهم اللّه مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدين ويميت اللّه عزّوجلّ به وبأصحابه البدع والباطل، كما أمات السفهة الحق حتى لا يرى أثر من الظلم ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»(5).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : «... إذا قام قائم أهل البيت قسّم بالسوية وعدل في الرعية... وتجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام وسفكتم فيه الدماء الحرام وركبتم فيه ما حرم اللّه عزّوجلّ فيعطي شيئاً لم يعطه أحد كان قبله يملأ الأرض عدلاً
ص: 419
وقسطاً ونوراً كما ملئت ظلماً وجوراً وشراً»(1).
عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: «قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : لا تذهب الدنيا حتى يقوم رجل من ولد الحسين (عليه السلام) يملأها عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(2).
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «افضل أعمال أمتي انتظار الفرج من اللّه عزّوجلّ»(3).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه»(4).
وعن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال: «من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم (عليه السلام) »(5).
وقد ورد في آخر التوقيع الشريف عن صاحب الأمر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) على يد محمد بن عثمان: «وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإنّ ذلك فرجكم»(6).
عن الفيض بن مختار، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن هو مع القائم (عليه السلام) في فسطاطه».
ص: 420
قال: ثم مكث (عليه السلام) هنيئة ثم قال: «لا، بل كمن قارع معه بسيفه» ثم قال: «لا واللّه إلا كمن استشهد مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1).
وعن المفضّل بن عمر، قال: ذكرنا القائم (عليه السلام) ومن مات من أصحابنا ينتظره، فقال لنا أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «إذا قام أتي المؤمن في قبره فيقال له: يا هذا إنّه قد ظهر صاحبك فإنّ تشأ أن تلحق به فالحق وإن تشأ أن تقيم في كرامة ربّك فأقم»(2).
وعن محمد بن الفضيل، عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن شيء في الفرج؟ فقال: «أو ليس تعلم أنّ انتظار الفرج من الفرج إنّ اللّه يقول: {فَٱنتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ}(3)»(4).
وروي أيضاً عنه (عليه السلام) أنّه قال: «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج أما سمعت قول اللّه تعالى: {وَٱرْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}(5) وقوله عزّوجلّ: {فَٱنتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ}(6)
فعليكم بالصبر، فإنه إنما يجيء الفرج على اليأس فقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم»(7).
قال الإمام الباقر (عليه السلام) لعبد اللّه بن دينار: «يا عبد اللّه، ما من عيد للمسلمين
ص: 421
أضحى ولا فطر إلا وهو يُجدّد لآل محمد فيه حزناً».
قلت: ولم ذاك؟
قال: «لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم»(1).
ورُوي عن عميرة بنت نفيل أنّها قالت: سمعت الحسن بن علي (عليه السلام) يقول: «لا يكون هذا الأمر الذي تنتظرون حتى يبرأ بعضكم من بعض، ويلعن بعضكم بعضاً، ويتفل بعضكم في وجه بعض، وحتى يشهد بعضكم بالكفر على بعض»، قلت: ما في ذلك خير؟ قال: «الخير كلّه في ذلك، عند ذلك يقوم قائمنا فيرفع ذلك كلّه»(2).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «واللّه لتكسرن تكسر الزجاج وإنّ الزجاج ليعاد فيعود كما كان، واللّه لتكسرن تكسر الفخّار فإنّ الفخار ليتكسّر فلا يعود كما كان، وواللّه لتغربلنّ(3)، وواللّه لتميّزن، وواللّه لتمحصنّ حتى لا يبق منكم إلا الأقل وصعّر كفه»(4).
عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال ذات يوم: «ألا أخبركم بما
ص: 422
لايقبل اللّه عزّوجلّ من العباد عملاً إلا به؟».
فقلت: بلى.
فقال: «شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأنّ محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما أمر اللّه والولاية لنا والبراءة من أعدائنا... والتسليم لهم والورع والاجتهاد والطمأنينة والانتظار للقائم (عليه السلام) ».
ثم قال: «إنّ لنا دولة يجيء اللّه بها إذا شاء».
ثم قال: «من سر أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه فجدّوا وانتظروا هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة»(1).
قال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : «ودينهم الورع والعفة والصدق والصلاح والاجتهاد وأداء الأمانة إلى البر والفاجر وطول السجود وقيام الليل واجتناب المحارم وانتظار الفرج بالصبر»(2).
عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إن بلغكم أنّ لصاحب هذا
ص: 423
الأمر غيبة فلا تنكروها»(1).
وعن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال: «إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة يقول فيها: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ}(2)»(3).
في عيون الأخبار عن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديثه عن الإمام الحجّة (عليه السلام) قال: «... بأبي وأمّي سمي جدّي، شبيهي وشبيه موسى بن عمران (عليه السلام) عليه جيوب النور تتوقّد بشعاع ضياء القدس، كم من حرى مؤمنة وكم من مؤمن متأسف حيران حزين عند فقدان الماء المعين، كأنّي بهم آيس ما كانوا قد نودوا نداء يسمع من بعد كما يسمع من قرب، يكون رحمة على المؤمنين وعذاباً على الكافرين»(4).
وفي دعاء الندبة: «عزيز عليّ أن أرى الخلق ولا ترى، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوى.
عزيز عليّ أن لا تحيط بي دونك البلوى.
ولا ينالك مني ضجيج ولا شكوى.
بنفسي أنت من مغيّب لم يخل منّا.
بنفسي أنت من نازح ما نزح عنّا.
بنفسي أنت أمنية شائق تمنّى.
من مؤمن ومؤمنة ذكرا فحنّا.
ص: 424
بنفسي أنت من عقيد عزّ لا يسامى... .
عزيز عليّ أن أبكيك ويخذلك الورى...»(1).
قد بشّر اللّه عزّوجلّ ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بالمهدي من آل محمد، وكذلك الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) وجميع الأئمة المعصومين (عليهم السلام) واحداً تلو الآخر، كما وردت روايات كثيرة حول الإمام المهدي (عليه السلام) في كتب العامّة أيضاً(2).
وسنشير هنا إلى بعض تلك الأحاديث، ابتداءً من الحديث القدسي ثم ما ورد عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسائر المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) .
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حديثه عن ليلة المعراج، قال اللّه تعالى: «... وأعطيتك أن أخرج من صلبه أحد عشر مهدياً كلّهم من ذريّتك من البكر البتول، وآخر رجل منهم يصلّي خلفه عيسى ابن مريم، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت منهم ظلماً وجوراً، أنجي به من الهلكة، وأهدي به من الضلالة، وأبرئ به من العمى، وأشفي به المريض»(3) الحديث.
ص: 425
قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، يكون له غيبة وحيرة تضلّ فيها الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب يملأها عدلاً وقسطاً وكما ملئت جوراً وظلماً»(1).
وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الأئمة من بعدي اثنا عشر أولهم أنت يا علي، وآخرهم القائم الذي يفتح اللّه تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها»(2).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «للقائم منّا غيبة أمدها طويل، كأنّي بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته، يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة»، ثم قال (عليه السلام) : «إنّ القائم منّا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة فلذلك تخفى ولادته ويغيب شخصه»(3).
عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمد، وأربعة منهم علي (عليهم السلام) (4).
ص: 426
وعن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) قال: «... أما علمتم أنّه ما منا أحد إلا يقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) الذي يصلّي خلفه روح اللّه عيسى ابن مريم (عليه السلام) ، فإنّ اللّه عزّوجلّ يخفي ولادته، ويغيب شخصه؛ لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيدة الإماء، يطيل اللّه عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم أنّ اللّه على كل شيء قدير»(1).
قال الإمام الحسين (عليه السلام) : «في التاسع من ولدي سنة من يوسف، وسنة من موسى بن عمران وهو قائمنا أهل البيت، يصلح اللّه تعالى أمره في ليلة واحدة»(2).
وعن محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول: «القائم منّا منصور بالرعب، مؤيّد بالنصر، تطوى له الأرض وتظهر له الكنوز، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويظهر به اللّه دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون، فلا يبقى في الأرض خراب إلا عمر، وينزل روح اللّه عيسى بن مريم (عليه السلام) فيصلّي خلفه».
قال: فقلت: يا ابن رسول اللّه، متى يخرج قائمكم؟
قال: «إذا تشبّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وتركب ذوات الفروج السروج، وقبلت شهادة الزور، وردت شهادة العدل، واستخف الناس بالدماء وارتكاب الزنا وأكل الربا» الحديث(1).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «أما واللّه ليغيبنّ عنّكم مهديكم حتى يقول الجاهل منكم: ما لله في آل محمد حاجة، ثم يقبل كالشهاب الثاقب فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً»(2).
وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «إنّ سنن الأنبياء (عليهم السلام) بما وقع بهم من الغيبات حادثة في القائم منا أهل البيت، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة».
قال أبو بصير: فقلت: يا ابن رسول اللّه، ومن القائم منكم أهل البيت؟
ص: 428
فقال: «يا أبا بصير، هو الخامس من ولد ابني موسى، ذلك ابن سيدة الإماء، يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون، ثم يظهره اللّه عزّوجلّ فيفتح اللّه على يده مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روح اللّه عيسى ابن مريم (عليه السلام) فيصلّي خلفه وتشرق الأرض بنور ربها، ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير اللّه عزّوجلّ إلا عبد اللّه فيها، ويكون الدين كله لله ولو كره المشركون»(1).
وعن يونس بن عبد الرحمن، قال: دخلت على موسى بن جعفر (عليه السلام) فقلت له: يا ابن رسول اللّه، أنت القائم بالحق؟
فقال: «أنا القائم بالحق، ولكن القائم الذي يطهّر الأرض من أعداء اللّه ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً هو الخامس من ولدي، له غيبة يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتد فيها أقوام ويثبت فيها آخرون».
ثم قال (عليه السلام) : «طوبى لشيعتنا، المتمسكين بحبنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا، أولئك منا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمة، ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم ثم طوبى لهم، هم واللّه معنا في درجتنا يوم القيامة»(2).
عن دعبل بن علي الخزاعي قال: لما أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) قصيدتي التي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة***ومنزل وحي مقفر العرصات
ص: 429
فلما انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج***يقوم على اسم اللّه والبركات
يميّز فينا كل حق وباطل***ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرضا (عليه السلام) بكاء شديداً، ثم رفع رأسه إليّ فقال لي: «يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم؟».
فقلت: لا يا سيدي إلا أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً.
فقال (عليه السلام) : «يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم، المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللّه عزّوجلّ ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً»(1).
عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني، قال: دخلت على سيدي محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) - الجواد (عليه السلام) - وأنا أريد أن أسأله عن القائم، أهو المهدي أو غيره؟
فابتدأني فقال لي: «يا أبا القاسم إنّ القائم منّا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته، ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) بالنبوة، وخصّنا بالإمامة، إنّه لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل
ص: 430
اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وإنّ اللّه تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى (عليه السلام) إذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو نبي مرسل»، ثم قال (عليه السلام) : «أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج»(1).
عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر - الإمام الهادي - (عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي الحسن فكيف لكم بالخلف بعد الخلف؟».
قلت: ولم جعلت فداك؟
قال: «لأنّكم لا ترون شخصه ولا تحل لكم تسميته ولا ذكره باسمه».
قلت: كيف نذكر به؟
فقال: «قولوا: الحجّة من آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) »(2).
وعن أحمد بن اسحاق بن سعد الأشعري، قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليهم السلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده؟
فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة اللّه على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزّل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض».
ص: 431
قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فمن الخليفة والإمام بعدك؟
فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين، وقال: «يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على اللّه وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنّه سميّ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وكنيه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً» إلى آخر الحديث(1).
وقد روى العامّة روايات كثيرة جداً، في الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) منها:
ما ورد عن عبد اللّه بن مسعود، رواه أبو داود عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطول اللّه ذلك اليوم حتى يبعث اللّه فيه رجلاً منّي أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(2).
وفي رواية أخرى عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»(3).
وفي رواية أنّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «لا تذهب الدنيا حتى بملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»(4).
ص: 432
وفي سنن أبي داود عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً»(1).
وفي سنن أبي داود أيضاً عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»(2).
وفي سنن ابن ماجة عن سعيد بن المسيب قال: كنّا عند أمّ سلمة فتذاكرنا المهدي (عليه السلام) فقالت: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «المهدي من ولد فاطمة»(3).
وفي رواية أبي داود أيضاً، قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «المهدي منّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يملك سبع سنين»(4).
وفي رواية أخرى للترمذي عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: خشينا أن يكون بعد نبينا حدث، سألنا نبي اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: «إنّ في أمتي المهدي»(5).
وابن ماجة في سننه بسنده عن عبد اللّه، قال: بينما نحن عند رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) اغرورقت عيناه وتغيّر لونه، قال فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه، فقال: «إنّا أهل
ص: 433
بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا، وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطاً كما ملئوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج»(1).
وفي حديث آخر بسنده عن أبي سعيد الخدري: أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فتسع، فتنعم فيه أمّتي نعمة لم ينعموا مثلها قط، تؤتى أكلها ولا تدخر منهم شيئاً، والمال يومئذ كدوس فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني فيقول: خذ»(2).
وفي حديث آخر بسنده عن ثوبان، قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «... فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنّه خليفة اللّه المهدي»(3).
وفي حديث آخر بسنده عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «المهدي منّا أهل البيت يصلحه اللّه في ليلة»(4).
وفي حديث آخر بسنده عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي»(5).
ص: 434
وفي المستدرك على الصحيحين روى بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً»(1).
وفي كنز العمال(2):
قال: عن علي (عليه السلام) أنه قال للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أمنّا آل محمد المهدي أم من غيرنا يا رسول اللّه؟ قال: بل منّا، يختم اللّه به كما فتح بنا» الحديث.
قال: أخرجه نعيم بن حماد والطبراني وأبو نعيم والخطيب.
وذكره الهيثمي أيضاً في مجمعه بنحو أبسط، فقال: وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: «أمنّا المهدي أم من غيرنا يا رسول اللّه؟ قال: بل منّا بنا يختم اللّه كما بنا فتح، وبنا يستنقذون من الشرك، وبنا يؤلّف بين قلوبهم» الحديث(3).
قال: رواه الطبراني في الأوسط(4).
عن أبي عبد اللّه الحسين بن محمد البزوفري، قال: خرج عن الناحية
ص: 435
المقدسة: «من كانت له إلى اللّه حاجة فليغتسل ليلة الجمعة بعد نصف الليل ويأتي مصلّاه ويصلّي ركعتين، يقرأ في الركعة الأولى الحمد فإذا بلغ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(1) يكررها مائة مرّة، ويتم في المائة إلى آخرها، ويقرأ سورة التوحيد مرّة واحدة، ثم يركع ويسجد ويسبّح فيها سبعة سبعة، ويصلي الركعة الثانية على هيئته، ويدعو بهذا الدعاء، فإنّ اللّه تعالى يقضي حاجته البتة كائناً ما كان إلا أن يكون في قطيعة رحم والدعاء:
اللَّهُمَّ إِنْ أَطَعْتُكَ فَالْمَحْمَدَةُ لَكَ، وإِنْ عَصَيْتُكَ فَالْحُجَّةُ لَكَ، مِنْكَ الرَّوْحُ ومِنْكَ الْفَرَجُ، سُبْحَانَ مَنْ أَنْعَمَ وشَكَرَ، سُبْحَانَ مَنْ قَدَر وغَفَرَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ قَدْ عَصَيْتُكَ فَإِنِّي قَدْ أَطَعْتُكَ فِي أَحَبِّ الأَشْيَاءِ إِلَيْكَ وهُوَ الإِيمَانُ بِكَ، لَمْ أَتَّخِذْ لَكَ وَلَداً ولَمْ أَدْعُ لَكَ شَرِيكاً، مَنّاً مِنْكَ بِهِ عَلَيَّ لا مَنّاً مِنِّي بِهِ عَلَيْكَ، وقَدْ عَصَيْتُكَ يَا إِلَهِي عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُكَابَرَةِ، ولا الْخُرُوجِ عَنْ عُبُودِيَّتِك، ولا الْجُحُودِ بِرُبُوبِيَّتِكَ، ولَكِنْ أَطَعْتُ هَوَايَ وأَزَلَّنِي الشَّيْطَانُ، فَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ والْبَيَانُ، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَبِذُنُوبِي غَيْرِ ظَالِمٍ، وإِنْ تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي فَإِنَّكَ جَوَادٌ كَرِيمٌ، يَا كَرِيمُ. حتى ينقطع النفس، ثم يقول:
يَا آمِناً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وكُلُّ شَيْءٍ مِنْكَ خَائِفٌ حَذِرٌ، أَسْأَلُكَ بِأَمْنِكَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وخَوْفِ كُلِّ شَيْ ءٍ مِنْكَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وأَنْ تُعْطِيَنِي أَمَاناً لِنَفْسِي وأَهْلِي ووُلْدِي وسَائِرِ مَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، حَتَّى لا أَخَافَ أَحَداً ولا أَحْذَرَ مِنْ شَيْءٍ أَبَداً، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وحَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الْوَكِيلُ، يَا كَافِيَ إِبْرَاهِيمَ نُمْرُودَ، ويَا كَافِيَ مُوسَى فِرْعَوْنَ، ويَا كَافِيَ
ص: 436
مُحَمَّدٍ (صلی الله عليه وآله وسلم) الأَحْزابَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وأَنْ تَكْفِيَنِي شَرَّ فُلانِ بْنِ فُلانٍ.
فيستكفي شرّ من يخاف شره فإنّه يُكفى شره إن شاء اللّه تعالى، ثم يسجد ويسأل حاجته ويتضرّع إلى اللّه تعالى فإنّه ما من مؤمن ولا مؤمنة صلّى هذه الصلاة ودعا بهذا الدعاء إلا فُتحت له أبواب السماء للإجابة ويُجاب في وقته وليلته كائناً ما كان، وذلك من فضل اللّه علينا وعلى الناس»(1).
عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال: كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضي اللّه عنه مع جماعة، منهم علي بن عيسى القصري فقام إليه رجل، فقال له: أريد أن أسألك عن شي ء؟
فقال له: سل عما بدا لك.
فقال الرجل: أخبرني عن الحسين بن علي (عليه السلام) أهو ولي اللّه؟
قال: نعم.
قال: أخبرني عن قاتله لعنه اللّه أهو عدو لله؟
قال: نعم.
قال الرجل: فهل يجوز أن يسلّط اللّه عزّوجلّ عدّوه على وليه؟
فقال أبو القاسم قدس اللّه روحه: افهم عنّي ما أقول لك، اعلم أنّ اللّه تعالى لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان ولا يشافههم بالكلام، ولكنّه جلّت عظمته يبعث إليهم من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم؛ ولو بعث إليهم
ص: 437
رسلاً من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم، فلما جاءوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا لا نقبل منكم حتى تأتونا بشيء نعجز من أن نأتي بمثله، فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه، فجعل اللّه عزّوجلّ لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها، فمنهم من جاء بالطوفان بعد الإعذار والإنذار فغرق جميع من طغى وتمرّد، ومنهم من ألقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً، ومنهم من أخرج من الحجر الصلب الناقة وأجرى من ضرعها لبناً، ومنهم من فلق له البحر وفجر له من العيون وجعل له العصا اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون، ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن اللّه وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، ومنهم من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك، فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق عن أممهم من أن يأتوا بمثله، كان من تقدير اللّه جلّ جلاله ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حال غالبين وأخرى مغلوبين وفي حال قاهرين وأخرى مقهورين؛ ولو جعلهم اللّه في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون اللّه عزّوجلّ، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختبار، ولكنه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم؛ ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبّرين، وليعلم العباد أن لهم (عليهم السلام) إلهاً هو خالقهم ومدبرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجّة اللّه ثابتة على من تجاوز الحد فيهم وادعى لهم الربوبية، أو عاند وخالف
ص: 438
وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء و الرسل، وليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيا من حي عن بينة.
قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق (رحمه الله) فعدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رحمه الله) في الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر لنا ما ذكر يوم أمس من عند نفسه.
فابتدأني وقال: يا محمد بن إبراهيم، لأنّ أخر من السماء فتختطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحب إليّ من أن أقول في دين اللّه برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل ومسموع من الحجة صلوات اللّه عليه وسلامه»(1).
خرج عن صاحب الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ردّاً على الغلاة من التوقيع جواباً لكتاب كتب إليه على يدي محمد بن علي بن هلال الكرخي:
«يا محمد بن علي، تعالى اللّه وجلّ عمّا يصفون سبحانه وبحمده ليس نحن شركاؤه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تباركت أسماؤه: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلَّا ٱللَّهُ}(2) وأنا وجميع آبائي من الأولين آدم و نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النبيين، ومن الآخرين محمد رسول اللّه وعلي بن أبي طالب وغيرهم ممّن مضى من الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين إلى مبلغ أيامي ومنتهى عصري
ص: 439
عبيد اللّه عزّوجلّ، يقول اللّه عزّوجلّ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنسَىٰ}(1) يا محمد بن علي، قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم، ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه، فأشهد اللّه الذي لا إله إلا هو، وكفى به شهيداً ورسوله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وملائكته وأنبياءه وأولياءه (عليهم السلام) وأشهدك وأشهد كل من سمع كتابي هذا، أنّي بري ء إلى اللّه وإلى رسوله ممّن يقول إنّا نعلم الغيب ونشاركه في ملكه، أو يحلّنا محلاً سوى المحلّ الذي رضيه اللّه لنا وخلقنا له، أو يتعدّى بنا عمّا قد فسرته لك وبينته في صدر كتابي، وأشهدكم أنّ كل من نبرأ منه فإنّ اللّه يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياؤه، وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك وعنق من سمعه، أن لايكتمه لأحد من موالي وشيعتي، حتى يظهر على هذا التوقيع الكل من الموالي لعل اللّه عزّوجلّ يتلافاهم فيرجعون إلى دين اللّه الحق وينتهون عما لا يعلمون منتهى أمره ولا يبلغ منتهاه، فكل من فهم كتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته فقد حلت عليه اللعنة من اللّه وممّن ذكرت من عباده الصالحين»(2).
عن علي بن ابراهيم بن مهزيار قال : ... دخلت - على الإمام القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) - فإذا أنا به جالس قد اتشح ببرده واتزر بأخرى وقد كسر بردته على عاتقه
ص: 440
وهو كأقحوانة(1)
أرجوان قد تكاثف عليها الندى وأصابها ألم الهوى، وإذا هو كغصن بان أو قضيب ريحان، سمح سخي تقي نقي، ليس بالطويل الشامخ ولا بالقصير اللازق، بل مربوع القامة، مدور الهامة، صلت الجبين، أزج الحاجبين، أقنى الأنف، سهل الخدّين، على خدّه الأيمن خال كأنّه فتات مسك على رضراضة عنبر، فلما أن رأيته بدأته بالسلام، فردّ عليّ أحسن ما سلمت عليه، وشافهني وسألني عن أهل العراق؟
فقلت: سيدي قد ألبسوا جلباب الذلّة وهم بين القوم أذلاء.
فقال لي: «يا ابن المازيار لتملكونهم كما ملكوكم، وهم يومئذ أذلّاء».
فقلت: سيدي لقد بعد الوطن وطال المطلب.
فقال: «يا ابن المازيار، أبي أبو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب اللّه عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة و لهم عذاب أليم، وأمرني أن لاأسكن من الجبال إلا وعرها، ومن البلاد إلا عفرها، واللّه مولاكم، أظهر التقية فوكلها بي فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي فأخرج».
فقلت: يا سيدي، متى يكون هذا الأمر؟
فقال: «إذا حيل بينكم وبين سبيل الكعبة واجتمع الشمس والقمر واستدار بهما الكواكب والنجوم».
فقلت: متى يا ابن رسول اللّه؟
فقال لي: «في سنة كذا وكذا تخرج دابة الأرض من بين الصفا والمروة
ص: 441
ومعه عصا موسى وخاتم سليمان يسوق الناس إلى المحشر».
قال: فأقمت عنده أياما وأذن لي بالخروج بعد أن استقصيت لنفسي، وخرجت نحو منزلي، واللّه لقد سرت من مكة إلى الكوفة ومعي غلام يخدمني فلم أر إلا خيرا وصلى اللّه على محمد وآله وسلم تسليماً(1).
عن الزهري، قال: طلبت هذا الأمر طلباً شافياً حتى ذهب لي فيه مال صالح، فوقعت إلى العمري وخدمته ولزمته وسألته بعد ذلك عن صاحب الزمان (عليه السلام) قال لي: ليس إلى ذلك وصول فخضعت له، فقال لي: بكر بالغداة، فوافيت فاستقبلني ومعه شاب من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة، وفي كمه شيء كهيئة التجار.
فلما نظرت إليه دنوت من العمري فأومأ إليه، فعدلت إليه، وسألته فأجابني عن كل ما أردت ثم مرّ ليدخل الدار، وكانت من الدور التي لا يكترث بها، فقال العمري: إن أردت أن تسأل سل فإنّك لا تراه بعد ذا، فذهبت لأسأل فلم يستمع ودخل الدار وما كلّمني بأكثر من أن قال:
«ملعون ملعون من أخّر العشاء إلى أن تشتبك النجوم، ملعون ملعون من أخر الغداة إلى أن تنقضي النجوم» ودخل الدار(2).
عن علي بن إبراهيم الرازي، قال: حدّثني الشيخ الموثوق به بمدينة
ص: 442
السلام، قال: تشاجر ابن أبي غانم القزويني وجماعة من الشيعة في الخلف، فذكر ابن أبي غانم أنّ أبا محمد (عليه السلام) مضى ولا خلف له، ثم إنّهم كتبوا في ذلك كتاباً وأنفذوه إلى الناحية، وأعلموه بما تشاجروا فيه، فورد جواب كتابهم بخطّه عليه وعلى آبائه السلام:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم، عافانا اللّه وإيّاكم من الضلالة والفتن، ووهب لنا ولكم روح اليقين، وأجارنا و إيّاكم من سوء المنقلب، إنّه أنهي إلي ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة أمورهم، فغمّنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا؛ لأنّ اللّه معنا ولا فاقة بنا إلى غيره، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا، ونحن صنائع ربّنا والخلق بعدُ صنائعنا. يا هؤلاء، ما لكم في الريب تتردّدون وفي الحيرة تنعكسون، أ و ما سمعتم اللّه عزّوجلّ يقول: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلْأَمْرِ مِنكُمْ}(1)؟
أو ما علمتم ما جاءت به الآثار ممّا يكون ويحدث في أئمتكم عن الماضين والباقين منهم (عليهم السلام) ؟
أو ما رأيتم كيف جعل اللّه لكم معاقل تأوون إليها وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم (عليه السلام) إلى أن ظهر الماضي (عليه السلام) ، كلما غاب علم بدا علم، وإذا أفل نجم طلع نجم، فلما قبضه اللّه إليه ظننتم أنّ اللّه تعالى أبطل دينه وقطع السبب بينه وبين خلقه، كلّا ما كان ذلك، ولا يكون حتى تقوم الساعة ويظهر أمر اللّه سبحانه وهم كارهون، وأنّ الماضي (عليه السلام) مضى سعيداً فقيداً
ص: 443
على منهاج آبائه (عليهم السلام) حذو النعل بالنعل، وفينا وصيته وعلمه ومن هو خلفه ومن هو يسدّ مسدّه، لا ينازعنا موضعه إلا ظالم آثم، ولا يدعيه دوننا إلا جاحد كافر، ولولا أنّ أمر اللّه تعالى لايغلب وسرّه لا يظهر ولا يعلن لظهر لكم من حقّنا ما تبيّن منه عقولكم، ويزيل شكوككم، لكنّه ما شاء اللّه كان ولكل أجل كتاب، فاتقوا اللّه وسلّموا لنا وردّوا الأمر إلينا، فعلينا الإصدار كما كان منّا الإيراد، ولا تحاولوا كشف ما غطي عنكم، ولا تميلوا عن اليمين وتعدلوا إلى الشمال، واجعلوا قصدكم إلينا بالمودّة على السنة الواضحة، فقد نصحت لكم واللّه شاهد عليّ وعليكم، ولولا ما عندنا من محبّة صلاحكم ورحمتكم والإشفاق عليكم، لكنّا عن مخاطبتكم في شغل فيما قد امتحنا به من منازعة الظالم العتل(1) الضال، المتتابع في غيّه، المضاد لربّه، الداعي ما ليس له، الجاحد حق من افترض اللّه طاعته، الظالم الغاصب، وفي ابنة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لي أسوة حسنة، وسيردي الجاهل رداءه عمله، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، عصمنا اللّه وإياكم من المهالك والأسواء والآفات والعاهات كلها برحمته، فإنّه ولي ذلك والقادر على ما يشاء، وكان لنا ولكم ولياً وحافظاً والسلام على جميع الأوصياء والأولياء والمؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، وصلى اللّه على محمد وآله وسلم تسليما»(2).
من دعاء للإمام الحجّة (عليه السلام) : «بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا مالك الرقاب،
ص: 444
ويا هازم الأحزاب، يا مفتح الأبواب، يا مسبّب الأسباب، سبّب لنا سبباً لانستطيع له طلباً، بحق لا اله إلا اللّه، محمد رسول اللّه، صلوات اللّه عليه وعلى آله أجمعين»(1).
ومن دعائه (عليه السلام) : «يا نور النور، يا مدبّر الأمور، يا باعث من في القبور، صل على محمد وآل محمد، واجعل لي ولشيعتي من الضيق فرجاً، ومن الهم مخرجاً، وأوسع لنا المنهج، وأطلق لنا من عندك ما يفرج، وافعل بنا ما أنت أهله، يا كريم»(2).
ومن دعائه (عليه السلام) : «الهي بحقّ من ناجاك، وبحقّ من دعاك في البحر والبر، صل على محمد وآله، وتفضّل على فقراء المؤمنين والمؤمنات بالغنى والسعة، وعلى مرضى المؤمنين والمؤمنات بالشفاء والصحة والراحة، وعلى أحياء المؤمنين والمؤمنات باللطف والكرامة، وعلى أموات المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والرحمة، وعلى غرباء المؤمنين والمؤمنات بالردّ إلى أوطانهم سالمين غانمين، بحق محمد وآله أجمعين»(3).
وكان تسبيحه (عليه السلام) : «سبحان اللّه عدد خلقه، سبحان اللّه رضى نفسه، سبحان اللّه مداد كلماته، سبحان اللّه زنة عرشه، والحمد لله مثل ذلك»(4).
ومن الأدعية المأثورة عنه (عليه السلام) : دعاء الندبة، المذكور في كتاب (مفاتيح الجنان) وكتاب (الدعاء والزيارة) وغيرهما.
ص: 445
كانت هذه صفحات مختصرة عن حياة المعصومين الأربعة عشر (صلوات اللّه عليهم أجمعين) المشرقة، نسأل اللّه عزّوجلّ أن يوفقنا جميعاً للاهتداء بهديهم وللإقتداء بنهجهم، وأن يجعلنا من خلّص شيعتهم وأنصارهم، وأن يرزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم وفي الجنة مجاورتهم، إنّه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قم المقدسة
والدة السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
ص: 446
نبذة عن حياة المعصومين
المقدمة... 5
الفصل الأول: الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 7
الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) في سطور... 9
أعظم شخصية في التاريخ... 14
أخلاق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 15
مع ابنة حاتم الطائي... 16
تواضعه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 17
أخلاق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في التوراة والإنجيل... 17
أخلاقه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع أعدائه... 18
مع اليهودية... 19
تحمله (صلی الله عليه وآله وسلم) للأذى... 19
أخلاقه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع نسائه... 20
أخلاقه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه... 23
ما رُوي عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) في مكارم الأخلاق... 24
زواجه (صلی الله عليه وآله وسلم) من خديجة... 24
بعثته الشريفة (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 26
من معجزاته (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 27
القرآن الكريم... 27
ص: 447
شقّ القمر... 28
ردّ الشمس... 29
شهادة الظبية... 29
علمه (صلی الله عليه وآله وسلم) بما في الضمير... 30
رحلة إلى السماء... 31
بعض غزوات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 32
غزوة بدر... 32
غزوة أُحد... 32
معركة الخندق... 33
سر النجاح... 34
حجّة الوداع وغدير خم... 36
قصيدة الغدير... 37
وفاته (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 37
نبذة من كلماته (صلی الله عليه وآله وسلم) الشريفة... 39
الخطوة المحبوبة... 39
لا للتشبيه... 40
الشفاعة... 40
حب أهل البيت (عليهم السلام) ... 40
المسجد والاغتياب... 40
إيّاكم والدَين... 41
لا للغيبة... 41
لا تمزح كثيراً 41
المكر والخديعة في النار... 41
من سنن المرسلين... 42
وقّفوهم إنّهم مسؤولون... 42
ص: 448
الزهد والتواضع... 42
الحياء من اللّه... 43
من مقوّمات البلاء... 43
تعلّموا من الغراب... 43
أنا شفيع لهؤلاء... 44
الصدقة... 44
من حقوق المؤمن... 44
إصلاح ذات البين... 44
الفصل الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ... 45
أمير المؤمنين (عليه السلام) في سطور... 47
أول الناس إسلاماً... 53
أكثر الناس علماً... 54
المجاهد الأكبر... 55
الإمام الأول... 57
من خصائص الإمام (عليه السلام) ... 67
إنّ اللّه قد زوّجكما في السماء... 70
أمير زاهد... 72
الخوف من اللّه... 72
كثرة الفضائل... 73
فزت ورب الكعبة... 75
من وصايا الإمام (عليه السلام) ... 77
معاوية في شهادة الإمام (عليه السلام) ... 78
نبذة من كلماته (عليه السلام) الشريفة... 79
توصية الفقهاء والحكماء... 79
دع ما لا يعنيك... 80
ص: 449
لا غنى كالعقل... 80
من آثار الجهل... 80
بين العقل والجهل... 80
القدر ومعناه... 81
إلى شيعته... 81
الدنيا والزهد فيها... 81
شهر رمضان... 82
الخير كلّه... 82
الاستعداد للموت... 82
وصيّة اللّه لموسى (عليه السلام) ... 83
ما هو الإسلام... 83
والإخلاص على خطر... 84
كفى بك أدباً... 84
لا تلومنّ إلا نفسك... 84
بين العالم والجاهل... 85
من علامات المرائي... 85
طلاقة الوجه... 85
الفصل الثالث: الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ... 87
السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في سطور... 89
الولادة المباركة... 90
تفسير بعض ألقابها (عليها السلام) ... 91
من فضائلها (عليها السلام) ... 92
عبادتها (عليها السلام) ... 93
الأعمال البيتية... 94
الحجاب كرامة المرأة... 95
ص: 450
تسبيح الزهراء (عليها السلام) ... 96
دعاء لرفع الحُمّى... 96
صلاة الاستغاثة بها (عليها السلام) ... 97
الحج والعمرة قبل النوم... 97
شهادتها (عليها السلام) ... 98
ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) ... 99
رواية سليم بن قيس... 101
من وصاياها (عليها السلام) ... 106
في اللحظات الأخيرة... 107
عند ما هدأت العيون... 109
مناجاة مع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 110
علي (عليه السلام) يرثيها... 111
درر من كلماتها (عليها السلام) ... 112
نحن الوسيلة... 112
خالص العبادة... 112
أكرموا النساء... 112
وفي نصرة الحق... 112
البشر في وجه المؤمن... 113
أبوا هذه الأمة... 113
من شروط قبول الصيام... 113
لا عذر بعد يوم الغدير... 113
من هو الشيعي؟... 114
تعليم المسائل الشرعية... 114
الفصل الرابع: الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ... 117
الإمام الحسن (عليه السلام) في سطور... 119
ص: 451
التسمية المباركة... 121
الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يذكر فضائله (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 122
في كرمه (عليه السلام) ... 125
التواضع شيمة العظماء... 126
من حقوق الحيوان... 126
حسن الخلق... 127
اللّه أعلم حيث يجعل رسالته... 127
في عظمته (عليه السلام) ... 128
صلحه (عليه السلام) مع معاوية... 129
شهادته (عليه السلام) المؤلمة... 131
هول المطلع... 132
موعظة أخيرة... 133
الوصية الخالدة... 134
الإمام الحسين (عليه السلام) يرثي أخاه... 136
في فضل زيارته (عليه السلام) والبكاء عليه... 137
نبذة من درر كلماته (عليه السلام) ... 138
من هو القريب... 138
التقية... 138
حب الدنيا... 139
ممّن تطلب حاجتك... 139
من آداب المائدة... 139
هذه هي العبودية... 140
من كفل لنا يتيماً... 140
طالب الدنيا... 140
ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكتب السماوية... 140
ص: 452
حقوق الإخوان... 141
حقناً للدماء... 141
حجج اللّه على الخلق... 142
حقّ العبادة... 142
لا تطع الهوى... 142
نفسك نفسك... 142
هذه هي التجارة المربحة... 143
من مكارم الأخلاق... 143
أبيات من أشعاره (عليه السلام) ... 143
الفصل الخامس: الإمام الحسين (عليه السلام) ... 145
الإمام الحسين (عليه السلام) في سطور... 147
الولادة الطاهرة... 149
قصة فطرس... 150
جبرائيل يهزّ مهد الحسين (عليه السلام) ... 151
الشفاعة المقبولة... 151
الفضائل الجمة... 152
من ثمار الجنة... 153
التواضع شيمة العظماء... 154
أسوة في الجود والكرم... 154
فضح الظالمين... 156
واقعة عاشوراء... 156
الشهادة المفجعة... 166
حرق الخيام والأسر... 167
البكاء على الحسين (عليه السلام) ... 168
بكاء الكون بأجمعه... 169
ص: 453
نوح الملائكة... 170
نوح الجن... 170
وحتى الحيوانات... 171
مواساة الأنبياء (عليهم السلام) ... 171
مواساة آدم (عليه السلام) بدمه... 172
نوح (عليه السلام) ومصيبة الحسين (عليه السلام) ... 173
إبراهيم (عليه السلام) وشجّ الرأس للحسين (عليه السلام) ... 173
إسماعيل (عليه السلام) ولعن قاتل الحسين (عليه السلام) ... 174
دم موسى (عليه السلام) مواساة لدم الحسين (عليه السلام) ... 174
سليمان (عليه السلام) في كربلاء... 175
عيسى (عليه السلام) يلعن قاتل الحسين (عليه السلام) ... 176
الشعائر الحسينية... 176
يوم عاشوراء والاشتغال بالعزاء... 177
زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ... 178
عند شرب الماء... 178
درر من كلماته (عليه السلام) ... 179
المؤمن لا يسيء... 179
لا تبخل... 179
أحسن الكلام... 179
عليك بالرفق... 179
رضا اللّه لا رضا الناس... 180
قبول العطاء... 180
صفات شيعتنا... 180
علموا أولادكم... 180
أكرم وجهك... 181
ص: 454
السلام والتحية... 181
الإجمال في الطلب... 181
من أتانا أهل البيت (عليهم السلام) ... 182
زائر الحسين (عليه السلام) ... 182
للقارئ دعوة مستجابة... 182
الصدقة المقبولة... 182
من دخل المقابر... 183
بين المخاطر... 183
من أحبّك نهاك... 183
من نعم اللّه عليكم... 184
معارف القرآن... 185
إيّاك والظلم... 185
عليكم بالتقوى... 185
الخوف من اللّه... 186
الفصل السادس: الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ... 187
الإمام زين العابدين (عليه السلام) في سطور... 189
الأخلاق الكريمة... 190
عفو وموعظة... 191
خدمة الرفقة... 192
مع الفقراء... 192
الرفق بالحيوان... 193
في عبادته (عليه السلام) ... 193
أفلا أكون عبداً شكورا 193
من يقوى على عبادة علي (عليه السلام) ... 195
خوفاً من اللّه... 195
ص: 455
ألف ركعة... 195
سيد الساجدين... 196
أين زين العابدين؟... 196
ذو الثفنات... 196
بين يدي اللّه عزّوجلّ... 197
سيد الزاهدين... 197
بين السجّاد والخليل (عليهما السلام) ... 198
في صحراء عرفات... 198
الحبّ في اللّه... 198
مدرسة الدعاء... 198
البكاء ثورة... 199
كيف لا أبكي... 200
ثواب البكاء... 200
تربية المجتمع... 200
من كراماته (عليه السلام) ... 201
حجر أسود... 201
هذا ابن فاطمة... 201
فأين ربك؟... 204
حينما تشكو الظبية... 205
شهادته (عليه السلام) وسبب ذلك... 206
الوصية... 207
درر من كلماته (عليه السلام) ... 207
الدنيا قنطرة... 207
أحبكم إلى اللّه... 208
الموت عند المؤمن والكافر... 208
ص: 456
فلان وفلان؟... 208
كل الخير... 209
حقوق الأخوان... 209
الصبر... 209
بين الدنيا والآخرة... 209
لا تصحبنّ خمسة... 210
أربع أعين... 211
احذر الأحمق... 211
الصدق والوفاء... 212
مسكين ابن آدم... 212
أكبر ما يكون ابن آدم... 212
ثلاث خصال... 213
الخوف والحياء... 213
لا للعداوة... 213
الشرف في التواضع... 213
الفصل السابع: الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ... 215
الإمام الباقر (عليه السلام) في سطور... 217
أشبه الناس بالرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 218
النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) يقرؤه السلام... 219
باقر العلوم... 219
الذكر الدائم... 221
من أخلاقه (عليه السلام) ... 222
حسن المداراة... 222
لا، أنا باقر... 224
قمّة الجود والكرم... 224
ص: 457
استنفق هذه... 224
من كراماته ومعاجزه (عليه السلام) ... 225
إحضار الميت... 225
الطعام واللبنة... 226
التفاحة والحجر... 227
الأعمى والرؤية... 227
شهادته (عليه السلام) وسببها 228
إقامة المأتم... 229
أولاده (عليه السلام) ... 229
درر من كلماته (عليه السلام) ... 229
الحلم والعلم... 229
كل الكمال... 229
مكارم الدنيا والآخرة... 230
الوصايا العظيمة... 230
أصبحت محزونا 233
لا تقل هكذا... 234
السعي في حوائج الأخوان... 234
نتيجة البخل... 235
أوصاف الشيعة... 235
الصدقة... 236
الفصل الثامن: الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ... 237
الإمام الصادق (عليه السلام) في سطور... 239
أفقه الناس... 241
بين يدي اللّه عزّوجلّ... 241
من أخلاقه (عليه السلام) ... 242
ص: 458
الزهد شيمة الأولياء... 242
العفو أقرب للتقوى... 242
هكذا الحلم... 243
أنتِ حرّة لوجه اللّه... 243
مع قاطع الرحم... 244
صدقة السر... 244
طلب المعيشة... 246
إنّه وفى بعهده... 246
هكذا تكون التوبة... 247
من كراماته ومعاجزه (عليه السلام) ... 248
عُرضت عليّ أعمالكم... 248
مع الحيوان المفترس... 249
اجلس في التنور... 249
سبائك الذهب... 251
إحياء الموتى بإذن اللّه... 251
منطق الطير... 252
في شهادته (عليه السلام) مسموماً... 253
دررٌ من كلماته (عليه السلام) ... 254
العمل على اليقين... 254
هكذا المعاشرة... 254
زيارة الأخوان... 254
حوائج الناس... 255
كن وصي نفسك... 255
تحفة الصائم... 255
أُولئك أوليائي... 255
ص: 459
من أضرار العجلة... 263
مكارم الأخلاق... 263
المروّة... 264
عليكم الورع... 264
الشيعة أحق بالورع... 264
من هم الشيعة... 264
من أدعيته (عليه السلام) ... 264
تحت ميزاب الكعبة... 265
بعض أشعاره (عليه السلام) ... 266
في المعصية... 266
في الموت... 266
الفصل التاسع: الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) ... 267
الإمام الكاظم (عليه السلام) في سطور... 269
من عظمته (عليه السلام) ... 270
هذا سيد ولدي... 271
بين يدي اللّه عزّوجلّ... 272
وفي السجود دائماً... 272
وعند تذكر النعمة... 273
ملامح عن شخصيته (عليهم السلام) المباركة... 273
سجن هارون... 275
الحقد والحسد... 275
قمة التقوى... 283
من كراماته ومعجزاته (عليه السلام) ... 284
طي الأرض... 284
سلّم على مولاك... 285
ص: 460
يا أسد اللّه خذ عدو اللّه... 285
ولادة اللبوة... 286
السجين الحر... 287
ريش من أجنحة الملائكة... 288
مع بشر الحافي... 288
في شهادته (عليه السلام) مسموماً... 289
درر من كلماته (عليه السلام) الشريفة... 292
الإحسان إلى الإخوان... 292
الزهد حقيق في هذا... 292
بين الذنب والبلاء... 292
تقسيم الوقت... 292
من استوى يوماه... 293
معنى حسن الجوار... 293
لا تترك الأمر بالمعروف... 293
شدّة الجور... 294
عيال الرجل... 294
من أنواع الصدقة... 294
الحلاقة وآدابها... 294
المعالجات الطبية... 295
من آداب الحجامة... 295
خلقة الإنسان... 296
بين الداء والدواء... 296
علامات الدم... 297
دعاء الخروج من البيت... 297
التكلّم في ذات اللّه... 297
ص: 461
مؤونة الدين والدنيا... 297
من صفات الوسواس... 298
إذا غلب الجور... 298
قل الحق دائماً... 298
من أقسام الشكر... 298
القرآن شفاء... 298
الصدقة ودواء المرضى... 299
النفس وهواها... 299
مكافأة المعروف... 299
لا تذلّ نفسك... 299
الإنفاق في الطاعة... 299
عون الضعيف... 300
بين الجاهل والعاقل... 300
اصبر عند المصيبة... 300
لو ظهرت الآجال... 300
من أدعيته (عليه السلام) ... 300
دعاء لدفع البلاء... 300
دعاء لدفع الأعداء... 302
التعوّذ من خصلتين... 303
بعض ما نسب إليه (عليه السلام) من الشعر... 303
أفعال العباد... 303
اللجوء إلى اللّه... 304
الفصل العاشر: الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ... 305
الإمام الرضا (عليه السلام) في سطور... 307
الإمام الصادق (عليه السلام) يصفه... 308
ص: 462
يا أبا الحسن الرضا... 309
الولادة المباركة... 309
أخلاقيات... 310
هكذا تكون المعاشرة... 310
وعلى الحصير... 311
أعلم الناس... 311
الجود والكرم... 311
في تشييع جنازة المؤمن... 313
مع الخدم... 313
من كراماته ومعجزاته (عليه السلام) ... 314
لترونّه عن قريب... 314
لو زاد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لزدناك... 314
قميصاً للكفن... 315
عين الماء... 316
ماذا يحدث لآل برمك؟... 317
إنه يشتهي من هذه الدنانير... 317
مات البطائني... 318
كفّ عنه... 319
أتدري ما يقول العصفور؟... 320
ولاية العهد... 320
في طريقه (عليه السلام) إلى خراسان... 321
في شهادته (عليه السلام) مسموماً... 322
في ثواب زيارته (عليه السلام) ... 327
بضعة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 327
إذا دفن في أرضكم بضعتي... 327
ص: 463
من زارني في غربتي... 327
من زارني على بعد داري... 328
من زارني عارفاً بحقّي... 328
درر من كلماته (عليه السلام) الشريفة... 328
العقل والجهل... 328
ممّا يبغضه اللّه... 329
كيف أصبحت... 329
الرضى بالقليل... 329
من بكى علينا 329
البكاء على الحسين (عليه السلام) ... 329
زيارة قبر أبي (عليه السلام) ... 330
ممّا ينفي الفقر... 330
لا تدع الطيب... 330
ما بين الطلوعين... 330
التكبيرات الخمس... 331
شاب المنظر... 331
إقبال القلوب وإدبارها... 331
خصال الديك... 332
من آداب المعاشرة... 332
ثمانية من قضاء اللّه... 332
بل قد نجا... 332
من أشعاره (عليه السلام) ... 333
لا تعيبنّ الزمان... 333
الدنيا والموت... 333
المُنى... 334
ص: 464
أعذر أخاك... 334
الفصل الحادي عشر: الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ... 335
الإمام الجواد (عليه السلام) في سطور... 337
شبيه عيسى ابن مريم (عليه السلام) ... 338
شبيه موسى بن عمران... 339
من عظيم فضائله (عليه السلام) ... 339
ما صنع بأمي الزهراء (عليها السلام) ... 340
من كرمه (عليه السلام) ... 340
بعض كراماته ومعاجزه (عليه السلام) ... 341
سمّه أحمد... 341
دفاعاً عن المظلوم... 341
عافاك اللّه... 342
أهذه عمامتك؟... 342
مع بنت المأمون... 343
الأوراق النقدية... 346
من علامة الإمام... 346
استجابة دعائه (عليه السلام) ... 347
سبيكة من ذهب... 347
معجزة الفصد... 348
مأتم خير الورى... 348
اسمع وعه... 349
ثلاث رقاع... 349
في شهادته (عليه السلام) مسموماً... 349
درر من كلماته (عليه السلام) ... 350
الثقة باللّه... 350
ص: 465
بين السر والعلانية... 350
بيت في الجنة... 350
العمل على غير علم... 351
مصاحبة الشرير... 351
ثلاث خصال للمؤمن... 351
لا تعادي أحداً... 351
لا تطع الهوى... 351
انظر كيف تكون... 351
لين الجنب... 352
الشركاء في الظلم... 352
حسن الخلق... 352
من أمل إنساناً... 352
مصيبة الشامت... 352
دعائم التوبة... 353
عمل الأبرار... 353
من أدعيته (عليه السلام) ... 353
الفصل الثاني عشر: الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ... 355
الإمام الهادي (عليه السلام) في سطور... 357
الوالدة المكرمة... 358
هكذا يعلّم أصحابه... 359
من أخلاقه (عليه السلام) ... 359
عمل النبيين والمرسلين (عليهم السلام) ... 360
دعاء لقضاء الحوائج... 360
تسبيح الإمام (عليه السلام) ... 360
التطهر بالماء البارد... 361
ص: 466
في كثرة علومه (عليه السلام) ... 361
سؤال قيصر الروم... 362
ما يجمع خير الدنيا والآخرة... 362
في معرفة الباري عزّوجلّ... 362
من كراماته (عليه السلام) ومعاجزه... 366
ثلاث وسبعون لساناً... 366
جنود الإمام (عليه السلام) ... 367
استجابة دعائه (عليه السلام) ... 368
يأتيك غداً... 368
الطيور ومعرفتها بالإمام (عليه السلام) ... 369
تُكفى إن شاء اللّه... 370
سحتك اللّه... 371
مع المتوكل العباسي... 371
خان الصعاليك... 373
في شهادته (عليه السلام) مسموماً... 373
درر من كلماته (عليه السلام) ... 374
النعم متاع... 374
الدنيا سوق... 374
لا ترض عن نفسك... 375
مصيبة الجازع... 375
دع الهزل... 375
لذة النوم والأكل... 375
ذكر الموت... 375
إيّاك والحسد... 375
من هو صديقك... 376
ص: 467
لا تكن سفيها... 376
بين الدنيا والآخرة... 376
الناس في الدنيا... 376
أجمل من الجميل... 376
الظن السوء... 376
من مساوئ المراء... 377
الغضب عجز أو لؤم... 377
شكر النعم... 377
من أسباب التكبر... 377
سخط الخالق... 377
لعدم النسيان... 378
الفصل الثالث عشر: الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) ... 379
الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في سطور... 381
علومه الكثيرة... 383
عبادته (عليه السلام) وزهده... 384
ما للعب خلقنا 385
هذا هو الزهد... 385
عبادته (عليه السلام) في السجن... 386
بعض أدعيته (عليه السلام) ... 386
من معاجزه وكراماته (عليه السلام) ... 387
بين السباع... 387
بساط الأنبياء (عليهم السلام) ... 388
الزم ما حدّثتك به نفسك... 389
ترى ما تحب... 390
القلم والقرطاس... 390
ص: 468
سيكون لي ولد... 390
في شهادته (عليه السلام) مسموماً... 391
اللحظات الأخيرة... 392
درر من كلماته (عليه السلام) ... 393
لا تمازح... 393
من التواضع... 394
أورع الناس... 394
من أنس باللّه... 394
الاعتدال في كل شيء... 394
خير الأخوان... 395
مفتاح الخبائث... 395
تحصن بالذكر الجميل... 395
الموت يأتي بغتة... 395
ما هي العبادة... 395
لا تغضب... 396
أقل الناس راحة... 396
الموعظة في السر... 396
شر من الموت... 396
خير إخوانك... 396
الجهل خصم... 397
لا تمدح من لا يستحق... 397
الشاكر العارف... 397
لا تسأل الناس حاجة... 397
من كتاباته (عليه السلام) ... 398
شيعتنا الفرقة الناجية... 398
ص: 469
ولاية الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ... 398
الفصل الرابع عشر: الإمام المهدي المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)... 403
الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في سطور... 405
الولادة المباركة... 406
صفاته وشمائله (عليه السلام) ... 414
أنا بقيّة اللّه في أرضه... 416
القرآن الكريم والمهدي المنتظر (عليه السلام) ... 417
روايات في الإمام المهدي (عليه السلام) ... 418
اسمه اسمي... 418
على سيرة الرسول (عليه السلام) ... 419
خروج الإمام حتمي... 420
أفضل الأعمال انتظار الفرج... 420
حزن آل محمد (عليهم السلام) ... 421
الخير كلّه... 422
الامتحان الإلهي... 422
من سره أن يكون من أصحاب القائم... 422
من صفات أصحابه... 423
لا تنكروا الغيبة... 423
الحزن في غيبته (عليه السلام) ... 424
البشارة بالمهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)... 425
المهديّون من صلب علي (عليه السلام) ... 425
المهدي من ولدي... 426
غيبة طويلة... 426
خاتم الأوصياء... 426
عيسى (عليه السلام) يصلّي خلفه... 427
ص: 470
سنن الأنبياء... 427
طول العمر... 427
المؤيّد بالنصر... 428
طول الغيبة... 428
طوبى لشيعتنا... 429
قصيدة دعبل... 429
الثالث من ولدي... 430
الحجّة من آل محمد... 431
إنه سمّي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ... 431
روايات عن طريق أهل السنة... 432
درر من كلماته وتوقيعاته (عليه السلام) ... 435
من كانت له حاجة... 435
سؤال وشك في الجواب... 437
ردّه (عليه السلام) على الغلاة... 439
أنا في التقية... 440
الصلاة في وقتها... 442
والخلق بعد صنائعنا... 442
من أدعيته (عليه السلام) ... 444
خاتمة... 446
فهرس المحتويات... 447
ص: 471
أحاديث ومعجزات المعصومين
من معاجز المعصومين عليهم السلام
لقاء الموعود
الأربعون حديثا
المحاضرات
الجزء الثالث
والدة آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
ص: 1
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد فمن المباحث المهمّة المطروحة في سيرة الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) هي مسألة معجزاتهم التي أقاموها على أحقّانيّتهم في دعواهم، فمثل هذه المعجزات كانت ومازالت محطّ أنظار وتعجّب البشر، فهي من جانب يعجز الناس العاديون عن المجيء بمثلها.
ومن جانب آخر هي شاهد صدق على مدّعاهم وكرامتهم عند اللّه تعالى، وإلا فمن المحال على الإنسان العادي أن يأتي بمثل ما أتى به الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام) من معاجز خارقة.
بل إنّ المعجزات علامة دعم وتأييد السماء لمن يأتي بها، لذا كان الناس يطالبون مدّعي النبوة - بل حتى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) - بالمعجزة البيّنة الدالة على صدقهم في مدّعاهم، فإن أقاموا لهم المعجزات صدّقوهم وآمنوا بهم واتبعوهم في دعاويهم، وإن لم يأتوا بالمعاجز أو كان ما أتوا به غير خارق للعادة ردّوا دعواهم وكذّبوهم.
بالطبع المجيء بالمعجز غير مقتصر على طلب التصديق بالدعوى، بل
ص: 7
أحيانا يكون المعجز داعياً لتثبيت العقائد ودفع الشبهات وبيان المكانة والمقام عند اللّه عزّ وجلّ، ولذا كان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) يأتون بالمعاجز بين الفترة والأخرى.
نعم ليس من دأب الأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام) الاعتماد على المعاجز في كل دعاويهم، بل عادة ماكانوا يتكلون على الأمور الطبيعية ويأخذون بالأسباب ويتفادون الأمور غير الطبيعية في حياتهم وسيرتهم، ولكن هذا لايمنع من إقامتهم للمعجزات عند وقت الحاجة.
وفي هذا الكتاب خصصنا البحث عن معاجز الأئمة الأطهار (عليهم السلام) التي ظهرت منهم في حياتهم لما في هذه المعاجز من بيان مقاماتهم الرفيعة عند اللّه عزّ وجلّ وكرامتهم عليه، وإظهار أحقّانيّتهم في الإمامة وأنّهم امتداد النبوة الخاتمة التي جاء بها سيد المرسلين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
علاوة على ذلك بيان المعاجز له دور كبير في توطيد العلقة بين الناس والأئمة (عليهم السلام) ، لإدراكهم أنّهم يتبعون أناس لهم مقامات رفيعة عند اللّه لايشاركهم بها أحد من الأولين ولا الآخرين.
وقبل أن نستعرض معاجز الأئمة الأطهار (عليهم السلام) لابأس أن نذكر بعض الأمور حول المعجزة، فنقول: المعجزة لغة: هي الأَمرُ الخارقُ للعادةِ يُظهره اللّه على أَيدي أنبياءه وأوصيائه.
سؤال مهم يُطرح في مباحث العقائد وفي كثير من البحوث الفكرية والفقهية وغيرها، والجواب على هذا السؤال يحل كثيراً من الإشكالات لدى
ص: 8
الناس، فلماذا يزوّد اللّه تعالى أنبيائه وأوصيائه (عليهم السلام) بالمعجزات؟ وما هي الدواعي لذلك؟ وفي جواب السؤال نقول: المعجزة هي علامة خارقة خارجة عن المألوف والمعتاد تدل على صدق الأنبياء والأوصياء في مدّعاهم، وهي تحدّي قاطع لمخالفي الأنبياء والأوصياء ممّن يشككون في دعاواهم.
بالطبع لابد في المعجزة من التحدّي والشواهد على ذلك كثيرة، ومنها أنّ القرآن تحدّی المشركين علانية ودعاهم أن يأتوا بسورة، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٖ ظَهِيرًا}(1).
وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَٰبٖ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(2).
وقال عزّ وجلّ: {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٖ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٖ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(3).
وقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٖ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(4).
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٖ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(5). ولايخفى أنّ كثيراً من عامة الناس فضلاً
ص: 9
عن علمائهم وسادتهم وكبارهم لما يشاهدون معاجز الأنبياء (عليهم السلام) وتحدّيهم لهم بأمر خارق للعادة يسلّمون أمامهم وتبطل حججهم وتدحض دعاويهم ماخلا بعض المعاندين ممّن يجحدون بالمعاجز وقلوبهم مستيقنة بها. من جانب آخر للمعجزات شرائط، واللّه سبحانه وتعالى يدعم الأنبياء والأوصياء بالمعاجز تصديقاً لهم، علماً أنّ المعاجز لا تتعلق بزمان مخصوص، ولا ببقعة معيّنة، ولا يستعين صاحبها بآلة ولا أداة، وإنّما يظهرها اللّه عزّ وجلّ على يده عند دعائه ودعواه.
هناك عدّة فوارق بين المعجزة والسحر، ومنها:
1- أنّ المعجزة خارقة للعادة: أي إنّها تأتي مخالفة لقوانين الكون، فهي من اللّه تعالى، وأمّا السحر فإنّه يحدث بحسب قوانين يمكن تعلّمها فهو من الساحر.
2- المعجزة لا ينتج عنها إلا الخير، أمّا السحر فلا يصدر منه الخير.
3- المعجزة لا يمكن إبطالها، أمّا السحر فإنّه يمكن إبطاله، ومعلوم أنّ السحر لا يتم إلا بالاستعانة بالشياطين.
4- المعجزة تجري على يد النبي والإمام (عليه السلام) ، وهو خير الناس علماً وعملاً وخلقاً، والسحر يجري على يد الساحر، وهو شرّ الناس علماً وعملاً وخلقاً، والنفوس تنفّر منه ومن صاحبه.
5- المعجزة ليس لها سبب، ولهذا لا يستطيع غير النبي والإمام (عليهما السلام) أن يأتي بمثلها، أمّا السحر فله أسباب معروفة، وهي الطلاسم والشعوذة وتسخير
ص: 10
الجن وما شابه التي تقال وتكتب ويستعان فيه بالجن، فكل من تعلّم ذلك وفعله حصل له ما يريد من السحر، أمّا المعجزة فلا تستفاد بالتعلّم والتجربة.
6- أنّ السحر لا يحصل إلا بالتعليم والتلمذة، والمعجزة ليست كذلك.
7- أنّ السحر لا يكون موافقاً لمطالب الطالبين، بل مخصوص بمطالب معيّنة محدودة، والمعجزة موافقة لمطالب الطالبين وليس لها مطالب مخصوصة.
8- أنّ السحر مخصوص بأزمنة معيّنة أو أمكنة معيّنة أو شرائط مخصوصة، والمعجزة لا تعيّن لها بالزمان ولا بالمكان ولا بالشرائط.
9- أنّ السحر قد يتصدّى بمعارضة ساحر آخر إظهارا لفخره، والمعجزة لا يعارض لها آخر.
10- أنّ السحر يحصل ببذل جهد في الإتيان به، والمعجزة ليس فيها بذل الجهد والمشقّة وإن ظهرت ألف مرّة.
11- أنّ الساحر لا يأمر إلا بما هو خلاف الشرع والملّة، وصاحب المعجزة لا يأمر إلا بما هو موافق له إلى غير ذلك من وجوه المفارقة.
هناك شبهة تثار بين بعض الناس مفادها: إذا كانت المعاجز مختصّة بالأنبياء بماذا نفسّر بعض الأعمال الغريبة التي تصدر من البعض، كأن يطوي الإنسان الأرض بلحظات، ويتنقّل بين البلدان، ويقطع المسافات الطويلة، أو يشافي مريضاً عجز الأطباء عن علاجه، أو يوجد ضالة إنسان فقدها في بلد آخر؟
ص: 11
وفي جواب السؤال نقول: الفرق بين المعجزة والكرامة في عدّة جهات ومنها:
أنّ الاِتيان بالعَمَلِ الخارق للعادة الذي يقترن مع دعوى النبوّة، ويتّفق مع الادّعاء، يسمّى (معجزة)، وأمّا إذا صدر العملُ الخارقُ للعادة من عبدٍ للهِ صالحٍ لم يَدَّعِ النبوّةَ سُمِيّ (كرامة).
ولا عجب في أنّ عباد اللّه الصالحين من غير الأنبياء قادرون على الإتيان بالأعمال الخارقة للعادة، كما يشهد بذلك القران الكريم في عدّة مواطن, منها:
1- حادثة نزول مائدة سماويّة على السيدة مريم أ ُمّ النبي عيسى (عليه السلام) , حيث أخبر القرآن الكريم عن هذا الحدث, فقال في شأن مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا}(1).
2- حادثة انتقال عرش بلقيس ملكة سبأ في سرعة خاطفة من اليمن إلى فلسطين على يد وصي النبي سليمان (آصف بن برخيا), فكذلك أخبر القرآن عن هذه الحادثة, فقال في شأن آصف بن برخيا: {قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(2).
ومن دون شك وريب أنّ اللّه سبحانه هو المتصرّف في المكان والزمان على حدّ سواء، فهو يطوي الأرض لأوليائه، ويعرج بنبيّه إلى سدرة المنتهى، وغيرها... ويرجعه في جزء يسير من ليلة مباركة، ويطوي السماء كطيّ
ص: 12
السجلّ للكتب، ويقارب بين مكانّي عرش بلقيس، وعرش سليمان، حتى يجرّ آصف بن برخيا عرشها إليه، ويصبح في بيت المقدس، بعد أن كان في اليمن، كما أنّ اللّه تعالى يمد الأرض، ويسطحها، ويجعل الجبال كالعهن المنفوش ووو... .
فإذا اخذنا ذلك كلّه بعين الاعتبار , وأنّ مريم (عليها السلام) ليست من الأنبياء ومع ذلك جرى معها ما هو خارق للعادة... وأنّ آصف بن برخيا أيضاً ليس بنبي ومع ذلك جرى معه ما هو خارق للعادة, فمن باب أولى حصول ذلك كلّه مع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) , ألا ترى أنّ اللّه عزّ وجلّ يقول في شأن آصف: {قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ}, ف- (آصف بن برخيا) كان وزيرا لسليمان, وعنده علماً من الكتاب, وكان عنده أيضاً اسم اللّه الأعظم على ما قيل, واستطاع من خلال ذلك, التصرّف في التكوينات حتى بعرش ملكة سبأ في أقل من طرفة عين، فإذا كان هذا ثابت لوزير نبي اللّه سليمان, فما ظنّك بأهل البيت (عليهم السلام) , الذين هم أفضل من جميع الأنبياء ما خلا نبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) , فإنّهم أفضل وأعظم في ولايتهم, فكما أنّ (آصف بن برخيا)، استخدم ولايته بما عنده من اسم اللّه الأعظم, فكذلك أئمتنا (عليهم السلام) حسبما وردت من أحاديث مأثورة وشواهد تدل على أنّه كان عندهم اسم اللّه الأعظم, وخصوصاً أنّ الأحرف التي عندهم من اسم اللّه الأعظم أكثر من الأحرف التي كانت عند آصف بن برخيا، كما ورد في الحديث الشريف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنّ اسم اللّه الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً، وإنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثم عادت الأرض كما كانت، أسرع من طرقة عين، ونحن عندنا من
ص: 13
الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفا، وحرف واحد عند اللّه استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم(1).
ثم إنّ وصي سليمان (آصف بن برخيا) عنده بعض من علم الكتاب, كما هو واضح في قوله تعالى: {قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ}, حيث وصف علمه الذي ورثه من سليمان بأنّه علم من بعض الكتاب, أيّ بعض من القرآن; إذ الكتاب هو القرآن الشامل لكلّ الكتب... ومنه يتضح أنّ الكتاب له وحدة واحدة وهو القرآن، أي: أنّ المعارف السماوية وحقائقها كلّها أودعت في القرآن الكريم، وإذا كان آصف بن برخيا قد علم بعض حقائق القرآن فكيف بمَن أُحيط بعلمه كلّه ظاهراً وباطناً وهو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه الحجج المعصومين من أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) ؟
لايخفى أنّ هناك عدة فوارق بين المعجزات والشبعذة وأضرابها، منها:
1- أنّ المعجزة لا تكون إلا على يد رسول أو وصي رسول، والشعبذة تظهر على يد وضعيّي الناس، فإذا بحث الناس عن أسبابها وجدوها جوفاء، بخلاف المعجزة فهي لا تزداد إلا ظهور صحة لها، ولا تنكشف إلا عن حقيقة فيها.
2- أنّ المعجزة ربما لم يعلم - من تظهر عليه - مخرجها وطريقها، وكيف تتأتّى وتظهر. والشعبذة إنّما يهتدي صاحبها إلى أسبابها، ويعلم أنّ من شاركه فيها أتى بمثل ما أتى هو به.
3- أنّ المعجزة يجري أمرها مجرى ما ظهر في عصا موسى - على نبينا
ص: 14
وعليه السلام - من انقلابها حيّة تسعى حتى انقادت له السحرة. والشعبذة تلتبس على أكثر الحاضرين.
4- أن المعجزة تظهر عند دعاء الرسول أو الوصي ابتداءا من غير تكلّف آلة وأداة وإنها تتحقق بمجرّد أن يدعو لله تعالى أن يفعل ذلك.
والشعبذة مخرقة وخفّة يد تظهر على أيدي بعض المحتالين بأسباب مقدّرة لها، وحيل متعلّمة أو موضوعة، ويمكن المساواة فيها، ولا يتهيأ ذلك إلا لمن عرف مبادئها، ولابد له من آلات يستعين بها في إتمام ذلك ويتوصّل بها إليه.
5- المعجزة أمر يتعذّر على كل من في العصر مثله عند التكلّف والاجتهاد على المشعوذين، فضلا عن غيرهم، كعصا موسى الذي أعجز السحر أمره مع حذقهم في السحر وصنعته.
والشعوذة مخرقة وخفّة تظهر على أيدي المحتالين بأسباب مقدرة تخفى على قوم دون قوم.
6- المعجزة تظهر على أيدي من عرف بالصدق والصيانة والصلاح والسداد، والشعوذة تظهر على أيدي المحتالين والخبثاء والأرذال.
7- المعجزة يظهرها صاحبها متحدّياً، ودلائل العقل توافقها على سبيل الجملة ويباهي بها جميع الخلائق، ولا تزيده الأيام إلا وضوحاً، ولا تكشف الأوقات إلا عن صحته.
بما أنّ البحث معقود لبيان معاجز أهل البيت (عليهم السلام) فجدير بنا أن نشير إلى
ص: 15
نبذة مختصرة عن الولاية التكوينية، فإنّ كثيراً من معاجز أهل البيت (عليهم السلام) كانت من خلال ولايتهم التكوينية وخضوع الكون لهم لذا ولكي يستتبّ البحث نبيّن بعض الحقائق عن الولاية التكوينية، فنقول:
بغضّ النظر عن المعنى اللغوي للولاية التكوينية فإنّ هذه المفردة لم ترد في القرآن الكريم، أو في الأحاديث الشريفة لنبحث عن تفسير خاص لها في ضوء النصوص الشريفة، وإنّما هي اصطلاح استعمله العلماء، بل ذكر البعض أنّه لا وجود لهذا المصطلح إلاّ في كلمات المتأخّرين.
ومن الملاحظ للمتتبّع لأقوال العلماء، الذين تداولوا هذا المصطلح، أنّهم اختلفوا في تفسيره لدرجة أنّه إذا قرأنا أو سمعنا عن أحدهم إنكاره للولاية التكوينيّة، وعن آخر إثباته لها، فإنّ هذا لا يعني كونهما مختلفين، فقد يكون لكلٍّ منهما تفسيرٌ للولاية التكوينيّة يختلف عن تفسير الآخر، مع اتفاقهما في المضمون.
وبما أنّه ليس الهدف في هذا المقام إحصاء تفسيرات الولاية التكوينيّة المتعدِّدة، فإنّا نكتفي منها بعرض المعنى الأكثر شهرة من بين التفاسير وهو: ولاية التصرّف في الكون، والمقصود من كون النبيّ أو الإمام له ولاية التصرُّف في التكوين، أي أنّ اللّه تعالى أفاض عليه نوعًا من السلطة على إحداث أمورٍ لا تحدث في العادة، كإبراء المرضى بمجرّد المسح عليهم، وإحياء الموتى، وتسخير الريح لتنقل له ما يريد، وهكذا.
أمّا الأدلة على أنّ أهل البيت (عليهم السلام) لديهم الولاية التكوينية:
1- أنّ مثل آصف بن برخيا الذي لديه علم من الكتاب لديه القدرة أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يرتد الطرف، وأهل البيت (عليهم السلام) لديهم علم
ص: 16
الكتاب كلّه فمن المسلّم أنّهم لديهم تلك الولاية والقدرة على التصرّف بالكون.
2- في الخبر عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبداللّه (عليه السلام) وأبي جعفر (عليه السلام) ، وقلت لهما: أنتما ورثة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟
قال (عليه السلام) : نعم.
قلت: فرسول اللّه وارث الأنبياء علم كلما علموا؟
فقال لي (عليه السلام) : نعم.
قلت: أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرئوا الأكمه والأبرص؟ فقال لي (عليه السلام) : نعم بإذن اللّه.
ثمّ قال (عليه السلام) : أدن منّي يا أبا محمّد، فمسح يده على عيني ووجهي، وأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شي ء في الدار. قال (عليه السلام) : أتحبّ أن تكون هكذا، ولك ما للنّاس وعليك ما عليهم يوم القيامة، أو تعود كما كنت ولك الجنّة خالصاً؟». قلت: أعود كما كنت، قال: فمسح على عيني فعدت كما كنت، قال علي: فحدّثت ابن أبي عمير، فقال: أشهد أنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حقّ(1).
3- قدرتهم على مايريدون: وهناك الكثير من الروايات تؤكد أنّ اللّه تعالى أعطى الأئمة (عليهم السلام) قدرة يستطيعون أن يفعلوا من خلالها كل ما يريدون.
وهذه الروايات جاءت بتعبيرات متعدّدة، نذكر منها:
ص: 17
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنّ اللّه أقدرنا على ما نريد من خزائن الأرض، ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمّتها لسقناها(1).
وعن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال: إنّ اللّه يقول في كتابه {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ}(2) وفقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فعندنا مايُسيّر به الجبال وتُقطع به البلدان وتُحيى به الموتى بإذن اللّه ونحن نعرف ما تحت الهواء وإن كان، وإنّ في كتاب اللّه لآيات ما يُراد بها أمر إلا من الأمور التي أعطاها اللّه الماضين التبيين والمرسلين إلا وقد جعله اللّه ذلك كله لنا في أمّ الكتاب(3).
والروايات بمجموعها مع ملاحظة اشتمالها على روايات صحيحة السند تدل على ثبوت مثل هذه القدرة للأنبياء والأولياء وعلى رأسهم النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) .
ص: 18
هو محمد بن عبداللّه بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي ابن كلاب ابن مرّة ابن كعب ابن لؤي ابن غالب ابن فهر ابن مالك ابن النضر ابن كنانة ابن خزيمة ابن مدركة ابن إلياس ابن مضر ابن نزار ابن معد ابن عدنان، وفي الخبر أنه ص قال: إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا(1).
والده: عبداللّه أحد الذبيحين وقصّته مشهورة، توفّي في المدينة ودفن في دار النابغة الجعدي(2) وعمره على قول ثمان وعشرون قبل أن يولد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
ولا يخفى أنّ آباء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جميعهم كانوا مؤمنين، وقد استدل لذلك بأكثر من دليل منها قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى
ص: 19
أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم، ولم يدنسني بدنس الجاهلية(1)، مع الإلتفات إلى أنّ الكافرين نجس كما في الآية المباركة(2).
ومنها أيضاً قوله تعالى: {ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ}(3)، وفي الحديث عن ابن عباس في بيان معنى الآية، قال: من نبي إلى نبي ومن نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً(4).
وفي الخبر عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال: واللّه ما عبد أبي، ولا جدّي عبدالمطلب، ولا هاشم، ولا عبد مناف صنماً قط، قيل: وماكانوا يعبدون؟
قال (عليه السلام) : كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم (عليه السلام) متمسكين به(5).
والدته: آمنة بنت وهب الكلابية وهي من السيدات الشريفات ذات مقام عظيم ويكفي في بيان منزلتها أنّها حازت شرافة الولادة بالنبي (عليهما السلام) وأمومته فيشملها حديث الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهّرة، فضلاً عن كونها زوجة لعبداللّه والد النبي الذي تسابقت النساء للزواج منه.
وقد ترحّم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليها وزار قبرها وبكاها، ومن المستحبات الواردة في أعمال المدينة المنورة هي زيارة قبرها والدعاء عنده.
الولادة: اتفقت الإمامية إلا من شذّ منهم على أنّ ولادة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول عند طلوع الفجر عام الفيل،
ص: 20
بمكة المكرمة، في شعب أبي طالب في الدار التي اشتراها محمد بن يوسف أخو الحجاج أحد ورثة عقيل بن أبي طالب بمائة ألف دينار، ثم حولتها أُمّ الرشيد (الخيزران) إلى مسجد يصلي فيه الناس ويزورنه ويتبركون به(1) إلى أن هدمه الوهابيون وجعلوه مربطاً للدواب، وقد رافقت ولادته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علامات كثيرة أشار إليها الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) في حديث له(2).
ألقابه: نقل المجلسي (رحمه اللّه) في البحار باب أسمائه وألقابه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّ الباري تعالى سمّاه في القرآن بأربعمائة اسم ثم ذكرها، منها العالم، الحاكم، الخاتم، العابد، الساجد، الشاهد، المجاهد، الطاهر، الشاكر، الصابر، الذاكر، القاضي، الراضي، الداعي، الهادي، القارئ، التالي، الناهي، الآمر، الصادع، الصادق، القانت، الحافظ، الغالب، العائل، الضال، الكريم، وغيرها من الأسماء الأخرى التي المذكورة في القرآن الكريم مع بيان الآيات الدالة عليها(3).
كناه: أبو القاسم، وأبو الطاهر، وأبو الطيب، وأبو المساكين، وأبو الدرتين، وأبو الريحانتين، وأبو السبطين، وفي التوراة كنيته أبو الأرامل، وكنّاه جبرئيل بأبي إبراهيم لولده إبراهيم، وقد كني (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأبي القاسم لولده القاسم، وقيل: لأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقسم الجنة يوم القيامة.
صفته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : في الحديث عن الإمام الحسن (عليه السلام) ، قال: هذه صفة جدّي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثّ اللحية، عريض الصدر، طويل العنق، عريض الجبهة،
ص: 21
أقنى(1) الأنف، أفلج(2) الأسنان، حسن الوجه، قطط الشعر، طيّب الريح، حسن الكلام، فصيح اللسان(3)، وفي الخبر: أنّ بعضهم قال لأميرالمؤمنين (عليه السلام) : يا علي صف لنا نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كأننا نراه، فإنّا مشتاقون إليه؟ فقال (عليه السلام) : كان نبي اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبيض اللون، مشرباً حمرة، أدعج(4) العين، سبط(5) الشعر، كثّ اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة(6)، كإنّما عنقه إبريق فضّة، يجري في تراقيه الذهب، له شعر من لبته(7) إلى سرته كقضيب خيط إلى السرة، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدمين، شثن(8) الكعبين، إذا مشى كإنّما ينقلع(9) من صخر، إذا أقبل كإنّما ينحدر من صبب، إذا التفت التفت جميعاً بأجمعه كلّه، ليس بالقصير المتردّد، ولا بالطويل الممّعط(10)، وكان في الوجه تدوير، إذا كان في الناس غمرهم، كإنّما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرقه أطيب من ريح المسك، ليس بالعاجز ولا
ص: 22
باللئيم، أكرم الناس عشرة، وألينهم عريكة(1)، وأجودهم كفّاً، من خالطه بمعرفة أحبّه، ومن رآه بديهة هابه، عزه بين عينيه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى اللّه عليه وآله وسلم تسليماً(2).
بوّابه: أنس بن مالك، الذي كتم حديث الغدير حينما ناشد أميرالمؤمنين (عليه السلام) كل من سمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم الغديرأن يقوم ويشهد له، فلم يقم أنس مدّعياً أنه كبر ونسى، فدعا عليه أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالبرص فابتلي به، حتى أنه آلى على نفسه بعد ذلك أن لا يكتم حديثاً في فضائل الإمام علي (عليه السلام) .
وقد أشار إلى هذه القضية الزاهي(3)
في قصيدة له قائلاً:
ذاك الذي استوحش منه أنس***أن يشهد الحق فشاهد البرص
إذ قال: من يشهد بالغدير لي؟***فبادر السامع وهو قد نكص
فقال: أنسيت فقال: كاذب***سوف ترى ما لا تواريه القمص(4)
شاعره: حسّان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري الخزرجي، كان عثمانياً، وهو القائل:
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني***ما كان بين علي وابن عفانا
ضحوا بأشمط(5) عنوان السجود به***يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
ص: 23
لتسمعن وشيكاً في ديارهم***اللّه أكبر يا ثارات عثمانا(1)
ولما عزل أميرالمؤمنين (عليه السلام) قيس بن سعد بن عبادة عن مصر وجاء إلى المدينة جاء إليه حسان شامتاً ومؤنّباً فزجره قيس وأخرجه، وكان حسّان جباناً، وقد مدح أمير المؤمنين (عليه السلام) في أول أمره ولكنّه تخلّف عنه في النهاية، ومنه يظهر سر تقييد دعاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له حيث قال: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما دمت ناصرنا.
خاتمه: في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتختّم بيمينه(2)، وفي خبر آخر قال (عليهم السلام) : كان خاتم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من ورق(3).
مختصّاته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : هناك مجموعة من المختصّات التي اُختصّ بها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دون سواه ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية نشير إليها باختصار وهي:
أولاً: جواز العقد زيادة على أربع.
ثانياً: العقد بلفظ الهبة.
ثالثاً: وجوب تخييره النساء.
رابعاً: تحريم نكاح الإماء عليه بالعقد.
خامساً وسادساً: حرمة الاستبدال بنسائه والزيادة عليهن.
سابعاً: تحريم زوجاته على غيره.
ثامناً: عدم وجوب القسمة بين الأزواج.
ص: 24
تاسعاً: وجوب إجابة المرأة إذا رغب فيها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
عاشراً: وجوب السواك عليه.
الحادي عشر: وجوب الوتر عليه.
الثانّي عشر: وجوب الأضحية عليه.
الثالث عشر: وجوب قيام الليل والتهجّد فيه.
الرابع عشر: تحريم الصدقة الواجبة عليه.
الخامس عشر: تحريم خائنة الأعين عليه: وهي الغمز بها بمعنى الإيماء بها إلى مباح من ضرب وقتل على خلاف ما تشعر به الحال.
السادس عشر: إباحة صوم الوصال له.
السابع عشر: وجوب إنكار المنكر إذا رآه.
الثامن عشر: وجوب مشاورة أصحابه في الأمر.
التاسع عشر: تحريم الخط والشعر عليه.
العشرون: تحريم نزع لامة الحرب إذا لبسها حتى يلقى عدوه ويقاتل.
الحادي والعشرون: تحريم أن يمد عينيه إلى ما متع اللّه به الناس.
الثانّي والعشرون: تفضيل زوجاته على غيرهن.
الثالث والعشرون: جعل زوجاته أمهات المؤمنين.
الرابع والعشرون: تحريم أن يسألهن غيرهن شيئاً إلا من وراء حجاب.
الخامس والعشرون: تحريم رفع صوت غيره عليه ومناداته من وراء الحجرات.
السادس والعشرون: وجوب الصلاة عليه في الصلاة.
السابع والعشرون: أبيح له دخول مكة بغير إحرام خلافاً لأمته.
ص: 25
الثامن والعشرون: أنه كان يبصر وراءه كما يبصر أمامه.
التاسع والعشرون: أنه كان تنام عينه ولا ينام قلبه.
الثلاثون: أن شريعته نسخت سائر الشرائع.
الحادي والثلاثون: أنه خاتم النبيين.
ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته القاصعة قال: لقد كنت معه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له: يا محمد أنّك قد ادّعيت عظيما لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمرا إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب.
فقال لهم: وما تسألون؟
قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك.
فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ اللّه على كل شيء قدير، فإن فعل ذلك بكم أتؤمنون تشهدون بالحق؟
قالوا: نعم.
قال: فإنّي سأريكم ما تطلبون، إنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير، وأنّ فيكم من يطرح في القليب ومن يحزب الأحزاب، ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أيتّها الشجرة إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر وتعلمين إنّي رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن اللّه.
فالذي بعثه بالحق، لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دويّ شديد وقصف
ص: 26
كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رأس رسول اللّه وببعض أغصانها على منكبيّ، وكنت عن يمينه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّاً واستكباراً: فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دوياً فكادت تلتف برسول اللّه.
فقالوا كفراً وعتوّاً: فمرّ هذا النصف فليرجع إلى نصفه، فأمره (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فرجع.
فقلت أنا: لا إله إلا اللّه، إنّي أول مؤمن بك يا رسول اللّه، وأول من آمن بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تصديقاً لنبوتك وإجلالاً لكلمتك.
فقال القوم: بل ساحر كذّاب، عجيب السحر، خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك غير هذا؟! يعنونني(1).
كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في سفر وشكا أصحابه العطش وكانوا بمعرض التلف، فقال: كلاّ إنّ معي ربّى عليه توكلت، ثم دعا بركوة(2) فصبّ فيها ماء ما كان يروى إنسانا واحداً، وجعل يده فيها فنبع الماء من بين أصابعه وصيح في الناس اشربوا، فشربوا وسقوا حتى نهلوا وعلوا - النهل الشرب الأول وقد نهل بالكسر وأنهلته أنا لأن الإبل تسقى في أول الورد فترد إلى العطن ثم
ص: 27
تسقى الثانية وهي العلل فترد إلى المرعى والعطن والمعطن واحد الأعطان والمعاطن وهي مبارك الإبل عند الماء لتشرب علا بعد نهل - وهم ألوف وهو يقول: أشهد أنّي رسول اللّه حقّاً(1)(2).
عن هند بنت الجون قالت: نزل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خيمة خالتها أمّ معبد، فقام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض ومج(3) في عوسجة إلى جانب الخيمة، فأصبحنا وهي كأعظم دوحة(4)، وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون الورس(5) ورائحة العنبر وطعم الشهد، ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا بريء، وما أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا درّ لبنها، وكنّا نسمّيها المباركة، وينتابنا من البوادي من يستشفي بورقها ويتزوّد منها، حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها، واصغر ورقها، ففزعنا فما راعنا إلا نعي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
ثم إنّها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك، من أسفلها إلى أعلاها، وبعدها تساقط ثمرها ذهب، فما شعرنا إلا بمقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فما
ص: 28
أثمرت بعد ذلك، وكنّا ننتفع بورقها، ثم أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط، وقد ذبل ورقها، فبينا نحن فزعون مهمومون إذ أتانا خبر مقتل الحسين (عليه السلام) ، ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت(1).
روي أنّ رجلاً(2) كان في غنمه فأخذ منه الذئب شاة فأقبل يعدو خلفه فطرحها، وقال بلسان عربي فصيح: تمنعني رزقاً ساقه اللّه إليّ؟ فقال الراعي: يا عجباً للذئب يتكلّم.
قال: أنتم أعجب في شأنّكم عبرة للمعتبرين، هذا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يدعو إلى الحقّ ببطن مكة وأنتم عنه لاهون، فأبصر الرجل رشده وهداه اللّه وأقبل إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبقى لعقبة شرفاً وكانوا يُعرفون ببني مكلّم الذئب(3).
روي أنّ أبا جهل اشترى من رجل طارئ(4) من العرب على مكة إبلاً، فبخسه حقّه وثمنه، فأتى نادي قريش فذكّرهم حرمة البيت، فأحالوه على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استهزاءاً به لقلّة منعته(5) عندهم، فأتى محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمضى معه، ودقّ على أبي جهل الباب، فخرج متخوّف القلب، وقال: أهلا ًيا أبا القاسم - قول الذليل - .
ص: 29
فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أعط هذا الرجل حقّه. فأعطاه في الحال. فعيّره قومه، فقال: رأيت ما لم تروا، رأيت فالجاً(1) لو أبيت لابتلعني. فعلموا أنه صدق بما أخبرهم، لبغضه له(2).
كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخطب عند جذع شجرة، وذلك في مسجده بالمدينة حيث كان يستند إليه فيخطب الناس، ولما كثر الناس اتخذوا له منبراً، فلما صعده حنّ الجذع حنين الناقة التي فقدت ولدها، فنزل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضمّه إليه، فكان يئن أنين الصبي الذي يسكت(3).
روي أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما هاجر من مكة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبد اللّه بن اُريقط الليثي، فمروا على أمّ معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة(4) تحتبي وتجلس بفناء الخيمة، فسألوا تمراً ولحماً ليشتروه، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وإذا القوم مرملون(5)، فقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، فنظر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كسر خيمتها فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :
ص: 30
ما هذه الشاة يا أمّ معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم.
فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك.
قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أتأذنين في أن أحلبها؟
قالت: نعم بأبي أنت وأمّي إن رأيت بها حلباً فاحلبها. فدعا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم اللّه وقال: اللّهم بارك في شاتها فتفاجّت(1) ودرّت، فدعا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإناء لها يريض الرهط(2) فحلب فيه ثجا(3) حتى علته الثمال(4)، فسقاها فشربت حتى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتى رووا، فشرب (عليه السلام) آخرهم وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ساقي القوم آخرهم شرباً، فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل حتى أراضوا، ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء، فغادوا عندها ثم ارتحلوا عنها. فقلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق عنزاً عجافاً مزلاً ومخاجهن قليل، فلما رأى اللبن قال: من أين لكم هذا والشاة عازب ولا حلوبة في البيت؟
قالت: لا واللّه، إلا أنّه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت(5).
روي أنّ سراقة بن جعشم الذي تبع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو متوجّه إلى المدينة طالبا لغرته ليحظى بذلك عند قريش، حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه،
ص: 31
وأيقن أن قد ظفر ببغيته، ساخت قوائم فرسه، حتى تغيّبت بأجمعها في الأرض، وهو بموضع جدب وقاع صفصف(1)، فعلم أنّ الذي أصابه أمر سماوي، فنادى: يا محمد أدع ربك يطلق لي فرسي وذمة اللّه علي أن لا أدل عليك أحداً. فدعا له فوثب جواده كأنه أفلت من أ ُنشوطة، وكان رجلاً داهية وعلم بما رأى أنه سيكون له نبأ، فقال: اُكتب لي أماناً، فكتب له فانصرف، قال محمد بن إسحاق: إنّ أبا جهل قال في أمر سراقة أبياتاً فأجابه سراقة:
أبا حكم واللاّت لو كنت شاهداً***لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأنّ محمداً***نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
عليك بكفّ الناس عنه فإنّني***أرى أمره يوماً ستبدو معالمه(2)
روي أنّ قوماً شكوا إليه ملوحة مائهم وأنّهم في جهد من الظمأ وبعد المناهل، وأن لا قوة لهم على شربه، فجاء معهم في جماعة أصحابه حتى أشرف على بئرهم فتفل فيها ثم انصرف، وكانت مع ملوحتها غائرة، ثم انفجرت بالماء العذب الفرات، فها هي يتوارثها أهلها ويعدونها أسنى مفاخرهم وأجل مكارمهم، وأنّهم لصادقون. وكان ممّا أكد اللّه به صدقه، أنّ قوم مسيلمة سألوه مثلها لما بلغهم ذلك، فأتى بئراً فتفل فيها فعادت ماؤها ملحاً أجاجاً كبول الحمار، وهي إلى اليوم بحالها معروفة المكان(3).
ص: 32
روي أنّ امرأة أتته بصبي لها ترجو البركة بأن يمسّه ويدعو له، وكانت به عاهة، فرحمها - والرحمة صفته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - فمسح يده على رأس الصبي فاستوى شعره، وبرئ داؤه، وبلغ ذلك أهل اليمامة فأتت مسيلمة امرأة بصبي لها فمسح رأسه فصلع وبقي نسله إلى يومنا هذا صلعاً(1).
روي أنّ ناقة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) افتقدت فأرجف المنافقون، فقالوا: يخبرنا بأسرار السماء ولا يدري أين ناقته. فسمع (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك فقال: إنّي وإن أخبركم بلطائف السماء لكنّي لا أعلم من ذلك إلا ما علمني اللّه.
فلما وسوس إليهم الشيطان بذلك دلّهم على حالها، ووصف لهم الشجرة التي هي متعلّقة بها، فأتوها فوجدوها على ما وصف قد تعلّق خطامها(2) بشجرة أشار إليها(3).
نقل جابر بن عبداللّه الأنصاري: أنّ بعيراً شكى إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عند رجوعه إلى المدينة من غزوة بني ثعلبة، فقال: أتدرون ما يقول هذا البعير؟
قال جابر: قلنا: اللّه ورسوله أعلم. قال: فإنّه يخبر في أنّ صاحبه عمل عليه حتى إذا أكبره وأدبره(4) وأهزله أراد نحره وبيعه لحماً، يا جابر إذهب معه
ص: 33
إلى صاحبه فأتني به.
قال: قلت: واللّه ما أعرف صاحبه. قال: هو يدلّك. قال: فخرجت معه حتى انتهيت إلى بني حنظلة أوبني واقف، قلت: أيّكم صاحب هذا البعير؟
قال بعضهم: أنا، قلت: أجب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فجئت أنا وهو والبعير إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: بعيرك هذا يخبرني بكذا وكذا. قال: قد كان ذلك يا رسول اللّه. قال: فبعنيه.
قال: هو لك. قال: بل بعنيه فاشتراه منه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم ضرب على صفحته فتركه يرعى في ضواحي المدينة، فكان الرجل منّا إذا أراد الروحة والغدوة منحه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . قال جابر: فرأيته وقد ذهبت دبرته ورجعت إليه نفسه(1).
أنّ أبا جهل عاهد اللّه أن يفضخ رأسه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بحجر إذا سجد في صلاته، فلما قام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلي وسجد - وكان إذا صلّى صلّى بين الركنين: الأسود واليمانّي وجعل الكعبة بينه وبين الشام - فحمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منتقعاً(2) لونه مرعوباً، قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده وقام إليه رجال من قريش، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: عرض لي دونه فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فهم أن يأكلني(3).
ص: 34
روي أنّ رجلاً أتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إنّي خرجت وامرأتي حائض ورجعت وهي حبلى! فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من تتهم؟ قال: فلاناً وفلاناً. قال: ائت بهما. فجاء بهما.
فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إن يكن من هذا فسيخرج قططاً(1) كذا وكذا. فخرج كما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).
روي أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث إلى يهودي يسأله قرض شيء له، ففعل ثم جاء اليهودي إليه، فقال: جاءتك حاجتك؟ قال: نعم، ثم قال: فابعث فيما أردت ولا تمتنع من شيء تريده. فقال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أدام اللّه جمالك.
فعاش اليهودي ثمانين سنة ما رؤي في رأسه طاقة شعر بيضاء(3).
نقلت أسماء بنت أبي بكر، فقالت: لما نزلت (تبت يدا أبي لهب) أقبلت العوراء أمّ جميل بنت حرب ولها ولولة وهي تقول: مذمماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا. والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول اللّه قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك.
فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنها لا ترإنّي وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال، وقرأ:
ص: 35
{وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْأخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا}(1) فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقالت: يا أبا بكر أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا وربّ البيت.
ما هجاك، فولّت وهي تقول: قريش تعلم إنّي بنت سيدها(2).
عن ابن عباس: أنّ ناساً من بني مخزوم تواصوا بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليقتله منهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة، ونفر من بني مخزوم، فبينا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائم يصلي إذ أرسلوا إليه الوليد ليقتله، فانطلق حتى انتهى إلى المكان الذي كان يصلي فيه، فجعل يسمع قراءته ولا يراه، فانصرف إليهم فأعلمهم ذلك فأتاه من بعده أبو جهل والوليد ونفر منهم، فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلي فيه سمعوا قراءته وذهبوا إلى الصوت، فإذا الصوت من خلفهم، فيذهبون إليه فيسمعونه أيضاً من خلفهم، فانصرفوا ولم يجدوا إليه سبيلاً، فذلك قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَٰهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}(3)(4).
عن ابن عباس، قال: كان سبب تزويج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخديجة (عليها السلام) ، أنه أقبل
ص: 36
ميسرة - عبدخديجة - وكان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد نزل تحت شجرة، فرآه الراهب، فقال:
من هذا الذي معك؟ فقال: من أهل مكة، قال: فإنّه نبي، واللّه ماجلس في هذا المجلس بعد عيسى (عليه السلام) أحد غيره.
قال: فأقبل إلى خديجة فقال لها: إنّي كنت آكل معه حتى أشبع، ويبقى الطعام، فدعت خديجة بقناع عليه رطب، ودعت أختها هالة، وهي امرأة أبي العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد الشمس، ودعت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص منه شيء(1).
عن أبي عوف، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فألطفني، وقال: إنّ رجلاً مكفوف.
البصر أتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه لي أن يردّ إلي بصري.
قال: فدعا اللّه له، فرد عليه بصره.
ثم أتاه آخر، فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه لي أن يرد علي بصري. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : تثاب عليه الجنة أحب إليك، أم يردّ عليك بصرك؟ فقال: يا رسول اللّه، وإنّ ثوابها الجنة؟! قال: اللّه أكرم من أن يبتلي عبداً مؤمناً بذهاب بصره، ثم لا يثيبه الجنة(2).
ص: 37
روي أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يخرج في الليلة ثلاث مرات إلى المسجد فخرج في آخر ليلة، وكان يبيت عند المنبر مساكين، فدعا بجارية تقوم على نسائه، فقال: إئتيني بما عندكم. فأتته ببرمة ليس فيها إلا شيء يسير، فوضعها.
ثم أيقظ عشرة وقال: كلوا باسم اللّه. فأكلوا حتى شبعوا، ثم أيقظ عشرة، فقال: كلوا باسم اللّه. فأكلوا حتى شبعوا ثم هكذا، وبقي في القدر بقيّة فقال: إذهبي بهذا إليهم(1).
عن الإمام علي (عليه السلام) ، قال: إنّ رجلاً من ملوك فارس عاقلا أديباً، قال: يا محمد أخبرني إلى ما تدعو؟ قال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله.
قال: وأين اللّه يا محمد؟ قال: بكل مكان موجود، وفي غير شيء محدود.
قال: كيف هو؟ وأين هو؟ قال: ليس كيف ولا أين، لأنّه تبارك وتعالى خلق الكيف والأين.
قال: فمن أين جاء؟ قال: لا يقال: من أين جاء، وإنّما يقال: من أين جاء للزائل من مكان إلى مكان، وربنا تعالى لا يزول.
قال: يا محمد أنّك لتصف أمراً عظيماً، بلا كيف، فكيف لي أن أعلم أنه أرسلك؟ فلم يبق بحضرته ذلك اليوم، لا حجر ولا مدر، ولا شجر، ولا سهل، ولا جبل، إلا قال من مكانه: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك
ص: 38
له، وأنّ محمداً عبده ورسوله.
فقال الرجل: وأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله. فقلت أنا: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه.
فقال: يا محمد، من هذا؟ قال: هذا خير أهلي وأقرب الخلق إليّ، لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وروحه من روحي، وهو وزيري في حياتي، وبعد وفاتي، كما كان هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، فاسمع له وأطع، تكن على الحق. ثم سمّاه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : عبد اللّه(1).
روي أنّ ابن الكوا قال للإمام علي (عليه السلام) : بما كنت وصي محمد من بين بني عبد المطلب؟ قال: أدن، ما الخير تريد. لما نزل على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ}(2).
جمعنا رسول اللّه ونحن أربعون رجلاً، فأمرني فأنضجت له رجل شاة، وصاعاً من طعام، أمرني فطحنته وخبزته، وأمرني فأدنيته.
ثم قال: فقال: تقدم علي عشرة عشرة من أجلّتهم. فأكلوا حتى صدروا وبقي الطعام كما كان وإنّ منهم لمن يأكل الجذعة(3) ويشرب
ص: 39
الفرق(1) فأكلوا منها كلّهم أجمعون.
فقال أبو لهب: سحركم صاحبكم، فتفرّقوا عنه.
ودعاهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثانية ثم قال: أيّكم يكون أخي ووصيي ووارثي؟
فعرض عليهم كلّهم، وكلّهم يأبى حتى انتهى إلي وأنا أصغرهم سناً وأعمشهم(2) عيناً، وأحمشهم(3) ساقاً.
فقلت: أنا. فرمى إلي بنعله فلذلك كنت وصيه من بينهم(4).
ص: 40
هو الإمام علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم (عليه السلام) .
وفي الخبر عنه (عليه السلام) : أنا اسمي في الإنجيل إليا، وفي التوراة برئ، وفي الزبور أري(1).
والده: أبو طالب مؤمن قريش، شيبة الحمد.
والدته: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
صفته: كان ربعة من الرجال، أدعج(2) العينين، حسن الوجه، كأنه القمر ليلة البدر، حسناً، ضخم البطن، عريض المنكبين، شئن الكفين(3) أغيد(4) كأن عنقه إبريق فضة، أصلع، كث اللحية، لمنكبيه مشاش(5) كمشاش السبع الضاري، لا يبين عضده من ساعده، وقد أدمجت إدماجا، إن أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه، فلم يستطع أن ينفس، شديد الساعد واليد(6).
ص: 41
ألقابه: لقّبه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأميرالمؤمنين وخصّه بهذا اللقب، ولايجوز هذا اللقلب لغيره حتى لسائر الأئمة (عليهم السلام) .
كنيته المشهورة: أبو الحسن.
نقش خاتمه: الملك لله.
خادمه: قنبر.
كثر المادحون لأميرالمؤمنين (عليه السلام) من المخالفين والموافقين حتى فاق كلامهم حدّ الإحصاء، نشير إلى بعضها ومنها:
1- ماورد عن ابن عباس، قال: سمعت عمر وعنده جماعة فذكروا السابقين إلى الإسلام، فقال عمر: أمّا أنا فسمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول فيه ثلاث خصال لوددت أن تكون لي واحدة منهن وكانت أحب إلي عما طلعت عليه الشمس كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من أصحابه إذ ضرب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على منكب علي (عليه السلام) وقال له: يا علي أنت أول المؤمنين إيماناً، وأول المسلمين إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى(1).
2- قال ابن عباس: علي علم علماً علّمه رسول اللّه، ورسول اللّه علّمه اللّه، فعلم النبي علم اللّه، وعلم علي من علم النبي، وعلمي من علم علي، وما علمي وعلم أصحاب محمد في علم علي إلا كقطرة في سبعة أبحر(2).
3- مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بملأ فيهم سلمان، فقال لهم سلمان: قوموا
ص: 42
فخذوا بحجزة(1) هذا فواللّه لا يخبركم بسرّ نبيكم غيره(2).
4- حذيفة بن اليمان قال: كنا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعلي من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلي مع النبي ليلاً ونهاراً، وقريش يومئذ تسافه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما يذب عنه إلا علي(3).
روي أنّ الإمام علي (عليه السلام) قال يوماً: لو وجدت رجلاً ثقة لبعثت معه بمال إلى المدائن إلى شيعتي. فقال رجل في نفسه: لآتينه ولأقولن: أنا أذهب بالمال، فهو يثق بي، فإذا أخذته، أخذت طريق الشام إلى معاوية.
فجاء إلى علي (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أنا أذهب بالمال.
فرفع رأسه فقال: إليك عنّي، تأخذ طريق الشام إلى معاوية؟!(4).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنبر، إذ أقبل ثعبان من ناحية باب من أبواب المسجد، فهمّ الناس أن يقتلوه، فأرسل أمير المؤمنين (عليه السلام) أن كفّوا فكفّوا، وأقبل الثعبان ينساب حتى انتهى إلى المنبر، فتطاول فسلّم على أمير المؤمنين (عليه السلام) فأشار أمير المؤمنين (عليه السلام) [إليه] أن
ص: 43
يقف حتى يفرغ من خطبته.
فلمّا فرغ من خطبته، أقبل عليه، فقال: من أنت؟ فقال: (أنا) عمرو بن عثمان خليفتك على الجنّ، وإنّ أبي مات وأوصانّي أن آتيك فأستطلع رأيك، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين فما تأمرني به وما ترى؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : أوصيك بتقوى اللّه، وأن تنصرف فتقوم مقام أبيك في الجنّ فإنّك خليفتي عليهم، قال: فودّع عمرو أمير المؤمنين (عليه السلام) وانصرف، فهو خليفته على الجنّ، فقلت له: جعلت فداك فيأتيك عمرو وذاك الواجب عليه، قال: نعم(1).
روى أبو حمزة الثمالي، عن رميلة - وكان ممّن صحب الإمام علي (عليه السلام) - قال: ... وصار إليه نفر من أصحابه فقالوا: إنّ وصي موسى كان يريهم الدلائل والعلامات والبراهين والمعجزات، وكان وصي عيسى يريهم كذلك.
فلو أريتنا شيئاً تطمئن إليه وبه قلوبنا؟
قال: إنكم لا تحتملون علم العالم ولا تقوون على براهينه وآياته. وألحوا عليه.
فخرج بهم نحو أبيات الهجريين حتى أشرف بهم على السبخة، فدعا خفياً، ثم قال: اكشفي غطاءك. فإذا بجنات وأنهار في جانب، وإذا بسعير ونيران من جانب.
فقال جماعة: سحر، سحر.
ص: 44
وثبت آخرون على التصديق ولم ينكروا مثلهم، وقالوا: لقد قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار(1).
عن جابر بن عبد اللّه، قال: لقيت عمّاراً في بعض سكك المدينة فسألته عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأخبر أنّه في مسجده في ملأ من قومه وأنّه لمّا صلّى الغداة أقبل علينا فبينا نحن كذلك وقد بزغت الشمس إذ أقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقام إليه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبّل بين عينيه، وأجلسه إلى جنبه حتى مسّت ركبتاه ركبتيه، ثمّ قال: يا علي قم للشمس فكلّمها فإنّها تكلّمك. فقام أهل المسجد وقالوا: أترى عين الشمس تكلّم عليّا؟ وقال بعض: لا يزال يرفع حسيسة ابن عمّه وينوّه باسمه، إذ خرج عليّ (عليه السلام) فقال للشمس: كيف أصبحت يا خلق اللّه؟ فقالت: بخير يا أخا رسول اللّه، يا أوّل يا آخر، يا ظاهر يا باطن، يا من هو بكلّ شيء عليم.
فرجع عليّ (عليه السلام) إلى النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتبسّم النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: يا عليّ تخبرني أو أُخبرك؟ فقال: منك أحسن يا رسول اللّه. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أمّا قولها لك «يا أوّل» فأنت أوّل من آمن باللّه، وقولها (لك) «يا آخر» فأنت آخر من يعاينني على مغسلي، وقولها «يا ظاهر» فأنت أوّل من يظهر على مخزون سرّي، قولها «يا باطن» فأنت المستبطن لعلمي، وأمّا «العليم بكلّ شيء» فما أنزل اللّه تعالى علماً من الحلال والحرام، والفرائض والأحكام، والتنزيل والتأويل، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه والمشكل إلّا وأنت به
ص: 45
عليم، ولو لا أن تقول فيك طائفة من أمّتي ما قالت النصارى في عيسى لقلت فيك مقالاً لا تمرّ بملإ إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يستشفون به.
قال جابر: فلمّا فرغ عمّار من حديثه أقبل سلمان، فقال عمّار: وهذا سلمان كان معنا، فحدّثني سلمان كما حدّثني عمّار(1).
عن عبد اللّه بن مسعود قال: كنّا مع النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ دخل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال رسول اللّه: يا أبا الحسن أ تحبّ أن نريك كرامتك على اللّه؟ قال: نعم بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه. قال: فإذا كان غداً فانطلق إلى الشمس معي فإنّها ستكلّمك بإذن اللّه تعالى، فماجت قريش والأنصار بأجمعها، فلمّا أصبح صلّى الغداة وأخذ بيد عليّ بن أبي طالب، وانطلق ثمّ جلسا ينتظران طلوع الشمس، فلمّا طلعت الشمس قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا عليّ كلّمها فإنّها مأمورة وإنّها ستكلّمك، فقال (عليه السلام) : السلام عليك ورحمة اللّه وبركاته أيّها الخلق السامع المطيع، فقالت الشمس:
و عليك السلام ورحمة اللّه وبركاته يا خير الأوصياء، لقد أعطيت في الدنيا والآخرة ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، فقال عليّ (عليه السلام) : ما ذا أعطيت؟ فقالت: ولم يؤذن لي أن أخبرك فيفتتن الناس، ولكن هنيئا لك العلم والحكمة في الدنيا والآخرة فأنت ممّن قال اللّه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٖ جَزَاءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2) وأنت ممّن قال اللّه تعالى
ص: 46
[فيه] {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُۥنَ}(1) فأنت المؤمن الذي خصّك اللّه بالإيمان.
وروي أنّ الشمس كلّمته ثلاث مرّات(2).
روي أنّه اختصم رجل وامرأة إليه، فعلا صوت الرجل على المرأة، فقال له الإمام علي (عليه السلام) : إخسأ - وكان خارجياً - فإذا رأسه رأس كلب، فقال رجل: يا أمير المؤمنين صحت بهذا الخارجي فصار رأسه رأس كلب فما يمنعك عن معاوية؟
فقال: ويحك لو أشاء أن آتي بمعاوية إلى ها هنا على سريره لدعوت اللّه حتى فعل.
ولكنّا لله خزّان. لا على ذهب، ولا فضة، ولا إنكار على أسرار تدبير اللّه.
أما تقرأ: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُۥ بِٱلْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(3)(4).
عن جويرية بن مسهر، قال: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) نحو بابل، فمضينا بغابة وإذا نحن بالأسد باركا على الطريق وأشباله خلفه، فملت دابّتي
ص: 47
لأرجع، فقال لي: أقدم يا جويرية بن مسهر، إنّما هو كلب اللّه، ثمّ قال: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَا}(1) الآية، فإذا بالأسد قد أقبل نحوه يبصبص(2) بذنبه وهو يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، يا ابن عمّ رسول اللّه. فقال: وعليك السلام يا أبا الحارث، ما تسبيحك؟ قال: أقول: سبحان من ألبسني المهابة، وقذف فى قلوب عباده منّي المخافة(3).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: إنّ جبير الخابور كان صاحب بيت مال معاوية، وكانت له أمّ عجوز بالكوفة كبيرة، فقال لمعاوية: إنّ لي أمّاً بالكوفة عجوزاً اشتقت إليها، فأذن لي حتى آتيها فأقضي من حقّها ما يجب علي.
فقال معاوية: ما تصنع بالكوفة؟ فإنّ فيها رجلاً ساحراً كاهناً يقال له: علي بن أبي طالب، وما آمن أن يفتنك.
فقال جبير: مالي ولعلي، إنّما آتي أمّي فأزورها وأقضي حقّها. فأذن له.
فقدم جبير إلى عين التمر(4) ومعه مال، فدفن بعضه في عين [التمر]، وقد كان لعلي مناظر، فأخذوا جبيراً بظاهر الكوفة، وأتوا به علياً، فلما نظر إليه قال له: يا جبير الخابور أما إنك كنز من كنوز اللّه، زعم لك معاوية أنّي كاهن ساحر؟!
ص: 48
قال: إي واللّه، قال ذلك معاوية. ثم قال: ومعك مال قد دفنت بعضه في عين التمر.
قال: صدقت يا أمير المؤمنين، لقد كان ذلك.
قال علي (عليه السلام) : يا حسن ضمّه إليك، فأنزله وأحسن إليه.
فلما كان من الغد دعاه، ثم قال لأصحابه: إنّ هذا يكون في جبل الأهواز في أربعة آلاف مدجّجين في السلاح، فيكونون معه حتى يقوم قائمنا أهل البيت فيقاتل معه(1).
قال هاشميّ: رأيت رجلاً بالشام قد اسودّ نصف وجهه وهو يغطّيه فسألته عن سبب ذلك، فقال: نعم قد جعلت للّه عليّ أن [لا] يسألني أحد عن ذلك إلّا خبّرته، كنت شديد الوقيعة في عليّ (عليه السلام) ، كثير الذكر له بالمكروه، فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت في منامي، فقال: أنت صاحب الوقيعة في عليّ؟ فضرب شقّ وجهي، فأصبحت وشقّ وجهي أسود كما ترى(2).
عن الحارث الأعور، قال: خرجنا مع عليّ (عليه السلام) حتى انتهى إلى العاقول(3) فإذا هناك أصل شجرة [يابسة] قد وقع لحاؤها وبقى عمودما، فضربها (عليه السلام) بيده، ثمّ قال: ارجعي بإذن اللّه خضراء مثمرة، فإذا هي تهتز باغصانها،
ص: 49
حملها كمّثرى، فقطعنا وأكلنا وحملنا معنا، فلمّا كان من الغد غدونا فإذا نحن بها خضراء فيها كمّثرى(1).
روي عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه كان ذات يوم على منبر البصرة إذ قال: أيّها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماوات فإنّي أعرف بها من طرق الأرض، فقام إليه رجل من وسط القوم، فقال له: أين جبرئيل في هذه الساعة؟ فرمق بطرفه إلى السماء، ثمّ رمق بطرفه إلى الأرض، ثمّ رمق [بطرفه] إلى المشرق، ثمّ رمق [بطرفه] إلى المغرب، فلم يجد موضعاً، فالتفت إليه، فقال له: يا ذا الشيخ أنت جبرئيل.
قال: فصفق طائراً من بين الناس، فضجّ عند ذلك الحاضرون، وقالوا: نشهد أنّك خليفة رسول اللّه حقّا(2).
روى عمر بن أذينة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: دخل الأشتر على علي (عليه السلام) فسلم، فأجابه فقال علي (عليه السلام) : ما أدخلك علي في هذه الساعة؟
قال: حبك يا أمير المؤمنين.
قال (عليه السلام) : فهل رأيت ببابي أحدا؟ قال: نعم، أربعة نفر.
فخرج الأشتر معه فإذا بالباب: أكمه، ومكفوف، ومقعد، وأبرص.
فقال (عليه السلام) : ما تصنعون ههنا؟ قالوا: جئناك لما بنا. فرجع ففتح حقا له،
ص: 50
فأخرج رقاً(1) أبيض، فيه كتاب أبيض، فقرأ عليهم، فقاموا كلهم من غير علّة(2).
عن ابن عبّاس، قال: جاء قوم إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: يا محمد إنّ عيسى بن مريم (عليه السلام) كان يحيي الموتى؟ فأحي لنا الموتى، فقال لهم: من تريدون؟ قالوا: نريد فلاناً وإنّه قريب عهد بموت، فدعا عليّ ابن أبي طالب فأصغى إليه بشيء لا نعرفه، ثمّ قال [له]: انطلق معهم إلى الميّت فادعه باسمه واسم أبيه.
فمضى معهم حتى وقف على قبر الرجل، ثمّ ناداه: يا فلان بن فلان، فقام الميّت، فسألوه، ثمّ اضطجع في لحده، فانصرفوا وهم يقولون: إنّ هذا من أعاجيب بني عبد المطّلب أو نحوها، فأنزل اللّه عزّ وجلّ {وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} - أي يضجّون -(3)(4).
روى أبو بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: أراد قوم بناء مسجد بساحل عدن، فلما بنوه سقط، فأتوا أبا بكر، فقال: استوثقوا من البناء وافعلوا. ففعلوا وأحكموا فسقط، فعادوا إليه فسألوه، فخطب الناس وناشدهم: إن كان لواحد منكم به علم فليقل.
ص: 51
فقال علي (عليه السلام) : احتفروا في ميمنة القبلة وميسرتها، فإنّه يظهر لكم قبران عليهما كوبة(1) مكتوب عليها: أنا رضوي وأختي حياً ابنتا تبع، متنا لا نشرك باللّه شيئاً، فاغسلوهما وكفّنوهما وصلّوا عليهما وادفنوهما، ثم ابنوا مسجدكم فإنّه يقوم بناؤه. ففعلوا، فكان كذا، فقام البناء(2).
روى عمّار بن ياسر، فقال: كنت عند أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ خرج من الكوفة إذ عبر بالضيعة التي يقال لها: النخيلة علی فرسخين من الكوفة فخرج منها خمسون رجلاً من اليهود، وقالوا: أنت عليّ بن أبي طالب الإمام؟ فقال: أنا ذا. فقالوا: لنا صخرة مذكورة في كتبنا، عليها اسم ستّة من الأنبياء، وها نحن نطلب الصخرة فلا نجدها، فإن كنت إماماً فأوجدنا الصخرة. فقال (عليه السلام) : اتّبعوني.
قال عمّار: فسار القوم خلف أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن استبطن بهم البرّ، وإذا بجبل من رمل عظيم، فقال (عليه السلام) : أيّتها الريح انسفي الرمل عن الصخرة. فما كان إلّا ساعة حتى نسفت الرمل عن الصخرة، وظهرت الصخرة.
فقال (عليه السلام) : هذه صخرتكم. فقالوا: عليها اسم ستّة أنبياء على ما سمعناه وقرأناه في كتبنا، ولسنا نرى عليها الأسماء.
فقال (عليه السلام) : الأسماء التي عليها وفيها فهي على وجهها الذي على الأرض فاقلبوها فاعصوصب(3) عليها ألف رجل فما قدروا على قلبها.
ص: 52
فقال (عليه السلام) : تنحّوا عنها. فمدّ يده إليها وهو راكب فقلبها، فوجدوا عليها اسم ستّة من الأنبياء أصحاب الشريعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - عليهم أفضل السلام - ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال نفر من اليهود: نشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه، وأنّك أمير المؤمنين، وسيّد الوصيّين، وحجّة اللّه في أرضه، من عرفك سعد ونجا، ومن خالفك ضلّ وغوى، وإلى الجحيم هوى، جلّت مناقبك عن التحديد، وكثرت آثار نعمك عن التعديد(1).
روى عوف بن مروان، قال: إنّ راكباً قدم من الشام، فأفشى في الكوفة أنّ معاوية مات، فجيء بالرجل إلى الإمام علي (عليه السلام) ، فقال: أنت شهدت موت معاوية؟
قال: نعم، كنت فيمن دفنه.
فقال له الإمام علي (عليه السلام) : إنك كاذب. فقال القوم: أهو يكذب؟ قال: نعم، لأنّ معاوية لا يموت حتى يملك هذه الأمة، ويفعل كذا، ويفعل كذا بعدما ملك.
فقال القوم: فلم تقاتله وأنت تعلم أنه سيبلغ هذا؟ قال: للحجّة(2).
علي (عليه السلام) .
فأتاه شاب منهم يوماً، فقال: يا خال مات ترب(1) لي فحزنت عليه حزناً شديداً.
قال: فتحبّ أن تراه؟ قال: نعم.
قال: فانطلق بنا إلى قبره. فدعا اللّه وقال: قم يا فلان بإذن اللّه. فإذا الميّت جالس على رأس القبر وهو يقول: ونيه، ونيه، شالا، معناه: لبيك لبيك سيدنا.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ما هذا اللسان ألم تمت وأنت رجل من العرب؟
قال: نعم، ولكنّي متّ على ولاية فلان وفلان، فانقلب لساني إلى ألسنة أهل النار(2).
عن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) ، قال: كنّا قعوداً عند أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهناك شجرة رمان يابسة، إذ دخل عليه نفر من مبغضيه، وعنده قوم من محبّيه، فسلّموا، فأمرهم بالجلوس، فقال عليٌ (عليه السلام) : إنّي أريكم اليوم آية تكون فيكم كمثل المائدة في بني إسرائيل إذ قال اللّه: {قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُۥ أَحَدًا مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ}(3).
ثم قال (عليه السلام) انظروا إلى الشجرة وكانت يابسة، وإذا هي قد جرى الماء
ص: 54
من عودها، ثم اخضرّت وأورقت وعقدت، وتدلّى حملها على رؤوسنا ثم التفت (عليه السلام) إلينا فقال للقوم الذين هم محبّوه، ومدّوا أيديكم وتناولوا وكلوا فقلنا: بسم اللّه الرحمن الرحيم.
وتناولنا وأكلنا رماناً لم نأكل قط شيئاً» أعذب منه ولا أطيب.
ثم قال (عليه السلام) للنفر الذين هم مبغضوه: مدّوا أيديكم وتناولوا وكلوا فمدّوا أيديهم، فكلّما مدّ رجل يده إلى رمانة ارتفعت، فلم يتناولوا شيئاً، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما بال إخواننا مدّوا أيديهم وتناولوها وأكلوا، ومددنا أيدينا فلم ننل؟
فقال (عليه السلام) : كذلك الجنة، لا ينالها إلا أولياؤنا ومحبونا، ولا يبعد منها إلا أعداؤنا ومبغضونا(1).
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : أنّ علياً مر يوماً في أزقة الكوفة، فانتهى إلى رجل قد حمل جريثاً(2) فقال: أنظروا إلى هذا الرجل قد حمل إسرائيلياً.
فأنكر الرجل وقال: متى صار الجريث إسرائيلياً؟!
فقال علي (عليه السلام) : أما إنّه إذا كان اليوم الخامس ارتفع لهذا الرجل من صدغه دخان.
فيموت مكانه. فأصابه في اليوم الخامس ذلك فمات، فحمل إلى قبره.
ص: 55
فلما دفن جاء أمير المؤمنين (عليه السلام) مع جماعة إلى قبره فدعا اللّه، ثم رفسه برجله فإذا الرجل قائم بين يديه، وهو يقول: الراد على علي كالراد على اللّه، وعلى رسوله.
وقال له: عد في قبرك. فعاد فيه، فانطبق القبر عليه(1).
روي عن أبي سعيد عقيصا قال: خرجنا مع علي (عليه السلام) نريد صفين، فمررنا بكربلاء، فقال: هذا موضع الحسين (عليه السلام) وأصحابه.
ثم سرنا حتى انتهينا إلى راهب في صومعة، وتقطع الناس من العطش وشكوا إلى علي (عليه السلام) ذلك، وأنه قد أخذ بهم طريقاً لا ماء فيه من البر، وترك طريق الفرات.
فدنا من الراهب، فهتف به، وأشرف إليه، فقال: أقرب صومعتك ماء؟
قال: لا. فثنى رأس بغلته، فنزل في موضع فيه رمل، وأمر الناس أن يحفروا هذا الرمل، فحفروا، فأصابوا تحته صخرة بيضاء، فاجتمع ثلاثمائة رجل، فلم يحركوها.
فقال (عليه السلام) : تنحّوا فإنّي صاحبها. ثم أدخل يده اليمنى تحت الصخرة، فقلعها من موضعها حتى رآها الناس على كفّه فوضعها ناحية، فإذا تحتها عين ماء أرق من الزلال وأعذب من الفرات، فشرب الناس وسقوا واستقوا وتزوّدوا، ثم ردّ الصخرة إلى موضعها وجعل الرمل كما كان.
وجاء الراهب فأسلم، وقال: إنّ أبي أخبرني، عن جدّه - وكان من
ص: 56
حواري عيسى - : أنّ تحت هذا الرمل عين ماء، وإنّه لا يستنبطها إلا نبي أو وصي نبي.
وقال لعلي (عليه السلام) : أتأذن لي أن أصحبك في وجهك هذا؟
قال (عليه السلام) : الزمني. ودعا له، ففعل، فلما كان ليلة الهرير قتل الراهب فدفنه بيده (عليه السلام) ، وقال: لكأنّي أنظر إليه، وإلى منزله في الجنة، ودرجته التي أكرمه اللّه بها(1).
عن فاطمة (عليها السلام) ، قالت: أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر، ففزع الناس إلى أبي بكر وعمر، فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فتبعهما الناس حتى انتهوا إلى باب علي (عليه السلام) فخرج إليهم علي (عليه السلام) غير مكترث لما هم فيه، فمضى واتبعه الناس، حتى انتهى إلى تلعة(2)، فقعد عليها وقعدوا حوله، وهم ينظرون إلى حيطان المدينة ترتج جائية وذاهبة.
فقال لهم علي (عليه السلام) : كأنّكم قد هالكم ما ترون؟
قالوا: وكيف لا يهولنا ولم نر مثلها قط؟
قالت (عليها السلام) : فحرّك شفتيه، ثم ضرب الأرض بيده، ثم قال: مالك؟ اسكني.
فسكنت، فعجبوا من ذلك أكثر من تعجبّهم أولا حيث خرج إليهم. قال لهم: أنّكم قد عجبتم من صنيعي؟! قالوا: نعم.
ص: 57
قال: أنا الرجل الذي قال اللّه عزّ وجلّ: {وَأَخْرَجَتِ ٱلْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ ٱلْإِنسَٰنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}(1).
فأنا الإنسان الذي أقول لها: {مَا لَهَا * يَوْمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} إياي تحدث(2).
روى عثمان بن عفان السجزي، قال: خرجت في طلب العلم فدخلت البصرة فصرت إلى محمد بن عباد، صاحب عبادان، فقلت: إنّي رجل غريب أتيتك من بلد بعيد لأقتبس من علمك شيئاً.
قال: من أين أنت؟ قلت: من أهل سجستان.
قال: من بلد الخوارج؟ قلت: لو كنت خارجياً ما طلبت علمك.
قال: أفلا أخبرك بحديث حسن إذا أتيت بلادك تحدّث به الناس؟ قلت: بلى.
قال: كان لي جار من المتعبّدين، فرأى في منامه كأنه قد مات وكفّن ودفن وقال: مررت بحوض النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإذ هو جالس على شفير الحوض والحسن والحسين (عليهما السلام) يسقيان الأمة الماء، فاستسقيتهما فأبيا أن يسقياني.
فقلت: يا رسول اللّه إنّي من أمتك! قال: وإن قصدت علياً لا يسقيك فبكيت.
وقلت: أنا من شيعة علي. قال: لك جار يلعن علياً ولم تنهه.
ص: 58
قلت: إنّي ضعيف ليس لي قوة، وهو من حاشية السلطان.
قال: فأخرج النبي سكيناً مسلولاً وقال: امض واذبحه. فأخذت السكين وصرت إلى داره، فوجدت الباب مفتوحاً، فدخلت فأصبته نائماً فذبحته، وانصرفت إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقلت: قد ذبحته وهذه السكين ملطخة بدمه. قال: هاتها، ثم قال للحسن (عليه السلام) : اسقه ماءاً. فلما أضاء الصبح سمعت صراخاً فسألت عنه فقيل: إن فلاناً وجد على فراشه مذبوحاً، فلما كان بعد ساعة قبض أمير البلد على جيرانه، فدخلت عليه وقلت: أيها الأمير إتق اللّه، إن القوم براء، وقصصت عليه الرؤيا، فخلّى عنهم(1).
روى شريك بن عبد اللّه وهو يومئذ قاض، فقال: بعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) وأبا بكر وعمر إلى أصحاب الكهف فقال: ائتوهم فأبلغوهم منّي السلام.
فلما خرجوا من عنده، قالوا لعلي: تدري أين هم؟
فقال: ما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبعثنا إلى مكان إلا هدانا اللّه له.
فلما أوقفهم على باب الكهف قال: يا أبا بكر سلم، فإنّك أسنّنا فسلّم فلم يجب، ثم قال: يا أبا حفص سلم، فإنك أسنّ منّي. فسلم، فلم يجب.
قال: فسلّم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فردوا السلام وحيوه، وأبلغهم سلام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فردوا عليه، فقال أبو بكر: سلهم ما لهم سلمنا عليهم فلم يسلّموا علينا؟ قال: سلهم أنت. فسألهم فلم يتكلّموا، ثم سألهم عمر فلم
ص: 59
يكلّموه، فقالا: يا أبا الحسن سلهم أنت.
قال علي (عليه السلام) : إنّ صاحبي هذين سألاني أن أسألكم: لم رددتم علي ولم تردّوا عليهما؟ قالوا لأنا لا نكلّم إلا نبياً أو وصي نبي(1).
ص: 60
هي السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
أسمائها (عليها السلام) : أسماء السيدة الزهراء (عليها السلام) كثيرة، وفي الخبر عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال: لفاطمة (عليها السلام) تسعة أسماء عند اللّه عزّ وجلّ: فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والرضية، والمرضيّة، والمحدّثة، والزهراء(1).
الولادة: ولدت السيدة الزهراء (عليها السلام) في العشرين من شهر جمادى الآخرة سنة خمسة بعد الهجرة، ولا يعتنى بقول من ادّعى أنّ ولادتها (عليها السلام) كانت لخمس سنوات قبل البعثة(2).
والدها: خاتم الرسل محمد بن عبداللّه (عليهما السلام) .
والدتها: السيد خديجة بنت خويلد (عليها السلام) .
كنيتها (عليها السلام) : اُمّ الحسن، واُمّ الحسين، واُمّ المحسن، واُمّ الأئمة، واُمّ أبيها، وقيل: إنّ من كناها (عليها السلام) هي: اُمّ الأخيار، واُمّ الفضائل، واًُمّ الأزهار، واُمّ العلوم، واُمُّ الكتاب(3).
ووجه تكنيتها بأمّ أبيها أنّ رسول اللّه (عليهما السلام) كان يظهر محبّتها وإجلالها في
ص: 61
العديد من المواضع أمام المسلمين حيث كان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقبّل يدها ويخصّها بالزيارة عند عودته إلى المدينة المنوّرة وكونها آخر من يودّعها لدى السفر، وتكنيته (عليهما السلام) إيّاها بأمّ أبيها نوع من إظهار مقامها العظيم.
وقيل: إنّ الوجه في ذلك أنّ الأم أصل الشيء كما في اللغة، والزهراء (عليها السلام) أصل الرسالة المحمدية.
ألقابها (عليها السلام) : وهي أيضاً كثيرة منها: الحورية، الإنسية، العذراء، الشهيدة، الصابرة، قرّة عين المصطفى، العالمة، المعصومة، حاملة البلوى، اُمّ الخيرة، حليفة العبادة، تفّاحة الجنة، المطهرة وغيرها.
نُسب للسيدة الزهراء (عليها السلام) أنّها أنشدت الشعر ومن ذلك:
قل للمغيّب تحت أطباق الثرى***إن كنت تسمع صرختي وندائيا
صبّت عليّ مصائب لو أنها***صبّت على الأيام صرن لياليا
قد كنت ذات حمى بظل محمد***لا أخش من ضيم وكان جماليا
فاليوم أخضع للذليل وأتقي***ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا
فإذا بكت قمرية في ليلها***شجناً على غصن بكيت صباحيا
فلأجعلن الحزن بعدك مؤنسي***ولأجعلن الدمع فيك وشاحيا
ماذا على من شمّ تربة أحمد***أن لا يشم مدى الزمان غواليا(1)
1- السيدة فضّة: وقد وهبها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها بعد ما كثرت الفتوح والمغانم
ص: 62
من خيبر، ويقال إنها كانت لا تتكلّم إلا بالقرآن مدة عشرين سنة، يقول أبو القاسم القشيري: انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة، فقلت لها: من أنت؟
فقالت: {وَقُلْ سَلَٰمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(1) فسلّمت عليها، فقلت: ما تصنعين ههنا؟
قالت: {وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّضِلٍّ}(2).
فقلت: أمن الجن أنت أم من الإنس؟
قالت: {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ}(3).
فقلت: من أين أقبلت؟
قالت: {يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانِۢ بَعِيدٖ}(4).
فقلت: أين تقصدين؟
قالت: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ}(5).
فقلت: متى انقطعت؟
قالت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ}(6).
فقلت: أتشتهين طعاماً؟
ص: 63
فقالت: {وَمَا جَعَلْنَٰهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ}(1) فأطعمتها، ثم قلت: هرولي وتعجّلي، قالت: {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(2)، فقلت: أردفك؟
فقالت: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا}(3)، فنزلت فأركبتها، فقالت: {سُبْحَٰنَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا}(4)، فلمّا أدركنا القافلة قلت لها: ألك أحد فيها؟
قالت: {يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِي ٱلْأَرْضِ}(5)، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}(6)، {يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ}(7)، {يَٰمُوسَىٰ إِنِّي أَنَا ٱللَّهُ}(8) فصحت بهذه الأسماء فإذا بأربعة شباب متوجّهين نحوها، فقلت: من هؤلاء منك؟
قالت: {ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا}(9)، فلمّا أتوها فقالت: {يَٰأَبَتِ ٱسْتَْٔجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَْٔجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْأَمِينُ}(10)، فكافوني بأشياء، فقالت: {وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَاءُ}(11).
ص: 64
فزادوا عليّ، فسألتهم عنها، فقالوا: هذه أمّنا فضة جارية الزهراء (عليها السلام) ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلا بالقرآن(1).
2- اُمّ أيمن: يقول علي بن معمّر: خرجت اُمّ أيمن إلى مكة لمّا توفّيت فاطمة (عليها السلام) ، وقالت: لا أرى المدينة بعدها، فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها، قال: فكسرت عينها نحو السماء ثم قالت: يا ربّ أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك؟
قال: فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت، ولم تجع ولم تطعم سبع سنين(2).
للصديقة فاطمة (عليها السلام) مقام عظيم لدى اللّه عزّ وجلّ وجاه رفيع، فمن قبل خلقة البشرية شاءت إرادة الربّ أن تكون لهذه السيدة الجليلة مقامات يطلع عليها ذوو المقامات، فعن عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: لمّا خلق اللّه آدم أبا البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش، فإذا في النور خمسة أشباح سجداً وركعاً، قال آدم: يا رب هل خلقت أحداً من طين قبلي؟
قال: لا يا آدم، قال: فمن هؤلاء الخمسة الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟
قال: هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار، ولا العرش
ص: 65
ولا الكرسي، ولا السماء ولا الأرض، ولا الملائكة ولا الجن ولا الإنس.
فأنا المحمود وهذا محمد، وأنا العالي وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا ذو الإحسان وهذا الحسن، وأنا المحسن وهذا الحسين، آليت بعزّتي أنه لا يأتيني أحد بمثقال ذرّة من خردل من بغض أحدهم الا أدخلته ناري ولا أبالي، يا آدم هؤلاء صفوتي من خلقي، بهم أنجيّهم وبهم أهلكم، فإذا كان لك إليّ حاجة فبهؤلاء توسّل.
فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : نحن سفينة النجاة من تعلّق بها نجا ومن حاد عنها هلك، فمن كان له إلى اللّه حاجة فليسأل بنا أهل البيت(1).
تظافرت الأخبار عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مقامات السيدة الزهراء (عليها السلام) ومنزلتها العظيمة لديه، علماً أنّ كثيراً من الأخبار الواردة عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في شأن الصديقة الزهراء (عليها السلام) تشير إلى إيذائها ومنها:
قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ فاطمة شعرة منّي، فمن آذى شعرة منّي فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن آذى اللّه لعنه ملء السماوات والأرضين(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّما فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد آذاني(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فاطمة بضعة منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها(4).
ص: 66
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّما فاطمة مضغة منّي، فمن آذاها فقد آذاني(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فإنّما ابنتي بضعة منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها(3).
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقبّل رأسها ويخاطبها قائلاً: فداك أبوك، كما كنت كوني(4).
وفي خبر آخر أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاطبها قائلاً: فداك أبي وأمّي(5).
وعن عائشة أنها قالت: إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا قدم من سفر قبّل نحر فاطمة (عليها السلام) وقال: منها أشم رائحة الجنة(6).
وعن حذيفة قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا ينام حتى يقبّل عرض وجه فاطمة وبين ثدييها(7).
كانت للصديقة الزهراء (عليها السلام) منزلة عظيمة لدى أميرالمؤمنين (عليه السلام) حتى أنه كان زواجه منها على الآخرين ويشهد لذلك قوله (عليه السلام) في مناشدة أبي بكر: فأنشدك باللّه أنا الذي اختارني رسول اللّه (عليهما السلام) وزوّجني ابنته فاطمة (عليها السلام) وقال:
ص: 67
اللّه زوّجك إياها في السماء، أم أنت؟
قال: بل أنت(1).
وقال (عليه السلام) في كتاب له إلى معاوية: منّا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومنكم المكذّب، ومنّا أسد اللّه ومنكم أسد الأحلاف، ومنّا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار، ومنا خير نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب(2).
وقال (عليه السلام) :
محمد النبي أخي وصنوي***وحمزة سيدالشهداء عمّي
وجعفر الذي يضحي ويمسي***يطير مع الملائكة ابن اُمي
وبنت محمد سكني وعرسي***منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها***فأيكم له سهم كسهمي(3)
روي أنّ سلمان قال: كانت فاطمة (عليها السلام) جالسة، قدّامها رحى تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسين في ناحية الدار يبكي، فقلت: يا بنت رسول اللّه دبرت(4)
كفاك وهذه فضة!
فقالت: أوصانّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن تكون الخدمة لها يوماً ولي يوماً، فكان أمس يوم خدمتها.
ص: 68
قال سلمان: إنّي مولى عتاقة ما أن أطحن الشعير، أو اُسكت لك الحسين (عليه السلام) ؟
فقالت: أنا بتسكيته أرفق، وأنت تطحن الشعير، فطحنت شيئاً من الشعير فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصلّيت مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلما فرغت قلت لعلي (عليه السلام) ما رأيت، فبكى وخرج، ثم عاد يتبسم، فسأله عن ذلك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) وهي مستلقية لقفاها، والحسين (عليه السلام) نائم على صدرها، وقدّامها الرحى تدور من غير يد! فتبسّم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: يا علي أما علمت أنّ لله ملائكة سيّارة في الأرض يخدمون محمداً وآل محمد إلى أن تقوم الساعة؟!(1).
عن أنس، قال: سألني الحجّاج بن يوسف عن حديث عائشة، وحديث القدر التي رأت فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي تحركها بيدها، قلت: نعم، أصلح اللّه الأمير، دخلت عائشة على فاطمة (عليها السلام) وهي تعمل للحسن والحسين (عليهما السلام) حريرة بدقيق ولبن وشحم، في قدر، والقدر على النار يغلي (وفاطمة (عليها السلام) ) تحرّك ما في القدر بإصبعها، والقدر على النار يبقبق(2)، فخرجت عائشة فزعة مذعورة، حتى دخلت على أبيها، فقالت: يا أبه، إنّي رأيت من فاطمة الزهراء أمراً عجيباً رأيتها وهي تعمل في القدر، والقدر
ص: 69
على النار يغلي، وهي تحرك ما في القدر بيدها!
فقال لها: يا بنية، اكتمي، فإنّ هذا أمر عظيم.
فبلغ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فصعد المنبر، وحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الناس يستعظمون ويستكثرون ما رأوا من القدر والنار، والذي بعثني بالرسالة واصطفانّي بالنبوة، لقد حرّم اللّه تعالى النار على لحم فاطمة (عليها السلام) ودمها وشعرها وعصبها، وفطم من النار ذريتها وشيعتها، إنّ من نسل فاطمة من تطيعه النار والشمس والقمر والنجوم والجبال، وتضرب الجن بين يديه بالسيف، وتوافي إليه الأنبياء بعهودها، وتسلم إليه الأرض كنوزها، وتنزل عليه من السماء بركات ما فيها، الويل لمن شك في فضل فاطمة، لعن اللّه من يبغض بعلها ولم يرض بإمامة ولدها، إنّ لفاطمة يوم القيامة موقفاً، ولشيعتها موقفاً، وإنّ فاطمة تُدعى فتلبي، وتشفع فتشفّع على رغم كل راغم(1).
عن ابن عباس، قال: لما تزوّجت خديجة بنت خويلد، رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هجرها نسوان مكة، وكنّ لا يكلمنها، ولا يدخلن عليها، فلما حملت بالزهراء فاطمة (عليها السلام) كانت إذا خرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من منزلها تكلّمها فاطمة الزهراء في بطنها من ظلمة الأحشاء، وتحدّثها وتؤنسها، فدخل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لها: «يا خديجة من تكلّمين؟» قالت: يا رسول اللّه، إنّ الجنين الذي أنا حامل به إذا أنا خلوت به في منزلي كلّمني، وحدّثني من ظلمة الأحشاء.
ص: 70
فتبسّم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قال: يا خديجة، هذا أخي جبرئيل (عليه السلام) يخبرني أنّها ابنتي، وأنّها النسمة الطاهرة المطهّرة، وأنّ اللّه تعالى أمرني أن أسمّيها (فاطمة) وسيجعل اللّه تعالى من ذريتها أئمة يهتدي بهم المؤمنون.
ففرحت خديجة بذلك، فلما أن حضر وقت ولادتها أرسلت إلى نسوان مكة أن: يتفضلن ويحضرن ولادتي ليلين منّي ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: يا خديجة، أنت عصيتنا ولم تقبلي منّا قولنا، وتزوجت فقيراً لامال له، فلسنا نجيء إليك، ولا نلي منك ما تلي النساء من النساء، فاغتمّت خديجة رضي اللّه عنها غمّاً شديداً، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة كأنّهن من نسوة قريش، فقالت إحداهن: يا خديجة، لا تحزني فأنا آسية بنت مزاحم، وهذه صفيّة بنت شعيب، وفي رواية أخري: كلثم بنت عمران أخت موسى (عليه السلام) - وهذه سارة زوجة إبراهيم (عليه السلام) ، وهذه مريم بنت عمران (عليه السلام) ، وقد بعثنا اللّه تعالى إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء. وجلسن حولها، ووضعت الزهراء فاطمة (عليها السلام) طاهرة ومطهرّة (1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: بعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى فاطمة (عليها السلام) بمكيال فيه تمر مع أبي ذر (رحمه اللّه) .
قال أبو ذر: فأتيت الباب، وقلت: السلام عليكم. فلم يجبني أحد، فظننت أنّ فاطمة (عليها السلام) بحال الرحى فلم تسمع، ففتحت الباب وإذا فاطمة (عليها السلام) نائمة والحسين يرتضع، والرحى تدور.
ص: 71
قال أبو ذر: فأتيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقلت: يا رسول اللّه، أتوب إلى اللّه مما صنعت إنّي أتيت أمراً عظيماً.
فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : وما أتيت يا أبا ذر؟ فقصّ عليه ما كان، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ضعفت فاطمة فأعانها اللّه على دهرها(1).
وعن زينب بنت علي (عليهما السلام) ، قالت: صلّى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلاة الفجر، ثم أقبل بوجهه الكريم على علي (عليه السلام) ، فقال: هل عندكم طعام؟
فقال: لم آكل منذ ثلاثة أيام طعاماً، وما تركت في منزلي طعاماً... .
قال: امض بنا إلى فاطمة، فدخلا عليها وهي تتلوّى من الجوع، وابناها معها، فقال: يا فاطمة، فداك أبوك، هل عندك طعام؟ فاستحيت فقالت: نعم فقامت وصلّت، ثم سمعت حسّاً.
فالتفتت فإذا بصحفة(2) ملأى ثريداً ولحما، فاحتملتها فجاءت بها ووضعتها بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فجمع علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، وجعل علي يطيل النظر إلى فاطمة، ويتعجّب، ويقول: خرجت من عندها وليس عندها طعام، فمن أين هذا؟
ثم أقبل عليها، فقال: يا بنت رسول اللّه، أنّى لك هذا؟
قالت: هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب.
فضحك النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقال: الحمد لله الذي جعل في أهلي نظير زكريا ومريم إذ قال لها: {أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن
ص: 72
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(1).
فبينما هم يأكلون إذ جاء سائل بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل البيت، أطعموني مما تأكلون. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إخسأ إخسأ ففعل ذلك ثلاثاً، وقال علي (عليه السلام) : «أمرتنا أن لا نردّ سائلاً، من هذا الذي أنت تخسّأه؟» فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا علي، إنّ هذا إبليس، علم أنّ هذا طعام الجنّة، فتشبّه بسائل لنطعمه منه.
فأكل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) حتى شبعوا، ثم رفعت الصحفة، فأكلوا من طعام الجنة في الدنيا(2).
عن أبي سعيد الخدري، قال: أهديت إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قطيفة(3) منسوجة بالذهب أهداها له ملك الحبشة، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لأعطيها رجلاً يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله، فمدّ أصحاب محمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعناقهم إليها، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أين علي (عليه السلام) ؟
قال عمار بن ياسر: فلما سمعت ذلك وثبت حتى أتيت علياً (عليه السلام) فأخبرته فجاء فدفع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) القطيفة إليه، فقال: أنت لها فخرج بها إلى سوق المدينة فنقضها سلكاً سلكاً، فقسّمها في المهاجرين والأنصار ثم رجع (عليه السلام) إلى منزله وما معه منها دينار، فلما كان من غد استقبله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ،
ص: 73
فقال: يا أبا الحسن أخذت أمس ثلاثة آلاف مثقال من ذهب فأنا والمهاجرون والأنصار نتغدّى غداً عندك.
فقال علي (عليه السلام) : نعم يا رسول اللّه، فلما كان الغد أقبل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المهاجرين والأنصار حتى قرعوا الباب فخرج إليهم وقد عرق من الحياء لأنه ليس في منزله قليل ولا كثير، فدخل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودخل المهاجرون والأنصار حتى جلسوا ودخل علي وفاطمة (عليهما السلام) فإذا هم بجفنة(1) مملوة ثريداً عليها عراق(2) يفور منها ريح المسك الأزفر، فضرب علي (عليه السلام) بيده عليها فلم يقدر على حملها فعاونته فاطمة على حملها حتى أخرجها فوضعها بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فدخل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على فاطمة، فقال: أي بنيّة أنّى لك هذا؟
قالت (عليها السلام) : يا أبت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : والحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى رأيت في ابنتي ما رأى زكريا في مريم بنت عمران(3).
ص: 74
هو الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) .
والده: الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والدته: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه (عليها السلام) .
ولادته: ولد في المدينة المنوّرة يوم الثلاثاء الخامس عشر من شهر رمضان المبارك سنة اثنتين أو ثلاث من الهجرة، وفي اليوم السابع من ولادته عقّ عنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكبش، وقال للسيدة الزهراء (عليها السلام) : احلقي رأسه، وتصدقي بوزن شعره فضّة، فكان الوزن عن شعره بعد حلقه درهما وشيئاً، فتصدّقت به، فصارت العقيقة والتصدّق بوزن الشعر سنّة مستمرة بما فعله النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حقّ الإمام الحسن (عليه السلام) .
كنيته: أبو محمد وأبو القاسم.
ألقابه: الزكي، والسبط الأول، وسيد شباب أهل الجنة، والأمين، والحجّة، والتقي، الولي، الطيّب.
صفته: عن أميرالؤمنين (عليه السلام) قال: كان الحسن (عليه السلام) أشبه برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما بين الرأس إلى الصدر، والحسين أشبه به فيما كان أسفل من ذلك(1).
وعن أنس بن مالك قال: لم يكن أحد أشبه برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الحسن
ص: 75
بن علي (عليهما السلام) (1).
وقيل في صفته: كان الحسن (عليه السلام) أبيض اللون مشرباً بحمرة، أدعج العينين(2)، سهل الخدين، دقيق المسربة(3)، كثّ اللحية(4)، وكأنّ عنقه إبريق فضة، عظيم الكراديس(5)، بعيد ما بين المنكبين، ربعة ليس بالطويل ولا القصير، مليحاً من أحسن الناس وجهاً.
بوّابه: سفينة.
شاعرته: أم سنان المدحجية وقد عاصرت معاوية ويزيد.
نُسب للإمام الحسن (عليه السلام) أنّه أنشد الشعر ومن ذلك:
نحن أُناس نوالنا خضل***يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا***خوفاً على ماء وجه من يسل
لو علم البحر فضل نائلنا***لغاض من بعد فيضه خجل(6)
نقش خاتمه: كان (عليه السلام) له خاتم عقيق أحمر، نقشه: العزّة لله، وخاتم يمانّي نقشه: الحسن بن علي.
وروي أنّ من نقش على فصّ خاتمه مثله، كان له في جميع أموره مهيباً
ص: 76
مصدّقاً عظيماً، والصلاة فيه بسبعين صلاة.
كثر مادحوا الإمام الحسن (عليه السلام) سواء من الموالين أو المخالفين، فكل أخذ يعبّر باسلوبه وطريقته عن عظمة هذا الإمام العظيم الذي ملأت فضائله الدنيا، فمن الذين أشادوا بمقامه وعلو مرتبه من المخالفين هم:
1- قال ابن حجر: وكان الحسن سيداً كريماً حليماً زاهداً، ذا سكينة ووقار وحشمة جواداً ممدوحاً(1).
2- قال سبط ابن الجوزي: وكان (عليه السلام) من كبار الأجواد، وله الخاطر الوقاد، وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحبّه حبّاً شديداً(2).
3- قال أبو نعيم: السيد المحبّب والحكيم المقرّب الحسن بن علي رضي اللّه تعالى عنهما(3).
4- قال ابن شهر آشوب: قال واصل بن عطاء: كان الحسن بن علي (عليه السلام) عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك(4).
5- قال ابن أبي الحديد: وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحبّه، سابق يوماً بين الحسين وبينه فسبق الحسن، فأجلسه على فخذه اليمنى، ثم أجلس الحسين على الفخذ اليسرى، فقيل له: يا رسول اللّه أيّهما أحبّ إليك؟
ص: 77
فقال (عليهما السلام) : أقول كما قال إبراهيم أبونا، وقيل له: أيّ ابنيك أحبّ إليك؟
قال: أكبرهما وهو الذي يلد ابني محمداً(1).
روى محمد بن إسحاق قال: إنّ أبا سفيان جاء إلى المدينة لأخذه تجديد العهد من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يقبل: فجاء إلى علي (عليه السلام) ، قال: هل لابن عمّك أن يكتب لنا أماناً؟ فقال: إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عزم على أمر لا يرجع فيه أبداً. وكان الحسن بن علي (عليهما السلام) ابن أربعة عشر شهراً، فقال بلسان عربي مبين: يا ابن صخر قل: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، حتى أكون لك شفيعاً إلى جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فتحيّر أبو سفيان.
فقال علي (عليه السلام) : الحمد لله الذي جعل في ذرية محمد نظير يحيى بن زكريا - وكان الحسن (عليه السلام) يمشي في تلك الحالة(2).
روى أبو محمد عبد اللّه بن محمد والليث بن محمد ابن موسى الشيباني، قالا: أخبرنا إبراهيم بن كثير، عن محمد بن جبرئيل، فقالا: رأيت الحسن بن علي (عليهما السلام) وقد استسقى ماء، فأبطأ عليه الرسول، فاستخرج من سارية(3) المسجد ماء فشرب وسقى أصحابه، ثم قال: لو شئت لسقيتكم لبناً وعسلاً.
ص: 78
فقلنا: فاسقنا. فسقانا لبناً وعسلاً من سارية المسجد، مقابل الروضة التي فيها قبر فاطمة (عليها السلام) (1).
عن ابن عباس، قال: مرّت بالحسن بن علي بقرة، فقال: هذه حبلى بعجلة اُنثى لها غرّة(2) في جبهتها، ورأس ذنبها أبيض، فانطلقنا مع القصاب، فلما ذبحها وجدنا الأمر على ما ذكر، فقلنا له: أوليس اللّه سبحانه يقول: ويعلم مافي الأرحام، فكيف علمت هذا؟
فقال (عليه السلام) : إنّا نعلم المكنون المخزون المكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرّب ولا نبي مرسل، غير محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذريته (عليهم السلام) (3).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: خرج الحسن بن علي (عليهما السلام) في بعض عمره ومعه رجل من ولد الزبير كان يقول بإمامته.
فنزلوا في منهل من تلك المناهل تحت نخل يابس قد يبس من العطش، ففرش للحسن (عليه السلام) تحت نخلة، وفرش للزبيري بحذاه تحت نخلة أخرى.
قال: فقال الزبير ورفع رأسه: لو كان في هذا النخل رطب لأكلنا منه.
فقال له الإمام الحسن (عليه السلام) : وأنّك لتشتهي الرطب؟
فقال الزبيري: نعم، فرفع يده إلى السماء فدعا بكلام لم أفهمه فاخضرت
ص: 79
النخلة، ثمّ صارت إلى حالها فأورقت وحملت رطباً.
فقال الجمّال الذي اكتروا منه: سحر واللّه.
قال: فقال الحسن (عليه السلام) : ويلك ليس بسحر، ولكن دعوة ابن نبي مستجابة.
قال: فصعدوا إلى النخلة فصرموا ما كان فيها فكفاهم(1).
نقل ثقيف البكاء، قال: رأيت الحسن بن علي (عليه السلام) عند منصرفه من معاوية، وقد دخل عليه حجر ابن عدي، فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين.
فقال: مه، ما كنت مذلّهم، بل أنا معزّ المؤمنين، وإنّما أردت البقاء عليهم، ثم ضرب برجله في فسطاطه(2)، فإذا أنا في ظهر الكوفة، وقد خرج إلى دمشق ومصر حتى رأينا عمرو بن العاص بمصر، ومعاوية بدمشق، وقال: لو شئت لنزعتهما، ولكن هاه هاه، مضى محمد على منهاج، وعلي على منهاج، وأنا أخالفهما؟! لا يكون ذلك منّي(3).
عن محمد بن حجارة، قال: رأيت الحسن بن علي (عليهما السلام) وقد مرّت به صريمة(4) من الظباء، فصاح بهن، فأجابته كلّها بالتلبية حتى أتت بين يديه.
ص: 80
فقلنا: يا بن رسول اللّه، هذا وحش، فأرنا آية من أمر السماء.
فأومأ نحو السماء، ففتحت الأبواب، ونزل نور حتى أحاط بدور المدينة، وتزلزلت الدور حتى كادت أن تخرب.
فقلنا: يا بن رسول اللّه ردّها.
فقال لي: نحن الأولون والآخرون، ونحن الآمرون، ونحن النور، ننور الروحانيين، ننور بنور اللّه، ونروح بروحه، فينا مسكنه، وإلينا معدنه، الآخر منّا كالأول، والأول منّا كالآخر(1).
نقل قبيصة بن إياس، قال: كنت مع الحسن بن علي (عليهما السلام) وهو صائم، ونحن نسير معه إلى الشام، وليس معه زاد ولا ماء ولا شيء، إلا ما هو عليه راكب.
فلما أن غاب الشفق وصلّى العشاء، فتحت أبواب السماء، وعلق فيها القناديل، ونزلت الملائكة ومعهم الموائد والفواكه وطسوت وأباريق، فنصبت الموائد، ونحن سبعون رجلاً، فأكلنا من كل حار وبارد حتى امتلأنا وامتلأ، ثم رفعت على هيئتها لم تنقص(2).
عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: لما وادع الحسن ابن علي (عليه السلام) معاوية وانصرف إلى المدينة صحبته في منصرفه وكان بين عينيه حمل بعير لا يفارقه حيث توجه، فقلت له ذات يوم: جعلت فداك يا أبا محمد هذا الحمل
ص: 81
لا يفارقك حيث ما توجهت.
فقال: يا حذيفة أ تدري ما هو؟
قلت: لا.
قال: هذا الديوان!
قلت: ديوان ما ذا؟
قال: ديوان شيعتنا فيه أسماؤهم.
قلت: جعلت فداك فأرني اسمي.
قال: اغد بالغداة.
قال: فغدوت إليه ومعي ابن أخ لي وكان يقرأ ولم أكن أقرأ، فقال لي: ما غدا بك؟
قلت: الحاجة التي وعدتني.
قال: من ذا الذي معك؟
قلت: ابن أخ لي وهو يقرأ ولست أقرأ.
قال: فقال لي: اُجلس فجلست، ثم قال: عليّ بالديوان الأوسط.
قال: فأتي به.
قال: فنظر الفتى فإذا الأسماء تلوح، قال: فبينما هو يقرأ إذ قال:
هو يا عمّاه هو ذا اسمي.
قلت: ثكلتك أمّك أنظر أين اسمي.
قال: فصفّح ثم قال: هو ذا اسمك.
قال: فاستبشرنا واستشهد الفتى مع الحسين بن علي (عليهما السلام) (1).
ص: 82
روي أنّه لما قدم الإمام الحسن (عليه السلام) من الكوفة بعد شهادة أبيه أميرالمؤمنين (عليه السلام) جاءت النسوة يعزّينه في أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ودخلت عليه أزواج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقالت عائشة: يا أبا محمد ما مثل فقد جدّك إلا يوم فقد أبوك، فقال لها الحسن: نسيت نبشك في بيتك ليلاً بغير قبس بحديدة، حتى ضربت الحديدة كفّك فصارت جرحاً إلى الآن فأخرجت جرداً أخضر فيه ما جمعته من خيانة حتى أخذت منه أربعين ديناراً عددا لا تعلمين لها وزناً ففرقتيها في مبغضي علي (عليه السلام) من تيم وعدي، وقد تشفّيت بقتله، فقالت: قد كان ذلك(1).
عن جابر، قال: قلت للحسن بن علي (عليهما السلام) : أحبّ أن تريني معجزة نتحدّث بها عنك، ونحن في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فضرب برجله الأرض حتى أراني البحور وما يجري فيها من السفن، ثم أخرج من سمكها فأعطانيه، فقلت لابني محمد: احمل إلى المنزل، فحمل فأكلنا منه ثلاثا(2).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: خرج الحسن بن علي (عليهما السلام) إلى مكة سنة ماشياً، فورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبت لسكن عنك هذا الورم، فقال: كلاّ إذا أتينا هذا المنزل فإنّه يستقبلك أسود ومعه دهن فاشتر منه ولا
ص: 83
تماكسه، فقال له: بأبي أنت وأمّي ما قدمنا منزلاً فيه أحد يبيع هذا الدواء فقال له: بلى إنّه أمامك دون المنزل فسارا ميلاً فإذا هو بالأسود، فقال الحسن (عليه السلام) لمولاه: دونك الرجل، فخذ منه الدهن وأعطه الثمن، فقال الأسود: يا غلام لمن أردت هذا الدهن؟
فقال للحسن بن علي. فقال: انطلق بي إليه، فانطلق فأدخله إليه، فقال له: بأبي أنت وأميّ لم أعلم أنّك تحتاج إلى هذا أو ترى ذلك ولست آخذ له ثمناً، إنّما أنا مولاك ولكن ادع اللّه أن يرزقني ذكراً سوياً يحبّكم أهل البيت، فإنّي خلّفت أهلي تمخض(1)، فقال: انطلق إلى منزلك فقد وهب اللّه لك ذكراً سويّاً وهو من شيعتنا(2).
يقول محمد بن إسحاق: كان الحسن والحسين (عليهما السلام) طفلين يلعبان، فرأيت الحسن وقد صاح بنخلة، فأجابته بالتلبية، وسعت إليه كما يسعى الولد إلى والده(3).
عن كثير بن سلمة، قال: رأيت الحسن (عليه السلام) في حياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أخرج من صخرة عسلاً ماذياً(4)، فأتيت رسول اللّه فأخبرته، فقال: أتنكرون لابني هذا؟! إنه سيد ابن سيد، يصلح اللّه به بين فئتين، ويطيعه أهل السماء
ص: 84
في سمائه، وأهل الأرض في أرضه(1).
عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: جاء أناس إلى الحسن (عليه السلام) فقالوا له: أرنا ما عندك من عجائب أبيك التي كان يريناها. قال: أتؤمنون بذلك؟ قالوا كلّهم: نعم، نؤمن به واللّه.
قال: فأحيا لهم ميتاً بإذن اللّه (تعالى)، فقالوا بأجمعهم: نشهد أنّك ابن أمير المؤمنين (عليه السلام) حقاً، وأنه كان يرينا مثل هذا كثيراً(2).
عن أبي سعيد الخدري، قال: رأيت الحسن بن علي (عليهما السلام) ، وهو طفل، والطير تظلّه، ورأيته يدعو الطير فتجيبه(3).
هو الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والده: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والدته: السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) .
الولادة: في الخامس من شهر شعبان سنة أربع من الهجرة.
كنيته: أبو عبداللّه.
ألقابه: الرشيد، الطيب، الوفي، السيّد، الزكي، المبارك، الشهيد، التابع لمرضات اللّه، المطهر، البر، وأشهر ألقابه ما لقبه به جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو: سيد شباب أهل الجنة، فيكون لقب السيّد أشرف ألقابه.
نقش خاتمه: كان له خاتمان، فصُ أحدهما عقيق نقشه: إنّ اللّه بالغ أمره.
وعلى الخاتم الذي أُخذ من يده بعد شهادته: لا إله إلا اللّه عدّة لقاء اللّه.
وعن محمد بن مسلم، قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن خاتم الحسين بن علي (عليه السلام) إلى من صار؟
وذكرت له إنّي سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ.
قال (عليه السلام) : ليس كما قالوا، إنّ الحسين (عليه السلام) أوصى إلى ابنه علي بن الحسين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجعل خاتمه في إصبعه، وفوض إليه أمره، كما فعله رسول اللّه (عليهما السلام) بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفعله أمير المؤمنين بالحسن (عليه السلام) ، وفعله الحسن
ص: 86
بالحسين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبي (عليه السلام) بعد أبيه، ومنه صار إلي، فهو عندي وإنّي لألبسه كل جمعة وأصلي فيه.
قال محمد بن مسلم: فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي، فلما فرغ من الصلاة مد إلي يده، فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه: لا إله إلا اللّه عدة للقاء اللّه، فقال: هذا خاتم جدي أبي عبد اللّه الحسين بن علي (عليهما السلام) (1).
ومن هنا يتضح أنّ الخاتم الذي قطعوا إصبع الإمام الحسين (عليه السلام) وسلبوه يوم الطف غير هذا الخاتم الذي توارثه الإئمة (عليهم السلام) إماماً بعد إمام.
بوابه: رُشيد الهجري وقيل: يحيى بن الحكم، وقيل: أسعد الهجري.
صفته (عليه السلام) : كان الإمام الحسين (عليه السلام) أبيض اللون، له جمال عظيم ونور يتلألأ في جبينه وخدّه، وكان أشبه الناس بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من سرّته إلى كعبه، وكانت أمّه الصديقة فاطمة (عليها السلام) لمّا ترقصه تقول:
أنت شبيه بأبي***لست شبيها بعلي
وروي أنه (عليه السلام) إذا جلس في المكان المظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره حيث كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يكثر من تقبيله في نحره وجبينه(2).
وينقل أنّ ابن زياد لما رأى رأسه الشريف قال: ما رأيت مثل هذا الرأس حسناً(3).
ص: 87
ليس هناك من شك أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يختلف عن سائر الناس العاديين الذين يحبون ويبغضون لأحاسيسهم وعواطفهم وميولاتهم، فهو المعصوم الكامل الذي لا ينطق ولايفعل إلا حسب مايرضي الرب عزّ وجلّ.
ومن يتّتبع سيرة النبي (عليهما السلام) مع الإمام الحسين (عليه السلام) يجد أنّ هناك علاقة وطيدة وحميمة بينهما تتجلى خلال المواقف المختلفة التي كان يتخذها نبي الرحمة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه الإمام الحسين (عليه السلام) ومن ذلك:
عن يعلي العامري أنّه خرج من عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى طعام دعي إليه، فإذا هو بحسين (عليه السلام) يلعب مع الصبيان، فاستقبل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمام القوم ثم بسط يديه فطفر الصبي هاهنا مرّة وهاهنا مرّة، وجعل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفائه، ووضع فاه على فيه وقبّله، ثم قال: حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ اللّه من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط(1).
وروي أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج من بيت عائشة، فمرّ على بيت فاطمة (عليها السلام) ، فسمع الحسين (عليه السلام) يبكي، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني(2).
وروي أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يوماً مع جماعة من أصحابه ماراً في بعض الطريق، وإذا هم بصبيان يلعبون في ذلك الطريق، فجلس النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عند صبي منهم وجعل يقبّل ما بين عينيه ويلاطفه، ثم أقعده على حجره
ص: 88
وكان يكثر تقبيله، فسئل عن علة ذلك، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّي رأيت هذا الصبي يوماً يلعب مع الحسين (عليه السلام) ورأيته يرفع التراب من تحت قدميه، ويمسح به وجهه وعينيه، فأنا أحبّه لحبّه لولدي الحسين (عليه السلام) ، ولقد أخبرني جبرئيل أنه يكون من أنصاره في وقعة كربلا(1).
نُسب للإمام الحسين (عليه السلام) أنه أنشد الشعر ومن ذلك:
يادهر أفّ لك من خليل***كم لك في الإشراق والأصيل
من صاحب وطالب قتيل***والدهر لا يقنع بالبديل
وإنّما الأمر إلى الجليل***وكل حيّ سالك سبيل(2)
يقول كثير بن شاذان: شهدت الحسين بن علي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد اشتهى عليه ابنه علي الأكبر عنباً في غير أوانه، فضرب يده إلى سارية المسجد فأخرج له عنباً وموزاً فأطعمه، وقال: ما عند اللّه لأوليائه أكثر(3).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال الحسين (عليه السلام) لغلمانه: لا تخرجوا يوم كذا وكذا، اليوم قد سمّاه، واخرجوا يوم الخميس، فإنّكم إن خالفتموني قطع
ص: 89
عليكم الطريق، فقتلتم، وذهب ما معكم. وكان قد أرسلهم إلى ضيعة له، فخالفوه وأخذوا طريق الحرّة(1)
فاستقبلهم لصوص فقتلوهم كلّهم، فدخل على الحسين (عليه السلام) والي المدينة من ساعته، فقال له: قد بلغني قتل غلمانك ومواليك، فآجرك اللّه فيهم. فقال: أما إنّي أدلّك على من قتلهم، فاشدد يدك بهم. قال: وتعرفهم؟!
قال: نعم، كما أعرفك، وهذا منهم. لرجل جاء معه، فقال الرجل: يا بن رسول اللّه، كيف عرفتني وما كنت فيهم؟!
قال: إن صدقتك تصدق؟
قال: نعم، واللّه لأفعلن.
قال: أخرجت معك فلاناً وفلاناً، فسمّاهم بأسمائهم كلّهم، وفيهم أربعة من موالي الوالي، والبقية من حبشان أهل المدينة، قال الوالي: وربّ القبر والمنبر، لتصدقني أو لأنشرن لحمك بالسياط.
قال: واللّه ما كذب الحسين (عليه السلام) ، كأنه كان معنا. قال: فجمعهم الوالي فأقروا جميعاً(2).
عن يحيى بن أم الطويل قال: كنا عند الحسين (عليه السلام) إذ دخل عليه شاب يبكي، فقال له الحسين (عليه السلام) : ما يبكيك؟
قال: إنّ والدتي توفيت في هذه الساعة ولم توص، ولها مال وكانت قد
ص: 90
أمرتني أن لا أحدث في أمرها شيئاً حتى أعلمك خبرها، فقال الحسين (عليه السلام) :
قوموا حتى نصير إلى هذه الحرة، فقمنا معه حتى انتهينا إلى باب البيت الذي توفيت فيه المرأة مسجّاة.
فأشرف على البيت، ودعا اللّه ليحييها حتى توصي بما تحب من وصيتها فأحياها اللّه وإذا المرأة جلست وهي تتشهد، ثم نظرت إلى الحسين (عليه السلام) ، فقالت: ادخل البيت يا مولاي ومرني بأمرك، فدخل وجلس على مخدة ثم قال لها: وصي يرحمك اللّه، فقالت: يا ابن رسول اللّه لي من المال كذا وكذا في مكان كذا وكذا فقد جعلت ثلثه إليك لتضعه حيث شئت من أوليائك، والثلثان لابني هذا إن علمت أنه من مواليك وأوليائك، وإن كان مخالفاً فخذه إليك فلا حق في المخالفين في أموال المؤمنين، ثم سألته أن يصلي عليها وأن يتولى أمرها، ثم صارت المرأة ميتة كما كانت(1).
عن جابر الجعفي، عن زين العابدين (عليه السلام) قال: أقبل أعرابي إلى المدينة ليختبر الحسين (عليه السلام) لما ذكر له من دلائله، فلما صار بقرب المدينة خضخض ودخل المدينة، فدخل الحسين وهو جنب.
فقال له أبو عبد اللّه الحسين (عليه السلام) : أما تستحي يا أعرابي أن تدخل إلى إمامك وأنت جنب؟ وقال: أنتم معاشر العرب إذا خلوتم خضخضتم.
فقال الأعرابي: يا مولاي قد بلغت حاجتي ممّا جئت فيه.
ص: 91
فخرج من عنده فاغتسل ورجع إليه فسأله عمّا كان في قلبه(1).
عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) ، يحدّث عن آبائه (عليهم السلام) إنّ مريضاً شديد الحمّى، عاده الحسين (عليه السلام) ، فلمّا دخل من باب الدار طارت الحمّى عن الرجل، فقال له: رضيت بما أ ُوتيتم به حقّاً والحمّى تهرب عنكم.
فقال له الحسين (عليه السلام) : واللّه ما خلق اللّه شيئاً إلّا وقد أمره بالطاعة لنا.
قال: فإذا نحن نسمع الصوت، ولا نرى الشخص يقول لبّيك.
قال: أ ليس أمير المؤمنين أمرك أن لا تقربى إلّا عدوا أو مذنبا لتكونى كفّارة لذنوبه، فما بال هذا؟ فكان المريض عبد اللّه بن شداد بن الهادي الليثي(2).
عن الأعمش، قال: قال لي أبو محمد الواقدي وزرارة بن جلح: لقينا الحسين بن علي (عليهما السلام) قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث ليال، فأخبرناه بضعف الناس في الكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبواب السماء ونزل من الملائكة عدد لا يحصيهم إلا اللّه، وقال: لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكن أعلم علماً أنّ من هناك مصعدي وهناك مصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلا ولدي علي(3).
ص: 92
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: خرج الحسين بن علي (عليه السلام) في بعض أسفاره ومعه رجل من ولد الزبير بن العوام يقول بإمامته، فنزلوا في طريقهم بمنزل تحت نخلة يابسة، قد يبست من العطش، ففرش الحسين (عليه السلام) تحتها، وبإزائه نخلة أخرى عليها رطب، فرفع يده ودعا بكلام لم أفهمه، فاخضرت النخلة وعادت إلى حالها، وأورقت وحملت رطباً، فقال الجمال الذي اكترى منه: هذا سحر واللّه، فقال الحسين (عليه السلام) : ويلك، إنّه ليس بسحر، ولكن دعوة ابن نبي مستجابة.
قال: ثم صعدوا النخلة فجنوا منها ما كفاهم جميعا(1).
عن صالح بن ميثم الأسدي، قال: دخلت أنا وعباية بن الربعي على امرأة من بني والبة، قد احترق وجهها من السجود، فقال لها عباية: يا حبابة، هذا ابن أخيك؟
قالت: وأي أخ؟ قال: صالح بن ميثم.
فقالت: ابن أخي واللّه حقّاً، يا بن أخي ألا أحدّثك بحديث سمعته من الحسين ابن علي (عليهما السلام) ؟
قال: قلت: بلى يا عمّة.
قالت: كنت زوارة الحسين بن علي (عليهما السلام) ، فحدث بين عيني وضح(2)، فشقّ
ص: 93
ذلك علي واحتبست عنه أياماً، فسأل عنّي: ما فعلت حبابة الوالبية؟ فقالوا:
إنّها حدث بها حدث بين عينيها. فقال لأصحابه: قوموا حتى ندخل عليها. فدخل علي في مسجدي هذا، وقال: يا حبابة، ما بطأ بك علي؟
قلت: يا بن رسول اللّه ما ذلك الذي منعني إن لم أكن اضطررت إلى المجيء إليك اضطراراً، لكن حدث هذا بي. وكشفت القناع فتفل عليه الحسين بن علي (عليهما السلام) وقال: يا حبابة، أحدثي لله شكراً، فإنّ اللّه قد ذاده عنك(1).
قالت: فخررت ساجدة، فقال: يا حبابة ارفعي رأسك وانظري في مرآتك.
قالت: فرفعت رأسي فلم أجد منه شيئاً.
قالت: فحمدت اللّه وقال لي: يا حبابة نحن وشيعتنا على الفطرة، وسائر الناس منها براء(2).
عن الحارث بن وكيدة، قال: كنت فيمن حمل رأس الحسين، فسمعته يقرأ سورة الكهف، فجعلت أشك في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد اللّه، فقال لي: يا بن وكيدة، أما علمت أنا معشر الأئمة أحياء عند ربنا نرزق؟
قال: فقلت في نفسي: أسرق رأسه، فنادى: يا بن وكيدة، ليس لك إلى ذاك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند اللّه من تسييرهم رأسي، فذرهم فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون(3).
ص: 94
روى صفوان بن مهران، قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: رجلان اختصما في زمن الحسين (عليه السلام) في امرأة وولدها، فقال هذا: لي، وقال هذا: لي، فمر بهما الحسين (عليه السلام) ، فقال لهما: في ماذا تمرجان(1)؟ قال أحدهما: إنّ الامرأة لي، فقال للمدعي الأول: اقعد فقعد، وكان الغلام رضيعاً فقال الحسين (عليه السلام) : يا هذه اصدقي من قبل أن يهتك اللّه سترك، فقالت: هذا زوجي والولد له ولا أعرف هذا، فقال (عليه السلام) : يا غلام ما تقول هذه؟
انطق بإذن اللّه تعالى، فقال له: ما أنا لهذا ولا لهذا وما أبي إلا راع لآل فلان، فأمر (عليه السلام) برجمها. قال جعفر (عليه السلام) : فلم يسمع أحد نطق ذلك الغلام بعدها(2).
روى عبد اللّه الأودي، قال: لما قتل الحسين (عليه السلام) أراد القوم أن يوطئوه الخيل، فقالت فضّة لزينب: يا سيدتي إنّ سفينة كسر به في البحر فخرج إلى جزيرة فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث أنا مولى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهمهم بين يديه حتى وقفه على الطريق والأسد رابض في ناحية، فدعيني أمضي إليه وأعلمه ما هم صانعون غداً، قال: فمضت إليه فقالت: يا أبا الحارث فرفع رأسه ثم قالت: أتدري ما يريدون أن يعملوا غداً بأبي عبد اللّه (عليه السلام) ؟ يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره، قال: فمشى حتى وضع يديه على جسد
ص: 95
الحسين (عليه السلام) ، فأقبلت الخيل، فلما نظروا إليه قال لهم عمر بن سعد - لعنه اللّه - : فتنة لا تثيروها انصرفوا، فانصرفوا(1).
روى ناصح أبي عبد اللّه، عن قريبة جارية لهم، قالت: كان عندنا رجل خرج على الحسين (عليه السلام) ، ثم جاء بجمل وزعفران، قالت: فلما دقّوا الزعفران صار نارا. قالت: فجعلت المرأة تأخذ منه الشيء فتلطّخه على يدها فيصير منه برص.
قالت: ونحروا البعير، قالت: فكلما حزّوا بالسكين صار مكانها ناراً. قالت: فجعلوا يسلخونه فيصير مكانه ناراً. قالت: فقطعوه فخرجت منه النار.
قالت: فطبخوه فكلما أوقدوا النار فارت القدر ناراً. قالت: فجعلوه في الجفنة فصار ناراً. قالت: وكنت صبية يومئذ فأخذت عظماً منه فطينت عليه، فسقط وأنا يومئذ امرأة، فأخذناه نصنع منه اللعب. قالت: فلما حززناه بالسكين صار مكانه ناراً، فعرفنا أنه ذلك العظم فدفناه(2).
ص: 96
هو الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والده: الإمام الحسين (عليه السلام) .
والدته: السيدة شهر بانو من بنات ملوك الفرس.
ولادته: ولد (عليه السلام) في المدينة المنوّرة في الخامس من شهر شعبان المعظّم، سنة 38ه- .
كنيته: أبو محمد، ويكنّى بأبي الحسن أيضاً، وبأبي القاسم.
ألقابه: سيد العابدين، وزين العابدين، والمجتهد، والسجّاد، وذو الثفنات، وإنّما لقّب بذي الثفنات لأنّ مواضع سجوده كانت كثفنة البعير من كثرة السجود.
صفاته: كان (عليه السلام) وسيماً جميلاً، من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة، بين عينية سجّادة، أي أثر السجود.
اتفقت الأمم عبر العصور على جلالة الإمام زين العابدين (عليه السلام) وأفضليته على الناس كافّة، حتى أقرّ مخالفوه أيضاً بقداسته، فممّن أشاد بمقامه (عليه السلام) الشامخ هم:
ص: 97
1- سعيد بن المسيّب، قال: ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين (عليه السلام) ، وما رأيته قط إلا مقتُ نفسي، ما رأيته ضاحكاً يوماً قط(1).
2- الزهري قال: ما رأيت هاشمياً مثل علي بن الحسين (عليه السلام) (2).
3- يحيى بن سعيد، قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) وكان أفضل هاشمي أدركته(3).
4- عمر بن عبدالعزيز قال لأصحابه بعد أن انصرف الإمام السجاد (عليه السلام) من مجلسه: من أشرف الناس؟
فقالوا له: أنتم.
فقال لهم: كلاّ، إنّ أشرف الناس هذا القائم - يعني الإمام زين العابدين (عليه السلام) - من أحب الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد(4).
عن جابر عن أبي جعفر قال: بينا علي بن الحسين مع أصحابه إذا قبل ظبية من الصحراء حتى قامت حذاه وصوتّت، فقال بعض القوم: يا بن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما تقول هذه الظبية؟ قال: يزعم أنّ فلان القرشي أخذ
ص: 98
خشفها بالأمس وأنّها لم ترضعه من أمس شيئاً فبعث إليه علي بن الحسين (عليه السلام) أرسل إلى بالخشف، فلما رأت صوتت وضربت بيديها ثم أرضعته. قال: فوهبه علي بن الحسين (عليه السلام) لها وكلمها بكلام نحواً من كلامها وانطلقت في الخشف معها، فقالوا: يا بن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما الذي قال؟ قال: دعت اللّه لكم وجزاكم بخير(1).
عن الزهري، قال: كان لي أخ في اللّه تعالى، وكنت شديد المحبة له، فمات في جهاد الروم، فاغتبطت به وفرحت أن استشهد، وتمنّيت أنّي كنت استشهدت معه، فنمت ذات ليلة، فرأيته في منامي.
فقلت له: ما فعل بك ربك؟ فقال: غفر اللّه لي بجهادي، وحبّي محمداً وآل محمد، وزادني في الجنة مسيرة مائة ألف عام من كل جانب من الممالك بشفاعة علي بن الحسين (عليهما السلام) .
فقلت له: قد اغتبطت أن استشهدت بمثل ما أنت عليه قال: أنت فوقي من مسيرة ألف ألف عام.
فقلت: بماذا؟! فقال: ألست تلقى علي بن الحسين (عليه السلام) في كل جمعة مرة وتسلّم عليه، وإذا رأيت وجهه صلّيت على محمد وآل محمد، ثم تروي عنه، وتذكر في هذا الزمان النكد - زمان بني أمية - فتعرض للمكروه، ولكن اللّه يقيك.
فلما انتبهت، قلت: لعله أضغاث أحلام. فعاودني النوم فرأيت ذلك
ص: 99
الرجل يقول: أشككت؟ لا تشك فإنّ الشك كفر، ولا تخبر بما رأيت أحداً، فإنّ علي بن الحسين يخبرك بمنامك هذا كما أخبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا بكر بمنامه في طريقه من الشام. فانتبهت وصلّيت فإذا رسول علي بن الحسين (عليهما السلام) ، فصرت إليه، فقال: يا زهري، رأيت البارحة كذا وكذا... المنامين جميعاً على وجههما(1).
عن أبان بن تغلب، قال: لما هدم الحجّاج الكعبة فرّق الناس ترابها، فلما صاروا إلى بنائها فأرادوا أن يبنوها، فخرجت عليهم حيّة، فمنعت الناس البناء حتى هربوا فأتوا الحجّاج، فخاف أن يكون قد منع بناها، فصعد المنبر ثم نشد الناس وقال: رحم اللّه عبداً عنده ممّا ابتلينا به علم لما أخبرنا به، قال: فقام إليه شيخ، فقال: إن يكن عند أحد علم فعند رجل رأيته جاء إلى الكعبة فأخذ مقدارها ثم مضى، فقال الحجّاج: من هو؟ فقال: علي بن الحسين (عليه السلام) فقال: معدن ذلك فبعث إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فأتاه فأخبره بما كان من منع اللّه إياه البناء، فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام) : يا حجّاج عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته كأنّك ترى أنّه تراث لك، اصعد المنبر وأنشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلا ردّه، قال: ففعل وأنشد الناس أن لا يبقى منهم أحد عنده شيء إلا ردّه قال: فردّوه.
فلما رأى جمع التراب أتى علي بن الحسين (عليهما السلام) فوضع الأساس وأمرهم أن يحفروا، قال: فتغيّبت عنهم الحيّة، فحفروا حتى انتهوا إلى موضع
ص: 100
القواعد، قال لهم علي بن الحسين (عليه السلام) : تنحّوا، فتنحّوا فدنا منها فغطاها بثوبه ثم بكى ثم غطاها بالتراب بيد نفسه، ثم دعا الفعلة، فقال: ضعوا بناءكم قال: فوضعوا البناء، فلما ارتفعت حيطانها أمر بالتراب فألقي في جوفه فلذلك صار البيت مرتفعاً يصعد إليه بالدرج(1).
قال سعيد بن المسيّب: كان القوم لا يخرجون من مكة، حتّى يخرج عليّ بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) ، فخرج وخرجت معه، فنزل في بعض المنازل، فصلّى ركعتين وسبّح في سجوده، فلم يبق شجر ولا مدر إلّا سبّحوا معه، ففزعنا منه فرفع رأسه، ثم قال: يا سعيد أفزعت؟
فقلت: نعم يا بن رسول اللّه!
قال: هذا التسبيح الأعظم(2).
قال إبراهيم بن الأسود اليمني، قال: رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) وقد اُوتي بطفل مكفوف، فمسح عينيه فاستوى بصره، وجاءوا إليه بأبكم فكلّمه وأجابه، فجاءوا إليه بمقعد فمسحه، وسعى ومشى(3).
عن أبي حمزة الثمالي، قال: كنت مع علي بن الحسين (عليه السلام) في داره
ص: 101
وفيها عصافير وهي تصوّت، فقال لي: أتدري ما يقلن هؤلاء العصافير؟
فقلت: لا أدري.
قال: يسبّحن ربهن ويهلّلن، ويسألنه قوت يومهن.
ثم قال: يا أبا حمزة، علّمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء(1).
نقل أبو خالد الكابلي فقال: إنّ رجلاً أتى علي بن الحسين (عليه السلام) وعنده أصحابه، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا منجّم وأبي عرّاف(2). فنظر إليه ثم قال له: هل أدلّك على رجل قدمرّ منذ دخلت علينا في أربعة آلاف عالم؟
فقال: من هو.
فقال له: إن شئت أنبأتك بما أكلت وما ادّخرت في بيتك.
فقال له: أنبئني.
فقال له: أكلت في هذا اليوم حيساً(3)، وأمّا ما في بيتك فعشرون ديناراً، منها ثلاثة دنانير دارية.
فقال له الرجل: أشهد أنّك الحجّة العظمى، والمثل الأعلى، وكلمة التقوى.
فقال له: أنت صديق امتحن اللّه قلبك(4).
ص: 102
روى أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان قائماً في صلاته، حتّى زحف ابنه محمّد، وهو طفل إلى بئر، كانت في دار بعيدة القعر، فسقط فيها فنظرت إليه أمّه فصرخت، فأقبلت تضرب بنفسها من حوالي البيت وتستغيث به، وتقول له: يا بن رسول اللّه، غرق واللّه ابنك محمّد، وهو يسمع قولها ولا ينثني عن صلاته، وهي تسمع اضطراب ابنها في قعر البئر في الماء فتشتدّ، فلمّا طال عليها ذلك قالت له: جزعاً على ابنها ما أقسى قلوبكم يا أهل بيت النبوة؟!
فأقبل على صلاته، ولم يخرج عنها إلّا بعد كمالها - و - تمامها، ثم أقبل عليها، فجلس على رأس البئر ومدّ يده إلى قعرها، وكانت لا تنال إلّا برشاء(1) طويل، فأخرج ابنه محمّداً، وهو يناغيه(2) ويضحك ولم يبتلّ له ثوب ولا جسد بالماء، فقال: هاك يا قليلة اليقين باللّه، فضحكت لسلامة ابنها، وبكت لقوله: فقال لا تثريب عليك لو علمت أنّني كنت بين يدي جبار لو ملت بوجهي عنه لمال بوجهه عنّي أفمن ترى أرحم بعبده منه؟!(3)
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين مع أصحابه في طريق مكة فمرّ به ثعلب وهم يعدون خلفه، فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : هل لكم أن تعطوني موثقاً من اللّه تعالى لا تروعون هذا الثعلب حتى ادعوه فيجيء؟
ص: 103
قالوا نعم، فنادى: يا ثعلب تعال، فأقبل الثعلب إليه ووقف بين يديه فناوله عُراقاً فأخذه وولّى ليأكله فعاد ناداه، فقال: هلّم صافحني، فجاء فتكلّم رجل منهم في وجهه فانصرف، فقال: من فيكم كلمه؟ فقال رجل، أنا، واستغفر(1).
روى أبو جعفر (عليه السلام) ، فقال: خدم أبو خالد الكابلي علي بن الحسين دهراً من عمره ثم إنه أراد أن ينصرف إلى أهله، فأتى علي بن الحسين (عليه السلام) وشكى إليه شدّة شوقه إلى والديه، فقال: يا أبا خالد يقدم غداً رجل من أهل الشام له قدر ومال كثير وقد أصاب بنتاً له عارض من أهل الأرض ويريدون أن يطلبوا معالجاً يعالجها فإذا أنت سمعت قدومه فأته وقل له: أنا أعالجها لك على أن اشترط لك أنّى أعالجها عليّ ديتها عشرة آلاف فلا تطمأن إليهم وسيعطونك ما تطلب منهم، فلما أصبحوا قدم الرجل ومن معه، وكان من عظماء أهل الشام في المال والمقدرة، فقال: أما من معالج يعالج بنت هذا الرجل؟
فقال له أبو خالد: أنا أعالجها على عشرة آلاف درهم فإن أنتم وفيتم وفيت على أن لا يعود إليها أبداً، فشرطوا أن يعطوه عشرة آلاف، فأقبل إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فأخبره الخبر، فقال: إنّى أعلم أنّهم سيغدرون بك ولا يفون لك انطلق يا أبا خالد فخذ بإذن الجارية اليسرى، ثم قل: يا خبيث يقول لك علي بن الحسين أخرج من هذه الجارية ولا تعد، ففعل أبو خالد ما أمره
ص: 104
فخرج منها فأفاقت الجارية. وطلب أبو خالد الذي شرطوا له فلم يعطوه، فرجع مغتماً كئيباً، فقال له علي بن الحسين: ما لي أراك كئيباً يا أبا خالد؟
ألم أقل لك أنّهم يغدرون بك؟ دعهم فإنّهم سيعودون إليك، فإذا لقوك فقل: لست أعالجها حتى تضعوا المال على يدي علي بن الحسين فإنّه لي ولكم ثقة، (فأصيب الجارية وعادوا إليه وقال ما أمره به فرضوا)، ووضعوا المال على يدي علي بن الحسين فرجع أبو خالد إلى الجارية فأخذ بإذنها اليسرى ثم قال: يا خبيث يقول لك علي بن الحسين اُخرج من هذه الجارية ولا تعرض لها إلا بسبيل خير فإنّك إن عُدت أحرقتك بنار اللّه الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فخرج منها ودفع المال إلى أبى خالد، فخرج إلى بلاده(1).
روى يحيى بن العلاء، فقال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: خرج علي بن الحسين (عليهما السلام) إلى مكة حاجا حتى انتهى إلى واد بين مكة والمدينة، فإذا هو برجل يقطع الطريق. قال: فقال لعلي (عليه السلام) : انزل، قال: تريد ماذا؟ قال: أريد أن أقتلك، وآخذ ما معك. قال: فأنا أقاسمك ما معي وأحلّلك. قال: فقال اللص: لا. فقال: دع معي ما أتبلغ به، فأبى عليه. قال: فأين ربك؟
قال: نائم. قال: فإذا أسدان مقبلان بين يديه، فأخذ هذا برأسه، وهذا برجليه. قال: فقال: زعمت أنّ ربك عنك نائم؟(2).
ص: 105
روى خالد بن عبد اللّه، قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) حاجّاً فجاء أصحابه فضربوا فسطاطه في ناحية، فلما رآه قال: هذا مكان قوم من الجن المؤمنين وقد ضيقتم عليه، فناداه هاتف: يا بن رسول اللّه قرب فسطاطك منّا رحمة لنا، وإن طاعتك مفروضة علينا، وهذه هديتنا إليك فاقبلها، قال جابر: فنظرنا وإذا إلى جانب الفسطاط أطباق مملوءة رطبا وعنباً، وموزاً ورماناً، فدعا زين العابدين (عليه السلام) من كان معه من أصحابه، وقال: كلوا من هدّية إخوانكم المؤمنين(1).
روي أنّ بني مروان لما كثر استنقاصهم بشيعة علي بن الحسين (عليه السلام) شكوا إليه حالهم فدعا الباقر (عليه السلام) وأخرج إليه حقّاً فيه خيط أصفر وأمره أن يحركه تحريكاً لطيفاً، فصعد السطح وحرّكه، وإذا بالأرض ترجف وبيوت المدينة تساقطت حتى هوى من المدينة ستمائة دار، وأقبل الناس هاربين إليه يقولون: أجرنا يا بن رسول اللّه، أجرنا يا ولي اللّه، فقال: هذا دأبنا ودأبهم يستنقصون بنا ونحن نفنيهم(2).
عن محمد بن ثابت، قال: كنت جالساً في مجلس سيدنا أبي الحسن علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) إذ وقف به عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، فقال
ص: 106
له: يا علي بن الحسين، بلغني أنّك تدّعي أن يونس بن متّى عُرضت عليه ولاية أبيك فلم يقبلها، فحبس في بطن الحوت؟
قال له علي بن الحسين (عليه السلام) يا عبد اللّه بن عمر، وما أنكرت من ذلك؟
قال: إنّي لا أقبله.
فقال: أتريد أن يصح لك ذلك؟
قال له: نعم، قال له: اجلس.
ثم دعا غلامه، فقال له: جئنا بعصابتين. وقال لي: يا محمد بن ثابت، شد عين عبد اللّه بإحدى العصابتين واشدد عينك بالأخرى، فشددنا أعيننا فتكلّم بكلام، ثم قال: حلّوا أعينكم. فحللناها فوجدنا أنفسنا على بساط ونحن على ساحل البحر.
ثم تكلّم بكلام فاستجاب له حيتان البحر إذ ظهرت بينهن حوتة عظيمة فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: اسمي نون.
فقال لها: لم حبس يونس في بطنك؟
فقالت: عرضت عليه ولاية أبيك فأنكرها، فحبس في بطني، فلما أقر بها وأذعن أمرت فقذفته، وكذلك من أنكر ولايتكم أهل البيت يخلد في نار الجحيم.
فقال له: يا عبد اللّه أسمعت وشهدت؟ فقال له: نعم. فقال: شدّوا أعينكم.
فشددناها فتكلّم بكلام ثم قال: حلّوها. فحللناها، فإذا نحن على البساط في مجلسه، فودّعه عبد اللّه وانصرف.
فقلت له: يا سيدي، لقد رأيت في يومي عجباً، فآمنت به، فترى عبد اللّه بن عمر يؤمن بما آمنت به؟
ص: 107
فقال لي: لا، أتحب أن تعرف ذلك؟ فقلت: نعم. قال: قم فاتبعه وماشيه واسمع ما يقول لك.
فتبعته في الطريق ومشيت معه، فقال لي: أنّك لو عرفت سحر عبد المطلب لما كان هذا بشيء في نفسك، هؤلاء قوم يتوارثون السحر كابراً عن كابر، فعند ذلك علمت أنّ الإمام لا يقول إلا حقاً(1).
روى أبو النمير علي ابن يزيد، قال: كنت مع علي بن الحسين (عليه السلام) عندما انصرف من الشام إلى المدينة، فكنت أحسن إلى نسائه وأتوارى عنهم عند قضاء حوائجهم، فلما نزلوا المدينة بعثوا إلي بشيء من حليّهن فلم آخذه، وقلت: فعلت هذا لله (عزّ وجلّ).
فأخذ علي بن الحسين (عليه السلام) حجرا أسود صمّاً فطبعه بخاتمه، ثم قال: خذه وسل كل حاجة لك منه.
فواللّه الذي بعث محمداً بالحق، لقد كنت أسأله الضوء في البيت فينسرج في الظلماء، وأضعه على الأقفال فتفتح لي، وآخذه بيدي وأقف بين يدي السلاطين فلا أرى إلا ما أحب(2).
روي أنّ الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) قال للزهري وهو واقف بعرفات: كم تقدر ههنا من الناس؟
ص: 108
قال: أقدر أربعة آلاف ألف وخمسمائة ألف كلّهم حجّاج قصدوا اللّه بآمالهم ويدعونه بضجيج أصواتهم.
فقال له: يا زهري ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج!
فقال الزهري: كلهم حجاج، أفهم قليل؟
فقال له: يا زهري أدن لي وجهك. فأدناه إليه، فمسح بيده وجهه، ثم قال: انظر.
فنظر إلى الناس، قال الزهري: فرأيت أولئك الخلق كلّهم قردة، لا أرى فيهم إنساناً إلا في كل عشرة آلاف واحدا من الناس.
ثم قال لي: اُدن منّي يا زهري.
فدنوت منه، فمسح بيده وجهي ثم قال: أنظر. فنظرت إلى الناس، قال الزهري: فرأيت أولئك الخلق كلهم خنازير، ثم قال لي: ادن لي وجهك. فأدنيت منه، فمسح بيده وجهي، فإذا هم كلهم ذئبة إلا تلك الخصائص من الناس نفراً يسيراً.
فقلت: بأبي وأمّي يا بن رسول اللّه قد أدهشتني آياتك، وحيرتني عجائبك!
قال: يا زهري ما الحجيج من هؤلاء إلا النفر اليسير الذين رأيتهم بين هذا الخلق الجم الغفير.
ثم قال لي: امسح يدك على وجهك.
ففعلت، فعاد أولئك الخلق في عيني ناساً كما كانوا أولاً(1).
ص: 109
هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
والده: هو الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :
والدته: السيدة فاطمة حفيدة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ، وكنيتها أُمّ فروة، وكان الإمام السجاد (عليه السلام) يسمّيها الصدّيقة، وقد وصفها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: كانت صدّيقة لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها(1).
وكانت ذات كرامة على اللّه تعالى، فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كانت أمّي قاعدة عند جدار فتصدّع الجدار، وسمعنا هدّة شديدة، فقالت بيدها(2):
لا وحقّ المصطفى ما أذن اللّه لك في السقوط، فبقي معلّقاً في الجو حتى جازته، فتصدّق أبي عنها بمائة دينار(3).
وهي المعنية في الخبر الوارد عن سفيان بن مصعب العبدي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال: قولوا لأمّ فروة تجيء فتسمع ما صنع بجدّها، قال: فجاءت فقعدت خلف الستر، ثم قال: أنشدنا.
قال: فقلت: (فرو جودي بدمعك المسكوب)، قال: فصاحت وصحن
ص: 110
النساء، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) الباب الباب، فاجتمع أهل المدينة على الباب.
قال: فبعث إليهم أبو عبد اللّه (عليه السلام) صبي لنا غشي عليه فصحن النساء(1).
وهي التي روت حديث الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: إنّي لأدعوا لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة مأة مرّة لأنّا... نصبر على ما نعلم ويصبرون على ما لا يعلمون(2).
ولادته: ولد (عليه السلام) بالمدينة المنورة في الثالث من شهر صفر سنة سبع وخمسين من الهجرة قبل قتل جدّه الإمام الحسين (عليه السلام) بثلاث سنين.
كناه: له كنية واحدة فقط وهي أبو جعفر.
ألقابه: الشاكر، والهادي، والأمين، والشبيه لشبهه برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والباقر وهو أشهرها لبقره العلم، ففي الخبر عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: إنّ جابر بن عبد اللّه الأنصاري كان آخر من بقي من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان رجلاً منقطعا إلينا أهل البيت وكان يقعد في مسجد رسول اللّه وهو معتجّر(3)
بعمامة سوداء وكان ينادي يا باقر العلم، يا باقر العلم، فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، فكان يقول: لا واللّه ما أهجر ولكنّي سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، يقول: أنّك ستدرك رجلاً مني اسمه اسمي وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذاك الذي دعاني إلى ما أقول، قال: فبينا جابر يتردّد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذمرّ بطريق في ذاك الطريق كُتَّاب فيه محمد بن علي، فلما نظر إليه، قال: يا غلام أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال:
ص: 111
شمائل رسول اللّه (عليهما السلام) والذي نفسي بيده، يا غلام ما اسمك؟
قال: اسمي محمد بن علي بن الحسين، فأقبل عليه يقبّل رأسه ويقول: بأبي أنت وأمّي أبوك رسول اللّه (عليهما السلام) يقرئك السلام ويقول ذلك، قال: فرجع محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) إلى أبيه وهو ذعر فأخبره الخبر، فقال له: يا بني وقد فعلها جابر، قال نعم قال: الزم بيتك يا بني فكان جابر يأتيه طرفي النهار وكان أهل المدينة يقولون: وا عجباه لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار وهو آخر من بقي من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين (عليهما السلام) ، فكان محمد بن علي يأتيه على وجه الكرامة لصحبته لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: فجلس (عليه السلام) يحدّثهم عن اللّه تبارك وتعالى، فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً أجرأ من هذا، فلما رأى ما يقولون حدّثهم عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أكذب من هذا يحدّثنا عمّن لم يره، فلما رأى ما يقولون حدّثهم عن جابر بن عبد اللّه، قال فصدّقوه وكان جابر بن عبد اللّه يأتيه فيتعلّم منه(1).
صفته: اسمر معتدل، ربع القامة، رقيق البشرة، جعد الشعر، أسمر، له خال على خدّه وخال أحمر في جسده، ضامر الكشح(2)، حسن الصوت، مطرق الرأس(3).
شاعره: السيد الحميري والكميت الشاعر الموالي المعروف وكان الإمام الباقر (عليه السلام) يكرمه، ففي الخبر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: دخلت عليه
ص: 112
فشكوت إليه الحاجة، قال: فقال: يا جابر ما عندنا درهم، فلم ألبث أن دخل عليه الكميت، فقال له: جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي حتى أنشدك قصيدة، قال: فقال: أنشد فأنشده قصيدة، فقال: يا غلام أخرج من ذلك البيت بدرة فادفعها إلى الكميت.
قال: فقال له: جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي أنشدك قصيدة أخرى؟
قال: أنشد فأنشده أخرى، قال: يا غلام أخرج من ذلك البيت بدّرة فادفعها إلى الكميت، قال: فأخرج بدّرة فدفعها إليه، قال: فقال له: جعلت فداك ان رأيت أن تأذن لي أنشدك ثالثة؟
قال له: أنشد، فقال: يا غلام أخرج من ذلك البيت بدرّة فادفعها إليه، قال: فأخرج بدرّة فدفعها إليه، فقال الكميت: جعلت فداك واللّه ما أحبكم لغرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما أوجب اللّه عليّ من الحق.
قال فدعا له أبو جعفر (عليه السلام) ثم قال: يا غلام ردّها مكانها، قال: فوجدت في نفسي، وقلت: قال: ليس عندي درهم وأمر للكميت بثلثين ألف درهم، قال: فقام الكميت وخرج، قلت له: جعلت فداك قلت ليس عندي دراهم وأمرت للكميت بثلاثين ألف درهم؟
فقال لي: يا جابر قم وادخل البيت، قال: فقمت ودخلت البيت فلم أجد منه شيئاً فخرجت إليه فقال لي: يا جابر ما سترنا عنكم أكثر ممّا أظهرنا لكم، فقام فأخذ بيدي وأدخلني البيت ثم قام وضرب برجله الأرض فإذا شبيه بعنق البعير قد خرجت من ذهب.
ثم قال لي: يا جابر انظر إلى هذا ولا تخبر به أحداً إلا من تثق به من
ص: 113
إخوانك إنّ اللّه أقدرنا على ما نريد ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمتها لسقناها(1).
نُسب للإمام الباقر (عليه السلام) أنه أنشد الشعر ومن ذلك:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم***لم يبق إلا شامت أو حاسد
بوّابه: جابر الجعفي.
نقش خاتمه: ربّ لا تذرني فرداً، ونُقل أنّ نقش خاتمه الأبيات التالية:
ظنّي باللّه حسن***وبالنبي المؤتمن
وبالوصي ذي المنن***وبالحسين والحسن
كثر ثناء المادحون على الإمام الباقر (عليه السلام) كل منهم يسابق الآخر بتفاخر لتسجيل كلمته في الثناء عليه ليخلّد اسمه في ديوان المشاهير الذين أطروا على هذا الإمام العظيم (عليه السلام) ، ولو أردنا استقصاء من أثنى بكلمة عليه لطال المقام لذا نقتصر بذكر بعضهم ومنهم:
1- قال الذهبي: محمد بن علي بن الحسين، الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني أحد الأعلام(2).
2- قال ابن منظور: التبقّر: التوسّع في العلم والمال، وكان يقال لمحمد بن علي بن الحسين بن علي الباقر رضوان اللّه عليهم، لأنه بقر العلم وعرف
ص: 114
أصله واستنبط فرعه وتبقّر في العلم(1).
3- قال الفيروز آبادي: والباقر محمد بن علي بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهم لتبحّره في العلم(2).
4- قال ابن خلكان: وكان الباقر عالماً سيداً كبيراً، وإنّما قيل له الباقر لأنه تبقّر في العلم أي توسّع والتبقّر التوسع، وفيه يقول الشاعر:
يا باقر العلم لأهل التقى***وخير من لبّى على الأجبل(3)
5- قال الطريحي: وتبقّر في العلم: توسع، ومنه سمّي أبو جعفر الباقر (عليه السلام) لأنه بقر العلم بقراً، وشقّه، وفتحه(4).
6- قال ابن عنبه: وكان واسع العلم، وافر الحلم، وجلالة قدره أشهر من ينبّه عليها(5).
7- قال ابن كثير: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب...، وسمّي بالباقر لبقره العلوم، واستنباطه الحكم، كان ذاكراً خاشعاً صابراً، وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفاً بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضاً عن الجدال والخصومات(6).
8- قال ابن حجر: سمّي بذلك لأنه من بقر الأرض أي شقّها، وأثارة
ص: 115
مخبئاتها، ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقائق الأحكام، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية السريرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه(1).
قال ابن حمزة: وقد سمعت شيخي أبا جعفر محمد بن الحسين الشوهاني بمشهد الرضا (عليه السلام) في داره، وهو يقرأ في كتابه، وقد ذهب عني اسم الراوي، أنّ فتى من أهل الشام كان يكثر الجلوس عند أبي جعفر (عليه السلام) ، فقال ذات يوم: واللّه ما أجلس إليك حبّاً لك، وإنّما أجلس إليك لفصاحتك وفضلك.
فتبسّم (عليه السلام) ولم يقل شيئاً، ثم فقده بعد ذلك بأيام، فسأل عنه فقيل له: مريض، فدخل عليه إنسان وقال له: يا بن رسول اللّه إنّ الفتى الشامي الذي كان يكثر الجلوس إليك قد توفّي وأوصى إليك أن تصلي عليه.
فقال (عليه السلام) : إذا غسلتموه فدعوه على السرير ولا تكفنوه حتى آتيكم، ثم قام فتطهّر، وصلّى ركعتين، ودعا، وسجد بعده فأطال السجود، ثم قام فلبس نعليه، وتردى برداء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومضى إليه.
فلما وصل دخل البيت الذي يغسل فيه وهو على سريره، وقد فرغ من غسله وناداه باسمه، فقال: يا فلان فأجابه ولبّاه، ورفع رأسه وجلس، فدعا (عليه السلام) بشربة سويق فسقاه، ثم سأله: ما حالك؟
فقال: إنه قد قبض روحي بلا شك منّي، وإنّي لما قبضت سمعت صوتاً ما
ص: 116
سمعت قط أطيب منه: ردّوا إليه روحه، فإنّ محمد بن علي (عليه السلام) قد سألناه(1).
عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) إلى الحج وأنا زميله إذ أقبل ورشان(2) فوقع على غرارة(3) محمله، فترنّم، فذهبت لآخذه فصاح بي: مه يا جابر، فإنّه استجار بنا أهل البيت، فقلت: وما الذي شكا إليك؟
قال: شكا إلي أنه يفرخ في هذا الجبل منذ ثلاث سنين، وأنّ حيّة تأتيه تأكل أفراخه، فسألني أن أدعو اللّه عليها ليقتلها، ففعلت، وقد قتلها اللّه.
ثم سرنا حتى إذا كان وقت السحر قال لي: انزل يا جابر، فنزلت، فأخذت بخطام(4) الجمل، فنزل فتنحّى يمنة ويسرة وهو يقول: اللّهم اسقنا، وأظهر لنا ماء، فإذا حجر مربع أبيض بين الرمل فاقتلعه، فنبع له عين ماء صاف، فتوضأنا وشربنا منه، ثم ارتحلنا، فأصبحنا دون قريات ونخل، فعمد أبو جعفر (عليه السلام) إلى نخلة يابسة فدنا منها وقال: أيتها النخلة اليابسة، أطعمينا، فلقد رأيت النخلة تنحني حتى جعلنا نتناول من ثمرها ونأكل، وإذا أعرابي يقول: ما رأيت ساحراً كاليوم؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : يا أعرابي، لا تكذبن علينا أهل البيت، فإنّه ليس منا
ص: 117
ساحر ولا كاذب، ولكن علمنا اسماً من أسماء اللّه تعالى، نسأل اللّه به فنعطي، وندعو به فنجاب(1).
عن أبي بصير قال: دخلت المسجد مع أبي جعفر (عليه السلام) والناس يدخلون ويخرجون، فقال لي: سل الناس هل يرونني؟ فكل من لقيته قلت له: أرأيت أبا جعفر؟ يقول: لا، وهو واقف حتى دخل أبو هارون المكفوف، قال: سل هذا، فقلت: هل رأيت أبا جعفر؟ فقال: أليس هو بقائم، قال: وما علمك؟ قال: وكيف لا أعلم وهو نور ساطع، قال: وسمعت يقول لرجل من أهل إفريقيا: ما حال راشد؟ قال: خلفته حياً صالحاً يقرئك السلام، قال: رحمه اللّه. قال: مات؟ قال: نعم قال: متى؟ قال: بعد خروجك بيومين، قال: واللّه ما مرض ولا كان به علّة!
قال: وإنّما يموت من يموت من مرض وعلّة، قلت: من الرجل؟ قال: رجل لنا موالياً ولنا محباً، ثم قال: لئن ترون أنه ليس لنا معكم أعين ناظرة، أو أسماع سامعة؟ لبئس ما رأيتم، واللّه لا يخفى علينا شيء من أعمالكم، فاحضرونا جميلاً وعودوا أنفسكم الخير، وكونوا من أهله تعرفون به فإنّي بهذا آمر ولدي وشيعتي(2).
روى أبو عتيبة قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدخل رجل، فقال: أنا من
ص: 118
أهل الشام أتولاكم وأبرأ من عدوكم، وأبي كان يتولّى بني أمية وكان له مال كثير، ولم يكن له ولد غيري وكان مسكنه بالرملة(1) وكان له جنينة يتخلّى فيها بنفسه، فلما مات طلبت المال فلم أظفر به، ولا أشك أنّه دفنه وأخفاه منّي. قال أبو جعفر: أفتحبّ أن تراه وتسأله أين موضع ماله؟ قال: إي واللّه إنّي لفقير محتاج، فكتب أبو جعفر كتاباً وختمه بخاتمه، ثم قال: انطلق بهذا الكتاب الليلة إلى البقيع حتى تتوسّطه، ثم تنادي: يا درجان يا درجان، فإنّه يأتيك رجل معتم فادفع إليه كتابي، وقل: أنا رسول محمد بن علي بن الحسين فإنّه يأتيك فاسئله عمّا بدا لك، فأخذ الرجل الكتاب وانطلق.
قال أبو عتيبة: فلما كان من الغد أتيت أبا جعفر لأنظر ما حال الرجل فإذا هو على الباب ينتظر أن يؤذن له، فأذن له فدخلنا جميعا، فقال الرجل: اللّه يعلم عند من يضع العلم، قد انطلقت البارحة، وفعلت ما أمرت، فأتاني الرجل، فقال: لا تبرح من موضعك حتى آتيك به، فأتاني برجل أسود، فقال: هذا أبوك قلت: ما هو أبي، قال: غيّره اللّهب ودخان الجحيم والعذاب الأليم، قلت: أنت أبي؟ قال: نعم، قلت: فما غيّرك عن صورتك وهيئتك؟ قال: يا بني كنت أتولّى بني أمية وأفضّلهم على أهل بيت النبي بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فعذّبني اللّه بذلك، وكنت أنت تتولاّهم، وكنت أبغضتك على ذلك وحرمتك مالي فزويته عنك، وأنا اليوم على ذلك من النادمين، فانطلق يا بني إلى جنّتي فاحفر تحت الزيتونة وخذ المال مائة ألف درهم، فادفع
ص: 119
إلى محمد بن علي (عليهما السلام) خمسين ألفاً والباقي لك، ثم قال: وأنا منطلق حتى آخذ المال وآتيك بمالك، قال أبو عتيبة: فلما كان من قابل سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما فعل الرجل صاحب المال؟ قال: قد أتاني بخمسين ألف درهم، فقضيت منها ديناً كان علي، وابتعت منها أرضاً بناحية خبير، ووصلت منها أهل الحاجة من أهل بيتي(1).
عن أبي الصباح الكناني قال: صرت يوماً إلى باب أبي جعفر الباقر (عليهما السلام) ، فقرعت الباب، فخرجت إلي وصيفة(2) ناهد، فضربت بيدي إلى رأس ثديها وقلت لها: قولي لمولاك: إنّي بالباب.
فصاح من آخر الدار: أدخل، لا أمّ لك.
فدخلت، وقلت: يا مولاي - واللّه - ما قصدت ريبة، ولا أردت إلا زيادة في يقيني، فقال: صدقت لئن ظننتم أنّ هذه الجدران تحجب أبصارنا كما تحجب أبصاركم، إذن لا فرق بيننا وبينكم! فإيّاك أن تعاود لمثلها(3).
عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال لرجل من أهل خراسان: كيف أبوك؟
ص: 120
قال: صالح.
قال: قد مات أبوك بعدما خرجت، حيث صرت جرجان ثم قال: كيف أخوك؟
قال: تركته صالحاً؟
قال: قد قتله جار له يقال له صالح يوم كذا في ساعة كذا، فبكى الرجل وقال: إنا لله وإنّا إليه راجعون بما أصبت.
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : أُسكن فقد صاروا إلى الجنة والجنة خير لهم ممّا كانوا فيه.
فقال له الرجل: إنّي خلّفت ابني وجعاً شديداً ولم تسألني عنه.
قال: قد برأ وقد زوّجه عمّه ابنته، وأنت تقدم عليه وقد ولد له غلام واسمه علي وهو لنا شيعة، وأمّا ابنك فليس لنا شيعة بل هو لنا عدو.
فقال له الرجل: فهل من حيلة؟
عن جابر بن يزيد (رحمه اللّه) ، قال: خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) وهو يريد الحيرة، فلما أشرفنا على كربلاء قال لي: يا جابر، هذه روضة من رياض الجنة لنا ولشيعتنا، وحفرة من حفر جهنم لأعدائنا.
ثم إنّه قضى ما أراد، ثم التفت إلي وقال: يا جابر. فقلت: لبيك سيدي.
ص: 121
قال لي: تأكل شيئاً؟ قلت: نعم سيدي.
قال: فأدخل يده بين الحجارة، فأخرج لي تفاحة لم أشم قط رائحة مثلها، لا تشبه رائحة فاكهة الدنيا، فعلمت أنّها من الجنة، فأكلتها، فعصمتني من الطعام أربعين يوماً، لم آكل ولم أحدث(1).
عن محمد بن مسلم، قال: خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) ، فإذا نحن بقاع مجدب يتوقّد حرّاً، وهناك عصافير فتطايرن ودرن حول بغلته فزجرها، وقال: لا، ولا كرامة.
قال: ثم صار إلى مقصده، فلما رجعنا من الغد وعدنا إلى القاع، فإذا العصافير قد طارت ودارت حول بغلته ورفرفت، فسمعته يقول: اشربي وأروي، فنظرت وإذا في القاع ضحضاح(2) من الماء، فقلت: يا سيدي، بالأمس منعتها واليوم سقيتها، فقال: اعلم أنّ اليوم خالطها القنابر فسقيتها، ولولا القنابر لما سقيتها، فقلت: يا سيدي، وما الفرق بين القنابر والعصافير؟
فقال: ويحك أمّا العصافير فإنّهم موالي زفر لأنّهم منه، وأمّا القنابر فإنّهم من موالينا - أهل البيت - وأنّهم يقولون في صفيرهم: بوركتم أهل البيت، وبوركت شيعتكم، ولعن اللّه أعداءكم(3).
عن محمد بن مسلم، قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) بين مكة والمدينة
ص: 122
نسير، أنا على حمار لي، وهو على بغلة له، إذ أقبل ذئب من رأس الجبل حتى انتهى إلى أبي جعفر، فحبس له البغلة حتى دنا منه، فوضع يده على قربوس السرج، ومدّ عنقه إليه وأدنى أبو جعفر أذنه منه ساعة، ثم قال له: امض فقد فعلت.
فرجع مهرولاً. فقلت: جعلت فداك، لقد رأيت عجيباً!
فقال: هل تدري ما قال؟
قلت: اللّه ورسوله وابن رسوله أعلم.
فقال: ذكر أنّ زوجته في هذا الجبل، وقد عسرت عليها ولادتها، فادع اللّه عزّ وجلّ أن يخلّصها، وأن لا يسلّط شيئاً من نسلي على أحد من شيعتكم أهل البيت. فقلت: قد فعلت(1).
عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: شكوت إليه الحاجة، فقال: يا جابر، ما عندنا درهم.
قال: فلم ألبث أن دخل الكميت بن زيد الشاعر، فقال له: جعلني اللّه فداك أتأذن لي أن أنشدك قصيدة قلتها فيكم؟
فقال له: هاتها. فأنشده قصيدة أولها: (من لقلب متيّم مستهام)(2).
ولما فرغ منها قال: يا غلام، اُدخل ذلك البيت وأخرج إلى الكميت
ص: 123
بدرّة(1)، وادفعها إليه. فأخرجها ووضعها بين يديه.
فقال له: جعلت فداك، إنّ رأيت أن تأذن لي في أخرى. فقال له: هاتها. فأنشده أخرى، فأمر له ببدرة أخرى، فأخرجت له من البيت.
ثم قال له: الثالثة. فأذن له، فأمر له ببدرة ثالثة، فأخرجت له.
فقال له الكميت: يا سيدي، واللّه ما أنشدك طلباً لعرض من الدنيا، وما أردت بذلك إلا صلة لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما أوجبه اللّه علي من حقّكم.
فدعا له أبو جعفر، ثم قال: يا غلام، ردّ هذه البدر في مكانها. فأخذها الغلام فردّها.
قال جابر: فقلت في نفسي: شكوت إليه الحاجة، فقال: ما عندي شيء، وأمر للكميت بثلاثين ألف درهم!
وخرج الكميت، فقال: يا جابر، قم فادخل ذلك البيت.
قال: فدخلت فلم أجد فيه شيئاً، فخرجت فأخبرته، فقال: يا جابر، ما سترنا عنك أكثر ممّا أظهرناه لك.
ثم قام وأخذ بيدي فأدخلني ذلك البيت وضرب برجله الأرض فإذا شبه عنق البعير قد خرج من ذهب، فقال: يا جابر، انظر إلى هذا ولا تخبر به إلا من تثق به من إخوانك.
يا جابر، إنّ جبرئيل أتى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غير مرة بمفاتيح خزائن الأرض كنوزها، وخيره من غير أن ينقصه اللّه مما أعد له شيئا، فاختار التواضع لربه
ص: 124
عزّ وجلّ، ونحن نختاره.
يا جابر إنّ اللّه أقدرنا على ما نريد من خزائن الأرض، ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمّتها لَسُقنَاها(1).
عن عطية أخي أبي العوام، قال: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) في مسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ أقبل أعرابي على لقوح(2) له، فعقلها ثم دخل، فضرب ببصره يميناً وشمالاً كأنه طائر العقل، فهتف به أبو جعفر فلم يسمعه، فأخذ كفاً من حصا فحصبه(3)، فأقبل الأعرابي حتى نزل بين يديه، فقال له: يا أعرابي من أين أقبلت؟
قال: من أقصى الأرض.
فقال له أبو جعفر: أوسع من ذلك، فمن أين أقبلت؟
قال: من أقصى الدنيا، وما خلفي من شيء، أقبلت من الأحقاف.
قال: أي الأحقاف؟
قال: أحقاف عاد.
قال: يا أعرابي، فما مررت به في طريقك؟
قال: مررت بكذا. فقال أبو جعفر: ومررت بكذا، فقال الأعرابي: نعم، ومررت بكذا.
ص: 125
قال أبو جعفر (عليه السلام) : ومررت بكذا؟. فلم يزل الأعرابي يقول: إنّي مررت، ويقول له أبو جعفر: ومررت بكذا، إلى أن قال له أبو جعفر: فمررت بشجرة يقال لها: شجرة الرقاق؟
قال: فوثب الأعرابي على رجليه ثم صفق بيديه، وقال: واللّه، ما رأيت رجلا أعلم بالبلاد منك، أوطأتها؟
قال: لا يا أعرابي، ولكنها عندي في كتاب.
يا أعرابي، إنّ من ورائكم لواد يقال له برهوت تسكنه البوم والهام(1)، تعذب فيه أرواح المشركين إلى يوم القيامة(2).
ص: 126
هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
أبوه: الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) .
أمّه: فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وتكنّى أمّ فروة وأمّها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان يقول: ولدني أبو بكر مرتين(1).
وقد قال الإمام (عليه السلام) في حقّها: كانت أمّي ممّن آمنت واتقت وأحسنت، واللّه يحبّ المحسنين(2).
وعن عبدالأعلى، قال: رأيت أمّ فروة تطوف بالكعبة عليها كساء متنكّرة، فاستلمت الحجر بيدها اليسرى، فقال لها رجل: يا أمة اللّه أخطأت السنّة، فقالت: إنّا لأغنياء عن علمك(3).
وقال المسعودي في إثبات الوصية: وكان أبوها القاسم من ثقات أصحاب علي ابن الحسين (عليهما السلام) ، وكانت من أتقى نساء زمانها، وروت عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أحاديث، منها قوله لها: يا أمّ فروة إنّي لأدعو لمذنبي
ص: 127
شيعتنا في اليوم والليلة مائة مرة، يعني الاستغفار، لأنا نصبر على ما نعلم، وهم يصبرون على مالا يعلمون(1).
الولادة: ولد الإمام الصادق (عليه السلام) في المدينة المنوّرة يوم الإثنين في السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين.
صفته: معتدل أدمي اللون، ربع القامة، أزهر الوجه، حالك الشعر، جعد، أشم(2) الأنف، أنزع رقيق البشرة، على خدّه خال أسود، وعلى جسده خيلان حمرة.
كنيته: أبوعبداللّه، وأبو إسماعيل، وأبو موسى.
لقبه: الصادق، والعاطر، والطاهر، والفاضل، والكافل، والمنجي، والقائم، وأشهرها هو الصادق حيث شاع هذا اللقب وصار بديلاً عن اسمه، وذكر بعض المؤرّخين وجوها لهذا اللقب منها أنّه لقّب بالصادق لصدقه في مقالته، أو لأنه لم يعرف عنه الكذب قط(3).
بوابه: المفضل بن عمر.
نقش خاتمه: اللّه ربّي، عصمني من خلقه، وقيل: ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه استغفر اللّه.
أقام مع جدّه علي بن الحسين (عليه السلام) اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه تسع عشرة سنة، وبعد أبيه أيام إمامته أربعاً وثلاثين سنة.
شاعره: السيد إسماعيل الحميري (رحمه اللّه) الذي كان أبواه ناصبيين، وقد أنكر
ص: 128
الحميري عليهما في بعض أشعاره، وبلغ بهما الأمر أن سعيا به إلى سلطان عصره فأنجاه اللّه بفضل دعاء الإمام الصادق (عليه السلام) .
وكان لما يسئل: أنّك مع انتسابك إلى قبيلة حمير أنصار معاوية، وكونك من أهل الشام كيف تركت التسنّن واعتنقت التشيع؟
يقول في جوابهم: صبّت عليّ الرحمة صبّا، كما صبت على مؤمن آل فرعون(1).
سمّاه الإمام الصادق (عليه السلام) بالسيد إكراماً له، حيث قال له حينما التقى به: سمّتك أمّك سيّداً ووفّقت في ذلك، فأنت سيد الشعراء، فنظم أبياتاً افتخاراً بذلك قال فيها:
ولقد عجبت لقائل لي مرّة***علاّمة فهم من الفقهاء
سمّاك قومك سيّداً، صدقوا به***أنت الموفّق سيّد الشعراء
ما أنت حين تخصّ آل محمد***بالمدح منك وشاعر بسواء(2)
وعن محمد بن النعمان، قال: دخلت عليه - الحميري - في مرضه بالكوفة، فرأيته وقد أسودّ وجهه وازرقّت عيناه وعطش كبده، فدخلت على الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يومئذ بالكوفة راجعاً من عند الخليفة، فقلت له: جعلت فداك إنّي فارقت السيد بن محمد الحميري وهو - لما به - على أسوأ حال من كذا وكذا.
فأمر بالإسراج وركب ومضينا معه حتى دخلنا عليه، وعنده جماعة محدقون به، فقعد الإمام الصادق (عليه السلام) عند رأسه، فقال: ياسيّد، ففتح عينيه
ص: 129
ينظر إليه ولا يطيق الكلام، فحرّك الإمام (عليه السلام) شفتيه، ثم قال له: ياسيّد قل بالحق: يكشف اللّه ما بك ويرحمك ويدخلك جنته التي وعد أوليائه، فقال في ذلك:
تجعفرت باسم اللّه واللّه أكبر***وأيقنت أنّ اللّه يعفو ويغفر
ودنت بدين غير ما كنت دايناً***به ونهاني سيّد الناس جعفر
وعن الحسين بن علوان، قال: دخلت على السيد إسماعيل الحميري عائداً في علّته التي مات فيها، فوجدته يساق به، وعنده جماعة من جيرانه، وكان جميل الوجه، فبدت في وجهه نكتة سوداء وزادت حتى أطبقت وجهه.
فاغتم من حضر من الشيعة وفرح النواصب، فلم يلبث إلا قليلاً حتى بدت من ذلك المكان لمعة بيضاء حتى أشرق وجهه نوراً، فضحك السيّد وقال:
كذب الزاعمون أنّ علياً***لن ينجي محبّه من هناة
قد وربّي دخلت جنّة عدن***وعفا لي الإله عن سيئاتي
فأبشروا اليوم أولياء علي***وتولّوا علياً حتى الممات
ثم من بعده تولوا بنيه***واحداً بعد واحد بالصفات(1)
نسب للإمام الصادق (عليه السلام) أنّه أنشد الشعر ومن ذلك:
لو أنّا متنا تركنا***لكان الموت راحة كل شيء
ولكنّا إذا متنا بعثنا***ونسأل بعد ذا عن كل شيء
ص: 130
بلغ مقام الإمام الصادق (عليه السلام) من المنزلة أنّ المخالف والمؤالف أشادوا بمقامه الرفيع وأثنوا عليه، ومنهم:
1- أبو العوجاء، قال: ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد إذا شاء ظاهرا ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا(1).
2- قال مالك: اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إمّا مصلّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث إلا على طهارة(2) وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً علماً وعبادة وورعاً(3).
3- قال المنصور الدوانيقي: إنّ جعفراً كان ممّن قال اللّه فيه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(4)،
وكان ممن اصطفى اللّه وكان من السابقين بالخيرات(5).
4- قال ابو حنيفة: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، وكان يقول سلوني قبل تفقدوني فإنه لا يحدثكم بعدي بمثل حديثي(6).
ص: 131
عن محمد بن سنان قال: وجه المنصور إلى سبعين رجلاً من أهل كابل فدعاهم، فقال لهم: ويحكم أنّكم تزعمون أنّكم ورثتم السحر عن آبائكم أيام موسى (عليه السلام) وأنّكم تفرّقون بين المرء وزوجه، وأنّ أبا عبد اللّه جعفر بن محمد (عليه السلام) ساحر مثلكم، فاعلموا شيئاً من السحر، فإنّكم إن أبهتموه أعطيتكم الجائزة العظيمة والمال الجزيل، فقاموا إلى المجلس الذي فيه المنصور وصوّروا له سبعين صورة من صور السباع لا يأكلون ولا يشربون، وإنّما كانت صور، وجلس كل واحد منهم تحت صورته، وجلس المنصور على سريره ووضع إكليله على رأسه، ثم قال لحاجبه: ابعث إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: فدخل عليه فلما أن نظر إليه وإليهم وبما قد استعدّوا له رفع يده إلى السماء ثم تكلّم بكلام بعضه جهراً وبعضه خفياً، ثم قال: ويحكم أنا الذي أبطل سحركم، ثم نادى برفيع صوته: قسورة خذهم، فوثب كل سبع منها على صاحبه فافترسه في مكانه، ووقع المنصور عن سريره وهو يقول: يا أبا عبد اللّه أقلني فواللّه لا عدت إلى مثلها أبداً، فقال له: قد أقلتك. قال: يا سيدي فردّ السباع إلى ما أكلوا، قال (عليه السلام) : هيهات إن عادت عصا موسى فستعود السباع(1).
يقول رفيد مولى يزيد بن عمرو بن هبيرة: سخط علي ابن هبيرة وحلف علي ليقتلني فهربت منه وعذت بأبي عبد اللّه (عليه السلام) فأعلمته خبري، فقال لي:
ص: 132
انصرف واقرأه منّي السلام وقل له: إنّي قد أجرت عليك مولاك رفيدا فلا تهجه بسوء، فقلت له: جعلت فداك شامي خبيث الرأي.
فقال: اذهب إليه كما أقول لك، فأقبلت، فلما كنت في بعض البوادي استقبلني أعرابي، فقال: أين تذهب إنّي أرى وجه مقتول، ثم قال لي: أخرج يدك، ففعلت، فقال: يد مقتول، ثم قال لي: أبرز رجلك فأبرزت رجلي، فقال: رجل مقتول، ثم قال لي: أبرز جسدك؟
ففعلت، فقال: جسد مقتول، ثم قال لي: أخرج لسانك، ففعلت، فقال لي: امض، فلا بأس عليك فإنّ في لسانك رسالة لو أتيت بها الجبال الرواسي لانقادت لك، قال: فجئت حتى وقفت على باب ابن هبيرة، فاستأذنت، فلما دخلت عليه قال: أتتك بحائن رجلاه يا غلام النطع والسيف، ثم أمر بي فكتفت وشدّ رأسي وقام علي السيّاف ليضرب عنقي، فقلت: أيها الأمير لم تظفر بي عنوة وإنّما جئتك من ذات نفسي وههنا أمر أذكره لك ثم أنت وشأنك، فقال: قل، فقلت: أخلني فأمر من حضر فخرجوا، فقلت له: جعفر بن محمد يقرئك السلام ويقول لك: قد آجرت عليك مولاك رفيداً فلا تهجه بسوء.
فقال: واللّه لقد قال لك جعفر بن محمد هذه المقالة وأقرأني السلام؟!
فحلفت له فردّها علي ثلاثاً ثم حلّ أكتافي، ثم قال: لا يقنعني منك حتى تفعل لي ما فعلت بك، قلت: ما تنطلق يدي بذاك ولا تطيب به نفسي، فقال: واللّه ما يقنعني إلا ذاك، ففعلت به كما فعل بي وأطلقته فناولني خاتمه، وقال: أموري في يدك فدبر فيها ما شئت(1).
ص: 133
روى المفضل بن عمر، قال: كنت أمشي مع أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليهما السلام) بمكة إذ مررنا بامرأة بين يديها بقرة ميتة، وهي مع صبية لها تبكيان، فقال (عليه السلام) لها: ما شأنك؟
قالت: كنت أنا وصبياني نعيش من هذه البقرة وقد ماتت، لقد تحيّرت في أمري. قال: أفتحبين أن يحييها اللّه لك؟ قالت: أو تسخر منّي مع مصيبتي!؟
قال: كلا ما أردت ذلك، ثم دعا بدعاء، ثم ركضها برجله، وصاح بها، فقامت البقرة مسرعة سوية، فقالت: عيسى بن مريم ورب الكعبة(1).
روى جميل بن دراج، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فدخلت عليه امرأة وذكرت أنّها تركت ابنها وقد قالت بالملحفة على وجهه ميتاً، فقال لها: لعله لم يمت فقومي فاذهبي إلى بيتك فاغتسلي وصلّي ركعتين وادعي وقولي: يامن وهبه لي ولم يك شيئاً جدّد هبته لي ثم حرّكيه ولا تخبري بذلك أحداً، قالت: ففعلت فحركته فإذا هو قد بكى(2).
روى داود بن كثير الرقي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فدخل عليه ابنه موسى وهو ينتفض من البرد، فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : كيف
ص: 134
أصبحت؟
قال: أصبحت في كنف اللّه، متقلّبا في رحمة اللّه، أشتهي عنقود عنب جرشي(1) ورمانة خضراء. قال داود: قلت: سبحان اللّه هذا الشتاء!
فقال: يا داود إنّ اللّه قادر على كل شيء، ادخل البستان، فدخلته فإذا شجرة عليها عنقود من عنب جرشي ورمانة خضراء، فقلت: آمنت بسركم وعلانيتكم.
فقطعهما وأخرجهما إلى موسى، فقعد يأكل، فقال: يا داود واللّه لهذا فضل من رزق قديم، خصّ اللّه به مريم بنت عمران من الأفق الأعلى(2).
قال محمد بن راشد، عن جدّه، قال: قصدت إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) أسأله عن مسألة، فقالوا: مات السيد الحميري الشاعر، وهو في جنازته.
فمضيت إلى المقابر فاستفتيته، فأفتاني، فلما أن قمت أخذ بثوبي فجذبه إليه ثم قال: إنّكم معاشر الأحداث تركتم العلم.
فقلت: أنت إمام هذا الزمان؟ قال: نعم.
قلت: فدليل أو علامة؟ قال: سلني عما شئت أخبرك به إن شاء اللّه.
قلت: إنّي أصبت بأخ لي ودفنته في هذه المقابر، فأحيه لي بإذن اللّه.
قال: ما أنت بأهل لذلك، ولكن أخاك كان مؤمناً واسمه عندنا «أحمد».
ودنا من القبر ودعا، قال: فانشق عنه قبره، وخرج إلي - واللّه - وهو يقول: يا
ص: 135
أخي اتبعه ولا تفارقه، ثم عاد إلى قبره، واستحلفني على أن لا اُخبر به أحداً(1).
روى عمار السجستاني، قال: كان عبد اللّه النجاشي منقطعاً إلى عبد اللّه بن الحسن يقول بالزيدية فقضى أنّي خرجت وهو إلى مكة فذهب هذا إلى عبد اللّه بن الحسن وجئت أنا إلى أبى عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: فلقيني بعد فقال: استأذن لي على صاحبك، فقلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إنّه سئلني الاذن له عليك. قال: فقال: ائذن له. قال: فدخل عليه فسأله، فقال له أبو عبد اللّه (عليه السلام) : ما دعاك إلى ما صنعت تذكر يوم كذا يوم مررت على باب قوم فسال عليك ميزاب من الدار فسألتهم، فقالوا: إنّه قذر فطرحت نفسك في النهر مع ثيابك وعليك مصبَّغة(2)
فاجتمعوا عليك الصبيان يضحكونك ويضحكون منك، فقال عمار: فالتفت الرجل إلي: فقال ما دعاك أن تخبر بخبري أبا عبد اللّه؟ قال: قلت: لا واللّه ما خبرّته هو ذا قدّامي يسمع كلامي. قال: فلما خرجنا قال لي: يا عمار هذا صاحبي دون غيره(3).
روى داود بن كثير الرقي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عليهما السلام) بالمدينة، فقال لي: ما الذي أبطأ بك يا داود عنّا؟
فقلت: حاجة عرضت بالكوفة، فقال: من خلّفت بها؟ فقلت: جعلت فداك،
ص: 136
خلّفت بها عمّك زيداً، تركته راكباً على فرس متقلّداً سيفاً، ينادي بأعلى صوته: سلوني سلوني قبل أن تفقدوني، فبين جوانحي علم جم، قد عرفت الناسخ من المنسوخ، والمثاني والقرآن العظيم، وإنّي العلم بين اللّه وبينكم، فقال لي: يا داود، لقد ذهبت بك المذاهب، ثم نادى: يا سماعة بن مهران، ائتني بسلّة الرطب، فأتاه بسلّة فيها رطب، فتناول منها رطبة فأكلها واستخرج النواة من فيه فغرسها في الأرض، ففلقت وأنبتت وأطلعت وأغدقت، فضرب بيده إلى بسرة من عذق فشقّها واستخرج منها رقّاً أبيض ففضّه ودفعه إلي، وقال: اقرأه، فقرأته وإذا فيه سطران، السطر الأول: لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه. والثاني: {إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ}(1) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الحسن بن علي، الحسين بن علي، علي بن الحسين، محمد بن علي، جعفر بن محمد، موسى بن جعفر، علي بن موسى، محمد بن علي، علي بن محمد، الحسن بن علي، الخلف الحجّة، ثم قال: ياداود، أتدري متى كتب هذا في هذا؟
قلت: اللّه أعلم ورسوله وأنتم.
فقال: قبل أن يخلق اللّه آدم بألفي عام(2).
روى صفوان، قال: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأتاه غلام، فقال: ماتت
ص: 137
أمّي. فقال له (عليه السلام) : لم تمت. قال: تركتها مسجّى عليها!
فقام أبو عبد اللّه (عليه السلام) ودخل عليها، فإذا هي قاعدة، فقال لابنها: ادخل إلى أمّك فشهّها من الطعام ما شاءت فأطعمها.
فقال الغلام: يا أمّاه ما تشتهين؟ قالت: أشتهي زبيباً مطبوخاً. فقال له: ائتها بغضارة (1) مملوة زبيباً. فأكلت منها حاجتها، وقال له: قل لها: إنّ ابن رسول اللّه بالباب يأمرك أن توصين. فأوصت، ثم توفّيت.
قال: فما برحنا حتى صلّى عليها أبو عبد اللّه (عليه السلام) ودفنت(2).
عن أبي كهمس، قال: كنت بالمدينة نازلاً في دار وفيها وصيفة تعجبني، فانصرفت ليلة ممسياً، فاستفتحت الباب، ففتحت لي، فمددت يدي إلى ثدييها فقبضت عليهما.
فلما كان من الغد دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال: يا أبا كهمس، تب إلى اللّه عزّ وجلّ ممّا صنعت البارحة(3).
عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال: ما فعل أبو حمزة الثمالي؟ قلت: خلفته صالحاً.
قال: إذا رجعت فأقرئه السلام، وأعلمه أنّه يموت في شهر كذا، وفي يوم
ص: 138
كذا.
قال أبو بصير: جعلت فداك، واللّه لقد كان فيه أنس، وكان لكم شيعة.
قال: صدقت، ما عند اللّه خير له.
قلت: شيعتكم معكم؟
قال: إذا هو خاف اللّه، وراقب اللّه، وتوقّى الذنوب، فإذا فعل ذلك كان له درجتنا.
قال: فرجعت تلك السنة، فما لبث أبو حمزة إلا يسيراً حتى توفّي رحمه اللّه(1).
عن سورة بن كليب، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : يا سورة، كيف حججت العام؟
قال: قلت: استقرضت حجتي، واللّه إني لأعلم أنّ اللّه تعالى سيقضيها عنّي، وما كان أعظم حجّتي إلا شوقاً إليك، بعد المغفرة، وإلى حديثك.
قال: أمّا حجتك فقد قضاها اللّه من عندي.
ثم رفع مصلّى تحته، فأخرج دنانير، وعدّ عشرين ديناراً، وقال: هذه حجّتك. وعدّ عشرين ديناراً، وقال: هذه معونة لك، تكفيك حتى تموت.
قلت: جعلت فداك، أخبرني، إنّ أجلي قد دنا؟
قال: يا سورة، أما ترضى أن تكون معنا ومع إخوانك فلان وفلان؟! قلت: نعم.
ص: 139
قال صندل: فما لبث إلا بقية الشهر حتى مات(1).
عن أبي بصير، قال: دخلت أبي عبد اللّه (عليه السلام) وأنا أريد أن يعطيني دلالة مثل ما أعطاني أبو جعفر (عليه السلام) .
فلما دخلت عليه، قال: يا أبا محمد، ما كان لك فيما كنت فيه شغل؟!
تدخل على إمامك وأنت جنب؟!
قال: قلت: جعلت فداك، ما فعلت إلا على عمد.
قال: أولم تؤمن؟
قال: قلت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي.
قال: قم يا أبا محمد فاغتسل. فاغتسلت وعدت إلى مجلسي، فعلمت عند ذلك أنّه الإمام (عليه السلام) (2).
ص: 140
هو الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والده (عليه السلام) : الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) .
والدته: السيدة حميدة البربرية، وهي من أشرف النساء، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) في حقّها: حميدة مصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب، مازالت الأملاك تحرسها حتى اُديت إليّ، كرامة من اللّه لي والحجة من بعدي(1).
ولادته: ولد (عليه السلام) في السابع من شهر صفر المظفّر سنة 128ه- في الأبواء بين المدينة ومكة.
كنيته: أبو الحسن، وأبو إبراهيم، ويُعرف بأبي الحسن الأول.
ألقابه: الصابر، والصالح، والأمين، والزاهر، والوفي، والصابر، والأمين، وأشهرها الكاظم، لقّب به لفرط حلمه، وكظمه الغيظ، وتجاوزه عن المسيئين إليه.
صفته: ذكروا أنّه (عليه السلام) كان أزهر، أسمر غميق، ربع القامة أي متوسطها، كثّ اللحية.
ص: 141
نقش خاتمه: الملك لله وحده.
وفي الخبر عن الإمام الرضا (عليه السلام) : وكان نقش خاتم أبي الحسن (عليه السلام) حسبي اللّه، وفيه وردة، وهلال في أعلاه(1).
1- قال هارون: موسی بن جعفر امام حق(2).
وقال: هذا وارث علم النبيين هذا موسی بن جعفر بن محمد، ان أردت العلم الصحيح فعند هذا(3).
2- قال يحيی بن الحسن بن جعفر النسابة: كان موسی بن جعفر يدعی العبد الصالح من عبادته واجتهاده(4).
3- قال الذهبي: وقد كان موسی من أجود الحكماء، ومن العباد الأتقياء، وله مشهد معروف ببغداد(5).
عن الأعمش، قال: رأيت كاظم الغيظ (عليه السلام) عند الرشيد وقد خضع له، فقال له عيسى ابن أبان: يا أمير المؤمنين، لم تخضع له؟
ص: 142
قال: رأيت من ورائي أفعى تضرب بنابها وتقول: أجبه بالطاعة وإلا بلعتك.
ففزعت منها فأجبته(1).
روى غالب بن مرّة ومحمد بن غالب، قالا: كنّا في حبس الرشيد، فأدخل موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فأنبع اللّه له عيناً وأنبت له شجرة، فكان يأكل ويشرب ونهنيه، وكان إذا دخل بعض أصحاب الرشيد غابت حتى لا ترى(2).
روى الأعمش فقال: رأيت موسى بن جعفر (عليه السلام) وقد أتى شجرة مقطوعة موضوعة فمسها بيده فأورقت، ثم اجتنى منها ثمراً وأطعمني(3).
عن علي بن يقطين، قال: كنت واقفاً بين يدي الرشيد إذ جاءته هدايا من ملك الروم، كانت فيها دراعة(4) ديباج مذهبّة سوداء، لم أر شيئا أحسن منها، فنظر إلي وأنا أحد إليها النظر، فقال: يا علي، أعجبتك؟
قلت: إي واللّه يا أمير المؤمنين. قال: خذها. فأخذتها وانصرفت بها إلى منزلي، وشددتها في منديل، ووجهتها إلى المدينة، فمكثت ستة أشهر - أو
ص: 143
سبعة أشهر - ثم انصرفت يوماً من عند هارون، وقد تغديت بين يديه، فقام إلي خادمي الذي يأخذ ثيابي بمنديل على يديه، وكتاب مختوم، وطينه رطب، فقال: جاء بهذه الساعة رجل، فقال: ادفع هذا إلى مولاك ساعة يدخل. ففضضت الكتاب، فإذا فيه: يا علي، هذا وقت حاجتك إلى الدراعة.
فكشفت طرف المنديل عنها، ودخل علي خادم هارون فقال: أجب أمير المؤمنين. فقلت: أيّ شيء حدث؟ قال: لا أدري، فمضيت ودخلت عليه، وعنده عمر بن بزيع واقفاً بين يديه، فقال: يا علي، ما فعلت الدرّاعة التي وهبتها لك؟
قلت: ما كساني أمير المؤمنين أكثر من ذلك، فعن أيّ دراعة تسألني يا أمير المؤمنين؟
قال: الدراعة الديباج السوداء المذهّبة.
قلت: ما عسى أن يصنع مثلي بمثلها؟! إذا انصرفت من دار أمير المؤمنين دعوت بها فلبستها، وصلّيت بها ركعتين - أو أربع ركعات - ولقد دخل علي الرسول ودعوت بها لأفعل ذلك.
فنظر إلى عمر بن بزيع وقال: أرسل من يجيئني بها. فأرسلت خادمي، فجاءني بها، فلما رآها قال: يا عمر، ما ينبغي لنا أن نقبل قول أحد على علي بعد هذا. وأمر لي بخمسين ألف درهم، فحملتها مع الدراعة، وبعثت بها وبالمال من يومي ذلك(1).
عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت العبد الصالح (عليه السلام) يقول ينعى إلى
ص: 144
رجل نفسه، فقلت في نفسي: إنّه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته! فقال شبه المغضب: يا إسحاق، قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا، والإمام أولى ذلك(1).
روى علي بن أبي حمزة، فقال: كنت عند أبي الحسن (عليه السلام) إذ أتاه رجل من أهل الري، يقال له (جندب) فسلّم عليه وجلس، فسأله أبو الحسن (عليه السلام) فأحسن السؤال، فقال له: ما فعل أخوك؟ فقال: بخير، جعلت فداك، وهو يقرئك السلام.
قال: يا جندب، أعظم اللّه أجرك في أخيك.
فقال: ورد، واللّه، علي كتابه لثلاثة عشر يوماً بالسلامة. فقال: يا جندب، إنه، واللّه، مات بعد كتابه إليك بيومين، ودفع إلى امرأته مالاً، وقال لها: ليكن هذا عندك، فإذا قدم أخي فادفعيه إليه، وقد أودعته في الأرض، في البيت الذي كان يسكنه، فإذا أنت أتيتها فتلطّف لها، وأطمعها في نفسك، فإنّها ستدفعه إليك.
قال علي بن أبي حمزة: فلقيت جندبا بعد ذلك، فسألته عما كان قال أبو الحسن (عليه السلام) ، فقال: صدق، واللّه، سيدي، ما زاد ولا نقص(2).
عن إسحاق بن عمار، قال: كنت عنده إذ دخل عليه رجل من أهل
ص: 145
خراسان، فكلّمه بكلام لم أسمع قط كلاماً كان أعجب منه، كأنّه كلام الطير، فلما خرج قلت: جعلت فداك، أيّ لسان هذا؟
قال: هذا كلام أهل الصين.
ثم قال: يا إسحاق، ما أوتي العالم من العجب أعجب وأكثر ممّا أوتي من هذا الكلام.
قلت: أيعرف الإمام منطق الطير؟
قال: نعم، ومنطق كل شيء، ومنطق كل ذي روح، وما سقط عليه شيء من الكلام(1).
روى أحمد بن محمد المعروف بغزال، قال: كنت جالسا مع أبي الحسن (عليه السلام) في حائط له، إذ جاء عصفور فوقع بين يديه، وأخذ يصيح، ويكثر الصياح، ويضطرب، فقال لي: تدري ما يقول هذا العصفور؟
قلت: اللّه ورسوله ووليه أعلم.
فقال: يقول: يا مولاي، إنّ حيّة تريد أن تأكل فراخي في البيت، فقم بنا ندفعها عنه، وعن فراخه.
فقمنا ودخلنا البيت، فإذا حيّة تجول في البيت، فقتلناها(2).
روى الحسن بن علي الوشاء، قال: حججت أيام خالي إسماعيل بن
ص: 146
إلياس، فكتبنا إلى أبي الحسن الأول (عليه السلام) ، فكتب خالي: إنّ لي بنات وليس لي ذكر، وقد قل رجالنا، وقد خلفت امرأتي وهي حامل، فادع اللّه أن يجعله غلاماً، وسمّه.
فوقّع في الكتاب: قد قضى اللّه تبارك وتعالى حاجتك، وسمّه محمداً، فقدمنا الكوفة وقد ولد لي غلام قبل دخول الكوفة بستة أيام، ودخلنا يوم سابعه، قال أبو محمد: فهو واللّه اليوم رجل له أولاد(1).
عن أحمد التبان، قال: كنت نائماً على فراشي، فما أحسست إلا ورجل قد رفسني برجله، فقال لي: يا هذا، ينام شيعة آل محمد؟ فقمت فزعاً، فلما رآني فزعا ضمّني إلى صدره، فالتفت فإذا إنا بأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) ، فقال: يا أحمد، توضأ للصلاة.
فتوضأت، وأخذني بيدي، فأخرجني من باب داري، وكان باب الدار مغلقا ً، ما أدري من أين أخرجني! فإذا أنا بناقة معقلة له، فحلّ عقالها وأردفني خلفه، وسار بي غير بعيد، فأنزلني موضعاً فصلّى بي أربعاً وعشرين ركعة. ثم قال: يا أحمد، تدري في أيّ موضع أنت؟
قلت: اللّه، ورسوله، ووليه، وابن رسوله، أعلم.
قال: هذا قبر جدّي الحسين بن علي (عليه السلام) .
ثم سار غير بعيد حتى أتى الكوفة، وإنّ الكلاب والحرس لقيام، ما من كلب ولا حارس يبصر شيئاً، فأدخلني المسجد، وإنّي لأعرفه وأنكره،
ص: 147
فصلّى بي سبع عشرة ركعة. ثم قال: يا أحمد، تدري أين أنت؟
قلت: اللّه، ورسوله، وابن رسوله، أعلم.
قال: هذا مسجد الكوفة، وهذه الطست.
ثم سار غير بعيد وأنزلني، فصلّى بي أربعاً وعشرين ركعة. ثم قال: يا أحمد، أتدري أين أنت؟
قلت: اللّه، ورسوله، وابن رسوله، أعلم.
قال: هذا قبر جدّي علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
ثم سار بي غير بعيد، فأنزلني، فقال لي: أين أنت؟
قلت: اللّه، ورسوله، وابن رسوله، أعلم.
قال: هذا قبر الخليل إبراهيم.
ثم سار بي غير بعيد، فأدخلني مكة، وإنّي لأعرف البيت وبئر زمزم وبيت الشراب، فقال لي: يا أحمد، أتدري أين أنت؟
قلت: اللّه، ورسوله، وابن رسوله، أعلم.
قال: هذه مكة، وهذا البيت، وهذه زمزم، وهذا بيت الشراب.
ثم سار بي غير بعيد، فأدخلني مسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقبره، فصلّى بي أربعاً وعشرين ركعة. ثم قال لي: أتدري أين أنت؟
قلت: اللّه، ورسوله، وابن رسوله، أعلم.
قال: هذا مسجد جدّي رسول اللّه وقبره.
ثم سار بي غير بعيد، فأتى بي الشعب، شعب أبي جبير، فقال: يا أحمد، تريد أريك من دلالات الإمام؟ قلت: نعم.
ص: 148
قال: يا ليل، أدبر. فأدبر الليل عنّا، ثم قال: يا نهار، أقبل. فأقبل النهار إلينا بالنور العظيم، وبالشمس حتى رجعت بيضاء نقية، فصلينا الزوال، ثم قال: يا نهار أدبر، يا ليل أقبل. فأقبل علينا الليل حتى صلّينا المغرب، قال: يا أحمد، أرأيت؟ قلت: حسبي هذا يا بن رسول اللّه.
فسار حتى أتى بي جبلاً محيطاً بالدنيا، ما الدنيا عنده إلا مثل سكرجة(1)، فقال: أتدري أين أنت؟
قلت اللّه، ورسوله، وابن رسوله، أعلم.
قال: هذا جبل محيط بالدنيا. وإذا أنا بقوم عليهم ثياب بيض، فقال: يا أحمد، هؤلاء قوم موسى، فسلّم عليهم. فسلّمت عليهم فردّوا علينا السلام.
قلت: يا بن رسول اللّه، قد نعست.
قال: تريد أن تنام على فراشك؟ قلت: نعم.
فركض برجله ركضة، ثم قال: نم. فإذا أنا في منزلي نائم، وتوضّأت وصلّيت الغداة في منزلي. والحمد لله أولا وآخراً(2).
روى يعقوب السراج، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى وهو في المهد، فجعل يسارّه طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه، فقال لي: اُدن من مولاك فسلّم، فدنوت فسلمت عليه فردّ علي السلام بلسان فصيح، ثم قال لي:
ص: 149
اذهب فغيّر اسم ابنتك التي سمّيتها أمس، فإنّه اسم يبغضه اللّه، وكان ولدت لي ابنة سمّيتها بالحميراء، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : انته إلى أمره ترشد، فغيّرت اسمها(1).
علي بن أبي حمزة قال: أخذ بيدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) يوما، فخرجنا من المدينة إلى الصحراء فإذا نحن برجل مغربي على الطريق يبكي وبين يديه حمار ميت، ورحله مطروح.
فقال له موسى (عليه السلام) : ما شأنك؟ قال: كنت مع رفقائي نريد الحج فمات حماري ها هنا وبقيت وحدي، ومضى أصحابي وقد بقيت متحيّراً ليس لي شيء أحمل عليه.
فقال موسى (عليه السلام) : لعله لم يمت قال: أما ترحمني حتى تلهو بي، قال: إنّ لي رقية جيدة. قال الرجل: ليس يكفيني ما أنا فيه حتى تستهزيء بي؟!
فدنا موسى (عليه السلام) من الحمار ودعا بشيء لم أسمعه، وأخذ قضيباً كان مطروحاً فنخسه به وصاح عليه، فوثب الحمار صحيحاً سليماً.
فقال: يا مغربي ترى ها هنا شيئاً من الاستهزاء: إلحق بأصحابك. ومضينا وتركناه.
قال علي بن أبي حمزة: فكنت واقفاً يوماً على بئر زمزم بمكة، فإذا المغربي هناك فلما رآني عدا إلي وقَبَّلَني فرحا مسرورا، فقلت له: ما حال حمارك؟ فقال: هو واللّه سليم صحيح وما أدري من أين منَّ اللّه به علي
ص: 150
فأحيا لي حماري بعد موته؟
فقلت له: قد بلغت حاجتك فلا تسأل عمّا لا تبلغ معرفته(1).
روى الإمام الرضا (عليه السلام) قال: قال أبي موسى (عليه السلام) للحسين بن أبي العلا: اشتر لي جارية نوبية. فقال الحسين: أعرف واللّه جارية نوبية نفيسة أحسن ما رأيت من النوبة، فلو لا خصلة لكانت من شأنك.
قال (عليه السلام) : وما تلك الخصلة؟ قال: لا تعرف كلامك وأنت لا تعرف كلامها.
فتبسّم (عليه السلام) ثم قال: اذهب حتى تشتريها.
فلما دخلت بها عليه، قال لها بلغتها: ما اسمك؟ قالت: مؤنسة: قال: أنت لعمري مؤنسة، قد كان لك اسم غير هذا، وقد كان اسمك قبل هذا حبيبة، قالت: صدقت(2).
روى عبد اللّه بن المغيرة، قال: مرّ العبد الصالح بامرأة بمنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون، وقد ماتت لها بقرة، فدنا منها ثم قال لها: ما يبكيك يا أمة اللّه؟ قالت: يا عبد اللّه إنّ لنا صبياناً يتامى وكانت لي بقرة معيشتي ومعيشة صبياني كان منها وقد ماتت وبقيت منقطعا بي وبولدي لا حيلة لنا فقال: يا أمة اللّه هل لك أن أحييها لك؟ فالهمت أن قالت: نعم يا عبد اللّه،
ص: 151
فتنحى وصلّى ركعتين، ثم رفع يده هنيئة وحرّك شفتيه، ثم قام فصوّت بالبقرة فنخسها نخسة أو ضربها برجله، فاستوت على الأرض قائمة، فلما نظرت المرأة إلى البقرة صاحت وقالت: عيسى ابن مريم وربّ الكعبة، فخالط الناس وصار بينهم ومضى (عليه السلام) (1).
ص: 152
هو الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
والده: الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) .
والدته: تدعى تُكتم، وفي ذلك يقول الشاعر لدى مدحه للإمام الرضا (عليه السلام) :
ألا أنّ خير الناس نفساً وولداً***ورهطاً وأجداداً علي المعظّم
أتتنا به للعلم والحلم ثامناً***إماماً يؤدّي حجّة اللّه تكتم(1)
وقيل: إنّ إسمها نجمة وكنيتها أمّ البنين، ونُقل أنّ اسمها خيزران وهي أمّ ولد من أهالي نوبة، وقد سمّاها الإمام الكاظم (عليه السلام) بطاهرة(2).
وقد اشتراها الإمام الكاظم (عليه السلام) بأمر من اللّه عزّوجلّ، ففي الخبر أنّه (عليه السلام) لما ابتاعها - أي تكتم - جمع قوماً من أصحابه، ثم قال: واللّه ما اشتريت هذه الجارية إلا بأمر اللّه ووحيه.
فسئل عن ذلك، فقال: بينا أنا نائم إذ أتاني جدّي وأبي، ومعهما شقّة حرير فنشراها، فإذا قميص وفيه صورة هذه الجارية، فقال: يا موسى،
ص: 153
ليكونن من هذه الجارية خير أهل الأرض، ثم أمراني إذا ولدته أن أسمّيه علياً، وقالا لي: إنّ اللّه تعالى يظهر به العدل والرأفة والرحمة، طوبى لمن صدّقه، وويل لمن عاداه وجحده وعانده(1).
وكانت بكراً لما اشترتها السيدة حميدة والدة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وإلى ذلك يشير علي بن ميثم قائلاً: سمعت أبي يقول: سمعت أمّي تقول:
كانت نجمة بكراً لما اشترتها حميدة(2).
كما رأت السيدة حميدة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنام وهو يقول لها: ياحميدة، هبي نجمة لابنك موسى (عليه السلام) فإنّه سيلد له منها خير أهل الأرض فوهبتها له(3).
الولادة: ولد الإمام الرضا (عليه السلام) في الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 148ه- .
كنيته: أبو الحسن، وقد كنّاه بذلك أبوه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حيث قال لعلي بن يقطين: ياعلي - وأشار إلى الإمام الرضا (عليه السلام) - هذا إبني سيد ولدي وقد نحلته كنيتي(4).
ألقابه: الرضا، والصابر، والزكي، والولي، وأشهر الرضا، وهناك أكثر من وجه لتلقيبه بالرضا منها ما نقل عن أحمد بن أبي نصر البزنطي، قال: قلت
ص: 154
لأبي جعفر محمد ابن علي الثاني (عليهما السلام) : إن قوماً من مخالفيكم يزعمون أنّ أباك (عليه السلام) إنّما سمّاه المأمون الرضا لما رضيه لولاية عهده، فقال (عليه السلام) : كذبوا واللّه وفجروا بل اللّه تعالى سمّاه الرضا لأنه كان (عليه السلام) رضى لله تعالى ذكره في سمائه ورضى لرسوله والأئمة بعده (عليهم السلام) في أرضه.
قال: فقلت له: ألم يكن كل واحد من آبائك الماضين (عليهم السلام) رضى اللّه تعالى ولرسوله والأئمة بعده؟
فقال بلى: فقلت له: فلم سمّي أباك (عليه السلام) من بينهم الرضا؟
قال: لأنّه رضى به المخالفون من أعدائه، كما رضى اللّه الموافقون من أوليائه ولم يكن ذلك لأحد من آبائه (عليهم السلام) ، فلذلك سمّي من بينهم الرضا (عليه السلام) (1).
صفته: ذهب كثير من المؤرّخين إلى أنّه (عليه السلام) كان أسمر، وقيل: إنّه كان أبيض معتدل القامة، وإنّه شديد الشبه بجدّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
شاعره: دعبل الخزاعي الشاعر المعروف صاحب التائية الشهيرة، ممّن عاصر الإمام الصادق والكاظم والرضا والجواد (عليهم السلام) ، اشتهر بولائه لأهل البيت (عليهم السلام) والمعاداة لمخالفيهم حتى ذاع عنه أنه كان يقول: إني أحمل خشبتي مذ أربعين سنة ولا أجد من يصلبين عليها(2).
وعن أبي الصلت الهروي، قال: دخل الخزاعي على علي بن موسى الرضا بمرو، فقال: يا بن رسول اللّه، إنّي قلت فيكم أهل البيت قصيدة
ص: 155
وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك وأحب أن تسمعها منّي، فقال الإمام الرضا (عليه السلام) : هات قل. فأنشأ يقول:
ذكرت محل الربع من عرفات***فأجريت دمع العين بالعبرات
فكّ عرى صبري وهاجت صبابتي***رسوم ديار أقفرت وعرات
مدارس آيات خلت من تلاوة***ومهبط وحي مقفر العرصات
لآل رسول اللّه بالخيف من منى***وبالبيت والتعريف والجمرات
ديار علي والحسين وجعفر***وحمزة والسجاد ذو الثفنات
ديار لعبد اللّه والفضل صنوه***نجي رسول اللّه في الخلوات
وهي قصيدة طويلة عدّة أبياتها مائة وعشرون بيتاً، يقول دعبل: لما أنشدت مولاي الرضا (عليه السلام) هذه القصيدة وانتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج***يقوم على اسم اللّه والبركات
يميز فينا كل حقّ وباطل***ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الإمام الرضا (عليه السلام) ثم رفع رأسه إليّ وقال: يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم؟
فقلت: لا يا سيدي إلا أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملَؤها عدلاً، فقال: يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلا يومٌ واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً(1).
ولمّا فرغ دعبل من إنشاد القصيدة نهض الإمام الرضا (عليه السلام) وقال: لا تبرح.
ص: 156
فأنفذ إليه صرّة فيها مائة دينار واعتذر إليه، فردّها دعبل وقال: واللّه ما لهذا جئت وإنّما جئت للسلام عليه والتبرّك بالنظر إلى وجهه الميمون وإنّي لفي غني، فإن رأى أن يعطيني شيئاً من ثيابه للتبرّك فهو أحب إلي.
فأعطاه الإمام (عليه السلام) جبة خزّ عليه الصرّة، وقال للغلام: قل له: خذ هذه الصرة وإنك ستحتاج إليها ولا تراجعين فيها، فأخذها وأخذ الجبّة(1).
بوّابه: محمد بن الفرات.
نقش خاتمه: حسبي اللّه، وقيل: ما شاء اللّه لا حول ولا قوة إلا باللّه.
1- قال الحافظ الجويني: مظهر خفيات الأسرار، ومبرز خبيات الأمور الكوامن، منبع المكارم والميامن، ومنبع الأعالي الخضارم والأيامن، منيع الجناب، رفيع القباب، وسيع الرحاب، هتون(2) السحاب، عزيز الألطاف، غزير الأكناف، أمير الأشراف، قرّة عين آل ياسين وآل عبد مناف، السيد، الطاهر، المعصوم، والعارف بحقائق العلوم، والواقف على غوامض أسرار السر المكتوم، والمخبر بما هو آت وعمّا غبر ومضى، المرضي عند اللّه سبحانه برضاه عنه في جميع الأحوال، ولذا لقّب بالرضا علي بن موسى، صلوات اللّه على محمد وآله، خصوصاً عليه، ما سحّ سحاب وهمى، وطلع نبات ونما(3).
ص: 157
2- قال الذهبي: الإمام السيد أبو الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين الهاشمي العلوي المدني، ...كان من العلم والدين والسؤدد بمكان. يقال: أفتى وهو شاب في أيام مالك(1).
3- قال الصفدي: وهو أحد الأئمة الاثني عشر، كان سيد بني هاشم في زمانه، وكان المأمون يخضع له ويتغالى فيه، حتى إنّه جعله وليّ عهده من بعده، وكتب إلى الآفاق بذلك(2).
4- قال اليافعي: فيها (أي سنة 203) توفّي الإمام الجليل المعظّم، سلالة السادة الأكارم، أبو الحسن علي بن موسى الكاظم...، أحد الأئمة الاثني عشر، أولي المناقب، الذين انتسبت الإمامية إليهم، وقصروا بناء مذهبهم عليه(3).
5- قال ابن الصبّاغ المالكي: قال بعض الأئمة من أهل العلم، مناقب علي بن موسى الرضا من أجلّ المناقب، وأمداد فضائله وفواضله متوالية كتوالي الكتائب، وموالاته محمودة البوادي والعواقب، وعجائب أوصافه من غرائب العجائب، وسؤدده ونبله قد حلّ من الشرف في الذروة والمغارب، فلمواليه السعد الطالع، ولمناويه النحس الغارب(4).
6- قال النسّابة ابن عنبة: علي بن موسى الكاظم ويكنّى أبا الحسن ولم
ص: 158
يكن في الطالبيين في عصره مثله، بايع له المأمون بولاية العهد، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، ... ثم توفّي بطوس ودفن بها(1).
روى عمارة بن زيد، قال: رأيت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فكلّمته في رجل أن يصله بشيء، فأعطاني مخلاة(2) تبن، فاستحييت أن أراجعه، فلما وصلت باب الرجل فتحتها فإذا كلّها دنانير، فاستغنى الرجل وعقبه. فلما كان من غد أتيته، فقلت: يا بن رسول اللّه، إنّ ذلك التبن تحوّل ذهباً! فقال (عليه السلام) : لهذا دفعناه إليك(3).
يقول الريان بن الصلت: لما أردت الخروج إلى العراق وعزمت على توديع الإمام الرضا (عليه السلام) ، فقلت في نفسي: إذا ودّعته سألته قميصاً من ثياب جسده لأكفّن به، ودراهم من ماله أصوغ بها لبناتي خواتيم.
فلما ودّعته شغلني البكاء والأسف على فراقه عن مسألة ذلك، فلما خرجت من بين يديه صاح بي: يا ريان ارجع فرجعت، فقال لي: أما تحبّ أن أدفع إليك قميصاً من ثياب جسدي تكفّن فيه إذا فنى أجلك؟
أوما تحبّ أن أدفع إليك دراهم تصوغ بها لبناتك خواتيم؟
ص: 159
فقلت: يا سيدي قد كان في نفسي أن أسألك ذلك فمنعني الغم بفراقك، فرفع (عليه السلام) الوسادة وأخرج قميصاً فدفعه إليّ ورفع جانب المصلّى فأخرج دراهم فدفعها إليّ وعددتها فكانت ثلاثين درهما(1).
روى سعد بن سلام، فقال: أتيت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد حاس(2) الناس فيه وقالوا: لا يصلح للإمامة، فإنّ أباه لم يوص إليه. فقعد منّا عشرة رجال فكلّموه، فسمعت الجماد الذي من تحته يقول: هو إمامي وإمام كل شيء، وإنّه دخل المسجد الذي في المدينة - يعني مدينة أبي جعفر المنصور - فرأيت الحيطان والخشب تكلّمه وتسلّم عليه(3).
قال إبراهيم بن موسى: ألححت على أبى الحسن الرضا في شيء أطلبه منه وكان يعدني، فخرج ذات يوم يستقبل والى المدينة وكنت معه فجاء إلى قرب قصر فلان فنزل في موضع تحت شجرات ونزلت معه أنا وليس معنا ثالث، فقلت: جعلت فداك هذا العبد قد أظلّنا، ولا واللّه ما أملك درهما فيما سواه، فحكّ بسوطه الأرض حكّاً شديداً ثم ضرب بيده فتناول بيده سبيكة ذهب، فقال: انتفع بها واكتم ما رأيت(4).
ص: 160
روى إبراهيم بن سهل، قال: لقيت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وهو على حماره، فقلت له:
من أركبك هذا، وتزعم أكثر شيعتك أنّ أباك لم يوصك ولم يقعدك هذا المقعد، وادّعيت لنفسك ما لم يكن لك؟
فقال لي: وما دلالة الإمام عندك؟
قلت: أن يكلّم بما وراء البيت، وأن يحيي ويميت.
فقال: أنا أفعل، أمّا الذي معك فخمسة دنانير، وأمّا أهلك فإنّها ماتت منذ سنة وقد أحييتها الساعة وأتركها معك سنة أخرى، ثم أقبضها إلي لتعلم أنّي إمام بلا خلاف. فوقعت علي الرعدة، فقال: أخرج روعك فإنّك آمن.
ثم انطلقت إلى منزلي، فإذا بأهلي جالسة، فقلت لها: ما الذي جاء بك؟ فقالت: كنت نائمة إذ أتاني آت، ضخم، شديد السمرة - فوصفت لي صفة الرضا (عليه السلام) - فقال لي: يا هذه، قومي وارجعي إلى زوجك، فإنّك ترزقين بعد الموت ولداً. فرزقت واللّه(1).
عن أبي حبيب البناجي أنه قال: رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المنام وقد وافى البنّاج ونزل بها في المسجد الذي ينزله الحاج كل سنة وكإنّي مضيت إليه وسلّمت عليه ووقفت بين يديه ووجدت عنده طبقاً من خوص(2) نخل
ص: 161
المدينة فيه تمر صيحانّي فكأنّه قبض قبضة من ذلك التمر، فناولني منه فعددته فكان ثمانية عشرة تمرة، فتأولت أنّي أعيش بعدد كل تمرة سنة.
فلما كان بعد عشرين يوماً كنت في أرض تعمر بين يدي للزراعة حتى جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من المدينة ونزوله ذلك المسجد، ورأيت الناس يسعون إليه، فمضيت نحوه فإذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت فيه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحته حصير مثل ما كان تحته وبين يديه طبق خوص فيه تمر صيحاني، فسلّمت عليه فردّ السلام علي واستدناني، فناولني قبضة من ذلك التمر فعددته فإذا عدده مثل ذلك التمر الذي ناولني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقلت له: زدني منه يا بن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال (عليه السلام) : لو زادك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لزدناك(1).
روى عمارة بن زيد، فقال: صحبت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى مكة ومعي غلام لي، فاعتلّ في الطريق، فاشتهى العنب ونحن في مفازة(2).
فوجّه إليّ الرضا (عليه السلام) ، فقال: إنّ غلامك اشتهى العنب. فنظرت وإذا أنا بكرم لم أر أحسن منه، وأشجار رمان، فقطعت عنباً ورماناً وأتيت به الغلام، فتزوّدنا منه إلى مكة، ورجعت منه إلى بغداد، فحدّثت الليث بن سعد وإبراهيم ابن سعد الجوهري، فأتيا الرضا (عليه السلام) فأخبراه، فقال لهما الرضا (عليه السلام) : وما هي ببعيد منكما، ها هو ذا. فإذا هم ببستان فيه من كل نوع فأكلنا وادّخرنا(3).
ص: 162
يقول محمد بن عبد الرحمن الهمدانيّ: ركبني دين ضاق به صدري، فقلت في نفسي: ما أجد لقضاء ديني إلّا مولاي الرضا (عليه السلام) ، فصرت إليه، فقال لي: قد قضى اللّه حاجتك، لا يضيقنّ صدرك، ولم أسأله شيئاً حين قال ما قال!
فأقمت عنده وكان صائما، فأمر أن يحمل إليّ طعاماً.
فقلت: أنا صائم وأنا أ ُحبّ أن آكل معك لأتبرّك بأكلي معك.
فلمّا صلّى المغرب جلس في وسط الدار ودعا بالطعام فأكل وأكلت معه، ثمّ قال: تبيت عندنا الليلة أو تقضي حاجتك فتنصرف؟
فقلت: الانصراف بقضاء حاجتي أحبّ إليّ، فضرب بيده الأرض فقبض منها قبضة، وقال: خذ هذا فجعلته في كمّي فإذا هو دنانير!
فانصرفت إلى منزلي فدنوت من المصباح لأعدّ الدنانير، فوقع في يدي دينار فنظرت فاذا عليه مكتوب:هي خمسمائة دينار نصفها لدينك والنصف الآخر لنفقتك.
فلمّا رأيت ذلك لم أعدّها، فألقيت الدينار فيها، فلمّا أصبحت طلبت الدينار فلم أجده في الدنانير وقد قلّبتها عشر مرّات وكانت خمسمائة دينار!(1)
ذكر أبو عبد اللّه الحافظ النيسابوريّ في كتابه الموسوم «بالمفاخر»
ص: 163
ونسب إلى جدّه الرضا (عليه السلام) أنّه قال: دخلت على المأمون وعنده زينب الكذّابة، وكانت تزعم أنّها زينب بنت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأنّ عليّا (عليه السلام) قد دعا لها بالبقاء إلى يوم القيامة.
فقال المأمون للإمام الرضا (عليه السلام) : سلّم على اختك.
فقال الإمام (عليه السلام) : واللّه ما هي بأختي ولا ولدها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) .
فقالت زينب: ما هو أخي ولا ولّده عليّ بن أبي طالب.
فقال المأمون للإمام الرضا (عليه السلام) : ما مصداق قولك هذا؟
فقال الإمام الرضا (عليه السلام) : إنّا أهل بيت لحومنا محرّمة على السباع، فاطرحها إلى السباع، فإن تك صادقة فإنّ السباع تعفى لحمها.
قالت زينب: ابتدئ بالشيخ، قال المأمون: لقد انصفت، فقال (عليه السلام) له: أجل، ففتحت بركة السباع، فنزل الإمام الرضا (عليه السلام) إليها، فلمّا رأته بصبصت وأومأت إليه بالسجود، فصلّى فيما بينها ركعتين وخرج منها.
فأمر المأمون زينب أن تنزل، فأبت وطرحت للسباع فأكلتها.
وقد علّق ابن حمزة رضوان اللّه عليه على الحديث، فقال - : إنّي وجدت في تمام هذه الرواية: أنّ بين السباع كان سبعاً ضعيفاً ومريضاً فهمهم شيئاً في اُذنه، فأشار (عليه السلام) إلى أعظم السباع بشيء فوضع رأسه له.
فلمّا خرج قيل له: ما قلت لذلك السبع الضعيف؟ وما قلت للآخر؟
قال (عليه السلام) : إنّه شكى إليّ وقال: إنّي ضعيف، فإذا طرح علينا فريسة لم أقدر على مؤاكلتها، فأشر إلى الكبير بأمري، فأشرت إليه فقبل.
قال: فذبحت بقرة واُلقيت إلى السباع، فجاء الأسد ووقف عليها ومنع
ص: 164
السباع أن تأكلها حتى شبع الضعيف، ثمّ ترك السباع حتى أكلوها(1).
روى أبو حامد السندي بن محمد، قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسأله دعاء، فدعا لي، وقال: لا تؤخّر صلاة العصر، ولا تحبس الزكاة.
قال أبو حامد: وما كتبت إليه بشيء من هذا، ولم يطلع عليه أحد إلا اللّه.
قال أبو حامد: وكنت أصلّي العصر في آخر وقتها، وكنت أدفع الزكاة بتأخير الدارهم من أقل وأكثر، بعد ما تحل، فابتدأني بهذا(2).
ص: 165
هو الإمام محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
والده: الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) .
والدته: أم ولد يقال لها سبيكة النبوية، وقيل: المريسية وهي قرية في مصر، وقد وصفها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخيرة الإماء، فقال: بأبي ابن خيرة الإماء، ابن النبوية(1).
وقد أبلغها الإمام الكاظم (عليه السلام) سلامه، فقال ليزيد بن سليط عندما التقى به طريق مكة وهم يريدون العمرة: إنّي أؤخذ في هذه السنة والأمر هو إلى ابني علي، سمّي علي وعلي: فأمّا علي الأول فعلي بن أبي طالب، وأمّا الآخر فعلي بن الحسين (عليهما السلام) ، أ ُعطي فهم الأول وحلمه ونصره وودّه ودينه ومحنته، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره وليس له أن يتكلّم إلا بعد موت هارون بأربع سنين.
ثم قال لي: يا يزيد وإذا مررت بهذا الموضع ولقيته وستلقاه فبشره أنّه سيولد له غلام، أمين، مأمون، مبارك وسيعلمك أنّك قد لقيتني فأخبره عند
ص: 166
ذلك أنّ الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية جارية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أ ُمّ إبراهيم، فإن قدرت أن تبلغها منّي السلام فافعل ذلك(1).
الولادة: ولد (عليه السلام) في العاشر من شهر رجب الأصب.
ألقابه: الجواد، القانع، المرتضى، وأشهرها الجواد.
كنيته: أبو جعفر وهي كنية جدّه الإمام الباقر (عليه السلام) ، وربما قيل له أبو جعفر الثاني.
صفته: أبيض معتدل القامة.
شعراؤه: حمّاد، وداود بن القاسم الجعفري.
نُسب للإمام الجواد (عليه السلام) أنّه أنشد الشعر ومن ذلك:
يا قبر طوس سقاك اللّه رحمته***ماذا ضمنت من الخيرات يا طوس
طابت بقاعك في الدنيا وطاب بها***شخص ثوى بسناآباد مرموس
شخص عزيز على الإسلام مصرعه***في رحمة اللّه مغمور ومغموس
يا قبره أنت قبر قد تضمنه***حلم وعلم وتطهير وتقديس
فخرا بأنّك مغبوط بجثته***وبالملائكة الأطهار محروس
في كل عصر لنا منكم إمام هدى***فربعه آهل منكم ومأنوس
أمست نجوم سماء الدين آفلة***وظل أسد الشرى قد ضمّها الخيس
غابت ثمانية منكم وأربعة***ترجى مطالعها ما حنت العيس
حتى متى يزهر الحق المنير بكم***فالحق في غيركم داج ومطموس(2)
ص: 167
بوّابه: عمر بن الفرات، وعثمان بن سعيد السمّان.
نقش خاتمه: نعم القادر اللّه، ومن كثرت شهواته دامت حسراته، وقيل: المهيمن عضدي.
قبل أن يطلّ الإمام الجواد (عليه السلام) بمحيّاه المبارك على الدنيا بشّر به رسول اللّه (عليهما السلام) ، فقال: وإنّ اللّه عزّ وجلّ ركب في صلبه - أي في صلب الإمام الرضا (عليه السلام) - نطفة مباركة، طيّبة، زكية، رضية مرضية. وسمّاها محمد بن علي، فهو شفيع شيعته، ووارث علم جدّه، له علامة بينة وحجة ظاهرة(1).
كما بشّر به جدّه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) حيث قال ليزيد بن سليط الزيدي: يا يزيد! وإذا مررت بهذا الموضع ولقيته - أي الإمام الرضا (عليه السلام) وستلقاه، فبشّره: أنه سيولد له غلام، أمين، مأمون، مبارك(2).
أمّا بشارة الإمام الرضا (عليه السلام) فلما خاطب عبدالرحمن بن أبي نجران قائلاً: إنّي أشهد اللّه أنّه لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني اللّه ولداً منّي.
قال عبد الرحمان بن أبي نجران: فعددنا الشهور من الوقت الذي قال، فوهب اللّه له أبا جعفر (عليه السلام) في أقل من سنة(3).
1- قال محمد بن طلحة الشافعي في حقّه: كان صغير السن، فهو كبير
ص: 168
القدر، رفيع الذكر(1).
2- قال السبط ابن الجوزي: وكان على منهاج أبيه في العلم والتقى والزهد والجود(2).
3- قال ابن حجر الهيثمي: أجلّهم - أي أبناء الإمام الرضا (عليه السلام) - أبا محمد الجواد لكنّه لم تطل حياته(3).
4- قال ابن خلكان: أبو جعفر محمد بن علي الرضا ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر... المعروف بالجواد أحد الأئمة الأثني عشر(4).
5- قال الشيخ محمود الشيخاني: وكان محمد الجواد جليل القدر عظيم المنزلة... قالوا: إنّ كراماته ومكاشفاته كثيرة لاتحمله الدفاتر، ومن كمال علمه أنه غلب في طفوليته قاضي المأمون وهو يحيى بن أكثم(5).
يقول علي بن خالد: كنت بالعسكر فبلغني أنّ هناك رجلاً محبوساً أتي به من ناحية الشام مكبولاً، فقالوا: إنه تنبؤ حق.
ص: 169
قال: فأتيت الباب واستأذنت البواب حتى وصلت إليه فإذا رجل له فهم وعقل، فقلت له: يا هذا ما قصّتك؟
قال: إنّي كنت رجلاً بالشام أعبد اللّه تعالى في الموضع الذي يقال إنّه نصب فيه رأس الحسين (عليه السلام) ، فبينما أنا ذات ليلة مقبل على المحراب أذكر اللّه تعالى إذ رأيت شخصاً بين يدي، فنظرت إليه، فقال لي: قم فقمت معه، فمشى بي قليلاً فإذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: تعرف هذا المسجد؟
فقلت: نعم، هذا مسجد الكوفة.
قال: فصلّى وصلّيت معه، ثم خرج وخرجت معه، ومشى بي قليلاً، فإذا أنا بمكة، فطاف بالبيت فطفت معه، ثم خرج فمشى قليلاً، فإذا أنا بالموضع الذي كنت أعبد اللّه فيه بالشام، وغاب الشخص عن عيني، فبقيت متعجّباً متهوّلاً ممّا رأيت.
فلما كان في العام المقبل رأيت ذلك الشخص فاستبشرت به، ودعانّي فأجبته، ففعل كما فعل في العام الماضي، فلما أراد مفارقتي بالشام قلت له: سألتك بالذي أقدرك على ما رأيت منك إلا أخبرتني من أنت؟
فأطرق طويلاً ثم نظر إلي وقال: أنا محمد بن علي بن موسى، وتراقي الخبر إلى محمد بن عبد الملك الزيات فبعث إلي وكبّلني في الحديد، وحملني إلى العراق وحبست كما ترى وادعى علي المحال، فقلت له: فارفع قصتك إلى محمد بن عبد الملك؟
فقال: إفعل. فكتبت عنه قصة شرحت أمره فيها، ورفعتها إلى محمد بن عبد الملك فوقع في ظهرها: قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى الكوفة
ص: 170
ومن الكوفة إلى المدينة ومنها إلى مكة ومنها إلى الشام أن يخرجك من حبسك هذا.
قال علي بن خالد: فغمّني ذلك من أمره، ورققت له، وانصرفت محزوناًعليه، فلما كان من الغد باكرت الحبس لأعلمه بالحال وآمره بالصبر والرضى فوجدت الجند وأصحاب الحرس وصاحب السجن وخلقاً عظيماً من الناس يهرعون، فسألت عن حالهم، فقيل لي: المحمول من الشام المتنبيء افتقد البارحة فلا يدرى أخسفت به الأرض، أم اختطفه الطير، وكان علي بن خالد زيدياً فقال بالإمامة لما رأى ذلك وحسن اعتقاده(1).
روى إبراهيم بن سعد: كنت جالسا عند محمد بن علي (عليه السلام) إذ مرّت بنا فرس أنثى، فقال: هذه تلد الليلة فلوا(2) أبيض الناصية، في وجهه غرّة.
فاستأذنته ثم انصرفت مع صاحبها، فلم أزل أحدّثه إلى الليل حتى أتت الفرس بفلو كما وصف ما فيه.
وعدت إليه، فقال: يا بن سعد، شككت فيما قلت لك بالأمس؟ إنّ التي في منزلك حبلى تأتيك بابن أعور. فولد لي محمد وكان أعور(3).
عن أحمد بن محمّد الحضرمي، قال: حجّ أبو جعفر (عليه السلام) ، فلمّا نزل
ص: 171
زبالة(1) فإذا هو بامرأة ضعيفة تبكي على بقرة مطروحة على قارعة الطريق، فسألها عن علّة بكائها، فقامت المرأة إلى أبي جعفر (عليه السلام) وقالت: يا ابن رسول اللّه إنّي امرأة ضعيفة لا أقدر على شيء وكانت هذه البقرة كلّ مال أملكه.
فقال لها أبو جعفر (عليه السلام) : إنّ أحياها اللّه تبارك وتعالى لك ما تفعلين؟ قالت: يا ابن رسول اللّه لأجدّدن للّه شكرا، فصلّى أبو جعفر (عليه السلام) ركعتين ودعا بدعوات، ثمّ ركض برجله البقرة فقامت البقرة وصاحت المرأة عيسى بن مريم، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : لا تقولي هذا بل نحن عباد مكرمون، أوصياء الأنبياء(2).
عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي الصلت الهرويّ قال: أمر المأمون بحبسي ودفن الرضا (عليه السلام) فحبست، سنة فضاق عليّ الحبس، وسهرت الليلة ودعوت اللّه تبارك وتعالى بدعاء ذكرت فيه محمداً وآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وسألت اللّه تعالى بحقّهم أن يفرّج عنّي فلم استتم الدعاءحتّى دخل عليّ أبو جعفر محمّد بن عليّ (عليهما السلام) .
فقال لي: يا أبا الصلت ضاق صدرك؟
فقلت: إي واللّه.
قال: قم فأخرج، ثم ضرب بيده إلى القيود التي كانت عليّ، ففكّها،
ص: 172
وأخذ بيدي وأخرجني من الدار والحرسة والغلمان يرونني، فلم يستطيعوا أن يكلّموني، وخرجت من باب الدار.
ثمّ قال لي: امض في ودائع اللّه تعالى فإنّك لن تصل إليه ولا يصل إليك أبداً.
فقال أبو الصلت: فلم ألتق إلى المأمون إلى هذا الوقت(1).
عن أبي محمّد الفحّام، قال: حدّثني المنصوريّ، عن عمّ أبيه. وحدّثني عمّي، عن كافور الخادم بهذا الحديث، قال: كان في الموضع مجاور الإمام (عليه السلام) من أهل الصنائع صنوف من الناس، وكان الموضع كالقرية، وكان يونس النقّاش يغشي سيّدنا الإمام ويخدمه، فجاءه يوماً يرعد، فقال له: يا سيّدي أوصيك بأهلي خيراً، قال: وما الخبر؟ قال: عزمت على الرحيل. قال: ولم يا يونس؟ وهو (عليه السلام) يتبسّم قال: قال يونس: ابن بغا وجّه إليّ بفصّ ليس له قيمة، أقبلت أنقشه فكسرته باثنين وموعده غداً - وهو موسى بن بغا - إمّا ألف سوط أو القتل.
قال: امض إلى منزلك، إلى غد فرج، فما يكون إلّا خيراً، فلمّا كان من الغد وافى بكرة يرعد، فقال: قد جاء الرّسول يلتمس الفصّ. قال: امض إليه فما ترى إلّا خيراً. قال: وما أقول له يا سيّدي؟ قال: فتبسّم وقال: امض إليه واسمع ما يخبرك به، فلن يكون إلا خيراً.
قال: فمضى وعاد يضحك. قال: قال لي: يا سيّدي الجواري اختصمن، فيمكنك أن تجعله فصّين حتّى نغنيك؟ فقال سيّدنا الإمام: اللّهمّ لك الحمد
ص: 173
إذ جعلتنا ممّن يحمدك حقّا، فأيش قلت له؟ قال: قلت له: أمهلني حتّى أتأمّل أمره كيف أعمله. فقال: أصبت(1).
روى أحمد بن سعيد، قال: قال لي منخل بن علي: لقيت محمد بن علي (عليه السلام) بسرّ من رأى فسألته النفقة إلى بيت المقدس فأعطاني مائة دينار ثم قال لي: أغمض عينيك. فغمضتهما، ثم قال: افتح. فإذا أنا ببيت المقدس تحت القبّة، فتحيّرت في ذلك(2).
عن أبي هاشم، قال: خرجت مع أبي الحسن (عليه السلام) إلى ظاهر سرّ من رأى نتلقّى بعض الطالبيّين، فأبطأ حرسه، فطرح لأبي الحسن (عليه السلام) غاشية السرج، فجلس عليها، ونزلت عن دابّتي وجلست بين يديه وهو يحدّثني، وشكوت إليه قصوريدي: فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالساً، فناولي منه أكفّا وقال: اتّسع بهذا يا أبا هاشم واكتم ما رأيت، فخبأته معي فرجعنا فأبصرته، فإذا هو يتّقد كالنيران ذهباً أحمر.
فدعوت صائغاً إلى منزلي وقلت له: اسبك لي هذا، فسبكه وقال: ما رأيت ذهباً أجود منه وهو كهيئة الرمل، فمن أين لك هذا؟ فما رأيت أعجب منه؟ قلت: هذا شيء عندنا قديماً تدّخره لنا عجائزنا على طول الأيّام(3).
ص: 174
نقل أحمد بن عليّ، فقال: دعانا عيسى بن أحمد القمّي لي ولأبي - وكان أعرج - فقال لنا: أدخلني ابن عمّي أحمد بن إسحاق عليّ بن الحسن، فرأيته وكلّمه بكلام لم أفهمه، فقال له: جعلني اللّه فداك هذا ابن عمّي عيسى بن أحمد، وبه بياض في ذراعه وشيء قد تكتل كأمثال الجوز، قال: فقال لي: تقدّم يا عيسى، فتقدّمت، فقال لي: أخرج ذراعك، فأخرجت ذراعي، فمسح عليها وتكلّم بكلام خفيّ طول فيه، ثمّ قال: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ثمّ التفت إلى أحمد بن إسحاق، فقال: يا أحمد بن إسحاق كان عليّ بن موسى يقول: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أقرب إلى الاسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها، ثمّ قال: يا عيسى، قلت: لبّيك، قال: ادخل يدك في كمّك ثمّ أخرجها فأدخلها ثمّ أخرجها، وليس في يده قليل ولا كثير(1).
عن الحسين المكاري، قال: دخلت على أبي جعفر ببغداد وهو على ما كان من أمره، فقلت في نفسي: هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً، وأنا أعرف مطعمه.
قال: فأطرق رأسه، ثم رفعه وقد اصفر لونه، فقال: يا حسين خبز شعير، وملح جريش في حرم جدّي رسول اللّه أحبّ إليّ ممّا تراني فيه(2).
ص: 175
هو علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
الولادة: ولد (عليه السلام) في منتصف ذي الحجّة سنة اثنتي عشرة ومئتين في ضاحية من ضواحي المدينة في موضع يقال له صريا.
والده: الإمام محمد الجواد (عليه السلام) .
والدته: هي سمانة المغربية، وكانت تعرف بالسيدة، وهي من أهل الجنة، وكانت تصوم السنة كاملة، وكانت كنيتها أُمّ الفضل(1).
وقد تولّى الإمام الجواد (عليه السلام) تربيتها وتهذيبها، بحيث بلغت من المرتبة أنّها لايقربها شيطان مارد، ففي الخبر عن الإمام الهادي (عليه السلام) قال: أمّي عارفة بحقّي وهي من أهل الجنة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبار عنيد، وهي مكلوءة(2) بعين اللّه التي لا تنام، ولا تختلف عن أمّهات الصدّيقين والصالحين(3).
كنيته: أبو الحسن، ويقال له أيضاً: أبو الحسن الثالث.
ص: 176
ألقابه: الهادي، والمتوكل، والناصح، والمتقي، والمرتضى، والفقيه، والأمين، والطيّب، وأشهرها الهادي والمتوكل، ولكنّه (عليه السلام) كان يأمر أصحابه أن يعرضوا عن تلقيبه به لكونه آنذاك لقباً لجعفر المتوكل ابن المعتصم.
صفته: أسمر اللون، معتدل القامة، فيه نداوة، أبيض الوجه مشرباً حمرة، خفيف بروز الخدين، واسع العينين، أزج الحاجبين، بشوش الوجه.
وكان له هيبة عظيمة، يقول محمد بن الحسن الأشتر العلوي: كنت مع أبي على باب المتوكل وأنا صبي في جمع من الناس ما بين طالبي إلى عباسي وجعفري، ونحن وقوف إذ جاء أبو الحسن الهادي (عليه السلام) ، فترجّل الناس كلّهم حتى دخل، فقال بعضهم لبعض: لم نترجّل لهذا الغلام، وماهو بأشرفنا ولا بأكبرنا سناً؟
واللّه لا ترجلنا له.
فقال أبو هاشم الجعفري: واللّه لتترجلّن له صغرة إذا رأيتموه، فما هو إلا أن أقبل وبصروا به حتى ترجّل له الناس كلّهم، فقال لهم أبو هاشم: ألستم زعمتم أنّكم لا تترجّلون له؟
فقالوا له: واللّه ما ملكنا أنفسنا حتى ترجّلنا(1).
شاعره: العوفي والديلمي.
نسب للإمام الهادي (عليه السلام) أنه أنشد في أكثر من موضع الشعر ومنها:
باتوا على قلل الجبال تحرسهم***غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
ص: 177
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم***وأسكنوا حفراً يا بئسما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ذفنهم***أين الأساور والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت مُنعِّمَةً***من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم***تلك الوجوه عليها الدود تقتتل
بوّابه: عثمان بن سعيد.
نقش خاتمه: اللّه ربي وهو عصمتي من خلقه.
ذُكرت في الإمام الهادي (عليه السلام) العديد من الكلمات منها:
1- ما نقله صاحب كشف الغمة، قال: قال بعض أهل العلم: شرف أبي الحسن علي بن محمد الهادي، قد ضرب على المجرّة قبابه، ومدّ على النجوم أطنابه، فما تعد منقبة إلا وله نخيلتها، ولا تذكر كريمة إلا وله فضيلتها، ولا تورد حسنة إلا وله تفصيلها وجملتها، ولا تستعظم حالة سنية إلا وتظهر عليه أدلتها، استحق ذلك بما في جوهر نفسه من كرم تفرّد بخصائصه، ومجد حكم فيه على طبعه الكريم فحفظه من الشوب حفظة الراعي لقلائصه(1)، فكانت نفسه مهذّبه، وأخلاقه مستعذبة، وسيرته عادلة، وخلاله فاضلة، ومبارّه إلى العفاة(2) واصلة، ورباع العرف بوجوده وجودة أهلة، جرى من الوقار والسكينة والطمأنينة والعفّة والنزاهة والخمول في النباهة...، على وتيرة نبوية وشنشنة علوية، ونفس قدسية، لا يقاربها أحد من
ص: 178
الأنام، ولا يدانيها، وطريقة لا يشاركه فيها خلق، ولا يطمع فيها(1).
2- قال الشبلنجي: ومناجاته (رضي اللّه عنه) كثيرة، قال في الصواعق: كان أبو الحسن العسكري وارث أبيه علماً وسخاءاً(2).
3- قال الشيخاني: وكان علي العسكري صاحب وقار وسكون وهيبة وطمأنينة، وعفّة ونزاهة وكانت نفسه زكية وهمّته عليّة وطريقته حسنة مرضية رضي اللّه تعالى عنه وعن سلفه وخلفه(3).
عن المنتصر بن المتوكل قال: زرع والدي الآس(4) في بستان وأكثر منه، فلما استوى الآس كلّه وحسن، أمر الفراشين أن يفرشوا له على دكان في وسط البستان وأنا قائم على رأسه، فرفع رأسه، إليّ وقال: يا رافضي، سل ربك الأسود عن هذا الأصل الأصفر ماله من بين ما بقي من هذا البستان قد اصفرّ، فإنّك تزعم أنّه يعلم الغيب؟
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه ليس يعلم الغيب، فأصبحت وغدوت إلى أبي الحسن (عليه السلام) من الغد وأخبرته بالأمر، فقال: يا بني، امض أنت واحفر
ص: 179
الأصل الأصفر فإنّ تحته جمجمة نخرة، واصفراره لبخارها ونتنها.
قال: ففعلت ذلك فوجدته كما قال (عليه السلام) ، ثم قال لي: يا بني لا تخبرن أحداً بهذا الأمر إلا لمن يحدّثك بمثله(1).
عن زرّافة حاجب المتوكّل أنّه قال: وقع رجل مشعبذ من ناحية الهند إلى المتوكّل يلعب لعب الحقّة(2) لم ير مثله، وكان المتوكّل لعّاباً، فأراد أن يخجل الإمام عليّ بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) ، فقال لذلك الرجل: إن أنت أخجلته أعطيتك ألف دينار زكيّة، قال: تقدّم بأن يخبز رقاق خفاف، واجعلها على المائدة وأقعدني إلى جنبه، ففعل وأحضر عليّ بن محمّد (عليه السلام) للطعام وجعلت له مسورة(3) عن يساره، وكان عليها صورة أسد وجلس اللاعب إلى جانب المسورة.
فمدّ عليّ بن محمّد (عليهما السلام) يده إلى رقاقة فطيّرها ذلك الرجل في الهواء، ومدّ يده إلى أخرى فطيّرها ذلك في الهواء، ومدّ إلى أ ُخرى ثالثة فطيّرها فتضاحك الجميع، فضرب عليّ بن محمّد (عليهما السلام) يده على تلك الصورة التي في المسورة وقال: خذ عدوّ اللّه، فوثبت تلك الصورة من المسورة فابتعلت الرجل، وعادت في المسورة كما كانت، فتحيّر الجميع، ونهض عليّ بن محمّد (عليه السلام) يمضي.
ص: 180
فقال له المتوكّل: سألتك إلّا جلست ورددته، فقال: واللّه لا يرى بعدها، أ تسلّط أعداء اللّه على أولياء اللّه؟! وخرج من عنده فلم ير الرّجل بعد ذلك(1).
حدّث جماعة من أهل إصفهان، منهم أبو العباس أحمد بن النصر وأبو جعفر محمد بن علوية، قالوا: كان بأصفهان رجل يقال له: عبد الرحمان وكان شيعياً، قيل له: ما السبب الذي أوجب عليك به القول بإمامة علي النقي دون غيره من أهل الزمان؟
قال: شاهدت ما أوجب ذلك علي وذلك إنّي كنت رجلاً فقيراً وكان لي لسان وجرأة، فأخرجني أهل إصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين إلى باب المتوكل متظلمين، فكنّا بباب المتوكل يوماً إذ خرج الأمر بإحضار علي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) فقلت لبعض من حضر: من هذا الرجل الذي قد أمر بإحضاره؟
فقيل: هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته، ثم قيل: ويقدّر أنّ المتوكل يحضره للقتل، فقلت: لا أبرح من ههنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أيّ رجل هو؟
قال: فأقبل راكباً على فرس، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرته صفّين ينظرون إليه، فلما رأيته وقع حبّه في قلبي فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع اللّه عنه شرّ المتوكل، فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لا ينظر يمنة ولا يسرة، وأنا دائم الدعاء له، فلما صار بإزائي أقبل إليّ بوجهه، وقال: استجاب اللّه دعاءك، وطوّل عمرك، وكثر مالك وولدك.
ص: 181
قال: فارتعدت من هيبته ووقعت بين أصحابي، فسألوني وهم يقولون: ما شأنك؟
فقلت: خير، ولم أخبرهم بذلك.
فانصرفنا بعد ذلك إلى إصفهان، ففتح اللّه عليّ الخير بدعائه، ووجوهاً من المال حتى أنا اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم، سوى مالي خارج داري، ورزقت عشرة من الأولاد، وقد بلغت الآن من عمري نيفاً وسبعين سنة وأنا أقول بإمامة هذا الذي علم ما في قلبي واستجاب اللّه دعاءه في ولي(1).
عن إبراهيم بن بلطون، عن أبيه قال: كنت أحجب المتوكّل، فأهدي له خمسون غلاماً من الخزر وأمرني أن أتسلّمهم وأ ُحسن إليهم، فلمّا تمّت سنة كاملة كنت واقفاً بين يديه، إذ دخل عليه أبو الحسن عليّ بن محمّد النقيّ (عليهما السلام) ، فلمّا أخذ مجلسه أمرني أن أخرج الغلمان من بيوتهم، فأخرجتهم، فلمّا بصروا بأبي الحسن (عليه السلام) سجدوا له بأجمعهم، فلم يتمالك المتوكّل أن قام يجرّ رجليه حتّى توارى خلف السّتر، ثمّ نهض أبو الحسن (عليه السلام) . فلمّا علم المتوكّل بذلك خرج إليّ وقال: ويلك يا بلطون ما هذا الذي فعل هؤلاء الغلمان؟
فقلت: لا واللّه ما أدري، قال: سلهم. فسألتهم عمّا فعلوه، فقالوا: هذا رجل يأتينا كلّ سنة فيعرض علينا الدين، ويقيم عندنا عشرة أيّام، وهو وصيّ نبيّ
ص: 182
المسلمين، فأمرني بذبحهم فذبحتهم عن آخرهم. فلمّا كان وقت العتمة صرت إلى أبي الحسن (عليه السلام) ، فإذا خادم على الباب، فنظر إليّ فقال لمّا بصر بي: ادخل فدخلت فاذا هو (عليه السلام) جالس، فقال: يا بلطون ما صنع القوم؟ فقلت: يا ابن رسول اللّه ذبحوا واللّه عن آخرهم، فقال لي: كلّهم؟ فقلت: أي واللّه، فقال (عليه السلام) : أ تحبّ أن تراهم؟ قلت: نعم يا ابن رسول اللّه، فأومى بيده أن أدخل الستر، فدخلت، فإذا أنا بالقوم قعود وبين أيديهم فاكهة يأكلون(1).
عن الحسن بن محمّد بن عليّ، قال: جاء رجل إلى عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى (عليهم السلام) وهو يبكي وترتعد فرائصه، فقال: يا ابن رسول اللّه إنّ فلاناً - يعني الوالي - أخذ ابني واتّهمه بموالاتك، فسلّمه إلى حاجب من حجّابه، وأمره أن يذهب به إلى موضع كذا فيرميه من أعلى جبل هناك، ثم يدفنه في أصل الجبل.
فقال (عليه السلام) : فما تشاء فقال: ما يشاء الوالد الشفيق لولده، فقال: اذهب فإنّ ابنك يأتيك غداً إذا أمسيت ويخبرك بالعجب من أمره، فانصرف الرجل فرحاً، فلمّا كان عند ساعة من آخر النهار غدا إذا هو بابنه قد طلع عليه في أحسن صورة، فسرّه وقال: ما خبرك يا بنيّ؟ فقال: يا أبت إنّ فلاناً - يعني الحاجب - صار بي إلى أصل ذلك الجبل، فأمسى عنده إلى هذا الوقت يريد أن يبيت هناك، ثمّ يصعدني من غداة إلى أعلى الجبل ويدهدهني لبئر حفر لي قبراً في هذه الساعة، فجعلت أبكي وقوم موكّلون بي يحفظونني، فأتاني جماعة عشرة
ص: 183
لم أر أحسن منهم وجوهاً وأنظف منهم ثياباً وأطيب منهم روائح، والموكّلون بي لا يرونهم، فقالوا لي: ما هذا البكاء والجزع والتطاول والتضرّع؟
فقلت: أ لا ترون قبراً محفوراً وجبلاً شاهقاً، وموكّلون لا يرحمون يريدون أن يدهدهوني منه ويدفنوني فيه؟ قالوا: بلى أ رأيت لو جعلنا الطالب مثل المطلوب فدهدهناه من الجبل ودفنّاه في القبر، أ تحترز بنفسك فتكون خادماً لقبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟
قلت: بلى واللّه، فمضوا إلى الحاجب فتناولوه وجرّوه وهو يستغيث ولا يسمعون به أصحابه ولا يشعرون به، ثمّ صعدوا به إلى الجبل ودهدهوه منه، فلم يصل إلى الأرض حتى تقطعت أوصاله، فجاء أصحابه وضجّواعليه بالبكاء واشتغلوا عنّي، فقمت وتناولني العشرة فطاروا بي إليك في هذه الساعة، وهم وقوف ينتظرونني ليمضوا بي إلى قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأكون خادماً، ومضى.
وجاء الرجل إلى عليّ بن محمّد (عليه السلام) فأخبره، ثمّ لم يلبث إلّا قليلا حتّى جاء الخبر بأنّ قوماً أخذوا ذلك الحاجب فدهدهوه من ذلك الجبل ودفنه أصحابه في ذلك القبر، وهرب ذلك الرجل الّذي كان أراد أن يدفنه في ذلك القبر، فجعل عليّ بن محمّد (عليه السلام) يقول للرجل: إنّهم لا يعلمون ما نعلم ويضحك(1).
ص: 184
هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
والده: علي بن محمد الهادي (عليه السلام) .
والدته: أمّ ولد يقال لها حديث، وقيل: سوسن.
وكانت من الصالحات، وكفى في فضلها أنّها كانت مفزع الشيعة بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) ، فعن أحمد بن إبراهيم قال: دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا، أخت أبي الحسن صاحب العسكر (عليهم السلام) في سنه اثنتين وستين ومائتين فكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها فسمّت لي من تأتم بهم، ثم قالت: والحجّة ابن الحسن بن علي فسمّته، فقلت لها: جعلني اللّه فداك معاينة أوخبراً؟
فقالت: خبراً عن أبي محمد (عليه السلام) كتب به إلى أمّه، فقلت لها: فأين الولد؟
فقالت: مستور، فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟
فقالت لي: إلى الجدّة أمّ أبي محمد (عليه السلام) فقلت لها: أقتدي بمن وصيته إلى امرأة؟
فقالت: اقتداء بالحسين بن علي (عليهما السلام) فإنّ الحسين بن علي (عليهما السلام) أوصى إلى أخته زينب بنت علي في الظاهر فكان ما يخرج عن علي بن الحسين (عليهما السلام) من
ص: 185
علم ينسب إلى زينب ستراً على علي بن الحسين (عليهما السلام) ، ثم قالت: إنّكم قوم أصحاب أخبار أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين بن علي (عليهما السلام) يقسّم ميراثه وهو في الحياة(1).
الولادة: ولد في العاشر من شهر ربيع الثاني سنة اثنين وثلاثين ومائتين.
كناه (عليه السلام) : أبو محمد، وأبو الحسن.
ألقابه (عليه السلام) : الخالص، والسراج، والعسكري، والصامت، والهادي، والرفيق، والزكي، والنقي، وكان هو وأبوه وجدّه كل منهم يعرف في زمانه بابن الرضا.
صفته (عليه السلام) : بين السمرة والبياض، وقد وصفه أحمد بن عبيداللّه بن يحيى بن خاقان، فقال: كان رجلاً أسمر اللون، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة(2).
شاعره: ابن الرومي(3).
نُسب للإمام العكسري (عليه السلام) أنّه أنشد الشعر ومن ذلك:
أرى الدنيا تجهز بانطلاق***مشمرة على قدم وساق
فلا الدنيا بباقية لحي***ولا حي على الدنيا بباق
ص: 186
كأن الموت والحدثان فيها***إلى نفس الفتى فرقا سباق
فيا مغرور بالدنيا رويداً***ومنها خذ لنفسك بالوساق(1)
بوّابه: عثمان بن سعيد، ويقال: محمد بن نصير والأول أصح.
نقش خاتمه: سبحان من له مقاليد السموات والأرض، وإنّ اللّه شهيد، واللّه وليي.
بلغ مقام الإمام العسكري كآبائه الطاهرين (عليهم السلام) بحيث إنّ ألد أعدائهم لا يستطيعون إنكار فضائلهم ومناقبهم بل يقرون بفضلهم ويشهدون بمقاماتهم الحميدة، هذا بالإضافة إلى إشادة الكثير من محبّيهم بفضائلهم وتصريحهم بمقاماتهم محبّة منهم لهم ومودة بهم.
من هنا فقد أشاد بمقام الإمام العسكري (عليه السلام) الكثير من المحبّين والمخالفين ومنهم:
1- قال الوزير عبيداللّه بن يحيى بن خاقان لولده أحمد وهو يحدّثه عن الإمام العسكري (عليه السلام) : يابني، لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنّ هذا ليستحقها في فضله وعفافه، وهديه وصيانته، وزهده وعبادته، وجميل أخلاقه وصلاحه(2).
2- قال ابن الراوندي فيه: تعظّمه الخاصة والعامّة... ويبجّلونه ويقدّرونه لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته... كان جليلاً نيبلاً فاضلاً
ص: 187
كريماً، يحتمل الأثقال ولا يتضعضع للنوائب(1).
3- نقل ابن أبي الحديد قول من قال: من الذي يعد من قريش أو من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق، كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك، فمنهم خلفاء ومنهم مرشحون... وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) ، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا من بيوت العجم(2).
4- قال الحضرمي الشافعي: أبو محمد الحسن الخالص ابن علي العسكري، كان عظيم الشأن جليل المقدار، وقد زعمت الشيعة الرافضة أنّه والد المهدي المنتظر(3).
5- قال سبط ابن الجوزي: وكان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه، ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز ذكره جدّي أبو الفرج في كتابه المسمّى (بتحريم الخمر) ونقلته من خطّه(4).
روى أبو هاشم أنه ركب أبو محمد (عليه السلام) يوماً إلى الصحراء فركبت معه، فبينما يسير قدامي، وأنا خلفه، إذ عرض لي فكر في دين كان علي قد حان
ص: 188
أجله فجعلت أفكر في أيّ وجه قضاؤه، فالتفت إلي وقال: اللّه يقضيه، ثم انحنى على قربوس سرجه فخطّ بسوطه خطّة في الأرض، فقال: يا أبا هاشم انزل فخذ واكتم، فنزلت وإذا سبيكة ذهب، قال: فوضعتها في خفّي وسرنا.
فعرض لي الفكر، فقلت: إن كان فيها تمام الدين وإلاّ فإنّي أرضي صاحبه بها، ويجب أن ننظر في وجه نفقة الشتاء، وما نحتاج إليه فيه من كسوة وغيرها فالتفت إلي ثم انحنى ثانية فخطّ بسوطه مثل الأولى ثم قال: انزل وخذ واكتم قال: فنزلت فإذا بسبيكة فجعلتها في الخف الآخر وسرنا يسيرا ثم انصرف إلى منزله وانصرفت إلى منزلي.
فجلست وحسبت ذلك الدين، وعرفت مبلغه، ثم وزنت سبيكة الذهب فخرج بقسط ذلك الدين ما زادت ولا نقصت ثم نظرت ما نحتاج إليه لشتوتي من كل وجه فعرفت مبلغه الذي لم يكن بد منه على الاقتصاد بلا تقتير ولا إسراف ثم وزنت سبيكة الفضة فخرجت على ما قدرته ما زادت ولا نقصت(1).
روى عبد اللّه بن محمد، فقال: رأيت الحسن بن علي السراج (عليه السلام) تكلّم للذئب فكلمه، فقلت له: أيها الإمام الصالح، سل هذا الذئب عن أخ لي بطبرستان خلّفته وأشتهي أن أراه.
فقال لي: إذا اشتهيت أن تراه فانظر إلى شجرة دارك بسرّ من رأى.
ص: 189
وكان قد أخرج في داره عيناً تنبع عسلاً ولبناً، فكنّا نشرب منه ونتزوّد(1).
عن علي بن محمد عن جماعة من أصحابنا قالوا: سلّم أبو محمد (عليه السلام) إلى نحرير وكان يضيق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق اللّه فإنّك لا تدري من في منزلك؟ وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت: إنّي أخاف عليك منه، فقال: واللّه لأرمينه بين السباع، ثم استأذن في ذلك فأذن له، فرمى به إليها فلم يشكوا في أكلها، فنظروا إلى الموضع، فوجدوه (عليه السلام) قائماً يصلّي وهي حوله، فأمر بإخراجه إلى داره(2).
عن محمد بن علي ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ضاق بنا الأمر، فقال لي أبي: امض بنا حتى نصير إلى هذا الرجل يعني أبا محمد، فإنه قد وصف عنه سماحة، فقلت: تعرفه؟ فقال: ما أعرفه ولا رأيته قط، قال: فقصدناه فقال لي أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمائة درهم مائتا درهم للكسوة ومائتا درهم للدين ومائة للنفقة، فقلت في نفسي: ليته أمر لي بثلاثمائة درهم مائة أشتري بها حماراً ومائة للنفقة ومائة للكسوة وأخرج إلى الجبل، قال: فلما وافينا الباب خرج إلينا غلامه، فقال: يدخل علي بن إبراهيم ومحمد ابنه، فلما دخلنا عليه وسلّمنا قال لأبي: يا علي ما خلفك عنّا إلى هذا الوقت؟ فقال: يا سيدي استحييت أن ألقاك على هذه الحال، فلما
ص: 190
خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرة، فقال: هذه خمسمائة درهم مائتان للكسوة ومائتان للدين ومائة للنفقة وأعطاني صرة فقال: هذه ثلاثمائة درهم اجعل مائة في ثمن حمار ومائة للكسوة ومائة للنفقة ولا تخرج إلى الجبل وصر إلى سوراء فصار إلى سوراء وتزوج بامرأة، فدخله اليوم ألف دينار ومع هذا يقول بالوقف، فقال محمد بن إبراهيم: فقلت له: ويحك أتريد أمراً أبين من هذا؟ قال: فقال: هذا أمر قد جرينا عليه(1).
عن عمر بن أبي مسلم، قال: قدم علينا بسر من رأى رجل من أهل مصر يقال له: سيف بن الليث، يتظلّم إلى المهتدي في ضيعة له قد غصبها إياه شفيع الخادم وأخرجه منها فأشرنا عليه أن يكتب إلى أبي محمد (عليه السلام) يسأله تسهيل أمرها فكتب إليه أبو محمد (عليه السلام) لا بأس عليك، ضيعتك ترد عليك فلا تتقدم إلى السلطان والق الوكيل الذي في يده الضيعة وخوفه بالسلطان الأعظم اللّه رب العالمين فلقيه فقال له الوكيل الذي في يده الضيعة: قد كتب إلي عند خروجك من مصر، أن أطلبك وأرد الضيعة عليك فردها عليه بحكم القاضي ابن أبي الشوارب وشهادة الشهود ولم يحتج إلى أن يتقدم إلى المهتدي فصارت الضيعة له وفي يده ولم يكن لها خبر، بعد ذلك(2).
نقل سيف بن الليث، فقال: خلّفت ابنا لي عليلاً بمصر عند خروجي عنها
ص: 191
وابنا لي آخر أسن منه كان وصيي وقيمي على عيالي وفي ضياعي فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله الدعاء لابني العليل فكتب إلي: قد عوفي ابنك المعتل ومات الكبير وصيك وقيمك فاحمد اللّه ولا تجزع فيحبط أجرك فورد علي الخبر أنّ ابني قد عوفي من علّته ومات الكبير يوم ورد علي جواب أبي محمد (عليه السلام) (1).
نقل أبو هاشم الجعفري، فقال: شكوت إلى أبي محمد (عليه السلام) ضيق الحبس وكتل القيد، فكتب إلي أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك فأخرجت في وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال (عليه السلام) وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه دنانير في الكتاب فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجه إلي بمائة دينار وكتب إلي: إذا كانت لك حاجة فلا تستحي ولا تحتشم واطلبها فإنك ترى ما تحب إن شاء اللّه(2).
نقل إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد اللّه ابن عباس بن عبد المطلب، فقال: قعدت لأبي محمد (عليه السلام) على ظهر الطريق فلما مر بي شكوت إليه الحاجة وحلفت له أنه ليس عندي درهم فما فوقها ولا غداء ولا عشاء، قال: فقال: تحلف باللّه كاذبا وقد دفنت مأتي دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية أعطه يا غلام ما معك، فأعطاني غلامه مائة
ص: 192
دينار، ثم أقبل علي فقال لي: إنك تحرمها أحوج ما تكون إليها يعني الدنانير التي دفنت وصدق (عليه السلام) وكان كما قال دفنت مأتي دينار وقلت: يكون ظهراً وكهفاً لنا فاضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه وانغلقت علي أبواب الرزق فنبشت عنها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب فما قدرت منها على شيء(1).
ص: 193
هو محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والده: الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
والدته: هي السيدة نرجس، وكانت أم ولد.
تاريخ ولادته: في الخامس عشر من شهر شعبان سنة خمس وخمسين ومئتين.
صفته: شاب مرفوع القامة، حسن الوجه والشعر، يسيل شعره على منكبيه، أقنى الأنف أجلى الجبهة، أبيض مشرب حمرة، حنطي تشوبه صفرة من قيام الليل، متصل ما بين الحاجبين، نور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، على خده الأيمن خال كأنه نجم يتلألأ، مفلج الثنايا، أسود العينين أكحلهما، عريض المنكبين، أشبه الناس بجدّه أميرالمؤمنين (عليه السلام) في بطنه وساقه.
كناه: أبو القاسم.
ألقابه: الحجة، والمهدي، والخلف الصالح، والقائم، والمنتظر، وصاحب الزمان، وأشهرها المهدي.
بوّابه: محمد بن عثمان.
ص: 194
نُسب إلى الإمام المهدي (عليه السلام) أنه أنشد الشعر ومن ذلك:
لاترإنّي اتخذت لا وعلاها***بعد بيت الأحزان بيت سرور
ونُسب إليه (عليه السلام) أيضاً:
يقولون لي فضّل علياً عليهما***فلست أقول التبر أعلى من الحصى
إذا أنا فضّلت الإمام عليهما***أكن بالذي فضلته منتقصاً
ألم تر أنّ السيف يُزري بحدّه***مقالة هذا السيف أمضى من العصا
وردت في القرآن الكريم أكثر من آية حول الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) منها:
1- قوله عزّ وجل: {هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ}(1).
حيث قال أبو عبداللّه الكنجي حول الآية: وأما بقاء المهدي (عليه السلام) فقد جاء في الكتاب والسنة، أمّا الكتاب فقد قال سعيد بن جبير في تفسير قوله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ} قال: هو المهدي من عترة فاطمة (عليها السلام) (2).
2- قوله عزّ وجل: {وَإِنَّهُۥ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(3)، حيث ذكر ابن حجر فيها: قال مقاتل بن سليمان ومن شايعه من المفسرين إن هذه الآية نزلت في المهدي(4).
ص: 195
3- {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ}(1).
الأخبار في الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) كثيرة ولا تكاد تحصى، وهي واردة من الفريقين العامة والخاصة، ولو أردنا ذكرها جميعاً لخرج الأمر عن نطاق البحث لذا نقتصر على ذكر بعضها ومنها:
ما ورد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي، وكنيته ككنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً فذلك هو المهدي(2).
وعن الأصبغ بن نباتة قال: أتيت أمير المؤمنين (عليه السلام) فوجدته متفكرا ينكت في الأرض، فقلت: ، يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكرا تنكت في الأرض، أرغبة منك فيها؟ فقال: لا واللّه ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوما قط ولكني فكرت في مولود يكون من ظهري، الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما(3).
وعن عبد اللّه بن عمر قال: سمعت الحسين بن علي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللّه عز وجل ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي، فيملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما، كذلك سمعت رسول
ص: 196
اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول(1).
جمعت في الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) كثير من خصال الأنبياء (عليهم السلام) وهذا إن دل إنّما هو على كونه (عليه السلام) وريثاً وخليفة لهم، وقد ورد في الأخبار الشريفة كل صفة ورث منهم ومن ذلك:
1- عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: في صاحب هذا الأمر أربع سنن من أربعة أنبياء: سنّة من موسى وسنّة من عيسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من محمد صلوات اللّه عليهم اجمعين، فأمّا من موسى: فخائف يترقب، وأما من يوسف فالسجن، وأما من عيسى فيقال: إنه مات، ولم يمت، وأمّا من محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فالسيف(2).
2- عن ضريس الكناسي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إنّ صاحب هذا الأمر فيه سنّة من يوسف أبن أمة سوداء، يصلح اللّه عزّ وجل أمره في ليلة واحدة(3).
أقول: لا يخفى أن وجه الشبه كون أمهما أمة وليس الصفة وهي السواد.
3- عن سعيد بن جبير قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: في القائم منا سنن من الأنبياء: سنة من أبينا آدم (عليه السلام) ، وسنة من نوح، وسنة من إبراهيم، وسنة من موسى، وسنة من عيسى، وسنة من أيوب، وسنة
ص: 197
من محمد صلوات اللّه عليهم، فأما من آدم ونوح فطول العمر، وأما من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس، وأما من موسى فالخوف والغيبة، وأما من عيسى فاختلاف الناس فيه، وأما من أيوب فالفرج بعد البلوى، وأمّا من محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فالخروج بالسيف(1).
4- عن محمد بن مسلم الثقفي الطحان قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلى اللّه عليه وعليهم، فقال لي مبتدئا: يا محمد بن مسلم إن في القائم من آل محمد (عليهم السلام) شبها من خمسة من الرسل: يونس بن متى، ويوسف بن يعقوب، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات اللّه عليهم.
فأمّا شبهه من يونس بن متى، فرجوعه من غيبته وهو شاب بعد كبر السن.
وأمّا شبهه من يوسف بن يعقوب (عليه السلام) فالغيبة من خاصته وعامته، واختفاؤه من إخوته وإشكال أمره على أبيه يعقوب (عليه السلام) مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله وشيعته.
وأمّا شبهه من موسى (عليه السلام) ، فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته، وتعب شيعته من بعده ممّا لقوا من الأذى والهوان إلى أن أذن اللّه عز وجل في ظهوره ونصره وأيده على عدوه.
وأمّا شبهه من عيسى (عليه السلام) ، فاختلاف من اختلف فيه، حتى قالت طائفة منهم: ما ولد، وقالت طائفة: مات، وقالت طائفة: قتل وصلب.
وأما شبهه من جده المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فخروجه بالسيف، وقتله أعداء اللّه
ص: 198
وأعداء رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والجبارين والطواغيت، وأنه ينصر بالسيف والرعب، وأنه لا ترد له راية(1).
أشار أهل البيت (عليهم السلام) في أخبارهم الشريفة إلى طول غيبة الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وتعرضوا إلى امتحان المؤمنين وتلاطم الفتن بهم وشدة ما يجري عليهم من محن وصعاب جراء فقدهم إمام زمانهم (عليه السلام) ، فعن عبد الرحمن بن سليط قال: قال الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : منّا اثنا عشر مهدياً أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وآخرهم التاسع من ولدي، وهو الإمام القائم بالحق، يحيي اللّه به الأرض بعد موتها، ويظهر به دين الحق على الدين كله ولو كره المشركون، له غيبة يرتد فيها أقوام ويثبت فيها على الدين آخرون، فيؤذون ويقال لهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، أما إنّ الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول اللّه (عليه السلام) (2).
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إن أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم البارئ جل جلاله فيقول: عبادي وإمائي! آمنتم بسري وصدقتم بغيبي، فأبشروا بحسن الثواب منّي، فأنتم عبادي وإمائي حقاً منكم أتقبل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث وأدفع
ص: 199
عنهم البلاء ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ لصاحب هذا الامر غيبة، المتمسك فيها بدينه كالخارط للقتاد، ثم قال: - هكذا بيده(2) - ثم قال: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة فليتق اللّه عبد وليتمسك بدينه(3).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) ، قال: قال لي: لا بد من فتنة صمّاء صيلم(4) يسقط فيها كل بطانة ووليجة وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض وكل جرَّى وحران، وكل حزين لهفان ثم قال (عليه السلام) : بأبي وأمّي سمي جدي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشبيهي وشبيه موسى بن عمران (عليه السلام) ، عليه جيوب النور، تتوقد بشعاع ضياء القدس، كم من حرَّى مؤمنة، وكم من مؤمن متأسف حيران حزين عند فقدان الماء المعين، كأنّي بهم آيس ما كانوا قد نودوا نداء يسمع من بعد كما يسمع من قرب، يكون رحمة على المؤمنين وعذاباً على الكافرين(5).
عن أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتّب قال: كنت بالمدينة في السنة
ص: 200
التي توفّي فيها الشيخ عليّ بن محمّد السمري (قدس سره) ، فحضرته قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا عليّ بن محمّد السمري أعظم اللّه أجرك وأجر إخوانك فيك، فأنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، ولا ظهور إلّا بإذن اللّه، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفيانّي والصيحة فهو كاذب مفتر ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.
قال: فنسخنا ذلك التوقيع وخرجنا من عنده، فلمّا كان يوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه(1)، قيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: للّه أمر هو بالغه، وقضى رحمه اللّه، وهذا آخر كلام سمع منه (قدس سره) (2).
عن أبي رجاء المصري، قال: خرجت في الطلب بعد مضي أبي محمد (عليه السلام) بسنتين لم أقف فيهما على شيء، فلما كان في الثالثة كنت بالمدينة في طلب ولد لأبي محمد (عليه السلام) بصرياء، وقد سألني أبو غانم أن أتعشّى عنده، وأنا قاعد مفكر في نفسي وأقول: لو كان شيء لظهر بعد ثلاث سنين، فإذا هاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه وهو يقول: يا نصر بن عبد ربه قل لأهل مصر: آمنتم برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث رأيتموه؟(3).
ص: 201
عن إسحاق بن حامد الكاتب، قال: كان بقم رجل بزّاز مؤمن وله شريك مرجئي فوقع بينهما ثوب نفيس، فقال المؤمن: يصلح هذا الثوب لمولاي، فقال له شريكه: لست أعرف مولاك، ولكن افعل بالثوب ما تحب، فلما وصل الثوب إليه شقّه (عليه السلام) بنصفين طولاً فأخذ نصفه وردّ النصف، وقال: لا حاجة لنا في مال المرجئي(1).
عن أحمد بن محمد بن فارس الأديب، قال: سمعت حكاية بهمذان حكيتها كما سمعتها لبعض إخواني، فسألني أن أكتبها له بخطي، ولم أجد إلى مخالفته سبيلا، وقد كتبتها، وعهدتها على من حكاها.
وذلك أنّ بهمذان أناساً يعرفون ببني راشد، وهم كلّهم يتشيّعون، ومذهبهم مذهب أهل الإمامة، فسألت عن سبب تشيّعهم من بين أهل همدان، فقال لي شيخ منهم رأيت فيه صلاحا وسمتا حسناً: إنّ سبب ذلك أنّ جدّنا الذي ننتسب إليه خرج حاجاً، فقال: إنه لما فرغ من الحج وساروا منازل في البادية، قال: فنشطت للنزول والمشي، فمشيت طويلاً حتى أعييت وتعبت، فقلت في نفسي: أنام نومة تريحني فإذا جاءت القافلة قمت.
قال: فما انتبهت إلا بحرّ الشمس، ولم أر أحداً، فتوحّشت ولم أر طريقاً ولا أثراً، فتوكلت على اللّه تعالى، وقلت: أتوجّه حيث وجّهني ومشيت غير طويل فوقعت في أرض خضراء نضرة كأنّها قريبة عهد بغيث، فإذا تربتها
ص: 202
أطيب تربة، ونظرت في سواد تلك الأرض إلى قصر يلوح كأنّه سيف، فقلت في نفسي: ليت شعري ما هذا القصر الذي لم أعهده ولم أسمع به؟! فقصدته، فلما بلغت الباب رأيت خادمين أبيضين، فسلّمت عليهما فردّا ردّا جميلاً، وقالا: اجلس، فقد أراد اللّه بك خيراً. وقام أحدهما فدخل، فاحتبس غير بعيد ثم خرج، فقال: قم فادخل. فقمت ودخلت قصراً لم أر شيئاً أحسن ولا أضوأ منه، وتقدم الخادم إلى ستر على بيت فرفعه، ثم قال لي: ادخل، فدخلت البيت وقد علق فوق رأسه من السقف سيفاً طويلا تكاد ظبته تمس رأسه، وكان الفتى يلوح في ظلام، فسلمت، فرد السلام بألطف كلام وأحسنه ثم قال: أتدري من أنا؟
فقلت: لا واللّه. فقال: أنا القائم من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنا الذي أخرج آخر الزمان بهذا السيف - وأشار إليه - فأملا الأرض عدلا كما ملئت جوراً.
قال: فسقطت على وجهي وتعفّرت، فقال: لا تفعل، ارفع رأسك أنت فلان من مدينة بالجبل يقال لها: همذان، قلت: صدقت يا سيدي ومولاي.
قال: أفتحب أن تؤوب إلى أهلك؟
قلت: نعم يا مولاي، وأبشّرهم بما يسّر اللّه تعالى. فأومأ إلى خادم وأخذ بيدي وناولني صرّة، وخرج بي ومشى معي خطوات، فنظرت إلى ظلال وأشجار ومنارة ومسجد، فقال: أتعرف هذا البلد؟ قلت: إن بقرب بلدنا بلدة تعرف بأسد آباد وهي تشبهها. فقال: أتعرف أسد آباد؟ فامض راشداً. فالتفت ولم أره.
ودخلت أسد آباد، ونظرت فإذا في الصرّة أربعون - أو خمسون ديناراً - فوردت همدان وجمعت أهلي وبشّرتهم بما يسّر اللّه تعالى لي، فلم نزل بخير
ص: 203
ما بقي معنا من تلك الدنانير(1).
أبو محمد الحسن بن وجناء النصيبي قال: كنت ساجداً تحت الميزات في رابع أربع وخمسين حجة بعد العتمة، وأنا أتضرع في الدعاء إذ حركني محرّك، فقال: قم يا حسن بن وجناء، قال: فقمت فإذا جارية صفراء نحيفة البدن أقول: إنّها من أبناء أربعين فما فوقها، فمشت بين يدي وأنا لا أسألها عن شيء حتى أتت بي إلى دار خديجة (عليها السلام) وفيها بيت بابه في وسط الحائط وله درج ساج يرتقى، فصعدت الجارية وجاءني النداء: اصعد يا حسن، فصعدت فوقفت بالباب، فقال لي صاحب الزمان (عليه السلام) : يا حسن أتراك خفيت علي واللّه ما من وقت في حجك إلا وأنا معك فيه، ثم جعل يعد علي أوقاتي، فوقعت مغشياً على وجهي، فحسست بيد قد وقعت علي فقمت، فقال لي: يا حسن الزم دار جعفر بن محمد (عليهما السلام) ، ولا يهمنك طعامك ولا شرابك ولا ما يستر عورتك، ثم دفع إلي دفترا فيه دعاء الفرج وصلاة عليه، فقال: بهذا فادع، وهكذا صل علي، ولا تعطه إلا محقي أوليائي فإنّ اللّه جلّ جلاله موفقك فقلت: يا مولاي لا أراك بعدها؟ فقال: يا حسن إذا شاء اللّه، قال: فانصرفت من حجّتي ولزمت دار جعفر بن محمد (عليهما السلام) فأنا أخرج منها فلا أعود إليها إلا لثلاث خصال: لتجديد وضوء أو لنوم أو لوقت الإفطار، وأدخل بيتي وقت الإفطار فأصيب رباعيا مملوءا ماء ورغيفا على رأسه وعليه ما تشتهي نفسي بالنهار، فآكل ذلك فهو كفاية لي، وكسوة الشتاء في
ص: 204
وقت الشتاء، وكسوة الصيف في وقت الصيف، وإني لأدخل الماء بالنهار فأرش البيت وأدع الكوز فارغاً فأوتي بالطعام ولا حاجة لي إليه فاصدق به ليلاً كيلا يعلم بي من معي(1).
ص: 205
ص: 206
ص: 207
ص: 208
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد فقبل وفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري بستة أيام ورد التوقيع الشريف من المولى صاحب العصر والزمان الحجّة بن الحسن (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وفيه: يا علي بن محمد السمري اسمع! أعظم اللّه أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن اللّه تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورا، وسيأتي من شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم(1).
وقد كثر الحديث حول مفاد هذا التوقيع الشريف وكيفية الجمع بين ظاهره من تكذيب مدّعي المشاهدة وبين المستفاض بين الإمامية من تشرّف البعض به صلوات اللّه عليه خاصة أنّ بعض من تشرّفوا بلقياه (عليه السلام) من أعلام الطائفة ممّن يصعب جداً القول بتكذيبهم في تشرّفهم بالمولى (عليه السلام) .
ولذا لابد من البحث عن التوجيه السليم لمعنى التوقيع والجمع بينه وبين
ص: 209
ما استفاض لدى الإمامية من تشرّف البعض بلقياه صلوات اللّه عليه ومنهم العلماء الأعلام أمثال السيد بحر العلوم، والمقدّس الأردبيلي، والعلامة الحلّي وغيرهم من عظماء الطائفة.
كما ينبغي البحث عن فوائد التشرّف بالمولى صاحب العصر والزمان (عليه السلام) وآثارها على الناس وبيان بعض الحقائق المهمة في ذلك، إذ إنّ البعض من ذوي السرائر المريضة استغلّوا هذا الموضوع الحسّاس وسخّروه في الوصول إلى أهدافهم ومقاصدهم السيئة.
الروايات المصرّحة أنّ الامام المهدي (عليه السلام) من ولد فاطمة (عليها السلام) وأنّه النجل التاسع للإمام الحسين (عليه السلام) باتت متواترة، وقد صرّح نفس العامّة بها منها الحديث الوارد عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ هذا الأمر لاينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، يقول الراوي: ثم تكلّم بكلام خفي عليّ، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلّهم من قريش(1).
وعلى كلّ فإنّ الإمام المهدي (عليه السلام) تنصّ عليه روايات العامّة أيضاً إلاّ أنّهم يؤلّونها ويوجهونها لأمور سياسية خاصّة بهم بينما التزم الشيعة بإعتقادهم به وبقوا ينتظرونه ويدعون للظهور والفرج.
كانت ولادة الامام المهدي (عليه السلام) في سامراء، في اليوم الخامس عشر من
ص: 210
شهر شعبان سنة 255 ه، واسمه اسم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أي محمّد وقد نصّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ذلك في أحاديثه الشريفة منها قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً، تكون به غيبة وحيرة(1).
أما ألقابه الشريفة فهي كثيرة منها: الحجّة، المهدي، الصاحب، المنتظر، المؤمّل، وأشهرها المهدي.
وكنيته: أبو صالح، وأبو القاسم.
هناك الكثير من الآيات الكريمة الدالة على الإمام المهدي (عليه السلام) وأنّه الإمام الثاني عشر من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) ، وقد صرّح بدلالتها علماء السنّة أنفسهم.
فمن هذه الآيات الدالة على إمام العصر والزمان (عليه السلام) هي:
1-
قوله تعالى في سورة البقرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ}(2).
فقد روى الحافظ سليمان القندوزي في «ينابيع المودة» عن جابر بن عبداللّه الأنصاري قال: دخل جندل بن جنادة بن جبير اليهودي على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسأله عن أشياء الى أن قال: سُئِلَ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أوصيائه، فعدّهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له، الى أنْ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فبعده ابنه محمد، يدعى بالمهدي، والقائم، والحجّة، فيغيب، ثم يخرج، فإذا خرج يملأ الأرض قسطاً وعدلاً
ص: 211
كما ملئت جوراً وظلماً، طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبّته، أولئك الذين وصفهم اللّه في كتابه وقال: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ}(1).
2- قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ}(2).
فقد نقل كل من «الكنجي» و«الشبلنجي» في كتابيهما «البيان» و«نور الأبصار» أنّ المراد من الآية هو المهدي من ولد فاطمة(3).
3- قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ}(4).
فمن كلام لمحمد بن ابراهيم «الحمويني» قال: قال علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في حديث: أنه قيل له (عليه السلام) : يابن رسول اللّه ومن القائم منكم أهل البيت (عليهم السلام) ؟
قال: الرابع من ولدي ابن سيدة الإماء يطهّر اللّه به الأرض من كل جور ويقدّسها من كل جرم وظلم(5).
ولمن أراد المزيد من الإطلاع على الآيات المباركة المؤوّلة في إمام العصر والزمان (عليه السلام) فليراجع كل من:
ص: 212
1- غاية المرام للعلامة السيد هاشم البحراني.
2- الإمام المهدي (عليه السلام) في القرآن لآية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي حفظه اللّه.
3- فرائد السمطين آخر المجلد الثاني.
إنّ الروايات الشريفة الواردة في الإمام الحجّة (عليه السلام) فاقت حدّ الإحصاء وقد نقلها الفريقان بطرق صحيحة معتبرة لايمكن الخدش فيها أبداً.
فمن الأخبار الواردة عن العامة هي:
* عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أبشرو بالمهدي رجل من قريش من عترتي(1).
* عن ابن مسعود عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: يلي رجل من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي، لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم، لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يلي(2).
* عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج اللّه على الخلق بعدي لاثنا عشر، أولهم أخي وآخرهم ولدي، قيل: يا رسول اللّه ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحقّ بشيراً لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح اللّه عيسى بن مريم فيصلّي خلفه،
ص: 213
وتشرق الأرض بنور ربّها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب(1).
* وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لاتقوم الساعة حتى يملك الأرض رجل من أهل بيتي أجلى أقنى، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً، يكون سبع سنين(2).
وغيرها من الروايات الكثيرة التي يجدها القاريء في مصادرهم المعروفة.
أمّا الروايات الواردة في شأن الامام المهدي (عليه السلام) من قبل أهل البيت (عليهم السلام) فمنها:
* قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : المهدي ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً، تكون به غيبة وحيرة تضل فيها الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب يملأ عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً(3).
* قال الامام الحسين (عليه السلام) : منّا اثنا عشر مهدياً أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأخرهم التاسع من ولدي، وهو الإمام القائم بالحقّ، يحي اللّه به الأرض بعد موتها، ويظهر به دين الحق على الدين كلّه ولو كره المشركون، له غيبة يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها على الدين آخرون، فيؤذون ويقال لهم: متى الوعد إن كنتم صادقين؟ أمّا الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (4).
* عن يونس بن عبدالرحمن، قال: دخلت على موسى بن جعفر (عليه السلام)
ص: 214
فقلت له: يابن رسول اللّه أنت القائم بالحق؟ فقال: أنا القائم بالحق ولكن القائم الذي يطهّر الأرض من أعداء اللّه عزّوجلّ ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً هو الخامس من ولدي له غيبة يطول أمدها على نفسه، يرتد فيها أقوام ويثبت فيها آخرون، ثم قال (عليه السلام) : طوبى لشيعتنا، المتمسّكين بحبلنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا، أولئك منّا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمة، ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم، وهم واللّه معنا في درجاتنا يوم القيامة(1).
* عن الريان بن الصلت، قال: قلت للإمام الرضا (عليه السلام) : أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال (عليه السلام) : أنا صاحب هذا الأمر ولكنّي لست بالذي أملأها عدلاً كما ملئت جوراً، وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني، وإنّ القائم هو الذي إذا خرج كان في سنّ الشيوخ ومنظر الشبان، قوياً في بدنه حتى لو مدّ يده الى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها، يكون معه عصا موسى (عليه السلام) ، وخاتم سليمان (عليه السلام) ذاك الرابع من ولدي، يغيّبه اللّه في ستره ما شاء، ثم يظهره فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(2).
لقد أثار البعض شبهاته وأخذ يخالف الأدلّة الكثيرة المصرّحة بولادة الإمام الحجّة (عليه السلام) فأنكر ولادته مع أنّ الأدلّة الدالة على هذا المطلب كثيرة
ص: 215
ومنها:
1- تصريح الإمام العسكري (عليه السلام) بالولادة: وقد ورد ذلك في حديث صريح في الكافي الشريف رواه عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمد (عليه السلام) : جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل، قلت: ياسيدي هل لك ولد؟ فقال: نعم(1).
2- تصريح القابلة: وهي السيدة حكيمة أُخت الإمام وعمّة الإمام، وبنت الإمام حيث إنّها صرّحت بالولادة ليلة المولد وقد تولّت بنفسها أمر السيّدة نرجس بإذن من الإمام العسكري (عليه السلام) .
3- عشرات الشهادات برؤية الإمام (عليه السلام) : إذ إنّ العشرات من خلّص المؤمنين والعلماء الأعلام وفّقوا للإلتقاء به، وقد سجّل العديد من المؤلّفين هذه اللقاءات في مصنّفاتهم ومنهم السيد هاشم البحراني في كتابه: تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهدي. حيث ذكر فيه (79) شخصاً شاهد الإمام (عليه السلام) في طفولته أو في غيبته الصغرى، وأحصى الشيخ أبو طالب التجليل التبريزي ما يقارب من (304) ممّن رأى الإمام وشهد بوجوده، كما أحصى الشيخ الصدوق القريب من غيبة الإمام (عليه السلام) (64) شخصاً شهد بوجود الإمام (عليه السلام) هذا فضلاً عن وكلائه (عليه السلام) في الغيبة الصغرى الذين كانوا يلتقون به.
4- تصريح علماء السنّة بالولادة: حيث صرّح الكثير منهم بولادته، وقد نقل أنّ عددهم أكثر من مئة عالم ذكرهم الشيخ مهدي فقيه إيماني في
ص: 216
كتابه: المنتظر في نهج البلاغة.
الجدير ذكره أنّ بعض من صرّح بولادته (عليه السلام) كان في عصر الغيبة منهم:
أ: أبو بكر الروياني، محمد بن هارون المتوفّى عام 307 ه- ذكر ذلك في كتابه (المسند).
ب: أحمد بن إبراهيم بن علي الكندي، وهو من تلامذة ابن جرير الطبري المتوفّى عام 310 .
ج: محمد بن أحمد بن أبي الثلج المتوفّى عام 322 ه- ذكره في «مواليد الأئمّة» وهو مطبوع ضمن كتاب (الفصول العشرة في الغيبة) للشيخ المفيد(1).
من الإشكالات المعروفة التي يردّدها مخالفوا الشيعة ويشنّعوا به عليهم هو مسألة طول عمر الإمام (عليه السلام) حيث إنّ عمره تجاوز الألف عام، فهل من الممكن أن يعيش الإنسان إلى هذا الحدّ؟
ولايخفى أنّ الجواب على هذا السؤال سهل وبسيط وهو كالتالي:
أ: إنه هذا غير مستحيل على اللّه تعالى فهو إذا أراد شيئاً إنّما يقول له كن فيكون ولا داعي للاستغراب منه.
ب: إنّ هذا حاصل فنبي اللّه نوح (عليه السلام) الذي نصّ القرآن على أنّه مكث
ص: 217
في قومه ألف إلاّ خمسين عاماً، فلماذا نقبل ذلك لنبي اللّه نوح الذي لا يعلم أنّ هذه السنين كانت تمام عمره أم أيّام دعوته فقط، ونرفضه بالنسبة للإمام الحجّة (عليه السلام) ؟ وكذا الحال بالنسبة لنبي اللّه عيسى (عليه السلام) الذي صرّح القرآن أنّه لم يصلب، ناهيك عن الخضر الذي نصّت الروايات على رجعته هو ونبي اللّه عيسى (عليه السلام) في عهد الإمام المهدي (عليه السلام) .
ج: وردت الكثير من الأخبار في أحوال المعمّرين ومنهم: سلمان المحمّدي الذي نقلت السير أنّه لقي نبي اللّه عيسى (عليه السلام) وبقي إلى زمان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل أنّ أصحاب الحديث نقلوا أنّ الدجّال كان في زمن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو باق إلى وقت الظهور.
ناهيك أنّ العرب قالت: إنّ لقمان بن عاد عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، وعاش ربيع بن ضبع ثلاثمائة وأربعين سنة، وعاش المتوغر بن ربيعة ثلاثمائة وثلاثين سنةً(1).
من الاعتقادات المهمّة للشيعة في الإمام المهدي (عليه السلام) أنّه غاب عن الأنظار وسيظهر في يوم لا محالة لينقذ الناس من ظلمات الجور ويخلّص البشرية من عذاب الاستكبار والطغيان الموجود في كل مكان.
وقد أشكل على غيبته فقيل: ما هي فائدة إمام غائب لا نراه ولا يرانا؟
وفي جوابه نقول: إنّ لوجوده (عليه السلام) فوائد كثيرة نذكر بعضها:
ص: 218
1- هداية الأُمّة: فالإمام (عليه السلام) يهدي الأمّة ويسوقها نحو الهداية حتّى لو كان غائباً وهناك العديد من الشواهد على ذلك منها قضية الشيخ المفيد في قصة المرأة المتوفّاة وما جرى لطفلها.
2- أنّه يحفظ النظام: وهذا لانحسّ به نحن إلاّ أنّه واقع حتماً ويؤكّده الحديث المعروف: لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت(1).
3- باب الغوث: ففي أوج الشدّة والمحنة ولمّا تغلق الأبواب المفتوحة يتوجّه الناس نحو باب الإمام الحجّة (عليه السلام) ويستغيثون به فيخلّصهم من مشاكلهم والقصص الدالّة على ذلك بالمئات.
إنّ علامات ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) كثيرة جداً وقد أشار إليها الشيخ الصدوق (قدس سره) في كتابه «كمال الدين» والشيخ الطوسي في كتابه «الغيبة» إلاّ أنّ العلامات الحتمية منها كما صرّح بذلك بعض المحقّقين خمسة أُشير إليها في الخبر التالي:
عن أبي عبداللّه (عليه السلام) : خمس قبل قيام القائم (عليه السلام) : اليماني، والسفياني، والمنادي ينادي بين السماء، وخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكية(2).
هناك بعض الشبهات المطروحة حول الإمام المهدي (عليه السلام) لا بأس من ذكرها، منها:
ص: 219
1- كيف يستطيع الإمام (عليه السلام) عند ظهوره من قمع الظالمين على ما هم عليه اليوم من القوّة والسلطة والتطور في كل المجالات؟
وفي جوابه نقول: إنّ الإمام (عليه السلام) مؤيّد من اللّه تعالى وهو ناصره كما نصر جدّه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على قريش وهيمنتها وهو لايملك من العدّةِ والعددِ إلاّ قليلاً.
ثانياً: الإمام الحجّة (عليه السلام) عنده الإرادة التكوينية فمتى يريد يشير بإشارة يعطّل كل أنظمة الخصم.
ثالثاً: ربّما يكون تدخّل الإعجاز في القضية وعندئذ لا مجال للاستبعاد أصلاً.
2- إنّ غيبة الإمام (عليه السلام) تدفع الشيعة إلى الجلوس والكفّ عن العمل والانتظار فقط؟
ويرد على ذلك أنّ القضية بالعكس تماماً فهو لمّا يظهر يظهر بالخلّص من المؤمنين، فإذا كان الناس لم يعملوا ويتحرّكوا لهداية الأُمّة كيف يكونوا من الخلّص الذين يناصروا الإمام (عليه السلام) ؟
من جانب آخر أنّ العمل الصالح هو الوسيلة الوحيدة للحوز على رضا الإمام (عليه السلام) فإذا جلس الإنسان وسلّم أمره أمام الباطل فبماذا يواجه الامام (عليه السلام) عند ظهوره؟ فالعمل إذن هو الطريق الوحيد للقاء الإمام بوجه مشرق.
ص: 220
لايخفى أنّ البشرية عامة والشيعة خاصة لديهم وظيفة ومسؤولية عظيمة تجاه إمام العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) نشير إلى بعضها بإيجاز وهي:
1- معرفة المُنتَظَر: إنّ الذي يراجع كتب اللغة يجدها تُعرّف الانتظار أنّه بمعنى: إرتقاب حضور أحد وتوقّع الشيء، فيقال: نظرته إذا ارتقبت(1).
وبالطبع فإنّ مَنْ يترقّب حضور أحد وينتظر قدومه من المفترض له أن يهيّىء نفسه ويعدّها للقاء هذا المنتظر القادم الذي بقي يترقّب ويتوقّع حضوره ويعد اللحظات والدقائق لساعات اللقاء التي ينتظرها.
وفي واقع الأمر إنّ الإنسان إذا عرف قدر الشخص الذي ينتظره ويترقّب قدومه وأدرك مقامه فإنّ انتظاره يختلف عمّا لو كان لايعرف عنه شيئاً، فإذا كان لايعرف عنه شيئاً ربّما لايتوقّع قدومه أصلاً بل ولايحب قدومه لجهله بحقيقته، أمّا إذا عرف مقام ذلك الشخص الذي ينتظره واكتشف عظمة قدره فإنّه بلا ريب سيعدّ اللحظات والدقائق وينتظره على أحرّ من الجمر إلى أن يوفّق للقائه والتشرّف بخدمته. ومن هنا كان من اللازم الضروري على المنتظرين لبقية اللّه الأعظم (أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه
ص: 221
الفداء) أن يطالعوا ويبحثوا عن عظمة الإمام الذي ينتظرونه ومدى قداسته وعظمة شأنه الرفيع الذي أشار إليه أهل البيت (عليهم السلام) في رواياتهم المختلفة، ومنها ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سُئل هل وُلد القائم (عليه السلام) ؟ فقال (عليه السلام) : لا، ولو أدركته لخدمته أيام حياتي!(1) فهذا صادق آل محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتمنّى أن يكون خادماً لمهدي آل محمد طوال حياته؟! فهل نحن كذلك؟! وهل نحن حقّاً «خدام للمهدي» (عليه السلام) أم أنّ هذا اللقب ندّعيه مجرّد ادّعاء ليس إلاّ؟!
ففي الحديث عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: لابد من فتنة صمّاء صيلم يسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض، وكل حرّى وحرّان وكل حزين لهفان، ثم قال (عليه السلام) : بأبي وأمّي سمّي جدّي وشبيهي وشبيه موسى بن عمران (عليه السلام) ، عليه جيوب النور تتوقد بشعاع ضياء القدس، كم من حرّى مؤمنة، وكم من مؤمن متأسّف حيران حزين عند فقدان الماء المعين، كأنّي بهم آيس ما كانوا، نودوا نداء يسمع من بُعد كما يسمع من قرب يكون رحمة على المؤمنين وعذاباً على الكافرين(2).
وعن أبي حمزة الثمالي، قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ذات يوم، فلمّا تفرّق من كان عنده قال لي: يا أبا حمزة من المحتوم الذي حتمه اللّه قيام قائمنا، فمن شك في ما أقول لقي اللّه وهو به
ص: 222
كافر... بأبي واُمّي المسمّى باسمي والمكنّى بكنيتي السابع من بعدي، بأبي من يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يا أبا حمزة من أدركه فلم يسلم له فما لمحمّد وعلي (عليهما السلام) قد حرّم اللّه عليه الجنة ومأواه النار وبئس مثوى الظالمين(1).
ومن كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال: فانظروا أهل بيت نبيّكم فإن لبدوا فالبدوا، وإن استنصروكم فانصروهم، فليفرجنّ اللّه الفتنة برجل منّا أهل البيت. بأبي ابن خيرة الإماء(2).
وعن سدير الصيرفي، قال: دخلت أنا والمفضّل بن عمرو وأبو بصير وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبداللّه الصادق (عليه السلام) فرأيناه جالساً على التراب وعليه مسح خيبري مطوّق بلا جيب مقصّر الكمين وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ذات الكبد الحرّى، قد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغيير في عارضيه وأبلى الدموع محجريه وهو يقول: سيدي غيبتك نفت رقادي وضيقت عليّ مهادي وابتزّت منّي راحة فؤادي، سيّدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد وفقد الواحد بعد الواحد(3).
أفهل دقّقنا في هذه الروايات العظيمة؟ هل لاحظنا أنّ الأئمة جميعاً يبدون فداءهم لإمام الزمان (عليه السلام) قائلين: بنفسي... بأبي وأمي... فيما إمامنا الصادق (عليه السلام) تتقطع أوصال قلبه بسبب غيبة الإمام (عليه السلام) وهو لا يخاطبه إلا بقوله: «سيدي»!!
وهنا نقطة مهمّة; وهي أنّ مخاطبة الإمام الصادق (عليه السلام) للإمام
ص: 223
المهدي (عليه السلام) بقوله: «سيدي» دليل على أنّ الإمام المهدي أفضل منه وأعلى مرتبة منه، وهذا مصداق لما ورد عنهم (عليهم السلام) من قولهم: «أفضلنا قائمنا». ويتبيّن من الأحاديث الشريفة أنّ أفضل الخلق بعد أهل الكساء الخمسة هو الإمام المهدي (عليه السلام) ثم بقية الأئمة الثمانية من ذرية الإمام الحسين (عليهم السلام) .
2- ماذا ننتظر؟كانت هذه قطرة من بحر فضائل إمام العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) الذي سيجلب للبشرية السعادة العظمى في الدارين، والآن لابأس أن نتساءل وإيّاكم: ماذا ننتظر؟! وبعبارة أخرى: ما الذي سيجلبه الإمام المنتظر (صلوات اللّه وسلامه عليه) معه للبشرية جمعاء من خيرات وبركات حرموا منها بل لم يسمعوا بها.
ولقائل أن يقول هنا: لماذا تذكرون مثل هذه الأمور؟ وفي جوابه نقول: إنّ البشرية إذا عرفت ماذا سيقدّم لها منقذ البشرية من بركات وخيرات فإنّ شوقها إليه سيكون أكثر واستعدادها للقائه وتهيّؤها لمجيئه سيكون أفضل، فضلاً عن تأكيدها وإصرارها على الاتصال به وتتبّع أخباره حتى يظهر وتنتهي آلام الانتظار التي تقطّع قلوب المنتظرين.
ولنذكر نبذه مختصرة حول ما سيحّققه الإمام الحجّة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) للبشرية عند ظهوره وذلك على لسان أهل البيت (عليهم السلام) الذين ينطقون بلسان الوحي:
(1) العدالة: ففي عالم الظلم والطغيان ومع إعاثة الظلمة ظلمهم في العالم بأسره تتجّلى عظمة الإمام المهدي (عليه السلام) الذي يبيد الجبابرة والعتاة ويقضي على الطغاة وينشر العدالة الحقيقية التي حرم منها الناس طيلة حياتهم، فعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: المهدي منّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(1).
ص: 224
وعن أبي وائل، قال: نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابنه الحسين (عليه السلام) ، فقال: إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول اللّه سيّداً، وسيخرج من صلبه رجلاً باسم نبيّكم فيشبهه في الخلق والخلق يخرج على حين غفلة من الناس وإماتة من الحق وإظهار من الجور واللّه لو لم يخرج لضرب عنقه، يفرح لخروجه أهل السماء، وسكانها يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(1).
وبطبيعة الحال فإنّ البشرية وهي تعاني مضض الظلم وتتجرّع آهات الجور يحقّ لها أن تستبشر بظهور إمام همام كهذا يسعدها بالعدالة ويجعلها تعيش تحت ظل القسط.
(2) الأمن والأمان: حيث ينشر صاحب العصر والزمان (عليه السلام) الأمن والأمان للبشرية التي قضت عمرها في الاضطراب والخوف من الحروب والجور وما أشبه ذلك من المخاطر الصعبة التي تهدّد حياتها وتنغّص عليها رغد العيش، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث له قائلاً: حتى تمشي المرأة بين العراق والشام، لاتضع قدميها إلاّ على النبات، وعلى رأسها زينتها، لايهيجها سبع، ولا تخافه(2).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : وتخرج العجوز... الضعيفة من المشرق، تريد المغرب لاينهاها أحد(3).
(3) الانتعاش المعيشي: فبعد أن تعيش البشرية الفقر والحرمان وتقاسي مضض الجوع وما أشبه من مشاكل الفقر يطلّ عليها عالم آخر مليء
ص: 225
بالانتعاش والغنى بحيث لايبقى فقير أو محتاج إلا واستغنى حتى تصبح الثروات لا قيمة لها! وإلى ذلك يشير رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث له قائلاً: أبشركم بالمهدي يبعث في أمّتي على اختلاف من الناس وزلازل، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسّم المال صحاحاً، فقال رجل: ما صحاحا؟ قال: بالسوية بين الناس، ويملأ اللّه قلوب أمّة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غنى ويسعهم عدله حتى يأمر مناديا ينادي يقول: من له في المال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل واحد فيقول: ائت السدان - يعني الخازن - فقل له: إنّ المهدي يأمرك أن تعطيني مالا، فيقول له: أحث حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفسا أعجز عمّا وسعهم فيردّه ولايقبل منه، فيقال له: إنّا لانأخذ شيئاً أعطيناه(1).
وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: تتنعم أمّتي في زمن المهدي (عليه السلام) نعمة لم يتنعّموا قبلها قط: يرسل السماء عليهم مدراراً ولاتدع الأرض شيئاً من نباتها إلا أخرجته(2).
(4) الألفة والمحبّة: ففي عهد إمام الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) تنتشر المحبّة والألفة والمودّة بين الناس بعد أن يكونوا متخاصمين كل منهم يسعى جاهداً من أجل أذيّة أخيه في البشرية.
ولايخفى أنّ إيجاد الألفة بين القلوب يحتاج إلى عناية خاصة وولاية
ص: 226
تكوينية عامّة بحيث يؤلّف بين قلوب البشرية على خلافاتها واختلاف مشاربها وكثرة نزاعاتها الشديدة وعداواتها المكنونة. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: قلت يا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أمنّا آل محمّد المهدي أم من غيرنا؟ فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لا بل منّا يختم اللّه به الدين كما فتح بنا، وبنا ينقذون من الفتن كما أنقذوا من الشرك، وبنا يؤلّف اللّه بين قلوبهم بعد عداوة الفتنة إخواناً كما ألّف بينهم بعد عداوة الشرك...، إخواناً في دينهم(1).
(5) إعزاز الدين: وهذا من أهم الأمور التي يجلبها بقية اللّه الأعظم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) للبشرية حيث يعزّ الإسلام والعقيدة بعد تكالب الطغاة والمنافقون على محوه فيعيد للإنسانية عزّة الدين ويجعلها تلامس بنفسها عزّ الإسلام، فعن حذيفة، قال: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: ويح هذه الأمة من ملوك جبابرة كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم، فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه، ويفرُّ منهم بقلبه فإذا أراد اللّه عزّوجلّ أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم كلّ جبار عنيد وهو القادر على ما يشاء أن يصلح أمة بعد فسادها. فقال (عليه السلام) : يا حذيفة لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي تجري الملاحم على يديه، ويظهر الإسلام لايخلف وعده وهو سريع الحساب(2).
(6) تكامل العقول: ففي عهد إمام العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) تتكامل العقول البشرية وتنضج الألباب ويصبح الناس حكماء فقهاء، وإلى ذلك يشير الإمام
ص: 227
الباقر (عليه السلام) قائلاً: تؤتون الحكمة في زمانه - أي الإمام المهدي (عليه السلام) - حتى أنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب اللّه تعالى وسنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: إذا قام قائمنا (عليه السلام) وضع يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكملت به أحلامهم(2).
وغير هذه الأمور من البركات والسعادات التي يجلبها الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) معه للبشرية، ولهذا فمن المفترض أن تدرك البشرية أنّها تنتظر كل خير بانتظارها لإمام الزمان (عليه السلام) ولو اطّلع الناس على مثل هذه الأمور وأدركوا حقيقتها لماتوا شوقاً إليها، إلا أنّه يبقى القول أنّ أمامهم وظيفة تتجسّد في خدمته والتعجيل في ظهوره (عليه السلام) .
3- المنتظرون... مَن هُم؟
بعد أن عرفنا شيئاً قليلاً عن إمام الزمان المنتَظَر لابأس أن نسلّط الأضواء على صفات المنتظرين، وإلا فأيّ إنسان يمكن أن يدّعي أنه منهم والحال أنّه لايحرّك ساكناً من أجل فرج مهدي آل محمّد (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف). وبعبارة أخرى: حتى يكون الإنسان من المنتظرين لابد أن تكون فيه خصال منها:
* المعرفة: بحيث يعرف المنتظِر إمام زمانه وإلاّ فإنّه يموت ميتة جاهلية وهذه المعرفة لابد أن تكون عملية بحيث يطرق المنتظر أبواب أهل البيت (عليهم السلام) ويرى أحاديثهم حول إمام الزمان ومدى قدسيته العظيمة ثم يسعى جاهداً أن يتقرّب إليه بالخصال الحميدة والصفات الممدوحة التي ترضي قلبه (عليه السلام) وقد
ص: 228
دعا الأئمة (عليهم السلام) لمثل هذه المعرفة في أحاديثهم، فعن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن قول اللّه: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمْ}(1) فقال (عليه السلام) : يا فضيل اعرف إمامك، فإنّك إذا عرفت إمامك لم يضرّك تقدّم هذا الأمر أو تأخّر، ومن عرف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا، بل بمنزلة من قعد تحت لوائه، قال: وقال بعض أصحابه: بمنزلة من استشهد مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).
* إدخال السرور على قلبه: وهو أن تكون سيرة المنتظر لإمام الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) مرضيّة عنده بحيث أنّه يبقى مسروراً وراضيا عنه، وبالطبع فإنّ الذي يرضى عليه ولي اللّه الأعظم (عليه السلام) يكون مرضياً عند اللّه تعالى حتماً.
* التركيز على العلم: إذ أنّ أهل البيت (عليهم السلام) لهم اعتناء خاص بالعلم والعلماء خاصة إذا كان العلم مصحوباً بالعمل فإنّه سيكون محلّ اهتمامهم (عليهم السلام) ، ولذا من المفترض لمن ينتظرون إمام العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) أن يتسلّحوا بسلاح العلم لينالوا المراتب المقرّبة منه (عليه السلام) .
4- من وظائف المنتظرين: هناك وظائف للمنتظرين ينبغي لهم أن يقوموا بها على أكمل وجه وهي:
(1) العمل لتعجيل الفرج: وذلك من خلال الدعاء والتوسّل والتمهيد لظهور منقذ البشرية (عليه السلام) الذي سيأتي حتماً هو وأنصاره لينقذوا البشرية من ظلمات الضياع. ويكون هذا العمل بالخدمة المتواصلة، والذوبان في فداء
ص: 229
إمام الزمان (عليه السلام) ، والتبشير بظهوره، ودعوة الناس إلى التمسّك بحبل ولايته وولاية آبائه الطاهرين عليهم أفضل الصلاة وأتمّ السلام.
(2) توثيق الارتباط به: من خلال الدعاء لفرجه فإنّ في ذلك فرجنا كما ورد في التوقيع الشريف والوارد عنه (عليه السلام) (1) علماً أنّ هناك مجموعة من الأدعية لفرج إمام العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) منها دعاء الندبة ودعاء العهد، وزيارة آل ياسين وصلاة صاحب الزمان المذكورة في مسجد السهلة وما أشبه ذلك. وقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجّوا وبكوا الى اللّه أربعين صباحاً، فأوحى اللّه إلى موسى وهارون يخصلّهم من فرعون، فحطّ عنهم سبعين ومئة سنة، قال: وقال أبو عبداللّه (عليه السلام) : هكذا أنتم لو فعلتم لفرّج اللّه عنّا، فأمّا إذا لم تكونوا فإنّ الأمر ينتهي إلى منتهاه(2).
(3) خدمة الناس: وهذا من أفضل الأمور التي يرضى لها بقية اللّه الأعظم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ولايخفى أنّ ذلك يحتاج إلى إخلاص في العمل وهمّة في التحرّك حتى يصل المكلّف إلى الخدمة الحقيقية التي ترضي قلب الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) عنه.
ص: 230
بعد هذه النبذة المختصرة عن إمام الزمان (عليه السلام) نعود إلى التوقيع الشريف الذي ذكرناه في مقدّمة البحث ونقول: ما المراد من التوقيع الشريف؟
وهل أنه ينافي ماهو مشهور لدى الإمامية من تشرّف العديد بالمولى صاحب الزمان (عليه السلام) خاصة أنّ بعض ماينقل كاد يبلغ الاستفاضة؟
والإجابة على السؤال بأمور منها:
الأول: ذهب البعض إلی أنّ المراد بادّعاء المشاهدة مع النيابة الخاصة وإيصال الأخبار من الإمام (عليه السلام) إلى الشيعة، فالإمام بهذا التوقيع الشريف أغلق باب إدعاء السفارة الخاصة.
الثاني: أنّ من تشرّفوا بلقاء الإمام المهدي (عليه السلام) لم يدّعوا المشاهدة بل معظمهم لم يخبروا أحداً بتشرّفهم بلقياه صلوات اللّه عليه، وإنّما ظهر الأمر دون إرادتهم فلا يشملهم حديث المولى (عليه السلام) .
الثالث: ذهب البعض أنّ المراد بالمشاهدة أي حين يتشرّف بلقاء الإمام (عليه السلام) يدرك ملياً أنّ في خدمته ومعظم من تشرّفوا بلقاء الإمام الحجّة (عليه السلام) وحظوا بعناياته لم يلتفتوا إلى أنّ الذي كانوا في خدمته هو الإمام (عليه السلام) .
ص: 231
بين الحين والآخر يعترض البعض على مسألة نشر لقاءات البعض بإمام الزمان (عليه السلام) ويقول: ما الفائدة من ذكر هكذا قصص؟ ولماذا نروّج لها؟ أليس أنّ ترويج قصص كهذه يفتح الباب أمام البعض من ذوي النفوس الضعيفة كي يضحكوا على عقول البسطاء من خلال ادّعاءاتهم التشرّف بلقيا إمام الزمان (عليه السلام) ؟
مثل هذه التساؤلات عادة ما تصدر ممّن لايعرف السرّ والحكمة في ظهور الإمام الحجّة (عليه السلام) للبعض ومخالفة القاعدة الأساسية في عصر الغيبة وهي عدم اتصال أحد بإمام الزمان (عليه السلام) وغيبته عن الجميع.
ولو كان أمثال هؤلاء يعرفون فوائد الحكمة في تشرّف البعض بلقاء إمام الزمان (عليه السلام) لما صدرت منهم مثل هذه التساؤلات، ولذا وجدت من اللازم بمكان أن نبيّن فوائد التشرف بإمام الزمان (عليه السلام) والحكمة في بيان أمثال هذه القصص، فنقول:
في كل عصر عندما يتعرّض الناس إلى المحن والفتن عادة ما يلوذون إلى أئمّتهم وساداتهم ويتوسّلون بهم كي يعينوهم في إنقاذهم ممّا هم فيه.
ومثل هذه التشرّفات واللقاءات بالمولى (عليه السلام) لها إيحاءاتها الكثيرة ومنها:
1- أننا لنا راعي يرعانا ويشملنا بألطافه وعناياته ولولا عناياته لضعنا، ففي توقيع الإمام الحجّة بن الحسن صلوات اللّه عليه إلى الشيخ المفيد بن النعمان قال (عليه السلام) : فإنّا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم ومعرفتنا بالذُل الأذى الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم، إلى ما كان السلف
ص: 232
الصالح عنه شاسعا ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون، إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللاواء واصطلمكم الأعداء(1).
2- تقوية عقائد الناس: ففي كل زمان تتعرّض عقائد الموالين للشبهات من المخالفين والمغرضين، ومن الشبهات التي نثار حول عقيدة الإمامية بإمام الزمان (عليه السلام) ، أنكم تعتقدون بامام لاوجود له، أو أين إمامكم عنكم لماذا لايراه أحد؟
مقابل شبهات كهذه وغيرها تكون التشرّفات واللقاءات بالإمام المهدي (عليه السلام) خير جواب وأصدق معزّز لقلوب الشيعة المنتظرين له (عليه السلام) .
3- تسديد المولى صاحب العصر (عليه السلام) لبعض الناس أمثال تسديده للعلامة الحلّي أو الشيخ المفيد وغيرهم من العلماء الذين حظوا بتسديدات خاصة من الإمام (عليه السلام) .
4- زياد ارتباط الناس بالإمام (عليه السلام) وأنّهم لو تهيّأة الشرائط يمكن أن يتشرّفوا بلقاء إمام زمانهم (عليه السلام) وينالوا عناياتهم وبركاته.
5- ردّ شبهات المناوئين ممّن يدّعون خرافة وجود إمام الزمان (عليه السلام) ووجوده بعد هذه الفترة الطويلة من ولادته وغيبته.
6- تأكيد مايذهب إليه الإمامية من أنّ الإمام (عليه السلام) يدير الكون له السلطة على حلّ مشاكل الناس مهما كانت مشاكلهم عصيبة.
روى في كشف الغمة عن السيد باقي بن عطوة العلوي الحسيني: أنّ أباه
ص: 233
عطوة كان به أدرة(1).
وكان زيدي المذهب وكان ينكر على بنيه الميل إلى مذهب الإمامية ويقول: لا أصدّقكم ولا أقول بمذهبكم حتى يجيء صاحبكم - يعني المهدي - فيبرئني من هذا المرض، وتكرّر هذا القول منه، فبينا نحن مجتمعون عند وقت عشاء الآخرة إذا أبونا يصيح ويستغيث بنا فأتيناه سراعا، فقال: الحقوا صاحبكم فالساعة خرج من عندي، فخرجنا فلم نر أحداً فعدنا إليه وسألناه، فقال: إنه دخل إليّ شخص، وقال: يا عطوة، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا صاحب بنيك قد جئت لأبرئك ممّا بك، ثم مدّ يده فعصر قروتي ومشى ومددت يدي فلم أر لها أثرا، قال لي ولده: وبقي مثل الغزال ليس به قلبه واشتهرت هذه القصّة وسألت عنها غير ابنه فأخبر عنها فأقرّ بها(2).
نقل محيي الدين الإربلي: أنه حضر عند أبيه ومعه رجل فنعس فوقعت عمامته عن رأسه فبدت في رأسه ضربة هائلة فسأله عنها، فقال له: هي من صفّين، فقيل له: وكيف ذلك ووقعة صفين قديمة؟! قال: كنت مسافرا فصاحبني إنسان من غزة، فلما كنّا في بعض الطريق تذاكرنا وقعة صفّين فقال لي الرجل: لو كنت في أيام صفّين لرويت سيفي من عليّ وأصحابه. فقلت: لو كنت في أيام صفّين لرويت سيفي من معاوية وأصحابه.
ص: 234
وها أنا وأنت من أصحاب علي (عليه السلام) ومعاوية فاعتركنا عركة عظيمة واضطربنا، فما أحسست بنفسي إلا مرميا لما بي، فبينما أنا كذلك وإذا بإنسان يوقظني بطرف رمحه ففتحت عيني فنزل إليّ ومسح الضربة فتلاءمت . فقال: إلبث هنا، ثم غاب قليلا وعاد ومعه رأس مخاصمي مقطوعا، والدواب معه، فقال (عليه السلام) لي: هذا رأس عدوك وأنت نصرتنا فنصرناك: ولينصرن اللّه من نصره(1) فقلت: من أنت؟ فقال (عليه السلام) : فلان بن فلان يعني صاحب الأمر (عليه السلام) ثم قال لي: وإذا سئلت عن هذه الضربة فقل: ضربتها في صفّين(2).
روي عن عليّ بن إبراهيم بن مهزيار، قال: حججت عشرين حجّة أطلب بها عيان الإمام(3) فلم أجد إليه سبيلا، إذ رأيت ليلة في نومي قائلا يقول: يا عليّ بن إبراهيم قد أذن اللّه لك، فخرجت حاجّا نحو المدينة، ثمّ إلى مكّة وحججت، فبينا أنا ليلة في الطواف إذ أنا بفتى حسن الوجه، طيّب الرائحة طائف(4) فحسّ قلبي به، فابتدأني فقال لي: من أين؟ قلت: من الأهواز.
فقال: أ تعرف الخصيبي؟ قلت: رحمه اللّه، دعي فأجاب، فقال:
رحمه اللّه، فما أطول ليله، أ فتعرف عليّ بن إبراهيم؟ قلت: أنا هو. قال:
أُذن لك صر إلى رحلك و صر إلى شعب بني عامر تلقاني هناك، فأقبلت
ص: 235
مجدّا حتّى وردت الشعب فإذا هو ينتظرني، و سرنا حتّى تخرّقنا(1) جبال عرفات، و سرنا إلى جبال منى، و انفجر الفجر الأوّل و قد توسّطنا جبال الطائف، فقال: انزل، فنزلنا و صلّينا صلاة الليل ثمّ الفرض، ثمّ سرنا حتّى علا ذروة الطائف، فقال: هل ترى شيئا؟ قلت:
أرى كثيب رمل عليه بيت شعر يتوقّد البيت نورا.
فقال: هنّاك الأمل و الرجاء، ثمّ صرنا في أسفله، فقال: انزل فهاهنا يذلّ كلّ صعب، خلّ عن زمام الناقة، فهذا حرم القائم لا يدخله إلّا مؤمن يدلّ(2)؛ ودخلت عليه فإذا أنا به جالس قد اتّشح ببردة و تأزّر بأخرى، و قد كسر بردته على عاتقه و إذا هو كغصن بان ليس بالطويل الشامخ و لا بالقصير اللازق، بل مربوع(3) مدوّر الهامة، صلت الجبين، أزجّ الحاجبين، أقنى
ص: 236
الأنف، سهل الخدّين، على خدّه الأيمن خال كأنّه فتات مسك على رضراضة عنبر.
فلمّا أن رأيته بدرته بالسلام، فردّ عليّ أحسن ما سلّمت عليه و سألني عن المؤمنين، قلت: قد ألبسوا جلباب الذلّة و هم بين القوم أذلّاء، قال: لتملكونهم كما ملكوكم، و هم يومئذ أذلّاء، فقلت: لقد بعد الوطن.
قال: إنّ أبي عهد إليّ أن لا أجاور قوما غضب اللّه عليهم، و أمرني أن لا أسكن من الجبال إلّا وعرها، و من البلاد إلّا قفرها، و اللّه مولاكم أظهر التقيّة، فأنا في التقيّة إلى يوم يؤذن لي فأخرج.
قلت: متى يكون هذا الأمر؟ قال: إذا حيل بينكم و بين الكعبة، فأقمت أيّاما حتّى أذن لي بالخروج، فخرجت نحو منزلي و معي غلام يخدمني فلم أر إلّا خيراً(1).
يقول الشيخ محمد الكوفي: لم تكن في السابق وسائل النقل متوفّرة ومتاحة للجميع في طريق العراق إلى الحجاز، ولذا اضطررت أن أذهب إلى بيت اللّه الحرام على ظهر بعير، وبعدما وفقت لأداء مناسك الحج والزيارة عدت إلى العراق، وفي الطريق تخلّفت عن القافلة وضللت الطرق حتى وصلت إلى بعض البرك والمستنقعات فغارت رجلا البعير فيها، ولم يكن بإمكانني النزول عن ظهر البعير وكاد البعير أن يموت.
آنذاك وبعد أن انقطعت بي السبل وضاقت بي الدنيا برحبها صرخت من
ص: 237
أعماق قلبي قائلاً: يا أبا صالح المهدي أدركني، وكرّرت ذلك عدّة مرّات، وفي الأثناء رأيت فارساً يتجه نحوي، وراع انتباهي أنه لم يعبأ بالوحل حيث كان يمشي بدون أيّ اكتراث أو خوف من الغرق في الوحل حتى وصل إليّ وهمس بأُذن البعير بكلمات لم أسمع منها إلا آخرها حيث قال: حتى الباب.
وبعد تلك الكلمات التي كانت بمثابة الوقود للبعير الغارق بالوحل خرج البعير من الوحل ومشى باتجاه الكوفة بسرعة، فالتفت إلى السيد وقلت له: من أنت؟
قال: أنا المهدي.
قلت: أين راك ثانية؟
قال: متى شئت.
ثم بدأ البعير يبتعد شيئاً فشيئاً عن السيد الذي تعلّقت روحي به إلى أن وصلت إلى بوابة الكوفة وسقط البعير على الأرض، فدنوت منه وهمست في أذنه وقلت: حتى الباب، وكررت ذلك، وإذا به ينهض ويعود كما كان إلى أن أوصلني إلى باب منزلي فسقط مرة أخرى وفارق الحياة(1).
عن الشيخ السلماسي - الذي كان مرافقاً للسيّد بحر العلوم (رحمه اللّه) - أنّه قال: كنّا ذات يوم جالسين في درس السيد بحر العلوم في النجف الأشرف، وكان الميرزا القمّي قد جاء من إيران لزيارة العتبات المقدّسة في طريقه إلى حجّ، فلمّا تفرّق تلاميذه ولم يبق في المجلس إلاّ بعض مريديه قال
ص: 238
الميرزا القمّي مخاطباً بحر العلوم: لقد فزت بمرتبة كبيرة بولادة جديدة في الروح والقربى ظاهراً وباطناً، فتصدّق علينا ممّا أنعم اللّه عليك من نعمه التي لا تحصى، فقال السيّد على الفور: ذهبت ليلة أمس إلى مسجد الكوفة لأداء نافلة الليل، مع نيّتي في العودة إلى النجف فجراً، لكي لا يتعطّل الدرس، فلمّا غادرت المسجد هاجني شوق إلى مسجد السهلة في الكوفة، ولكنّي خشيت أن أتأخّر فصرفت الفكر عن ذهني، ولكن شوقي كان يتأجّج فبقيت حائراً متردّداً، وفجأة هبّت زوبعةٌ أثارت غباراً حملتني إلى مسجد السهلة، وما هي إلاّ لحظات حتّى هبطت بي إلى الأرض، فدخلت المسجد وكان خالياً من الناس إلاّ من شخص تبدو عليه سيماء المهابة مستغرقاً في مناجاة مع قاضي الحاجات، فانخلع قلبي لمنظره وارتعشت قدماي لسماع كلماته ودعائه فكأنّي لم أسمع قبله دعاءً ولا مناجاةً، فانهمرت الدموع من عيني... وأدركت على الفور أنّه يُنشئ إنشاءً لا حفظاً عن ظهر قلب، فأصغيت إلى عذب كلماته، مستمتعاً بانسياب مناجاته، حتّى إذا فرغ من دعائه التفت إليَّ وقال: تعال يا مهدي.
فخطوت نحوه خطوات ثمّ توقّفت فقال لي: تقدّم.
فتقدّمتُ نحوه ثمّ توقّفتُ فقال: إنّ الأدب في الإطاعة.
فمشيت نحوه حتّى تلامست أيدينا وأسرَّ لي حديثاً...
يقول الشيخ السلماسي: إنّ السيّد بحر العلوم وصل في روايته عند هذا الحدّ ثمّ سكت(1).
ص: 239
نقل العلامة المجلسي (رحمه اللّه) ، فقال: أخبرني جماعة عن السيد الفاضل مير علاّم، قال: كنت في بعض الليالي في صحن الروضة المقدسة بالغري على مشرّفها السلام وقد ذهب كثير من الليل . فبينا أنا أتجول هناك إذ رأيت شخصاً مقبلاً نحو الروضة المقدسة، فأقبلت إليه فلما قربت منه عرفت أنه أستاذنا الفاضل الشيخ أحمد الأردبيلي قدّس اللّه روحه، فأخفيت نفسي عنه حتى أتى الباب وكان مغلقاً فانفتح له عند وصوله إليه، ودخل الروضة، فسمعته يتكلّم كأنّما يناجي أحداً، ثم خرج وأغلق الباب .
فمشيت خلفه حتى خرج من الغري وتوجّه نحو مسجد الكوفة، فمشيت خلفه بحيث لا يراني، حتى دخل المسجد وصار إلى المحراب الذي استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) عنده، ومكث طويلاً، ثم رجع وخرج من المسجد وأقبل نحو الغري، وكنت خلفه .
فلما قرب من الحنّانة(1) أخذني سعال لم أقدر على دفعه، فسعلت، فالتفت إلي فعرفني، وقال: أنت مير علاّم؟ قلت: نعم، قال: ما تصنع ههنا؟
قلت: كنت معك حيث دخلت الروضة المقدسة إلى الآن، وأقسم عليك بحقّ صاحب القبر أن تخبرني بما جرى لك في هذه الليلة من البداية إلى النهاية.
فقال: أخبرك، على أن لا تخبر به أحداً ما دمت حيّاً: فلمّا توثّق ذلك منّي قال: كنت أفكر في بعض المسائل المستعصية، فوقع في قلبي أن آتي أمير
ص: 240
المؤمنين (عليه السلام) وأسأله عن ذلك، فلما وصلت إلى الباب فتح لي بغير مفتاح كما رأيت، فدخلت الروضة وابتهلت إلى اللّه تعالى في أن يجيبني مولاي عن ذلك، فسمعت صوتاً من القبر أن: إئت مسجد الكوفة وسل من القائم (عليه السلام) فإنّه إمام زمانك، فأتيت إلى المحراب وسألته عنها وأجبت . وها أنا أرجع إلى بيتي(1).
نقل الشيخ السلماسي (رحمه اللّه) ، فقال: كنت حاضراً في جلسة للسيد مهدي العلوم، فسأله رجل عن إمكان رؤية الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وكان بيده (الغليان) فسكت عن جوابه وطأطأ رأسه، وخاطب نفسه بكلام خفي أسمعه، فقال ما معناه: ما أقول في جوابه؟ وقد ضمّني الإمام صلوات اللّه عليه إلى صدره، وورد أيضا في الخبر تكذيب مدعي الرؤية، في أيام الغيبة فكرر هذا الكلام(2).
نقل الشيخ الجليل الحر العاملي (رحمه اللّه) ، فقال: عندما كنت في عصر الصبی أصابني مرض شديد جداً حتى اجتمع أهلي وأقاربي وبكوا وتهيّأوا للتعزية، وأيقنوا أنّي أموت تلك الليلة.
وبينما كنت كذلك وأنا بين النائم واليقظان رأيت النبي والأئمة الاثني عشر صلوات اللّه عليهم، فسلّمت عليهم وصافحتهم واحداً واحداً، وجرى بيني وبين الإمام الصادق (عليه السلام) كلام، ولم يبق في خاطري إلا أنه دعا لي.
ص: 241
ولما سلّمت على الصاحب (عليه السلام) ، وصافحته، بكيت وقلت: مولاي أخاف أن أموت في هذا المرض، ولم أقض وطري من العلم والعمل، فقال (عليه السلام) : لا تخف فإنّك لا تموت في هذا المرض بل يشفيك اللّه تعالى وتعمّر عمراً طويلاً، ثم ناولني قدحاً كان في يده فشربت منه وأفقت في الحال وزال عنّي المرض، وجلست وتعجّب أهلي وأقاربي، ولم أحدّثهم بما رأيت إلا بعد أيام(1).
نقل في بعض مصنّفات الشيخ علي بن إبراهيم المازندراني الذي كان معاصراً للشيخ البهائي (رحمه اللّه) ، ما مفاده: وهكذا الشيخ الجليل جمال الدين الحلّي كان علامة علماء الزمان... إلى أن. قال: وقد قيل: إنه كان يطلب من بعض الأفاضل كتاباً لينسخه وكان هو يأبى عليه، وكان كتاباً كبيراً جداً فاتفق أن أخذه منه مشروطاً بأن لا يبقى عنده غير ليلة واحدة، وهذا كتاب لا يمكن نسخه إلا في سنة أو أكثر، فأتى به الشيخ (رحمه اللّه) فشرع في كتابته في تلك الليلة فكتب منه صفحات، وإذا برجل دخل عليه من الباب بصفة أهل الحجاز فسلّم وجلس، ثم قال: أيها الشيخ أنت مصطر لي الأوراق وأنا أكتب، فكان الشيخ يمصطر له الورق وذلك الرجل يكتب وكان لا يلحق المصطر بسرعة كتابته، فلما نقر ديك الصباح وصاح وإذا الكتاب بأسره مكتوب تماما . وقد قيل: إنّ الشيخ لمّا مل الكتابة نام فانتبه فرأى الكتاب مكتوبا(2).
ص: 242
نقل المحدّث الميثمي في كتابه (دار السلام) عن السيد محمد صاحب المفاتيح بن صاحب الرياض نقلاً عن خط آية اللّه العلامة في حاشية بعض كتبه ما ترجمته بالعربية: خرج ذات ليلة من ليالي الجمعة من بلدة الحلّة إلى زيارة قبر ريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) وهو على حمار له وبيده سوط يسوق به دابته، فعرض له في أثناء الطريق رجل في زيّ الأعراب فتصاحبا والرجل يمشي بين يديه فافتتحا بالكلام، وساق معه الكلام من كل مقام وإذا به عالم خبير نحرير فاختبره عن بعض المعضلات وما استصعب عليه علمها، فما استتم عن كل من ذلك إلا وكشف الحجاب عن وجهها وافتتح عن مغلقاتها إلى أن انجرّ الكلام في مسألة أفتى به بخلاف ما عليه العلامة، فأنكره عليه قائلا: إنّ هذه الفتوى خلاف الأصل والقاعدة ولا بد لنا في خلافهما من دليل وارد عليهما مخصّص لهما، فقال العربي: الدليل عليه حديث ذكره الشيخ الطوسي في تهذيبه.
فقال العلامة: إنّي لم أعهد بهذا الحديث في التهذيب ولم يذكره الشيخ ولا غيره. فقال العربي: ارجع إلى نسخة التهذيب التي عندك الآن وعدّ منها أوراقا كذا وسطورا كذا فتجده، فلما سمع العلامة بذلك ورأى أنّ هذا إخبار عن المغيبات تحيّر في أمر الرجل تحيّراً شديداً واندهش في معرفته وقال في نفسه: لعل هذا الرجل الذي يمشي بين يدي وأنا راكب هو الذي بوجوده تدور رحى الموجودات وبه قيام. الأرضين والسماوات، فبينما هو كذلك إذ وقع السوط من يده من شدّة التفكر والتحيّر فأخذ ليستخبر عن
ص: 243
هذه المسألة استخباراً منه واستظهاراً عنه أنّ في زمن الغيبة الكبرى هل يمكن التشرّف إلى لقاء سيدنا ومولانا صاحب الزمان، فهوى الرجل وأخذ السوط من الأرض ووضعه في كفّ العلامة وقال: لم لا يمكن وكفّه في كفّك؟ فهوی العلامة من على الدابة منكبا على قدميه وأغمي عليه من فرط الرغبة وشدّة الاشتياق، فلما أفاق لم يجد أحدا فاهتم بذلك هما شديدا وتكدّر ورجع إلى أهله وتصفّح عن نسخة تهذيبه فوجد الحديث المعلوم كما أخبره الإمام (عليه السلام) في حاشية تلك النسخة فكتب بخطّه الشريف في ذلك الموضع: هذا حديث أخبرني به سيّدي ومولاي في ورق كذا وسطر كذا، ثم نقل الفاضل الميثمي عن السيد المزبور طاب ثراه أنه قد رأى تلك النسخة بخطّ العلامة في حاشيته(1).
بعد وفاة الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب «جواهر الكلام» رجع المسلمون إلى الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه اللّه) وطلبوا منه نشر رسالته العملية لتقليده.
فقال لهم الشيخ الأعظم (قدس سره) : مع وجود سعيد العلماء المازندراني الذي هو أعلم منّي ويعيش الآن في بابل، لن أطبع رسالتي العملية.
ولذا فإنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) نفسه عندما كتب رسالة وبعثها إلى سعيد العلماء المازندراني طالباً منه الانتقال إلى النجف الأشرف للتصدّي للمرجعية الدينية، أجابه سعيد العلماء برسالة جاء فيها: صحيح أنّي كنتُ
ص: 244
أعلم منك في الفقه عندما كنّا نتباحث أيّام وجودي في النجف الأشرف، ولكن مضت مرور سنوات طويلة عليَّ وأنا أعيش في مدينة بابل بعيداً عن المباحثة والدرس فإنني أعقتد بأعلميّتك أنت!
ومع ذلك فإنّ الشيخ الأعظم (قدس سره) كان يقول: لا أجد في نفسي اللياقة للتصدّي للمرجعية، إلا أن يُجيزني مولاي ولي العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) بالاجتهاد، ويعيّنني في مقام المرجعية، فإنّي حينئذ فقط سأتصدّى لهذا المقام.
ونتيجة امتناع الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) عن تولّي المسؤولية، فقد كاد أن يقع فراغ كبير في المرجعية الروحية للمسلمين أتباع أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
وذات يوم وبينما كان الشيخ الأعظم في مجلس الدرس وحوله تلامذته، رأوا شخصاً عليه سيماء العظمة والجلال والهيبة والوقار وقد دخل مجلس الشيخ (رحمه اللّه) ووجهه يشع نوراً، فأخذ الشيخ باحترامه وإكباره، وأجلسه إلى جواره دون أن يعلم بهويّته.
وكان الطلاب في أشدّ الاستغراب من هذا الشخص الجليل العظيم، الذي وقع حبّه في قلوبهم. وقد زاد من استغرابهم سؤاله الشيخ الأنصاري، وكأنّه يختبره! أمّا سؤاله فهو: ما هو نظرك في امرأة مُسِخَ زوجها، أي انقلب من حالة الى أخرى؟
لم تكن المسألة مطروحة من قبل في أيّ كتاب من الكتب الفقهية وركن الشيخ الأنصاري أجابه قائلاً: المسألة غير معروفة في كتبنا، ولذا فليس عندي الآن لها جواب.
ص: 245
فردّ الشخص النوراني بقوله: افرض أنّ هذا الأمر حدث ومُسخ الرجل فما هو حكم زوجته؟
قال الشيخ الأعظم (قدس سره) : بنظري أنّه في هذه الصورة على زوجته أن تعتدّ عدّة الطلاق ثمّ تتزوّج بعد ذلك، لأنّ الرجل من ذوي الأرواح في هذه الصورة وإذا مُسخ إلى الجماد فعلى زوجته أن تعتدّ عدة الوفاة لأنّ الرجل فقد الروح.
فقال الرجل أنت المجتهد... أنت المجتهد... أنت المجتهد، ثمّ نهض وخرج من مجلس الدرس!
وبعد قليل، علم الشيخ الأعظم أنّ هذا الشخص النوراني هو الإمام الحجّة المنتظر - أرواحنا لتراب مقدمه الفداء - فقال لتلامذته: اُطلبوا الرجل، فهرع الطلاب في أثره ولكن لم يتمكنوا من اللحاق به صلوات اللّه عليه!
وبعد هذه الإجازة من الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) تصدّى الشيخ الأعظم للمرجعية التزاماً منه بأمر إمام الإنس والجان الحجة بن الحسن المهدي أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.
على كل فإنّنا نستفيد من هذه القصّة الشريفة عدة أمور منها:
1- شدّة تقوى علمائنا - رضوان اللّه عليهم - حيث إنّه لمجرّد احتماله وجود مَن هو أعلم منه يرفض التصدّي للمرجعية.
2- تدخّل الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في الظروف الحرجة التي يمرّ بها الشيعة لأجل إنقاذهم من العمل بلا هدى. وسدّ فراغ المرجعية بتنصيب من هو أهل وكفؤ لتولّي هذه المسؤولية العظيمة.
3- إحاطة الشيخ الأعظم (رحمه اللّه) وإلمامه بذوق الشريعة، فبالرغم من عدم
ص: 246
عنونة هذه المسألة في الكتب الفقهية إلاّ أنّه استطاع أن يستنبط الجواب الصحيح، وهذا إن دلّ فهو على التأييد الإلهي لعلمائنا الربّانيين.
ونتيجة لهذه الحادثة وأمثالها، مازال المؤمنون في كل مكان يذكرون الشيخ الأنصاري ويمجدونه ويعظّمونه، لأنه وأمثاله من العلماء الأبرار والمراجع الأتقياء الذين كانوا على علاقة خاصة بإمامهم صاحب العصر - صلوات اللّه عليه - ويتمّتعتون بتأييده وإمداده وفيوضاته. جعلنا اللّه ممّن نعرف قدر العلماء(1).
ممّا يؤسف له حقاً أنّ بعض الشيعة على مرّ التاريخ يتوانون عن نشر فكر أهل البيت (عليهم السلام) وإيصال صوتهم إلى الآخرين الأمر الذي جعل كثير من الناس يضلّون الطريق ويبتعدون عن خطّ أئمة الهدى (عليهم السلام) .
بالطبع الكثير من الناس وفّقوا لاعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ببركة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) الذين كانوا يأخذون بأيديهم وينقذونهم من الشدائد والمحن، فقد نقل الشيخ علي الرشتي - وكان من أجلاء العلماء الأتقياء - قال: سافرت من مدينة كربلاء المقدّسة إلى النجف الأشرف عن طريق «طويريج» فركبنا السفينة، وفيها جماعة كانوا مشغولين باللّهو واللعب وبعض الأعمال المنافية للوقار والأدب، ورأيت رجلاً معهم لا يشاركهم في أعمالهم، بل كان محافظاً على وقاره وأخلاقه، ولا يشترك معهم إلاّ عند تناول الطعام، وكانوا يستهزؤون به ويخاطبونه بكلام لاذع وربما طعنوا في مذهبه!
ص: 247
فسألته عن سبب ابتعاده عنهم وعدم اشتراكه معهم في اللّهو واللعب؟
فقال: هؤلاء أقاربي، وهم من العامة، وأبي منهم، ولكن والدتي من أهل الإيمان - أي أنّها شيعية - وكنت أنا أيضاً على مذهبهم، ولكنّ اللّه تعالى منَّ عليَّ بالتشيّع ببركة الإمام الحجّة صاحب الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
فسألته عن سبب هدايته وتشرّفه بالتشيع؟
فقال: اسمي: ياقوت، وعملي بيع الدهن في مدينة الحلّة، ثم بدأ يحكي لي قصة هدايته، فقال: خرجت - في بعض السنين - إلى البراري خارج الحلّة لشراء الدهن، فاشتريت كميّة من الدهن ورجعت مع جماعة، ووصلنا ليلاً إلى منزل - في الطريق - فبتنا فيه تلك الليلة، ولما انتبهت من النوم، رأيت أنّ الجماعة قد رحلوا جميعاً، فخرجت في أثرهم وكان الطريق أقفر، والأرض ذات سباع، فضللت الطريق، وبقيت متحيّراً خائفاً من السباع والعطش.
فجعلت أستغيث بأبي بكر وعمر وعثمان!! وأسألهم الإعانة، فلم يظهر منهم شيء! وكنت - فيما مضى - قد سمعت من أمّي أنّها قالت: إنّ لنا إماماً حيّاً يكنّى: أبا صالح، وهو يرشد الضّال ويغيّث الملهوف ويعين الضعيف، فعاهدت اللّه تعالى: إن أغاثني ذلك الإمام أن أدخل في دين أمّي - أي أعتنق مذهب التشيّع - .
فناديت: يا أبا صالح!
وإذا برجل يمشي إلى جانبي معمّم بعمامة خضراء، فدلّني على الطريق، وأمرني بالدخول في دين أمّي، وقال: ستصل إلى قرية جميع أهلها من الشيعة.
ص: 248
فقلت له: إلاّ تأتي معي إلى هذه القرية؟
قال: لا، فقد استغاث بي - الآن - ألف إنسان في أطراف البلاد، وأريد أن أغيثهم.
ثم غاب عنّي فمشيت قليلاً فوصلت إلى القرية وكانت تبعد عن ذلك المنزل - الذي نزلنا فيه - مسافة بعيدة، ووصلت الجماعة إلى تلك القرية بعدي بيوم!
ولما دخلت الحلّة، ذهبت إلى دار السيد مهدي القزويني فذكرت له القصّة، وتعلّمت منه معالم الدين... إلى آخر كلامه.
أقول: مثل هذة القضية لها دلالتها الواضحة ومنها أنّ أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و السلام هم مصدر الرحمة و الهداية لكافّة البشر و ليس للشيعة وحدهم، ولكن ينبغي للمكلفين أن يزيلوا حجب الذنوب و يمدوا أيديهم بكل أخلاص نحوهم ليستنفذونهم من ظلمات الظلال ويدخلونهم في طريق الحق والهداية كما أدخل إمامنا الغائب (عليه السلام) بعنايته الخاصة ياقوت الدهان و هداه إلى مذهب الحق(1).
نقل المرجع الديني السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، فقال: كان لي شوق عظيم أيّام دراستي للعلوم الدينية في النجف الأشرف لرؤية مولانا بقيّة اللّه (عليه السلام) ، فأخذت على نفسي عهداً بالذهاب إلى مسجد السهلة سيراً على الأقدام أربعين مرّة ليلة الأربعاء من كلّ أسبوع بنيّة الفوز برؤية طلعة
ص: 249
الإمام الحجّة (عليه السلام) المباركة، وداومت على ذلك 35 أو 36 ليلة.
وصادف في هذه المرّة أن تأخّر خروجي من النجف باتّجاه مسجد السهلة، وكان الجو ممطراً والسماء غائمة، وكان قرب مسجد السهلة خندق، فلمّا بلغت ذلك الخندق في ذلك الجوّ المظلم أحسست بالخوف يعتريني، وكان خوفي من قطّاع الطرق واللصوص، وبينما كنت في هذا التفكر وإذا بي أسمع خلفي وقع أقدام، فزاد ذلك في فزعي وخوفي، فالتفتُّ إلى الخلف، فشاهدت سيداً عربياً بلباس أهل البادية، فاقترب منّي وسلّم عليَّ بلسان فصيح وقال: سلامٌ عليكم أيّها السيد!
فزال الخوف والفزع عنّي تماماً، وأحسست بالاطمئنان والسكون، وتعجّبت كيف أنّ هذا الشخص التفت إلى كوني سيّد مع أنّ الجوّ كان شديد الظُلمة، وعلى كلّ حال فقد سرنا معاً ونحن نتحدّث، فسألني: أين تذهب؟
أجبت: إلى مسجد السهلة.
قال: لماذا؟
قلت: للتشرّف بزيارة ولي العصر (عليه السلام) .
ثمّ أننا سرنا بُرهة حتى بلغنا مسجد زيد بن صوحان، وهو مسجد صغير يقع بالقرب من مسجد السهلة، فدخلنا المسجد وصلّينا، ثمّ أخذ السيد يقرأ دعاءً فأحسست أنّ الجدران والحجارة كانت تدعو معه، وشعرت بانقلاب عجيب في داخلي أعجز عن وصفه، ولمّا فرغ السيّد من دعائه قال: أيّها السيد أنت جائع، والأحسن أن تتعشّى!
ثمّ بسط منديلاً كان تحت عباءته، وكان فيه ثلاثة أرغفة من الخبز
ص: 250
وخيارتان أو ثلاثة خضراء طازجة كأنّها قُطفت للتّو، وكان الوقت شتاءً والبرد قارساً، ولم يتبادر إلی ذهني من أين لهذا السيّد هذا الخيار الطازج في فصل الشتاء!
ثم أنّي تعشّيت كما أمرني؛ ثمّ قال لي: قم بنا لنذهب إلى مسجد السهلة!
ولمّا دخلنا المسجد انشغل بأداء الأعمال الواردة في مقامات المسجد، وكنت أتابعه في ذلك، ثمّ اقتديتُ به - بلا إختيار - في صلاة المغرب والعشاء.
ولمّا انتهت الأعمال، قال: هل تذهب بعد أعمال مسجد السسهلة إلى مسجد الكوفة كما يفعل الآخرون، أم تبقى هنا؟
أجبتُ: أبقى ها هنا!
ثم أننا جلسنا وسط المسجد في مقام الإمام الصادق (عليه السلام) ، فسألته: هل ترغب في الشاي أو القهوة أو التدخين لأعدّه لكم؟
فأجاب قائلاً: هذه الأمور من فضول المعاش، ولا شأن لنا بمثلها!
فأثّر حديثه بأعماق وجودي بحيث أنّي كلّما تذكّرته اهتزّت أركان وجودي.
وعلى أيّ حال فقد طال المجلس ما يقرب من ساعتين، وتبادلنا الحديث في هذه المدّة في بعض المطالب، أشير إلى بعضها:
1- تكلّمنا عن الاستخارة، فقال: يا سيّد، كيف تستخير بالمسبحة؟
قلت: أصلّي على النبي وآله ثلاث مرّات، وأقول ثلاثاً: أستخير اللّه برحمته خِيَرَةً في عافية، ثمّ آخذ قبضة من المسبحة وأعدّها، فإن بقي منها اثنتان كانت الاستخارة غير جيدة، وإن بقيت منها واحدة كانت الاستخارة
ص: 251
جيّدة.
قال: لهذه الاستخارة بقية لم تصلكم، وهي أنّه إذا بقيت حبّة واحدة فلا تحكموا فوراً أنّ الاستخارة جيدة، بل توقّفوا واستخيروا في ترك العمل، فإن بقي عدد زوج انكشف أنّ الاستخارة الأولى جيدة، وإن بقيت واحدة انكشف أنّ الاستخارة الأولى مخيّرة.
وكان ينبغي - حسب القواعد العلمية - أن أطالبه بالدليل لكنني سلّمتُ وانقدت دون أية مناقشة.
2- من جملة المطالب أنّ السيّد العربيّ أكّد على تلاوة وقراءة هذه السور بعد الصلوات الواجبة: بعد صلاة الصبح سورة (يس)؛ وبعد صلاة الظهر سورة (عمّ)؛ وبعد صلاة العصر سورة (نوح)؛ وبعد صلاة المغرب سورة (الواقعة)؛ وبعد صلاة العشاء سورة (الملك).
3- كذلك أكّد على صلاة ركعتين بين المغرب والعشاء، تقرأ في الركعة الأولى بعد الحمد أيّ سورةٍ شئت، وتقرأ في الركعة الثانية بعد الحمد سورة الواقعة.
4- أكّد على قراءة هذا الدعاء بعد الصلوات الخمس: اللّهمّ سرّحني عن الهموم والغموم ووحشة الصدر ووسوسة الشيطان برحمتك يا أرحم الراحمين.
5- كما أكّد على قراءة هذا الدعاء بعد ذكر الركوع في الصوات اليومية، وخصوصاً في الركعة الأخيرة: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وترحّم على عجزنا، وأغثنا بحقّهم.
6- امتدح (شرائع الاسلام) للمرحوم المحقّق الحلّي، وقال عنه: كلّه
ص: 252
مطابق للواقع، عدا جزء يسير من مسائله.
7- أكّد على قراءة القرآن وإهداء ثوابه إلى الشيعة ممّن لا وارث لهم، أو لهم وارث لا يذكرهم.
8- إمرار العمامة تحت الحنك وجعل طرفها في العمامة، كما يفعله علماء العرب، فقال: هكذا جاء في الشرع.
9- التأكيد على زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) .
10- دعاء لي وقال: جعلك اللّه من خدمة الشرعية.
11- سألتُه: لست أدري أعاقبة أمري إلى خير؟
وهل أنّ صاحب الأمر (عليه السلام) عنّي راضٍ؟
فأجاب: عاقبتك إلى خير، وسعيك مشكور، وأنت مرضيّ عنك.
قلتُ: لا أعلم هل والديَّ وأساتيذي وذوي الحقوق راضون عنّي أم لا؟
قال: جميعهم راضون عنك، وهم يدعون لك.
فسألته أن يدعو لي لأوفّق في التأليف والتصنيف، فدعا لي بذلك.
ثمّ أردت الخروج من المسجد لحاجةٍ ما، فوصلتُ عند الحوض الذي في منتصف طريق الخروج من المسجد، فخطر في ذهني ماحصل لي الليلة، وتساءلتُ في نفسي عن هذا السيّد العربي الذي له كلّ هذا الفضل مَن يكون؟ لعلّه هو بنفسه مقصودي ومحبوبي.
فلمّا خطر هذا المعنى في ذهني عدتُ مضطرباً فلم أر ذلك السيّد، ولم يكن في المسجد أحد، فتيقّنت أنّني رأيتُ صاحب الأمر (عليه السلام) دون أن أعرفه، فأجهشتُ بالبكاء، وبقيت أدور في أطراف المسجد وأكنافه كالمجنون الواله الذي ابتُلي بالهجران بعد الوصل حتّى أصبح الصباح.
ص: 253
يتواجد معظم الزيدية في اليمن، وهم ينكرون إمامة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) بدءا من الإمام الباقر وانتهاء بالإمام المهدي صلوات اللّه عليهم أجمعين. فهم يسوقون الإمامة من بعد الإمام زين العابدين إلى ابنه زيد الشهيد (صلوات اللّه عليهما) ومضافا إلى ذلك فإنّهم يختلفون مع الشيعة الإمامية في مفهوم الإمامة وفي مفاهيم عقائدية كثيرة أخرى.
وقد كان أحد علماء هؤلاء الزيدية في اليمن يلقّب عندهم ب- (بحر العلوم) يُنكر وجود صاحب العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف). وكان يظن أنه قادر على نفي وجوده بمكاتبة علماء الشيعة، فكتب رسائل كثيرة إلى علمائنا في زمانه طالباً منهم الأدلّة المقنعة على إثبات وجوده الشريف، وبالطبع فإنّ العلماء الأبرار أجابوه ولكنّه لم يقتنعْ بأجوبتهم وأدلّتهم رغم وضوحها.
فكتب أخيراً رسالةً مفصّلة إلى المرجع الديني الأعلى السيّد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) والذي كان في النجف الأشرف، طالباً منه الأدلّة القاطعة على إثبات وجود الإمام الحجّة صلوات اللّه عليه. فأجابه السيّد الأصفهاني برسالة جاءَ فيها: اقدم إلى النجف الأشرف وسأجيبك شفاهةً عن مسألتك.
ولمّا كان هذا العالم الزيدي طالباً للحقيقة في واقع الأمر فقد شدّ الرحال مع ولده إبراهيم وجمع من مريديه إلى النجف الأشرف. وعندما وصل إليها التقى السيّد الأصفهاني وقال له: لقد جئتُ إلى النجف كما دعوتني وآمل أن تُجيبني كما وعدتني. قال له السيّد: نعم، تعال غداً مساءً إلى منزلي وسأجيبكَ عن سؤالِكَ.
ص: 254
وفي مساء اليوم الثاني جاء بحرُ العلوم اليماني مع ولده إلى منزل السيّد الأصفهاني، وبعد تناول العشاء والبحث في بعض المطالب العلمية حول وجود المولى صاحب العصر والزمان (عليه الصلاة والسلام) انصرف بقيّة الضيوف وبقي بحر العلوم وولده عند السيّد مع بعض الخواص. وبعد انتصاف الليل قال السيّد الأصفهاني لخادمه (مشهدي حسين): احمل السراج وتعال معنا. وقال لبحر العلوم وولده: هيّا بنا نذهب لترون بأنفسكما صاحب الزمان صلوات اللّه عليه!!
يقول السيّد مير جهاني الذي كان في جريان الأحداث: كنّا حضوراً هناك فأردنا أن نذهب معهم إلا أنّ السيّد الأصفهاني لم يقبل وقال: ليأتِ بحر العلوم وولده فقط.
فذهبوا ولم نعرف إلى أين ذهبوا! في اليوم الآخر شاهدنا بحر العلوم وقد بدت عليه وعلى ولده علامات التأثّر. فسألناه عمّا جرى في الليلة السابقة فأجابنا بقوله: نحمد اللّه تبارك وتعالى كثيرا.. فقد تشرّفنا باعتناق مذهبكم ونحن الآن نعتقد بوجود مولانا وليّ العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)!!
فقلتُ له: وكيف ذاك؟ قال: لقد أرانا السيّد الأصفهاني الإمام الحجّة (عليه السلام) ، فعندما خرجنا من المنزل لم نكن ندري إلى أين يذهب بنا السيّد؟ حتّى وصلنا وادي السلام (مقبرة في النجف الأشرف) وفي وسط الوادي كان هناك موقع يسمّي بمقام صاحب الزمان صلوات اللّه عليه. وعندما وصلنا إلى المقام، أخذ السيّد الأصفهاني السراج من خادمه وأخذني معه إلى داخل المقام وهناك جدّد وضوءه وصلّى أربع ركعات في المقام
ص: 255
وتلفّظ ببعض الكلمات التي لم أفهمها في حين كان ابني يضحك على أفعاله تلك!! وفجأةً أضاء الفضاء وحضر مولانا بنوره القدسي... .
ولم يستطع العالم بحر العلوم من أن يكمل كلامه لشدّة تأثّره فبدأ ابنه إبراهيم بإتمام الكلام، فقال: في تلك الأثناء كنتُ خارج المقام وكان أبي والسيّد أبو الحسن الأصفهاني داخل المقام وبعد عدّة دقائق سمعتُ والدي يصيح بصوت عال ثمّ أُغمي عليه. فاقتربتُ منه ورأيتُ السيّد الأصفهاني يدلّك كتفيه حتّى أفاق. وعندما رجعنا من هناك قال لي أبي: لقد رأيتُ بقيّة اللّه وولي العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وقد شرّفني باعتناق المذهب الشيعي الإثني عشري، ولم يقل أبي أكثر من ذلك.
وبعد عدّة أيّام رجع بحرُ العلوم وولده ومَن معهم إلى اليمن وصار ذلك بسبب في تشيّع أربعة آلاف يماني زيدي واعتقادهم بالمذهب الإثني عشري.
واليوم مازال المذهب الإمامي - مذهب الحقّ - يشق طريقه في أهل اليمن حتى تشيّع مئات الألوف منهم في غضون سنوات قليلة. كل ذلك ببركة ألطاف مولانا بقية اللّه الأعظم صلوات اللّه وسلامه عليه.. وهل يظنون أنّ لا صاحب لنا يرعانا ويحفظ عقيدتنا؟! كلا واللّه بل هو حجّة اللّه على الخلائق وبه يمسك اللّه السماء أن تقع على الأرض. اللّهم ارزقنا التشرّف برؤيته وتقبيل تراب نعليه قريبا عاجلا يا كريم بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين صلواتك عليهم أجمعين(1).
ص: 256
روی الشيخ المجلسي (رحمه اللّه) عن الشيخ المحقّق شمس الدين محمد بن قارون، قال: كان في مدينة الحلّة رجل يقال له أبو راجح الحمامي و حاكّم ناصبيّ اسمه مرجان الصغير، و ذات يوم أخبروا الحاكم بأنّ أبا راجح يسبّ الصحابة فأحضره و أمر بضربه و تعذيبه فضربوه ضرباً مهلكا فسقطت أسنانه وثم أخرجوا لسانه و أدخلوا فيه إبرة وثقبوا أنفه وجعلوا فيه الثقب خيطاً وشدّو الخيط وجعلوا يدورون به في طرقات الحلّة والناس يضربونه إلی أن سقط علی الارض فأمَرَ الحاكم بقتله فقال بعض الناس: لا تقتلوه فهو شيخ كبير ويسموف يموت من شدّة الضرب وكثرة الجراحات، فتركوه علي الأرض و جاء أهله و حملوه إلي الدار و كان بحالة لا يشك أحد أنه سيفارق الحياة ممّا نزل به من التعذيب الوحشي. وفي صباح اليوم التالي إذا بهم يجدوه قائماً يصلّي وهو علی أحسن حال وقد عادت إليه أسنانه التي سقطت والتأمت جراحاته و لم يبق في بدنه أثر من ذلك التعذيب، فتعجبوا من ذلك و سألوه عن واقع الأمر فأخبرهم أنّه استغاث بالإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) عجّل اللّه ظهور، وتوسّل الي اللّه تعالی به فجاءه الإمام إلي داره فامتلأت الدار نورا. يقول أبو راجح: فمسح الإمام بيده الشريفة علی وجهي و قال لي: أخرج و كدَّ علی عيالك اللّه تعالي، فأصبحت كما ترون وقد ورآه محمد بن قارون و قد أعاد اللّه إليه نضارة الشباب واحمرّ وجهه و اعتدلت قامتته و شاع الخبر في الحّلة(1).
ص: 257
نقل الخطيب القدير السيد حسين الفالي، فقال: في عصر إحدى الجمع كنت مع أخي المرحوم السيد علي الفالي والسيد كاظم القزويني جالسين في احدى غرفة مدرسة العلامة ابن فهد الحلي (رحمه اللّه) في كربلاء المقدسة، وكانت الغرفة مشرفة على قبر العالم النحرير الشيخ أحمد بن فهد الحلي، وقد دار البحث حول المراد من التوقيع الشريف: من ادّعى المشاهدة فكذّبوه.
وفجأة رأينا الخطيب الشهير الشيخ عبدالزهراء الكعبي (رحمه اللّه) قد أقبل إلى قبر الشيخ ابن فهد الحلي (رحمه اللّه) يقرأ الفاتحة، فدعاه السيد كاظم القزويني (رحمه اللّه) قائلاً: شيخنا حبذا لو تشاركنا الجلسة، فقال الشيخ عبدالزهراء (رحمه اللّه) : اقرأ الفاتحة وآتيكم إن شا اللّه.
وبالفعل ريثما فرغ الشيخ من قراءة الفاتحة أتى إلينا وأطلعناه على البحث، فقال: لقد تشرّفت بخدمة إمام الزمان (عليه السلام) ولكنه اشترط علينا أن لانحدّث أحداً عن ذلك مادام هو في قيد الحياة، فقال: كنت أبحث عن الأشعار المعروفة ومنها الشعر المشهور:
أيُقتل ظمآن حسين بكربلا***وفي كل عضو من أنامله بحر
بحثت كثيراً عن القصيدة وسألت العديد من العلماء والخطباء ومنهم اُستاذي الشيخ محسن أبو الحب، والشيخ هادي الكربلائي، فلم يرشدني أحد منهم إليها، وكان أكثرهم يجيب قائلاً: القصيدة معروفة ولكن ينبغي أن تبحث عنها.
وفي أحد أيام الخريف دخلت حرم الإمام الحسين (عليه السلام) بعد صلاة الظهر
ص: 258
وكان الزوّار آنذاك قليلين جداً، ولما فرغت من الزيارة وكان رذاذ المطر يتساقط، وبينما كنت متجها نحو باب القبلة للخروج ناداني الشيخ عبداللّه الكتبي وكان بيده كتاب، فقال: شيخنا هذا الكتاب ادخرته لك، فجلست عنده وأخذت أقلّب الكتاب وإذا أول قصيدة فيه هي القصيدة التي كنت أبحث عنها وهي قصيدة ابن العرندس.
فقلت له: كم قيمة الكتاب؟
قال: لن أبيعك الكتاب، إن كنت تريده فأقرأ القصيدة كاملة والكتاب لك، فتوجّهت نحو ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) وشرعت بقراءة القصيدة، وبينما كنت أقرأ القصيدة والشيخ عبداللّه يستمع إذا بسيد بزيّ العرب سلّم علينا وجلس إلى جانبي، فغمرتني هيبته وتوقّفت عن القراءة، فأشار إليّ بيده، وقال: استمر في القراءة، فعاودت القراءة من جديد إلى أن بلغت البيت التالي:
أيُقتل ظمآن حسين بكربلا***وفي كل عضو من أنامله بحر
وإذا بالسيد ينقلب ويجهش بالبكاء ويشير بسبابته نحو الضريح المبارك وهو يردّد بصوت عالٍ: أيُقتل...أيُقتل ...أيُقتل، وكلما حاول قراءة البيت لم يستطع من البكاء والعويل.
يقول الشيخ عبدالزهراء (رحمه اللّه) : فأجهشت أنا والشيخ عبداللّه بالبكاء وبقينا مدّة نبكي بروعة، ثم رفعت رأسي فلم أر السيد، فقال الشيخ عبداللّه: أين السيد؟
قلت: لاأعلم، وكلما بحثنا في باحة الحرم الشريف لم نر أحداً.
فقال الشيخ عبداللّه: اخرج من باب القبلة وأنا أخرج من باب الزينبية،
ص: 259
ولنبحث عنه، فخرجنا وبحثنا عنه فلم نجده، وبعد مدّة قرأت في الكتب الروائية صفات إمام الزمان (عليه السلام) فوجدتها نفس صفات ذلك السيد العربي، وقد كتب العلامة الأميني (رحمه اللّه) في الغدير أن هذه القصيدة لا تقرأ في مجلس إلا ويحضره الإمام الحجّة بن الحسن (عليه السلام) (1).
نُقل عن الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي (رحمه اللّه) أنه قال: عندما كنت في سجون البعثيين في العراق وبينما كنت أقاسي التعذيب القاسي توسلّت ذات مرّة بسيدي ومولاي الإمام المهدي (عليه السلام) أن ينجّيني من السجن وعاهدت الإمام (عليه السلام) أنّني إذا نجيت من السجن أؤلّف كتاباً أجمع فيه بعض المطالب حول الإمام (عليه السلام) .
بقيت بعض الأشهر في سجن بغداد إلى أن خلّصني اللّه تعالى ببركة الإمام المهدي (عليه السلام) .
وبعد مدّة أتاني أحد الأقرباء وقال لي: رأيت في الرؤيا رجلاً ذا هيبة يشعّ وجهه نوراً، قال لي: قل للسيد حسن لقد حان الوقت لأن يفي بعهده مع صاحب الأمر (عليه السلام) في تأليف الكتاب، علماً أنّ ذلك الشخص لم يكن يعرف شيئاً عن عهدي لأنّي لم أحدّث به أحداً، فعزمت على الكتابة وجمعت المصادر اللازمة لتأليف الكتاب.
وبعدة فترة أتاني شخص آخر لم يكن له أية علاقة بالرجل الأول، وقال: رأيت في الرؤيا أنّ صاحب الأمر (عليه السلام) يطالبك بعهدك معه، فشرعت في
ص: 260
تأليف كتاب كلمة الإمام المهدي (عليه السلام) .
يقول السيد حسن: ولما فرغت من تأليف الكتاب رأيت في عالم الرؤيا شخصاً ذا هيبة، طويل القامة، جميل المحيّا، له جلالة الأنبياء وسيماء الصدّيقين، لابساً حلّة بيضاء قد أقبل نحوي، فظننت أنّه الإمام المهدي (عليه السلام) ولذا لما اقتربت منه أخذت يده لأقبّلها، فبدرني هو وقبّل يدي، فعرفت حينها أنّه ليس الإمام وسألته عن نفسه وقلت: من أنت؟
فقال: أنا من قبل وليّ اللّه، وأحسست حينها أنه مبعوث من الإمام (عليه السلام) جاء ليشكرني على تأليف الكتاب(1).
نقل الملا علي الهمداني، فقال: سألت الشيخ المحقق آقا ضياء العراقي عن قبر السيدة زينب (عليها السلام) فنقل لي القصة التالية، فقال: أنّ أحد شيعة القطيف في السعودية قصد زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) ، وفي الطريق نفذت أمواله وبقي حائراً لايستطيع الرجوع إلى وطنه ولا يقدر على مواصلة الطريق، ولذا توسّل بإمام الزمان (عليه السلام) ليخلّصه من هذه الحيرة.
وبينما هو كذلك لايدري ماذا يفعل إذا بسيد نوراني جليل القدر يتعرف عليه ويقدّم له بعض الأموال لتوصله إلى سامراء، وكان ممّا قال له السيد الجليل: راجع في سامراء وكيلنا الميرزا محمد حسن الشيرازي وقل له: السيد مهدي أمر أن تدفع لي من أموالنا التي عنده لتكمل زيارتك إلى جدّي الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) .
ص: 261
يقول الزائر القطيفي: لم أعرف من هو الرجل ولا من أين أتى إلا أنّني سألته وقلت له: إذا سألني السيد الشيرازي وقال: من هو السيد مهدي وماهي صفاته ماذا أجيبه؟
فقال السيد مهدي: قل له: العلامة هي أنك سافرت في الصيف برفقة الملا علي كني الطهراني إلى حرم عمّتي السيدة زينب (عليها السلام) ، وكان الحرم مزدحماً بالزوّار فذهبت أنت والملا علي كني إلى سطح الحرم وكانت الأوساخ قد تجمّعت، فنزعت عباءتك وأخذت تكنس سطح الحرم الشريف، بينما كان الملا علي يجمع الأوساخ ويرميها خارج الحرم، فكنت آنذاك حاضراً أشاهدكما.
يقول الزائر القطيفي: لما التقيت بالميرزا الشيرازي (رحمه اللّه) وذكرت له القصة قام واحتضنني وأخذ يقبّل عينيني ويبارك لي هذا التوفيق.
وأضاف الزائر قائلاً: ذهبت إلى الملا علي كني وذكرت له القصة، فقام هو أيضاً إجلالاً لي وقبّل وهو الآخر عينيني إلا أنه كان حزيناً لأنّ الإمام الحجّة (عليه السلام) لم يحولني عليه(1).
نقل المرجع الديني الكبير السيد عبدالأعلى السبزواري، فقال: خرجنا إلى الحج مع قافلة الحاج السيد إسماعيل حبل المتين في حافلة باص، ولما بلغنا صحراء السعودية ضلّ السائق طريق مكة وأخذ يجوب بنا الصحراء دون أن يهتدي إلى الطريق حتى نفذ وقود السيارة، فنزلنا في الصحراء
ص: 262
القاحلة التي لا أثر للحياة فيها أبداً.
بقينا مدّة فنفذ مائنا و انتهى طعامنا وأخذ أملنا في النجاة يضعف شيئاً فشيئاً، لحظات كانت في منتهى الرعب وغاية في القساوة حيث بدأ شبح الموت يدنو منّا لحظة بعد أخرى.
البعض استلقى على الأرض وسلّم أمره إلى اللّه، والبعض انطوى على نفسه يائساً من الحياة، وشرع البعض بحفر قبراً لنفسه ليرقد فيه آخر لحظات عمره.
يقول السيد السبزواري: أمّا أنا فأخذت أبحث عن نافذة للهروب منها إلى الحياة وإنقاذ من معي، وبينما كنت أتأمّل في حالنا تذكرة صلاة جعفر الطيار والتوسّل باللّه عزّ وجل بها.
والمعروف أنّ صلاة جعفر الطيار تستغرق وقتاً إلا أنّها مجربة في قضاء الحوائج، ولما شرع بالصلاة وقبيل الفراغ منها إذا بأحد الذين كانوا معنا يناديني قائلاً: اسرع ياسيد، فإننا نتنظرك، نظرت إلى الخلف فرأيت أصحابي كلّهم جالسين في السيارة مستعدّين للحركة.
ولما قربت من السيارة وجدت كل شيء جاهزاً والسيارة تعمل، فتساءلت: ماذا حدث؟
قالوا: جاءنا فارس فأطعمنا وأروانا، وأمر السائق بتشغيل السيارة فاشتغلت، ثم أشار بيده إلى تلك الجهة، وقال: ذاك طريق مكة المكرمة، ولما أراد الرحيل قال: نادوا السيد وأبلغوه سلامي.
فتحركنا نحو الاتجاه الذي أشار إليه فوصلنا إلى مكة سالمين، فسلام اللّه
ص: 263
عليك سيدي ومولاي يا صاحب الزمان يامنقذ الملهوفين(1).
نقل لنا السيد المرجع السيد محمد الشيرازي الذي عاشرته عقوداً متعدّدة ولم أرمنه إلا الإخلاص للدين والحرص على العقيدة، فقال: ذات مرّة اشتدت بي الأمور حيث ضيّقت الدولة علينا، وأخذوا يطاردون مريديّ ويحاربون مؤسساتي ويتهجمّون عليّ بشتى السبل.
فتوجّهت إلى سيدي ومولاي صاحب الزمان (عليه السلام) بقلب منكسر السؤال التالي يجول في أعماقي وهو: أليس أنّني من خدمة الإمام المهدي (عليه السلام) إذن لماذا لايفكر بي؟ثم استغفرت اللّه عزّ وجلّ من هذا التفكير السلبي.
وفي نفس الليلة رأيت في المنام الإمام المهدي (عليه السلام) وهو معتمّ بعمامة سوداء في زيّ طلاب العلوم الدينية - وكان عمره الشريف كما يبدو في الأربعين - وهو يبادرني بالقول باللغة الفارسية قائلاً: ما بفكر شما بوديم وهستيم وخواهيم بود.
أي: إنّنا نفكر بكم ومازلنا نفكر بكم وسنبقى نفكر بكم(2).
كتب السيد حسن البرقعي إلى أحد العلماء الأعلام، فقال: قد وفّقت لفترة من الزمن لزيارة مسجد جمكران - الذي يبعد عن مركز مدينة قم المقدسة (5) كيلومتر تقريباً - وبعد ثلاثة أسابيع من الزيارة المتواصلة
ص: 264
دخلت مقهى قرب المسجد الذي يرتاده زوّار المسجد للراحة وتناول الشاي، فصادفت شخصاً يدعى ب(أحمد البهلواني) وهو من سكان مدينة الري، فحيّاني بتحيّة الإسلام وحييته بحفاوة وإكرام، ولما تعارفنا وتبادلنا السؤال والكلام قال لي: أنا منذ أربعة أعوام مثابر ومواظب على زيارة مسجد جمكران في ليالي الأربعاء من كل أسبوع.
فقلت له: إذن لا بدّ أنك قد رأيت فيه شيئاً ما حتى واظبت على زيارته؟ ومن المعلوم عندنا أنّ كل من يتوجّه إلى مسجد صاحب الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) بنيّة صادقة وفي نفسه حاجة ما لا يرجع من المسجد إلا وهو ثلج الفؤاد قرير العين بقضائها.
فأجاب: نعم لو لم أر شيئاً لما واصلت الزيارة في كل أسبوع على بعد المسافة ووعورة الطريق، ففي السنة الماضية وفي إحدى ليالي الأربعاء للأسف الشديد لم أتمكن من الذهاب إلى زيارة مسجد جمكران وكان تأخيري بسبب حفلة عرس لأحد أرحامنا الذي يقطن قرب مدينة طهران، وبعد ما تمّت مراسم الزواج عدت إلى المنزل وخلدت إلى النوم. وفي منتصف الليل استيقظت من نومي وكنت عطشاناً، فأردت الوقوف إلا أنّني فوجئت بعدم قدرتي على تحريك قدمي بعد عدّة محاولات!
فناديت زوجتي وأيقظتها من نومها، فقلت لها: إنّي لا أستطيع الوقوف وقدمي قد شلّت؟
فأجابتني متحيّرة: ربما أصابك برد؟
فقلت: لسنا في فصل الشتاء.
وبعد عدّة محاولات من تحريك قدمي طلبت من زوجتي أن تخبر
ص: 265
جارنا، ولما أتى طلبت منه أن يحضر الطبيب فوراً رغم أنّ الساعة كانت متأخّرة، إذ لم يكن أمامنا حلّ آخر. فذهب وأحضر الطبيب ففحصني بدقّة ثم ضرب بمطرقة على ركبتي إلاّ أني لم أحس بشيء! ثم وخزني بإبرة في قدمي وكأنّه لم يوخز بعضو من أعضائي، لأنّ قدمي هذه قد شلّت وانفصلت عن جسمي. فلما توصل الطبيب إلى هذه النتيجة كتب لي دواء وذهب ولكنّه قال لجاري: قد أصيب بنوبة عصبية لا يشفى منها. وفي الصباح استيقظ الأطفال وإذا بهم يرون أباهم طريح الفراش لا يقوى على القيام فضجّوا بالبكاء والنحيب والعويل! علمت والدتي بحالي لطمت وجهها وضربت رأسها، وعمّت المصيبة بيتنا.
وفي هذه الحالة وقد اظلمّت الدنيا في عيني وضاقت الأرض بي بما رحبت ولم يبق لي سبيل إلاّ التوسل بصاحب العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) فناجيته بقلب منكسر وبدمع منهمر وبحزن قد خيّم عليّ وقلت له: يا مولاي يا صاحب الزمان في كل أربعاء كنت آتي لخدمتك سوى الليلة الماضية! سيدي لم أرتكب ذنباً فانظر إليّ. وبينما أنا غارق في المناجاة أخذتني سنة من النوم، فرأيت في عالم الرؤيا سيداً أتى نحوي ووضع عصاه بيدي وقال: إنهض!
فقلت: لا أستطيع النهوض يا سيدي.
فكرّر قوله عليّ ثانية. فاعتذرت منه بنفس الجواب.
فأخذ بيدي وحرّكني من مكاني فأفقت من نومي وإذا بقدمي تتحركان، فنهضت من فراشي ووقفت للاطمئنان ثم مشيت وجلست وقمت وكل هذا وأكاد لا أصدق! وخشيت أن تراني والدتي بهذه الحال فيغشى عليها. لذا
ص: 266
رقدت في فراشي ولما جاءت قلت لها: أعطني عصاة أتكئ عليها فيبدو أنّ حالي بدأ يتحسّن بعد توسّلي بولي الأمر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، ثم طلبت منها أن تدعو جارنا. ولما جاء قلت له: اذهب واطلب من الطبيب أن يأتي وقل له: إنّي شفيت!
فذهب ثم عاد وقال: الطبيب يقول: إنّ هذا الكلام كذب لا صحّة له، لو كان شفي لجاء بنفسه!
فقرّرت أن أذهب بنفسي، ولما رآني أمشي على قدمي لم يصدّق فانبهر وأخذ إبرة ووخزني في قدمي فتأوهت قليلاً وقال متعجباً: ماذا فعلت؟!
فشرحت له توسّلي بولي العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، فقال: حقّاً هذه معجزة، ولوذهبت أوربا وأمريكا وأنت بتلك الحال لعجزوا عن شفائك(1).
نقل السيد محمد علي فشندي وهو من صلحاء مدينة طهران، فقال: كنت في أيام شبابي ملتزماً حدّ الإمكان باجتناب المعاصي، وذهبتُ إلى الحج مراراً علّني أتشرّف برؤية مولاي الحجّة المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
وفي إحدى السنين كنت متكفّلاً بأمور بعض الحجّاج، وفي ليلة الثامن من ذي الحجّة ذهبت إلى صحراء عرفات ومعي بعض مستلزمات الحجّاج، وكان قصدي أن أصل قبل الحجيج بليلة لأهيّأ المكان المناسب. ولما وصلت إلى صحراء عرفات عصر اليوم السابع جعلت ما كان معي من الوسائل في خيمة قد أُعدّت لنا من قبل.
ص: 267
وفي هذه الأثناء، جاءني أحد الشرطة الموكّلين بحراسة الخيام وقال لي: لماذا جئت بكل هذه الأمور قبل الحجاج، فقد تتعرّض للسرقة في هذه الصحراء الواسعة؟ ولذا عليك أن تبقى يقظاً حتى الصباح.
طيلة تلك الليلة كنت مشغولاً بالعبادة والمناجاة وبقيت مستيقظاً إلى منتصف الليل، فرأيت سيداً جليلاً ذا هيبة ووقار جاء إلى خيمتي وناداني باسمي وقال: السلام عليك يا حاج محمد علي!
قلت: وعليك السلام، وقمت من مكاني، فدخل خيمتي. وبعد لحظات جاء جمع من الشباب الذين نبتت لحاهم للتوّ، وكانوا خدم السيد. في البدء خفت منهم ولكن بعد أن تكلّمت عدّة كلمات مع السيد، فارقني الخوف ودخل حبّه في قلبي.
قال لي السيد: يا حاج محمد علي هنيئاً لك… هنيئاً لك.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنّك تبيت في صحراء عرفات في هذه الليلة التي بات في مثلها جدّي الإمام الحسين (عليه السلام) .
قلت: وماذا عليَّ أن أفعل في هذه الليلة؟
قال: تصلّي ركعتين تقرأ في كل ركعة منهما بعد الحمد سورة {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}(1) أحد عشر مرة.
صلّينا مع السيد. وبعد الفراغ من الصلاة قرأ السيد دعاء بمضامين لم أكن قد سمعت بمثلها، وكان يقرأها بتوجّه وخشوع، والدموع تجري من عينيه.
ص: 268
حاولت أن أحفظ الدعاء ولكن السيد قال: هذا الدعاء خاص بالإمام المعصوم، وإنّك ستنساه.
ثم عرضتُ عليه عقائدي التي أدين بها لله تعالى فأجابني بالصحّة والقبول.
وسألت منه قائلاً: بنظرك أين الإمام الحجّة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) الآن؟
قال: في الخيمة.
فقلت: يقولون إنّ الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) يكون في عرفات يوم عرفة، ففي أيّ مكان من صحراء عرفات يقف؟
قال: في حدود جبل الرحمة.
قلت: فلو ذهب أحد إلى ذلك المكان هل سيراه؟
قال: نعم يراه ولكن لا يعرفه.
قلت: غداً مساء ليلة عرفة، فهل يأتي الإمام الصاحب (عليه السلام) إلى خيام الحجّاج؟
قال: سيأتي إلى خيمتكم، لأنّكم ستتوسّلون بعمّي أبي الفضل العباس (عليه السلام) في الليلة القادمة.
وبعد لحظات فارقني فتشت عنه يميناً وشمالاً إلا أنّي أرَ أحداً، وفجأة انتبهت من غفلتي وعرفت أنّ السيد هو الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
وعلى أيّ حال، جلست أبكي وأنحب وأنشج نشيجاً عالياً حتى سمعني الشرطة فظنوا أنّ السرّاق سرقوا متاعي، فسألوني، فقلت لهم: كنت مشغولاً بالدعاء فاشتد بكائي!
وفي اليوم التالي وصلَتْ مجموعتي إلى عرفات وذكرت القصة لأحد
ص: 269
العلماء المرافقين لنا، فنقلها هو إلى الحجّاج، فازداد شوقهم وحنينهم للمولى (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
وفي غروب ليلة عرفة، صلّينا صلاة المغرب والعشاء، ثم قام ذلك العالِم وبدأ بقراءة مصيبة أبي الفضل العباس (عليه السلام) مع أنّي لم أقل لهم إنّ الإمام المهدي (عليه السلام) قد ذكر لي بأنّنا سنتوسّل بعمّه العباس (عليه السلام) . وكان البكاء والنحيب والخشوع قد خيّم على أجواء المجلس، ولكنّي كنت أترقّب مجيء الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وكاد المجلس أن ينتهي، فنفد صبري فخرجت من الخيمة، وإذا بي أری الإمام صاحب العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) واقفاً بباب الخيمة يستمع إلى مجلس العزاء ويبكي، فأردت أن أُعلم الناس بوجوده الشريف، فأشار بيده المباركة عليَّ أن أسكت. وكأنّ يداً قد تصرّفت بلساني فلم أستطع التفوّه بحرف واحد، ولذا وقفت بباب الخيمة والإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) واقف بالطرف الآخر، وكنّا نبكي على مصائب أبي الفضل العباس (عليه السلام) ، ولم أقدر أن أتحرّك خطوة واحدة باتّجاهه (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف). ولما انتهت قراءة المصيبة ترك بقية اللّه الأعظم (عليه السلام) المكان وانصرف(1).
الكثير من الناس يتصوّر أنّ أهل البيت (عليهم السلام) يقضون حوائج الآخرة فقط ولا دخل لهم بالحوائج الدنيوية، ولذا فالكثير منهم يبقون حائرين في مشاكلهم الدنيوية لا يعرفون أيّ باب يطرقون، وبمن يتوسّلون ليعينهم على مشاكلهم الدنيوية، والحال أنّ أهل البيت (عليهم السلام) بابهم مفتوح للجميع وفي أيّ
ص: 270
وقت شاءوا، لا يفرق أكانت حوائجهم دنيوية أم أخروية. والشواهد على ذلك كثيرة؛ منها القصة التالية:
يقول الحاج صادق الكربلائي: واظبت فترة من الزمن على الذهاب إلى مسجد الكوفة للتوسّل بإمام العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) لقضاء حاجتي وهي تسهيل أمر زواجي والظفر بالزوجة الصالحة.
ولا أدري كم ليلة أربعاء مضت على ذهابي من كربلاء إلى الكوفة، إلا أنّني في إحدى الليالي وبعد أن فرغت من صلاة المغرب والعشاء حملت شيئاً من الخبز والطعام وأخذت عصاي وتحركت من كربلاء قاصداً مسجد الكوفة، وفي الطريق وبينما كنت مشغولاً بالذكر والدعاء إذا بي أسمع صوت شخص يقول: يا اللّه يا اللّه. في البدء انتابني الخوف وقلت في نفسي: لا يكن هذا الرجل لصّاً جاء لسرقتي! ولذا أخذت أمشي بسرعة، وبعد دقائق رجعت إلى نفسي وقلت: إذا كان الرجل لصاً فلماذا يسمعني صوته ويقول يا اللّه؟ فأبطأت في مسيري حتى وصل الرجل إليّ وبادرني بالسلام والتحية وقال: حاج صادق تذهب إلى السهلة؟ قلت: حتماً تريد الذهاب إلى السهلة ولذلك تسأل عنها؟
قال: نعم، ففرحت بذلك وسررت حيث وجدت من يرافقني في الطريق ويأنسني من وحشته.
وفي أثناء الطريق شرعنا بقراءة مصائب أهل البيت (عليهم السلام) وإنشاد المصائب وقد بدأ هو أولاً فقرأ مصيبة عبد اللّه الرضيع وكيف أنّ مصابه الجلل أحرق قلوب أهل البيت (عليهم السلام) عندما جاء به سيد الشهداء (عليه السلام) للوداع الأخير، ثم شرعت بقراءة المصيبة وأتذكر أنّني قرأت الأبيات التالية:
ص: 271
كم ذا القعود ودينكم هدمت قواعده الرفيعة***أترى تجيء مصيبة بأمضّ من تلك المصيبة
حيث الحسين على الثرى خيل العدى طحنت ضلوعه***ورضيعه بدم الوريد مخضب فاطلب رضيعه
وفيما كنت أقرأ هذه الأبيات إذا بالرجل يجلس على الأرض فجلست معه وأخذنا نبكي بحرقة وأنين وقد طال بكاؤنا فترة طويلة.
وبعد أن فرغنا من قراءة المصيبة واصلنا مسيرنا نحو السهلة، ولم تمض سوى لحظات إذا به يقول: هذا مسجد السهلة، فاذهب وأدّ أعمالك، ولكن اعلم أنك إذا رجعت إلى كربلاء المقدّسة ستقضی حاجتك.
وبالرغم أنّه صرح بذلك إلا أنّني لم أتوجه إلى مراده، فذهبت إلى مقام الإمام زين العابدين (عليه السلام) واشتغلت بالصلاة والدعاء والتوسّل بصاحب العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
آنذاك راع انتباهي الأمر التالي: ففي كل مرّة عندما آتي إلى المسجد أجده خالياً ليس فيه أحد سوى بعض النيام الذين غرقوا في نومهم، فلماذا المسجد اليوم مزدحم والناس غير نيام؟!
نظرت إلى ساعتي وإذا بها تشير إلى العاشرة ليلاً، فلم أصدّق وتصورت أنها عاطلة، ولما سألت بعض الناس أكدوا لي أنّ الساعة هي العاشرة، فازداد تعجبّي واستولت عليّ الدهشة!
وفجأة ولا أدري كيف أثيرت في نفسي التساؤلات التالية:
يا ترى من كان ذلك الرجل؟ وكيف وصلنا إلى مسجد السهلة بهذه العجالة؟
ص: 272
فعرفت أنّني وفقت لملاقاة سيدي ومولاي الحجّة بن الحسن العسكري (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، ولكن مع الأسف لم أعرفه وما استفدت من بركاته، ولذا جلست إلى الصباح أبكي وأندب حظّي وأقول: ليتني عرفته واستفدت من وجوده المبارك!
على كل في الصباح وكان يوم الأربعاء عدت إلى كربلاء وذهبت إلى دكاني الذي أعمل فيه مع أخي الأكبر وكان قد تأخّر ذلك اليوم، ولما أتى سألته: أين كنت، فلقد تأخّرت كثيراً؟ فتبسم في وجهي، وقال: كنت أسعى في قضية زواجك واليوم العصر إن شاء اللّه سيتمّ العقد! وبتوفيق من اللّه وعناية إمام العصر والزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) فقد عقدت عصر ذلك اليوم(1).
نُقل عن المرجع الديني الشيخ محمّد علي الأراكي (قدس سره) أنّه قال: أرادت ابنتي أن تتشرّف بحجّ بيت اللّه الحرام، وكانت تخاف أن لا تتمكّن من أداء مناسك الحجّ لشدّة الزحام. قلت لها: إذا داومتِ على ذكر يا حفيظ يا عليم فإنّ اللّه سيعينك على ذلك.
وبالفعل فقد تشرّفت ابنتي بزيارة بيت اللّه الحرام، وبعد عودتها نقلت لي الحكاية التالية وقالت: داومت على ذلك الذكر الشريف ولله الحمد فأدّيت المناسك براحة، إلى أن أردت ذات يوم الطواف وكان جمع من الحجّاج الأفارقة الأشداء يطوفون وكان الزحام شديداً جدّاً، فقلت في نفسي: كيف يمكنني في هذا الزحام الطواف؟ وتحسّرت على وجود رجلٍ محرم معي
ص: 273
حتّى يحافظ عليَّ من مزاحمة الرجال حال الطواف.
وفجأة سمعت صوت شخص يقول لي: لوذي بإمام الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) حتّى تطوفي على راحتك!
قلت: وأين هو إمام الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)؟
قال: هو هذا الرجل الذي يسير أمامك!
نظرت إلى تلك الجهة فرأيت رجلاً جليلاً يمشي أمامي وحوله دائرة مفرغة قطرها حوالي المتر، ولا يدخل أحدٌ من الحجيج في تلك الدائرة، وإذا بالهاتف يقول لي: ادخلي في هذا الحريم وطوفي خلف وليّ العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف). وكنت قريبة جدّاً منه بحيث أنّ يدي كانت تصل إليه، وقد مسحت يدي على ثوبه ومسحت بها وجهي وكنت أقول له: سيّدي فديتك نفسي، مولاي فديتك بروحي. كنت مسرورة جدّاً إلى درجة أنّي نسيت أن أُسلّم عليه (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
والحاصل أنّي طفت سبعة أشواط خلف الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) حول الكعبة بدون أن يلمس بدني رجل غريب، على الرغم من كلّ ذلك الزحام، وكنت أتعجّب كيف لا يدخل أحد من هؤلاء الناس في حريم هذه الدائرة؟!
ويضيف الشيخ الأراكي قائلاً: ولأنّ حاجة ابنتي كانت منحصرة في هذا الأمر، لذا فإنّها لم تطلب شيئاً آخر في تلك الساعة.
لا شكّ أنّ الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) رحمة للعالمين وخصوصاً لأُولئك الذين يحاولون تطبيق الشريعة والابتعاد عن المعاصي والتنزّه عن المحرّمات حتّى غير الاختيارية منها، كما ورد في الحديث القدسيّ الشريف: من تقدّم إليّ شبرأ
ص: 274
تقدمت منه ذراعاً(1)، فإنّ اللّه تعالى يهيّئ لمثل هذا الإنسان الدليل على الطاعات واجتناب المحرّمات، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، بل إنّ بعض النساء ولأسباب معيّنة قد يصلن إلى الكمال أسرع من الرجال مع ما يتمتّعن به من روح عاطفية لطيفة، وهناك كثير من النساء وصلن إلى حالات كمال عالية وبعضهنّ إلى حالة الارتباط الروحي بالإمام الحجّة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).
إذن فطريق التشرّف بلقاء المهديّ (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) ليس حكراً على الرجال، وعلى نسائنا السعي والجدّ لنيل هذا الشرف العظيم، وذلك بالطاعات والعبادات وأداء الوظائف الشرعية. خاصة وأننا نجد في بعض الروايات إشارة إلى أنّ من أنصار الإمام صاحب العصر (أرواحنا فداه) خمسون امرأة. فعلى أخواتنا العزيزات أن يدعين اللّه تعالى ليل نهار وأن يعملن بجد واجتهاد ومثابرة من أجل أن يكنّ من هؤلاء.
أشهد أنّ اللّه اصطفاك صغيرا، وأكمل لك علومه كبيرا، وأنك حي لا تموت، حتى تبطل الجبت والطاغوت.
اللّهم صلِّ عليه وعلى خدّامه، وأعوانه على غيبته ونأيه، واستره سترا عزيزا، واجعل له معقلا حريزا، واشدد وطأتك على معانديه، واحرس مواليه وزائريه (2).
ص: 275
ص: 276
ص: 277
ص: 278
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد فقد تظافرت الأخبار عن الفريقين بالتأكيد على حفظ أربعين حديثاً، ولذا تسابق كثير من العلماء فضلاً عن غيرهم للامتثال لهذا الحديث فدوّنوا أربعين حديثاً في مباحث مختلف، عقائدية، وفقهية، وغيرها من المجالات.
وببركة هذا الحديث الشريف حُفظ من التراث الروائي العديد من الأخبار وانضمّ إلى المكتبات مصنّفات قيّمة تحوي آراء علمية لعلماء أجلاء ساهموا في شرح الحديث المذكور أو التعليق عليه أو بيان كل ما هو متعلّق به من نكات ومطالب.
وكما يبدو واللّه العالم أنّ لهذا العدد سرّ وحكمة خاصة في مجالات مختلفة جعلت أهل البيت (عليهم السلام) يأكدون عليه في أحاديثهم ومن ذلك ما ورد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الإخلاص لله عزّ وجل قال: من أخلص للَّه أربعين يوما فجّر اللَّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه(1).
وفي باب الدعاء ورد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: من قدّم أربعين رجلا من
ص: 279
إخوانه فدعا لهم ثم دعا لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه(1).
وفي الحديث القدسي عندما كوّن اللّه تعالى طينة نبي اللّه آدم (عليه السلام) ، قال: خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً(2).
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنّه سئل: إنّا روينا عن النّبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: من شرب الخمر لم تحسب صلاته أربعين صاحباً.
فقال (عليه السلام) بعد عدّة كلمات: فهو إذا شرب الخمر بقيت في مشاشه أربعين يوماً على قدر انتقال ما خُلق منه.
ثمّ قال (عليه السلام) : وكذلك جميع غذائه أكله وشربه يبقى في مشاشه أربعين يوماً(3).
وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: من لم يأكل اللحم أربعين يوماً تغيّر خلقه وبدنه وذلك لانتقال النطفة في مقدار أربعين يوماً(4).
وروي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : مَنْ أكل اللحم أربعين صباحاً قسا قلبه(5).
وروي أن ممّا أوصی به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) : مَن أكل الزيت وادّهن به لم يقربه الشيطان أربعين يوماً(6).
ص: 280
وروي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر اللّه قلبه(1).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: من شرب السويق أربعين صباحاً امتلأ كتفاه قوّة(2).
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : عليكم بالهريسة فإنّها تنشّط للعبادة أربعين يوماً...(3).
وروي الإمام الصادق (عليه السلام) : من أكل رمانة نوّر اللّه قلبه، وطرد عنه شيطان الوسوسة أربعين صباحاً(4).
وروي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ الأرض تنجس من بول الأغلف أربعين صباحاً(5).
لذا ومن وباب الامتثال لأوامرهم صلوات اللّه عليهم والتطلّع للفوز ببركاتهم وجدت من الجيّد كتابة هذا الكتاب في الأربعين حديثاً في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) التي صارت شعيرة عظيمة من شعائر اللّه يتسابق إليها الصالحون الموالون عبر الزمن متحدّين في ذلك المخاطر والمحن ومقدّمين الغالي والنفيس في سبيل هذه الشعيرة المباركة.
وقد قسّمت البحث إلى قسمين:
الأول: في ظلال الحديث المستفيض عن الفريقين وما فيه من مباحث
ص: 281
متعدّدة ومداخلات حول الحديث، وحفظ التراث الروائي.
الثاني: أحاديث في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ونبذة حول تأريخ الزيارة وماقدمه الموالون عبر التأريخ من أجل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) .
ص: 282
كل من يلاحظ سيرة الشيعة عبر العصور المختلفة يتجلّى له بوضوح مدى حرصهم على حفظ تراث أهل البيت (عليهم السلام) لاسيما الكم الهائل من أحاديث الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، حيث اعتاد الشيعة على تدوين أحاديث الأئمة المعصومين (عليهم السلام) .
وما ذلك إلا لمعرفتهم بأهمية الحديث وامتثالهم لوصايا أهل البيت (عليهم السلام) الذين حثّوا على تدوين الأحاديث وحفظها من التلف في أحلك الظروف وأشدّها حيث كانت الحكومات تضايق كل من يتصل بأهل البيت (عليهم السلام) فضلاً عمّن يدون تراثهم ويروجه بين الناس.
ففي الحديث عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة، قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام) : جعلت فداك إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه (عليهما السلام) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم فلم يرووا عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا، فقال: حدّثوا بها فإنّها حق(1).
وعن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال: دخل علي
ص: 283
أناس من أهل البصرة فسألوني عن أحاديث وكتبوها، فما يمنعكم من الكتاب؟ أما إنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا(1)،
وفي رواية أخرى قال (عليه السلام) : اكتبوا، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا(2).
وعن حمزة بن عبد المطلب بن عبد اللّه الجعفي، قال دخلت على الرضا (عليه السلام) ، ومعي صحيفة أو قرطاس فيه عن جعفر (عليه السلام) : إنّ الدنيا مثلت لصاحب هذا الأمر في مثل فلقة الجوزة، فقال: يا حمزة، ذا واللّه حقّ، فانقلوه إلى أديم(3).
وكان الشيعة يتعرّضون لمضايقات عديدة إثر التفافهم حول أهل البيت (عليهم السلام) وحرصهم على حفظ أحاديثهم ويشهد لذلك ماجرى مع ابن أبي عمير.
فقد روي أنه لما حبس ابن أبي عمير دفنت أخته كتبه في حال استتارها فهلكت الكتب.
هناك مبحث مهم ينبغي الوقوف عنده هنيئة وهو: كيف نحصّل أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ؟
قبل أن نجيب على السؤال لا بأس أن نشير إلى نقطة بالغة الأهمية وهي: على طول التأريخ كانت هناك حملة شرسة ضد أهل البيت (عليهم السلام) وحرص
ص: 284
شديد على محو آثارهم والمنع دون وصولها إلى الناس خشية أن يطلع الناس على معارفهم فيتبعونهم، وكما في الحديث: إن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا(1).
ولذا كان أعداء أهل البيت (عليهم السلام) على طول التأريخ يحرصون على أن لايبقى رسم لأهل هذا البيت (عليهم السلام) وقد صرحوا بذلك كراراً ومراراً، ومن ذلك قول معاوية للمغيرة: لو نظرت إلى أخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فواللّه ما عنهم اليوم شيء تخافه، وإنّ ذلك ممّا بقي لك ذكره وثوابه؟ فقال: هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه؟
ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا إن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل: أبو بكر. ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر.
وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أنّ محمدا رسول اللّه فأيّ عملي يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا واللّه إلا دفنا دفناً(2).
ومن هنا وخشية أن يطّلع الناس على معارف أهل البيت (عليهم السلام) فيتّبعوهم أخذوا يحاربونهم أولاً وبالذات، فعمدوا إلى بثّ التهم والأباطيل حول شخصياتهم حتى أنّ معاوية كما ذكر شيخ المعتزلة الإمام أبو جعفر الإسكافي فيما نقله عنه ابن أبي الحديد: حمل قوما من
ص: 285
الصحابة، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغّب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه(1).
ولما لم يوفّق أعداء أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك عمدوا إلى تحريف كل مايتصل بهم ومن ذلك محاربتهم لأحاديثهم حيث اتّبعوا في ذلك عدّة أمور:
الأول: إتلاف أحاديثهم: وذلك باتلاف الكتب ومحوها من الوجود وقد أسس ذلك أبو بكر حيث أمر بحرق كتب الحديث، وجاء من بعده عمر، فاستشار الصحابة في تدوينها، فأشار عليه عامتهم بذلك ولبث مدّة يفكّر في الأمر، ثم عدل عنه، وقال لهم: إنّي كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ماقد علمتم، ثم تذكرت، فإذا اُناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب اللّه كتباً فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب اللّه، وإنّي واللّه لا ألبس كتاب اللّه بشيء فترك كتاب السنن(2).
وقد صار ذلك سنّة عند الحكام من بعده حيث كانوا يحرقون الكتب ويتلفونها بشتى الطرق ومنها رميها في الأنهار والصحاري حتى تتلف.
الثاني: دعم كل من يدسّ في أحاديثهم (عليهم السلام) ويضع فيها الموضوعات حتى اُشتهر عن يونس بن عبد الرحمن عن سيدنا أبي الحسن الرضا (عليه السلام) كتب جماعة من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وقال صلوات لله عليه: إنّ أبا الخطاب كذب على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه
ص: 286
الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) (1).
وعن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: كان المغيرة بن سعد لعنه اللّه يتعمّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه - المستترون بأصحاب أبي - يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة لعنه اللّه، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي(2).
وقد أحصى العلامة الأميني (رحمه اللّه) عدد الوضاعين فكانوا سبعمائة، بل يزيدون على ذلك، وكانوا من أجهزة السلطات الأموية والعباسية، فافتعلوا من الأحاديث مايناسب سياستهم ويبرر أفعالهم(3).
الثالث: التضييق على كل من يتصل بأهل البيت (عليهم السلام) وعرقلة اتصالهم بهم بحيث بلغ في بعض الأزمنة أنّ أحداً لايجرأ على الاتصال بهم حتى كان الرجل منهم إذا ابتلي بمسألة دينية يفتعل له حيلة ليصل إلى الإمام (عليه السلام) ويعرف جواب مسألته، يقول هارون بن خارجة: كان رجل من أصحابنا طلّق امرأته ثلاثا، فسأل أصحابنا، فقالوا: ليس بشيء. فقالت امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) . وكان بالحيرة إذ ذاك أيام أبي العباس.
قال: فذهبت إلى الحيرة، ولم أقدر على كلامه، إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فإذا سوادي(4)
ص: 287
عليه جبة صوف يبيع خيارا، فقلت له: بكم خيارك هذا كلّه؟
قال: بدرهم. فأعطيته درهما، وقلت له: أعطني جبّتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت: من يشتري خيارا؟ ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب الخيار.
فقال (عليه السلام) لي - لما دنوت منه - : ما أجود ما احتلت! أيّ شيء حاجتك؟
قلت: إنّي ابتليت فطلقت أهلي ثلاثا في دفعة، فسألت أصحابنا، فقالوا: ليس بشيء. وإنّ المرأة قالت: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد اللّه (عليه السلام) .
فقال: ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء(1).
وبالرغم من كل هذه الحروب الضارية ضد أحاديث فقد بلغنا من الأحاديث الكثير وذلك من خلال:
1- الخطب: فقد كانت لأهل البيت (عليهم السلام) خطباً كثيرة في أماكن ومناسبات متعدّدة رواها عنهم الرواة والمحدّثون في كتبهم ومصنفاتهم.
2- الرسائل: حيث بلغتنا مجموعة من رسائلهم وقد جمعت في كتب الأصحاب وتداولت بين الأيدي.
3- المناظرات: حيث روى الرواة الكثير من مناظرات واحتجاجات المعصومين (عليهم السلام) مع غيرهم وقد تعامل العلماء مع هذه المناظرات مثل ما تعاملوا مع الحديث.
4- أجوبة المسائل: كان كثير من الرواة يسألون الأئمة (عليهم السلام) عن مسائل، وهم يجيبون عليها، وقد ذكر علماء الرجال أسماء بعض الرواة كانت لهم
ص: 288
مسائل عن الأئمة (عليهم السلام) منهم: إبراهيم بن أبي البلاد، أحمد بن إسحاق بن عبداللّه الأشعري، أحمد بن عمر بن هلال وغيرهم.
5- الإملاء: حيث دوّن الرواة كثيراً ممّا أملاه المعصومون (عليهم السلام) في مجالسهم، فعن عذافر الصيرفي، قال: كنت مع الحكم بن عيينة عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرها، فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : يا بني، قم فأخرج كتاب علي، فأخرج كتابا مدرجا عظيما، ففتحه وجعل ينظر حتى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : هذا خط علي وإملاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأقبل على الحكم، وقال: يا أبا محمد، اذهب أنت وسلمة والمقداد حيث شئتم، يمينا وشمالا، فواللّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل (عليه السلام) (1).
وعن أبي الوضاح: فحدّثني أبي قال: كان جماعة من خاصة أبي الحسن (عليه السلام) من أهل بيعته وشيعته، يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق أبو الحسن (عليه السلام) بكلمة أو أفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك(2).
من ضمن الأحاديث المستفيضة التي وردتنا من الفريقين حديث من حفظ من أمتي أربعين حديثاً، فقد رواه العامة والخاصة واتفقوا على نقله بعباراته شتى بحيث يطمأن الإنسان إلى صدوره عن المعصومين (عليهم السلام) رغم
ص: 289
اختلاف عباراته وأسانيده، ولا بأس أن ننقل بعض ماورد من ذلك الحديث:
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثا بعثه اللّه يقوم القيامة عالما فقيها(1).
وعن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من حفظ من أمّتي أربعين حديثا ممّا يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه اللّه عز وجل يوم القيامة عالما(2).
وعن حنان بن سدير، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: من حفظ عنّي أربعين حديثا من أحاديثنا في الحلال والحرام بعثه اللّه يوم القيامة فقيها عالما ولم يعذّبه(3).
وعن ابن عباس عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: من حفظ من أمّتي أربعين حديثا من السنّة كنت له شفيعا يوم القيامة(4).
وعن أنس، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من حفظ عنّي من أمّتي أربعين حديثا في أمر دينه يريد به وجه اللّه عزّ وجل والدار الآخرة بعثه اللّه يوم القيامة فقيها عالما(5).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: من حفظ من شيعتنا أربعين حديثا بعثه اللّه عزّ وجل يوم القيامة فقيها عالما، ولم يعذّبه(6).
ص: 290
حرص العديد من الأعلام على تطبيق ما ورد في الحديث المذكور فكتبوا في الأربعين العديد من المصنّفات ومنها:
1- الأربعون حديثاً: للعلامة الميرزا إبراهيم بن الحسين بن علي بن الغفار الدنبلي الخوئي الشهيد في الأكراد بخوي سنة 1325ه- .
2- الأربعون حديثاً: للعلامة إبراهيم بن سليمان القطيفي.
3- الأربعون حديثاً: للعلامة السيد محمد الشهير بالسيد أبي الحسن الرضوي القمّي الكشميري.
4- الأربعون حديثاً في مناقب الفقراء والصالحين: لأبي سعيد أحمد بن الحسن الطوسي.
5- الأربعون حديثاً في فضل الفقراء الصادقين: للفاضل الهندي.
6- الأربعون حديثاً في الفضائل والمناقب: لأسعد بن إبراهيم بن الحسن بن علي الحلّي.
7- الأربعون حديثاً: للعلامة إسماعيل بن محمد حسين بن محمد رضا المازندراني الأصفهاني المعروف بخواجوئي.
8- الأربعون حديثاً: للشيخ إسماعيل بن علي نقي الأرومي التبريزي.
9- الأربعون حديثاً في الإمامة وشرحها بالفارسية: للعلامة المجلسي.
10- الأربعون حديثاً في الأصول والفروع والخطب والمواعظ ومايحتاج إليه الناس في أمور دينهم: للعلامة المجلسي، وغيرها من عشرات المصنفات التي كتبت في الأربعين أعرضنا عن ذكرها يمكن من يريد
ص: 291
الاطلاع عليها أن يراجع الذريعة للعلامة الطهراني (رحمه اللّه) حيث ذكرها في كتابه.
وعلى نهج السلف الصالح وجدت من الجدير بي أن أكتب كتابا في الأربعين في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) التي أكد عليها أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم المختلفة وحثّوا الناس إليها لما فيها من الخير الكثير والبركات العجيبة التي قلّما يوفّق الإنسان في سائر الأعمال الأخرى.
من خلال الروايات التي ذكرناها يظهر عدّة أمور مهمة ينبغي أخذها بعين الاعتبار ومنها:
1- لامجال للتشكيك في سند الحديث فهو من الأحاديث المستفيضة بين الفريقين بل قال بعضهم بتواتره، وقد رواه أصحابنا بطرق كثيرة مع اختلاف في اللفظ.
2- المراد بحفظ الحديث: هناك بحث تناوله الأعلام وهو أنّ المراد بالحفظ عن ظهر القلب أو الأعم؟
ذهب الشيخ البهائي رضوان اللّه عليه في كتابه (الأربعين) إلى الأول وإن لم يبعد أنّ المراد الأعم، فقال: الظاهر أنّ المراد بالحفظ عن ظهر القلب فإنّه هو المتعارف المعهود في الصدر السالف، فإنّ مدارهم كان على النقش في الخواطر لا على الرسم في الدفاتر حتى منع بعضهم بعضهم من الاحتجاج بما لم يحفظه الراوي عن ظهر القلب، وقد قيل: إنّ تدوين الحديث من المستحدثات في المائة الثانية من الهجرة ولا يبعد أن يراد بالحفظ الحراسة
ص: 292
على الاندراس بما يعمّ الحفظ من ظهر القلب والكتابة والفعل بين الناس ولو من كتاب وأمثال ذلك انتهى(1).
وممّا يؤيد كون المراد بالحفظ الأعم ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) من التأكيد على كتابة الحديث وتقييده، ومن ذلك ما ورد عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : اكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتى تكتبوا(2).
وعن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال: ما يمنعكم من الكتاب؟! إنّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، إنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها(3).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) : قال القلب يتكل على الكتابة(4).
وقال أبو عبد اللَّه: احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها(5).
وعن المفضّل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد اللَّه (عليه السلام) : اُكتب وبثّ علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيك فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم(6).
وعن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال: دخل علي أناس من أهل البصرة، فسألوني عن أحاديث وكتبوها، فما يمنعكم من
ص: 293
الكتاب؟ أما إنّكم لن تحفظوا حتّى تكتبوا(1).
4- هل يلزم الحفظ للأحاديث مع الدراية له أم صرف الحفظ كافٍ في تحقّق الثواب العظيم المذكور في روايات حفظ الأربعين حديثاً؟
قبل الإجابة على السؤال ينبغي الإلتفات إلى أنّ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) صعبة مستصعبة يختلف الناس في وعيها ودرايتها وبقدر وعي الناس لأحاديثهم (عليهم السلام) تكون منازلهم ومقاماتهم، ويشير إلى ذلك ما قاله أبو جعفر (عليه السلام) : يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان، إنّي نظرت في كتاب علي (عليه السلام) فوجدت في الكتاب أنّ قيمة كل امريء وقدره معرفته، إنّ لله تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا(2).
وعن جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) أنه قال: اعرفوا منازل شيعتنا عندنا على حسب روايتهم وفهمهم عنّا، الخبر(3).
وفي لفظ الكشي: اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا(4).
وقال أبو جعفر (عليه السلام) : يا بني اعرف منازل شيعة علي (عليه السلام) على قدر روايتهم ومعرفتهم(5).
ص: 294
وبعد هذه الروايات نقول: لاشك أنّ حفظ الدراية - ولو إلى حدّ ما - هو الغاية القصوى في التعاطي مع الحديث وهذا مايظهر من تأكيد أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم المختلفة على دراية الحديث ومن ذلك: ما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال: حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا، وإنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجها لنا من جميعها المخرج(1).
وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : خبر تدريه خير من عشرة ترويه، إنّ لكل حقّ حقيقة، ولكل صواب نورا، ثم قال: إنّا واللّه لا نعد الرجل من شيعتنا فقيها، حتى يلحن له فيعرف اللحن(2).
وقال (عليه السلام) : عليكم بالدرايات لا بالروايات(3).
وقد اشترط الفيض الكاشاني في تفسير الحديث أن يكون الحفظ حفظ دراية، فقال: وحافظ اللفظ فقط من دون فهم المعنى مأجور مرحوم لقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : رحم اللَّه امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فربّ حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، إلا أنّ دخوله في هذا الحديث بعيد لأنه ليس بفقيه ولا عالم فكيف يبعث فقيها عالما(4).
ومع ذلك قد يقال: إنّ حفظ أربعين حديثاً بذاته له خصوصية ولو كان حفظ رواية إذ إنّ أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) فيها بركات عظيمة ومن
ص: 295
يحفظها لابد أن تفاض عليه من هذه البركات التي لاتحصل من مورد آخر، نعم مايحصّله حافظ الأحاديث عن دراية يفوق تماما بركات حافظ الحديث حفظ رواية ولكن هذا لايمنع التمسك بإطلاق الحديث ليشمل الحفظ عن دراية.
حكي عن أحمد بن محمد بن عيسى أنّه جاء إلى حسن بن علي الوشاء وطلب إليه أن يخرج إليه كتاباً لعلاء بن زرين وكتاباً لأبان بن عثمان الأحمر، فلمّا أخرجهما قال: أُحبّ أن أسمعهما، قال: ما أعجلك! اذهب فاكتبهما، فقال: رحمك اللّه ما عليك أذهبُ فأكتبها وأُسمع مَنْ بعدي، فقال له: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت أنّ الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه، فإنيّ أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد(1).
وما عن حمدويه، عن أُيوب بن نوح أنّه وقع عنده دفاتر فيه أحاديث ابن سنان، فقال: أن تكتبوا ذلك فإنّي كتبت عن محمد بن سنان، ولكن لا أروي منه شيئاً، فإنّه قال قبل موته: كلّ ما حدّثتكم فليس بسماع ولا برواية، وإنّما وجدته(2).
وعن الحكم بن مسكين عن رجل من قريش من أهل مكة، قال: قال سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمد، قال: فذهبت معه إليه
ص: 296
فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفيان: يا أبا عبد اللَّه حدّثنا بحديث خطبة رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجد الخيف، قال: دعني حتى أذهب في حاجتي فإنّي قد ركبت، فإذا جئت حدّثتك. فقال: أسألك بقرابتك من رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما حدّثتني، قال: فنزل، فقال له سفيان: مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته، فدعا به، ثم قال: اكتب...(1).
ص: 297
1- وجوب زيارته (عليه السلام) : تظافرت الأخبار عن أهل البيت (عليهم السلام) في الحثّ على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) حتى ذهب بعض إلى وجوبها ولو في العمر مرّة(1) امتثالاً لقول الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال لامرأة: تزورين قبر الحسين؟ قالت: نعم، قال: زوريه، فإنّ زيارة الحسين واجبة(2).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، فإنّ إتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة من اللَّه عزّ وجلّ(3).
أقول: ذهب بعض المتقدّمين بسبب هذه الروايات إلى وجوب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ، بينما حمل سائر الفقهاء مثل هذه الروايات على شدّة استحباب زيارته (عليه السلام) لذا حري بالمؤمنين أن لايتركوا زيارته ويواظبوا على
ص: 298
زيارته ولو بالعمر مرّة.
2- زيارته (عليه السلام) عهد في أعناق الناس: ورد في الخبر عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: إنّ لكلّ إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم(1).
أقول: من مقتضيات الوفاء أن يزور الموالي قبورهم بل يكثر زياراتها خاصة المولی أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) الذي ورد التأكيد علی زيارته.
3- زيارته (عليه السلام) مع الخوف: حثّ أهل البيت (عليهم السلام) إلى زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) حتى مع احتمال الخطر وإلى ذلك يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله: من أتى قبر الحسين (عليه السلام) في سفينة فتكفت(2) بهم سفينتهم، نادى مناد من السماء: طبتم وطابت لكم الجنّة(3).
أقول: كثير من الأحكام الشرعية يتبدّل الحكم فيها لدى الخوف بخلاف زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) فهي محبّذة على أيّ حال حتى مع الخوف ويشهد لذلك، الحديث المذكور وغيره، وقد عقد ابن قولويه في كتابه «كامل الزيارات» باباً تحت عنوان: (من زار الحسين (عليه السلام) وعليه خوف).
4- ثواب زائر الإمام الحسين (عليه السلام) : عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : يا حسين من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) إن كان ماشيا كتب اللّه له بكلّ خطوة حسنة ومحى عنه سيئة، حتى إذا صار في الحائر كتبه اللّه من المفلحين المنجحين، حتى إذا
ص: 299
قضى مناسكه كتبه اللّه من الفائزين، حتى إذا أراد الانصراف أتاه ملك، فقال: إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرؤك السلام ويقول لك: استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى(1).
أقول: من الأمور المحبّذة المستحبة بشدّة هي المشي إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) فإنّ المشي إلى قبره الشريف يحطّ الذنوب العظام ومانراه اليوم من المشي لزيارته (عليه السلام) منشأه حثّ أهل البيت (عليهم السلام) وتشويقهم للمشي إلى زيارته والتزام السلف الصالح منذ القدم حتى اليوم بالمشي رغم محاربة الحكومات الجائرة لذلك.
5- من أراد جوار النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : عن أبي خالد ذي الشامة، قال: حدّثني أبو أسامة، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: من أراد أن يكون في جوار نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجوار عليّ وفاطمة فلا يدع زيارة الحسين بن علي (عليهم السلام) (2).
أقول: من المسلّم أنّ جوار أهل البيت (عليهم السلام) يحتاج إلى حظّ عظيم وتوفيق خاص لا يناله إلا من كان له حظ عظيم، الأمر الذي يكشف عن عظم مقام زوّار الإمام الحسين (عليه السلام) وتوفيقهم الكبير بحيث إنّهم يجاورون أهل البيت (عليهم السلام) .
6- العباد في الحشر يتمنّون أن يكونوا من زائريه: عن عبد اللّه الطحّان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سمعته وهو يقول: ما من أحد يوم القيامة إلا وهو يتمنّى أنّه من زوّار الحسين، لما يرى ممّا يصنع بزوّار الحسين (عليه السلام) من
ص: 300
كرامتهم على اللّه تعالى(1).
أقول: من أسماء يوم القيامة (يوم الحسرة) حيث يتحسّر العباد على مافرّطوا في طاعة اللّه عزّ وجلّ ويتمنّون أن يرجعوا إلى الدنيا ويعملوا الصالحات بعد أن تكشف لهم الحقائق ويطّعلوا على ماينفعهم في عالم الآخرة يوم لاينفع مال ولابنون إلا من لقى اللّه بقلب سليم.
ومن أهم الأمور التي يتحسّر العباد على التفريط فيها ويتمنّون أنّهم واظبوا عليها في الدنيا هي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وذلك لعظم ما فيها من بركات ومقام عظيم.
7- أين زوّار الحسين (عليه السلام) ؟: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين زوّار الحسين بن علي؟ فيقوم عنق من الناس لا يحصيهم إلا اللّه تعالى، فيقول لهم: ما أردتم بزيارة قبر الحسين (عليه السلام) ؟ فيقولون: يا ربّ أتيناه حبّاً لرسول اللّه وحبّاً لعلي وفاطمة ورحمة له ممّا ارتكب منه، فيقال لهم: هذا محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين فالحقوا بهم، فأنتم معهم في درجتهم الحقوا بلواء رسول اللّه فينطلقون إلى لواء رسول اللّه، فيكونون في ظلّه واللواء في يد علي (عليه السلام) حتى يدخلون الجنة جميعا، فيكونون أمام اللواء، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه(2).
أقول: أن يكون الإنسان في درجة أهل البيت (عليهم السلام) أمر لايتسنّى لأيّ أحد حتى الأنبياء يتمنّون أن يكونوا في درجتهم، ممّا يكشف عن عظم ما يعطاه
ص: 301
زوّار المولى أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) حيث يكونوا في درجتهم الرفيعة.
8- العتق من النار والأمن من فزع اليوم الأكبر قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : من زار قبر الحسين (عليه السلام) لله وفي اللّه أعتقه اللّه من النار وآمنه يوم الفزع الأكبر، ولم يسأل اللّه تعالى حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا أعطاه(1).
أقول: العتق من النار والأمن من فزع اليوم الأكبر غاية الصدّيقين وجميع عباد اللّه الصالحين ولذا ورد في الأدعية التأكيد عليهما ومن ذلك ماورد في دعاء المجير حيث يكرّر في عباراته: أجرنا من النار يا مجير. وأيضاً في دعاء الجوشن الكبير: الغوث الغوث خلّصنا من النار يارب.
ومن أهم الأمور التي تؤمن الإنسان يوم القيامة هي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) .
9- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: إنّ زيارة الحسين (عليه السلام) أفضل ما يكون من الأعمال(2).
10- عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، فإنّ إتيانه يزيد في الرزق ويمدّ في العمر ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة من اللّه(3).
أقول: تأكيد الإمام (عليه السلام) على أمر الشيعة بزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يكشف عن عظيم ما فيها من بركات ومنها ما أشار إليه الإمام (عليه السلام) وهي:
1- زيادة الرزق.
ص: 302
2- المدّ في العمر.
3- دفع مدافع السوء.
11- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: من لم يزر قبر الحسين (عليه السلام) فقد حرم خيرا كثيراً ونقص من عمره سنة(1).
أقول: من آثار ترك زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) الوضعيّة هي نقاصان العمر وهذا مقابل الإكثار في زيارته فإنّه يوجب طول العمر.
وكل إنسان يرغب في طول العمر ويسعی جاهداً أن ينال ذلك، وعادة ما يطرق أبواب شتی ليحقّق ذلك دون أن يعلم الكثير منهم أن ذلك في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) .
12- عن عبد الملك الخثعمي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال لي: يا عبد الملك لا تدع زيارة الحسين بن علي (عليهما السلام) ومر أصحابك بذلك، يمدّ اللّه في عمرك ويزيد اللّه في رزقك، ويحييك اللّه سعيدا ولا تموت الا سعيداً ويكتبك سعيدا(2).
أقول: من الأمور المهمّة لعامة الناس هي تحصيل السعادة فالكثير من الناس يبحث عنها ويقضي عمره فلا يصل إليها والحال أنّ الإمام (عليه السلام) يضمن لزائر الإمام الحسين (عليه السلام) السعادة في مواطن مهمّة جدا وهي:
1- السعادة في الحياة.
2- السعادة عند الممات.
ص: 303
3- الكتابة عند اللّه عزّ وجل من السعداء يوم القيامة.
13- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: إنّ زائر الحسين جعل ذنوبه جسرا على باب داره ثم عبرها، كما يخلف أحدكم الجسر وراءه إذا عبر(1).
أقول: إنّ آثار زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) غير مقتصرة على رفع الدرجات وتحصيل المقامات الرفيعة بل هناك آثار أخرى مهمّة لاتقلّ مرتبة عن ذلك ومنها محو الذنوب التي تثقل ظهر الإنسان.
14- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: إنّ الرجل ليخرج إلى قبر الحسين (عليه السلام) ، فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرة من ذنوبه، ثم لم يزل يقدّس بكل خطوة حتى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه اللّه تعالى فقال: عبدي سلني أعطك، ادعني أجبك، اطلب منّي أعطك، سلني حاجةً أقضيها لك، قال: وقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : وحقّ على اللّه أن يعطي ما بذل(2).
أقول: كل خطوة في طريق زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) لها آثارها من غفران الذنوب والتقديس، فضلا عن الدعوة المضونة المذخورة للزائر إذا بلغ حرم المولی.
15- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثم لم يزر الحسين بن علي (عليهما السلام) لكان تاركا حقّاً من حقوق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأنّ حقّ الحسين (عليه السلام) فريضة من اللّه واجبة على كل مسلم(3).
أقول: من الصعب بمكان أن يلقى الإنسان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم القيامة -
ص: 304
ذلك اليوم الذي تذهل فيه المرضعة عمّا أرضعت ويفرّ المرء من بنيه وصاحبته وأخيه - وهو تارك لحقّ من حقوقه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكيف يرجو تارك حقّ من حقوق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شفاعته الكبرى يوم القيامة؟
16- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سمعت أبي يقول لرجل من مواليه وسأله عن الزيارة، فقال له: من تزور ومن تريد به؟ قال: اللّه تبارك وتعالى، فقال: من صلى خلفه صلاة واحدة يريد بها اللّه لقي اللّه يوم يلقاه وعليه من النور ما يغشي له كل شيء يراه، واللّه يكرم زوّاره ويمنع النار أن تنال منهم شيئا، وإنّ الزائر له لا يتناهى له دون الحوض، وأمير المؤمنين (عليه السلام) قائم على الحوض يصافحه ويرويه من الماء، وما يسبقه أحد إلى وروده الحوض حتى يروي، ثم ينصرف إلى منزله من الجنّة، ومعه ملك من قبل أمير المؤمنين يأمر الصراط أن يذلّ له، ويأمر النار أن لا يصيبه من لفحها شيء حتى يجوزها، ومعه رسوله الذي بعثه أمير المؤمنين (عليه السلام) (1).
أقول: من آثار زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) الشمول لكرم اللّه يوم القيامة وتذليل صعابها ومنها: النار، وعطش يوم القيامة، والصراط وغيرها.
17- عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين (عليه السلام) من الفضل لماتوا شوقا وتقطّعت أنفسهم عليه حسرات، قلت: وما فيه؟ قال: من أتاه تشوّقا كتب اللّه له ألف حجّة متقبّلة وألف عمرة مبرورة وأجر ألف شهيد من شهداء بدر وأجر الف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه اللّه، ولم يزل محفوظا سنّته
ص: 305
من كل آفة أهونها الشيطان، ووكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه.
فإن مات سنته حضرته ملائكة الرحمة يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له، ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار له، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويؤمنه اللّه من ضغطة القبر ومن منكر ونكير أن يروّعانه، ويفتح له باب إلى الجنّة، ويعطى كتابه بيمينه، ويعطى له يوم القيامة نورا يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي مناد: هذا من زوّار الحسين شوقا إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنّى يومئذ أنّه كان من زوّار الحسين (عليه السلام) (1).
أقول: هذه من الموارد التي يحقّ القول فيها: لقد جفّ القلم ونضب المداد وكلّ اللسان عن بيان مافي الخبر من معاني عظيمة لا يصل العقل إلى بعض حقائقها، فماعسانا أن نقول عن دلالة هذا الحديث وماعسانا أن نبيّن؟
18- عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : أربعة آلاف ملك عند قبر الحسين (عليه السلام) شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له منصور، فلا يزوره زائر إلا استقبلوه، ولا يودّعه مودّع إلا شيّعوه، ولا يمرض إلا عادوه، ولا يموت إلا صلّوا على جنازته، واستغفروا له بعد موته(2).
أقول: كم هو عظيم زائر الإمام الحسين (عليه السلام) ؟ تستقبله الملائكة وتودّعه وتشايعه وتعوده في مرضه وتحضر جنازته، أليس أن هذه الكرامة الحقيقة
ص: 306
والرفعة العظمی؟ نسأل اللّه أن لايحرمنا زيارته.
19- عن الإمام الصادق (عليهما السلام) : أنّ أيام زائري الحسين (عليه السلام) لا تحسب من أعمارهم ولا تعدّ من آجالهم(1).
أقول: ليس المراد أنّ أيام زائري الإمام الحسين (عليه السلام) لاتحسب من أعمارهم أي أنّهم لايجنون منها شيئاً، بل لعل المراد أنهم لا يساءلون عن أعمالهم مادموا في الزيارة، أو أنّ أيام الزيارة ليست من أيام عمر الدنيا بل هي من أيام عالم آخر.
20- عن عبد اللّه بن مسكان، قال: شهدت أبا عبد اللّه (عليه السلام) وقد أتاه قوم من أهل خراسان فسألوه عن إتيان قبر الحسين (عليه السلام) وما فيه من الفضل، قال: حدّثني أبي عن جدّي أنّه كان يقول: من زاره يريد به وجه اللّه أخرجه اللّه من ذنوبه كمولود ولدته أمّه، وشيّعته الملائكة في مسيره، فرفرفت على رأسه قد صفّوا بأجنحتهم عليه حتى يرجع إلى أهله، وسألت الملائكة المغفرة له من ربّه وغشيته الرحمة من أعنان السماء، ونادته الملائكة: طبت وطاب من زرت، وحفظ في أهله(2).
أقول: ليست آثار زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مقتصرة علی الزائر فقط بل تشمل أهله وذويه فيحفظون ببركة زيارته للإمام الحسين (عليه السلام) .
21- روی سعيد بن خيثم، عن أخيه معمّر، قال: سمعت زيد بن علي يقول: من زار قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) لا يريد به إلا اللّه تعالى غفر له جميع
ص: 307
ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، فاستكثروا من زيارته يغفر اللّه لكم ذنوبكم(1).
أقول: في الخبر دلالة واضحة على الإكثار من زيارة الإمام فحري بالمؤمنين أن يكثروا زيارته ففيها خير الدنيا والآخرة.
22- عن بشير الدهان قال: كنت أحجّ في كل سنّة فأبطأت سنة عن الحج، فلمّا كان من قابل حججت ودخلت علی أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، فقال لي: يا بشير ما أبطأك عن الحج في عامنا الماضي؟ قال: قلت: جعلت فداك ما كان لي علی الناس خفت ذهابه غير أنّي عرّفت عند قبر الحسين (عليه السلام) ، فقال لي: ما فاتك شيء ممّا كان فيه أهل الموقف، يا بشير من زار الحسين (عليه السلام) عارفاً بحقّه كان كمن زار اللّه في عرشه(2).
23- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: من أتى قبر الحسين (عليه السلام) كتبه اللّه في عليين(3).
أقول: حري بنا أن نعرف المراد بالعليين، وإليكم الحديث التالي يقول جابر الجعفي: كنت محمد بن علي (عليه السلام) ، فقال: يا جابر خلقنا نحن ومجينا من طينة واحدة بيضاء نقية من أعلی عليين، فخلقنا نحن من أعلاها وخلق محبونا من دونها فإذا كان يوم القيامة التفت العليا بالسفلی، وإذا كان يوم القيامة ضربنا بأيدينا إلی حجزة نبينا وضرب أشياعنا بأيديهم إلی حجزتنا، فأين تری يُصيّر اللّه نبيّه وذريته؟ وأين تری يُصيرّ ذريته محبيّها؟ فضرب
ص: 308
جابر يده علی يده، فقال: دخلناها وربّ الكعبة ثلاثاً(1).
24- عن الإمام الصادق (عليه السلام) : إن الحسين (عليه السلام) قتل مكروباً، وحقيق على اللّه أن لا يأتيه مكروب الإرده اللّه مسروراً(2).
25- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: زائر الحسين (عليه السلام) مشفع يوم القيامة لمائة رجل، كلهم قد وجبت لهم النار ممن كان في الدنيا من المسرفين(3).
26- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: من أتی قبر أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقد وصل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووصلنا وحرمت غيبته، وحرم لحمه علی النار، وأعطاه اللّه بكل درهم أنفقه عشرة ألف مدينة له في كتاب محفوظ، وكان اللّه له من وراء حوائجه، وحفظ في كل ما خلّف، ولم يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاه وأجابه فيه، إمّا أن يعجّله، وإمّا أن يؤخّوه له(4).
أقول: كم الآثار التي في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) تحيّر العقول، فماذا يعني حرمة غيبته، فمن الواضح أن غيبة المؤمن حرام؟ لعل المراد به أن زائر الإمام الحسين (عليه السلام) من آثار زيارته أن الآخرين لايغتابونه احبّهم وحسن انطباعهم عنه.
27- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: ان لله ملائكة موكلين بقبر الحسين (عليه السلام) فإذا هم الرجل بزيارته أعطاهم اللّه ذنوبه، فإذا خطا محوها، ثم إذا خطا ضاعفوا حسناته، فما تزال حسناته تضاعف حتى توجب له الجنة، ثم
ص: 309
اكتنفوه وقدّسوه وينادون ملائكة السماء أن قدّسوا زوّار حبيب حبيب اللّه، فإذا اغتسلوا ناداهم محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا وفد اللّه أبشروا بمرافقتي في الجنة، ثم ناداهم أمير المؤمنين (عليه السلام) : انا ضامن لقضاء حوائجكم ودفع البلاء عنكم في الدنيا والآخرة، ثم اكتنفوهم عن أيمانهم وعن شمائلهم حتى ينصرفوا إلى أهاليهم(1).
28- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: من أراد أن يكون في كرامة اللّه يوم القيامة وفي شفاعة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فليكن للحسين زائرا ينال من اللّه الفضل والكرامة وحسن الثواب، ولا يسأله عن ذنب عمله في حياة الدنيا، ولو كانت ذنوبه عدد رمل عالج وجبال تهامة وزبد البحر، ان الحسين (عليه السلام) قتل مظلوما مضطهدا نفسه عطشانا هو وأهل بيته وأصحابه(2).
29- عن زيد الشحام، قال: من أراد اللّه به الخير قذف في قلبه حبّ الحسين (عليه السلام) وحبّ زيارته، ومن أراد اللّه به السوء قذف في قلبه بغض الحسين وبغض زيارته(3).
أقول: من علامات من أراد اللّه به الخير أن تراه يحب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) والتعلق بها بل والإكثار منها، ومن علائم الشقاء والسوء أن يبغض الإنسان الإمام الحسين (عليه السلام) وينقض زيارته وذلك الخسران المبين.
30- عن هارون بن خارجة، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: وكّل اللّه بقبر الحسين (عليه السلام) أربعة آلاف ملك شعث غُبر يبكونه إلى يوم القيامة، فمن
ص: 310
زاره عارفا بحقّه شيّعوه حتى يبلغوه مأمنه، وإن مرض عادوه غدوة وعشية، وإن مات شهدوا جنازته واستغفروا له إلى يوم القيامة(1).
أقول: يبدو من الحديث أنّ هؤلاء الملائكة يرعون زائر الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة زيارته وفي مختلف أحواله سواء زار وعاد سالماً إلی مأمنه، أو زار وتعرّض للمرض أو مات، فهم يرعونه كرامة له.
31- عن عبد اللّه بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ لزوّار الحسين بن علي (عليهما السلام) يوم القيامة فضلا على الناس، قلت: وما فضلهم؟ قال: يدخلون الجنة قبل الناس بأربعين عاما وسائر الناس في الحساب والموقف(2).
أقول: أن يتجاوز الإنسان عقبات يوم القيامة ويعبر مواقفها المهيبة بعد من الأمور المهمة جداً، وكما في الحديث المذكورة أن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ليس فقط تخلّص الإنسان من هذه الأهوال بل تورده قبل العباد إلی الجنة.
32- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثم لم يزر الحسين بن علي (عليهما السلام) لكان تاركا حقّاً من حقوق اللّه وحقوق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لأنّ حقّ الحسين (عليه السلام) فريضة من اللّه واجبة على كل مسلم(3).
أقول: ليس من السهل أن يترك الإنسان حقّ من حقوق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهو له علی الكون كلّه حق الوجود وحق المنعم نسأل اللّه أن يوفقنا لزيارة
ص: 311
الإمام الحسين (عليه السلام) ونؤدي حقوق أهل البيت (عليهم السلام) علينا.
33- عن أم سعيد الأحمسية، قالت: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : يا أمّ سعيد تزورين قبر الحسين (عليه السلام) ؟ قالت: قلت: نعم، قال: يا أمّ سعيد زوريه فإنّ زيارة الحسين واجبة على الرجال والنساء(1).
أقول: هذه من الروايات التي استدل بها البعض علی وجوب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) علی الجميع.
34- عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: ليس نبي في السماوات والأرض إلا ويسألون اللّه تعالى ان يأذن لهم في زيارة الحسين (عليه السلام) ، ففوج ينزل وفوج يصعد(2).
أقول: يهظر من الرواية أن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ليست بإختيار الإنسان بل لا بد من اذن الهي ليوفّق الإنسان لها بما في ذلك الأنبياء.
35- عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول: وكّل اللّه بقبر الحسين بن علي (عليهما السلام) سبعين ألف ملك يعبدون اللّه عنده، الصلاة الواحدة من صلاة أحدهم تعدل ألف صلاة من صلاة الآدميين، يكون ثواب صلاتهم لزوّار قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) ، وعلى قاتله لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين أبد الأبدين(3).
أقول: هيننا لزوار الإمام الحسين (عليه السلام) علی هذه المقامات الرفيعة، فمن جانب - كما ذكرنا في بعض الأخبار - تستغفر له الملائكة، وتشايعه في
ص: 312
سفره، وتعوده في مرضه إذا مرض، وما جانب أخر تهدي ثواب أعمالها له كرامة له لزيارته المولی أبي عبد اللّه (عليه السلام) .
36- عن ابن بكير، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قلت له: إنّ قلبي ينازعني إلى زيارة قبر أبيك، وإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى أرجع خوفا من السلطان والسعاة وأصحاب المصالح، فقال: يا ابن بكير أما تحبّ أن يراك اللّه فينا خائفا؟ أما تعلم أنّه من خاف لخوفنا أظلّه اللّه في ظلّ عرشه؟ وكان يحدّثه الحسين (عليه السلام) تحت العرش، وآمنه اللّه من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع فإن فزع وقرته الملائكة، وسكنت قلبه بالبشارة(1).
أقول: لا ينبغي للمؤمنين أن يعيقهم الخوف عن زيارة المولی أبي عبد اللّه (عليه السلام) بل إن من يزوره خائفاً يتماز علی من يزوره آمنأ، إذ إن من يزوره خائفاً ينال ثواب زيارة الخائف لأجل أهل البيت (عليهم السلام) وهذا مقام عظيم أشارت الرواية إلی جانب منه وهو أن يظلّه اللّه تعالی تحت عرشه.
37- عن أبي عبد اللّه، قال: إنّ فاطمة بنت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تحضر لزوّار قبر ابنها الحسين (عليه السلام) فتستغفر لهم ذنوبهم(2).
أقول: أن تستغفر الصديقة الزهراء (عليها السلام) التي يرضی اللّه لرضاها ويغضب لغضبها وسام عظيم لا يناله إلا ذو حظ عظيم، وأن استغفارها (عليه السلام) للزائر موجب لعلو المقام وقيل المراتب الرفيعة.
38- عن ابن سنان، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : إنّ أباك كان يقول في
ص: 313
الحج يُحسب له بكل درهم أنفقه ألف درهم، فما لمن ينفق في المسير إلى أبيك الحسين (عليه السلام) ؟ قال: يا ابن سنان يحسب له بالدرهم ألف وألف حتى عدّ عشرة، ويرفع له من الدرجات مثلها ورضا اللّه خير له ودعاء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودعاء أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) خير له(1).
أقول: إن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) تجارة مربحة مع اللّه عزّ وجل، وليس في الوجود تجارة تعود علی الإنسان بهذا النفع العظيم ولكن للأسف كثير من الناس غافلين عن هكذا تجارة.
39- عن ذريح المحاربي، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ، ما القى من قومي ومن بنيّ إذا أنا أخبرتهم بما في إتيان قبر الحسين (عليه السلام) من الخير إنّهم يكذّبوني ويقولون: إنّك تكذب على جعفر بن محمد، قال: يا ذريح دع الناس يذهبون حيث شاءوا، واللّه إنّ اللّه ليباهي بزائر الحسين والوافد يفده الملائكة المقرّبون وحملة عرشه، حتى أنّه ليقول لهم: أما ترون زوّار قبر الحسين أتوه شوقا إليه وإلى فاطمة بنت رسول اللّه، أما وعزّتي وجلالي وعظمتي لأوجبنّ لهم كرامتي ولأدخلنّهم جنّتي التي أعددتها لأوليائي ولأنبيائي ورسلي.
يا ملائكتي هؤلاء زوّار الحسين حبيب محمد رسولي ومحمد حبيبي، ومن أحبّني أحبّ حبيبي، ومن أحبّ حبيبي أحبّ من يحبّه، ومن أبغض حبيبي أبغضني، ومن أبغضني كان حقّا عليّ أن أعذّبه بأشدّ عذابي، واُحرقه بحرّ ناري، وأجعل جهنم مسكنه ومأواه، وأعذّبه عذابا لا أعذبه أحدا من
ص: 314
العالمين(1).
أقول: ينبغي للإنسان أن لا يتأثّر بتثبيط وتعير الآخرين، فيوهن أو يضعف عن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) بل عليه أن يضع المقامات وآثار الزيارة نصب عينيه ويسعی أن تكون زيارته للإمام الحسين (عليه السلام) شوقاً له ولإهل البيت (عليهم السلام) .
40- روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) أنه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة الخمسين، وزيارة الأربعين والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم(2).
أقول: إن ما نراه اليوم في زيارة الأربعين من إقبال الملايين علی قبر المولی أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) وتفانيهم من أجل إحياء شعيرة الزيارة هي استجابة واضحة لتلك الدعوة المظلومة التي اطلقها الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء حيث قال: هل من ناصر فينصرنا، ولسان حال الجميع في زيارتهم: لبيك يا داعي اللّه ان كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي، وبصري.
لما طلب الإمام الحسين (عليه السلام) لرضيعه الصغير شربة من الماء، فقال بعض جيش عمر بن سعد: لاتبقوا لأهل هذا البيت من باقية، وبالفعل فقد كان القوم يريدون ذلك ولكن ومكروا ومكر اللّه ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره.
فلم يكتف القوم بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) بل أرادوا محو كل ماينتسب
ص: 315
إليه خاصة قبره الشريف ولذا كانوا يحاربون كل من يقصده حتى بني أسد لما أرادوا دفن الأجساد كانوا متخوّفين من السلطات، ولما لمحوا سوادا من بعيد تنحّوا جانباً وإذا به الإمام زين العابدين (عليه السلام) فاطمأنّوا أنّه ليس من السلطات وأعانوه على دفن الأجساد.
وكذا الحال بالنسبة للصحابي الجليل جابر بن عبداللّه الأنصاري لما أراد زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في الأربعين بمعيّة الشيخ الجليل عطية العوفي، حيث زاراه متخفّيان وبخوف شديد، وحينما لمحا سواد من بعيد خافا وتنحّيا عن القبر.
وعلى مرّ التاريخ كانت زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) لاتخلو من الأخطار والمضايقات والخوف الشديد وما ذلك إلا لمحاربة السلطات الظالمة وحكام الجور لها.
يقول يحيى بن المغيرة الرازيّ: كنت عند جَرير ابن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر النّاس؟ فقال: تركت الرّشيد وقد كَرَبَ قبر الحسين (عليه السلام) وأمر أن تُقطَع السّدرة التي فيه، فَقُطِعت، قال: فرفع جَرير يديه وقال: اللّه أكبر جاءنا فيه حديث من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنّه قال: لعن اللّه قاطعَ السّدرة ثلاثاً.
فلم نقف على معناه حتّى الآن ؛ لأنّ القصد بقطعه - تغيير مصرع الحسين (عليه السلام) - حتى لا يقف النّاس على قبره(1).
وذكر الطبري في أحداث سنة 236ه- فقال: وفيها أمر المتوكل بهدم قبر
ص: 316
الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه، فذكر أنّ عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق، فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه(1).
ونقل علي بن عبد المنعم بن هارون الخديجي الكبير من شاطي النيل، فقال: حدّثني جدّي القاسم ابن أحمد بن معمّر الأسدي الكوفي، وكان له علم بالسيرة وأيام الناس، قال: بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أنّ أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائدا من قوّاده، وضمّ إليه كتفا من الجند كثيرا ليشعب قبر الحسين (عليه السلام) ، ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره.
فخرج القائد إلى الطف، وعمل بما أمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه وقالوا: لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة مظهرا أنّ مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى المصر.
فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكل أيضا مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) ، وأنّه قد كثر جمعهم كذلك، وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائدا في جمع كثير من الجند، وأمر مناديا ينادي ببراءة الذمّة ممّن زار قبر الحسين، ونبش القبر
ص: 317
وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة، وعمل على تتبّع آل أبي طالب (عليهم السلام) والشيعة (رضي اللّه عنهم)، فقتل ولم يتم له ما قدر(1).
وعن سليمان بن غالب الأزدي قال: حدّثني عبد اللّه بن رابية الطوري قال: حججت سنة سبع وأربعين ومائتين فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق، فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على حال خيفة من السلطان، وزرته ثم توجهت إلى زيارة الحسين (عليه السلام) فإذا هو قد حرث أرضه، ومخر فيها الماء، وأرسلت الثيران العوامل في الأرض، فبعيني وبصري كنت أري الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حازت مكان القبر حادت عنه يمينا وشمالا، فتضرب بالعصا الضرب الشديد، فلا ينفع ذلك فيها ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب، فما أمكنني الزيارة فتوجّهت إلى بغداد وأنا أقول:
تاللّه إن كانت أميّة قد أتت***قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها***هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا***في قتله فتتبعوه رميما
فلما قدمت بغداد سمعت العائهة(2) فقلت: ما الخبر؟
قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل، فعجبت لذلك وقلت: إلهي ليلة بليلة(3).
ص: 318
وعن عمر بن فرج قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين (عليه السلام) فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فمرّ بها على القبور كلّها، فلمّا بلغت قبر الحسين (عليه السلام) لم تمرّ عليه، قال عمّي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسّرت العصا في يدي، فواللّه ما جازت على قبره ولا تخطّته.
قال لنا محمد بن جعفر: كان عمّي عمر بن فرج كثير الانحراف عن آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأنا أبرء إلى اللّه منه، وكان جدّي أخوه محمد بن فرج شديد المودّة لهم رحمه اللّه ورضي عنه فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته(1).
ونقل ابن محبوب، فقال: خرجت من الكوفة قاصداً زيارة الحسين (عليه السلام) في زمان ولاية آل مروان - لعنهم اللّه - وكانوا قد أقاموا أناساً من بني أميّة على جميع الطرق، يقتلون من ظفروا به من زوّار الحسين (عليه السلام) فأخفيت نفسي، وسرت حتى انتهيت إلى قرية قريبة من مشهد الحسين (عليه السلام) ، فأخفيت نفسي إلى الليل ثم دخلت الحائر الشريف في الليل، فلما أردت الدخول للزيارة إذ خرج إلي رجل، وقال لي: يا هذا! ارجع من حيث جئت، فقد قبل اللّه زيارتك، عافاك اللّه فإنّك لا تقدر على الزيارة في هذه الساعة، فرجعت إلى مكاني وصبرت حتى مضى أكثر من نصف الليل، ثم أقبلت للزيارة، فخرج إلي ذلك الرجل أيضاً، وقال لي: يا هذا!
ألم أقل لك إنّك لا تقدر على زيارة الحسين (عليه السلام) في هذه الليلة؟
فقلت: ولم تمنعني من ذلك، وأنا قد أقبلت من الكوفة على خوف ووجل من بني أمية أن يقتلوني؟
ص: 319
فقال: يا بن محبوب إعلم أنّ إبراهيم خليل الرحمن، وموسى كليم اللّه وعيسى روح اللّه، ومحمد حبيب اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استأذنوا اللّه عزّ وجلّ في هذه الليلة، فأذن لهم بزيارته، فهم عند رأسه من أوّله إلى آخره في جمع من الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين، لا يحصي عددهم إلا اللّه تعالى، وهم يسبّحون اللّه ويقدّسونه، ولا يفترون إلى الصباح، فإذا أصبحت فأقبل إلى زيارته، إن شاء اللّه...(1).
وعن محمد بن الحسين الأشناني، قال: بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطّارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمّه ونتحرّى جهته حتى أتيناه، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأُحرق، وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قطّ كشيء من الطيب، فقلت للعطّار الذي كان معي: أيّ رائحة هذه؟
فقال: لا واللّه ما شممت مثلها كشيء من العطر، فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع، فلما قُتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه(2).
ص: 320
ص: 321
ص: 322
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَٰكَ ٱلْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلْأَبْتَرُ}(1).
من المشهور في التفاسير أنّ هذه السورة المباركة نزلت في مكة المكرّمة، وقد فسّر المفسّرون الكوثر بعدّة تفاسير منها أنّه نهر في الجنة أشدّ بياضاً من الثلج، وقيل: هي الشفاعة، وقيل:غيرها من المعاني.
ولكن كثير من المفسّرين ذهب إلى أنّ هناك جامعاً لكل المعاني المذكورة وهو الخير الكثير، ومن أبرز مصاديق ذلك الخير هي الذريّة الكثيرة المباركة.
فقد روى المؤرّخون أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما مات أحد أولاده شمت به العاص بن وائل، وقال: إنّ محمداً أبتر، فإن مات مات ذكره، فأنزل اللّه تعالى هذه السورة على نبيّه تسلية له(2).
ص: 323
وفي تفسير الرازي قال: والقول الثالث: الكوثر أولاده، قالوا: لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتل من أهل البيت ثم العالم ممتليء منهم، ولم يبق من بني أميّة في الدنيا أحد يعبأ به،ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) والنفس الزكيّة وأمثالهم(1).
شاءت إرادة الرب تعالى أن يموت أولاد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جميعاً ولايبقى له سوى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأن تنحصر ذرية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من صلب أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهذه شرافة وخصوصية انحصرت بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دون سائر الأنبياء (عليهم السلام) ، وكرامة للصديقة الزهراء (عليه السلام) والمولى أميرالمؤمنين (عليه السلام) .
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ اللّه جَعل ذُرِّيَة كلِّ نبيٍّ مِن صُلْبِهِ، وإنّ اللّه عزّ وعلا جعل ذُرِّيّة محمّد مِن صُلبِ عليّ بن أبي طالب(2).
وكان أهل البيت (عليهم السلام) يفتخرون بهذا الوسام على سائر الناس ويعتزّون به والشواهد على ذلك كثيرة منها ما جرى بين الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وهارون العباسي حيث قال هارون للإمام (عليه السلام) : لم جوّزتم للعامّة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) و يقولون لكم: يا بني رسول اللّه، وأنتم بنو علي وإنّما ينسب المرء إلى أبيه وفاطمة إنّما هي وعاء، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جدّكم
ص: 324
من قبل أمّكم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين لو أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟
فقال: سبحان اللّه ولم لا أجيبه؟! بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك، فقلت: لكنّه (عليه السلام) لا يخطب إليّ ولا أزوّجه.
فقال: ولم؟
فقلت: لأنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولدني ولم يلدك. فقال: أحسنت يا موسى.
ثم قال: كيف قلتم إنّا ذريّة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يعقّب، وإنّما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد الابنة، ولا يكون لها عقب؟ فقلت: أسألك بحقّ القرابة والقبر ومن فيه إلا ما أعفيتني عن هذه المسألة، فقال:لا أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم، وإمام زمانهم، كذا أُنهي إليّ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب اللّه تعالى، فأنتم تدّعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو، إلا وتأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ}(1) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
فقلت: تأذن لي في الجواب؟
قال: هات. فقلت: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُۥدَ وَسُلَيْمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ}(2) من أبو
ص: 325
عيسى يا أمير المؤمنين؟
فقال: ليس لعيسى أب.
فقلت: إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام) ، وكذلك ألحقنا بذراري النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قبل أُمّنا فاطمة (عليها السلام) (1).
كثرت وصايا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإحسان إلى ذريته والبرّ إليهم ومن ذلك: قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :
إني شافع يوم القيامة لأربعة أصناف ولو جاؤوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريتّي، ورجل بذل ماله لذريتّي عند المضيق، ورجل أحبّ ذريتّي باللسان وبالقلب، ورجل سعى في حوائج ذريتّي إذا طردوا أو شرّدوا(2).
وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريتّي من بعدي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عند اضطرارهم إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :حقّت شفاعتي لمن أعان ذريتّي بيده ولسانه وماله(4).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أكرموا أولادي وحسنوا آدابي(5).
ولكن وللأسف لم يرع الناس وصايا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذريته بل
ص: 326
خالفوا وصيته وعملوا بخلاف ما دعاهم إليه من البر إليهم والإحسان لهم، فضيقوا عليهم البلاد وشرّدوهم في الفلوات وتتبعوهم في الوديان والأمصار والجبال بحيث لايكاد اليوم الإنسان يجد صقعاً من الأصقاع إلا وفيه أثر ذرية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
يقول عبيد اللّه البزاز النيسابوري: كان بيني وبين حميد بن قحطبه الطائي الطوسي معامله فرحلت إليه في بعض الأيام فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السفر لم أغيّرها وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلّمت عليه وجلست فأتي بطشت وإبريق فغسل يديه ثم أمرني فغسلت يدي وأحضرت المائدة وذهب عنّى إنّي صائم وأنّي في شهر رمضان ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: ما لك لا تأكل؟ فقلت: أيها الأمير هذا شهر رمضان ولست بمريض ولا بي علّه توجب الافطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك أو علّة توجب الافطار، فقال: ما بي علّة توجب الافطار وأنّي لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟
فقال: أنفذ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلما دخلت عليه رأيته بين يديه شمعه تتقد وسيفاً أخضر مسلولاً وبين يديه خادم واقف، فلما قمت بين يديه رفع رأسه إلي، فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال، فأطرق ثم اذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إلي وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنا لله أخاف أن يكون قد عزم على قتلي وأنه لما رآني استحيا منّي، قعدت إلى بين يديه فرفع رأسه إلي، فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟
ص: 327
فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد فتبسّم ضاحكاً ثم أذن لي في الانصراف، فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد إليّ الرسول، فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله فرفع رأسه إلي وقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟
فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين فضحك ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم.
قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ففتحه فإذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبّان مقيّدون، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء وكانوا كلّهم علوية من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) ، فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه حتى أتيت على آخرهم ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلوية من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) مقيّدون، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر حتى أتيت إلى آخرهم، ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) مقيّدون عليهم الشعور والذوائب، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً، فجعل يخرج إلي واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر حتى أتيت على تسعه عشر نفساً منهم وبقي شيخاً منهم عليه شعر، فقال لي: تبّاً لك يا ميشوم! أيّ عذر لك يوم القيامة إذا قدمت علی جدّنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً قد
ص: 328
ولدهم علي وفاطمة (عليهما السلام) ؟!
فارتعشت يدي وارتعدت فرايصي فنظر إلى الخادم مغضباً وزبرني فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته ورمى به في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فما ينفعني صومي وصلاتي؟! وأنا لا أشكّ أنّي مخلّد في النار(1).
من اللازم بمكان أن يكون لنا دور في رفع الظلامة عن ذرية الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذلك من خلال عدّة أمور:
الأول: تدوين ماجرى عليهم عبر التأريخ وتتبّع كل شاردة وواردة نالتهم من غيرهم.
فقد ورد عن أحمد بن عيسى بن زيد قوله: لما عزم هارون العباسي على القبض علينا أنا والقاسم بن إبراهيم بن عبداللّه بن الحسن، وعبداللّه بن موسى بن عبداللّه بن الحسن قررنا الاختفاء بين المدن، فاختفى عبداللّه في الشام، والقاسم في اليمن، وأنا في الري.
ولما هلك هارون خففنا من تسترنا وأخذنا نظهر في المدن ولكن بتحذّر، إلى أن حان وقت الحج فاجتمعنا في مكة، وجعل كل منا يحكي للآخرين ماذا جرى عليه إبان اختفائه، فقال القاسم: أشدّ ماجرى عليّ هو أنني لما خرجت من مكة باتجاه اليمن مع زوجتي وكانت ابنة عمّي وكانت حاملاً فبقينا في حرّ الصحراء بلا ماء.
ص: 329
وبينما نحن على ذلك الحال وإذا بزوجتي يأخذها الطلق، فحفرت لها حفيرة كي تضع المولود فيها وجعلت أجوب الصحراء علّني أجد جرعة من الماء، وكلما فتّشت عن الماء لم أجد شيئاً فرجعت واليأس مخيّم عليّ فوجدت زوجتي قد ولدت ولداً ولكن غلبها العطش بحيث لم تعد تبصر ماحولها.
فعاودت البحث في الصحراء عن الماء من جديد ولكنّني أيضاً لم أعثر على شيء فرجعت إلى زوجتي وولدي فوجدت زوجتي قد فارقت الدنيا من شدّة العطش ولكن الولد باق على قيد الحياة.
فبقيت متحيّراً ماذا أصنع بهذا الطفل وسط الصحراء بلا أمّ ولا ماء أوحليب؟ هذا وقد أخذ العطش منّي مأخذاً عظيماً، فصلّيت ركعتين لله عزّ وجلّ ودعوته أن يعينني في أمر الطفل، وما أن فرغت من الصلاة وإذا بي أجد الطفل قد التحق بأمّه.
ثم نقل عبداللّه بن موسى قائلاً: أمّا أنا فقد ارتديت لباس المزارعين وخرجت من قرى الشام إلى مواضع العسكر، فرآني أحدهم وسخر بي ثم حمّلني حملاً ثقيلاً، وعندما كنت أتعب وأجلس على الأرض للاستراحة كان يضربني بالسياط بشدّة ويقول: لعنك اللّه ولعن من تنتسب إليهم.
ثم تكلّم أحمد بن عيسى، فقال: أصعب شيء مرّ علي هو: أنّني سكنت مع ولدي محمد في إحدى القرى في أطراف الريّ اسمها ورزنين، وقد تزوجت بامرأة من قبيلة شريرة، وكان الناس يعرفوني فيها بكنيتي وهي: أبو الجصّاص، وكنت يومياً أجالس بعض الشيعة حتى المساء ثم أرجع إلى الجدار وكانت زوجتي تتصور أنّني أغدو إلى العمل علماً أنّ اللّه عز ّ وجلّ رزقني من تلك المرأة ابنة، وكذلك ولدي محمد فقد تزوّج هو أيضاً بامرأة
ص: 330
من بني عبد قيس وهو أيضاً أخفى اسمه ونسبه.
ولما بلغت ابنتي عشرة سنين خطبها رجل من أعيان القرية وكان أخوال البنت يصرّون علي كي أقبل بتزويجها ولم أكن قادراً على إظهار نسبنا فبقيت متحيّراً مدّة، وفي أحدى الليالي سألت اللّه عزّ وجلّ أن يختارها إليها أفضل من أن تتزوج برجل يبغض أهل البيت (عليهم السلام) .
وفي الصباح مرضت بنتي ثم فارقت الدنيا، فخرجت من المنزل لأبشّر ولدي محمد بأنّني استرحت من مصاهرة ذلك الرجل الشرير وإذا بي ألقاه في الطريق وقال لي: رزقني اللّه ولداً واسميته علياً.
يقول أحمد بن عيسى: الآن ولدي محمد في قرية ورزنين ولاعلم لي به(1).
نعم يجب أن ندّون للأجيال ما جری علی ذراري الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مآي يثيب لها الرأی يعرف العالم مظلوميتهم ومدی بشاعة ما جری عليهم من ويلات وظلامات لم تجر علی غيرهم.
الثاني: تعريف العالم بذراري النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وطرح الجانب المشرق من سيرتهم وذلك من خلال تسليط الأضواء على سيرة النخبة منهم أمثال العلماء والصلحاء والأولياء.
الثالث: فضح أعدائهم وظالميهم ممّن غصبوا حقوقهم وصبّوا عليهم نيران أحقادهم الدفينة وتعريف العالم بفضائحهم التي سوّدوا بها صفحات التاريخ.
ص: 331
ولانبالغ إذا ماقلنا إنّ العالم اليوم لم يدرك حقيقة مافعله أعداء أهل البيت (عليهم السلام) بذراري النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبر التاريخ وحسبكم من ذلك فاجعة كربلاء وماجرى فيها من ويلات تذهل العقول وتمضّ القلوب، حيث جزّروهم تجزيراً وإلى ذلك يشير السيد الرضي في أبياته قائلاً:
كربلا لا زلت كربا وبلا***ما لقي عندك آل المصطفى
كم على تربك لما صرعوا***من دم سال ومن دمع جرى
وضيوف لفلاة قفرة***نزلوا فيها على غير قرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا***بحدا السيف على ورد الردى
تكسف الشمس شموس منهم***لا تدانيها علوا وضيا
وتنوش الوحش من أجسادهم***أرجل السبق وأيمان الندا
ووجوها كالمصابيح فمن***قمر غاب ومن نجم هوى
غيرتهن الليالي وغدا***جائر الحكم عليهن البلى
يا رسول اللّه لو عاينتهم***وهم ما بين قتل وسبا
من رميض يمنع الظل ومن***عاطش يسقى أنابيب القنا
ومسوق عائر يسعى به***خلف محمول على غير وطا
جزروا جزر الأضاحي نسله***ثم ساقوا أهله سوق الإما
قتلوه بعد علم منهم***انه خامس أصحاب الكسا
ميّت تبكي له فاطمة***وأبوها وعلي ذو العُلا
ص: 332
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
عن معاوية بن وهب عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: من أُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً: من أُعطي الدعاء أًعطي الإجابة، ومن أًعطي الشكر أُعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية، ثم قال: أتلوت كتاب اللّه عزّ وجلّ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥ}(1) وقال: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(2) وقال: {ٱدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(3)(4).
في خضم مشاكل الحياة وابتلائاتها المتعدّدة يجد الإنسان نفسه أمام أمرين لاثالث لهما: فإمّا أن يلجأ إلى اللّه تعالى في حل مشاكله ويستمدّ منه العون في صلاح أموره، أو يخلد إلى الشيطان ويتبع هوى نفسه ويخسر بذلك دنياه فضلاً عن آخرته.
ص: 333
بالطبع لاتخلو الحياة من الابتلاءات والمحن والفتن، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(1).
وقال عزّ من قائل: {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(2).
ولايخفى أنّ امتحان اللّه العباد له حِكَم كثيرة منها ليميز اللّه الطيّب من الخبيث، قال تعالى: {مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ}(3).
بالطبع موفّقية الإنسان في امتحانات الدنيا وعدم سقوطه في مهاوي الدنيا يحتاج إلى توفيق من اللّه، وتوكل من العبد في أموره.
ومن هنا أكد في الإسلام على التوكل بشكل كبير، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥ}(4).
وقال تعالی: {وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(5).
وقال: {وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ}(6).
وقال: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ}(7).
ص: 334
وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لو أن رجلاً توكل على اللّه بصدق النيّة لاحتاجت إليه الأُمراء فمن دونهم! فكيف يحتاج هو ومولاه الغني الحميد؟(2)
بل إنّ التوكل من أركان الإيمان وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: الإيمان له أركان أربعة:
التوكل على اللّه، والتفويض إلى اللّه، والتسليم لأمر اللّه، والرضا بقضاء اللّه(3).
فسّر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التوكل في حديث له سأل فيه جبرئيل عن التوكل، فقال: وما التوكل على اللّه عزّ وجل؟ فقال: العلم بأنّ المخلوق لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى اللّه ولم يرج ولم يخف سوى اللّه ولم يطمع في أحد سوى اللّه فهذا هو التوكل(4).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل عن حدّ التوكل، قال: أن لاتخاف مع اللّه شيئاً(5).
ص: 335
هناك مفهوم خاطيء للتوكل نهى عنه أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم وحذّروا منه، وهو أن يترك الإنسان الأخذ بالأسباب والمسبّبات بذريعة أن ذلك من التوكل، ففي أحد الأيام مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على قوم، فرآهم أصحّاء جالسين في زاوية المسجد، فقال (عليه السلام) : من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال (عليه السلام) : لا بل أنتم المتأكلة، فإن كنتم متوكلين فما بلغ بكم توكلكم؟ قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، قال (عليه السلام) : هكذا تفعل الكلاب عندنا. قالوا: فما نفعل؟ قال: كما نفعل. قالوا: كيف تفعل؟ قال (عليه السلام) : إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا(1).
وذات يوم رأی رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوماً لا يزرعون، قال: ما أنتم؟
قالوا: نحن المتوكلون، قال: لا بل أنتم المتّكلون(2).
وعن علي بن عبد العزيز، قال: قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام) : ما فعل عمر بن مسلم؟ قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة، فقال: ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له، إنّ قوماً من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما نزلت: {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(3) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأرسل إليهم، فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: يا رسول
ص: 336
اللّه تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب(1).
علاوة على ذلك حذّر في الإسلام من التوكل على غير اللّه تعالى، وتظافرت الأدلة علی أنّ من يتكل على الآخرين يكله اللّه تعالى إليهم، ففي الحديث عن الإمام الجواد (عليه السلام) : من انقطع إلى غير اللّه وكله اللّه إليه(2).
وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يقول اللّه عزّوجلّ: مامن مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه، فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات والأرض برزقه، فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وإن استغفرني غفرت له(3).
هناك معطيات مهمّة تنعكس على حياة المتوكلين على اللّه تعالى أهمها:
1- الاتكال قوّة: فمن يتكل على اللّه عزّ وجلّ يشعر بقوة عظيمة لأنه يستند إلى القوة المطلقة التي ليس فوقها قدرة أخرى، وإلى ذلك يشير الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله: من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه(4).
ص: 337
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : من توكل على اللّه لايغلب، ومن اعتصم باللّه لايهزم(1).
2- تذليل الصعاب: وهي فائدة كبيرة يطلبها الناس في غير التوكل على اللّه عزّ وجلّ ولايجدونها، بخلاف المتوكلين على اللّه حيث تذلّل لهم الصعاب وتيّسر لهم الأمور، قال (عليه السلام) : من توكل على اللّه ذلّت له الصعاب، وتسهلّت عليه الأسباب(2).
3- التخلّص من عناء الحرص: كثير من الناس يصابون بالحرص الشديد على أمور الدنيا ويبقون حائرين كيف يتخلّصون من ذلك الداء العظيم دون أن يعلموا أنّ التوكل على اللّه تعالى وإيكال الأمور إليه كفيلة بطرد هذا الداء الخطير من حياتهم.
أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: كيف يتخلّص من عناءالحرص من لم يصدق توكله؟(3)
4- كفاية المؤونة: تعهّد اللّه عزّ وجلّ أن يكفي من يتوكل عليه ويصونه من الحاجة إلى الآخرين، بالطبع ذلك مشروط بالثقة باللّه تعالى، ففي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : يا أيها الناس توكلوا على اللّه وثقوا به، فإنّه يكفي ممّن سواه(4).
ص: 338
التوكل على اللّه تعالى مرغوب في كل الحالات، ولكن هناك بعض المواطن يحتاج فيها الإنسان إلى التوكل على اللّه أكثر من غيرها، من أهم تلك المواطن هي:
الأول: التوكل عند البلاء: لاتخلو حياة الإنسان من الابتلاءات العسيرة التي تلمّ به فتكدّر عليه صفو العيش وحلو الحياة، في مثل هكذا مواطن يحتاج المرء إلى معين يسنده ويشدّ من أزره، ولايوجد خير من اللّه تعالى يتخذه العبد كسند له، ففي الدعاء نقول: يا عِمادَ مَنْ لاعِمادَ لَهُ، يا سَنَدَ مَنْ لاسَنَدَ لَهُ، يا ذُخْرَ مَنْ لا ذُخْرَ لَهُ، يا حِرْزَ مَنْ لا حِرْزَ لَهُ، يا كَهْفَ مَنْ لا كَهْفَ لَهُ، يا كَنْزَ مَنْ لا كَنْزَ لَهُ، يا رُكْنَ مَنْ لا رُكْنَ لَهُ يا غِياثَ مَنْ لاغِياثَ لَهُ، يا جارَ مَنْ لا جارَ لَهُ يا جارِيَ اللّصِيقَ، يا رُكْنِيَ الوَثِيقَ، يا إِلهِي بِالتَّحْقِيقِ(1).
وبالرغم أنّ الباري تعالى تعهّد بأن يكون حسيب من يتوكل عليه، فقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥ}(2)، ولكن الأمر يحتاج إلى صدق في التوكل وثبات، وتوفيق منه تعالى، ولذا نطلب منه أن يوفّقنا في التوكل عليه حين البلاء، ففي دعاء ليلة عرفة نقول: اللّهم إنّي أعوذ بك فأعذني، واستجير بك فأجرني، واسترزقك فارزقني، و أتوكل عليك فاكفنى، واستنصرك على عدوي فانصرني، واستعين بك فأعنّي، واستغفرك يا إلهي
ص: 339
فاغفر لي، آمين آمين آمين(1).
ويقال: إنه لمّا أمر نمرود بجمع الحطب في سواد الكوفة عند نهر كوثى من قرية قطنانا وأوقد النار فعجزوا عن رمي إبراهيم فعمل لهم إبليس المنجنيق فرمي به، فتلقّاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟
فقال: أمّا إليك فلا، حسبي اللّه ونعم الوكيل، فاستقبله ميكائيل، فقال: إن أردت أخمدت النار فإنّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد، وأتاه ملك الريح، فقال: لو شئت طيّرت النار، قال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل اللّه فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي(2).
2- التوكل في الرخاء: كثير من الناس يلجأون إلى تعالى في الشدائد ولكنّهم في الرخاء ينسون ماكانوا عليه من التوسّل والارتباط باللّه، هكذا أناس يصدق عليهم قول اللّه تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجَْٔرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}(3).
بينما هناك ثلّة من الناس ثابتي الجأش لايلهيهم عن التوكل عن اللّه تعالى شيء، ففي كل حال تجدهم متوكلين على اللّه موفّضي أمرهم إليه لاتغيرهم عن ذلك أمور الدنيا بزبارجها ومغرياتها.
ص: 340
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
تصادف هذه الليلة ذكرى أليمة على قلوب المؤمنين وهي ذكرى شهادة الإمام علي بن موسى الرضا عليه أفضل صلوات المصلّين، ولذا فإنّ الحديث سيكون حول جانب مهم من حياته صلوات اللّه عليه وهو دوره في قبول ولاية العهد.
كانت الأوضاع السياسية قبل تولّي الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد شديدة جداً على الشيعة خاصة العلويين منهم، وذلك جراء التعامل الفظّ من العباسيين معهم وتشديدهم عليهم بحيث بلغ الأمر أن يقول قائلهم:
يا ليت ظلم بني أمية دام لنا***وعدل بني العباس في النار
ومن هنا وجد المأمون العباسي المعروف بدهائه أنّه أمام خيارين: فإمّا يحذو حذو من مضى من العباسسين و يفتك بالشيعة والعلويين، أو ينهج نهجاً آخر يخمد من خلاله غضب الشيعة وفي مقدمتهم العلويين، فاختار النهج الثاني وابتدع حيلة ولاية العهد التي فرضها على الإمام الرضا (عليه السلام) .
ص: 341
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) عارفاً بأهداف المأمون لذا رفض ولاية العهد ولكنّه اُخطر أن يقبلها لما أرغم عليها، ففي الحديث عن الريّان بن الصلت، قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ، فقلت له: يابن رسول اللّه، إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا!
فقال (عليه السلام) : قد علم اللّه كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أنّ يوسف (عليه السلام) كان نبيّاً رسولاً، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قال له: {ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(1)، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه، فإلى اللّه المشتكى وهو المستعان(2).
بالطبع قَبِل الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد بشرائط أشار إليها في حديث له قائلاً: قد نهاني اللّه عز وجل أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أولّي أحداً ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً، فرضي منه بذلك وجعله ولّي عهده على كراهة منه (عليه السلام) بذلك(3).
جلس المأمون، ووضع للإمام الرضا (عليه السلام) وسادتين عظيمتين، وأجلس
ص: 342
الرضا (عليه السلام) عليهما في الخضرة وعليه عمامة وسيف، ثمّ أمر ابنه العباس أن يبايع له أوّل الناس، فرفع الإمام الرضا (عليه السلام) يده فتلقّى بظهرها وجه نفسه وببطنها وجوههم، فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة؟
فقال الإمام الرضا (عليه السلام) : إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هكذا كان يبايع، فبايعه الناس ويده فوق أيديهم، وقامت الخطباء والشعراء فجعلوا يذكرون فضل الإمام الرضا (عليه السلام) .
وقد دعا المأمون الإمام الرضا (عليه السلام) أن يخطب في الناس، بعد البيعة، فقال: اُخطب الناس، وتكلّم فيهم، فحمد اللّه وأثنى عليه وقال (عليه السلام) : إنّ لنا عليكم حقّاً برسول اللّه، ولكم علينا حقّاً به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحقّ لكم(1).
روي أنّ أحد خواصّ الإمام (عليه السلام) كان حاضراً مستبشراً في الاحتفال الذي أقامه المأمون بمناسبة قبول الإمام (عليه السلام) بولاية العهد.
فنظر إليه الإمام (عليه السلام) وأومأَ قائلاً: أُدنُ مِنِّي، فلمّا دنا منه همس (عليه السلام) في أُذنه قائلاً: لا تشْغَل قلبَك بِهَذا الأمرِ، ولا تَسْتَبشِر، فَإنّهُ شَيء لا يَتمُّ(2).
لقد قام المأمون ببعض التغيرات بعد قبول الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد، منها:
1- أبدل لبس السواد الذي هو شعار للعبّاسيين بلبس الثياب الخضر الذي
ص: 343
هو شعار للعلويين.
2- أمر بطبع اسم الإمام الرضا (عليه السلام) على الدراهم.
3- أعلن عن عزمه على صرف مرتّب سنوي بهذه المناسبة السعيدة.
كانت للمأمون عدّة أهداف من بيعته للإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد، منها:
1- تهدئة الأوضاع المضطربة: اضطربت أوضاع الحكم بسبب القتال الدامي بين الأخوين (الأمين والمأمون)، إضافة إلى قيام الثورات والحركات المسلّحة، وازدياد عدد المعارضين لحكمه. فأراد المأمون من تقريب الإمام (عليه السلام) استقطاب أعوانه وأنصاره، وإيقاف حركاتهم المسلّحة ليتفرّغ إلى بقيّة الثائرين والمتمرّدين الّذين لا يُعتد بهم قياساً للثوّار العلويّين.
وأراد كسب ودّ الأغلبيّة العظمى من المسلمين لارتباطهم الولائي والروحي بالإمام (عليه السلام) ، وخاصة أهل خراسان الّذين أعانوه على احتلال بغداد، والشاهد على ذلك استقبال الإمام (عليه السلام) من قبل عشرين ألف عالم وفقيه وصاحب حديث في نيسابور.
وبتقريب الإمام الرضا (عليه السلام) منه يتمكن من امتصاص نقمة المعارضة وتفويت الفرصة عليها للمطالبة بالحكم.
2- إضفاء الشرعيّة: لم يصل المأمون إلى الحكم بطريقة شرعيّة، وكان إقرار حكمه من قبل الفقهاء نابعاً من الترغيب والترهيب، أو استسلاماً للأمر الواقع، وعدم القدرة على تغييره.
لذا، فإنّ التقرّب من الإمام (عليه السلام) يُمكن أن يحقّق له ما يصبو إليه من
ص: 344
إضفاء الشرعيّة على حكمه، مستفيداً من الولاء الفكريّ والعاطفي للإمام (عليه السلام) في نفوس المسلمين.
3- منع الإمام من الدعوة لنفسه: لايخفی أنّ محل إمام يدعو الناس إلی الاعتقاد بإمامته، وقد حاول المأمون الاستفادة من ذلك بأن يكون الإمام الرضا (عليه السلام) ولي عهده، ولما يعتقد الناس بإمامة الإمام الرضا (عليه السلام) الذي هو ولي عهد المأمون يعتقدون بالمأمون، ولذا أشار إلی ذلك في قوله قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا(1).
4- إبعاد الإمام عن قواعده: إنّ وجود الإمام (عليه السلام) في العاصمة بعيداً عن مدينة جدّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعني انفصاله عن قواعده الشعبيّة، وتحجيم الفرص المتاحة للاجتماع بوكلائه ونوّابه المنتشرين في شرق الأرض وغربها، ومن جهة أخرى جعل الإمام تحت الرقابة المباشرة من المأمون الّذي قام بتقريب وإغراء هشام بن إبراهيم الراشديّ - وكان من خواصّ الإمام - وولّاه حجابة الإمام (عليه السلام) ، فكان ينقل الأخبار إليه، ويمنع من اتّصال كثير من مواليه به، وكان الإمام (عليه السلام) لا يتكلّم في شيء إلّا أورده هشام على المأمون.
5- إبعاد خطر الإمام عن الحكم القائم: إنّ توسّع القاعدة الشعبيّة للإمام (عليه السلام) كان يشكّل خطراً حقيقيّاً على حكم المأمون بعد التصدّع الّذي حدث في البيت العبّاسي، وخاصّة بعد قيام الثورات المسلّحة، فلو تُرك الإمام (عليه السلام) في المدينة لأدّى ذلك إلى ضعف السلطة القائمة. وبهذا الصدد
ص: 345
قال المأمون: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينشق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه(1).
6- تشويه سمعة الإمام (عليه السلام) : أجاب الإمام (عليه السلام) المأمونَ موضِّحاً دوافعه من دعوته لولاية العهد بقوله: تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة(2)؟
وصرّح المأمون بذلك للعبّاسيّين بقوله: ... وكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحقّ لهذا الأمر(3).
7- تمزيق جبهة المعارضة: إنّ المعارضين لحكم المأمون سينظرون إلى الإمام الرضا (عليه السلام) على أنّه جزء من الحكم القائم، وتتعمّق هذه النظرة حينما يجدون أنّ بعض ولاة المأمون هم من أهل بيت الإمام (عليه السلام) أو من أتباعه. وحيث إنّ الوالي مكلّف بقمع أيّ حركة مسلّحة، فإنّ المعارضة تجد نفسها أنها وقفت وجهاً لوجه أمام الولاة المحسوبين على الإمام (عليه السلام) ممّا يؤدّي إلى تمزيق جبهة المعارضة. والأهمّ من ذلك أنّ الفساد الإداريّ والحكوميّ سَتُلقى مسؤوليّته على هؤلاء الولاة باعتبارهم من أركان الحكم القائم.
جميع الشواهد والدلائل تدلّ على أنّ المأمون لم يكن جادّاً في عرضه
ص: 346
للخلافة، وإلا لو كان زاهداً بالخلافة لما قتل من أجل الخلافة أخاه وأتباعه، بل وحتّى وزراءه والقوّاد وغيرهم.
بل خرّب بغداد وأزال كلّ محاسنها من أجل الحصول على الخلافة، فكيف يتنازل عنها بهذه السهولة؟
وهل يمكن أن نصدّق أنّ كلّ ذلك - حتّى قتله أخاه - كان في سبيل مصلحة الأُمّة ولكي يفسح المجال أمام من هو أجدر بالخلافة وأحقّ بها من أخيه ومنه؟
وإذا كان قد نذر أن يولّي الإمام الرضا (عليه السلام) الخلافة لو ظفر بأخيه الأمين - حسبما ورد في بعض النصوص التاريخية - ، فلماذا وكيف جاز له الاكتفاء بتوليته العهد؟!
وكيف استطاع إجباره على قبول ولاية العهد، ولم يستطع إجباره على قبول الخلافة؟ وهل يتّفق ذلك مع إرجاعه للإمام (عليه السلام) عن صلاة العيد لمجرّد شعوره بأنّ الخلافة سوف تكون في خطر لو أنّ الإمام (عليه السلام) وصل إلى المصلى؟!
وعلی كل لم يكن المأمون جادّاً في عرضه للخلافة، نعم كان جادّاً في عرضه لولاية العهد.
ويبقى هنا سؤال: لو أنّ الإمام (عليه السلام) قبل عرض الخلافة، فماذا ترى سيكون موقف المأمون؟!
الجواب: إنّ المأمون كان قد أعدّ العدّة لأيّ احتمال من هذا النوع، وقد كان يعلم أنّه يستحيل على الإمام (عليه السلام) - خصوصاً في تلك الظروف - أن يقبل عرض الخلافة من دون إعداد مسبق لها.
ص: 347
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
عندما يتأمّل الإنسان في سيرة السيدة الزهراء (عليها السلام) يجد نفسه أمام بحر متلاطم من الفضائل والمناقب العظيمة التي لم يسجل التاريخ مثلها لامرأة أخرى على مرّ العصور المختلفة، فمن قبل أن تطل هذه السيدة الميمونة على الدنيا حتى ماتت شهيدة مظلومة وأقلام العالم بأسره تدوّن من فضائلها ما يملأ الدنيا كافّة.
فقد كتب كثير من أهل القلم عن هذه الفضائل وتناقلتها الألسن بكثرة ومع ذلك مازالت البشرية مقصّرة تجاه أمّ العترة الأطهار (عليهم السلام) التي ضحّت بنفسها من أجل الولاية واستشهدت مهضومة مظلومة.
ومع الأسف الشديد أنّ العالم حتى اليوم مازال يجهل كثيراً من الجوانب المهمّة من حياة الصديقة الزهراء (عليها السلام) ، فمازال كثير من الناس يجهلون دور هذه الصدّيقة في حفظ الإسلام، والعديد منهم لا يعرف شيئاً عن دورها المهم في تربية المجتمع الإسلامي على مرّ التاريخ وغير ذلك من الجوانب المهمّة في سيرة بضعة المصطفى (عليها السلام) .
ص: 348
من هنا كان من الجدير بنا أن نشير إلى بعض المقتطفات العابرة حول دور الصديقة فاطمة (عليها السلام) في المجتمع، وكيف أنّها أرادت للمجتمع الإسلامي على مرّ العصور أن يعيش تحت ظل السعادة التي جاء بها الإسلام وأكد عليها رسول الرحمة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قبل أن نسلّط الأضواء على الدور الاجتماعي للسيد الزهراء (عليها السلام) لا بأس أن نلقي نظرة عابرة على المجتمع قبل مجيئ الإسلام، فقد وصفهم سيّد الموحدين (عليه السلام) قائلاً: «وأنتم معشر العرب على شر دين، وفي شر دار، منيخون بين حجارة خشن، وحيات صم تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام فيكم معصوبة(1).
وقال أيضاً: فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة والكثرة متفرقة في بلاء أزل، وأطباق جهل، من بنات موؤودة وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة...(2).
وهذه السيدة الزهراء (عليها السلام) عبر خطبتها الغرّاء راحت تؤكد تلك المضامين التي أدلى بها أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قالت: «فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكّفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها... وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ
ص: 349
الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق، أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم»(1).
ولكن وبعد أن بعث سيدالمرسلين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تغيّر ذلك المجتمع ببركة أهل البيت (عليهم السلام) الذين ربّوا المجتمع على الدين وعرّفوا الناس أحكام الإسلام، ومن الذين كان لهم دور بارز في تربية المجتمع الإسلامي هي الصديقة الزهراء (عليها السلام) .
فقد كانت علاقة الصديقة الطاهرة بالمجتمع علاقة وثيقة وإن كانت جليسة الدار وذلك عبر.
1- العلاقة الروحية: فلا يخفى أنّ علاقة المجتمع فيما بينه غير مقتصرة على الجانب المادي فحسب، بل هناك علاقة أهم من العلاقة المادية تربط المجتمعات ألا وهي العلاقة الروحية، فإذا كانت هذه العلاقة متينة مبنية على أسس قويمة يكون المجتمع متقدما لا يهزم أمام العقبات والمشاكل مهما كانت، أمّا إذا المجتمع منهزم روحيا فهو يهزم أمام أبسط المشاكل.
من هنا كانت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) تؤكد على البعد الروحي في المجتمع والشواهد على ذلك كثيرة منها ما نقله الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) قال: رأيت أمي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أمّاه لم لا
ص: 350
تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني! الجار ثم الدار(1).
فهنا يتضح كيف كانت تؤكد الصديقة على أن يكون المجتمع مرتبطا روحيا بحيث لاينسى أحدهم الآخرين في أفضل الأوقات وهي ساعة ارتباطه باللّه عزّ وجل وتوجهه إليه.
وفي خبر آخر أنّها عندما سمعت أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أراد أن يجعل مهرها من الدراهم اغتنمت الفرصة ونظرت إلى المجتمع ولم تنسه حتى في مثل هذه الأوقات، فقالت لأبيها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ بنات الناس يتزوجن بالدراهم، فما الفرق بيني وبينهن؟ أسالك أن تردّها وتدعو اللّه تعالى أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك، فنزل جبرئيل (عليه السلام) ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: جعل اللّه مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمة أبيها(2).
بل قدّمت الصديقة فاطمة (عليها السلام) خير تراث لبناء المجتمعات وتربيتها روحيا وذلك عبر المنهاج الروحي العظيم جاء في أدعيتها الشريفة التي تقود المجتمعات إلى السمو روحيا شريطة أن تلتزم بها المجتمعات وتواظب على العمل بها.
ففي كثير من أمور الحياة أعطت الصديقة للمجتمعات تراثا ضخما في الدعاء يعلمهم كيف يتصلون بالخالق سواء في الشدة والضيق أم في المرض أم في النعم والسرّاء أم في غير ذلك من أمور الحياة، وما على المرء إلا أن يتأمل في أدعيتها الشريفة ليلامس كيف يمكن أن تربي هذه الأدعية
ص: 351
المجتمعات على الإتصال باللّه تعالى والتوجه إليه وعدم الغفلة عنه في مختلف ظروف الحياة.
2- العلاقة العلمية: فقد كانت (عليها السلام) عالمة آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تنشر من بحر علومها المتلاطم وتعلّم البشرية من معارفها الغزيرة طيلة أيام حياتها، بل كانت تبرز من علومها عندما يحير الآخرون في الجواب ليتعلّم المجتمع الأكبر، ففي الخبر أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سأل أصحابه عن المرأة ماهي، فقالوا: عورة، قال: فمتى تكون أدنى من ربّها؟ فلم يدروا، فلما سمعت فاطمة (عليها السلام) ذلك قالت: أدنى ماتكون من ربّها أن تلزم قعر بيتها، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ فاطمة بضعة منّي(1).
وعن الإمام العسكري (عليه السلام) قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، فثنّت فأجابتها، ثم ثلثّت إلى عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشقّ عليك يا ابنة رسول اللّه، فقالت فاطمة (عليها السلام) : هاتي وسلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكترى يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراؤه مائة ألف دينار أيثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء بين الثرى إلى العرش لؤلؤا فأحرى أن لا يثقل علي(2).
ويكفينا أن نطالع خطبتها الغراء المليئة بالمعارف والأحكام وذلك لما
ص: 352
رأت المجتمع الإسلامي أخذ يتجه نحو طريق الإنحراف فسعت إلى توعيته من عمق المصيبة وشدّة الخطب علّها تعيده إلى رشده وصوابه، ولكن وللأسف الشديد كان الشيطان قد استحوذ عليهم وأنساهم ذكر اللّه.
3- العلاقة المادية: فقد كان بيت الزهراء (عليها السلام) مأوى وملاذا لكل ذي حاجة في المجتمع، فلايكاد أحد يقصد دارها ويعود خائبا بل يعود مقضيّ الحاجة، قرير العين، مكرما غنيا عن سؤال الآخرين والقصص في هذا المجال كثيرة لا يسعها المقام.
وكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا قصده صاحب حاجة يبعثه إلى دار الزهراء (عليها السلام) لعلمه أنّها لاتردّ أحدا ولو لم يكن لديها شيء أصلاً وقصّة عقدها المبارك الذي تصدّقت به للمحتاج خير شاهد على ذلك، فضلا عن قصّتها في إطعام الطعام على حبّه للمسكين واليتيم والأسير، وتصدّقها بثوب زفافها وغير ذلك ممّا يطول به المقام بذكره.
ولكن نذكر القصة التالية ليتضح كيف كانت دار الزهراء (عليها السلام) محطّ رحال لكل محتاج، يقول أبو هريرة:
أنّ رجلاً جاء إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من لهذا الرجل الليلة؟ فقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : أنا يا رسول اللّه، فأتى فاطمة (عليها السلام) فأعلمها، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية ولكنّا نؤثر به ضيفنا، فقال (عليه السلام) : نوّمي الصبية واطفيء السراج، فلما أصبح غدا على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فنزل
ص: 353
قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ}(1)(2).
4- هداية المجتمع: وهي من أهم ما قامت به الصديقة الزهراء (عليها السلام) ، فلما رأت الأمة قد انقلبت على أعقابها بعد رحيل سيد المرسلين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تصدّت لتوعية المجتمع وتنبيهه من هذه الغفلة الخطرة و خطبت خطبتها المعروفة وخرجت من دارها وهي التي لم يكن يُرى ظلّها علّها تؤثّر عليهم وتعيدهم إلى الصواب ولكن وللأسف الشديد لم يعيروها أيّ اهتمام وتؤازروا في ظلمها وغصبوها حقّها الشرعي الذي نحلها إيّاه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقادوا بعلها حاسراً ليبايع بعد أن أسقطوها جنينها، فماتت شهيدة مظلومة فسلام اللّه عليك يا أمّ العترة الأطهار يوم ولدت ويوم عشت ويوم رحلت شهيدة سعيدة.
ص: 354
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
تصادف الليلة ذكرى استشهادة يتيمة الإمام الحسين (عليه السلام) السيدة رقية (عليها السلام) تلك اليتيمة التي جعلها اللّه عزّ وجل باباً من أبواب الحوائج إليه يقصدها الناس من شتى أقطار العالم ويتبركون بمزارها المبارك ويأخذون حوائجهم.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة على الشارع بعض التشكيكات الخاوية حول هذه السيدة الجليلة، ولذا وجدت من اللازم التوقّف عند بعضها وبيان الحقّ فيها.
من يتتبّع المصادر التأريخية ويدقّق فيها يجد أنّ بنات الإمام الحسين (عليه السلام) هم: فاطمة الكبرى، سكينة، آمنة، فاطمة الصغرى، رقية، خولة، صفية، اُمّ كلثوم، زبيدة، فاطمة الصغيرة.
وكما يبدو من التواريخ أنّ عدد بنات الإمام الحسين (عليه السلام) أقل من ذلك وإنما سُميت بعض بناته بأكثر من اسم، وقد أشار إلى ذلك بعض العلماء منهم الملا حبيب اللّه شريف الكاشاني، فمثلاً السيدة سكينة لقبها سكينة، أمّا
ص: 355
اسمها فقد ذكر البعض أنه (اُميمة) أو (أمينة) أو (آمنة).
ومن هنا وجدنا من المناسب أن نشير إلى أسماء بنات الإمام الحسين (عليه السلام) حيث ورد في بعض الكتب أنّ له ثلاثة بنات، وفي بعضها أنّ له أكثر من ذلك، بينما ذكر البعض أنّ له بنتين وهو خلاف المشهور.
أمّا الكتب التي تعرّضت إلى بناته فهي:
1- تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) : تأليف المحدّث نصر بن علي الجهضمي المتوفّى 250 ه- ق حيث ذكر أنّ للإمام الحسين (عليه السلام) ثلاثة وهن: زينب، وسكينة، وفاطمة(1).
2- تأريخ الأئمة (عليهم السلام) : تأليف ابن أبي الثلج البغدادي المتوفّى سنة 322 أو325 ه- ق، وقد ذكر أنّ للإمام الحسين (عليه السلام) ثلاثة بنات: زينب، سكينة، فاطمة(2).
3- الهداية الكبرى: تأليف أبي عبداللّه الحسين بن حمدان الخصيبي المتوفّى 334 ه- ق، وقد عدّد أسماء بنات الإمام الحسين (عليه السلام) كالتالي: زينب، سكينة، فاطمة(3).
4- منتخب الأنوار في تأريخ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) : تأليف أبو علي محمد بن همّام بن سهيل الكاتب الإسكافي المتوفّى سنة 336 ه- ق، وقد ذكر أسماء بنات الإمام الحسين (عليه السلام) وهن: زينب، سكينة، وفاطمة(4).
ص: 356
5- دلائل الإمامة: لمحمد بن جرير الطبري المتوفّى في القرن الخامس، وقد عدّ للإمام الحسين (عليه السلام) ثلاثة بنات وهن: زينب، وسكينة، وفاطمة(1).
6- تاريخ مواليد الأئمة (عليهم السلام) : لابن خشّاب البغدادي المتوفّى سنة 567 ه- ق، وقد ذكر أنّ للإمام الحسين (عليه السلام) ستة أولاد ذكور وثلاثة بنات وهن: زينب، وفاطمة، سكينة(2).
7- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : لابن شهر آشهوب المتوفّى سنة 558 ه- ق، وقد ذكر أنّ بنات الإمام الحسين (عليه السلام) ثلاثة سكينة، فاطمة، زينب(3).
8- مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لكمال الدين محمد بن طلحة الشافعي المتوفّى سنة 654 ه- ق، وقد ذكر في كتابه أنّ للإمام الحسين (عليه السلام) أربع بنات ولكنّه لم يذكر منهن سوى زينب، وفاطمة، وسكينة، ولم يذكر اسم الرابعة(4).
9- كشف الغمة في معرفة الأئمة (عليهم السلام) : لعلي بن عيسى الأربلي المتوفّى سنة 693ه- ق، وقد نقل عن ابن طلحة الشافعي أنّ للإمام الحسين (عليه السلام) أربع بنات ولكنه لما ذكر أسماء ثلاثة منهن، قال: هذا قول المشهور، ثم يضيف قائلاً: لكن القول بأنّ له أربع بنات هو الأشهر(5).
10- كامل البهائي: للمؤرّخ الخبير والعالم المتكلّم، والمحدّث البصير
ص: 357
عماد الدين حسن بن علي بن محمد بن حسن الطبري الذي فرغ من تأليفه سنة 675 ه- ق وقد ذكر ماوقع على أهل البيت (عليهم السلام) في الشام وأشار إلى شهادة طفلة الإمام الحسين (عليه السلام) في خرابة الشام(1).
وحيث إنّ مؤلّف كتاب (كامل البهائي) أشار إلى شهادة إحدى بنات الإمام الحسين (عليه السلام) في خرابة الشام وذكر اسم بنتين للإمام الحسين (عليه السلام) كانتا مع الأسارى وهن سكينة وفاطمة يظهر أنه قائل بأنّ للإمام الحسين (عليه السلام) أكثر من ابنتين.
11- إشراق الإصباح في مناقب الخمسة الأشباح: تأليف برهان الدين بن إبراهيم بن محمد بن علي بن نزار الصنعاني، وقد ذكر في الصفحة 144 أسماء بنات الإمام الحسين (عليه السلام) وهن: فاطمة، سكينة، وزينب الصغيرة(2).
12- الفصول المهمّة: لابن الصبّاغ المتوفّى سنة 855 ه- ق وقد ذكر أنّ للإمام الحسين (عليه السلام) أربع بنات وهن: زينب، سكينة، وفاطمة، ولم يذكر اسم الرابعة، وعن كثير من أرباب المقاتل: أنّ الرابعة التي لم يذكر اسمها هي السيدة رقية (عليها السلام) .
12- بحر الأنساب: وهو من تأليف العلامة النسابة أبي محمد السيد حسن المشهور بركن الدين الحسيني الموصلي، وقد ذكر أنّ للإمام الحسين (عليه السلام) ثلاثة بنات.
وفي الصفحة الثانية من الكتاب ذكرت للعبارة للعلامة النسابة آية اللّه
ص: 358
السيد المرعشي النجفي (رحمه اللّه) ، قال فيها: باسمه تعالى. هذا كتاب بحر الأنساب في أنساب العلويين والهاشميين وساير قبائل العرب على طريق التشجير. ألفه العلاّمة النسّابة أبو محمد السيد حسن المشتهر بركن الدين الحسيني نزيل بلدة موصل من علماء القرن الحادي عشر وأجلاّئه، صاحب الآثار النفيسة منها: كتاب اللؤلؤ المضيء في مناقب آل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - وهوكتاب حسن في بابه - وغيره، وهذا السفر الذي بين يديك ألّفه باسم الشريف الجليل السيد حسام الدين مرتضى نقيب الموصلي وذكر فيه عدّة من أعيان ذلك البيت الرفيع ووفياتهم ومواليدهم، وأورد فيه بعض التراجم والأنساب من إفادات جده العلامة النسابة السيد ركن الدين عبداللّه الحسيني من علماء أوائل القرن العاشر وعلماء أواخر التاسع... حرّره العبد المستكين خادم علوم الدين أبو المعالي الحسيني المرعشي النجفي، 11 ذي القعدة 1385 ق قم المشرفة.
وهناك كتب أخرى تُعرّض فيها إلى بنات الإمام الحسين (عليه السلام) نشير إليها باختصار ومنها: حديقة الشيعة للمقدس الأردبيلي، وإثبات الهداة للحر العاملي في ارجوزته، والدوحة المهدية (اُرجوزة الفتوني) للفتوني، ولسان الواعظين للكاظمي، ومواليد الأئمة (عليهم السلام) للسماوي، وملحقات إحقاق الحق للمرعشي النجفي، وغيرها من المؤلفات القيمة.
ورد في بعض الكتب أنّ السيدة المدفونة في خربة الشام اسمها رقية وبعضها نصّت على أنّ اسمها زبيدة، وبعضها أنّ اسمها زينب، وبعضها أنّ اسمها فاطمة.
ص: 359
وقد ذكر الشيخ علي الفلسفي في كتابه (حضرت رقية): المشهور أنّ اسمها رقية، وقد طالعت مايقارب عشرين كتاباً تنص على أنّ اسمها رقية، وقد ذكر البعض أنّ لهذه السيدة الجليل أسامي أخرى.
وقد نُسب للسيدة زينب (عليها السلام) أنها خاطبت رأس الإمام الحسين (عليه السلام) أن يكلّم ابنته فاطمة الصغيرة وذلك عندما كانت قافلة الأسارى في سوق الكوفة فقالت:
ياهلالاً لمّا استتمّ كمالاً***غاله خسفه فأبدى غروباً
ماتوهّمت ياشقيق فؤادي***كان هذا مقدّراً مكتوباً
يا أخي فاطم الصغيرة كلمها***فقد كاد قلبها أن يذوبا
كما في العديد من المصادر أنّ عمر السيدة رقية (عليها السلام) حين استشهدت كان ثلاث سنين وستة أشهر، ونقل أيضاً أنّ عمرها أربع سنوات وخمس سنوات وستة سنوات بل قيل أيضا: أنّ عمرها سبعة سنوات، ولكن الذي تميل إليه النفس أنّ عمرها حين استشهدت كان ثلاثة سنوات وستة أشهر وذلك لما اشتهر من أنّ ولادتها (عليها السلام) في الخامس من شهر شعبان سنة 57 قمري وذلك في المدينة، وأنّ شهادتها في الخامس من شهر صفر سنة 61 قمري فدفنت في خرابة الشام بالقرب من قصر يزيد بن معاوية.
لم يقتصر التشكيك المغرضة على وجود طفلة للإمام الحسين (عليه السلام) استشهدت في الشام بل تجاوز البعض أكثر فراح يشكك في المرقد
ص: 360
الشريف الموجود في الشام مدعياً أنّه لم يثبت لأهل البيت (عليهم السلام) قبر في الشام وماهو موجود لايعلم مدى انتسابه لآل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
ونحن في المقام نشير إلى بعض الشواهد التي تقود النفس إلى الاطمينان بأنّ المرقد المشهور اليوم في الشام هو مرقد السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليها السلام) ، ومن هذه الشواهد هي:
1- مانُقل أنّ السيد إبراهيم الدمشقي أحد أحفاد السيد المرتضى رأت ابنته الكبيرة السيدة رقية (عليها السلام) في عالم الرؤيا وهي تأمرها أن تخبر أباها أن يصلح قبرها من الماء الذي بلغ جسدها الشريف، إلا أنّ السيد لم يصغ لكلام ابنته خوفاً وخشية من أذية العامة له.
وفي الليلة الثانية رأت ابنته الوسطى نفس الرؤيا وأخبرته بأمر السيدة رقية (عليها السلام) ، فبقي خائفاً، ثم رأت ابنته الصغيرة نفس الرؤيا وبقي السيد خائفاً من العامة أن يأذوه لو حفر القبر.
وفي الليلة الرابعة رأى السيد نفسه السيدة رقية (عليها السلام) في عالم الرؤية وهي تعاتبه وتطلب منه أن ينجي جسدها من الماء.
وفي الصباح ذهب السيد إلى والي الشام وقصّ عليه الرؤيا فأمر الوالي علماء الشيعة والعامة في الشام أن يغتسلوا ويلبسوا أطهر ثيابهم يرافقوا السيد إلى الحرم... ولما بلغوا القبر الشريف حاول الكثير أن يفتحوا القبر الشريف لكنّه لم ينفتح إلى أن حاول السيد فانفتح القبر وتنحّى الجميع ماخلا السيد حيث نزل إلى القبر فوجد جسد السيدة رقية (عليها السلام) قد أحاط الماء به من كل صوب.
فأخرج السيد الجسد الشريف وجعله في حجره مدّة ثلاثة أيام قضاها
ص: 361
السيد بالبكاء والعويل ماخلا أوقات الصلاة حتّى فرغوا من تعمير القبر الشريف فأعادوا الجسد داخل القبر(1).
الجدير بالذكر أنّ الشبلنجي الشافعي أيّد القضية قائلاً: إنّ بعض أهل الشام أخبره أنّ للسيدة رقية بنت الإمام علي (عليها السلام) ضريحاً في الشام، ثم نقل قصّة السيد إبراهيم وعلّق عليها قائلاً: نقلت القصة لبعض الأفاضل، فقال: سمعتها من بعض مشايخي(2).
وقد يعترض البعض بأنّ الشبلنجي ذكر أنّ المدفونة بالشام هي رقية بنت الإمام علي (عليها السلام) وليست السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليها السلام) .
فيقال في جوابه: ذكر الشبلنجي أنّ المدفونة بالشام هي بنت صغيرة دون البلوغ، والسيدة رقية بنت الإمام علي (عليه السلام) - زوجة مسلم بن عقيل - كانت امرأة كاملة، ناهيك أنّ السيدة رقية بنت الإمام علي (عليها السلام) رجعت المدينة مع قافلة الأسارى.
نعم، نقل السبط ابن الجوزي لدى ذكره أولاد الإمام علي (عليه السلام) والصدّيقة الزهراء (عليها السلام) عن ابن إسحاق أنّ للإمام علي (عليه السلام) بنتاً اسمها رقية ماتت وهي صغيرة، قال: محسن مات صغيراً ورقية ماتت صغيرة(3)،
ولايمكن أن تكون هي المقصودة للشبلنجي لأنّها دفنت في المدينة ولم تدفن في الشام.
وقد ذكرت قصة السيد إبراهيم في كتاب (شبهاي مكة) وذكر المؤلّف أنّه التقى بأحد المعمّرين في الشام اسمه ركن الدين محمد، وكان ممّا قال
ص: 362
له: لي من العمر مئة سنة وقد شهدت واقعة تعمير قبر السيدة رقية (عليها السلام) أوائل شبابي وكنت حاضراً في الحرم الشريف، ورأيت جسد السيدة رقية (عليها السلام) وقد حمله السيد إبراهيم الدمشقي(1).
2- نقل آية اللّه الاثنى عشري أنه سمع من الحاج حسن الشيرازي أنّه سمع من السيد محسن الأمين قوله: إنّ نهراً كان بالقرب من حرم السيدة رقية (عليها السلام) جرى ماؤه إلى المرقد الشريف وأوشك أن يخرّب المرقد، فاقترح البعض أن ننقل الجسد الطاهر للسيدة إلى مكان آخر لأننا لانستطيع تغيّر مجرى النهر وقد طلبوا منّي أن أقوم بذلك.
ولمّا لم يجد السيد الأمين مندوحة من استدراك الأمر قبل أن ينبش القبر الشريف فاغتسل ولبس ثوباً أبيضاً وأمر بنبش القبر، ولما بلغوا حجر القبر أمرهم السيد الأمين أن يتوقّفوا كي يزيل حجر اللحد بنفسه، ولما دخل القبر الشريف وما إن رفع حجر اللحد حتی أغمي عليه، فجاء القوم وأخرجوه من القبر.
ولما أفاق السيد أخذ يبكي بلوعة وينوح وهو يقول: ياويلي ياويلي، كانوا قد نقلوا إلينا أن يزيد أمر امرأة تغسل السيد رقية وأنها قد كفّنت، وقد اتضح لي الآن عدم صحّة هذا الكلام، فقد رأيت السيدة قد دُفنت بثيابها ومازال جسدها الطاهر غضّا طرياً، ولن أنقل الجسد الشريف مكانا آخر خشية أن يضيع على الناس أنّ المرقد الموجود هو مرقد السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليها السلام) ، ثم أمر بتغيير مسار النهر وتعهّد بدفع مخارجه مهما
ص: 363
كانت(1).
3- من المشهور منذ القدم حتى اليوم بين الخواص والعوام زيارتهم المرقد الشريف في الشام على أنه للسيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليها السلام) ، وقد بلغنا ذلك كابر عن كابر وهذه الشهر تكفي في الدلالة على أنّ المدفونة في القبر الشريف هي السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليها السلام) .
بالطبع هذه الشهر ليست شهرة بين جماعة أو بلد أو طائفة دون أخرى بل هي شهرة عظيمة بين الشيعة وغيرهم على مرّ العصور.
4- زيارة العديد من أجلاء العلماء للمرقد الشريف على أنّ المدفون فيه هي السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليها السلام) ومنهم:
أ- الشيخ البهائي (رحمه اللّه) : حيث زار المرقد الشريف في الشام سنة 1030 وساهم في إعمار المرقد المبارك وقد كتبت أشعاراً منسوبة للإمام علي (عليه السلام) على القبة الشريفة(2).
ب- الملا صالح البرغاني: وهو من أكابر علماء القرن الثالث عشر زار المرقد الشريف سنة 1243 لدى عودته من حج بيت اللّه الحرام، ولما تحقّق أنّ القبر الموجود في الشام هو قبر السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليها السلام) اشترى المنازل التي بقرب الحرم وضمّها للحرم الشريف.
ت- الشيخ عباس القمّي: وقد زار قبر السيدة رقية والسيدة زينب (عليهما السلام) سنة 1358.
ص: 364
ث- الميرزا جواد التبريزي: وذلك بعد عودته من لندن للعلاج زار قبر السيدة زينب والسيدة رقية (عليهما السلام) .
هناك عدّة تساؤلات تطرح نفسها وجدت من الجدير وتوجيهها إلى المشكّكين الذين آلوا على أنفسهم إلا أن يفسدوا عقائد البسطاء في بعض الشخصيات ومنها السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليها السلام) التي كثر التشكيك حول وجودها ومرقدها وشخصيتها، ومن التساؤلات المطروحة هي:
1- هل أنّ المشككين في وجود السيدة رقية (عليها السلام) لهم تبحّر واطلاع كبير في التاريخ خاصة تأريخ الإمام الحسين (عليه السلام) ؟ وهل لهم معرفة في الأنساب اطلاع على أولاده (عليهم السلام) وأسمائهم وما شابهم؟!
2- هل أنّهم اطلعوا على كافة الكتب القديمة في هذا المجال - أبناء الإمام الحسين (عليه السلام) - الخطّية منها وغيرها وشاوروا المحقّقين والعلماء حول هذا الموضوع قبل أن يحكموا بعدم وجود هذه الشخصية أم أنّهم طالعوا بعض الكتب وحكموا في الموضوع؟!
3- أليس أنّ هذه التشكيكات تجعل الناس يضعون علامة استفهام حول كافة المقاتل والكتب التي ذكرت هذه الشخصية أو أكثرها وتلقّن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) الطريقة كيف يهاجمون الشيعة كي يستدلّوا علينا بقولهم: نفس الشيعة يطعنون في كتبهم ومقاتلهم وينكرون هكذا شخصيات؟!
4- أليس أنّ إثارة مثل هذه التشكيكات تؤدّي إلى ضعف عقايد الناس في الشعائر الدينية لأن عوام الناس لايفرقون بين المطالب فيعمّمون الأمر
ص: 365
إلى كافة الشعائر ويشككون في الشعائر كلها؟!
5- بعد مضي كل هذه السنين واعتقاد الناس بهذه الشخصية وتهافتهم على زيارة قبرها لم يوجد مرجع أو عالم يكتشف ماتوصّل إليه المشككون وينهى الناس عن زيارة المرقد وينبههم عن هذا الخطأ الكبير؟!
6- ماذا يعني أنّ المراجع وكبار الدين على مرّ التاريخ يقصدون حرم هذه السيدة ويزورونها ويسألون اللّه عزّوجل بجاه هذه السيدة أن يقضي حوائجهم، أليس أنّ ذلك يدلّ على وجود شخصية عظيمة قصدوها في زيارتهم؟!
7- هل أنّ المعجزات والكرامات العديدة التي شوهدت في هذا الحرم المبارك منذ القدم حتى اليوم هي مجرد خيالات وخرافات اعتقد بها البعض دون أيّ تحقيق والحال أنّ غير الشيعة يذكرون أيضاً بعض هذه الكرامات؟!
8- هل أنّ الذين ذكروا السيدة رقية مع دقّتهم غفلوا عمّا حقّقه المشككون وخانتهم الدقّة في هذا الأمر فذكروا شخصية لاوجود لها؟!
9- المجالس والمراثي والمصائب التي كانت ومازالت تذكر باسم السيدة رقية (عليها السلام) تقرأ عادة في بيوت العلماء والمراجع والمتدينين ولم نلحظ أحداً اعترض عليها وشكك فيها وطالب بعدم قرائتها؟!
شاءت إرادة اللّه عزّ وجل أن تظهر للبشرية على مرّ العصور مقام هذه السيدة العظيمة وكرامتها الدالة على عظم منزلتها ورفيع شأنها صلوات اللّه عليها.
ص: 366
يقول الشيخ علي نجل المحدّث العظيم الشيخ عباس القمّي (قدس سره) والذي يعدّ من أكابر الخطباء المشهورين في مدينة طهران: ابتليت في إحدى السنوات بمرض في حنجرتي بحيث عجزت عن ارتقاء المنبر والوعظ والإرشاد.
لذلك وكسائر المرضى عندما يصابون بالمرض فقد راجعت طبيباً متخصّصاً فأخبرني بعد المعاينة قائلاً: إنّ مرضك بلغ من الشدة بحيث إنّ بعض الأوتار الصوتية قد شلّت، ومن الصعب جداً معالجتها، وربما يكون علاجها بلا فائدة. إلا أنّ الطبيب كتب لي وصفة ببعض الأدوية ونصحني بالاستراحة التامة وتجنّب صعود المنبر بل منعني من التحدّث مع الناس حتى زوجتي وأطفالي، وإذا احتجت إلى شيء عليّ أن أستفيد من الكتابة علّ ذلك يجدي في خلاصي من هذا المرض الصعب العلاج.
وقد كان هذا العلاج صعباً جداً لأنّ الإنسان لا يستغني عن الحديث والتحدّث مع الناس، فكيف يمكنني تحمّل كل هذه المدّة دون أن أتحدّث، على أنّ الأمل في الشفاء قليل جداً؟
فشعرت أنّ جميع الأبواب أُغلقت أمامي وأدركت أنّ قدرات الناس العاديين لا يمكن أن تخلّصني من هذا الابتلاء الشديد وليس هنا من حيلة سوى التوسّل بباب نجاة الأمة أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) .
وبالفعل في أحد الأيام بعد انتهائي من صلاة الظهر والعصر شعرت بانكسار عجيب فبكيت بكاء مرّاً واعتلى أنيني وحنيني ولا شعورياً أخذت أتوسّل بأبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) وأقول له: سيدي، يابن رسول اللّه إنّ الصبر
ص: 367
على مرض كهذا صعب جداً، وأهل المجالس يتوقّعون صعودي المنبر.
سيدي، شهر رمضان المبارك على الأبواب وقد قضيت عمري في خدمتكم، فماذا حصل حتى أقع في مثل هذا المرض المعضل وأحرم من خدمتكم؟!
سيدي كن أنت الشفيع إلى اللّه في خلاصي من هذا المرض الصعب.
وبعد هذا التوسل خلدت إلى النوم كعادتي كل يوم فرأيت في عالم الرؤيا شخصاً نورانياً دخل الغرفة وقد ملأت نورانيته أطراف الغرفة.
ولا إرادياً شعرت أنّ هذا الشخص هو سيد الشهداء (عليه السلام) فغمرتني الفرحة وأخذت أكرّر التوسّل الذي توسلته في عالم اليقظة وأصرّ بشدة وأتوسل بإلحاح قائلاً: سيدي إنّ شهر رمضان على الأبواب وقد دُعيت في مساجد متعدّدة، ومع هذا الحال كيف أستطيع صعود المنبر؟ وإذا بسيد الشهداء (عليه السلام) يشير جانباً ويقول: قل لهذا الجالس عند الباب - وقد كان هناك رجل جالس عند الباب - أن يقرأ مصيبة عزيزتي رقية وابكِ أنت وسوف تشافى وتعافى إن شاء اللّه.
دقّقت النظر عند الباب وإذا به زوج أختي الحاج مصطفى الطباطبائي القمّي الذي هو من علماء طهران، فأخبرته بأمر سيد الشهداء (عليه السلام) إلا أنه كان يعتذر عن قراءة المصيبة. وإذا بأبي عبد اللّه (عليه السلام) يقول: اقرأ مصيبة ابنتي رقية. وبالفعل أخذ الحاج مصطفى يقرأ المصيبة وأنا أبكي. ومع الأسف الشديد استيقظ أبنائي من نومهم، وأيقظوني فاستيقظت من النوم منزعجاً متأسفاً على حرماني من البكاء في ذلك المجلس النوراني.
ص: 368
وفي اليوم نفسه أو اليوم الذي بعده راجعت المتخصّص نفسه وإذا به يتعجّب كثيراً ويقول: لا يوجد أثر للمرض أصلاً، ثم إنه أخذ يسألني قائلاً: ماذا تناولت حتى شفيت بهذه السرعة؟!
فنقلت له القصة وكيف أننّي توسّلت بسيد الشهداء (عليه السلام) ، وإذا بالطبيب يتعجب وكان يحمل قلماً فسقط القلم من يده دون إرادة، وأخذ يبكي بشدة ويئن بكل حرقة بحيث إنّ لحيته ابتلّت بالدموع وقال: إنّ مرضك لم يكن له علاج سوى التوسل بسيد الشهداء (عليه السلام) وقد حصلت على مرادك ببركة هذا التوسل.
ص: 369
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لايتبع أحداً من الناس بعد الموت شيء إلا صدقة جارية أو علم صواب أو دعاء ولد(1).
قبل الحديث عن أصل الموضوع وهو الصدقة الجارية لا بأس أن نمهّد بمقدمة وهي:
أنّ الأعمال الواردة في الشريعة الإسلامية على قسمين:
الأول: الأعمال المحدودة بزمن أو مكان معيّن، ومن ذلك الأعمال الكثيرة التي يمتثلها العباد في الأماكن والأزمنة المختلفة كالزيارات في الأماكن المقدسة المختلفة، والأدعية في الأزمنة المختلفة، وسائر الأعمال الأخرى المقيدة بأزمنة أو أمكنة خاصة.
الثاني: أعمال غير مقيّدة بأزمنة أو أمكنة خاصة ومنها الاستغفار وذكر اللّه والتوبة وغيرها.
ص: 370
أضف إلى ذلك فإنّ آثار الأعمال أيضاً على قسمين: قسم منها آثارها محدودة وهذا يشمل معظم الأعمال التي يأتي بها الناس، وقسم آخر آثارها ممتدة بامتداد الزمن.
ومع الأسف معظم الناس يحرصون على القسم الأول من الأعمال ويغفلون عن الأعمال الأخرى التي تمتد آثارها حتى بعد مماتهم ورحيلهم من عالم الدنيا.
جعل اللّه عزّ وجل أعمال العباد مقيّدة بالحياة الدنيا، فإذا ما ماتوا انتهت أعمالهم، ففي الحديث عن أميرالمؤمنين الإمام علي (عليه السلام) : اليوم عمل ولا حساب وإن غدا حساب ولا عمل(1).
ولكن هناك قسم من الأعمال تبقى صحائفها مفتوحة أشير إليها في بعض الأحاديث، بالطبع هذا بالنسبة لأعمال الإنسان أمّا الأعمال الخيرية التي يهديها الآخرون للأموات، فهي خارجة عن محل الحديث.
كثير من الناس يتصوّرون أنّ معنى الصدقة إعطاء المال للآخرين والحال أنّ ذلك مصداقاً من مصاديق الصدقة، وإلا فإنّ المراد بها التصديق باللّه عزّ وجل الذي يدفع الإنسان نحو البذل والإنفاق.
وكلما كان تصديق الإنسان باللّه تعالى أشد وأقوى كلما كان مؤهلاً للتصدّق في سبيل اللّه، فقدروى القطب الراوندي في لب اللباب قوله: ونزل
ص: 371
فيه - يعني علياً (عليه السلام) - {إِذَا نَٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَىٰكُمْ صَدَقَةً}(1)، ولم يعمل بها غير علي (عليه السلام) ، كان معه دينار فباعه بعشرة دراهم، وأعطاها المساكين، وسأل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر مسائل:
أولها: قال: يا رسول اللّه كيف ادعوا اللّه؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : بالصدق والوفاء.
الثاني: قال: ما أسأل اللّه؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : العافية.
الثالث: قال: ما أصنع لنجاتي؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : كل حلالا، وقل صدقا.
قال: فما النور؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : القرآن.
قال: فما الفساد؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ظهور الكفر والبدع والفسق.
قال: فما عليّ؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . أمر اللّه وأمر رسوله.
قال: فما الحيلة؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ترك الحيلة.
قال (عليه السلام) : فما الحق؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الإسلام والقرآن والخلافة.
قال (عليه السلام) : فما الوفاء؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : شهادة أن لا إله إلا اللّه.
قال (عليه السلام) : فما الراحة؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الجنة(2).
تنقسم الصدقة إلى أقسام عديدة أهمها:
1- صدقة المال: قد يكون الإنفاق بالمال من أبرز مصاديق الصدقة لكثر ماورد من الحثّ عليه وأهمية المال في بناء المجتمع وحل مشاكل الناس، فضلاً عن شدّة تعلّق الناس بالمال، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبًّا جَمًّا}(3).
ص: 372
وقال تعالى: {وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(1).
ومن هنا حثّ الشارع المقدّس على التصدّق بالمال، فقد سأل الحلبي الإمام الصّادق (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوْمَ حَصَادِهِ}(2) كيف أعطي؟
قال: تقبض بيدك الضّغث، فتعطيه المسكين، ثمّ المسكين حتّى تفرغ منه.
وإذا ناولت السّائل صدقة، فقبّلها قبل أن تناولها إيّاه، فإنّ الصّدقة تقع في يد اللّه قبل أن تقع في يد السّائل، وهو قوله عزّ وجلّ: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ}(3)(4).
2- عون الضعيف: لايخفى أنّ عنوان الصدقة غير مقتصر على إنفاق المال بل هو عنوان واسع يشمل أمور أخرى ومنها عون الضعيف ومساعدة المحتاجين، ومن المسلّم أن عون الآخرين عنوان عام يشمل الكثير من المصاديق.
3- صدقة السر: ندب أهل البيت (عليهم السلام) إلى صدقة السر أكثر من صدقة العلن، فعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: صدقة السر تطفيء غضب الرب، وتطفيء الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، ويدفع سبعين نوعا من البلاء(5).
ص: 373
هناك عدة آداب حبّذ الشارع المقدّس إليها وهي كثيرة ومربية للإنسان ومنها:
1- الدعاء عند التصدّق: يستفاد من الأحاديث الشريفة الورادة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ من مواطن استجابة الدعاء لدى التصدّق.
2- أن تكون يد المتصدّق هي السفلى.
3- أن يدعو المتصدّق عليه لباذل الصدقة.
4- التصدّق أول الصباح وآخر الليل.
5- التصدّق في أوقات خاصة.
6- التصدّق قبل السؤال.
ليس هناك شك أنّ الصدقة محبّذة ومندوب إليها شرعاً في كل الظروف وعلى مختلف أقسامها، ولكن الصدقة الجارية لها آثارها الكثيرة على المتصدّق بها أولاً وبالذات وعلى المجتمع ثانياً وبالعرض، فضلاً عن الثواب المستمر الذي يعود على المتصدّق مدى بقاء هذه الصدقة.
ومن أهم موارد الصدقة الجارية الواردة في الخبر المذكور هي:
1- المشاريع الخيرية: من خصائص المشاريع الخيرية أنّ آثارها غير منقطعة بل هي مستمرة مادام المشروع قائماً، وهي من مصاديق الصدقة الجارية التي تبقى خيراتها بعد الإنسان.
2- الولد الصالح: قد يستغرب البعض من نص الرواية ويقول: كيف
ص: 374
يكون الولد الصالح من مصاديق الصدقة الجارية؟
الجواب على على السؤال في نفس الرواية حيث بيّنت كيف يكون الولد صالح من مصاديق الصدقة الجارية وهو أن يدعو لوالده من بعده، بالطبع دعاء الولد الصالح مصداق وهناك مصاديق أخرى، فكل ما يكتسبه الولد من أعمال صالحه يشرك الوالد في الثواب به لأنه أساس هذه الأعمال والسبب في تحقّقها.
وفي الحديث أنّ نبي اللّه عيسى مرّ على قبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل، فإذا هو ليس يعذّب، فسأل ربّه، فأوحى اللَّه إليه أنّه قد أدرك له ولد صالح فأصلح طريقا، وآوى يتيما فغفرت له بما فعل ابنه(1).
ومن هنا أكد في الإسلام على الولد الصالح، فقد دعا نبي اللّه إبراهيم أن يهب اللّه له ولداً صالحاً، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ}(2).
وقال نبي اللّه زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنۢ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَٰلِيَ مِن وَرَاءِي وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}(3).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : واللّه ما سألت ربّي ولداً نضير الوجه ولا ولداً حسن القامة، ولكن سألت ربي ولداً مطيعين لله خائفين وجلين منه حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرّت به عيني(4).
ص: 375
3- علم ينتفع به: من أفضل مصاديق الصدقة الجارية هي العلوم التي يتركها الإنسان للآخرين كي يستفيدوا منها ويستنيروا من أنوارها، ففي الحديث عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ماتصدّق الناس بصدقة مثل علم يُنشر(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أفضل الصدقة أن يعلم المرء علماً ثم يعلّمه أخاه(2).
وفي الحديث عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : خير ما يخلّف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده(3).
ولعل من خيرة مصاديق العلم النافع أن يترك الإنسان تلاميذ علماء رباهم وأدبهم على العلم، ينشرون معالم الدين للآخرين ويروجون معارف أهل البيت (عليهم السلام) في مختلف أنحاء المعمورة.
ومن المصاديق الأخرى للصدقة الجارية في العلم هي الكتابة، وقد أكد أهل البيت (عليهم السلام) كثيراً في أحاديثهم ومن ذلك: وقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا فيما بينه وبين النار، وأعطاه اللّه عزّ وجل بكل حرف مكتوب عليها، مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات(4).
وقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : من مات وميراثه الدفاتر والمحابر وجبت له الجنة(5).
ص: 376
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
قال اللّه تعالى: {وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في شأن نزول الآية، قال: لما نزلت هذه الآية صعد إبليس جبلا فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيدنا لِمَ دعوتنا؟
قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟
فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأُمنّيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها إلى يوم القيامة(2).
الحديث في هذه الليلة حول آفات التوبة إلى اللّه عزّ وجلّ وهو بحث
ص: 377
مهم حري بالاهتمام به لما فيه من مدخلية كبيرة في علاج مشاكل الأمة حيث قادتهم الذنوب إلى الضياع.
فقد حدّدت الآية المباركة علاج المعاصي وذلك في:
1- ذكر اللّه والرجوع إليه.
2- الاستغفار من المعاصي والذنوب.
3- عدم الإصرار على المعصية.
مثل هذه الأمور كفيلة بقبول توبة العبد بل ومحوها بتاتاً، ولكن هناك آفات خطيرة تحول دون توبة العباد ورجوعهم إلى اللّه تعالى ورد بعضها في الرواية الشريفة.
منذ اليوم الذي طُرد فيها إبليس من رحمة اللّه حيث قال تعالى له: {قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}(1) تعهّد بإغواء الناس أجمعين قائلاً: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(2).
بالطبع للشيطان أساليب وحيل يوقع الإنسان من خلالها في المعاصي، منها الوسوسة والإغراء بالمعاصي وغيرها من شباك الشيطان، وهناك أساليب خطيرة اتخذها الشيطان مقابل عدم رجوع الناس إلى اللّه تعالى بالتوبة.
ص: 378
من الأمور التي دعا أكد عليها القرآن الكريم وأكد أهل البيت (عليهم السلام) هي المسارعة في التوبة إلى اللّه عزّ وجل وعدم تأخيرها، قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(1).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : الشيطان موكل به - أي العبد - يزين له المعصية ليركبها، ويمنيه التوبة ليسوفها(2).
وعنه (عليه السلام) أيضاً: لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل، ويرجي التوبة بطول الأمل... إن عرضت له شهوة أسلف المعصية وسوف التوبة(3).
وقال (عليه السلام) : إن قارفت سيئة فعجّل محوها بالتوبة(4).
وقال (عليه السلام) : مسوّف نفسه بالتوبة، من هجوم الأجل على أعظم الخطر(5).
وفي مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، قال: وأعنّي بالبكاء على نفسي، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري، وقد نزلت منزلة الآيسين من خيري(6).
ولايخفى أنّ السر في التشديد على المسارعة في الاستغفار وعدم التسويف لأمور منها عدم ضمان الموفّقية له فيما بعد، فقد يحرم المذنب الموفّقية للتوبة ويخسر بذلك رحمة اللّه.
ص: 379
وقد سجل لنا التأريخ نموذجين من الناس أمام التوبة أحدهما عمر بن سعد الذي باع دينه بدنيا غيره وطمع بملك الري ورجّحها على دم ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبرّر عمله بأبيات تبجّح بها أنّه سيتوب إلى اللّه قبل وفاته بسنتين، فأنشد قائلاً:
فواللّه ما أدرى وإنّي لصادق***أفكر في أمرى على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي***أم أصبح مأثوما بقتل حسين
حسين ابن عمّى والحوادث جمّة***ولكن لي في الريّ قرّة عيني
يقولون إنّ اللّه خالق جنة***ونار وتعذيب وغلّ يدين
فإن صدقوا ممّا يقولون إنّني***أتوب إلى الرحمن من سنتين
وبالمقابل يتجلّى موقف الحر بن يزيد الرياحي الذي لم يستسلم لتسويف الشيطان وآثر نصرة ابن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ملك يزيد، فلما رأى الحر الذي جعجع بالإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته ولم يتركهم يصلون الكوفة إصرار يزيد على مقاتلته أخذ يدنو من الإمام الحسين (عليه السلام) قليلاً قليلاً، فقال له مهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة، فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب، واللّه ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي:
من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحر: إنّي واللّه أخيّر نفسي بين الجنة والنار، فواللّه لا أختار على الجنة شيئا ولو قطّعت وأحرقت.
ثم ضرب فرسه فلحق الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقال له: جعلت فداك يا ابن
ص: 380
رسول اللّه أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، واللّه لو علمت أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وأنا تائب إلى اللّه ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) : نعم يتوب اللّه عليك(1).
من عادة الإنسان أنه إذا أذنب يؤنبّه ضمير ويوخزه وجدانه على الذنب فيهمّ بالتوبة والرجوع إلى اللّه عزّ وجل، ولكن الشيطان يسعى جاهداً دون ذلك فيشغله ويلهيه، قال عزّ من قائل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(2).
وفي آية أخرى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(3).
وقال في آية ثالثة: {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥ إِلَّا قَلِيلًا}(4).
ومن هنا أكد في الإسلام على التعجيل في التوبة والمسارعة فيها وعدم
ص: 381
تأخيرها، ففي وصية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى عبداللّه بن مسعود، قال: يابن مسعود، لاتقدّم الذنب ولاتؤخّر التوبة، ولكن قدّم التوبة وأخّر الذنب، فإنّ اللّه تعالى يقول في كتابه: {بَلْ يُرِيدُ ٱلْإِنسَٰنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُۥ}(1).
وعن الإمام الجواد (عليه السلام) : تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة(2).
وقال الإمام علي (عليه السلام) : لاتكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل، ويوسف التوبة بطول الأمل(3).
لايخفى أنّ من حبائل الشيطان الخطيرة هي استدراج الإنسان في المعاصي وجرّه نحو الكبائر، ومن هنا حث الإسلام على التعجيل في التوبة، وإلا فإنّ الشيطان يأخذ الإنسان إلى وادي سحيق لايستطيع الخلاص من ويلاته.
يقول ابن عباس: كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا، عبد اللّه زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذّهم فيبرؤون على يده، وإنه أتي بامرأة في شرف قد جنت وكان لها إخوة فأتوه بها وكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزّين له حتى وقع عليها فحملت، فلما استبان حملها قتلها ودفنها، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنّه دفنها في مكان كذا، ثم أتى بقية إخوتها رجلا
ص: 382
رجلا فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: واللّه لقد أتاني آت ذكر لي شيئا يكبر علي ذكره، فذكره بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب، فلما رفع على خشبته تمثّل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك أخلصك ممّا أنت فيه؟ قال: نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة، فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة؟ فقال: أكتفي منك بالايماء، فأومأ له بالسجود، فكفر باللّه، وقتل الرجل(1).
ص: 383
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: سئل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أحبُّ الناس إلى اللّه؟ قال: أنفع النّاس للنّاس(1).
قبل أن نتحدّث حول موضوع اليوم وهو قضاء حوائج الآخرين لا بأس أن نمهّد للحديث بمقدمة فنقول:
من حكم اللّه عزّ وجلّ المهمّة أن خلق الإنسان محتاجاً، وهذا الاحتياج لايخلو منه أحد حتى المعصومين (عليهم السلام) فهم محتاجون إلى اللّه عزّ وجلّ، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَاءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ}(2).
ومع الأسف معظم الناس يغفلون عن هذا الاحتياج لشدّة وضوحه وملازمته لهم وينخدعون ببعض زخارف الدنيا الزائلة فيتعاملون معه ويتناسون الواقع وهو أنّهم ضيوف في عالم الدنيا وكل مالديهم سيسلب منهم بطرفة عين.
ص: 384
ينقسم الناس بلحاظ حوائج الآخرين إليهم إلى قسمين:
الأول: الأنانيون: وهؤلاء ينكفأون على أنفسهم وينشغلون بملذّاتهم ولايعيرون الآخرين أيّ اهتمام بل همّهم الأول والآخر أنفسهم وأهوائهم وماتملي عليهم رغباتهم الذاتية، وقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) في أمثال هؤلاء: من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام له في حاجته ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولايؤجر(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : من أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له سلّط اللّه عليه شجاعاً ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة، مغفورا له أو معذّبا(2).
الثاني: من يتفاعلون مع حوائج الآخرين: وأمثال هؤلاء يخلّدون في التأريخ ويبقون موضع احترام الآخرين فضلاً عن مقامهم المحمود عند اللّه عزّ وجل، ففي الحديث القدسي: الخلق عيالي، فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم(3).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: في قول اللّه عز وجل: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}(4) قال: نفّاعا(5).
ص: 385
هناك عناية خاصة من الشارع المقدس بمسألة قضاء حوائج الآخرين والشواهد على ذلك كثيرة منها:
ما ورد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: الخلق كلّهم عيال اللّه فأحبّ الخلق إليه أنفعهم لعياله(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ لله تعالى عباداً خلقهم لحوائج الناس، آلى على نفسه أن لا يعذّبهم بالنار، فإذا كان يوم القيامة وضعت لهم منابر من نور، يحدّثون اللّه والناس في الحساب(2).
وذات يوم مرّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيهودي يحتطب، فقال لأصحابه: إنّ هذا اليهودي ليلدغه اليوم حية ويموت، فلمّا كان آخر النهار رجع اليهودي بالحطب على رأسه على جاري عادته.
فقال الجماعة: يا رسول اللّه ما عهدناك تخبر بما لم يكن.
فقال: وما ذلك؟
قالوا: أخبرت اليوم: بأنّ هذا اليهودي يلدغه أفعى ويموت وقد رجع.
فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : عليّ به، فأتي به إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فقال: يا يهودي! ضع الحطب وحلّه، فحلّه فرأى فيه أفعى.
فقال: يا يهودي، ما صنعت اليوم من المعروف؟ فقال: إنّي لم أصنع شيئاً منه غير أنّي خرجت ومعي كعكتان، فأكلت إحداهما، ثم سألني سائل
ص: 386
فدفعت إليه الأخرى.
فقال له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : تلك الكعكة خلّصتك من الأفعى، فأسلم على يده(1).
وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ لله عزّ وجلّ خلقاً خلقهم لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب اللّه يوم القيامة(2).
وقال (عليه السلام) : من قضى لأخيه حاجة، كنت واقفاً عند ميزانه، فإنّ رجّح وإلا شفعت؟(3) وقال الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن جدّه عن علي (عليهم السلام) : إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: من مشى في عون أخيه فله ثواب المجاهدين في سبيل اللّه(4).
الإمام الصادق (عليه السلام) : من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في منفعة برّاً أو تيسير عسر، أعين على إجازة الصراط يوم دحض الأقدام(5).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : من قضى لأخيه المؤمن حاجة، قضى اللَّه له يوم القيامة مائة ألف حاجة(6).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف نسمة، ومن حُملان ألف فرس في سبيل اللَّه(7).
ص: 387
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : لقضاء حاجة امريء مؤمن أحبّ إلى اللَّه من عشرين حجّة...(1).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : من ذهب مع أخيه في حاجة قضاها، أو لم يقضها، كان كمن عبد اللَّه عمره(2).
بل كان الأئمة الأطهار (عليهم السلام) يتصدّون لهذا الأمر حيث كانوا يتفقّدون المحتاجين ويمدّونهم بالمساعدات، ففي أحوال الإمام زين العابدين (عليه السلام) ورد أنه لمّا استشهد وغسّلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، فقالوا ما هذا؟ فقيل: هذا أثر الجراب(3).
وفي الخبر عن المعلّى بن خنيس، قال: خرج أبو عبد اللّه (عليه السلام) في ليلة قد رشّت(4) وهو يريد ظلة بني ساعدة فأتبعته فإذا هو قد سقط منه شيء، فقال: بسم اللّه اللّهم ردّ علينا، قال فأتيته فسلّمت عليه، قال: فقال: معلّى؟ قلت: نعم جعلت فداك. فقال لي: التمس بيدك فما وجدت من شيء فادفعه إليّ، فإذا أنا بخبز منتشر كثير فجعلت أدفع إليه ما وجدت فإذا أنا بجراب(5) أعجز عن حمله من خبز، فقلت: جعلت فداك أحمله على رأسي؟ فقال: لا أنا أولى به منك ولكن امض معي، قال: فأتينا ظلّة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين حتى أتى على آخرهم ثم انصرفنا، فقلت: جعلت
ص: 388
فداك يعرف هؤلاء الحق؟ فقال: لو عرفوه لواسيناهم بالدقّة(1).
لم يقتصر أهل البيت (عليهم السلام) على حثّ الناس إلى قضاء حوائج الآخرين بل نشروا بينهم آداب ذلك ومنها السؤال ممّن يتوقّع منهم الإجابة، وإلا فالكثير من الناس قد يتعرّض الإنسان إلى سؤالهم حوائجه ولكنّهم لايحرّكون ساكناً من أجل قضاء الحوائج، وإلى ذلك يشير أميرالمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قائلاً: ماء وجهك جامد يقطره السؤال فانظر عند من تقطره(2).
ومن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) : فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها(3).
وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام) لمن قال بحضرته - اللّهم أغنني عن خلقك - : ليس هكذا، إنّما الناس بالناس، ولكن قل: اللّهم أغنني عن شرار خلقك(4).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لولده الحسن (عليه السلام) : يا بني إذا نزل بك كلب الزمان وقحط الدهر فعليك بذوي الأصول الثابتة والفروع النابتة من أهل الرحمة والإيثار والشفقة فإنّهم أقضى للحاجات وأمضى لدفع الملمّات، وإياك وطلب الفضل واكتساب الطساسيج(5) والقراريط(6) من ذوي الأكف اليابسة والوجوه العابسة فإنّهم إن أعطوا منّوا وإن منعوا كدّوا،
ص: 389
ثم أنشأ يقول:
واسأل العرف إن سألت كريما***لم يزل يعرف الغنى واليسارا
فسؤال الكريم يورث عزّا***وسؤال اللئيم يورث عارا
وإذا لم تجد من الذلّ بدا***فالق بالذل إ ن لقيت كبارا
ليس إجلالك الكبير بعار***إنّما العار أن تجلّ الصغارا(1)
وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: اطلبوا المعروف والفضل من رحماء أمّتي تعيشوا في أكنافهم(2).
من جانب آخر حثّ أهل البيت (عليهم السلام) الناس أن يبادروا هم إلى أصحاب الحوائج لا أن يتنظروا ذوي الحوائج كي يراق ماء وجههم بالسؤال، فعن الإمام الحسن (عليه السلام) قال: التبرع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال من أكبر السؤدد(3).
وسأل معاوية الإمام الحسن عن الكرم، والنجدة والمروة؟ فقال (عليه السلام) : أما الكرم فالتبرّع بالمعروف، والإعطاء قبل السؤال(4).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ابدأ السائل بالنوال قبل السؤال فإنك إن أحوجته إلی سؤالك أخذت من حرّ وجهه أكثر ممّا أعطيته(5).
وقال (عليه السلام) : أفضل النوال ما وصل قبل السؤال(6).
ص: 390
وقال (عليه السلام) : من بذل النوال قبل السؤال فهو الكريم المحبوب(1).
هناك عدّة آثار جديرة بالاهتمام لقضاء حوائج الآخرين بعضها تعود على المجتمع وبعضها تعود على الفرد الذي يسعى بقضاء حوائج الآخرين، أمّا الآثار التي الاجتماعية لقضاء حوائج الآخرين فمنها:
1- التآلف الشديد: المجتمع الذي يكثر فيه من يفكرون بالآخرين ويسعون في قضاء حوائج عادة ما يكون مجتمعاً متآلفاً بعيداً عن الانحرافات والمفاسد، وبخلافه المجتمعات التي ينطوي أهلها على أنفسهم ولايفكرون بالغير فعادة ما تستشري بينه المشاكل وتعم فيه المفاسد ويسلّط اللّه عليهم من لا يرحمهم.
وقد قدّم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذا المجال خير أنموذج حيث ربّى المسلمين في بداية الإسلام حتى أنّ الرجل من الأنصار لما قدم إليهم المهاجرون كان يطلق إحدى زوجتيه لكي تعتد وتتزوّج من المهاجر.
2- قلّة المشاكل: لايكاد يخلو مجتمع من المجتمعات من المشاكل والأزمات التي تعرقل مسيرة العيش وتهدّد استقراره، بل إنّ بعض الأزمات والمشاكل تقود المجتمع إلى السقوط.
ومن عادة المجتمعات التي يكثر فيها الخيّرون من أصحاب الخدمات الذين يتحسّسون بالآخرين تقلّ فيها المشاكل ويكثر فيه الانسجام والألفة.
ص: 391
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
عظّم اللّه أجورنا وأجوركم بذكرى استشهاد خاتم النبيين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ففي مثل هذه الليلة تصادف ذكرى شهادة النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سيد الأولين والآخرين.
قال اللّه عزّ وجلّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).
بعث اللّه الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى البشرية كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذلك في زمن ساد فيه الجهل وعمّت فيه الخرافات بين أوساط الناس، فكانت بعثة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة لهم.
وكل من يراجع تأريخ الجاهلية ويدقّق في أحوالهم يلاحظ بوضوح مدى إنحطاطهم وانحرافهم وبعدهم عن المباديء والقيم، وإلى ذلك تشير الصديقة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها قائلة: وكنتم على شفا حفرة من النار، ...
ص: 392
مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الرّنق، وتقتاتون القدة، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم بنبيه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).
ووصف جعفر بن أبي طالب رضوان اللّه عليه لملك الحبشة حالة الأمة قبل بعثت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: أيها الملك كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللّه لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. فصدّقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من اللّه، فعبدنا اللّه وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذّبونا وفتنونا عن ديننا(2).
مثل هذه الأمة المنحرفة التي كان يحكمها البطش والجور وتسودها الخرافات والعادات الجاهلية شاءت إرادة السماء أن تستنقذها بنبي الرحمة الذي بعث إليهم رحمة، قال تعالى: {وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(3).
ص: 393
وقد حدّدت بعض الآيات الحكمة من بعثة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومنها:
قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلْأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ}(1).
وفي آية أخرى قال عزّ من قائل: {هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلْأُمِّيِّۧنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(2).
ولايخفى أنّ إنقاذ مجتمع بهذا المستوى من الانحطاط صعب جداً، فرغم تأييد اللّه عزّ وجل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورفده بالمعجزات ومنها القرآن الكريم إلا أنّ كثيراً من الناس لم يؤمنوا به للمعاجز بل شكّكوا به بحجج مختلفة منها:
قولهم: {وَقَالُواْ أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(3).
وقولهم: {أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ}(4)،
وغير ذلك من التهم والأساطير التي رموا بها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
ولكن هناك أمر مهم لم يستطع المشركون التشكيك به أو إنكاره وهي أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقد أقرّ الجميع له بالخُلق العظيم والسجايا الطيبة الأمر
ص: 394
الذي جعل المشركين يحذّرون الآخرين من خُلقه ويتهمونه بالجنون والسحر وغير ذلك.
كانت أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عظيمة بحيث إنّ الباري تعالى خصّها من سائر خصوصياته بالذكر، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1)، وفي آية أخرى قال عزّ من قائل: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ}(2).
وهنا يطرح السوال التالي وهو: ماهي وظيفتنا إزاء أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) العظيمة؟
قبل الإجابة على السؤال لابأس من بيان بعض الصور من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومنها:
عن الصيقل قال: سمعت أبا عبد اللَّه (عليه السلام) يقول: مرّت امرأة بذيئة برسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يأكل وهو جالس على الحضيض، فقالت: يا محمد إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه، فقال لها رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّي عبد وأيّ عبد أعبد منّي؟
قالت: فناولني لقمة من طعامك، فناولها. فقالت: لا واللَّه إلا الذي في فيك، فأخرج رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اللقمة من فيه فناولها فأكلتها، قال أبو عبد
ص: 395
اللَّه (عليه السلام) : فما أصابها بذاءٌ حتى فارقت الدنيا(1).
وكان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتى يسأل، وكان المسلمون إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته.
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسلّم على الصبيان والنسوة، وذات يوم أتاه رجل يكلّمه فأرعد، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : هوّن عليك فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد(2).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل(3).
وعن أنس بن مالك، قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، وكان يوم خيبر ويوم قريظة والنضير على حمار مخطوم(4)
بحبل من ليف تحته أكاف من ليف(5).
ونقل المؤرّخون أنّ المشركين في إحدى الحروب آذوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كثيرا ولكنه لم يقابلهم بالإساءة، بل دعا لهم قائلاً: اللّهم اهد قومي فإنّهم لايعلمون.
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يسلّم على الجميع، وإذا صافحه أحد لايستلّ يده قبل أن يسحب الطرف المقابل يده.
ص: 396
بدأت مشاكل المسلمين منذ أن ابتعدوا أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السماوية التي غرسها بينهم وربّاهم عليها فصاروا يتبعون أخلاق البعيدين فآل بهم الأمر إلى ماهم عليه اليوم من الانحراف والفساد، ففقدوا بذلك عزّتهم ومنعتهم وصاروا طعمة للآخرين بعد أن كانوا رواد الحضار وقادة الشعوب.
ولكي يسعد المسلمون اليوم في دنياهم ويعمّروا آخرتهم لابد من الرجوع إلى أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) ولانجاة لهم إلا بذلك، وإلا فإنّ حالهم سيبقى هكذا من سيء إلى أسوأ.
ومن أهم مجالات التأسّي بأخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي:
1- أخلاق النفس: قبل أن نناشد المجتمعات والشعوب بالتأسّي بأخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لابد أن يتخلّق كل مسلم بأخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويتطبّع بسجاياه الحميدة ويقتدي بطبايعه الكريمة ومكارمه السماوية.
وهذا يحتاج أن يطلع كل إنسان على أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مختلف مجالات الحياة ويعرف أخلاقه فيها ويسعى إلى التطبّع بها والتخلّق بها.
وما لم يتخلّق الإنسان بأخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من البعيد أن يوفّق في دعوة الآخرين إلى التحلّي بأخلاق النبي والتأسي بها، وكما يقال: فاقد الشيء لايعطيه.
2- أخلاق الأسرة: تعتبر الأسرة أساس كل مجتمع ودعامته، فإذا كانت الأسرة في المجتمعات تحكمها الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، والخصال الحميدة فإنّ ذلك ينعكس بوضوح على المجتمع الأكبر وتتجلّى آثاره الحسنة عليه، وبالعكس تماماً فإنّ المجتمعات الفاسدة اليوم كثيرة منها
ص: 397
فسدت لفساد الأسر وابتعادها عن الأخلاق الفاضلة.
وفي سيرة النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هناك الكثير من الدروس الأخلاقية في الأسرة لو سادت اليوم بين الأسر لعاش الناس حياة فاضلة ملؤها الخير والسعادة.
فقد نُقل أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتحمّل سوء خلق بعض زوجاته ويقابل إساءتهن بالإحسان، حتى أنّ أحداهن تجاسرت عليه، فقالت: أنت الذي تزعم أنّك نبي اللّه؟(1)
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوصي بالأهل خيراً حتى قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : عيال الرجل اُسراؤه وأحبّ العباد إلى اللّه عزّ وجل أحسنهم صنعا إلى أسرائه(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ألا خيركم خيركم لنسائه وأنا خيركم لنسائي(4).
وقال (عليه السلام) : من احتمل من امرأته ولو كلمة واحدة أعتق اللّه رقبته من النار، وأوجب له الجنة، وكتب له مائتي ألف حسنة، ومحا عنه مائتي ألف سيئة، ورفع له مائتي ألف درجة، وكتب اللّه عزّ وجل له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة(5).
ص: 398
وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما من عبد يكسب ثم ينفق على عياله إلا أعطاه اللّه بكلّ درهم ينفقه على عياله سبعمائة ضعف(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : خير الرجال من أمتي الذين لا يتطاولون على أهليهم ويحنون عليهم ولا يظلمونهم، ثم قرأ {ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} الآية(2)(3).
3- أخلاق المجتمع: وهي العمدة وأساس بعثة الرسل كافة، فهم قد بعثوا ليهذّبوا أخلاق المجتمعات وينقذوها من الجهل وحيرة الضلال، ويغرسوا فيهم الأخلاق الفاضلة، خاصة النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي بعث في مجتمع ضال منحرف تسوده الجاهلية حتى وصفته الصديقة الزهراء (عليها السلام) بقولها: كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطأ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلّة خاشعين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم اللّه برسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (4).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة. في بلاء أزل، وإطباق جهل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملته طاعتهم، وجمع على دعوته ألفتهم(5).
ص: 399
وقال (عليه السلام) أيضاً: بعثه والناس ضلال في حيرة، وحاطبون في فتنة. قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء.
حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة(1).
هكذا مجتمع خرج منه ببركة أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عظماء التأريخ أمثال سلمان المحمدي، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وغيرهم ممّن تأثروا بأخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
مقابل أخلاق كهذه ينبغي للمسلمين أن:
1- أن يوصلوا أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للعالم الأكبر ليطلع عليها ويعرف عظمة سيد المرسلين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
2- أن يعرّفوا الأجيال على مرّ العصور بأخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويربّوها على أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
3- أن نسعى في إقحام أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل المجالات ومنها مناهج الدراسية المختلفة، والدوائر، والإعلام، وغيرها من المراكز المؤثرة على المجتمع.
ص: 400
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
تطلّ علينا اليوم ذكرى أليمة ومهمّة في نفس الوقت ألا وهي ذكرى شهادة الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ، ولذا فإنّ الحديث هذه الليلة سيدور حول بعض الدروس المهمّة من مدرسة هذا الإمام المظلوم (عليه السلام) .
فمن آثار الأئمة الأطهار (عليهم السلام) المباركة هي تربية المجتمعات والأخذ بأيديها إلى الكمال الحقيقي الذي أكد عليه الشارع المقدّس ودعت الشرائع كافّة إليه ألا وهو التخلّق بأخلاق اللّه تعالى. ولا يخفى أنّ أهل البيت (عليهم السلام) اهتمّوا بهذا المجال اهتماماً خاصاً وأولوه عناية فائقة لما له من الأهمية في نظر الإسلام والشواهد التاريخية والروايات الشريفة تدل على ذلك بوضوح.
ومن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) الذين كانت لهم يد طائلة على المجتمع الإسلامي بل وعلى العالم على مرّ الزمان هو سيد الساجدين مولانا الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الذي قدّم للعالم أفضل الصور التربوية وخير الشواهد الأخلاقية الدالة على عظمته أولاً وعظمة الإسلام الحنيف الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق.
ص: 401
ورغم ذلك فإنّ العالم اليوم - مع الأسف الشديد - مقصر في حقّ الإمام السجاد (عليه السلام) إذ أنْ أغلب الناس لا يعرفون عن هذا الإمام المظلوم ولا عن أخلاقياته شيئاً والحال أنه (عليه السلام) إمام لكل الناس وقدوة وأسوة حسنة للبشرية كافة، لذلك ولكي نزيح قطرة من هذه الجهالة بحق سيدنا ومولانا الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وجدت من الجدير أن أسلّط الأضواء على بعض الصور الأخلاقية التي قدّمها (عليه السلام) للمجتمعات عبر العصور المختلفة.
وقبل أن نشرع بذكر بعض هذه الصور ينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الصور الأخلاقية ليست للاستعراض فقط، بل هي للإتعاظ والتأسّي والاقتداء بها.
إنّ المجتمع في عهد الإمام (عليه السلام) كان منحطاً إلى أبعد الحدود وخير شاهد على ذلك هو قتلهم لسيد الشهداء (عليه السلام) وفعلهم به ما فعلوا وغير ذلك من الصور التي تدلّ على انحطاط المجتمع، بالطبع هذا لا يعني أنّ الإمام (عليه السلام) حينما يقدّم هذه الصورة التربوية مراده أولئك الأشخاص وحسب بل إنّ دروسه ودروس بقية المعصومين (عليهم السلام) هي للبشرية عامة وعلى مرّ التاريخ. وقد صاغ إمامنا السجاد (عليه السلام) بهذه الصور العظيمة معالم مجتمعه من حوله. ومنها:
إحدى الأمور المهمة التي كانت جذبت الناس إلى أهل البيت (عليهم السلام) وجعلتهم يعتقدون بهم هي عظمة الأخلاقيات العملية التي كانوا يشاهدونها بأمّ أعينهم من قبل الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، فقد كان الناس يشاهدون كل يوم
ص: 402
كيف يعفو الأئمة الأطهار (عليهم السلام) عن الناس ويقابلون إساءاتهم بالإحسان واللطف ممّا يجعلهم يعتقدون بهم أكثر فأكثر. وكذا هو الحال بالنسبة للإمام السجاد (عليه السلام) ، فكان يربّي الناس عملياً ويريهم أخلاقيات أهل البيت (عليهم السلام) عملياً ويترك الناس كي يقضوا بأنفسهم ويقارنوا بين أخلاقيات أهل البيت (عليهم السلام) وأخلاقيات أعداءهم. وبطبيعة الحال فإنّ الإمام (عليه السلام) لما قدّم هذه الصور لم يكن يقصد المقايسة فهو من أهل بيت لا يُقاس بهم أحد ومن الذين لا يريدون من الناس جزاءاً ولا شكوراً إلاّ أنّ من عادة الناس أن يقيسوا بين أخلاقيات الأخيار وأخلاقيات الأشرار خاصة إذا كان الأشرار متصدّين للخلافة الإسلامية وما أشبه من السلطات الحاكمة.
على أية حال فإنّ من الصور العظيمة التي قدمها الإمام السجاد (عليه السلام) في مجال العفو؛ ما عن الإمام الباقر (عليه السلام) وغيره قالوا: وقف رجل علي بن الحسين (عليه السلام) فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه - أي لم يرد عليه الإمام - فلما انصرف قال (عليه السلام) لجلسائه: لقد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا منّي ردّي عليه، فقالوا له: نفعل. ولقد كنّا نحب أن تقول له ونقول، فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}(1)
فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به، فقال (عليه السلام) : قولوا له: هذا علي بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثّباً للشرّ وهو لا يشك أنه إنما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : يا أخي إنك كنت قد
ص: 403
وقفت عليَّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنتَ قلتَ ما فيّ فأستغفر اللّه منه، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيّ فغفَر اللّه لك، قال: فقبّل الرجل بين عينيه، وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحقّ به(1).
انظر عزيزي القارئ كيف أنّ الإمام (عليه السلام) يحرص أنّ يشهد الناس ويلاحظوا بأنفسهم العفو عن المسيء ليقتدوا به ويتربّوا على ذلك ويتعاملوا فيما بينهم بمثل هذه الأخلاقيات العظيمة.
ونُقل أنه (عليه السلام) كان خارجاً فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال لهم الإمام (عليه السلام) : مهلاً كفّوا، ثم أقبل على ذلك الرجل، فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه الإمام (عليه السلام) خميصة(2) كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل(3).
كما أنّ هناك جانباً آخر أكد عليه الإمام زين العابدين (عليه السلام) وبقي طيلة حياته المباركة يدعو إلى إتقان أخلاقياته وتحصيل آدابه إلاّ وهو جانب العبودية لله تعالى والتأدّب بالآداب المطلوبة أمام ملك الملوك وربّ الأرباب عزَّ وجل.
وفي واقع الأمر فإنّ كثيراً من التراث الشيعي يتجلّى في بوتقة الدعاء
ص: 404
والأذكار التي تظهر فيها معالم العبودية وعظمة الخالق، وقد وصلت هذه الدرر إلينا من سيد الساجدين وزين العابدين عليه أفضل الصلاة والسلام.
وبقي هذا الإمام المظلوم (عليه السلام) يغرس في المجتمع آداب الدعاء وأخلاقياته ويعلّم البشرية كافّة كيف تخاطب سيدها ومولاها وربّها، وبأيّ كلمات وبأيّة صياغة.
ومن جانب آخر كان الإمام (عليه السلام) يدعو الناس إلى عدم الاتكال على الأمور المزيّفة التي لا تغني ولا تفيد كالاعتماد على النسب وغيره، بل عليهم أن يربّوا أنفسهم بالاتكال على الأعمال الصالحة ويجعلونها كمناط عام في كل أمور حياتهم. ففي التاريخ أنّ فاطمة بنت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أتت إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري، فقالت له: يا صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّ لنا عليكم حقوقاً ومن حقّنا عليكم أن إذا رأيتم أحداً يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه اللّه، وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقيّة أبيه الحسين قد انخرم أنفه ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه أذاب نفسه في العبادة، فأتى جابر إلى بابه واستأذن، فلمّا دخل عليه وجده في محرابه قد انضته - أي أهزلته - العبادة، فنهض عليُّ (عليه السلام) فسأله جابر عن حاله سؤالاً حفيّاً، ثم أجلسه بجنبه، ثم أقبل جابر يقول: يا بن رسول اللّه أما علمت أنّ اللّه خلق الجنة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟! فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : يا صاحب رسول اللّه: أما علمت أنّ جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يدع الاجتهاد له، وتعبّد - بأبي هو وأُمّي - حتى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخرّ؟ قال: أفلا أكون عبداً
ص: 405
شكوراً، فلما نظر إليه جابر، وليس يغني فيه قول، قال: يا ابن رسول اللّه البقيا على نفسك فإنك من اُسرة بهم يستدفع البلاء، وتستكشف الأواء، وبهم تستمطر السماء، فقال: يا جابر لا أزال على منهاج أبويَّ مؤتسياً بهما صلوات اللّه عليهما حتى ألقاهما، فأقبل جابر على من حضر، فقال لهم: واللّه ما رُؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين، إلاّ يوسف بن يعقوب، واللّه لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف(1)...
هكذا كان للإمام السجاد (عليه السلام) اليد الطولى في تربية العالم إلى يوم القيامة على الدعاء والمناجاة والتوسّل باللّه عزَّ وجلّ. ولعلّ خير شاهد على ذلك الصحيفة السجادية - زبور آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ذلك الكنز الضخم الذي قدّمه الإمام للعباد. ففي مختلف المجالات وعلى مرّ الأزمنة يجد الإنسان أنه يستطيع مناجاة اللّه عزَّ وجل بعبارات قدسية تأخذ بمجامع القلوب وتحيي النفوس وتترك آثارها الروحانية على نفوس العباد.
وفي هذه الصحيفة المباركة يجد الإنسان بعض الأدعية ذات المضامين العظيمة مثل دعاء مكارم الأخلاق، وغيره، وهناك طائفة أخرى في تهذيب النفس مثل المناجاة التي كان الإمام (عليه السلام) يناجي بها ربه عزَّ وجلّ فضلاً عن بقية الأدعية في بقية المناسبات مثل أدعيته (عليه السلام) يوم العيد ويوم عرفة وغيرها من المناسبات.
كما أنّ بعض الأدعية للإمام (عليه السلام) تذكّر الإنسان بنعم اللّه تعالى وفضائله التي لا تحصى عليه فضلاً عن الأدعية التي تربط المرء وجدانيا بعالم الآخرة
ص: 406
وأهوال القبر وحالات ما بعد الممات حيث يقول الإمام (عليه السلام) في دعاءه المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي: فما لي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إيّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرّة عن يمني وأخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأن غير شأني لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة وذلة(1).
والإمام من خلال هذه الأدعية القدسية جعل المجتمع في دورة روحانية تربطه باللّه تعالى طيلة عمره وفي كل الأوقات الأمر الذي جعل الكثير من أولياء اللّه تعالى يتخرجون من هذه المدرسة الإلهية.
يبقى القول إنّ الشيعة اليوم أمامهم مسؤولية عظيمة ألا وهي إيصال صوت الإمام السجاد (عليه السلام) إلى العالم من خلال طرح الشواهد الأخلاقية العظيمة التي قام بها الإمام (عليه السلام) فضلاً عن المدرسة الروحانية التي ما زالت أبوابها مشرّعة أمام البشرية كافة علّهم يستفيدون من بركاتها ويتعلّموا كيف يصلون إلى ربّ الأرباب ويحسنون آداب الخطاب معه عبر هذه الأدعية القدسيّة التي خلّفها سيد الساجدين (عليه أفضل الصلاة والسلام) في حياته. ونأمل من اللّه تعالى أن يكون ذلك الإيصال قريبا، ويتحقّق حلمنا بتأسيس قناة فضائية تتولّى هذه المهمة العظيمة إن شاء اللّه.
ص: 407
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
من الأمور المسلّمة لدى المسلمين كافة، في عهد الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجود المنافقين بين صفوفهم، وقد أشارت الآيات المباركة إلى ذلك في أكثر من موضع ومنها: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ}(1).
وقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلْكَٰفِرِينَ وَٱلْمُنَٰفِقِينَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}(2).
وقال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ إِلَّا غُرُورًا}(3).
بل هناك سورة كاملة في القرآن الكريم باسم «المنافقون» أشارت إلى
ص: 408
وجودهم بين المسلمين وتعرّضت إلى صفاتهم وحالاتهم، ومن ذلك قوله عزّ وجل: {إِذَا جَاءَكَ ٱلْمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ * ٱتَّخَذُواْ أَيْمَٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * ۞وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ * هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1).
وقد بقي هؤلاء المنافقون يتآمرون على المسلمين ويتربّصون بهم الدوائر ويحيكون لهم المؤامرات والدسائس والمكائد ليل نهار حتى صرّح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنّه لا يخشى على المسلمين من الكفّار وإنما يخشى عليهم من العدو الخفي وهم المنافقون.
ولا يخفى أنّ المؤامرات التي كان المنافقون يدبّرونها ضد المسلمين خاصة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) لا تكاد تُعدّ أو تُحصى حتى أنّهم أرادوا اغتيال سيد المرسلين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مؤامرات خطيرة، إلاّ أنّ عناية السماء حالت
ص: 409
دون ذلك فعادوا خائبين وهم يجرّون أذيال الحسرة والعار بعد أن فضحهم حذيفة اليماني وأطلع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على شخصياتهم واحداً واحداً.
على الرغم أنّ أعمال المنافقين كانت واضحة جداً إلاّ أنّ كثيراً من الناس بقي مخدوعاً بهم ولم يطّلع على نواياهم الخبيثة وضغائنهم الدفينة ضد الإسلام إلاّ بعد استشهاد النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث كُشف قناعهم وانكشفت شخصياتهم المتقلّبة كالشمس في رابعة النهار.
نعم، فقد كانت شهادة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بداية الفضيحة للمنافقين وكانت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) العنصر الأساسي في فضيحتهم.
فلما تجاسر المنافقون واغتصبوا خلافة وصيّ الرسول وانقلبوا على أعقابهم انبرت سيدة نساء العالمين (عليها السلام) لهم وكشفت للأجيال عبر العصور المختلفة مدى نفاقهم وعدم إيمانهم برسالة النبي المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وذلك عبر أمور مختلفة، منها:
1- عدم إيمانهم باللّه: حيث أثبتت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) للعالَم بأسره أنّ أهل السقيفة لم يكونوا يؤمنوا باللّه تعالى طرفة عين، وذلك لمخالفتهم كتاب اللّه تعالى ووصايا رسوله الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فلما اغتصب أبو بكر بمعونة عمر بن الخطاب الخلافة مع عِلمهما واعترافهما أنّهما ليسا بأهل لها، خطبت الزهراء (عليها السلام) خطبتها النارية التي أزاحت فيها ستار الحقيقة وكشفت عن نفاق القوم ومخالفتهم للقرآن، فقالت: سبحان اللّه! ما كان أبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن كتاب اللّه صادفاً، ولا
ص: 410
لأحكامه مخالفاً، بل كان يتبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب اللّه حكماً عدلاً، وناطقاً فصلاً، يقول: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ}(1)،{وَوَرِثَ سُلَيْمَٰنُ دَاوُۥدَ}(2) فبيّن عزّ وجل فيما وزّع عليه من الأقساط، وشرّع من الفرايض والميراث، وأباح من حظّ الذكران والإناث ما أزاح علّة المبطلين، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين، كلاّ {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ}(3)(4).
وقالت في موضع آخر من خطبتها المباركة: يابن أبي قحافة! أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئتَ شيئاً فريّاً أفعلى عمَدٍ تركتم كتاب اللّه، ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَٰنُ دَاوُۥدَ} وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا (عليهما السلام) إذ قال: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ}(5) وقال: {وَأُوْلُواْ ٱلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ}(6) وقال: {يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنثَيَيْنِ}(7) وقال: {إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقًّا
ص: 411
عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ}(1)، وزعمتم ألاّ حظوة لي، ولا أرث من أبي ولا رحم بيننا!
أفخصّكم اللّه بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إن أهل ملّتين لا يتوارثان، ولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟(2).
وفي كلامها هذا إشارة صريحة أنّ القوم لا يعتقدون بكتاب اللّه عزّ وجل ويخالفون أحكامه جهاراً، وهذا خير دليل على ردّهم لكلام اللّه تعالى، والرادّ لكلامه عزّ وجل رادّ عليه، وهذا لا يكون إلاّ عند الكافرين والمنافقين.
2- عدم الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فمن الشرائط الأساسية للإسلام هو الإيمان بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والاعتقاد بما جاء به وعدم مخالفة وصاياه التي أوصى بها.
ومع الأسف الشديد فإنّ المنافقين كانوا دائماً يخالفون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويخالفون وصاياه الخالدة في حياته وبعد شهادته، ومن ضمن المخالفات التي خالف المنافقون وصايا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيها هو تجاسرهم على بضعته وردّهم لأحاديثه الشريفة المنادية إلى مودّتها، ومنها قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لسلمان: «يا سلمان، مَن أحبّ فاطمة بنتي فهو معي في الجنّة، ومَن أبغضها فهو في النار، يا سلمان، حبّ فاطمة ينفع في مئة من المواطن، أيسر تلك المواطن الموت والقبر والميزان والمحشر والصراط والمحاسبة، فمَن رضيَتْ عنه ابنتي رضيتُ عنه، ومَن رضيتُ عنه رضي اللّه عنه، ومَن غضِبَتْ عليه غضبتُ عليه، ومَن غضبتُ عليه غضب اللّه عليه. يا سلمان، ويل لمَن يظلمها ويظلم
ص: 412
أمير المؤمنين علياً، وويل لمَن يظلم ذرّيتها وشيعتها(1).
ونحن إذا وضعنا هذا الحديث وراجعنا كتب الحديث المصرّحة أنّها دعت على أبي بكر وعمر عندما عادياها وقالت: «اللّهمّ اشهد أنّي واجدة عليهما» ندرك مدى نفاق القوم ودور بضعة المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كشف هذا النفاق المبطّن، بل إنّ الزهراء (عليها السلام) صرّحت في خطبتها عن جفاء الأمّة - وعلى رأسها المنافقين - لها وعدم رعايتها، فقالت مخاطبة للأنصار: يا معاشر الفتية، وأعضاد الملّة، وأنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقّي؟ والسنة عن ظلامتي؟ أما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبي يقول: «المرء يُحفظ في وُلده»؟ سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما أحاول وقوّة على ما أطلب.
3- مخالفة الأحكام، ولا يختلف اثنان أنّ المنافقين على مرّ التاريخ يخالفون الأحكام بل ويحاربونها ولكن بخفاء ومكر واللجوء إلى الحيل والألاعيب الشيطانية.
وهذا ما حصل تماماً وعلى وجه الدقّة في قضية فدك التي غصبها القوم، فلما غصبوها تذرّعوا بصنع حديث مجعول ينصّ على أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث وما تركناه صدقة. فاضطرّت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) أن تحاججهم بكتاب اللّه إلاّ أنّهم ردّوا الكتاب وتمسّكوا بحديث مجعول.
ومن جانب آخر كانت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) ذات يد، ولا يُطالَب
ص: 413
صاحب اليد بالبينة بل هي على المدّعي إلاّ أنّ أبا بكر طالَبها بالبينة فجاءت بخير الناس وأشرفهم وأطهرهم وهم أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فشهدوا لها أنّ فدك كانت نحلة لها حباها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بها، إلاّ أنّ أبا بكر رفض وأصرّ على مخالفة أحكام اللّه وبذلك كشف للتاريخ عن عدم اعتقاده بأحكام اللّه وما كان يخفيه أعواماً طويلة، وكان الفضل في ذلك للصدّيقة الزهراء (عليها السلام) .
ص: 414
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(1).
إحدى الأمراض النفسية الخطيرة التي حذّر منها الشارع المقدس هو الظن السيء الذي لايحيق إلا بأهله، فلكي نبني مجتمعاً صالحاً بعيداً عن الانحرافات لابد من تجنّب سوء الظن واستبداله بحسن الظن.
في مقدمة الأمور التي حذّر منها الشارع المقدّس ودعا إلى تجنّبها هو سوء الظن وذلك لمساوئه الشديدة على الفرد أولاً وبالذات فضلاً عن مساوئه على المجتمع.
ولايخفى أنّ الأصل في الظن هو عدم الحجّية بدليل قوله تعالى: {إِنَّ
ص: 415
ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَئًْا}(1)، ولكن التشديد ورد من الشارع على الظن السيء ومن ذلك:
قول أميرالمؤمنين الإمام علي (عليه السلام) : اطرحوا سوء الظن بينكم فإنّ اللّه عزّ وجل نهى عن ذلك(2).
وقال (عليه السلام) : من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليل صلحاً(3).
ينقسم سوء الظن إلى عدّة أقسام نشير إلى أهمّها وهي:
1- سوء الظن باللّه عزّ وجلّ: كثير من الناس يسيئون الظن باللّه عزّ وجل ولايثقون به كما يثقون بالناس العاديين، وهذا إن دلّ فهو على ضعف الإيمان وسوء العقيدة.
فالكثير من الشباب اليوم عزف عن الزواج بحجّة ضيق العيش وقلّة اليد والحال أنّ تعالى تكفّل بأمور المتزوجين، قال تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(4).
ومن المؤسف جداً أنّ تسري تلك الحالة حتى في أوساط المؤمنين، حيث انغرّ كثير منهم بالماديات واعتمدوا على أسباب الدنيا وركنوا إليها وتركوا العهود الإلهية، وماذلك إلا لعدم ثقتهم بعهود السماء.
ص: 416
ففي الحديث عن قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه باللّه عزّ وجل، إن اللّه عزّ وجل يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(1)(2).
ومن هنا أكد أهل البيت (عليهم السلام) على حسن الظن باللّه، ففي الحديث أنَّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال - وهو على منبره - : والذي لا إله إلاّ هو ما اُعطي مؤمن قطُّ خير الدُّنيا والآخرة إلاّ بحسن ظنّه باللّه ورجائه له وحسن خُلقه والكفِّ عن اغتياب المؤمنين، والذي لا إله إلاّ هو لا يعذِّب اللّه مؤمناً بعد التوبة وإلاستغفار إلاّ بسوء ظنّه باللّه وتقصيره من رجائه وسوء خُلقه وإغتيابه للمؤمنين. والذي لا إله إلاّ هو لا يحسن ظنُّ عبد مؤمن باللّه إلاّ كان اللّه عند ظنِّ عبده المؤمن، لأنَّ اللّه كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنَّ ثمَّ يُخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا باللّه الظنَّ وارغبوا إليه(3).
بل إنّ صرف ادّعاء العبد حسن الظن باللّه ينفعه وإن كان كاذبا في ادّعائه، ففي الحديث عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: ان آخر عبد يؤمر به إلى النار فيلتفت فيقول اللّه عزّ وجل: أعجلوه فإذا أتى به قال له: عبدي لم التفت؟ فيقول: يا رب ما كان ظنّي بك هذا، فيقول اللّه جلّ جلاله عبدي وما كان ظنّك بي؟ فيقول: يا رب كان ظنّي بك أن تغفر لي خطيئتي وتدخلني
ص: 417
جنتك، فيقول اللّه: ملائكتي وعزّتي وجلالي وبلائي وارتفاع مكاني ما ظنّ بي هذا ساعة من حياته خيرا قط ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً ما روعته بالنار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة. ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : ما ظنّ عبد باللّه خيراً إلا كان عند ظنّه به وذلك قوله عز وجل {وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ ٱلْخَٰسِرِينَ}(1)(2).
2- سوء الظن بالآخرين: في كثير من الأحكام الشرعية الواردة في الإسلام يلحظ فيها جنبة التسهيل والبناء على حسن الظن بالآخرين وتجنّب سوء الظن في التعاطي معهم وهذا عامل مهم في بناء المجتمع الفاضل.
وهناك قواعد فقهية حاكمة تدعم جانب حسن الظن بالآخرين منها أصالة الصحة في عمل المسلم، وقاعدة سوق المسلمين وغيرها من الأحكام الشرعية التي تعزّز حالة حسن الظن بين الناس في المجتمع.
بل إنّ الشارع المقدّس حارب سوء الظن في الآخرين بشدّة، فعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربّه، إنّ اللّه تعالى يقول: {ٱجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ ٱلظَّنِّ}(3).
وعن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) ، قال: قلت له: جعلت فداك، الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه، فأسأله عن ذلك، فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال لي: يا محمد، كذّب سمعك
ص: 418
وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة، وقالوا لك قولا، فصدّقه وكذّبهم، لا تذيعن عليه شيئا تشينه به، وتهدم به مروءته، فتكون من الذين قال اللّه في كتابه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلْأخِرَةِ}(1)(2).
3- سوء الظن في الأسرة: من مستلزمات الحياة الأسرية الموفّقة الاعتماد على حسن الظن وعدم السماح لرواج حالة سوء الظن بين أفراد العائلة وإلا لو عمّ سوء الظن في العلاقة الأسرية لهدمت الأسر وفسدت المجتمعات جراء ذلك.
يقال إن أحد شيوخ العشائر كان جالساً مع زوجته وأحد الخدم، فتشائبت زوجيته، وصدفة تثائب الخادم مباشرة بعدها.
فذبّ الظن السيء في أعمال شيخ العشيرة وحمل ذلك منهم علی أن هناك علقة بينهما.
فذهب إلی حجرته ودعا زوجته، وما أن دخلت الزوجة الحجرة وإذا به يباغتها ويطعنها بضربة قاتلة فقدت علی أثرها حياتها، ثم عمد إلی الخادم أيضاً وقتله هو الآخر كل ذلك جراء ظن السوء.
ص: 419
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق(1).
حديثنا هذه الليلة حول التوسّل باللّه عزّ وجل وأهل البيت (عليهم السلام) ، فقد قال عزّ من قائل: {وَٱبْتَغُواْ إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ}(2).
ربما يتساءل البعض عن المراد في الحديث، ووجه المقارنة بين سفينة نبي اللّه نوح وأهل البيت (عليهم السلام) ؟
هناك عدة أمور كانت في سفينة نبي اللّه نوح نفسها موجودة عند أهل البيت (عليهم السلام) ومنها:
1- أنّ الناس امتحنوا في سفينة نبي نوح من حيث الزمن، فقد استغرق زمن صناعتها، وكذا الأمر في أهل البيت (عليهم السلام) حيث يمتحن العباد بهم.
2- أنّ سفينة نبي اللّه نوح (عليه السلام) هي المأوى الوحيد الذي لجأت إليه
ص: 420
المخلوقات من الطوفان، ومن ركبها نجى ومن تخلّف عنها هلك، وكذا هم أهل البيت (عليهم السلام) فالازم لهم لاحق، والمتعدّم عنهم مارق، والمتأخّر عنهم زاهق.
وهناك عدّة مطالب حول هذا الحديث تحتاج إلى تأمل نوكلها إلى محلّها ونقتصر بالحديث على التوسّل الذي له آثار كثيرة، فنقول:
جرت سيرة الناس قبل الإسلام على التوسّل ولم يعهد أبداً أن يعترض أحد على ذلك بحجّة الشرك باللّه عزّ وجل إلا بعد أن ظهر الوهابيون، بل إنّ التوسّل من عقائد الأنبياء المهمّة، فما من نبي لما تلمّ به المحن والمشاكل حتى يلجأ إلى التوسّل وكشاهد على ذلك:
أن كثيراً من العامة نقلوا حديث عمر أنّه قال: أنّ آدم لما اقترف الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحقّ محمد لما غفرت لي، فقال اللّه: وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟
قال: يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوب عليها: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، فعرفت لم تضف إلى اسمك الا أحب الخلق إليك، فقال اللّه تبارك وتعالى: صدقت يا آدم إنّه لأحبّ الخلق إلي إدعي بحقّه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك(1).
عندما صدع نبي الرحمة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرسالة كان التوسّل عند الأمة مألوفاً ولكنّهم كانوا يتوسلون بمن لايغنون ولاينفعون، لذا عمد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى تصحيح عقائدهم ومنها التوسّل فأرشدهم إلى التوسّل باللّه عزّ وجل وبأهل
ص: 421
بيته الذين نص القرآن الكريم على التوسّل بهم، فقال: {وَٱبْتَغُواْ إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ}(1).
ومايثيره البعض ضدّ الشيعة من أنّهم أخذوا بالتوسّل وهي عقيدة المشركين مستدلاً على ذلك بقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ}(2).
فمثل هذه الشبهة مردودة بالبرهان الجلي، فإنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويتقرّبون بها إلى اللّه، بخلاف الشيعة الإمامية فهم لايعبدون غير اللّه عزّ وجل.
كان التوسّل في عهد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مألوفاً بين المسلمين والشواهد على ذلك كثيرة، فقد ذكر العلامة الأميني في الغدير قائلاً: هناك جماعة من الحفّاظ وأعلام أهل السنة بسطوا القول في التوسّل وقالوا: إنّ التوسل بالنبي جائز في كل حال قبل خلقه وبعده في مدّة حياته في الدنيا وبعد موته في مدّة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة وجعلوه على ثلاثة أنواع:
1- طلب الحاجة من اللّه تعالى به أو بجاهه أو لبركته. فقالوا: إنّ التوسّل بهذا المعنى جايز في جميع الأحوال المذكورة.
2- التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه، وحكموا بأنّ ذلك جايز في
ص: 422
الأحوال كلّها.
3- الطلب من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك الأمر المقصود، بمعنى أنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قادر على التسبب فيه بسؤاله ربّه وشفاعته إليه، فيعود إلى النوع الثاني في المعنى غير أنّ العبارة مختلفة وعدّوا منه قول القائل للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أسألك مرافقتك في الجنة. وقول عثمان ابن أبي العاص: شكوت إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سوء حفظي للقرآن. فقال: ادن منّي يا عثمان ثم وضع يده على صدري وقال: أخرج يا شيطان من صدر عثمان. فما سمعت بعد ذلك شيئا إلا حفظت. وقال السبكي في «شفاء السقام»: والآثار في ذلك كثيرة أيضا [إلى أن قال]: فلا عليك في تسميته توسلاً، أو تشفعاً، أو استغاثة، أو تجوها، أو توجّهاً. لأنّ المعنى في جميع ذلك سواء(1).
استمرت عقيدة التوسّل عند المسلمين بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يمارسها المسلمون باستمرار بما فيهم عمر بن الخطاب، ولكنّه ولكي يقصي الناس عن أهل البيت (عليهم السلام) الذين جعلهم اللّه تعالى وسيلة إليه يتقرّب بهم العباد حارب عقيدة التوسل.
أهم شيء ينبغي الوقوف عنده في مسألة التوسّل هو معرفة أسباب محاربة عقيدة التوسّل رغم كونها عقيدة راسخة مارسها المسلمون في عهد
ص: 423
النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دون أن يعترض عليهم أو يردعهم عنها، فما هي الأسباب التي جعلت البعض يحارب هذه العقيدة بكل صلابة ويرميها بالبدعة ويتهم ذويها بالشرك والضلالة؟
ممّا لاريب فيه أنّ بقاء عقيدة التوسّل بين المسلمين ورواجها في البلاد الإسلامية يعكر الجو على غاصبي حقوق أهل البيت (عليهم السلام) ويفسد مشاريعهم، فإنّ استمرار قدسية أهل البيت (عليهم السلام) وتوجّه الناس إليهم على أنّهم الوسيلة إلى اللّه عزّ وجل يربك الأجواء على غاصبي حقوقهم ويعرقل عليهم مشروعهم لذا حوربت هذه العقيدة.
بل إنّ أيّ ارتباط بأهل البيت (عليهم السلام) وأيّ قداسة لهم يسلب الأضواء عن مخالفيهم ولو كان بمستوى التواصل البسيط فما بالك بباب التوسّل بهم وتقريبهم إلى اللّه عزّ وجل كوسائل وحجج يتقرّب بهم إليه.
ومن هنا كان أعداء أهل البيت (عليهم السلام) ينزعجون من التفاف الناس حول أهل البيت (عليهم السلام) بل ويسعون إلى صرف الأنظار عنهم والشواهد على ذلك كثيرة منها قضية هشام بن عبدالملك الذي حجّ ومعه رؤساء أهل الشام، فجهد أن يستلم الحجر فلم يوفق لذلك من شدّة ازدحام الناس، فنصب له منبر وجلس ينظر إلى الناس وأقبل الإمام زين العابدين - عليه وعلى أبيه السلام - وهو أحسن الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً، وأطيبهم رائحة، وطاف بالبيت، فلمّا بلغ الحجر تنحّى عنه الناس كلّهم وخلّوا الحجر ليستلم هيبة له وإجلالاً، فاستلم الحجر وحده، فنظر في ذلك هشام، فبلغ منه، فقال رجل لهشام من هذا أصلح اللّه الأمير؟
ص: 424
قال: لا أعرفه. وكان به عارفا ولكنّه خاف أن يرغب فيه أهل الشام، ويسمعوا منه.
فقال الفرزدق - وكان لذلك كلّه حاضراً - : أنا أعرفه، فسألني عنه ياشامي من هو؟
قال: ومن هو؟
فقال:
يا سائلي أين حلّ الجود والكرم؟***عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته***والبيت يعرفه والحلّ والحرم
هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم***هذا التقي النقي الطاهر العلم(1)
ص: 425
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
عظّم اللّه أجورنا وأجوركم بذكرى سبط النبي الأكبر الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ، نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا من محبّيه والموالين والسائرين على نهجه النيّر بحقّ محمد وآله الطاهرين.
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا(1).
الحديث حول الإمام الحسن (عليه السلام) لا يستوعبه هذا القليل من الوقت ولكننا نخصّص حديث الليلة بجانب مهم من حياته وهو صلحه (عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان وآثار ذلك الصلح على الشيعة.
وقبل أن نبيّن حقيقة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) وآثاره لابأس أن نشير إلى نقطة مهمّة يعتمد عليها البحث وهي أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كما في الحديث المذكور إمام كبقية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) قوله وفعله وتقريره حجّة علينا.
ومن هنا فإننا إذ نشير إلى آثار صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فهو من باب
ص: 426
الاتعاظ والاعتبار من سيرته والبيان للأجيال عبر العصور مدى عظمة هذا الإمام (عليه السلام) ، وشدّة ظلامته وغربته (عليه السلام) حتى بين بعض المقرّبين من الشيعة.
فلمّا صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان اغتاظ بعض الشيعة، ومنهم بشير الهمداني، وسليمان بن صرد الخزاعي، وسفيان بن الليل، وحجر بن عدي، وبلغ بهم الأمر أن يسلّموا عليه بقولهم: يا مذلّ المؤمنين، وبعضهم خاطبه بقوله: يامسوّد الوجوه، مع العلم أنّ من أهم بنود الصلح مراعاة حال الشيعة وتخفيف الوطأة عنهم.
سؤال مهم ينبغي لكل من يريد البحث حول صلح الإمام الحسن (عليه السلام) أن يضعه في عين الاعتبار وهو: ماهي الدواعي التي جعلت الإمام الحسن (عليه السلام) يصالح معاوية؟
وفي جوابه نشير إلی بعض الأمور ومنها:
1- حفظ الشيعة: انتقم معاوية بن أبي سفيان بعد أميرالمؤمنين (عليه السلام) من الشيعة أية انتقام وصبّ عليهم سياط انتقامه، فقد بعث إلى عمّاله في الأمصار: انظروا إلى من أقامت عليه البيّنة إنه يحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطائه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره.
فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة حتى أنّ الرجل من شيعة الإمام علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة
ص: 427
ليكتمنّ عليه، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر إلخ(1).
وذكر المدائني مشيراً إلى وضع الشيعة قبل صلح الإمام الحسن (عليه السلام) ، فقال: كان أشدّ اللّه الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) ، فاستعمل - أي معاوية - عليهم زياد بن سميّة وضمّ إليه البصرة، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف... فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم، فلم يبق بها معروف منهم(2).
من هنا فمن دواعي صلح الإمام الحسن (عليه السلام) الحفاظ على الشيعة، وقد صرّح الإمام (عليه السلام) بذلك أكثر من مرّة، فذات يوم سأله أحدهم، فقال: يابن رسول اللّه لم هادنت معاوية وصالحته وقد علمت أنّ الحق لك دونه، وأنّ معاوية ضال مبدع؟
فقال (عليه السلام) في ردّ طويل ومنه قوله: ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحداً إلا قتل(3).
وقال (عليه السلام) : صالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل، فرأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما(4).
وقال (عليه السلام) : ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل(5).
ص: 428
ولكي تتضح معالم صلح الإمام الحسن (عليه السلام) لا بأس أن نعرف بعض الأمور ومنها:
1- أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يصالح في بداية الأمر بل جيّش الجيوش وأعدّ العدة لمقاتلة معاوية ولكن وللأسف معظم القادة الذين كان يضعهم الإمام (عليه السلام) كانوا يخونونه ويميلون إلى معاوية الذي كان يغريهم بالمال والجاه وسائر مغريات الدنيا حتى بلغ بهم الأمر أن أبرقوا إلى معاوية: إن شئت أن نأتيك بالحسن بن علي مكتوفا لفعلنا(1).
2- استمر الإمام الحسن (عليه السلام) على رأيه في محاربة معاوية حتى بدت معالم تشتّت عسكره وطُعن هو (عليه السلام) بخنجر مسموم، وأيقين (عليه السلام) بخذلان عسكره له، وقد صرّح (عليه السلام) لمعاوية حين الصلح قائلاً: وقد هرب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من قومه وهو يدعوهم إلى اللّه، حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يامعاوية(2).
وقال بعضهم له (عليه السلام) لما صالح معاوية: قلت: يا بن رسول اللّه أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً، ما بقي معك رجل، قال: وممّ ذاك؟
قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية. قال: واللّه ما سلّمت الأمر إليه إلا أنّي لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم اللّه بيني وبينه، ولكنّي عرفت أهل الكوفة، وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً، إنّهم لا وفاء لهم. ولا ذمّة في قول ولا فعل، إنّهم لمختلفون،
ص: 429
ويقولون لنا: إنّ قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا(1).
وقال (عليه السلام) : أرى الناس يقولون: إنّ الحسن بن علي بايع معاوية طائعاً غير مكره، وأيم اللّه ما فعلت حتى خذلني أهل العراق، ولولا ذلك ما بايعته ولا نعمة عين(2)(3).
3- تغلغل المنافقين: حيث كثر المنافقون بين جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وقد راسل معاوية بعضهم فكتبوا إليه بالطاعة في السرّ واستحثّوه على السير نحوهم وضمنوا له تسليم الإمام الحسن (عليه السلام) إليه عند دنّوهم من عسكره، أو الفتك به.
وقد بلغ الإمام الحسن (عليه السلام) ذلك بعد أن كتب إليه قيس بن سعد يخبره أنّ القوم قد غدروا وأنّ معاوية أرسل إلى عبيداللّه بن العباس يرغّبه في المصير إليه وضمن له ألف ألف درهم، فالتحق عبيداللّه بمعسكر معاوية وفقد الناس قائدهم العسكري.
4- أنّهم لما بايعوا الإمام الحسن (عليه السلام) اشترط عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ويسالموا من سالم ويحاربوا من حارب، فارتابوا في أمرهم وفهموا منه أنّه لايريد قتالاً، فلم يلبث (عليه السلام) إلا قليلاً حتى طعنه أحدهم طعنة وهذا يكشف عن عصيانهم له وعدم امتثالهم لأوامره.
5- أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) خرج للقتال وحثّ الناس على الجهاد وأرسل جيشاً للثغور وخرج (عليه السلام) بنفسه بعد أن استخلف على الكوفة ابن عمّه
ص: 430
المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، ولكن كثير من القوم تخلّفوا عنه ولم يخرجوا معه علماً أنّهم كانوا قد وعدوه بالقتال معه، فبقي معسكره بالنخيلة عشرة أيام وليس معه سوى أربعة آلاف.
6- لا يخلو الأمر من أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) يقاتل معاوية وينتصر عليه وهو كما أشرنا بعيد جداً وبانتصاره سيتذرّع معاوية وجماعته بالمظلومية وعدم قبول الإمام (عليه السلام) الصلح، أو أنّه (عليه السلام) يهزم وينسب إليه الإقدام على التهلكة لعدم قبوله الصلح.
7- أنّ أكثر الذين بايعوا الإمام الحسن (عليه السلام) كانوا من طلاّب الغنائم والمناصب الذين إن أعطوا رضوا وإن منعوا سخطوا ولم يكن الإمام (عليه السلام) يسير إلا بسيرة أبيه أميرالمؤمنين (عليه السلام) وهي السير بالعدل والمساواة الأمر الذي جعل كثيراً منهم يتفرّق عنه ويركن إلى معاوية.
8- من خلال الصلح وضع الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية بين أمرين حرجيين، فإمّا أن يلتزم ببنود الصلح وهو بعيد جداً أو ينقض العهد والميثاق ويكشف للناس حقيقته المخفيّة على كثير من الناس، فاختار معاوية الأمر وأبى إلا أن يفضح نفسه بنفسه.
بالطبع حتى لو التزم معاوية ببنود الصلح ففي ذلك مكسب عظيم للشيعة وتقييد واضح لمعاوية، فمن بنود الصلح هي:
1- تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسيرة الخلفاء.
2- ليس لمعاوية أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده، بل يكون الأمر للإمام الحسن (عليه السلام) ، فإن حدث له حدث فللإمام الحسين (عليه السلام) .
ص: 431
3- الأمن العام لعموم الناس، وأن يحتمل عنهم معاوية ما يصدر من هفواتهم ولا يتبع أحدا بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنه.
4- أن لا يسمّى معاوية بأميرالمؤمنين.
5- لا تقام عنده الشهادة.
6- أن يترك سبّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) ولا يذكره إلا بخير.
7- أن يوصل لكل ذي حقّ حقّه.
8- أن يأمن الشيعة ولا يتعرّض لهم بمكروه.
9- أن يمنح أبناء من قتلوا في صفين والجمل ألف ألف درهم.
10- أن يمنح الإمام الحسن (عليه السلام) ما في بيت مال الكوفة، ويقضي عنه ديونه ويدفع إليه في كل سنة مائة ألف.
11- أن لا يبغى للإمام الحسن (عليه السلام) ولا للإمام الحسين (عليه السلام) ولا لأحد من أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غائلة سراً ولا جهراً، ولايخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق(1).
لم ينصف الدهر ولا المؤرخون أهل البيت (عليهم السلام) خاصة الإمام الحسن (عليه السلام) وهو ريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسبطه الأكبر، فغيّبوا الكثير من معالم حياته ودسوا أيضاً بعض الأكاذيب حوله ومنها أنه والعياذ باللّه أنفق سنيّ شبابه في الزواج والطلاق، فأحصي له حوالي مائة زيجة، وألصقت به
ص: 432
لقب المطلِّق(1).
وغير ذلك من الدسائس التي نُسبت إلى الإمام الحسن (عليه السلام) ، ولذا حريّ بالمؤمنين أن يشمّروا عن سواعدهم ويتحمّلوا مسؤوليتهم إزاء ظلامة الإمام الحسن (عليه السلام) ويدفعوا أمثال هذه الشبهات وغيرها ويعرفوا العالم بأسره أنّ الدين قام واستقام بصلح الإمام الحسن (عليه السلام) وأنه بصلحه كشف للعالم عبر التأريخ زيف معاوية وحفظ دماء الشيعة وحقوقهم.
ص: 433
ص: 434
من معاجز المعصومين (عليهم السلام)
من معاجز المعصومين (عليهم السلام) ... 7
لماذا المعجزة؟... 8
الفرق بين المعجزة والسحر... 10
الفرق بين المعجزة والكرامة... 11
الفرق بين المعجزة والشعبذة... 14
وقفة عند الولاية التكوينية... 15
من معاجز النبي الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 19
من معاجزه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 26
قلع الشجرة بعروقها... 26
خروج الماء من بين يديه... 27
شجرة مباركة... 28
ياعجباً للذئب يتكلّم... 29
لم تروا ما رأيت... 29
حنين الجذع... 30
شاة أمّ معبد... 30
اُكتب لي أماناً... 31
قوم يشكون ملوحة مائهم... 32
شفاء صبي... 33
إخباره بمكان ناقته... 33
شكوى بعير إليه... 33
ردّ كيد أبي جهل... 34
من تتهم يارجل؟... 35
ص: 435
أدام اللّه جمالك... 35
اختفائه عن العوراء أمّ جميل... 35
يسمعون قراءته ولايرونه... 36
ميسرة يروي معجزة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 36
اُدع اللّه أن يردّ إليّ بصري... 37
كلوا باسم اللّه... 38
شهادة الجمادات بنبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 38
وأنذر عشيرتك الأقربين... 39
من معاجز الإمام علي (عليه السلام) ... 41
قالوا في الإمام علي (عليه السلام) ... 42
من معاجزه (عليه السلام) ... 43
تأخذ طريق الشام... 43
الإمام علي (عليه السلام) يكلّم الثعبان... 43
أرنا شيئاً تطمئن به قلوبنا... 44
الإمام علي (عليه السلام) يكلّم الشمس... 45
أتحب أن أريك كرامتك على اللّه؟... 46
مايمنعك عن معاوية؟... 47
الإمام علي (عليه السلام) يكلّم السبع... 47
لي أمّ عجوز بالكوفة... 48
أكثرت الوقيعة في علي (عليه السلام) ... 49
ارجعي بإذن اللّه... 49
سلوني قبل أن تفقدوني... 50
ماتصغون ههنا؟... 50
الإمام علي (عليه السلام) يحيى الموتى... 51
قبران بساحل عدن... 51
هداية قوم من اليهود... 52
أنت شهدت موت معاوية؟... 53
شاب من بني مخزوم... 53
أنظروا إلى الشجرة... 54
الراد على علي (عليه السلام) ... 55
ص: 436
راهب من أهل الجنة... 56
زلزال يفزع أهل المدينة... 57
جار يلعن علياً (عليه السلام) ... 58
مع أصحاب الكهف... 59
من معاجز الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ... 61
من أشعارها (عليها السلام) ... 62
خادمتها... 62
فاطمة عند اللّه عزّ وجلّ... 65
فاطمة (عليها السلام) عند النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 66
فاطمة (عليها السلام) عند أميرالمؤمنين (عليه السلام) ... 67
معاجزها (عليها السلام) ... 68
ملائكة تخدم فاطمة (عليها السلام) ... 68
تحريم النار عليها (عليها السلام) ... 69
إنّها تحدّثني وتسلّيني... 70
ضعُفت فاطمة فأعانها اللّه... 71
كرامة فاطمة (عليها السلام) على اللّه عزّ وجلّ... 73
من معاجز الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) ... 75
من أشعاره (عليه السلام) ... 76
قالوا فيه (عليه السلام) ... 77
من معاجزه (عليه السلام) ... 78
نظير يحيى بن زكريا... 78
عسل من سارية المسجد... 78
إنّا نعلم المكنون... 79
أوتشتهي الرطب؟... 79
لو شئت لنزعتهما... 80
نحن الأولون والآخرون... 80
مائدة من السماء... 81
ديوان شيعتنا... 81
أنسيتي يا عائشة... 83
أحب أن تريني معجزة... 83
ص: 437
وهب لك ذكراً سوياً... 83
سعي كسعي الولد... 84
أتنكرون لابني هذا؟... 84
أرنا من عجائب أبيك... 85
تظليل الطير على رأسه (عليه السلام) ... 85
نبع الماء بين يديه (عليه السلام) ... 85
من معاجز الإمام الحسين (عليه السلام) ... 86
علاقة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإمام الحسين (عليه السلام) ... 88
من شعره (عليه السلام) ... 89
من معاجز عليه اسلام... 89
ما عند اللّه لأوليائه أكثر... 89
من علمه عليه السلام... 89
إحياء إمرأة بإذن اللّه... 90
أما تستحي يا أعرابي... 91
قوم تفرّ الحمّى منهم... 92
لولا حبوط الأجر... 92
دعوة ابن نبي مستجابة... 93
نحن وشيعتنا على الفطرة... 93
أحياء عند ربهم يرزقون... 94
ما أنا لهذا ولا لهذا... 95
يريدون أن يطأوا الخيل ظهره... 95
من آثار قتل الإمام الحسين (عليه السلام) ... 96
من معاجز الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) ... 97
قالوا فيه (عليه السلام) ... 97
من معاجزه (عليه السلام) ... 98
ماتقول هذه الظبية؟... 98
إخبار الزهري برؤياه... 99
حيّة تحول دون بناء الكعبة... 100
أفزعت ياسعيد؟... 101
شفاء المرضى... 101
ص: 438
أتدري مايقلن العصافير؟... 101
صدّيق امتحن اللّه قلبه... 102
هاك ياقليلة اليقين باللّه... 103
أعطوني موثقاً أن لاتأذوه... 103
إنّهم يغدرون بك... 104
زعمت أنّ ربك عنك نائم؟... 105
كلوا من هدية إخوانكم المؤمنين... 106
هذا دأبنا ودأبهم... 106
الإمام (عليه السلام) لايقول إلا حقّاً... 106
خذ وسل كل حاجة لك... 108
ما أكثر الحجيج... 108
من معاجز الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ... 110
من شعره (عليه السلام) ... 114
قالوا فيه (عليه السلام) ... 114
من معاجزه (عليه السلام) ... 116
ردّوا إليه روحه... 116
اسم ندعوا به فنجاب... 117
سل الناس هل يرونني؟... 118
أفتحب أن ترى أباك؟... 118
إيّاك أن تعود لمثلها... 120
كيف أبوك؟... 120
تفاحة من الجنة... 121
بوركتم أهل البيت... 122
لقد رأيت عجباً... 122
اُنظر ولا تخبر به... 123
ما رأيت رجلاً أعلم منك... 125
من معاجز الإمام الصادق (عليه السلام) ... 127
من شعره (عليه السلام) ... 130
قالوا في الإمام الصادق (عليه السلام) ... 131
من معاجزه (عليه السلام) ... 132
ص: 439
إبطال سحر السحرة... 132
آجرت عليك مولاك رفيدا... 132
إحياؤه بقرة... 134
سيدي ولدي مات... 134
الفاكهة في غير أوانها... 134
إحياء الأخ الميّت... 135
ما دعاك إلى ما صنعت؟... 136
إنّ عدّة الشهور عند اللّه... 136
سيّدي ماتت أمّي... 137
تب إلى اللّه عزّ وجلّ... 138
ما فعل أبو حمزة الثمالي؟... 138
أما ترضى أن تكون معنا؟... 139
أريد علامة على إمامتك... 140
من معاجز الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ... 141
قالوا فيه (عليه السلام) ... 142
من معاجزه (عليه السلام) ... 142
حيّة تضرب بنابها... 142
في حبس هارون... 143
شجرة مقطوعة... 143
هذا وقت حاجتك للدراعة... 143
إنه ليعلم متى يموت الرجل... 144
ماذا فعل أخوك؟... 145
هذا كلام أهل الصين... 145
عصفور يكثر الصياح... 146
أصبح اليوم رجل له أولاد... 146
أتدري أين أنت؟... 147
اذهب فغير اسم ابنتك... 149
سيدي بقيت متحيّراً... 150
اشتر لي جارية نبوية... 151
عيسى بن مريم وربّ الكعبة... 151
ص: 440
من معاجز الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ... 153
قالوا في الإمام الرضا (عليه السلام) ... 157
من معاجزه (عليه السلام) ... 159
تحويل التبن ذهباً... 159
قميص ودراهم... 159
تسليم الجمادات على الإمام (عليه السلام) ... 160
أُكتم ما رأيت... 160
ما علامة الإمام عندكم؟... 161
لو زادك جدّي لزدتك... 161
غلامك اشتهى العنب... 162
قضى اللّه حاجتك... 163
لحومنا محرّمة على السباع... 163
لاتؤخّر صلاتك وادفع الزكاة... 165
من معاجز الإمام الجواد (عليه السلام) ... 166
من شعره (عليه السلام) ... 167
البشارة به (عليه السلام) ... 168
قالوا فيه (عليه السلام) ... 168
من معاجزه (عليه السلام) ... 169
النجاة من السجن... 169
أشككت فيما قلت لك؟... 171
بل عباد مكرمون... 171
يا أبا الصلت ضاق صدرك؟... 172
أوصيك بأهلي خيراً... 173
هكذوا يقضون الدين... 174
اتسع بهذا واكتم... 174
قوم بهم يشفى المريض... 175
خبز شعير في حرم جدّي... 175
من معاجز الإمام الهادي (عليه السلام) ... 176
من أشعاره (عليه السلام) ... 177
ص: 441
قالوا في الإمام الهادي (عليه السلام) ... 178
من معاجزه (عليه السلام) ... 179
الإخبار عن جُمجمة مغمورة... 179
خذ عدوّ اللّه... 180
الإطلاع على الضمائر... 181
أتحبّ أن تراهم؟... 182
إنّهم لايعلمون مانعلم... 183
من معاجز الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ... 185
من أشعاره (عليه السلام) ... 186
قالوا في الإمام العسكري (عليه السلام) ... 187
من معاجزه (عليه السلام) ... 188
خذ واكتم... 188
سل هذا الذئب... 189
صلاة بين السباع... 190
ما خلّفك عنا؟... 190
ضيعتك ترد عليك... 191
قد عوفي ابنك... 191
لا تستحي في سؤال حاجتك... 192
تحلف باللّه كذبا؟... 192
من معاجز الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)... 194
من أشعاره (عليه السلام) ... 195
الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في القرآن... 195
الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في السنة... 196
شباهته (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) بالأنبياء (عليهم السلام) ... 197
غيبة الإمام الحجة (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)... 199
من معاجزه (عليه السلام) ... 200
قل لأهل مصر... 201
لا حاجة لنا في مال المرجئي... 202
أراد اللّه بك خيرا... 202
الزم دار جعفر بن محمد (عليه السلام) ... 204
ص: 442
لقاء الموعود
من هو الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)؟... 210
الولادة المباركة... 210
المهدي (عليه السلام) في القرآن... 211
المهدي (عليه السلام) في السنة... 213
هل ولد الإمام الحجّة (عليه السلام) ؟... 215
مشكلة طول العمر... 217
غيبته (عليه السلام) ... 218
من علامات الظهور... 219
شبهات وردود... 219
فصل: وظيفتنا في عصر الغيبة... 221
فصل: تأمّلات في التوقيع الشريف... 231
من فوائد اللقاء بإمام الزمان (عليه السلام) ... 232
ضربة من صفين... 234
لقد أذن اللّه لك... 235
أوصله حتى الباب... 237
يداً بيد مع صاحب العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)... 238
سل من إمام زمانك (عليه السلام) ... 240
لقد ضمّني الإمام (عليه السلام) إلى صدره... 241
شفاء الشيخ الحر العاملي... 241
مساعدة العلاّمة الحلّي... 242
مع العلامة الحلّي (رحمه اللّه) ... 243
أطلبوا الرجل... 244
ياقوت الدهّان... 247
تشرّف السيد المرعشي بلقاء إمام الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)... 249
تشيّع عالم زيدي ببركة إمام الزمان (عليه السلام) ... 254
أبو راجح الحمّامي... 257
أيُقتل ظمآن حسين بكربلاء؟... 258
أُكتب كلمة الإمام المهدي (عليه السلام) ... 260
ص: 443
راجع وكيلنا في سامراء... 261
منقذ الملهوفين... 262
إنّنا نفكر بكم... 264
الإمام المنتظر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) يجيب دعوة المشلول... 264
ابك لمصيبة عمّي أبي الفضل العباس (عليه السلام) ... 267
حتى في الزواج اطرقوا باب إمام الزمان (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)... 270
لوذي بإمام الزمان (عليه السلام) ... 273
الأربعون حديثا
الفصل الأول: نبذة حول سيرة الشيعة في التعامل مع الأحاديث... 283
كيف نحصّل أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ؟... 284
وقفة عند حديث الأربعين... 289
بعض ما كُتب في الأربعين... 291
في ظلال الحديث... 292
سيرة السلف في حفظ الأحاديث... 296
الفصل الثاني: الأربعين في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ... 298
محاربة زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ... 315
المحاضرات
إنا أعطيناك الكوثر... 323
ذريّة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من صلب علي (عليه السلام) ... 324
من وصايا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذريّته... 326
موقفنا إزاء التأريخ... 329
من معطيات التوكل... 333
حقيقة التوكل... 335
فهم خاطيء عن التوكل... 336
معطيات التوكل... 337
مواطن التوكل على اللّه... 339
الإمام الرضا (عليه السلام) وقبول ولاية العهد... 341
الظروف قبل تولّي الإمام (عليه السلام) ولاية العهد... 341
ص: 444
كيفية البيعة... 342
الإمام (عليه السلام) يخبر بوفاته... 343
التغيرات الحاصلة بعد قبول ولاية العهد... 343
أهداف المأمون الدفينة... 344
هل حقّق المأمون أهدافه؟... 346
الدور الاجتماعي للسيدة الزهراء (عليها السلام) ... 348
حقائق عن المجتمع الجاهلي... 349
دور الزهراء (عليها السلام) في هداية المجتمع... 350
السيدة رقية حقيقة لاتنكر... 355
بنات الإمام الحسين (عليه السلام) في التأريخ... 355
بعض أسماء السيدة رقية (عليها السلام) ... 359
عمرها الشريف... 360
مرقدها الشريف... 360
أجيبونا أيّها المشكّكون... 365
السيدة رقية (عليها السلام) باب للحوائج... 366
حقائق عن الصدقة الجارية... 370
انقطاع عمل الإنسان بالموت... 371
معنى الصدقة... 371
أقسام الصدقة... 372
من آداب التصدّق... 374
وقفة مع الصدقة الجارية... 374
إيّاكم وحبائل الشيطان... 377
دور الشيطان في عدم التوبة... 378
التسويف في الاستغفار... 379
الغفلة عن التوبة... 381
الإيقاع في الكبائر... 382
حقائق عن قضاء حوائج الآخرين... 384
الناس صنفان... 385
الدعوة إلى قضاء حوائج الآخرين... 386
ص: 445
من آداب قضاء حوائح الآخرين... 389
من آثار قضاء حوائج الآخرين... 391
من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 392
نبذة من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 392
النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة وقدوة... 395
لكي نسعد في الدنيا والآخرة... 397
وظيفتنا إزاء أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 400
في مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام) ... 401
تجسيد مفهوم العفو في المجتمع... 402
أخلاقيات العبودية... 404
وظيفتنا تجاه هذه المدرسة... 407
دور الصديقة الزهراء (عليها السلام) في فضح المنافقين... 408
بداية الفضيحة... 410
لنجتنّب ظنّ السوء... 415
التحذير من سوء الظن... 415
أقسام سوء الظن... 416
الوسيلة إلى اللّه... 420
تصحيح العقيدة... 421
التوسل في عهد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 422
التوسّل بعد عصر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 423
أهداف محاربة عقيدة التوسل... 423
الإمام الحسن (عليه السلام) وحقوق الشيعة؟... 426
دواعي الصلح... 427
موقفنا إزاء الإمام الحسن (عليه السلام) ... 432
فهرس المحتويات... 435
ص: 446
أحاديث ومعجزات المعصومين
الأخلاق
خلفاء السقيفة في محكمة التاريخ
الجزء الرابع
والدة آية اللّه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازيّ
ص: 1
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآل بيته الطاهرين.
أمّا بعد: فهذا مختصر حول حُسن الخلق، جمعت فيه أحاديث المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين، وألحقته ببعض الأقوال والأشعار.
نسأل اللّه سبحانه وتعالى، أن يحسّن خلقنا كما حسّن خَلقنا، ونكون بذلك من مصاديق الروايات الواردة، حول ثواب حسن الخلق، والحائزين على أرفع درجات ذوي الأخلاق الحسنة، في محل النعيم.
ونأمل بذلك أن يوفّق اللّه القارئ الكريم لأن يتّبع أخلاق الأنبياء والأئمة الطاهرين، صلوات اللّه عليهم أجمعين، ويرشده إلى صواب الطريق.
وإنّ من الضروري لكل مسلم، أن يتحلّى بأكبر قدر من الخلق الرفيع، والمعاملة المحبّبة مع الناس، لكي يجلبهم إلى حظيرة الإسلام، أو يبقيهم في الإسلام، فإنّ أفضل وأسهل وأسرع وأعمق العوامل لزرع المحبّة في القلوب، هي الأخلاق الفاضلة، والمعاملة الإنسانية العطوفة مع الناس.
قال اللّه تعالى لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1) مادحاً له بذلك، وكفى بذلك مدحاً له.
ص: 7
وقيل سبب نزول هذه الآية: أنه كان قد لبس برداً نجرانياً ذا حاشية قوية، فبينما هو يمشي إذ جذبه أعرابي من خلفه، فأثّرت في عنقه، فقال له: أعطني عطائي يا محمد! فالتفت إليه مبتسماً، وأمر له بعطائه، فنزل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} فمدحه اللّه بهذه، مدحةً لم يُمدح بها أحد من خلقه(1).
وفي توراة موسى (عليه السلام) : «لا حسب كحسن الخُلق»(2).
وإنّ من حسن الخلق أن يكون الإنسان كثير الحياء، قليل الأذى، صدوق اللسان، قليل الكذب، كثير العمل، قليل الزلل، وقوراً، صبوراً، رضياً، شكوراً، رفيقاً، عفيفاً، شفيقاً، لا نمّام ولا غيّاب ولا مغتاب ولا عجول ولا حسود ولا بخيل، يحبّ في اللّه، ويبغض في اللّه، ويعطي في اللّه، ويمنع في اللّه، ويرضى في اللّه، ويسخط في اللّه، ويحسن ويبكي، بينما المنافق يسيء ويضحك.
الفضائل والرذائل تتقسم على الأعضاء: فللّسان: الصدق والكذب. وللعين: الطهارة والخيانة. ولليدين: العمل والبطش. وللقلب: الطيب والخبث. وهناك فضيلة تدعى حسن الخلق، تعم جميع المشاعر، ويقابله سوء الخلق، وهو أيضاً عام، لا يخص حاسّة أو عضواً، يسري في جميع جهاز البدن، سريان الروح في الجسد الحي، وغالباً يسعد الإنسان بهذه
ص: 8
الفضيلة أكثر ممّا سواها. فالصدق والأمانة والحياء وحسن النيّة، وما إليها، لا تجلب دائماً صديقاً، ولا تنقص عدواً. أمّا الخلق الحسن؛ فهو وحده كفيل بجلب أكبر عدد ممكن من الأصدقاء، ويدفع أكبر عدد من الأعداء.
وقد منّ اللّه على نبيّه بهذه الموهبة الأخّاذة، حيث يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}(1).
إنها حقيقةً رحمةً لهم وله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمّا لهم: فقد أنجاهم من العذاب الذي كان يحرق دنياهم ويفسد آخرتهم، وأمّا له: فقد حصل له من الأتباع، وحسن الذكر، ومثوبة الهداية، ما لم يكن يحصل له لولاه؛ قال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(2).
ولا مرّ حسن الخلق بشيء إلاّ وينقلب العدو صديقاً. بينما سوء الخلق بالعكس من ذلك، فكثيراً ما يبدّل الصديق عدواً، وأية صفة أغلى من تلك وأفظع من هذه!
ويرشد القرآن إلى هذه النقطة المهمة في قوله:
{ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(3).
لكن هل هذا نصيب كلّ أحد؟ كلاّ وكلاّ: {وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ}(4)، ليس هذا فحسب: {وَمَا يُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(5).
ص: 9
إنه حظ عظيم حقيقة، وأيّ حظ أكبر ممّا يجعل المناويء ودوداً؟!
وسوء الخلق زمام كلّ شر! لأنّ سيّء الخلق يكذب، ويغضب، ويسبّ، ويلعن، ويحقد، ويضرب، ويكلح وجهه، ويمنع رفده، فكلّ إحسان أحسن به، وكلّ خير فعله إلى الناس؛ يتلاشى أمام خلقه السيّء. ولنفرض أنه أعطى درهماً لفقير اكتسب ودّه، لكنه بسوء خلقه، وعبوس وجهه، يقلبه عدواً. أو لنفرض أنه جلب لزوجته ما يرضيها، لكن سوء خلقه سرعان ما يكدر الصفو، ويورث العداوة.
يقول الإمام الرضا (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل»(1).
فالعسل الحلو يصبح حامضاً بالخل، وكذلك العمل الحسن يصبح حامضاً بسوء الخلق.
وفي حسن الخلق خير الدنيا: من صداقة الناس والسؤدد، والعيش الهنئ، والآخرة: من نعيم، وحورٍ، وولدان. ولِمَ لايكون فيه خير الآخرة؟ واللّه يحب صاحبه؛ قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ جبرئيل الروح الأمين، نزل عليّ من عند ربّ العالمين، وقال: يا محمد، عليك بحسن الخلق، فإنّه ذهب بخير الدنيا والآخرة. ألا وإنّ أشبهكم بي أحسنكم خلقاً»(2).
والطابع العام للمسلم هو حسن الخلق، فمن لايحسّن خلقه لايكون مسلماً كاملاً.
وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خصلتان لاتجتمعان في مسلم: البخل وسوء
ص: 10
الخلق»(1). ثم ما فائدة سوء الخلق؟ هل يرفع مشكلة؟ أو يجلب منفعة؟ أو يدفع مضرّة؟ كلاّ، لا هذا ولا ذاك. إنه بالعكس من ذلك، يجلب كل ويل على الشخص نفسه، قبل غيره. فهو دائماً مهموم ومعزول، كما قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من ساء خلقه عذب نفسه»(2) ثم إنه لايسود أحداً، ولا يكون له خليل. وعلى ذلك تضافرت الأحاديث والروايات عن المعصومين (عليهم السلام) .
فهذا الإمام علي (عليه السلام) يقول لابنه محمد بن الحنفية حين أوصاه: «إياك والعجب، وسوء الخلق، وقلّة الصبر، فإنه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحبٌ، ولا يزال لك عليها من الناس مجانب، وألزِم نفسك التودد»(3). وكذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا مروءة لكذوب، ولا أخ لملول، ولا راحة لحسود، ولا سؤدد لسيئ الخلق»(4)،
فهذه الخصلة تكون على قمّة الشرور، كلّما ترك شرّاً وقع في شرّ، مثلما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لأبي أيوب الأنصاري: «ما من ذنب إلاّ وله توبة، وما من تائب إلاّ وقد تسلم له توبة، ما خلا سيئ الخلق، لا يكاد يتوب من ذنب، إلاّ وقع في غيره، أشدُّ منه»(5).
ومن ساء خلقه كدر جوّه، كما يكدّر الماء الأوحال، فإنه لايزال يبثّ الشرّ، حتى تحيط به هالة من الكلوح يمجّه الناس من وراء ذلك.
أقول: الخَلقُ والخُلق عبارتان مستعملتان معاً، يقال: فلان حسَنُ الخَلق
ص: 11
والخُلق، أي: حسن الظاهر والباطن. فيراد بالخَلق الصورة الظاهرة، ويُراد بالخُلق الصورة الباطنة التي تجري على الأعضاء. فالخُلق عبارة عن ملكة للنفس، راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروّية. فإن كانت الهيئة بحيث تصدر منها الأفعال الجميلة المحمودة، عقلاً وشرعاً، سمّيت الهيئة خُلقاً حسناً. وإن كانت بحيث إنّ الصادر منها الأفعال القبيحة، سمّيت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً(1).
وكما أنّ حسن الصورة الظاهرة مطلقاً لا يتمّ بحسن العينين دون الأنف والفم والخدّ، بل لابدّ من حسن الجميع، ليتم حسن الظاهر، فكذلك في الباطن. ذلك لأنّ له أربعة أركان، لابدّ من الحسن في جميعها، حتى يتمّ حسن الخُلق له. فإذا استوت الأركان الأربعة، واعتدلت، وتناسبت؛ حصل حسن الخلق، وهي: قوة العلم، وقوة الغضب، وقوة الشهوة، وقوة العدل بين هذه القوى الثلاث. وقد عبّروا عن اعتدال قوّة الغضب بالشجاعة، وعن اعتدال قوة الشهوة بالعفّة، فإن مالت قوّة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة سُمّي ذلك تهوّراً، وإن مالت إلى الضعف والنقصان سُمّي ذلك جبناً وخوراً. وإن مالت قوّة الشهوة إلى طرف الزيادة سمّي شرهاً، وإن مالت إلى النقصان سمّي خموداً. والمحمود من بين كل ذلك هو الوسط، وهو الفضيلة. وأمّا الطرفان الآخران فرذيلتان مذمومتان. والعدل ليس له طرفان، زيادة ونقصان، بل له ضدّ واحد، وهو الجور.
وأمّا الحكمة، فيسمّى الإفراط فيها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة
ص: 12
خبثاً، ويسمّى التفريط فيها بلهاً، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة.
فإذن، أمّهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفّة، والعدل. وعند اعتدال هذه الأصول الأربعة، تصدر الأخلاق الجميلة كلّها(1).
ولقد أحبّ المسلمون رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لطيب عشرته، وحسن خلقه، فعاشوا سعداء معه. فاللازم أن يكون الإنسان طيّب المعاشرة مع الناس، حسن البشر معهم. فإذا فعل ذلك، فقد اقتدى برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتخلّق بأخلاقه. وإن لم يكن كذلك، فهو أبعد الناس عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فالقرب من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو القرب من أخلاقه، والبعد عنه هو البعد عن أخلاقه(2).
وقد قال بعض المؤمنين: حيث كان سوء الخلق من أسوأ الخصال، وأخسّ الصفات، فجدير بمن يرغب في تهذيب نفسه، وتطهير أخلاقه - من هذا الخلق الذميم - أن يتبع النصائح التالية:
1) أن يتذكّر مساوئ سوء الخلق، وأضراره الفادحة، وأنه باعث على سخط اللّه تعالى، وازدراء الناس، ونفرتهم، على ما أسلفنا ذكره، وعلى ما يأتي في أقوال المعصومين (عليهم السلام) فيما بعد، إن شاء اللّه تعالى.
2) أن يستعرض ما أسلفناه من فضائل حسن الخلق، ومآثره الجليلة، وما ورد في مدحه، والحثّ عليه، من آثار أهل البيت (عليهم السلام) ، أجمعين.
3) الترويض على ضبط الأعصاب، وقمع نزوات النفس، وبوادر الخلق السيء، وذلك بالتريّث في كل ما يصدر عنه، من قول أو فعل، مستهدياً
ص: 13
بقول الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه». فيتّبع تلك النصائح من اعتلّت أخلاقه، ومرضت بدوافع نفسه الأمارة بالسوء. أمّا من ساء خلقه لأسباب مرضية جسمية، فعلاجه بالوسائل الطبيّة، وتقوية الصحّة العامة، وتوفر دواعي الراحة والطمأنينة، وهدوء الأعصاب.
وإنّ من الصعب جدّاً، أن يستقيم المرء على مكارم الأخلاق، رغم تغير الظروف، وتواتر التحدّيات. إلاّ أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، رغم ذلك، كان عظيم الخلق، نبيل القيم، ملتزماً إلتزاماً كاملاً شاملاً، في جميع مراحل حياته؛ في طفولته، وفي شبابه، وحينما كان شيخاً، أو زوجاً أو والداً، فإنّ الظروف لم تنل منه ولم تغيّره، فكان قمّة سامية في مكارم الأخلاق، سواءً حينما كان يتيماً فقيراً، ومحاصراً ومطارداً، أو كان مهاجراً ومقاتلاً، أو كان قائداً فاتحاً، أو حاكماً... في السرّاء والضرّاء، وفي أصحابه أو أعدائه، مع الأقوياء أو الضعفاء. فكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل الأحوال هو هو، لم يتغيّر أبداً، من بداية حياته إلى نهايتها، ثابتاً مستقيماً على الخلق العظيم.
ولأنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تميّز بهذا الخلق السامي، فقد تمكّن من رفع مستوى المسلمين في حياتهم، وجعلهم في مقدمة شعوب العالم في ذلك الوقت، وجعل من الأمة الاسلامية خير أمة أخرجت للناس.
ونحن إذ ندرس هذه السيرة المباركة، علينا أن نتعلّم حسن البشر، وطيب العشرة منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن آل بيته الطاهرين (عليهم السلام) . وبمراجعة سريعة لصفحات التاريخ، نجد أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان من أرأف الناس بالناس، وخير الناس، وأنفع الناس، وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طيّب العشرة بشوشاً حيياً، عفيفاً، ويمتلك كلّ صفات الخير.
ص: 14
وحسن الخلق، إضافة إلى أنه نجاة من النار، وفوز بالجنة في الدار الآخرة. فإنّه فلاح ونجاح في دار الدنيا، حيث بحسن الخلق، يمكن امتلاك ودّ الناس، وعطفهم، واستمالتهم، وبالتالي توجيههم نحو خدمة الأهداف الرسالية السامية، ونحو الإيمان، وعمل الصالحات، وبناء الحضارات.
آملين منه تعالى أن يوفّقنا لذلك.
ص: 15
ص: 16
قال اللّه تبارك وتعالى:
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1).
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(2).
{وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(3).
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}(4).
{وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}(5).
{وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حُسْنًا}(6).
{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(7).
{ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ}(8).
ص: 17
{وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1).
{ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).
{فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}(3).
{وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}(4).
قال اللّه تعالى للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أحمد! ألم تدر لأيّ شيء فضّلتك على سائر الأنبياء؟ قال: اللّهم لا. قال: باليقين، وحسن الخلق، وسخاوة النفس، ورحمة الخلق. وكذلك أوتاد الأرض، لم يكونوا أوتاداً إلاّ بهذا»(5).
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمّ سلمة: «إنّ حَسنَ الخُلُق ذهب بخير الدنيا والآخرة»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أكثر ما يلج به أمتي الجنة تقوى اللّه وحسن الخلق»(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حسن الخلق خلق اللّه الأعظم»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ الخلق الحسن ليذيب الخطيئة، كما تذيب الشمس الجليد»(3).
وسألته أمّ حبيبة عن امرأةٍ يكون لها زوجان في الدنيا، فتموت ويموتان، ويدخلان الجنة؛ لأيّهما هي؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لأحسنهما خلقاً»(4).
قالت له أمّ سلمة (رضي اللّه عنها): بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه؛ المرأة يكون لها زوجان فيموتان فيدخلان الجنة لأيّهما تكون؟
فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «تخيّر أحسنهما خلقاً وخيرهما لأهله، يا أمّ سلمة إنّ حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة»(5).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف
ص: 20
المنازل وإنّه لضعيف العبادة»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا بني عبدالمطلب! إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر»(2)(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه استخلص هذا الدين لنفسه، ولا يصلح لدينكم إلاّ السخاء وحسن الخلق، ألا فزينوا دينكم بهما»(4).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثلاث من لم يكن فيه أو واحدة منهن فلا تعتدن بشيء من علمه: تقوى يحجزه عن معاصي اللّه عز وجل، أو حلم يكفّ به السفيه، أو خلق يعيش به في الناس»(5).
وقد مثّل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحسن الخلق وسوء الخلق أروع الأمثلة، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :
«لما خلق اللّه تعالى الايمان قال: اللّهم قوّني! فقوّاه اللّه بحسن الخلق والسخاء. ولمّا خلق اللّه الكفر، قال: اللّهم قوّني فقواه بالبخل وسوء
ص: 21
الخلق»(1).
وقيل للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل، وهي سيئة الخلق، تؤذي جيرانها بلسانها. فقال: لاخير فيها، هي من أهل النار»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما يوضع في ميزان امريء يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خصلتان لا تجتمعان في مسلم: البخل وسوء الخلق»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّه أول ما يدخل به النار من أمّتي الأجوفان».
قالوا: وما الأجوفان؟ قال: «الفرج والفم، وأكثر ما يدخل به الجنة: تقوى اللّه وحسن الخلق»(3).
وفي حديث طويل: أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر رجلاً استحق القتل أن يتشهد الشهادتين ليدرأ عنه القتل، فلم يقبل الرجل، فأمر (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بضرب عنقه، فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) ليضرب عنقه، فهبط جبرئيل فقال: يا محمد! إنّ ربّك يقرئك السلام، ويقول لك: لاتقتله، فإنّه حسن الخلق، سخي في قومه، فقال الرجل، وهو تحت السيف: هذا رسول ربّك يخبرك؟ قال: نعم. فقال: واللّه ما ملكت درهماً مع أخ لي قط إلاّ أنفقته، ولا كلّمت بسوء مع أخ لي، ولا قطبت وجهي في الجدب(4)، وأنا أشهد ألا إله إلاّ اللّه، وأنك رسول اللّه، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :
ص: 23
هذا ممّن جرّه حسن خلقه وسخاؤه إلى جنات النعيم»(1).
وكان فيما أوصى به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) : «يا علي! ثلاث من لم تكن فيه لم يقم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّوجلّ، وخلق يداري به الناس، وحلم يردّ به جهل الجاهل»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أنا زعيم ببيت في ربض(3) الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة، لمن ترك المراء وإن كان محقّاً، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلاً، ولمن حسن خلقه»(4).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من اللّه» قيل: يا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما هنّ؟ قال: «حلم يردّ به جهل الجاهل، وحسن خلق يعيش به، وورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّوجلّ»(5).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أربع من كنّ فيه نشر اللّه عليه كنفه، وأدخله الجنة في
ص: 24
رحمته: حسن خلق يعيش به في الناس... الحديث»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حسن الخلق زمام من رحمة اللّه تعالى في أنف صاحبه، والزمام بيد الملك، والملك يجرّه إلى الخير، والخير يجرّه إلى الجنة. وسوء الخلق زمام من عذاب اللّه تعالى في أنف صاحبه، والزمام بيد الشيطان، والشيطان يجرّه إلى الشر، والشر يجرّه إلى النار»(2).
قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق»(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حسن الخلق وكفّ الأذى يزيدان في الرزق»(4).
سئل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن الشؤم، فقال: «سوء الخلق»(1).
وأتاه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل فقال: يا رسول اللّه، أوصني! فكان فيما أوصاه أن قال: «إلق أخاك بوجه منبسط»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إستقم وليحسن خلقك للناس»(3).
وقال له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل: «أوصني! قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اتق اللّه حيث كنت. قال: زدني! قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اتبع السيئة الحسنة تمحها. قال: زدني قال: خالط الناس بحسن الخلق»(4).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «خالِقِ الناس بخلق حسن»(5).
كان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذات يوم جالساً في المسجد، إذ جاءت جارية لبعض الأنصار، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم تقل له شيئاً، ولم يقل لها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها في الرابعة وهي
ص: 27
خلفه، فأخذت هدبة(1) من ثوبه، ثم رجعت. فقال لها الناس: فعل اللّه بك وفعل؛ حبست رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاث مرات لا تقولين له شيئاً، ولا هو يقول لك شيئاً؛ ما كانت حاجتك إليه؟ قالت: إنّ لنا مريضاً فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه ليستشفى بها، فلما أردت أن آخذها رآني فقام، فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره في أخذها، فأخذتها»(2).
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إذا كذب عنده الرجل تبسّم، وقال: إنه ليقول قولاً»(3).
قال ابن عباس: «لما أرادت صفية بنت اليهودي أن تركب يوم خيبر، وقد أخذها رسول اللّه، أدنى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخذه منها لتركب عليها، فأبت احتراماً للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ووضعت ركبتها على فخذه، ثم حملها، ثم خيّرها بين أن يعتقها وتكون زوجته، أو تلحق بأهلها؛ فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته»(4).
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أكثر الناس تبسّماً وضحكاً في وجوه أصحابه(5).
وعن جرير بن عبداللّه قال: قال لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنك امرؤ قد أحسن اللّه خلقك، فأحسن خلقك»(6).
ص: 28
وجاء يهودي له على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دنانير، فتقاضاه، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك. فقال: إنّي ما أفارقك يا محمد حتى تقضيني! فقال: إذاً أجلس معك.
فجلس معه حتى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة، وكان أصحابه يتهدّدون اليهودي ويتواعدونه، فنظر إليهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . وقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول اللّه، يهودي يحبسك، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لم يبعثني ربّي عزّوجلّ بأن أظلم معاهداً ولاغيره، فلما علا النهار، قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله. وشطر ماله في سبيل اللّه، وقال: ما فعلت بك الذي فعلت، إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإنّي قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبداللّه مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وليس بفظّ، ولا غليظ، ولا سخَّاب، ولا متزيّن بالفحش، ولا قول الخنى»(1).
أقول: وكان كلّ همّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هداية الناس وإنقاذهم، ولم يكن يبالي في سبيل ذلك أن يواجه الصعوبات أو يسمع الأذى من أيّ شخص كان.
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «نزل عليّ جبرئيل من ربّ العالمين، فقال: يا محمد! عليك بحسن الخلق، فانه ذهب بخير الدنيا والآخرة، ألا وإنّ أشبهكم بي أحسنكم خلقاً»(2).
ص: 29
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «عليكم بحسن الخلق، فإنّ حسن الخلق في الجنة لامحالة، وإياكم وسوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أقربكم منّي مجلساً يوم القيامة: أحسنكم خلقاً وخيركم لأهله»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حسن الخلق نصف الدين»(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أول ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن الخلقه»(4).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أعطي خمساً لم يكن له عذر في ترك عمل الآخرة... وحسن خلق يداري به الناس...» (5).
عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: هلك رجل على عهد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأتى
ص: 30
الحفارين، فإذا بهم لم يحفروا شيئاً، فشكوا ذلك إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقالوا: يا رسول اللّه ما يعمل حديدنا في الأرض، فكأنّما نضرب به في الصفا، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ولم؟ إن كان صاحبكم لحسن الخلق، ائتوني بقدح من ماء، فأتوه به فأدخل يده فيه ثم رشّه على الأرض رشّاً، ثم قال: احفروا، قال: فحفر الحفّارون، فكأنّما كان رملاً يتهايل عليهم»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا، حفظ أمانةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ أكثر ما يدخل الجنة الناس: تقوى اللّه، وحسن الخلق»(2).
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في دعائه: «اللّهم حسّن خلقي وخلقي»(3).
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في دعائه: «اللّهم جنّبني منكرات الأخلاق» فاستجاب اللّه تعالى دعاءه وفاءً بقوله: أدعوني أستجب لكم، فأنزل عليه القرآن، وأدّبه به فكان خلقه القرآن(4).
... وقام أبو بردة بن دينار، فقال: يا رسول اللّه، اللّه يحبّ مكارم الأخلاق؟ فقال: «والذي نفسي بيده لايدخل الجنة إلاّ حسن الأخلاق»(5).
قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه تعالى حفّ الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن
ص: 32
الأعمال»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أفضل ما يوضع في الميزان حسن الخلق والسخاء. ولما خلق اللّه تعالى الإيمان، قال: اللّهم قوّني! فقواه بحسن الخلق والسخاء. ولما خلق اللّه الكفر، قال: اللّهم قوّني! فقواه بالبخل وسوء الخلق»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش»(3).
عن أبي الدرداء قال: «كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا حدّث بحديث تبسّم في حديثه»(4).
عن أنس بن مالك، قال: «أنّ النبي أدركه أعرابي، فأخذ بردائه، فجبذه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد أثّرت به حاشية الرداء من شدّة جبذته، ثم قال: يا محمد مرلي من مال اللّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فضحك، وأمر له بعطاء»(5).
ص: 33
عن الحسين بن زيد، قال: قلت لجعفر بن محمد (عليهما السلام) جعلت فداك، هل كانت في النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مداعبة؟ فقال: وصفه اللّه بخلق عظيم في المداعبة وإنّ اللّه تعالى بعث أنبيائه، وبعث محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرأفة والرحمة، وكان من رأفته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمته مداعبته لهم، لكيلا يبلغ بأحد منهم التعظيم، حتى لاينظر إليه. ثم قال: حدّثني أبي محمد عن أبيه علي عن الحسين عن أبيه علي (عليه السلام) قال: كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليسر الرجل من أصحابه إذا رآه مغموماً بالمداعبة(1).
كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: «إنّ اللّه يبغض المعبس في وجه إخوانه»(2).
وقال العباس للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما الجمال بالرجل يا رسول اللّه؟ قال: بصواب القول بالحق، قال: فما الكمال؟ قال: تقوى اللّه عزّوجلّ وحسن الخلق»(3).
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل النبوة أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة(4).
ص: 34
وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دائم البشر سهل الخلق ليّن الجانب ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مزّاح ولا مدّاح(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من ساء خلقه عذّب نفسه(2).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «أتي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقيل له: إنّ سعد بن معاذ قد مات، فقام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقام أصحابه معه، فأمر بغسل سعد، وهو قائم على عضادة الباب، فلما أن حنّط وكفّن وحمل على سريره، تبعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بلا حذاء ولا رداء. ثم كان يأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة حتى إنتهى به إلى القبر فنزل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حتى لحده، وسوّى اللبن عليه، وجعل يقول: ناولوني حجراً، ناولوني تراباً رطباً؛ يسدّ به مابين اللبن، فلما أن فرغ، وحثا التراب عليه، وسوّى قبره قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّي لأعلم أنّه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكنّ اللّه يحبّ عبداً إذا عمل عملاً أحكمه، فلما أن سوّى القرية عليه، قالت أمّ سعد من جانب: يا سعد هنيئاً لك الجنة، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا أمّ سعد مه، لا تجزمي على ربك، فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة. قال: فرجع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورجع الناس، فقالوا: يا رسول اللّه لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنك تبعت جنازته بلا رداء
ص: 35
ولا حذاء. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ الملائكة كانت ولا رداء بلا حذاء فتأسّيت بها. قالوا: فكيف تأخذ يمنة السرير مرة، ويسرة السرير مرة، قال: كانت يدي في يد جبرئيل آخذ حيث يأخذ. قالوا: أمرت بغسله، وصلّيت على جنازته ولحدته في قبره، ثم قلت: إنّ سعداً قد أصابته ضمّة؟! فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : نعم إنه كان في خلقه مع أهله سوءاً»(1).
أقول: إنّ سوء خلقه سبّب الضمّة وإنّ كان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلى عليه، أو شيّعته الملائكة وجبرئيل، وكان له في الإسلام سوابق ناصعة، وصحائف بيضاء، فلا عجب، فاللّه عدل لا تجوزه مظلمة، وإن تستّر صاحبها بأستار الطاعة.
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما حسّن اللّه خلق امريء وخلقه فيطعمه النار»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) : «ألا أخبرك بأشبهكم بي خلقاً، قال: بلى يا رسول اللّه، قال: أحسنكم خلقاً، وأعظمكم حلماً، وأبرّكم بقرابته، وأشدّكم من نفسه إنصافاً»(1).
«جاء رجل إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بين يديه، فقال: يا رسول اللّه ما الدّين؟ فقال: حسن الخلق. ثم أتاه عن يمينه، فقال: ما الدين؟ فقال: حسن الخلق، ثم أتاه عن شماله، فقال: ما الدين؟ فقال: حسن الخلق، ثم أتاه من ورائه، فقال: ما الدين؟ فالتفت إليه وقال: أما تفقه؟ الدين هو أن لا تغضب»(2).
قيل: ثم من؟ قال: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة. قيل: ثم من؟ قال: الخلق الحسن»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ من إسلام المرء حسن خلقه، وترك مالا يعينه»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا أيها الناس واللّه إنّي لأعلم أنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن معوهم بالطلاقة وحسن الخلق»(3).
وسئل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما أفضل ما أعطي الإنسان؟ فقال: حسن الخلق»(4).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما حسّن اللّه خلق عبده وخلقه إلاّ استحيا أن يطعم النار من لحمه»(5).
أقول: هذا تحريض على تحسين الخلق، إذ قسم منه بيد الإنسان نفسه.
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ما عمل أثقل في الميزان من حسن الخلق، وإنّ العبد ليدرك
ص: 38
بحسن الخلق درجة الصالحين»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يلقى اللّه عبد بمثل خصلتين، طول الصمت وحسن الخلق»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «حسن الخلق يمن، وشر الخلق نكد»(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من سعادة المرء حسن الخلق، ومن شقاوته سوء الخلق»(4).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ الخلق الحسن يذيب الذنوب كما تذيب الشمس الجمد، وإن الخلق السيئ ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل»(5).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه اختار الإسلام ديناً، فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق، فإنّه لا يصلح إلاّ بهما»(6).
وعن عبدالرحمن بن سمرة، قال: «كنا عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: رأيت
ص: 39
البارحة عجائب. فقلنا: يا رسول اللّه، وما رأيت؟ حدّثنا به! إلى أن قال: رأيت رجلاً من أمّتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين رحمة اللّه حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذه بيده، وأدخله في رحمة اللّه»(1).
وقال جعفر بن محمد (عليه السلام) : قال علي (عليه السلام) : «أتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسبعة أسارى، فقال لي: يا علي، قم فاضرب أعناقهم، فهبط جبرئيل (عليه السلام) في طرف العين، فقال: يا محمد، اضرب أعناق هؤلاء الستة، وخلّ عن هذا! فقال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما بال هذا من بينهم؟ فقال: لأنّه كان حسن الخلق، سخياً على الطعام، سخي الكفّ. قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فقلت: يا جبرئيل، عنك أو عن ربك؟ فقال: لا بل عن ربك عزّوجلّ يا محمد»(2).
أقول: لعل هؤلاء كانوا قد قتلوا المسلمين، في «بئر معونة»(3)، أو غيرها.
وسئل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «أيّ الأعمال أفضل؟ قال: حسن الخلق»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ خياركم أُولو النهى، قيل: يا رسول اللّه، ومن أُولو النهى؟ قال: هم أُولو الأخلاق الحسنة»(2).
ولما عرج به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى السماء، رأى أبواب الجنة ثمانية، وعلى كلّ باب أربع كلمات، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من أراد الدخول من هذه الأبواب الثمانية فليستمسك بأربع خصال: بالصدقة، والسخاء، وحسن الخلق، وكفّ الأذى عن عباد اللّه»(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثلاث من النساء يرفع اللّه عنهن عذاب القبر، ويكون محشرهن مع فاطمة بنت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : امرأة صبرت على غيرة زوجها، وامرأة صبرت على سوء خلق زوجها، وامرأة وهبت صداقها»(4).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من صبر على سوء خلق امرأته، أعطاه اللّه من الأجر ما
ص: 41
أعطى أيوب (عليه السلام) على بلائه»(1).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من صبرت على سوء خلق زوجها، أعطاها اللّه مثل ثواب آسية بنت مزاحم»(2).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «طوبى لمن ذلّ في نفسه، وحسنت خليقته»(3).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يكمل المؤمن إيمانه حتى يحتوي على مائة وثلاث خصال، وعدّ منها: بشره في وجهه، إلى أن قال: هشّاشاً بشّاشاً، لاحسّاس ولا جسّاس»(4).
وقيل له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا رسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ما أفضل حال اُعطي للرجل؟ قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الخلق الحسن إنّ أدناكم منّي وأوجبكم عليّ شفاعة، أصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس»(5).
وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ثلاث من لقي اللّه عزّوجلّ بهن دخل الجنة، من أيّ باب
ص: 42
شاء: من حسّن خلقه، وخشي اللّه تعالى في المغيب والمحضر، وترك المراء وإن كان محقّاً»(1).
عن مسروق عن عبد اللّه بن عمرو قال:لم يكن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاحشاً ولا متفحّشاً. وكان يقول: من خياركم أحاسنكم أخلاقاً(2).
وروي أنّ يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر، في أيام خلافته، فقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر: أطلبه من بلال فهو أعلم به منّي! ثم إنّ بلالاً دلّه على فاطمة، ثم فاطمة دلّته على علي (عليه السلام) ، فلما سأل علياً عنه، قال (عليه السلام) : صف لي متاع الدنيا، حتّى أصف لك أخلاقه! قال الرجل: هذا لا يتيسّر لي. فقال علي (عليه السلام) : عجزت عن وصف متاع الدنيا، وقد شهد اللّه تعالى على قلّته، حيث قال: {قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ}(3)، فكيف أصف أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد شهد اللّه تعالى بأنه عظيم، حيث قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(4)(5).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «استأذنت زليخا على يوسف، فقيل لها: إنّا
ص: 43
نكره أن نقدم بك عليه، لما كان منك إليه. قالت: إنّي لا أخاف من يخاف اللّه. فلما دخلت قال لها: يا زليخا مالي أراك قد تغيّر لونك؟ قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً. قال لها: ما الذي دعاك يا زليخا إلى ما كان منك؟ قالت: حسن وجهك يا يوسف؟ فقال: كيف لو رأيت نبيّاً يقال له محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، يكون في آخر الزمان، أحسن منّي وجهاً، وأحسن منّي خلقاً، وأسمح منّي كفّاً؟ قالت: صدقت! قال: وكيف علمت أنّي صدقت؟ قالت: لأنّك حين ذكرته وقع حبّه في قلبي، فأوحى اللّه عزّوجلّ إلى يوسف: أنها قد صدقت، وأني قد أحببتها لحبّها محمداً. فأمره اللّه تبارك وتعالى أن يتزوّجها»(1).
ص: 44
وقال (عليه السلام) : أرضى الناس من كانت أخلاقه رضيّة(1).
وقال (عليه السلام) : من حسنت خليقته طابت عشرته(2).
وقال (عليه السلام) : كفى بالقناعة ملكاً، وبحسن الخلق نعيماً(3).
وقال (عليه السلام) : إنّ الصبر، وحسن الخلق، والبرّ، والحلم؛ من أخلاق الأنبياء(4).
وقال (عليه السلام) : ربّ عزيز أذلّه خلقه، وذليل أعزّه خلقه(5).
وقال (عليه السلام) : الإسلام حسن الخلق.
وقال (عليه السلام) : في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق(6).
ومن وصية له (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية، أنه قال له: حسّن مع جميع
ص: 46
الناس خلقك، حتى إذا غبت عنهم حنّوا إليك وإذا مِت بكوا عليك وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون(1).
وقال (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية: إيّاك والعجب، وسوء الخلق، وقلّة الصبر؛ فإنّه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاث صاحب، ولا يزال لك عليها من الناس مجانب(2).
وقال (عليه السلام) : عليكم بالسخاء وحسن الخلق، فإنّهما يزيدان الرزق، ويوجبان المحبّة(3).
وقال (عليه السلام) : عليك بحسن الخلق، فإنّه يكسبك المحبّة(4).
وقال (عليه السلام) : عليك بالبشاشة، فإنّها حبالة المودّة(5).
وقال (عليه السلام) : روّضوا أنفسكم على الأخلاق الحسنة، فإنّ العبد المسلم يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم(6).
وقال (عليه السلام) : من أعطي أربع خصال في الدنيا، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة، وفاز بحظّه منهما [وذكر من جملتها]: وحسن خلق يعيش به في الناس(7).
ص: 47
وقال (عليه السلام) : حسن البشر من دعائم النجاح(1).
وقال (عليه السلام) : حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق(2).
وقال (عليه السلام) : حسن الخلق خير رفيق(3).
وقال (عليه السلام) : حسن الخلق خير قرين، وعنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه(4).
وقال (عليه السلام) : إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بطلاقة الوجه، وحسن اللقاء؛ فإنّي سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم(5).
وروي أنه دعا غلاماً له، فلم يجبه، فدعاه ثانياً، وثالثاً فلم يجبه، فرآه
ص: 48
متضجعاً. فقال: أما تسمع يا غلام؟! قال: نعم، قال: فما حملك على ترك جوابي؟ قال: أمنت عقوبتك، فتكاسلت، فقال: امض فأنت حرّ لوجه اللّه(1).
وقال (عليه السلام) : من لم يحسّن خلقه لم ينتفع به قرينه(1).
وقال (عليه السلام) : نعم الحسب حسن الخلق(2).
وقال (عليه السلام) : نعم الشيمة حسن الخلق(3).
وقال (عليه السلام) : لا سؤدد لسييء الخلق(4).
وقال (عليه السلام) : من ساء خلقه ضاق رزقه(5).
وقال (عليه السلام) : من ساء خلقه عذّب نفسه(6).
وقال (عليه السلام) : سوء الخلق شرّ قرين(7).
وقال (عليه السلام) : السيئ الخلق كثير الطيش، منغّص العيش(8).
وقال (عليه السلام) : من ساء خلقه أعوزه الصديق والرفيق(9).
ص: 52
وقال (عليه السلام) : «سوء الخلق يوحش القريب، وينفّر البعيد»(1).
وقال (عليه السلام) : من كرم خلقه اتّسع رزقه(2).
وقال (عليه السلام) : لا عيش أهنأ من حسن الخلق(3).
وقال (عليه السلام) : الخلق المحمود من ثمار العقل(4).
وقال (عليه السلام) : رأس العلم التمييز بين الأخلاق، وإظهار محمودها، وقمع مذمومها(5).
وقال (عليه السلام) : عليكم بمكارم الأخلاق؛ فإنّها رفعة، وإيّاكم والأخلاق الدنية؛ فإنّها تضع الشريف، وتهدم المجد(6).
وإن نظرنا إلى حسن أخلاقه وجدناه يضرب به المثل في ذلك، حتى
ص: 53
عابه به أعداؤه لما لم يجدوا فيه عيباً(1).
وقال (عليه السلام) : تنافسوا في الأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، يعظم لكم الجزاء(2).
وقال (عليه السلام) : لا وحشة أوحش من سوء الخلق(1).
وقال (عليه السلام) : الناس أربعة؛ فمنهم من له خلق ولا خلاق له، ومنهم من له خلاق ولا خلق له، ومنهم من لا خلق ولا خلاق له، وذلك من شرّ الناس. ومنهم من له خلق وخلاق فذلك خير الناس(1).
وقال (عليه السلام) : إنّ أحسن الحسن الخلق الحسن(2).
ذكر غير واحد من العلماء، أنّ الحسن (عليه السلام) كان أوسع الناس صدراً وأسجحهم خلقاً(3).
عن الحسن بن علي (عليه السلام) قال في حديث طويل ... ولا عيش ألذ من
ص: 57
حسن الخلق(1).
عن عبداللّه بن عتبة قال: كنت عند الحسين بن علي (عليه السلام) إذ دخل علي بن الحسين الأصغر (عليه السلام) فدعاه الحسين (عليه السلام) وضمّه إليه ضمّاً وقبّل ما بين عينيه ثم قال: بأبي أنت ما أطيب ريحك وأحسن خلقك... الحديث(2).
ص: 58
قال علي بن الحسين (عليه السلام) : إنّ أحبكم إلى اللّه أحسنكم خلقاً(1).
وكان من دعائه (عليه السلام) في الاستعاذة من المكاره، وسيء الأخلاق، ومذامّ الأفعال: اللّهم إنّي أعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلّة القناعة، وشكاسة الخلق(2).
وقال (عليه السلام) : طوبى لمن طاب خلقه(3).
وقال (عليه السلام) : أربع من كنّ فيه كمل إسلامه ومحّصت عنه ذنوبه ولقي ربّه عزّوجلّ، وهو عنه راض (وكان من جملتها) وحسّن خلقه مع أهله(4).
ص: 59
وقال (عليه السلام) : إنّ المعرفة بكمال دين المسلم تركه الكلام فيما لا يعنيه، وقلّة المراء، وحلمه، وصبره، وحسن خلقه(1).
وقال (عليه السلام) : المسوخ من بني آدم ثلاثة عشر صنفاً [وكان من جملتها القنفذ]. وأمّا القنفذ فكان رجلاً سيئ الخلق فمسخه اللّه قنفذاً(2).
عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما يوضع في ميزان امريء يوم القيامة أفضل من حسن الخلق(3).
عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: إنّ أحبكم إلى اللّه عزّوجلّ أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند اللّه عملاً أعظمكم فيما عند اللّه رغبة، وإنّ أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية لله، وإنّ أقربكم من اللّه أوسعكم خلقاً ... الحديث(4).
عن الإمام السجاد (عليه السلام) : أنّ أمير المؤمنين قدّم أسيراً ليضرب عنقه فهبط جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: يا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّ ربّك يقرئك السلام
ص: 60
ويقول: لا تقتله فإنّه حسن الخلق سخيّ في قومه... الحديث(1).
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً(2).
وقال (عليه السلام) : ما يعبأ بمن يؤمّ هذا البيت (البيت الحرام) إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه تعالى، وحلم يملك به غضبه، وحسن الصحابة لمن صحبه(3).
وقال (عليه السلام) : إنّ اللّه عزّوجلّ أنزل حوراء من الجنة إلى آدم، فزوّجها أحد ابنيه، وتزوّج الآخر إلى الجن، فولدتا جميعاً، فما كان من الناس من جمال وحسن خلق فهو من الحوراء، وما كان فيهم من سوء الخلق، فمن بنت الجان(4).
أقول: قد يكون المراد الجينات الوراثية أو ما أشبه.
وقال (عليه السلام) : «البشر الحسن، وطلاقة الوجه؛ مكسبة للمحبّة، وقربة من اللّه
ص: 61
عزّوجلّ. وعبوس الوجه، وسوء البشر؛ مكسبة للمقت وبعد من اللّه»(1).
قال محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) : من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير والراحة وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرم الخلق والرفق كان ذلك سبيلاً إلى كل شرّ وبلية إلاّ من عصمه اللّه(2).
محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إنّ لأهل التقوى علامات يعرفون بها. صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وقلّة الفخر والبخل، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلّة المؤاتاة للنساء، وبذل المعروف، وحسن الخلق وسعة الحلم...(3).
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) «قال: تسع خصال خصّ اللّه بها رسله، فامتحنوا أنفسكم فإن كانت فيكم فاحمدوا اللّه تعالى عليها وإلاّ فاسألوه فيها وهُنّ: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والشجاعة والتنزه(4).
ص: 62
وقال الإمام أبو عبداللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) لبحر السقّاء: «يا بحر! إنّ حسن الخلق يسر»(1).
وقال (عليه السلام) : لا عيش أهنأ من حسن الخلق(2).
وقال (عليه السلام) : حسن الخلق يزيد في الرزق(3).
وقال (عليه السلام) : «إنّ اللّه عز وجل خصّ الأنبياء (عليهم السلام) بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد اللّه على ذلك، ومن لم تكن فيه فليتضرّع إلى اللّه عز وجلّ ويسأله إيّاها»(4).
وقال (عليه السلام) : «قولوا للناس كلّهم حسناً؛ مؤمنهم ومخالفهم، أمّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه، وأمّا المخالفون فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى
ص: 63
الإيمان، فإن استتر من ذلك يكفّ شرورهم عن نفسه وإخوانه المؤمنين».
ثم قال (عليه السلام) : «إنّ مداراة أعداء اللّه من أفضل صدقة المرء على نفسه وإخوانه. كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منزله، إذ استأذن عليه عبداللّه بن أبي سلول، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : بئس أخو العشيرة، إئذنوا له، ... فلما دخل عليه بشر في وجهه، فلما خرج، قالت عائشة: يا رسول اللّه، قلت فيه ما قلت، وفعلت فيه من البشر ما فعلت؟! فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا عويش، يا حميراء، إنّ شرّ الناس عند اللّه، يوم القيامة، من يكرم إتقاء شرّه»(1).
وقال (عليه السلام) : أحسن مجاورة من جاورت تكن مسلماً(2).
وقال (عليه السلام) : إنّ اللّه رضي لكم الإسلام ديناً، فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق(3).
وقال (عليه السلام) : عليكم بتقوى اللّه و... وحسن الصحبة لمن صحبكم(4).
وقال (عليه السلام) وهو يوصي شيعته: خالقوا الناس بأحسن أخلاقكم(5).
وقال (عليه السلام) : خالطوا الناس، وأتوهم، وأعينوهم، ولا تجانبوهم، وقولوا لهم كما قال اللّه {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(6)(7).
وقال (عليه السلام) : حسن المعاشرة مع خلق اللّه تعالى في غير معصيته من مزيد
ص: 64
فضل اللّه تعالى عند عبده. ومن كان خاضعاً لله تعالى في السر، كان حسن المعاشرة في العلانية. فعاشر الخلق لله تعالى، ولا تعاشرهم لنصيبك لأمر الدنيا، ولطلب الجاه، والرياء والسمعة، ولا تسقطن بسببها عن حدود الشريعة، من باب الممائلة، والشهرة، فإنّهم لا يغنون عنك شيئاً، وتفوتك الآخرة بلا فائدة، فاجعل من هو أكبر منك بمنزلة الأب، والأصغر بمنزلة الولد، والمثل بمنزلة الأخ. ولا تدع ما تعلم يقيناً من نفسك بما تشك فيه من غيرك. وكن رفيقاً في أمرك بالمعروف، وشفيقاً في نهيك عن المنكر، ولا تدع النصيحة في كل حال. قال اللّه تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(1).
وقال (عليه السلام) : «حسن الخلق شجرة في الجنة، وصاحبه متعلّق بغصنها يجذبه إليها. وسوء الخلق شجرة في النار، وصاحبه متعلّق بغصنها يجذبه إليها»(2).
وقال (عليه السلام) : «خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع، إلى أن قال: والرابعة حسن الخلق»(3).
وقال (عليه السلام) : في وصية لقمان لابنه: يا بني، إن عدمك ما تصل به قرابتك، وتتفضّل به على إخوانك، فلا يعدمنك حسن الخلق وبسط البشر، فإنّه من
ص: 65
أحسن خلقه أحبّه الأخيار وجانبه الفجار(1).
وسئل (عليه السلام) : ما حدّ حسن الخلق؟ قال: تلين جانبك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك ببشر حسن(2).
قال (عليه السلام) بعد ذكره للأئمة (عليهم السلام) : ودينهم الورع، والعفّة، ...، إلى أن قال: وحسن الصحبة، وحسن الجوار(3).
وقال (عليه السلام) : من أراد أن يدخله اللّه عز وجل في رحمته ويسكنه جنته فليحسن خلقه(4).
وقال (عليه السلام) : ثلاث خصال في المؤمن لا يجمعها اللّه تعالى لمنافق: حسن الخلق، والفقه، وحسن الصمت(5).
وقال (عليه السلام) : ما يقدم المؤمن على اللّه عزّوجلّ بعمل بعد الفرائض، أحبّ
ص: 66
إلى اللّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه(1).
وقال (عليه السلام) : إنّ اللّه تبارك وتعالى، ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق، كما يعطي المجاهد في سبيل اللّه يغدو عليه ويروح(2).
وقال (عليه السلام) : البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار(3).
وقال (عليه السلام) : إذا خالطت الناس، فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلاّ كان يدك العليا عليه فافعل، فإنّ العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة، ويكون له حسن خلق، فيبلغه اللّه بخلقه درجة الصائم القائم(4).
معها لا بأس به.
وقال (عليه السلام) : ثلاث من أتى اللّه بواحدة منهن أوجب اللّه له الجنة؛ الإنفاق من إقتار، والبشر لجميع العالم، والإنصاف من نفسه(1).
وقال (عليه السلام) : من ساء خلقه عذّب نفسه(2).
وعن أبي ربيع الشامي، قال: كنا عند أبي عبداللّه (عليه السلام) والبيت غاصّ بأهله، فقال (عليه السلام) : ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه، وممالحة من مالحه، ومحالفة من حالفه(3).
وقال (عليه السلام) : أوحى اللّه تبارك وتعالى إلى بعض أنبيائه (عليه السلام) : الخلق الحسن يميث الخطيئة، كما تميث الشمس الجليد(4).
وقال (عليه السلام) : إنّ اللّه تبارك وتعالى خصّ رسوله (عليهم السلام) بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا لله...، وارغبوا إليه فيها، فذكرها
ص: 68
عشرة [وكان من جملتها] حسن الخلق(1).
وقال (عليه السلام) : إنّ الصبر والصدق، والحلم، وحسن الخلق، من أخلاق الأنبياء، وما يوضع في ميزان امريء يوم القيامة شيء أفضل من حسن الخلق(2).
وقال (عليه السلام) : أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً(3).
وقال (عليه السلام) : الخلق منحة يمنحها اللّه من شاء من خلقه، فمنه سجية ومنه نية، فسأله رجل: فأيّهما أفضل؟ قال: صاحب النية فإنّ صاحب السجية هو المجبول على الأمر، الذي لا يستطيع غيره، وصاحب النية هو الذي يتصبّر على الطاعة فيصبر، فهذا أفضل(4).
وقال (عليه السلام) : تبسّم المؤمن في وجه المؤمن حسنة(5).
وقال (عليه السلام) : الخلق الحسن جمال في الدنيا ونزهة في الآخرة، وبه كمال
ص: 69
الدين، والقربة إلى اللّه تعالى. ولا يكون حسن الخلق إلاّ في كلّ نبي وولي ووصي، لأنّ اللّه تعالى أبى أن يترك ألطافه وحسن الخلق إلاّ في مطايا نوره الأعلى وجماله الأزكى، لأنّها خصلة يختص بها الأعرفون به، ولا يعلم ما في حقيقة حسن الخلق إلاّ اللّه عزّوجلّ، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : حاتم زماننا حسن الخلق، والخلق الحسن ألطف شيء في الدين، وأثقل شيء في الميزان، وسوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وإن ارتقى في الدرجات فمصيره إلى الهوان(1).
وقال (عليه السلام) : ثلاث يصفين ودّ المرء لأخيه المسلم: يلقاه بالبشر إذا لقيه، ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه، ويدعوه بأحبّ الأسماء إليه(2).
وقال (عليه السلام) : المؤمن طاب كسبه وحسنت خليقته(1).
وقال (عليه السلام) : لا سؤدد لسيئ الخلق(2).
وقال (عليه السلام) : إنّ الحسنة في الدنيا شيئان: طيب المعاش، وحسن الخلق(3).
وقال (عليه السلام) ليونس الشيباني: كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟ قال يونس: قليلٌ! فقال (عليه السلام) : فلا تفعلوا، فإنّ المداعبة من حسن الخلق(1).
وقال (عليه السلام) : ما من عبد حسّن خلقه، وبسط يده، إلاّ كان في ضمان اللّه لا محالة، وممّن يهديه حتى يدخله الجنة(2).
وعنه (عليه السلام) قال أربع من كنّ فيه وكان من فرقه الى قدمه ذنوبٌ غفر اللّه له وبدّلها حسنات: الصدقة والحياء وحسن الخلق والشكن(3).
ص: 73
قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) : واللّه ما أعطي مؤمن قطّ خير الدنيا والآخرة، إلاّ بحسن ظنّه باللّه عزّوجلّ ورجائه له، وحسن خلقه، و...(1).
وقال (عليه السلام) : عجبت لمن يشتري العبيد بماله فيعتقهم، كيف لايشتري الأحرار بحسن خلقه!(2)
وقال (عليه السلام) : السخي الحسن الخلق في كنف اللّه، لايتخلّى اللّه عنه، حتى يدخله الجنة، وما بعث اللّه نبيّاً إلاّ سخياً. وما زال أبي يوصيني بالسخاء وحسن الخلق حتى مضى(3).
ص: 74
وقال (عليه السلام) : عليكم بتقوى اللّه، والورع والاجتهاد، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).
عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن جده قال ... إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة(2).
روي عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قال:
... صلة الأرحام وحسن الخلق زيادة في الإيمان(3).
وقال (عليه السلام) : لا عيش أغنى من حسن الخلق(4).
وقال (عليه السلام) : واجتهد أن لا تلقى أخاً من إخوانك إلاّ تبسّمت في وجهه، وضحكت معه في مرضاة اللّه، فإنّه يروى عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: من
ص: 75
ضحك في وجه أخيه المؤمن تواضعاً لله عزّوجلّ أدخله الجنة.
وقال (عليه السلام) : وأجمل معاشرتك مع الصغير والكبير(1).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: سئل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما أكثر ما يدخل به الجنة؟ قال: تقوى اللّه وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل به النار؟ قال: الأجوفان البطن والفرج(2).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: عليكم بحسن الخلق فإنّ حسن الخلق في الجنة لامحالة. إيّاكم وسوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة(3).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لو يعلم العبد ماله في حسن الخلق لعلم أنه يحتاج أن يكون له حسن الخلق(4).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) ، قال: قال أبو عبداللّه (عليه السلام) : صلة
ص: 76
الأرحام وحسن الخلق زيادة في الأعمار(1).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّ جبرئيل الروح الأمين نزل عليّ من عند ربّ العالمين، فقال: يا محمد، عليك بحسن الخلق فإن سوء الخلق يذهب بخير الدنيا والآخرة ألا وإنّ أشبهكم بي أحسنكم خلقاً(2).
قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) باسناده عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: ... إيّاكم وسوء الخلق فإنّ سيئ الخلق في النار(3).
ص: 77
قال الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) : فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل هذا شيعي فيسرّني ذلك(1).
ص: 78
قال أحد العلماء: رأيت أحد التجّار يمدحه العدو والصديق، فتعجّبت، وسألت عن السبب، فقالوا: إنّه في أول شبابه تزوّج، ثم ذهب إلى خراسان. وجاء من هناك بخاتم فيروزج ثمين، قيمته ثلاثون ألف تومان (قبل مئة سنة) هدية إلى زوجته، ولما وصل إلى طهران قارن وصوله الأذان، فذهب إلى المسجد يصلّي، وأخرج الفيروزج ووضعه أمامه احتياطاً حتى لا يستصحبه في الصلاة، وكان إلى جنبه رجل، فبصر به وهو في الصلاة فسرق الرجل الخاتم حيث وضع يده عليه، ثم نقله إلى جيبه، ولما أتم الصلاة، أراد الرجل أن ينصرف، فتمسّك به التاجر، وقال له: إنّي قد وهبت الخاتم لك، فاطمئن أنّي لا أريد بك سوءً، لكن يبدو لي من وجهك أنّك لست سارقاً، وإنّما ألجأتك الظروف، وحيث إنّي أعلم أنك إذا بعت هذا الخاتم طلبوا منك الشهود على أنه لك، وأنك لا تعلم قيمته ولا شاهد لك، فتتهم بالسرقة، ويذهب ماء وجهك وعرضك، لذلك إنّي أعلمك أنّ قيمته كذا، وإذا أرادوا منك الشاهد فأنا شاهدك، وإلى هنا جعل وجه الرجل يرشح خجلاً، فقال الرجل: نعم هذه أول مرة أنا أفعل هكذا، والسبب في ذلك: أنّي كنت كاسباً ولكنّي فشلت في كسبي، وخجل العيال والأطفال اضطرني إلى
ص: 79
ذلك، قال التاجر: فلنذهب معاً إلى السوق، وذهبا معاً وباعاه بأكثر من قيمته، ثم اشترى التاجر ببعض القيمة داراً ذات شقتين، وآجر شقة واحدة لفائدة الرجل، وأسكن الرجل في شقة أخرى، واستأجر له دكاناً يعيش به.
أفهل هناك إنسان لا يمدح هذا العمل وإذا كان هذا العمل ممدوحاً، فليسمع بذلك الأثرياء، وليهتمّوا لنجاة الفقراء، وإنقاذهم من مشاكل الحياة، فإنّهم يشترون بذلك ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة(1).
روي أنّ نبي اللّه موسى (عليه السلام) كان يرعى أغنام شعيب (عليه السلام) فانهزم من قطيعه تيس فصعد الجبل، فبقي موسى تابعاً له عامة يومه في رؤوس الجبال، فلما أمسك به قبّله على وجهه ومسح التراب من فوقه، وقال معتذراً: أيّها الحيوان أتعبتك هذا اليوم وما كان المقصود منك القيمة، ولكن الخوف عليك من الذئاب. ثم حمله على عاتقه، حتى أوصله إلى الحيوانات الأخر، فلما كمل له هذا الخلق بالنسبة إلى خلق اللّه، أوحى اللّه إليه أن: «يا موسى قد صرت قابلاً للرسالة، فامض إلى فرعون، وقل له قولاً ليّناً، لعلّه يتذكر أو يخشى»(2).
حكي: أنّ أبا عثمان الحيري دعاه إنسان إلى ضيافة، فلما وافى باب الدار قال له الرجل: يا أستاذ ليس لي وجه في دخولك، فانصرف رحمك اللّه،
ص: 80
فانصرف أبو عثمان، فلما وافى منزله، عاد الرجل إليه، وقال: يا أستاذ ندمت، وأخذ يعتذر له، وقال: احضر الساعة! فقام معه، فلما وافى داره، قال له مثل ما قال في الأولى، ثم فعل به ذلك أربع مرات، وأبو عثمان ينصرف ويحضر، ثم قال: يا أستاذ إنّما أردت بذلك اختبارك، والوقوف على أخلاقك. ثم جعل يعتذر له ويمدحه، فقال أبو عثمان: لا تمدحني على خلق تجده في الكلاب، فإنّ الكلب إذا دُعي حضر وإذا زجر انزجر!(1).
ص: 81
قال لقمان لابنه: يا بني إياك والضجر، وسوء الخلق، وقلّة الصبر، فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب، وألزم نفسك التُّؤدة في أمورك، وصبّر على مئونات الإخوان نفسك، وحسّن مع جميع الناس خلقك(1).
وقال لقمان لابنه: يا بني إن عدمك ما تصل به قرابتك تتفضل به على إخوانك فلا يعدمنك حسن الخلق وبسط البشر، فإنّه من أحسن خلقه أحبّه الأخيار وجانبه الفجار(2).
أقول: وإنّما يجانبه الفجار، لأنّه يلتف الأخيار حوله، فلا يجد الفجار إليه سبيلاً ومنفذاً.
وقال بعضٌ: صاحب رجل سيئ الخلق في سفره، فكان يحمل منه ويداريه، فلما أن فارقه بكى، فقيل له في ذلك، فقال: أترحّم عليه؛ فارقته وخلقه معه لم يفارقه(3).
ص: 82
وقال بعض: سوء الخلق سيئة لا ينفع معها كثرة الحسنات(1).
وقيل لم ينل أحدٌ كماله إلاّ المصطفى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) . وأقرب الناس إلى اللّه السالكون آثارهم بحسن الخلق(2).
وقال بعض: حسن الخلق أن لايؤثّر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق(3).
وجمع بعضهم علامات حسن الخلق، فقال: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، وصولاً، وقوراً، صبوراً، رضيّاً، شكوراً، رفيقاً، عفيفاً، شفيقاً، لا نمامً ولا مغتابً ولا عجولً ولا حقودً ولا بخيلً ولا حسودً هشاشً بشاشٌ، يحبّ في اللّه، ويبغض في اللّه، ويرضى في اللّه، ويسخط في اللّه(4).
وسئل بعضهم عن حسن الخلق، فقال: عشرة أشياء: قلّة الخلاف، وحسن الإنصاف، وترك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو من السيئات، والتماس المعذرة، واحتمال الأذى، والرجوع باللائمة، والتفرّد بمعرفة عيوب نفسه، دون
ص: 83
عيوب غيره، وطلاقة الوجه للصغير والكبير، ولطف الكلام لمن دونه وفوقه(1).
وسئل آخر عن حسن الخلق، فقال: أدناه احتمال الأذى، وترك المكافأة، والرحمة للظالم، والاستغفار له، والشفقة عليه(2).
وقال بعض السلف: الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب، والسيء الخلق أجنبي عند أهله(3).
وقال الفضيل: لإن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إليّ من أن يصحبني عابد سيء الخلق، لأنّ الفاجر إذا حسن خلقه خفّ على الناس، وأحبّوه، والعابد إذا ساء خلقه، ثقل على الناس، ومقتوه(4).
وقيل: مثل الجليس الحسن كالعطار؛ إن لم يصبك من عطره أصابك من رائحته، ومثل جليس السوء، مثل الكبريت إن لم يحرق ثوبك بناره آذاك بدخانه(5).
وقيل للأحنف بن قيس: ممّن تعلمت حسن الخلق؟ فقال: من قيس بن
ص: 84
عاصم، بينما هو ذات يوم جالس في داره، إذ جاءته خادم له بسفود عليه شواء حار، فنزعت السفود من اللحم، وألقته خلف ظهرها، فوقع على ابن له فقتله لوقته، فدهشت الجارية، فقال: لا روع عليك، أنت حرّة لوجه اللّه تعالى(1).
وقال الحرث بن قصي: يعجبني من القرّاء كل فصيح مضحاك، فأمّا الذي تلقاه ببشر ويلقاك بوجه عبوس فلاكثّر اللّه في المسلمين مثله(2).
قال أحد الشعراء:
وإنّي لألقى المرء أعلم أنّه***عدوّ، وفي أحشائه الضّغن كامن
فأمنحه بشراً فيرجع قلبه***سليماً، وقد ماتت لديه الضّغائن(1)
وقال أبو تمّام:
من لي بإنسان إذا أغضبته***وجهلت؛ كان الحلم ردّ جوابه
وإذا صبوت إلى المدام شربت من***أخلاقه، وسكوت من آدابه
وتراه يصغي للحديث بطرفه***وبقلبه، ولعلّه أدرى به(2)
وقال آخر:
إنّ المكارم والمعروف أودية***أحلّك اللّه منها حيث تجتمع
من لم يكن بأمين اللّه معتصماً***فليس بالصلوات الخمس ينتفع(3)
ص: 86
سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.
قم المقدسة
والدة السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
ص: 87
ص: 88
ص: 89
ص: 90
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم وظالميهم، وغاصبي حقوقهم أجمعين إلى يوم الدين آمين رب العالمين.
وبعد فهذه مجموعة من الروايات الواردة في مطاعن الخلفاء الثلاثة (أبي بكر وعمرو عثمان) جمعتها من مصادرنا المعتبرة لعلمائنا الأعلام أسأل اللّه سبحانه وتعالى أن ينفعني بها، حيث لا ينفع مال ولا بنون إنّه قريب مجيب.
عش آل محمد: قم المقدسة
والدة السّيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
ص: 91
ص: 92
ص: 93
ص: 94
عن حبيش المعتمر، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، كيف أمسيت؟ قال: أمسيت محبّاً لمحبّنا ومبغضاً لمبغضنا، وأمسى محبّنا مغتبطاً برحمة من اللّه كان ينتظرها وأمسى عدونا يؤسّس بنيانه على شفا جرف هار، فكأنّ ذلك الشفا قد انهار به في نار جهنم، وكأنّ أبواب الرحمة قد فُتحت لأهلها، فهنيئاً لأهل الرحمة رحمتهم، والتعس لأهل النار والنار لهم.
يا حبيش! من سرّه أن يعلم أمحبّ لنا أم مبغض فليمتحن قلبه، فإن كان يحبّ ولياً لنا فليس بمبغض لنا وإن كان يبغض وليّاً لنا فليس بمحبٍ لنا.
إنّ اللّه تعالى أخذ الميثاق لمحبّينا بمودّتنا وكتب في الذكر اسم مبغضنا، نحن النجباء وأفراطنا أفراط الأنبياء(1).
عن أبي محمد العسكري (عليه السلام) ، عن آبائه (عليهم السلام) : قال: رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد اللّه! أحبب في اللّه وأبغض في اللّه، ووال في اللّه، وعاد في اللّه، فإنّه لا تنال ولاية اللّه إلَا بذلك، ولا يجد رجل طعم
ص: 95
الإيمان - وإن كثرت صلاته وصيامه - حتّى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس في يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتوادّون، وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من اللّه شيئاً.
فقال له: وكيف لي أن أعلم أنّي قد واليت وعاديت في اللّه عزّوجلّ، ومن ولي اللّه عزّوجلّ حتّى أواليه؟ ومن عدوّه حتّى أعاديه؟ فأشار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى علي (عليه السلام) ، فقال: ألا ترى هذا؟ فقال: بلى. قال: ولي هذا ولي اللّه فواله، وعدوّ هذا عدوّ اللّه فعاده.
قال: وال ولي هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدك، وعادك عدوه ولو أنّه أبوك أو ولدك(1).
عن جعفر بن محمد (عليه السلام) ، قال: ... وحبّ أولياء اللّه واجب، والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة، ومن الذين ظلموا آل محمد صلّى اللّه عليهم وهتكوا حجابه، وأخذوا من فاطمة (عليها السلام) فدكاً ومنعوها ميراثها وغصبوها وزوجها حقوقهما، وهموا بإحراق بيتها، وأسّسوا الظلم، وغيّروا سنة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
والبراءة من الناكثين والقاسطين والمارقين واجبة، والبراءة من الأنصاب والأزلام أئمة الضلال، وقادة الجور كلّهم - أولهم وآخرهم - واجبة، والبراءة من أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود قاتل أمير
ص: 96
المؤمنين (عليه السلام) واجبة، والبراءة من جميع قتلة أهل البيت (عليهم السلام) واجبة(1).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : من شك في كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر(2).
عن خالد بن نجيح، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : جعلت فداك، سمّى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا بكر: الصدّيق؟
قال: نعم. قلت: فكيف؟
قال: حين كان معه في الغار.
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّي لأرى سفينة جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) تضطرب في البحر ضالة.
قال: يا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ! وإنّك لتراها؟!
قال: نعم.
قال: فتقدر أن ترينيها؟
قال: اُدن منّي.
قال: فدنا منه، فمسح على عينيه، ثم قال: اُنظر، فنظر أبوبكر فرأى السفينة وهي تضطرب في البحر، ثم نظر إلى قصور أهل المدينة، فقال في نفسه: الآن صدّقت أنّك ساحر.
ص: 97
فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الصدّيق أنت(1).
... من حديث بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبي بكر قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه لأبي بكر: فما الذي غرّك عن اللّه وعن رسوله وعن دينه وأنت خلو ممّا يحتاج إليه أهل دينه؟
قال: فبكى أبوبكر وقال: صدقت يا أبا الحسن، أنظرني يومي هذا فأدبر ما أنا فيه وما سمعت منك.
فقال له علي (عليه السلام) : لك ذلك يا أبا بكر!
فرجع من عنده وخلا بنفسه يومه ولم يأذن لأحد إلى اللّيل، وعمر يتردّد في الناس لمّا بلغه من خلوته بعلي (عليه السلام) .
فبات في ليلته، فرأى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منامه ممثلاً له في مجلسه، فقام إليه أبوبكر ليسلّم عليه، فولّى وجهه، فصار مقابل وجهه، فسلّم عليه فولّى عنه وجهه.
فقال أبوبكر: يا رسول اللّه! هل أمرت بأمر فلم أفعل؟
فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أردّ السلام عيك وقد عاديت اللّه ورسوله وعاديت من والاه اللّه ورسوله! ردّ الحق إلى أهله.
قال: فقلت: من أهله؟
قال: من عاتبك عليه، وهو عليّ.
قال: فقد رددت عليه يا رسول اللّه بأمرك.
ص: 98
فأصبح وبكى، وقال لعلي (عليه السلام) : ابسط يدك، فبايعه وسلّم إليه الأمر.
وقال له: أخرج إلى مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأخبر الناس بما رأيت في ليلتي وما جرى بيني وبينك، فأخرج نفسي من هذا الأمر وأسلّم عليك بالإمرة؟
فقال علي (عليه السلام) : نعم.
فخرج من عنده متغيّراً لونه عالياً نفسه، فصادفه عمر وهو في طلبه.
فقال: ما حالك يا خليفة رسول اللّه...؟
فأخبره بما كان منه وما رأى وما جري بينه وبين علي (عليه السلام) .
فقال عمر: أنشدك باللّه يا خليفة رسول اللّه أن تغتر بسحر بني هاشم!
فليس هذا بأول سحر منهم...
فما زال به حتّى ردّه عن رأيه وصرفه عن عزمه، ورغبه فيما هو فيه، وأمره بالثبات (عليه) والقيام به.
فأتى علي (عليه السلام) المجسد للمعياد، فلم ير فيه منهم أحداً، فأحسّ بالشر منهم، فقعد إلى قبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فمرّ به عمر، فقال: يا علي! دون ما تروم خرط القتاد، فعلم بالأمر وقام ورجع إلى بيته(1).
عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: لقي أمير المؤمنين (عليه السلام) أبابكر في بعض سكك المدينة، فقال: ظلمت وفعلت.
فقال: ومن يعلم ذلك؟
ص: 99
قال: يعلمه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قال: وكيف لي برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتّى يعلمني ذلك؟ لو أتاني في المنام فأخبرني لقبلت ذلك.
قال علي (عليه السلام) : فأنا أدخلك على رسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، [فأدخله] مسجد قبا، فإذا برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مسجد قبا.
فقال له رسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اعتزل عن ظلم أميرالمؤمنين (عليه السلام) .
فخرج من عنده فلقيه عمر فأخبره بذلك، فقال له: اسكت!
أما عرفت سحر بني عبد المطلب(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لأبي بكر: هل أجعل بيني وبينك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟
فقال: نعم.
فخرج إلى مسجد قبل، فصلّى أمير المؤمنين (عليه السلام) ركعتين، فإذا هو برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فقال: يا أبابكر على هذا عاهدتك، فصرت به؟!
فرجع وهو يقول: واللّه لا أجلس هذا المجلس.
فلقي عمر، فقال: مالك.
قال: قد واللّه ذهب بي فأراني رسول اللّه.
فقال عمر: أما تذكر يوماً كنّا معه، فأمر شجرتين فالتقتا، فقضى حاجته
ص: 100
خلفهما، ثم أمرهما فتفرّقتا؟
قال أبوبكر: أما إذا قلت ذا، فإنّي دخلت أنا وهو في الغار فقال بيده فمسحها عليه فعاد ينسج العنكبوت كما كان.
ثم قال: ألا أُريك جعفراً وأصحابه تعوم بهم سفينتهم في البحر؟ قلت: بلى، فمسح يده على وجهي، فرأيت جعفراً وأصحابه تعوم بهم سفينتهم في البحر، فيومئذ عرفت أنّه ساحر، فرجع إلى مكانه(1).
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أنَّ أبابكر لقي أمير المؤمنين (عليه السلام) في سكة بني النجار، فسلّم عليه وصافحه، وقال له: يا أبا الحسن! أفي نفسك شيء من استخلاف الناس إيّاي، وما كان من يوم السقيفه، وكراهيتك البيعة؟ واللّه ما كان ذلك من إرادتي، إلّا أنّ المسلمين اجتمعوا على أمر لم يكن لي أن أخالف عليهم فيه، لأنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: لا تجتمع أمّتي على الضلال.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : يا أبابكر، أمّته الذين أطاعوه في عهده من بعده، وأخذوا بهداه، وأوفوا بما عاهدوا اللّه عليه، ولم يبدلوا ولم يغيّروا.
قال أبوبكر لإمير المؤمنين (عليه السلام) : واللّه يا علي لو شهد عندي الساعة من أثق به أنّك أحقّ بهذا الأمر سلّمته إليك، رضي من رضي وسخط من سخط.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : يا أبا بكر! فهل تعلم أحداً أوثق من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد أخذ بيعتي عليك في أربعة مواطن - وعلى جماعة معك فيهم
ص: 101
عمر وعثمان - في يوم الدار، وفي بيعة الرضوان تحت الشجرة، ويوم جلوسه في بيت أمّ سلمة، وفي يوم الغدير بعد رجوعه من حجّة الوداع؟
فقلتم بأجمعكم: سمعنا وأطعنا اللّه ورسوله.
فقال لكم: اللّه ورسوله عليكم من الشاهدين.
فقلتم بأجمعكم: اللّه ورسوله علينا من الشاهدين.
فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فليشهد بعضكم على بعض، وليبلّغ شاهدكم غائبكم، ومن سمع منكم فليسمع من لم يسمع.
فقلتم: نعم يا رسول اللّه، وقمتم بأجمعكم تهنّون رسول اللّه وتهنّوني بكرامة اللّه لنا، فدنا عمر وضرب على كتفي، وقال بحضرتكم: بخٍ بخٍ يابن أبي طالب أصبحت مولانا ومولى المؤمنين.
فقال أبوبكر: لقد ذكرّتني يا أميرالمؤمنين أمراً، لو يكون رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شاهداً فأسمعه منه.
فقال له أمير المؤمنين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّه ورسوله عليك من الشاهدين، يا أبا بكر إذا رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حياً ويقول لك إنّك ظالم لي في أخذ حقّي الذي جعله اللّه لي، ورسوله دونك ودون المسلمين، أتسلّم هذا الأمر إليّ وتخلع نفسك منه؟
فقال أبوبكر: يا أباالحسن! وهذا يكون؟ أرى رسول اللّه حياً بعد موته ويقول لي ذلك!
فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : نعم يا أبابكر!
ص: 102
قال: فأرني ذلك إن كان حقّاً.
فقال علي (عليه السلام) : اللّه ورسوله عليك من الشاهدين إنّك تفي بما قلت؟
قال أبوبكر: نعم.
فضرب أميرالمؤمنين (عليه السلام) على يده وقال: تسعى معي نحو مسجد قبل، فلمّا ورداه تقدّم أميرالمؤمنين (عليه السلام) فدخل المسجد وأبوبكر من ورائه، فإذا برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قبلة المسجد، فلمّا رآه أبوبكر سقط لوجهه كالمغشي عليه.
فناداه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إرفع أرسك أيّها الضليل المفتون.
فرفع أبوبكر رأسه، وقال: لبّيك يا رسول اللّه، أحياة بعد الموت يا رسول اللّه؟
فقال: ويلك يا أبابكر! {إِنَّ ٱلَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(1).
فسكت أبوبكر وشخصت عيناه نحو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال له: ويلك يا أبابكر! نسيت ما عاهدت اللّه ورسوله عليك في المواطن الأربعة لعلي (عليه السلام) ؟
فقال: ما أنساها.
فقال: ما بالك اليوم تناشد علياً (عليه السلام) عليها ويذكرك وتقول: نسيت؟!
وقصّ عليه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما جرى بينه وبين علي (عليه السلام) ... إلى آخره، فما نقص منه كلمة ولا زاد فيه كلمة.
فقال أبوبكر: يا رسول اللّه فهل من توبة؟ وهل يعفو اللّه عنّي إذا سلمت
ص: 103
هذا الأمر إلى أمير المؤمنين؟
قال: نعم يا أبابكر! وأنا الضامن لك على اللّه ذلك إن وفيت.
وغاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهما، فتشبث أبوبكر بأميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وقال: اللّه اللّه في يا علي، صر معي إلى منبر رسول اللّه, حتّى أعلوا المنبر فأقصّ على الناس ما شاهدت, وما رأيت من رسول اللّه، وما قال لي وما قلت له وما أمرني به، وأخلع نفسي عن هذا الأمر وأسلّمه إليك.
فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : أنا معك إن تركك شيطانك، فقال أبوبكر: إن لم يتركني تركته وعصيته. فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : إذاً تطيعه ولا تعصيه، وإنّما رأيت ما رأيت لتأكيد الحجّة عليك.
أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) بيد أبي بكر وخرجا من مسجد قبا، يريدان مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) , وأبوبكر يتلّون ألواناً، والناس ينظرون إليه ولا يدرون م الذي كان.
حتّى لقيه عمر، فقال له: يا خليفة رسول اللّه ما شأنك، وما الذي دهاك؟
فقال أبوبكر: خلّ عنّي يا عمر، فو اللّه لا سمعت لك قولاً!.
فقال له عمر: وأين تريد يا خليفة رسول اللّه؟
فقال أبوبكر: أريد المسجد والمنبر.
فقال: هذا ليس وقت صلاة ومنبر!
قال: خلّ عنّي ولا حاجة لي في كلامك.
فقال عمر: يا خليفة رسول اللّه! أفلا تدخل قبل المسجد منزلك، فتسبغ
ص: 104
الوضوء؟
قال: بلى، ثم التفت أبوبكر إلى علي (عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن تجلس إلى جانب المنبر حتّى أخرج إليك.
فتبسّم أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، ثم قال له: يا أبابكر! قد قلت لك إنَّ شيطانك لا يدعك أو يرديك.
ومضى أميرالمؤمنين (عليه السلام) وجلس بجانب المنبر.
فدخل أبوبكر منزله، ومعه عمر، فقال: يا خليفة رسول اللّه! لِمَ لا تنبئني بأمرك، وتحدّثني بما دهاك به علي بن أبي طالب؟
فقال أبوبكر: ويحك يا عمر! يرجع رسول اللّه بعد موته حياً، فيخاطبني في ظلمي لعلي، بردّ حقّه عليه، وخلع نفسي من هذا الأمر.
ثم إنّ عمر قال لأبي بكر: قصّ عليَّ قصّتك من أوّلها إلى آخرها.
فقال له أبوبكر: ويحك يا عمر! قد قال لي علي: إنّك لا تدعني أخرج من هذه المظلمة، وإنَّك شيطاني، فدعني عنك، فلم يزل يرقبه إلى أن حدّثه بحديثه كلّه.
فقال له: باللّه عليك يا أبابكر، أنسيت شعرك [في] أول شهر رمضان الذي فرض علينا صيامه، حيث جاءك حذيفة بن اليمان، وسهل بن حنيف، ونعمان الأزدي، وخزيمة بن ثابت في يوم جمعة إلى دارك ليقضيّن دينك عليك، فلما انتهوا إلى باب الدار سمعوا لك صلصلة(1) في الدّار، فوقفوا بالباب ولم يستأذنوا عليك، فسمعوا أمّ بكر زوجتك تناشدك وتقول: قد
ص: 105
عمل حرّ الشمس بين كتفيك، قم إلى داخل البيت وأبعد من الباب لا يسمعك بعض أصحاب محمد فيهدروا دمك، فقد علمت أنّ محمداً أهدر دم من أفطر يوماً من شهر رمضان من غير سفر ولا مرض، خلافاً على اللّه وعلى محمد رسول اللّه.
فقلت لها: هات - لا أمّ لك - فضل طعامي من اللّيل، واترعي الكأس من الخمر، وحذيفة ومن معه بالباب يسمعون محاورتكما، فجاءت بصحفة(1)
فيها طعام من الليل وقصب مملوء خمراً، فأكلت من الصحفة وكرعت الخمر، فأضحى النهار وقد قلت لزوجتك:
ذريني اصطبح يا أمّ بكر***فإنّ الموت نفث عن هشام
إلى أن انتهيت في قولك:
يقول لنا ابن كبشة سوف نحيا***وكيف حياة أشلاء وهام
ولكن باطلاً قد قال هذا***وإفكاً من زخاريف الكلام
ألا هل مبلّغ الرحمن عنّي***بأنّي تارك شهر الصيام
وتارك كل ما أوحى إلينا***محمد من أساطير الكلام
فقل لله يمنعني شرابي***وقل لله: يمنعني طعامي
ولكن الحكيم رأى حميراً***فألجمها فتاهت باللّجام
فلما سمعك حذيفة ومن معه تهجو محمداً، قحموا(2) عليك في دارك، فوجدوك وقعب الخمر في يديك، وأنت تكرعها، فقالوا لك: يا عدوّ اللّه!
ص: 106
خالفت اللّه ورسوله، وحملوك كهيئتك إلى مجمع الناس بباب رسول اللّه، وقصّوا عليه قصتك، وأعادوا شعرك، فدنوت منك وساررتك وقلت لك في ضجيج الناس: قل إنّي شربت الخمر ليلاً، فثملت فزال عقلي، فأتيت ما أتيته نهاراً، ولا علم لي بذلك، فعسى أن يدرأ عنك الحد.
وخرج محمد ونظر إليك، فقال: أيقظوه، فقالوا: رأيناه وهو ثمل يا رسول اللّه لا يعقل، فقال: ويحكم الخمر يزيل العقل، تعلمون هذا من أنفسكم وأنتم تشربونها؟ فقلنا: يا رسول اللّه وقد قال فيها امرؤ القيس شعراً:
شربت الخمر حتّى زال عقلي***كذاك [الخمر يفعل] بالعقول
ثم قال محمد: أنظروه إلى إفاقته من سكرته.
فأمهلوك حتّى أريتهم أنّك قد صحوت، فسألك محمد، فأخبرته بما أوعزته إليك: من شربك بها باللّيل.
فما بالك اليوم تؤمن بمحمد وبما جاء به، وهو عندنا ساحر كذّاب.
فقال: ويحك يا أبا حفص! لا شك عندي فيما قصصته عليّ، فاخرج إلى ابن أبي طالب فاصرفه عن المنبر.
قال: فخرج عمر - وعلي (عليه السلام) جالس تحت المنبر - فقال: ما بالك يا علي! قد تصدّيت لها؟ هيهات هيهات، واللّه دون ما تروم من علو هذا المنبر خرط القتاد.
فتبسّم أميرالمؤمنين (عليه السلام) حتّى بدت نواجذه ثم قال: ويلك منها واللّه يا عمر! إذا أفضيت إليك، والويل للأمّة من بلائك!
فقال عمر: هذه بشرى يابن أبي طالب، صدقت ظنونك وحقّ قولك.
ص: 107
وانصرف أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى منزله، وكان هذا من دلائله (عليه السلام) (1).
قال سلمان الفارسي (رحمه اللّه) - بعد أن دفن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بثلاثة أيام - : ...
عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فو اللّه لقد سلّمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مراراً جمّة مع نبينا، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا، فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه؟! وقد حسد قابيل هابيل فقتله، وكفاراً قد ارتدت أمّة موسى بن عمران، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل، فأين يذهب بكم أيها الناس؟! ويحكم ما انا وأبو فلان وفلان؟!
أجهلتم أم تجاهلتم، أم حسدتم أم تحاسدتم؟ واللّه لترتدّن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة(2).
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : أنّ عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: اُكتب إلى أسامة يقدم عليك، فإنّ في قدومه قطع الشنعة عنّا.
فكتب أبو بكر إليه: من أبي بكر خليفة رسول اللّه إلى أسامة بن زيد، أمّا بعد: فانظر إذا أتاك كتابي فأقبل إليَّ أنت ومن معك، فإنّ المسلمين قد اجتمعوا [عليَّ] وولّوني أمرهم، فلا تتخلفنّ فتعصي ويأتيك منّي ما تكره، والسلام.
ص: 108
فكتب إليه أسامة جواب كتابه: من أسامة بن زيد عامل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على غزوة الشام، أمّا بعد، فقد أتاني [منك] كتاب ينقض أوله آخره، ذكرت في أوّله أنّك خليفة رسول اللّه، وذكرت في آخره أنّ المسلمين اجتمعوا عليك فولوك أمورهم ورضوا بك.
واعلم؛ أنّي ومن معي من جماعة المسلمين والمهاجرين، فلا واللّه ما رضينا بك ولا ولّيناك أمرنا، وانظر أن تدفع الحقّ إلى أهله، وتخليهم وإيّاه، فإنّهم أحقّ به منك.
فقد علمت ما كان من قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) يوم غدير خم، فما طال العهد فتنسى. أنظر بمركزك، ولا تخلّف فتعصي اللّه ورسوله وتعصي [من] استخلفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليك وعلى صاحبك، ولم يعزلني حتّى قبض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنّك وصاحبك رجعتما وعصيتما، فأقمتما في المدينة، بغير إذني(1).
روي أنّ أبا قحافة كان بالطائف لمّا قبض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبويع لأبي بكر، فكتب إلى أبيه كتاباً عنوانه: من خليفة رسول اللّه إلى أبي قحافة، أمّا بعد، فإنّ الناس قد تراضوا بي، فأنا اليوم خليفة اللّه، فلو قدمت علينا لكان أحسن بك.
فلمّا قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرسول: ما منعهم من علي؟
قال الرسول: هو حدث السن، وقد أكثر القتل في قريش وغيرها، وأبو
ص: 109
بكر أسن منه.
قال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسن فأنا أحق من أبي بكر، لقد ظلموا علياً حقّه، ولقد بايع له النبي وأمرنا ببيعته.
ثم كتب إليه: من أبي قحافة إلى أبي بكر، أمّا بعد، فقد أتاني كتابك، فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضاً، مرّة تقول: خليفة اللّه، ومرّة تقول: خليفة رسول اللّه، ومرّة تراضى بي الناس، وهو أمر ملتبس، فلا تدخلنّ في أمر يصعب عليك الخروج منه غداً، ويكون عقباك منه إلى الندامة، وملامة النفس اللوامة، لدى الحساب يوم القيامة، فإنَّ للأمور مداخل ومخارج، وأنت تعرف من هو أولى منك بها، فراقب اللّه كأنّك تراه، ولا تدعنّ صاحبها، فإنَّ تركها اليوم أخفّ عليك وأسلم لك(1).
عن يحيى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ، قال: قالت فاطمة (عليها السلام) لعلي (عليه السلام) : إنّ لي إليك حاجة يا أبا الحسن!
فقال: تقضى يا بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فقالت: نشدتك باللّه، وبحقّ محمد رسول اللّه، أن لا يصلّي عليَّ أبو بكر ولا عمر، فإنّي لأكتمك حديثاً.
فقالت: قال لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا فاطمه! إنّك أول من يلحق بي من أهل بيتي، فكنت أكره أن أسوءك.
فلما قبضت أتاه أبوبكر وعمر وقالا: لم لا تخرجها حتى نصلّي عليها؟
ص: 110
فقال: ما أرانا إلّا سنصبح، ثم دفنها ليلاً، ثم صوَّر برجله حولها سبعة أقبر.
قال: فلمّا أصبحوا أتوه، فقالا: يا أبا الحسن! ما حملك على أن تدفن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولن نحضرها؟
قال: ذلك عهدها إليَّ.
قال: فسكت أبوبكر، فقال عمر: واللّه شيء في جوفك.
فثار إليه أميرالمؤمنين (عليه السلام) فأخذ بتلابيبه(1)، ثم جذبه فاسترخى في يده، ثم قال: واللّه لولا كتاب سبق وقول من اللّه، واللّه لقد فررت يوم خيبر وفي مواطن، ثم لم ينزل اللّه لك توبة، حتى الساعة.
فأخذه أبوبكر وجذبه وقال: قد نهيتك عنه(2).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: لما منع أبوبكر فاطمة (عليها السلام) فدكاً وأخرج وكيلها، جاء أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلى المسجد، وأبوبكر جالس وحوله المهاجرون والأنصار، فقال: يا أبابكر! لم منعت فاطمة (عليها السلام) ما جعله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لها، ووكيلها فيه منذ سنين؟!
فقال أبوبكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أتت بشهود عدول، وإلّا فلا حقّ لها فيه.
قال: يا أبابكر! تحكم فينا بخلاف ما تحكم في المسلمين؟!
قال: لا.
ص: 111
قال: أخبرني لو كان في يد المسلمين شيء فادّعيت أنا فيه، من كنت تسأل البيّنة؟
قال: إيّاك كنت أسال.
قال: فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمون، تسألني فيه البيّنة؟
قال: فسكت أبوبكر، فقال عمر: هذا فيء للمسلمين، ولسنا من خصومتك في شيء.
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) لأبي بكر: يا أبابكر! تقرّ بالقرآن؟
قال: بلى.
قال: أخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(1) فينا أو في غيرنا نزلت؟
قال: فيكم(2).
قال: فأخبرني لو أنّ شاهدين من المسلمين شهدا على فاطمة (عليها السلام) بفاحشة ما كنت صانعاً؟
قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على نساء المسلمين!!!
قال: كنت إذاً عند اللّه من الكافرين.
ص: 112
قال: ولم؟
قال: لأنّك كنت تردّ شهادة اللّه وتقبل شهادة غيره؛ لأنّ اللّه عزّوجلّ قد شهد لها بالطهارة، فإذا رددت شهادة اللّه وقبلت شهادة غيره كنت عند اللّه من الكافرين.
قال: فبكى الناس، وتفرّقوا، ودمدموا.
فلما رجع أبوبكر إلى منزله بعث إلى عمر، فقال: ويحك يابن الخطاب!
أما رأيت علياً وما فعل بنا؟ واللّه لئن قعد مقعداً آخر ليفسدنّ هذا الأمر علينا ولا نتهنأ بشيء ما دام حياً.
قال عمر: ما له إلّا خالد بن الوليد.
فبعثوا إليه، فقال له أبوبكر: نريد أن نحملك على أمرعظيم.
قال: احملني على ما شئت ولو على قتل علي.
قال: فهو قتل علي(1).
روي أنّ أبابكر وعمر بعثا إلى خالد بن الوليد، فواعداه وفارقاه على قتل علي (عليه السلام) ، فضمن ذلك لهما.
فسمعت أسماء بنت عميس إمرأة أبي بكر وهي في خدرها، فأرسلت خادمة لها وقالت: تردّدي في دار علي (عليه السلام) وقولي: {إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}(2).
ص: 113
ففعلت الجارية، وسمعها علي (عليه السلام) ، فقال: رحمها اللّه، قولي لمولاتك: فمن يقتل الناكثين والقاسطين والمارقين؟
ووقعت المواعدة لصلاة الفجر، إذ كان أخفى وأخوت للسدفة والشبهة، ولكن اللّه بالغ أمره، وكان أبوبكر قال لخالد بن الوليد: إذا انصرفت من الفجر فاضرب عنق علي.
فصلّى إلى جنبه لأجل ذلك، وأبوبكر في الصلاة يفكر في العواقب، فندم، فجلس في صلاته حتّى كادت الشمس تطلع، يتعقّب الآراء ويخاف الفتنة ولا يأمن على نفسه، فقال قبل أن يسلّم في صلاته: يا خالد! لا تفعل ما أمرتك به، ثلاثاً.
وفي رواية أخري: لا يفعلن خالد ما أمرته.
فالتفت علي (عليه السلام) ، فإذا خالد مشتمل على السيف إلى جانبه، فقال: يا خالد! أو كنت فاعلاً؟!
فقال: إي واللّه، لولا أنّه نهاني لوضعته في أكثرك شعراً.
فقال له علي (عليه السلام) : كذبت لا أمّ لك، من يفعله أضيق حلقة است منّك، أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا ما سبق من القضاء لعلمت أيّ الفريقين شرّ مكاناً وأضعف جنداً.
وفي رواية أبي ذر (رحمه اللّه) : أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أخذ خالداً بإصبعيه - السبابة والوسطى - في ذلك الوقت، فعصره عصراً، فصاح خالد صيحة منكرة، ففزع الناس، وهمّتهم أنفسهم، وأحدث خالد في ثيابه، وجعل يضرب برجليه ولا يتكلّم.
ص: 114
فقال أبوبكر لعمر: هذه مشورتك المنكوسة، كأنّي كنت أنظر إلى هذا وأحمد اللّه على سلامتنا.
وكلما دنا أحد ليخلّصه من يده (عليه السلام) لحظه لحظة تنحّي عنه راجعاً.
فبعث أبوبكر عمر إلى العباس، فجاء وتشفّع إليه وأقسم عليه، فقال: بحق القبر ومن فيه وبحق ولديه وأمهما إلاّ تركته.
ففعل ذلك، وقبل العباس بين عينيه(1).
روي أنّ عليا (عليه السلام) امتنع من البيعة على أبي بكر فأمر أبوبكر خالد بن الوليد أن يقتل علياً إذا سلم من صلاة الفجر بالناس.
فأتى خالد وجلس إلى جنب علي (عليه السلام) ومعه سيف، فتفكر أبوبكر في صلاته في عاقبة ذلك، فخطر بباله أنّ بني هاشم يقتلونه إن قتل علياً (عليه السلام) ، فلما فرغ من التشهّد التفت إلى خالد قبل أن يسلّم وقال: لا تفعل ما أمرتك به، ثم قال: السلام عليكم.
فقال علي (عليه السلام) لخالد: أو كنت تريد أن تفعل ذلك؟ قال: نعم، مدّ يدّه إلى عنقه، وخنقه بإصبعه، وكادت عيناه تسقطان، وناشده باللّه أن يتركه، وشفع إليه الناس، فخلّاه.
ثم كان خالد بعد ذلك يرصد الفرصة والفجأة؛ لعله يقتل علياً (عليه السلام) غرّة، فبعث بعد ذلك عسكراً مع خالد إلى موضع، فلما خرجوا من المدينة - وكان خالد مدجّجاً وحوله شجعان قد أمروا أن يفعلوا كل ما أمرهم خالد -
ص: 115
فرأى علياً (عليه السلام) يجيء من ضيعة له منفرداً بلا سلاح، [فقال خالد في نفسه: الآن وقت ذلك]، فلما دنا منه فكان في يد خالد عمود من حديد، فرفعه ليضربه على رأس علي، فانتزعه (عليه السلام) من يده وجعله في عنقه وفتله كالقلادة.
فرجع خالد إلى أبي بكر، واحتال القوم في كسره فلم يتهيّأ لهم، فأحضروا جماعة من الحدادين، فقالوا: لا يمكن إنتزاعه إلا بعد حلّه في النار، وفي ذلك هلاكه، ولما علموا بكيفية حاله، قالوا: إنَّ علياً (عليه السلام) هو الذي يخلصه من ذلك كما جعله في جيده، وقد ألآن اللّه له الحديد كما ألآنه لداود، فشفع أبوبكر إلى علي (عليه السلام) ، فأخذ العمود وفك بعضه من بعض بإصبعه(1).
روي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري وعبد اللّه بن العباس قالا: كنّا جلوساً عند أبي بكر في ولايته وقد أضحى النهار، وإذا بخالد ابن الوليد المخزومي قد وافى في جيش قام غباره وكثر صهيل أهل خيله وإذا بقطب رحى ملويّ في عنقه قد فتل فتلاً.
فأقبل حتى نزل عن جواده ودخل المسجد، ووقف بين يدي أبي بكر، فرمقه الناس بأعينهم فهالهم منظره.
ثم قال: أعدل يابن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الذي ليس له أنت بأهل؟! وما ارتفعت إلى هذا المكان إلا كما يرتفع الطافي من
ص: 116
السمك على الماء، وإنّما يطفو ويعلو حين لا حراك به، ما لك وسياسة الجيوش وتقديم العساكر، وأنت بحيث أنت، من لين الحسب، ومنقوص النسب، وضعف القوى، وقلّة التحصيل، لا تحمي ذماراً، ولا تضرم ناراً، فلا جزى اللّه أخا ثقيف وولد صهاك خيراً.
إنّي رجعت منكفئاً من الطائف إلى جدّة في طلب المرتدّين، فرأيت علي بن أبي طالب ومعه عتاة من الدين حماليق، شزرات أعينهم من حسدك بدرت حنقاً عليك، وقرحت آماقهم لمكانك.
منهم ابن ياسر، والمقداد، وا بن جنادة أخو غفار، وابن العوام، وغلامان أعرف أحدهما بوجهه، وغلام أسمر لعلّه من ولد عقيل أخيه.
فتبيّن لي المنكر في وجوههم، والحسد في احمرار أعينهم، وقد توشح علي بدرع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولبس رداءه السحاب، ولقد أسرج له دابته العقاب، وقد نزل علي على عين ماء اسمها رويّة.
فلما رآني اشمأز وبربر، وأطرق موحشاً يقبض على لحيته.
فبادرته بالسلام استكفاء واتقاء ووحشة، فاستغنمت سعة المناخ وسهولة المنزلة، فنزلت ومن معي بحيث نزلوا اتقاء عن مراوغته.
فبدأني ابن ياسر بقبيح لفظه ومحض عداوته، فقرعني هزواً بما تقدمت به إليَّ بسوء رأيك.
فالتقت إلي الأصلع الرأس، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد أو كقعتقعة الرعد، فقال لي بغضب منه: أو كنت فاعلاً يا أبا سليمان؟!
فقلت له: إي واللّه، لو أقام على رأيه لضربت الذي فيه عيناك.
فأغضبه قولي إذ صدقته، وأخرجه إلى طبعه الذي أعرفه به عند الغضب،
ص: 117
فقال: يابن اللخناء!(1) مثلك من يقدر على مثلي أن يجسر؟! أو يدير اسمي في لهواته التي لا عهد لها بكلمة حكمة؟!ويلك إنّي لست من قتلاك ولا من قتلي صاحبك، وإنّي لأعرف بمنيتي منك بنفسك.
يقول خالد: ثم إن أمير المؤمنين (عليه السلام) ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسني عن فرسي، وجعل يسوقني، فدعا إلى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ فمد عنقي بكلتا يديه وأداره في عنقي، ينفتل له كالعلك المستخن، وأصحابي هؤلاء وقوف، ما أغنوا عنّي سطوته، ولا كفّوا عنّي شرته، فلا جزاهم اللّه عنّي خيراً، فإنّهم لما نظروا إليه كأنّهم نظروا إلى ملك موتهم فو الذي رفع السماء بلا أعماد، لقد اجتمع على فك هذا القطب مائة رجل، أو يزيدون من أشد العرب فما قدروا على فكه، فدلّني عجز الناس عن فتحه، إنّه سحر منه أو قوة ملك قد ركبت فيه.
ففكه الآن عنّي إن كنت فاكه وخذ لي بحقّي إن كنت آخذاً، وإلا لحقت بدار عزّي ومستقر مكرمتي، قد ألبسني ابن أبي طالب من العار ما صرت به ضحكة لأهل الديار.
فالتفت أبوبكر إلى عمر وقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرجل؟!
كأنَّ ولايتي ثقل على كاهله، وشجاً في صدره.
فالتفت إليه عمر، فقال: فيه دعابة لا تدعه حتى تورده فلا تصدره، وجهل وحسد قد استحكما في خلده، فجريا منه مجرى الدماء لا يدعانه
ص: 118
حتى يهينا منزلته، ويورطاه ورطة الهلكة.
ثم قال أبوبكر لمن بحضرته: ادعوا إليَّ قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فليس لفكّ هذا القطب غيره.
قال: وكان قيس سيّاف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكان رجلاً طويلاً، طوله ثمانية عشر شبراً في عرض خمسة أشبار، وكان أشد الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) .
فحضر قيس، فقال له: يا قيس! إنّك من شدّة البدن بحيث أنت، ففك هذا القطب من عنق أخيك خالد، فقال: قيس: ولم لا يفكه خالد عن عنقه؟!
قال: لا يقدرعليه، قال: فما لا يقدر عليه أبو سليمان - وهو نجم عسكركم، وسيفكم على أعدائكم - كيف أقدر عليه أنا؟
قال عمر: دعنا من هزئك وهزلك وخذ فيما حضرت له، فقال: أحضرت لمسألة تسألونها طوعاً أو كرهاً تجبروني عليه؟ فقال له: إن كان طوعاً وإلا فكرها، قال قيس: يابن صهاك! خذل اللّه من يكرهه مثلك، إن بطنك لعظيمة وإن كرشك لكبيرة، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك [عجب، قال] فخجل عمر من قيس بن سعد، وجعل ينكث أسنانه بأنامله.
فقال أبوبكر: وما بذلك منه، أقصد لما سألت، فقال قيس: واللّه لو أقدر على ذلك لما فعلت، فدونكم وحدّادي المدينة، فإنّهم أقدر على ذلك منّي.
فأتوا بجماعة من الحدّادين، فقالوا: لا ينفتح حتى نحميه بالنار.
فالتفت أبوبكر إلى قيس مغضباً، فقال: واللّه ما بك من ضعف عن فكّه، ولكنك لا تفعل فعلاً يعيب عليك فيه إمامك وحبيبك أبو الحسن، وليس هذا
ص: 119
بأعجب من أن أباك رام الخلافة؛ ليبتغي الإسلام عوجاً فحصد اللّه شوكته، وأذهب نخوته، وأعزّ الإسلام بوليّه، وأقام دينه بأهل طاعته، وأنت الآن في حال كيد وشقاق.
قال: فاستشاط قيس بن سعد غضباً، وامتلأ غيظاً، فقال: يابن أبي قحافة!
إنَّ لك عندي جواباً حمياً، بلسان طلق، وقلبٍ جري، ولو لا البيعة التي لك في عنقي لسمعته منّي، واللّه لئن بايعتك يدي لم يبايعك قلبي ولا لساني، ولا حجة لي في علي بعد يوم الغدير، ولا كانت بيعتي لك إلا{كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنۢ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا}(1)، أقول قولي هذا غير هائب منك ولا خائف من معرتك(2)، ولو سمعت هذا القول منك بدأة لما فتح لك منّي صلحاً.
إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته، لأنه رجل لا يقعقع(3) بالشنان، ولا يغمز جانبه كغمز التينة، ضخم صنديد، وسمك منيف، وعز بازخ أشوس، بخلافك واللّه أيتها النعجة العرجاء، والديك النافش، لا عز صميم، ولا حسب كريم، وأيم اللّه لئن عاودتني في أبي لألجمنك بلجام من القول يمج فوك منه دماً، دعنا نخوض في عمايتك، ونتردى في غوايتك، على معرفة منا بترك الحق واتباع الباطل.
وأمّا قولك إن علياً إمامي، ما أنكر إمامته، ولا أعدل عن ولايته، وكيف أنقض وقد أعطيت اللّه عهداً بإمامته وولايته، يسألني عنه؟! فأنا إن ألقى اللّه
ص: 120
بنقض بيعتك أحب إليَّ أن أنقض عهده، وعهد رسوله وعهد وصيه وخليله، وما أنت إلا أمير قومك، إن شاؤوا تركوك، وإن شاؤوا عزلوك.
فتب إلى اللّه مما اجترمته، وتنصل إليه مما ارتكبته، وسلّم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيماً بولايتك دونه، وجلوسك في موضعه، وتسميتك باسمه، وكأنك بالقليل من دنياك وقد انقشع عنك كما ينقشع السحاب، وتعلم أيّ الفريقين شرّ مكاناً وأضعف جنداً.
وأمّا تعييرك إيّاي فإنه مولاي، هو واللّه مولاي، ومولاك، ومولى المؤمنين أجمعين، آه... آه... أنّى لي بثبات قدم، أو تمكن وطأته حتى ألفظك لفظ المنجنيق الحجرة، ولعل ذلك يكون قريباً، ونكتفي بالعيان عن الخبر.
ثم قام ونفض ثوبه ومضى، وندم أبوبكر عمّا أسرع إليه من القول إلى قيس، وجعل خالد يدور في المدينة والقطب في عنقه أياماً.
ثم أتى آت إلى أبي بكر فقال له: قد وافى علي بن أبي طالب الساعة من سفره، وقد عرق جبينة، واحمرّ وجهه، فأنفذ إليه أبوبكر الأقرع بن سراقة الباهلي والأشوس بن الأشجع الثقفي يسألانه المضي إلى أبي بكر في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
فأتياه فقالا: يا أبا الحسن! إنَّ أبابكر يدعوك لأمر قد أحزنه، وهو يسألك أن تصير إليه في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فلم يجبهما، فقالا: يا أبا الحسن! ما ترد علينا فيما جئناك له؟ فقال: بئس واللّه الأدب أدبكم، أليس يجب على القادم أن لا يصير إلى الناس في أجلبتهم إلّا بعد دخوله في منزله، فإن كان لكم حاجة فأطلعوني عليها في منزلي حتى أقضيها إن كانت ممكنة إن شاء اللّه تعالى.
ص: 121
فصارا إلى أبي بكر فأعلماه بذلك، فقال أبوبكر: قوموا بنا إليه، ومضى الجمع بأسرهم إلى منزله، فوجدوا الحسين (عليه السلام) على الباب يقلّب سيفاً ليبتاعه، قال له أبوبكر: يا أباعبد اللّه! إن رأيت أن تستأذن لنا على أبيك، فقال: نعم.
ثم استأذن للجماعة فدخلوا ومعهم خالد بن الوليد، فبدأ به الجمع بالسلام، فردّ عليهم السلام مثل ذلك، فلما نظر إلى خالد، قال: نعمت صباحاً يا أبا سليمان! نعم القلادة قلادتك.
فقال: واللّه يا علي لا نجوت منّي إن ساعدني الأجل.
فقال له علي (عليه السلام) : أف لك يابن دميمة(1)، إنّك - والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة - عندي لأهون، وما روحك في يدي لو أشاء إلّا كذبابة وقعت على إدام حار، فطفقت منه، فاغن عن نفسك غنائها، ودعنا بحالنا حكماء، وإلّا لألحقنّك بمن أنت أحقّ بالقتل منه، ودع عنك يا أبا سليمان ما مضى، وخذ فيما بقي، واللّه لا تجرّعت من الجرار المختمة إلّا علقمها، واللّه لقد رأيت منيّتي ومنيّتك وروحي وروحك، فروحي في الجنة، وروحك في النار.
فقال: وحجز الجميع بينهما وسألوه قطع الكلام.
ثم إنّ أبا بكر قال لعلي (عليه السلام) : إنّا ما جئناك لما تناقض منه أبا سليمان، وإنّما حضرنا لغيره، وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيماً على خلافي والاجتراء على أصحابي، وقد تركناك فاتركنا، ولا تردنا فيرد عليك منّا ما يوحشك
ص: 122
ويزيدك تنويماً إلى تنويمك.
فقال علي (عليه السلام) : لقد أوحشني اللّه منّك ومن جمعك، وآنس بي كل مستوحش، وأمّا ابن الوليد الخاسر، فإنّي أقصّ عليك نبأه، إنَّه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه، فأراد الوضع منّي في موضع رفع ومحل ذي جمع، ليصول بذلك عند أهل الجمع، فوضعت عنه عند ما خطر بباله، وهمّ بي وهو عارف بي حقّ معرفته، وما كان اللّه ليرضى بفعله.
فقال له أبوبكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلّة رغبتك في الجهاد، فبهذا أمرك اللّه ورسوله، أم عن نفسك تفعل هذا؟!
فقال علي (عليه السلام) : يا أبابكر! وعلى مثلي يتفقّه الجاهلون؟ إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمركم ببيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت اللّه الحرام يؤتى ولا يأتي، فقال: يا علي! ستغدر بك أمّتي من بعدي كما غدرت الأمم بعد مضي الأنبياء بأوصيائها إلّا قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة وهناة، فاصبر، أنت كبيت اللّه: من دخله كان آمناً ومن رغب عنه كان كافراً، قال اللّه عزّوجلّ: {وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا}(1)، وإنّي وأنت سواء إلا النبوة، فإنّي خاتم النبيّين وأنت خاتم الوصيّين، وأعلمني عن ربّي سبحانه بأنّي لست أسلّ سيفاً إلّا في ثلاثة مواطن بعد وفاته، فقال: تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين، ولم يقرب أوان ذلك بعد، فقلت: فما أفعل يا رسول اللّه بمن ينكث بيعتي منهم ويجحد حقّي؟ قال: فاصبر حتى تلقاني، وتستسلم لمحنتك حتى تلقى ناصراً عليهم. فقلت: أفتخاف عليَّ منهم أن
ص: 123
يقتلونني؟! فقال: تاللّه لا أخاف عليك منهم قتلاً ولا جراحاً, وإنّي عارف بمنيّتك وسببها، وقد أعلمني ربّي، ولكنّي خشيت أن تفنيهم بسيفك فيبطل الدين، وهو حديث، فيرتدّ القوم عن التوحيد.
ولولا أنّ ذلك كذلك، وقد سبق ما هو كائن، لكان لي فيما أنت فيه شأن من الشأن، ولرويت أسيافاً، وقد ظمأت إلى شرب الدماء، وعند قراءتك صحيفتك تعرف نبأ ما احتملت من وزري، ونعم الخصم محمّد والحكم اللّه.
ثم إن أبا بكر قال: يا أبا الحسن!إنا لم نرد هذا كلّه، ونحن نأمرك أن تفتح لنا الآن عن عنق خالد هذه الحديدة، فقد آلمه بثقله وأثّر في حلقه بحمله، وقد شفيت غليل صدرك منه.
فقال علي (عليه السلام) : لو أردت أن أشفي غليل صدري لكان السيف أشفى للداء وأقرب للفناء، ولو قتلته واللّه ما قدته برجل ممّن قتلهم يوم فتح مكة وفي كرته هذه، وما يخالجني الشك في أنّ خالداً ما احتوى قلبه من الإيمان على قدر جناح بعوضة، وأمّا الحديد الذي في عنقه فلعليّ لا أقدر على فكه، فيفكه خالد عن نفسه أو فكوه أنتم عنه، فأنتم أولى به إن كان ما تدّعونه صحيحاً.
فقام إليه بريدة الأسلمي وعامر بن الأشجع، فقالا: يا أبا الحسن! واللّه لا يفكه عن عنقه إلّا من حمل باب خيبر بفرد يد، ودحا به وراء ظهره، وحمله وجعله جسراً تعبر الناس عليه وهو فوق زنده، وقام إليه عمار بن ياسر فخاطبه أيضاً فيمن خاطبه، فلم يجب أحداً، إلى أن قال له أبوبكر: سألتك باللّه وبحقّ
ص: 124
أخيك المصطفى رسول اللّه إلا ما رحمت خالداً وفككته من عنقه.
فلما سأله بذلك إستحيا، وكان (عليه السلام) كثير الحياء، فجذب خالداً إليه، وجعل يخذف من الطوق قطعة قطعة ويفتلها في يده، فانفتل كالشمع.
ثم ضرب بالأولى رأس خالد، ثم الثانية، فقال: آه يا أمير المؤمنين.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : قلتها على كره منك، ولو لم تقلها لأخرجت الثالثة من أسفلك، ولم يزل يقطع الحديد جميعه إلى أن أزاله عن عنقه.
وجعل الجماعة يكبّرون، ويهلّلون، ويتعجّبون من القوة التي أعطاها اللّه سبحانه أمير المؤمنين (عليه السلام) انصرفت شاكرين(1).
عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: لما قبض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)
وجلس أبوبكر مجلسه، بعث إلى وكيل فاطمة (عليها السلام) فأخرجه من فدك.
فأتته فاطمة (عليها السلام) ، فقالت: يا أبابكر! إدّعيت أنّك خليفة أبي وجلست مجلسه، وأنت بعثت إلى وكيلي فأخرجته من فدك، وأنت تعلم أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تصدّق بها عليَّ، وأنّ لي بذلك شهوداً، فقال: إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يورّث.
فرجعت إلى علي (عليه السلام) فأخبرته، فقال: إرجعي إليه وقولي له: زعمت أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يورّث {وَوَرِثَ سُلَيْمَٰنُ دَاوُدَ}(2)، وورث يحيى زكريا،
ص: 125
وكيف لا أرث أنا أبي؟!
فقال عمر: أنت معلّمة، قالت: وإن كنت معلّمة فإنَّما عَلَّمَني ابن عمّي وبعلي.
فقال أبوبكر: فإنَّ عائشة تشهد وعمر أنَّهما سمعا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقول: النبي لا يورّث.
فقالت: هذا أول شهادة زور شهدا بها، وإنَّ لي بذلك شهوداً بها في الإسلام، ثم قالت: فإنَّ فدكاً إنَّما هي صدّق بها عليَّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولي بذلك بينة.
ثم إنّ أبابكر قال للزهراء (عليه السلام) : هلمّي ببينتك. قال: فجاءت بأمّ أيمن وعلي (عليه السلام) ، فقال أبو بكر: يا أمّ أيمن! إنَّك سمعت من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في فاطمة؟ فقالت: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة(1).
ثم قالت أمّ أيمن: فمن كانت، سيدة نساء أهل الجنة تدَّعي ما ليس لها؟! وأنا امرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد بما لم أكن سمعت من رسول
ص: 126
اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال عمر: دعينا يا أمّ أيمن من هذه القصص، بأيّ شيء تشهدين؟
فقالت: كنت جالسة في بيت فاطمة (عليها السلام) ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جالس حتى نزل عليه جبرئيل، فقال: يا محمّد! قم فإنَّ اللّه تبارك وتعالى أمرني أن أخط لك فدكاً بجناحي، فقام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع جبرئيل (عليه السلام) ، فما لبث أن رجع، فقالت فاطمة (عليها السلام) : يا أبة! أين ذهبت؟
فقال: خطّ جبرئيل (عليه السلام) لي فدكاً بجناحه وحدّ لي حدودها، فقالت: يا أبتِ! إنّي أخاف العيلة والحاجة من بعدك، فصدّق بها عليَّ، فقال: هي صدقة عليك، فقبضتها، قالت: نعم, فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا أمُّ أيمن! اشهدي، ويا علي اشهد.
فقال عمر: أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها، وأمّا علي (عليه السلام) فيجرّ إلى نفسه.
قال: فقامت مغضبة، وقالت: اللّهم إنَّهما ظلما ابنة نبيّك حقّها، فأشدد وطأتك عليهما، ثم خرجت وحملها علي (عليها السلام) على أتان(1) عليه كساء له خمل(2)، فدار بها أربعين صباحاً في بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين (عليهما السلام) معها, وهي تقول: يا معشر المهاجرين والأنصار! انصروا اللّه وابنة نبيكم، وقد بايعتم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم، ففوا لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببيعتكم، قال: فما
ص: 127
أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها.
قال: فانتهت إلى معاذ بن جبل، فقالت: يا معاذ بن جبل! إنّي قد جئتك مستنصرة، وقد بايعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أن تنصره وذريته وتمنع ممّا تمنع منه نفسك وذريّتك، وأنَّ أبابكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها، قال: فمعي غيري؟
قالت: لا، ما أجابني أحد، قال: فأين أبلغ أنا من نصرك؟
قال: فخرجت من عنده. ودخل ابنه.
فقال: ما جاء بابنة محمّد إليك؟
قال: جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر فإنَّه أخذ منها فدكاً.
قال: فما أجبتها به؟
قال: قلت: وما يبلغ من نصرتي أنا وحدي.
قال: فأبيت أن تنصرها؟
قال: نعم، قال: فأيّ شيء قالت لك؟
قال: قالت لي: واللّه لأنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قال: فقال: أنا واللّه لأنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إذ لم تجب ابنة محمد.
قال: وخرجت فاطمة (عليها السلام) من عنده وهي تقول: واللّه لا أكلّمك كلمة حتى أجتمع أنا وأنت عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم انصرفت.
ص: 128
فقال علي (عليه السلام) لها: إئتي أبابكر وحده فإنَّه أرقّ من الآخر، وقولي له: إدّعيت مجلس أبي وأنَّك خليفته وجلست مجلسه، ولو كانت فدك لك ثم استوهبتها منك لوجب ردّها عليَّ، فلما أتته وقالت له ذلك، قال: صدقت، قال: فدعا بكتاب فكتبه لها بردّ فدك.
فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر، فقال: يا بنت محمّد! ما هذا الكتاب الذي معك؟
فقالت: كتاب كتب لي أبوبكر بردّ فدك، فقال: هلمّيه إليَّ، فأبت أن تدفعه إليه، فرفسها برجله - وكانت (عليها السلام) حاملة بابن اسمه: المحسن، فأسقطت المحسن من بطنها، ثم لطمها، فكأنّي أنظر إلى قرط في أذنها حين نقفت(1)، ثم أخذ الكتاب فخرقه. فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوماً مريضة ممّا ضربها عمر، ثم قبضت.
فلما حضرتها الوفاة دعت علياً (عليه السلام) فقالت: إمّا تضمن وإلا أوصيت إلى ابن الزبير، فقال علي (عليها السلام) : أنا أضمن وصيتك يا بنت محمد، قالت: سألتك بحق رسول اللّه (عليه السلام) إذا أنا متّ أن لا يشهداني، ولا يصلّيا عليَّ، قال: فلك ذلك(2).
فلما قبضت (عليها السلام) ، دفنها ليلاً في بيتها، وأصبح أهل المدينة يريدون حضور
ص: 129
جنازتها، وأبوبكر وعمر كذلك، فخرج إليهما علي (عليه السلام) ، فقالا له: ما فعلت بابنة محمّد؟! أخذت في جهازها يا أباالحسن؟
فقال علي (عليه السلام) قد واللّه دفنتها. قالا: فما حملك على أن دفنتها ولم تعلمنا.
قال: هي أمرتني.
فقال عمر: وا لله لقد هممت بنبشها والصلاة عليها. فقال علي (عليه السلام) : أما واللّه مادام قلبي بين جوانحي وذو الفقار في يدي فإنَّك لا تصل إلى نبشها، فأنت أعلم.
فقال أبوبكر: إذهب، فإنَّه أحق بها منّا، وانصرف الناس(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: لما بويع أبوبكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار، بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول اللّه منها.
فجاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر، فقالت: يا أبابكر! لم تمنعني ميراثي من أبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر اللّه تعالى؟!
فقال: هاتي على ذلك بشهود.
فجاءت بأمّ أيمن، فقالت: لا أشهد يا أبابكر! حتّى أحتج عليك بما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أنشدك باللّه ألست تعلم أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إنَّ أمّ أيمن إمرأة من أهل الجنة؟
ص: 130
فقال: بلى.
قالت: فأشهد أنّ اللّه عزّوجلّ أوحى إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فََٔاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ}(1) فجعل فدكاً لفاطمة بأمر اللّه.
وجاء علي فشهد بمثل ذلك.
فكتب لها كتاباً ودفعه إليها.
فدخل عمر، فقال: ما هذا الكتاب؟
فقال: إنَّ فاطمة ادّعت في فدك وشهدت لها أمّ أيمن وعلي فكتبته.
فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزّقه.
فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي.
فلما كان بعد ذلك جاء علي (عليه السلام) إلى أبي بكر - وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار - فقال: يا أبابكر! لم منعت فاطمة ميراثها من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد ملكته في حياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟
فقال أبوبكر: إنَّ هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول اللّه جعله لها، وإلا فلا حق لها فيه.
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : يا أبابكر! تحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين؟
قال: لا.
قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ثم ادّعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟
ص: 131
قال: إيّاك كنت أسال البيّنة.
قال: فما بال فاطمة سألتها البيّنة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعده، ولم تسأل المسلمين البيّنة على ما ادعوها شهوداً كما سألتني على ما ادّعيت عليهم؟!
فسكت أبوبكر، فقال عمر: يا علي! دعنا من كلامك، فإنَّا لا نقوى على حجّتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلّا فهو فيء للمسلمين، لا حقّ لك ولا لفاطمة فيه.
فقال علي (عليه السلام) : يا أبابكر! تقرأ كتاب اللّه؟
قال: نعم.
قال: أخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(1)فينا نزلت أو في غيرنا؟!
قال: بل فيكم.
قال: فلو أنَّ شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بفاحشة ما كنت صانعاً بها؟!
قال: كنت أقيم عليها الحد، كما أقيم على سائر نساء العالمين!!!
قال: كنت إذاً عند اللّه من الكافرين.
قال: ولم؟
قال: لأنَّك رددت شهادة اللّه لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم اللّه وحكم رسوله أن جعل لها فدك وقبضته في حياته، ثم
ص: 132
قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها، وأخذت منها فدكاً، وزعمت أنَّه فيء للمسلمين، وقد قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، فرددت قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : البينة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه.
قال: فدمدم(1) الناس وأنكر بعضهم وقالوا: صدق واللّه علي، ورجع علي (عليه السلام) إلى منزله.
قال: ودخلت فاطمة (عليها السلام) المسجد، وطافت على قبر أبيها، وهي تقول:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة***لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها***واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا
قد كان جبرئيل بالآيات يؤنسنا***فغاب عنّا فكل الخير محتجب
قد كنت بدراً ونوراً يستضاء به***عليك تنزل من ذي العزّة الكتب
تهجّمتنا رجال واستخفّ بنا***إذ غبت عنّا فنحن اليوم نغتصب
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت***منّا العيون بتهمال لها سكب(2)
رسالة أميرالمؤمنين (عليه السلام) إلى أبي بكر، لما بلغه عنه كلام بعد منع الزهراء (عليها السلام) فدك:
شقّوا متلاطمات أمواج الفتن بحيازيم سفن النجاة، وحطّوا تيجان أهل الفخر بجميع أهل الغدر، واستضأؤوا بنور الأنوار، واقتسموا مواريث
ص: 133
الطاهرات الأبرار, واحتقبوا(1) ثقل الأوزار، بغصبهم نحلة النبي المختار.
فكأنّي بكم تتردّدون في العمى كما يتردّد البعير في الطاحونة، أما واللّه لو اُذن لي بما ليس لكم به علم؛ لحصدت رؤوسكم عن أجسادكم كحب الحصيد بقواضب من حديد، ولقلعت من جماجم شجعانكم ما أقرح به آماقكم(2)، وأوحش به محالكم، فإنّي منذ عرفتموني مردي العساكر، ومفني الجحافل، ومبيد خضرائكم، ومخمد ضوضائكم، وجزّار الدوّارين إذ أنتم في بيوتكم معتكفون، وإنّي لصاحبكم بالأمس، لعمر أبي لن تحبّوا أن تكون فينا الخلافة والنبوة، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أحد.
أما واللّه لو قلت ماسبق من اللّه فيكم؛ لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم، كتداخل أسنان دوّارة الرَّحى، فإن نطقت تقولون حسد، وإن سكتَّ فيقال جزع ابن أبي طالب من الموت، هيهات هيهات.
الساعة يقال لي هذا، وأنا الموت المميت، خواض المنيّات في جوف ليل خامد، حامل السيفين الثقيلين، والرمحين الطويلين، ومكسّر الرايات في غطامط(3)
الغمرات، ومفرّج الكربات عن وجه خيرة البريات، إيهنوا فواللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أمّه، هبلتكم الهوابل!
لو بحت بما أنزل اللّه فيكم في كتابه، لاضطربتم اضطراب الأرشية(4) في
ص: 134
الطوي البعيدة، ولخرجتم من بيوتكم هاربين، وعلى وجوهكم هائمين، ولكنّي أهوّن وجدي حتى ألقى ربّي بيد جذّاء(1) صفراء من لذاتكم، خلوّاً من طحناتكم. فما مثل دنياكم عندي إلا كمثل غيم علا فاستعلى، ثم استغلظ فاستوى، ثم تمزّق فانجلى رويداً! فعن قليل ينجلي لكم القسطل(2)، فتجدون ثمر فعلكم مرّاً أم تحصدون غرس أيديكم ذعافاً ممزقاً، وسماً قاتلاً.
وكفى باللّه حكماً، وبرسول اللّه خصيماً، وبالقيامة موقفاً، ولا أبعد اللّه فيها سواكم، ولا أتعس فيها غيركم، والسلام على من اتبع الهدى.
فلما أن قرأ أبوبكر الكتاب رعب من ذلك رعباً شديداً، وقال: يا سبحان اللّهً ما أجرأه عليَّ، وأنكله عن غيري.
معاشر المهاجرين والأنصار! تعلمون إنّي شاورتكم في ضياع فدك بعد رسول اللّه فقلتم: إنَّ الأنبياء لا يوَّرثون، وإنَّ هذه أموال يجب أن تضاف إلى مال الفيء، وتصرف في ثمن الكراع(3) والسلاح وأبواب الجهاد ومصالح الثغور، فأمضينا رأيكم ولم يمضه من يدّعيه. وهو ذا يبرق وعيداً، ويرعد تهديداً، إيلاءً بحق نبيه أن يمضخها دماً ذعافاً(4).
واللّه! لقد استقلت منها فلم أقل، واستعزلتها عن نفسي فلم أعزل، كل ذلك احترازاً من كراهية ابن أبي طالب، وهرباً من نزاعه، ومالي لابن أبي طالب! هل نازعه أحد ففلج عليه؟!
ص: 135
فقال له عمر: أبيت أن تقول إلا هكذا، فأنت ابن من لم يكن مقداماً في الحروب، ولا سخياً في الجدوب، سبحان اللّه! ما أهلع فؤادك، وأصغر نفسك[ قد صيفت]لك سجالاً لتشربها، فأبيت إلا أن تظمأ كظمائك، وأنخت لك رقاب العرب، وثبَّت لك إمارة أهل الإشارة والتدبير، ولو لا ذلك لكان ابن أبي طالب قد صيّر عظامك رميماً، فاحمد اللّه على ما قد وهب لك منّي، واشكره على ذلك، فإنَّه من رقي منبر رسول اللّه كان حقيقاً عليه أن يحدث لله شكراً.
وهذا علي بن أبي طالب الصخرة الصمّاء التي لا ينفجر ماؤها إلا بعد كسرها، والحيّة الرقشاء(1) التي لا تجيب إلا بالرقى، والشجرة المرّة التي لو طليت بالعسل لم تنبت إلا مراً، قتل سادات قريش فأبادهم، وألزم آخرهم العار ففضحهم.
فطب نفساً، ولا تغرّنك صواعقه، ولا تهولنك رواعده، فإنّي أسد بابه قبل أن يسد بابك.
فقال أبوبكر: ناشدتك اللّه يا عمر لما تركتني من أغاليطك وتربيدك، فو اللّه لو همّ بقتلي وقتلك لقتلنا بشماله دون يمينه، ما ينجينا منه إلا ثلاث خصال: إحداهما: أنَّه واحد لا ناصر له.
والثانية: أنَّه يتبع فينا وصيّة رسول اللّه.
والثالثة: فما من هذه القبائل أحد إلا وهو يتخضمه(2) كتخضّم ثنية الابل
ص: 136
أوان الربيع.
فتعلم لولا ذلك، لرجع الأمر إليه، ولو كنّا له كارهين، أما إنَّ هذه الدنيا أهون عليه من لقاء أحدنا الموت.
أنسيت له يوم أحد وقد فررنا بأجمعنا وصعدنا الجبل، وقد أحاطت به ملوك القوم وصناديدهم، موقنين بقتله، لا يجد محيصاً للخروج من أوساطهم، فلما أن سدّد القوم رماحهم، نكس نفسه عن دابته حتى جاوزه طعان القوم، ثم قام قائماً في ركابه، وقد طرق عن سرجه وهو يقول: يا اللّه يااللّه! يا جبريل يا جبريل! يامحمد يامحمد! النجاة النجاة!
ثم عهد إلى رئيس القوم، فضربه ضربة على رأسه، فبقي على فك ولسان، ثم عمد إلى صاحب الراية العظمى، فضربه ضربة على جمجمته ففلقها، فمر السيف يهوي في جسده فبراه ودابته نصفين.
فلما أن نظر القوم إلى ذلك انجفلوا(1) من بين يديه، فجعل يمسحهم بسيفه مسحاً، حتى تركهم جراثيم خموداً على تلعة(2) من الأرض يتمرّغون في حسرات المنايا، ويتجرّعون كؤوس الموت، قد اختطف أرواحهم بسيفه، ونحن نتوقّع منه أكثر من ذلك.
ولم نكن نضبط أنفسنا من مخافته، حتى ابتدأت أنت منك إليه، فكان منه إليك ما تعلم. ولو لا أنه أنزل اللّه إليه آية من كتاب اللّه لكنّا من الهالكين، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}(3).
ص: 137
فاترك هذا الرجل ما تركك، ولا يغرنك قول خالد إنَّه يقتله، فإنَّه لا يجسر على ذلك، وإن رامه كان أول مقتول بيده، فإنَّه من ولد عبد مناف، إذا هاجوا اُهيبوا، وإذا غضبوا أذموا(1)، ولا سيما علي بن أبي طالب، فإنّه بابها الأكبر وسنامها الأطول، وهمامها الأعظم، والسلام على من اتبع الهدى(2).
قالت أسماء بنت عميس: طلب إليَّ أبوبكر أن استأذن له على فاطمة يترضّاها، فسألتها ذلك، فأذنت له، فلما دخل ولّت وجهها الكريم إلى الحائط، فدخل وسلّم عليها، فلم ترد، ثم أقبل يعتذّر إليها ويقول: ارضي عنّي يا بنت رسول اللّه.
فقالت: يا عتيق! ... وحملت الناس على رقابنا، اخرج فواللّه ما كلمتك أبداً حتى ألقى اللّه ورسوله فأشكوك إليهما(3).
عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) قال: بينما أبوبكر وعمر عند فاطمة (عليها السلام) يعودانها، فقالت لهما: أسألكما باللّه الذي لا إله إلا هو هل سمعتما رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللّه؟(4).
ص: 138
فقالا: اللّهم نعم، قالت: فأشهد أنّكا آذيتماني(1).
عن زيد بن علي، قال: قدمت مع أبي مكة وفيها مولى لثقيف من أهل الطائف، فكان ينال من أبي بكر وعمر، فأوصاه أبي بتقوى اللّه، فقال له: ناشدتك اللّه ورب هذا البيت هل صلّيا على فاطمة (عليها السلام) ؟
فقال أبي: اللّهم لا، قال: فلما افترقنا سببته، فقال لي أبي: لا تفعل فو اللّه ما صلّيا على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فضلاً عن فاطمة (عليها السلام) ، وذلك أنَّه شَغَلهما ما كانا يبرمان(2).
قال المفضّل: قال مولاي جعفر (عليه السلام) : كل ظلامة حدثت في الإسلام أو تحدث، وكل دم مسفوك حرام، ومنكر مشهور، وأمر غير محمود، فوزره في أعناقهما وأعناق من شايعهما أو تابعهما ورضي بولايتهما إلى يوم القيامة(3).
عن ابن عباس، قال: ذكرت الخلافة عند أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال: أما واللّه لقد تقمّصها أخو تيم وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحي، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو
ص: 139
أصبر على طخية(1) عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده، عقدها لأخي عدي بعده، فيا عجباً، بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها الآخر بعد وفاته، فصيّرها في حوزة خشناء، يخشن مسّها، ويغلظ كلمها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن عنف بها حرن(2) وإن أسلس(3) بها غسق، فمني الناس - لعمر اللّه - بخطب وشماس(4)، وتلوّن واعتراض، وبلوى وهو مع هن وهني، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي منهم، فياللّه وللشوري! متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر؟
فمال رجل بضبعه، وأصغى آخر لصهره، وقام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقاموا معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبت الربيع، حتى أجهز عليه عمله، وكسبت به مطيّته، فما راعني إلا والناس إليَّ كعرف الضبع قد انثالوا عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشقّ عطفاي، حتى إذا نهضت بالأمر نكثت طائفة، وفسقت أخرى، ومرق آخرون، كأنّهم لم يسمعوا اللّه تبارك وتعالى يقول: {تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلْأخِرَةُ
ص: 140
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1)، بلى واللّه لد سمعوها ووعوها لكن احلولت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقرّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز... وناوله رجل من أهل السواد كتاباً قطع كلامه وتناول الكتاب، فقلت: يا أميرالمؤمنين! لو اطردت مقالتك إلى حيث بلغت؟! فقال: هيهات هيهات يابن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرّت... فما أسفت على كلام قط كأسفي على كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) إذ لم يبلغ حيث أراد(2).
ومن كلام له (عليه السلام) : اللّهم إنّي أستعديك على قريش فإنَّهم قد قطعوا رحمي، وأكفأوا إناثي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا: ألا إنَّ في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموماً او أمت متأسّفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنية، فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم للقلب من وخز الشفار(3).
ص: 141
كتب (عليه السلام) في جواب عقيل: ... فدع عنك قريشاً وتركاضهم(1) في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه(2)، فإنَّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبلي فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أمّي(3).
روي ابن قتيبة - وهو من أعاظم رواة المخالفين - في كتاب الإمامة والسياسة: أنَّ علياً (عليه السلام) أتى به أبوبكر وهو يقول: أنا عبد اللّه وأخو رسوله! فقيل له: بايع أبابكر، فقال: أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ولا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تأخذونه منّا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بها الأمر منهم لمكان محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منكم؟! فأعطوكم المقادة، وسلّموا إليكم الإمارة، فأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حياً وميّتاً فانصفونا إن كنتم تخافون اللّه من أنفسكم، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر: إنَّك لست متروكاً حتى تبايع!
فقال له علي (عليه السلام) : احلب حلباً لك شطره اشدده له اليوم يردده عليك
ص: 142
غداً، ثم قال: واللّه يا عمر لا أقبل قولك، ولا أبايعه. فقال له أبوبكر: فإن لم تبايعني فلا أكرهك.
فقال علي (عليه السلام) : يا معشر المهاجرين! اللّه... اللّه لا تخرجوا سلطان محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعوا أهله عن مقامه من الناس وحقّه، فو اللّه - يا معشر المهاجرين - لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فيها القارئ لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).
ثم قال ابن قتيبة: وفي رواية أخرى: أخرجوا علياً (عليه السلام) فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع.
فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟!
فقالوا: إذاً واللّه الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك.
قال: إذاً تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله.
فقال عمر: أمّا عبد اللّه فنعم، وأمّا أخا رسول اللّه فلا، وأبوبكر ساكت لا يتكلّم.
فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟
فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي (عليه السلام) بقبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصيح ويبكي وينادي ي- : {ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي}(2)(3).
ص: 143
ثم ذكر ابن قتيبة إنَّهما جاءا إلى فاطمة (عليها السلام) معتذرين، فقالت: نشدتكما باللّه ألم تسمعا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة إبنتي من سخطي؟ ومن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني(1)، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟. قالا: نعم، سمعناه. قالت: فإنّي أشهد اللّه وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأشكونّكما إليه، فقال أبوبكر: أنا عائذ باللّه من سخطه وسخطك يا فاطمة.
ثم انتحب أبوبكر باكياً تكاد نفسه(2) أن تزهق، وهي تقول: واللّه لأدعوّن اللّه عليك في كل صلاة، وأبوبكر يبكي ويقول: واللّه لأدعوّن اللّه لك في كل صلاة(3) أصلّيها... ثم خرج باكياً(4).
وروي أيضاً ابن قتيبة أنّ علياً (عليه السلام) قال: فاجز قريشاً عنّي بفعالها، فقد قطعت رحمي، وظاهرت عليَّ، وسلبتني سلطان ابن عمّي، وسلمت ذلك منها لمن ليس في قرابتي وحقّي في الإسلام، وسابقتي التي لا يدّعي مثلها مدّع إلّا أن يدّعي ما لا أعرفه، ولا أظن اللّه يعرفه(5).
وروي أيضاً أنّه قال للحسن (عليه السلام) : وأيم اللّه - يابني - ما زلت مظلوماً مبغياً
ص: 144
عليَّ منذ هلك جدّك (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).
وروى ابن أبي الحديد أنَّ علياً (عليه السلام) قال: - وقد سمع صارخاً ينادي أنا مظلوم - ، فقال: هلمّ فلنصرخ معاً، فإنّي ما زلت مظلوماً(2).
وقال: قال علي (عليه السلام) : ما زلت مستأثراً عليَّ مدفوعاً عمّا أستحقّه وأستوجبه(3).
وقال (عليه السلام) : اللّهم أجز قريشاً فإنَّها منعتني حقي وغصبتني أمري(4).
وروى السيّد ابن طاووس، في كتاب الطرائف من الصحيحين، والجمع بينهما للحميدي، بإسنادهم عن مالك بن أوس، قال: قال عمر للعباس وعلي (عليه السلام) ما هذا لفظه: فلما توفّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال أبوبكر: أنا ولي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. فجئتما، أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها.
فقال أبوبكر: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه فهو صدقة، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، واللّه يعلم أنّه لصادق بار راشد تابع للحق؟! ثم توفّي أبوبكر فقلت: أنا ولي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وولي أبي بكر فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً؟! واللّه يعلم إنّي لصادق بار تابع للحق! فوليتها،
ص: 145
ثم جئت أنت وهذا، وأنتما جميع وأمر كما واحد فقلتما: ادفعها إلينا(1).
عن سلمان الفارسي رضي اللّه عنه قال: كان من البلاء العظيم الذي إبتلى اللّه عزّوجلّ به قريشاً بعد نبيّها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ ليعرّفها أنفسها ويجرح شهادتها عمّا ادّعته على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد وفاته، ودحض حجّتها، وكشف غطاء ما أسرّت في قلوبها، وأخرجت ضغائنها لآل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجمعين وأزالتهم عن إمامتهم، وميراث كتاب اللّه فيهم، ما عظمت خطيئته، وشملت فضيحته، ووضحت هداية اللّه فيه لأهل دعوته وورثة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنارت به قلوب أوليائهم، وغمرهم نفعه وأصابهم بركاته: أنّ ملك الروم لما بلغه خبر وفاة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخبر أمّته واختلافهم في الاختيار عليهم، وتركهم سبيل هدايتهم، وادّعائهم على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنَّه لم يوص إلى أحد بعد وفاته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإهماله إيّاهم يختاروا لأنفسهم، وتوليتهم الأمر بعده الأباعد من قومه، وصرف ذلك عن أهل بيته وورثته وقرابته، دعا علماء بلده واستفتاهم فناظرهم في الأمر الذي ادعته قريش بعد نبيها (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفيما جاء به محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأجابوه بجوابات من حججهم على أنَّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فسأل أهل مدينته أن يوجههم إلى المدينة لمناظرتهم، والاحتجاج عليهم، فأمر الجاثليق أن يختار من أصحابه وأساقفته، فاختار منهم مائة رجل، فخرجوا يقدمهم جاثليق لهم قد أقرّت العلماء له جميعاً بالفضل والعلم، متبحّراً في علمه يخرج الكلام من تأويله، ويرد كل فرع إلى
ص: 146
أصله، ليس بالخرق(1) ولا بالنزق(2) ولا بالبليد والرعديد، ولا النكل(3) ولا الفشل، ينصت لمن يتكلّم، ويجيب إذا سئل، ويصبر إذا منع، فقدم المدينة بمن معه من خيار أصحابه حتى نزل القوم عن رواحلهم، فسأل أهل المدينة عمّن أوصى إليه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن قام مقامه فدلّوه على أبي بكر وهو في حشد من قريش، فيهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، وعثمان بن عفان وأنا في القوم، فوقفوا عليه، فقال زعيم القوم: السلام عليكم... فردّوا عليه السلام.
فقال: أرشدونا إلى القائم مقام نبيكم فإنَّا قوم من الروم، وإنَّا على دين المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) ، قدمنا لمَّا بلغنا وفاة نبيكم وإختلافكم نسأل عن صحّة نبوته ونسترشد لديننا، ونتعرّف دينكم، فإن كان أفضل من دينا، دخلنا فيه وأسلمنا وقبلنا الرشد منكم طوعاً، وأجبناكم إلى دعوة نبيكم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإن يكن على خلاف ما جاءت به الرسل وجاء به عيسى (عليه السلام) رجعنا إلى دين المسيح، فإنَّ عنده من عهد ربنا في أنبيائه، ورسله دلالة ونوراً واضحاً، فإيكم صاحب الأمر بعد نبيكم (عليه السلام) ؟
فقال عمر بن الخطاب: هذا صاحب أمر نبينا بعده.
قال الجاثليق: هو هذا الشيخ؟!
فقال: نعم.
ص: 147
فقال: يا شيخ! أنت القائم الوصي لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمته؟ وأنت العالم المستغني بعلمك ممّا علمك نبيك من أمر الأمة وما تحتاج أليه؟
قال أبوبكر: لا، ما أنا بوصي.
قال له: فما أنت؟!
قال عمر: هذا خليفة رسول اللّه.
قال النصراني: أنت خليفة رسول اللّه إستخلفك في أمته؟
قال أبوبكر: لا.
قال: فما هذا الاسم الذي ابتدعتموه، وادعيتموه بعد نبيكم؟! فإنَّا قد قرأنا كتب الأنبياء صلوات اللّه عليهم فوجدنا الخلافات لا تصلح إلا لنبي من أنبياء اللّه؛ لأنّ اللّه تعالى جعل آدم (عليه السلام) خليفة في الأرض فرض طاعته على أهل السماء والأرض، ونوّه(1) باسم داود (عليه السلام) ، فقال: {يَٰدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِي ٱلْأَرْضِ}(2) كيف تسميت بهذا الاسم؟ ومن سمّاك به؟ أنبيك سمّاك به؟
قال: لا، ولكن تراضوا الناس فولّوني واستخلفوني.
فقال: أنت خليفة قومك لا نبيك، وقد قلت إنّ النبي لم يوص إليك، وقد وجدنا من سنن الأنبياء، إنّ اللّه لم يبعث نبياً إلّا وله وصي يوصي إليه، ويحتاج الناس كلّهم إلى علمه وهو مستغن عنهم وقد زعمت إنَّه لم يوص كما أوصت الأنبياء، وادّعيت أشياء لست بأهلها، وما أراكم إلا وقد دفعتم
ص: 148
نبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد أبطلتم سنن الأنبياء في قومهم.
قال: فاتلفت الجاثليق إلى أصحابه وقال:
إنَّ هؤلاء يقولون: إنَّ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يأتهم بالنبوة وإنَّما كان أمره بالغلبة، ولو كان نبياً لأوصى كما أوصت الأنبياء، وخلّف فيهم كما خلّفت الأنبياء من الميراث والعلم، ولسنا نجد عند القوم أثر ذلك، ثم التفت كالأسد، فقال:
يا شيخ! أمَّا أنت فقد أقررت أنّ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يوص إليك، ولا استخلفك وإنَّما تراضوا الناس بك، ولو رضي اللّه عزّوجلّ برضى الخلق واتباعهم لهواهم واختيارهم لأنفسهم، ما بعث اللّه النبيّين مبشّرين ومنذرين, وآتاهم الكتاب والحكمة، ليبيّنوا للناس ما يأتون ويذرون وما فيه يختلفون: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ}(1)، فقد دفعتم النبيين عن رسالاتهم، واستغنيتم بالجهل من اختيار الناس عن اختيار اللّه عزّوجلّ الرسل للعباد، واختيار الرسل لأمّتهم، ونراكم تعظّمون بذلك الفرية على اللّه عزّوجلّ وعلى نبيكم، ولا ترضون إلا أن تتسموا بعد ذلك بالخلافة، وهذا لا يحل إلا لنبي أو وصي نبّي، وإنَّما تصحّ الحجّة لكم بتأكيدكم النبوة لنبيكم وأخذكم بسنن الأنبياء في هداهم، وقد تغلبتم فلابدّ لنا أن نحتج عليكم فيما ادعيتم حتى نعرف سبيل ما تدّعون إليه، ونعرف الحق فيكم بعد نبيكم، أصواب ما فعلتم بإيمان أم كفرتم بجهل؟
ثم قال: يا شيخ! أجب.
ص: 149
قال: فالتفت أبوبكر إلى أبي عبيدة ليجيب عنه، فلم يحر جواباً، ثم التفت الجاثليق إلى أصحابه فقال: بناء القوم على غير أساس ولا أرى لهم حجّة، أفهمتهم؟
قالوا: بلى.
ثم قال لأبي بكر: يا شيخ! أسألك؟
قال: سل.
قال: أخبرني عنّي وعنك ما أنت عند اللّه، وما أنا عند اللّه؟
قال: أمّا أنا فعند نفسي مؤمن، وما أدري ما أنا عند اللّه فيما بعد، وأما أنت فعندي كافر، وما أدري ما أنت عند اللّه؟
قال الجاثليق: أمّا أنت فقد منّيت نفسك الكفر بعد الإيمان، وجهلت مقامك في إيمانك، أمحق أنت فيه أم مبطل، وأمّا أنا فقد منيتني الإيمان بعد الكفر، فما أحسن حالي وأسوأ حالك عند نفسك، إذ كنت لا توقن بما لك عند اللّه، فقد شهدت لي بالفوز والنجاة، وشهدت لنفسك بالهلاك والكفر.
ثم التفت إلى أصحابه، فقال: طيبوا نفساً فقد شهد لكم بالنجاة بعد الكفر.
ثم التفت إلى أبي بكر، فقال: يا شيخ! أين مكانك الساعة من الجنة إذا ادّعيت الإيمان، وأين مكاني من النار؟!
قال: فالتفت أبوبكر إلى عمر وأبو عبيدة مرة أخرى ليجيبا عنه، فلم ينطق أحدهما.
قال: ثم قال: ما أدري أين مكاني وماحالي عند اللّه؟
قال الجاثليق: يا هذ! أخبرني كيف استجزت لنفسك, أن تجلس في هذا
ص: 150
المجلس، وأنت محتاج إلى علم غيرك؟ فهل في أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هو أعلم منك؟
قال: نعم.
قال: ما أعلمك وإيّاهم إلّا وقد حملوك أمراً عظيماً، وسفّهوا بتقديمهم إيّاك على من هو أعلم منك، فإن كان الذي هو أعلم منك يعجز عمّا سألتك كعجزك، فأنت وهو واحد في دعواكم، فأرى نبيكم إن كان نبياً، فقد ضيع علم اللّه عزّوجلّ وعهده وميثاقه الذي أخذه على النبيين من قبله، في إقامة الأوصياء لأمتهم حيث لم يقم وصياً؛ ليتفرغوا إليه فيما تتنازعون في أمر دينكم، فدلّوني على هذا الذي هو أعلم منكم، فعساه في العلم أكثر منك في محاورة وجواب وبيان، وما يحتاج إليه من أثر النبوة وسنن الأنبياء، ولقد ظلمك القوم وظلموا أنفسههم فيك.
قال سلمان رضي اللّه عنه: فلما رأيت ما نزل بالقوم من البهت والحيرة والذلّ والصغار، وما حلَّ بدين محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وما نزل بالقوم من الحزن، نهضت - لا أعقل أين أضع قدمي - إلى باب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فدققت عليه الباب، فخرج وهو يقول:
ما دهاك يا سلمان؟!
قلت: هلك دين محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهلك الإسلام بعد محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وظهر أهل الكفر على دينه وأصحابه بالحجّة، فأدرك - يا أميرالمؤمنين! - دين محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقوم قد ورد عليهم مالا طاقة لهم به ولابد ولا حيلة، وأنت
ص: 151
اليوم مفرّج كربها، وكاشف بلواها، وصاحب ميسمها(1) وتاجها، ومصباح ظلمها، ومفتاح مبهمها.
فقال علي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما ذاك؟
قلت: قد قدم قوم من ملك الروم في مائة رجل من أشراف الناس من قومهم يقدمهم جاثليق لم أر مثله، يورد الكلام على معانيه، ويصرفه على تأويله، ويؤكد حجّته ويحكم ابتداءه، لم أسمع مثل حجّته ولا سرعة جوابه من كنوز علمه فأتى أبابكر - وهو في جماعة - فسأله عن مقامه ووصية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأبطل دعواهم بالخلافة، وغلبهم بادعائهم تخليفهم مقامه، فأورد على أبي بكر مسألة أخرجه بها عن إيمانه، وألزمه الكفر والشك في دينه، فعلتهم لذلك ذلّة وخضوع وحيرة، فأدرك - يا أمير المؤمنين - دين محمد، فقد ورد عليهم مالا طاقة لهم به.
فنهض أميرالمؤمنين (عليه السلام) معي حتى أتينا القوم، وقد ألبسو الذلّة والمهانة والصغار والحيرة.
فسلَّم علي (عليه السلام) ثم جلس، فقال:
يا نصراني! أقبل عليَّ بوجهك واقصدني بمسائلك فعندي جواب ما يحتاج الناس إليه فيما يأتون ويذرون، وباللّه التوفيق.
قال: فتحول النصراني إليه.
وقال: يا شاب! إنا وجدنا في كتب الأنبياء أنّ اللّه لم يبعث نبياً قط إلاً وكان له وصياً [كذا] [وصي] يقوم مقامه، وقد بلغنا اختلاف عن أمة محمد
ص: 152
في مقام نبوته، وإدعاء قريش على الأنصار وادعاء الأنصار على قريش، واختيارهم لأنفسهم، فأقدمنا ملكنا وفداً، وقد اختارنا لنبحث عن دين محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونعرف سنن الأنبياء فيه، والاستماع من قومه الذين ادعوا مقامه أحق ذلك ام باطل؟ قد كذبوا عليه كما كذبت الأمم بعد أنبيائها على نبيها، ودفعت الأوصياء عن حقّها، فإنّا وجدنا قوم موسى (عليه السلام) بعده عكفوا على العجل ودفعوا هارون عن وصيته، واختاروا ما أنتم عليه، وكذلك: {سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا}(1)، فقدمنا فأرشدنا القوم إلى هذا الشيخ، فأدعى مقامه والأمر له من بعده، فسألنا عن الوصية إليه عن نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ فلم يعرفها، وسألناه عن قرابته منه إذ كانت الدعوة في إبراهيم (عليه السلام) فيما سبقت في الذرية في إمامته أنه لا ينالها إلا ذرية بعضها من بعض، ولا ينالها إلا مصطفىً مطهّر، فأردنا أن نتبيّن السنة من محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما جاء به النبيّون (عليهم السلام) ، واختلاف الأمة على الوصي كما اختلفت على من مضى من الأوصياء، ومعرفة العترة فيهم؟ فإن وجدنا لهذا الرسول وصياً قائماً بعده، وعنده علم ما يحتاج إليه الناس، ويجيب بجوابات بيّنة، ويخبر عن أسباب البلايا والمنايا وفصل الخطاب والأنساب، وما يهبط من العلم في ليلة القدر في كل سنة، وما ينزل به الملائكة والروح إلى الأوصياء صدّقنا بنبوته، وأجبنا دعوته، واقتدينا بوصيته، وآمنا به وبكتابه، وبما جاءت به الرسل من قبله، وإن يكن غير ذلك رجعنا إلى ديننا وعلمنا أنّ محمداً لم يبعث، وقد سألنا هذا الشيخ فلم نجد عنده تصحيح نبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإنَّما
ص: 153
ادّعوا له وكان جباراً غلب على قومه بالقهر، وملكهم ولم يكن عنده أثر النبوة، ولا ماجاءت به الأنبياء (عليهم السلام) قبله، وإنَّه مضى وتركهم بهم يغلب بعضهم بعضاً، وردَّهم جاهلية جهلاء مثل ما كانوا يختارون بآرائهم لأنفسهم... أيّ دين أحبّوا، وأيّ ملك أرادوا، وأخروا محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من سبيل الأنبياء، وجهلوه في رسالته، ودفعوا وصيته، وزعموا أنّ الجاهل يقوم مقام العالم، وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وظهور الفساد في الأرض في البر والبحر، وحاشا اللّه عزّوجلّ أن يبعث نبياً إلا مطهراً مسدّداً مصطفىً على العالمين، فإنَّ العالم أمير على الجاهل أبداً إلى يوم القيامة، فسألته عن اسمه، فقال الذي إلى جنبه: هذا خليفة رسول اللّه.
فقلت: إنّ هذا الاسم لا نعرفه لأحد بعد النبي إلا أن يكون لغة من اللغات، فأمّا الخلافة فلا تصلح إلا لآدم وداود (عليهما السلام) ، والسنة فيها للأنبياء والأوصياء، وإنكم لتعظمون الفريّة على اللّه وعلى رسوله، فانتفى من العلم، واعتذر من الاسم، وقال:
إنَّما تراضوا الناس بي فسّموني خليفة، وفي الأمة من هو أعلم منّي، فاكتفينا بما حكم على نفسه وعلى من اختاره، فقدمت مسترشداً وباحثاً عن الحق، فإن وضح لي اتبعته ولم تأخذني في اللّه لومة لائم، فهل عندك أيّها الشاب شفاء لما في صدورنا؟
قال علي (عليه السلام) : بلى! عندي شفاء لصدوركم، وضياء لقلوبكم، وشرح لما أنتم عليه وبيان لا يختلجكم الشك معه، وإخبار عن أموركم، وبرهان لدلالتكم، فأقبل عليَّ بوجهك، وفرغ لي مسامع قلبك، وأحضرني ذهنك،
ص: 154
وع ما أقول لك... (إلى أن قال).
قال الجاثليق: صدقت أيها الوصي العليم الحكيم الرفيق الهادي، أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً، وأنك وصيه وصديقه ودليله وموضع سره وأمينه على أهل بيته وولي المؤمنين من بعده، من أحبك وتولّاك هديته ونوّرت قلبه وأغنيته وكفيته وشفيته، ومن تولّى عنك وعدل عن سبيلك ضلّ وغبن عن حظه واتبع هواه بغير هدى من اللّه ورسوله، وكفى هداك ونورك هادياً وكافياً وشافياً.
ثم التفت الجاثليق إلى القوم فقال:
يا هؤلاء! قد أصبتم أمنيتكم وأخطأتم سنة نبيكم، فاتبعوه تهتدوا وترشدوا، فما دعاكم إلى ما فعلتم؟! ما أعرف لكم عذراً بعد آيات اللّه والحجّة عليكم، أشهد أنّها سنة اللّه في الذين خلوا من قبلكم ولا تبديل لكلمات اللّه، وقد قضى عزّوجلّ الاختلاف على الأمم، والاستبدال بأوصيائهم بعد أنبيائهم، وما العجب إلا منكم بعد ما شاهدتم؟! فما هذه القلوب القاسية، والحسد الظاهر، والضغن والإفك المبين؟!
قال: وأسلم النصراني ومن كان معه وشهدوا لعلي (عليه السلام) بالوصية ولمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحق والنبوة، وأنَّه الموصوف المنعوت في التوراة والإنجيل، ثم خرجوا منصرفين إلى ملكهم ليردّوا عليه ما عاينوا وما سمعوا.
فقال علي (عليه السلام) : الحمد لله الذي أوضح برهان محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأعزّ دينه ونصره، وصدَّق رسوله وأظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون،
ص: 155
والحمد لله ربّ العالمين وصلى اللّه على محمد وآله.
قال: فتباشر القوم بحجج عليٍ (عليه السلام) وبيان ما أخرجه إليهم، وانكشفت عنهم الذلّة، وقالوا:
جزاك اللّه يا أبا الحسن في مقامك بحق نبيك، ثم تفرقوا وكأنّ الحاضرين لم يسمعوا شيئاً، ممّا فهمه القوم والذين هم عندهم أبداً، وقد نسوا ما ذكروا به، والحمد لله رب العالمين.
قال سلمان الخير: فلما خرجوا من المسجد وتفرّق الناس وأرادوا الرحيل أتوا علياً (عليه السلام) مسلّمين عليه ويدعون اللّه تعالى له واستأذنوا، فخرج إليهم علي (عليه السلام) فجلسوا، فقال الجاثليق:
يا وصي محمد! وأبا ذريته! ما نرى الأمة إلا هالكة كهلاك من مضى من بني إسرائيل من قوم موسى، وتركهم هارون وعكوفهم على أمر السامري، وإنا وجدنا لكل نبي بعثه اللّه عدواً شياطين الإنس والجن يفسدان على النبي دينه، ويهلكان أمته، ويدفعان وصيه، ويدَّعيان الأمر بعده، وقد أرانا اللّه عزّوجلّ ما وعد الصادقين من المعرفة بهلاك هؤلاء القوم، وبيّن لنا سبيلك وسبيلهم، وبصَّرنا ما أعماهم عنه، ونحن أولياؤك وعلى دينك وعلى طاعتك، فمرنا بأمرك، إن أحببت أقمنا معك ونصرناك على عدوك، وإن أمرتنا بالمسير سرنا وإلى ما صرفتنا إليه صرنا، وقد نوى صبرك على ما أرتكب منك، وكذلك شيم الأوصياء وسنتهم بعد نبيهم، فهل عندك من نبيك عهد فيما أنت فيه وهم؟
قال علي (عليه السلام) : نعم، واللّه إنَّ عندي لعهداً من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ممّا هم
ص: 156
صائرون إليه، وممّا هم عاملون، وكيف يخفى عليَّ أمر أمته وأنا منه بمنزلة هارون من موسى، وبمنزلة شمعون من عيسى؟! أوما تعلمون أنّ وصي عيسى شمعون بن حمون الصفا - ابن خاله - اختلفت عليه أمّة عيسى (عليه السلام) وافترقوا أربع فرق، وافترقت الأربع فرق على اثنين وسبعين فرقة، كلّها هالكة إلا فرقة واحدة؟ وكذلك أمّة موسى (عليه السلام) افترقت على اثنين وسبعين فرقة، كلّها هالكة إلا فرقة واحدة، وقد عهد إليَّ محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّ أمته يفترقون على ثلاث وسبعين فرقة، ثلاث عشرة فرقة تدَّعي محبّتنا ومودّتنا كلّها هالكة إلا فرقة واحدة، وإنّي لعلى بيّنة من ربّي، وإنّي عالم بما يصير القوم إليه، ولهم مدّة وأجل معدود، لأنّ اللّه عزّوجلّ يقول: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ}(1) وقد صبر عليهم القليل لما هو بالغ أمره وقدره المحتوم فيهم، وذكر نفاقهم وحسدهم وإنَّه سيخرج أضغانهم ويبيّن مرض قلوبهم بعد فراق نبيهم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال اللّه عزّوجلّ: {يَحْذَرُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ ٱسْتَهْزِءُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}(2) أي تعلمون{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}(3) {لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَۢ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}(4)
ص: 157
فقد عفا اللّه عن القليل من هؤلاء ووعدني أن يظهرني على أهل الفتنة ويردّوا الأمر إليَّ ولو كره المبطلون، وعندكم كتاب من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المصالحة والمهادنة على أن لا تحدثوا ولا تأؤوا محدثاً، فلكم الوفاء على ما وفيتم، ولكم العهد والذمّة على ما أقمتم على الوفاء بعهدكم علينا مثل ذلك لكم، وليس هذا أوان نصرنا ولا يسل سيف ولا يقام عليهم بحق ما لم يقبلوا ويعطوا طاعتهم، إذ كنت فريضة من اللّه عزّوجلّ ومن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل الحج، والزكاة، والصلاة، والصيام، فهل يقام بهذه الحدود إلا بعالم قائم يهدي إلى الحق وهو أحق أن يتبع؟! ولقد أنزل اللّه سبحانه: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(1) فأنا - رحمك اللّه - فريضة من اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليكم، بل أفضل الفرائض وأعلاها، وأجمعها للحق، وأحكمها لدعائم الإيمان، وشرائع الإسلام، وما يحتاج إليه الخلق لصلاحهم ولفسادهم ولأمر دنياهم وآخرتهم، فقد تولّوا عنّي، ودفعوا فضلي، وفرض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إمامتي وسلوك سبيلي، فقد رأيتم ما شملهم من الذلّ والصغار من بعد الحجّة.
وكيف أثبت اللّه عليهم الحجّة، وقد نسوا ما ذكروا به من عهد نبيهم، وما أكد عليهم من صاعتي، وأخبرهم من مقامي، وبلغهم من رسالة اللّه عزّوجلّ في فقرهم إلى علمي، وغناي عنهم وعن جميع الأمة؛ ممّا أعطاني اللّه عزّوجلّ، فكيف آسى على من ضل عن الحقّ من بعدما تبيّن له و{ٱتَّخَذَ
ص: 158
إِلَٰهَهُ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِۦ وَقَلْبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنۢ بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(1) إنَّ هداه للهدى، وهما السبيلان: سبيل الجنة، وسبيل النار والدنيا والآخرة، فقد ترى ما نزل بالقوم من استحقاق العذاب الذي عذّب به من كان قبلهم من الأمم، وكيف بدّلوا كلام اللّه، وكيف جرت السنّة فيهم من الذين خلوا من قبلهم، فعليكم بالتمسّك بحبل اللّه وعروته، وكونوا من حزب اللّه ورسوله، والزموا عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وميثاقه عليكم، فإنَّ الاسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وكونوا في أهل ملتكم كأصحاب الكهف، وإياكم أن تغشوا أمركم إلى أهل أو ولد أو حميم أو قريب، فإنَّه دين اللّه الذي أوجب له التقية لأوليائه، وإن أصبتم من الملك فرصة ألقيتم على قدر ما ترون من قبوله، وأنَّه باب اللّه وحصن الإيمان لا يدخله إلا من أخذ اللّه ميثاقه، ونور له في قلبه وأعانه على نفسه، انصرفوا إلى بلادكم على عهدكم الذي عاهدتموني عليه، فإنَّه سيأتي على الناس بعد برهة من دهرهم ملوك بعدي، وبعد هؤلاء يغيرون دين اللّه عزّوجلّ، ويحرفون كلامه، ويقتلون أولياء اللّه، ويعزون أعداء اللّه، وبهم تكثر البدع، وتدرس السنن، حتى تملأ الأرض جوراً وعدوانا وبدعاً، ثم يكشف اللّه بنا أهل البيت جميع البلايا عن أهل دعوة اللّه بعد شدّة من البلاء العظيم حتى تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، ألا وقد عهد إليَّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّ الأمر صائر إليَّ بعد الثلاثين من وفاته وظهور الفتن، واختلاف الأمة عليَّ، ومروقهم من دين اللّه، وأمرني بقتل الناكثين
ص: 159
والمارقين والقاسطين، فمن أدرك منكم ذلك الزمان وتلك الأمور وأراد أن يأخذ بحظّه من الجهاد معي فليفعل، فإنَّه واللّه الجهاد الصافي، صفّاه لنا كتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكونوا - رحمكم اللّه - من أحلاس بيوتكم إلى أوان ظهور أمرنا، فمن مات منكم كان من المظلومين، ومن عاش منكم أدرك ما تقر به عينه إن شاء اللّه تعالى. ألا وإنّي أخبركم أنه سيحملون علي خطة جهلهم، وينقضون علينا عهد نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لقلّة علمهم بما يأتون ويذرون، وسيكون منكم ملوك يدرس عندهم العهد، وينسون ما ذكروا به، ويحلّ بهم ما يحلّ بالأمم حتى يصيروا إلى الهرج والاعتداء وفساد العهد، وذلك لطول المدّة وشدة المحنة التي أمرت بالصبر عليها، وسلّمت لأمر اللّه في محنة عظيمة يكدح فيها المؤمن حتى يلقى اللّه ربّه، واهاً(1) للمتمسكين بالثقلين وما يعمل بهم! وواهاً لفرج آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من خليفة متخلّف عريف مترف، يقتل خلفي وخلف الخلف، بلى اللّهم لا تخلو الأرض من قائم بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو باطناً مستوراً؛ لئلا تبطل حجج اللّه وبيّناته، ويكون محنة لمن اتبعه واقتدى به، وأين أولئك؟ وكم أولئك؟ أولئك الأقلّون عدداً، الأعظمون عند اللّه خطراً، بهم يحفظ اللّه دينه وعلمه حتى يزرعها في صدور أشباههم، ويودعها أمثالهم، هجم بهم العلم على حقيقة الإيمان، واستروحوا روح اليقين، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، واستلانوا ما استوعر منه المترفون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة
ص: 160
بالملإ الأعلى، أولئك حجج اللّه في أرضه، وأمناءه على خلقه، آه... آه شوقاً إليهم وإلى رؤيتهم, وواهاً لهم على صبرهم على عدّوهم، سيجمعنا اللّه وإيّاهم في جنات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.
قال: ... ثم بكى... وبكى القوم معه وودّعوه وقالوا:
نشهد لك بالوصية والإمامة والأخوة، وإنَّ عندنا لصفتك وصورتك وسيقدم وفد بعد هذا الرجل من قريش على الملك، ولنخرجن إليهم صورة الأنبياء، وصورة نبيك، وصورتك، وصورة ابنيك الحسن والحسين (عليهما السلام) ، صورة فاطمة (عليها السلام) زوجتك سيدة نساء العالمين بعد مريم الكبرى البتول، وإنَّ ذلك لمأثور عندنا ومحفوظ، ونحن راجعون إلى الملك ومخبروه بما أودعتنا من نور هدايتك وبرهانك وكرامتك وصبرك على ما أنت فيه، ونحن المرابطون لدولتك الداعون لك ولأمرك، فما أعظم هذا البلاء، وما أطول هذه المدّة، ونسأل اللّه التوفيق بالثبات، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته(1).
قال أبوبكر في مرضه الذي قبض فيه: أما إنّي لا آسي من الدنيا إلا على ثلاث فعلتها، وددت أنّي تركتها، وثلاث تركتها وددت أنّي فعلتها، وثلاث وددت أنّي كنت سألت عنهن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
أمّا التي وددت أنّي تركتها، فوددت أنّي لم أكن كشفت بيت فاطمة وإن كان علّق على الحرب، ووددت أنّي لم أكن حرقت الفجاءة، وأنّي قتلته
ص: 161
سريحاً أو أطلقته نجيحاً(1)، ووددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - عمر أو أبي عبيدة - فكان أميراً وكنت وزيراً.
وأما التي تركتها: فوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنَّه يخيل إليَّ أنَّه لم ير صاحب شر إلا أعانه، ووددت أنّي حين سيرت خالداً إلى أهل الردّة كنت قدمت إلى قربه فإن ظفر المسلمون ظفروا وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد، ووددت أنّي كنت إذ وجّهت خالداً إلى الشام قذفت المشرق بعمر بن الخطاب، فكنت بسطت يدي - يميني وشمالي - في سبيل اللّه.
وأمّا التي وودت أنّي كنت سألت عنهن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فو وددت أنّي كنت سألته فيمن هذا الأمر فلم ننازعه أهله، ووددت أنّي كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب، ووددت أنّي كنت سألته عن ميراث الأخ والعم، فإن في نفسي منها حاجة(2).
عن الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) ، قال: قلت له: أسألك عن فلان
ص: 162
وفلان؟
قال: فعليهما لعنة اللّه بلعناته كلّها، ماتا - واللّه - كافرين مشركين باللّه العظيم(1).
قال علي بن إبراهيم في قوله: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}(2).
قال: - يعني يحملون آثامهم - يعني الذين غصبوا أميرالمؤمنين (عليه السلام) وآثام كل من اقتدى بهم، وقول الإمام الصادق (عليه السلام) : واللّه ما اهريقت محجمة من دم، ولا قرعت عصاً بعصا, ولا غصب فرج حرام، ولا أخذ مال من غير حلّه، إلا ووزر ذلك في أعناقهما من غير أن ينقص من أوزار العالمين شيء(3).
عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ} قال الأول: {يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلًا}(4).
يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول علياً: {يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}(5) يعني الثاني: {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} يعني
ص: 163
الولاية {وَكَانَ ٱلشَّيْطَٰنُ} وهو الثاني {لِلْإِنسَٰنِ خَذُولًا}(1)(2).
عن هاشم بن عمار في قوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصْنَعُونَ}(3) قال: نزلت في زريق وحبتر(4).
قال العلاّمة المجلسي (رحمه اللّه) : زريق وحبتر: كنايتان والعرب تتشاءم بزرقة العين، والحبتر: الثعلب(5)، والثاني بالأول أنسب(6).
المراد بقوله: {هَٰذَا وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مََٔابٖ}(7) الأولان وبنو أمية... ثم ذكر الباري عزّوجلّ من كان من بعدهم ممّن غصب آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حقّهم، فقال: {وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِۦ أَزْوَٰجٌ}(8) {هَٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} وهم بنو السباع فيقولون بنو أمية {لَا مَرْحَبَۢا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ}(9) فيقولون: بنو
ص: 164
فلان: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبَۢا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}(1) وبدأتم بظلم آل محمد {فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ}(2) ثم يقول بنو أمية: {قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي ٱلنَّارِ}(3)
يعنون الأولين، ثم يقول أعداء آل محمد في النار: {مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلْأَشْرَارِ}(4) في الدنيا، وهم شيعة أميرالمؤمنين (عليه السلام) {أَتَّخَذْنَٰهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلْأَبْصَٰرُ}(5) ثم قال: {إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ}(6) فيما بينهم، وذلك قول الصادق (عليه السلام) : واللّه إنّكم لفي الجنة تحبرون، وفي النار تطلبون.
قال العلاّمة المجلسي (رحمه اللّه) : بنو السباع كناية عن بني العباس(7).
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ}(8) قال العالم (عليه السلام) : من الجن؛ إبليس الذي أشار على قتل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في دار الندوة، وأضل الناس بالمعاصي، وجاء بعد وفاة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أبي بكر فبايعه، ومن الإنس؛ فلان{نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ
ص: 165
ٱلْأَسْفَلِينَ}(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}(2)، قال: الوحيد: ولد الزنا، وهو زفر، {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا}(3) قال: أجلاً إلى مدّة {وَبَنِينَ شُهُودًا}(4) قال: أصحابه الذين شهدوا أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يورّث {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا}(5) ملكه الذي ملك مهدت له{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}(6) {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِأيَٰتِنَا عَنِيدًا}(7) قال: لولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) جاحداً، عانداً لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيها {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}(8) {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}(9) فكر فيما أمر به من الولاية، وقدر إن مضى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يسلّم لأمير المؤمنين (عليه السلام) البيعة التي بايعه بها على عهد سول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}(10) {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}(11) قال: عذاب بعد عذاب
ص: 166
يعذّبه القائم (عليه السلام) ، {ثُمَّ نَظَرَ}(1) إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأميرالمؤمنين (عليه السلام) ، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}(2) ممّا أمر به {ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ}(3) {فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}(4) قال زفر: إنّ النبي سحر الناس لعلي، {إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ ٱلْبَشَرِ}(5). أي ليس هو وحي من اللّه عزّوجلّ {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}(6) إلى آخر الآية نزلت فيه(7).
ورد في قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَايِٕ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْيِ}(8) العدل: شهادة أنّ لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والإحسان؛ أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، والفحشاء والمنكر والبغي؛ فلان وفلان وفلان(9).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُ فِي
ص: 167
قُلُوبِكُمْ}(1) يعني أميرالمؤمنين (عليه السلام) {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ}(2) الأول والثاني والثالث(3).
عن ابراهيم بن عبد الحميد، قال: دخلت علي أبي عبد اللّه (عليه السلام) فأخرج إليَّ مصحفاً، قال: فتصفّحته فوقع بصري على موضع منه فإذا فيه مكتوب: «هذه جهنم التي كنتما بها تكذّبان فاصليا فيها لا تموتان فيها ولا تحييان...» يعني: الأولين(4).
أتى عمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: إنّا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، فترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوّكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتّباعي(5).
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا ظلمت العيون العين كان قتل العين على يد الرابع من العيون، فإذا كان ذلك استحق الخاذل له لعنة اللّه والملائكة
ص: 168
والناس أجمعين. فقيل له: يا رسول اللّه! ما العين والعيون؟
فقال: أمّا العين، فأخي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأمّا العيون فأعداؤه، رابعهم قاتله ظلماً وعدواناً(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: يؤتى يوم القيامة بإبليس لعنة اللّه مع مضلّ هذه الأمة في زمامين غلظهما مثل جبل أحد، فيسحبان على وجوههما فيسد بهما باب من أبواب النار(2).
عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: لمّا كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الغار ومعه أبو الفصيل، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّي لأنظر الآن إلى جعفر وأصحابه الساعة تعوم(3) بينهم سفينتهم في البحر، وإنّي لأنظر إلى رهط من الأنصار في مجالسهم محتبين بأفنيتهم، فقال له أبو الفصيل: أتراهم يا رسول اللّه الساعة؟!
قال: نعم.
قال: فأرنيهم.
قال: فمسح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على عينيه ثم قال: انظر. فنظر فرآهم، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أرأيتهم؟
ص: 169
قال: نعم. وأسر في نفسه أنّه ساحر(1).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: إنّ من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس فيها خلق كثير، وإنّ من وراء قمركم أربعين قمراً فيها خلق كثير، لا يدرون أنّ اللّه خلق آدم أم لم يخلقه، ألهموا إلهاماً لعنة فلان وفلان(2).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ}(3) قال: نزلت في فلان وفلان آمنوا برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أول الأمر ثم كفروا حين عرضت عليهم الولاية، حيث قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قالوا له: بأمر اللّه وأمر رسوله فبايعوه، ثم كفروا حيث مضى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يقرّوا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعوه لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء(4).
عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال: قد فرض اللّه في الخمس نصيباً لآل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأبى أبوبكر أن يعطيهم نصيبهم حسداً وعداوة، وقد قال اللّه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم
ص: 170
بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ}(1)، وكان أبوبكر أول من منع آل محمد (عليهم السلام) حقّهم وظلمهم، وحمل الناس على رقابهم، ولمّا قبض أبوبكر استخلف عمر على غير شورى من المسلمين ولا رضا من آل محمد، فعاش عمر بذلك لم يعط آل محمد (عليهم السلام) حقّهم وصنع ما صنع أبوبكر(2).
عن أبي بصير، قال: يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب؛ بابها الأول: للظالم وهو زريق، وبابها الثاني: لحبتر، والباب الثالث: للثالث، والرابع: لمعاوية، والباب الخامس: لعبد الملك، والباب السادس: لعسكر بن هوسر، والباب السابع: لأبي سلامة، فهم أبواب لمن اتبعهم(3).
عن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) قال: إنَّ أبابكر وعمر عمدا إلى هذا الأمر وهو لنا كله فأخذاه دوننا، وجعلا لنا فيه سهماً كسهم الجدة، أما واللّه لتهمنهما أنفسهما يوم يطلب الناس فيه شفاعتنا(4).
عن الورد بن زيد، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : جعلني اللّه فداك قدم الكميت.
ص: 171
فقال: أدخله. فسأله الكميت عن الشيخين؟
فقال له أبوجعفر (عليه السلام) : ما أهريق دم ولا حكم بحكم غير موافق لحكم اللّه وحكم رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحكم علي (عليه السلام) إلّا وهو في أعناقهما.
فقال الكميت: اللّه أكبر اللّه أكبر حسبي حسبي(1).
عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) : سلني، فو اللّه لا تسألني عن شيء إلا أخبرتك به.
قال: فقال له عبد الملك بن أعين: ما سمعته قالها لمخلوق قبلك.
قال: قلت: خبّرني عن الرجلين؟
قال: فقال: ظلمانا حقّنا في كتاب اللّه عزّوجلّ ومنعا فاطمة (عليها السلام) ميراثها من أبيها، وجرى ظلمهما إلى اليوم، قال: - وأشار إلى خلفه - ونبذا كتاب اللّه وراء ظهورهما(2).
الكميت بن زيد الأسدي، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ، فقال: واللّه يا كميت! لو كان عندنا مال لأعطيناك منه، ولكن لك ما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحسان بن ثابت: لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا.
قال: قلت: خبّرني عن الرجلين؟
قال: فأخذ الوسادة فكسرها في صدره ثم قال:
ص: 172
واللّه يا كميت! ما أهريق محجمة من دم ولا أخذ مال من غير حلّه، ولا قلب حجر عن حجر إلا ذاك في أعناقهما(1).
عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: ... إنَّ الشيخين فارقا الدنيا ولم يتوبا، ولم يذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، فعليهما لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين(2).
عن حنان بن سرير عن أبيه قال: سألت أباجعفر (عليه السلام) عنهما.
فقال: يا أباالفضل! ما تسألني عنهما؟! فو اللّه ما مات منّا ميّت قط إلا ساخطاً عليهما، وما منّا اليوم إلا ساخطاً عليهما يوصي بذلك الكبير منّا الصغير، إنّهما ظلمانا حقّنا، وصعانا فيئنا، وكانا أول من ركب أعناقنا، وبثقا علينا بثقاً في الإسلام لا يسكر أبداً حتى يقوم قائمنا أو يتكلّم متكلّمنا.
ثم قال: أما واللّه لو قدم قام قائمنا وتكلّم لأبدى من أمورهما ما كان يكتم، ولكتم من أمورهما ما كان يظهر، واللّه ما أسّست من بلية ولا قضية تجري علينا أهل البيت إلا هما أسّسا أوّلها، فعليهما لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين(3).
عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) - في حديث طويل - : ولقد قال لأصحابه الأربعة -
ص: 173
أصحاب الكتاب - : الرأي - واللّه - أن ندفع محمداً برمّته ونسلم، وذلك حين جاء العدو من فوقنا ومن تحتنا، كما قال اللّه تعالى: {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا}، {وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠}، {وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(1).
فقال صاحبه: ولكن نتخذ صنماً عظيماً فنعبده لأنّا لا نأمن من أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا، ولكن يكون هذا الصنم لنا زخراً(2) فإن ظفرت قريش إظهرنا عبادة هذا الصنم وأعلمناهم أنّا كنا لم نفارق ديننا، وإن رجعت دولة ابن أبي كبشة كنا مقيمين على عبادة هذا الصنم سراً، فنزل جبرئيل (عليه السلام) فأخبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم خبرّني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) به بعد قتلي ابن عبد ودّ، فدعاهما، وقال: كم صنماً عبدتما في الجاهلية؟!
فقالا: يا محمد! لا تعيرنا بما مضى في الجاهلية.
فقال: كم صنماً تعبدان يومكما هذا؟
فقالا: والذي بعثك بالحق نبياً ما نعبد إلا اللّه منذ أظهرنا لك من دينك ما أظهرنا.
فقال: يا علي! خذ هذا السيف فانطلق إلى موضع كذا... وكذا فاستخرج الصنم الذي يعبدانه فاهشمه، فإن حال بينك وبينه أحد فاضرب عنقه، فانكبّا على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقالا: استرنا سترك اللّه.
فقلت أنا لهما: اضمنا لله ولرسوله أن لا تعبدا إلا اللّه ولا تشركا به شيئاً.
ص: 174
فعاهدا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ذلك، وانطلقت حتى استخرجت الصنم فكسرت وجهه ويديه وجزمت رجليه، ثم انصرفت إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فو اللّه لقد عرف ذلك في وجوههما عليًّ حتى ماتا(1).
عن الإمام الرضا (عليه السلام) ، قال: من دعا بهذا الدعاء في سجدة الشكر كان كالرامي مع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في بدر وأحد وحنين بألف ألف سهم.
اللّهم العن الذين بدّلا دينك، وغيّرا نعمتك، واتّهما رسولك وخالفا ملّتك، وصدّا عن سبيلك، وكفرا آلاءك، وردّا عليك كلامك، واستهزءا برسولك، وقتلا ابن نبيك، وحرّفا كتابك، وجحدا آياتك وسخرا بآياتك، واستكبرا عن عبادتك، وقتلا أولياءك، وجلسا في مجلس لم يكن لهما بحقّ، وحملا الناس على أكتاف آل محمد (عليهم السلام) ، اللّهم العنهما لعناً يتلو بعضه بعضاً، واحشرهما وأتباعهما إلى جهنم زرقاً(2)، اللّهم إنّا نتقرّب إليك باللعنة لهما والبراءة منهما في الدنيا والآخرة، اللّهم العن قتلة أميرالمؤمنين وقتلة الحسين بن علي بن بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، اللّهم زدهما عذاباً فوق العذاب، وهواناً فوق هوان، وذلاً فوق ذل، وخزياً فوق خزي، اللّهم دعّهما إلى النار دعّاً(3)، وأركسهما في أليم عذابك ركساً(4)، اللّهم احشرهما وأتباعهما إلى جهنم
ص: 175
زمراً، اللّهم فرّق جمعهم وشتّت أمرهم، وخالف بين كلمتهم، وبدّد جماعتهم والعن أئمتهم واقتل قادتهم وسادتهم والعن رؤساءهم وكبراءهم، واكسر رايتهم وألق البأس بينهم، ولا تبق منهم دياراً، اللّهم العن أباجهل والوليد لعناً يتلو بعضه بعضاً، ويتبع بعضه بعضاً، اللّهم العنهما لعناً يلعنهما به كل ملك مقرّب، وكل نبي مرسل، وكل مؤمن امتحنت قلبه للإيمان، اللّهم العنهما لعناً يتعوّذ منه أهل النار ومن عذابهما اللّهم العنهما لعناً لا يخطر لأحد ببال، اللّهم العنهما في مستسر سرّك وظاهر علانيتك، وعذبهما عذاباً في التقدير وفوق التقدير، وشارك معهما ابنتيهما وأشياعهما ومحبّيهما ومن شايعهما(1).
ص: 176
ص: 177
ص: 178
ورد في حديث: فقلت: لم سمّي عمر الفاروق؟
قال: نعم، ألا ترى أنه قد فرّق بين الحق والباطل وأخذ الناس بالباطل.
فقلت: فلم سمّي سالماً الأمين؟
قال: لمّا كتبوا الكتب وضعوها على يد سالم فصار الأمين.
قلت: فقال: اتقوا دعوة سعد.
قال: نعم، قلت: وكيف ذلك؟
قال: إنّ سعداً يكر فيقاتل علياً (عليه السلام) (1).
قال ابن أبي الحديد - في كيفية استخلاف عمر - أنه أحضر أبوبكر عثمان - وهو يجود بنفسه - فأمر أن يكتب عهداً، وقال: اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به عبد اللّه بن عثمان(2) إلى المسلمين أمّا بعد، ... ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: قد استخلفت عليكم ابن الخطاب... .
ودخل طلحة على أبي بكر، فقال: إنّه بلغني أنّك - يا خليفة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت
ص: 179
معه، فكيف إذا خلا بهم؟! وأنت غداً لاق ربك فسائلك عن رعيّتك(1)!
أمتاز الخليفة الثاني بالبدع الكثيرة التي ابتدعها في الدين والتي من أبرزها:
لقد أبدع عمر في الدين بدعاً كثيرة:
منها: صلاة التراويح، فإنّها كانت بدعة، لما روي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: أيّها الناس! إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجمّعوا ليلاً في شهر رمضان في النافلة، ولا تصلّوا صلاة الضحى، فإنّ قليلاً في سنة خير من كثير في بدعة، ألا وإنّ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار(2).
وقد روي أنّ عمر خرج في شهر رمضان ليلاً فرأى المصابيح في المسجد، فقال: ما هذا؟
فقيل له: إنّ الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع.
فقال: بدعة ونعمت البدعة(3).
وقد روى مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد اللّه، قال: كان رسول
ص: 180
اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول في خطبته: أمّا بعد، فإنّ خير الحديث كتاب اللّه، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة(1).
عن طاووس: أنّ رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أنّ الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؟
قال ابن عباس: بل كان الرجل اذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر، فلمّا أن رأى الناس قد تتابعوا عليها قال: أجيزوهن عليهم(2).
وفي رواية مسلم: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك(3)، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبي بكر واحدة؟
فقال: قد كان ذلك، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم(4).
نقل المؤرّخون: أنّ عمر أول من سن قيام شهر رمضان في جماعة وكتب به إلى البلدان، وأول من ضرب في الخمر ثمانين، وأحرق بيت رويشد
ص: 181
الثقفي - وكان نباذاً - وأقام في عمله بنفسه، وأول من حمل الدرّة وأدّب بها، وقيل بعده: كانت درّة عمر أهيب من سيف الحجّاج(1).
وروى في كنز العمال أنّه ضرب رجلين بالدرّة لزيارتهما بيت المقدس(2) وروي في مجمع الزوائد أنّ رجلاً سأل عمر عن قوله تعالى {وَفَٰكِهَةً وَأَبًّا}(3) فجهل الخليفة وأجابه الصحابة فأقبل عليهم بالدرّة!!(4) وعن بعض الصحابة، قال: رأيت عمر بن الخطاب يضرب أكفّ الرجال في صوم رجب حتى يضعونها في الطعام(5).
قال زرارة: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أدركت الحسين (عليه السلام) ؟
قال: نعم، أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السيل، ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه.
فقال لي: يا فلان! ما صنع هؤلاء؟
فقلت له: أصلحك اللّه! يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام.
فقال: ناد إنّ اللّه تعالى قد جعله علماً لم يكن ليذهب به فاستقروا، وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم (عليه السلام) عند جدار البيت، فلم يزل هناك
ص: 182
حتى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم (عليه السلام) ، فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب، فسأل الناس: من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟
فقال رجل: أنا، قد كنت أخذت مقداره؟؟ بنسع(1) فهو عندي.
فقال: ائتني به، فأتاه به فقاسه ثم ردّه إلى ذلك المكان(2).
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: إنّ بني تغلب من نصارى العرب أنفوا واستنكفوا من قبول الجزية وسألوا عمر أن يعفيهم عن الجزية ويؤدّوا الزكاة مضاعفاً، فخشي أن يلحقوا بالروم، فصالحهم على أن صرف ذلك عن رؤوسهم وضاعف عليهم الصدقة فرضوا بذلك.
وقال البغوي في شرح السنّة: روي أنّ عمر بن الخطاب رام نصارى العرب على الجزية، فقالوا: نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض - يعنون الصدقة - فقال عمر: هذا فرض اللّه على المسلمين.
قالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة. (انتهى).
فهؤلاء ليسوا بأهل ذمّة لمنع الجزية، وقد جعل اللّه الجزية على أهل
ص: 183
الذمة ليكونوا أذلاّء صاغرين، وليس في أحد من الزكاة صغار وذلّ، فكان عليه أن يقاتلهم ويسبي ذراريهم لو أصرّوا على الاستنكاف والاستكبار(1).
روي أنّ عمر أطلق تزويج قريش في سائر العرب والعجم، وتزويج العرب في سائر العجم، ومنع العرب من التزويج في قريش، ومنع العجم من التزويج في العرب.
فأنزل العرب مع قريش، والعجم مع العرب منزلة اليهود والنصارى، إذ أطلق تعالى للمسلمين التزويج في أهل الكتاب، ولم يطلق تزويج أهل الكتاب في المسلمين(2).
فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلهما في الصبح(1).
كان عمر يعطي من بيت المال ما لا يجوز، فأعطى عايشة وحفصة عشرة آلاف درهم في كل سنة(2)، وحرم أهل البيت (عليهم السلام) خمسهم الذي جعله اللّه لهم(3)، وكان عليه ثمانون ألف درهم من بيت المال يوم مات على سبيل القرض(4).
كان عمر يتلوّن في الأحكام، حتى روي أنّه قضى في الجدّ بسبعين قضية، وهذا يدلّ على قلّة علمه، وأنه كان يحكم بمجرّد الظن والتخمين والحدس من غير ثبت ودليل(5).
ص: 185
روي أنّ عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فقال له الحسين (عليه السلام) من ناحية المسجد: انزل أيها الكذّاب عن منبر أبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا منبر أبيك.
فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حسين! لا منبر أبي، من علّمك هذا؟ أبوك علي بن أبي طالب؟
فقال له الحسين (عليه السلام) : إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنَّه لهاد وأنا مهتد به، وله في رقاب الناس البيعة على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نزل بها جبرئيل (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من عند اللّه تعالى لا ينكرها أحد إلا جاحد بالكتاب، قد عرفها الناس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم، وويل للمنكرين حقّنا أهل البيت (عليهم السلام) ، ماذا يلقاهم به محمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من إدامة الغضب وشدّة العذاب؟!
فقال عمر: يا حسين! من أنكر حقّ أبيك فعليه لعنة اللّه! أمَّرنا الناس فتأمَّرنا، ولو أمَّروا أباك لأطعنا.
فقال له الحسين (عليه السلام) : يابن الخطاب! فأيّ الناس أمّرك على نفسه قبل أن تؤمرّ أبابكر على نفسك ليؤمّرك على الناس بلا حجّة من نبي ولا رضى من آل محمد؟! فرضاكم كان لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رضى، أو رضى أهله كان له سخطاً؟! أما واللّه لو أنَّ للسان مقالاً يطول تصديقه، وفعلاً يعينه المؤمنون لما تخطّيت رقاب آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ترقى منبرهم وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم، لا تعرف معجمه، ولا تدري تأويله إلا سماع الآذان، المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك اللّه جزاك، وسألك عمّا أحدثت
ص: 186
سؤالاً حفياً.
فنزل عمر مغضباً، ومشى معه أناس من أصحابه حتى أتى باب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فاستأذن عليه فأذن له، فدخل فقال: يا أبا الحسن! ما لقيت من ابنك الحسين؟! يجهرنا بصوت في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويحرّض عليَّ الطغام وأهل المدينة؟!
فقال له الحسن (عليه السلام) : مثل الحسين ابن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستحث بمن لا حكم له، أو يقول بالطغام على أهل دينه، أما واللّه ما نلت ما نلت إلا بالطغام، لعن اللّه من حرَّض الطغام!
فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : مهلاً يا أبا محمد! فإنّك لن تكون قريب الغضب، ولا لئيم الحسب، ولا فيك عروق من السودان، اسمع كلامي، ولا تعجل بالكلام.
فقال له عمر: يا أباالحسن! إنّهما ليهمان في أنفسهما بما لا يرى بغير الخلافة.
فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : هما أقرب نسباً برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أبيهما أمّاً فأرضهما - يابن الخطاب - بحقّهما يرض عنك من بعدهما.
قال: وما رضاهما يا أباالحسن؟ قال: رضاهما الرجعة عن الخطيئة، والتقية عن المعصية بالتوبة.
فقال له عمر: أدّب - يا أباالحسن - ابنك أن لا يتعاطى السلاطين الذين هم الحكماء في الأرض.
فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : أنا أؤدّب أهل المعاصي على معاصيهم، ومن أخاف عليه الزلة والهلكة، فأ مّا من ولده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يحلّ أدبه، فإنّه ينتقل إلى أدب خير له منه، أما فأرضهما يابن الخطاب!
ص: 187
قال: فخرج عمر فاستقبله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فقال له عبد الرحمن: يا أبا حفص! ما صنعت وقد طالت بكما الحجّة؟
فقال له عمر: وهل حجّة مع ابن أبي طالب وشبليه؟!
فقال له عثمان: يابن الخطاب! هم بنو عبد مناف الأسمنون والناس عجاف.
فقال له عمر: ما أعد ما صرت إليه فخراً فخرت به، أبحمقك؟ فقبض عثمان على مجامع ثيابه ثم جذبه وردّه، ثم قال: يابن الخطاب! كأنّك تنكر ما أقول. فدخل بينهما عبد الرحمن بن عوف وفرق بينهما، وافترق القوم(1).
ولقد همَّ عمر بإحراق بيت فاطمة (عليها السلام) ، وقد كان فيه أميرالمؤمنين وفاطمة والحسنان (عليهم السلام) ، وهدّدهم وآذاهم مع أنّ رفعة شأنهم عند اللّه تعالى وعند رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ممّا لا ينكره أحد من البشر إلاّ من أنكر ضوء الشمس ونور القمر(2).
روي عن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه... أنّه قال يوماً لابن عباس: أتدري ما منع الناس لكم؟
قال: لا، يا أميرالمؤمنين.
ص: 188
قال: ولكنّي أدري.
قال: ما هو يا أميرالمؤمنين؟
قال: كرهت قريش أن تجمع لكم النبوة والخلافة فتجحفوا الناس جحفاً، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت، ووفقت فأصابت.
فقال ابن عباس: أيميط - أميرالمؤمنين - عنّي غضبه فيسمع؟
قال: قل ما تشاء. قال: أمّا قول أميرالمؤمنين إنّ قريشاً اختارت لأنفسها فأصابت ووفّقت... فإن اللّه تعالى يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ}(1)، وقد علمت - يا أميرالمؤمنين - أنّ اللّه اختار من خلقه لذلك من اختار، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محدود.
وأمّا قولك: إنّهم أبوا أن يكون لنا النبوة والخلافة... فإنّ اللّه تعالى وصف قوماً بالكراهة، فقال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ}(2)، وأمّا قولك: إنّا كنّا نجحف... فلو جحفنا بالخلافة لجحفنا بالقرابة، ولكن أخلاقنا مشتقّة من خلق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي قال اللّه في حقّه: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(3)، وقال له: {وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(4).
فقال عمر: على رسلك يا ابن عباس! أبت قلوبكم - يا بني هاشم - إلا غشاً
ص: 189
في أمر قريش لا يزول، وحقداً عليها لا يحول.
فقال ابن عباس: مهلاً يا أميرالمؤمنين! لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش فإنّ قلوبهم من قلب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي طهّره اللّه وزكاه، وهم أهل البيت الذين قال اللّه تعالى فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(1)، وأمّا قولك: حقداً... فكيف لا يحقد من غصب شيئه، ويراه في يد غيره؟!
فقال عمر: أمّا أنت - يا عبد اللّه - فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك فه فتزول منزلتك عندي.
قال: وما هو يا أميرالمؤمنين؟أخبرني به، فإن يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك.
فقال: بلغني أنّك لا تزال تقول: أخذ هذا الأمر حسداً وظلماً.
قال: أمّا قولك - يا أميرالمؤمنين - حسداً، فقد حسد إبليس آدم، فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسودون، وأمّا قولك ظلماً فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو؟ ثم قال يا أميرالمؤمنين ألم يحتج العرب على العجم بحقّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واحتجت قريش على سائر العرب بحقّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فنحن أحقّ برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من سائر قريش؟!
فقال عمر: قم الآن فارجع إلى منزلك، فقام فلمّا ولّى هتف به عمر: أيّها المنصرف؟ إنّي على ما كان منك لراع حقّك؟ فالتفت ابن عباس، فقال: إنّ لي عليك - يا أميرالمؤمنين - وعلى كل المسلمين حقّاً برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ،
ص: 190
فمن حفظ فحظ نفسه حفظ، ومن أضاع فحقّ نفسه أضاع، ثم مضى.
فقال عمر لجلسائه: واهاً! لابن عباس، ما رأيته يحاج أحداً قط إلا خصمه(1)!
ولقد أوصى عمر أن يدفن في بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك تصدّى لدفن أبي بكر هناك، وهو تصرّف في ملك الغير من غير جهة شرعية، وقد نهى اللّه الناس عن دخول بيته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من غير إذن بقوله: {لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}(2)، وضربوا المعاول عند أذنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال تعالى: {لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَٰلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(3).
وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً(4).
عن محمد بن العلاء الهمداني الواسطي ويحيي بن محمد بن جريح البغدادي، قالا: تنازعنا في ابن الخطاب فاشتبه علينا أمره، فقصدنا جميعاً أحمد بن إسحاق القمّي، صاحب أبي الحسن العسكري (عليه السلام) بمدينة قم، وقرعنا عليه الباب، فخرجت إلينا صبية عراقية من داره، فسألناها عنه،
ص: 191
فقالت: هو مشغول بعيده فإنَّه يوم عيد.
فقلنا: سبحان اللّه! الأعياد أعياد الشعية أربعة: الأضحى، والفطر، ويوم الغدير، ويوم الجمعة.
قالت: فإنَّ أحمد بن إسحاق يروي عن سيده أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) ، أنّ هذا اليوم هو يوم عيد، وهو أفضل الأعياد عند أهل البيت (عليهم السلام) وعند مواليهم.
قلنا: فاستأذني لنا بالدخول عليه، وعرّفيه بمكاننا، فدخلت عليه وأخبرته بمكاننا، فخرج علينا وهو متزر بمئزر له محتبي بكسائه يمسح وجههه، فانكرنا ذلك عليه، فقال: لا عليكما، فإنّي كنت اغتسلت للعيد. قلنا: أو هذا يوم عيد؟ قال: نعم، - وكان يوم التاسع من شهر ربيع الأول - ، قالا جميعاً: فأدخلنا داره وأجلسنا على سرير له، وقال: إنّي قصدت مولانا أبا احسن العسكري (عليه السلام) مع جماعة إخوتي - كما قصدتماني - بسرّ من رأى، فاستأذنا بالدخول عليه فأذن لنا، فدخلنا عليه صلوات اللّه عليه في مثل هذا اليوم - وهو يوم التاسع من شهر ربيع الأول - وسيدنا (عليه السلام) قد أوعز إلى كل واحد من خدمه أن يلبس ما يمكنه من الثياب الجدد، وكان بين يديه مجمرة يحرق العود بنفسه.
يقول الراوي قلنا: بآبائنا أنت وأمهاتنا يابن رسول اللّه! هل تجدّد لأهل البيت في هذا اليوم فرح؟!
فقال: وأيّ يوم أعظم حرمة عند أهل البيت من هذا اليوم؟! ولقد حدّثني
ص: 192
أبي (عليه السلام) أنّ حذيفة بن اليمان دخل في مثل هذا اليوم - وهوالتاسع من شهر ربيع الأول - على جدّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال حذيفة: رأيت سيدي أميرالمؤمنين مع ولديه الحسن والحسين (عليهم السلام) : يأكلون مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يتبسّم في وجوههم (عليهم السلام) يقول لولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) : كلا هنيئاً لكما ببركة هذا اليوم، فإنَّه اليوم الذي يهلك اللّه فيه عدوّه وعدو جدّكما، ويستجيب فيه دعاء أمّكما.
كلاّ! فإنَّه اليوم الذي يقبل اللّه فيه أعمال شيعتكما ومحبيّكما.
كلا! فإنَّه اليوم الذي يصدّق فيه قول اللّه: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُواْ}(1).
كلا!فإنَّه اليوم الذي يتكسر فيه شوكة مبغض جدّكما.
كلا! فإنَّه يوم يفقد فيه فرعون أهل بيتي وظالمهم وغاصب حقّهم.
كلا! فإنَّه اليوم الذي يقدم اللّه فيه إلى ما عملوا من عمل فيجعله هباءً منثوراً.
قال حذيفة: فقلت: يا رسول اللّه! وفي أمتك وأصحابك من ينتهك هذه الحرمة؟
فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : نعم يا حذيفة! جبت من المنافقين يترأّس عليهم ويستعمل في أمّتي الرياء، ويدعوهم إلى نفسه، ويحمل على عاتقه درّة الخزي، ويصد الناس عن سبيل اللّه، ويحرّف كتابه، ويغيّر سنّتي، ويشتمل
ص: 193
على إرث ولدي، وينصب نفسه علماً، ويتطاول على إمامة من بعدي، ويستحل أموال اللّه من غير حلّها، وينفقها في غير طاعته، ويكذّبني ويكذّب أخي ووزيري، وينحّي ابنتي عن حقّها، وتدعو اللّه عليه ويستجيب اللّه دعاؤها في مثل هذا اليوم.
قال حذيفة: قلت: يا رسول اللّه! لم لا تدعو ربّك عليه ليهلكه في حياتك؟!
قال: يا حذيفة! لا أحب أن أجترئ على قضاء اللّه لما قد سبق في علمه، لكنّي سألت اللّه أن يجعل اليوم الذي يقبضه فيه فضيلة على سائر الأيام؛ ليكون ذلك سنّة يستنّ بها أحبّائي وشيعة أهل بيتي ومحبّوهم، فأوحى إليَّ جل ذكره، فقال لي: يا محمد! كان في سابق علمي أن تمسك وأهل بيتك محن الدنيا وبلاؤها، وظلم المنافقين والغاصبين من عبادي من نصحتهم وخانوك، ومحضتهم وغشّوك، وصافيتهم وكاشحوك، وأرضيتهم وكذّبوك، وانتجيتهم وأسلموك.
فإنّي بحولي وقوتي وسلطاني، لأفتحن على روح من يغصب بعدك علياً حقّه، ألف باب من النيران من سفال الفيلوق، ولأصليّنه وأصحابه قعراً يشرف عليه إبليس فيلعنه، ولأجعلن ذلك المنافق عبرة في القيامة لفراعنة الأنبياء وأعداء الدين في المحشر، ولأحشرنّهم وأوليائهم وجميع الظلمة والمنافقين إلى نار جهنم زرقاً كالحين أذلةً خزايا نادمين، ولأخلدنّهم فيها أبد الآبدين.
يا محمد! لن يوافقك وصيك في منزلتك إلّا بما يسمه من البلوى من فرعونه وغاصبه الذي يجترىء عليَّ ويبدل كلامي، ويشرك بي ويصدّ
ص: 194
الناس عن سبيلي، وينصب من نفسه عجلاً لأمتك، ويكفر بي في عرشي، إنّي قد أمرت ملائكتي في سبع سماواتي لشيعتكم ومحبّيكم أن يتعيّدوا في هذا اليوم الذي أقبضه إليَّ، وأمرتهم أن ينصبوا كرسي كرامتي حذاء البيت المعمور ويثنوا عليَّ ويستغفروا لشيعتكم ومحبّيكم من ولد آدم، وأمرت الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق كلّهم ثلاثة أيام من ذلك اليوم ولا أكتب عليهم شيئاً من خطاياهم كرامة لك ولوصيّتك.
قال تعالى: يا محمد! إنّي قد جعلت ذلك اليوم عيداً لك ولأهل بيتك ولمن تبعهم من المؤمنين وشيعتهم، وآليت على نفسي بعزّتي وجلالي وعلوّي في مكاني لأحبّون من تعيّد في ذلك اليوم محتسباً ثواب الخافقين، ولأشفعنه في أقربائه وذوي رحمه، ولأزيدن في ماله إن وسَّع على نفسه وعياله فيه، ولأعتقنّ من النار في كل حول في مثل ذلك اليوم ألفاً من مواليكم وشيعتكم، ولأجعلن سعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وأعمالهم مقبولة.
قال حذيفة: ثم قام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودخل إلى بيت أم سلمة، ورجعت عنه وأنا غير شاك في أمر الشيخ، حتى ترأس بعد وفاة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأتيح الشر وعاد الكفر، وارتد عن الدين، وتشمر للملك، وحرف القرآن، وأحرق بيت الوحي، وأبدع السنن، وغيّر الملّة، وبدّل السنة، وردّ شهادة أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وكذّب فاطمة بنت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واغتصب فدكاً، وأرضى المجوس واليهود والنصارى، وأسخن قرة عين المصطفى ولم يرضها، وغيَّر السنن كلّها، ودبَّر على قتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وأظهر الجور، وحرّم ما أحلّ اللّه، وأحلّ ما حرّم اللّه، وألقى إلى الناس أن يتخذوا من جلود
ص: 195
الإبل دنانير، ولطم وجه الزكية، وصعد منبر رسول اللّه غصباً وظلماً، وافترى على أميرالمؤمنين (عليه السلام) وعانده وسفَّه رأيه.
قال حذيفة: فاستجاب اللّه دعاء مولاتي (عليها السلام) على ذلك المنافق، وأجرى قتله على يد قاتله رحمة اللّه عليه، فدخلت على أميرالمؤمنين (عليه السلام) لأهنّئه بقتل المنافق ورجوعه إلى دار الانتقام.
قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : يا حذيفة! أتذكر اليوم الذي دخلت فيه على سيدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا وسبطاه نأكل معه، فدلّك على فضل ذلك اليوم الذي دخلت عليه فيه؟
قلت: بلى يا أخا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
قال: هو واللّه هذا اليوم الذي أقرّ اللّه به عين آل الرسول، وإنّي لأعرف لهذا اليوم اثنين وسبعين إسماً.
قال حذيفة: قلت: يا أميرالمؤمنين! أحبّ أن تسمعني أسماء هذا اليوم، وكان يوم التاسع من شهر ربيع الأول.
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) :
هذا يوم الاستراحة، ويوم تنفيس الكربة، ويوم الغدير الثاني، ويوم تحطيط الأوزار، ويوم الخيرة، ويوم رفع القلم، ويوم الهدو، ويوم العافية، ويوم البركة، ويوم الثارات، ويوم عيد اللّه الأكبر، ويوم يستجاب فيه الدعاء، ويوم الموقف الأعظم، ويوم التوافي، ويوم الشرط، ويوم نزع السواد، ويوم ندامة الظالم، ويوم انكسار الشوكة، ويوم نفي الهموم، ويوم القنوع، ويوم عرض القدرة، ويوم التصفّح، ويوم فرح الشيعة، ويوم التوبة، ويوم الإنابة،
ص: 196
ويوم الزكاة العظمى، ويوم الفطر الثاني، ويوم سيل النغاب، ويوم تجرّع الريق، ويوم الرضا، ويوم عيد أهل البيت، ويوم ظفرت به بنو إسرائيل، ويوم يقبل اللّه أعمال الشيعة، ويوم تقديم الصدقة، ويوم الزيارة، ويوم قتل المنافق، ويوم الوقت المعلوم، ويوم سرور أهل البيت، ويوم الشاهد ويوم المشهود، ويوم يعضّ الظالم على يديه، ويوم القهر على العدو، ويوم هدم الضلالة، ويوم التنبيه، ويوم التصريد، ويوم الشهادة، ويوم التجاوز عن المؤمنين، ويوم الزهرة، ويوم العذوبة، ويوم المستطاب به، ويوم ذهاب سلطان المنافق، ويوم التسديد، ويوم يستريح فيه المؤمن، ويوم المباهلة، ويوم المفاخرة، ويوم قبول الأعمال، ويوم التبجيل، ويوم إذاعة السر، ويوم نصر المظلوم، ويوم الزيارة، ويوم التودّد، ويوم التحبّب، ويوم الوصول، ويوم التزكية، ويوم كشف البدع، ويوم الزهد في الكبائر، ويوم التزاور، ويوم الموعظة، ويوم العبادة، ويوم الاستسلام.
قال حذيفة: فقمت من عنده - يعني أميرالمؤمنين (عليه السلام) - وقلت في نفسي: لو لم أدرك من أفعال الخير وما أرجو به الثواب إلا فضل هذا اليوم لكان مناي.
قال محمد بن العلاء الهمداني، ويحيي بن محمد بن جريح: فقام كل واحد منّا وقبل رأس أحمد بن إسحاق بن سعيد القمّي، وقلنا: الحمد لله الذي قيّضك لنا حتى شرفتنا بفضل هذا اليوم، ورجعنا عنه، وتعيدنا في ذلك اليوم(1).
ص: 197
عن عبد اللّه بن جويعة بن حمزة العبدي، قال: قدمنا وفد عبد القيس في إمارة عمر بن الخطاب، فسأله رجلان منّا عن طلاق الأمة، فقام معهما وقال: انطلقا، فجاء إلى حلقة فيها رجل أصلع، فقال: يا أصلع!كم طلاق الأمة؟
قال: فأشار بإصبعيه... هكذا - يعني اثنتين - .
قال: فالتفت عمر إلى الرجلين، فقال: طلاقها اثنتان.
فقال له أحدهما: سبحان اللّه! جئناك وأنت أميرالمؤمنين فسألناك فجئت إلى الرجل، واللّه ما كلمك.
فقال: ويلك! أتدري من هذا؟ هذا علي بن أبي طالب، سمعت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: لو أنّ السماوات والأرض وضعتا في كفّة ووضع إيمان علي في كفّة لرجح إيمان علي(1).
لما ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء وأن يجعل الرجال عبيداً. فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: أكرموا كريم كل قوم.
فقال عمر: قد سمعته يقول: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن خالفكم.
فقال له أميرالمؤمنين (عليه السلام) : هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم ورغبوا في الإسلام، ولابدّ من أن يكون لهم فيهم ذرية، وأنا أشهد اللّه وأشهدكم أنّي قد عتقت نصيبي منهم لوجه اللّه تعالى.
ص: 198
فقال جميع بني هاشم: قد وهبنا حقّنا أيضاً لك.
فقال: اللّهم اشهد أنّي قد عتقت ما وهبوني لوجه اللّه.
فقال المهاجرون والأنصار: وقد وهبنا حقّنا لك يا أخا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: اللّهم اشهد أنَّهم قد وهبوا لي حقّهم وقبلته، وأشهدك أنّي قد عتقتهم لوجهك.
فقال عمر: لم نقضت عليَّ عزمي في الأعاجم، وما الذي رغبك عن رأيي فيهم؟
فأعاد عليه ما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في إكرام الكرماء.
فقال عمر: قد وهبت لله ولك يا أباالحسن ما يخصّني وسائر مالم يوهب لك. فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : اللّهم اشهد على ما قاله وعلى عتقي إياهم.
فرغب جماعة من قريش في أن يستنكحوا النساء، فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : هؤلاء لا يكرهن على ذلك ولكن يخيرن، ما اخترنه عمل به. فأشار جماعة إلى شهربانويه بنت كسرى، فخيّرت وخوطبت من وراء الحجاب والجمع حضور.
فقيل لها: من تختارين من خطابك؟ وهل أنت ممّن تريدين بعلاً؟ فسكتت.
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : قد أرادت وبقي الاختيار.
فقال عمر: وما علمك بإرادتها البعل؟
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان إذا أتته كريمة قوم لا ولي لها قد خطبت يأمر أن يقال لها: أنت راضية بالبعل، فإن استحييت وسكتت جعلت إذنها صماتها، وأمر بتزويجها. وإن قالت: لا، لم تكره على
ص: 199
ما تختاره. إنّ شهربانويه أريت الخطاب فأومأت بيدها واختارت الحسين بن علي (عليهما السلام) ، فأعيد القول عليها في التخيير، فأشارت بيدها وقالت بلغتها: هذا إن كنت مخيّرة، وجعلت أميرالمؤمنين وليّها، وتكلّم حذيفة بالخطبة.
فقال أميرالمرمنين لها: ما اسمك؟
فقالت: شاه زنان بنت كسرى.
قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) (1): أنت شهربانويه، وأختك مرواريد بنت كسرى.
قالت: آريه(2).
عن سلمان: أنّ علياً (عليه السلام) بلغه عن عمر ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة، وفي يد علي (عليه السلام) قوس عربية.
فقال: يا عمر، بلغني عنك ذكرك لشيعتي.
فقال: اربع على ظلعك.
فقال (عليه السلام) : إنّك لها هنا، ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرفاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه.
فصاح عمر: اللّه اللّه يا أباالحسن، لا عدت بعدها في شيء، وجعل يتضرّع إليه، فضرب يده إلى الثعبان، فعادت القوس كما كانت، فمر عمر إلى بيته مرعوباً.
ص: 200
قال سلمان: فلما كان في اللّيل دعاني علي (عليه السلام) فقال: صر إلى عمر، فإنّه حمل إليه مال من ناحية المشرق ولم يعلم به أحد، وقد عزم أن يحتبسه، فقل له: يقول لك علي: أخرج إليك مال من ناحية المشرق، ففرّقه على من جعل لهم، ولا تحبسه فأفضحك.
قال سلمان: فأدّيت إليه الرسالة.
فقال: حيّرني أمر صاحبك، من أين علم به؟
فقلت: وهل يخفى عليه مثل هذا؟
فقال لسلمان: اقبل منّي ما أقول لك، ما عليً إلّا ساحر، وإنّي لمشفق عليك منه، والصواب أن تفارقه وتصير في جملتنا.
قلت: بئس ما قلت، لكن عليّاً ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وما هو أكبر منه.
قال: ارجع إليه فقل له: السمع والطاعة لأمرك.
فرجعت إلى علي (عليه السلام) ، فقال: أحدّثك بما جرى بينكما؟
فقلت: أنت أعلم به منّي.
فتكلّم بكل ما جرى به بيننا، ثم قال: إنَّ رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت(1).
دخل الإمام علي (عليه السلام) وعمر الحمّام، فقال عمر: بئس البيت الحمّام، يكثر فيه العناء ويقلّ فيه الحياء.
ص: 201
فقال الإمام علي (عليه السلام) : نعم البيت الحمّام، يذهب الأذى ويذكر بالنار(1).
لمّا طُعن عمر، جمع بني عبد المطب وقال: يا بني عبد المطلب! أراضون أنتم عنّي؟
فقال رجل من أصحابه: ومن ذا الذي يسخط عليك؟... فأعاد الكلام ثلاث مرّات، فأجابه رجل بمثل جوابه، فانتهره عمر وقال: نحن أعلم بما أشعرنا قلوبنا، إنا واللّه أشعرنا قلوبنا ما... نسأل اللّه أن يكفينا شرّه، وإنَّ بيعة أبي بكر كانت فلتة نسأل اللّه أن يكفينا شرّها.
وقال لابنه عبد اللّه - وهو مسنده إلى صدره - : ويحك! ضع رأسي بالأرض، فأخذته الغشية.
قال: فوجدت من ذلك.
فقال: ويحك! ضع رأسي بالأرض، ... فوضعت رأسه بالأرض فعفّر بالتراب، ثم قال: ويل لعمر! وويل لأمّه! إن لم يغفر اللّه له.
وقال - أيضاً - حين حضره الموت: أتوب إلى اللّه من ثلاث: من اغتصابي هذا الأمر أنا وأبوبكر من دون الناس، ومن استخلافي عليهم، ومن تفضيلي المسلمين بعضهم على بعض.
وقال - أيضاً - : أتوب إلى اللّه من ثلاث: من ردّي رقيق اليمن، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد أن أمرَّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علينا، ومن تعاقدنا على أهل البيت إن قبض رسول اللّه أنَّ لا نولّي منهم أحداً.
ص: 202
ورووا عن عبد اللّه بن شداد بن الهاد، قال: كنت عند عمر - وهو يموت - فجعل يجزع، فقلت: يا أميرالمؤمنين! أبشر بروح اللّه وكرامته، فجعلت كلما رأيت جزعه قلت هذا، فنظر إليَّ فقال:
ويحك! فكيف بالممالاة(1) على أهل بيت محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).
وقال الزمخشري في ربيع الأبرار(3): لما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة قال لبنيه ومن حوله: لو أنّ لي ملء الأرض من صفراء أو بيضاء لافتديت به من أهوال ما أرى(4).
عن عاصم بن عبد اللّه بن عباس بن ربيعة، قال: رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض.
ص: 203
فقال: ليتني كنت نسياً منسياً، ليت أمّي لم تلدني(1).
ورد في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ}(2)
يعني الثاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(3).
{وَقَالَ قَرِينُهُ}(4) إي شيطانه وهو الثاني {هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}(5).
وأيضاً المراد من {مَّنَّاعٖ لِّلْخَيْرِ}(6) قال: المناع: الثاني، والخير: ولاية أميرالمؤمنين (عليه السلام) وحقوق آل محمد (عليهم السلام) ، ولما كتب الأول كتاب فدك يردّها على فاطمة (عليها السلام) منعه الثاني، فهو {مُعْتَدٖ مُّرِيبٍ}(7)، {ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ}(8) قال: هو ما قالوا نحن كافرون بمن جعل لكم الإمامة والخمس.
قوله: {قَالَ قَرِينُهُ}(9)، أي: شيطانه وهو الثاني: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}(10)
ص: 204
يعني الأول{وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٖ}(1) فيقول اللّه لهما: {لَا تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ}(2) {مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ}(3)... أي: ما فعلتم لا تبدّل حسنات، ما وعدته لا أخلفه(4).
{فَيَوْمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}(5) {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}(6) قال: هو الثاني(7).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، أنَّه قال: إذا كان يوم القيامة يؤتى بإبليس في سبعين غّلاً وسبعين كبلاً(8)، فينظر الأول إلى زفر في عشرين ومائة كبل وعشرين ومائة غل فينظر إبليس فيقول:
من هذا الذي أضعفه اللّه العذاب وأنا أغويت هذا الخلق جميعاً.
فيقال: هذا زفر.
ص: 205
فيقول: بما جدر له هذا العذاب؟!
فيقال: ببغيه على علي (عليه السلام) .
فيقول له إبليس: ويل لك أو ثبور لك! أما علمت أنّ اللّه أمرني بالسجود لآدم فعصيته وسألته أن يجعل لي سلطاناً على محمد وأهل بيته وشيعته فلم يجبني إلى ذلك، وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ}(1) وما عرفتهم حين استثناهم إذ قلت: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(2) فمنيت به نفسك غروراً، فيوقف بين يدي الخلائق فيقال له:
ما الذي كان منك إلى علي وإلى الخلق الذين اتبعوك على الخلاف؟!
فيقول الشيطان - وهو زفر - لإبليس: أنت أمرتني بذلك.
فيقول له إبليس: فلم عصيت ربك وأطعتني؟ فيرد زفر عليه ما قال اللّه: {إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ}(3) إلى آخر الآية(4).
قال سليم: انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس فيها إلا هاشمي غير سلمان وأبي ذر والمقداد ومحمد بن أبي بكر وعمر بن أبي سلمة وقيس بن سعد بن عبادة.
ص: 206
فقال العباس لعلي (عليه السلام) : ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذاً كما غرم جميع عماله؟ فنظر علي (عليه السلام) إلى من حوله، ثم إغرورقت عيناه، وقال:
شكر له ضربة ضربها فاطمة (عليها السلام) بالسوط فماتت وفي عضدها أثره كأنّه الدملج(1).
روى البخاري في باب كتابة العلم من كتاب العلم، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عباس، قال:
لم اشتد بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجعه، قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده. قال عمر: إنّ النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه.. حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط(2)، فقال: قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية ما حال بين رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبين كتابه(3).
وورى مسلم في الكتاب المذكور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنّه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ائتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. فقالوا: إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يهجر(4).
ص: 207
ولقد بلغ عمر في الجهل إلى حيث لم يعلم بأنّ كل نفس ذائقة الموت، وأنّه يجوز الموت على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنّه أسوة الأنبياء في ذلك، فقال: واللّه ما مات حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم! فقال له أبوبكر: أما سمعت قول اللّه عزّوجلّ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(1)، وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}(2) قال: فلمّا سمعت ذلك أيقنت بوفاته، وسقطت إلى الأرض، وعلمت أنّه قد مات(3)، ويؤيّده ما جاء في طبقات ابن سعد بسنده عن عائشة، قالت: لما توفّي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استأذن عمر والمغيره بن شعبه فدخلا عليه فكشفا الثوب عن وجهه، فقال عمر: واغشيا! ما أشد غشي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم قاما فلما انتهيا إلى الباب قال المغيره: يا عمر! مات واللّه رسول اللّه فقال عمر: كذبت ما مات رسول اللّه... إلى أن قال: ثم جاء أبوبكر وعمر يخطب الناس، فقال له أبو بكر: اسكت! فسكت فصعد أبوبكر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قرأ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(4) ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}(5) حتى فرغ من الآية إلى
ص: 208
أن قال: فقال عمر: هذا في كتاب اللّه؟! قال: نعم الحديث(1).
روى مسلم، عن قتادة، عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد اللّه، فقال: على يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلما قام عمر قال: إنّ اللّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإنّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحج والعمرة لله كما أمركم اللّه عزّوجلّ واثبوا نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة(2).
روى الترمذي في صحيحه أنّ رجلاً من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء؟ فقال: هي حلال. فقال: إنّ أباك قد نهى عنها. فقال ابن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها ووضعها رسول اللّه، أنترك السنة ونتبع قول أبي(3)؟!
ص: 209
وروى شعبة، عن الحكم بن عتيبة، قال: سألته عن هذه الآية: {فِيمَا تَرَٰضَيْتُم بِهِۦ مِنۢ...}(1) أمنسوخة هي؟
فقال: لا، ثم قال الحكم:
قال علي بن ابي طالب (عليه السلام) : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي(2).
وروى البخاري(3) ومسلم(4)، عن مروان بن الحكم، أنّه شهد علياً وعثمان بين مكة والمدينة، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبّيك بعمرة وحجّة، فقال عثمان: تراني أنهى الناس وأنت تفعله؟! فقال: ما كنت لأدع سنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لقول أحد.
ولقد عطَّل عمر حدّ اللّه في المغيرة بن شعبة لمَّا شهدوا عليه بالزنا، ولقّن الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة اتباعاً لهواه، فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود وفضحهم وحدّهم، فتجنّب أن يفضح المغيرة - وهو واحد وكان
ص: 210
آثماً - وفضح الثلاثة، وعطّل حدّ اللّه ووضعه في غير موضعه.
قال ابن أبي الحديد: روى الطبري في تاريخه، عن محمد بن يعقوب ابن عتبة، عن أبيه، قال: كان المغيرة يختلف إلى أمّ جميل - امرأة من بني هلال بن عامر - وكان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك يقال له: الحجّاج بن عبيد، وكان المغيرة - وهو أمير البصرة - يختلف إليها سراً، فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموا، فخرج المغيرة يوماً من الأيام فدخل عليها - وقد وضعوا عليهما الرصد - فانطلق القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر فرأوه قد واقعها، فكتبوا بذلك إلى عمر، وأوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة، فانتهى أبوبكرة إلى المدينة، وجاء إلى باب عمر فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبوبكرة؟
فقال: نعم. قال: لقد جئت لشر!
قال: إنّما جاء به المغيرة... ثم قص عليه القصة وعرض عليه الكتاب، فبعث أباموسى عاملاً وأمره أن يبعث إليه المغيرة، فلمّا دخل أبو موسى البصرة وقعد في الإمارة أهدى إليه المغيرة عقيلة، وقال: وإنني قد رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر(1).
قال الطبري(2): وروى الواقدي، عن مالك بن أوس، قال: قدم المغيرة على عمر فتزوّج في طريقه امرأة من بني مرّة، فقال له عمر: إنّك لفارغ القلب شديد الشبق، طويل الغرمول. ثم سأل عن المرأة فقيل له: يقال لها:
ص: 211
الرقطاء، كان زوجها من ثقيف، وهي من بني هلال.
قال الطبري(1): وكتب إليَّ السريَّ، عن شعيب، عن سيف: أنّ المغيرة كان يبغض أبابكرة، وكان أبوبكرة يبغضه، ويناغي كل واحد منهما صاحبه وينافره عند كل ما يكون منه وكانا متجاورين بالبصرة بينهما طريق، وهما في مشربتين متقابلتين، فهما في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدّثون في مشربته، فهبّت ريح ففتحت باب الكوة، فقام أبوبكرة ليصفقه فبصر بالمغيرة وقد فتح الريح بالكوة التي في مشربته، وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا.
ثم قال: اشهدوا.
قالوا: ومن هذه؟
قال: أمّ جميل بنت الأفقم، وكانت أمّ جميل إحدى بني عامر ابن صعصعة.
فقالوا: إنَّما رأينا أعجازاً ولا ندري ما الوجوه؟ فلما قامت صمّموا، وخرج المغيرة إلى الصلاة، فحال أبوبكرة بينه وبين الصلاة، وقال: لا تصلّ بنا، وكتبوا إلى عمر بذلك، وكتب المغيرة إليه أيضاً، فأرسل عمر إلى أبي موسي، فقال: يا أبا موسى! إنّي مستعملك، وإنّي باعثك إلى أرض قد باض فيها الشيطان وفرّخ، فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل اللّه بك.
فقال: يا أميرالمؤمنين! أعنّي بعدة من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من
ص: 212
المهاجرين والأنصار، فإنّي وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به.
قال: فاستعن بمن أحبت، فاستعان بتسعة وعشرين رجلاً منهم: أنس بن مالك وعمار بن حصين وهشام بن عامر... وخرج أبو موسى بهم حتى أناخ بالبصرة في المربد، وبلغ المغيرة أنّ أبا موسى قد أناخ بالمربد.
فقال: واللّه ما جاء أبو موسى تاجراً ولا زائراً ولكنه جاء أميراً، وإنّهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم فدفع إلى المغيرة كتاباً من عمر - أنّه لأزجر كتاب كتب به أحد من الناس - أربع كلم عزل فيها وعاتب واستحث وأمر: أمّا بعد، فإنّه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى فسلّم ما في يديك إليه والعجل. وكتب إلى أهل البصرة: أمّا بعد، فإنّي قد بعثت أبا موسى أميراً عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويّكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن ذمّتكم، وليجبي لكم فيئكم، وليقسم فيكم، وليحمي لكم طرقكم.
وارتحل المغيرة وأبوبكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلي حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين! سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أم مستدبرهم؟ فكيف رأوا المرأة وعرفوها؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر؟ وإن كانوا مستدبري فبأيّ شيء استحلّوا النظر إليَّ في منزلي على امرأتي! واللّه ما أتيت إلا امرأتي، فبدأ بأبي بكرة فشهد أنّه رآه بين رجلي أمّ جميل، وهو يدخله ويخرجه.
قال عمر: كيف رأيتهما؟
ص: 213
قال: مستدبرهما.
قال: كيف استبنت رأسها؟
قال: تخافيت. فدعا بشبل بن معبد فشهد مثل ذلك، وقال: استقبلتهما واستدبرتهما، وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم.
قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة، ورأيت قدمين مرفوعين يخفقان، وأستين مكشوفين، وسمعت حفزاً شديداً، قال عمر: فهل رأيته فيها كالميل في المكحلة؟
قال: لا.
قال: فهل تعرف المرأة؟
قال: لا، ولكن أشبهها... فأمر عمر بالثلاثة الحدّ وقرأ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِٱلشُّهَدَاءِ فَأُوْلَٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَٰذِبُونَ}(1).
فقال المغيرة: الحمد لله الذي أخزاكم، فصاح به عمر: أسكت... أسكت اللّه نأمتك(2)، أما واللّه لو تمّت الشهادة لرجمتك بأحجارك(3).
ولقد منع عمر من المغالاة في صدقات النساء، وقال: من غالى في مهر
ص: 214
ابنته أجعله في بيت مال المسلمين(1)، لشبهة أنّه رأى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زوّج فاطمة (عليها السلام) بخمسمائة درهم، فقامت إليه امرأة ونبهته بقوله تعالى: {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَئًْا}(2) على جواز المغالاة، فقال: كل الناس أفقه من عمر حتى المخدّرات في البيوت(3).
فيها صوتاً فارتاب وتسوّر فوجد رجلاً عنده امرأة وزق(1) خمر، فقال: يا عدو اللّه! أظننت أنّ اللّه يسترك وأنت على معصيته؟!
فقال: لا تعجل يا أميرالمؤمنين! إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث، قال اللّه: {وَ لَا تَجَسَّسُواْ}(2) وتجسّست، وقال: {وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا}(3) وقد تسوّرت، وقال: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُواْ}(4) وما سلّمت.
قال: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟
قال: نعم - واللّه - لا أعود.
فقال: إذهب فقد عفوت عنك(5).
الأصول(1)، عن شقيق قال:
كنت جالساً مع عبد اللّه وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أنّ رجلاً أجنب ولم يجد الماء شهراً(2) أما كان يتيمّم ويصلّي؟! وكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا}(3).
فقال عبد اللّه: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمّموا الصعيد.
قلت: وإنّما كرهتم هذا لذا.
قال: نعم. فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرّغت في الصعيد كما يتمرّغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال: إنَّما كان يكفيك أن تصنع هكذا... فضرب بكفّه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح ظهر كفّه بشماله، أو ظهر شماله بكفّه، ثم مسح بهما وجهه.
فقال عبد اللّه: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار(4).
قال البخاري(5): وزاد يعلى، عن الأعمش، عن شقيق، قال: كنت مع عبد
ص: 217
اللّه وأبي موسى، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعثني أنا وأنت، فأجنبت، فتمعكت(1) في الصعيد فأتينا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبرناه، فقال: إنّما يكفيك هكذا... ومسح وجهه وكفيه واحدة.
وروى(2) أيضاً، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إنّي أجنبت فلم أصب الماء؟
فقال عمر: لا تصلّ.
فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنّا في سفر أنا وأنت، فأمّا أنت فلم تصلّ، وأمّا أنا فتمعّكت فصلّيت، فذكرت للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إنّما كان يكفيك هكذا... فضرب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكفّيه الأرض
ص: 218
ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه(1).
وروى مسلم بالإسناد المذكور إلى قوله: ثم تمسح بهما وجهك وكفيك.
فقال عمر: اتق اللّه يا عمار!
فقال: إن شئت لم أحدّث به(2).
ولقد أمر عمر برجم حامل حتى نبهه معاذ، وقال: إن يكن لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها، فرجع عن حكمه، وقال: لو لا معاذ لهلك عمر(3).
ص: 219
وحكى في كشف الغمة(1)
من مناقب الخوارزمي(2) أنّه قال:
أتى عمر في ولايته بامرأة حاملة فسألها عمر فاعترفت بالفجور، فأمر بها عمر أن ترجم، فلقيها علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال: ما بال هذه؟
فقالوا: أمر بها عمر أن ترجم، فردّها علي (عليه السلام) ، فقال: أمرت بها أن ترجم؟!
فقال: نعم، اعترفت عندي بالفجور.
فقال: هذا سلطانك عليها، فما سلطانك على ما في بطنها؟
ثم قال له علي (عليه السلام) : فلعلّك انتهرتها أو أخفتها.
فقال: قد كان ذاك.
قال: أو ما سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: لاحدّ على معترف بعد بلاء أنّه من قيّدت أو حبست أو تهدّدت فلا إقرار له. فخلّى عمر سبيلها، ثم قال: عجزت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) (3), لولا علي لهلك عمر(4).
ص: 220
ولقد أمر عمر برجم المجنونة فنبّهه أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقال: إنّ القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق. فقال: لولا علي لهلك عمر(1).
ص: 221
روي في البخاري(1) ومسلم(2) وغيرهما(3) بعدّة طرق، عن عبيد بن عمير وأبي موسى الأشعري، قال: استأذن أبو موسى على عمر فكأنه وجده مشغولاً فرجع.
فقال عمر: ألم تسمع صوت عبد اللّه بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي له.
فقال: ما حملك على ما صنعت؟
فقال: إنا كنّا نؤمر بهذا.
فقال: فائتني على هذا ببيّنة أو لأفعلن بك! فانطلق إلى مجلس من الأنصار.
فقالوا: لا يشهد لك إلا أصاغرنا.
فقام أبوسعيد الخدري، فقال: قد كنّا نؤمر بهذا.
فقال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ألهاني الصفق بالأسواق(4).
قال العلاّمة المجلسي:
لا خفاء في أنّ ما خفي على عمر من ذلك أمر متكرّر الوقوع من العادة
ص: 222
والسنن التي كان يعلمها المعاشرون له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكيف خفي على هذا الرجل الذي يدّعون أنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يشاوره في الأمور ويستمدّ بتدبيره؟! فليس هذا إلَّا من فرط غباوته، أو قلّة اعتنائه بأمور الدين، أو إنكاره لأمور الشرع مخالفة لسيد المرسلين(1).
روى ابن أبي الحديد، عن أبي سعيد الخدري، قال: حججنا مع عمر أول حجّة حجّها في خلافته، فلما دخل المسجد الحرام، دنا من الحجر الأسود فقبّله واستلمه.
فقال: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع(2)، ولولا أنّي رأيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبلك واستلمك لما قبّلتك ولا استلمتك.
ص: 223
فقال له علي (عليه السلام) : بلي - يا أميرالمؤمنين - إنّه ليضرّ وينفع(1)، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب اللّه لعلمت أنّ الذي أقول لك كما أقول، قال اللّه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ}(2)، فلما أشهدهم وأقرّوا له بأنه الربّ عزّوجلّ وأنّهم العبيد، كتب ميثاقهم في رقّ ثم ألقمه هذا الحجر، وأنّ له لعينين ولساناً وشفتين، يشهد بالموافاة، فهو أمين اللّه عزّوجلّ في هذا المكان.
ص: 224
فقال عمر: لا أبقاني اللّه بأرض لست بها يا ابا الحسن(1). ورواه الغزالي في كتاب إحياء العلوم(2). وروى البخاري(3) ومسلم(4) في صحيحهما ولم يذكرا تنبيه أميرالمؤمنين (عليه السلام) إيّاه(5).
وقال ابن حجر في شرحه(1): ذكر الحميدي، عن ثابت، عن أنس: أنّ عمر قرأ: {وَفَٰكِهَةً وَأَبًّا}(2).
فقال: ما الأب؟ ثم قال: ما كلّفنا - أو قال: ما أمرنا - بهذا.
ثم قال ابن حجر: قلت: هو عند إسماعيلي من رواية هشام، عن ثابت: أنّ رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {وَفَٰكِهَةً وَأَبًّا}(3)، ما الأب؟
فقال عمر: نهينا عن التعمّق والتكلّف.
وعنه عبد الرحمن بن يزيد: أنّ رجلاً سأل عمر عن: {وَفَٰكِهَةً وَأَبًّا}(4)، فلما رآهم عمر يقولون، أقبل عليهم بالدرّة(5).
سُئل عمر بن الخطاب عن إملاص(6) المرأة وهي التي تضرب بطنها فيلقى جنينها، فقال: أيّكم سمع من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه شيئاً؟
قال: فقلت: أنا.
قال: ما هو؟
قلت: سمعت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول: فيه غرّة عبد أو أمة.
ص: 226
قال: لا تبرح حتى تجيئني بالمخرج ممّا قلت. فخرجت فوجدت محمد بن سلمة: فجئت به فشهد معي أنّه سمع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول فيه: غرّة عبد أو أمة(1).
روي في نهج البلاغة: أنّه ذكر عند عمر بن الخطاب حلّي الكعبة وكثرته.
فقال قوم: لو أخذت فجهّزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي؟ فهمّ عمر بذلك وسأل عنه أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فقال:
إنّ القرآن أنزل على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأموال الأربعة: أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفريضة، والفيء فقسّمه على مستحقّه، والخمس فوضعه اللّه حيث وضعه، والصدقات فجعلها اللّه حيث جعلها، وكان حلّي الكعبة فيها يومئذ فتركه اللّه على حاله، ولم يتركه نسياناً، ولم يخف عليه مكاناً، فأقرّه حيث أقره اللّه ورسوله.
فقال عمر: لولاك لافتضحنا، وترك الحلي بحاله(2).
روى ابن أبي الحديد، قال: مرّ عمر بشاب من الأنصار وهو ضمآن فاستسقاه فماص له عسلاً، فردّه ولم يشرب. وقال: إنّي سمعت اللّه سبحانه يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُم}(3). وقال الفتى:
ص: 227
إنّها واللّه ليست لك واقرأ يا أميرالمؤمنين ما قبلها {وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا}(1) فنحن منهم؟ فشرب وقال: كل الناس أفقه من عمر(2).
أقول: لعلّه كان في رجوعه أبين خطأ من ابتدائه فتدبّر.
ص: 228
ص: 229
ص: 230
{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ}(1) قال بعض المفسرين: أنّها نزلت في عثمان وابن أمّ مكتوم، وكان ابن أمّ مكتوم مؤذّن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان أعمى، وجاء إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعنده أصحابه وعثمان عنده، فقدَّمه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على عثمان، فعبس عثمان وجهه وتولّى عنه، فأنزل اللّه: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ} يعني عثمان{أَن جَاءَهُ ٱلْأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ}(2)
... أن يكون طاهراً أزكى {أَوْ يَذَّكَّرُ}، قال: يذكّره رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ}(3) ثم خاطب عثمان فقال: {أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ}(4) قال: أنت إذا جاءك غني تتصدّى له وترفعه: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ}(5) أي لا تبالي زكياً كان أو غير زكي إذا كان غنياً {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ}(6) يعني ابن أمّ مكتوم {وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ}(7)... أي: تلهو ولا تلتفت
ص: 231
إليه(1).
لو لم يقدم عثمان على أحداث توجب خلعه والبراءة منه لوجب على الصحابة أن ينكروا على من قصده من البلاد متظلماً، وقد علمنا أنّ بالمدينة قد كان كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ولم ينكروا على القوم بل أسلموه ولم يدفعوا عنه، بل أعانوا قاتليه ولم يمنعوا من قتله، وحضروه ومنعوا الماء عنه وتركوه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن، مع أنّهم متمكنون من خلاف ذلك، وذلك من أقوى الدلائل على ما ذكر، ولو لم يكن في أمره إلا ما روي عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: اللّه قتله وأنا معه. وأنّه كان في أصحابه من يصرّح بأنه قتل عثمان ومع ذلك لا يقيّدهم ولا ينكر عليهم، وكان أهل الشام يصرّحون بأنّ مع أمير المؤمنين قتلة عثمان، ويجعلون ذلك من أوكد الشبه ولا ينكر ذلك عليهم، مع أنّا نعلم أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) لو أراد منعهم من قتله والدفع عنه مع غيره لما قتل، فصار كفّه عن ذلك مع غيره من أدلّ الدلائل على أنّهم صدّقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث، وأنّهم لم يقبلوا ما جعله عذراً، ولا يشك من نظر في أخبار الجانبين في أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) لم يكن كارهاً لما وقع في أمر عثمان(2).
فقد روى السيد رضي اللّه عنه في الشافي، عن الواقدي، عن الحكم بن
ص: 232
الصلت، عن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، قال: رأيت علياً (عليه السلام) على منبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين قتل عثمان وهو يقول: ما أحببت قتله ولا كرهته، ولا أمرت به ولا نهيت عنه(1).
وقد روى محمد بن سعد، عن عفان، عن حرير بن بشير، عن أبي جلدة، أنّه سمع علياً (عليه السلام) يقول - وهو يخطب فذكر عثمان: وقال - : واللّه الذي لا إله إلا هو ما قتلته ولا مالأت على قتله ولا ساءني(2).
ورواه أبو بشير، عن عبيدة السلماني، قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: من كان سائلي عن دم عثمان فإنّ اللّه قتله وأنا معه(3).
وقد روي هذا اللفظ من طرق كثيرة، وقد رواه شعبة، عن أبي حمزة الضبعي، قال: قلت لابن عباس: إنّ أبي أخبرني أنّه سمع علياً (عليه السلام) يقول: ألا من كان سائلي عن دم عثمان فإنّ اللّه قتله وأنا معه. قال: صدق أبوك، هل تدري ما يعني بقوله؟ إنّما عنى أنّ اللّه قتله وأنا مع اللّه(4).
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: لما قتل عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام، فلما كان في الليل أتاه اثنا عشر رجلاً، فيهم حويطب بن عبد العزّى، وحكيم بن حزام، وعبد اللّه بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن
ص: 233
الحكم، فلما ساروا إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قوم من بني مازن: واللّه لئن دفنتموه هاهنا لنخبرن الناس غداً، فاحتلموه - وكان على باب وأنّ رأسه على الباب ليقول طق طق - حتى ساروا به إلى حش(1) كوكب فاحتفروا له، وكانت عائشة بنت عثمان معها مصباح في حق، فلما أخرجوه ليدفنوه صاحت، فقال لها ابن الزبير: واللّه لئن لم تسكتي لأضربن الذي فيه عيناك. قال: فسكتت، فدفن(2).
وروى ابن أبي الحديد، عن محمد بن جرير الطبري، قال: بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إنّ حكيم بن حزام وجبير بن مطعم كلَّما علياً (عليه السلام) في أن يأذن في دفنه ففعل، فلما سمع الناس بذلك قعد له قوم في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله، ومعهم الحسن بن علي (عليه السلام) وابن الزبير وأبو جهم بن حذيفة بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة، يعرف ب- (حش كوكب)، وهو خارج البقيع، فصلّوا عليه، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه، فأرسل علي (عليه السلام) فمنع من رجم سريره، وكفّ الذين راموا منع الصلاة عليه، ودفن في حش كوكب، فلما ظهر معاوية على الإمرة أمر بذلك الحائط فهدم وأدخل في البقيع، وأمر الناس فدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل بمقابر المسلمين بالبقيع.
وقيل: إنّ عثمان لم يغسّل، وأنه كفن في ثيابه التي قتل فيها(3).
وزاد الأعثم: إنّهم دفنوه بعدما ذهب الكلاب بإحدى رجليه، وقال: صلّى
ص: 234
عليه حكيم بن حزام أو جبير بن مطعم.
ولا يخفى على ذي مسكة من العقل دلالته على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان راضياً بكونه مطروحاً ثلاثة أيام على المزبلة، بل على أنّه لم يأذن في دفنه إلا بعد الأيام الثلاثة، فلو كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) معتقداً لصحة إمامته، بل لو كان يراه كأحد من المسلمين ومن عرض للناس لما رضي بذلك، بل كان يعجّل في تجهيزه ودفنه، ويأمر بدفنه في مقابر المسلمين حتى لا يلتجىء المجهّزون له إلى دفنه في حش كوكب، والحش هو المخرج وكان ذلك الموضع بستانا وكان الناس يقضون الحوائج فيه.
والإمام (عليه السلام) الذي رضي له أميرالمؤمنين (عليه السلام) بمثل تلك الحال فحاله غير خفي على أولي الألباب، ولا ريب في أنَّه لو لم يكن (عليه السلام) راضياً بقتله لجاهد قاتليه(1).
قال السيد رضي اللّه عنه في الشافي: روى الواقدي من طرق مختلفة وغيره: أنّ الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الطائف، وقال: لا يساكنني في بلد أبداً، فجاءه عثمان فكلّمه فأبى، ثم كان من أبي بكر مثل ذلك، ثم كان من عمر مثل ذلك، فلما قام عثمان أدخله ووصله وأكرمه، فمشى في ذلك علي (عليه السلام) ، والزبير وطلحة، وسعد وعبد الرحمن بن عوف، عمار بن ياسر، حتى دخلوا على عثمان، فقالوا له: إنّك قد أدخلت هؤلاء القوم - يعنون الحكم ومن معه - وقد كان
ص: 235
النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخرجهم وأبوبكر وعمر، وإنَّا نذكرك اللّه والإسلام ومعادك، فإنّ لك معاداً ومنقلباً، وقد أبت ذلك الولاة قبلك ولم يطمع أحد أن يكلّمهم فيهم، وهذا شيء نخاف اللّه عليك فيه. فقال عثمان: إنّ قرابتهم منّي حيث تعلمون، وقد كان رسول اللّه حيث كلّمته أطمعني في أن يأذن لهم، وإنَّما أخرجهم لكملة بلغته عن الحكم، ولن يضركم مكانهم شيئاً، وفي الناس من هو شر منهم.
فقال علي (عليه السلام) : لا أجد شراً منه ولا منهم، ثم قال علي (عليه السلام) : هل تعلم عمر يقول: واللّه ليحملّن بني أبي معيط على رقاب الناس، وواللّه إن فعل ليقتلنه؟! قال: فقال عثمان: ما كان أحد منكم يكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه وينال من القدرة ما أنال إلا أدخله، وفي الناس من هو شر منه. قال: فغضب علي (عليه السلام) ، وقال: واللّه لتأتينا بشر من هذا إن سلمت، وسترى - يا عثمان - غبّ ما تفعل، ثم خرجوا من عنده(1).
روى السيد رضي اللّه عنه في الشافي: أنَّ عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث ابن الحكم بن أبي العاص ثلاث مائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم، جعل أبو ذر يقول: بشّر الكافرين بعذاب أليم، ويتلو قول اللّه عزّوجلّ: {وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ}(2)، فرفع ذلك مروان إلى عثمان، فأرسل
ص: 236
إلى أبي ذر نائلاً مولاه: أنّ أنّته عمّا يبلغني عنك، فقال: أينهاني عثمان عن قرائة كتاب اللّه، وعيب من ترك أمر اللّه، فو اللّه فإن أرضى اللّه بسخط عثمان أحب إليَّ وخير لي من أن أرضي عثمان بسخط اللّه(1).
كتب عثمان إلى معاوية: أمّا بعد؛ فاحمل جندباً إليَّ على أغلظ مركب وأوعره، فوجه به مع من سار به الليل والنهار؛ وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب، حتى قدم به المدينة، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد، فلما قدم أبو ذر المدينة، بعث إليه عثمان أنّ الحق بأيّ أرض شئت، قال: بمكة؟ قال: لا. قال: فبيت المقدس؟ قال: لا. قال: فبأحد المصرين؟ قال: لا، ولكنّي مسيّرك إلى الربذة... فسيّره إليها، فلم يزل بها حتى مات(2).
روى المسعودي في مروج الذهب: لما ردَّ عثمان أباذر رضي اللّه عنه إلى المدينة على بعير عليه قتب يابس، معه خمس مائة من الصقالبة(3) يطردون به حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد يتلف، فقيل له: إنك تموت من ذلك؟ فقال: هيهات! لن أموت حتى أنفى... وذكر ما ينزل به من هؤلاء فيه... وساق الحديث الى قوله: فقال له عثمان: وار وجهك عنّي. قال:
ص: 237
أسير إلى مكة. قال: لا واللّه. قال: فإلى الشام؟ قال: لا واللّه. قال: فإلى البصرة؟
قال: لا واللّه. فاختر غيرهذه البلدان. قال: لا واللّه لا أختار غير ما ذكرت لك ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئاً من البلدان، فسيّرني حيث شئت من البلاد. قال: إنّي مسيّرك إلى الربذة. قال: اللّه أكبر! صدق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد أخبرني بكل ما أنا لاق. قال: وما قال لك؟ قال: أخبرني أنّي أمنع من مكة ومدينة وأموت بالربذة، ويتولّى دفني نفر يردون من العراق إلى نحو الحجاز، وبعث أبوذر إلى جمل فحمل عليه امرأته، وقيل: ابنته، وأمر عثمان أن يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة، ولما طلع عن المدينة - ومروان يسيّره عنها - طلع عليه علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ومعه ابناه (عليهما السلام) وعقيل أخوه وعبد اللّه بن جعفر وعمار بن ياسر، فاعترض مروان، وقال: يا علي! إنّ أميرالمؤمنين ينهى الناس أن يمنحوا أباذر أو يسقوه، فإن كنت لم تعلم بذلك فقد أعلمتك، فحمل عليه بالسوط، فضرب بين إذني ناقة مروان وقال: تنّح! نحّاك اللّه إلى النار، ومضى مع أبي ذر فشيّعه ثم ودّعه وانصرف، فلما أراد علي (عليه السلام) الانصراف بكى أبو ذر وقال: رحمكم اللّه أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به علي (عليه السلام) ، فقال عثمان: يا معشر المسلمين! من يعدوني من علي؟ ردَّ رسولي عمّا وجهته له، وفعل وفعل، واللّه لنعطيه حقّه، فلما رجع علي استقبله الناس وقالوا: إنّ أميرالمؤمنين عليك غضبان لتشييعك أباذر! فقال علي (عليه السلام) : غضب الخيل على اللجم، فلما كان بالعشي وجاء عثمان قال: ما حملك على ما صنعت بمروان؟ ولم اجترأت علي ورددت رسولي وأمري؟ فقال: أمّا مروان فاستقبلني بردّي فرددته عن ردّي، وأمّا أمرك لم أردّه. فقال عثمان: ألم يبلغك أنّي قد نهيت الناس عن
ص: 238
أبي ذر وشيعته؟ فقال علي (عليه السلام) : أو كلما أمرتنا به من شيء نرى طاعة اللّه والحق في خلافه اتّبعنا فيه أمرك؟! لعمر اللّه ما نفعل. فقال عثمان: أقد مروان. قال: وممّ أقيّده؟ قال: ضربت بين أذني راحلته وشتمته فهو شاتمك وضارب بين إذني راحلتك!! قال علي (عليه السلام) : أمّا راحلتي فهي تلك، فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فعل، وأمّا أنا فو اللّه لئن شتمني لأشتمنّك بمثله لا كذب فيه ولا أقول إلا حقّاً. قال عثمان: ولم لا يشتمك إذا شتمته، فو اللّه ما أنت بأفضل عندي منه! فغضب علي (عليه السلام) وقال: لي تقول هذا القول؟ أمروان يعدل بي؟!!! فلا واللّه أنا أفضل منك وأبي أفضل من أبيك، وأمّي أفضل من أمك، وهذه نبلي قد نثلتها فأنثل نبلك، فغضب عثمان وأحمّر وجهه وقام فدخل، وانصرف علي (عليه السلام) فاجتمع إليه أهل بيته ورجال المهاجرين والأنصار، فلما كان من الغد واجتمع الناس شكا إليهم علياً (عليه السلام) وقال: إنّه يغشّني ويظاهر من يغشّني - يريد بذلك أبا ذر وعماراً أو غيرهما - ، فدخل الناس بينهما حتى اصطلحا. وقال علي (عليه السلام) : واللّه ما أردت بتشييعي أبا ذر إلا اللّه تعالى(1).
روى محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرطي: أنّ عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطاً في دفنه أباذر، وهذه قصة أخرى، وذلك أنّ أبا ذر لما حضرته الوفاة بالربذة وليس معه إلا امرأته وغلامه أوصى إليهما أن غسلاّني ثم كفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرّون بكم قولا لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأعينونا على دفنه، فلما مات
ص: 239
فعلا ذلك، وأقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين، فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطؤها، فقام إليهم العبد، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأعينونا على دفنه، فأنهل ابن مسعود باكياً وقال: صدق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، قال: تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه(1).
ولقد ضرب عثمان عبد اللّه بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه، وقد رووا في فضله في صحاحهم أخباراً كثيرة، وكان ابن مسعود يذمّه ويشهد بفسقه وظلمه.
قال السيد رضى اللّه عنه في الشافي: قد روى كل من روى السيرة من أصحاب الحديث - على اختلاف طرقهم: أنّ ابن مسعود كان يقول: ليتني وعثمان برمل عالج يحثو عليَّ وأحثوا عليه حتى يموت الأعجز منّي ومنه.
ورووا أنّه كان يطعن عليه، فيقال له: ألا خرجت إليه ليخرج معك؟!
فيقول: واللّه لأن أزاول جبلاً راسياً أحبّ إليَّ من أن أزاول ملكاً مؤجلاً. وكان يقول في كل يوم جمعة بالكوفة جاهراً معلناً: إنّ أصدق القول كتاب اللّه، وأحسن الهدي هدي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدّث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإنّما كان يقول ذلك معرّضاً بعثمان حتى غضب الوليد بن عقبة من استمرار تعريضه ونهاه عن خطبته هذه فأبى أن ينتهي، فكتب إلى عثمان فيه، فكتب عثمان يستقدمه عليه.
ص: 240
وقد روي عنه من طرق لا تحصى كثرة أنّه كان يقول: ما يزن عثمان عند اللّه جناح بعوضة... .
وأوصى عند موته أن لا يصلي عليه عثمان، ولما أتاه عثمان في مرضه وطلب منه الاستغفار قال: أسأل اللّه أن يأخذ لي منك بحقّي...
وروى الواقدي بإسناده، وغيره، أنّ عثمان لما استقدمه المدينة دخلها ليلة جمعة، فلما علم عثمان بدخوله، قال: أيّها الناس! إنّه قد طرقكم الليلة دويبة من تمر على طعامه تقيء وتسلح. فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكنّي صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر، وصاحبه يوم أحد، وصاحبه يوم بيعة الرضوان، وصاحبه يوم الخندق، وصاحبه يوم حنين.
قال: وصاحت عائشة: أيا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟! فقال عثمان: أسكتي. ثم قال لعبد اللّه بن زمعة بن الأسود:
أخرجه إخراجاً عنيفاً، فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد، فضرب به الأرض فكسر ضلعاً من أضلاعه. فقال ابن مسعود: قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان(1).
عن أبي يحيى مولى معاذ بن عفرة الأنصاري، قال: إنّ عثمان بن عفان بعث إلى الأرقم بن عبد اللّه - وكان خازن بيت مال المسلمين - ، فقال له: أسلفني مائة ألف ألف درهم. فقال له الأرقم: أكتب عليك بها صكاً للمسلمين.
قال: وما أنت وذاك؟ لا أمّ لك! إنّما أنت خازن لنا. قال: فلما سمع الأرقم
ص: 241
ذلك خرج مبادراً إلى الناس، فقال: أيها الناس! عليكم بمالكم فإنّي ظننت أنّي خازنكم ولم أعلم أنّي خازن عثمان بن عفان حتى اليوم، ومضى فدخل بيته، فبلغ ذلك عثمان، فخرج إلى الناس حتى دخل المسجد ثم رقي المنبر، وقال: أيّها الناس! أنّ أبابكر كان يؤثر بني تيم على الناس، وإنّ عمر كان يؤثر بني عدي على كل الناس، وإنّي أوثر - واللّه - بني أميّة على من سواهم، ولو كنت جالساً بباب الجنة ثم استطعت أن أدخل بني أمية جميعاً الجنة لفعلت، وإن هذا المال لنا، فإن احتجنا إليه أخذناه وإن رغم أنف أقوام!
فقال عمار بن ياسر (رحمه اللّه) : معاشر المسلمين! اشهدوا أنّ ذلك مرغم لي. فقال عثمان: وأنت هاهنا، ثم نزل من المنبر يتوطّؤه برجليه حتى غشي على عمار واحتمل - وهو لا يعقل - إلى بيت أمّ سلمة، فأعظم الناس ذلك، وبقي عمار مغمى عليه لم يصلّ يومئذ الظهر والعصر والمغرب، فلما أفاق قال: الحمد لله؛ فقديماً أوذيت في اللّه، وأنا أحتسب ما أصابني في جنب اللّه، بيني وبين عثمان العدل الكريم يوم القيامة.
قال: وبلغ عثمان أنّ عماراً عند أمّ سلمة، فأرسل إليها، فقال: ممّا هذه الجماعة في بيتك مع هذا الفاجر، أخرجيهم من عندك. فقالت: واللّه ما عندنا مع عمار إلا بنتاه، فاجتنبنا - يا عثمان - واجعل سطوتك حيث شئت، وهذا صاحب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يجود بنفسه من فعالك، قال: فندم عثمان على ما صنع فبعث إلى طلحة والزبير يسألهما أن يأتيا عماراً فيسألاه أن يستغفر له، فأتياه فأبى عليهما، فرجعا إليه فأخبراه، فقال عثمان: من حكم اللّه يا بني أميّة يا فراش النار وذباب الطمع، شنّعتم عليَّ، وآليتم على أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
ص: 242
ثم إنّ عماراً رحمه اللّه صلح من مرضه فخرج إلى مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فبينما هو كذلك إذ دخل ناعي أبي ذر على عثمان من الربذة، فقال: إنّ أبا ذر مات بالربذة وحيداً ودفنه قوم سفر، فاسترجع عثمان وقال: رحمه اللّه. فقال عمار: رحم اللّه أبا ذر من كل أنفسنا. فقال له عثمان: وإنّك لهناك بعد ما برأت أتراني ندمت على تسييري إيّاه؟! قال له عمار: لا واللّه، ما أظن ذاك. قال: وأنت أيضاً فالحق بالمكان الذي كان فيه أبو ذر فلا تبرحه ما حيينا.
قال عمار: أفعل، فو اللّه لمجاورة السباع أحبّ إليَّ من مجاورتك. قال: فتهيأ عمار للخروج وجاءت بنو مخزوم إلى أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فسألوه أن يقوم معهم إلى عثمان ليستنزله عن تسيير عمار، فقام معهم فسأله فيهم ورفق به حتى أجابه إلى ذلك(1).
من جنايات عثمان ما صنع بعمار بن ياسر رضي اللّه عنه - الذي أطبق المؤالف والمخالف على فضله وعلو شأنه، ورووا أخباراً مستفيضة دالة على كرامته وعلو درجته - .
قال السيد رضي اللّه عنه في الشافي: ضرب عمار مما لم يختلف فيه الرواة وإنّما اختلفوا في سببه.
فروى عباس بن هشام الكلبي، عن أبي مخنف في إسناده أنّه كان في بيت المال بالمدينة سفط(2)
فيه حلي وجوهر، فأخذ منه عثمان ما حلّى به
ص: 243
بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكل كلام شديد حتّى غضب فخطب، وقال: لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام. فقال له علي (عليه السلام) : إذاً تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه. فقال عمار: أشهد اللّه أن أنفي أول راغم من ذلك. فقال عثمان: أعليَّ - يا ابن ياسر وسميّة - تجتري؟ خذوه... فأخذوه، ودخل عثمان فدعا به وضربه حتى غُشي عليه، ثم أُخرج فحمل إلى منزل أمّ سلمة زوج النبي (عليه السلام) فلم يصلّ الظهر والعصر والمغرب، فلما أفاق توضّأ وصلّى. وقال: الحمد لله، ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في اللّه تعالى. فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي - وكان عمار حليفاً لبني مخزوم - : يا عثمان! أمّا عَليٌّ فاتقيته، وأمّا نحن فاجترأت علينا وضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف، أما واللّه لئن مات لأقتلن به رجلاً من بني أمية عظيم الشأن. فقال عثمان: وإنّك لهاهنا يابن القسرية! قال: فإنّهما قسريتان - وكانت أمّه وجدته قسريتين من بجيلة - فشتمه عثمان وأمر به فأخرج، فأتي به أمّ سلمة فإذا هي قد غضبت لعمار، وبلغ عائشة ما صنع بعمار فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونعلاً من نعاله وثوباً من ثيابه، وقالت: ما أسرع ما تركتم سنّة نبيكم، وهذا ثوبه وشعره ونعله لم يبل بعد.
وروى آخرون: أنَّ السبب في ذلك أنّ عثمان مرّ بقبر جديد، فسأل عنه، فقيل: عبد اللّه بن مسعود، فغضب على عمار لكتمانه إيّاه موته - إذا كان المتولّي للصلاة عليه والقيام بشأنه - فعندها وطئ عثمان عماراً حتى أصابه الفتق.
وروى آخرون: أنّ المقداد وطلحة والزبير وعماراً وعدّة من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كتبوا كتاباً عدّدوا فيه أحداث عثمان وخوفوه ربّه، وأعلموه
ص: 244
أنّهم مواثبوه إن لم يقلع، فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأ منه صدراً، فقال عثمان: أعليَّ تقدم من بينهم؟ فقال: لأنّي أنصحهم لك. فقال: كذبت يابن سميّة!
فقال: أنا واللّه ابن سميّة وأنا ابن ياسر، فأمر غلمانه فمدّوا بيديه ورجليه ثم ضربه عثمان برجليه - وهما في الخفّين - على مذاكيره فأصابه الفتق، وكان ضعيفاً كبيراً فغشي عليه.
وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة، أنّه قيل له: بأيّ شيء أكفرتم عثمان؟ فقال: بثلاث؛ جعل المال دولة بين الأغنياء، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمنزلة من حارب اللّه، ورسوله وعمل بغير كتاب اللّه(1)...
ولقد كان عثمان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة من بيت مال المسلمين، نحو ما روي أنّه دفع إلى أربعة من قريش - زوّجهم بناته - أربعمائة ألف دينار، وأعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية، ويروى خمس إفريقية.
وروى السيد رضي اللّه عنه عن الواقدي بإسناده، قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن للحكم بن أبي العاص.
وروي أيضاً أنّه ولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها.
وقد روى أبو مخنف والواقدي جميعاً: أنّ الناس أنكروا على عثمان
ص: 245
إعطاءه سعيد بن العاص مائة ألف، فكلّمه علي (عليه السلام) والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن في ذلك، فقال: إنّ لي قرابة ورحماً. فقالوا: أما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟! فقال: إنّ أبابكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي، قالوا: فهداهما واللّه أحب إلينا من هداك(1).
ولقد عطّل عثمان الحدود الواجبة كالحدّ في عبيد اللّه بن عمر، فإنّه قتل الهرمزان بعد إسلامه فلم يقد به، وقد كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) يطلبه(2).
روى السيد رضي اللّه عنه في الشافي، عن زياد بن عبد اللّه، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح: أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) أتى عثمان بعد ما استخلف، فكلّمه في عبيد اللّه ولم يكلّمه أحد غيره، فقال: أقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل إمرءاً مسلماً. فقال عثمان: قتلوا أباه بالأمس وأقتله اليوم؟! وإنّما هو رجل من أهل الأرض، فلما أبى عليه مر عبيد اللّه على علي (عليه السلام) ،
ص: 246
فقال له: يا فاسق! إيه! أما واللّه لئن ظفرت بك يوماً من الدهر لأضربنّ عنقك، فلذلك خرج مع معاوية على أميرالمؤمنين (عليه السلام) .
وروى القباد، عن الحسن بن عيسى، عن زيد، عن أبيه: أنّ المسلمين لما قال عثمان: إنّي قد عفوت عن عبيد اللّه بن عمر، قالوا: ليس لك أن تعفو عنه.
قال: بلى، إنّه ليس لجفينة والهرمزان قرابة من أهل الإسلام، وأنا أولى بهما - لأنّي ولي المسلمين - فقد عفوت.
فقال علي (عليه السلام) : إنّه ليس كما تقول، إنّما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين، وإنّما قتلهما في إمرة غيرك، وقد حكم الوالي الذي قبلك الذي قتلا في إمارته بقتله، ولو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه، فاتّق اللّه! فإنّ اللّه سائلك عن هذا. ولما رأى عثمان أنّ المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد اللّه أمره فارتحل إلى الكوفة وأقطعه بها داراً وأرضاً، وهي التي يقال لها: كويفة ابن عمر، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر كلامهم فيه(1).
ولقد أتم عثمان الصلاة بمنى مع كونه مسافراً، وهو مخالف للسنّة ولسيرة من تقدّمه(2).
فقد روى عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: صلّى بنا عثمان بمنى أربع
ص: 247
ركعات، فقيل ذلك لعبد اللّه بن مسعود، فقال: صليت مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرّقت بكم الطرق، فياليت حظّي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان(1).
حكى العلامة (رحمه اللّه) في كتاب كشف الحق، عن الحميدي، قال: قال السدي في تفسير قوله تعالى: {وَلَا أَن تَنكِحُواْ أَزْوَٰجَهُ مِنۢ بَعْدِهِۦ أَبَدًا}(2) أنّه لما توفّي أبو سلمة وعبد اللّه ابن حذافة وتزوّج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) امرأتيهما: أمّ سلمة وحفصة، قال طلحة وعثمان: أينكح محمد نساءنا إذا متنا ولا تنكح نساؤه إذا مات؟! واللّه لو قد مات لقد أجلبنا على نسائه بالسهام، وكان طلحة يريد عائشة، وعثمان يريد أمّ سلمة، فأنزل اللّه تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُواْ أَزْوَٰجَهُ مِنۢ بَعْدِهِۦ أَبَدًا إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا * إِن تُبْدُواْ شَئًْا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(3)، وأنزل: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلْأخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}(4).
ولقد كان يتّهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدم العدالة في القضاء، فقد روى
ص: 248
العلاّمة (رحمه اللّه) في كشف الحق، عن السدي في تفسير قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}(1)، {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ}(2). الآيات، وقال: نزلت في عثمان بن عفان لما فتح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بني النضير فغنم أموالهم، فقال عثمان لعلي (عليه السلام) : إئت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاسأله أرض... كذا وكذا، فإن أعطاكها فأنا شريك فيها، وآتيه أنا فأسأله أيّاها فإن أعطانيها فأنت شريكي فيها، فسأله عثمان أولاً فأعطاه إيّاها، فقال لي علي (عليه السلام) : أشركني، فأبى عثمان، فقال: بيني وبينك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأبى أن يخاصمه إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقيل له: لم لا تنطلق معه إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟! فقال هو ابن عمّه فأخاف أن يقضي له! فنزلت الآيات، فلما بلغ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (3) ما أنزل اللّه فيه أقرّ لعلي (عليه السلام) بالحق(4).
زعم عثمان أنّ في المصحف لحناً، فقد حكى العلاّمة (رحمه اللّه) عن تفسير الثعلبي في قوله تعالى: {إِنْ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ}(5)، قال: قال عثمان: إنّ في
ص: 249
المصحف لحناً. فقيل له: ألا تغيّره؟ فقال: دعوه! فلا يحلّل حراماً ولا يحرّم حلالاً، ورواه الرازي أيضاً في تفسيره(1).
ولقد قام عثمان بتقديم الخطبتين في العيدين، وكون الصلاة مقدّمة على الخطبتين قبل عثمان ممّا تضافرت به الأخبار العاميّة، فقد روى مسلم في صحيحه، عن عطا، قال: سمعت ابن عباس يقول: اشهد على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه يصلّي قبل الخطبة(2).
وعن عطاء عن جابر بن عبد اللّه، قال: سمعته يقول: إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قام يوم الفطر فصلّى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب الناس(3).
وعن نافع، عن ابن عمر: أنّ النبي (عليه السلام) وأبابكر وعمر كانوا يصلّون العيدين قبل الخطبة(4).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: الخطبة في العيدين بعد الصلاة، وإنَّما أحدث الخطبة قبل الصلاة عثمان(5).
ولقد أحدث عثمان الأذان يوم الجمعة زائداً على ما سنّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو بدعة محرّمة، ويعبّرعنه تارة بالأذان الثالث، لأنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)
ص: 250
شرّع للصلاة أذاناً وإقامة فالزيادة ثالث(1).
ولم يتمكن عثمان من الأتيان بالخطبة، فقد روي في روضة الأحباب أنّه لما كان أول جمعة من خلافته صعد المنبر فعرضه العي فعجز عن أداء الخطبة وتركها(2).
ولقد كان عثمان جاهلاً بالأحكام، فقد روى العلاّمة (قدس سره) في كشف الحق، عن صحيح مسلم، وأورده صاحب روضة الأحباب أنّ امرأة دخلت على زوجها فولدت لستة أشهر فرفع ذلك إلى عثمان فأمر برجمها، فدخل عليه علي (عليه السلام) ، فقال: إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلَٰثُونَ شَهْرًا}(3)، وقال تعالى: {وَفِصَٰلُهُ فِي عَامَيْنِ}(4) فلم يصل رسوله إليهم إلا بعد الفراغ من رجمها، فقتل المرأة لجهله بحكم اللّه عزّوجلّ، وقد قال اللّه عزّوجلّ {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْكَٰفِرُونَ}(5).
عن قيس بن أبي حازم، قال: أتيت علياً (عليه السلام) أستشفع به إلى عثمان، فقال:
ص: 251
إلى حمَّال الخطايا(1).
جاء رجل إلى أبي بن كعب، فقال: يا أبا المنذر! إنّ عثمان قد كتب لرجل من آل أبي معيط بخمسين ألف درهم إلى بيت المال.
فقال أبي: لا يزال تأتوني بشيء ما أدري ما هو فيه؟ فبينا هو كذلك أذ مر به الصك، فقام فدخل على عثمان، فقال: يابن الهاوية! يابن النار الحامية!أتكتب لبعض آل أبي معيط إلى بيت مال المسلمين بصك بخمسين ألف درهم؟! فغضب عثمان وقال: لولا أنّي قد كفيتك لفعلت بك كذا وكذا(2).
عن ابن عباس، قال: استأذن أبو ذر على عثمان فأبى أن يأذن له، فقال لي: استأذن لي عليه. قال ابن عباس: فرجعت إلى عثمان فاستأذنت له عليه، قال: أنه يؤذيني. قلت: عسى أن لا يفعل، فأذن له من أجلي، فلما دخل عليه قال له: اتق اللّه يا عثمان!فجعل يقول: اتّق اللّه... وعثمان يتوعّده، قال أبو ذر: إنّه قد حدّثني نبي اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه يجاء بك وبأصحابك يوم القيامة فتبطحون
ص: 252
على وجوهكم، فتمرّ عليكم البهائم فتطأكم كل ما مرت آخرها ردّت أولها، حتى يفصل بين الناس(1).
عن سالم بن أبي الجعد، قال: خطب عثمان الناس ثم قال فيها: واللّه لأوثرن بني أميّة، لو كان بيدي مفاتيح الجنة لأدخلنهم إيّاها، ولكنّي سأعطيهم من هذا المال على رغم أنف من رغم.
فقال عمار بن يامر: أنفي واللّه ترغم من ذلك.
قال عثمان: فأرغم اللّه أنفك.
فقال عمار: وأنف أبي بكر وعمر ترغم.
قال: وإنّك لهناك يابن سمية... ثم نزل إليه فوطئه فاستخرج من تحته وقد غشي عليه وفتقه.
وذكر الثقفي، عن شقيق، قال: كنت مع عمار فقال: ثلاث يشهدون على عثمان وأنا الرابع، وأنا أسوء الأربعة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْكَٰفِرُونَ}(2) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ}(3) و{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ}(4) وأنا أشهد لقد حكم بغير ما أنزل اللّه.
ص: 253
قال رجل لعمار يوم صفين: على ما تقاتلهم يا أبا اليقظان؟! قال: على أنهم زعموا أنّ عثمان مؤمن ونحن نزعم أنه كافر(1).
عن شقيق، قال: قلنا لعبد اللّه: فيم طعنتم على عثمان؟ قال: أهلكه الشح وبطانة السوء(2).
جاءت بنو عبس إلى حذيفة يستشفعون به على عثمان، فقال حذيفة: لقد آتيتموني من عند رجل وددت أنّ كل سهم في كنانتي في بطنه.
وعن الحارث بن سويد، قال: كنّا عند حذيفة فذكرنا عثمان، فقال: عثمان واللّه ما يعدو أن يكون فاجراً في دينه أو أحمق في معيشته.
وكان حذيفة بن اليمان يقول: لقد دخل عثمان قبره بفجره(3).
عن همام بن الحارث، قال: دخلت مسجد المدينة فإذا الناس مجتمعون على عثمان وإذا رجل يمدحه، فوثب المقداد بن الأسود فأخذ كفاً من حصاً أو تراب فأخذ يرميه به فرأيت عثمان يتقيه بيده.
وعن سعيد بن المسيب، قال: لم يكن المقداد يصلّي مع عثمان ولا يسمّيه أميرالمؤمنين.
ص: 254
وقال: لم يكن عمار ولا المقداد بن الأسود يصلّيان خلف عثمان ولا يسمّيانه أميرالمؤمنين(1).
ذات يوم قام طلحة إلى عثمان، فقال له: إنّ الناس قد جمعوا لك وكرهوك للبدع التي أحدثت ولم يكونوا يرونها ولا يعدونها، فإن تستقم فهو خير لك وإن أبيت لم يكن أحد أضر بذلك منك في دنيا ولا آخرة(2).
ذكر الواقدي في تاريخه قال: عتب عثمان على الزبير، فقال: ما فعلت ولكنّك صنعت بنفسك أمراً قبيحاً، تكلّمت على منبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر أعطيت الناس فيه الرضا، ثم لقيك مروان وصنعت ما لا يشبهك، حضر الناس يريدون منك ما أعطيتهم، فخرج مروان فآذى وشتم، فقال له عثمان: فإنّي أستغفر اللّه.
وروي أنّ عثمان أرسل سعيد بن العاص إلى الزبير فوجده بأحجار الزيت في جماعة، فقال له: إنّ عثمان ومن معه قد مات عطشاً. فقال له الزبير: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّٖ مُّرِيبِۢ}(3).
ص: 255
عن الحسن بن عيسى بن زيد، عن أبيه، قال: كثر الكلام بين عبد الرحمن بن عوف وبين عثمان، حتى قال عبد الرحمن: أما واللّه لئن بقيت لك لأخرجتك من هذا الأمر كما أدخلتك فيه، وما غررتني إلا باللّه(1).
وعن الحكم قال: كان بين عبد الرحمن بن عوف وبين عثمان كلام، فقال له عبد الرحمن: واللّه ما شهدت بدراً، ولا بايعت تحت الشجرة، وفررت يوم حنين. فقال له عثمان: وأنت واللّه دعوتني إلى اليهودية(2).
وعن طارق بن شهاب، قال: رأيت عبد الرحمن بن عوف يقول: يا أيها الناس! إنّ عثمان أبى أن يقيم فيكم كتاب اللّه. فقيل له: أنت أول من بايعه، وأول من عقد له. قال: إنّه نقض وليس لناقض عهد(3).
وعن أبي إسحاق، قال: ضج الناس يوماً حين صلّوا الفجر في خلافة عثمان فنادوا بعبد الرحمن بن عوف فحوَّل وجهه إليهم واستدبر القبلة، ثم خلع قميصه من جيبه، فقال: يا معشر أصحاب محمد! يا معشر المسلمين! أشهد اللّه وأشهدكم أنّي قد خلعت عثمان من الخلافة كما خلعت سربالي هذا. فأجابه مجيب من الصف الأول: {ءَالَْٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ}(4).
فنظروا من الرجل، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) (5).
ص: 256
عن لوط بن يحيى الأزدي، قال: جاء عمرو بن العاص فقال لعثمان: إنّك ركبت من هذه الأمة النهابير(1) وركوبها بك، فاتق اللّه وتب إليه. فقال: يا ابن النابغة! قد تبت إلى اللّه وأنا أتوب إليه، أما إنّك من يؤلّب عليَّ ويسعى في الساعين، قد - لعمري - أضرمتها فأسعر وأضرم ما بدا لك، فخرج عمرو حتى نزل في أداني الشام.
وعن الزهري، قال: إنّ عمرو بن العاص ذكر عثمان، فقال: إنه استأثر بالفيء فأساء الأثرة واستعمل أقواماً لم يكونوا بأهل العمل من قرابته واثرهم على غيرهم، فكان في ذلك سفك دمه وانتهاك حرمته.
وعنه فيه، قال: قام عمرو إلى عثمان، فقال: اتق اللّه يا عثمان! إمّا أن تعدل وإمّا أن تعتزل!... فلما أن نشب الناس في أمر عثمان تنحّى عن المدينة وخلَّف ثلاثة غلمة له ليأتوه بالخبر، فجاء اثنان بحصر عثمان، فقال: إنّي إذا نكأت قرحة أميتها، وجاء الثالث بقتل عثمان وولاية علي (عليه السلام) ، فقال: واعثماناه! ولحق بالشام(2).
عن داود بن الحصين الأنصارى: أنّ محمد بن مسلمة الأنصارى قال يوم قتل عثمان: ما رأيت يوماً قط أقر للعيون ولا أشبه بيوم بدر من هذا اليوم(3).
ص: 257
عن عامر بن سعد، قال: أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيئ جبلة بن عمرو الساعدي، مرّ به عثمان - وهو جالس في نادي قومه وفي يد جبلة بن عمرو بن جامعة - فسلّم وردّ القوم، فقال جبلة: لم تردّون على رجل فعل كذا وكذا؟! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: واللّه لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه، قال عثمان: أيّ بطانة؟ فو اللّه إنّي لأتخيّر الناس. فقال: مروان تخيرته؟! ومعاوية تخيرته؟!
وعبد اللّه بن عامر بن كريز تخيرته؟! وعبد اللّه بن سعد تخيرته؟! منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دمه. فانصرف عثمان، فما زال الناس مجترئون عليه(1).
عن عروة, قال: خرج عثمان إلى المسجد ومعه ناس من مواليه فنجد الناس ينتابونه يميناً وشمالاً، فناداه بعضهم: يا نعثل! وبعضهم غير ذلك، فلم يكلّمهم حتى صعد المنبر فشتموه فسكت حتى سكتوا، ثم قال: أيها الناس! اتقوا واسمعوا وأطيعوا، فإنّ السامع المطيع لا حجّة عليه، والسامع العاصي لا حجّة له... فناداه بعضهم: أنت... أنت السامع العاصي.
فقام إليه جهجاه بن عمرو الغفاري - وكان ممّن بايع تحت الشجرة - فقال: هلّم إلى ما ندعوك إليه. قال: وما هو؟ قال: نحملك على شارف جرباء فتلحقك بجبل الدخان. قال عثمان: لست هناك لا أمّ لك! وتناول ابن جهجاه
ص: 258
الغفاري عصا في يد عثمان - وهي عصا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - فكسّرها على ركبته. ودخل عثمان داره فصلّى بالناس سهل بن حنيف(1).
وعن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة... الحديث، وقال فيه: إنّ عثمان قال له: قبّحك اللّه وقبح ما جئت به. قال أبو حبيبة: ولم يكن ذلك إلا عن ملإ من الناس، وقام إلى عثمان شيعته من بني أمية فحملوه فأدخلوه الدار، وكان آخر يوم رأيته فيه(2).
جاءت عائشة إلى عثمان، فقالت: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر، قال: لا أجد له موضعاً في الكتاب ولا في السنة، ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما، وأنا لا أفعل. قالت: فأعطني ميراثي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟! قال: أو لم تجىء فاطمة (عليها السلام) تطلب ميراثها من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فشهدت أنت ومالك بن أوس البصري أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يورّث، وأبطلت حقّ فاطمة وجئت تطلبينه؟! لا أفعل.
وكان عثمان متكئاً فاستوى جالساً، وقال: ستعلم فاطمة أيّ ابن عم لها منّي اليوم؟! ألست وأعرابي يتوضّأ ببوله شهدت عند أبيك.
فكان إذا خرج عثمان إلى الصلاة أخرجت قميص رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتنادي أنه قد خالف صاحب هذا القميص.
هذا قميص رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تبل وقد غيّر عثمان سنته، اقتلوا نعثل قتل
ص: 259
اللّه نعثلاً(1).
وعن موسى الثعلبي، عن عمّه، قال: دخلت مسجد المدينة فإذا الناس مجتمعون، وإذا كفّ مرتفعة وصاحب الكف يقول: يا أيها الناس! العهد حديث، هاتان نعلاً رسول اللّه وقميصه إنّ فيكم فرعون أو مثله، فإذا هي عائشة تعني عثمان، وهو يقول: اسكتي إنّما هذه امرأة رأيها رأي المرأة.
وعن الحسن بن سعيد، قال: رفعت عائشة ورقات من ورق المصحف بين عودين من وراء حجابها - وعثمان على المنبر- ، فقالت: يا عثمان! أقم ما في كتاب اللّه إن تصاحب تصاحب غادراً، وإن تفارق تفارق عن قلى. فقال عثمان: أما واللّه لتنتهين أو لأدخلن عليك حمران الرجال وسودانها!!
قالت عائشة: أما واللّه إن فعلت لقد لعنك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم ما استغفر لك حتى مات.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أخرجت عائشة قميص رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال لها عثمان: لئن لم تسكتي لأملأنها عليك حبشاناً.
قالت: يا غادر يا فاجر! أخربت أمانتك ومزّقت كتاب اللّه. ثم قالت: واللّه ما ائتمنه رجل قط إلا خانه، ولا صحبه رجل قط إلا فارقه عن قلى.
قال: نظرت عائشة إلى عثمان، فقالت: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ}(2).
وعن عكرمة: أنّ عثمان صعد المنبر فاطلعت عائشة ومعها قميص رسول
ص: 260
اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم قالت: يا عثمان! أشهد أنّك برىء من صاحب هذا القميص. فقال عثمان: {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ...}(1) الآية.
وعن أبي عامر مولى ثابت، قال: كنت في المسجد فمرّ عثمان فنادته عائشة: يا غادر يا فاجر! أخرجت أمانتك وضيعت رعيتك، ولو لا الصلوات لاخمس لمشى إليك رجال حتى يذبحوك ذبح الشاة، فقال لها عثمان: {ٱمْرَأَتَ نُوحٖ وَٱمْرَأَتَ لُوطٖ...}(2) الآية.
وذكر الثقفي في أن عثمان صعد، فنادت عائشة ورفعت القميص، فقالت: لقد خالفت صاحب هذا. فقال عثمان: إنّ هذه الزعراء(3) عدوة اللّه، ضرب اللّه مثلها ومثل صاحبتها حفصة في الكتاب: {ٱمْرَأَتَ نُوحٖ وَٱمْرَأَتَ لُوطٖ...}(4) الآية.
فقالت له: يا نعثل يا عدو اللّه! إنّما سمّاك رسول اللّه باسم نعثل اليهودي الذي باليمن... ولاعنته ولاعنها.
وعن القاسم بن مصعب العبدي، قال: قام عثمان ذات يوم خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: نسوة يكبن في الآفاق لتنكث بيعتي ويهراق دمي، واللّه لو شئت أن أملأ عليهن حجراتهن رجلاً سوداً وبيضاً لفعلت، ألست ختن رسول اللّه على ابنتيه؟ ألست جهّزت جيش العسرة؟ ألم أك رسول رسول اللّه
ص: 261
إلى أهل مكة؟ قال: إذ تكلّمت امرأة من وراء الحجاب، قال: فجعل يبدو لنا خمارها أحياناً، فقالت: صدقت، لقد كنت ختن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ابنتيه، فكان منك فيهما ما قد علمت، وجّهزت جيش العسرة وقد قال اللّه تعالى: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}(1) وكنت رسول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى أهل مكة غيبك عن بيعة الرضوان لأنّك لم تكن لها أهلاً، قال فانتهرها عثمان، فقالت: أمّا أنا فأشهد أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: إنّ لكل أمة فرعون، وإنّك فرعون هذه الأمة.
وعن عائشة بنت قدامة، قالت: سمعت عائشة زوج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول [كذا] - وعثمان محصور قد حيل بينه وبين الماء - : أحسن أبو محمد حين حال بينه وبين الماء. فقالت لها: يا أمه! على عثمان. فقالت: إنّ عثمان غير سنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسنّة الخليفتين من قبله فحلّ دمه.
وعن علقمة بن أبي علقمة، عن أبيه، عن عائشة أنّها كانت أشد الناس على عثمان تحرض الناس عليه وتؤلّب حتى قتل(2)، فلما قتل وبويع علي (عليه السلام) طلبت بدمه(3).
ص: 262
عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: جاءت عائشة إلى عثمان، فقالت له: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر بن الخطاب! فقال: لم أجد لك موضعاً في الكتاب ولا في السنة، وإنّما كان أبوك وعمر بن الخطاب يعطيانك بطيبة من أنفسهما، وأنا لا أفعل. قالت: فأعطني ميراثي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فقال لها: أولم تحسبي أنت ومالك بن أوس النصري(1) فشهدتما أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يورّث حتى منعتما فاطمة ميراثها، وأبطلتما حقّها، فكيف تطلبين اليوم ميراثاً من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟! فتركته وانصرفت، وكان عثمان إذا خرج إلى الصلاة أخذت قميص رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على قصبة فرفعته عليها، ثم قالت: إنّ عثمان قد خالف صاحب هذا القميص وترك سنته.
فلما آذته صعد المنبر، فقال: إنّ هذه الزعراء عدوّة اللّه ضرب اللّه مثلها ومثل صاحبتها حفصة في الكتاب: {ٱمْرَأَتَ نُوحٖ وَٱمْرَأَتَ لُوطٖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}(2) إلى قوله: {وَقِيلَ ٱدْخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ}(3)، فقالت له: يا نعثل! يا عدوّ اللّه! إنّما سمّاك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باسم نعثل اليهودي الذي باليمن، فلاعنته ولاعنها، وحلفت أن لا تساكنه بمصر أبداً، وخرجت إلى مكة.
ص: 263
وكانت تقول: اقتلوا نعثلاً قتل اللّه نعثلاً، فلقد أبلى سنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذه ثيابه لم تبل، وخرجت إلى مكة.
وروي أنّه لما قتل عثمان جاءت عائشة إلى المدينة فلقيها فلان فسألته عن الأموال فخبَّرها وأنّ الناس اجتمعوا على علي (عليه السلام) ، فقالت: واللّه لأطالبن بدمه. فقال لها: وأنت حرصت على قتله. قالت: إنّهم لم يقتلوه حيث قلت ولكن تركوه حتى تاب ونقي من ذنوبه وصار كالسبيكة وقتلوه(1).
إنّ علياً (عليه السلام) خطب الناس بعد قتل عثمان فذكر أشياء...، من جملتها قوله (عليه السلام) : سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه وفرجه، ويله! لو قص جناحاه وقطع رأسه كان خيراً له، شغل عن الجنة، والنار أمامه.
ورووا عن علي بن خرور، عن الأصبغ بن نباته، قال: سأل رجل علياً (عليه السلام) عن عثمان، فقال: وما سؤالك عن عثمان؟ إنّ لعثمان ثلاث كفرات، وثلاث غدرات، ومحل ثلاث لعنات، وصاحب بليّات، لم يكن بقديم الإيمان ولا ثابت الهجرة، وما زال النفاق في قلبه، وهو الذي صدّ الناس يوم أحد...(2).
وعن حكيم بن جبير، عن أبيه، عن أبي إسحاق - وكان قد أدرك علياً (عليه السلام) - ، قال: ما يزن عثمان عند اللّه ذباباً. فقال: ذباباً؟! فقال: ولا جناح ذباب، ثم قال: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَزْنًا}(3).
ص: 264
وعن أبي سعيد التيمي، قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول: أنا يعسوب المؤمنين وعثمان يعسوب الكافرين.
وعن أبي الطفيل: وعثمان يعسوب المنافقين.
وعن هبيرة بن مريم، قال: كنّا جلوساً عند علي (عليه السلام) ، فدعا ابنه عثمان، فقال له: يا عثمان! ثم قال: إنّي لم أسمّه باسم عثمان الشيخ الكافر، إنَّما سمّيته باسم عثمان بن مظعون.
وروي إنّ علياً (عليه السلام) كان يستنفر الناس ويقول: انفروا إلى أئمة الكفر وبقية الأحزاب وأولياء الشيطان، انفروا إلى من يقول: كذب اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، انفروا إلى من يقاتل على دم حمّال الخطايا، واللّه إنّه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيء.
وعن عمر بن هند، عن علي (عليه السلام) ، أنّه قال: لا يجتمع حبّي وحبّ عثمان في قلب رجل إلا اقتلع أحدهما صاحبه(1).
ونُقل إنّ جيفة عثمان بقيت ثلاثة أيام لا يدفن، فسأل علياً (عليه السلام) رجال من قريش في دفنه فأذن لهم على أن لا يدفن مع المسلمين في مقابرهم ولا يصلّى عليه، فلمّا علم الناس بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، فخرجوا به يريدون به حش كوكب مقبرة اليهود، فلما انتهوا به إليهم رجموا سريره(2).
عن مالك بن خالد الأسدي، عن الحسن ابن إبراهيم، عن آبائه، قال: كان
ص: 265
الحسن بن علي (عليه السلام) يقول: معشر الشيعة! علّموا أولادكم بغض عثمان، فإنّه من كان في قلبه حب لعثمان فأدرك الدجال آمن به، فإن لم يدركه آمن به في قبره(1).
عن بكر بن أيمن، عن الحسين بن علي (عليه السلام) ، قال: إنا وبني أمية تعادينا في اللّه فنحن وهم كذلك إلى يوم القيامة، فجاء جبرئيل (عليه السلام) براية الحق فركزها بين أظهرنا وجاء إبليس براية الباطل فركزها بين أظهرهم، وإنّ أول قطرة سقطت على وجه الأرض من دم المنافقين دم عثمان بن عفان(2).
وعن الإمام الحسين (عليه السلام) : أنّ عثمان جيفة على الصراط من أقام عليها أقام على أهل النار، ومن جاوزه جاوز إلى الجنة(3).
عن حكيم بن جبير، يرفعه إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنّ عثمان جيفة على الصراط يعطف عليه من أحبّه ويجاوزه عدوّه(4).
عن محمد بن بشر، قال: سمعت محمد بن الحنفية يلعن عثمان ويقول:
ص: 266
كانت أبواب الضلالة مغلقة حتى فتحها عثمان(1).
عن عبد اللّه بن شريك، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) ، أنه قال: لا تكون حرب سالمة حتى يبعث قائمنا ثلاثة أراكيب في الأرض ركب يعتقون مماليك أهل الذمة، وركب يردون المظالم، وركب يلعنون عثمان في جزيرة العرب(2).
عن إبراهيم أنّه قال: إنّ عثمان عندي شرّ من قارون(3).
وعن جويبر، عن الضحّاك، قال: قال لي: يا جويبر! إعلم إنّ شرّ هذه الأمة الأشياخ الثلاثة، قلت: من هم؟ قال: عثمان وطلحة والزبير(4).
وعن الوليد بن زرود الرقي، عن أبي جارود العبدي، قال: أمّا عجل هذه الأمة فعثمان، وفرعونها معاوية، وسامريها أبو موسى الأشعري، وذو الثدية وأصحاب النهر ملعونون، وإمام المتقين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (5).
وروي عن أبي الأرقم, قال: سمعت الأعمش يقول: واللّه لوددت أنّي
ص: 267
كنت وجأت عثمان بخنجر في بطنه فقتلته(1).
عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، قال: يرفع عثمان وأصحابه يوم القيامة حتى يبلغ بهم الثريا، ثم يطرحون على وجوههم(2).
عن أبي عبيدة الذهلي، قال: واللّه لا يكون الأرض سلماً سلماً حتى يلعن عثمان ما بين المشرق والمغرب لا ينكر ذلك أحد(3).
تناصر الخبر من طريقي الشيعة وأصحاب الحديث بأنّ عثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن من جملة أصحاب العقبة الذين نفروا برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّ عثمان وطلحة القائلان: أينكح محمد نساءنا ولا ننكح نساءه؟! واللّه لو قد مات لأجلبنا على نسائه بالسهام، وقول طلحة: لأتزوجن أمّ سلمة، فأنزل اللّه سبحانه: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُواْ أَزْوَٰجَهُ مِنۢ بَعْدِهِۦ أَبَدًا}(4).
ص: 268
وقال عثمان يوم أحد: لألحقنّ بالشام، فإنّ لي بها صديقاً يهودياً(1).
وقال طلحة: لألحقن بالشام فإنّ لي بها صديقاً نصرانياً، فأنزل اللّه تعالي: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(2).
وقال عثمان لطلحة - وقد تنازعا- : واللّه إنك أول أصحاب محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تزوّج بيهودية، فقال طلحة: وأنت واللّه لقد قلت ما ينجينا ها هنا إلا أن نلحق بقومنا(3).
في خبر أبي الهذيل حين ناظر الشيعي الذي يرمى بالجنون، قال له: أخبرني - يا أبا الهذيل - عن عمر حين صيّرها شورى في ستة وزعم أنّهم من أهل الجنة، فقال: إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين، وإن خالف ثلاثة لثلاثة فاقتلوا الثلاثة الذي ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف، فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنة؟!
و أخبرني - يا أبا الهذيل - عن عمر لما طعن دخل عليه عبد اللّه بن العباس قال: فرأيته جزعاً، فقلت: يا أميرالمؤمنين! ما هذا الجزع؟ فقال: يا ابن عباس! ماجزعي لأجلي ولكن لهذا الأمر من يليه بعدي.
قال: قلت: ولها طلحة بن عبيد اللّه.
ص: 269
قال: رجل له حدّة، كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعرفه فلا أولّي أمور المسلمين حديداً. قال: قلت ولها زبير بن العوام. قال: رجل بخيل، رأيت يماكس امرأته في كبة من غزل، فلا أولّي أمور المسلمين بخيلاً. قال: قلت: ولها سعد بن أبي وقاص. قال: رجل صاحب فرس وقوس وليس من أحلاس الخلافة. قلت: ولّها عبد الرحمن بن عوف. قال: رجل ليس يحسن أن يكفي عياله. قال: قلت: ولها عبد اللّه بن عمر، فاستوى جالساً وقال: يابن عباس! ما واللّه أردت بهذا، أولي رجلاً لم يحسن أن يطلق امرأته؟ قلت: ولها عثمان بن عفان. فقال: واللّه لئن وليته ليحملن آل أبي معيط على رقاب المسلمين، وأوشك - إن فعلها - أن يقتلوه... قالها ثلاثاً، ثم سكت لما أعرف من معاندته لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قال لي: يابن عباس! اذكر صاحبك.
قال: قلت: ولّها علياً.
قال: واللّه ما جزعي إلا لما أخذنا الحق من أربابه، واللّه لئن ولّيته ليحملنهم على المحجّة العظماء، وإن يطيعوه يدخلهم الجنة... فهو يقول هذا ثم صيرها شورى بين الستة، فويل له من ربّه...(1).
قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) ، لمّا كتب عمر كتاب الشورى بدأ بعثمان في أول الصحيفة وأخّر علياً أميرالمؤمنين (عليه السلام) فجعله في آخر القوم، فقال العباس: يا أميرالمؤمنين! يا أبا الحسن! أشرت عليك في يوم قبض رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن تمدّ يدك فنبايعك فإنّ هذا الأمر لمن سبق إليه، فعصيتني حتى بويع أبو بكر، وأنا أشير عليك اليوم أنّ عمر قد كتب اسمك في الشورى وجعلك
ص: 270
آخر القوم وهم يخرجونك منها، فأطعني ولا تدخل في الشورى، فلم يجبه بشيء، فلما بويع عثمان قال له العباس: ألم أقل لك؟ قال له: يا عمً إنه قد خفي عليك أمر، أما سمعت قوله على المنبر: ما كان اللّه ليجمع لأهل هذا البيت الخلافة والنبوة؟ فأردت أن يكذّب نفسه بلسانه فيعلم الناس أن قوله بالأمس كان كذباً باطلاً، وأنا نصلح للخلافة، فسكت العباس(1).
قال علي (عليه السلام) : أما إني أعلم أنهم سيولّون عثمان، وليحدثّن البدع والأحداث، ولئن بقي لأذكرنك وإن قتل أو مات ليتدوالنها، بنو أمية بينهم وإن كنت حياً لتجدّني حيث يكرهون(2).
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: حجّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأقام بمنى ثلاثاً يصلّي ركعتين، ثم صنع ذلك أبوبكر، ثم صنع ذلك عمر، ثم صنع ذلك عثمان ست سنين ثم أكملها عثمان أربعاً، فصلّى الظهر أربعاً ثم تمارض ليشد بذلك بدعته، فقال للمؤذّن: اذهب إلى علي (عليه السلام) فليقل له فليصل بالناس العصر، فأتى المؤذّن علياً (عليه السلام) ، فقال له: إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تصلّي بالناس العصر، فقال: لا، أذن لا أصلّي إلا ركعتين كما صلّى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فذهب المؤذّن فأخبر عثمان بما قال علي (عليه السلام) ، فقال: اذهب إليه وقل له: إنّك لست من هذا في شيء، اذهب فصلّ كما تؤمر. قال علي: لا واللّه لا أفعل... فخرج عثمان فصلّى بهم أربعاً، فلما كان في خلافة معاوية
ص: 271
واجتمع الناس عليه وقتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) حج معاوية فصلّى بالناس بمنى ركعتين الظهر ثم سلّم، فنظرت بنو أمية بعضهم إلى بعض وثقيف ومن كان من شيعة عثمان ثم قالوا: قد قضى على صاحبكم وخالف وأشمت به عدوه، فقالوا فدخلوا عليه، فقالوا: أتدري ما صنعت؟ ما زدت على أن قضيت على صاحبنا، وأشمت به عدوّه، ورغبت عن صنيعه وسنّته، فقال: ويلكم! أما تعلمون أنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) صلّى في هذا المكان ركعتين وأبوبكر وعمر، وصلّى صاحبكم ست سنين كذلك، فتأمروني أن أدع سنّة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما صنع أبوبكر وعمر وعثمان قبل أن يحدث، فقالوا: لا واللّه، ما نرضى عنك إلا بذلك! قال: فاقبلوا فإنّي متبعكم وراجع إلى سنة صاحبكم، فصلّى العصر أربعاً فلم تزل الخلفاء والأمراء على ذلك إلى اليوم(1).
ص: 272
ص: 273
ص: 274
قال اللّه تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ}(1).
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ}(2).
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَٰنًا كَبِيرًا}(3).
عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: للكفر جناحان: بنو أمية وآل المهلب(4).
قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
ص: 275
عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}(1)، نزلت في بني أميّة، حيث خالفوا نبيّهم على أن لا يردّوا الأمر في بني هاشم، ثم قال: يبتغون عندهم العزّة يعني: القوة(2).
قال الإمام في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(3)، نزلت في بني أميّة، ثم قال: ... {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(4).
عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(5)، قال (عليه السلام) : نزلت في بني أميّة، فهم أشرّ خلق اللّه، هم الذين كفروا في باطن القرآن فهم لا يؤمنون(6).
في قوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ}(7) ورد رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
ص: 276
كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى السماء، وبنو أميّة لا يذكرون اللّه في مجلس ولا في مسجد ولا تصعد أعمالهم إلى السماء إلا قليل منهم(1).
عن عثمان بن عيسى عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا}(2).
قال: نزلت في الأفجرين من قريش بني أميّة وبني المغيرة، فأمّا بنو المغيرة فقطع اللّه دابرهم، وأمّا بنو أميّة فمتّعوا إلى حين. ثم قال: ونحن واللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده وبنا يفوز من فاز(3).
قال علي بن إبراهيم في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلْقُرْءَانِ}(4)، قال: نزلت لما رأى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نومه كأنّ قروداً تصعد منبره فساءه ذلك وغمّه غمّاً شديداً فأنزل اللّه: {وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ}(5) لهم ليعمهوا فيها {وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلْقُرْءَانِ}(6) كذلك نزلت، وهم بنو أميّة(7).
ص: 277
عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ}(1) يعني: بني أميّة(2).
عن النضر بن مالك، قال: قلت للحسين بن علي (عليه السلام) : يا أبا عبداللّه! حدّثني عن قول اللّه عزّوجلّ: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ}(3)، قال: نحن وبنو أمية اختصمنا في اللّه عزّوجلّ، قلنا: صدق اللّه، وقالوا: كذب اللّه، فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة(4).
عن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن جدّه، قال: إنّ للنار سبعة أبواب: باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون، وباب يدخل منه المشركون والكفار ممّن لم يؤمن باللّه طرفة عين، وباب يدخل منه بنو أميّة هو لهم خاصة لا يزاحمهم فيه أحد، وهو باب لظى، وهو باب سقر، وهو باب الهاوية تهوي بهم سبعين خريفاً، فكلّما هوى بهم سبعين خريفاً فصار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفاً، ثم هوى بهم كذلك سبعين خريفاً، فلا يزالون هكذا أبداً خالدين مخلّدين، وباب يدخل فيه مبغضونا ومحاربونا وخاذلونا،
ص: 278
وإنّه لأعظم الأبواب وأشدّها حراً(1).
عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله: {وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ}(2) يعني إنكارهم ولاية أميرالمؤمنين (عليه السلام) (3).
سأل عبد اللّه بن عطاء المكي الباقر (عليه السلام) عن قوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}(4) ... لولاية أميرالمؤمنين (عليه السلام) (5).
وقال (عليه السلام) : نزلت هذه الآية على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هكذا، وقال: (الظالمون)(6) آل محمد حقّهم {لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ}(7) وعلي هو العذاب، {هَلْ إِلَىٰ مَرَدّٖ مِّن سَبِيلٖ}(8)، يقولون: نردّ فنتولّى علياً (عليه السلام) ، قال اللّه: {وَتَرَىٰهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}(9)
... يعني أرواحهم تعرض على النار {خَٰشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ}(10) إلى علي
ص: 279
{مِن طَرْفٍ خَفِيّٖ}(1) ف{قَالَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ}(2) بآل محمد {إِنَّ ٱلْخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَلَا إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ}(3) لآل محمد حقهم {فِي عَذَابٖ}(4) أليم(5).
في تفسير علي بن إبراهيم القمي: {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَٰهُمْ عَذَابًا فَوْقَ ٱلْعَذَابِ}(6) قال: كفروا بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصدّوا عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) زدناهم عذاباً فوق العذاب: {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}(7).
وبهذا ينتهي ما أردنا ذكره في هذا الكتاب.
نسأل اللّه المنتقم الجبار أن يعجّل في فرج منتقم آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليأخذ الثار لأمّ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أنَّه قريب مجيب.
بجوار السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)
والدة السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)
ص: 280
«اللّهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وإفكيها وابنتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك وقلبّا دينك وحرّفا كتابك، وعطّلا أحكامك، وأبطلا فرائضك، وألحدا في آياتك، وعاديا أولياءك، وواليا أعداءك، وخرّبا بلادك، وأفسدا عبادك. اللّهم العنهما وأنصارهما فقد أخربا بيت النبوة، وردما بابه، ونقضا سقفه، وألحقا سماءه بأرضه، وعاليه بسافله، وظاهره بباطنه، واستأصلا أهله، وأبادا أنصاره، وقتلا أطفاله، وأخليا منبره من وصيّه، ووارثه، وجحدا نبوته، وأشركا بربهما، فعظّم ذنبهما وخلّدهما في سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر، اللّهم العنهم بعدد كل منكر أتوه، وحقّ أخفوه، ومنبر علوه، ومنافق ولّوه، ومؤمن أرجوه، وولي آذوه، وطريد آووه، وصادق طردوه، وكافر نصروه، وإمام قهروه، وفرض غيّروه، وأثر أنكروه، وشرّ أضمروه، ودمّ أراقوه، وخبر بدلّوه، وحكم قلّبوه، وكفر أبدعوه، وكذب دلّسوه، وإرث غصبوه، وفيء اقتطعوه، وسحت أكلوه، وخمس استحلّوه، وباطل أسّسوه، وجور بسطوه، وظلم نشروه، ووعد أخلفوه، وعهد نقضوه، وحلال حرّموه، وحرام حلّلوه، ونفاق أسروه، وغدر أضمروه، وبطن فتقوه، وضلع كسروه، وصكّ مزّقوه، وشمل بددوه، وذليل أعزّوه، وعزيز أذلّوه، وحقّ منعوه، وإمام خالفوه، اللّهم
ص: 281
العنهما بكل آية حرّفوها، وفريضة تركوها، وسنّة غيّروها، وأحكام عطّلوها، وأرحام قطعوها، وشهادات كتموها، ووصية ضيّعوها، وأيمان نكثوها، ودعوى أبطلوها، وبيّنة أنكروها، وحيلة أحدثوها، وخيانة أوردوها، وعقبة ارتقوها، ودباب دحرجوها، وأزياف لزموها، وأمانة خانوها، اللّهم العنهما في مكنون السرّ وظاهر العلانية لعناً كثيراً دائباً أبداً دائماً سرمداً لا انقطاع لأمده، ولا نفاد لعدده، يغدو أوّله ولا يروح آخره لهم ولأعوانهم وأنصارهم ومحبيهم ومواليهم والمسلِّمين لهم والمائلين إليهم والناهضين بأجنحتهم والمقتدين بكلامهم والمصدِّقين بأحكامهم، ثم يقول: اللّهم عذبهم عذابا يستغيث منه أهل النار آمين رب العالمين، أربع مرات»(1).
ص: 282
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد، فقد حظيت المرأة المؤمنة بمراتب عُليا تحت ظل الإسلام الحنيف، فسجّلت بمواقفها الخالدة خير صور في صفحات التاريخ، وأثبتت شموخ شخصيتها من خلال أدوارها المشرّفة في مختلف المجالات.
ولكن وللأسف لم يطّلع العالم على عظمة دور المرأة المؤمنة وبقيت تضحياتها الخالدة طيّ النسيان، فلم تُسلّط الأضواء على مكانتها بالشكل المؤاتي، بل بقيت خدمات المرأة المؤمنة ومواقفها البطولية وتضحياتها العظيمة مبعثرة في طيات بعض الكتب التي لايكاد يطلع عليها أحد.
فمنذ اليوم الأول الذي صدع فيه سيد المرسلين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدعوته الخالدة ودعا الناس إلى الوحدانية وعانا من أجل ذلك ما عانا كانت إلى جنبه السيدة خديجة (عليها السلام) التي بذلت كل ما تملك في سبيل إعلاء كلمة الحق ونصرة الرسالة الخاتمة.
وبقيت تلك المرأة المضحّية تساند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتذود عن الحقّ
ص: 283
وتقدّم الغالي والنفيس إلى أن قدّمت كل ما تملك في سبيل اللّه وبلغ بها الأمر بعد أن كانت من أثرى أهل مكة أن لاتملك كفناً لآخرتها وسألت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يكفّنها بردائه.
وتشاء إرادة الرب عزّ وجلّ أن يُحرم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الأولاد الذكور ويرزق بامرأة صديّقة فاقت نساء العالمين من الأولين والآخرين قداسة ورتبة ومنزلة، فكانت هي الأخرى خير عون لأبيها.
وبعد رحيل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغصب حقّ الوصي (عليه السلام) ارتدّ الناس على أعقابهم وأعرضوا عن أهل بيت الرسالة وعزّ النصير، فلم يقف للقوم ويدافع عن حريم الولاية وحقّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) سوى الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) التي وقفت أمام القوم بكل صلابة وكشفت للعالم على مرّ العصور أحقيّة بعلها بالخلافة.
كما احتذت ابنتها أمّ المصائب عقيلة الهاشميين نهج أمّها الزهراء عليهما الصلاة والسلام فسجّلت هي الأخرى مواقف بطولية خالدة سجّلها التأريخ في أنصع صفحاته عن خير امرأة مقدّسة حملت راية الحق ودافعت عن العقيدة الحقّه.
وفي تأريخنا الإسلامي هناك صفحات من نور لشخصيات نسوية رائعة كان لموقعهن الفاعل على مسرح الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية صدى كبيراً، ومواقف إيمانية صلبة ثابتة، بحيث صارت تلك المواقف البطولية قدوة حسنة ومثلاً أعلى للرجال والنساء معاً... .
ومن الواضح أنّ الإسلام لم يحصر دور المرأة في تربية الأطفال ورعاية الزوج وإدارة شؤون المنزل، بل وهبها مساحة واسعة للتحرّك، تستطيع من
ص: 284
خلالها القيام بمسؤوليتها في نطاق ثقافتها وطاقتها الاجتماعية في تشخيص مواطن الخلل وإصلاحها، كمن ترى في نفسها القدرة اللازمة على أن تهدي جمهوراً نسوياً إلى الطريق المستقيم.
ومن هنا نجد القرآن الكريم لم يلغ مسؤولية المرأة بحجّة دورها المنزلي، بل فرض عليها التزامات طبيعية، فحمّلها مع الرجل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في قوله تعالى: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1)، وقد نُقل في القرآن نماذج فريدة من النساء اللواتي تفوّقن على الرجال في عصرهن في سعة النظر، ودقّة الفكر، وعمق الوعي، ووضوح الرؤية كما هو الحال في مريم العذراء، وامرأة فرعون، وملكة سبأ.
ولايكاد يخلو زمن من نساء عظيمات شاطرن العظماء مسيرتهم في تشييد مجد الأمم وحضارات الشعوب في مختلف الميادين، والشواهد على ذلك كثيرة لايسع المقام لاستقصائها... .
ومن النساء العظيمات في الزمان الحاضر هي مؤلّفة الموسوعة التي بين يديك عزيزي القارئ، فهي من النساء الصالحات اللواتي خدمن العقيدة بمواقفهن ولسانهن وقلمهن، فتركت خير تراث للأجيال عبر التأريخ.
من هنا وجدنا من الجدير بنا أن نشير إلى نبذة حول سيرة هذه السيدة الصالحة.
ص: 285
قبل أن نتحدّث عن مؤلّفة الموسوعة لابأس أن نعرّج بالحديث عن النسب الطيّب لها، فهي من الأب تنتسب إلى الوجيه الحاج صالح معاش المعروف في أوساط الكربلائيين بالصلاح والتقى.
فقد كان (رحمه اللّه) معروفاً لدى الجميع بالتديّن والتقوى والورع، فلايكاد يُفتقد يوماً بين صفوف المصلّين في صلاة الجماعة، حيث كان يصلّي الظهر تارة في المسجد القمّي خلف الشيخ نظر علي، وأخرى في مسجد العطّارين خلف الميرزا مهدي الشيرازي، وأمّا صلاة المغرب و العشاء فكان ملتزماً بصلاة الميزرا مهدي الشيرازي في الصحن الحسيني الشريف.
وكان في بداية شهر رجب يعطي مسؤول أعماله جميع مفاتيح القيصيرات و المحلاّت التجارية ويقول له: تصدّ للعمل إلى أن أرجع من السفر، ثم يتوجه إلى اللّه تبارك وتعالى قائلاً: إلهي عملت لنفسي وللدنيا تسعة أشهر وأريد أن أعمل لك و للآخرة ثلاثة أشهر، فكان يتفرّغ للعبادة في شهري رجب وشعبان ويقضيهما في العتبات المقدّسة: سامراء والكاظمية والنجف الأشرف، أمّا شهر رمضان فيقضيه بالعبادة والتهجّد في حرم الإمام الحسين (عليه السلام) ، وبعد عيد الفطر كان يستلم مفاتيح المحلاّت ويزاول عمله من جديد.
وكانت أياديه البيضاء تعمّ كثيراً من المحتاجين حتى عُرف عنه أنه لايردّ أحداً خائباً من إحسانه، ففي بدايات عمله - وهو بأمسّ الحاجة إلى تنمية أمواله - كان يشاهد بعض المحتاجين يأخذون من بضائع محلّه خُفية ظناً منهم أنه لم يشاهدهم ومع ذلك لم يكن يظهر لهم شيئاً بل يغضّ الطرف
ص: 286
ويعفو عنهم.
وكان البعض يشترون منه البضائع ويتأخّرون في تسديد الثمن، فكان يطالبهم بالتسديد فقط دون أن يغضب أو يشدّد عليهم بل يمهلهم إلى أن يتمكنوا من التسديد.
و قد اشترى بستاناً كبيراً في محلّة باب بغداد فيه شتى الثمار كان يعطي محصولها لصهره الإمام الشيرازي ليصرفه في الشؤون الدينية.
نقل نجله الحاج هادي معاش في خصوصيات وأخلاقيات والده، فقال: كان الوالد يهتم بالفقراء والمساكين كثيراً، فقد كان هناك رجلاً كبيراً في السنّ مُقعداً يسكن في إحدى حجر حرم الإمام الحسين (عليه السلام) ، كان الوالد يهتم به كثيراً ويأمرني أن أذهب إليه يومياً وأقضي حوائجه، فكنت أهيّأ له احتياجاته كالفحم للشتاء والأكل وما أشبه ذلك، وكان الوالد يزوره يومياً ويتفقّد أحواله.
وكانت له علقة خاصة بالمولى أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) وهي سرّ موفقيّته في الحياة خاصة التجارة، وإلى ذلك يشير حفيده المرحوم آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي قائلاً: كان الجدّ (رحمه اللّه) - قبل زواجه - يعمل لدى أحد التجّار المؤمنين في كربلاء ويدير تجارته بشكل كامل.
وعندما أراد الزواج لم يكن يملك شيئاً، فاضطر أن يطلب من صاحب التجارة قرضاً فأبى أن يقرضه، وعلّل ذلك أن تجارتي قائمة على عاتقك، وزواجك يشغلك عن إدارة التجارة ممّا يؤدّي إلى ضرري فلن أساعدك لكي لا أتضرّر، فانزعج الحاج صالح بشدّة وقدّم استقالته وتوجه مباشرة إلى حرم الإمام الحسين (عليه السلام) ووقف عند الضريح المبارك، وقال: سيدي يا أبا
ص: 287
عبد اللّه كنت أعمل عند فلان ومن الآن أريد أن أعمل عندك، فسهّل لي ذلك على أن يكون ثلث أرباحي لك.
وما أن فرغ الحاج صالح من العهد مع المولى أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) وقبل أن يخرج من الحرم الشريف التقى بشخص قال له: يوجد محل عند باب القبلة للأجرة، فهل ترغب في استئجاره؟
فقال الحاج صالح: نعم، لكنّي لا أملك شيئاً من المال.
قال الرجل: لا بأس استأجره وسدّد الإيجار عند الربح، فوافق الحاج صالح واستأجر المحل.
ثم إنه ذهب إلى بغداد لشراء البضائع وقال للبائع: كنت اشتري منك البضائع لفلان والآن أريد أن اشتري لي على أن اُسدّد ثمنها بعد بيعها، فوافق البائع، وعلّق قائلاً: إننّي أعرفك بالصدق و الأمانة وسأبيعك البضائع.
وهكذا وبمرور الزمن أسّس الحاج صالح لنفسه حياة مستقلة وشيئاً فشيئاً صار من الوجهاء التجّار يمتلك محلاّت تجارية متعدّدة حيث منّ اللّه عزّ وجلّ عليه برزق واسع كان يخصّص ثلث وارداته لسيد الشهداء (عليه السلام) .
ونقل نجله الحاج رسول معاش، فقال: في إحدى السنين خسر الوالد في التجارة وضاقت علينا المعيشة، وكان بعض أهل السوق يبيعون بأسعار زهيدة ممّا أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي للوالد بشدّة.
آنذاك عرضنا على الوالد أن نعينه في التجارة فرفض، وفي أحد الأيام جاء إلى البيت - وكان وضعه سيئا للغاية - وكان لدينا طفلاً صغيراً، فرفعه نحو السماء وأخذ يبكي ويقول: الهي إن أعنتني في هذه الأزمة ورجعت إلى وضعي الاقتصادي السابق فسأقاسم الإمام الحسين (عليه السلام) نصف أرباحي.
ص: 288
ولم تمض ستة أشهر حتى انقلب الأمر حيث تغيّر وضع الوالد إلى الأحسن، فكان (رحمه اللّه) في كل سنة لما يجرد حساباته السنوية يخرج خمس وزكاة أمواله، ويقسّم البقية إلى قسمين: قسم لمعيشته والآخر كان يوزّعه على الأمور الخيرية من دعم الهيئات والحسينيات وقضايا التزويج وحل مشاكل الناس وما أشبه.
أمّا والدة السيدة أم محمد رضا فهي الحاجّة رباب وكانت امرأة مؤمنة صالحة، تخاف اللّه، ملتزمة بصلواتها وعبادتها.
يقول نجلها الحاج جواد معاش: كانت الوالدة هادئة جداً، ذات خلق رفيع، وسجايا ممدوحة، فلم نعهدها يوماً تغضب علينا أوتزجرنا، بل ولم تكلّفنا يوماً بشيء، وكانت لا تتوقّع من أحد شيئاً حتى زوجها الذي يعتبر أقرب الناس إليها.
من هكذا أب وأمّ ولدت الحاجّة زينب معاش في مدينة كربلاء المقدّسة وذلك في سنة 1363ه- ونشأت وسط أجواء إيمانية مفعمة بالحب والولاء لأهل البيت (عليهم السلام) إلى أن شاءت إرادة اللّه عزّ وجلّ أن تكون حرم المرجع الديني السيد محمد الشيرازي و والدة السيد المقدّس السيد محمد رضا الشيرازي، وهما من النوادر الذين أثروا تأثيراً كبيراً على العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر.
كانت السيدة زينب - كما ينقل الحاج جواد معاش - تختلف عن أخواتها جميعاً، فقد امتازت بنورانية خاصة، وكانت مراقبة لصلواتها وعبادتها وأدعيتها وزياراتها، وكانت حريصة أشد الحرص على الذهاب إلى الحرم
ص: 289
الشريف مع والدتها، ويمكن القول: بأنّ السيد محمد رضا ورث منها خصوصياتها.
ولم تدخل المدارس الأكاديمية وذلك للنظرة السائدة آنذاك عنها حيث كان الناس يعتقدون أنها اُنشئت لتضليل الفتيات وإخراجهن عن ربقة الإيمان، بل شاركت في الكتّاب لتتعلّم قراءة القرآن والأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية.
حريّ بنا قبل أن نشير إلى اقتران هذه السيدة الكريمة بالمرجع الديني السيد محمد الشيرازي رضوان اللّه عليه أن ننقل الكلام حول المرجع الراحل ونتطرّق إلى نبذة من حياته ثم نسوق الحديث إلى الزواج المبارك بينهما.
فهو من سلالة أهل بيت الرسالة عليهم أفضل الصلاة والسلام إذ يتصل نسبه بزيد الشهيد ابن الإمام زين العابدين (عليه السلام) من أسرة آل الشيرازي العريقة التي عُرفت بأعلامها ورجالاتها.
توسّل والده المقدّس الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) بأهل البيت (عليهم السلام) كي يرزق بابن عظيم يحمل لواء الدين، فولد السيد محمد رضوان اللّه عليه في النجف الأشرف سنة 1347ه- ببركة هذه التوسّلات.
نشأ وترعرع في أقدس بقاع الأرض كربلاء المقدّسة مدينة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، وانكبّ على تعلّم علوم أهل البيت (عليهم السلام) ونشر معارفهم الإلهية في سنّ مبكر، فاستطاع بكفاءة أن يدرّس طلابه كتاب (كفاية الأصول) وهو من أهم كتب الأصول في الحوزات العلمية ولم يكن عمره
ص: 290
يتجاوز الثامنة عشر عاماً.
وبقي سماحته (قدس سره) ينهل من علوم أهل البيت (عليهم السلام) ويغترف من معارفهم القيّمة مستفيداً من أكابر أساتذة الحوزات العلمية أمثال والده الميرزا السيد مهدي الشيرازي والسيد محمد هادي الميلاني وغيرهما من فطاحل الحوزة العلمية في كربلاء.
تصدّى للمرجعية بعد وفاة والده سنة 1380ه- ولم يكن عمره آنذاك يتجاوز الثلاثة والثلاثين عاماً، ونهض بأعبائها الثقيلة على أحسن وجه.
وقد شهدت مدينة كربلاء المقدّسة أيامه حركة علمية قويّة، ونشاطات دينية حيويّة حيث فعّل سماحته الساحة الدينية وأكثر من تأسيس المراكز والمؤسّسات الدينية في شتى أنحاء العراق خاصة كربلاء المقدسة، وإلى ذلك يشير المجدّد الشيرازي (رحمه اللّه) في كتابه (عشت في كربلاء) قائلاً: فقد قمت - ومنذ عشرين سنة تقريباً - بباكورة أعمالي في حقل الخدمة العامة، بمعونة جملة من علمائنا الأعلام والتجّار المحترمين، بتأسيس مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الأهلية في كربلاء المقدّسة، وحيث إنّ التأسيس كان أول عملنا في مثل هذا الحقل، فقد واجهتنا جميعاً صعوبات مرهقة.
وقال في موضع آخر: وبعد تلك الباكورة... قمنا نحن المؤسسين لمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) بفتح أول مكتبة أهلية عامة في كربلاء المقدّسة لأجل المطالعة، في المدرسة الهندية الكبرى والتي سمّيت ب- (المكتبة الجعفرية).
كما شرعنا بتأسيس مجلّة تجيب على كل الأسئلة الإسلامية التي توجّه إلينا، وسمّيت المجلّة باسم (أجوبة المسائل الشرعية). كما شرعنا في تأسيس جمعية باسم (الجمعية الخيرية الإسلامية).
ص: 291
وفي موضع آخر قال: وحيث أني الآن بصدد عرض شيء من ذكرياتي في كربلاء المقدسة، نكتفي بالقول: لقد وفّق اللّه سبحانه وتعالى جماعة من أهالي الخير والإحسان إلى فتح مشاريع كثيرة، كنت عضواً في جملة منها.
وكإشارة إلى هذه المشاريع، يكفي الإنسان أن يعلم أنّ مؤسسة واحدة، هي مؤسسة حفّاظ القرآن الحكيم، كان لها ثلاثون مؤسسة، تزاول مختلف أنواع النشاط الثقافي، والصحّي والاجتماعي، والتربوي، والصناعي، وغيرها.
كما أنّ كربلاء المقدسة أخذت تصدّر مجلات شهرية كثيرة أهمّها (القرآن يهدي)، و (أعلام الشيعة)، و (أجوبة المسائل الدينية)، و (منابع الثقافة الإسلامية)، و (مبادئ الإسلام)، و (صوت المبلّغين)، و (صوت العترة)، و (الأخلاق والآداب)، و (ذكريات المعصومين (عليهم السلام) )، و (نداء الإسلام)، و (صوت شباب التوحيد).
وإذا أراد الإنسان أن يعلم مدى خدمة هذه المجلات في البلاد، فيكفيه أن يعلم أن مجلة واحدة منها وهي (منابع الثقافة الإسلامية) نشرت في مدة عشر سنوات، أكثر من نصف مليون كتاب... .
وكانت في كربلاء المقدّسة حركة ثقافية أخرى، هي حركة نشر الكتب المجانية، وقد كنت بنفسي أدير دفّة هذه المؤسسات، ممّا يصلني من التبرّعات والحقوق، وهذه المؤسسة تمكنت في ظرف عشر سنوات تقريباً، أن تنشر خمسة ملايين كتاب في شتى العلوم.
وهناك الكثير من تفاصيل حياة هذا المرجع العظيم في العراق والكويت وإيران لايسع المقام لذكرها تقصد في مظانّها من الكتب التي ألفت عن حياته رضوان اللّه عليه.
ص: 292
ورد في الأحاديث الشريفة عن أهل البيت (عليهم السلام) ضرورة انتخاب الزوجة الصالحة وتخيّرها من بين سائر النساء، بل إنّ من سعادة المرء هي الزوجة الصالحة، ففي الحديث عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من سعادة المرء الزوجة الصالحة(1).
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال: ثلاثة للمؤمن فيها راحة، دار واسعة تواري عورته وسوء حاله من الناس، وامرأة صالحة تعينه على أمر الدنيا والآخرة...(2).
وقال رسول اللَّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسرّه إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله(3).
وقد جمعت صاحبة الموسوعة خصالاً حميدة أهلتها أن تكون خير زوجة لخير مجاهد اجتمعا على التقى والولاء لآل محمد صلوات اللّه عليهم والتفاني من أجل العقيدة، فوجد المرجع الشيرازي فيها المعين والناصر على أمور الدنيا والدين، وقد تميّزت سيدة الموسوعة بخصال حميدة كثيرة سنشير إليها لاحقاً، ولكن وفضلاً عن الخصال الحميدة التي امتازت بها صاحبة الموسوعة بحيث جعلت المجدّد ينتخبها كشريكة له في الحياة الزوجية هناك أمور ينبغي ذكرها باختصار ومنها:
ص: 293
ما نقلته السيدة أم عباس حرم العلامة الحجّة السيد حسين الشيرازي، فقالت: ذات يوم ذهبنا إلى زيارة السيد العم آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي دام ظله فنقل لنا قضية زواج الوالد من الوالدة، وكان ممّا نقله في حديثه، قال: ذات يوم جاءت رضيعتنا زوجة السيد كاظم القزويني (رحمه اللّه) و قالت للوالد: الحاج صالح معاش لديه بنت عابدة تصلح زوجة للسيد محمد.
كما كتب السيد محمد رضا القزويني الشاعر المعروف بقلمه حول زواج المرجع الشيرازي الراحل بصاحبة الموسوعة ما نصه: حدّثني ابن عمّنا المغفور له سماحة العلامة السيد محمد كاظم القزويني بعد أن صاهر آية اللّه العظمى المغفور له السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) عن قصة زواج ولده الأكبر آية اللّه السيد محمد الشيرازي في ستينات القرن الماضي... .
أنه في ليلة من ليالي الجمعة و بعد الانتهاء من صلاة المغرب و العشاء والتي كان يقيمها في صحن سيدنا الحسين (عليه السلام) جاءه الحاج صالح معاش الذي كان معروفاً بالتديّن والصلاح، و قصّ عليه رؤيا ابنته و طلب من السيد تفسير هذه الرؤيا وكانت قد رأت البنت (كأنّ القمر ليلة كماله قد نزل و هبط بكل رفق في حجرها) فقال السيد (رحمه اللّه) : إنها ستتزوّج رجلاً عظيماً إن شاء اللّه، و بعد ذلك أوعز السيد (رحمه اللّه) إلى عائلته أن يذهبوا إلى دار الحاج صالح لرؤية الفتاة و خطبتها رسمياً بعد إقناعهم بها و إبلاغهم بأنّ أهم مطلب للسيد الأب وللسيد الابن (كليهما) أن تكون تجهيزات العروس أبسط ما يمكن من الأثاث، فإنّ التجمّلات بالأمور الدنيوية لا تناسب بيوت المرجعية و العلماء الأتقياء، فما كان من الحاج صالح و عائلته إلا الموافقة و التأييد حرفياً لما اشترطه السيد (رحمه اللّه) و لم تمر إلا أيام معدودة حتى تم
ص: 294
الزواج المبارك الذي كانت نتيجته أولاداً كراماً وهم: السيد محمد رضا و السيد مرتضى والسيد جعفر والسيد مهدي والسيد محمد علي والسيد محمد حسين، و ستة من البنات الكريمات، فكان لكل منهم شخصية فذّة تدل على عظمة التربية الدينية و الأخلاقية الفريدة.
وقد نُقل أنّ الميرزا السيد مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) كان يريد تزويج السيد محمد من كريمة أحد مقلّديه التجّار، وبالفعل فقد عُرض الأمر على ذوي البنت فرحّبوا بالأمر بشدّة إلا أنّهم شرطوا أن يكون المهر ألف دينار حفاظاً على مكانتهم الاجتماعية كي لايعيبها نظائرها من النساء، ولكن السيد المجدّد رفض ذلك وأصرّ على أن يكون المهر مهر الزهراء (عليها السلام) .
وكلّما حاول والد البنت أن يوفّق بين الأمرين لم يستطع حتى أنه عرض على السيد محمد أن يتكفّل هو بالمهر وتكاليف الزواج كاملة على أن يعلن للملأ أنّ المهر ألف دينار، فرفض السيد محمد، و قال: إنّني أدعو الناس أن يجعلوا مهرهم مهر السنّة وأخالفهم؟
لطالما دعوت الناس أن يلتزموا بنهج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهل من الإنصاف أن أدعو الناس إلى شيء وأعمل بخلافه؟
ألم يوص رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقلّة المهر، فقال: خير نساء أمّتي أصبحهن وجهاً وأقلّهن مهراً(1).
إنّني اُريد أن أحارب هذه الأمور التي تعيق زواج الشباب و تؤخّرهم عن الزواج ومنها المهر الكثير، فهل يمكن لمن يخالف فعله قوله أن يصحّح
ص: 295
أفعال الآخرين؟
فبقي السيد الشيرازي مصرّاً على أن يكون المهر مهر السنّة، بينما خالف الرجل ذلك وانتفى الزواج، وبعدها خطب السيد كريمة الحاج صالح معاش وتزوّجها.
ونقل شقيقها الحاج رسول معاش، فقال: الكثير كانوا يرغبون في تزويج السيد محمد الشيرازي بناتهم ولكن السيد كان يرفض.
وقد كان الحاج عبد الرزاق معاش من الشباب المريدين للميرزا مهدي الشيرازي الملتزمين بصلاة الجماعة خلفه، وكان الميرزا يعتمد عليه في بعض أموره.
وفي أحد الأيام طلبه الميرزا مهدي وقال له: ادع لي والدك وقل له: الميرزا يطلبك.
ولما جاء الوالد إلى الميرزا عرض عليه فكرة الخطوبة من إحدى بناته للسيد محمد، وأردف الميرزا قائلاً: لا نريد أن نكلّفكم الكثير، بل نريد أن يتم الموضوع ببساطة خلال أسبوع.
فقال له الوالد: سيدنا هذه المدّة قليلة.
فقال الميرزا: ليس صعباً، وبالفعل فقد تم الزواج خلال أسبوع.
انتقلت الحاجّة أم رضا إلى دار زوجها المجدّد الشيرازي رضوان اللّه عليه وشرعت حياة جديدة تختلف تماماً عن حياتها السابقة، فهي حياة مليئة بالكفاح والجهاد وطلب العلم والحرص على إعلاء قيم الدين ونشرها في مختلف أنحاء المعمورة.
ص: 296
ففي بداية حياتها الزوجية قرّر الإمام المجدّد أن يدرّسها العلوم الحوزوية، فبدء بتدريسها الفقه والنحو والصرف، ولأجلها كتب كتاب المنصورية في النحو والصرف، وهو كتاب جميل مزج فيه بين النحو و الصرف، وكان يدرّسها يومياً لمدّة سنة إلى أن عاقه عن ذلك كثرة مشاغله بالإضافة إلى كثرة مشاغلها البيتية.
بعد سنة من زواجها من المجدّد الشيرازي رزقت بأول أولادها وطليعتهم ألا وهو السيد الجليل محمد رضا الذي كان كما وصفه عمّه المرجع السيد صادق الشيرازي، فقال: يشبه جدّه آية اللّه العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي أعلى اللّه درجاته.
وحيث بلغ بنا الحديث هنا عن هذا السيد الجليل لا بأس أن نتعرّض إلى نبذة وجيزة من حياته فنقول: ولد السيد محمد رضا رضوان اللّه عليه في كربلاء المقدّسة سنة 1379ه- ق ونشأ وترعرع بجوار سيدالشهداء (عليه السلام) وتحت ظل والده المجدّد فتهذّب بأدبه وتعلّم من علومه ونهل من أخلاقه.
وقد بدأ دراسته الأولية في مدرسة حفّاظ القرآن الكريم ثم التحق بالحوزة العلمية في كربلاء المقدّسة حيث درس مقدمات العلوم الدينية لدى أساتذة كبار.
هاجر برفقة والده إلى الكويت بعد الضغوط الكبيرة التي لاقاها والده في العراق، وقد واصل دراسته الحوزوية فيها، فقرأ الرسائل والمكاسب على عمّه المرجع السيد صادق الشيرازي، ومنذ ذلك الوقت كان يبلّغ للشباب
ص: 297
ويرشدهم من خلال محاضراته.
ثم هاجر بمعيّة والده إلى إيران سنة 1399ه- فنزل مدينة قم المقدّسة حيث واصل دراسة السطوح حتى أكملها وشرع بدراسة السطوح العالية لدى والده المرجع الراحل رضوان اللّه عليه، بالإضافة إلى كبار مراجع مدينة قم المقدّسة.
وقد بلغ مرتبة من العلم بحيث صار من أعلام الحوزة وأساتذتها المعروفين الذين يشار إليهم بالبنان حيث انكبّ على تدريس العلوم المختلفة، فشرع بالتدريس من المقدمات ومروراً بالسطوح إلى بحث خارج الفقه.
أمّا سجاياه الأخلاقية فقد كان آية في التقى والورع والتديّن الواقعي، وقد وصفه عمّه المرجع السيد صادق، فقال: فإنّني عشت معه منذ ولادته ولم أر منه غير ما ينبغي للذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين وصفهم القرآن الكريم بهذا الوصف.
وقال أيضاً: كانت السمة البارزة لأخي في العلم وابن أخي في النسب آية اللّه السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) التي لعلّي لمستها أكثر من غيري، ولمسها كل من عاشره ولو نصف ساعة، والأكثر أكثر، التمثيل الشخصي للإنسان المسلم الصحيح، في أقواله وفي سيرته، وفي استماعه، وفي دعوته وإجابته، وهذا ممّا يندر وجوده في كل زمن ولاسيما زماننا هذا.
وكل من كان أقرب إليه كان أكثر معرفة بهذا الأمر، فلقد كان (رحمه اللّه) يمثّل الإيمان والعمل الصالح، ونِعم ما أعدّ نفسه طيلة حياته لمثل هذا اليوم.
حتى الذين عاشوا معه في عالم الطفولة والأيام التي كان يرتاد فيها
ص: 298
الصف الأول والثاني من مدرسة حفّاظ القرآن الكريم في كربلاء المقدسة التي أسسها أخي الأكبر لا أتصور أنهم لديهم إنطباعاً غير حسن عنه، حتى لمرة واحدة.
نعم هذا السيد الجليل تربّى في أحضان هذه السيدة الجليلة وهو من مفاخرها حيث قدّمت للبشرية هذه الشخصية العظيمة التي خدمت المذهب أية خدمة بفكره وعلمه ولسانه وقلمه.
ربما يتصوّر البعض: أنه من الطبيعي توفيق كل امرأة أصبحت زوجة لمرجع كبير مجاهد كالمجدّد الشيرازي لأن تحظى بمثل هذه الأمور، فليس في ذلك عجب أن تنشأ امرأة في بيئة صالحة ويقف إلى جانبها رجل عظيم ولاتصل إلى هذه المقامات، ولا مناقشة في صحة هذا الأمر، ولكن ليس من الإنصاف أن نبخس صاحبة الموسوعة حقّها ونجعل ذلك السبب في موفقيّتها.
فهناك مجموعة خصائص مهمّة تميّزت بها صاحبة الموسوعة ميّزتها عن غيرها وأهلتها للوصول إلى مثل هذه الرتبة الرفيعة ومنها:
1- شدّة التعلّق باللّه: فهي كثيرة الدعاء والتضرّع إلى اللّه تعالى، تطيل في الأذكار والتعقيبات بعد كل صلاة، فضلاً عن التزامها بقراءة أجزاء كثيرة من القرآن الكريم يومياً، وعادة ما تحرص على إمرار إصبعها على الآيات التي تتلوها للاستشفاء، فتمسح إصبعها على المرضى ليمنّ اللّه عليهم بالشفاء وتقول: فيها بركة القرآن.
وكانت دائمة الذكر لله عزّ وجلّ مواظبة على النوافل كثيرة الجلوس في
ص: 299
مصلاّها، ففي كل يوم تحرص على قراءة زيارة عاشوراء، وسورة الأنعام و يس و الملك، فضلاً عن قراءة دعاء الكميل ليالي الجمع ودعاء الندبة صباح يوم الجمعة.
وقد نقلت كريمتها حرم الخطيب الشهير السيد باقر الفالي، فقالت: عندما كنّا في الكويت كانت الوالدة ملتزمة بالصلاة في المسجد حتى صلاة الصبح كانت تؤدّيها خلف زوجها في المسجد، وفي إحدى المرّات رافقتها إلى المسجد ولكنّي استوحشت لشدّة الظلام وخلوة الطريق من البيت إلى المسجد لكن الوالدة كانت مستمرة على الأمر يومياً، ومن شدّة تأكيدها على هذه الصلوات وبعض العبادات الأخرى التزم بذلك بعض أولادها أيضاً.
وعندما كنت صغيرة كانت الوالدة تدعوني كي أجلس إلى جنبها حينما تقرأ الدعاء، فكانت تقرأ الدعاء بصوت مرتفع، وفي يوم الخميس كانت تذكّرنا بأنّها ليلة الجمعة وأنّ الأموات يحضرون إلى أهاليهم ويتوقّعون منهم الخيرات، فاقرأوا لهم القرآن واهدوا لأرواحهم ثواب الخيرات.
ونقلت بعض النساء الكويتيات لبعض بناتها، فقلن: إنّ والدتكم رغم كثرة أولادها و مشاغلها البيتية كانت ملتزمة بالحضور في المسجد والصلاة في الصف الأول.
وفي عصركل يوم كانت تحضر عمّتنا زوجة السيد كاظم المدرسي، مع زوجة السيد العم السيد صادق الشيرازي في غرفتها لقراءة حديث الكساء وإقامة المأتم الحسيني باسم الخمسة من أصحاب الكساء، فيبكين لمصائب أهل البيت (عليهم السلام) ، وكانت الوالدة تحضر المجلس يومياً رغم كثرة مشاغلها.
ص: 300
2- شدّة التعلّق بأهل البيت (عليهم السلام) : ومن خصوصيات هذه السيدة الصالحة أيضاً هي شدّة محبّتها وولائها لأهل البيت (عليهم السلام) خاصة المولى أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فما من يوم إلا وتذكر فضائله وتطلب من الذين حولها أن ينقلوا فضائله لها، وتصغي إلى الفضائل باهتمام بالغ حتى لو كانت الفضيلة مكرّرة، وقد كان السيد محمد رضا (رحمه اللّه) ملتزماً بنقل تلك الفضائل لها يومياً وكذلك بعض أولادها و بناتها.
وليس ذلك فقط، بل لها علاقة شديدة بزيارة مراقد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فما أن سقط طاغية العراق حتى قصدت العراق لزيارة المراقد الشريفة ولم تكن ترغب إطلاقا في مفارقة العراق لكن ظرفها الصحّي وسوء الإمكانات ألجأها للرجوع إلى قم، وبقيت تسافر إلى العراق مرة كل سنة تمكث فيها ثلاثة أشهر في الفندق إلى أن استقر بعض أولادها في النجف وكربلاء.
أمّا في مدينة قم المقدسة فتزور السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) كل ليلة خاصة ليالي الجمعة وتطيل البقاء في الحرم الشريف، وقد استمرت على ذلك حتى لما اشتد مرضها في الأونة الأخيرة، فبالرغم من أنها لاتخرج من الدار إلا أنّها تذهب إلى الحرم كل يوم و تبقى فيه ساعات و هي على الكرسي المتحرّك.
وقد نقلت ابنتها حرم الخطيب الشهير السيد باقر الفالي، فقالت: أتذكر أنّها كانت تذهب إلى حرم السيدة المعصومة (عليها السلام) كل يوم صباحاً، ولمّا اشتد ألم رجلها أخبرت السيد الوالد بالأمر واستأذنته أن تذهب بالسيارة، فقال لها: اتكئي على عصاة واذهبي للحرم مشياً، لانريد أن نترفّع على عامّة الناس ممّن لايمتلكون سيارة، ومع كل ذلك لم تكن تترك الذهاب إلى
ص: 301
الحرم يوماً واحداً.
3- الصبر الجميل: الحديث حول صبر ومعاناة صاحبة المؤلّفات طويل وذو شجون وغصص وآهات، فما عسانا أن نذكر من صبرها وشدّة تحمّلها للصعاب والآلام، وماعسانا أن نترك؟
فقد اختارت هذه السيدة الجليلة العيش بعزّ وإباء إلى جانب بعلها المجاهد الذي لم يعرف يوماً الراحة في الحياة، فكانت له خير معين وسند في الحياة... .
فمنذ أن انتقلت إلى بيت زوجها بدأت مسيرتها الكفاحية، حيث كانت تؤدّي الأعمال المنزلية - طبخاً وكنساً وتنظيفاً وغسلاً للملابس - باليد من دون أن تتخذ خادماً مع أنّ اتخاذ الخادم كان من شأنها و شأن مثيلاتها بل البعض كنّ يمتلكن عدّة خدم في البيت.
وكان الإمام المجدّد يعينها حينما يفرغ من أعماله خارج الدار، بل كان أحياناً يغسل ملابس الأطفال لمّا يرى كثرة أعمال زوجته في البيت، وبالرغم من أعمالها الكثيرة لم تشتك يوماً ما إلى زوجها أوتعاتبه أو تطلب خادماً مع أنّ زوجها كان كثير الخروج من الدار لأنّه كان يرعى شؤون الحوزة العلمية في كربلاء، وكان عمود مرجعية والده الميرزا السيد مهدي الشيرازي (رحمه اللّه) ، وقد تصدّى للمرجعية بعد رحيل والده.
وكانت ترعى والدة زوجها التي كانت طريحة الفراش سنين طوال، وقد خصّصت لها غرفة من بيتها الصغير، وإلى ذلك تشير ابنتها السيدة أم مهدي، قائلة: كانت السيدة الوالدة ترعى شؤون جدّتنا (أم زوجها) المعروفة ب- (خانم بزرك) في الكويت مع أنّ الدار كان قليل الغرف و الأطفال كثيرين،
ص: 302
لكن خصصت إحدى الغرف لها وكانت مقعدة في تلك الفترة لا تستيطع الحركة فكانت الوالدة أول الصباح تحضر لها الفطور، ثم تبدء بتنظيفها بنفسها، وكانت تحضر لها الإبريق وطشتا للتطهير، وإبريقاً آخر لغسل يديها، بالرغم من أنّ لديها بنات آنذاك، إلا أنّ الوالدة كانت تقوم بكل ذلك بمفردها وتبدّل ملابسها و تطهّرها و تنظفها وتقوم بشؤونها.
وحول البيت الذي عاشت فيه مع زوجها يشير صهرها الأكبر العلامة السيد عباس المدرسي في حديث له حول زهد المجدّد الشيرازي، قائلاً: فرغم إقبال الدنيا عليه - بكربلاء - فإنّه ظلّ في بيته المتواضع الذي تزوّج فيه، ولم يكن يتجاوز السبعين متراً فقط. حتى بعد أن كثر أولاده، وتزايد المراجعون له.
ثم عندما هاجر إلى الكويت، بقي في شقّة صغيرة، رغم عائلته الكبيرة حتى أنّه لم يكن يجد مكاناً ليؤلّف فيه كتبه، فاضطرّ أن يتخذ من الطابق الأعلى من سرير الأطفال ذي الطوابق الثلاثة مكاناً يصعد إليه فيؤلّف فيه كتبه.
وفي مدينة قم - سكن منزلاً متواضعاً متداعياً في جوانبه، وفي نفس البيت زوّج جميع أولاده، وكلما يزّوج أحد أبنائه يفرد له حجرة أو يخرج من تقدّم عليه في الزواج إلى منزل مستقل.
في هكذا منازل عاشت هذه السيدة الجليلة وشاطرت زوجها صعاب العيش... وكانت تعتني بشؤون الأطفال وترعاهم وتلبّي احتياجاتهم المختلفة... .
وفي كربلاء لما اختفى الإمام المجدّد مدّة ستة أشهر كانت تدير شؤون
ص: 303
البيت بمفردها ولم تنبس ببنت شفة شكوى أو تضجر.
و في إيران حيث اُضطهد زوجها أشدّ الاضطهاد وهاجر ابناها - السيد رضا بعد أن اعتقل لبضع ساعات والسيد جعفر - خوفاً من بطش الظالمين، ثم حبس ابنها السيد المرتضى لأكثر من سنة دون أن تعلم عنه شيئاً، اضطربت أيّما اضطراب لكنّها صبرت واحتسبت كل ذلك عند اللّه، فكانت تخرج إلى صحن الدار وتكشف عن رأسها تحت السماء وتدعو للفرج، و لما أفرج عنه رأت علائم التعذيب على رقبته وسائر بدنه لم تجزع أو تفزع بل لزمت الصبر واحتسبت.
ولما اُعتقل ابنها المهدي لشهور اشتدت آلامها حيث عايشت الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي ألمّت بمرجعية زوجها، فكانت خير عضيد له تخفف من آلامه و تشاركه المحنة و تصبّره و تصبر.
4- التواضع الشديد: عُرفت السيدة أم محمد رضا قبل أن تقترن بالمرجع الشيرازي (رحمه اللّه) بالتواضع الشديد وعدم الترفّع على الآخرين والالتزام بوصايا أهل البيت (عليهم السلام) الذين أكدوا على التواضع ومن ذلك:
قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لاحسب إلا بالتواضع(1).
وقال الإمام علي (عليه السلام) : التواضع زكاة الشرف(2).
وقال (عليه السلام) : عليك بالتواضع فإنّه من أعظم العبادة(3).
ومن شواهد تواضعها أيضاً ما نقلته كريمتها، فقالت: إنّ إمرأة كانت
ص: 304
تتعمّد إهانتها - حسداً أو لسوء تفاهم، فكانت - مثلاً - تدعو الجميع إلى وليمة أو برنامج وتهمل الوالدة، أو كانت تزور الجميع وتترك زيارتها باستمرار، ولمّا علم الإمام الشيرازي بذلك قال لها: اذهبي أنتي إلى زيارتها - مع أنّ الجميع كانوا ينهونها عن الذهاب إلى بيت تلك المرأة - إلا أنّها كانت تمتثل أوامر زوجها و تذهب إلى زيارتها.
ونقلت إحدى بناتها، فقالت: كنت أحترم بعض النساء لشدّة احترام الوالدة لهن، مع أنّ بعضهن كن يتعاملن معها بجفاف إلا أنّها كانت تأمرنا دائماً بتقبيل أيديهن، وهذه مسألة أخلاقية مهمّة جداً أن الإنسان لا ينقل الخلافات بينه و بين غيره إلى أولاده بل يربّي أولاده على الاحترام المتزايد حتى مع من يتعامل معهم بالغلظة.
وأتذكر أنّني كنت صغيرة جداً كيف كان البعض يسيء التعامل مع والدتي وكنت آنذاك أتأذّى من تلك التصرّفات إلا أنّني كنت أسمع الوالد يخاطبها و يقول لها: أنتي تنازلي فكانت تطيع الأمر بلا مناقشة.
5- خير سند لخير عمد: ذكرنا أنّ السيدة خديجة (عليها السلام) كانت خير سند لسيد المرسلين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكذا السيدة الزهراء (عليها السلام) فقد كانت خير ناصر ومعين لأميرالمؤمنين (عليه السلام) ، والشواهد على دعم ومساندة النساء الصالحات لعظماء التأريخ كثيرة منها السيدة أم محمد رضا، فقد كانت خير سند للمجدّد الشيرازي (رحمه اللّه) الذي قضى عمره كله بالجهاد والنشاط والعلم والعمل.
ولو أردنا ذكر الشواهد على مواقفها الكثيرة في وقوفها إلى جنب بعلها وخدمته في خدمة الدين لطال المقام ولذا فإنّنا نقتصر على بعضها ومنها:
كانت تتحمّل زهد السيد حيث كان (رحمه اللّه) يحارب الظواهر الاجتماعية
ص: 305
المنحرفة قولاً وعملا، ممّا يسبب الحرج الشديد لها إذ إنّ الأعراف الاجتماعية حاكمة، فكانت تقع بين محاذير كثيرة.
وعلى سبيل المثال في زواج أولادها وبناتها كانت تحتاج إلى المال لمراسيم الزواج إلا أنّ السيد لشدّة زهده ومراعاته لحال أضعف الناس من الفقراء كان يرفض ذلك مع أنّ الملايين تجري بين يديه.
وقد نقلت ابنتها السيدة أم عباس، فقالت: لم يعط السيد الوالد لزواجي من المال إلا بمقدار شراء بعض الأواني.
وكان السيد يعطيها راتباً بمقدار ما يعطيه لسائر بناته وزوجات أبنائه و لم يكن يفضّل أحداً على أحد.
ونقل شقيقها الحاج رسول معاش، فقال: كانت والدة السيد محمد رضا حافظة لأسرارالسيد (رحمه اللّه) ، وعندما اختفى السيد جراء اعتقال الشهيد آية اللّه السيد سيد حسن الشيرازي لم يكن أحد يعرف عن اختفائه شيئاً سواها، وفي أحد الأيام زرتها في بيتها ولما قصدت الخروج قالت لي: إبق عندنا هذه الليلة فامتنعت رغم اصرارها على بقائي، وفي صباح اليوم الثاني أُخبرت أنّ السيد سافر, فعلمت أنّ السيد كان يريد السفر وأحبّت رضيعتنا أن أبقى لأودّعه بدون أن تبيّن لي الوجه في ذلك ومع رغبتها الشديدة في توديعي للسيد لكن حفظها للسر حال دون أن تخبرني بالأمر.
تمرّضت السيدة أم محمد رضا مرضاً شديداً قبل رحيل زوجها، وقد أكد الأطباء أنّ مثل هذا المريض لا يمكن شفاؤه إلا ببطئ شديد وأقل تقدير 3 سنوات، لكن عناية اللّه عزّ وجلّ وتوسّل زوجها اختصر المسافة
ص: 306
لفترة قصيرة جداً ممّا دعا إلى استغراب الجميع بما فيهم الأطباء الذين أشرفوا على حالتها.
تأثرت السيدة أم محمد رضا حين وفاة زوجها المجدّد الشيرازي (رحمه اللّه) كثيرا، حيث فقدت عملاقاً عظيماً أبكى فقده عيون العدو والصديق، وأمضّ فراقه قلوب الجميع فكانت مصيبة وفاته عظيمة عليها.
ومع ذلك كانت صابرة أمام مصيبة كهذه محتسبة.
وبالرغم من أنّها فقدت بعلها المجدّد الذي لايسد مكانه أحد ولكنّها كانت مأنوسة بزهرة أبنائها السيد الجليل محمد رضا، وقد نقل الحاج رسول معاش، فقال: كان المرحوم السيد محمد رضا يرعى والدته رعاية خاصة، فكان يهتم كثيراً بمأكل والدته ومشربها، ففي صباح كل يوم يجهّز لها فطورها ويفطر معها ,إلا إذا سافر إلى الكويت. ولذا لما استشهد وجد أولادها أنّ إخبارها بالأمر قد يؤدّي بها إلى الموت، فآثروا كتمان الخبر عنها... .
هاجرت السيدة أم محمد رضا مع زوجها و أولادها هاربين من العراق إلى سوريا إثر الضغوطات الشديدة التي تعرّض لها الإمام المجدّد و لبثت في لبنان و سوريا فترة قصيرة جداً، ثم إلى الكويت لتقضي 8 سنوات فيها، ثم هاجرت إلى إيران و لازالت تسكن مدينة قم المقدّسة.
كانت قليلة السفر جداً حيث كان يؤكد الإمام الشيرازي على قلة السفر
ص: 307
لعوامل متعدّدة منها زهدا و منها انشغالا بالأهم وما أشبه.
ولذا لم يتجاوز سفراتها إلا ما كان للهجرة أو كان للزيارة كحج بيت اللّه الحرام والعمرة وكذلك مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) حيث كانت تسافر إلى مشهد كل سنة مرّة أو أقل.
قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له(1).
فقد حظيت السيدة المؤلّفة بجميع موارد الحديث المذكور، فخلّفت أولاداً صالحين و كفاها فخراً أنّ أكبر أولادها آية اللّه الشهيد المقدّس السيد محمد رضا الشيرازي (رحمه اللّه) الذي قلّما شاهد التاريخ مثله.
وكتبت كتبا قيمة في مواضيع مختلفة وعمرها بين الخمسين و الستين، ومن تلك الكتب:
1- (من كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) ).
2- (من كلمات الإمام العسكري (عليه السلام) ).
3- (الأخلاق).
4- (نبذة عن حياة المعصومين (عليهم السلام) ).
5- (خلفاء السقيفة في محكمة التاريخ).
6- (من معاجز المعصومين (عليهم السلام) ).
7- (المحاضرات).
ص: 308
8- (الأربعون حديثا )، و غير ذلك.
لكن لم يكن بوسعها القيام بالمورد الثالث من الحديث الشريف إذ أنها لم تملك المال الكافي لإنشاء مشروع يكون صدقة جارية إلى أن قرّر ورثة الحاج صالح معاش (أبيها) بيع داره و تقسيم الإرث إلى الورثة فكان سهم الحاجّة ما يعادل ثمانية آلاف دولار، فقرّرت أن تشتري بها قطعة أرض في كربلاء المقدّسة لتكون صدقة جارية، لكن المبلغ كان ضئيلاً جداً، فباعت ذهبها القليل وأضافت إليه مبلغاً من المال، وبقيت كلّما تحصل على شيء من الهدايا تضيفه إليه، ثم أخذت تجمع التبرّعات واستدانت مبلغاً من المال إلى أن اجتمع ما يكفي لشراء قطعة أرض مئتي متر في منطقة البوبيات الواقعة ما يبعد عن الحرم الحسيني الشريف بمسافة كيلو متر واحد تقريبا.
وبقيت الأرض معطلّة عدّة سنين لعدم توفّر المال الكافي لبنائها، ثم شرع بناء حسينية في طابقين للرجال و للنساء، وفي أعلى الحسينية ثلاثة طوابق شقق سكنية لسكن طلبة العلوم الدينية من أولادها الذكور.
وفي بناء هذه الحسينية عبرة لمن اعتبر حيث يمكن لامرأة كبيرة تجاوزت السبعين وهي لا تملك من حطام الدنيا شيئا أن تهتم لبناء صدقة جارية، فإنّ الاهتمام ببناء المؤسسات والمشاريع الخيرية في حال الحياة من أهل القربات والصدقات الجارية، فإنّ شق تمرة يدفعها المؤمن في حال حياته أفضل من أطنان يوصي بها بعد وفاته كما هو مضمون حديث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .
وفي الختام نتطرق إلى ذكر مجموعة قيّمة من توجيهات والدة آية اللّه السيد محمد رضا (رحمه اللّه) والتي كانت تذكر بها أولادها و بناتها و غيرهم و قد كانت هي من أولى العاملات بتلك التوجيهات.
ص: 309
وهي وصايا تتعلّق بمختلف الجوانب الشخصية والاجتماعية والعبادية والصحية و... وهي منار للمؤمنين والمؤمنات، والعمل بها سبب لسعادة الدنيا والآخرة.
1- التأكيد على صلاة أول الشهر.
2- التأكيد على صلاة الغفيلة.
3- التأكيد على قراءة الفاتحة عصر الخميس للأموات.
4- التأكيد على إقامة الصلاة أول الوقت.
5- التأكيد على سجدة الشكر بعد إتمام الصلاة، لأنه يرغم أنف الشيطان.
6- التأكيد على إقامة الصلاة بين الظهر و العصر من يوم الجمعة و الذي يكرر فيه سورة التوحيد 7 مرات حفاظا على عافية المصلي إلى الأسبوع الثاني.
7- التأكيد على غسل الجمعة.
8- التأكيد على تكثير النسل و الذرية.
9- التأكيد على البر بالوالدين و خاصة قراءة صلاة الوالدين كل ليلة.
10- التأكيد على ذكر فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) .
11- التأكيد على قراءة الصلوات خاصة صلوات عصر الجمعة.
12- التأكيد على مهر السنة.
13- التأكيد على الزواج المبكر البسيط.
14- التأكيد على قراءة صلاة الوصية.
15- التأكيد على البنات لحفظ الحجاب الكامل و خاصة لبس البوشية.
ص: 310
16- التأكيد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
17- التأكيد على التواصل مع الفقراء و المستضعفين و إعطائهم الصدقة.
18- التأكيد على تناول السحور.
19- إعطاء الفقير الصدقة صباح يوم الخميس و قد كانت تقوم بذلك بنفسها.
20- التأكيد على تناول الملح أول الطعام وآخره.
21- التأكيد على عدم الغيبة.
22- الاستمرار على المصافحة بعد الصلاة.
23- التأكيد على إقامة الصلوات المستحبة ليالي شهر رمضان.
24- التأكيد على إقامة الصلوات المستحبة المذكورة في مفاتيح الجنان.
25- التأكيد على قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الظهر من يوم الجمعة.
26- التأكيد على إقامة نافلة الفجر.
27- لبس السواد في أيام استشهاد المعصومين (عليهم السلام) .
28- طلب الدعاء من المؤمنين و المؤمنات.
29- طلب قراءة حمد الشفاء للمرضى.
30- النهي عن الرقص في الأعراس.
31- النهي عن لبس الملابس الضيقة و الفاضحة في الأعراس.
32- التأكيد على خدمة الأرحام و عامة الناس و منها تحصيل سيارة الأجرة عندما يزورها زائر لتوصله إلى مقصده.
33- التأكيد على عدم الإسراف.
ص: 311
34- التأكيد على التأليف و الكتابة و خاصة الأحاديث الشريفة.
35- التأكيد على قراءة حديث الكساء.
36- التأكيد على قراءة زيارة الجامعة الكبيرة.
37- التأكيد على قراءة زيارة عاشوراء.
38- التأكيد على إقامة نافلة الليل.
39- التأكيد على قراءة سورة يس والملك.
40- التأكيد على قراءة دعاء الكميل.
41- التأكيد على قراءة دعاء السمات.
42- التأكيد على إقامة نوافل شهر رجب وشعبان وشهر رمضان.
43- التأكيد على زيارة العتبات المقدسة.
44- التأكيد على البيتوتة في النجف الأشرف.
45- التأكيد على قول (اللّه و محمد و علي) للصبي حينما يريد أن يتكلم بدل ما هو المتعارف بين الناس من قول (أغو).
46- التأكيد على البساطة في العيش.
47- استضافة من تراه قبل الغداء أو قبل العشاء من نفس اليوم.
48- التأكيد على النظافة الشخصية.
49- إهداء مائدة الطعام إلى أحد المعصومين (عليهم السلام) .
50- التأكيد على الوضوء دائما و خاصة قبل النوم.
51- التأكيد على البسملة قبل الطعام.
52- التأكيد على السلام على كل أحد.
53- التأكيد على تناول الطعام باليد اليمنى.
ص: 312
54- التأكيد على متابعة الإمام فورا و خاصة بعد تكبيرة الإحرام بلا فصل إحرازا لمزيد من الثواب.
55- التأكيد على استخدام الألفاظ الإسلامية بدل الغربية ك- (في أمان اللّه) بدل (باي باي).
56- الالتزام بالاستماع إلى التوجيهات الدينية من العتبة الحسينية و التي يلقيها أبو جعفر كل يوم عند الظهر و المغرب من قناة كربلاء الفضائية.
57- إعطاء الصدقة للفقير بيدها.
58- فعل المستحبات التي تسمعها من المؤمنات و متابعة كيفيتها و... .
59- تفقدها للأقرباء و السؤال عن صحتهم و... .
60- إيصال السلام للسيد المرجع باستمرار و كذا الاقرباء و طلب الدعاء منهم.
61- قراءة سورة التوحيد و القدر و بعض السور الأخرى كل جمعة 100 مرة.
62- الالتزام بصلاة الجماعة في المسجد أو الحسينية أو البيت خلف أحد أولادها أو أحفادها أو بعض النساء.
63- الالتزام بتكرار الصلوات الواجبة حينما يحضر إمام ثاني للجماعة، بنية الإعادة أو قضاء ما في الذمة مع أنها صلت جماعة من قبل، بل أحيانا كانت تعيد الصلاة عدة مرات اقتداءاً بإمام جديد.
64- الالتزام بالذهاب إلى الحرم والمشي إليه يوميا.
65- الالتزام بزيارة أهل القبور في كل خميس في مقبرة بهشت معصومة و بقيع و... .
ص: 313
66- الالتزام بزيارة جمكران كل أسبوع مرة.
67- الالتزام بزيارة مرقد شاه عبد العظيم متى ما ذهبت إلى طهران.
وفي الختام نسأل اللّه أن يطيل في عمر السيدة أم محمد رضا رضوان اللّه عليه في خير وبركة وعافية إنّه قريب مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
ص: 314
الصورة
(عليهم السلام) 315.jpg
ص: 315
الصورة
(عليهم السلام) 316.jpg
ص: 316
الصورة
(عليهم السلام) 317.jpg
ص: 317
الصورة
(عليهم السلام) 318.jpg
ص: 318
الصورة
(عليهم السلام) 319.jpg
ص: 319
الصورة
(عليهم السلام) 320.jpg
ص: 320
الأخلاق
المقدمة... 7
الفصل الأول: الآيات القرآنية والأحاديث القدسية... 17
فضل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 18
الخلق العظيم... 18
طريق المحبّة... 18
الفصل الثاني: ما روي عن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 19
خيرالدنيا والآخرة... 19
مقام الخلوق... 19
باب الجنة... 19
أفضل الناس... 19
أعظم المخلوقات... 20
أحبّ الناس إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 20
من آثار الأخلاق في الدنيا... 20
من آثار الأخلاق في الآخرة... 20
المال والأخلاق... 21
زينة الدين... 21
العلم والأخلاق... 21
سرّ قوّة الإيمان... 21
سيئوا الأخلاق من أهل النار... 22
ص: 321
في أسفل جهنم... 22
أعمالهم هباء... 22
لايغفر لهم... 22
لاتقبل توبتهم... 22
أفضل الأعمال... 23
لاتجتمعان في مسلم... 23
أكثر ما يدخل به الجنة... 23
من ثمرات حسن الخلق... 23
العمل والأخلاق... 24
بيت في أعلى الجنة... 24
علامة الإيمان... 24
في أمان اللّه ورحمته... 24
أثر الأخلاق... 25
الزيادة في الرزق... 25
من أخلاق الأنبياء... 25
كمال الإسلام... 25
الشؤم... 26
أفضل المؤمنين... 26
إنبات المودّة... 26
يذهب بالسخيمة... 26
خير الناس... 26
أكمل المؤمنين... 26
أفضل المؤمنين... 26
الشؤمة... 27
من وصايا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 27
معاشرة الناس... 27
ص: 322
من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 27
من أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 28
إسلام يهودي... 29
أشبه العباد باللّه (عزّوجلّ)... 29
حسن الخلق في الجنة لا محالة... 30
أقرب الناس من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 30
نصف الدين... 30
أوّل ما يوضع في الميزان... 30
لا عذر له... 30
آثار حسن الخلق... 30
الأخلاق من اللّه (عزّوجلّ)... 31
وصيته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) ... 31
أمان يوم القيامة... 31
أحبّ العباد إلى اللّه (عزّوجلّ)... 31
الغنى الحقيقي... 32
أكثر من في الجنة... 32
من دعاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 32
لايدخل الجنة إلاّ حسن الأخلاق... 32
زينة الإسلام... 32
أول ما يوضع في الميزان... 33
مداراة الناس... 33
من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التبسّم... 33
من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإحسان... 33
من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الرأفة... 34
إن اللّه يبغض المعبس... 34
كمال الرجل... 34
ص: 323
من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المروءة... 34
من أخلاق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لين الجانب... 35
سيّئوا الأخلاق: معذّبون... 35
من آثار سوء الخلق مع الأهل... 35
وعاء الدين... 36
الأخلاق ومقامه... 36
أثقل شيء في الميزان... 36
أشبه الناس برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 37
الدين هو حسن الخلق... 37
حقيقة الرسالة... 37
أخلاق المؤمن... 37
أفضل المؤمنين... 37
من علامات الإسلام... 38
المال والأخلاق... 38
أفضل ما أعطي الانسان... 38
أمان من النار... 38
الأخلاق في الميزان... 38
أفضل الخصال... 39
الأخلاق يمن أو نكد... 39
الأخلاق سعادة أو شقاء... 39
الأخلاق مطهّرة أو مفسدة... 39
من ثمرات حسن الخلق... 39
لا تقبل توبتهم... 40
مروءة الرجل... 40
أفضل الأعمال... 41
خير الناس... 41
ص: 324
شرط الدخول في الجنة... 41
الصبر على سوء خلق الزوج... 41
أجر الصبر على سوء خلق الزوجة... 41
أجر الصبر على سوء خلق الزوج... 42
طوبى لهم... 42
من كمال الإيمان... 42
حسن الخلق يوجب الشفاعة... 42
حسن الخلق يوجب الجنة... 42
النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن فاحشاً... 43
الخلق العظيم... 43
النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سمح الكفّ... 43
الفصل الثالث: ما روي عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) ... 45
إحدى النعمتين... 45
أحسن السناء... 45
من أفضل ما أعطي الإنسان... 45
أحد العطاءين... 45
رأس كل برّ... 45
من ثمرات حسن الخلق... 46
حسن الخلق نعيم... 46
من أخلاق الأنبياء... 46
الأخلاق عزّ أو ذلّ... 46
الإسلام حسن الخلق... 46
حسن الخلق يوجب الرزق... 46
وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 46
طريق حسن الخلق... 47
من دعائم النجاح... 48
ص: 325
علامة الأصالة... 48
خير رفيق... 48
صحيفة المؤمن... 48
المال والأخلاق... 48
من أخلاق أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 48
أفضل الدين... 49
الخلق للنفس... 49
خير قرين... 49
يدرّ الرزق... 49
حسن وجه المؤمن... 49
إحدى البشارتين... 49
يورث المحبّة... 50
شيمة كل حرّ... 50
من آثار حسن الخلق... 50
نتائج سوء الخلق... 50
أحسن الأشياء... 50
أطهر الناس... 50
من آثار الأخلاق... 50
من آثار حسن الخلق في الدنيا 51
طريق البذل... 51
ثمرة الأدب... 51
ما يوجب المحبّة... 51
رأس الإيمان... 51
ما يوحش النفس... 51
سوء الخلق ينكد العيش... 51
من آثار سوء الخلق... 52
ص: 326
نعم الحسب... 52
نعم الشيمة... 52
من آثار سوء الخلق... 52
حسن الخلق يوسّع الرزق... 53
العيش الهنيء... 53
ثمار العقل... 53
رأس العقل... 53
عليكم بمكارم الأخلاق... 53
من أخلاق أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 53
تنافسوا في الاخلاق... 54
دليل النجاح... 54
حسن الخلق نعم القرين... 54
عنوان صحيفة المؤمن... 54
حسن الخلق يوجب المحبة... 54
من محاسن الأخلاق... 54
سوء الخلق وحشة... 55
الأذان يحسّن الخلق... 55
سوء الخلق يوجب الغمّ... 55
سوء الخلق عذاب... 55
سيء الخلق لا يوفّق للتوبة... 55
شرط الإيمان... 55
أكرم الحسب... 56
مطفيء النيران... 56
أفضل السخاء... 56
من دواعي المحبّة... 56
من علامات أهل الدين... 56
ص: 327
الفصل الرابع والخامس: ما روي عن الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) ... 57
ما روي عن الإ مام الحسن (عليه السلام) ... 57
خير الناس... 57
أحسن الحسن... 57
من أخلاق الإمام الحسن (عليه السلام) ... 57
ألذ العيش... 57
ما روي عن الإ مام الحسين (عليه السلام) ... 58
حسن الخلق... 58
الفصل السادس والسابع: ما روي عن الإمام السجاد والباقر (عليهما السلام) ... 59
ما روي عن الإ مام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) ... 59
أحبّ الخلق إلى اللّه... 59
من دعائه (عليه السلام) ... 59
طوبى لمن طاب خلقه... 59
حسن الخلق مع الأهل... 59
كمال الدين... 60
من آثار سوء الخلق... 60
أفضل ما في الميزان... 60
الأقرب إلى اللّه... 60
نجى بأخلاقه... 60
ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ... 61
أكمل المؤمنين... 61
أثر الأخلاق في الدارين... 61
من أسباب حسن الخلق... 61
أثر الأخلاق في الدارين... 61
الخير والشر... 62
علامات أهل التقوى... 62
ص: 328
خصال للإمتحان... 62
الفصل الثامن: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ... 63
أثر حسن الخلق في الدنيا... 63
من خصائص الأنبياء (عليهم السلام) ... 63
من وصايا الإمام الصادق (عليه السلام) ... 63
أثر الأخلاق في الآخرة... 65
زينة الدنيا 65
من وصايا لقمان (عليه السلام) ... 65
حدّ حسن الخلق... 66
من أخلاق الأئمة (عليهم السلام) ... 66
الدخول في رحمة اللّه... 66
خصال لا يجمعها اللّه تعالى في منافق... 66
أحبّ الأعمال إلى اللّه بعد الفرائض... 66
أجر حسن الخلق... 67
ثواب حسن الخلق... 67
كمال العقل... 67
كمال الايمان... 67
حسن الخلق يوجب... 68
سوء الخلق عذاب... 68
يتبرأ (عليه السلام) من سيء الخلق... 68
حسن الخلق يميت الخطيئة... 68
من خصائص الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 68
من أخلاق الأنبياء... 69
أكمل المؤمنين... 69
الخلق منحة من اللّه... 69
التبسّم حسنة... 69
ص: 329
أثر الأخلاق في الدارين... 69
مصفيات الودّ بين الأخوان... 70
من أسباب سوء الخلق... 70
من سعادة المرء... 70
علامة الإيمان... 71
من آثار سوء الخلق... 71
الحسنة في الدنيا... 71
من مكارم الأخلاق... 71
من آثار الأخلاق في الدارين... 71
طريق الكرامة وطريق المهانة... 71
باب الجنة... 72
من كمال الأدب والمروءة... 72
حسن الخلق من الدين... 72
علامات الكرم... 72
حسن الخلق يزيد في الرزق... 72
سوء الخلق نكد... 72
المداعبة من حسن الخلق... 73
غفران الذنوب... 73
الفصل التاسع والعاشر: ما روي عن الإمام الكاظم والرضا (عليهما السلام) ... 74
ما روي عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ... 74
خير الدنيا والآخرة... 74
به يشتري الأحرار... 74
حسن الخلق يوجب الجنة... 74
من وصايا الإمام الكاظم (عليه السلام) ... 75
خير الدارين... 75
الزيادة في الإيمان... 75
ص: 330
ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) ... 75
أثر حسن الخلق في الدنيا... 75
أثر حسن الخلق في الآخرة... 75
من وصايا الإمام الرضا (عليه السلام) ... 76
دخول الجنة... 76
سوء الخلق يوجب النار... 76
الاحتياج إلى حسن الخلق... 76
زيادة العمر... 76
ربّ العالمين يأمر بالخلق... 77
سيء الخلق في النار... 77
الفصل الحادي عشر: ما روي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ... 78
حسّنوا خلقكم... 78
الفصل الثاني عشر: القصص والعبر... 79
أيّها السارق، وهبت لك الخاتم!... 79
من أخلاق نبي اللّه موسى (عليه السلام) ... 80
إنّما أردت اختبارك يا أستاذ!... 80
الفصل الثالث عشر: الأقوال والحكم... 82
من وصايا لقمان لابنه... 82
يبكي على سيء الخلق... 82
سيئة لا تمحى... 83
أكمل الناس... 83
اختبر نفسك! 83
علامات حسن الخلق... 83
أثر الأخلاق في الدنيا... 84
الفاجر الخلوق خير من العابد الثقيل... 84
الأخلاق منها عطر ومنها كبريت... 84
ص: 331
ممّن تعلّمت حسن الخلق؟... 84
لاكثّر اللّه في المسلمين مثله!... 85
طريق المودة... 85
ثمرة البشر... 85
حسن المعاشرة: طلاقة الوجه... 85
الفصل الرابع عشر: الأشعار... 86
بالبشر تموت الضغائن... 86
أين مثل ذلك الإنسان؟... 86
أودية المكارم... 86
خلفاء السقيفة
في محكمة التاريخ
مقدمة الّمؤلفة... 91
الفصل الأول: محكمة الأول: أبي بكر عتيق بن أبي قحافة... 93
الحب والبغض... 95
طعم الإيمان... 95
البراءة واجبة... 96
الشك في كفرهما... 97
أنت الصدّيق... 97
عداوة أبي بكر لله ورسوله... 98
أبوبكر الظالم... 99
معجزة أم سحر؟! 100
شرب الخمر في نهار شهر رمضان... 101
أربعة بايع فيها أبوبكر علياً... 101
اللجوء إلى الحيلة... 102
إتمام الحجّة على أبي بكر... 104
عليكم بعلي بن أبي طالب... 108
ص: 332
أبوبكر يعصي اللّه ورسوله... 108
كتاب أبي بكر إلى والده... 109
منع أبي بكر من الصلاة على فاطمة (عليها السلام) ... 110
أبوبكر من الكافرين... 111
المشورة المنكوسة... 113
محاولات لاغتيال أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 115
خالد يروم قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ... 116
كيف تعامل أمير المؤمنين (عليه السلام) مع خالد؟... 118
اللجوء إلى قيس بن سعد... 119
على مثلي يتفقّه الجاهلون؟... 122
أمير المؤمنين (عليه السلام) يفضح القوم... 124
ماذا جرى بعد رسوله اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟... 125
أبوبكر يطالب الزهراء (عليه السلام) بالبينة... 126
موقف معاذ بن جبل... 128
غصب فدك... 130
رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أبي بكر... 133
الزهراء (عليها السلام) تشتكي... 138
آذيتماني... 138
لم يصلّيا على رسوله اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 139
كل ظلامة في الإسلام... 139
شكاية أميرالمؤمنين (عليه السلام) ... 139
أمرّ من العلقم... 141
الحرب على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 142
اعترافات... 142
اعتراف خطير في الصحاح... 145
جهل الخلفاء... 146
ص: 333
سلمان يستدرك الموقف... 151
أبوبكر حين الموت... 161
لعنات اللّه كلّها... 162
جميع الذنوب... 163
بين أبي بكر وعمر... 163
زريق وحبتر في القرآن... 164
الطغاة في القرآن... 164
الذين أضلا الخلق... 165
ولد الزنا في القرآن... 166
الفحشاء والمنكر والبغي في القرآن... 167
الكفر والفسوق والعصيان في القرآن... 167
خلودهما في النار... 168
على خطى اليهود... 168
العيون الظالمة... 168
مع إبليس... 169
معجزة أم سحر؟... 169
لعن الشيخين في الآفاق... 170
الكفر بعد الكفر بعد الكفر... 170
الحسد والعداوة... 170
أبواب جهنم... 171
سهم أهل البيت (عليهم السلام) ... 171
جميع الأوزار... 171
ظلمهما إلى اليوم... 172
كل الأوزار في أعناقهما... 172
لعنة اللّه والملائكة والناس... 173
أساس الظلم... 173
ص: 334
عبادة الاصنام... 173
لعنهما في سجدة الشكر... 175
الفصل الثاني: محكمة الثاني: عمر بن الخطاب... 177
عمر الفاروق!!... 179
هكذا أصبح خليفة!!... 179
بدع ابن الخطاب... 180
صلاة التراويح... 180
بدعة الطلاق... 181
بدعة تحويل المقام عن موضعه... 181
تغيير مقام ابراهيم (عليه السلام) ... 182
تغيير الجزية عن النصارى... 183
القومية العمرية... 184
الإ رث عند عمر... 184
الأذان العمري... 184
التلاعب بأموال المسلمين... 185
التلاعب بأحكام اللّه... 185
الكذب على منبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 186
مع بيوت النبوة... 188
الظلم والحسد... 188
غصب بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 191
عيد الشيعة... 191
هل تجدّد لأهل البيت (عليهم السلام) عيد؟... 192
حذيفة يتساءل عن هتك الحرمة... 193
بركات اليوم التاسع من ربيع... 195
أسماء يوم التاسع من ربيع... 196
جهل الخليفة... 198
ص: 335
رغماً على أنف الخليفة!... 198
رعب الثعبان... 200
وجهة نظر عمر في الحمام... 201
عمر حين الموت... 202
ليت عمر لم يولد... 203
الشياطن في القرآن... 204
منّاع الخير... 204
عذاب عمر في القرآن... 205
بين إبليس وعمر... 205
بين عمر وقنفذ... 206
بين النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعمر... 207
منتهى جهل عمر!!... 208
حلال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حرام عند عمر!!... 209
التلاعب بحدود اللّه... 210
كل الناس أفقه من عمر!!... 214
التجسّس والجهل!!... 215
ترك الصلاة عند عمر!!... 216
الهالك الجاهل... 219
وهل ترجم المجنونة؟!!... 221
اختر أحد الثلاثة... 222
عمر والحجر الأسود... 223
جهل عمر بالقرآن... 225
جهل عمر بالحكم الشرعي... 226
عمر وحلّي الكعبة... 227
جهل عمر بالقرآن... 227
الفصل الثالث: محكمة الثالث: عثمان بن عفّان... 229
ص: 336
عثمان في القرآن... 231
اللّه قاتل عثمان... 232
علي (عليه السلام) لم يكره قتل عثمان... 232
عثمان في المزبلة... 233
إِيواء طريد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 235
التلاعب ببيت المال... 236
تعذيب وتبعيد... 237
رغماً على أنف الخليفة!... 237
جزاء دفن الميّت... 239
الخليفة مع صحابة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) !!... 240
بين عثمان وأصحاب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 241
ضرب عمار بن ياسر... 243
مع بيت مال المسلمين... 245
التلاعب بحدود اللّه... 246
التلاعب بالصلاة... 247
هتك حرمة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 248
إتّهام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 248
تخطئة القرآن!... 249
تغيير في صلاة العيد... 250
بدعة الأذان الثالث... 250
عاجز حتى عن خطبة!!... 251
جهل الخليفة!!... 251
رأي علي (عليه السلام) في عثمان... 251
التلاعب ببيت المال... 252
رأي أبي ذر في عثمان... 252
رأي عمار في عثمان... 253
ص: 337
رأي عبد اللّه بن مسعود في عثمان... 254
رأي حذيفة بن اليمان في عثمان... 254
رأي المقداد في عثمان... 254
رأي طلحة في عثمان... 255
رأي الزبير في عثمان... 255
رأي عبد الرحمن بن عوف في عثمان... 256
رأي عمرو بن العاص في عثمان... 257
رأي محمد بن مسلمة الأنصاري في عثمان... 257
رأي جبلة بن عمرو الساعدي... 258
رأي جهجاه بن عمرو الغفاري... 258
رأي عائشة في عثمان... 259
بين عائشة وعثمان... 263
رأي أميرالمؤمنين (عليه السلام) في عثمان... 264
رأي الإمام الحسن (عليه السلام) في عثمان... 265
رأي الإمام الحسين (عليه السلام) في عثمان... 266
قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عثمان... 266
رأي محمد بن الحنفية في عثمان... 266
رأي الإمام الباقر (عليه السلام) في عثمان... 267
شرّ من قارون... 267
عجل هذه الأمة... 267
ليتني قتلته... 267
عثمان يوم القيامة... 268
يلعن بين المشرق والمغرب... 268
عثمان من اصحاب العقبة... 268
الالتجاء إلى اليهود... 269
أعضاء الشورى في منظار عمر... 269
ص: 338
عثمان والبدعة... 271
الفصل الرابع: ما ورد في لعن بني أميّة وكفرهم... 273
الآيات... 275
الروايات... 275
جناحا الكفر... 275
أولياء بني أمية... 275
على النار... 276
أشرّ خلق اللّه... 276
أعمال بني أميّة... 276
الأفجرين من قريش... 277
قرود على المنبر... 277
أصحاب النار... 278
صدق اللّه أم كذب؟! 278
أبواب جهنّم... 278
الوجوه المسودّة... 279
ماذا يودّ الكافر؟... 279
الكفر بعد النبي... 280
دعاء صنمي قريش... 281
الخاتمة: السيرة الذاتية... 283
نموذج المرأة المثالية في القرن 21... 283
النسب الطيّب... 286
ماقبل الزواج... 289
نبذة عن زوجها... 290
الزواج المبارك... 293
ما بعد الزواج... 296
مولد السيد الرضا (رحمه اللّه) ... 297
ص: 339
أمور ينبغي ذكرها... 299
مرضها... 306
رحيل زوجها... 307
هاجرت الهجرتين... 307
سفراتها... 307
المرأة المثالية... 308
فهرس المحتويات... 321
ص: 340