كيف نقرأ القرآن؟

هوية الكتاب

كيف

نقرأ القرآن؟

علي الموسوي

السبزواري

ص: 1

اشارة

ص: 2

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون نذيراً للعالمين والصلاة والسلام على الداعي إلى ربه السراج المنير وعلى آله المصطفين الأخيار.

من حسنات عصرنا الحاضر تكامل التواصل الاجتماعي بجميع أدواته وآلياته من القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية والأجهزة الذكية وغيرها فإنها على مساوئها الكثيرة والمتعددة لكنها لم تدع للإنسان المعاصر مجالاً لعذر وحجة فإن صوت القرآن الكريم وعلومه ومعارفه قد وصلت إلى كل بقعة من بقاع هذا العالم الوسيع أو سمعه كل فرد من أفراد البشر !

وقد انشئت مؤسسات ثقافية ومدارس لتعليم

ص: 3

كل ما يرتبط بالكتاب العظيم طباعةً وقراءةً وحفظاً تفسيراً وعلوماً ومعارف، وقد ألفت كتب كثيرة في

كل مجالات التي تتعلق بالقرآن وتربى جيل من العلماء والمتخصصين على تلك العلوم والمعارف مما لم يكن كذلك في أيّ عصر من العصور السابقة.

ومع كل ذلك التقدم الكبير نرى التخلف الهائل في الواقع العملي في مجتمعاتنا المسلمة والابتعاد عن المنهج القرآني الذي أراده الله عزّ وجلّ لهم .

ولا ريب في أن الخلل لم يكن في المنهج لأنه معصوم من الزلل والخطأ، وقد طبقه الرسول العظيم وأصحابه الخيّرون الفاضلون حتى صاروا القدوة والأسوة لجميع الأجيال المتعاقبة فلم يكن نقص لا في المنهج ولا في التطبيق!

فلا بد من الوصول إلى السبب في تخلّف الجيل المعاصر في الواقع العملي مع ما ذكرنا من

ص: 4

التقدم الهائل في ما يتعلق بهذا الكتاب الكريم وسهولة الوصول إلى معارفه وعلومه.

وإذا راجعنا أحوال المسلمين في العصر الحاضر يمكن أن نلتمس أسباباً عديدة !

فإنه إما يرجع إلى ضعف العقيدة المطلوبة!

وإما أن يرجع إلى ضعف المتصدين لمهمة المنهج القرآني!

وإما أن يرجع إلى تعدد الآراء في تفسير القرآن و لا يرجع إلى مصدره القويم من السنة الشريفة!

وإما أن يكون غياب الداعي المعصوم في تفسير القرآن وتطبيقه!

وإما أن يكون الفوضى في المفاهيم الإسلامية وضعاً وتفسيراً وتطبيقاً!

وإما أن يكون السبب كون قراءة القرآن في العصر الحاضر لم تكن تلاوة له عن دراية واستيعاب!

ص: 5

وهناك أسباب أخرى ذكرناها في بحوثنا القرآنية!

فالمهم في هذا البحث هو كيف نقرأ القرآن ؟!

ما هو القرآن؟

القرآن كلام الله المجيد الذي أنزله على أعظم رسله محمد بن عبد الله(صلی الله علیه و آله و سلم) في أفضل زمان وهو ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وفي أفضل مكان عند سدرة المنتهى وأودعه في أعظم قلب. فما أعظمه من كتاب إذ احتف بكل ما هو عظيم!

القرآن خطاب ربِّ العزة والكمال والجلال للإنسان وكلامه مع أفراد البشر .

والله عظيم بكل ماله من العظمة والإنسان هو الإنسان المخلوق المربوب قرين الفقر والنقص فهو الذرة الفانية في هذا الكون الفسيح الذي لا يزن شيئاً

ص: 6

في ملك الله العظيم !

القرآن هو الروح الذي يأنس به المسلم !

القرآن هو النور الذي يضئ نفسه وروحه ويمشي به في الظلمات !

القرآن هو الضياء الذي يشرق على حياته !

القرآن هو الهادي الذي يبين له معالم الطريق !

القرآن هو المعلم الذي يعلمه ويلقنه جميع ما يهديه !

فالقرآن حي مع الإنسان في جميع عوالمه !

فتكون الحياة مع القرآن حياة مع الله سبحانه لأنه الكتاب المنزل من عنده وكلامه الذي يخاطب به كل فرد من أفراد البشر وخطابه إلى نفسه وروحه وقلبه وفكره !

والقرآن حديث متصل عن الله جل جلاله فيه أسماؤه وأوصافه وأفعاله!

ص: 7

فهو الذي يصفه بقدرته المعجزة الخالدة !

ويصفه بالرحمة الواسعة !

ويصفه بعلمه الجامع الشامل !

ويصفه بكبريائه وجبروته وجلاله وعظمته !

يصفه بكل ما تستطيع النفس البشرية أن تدركه من الصفات !

ومن أجل ذلك كله فإن الإنسان يعيش مع الله عزّ اسمه إذا عاش الإنسان مع القرآن فهو يحس برحمة الله وفضله الغامر !

وبفضل هذه الرحمة الإلهية الواسعة والفضل الغامر الذي شمل الإنسان أرسل الله الرسول الكريم والنبي العظيم ليقرأ كتابه ويهدي به النفوس ويرشد به الأرواح، ولولاه لضلت تلك الهباءة المنثورة الضائعة في غياهب الظلمات !

فالمسلم مع القرآن يحس برحمة الله الواسعة،

ص: 8

كما يحس برحمانيته ويعيش مع في كل لحظة يعيشها مع القرآن !

وعلى هذا الأساس أوصى الرسول العظيم وآله الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) بمداومة التلاوة والذكر، وحذروا من الجفوة والقطيعة بين المسلم وكتاب الله !

فلكي لا تنقطع تلك الصلة الحية، ولا ينقطع الرباط الذي يربط القلب بالله أحب الله من المسلمين الحال المرتحل يحلّ في القرآن ويرتحل في حدائقها البهيجة الغناء حتى لا تصدأ القلوب ولا يعلوها الرين !

فإن النفس البشرية يغشاها ما يغشاها عند تعرضها الدائم للتراب المتناثر في جوّ الحياة سواء أكان ذلك التراب من تراب الجسد أم من تراب المادة وما يدور حولها من الصراع وما يخلفها من

ص: 9

المعوقات ، وكلها رين على القلوب !

وهي غبار وتراب تتراكم إذا لم يمسحه المسلم عن نفسه وروحه وإلا تصدءان ويذهب صفاء النفس ،وتغمّ شفافية الروح وتنطمس في النهاية إذا لم ينفذ فيها النور!

والقرآن هو الدواء والشفاء الذي يمسح عن النفس ذلك الرين !

فانه إذا كان يعيش فيه مع الله عزّ وجلّ ينطلق الروح من إساره فيقتبس من هذا النور الإلهي ويسري في أعماق النفس فيشع فيها النور!

«اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحُ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِ

ص: 10

شَيْءٍ عَلِيمٌ» (سورة النور - 35)

وفي الحديث عن الإمام الصادق(علیه السّلام): (إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره، فإن التفكر حياة البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور )

(الكافي ج: 2\600)

فلا غنى للمسلم عن وقرائته تلاوة القرآن ومصاحبته في كل أحواله وجميع عوالمه !

ما هي التلاوة؟

إن ما امتاز به كتاب الله أن قراءته وتلاوته ومطالعته والنظر فيه وحفظه ومصاحبته فإن في كل ذلك الفضل والثواب لحرمة هذا الكتاب عند الله تعالى !

ص: 11

إلا أن الذي يفيد المسلم هو تلاوته بحق وصدق !

وتختلف التلاوة عن القراءة وإن اشتركتا في النطق والتلفظ والتوجه إلى المعنى في أن التلاوة تدل على قراءة يجعل التالي الكتاب إماماً يقتدي به يستضئ بنوره ويستهدي بهديه ويستفيد من الحكم والمعارف المودعة فيه!

فيجعل الكتاب نصب عينه ويرفعه بالقراءة والإعلان فتكون التلاوة أخص من القراءة!

والتلاوة من صفات التالي القارئ وإن لازمت تتابع القراءة وتواليها كما استلزمت الإعراض عن الآخر فلا تطلق التلاوة على قراءة سائر الكتب المتداولة إلا أن يراد به التشريف والتعظيم لها!

ومن هنا كانت التلاوة من وظائف الأنبياء في مقام الإبلاغ ومقام الإتباع والطاعة ومقام التكريم

ص: 12

والتشريف والتعظيم وغيرها.

ومن أجل ذلك كله استعمل القرآن هذه الكلمة بدقة فائقة في إبلاغ الكتاب العظيم وإظهاره وإعلانه، وقرائته بقصد الإتباع والطاعة.

قال عزّ وجلَ «قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ»(سورة يونس - 16).... «وَأَنْ أَتْلُو الْقُرْآنَ» (سورة النمل - 92).... «وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ»(سورة البقرة - 44).... «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ

كِتَابَ اللهِ» (سورة فاطر - 29))

كما استعمل القراءة في غير ذلك كما في الآيات :

«اقْرَءُوا كِتَابِيَهُ» (سورة الحاقة 19)

«فَاقْرَهُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» (سورة المزمل - 20)

«وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ» (سورة الانشقاق - 21)

«اقْرَأْ كِتَابَكَ» (سورة الإسراء - 14)

«فَأُولَبِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ» (سورة الإسراء - 71)

ص: 13

فإن القراءة فيها لا يراد منها إلا التلفظ والنطق والتوجه إلى المعنى .

فإذا أراد المسلم أن يقرأ القرآن فليكن عن تلاوة ليؤثر القرآن فيه ويتأثر به لما فيها من الدلالات الخاصة فهي تدل على التعظيم والتشريف، والرفعة والسمو ومتابعة القراءة ودوامها، كما قال عز اسمه «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ...»

(سورة البقرة - 121)

فالتلاوة بذاتها عبادة !

والقرآن هو الكتاب المتعبد بتلاوته!

وأن الله يعطى الأجر لقارئه على كل حرف منه يتلوه !

فالتلاوة التامة ما تضمنت تلك الدلالات و جمعت تلك الصفات !

ولا ريب في أن قراءة القرآن إذا كانت هذراً لا

ص: 14

تدبر فيها يخالف عمل القارئ ما يقرأه تكون وبالاً عليه وفي الحديث (رب تال للقرآن والقرآن يلعنه)!

وقد ورد في الدعاء عند تلاوة القرآن (اللهم إني نشرت عهدك وكتابك اللهم فاجعل نظري فيه عبادة وقراءتي فيه فكراً وفكري فيه اعتباراً واجعلني ممّن اتعظ ببيان مواعظك فيه واجتنب معاصيك ولا تطبع عند قراءتي على سمعي ولا تجعل على بصري غشاوة ولا تجعل قراءتي قراءةً لا تدبر فيها بل اجعلني أتدبر آياته وأحكامه آخذاً بشرايع دينك ولا تجعل نظري فيه غفلة ولا قراءتي هذراً إنك أنت الرؤوف الرحيم)!

فإذا كانت القراءة ذات أبعاد متعددة فعلى المسلم تحديد قراءته للقرآن !

ص: 15

كيف نقرأ القرآن ؟!

نقرؤه لمجرد القراءة ؟!

نقرؤه لنذكر الآخرة ونذكر الموت والبعث والجزاء ؟!

نقرؤه إعجاباً ببلاغته وجمال عبارته وألفاظه؟!

نقرؤه لنستخرج منه العلوم والمعارف ؟!

نقرؤه لنصوغ منه النظريات الاجتماعية والتربوية والنفسية والاقتصادية والسياسية ؟!

أياً كان هدف القراءة فانه لا ضير فقد كتب الله عليها الأجر !

طالما إن الكتاب يدعو إلى الله سبحانه ومن قراءته يحصل التوجه إليه عزّ وجلّ والرغبة فيها إلى الله عزّ اسمه وإن تفاوت الأجر لأنه على قدر ما في

ص: 16

التلاوة من التدبر الذي أمر الله به !

كما أن القارئ يستفيد على قدر ما يؤدي التدبر إلى الغاية المطلوبة منه، فإن التدبر وسيلة لأمر عظيم وهو المراد، كما قال تعالى :

«فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَبِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَيكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ * اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ» (سورة الزمر - 17\23)

فيكون الهدف العظيم أن يتحول الاستماع للقرآن وتلاوته والتدبر والتأثر الخاشع به إلى هدى وسلوك ملتزم بما انزل الله في الكتاب .

وعلى نحو أوضح أن يتحول إلى منهج حياة .

وهذه هي التلاوة الجامعة التامة المؤثرة التي تقدم ذكرها في الدعاء !

ص: 17

لأن القرآن إمام مرشد ودليل الرحلة الإنسانية في الحياة !

كما أن على المسافر أن يستصحب معه دليل رحلته ليعرف المبدأ والمنتهى ومنعطفات الطريق ويوفر الجهد عليه كذلك على المسلم في رحلته في هذه الحياة أن يستصحب دليل رحلته وهو قرآنه ليعرف من أين يبدأ وأين ينتهي، وكيف يتعطف به الطريق لكي لا يضل في طريقه ويوفّر عليه جهده لئلا يضيع فلا يضرب في التيه.

فإن القرآن يقي المسلم من أن يضل في الحياة الدنيا ما دام هو فيها ويبين له طبيعة المواقف التي يواجهها في رحلته على هذا الكوكب المليء بالمخاطر ليزول عنه الحيرة والاضطراب، ويكون له حصناً يمنعه من الوقوع في التيه ولا يضيع جهده ويذهب هباءً فعلى المسلم النظر في هذا الدليل

ص: 18

بإمعان ودقة فيما يقوله ليستفيد من إرشاداته وتوجيهاته وقراراته.

* * *

هناك أسئلة ملحة يتعرض لها كل فرد من أفراد البشر المسلم والكافر لأنها أسئلة فطرية سواء كان واعياً أم غير واع لورودها في النفس، وهي تساؤلات مصيرية !

من خالق هذا الكون ؟!

من هو مدير الكون ومدبر الأحداث فيه ؟!

من أين جئنا ؟!

إلى أين نذهب بعد الموت ؟!

ما الغاية في عيشنا ؟

على أيّ منهج نعيش ؟

كيف الخلاص ؟

لا ريب في إن الإجابة على هذه الأسئلة - مهما

ص: 19

كان نوع الإجابة - هي التي تحدد منهج الحياة للإنسان فانه قد يكون الجواب كإجابة الشاعر المتحيّر المعاصر :

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت !

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت

ولكنها إجابة تمثل الحيرة والاضطراب والشك والإلحاد التي عليها الجاهلية المعاصرة بل كل الجاهليات وضلالها لأنها فقدت النور الذي تستضيء به في الطريق !

والقرآن العظيم قبل كل شيء يقدم الإجابة الصحيحة على تلك التساؤلات الفطرية ويرسم لها نهج الحياة الصحيح .

* * *

والسؤال الأول هو سؤال رئيس ومحوري، والهداية الكبرى تأتي من معرفة الإجابة الصحيحة

ص: 20

عليه بالذات، كما أن الضلالة الكبرى تجيء من الإجابات الضالة عليه.

ومن هنا اهتم القرآن اهتماماً خاصاً لهذا السؤال الفطري من خالق هذا الكون؟!

وهو مع عنايته الفائقة بهذه القضية لا يغفل عن الجواب على الأسئلة الأخرى فيعطي حديثاً مفصلاً عن قضية (الإنسان) بعد الحديث المفصل عن قضية الإلوهية.

وقد صارت قضية الإلوهية هي محور القرآن كله فوسع أبواب الحديث فيها إلا أنه يذكر بعمق القضية الأخرى وهي قضية العبودية لأنه مما يشترك فيها الإنسان وغيره بل الحياة كلها «كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ»

(سورة الروم - 26)

فهما أساس العقيدة التي هي موضوع القرآن الأكبر .

ص: 21

ولا ريب في أن الإنسان له الدور الأكبر والأهم في هاتين القضيتين، لأنه الكائن الذي حُمّل الأمانة بين الكائنات كلها التي أشفقن من حملها والنهوض بها !

«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (سورة الأحزاب - 72)

فإذا كانت العقيدة هي الموضوع الأهم والأكبر في القرآن العظيم فانه يجب علينا أن نقرأ القرآن على نحو الأفضل والأكمل لنستفيد الإجابة على السؤال المذكور وغيره.

ص: 22

كيف نقرأ القرآن!

قبل كل شيء لابد أن نعلم إن القرآن المجيد لم يهتم هذا الاهتمام بقضية العقيدة لأنه كان يواجه العرب المشركين الذين غلبهم العناد والاستكبار فرفضوا الإقرار ب_ (لا إله إلا الله).

بل القرآن يواجه غيرهم حتى المؤمنين أيضاً بذات القضية ويعرضها عليهم ويذكرهم بها بالاهتمام به !

لأنها قضية جوهرية تمس الحياة البشرية لأن ضلال البشر - على مر التاريخ - إنما جاء من خلال انحرافاته المختلفة في هذه القضية ، وإن الإنسان عرضة دائماً لها !

فلا تختص بزمان ولا بمكان فهي كانت قبل

ص: 23

البعثة المحمدية ولا تزال موجودة بعدها ، ففي كل عصر هناك انحراف في التصور، فيقع الاضطراب في

حياة الإنسان بقدر هذا الانحراف، ولم تقتصر على الجزيرة العربية فحسب بل هي موجودة في كل مكان !

فليست قضية الإلوهية وقضية العقيدة برمتها قضية من قضايا الماضي، بل قضيتنا نحن جميعاً، والخطاب لنا نحن بأنفسنا لا لقوم آخرين كانوا وذهبوا ولا لقوم غيرنا، فإن كل فرد فينا عرضة للنسيان أو للاضطراب في كل آن في فهم حقيقة العقيدة .

فلابد من أن تكون هذه الحقيقة حاضرة في تصوراتنا ونستصحبها في وعينا ونحن نقرأ القرآن !

* * *

ص: 24

ثم انه لا ريب في أن الأسباب عديدة توجب الانحراف عن العقيدة .

كضغوط الحياة والاصطدام بها من كل جانب !

أو العداواة المرصودة للإسلام في كل زمان ومكان !

أو الفهم المادي الذي يقتصر على ما حوله فقط !

أو ركوب المعاصي والآثام واقتراف أنواع الفحشاء والمنكر التي كلها حجب عن الوصول إلى الحق والحقيقة فلابد من استصحاب القرآن في القلب وإحضاره في الفكر !

ولابد من جعله مرجعاً يرجع إليه في جميع ذلك .

وهناك حقيقة أخرى يجب علينا أن نجعلها نصب أعيننا ونستصحبها في وعينا لأنها لا تقل أهمية

ص: 25

عن الحقيقة السابقة وهي أننا نحن – الذين نطلق على أنفسنا لقب المسلمين – في هذا العصر أحوج

الناس إلى تدبر القرآن ومصاحبته في هذه القضية بالذات.

فقد ضعف وعينا بها واستحالت .

واعتورتنا الأفكار الغربية المنحرفة !

ودب فينا الفوضى في أكثر معارفنا والمفاهيم الرائجة بيننا !

فإن كلمة (لا إله إلا الله) تقال باللسان، ولكن القلب غافل عن مقتضياتها !

وإن أهم مقدمة من تلك المقتضيات هي التحاكم إلى شريعة الله سبحانه والرجوع إلى كتابه المنزل على نبيه المرسل.

إن هذه القضية اليوم - في العالم الإسلامي الذي أدركته جاهلية القرن وفوضويته - قد أبعدته

ص: 26

عن مقتضيات عقيدته فهي قضية الساعة التي يلزم على المسلم أن يركز اهتمامه فيها ليستقيم إسلامه، والجميع كأمة مسؤولون عنها، وإلا فالخيبة والخذلان «وَلَاتَ حِينَ مَنَاصِ» (سورة ص 3)!

ومن ثم فإنه بالإضافة إلى تلك الحقائق والأسباب التي منها ما يعانيه العالم الإسلامي المعاصر يجب على كل فرد منا أن يقرأ القرآن على نحو التلاوة في القضية الأم وهي قضية العقيدة ولاسيما قضية الإلوهية على انه هو المخاطب بها بالذات لا أن تكون قراءة عن عصر من التاريخ الغابر !

* * *

القرآن - كما تقدم بيانه - هو كتاب عقيدة وعلم ومعرفة، وهو كتاب تربية وتوجيه للإنسان لاسيما هذه الأمة!

ص: 27

إنه الكتاب الذي يريد أن ينشأ «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (سورة آل عمران - 110)

انه کتاب تربى عليه خير خلق الله فأصبح «وَإِنَّكَ لعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (سورة القلم - 4)

قد كان(صلی الله علیه و آله و سلم) هدفه الأكبر أن يتربّى أمته عليه من بعده.

فلابد من أن نقرأ القرآن على هذا الأساس .

انه الذي يضع لنا منهجا تربوياً رصيناً تاماً كاملاً .

انه الذي يربينا ويدعونا إلى العمل ليتطابق العلم والعمل.

فالذي يدعو إليه القرآن ليس مجرد شعارات ،وليس مثلاً معلّقة في الفضاء، وليس مجرد أماني،وليس قيماً فكرية بحته يمتلئ الذهن بها .

بل هو دين حقيقي وواقع يعاش .

ص: 28

وهذا هو التوجيه التربوي الأكبر في القرآن .

«الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...». (سورة البقرة - (25)

«إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ» (سورة الرعد 19-20)

«فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثیَ....» (سورة آل عمران - 195)

والقرآن مليء بهذا التوجيه.

فهو يصرح بأن الإسلام ليس مشاعر إيمانية فحسب !

أو كلمة تقال باللسان !

فهو عمل بمقتضى الإيمان وهذا هو الإسلام !

ولكن القرآن تولى مهمة تربية الأمة لتكون أمة مسلمة بصدق في القول والعمل فتمارس إسلامها في عالم الواقع !

فهو رباهم بالعقيدة أولاً من خلال تعريفهم

ص: 29

بخالقهم وربهم ليعرفوه كما ينبغي أن يكون لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فيعبدوه حق عبادته ويوقروه ويطيعوه.

فقد عرف المسلمون صفات الله تعالى من خلال آيات القرآن الكريم.

فهم حينما يقرأون «هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَتِرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ لْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (سورة الحشر - 22\24)

يقرون بأن الله الذي يلزم الاعتقاد به هو الواحد الأحد الجامع لجميع صفات الكمال والمنزه عن جميع صفات الجلال فله منتهى العظمة والجمال والعزة والكمال.

ص: 30

كما أنهم عرفوه بأنه «مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ

وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا یَومَ الْقِيَامَةِ» (سورة المجادلة 7)

وانه «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا» (سورة سبأ-2). وانه «يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى» (سورة طه - 7)

ومن خلال تلك الآيات أدرك المسلمون أنهم مراقبون من عليم عزيز مقتدر فأصبحت قلوبهم وجلة اتجاه رقابة الله لأعمالهم الظاهرة ومشاعرهم الباطنة فازداد حرصهم على تطهير تلك المشاعر والأعمال لتكون نظيفة عند الرقيب المقتدر فيرضى عنها ويثيب أصحابها عليها .

كما أنهم حينما يقرأون القرآن يعرفهم الله سبحانه بأن :

ص: 31

«بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْء» (سورة يس -83)

وأن «لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»

(سورة الزمر -63)

وانه «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (سورة آل عمران-26)

علموا أنه لا فائدة في رجوعهم إلى غيره.

وأنه هم الذي يعينهم في الشدائد التي يواجهونها.

فليس لهم إلا الله الذي لا محيص من الرجوع إليه في السراء والضراء لينجيهم وحده لا شريك له من كل كرب لأنه هو العزيز القدير .

أو الصبر حتى يأتي الأمر من عنده ف_ (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله)

وعلى ذلك يتربى المسلم على مواجهة أنواع

ص: 32

الشدائد بالصبر ولكن قلبه متعلق به ليفرج عنهم.

كما انه حينما يقرأون القرآن بأنه «اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (سورة الذاريات -51)

وانه «مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»

(سورة فاطر-2)

وانه الذي «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ»

(سورة الرعد-26)

أطمئنت قلوبهم بأن لهم رزقاً مضموناً فلم يعد القلق عليه يشغلهم أو يحسون حين يتعرضون لنائبات الدهر أو اضطهاد الظالمين من أجل عقيدتهم وغير ذلك من الأحداث بأن الإنسان هو الذي يتصرف في الرزق والأمن والراحة فهو وحده له الأمر والحكم والرزق فلم تذل قلوبهم لغير الله فقد تعلموا عزة الإسلام و أن عزتهم بعزته.

ص: 33

«وَلَا يَحْزُنُكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (سورة يونس -65)

كذلك حين عرفهم بأن الله «لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

(سورة الحديد -2)

تعلقت أرواحهم وقلوبهم بالله وحده وصار ذكره عزّ وجلّ حياة قلوبهم فاستقامت على إرادة الله سبحانه ورضاه فأطمئنت «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» (سورة فصلت -30)

فقد علموا من تعاليم القرآن وتوجيهاته أن ربهم هو العزيز القهار الغفور الرحيم المتعال .

فكان تعريفهم بربهم هو أساس التربية الإيمانية وروح العقيدة القرآنية التي أرادها القرآن لهم!

* * *

ص: 34

ومن أهم أساليب التربية القرآنية الترغيب والترهيب فقد ربّى القرآن المسلمين بهما .

فمن خلال الترغيب في ثواب الله تعالى ورضوانه أن رباهم على مكارم الأخلاق .

كما رباهم على الإنفاق في سبيل الله بإخلاص.

ورباهم على التقرب إلى الله بأنواع القربات فكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهمخصاصة ورباهم على التخلص من البخل والرذائل ونبذ كل أنواع الخوف في مواجهة الموت، فقاتلوا في سبيل الله بشجاعة قل نظيرها، وضربوا أروع الأمثلة على مرّ التاريخ في ذلك.

ونبذوا كل أسباب الراحة والخلود إلى الأرض والاستسلام، والركون إلى الدنيا فلم تأخذهم في الله لومة لائم ولا عاطفة قرابة، وجواذب المصالح الدنيوية !

ص: 35

وجعلوا الله ورسوله ودينه والجهاد في سبيله أحب إليهم من كل شيء يقف في طريقهم ومشاعرهم !

ومن خلال الترهيب من غضب الله وعذابه فقد رباهم على الابتعاد عن الشهوات الدنيئة التي تحطّ بهم إلى الدرجات الرديئة فجعلوا قيادتها في أيديهم يديرونها بما يقربهم إلى الله سبحانه وبما يبعدهم عن غضبه، سواء كانت شهوة المال أو شهوة الجنس أو شهوة الظلم والعدوان، أو شهوة حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة ، فإن جميعها مما تعيق عن التقرب إلى الله تعالى ونيل رضوانه ، والجهاد في سبيله.

وهكذا كانت التربية عملية بعد التربية العقائدية التي لهما الدور الكبير في التأثير في العقول والنفوس، فكان الخطاب لهذه الأمة «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

ص: 36

الْمُنْكَرِ وَأُولَيكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (سورة آل عمران -104)

والقرآن رباهم من خلال سرد سرد الأحداث في الأمم السابقة وفي هذه الأمة!

فقد ذكرهم بواقعة بدر الكبرى وقلة عدد المسلمين وصبرهم وشجاعتهم وبسالتهم وإمداد الله لهم بالملائكة ونصرهم على ألد أعدائهم!

وذكرهم بواقعة أحد بأن لا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون ماداموا مؤمنين وإن مسهم القرح في القتال !

وذكرهم بان تقدير الله هو الذي يقتل من كتب عليه القتل، وليس الذهاب إلى ميادين القتال هو الذي يقتل كما قال «لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ» (سورة آل عمران -154)

ورباهم أيضاً على الطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر، والانقياد لقادتهم بعد أن أنبهم تأنيباً شديداً

ص: 37

على عصيانهم للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) .

ورباهم في سورة النور على صون نسائهم منالتبرج ، وعلى الغض من أبصارهم وعلى حفظ فروجهم!

ورباهم على أدق الآداب واجلها بما يحفظ كرامة الفرد والمجتمع ونظامهما !

فأدرك المسلمون إن جميع المشاعر الإيمانية لابد أن يتحول إلى عمل لكي يرضى الله عنهم ويثيب على أعمالهم ويستجيب لهم دعائهم!

ومن تلك الدروس التربوية المتكررة الجامعة المانعة اخبر القرآن بأنهم «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»

(سورة آل عمران-110)

فهذا القرآن الذي ربّى الأمة الأولى هو نفسه القرآن الذي نقرأه اليوم فيه حياة أبدية ولا تختص بأمة أو وقت!

ص: 38

وهذه الدروس التربوية ليست للإثارة الوجدانية المؤقتة التي تصاحب - عادة – القارئ حين قراءة النص البليغ المؤثر، إنها إيحاءات إيمانية تلقى على النفس ظلالها لاسيما تلك التي تتعلق بالعقيدة!

فلابد من أن نتلو القرآن حق تلاوته ونستيقن انه

منهج التربية ،وقوامها وهو المربي والمرشد الناصح والمشرع الحكيم فانه يجب أن نتربى عليه، فإن كل كلمة وحرف في القرآن قد جاء للتربية سواء في العقيدة أو في قصصه أو في توجيهاته الخلقية أو الاجتماعية أو الجهادية أو الأحكام التكليفية التي تنظم علاقة الفرد بالأمة أو بالله، وكل ما تحتويه من الترغيب والترهيب .

كل ذلك يرتبط بالعقيدة الصحيحة التي ذكرنا أنها من أهم مراتب التربية القرآنية وقلما يلتفت إليها ويرجع السبب إلى أن كثيراً منا يعتقد أنها موجودة

ص: 39

في قلوبنا وأنها في حرز مكين لا خوف عليها، وأن الأمة بخير لأنها خير أمة!

وهذا الوهم هو الذي يحول بيننا وبين الاستفادة من تعليمات القرآن وتوجيهاته التربوية في العقيدة!

ومن آثار هذا الوهم أننا إذا قرأنا «أَفِي اللَّهِ شَكٍّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...» (سورة إبراهيم -10)

أو قرأنا «إنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ»

(سورة الذاريات-58)

أو قرأنا «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوع» (سورة النمل-62)

نرفع أصواتنا انه لا شك في أن الله هو الخالق الفاطر والرزاق وانه هو الذي يجيب المضطر .

وإننا على ثقة من أنفسنا في حالة حالة السلم والأمن والاطمئنان والراحة ولكننا نهتز اهتزازاً كثيراً ونضطرب اضطراباً كبيراً حين نتعرض لشدة أو ضيق

ص: 40

أو هم، وحينئذٍ ننسى ويُخيّل إلينا أن شخصاً معيناً أو جهة خاصة أو السلطة وغير ذلك هو الذي يرزقنا وانه الذي يقدّر الرزق ويضيقه علينا!

فنترك ما قرأناه وننسى عزة نفوسنا التي تربت على القرآن وتنزلت إلى مخلوق أو ركنت إلى دنيا فانية، ونزعم أننا نأخذ بالأسباب!

والأمر واضح لا غبار عليه وهو أننا لم نرتب الأثر على النصوص القرآنية وإنما قرأناها فحسب أو حسبناها بديهية يلتقطها الإنسان في لحظة ولا يحتاج إلى مزيد من المعرفة بها أو توكيدها.

فلابد من إعادة النظر فيما تربينا عليه ونقرأ القرآن لأن نتربى عليه، حتى يتحول من بديهية ذهنية إلى عقيدة إلى شيء مستقر في القلب إلى الاستقامة في العمل لتكون قوة محركة إلى تصور كامل وسلوك منبثق من ذلك التصور، وهذه هي العقيدة في

ص: 41

الإسلام.

فتكون منهج حياة بكل ما تحمله هذه العبارة من معان واقعية شعورية وفكرية وسلوكية ومن كل جهة.

وهذا هو الذي ينبغي أن نلتفت إليه التفاتاً عميقاً ونحن نقرأ القرآن حتى لا يفوتنا التدبّر المطلوب فتكون القراءة من التلاوة المطلوبة فنرى آثارها الطيبة في واقع حياتنا وسلوكنا!

* * *

ومن أروع ما يتسخدمه القرآن وأبلغه تأثيراً في أمور العقيدة وتقويم النفوس وتزكيتها وترتيبها مشاهد القيامة والحديث عن اليوم الآخر والجزاء فيه.

وقد دأب القرآن أن يقرن الإيمان بالله بالإيمان باليوم الآخر في مواضع كثيرة ، ولعله ذلك يرجع إلى التلازم بين الاعتقاد بالمبدأ والاعتقاد باليوم

ص: 42

الآخر.

وهو أيضاً لا يخلو عن التوجيه التربوي من خلال العرض القرآني للعقيدة، فكما إن قضية الإلوهية في القرآن المجيد لها الأثر الكبير في تربية النفوس وتقويمها.

فإنه يستخدم قضية المعاد والاعتقاد باليوم الآخر في التربية والتقويم والهدف في الموضعين واحد فكان العرض القرآني لمشاهد يوم القيامة من أشد الأمور تأثيراً فى النفوس، فقد امتاز هذا العرض بالرصانة والحيوية وتجسيم تلك المشاهد لتتحول إلى مشهد حاضر في الحس يعيشه الإنسان بالفعل حتى لم يعد للدنيا وما فيها وجود فلا يعبأ بها المسلم وإن كان يعيش بينها.

ولا يملك الإنسان ذو الإحساس ولو كان بسيطاً إلا أن ينفعل وجدانه بها وتتأثر مشاعره، وهذا التأثير

ص: 43

الوجداني الحاصل من قراءة مشاهد القيامة في القرآن !

أما أن يكون مطلوباً بنفسه فنتذكر الموت والبعث والحساب لننصرف عن التعلق بالحياة الدنيا والتكالب عليها.

وهذا وإن كان حسناً ولا شك فيه ولكن ليس توجيه الإسلام هنا الانصراف عن عمارة الأرض والعزلة عن الحياة فيها، أو القعود عن اتخاذ أسباب القوة المادية الأرضية لأن ذلك خلاف حكمة خلق الإنسان والحياة في الأرض، ويؤدي إلى ضعف أهل الإيمان واستيلاء الأعداء على جميع ما في في الأرض فيكون من أهم العوائق في سبيل بسط القسط والعدل في الأرض.

وإما أن يكون المطلوب من قراءة تلك المشاهد القرآنية عدم الانخراط في الحياة المادية وأن لا

ص: 44

تستغرقنا الحياة الدنيا فننسى الموت والآخرة وننصرف عن ذكرها والبعث والحساب فنخرج عن طور الإنسانية فتكون حياتنا كحياة البهائم !

فلابد ونحن نقرأ القرآن من أن لا نفصل مشاهد القيامة عن السياق التي وردت فيه ونتأثر بها وحدها

كأنما هیقائمة بذاتها !

فإنها وردت في مناسبات معينة، والمناسبة مقصودة في كل مرة.

فإذا وردت مشاهد العذاب بمناسبة الحديث عن الكفر والكافرين فإن المعنى المقصود هو تهديد الكافرين بنار جهنم .

وإذا وردت في ضمن قوله «مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا

ص: 45

فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا»

(سورة النساء -135\134)

فإن المقصود التربوي من ذلك هو تهديد المؤمنين بغضب الله وعذابه إن نكلوا عن القيام بالقسط والشهادة الله سعياً وراء ثواب الدنيا ومتاعها.

فيكون التوجيه المقصود للدنيا والآخرة، وليس للآخرة وحدها، وتوجيهاً لإقامة القسط في الحياة .الدنيا

توجيهاً لتطبيق العدل الإلهي الذي كلّف الله به الأمة المسلمة.

توجيهاً تربوياً بأن هذا الدين لا يصلح أن يكون أماني بل هو واقع عملي.

فلا يقبل من الناس أن يقولوا آمنا بأفواههم حتى مع توفر حسن النية إنما هو ممارسة هذا الدين

ص: 46

في عالم الواقع والمبادرة إلى تطبيق العمل بما يوافق قولهم أنهم مؤمنون!

فيكون ذلك توجيهاً للدنيا والآخرة معاً فإن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء فما أشد الارتباط بينهما!

ويظهر هذا التوجيه بصورة أوضح إذا حولنا الدين إلى واقع محسوس لا مجرد شعارات في الكتب أو خطابات على أفواه الخطباء!

وحينئذ تأتي مشاهد القيامة حاضرةً في أذهاننا لأنها تحتوي جميع تلك التفصيلات الإيمانية!

فإذا قرأنا النص القرآني «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا مَا أَنْفَقُوا

ص: 47

مَنَّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (سورة البقرة -262\261).

نحس بأن الرد الانفعالي بأن نتمنى أن نكون كذلك ثم نمضي لا يكفي فلابد من أن يكون الانفعال مقترناً بالفعل لنعود أنفسنا على البذل والإنفاق .

ويجب أن يكون النص درساً تربوياً فتكون محاولة جادة ولو كانت شاقة فلا نستفيد من النص التربوي شيئاً إن اكتفينا بالتمني فقط فتكون القراءة ظاهرية لا أن تكون تلاوة يدخل النص في القلب ويكون تربوياً!

وحين نقرأ «إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ

ص: 48

أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (سورة النساء -111)

فإن الدرس التربوي المستفاد منه هو ترويض النفس على أن نقتحم العقبة ونوطن أنفسنا على بذلها في سبيل الله ودينه حين يأتي موعده.

كذلك حين نقرأ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَبِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَبِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (سورة المؤمنون-11\1)

ص: 49

فإن الدرس التربوي الذي نستفيده هو الارتباط الوثيق بين العمل في الدنيا ووراثة الفردوس في الآخرة !

فيجب علينا أن نراجع سلوكنا العملي ونطابقه على ما هو الموصوف في الآيات فنجعل ما هو غير مستقيم ونقومه حتى يستقيم على المنهج التربوي في الآيات الشريفة .

وغير ذلك من الآيات والنصوص القرآنية التي يذكر فيها مشاهد يوم القيامة بنعيمها وعذابها - وهي دروس تربوية - والواجب علينا حينما نقرؤها أن نستفيد منها ونقوم أعمالنا بها ونوطن أنفسنا عليها، ونحاول الانصراف عن الدنيا ومتاعها الفانية، فنصلح سلوكنا الأرضي ونحن نمارس الحياة ولا نتأثر بها منفصلة عن سياقها !

* * *

ص: 50

ومن أعظم المؤثرات التي يذكرها في القرآن وأشدها تأثيراً في حياة البشر والتي يدبر بها حياتهم على الأرض التي لا تمضي إلا في ضوابط وموازين معينة تحكمها سنن وهي إما سنن إلهية كونية وإما ربانية ثابتة وهي كتلك التي تحكم نواميس الكون، وجميعها حقائق ثابتة مطردة و واضحة ومحدودة !

وإن كانت حياة البشر في تطور مستمر ودائمة التقلب فقد نتوهم - لأول وهلة – أن الكون هو المنضبط الحركة بنواميسه، أما البشر فأمرهم يكون كيفما اتفق !

ومن هنا غفل البشر أو تغافل عن حقيقة وجود تلك النواميس التي تضبط حياتهم فيقرأ القرآن ولا يحس بتلك النواميس الربانية التي ذكرها عزّ وجلّ في كتابة الكريم !

ولعل ذلك يرجع إلى أن حياتنا محدودة

ص: 51

بأعمارنا، لا نرى الظواهر لاسيما الظاهرة البشرية التي تستغرق الأجيال المتعاقبة العديدة حتى تتحقق فلا نلتفت إلى وجودها.

وأحياناً تكون المظاهر الخارجية خداعة ومغايرة للحقيقة الباطنة، كل ذلك يزيدنا بعداً عن التقاط الحقيقة وإدراك النواميس !

ومن أجل ذلك أمرنا الله تعالى في كتابة العزيز إلى الاعتبار من النواميس الكونية والدعاء والتضرع والتذلل إلى خالقها وبارئها وهي ترتبط بالعقيدة التي تقدم الكلام فيها، كما أمرنا بدراسة التاريخ بوصفه تجربة تامة منتهية، واضحة المعالم، وواضحة الدلالة، ووجهنا سبحانه أن نتدبر الحاضر على هدي دراسة التاريخ لتكتمل الصورة الحاضرة في ضوء الصورة الماضية المكتملة فيتضح لنا ما لم يكتمل لنا من المعالم!

ص: 52

ومن هنا تكرر في القرآن الكريم بأساليب مختلفة «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ

الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ» (سورة الروم -41)

وعلينا حينما نقرأ القرآن أن نتدبر السنن الربانية وندرسها بعمق وهي تجري في حياة الإنسان على الأرض، وهو أمر ضروري وحيوي للمسلم الذي يريد أن يقتدي بالقرآن حين قرائته له حتى يتضح له سير الإنسان في ضوء المنهج الرباني لكي يرى موقعه في اللحظة الحاضرة من مجرى الإحداث، ويستعد لما هو آت !

ويقول لنا القرآن «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ

يَرْجِعُونَ» (سورة الروم-41).

ويقول «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (سورة الرعد -11)

ص: 53

ويقول «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» (سورة الزخرف-23)

ويقول «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (سورة الأنعام - 44\42)

ويقول «كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ(52)أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ »

(سورة الذاريات -52\53)

ويقول «وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةٌ مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرُ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا

يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ» (سورة يونس - 21)

ص: 54

ويقول «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (سورة الأعراف-66)

ويقول «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَبِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (سورة هود - 16\15)

وغير ذلك من الآيات التي تتضمن سنن ربانية وهي تنظم حياة البشر على الأرض بدقة كاملة و انضباط مستقيم، كالنواميس الكونية التي لا تخالف ولا تخلف فيها.

وهذه النواميس حقائق واقعية لا تختص بقوم وأمة ولا بزمان فتشمل الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى ضوئها نستطيع أن نقرأ الماضي ونأخذ العبرة منها ونتحفظ للمستقبل !

ص: 55

والمستقبل وإن كان غيباً لا يعلمه إلا الله عزّ وجل ولكن استقراءه ممكن على أساس سنة الله لأنها حقائق حتمية «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (سورة الأعراف-62)

فإنه إذا كانت الأسباب متحققة لأنها حقائق واقعية فالنتائج حتمية لا محالة!

وأما الغيب المستور في الماضي فهو متحقق بوجود الأسباب التي هي منظورة في اللحظة الحاضرة أو أنها تتغير بقدر من الله عزّ وجلّ أو بتغيير الناس ما بأنفسهم، أو قيام الساعة بغتة!

ومن اجل ذلك يمكن التنبؤ للمستقبل ونقول:

إذا استمرت الأمور على ما هي عليه فإن سنة الله تعالى هي هي.

ومن هنا يكون حال المسلمين بالنسبة إلى الماضي والحاضر ليس من الغيب المستور بل هو

ص: 56

واقع مشهود !

فإن الحاضر المشهود هو ضعف المسلمين وتخلفهم عن ميادين الحياة وعن مبادئ الدين الحنيف فلا الدين قد تمسكوا بعراه، ولا الدنيا قد تفكروا كيف يستغلونها بحكمة مما أوجب تسلّط غيرهم عليهم في كل الميادين المادية، وبكل انحرافاتها الجاهلية في العقيدة والفهم والفكر والسلوك !

وقد سيطرت اليهود بمخططاتهم الشريرة على كل المقدرات ، وقد أدى ذلك إلى إذلال الإنسان المعاصر بكل ما أتيحت لهم من الوسائل.

وقد أخبر القرآن الكريم بهذا الواقع المرير وجعله من السنن الربانية يظهر ذلك حين نتلوا الكتاب العزيز !

ص: 57

فقال «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا» (سورة النور -55).

كما بين لهم خلال قصص بني إسرائيل:

«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (سورة الأعراف-169).

وهما سنتان ربانيتان لا محيص منهما.

ومن خلال قوله عزّ من قائل:

«فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» (سورة فاطر-43)

ص: 58

نتعرف الحاضر الكتيب الذي يعيش فيه المسلمون !

وغير ذلك من القصص التي تبين السنن الإلهية كلها !

ومن سنته سبحانه انه قد تكفل للمؤمنين بالاستخلاف والتمكين في الأرض والتأمين مقابل «يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا».

وأن من السنن الربانية أيضاً ما ذكره سبحانه في قصة إبراهيم(علیه السّلام)من أن العهد الإلهى لا ينال بوارثة الدم وإنما بوراثة العقيدة والاستمرار في العمل بها في واقع الحياة، فإذا انحرفت الذرية وظلمت فإن الله لا يحابيها لمجرد كونها ذرية قوم مؤمنين !

بل لابد من أن تكون هي مؤمنة بالفعل لتنال العهد، فإنه «لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» (سورة البقرة - 124)

ولو كانوا من ذرية قوم مؤمنين.

ص: 59

وقد تحققت سنة الله في المسلمين حين انحرفوا عن صراط الله ، فزال عنهم كل ما وعده الله لهم من الاستخلاف والتمكين والتأمين حتى انطبق عليهم الوصف القرآني «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا».

وهو واقع المسلمين بلا محاباة وقد صاروا من الغثاء الذي تتداعى عليهم الأمم لتفتك بهم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، كما أخبر به الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم) !

وأما حال غير المسلمين فإنهم أبوا أن يتخذوا دينهم وركنوا إلى الدنيا وغرتهم زينتها وزبرجها وسعوا بكل وسعهم اكتسابها، فقد انطبقت عليهم السنن الربانية في هذا المجال التي ذكرها القرآن !

ص: 60

فقد قال تعالى «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ»

(سورة هود -15)

وقال في سُنة أخرى «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ» (سورة الأنعام - 44)

ومن خلال هاتين السنتين الربانيتين يظهر الحاضر المشهود في أوربا اليوم فقد وفّى الله لهم أعمالهم في الحياة الدنيا بقدر ما اجتهدوا فيها ولم يبخسهم الله شيئاً منها وفتح عليهم أبواب كل شيء ...أبواب الثروة والتمكين والاستعلاء في الأرض والقوة والكبرياء والجبروت ... !

ولكن هذه السنة الربانية لها سنة أخرى مكملة لها وهي «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مبْلِسُونَ».

ص: 61

فقد تتابعت النذر الإلهية على كلا الفريقين المسلمين وغيرهم !

ولقد رضخت عقول ومفكريهم وزعمائهم إلى أن الحضارة المادية الأوربية في طريقها إلى الانهيار إذا سارت على هذه الخطوات !

وتبين لنا بوضوح السنتان في المؤمنين وغيرهم وتبين الفرق بين فتح وفتح !

ففي الكافرين «فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ».

وفي المؤمنين «لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ...» (سورة الأعراف -96)

فالكافرون قد فتح عليهم أبواب كل شيء .

والمؤمنون يفتح عليهم البركات .

والفتح الأول فتنة!

والفتح الثاني بركة!

والمصداق لكل واحد من الفتحين واضح معلوم

ص: 62

لكل واحد من الفريقين بعد وضوح السنن الربانية!

فقد حصلت أوربا على قدر كبير من (كل شيء) بما لم تحظ به أية أمة في التاريخ من حيث هذا الحجم.

ولكنهم فى حياتهم قد بلغوا أدنى الدرجات فقد سيطر عليهم القلق والحيرة والاضطراب والانتحار والخمر والمخدرات والانحراف والشذوذ والجنون.

فاتخذوا الإلحاد بالله وآياته وسيلة لتخفيف الضغوط النفسية عنهم !

فلم يقدروا الله حق قدره ولم يعرفوه لكي يؤمنوا به ولم يذوقوا الطمأنينة التي تأتي من ناحية الإيمان «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَيِنُ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله...»

(سورة الرعد - 28)

ص: 63

وأما المسلمون فلم يتحقق منهم الشرط للفتح فحصل فيهم الحيرة والاضطراب ونكران الذات فاعرضوا عن تعاليم القرآن ووقعوا في التقليد وموادة أهل الخلاف وهم قد نهوا عنه فانطبقت عليهم السنن الإلهية التي ذكرها القرآن في اليهود الذين تكرر ذكرهم فيه.

«ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَّهُ أَيْنَ مَا تُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ» (سورة آل عمران -112)

فهم في ذلة دائمة إلا في فترات استثنائية يمكنون فيها في الأرض بحبل من الله وحبل من الناس كما هو الحال القائم اليوم !

كما أن القدر الإلهي عليهم إنما تحقق فيهم في ضمن سنة أخرى شاملة لهم ولغيرهم قال: «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ

ص: 64

تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» (سورة الأنعام -65)!

فقد كفرت البشرية جمعاء اليوم وتبجحت بكفرها مما لم يحدث كذلك في التاريخ قط !

فحل فيهم وعده ووعيده وسننه فجعلهم شيعاً وأذاق بعضهم بأس بعض بعد ما اختاروا الفساد ليذيق البشر بأسهم جزاءً على كفرهم و تماديهم في الطغيان !

ولقد كان نصيب الأمة المسلمة اكبر لأنها تخلت عن رسالتها وعن منهجها لنفسها وللبشرية كافة فأضحت أمة جاهلية رفضت أن تذعن لأوامر الله تعالى ودينه الحق وجرت البشرية وراءها إلى الإلحاد والكفر !

وسيظل هذا الأمر قائماً ما قدر الله له أن يكون حتى تعود الأمة المسلمة إلى دينها ورسالتها فيتغير

ص: 65

وضع البشرية تبعاً أو يقيض الله فيهم من يبسط القسط والعدل بعد ما ملئت الأرض ظلماً وجوراً!

وهكذا وجدنا حال الأمة المسلمة فانه حين نتلوا القرآن في ضوء السنن الربانية المذكورة فيه ،حتى كأن القرآن قد نزل الآن في هذه اللحظة من دون أن يكون ذلك من الأسرار والطلاسم ولا من رموز خاصة فيه، فقد بين القرآن بوضوح حال الأقوام والأمم وحال البشرية على مر التاريخ والحاضر المشهود والمستقبل الموعود!

إن القرآن الكريم يبين للمسلم أن الحياة كما تحتوي جوانب ثابتة تحتوي أيضاً جوانب متغيرة. وذكر أحكام الجوانب الثابتة وحوى توجيهات مفصلة لا تقبل التغيير والتبديل أو الإجمال والتشويش !

ص: 66

ولكن الجوانب المتغيرة غير الثابتة قد جعل لها أصولاً وقواعد وترك للعقل الإنساني أن يجتهد في استنباط الأحكام التفصيلية المناسبة لحياته في إطار تلك الأصول العامة الثابتة، وقد تكفلت الكتب الفقهية بيان تلك الأحكام.

وهذه الأحكام لها من العمومية ما تشمل جميع الأفراد والمجتمعات فتشمل المجتمع المعاصر المختلف عن كل المجتمعات التي عاش فيها أسلافنا، ولم يكن من صنع الإسلام وهو لم يحصل من جهة التغيير الطبيعي الذي يحدث في حياة الإنسان نتيجة تفاعل قواه مع الكون المادي من حوله.

فهو وإن كان أمراً طبيعياً له التأثير في الحداثة والتغيير ولكنه ليس السبب وحده بل من جهة أمر آخر لم يقل أهمية عن غيره، وهو خروج البشرية

ص: 67

كلهم بما فيهم الأمة الإسلامية عن طور العبودية والابتعاد عن صراط الله المستقيم وعن منهجه القويم !

ولا يصح لنا أن نعتبر حال العالم المعاصر نمواً سوياً، ولا تطوراً مستقيماً كما يدعيه التطوريون وإنما هي مخططات شريرة وضعت لإفساد البشرية سيقت إلى الناس على أنها تطور حتمي لابد من قبولها بلا معارضة ولا جدال.

ويوصف كل من يقف في طريقها بأبشع الصفات، وحكموا عليهم بأن عجلة التطور ستسحقهم والمسلم يواجه هذا العالم شاء أو أبى فهو يواجهه في بيته وفي مجتمعه وفي بيئته التي يعيش فيها!

وهذه هي جاهلية القرن العشرين التي طغت على أفراد البشر فأبعدتهم عن طريق الله ومنهجه القويم!

ص: 68

وموقف المسلم في مثل هذا العالم التطوري أن يفرّق بين التطور السوي وبين التطور المفتعل الذي لا علاقة له بالإسلام ومنهجه السوي بعد أن علم بأنه من مظاهر الجاهلية العمياء!

والمرجع في ذلك القرآن ودروسه التربوية ومناهجه القيمة، والخلاص من آثار تلك الجاهلية هو الرجوع إلى دين الله المودع في القرآن العظيم وما بينته السنة الصحيحة في تفسيره وشرحه.

والقرآن كتاب دعوة يدعو إلى الحق ويهدي إلى الرشد ويمهد الطريق إلى نيل السعادة والفوز بالفلاح، والوصول إلى الهدف المنشود بأساليب بليغة رصينة يفهمها كل من يتلوه بصدق وإخلاص .

فقد أمر الله سبحانه نبيه المرسل في كتابه الكريم وهو حامل الهداية ورائد الدعوة الإلهية «ادْعُ

ص: 69

إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»

(سورة النحل-125)

وهذه سنة قرآنية لابد من مراعاتها في أسلوب الدعوة وموضوعها وكيفيتها ، كل ذلك في الكتاب الكريم وبيّنها بياناً واضحاً شافياً .

لاسيما في موضوع العقيدة الذي هو الموضوع الأهم في القرآن الكريم، وقد بينا سابقاً انه شغل مساحة كبيرة في القرآن ، وعرفت إن موضوعها الأكبر هو الإلوهية وما يتعلق بها.

وقد أنزلت فيها آيات بينات تشمل على أروع الأدلة وأمتن ،البراهين وذكر القرآن فيها سنن ربانية ومناهج قويمة لتثبيت تلك العقيدة في النفوس.

وقد بينا أن هذه العقيدة لم تختص بالمشركين من العرب في الجزيرة بل تشمل كل أفراد البشر وحياته على الأرض، وتشمل جميع الأجيال حتى

ص: 70

الجيل المعاصر من المسلمين فانه قد غشیه غواش كثيرة أفسدت فهمه للعقيدة فلم يعد يعرفها على حقيقتها القرآنية كما انزلها الله !

فكل الأجيال بحاجة إلى الدعوة إلى العقيدة على الدوام لتثبيتها في النفوس وإبعادها عن ما يطرأ عليها من الظلمات وبيان معنى (لا إله إلا الله) ومقتضياته والتزام لوازمه التي منها العمل بها حتى يصدق عليه الاعتقاد ب_ (لا إله إلا الله) وجني ثماره وآثاره !

وهذه الكلمة الطيبة وإن كانت مسلّمة عند المسلمين والموحدين والجميع يقرون بها، لكن الواقع العملي الذي يعيشه المسلمون يدل على خلاف ذلك فإنه يبين أنهم على جهالة في التطبيق، فهم يقولونها بأفواههم ولكنهم لا يجدون في نفوسهم حرجاً أن يحكموا بشريعة غير شريعة الله ، ويتولون

ص: 71

غير أولياء الله ، ويوادون أعداء الله فهم كغيرهم يؤمنون بآلهة متعددة!

فقد كان المشركون لا يتحاكمون إلى شريعة الله، ويشركون بالله اعتقاداً ولكن الإيمان بالله الواحد الأحد يقتضي التحاكم إليه والرجوع إلى شريعته، وذلك من بديهيات هذه الكلمة ولكن الواقع العملي عند المسلمين هو التحاكم إلى غير الله الذي آمنوا به، والعمل ببعض الكتاب والإعراض عن آخر!

وعليه يجب الرجوع إلى الدعوة الإلهية والاستفادة من الدعاة الربانيين في تصحيح العقيدة فانه قبل الحديث عن الصلاة والصيام والزكاة والحج، وقبل الحديث عن مكارم الأخلاق فإن جميع ذلك من تطبيقات العقيدة الحقة الصحيحة!

لما عرفت من أن العقيدة ليست فكرة، وليست وجداناً مستتراً في الضمير، إنما هي مجموعة اعتقاد

ص: 72

وتربية وسلوك.

فنحن بنا حاجة إلى تربية بالعقيدة لا دروس نظرية تلقى في معنى (لا إله إلا الله) والتحاكم إلى شريعة الله !

والذي يتكفل هذه المهمة هم الدعاة الربانيون الذين حولوا العقيدة إلى عمل وسلوك وعاشوا تحت ظلال (لا إله إلا الله) فصاروا قدوة لمن أراد الاقتداء بهم .

والتربية بالعقيدة لابد منها في سلوك الدعاة لتتحول العقيدة إلى سلوك واقعي قبل كل الناس فإن فاقد الشيء لا يعطيه!

وهذا هو المنهج الذي يخدم الدعوة حتى نجتاز أزمتها ونصل إلى غاياتها التي هي إنشاء مجتمع مسلم تحكمه عبادة الله وتطبيق شريعته.

وأما العداوات المرصودة في طريق الدعوة فإننا

ص: 73

نجد حديثاً مستفيضاً عنها في القرآن المجيد فقد شغل الحديث عن أعداء الله جملة من السور القرآنية

لاسيما المدنية منها.

ولقد وصفهم القرآن بأربعة أوصاف: الكيد ومخططاتهم لحرب الإسلام .

تفريق جمع المسلمين.

تشتيت أفكارهم وآرائهم.

وجعلهم شيعاً متحاربة.

فنقرأ في القرآن «وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» (سورة البقرة -120)

و «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا» (سورة البقرة -221)

وذكر أحوال المنافقين أعداء كلمة (لا إله إلا الله) ودينه المندسين في جمع المسلمين بإسهاب في مواضع عديدة منه.

ص: 74

كما نجد حديثاً مستفيضاً عن الأنبياء وقصصهم الدعاة إلى الله وكل داعية يدعو إلى كلمة (لا إله إلا الله) وانه كيف تصدى لهم (الملأ) الذين كانوا يكرهون كل ما يمس سلطتهم، وكانوا يمنعون ردّ السلطة إلى الحاكم المطلق وهو الله جل جلاله ليستأثروا بها ويستعبدوا الناس عن طريقها، وقد حاربوا الدعوة والدعاة (الأنبياء) بكل وسيلة ليصرفوا الناس عن إتباعها، وعذبوهم بأنواع العذاب بكل ما كانوا يملكون من صنوف الإيذاء.

وقد جرت السنة الربانية على النصر والغلبة إذا الله صبروا وصدقوا مع بعد تمحيص قلوبهم و تجريدها الله عزّ وجلّ، فينصر المؤمنين ويهلك أعداء الدين.

ص: 75

قال تعالى «حَتَّى إِذَا اسْتَيْتَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ

الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» (سورة يوسف -110)

والمسلمون لم يخرجوا عن هذه السنة الربانية فإنهم يجدون في الأحداث المعاصرة وما هم عليه من بعض صفات المنافقين كأنما يتنزل القرآن عليهم الآن ولكنه لا يعيش مع القرآن إلا انه قد نزل في عصر مرّ عليه خمسة عشر قرناً من الزمان. فهم يعيشون الحاضر بكل تفصيلاته .

إنهم يعيشون المعركة مع أعداء الله، والمعركة حاضرة يعيشونها الآن، وكلام الله حاضر كذلك يواكب تلك الأحداث لحظة بلحظة، ويصفها خطوة خطوة !

وهو يوجه قلب المؤمن ومشاعره وأفكاره كأنه خطاب من الله نزل عليه الآن والعدو عدو وإن

ص: 76

تقمص لباس الإسلام وادعى انه من أفراد حديث (لا إله إلا الله) وقد ابتلى المسلمون بهم على مر التاريخ !فعلى كل فرد مسلم وهو يقرأ القرآن أن يكون واعياً لهذه الحقائق وان يقدرها حق قدرها!

إن قرآننا يخاطب كل فرد منا وهو حين يخاطبه لا يقص عليه قصة ماضية عن أشخاص آخرين غيرنا عاشوا تجاربهم الخاصة إنما يقص له قصته الشخصية من ظلال قصص أشخاص آخرين.

ومن ثم تكون التوجيهات القرآنية التي يحملها الخطاب هي موجهة له شخصياً ليعيها ويستجيب لها، ويحدد مشاعره وأفكاره وسلوكه بمقتضاها فيتربى في ضوئها ويقوم خطواته على طريق الله.

فليكن كل مسلم داعية نفسه يمتثل توجيهات القرآن وينبذ التنافر والتهاجم على الآخرين ويرفض الاقتداء بهم إذا لم يكونوا مؤهلين للاقتداء بهم فإن

ص: 77

الفساد وإن حصل منهم ولكن الأبواب لم تكن مغلقة عليه !

قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (سورة المائدة -105).

وقال «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (سورة المائدة -48).

وهو منهج قرآني أيضاً فيما إذا لم تقم الأمة ولاسيما دعاتها وعلمائها بوظائفهم !

هذا ما أردنا ذكره في هذا البحث الوجيز في كيفية قراءة القرآن ليكون شفيعاً لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

ص: 78

وهو القرآن وحده يطهر قلوبنا ويجعلها سليمة من كل عيب. نسأل الله عزّ وجلّ الهداية والتوفيق انه سميع مجيب .

5 ذو القعدة الحرام

1437 ه_

علي الموسوي

السبزواري

ص: 79

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.