الإقتصاد الإسلامي

هوية الکتاب

الإقتصاد الإسلامي

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.

الناشر: دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع.

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1440 ه-.ق / 2019 م

© جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 1

اشارة

الإقتصاد الإسلامي

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.

الناشر: دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع.

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1440 ه-.ق / 2019 م

© جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 2

الإقتصاد الإسلامي

الكتاب الأول

آية الله السيد

علي الموسوي السبزواري

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

اللهمَّ كُنْ لِولِّيكَ الحُجَّةِ ابنِ الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وعَلى آبائِه فِي هذهِ الساعَةِ وَفِي كُلِّ ساعة ولياً وحافِظاً وقائِداً وناصِراً ودَليلاً وعَيناً حتّى تسكنه أرضَكَ طَوعاً وَتُمتعَه فِيها طَويلاً بِرَحمتِكَ يا أرحَمَ الراحمين

ص: 5

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

عندما جاءت الشريعة الإلهية من أول بعثة الأنبياء علیهم السلام إلى هذا الوقت في زمن غيبة خاتم الأوصياء صاحب الزمان علیه السلام ؛ كانت قد أرست تعاليم الدين وأبانت معالمه وأوضحت أهدافه؛ وكان من أهم أهداف الأنبياء علیهم السلام الإجتماعية والإنسانية وغايات بعثاتهم وشرائعهم هو قيام الناس بالقسط, (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(1).

وهذه الغاية العظيمة لا يمكن أنْ تتحقق إلا بدحض أمرين؛ يلازم الثاني الأول, وهما: الإستكبار والإستضعاف الإقتصاديين, وإيجاد نظام إقتصادي متوازن, وهذا يعني خلق وإيجاد حالة التوازن الإقتصادي في المجتمعات ليتحقق القسط, الذي هو قوام الكيان الديني, يقول أمير المؤمنين علیه السلام : (الْعَدْلُ حَيَاةُ الْأحكام)(2). والآية المزبورة تبين نظاماً واضحاً من معلولية القسط لعلَّة الميزان فلا قسط بدون الميزان والتوازن.

إذن لا بُدَّ من تحقيق حركة متوازنة للمال في المجتمع ووضعه موضعاً إلهياً بحيث يكون قواماً للحياة, ومن المعلوم أنَّ هذا لا يمكن تحققه إلا بتطبيق نظام إقتصادي متوازن.

ومن هنا يُعلم أنَّ الإقتصاد الإسلامي من أحد أهم مظاهر الأخلاق, وبما أنَّه لا يوجد نظام أخلاقي متكامل إلا بالإسلام صارت هناك ضرورة لكون الإقتصاد إسلامياً؛

ص: 7


1- سورة الحديد؛ الآية 25.
2- غرر الحكم والكلم؛ الفصل الأول؛ الحكمة 440.

وذلك لأنَّ للأموال كيفية لتوزيعها وتداولها بين المسلمين, ولا يقوم ذلك إلا طبق تربية إنسانية وبحضور الدين وتعاليمه في المجتمع؛ لأنَّ الدين يدعو إلى الإستثمار السالم للأموال, وتوزيعها بشكل عادل, ويتَّضح بذلك دخول الإقتصاد الإسلامي في الأخلاق؛ لأنَّ ما كان من أخلاق الإسلام سلم من طرفي الإفراط والتفريط كما هو واضح, والإقتصاد الإسلامي هو الحدّ الوسط والعدالة بين الإفراط الإقتصادي (وهو التكاثر), والتفريط الإقتصادي (وهو الفقر).

هذا وإنَّ الطرفين يعتبران من الأحوال السيئة وجنود الجهل؛ لأنَّهما يفرغان الحياة الإنسانية من محتواها الإلهي, ويسوقانها إلى التدني في المعيشة في هذه النشأة. ولا يتمّ التخلص من هذين الحالين (التكاثر والفقر) إلا بإقامة العدل والتوازن؛ وهو الإقتصاد الإسلامي.

وعلى هذا تتجلى الغاية من فهرسة المسائل الإقتصادية وتدوينها وجمعها كمؤلف طبق المنظار الإسلامي المبتني على الثقلين والأصلين الأساسيين وهما القرآن والعترة اللذين يمثلان الدين الحنيف, وبتأييد من العقل الشريف.

وهذا يعني: إحياء المجتمعات الإنسانية بدستور إقتصادي إسلامي فتتحقق السعادة في الدارين والقرب الإلهي في النشأتين.

وفيما يلي بعض الركائز المهمة التي يرتكز عليها الإقتصاد الإسلامي؛ إذ أنَّ المحتوى الديني والمذهبي للإقتصاد الإسلامي يمكن أنْ يرتكز عليها, وبها يتميَّز عن باقي الأنظمة الإقتصادية المُدَّعاة من الإشتراكية والرأسمالية, وهي تمثل الخطوط العريضة التي لا بُدَّ أنْ يسير عليها الإقتصاديون لكي يفهموا ما سَنَّه الإسلام في هذا المجال.

ص: 8

وهذه الركائز هي:

1- مبدأ الملكية

يؤمن الإشتراكيون بالملكية العامة المعبر عنها ب-(التأميم(1)), ويرفضون الملكية الفردية الخاصة, ولكنهم متذبذبون في حالات الضرورة, والرأسماليون على العكس من ذلك.

أمّا الإسلام فيعترف بالأشكال المتنوعة للملكية, فهو يقرُّ بالملكية العامة والملكية الخاصة وملكية الدولة, ولا يعتبر أيَّاً منها حالة خاصة, أو يقرُّ بأيٍّ منها في حالة الإضطرار, بل كلُّها ملكيات صحيحة.

ولكن هذا لا يعني الجمع بين المتنافيات, بل إنَّ له أصلاً أصيلاً يبتني على أسس فكرية إلهية تناقض كلا المبدأين؛ الإشتراكي الماركسي والرأسمالي, لذا اضطرتا إلى قبول النظرية المعاكسة لهما, مع أنَّ الإسلام لم يضطر لذلك؛ مِمّا يدلُّ على صحة موقفه الإقتصادي وحقّانيَّة موقفه.

2- مبدأ الحرية الإقتصادية ضمن التقنين الإسلامي

يتمتع الإسلام بقيامه واعتماده على قيم معنوية وخلقية, فهو لا يمنع الحرية الإقتصادية مطلقاً كالإشتراكية, ولا يطلق لها العنان كالرأسمالية, بل يسمح بممارسة الحرية الإقتصادية وفق قانون وتحديد يتلخص إلى نوعين:

الأول: التحديد الذاتي؛ بمعنى أنَّ الإنسان المسلم بذاته يحدد نفسه بما استمده من قوة لتنمية المستوى الروحي والفكري طبق معالم التربية الإسلامية الإلهية؛ والتي لا تشعر

ص: 9


1- يعني: تحويل مشروع خاص على قدر من الأهمية إلى مشروع عام يُدار بطريقة المؤسسة العامة, أو على شكل شركة تملك الدولة كل أسهمها. فهو يقوم بنزع ملكية المشروعات الخاصة ذات النفع الحيوي للأمة وتحويلها إلى ملكية الدولة. ولكن هذا المصطلح غير معروف عند الفقهاء؛ لأنَّه نظام إقتصادي يتَّخذ طابعاً سياسياً ويبتني على مصادرة الثروات الطبيعية.

الفرد بأنَّه مسلوب الحرية, بل إنَّه يتحدد بتحديدات الشرع والأخلاق؛ لما يعلم فيها من مصلحة وبناء للنفس والمجتمع.

الثاني: التحديد الموضوعي؛ بمعنى فرض حكومة الشرع على الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي, فلا حرية إلا ما نصَّت عليه الشريعة؛ فهناك حرام وواجب, ويظهر ذلك من خلال:

أ- نصّ الشريعة على منع بعض النشاطات الإقتصادية التي تعيق تحقق الأخلاق والتعاليم الإسلامية, مثل الربا والإحتكار وما شابههما.

ب- إشتراطه أنْ تكون جميع النشاطات الإقتصادية تحت نظر وإشراف ولي الأمر؛ ضماناً لتحقيق المصلحة العامة, لأنَّ ولي الأمر يتمتع بعلم خاص ومعرفة دقيقة بالمجتمعات وأحوالها وتقلباتها المالية والإقتصادية, وبسبب هذه التقلبات لا يمكن ضبط دستور معين يوضح التعاملات الإقتصادية على نحو القطع والتحديد؛ لأنَّ المصلحة العامة تختلف من وقت لآخر ومن مجتمع لآخر, وهذا لا يكون إلا بإشراف ولي الأمر؛ لأنَّ الشؤون الإقتصادية لو وُكِّلت لغيره من أفراد الدولة وهم لا يحملون تلك الروح العالية والمعنوية كتلك التي يمتلكها, لذا ترى البعض من أفراد الدولة المسلمة يُحلّ بعض المعاملات والبنوك الربوية, أمّا ولي الأمر فيعرف الأحكام ويدرك البعد الأخلاقي المترتب على تلك الأحكام؛ لذا يمنع من ارتكاب التجاوزات الشرعية والأخلاقية, فيمنع الدولة من تحليل الربا أو الغش, أو تعطيل قانون الإرث أو تغيير نِسَبِهِ وغير ذلك.

3- مبدأ العدالة الإجتماعية

ونعني بذلك نظام توزيع الثروة بالإعتماد على عناصر تتكفل تحقيق العدالة الإسلامية والقيام بالقسط.

ص: 10

ويكون توزيع الثروة حسب ما ذكرنا بحيث يخرج من النظرية إلى التطبيق عن طريق:

أ- إقرار مبدأ التكافل العام؛ من خلال فرض الوجوه الشرعية للواردات الإقتصادية من الخمس والزكاة والكفارات والديات والصدقات وغيرها؛ ليسدَّ الواجد نقص الفاقد, وهو من واجبات الشرع والأفراد وليس للدولة فيه شيء.

ب- إقرار مبدأ التوازن الإجتماعي؛ عن طريق بث روح التعاون والتآلف بين أفراد المجتمع؛ عن طريق التثقيف على التعايش السلمي في جميع المجالات, وهذا المبدأ من واجبات الدولة بالإضافة إلى كونه من وظائف الشرع الأقدس عن طريق تشريعه والتثقيف عليه بكلِّ وسائل التثقيف والإرشاد.

هذه المعارف وغيرها سنتناولها في هذا البحث الإقتصادي الإسلامي المتكامل, غايته من منظار فقهي إستدلالي, وهو نوع جديد في التناول على مستوى بحوث الخارج في الحوزات العلمية, خصوصاً حوزة النجف الأشرف العامرة إلى ظهور الحجة البالغة؛ ومن الله السداد والتوفيق.

وقد كان الشروع في هذا البحث في يوم الأحد الموافق 20/ جمادي الآخرة/ 1438؛ في يوم مولد السيدة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها.

4- ركن الإكتفاء الذاتي في الإقتصاد الإسلامي.

5- ركن التوازن من خلال إستقرار الأسعار والتشغيل الكامل ودوام النمو.

ص: 11

ص: 12

مقدمة البحث

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطاهرين, واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

جرت عادة الفقهاء قدَّس الله أسرارهم أجمعين عند البحث في باب المعاملات أنَّهم يذكرون أنواع المكاسب والمتاجر, فهم رحمهم الله تعالى مع إبداعهم في هذا القسم من أبواب الفقه وتبحرهم في هذا العلم وكثرة تحقيقاتهم وعمق ما ذكروه فيها, فقد تفرد بها علماء الإمامية ولم يُعهد له نظير في فقه أيِّ مذهب آخر.

ولكن مع كلِّ الحسنات التي اتَّصفت بها بحوثهم الفقهية إلا أنَّها لم تكن وافية لجميع متطلبات العصر الحاضر, فقد تقدَّم العلم تقدماً كبيراً وتطورت الصناعات, وتعددت الوسائل وكثرت المسائل وتعددت الحاجات, وأصبح العالم قرية واحدة؛ كلُّ ذلك مِمّا يوجب إعادة النظر في هذا القسم من علم الفقه وتجديد صياغته ليستوعب جميع ما يرتبط بهذا الموضوع المهم الذي صار يشغل حياة الإنسان المعاصر, فلا بُدَّ أنْ يكون للدين وقفة مع كلِّ مفردة من مفردات هذه المجموعة في علم الفقه ويستوعب جميع ما استحدث من المسائل, وبذلك يخرج بحثنا عن البحوث الضيقة والفردية.

وعادة الفقهاء وإنْ جرت على تسمية هذا القسم من علم الفقه بالمعاملات وذكر أقسامها في أبواب معروفة؛ إلا أننا رأينا أنْ نتوسع في ذلك ليشمل جميع المفردات, والبحث عن الإقتصاد الإسلامي؛ بذكر معالمه وأركانه ومفرداته وتطبيقاته وأحكامه, ليتَّضح لنا أنَّ للإسلام إقتصاداً خاصاً به يقابل اقتصاد الآخرين؛ الذين ملؤا الدنيا بالتعريف عنه,

ص: 13

وجنَّدوا كلَّ ما في أيديهم من الإعلام لتمجيده وبيان آثاره في مجتمعاتهم؛ غافلين أو متغافلين عمّا أوجده اقتصادهم من الآثار السيئة في نفوس الأفراد وفي المجتمعات, والأنكى من ذلك أنَّ المسلمين أعرضوا عن تعاليم دينهم وانبهروا باقتصاد هؤلاء, فتركوا ما أسَّسه دين الإسلام من القواعد والأركان في هذا الموضوع. ولو أطاعوا الله ورسوله في تعاليم دينهم لوصلوا إلى السعادة في الدارين, ولكنهم ركنوا إلى الدنيا واتَّبعوا الشيطان, فخسروا ما أعدَّه الله لهم من الخير والصلاح.

ومن أجل ذلك يكون محتوى بحوثنا الآتية هو الإقتصاد الإسلامي؛ معالمه وأركانه وأسسه ومفرداته ومعوقاته وآثاره, وفي ضمن هذه البحوث نذكر ما يتعلق بالإقتصاد المخالف وبيان صفاته وسيئاته وموارد توافق الإقتصادين, كما سيأتي بيانه من أنَّ بناء الإقتصاد مطلقاً إنَّما يكون قائماً على العرف والعقلاء, والجميع يعتمدون عليهما في بحوثهم الإقتصادية وتعاملهم مع مفرداته.

والكلام يقع في ضمن بحوث تحتويها كتب متعددة ...

ص: 14

الكتاب الأول في بيان المصطلحات

ص: 15

ص: 16

التعريف بالمصطلحات التي تدور في علم الإقتصاد؛ ولا سيما الإقتصاد الإسلامي

ص: 17

ص: 18

التعريف بالمصطلحات التي يحتاجها علم الإقتصاد, والتي لها التأثير المباشر في تحديد هويته.

المصطلح الأول: الدين

المفهوم اللغوي

المفهوم اللغوي: مادة (د ي ن) تدلُّ على الإنقياد والخضوع, فهو أمرٌ أو حكمٌ أو قانونٌ أو جزاء.

وقد ذكرت له في اللغة معانٍ عديدة:

1- الدين بمعنى الإنقياد والطاعة؛ يقال: دان له دِيناً إذا انقاد وأطاع له, وقومٌ دِين أي مطيعون منقادون, ومنه قولهم: العادة دِينٌ, لأنَّ النفس إذا اعتادت شيئاً مرّت معه وانقادت له, ومنه الحديث: (إِنَّ الْكَيِّسَ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ)(1) أي: ذَلَّ نفسه واستعبدها.

2- الدَّين بمعنى الحساب والجزاء؛ ومنه: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(2), لتضمنه الحكم فينقاد لهُ.

3- الدَّين بمعنى القرض؛ لأنَّ فيه المذلة, ومنه قولهم: (الدَّين ذُلٌ بالنّهار، وغَمٌّ بالليل)(3).

4- الدَّين بمعنى الخضوع والإنقياد؛ ومنه: دان الرجل إذا عزَّ؛ ودان إذا ذلَّ, ودان إذا أطاع, ودان إذا عصى, ودان إذا اعتاد خيراً أو شراً, ودان إذا أصابه الدَّين.

فإنَّ الجميع تشترك في الخضوع والإنقياد.

ص: 19


1- مجموعة ورام؛ ج1 ص64.
2- سورة الفاتحة؛ الآية 4.
3- معجم مقاييس اللغة؛ ج2 ص320.

والمستفاد من جميع ذلك أنَّ المعنى الحقيقي هو الخضوع والإنقياد؛ بشرطين:

أولاً: الخضوع

ثانياً: أنْ يكون مقابل إرادة وبرنامج.

فلا يكون مطلق الإنقياد والخضوع أو الجزاء أو غيرها من هذا الأصل, وعلى ذلك تكون جميع إطلاقات الدين في اللغة من لوازم هذا الأصل وآثاره, مثل الذلّ أو العزة بعد الإنقياد, وهكذا التعبُّد والحكومة, والتسليم والجزاء خيراً أو شراً, والإعتياد ونحو ذلك. فليس لفظ الدين من المشترك, وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم كثيراً(1), وجميعها تدلُّ على أنَّ حقيقة الدين هي التسليم والخضوع والإنقياد الخالص لله وفي الله. وهذا هو معنى قوله تعالى: (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(2) وهو الذي يقتضيه الإطلاق اللغوي.

المفهوم الإصطلاحي

وأمّا الدَين بالمعنى المصطلح عليه فقد ذكرت له معانٍ عديدة, ومنها:

1- (إنَّه قانون سماوي سائق لذوي العقول إلى الخيرات بالذات والأحكام الشرعية المنزلة على محمد صلی الله علیه و آله و سلم )(3).

ولا ريب أنَّ هذا التعريف قاصر عن إفادة الشمولية لهذه الكلمة كما سيتبين إنْ شاء الله تعالى.

2- إنَّه مجموعة قوانين وأحكام وسنن وآداب وأخلاقيات تنظِّم حياة الإنسان في الدارين, وتوصله إلى الجزاء الحسن, وتهديه إلى ما هو الأصلح له, وتجلب له السعادة.

ص: 20


1- يبلغ عدد الموارد التي وردت فيها كلمة (دين) في القرآن الكريم إلى 101 مورداً.
2- سورة غافر؛ الآية 14.
3- دستور العلماء؛ ج2 ص118.

لكن الدين ينظِّم العقيدة كما ينظِّم العمل, فلا يقتصر على أحدهما.

وبما أنَّ الدين له الشمولية والسعة فلا يقتصر على جانبٍ معين من جوانب حياة الإنسان, بل يشمل جميع ما يرتبط بالإنسان, بل الموجودات الشاعرة؛ فيكون مؤثراً فيها.

ولا يكون الدين كاملاً متكاملاً إلا أنْ يتَّصف بأمورٍ حقيقية هي مقومة لماهيته, وتتجسد بها هويته حتى تثبت له السلطة والقوامية على جميع قوى الإنسان, ويُحدِّد سيره وسلوكه ومصيره وجزاءه. وقد جمع الدين الإلهي جميع تلك العناصر والمقومات والأركان فكان جامعاً مانعاً.

العناصر والمقومات والأركان الدين الإلهي

اشارة

العنصر الأول: الإلزام.

العنصر الثاني: المسؤولية.

العنصر الثالث: الجزاء.

العنصر الرابع: النيَّة والدوافع.

العنصر الخامس: الجهد.

العنصر الأول: الإلزام.

أمّا العنصر الأول (الإلزام): فإنَّ الدين لا بُدَّ أنْ يستند على فكرة الإلزام التي تعتبر القاعدة الأساسية والمدار الذي يدور حوله كلُّ نظام الدين, وبفقده يفقد الدين ماهيته, فلن تكون هنالك مسؤولية إذا لم تكن فكرة الإلزام, وإذا عدمت المسؤولية تنعدم العدالة وتحلُّ الفوضى ويفسد النظام في جميع المجالات؛ مجال الواقع, ومجال القانون؛ كما هو واضح.

العنصر الثاني: المسؤولية.

وأمّا العنصر الثاني (المسؤولية): فهو يعني مقدرة المرء على أنْ يُلزم نفسه أولاً, والقدرة على أنْ يفي بالتزامه بواسطة جهوده الخاصة ثانياً.

ص: 21

والمسؤولية بهذا المعنى تكون سمة من السمات المميزة التي يأخذها الإنسان من جوهر ذاته, ولا ريب أنَّ فكرة المسؤولية وفكرة الجزاء(1) مترابطتان, وكلتاهما ترتبط بفكرة الإلزام ولا تقبل الإنفصال, فإذا وُجد الإلزام تتابعت الأخريان, وإذا اختفى ذهبتا في إثره؛ لأنَّ الإلزام بلا مسؤولية يعني القول بوجود إلزام بلا فرد مُلزَم وهو مستحيل, ولا يقلُّ استحالته على أنْ نفترض كائناً مُلزَماً ومسؤولاً بدون جزاء مناسب, فإنَّ معنى ذلك كلّه هو تفريغ الكلمات من معانيها, وبطلانه واضح.

العنصر الثالث: الجزاء.

وأمّا العنصر الثالث (الجزاء): فإنَّه يمثل العلاقة بين الإنسان والقانون, فإنَّ فكرة الإلزام تمثل نقطة البداية وفكرة الجزاء تمثل نقطة النهاية في العلاقة الجدلية بين الفكرتين.

فالجزاء هو ردَّة فعل القانون على موقف الأشخاص الخاضعين له.

العنصر الرابع: النيَّة

اشارة

وأمّا العنصر الرابع (النيَّة): فهو يعني حركة تَنزع من خلالها الإرادة نحو شيء معين؛ سواء لتحقيقه أم لإحرازه, ولكي تكون الإرادة فاعلة لا بُدَّ أنْ يكون لها سبب معين, وهو إمّا أنْ يكون سبباً مباشراً؛ وينحصر بالعمل الذي يشرُع المريد أداءه. وإما أنْ يكون سبباً غير مباشر وهو الهدف والغاية.

والسبب الأول وإنْ كان مباشراً للإرادة الفاعلة ولكنه لا يكون ممكناً كمشروع إرادي على وجه الكمال إلا أنْ يفكر الإنسان في صميم ذلك العمل وما وراءه من الهدف المطلوب أيَّاً كان؛ من خير وغيره, يزكِّيه في نظره لتكون الغاية الأخيرة التي يقصد إليها الجهد العاقل الواعي ويتطلع إلى بلوغها.

وهذا الموضوع البعيد من حيث هو حقيقة مُستقبلية يتعين السعي وراءها وبلوغها, ومن حيث هو مبدأٌ أو فكرٌ يُحفز النشاط الإرادي ويمهد له.

ص: 22


1- وهي العنصر الثالث الآتي ذكره.

ويطلق على الأوّل الغاية والهدف, وعلى الثاني الباعث والدافع.

والأخيرتان وإنْ كانتا كلمتين مترادفتين ولكنهما تشتملان على قدر من الألوان الدلالية, فإنَّ الباعث يدلُّ على تصور فكرة الخير مثلاً كحالة عقلية صرفة تستخدم في تجويز العمل المعتزم وتجعله معقولاً وتبين مطابقته للشرع أو القانون.

ويستتبع هذه المرحلة قوة محركة تدفع نشاطاً, ولها التأثير في الإرادة ويطلق عليها إسم (الدافع). وهذه التفرقة هي القريبة إلى الأذهان.

وهناك تفرقة أخرى؛ حيث ذهب بعض فلاسفة الغرب إلى أبعد من ذلك حينما أُطلق الدافع إطلاقاً نوعياً على الغايات الذاتية الصادقة بالنسبة إلى الشخص فقط, حيث أطلق البواعث على الغايات الموضوعية الصادقة بالنسبة إلى جميع الكائنات العاقلة.

وأيَّاً كان نوع الدلالة لهاتين الكلمتين -الباعث والدافع- فإنَّ الذي يهمنا في موضوع الإرادة هو نوعان من المطلب: الماهية, والسبب. والكلام ينصبّ حول هذين المطلبين.

وباعتبار أهمية النيَّة في حياة الإنسان وما يترتب عليها من الآثار سواءٌ الحسنة أم السيئة فلا بُدَّ أنْ يتبين الحال فيها بذكر أمور:

أولاً: إنَّه من المسلّمات أنَّ أيَّ قرار عادي إنَّما يُتَّخذ بعد التأمل الكافي بحيث تكون للإرادة فيه نظرتان: إحداهما تنصّب على العمل, والأخرى على الغاية.

والأُولى هي مَحطُّ النظر بوضوح, ولكن الثانيَّة قد يُغضُّ الطرف عنها, ولكنها لا تكون مُغفلة تماماً.

ومن هنا قد يبتعد الموضوع الذي نتأمله من مجال الشعور الواضح ولكنَّه حاضر فيما وراء الشعور أو بتعبير آخر في اللاشعور, وهذا الموضوع برُمَّته هو المبدأ الأول الذي يُلهم الإرادة ويحدِّد حركتها نحو العمل.

ص: 23

ثانياً: إنَّ تلك النظرتين للإرادة تعتبران موضوعين مختلفين من موضوعات الدراسة في العلوم؛ فإنَّ علماء الأخلاق يكثرون البحث عن النيَّة الغائية ويهتمون بها. وأمّا علماء النفس والقضاة يصبوّن اهتمامهم على النيَّة بمعناها العام؛ والموضوعي منها خاصة. فيحقُّ لنا أنْ نفرّق بين هذين النوعين من النيَّة, فنطلق على أحدهما النيَّة الأخلاقية, وعلى الأخرى النيَّة النفسية أو (السايكولوجية), ولكن ليس من جهة أنَّ الأخلاقية لا تهتم باختيار الموضوع المباشر, بل لأنَّ الفعل الذي تُفقد فيه النيَّة الأخلاقية فقداناً كاملاً لا يدخل في مجال الأخلاق فيكون محايداً, بعكس ما إذا كانت الإرادة التي تسعى وراء غايات غير مشروعة -التي هي إرادة ضد الأخلاق- فتكون النفس آثمة.

وأمّا النيَّة النفسية فإنَّها ليست أكثر من أنْ تمنح العمل حقّ الحياة فتجعله صحيحاً يعتمد عليه, والنيَّة الحسنة -أخلاقياً- تجلب إليه ما يناسبه من القيمة.

وكيف كان؛ فقد خلط اللغويون والفلاسفة بين هذين القسمين وجعلوهما تحت لفظ واحد وتركوا التمييز بينهما بحسب السياقات أو الظروف التي يستعمل فيها.

ثالثاً: الحقُّ أنَّه ينبغي على العلماء أنْ يذكروا لكلِّ واحد من تلك الأقسام صفات مميزة, فإنَّ الخلط بينها يستغلّه بعض من لا حريجة له فيجعل أحدهما مكان الآخر؛ لتبرير عمل له ليعتبره عملاً ذا قيمة.

ومع ذلك فإنَّ بعض العلماء يحتفظ باسم (النيَّة) للمعنى الذي يرتبط بالعمل, وباسم القصدية للمعنى الذي ينصرف إلى الغاية اختصاراً للكلام ورفعاً للغموض الذي يكتنف هذه الكلمة. والبعض الآخر يحتفظ بكلمتي (النيَّة والدافع) من أجل مزيد من الوضوح.

وحصر أغلبهم الإرادة في العمل -وهو الإتّجاه الذي يتبعه علماء الإقتصاد- فقد امتزجت عندهم مع العمل امتزاجاً كاملاً دون هدف آخر أو نيَّة مستترة, فهي قد قطعت كلَّ صلة لها بالأسباب العميقة التي تحفزها إلى ذلك العمل, ومن هنا نرى أنَّ هذا الإتّجاه قد ابتعد

ص: 24

كلَّ البعد عن النيَّة الأخلاقية, فيكون إتّجاه الإرادة على هذا النحو إلى العمل الذي تنتجه أو هي بصدد إنتاجه يطلق عليه (قصد أو نيَّة) مع الفرق بينهما في أنَّه إذا كان الفرد في أهبة القيام بالعمل يسمى قراراً يتفاوت في ثباته فهو القصد والعزم.

وأمّا حين يتزامن مع العمل تكون نيَّة؛ باعتبارها الشعور النفسي الذي يصحب العمل.

وعلى كلٍّ؛ فإنَّ فكرة القصد أو النيَّة في كلتا الحالتين لا بُدَّ أن تنطوي على ثلاثة عناصر تكوينيَّة.

1- تصور المرء لما يعمله.

2- إرادة إحداثه.

3- إرادته على أنَّه أمر مفروض أو مأمور به.

رابعاً: إذا تبين لنا معنى النيَّة ومقوماتها وعرفت مدى تأثيرها ينبغي التعرض في المقام -ولو على سبيل الإجمال- لثلاث مشكلات وحلِّها:

المشكلة الأولى: إذا غابت النيَّة كلاً أو جزءاً عن العمل.

المشكلة الثانيَّة: إلى أيِّ حدٍّ يمكن للنيَّة أنْ تغير طبيعة العمل؟.

المشكلة الثالثة: إلى أيِّ حدٍّ تستطيع النيَّة بمفردها أنْ تقوم بدور واجب كامل؟.

أما المشكلة الأولى؛ وهي التي تتَّصل بغياب النيَّة: فالذي لا بُدَّ من قوله فيها هو أنَّه من المعروف أنَّ النيَّة شرط للتصديق على العمل, وهو الذي اعتمدت عليه جميع الأديان الإلهية ولا سيما الشرع الإسلامي الذي يلغي أيَّ عملٍ تنقصه المعرفة والإرادة؛ واللذان هما عنصران نفسيان, فالعمل اللاشعوري أو الحدث المادي الصرف هو الذي يصدر عن شخص دون أنْ يشعر به, كأن يكون نائماً مثلاً لا يوصَف بحسن أو قبح ما دام لم يحاسب عليه.

ص: 25

كذلك العمل الشعوري إذا كان لا إرادياً, فإنَّه وإنْ كان حدثاً يتمُّ بعلمنا ولكنه مستقل عن إرادتنا في ظرف طارئ نتعرض له؛ كأن يكون صادراً عن قوة لا يمكن مقاومتها.

فإنَّه في هاتين الحالتين قد افتقدت النيَّة, لكن العمل الصادر لم يغب عنه الشرع من جانب أو القانون من جانب.

فمن الناحية المادية (أي نفس العمل) فإنَّ القانون هو الذي يحدّد اعتبارها؛ فإمّا أنْ يكون متَّفقاً معه أو مخالفاً له كما في موارد القتل الخطأ, أو في حدث يتم بنيَّة حسنة ولكنه يسبب أضراراً للآخرين. ولكنه من جانب القانون الأخلاقي, وقانون الجزاء والعقوبات تكون نسبة الأعمال إلى أصحابها بقدر النيَّة التي تؤدى بها.

ومن هنا يأتي الشرع أو القانون المدني ويثبت حلاً وسطاً نوعاً ما, فهو وإنْ كان يبرِّئ الشخص العامل لكنه بشرط ضمان الضرر الحاصل الذي تسبب فيه.

كلُّ ذلك حاصل من ناحية الترابط بين المسؤولية والجزاء, وحينئذٍ يظهر الشرع الإسلامي ويحدد الجزاء والمسؤولية ومقدار التطابق بينهما؛ حتى لو كانت النتيجة ضد نيَّتنا أو دون علمنا.

فقد جمع الدين الإلهي بين النيَّة الأخلاقية والنيَّة النفسية ومقدار ضياعهما فلم يحدث تحيّرٌ أخلاقي, ولم يحدث الإعفاء الكامل من واجباتنا إذا حدث ما يقع رغم إرادتنا أو وقع مستقلاً عنّا. وعلى هذا الأساس يظهر الارتباط العام بين العمل والنيَّة, فإنَّ النيَّة شرط صحةٍ في أخلاقية كل عمل, فيكون الحدث اللاشعوري والحدث اللاإرادي عاجزاً عن الوفاء بواجبنا عندما يجب.

وأما المشكلة الثانيَّة؛ وهي تأثير النيَّة في طبيعة العمل, بمعنى درجة فاعلية وجودها, فالبحث يدور حول ما إذا كانت النيَّة تُحدث تعديلاً في طبيعة العمل ذاته بحيث يمكن للعمل السيء الذي وقع بحسن النيَّة أنْ يكتسب قيمة أخلاقية فيصبح عملاً فاضلاً, أو في الحالة المضادة ينعكس الأمر فيكون العمل الحسن مع نيَّة سيئة عملاً سيئاً.

ص: 26

من المعروف أنَّ الإرادة حبيسة في أعمالنا وكيفياتنا بغضِّ النظر عن جميع الدوافع التي قد تُحمل عليها.

وعليه؛ فإنَّ حسن النيَّة لا يمكن أنْ يتمثل في شرف الغايات التي تتحرك بها الإرادة, فتكون قيمة النيَّة تابعة هنا فقط في الطريقة التي تحكم بها على مشروعاتنا من حيث اتّفاقها أو اختلافها مع القانون.

ومن هنا كانت أحكامنا الأخلاقية لا تتوافق بالضرورة مع واقع الأشياء فقد يكون بينها وبين الإرادة فاصل حين تسعى الإرادة إلى بعض الأمور على أنَّها مطابقة أو مناقضة للواجب, ولكنها في الواقع لا تكون كذلك. وحينئذٍ تكون المحاولة في الحقيقة في معرفة ما إذا كان يكفي في الحكم على عمل بأنَّه مباح أو ممنوع وإنْ لم يكن في ذاته كذلك.

وقد وقع كثيرٌ من العلماء وغير المتشرعين في حيرة من الجواب عن هذه المشكلة فلم يقدروا أنْ يجيبوا جواباً قاطعاً بالإيجاب أو النفي؛ وذلك لأنَّهم إنْ التزموا بالفكرة القائلة بأنَّ النيَّة الحسنة هي في ذاتها الخير الأخلاقي أو الخير المطلق بلا قيود, أو الخير الوحيد في العالم, بل فيما وراء هذا العالم على اختلاف عباراتهم؛ فإنَّه أولاً: يقودنا منطقياً إلى تسويغ جميع الأخطاء والضلالات. وثانياً: إتّخاذها قيماً مطلقة أو نماذج كاملة من الفضيلة, لأنَّها في نظر أصحابها -حسب الغرض- مطابقة للقاعدة.

فلو أراد الإنسان تحديدها خارج نطاق النيَّة فلا بُدَّ أنْ يكون تصحيحها بمطابقتها للقانون وهو يستلزم هدم ما بناه والخروج عن مبدأ القيمة المطلقة للإرادة الطيبة الذي اتَّخذه كأساس.

ومن ناحية أخرى فإنَّنا لو اعتبرنا توجيهات الضمير عاجزة عن تغيير أيّ شيء في طبيعة العمل, فإنَّه يستلزم أنْ تكون أكثر النوايا آثمة, فلا بُدَّ أنْ نقبلها في نطاق كونها أخلاقيةً كما نقبل أكثر النوايا إستناداً للمسوغات الطيبة.

ص: 27

ولأجل هاتين الناحيتين يبدو العجز عن الاجابة بالإثبات أو النفي اجابة قاطعة. فتكون المشكلة قد جعلتنا أمام مأزق يصعب الخروج منه.

ولكن الصحيح هو ما ورد في قول الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (إنَّما الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)(1)؛ الدالُّ على أنَّ الأفكار الباطنة لها التأثير في أعمالنا الظاهرة لكن لا على نحو الإطلاق بحيث يوجب إلغاء قيمة الأعمال.

وعلى هذا الأساس أقامت الفلسفة الأخلاقية قاعدتها التي تكون قريبة من أحداث الضمير ورسمت لها الحدود, وإنْ كان ذلك لا يخلو من غموض في جواب الأخلاقيين. ولكن الشرع قد حددّ الجواب في مثل الحالات التي يتباين فيها الذاتي من الموضوعي, فإنَّه يتبع خطَّاً متوازياً, فتارةً يكون العامل الحاسم في الحكم باللَّوم هو النيَّة, وتارةً أخرى يكون النظر على العمل وجرمه.

وفي الحالة الأولى يكون العمل مطابقاً للشرع مع نيَّة مخالفة على عكس الحالة الثانيَّة؛ حيث يكون العمل مخالفاً للشرع مع نيَّة مطابقة.

وأمثلة كلّ واحد من الحالتين كثيرة في العبادات والمعاملات وغيرها, أمّا الحالة الأولى؛ وهي عندما يقوم شخص بعمل مطابق للشرع مع نيَّة مخالفة للواجب فإنَّ الحكم يكون للنيَّة فتكون النيَّة كلّ شيء ومادة العمل ليس بشيء. وأمثلتها كثيرة:

منها: ما إذا استولى رجل على مال يعتقد أنَّه لغيره ولكنه في الواقع ماله الخاص.

ومنها: ما إذا شرب مايعاً على أنَّه خمر وفي الواقع يكون عصير فاكهة.

ومنها: ما إذا أقدم على الزنا والعياذ بالله بامرأة على أنَّها أجنبية وفي الواقع هي زوجته. وغير ذلك من المصاديق.

ص: 28


1- تهذيب الأحكام؛ ج4 ص186, وقد ورد: (وإنَّما لامرئ ما نوى)؛ ج1 ص84.

ويجمعها: إنَّ كل من يشرع في عمل خاطئ في نظره, وكان مشروعاً في ذاته فإنَّه يرتكب إثماً في الشرع وإنْ لم يَنلْه جزاء شرعي من حدٍّ أو تعزير من أجل مطابقة عمله للواقع الشرعي. ولكنه في الشرع الأخلاقي فإنَّ عمله يُنبئ عن سوء السريرة وخبث الباطن, وإنْ كان ذلك على درجات وتفاوت بين الأفراد, كما هو مفصل في علم الأصول.

وأمّا الحالة الثانيَّة؛ التي تكون النيَّة حسنة, والعمل غير مطابق للشرع والقانون, فهل أنَّ النيَّة تجعله خيراً فتكون للنيَّة الحسنة قوة مغيِّرة؟.

والأمثلة أيضاً كثيرة, منها: نحن نعلم أنَّ كثيراً من الناس شديدو التأثير والحساسية تجاه مقدساتهم؛ لدرجة أنَّ أيَّ إساءة تُوجّه إليها تستدعي من جانبهم الإساءة في حقِّ الله المعبود الحقّ, وقد نهى القرآن الكريم عن هذه الإثارة فقال: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ »(1)؛ فلو أنَّ مؤمناً غيوراً دفعته حرارة إيمانه أنْ يعبّر -دون تعقل- عن احتقاره للأصنام دون أنْ يفكر في ردود الفعل المحتملة على هذا النحو من التصرف؛ فهل يكون معذوراً بنزاهة قصده؟!.

ومثال آخر: إنَّ القرآن الكريم ينهى عن الغيبة بقوله:« وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا »(2), وهو كما يذمُّ المغتابين بالقدر الذي يذمُّ الذين يسمعون الغيبة من غير اعتراض منهم؛ فيصيرون بذلك شركاءهم كما قال تعالى:«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ»(3), ولكن إذا كان المستمع يريد أنْ يكون على علاقة طيبة مع كلِّ الناس؛ بأنْ لا يسيء إلى أحد؛ فيدع المغتاب وشأنه فتكون نيته حسنة وهي المحافظة على علاقته الحسنة لغرض حسن ويترك الرد على المغتاب.

ص: 29


1- سورة الأنعام؛ الآية 108.
2- سورة الحجرات؛ الآية 12.
3- سورة النساء؛ الآية 140.

إلى غير ذلك من الأمثلة والمصاديق الكثيرة.

فهل يمكن أنْ يكون الشرّ خيراً بفضل النيَّة الحسنة والإرادة الفاضلة؟.

ولا يقول أحدٌ بذلك إلا الماديين الذين يتوسلون بكلِّ شيء في سبيل تحقيق مقاصدهم, والمقولة المعروفة عنهم (الغاية تبرر الوسيلة), فيجعلون الشر خيراً إذا كانت مصالحهم تقتضي ذلك. ولكن الأديان الإلهية وأصحاب الضمائر الحية لا يقولون بأنَّ ارتكاب الجرائم والأخطاء تطهّر الدنس من أجل النيَّة الحسنة فإنَّه كما لا يمكن أنْ تترقى النيَّة الخاطئة إلى مرتبة المبادئ الأخلاقية كذلك لا تكون النيَّة الصالحة تصحح الأخطاء, وإلاّ لما كان من الضروريات أنْ يخرج المرء عن جهله وأنْ يرجع عن أخطائه.

والكلام في هذا الموضوع واسع ومتشعب, ولكن الذي ينبغي ذكره في المقام -ولو على سبيل الإيجاز, والتفصيل موكول إلى محلِّه المناسب- إنَّ ما يمكن تصوره في النيَّة والعمل حسب القواعد المعمولة في الأديان الإلهية هو:

ما یمکن تصورة في النية و العمل

1- أنْ يتطابقا في الحسن والصلاح, فالنيَّة حسنة وصالحة والعمل حسن وصالح.

2- أنْ يتطابقا في الشر والفساد فلا النيَّة حسنة, ولا العمل يكون صالحاً.

ولا ريب أنَّ الجانب الأخلاقي والجانب الجزائي يتطابقان في الصورتين, ففي الصورة الأولى فإنَّه من ناحية الجانب الأخلاقي ينال العامل المدح والثناء والأثر الخلقي الحسن في النفس؛ المترتب على النيَّة, كما ينال الثواب المترتب على العمل من ناحية القانون والشرع ويدرك المصلحة المتوخاة من ذلك العمل.

كما أنَّ الأمر على عكس ذلك في الصورة الثانيَّة؛ فإنَّ العامل ينال اللوم والتوبيخ والتأثير السيء في النفس, والعقاب وجميع الآثار التي حددها الدين بالنسبة إلى العمل.

ص: 30

3- أنْ يختلفا؛ فتكون النيَّة حسنة والعمل سيئاً.

4- أنْ يختلفا؛ فتكون النيَّة سيئة والعمل حسناً.

والعلماء والباحثون قد اختلفوا في هاتين الصورتين؛ إما تغليب النيَّة وتغيير طبيعة العمل وفقها, أو تغليب جانب العمل وجعل النيَّة حبيسة العمل, وفي كلِّ واحد من الرأيين مساوئ ذكرناها آنفاً.

ولكن الأديان الإلهية قد حلّت المعضلة ورفعت الإبهام فيهما, فقد عزلت النيَّة من الجانب الأخلاقي عن الجزاء من الجانب القانوني, فاعتبرت النيَّة الحسنة دالَّة على حسن السريرة وكاشفة عن خضوع النفس لبارئها, وربَّما ينال الثواب عليها. واعتبرت النيَّة السيئة كاشفة عن خبث السريرة وروح العدوان الكامن في النفس, وربَّما يؤثر على العمل فيبطله وتحبط الأجر المترتب عليه, وأمّا العمل فإنَّ الشرع يحدد طبيعته, فقد يحكم عليه بالصحة وقد يحكم عليه بالبطلان حسب القواعد المعمولة في علم الفقه, فأعطى الدين للأخلاق دورها في جانب النيَّة ولم يهملها, كما أعطى للشرع دوره في تحديد صحة العمل وبطلانه وترتيب الجزاء عليه, وبذلك جمع وظائف علوم الدين, والأصل الذي عقدنا عليه موضوع بحثنا قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (إنَّما الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)(1), وغير ذلك من الأخبار؛ حيث يستفاد منه أنَّ لكلِّ واحد من النيَّة والعمل التأثير في الآخر؛ لشدة الإرتباط بينهما في الإنسان؛ هذا الكائن الأخلاقي المتميز عن سائر الكائنات, فإنَّه قد اجتمع فيه روح وبدن, وكلُّ واحد يمثل عالمه الخاص به, فإن النيَّة زينة الروح, والعمل زينة الجانب المادي فيه, فلا يمكن الفصل بينهما, فالنوايا الحسنة تجعل الروح متعلقة بعالمها العلوي, والأعمال الصالحة تنقذ البدن من الوقوع في المهالك, والدين الإلهي يحاول في تشريعاته ومعارفه أنْ يجعل بفضل هذه المعادلة الإنسان كائناً ربانياً, والخروج

ص: 31


1- تهذيب الأحكام؛ ج4 ص186.

عنها بتغليب أحدهما على الآخر يجعله إمّا من الروحانيات والقدسيين, أو يهوي به إلى أدنى درجات المادة ويحرم نفسه من اللذائذ المعنوية ويجعله في مصافّ أدنى المخلوقات.

والعلم الذي نحن بصدد البحث عنه -وهو علم الإقتصاد- سلاح ذو حدَّين, إمّا أنْ نصوغه ليوافق تعاليم الأديان الإلهية فيجلب للإنسان كلَّ الخير والصلاح في الدنيا والسعادة في العقبى.

وإمّا أنْ يحرم الإنسان من كلِّ مميزاته المعنوية التي يتميز بها عن سائر مخلوقات الله تعالى؛ حيث كرَّمه الله تعالى وفضَّله على كثير مِمَّن خلقه؛ فيجرده عن كلِّ مكارم الأخلاق ويحطّه إلى أدنى الدرجات ليقتصر على نيل الماديات فقط, فيفقد بذلك هويته, وهو الخسران المبين.

ومن ذلك يتَّضح فضل النيَّة على العمل ودورها الكبير في سموِّ الروح أو انحطاطها, وإنْ كان لا يوجب غضّ النظر عن العمل فإنَّ له التأثير الواضح في إبقاء الروح على سموِّها أو انحطاطها.

ومن هنا قرن القرآن الكريم دائماً الإعتقاد بالعمل الصالح, ولكنه يمدح العمل الذي يُستمَّد من أعماق النفس, كقوله تعالى: « أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى»(1).

وقوله تعالى:«إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(2).

هذا كلُّ ما يتعلق بالمشكلتين الأولى والثانيَّة مِمّا تقدم ذكرها؛ فقد عالجنا هنا ثلاث حالات.

الأولى: العمل بلا نيَّة, وهي حالة البطلان الأخلاقي كما عبَّر عنها بعضهم.

الثانية: عندما يكون العمل والنيَّة حاضران, ولكن يعتورهما النقص, فإمّا أنْ تكون النيَّة سيئة وهي حالة اللاأخلاقية, وإمّا أنْ يكون العمل غير مطابق للنيَّة وهي حالة الإنحراف الذي يحمل الإدانة أو العفو.

ص: 32


1- سورة الحجرات؛ الآية 3.
2- سورة الشعراء؛ الآية 89.

الثالثة: أنْ يكون العمل والنيَّة حاضرين ومتطابقين, وهي الحالة الأخلاقية الكاملة مع أفضلية النيَّة ودورها في سموّ الروح. وأمّا العمل فهو مكمِّل لها وزينة الجانب المادي للإنسان.

بقيت حالة أخرى هي تكون مقابلة للحالة الأولى, وهي: وجود النيَّة وحدها غير مترجمة إلى عمل فهل يمكن أنْ نثبت لها دوراً أخلاقياً متكاملاً وهي المشكلة الثالثة من المشاكل الثلاث التي ذكرناها في بداية البحث.

ولا ريب في أنَّ مجرد النيَّة لا تثبت أيَّ نوع من الجزاء من الجانب التشريعي بناءً على ما عرفت من الترابط بين الإلزام والمسؤولية والجزاء, إلا أنَّه قد ورد في بعض النصوص الشرعية أنَّ الله تعالى ربَّما يمنح الثواب لمن ينوي الخير تفضلاً منه عَزَّ وَجَلَّ(1), بخلاف من ينوي الشر فإنَّه لا يعاقب على تلك النيَّة إذا لم تقترن بقولٍ أو فعل.

وأمَّا من الجانب الأخلاقي فإنَّ النيَّة لها التأثير في النفس والروح فإذا كانت النوايا حسنة فإنَّها توجب ترقي النفس وتطهيرها من الرذائل النفسية بخلاف ما إذا كانت النوايا سيئة فإنَّها تسلب سلامة النفس وتؤدي إلى مرض القلب وإثمه, وكلتا النيتين تؤثران على الأعمال والاقوال؛ لشدة الترابط بين العمل والنيَّة كما تقدم بيانه, وهذا المقدار موضع اتّفاق العلماء والباحثين المسلمين, إلا أنَّه يصادمنا ما ورد في بعض النصوص الإسلامية ما يدلُّ على محاسبةٍ للنوايا, مثل ما ورد في القرآن الكريم:«وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(2), وإذا أردنا التعمق في ذلك نقول: إنَّ النيَّة إمّا أنْ تكون بمعنى العزم الثابت الذي لا

ص: 33


1- الروايات في ذلك كثيرة؛ راجع الباب السادس من أبواب مقدمة العبادات؛ باب استحباب فعل الخير والعزم عليه من وسائل الشيعة (ط. مؤسسة آل البيت علیهم السلام )؛ ج1 ص49.
2- سورة البقرة؛ الآية 284.

يتوقف إلا أمام عقبة واقعية, وإمّا أنْ تكون بمعنى الرغبة والميل لمجرد مشروع في مرحلة التدبر والتردد.

وأمثلة القسمين معروفة لكلِّ فرد من أفراد الإنسان.

ومثال الأول: كما إذا نوى أحدٌ الاخلاص بالعمل بالشريعة فلا يريد شيئاً إلا وجه الله وحده, أو ينوي أنْ يقوم للصلاة أو أنْ يصبح صائماً, وأنْ لا يعصي الله عَزَّ وَجَلَّ, وإنْ عرضت له معصية تركها من خوف الله سبحانه, فهذه هي الإرادة -وهي نيَّة- ولكنها تكون لله تعالى.

ومثال الثاني: كما إذا أراد أحدٌ أنْ يكون مخلصاً, ولكنه مضيِّعٌ للإخلاص, أو كمن يحبُّ أنْ يكون صائماً وكانت نيته الإفطار, أو يكون مصلياً وهو كسلان عنها أو يؤثر الشغل الدنيوي عليها, ويحب أنْ يترك المعاصي من خوف الله تعالى ولكن النفس لا تستجيب لذلك. فكلُّ هذا مجرد إرادة ومحبة ورغبة وميل ليس إلا, وهي غالباً ما تحصل عن العادات اللينة التي ينشدُّ إليها الإنسان.

ومثل هذه النيَّة لا تحاول تحطيم العقبات التي تعترض كلَّ جهد جاد. كما أنَّ مثل هذا الإنسان الذي يجعل من كلِّ ما يُقلق الراحة عائقاً لا يحقُّ له أنْ يجعل من تعاطفه مع الأعمال الطيبة صفة أخلاقية حميدة, أو كاعتذار مقبول عن ضعفه؛ ويدلُّ على كِلا النوعين ما ذكره القرآن الكريم بما يرتبط بعض المتخلفين عن الهجرة من مكة بعدما دُعوا إلى أنْ يتركوا بلدهم الذي كان العدوُّ مسيطراً عليه ويلتحقوا بإخوانهم الذين هاجروا إلى المدينة, ولكنهم لم يستجيبوا لهذه الدعوة بحجة أنَّهم كانوا مستضعفين في الأرض, وردَّ عليهم القرآن بقوله:(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(1).

ص: 34


1- سورة النساء؛ الآية 97.

ثم يستثني منهم: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا«98» فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ)(1)؛ فإنَّ هذه الآية الكريمة ترشدنا إلى النوعين اللذين ذكرناهما في النيَّة, فإنَّ صدر الآية يشير إلى النوايا التي تكون من مجرد الرغبة والميل, والآية التي تعقبها اقترنت بأداء خارجي وهو ترك الهجرة وبذلك يمكن الجمع بين النصوص.

وعلى ما ذكرناه فليس لمجرد النيَّة قيمة شرعية, فإنَّ حديث النفس أو الميل الطبيعي الذي يشعر به المرء تجاه لذة معينة؛ حسية أو خيالية هي مثل النيَّة الحسنة البليدة فإنَّها لا تُنشئ عملاً يحاسب عليه ما دامت الإرادة لم تصل إلى حدِّ العزم كما يدلُّ عليه حديث الرفع الوارد عن الإمام الصادق علیه السلام : (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعٌ ..... والْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ)(2).

وفي رواية: (ما لم تعمل به او تتكلم) (3)

أمّا المعنى الأول للنيَّة التي تصل إلى حدِّ العزم ولكن الأحداث تُعيقُه في أنْ تترجَم إلى عمل؛ فإنَّه لا ريب في أنَّ المسؤولية الأخلاقية تكون كاملة متى ما اتُّخذ القرار وذلك لقوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)(4).

فإنَّه حتى لو رجعنا في قرارنا وأخذنا بعكسه تماماً فإنَّ النيَّة الأولى قد أنتجت آثارها الأخلاقية؛ إلا إذا تبدلت بعزم مضاد, ولكن هذه المسؤولية الأخلاقية تستوجب المثوبة أو العقوبة على الوجه الذي فصلنا فيه بين القرار الذي لم يتحقق نتيجة العجز من جانبنا وضعف الجهد وقصور العزم أو يكون من ناحية قوة خارجية.

ص: 35


1- سورة النساء؛ الآيات 98 – 99.
2- التوحيد (للصدوق)؛ ص353.
3- هذه الرواية وردت هكذا في تفسير كنز الدقائق؛ ج7 ص468. وقد صحَّ عنه صلوات الله عليه أنَّه قال: (وضع عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم), وفي هامش عوالي اللآلي؛ ج1 ص408؛ كتتمة لرواية عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنَّه قال: (إنَّ الله تجاوز لأمتي عمّا حدَّثت به أنفسها).
4- سورة الإسراء؛ الآية 36.

فإنَّ الأول يوجب العقوبة إذا تعلق بترك واجب, وفي الثاني يثاب على نيته إذا كان متعلقها أمراً شرعياً, والعقاب موقوف على صدور مبرز خارجي.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ النيَّة لا تكون في الدرجة نفسها بالقياس إلى العمل, ولكن لا نستطيع أنْ ننكر ما قد تؤدي إليه ممارسة قدرتنا التنفيذية من قيم إيجابية أو سلبية في العالم من حولنا وفي أنفسنا, فإنَّ الواقع يؤكد لنا ذلك, فإنَّنا قد اكتسبنا من إرادتنا شيئاً كثيراً وكلُّها كانت بجهدنا, وجعلت النتائج من إبداعنا, فلا يمكن أنْ نتغاضى عن تأثير النوايا في مكتسباتنا ولو رجعنا إلى النصوص نجد ذلك بوضوح؛ منها ما روي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم : (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ, فقلت يَا رَسُولَ الله: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ صلی الله علیه و آله و سلم : إنَّهُ كانَ حريصاً على قَتْل صاحبهِ)(1).

وعلى هذا الأساس قالوا أنَّ الفقراء الذين يتمنون أنْ يكون لهم مثل ما لغيرهم من المال والجاه ليبذلوه على غيرهم ويتصدقوا عليهم فإنَّهم سوف ينالون الثواب نفسه عند الله تعالى. وفي المقابل أولئك الذين يمدُّوا أبصارهم إلى ما عليه شرار الأغنياء من ترف وسرف فيتمنون أنْ يحوزوا مال الدنيا حتى يتنعموا مثلهم فقد يكون عقابهم العقاب نفسه؛ إلا أنْ يرحمهم الله تعالى(2).

والحاصل من هذا البحث أنَّ النيَّة تكون على مجموعات ثلاث:

1- نيَّةٌ مع محاولة التنفيذ.

2- نيَّةٌ مَنَعَ من تنفيذها ظرفٌ طارئٌ عرضي.

3- نيَّةٌ فرضية.

ص: 36


1- صحيح البخاري؛ ج1 ص34؛ كتاب الإيمان؛ ح30؛ باب وإنْ طائفتان ... وجاء هذا الحديث في كتبنا؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ الْقَاتِلُ والْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ لِأَنَّهُ أَرَادَ قَتْلًا) [تهذيب الأحكام؛ ج6 ص174].
2- ذكرنا أنَّ مثل هذه الروايات موجودة في وسائل الشيعة؛ ج1 ص13 وما بعدها؛ أبواب مقدمة العبادات.

فإنَّ الطائفة الأولى مثل ما ورد في قضية (الرجلين اللذين يقتتلان ...), فإنَّ هذه الطائفة لا تدخل في موضوع بحثنا لاقتران نيَّتهما بعمل. والمقتول قد انهزم ولكنه تحرك بروح الحقد والعدوان, فقد سخَّر كل قواه في خدمة نيته الشريرة, فلا فرق بين الطرفين إلا في نتيجة جهودهما.

ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الطائفتين الأخريين, فإنَّ النيَّة باقية في حيز من الأفكار, لكن مع التفاوت في بعض الموارد؛ قرباً وبعداً من العمل.

وهكذا توجد حالتان متطرفتان وحالة وسطية, فإنَّ بين النيَّة الفاعلة والنيَّة الفرضية العاجزة توجد النيَّة المعطلة الممنوعة منعاً عارضاً؛ فإنَّ العقل يحكم على الأوليين حكماً مختلفاً, وأمّا الثالثة فهي -في حكم العقل- تكون بمنزلة الحالة المتلبسة لأنَّها جمعت بين صفات الحالتين المتعارضتين.

وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير النصوص المتقابلة. والبحث في هذا الموضوع نفيس ومتشعب وليس المقام موضع ذكره.

هذا ما أردنا ذكره في العنصر الرابع من مقومات الدين.

العنصر الخامس: الجهد و العمل

تمهيد

تقدم الكلام في العلاقة بين النيَّة والعمل وذكرنا أنَّ شدة العلاقة بينهما اقتضت تأثير أحدهما في الآخر بالرغم من كونهما من عالمين مختلفين؛ فإنَّ العمل من عالم المادة والنيَّة من عالم النفس ولكن حسن أحدهما يضفي آثاره على الآخر, وكلُّ واحد منهما يتأثر بالسيء من الآخر, ولكن ذلك كلّه يصرف النظر عن كلِّ ما يمكن أنْ يستثير هذا النشاط الإرادي وعمل الإرادة.

ص: 37

ولا ريب أنَّ هذا الادراك الشعوري لما يفعله الإنسان وبالوصف الذي يفعله به يعتبر عنصراً رئيساً في الجانب الأخلاقي, فهو وإنْ لم يكن كلّ شيء لكن غيبة هذا العنصر تفسد أكثر تصرفات الإنسان من حيث الدقَّة أو من حيث المطابقة للواجب من الناحية المادية.

وقلنا بأنَّ كلّ تحول في النيَّة, أي الخطأ في الوصف الصادق للعمل؛ إمّا أنْ يؤدي إلى الإدانة أو العفو. ومن هنا كانت الأولوية للنيَّة, وتقدمها على العمل في الجانب الأخلاقي, ومع ذلك فإنَّ النيَّة وحدها لا تتساوى فيها القيمة مع العمل الأخلاقي الكلي كما تقدم بيان ذلك في البحث السابق.

لكن الذي أهمله كثيرٌ من الباحثين هو الجانب الغائي للإرادة, فإنَّ كلّ عامل قبل أنْ يعمل وإن كان يعرف ما ينبغي أنْ يعمل, ومن أجله سوف يمضي إلى فعله. وكذلك يعرف أنَّه واجب فيفعله عن وعي وبقصد ونيَّة.

ولكن هناك سؤالان لا بُدَّ من التنبيه عليهما, وهما:

لماذا نعمل الواجب؟...وفي سبيل أيِّ هدف؟!

لماذا نعمل الواجب؟.

وفي سبيل أيِّ هدف؟.

وهذا السؤلان لا ينفكّان عن أيِّ عمل من أعمال الإرادة, حيث يدرك ذاته على سبيل الكمال.

والإجابة التي نعطيها للثاني هي التي تفرض الإجابة عن الأول؛ بمعنى أنَّ الغاية تفرض الوسائل, لكن لا أنْ تُسوِّغها حتى لو كانت ظالمة في ذاتها كما يرتئيه الظالمون.

فهل التشريع والأخلاق بمعزل عن الإجابة عنه, فلا يباليان بالغايات التي قد تُقصد إليها الإرادة حين تطيع الأوامر.

ص: 38

وفي حالة النفي؛ فما هي الغايات التي يعتبرها التشريع والأخلاق غير مسوغة مطلقاً؟ وما هي الغايات التي يرتضيانها؟ وما هو المبدأ المثالي الذي ينبغي أنْ يُلهم أعمالنا؛ كلَّها أو بعضها؟ أو يتفاوت ذلك كثرةً وقلَّةً حسب الموارد في بعض الظروف أو كلّها؟.

وإذا أردنا الجواب عن تلك الأسئلة بطريقة واضحة لا بُدَّ لنا إمّا الرجوع إلى العمومات أو الرجوع إلى النظريات التي وردت في القرآن والسنة الشريفة في هذا الصدد.أمّا الرجوع إلى العمومات فإمّا أنْ يكون بالرجوع إلى الإسلام؛ بمعنى الإنقياد والخضوع للإرادة الإلهية. وإمّا أنْ يكون بالرجوع إلى الإخلاص؛ باعتبار استبعاد أيّ سلطان آخر على الإرادة الإنسانية. وإمّا أنْ يكون بالرجوع إلى ما أكَّد عليه القرآن من النيَّة النقية والقلب السليم.

وهذه الأجوبة وإنْ كانت صحيحة لكن لا بُدَّ من بيان القيم التي تمثل هذه المفردات, عندما تمتزج الدواعي والبواعث التي قد تزيل بنيان النقاء والإخلاص. وقبل بيان ذلك لا بُدَّ من بيان المقياس في الإسلام الذي نعتمد عليه في معرفة قيمة العمل بأهدافه البعيدة.

وأجمعُ حكمةٍ في المقام الحديث المعروف عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (إنَّما الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)(1), فإنَّها من جوامع الكلم التي اختصَّ بها الرسول صلی الله علیه و آله و سلم , فهي كما تبين اشتراط النيَّة المباشرة تبين أنَّ النيَّة شرطُ صحةٍ, وتبين أيضاً أنَّ النيَّة هي المعيار للقيمة, وأنَّ النيَّة شرطٌ في الثواب والعقاب.

كما أنَّ الحديث يدلُّ على أنَّ النيَّة باعتبارها الحركة الإرادية, وباعتبارها تستهدف الغاية البعيدة ويؤكد ذلك قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى), ويوضح ذلك قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا

ص: 39


1- تهذيب الأحكام؛ ج4 ص186.

أَوْ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)(1), وحينئذٍ لا بُدَّ من التسليم بأنَّ التقدير الأخلاقي لم يكن له الدور العظيم إلا أنْ يكون بنيَّة حقيقية منبثقة من المنابع العميقة في أنفسنا فلم تكن تتعيَّن بأفكار سطحية ناشئة عن لغة باطنيَّة أو زائلة كالأوهام والهواجس والرؤى, فإنَّ هذه النيَّة الزائفة قد تكون مستورة إلى حين الانطلاق لدوافعنا ولكنها لا تغير الواقع, وقد يصعب في بعض الأحيان تبيين الدوافع العميقة الخفية لإعمالنا, فهي تثير الصعوبات, وليست بسهلة المِراس بحيث يمكن استقصاؤها وإقصاؤها وشغل مكانها بمجرد صارف فكري كيفما أردناه, والإنسان وإنْ كان مِمَّن توجهه الميول الغريزية والفطرة الحسِّية في كثير من الأوقات بل لا بُدَّ أنْ يكون الإنسان كذلك لأنَّها فطرة الله تعالى, إلا أنَّ هذه الفطرة الحسية لم تبق كذلك, فإنَّ القدر الكبير من الأفكار والمطامح والعادات التي يكتسبها الفرد مِمّا يمكنه الحدّ من سلطان هذه الميول الغريزية أو يخففها, وإنْ كانت ماثلة ولا يمكن خنق صوتها خنقاً كاملاً, ولذا يصل الأمر أحياناً عندما يتزامن أمر العقل مع دوافع الأنانيَّة؛ يقع الفرد في حيرة من أمره لأيِّ واحد منهما يخضع.

ويجب أنْ يلاحظ أنَّ هذا الشك لم يتسلط على عامة الناس فقط الذين يطلقون العنان لأهوائهم, وكذا لم يتسلط على أقوام حديثي العهد بالدين لأنَّهم قلّما ينتبهونإليه, وإنَّما يقع في ذلك الصالحون من الناس؛ أولئك الذين يتحملون العناء في تمييز دوافعهم الحقيقية وفي تهدئة وساوسهم في هذا الموضوع؛ فإنَّه وإنْ كان يبدو التناقض في هذا, لكن يمكن القول بأنَّه على قدر ما يحققون من تقدم أخلاقي يجب أنْ تزداد مخاوفهم؛ إلا يغتروا بتلك الطبقة السميكة من مكتسباتهم الجديدة, فتدفعهم إلى الإعتقاد بأنَّهم إنَّما يعملون دائماً حبَّاً في الفضيلة, فلا بُدَّ أنْ يكونوا بين الخوف والرجاء في هذه المسيرة؛ حتى لا يتَّفق أنْ

ص: 40


1- مستدرك الوسائل؛ ج4 ص131.

يكتشفوا -بعد فوات الأوان- أنَّهم كانوا مخدوعين, وأنَّهم إنَّما كانوا يعملون لإرضاء النزعة الخفية من طبيعتهم. فإنَّ هذه الاسرار العميقة قد تخفي عن أكثر الاختبارات دقَّة, ولكنها لا تغيب عن رقابة الله عَزَّ وَجَلَّ فهو (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(1), وأنَّه القائل: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(2).

ومن أجل ذلك كانت الأخلاق الدينيَّة أكثر دقَّة من أيَّة أخلاق أخرى حيث تفرض نفسها على كلِّ فرد بأنْ يستعمل الدقَّة وعمق النظر في اختبار الضمائر بقدر ما يمارس من جهد لتحرير النفس من كلِّ تأثير سوى ما يفرضه الشرع ويرضاه.

ولكنه لا بُدَّ أنْ يعلم بأنَّه لا يوجد شرع عادل يكلفنا بأنْ نحمل أكثر مِمّا تطيق فطرتنا أو أنْ ندرك ما لا نستطيع إدراكه أو أنْ نجاهد ما لا نطيق هزيمته, ولكن قوة الفطرة توقفنا قبل أنْ نصل إلى نهاية الطريق فعند نقطة الايقاف يختلف موقف الضمير الذي يخضع لقانون العقل عن موقف من يخضع لقانون الجلال والفضل الإلهي, كما إذا عجز الإنسان عن فعل الأحسن الذي نجد أنفسنا فيه فإنَّ الضمير يكون بين شعورين متناقضين ينتهي كل منهما إلى نتيجة لا ترضي النزعة الاخلاقية, فمن الناحية القانونيَّة نعتبر أنفسنا قد أدَّينا ما علينا ما دمنا غير ملزمين بفعل المستحيل.

ومن ملاحظة نقصنا الإضطراري الأساسي يثير فينا شعوراً باحتقار أنفسنا؛ فلسنا نملك شيئاً إلا أنْ ندين هذه الفطرة العميقة لأنَّها غير جديرة بمطامحنا الأخلاقية.

وهكذا نجد بالإعتبار الأول -وهو اعتبار منطقي- أنَّه يمنح نشاطنا حرارة وهمتنا إجازة ويدعونا إلى أنْ نستريح في هدوء على هذا الحدّ ولا نتجاوز عنه. فإذا ما ارتضينا هذه

ص: 41


1- سورة المائدة؛ الآية 7.
2- سورة الملك؛ الآية 14.

الحالة واستطالت قليلاً سرعان ما تتحول إلى تقهقر تدريجي ويتحقق البَون بين واقعنا وما ينتجه من اشتعال النار في قلوبنا وتجعلنا ثائرين ضد أنفسنا ولكنه ليس من أجل إصلاح فطرتنا؛ إذ قد نعتبره مستحيلاً بل هو من أجل الإنتقام من ظرفنا التعيس, وهذه الكراهية التي لا جدوى من ورائها والتي تسمى (اليأس) تقود الإنسان إلى نفس الوقفة أولاً ثم إلى التقهقر الذي أشرنا إليه.وهذا هو الإنسان الذي طالما اعتمد على قواه ومشاعره الخاصة مقابل النفس التي تتغذى بالإيمان ويملؤها الثقة بالحقيقة المطلقة التي لا حدَّ لخيرها ولا لقوتها, وهي التي نطلق عليها (الله تعالى).

فإنَّ هذه النفس قد اطمئنَّت بذكر الله تعالى, فلا يعتريها اليأس, ولا الغفلة عن ذاتها, ولا التساهل في قدرتها, فهي تعلم بأنَّ الشرع الذي لم يأمرها بالخروج عن الفطرة؛ لكن خالقها قد جعل في ضميرنا إدراكاً خاصاً بأنَّ العالِم الذي يطَّلع على أعماق القلوب ومخفيات الضمائر هو الذي يحكم بحق بأنَّنا لا نزال نطيق أنْ نبذل جهداً لكشف نقائصنا المستورة وتصحيحها؛ هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى: إنَّ فكرة وجود الله المتعالي في كلِّ مكان التي تملأ نفوس المؤمنين به تجعلنا ندرك بأنَّه يمنح الثقة في قلوبنا بأنْ نهتمَّ بأنفسنا ونعتني بشأنها, وتحوط هذه الفكرة فكرةُ الرحمة التي لا حدَّ لها, ولكن تحديدها دائماً يعود إلينا؛ من أجل مساعدة الإنسان أنْ ينهض من كبوته ويرجع عن غفلته, وتمدَّهم بقوة وهمية للترقي في سلم الكمال.

وعلى ضوء ذلك فقد وصف القرآن الكريم نفس المؤمن بصفات؛ ليست يائسة: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(1) ولا هي آمنة من مكر الله سبحانه فَلَا يَأْمَنُ

ص: 42


1- سورة يوسف؛ الآية 87.

مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(1), فهي بين الأمل والخوف, فتتغذى بكلا الشعورين في وقت واحد (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)(2)؛ فهو في حوارٍ حي بين لطفٍ وهمَّة, وشجاعة وأمل وهو حوار يربط قلوبنا ويتعهد تلك الحرارة الموجودة في نفوسنا حتى لا تحرقنا, فكلُّ شيء متوازن ومتناسب حتى صارت نفساً مطمئنة.

وهذه هي الشروط المطلوبة لبناء عالم مزدهر مليء بالمحبة والسعادة.

وإذا عرفت بأنَّه لا مناص من دوافع حقيقية تتعمق في أنفسنا, لا بُدَّ من العثور على جذورها العميقة وتطهيرها, فإنَّه يلزم دراسة المجموعات المختلفة لهذه الدوافع وتمحيصها ومعرفة الضار منها وتنظيمها في الأخلاق والعمل, وليس لنا سبيل لاستيعابها وتحديد النافع منها عن الضارّ إلا بالرجوع إلى ما ورد في القرآن والسنة واستخراج الطريقة التي يمكن الوصول بها إلى ما ذكرناه من التمحيص.

فإذا رجعنا إلى القرآن نجد أنَّ فيه تعبيرات ثلاثة؛ هي أكثر التعبيرات شيوعاً في الأحكام وهي:

كتب عليكم(3).

حُرّم عليكم(4).

وأُحلّ لكم(5).

ص: 43


1- سورة الاعراف؛ الآية 99.
2- سورة الزمر؛ الآية 9.
3- سورة البقرة؛ الآيات 178 و180 و183 و216 و246.
4- سورة البقرة؛ الآيات 85 و173, وسورة آل عمران؛ الآية 50, وسورة المائدة؛ الآية 96, وسورة الأنعام؛ الآية 119, وسورة النحل؛ الآية 115.
5- سورة البقرة؛ الآية 187, وسورة آل عمران؛ الآية 50, وسورة النساء؛ الآية 24, وسورة المائدة؛ الآيات 4 و5 و96.

وبهذه التعبيرات يعيّن القرآن الكريم المجموعات المختلفة في تشريعه, فإذا كان ذلك من حيث العمل فلماذا لا نطبق هذا التقسيم الثلاثي نفسه على الدوافع التي تحرك أنواع السلوك المختلفة؟ ونصنّفها بهذا التصنيف حتى يسهل استيعابها وتحديد النافع منها عن الضار, فنحكم على نيَّة بأنَّها طيبة أو خبيثة أو جائزة, لكي لا نقتصر على الحكم فقط أو نكتفي بالمفهوم المجرد, فإنَّه يجب أن نحسب حساب عاملين آخرين لهما الدخل الكبير في تعديل حكمنا:

الأول: نوع العمل الذي نقصد ممارسته لتحقيق غاية معينة, فإنَّه إذا كانت الأشياء ذات القيمة المادية يمكن أنْ تستعمل وسيلة للتوصل إلى غايات مادية في هذه الدنيا. وأمّا بالنسبة إلى واجبٍ مقدس فإنَّه ينبغي أنْ يتصور لذاته أو لغايات أسمى.

الثاني: الدور الذي يناط بباعث لأنْ يؤدي إلى بناء قوتنا المحركة وحده أو مع الإشتراك مع باعث آخر, وفي الحالة الأخيرة لا بُدَّ من ملاحظة العنصر الرئيس في هذه الشراكة والعنصر الثانوي, ويلزم النظر إلى الأهمية النسبية التي نعلقها على كلٍّ من هذه العناصر في المجموع, فإنَّه إذا كان الإنسان خليطاً يحب ذاته فلا بُدَّ أنْ يبالي بالعمل الذي يدلُّ على طبيعته بصورة أفضل, ويمكن جعل ذلك قاعدة يعتمد عليها كلُّ فرد للتمييز بين الدوافع وخفايا النفوس, مع أنَّنا لا ننكر أنَّ ذلك شديد التعقيد والتداخل, ولكن يمكن الوصول إلى نتيجة؛ وهي السيطرة على الضمير وخفاياه, ولا ننسى أنَّ النفس المؤمنة المطمئنة لا تغفل عن الإستمداد من خالقها المعونةَ والصبرَ والتوفيقَ, فقد ورد في الأدعية المعتبرة: (وَأَصْلِحْ لَنَا خَبِيئَةَ أَسْرَارِنَا)(1).

هذا ما أردنا ذكره في المقام والتفصيل موكول إلى محلِّه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 44


1- إقبال الأعمال (ط. القديمة)؛ ج2 ص647.

والحاصل: إنَّه ليس للفرد المؤمن النسيان العميق أو حتى الغفلة الطويلة, فإنَّه مادامت دقات روح المؤمن ترنُّ في أذنيه وتعاوده بلا انقطاع فترده إلى المبدأ الأعلى القوي العزيز, ولا أظنُّ أنَّ هناك تدريباً أبلغ تأثيراً من الكتاب الكريم وسنة المصطفى وسيرة آله الطيبين علیهم السلام , فلا بُدَّ من الرجوع إلى القرآن وتدبُّر آياته ومعرفة مقاصده.

فإنَّ القرآن الكريم وإنْ وَصَمَ هذه الدنيا بالإنحطاط لكن لم يرد فيه أيّ توجيه أنْ يُتنازل عن هذه الحياة زهداً وتقشفاً, فإنَّه ذمّ التطرف في كلِّ شيء فلم يحرمالرفاهية الفردية, ولا الإزدهار الجماعي فقد ورد في الرفاهية الشخصية قوله تعالى:(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «31» قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(1).

وأمّا ما يتعلق بالازدهار الجماعي فإنَّه يدعو إلى الزراعة والصناعة والتجارة وتطور الحضارة والكشف عامة, ولا يمنع شيئاً منها, والقرآن وإنْ لم يكرر النصوص في هذا الموضوع إلا أنَّه يكفي أنَّه يعطي نصَّاً واحداً فيه أهمية لا حدَّ لها يدلُّ على أنَّ كلّ ما يوجد في الأرض وعليها وكلُّ ما يوجد في البحر وفي الهواء مسخر للناس بعناية إلهية فقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)(2), غاية الأمر أنَّ القرآن الكريم قد أخضع اكتساب هذه الموارد وتوزيعها واستعمالها لبعض القواعد العامة(3) التي تكفل الإنضباط والخير للجميع في عدالة.

وهو في هذه الحالة جعل هذا العالم منزلاً مؤقتاً ومَعْبَراً فقال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ

ص: 45


1- سورة الأعراف؛ الآيات 31- 32.
2- سورة الجاثية؛ الآية 13.
3- عودة إلى بيان معالم الإقتصاد الإسلامي.

وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(1)؛ فلم تكن الدنيا في نظر الدين الإلهي غاية؛ بل وسيلة لبلوغ أشياء أخرى, قال تعالى: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ«12» لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ«13» وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ)(2).

وسيأتي توضيح ذلك في مستقبل الكلام إنْ شاء الله تعالى.

هذا كلُّه بما يتعلق بالنيَّة ودوافع النيَّة, وقد عرفنا دورها المزدوج.

أقسام العمل (الجهد البدني)

وأمّا الكلام في نفس العنصر الخامس(3)؛ وهو الجهد والعمل فنقول:

إنَّه لا ريب أنَّ للعمل الأهمية الكبرى؛ فهو السلاح الوحيد المزدوج في التشريع والفضيلة, وأنَّه المدد الوحيد في يد الإنسان لكي يصل إلى غاياته. فلا بُدَّ أنْ يستعمل الإنسان قواه المعنوية والمادية القادرة على هدايته إلى تلك الغايات.

وللجهد اطلاقات عديدة في علم الأخلاق وعلم النفس وهو على أنواع متعددة ولكن الذي نريد البحث عنه هو الجهد البدني؛ أي العمل, وهو على أقسام أيضاً.

1- الجهد البدني؛ أي الألم الذي ننزله في أجسامنا, وموضع البحث عنه في علم الأخلاق.

2- الجهد من أجل المعيشة؛ كما قال تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)(4).

وقال تعالى: (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ)(5).

ص: 46


1- سورة آل عمران؛ الآية 14.
2- سورة الزخرف؛ الآيات 12- 14.
3- إلى هنا تمَّ الكلام عن التمهيد للعنصر الخامس.
4- سورة الملك؛ الآية 15.
5- سورة الجمعة؛ الآية 10.

3- الجهد من أجل اكتساب ما يكون صدقة.

4- الجهد لأداء العبادة.

5- الجهد في سبيل الدفاع عن الدين ومقدساته.

ولا ريب أنَّ قيمة الجهد البدني تتغير تبعاً لما قد يكون له من علاقة وثيقة أو غير وثيقة مع الخير الذي يستهدفه, فإنَّ هذه العلاقة تارةً تبلغ درجة التماثل مع الجانب الرئيسي للواجب, وأخرى تتوافق مع جانب ثانوي تتفاوت أهميته بين الكثرة والقلة, وثالثة مجرد مصاحبة.

ولتوضيح ذلك نذكر بعض الأمثلة:

أ- الصلاة التي هي معراج المؤمن ومناجاة خاصة, فإنَّه قد اجتمعت فيها عدة عناصر؛ ففيها خشوع البدن, وفيها توجه خالص إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بنيَّة صادقة تجلب الراحة النفسية, وفيها اللغة التي تعبّر عن هذه الفكرة التي لها التأثير في النفس وتثبتها وتعززها وتنيرها, فقد اجتمعت عناصر مختلفة في هذه الصلاة, ولا تبلغ مرحلة المناجاة الخاصة إلا بعد استعدادات زمانيَّة ومكانيَّة وغيرها, والتركيب لهذه العناصر المختلفة هو نفس الصلاة التي أمر الإسلام بأدائها عدة مرات في اليوم.

ومع ذلك فإنَّ هذه الجوانب ليست كلّها متساوية في التكليف, ففي ظرف معين يجب اجتماعها وفي ظرف آخر يمكن الإغفال عن بعض الجوانب, وفي ثالث نغفل عن أكثرها ما خلا بعض الوجوه على وجه التحديد؛ الذي يعتبر هو الأساس والمحور كما هو مُفَصَّلٌ في علم الفقه؛ فالمحتضر الذي لا يستطيع أنْ يأتي بأدنى حركة ولا يقدر أنْ يتكلم ملزم أنْ يؤدي صلاته أداءً ذهنياً بشرط وجود وعيه وذاكرته. وهكذا نجد أنَّ العمل البدني يتغير بحسب الظروف.

ص: 47

ب- الصوم؛ فإنَّه تكليف يستتبع مشقة بدنيَّة تحدث خلال أداء الواجب, ولكن هذه المشقة البدنيَّة قد لا تكون جانباً من هذا التكليف, فإنَّه قد يقال بأنَّه إذا لم يكن موضوعاً مباشراً للتكليف إلا أنَّه قد يحدث بواسطة عمل معين يصلح لإثارته, إذاً فمن الصحيح أنْ يُعبر عن الأمر بالصوم كما ورد في الحديث: (اذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فیه جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ)(1).

ولكن ذلك لا يوجب سقوط التكاليف فإنَّها لا تكون وسيلة للطاعة إلا أنْ تكون فيها نوع من الحرمان المحدد, وعليه قد لا يكون الألم البدني داخلاً في الحساب كجزء من الواجب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة, فقد يكون الواجب شيء آخر لكنه يقترن بنوع من الألم, فإنَّه ربما يكون الجهد تدريباًعلى الإرادة حتى نحصل منه(2) على الثبات والإنتظام في خضوعها(3) للإرادة الإلهية, حتى لا تتقهقر إلى الأسفل فتصبح أسيرة الشهوات.

ومن أجل ذلك كانت شعيرة الصوم من أسهل الطرق؛ فهي نظام غذائي يُتّبع شهراً واحداً من كلِّ عام في وقت معين من اليوم, ويمكن تطبيق هذا التنظيم على العلاقات الجنسية؛ فيكون في اليوم الواحد عمل واحد ذو وجهين متعارضين, أحدهما أنْ يكفّ, والآخر أنْ يعمل, فإذا أمكننا تقييد إرادتنا بتنفيذ هذين الأمرين في مجال خاص ونعيد هذا التدريب في شهر كامل فإنَّه من أجل ترويض هذه الإرادة؛ إذ من المعلوم أنَّه كلما كثرت طاعة المرء أصبح طائعاً. ومع ذلك لا يمكن

ص: 48


1- وسائل الشيعة؛ ج10 ص313.
2- أي: الجهد.
3- أي: إرادتنا.

الإقتصار على الجانب المادي على هذا التدريب بل لا بُدَّ أنْ يستهدف السلوك, فإنَّه من أقبل خلال صومه على كلِّ أثم من قول أو فعل فإنَّه لم يستفد من الدرس كما تدلُّ عليه جملة من النصوص(1).

وهناك امثلة أخرى تدل على ما ذكرناه من التقسيم المتقدم؛ فراجع.

ومن جميع ما ذكرناه في مقومات الدين وعناصره يمكن استخلاص وجهة نظر الدين في الإقتصاد العالمي المعاصر, وتحديد معالم الإقتصاد الإسلامي من هذه الجهة.

مفردات الدين

الدين كما تقدم تعريفه: هو مجموعة معارف وأحكام وأخلاق تحسّن حياة الإنسان -فرداً وجماعة- العقائدية والعملية ومن جميع جوانبه المادية والمعنوية؛ في الدنيا والآخرة, وتقوّمها على أتّم وجه لما يجلب له السعادة العظمى, وكلما كان الدين تاماً كلما كان أشمل وأدقّ وأحكم وأكمل.

وفي بعض الأخبار: (ومتى لم تكن الحكمة تامة في بطونها كاملة في ظهورها كانت الحكمة ناقصة من الحكيم وإنْ كان قادراً)(2).

ومن هنا كانت الأديان الإلهية أتمّ الأديان ولا سيما دين الإسلام؛ الذي قال تعالى فيه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(3). فلا يمكن أنْ يهمل الدين الإلهي الجانب الإقتصادي للإنسان ولم يشرع فيه الأحكام والسنن والآداب كما تقدمت الإشارة إليه.

ص: 49


1- يراجع لذلك أحاديث باب أدب الصائم؛ الجزء الرابع من الكافي (ط. الإسلامية)؛ ص87.
2- راجع كتاب المفضل بن عمر؛ ج2 ص564.
3- سورة المائدة؛ الآية 3.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتَّضح أنَّ الإسلام يهتم بالمسائل المالية والإقتصادية وتعديل حركة الأموال في يد الناس ليتوصل بذلك إلى تجسيد مبدأ القسط في المجتمع.

والإهتمام بالمسائل الإقتصادية وأمور المعاش الإنساني بهذا الشكل الجادّ الذي تبنّاه الإسلام إنَّما هو من خواصّ هذا الدين الإلهي, الذي يواكب الواقع والنواميس الطبيعية التي طبع الله عَزَّ وَجَلَّ الأشياء والأشخاص عليها.

وبالمقابل يحارب الدينُ الإسلامي الظلمَ الإقتصادي ويعتبره من أخطر أنواع الظلم, ولذلك كانت غاية الأنبياء من تعاليمهم وتربيتهم الناس وتشجيعهم الجماهير ومن مجابهتهم وحروبهم شجبَ هذا الظلم وسحقه.

ص: 50

المصطلح الثاني: الشريعة

اشارة

المصطلح الثاني: الشريعة(1)

مادة (ش ر ع) في اللغة تدلُّ على الوضوح والظهور, ومنه الشريعة: وهي مورد الناس للإستسقاء؛ لظهورها ووضوحها. والجمع (شرائع).

و(المَشرَعة) بفتح الميم والراء؛ شريعة الماء, ولا تسمى مشرعة حتى يكون الماء ظاهراً معيناً لا يستقى منه برشاء.

و(طريق شارع) يسلكه الناس عامة والجمع شوارع.

و(شرع الله تعالى لنا كذا يشرعه) أي أظهره وأوضحه. ومنه (الشِرعة) بالكسر.

المعنی اللغوي

والشرع والشريعة وهما بمعنى الدين, وغير ذلك من المعاني. وربما يكون بعضها من لوازم ذلك. فيكون أصل المادة دالاً على إنشاء طريق واضح؛ مادياً أو معنوياً.فكلُّ ما ذكر يكون من مصاديق هذا الأصل, فيقال: شريعة الماء, وشَرَعَ الطريق, أي: أنشأه واضحاً. وشرع في الأمر, أي: أحدث طريقاً فيه وابتدأ في السلوك فيه. وشرع من الدين, أي: أنشأ من الدين ما يكون طريقاً واضحاً بيناً في الحياة, قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)(2).

وقال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)(3).

والمراد منه هو إنشاء طريق واضح من الدين في حدود مذكورة.

وعليه؛ فالشرع الذي هو إحداث طريق مُبيَّن إمّا أنْ يكون من الله تعالى فيكون شرع الله وهو الحقّ, وإمّا أنْ يكون من الشياطين والشركاء فيكون شرعاً باطلاً, لأنَّه لم يأذن به الله تعالى, فالشرع بين الحقِّ والباطل كما أنَّ الدين يكون كذلك.

ص: 51


1- وهو المصطلح الثاني من المصطلحات التي يحتاجها علم الإقتصاد.
2- سورة الشورى؛ الآية 13.
3- سورة الشورى؛ الآية 21.

قال تعالى في حقِّ رسوله العظيم صلی الله علیه و آله و سلم : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(1), أي جعلناك على المحجة الواضحة وطريق بيِّن وحق بيِّن فيجب اتباعه.

المعنی الإصلاحي

والشريعة في الإصطلاح؛ قيل في تعريفها(2): العلم المتعلق بالأحكام الفرعية يسمى علم الشرايع والأحكام, وبالأحكام الأصلية يسمى علم التوحيد والصفات.

وعلى هذا التعريف تشمل الشريعة الأحكام العملية والأحكام الإعتقادية.

وقال آخرون(3): الشرع والشريعة ما أظهره الله تعالى لعباده من الدين, وحاصله الطريقة المعهودة الثابتة من الشارع, وهو النبي صلی الله علیه و آله و سلم . وهو أيضاً يشمل كلا الحكمين.

وقال غيرهم: الشريعة والشرع ما شرع الله لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء, سواء كانت متعلقة بكيفية عمل وتسمى شريعة عملية, أم فرعية وموضعها علم الفقه. أم بكيفية الإعتقاد وتسمى إعتقادية, أم أصلية وموضعها علم الكلام.

وعلى الأخير يكون الشرع والدين والملّة بمعنى واحد, ولكن يختلف كلُّ واحد عن الآخر بالإعتبار؛ فمن حيث أنَّ تلك الأحكام تُطاع تكون ديناً, ومن حيث أنَّها تُملى وتكتب تعتبر ملةً, ومن حيث أنَّها مشروعة تعتبر شرعاً. فالتفاوت بينها بحسب الإعتبار لا بالذات.

وقيل(4): إنَّ الاختلاف بين الشريعة والملة والدين؛ بأنَّ الأوليين تضافان إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم وإلى الأمة من حيث الإستعمال فقط.

وأمّا الدين فإنَّه يضاف إلى الله تعالى أيضاً. لكن الموجود في الاستعمالات الفصيحة هو الأعمّ.

ص: 52


1- سورة الجاثية؛ الآية 18.
2- كشاف اصطلاحات الفنون؛ ج1 ص1019؛ نقلاً عن شرح العقائد النسفية.
3- في الصحاح؛ ج3 ص1236؛ مادة (ش ر ع), وشمس العلوم؛ ج6 ص3431, والنهاية في غريب الحديث والأثر؛ ج2 ص460 أنَّ الشريعة: هو ما شرَّع الله (تعالى) لعباده من الدين.
4- كشّاف اصطلاحات الفنون؛ ج1 ص1018.

والصحيح أنْ يقال: الشرع هو وضع إلهي يسوق الإنسان باختياره إلى الخير بالذات وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم, وهذا الوضع الإلهي هو الأحكام التي جاء بها الأنبياء, فيكون الشرع أخصّ من الدين لاختصاصه بالأحكام العملية, ويستفاد ذلك من قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ)(1) أيضاً.

والحاصل: إنَّ الشريعة كل طريقة موضوعة بوضع إلهي ثابت من نبي من الأنبياء, ويطلق كثيراً على الأحكام العملية الجزئية التي يتهذب بها المكلف معاشاً ومعاداً, سواء كانت منصوصة من الشارع أم راجعة إليه بواسطة الإمضاء, فتشمل الأحكام العقلية والعرفية أيضاً, فيكون إطلاقها على الأفعال والتروك على حدٍّ سواء, كما أنَّها تطلق على الفروع والقواعد إذا كانت منسوبة إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم . وأمّا إطلاقها على العقائد والأصول العقدية فإنَّه يكون على نحو المجاز, كما أنَّ الملة إنَّما تطلق على الفروع مجازاً, وتطلق على الأصول الإعتقادية حقيقة؛ كالإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله وكتبه والآخرة وغيرها.

والإقتصاد إذا أُريد منه أنْ يكون مؤثراً ويجلب السعادة للفرد والمجتمع والرفاهية المطلوبة لا بُدَّ أنْ يكون موافقاً للشريعة وما وضعه الله تعالى من الأحكام التي تسوق الإنسان إلى الخير وما يصلحهم في معاشهم ومعادهم.

وإذا لم يكن الإقتصاد كذلك فإنَّه ليس إلا زينة دنيوية مؤقته تكون آثارها سيئة على الإنسان كما سيأتي بيانه.

ثم إنَّه على ضوء ما ذكرناه في الدين والتشريع يتَّضح حقيقة الإسلام؛ فإنَّه دين طاعة وانقياد, وإنَّه دين عبادة وإصلاح وأخلاق, فقد اجتمع فيه(2) الدين بحقِّه وحقيقته, والتشريع بجميع خصوصياته.

ص: 53


1- سورة الشورى؛ الآية 13.
2- أي: الإسلام.

وقد جمع العقيدة والعمل, واشتمل على الأخلاق وجميع المعارف الربوبية, وقد جعله الله تعالى خاتمة الشرايع السماوية, ومن هنا اتَّصف الإسلام بالكمال والتمام, والدوام والحيوية وبها امتاز دين الإسلام عن سائر الأديان الإلهية. ويمكن تلخيص مميزاته بوجوه:

ممیزات الدین الإسلامي عن باقي الأدیان الإلهية

الوجه الأول: الإستيعاب والشمول

إنَّ دين الإسلام هو دين إلهي لجميع الناس, فقد قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(1), وإنَّ رسوله خاتم الأنبياء؛ ومن لوازم ذلك عدم اختصاص هذه الشريعة بعصرٍ خاص, ولا بقومٍ معينين.الوجه الثاني: إنَّه شريعة تتكفل جميع ما يرتبط بالإنسان, ولم تترك جانباً من جوانب الحياة المعنوية والمادية.

فعلى مستوى البعد الفكري جاء الإسلام بأعلى المعارف وأزكاها وأتمّها, واستوعبت جميع عناصر العقيدة من المبدأ حتى المعاد, وعرفنا سبل الهداية الإلهية ووسائطها من الأنبياء والكتب التي تبين جميع مفردات العقيدة الدينيَّة وتصحيحها مِمّا يطرأ عليها من الإنحراف.

وعلى مستوى الجانب العملي فقد ذُكرت أدّق التشريعات في الأحكام والآداب والتعاليم بحيث عجز العقلاء عن الإتيان بمثلها.

وأمّا على مستوى البعد الأخلاقي, فقد أنارت تعاليمه الأخلاقية القلوب, وأثارت النفوس إلى نيل الكمالات, وشرحت طرق السير والسلوك للوصول إلى أعلى المقامات وأسمى الغايات والفوز باللقاء.

فقد جمع الإسلام بين العقيدة والأخلاق والنظام العام, فلم ينفكّ حكم -سواء كان فردياً أم اجتماعياً أم اقتصادياً- من حكم أخلاقي يهذب النفس, فكلُّ حكم تشريعي وراءه مكرمة أخلاقية, ولم يوجد أيّ تشريع آخر يقوم بهذه المهمة.

ص: 54


1- سورة سبأ؛ الآية 28.

الوجه الثالث: موافقة شريعة الإسلام للفطرة الإنسانيَّة

فلم تسنّ حكماً إلا وله جذور في فطرة الإنسان, فهو يأمر بالعدل والإحسان والتقوى, ويحرّم الظلم والعدوان والطغيان والفحشاء, وهو يحترم الإنسان ويعترف بحقوقه, ويثبت له الحرية في الفكر والرأي والعمل لكن مع تشريع أخلاقي آخر يهذب تلك الحرية, فلا الحرية المطلقة غير المهذبة تنفع الإنسان ولا التقييد المميت يسعده.

إنَّ جميع ما ورد في الإسلام من مفردات الفطرة التي أودعها الله عَزَّ وَجَلَّ في الإنسان, ويدعو لها العقل البشري, كما أشارت إليه الآية الكريمة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(1).

الوجه الرابع: إنَّ الثقافة الإسلامية لها من السموِّ والرفعة ما يجعلها من أرقى الثقافات الإنسانيَّة وأكملها, ويتَّضح ذلك عندما نقارنها مع غيرها من سائر الأديان والثقافات.

الوجه الخامس: الديمومة والبقاء

فإنَّ الإسلام شريعة بقاء ودوام تستمر مدى الدهر فإنَّ مبدأها من الله تعالى فلا بُدَّ أنْ ترجع إليه عَزَّ وَجَلَّ, والسّر في ذلك يرجع إلى أنَّها توافق الفطرة والعقل, وإنَّها مرنة ومتنوعة تجذب إليها سائر الحضارات بعد تهذيبها من منافياتها.

الوجه السادس: إنَّ اهداف الشريعة الإسلامية إصلاحية تهذيبية متكاملة تعتبر كلّ مفردة فيها أساساً لمفردة أخرى, فكأنَّها سلّم الكمالات, فهي:

1- تحرر العقل البشري من رقّ الخرافات والتقليد الأعمى الممقوت, وذلك عن طريق تصحيح الإعتقاد وجعله في المسار الصحيح الموجّه الفاعل, وتعتبر العقيدة الإسلامية عقيدة توحيدية صرفة لا يشوبها أيّ نوع من الشرك والضلال.

ص: 55


1- سورة الروم؛ الآية 30.

2- إنَّ الإسلام وجه العقل نحو الدليل والبرهان والتفكير العلمي الحرّ. ومن أجل تثبيت ذلك كافح الوثنيَّة في شتى صورها, والشرك في كلِّ مظاهره؛ لأنَّ فيهما إنحطاط العقل وعماوة البصيرة.

3- إصلاح الفرد نفسياً وخلقياً وإعداده إعداداً كاملاً ليتوجه إلى الخير والإحسان ويتحمل مسؤولياته فلا تطغى عليه الشهوات والنزوات والمطامع فتحجب عقله وتمنعه من واجباته وأداء مسؤولياته.

4- إصلاح المجتمع ليسوده العدل والأمن والإستقرار.

5- صيانة الحريات المعقولة والكرامة الإنسانيَّة والحقوق الخاصة والعامة.

6- تنظيم العلاقات الفردية والإجتماعية والعلاقة بالله تعالى, والعلاقة بالحاكم والدولة.

وعلى ضوء ذلك كلّه تتحدَّد مقومات الشريعة الإسلامية وتتَّضح دعائمها؛ التي هي العقيدة والعبادة والنظام, وهذا هو مغزى الحكمة المعروفة أنَّ الإسلام دينٌ ودولة.

والدليل على ذلك كلّه قوله تعالى: (قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّکُمْ عَلَیْکُمْ أَلاّٰ تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً وَ بِالْوٰالِدَیْنِ إِحْسٰاناً وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَکُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُکُمْ وَ إِیّٰاهُمْ وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِی حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ ذٰلِکُمْ وَصّٰاکُمْ بِهِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْیَتِیمِ إِلاّٰ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ حَتّٰی یَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا اَلْکَیْلَ وَ اَلْمِیزٰانَ بِالْقِسْطِ لاٰ نُکَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ کٰانَ ذٰا قُرْبیٰ وَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ أَوْفُوا ذٰلِکُمْ وَصّٰاکُمْ بِهِ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ (152) وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ عَنْ سَبِیلِهِ ذٰلِکُمْ وَصّٰاکُمْ بِهِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ (153))(1).

وهذه الآيات قد تضمنت وصايا تعتبر أمُّ الفضائل والحكم وأصول الأخلاق, وفيها

ص: 56


1- سورة الأنعام؛ الآيات 151- 153.

أرقى التكاليف الإلهية وأشرف التشريعات السماوية, وقد أوصى الله تعالى بها موسى بن عمران علیه السلام قبل نزول التوراة ثم وردت في التوراة وشُرِّعت في الأديان الإلهية ومنها دين الإسلام, وهي ترجع إلى صلاح الإنسان وتجلب له السعادة فهي تعيد نسيم الفطرة إلى النفوس, وتحيي روح الإيمان في القلوب بعد تأثرهما بدرن المعاصي والآثام وتزيل الستار عن العقول لتُخرج دفائنها, وتظهر الفطرة ودائعها وتهدي الإنسان إلى رشده بعدما تُنَبِّهه من غفلته ورقاده, وقد تضمنت تلك الآيات الأحكام العقائدية والعملية وجملة من الإرادات والإرشادات وأصول الأخلاق التي بالإلتزام, والعمل بها تتحقق جميع المقاصد والأهداف التي أرادت الأديان الإلهية تحقيقها.

أقسام النظام التشريعي في الإسلام

وإذا رجعنا إلى النظام التشريعي في الإسلام نرى أنَّه على أقسام:

· منها ما يرجع إلى تصحيح العقيدة.

· ومنها ما يرجع إلى العبادة والطاعة.

· ومنها ما يرجع إلى الأخلاق وتصحيحها.

· ومنها ما يرجع إلى تنظيم حياة الفرد والمجتمع.

· ومنها ما يرجع إلى تنظيم الأسرة.

· ومنها ما يرجع إلى الإقتصاد وتسهيل كلّ ما يتعلق به.

· ومنها ما يرجع إلى الأحكام العامة.

وقد ذكر سبحانه وتعالى في آخر تلك الآيات المتقدمة أنَّ ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى باتباعه, ومن المعلوم أنَّ الصراط المستقيم مبدؤه من الله العظيم وإليه سبحانه ينتهي, فمن اتبعه سعد ومن اعرض عنه ضلَّ وتاه في سبل متفرقة تودي به إلى الهلاك والخسران.

ص: 57

لكن لا بُدَّ من التنبيه على أمر يعتبر في غاية الأهمية وهو: إنَّ جميع ذلك لم يكن مجرد شعارات ورؤى, بل المطلوب من تلك التشريعات التطبيق والعمل بها, فإنَّه لا يمكن الوصول إلى تلك الأهداف المنشودة من تلك التشريعات إلا بالرجوع إليها بِجَدٍّ وإخلاص, ولا يمكن لأحد إنكار أنَّ ما وصلت إليه الأمة المسلمة من الضياع والضلال إنَّما هو نتيجة الإعراض عن تعاليم الإسلام؛ مِمّا سبّب الإساءة لهذا الدين والرجوع إلى القهقرى وظهور الإلحاد وإساءة فهم الحقيقة الناصعة لدين الإسلام.

الأسباب التي أدَّت إلى التقهقر والانقلاب على أعقابهم

وبالرجوع إلى تاريخ المسلمين والسير في أحوالهم من بعد ارتحال قائدهم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الرفيق الأعلى يمكن معرفة الأسباب التي أدَّت إلى التقهقر والانقلاب على الأعقاب؛ كما عبّر عنه القرآن الكريم(1), وهذه الأسباب كثيرة أهمها:

1- إعراض الأمة عن الحاكم المعصوم الذي يمثل الشريعة قولاً وعملاً بحيث يكون امتداداً لشخصية الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم فيكون لهم قائداً واماماً يرشدهم إلى ما هو الصالح لهم ويبعدّهم عن ما يوجب الضلال ويدرأ عنهم الفتن ويصلح شؤونهم؛ فإنَّه ليس كلّ فرد له القابلية لهذا الأمر الخطير الذي فيه حياة الأمة بأكملها على مرِّ العصور كما هو المحسوس بالوجدان, وإنكاره مكابرة واضحة.

2- إنَّ الأمة هي التي اختارت هذا الواقع العملي المشوه الذي لا يمثل الواقع النظري الذي أنزله الله تعالى وأراد من الأمَّة تطبيقه.

ولا ريب أنَّ عنصر الإختيار من أهم أركان الدعوة الإيمانيَّة, ويكفي أنَّ قانون الجزاء الذي أثبته القرآن الكريم بأبلغ الأدلة والبراهين وبأساليب مختلفة؛ فيه

ص: 58


1- (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). [سورة آل عمران؛ الآية 144].

الدلالةُ الواضحة على مبدأ الإختيار, فإنَّه لا معنى للجزاء إذا كانت الهداية على سبيل الإلجاء والإضطرار, فالدين والتشريع تامّ وكامل من جميع الجوانب وفيهما أبلغ الحجة ولكن الأمة أهملت التطبيق, فهم يتحملون التبعات والآثار الوخيمة لا الدين الكامل المتكامل.

3- إنَّ جميع الأديان الإلهية ولا سيما الدين الإسلامي يعتبر الحياة الحقيقية هي الحياةُ الآخرة, قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)(1).

وقال تعالى: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ «17» إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ «18» صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ)(2), وقد اعتُبرت الدنيا بداية منازل الدار الآخرة, يتزود منها لسفر طويل, فالدنيا في نظر الدين الإلهي وسيلة لا غاية يركن إليها, ولكن الإنسان -ولا سيما المسلمون- قد جعلوا هذه الدنيا هي الغاية واشتدَّ اهتمامهم بها وآثروها على الآخرة, كما قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)(3).

وقد حذرهم الله تعالى في القرآن بأشد العبارات وبيّن لهم الآثار السيئة المترتبة على ذلك ولكنهم أعرضوا عن تعاليمه فوقعوا في أعظم المصائب والمحن؛ فلا الدنيا نالوها, ولا الآخرة التي ابتعدوا عنها.

4- إنَّ الله تعالى خلق الإنسان وزوده بالوسائل التي إذا استخدمها بإخلاص وصدق أوصلته إلى السعادة العظمى, فأودع فيه الفطرة والعقل والقلب؛ وهي مجموعة تهديه إلى الفوز بالفلاح, وكلُّ واحد منها يرشده إلى ما هو الصالح ويبعده عن ما يصرفه عن الصلاح, كما أنَّه عَزَّ وَجَلَّ خلق ما يصدّه عن ذلك, وهما الشيطان

ص: 59


1- سورة العنكبوت؛ الآية 64.
2- سورة الأعلى؛ الآية 17 تا 19.
3- سورة الأعلى؛ الآية 16.

والنفس الأمّارة, وقد أُبتليَ الإنسانُ بهما؛ مِمّا جعلاه في اختبار دائم لحكمة بليغة بيَّنهما القرآن الكريم وشرحته السنة الشريفة.

وفي كلِّ الأحوال لم يهمل الإسلامُ الإنسانَ ليتغلب عليه جانبُ الشر, فقال عَزَّ وَجَلَّ: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)(1).

وقال عزَّ من قائل: ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(2), فلم يَبقَ للإنسان مجالٌ إلا أنْ يختار أحدَ السبيلين ويحكِّم جانب الخير فيه على جانب الشر.ولكن الإنسان -مع كلِّ الأسف- أهمل جانب الخير ولم يتعرض له إلا قليلاً, وغلَّب جانب الشرِّ في اعتقاداته وأعماله ونواياه؛ مِمّا أوصله إلى أدنى درجات الضعف في العقيدة والعمل.

5- إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ وعد عباده أنْ يحفظ دينه ويبقي الصالحين منهم لدعوة الناس إلى الصراط المستقيم فلم يترك دينه بيد الجاهلين المعاندين للحقِّ فلا بُدَّ أنْ يأتي يوم يظهر الدين غضَّاً طرياً يكون فيه التطبيق موافقاً للنظام الذي أراده الله تعالى. وعلى المسلم تمهيد الطريق لذلك اليوم الموعود ويهيئ نفسه لقبول هذه المهمة, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(3).

وهناك أسباب أخرى من اجتماعها وعدم علاجها على مرِّ العصور أدّى إلى هذا الإبتعاد عن دين الله القويم والوقوع في الإنحراف والفتنة العمياء التي لا علاج لها إلا بما ذكرناه آنفاً.

ص: 60


1- سورة البلد؛ الآية 10.
2- سورة الإنسان؛ الآية 3.
3- سورة المائدة؛ الآية 105.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتَّضح أنَّ تعاليم الشريعة الإلهية على سعتها اهتمت بتحديد حاكميتها على الإقتصاد, ووازنت بين معيشة المُوسرين والمترفين التي ندَّدت نصوصُها بها, وبين مدحها للغنى وتنويهها بأمور تتعلق به, بحيث عدَّت سعة المال من النعم, وهذا يستلزم وجود موازنة بين هاتين الطائفتين من النصوص الواردة في الشريعة بحيث لا يكون ميل لا إلى طرف اليمين ولا إلى طرف الشمال, والحلُّ الوسط بينهما هو دعوة الإسلام إلى الغنى المقتصد الملتزم, لا المفرط اللّا ملتزم.

قال النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (طُوبَى لِمَنِ اكْتَسَبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَالًا مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ)(1).

وعن أمير المؤمنين علیه السلام حين دخل على علاء ابن زياد الحارثي يعوده لما رأى سعة داره قال علیه السلام : (مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا وأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخرةِ كُنْتَ أَحْوَجَ؟ وبَلَى؛ إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخرةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ, وتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ, وتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا؛ فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخرةَ)(2).

إنَّ الغِنى المقتصِد يوافق الحدِّ القوامي للمعيشة في الشريعة لأجل دفع الفقر ورفع الكَلِّ عن الناس والإنفاق والبذل وصلة الرحم وبرِّ الإخوان وأداء سائر الحقوق الظاهرة والباطنة.

ص: 61


1- الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج8 ص169.
2- نهج البلاغة؛ الخطبة 209.

المصطلح الثالث: الفقه

اشارة

المصطلح الثالث: الفقه(1)

1- المعنى اللغوي

مادة (ف ق ه-) تدلُّ على الفهم الخاص, وهو كونه على دقَّة وتأمل, وبهذا يفترق الفقه عن العلم والمعرفة ومطلق الفهم. والتفقّه على وزن تفعّل يتضمن معنى الإختيار, فهو بمعنى الفهم والدقَّة, ومتعلقه عام لا يختَّص بأنْ يكون بالقول والكلام, بل كلُّ موضوع فيه اقتضاء التفهم والتأمل والتدقيق فيه.

فالتفقّه يكون في القول والكلام؛ كما في قوله تعالى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي«27» يَفْقَهُوا قَوْلِي)(2).

وقوله تعالى: (يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)(3).

وقوله تعالى: ( لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)(4).

ويكون في المعاني والمعارف؛ كما في قوله تعالى: (وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(5).

وقوله تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)(6).

ويكون بالنسبة إلى الأمور الأخروية؛ كما في قوله تعالى: ( قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)(7).

ص: 62


1- وهو المصطلح الثالث من المصطلحات التي يحتاجها علم الإقتصاد.
2- سورة طه؛ الآيات 27- 28.
3- سورة هود؛ الآية 91.
4- سورة الكهف؛ الآية 93.
5- سورة الإسراء؛ الآية 44.
6- سورة المنافقون؛ الآية 3.
7- سورة التوبة؛ الآية 81.

وفي مطلق التفقه؛ كما في قوله تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)(1).

والفقيه من يكون مُتَّصفاً بهذه الصفة, أي: على صفة الفهم على دقَّة وتأمُّل وفطنة, قال تعالى:(فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ)(2).

ومن هنا اختصَّ الفقيه في لسان المتدينين بمن يكون متفقهاً في الدين وأحكام الشريعة, وقد وردت هذه الكلمة في الكتاب الكريم والسنة الشريفة كثيراً, ويراد بها هذا النوع من الفهم الخاص, لا مطلق الفهم.

المعنى الإصطلاحي:

عرّف الفقه بتعاريف متعددة:

منها: التعريف المعروف من أنَّ الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية. وقد ذكره أغلب علماء الأصول وكأنَّه مِمّا قد تسالموا عليه.

وأُورد على هذا التعريف بعض النقود والإشكالات مِمّا استلزم أنْ يزاد عليه بعض القيود لدفعها. والمهم تبيين المقصود من هذا التعريف, فقالوا أنَّ المراد بالعلم مطلق التصديق الشامل للجزم والظن والجهل المركب والتقليد؛ دفعاً لماأُورد عليه من أنَّه إذا كان المراد به خصوص العلم فإنَّ المعلوم منه قليل وأنَّ أغلبه من الظنون.

وقالوا: إنَّ المراد بالأحكام مداليل الخطابات الشرعية بنحو الإقتضاء والتخيير أو الوضع ليشمل الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة والأحكام الوضعية كذلك, فلا يرد حينئذٍ على التعريف بأنَّه مختَّص بالأحكام التكليفية فقط, أو أنَّ الإباحة ليست من الأحكام التكليفية.

ص: 63


1- سورة التوبة؛ الآية 127.
2- سورة التوبة؛ الآية 122.

ومع ذلك فهو لم يسلم من النقاش طرداً وعكساً كما هو مذكور في الكتب المفصلة, ولا فائدة في ذكرها هنا.

ومنها: إنَّ الفقه إسم يعمّ جميع الشريعة التي من جملتها ما يتوصل به إلى معرفة الله تعالى ووحدانيته وتقديسه وصفاته العليا, ومعرفة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.

وهذا التعريف اقرب إلى بيان عموم متعلقه, فلا يكون من التعريف المصطلح عليه في العلوم, كما لا يخفى.

ومنها: إنَّ الفقه هو علم الأحوال والأخلاق والآداب والقيام بحقِّ العبودية.

وهذا التعريف وإنْ كان يشمل جميع ما يرتبط بالإنسان. ولكن ينقصه ذكر عنصر الهدف والوسيلة والأسباب كسابقه.

ومنها: إنَّه العلم بالأحكام, وهو أقرب إلى التعريف اللغوي فلا يكون جامعاً مانعاً, كما أنَّ فيه إجمال وتضييق كما هو واضح.

ومنها: إنَّه قيام الحجة التفصيلية عند الشخص على الأحكام الفرعية الدينية وموضوعاتها المستنبطة.

وفيه: إنَّه إلى بيان وظيفة الأصول اقرب منه إلى تعريف الفقه, مضافاً إلى أنَّه يرد عليه ما أُورد على التعريف المشهور.

ومنها: إنَّه مجموعة الأحكام العملية المشروعة في الإسلام. وهو من إطلاق الفقه على الأحكام نفسها فليس هو تعريفاً للعلم نفسه.

وهناك تعاريف أخرى أعرضنا عن ذكرها خوفاً من الإطالة, وعدم سلامتها عن النقاش والردود.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ علم الفقه يستمد تعريفه من نواحٍ ثلاثة:

الأولى: نفس اللفظ.

ص: 64

الثانيَّة: الموضوع والمتعلق.

الثالثة: المقاصد والأهداف.

فإذا أردنا تعريفه كاملاً لا بُدَّ من البحث عن هذه النواحي ليتَّضح معناه ومعالمه وحدوده.أمّا الناحية الأولى(1)؛ فقد عرفت أنَّ الفقه ليس مطلق الفهم ومجرد العلم, بل هو فهم خاص يساوق الفطنة, وإدراك الأمور الدقيقة. فهو علم خاص, ولعلّه لذلك فُسِّر الفهم بأنَّه هيئة للإنسان بها يتحقق معاني ما يُحسن(2).

وهو المعبرّ عنه بجودة الفهم, والإستعداد لاكتساب المعارف والمطالب وإنْ كان المتَّصف بها جاهلاً, كالعامي الفطن؛ فلا يقال للبليد الذي إذا عرف أمراً أنَّه فقهه بل فهمه.

ويدلُّ على ما ذكرناه اختلاف مصاديق الفقه عمّا يرادفه من الكلمات من العلم والفهم ونحوها.

وقد وردت مادة (ف ق ه-) في القرآن الكريم فيما يقرب من عشرين موضعاً(3)؛ كلُّها تدلُّ على أنَّ الفقه فطنة خاصة؛ قال تعالى: (وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(4), ولا ريب أنَّ كل المخلوقات تسبّح ربّها؛ لكن العلم بخصوصيات التسبيح مجهول, وهذا هو الفقه الذي نفاه عَزَّ وَجَلَّ عنّا.

ص: 65


1- وهي اللفظ نفسه.
2- مفردات ألفاظ القرآن؛ ص646؛ مادة (ف ه- م).
3- بل تحقيقاً أنَّها عشرون موضعاً.
4- سورة الإسراء؛ الآية 44.

وقال تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)(1), ولا ريب أنَّهم كانوا يعرفون ما يقول شعيب علیه السلام ولكنهم نفوا عن أنفسهم الفهم الخاص, ولكن نبيهّم علیه السلام لم يأت بأمرٍ خلاف إدراكهم الخاص فلم يقبل اعتذارهم.

وقال تعالى: ( قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)(2) ولا ريب أنَّ الآيات التدوينيَّة والتكوينيَّة على ما فيها من التفصيل الدقيق المتقن لا يستفيد منها إلا من كان له فهم خاص واستعداد معين.

وقد ذمَّ سبحانه وتعالى أقواماً لم يعرفوا منزلة النبي صلی الله علیه و آله و سلم ولم يدركوا دقائق ما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ عليه ولا يفهمون كيفية المعاشرة معه بأنَّهم (قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)(3), كما نفى الفقه عن المنافقين الذين يتجاهلون حقيقة الدين فقال تعالى: (وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ)(4)؛ مع علمهم بالله ورسوله والدين.

وغير ذلك من النصوص التي تدلُّ على أنَّ الفقه أخصّ من الفهم والعلم.

ومِمّا ذكرناه يظهر أنَّ إطلاق الفقه على علم الشريعة إنَّما هو من أجل أنَّ العلم بالأحكام الإلهية يحتاج إلى فهم خاص وشعور معين فلم يبتعد العلماء عنالصواب في اختيارهم لهذه الكلمة وإطلاقها على هذا العلم الخاص باعتبار أنَّه من أعلى أنواع الفهم والأدراك, ويدلُّ على ذلك جملة من الأخبار التي وردت في فضل الفقه والفقهاء, فهو إدراك خاص؛ يثبت لحامله قيمة معنوية تجعله في عداد الملائكة وأفضل أفراد الإنسان.

ص: 66


1- سورة هود؛ الآية 91.
2- سورة الانعام؛ الآية 98.
3- سورة الحشر؛ الآية 13.
4- سورة المنافقون؛ الآية 7.

ومن جميع ذلك نستفيد أنَّ تعريف الفقه بالعلم وغيره لا يخلو من مسامحة.

وأما الناحية الثانيَّة(1)؛ فقد اختلف العلماء في موضوع علم الفقه؛

والمشهور بينهم: إنَّه أفعال المكلفين من حيث عروض الأحكام عليها محضاً.

وقد أُورد عليه عدة مناقشات أهمها:

1- خروج أفعال القاصرين كالأطفال والمجانين عن موضوع الفقه, فيكون البحث عن فساد معاملاتهم, وعدم اعتبار أقوالهم, واستحباب عبادة الصبي المميزّ وغير ذلك إستطرادياً.

2- إنَّ الفقه يبحث عن الأحكام الوضعية, كالسببية والمانعية, والضمان والملكية, والزوجية وغير ذلك, فلا بُدَّ أنْ يكون خارجاً عن الفقه, لأنَّه ليس بحثاً عن العوارض من حيث الإقتضاء والتخيير.

ومن أجل ذلك عدل بعضهم عنه فجعل موضوع علم الفقه متعلقات الأحكام الشرعية الفرعية من حيث أنَّها متعلقات الأحكام, قال العلامة الطباطبائي قدس سره في مصابيحه: (إنَّ تلك المتعلقات قد تكون أفعال المكلفين من حيث الإقتضاء والتخيير؛ وهما الأكثر, وقد تكون غيرها كالأحكام الوضعية).

وأُورد عليه بأنَّ الحيثية المذكورة إمّا أنْ تكون تعليلية مأخوذة من علّة وجود الموضوع؛ فهي لا تنفع؛ لأنَّها مشتركة في جميع العلوم. وإمّا أنْ تكون تقييدية؛ فإنَّه يلزم تكرر النسبة وانقلاب القضية إلى ضرورية لأنَّها تكون قضية بشرط المحمول.

ص: 67


1- وهي الموضوع والمتعلق.

وقيل: إنَّ موضوع علم الفقه طبايع الأفعال من حيث عروض الأحكام عليها, ومن حيث انطباقها على المصاديق الخارجية وعدمه. ولكنه لم يسلم من بعض الإشكالات التي أُوردت على التعريف السابق للموضوع.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ موضوع الفقه لا يختَّص بالإنسان فضلاً عن المكلفين, فإنَّ جميع الموجودات تقع تحت قانون إلهي, وحكم تشريعي سواء كان تكليفياً أم وضعياً, فهو إمّا أنْ يكون عاماً أو خاصاً, فلا ينفك شيءٌ عن حكمٍ ينطبق عليه. فإنَّ الإنسان -مثلاً- من حيث انعقاد نطفته يشمله حكم أو تشريع إلى حين وفاته ووضعه في القبر, بل حتى ما بعد الموت, فالإقتصار على المكلف وغيره تضييق لدائرة موضوع الفقه. نعم؛ الإنسان إنَّما هو محور التطبيق وعليه أعباء امتثالالتكليف التي يبحث علم الفقه عنها, فلا يوجد علم آخر مثل الفقه يكون موضوعه له مثل هذه السعة والشمول؛ فهو يشمل جميع أطوار حياة الإنسان من الحمل حتى الموت وبعده, كما أنَّه يشمل جميع حالاته الخاصة والعامة, وجميع مراحل حياته من الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة.

كما يعمّ ما يرتبط بالحياة وموادها وكلّ مفرداتها, فإنَّ لكلِّ مادة ومفردة حكماً تشريعياً ربَّما يقع مورد ابتلاء الإنسان أو لا يقع ولكنه لا يضرُّ بعموم الموضوع, كما يشمل غير الإنسان من أصناف الموجودات؛ كالحيوان والملائكة والجن وغيرها مِمّا يرتبط نوعاً ما بالإنسان.

ومن ذلك يظهر عموم متعلق الفقه وشموله لجميع مفردات الحياة بلا إختصاص لها بنوع معين أو صنف خاص, فإنَّ الفقه نافذ في جميع الأشياء, ودائرة موضوعه تشمل الآفاق التي لها ارتباط بالإنسان, فلا يختص بالحكم بل يشمل القيم والأخلاق؛ لأنَّ الفقه نظام وتطبيق, وشريعة ومنهج فلا بُدَّ أنْ يكون متعلقه واسعاً؛ حتى يتم الوصول إلى الغرض المنشود منه.

ص: 68

والسرُّ في ذلك يرجع إلى أنَّ الشريعة الإسلامية هي مجموعة الأحكام الإعتقادية والعملية والأخلاقية, ومن مجموعها يتكون النظام الإلهي المتكامل الذي يرجع إلى إصلاح حال الإنسان ليفوز بالسعادة العظمى في الدارين.

والفقه الإسلامي يبحث عن الحقوق الخاصة بفرعيها المدني والجزائي, كما يبحث عن الحقوق العامة بجميع وجوهها؛ الدستوري والإداري والمالي والدولي. فهو أعظم فقه عرفه الإنسان في تاريخ الشرايع الإلهية.

ومن تلك يظهر أنَّ تعريف العلامة الطباطبائي رحمه الله لموضوع علم الفقه هو أقرب إلى الصواب؛ لأنَّ فيه من العموم الشمول والسعة ما لم يوجد في غيره من التعريفات؛ وإنْ لم يسلم عن بعض الإشكالات.

وبذلك يمكن الوصول إلى غايات الفقه ومقاصده, وإلا كان ناقصاً لا يؤدي إلى المطلوب.

وأمّا الناحية الثالثة(1)؛ فإنَّه من المعلوم أنَّ المقاصد والأهداف إذا تعددت بالنسبة إلى موضوع معين فإنَّه يدل على عظمته وسموه واستيعابه وشموله.

مقاصد و أهداف الفقه

والفقه هو من تلك الأمور التي تعددت المقاصد بالنسبة إليه, ومن أهم مقاصده تهذيب الإنسان وإعداده إعداداً متكاملاً, ويمكن ذكر المهم منها, وقد تتداخل مع بعض مقاصد الدين, وهي:

الأول: تثبيت المبادئ الأساسية في الشريعة وتطبيقها؛ ليتم النظام فإنَّه لا يمكن تحقيقه إلا بأمرين وهما الدستور والفكرة, والعمل والتطبيق. وهذه المبادئ هي:

1- الحرية: وقد هذَّبها الفقه لتكون حرية نزيهة توجب كمال النفس, لا الحرية المبتذلة التي يدعو إليها الفكر المادي.

ص: 69


1- وهي: المقاصد والأهداف.

2- المساواة أمام القانون: فلا امتياز لنَسَب أو مبدأ أو فكر, إلا أنْ يكون التمييز من جهة طاعة الله ورسوله, وامتثال دينه, كما قال تعالى: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(1), وفي الحديث المعروف عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍ عَلَى عَجَمِيٍّ إلا بِالتَّقْوَى)(2), وبذلك امتاز هذا الدين عن غيره من الأديان الوضعية, وعادات الأمم.

وعلى هذا الأساس عالج الإسلام موضوع الرقّ الذي قيَّد الإنسان زمناً طويلاً, وبحث الفقه عن مسائله, فقد جعل للرقيق حقوقاً, وشرَّع لهم أحكاماً, وغلّب جانب الحرية مهما أمكن إليها من سبيل, وألغى منابع الإسترقاق؛ سوى الحرب التي وضع لها شروطاً معينة, ولكن لم يلغ الرقّ رأساً؛ لأنَّه كان عادة مستحكمة في المجتمع, فقد اتَّخذ طريقاً وسطاً لإلغائه على سبيل التدريج, وسنّ أروع التشريعات في هذا المجال.

3- تحديد معالم الدولة الإسلامية وشروط الشخص الذي يحقُّ له التصدي لمنصب القيادة والإمارة؛ وهذا المبدأ يعتبر من أهم مقاصد الشريعة؛ لما له من التأثير المباشر على الفرد والمجتمع, فإنَّ فيه بقاء الدين والشريعة, والضمان لتطبيقها.

والفقه يبين جميع أحكام هذه الدولة, وشروط الشخصية التي يتصدى لها, فلم يهمل جانباً من جوانبها لما لها من الأهمية, كما عرفت.

إلاّ أنَّ اختلاف الأمة بعد ارتحال زعيمها الأكبر صلی الله علیه و آله و سلم إلى الرفيق الأعلى أوجب ضياع هذه الأمر الحيوي في حياة الأمة فصارت شِيَعاً وأحزاباً وتفرقت إلى

ص: 70


1- سورة الحجرات؛ الآية 13.
2- نهج الفصاحة؛ ص365.

مذاهب ومدارس, والوجدان يغني عن إقامة البرهان, وقد أخبر القرآن الكريم بذلك في عدة آيات, والتفصيل موكول إلى محله.

الثاني: تشريع الأحكام؛ التي ترجع إلى صالح الأمة وإصلاح أحوالها, وتعيين أحكام الرعية من وجوب إطاعة الإمام العادل, وبثّ روح المسؤولية في نفوسهم تجاه دينهم وشريعتهم وإمامهم, وحدّد شروط الطاعة التي منها أنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

الثالث: الجانب المالي؛ فقد شرَّع الإسلام الأحكام والتشريعات الخاصة لهذا الجانب واهتم به؛ لما له التأثير المباشر في صلاح الفرد والمجتمع, وقد جَعل بيت المال مكاناً تجتمع فيه الأموال والحقوق التي فرضها على الفرد المسلم؛ لتصرف في مصالح الأمة وإدارة شؤونها, ونَصَبَ الأمين عليها, واشترط فيه أنْ يكونالمثل الأعلى في الأمانة والصدق والوفاء؛ لأنَّه المسؤول عن جمع الأموال وصرفها, وجعل أحكاماً لملكية الأرض والمعادن والمياه والمراعي وغير ذلك مِمّا لها التأثير الكبير في إدارة البلاد وتنظيم شؤون العباد, فأثبت الملكية العامة والملكية الخاصة وحدّد لها شروطاً وأحكاماً, وإنَّ الفقه هو الذي يتصدى للبحث عنها.

الرابع: تنظيم العلاقات بين الأمة وغيرها من سائر الأمم, والعلاقات بين أفراد الأمة, وتنظيم علاقة الدولة مع غيرها في السلم والحرب, وتعيين أسس العدالة في كلتا الحالتين. ومن أهم التشريعات في هذا الموضوع ما يرجع إلى احترام الشعوب وتساوي الأفراد في الحقوق الإنسانية خلافاً لنظرية الشعب المختار, فإنَّ الإنسان محترم في الإسلام كما تدلُّ

ص: 71

عليه جملة من الآيات كقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)(1).

ومن التشريعات احترام المعاهدات الصادرة بين الدولة وغيرها وبين الأفراد؛ فإنَّه أوجب الإلتزام بها والوفاء بمضمونها.

ومن الأحكام التشريعية جعل إعلان الحرب والسلم تحت سلطة الإمام العادل؛ رئيس الدولة وقائد الأمة بالحقّ. وغير ذلك من الأحكام.

الخامس: حفظ المقاصد الخمسة المعروفة: الدين والنفس والمال والنسب والعقل. وعليها اعتمد الفقهاء في تبويب كتب الفقه, ومنها استمدَّت فروعه.

السادس: الفقه يبحث عن كيفية الطاعة, والعمل بالشريعة, ويوجّه الإنسان إلى التزام الطاعة مع مفردات الدين والأحكام الإلهية والإبتعاد عن مخالفتها.

السابع: إنَّ الهدف من الفقه هو تزويد النفس بالقيم النبيلة والأخلاق الكريمة, ويوجب تزويد العقل بنور المعرفة.

الثامن: إنَّ أهم غرض يبتغيه الفقه للإنسان هو تحصيل السعادة والخلاص من الشقاء, والفوز في الدارين.

التاسع: إنَّ الفقه يحفظ الشريعة والأحكام الشرعية من شُبَه الجاهلين وتشكيك المعاندين.

العاشر: إنَّ الفقه يرشد الإنسان إلى المصالح الدينية ويزيده من الإطّلاع على أسرار الشريعة, وبذلك يخرج الإنسان عن حضيض التقليد الأعمى إلى نور المعرفة لكي يقع العمل عن عقيدة لا عن تقليد صرف.

ص: 72


1- سورة الإسراء؛ الآية 70.

ومن جميع ما ذكرناه في الجوانب الثلاثة يمكن استخلاص تعريف الفقه بأنَّه: العلم عن إدراك خاص لمجموعة الأحكام والقوانين والقيم الدينية عن أدلتها الشاملة لجميع ما يرتبط بالإنسان مطلقاً؛ لغرض امتثالها وتطبيقها على أكملوجه, فيتم بسببه بسط العدل وبثّ روح الطاعة في النفوس وإصلاحها وإشاعة الخير في الناس وإسعادهم, وإيصال الإنسان إلى الكمال اللائق به.

ومنه يظهر أهمية علم الفقه في حياة الإنسان مطلقاً, وشمولية موضوعه, واتّساع متعلقه, وشدَّة احتياج سائر العلوم إليه؛ لتحديد موضوعاتها ومسائلها من حيث انتسابها إلى الشريعة وتقويمها بحسب قواعد الدين الإلهي. كما أنَّ هدف الفقه السامي هو تحصيل السعادة للإنسان, وإنَّه المفتاح لحلِّ المشاكل التي تحصل من تعارض العلوم, والتباعد بين أهدافها. والفقه هو الذي يهذّب الإنسان نيَّةً وعملاً, ويجعله في مسار الخير والصلاح.

وما ذكرناه في تعريف الفقه وموضوعه والهدف المرجوّ منه تبتني مسائله؛ فتعمّ جميع مفردات حياة الإنسان التكوينية والأخلاقية والإعتبارية, ويبين وظيفة الفرد بالنسبة إليها. فهو علم عظيم من ناحية الموضوع والمتعلق والهدف كما أنَّه يعمّ جميع حالات الإنسان ويشمل كلّ ما يرتبط بحياته.

ومن جميع ذلك يتبين وجه ارتباط الإقتصاد الذي نريد البحث عنه بعلم الفقه, فلا بُدَّ من معرفة جميع مفرداته على هذا الأساس.

تقسيم الفقه

اشارة

إختلف العلماء أيضاً في تقسيم الفقه وأبوابه كاختلافهم في تعريفه على ما تقدم بيانه.

التقسيم الأول: ما ذكره جمع كبير من الفقهاء

التقسيم الأول: ما ذكره جمع كبير من الفقهاء؛ وهو أنَّ الفقه ينقسم إلى أقسام أربعة:

1- العبادات.

ص: 73

2- العقود.

3- الإيقاعات.

4- الأحكام.

وهذا التقسيم هو المعروف بينهم ومنه نشأت أبواب الفقه المعروفة والتي تسمى عند القدماء بالكتب, ويبلغ مجموع تلك الأبواب والكتب إثنين وستين كتاباً, وعلى هذا المنهج ألَّف الفقهاء كتبهم الفقهية التي من أهمها عند الإمامية كتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلي قدس سره المشهور بين المسلمين واعتبره الإمامية إمام كتب الفقه.

فإنَّه قدس سره ذكر في العبادات عشرة كتب, وهي: كتاب الطهارة والصلاة, والزكاة والخمس, والصوم والإعتكاف, والحج والعمرة, والجهاد, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكن هذا التقسيم وقع مورد نقاش بين العلماء؛ فقالوا إنْ كان المراد من العبادات المعنى الأخصّ, وهي التي تتقوم بقصد القربة, فيكون ذكر الجهاد والأمربالمعروف والنهي عن المنكر إستطرادياً, وكذلك بالنسبة إلى البحوث السبعة التي ذكرها في الطهارة؛ فإنَّها ليست من العبادات بهذا المعنى.

كما أُورد عليه بأنَّه لم يذكر الكفارات مع أنَّها من العبادات لتقوّمها بقصد القربة.

وأمّا العقود فقد ذكر فيها تسعة عشر كتاباً, وهي: كتاب التجارة والرهن, والفلس والحجر, والضمان والصلح, والشركة والمضاربة, والمزارعة والمساقاة, والوديعة والعارية, والإجارة والوكالة والوقف, والسكنى وأختاها, والهبة, والسبق والرماية, والوصية والنكاح.

وغيرُ خفيٍّ أنَّ عدّ الفلس والحجر والسبق والرماية والوصية والسكنى وأختاها من العقود فيه من المسامحة ما لا يخفى.

ص: 74

وأمّا الإيقاعات فقد أورد فيها أحد عشر كتاباً, وهي: كتاب الطلاق والخلع والمباراة والظهار, والكفارات, والإيلاء واللعان, والعتق والمكاتبة والتدبير, والإستيلاد والإقرار, والجعالة, والأيمان والنذور.

ولكن تقدم أنَّ الكفارات إنَّما تُعدّ من العبادات, فجعلُها من الإيقاعات فيه مسامحة, وكذا الإقرار؛ فإنَّه إخبار, وكذا الجعالة.

وأمّا الأحكام فقد ذكر فيها إثني عشر كتاباً, وهي: كتاب الصيد والذباحة, والأطعمة والأشربة, والغصب وإحياء الموات واللقطة والفرائض, والقضاء والشهادات, والحدود والتعزيرات, والقصاص والديّات.

التقسيم الثاني: ما أورده السيد الصدر قدس سره

التقسيم الثاني: ما أورده السيد الصدر قدس سره؛ حيث قسمّ الفقه إلى أربعة أقسام أيضاً.

الأول: العبادات.

الثاني: الأموال؛ وتشمل الأموال العامة والأموال الخاصة.

الثالث: السلوك الخاص؛ والمراد به روابط الشخص مع عائلته ومجتمعه.

الرابع: السلوك العام؛ أي الولاية وشؤونها.

وهو قدس سره وإنْ رفع بعض الإشكالات الواردة على التقسيم المشهور, ولكنه غفل عن أخرى؛ كما يأتي التنبيه عليه إنْ شاء الله تعالى.

التقسيم الثالث: ما ذكره بعض الفقهاء

التقسيم الثالث: ما ذكره بعض الفقهاء؛ حيث جعلوا عناوين الفقه ستة, وفيها أدرجوا الكتب الفقهية.

الأول: العبادات.

وتندرج فيها عشرة كتب, وهي: الوضوء والغسل والتيمم, والصلاة والصوم والإعتكاف, والحج والعمرة, والكفارات البدنية, والكفارات المالية.

ص: 75

الثاني: الشؤون الفردية, أي الأعمال الشخصية غير العبادية التي لا ترتبط بالمال ولا بالعائلة والمجتمع.وتندرج فيها ثمانية كتب, وهي: المياه والتخلّي, والإستنجاء والنجاسات, والأواني والمطهرات, والدماء الثلاثة, والنذور والعهد واليمين, والأطعمة والأشربة.

الثالث: الشؤون العائلية, أي السلوك مع الأهل والأرحام.

ويندرج فيها ثمانية كتب, وهي: النكاح والطلاق والظهار والإيلاء واللعان, وتجهيز الأموات والإرث, والدفاع.

الرابع: الأموال الفردية تحصيلاً وحفظاً وتصرَّفاً.

ويندرج فيها إثنان وعشرون كتاباً, وهي: إحياء الموات, والصيد والذباحة, والتجارة والبيع والإجارة والجعالة والصلح والرهن, والمضاربة والشركة, والمزارعة والمساقاة, والضمان والحوالة, والكفالة والوكالة, والوديعة والعارية, والوقف والهبة, والسكنى والعمرى والرقبى, والوصية, والغصب, والحجر, والتفليس.

الخامس: الولايات, أي الشؤون والأعمال التي ترتبط بمجتمع الإنسان عدا أسرته, وكيفية سلوكه معهم.

ويندرج فيها تسعة كتب, وهي: الولاية والحكومة والجهاد, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والخمس والزكاة والأنفال والخراج, والسبق والرماية.

السادس: الأمور القضائية والجزائية, وهي التي ترتبط بالمنازعات وفصل الخصومات والتعدي على حدود الله الأولية.

وتندرج فيها سبعة كتب, وهي: القضاء والشهادات والإقرار, والحدود والتعزيرات, والقصاص والديّات والكفارات.

ص: 76

وهذا التقسيم وإنْ اشتملت عليه الكتب الفقهية المعروفة, ولكن تُفتقد فيه الصياغة الفنية, فإنَّ بعض الكتب لا يلائم العنوان الذي جُعل فيه. كما أنَّ فيه تبسيط العناوين مع إمكان التداخل بوجه.

التقسيم الرابع: وهو ينبع من موضوع الفقه

التقسيم الرابع: وهو ينبع من موضوع الفقه الذي تقدم أنَّه الشامل لجميع مفردات الحياة وكلّ القيم الأخلاقية التي تهذب سلوك الإنسان وتصلح حاله, كما أنَّه ينبع من الغرض الذي من أجله نزلت الشريعة الغرّاء؛ وهو بسط العدل وإشاعة الصلح والأمن والأمان وإسعاد الإنسان في الدنيا والفوز بالحسنى في الآخرة, فلا بُدَّ أنْ يكون تقسيم الفقه شاملاً لهذه الجوانب فنقول: إنَّ الإنسان لما كان محور الشرايع الإلهية والأخلاق والكمال فإنَّ له حالات يتحدد وفقها التشريع, فالإنسان:

1- إمّا أنْ يكون مع نفسه.

2- إمّا أنْ يكون مع خالقه.

3- إمّا أنْ يكون مع المختصين به من أفراد أسرته وأرحامه.

4- إمّا أنْ يكون مع سائر أفراد الناس المحيطين به.

5- إمّا أنْ يكون مع سائر مفردات التكوينية, كالماء, والتراب, والأرض ونحو ذلك.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فالشرايع:

إمّا أنْ تكون من أجل تحصيل المعاش.

وإمّا أنْ تكون من أجل التولية والحكم.

وإمّا أنْ تكون من أجل بسط التوحيد ونبذ الشرك, ودفع ظلم الظالمين.

وإمّا أنْ تكون من أجل تنظيم شؤون الحياة.

وعلى ضوء تلك الحالات والنسب والإضافات يمكن تقسيم الفقه وتبويبه؛

ص: 77

ففي الأول؛ يدخل الجهاد الأكبر؛ وهو تهذيب النفس عن الرذائل وتزيينها بالفضائل, وأقسام الطهارات الحدثية والخبثية والكفارات, وجميع الحقوق التي تهدف إلى تطهير الجسد والروح, وتحديد سيرهما وسلوكهما.

وفي الثاني؛ تدخل جميع العبادات؛ فإنَّها نوع ارتباطٍ للمخلوق مع خالقه العظيم؛ كالصلاة والصوم والحج والإيمان والنذور, وغيرها من أنواع العبادات التي تُصلح حال الإنسان مع ربِّه سبحانه.

وفي الثالث؛ يدخل النكاح والطلاق والإرث وغيرها مِمّا يرتبط بعلاقة الفرد مع أسرته.

وفي الرابع؛ فإنَّ له أقساماً أربعة:

القسم الأول: ما يدخل فيه أنواع المعاملات من التجارات؛ كالبيع والإجارة, والهبة, والمضاربة, والشركة ونحوها.

القسم الثاني: ويدخل فيه أنواع الولايات؛ من القضاء والشهادات, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتنظيم العلاقات بين الدول.

القسم الثالث: ويدخل فيه الجهاد والحدود والتعزيرات والقصاص والسبق والرماية.

القسم الرابع: ويدخل فيه الغصب وإحياء الموات والأطعمة والأشربة والصيد والذباحة.

وفي الخامس(1)؛ يدخل تنظيم العلاقات مع ما يكون حول الإنسان وتحديدها إمّا أنْ يكون بين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض, أو مع الحيوان, أو مع الجماد, ويدخل فيه الجعالات, والرفق والعنف, واستغلال المعادن والأراضي والآثار, واستعمال المواد الحياتية والتعامل معها, وغيرها من الموضوعات المستحدثة؛ كالفضاء والبيئة والإقتصاد وغيرها مِمّا هو كثير.

ص: 78


1- أي الخامس من الأقسام الرئيسة.

وهذا التقسيم يسلم من الإشكالات التي أوردت على غيره, وفيه يتحقق جميع مقومات الفقه مِمّا تقدم البحث عنها من الغرض والموضوع والمتعلق. فإنَّ منمراعاة جميع ذلك يتحقق النظام العام ويستتبّ الأمن والأمان, وبها يحفظ الدين ومعالمه من كيد الأعداء ولا يؤول الأمر إلى الضياع والإهمال.

وهذه كلُّها هي من مهمات شريعة الإسلام وأحكامه المقدسة وفلسفة تشريعها, ومن جميع ذلك يظهر أنَّ علم الفقه هو الذي يحفظ هذه المجموعة المباركة ويبين أسرارها بالأدلة والبراهين عليها, فيعرف الإنسان أحكام دينه ويتَّضح له كيفية العمل بشرعه الحنيف, ويتبين له أبواب طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ.

فلسفة الفقه

ذكر أحد المؤلفين المحدثين عنواناً أسماه (فلسفة الفقه), وألّف فيه كتباً متعددة يذكر فيها مجموعة من البحوث العقلية السابقة للفقه التي عبر عنها بالبحوث القبْلية, وهي تلك التي ينبغي التوصل بها إلى نتائج معينة بالبراهين العقلية, فقيل أنَّها وإنْ كانت ترتبط بعلم الكلام, ولكنها ليست من اصول الفقه وإنْ ذُكر بعضها فيه, ومن جملة ما ذكر تحت هذا العنوان: القواعد الفقهية, والمقاصد الفقهية, وضوابطها, فإنَّ هذه ليست من علم الفقه الذي موضوعه أفعال المكلفين, ولا من عوارضها. ثم أدرج فيه تعريف الفقه وموضوعه والغرض منه ومرتبته بين العلم ومبدعه ومدوّنه والقضايا المطروحة فيه ونواحيه التعليمية.

وبعبارة أخرى: إنَّ فلسفة الفقه هي مجموعة بحوث يكون موضوعها علم الفقه, نظير فلسفة الرياضيات وفلسفة الفيزياء وفلسفة الإقتصاد وفلسفة العلوم.

ومِمّا أُدرج تحت هذا العنوان مسألة وثاقة النص, وتحقيق مضمونه من حيث صحته وخطؤه, وكيفية ظهوره إلى عالم الوجود, وتحديد الصورة التي ترسمها تلك النصوص تحت تأثير

ص: 79

الدين بحيث يمكن تأسيس ركائز النظام الكوني الديني وكيفية الدفاع عنه ودفع الشبهات التي ترد على هذا النظام.

وبحثوا تحت هذا العنوان أيضاً عن النظم الأخلاقية والفقهية وتحديد معالمها في الإسلام, والدفاع عن النظام الفقهي.

والبحث عن مصادر الفقه من حيث الأسناد ومن حيث إمكان نسبة مضمون الروايات إلى المعصوم علیه السلام .

والبحث عن تحديد انتماء الأصول العملية إلى علم الفقه أو علم الأصول, والبحث عن القواعد الفقهية, وغير ذلك من البحوث التي تعتبر من العلوم القبلية لعلم الفقه.

والحقُّ أنْ يقال: إنْ كان المراد من العلوم القبْلية هي تلك الأمور التي اصطلح عليها العلماء بالمبادئ للعلوم ومنها علم الفقه, والتي قسموها إلى مبادئ تصورية, ومبادئ تصديقية, ومبادئ أحكامية والتي لها نحو ارتباط في معرفة خصوصيات ذلك العلم, والتي هي من المعارف المعروفة في كلِّ علم وإنْ كانت تختلف من حيث السعة والضيق, ولكن الجميع قد اتّفقوا على أنَّها من العلوم القبلية لعلم الفقه؛فإنْ أُريد من فلسفة الفقه هذا النوع من المعارف فهي موجودة قديماً ومورد بحث العلماء, ولكنها كانت مبعثرة في مواضع متعددة, فيكون جمعها تحت عنوان واحد أمراً حسناً في حدِّ نفسه. إلا أنَّ تسميته باسم فلسفة الفقه لم يكن مستحباً؛ لأنَّ هذه الكلمة إنَّما تطلق على معرفة معينة حاصلة عن فهم حقائق الأشياء, والمفروض أنَّ تلك المعارف مجرد مبادئ لها الدخل في معرفة العلم نفسه, فيكون في إطلاقها على تلك المبادئ من المسامحة الواضحة.

وإنْ كان المراد من الفلسفة معرفة أسرار الأحكام والتشريعات وغاياتها, كما هو ظاهر إطلاق هذه الكلمة؛ فإنَّه غير مقبول, وذلك:

ص: 80

أولاً: إنَّ الوصول إلى أسرار الأحكام وعللها ومقتضياتها أمر صعب المنال, بل قد ورد النهي عن التعمق فيها واستحصالها؛ إلا إذا ورد في الشرع ما يبين تلك فتصير من التعبديات الصرفة مثل الأحكام نفسها, نعم قد يدرك العقل بعض الحِكَم والمقتضيات ولكنَّها غير العلل, ومع ذلك يتحفظ الفقهاء في الاعتماد عليها في الأمور التعبدية حذراً من الوقوع في القياس أو الإستحسانات التي ورد النهي عنها في التراث الشيعي الإمامي.

ثانياً: إنَّ التماس علل الأحكام وأسرارها وإنْ كان مِمّا ترغب إليه النفوس ولكنه خلاف التسليم الذي هو أحد اركان الإيمان, فإنَّه قد وردت روايات متظافرة دلالتها أنَّ على العبد التسليم لربه وامتثال تشريعاته من دون السؤال والتماس العلة لها.

ثالثاً: إنَّ كل ما ذكروه في فلسفة الفقه من الأمور المتقدمة إنَّما جاءت من جهة تقييد موضوع الفقه ومتعلقه وأهدافه, وقد عرفت مفصلاً عدم صوابه؛ فإنَّ الفقه أوسع مِمّا ذكروه موضوعاً وغرضاً ومقاصدَ, فما ذكروه يندرج في علم الفقه نفسه بل يعتبر من صميم هذا العلم لا أنْ يكون من المبادئ والعلوم القبلية له, فكان الأجدر بهؤلاء تجديد النظر فيما ذكره العلماء في الفقه وموضوعه وأهدافه وتحديد موقعه من بين العلوم بدلاً من تأسيس علم جديد لكي يُلتمس له الأعذار في ارتباطه بعلم الفقه.

رابعاً: إنْ كان المراد من فلسفة الفقه التماس بعض الوجوه العقلية للأحكام والتشريعات فهو مردود بالنصوص المتواترة التي تدل على (إِنَّ دِينَ الله لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ)(1), فما أورد تحت هذا العنوان إنَّما يكون من مجرد الإستحسان العقلي الذي دلَّت النصوص على النهي عنه.

ص: 81


1- بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص303.

فالصحيح ما ذكرناه من الرجوع إلى علم الفقه نفسه وتجديد النظر فيما وصل إلينا من العلماء الماضين رحمهم الله تعالى أجمعين؛ في تعريفه وموضوعه ومتعلقه ومقاصده وأهدافه وتحديد موقعه, فإنَّه علم عظيم, وشأنه كبير, ومنزلته رفيعة.ويختلف العلم الحاصل منه عن سائر العلوم, وبه يتحدد النظر الديني إلى ما في الكون, وعن طريق علم الفقه يمكن الجواب عن كثير من الشبهات الحاصلة من ناحية الولاية التشريعية, وبه يتحدد موقع الإنسان في العالم الكياني.

كل ذلك إنَّما يحصل بالنظر الدقيق في الأدلة الشرعية الواصلة إلينا, والقراءة الصحيحة في مضامينها, والتفكر الصحيح البعيد عن النزعات الرديئة, والأهواء الباطلة, فإنَّ الإسلام دين عقيدة وعمل؛ قد لاحظ جميع الجوانب وعالج جميع المشاكل.

ومن جميع ذلك يظهر وجه الإشكال في تأسيس علم جديد أيضاً, وهو المسمّى ب-(علم مقاصد الشريعة), الذي دعا إليه بعض الكتّاب المحدثين, والذي هو موجود في الفقه السني, باعتبار أنَّ هذا العلم يحفظ للناس دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ والتي تعتبر الأصول الخمسة المعروفة, فكلُّ ما يوجب حفظها يعتبر مصلحة, وكلُّ ما يوجب المضرَّة بهذه الأصول يعتبر مفسدة ويكون دفعها مصلحة.

وقال بعضهم إنَّ أهمية البحث عن مقاصد الشريعة تظهر في الأهداف التي تترتب عليه ثم ذكر أنَّها ستة اهداف. وقد عرفت أنَّ هذا البحث داخل في صميم علم الفقه, وإنَّ تلك الأهداف هي من أهداف علم الفقه, فراجع ما ذكرناه آنفاً.

وقد تعدّى بعض الكتاب عن ذلك, وراح يبحث عن أمور عقلية وأغراض شخصية ويجعلها من مقاصد الشريعة, فالتبس الأمر عليهم. وتقدم أنَّها باطلة؛ فهي ترجع إلى الإستحسانات التي ورد النهي عنها؛ فراجع.

ص: 82

مصادر التشريع ومدارك الأحكام

اشارة

لا ريب في أنَّ أهم مصدر لجميع الأحكام والتشريعات في هذا الدين هو الكتاب الكريم والسنة الشريفة, وقد اتفق عليهما جميع المسلمين ولكن الإمامية أضافوا إليهما الإجماع والعقل, وأما غير الإمامية فقد أضافوا إلى الثلاثة الأُوَل(1) القياس والإستحسان ومطلق الظن, إلا أنَّ روايات أهل البيت علیهم السلام منعت عنها منعاً باتاً.

ولا إشكال في أنَّ طريقة الإستنباط من الأدلة إنَّما يكون في استخراج القواعد والقوانين والأحكام منها ثم تطبيقها على مصاديقها, وقد اهتمَّ علماء الإمامية بتلك القواعد والقوانين إهتماماً بليغاً وأفردوها في كتب خاصة, ومن تلك التصنيفات كتاب (القواعد والفوائد) للشهيد الأول, وكتاب (تمهيد القواعد) للشهيد الثاني, وكتاب (عوائد الأيام) للمولى محمد مهدي النراقي, وقد توسّع المتأخرون في هذا الموضوع فألفوا كتباً نافعة فيه ككتاب (القواعد الفقهية) للسيد البجنوردي قدس الله أسرارهم, وغير ذلك من الكتب.وهم وإنْ اختلفوا في عددها بين مُقلٍّ ومُكثر لكنه غير ضائر, وقد جمع السيد الوالد قدس سره اكثر من مائة قاعدة في رسالة منفردة وتطرق في كتابه (مهذب الأحكام) إلى الكثير منها بالبحث والتحقيق.

وتمتاز هذه القواعد بأمور:

1- إنَّها تشتمل على عبارات وجيزة فصيحة بليغة أكثرها مأخوذة من كلمات المعصومين عليهم الصلاة والسلام؛ الذين هم أبناء من كان أفصح من نطق بالضاد.

2- إنَّها كليات تنطبق على مصاديق كثيرة ويدخل تحتها أفراد عديدة.

3- سهولة حفظها ودراستها.

ص: 83


1- القرآن والسنة والإجماع.

4- إنَّها تشتمل على معانٍ دقيقة.

5- إنَّ معرفتها تسهل الوصول إلى الحكم الشرعي بل إنَّ فقاهة المجتهد إنَّما تظهر في كيفية تطبيقها وسهولة إرجاع الفروع إلى الأصول والقواعد حتى قال الأصوليون: (إنَّ الأعلم من الفقهاء هو الذي يتمكن من ردِّ الفروع إلى الأصول وتطبيق القواعد عليها بدقَّة).

وغير ذلك من المميزات التي ذكروها في كتبهم.

والكلام في مصادر التشريع ومدارك الأحكام قد استوفاه الأصوليون في كتبهم الأصولية مفصلاً. إلا أنَّ الذي نريد البحث عنه في المقام هو ما يتعلق بالعرف والعادة الذي يعتبره جمع من العلماء من المصادر ويعتمدون عليهما في الفقه كثيراً؛ لا سيما في تشخيص الموضوعات التي لم يرد فيها نص شرعي معين.

العرف والعادة

إختلف العلماء في الاعتماد على العرف؛ ففي الفقه السنّي يكون مصدراً يعتمد عليه في تعيين الحكم واعتبروه من مصادره, وكذلك في القانون المدني فإنَّه يعتبر مصدراً من مصادر الأحكام.

بينما ذهبت الإمامية إلى أنَّ الإعتماد عليه ينحصر في تشخيص موضوعات الأحكام وتحديد مداليل الألفاظ. وأمّا في عصرنا فقد اعتبر علماء الإقتصاد العرف هو الأساس في قوانينهم.

ولتوضيح الأمر يستدعي البحث فيه عن جوانب عديدة:

الجانب الأول: تحديد معنى العرف

العرف بالمعنى اللغوي

ص: 84

العُرف (بضم العين)؛ ذكر له علماء اللغة له معنيين, ومصاديق كثيرة لهما؛ فقيل إنَّه تارةً يأتي بمعنى التتابع, ومنه عُرف الفرس, وسمي بذلك لتتابع الشَعر عليه, ويقال: جاء القطا عُرفاً عُرفاً, أي بعضها خلف بعض.وأخرى يأتي بمعنى المعرفة والعرفان؛ يقال: عَرَف فلان فلاناً عرفاناً ومعرفةً, وهذا أمر معروف. ومن هذا الباب العَرْف وهو الرائحة الطيبة, لأنَّ النفس تسكن إليها. والعَريف هو القيّم بأمر قوم قد عَرَف عليهم, لأنَّه عُرف بذلك.

والمعرفة والعرفان إدراكٌ للشيء بتفكر وتدبّر لأثره, وهو أخصّ من العلم, ويضاده الإنكار, فيقال: فلان يعرف الله ولا يقال يعلم الله, ويقال: الله يعلم, ولا يقال: يعرف.

والصحيح؛ إنَّ أصل المادة يأتي بمعنى الإطّلاع على الشيء والعلم بخصوصياته وآثاره, فتكون المعرفة تمييز الشيء عمّا سواه وعلماً بخصوصياته, فتكون أخصّ من العلم, فكلُّ معرفة علم ولا عكس. وجميع ما ذكر يرجع إلى هذا الأصل, فيكون من مصاديق هذه المادة الإعتراف: وهو إظهار المعرفة, وهو يقرب من الإقرار.

ومعارف الأرض والأعراف هي الأمكنة التي تميزت عمّا سواها.

والمعروف الذي يُعرف ويطلع عليه ويتميز عمّا سواه مقابل المنكر المجهول من جهة الآثار.

والعرف: هو ما يبدو ويعلو ويُعرف في قبال النُكر, فكِلا المعنيين يرجعان إلى أصل واحد, فلا يكون في البين اشتراك أو حقيقة ومجاز.

والحاصل؛ إنَّ العرف هو الظاهر البادي المعروف الذي تتلقاه العقول السليمة بالقبول, وإليه يشير قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)(1) أي: تقبّل من الناس ما يسهل التناول منهم, والميسور عليهم من خلائقهم دون تكلف ومشقة. نظير

ص: 85


1- سورة الأعراف؛ الآية 199.

قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)(1) أي ما يسهل عليهم إنفاقه, وأمرهم بما هو المعروف المألوف الذي تتلقاه العقول السليمة بالقبول.

العرف بالمعنى الإصطلاحي العلمي

وقد ذكروا له تعريفات عديدة لا يخلو أكثرها من نقاش:

1- ما ذكره مصطفى الزرقاء(2) من أنَّه: (عادة جمهور قوم في قولٍ أو عملٍ), والمستفاد من هذا التعريف أنَّ العرف لا يتحقق في أمر إلا إذا كان مطّرداً بين الناس في المكان الجاري فيه, وأنْ يكون معظم أهل هذا العرف يرعاه ويجري على وفقه.

وبعبارة؛ يشترط في تكوين العرف اعتبار مشترك بين الجمهور, وإلا خرج عن العرف وصار تصرفاً فردياً, ومن أجل هذا يسمى العرف عادة أو تعاملاً, وعلى هذا الأساس وضعوا القاعدة المعروفة وإنَّما تعتبر العادة إذا اطّردت أو غلبت.

2- تعريف الجرجاني: (العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبايع بالقبول)(3).

ويرد عليه بأنَّه قد أخذ شهادة العقول وتلقي الطبايع له بالقبول في مفهوم العرف, ومن المعلوم أنَّ الأعراف تتفاوت وتختلف باختلاف الأعصار والأمصار.

وعليه؛ يستلزم اختلاف العقول والطبايع السليمة باختلافها؛ إلا أنْ يراد من هذا القيد إخراج الأعراف الفاسدة, وهو بعيد؛ إذ التعريف يشملها.

ص: 86


1- سورة البقرة؛ الآية 219.
2- في كتابه المدخل الفقهي العام؛ ج1 ص131.
3- التعريفات؛ ص64.

3- قال الأستاذ علي حيدر: (العادة هي العرف, وهي الأمر يتقرر بالنفوس ويكون مقبولاً عند ذوي الطبايع السليمة بتكراره المرة بعد المرة)(1). وقريب منه تعريف ابن عابدين وغيره.

والإشكال عليه هو مثل الإشكال على سابقه.

4- تعريف الأستاذ عبد الوهاب خلّاف: (العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك ويسمى العادة)(2).

وهو وإنْ سلم من الإشكال المزبور لكن لا بُدَّ من إخراج بعض الأعراف منه كما يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

5- وقال بعضهم: (العادة عبارة عمّا يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المقبولة عند الطبايع السليمة)(3).

6- وقال آخرون: (العادة الأمر المتكرر ولو من غير علاقة عقلية)(4).

وغير ذلك من التعاريف.

وأقرب التعاريف ما ورد في التعريف الأول من أنَّه تكرار العمل عند طائفة أو أمّة من العقلاء؛ هو والعادة على حدٍّ سواء.

هذا ولكن الصحيح أنْ يقال بأنَّ المقصود من العرف هو واقعه وليس مفهومه فقط, فلا بُدَّ من الرجوع إلى واقعه الذي يتحرك في معاملات الناس وتعاملاتهم بعضهم مع بعض؛

ص: 87


1- الإجتهاد؛ ص81.
2- علم أصول الفقه؛ ص95.
3- وهو عمر بن اسحاق بن احمد الهندي الغزنوي في شرح المغني في أصول الفقه للشيخ جلال الدين عمر ابن محمد الخبازي الخجندي؛ على ما نقله التهاوني في كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم؛ ج2 ص1156.
4- نقله جيرار جهامي في الموسوعة الجامعة لمصطلحات الفكر العربي والإسلامي؛ ج1 ص1684؛ عن اميرپاد شاه في كتاب أصول الفقه.

كي نستخلص تعريفه, وذلك لأنَّه ينشأ ويتكون من تواضع وتعارف الناس على عادة معينة ويتخذونها سُنَّة يسيرون عليها, وتنظيماً ينظّم علاقاتهم الإجتماعية والإقتصادية بحيث يعدّون هذه السُنَّة أمراً ملزماً لهم يُرتبون عليه جميع الآثار والنتائج ولا يجوز لهم مخالفته والخروج عنه.

ومن ذلك يظهر أنَّه لا بُدَّ في العرف من عنصرين يكون بهما قوامه وهما:

1- العادة.

2- الإلزام.

فلا تعتبر كلُّ عادة من العرف إلا إذا كان لها سلطان على الناس يمنعهم من الخروج عليها.

وعلى ضوء ذلك يتبين أنَّ العادة: هي السلوك فعلاً أو قولاً أو تركاً.

والإلزام: هو السلطان الذي يلزم الناس باتباعها والقيام بترتيب آثارها ونتائجها, فيتكون العرف من ركنين أساسيين:

أحدهما مادي: وهو إطّراد العمل بسُنَّة معينة والإعتياد عليها.

والآخر معنوي: وهو الإعتقاد في لزوم هذه السنة وعدم جواز الخروج عنها.

ومن باب التسامح كثيراً ما يطلق الفقهاء لفظ العرف ويريدون به الناس أو يفسرونه بالناس, وهم يعنون العادة المرعية المشار إليها.

وهذا التعريف العلمي للعرف المشتمل على عنصري العادة والإلزام عام يشمل الأعراف الصحيحة والأعراف الفاسدة.

ومن أجل إخراج القسم الثاني لا بُدَّ من إضافة عنصرين آخرين إليهما, وهما: عنصر الإمضاء, وعنصر عدم المخالفة على ما سيأتي بيانه في ذكر التقسيمات الفقهية للعرف وبيان الرأي

ص: 88

الفقهي فيه, وبهما تتمّ مقومات العرف فقهياً, وحينئذٍ يتم استخلاص التعريف الفقهي له واختصاصه بالصحيح فقط.

ثم إنَّ الكلام يقع في العرف في القانون, وفي الفقه السني, وفي الفقه الإمامي ثالثاً.

العرف في القانون

اشارة

أولاً: العرف في القانون.

ذكرنا أنَّ العرف في القانون المدني له أهمية كبيرة, لأنَّه المصدر الوحيد للتشريعات الوضعية ولذلك عدَّه علماء القانون من أقدم مصادره, فقالوا: إنَّه في الجماعات الأولى قبل نشوء الدولة ووجود هيئة تشريعية اضطرَّ الأفراد تحت ضغط الحاجات والظروف إلى إيجاد قواعد تسدّ مطالبهم الإقتصادية وحاجاتهم الإجتماعية ومشاربهم الخُلُقية.

وليست القوانين المكتوبة الصادرة من الحكام أي القواعد القانونية التشريعية التي يحدثنا التاريخ عنها كقانون حمورابي سنة (2000 قبل الميلاد) والألواح الإثنا عشر الرومانية المعروفة؛ إلا مجرد تدوين لتلك القواعد العرفية التي كان معمولاً بها.

وبعد تقدم الجماعة وتطورها ظهرت مصادر أخرى إلى جانب العرف, كالدين ثم التشريع الذي يحتل الصدارة بالنسبة إلى جميع المصادر, ويقصد به -قانونياً-: إجتهاد المشرعين القانونين في تأسيس القواعد القانونية.

العرف في أصول الفقه السنيّ

ثانياً: العرف في أصول الفقه السنيّ.

ذكرنا بعض تعريفات العرف في أصول الفقه السنيّ, وقلنا أنَّ الشيخ خلّاف قال في كتابه أصول الفقه: (العرف: هو ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك), ولا بُدَّ من تطبيقه على ما ذكرناه وإنْ لم يسلم من الإشكال.

ص: 89

تقسيمات العرف عند أهل السنة.

الأول: قُسِّم العرف في أصول الفقه السُنِّي إلى صحيح وفاسد, والصحيح -كما يُعرِّفه الشيخ خلّاف- (وهو ما لا يعارض دليلاً شرعياً ولا يبطل واجباً ولا يحل محرماً كتعارف الناس تعجيل مقدار من المهر وتأجيل مقدار منه)(1).

ويعرّف الفاسد بأنَّه: (هو ما يعارض دليلاً شرعياً, ويبطل الواجب أو يحلّ المحرم كتعامل الناس بالربا أو المقامرة أو تبرج النساء أو غير ذلك من المنكرات التي اعتادها الناس)(2).

الثاني: تقسيم الصحيح إلى قسمين:

1- العرف العملي: مثل تعارف الناس البيع بالتعاطي.

2- العرف القولي: ويسمى اللفظي أيضاً, وهو مثل تعارف الناس إطلاق لفظ (الولد) على الذكر دون الأنثى.

الثالث: تقسيم العرف إلى قسمين آخرين هما:

1- العرف العام: ويعرّفه الشيخ الزرقاء بأنَّه: (الذي يكون فاشياً في جميع البلاد بين جميع الناس في أمر من الأمور.

ويمثّل له ب-(الإستصناع) في كثير من الحاجات واللوازم من أحذية وألبسة وأدوات وغيرها, فإنَّ الناس قد احتاجوا إليه ودرجوا عليه من قديم الزمان)(3).

2- العرف الخاص: ويعرفّه أيضاً بأنَّه: (الذي يكون مخصوصاً ببلد أو مكان دون آخر, أو بين فئة من الناس دون أخرى, ويمثّل له ب-(عرف التجار) فيما يعدُّ عيباً

ص: 90


1- علم أصول الفقه؛ ص95.
2- المصدر السابق.
3- المدخل الفقهي العام؛ ص848.

ينقص الثمن في البضاعة المبيعة, أو لا يعدُّ عيباً. أو كعرف في بعض البلاد أنْ يكون ثمن بعض البضائع المبيعة بالجملة مقسطاً إلى عدد معلوم من الأقساط).

حكم العرف عند أهل السنة

المعروف عندهم أنَّ العرف في الشرع له اعتبار, بل يعتبرون العرف الصحيح شريعة محكمة.وقد بنى (مالك) كثيراً من أحكامه على عمل أهل المدينة. وأمّا (أبو حنيفة) وأصحابه فقد اختلفوا في أحكامهم تبعاً لاختلاف أعرافهم.

و(الشافعي) لما سكن مصر غيَّر بعض الأحكام التي كان قد ذهب إليها وهو في بغداد, لتغير العرف هناك. ولهذا كان له مذهبان؛ قديم وجديد.

وقال الشيخ خلّاف: (أمّا العرف الصحيح فتجب شرعاً مراعاته في التشريع وفي القضاء, فعلى المجتهد أنْ يراعيه في استنباطه, وعلى القاضي أنْ يراعيه في قضائه ... لأنَّ المقصود من التشريع تدبير شؤون الناس بما يكفل مصلحتهم والعدل بينهم وما دام عرفهم جارياً على فعل أو ترك في تعاملهم ومتّفقاً ومصلحتهم, وليس فيه معارضة الشرع فتجب مراعاته)(1).

فالشارع راعى الصحيح من العرف في التشريع, ففرض الدية على العاقلة, وشرط الكفاءة في الزواج واعتبر العصبة في الولاية والارث.

وعلى ذلك ترى أنَّ في فقه الحنفية أحكاماً كثيرة مبنية على العرف, منها:

* إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما؛ فالقول لمن يشهد له العرف.

* إذا لم يتفق الزوجان على المقدم والمؤخر من المهر؛ فالحكم هو العرف.

* من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً؛ لا يحنث بناءً على العرف.

ص: 91


1- [1]علم أصول الفقه؛ ص95-96.

* المنقول يصحّ وقفه إذا جرى به العرف.

* الشرط في العقد يكون صحيحاً إذا ورد به الشرع, أو اقتضاه العقد, أو جرى به العرف.

وقد ألّف ابن عابدين رسالة في هذا الموضوع سماها (نشر العرف فيما يبنى من الأحكام على العُرف).

ومن العبارات المشهورة في هذا المعنى عندهم:

* المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

* الثابت بالعرف كالثابت بالنص.

* العرف شريعة محكمة.

وسيأتي مناقشة ما ذكروه في البحث الآتي.

العرف عند الإمامية

اشارة

ثالثاً: العرف عند الإمامية.

ذكر علماء الإمامية العرف في كتبهم الفقهية كثيراً, واستعرض الشيخ محمد بن أبي جمهور الاحسائي رحمه الله موضوع العرف في كتابه (الأقطاب الفقهية), فقد تحدث في ضمن القطب الثامن عن العادة وموقف فقه الإمامية منها, ولكنه بعرض مختصر.وقد تناوله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدس سره بالبحث في معرض نقده لبعض القواعد التي تضمنتها (مجلة الأحكام العدلية) وهي:

· العادة شريعة محكمة.

· إستعمال الناس حجة يجب العمل بها.

· المعروف عرفاً كالمشرط شرطاً.

· التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.

· لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان.

ص: 92

وقد أوضح الرأي الإمامي في هذه القواعد التي حررها بما يلتقي وقواعد الفقه عند الإمامية.

وقد استعرض السيد محمد تقي الحكيم قدس سره العرف في صدد بيان أدلة الأحكام وناقش الرأي السني في التأصيل والتفريع. وتعرض غيرهم من علماء الإمامية إلى العرف في الفكر الإمامي وفرَّقوا بين الرأي السني والرأي الإمامي في مجال الحجية والإعتبار.

وتحقيق الكلام في ذلك يقتضي البحث عن نقاط مهمة تمسّ الموضوع الذي نبحث فيه, وهي:

الموارد التي يرجع فيها إلى العرف

النقطة الأولى: الموارد التي يرجع فيها إلى العرف, وهي:

· المورد الأول: تعيين الأحكام

لا ريب أنَّ الرجوع إلى العرف باعتباره دليلاً يستفاد منه الحكم الشرعي على القول به لا بُدَّ أنْ يكون في الموارد التي لم يرد فيها نص شرعي يبين الحكم ويوضحه, وإلا فلا مجال للرجوع إلى العرف فيها, والظاهر أنَّ هذا مورد الإتّفاق بين الجميع.

وأمّا الموارد التي لم يرد فيها نصٌّ شرعي كذلك مثل عقد الإستصناع وعقد الفضولي فإنَّ العرف لا ينهض دليلاً في رأي الإمامية إلا في موردين:

أحدهما: إذا ارتفع العرف إلى بناء العقلاء الكاشف عن رأي المشرع الإسلامي الذي هو سيد العقلاء ورئيسهم.

والآخر: الإرتفاع إلى السيرة القطعية المتَّصلة بعصر التشريع الإسلامي الكاشفة عن إمضاء المُشرِّع الإسلامي.

وحينئذٍ يدخل العرف في هاتين الحالتين تحت عنوان السنّة؛ التي هي أحد مصدري التشريع كما تقدم بيانه.

وعليه؛ فليس العرف بنفسه عند الإمامية دليلاً شرعياً يستفاد منه الحكم.

ص: 93

· المورد الثاني: في تعيين مفاهيم الموضوعات الشرعية

لا ريب أنَّ المفاهيم التي ورد النص الشرعي في تعيينها وتحديدها لا مجال للرجوع إلى العرف فيها بعد التعبد الوارد من الشرع, وهو أيضاً متّفق عليه عند الجميع.

وأمّا إذا لم يرد في تشخيص المفاهيم نص شرعي يحددها مِمّا يدل على أنَّ المشرع الاسلامي أَوكَلَ أمر تحديدها إلى العرف باعتبار كونها مفاهيم عرفية, مثل: (الصعيد) و(القرء) وغيرهما مِمّا أخذ في لسان الأدلة موضوعاً لحكم شرعي.

ففي مثل هذه الموارد يقول ابن أبي جمهور الأحسائي قدس سره: (وحكم العادة عُمل به كثيراً, إذ عادة الشرع ردّ الناس فيما لم يرد فيه نص إلى عرفهم وعاداتهم, كالمكيال والميزان والعدد). وهو يعني أنَّ في الموضوعات التي لم يرد فيها نصّ من الشرع يحدد معناها ومفهومها فإنَّه يرجع فيها إلى العرف, كما في تشخيص مفهوم الغناء, وتعيين وحدات الوزن والكيل ونظائرهما, وقال السيد محمد تقي الحكيم: (والظاهر أنَّ بعض الأحكام إنَّما وردت على موضوعات عرفية, فتشخيص مثل هذه الموضوعات مِمّا يرجع به إلى العرف)(1).

والظاهر أنَّه لا اختلاف بين الرأي الإمامي والرأي السني في مثل هذا القسم, وكثيراً من الأمثلة التي ذكرت في الفقه السني ترجع إليه. وفي هذا القسم يتحقق تفاوت الأحكام بتفاوت موضوعاتها الناشئ من اختلاف الأعراف باختلاف الأعصار والأمصار والبيئات.

ومن هذا القسم مصاريف الزكاة التي ذكرتها الآية المباركة(2), فإنَّ أكثر موضوعاتها عرفية. فالفقير-مثلاً- هو الذي لا يملك قوت سنته قوة أو فعلاً, فإنَّه تتفاوت مصاديقه بتفاوت الأعراف في تحديد القوت.

ص: 94


1- الأصول العامة في الفقه المقارن؛ ص422.
2- قال تعالى:(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة؛ الآية 60].

كذلك الأمر في (سبيل الله) فإنَّه يتفاوت بتفاوت درجات ثقافة الأمة وحضارتها ومستواها, فإذا كانت الأمة تحتاج إلى قناة فضائية مثلاً أو مركبة فضائية لضرورتها الحضارية التي لا تتنافى مع الشريعة, أو التي تستخدم لخدمة الدين, أو تستخدم برامجه في خدمة الإنسان ورفع مستواه الخُلُقي والإجتماعي الذي تدعو إليه الشريعة في تعاليمها, فإنَّه لا ينبغي شك في أنَّ ذلك من مصاديق سبيل الله الذي هو أحد مصاديق الأموال الزكوية, الذي هو عنوان عام شامل يسدّ كلّ حاجة عامة مشروعة.

والظاهر أنَّ العرف الذي يكون مرجعاً في هذا المجال إنَّما يرجع إلى كشف السيرة القطعية عن وقوع هذا الإعتبار تحت إقرار المشرع الإسلامي.· المورد الثالث: العرف الذي يرجع إليه لاستكشاف مرادات المكلفين عند إطلاقهم الألفاظ؛ سواء كان المتكلم هو الشارع أم غيره

وتحت هذا القسم تنتظم مرادات الشارع بالنسبة إلى الدلالة المطابقية أو الإلزامية بالنسبة إلى كلامه إذا كان منشأ الدلالة الملازمات العرفية؛ كحكم الشارع بطهارة الخمر إذا انقلب إلى خلّ, الملازم عرفاً للحكم بطهارة أطراف إنائه.

كما أنَّه ينتظم في هذا المورد كلّما يصلح أنْ يكون قرينة على تحديد المراد من كلامه, وهكذا. وأمّا بالنسبة إلى استكشاف مرادات الناس فيدخل ضمن هذا القسم كلّ ما يرجع إلى أبواب الإقرار والوصايا والشروط والوقوف وغيرها إذا استعملت بألفاظ لها الدلالات العرفية, سواء كان العرف عاماً أم خاصاً.

يقول الشيخ كاشف الغطاء: (نعم يمكن أنْ تكون العادة قرينة ينصرف إليها الإطلاق في مقام المعاملات والاستعمالات فيحمل عليها كلام المتعاقدين لتعيين الموضوع لا الحكم, مثلاً لو كان من عادة بلد أنَّ الحمّال يحمل المتاع إلى باب الدار, فاستؤجر حمال فلا حقَّ

ص: 95

للمستأجر مطالبته بإدخال المتاع إلى داخل الدار. ولو انعكس الأمر كان له المطالبة وإنْ لم يشترط ذلك في العقد. فالعادة قرينة تقوم مقام اللفظ في تعيين المراد.

ولعل إلى هذا ترجع أيضاً قضية العرف العام والعرف الخاص, وإنَّ كلام المتكلمين يحمل على العرف العام أو العرف الخاص, وإنَّه لو تعارض العرف العام والخاص فإيّهما المقدم؟ إلى كثير من المباحث المحررة عند الأصوليين مِمّا لا طائل تحته؛ فإنَّ الإستعمالات الشخصية تختلف باختلاف الموارد, وليس هناك قاعدة كلية مطَّردة بتقديم أحدهما على الآخر, بل اللازم النظر في كل مورد وقع الشك فيه أنْ يرجع إلى الأصول اللفظية المقرّرة في تعيين المراد, فإنْ تعارضت فإلى الأصول الحكمية من البراءة والإستصحاب).

· المورد الرابع: العرف الذي يرجع إليه لاستكشاف ما يمكن الإحتجاج به

وهو بناء العرف العام كالظواهر والأخذ بقول الثقة أي ما يستكشف به الحجة الأصولية(1). وهذا القسم أيضاً لا يرقى العرف فيه إلا إذا ارتفع إلى مستوى بناء العقلاء.

ويمكن أنْ يكون الفرق بين هذا القسم والقسم الأول بأنَّ هذا القسم يشير إلى الأصول المستكشفة, بينما يركز الأول على الفروع الفقهية, ويمكن جمعهما تحت عنوان واحد.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ العرف الذي يعتمد عليه في بعض الموارد التي تقدم بيانها إنَّما يصح:

* إذا كان العرف يرجع إلى السيرة القطعية أو بناء العقلاء كما في المورد الأول والمورد الثاني والمورد الرابع.

* إمضاء الشارع المقدس له بإقراره وعدم الردع عنه ليدخل تحت السنة التقريرية.

* عدم مخالفته لما هو ثابت في الشرع الحنيف.

وقد بيَّنا ذلك فيما تقدم ذكره في التعريف؛ فراجع.

ص: 96


1- الأصول العامة في الفقه المقارن؛ ص423.
تحديد دلالة العرف

النقطة الثانية: في تحديد دلالة العرف.

إختلف علماء أهل السنة في أنَّ العرف أصل من أصول الفقه مستقل بذاته أو أنَّه مندرج ضمن أصول أخرى, على أقوال:

1- إنَّه دليل وأصل مستقل بذاته.

2- ردُّه إلى الإجماع.

3- ردُّه إلى الإستحسان.

4- ردُّه إلى المصلحة المرسلة؛ وهو الرأي المشهور بينهم.

ولمعرفة هذه الأقوال وما قيل فيها يرجع إلى الكتب المفصلة, لا سيما (البحث الفقهي) للدكتور محمد جبر الألفي عن العرف(1).

ونحن نذكر بعض الأدلة على القول الأول على نحو الإجمال, فقد استدلُّوا عليه بوجوه:

الوجه الأول: حديث عبد الله بن مسعود: (ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن)(2) وعقَّب السرخسي عليه بقوله: (وتعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول).

ويرد عليه: أولاً: إنَّ الحديث مقطوع لا اعتبار به, لاحتمال كونه قولاً لابن مسعود لا أنْ يكون رواية عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم .

ثانياً: إنَّ العرف لا ربط له بعالم الحسن لعدم ابتنائه عليه غالباً, فإنَّه قد يكون عرفاً غير معلّل لدى الناس أي لم يدرك العقل وجه حسنه, فيكون الدليل أضيق من المدَّعى.

ثالثاً: إنَّه ليس كلّ حسن عند الناس هو حسن واقعاً أو شرعاً, وإنْ كان العمل به حسناً مداراة أو مجاملة مع أبناء الجنس الواحد أو أبناء قومه ووطنه.

ص: 97


1- المنشور في العدد الخامس من مجلة مجمع الفقه الإسلامي لسنة 1409ه- -1988م؛ ص3273- 3276.
2- مسند الدارمي (سنن الدارمي)؛ ج1 ص82.

الوجه الثاني: ما ذكره بعضهم من أنَّ ما يتعارفه الناس من قول أو فعل يصير من نظام حياتهم وحاجاتهم.

ويرد عليه بأنَّه لا يصلح دليلاً لاستكشاف الحكم الشرعي منه, فإنَّه ليس من الأدلة ما يسمى بنظام الحياة فإنَّه يحتاج إلى إمضاء شرعي, إذ كم من عادة قدحكم الإسلام ببطلانها واستأصلها من المجتمع وبقيت أخرى يعاني المجتمع الإسلامي منها.

الوجه الثالث: إنَّ المشرع الإسلامي في تشريعاته قد راعى العرف في بعض أحكامه, كوضع الدية على العاقلة, واشتراط الكفاءة في الزواج ونحو ذلك.

ويرد عليه ما ذكرناه آنفاً على الوجه السابق من أنَّه إذا رجع إلى السيرة القطعية فإنَّ الشارع قد أمضاها فتكون حجة من جهة السُنَّة التقريرية كما عرفت سابقاً؛ فراجع.

أمّا عند الإمامية, فقد عرفت أنَّ العرف ليس بأصل مستقل بذاته, إذ لم يرد ما يدلُّ على ذلك.

وحينئذ فإنَّه إمّا أنْ يُرَدُّ إلى بناء العقلاء, أو يُرَدُّ إلى السيرة القطعية. وحينئذٍ لا يكون دليلاً مستقلاً, فنكون نحن معاشر الإمامية في غنى عن إثارة البحث في أدلَّة حجيته.

ولا خلاف في ثبوت كشف بناء العقلاء والسيرة القطعية عن السُنَّة الشريفة, وقد بحث الأصوليون عن حُجّيَّتَيهما في أصول الفقه فراجع.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ ما ذكره علماء القانون, وفقهاء الجمهور في هذا الموضوع لم يستند إلى دليل يصح الإعتماد عليه وما ذكروه قابل للمناقشة.

بيان النتيجة التي يمكن تحصيلها من البحوث السابقة

النقطة الثالثة: في بيان النتيجة التي يمكن تحصيلها من البحوث السابقة.

أولاً: إنَّ الفكر الإمامي يقسم العرف إلى:

1- عام؛ وهو عرف أبناء المجتمع عامة على اختلاف طبقاتهم ومميزاتهم.

2- خاص؛ وهو عرف أهل الخبرة في كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة.

ثانياً: العرف يعني العادة الإجتماعية الملزمة والمقررّة شرعاً.

ص: 98

ثالثاً: العرف عند الإمامية إنَّما يُرجع إليه في تشخيص الموضوعات التي لم يرد في الشرع ما يحدِّدها أو كلّ ما أَوكَلَ الشرع تحديدها إلى العرف؛ كما تقدم بيانه.

رابعاً: إنَّما يرجع العرف بصفته قرينة في تعيين مرادات المتكلمين.

خامساً: إنَّما مثل هذا العرف يعتمد عليه في مجال المعاملات المالية, والإقتصاد الإسلامي؛ كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

سادساً: إذا اختلفت الأعراف في الموارد التي يُرجع فيها إلى العرف كما بيَّناه فإنَّه يُرجع إلى العرف العام إنْ كان, وإلا يرجع إلى العرف الخاص في ذلك المجال. وإنْ لم يكن؛ فالمرجع الأصول الحكمية من البراءة أو الإستصحاب.

سابعاً: ذكرنا في أول بحث العادة والعرف أنَّهما أساس القانون الإقتصادي, وإنَّهما يختلفان عندهم زماناً ومكاناً وليس لهما إستقرار دائماً, بل ربَّما يختلف العرف حسب المصالح الإقتصادية والأغراض المالية عندهم.وعليه؛ لا بُدَّ من تحقيق الأمر في مثل هذه الأعراف الإقتصادية وتطبيقها على ضوابط الشرع الحنيف. ومن أمثلة ذلك: النقد الذي جرت العادة والعرف على ربطه بالذهب, ثم تبدلت هذه العادة في سياسات الدول.

هذا ما أردنا ذكره في بحث العرف, والتفصيل مذكور في أصول الفقه.

عمومية الأحكام الشرعية لجميع أفراد الإنسان, وشموليتها لجميع حالاتهم

من البحوث المهمة في الفقه الإسلامي إثبات تعميم الأحكام الشرعية لكلِّ أفراد الإنسان وشموليتها لجميع حالاتهم؛ فإنَّ عظمة التشريع الإلهي تظهر في مثل ذلك, وقد عبّر الفقهاء عن ذلك ب-(قاعدة الإشتراك).

وقبل الدخول في البحث عنها لا بُدَّ من بيان أمر يعتبر الأساس في التشريع الإلهي؛ وهو أنَّ الله تعالى لما خلق الإنسان وقد تعلقت إرادته الأزلية أنْ يكون خليفته في الأرض,

ص: 99

وتعتبر الخلافة من أهم المهام وأعظمها التي حملها الإنسان, وهي الأمانة الكبرى التي تميَّز بها عن سائر مخلوقات الله عَزَّ وَجَلَّ, وإنْ كان الإنسان قد جهل بأنَّها عظيمةٌ آثارها, وإنَّها من أعظم الكمالات التي ينبغي الإتّصاف بها؛ لما لها من الأثر الكبير في حياته المادية والمعنوية, وهذه المنزلة الرفيعة لا يمكن أنْ تحلّ في فرد إلا إذا كان فيه الإستعداد الخاص لتحملهّا والقابلية الكاملة لها.

فإنَّ في هذه الخلافة ظهرت عظمة الخالق في خلقه للإنسان , فقد خلقه مؤهلاً لنيل هذه الموهبة الإلهية, وهذه الأهلية لم تكن محددة بجانب معين, بل شملت جميع الجوانب التي لها الدخل لمثل هذه المنزلة العظيمة وهي الخلافة الإلهية. ومن تلك المؤهلات أنَّ الإنسان تشرف بأنْ وقع مورد عناية البارئ؛ فجعله محوراً لتكاليفه الشرعية, وخوطب بالتشريعات الإلهية التي لم يكن الغرض منها إلا جعله في سلم الكمال, والفوز بالسعادة العظمى, والإبتعاد عمّا يزاحمه في ذلك فيما إذا وقع الإنسان في صراع مع قوى الشر, وإبعاده عن الشقاء والخسران.

فالإنسان هو محور الكمالات التي منها التكاليف الشرعية, وقد تعلقت به من حيث هو إنسان؛ من دون النظر إلى الأفراد المتفاوتين في الخلقة والصفات والنفسيات والحالات, فهو موضوع تلك العناية الإلهية, وهو محور التشريعات؛ ومن أجله شرَّعها الله تعالى.

وعلى هذا الأساس اعتمد الفقهاء في تأسيس قاعدة الإشتراك المعروفة عندهم والتي لها تطبيقات متعددة:

1- إشتراك النساء مع الرجال في الأحكام الإلهية.

2- إشتراك الغائبين مع الحاضرين في مجلس الخطاب.

3- إشتراك الكفار مع المسلمين في الخطابات الشرعية.وقد بحث الفقهاء عن كلِّ واحد منها في مواضع متعددة في الفقه وأصوله, ونحن في المقام نبحث عن الأول والثاني, وأمّا الثالث فيأتي البحث فيه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 100

قاعدة الإشتراك

اشارة

وهي من القواعد المعروفة عند العلماء ولا يسع لأحد إنكارها ولو لم يكن دليل خاص عليها, إلا أنَّ البحث يقع في أنَّه هل نحتاج إلى هذه القاعدة في تعميم الأحكام بعد ما ذكرناه آنفاً؛ إلا ما يقال من أنَّه لو لم نقل بالإشتراك لاستلزم فقدان الشريعة حيويتها وديمومتها وتأثيرها في المجتمع الإنساني.

وهو مِمّا لا يمكن إنكاره, لأنَّه من القضايا التي قياساتها معها.

أو نقول بأنَّ الخطابات الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية التي يرد الحكم فيها على الطبيعة المرسلة الجارية على جميع وجوداتها, فيشمل الحكم فيها جميع من ينطبق عليه عنوان الموضوع في عرض واحد وبملاك واحد, وهذ هو المستفاد من ظواهر الأدلة.

وحينئذٍ لا مُلزم للرجوع إلى قاعدة الإشتراك في تعميم الأحكام إلا إذا قلنا بأنَّ الخطابات الشرعية من قبيل القضايا الشخصية التي تختص بمواردها فنحتاج للتعميم إلى قاعدة الإشتراك؛ ولعلّ ذكر الفقهاء لها لأجل كون نظرهم إلى ذلك كما احتمله بعضهم, ولكنه بعيد ثبوتاً وإثباتاً.

ثم إنَّ الكلام حول هذه القاعدة يقع ضمن أمور:

دلالة القاعدة

الأمر الأول: في دلالة هذه القاعدة.

الخطابات الشرعية تكون على نحوين:

1- أنْ تكون على نحو العموم؛ بحيث يشمل جميع الأفراد مِمَّن ينطبق عليهم عنوان الخطاب كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)(1).

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)(2).

ص: 101


1- سورة الحج؛ الآية 1.
2- سورة البقرة؛ الآية 183.

وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً)(1).

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(2).

وكقول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)(3). ونحو ذلك.

ولا ريب أنَّ موضوع هذه الخطابات إما أنْ يكون الإنسان أو المؤمن من دون اختصاص بطائفة معينة, وإذا ذكرت فيها صفة فإنَّما تكون للتشريف؛ كخطاب أهل الأيمان. وفي مثل هذا النوع من الخطاب يكفيالرجوع إلى دليله لتعميم الحكم من دون حاجة إلى الرجوع إلى قاعدة الإشتراك.

2- أنْ يكون الخطاب موجهاً إلى شخص خاص أو طائفة معينة, أو متعلقاً بمورد ومعين. ومثل هذا النوع كثير في الأخبار؛ بل إنَّ أغلبها وردت في موارد أسئلة السائلين, مِمّا يستلزم إختصاص دليل ذلك الحكم بالمخاطبين, فإذا أردنا تعميمه ليشمل غير المخاطبين فلا بُدَّ من التمسك بقاعدة الإشتراك ليكون المراد أنَّ كلَّ فرد يكون مصداقاً لما أُخذ موضوعاً لذلك الحكم, فيكون المراد من ذلك الخطاب بعد الرجوع إلى قاعدة الإشتراك أنَّ الحكم الذي رُتِّب على مصداق معين أو موضوع خاص إنَّما يشمل جميع من ينطبق عليه ذلك العنوان أو الموضوع فلم يختص بمن توجه إليه الخطاب أو من يكون موجوداً في زمن الخطاب, بل كلُّ مكلف حسب حالاته وصفاته, فإنَّ الأحكام تختلف باختلافها كما هو معلوم.

ص: 102


1- سورة آل عمران؛ الآية 97.
2- سورة الحجرات؛ الآية 13.
3- بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج79 ص335, وغيره من كتب الحديث.

وذلك لا ينافي إختصاص بعض الأحكام ببعض الأفراد إذا قام الدليل عليه فإنَّ المراد بالإشتراك هو أنَّ الخطاب توجه إلى طبيعة المكلفين والأفراد مصاديق لها, وهو لا ينافي أنْ يتقيد موضوع الحكم ومتعلقه ببعض القيود أو يكون متَّصفاً ببعض الصفات فإنَّ ذلك لا يضرّ بالمطلق لأنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد وهي تختلف باختلاف القيود والصفات والطبايع والحالات التي تعرض على المكلفين, ومع ذلك فإنَّها لا تضّر بتعميم الحكم ليشمل كلّ من يتصف بها.

الدليل على القاعدة

الأمر الثاني: الدليل على هذه القاعدة

قد استُدلَّ على قاعدة الإشتراك بوجوه:

1- الإجماع القطعي على إشتراك الجميع في الأحكام, ولو كان الحكم متوجهاً إلى بعض آحاد المكلفين, وعلى ذلك عمل الفقهاء بأجمعهم فإنَّهم يستدلون بالخطابات الشرعية لتثبيت الأحكام مطلقاً من دون نكير من أحد فإذا وردت رواية يخاطب الإمام علیه السلام فيها أحد السائلين بقوله: (إغتسل), أو (أعدَّ الصلاة), ونحو ذلك فإنَّهم يعممّون الحكم لغيره بلا توقف منهم.

فإنَّ هذا الإطباق منهم على العمل يكشف كشفاً قطعياً عن رأي المعصوم علیه السلام على اتّحاد جميع المكلفين في الأحكام الشرعية فيكون متعلق الحكم هو الإنسان المتَّصف بشروط معينة كالعقل والإختيار والبلوغ وغير ذلك؛ بلا إختصاص له بزمان معين أو مكان كذلك.

وهذا هو المراد من الإشتراك, ومن أجله تمسك الفقهاء بعموم الخطاب وإطلاقه في جميع الموارد إلا إذا دلَّ دليل خاص على خلاف ذلك.

ص: 103

2- إرتكاز عامة المسلمين بل العقلاء بأنَّ حكم الله في واقعة حكمٌ للجميع, وعلى هذا الإرتكاز جرى عمل العلماء على تعميم الخطابات الشرعية وإنْ كانت واردة في واقعة معينة أو متوجهة لشخص خاص, فلم يحتمل أحد منهم بأنَّ الخطاب يختص بالسائلين أو الحاضرين في مجلس الخطاب. وهذا الإرتكاز العقلائي يكشف كشفاً قطعياً عن إمضاء صاحب الشرع له, وإلى ذلك يشير قول بعض المحققين من أنَّ القول باختصاص الأحكام بالحاضرين في مجلس الخطاب أو الموجودين في عصر المعصوم علیه السلام هدم لأساس الدين, لأنَّ القول بالإختصاص يستلزم أنْ يكون الغائبون مطلقاً لا حكم لهم وهو باطل بالضرورة, ومن ذلك يظهر أنَّ ادّعاء الضرورة على التعميم أيضاً صحيحٌ لا إشكال فيه.

3- الأخبار؛ وهي متظافرة منقولة عند الفريقين -أهل السنة والشيعة الإمامية- تدلُّ على إشتراك جميع المسلمين بكلِّ أصنافهم بل جميع أفراد الإنسان في الأحكام الشرعية إلا ما خرج بالدليل الخاص؛ نذكر بعضاً منها:

أ- ما رواه الكليني قدس سره في الكافي بسنده إلى أبي عمرو الزهري عن أبي عبد الله علیه السلام في حديث طويل قال علیه السلام : (لِأَنَّ حُكْمَ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَوَّلِينَ والآخرينَ وفَرَائِضَهُ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ إلا مِنْ عِلَّةٍ أَوْ حَادِثٍ يَكُونُ والْأَوَّلُونَ والآخرونَ أَيْضاً فِي مَنْعِ الْحَوَادِثِ شُرَكَاءُ والْفَرَائِضُ عَلَيْهِمْ وَاحِدَةٌ يُسْأَلُ الآخرونَ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ عَمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ الْأَوَّلُونَ ويُحَاسَبُونَ عَمَّا بِهِ يُحَاسَبُونَ)(1), وهو يدلُّ على أنَّ جميع أفراد الأولين سواء في حكم الله عَزَّ وَجَلَّ مع كلّ واحد من الآخرين, وجميع الفرائض على الأولين والآخرين واحدة, فإنَّ جميع الأمة من الأولين والآخرين في حكم الله واحد.

ص: 104


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج11 ص23.

ب- ما رواه الكليني قدس سره أيضاً في الكافي عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: (حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(1), ودلالته على إشتراك جميع الناس في أحكام شريعته صلی الله علیه و آله و سلم واضحة, فإنَّ بقاء حلاله وحرامه إلى يوم القيامة وفي جميع الأزمنة يلازم كون شريعته لم تُنسخ كما يلازم كون الناس سواء فيها, وإذا دلَّ الحديث على اتّحاد أهل الزمان المتأخر مع أهل الزمان السابق في الحكم فهو يدلُّ على إشتراك أهل زمان واحد في الحكم بطريق أولى, فإنَّ مرجع ذلك إلى إلغاء الخصوصيات الزمانية ومشخصات أفراد المكلفين فيكون كلّ مكلف هو الموضوع.ومن ذلك يظهر بطلان ما يمكن الإشكال عليه بأنَّ الحديث يدلُّ على عدم نسخ شريعة خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم لا على اشتراك الأمة في الأحكام.

أو ما يقال بأنَّه على اشتراكهم في الحلال والحرام دون سائر الأحكام.

وهذان القولان غريبان في حدِّ نفسيهما؛ فإنَّهما كناية عن مطلق الأحكام, مع أنَّ الحلال والحرام يستوعبان سائر الأحكام كما هو واضح.

ج- الحديث المشهور عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : (حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ)(2), فإنَّه يدل على أنَّ حكمه صلی الله علیه و آله و سلم -الذي هو حكم الله تعالى- على أحد المسلمين حكمٌ على الجميع, فإنَّ الكلَّ في الحكم سواء.

د- قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المعروف: (فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)(3), ولا ريب في دلالته على إشتراك الغائبين مع الحاضرين في مجلس الخطاب, وإذا أردنا الشهود والغيب

ص: 105


1- الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص85. وفي وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج18 ص124.
2- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج18 ص124. وفي بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج1 ص58.
3- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج5 ص235.

بالمعنى الأعم فإنَّه يشمل الحاضرين في عصره صلی الله علیه و آله و سلم والغائبين الذين سيوجدون بعد عصره. فالحديث عام يشمل الغائب عن مجلس الخطاب, والغائب عن عصر الحكم فيشمل المعدومين, فيعمّ جميع المسلمين, كما هو الظاهر.

ه- ما رواه الكليني قدس سره في الكافي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنَّه قال: (أُوصِي الشَّاهِدَ مِنْ أُمَّتِي وَالْغَائِبَ مِنْهُمْ وَمَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يَصِلَ الرَّحِمَ)(1), والحديث وإنْ كان وراداً في صلة الرحم -سواء على نحو الوجوب أم الإستحباب-, ولكنه يشمل جميع الأحكام الشرعية والفرائض الإلهية لعدم القول بالفصل, إمّا لوحدة الملاك وهو الإهتمام بصلة الرحم فإنَّه موجود في غيرها من الأحكام, وإمّا من أجل أنَّ سياق الحديث يدلُّ على إشتراك الأمة في الأحكام الشرعية, فيكون نظير قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(2).

وغير ذلك من الأخبار المستفيضة إنْ لم نقل بتواترها, ويمكن دعوى القطع بصدورها, وهي تدلُّ على قاعدة الإشتراك؛ فلا وجه للمناقشة في سند بعضها.

تطبيق القاعدة

الأمر الثالث: في تطبيق هذه القاعدة

لا إشكال في أنَّ هذه القاعدة بعد تمامية دلالتها تشمل جميع الأحكام الشرعية, فتجري في كلِّ مسائل الفقه وفروعه؛ فإنَّه لو لاحظنا دليل كلّ فرع فقهي نرى أنَّه يختَّص بشخص معين أو قوم كذلك, فلا بُدَّ من تعميم الحكم إلى غيرهم من الرجوع إلى قاعدة الإشتراك, فتكون موارد تطبيقها كثيرة لا تعدُّ ولا تحصى,ولوضوح ذلك لم يستدلّ الفقهاء بهذه القاعدة في تعميمهم للأحكام في كلِّ تلك الفروع.

ص: 106


1- الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص151.
2- سورة النساء؛ الآية 11.
موارد انتقاض القاعدة تخصيصاً أو تخصصاً-

الأمر الرابع: ذكر الفقهاء أنَّ هذه القاعدة قد انتقضت -تخصيصاً أو تخصصاً- في موارد كثيرة نذكر بعضها:

منها: مسألة الجهر والإخفات في الصلوات الجهرية؛ فإنَّه يجب على الرجل الجهر فيها, وعلى المرأة الإخفات.

ومنها: مسألة الوضوء؛ فإنَّه يستحب على الرجل صبُّ الماء ابتداءً على ظهر اليد, والمرأة عكس ذلك, كما هو مقتضى حديث محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال: (فَرَضَ الله عَلَى النِّسَاءِ فِي الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ أَنْ يَبْتَدِئْنَ بِبَاطِنِ أَذْرُعِهِنَ، وَفِي الرِّجَالِ بِظَاهِرِ الذِّرَاع)(1).

ومنها: الستر في الصلاة؛ فإنَّه يجب على الرجل ستر العورتين فقط, وعلى المرأة ستر تمام البدن ما عدا الوجه والكفين وظاهر القدمين.

ومنها: جواز إمامة الرجل في الصلاة للمرأة, وعدم جواز إمامتها للرجل.

ومنها: جواز لبس المرأة الذهب والحرير في الصلاة وغيرها, ويحرم لبسهما على الرجل مطلقاً.

ومنها: إختلافهما في حال الإحرام؛ حيث يجوز للمرأة التظليل ولبس المخيط دون الرجل.

ومنها: إختلافهما في صلاة الجمعة والجهاد؛ فإنَّهما يجبان على الرجل بالشروط المقررة, ولا يجبان على المرأة.

ومنها: إختلافهما في قبول توبة المرتد إذا كان الإرتداد عن فطرة, فإنَّ توبة الرجل لا تقبل من حيث الأمور الثلاثة؛ القتل, وتقسيم تركته, وإبانة زوجته, بخلاف المرأة فإنَّ توبتها تقبل مطلقاً.

ص: 107


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج7 ص328.

ومنها: إختلافهما في بعض الحدود؛ فإنَّ على الرجل الجزّ والتغريب في الزنا دون المرأة.

ومنها: إختلافهما في تقدير الديَّة.

ومنها: إختلافهما في الإرث وتقسيم التركة.

إلى غير ذلك من الأحكام التي لم تكن المرأة مشاركة مع الرجل فيها, وهي كثيرة مذكورة في مواضع متعددة في الفقه. وإنْ كانت هذه الموارد التي خرجت عن تلك القاعدة تختلف من حيث أنَّ خروجها إمّا أنْ يكون على نحو التخصيص, وعليه؛ فإنَّ عموم القاعدة ينخرم لأنَّ الخروج حكمي. وإمّا أنْ يكون على نحوالتخصص فلا ينخرم عمومها للخروج الموضوعي, وهنا بحث طويل مذكور في محله؛ فراجع.

قاعدة تكليف الكفار بالفروع

المشهور المعروف(1) تكليفهم بالفروع؛ بمعنى إطلاق التكاليف بالنسبة إلى الكفار, فلم يكن تشريعها بالنسبة إليهم مشروطاً بالإيمان كاشتراط الحجّ بالإستطاعة.

نعم؛ صحة العبادات منهم مطلقاً مشروطة بالإيمان, وأمّا الأمور الأخرى كالتبرعات والصدقات المندوبة, والخيرات ونحوها فلم يشترط لا في صحتها ولا في قبولها الإيمان, فيترتب عليها الأجر كما يستفاد من بعض الروايات.

وعليه؛ فإنَّ الكافر يستحق العقاب على تركه الواجبات وارتكابه المحرمات زائداً على ما يستحقه من العقاب على تركه الإسلام.

واستدلُّوا على ذلك بأمور:

الأول: الإجماع على كونهم مكلفين بالفروع, وقد ادَّعى المحقق الهمداني قدس سره في مصباحه استفاضة نقله.

ص: 108


1- وهو القول الأول في المسألة.

الثاني: عموم أدلَّة التكاليف الشامل للكفار أيضاً, حيث لم يقيد الأوامر والنواهي الواردة فيها بالإسلام بحيث يكون قيداً في طلبها, كقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(1). وغير ذلك من النصوص القرآنية والسنة الشريفة.

الثالث: خصوص قوله تعالى: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ«43» وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)(2).

وقوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ«6» الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)(3). وغيرهما.

فإنَّ تعليل عذاب المشركين بتركهم الصلاة, وعدم الإطعام المفسَّر بترك الزكاة, وكذا ثبوت الويل لهم مِمّا هو دليل على تكليفهم بالفروع.

وقوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ«92عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»)(4), فإنَّه يدلُّ على سؤالهم عن أعمالهم التي لم توافق أحكام الشرع التي كلفوا بها.

الرابع: إنَّهم لو لم يكونوا مكلفين بالفروع, وكانوا مِمَّن رُفع قلم التكليف عنهم لكانوا كالبهائم والمجانين, وكانت المحرمات والواجبات مباحة في حقِّهم, ولما صحَّ مسائلتهم ومؤاخذتهم على أعمالهم؛ وهذا باطل.

وقد يستشكل عليه بأنَّ تكليفهم بالإيمان يكفي في إخراجهم من البهائم وكونهم مرفوعاً القلم عنهم.

الخامس: إنَّ كثيراً من الأحكام مِمّا يدركها العقل وهو يحكم بعمومها لكلِّ مكلف, وعدم اختصاصها بصنف معين.

ص: 109


1- سورة التوبة؛ الآية 103.
2- سورة المدثر؛ الآيات 43-44.
3- سورة فصلت؛ الآيات 6-7.
4- سورة الحجر؛ الآيات 92- 93.

السادس: الأخبار؛ لا سيما تلك التي وردت في الأحكام الضرورية, كالصلاة والصيام والحج والزكاة كونها مِمّا افترضها الله تعالى على العباد كافة. وهي روايات مستفيضة؛ منها: معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السلام قال: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي عَنِ الدِّينِ الَّذِي افْتَرَضَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ مَا لَا يَسَعُهُمْ جَهْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرُهُ مَا هُوَ؟ فَقَالَ لَهُ: أَعِدْ عَلَيَّ فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَحِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ سَكَتَ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ: وَالْوَلَايَةُ، مَرَّتَيْنِ)(1), وغيرها من الأخبار التي يستفاد منها أنَّ مثل هذه الفرائض المهمة في الشريعة قد أوجبها الشارع على كلِّ من أمره بالإسلام, ولا ريب أنَّ وجوبها على عامّة المكلفين ومنهم الكفار يستدعي وجوب مقدماتها؛ كالوضوء والغسل في الصلاة وغيرها كما لا يخفى.

القول الثاني: عدم تكليف الكفار بالفروع

وقد اختاره جمعً من الفقهاء, وقالوا بعدم تكليف الكفار إلا بالأصول, ومنهم المحقق البحراني وفاقاً للمحدث الكاشاني وصاحب المدارك وبعض المعاصرين وغيرهم.

وقد استدلوا على ذلك بأمور ذكر معظمها في (الحدائق)(2).

الأول: عدم الدليل دليل العدم.

وفيه: ما عرفت من قيام الأدلَّة على ذلك.

الثاني: التمسك ببعض الأخبار التي تدلُّ على توقف التكليف على الإسلام, كصحيحة زرارة المروية في الكافي عن الإمام الباقر علیه السلام , فإنَّه بعد أنْ سُئل عن وجوب معرفة الإمام

ص: 110


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص688.
2- الحدائق؛ ج3 ص39- 43.

على من لم يؤمن بالله وبرسوله قال علیه السلام : (فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ وَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِالله وَرَسُولِهِ)(1)؛ فإنَّها کالصريحة في عدم تكليف الكافر بمعرفة الإمام قبل الإيمان بالله ورسوله, فإذا كان الأمر في الولاية كذلك فإنَّه بطريق أولى أنْ يكون كذلك بالنسبة إلى سائر التكاليف الفرعية التي هي متلقاة من الإمام علیه السلام .

وفيه: إنَّها أجنبية عن موضوع البحث, فإنَّها تدل على أنَّ تحصيل معرفة الإمام إنَّما يكون بعد تحصيل معرفة الله تعالى ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم , فمن لا يعرفهما يجهل الإمام ودوره, فكيف يعرف الإمام وهو لا يعرف الله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم ؟ وهذا ممتنع؛ويدلُّ عليه تعجب الإمام علیه السلام , ولا يدَّعيه أحد من العدلية وإنَّما المدّعى أنَّه يجب على من لا يعرف الله ورسوله أنْ يعرفهما, ويجب عليه إطاعتهما في جميع الأحكام والتشريعات الإلهية.

وهذا من البديهيات التي لا يمكن إنكارها, ومن المستقلات العقلية التي لا تقبل التخصيص, مع أنَّ الأخبار المتواترة تدلُّ على وجوب معرفة النبي والإمام علیهم السلام على نحو العموم الأفرادي من دون أنْ يؤخذ وصف الإسلام في شيء منها قيداً لوجوب معرفة الإمام علیه السلام كما لا يخفى على من راجعها.

ومن الأخبار التي تمسكوا بها ما ورد في بعض الروايات: (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)(2), فإنَّ موردها المسلم دون الكافر ونحوه.

وفيه: إنَّها في مقام بيان أهمية العلم ولا نظر لها إلى المكلف, لأنَّها تدلُّ على وجوب معرفة الأحكام والعلم بتفاصيلها بعد الدخول في الإسلام.

الثالث: لزوم التكليف بما لا يطاق, فإنَّ تكليف الجاهل بما هو جاهل تصوراً وتصديقاً تكليفٌ بغير المقدور.

ص: 111


1- الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص181.
2- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج16 ص18.

وفيه:

1- إنَّه منقوض بالتكليف بالإسلام وهو جاهل به تصديقاً.

2- ما ذكرناه آنفاً من تحقيق التكليف به ويكفي التصور الإجمالي فيه.

الرابع: إستحالة تكليف الكافر بالعبادات لعدم صحتها منه حال كفره.

وفيه: إنَّ الممتنع أمره بإيجادها صحيحة حال كفره ولا يدَّعيه أحد, وإنَّما المدَّعى وجوب إيجادها صحيحة برفع المانع, نظير تكليف المُحدِث بعد دخول الوقت أنْ يصلي صلاة صحيحة برفع الموانع عنها, ولا إستحالة عليه كما هو ظاهر.

الخامس: إختصاص الخطاب القرآني بالذين آمنوا, وما ورد من الخطاب العام مثل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)في بعض الموارد إنَّما يحمل على المؤمنين حملاً للمطلق على المقيد والعام على الخاص.

وفيه: إنَّه لا عام ولا خاص في الخطابات القرآنية وإنَّما العكس هو الصحيح والتشريف هو الذي استدعى الخطاب بالخاص.

السادس: إنَّه لم يعهد أنَّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أمر أحداً مِمَّن أسلم بالغسل عن الجنابة مع أنَّه لا ينفكّ أحد منهم عن الجنابة, ولو كان هناك أمر منه صلی الله علیه و آله و سلم لَنُقل وشاعَ بين الصحابة.

وفيه:

1- إنَّه صلی الله علیه و آله و سلم لم يأمره حتى بالوضوء وطهارة لباسه وبدنه وأوانيه التي لا تنفكّ عن النجاسة, وسائر الفروع كالصلاة ونحوها.

2- إنَّ كلَّ من يدخل في الإسلام يعلم ولو إجمالاً بأنَّ فيه أحكاماً يجب عليه معرفتها, فيرجع إلى من يرشده إلى شرايع الإسلام ولو على سبيل التدريج, ولا يجب إعلامه تفصيلاً حين إسلامه.

هذا وقد روي أنَّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أمر بعض من أسلم بالغسل ولعله كان من الجنابة.

ص: 112

ولا ينافي ذلك ما ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من أنَّ (الْإِسْلَامُ يَجُبُ مَا قَبْلَهُ)(1)؛ لأنَّ وجوب الغسل والصلاة وسائر العبادات؛ التي هي من الأمور اللاحقة فلا يجبُّه الإسلام, وحدوث سببه قبله لا يرفعه الإسلام, وإنَّما الذي يرفعه هو آثار المعصية التي حصلت من تركه الإيمان والعمل بمقتضياته, وأما الآثار الوضعية خصوصاً إذا كانت صادرة على الوجه غير المشروع فلا يجبُّها الإسلام؛ فإنَّه لا يرفع نجاسة ثوبه وبدنه بسبب الإسلام, وكذلك لا يرفع الإسلام الحالة المانعة من الدخول في الصلاة؛ فلا يرفع الحدث, كما لا يتوهم ذلك بالنسبة إلى التوبة التي روي فيها أنَّها تجُبُّ ما قبلها(2).

السابع: الإشكال على الآيات التي استُدلَّ بها على تكليف الكفار بالفروع كقوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ«6»الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)(3) تارةً بأنَّه لم يتَّضح وجه لارتباط الآية اللاحقة بما سبقتها بحسب الظاهر.

وفيه: إنَّ الربط حاصل باعتبار أنَّ الآيات الأولى إنَّما تدل على إعراضهم عن الكتاب والرسول صلی الله علیه و آله و سلم وعدم استماعهم إلى ما جاء به وتكذيب ما أنزله الله تعالى, والآية التالية تدلُّ على أنَّ هؤلاء المعرِضين سوف يصيبهم العذاب الأليم لمخالفتهم أحكام الله تعالى وعدم إيمانهم بالآخرة.

وتارةً أخرى: إنَّه على فرض التنزل أنَّ المشركين لمّا أنكروا ما هو أهم من وجوب الزكاة فإنَّ الصحيح وعيدهم على ذلك لا على إنكارهم وجوب الزكاة؛ فضلاً عن وعيدهم على عدم إخراجها الذي هو دون ذلك بمراتب.

ص: 113


1- عوالي اللئالي؛ ج2 ص54.
2- ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (التَّوْبَةُ تَجُبُ مَا قَبْلَهَا). [عوالي اللئالي؛ ج1 ص237].
3- سورة فصلت؛ الآيات 6-7.

وفيه: إنَّ الآية الشريفة إنَّما تدلُّ على كلا الأمرين, فهي صريحة في مؤاخذتهم وعقابهم على الشرك وعدم الإيمان بالله تعالى والآخرة وعلى تركهم الزكاة, ولا يصح الأخير إلا إذا كانت الزكاة واجبة عليهم, فما ذكره المستشكل إقرار منه بالوجوب بعد اعترافه بمؤاخذتهم.

وتارةً ثالثة: إحتمال أنْ يكون قوله تعالى: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)(1) بياناً للمشركين فتدلُّ على أنَّ المكلف بالزكاة يصير مشركاً بعدم إخراجها, فيكون بذلك كافراً بالآخرة, فلا تدلُّ الآية على أنَّ المكلف بها هو المسلم أو الاعمّ منه ومن الكافر.

وفيه: إنَّه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي وردت في بيان حال الكفار والمشركين الذين عاندوا الحقَّ واستكبروا عليه وأعرضوا عن الإيمان والطاعة وأنكروا الآخرة, فتركوا الزكاة الواجبة عليهم فاستحقُّوا بذلك العذاب الأليم. كما أنَّهم استشكلوا على التمسك بقوله تعالى: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ«43» وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)(2) بأنَّ ذلك قول المجرمين فلا ربط له بالكافر أصلاً.

وفيه: إنَّ السورة مكية نزلت في مشركي قريش لبيان جرائم أعمالهم ورذائل صفاتهم, فصاروا مجرمين بتركهم الإيمان بالله ورسوله والإعراض عن طاعته فاستحقوا العقاب لذلك, فلا تختص بالمجرمين من غير الكافرين كما ادّعي.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ تكليف الكفار بالفروع مِمّا قام عليه الدليل الصحيح, وقد أرسل الفقهاء ذلك في الفقه إرسال المسلّمات, قال المحقق الهمداني في مصباح الفقيه: (إنَّ من تأمل في الأخبار والشواهد العقلية والنقلية لا يكاد يرتاب في أنَّ معظم الأحكام المقررة في شريعة خاتم النبيين صلی الله علیه و آله و سلم مِمّا أحبَّ الله تعالى أنْ يتأدَّب بها كافة عباده المكلفين, ولا يرضى لأحد أنْ يتعدّى عنها, فلو فُرض ظهور بعض الأخبار فيما ينافي ذلك يتعين تأويله)(3).

ص: 114


1- سورة فصلت؛ الآية 7.
2- سورة المدثر؛ الآيات 43-33.
3- المصباح؛ ج3 ص270.

قاعدة عدم معذورية الجاهل

بقي التنبيه على قاعدة إشتراك العالم والجاهل في الأحكام, فإنَّ المعروف المدعى عليه الإجماع, بل جعلوا ذلك من المسلَّمات؛ عدم معذورية الجاهل بالأحكام لأجل جهله. فالعالم والجاهل بالنسبة إلى التشريعات الإلهية على حدٍّ سواء, إلا ما خرج بدليل خاص.

وقد بحث الأصوليون عن هذه القاعدة في علم الأصول, واستدلُّوا عليه مضافاً إلى كونه من الأمور المسلَّمة -كما تقدم- بالحديث المعروف: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَبْدِي أَ كُنْتَ عَالِماً؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ قَالَ لَهُ: أَ فَلَا عَمِلْتَ بِمَا عَلِمْتَ؟! وإِنْ قَالَ كُنْتُ جَاهِلًا قَالَ لَهُ: أَ فَلَا تَعَلَّمْتَ حَتَّى تَعْمَلَ؟!)(1).

وقد أُشكل عليه بأنَّه يستلزم منه تكليف ما لا يطاق, لأنَّ تكليف الجاهل بما هو جاهل تصوراً أو تصديقاً تكليف بغير المقدور.

ويرد عليه بأنَّه إنْ أُريد من قبح تكليف الجاهل قبح توجيه الخطاب إليه والطلب منه فإنَّه مردود بأنَّه لا مانع من توجيه الخطاب أولاً وبالذات إلى الجاهل, وحينئذ إنْ علم من هذا الخطاب الموجه إليه تكليفه تفصيلاً أو إجمالاً تنجز الطلب في حقِّه, فيجب عليه الإمتثال والخروج عن عهدته عقلاً, وإلّا فهو معذور؛ ما لم يكن مقصراً. وعلى كلِّ حالٍ؛ لا يعقل أنْ يكون توجيه الخطاب إليه مشروطاً بعلمه.وإنْ اريد قبح تنجيزه عليه بمعنى مؤاخذته على مخالفة ما أمره المشرع ولو لم يعلم حكمه من الخطاب أو لم يصله الخطاب الموجه إليه.

فيرد عليه: إنَّه إنَّما يقبح بالنسبة إلى القاصر دون المقصر الذي يجب عليه التفحص والسؤال, ومن أجل ذلك لم يقل أحد بمعذورية الجاهل بالأحكام الشرعية إذا عمل بالبراءة قبل الفحص عن الطرق الشرعية, فلا إشكال في عدم معذورية الجاهل بالأحكام.

ص: 115


1- الأمالي (للمفيد)؛ ص228.

نعم؛ هنا كلام في أنَّ الجاهل المقصّر إذا غفل ووقع في خلاف الواقع في زمان غفلته فهل يعاقب على مخالفته للأحكام الواقعية؛ كما عليه المشهور؟ أم يعاقب بسبب تركه للتعلم حين التفاته إلى الحكم وتردده فيه؛ كما عليه المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك؟.

والأظهر هو الأول, وإنْ كان الثاني يوافق الحديث الذي تقدم نقله.

وعلى كلٍّ؛ فإنَّ ذلك لا يضرُّ بأصل الدعوى؛ وهي عدم معذورية الجاهل بالأحكام الشرعية الذي اتَّفق الجميع عليه. ثمَّ أنَّ الجاهل على صنفين:

الأول: الجاهل القاصر؛ وهو الذي لم يصل إليه الشرع ولم يعلم به من دون عذر منه, والمعروف بين العلماء أنَّه معذور بالنسبة إلى العقاب, وإنَّ أمره موكول إلى الله تعالى حيث يختبره يوم القيامة على ما دلَّت عليه بعض الأخبار, ولكن قصوره لم يمنع من تعلق التكاليف الإلهية به, فهو مكلف كسائر الناس العالِمين.

الثاني: الجاهل المقصر؛ وقد عرفت أنَّه مكلف في مرحلة توجيه الخطاب, كما أنَّه مكلف في مرحلة التنجيز أيضاً, فهو مكلف برفع جهله بالفحص والسؤال؛ هذا بالنسبة إلى الأحكام.

وأمّا بالنسبة إلى الكفارات فإنَّ الجميع مكلفون بها بفعل ما يوجبها مطلقاً؛ عالِماً كان أو جاهلاً, عن تقصير أو قصور؛ لعموم أدلَّة وجوبها وإطلاقاتها الشاملة للعالِم والجاهل مطلقاً, بل عن صاحب الجواهر قدس سره: (الأصل وجوب الكفارات في كل مفطر إلا ما خرج بالدليل)؛ فإنَّ المراد بالأصل هو الأصل اللفظي كما عرفت.

وذهب جمعٌ آخرون إلى عدم وجوب الكفارات على الجاهل, لبعض الأخبار, منها موثقة زرارة وأبي بصير عن ابي جعفر علیه السلام : عَنْ رَجُلٍ أَتَى أَهْلَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ, وَأَتَى أَهْلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؛ وَهُوَ لَا يَرَى إلا أَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ لَهُ؛ قَالَ علیه السلام : (لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ)(1), وإطلاقه يشمل الجاهل مطلقاً.

ص: 116


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج10 ص54.

ومنها: صحيح عبد الصمد عن الإمام الصادق علیه السلام فيمن لبس قميصاً وهو محرم قال علیه السلام : (أَيُّ رَجُلٍ رَكِبَ أَمْراً بِجَهَالَةٍ فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْهِ)(1).ومنها: صحيح ابن الحجاج الوارد في النكاح في العدّة جهلاً: (وقَدْ يُعْذَرُ النَّاسُ فِي الْجَهَالَةِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ)(2).

فإنَّ المستفاد من هذه الأخبار قاعدة كلية بالنسبة إلى موارد الجهل, وإطلاقها يشمل القاصر والمقصر, الملتفت وغير الملتفت, وظهور الموثق في المعتقد بالخلاف لا ينافي في ظهور الصحيحين, فيقع التعارض بين هذه الأخبار وبين القاعدة التي تسالموا عليها من عدم معذورية الجاهل مطلقاً.

وقد عالجه جمعٌ تارةً بإرجاع دليل المستثنى إلى الجاهل القاصر.

وتارة أخرى باختصاص دليل المستثنى منه بالجاهل المقصر الملتفت إلى السؤال, فإنَّه بمنزلة العامد, فإنَّ جعله معذوراً ينافي ذوق الأئمة المعصومين علیهم السلام والمتشرعة ومذاق الفقه إلا إذا ورد دليل خاص يدلُّ عليه كما في مورد الجهر في موضع الإخفات وبالعكس, فإنَّه لا إشكال في التعبد به.

وأمّا الجاهل المقصر غير الملتفت إلى السؤال فإنَّه يدخل تحت الموثق والصحيحين.

وعلى ضوء ما ذكرناه يظهر أنَّ الإقتصاد العالمي المعاصر خارج عن قوانين الشرع الحنيف, وإنَّ المشرعين وعلماء الإقتصاد ليسوا معذورين في سنِّ القوانين؛ إذ هم لم يدخلوا في دين الإسلام, فإنَّ مثل هذا العذر غير مقبول مطلقاً, فلا بُدَّ من تحديد سيرهم ومنهجهم وفق التشريعات الإلهية؛ كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 117


1- المصدر السابق؛ ج12 ص489.
2- المصدر السابق؛ ج20 ص451

المصطلح الرابع: الملك

اشارة

المصطلح الرابع: الملك(1)

والكلام فيه يقع في عدَّة جهات:

أولاً: المفهوم اللغوي

مادة (م ل ك) تدلُّ على القوة والصحة والتسلّط, ومن ذلك: ملك الإنسان الشيء يملكه؛ لأنَّ يده قوية وصحيحة, والملك ما ملك من مال, وفلان حسن الملكة أي حسن الصنيع إلى مماليكه. ويقال: ملكته ملكاً.

والإسم المِلك (بالكسر), والفاعل مالك, والجمع مُلّاك؛ مثل كافر وكُفّار.

ومَلك على الناس أمرهم؛ إذا تولى السلطة, فهو مَلِك إذا حكم وساد, والجمع ملوك, والإسم مُلك.

وهو يملك نفسه عند شهوتها, أي يقدر على حبسها, وهو أملك لنفسه أي أقدر على منعها من السقوط في شهوتها.

والمَلَك أحد الملائكة.والإملاك التزويج, يقال: ملَكتَ امرأة إذا تزوجتها.

والملكوت من الملك كالرَّهبوت من الرهبة, أي العزة والقدرة.

فالمستفاد من جميع اشتقاقات هذه المادة أنَّ الأصل فيها هو التسلط على شيء بحيث يكون اختياره بيده.

وهذه الملكية والتسلّط تارةً تكون بالنسبة إلى ذات الشيء أصلاً وفرعاً, فتكون ملكيته حقة حقيقية, كما في مالكية الله لخلقه.

وأخرى تكون حقة اعتبارية بالنسبة إلى الذات وبجعل جاعل, كما في المملوك والمبيع.

ص: 118


1- وهو المصطلح الرابع من المصطلحات التي يحتاجها علم الإقتصاد.

وثالثة تكون بالنسبة إلى ما يستفاد منه أي المنفعة اعتباراً كما في الإجارة والنكاح.

ورابعة تكون بالنسبة إلى الأمور الإجتماعية ووظائفها, كما في تسلّط الحاكم والسلطان.

وخامسة تكون بالنسبة إلى النفس وهواها, كما في النفوس القدسية المهذبة.

وغيرها من أنحاء التسلط.

وأما المَلَك والملائكة والمَلَكوت فهي مأخوذة من العبرية والسريانية, وقد استُعملت هذه الكلمات في العربية أيضاً وكلها ترجع إلى أصل المادة أي التسلط, والملكوت زيادةٌ في المُلك (مصدراً) كالجبروت من الجبر, والرَّحموت من الرحمة وغيرها, حيث أنَّ الزيادة في اللفظ تدلُّ على الزيادة في المعنى وعظمته وسعته في المفهوم.

ومِمّا ذكرناه يظهر أنَّ من آثار هذا الأصل اللغوي: القوة والشدة والصحة ونحوها, وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بجميع اشتقاقاتها.

وقد استفاد العلماء والمفسرون منها أنَّ المالكية والمملوكية على أقسام:

الأول: المالكية المطلقة لذوات الأشياء إيجاداً وإفناءً وإبقاءً, وهذا القسم يختص بالله سبحانه خالق الأشياء ومفنيها ولا ينازعه أحد غيره, وهي ملكية حقة حقيقية, قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)(1).

وقال تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(2).

وقال تعالى: ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)(3).

ص: 119


1- سورة آل عمران؛ الآية 26.
2- سورة آل عمران؛ الآية 189, وسورة المائدة؛ الآية 17 والآية 18, وسورة النور؛ الآية 42, وسورة الجاثية؛ الآية 27, وسورة الفتح ؛ الآية 14.
3- سورة الإسراء؛ الآية 111, وسورة الفرقان؛ الآية 2.

فالسلطنة الحقَّة الحقيقية ثابتة لله عَزَّ وَجَلَّ ولا مالك سواه, وكلُّ مالك لشيء إنَّما هو في مرتبة متأخرة وعلى نحو التجوز في الظاهر, قال تعالى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ)(1).

الثاني: المالكية الظاهرية المبنية على التسلط الظاهري على الناس والبلاد إمّا قهراً أو بالعدل, وهو المعبر عنه بالملك والسلطان. وهو إذا كان باختيار من الله تعالى, المنصوب من أجل صلاح البلاد والعباد وفي إقامة العدل بينهم فهو ظلُّ الله في الأرض وخليفته فيها فيلزم إطاعة أوامره والرضا بحكمه؛ كما في حكومة أولياء الله من الأنبياء والأوصياء علیهم السلام , قال تعالى: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا)(2).

وقال تعالى: (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)(3).

وقال تعالى حكاية عن نبيه يوسف علیه السلام : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)(4).

الثالث: التسلط الظاهري لطلب الرئاسة وحب الشهوات, من دون أنْ يكون لإقامة الحقِّ وبسط العدل, وهو المتداول في الرئاسات الدنيوية, قال تعالى في حقِّهم: ( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ)(5).

وقال تعالى حكاية عن فرعون: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)(6).

ص: 120


1- سورة آل عمران؛ الآية 26.
2- سورة النساء؛ الآية 54.
3- سورة البقرة؛ الآية 251.
4- سورة يوسف؛ الآية 101.
5- سورة النمل؛ الآية 34.
6- سورة الزخرف؛ الآية 51.

الرابع: المالكية والتسلط الظاهري تحت جعلٍ تشريعيٍّ إلهي وقواعد ومقرَّرات صحيحة عادلة, كما في المعاملات والعقود التي يبحث عنها الفقهاء في الكتب الفقهية.

الخامس: التملك والتسلط بالعمل, كما في الزراعة والصناعة والمجاهدة, ومنها التملك على الأسرى في الجهاد الحقّ مع المشركين والكفار.

وفي هذه الموارد الأخيرة يكون المِلك إمّا بإذنٍ عام من الله تعالى؛ كما في خلفائه وأوليائه المعصومين المنصوبين من الله عَزَّ وَجَلَّ, قال تعالى في آدم وذريته: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(1).

أو يكون المِلك بإذنٍ خاص.

أسباب التمليك المشروع

إنَّ التسلط والتملك بالقهر والجور والظلم والباطل الذي هو خلاف المقررات الشرعية لا يفيد مالكية ولا خلافة ولا طاعة واجبة, فإنَّ الحكم لله تعالى وأنبيائهوأوصيائه على ما هو الحقّ والحقيقة, قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)(2).

هذا كلُّه في عالم الدنيا, وأمّا العوالم الأخرى فالمالكية والملكية فيها لله المتعال على الإطلاق, قال تعالى: ( ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ«18» يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(3).

ولعلَّ السر يرجع إلى أنَّه بعد انتفاء عالم المادة ولوازمه وأسبابه وظهور حقيقة الخضوع والإنقياد المطلق لله تعالى يكون الحكم والسلطان له عَزَّ وَجَلَّ وحده, فلا يبقى لأحدٍ سلطان ولا حكومة؛ لأنَّ الحكم إمّا بالجبر والقهر وهما لا يوجدان في عالم الآخرة, وإمّا بأسباب ظاهرية مقررة كما في عالم المادة وهي منتفية, فيكون الملك يومئذ لله وحده.

ص: 121


1- سورة البقرة؛ الآية 30.
2- سورة آل عمران؛ الآية 26.
3- سورة الإنفطار؛ الآيات 18-19.

ومن أسمائه الحسنى الملك والمليك والمالك, وهي تختلف من ناحية الحيثيات؛ فمن جهة الثبوت يكون ملِكاً, ومن جهة الثبوت والإستمرار يكون مليكاً, ومن جهة قيام الصفة به سبحانه يكون مالكاً؛ فهو المالك الحق المطلق لجميع ما سواه وليس له شريك في المُلك.

هذا كلُّه بحسب مادة (م ل ك) في اللغة والقرآن الكريم وكلمات العلماء, والحاصل من جميع ما تقدم أنَّ الملك (بتثليث الميم وسكون اللام) يكون بمعنى احتواء الشيء والتسلط عليه والإستبداد به. ويطلق على أمرين:

أ- إحتواء الشيء؛ ويعبر عنه في اللغة ب-(التملك).

ب- الشيء المحتوى؛ ويعبر عنه في اللغة ب-(المملوك).

وقد استخرجوا من المصدر (م ل ك) مصدراً صناعياً وهو (الملكية).

ثانياً: المعنى الفلسفي

المِلك (بالكسر) في الفلسفة أحد المقولات العشر المعروفة في المنطق الأرسطي والفلسفة, ويعبر عنها أيضاً بمقولة (الجِدة), وعرفوه بالهيئة الحاصلة من إحاطة شيء بشيء بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط سواء كانت الإحاطة إحاطة تامة كالتجلبب, أم إحاطة ناقصة كالتعمم والتقمص.

والجدة في اللغة بمعنى الغنى واليسار.

وعلى كِلا اللفظين -المِلك والجِدة- هو العلاقة بين الحاوي والمحتوى أو بين المالك والمملوك.

ولكن المعنى الفلسفي في الفلسفة المعاصرة قد اختلف, فإنَّ الفلسفة الرأسمالية تباين الفلسفة الماركسية في إعطاء معنى للملكية, واختلافهما عن المعنى الإسلامي في تفسير هذه الظاهرة التاريخية والإجتماعية, وهي إرادة الطبيعةالإنسانية للملك وحبّ التملك في الحياة, فإنَّ هذا الإختلاف انعكس في تحديد المعنى القانوني أيضاً.

ص: 122

ثالثاً: المعنى الإقتصادي.

ذكر علماء الإقتصاد مفهومين للملكية:

1- حقُّ امتلاك الشيء.

2- الشيء المملوك.

قال نبيه غطاس: (الملكية حق الشخص في التصرف بالممتلكات التي تخصه دون غيره)(1).

وفي موضع آخر قال: (تعني الكلمة بمفهومها الضيق حق الفرد المطلق وغير المقيد في الأشياء الخاصة به, سواء كانت أرضاً أم أمتعة شخصية, وفي الوقت الحاضر أصبحت الكلمة تعني الأشياء المملوكة لا الحق في امتلاكها)(2).

وسيأتي أنَّ علماء الإقتصاد قد عرَّفوه بالتعريف الفقهي أيضاً.

رابعاً: المعنى في القانون المدني

قال السمهودي عن القانون المدني الفرنسي في المادة (544): (الملكية هي الحقُّ في الإنتفاع بالشيء وفي التصرف فيه على نحو أشدّ ما يكون إطلاقاً, بشرط أنْ لا يستعمل الشيء على وجه يحرمه القانون أو اللوائح)(3).

وقد أُخذ مضمون هذا التعريف في أغلب القوانين المدنية المعاصرة في البلاد العربية, ففي القانون المدني المصري: (الملكية هي الحق للمالك في الإنتفاع بما يملكه والتصرف فيه بطريقة مطلقة)(4).

ص: 123


1- معجم مصطلحات الإقتصاد والمال وإدارة الأعمال؛ ص398.
2- المصدر السابق؛ ص437.
3- الوسيط؛ ج8 ص483.
4- المصدر السابق؛ 493.

ويعلق أحد شرّاح القانون المدني وهو (بورتاليس) على الحرية المطلقة التي يعطيها القانون الفرنسي للمالك في التصرف بملكه فيقول: (لقد اعتبر -دائماً- مبدأٌ من المبادئ الحرة أنَّ الملكية الفردية في التقنين المدني تدخل في النظم الطبيعية بل النظم الإلهية, وأنَّ حقوق المُلّاك على أملاكهم هي حقوق مقدسة يجب أنْ تحترمها الدولة نفسها)(1).

ونقل السمهودي أنَّ القانون المدني المصري وضع في مشروعه التمهيدي المادة (802) بالصيغة المقترحة التالية: (لمالك الشيء ما دام ملتزماً حدود القانون أنْيستعمله وأنْ ينتفع به ويتصرف فيه دون أي تدخل من جانب الغير بشرط أنْ يكون ذلك متفقاً مع ما لحقِّ الملكية من وظيفة اجتماعية)(2).

وذكر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في تحريره على المادة (125) من مجلة الأحكام العدلية: (المِلك إضافة بين الإنسان والأموال تقتضي سلطنته عليها).

خامساً: التعريف الفقهي

عرَّف الفقهاء الملك بأنَّه: (إتّصال بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقاً لتصرفه فيه وحاجزاً عن تصرف غيره فيه)(3).

وعند ابن عابدين هو: (ما من شأنه التصرف فيه بوصف الإختصاص)(4).

والمعنى المعروف على ألسنة فقهاء الإمامية هو ما نقلناه من تعريف الشيخ كاشف الغطاء قدس سره من أنَّ (المِلك إضافة بين الإنسان والأموال تقتضي سلطنته عليها).

ص: 124


1- المصدر السابق؛ 483.
2- المصدر السابق؛ ص493.
3- التعريفات للجرجاني؛ ص100-101.
4- نقله الدكتور محمد رواس قلعچي في معجم لغة الفقهاء؛ ص495.

والظاهر أنَّ المِلك في الواقع حكمٌ وضعيٌ يعني العلاقة بين الإنسان والمال, كالزوجية بين الرجل والمرأة فقد أتى تعريفه بأنَّه: إختصاصٌ موافقٌ لطبيعته, فيكون الإختصاص -هنا- بمعنى الإضافة أو العلاقة والإحتواء ونحو ذلك.

وعليه؛ يفسر تعريف ابن أبي جمهور الأحسائي بأنَّه حكم شرعي, فإنَّه أيضاً يلتقي وطبيعة المِلك الذي هو بمعنى الإضافة؛ بقرينة قوله (يؤثر تمكن المضاف اليه).

فالمِلك على ضوء ذلك هو العلاقة الشرعية بين الإنسان والمال, أو المالك والمملوك؛ التي تعطي الإنسان أو المالك حق السلطنة على المال أو المملوك في التصرف بجميع أنحاء التصرفات المشروعة.

والمستفاد من جميع ذلك أنَّ التعريفات في العلوم المتعددة متقاربة مع المعنى اللغوي إلا في بعض الأمور, حيث تتَّحد الملكية بشروط خاصة كما سيأتي بيانها.

ومن جميع ما تقدم نستفيد الأمور التالية:

1- إنَّ ما ذكر في مختلف العلوم في مفهوم المِلك يرجع إلى الأصل اللغوي؛ وهو الإستيلاء والإحتواء والسلطنة.

2- إنَّ الإستيلاء والسلطنة والإحتواء تتطلب الإثنينية وطرفين تتحقق الإضافة بينهما وهما الحاوي والمحتوى, ولا تتحقق حقيقة الإستيلاء والسلطة إلا بهما.

3- إنَّ الملكية حكم وضعي حاصل من احتواء شخص لشيء.

4- إنَّ لكلِّ فرد الحق في أنْ يتملك مالاً وله حرية التصرف فيما يملكه, وقد اختلفوا في الجهة المانحة لهذا الحقّ؛ فبعضهم يعتبرونه حقاً طبيعياً وهو الذي اختاره القانون المدني, وآخرون يعتبرونه حقاً مقدساً فيكون المانح هو الله تعالى, ولعله هو مراد من عبَّر عن المِلك بأنَّه حكم شرعي, ولكن اختلافهم لا يضرّ بالمقصود؛ وهو كون حكم الملكية وضعياً حاصلاً من الإضافة بين المالك والمملوك.

ص: 125

أسباب المِلك

أي أسباب التملك, وهي إمّا شرعية, أو تثبتها القوانين المدنية ومقتضيات الإقتصاد العالمي. أمّا الأسباب المذكورة في الشريعة الإسلامية فيمكن تقسيمها إلى أنواعٍ ثلاثة بحسب واقعها:

الأول: ما يكون سبباً للتملك إبتداءً, بمعنى أنَّ الشيء المملوك من هذا السبب لم يكن مملوكاً لأحد شرعاً قبله, وإنَّما تمَّ تملكه عن طريق هذا السبب فقط ولأول مرة.

الثاني: ما يكون سبباً لانتقال ملكية الشيء من مالك لآخر.

الثالث: ما يكون سبباً في التعويض عن ملك تالف, أو ضرر لحقٍّ بآخر.

ولكلَّ واحد من هذه الأنواع الثلاثة أفراد متعددة, وإذا أردنا حصرها تحت عناوين جامعة, فهي ثلاثة:

1- الإحتراز أو الإحراز.

2- الإنتقال أو التمليك.

3- التعويض أو التضمين.

والكلام فيها إنَّما يتمّ بعد ذكر كلمات علماء الشريعة في هذا المجال وما ورد في القانون المدني:

أولاً: قال الأستاذ مصطفى الزرقاء(1): (إنَّ أسباب التملك التي أقرَّها التشريع الإسلامي تنحصر في أربعة:

1- إحراز المباحات.

2- العقود.

3- الخَلَفية.

4- التولد من المملوك ).

ص: 126


1- المدخل الفقهي العام؛ ج1 ص242.

وقال في تعريف المباح بأنَّه: (المال الذي لم يدخل في ملك محترم ولا يوجد مانع شرعي من تملكه؛ كالماء في منابعه, والكلأ في منابته, والأشجار في البراري غير المملوكة, والصيد في البحر .....).كما أنَّه مثَّل للعقود بالبيع والإجارة والهبة والكفالة والإقالة, لتشمل جميع أنواع العقود المشروعة, وجميع أنواع الأموال من عينٍ أو نقدٍ ودَين, ومنفعة وحق.

كما عرَّف (الخَلَفية) –بفتحتين مع تشديد الياء- بأنَّها: (حلول شخص أو شيء جديد محلَّ قديمٍ زالَ في الحقوق).

وقال بأنَّها على نوعين:

أ- خَلَفية شخص عن شخص كالإرث.

ب- خَلَفية شيء عن شيء, وهي التضمين أو التعويض.

وفي الأول: يكون الإرث خلفية يحلُّ بها الوارث محل المتوفى في ملكية أمواله المخلفة, والتي تسمى ب-(التركة), وفي المسؤوليات المتعلقة بتلك التركة.

وفي الثاني: يكون التضمين أو التعويض مثل ما إذا أتلف شخصٌ لآخر شيئاً أو غصبه منه فهلك أو فُقد, وكذا إذا ألحق بغيره ضرراً بجناية أو تسبَّبه, ففي مثل ذلك يجب عليه ضمان ما أتلفه وتعويض الضرر الذي باشره أو تسبب به, وحينئذٍ يملك المعوَّض له ذلك العوض مستنداً إلى سبب الخَلَفية.

ويدخل في ذلك الديَّة وأرش الجنايات. فكلُّ ذلك يُملك بسبب الخَلَفية.

كما ذكر في التولد من المملوك الذي يراد به أنَّ نماء المملوك يتبع الأصل فيكون مِلكاً لمالك الأصل كثمار الأشجار وولد الحيوان وأصواف الغنم وألبان البقر وأمثالها.

ص: 127

ثانياً: ما ذكره الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(1) من أنَّ: (أسباب التملك ثلاثة:

1- الناقل للمِلك من مالك إلى مالك آخر, كالبيع والهبة.

2- أنْ يخلُفَ واحدٌ الآخر, كالإرث.

3- إحراز شيء مباح لا مالك له, وهو: إمّا حقيقيٌّ, وهو وضع اليد حقيقة على شيء. وإمّا حكمي, وذلك بتهيئة سببه, كوضع إناء لجمع ماء المطر أو نصب شبكة لأجل الصيد).

ومثَّل قدس سره للسبب الأول بالبيع والهبة؛ للإشارة إلى أنَّ العقود إمّا معاوضية كالبيع, وإمّا أنْ لا تكون معاوضة كالهبة التي هي من أسباب التملك.

والجميع يشترك في انفصال المال او المملوك بواسطة العقد من مالك لآخر.

ثالثاً: ما ذكره الشهيد الأول قدس سره(2) قال: ( الوسائل خمس:

أحدها: أسباب تفيد المِلك, وهي ستة:

الأول: ما يفيد المِلك لعينٍ بعقد معاوضة, كالبيع والصلح والمزارعة والمساقاة والمضاربة.

الثاني: ما يفيد مِلك العين بعقدٍ لا معاوضة فيه, كالهبة والصدقة والوقف والوصية بالعين وقبض الزكاة والخمس والنذر.

الثالث: ما يفيد ملك العين لا بعقد, كالحيازة والإرث وإحياء الموات والإغتنام والإلتقاط.

الرابع: ما يفيد مِلك المنفعة بعقد معاوضة, كالإجارة.

الخامس: ما يفيد مِلك المنفعة بعقد غير معاوضة, كالوصية بالمنفعة, والعمرى؛ عند الشيخ(3), وابن إدريس(4).

ص: 128


1- مجلة الأحكام العدلية؛ المادة (1248).
2- القواعد والفوائد؛ في القاعدة السابعة في بيان الوسائل والتي أحدها الأسباب التي تفيد المِلك.
3- أي الطوسي في المبسوط؛ ج3 ص316, والخلاف؛ ج2 ص6 مسألة 5.
4- السرائر؛ ص376.

السادس: ما يفيد مِلك المنفعة لا بعقد, كإرث المنافع).

رابعاً: ما ذكره المحقق الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(1): (إنَّ اسباب الملك نوعان: قهرية واختيارية, وتحت كلِّ نوع من هذين أصناف:

وأظهر أسباب التملك القهري: الإرث والجنايات والأرش والنذور وما إلى غير ذلك.

وأظهر أسباب التملك الإختياري: الإكتساب والبيع والشراء والصيد والحيازة وإحياء الموات وما إلى ذلك).

قال قدس سره في مقام ردّه على ما ذكرته (المجلة) من تقسيم إحراز المباح إلى حقيقي وحكمي: (ولا حاجة في أمثال الصيد والحيازة إلى وضع اليد لا حقيقةً ولا حكماً, بل المدار على صدق الإستيلاء عرفاً, ومنه التحجير الذي يثبت به حق اختصاصٍ في المباح إلى أمدٍ معين.

أمّا لو نصب شبكة ووقع الصيد فيها فقد ملكه بالاستيلاء حقيقةً, ولا يجوز لغيره أنْ يتصرف فيه بدون إذن الحائز الأول, ولو أتلفه كان ضامناً).

هذه هي جملة من أقوال العلماء في أسباب التملك وهم وإنْ اتَّفقوا في أصولها ولكنهم اختلفوا في أنواعها وإدراج بعض الأفراد تحت واحد من تلك الأنواع, كما أنَّهم اختلفوا بالنسبة إلى الأعداد بين مقلٍّ ومكثر لها, ولكن يمكن لنا أنْ نجمع الأسباب في العناوين التالية:

1- الإحتياز.

2- الإنتقال.

3- التعويض.

ص: 129


1- تحرير المجلة؛ ج3 ص249.

والكلام فيها وإنْ كان يأتي في الأبواب التي عقد الفقهاء لكلِّ واحد منها باباً بالتفصيل, ولكن نذكر ما يقتضيه المقام فنقول:

1- الإحتياز؛ والمراد به: (الحيازة) المعروفة في الكتب الفقهية وعليها مصطلح الفقه الإمامي, أمّا في الفقه السني فقد اصطُلح عليه ب-(الإحراز). وهما مترادفان يدلان على معنىً واحد, يقال: أحرز الشيء إذا حازه, ويقال: حاز الشيء إذا أحرزه.

وحاز الإنسانُ الشيءَ أي جمعه وضمَّه إلى نفسه, وتقول: حاز الإنسان العقار حَوزاً وحيازةً إذا ملكه, ويقال: حازه في حوزه أو حوزته أي أخذه وأدخله في ملكه, واحتاز احتيازاً بمعنى حازه وأحرزه, والحوزة؛ الناحية والملك.

وعليه؛ تكون المباحات التي لا تكون مملوكة لأحد؛ يمكن أنْ تُحاز؛ كالمياه في الأنهار, والأراضي في الصحارى, والأعشاب في منابتها البرية غير المملوكة, والطيور في الأجواء, والإسماك في البحار, والأنهار غير المملوكة, والحيوانات في الغابات غير المملوكة.

فإنَّ جميع تلك وأمثالها إذا استولى إنسان على شيء منها وضمَّه إليه صار ملكه, لقوله صلوات الله عليه وعلى آله: (من حاز ملك), ويندرج تحت هذا العنوان إحياء الموات, ففي المروي عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ)(1).

والأرض الميتة؛ جمعها الأراضي الموات؛ وهي الأرض التي ليس لها مالك مخصوص أو معروف, فإذا أحيا إنسانٌ أرضاً ميتة دخلت في مِلكه للحديث المتقدم, وقد فصَّل الفقهاء أحكام هذا العنوان في كتاب خاص أسموه كتاب إحياء الموات.

ص: 130


1- المجازات النبوية؛ ص240.

2- الإنتقال؛ والمراد به: إنتقال الملك من شخص لآخر بأيِّ سبب من أسباب الإنتقال المشروعة.

وبعبارة أخرى: هو التمليك بسبب مشروع. فيشمل هذا العنوان الموارد التالية:

أ- التمليك بعقد معاوضة؛ كالبيع, فإنَّ بسببه ينتقل المبيع من ملك البائع إلى ملك المشتري, كما ينتقل ثمنه من ملك المشتري إلى ملك البائع فيكون الإنتقال متمثلاً في المعاوضة والمبادلة بين ملكين كالمبيع والثمن.

ب- التمليك بعقد غير معاوضي؛ كالهبة, حيث ينتقل فيها الموهوب من ملك الواهب إلى ملك الموهوب له.

ج- التمليك بغير عقد؛ كالإرث, حيث ينتقل فيه المال من المتوفى إلى وارثه بسبب مشروعية الإرث.1- التعويض:

والمراد به الضمانات الشرعية الحاصلة من تلف مال أو فقده, أو ما كان بسبب إضرار أوقعهُ شخص على غيره ونحو ذلك.

وهو التعويض المالي عن:

1- التالف.

2- المفقود.

3- الضرر.

ويدخل تحته الديات, وأروش الجنايات.

وقد فرّق الفقهاء بين الدية والأرش بأنَّ الدية: عوض مالي عن إزهاق نفس أو إتلاف عضو. وأمّا الأرش فهو عوض مالي عن حدوث إضرار بالغير لا يرقى إلى إزهاق النفس أو إتلاف عضو.

ص: 131

ولكلِّ واحد من هذه الأسباب المتقدمة مصاديق وأحكام كثيرة مذكورة في أبواب متفرقة في الفقه الاسلامي. وقد توسع علماء الإقتصاد في هذا القسم, وأدرجوا فيه جملة من الضرائب التي فرضوها على الشركات والبنوك والمصارف وعلى العمال, كما أنَّهم توسعوا في أفراد الموارد الثلاثة المتقدمة وجعلوا لكلِّ واحد منها مصاديق ليشمل الضمان بعضاً من الحقوق والأموال؛ كما سيأتي بيانه في نظرية الحق إنْ شاء الله تعالى.

ثم إنَّه لا بُدَّ من أنْ يعلم أنَّ الإقتصاد المعاصر أضاف إلى تلك المصادر المتقدمة للملك مصادر أخرى, وتوسع علماء الإقتصاد في البحث والتفسير لها؛

فإنْ أمكن ارجاعها إلى تلك الأصول المذكورة في الفقه الاسلامي فبِها, وإلاّ فلا غرابة في إضافة أصول أخرى إذا لم تتصادم مع الأدلة الشرعية والقواعد العامة, مع الأخذ بنظر الإعتبار أنَّ الإقتصاد الإسلامي إنَّما يلاحِظ في مصادر الملك والتملك العدالةَ في التملكِ والتوزيع, وعدم تمركز المال عند جهة معينة فرداً أو جماعة لئلا يكون ( دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ)(1)؛ كما سنبينه إنْ شاء الله تعالى.

فائدةُ المِلك

لا ريب أنَّ الفائدة التي تترتب على العلاقة القائمة بين المالك وبين الشيء المملوك التي يعبر عنها بالملك هي:

1- حقُّ التصرف في المملوك بمختلف أنواع التصرفات المشروعة في الدين أو القانون.

2- دفع المزاحم عن استعمال هذا الحقّ من المالك.

وقد قرّر الشرع ذلك بقاعدة السلطنة المستفادة من حديث النبي صلی الله علیه و آله و سلم المعروف بين الفريقين: (النَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أموالهِمْ)(2).

ص: 132


1- سورة الحشر؛ الآية 7.
2- نهج الحق وكشف الصدق؛ ص572.

ولا بُدَّ من أنْ يعلم بأنَّ سلطنة الإنسان على ماله وحرية تصرفه في المال المملوك ليست مطلقة؛ فهي محدودة بشرطين:

الأول: أنْ تكون في حدود ما يقرّه الشرع الحنيف أو القانون المدني.

الثاني: أنْ تكون محققة لمصلحة الفرد من خلال المحافظة على مصلحة الجماعة.

فلا يقرّ الشرع تلك السلطنة التي توجب الإضرار بالآخرين لقاعدة نفي الضرر المستفادة من قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ )(1), أو يكون التصرف سفهياً لا مصلحة فيه أبداً, لأنَّه محجور عليه بأدلَّة حجر السفيه.

وعلى ضوء ذلك فقد ذكر الفقهاء قواعد تعتبر من آثار تلك الملكية المقررة شرعاً؛ أمثال:

· لا بيع إلا في ملك.

· لا وقف إلا في ملك.

· لا عتق إلا في ملك.

· لا رهن إلا في ملك.

وغير ذلك مِمّا سنذكره في محالّه إنْ شاء الله تعالى.

محلُّ الملك

اشارة

قد عرفت أنَّ الملكية تقوم بأمرين:

أحدهما: المال المملوك؛ الذي يُعبر عنه في الفقه بمتعلق الملك, وفي القانون بمحل الملك, وهو الذي يقع عليه الملك فيملك, وهو كل مال يجوز تملكه عقلاً وشرعاً, وعليه لا بُدَّ من بيان حقيقة المال التي فيها نظريات وآراء مختلفة سيأتي البحث فيها.

والآخر: المالك؛ وهو الذي له حق التصرف في ملكه ويكون حراً فيه, وذكرنا أنَّ هذه الحرية إنَّما تكون في حدود ما قرَّره الشرع أو القانون.

ص: 133


1- الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص294.

والمالك إمّا أنْ يكون شخصاً حقيقياً؛ وهو الإنسان القابل للتملك شرعاً أو قانوناً الذي ورد ذكره في نصوص الشرع والقانون والعلماء من كلا الفريقين, وقد ذكرنا بعضاً منها فيما تقدم.

وإمّا أنْ يكون شخصاً معنوياً؛ والذي يعبّر عنه بالشخصية القانونية أو الحقوقية, حيث أنَّ العرف يرى له اعتباراً خاصاً قابلاً للتملك, وقد قرَّره القانون في تشريعاته, ويستفاد ذلك من بعض نصوص الشرع أيضاً.

ولا إشكال في الأول؛ فإنَّه الإنسان الذي منحه الله تعالى قابلية التملك وحقُّ الملكية, وسنَّ الشرع والقانون فيه الشروط لتقويمها حتى لا يستلزم منه الفوضى, كما رُوعي فيه المصلحة العامة التي تحفظ المصلحة الخاصة فيها أيضاً. وقد تطابقت الآراء والتشريعات الإلهية والوضعية في ذلك إلا ما سنبينه من مواردالإختلاف بينها, وإنَّما الكلام في القسم الثاني, أي الشخصية المعنوية المعبَّر عنها بالشخصية الحقوقية التي لها اعتبار خاص في التملك وبعض التصرفات المتوقفة على ذلك, فقد اختلفوا في ثبوتها.

ولا ريب في أنَّ هذه الملكية الثابتة للشخصية المعنوية تختلف عن نظيرتها الثابتة للشخصية الحقيقية؛ في أنَّ هذه الملكية الثابتة للشخصية الحقوقية ليست بتلك السعة والشمول, فهي محدودة بخصوص ما يقرُّه العرف أو القانون أو الشرع.

والكلام في هذا القسم يقع في ضمن نقاط:

النقطة الأولى: في الدليل على ثبوت مثل هذه الشخصية المعنوية الحقوقية

ويمكن إقامة الدليل عليه من وجوه:

الوجه الأول: عدم وجود دليل خاص على نفيها, وعليه؛ فإنْ أثبت العرف مثل هذه الشخصية وتقبلها؛ يكون عدم الردع عنه في الشرع كافياً في اعتباره, كما هو الأمر كذلك في الأمور العرفية التي لم يرد دليل خاص في الشريعة على تقريرها.

ص: 134

الوجه الثاني: قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ)(1) وقد ورد في الحديث: (فَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ لِرَسُولِهِ وَمَا كَانَ لِرَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم فَهُوَ لِلْإِمَامِ علیه السلام )(2), واللام تفيد الملكية ما لم تكن في البين قرينة صارفة عن ظهورها, فيكون المفاد أنَّ الغنائم للرسول وللإمام علیهم السلام من بعده, ولا ريب أنَّ هذه الملكية للمنصب الذي تصدّى له الرسول والإمام علیهم السلام , فكأنَّ المنصب حيثية تقييدية لهذه الملكية, فقد ثبت لها شخصية معنوية في شخص الرسول والإمام علیهم السلام ؛ يتصرفان في ما يملكانه لصلاح الرعية والبلاد.

الوجه الثالث: ما رواه الصدوق قدس سره بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الثَّالِثِ علیه السلام إِنَّا نُؤْتَى بِالشَّيْ ءِ فَيُقَالُ هَذَا كَانَ لِأَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام عِنْدَنَا فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟. فَقَالَ علیه السلام : (مَا كَانَ لِأَبِي علیه السلام بِسَبَبِ الْإِمَامَةِ فَهُوَ لِي وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مِيرَاثٌ عَلَى كِتَابِ الله وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ)(3)؛ فإنَّه يدلُّ على أنَّ للإمامة -التي هي منصب إلهي وحكومة شرعية- اعتبار خاص وشخصية حقوقية تتقبل الملكية, فكلُّ من تصدى لهذا المنصب له أنْ يتملك الأموال ليصرفها في مصالح العباد والبلاد.

الوجه الرابع: ما ورد في تقبل جوائز السلطان والتصرف فيها بعوض من البيع ونحوه أو بغير عوض, ولا معنى لذلك إلا من أجل كونه من الشخصية الحقوقيةالمعنوية المتقومة بالسلطان كمثال للحكومات الظاهرية. والأموال التي تكون تحت تصرف السلطان أو رئيس الدولة أو الحكومة لم تكن ملكاً شخصياً له, بل من أجل المنصب الذي تصدى له باعتباره رئيسَ الدولة؛ لأنَّه الأمين عليها, إلا أنْ يُعلم كون المال من أملاكه الشخصية,

ص: 135


1- سورة الأنفال؛ الآية 41.
2- بحار الأنوار(ط. بيروت)؛ ج97 ص58.
3- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج9 ص537.

كما إذا انتقل إليه بالإرث أو التجارة أو الإستقراض على عهدته الشخصية أو حاز مباحاً, فإنَّه يكون ملكاً شخصياً له حقُّ التصرف به بما يشاء, وليس لأحدٍ من الرعية مزاحمته لقاعدة السلطنة.

وأمّا الأموال التي لا تكون ملكاً شخصياً له فإنَّ له حق التصرف من حيث كونه مديراً للعباد والبلاد, ويجلب لهم الخير والصلاح ويدفع عنهم الفساد, فهو يتصرف بها لكونه مسؤول الرعية عند العقلاء, بشرط أنْ يكون لأجل تنظيم مصالحهم الدنيوية على الوجه المطلوب عرفاً وعقلاً وقانوناً؛ فليست الملكية شخصية قطعاً, وهذا الأمر واضح في تلك الأموال التي تكون الملكية فيها نوعية, كملكية الفقراء للصدقات, والأرض المفتوحة عنوة للمسلمين؛ فهو نحو مال خاص أو ملكية خاصة, ولا شأن للشخصية المعنوية سوى حق التصرف كما بيّناه, وأمّا غيرها من الأموال التي تستحوذ عليها الدولة فهي تكون ملكاً لهذا المنصب الرئاسي؛ إمّا بجعل من الله تعالى له كمنصب الإمامة العظمى, أو باختيارٍ من الشعب ونحوه, أو بالوراثة؛ فإنَّ جميع ذلك منصب اعتباري خُصِّص له عناوين معينة منها الملكية؛ لأنْ يتصرف في الأموال بما يرجع إلى مصالح الرعية, كما أنَّه ليس لآحاد الرعية التصرف بها لنفسه.

فهذا النوع من الملكية؛ إمّا نوعية بالنسبة إلى من يتقلد هذا المنصب, أو شخصية يتصرف بها من أجل كونه متصدياً لمنصب قيادي يحتاج إلى المال, وإطلاق العنان له في التصرف في الأموال لمصالح العباد والبلاد.

ومن هذا القسم أموال الخراج أي الضرائب والمقاسمة, أي ما يقسّم مع الحكومة من حاصل الأرض, وحيازة الدولة للمباحات, واستخراجها للمعادن وغير ذلك.

ص: 136

فإنَّ الدولة إنَّما تملك تلك وتتصرف فيها من حيث كونها شخصية معنوية حصلت من توكيل الرعية لها, وتكون الهيئة التي تدير شؤون الأمة إنَّما هم وكلاء وأمناء في الصرف والمصرف, والأخبار الواردة في هذا الموضوع إرشادٌ إلى هذا الأمر الجعلي العرفي, وهي كثيرة؛

منها: صحيح أَبِي وَلَّادٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام : مَا تَرَى فِي رَجُلٍ يَلِي أَعْمَالَ السُّلْطَانِ لَيْسَ لَهُ مَكْسَبٌ إلا مِنْ أَعْمَالِهِمْ, وَأَنَا أَمُرُّ بِهِ فَأَنْزِلُ عَلَيْهِ فَيُضِيفُنِي وَيُحْسِنُ إِلَيَّ, وَرُبَّمَا أَمَرَ لِي بِالدِّرْهَمِ وَالْكِسْوَةِ؛ وَقَدْ ضَاقَ صَدْرِي مِنْ ذَلِكَ؟. فَقَالَ لِي: (كُلْ وَخُذْ مِنْهُ؛ فَلَكَ الْمَهْنَأُ وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ)(1).ومنها: صحيح بْنِ مُسْلِمٍ وزُرَارَةَ؛ قَالا: سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: (جَوَائِزُ الْعُمَّالِ لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ )(2).

ومنها: معتبرة أَبِي الْمَغْرَاءِ؛ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام وَأَنَا عِنْدَهُ, فَقَالَ: أَصْلَحَكَ الله أَمُرُّ بِالْعَامِلِ فَيُجِيزُنِي بِالدراهم؛ آخُذُهَا؟ قَالَ علیه السلام : (نَعَمْ. قُلْتُ: وَأَحُجُّ بِهَا؟ قَالَ علیه السلام : نَعَمْ)(3).

ومنها: خبر أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِيِّ؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام وَعِنْدَهُ إِسْمَاعِيلُ ابْنُهُ, فَقَالَ: (مَا يَمْنَعُ ابْنَ أَبِي السَّمَّالِ(4) أَنْ يُخْرِجَ شَبَابَ الشِّيعَةِ فَيَكْفُونَهُ مَا يَكْفِيهِ النَّاسُ وَيُعْطِيهُمْ مَا يُعْطِي النَّاسَ؟ ثُمَّ قَالَ لِي: لِمَ تَرَكْتَ عَطَاءَكَ؟ قَالَ: مَخَافَةً عَلَى دِينِي. قَالَ: مَا مَنَعَ ابْنَ أَبِي السَّمَّالِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ بِعَطَائِكَ؟! أَمَا عَلِمَ أَنَّ لَكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَصِيباً)(5).

ص: 137


1- المصدر السابق؛ ج17 ص213 .
2- المصدر السابق؛ ص214 .
3- المصدر السابق.
4- وفي التهذيب؛ ج6 ص336: (السماك).
5- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص214.

ومنها: موثق دَاوُدَ بْنِ رَزِينٍ؛ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ مُوسَى علیه السلام : إِنِّي أُخَالِطُ السُّلْطَانَ, فَتَكُونُ عِنْدِيَ الْجَارِيَةُ فَيَأْخُذُونَهَا, وَالدَّابَّةُ الْفَارِهَةُ فَيَبْعَثُونَ فَيَأْخُذُونَهَا, ثُمَّ يَقَعُ لَهُمْ عِنْدِيَ الْمَالُ؛ فَلِي أَنْ آخُذَهُ؟. قَالَ علیه السلام : (خُذْ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ)(1)؛ وهو يدلُّ على احترام مالهم وعدم جواز أخذه إلا بمسوغ شرعي كالمقاصة كما هو ظاهر الرواية.

ومنها: خبر يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عُمَرَ أَخِي عُذَافِرٍ؛ قَالَ: دَفَعَ إِلَيَّ إِنْسَانٌ سِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَكَانَتْ فِي جُوَالِقِي, فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْحَفِيرَةِ شُقَّ جُوَالِقِي وَذُهِبَ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ, ووَافَقْتُ عَامِلَ الْمَدِينَةِ بِهَا, فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي شُقَّ جُوَالِقُكَ فَذُهِبَ بِمَتَاعِكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ, قَالَ: إِذَا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَائْتِنَا حَتَّى نُعَوِّضَكَ. قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَقَالَ: (يَا عُمَرُ شُقَّتْ زَامِلَتُكَ وَذُهِبَ بِمَتَاعِكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ, فَقَالَ: مَا أَعْطَاكَ الله خَيْرٌ مِمّا أُخِذَ مِنْكَ, إِلَى أَنْ قَالَ فَائْتِ عَامِلَ الْمَدِينَةِ فَتَنَجَّزْ مِنْهُ مَا وَعَدَكَ, فَإِنَّمَا هُوَ شَيْ ءٌ دَعَاكَ الله إِلَيْهِ لَمْ تَطْلُبْهُ مِنْهُ)(2).ومنها: ما رواه قَيْسِ بْنِ رُمَّانَةَ؛ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَذَكَرْتُ لَهُ بَعْضَ حَالِي, فَقَالَ: (يَاجَارِيَةُ هَاتِي ذَلِكَ الْكِيسَ؛ هَذِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَصَلَنِي بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام فَخُذْهَا وَتَفَرَّجْ بِهَا)(3), إلى غير ذلك من الروايات.

والمستفاد من مجموع هذه الأخبار:

أولاً: إثبات الشخصية القانونية للهيئة الحاكمة من السلطان والعمال والوزراء؛ المعبَّر عنه في الإصطلاح السياسي المعاصر بالدولة أو الحكومة.

ثانياً: إثبات الملكية لهذه الشخصية الحقوقية.

ص: 138


1- المصدر السابق؛ ص272.
2- المصدر السابق؛ ص215.
3- المصدر السابق.

ثالثاً: قبول الأئمة الهداة علیهم السلام جوائزهم وهداياهم وأمرهم شيعتهم بأخذها؛ فإنَّها من حقوقهم.

رابعاً: إحترام أموال هذه الشخصية القانونية وعدم جواز التصرف فيها إلا إذا كان مسوغٌ شرعيٌّ له.

خامساً: إنَّ إعراض الأئمة المعصومين علیهم السلام في بعض الموارد عن قبول هداياهم والاعتراض عليهم إنَّما هو لأغراضٍ خاصة؛ منها: إعلام الناس بأنَّ الإمارة لم تكن لهم وإنَّما أخذوها ظلماً وعدواناً, وتسلطهم على رقاب الناس إنَّما هو بالظلم والطغيان. وهذا لا ينافي ثبوت الشخصية المعنوية للهيئة الحاكمة من أجل التسهيل على الناس.

الوجه الخامس: الأخبار الواردة في الخراج والمقاسمة والزكاة وسائر الضرائب التي تفرضها الدولة على الأفراد والأملاك وغيرها من أجل إصلاح النظام العام, فإنَّه لا يمكن تصوير ذلك إلا بإثبات الشخصية المعنوية للدولة. ولا ريب إنَّ جعل الضرائب واستيفاءها لا بُدَّ أنْ يكون وفق القوانين المجعولة في هذا السبيل بما يرجع إلى الصالح العام, ولا يستلزم منها الضرر والإضرار بعامة الناس, ولا إشكال في أنَّه لو قلنا بأنَّها مفروضة من شخص معين كالسلطان وغيره لأجل أغراضه الخاصة كان من الظلم الصراح فيحرم جعلها وأخذها والتصرف فيها, والأخبار الوردة في ذلك مستفيضة؛ منها: صحيح ابْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى علیه السلام : (مَالَكَ لَا تَدْخُلُ مَعَ عَلِيٍ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ؛ إِنِّي أَظُنُّكَ ضَيِّقاً؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ؛ فَإِنْ شِئْتَ وَسَّعْتَ عَلَيَّ. قَالَ علیه السلام : اشْتَرِهِ)(1). والحديث وارد في الطعام مطلقاً سواء كان من الزكاة أم العشور والضرائب وغيرها.

ومنها: موثق أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ مِنَّا يَشْتَرِي مِنَ السُّلْطَانِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَغَنَمِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ

ص: 139


1- المصدر السابق؛ ص218.

عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: فَقَالَ علیه السلام : (مَا الْإِبِلُ إلا مِثْلُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لَا بَأْسَ بِهِ حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ)(1).

ومنها: ما فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ شِرَاءِ الْخِيَانَةِ والسَّرِقَةِ, قَالَ علیه السلام : (إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَلَا َ تَشْتَرِه إلا مِنَ الْعُمَّالِ)(2), وهو يدلُّ على أنَّ ما يأخذه الناس بعضهم من بعض على نحو التعدي يكون من الخيانة والسرقة فلا يجوز أخذه والتصرف فيه.

وأمّا ما يأخذه السلطان وعماله وولاته فإنَّهم وإنْ كانوا من الخائنين الظالمين الذين تعدّوا على الحقِّ وأزاحوه عن أهله؛ لكن الشارع منحهم شخصية حقوقية تسهيلاً على المؤمنين ورعاية لمصالح العباد والبلاد, فيجوز الشراء منهم من أجل ذلك, قال السيد الوالد قدس سره: (فبعد علم الشارع الأقدس بهذه الحوادث وإخباره بها في جملة من الأخبار بغلبة الجور؛ فهل يبقى التكليف بالاجتناب منجزاً على كلِّ حال؟ أو يتغير حسب الظروف والأحوال؟ كما أنَّ تكليف الصلاة التي هي أهم أركان الدين يتغير بحسب حالات التقية ونحوها؟! مقتضى سهولة الشريعة المقدسة هو الثاني, وثبوت الوزر الواقعي بالنسبة إلى الغاصبين لا ينافي التسهيل الظاهري بالنسبة إلى الرعية حفظاً للنظام وتيسيراً على الأنام, ويشهد لما ذكرناه ذكر الزكاة أيضاً في بعض الأخبار)(3).

وعليه: فإنَّ إثبات الشخصية الحقوقية لحكومات الجور وإثبات الملكية الظاهرية لها مِمّا تقتضيه سهولة الشريعة المقدسة, وهو لا ينافي ثبوت الوزر الواقعي على المتصدين لأنَّهم تقمَّصوا ما ليس لهم.

ص: 140


1- المصدر السابق؛ ص219.
2- المصدر السابق؛ ص220.
3- مهذب الأحكام؛ ج16 ص192.

ثم إنَّه مقتضى إطلاق الطائفة الأولى في جوائز السلطان وهذه الطائفة عدم اعتبار الإستحقاق فيمن تصل إليه الجائزة أو الخراج والمقاسمة, كما أنَّ مقتضى الإطلاق أيضاً عدم كونه من مصارف الزكاة, ويقتضيه الأصل في الأمرين أيضاً, مع أنَّ الحكمة هي التسهيل ورفع العسر والحرج وهي تعمُّ الجميع.

الوجه السادس: جواز تقبُّل الأراضي الخراجية من الدولة وتضمينها بعوض لينتفع بها انتفاعاً محللاً أو يقبلها ويضمُّها لغيره ولو بالزيادة. وهو أيضاً مِمّا يدلُّ على ثبوت الشخصية المعنوية والملكية الظاهرية لها. ويدلُّ على ذلك جملة من الأخبار.واعلم أنَّ تقبل الأراضي وموارد الخراج والمقاسمة الشرعيين عند الفقهاء إنَّما هو في الأراضي المفتوحة عنوة أو صلحاً على أنْ تكون الأرض للمسلمين بالشروط المذكورة في كتاب الجهاد وكتاب إحياء الموات وهي:

1- أنْ يكون الفتح بإذن الإمام علیه السلام , وإلا كانت من الأنفال التي هي ملك للإمام علیه السلام .

2- أنْ تكون مُحياة حال الفتح.

3- أنْ تكون مفتوحة عنوة بإذنه علیه السلام .

فإذا تحققت تلك الشروط كانت الأراضي المفتوحة ملكاً لجميع المسلمين إلى يوم القيامة. وإذا لم نحرز توفرها كان المرجع قاعدة الإشتغال إعطاءً وأخذاً بعد سقوط الأصول الموضوعية من جهة التعارض وهي أصالة عدم الفتح عنوة وأصالة عدم كونها ملكاً لشخص خاص؛ إماماً كان أو غيره.

والصحيح؛ إنَّه إذا قلنا بأنَّ الأراضي كلّها للإمام علیه السلام -كما هو مقتضى إطلاقات وعمومات بعض الأخبار- فإنَّ ذلك يكون أصلاً معتبراً في الأراضي مطلقاً إلا ما خرج بالدليل, فيكون المشكوك من الأراضي ملكاً للإمام علیه السلام , وحينئذٍ لو قلنا بالملكية الحقيقية له علیه السلام فلا يجوز التصرف فيها إلا بإذنه علیه السلام لأنَّه المالك الحقيقي لها.

ص: 141

وأما إذا قلنا بأنَّ ملكية الإمام جهتية, أي من جهة الرياسة الدينية الثابتة له, كما في ملكية الإمام للخمس ونحوه؛ فتكون الرياسة الدينية كغيرها من المؤسسات لها شخصيةٌ حقوقية, كما أنَّ الأمر كذلك إذا قلنا بالشخصية الحقوقية للدولة وإثبات الملكية لها فتملك الأراضي كلها, فما تأخذه الدولة من الأنفال بحكم ما تأخذه من أرض الخراج؛ كما تقدم بيانه.

وكيف كان؛ فإنَّه يدلُّ على جواز تقبل الأراضي مطلقاً من الدولة أو تضمينها أو يضمّنها لغيره مطلقا ولو بالزيادة جملة من النصوص الشرعية؛ منها: صحيح الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: (لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَقَبَّلَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ وَأَهْلَهَا مِنَ السُّلْطَانِ)(1), وهو يدلُّ على مطلق الأراضي سواء كانت من المفتوحة عنوة أم من أرض الصلح أو غيرها.

ومنها: ما رواه الْفَيْضِ بن الْمُخْتَارِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ مَا تَقُولُ فِي الْأَرْضِ أَتَقَبَّلُهَا مِنَ السُّلْطَانِ ثُمَّ أُؤَاجِرُهَا مِنْ آخَرِينَ عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللهمِنْهَا مِنْ شَيْ ءٍ كَانَ لِي مِنْ ذَلِكَ النِّصْفُ وَالثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ؟ قَالَ علیه السلام : (لَا بَأْسَ)(2).

وغير ذلك من الأخبار.

وتقتضيه الإطلاقات والعمومات أيضاً التي تدلُّ على تقرير الشارع المقدس لمثل هذه الأعمال من السلطان والدولة, وترشد إلى ثبوت الشخصية الحقوقية لهما.

واحتمالُ أنْ يكون الحكمُ بالجواز مختصاً بخصوص الشيعة ولا يعمّ باقي الناس بعيدٌ, للإطلاقات والعمومات وقاعدة نفي العسر والحرج.

ص: 142


1- تهذيب الأحكام؛ ج7 ص202.
2- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج19 ص128.

وما رود في بعض الأخبار (لَيْسَ لِعَدُوِّنَا مِنْهُ شَيْ ءٌ)(1) لا بُدَّ من حمله إمّا على نفي الملكية الشخصية لهم, أو الإختصاص بمن حكم بكفره أو نصبه, أو أنَّه ليس لهم مستقلاً, بل الحكم يعمّهم وغيرَهم تسهيلاً على مواليهم وشيعتهم.

والحاصل من جميع ما تقدم: إنَّه يمكن إثبات الشخصية الحقوقية للدولة كإحدى المؤسسات التي تهتم بتنظيم أمور عامة الناس وإشاعة الأمن والأمان في البلاد وإصلاح شؤون العباد.

وقد عرفت أنَّه أمرٌ اعتبره العرف والعقلاء ولم يردع عنه الشارع وهو يكفي في الإمضاء, فضلاً عن ورود التقرير لهذه السيرة العقلائية بالنصوص الخاصة كما تقدم ذكرها.

ولا بُدَّ من التنبيه على أمر مهمّ -كما أشرنا إليه فيما تقدم- وهو أنَّه ليس الكلام في إضفاء الشرعية لحكم الظالمين الغاصبين وجعلهم ملوكاً وأمراء شرعيين؛ لأنَّ الغاصب لا يمكن وصفه بالشرعية إلا إذا أرجع الحقَّ إلى صاحبه المنصوب من الله تعالى, والخلافة الإلهية حقٌّ للرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وبجعلٍ إلهي للأوصياء الذين جعلهم صلی الله علیه و آله و سلم من بعده لتصدي الإمامة الكبرى والخلافة العظمى.

فليس البحث في تقويم الدعاوى السلطوية, وتصحيح أعمال المتصدّين للخلافة, وإنَّما الكلام في بيان الواقع العملي المتحقق بعد تسلّطهم على كرسي الرئاسة ودراسة واقع التعامل معهم, وعرضه على المَوازين الشرعية بعد ابتلاء المكلفين بهم.

ومن أجل ذلك لا يختص بحث ملكية الدولة وعدمها بنوع معين من الدول, بل هو عام يشمل جميع الدول بكافة اتجاهاتها؛ مسلمة كانت أو كافرة, بل كلُّ ما لهذا العنوان من أفراد ومصاديق.

ص: 143


1- المصدر السابق؛ ج9 ص551.

ومن المعلوم أنَّ الدول على مرِّ التاريخ على اتجاهين من حيث التسلط والملكية:

· الإتّجاه الأول:

النظم الدكتاتورية التي يرى الحاكم فيها نفسه هو المالك المطلق لما يتسلّط عليه من الأراضي والعقارات والمعادن والأموال وسائر الممتلكات, ولا بُدَّ للرعية أنْ تعترف له بذلك طوعاً أو كرهاً, وقد عبَّر الإمام أمير المؤمنين علیه السلام . عن مثل هؤلاء بقوله المعروف: (اتَّخَذُوا دِينَ الله دَخَلًا وَعِبَادَ الله خَوَلًا وَمَالَ الله دُوَلًا)(1).

ومثل هذا النحو من النظام كثير على مرّ التاريخ قبل الإسلام وبعده.

قد يقال: إنَّ إثبات الشخصية الحقوقية لمثل هذا النظام يكون من لزوم ما لا يلزم, لأنَّه بعد الإدّعاء من المتسلط والإقرار من الرعية لا يبقى مجال للشك في الملكية, إذ لا يُعلم أن يتحقق من الحاكم والسلطان تجاوزٌ على حقِّ الآخرين أو ظلمٌ لهم. وإنْ فُرض العلم بالتجاوز والظلم فلا بُدَّ من إرجاع كلّ حقٍّ لصاحبه إنْ كان معلوماً, وإلاّ كان من موارد مجهول المالك. وليس الكلام في هذا الأمر, وإنَّما البحث في إثبات أصل الملكية والمفروض ثبوتها إدّعاءً للحاكم المتسلط ما دام على قيد الحياة, وبعد موته ترجع الاملاك إلى ورثته الشرعيين أو من يملك المنصب من بعده.

ولكن الصحيح أنَّ الإدّعاء من الحاكم والإقرار من الرعية لا يغير من الواقع شيئاً, فإن الأخبار التي تقدم ذكرها وردت في عصر هؤلاء الحكام والسلاطين, فإن النظام برُمَّته لم يكن شرعياً ولم تعترف به جميع الأديان الإلهية, وقد ذكرنا بأنَّ الملكية المدعاة من قبل الحكاّم السلطويين لم تكن إلا إدّعائية, والمملوك بمنزلة المغصوب لا يجوز التصرف فيه لا من الحاكم ولا من المحكوم إلا أنْ يكون إذنٌ شرعيٌّ يسوّغ مثل ذلك, وحينئذٍ يعود

ص: 144


1- بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج18 ج126.

الكلام بالنسبة إلى الرعية إذا لم يؤذن لهم بالتصرف في الأراضي والأملاك والعقارات, ولا يجوز لهم أخذ الجوائز من السلطان وتقبل الأراضي وغير ذلك من أنحاء التصرفات, فإنَّ التكليف يكون في حقهم منجَّزاً, فيقعوا في العسر والحرج وربما يستلزم اختلال النظام برُمَّته.

ولا إشكال في عدم كونه مطلوباً للشارع المقدس, حيث إن الأمن والأمان وتنظيم شؤون الرعية أهم مقاصد الشرع الحنيف. وحلّ هذه المعضلة لا يكون إلا بأحد الوجهين:

1- الرجوع إلى الحاكم الشرعي وأخذ الإذن منه في التصرف في أموال الحكومة. وهو إنْ كان صحيحاً ووجيهاً ويقول به جمعٌ كبير من الفقهاء؛ ولكنه حلٌّ جزئي لا يحلُّ المشكلة بأسرها, وربما يُستلزم فيه بعض المنافيات والمصادمات؛ كما يأتي بيانه.

2- إثبات الشخصية الحقوقية وترك الإدّعاء المزيّف من الحاكم, وإثبات الملكية لها ولتسهيل الأمر وتخفيف معاناة المؤمنين بل الناس جميعاً. وهو الذي أردنا إثباته فيما تقدم.

· الإتّجاه الثاني:

أنْ لا يكون نظر الحاكم كذلك, فلا يرى لنفسه الملكية الشخصية لما يكون تحت سلطته, وإنَّ أقصى ما يثبت لنفسه هو حقّ التصرف؛ إمّا على نحو الإستقلال أو ما يقرّه له القانون؛ كما هو الدائر في الأنظمة الحديثة.

وهذا هو الغالب في الحكومات المعاصرة. ولكن لا بُدَّ من تحديد مواقع الملكية فيها.

أركان الدولة الحديثة

ومن المعلوم أنَّ الدولة الحديثة تبتني على أركان خمسة:

الركن الأول: الشعب؛ وهو العنوان الكلي الذي ينطبق على كلِّ فرد تتوفر فيه شروط المواطنة حسب القوانين الموضوعة في هذا المجال من دون تحديد قومية أو دين أو مذهب وغير ذلك.

ص: 145

الركن الثاني: القانون؛ والمراد به الدستور الذي يُثبت النظام المُطَّرد في الدولة, والقائم على نظرية معينة في العلاقات الاجتماعية والإقتصادية والسياسية.

الركن الثالث: الحكومة؛ وهي المؤسسة التي تضمّ جماعة معينة من موظفي الدولة, الذين أُنيطت بهم مسؤولية القانون وتثبيت النظام الفعلي في الوطن.

الركن الرابع: الوطن؛ وهو الرقعة التي يعيش عليها الشعب, وتطبق الحكومة فيها القانون وتنفذ مسؤولياتها.

الركن الخامس: رأس النظام؛ وهو ذلك المنصب الذي يتسنم جهاز الحكومة, وإليه تنتهي كافة المسؤوليات القانونية الحاصلة من التطبيق.

ومن المعلوم أن المنصب الذي يترأسه الفرد لا بُدَّ أنْ يكون له أساس يُضفي له هذا الإعتبار الخاص, ككونه رئيساً للدولة أو الحكومة ونحو ذلك, وهذا الأساس يختلف حسب الإتّجاهات السياسية, وهي:

1- الولاية الإختيارية التي يعطيها أبناء الشعب باختيارهم لشخص معين أو فئة معينة.

2- القهر والغلبة من قبل المتسلط أو من قبل آخرين.

3- الجعل الإلهي لشخص معين؛ كما في ولاية الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وأوصيائه المنتجبين علیهم السلام .

ولا ريب أنَّ محور الملكية الإعتبارية في الدولة لا بُدَّ أنْ يكون في مورد يمكن تصوير الشخصية الحقوقية لها, وهي الهيئة الحاكمة التي تتمثل بالحكومة ورئيسها وليس القانون ذاته, لأنَّه لا يعني أكثر من الطريقة التي تنتظم بها الشؤون, ولا تُتصور فيها الشخصية حتى تُفرض لها المالكية.

نعم؛ مالكية الشخصية الحقوقية ينظمها القانون لا أن يكون القانون نفسه كذلك.

ص: 146

وحينئذٍ يكون رأس النظام وعماله ووزراؤه الذين يُعبَّر عنهم في المصطلح الحديث بالهيئة الحاكمة, أو تلك المؤسسة التي تحملّت مسؤولية تطبيق القانون وتنظيم شؤون العباد والبلاد.

ومن ذلك يظهر فساد ما قيل من أنَّه لا معنى للقول بملكية الجهاز الحكومي بما هو فئة مسؤولة عن تنفيذ القانون وإجراء النظام إذ هذه الحيثية وظيفية صرفة؛ لأنَّ وظيفة الهيئة الحاكمة لتطبيق القانون وإجراء النظام هي التي تستدعي فرض الشخصية الحقوقية لها؛ حتى يتسنّى لها التصرف في الأموال والممتلكات وفرض الضرائب, ويصح للأفراد التصرف فيما تمنحه الحكومة لهم كما تقدم بيانه.

وحينئذٍ إن الذي نفرض له الشخصية الحقوقية كرئيس البلد أو الحكومة والمالكية لها إنَّما يملك بقيد المنصب, فيكون القيد داخلاً في مفهوم تلك الشخصية بنحو الحيثية التقييدية, فما دام كونه متقمصاً لهذا المنصب يحقّ له التملك والتصرف في ممتلكات الدولة, فإذا عُزل أو تنازل أو حصل أي عارض يوجب ابتعاده عن المنصب لا يحق له التصرف, كما لا تعود مملوكات الدولة إلى ورثته بعد موته حتى لو كان على رأس السلطة, بل يعود في الحالات المتقدمة إلى من يتسنم هذا المنصب من بعده.

وهذا الأمر لا يختص بالحكومات الظاهرية, بل يجري في ملكية الإمام علیه السلام لسهمه من الخمس والأنفال وغيرهما, فإنَّ المنصب هو المالك لهذا السهم وليس شخص الإمام, كما يدل عليه خبر ابن راشد المتقدم, ومن أجل ذلك لا يعود السهم إلى ورثته بل إلى الإمام الذي يليه, وقد عرفت أنَّ المنصب بما هو هو لا يمكن أنْ يُملك إلا أنْ يُفرض له الشخصية الحقوقية القانونية.

ص: 147

إذن يتعين أنْ تكون ملكية الدولة في الهيئة الحاكمة المؤلفة من رئيس الدولة والحكومة؛ التي هي مؤسسة خاصة يتصدى لها جملة من الأفراد, وهم الوزراء والمدراء العامّون وغيرهم.

النقطة الثانية: الإشكال على الشخصية الحقوقية

ثم إنَّهم قد أوردوا على إثبات ملكية الدولة والشخصية الحقوقية لها بإشكالات:

الإشكال الأول: إنَّ الملكية لا بُدَّ فيها من مالك, والنظام بما هو نظام لا يُعقل تملكه لأنَّه بمنزلة الجماد, ولا وجه لإثبات الشخصية الحقوقية له.

ويرد عليه: إنَّ المالك لا يشترط فيه العقل والقدرة على التصرف في نفسه والإنتفاع بالمال بشخصه, وإلا لزم إلغاء ملكية الصبيان والمجانين والحمل؛ كما عليه المشهور, كما يلزم عدم ملكية الموقوف عليه الخاص إذا كان عاجزاً عن الإستقلال بالتصرف؛ كالمشاهد المشرفة والحسينيات وبيت مال المسلمين ونحو ذلك, مع أنَّ المشهور هو ملكيتها.ولوا اشترطنا القدرة على التصرف لأشكل القول بملكية المسلمين لمثل الأراضي المفتوحة عنوة التي هي ملك لطبيعي المسلم, والكلي بما هو كلي لا تحقق له في الخارج.

فالذي يملك في جهاز الدولة الذي هو رأس السلطة والحكومة هو المنصب لا شخص الأفراد المتصدين بما له من شخصية حقوقية؛ فيملك حينئذٍ, ومن أجل ذلك لا يقدح دعواه بالملكية أو دعواه بعدم الملكية في أنَّه مالك, ولا تزول الشخصية الحقوقية ما دام متصدياً للمنصب.

الإشكال الثاني: إنَّ الملكية من الموجودات الاعتبارية التي لا تحقُّقَ لها وراء الاعتبار العقلائي. ومجرد التسلط الخارجي على شيء لا يقتضي الملكية ما لم يكن لهذا التسلط من سبب حقيقي أو اعتباري؛ كما هو معلوم. وسلطة الدولة في أي من مواقعها لا تحكي أكثر من التسلط دون تحقق الملكية أو مقتضيها.

ص: 148

ويرد عليه: إنَّ مفروض الكلام هو إثبات الشخصية الحقوقية للحكومة ثم إثبات مالكيتها بالسيرة العقلائية, وحينئذٍ تكون السيطرة الخارجية كاشفة عن ثبوت الملكية واقرار العقلاء يكفي في ذلك كله. نعم؛ إنَّ الأموال التي تسيطر عليها الدولة تختلف مناشئُها, ومن ثم يختلف نوع الملكية فيها, وهذا أمر آخر سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

والمهم أنْ تكون السلطنة على الأموال بطريقة قانونية ما لم يكن ردع من الشرع الحنيف لها, ومن هنا تكون المباحات الأولية العامة وما يترتب عليها؛ لا يكفي في التملك بمجرد السيطرة عليها ما لم يكن مقتضٍ للتملك في البين؛ سواء كان من قبل الأفراد أم الدولة, وكذا لو كانت الأموال مملوكة لآخرين ممن يعترف لهم القانون بالملكية, فإنَّها لو وقعت تحت سلطة الآخرين لم تكن موجبة لانتقال الملكية عنهم للمتسلط ما لم يكن مبرر شرعي لهذا الإنتقال.

والحاصل: إنَّ إثبات الملكية للدولة أمر عرفي عقلائي إلا أنَّ ذلك إنَّما يصح بعد إثبات الشخصية الحقوقية لها, وأمّا الأموال التي تكون تحت سلطة الدولة فهي تختلف مناشئُها ومقتضياتها وتختلف باختلافها؛ كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

الإشكال الثالث: إنَّ اعتبار العقلاء في إثبات ملكية الدولة لو فرض تحققه فإنَّه لا يكفي ما لم يكن امضاء من الشارع له ومع عدم احرازه يكفي في سقوط هذا الاعتبار العقلائي, وفي المقام الأمر يكون كذلك, فإنَّه لم يرد من الشارع ما يدلُّ على إمضائه, إنْ لم نقل بوجود أدلة تدل على الردع عنه, وهي الأخبار التي تنهى عن دفع الخراج والصدقات الواجبة بل مطلق الأموال إليهم مع عدم العدالة.

ويرد عليه: ذكرنا أنَّ السيرة العقلائية قامت على ملكية الدولة, وإنَّه يكفي في إمضائها عدم الردع عنها من الشرع الحنيف كما في سائر الأمور العرفية والعقلائية؛ فكيف إذا ورد الإمضاء في عدة روايات كما تقدم ذكرها؟.وأمّا الروايات التي تدلُّ على النهي عن دفع الخراج والصدقات الواجبة لا تكون معارضة لما تقدم من الأخبار كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 149

الإشكال الرابع: جملة من الأخبار التي تدلُّ على النهي عن دفع الخراج والصدقات الواجبة, بل مطلق الأموال إلى المتسلطين والمتصدين للحكم, وهي:

1- معتبرة العِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام : فِي الزَّكَاةِ قَالَ: (مَا أَخَذُوا مِنْكُمْ بَنُو أُمَيَّةَ فَاحْتَسِبُوا بِهِ وَلَا تُعْطُوهُمْ شَيْئاً مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّ الْمَالَ لَا يَبْقَى عَلَى هَذَا أَنْ تُزَكِّيَهُ مَرَّتَيْنِ)(1).

وفيه:

أ- إنَّها تدلُّ على وجوب إيصال الزكاة إلى مستحقيها, وإعطاؤها لغيرهم كالسلطان الجائر تضييعٌ لهذا الحق. وهذا أمر متَّفق عليه, وتدلُّ عليه جملة من الروايات.

ب- يضاف إلى ذلك أنَّ الكلام في المقام عن ملكية الدولة لما تحت سلطتها مع عدم العلم بوجود مالك معروف لها, ولا ريب أنَّ مستحقي الزكاة هم المالكون لهذا الحق الواجب؛ فالروايات أجنبية عن موضع البحث.

وحينئذٍ لا بُدَّ من تمكين المالك الشرعي لهذا الحق الواجب مع الإمكان, ومع عدمه فإن أخذه الظالم يسقط عن ذمة المالك لأنَّه لا تتعدد الزكاة عليه مرتين, كما هو نص الرواية المتقدمة.

ج- وعلى فرض التنزُّل فهي معارضة مع ما دلَّ على جواز تسليم الزكاة إلى عمال السلاطين مطلقاً سواء تمكن من الإمتناع أم لا, ومن دون التعويض بما يبرئ الذمة عن الحقِّ الواجب, كما يدلُّ عليه صحيحة يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ

ص: 150


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج9 ص252.

أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الْعُشُورِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الرَّجُلِ أَيَحْتَسِبُ بِهَا مِنْ زَكَاتِهِ؟ قَالَ علیه السلام : (نَعَمْ إِنْ شَاءَ)(1).

وبمضمونها أخبار أخرى, بل صدر رواية العيص يدلُّ على ذلك أيضاً, فهذه الرواية أجنبية عن موضع البحث ولا تعارض غيرها بما تدل على المطلوب.

2- ما رواه زُرَارَةُ قَالَ: اشْتَرَى ضُرَيْسُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَخُوهُ مِنْ هُبَيْرَةَ أَرُزّاً بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ, قَالَ, فَقُلْتُ لَهُ: وَيْلَكَ أَوْ -وَيْحَكَ- انْظُرْ إِلَى خُمُسِ هَذَا الْمَالِ فَابْعَثْ بِهِ إِلَيْهِ وَاحْتَبِسِ الْبَاقِيَ, فَأَبَى عَلَيَّ, قَالَ: فَأَدَّى الْمَالَ, وَقَدِمَ هَؤُلَاءِ1- فَذَهَبَ أَمْرُ بَنِي أُمَيَّةَ, قَالَ: فَقُلْتُ ذَلِكَ لِأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَقَالَ مُبَادِراً لِلْجَوَابِ: (هُوَ لَهُ هُوَ لَهُ, فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ أَدَّاهَا فَعَضَّ عَلَى إِصْبَعِهِ)(2).

3- ما رواه إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ علیه السلام مَا تَقُولُ فِي أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ علیه السلام : (إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ فَاعِلًا فَاتَّقِ أموال الشِّيعَةِ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي عَلِيٌّ أَنَّهُ كَانَ يَجْبِيهَا مِنَ الشِّيعَةِ عَلَانِيَةً ويَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ فِي السِّرِّ)(3).

وبمضمونهما روايات أخرى تدلُّ على عدم جواز اعطاء الحقوق الشرعية لهم بل على جواز أخذ أموال السلطان الجائر.

وفيهما(4):

أولاً: ما عرفت من أنَّ عدم جواز دفع الحق الشرعي لهم من المسلّمات لمعلومية ملّاكها الشرعيين, إلا أنْ يكون دليلٌ شرعيٌ يدلُّ على إبراء ذمة الدافع لهم, وقد تقدم بيانه آنفاً.

ص: 151


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج9 ص252.
2- المصدر السابق؛ ج17 ص219.
3- المصدر السابق؛ ص139.
4- لروايتي زرارة وإبراهيم بن أبي محمود.

ثانياً: إنَّ جواز أخذ أموال السلطان الجائر إنَّما هو من جهة كونها من أموال الغاصب التي يجوز تملكّها بأيِّ وجه كان مع دفع الخمس إلى أهله, فيما إذا لم يستلزم الضرر عليه أو على أهل نِحلته؛ كما هو مذكور في الفقه, لأن هبيرة في الرواية المتقدمة من عمال بني أمية, وكان يبيع من أرزهم, وعداؤهم لأهل البيت علیهم السلام معروف.

ثالثاً: إنَّ الحكم من الإمام علیه السلام بجواز الأخذ منهم إنَّما كان بمقتضى ولايته الشرعية المطلقة لتضييع بعض ما يكون سبباً لإعانتهم على الظلم والطغيان.

رابعاً: إنَّ الأموال التي كانت عند ضريس من المحتمل قوياً أنَّها لم تكن لمالك معين, لأنَّ الفترة التي كان يعيش فيها كانت انتقالية من الحكم الأموي إلى الحكم العباسي, ويؤيد هذا الإحتمال روايات عديدة؛ منها تلك التي دلَّت على جواز قبول هدايا السلاطين وشراء ما عندهم وشراء غلات السلطان ما لم يعلم بأنَّها مغصوبة؛ كما تقدم ذكرها.

4- ما رواه مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَوَّلَ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ آلِ فُلَانٍ بَعْضَ قَطَائِعِهِمْ, وَكَتَبَ عَلَيْهَا كِتَاباً بِأَنَّهَا قَدْ قَبَضَتِ الْمَالَ وَلَمْ تَقْبِضْهُ فَيُعْطِيهَا الْمَالَ أَمْ يَمْنَعُهَا؟ قَالَ علیه السلام : (قُلْ لَهُ لِيَمْنَعْهَا أَشَدَّ الْمَنْعِ فَإِنَّهَا بَاعَتْهُ مَا لَمْ تَمْلِكْهُ)(1).وفيه: إنَّها أجنبية عن الموضوع الذي نحن بصدد إثباته, لأنَّ المرأة لم تكن ذات منصب, وإنْ كانت من آل فلان, فما باعته كان من أموالها الشخصية ولكنها من العائلة التي أظهرت عداءها والنصب لأهل البيت علیهم السلام , وقد عرفت جواز أخذ مال الناصب لهم مع الشروط المقررة.

ص: 152


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص334.

والحاصل من جميع ذلك: إنَّه لم يتم دليل على نفي الملكية عن الدولة, فإن أقصى ما يستفاد من تلك الأخبار هو النهي عن اعطاء الأموال إلى الدولة, وهو على فرض قبوله شيء, ونفي الملكية عنها شيء آخر.

الإشكال الخامس: إنَّه قد ورد بعض الروايات التي تدل على تحفظ آل البيت علیهم السلام على أخذ الصلات من سلاطين عصرهم, وتحرجهم من قبض ما أَرسل إليهم السلطان من المال وهي روايات عديدة؛ منها: ما رواه الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ علیه السلام فِي حَدِيثٍ أَنَّ الرَّشِيدَ بَعَثَ إِلَيْهِ بِخِلَعٍ وَحُمْلَانٍ, وَمَالٍ, فَقَالَ علیه السلام : (لَا حَاجَةَ لِي بِالْخِلَعِ وَالْحُمْلَانِ وَالْمَالِ إِذَا كَانَ فِيهِ حُقُوقُ الْأُمَّةِ, فَقُلْتُ: نَاشَدْتُكَ بِالله أَنْ لَا تَرُدَّهُ فَيَغْتَاظَ قَالَ علیه السلام : اعْمَلْ بِهِ مَا أَحْبَبْتَ)(1).

ومنها: ما رواه عَبْدِ الله بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِيهِ -فِي حَدِيثٍ- أَنَّ الرَّشِيدَ أَمَرَ بِإِحْضَارِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ علیه السلام يَوْماً فَأَكْرَمَهُ وَأَتَى بِهَا بِحُقَّةِ الْغَالِيَةِ فَفَتَحَهَا بِيَدِهِ فَغَلَفَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ خِلَعٌ وَبَدْرَتَانِ دَنَانِيرُ فَقَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ علیه السلام : (وَالله لَوْ لَا أَنِّي أَرَى مَنْ أُزَوِّجُهُ بِهَا مِنْ عُزَّابِ بَنِي أَبِي طَالِبٍ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ نَسْلُهُ مَا قَبِلْتُهَا أَبَداً)(2).

وغيرهما من الأخبار الدالة على إعراض الأئمة علیهم السلام عن صِلات السلاطين وامتناعهم عن أخذها, وهو يرشد إلى عدم ملكيتهم لما تحت أيديهم من الأموال.

ويرد عليه:

1- إنَّها معارضة بما دلَّ على أخذهم صلوات الله عليهم جوائزهم وصِلاتهم, فلا بُدَّ أنْ نحمل هذه الروايات على محامل, وقد تقدم أنَّها تُحمل إمَا على بيان اعتراضهم

ص: 153


1- المصدر السابق؛ ص334.
2- المصدر السابق؛ ص216.

علیهم السلام على تصديهم للسلطنة والإمارة, أو تُحمل على أنَّ الأموال التي دفعوها كانت من حقوق الأمة, وغير ذلك من العناوين الثانوية.

2- إنَّها لا تنفي أصل الملكية وجواز التعامل مع الدولة, كما تدلّ عليه الروايات المستفيضة التي تقدم ذكرها.الإشكال السادس: إنَّ الروايات التي دلت على الجواز مِمّا سبق ذكرها إنَّما وردت في نمط معين من الحكومات التي عاصرت صدور تلك الروايات وهي النظم التي ادعت الخلافة الإلهية وأن المتصدين لها لهم الولاية الشرعية, وحينئذٍ لا بُدَّ من الاقتصار على ذلك الصنف من الدول ولا يصح التعدي منه إلى غيره إلا أن يدل عليه دليل شرعي؛ لا سيما إذا قلنا بأنَّه هو المُنصرَف من تلك الأدلة, فيكون إثبات الحكم لما سواه من الدول مطلقاً كما هو مقتضى البحث مِمّا لا يمكن استفادته من هذه الأدلة.

ويرد عليه:

1- إنَّ دعوى الإنصراف مِمّا لا مقتضي لها, إذ وجود نمط معين من السلطة وقت صدور الأخبار لا يعني تقييد الإستعمال به.

2- إنَّ في تلك الروايات لفظ السلطان والعمال, وله من الإطلاق ما يشمل جميع أنواع الدول والحكومات من دون اختصاص بصنف معين أو فئة معينة.

3- إنَّ الأساس في اعتبار ملكية الدولة هو اعتبار العقلاء, والروايات إنَّما وردت لإمضاء هذا الإعتبار الذي لا اختصاص له بصنف معين.

إذن المتحصل من جميع ما تقدم ثبوت الملكية للدولة مطلقاً أياً كانت اتجاهاتها ونزعاتها سواء كانت من الدولة المسلمة أم غير المسلمة. لكن ذلك لا يتم إلا أنْ نثبت الشخصية الحقوقية لها, لأنَّ الملكية بأي معنى اعتبرناها لا يصح تصويرها إلا أنْ يثبت لها موضوع

ص: 154

وهو إمّا أنْ يكون شخصية حقيقية أو شخصية حقوقية. ويدلُّ عليه العرف وبناء العقلاء, وعليه بناء القانون المدني, ولم يردع عنه الشرع الحنيف كما تقدم بيانه مفصلاً.

النقطة الثالثة: مصاديق الشخصية الحقوقية

1- الدول والحكومات؛ وبعبارة أخرى: المؤسسة التي تحكم البلاد وتَسوس العباد التي تتألف من رئيس المنصب, والحكومة التي هي مجموعة من الوزراء والمدراء وغيرهم الذين يديرون اعمال الدولة.

2- البنوك والمصارف مطلقاً.

3- الشركات الصناعية الكبرى التي تُثبت لها الدولةُ شخصيةً حقوقيةً؛ بسببها تتعامل مع غيرها, وإنْ كان لها مالكون معروفون ولكن المعاملات تكون باسم الشركة لا بأسمائهم.

4- الشركات التجارية التي تدير شؤون التجارة مع الدول والأفراد.

وغير ذلك من المصاديق الأخرى التي يقرّ لها العرف والقانون بالشخصية.

النقطة الرابعة: شروط الشخصية الحقوقية

اشارة

لا إشكال في أنَّ هذه الشخصية تختلف عن الشخصية الحقيقية, فهي حقٌّ ذاتي لكلِّ فرد, وأمّا الحقوقية فهي أضيق دائرة من الشخصية الحقيقية لأنَّها جعلية, فلا بُدَّ من إقرار القانون لها, إذ ليس لكل أحد أنْ ينصب لنفسه شخصية حقوقية سواء كان فئة معينة أم غيرها ما لم يكن له غطاء شرعي من العرف والقانون يثبت له هذه الشخصية. ومع ثبوت هذه الشخصية لمورد معين لم تكن له السلطة التامة إلا ضمن القرار العرفي أو القانوني, ومن أجل ذلك كانت سلطتها أضيق من نظيرتها الحقيقية, وتختلف الشروط المقررة لها في موضع عن موضع آخر.

ص: 155

ومن أهم تلك الشروط:

1- أنْ لا تكون موجبة لزعزعة النظام الإقتصادي.

2- أنْ لا يستلزم منها الإضرار بالآخرين.

3- أنْ لا توجب سلب ملكية الأفراد, فليس لها حق مزاحمة الأشخاص الحقيقيين, فإنَّه عند المزاحمة تقدم الأخيرة عليها وسيأتي تفصيل ذلك في المواضع المناسبة إنْ شاء الله تعالى.

موارد ملكية الدولة

ذكرنا في بداية البحث أنَّ الأموال التي تكون تحت يد السلطان أو بالأحرى تحت إدارة الدول والحكومات على أنواع:

الأول: أنْ تكون ملكاً خاصاً للسلطان وتقترن دعواه بالبرهان ومنه اقرار الرعية له, وهكذا في أموال الدولة التي يقر القانون الوضعي بأنَّها من ممتلكاتها, كما إذا أنشأت الدولة معملاً أو مصنعاً من قرض اقترضته الدولة من دولة أخرى أو من بنك خاص, فإنَّها تمتلك منتوجاتها, وفي هذا النوع من الملك الخاص يحقُّ للسلطان أو الدولة أنواع التصرف في ما يملكانه بالشروط التالية:

1- أنْ لا تكون مزاحمة لأملاك الأفراد.

2- أنْ لا يستعملا السلطة الظاهرية في إيقاع الضرر بالرعية.

3- أنْ لا تكون الأموال التي تجتمع عندهما تضر بمصالح العباد والبلاد, فإنَّ دين الإسلام يهتم بهذا الجانب كثيراً, قال تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)(1).

ص: 156


1- سورة الحشر؛ الآية 7.

الثاني: الأموال التي ترجع ملكيتها إلى عموم المسلمين أو جميع أفراد الشعب بحكم القانون أو الشرع, وهي التي يعبّر عنها بالملكية النوعية, كالأراضي الخراجية التي هي ملك لجميع المسلمين, وأراضي الصلح التي يصالح ولّي أمر المسلمين على أنْ تكون الأرض ملكاً للمسلمين, والكفار عمّال فيها, والصدقات الواجبة كالزكاة والخمس والأوقاف العامة. فإنَّ وظيفة الدولة في مثل هذه الأملاك هو التنظيم في إيصال كلّ حقٍّ إلى صاحبه, فلا تملك هذه الأموال.الثالث: المعادن والأنهار والغابات والصحاري والبراري ونحو ذلك مِمّا لم يكن لها مالك معين, فإنَّ الدولة تمتلكها فيجوز لها تمليك أفراد الرعية بعوض أو بغير عوض أو تنظيم العلاقات عليها مع سائر الدول؛ بشرط أنْ لا يستلزم الإضرار بمصلحة الأمة.

الرابع: ما يرجع إلى التراث كالنفائس والمخطوطات والمقابر والتحفيات ونحو ذلك, ومثل هذه الأموال لا تملكها الدولة ولا الأفراد, بل وظيفة الدولة هي الحفاظ عليها من السرقة والاندثار.

وهناك موارد وقع الخلاف في أنَّها ملك للدولة أو للشعب أو الأفراد تأتي في المواضع المناسبة الإشارة إليها. ولا بُدَّ لمن يبحث في علم الإقتصاد ويؤسس دعائمه أنْ يلاحظ موارد الملكية وخصوصياتها.

تتمة؛ نتعرض فيها إلى أمرين:

الأمر الأول:

إنَّ ملكية الدولة إنَّما تعتبر من جهة المنصب من دون ملاحظة جهة ولايتها على الرعية والشعب وإلاّ فلو كان الأمر كذلك لما صحت تصرفات السلاطين والملوك والرؤساء إلا إذا كانت مستقيمة مع هذه الولاية أي تكون لمصلحة الشعب, أو على الأقل لا تكون

ص: 157

مغايرة لتلك المصلحة ومُفسِدة لها, مع إن المشاهد أنَّ كافة التصرفات نافذة لدى العقلاء وقد قررها الشرع الحنيف كما تقدم بيانه.

وحينئذٍ لا يُلتفت إلى دعوى من يتصدى للمنصب ويتسلط على الدولة؛ من أنَّ الشعب هو الذي يملك, وإنَّ تصرفاته إنَّما تكون في خدمة الدولة ورئيسها؛ فإنَّ هذه الدعوى شيءٌ, والإعتبار العقلائي شيء آخر.

والكلام في الأخير دون الأول الذي هو تابع لاتّجاهات معينة ونزعات سياسية معروفة.

الأمر الثاني:

قد عرفت أنواع الأموال التي تكون تحت سلطة الدولة وتصرفها؛ فإنَّ بعضها ملك شخصي, أو يكون ملكاً للدولة, أو ملكاً نوعياً, وليس للدولة حق التصرف فيها إلا الحفظ والتنظيم, فإنَّه إذا علم كلُّ واحد منها يترتب عليه حكمه الخاص به, وإلا فإنَّه يكون من صغريات مجهول المالك؛ يحتاج التصرف فيها إلى دليل شرعي.

وقد اختلف الفقهاء قدس الله أسرارهم فيه, فقد ذهب بعضهم إلى وجوب الإستئذان من الحاكم الشرعي باعتباره الولي الشرعي في مثل ذلك فيشترط أخذ إذنه, والبعض الآخر منهم لا يرى وجوب الإستئذان, والرجوعُ إلى عمومات الأخبار المتقدمة وإطلاقاتها؛ إلا أنْ يعلم في مورد معين أنَّه ليس من ممتلكات الدولة, وهوالمختار, وإنْ كان الإحتياط يقتضي الإستئذان من الحاكم الشرعي في مطلق التصرف في أموال الدولة.

ص: 158

أنواع الملكية

اشارة

بعد ما تبين الملك والمالك وأسباب الملك لا بُدَّ من بيان أنواع الملكية وأقسامها:

النوع الأول: الملكية الفردية

وتسمى بالملكية الخاصة أيضاً, وهذا النوع هو الشايع بين الناس, وتعتبر أحد المبادئ الرئيسة للنظام الرأسمالي الذي يعتبر حق الملكية صورة من صور الحرية الإقتصادية التي يقوم عليها أساس هذا النظام؛ فإنَّ حق الملكية في نظر النظام الرأسمالي هو سلطة الأفراد على الشيء المملوك, ويعتبر هذا النوع من الملكية الركن الأساس لهذا النظام إلا أنَّه لا ينفي الملكية العامة وسيطرة الدولة على بعض القطاعات والتي تمسّ مصالح المواطنين, ولكن هذه الملكية العامة إستثناء للقاعدة في النظام الرأسمالي, لأنَّ القاعدة عنده منع الدولة من التدخل في الشؤون الإقتصادية, وإنَّ الفرد هو الغاية من النظام الإقتصادي.

إنَّ هذا المذهب الفردي الحر يحدد وظيفة الدولة ضمن نطاق ضيق ويطلق عنان الفرد في تملك وسائل الإنتاج, وتكون وظيفة القانون عند هذا النظام هي حماية الحقوق الطبيعية العائدة للإنسان وتمكينه من التمتع بها.

وإذا رجعنا إلى الأسس التي تقوم عليها الرأسمالية يظهر بوضوح أنَّ الملكية الخاصة لرأس المال هي القاعدة الأساسية لنظام الإنتاج في النظام الإقتصادي الرأسمالي الذي عرفت أنَّه يبتني على مفهوم الحرية المطلقة ومن أجل ذلك تحكَّم المهيمنون على المشروعات الضخمة وأصبحوا يملكون امتيازات هائلة مِمّا أتاح لهم إمكانية عرقلة أعمال السلطة السياسية, والتحكم في السياسة الدولية, والتأثير عليهما لخدمة مصالحهم.

وسيأتي مناقشة هذه النظرية إنْ شاء الله تعالى.

ص: 159

النوع الثاني: الملكية الجماعية

وقد عرفها العلماء بتعريفين؛

أحدهما: التعريف القديم؛ وهو ما ينتفع به من قبل الجميع ولا يتعلق بالمالك مباشرة, مثل الإنتفاع بالأرض والماء. وهذا هو المتفاهم لدى الناس.والآخر: التعريف الحديث؛ وهو النظام الإقتصادي الذي يقوم على تملك الدول للأموال, وبالأخص الأموال الإنتاجية كالأراضي والمصانع, ويطلق على هذا المفهوم مصطلح الإشتراكية؛ التي هي نظام اجتماعي يختلف عن غيره من النظم الإجتماعية في طبيعة علاقات الملكية.

ومن الواضح أنَّ الإختلاف بين المفهومين القديم والحديث يرجع إلى أنَّ الأول يبتني على النزعة العاطفية التي لا نظر لها إلى الطابع الإقتصادي والنظريات المتكاملة, وذلك لبدائة الحياة الإقتصادية؛ بخلاف المفهوم الثاني.

وقد حدثت هذه النزعة الحديثة للملكية الصناعية نتيجة ظهور النهضة الصناعية التي قامت على طبقة اجتماعية جديدة, وهي طبقة العمال الذين كانوا في ازدياد مستمر وأصبح لهم كيان خاص بهم يدافع عن حقوقهم بوجه الرأسماليين الذين يستغلونهم, وكان ذلك بداية عصر جديد تحكَّم فيه الصراعُ المرير بين الرأسمالية والإشتراكية, وقد خرجتا عن طورهما الإقتصادي إلى الإتجاهات السياسية.

ومن أجل ذلك حدّد النظام الإشتراكي المبادئ الأساس لنظام الملكية التي تعتمد على مفهوم الإشتراكية وهي:

1- منع الأفراد تملك وسائل الإنتاج.

2- حصرها بمؤسسات الدولة.

ص: 160

3- إنَّ الناس جميعهم موظفون وعمال لقاء أجر على أعمالهم.

4- إنَّ المجتمع هو المالك لوسائل الإنتاج.

ولذلك يرى المذهب الإشتراكي أنَّ الجماعة هي الغاية من كلِّ تنظيم قانوني, ولا يحق للفرد أنْ يتمسك بأيَّة حقوق طبيعية في مواجهة الجماعة إلا تلك الحقوق التي تمنحه إيّاها الجماعة باسم القانون الذي يعتبر في نظر الإشتراكية هو أساس الحق.

ومن نتيجة ذلك كله ألغى النظام الإشتراكي مبدأ الملكية الفردية لوسائل الإنتاج واعتبر ذلك من ركائز هذا النظام واستبدلها بالملكية العامة, مع بقاء المشاريع الإستهلاكية الصغيرة ملكاً خاصاً. وذلك لأنَّ مصلحة الجماعة هي المنطلق والغاية للنظام الإقتصادي الإشتراكي.

واعتبر مؤيدو هذا النظام أنَّ الإشتراكية تعني إحلال نظام جديد في المجتمع؛ تنتقل فيه ملكية وسائل الإنتاج إلى الدولة, وهدفهم هو إحلال الجماعة محلّ الفرد, فتقوم الدولة بإلغاء الملكية الفردية حينئذٍ.

كما أنَّ الإشتراكية تعني إلغاء المشروعات الخاصة والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج, فخلق نظام الإقتصاد المخطط الذي تقوم فيه هيئة تخطيط مركزية من أجل الربح, ويعدّ هذا النظام المبتدع, أي الإقتصاد المخطط بمثابة أداة لتنفيذ سياسة الإشتراكية.وهذه السياسة في الملكية للجماعة قد اعتمدت على وسائل عديدة أهمها التأميم الذي يتم فيه تحويل الملكية الفردية إلى ملكية الدولة بناء على نظرية الملكية الجماعية ليصبح كلّ فرد في نطاق المجموع مالكاً لثروات البلاد كلّها.

ص: 161

ولكن الإشتراكية التي اتَّخذت شعار الملكية الجماعية مبدأً لها لم تبق على نظرة واحدة فقد اختلفت إلى فرق مختلفة حول موقفها من الملكية الخاصة, وهي:

1- ذهب فريق إلى ألغاء الملكية الخاصة على الإطلاق لكي تتحقق المساواة؛ وهو (الفكر الشيوعي).

2- ذهب آخرون إلى إلغاء الملكية الخاصة بالنسبة لثروات الإنتاج التي ينطلق منها رأس المال؛ كالثروات الطبيعية والمصانع والأراضي, وإنَّ الفرد له حق الإحتفاظ بملكية الإستهلاك فقط فيمتلك بيتاً ليسكنه لا ليؤجره, وهذه تسمى (إشتراكية رأس مال).

3- ذهب طائفة ثالثة إلى إلغاء الملكية الخاصة في الأرض الزراعية فقط, وهذه تسمى (الإشتراكية الزراعية).

وتأتي مناقشة هذه النظريات بكلِّ أبعادها الإجتماعية والإقتصادية.

النوع الثالث الملكية المطلقة التي يتبناها الإسلام

اشارة

النوع الثالث(1): الملكية المطلقة التي يتبناها الإسلام

فقد أعطى الفرد حق الملكية كما أعطاه للدولة على حدٍّ سواء, ولكن جعل لكلِّ واحد منها حدوداً وقيوداً خاصة. فإنَّ الملكية في الإسلام تختلف عن أنواع الملكية في سائر الإتجاهات والنزعات الإقتصادية, فهي نظام تشريعي يقوم على التكامل والشمول لما فيه خير الإنسانية جمعاء؛ فهي علاقة شرعية بين الإنسان وبين ما يملكه بحيث يمكنه التصرف فيه مطلقاً عند تحقق أهلية التصرف بكلِّ الطرق المشروعة ضمن الحدود التي بينتها الشريعة, فلم تكن الملكية في الإسلام شيئاً مادياً صرفاً, بل هي حقٌّ وحكم, بل هي أوسع الحقوق.

ص: 162


1- من أنواع الملكية.

وقد أودع الله تعالى في الإنسان حب المال والبنين, وقرر الإسلام هذا الأمر الفطري باعتبار أنَّ المال من العناصر الأساس في نظر الفرد والمجتمع, قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1), وإنْ كان الإسلام يرى أنَّ المال وغيره ملك لله تعالى, قال سبحانه: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ)(2), وإنَّ الإنسان مستخلف فيه, قال سبحانه وتعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)(3), فيكون الإنسان في نظر الإسلام بمنزلة الوكيل,فيجب عليه الإنفاق؛ لا سيما حقوق الله تعالى. وعلى نظرية الإستخلاف في الأرض يقوم المنهج الإقتصادي الإسلامي وفي خصوص ملكية وسائل الإنتاج.

معالم الملكية في الإسلام

وعلى ضوء ما ذكرناه يمكن تحديد معالم الملكية في الإسلام:

1- لقد أتاحت الشريعة السمحاء الحرية في التملك للأفراد في إطار قواعد رصينة منها قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وغيرها, فإنَّ الإنسان مالك بتكليف من المالك المطلق وهو الله عَزَّ وَجَلَّ, ولكن الفرد مسؤول عن طرق الكسب والإنفاق.

2- لقد نظم الإسلام بشكل عادل جميع طرق التملك وقيوده وغاياته وأهدافه تنظيماً متجانساً متكاملاً يجمع فيه مصلحة الفرد والمجتمع بميزان ينسجم مع أهداف الإنسانية السامية رافضاً جميع أنواع الظلم والتعسف والطغيان.

3- إنَّ الإسلام أوجد ضوابطَ الملكية, وأوضح الطرق المشروعة لكسبها.

4- إنَّه إذا تعارضت المصلحة العامة مع المصلحة الشخصية تقدم الأولى على الثانية, مع بقاء حق التعويض لأصحاب الحقوق الشخصية.

ص: 163


1- سورة الكهف؛ الآية 46.
2- سورة المائدة؛ الآية 120.
3- سورة الحديد؛ الآية 7.

5- إنَّ الإسلام يقرّ جميع أنواع الملكية المعروفة؛ الملكية الفردية والملكية الجماعية, مع تهذيب كلّ واحدة منها من المساوئ والسلبيات ليتحقق مبدأ الملكية المزدوجة التي ترعى وتحفظ مصلحة الملكية الفردية من دون المساس بالمصلحة العامة.

وتعتبر الملكية المزدوجة إحدى ركائز الإقتصاد الإسلامي الذي يوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع.

ومن هنا يكون من الموهون أنْ نقول بأنَّ النظام الإقتصادي في الإسلام قد أخذ من الرأسمالية والإشتراكية, لأنَّ القاعدة التي استند عليها هذا النظام تختلف جذرياً عن القاعدة لكلٍّ من النظامين, مع أنَّ النظام الإسلامي له الأسبقية في الزمان والتطبيق في تحقيق العدالة, وإنْ كان المسلمون قد تحملّوا تَبِعَة التقصير في التطبيق.

6- إنَّ الإسلام قد حرص على حماية حق الملكية وبالأخص القاصرين والضعفاء, كما أنَّه فرض على الإنسان أنْ يحمي ملكه ويدفع عنه كلّ مزاحم ولا يقر فيه لغاصبٍ ومعتدٍ.

7- إنَّ الإسلام ينفرد بمذهب إقتصادي يتميزّ في الجمع بين المصلحتين الخاصة والعامة ويوفق بينهما ويجعلهما متساندتين تحمي كلّ منهما الأخرى, وهذه النظرة الواقعية التي تبنّاها الإسلام تؤمن الناسَ من عدم الوقوع في المساوئ التي تهدر مصالحها, وهذه هي الوسطية التي ينادي بها الإسلام في جميع مبادئه.

ومِمّا ذكرناه يظهر حقيقة الملكية في الإسلام؛ فإنَّ المالك الحقيقي المطلق هو الله تعالى الذي هو مالك السماوات والأرض, وهو سبحانه وتعالى مكّن للناس الإنتفاع بهما على قاعدة الإستخلاف في الأرض. وقد أثبت للفرد حق الملكية الذي يمكن له الإنتفاع من خلاله

ص: 164

بمجهوده الخاص مشروطاً بأهليَّته للتصرف وحفظ واجباته اتجاه الآخرين. وفي نظر الإسلام تكون عناصر الملكية هي: حقُّ الله, وحقُّ الفرد, وحقُّ الجماعة.

ومن ذلك يظهر أنَّ مفهوم الملكية في الإسلام مفهوم متماسك من حيث المنشأ والوظيفة والغاية, فالملكية ذات ارتباط ديني ودنيوي؛ فمن ناحية المبدأ؛ فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ مالك كلِّ شيء وبيده مقاليد السماوات والأرض.

ومن ناحية أخرى؛ فإنَّ الإنسان مستخلف في إصلاح الأرض وإحيائها وعمارتها, قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ)(1).

والإنسان مهيمن على ما في يده وملكه وما يحصل عليه بجهده وعمله وهذا هو المسمى بالملكية الفردية في نظر الإسلام, وهي التي تدفع الإنسان للعمل المتواصل والنشاط الدؤوب.

والملكية الفردية وإنْ كان لها الأهمية الكبرى في حياة الإنسان في دار الدنيا وقد احترمها النظام الإقتصادي الإسلامي؛ ولكن هذه الملكية يجب أنْ تُستخدم في خدمة صاحبها وفي خدمة المجتمع أيضاً من دون الإضرار بمصلحة الآخرين, فهي ليست ملكية مطلقة. وبذلك احترم الإسلام هذه الملكية وحرَّم العدوان على الملكية الفردية, قال نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم في دستوره الأبدي: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأموالكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ )(2).

شروط الملكية الفردية في الإسلام

وقد نظَّمت الشريعة الغراء هذه الملكية الفردية بأحسن وجه واعتبرت فيها شروطاً معينة:

1- تنظيم مصادر الملكية وطريقة استعمالها, قال تبارك وتعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(3).

2- أنْ تكون الملكية الفردية في سبيل الصالح العام.

ص: 165


1- سورة الأنعام؛ الآية 165.
2- الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج14 ص284.
3- سورة البقرة؛ الآية 188.

3- ضمان استخدامها في سبيل المصلحة الفردية والإجتماعية وحرَّم استخدامها كوسيلةٍ للإستغلال وأداةً للظلم, وحرَّم الغش والخداع والإبتزاز.

4- إعتبر الإسلام الملكية أمانة ومسؤولية, فإنَّ المالك إذا تقيّد في تصرفه ضمن ما خطط له الشرع الحنيف, فإنَّه يعدّ شخصاً صالحاً ملتزماً بأحكام الدين فيكون من صور ملكية الله تعالى القائمة على العدل.

5- إنَّ الملكية الفردية في الشريعة الإسلامية هي حقٌّ فردي مقيد ليقوم صاحبها بأداء وظائفه الشخصية والإجتماعية بشرط موافقته لأحكام الشريعة الغرّاء.

ثم إنَّ الإسلام كما قرر الملكية الفردية فقد قرر الملكية الجماعية في جملة من الموارد:

منها: تلك الأشياء الضرورية التي يحتاج عموم الناس إليها.

ومنها: الأموال التي ليس للمجهود الخاص أثر في وجودها أو الإنتفاع بها, ويدخل تحت هذا النوع جميع المباحات الأولية التي تخص عموم الناس, وقد ورد في الحديث بعضٌ منها, كقول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلاء والماء والنار)(1).

وقد ذكرنا بعضها الآخر فيما تقدم من البحث.

والمتحصل من جميع ذلك إن الملكية في الإسلام قد اجتمع فيها الحق والوظيفة والتشريع, وقد منحها الله تعالى للفرد, وليس للمجتمع أنْ يتعرض لحقوق الفرد طالما يلتزم بالضوابط الشرعية وهي تحقق مصالح الفرد والمجتمع بشكل متوازن من خلال وضع الأحكام والقواعد الشرعية التي تحفظ تلك الحقوق دون غلوٍّ أو تطرف, وسيأتي تفصيل الكلام في كلِّ ذلك إنْ شاء الله تعالى.

ص: 166


1- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة علیهم السلام ؛ ج8 ص260.

النوع الرابع: الملكية التجارية

النوع الرابع: الملكية التجارية(1)

وقد عرَّفوها بأنَّها مجموعة حقوق عينية تنصبّ على أشياء مادية ومعنوية تجتمع في إطار واحد يسمى (المؤسسة التجارية)(2), وقالوا في بيان المؤسسة التجارية بأنَّ من كانت في حيازته عناصر مادية كالبضائع والمعدات لكنها غير مجموعة في محلٍّ تجاري فهي لا تكتسب بذاتها صفة عناصر المؤسسة التجارية, بينما إذا أوجدت في محل تجاري بعناصره المعنوية من أسم تجاري وزبائن وغير ذلك؛ فإنَّ ذلك يجعلها من العناصر المادية تكتسب تبعاً للمحل عناصرَ المؤسسة التجارية.

ومن ذلك يظهر الفرق بين المشروع التجاري وبين أدائه, وهو أنَّ المشروع يتكون من نشاط تجاري يتولى القيام به شخص أو مجموعة أشخاص أوجدوا المؤسسة التجارية لتحقيق غايتهم, وأما المؤسسة التجارية فهي الأداة التي من خلالها يتحقق الغاية من المشروع.والملكيةُ التجاريةُ -أو بالأحرى ما يسمى بالمؤسسة التجارية- قد قررها أولاً القانون الفرنسي عام (1909), وتبعته القوانين المدنية الأخرى كالقانون اللبناني, وبذلك فهي حديثة العهد.

وتتكون المؤسسة التجارية من عناصر مادية وهي البضائع والمعدات, وعناصر معنوية وهي الإسم التجاري, والسمعة التجارية, والزبائن والشعار, وحقّ الإيجار وحقوق الملكية الصناعية وحقوق الملكية الأدبية والفنية والرُّخَص والإجازات.

ويخضع كلّ عنصر من عناصرها للقوانين المختصة به؛ فحقُّ الإيجار يخضع في تنظيمه إلى قانون الإيجارات, ومع تميز كلّ عنصر عن غيره فإنَّ الجمع بين هذه العناصر وتخصيصها

ص: 167


1- وقد ورد هذا القسم في تقسيمات القانون المدني للملكية.
2- القانون التجاري (د.مصطفى طه)؛ ص595.

لهدف مشترك هو الذي يؤلف المؤسسة التجارية التي تخضع لقانون يختلف عن قوانين عناصرها. وقد ذكر لها القانون أحكاماً وتشريعات خاصة ليس المقام محلّ ذكرها إنَّما الكلام في صحة هذه التسمية, فهل هناك ملكية تجارية أم أنَّها مجرد حق من الحقوق التي سيأتي البحث عنها في نظرية الحقّ؟!.

ولم يكن في الفقه الإسلامي إلا أحكام تخص المعاملات التجارية التي تقام في هذه المؤسسة, فإنْ انطبق عليها أحد العناوين المعروفة من البيع والإجارة والرهن وغير ذلك فإنَّه يتبع تلك الأحكام الخاصة به, وإلا فليس لنا تشريع في الملكية التجارية.

نعم؛ يمكن أنْ يكون للمؤسسة التجارية حقٌّ خاص بها ولم تكن من الملكية, إذ لم يكن من المال الذي هو شرط في تحقيق الملكية, وربما تجتمع بعض الحقوق التي يختص بها التاجر ضمن الضوابط الشرعية في اطار خاص, وقد يعبر عن المؤسسة التجارية بالمتجر وغيره مِمّا يكون وسيلة لممارسة الاعمال التجارية لتحقيق الغاية منها وهي الربح. وسيأتي بيان أقسام الحق بالنسبة إلى المعاوضة عليها وعدمها.

ثم إنَّ بعض الباحثين قد أطال الكلام في بيان مفهوم المتجر في الفقه الإسلامي ومقارنته بالمؤسسة التجارية مع أنَّه اعترف بأنَّ مفهوم المتجر بالمعنى السائد في الفقه الإسلامي الذي هو محل ممارسة الأعمال التجارية طلباً للربح حديث النشأة, ولم يكن سائداً لدى الفقهاء إلا منذ مطلع القرن العشرين, وقد كان الفقهاء ينظرون إلى المتجر على أنَّه محل ممارسة التجارة, التي هي عبارة عن العقود المعاوضية من البيع والإجارة ونحوهما.

والصحيح؛ إنَّ لفظ المتجر قد استعمل في الفقه بالمعنى اللغوي, وهو محل إقامة التجارة, فإنْ ثبت له إسم خاص اشتهر به مِمّا وجب رغبة الناس إليه والتهافت عليه؛ يثبت حقاً خاصاً لصاحب المتجر لا يجوز لأحد مزاحمته في هذا العنوان الذي اشتهر به, ويصح له نقل هذا الحق لغيره بعوض أو بغير عوض.

ص: 168

ولم يكن ذلك من الملكية أبداً, لأنَّ محل الملكية وما تقوم به الملكية إنَّما هو المال والأشياء المادية كالأعيان ونحوها التي تكون قابلةً للتملك, والعنوان بما هو عنوان لم يكن كذلك وإنْ كانت النظرة المادية في الإقتصاد المعاصر جعلت الحقوق مِمّا يملك, وأسموها بتسميات مختلفة, كالملكية التجارية أو الملكية الصناعية, وإذا كان الأمر كذلك فإنَّه يمكن تعدد الملكيات إلى ما لانهاية فنجعل الملكية الزراعية, والملكية الأدبية, والملكية الفنية, والقائمة تطول إلى ما نهاية.

وهو مضافاً إلى كونه غير صحيح؛ فإنَّه مستهجن كما هو معلوم. وسيأتي المزيد من البيان إنْ شاء الله عند البحث في نظرية الحق.

النوع الخامس: الملكية الصناعية

اشارة

قد ورد في القانون مصطلح الملكية الصناعية أيضاً, وقالوا أنَّها تتناول الحقوق التي ترد على بعض المنقولات المعنوية, وهي براءات الإختراع, والرسوم, والنماذج الصناعية, والعلامات التجارية, والأسماء التجارية.

واختلفوا في تحديد طبيعة حقوق الملكية الصناعية, فقيل لأنَّها تشبه الحقوق الشخصية بسبب طابعها غير المادي, ولكن بما أنَّها قابلة للاحتجاج بها على الناس, فإنَّ ذلك يجعلها قريبة من الحقوق العينية, ولكن الإتّجاه الغالب يرى أنَّها ملكية معنوية تَرِد على أشياء غير مادية, وهذا التكييف القانوني قد انتقده العلماء على أساس أنَّ الأشياء المادية هي التي وحدها تكون محلاً للملكية -كما عرفت سابقاً-. والحقوق الصناعية ليست كذلك.

وأمّا ما قيل في ردِّه بأنَّها حقوق مؤقتة تنقضي بعد مرور مدة زمنية محددة, أو بعدم الإستعمال, بينما حق الملكية مؤبدة؛ فهو مردود بأنَّ الملكية إذا أريد بها المعنى الإصطلاحي في الفقه والقانون فهي أيضاً ليست مؤبدة؛ تزول بزوال صاحبها أو محلها أو انتقاله, ولا

ص: 169

شيء يكون مؤبداً, وإنْ كان المراد بها هو الحقّ الذي منحه الله تعالى لكلِّ فرد من أنْ يتملك فهو غير المراد في المقام إذ أنَّه حق عام.

ولعله من أجل ذلك وغيره ذهب بعضٌ إلى أنَّ الملكية الصناعية (إحتكارٌ للإستغلالِ) يعطي لصاحبها امتيازاً مقصوراً عليه في استغلالها. وعليه فليست هي ملكية أو حقاً, بل هي مجرد حكم.

ولكن الذي يمكن الإيراد عليه بأنَّ الملكية والحق يتضمنان الاحتكار واستئثار صاحبهما بالمتعلق أيضاً, فلا يخلو الجميع عن ذلك.

كما أنَّه ذهب آخرون إلى أنَّ حقوق الملكية الصناعية تندرج في إطار الحقوق المعنوية أو الذهنية التي تعدُّ نوعاً ثالثاً من الحقوق المالية تكون إلى جانب الحقوق العينية والحقوق الشخصية.ويناقش هذا الرأي بأنَّها إذا كانت من الحقوق فلا وجه لتسميتها بالملكية إلا أنْ يكون اصطلاحاً خاصاً بها؛ وسيأتي بيان ذلك.

ولعله لذلك يرى فريق من العلماء أنَّه ليس ثمة ما يمنع من اعتبار حقوق الملكية الصناعية من قبيل حقوق الملكية, لأنَّ الأشياء المادية والمعنوية تصلح محلاً لحق الملكية, وأمّا التأبيد فليس من جوهر الملكية ولكنه ليس بسديد, فإنَّ متعلق الملكية إنَّما يكون مالاً أو شيئاً عينياً قابلاً للتمليك أو التملُّك, والحقوق المعنوية ليست كذلك.

والحاصل؛ إنَّ الثابت تحت هذا العنوان وسابقه إنَّما هي حقوق صناعية وتجارية تخول صاحبها حق استئثار صناعي أو تجاري. ومن أجل هذا قد يتداخل بعضها مع الآخر؛ كحق المتجر والمؤسسة التجارية في المؤسسات الصناعية والزراعية ونحوها.

ص: 170

الغاية من الحقوق التجارية والصناعية

إنَّ الغاية التي تترتب على هذه الحقوق الصناعية والتجارية متعددة, أهمها:

1- الإتصال بالزبائن واجتذابهم إلى منتجاته عن طريق استئثار المنتج؛ إمّا باستغلال إبتكار جديد أو تمييز منتجاته أو متجره بعلامة مميزة.

2- تمتع المنتجات بمميزات تتفوق على غيرها من منتجات سائر المنتجين المماثلة في مجال المنافسة المشروعة.

3- إنَّ حقوق الملكية الصناعية تهدف إلى تنظيم المنافسة(1).

4- جني الأرباح الطائلة منها.

أقسام الحقوق الصناعية
اشارة

وهي على قسمين رئيسين:

1- الحقوق التي ترد على إبتكارات جديدة؛ وهي براءة الإختراع, والرسوم, والنماذج الصناعية.

2- الحقوق التي ترد على علامات مميزة؛ وهي العلامات التجارية والصناعية والإسم التجاري.

ولكثرة الإبتلاء بهذه الحقوق بقسميها, والإهتمام الكبير بها في الإقتصاد العالمي ينبغي تفصيل الكلام فيها ضمن مباحث على ضوء الإقتصاد المعاصر, ورأي الشرع فيها؛

المبحث الأول: الإبتكارات الجديدة

عرفت أنَّ الحقوق التجارية والصناعية تثبت لأصحابها حق الاستئثار واستغلال إبتكار جديد في الصناعة, ومنه يثبت حقّ براءة الإختراع, وحقّ الرسوم والنماذج الصناعية,

ص: 171


1- يراجع في ذلك كتاب الملكية الصناعية والمحل التجاري ل-(محمد حسني عباس).

بحيث يتمتع صاحب الحق دون الغير باستغلال الإنتاج. وقد قررّت قوانين الإقتصاد المعاصر الحقَّ لصاحب براءة الإختراع أو الرسم أو النموذج الصناعي لهُ بأنْ يستأثر السوق فيما يتعلق بإنتاج وبيع المنتجات المعلَّمة بعلاماتها.

وقد ذكر في توجيه ذلك بأنَّ براءة الإختراع والرسوم والنماذج الصناعية إنَّما تنشأ في إطار البحث العلمي, ثم يمتد استغلالهما لتشمل البيئة الصناعية والتجارية.

ويشمل الإبتكار الجديد كلاً من براءة الإختراع؛ التي هي عبارة عن إبتكار يتعلق بمنتجات جديدة, أو طريقة صناعية مستحدثة من حيث موضوعها, كما يشمل الإبتكار الجديد من حيث شكل المنتجات؛ وهي الحقوق الخاصة بالرسوم والنماذج الصناعية. وكِلا النوعين يدخلان تحت الإبتكار, إلا أنَّ الأول يرِد على الموضوع, والثاني على الشكل.

وفي النوع الأول يحق لمالك براءة الإختراع أنْ يستأثر برخصة صناعة منتجات جديدة, واستعمال طريقة صناعية جديدة.

وفي النوع الثاني لما لم يكن عنصر الإبتكار وارداً على موضوع المنتجات أو طريقة إنتاجها صناعياً, بل يرد الإبتكار الجديد على الشكل الخارجي للمنتجات؛ فيكون مقتصراً على الأشكال مثل إبتكار رسوم جديدة للأقمشة, والثياب, والنماذج الحديثة للسيارات ونحو ذلك؛ فإنَّ ذلك يثبت الحقّ لصاحب الإبتكار.

إلا أنَّه يمكن التعليق على ما ذكروه بأنَّ ثبوت حقّ الإبتكار شرعاً يبتني على أحد أمرين:

الأول: بناء العقلاء على قبول مثل هذا الحق وترتيب الآثار العرفية والشرعية عليه.

الثاني: إمضاء الشرع الحنيف له, ولو بعدم ورود الردع عنه.

أمّا الأمر الأول فأن بناء العقلاء إنَّما يكون دليلاً شرعياً فيما إذا كان إطباق العقلاء على أمر يكون كاشفاً عن رأي سيد العقلاء ورئيسهم, وهو صاحب الشرع الحنيف صلی الله علیه و آله و سلم , ومثل

ص: 172

هذا الكشف غير متحقق في مثل هذه الحقوق المادية الصرفة التي يكون لهم فيها نظرة مادية صرفة كما هو الدائر في العقل المادي المعاصر لكثير من علماء الإقتصاد والقانون. ونعلم أنَّ ذلك لم يكن من مقاصد الشرع الحنيف ولا هو من ذوق صاحبه, ومع الشك في ذلك لا يمكن إثبات الحق ببنائهم.وعلى فرض الثبوت فإنَّ تعميم هذا الحق ليكون لصاحبه الحرية الكاملة في السيطرة على الأسواق والمصانع والمنتوجات فيفرض عليهم ما يريده من جهة أنَّ له حق الاستئثار والاستغلال, فإنَّ هذا التعميم يحتاج إلى دليل شرعي, وهو مفقود؛ إنْ لم نقل بأنَّ الأدلة الثانوية كقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) تنفي هذا التعميم لصاحب الحق وتقيّد سلطنته في حدود ما تقتضيه الأدلة الشرعية الأولية.

فلا بُدَّ أنْ نأخذ بالقدر المتيقن الذي يدلُّ عليه الدليل الشرعي مثل قاعدة السلطنة فنقول بثبوت الحق لمالك الإبتكار بالسيرة العقلائية وقاعدة السلطنة, لكن في حدودِ ما إذا لم يستلزم الإضرار بالآخرين, ولا يكون موجباً للاحتكار والاستغلال كما نشاهده في شركات الأدوية وغيرها مِمّا يكون إنتاجها من ضروريات المجتمع, فإنَّها تستأثر بهذه الأدوية ولا تمنح الإذن في صنعها لغيرها؛ مِمّا يستلزم الإضرار بأفراد الناس. فإنَّه في هذه الموارد تقوم الدولة بوظيفتها (التي منها تنظيم أمور الناس وإصلاح شؤونهم)؛ فتتدخل وتضع شروطاً ترجع إلى المصلحتين؛ الخاصة بتلك الشركات والمصلحة العامة. كما سيأتي بيان ذلك في مستقبل الكلام إنْ شاء الله تعالى.

المبحث الثاني: العلامات المميزة

قالوا: إنَّ من الحقوق الصناعية والتجارية حق المنتج بالاستئثار باستعمال علامة تميزّ منتوجاته عن مثيلاتها في الأسواق, وكذا إستعمال علامة تميّز متجره أو مصنعه, أو تميّز

ص: 173

بلد الإنتاج. إلا أن ما ذكروه في هذا القسم قد يتداخل مع حقِّ الإبتكار, فلا حاجة إلى جعل حقّ آخر يسمى حق العلامات المميزة, ولكنهم استدركوا ذلك فاثبتوا الفرق بينهما من جهات؛

الجهة الأولى: إنَّ الحكمة من إقرار حقوق الملكية الصناعية بوجه عام تكمن في تنظيم المنافسة المشروعة, سواء كان موضوع تلك الحقوق إبتكارات جديدة أم علامات مميزة, وهذه هي الغاية النهائية لتقرير حقوق الملكية الصناعية. ومن أجل ذلك يتمكن مالك براءة الإختراع أو الرسم أو النموذج الصناعي, ومالك العلامة التجارية أو الإسم التجاري من أنْ يستأثر بالزبائن؛ بسبب اكتساب ثقة الزبائن في منتوجاته أو منشئاته. وحاول بعض علماء الإقتصاد إثبات الفرق بين الحقين فقال: إنَّ من أسباب إثبات حق الإبتكار هو أنَّ الإنسان لّما كان في أعلى مراتب الذكاء والجهد الإبداعي, فإنَّ حماية المبتكر إنَّما تكون من خلال تقرير حقه في الاستئثار باستغلال ابتكاره, فيكون ذلك تعويضاً عادلاً له مقابل ما قدمه للمجتمع, وهو الحافز إلى الإختراع وتقدّم البشرية.

أمّا بالنسبة إلى إقرار القانون للمنتج بحقوقه التي ترد على علامات مميزة؛ فإنَّ الحكمة فيها تتعلق مباشرة بتنظيم المنافسة الحرة بين المنتجين؛ عن طريق استئثار المنتج في استعمال العلامة المميزة, فيمتنع على غيره من المنتجينإستعمال تلك العلامة أو ما يشابهها لتمييز منتجاتهم المماثلة أو المشابهة. وبذلك يتحدد مجال المنافسة المشروعة التي يهدف القانون حمايتها عن طريق تقرير حقوق العلامات المميزة.

وبناءً على ذلك يمكن القول بأنَّ الأساس القانوني للحقوق الصناعية بشكل عام لأجل تنظيم المنافسة المشروعة.

ص: 174

ويمكن التعليق على ذلك؛

أولاً: إنَّ النظرة المادية للأشياء وجعل الغاية من العمل الإنساني وفكره هو اكتساب المال فقط يقتضي إثبات المنافسة بين الأفراد وجعلها مادية صِرفة عن طريق الإستغلال والاستئثار وكسب الربح فقط. مع أنَّ المنافسة الحرة بين أفراد الإنسان أمر فطري في كلِّ إنسان, وبسببها يكدّ الإنسان في سبيل الوصول إلى أرقى الكمالات, فهي منافسة نزيهة خالية عن شحن البغضاء بين النفوس وإثبات الروح السلطوية في الأفراد, وهذا هو الفرق بين المنافسة التي تدعو إليها القوانين الوضعية والإقتصاد العالمي المعاصر والمنافسة التي تدعو إليها الفطرة ويدعمها الدين الإلهي, قال تعالى: (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(1).

ثانياً: إنَّه لا حاجة إلى جعل قوانين تحرك الإستغلال والاستئثار وإثارة الجانب السلطوي الكامن في النفوس, مِمّا يترتب على جميع ذلك الآثار السيئة, وكان الأجدر هو جعل القانون في كبح جماح الروح العدوانية عند الإنسان, وإذكاء روح الإيثار والتعاون في النفوس؛ فإنَّ الآثار الطيبة التي تترتب عليها أكثرُ وأهم بالنسبة إلى الفرد والمجتمع, وبها تنتظم أمورهم بالوجه الأحسن.

ثالثاً: إنَّنا إذا أردنا جعل القوانين لتنظيم المنافسة المشروعة, فإنَّه لا بُدَّ أنْ تكون من جانب المنتجين وتثبيت الحقوق الخاصة بهم في سبيل الصالح العام, لا من أجل مصالحهم الشخصية واستحواذهم على الأموال والثروات وصرفها في سبيل إذلال الآخرين واستعبادهم ونشر الفقر بينهم؛ وبهذا افترقت القوانين الوضعية في هذا المجال والقوانين التي وضعتها الأديان الإلهية التي هي على نقيض منها؛ فإنَّ روح تلك القوانين الوضعية وأساسها المادة والإبتعاد عن الأخلاق الفاضلة التي تنظم حياة الإنسان المادية والروحية معاً وتصلح

ص: 175


1- سورة المطففين الآية 26.

شأنه من جميع المجالات. وقد تقدم بعض الكلام عند البحث عن مفردة الدين, وسيأتي المزيد من البيان إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الثانية: إنَّ البعض فرَّقَ بين حقِّ الإبتكار وحقّ العلامة المميزة من حيث نطاق الحقّ؛ فإنَّ الحقَّ الذي يرد على إبتكار جديد يختلف عن الحقِّ الذي يردعلى علامة مميزة, فإنَّ براءة الإختراع -مثلاً- تخوّل مالكها حقاً مطلقاً في استغلال الإختراع, بحيث يمتنع على الجميع بصفة مطلقة استغلال الإبتكار الجديد.

أمّا الحقّ الذي يرد على العلامة المميزة فإنَّه حقٌّ نسبي, فإنَّه مثلاً لمالك العلامة التجارية أنْ يستأثر استعمالها لتمييز منتجاته عن مثيلاتها في الأسواق, وهذا الحق نسبي؛ بمعنى أنَّه يجوز لأيِّ منتج لسلع أخرى غير مثيلة أو متشابهة لتلك المنتجات أنْ يستعمل العلامة الصناعية نفسها. لأنَّه لن يترتب على استعمال العلامة نفسها بواسطة معملين غير متشابهين أي ضرر لأحدهما, فضلاً عن أنَّه لن يترتب على هذا الإستعمال المزدوج أي تضليل للجمهور, فاختلف الحقان من حيث نطاقه.

ويمكن التعليق على ذلك بأنَّ إثبات الحقّ المطلق لكلِّ واحد من تلك الحقوق الصناعية والتجارية مرفوض بما تقدم بيانه, فلا يختلف الحقان -الإبتكار والعلامة المميزة- من هذه الناحية, يضاف إلى ذلك أنَّه على فرض إثبات الاطلاق لأحدهما أو لكليهما فإنَّه لا بُدَّ أنْ لا يستلزم منه الإضرار بمصالح الآخرين.

ومن أجل الجمع بين مصلحة المبتكر ومصلحة الآخرين لئلا يتضرر أحدهما ولا يستلزم من تقديم أحدهما على الآخر الضرر لهما؛ فإنَّه يمكن حلّ هذه المشكلة بأحد وجوه:

الوجه الأول: إنشاء جمعية أو منظمة من ذوي الإختصاص لتقييم إحدى المصلحتين على الأخرى؛ فتُقدَّم, مع التعويض للآخر.

ص: 176

الوجه الثاني: إنشاء جمعية أو منظمة أو مؤسسة لشراء الإبتكارات ودفع ثمنها إلى أصحابها, ومن ثم هي التي تشرف على بيعها للشركات وإنتاج المنتوجات التي تلبِّي حاجات الناس, بشرط أن لا تكون المعاملة على الإبتكارات شراءً وبيعاً مضرّة بالمصلحة العامة, فتكون وسيلة لابتزاز الآخرين وجني الأرباح الطائلة منها كما هو المشاهد في الإقتصاد المعاصر, فلا بُدَّ حينئذٍ من الرجوع إلى المنظمة التقويمية في التسعير والقيم المالية.

الوجه الثالث: تصدي الدولة والحكومات التي وضعت بسبب العقد الإجتماعي لتنظيم البلاد وإصلاح شؤون العباد وحفظ مصالحهم, ومن مهماتها إنشاء المؤسسات العلمية والشركات والمعامل لجميع الإبتكارات والعلامات المميزة وتعويض أصحابها بوجه مقبول.

الجهة الثالثة: قالوا: إنَّ الفرق بين الحقين يكون من حيث مدة الحق باعتبار أنَّ الحق الذي يتعلق بالابتكار الجديد هو حق مؤقت, أمّا الحق في العلامة المميزة فإنَّه مستمر زماناً؛ لعدم تنافيه مع طبيعة هذا الحق, لأنَّه في استغلال الإبتكار الجديد يتطلب منح مالك البراءة حقاً محدوداً بمدة من الزمن يستطيع خلالها استغلالبراءة الإختراع تشجيعاً للإختراع(1), وإنَّ المبدأ العام فيه هو أنْ ينقضي الحق في البراءة بعد مدة أقصاها عشرين سنة إبتداءً من تاريخ إيداع الطلب عند مصلحة حماية الملكية الفكرية مستوفياً الرسم المالي, والعلة في ذلك هي: إستطاعة المنشآت الصناعية بعد سقوط البراءة من أنْ تستفيد من هذا الإختراع وتستغله صناعياً بدون مقابل, من دون حاجة إلى الترخيص من مالك البراءة التي سقطت بتقادم المدة المضروبة, وبذلك تزداد الصناعة تطوراً وتقدماً مع التوفيق مع المصلحة العامة.

وأمّا الحق في العلامات المميزة فلا تُنافي طبيعته ولا يتعارض مع المصلحة العامة جواز امتداده في الزمان فيصبح حقاً دائماً, فإذا كان -مثلاً- مدة الحماية المترتبة على تسجيل

ص: 177


1- ذُكر ذلك في كتاب الملكية الصناعية والمحل التجاري (د. محمد حسني عباس)؛ ص20 - 23.

العلامات التجارية والصناعية هي خمسة عشر سنة من تاريخ تسجيل الإيداع عند مكتب الحماية, إلا أنَّ لمالك العلامة أنْ يحتفظ بحقه ما دام يجري تجديد التسجيل عند كلّ خمسة عشر سنة بشرط دفع الرسوم المقررة.

والعلة في ذلك هو مصلحة المالك في استمرار اتّصاله بالعملاء عن طريق العلامة الصناعية, ومن مصلحة الزبائن استمرار العلامة لتكون وسيلة لتعرفهم على مصدر المنتجات.

ويمكن التعليق على ذلك:

1- إنَّه إذا كان الملاك في الحق هو حماية أصحاب الحق في كلٍّ من الموردين وزيادة الصناعة تطوراً وتقدماً وغير ذلك مِمّا ذكر, فإنَّ المصلحة العامة تقتضي في أحدهما أنْ يكون الحقّ مؤقتاً وفي الآخر مستمراً. ولكن التطور حاصل لا محالة.

وعلى كلِّ حالٍ؛ سواء كان الحق مؤقتاً أم مستمراً, والمصلحة العامة لا تقتضي أنْ تكون سبباً لدوام أحدهما دون الآخر, فإنَّ المصلحة إنَّما تكون في إخراج المنتوجات ذات الكفاءة العالية, ولا يمكن أنْ تحصل هذه الكفاءة إلا بالتطور في الإختراع والإنتاج. فالمصلحة العامة تقتضي أنْ تكون في تطوير البراءات والعلامات التي تكشف عن جودة إنتاجها ومتانتها.

2- إنَّ الحق إذا ثبت شرعاً في مورد فإنما يحدد زمانه ونطاقه طبيعة الحق وموضوعه والآثار والامتيازات التي تترتب عليه. فلا بُدَّ من الرجوع إلى الادلة التي تعين ذلك, فليس الحق بنفسه يقتضي الدوام لأنَّه مرتبة ضعيفة من الملك الذي له الدوام والتأبيد ما دام المملوك موجوداً في ملك مالكه, والحق لا يكون كذلك.

الأهمية الإقتصادية للحقوق الصناعية والتجارية

إعتبر الإقتصاد المعاصر أنَّ جميع تلك الحقوق من الأموال التي تقوَّم بالأثمان, لأنَّ المال عندهم كل ما ينتفع به على وجه من وجوه النفع, كما يعدّ كلّ ما يقوّم بثمن مالاً أيّاً كان

ص: 178

نوعه أو قيمته, فمن ملك أرضاً فهي مال له, ومن ملك بيتاً فهو مال, ومن ملك سيارة فهي مال له, والقائمة تطول, فكل شيء يمكن أنْ يعرض في السوق وتقدر له قيمة فهو مال, كما وأنَّ كلَّ شيء ينتفع به على أي وجه من الوجوه فهو مال(1).

وبناءً على هذا التعريف؛ فإنَّ الحقوق بجميع أقسامها وأنواعها (ولا سيما الحقوق الصناعية) من براءة الإختراع إلى الرسوم والنماذج الصناعية إلى العلامات التجارية والإسم التجاري من الأموال؛ لأنَّها ينتفع بها بوجه من الوجوه.

وقد أصبحت لتلك الحقوق الأهمية الإقتصادية العظمى مِمّا جعلت الدول تتسابق لاقتنائها وتسنّ القوانين من أجلها.

ولا ريب أنَّ هذه الحقوق تعتبر من الحقوق المستحدثة في العرف القانوني, وقد ظهرت أهميتها نتيجة تطور العلوم ووسائل نقلها للجمهور.

أسباب حقوق الملكية الصناعية

وقد قالوا أنَّ حقوق الملكية الصناعية تستند إلى أسباب يتَّصل بعضها بمصلحة المبتكر والبعض الآخر بمصلحة المجتمع. وهذه الأسباب هي:

1- إنَّ الحقوق الصناعية ضمان للمنافسة المشروعة؛ وذلك لأنَّ النظام الإجتماعي يقتضي أنْ لا تكون المنافسة بين المنتجين من أجل الوصول إلى الزبائن حقاً مطلقاً لكلِّ منتج, ولذلك كان طبيعياً وجود نظام قانوني يضع قيوداً على حرية المنافسة لتنظيمها على الوجه المشروع وهذه القيود ترجع إلى عوامل إقتصادية واجتماعية متعددة.

2- إنَّ الحقوق الصناعية تستند إلى فكرة العدالة؛ فإنَّ فكرة العدالة تقتضي بأنْ ينال المخترع -مثلاً- ثمرة إنتاجه الفكري, فلا ينافسه غيره بإنتاج ما وصل إليه المبتكر من ابتكاره, بحيث يمتنع على أيّ شخص آخر تقليد الإختراع جزاء ما

ص: 179


1- المال وطرق استثماره في الإسلام (د. شوق الساهي)؛ ص23.

قدمه للمجتمع ومقابل الكشف عن سرِّ الإختراع عند تقديم طلب البراءة, كما أنَّ العدالة تقتضي أيضاً بأنْ يحمي القانون مالك السلع أو المؤسسة التجارية الذي يعمل على تحسين منتجاته بحيث تنال ثقة الزبائن.

3- الحقوق الصناعية تكون دافعاً نحو التقدم؛ وقد اعتبر علماء الإقتصاد والقانون أنَّ النظام القانوني لحقوق الملكية الصناعية من أهم أسباب التقدم والتطور الصناعي والإقتصادي والإجتماعي, فإنَّ إجراءات منح براءة الإختراع تستلزم تقديم المبتكر طلباً لحماية الملكية الفكرية فيه تفاصيل1- اختراعه ليسهل الإطّلاع عليه, بحيث يستطيع العلماء والباحثون متابعة أسرار أحدث الإختراعات نتيجة للنظام القانوني الخاص ببراءات الإختراع الذي يفرض على المبتكر الكشف عن اختراعه قبل منحه براءة اختراعه.

وقالوا: إنَّ مثل هذا النظام والإجراءات يجعل البحث العلمي في متابعة معرفة أحدث الإختراعات أمراً ممكناً وحافزاً لمواصلة الكشف عن كلِّ جديد في مجال الإختراع, فتكون براءة الإختراع بمثابة الضوء الذي ينير الطريق أمام حركة البحث العلمي مِمّا يساعد على سرعة تقدم البحث العلمي وتقدم الإختراعات وتقدم الفن الصناعي.

وغير ذلك مِمّا قيل في بيان الأهمية الإقتصادية لهذه الحقوق الصناعية والتجارية وغيرها مِمّا يرتبط بالتقدم التقني والتكنولوجي نتيجة ما تُقدم تلك القوانين من حماية المخترع والمنتج والتاجر.

ولكن قد عرفت وجه الإشكال في كثير مِمّا ذكروه, كما إنَّها ترجع إلى مصلحة الدولة الصناعية المتقدمة على حساب الدول الناهضة مِمّا يؤدي إلى استئثار تلك الدول المتقدمة بالأسواق العالمية لتصريف منتجاتها من خلال توجيه التقنين الصناعي في الدول الضعيفة

ص: 180

بما يحقق مصالح الدول الصناعية القوية(1). وهي من أهم وسائل التسلط وظهور أبشع أنواع الإستعمار التي تعاني منها الدول والشعوب لحد الآن.

مصادر قانون الملكية الصناعية والتجارية

بعد معرفة أهمية الملكية الصناعية في النظام الإقتصادي المعاصر, فقد أصبحت قوانين الملكية الصناعية لها الأهمية الخاصة في مجال التطور الصناعي للدول, والغاية من هذه القوانين حماية هذا التطور وبالتالي حماية التطور الإقتصادي العام.

ومن أجل ذلك أصبح الغرض من وضع تلك القوانين مراعاة الوضع الإقتصادي العام وحمايته من الأخطار. وقد تسارعت الحكومات والمنظمات في وضع القوانين التي تكفل حماية الملكية الصناعية والتجارية, كما وضعت إتّفاقيات دولية في هذا السبيل, وعليه؛ إنقسمت مصادر تلك القوانين إلى القوانين الداخلية أي (الوطنية) والإقليمية والدولية.

أمّا القوانين الداخلية؛ فلا بُدَّ من الرجوع إلى ما وضعته الحكومات في كلّ دولة من القوانين في هذا المجال, وليس المقام ذكرها.وأمّا القوانين الإقليمية؛ فهي التي وضعتها مجموعة من الدول الإقليمية الصناعية وهي تستند على مبدأين.

الأول: القوانين التي تمهد الطريق إلى ولوج أحكام الملكية الصناعية إلى الدول الأعضاء؛ كما هو الحال في دول الإتّحاد الأوروبي.

الثاني: إتّحاد التشابه بين القوانين النافذة في تلك الدول لرفع التعارض والتناقض بينها بإيجاد الحلّ لها.

ص: 181


1- الملكية الصناعية والمحل التجاري؛ ص31.

وأمّا القوانين الدولية؛ فهي اتفاقيات تحصل بين الدول ترجع إلى الحماية الدولية لحقوق الملكية الصناعية والتجارية وهي تعتمد على مبادئ:

الأول: مبدأ الدولية؛ وهو بمعنى الرجوع إلى الحماية الدولية لهذه الحقوق, فأجازت للدول التي لم تشارك في هذه الإتفاقية أنْ تنضمَّ إليها, وهذه الإتفاقية تشتمل حماية الأشخاص التابعين للدول التي اشتركت في إبرام الإتفاقية, وأقاليم تلك الدول, والتي ستنضمّ إليها.

الثاني: مبدأ المساواة؛ وهو الذي يرجع إلى تمتع رعايا كلّ دولة تنتمي إليه في حماية الملكية الصناعية في جميع دول الإتّحاد بالحقوق الممنوحة, أو التي تمنحها قوانين تلك الدول لمواطنيها بلا فرق بين كونهم أصليين أو مقيمين, فإنَّهم يُعاملون المعاملة نفسها التي يُعامل فيها المواطنون.

الثالث: مبدأ الأسبقية؛ وهو الذي ورد في إتفاقية باريس من حقِّ الأسبقية لمن أودع طلبه أولاً لدى إحدى الدول الاعضاء للحصول على براءة إختراع أو حماية نماذج أو رسوم صناعية أو تسجيل علامة تجارية, فإنَّه يعتدّ بتاريخ إيداع أول طلب لدى إحدى الدول في كافة دول الإتّحاد خلال مدة معينة. وذلك لتيسير التعاون الدولي في هذا المجال.

الرابع: مبدأ عدم التعارض؛ ويعني أنَّ دول الإتّحاد تحتفظ لنفسها بالحق في أنْ تعتمد فيما بينها على عدَّة معاهدات خاصة لحماية الملكية الصناعية, بشرط أنْ لا تخالف هذه المعاهدات أحكام الإتفاقيات الدولية؛ ومن أهم تلك الإتفاقيات:

1- إتفاقية باريس

حيث اجتمعت الدول واتَّحدت على وضع قوانين حماية الملكية الصناعية بالمواصفات التي ذكرناها آنفاً, ويعتبر هذا الإتّحاد أول مؤسسة عالمية, ولقد شكل مكتباً عالمياً كلف بتأمين الخدمات الإدارية, ويهدف هذا الإتفاق إلى حماية مجمل الملكية الصناعية على المبادئ التي ذكرناها.

ص: 182

2- إتفاق المنظمة العالمية للتجارة

فقد جرى الإتّفاق على تأسيس المنظمة العالمية التجارية في مراكش بتاريخ (15/ نيسان/1994), وقد ضُمَّ إليه ملحق يتعلق بالملكية الصناعية. وقد تبنت هذه المنظمة أيضاً جميع مقررات دورات هذه المنظمة حول التعرفات الجمركية والتجارية.والهدف من هذه المنظمة هو التشديد والتنسيق على الصعيد الدولي لحماية الملكية الصناعية على ضوء تلك المبادئ التي تأسست عليها هذه الإتّفاقيات.

وهناك بحوث وقوانين حول هذه الملكية ليس المقام ذكرها, فإنَّه يحتاج إلى دراسة خاصة بها. ولكن الذي استفدناه من مجموع ما ذكرناه في هذا الموضوع أنَّ لها الأهمية الكبرى في النظام الإقتصادي المعاصر, بل من أهم روافده. وقد وضعت تلك القوانين من قبل المؤسسات الدولية والمعاهدات العالمية لحماية النظام الرأسمالي الحرّ, وليس للدول الفقيرة منها نصيب سوى الإنضمام القهري والتسليم لما عليه الدول الكبرى الصناعية وتشجيعها على قبول استثمار الدول الكبرى لمنافع ومعادن الدول الأخرى.

وإنمَّا المهم من البحث حول هذا الموضوع هو موقف الفقه الإسلامي من حقوق الملكية الصناعية, ولا بُدَّ من ذكر كلّ واحد من تلك الحقوق وبيان موقف الشرع الحنيف منه.

ولا إشكال في عدم وجود هذا الموضوع في العصور الماضية, لأنَّ الإختراعات الحديثة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر, نتيجة التطور الصناعي والإقتصادي الكبير وتسارع عجلة الإبتكارات العلمية في العصر الحاضر؛ كلُّ ذلك أدّى إلى ضرورة وضع قوانين لتنظيم هذه الحقوق وحمايتها.

ونظراً لحداثة هذا الموضوع لم يكن له ذكر عند الفقهاء المتقدمين, فلا بُدَّ من استنتاج أحكامها من القواعد المرعية في أبواب المعاملات

ص: 183

وعليه؛ لا بُدَّ من دراسة كلّ واحد من هذه الحقوق على ضوء اللغة والإصطلاح, ثم بيان الحكم الفقهي بالنسبة إليه.

دراسة الحقوق الحقوق الصناعية
الأول: حق الإبتكار (براءة الإختراع)

قيل في تعريف الإبتكار أنَّه: نتاج الذهن, ويقصد به الصور الفكرية التي يكون الحاصل منها إظهار الملكة الراسخة في نفس العالم مِمّا يكون قد أبدعه هو ولم يسبقه إليه أحد.

فيكون حقُّ الإبتكار حقَّاً مالياً مبتكراً يحصل بحكم العرف والقانون لمن ابتكر مخترَعاً جديداً يرد على شيء غير مادي يتميز بالسبق والتفوق والأصالة.

وعلى ضوء ما ذكروه في تعريف الإبتكار نقول:

أولاً: إنَّ الإبتكار هو الصورة الذهنية وليس من الأعيان الخارجية بل هي مظهرٌ لتلك الصورة الذهنية والأفكار. نعم؛ تكون العين وسيلة لاستيفاء منفعة هذا الإنتاج الفكري, وإثبات الملكية المبحوث عنها في علم الإقتصاد أو الحق لهذه الصورة المعنوية التي لا يدركها إلا العقل؛ غير مقبول, كما يأتي بيان ذلك في بحث نظرية الحق.ثانياً: إنَّهم اشترطوا في الإبتكار عنصر الإبداع؛ بأنْ لا يكون تكراراً أو انتحالاً لصور أخرى سابقة.

ولكن إنْ أريد منه الإبداع المطلق؛ بأنْ يكون متَّصفاً به كلياً؛ فهو غير متحقق في الخارج, إذ ما من صورة يتخيلها الإنسان لتكون منتجاً إلا أنْ يؤخذ جزء منها من صور أخرى.

والمبدع المطلق هو الله تعالى الذي خلق السموات والأرض من غير مثال سابق.

وإنْ أريد منه الإبداع النسبي؛ والذي قد اتُخذِت فيه مبتكرات سابقة التي بمجموعها ساهمت في تكوين الإبتكار الجديد؛ وهو الشايع في الإبتكارات الحديثة.

وعليه؛ فإنَّ الإبتكار يختلف من حيث النوعية والأثر بمقدار الجهد الجديد المبذول فيه, فلا يثبت له الحق المطلق على القول به.

ص: 184

ثالثاً: إنَّ الحق الذي أثبتوه في الإبتكار إنَّما متعلقه منجزات الذهن, بمعنى؛ إنَّ الإبتكار هو الشهادة بأنَّ الشيء المخترَع هو وليد إختراع العالِم المبتكر باعتبار كونه منجزاً جديداً لم يسبق إليه أحد قبله, فالحقّ الثابت فيه حق ذهني لا أنْ يكون من الحقوق العينية.

وعليه؛ فلا بُدَّ من التخريج الفقهي لمثل هذا الحقّ حتى يصير حقاً مالياً يُبذل بإزائه المال ويقع مورد المعاوضة.

والمحتملات التي يمكن تصويرها في مثل هذا الحقّ هي:

1- إنَّ الإبتكار يشبه الثمرة المنفصلة؛ فإنَّ الإنتاج المبتكر ينفصل عن مالكه ليستقر في عين, فيصبح له بذلك كيان مستقل وأثر ظاهر.

ويمكن مناقشة هذا الرأي بأنَّ إثبات الصورة الذهنية وأنَّها كالثمرات المنفصلة في غاية البعد؛ لأنَّ الصور الذهنية موطنها الذهن, فلو تعدتها إلى الخارج انقلبت؛ إمّا إلى أعيان أو منافع, والمعاوضة إنَّما تقع عليها لا على مجرد الصورة الذهنية؛ لأنَّها لا تكون من الأموال, وسيأتي مزيد بيان في البحث عن المال إنْ شاء الله تعالى.

والحاصل: إنَّ الإبتكار بما هو صورة في الذهن ليس له وجود إلا في عالم الفكر والتصّور, وإذا تحقق في شيء سمي ذلك بالمبتكَر, فلا يبقى موضوع حينئذٍ للابتكار إلا على نحو المجاز, فليس الإبتكار من قبيل الثمرة المنفصلة.

2- إنَّ الإبتكار من قبيل المنافع من حيث أنَّه يُستوفى مع بقاء الأصل.

ويرد عليه: إنَّ الإبتكار إذا بقي في موطنه؛ وهو الذهن والعقل, فلا يكون من الأموال, وإنْ تحققت تلك الصورة الذهنية في ضمن شيء خارجي كان المبتكَر من الأموال. وعلى أيَّة حال؛ لا تكون الإبتكارات من المنافع, إذ لا يبقى أصل في الخارج إلا عيناً مبتكرة.

ص: 185

3- إنَّ الإبتكار وبراءات الإختراع ليست من الأموال, فإنَّها -كما سيأتي بيانه- تتَّصف بالعينية والتقويم, فتشمل الأعيان والمنافع التي ترد عليها العقود التي تلبي حاجة الناس في حياتهم العملية وتحقق مصالحهم, والقول بأنَّها من قبيل المنافع لأنَّ المبتكرين وأرباب العلم يتنافسون في اقتناء المصادر العلمية ويبذلون في سبيل ذلك الأموال, مِمّا يؤكد عنصر المالية للإنتاج الفكري المبتكَر.

ويرده: إنَّ المناط في مالية الشيء الذي يقع مورد رغبة الناس ويعتبره العرف مالاً هو ذلك الشيء الذي تتوفر فيه عناصرهُ, وهو الشيء نفسه لا مقدماته, وإلاّ فلو كان كما ذكره القائل فلا يبقى مورد لا يعدّ مالاً إذا كان بعض مقدماته مِمّا يبذل بإزائها بعض الأموال. ولا يقول به أحد من الفقهاء.

4- إنَّ الإبتكار مثل الصوت والهواء الذي ينفخه الفرد لم يكن من الأعيان والمنافع, فلا يصح أنْ يبذل بإزائه المال, وهو ليس من الحقوق التي تقبل المعاوضة, لكن لما كان منتسباً إلى الشخص المبتكر باعتبار كونه قد ابتدعه فإنَّه يثبت له حق الإختصاص. فإنْ قلنا بأنَّ مثل هذا الحق يقع مورد المعاوضة المالية فيصحُّ بذل المال بإزائه, وإلا فلا. وهذا ما سيأتي بيانه في نظرية الحق إنْ شاء الله تعالى.

والحاصل: إنَّه لا يمكن إثبات حق من الحقوق العينية في الإبتكار, ولا يقع مورد المعاوضة, ولا يصح بذل المال بإزائها إلا مقابل رفع يده عن حقِّ الإختصاص.

وعليه؛ فلا يقبل مثل هذا الحقّ الإعتياض والتوارث؛ كما سيأتي بيانه مفصلاً.

وقد عرفت وجوه الإستدلال على إثبات كونه مالاً أو حقّاً عينياً, وإنَّها باطلة لا تنهض أنْ تكون حجة مقابل قوله تعالى: ( لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(1), وكذا مقابل أصالة عدم النقل والإنتقال.

ص: 186


1- سورة النساء؛ الآية 29.

وأمّا الإستدلال بالعرف لإثبات كونه حقاً مالياً يقبل التعاوض وغيره من الأحكام المترتبة على الحقوق من التوارث والضمان وغير ذلك؛ فهو باطل أيضاً, لأنَّ العرف الذي يمكن الإعتماد عليه؛ إذا لم يعرف مستنده كما في المقام فإنَّ منشأه هو النظرة المادية وكسب المال بأيِّ وجه كان, وقد تقدم في أحد بحوثنا السابقة الكلام في حجية العرف وقلنا بأنَّه لم

يكن من مصادر التشريع, ولا يمكن إثبات كون هذا العرف مِمّا أقرهّ الشرع المبين(1).

ومِمّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض الكتّاب المحدثين في إثبات كون حق الإبتكار من الحقوق المالية؛ فراجع(2).هذا ما أردنا إثباته في حقِّ الإبتكار.

الثاني: حقُّ براءات الإختراع

قالوا بأنَّ براءة الإختراع مصطلح مركب إضافي مؤلف من كلمتين؛ (براءة) و(إختراع).

1- البراءة (لغةً): من برأ, أي: التباعد من الشيء ومزايلته.

وفي الإصطلاح: هي سند يمنح للمخترع ليذيع اختراعه ويعلنه ويطرحه في مجال الثروة العامة(3).

2- الإختراع: وهو في اللغة بمعنى الشقّ والإبداع والإنشاء(4). فيكون الإختراع هو إبداع شيء لم يكن له وجود, وهو يتضمن عنصرين؛ العمل الذهني الذي يتعلق بالصناعة, ووجود شيء جديد(5).

ص: 187


1- تقدم في ص96.
2- كتاب الملكية التجارية والصناعية (الدكتور علي نديم الحمصي), وغيره.
3- الوجيز في الملكية الصناعية (د. صلاح الدين الناهي).
4- معجم مقاييس اللغة (إبن فارس)؛ ج2 ص171. قال: إخترع الرجل كذبا, أي: إشتقه.
5- المصدر السابق؛ ص67 – 81.

فيكون تعريف براءة الإختراع إصطلاحاً: إنَّها الوثيقة التي تمنحها سلطة خاصة إدراية في الدولة بناء على الطلب ووفقاً لشروط معينة تتضمن وصفاً لاختراع معين يترتب عليها منح المخترع حَّقاً مكتسباً في استثمار اختراعه لمدة معينة قابلة للتجديد وحمايته من التعدي والتقليد.

والكلام في إثبات حق براءة الإختراع كالكلام في حق الإبتكار؛ فقالوا إنَّه يمكن إثباته من ناحيتين:

الأولى: كونه ملكاً منصباً على مال, أي كونه حقاً عينياً مالياً. والمصلحة فيه خاصة تعود إلى المخترع, وقد عُبر عنه بأنَّه حقٌّ خاص مالي.

الثانية: إنَّ فيه مصلحة عامة مؤكدة راجعة إلى المجتمع الإنساني كله. وهو بهذا العنوان يكون حقاً من حقوق الله تعالى لشمول نفعه.

وحينئذٍ تكون المصلحة في حماية هذا الحقّ هي تشجيع الإختراع والإبداع؛ كي يعلم من يبذل جهده في الإختراع أنَّه سيختص باستثماره ويكون محمياً من مزاحمته في استغلال ثمرة ابتكاره؛ فهو أحقّ باستثماره مزايا اختراعه الصناعية. كما أنَّهم استدلوا على كونه مالاً بقول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (من سبق إلى ماءٍ لم يسبقه إليه مسلم فهو له)(1)؛ باعتبار أنَّه يشمل كلّ شيء مكتشف, كما استدل على ملكية هذا الحق وأنَّ منفعة الحقوق المعنوية تعد مالاً كالأعيان.

وعلى ذلك يتمتع مالك براءة الإختراع بعدة حقوق, أهمها:

1- نسبة الإختراع إليه دون غيره, وحمايته من تقليده أو غشه وانتحال الآخرين له.

2- حق استثمار المخترع لاختراعه ثم توريثه بعد وفاته مدة معينة, فتكون حماية هذا الحقّ مطلوبة شرعاً اعتماداً على المصلحة كما تقدم بيانه.

ص: 188


1- سنن أبي داود ج3 ص1341؛ ط. دار الحديث.

والصحيح؛ إنَّ شيئاً مِمّا ذكر لا يصلح أنْ يكون دليلاً لإثبات ملكية براءة الإختراع أو إثبات الحق العيني المالي له, فإنَّه قد عرفت عدم صدق الملكية لمثل هذا السند المسمى ببراءة الإختراع, لأنَّ مجرد صدور سند من دائرة معينة تثبت كون الإختراع لمخترع معين لا تثبت كونه مالاً؛ لفقد عناصر المالية التي تعتبر في مالية الأموال إلا إذا أصبح هذا السند ذا اعتبار خاص يبذل بإزائه الأموال كالكمبيالات وأوراق اليانصيب بالشروط المعينة, وسند براءة الإختراع لم يصل إلى هذه الدرجة عند الجميع.

وأمّا إثبات الحقّ العيني لهذا السند فهو يبتني على كونه مالاً عند الناس, وقد عرفت عدم تحقق عناصره فيه.

وأمّا إثبات ماليته باعتبار المصلحة الخاصة والعامة, فلم يكن ذلك قاعدة عامة في ملكية الأشياء ولا في ماليتها, فإنَّه ليس كل شيء يلبي المصلحتين يكون سبباً في ماليته وملكيته إلا بناءً على قانون المصالح المرسلة؛ وهو باطل في الفقه الإمامي, إذ الأحكام الشرعية سواء كانت من التكليفات أم الوضعيات تتبع الأدلة الشرعية المعروفة وليست المصالح المرسلة منها.

يضاف إلى ذلك أنَّ إثبات المصلحة في شيء لإثبات ماليته من الدور الباطل, فإنَّ المصلحة إنَّما تثبت إذا كان الشيء مالاً مسبقاً, وإذا أردنا إثبات ماليته بالمصلحة يكون من توقف الشيء على نفسه.

وقد عرفت أنَّ العرف لم يكن دليلاً شرعياً لإثبات الأحكام, وإنَّما مهمته تشخيص الموضوعات فيما إذا لم يكن مستند العرف معلوماً كما في المقام.

وأمّا الحديث الشريف فهو بمعزل عن المقام بالكلية؛ فهو يختص بما إذا كانت الأشياء على إباحتها الأصلية ولم يسبق إليها يد مسلم, وأمّا إثبات المالية به يكون من التمسك بالعام في الموضوع المشكوك بل المعلوم عدم ماليته.

ص: 189

فليس في براءة الإختراع سوى حقّ الإختصاص, وليس كلّ حقّ قابل للتعاوض والإنتقال والتوارث كما سيأتي بيانه, ولكن يمكن بذل المال لصاحبه مقابل رفع يده عن هذا الحقّ والتنازل عنه؛ وهو مقبول وله نظائر في الفقه.

الثالث: الرسوم والنماذج الصناعية

ذكروا أنَّ مالك الرسم والنموذج له الحقّ الكامل في استيفاء ثمن خاص بالرسم الذي ابتكره للسيارة -مثلاً- وبالنموذج الذي صممه لها, لأنَّ لهذا الرسم والنموذج قيمة معتبرة بين الجمهور, ولا يمكن أنْ يتم بيع سيارة بدون شكل خارجي لها يتمثل برسم خاص ونموذج متميز عن غيره, ومن ذلك يستطيع مالك الرسم أو النموذج أنْ يبيع ابتكاره لمن يشاء ويتمتع بالحماية الكاملة بذلك.والظاهر أنَّ هذا الحق يختلف عن سابقَيه؛ فإنَّ له مظهراً خارجياً من رسم أو إنموذج عيني بخلاف ما تقدم, فإنَّه مجرد تصور وفكر, أو سند براءة.

ومن أجل ذلك لم يثبت له حق في ذلك سوى حق الإختصاص كما تقدم بيانه.

وأمّا في هذا الحقّ فإنَّ له صورة عينية خارجية يمكن للمالك التحكم فيها وله السلطنة عليها؛ فيصحُّ التعاوض عليها, وتختلف قيمتها حسب الجودة والرغبات التي تتبع الأغراض والمنافع المترتبة عليها, وتقبل الشراكة بين مالك تلك الرسوم والنماذج الصناعية والشركات العاملة التي تستخدمها في منتوجاتها حسب الضوابط الشرعية والقواعد المرعية, ويقبل هذا الحقّ الإسقاط والتوارث والتعاوض.

والأصل في جميع ذلك بعد ثبوت المالية لها قاعدة السلطنة؛ كما تقدم بيان ذلك مفصلاً.

ص: 190

الرابع: العلامات التجارية

وهي تلك العلامات التي تضاف على البضائع والسلع التجارية لغرض جلب ثقة الزبائن, ومن أجل أنَّ تلك العلامة التجارية الخاصة إنَّما تدل على جودة السلعة فإنَّه يُجعل لها قيمة معنوية مضافة إلى القيمة المادية لها.

ولا اشكال أيضاً في أنَّ تلك العلامة الخاصة أوجبت نيل ثقة الناس بتلك البضائع فازدادت رغباتهم لنيلها.

ويصدق على هذا الحق ما ذكرناه في الرسوم والنماذج الصناعية, ويكون لأصحاب هذه العلامة الحق ويكون من الحقوق التي تقبل المعاوضة وبذل المال بإزائه وإنْ كان عن طريق السلعة التي عليها تلك العلامة.

والدليل الذي ذكرناه آنفاً يجري في هذا الحقّ أيضاً.

الخامس: الإسم التجاري

والمراد به ذلك الإسم الذي غدا عنواناً على محلٍّ تجاري اكتسب شهرة مع الزمن بحيث أصبحت هذه الشهرة متجسدة في الإسم المعلن عليه.

وقد يكون هذا الإسم إسماً شخصياً للتاجر أو لقبه, وقد يكون إسماً أو وصفاً لطبيعة النشاط التجاري يلقب به المحل, أو رسماً من الرسوم.

والإسم التجاري يرتبط ارتباطا وثيقاً بسمعة المحل, وهي الشهرة الطيبة التي اكتسبها المحل من خلال حسن التعامل مع الزبائن واجتذابهم. وقد ذكروا في وجه شرعية هذا الحق هو تخريجه على قاعدة المصالح المرسلة كما تقدم بيانه في براءة الإختراع, فيكون الإسم التجاري حقاً مالياً ذا قيمة مالية ودلالة تجارية, لأنَّ المصلحة منه رواج الشيء الذي يحمل ذلك الإسم فيكون؛ مملوكاً لصاحبه,والملك يفيد الإختصاص والتملك من الإنتفاع والتصرف بأنواع المعاوضات, ومنع الغير من الإعتداء عليه.

ص: 191

وقالوا: إنَّ العرف الذي يستند إليه هذا الحق عام ولا يتصادم مع نص شرعي خاص أو قاعدة كلية عامة في الشريعة الإسلامية(1).

ويمكن مناقشة ما تقدم بمثل ما ذكرناه في حقَّي الإبتكار وبراءات الإختراع؛ فإنَّ الإسم التجاري بمجرده لا يستوجب ملكاً ولا حقاً عينياً وإنَّما يقتضي حقّ الإختصاص, وقد تقدم أنَّه لا يقبل النقل والإنتقال, وإنَّما يبذل بإزائه المال مقابل رفع اليد.

وأمّا البضائع التي تحمل تلك الأسماء التجارية فهي التي يبذل بإزائها الأموال, والإسم التجاري وإنْ أوجب زيادة الرغبات, لكن ليس كلّ ما يكون كذلك ينطبق عليه الملك وعنوان المال كما هو معلوم. وأمّا العرف فقد عرفت الكلام فيه؛ فراجع.

السادس: الشعار, (كأحد صور الإسم التجاري)

والمراد به العنوان التجاري؛ كصورة خاصة من الإسم التجاري.

وقالوا: إنَّما هو بمثابة رمز مبتكر يستخدمه التاجر ليميز متجره عن غيره من المتاجر. وقد وقع هذا مورد السؤال؛ فهل يكون ذلك مناط حقّ لمالك المتجر, وهل يجوز شراؤه؟.

والصحيح؛ إنَّه لم يكن في هذا القسم إلا حقّ الإختصاص بين الشعار أو العنوان التجاري للمحل وبين مالكه. وسيأتي التفصيل في حكم حقّ الإختصاص إنْ شاء الله تعالى.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّه لا أساس للملكية الصناعية والملكية التجارية, وإنَّما الثابت فيها إمّا حقٌّ عيني مالي, أو حقُّ الإختصاص, وما ذكر في إثبات الملكية وغيرها في بعض الموارد لا أساس له من الصحة.

وقد وقع الخلط بين الحكم والحقّ في كثير من تلك الموارد -وسيأتي تفصيل ذلك-, وبين العرف والقانون, ونحن وإنْ اثبتنا الملكية في تلك الموارد وعليها بني الإقتصاد المعاصر إلا أنَّ الكلام في مشروعيتها في الإقتصاد الإسلامي والتخريج الفقهي لها كما عرفت.

ص: 192


1- بيع الإسم التجاري والترخيص (د. حسن الأمين) -مجلة مجمع الفقه الإسلامي-؛ العدد 5 ج3 ص2505.

المصطلح الخامس: الحق

اشارة

المصطلح الخامس: الحق(1)

والكلام في نظرية الحقّ يقع في عدة مباحث:

المبحث الأول: في معنى الحقّ

اشارة

وقد استعمل في عدة مجالات؛ اللغة والقانون والفقه وغيرها.

المجال الأول: الحقُّ في اللغة

اشارة

ذكر أرباب معاجم اللغة معانيَ متعددة لكلمة الحقّ؛ نذكر منها ما يرتبط بموضوع بحثنا -وهو الملكية والمعاملات المالية- وهي:

1- الثابت بلا شكّ؛ كما في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(2).

2- النصيب أو السهم الواجب للفرد أو الجماعة(3).

3- الحقّ بمعنى الواجب؛ يقال حقَّ الشيءُ يحقُّ, أي وجب الشيء يجب(4).

4- ما كان خلاف الباطل.

5- العدل والإنصاف؛ ذكره (الكرمي) في (الهادي).

6- قال الفيومي(5): (وقولهم: هو أحقّ بكذا) يستعمل بمعنيين؛ الأول: الإختصاص؛ أي: إختصاص المالك بماله من غير مشاركة, نحو: (زيد أحقّ بماله) أي لا حقَّ لغيره فيه.

ص: 193


1- وهو المصطلح الخامس من المصطلحات التي يحتاجها علم الإقتصاد.
2- سورة الذاريات؛ الآية 23.
3- الإفصاح؛ ج1 ص248.
4- الصحاح؛ ج4 ص1461.
5- المصباح المنير؛ ص144.

والثاني: أنْ يكون بمعنى أفعل التفضيل, فيقتضي اشتراكه مع غيره وترجيحه على غيره, كقولهم: (زيد أحسن وجهاً من فلان) ومعناه ثبوت الحسن لهما وترجيحه للأول, وقاله الأزهري وغيره.

7- قال في القاموس الفقهي(1): (حقّ الأمر حقاً, وحقَّه, وحقوقاً: صحَّ وثبت وصدق, ويقال: يحقُّ عليك أنْ تفعل كذا؛ يجب ويحقّ لك أنْ تفعل كذا؛ يسوغ).

8- الإمتياز؛ كما قال في الصحاح: (أنْ تمنح الدولة فرداً أو شركة حقُ القيام ببعض الأعمال العامة, وتفرض عليه إلتزامات وشروطاً يتعهد بالوفاء بها).

9- الميزة؛ ذكره في معجم لاروس, قال: (في القانون ميزة يملكها المرء في أنْ يعمل أو لا يعمل, أو في أنْ يتصرف بشيء أو أنْ يلزم غيره على العمل أو عدم العمل).

والصحيح أنْ يقال: إنَّ الأصل في هذه المادة هو الثبوت مع المطابقة للواقع, فإنَّ هذا القيد قد أخذ في مفهومها في جميع المصاديق, قال تعالى: (فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)(2).

وقال تعالى: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)(3), وغير ذلك من الآيات التي استعملت الحقّ في مقابل الباطل والضلال. والباطل ما ليس له ثبوت, والضلال ما خرج وانحرف عمّا هو عليه.

الحقُّ في الفلسفة

الحقُّ في الفلسفة(4)

يعتبر الحقّ في الفلسفة إحدى القيم الثلاث؛ الحقّ والخير والجمال.

وقيل في تعريفه: ما طابق الذهن أو الواقع, ويقابل الباطل.

ص: 194


1- القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً؛ ص93.
2- سورة الأعراف؛ الآية 30.
3- سورة البقرة؛ الآية 42.
4- هذا المعنى من لواحق الحقّ في اللغة.

وذكر القدماء في الحقِّ أنَّه الحكم المطابق للواقع, ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك الحكم, ويقابله الباطل.

وأمّا الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة, ويقابله الكذب.

وحقُّ اليقين عند العرفاء؛ فناء العبد في الحقِّ والبقاء به علماً وشهوداً وحالاً. فالعلم بالنار بأنَّها جسم يحرق علمُ اليقين, ومعاينتها عين اليقين, والحرق بها حقُّ اليقين. كما أنَّ علم كل أحد بالموت علم اليقين, فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين, فإذا ذاق الموت فهو حقُّ اليقين. وقال بعضهم أنَّ علم اليقين ظاهر الشريعة, وعين اليقين الإخلاص فيها, وحقُّ اليقين المشاهدة فيها.

الحقُّ في الأخلاق

الحقُّ في الأخلاق(1)

هو ما طابق القواعد والمبادئ الأخلاقية, ويقابل الواجب.

هذه هي أهم المعاني التي ذكرها علماء اللغة, والذي يرتبط منها بموضوع بحثنا هو الإمتياز والميزة والإختصاص؛ لأنَّ الفقهاء المعاصرين يعتبرون الحقَّ إمّا نحوٌ من الإمتياز تمنحه الدولة الإسلامية ليصحّ تصرفه في الشيء الذي مُيِّز به وفق تعليمات وشروط الدولة.

أو أنَّه ميزة يملكها الإنسان وفق تعليمات الشريعة الإسلامية, وتتمثل في منحه التصرف في الشيء الذي مُيِّز به وفق الشروط الشرعية.

أو هو نحو من الإختصاص دون مستوى الملكية.

وسيأتي توضيح ذلك إنْ شاء الله تعالى.

ص: 195


1- هذا المعنى من لواحق الحقّ في اللغة.

المجال الثاني: الحقُّ في القانون

تمهيد:

لا بُدَّ أنْ يعلم بأنَّ الحقَّ في الفقه والقانون ربما يطلق في موردين:

أحدهما: الأحكام الفقهية أو القانونية التي هي مجموعة النصوص والفتاوى.

والثاني: السلطة أو المُكنَة التي يمنحها الشرع أو القانون للإنسان ليسوغ له التصرف بالشيء.

وإذا أردنا توضيح ذلك نقول:إنَّ القانون يجوّز للإنسان أنْ يتملك, فيكون هذا الجواز حكماً من أحكام القانون, فإذا تملك شيئاً في حدود ما سوغ له القانون فإن هذه الملكية التي هي علاقة بينه وبين الشيء المملوك تمنحه السلطة على مملوكه ليتصرف فيه في نطاق الحدود المشروعة فيكون الحُكم بالتملك حقاً, والسلطة الممنوحة بعد التملك يطلق عليها كلمة الحق وربّما يختلط الأمر بينهما ولكن تمييزهما إنَّما يكون في ترتب الآثار.

والصحيح -كما سيأتي بيانه-؛ إنَّه خلط بين الحكم والحقّ؛ فإنَّ الأول حكم, والثاني ملكية. والتصرف فيما يملكه حكم شرعي أو قانوني, ومثل هذا الخلط كثير, وسيأتي بيان ذلك إنْ شاء الله تعالى.

ويعرَّف الحقّ قانوناً كما ذكره الدكتور السنهوري بأنَّه: (مصلحة مالية يقرّها القانون للفرد). وهذا التعريف في الأصل هو للفقيه القانوني الالماني أهرنج, ويستعمل في مجالات المعاملات المالية خاصة.

وقال الدكتور سلطان في كتابه المبادئ القانونية العامة: (الحقُّ مصلحة مادية أو معنوية مقررة لشخص قِبَل آخر يحميها القانون, كحق الملكية على عقار أو منقول وحق الدائن قِبَل مدينه )(1).

ص: 196


1- المبادئ القانونية العامة.

والصحيح أنَّ المستفاد من تعريفهما وأمثالهما إنَّما هم الحكم, وهو جواز التملك الذي من لوازمه التمكن من التصرف المعبّر عنه بالسلطنة والسلطان أو المُكنة.

أركان الحقّ

قال الدكتور سلطان معلقاً على التعريف المزبور: رأينا أنَّ الحقَّ مصلحة مادية أو معنوية مقررة لشخص يحميها القانون, وإذا حلّلنا هذا التعريف يتبين لنا أنَّ الحق ينطوي على ركنين أساسيين هما:

1- صاحب الحقّ.

2- محلُّ الحقّ.

ويراد ب-(صاحب الحق)؛ الشخصية القانونية, وهي تشمل الشخص الطبيعي وهو الإنسان, والشخص المعنوي أو الإعتباري كالشركة, والدولة, والمؤسسات الثقافية كالجامعات, والإجتماعية كالجمعيات ... إلى آخرها.

كما أنَّ المراد ب-(محل الحقِّ)؛ متعلّقُه, أو ما يقال: ما يرد عليه الحقّ من أشياء وأعمال؛ ويتكون من العلاقة بين صاحب الحقّ ومحل الحقّ (مضمون الحقّ) وهو السلطة التي يخولها الحقّ لصاحبه.

أقسام الحقّ

قسَّم القانون الحقوقَ إلى سياسية ومدنية؛

والحقُّ السياسي: هو الحقُّ الذي يخول المواطن المساهمة في إدارة شؤون الحكم في وطنه.والحقُّ المدني: هو الحقُّ الذي يعطى للإنسان بصفته عضواً في المجتمع الإنساني؛ كحق الحياة, وحق الرأي. وتقسمّ الحقوق المدنية إلى: عامة وخاصة؛

والحقُّ العام: هو الحقُّ المستمد من طبيعة الإنسان كإنسان. ومن أجل ذلك سميت هذه الحقوق: ب-(الحقوق الطبيعية) و(حقوق الإنسان).

ص: 197

والحقُّ الخاص: هو الحقُّ الذي يكفل للإنسان مزاولة نشاطه, سواء في نطاق الأسرة أم في نطاق المعاملات المالية. ومن هنا قسَّموا الحقوق الخاصة إلى حقوق الأسرة, والحقوق المالية؛

أمّا حقوق الأسرة: هي تلك الحقوق التي تثبت للإنسان بصفته عضواً في أسرة معينة.

وأمّا الحقوق المالية: هي تلك الحقوق التي تقوم محلها النقود التي هي قوام المعاملات المالية. وتقسم الحقوق المالية إلى شخصية وعينية؛

أمّا الحقّ الشخصي: هو الذي يقوم بين شخصين, كالدَّين الذي يكون بين الدائن والمَدين, والرهن بين الراهن والمرتهن.

وأمّا الحقّ العيني: هو ما يقوم بين الشخص والشيء. ويقسم هذا الحقّ إلى حقٍّ مادي ومعنوي؛

أمّا المادي: هو ما يكون الشيء فيه -الذي هو طرف المعاملة الآخر- مادياً, كحق الملكية.

وأمّا المعنوي: هو ما يكون الشيء فيه -الذي هو طرف المعاملة الآخر- معنوياً, كالإنتاج الفكري, مثل حق المؤلّف. ويسمى هذا الحقّ بالحقِّ الذهني أيضاً.

وحصيلة ما ذكرناه:

عکس

ص: 198

مصادر الحقّ

ويراد بمصدر الحقّ -هنا- ما يُستمدُّ منه الحقّ؛ وهو في عرف المشرعين القانونين: القانون الذي أمسى أخيراً يستمدُّ أحكامه -ولا سيما في المعاملات المالية- من اجتهاد المشرعين القانونيين في نطاق القواعد والمبادئ القانونية, المسمى في عرفهم بالتشريع.

هذا ما أردنا إثباته بما يرتبط بالحق في مصطلح القانون, وسيأتي عند توضيح الحقّ في الفقه ما يتعلق بذلك إنْ شاء الله تعالى.

المجال الثالث: الحقُّ في الفقه

اشارة

عُرِّف الحق في الفقه بتعاريف:

1- تعريف السيد بحر العلوم, قال: (سلطنة مجعولة للإنسان من حيث هو على غيره -ولو بالإعتبار- من مال أو شخص أو هما معاً, كالعين المستأجرة, فإنَّ للمستأجر سلطنة على المؤجر في ماله الخاص, وهو أضعف من مرتبة الملك أو أول مرتبة من مراتبه المختلفة في الشدَّة والضعف)(1).

2- تعريف صاحب التعليق على البلغة قال: (الحقُّ سلطنة مجعولة زمامها بيد ذي الحقّ, فله القدرة على الإعمال والإسقاط)(2).

والمستفاد من هذين التعريفين أنَّ الحقَّ علاقة بين الإنسان والإنسان, أو بين الإنسان والشيء؛ تعطيه سلطنة التصرف فيه في حدود معينة, ويتحقق أثر هذه السلطنة في تمكن صاحب الحقّ من الإعمال والإسقاط, أو أنَّه نحو اختصاص أيضاً.

ص: 199


1- بلغة الفقيه؛ ج1 ص13-14.
2- المصدر السابق؛ ص36.

وقال السيد الوالد قدس سره: (مِمّا تعارف بين الناس؛ الملك والحقّ والحكم, فيرون لأنفسهم ملكاً, وفيما بينهم حقوقاً, وفي شريعتهم حكماً, ولا إختصاص لذلك بملَّة الإسلام, بل يعمّ جميع الأنام.

والملك من البديهيات في وجدانهم؛ فيرونه أنَّه الإستيلاء والسلطة المطلقة على المملوك.

وفي مورد الحقّ يرون نحواً من الإستيلاء والسلطة أيضاً, فيكون الفرق بينه وبين الملك بالشدة والضعف.

وأمّا الحكم؛ فلا يرون فيه الإستيلاء والسلطة أبداً ولو بأضعف أنحائه, وإنَّما هو ترخيص محض من الحاكم بالنسبة إليه. فيقولون: هذه أرضي لا أبيعها إلا بثمن كذا -مثلاً- لأنَّها ملكي, وهذا المكان حقّي لأنَّ فيه رحلي, ولي أنْ أصلي في هذا المكان-مثلاً- لأنَّ الله تعالى أباح لي ذلك. والأول: مثال الملك, والثاني مثال الحقّ, والأخير مثال الحكم )(1).

تحقيق الكلام
اشارة

إنَّ المستفاد من كلمات الفقهاء وعلماء القانون أنَّ الحقَّ من مراتب الملك, والفرق بينهما بالشدة والضعف, ولتوضيح ذلك لا بُدَّ من بيان حال كلّ واحد منهما عرفاً وشرعاً.

حقيقة الملك

والملك -كما تقدم الكلام فيه- قد اختلفوا في حقيقته من أنَّه:

1- من المقولات العرضية؛ وهي على أنحاء:

أ- إنَّه بمعنى الجدة؛ المعبر عنها بالملك, و(له) في فنّ المعقول.

ب- إنَّه بمعنى الإضافة؛ نظراً إلى تضايف المالكية والمملوكية.

ج- إنَّه بمعنى السلطة المساوقة للقدرة على التصرف في العين؛ فيكون من مقولة الكيف.

ص: 200


1- مهذب الأحكام؛ ج16 ص205.

وجميع هذه المعاني بعيدة عن الملكية العرفية والمنساق إلى الاذهان, بل كون الملك من المقولات العرضية باطل من أساسه, لأنَّ المقولة في اصطلاح المعقول ما يقال على شيء يصدق عليه في الخارج, فلا بُدَّ من أنْ يكون لها مطابق وصورة في الأعيان كالسواد والبياض وما شابههما من الأعراض, أو يكون من حيثيات ما له مطابق ومن شؤونه الوجودية فيكون وجودها بوجوده, كمقولة الإضافة, حيث أنَّها لمكان كون فعليتها بإضافتها ولحاظها بالقياس إلى الغير لا يعقل أنْ يكون لها وجود استقلالي.

ومن الواضح أنَّه بعد وجود عقد البيع -مثلاً- لم يوجد ما له مطابق في الخارج, فلم يتحيّث ذات المالك والمملوك بحيثية وجودية, بل هما على حالهما قبل العقد, ولا يعقل صدق المقولة بلا وجود مطابق في الخارج أو تحيثه بحيثية واقعية.

ثمَّ إنَّ الملك إذا كان من الأعراض؛ فإنَّه يحتاج إلى موضوع محقق في الواقع, لأنَّ العَرَض -كما هو معروف في تعريفه- كونه في نفسه كونه لموضوعه. وعليه؛ لا يكون الملك كذلك, لأنَّ الإجماع قائم على صحة تمليك الكلي في الذمة في بيع السلف ونحوه, والمشهور على مالكية طبيعي الفقير للزكاة؛ والحال أنّه لم يعتبر في موضوعه الوجود الخارجي أو أنَّه لا وجود له أصلاً. فليس الملك من المقولات العَرَضية.

2- أنْ يكون الملك العرفي والشرعي من الأمور الإنتزاعية الموجودة بوجود منشأ انتزاعها.

ومنشأ الإنتزاع أحد وجوه:

الأول: ما هو المعروف من أنَّه العقد أو المعاطاة -مثلاً-, فإنَّ وجوده خارجي يصحّ منه انتزاع الملك.

وفيه: إنَّه لو كان العقد أو المعاطاة منشأ الإنتزاع له واقعاً لم تختلف الأنظار, مع أنَّه ليس كذلك؛ كما هو معلوم.

ص: 201

الثاني: كون الملك من الأحكام الوضعية, وقد ذهب جمع إلى أنَّ الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية, فإنَّ الملكية بمعنى السلطنة التي تجوز التقلّب في المملوك بأيِّ وجه, هو منتزع من جواز التصرف مطلقاً في المملوك.

ويرد عليه:

أ- إنَّ الملكية ربما تكون ولا يكون جواز التصرف ثابتاً بوجه, كما في المحجور لصغر أو جنون أو سفه أو فَلَس. والقول بأنَّه ثابت في حدِّ ذاته وإنْ منع عنه مانع؛ مردودٌ بأنَّه يقتضي الملكية بالاقتضاء لا بالفعل؛ مع أنَّ الملكية فعلية, وثبوت الأمر الإنتزاعي بلا منشأ الإنتزاع محال.

ب- إنَّ قيام المبدأ بشيء بقيامٍ إنتزاعي يصحح صدق العنوان الوضعي على منشأه, فلو كان الحكم التكليفي منشأَ الإنتزاع حقيقة, فالحيثية قائمة به, فيصحُّ حمل عنوان المالك والمملوك عليه.

ويمكن الردّ عليه بأنَّ العقد -مثلاً- يُحدث مصلحة تقتضي ترخيص إنشاء التصرف في مورد العقد فينتزع الملكية منه, فيكون العقد سبباً للملكية, وهذا يكفي في دفع الإشكال المزبور.

الثالث: أنْ يكون منشأ الإنتزاع هو تمكن الشخص من بيع العين ونقلها بأنواع النقل, والتقلَّب فيها شرعاً بشتى ضروبه, فإنَّ قدرته خارجاً على العين بأنواع التصرفات شرعاً يكون منشأً لانتزاع الملكية لا بمجرد جواز التصرف شرعاً.

ويمكن مناقشته بأنَّ القدرة لا تتعلق إلا بالفعل, ومن المعلوم أنَّ قدرة الإنسان على نوعين:

أ- القدرة النفسانية: وهي التي يكون متعلقها الأعمال الجنانيّة.

ب- القدرة الجسدية -أي تلك التي تحصل من القوة المنبعثة من العضلات-: وهي التي يكون متعلقها الحركات الأينية والوضعية وأشباههما من الأفعال الجسدية.

ص: 202

والملكية لها مساس بالعين ابتداءً, وهي قدرة الإنسان على أفعاله التسبيبية من البيع والصلح والهبة, فضلاً عن تقلبه في العين خارجاً.

ولا يعقل أنْ تكون القدرة على أفعاله منشأً لانتزاع ملك رقبة العين, فلا بُدَّ من حيثية قائمة بالعين حتى يصح انتزاع ملك العين منها.

والحاصل من جميع ذلك: إنَّه لا يمكن أنْ يكون الملك الشرعي والعرفي من المقولات واقعاً, ولا من المقولات الثلاث بالخصوص وهي مقولة الجدة, ومقولة الإضافة, ومقولة الكيف. فهو ليس من المقولات العرضية عموماً ولا خصوصاً.كما إنَّه ليس من الإعتباريات الذهنية كالجنس والفصل والنوع, لأنَّ معروضاتها أمور ذهنية لا خارجية, ومن الواضح أنَّ المالك والمملوك شرعاً وعرفاً هما من الأعيان الخارجية.

كما إنَّه ليس من الأمور الإنتزاعية لما عرفت من أنَّ الأمر الإنتزاعي يفتقر إلى منشأ الإنتزاع, وشيئاً مِمّا ذكر فيه لا يصلح أنْ يكون منشأً لانتزاع الملكي, كما تقدم بيانه.

3- أنْ يكون الملك شرعاً أو عرفاً له وجود اعتباريٌ لا حقيقي.

كما هو الشأن في جميع الوضعيات الشرعية أو العرفية, فإنَّها موجودة بوجودها الإعتباري لا بوجودها الحقيقي, أي أنَّ المعنى فيها سنخ معنىً, بحيث لو وجد خارجاً لكان إمّا جوهراً بالحمل الشايع, أو كيفاً, أو إضافة, أو جدة كذلك؛ لكنها لم توجد بهذا النحو من الوجود, فإنَّ الأمر الإعتباري إنَّما أوجده من له الإعتبار بوجوده الإعتباري.

وإذا أردنا تطبيق ذلك على مثال يوضح ما ذكرناه نقول: إنَّ الأسد -مثلاً- هو الحيوان المفترس معنىً, لو وجد بوجوده الحقيقي لكان فرداً من نوع الجوهر, لكن لو قلنا (زيدٌ أسدٌ) فيكون زيدٌ أسداً بالإعتبار, حيث اعتبره المعتبِر كذلك, وكذلك الفوقية هي معنى لو وجد في الخارج حقيقة لكان من مقولة الإضافة؛ إلا أنَّه لو قلنا بأنَّ (علم زيد فوق علم

ص: 203

عمرو), كما قال تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(1) فالأمر يختلف, كما أنَّ البياض والسواد لو وجدا في الخارج لكانا فردين من مقولة الكيف المبصرة؛ لكنهما ربّما يوجدان بوجودهما الإعتباري, فيقال: (قلب زيد أبيض, وقلب عمرو أسود). هذا ما يتعلق بالجوهر والأعراض.

وكذلك الملك؛ فإنَّه معنى لو وجد في الخارج لكان جدة أو إضافة مثلاً, لكنه لم يوجد بذلك النحو من الوجود بل وجد بنحو آخر عند اعتبار المتعاملَين مالكَينِ شرعاً أو عرفاً, والعين مملوكة شرعاً أو عرفاً. وهذا نحو آخر من الوجود يتبع اعتبار المعتبر يكون موضوعاً للأحكام والآثار شرعاً وعرفاً.

وربما تجتمع الجدة الخارجية مع الجدة الإعتبارية, وربما تختلفان؛ فتكون جدته الخارجية لشخص وجدته الإعتبارية لشخص آخر مثلاً.

ولا ريب أنَّ الموجودات الإعتبارية تختلف عن غيرها من الموجودات الحقيقية والإنتزاعية في أنَّها سهلة المؤونة تابعة لاعتبار المعتبر فتتحمل ما لا يتحمله غيرها؛ كما فصَّلناه في علم الأصول, وسيأتي مزيد من البيان .

مفهوم الملك

ثم إنَّه بعد معرفة حقيقة الملك؛ وقع الكلام في مفهوم الملك؛ من أنَّه هل هو بمعنى الإحتواء؟ أو الإحاطة؟ أو السلطنة؟ أو الوجدان؟.قد يقال إنَّه ليس بمعنى السلطنة؛ لأنَّها مفهوماً تتعدى إلى متعلقها بحرف الإستعلاء, والملك يتعدى بنفسه, كما إنَّ الاحاطة تتعدى تارةً بالباء, وأخرى بحرف الإستعلاء, والملك ليس كذلك؛ فيكون الملك بمعنى الإحتواء والوجدان.

ص: 204


1- سورة يوسف؛ الآية 76.

والظاهر أنَّ الملك عند العرف يتضمن المعاني المذكورة, والتضمين في اللغة من أهم روافد البلاغة والفصاحة, مع أنَّ تلك المعاني وإنْ اختلفت بحسب المفاهيم ولكنها متلازمة بحسب الفهم العرفي والإنسياق الذهني, ومن هنا ترى العلماء في الشريعة والقانون يعبرون عن الملك بتلك المعاني من دون أنْ يكون هناك محذور في البين.

متعلق الملك

ذكرنا عند البحث عن الملك وأقسامه, والمالك والمملوك, وهنا نذكر مراتب الملك من حيث المتعلق وهي:

1- ملك العين.

2- ملك المنفعة.

3- ملك الإنتفاع.

أمّا الأول فلا إشكال في ثبوته, وهو الشايع في الخارج. وإنَّما الإشكال في الثاني والثالث؛

أمّا ملك المنفعة فقد ذكر العلماء في الإشكال عليه وجهين:

أحدهما -وهو المعروف-: من تعلّق الملك بالمنفعة المستقبلية, فيكون من التعلق بالمعدوم, فإذا كان الملك من العرض فإنَّه يحتاج إلى موضوع محقَّق.

وثانيهما: إنَّ سكنى الدار -مثلاً- وركوب الدابة وأشباهمها, والتي تُعدُّ من منافعها لم تكن من حيثيات ملك الأعيان لتكون مملوكة لمالك تلك الأعيان حتّى يملِّكها المستأجر, بل هي من أعراض العين المستأجرة, وهي غير مملوكة للمؤجر قطعاً؛ فكيف يملِّكها المستأجر؟ مضافاً إلى أنَّ المنفعة إذا كانت من أعراض العين المستأجرة, فلا فرق بين ملك المنفعة وملك الإنتفاع.

ص: 205

والحقُّ أنَّ شيئاً مِمّا ذكر لا يصلح للمنع؛ أمّا الأول؛ فلما عرفت من أنَّ الملك ليس من الأعراض الخارجية حتى يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج بل هو اعتبار, ويكفيه الموضوع الإعتباري أيضاً, وذلك بتقدير كون المنافع موجودةً بوجود ما تقوم به ولو في أفق الإعتبار. ومن هنا صحَّ ملك الكلي في الذمة, وذلك بتقدير وجوده فيها, أو فرض وجوده في الإعتبار, فيتقوم الإعتبار به لئلا يكون اعتبار الملك بلا طرف من اللغو المحض, وأيضاً قالوا بملكية طبيعي الهاشمي والفقير للخمس والزكاة, أو القول بحصة الوصية للمعدوم وبالمعدوم.

وأمّا الثاني؛ فلما تقدم أيضاً من أنَّ الملكية من الإعتباريات, ويكفي في متعلقها الوجود الإعتباري أيضاً, فإنَّ سكنى الدار وإنْ عُدَّت من أعراض الساكن لكن منحيث مساسها ونسبتها إلى الدار تكون مملوكة لمالك الدار, فهو ليس إلا عرض واحد قائم بالساكن فقط مع النسبة إلى الدار, فإذا كان الأمر كذلك يظهر أنَّ منفعة الدار وسكناها هو العرض الذي له نسبه إليها, وبسكناها ينتفع بها, فلا محالة يكون زمام أمر هذه النسبة بيد مالك الدار, فيعتبر وجدانها لواجد الدار شرعاً وعرفاً, فإذا ملَّكها المؤجر للمستأجر فقد ملَّك طبيعي السكن, وهي قابلة للتمليك لآخر, لأنَّها تتحقق في مقام الإستيفاء من كلِّ أحد. بخلاف العارية؛ التي توجب ملك الإنتفاع, فإنَّها تمليك سكنى زيد لزيد, ولا يعقل استيفاؤها إلا من زيد, ولذا لا يصحُّ نقلها من المستعير.

وبذلك يحصل الفرق بين ملك المنفعة وملك الإنتفاع, ففي الحقيقة تكون حيثية الإنتساب إلى الدار في الأولى ملحوظة بالإستقلال؛ من دون خصوصية لمن يقوم بالسكنى, بخلاف الثانية؛ فإنَّ حيثية القيام وإنْ كانت ملحوظة بالإستقلال, لكن في ضمن حصة من الطبيعي بحيث لا تتعدى عن مورد العقد.

ص: 206

ولكن قد يقال بأنَّ هذه النتيجة قد تحصل في عقد الإجارة مع شرط الإستيفاء بنفسه, فلا فرق بين الإجارة والعارية حينئذٍ من هذه الجهة.

وهو مردودٌ بأنَّ اختلاف الحقيقة بالنظر إلى نفس الذات ومقتضياتها, وهي محفوظة كما لا يخفى. فلا إشكال في ملك المنفعة.

وأمّا ملك الإنتفاع فقد ذكر العلماء في وجه الإشكال عليه مثلما ذكرناه في ملك المنفعة من أنَّ الإنتفاع من أعراض الساكن, وهو غير مملوك للمعير حتى يملّكه المستعير بعقد العارية.

ويمكن الجواب عنه وتصحيح ملك الإنتفاع بأحد وجوه ثلاثة:

الأول: الإلتزام بأنَّ مفاد عقد العارية إباحة الإنتفاع إباحةً مالكيةً يتبعها إباحة شرعية.

ونوقش هذا الوجه بأنَّ صيرورة الإنتفاع مباحة بالإباحة المالكية لا تتوقف على قبول المباح له؛ لا قولاً ولا فعلاً, فالإنتفاع بمجرد الإذن مباح, سواء انتفع به أم لا.

ويمكن رده بأنَّ العرف يرى بأنَّ انتساب إباحة الإنتفاع إلى المالك يكفي في صدق عنوان الملك حقيقة, سواء انتفع المباح له أم لا؛ كما يأتي بيانه في الوجه الثاني.

الثاني: إنَّ المعقود عليه في العارية يتضمن معنىً تسبيبياً يتسبب إليه بالعقد, وهذا المعنى هو إباحة الإنتفاع؛ مالكيةً أو شرعية, فمن شؤون مالك العين أنْ يسلّط غيره على عينه للإنتفاع بها, وهذه السلطة والإباحة والوجدان هي معنى الملك, ولا حاجة إلى القول بأنَّ التعبير بالملك مجاز, فإنَّ المعير قد سلط المستعير علىعين ماله, ويكفي ذلك عند العرف في ملكية الإنتفاع وإنْ لم يكن ذلك نقل ملك العين.

الثالث: إنَّ الإنتفاع عندما ينتسب إلى العين يلغي طرفه القائم به, فكأنه يتمحض في النسبة إلى العين, ويعد منفعة العين حينئذٍ, فإذا ملكها أحد كان له نقله إلى غيره, فلا إشكال في ملك الإنتفاع, كما لا إشكال في ملك المنفعة كما عرفت.

ص: 207

الفرق بين المراتب الثلاث المتقدمة

ذكر العلماء الفرق بين ملك العين وملك المنفعة وملك الإنتفاع بعد اشتراكها في كون العين مملوكة في الجميع؛ غاية الأمر أنَّ السلطنة على العين إنْ أحاطت بجميع جهاتها عُبّر عنها بملك العين وملك الرقبة, وهو المعبّر عنه بالملك التام.

وإنْ اختصت بجهة من جهاتها مع الإستقلال من تلك الجهة عُبّر عنها بملك المنفعة, فإنَّ العين المستأجرة مملوكة للمستأجر من تلك الجهة, وإنْ كانت مملوكة للمؤجر بالملك التام.

وأمّا إذا اختصت السلطنة بجهة من جهاتها لا مع الإستقلال عُبّر عنها بملك الإنتفاع, فإنَّ الإنتفاع غير مملوك بالحقيقة.

ومن جهة الإستقلال وعدمه افترق ملك المنفعة عن ملك الإنتفاع في جواز النقل في الأول دون الثاني, فإنَّ العين المعارة مملوكة للمستعير من حيث الإنتفاع بجهة خاصة, لكن عدم الإستقلال مانع عن النقل.

ومن أجل ذلك كلّه يندفع إشكال معدومية المنفعة وعدم تعلق الملك بالمعدوم, وإشكال كون المنفعة عرضاً من أعراض المستأجر ولا يملكه المؤجر, بل العين مملوكة في مدة خاصة لجهة مخصوصة. وهذا المعنى هو الذي ينسبق من عقد الإجارة وعقد العارية, أو بالأحرى ملك المنفعة وملك الإنتفاع, وإنْ أمكن الإيراد عليه بنحو آخر ولكنه غير تام.

هذا ما أردنا ذكره في حقيقة الملك من حيث المفهوم والمتعلق, وقد تقدم في مبحث الملك ما يتعلق به؛ فراجع. وإنَّما كان لزاماً أنْ نذكر في المقام أيضاً بعض ما يتعلق بحقيقة الملك لإيضاح حقيقة الحقّ.

ص: 208

المبحث الثاني: حقيقة الحقّ

اشارة

عرفت أنَّ الحقَّ في اللغة يأتي بمعنى الثبوت, فيكون الحقّ بمعنى المبدأ هو الثبوت, والحقّ بالمعنى الوصفي يكون هو الثابت, وما ذكره اللغويون وغيرهم من المعاني لهذه الكلمة إنَّما هو من باب اشتباه المفهوم بالمصداق.

وبهذا الإعتبار يطلق الحقُّ عليه تعالى؛ لثبوته بأفضل وأكمل أنحاء الثبوت الذي لا يخالطه عدم أو عدمي.والكلام الصادق حقٌّ لثبوت مضمونه في الواقع. وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في عدة مواضع بهذا المعنى, قال تعالى: (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ)(1)؛ أي يثبته.

وقال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(2)؛ أي ثابتاً.

وقال تعالى: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ)(3)؛ أي ثبت.

وقال تعالى: (كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ)(4)؛ أي ثبتت.

وقال تعالى: (الْحَاقَّةُ«1»مَا الْحَاقَّةُ)(5)؛ أي النازلة الثابتة,

وقال تعالى: (حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)(6)؛ أي ثابت عليَّ.

وغير ذلك من الآيات الشريفة.

وبهذا الإعتبار يقال: (فلان أحقُّ بكذا)؛ فإنَّه أولى من حيث كونه ذا ثبوت من غيره.

وبالجملة؛ إنَّه لم توجد في الإستعمالات القرآنية وغيرها مِمّا يأبى بمفهومه عن الثبوت.

ص: 209


1- سورة يونس؛ الآية 82.
2- سورة الروم؛ الآية 47.
3- سورة يس؛ الآية 7.
4- سورة يونس؛ الآية 33.
5- سورة الحاقة؛ الآية 1.
6- سورة الأعراف؛ الآية 105.

متعلق الحقّ

لا ريب أنَّ نفس الثبوت من دون إضافته إلى شيء غير قابل لاعتبار صحيح؛ حيث لا أثر للثبوت المطلق, فلا بُدَّ من اضافته إلى شيء ليكون اعتبار ثبوت شيء لشيء.

ومن الواضح أنَّ مورد الحقّ ومتعلقاته لا تكون قابلة لاعتبار ثبوتها للشخص بنفسها, إذ لا معنى لاعتبار ثبوت الأرض للشخص, بل الصحيح اعتبار ثبوت ملكه لها أو سلطنته عليها.

وحينئذٍ لا بُدَّ أنْ يكون الثابت أمراً اعتبارياً متعلقاً بمورد الحقّ, وهو: إمّا الحكم, وإمّا الملك, كما في صدق الحقّ على الملك في باب القضاء باعتبار ثبوته على المدعى عليه, وإمّا السلطنة وأشباهها من الإعتباريات الثابتة للشخص.

ثم إنَّ الحقَّ الذي يقابل الحكم؛ هل هو السلطنة؟ أو الملك واعتبار آخر؟ أو إعتبارات مختلفة في الموارد المتشتتة؟.

المعروف أنَّه السلطنة, لكن بالمعنى الإعتباري لا السلطنة التكليفية الراجعة إلى مجرد جواز الفسخ والإمضاء, أو جواز الملك من المشتري في الشفعة وأشباه ذلك.فلا يورد -كما عن المحقق الخراساني قدس سره- بأنَّ السلطنة من أحكام الحقّ لا نفسه, أو لا سلطنة للقاصر على التصرفات مع كونه ذا حقٍّ شرعاً.

والمراد بالسلطنة الإعتبارية اعتبارها كاعتبار الملك في مورده, لا السلطنة الإنتزاعية؛ كما تقدم بيانه في حقيقة الأمر الإنتزاعي من الإشكال.

الأقوال في حقيقة الحقّ

إختلفوا فيها على أقوال:

القول الأول: إنَّ الحقَّ مرتبة ضعيفة من الملك وأول مراتبه, وهذا هو المعروف كما تقدم ذكره في أول البحث.

ص: 210

وأورد عليه بأنَّ حقيقة الملك سواء كانت من مقولة الإضافة أم مقولة الجدة ليس لها مراتب مختلفة بالشدة والضعف حتى يكون اعتبارها في مواردها مختلفاً, فتكون في مورد قوية وفي مورد آخر ضعيفة, لأنَّ مقولة الإضافة -كما حُقِّق في محله- ليس لها وجود إستقلالي, بل تابعة للمقولة التي تعرضها الإضافة, فإنْ كانت من مقولة تختلف بالشدة والضعف -كالكيف مثلاً- فلا محالة تتَّصف مقولة الإضافة بهما تبعاً كالحرارة, وإنْ كانت من مقولةٍ لا تجري فيها الشدة والضعف فلا تتَّصف مقولة الإضافة بهما مثل مقولة الجواهر, كالإحاطة إذا عرضت على زيد المحيط بعين في الخارج, فإنَّه ليس له ولا لتلك العين شدة وضعف حتى تتَّصف الإحاطة بهما بالعرض.

وكذا مقولة الجدة؛ فإنَّها لا تتَّصف بنفسها بالشدة والضعف بل تتَّصف بالزيادة والنقص, فإنَّ الهيئة الحاصلة للرأس من العمامة أنقص من الهيئة الحاصلة للبدن من القميص, فإنَّ الثاني أزيد إحاطةً من الأول؛ لسعة المحيط والمحاط في الثاني دون الأول.

وعليه؛ لا وجه لدعوى تفاوت مراتب الملك شدة وضعفاً, وأمّا زيادة ونقصاً فهو أجنبي عمّا نحن فيه ضرورة أنَّ المالك للعين والمنفعة أزيد ملكاً مِمَّن يملك إحداهما.

فتبين أنَّ جعل الحقّ بمعنى الملك لا وجه له, ودعوى اختلافه بالمراتب فاسدة.

ولكن نقول بأنَّ ذلك إنَّما يتم بناءً على كون الملك من الأعراض ومن مقولة الجدة أو مقولة الإضافة, وقد عرفت بطلانه. وأمّا بناءً على كون الملك اعتبار السلطنة والوجدان ونحوهما, فإنَّه لا مانع من كونها قابلة للشدة والضعف إعتباراً أيضاً.

القول الثاني: إنَّ الحقَّ هو الملك, ولذا عُبّر عن حقِّ الخيار بملك الفسخ والإزالة. وقد اختار هذا القول أغلب من ذهب إلى التقسيم الثنائي في المقام لا الثلاثي؛ من الملك والحقّ والحكم.

وأورد عليه بأنَّ الملك ملزوم للسلطنة المطلقة, مع أنَّ الحقَّ سلطنة خاصة على تصرف خاص.

ص: 211

وناقشه بعضهم بأنَّ سعة المملوك وضيقه لا يوجب قوة وضعفاً في الملكية, فالملك في حدِّ ذاته وجدان خاص, وسعة متعلقه وضيقِهِ سعةٌ وضيقٌ في الموجود له, لا في وجدانه له؛ حقيقةً واعتباراً.

ولكن يرد عليه بأنَّ سعة الوجدان وضيقه تابعان لمتعلقه والعرف يرى سريانهما من المتعلق إلى نفس العنوان الطارئ عليه, هذا مع أننا قلنا بأن ذلك تابع لاعتبار العقلاء فلا اشكال حينئذٍ كما هو واضح.

فالحقُّ غير الملك, ويرشد إلى ذلك بأنَّ الحقَّ ربما يضاف إلى شيء لم يكن له اعتبار الملك شرعاً, كحقِّ الإختصاص بالخمر التي كانت خلاً سابقاً, أو كحقِّ الأولوية في الأرض المحجرة التي لا تُملك إلا بالإحياء -كما هو المشهور-, فيعلم من ذلك أنَّ الحقَّ ليس بمعنى الملك؛ إمّا عموماً أو في خصوص بعض الموارد, نعم؛ قد يتصادقان في بعض الموارد فيحصل الإشتباه.

القول الثالث: الحقُّ هو اعتبار آخر غير الملك, يختلف بحسب المتعلق وموارده المشتتة. وقد تقدم أنَّ السلطنة الإعتبارية لها موضوعات اعتبارية, فليست هي مجرد سلطنة تكليفية كالراجعة إلى جواز الفسخ والإمضاء أو جواز الملك من المشتري في الشفعة وأشباه ذلك. وبهذا الإعتبار ذهب المشهور إلى أنَّه مرتبة ضعيفة من الملك؛ فإنَّ إثبات الحقوق في كثير من الموارد لا يصحُّ إلا باعتبار وجود ملك شرعاً ليتمكن الإنسان من إيجاد تلك الحقوق, فاعتبار المشهور الملك في مورد الحق لم يكن من اللغو, نظير ما ذكرنا في ملك المنفعة؛ فإنَّ له مساساً بملك الغير, لأنَّه من حيث انتسابها بملك الغير تعدُّ من منافع ملك الغير, فتكون مملوكة له تبعاً, فيصحّ اعتبار الملك في موارد الحقوق إمّا بجعل الشارع إبتداءً, كحقِّ المارة, أو أشباه ذلك, أو تمليك الغير لها.

ص: 212

فالصحيح في المقام القول بأنَّ الحقَّ هو: إعتبارٌ مخصوصٌ له آثارٌ خاصة, وهو يناسب الخيار بمعنى التفويض, فإنَّ اعتبار كون ذي الخيار مفوضاً يترتب عليه جواز الفسخ والامضاء تكليفاً ووضعاً دون أن يلزم اعتباراً آخراً.

كما أنَّ بهذا القول تنحلّ بعض المناقشات التي أُوردت على القول بأنَّ الخيار ملك, أو أنَّه مرتبة ضعيفة من الملك, لأنَّ القول بأنَّ الحقَّ هو الإعتبار المعقول لا ينافيهما. فيكون الحقّ نحو اختصاص أو علاقة بين الإنسان والإنسان, أو بينه وشيءٍ تعطيه سلطة التصرف فيه في حدود معينة ومحدودة.

ويتحقق أثر هذا السلطة في تمكّن صاحب الحقّ من الإعمال والإسقاط.

ومن جميع ذلك يظهر صحة التقسيم الثلاثي من الحكم والملك والحقّ. ولا وجه للتقسيم الثنائي.

الفرق بين الحقّ والحكم

ذكرنا أنَّ متعلق الحقّ تارةً يكون الحكم, وأخرى يكون الملك بمعنى السلطة والسلطان؛ وقد اعتبر بعضهم أنَّهما من معاني الحقّ, ولكن تقدم أنَّه من اشتباه المفهوم مع التطبيق, وإنَّه ليس للحقِّ إلا معنىً واحداً وهو الثبوت, وهو بالمعنى المبدئي لا أثر منه في الخارج, وإنَّ الذي يترتب عليه الأثر هو الحقّ بالمعنى الوصفي, أي: الثابت, وهو يتضمن النسبة, فلا بُدَّ فيها من منتسبَين.

وكيف كان؛ فإنَّ الذي يهم دراستنا في الإقتصاد والمعاملات المالية بالخصوص هو الحقّ بالمعنى الإعتباري الملازم للسلطة أو السلطنة.

ومن هنا لا بُدَّ من بيان الفرق بين الحكم والحقّ, لأنَّ هناك قضايا يشتبه في أنَّها من الحكم أو من الحقّ وبالعكس, وقد استعرض جملة منها صاحب (البلغة) وابن أخته في التعليق, والتمييز بينهما إمّا أنْ يكون من ناحية تعريف كلّ واحد منهما, وإمّا أنْ يكون من ناحية الأثر.

ص: 213

والأول: ما ذكره قدس سره في تعريف الحكم بأنَّه: (جعلٌ بالتكليف أو بالوضع, متعلق بفعل الإنسان من حيث المنع عنه والرخصة فيه, أو ترتّب الأثر عليه. وأمّا الحقّ فهو سلطنة مجعولة للإنسان من حيث هو على غيره من مال أو شخص أو هما معاً)(1).

والثاني: ذكره إبن أخته في التعليق على (البلغة) من الفرق بينهما بالأثر المترتب على كلِّ واحدٍ منهما, فقال: (إنَّ المائز بين الحكم والحق هو: إنَّ الحكم لا يسقط بالإسقاط, إذ هو مجعول من الشارع المقدس على موضوعه, فزمامه بيده, وأمر وضعه ورفعه إليه بخلاف الحقّ؛ فإنَّ قوامه قابليته للإسقاط والعفو ممن جعل له)(2).

وعليه؛ يكون في كِليهما جهة مشتركة وهي: الجعل إلا أنَّ نحو الجعل مختلف؛ فإنَّ الحقَّ جعل لصاحبه بنحوٍ يكون زمامه بيده, فله الأخذ به وله العفو والإسقاط بخلاف الحكم؛ فإنَّه مجعول من الشارع المقدس على موضوعه بنحو يكون رفعه ووضعه بيد جاعله, كما أنَّه يمكن أنْ نجعل الفرق بينهما بأنَّ الجاعل في الحكم هو الشارع المقدس, بينما يكون الجاعل في الحقِّ اعتبار المعتبرِين سواء كان الشارع أم العقلاء أم غيرهما.

وكيف كان؛ فإنَّ الحكم لم يؤخذ فيه الإستيلاء والسلطة أبداً ولو بأضعف أنحائه, وإنَّما هو ترخيص محض من الحاكم بالنسبة إليه, بخلاف الحقّ؛ فإنَّ العرف إنَّما يراه نحواً من الإستيلاء والسلطة.

الفرق بين الحق والملك

تقدم أنَّ الحقَّ إعتبار خاص, إلا أنَّه يختلف عن الملك في مقدار أو مستوى التصرف؛ حيث أنَّ لصاحب الملك مطلق التصرف في ملكه, بخلاف الحقّ؛ فإنَّ تصرف صاحبه مقيد في حدود ما تسمح به العلاقة بينه وبين الآخر.

ص: 214


1- بلغة الفقيه؛ ج1 ص13.
2- المصدر السابق؛ ص35.

قال صاحب التعليق على (البلغة) مفرقاً بينهما: (إنَّ العلقة (العلاقة) والإضافة الحاصلة بين المضاف والمضاف إليه إذا كانت تامة صالحة لأنحاء التقلبات تسمى ملكاً, وإنْ كانت ناقصة لا تصلح إلا لنحو من التقلّب؛ لقصور في نفسهما أو متعلقهما تسمّى حقاً, كالإضافة الحاصلة للمرتهن بالنسبة إلى العين المرهونة, و(الإضافة) الحاصلة للشفيع بالنسبة إلى حصة شريكه المبيعة في شركته, فإنَّ المرتهن ليس له سوى استيفاء دَينه من الرهن إذا لم يفه المديون, والشفيع ليس له من السلطة إلا تملك ما اشتراه المشتري من الحصة بالثمن الذي اشتراه به).

وعليه؛ تكون سلطة المالك مطلقة وتامة, وسلطة ذي الحقّ مقيدة أو محدودة.

ومن أجل ذلك قلنا بأنَّ من عرّف الحقّ بأنَّه مرتبة ضعيفة من الملك إنَّما ينظر إلى هذا دون أنْ يكون الملك قابلاً للشدَّة والضعف.

وكان الأجدر بالجميع أنْ يُعرِّفوا الحقَّ بأنَّه اعتبار خاص في مورد مخصوص.

أركان الحق

من جميع ما ذكرناه في هذا الموضوع المهم في القانون والفقه يظهر أنَّ للحق ركنين أساسيين بهما يكون قوامه, وهما:

1- صاحب الحق (صاحب السلطة).

2- محل الحق أو متعلقه (المسلط عليه).

قال صاحب البلغة: (وله طرفان: أحدهما: طرف النسبة والإضافة, ويعبّر عن المنسوب إليه بصاحب السلطنة وذي السلطان. والآخر: طرف التعلق, ويعبّر عن متعلقه بالمسلّط عليه)(1).

ص: 215


1- المصدر السابق؛ ص14.

المبحث الثالث: أقسام الحقّ

اشارة

قسَّم الفقهاء الحقّ إلى أقسام عديدة حسب العناوين المختلفة, وهي:

التقسيم الأول: ما يرجع إلى استقلاله وعدمه, وهو على قسمين:

1- حقٌّ مستقلّ بنفسه. ومثاله حقُّ التحجير.

2- حق متقوم بغيره. ومثاله حقُّ المجني عليه على الجاني, وحقّ القصاص, فلا يكون في أمثال ذلك مستقلاً بنفسه بل متقوماً بغيره.

والحقُّ في مثل هذا التقسيم نظير الملك؛ الذي قد يكون متعلقه مستقلاً, وقد لا يكون كذلك, كالكلي في الذمة, وقد يتَّحدان في المورد وإنَّما يختلفان بالإعتبار, كسلطنة الإنسان على نفسه, ومنه القول المعروف: (إنَّ الإنسان أَملَكُ بنفسه من غيره). ولعله مأخوذ من قوله تعالى: (إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)(1), فإنَّ ما به التعلقعين ما إليه الإضافة وإنَّما يختلف بالإعتبار. وإنَّما نَسبَ الملك إلى أخيه من حيث كون زمام أمره خارجاً بيده لانقياد هارون لموسى علیهما السلام .

ولكن لا بُدَّ أنْ يعلم أنَّ هذه الملكية بالحقيقة لا بالإعتبار حتى يترتب عليها آثار الملك الشرعي والعرفي؛ نظير استحقاقه تبارك وتعالى للعبادة الذاتية التكوينية؛ فإنَّ معنى العبادة التكوينية خضوع الممكنات تكويناً للواجب وانقيادها له, فإنَّ الأشياء مؤتمرة بأمره التكويني قهراً, فيكون هذا الإستحقاق أيضاً واقعياً حقيقياً لا أنْ يكون اعتبارياً جعلياً؛ اللّهم إلا أنَّ استحقاق العبادة المجعولة كالصلاة, والصيام, والزكاة وغيرها إنَّما يكون بنفس إيجابها على العباد, فيكون الإعتبار الثابت من عنده عَزَّ وَجَلَّ ليس إلا الإيجاب, لا اعتبار السلطنة أو الملكية حتى يتوهم أنَّ من أجله منع من أخذ الأجرة على الواجبات لأنَّها مملوكة له تعالى, فيكون أكل المال بإزاء ملك الغير من الأكل بالباطل.

ص: 216


1- سورة المائدة؛ الآية 25.

وسيأتي أنَّ إطلاق الحقّ على العبادة نفسها وحملها عليه كما في قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (إِنَّ حَقَ الله عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(1) إنَّما هو باعتبار معناه المفعولي, كالملك بمعنى المملوك على الأعيان المملوكة.

وأمّا الحقّ بالمعنى الفاعلي القائم بذي الحقّ فهو نفس الإيجاب الذي باعتبار تعلّقه بالعبادة تصير حقاً بالمعنى المفعولي.

التقسيم الثاني: تقسيمه من حيث ثبوته بمعنى قابليته للسقوط والإنتقال وعدمها؛ إلى قسمين:

1- الحقّ الثابت المستقر؛ وهو الذي لا يسقط بالإسقاط, ولا يقبل النقل والإنتقال بالنواقل القهرية أو الإختيارية. وقد مثل له بحق الأبوّة, وولاية الحاكم, وحقّ استمتاع الزوج بالزوجة.

2- الحق غير الثابت؛ وهو الذي يقبل الإسقاط والنقل والإنتقال. وهذا أيضاً إمّا أنْ يقبلها جميعاً, وإمّا أنْ يقبل إثنين منها, وإمّا أنْ يقبل واحداً منها فقط.

ومن أجل اختلاف أسباب عدم الثبوت والإستقرار قُسِّم هذا النوع من الحقّ إلى الأقسام التالية:

أ- ما يصحُّ فيه الإسقاط والنقل والإنتقال. مثل حقّ الخيار, وحقّ الرهانة وغيرهما.

ب- ما يصحُّ فيه الإسقاط والإنتقال فيه. كحقّ الشفعة.

ج- ما يسقط بالإسقاط فقط. كحقّ الغيبة.

د- ما ينتقل بالنواقل فقط. كحقّ القسم بين الزوجات.

ولا بُدَّ أنْ يعلم أنَّه ليس المراد من الإسقاط هو العفو كما قد يتوهم, فإنَّه وإنْ كان يناسب السلطنة على الغير لكنه لا يلائم جميع موارد الحقوق, فإنَّ منها التحجيرالذي لا شبهة في إسقاطه, مع أنَّ السلطة فيه ليست على الغير, بل المراد من الإسقاط رفع الإضافة الخاصة أو إخراج المورد عن كونه طرفاً للإضافة كما يتَّضح ذلك إنْ شاء الله تعالى.

ص: 217


1- عوالي اللئالي؛ ج1 ص445.

قال السيد بحر العلوم في (البلغة): (ثم إنَّ الحقَّ -بما هو حقٌّ- يختلف بحسب اختلافه في سقوطه بالإسقاط وعدمه, ونقله إلى غيره مجاناً أو بعوض وعدمه, وانتقاله قهراً بالإرث وعدمه إلى أنحاء شتى؛ منها: ما لا يجوز عليه شيء من ذلك فلا يسقط بالإسقاط, ولا يُنقل بالنواقل ولا ينتقل بالإرث ونحوه؛ كحقّ الأبوة, وولاية الحاكم, وحقّ استمتاع الزوج بالزوجة, وحقّ الجار على جاره والمؤمن على أخيه؛ فإنَّها حقوق لأربابها لا تسقط ولا تنتقل إلى غيرهم بوجه من الوجوه.

ومنها: ما يجوز فيه كلُّ ذلك؛ كحقّ الخيار, وحقّ القصاص, وحقّ الرهانة, وحقّ التحجير, وحقّ الشرط المطلق.

ومنها: ما يسقط بالإسقاط ولا ينقل ولا ينتقل؛ كحقّ الغيبة والإيذاء بضرب أو شتم أو إهانة أو نحو ذلك -بناء على كونه حقَّاً لا أنْ يكون مجرد حكم تكليفي- ولذا يجب الإستحلال منه ولا يُكتفى بالتوبة في التخلص عنه.

ومنها: ما يسقط بالإسقاط وينتقل بالإرث -على قول- ولا ينقل بالنواقل؛ كحقّ الشفعة للشريك المسبب عن بيع شريكه.

ومنها: ما يُنقل مجاناً لا بعوض؛ كحقّ القسم بين الزوجات؛ بناءً على عدم مقابلته بالأعواض)(1).

إذا عرفت ذلك ينبغي التنبيه على أمور:

الأول: إنَّ كلَّ فرد من تلك الحقوق التي تقدم ذكرها إنَّما ثبت بالدليل, وقد ذكر الفقهاء كلّ واحد منها في الباب المختص به, فقد ورد حقّ القسم في كتاب النكاح, وحقّ التحجير في كتاب إحياء الموات, وحقّ الغيبة في المكاسب المحرمة وكتب الأخلاق, وحقّ

ص: 218


1- بلغة الفقيه؛ ج1 ص16-17.

الرضاع في كتاب النكاح -باب الرضاع-, وحقّ الشفعة في كتاب الشفعة, وحقّ الرهن في كتابه؛ فمن أراد الإطّلاع عليها لا بُدَّ من الرجوع إلى الكتب والأبواب المختصة بكلِّ واحدٍ من تلك الحقوق وليس المقام محلُّ ذكرها, ويأتي ما ذكروه في المقام الموجب لهذا التقسيم.

الثاني: ذكرنا أنَّ الإسقاط في عبارة الفقهاء ليس بمعنى العفو, فإنَّه وإنْ كان يناسب السلطنة على الغير لكنه لا يلائم جميع موارد الحقوق, بل المراد منه إمّا رفع الإضافة أو إخراج الشخص أو الطرف عن الطرفية للإضافة, وربما قيل بترجيح الثاني نظراً إلى أنَّ الحقَّ في بعض الموارد لا يعقل رفعه؛ لقيامه مع وحدته بمتعدد, كما في إرث حقّ الشفعة؛ فإنَّ إسقاط بعض الورثة حقّه جائز مع بقاء الحقّ بالإضافة إلى الباقي, والحقّ الواحد لا يقبل التعدد, إذ هو خلف, كما أنَّه لايتجزأ ولا يتبعض فإنَّه بسيط, فلا معنى لإسقاط الحقّ إلا إخراج أحد الورثة نفسه عن الطرفية للإضافة الشخصية, فيستقل باقي الورثة بالطرفية للإضافة.

لكن الصحيح أنَّ الإسقاط رفع الإضافة, ويلزمه خروج الطرف عن الطرفية لا أنْ يكون عينه, وذلك لأنَّه إذا كان إسقاط الحقّ من أصله كان سقوطه منافياً لثبوته, وأمّا إذا كان إسقاطه عن نفسه فهو لا ينافي ثبوته لغيره؛ فإنَّ الإسقاط كالنقل؛ يضاف إلى نفس الحقّ, وهو نفس الإضافة لا متعلقه الذي لا يخرج عن كونه أحد الأشياء, مثل الملك والمنفعة وعمل الحر عن جمعٍ. ومن هنا أشكل بعض الفقهاء على جعل الحقّ عوضاً بأنَّه ليس بمال.

ولكن يرده بأنَّه وإنْ لم يكن الحقّ مالاً لأنَّه نفس الإعتبار كما عرفت, إلا أنَّ متعلقه مالٌ قطعاً, ومن هنا صحَّ نقل حقّ التحجير باعتبار الأرض المحجرة التي لا شبهة في ماليتها.

وكيف كان؛ فإنَّ النقاش في حقيقته الإسقاط لفظي, فإنَّ إسقاط الإضافة يلازم خروج الأطراف أو أحدهم عن الطرفية.

ص: 219

الثالث: إختلفوا في حقيقة النقل أيضاً؛ فالظاهر أنَّه ليس المراد بالنقل في كلمات الفقهاء هو النقل الحقيقي؛ لأنَّه لا يمكن تصوره في نقل الحقّ بما هو حقّ, وإنْ أمكن تصويره في متعلقه, مع أنَّ النقل منسوب إلى الحقِّ نفسه لا متعلقه كما عرفت أنَّه كذلك في الإسقاط.

فلا بُدَّ أنْ يكون المراد من نقل الحقّ هو النقل الإعتباري؛ بمعنى إخراج الشيء عن طرف إضافة ملكية نفسه إلى طرفية غيره في إضافة الملكية, فقد نقل من طرف هذه الإضافة إلى طرف إضافة أخرى. ومن أجل هذا قالوا بأنَّ البيع لا يستلزم النقل دائماً؛ فإنَّ بيع الكلي صحيح, مع أنَّه لا نقل فيه من طرف إضافة إلى أخرى بل هو تمليك ابتدائي.

وعلى ما ذكرناه فقد يناقش في نقل إضافة الحقّ, لأنَّ النقل إنْ كان متعلقاً بطرف الحقّ كان النقل صحيحاً, فإنَّ ذا الحق يُخرج الأرض المحجَّرة من طرف إضافته الحقّيّة إلى طرف إضافة أخرى. وأمّا نقل نفس الإضافة بذاتها فهو غير معقول؛ لأنَّ الإضافات تتشخص بأطرافها, فإنَّ شخص العين قابل للنقل دون شخص الإضافة, فلا بُدَّ من أنْ يكون النقل فيها بالعناية بأنْ تكون الإضافة المنقولة من طرف نفسه إلى طرف غيره؛ وهو شخص الإضافة بنظرة الوحدة.

ولكن ذلك من التطويل الذي لا حاجة إليه, فإنَّ النقل الإعتباري كالملك الإعتباري والحقّ الإعتباري؛ إنَّما يتبع اعتبار المعتبر, وقد ذكرنا أنَّ الأمور الإعتبارية تقبل من الأحكام مالا يقبله غيرها, فيفرض موضوعاً اعتبارياً, والخارج إنَّما يكون من تطبيق ذلك الإعتبار الصحيح؛ فلا حاجة إلى تلك التخريجات.

الرابع: الميزان في قبول الحق للنقل والإسقاط؛ فقد ذكروا له وجوهاً:

1- إنَّ الموجب للحقّ إمّا أنْ يكون علّة تامة له أو يكون مقتضياً, فإنْ كان علة تامة له فيستحيل نقله وانتقاله وإسقاطه؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علته التامة.

ص: 220

وإنْ كان مقتضياً؛ فإنْ كان هناك مانع منه كتقوُّم الموضوع بعنوان خاص أو تقيّد مورد الحقّّ ومتعلقه بقيد يوجب تضييق دائرته فلا يقبل النقل والإنتقال, وإنْ لم يكن هناك مانع كان قابلاً للإسقاط والنقل والإنتقال. وقد ذكر هذا الوجه بعض أكابر الفقهاء على نحو الكبرى الكلية, وما ذكره صحيح في مقام الثبوت والواقع, ولكن لا دليل عليه في مقام الإثبات, إذ لا دليل يعين كون الموجب في ولاية الحاكم وولاية الأب والجد علَّةً, وفي حقّ الخيار والشفعة مقتضياً.

2- إنَّ قبول الحقّ للسقوط والنقل والإنتقال وعدمه يرجع إلى مناسبات الحكم وموضوعه, والحِكَم والمصالح المقتضية لذلك الحكم؛ فإنَّ مثل حقّ الولاية للحاكم والوصاية للوصي إنَّما هو لخصوصية كونه حاكماً شرعياً وله هذا المنصب, وأن الوصي لوحظ فيه خصوصية في نظر الموصي؛ فلذا عيَّنه وصياً دون غيره, فلو نقله الوصي إلى غيره لا يصحّ لفقد تلك الخصوصية, أو لأنَّ هذا الإعتبار إنَّما كان للشخص بنفسه من دون حاجة إلى النقل بلا نظر إلى الغير؛ فلا يناسبه السقوط بالإسقاط, أو ما يقال بأنَّ ولاية الحاكم من شؤون ولاية الإمام, وهي من شؤون ولاية النبي, وهي من شؤون ولاية الله تعالى على عباده, فكما أنَّ الأصل محال فكذا فرعه.

إلا أنَّ هذا القول بعيد؛ لأن سلطنته سبحانه على خلقه حقيقية لا اعتبارية, وهي الإحاطة الفعلية الوجودية التي لا زوال ولا تغيير ولا تبديل فيها؛ لاستحالة استقلال الممكن بالوجود, وكذا ولاية النبي والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم التكوينية؛ بمعنى وساطتهم في الفيض وكونهم مجاري فيض الوجود؛ فإنَّها لا تقبل الزوال أيضاً, لأنَّ زوالها يستلزم أصالة الوجود بالتبع, وكون الممكن الأخسّ في عرض الممكن الأشرف؛ وهو محال.

ص: 221

أمّا ولاية الحاكم فإنَّها جعلية اعتبارية لا أنْ تكون حقيقية لتكون من شؤون الولايتين المتقدمتين, بل هي من شؤون الولاية التشريعية المجعولة للنبي والأئمة علیهم السلام , وهذا المنصب مجعولٌ من الله تعالى لأنَّهم منصوبون لتبليغ الأحكام عن الله عَزَّ وَجَلَّ بلا واسطة في النبي صلی الله علیه و آله و سلم ومع وساطته صلی الله علیه و آله و سلم في الأئمة علیهم السلام , وكذا العلماء, فهم خلفاء للإمام علیه السلام ونواب له في هذا المقام, فما داموا موصوفين بهذا العنوان وواجدين لهذا المنصب فلهم حقّ الولاية على القاصرين مثلاً.

هذا ما ذكر في حقّ الولاية للحاكم من الحكمة والمصلحة.وأمّا سائر الحقوق كحقّ الخيار وحقّ الشفعة؛ فإنَّ الحكمة في جعلهما هي مصلحة الإرفاق بالبايع أو بالمشتري أو بهما معاً, مِمّا اقتضى جعل السلطنة لهما على فسخ البيع أو إمضائه؛ رعايةً لذي الحقّ لا لمن عليه الحقّ؛ فله إسقاطه.

وكذا الشفعة؛ فإنَّ تضرّر الشريك ببيع حصة شريكه مِمَّن لا يلائمه أحياناً أوجب جعل حقّ الملك من المشتري بالعوض كما ورد في بعض الروايات.

هذا كلُّه وجه الحكمة في إسقاط الحقّ.

وأمّا النقل؛ فإنَّ الحقَّ وإنْ أُخذ في موضوعه عنوان من العناوين؛ فإنْ استفيد من القرائن أنَّه من العنوان المقوِّم -كما في حقّ الشفعة- فإنَّ من يتضرر أحياناً هو الشريك دون غيره, فلا معنى لنقله إلى غيره.

وكذلك في حقِّ الرهانة؛ فإنَّ كون العين وثيقة لغير الدائن غيرُ معقولٍ, فنقله غيرُ معقول إلا بتبع نقل دَينه إلى غيره فينقل حقّ الرهانة تبعاً, وهذا بخلاف حقّ التحجير فإنَّه ليس فيه شيء من هذه الموانع.

ص: 222

وأمّا الإنتقال بالإرث؛ فإنَّ قيام الوارث مقام مُوَرثه في أخذه بالشفعة أو أخذه بالخيار أو أولويته بالأرض؛ فإنَّ ذلك أمر معقول بحدِّ نفسه, بخلاف حقّ القسم في الزوجات؛ فإنَّ نقله من زوجة إلى زوجة صحيح؛ لاتّصاف الزوج بذلك العنوان وصحة استفادته من الحقّ دون انتقاله بالإرث, فإنَّ حقّها أنْ يكون لها قسمة ما دامت حية, والوارث لا يمكن أنْ يقوم مقام الزوجة من هذا الحقّ, ولا يعقل إستفادته منه.

إلى غير ذلك من الوجوه والمناسبات والمصالح المتصورة في باب الحقّ, ومن أجلها لا يعقل شيء من الإسقاط والنقل والإنتقال في بعضها, ويعقل السقوط دون غيره في بعضها الآخر, ويعقل النقل دون الإنتقال في ثالث, ويعقل النقل والإنتقال معاً في رابع, ويعقل الإنتقال دون النقل في خامس, فلا بُدَّ من ملاحظة الوجوه والمصالح والمناسبات.

3- الرجوع إلى دليل كلّ حقّ وما يحتفّ به من القرائن والملابسات, وإذا اعتبرنا أنَّ الحقَّ من الأمور الإعتبارية؛ فإنَّ اعتبار المعتبر الذي يعدّ من العقلاء الحكماء لا بُدَّ له أنْ يلاحظ الخصوصيات والمصالح في تأسيسِ الحقّ, وألا يكون ناقصاً في اعتباره, ولا عبرة به حينئذٍ.

والصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الأخير؛ فنرجع إلى الدليل إنْ كان للحقِّ دليلاً شرعياً, وإلى وجه الإعتبار إنْ قلنا بأنَّ الحقَّ من الأمور الإعتبارية, وأمّا إلتماس الحِكَم والمصالح وغير ذلك فإنَّه أشبه بالأخذ بالرأي والمصالح المرسلة التي ورد النهي عنها في الفقه الإمامي.

ص: 223

القاعدة في قابلية الحقّ للنقل والإنتقال والإسقاط

لا ريب في أنَّه إذا علمنا من الدليل والقرائن المحتفّة به خصوصية الحقّ من حيث النقل والإنتقال والإسقاط, فلا إشكال حينئذٍ من ناحية الحكم المترتب عليه, وأمّا إذا لم يمكن لنا إستفادة شيء من ذلك من دليل الحقّ فهل يمكن لنا تأسيس قاعدة نعتمد عليها في نفي تلك أو إثباتها؟.

تارةً يكون منشأ الشكّ إحتمال كونه حكماً, فلا مناص من الرجوع إلى الأصول دون العموم, لأنَّ موضوعه الحقّ, وهو مورد الشكّ, فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأخرى يكون منشأ الشكّ احتمال كونه غير قابل للإسقاط والنقل والإنتقال مع القطع بكونه حقَّاً -كحقِّ الولاية-, ففي هذه الحالة ذهب الفقهاء إلى أنَّ كلَّ حقٍّ قابل للإسقاط والنقل إلا ما خرج بالدليل, بخلاف الحكم؛ حيث قالوا بأنَّه لا يقبل الإسقاط والنقل مطلقاً؛ لعدم كونه تحت اختيار المكلف إجماعاً, واستدلوا عليه بما يلي:

1- السيرة العقلائية القائمة على ذلك.

2- إرسال الفقهاء له إرسال المسلّمات.

3- إنَّ من مقومات الحقّ النقل والإنتقال والإسقاط إلا ما خرج بالدليل.

4- الرجوع إلى إطلاق الدليل الذي نثبت به الحقّ, وليس ذلك من التمسك بعموم العام في الشبهة المصداقية؛ لأنَّه مع إحراز كونه حقَّاً والقابلية عرفاً يصحّ التمسك بإطلاق الدليل.

5- الرجوع إلى إطلاق دليل الصلح لنفوذ الصلح على سقوط الحقّ ونقله, وعموم أدلة الإرث لانتقاله, ولذا قال المحقق الإصفهاني قدس سره: (والإنصاف أنَّه لم يظهر لنا موردٌ يُقطع بكونه حقَّاً, ويشكّ في قبوله للإسقاط)(1).

ص: 224


1- رسالة في تحقيق الحق والحكم؛ ص51.

هذا كلُّه بناءً على الحقّ بالمعنى المعروف فقهياً.

وأمّا بناءً على ما قوَّيناه من أنَّ الحقوق إعتبارات خاصة في موارد مخصوصة, كاعتبار الولاية في مورد حقّ الولاية, واعتبار الرهانة والوثيقة في حقّ الرهانة, فإنَّ الأمر فيه سهلٌ كما تقدم بيانه.

قال السيد الوالد قدس سره: (ويمكن أنْ يكون نفس الحقّ غير قابل للنقل والإنتقال والإسقاط, ولكن باعتبار متعلقه يقبل ذلك كله ..... وأمّا لو شكّ في شيء أنَّه حكمٌ أو حقٌّ أو كان شيئاً ذا جهتين؛ فمقتضى الأصل عدم سقوطه بعد ثبوته وعدم تحقق النقل والإنتقال بالنسبة إليه, ولا يصحّ التمسك بالعمومات والإطلاقات لكونهمن التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه. نعم؛ لو علم قابليته للنقل والإنتقال والإسقاط عرفاً وشكّ في ذلك شرعا, فتشمله العمومات والاطلاقات لتنزلها على العرفيات, والموضوع محرز حينئذٍ)(1).

المبحث الرابع: أنواع الحقّ

الحقّ بمعناه الأعم له نوعان في الشريعة الإسلامية:

1- حقّ الله: وهو يتمثل في طاعة الإنسان لله تعالى ويتحقق بامتثال أوامره ونواهيه عَزَّ وَجَلَّ, وهو الذي يعرف بالعبادة بالمعنى العام. كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(2), وفي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: (إنَّ حَقَّ الله عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (3).

ص: 225


1- مهذب الأحكام؛ ج16 ص206.
2- سورة الذاريات؛ الآية 56.
3- عوالي اللئالي؛ ج1 ص445.

2- حقّ العباد: ويتمثل فيما أعدَّه الله تعالى لعباده في دار الدنيا من إنزال الدين الذي به تنظيم حياتهم بما يحقق لهم المصلحة ويدرأ عنهم المفسدة, وفي الآخرة فيما أعدَّه تعالى من الجزاء لمن أطاعه بالجنة ونعيمها الدائم.

قال السيد في (البلغة): (ثم الحقّ قد يضاف إليه تعالى فيكون متعلقه ما سواه من الممكن وسلطنته عليه من أتم مراتب السلطنة واكملها, لأنَّه سلطنة عليه بالإيجاد, والربوبية ضرورة افتقار الممكن في تحققه إلى الواجب لعدم الاستقلالية له في الوجود.

ومن فروع هذه السلطنة وحقّه على الممكن أنْ يُعبَد ويُوحَّد.

ومن رشحاتها: ولاية النبي صلی الله علیه و آله و سلم على المؤمنين, وهي وإنْ لم تكن من سنخ سلطنة الله تعالى إلا أنَّها سلطنة عنه تعالى بالإستخلاف.

وولاية خلفائه الطاهرين, ونوابهم المجتهدين؛ فهي في طول سلطنة الله على خلقه. ولذا كان النبي صلی الله علیه و آله و سلم خليفته في أرضه, والأئمة خلفاءه في أمته, والعلماء نوابهم في شيعتهم, وهي أقوى وأشدّ وأولى وأكمل من سلطنة الإنسان على نفسه مع كونها في غاية الشدة والكمال, لأنَّ منشأ انتزاعها كون الشيء نفسه.

وإلى السلطنتين وأكملية الأولى من الثانية أشار النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في قوله المعروف: (أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟!)(1), ثم جعلها بعد الإعتراف منهم توطئة لبيان ولاية الإمام علي علیه السلام فقال: (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ), فولايته على الأمة التي هي بمعنى الأمر بالتصرف مشتقة من أولوية النبي صلی الله علیه و آله و سلم المشتقة من سلطنته تعالى على خلقه)(2).

ص: 226


1- بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج97 ص363.
2- بلغة الفقيه؛ ج1 ص15-16.

والحاصل؛ إنَّ حقَّ الله تعالى على العباد طاعته وامتثال أحكامه المقدسة, ولذا قيل: (حقّ الله؛ جميع أوامره الدالَّة على طاعته), بل قيل: (هو نفس طاعته).

والفرق بين حقّ الله وحقّ العبد؛ إنَّ كلَّ ما للعبد إسقاطه فحقّه, وما ليس له فحقّ الله.

ويظهر منه أنَّ ما لا يسقط ليس من حقوق العبد, وإنَّه من حقوق الله التي هي عبارة عن الحكم؛ كتحريم الربا أو تحريم الغرر.

ومن الفروق أنَّه إذا اجتمع حقّ الله وحقّ العبد؛ فإنَّ الأول يسقط بالتوبة والثاني لا يسقط إلا برضا ذي الحقّ.

وكما أنَّ مصدر حقّ الله تعالى هو الدين, قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(1), وهو مِمّا ثبت بالضرورة الدينية, وعليه أجمعت كلمة الأمة الإسلامية, وتقتضيه البديهة العقلية.

هذا ما يتعلق بنظرية الحقّ في الفقه الإسلامي -لا سيما الفقه الإمامي-, وعليه ينتظم أحد عناصر الإقتصاد الإسلامي.

المبحث الخامس: الحقّ في الإقتصاد العالمي المعاصر

ذكرنا ما يتعلق بنظرية الحقّ في الفكر الإسلامي -ولا سيما الفقه الإمامي- وتبين أنَّ الحقَّ عندهم له وظيفة مزدوجة:

إحداهما: الدور المادي الذي يتعلق بالمعاملات المالية وتنظيمها, ورفع ما يحصل منها من المصادمات.

ثانيهما: الوظيفة الأخلاقية التي تنمي روح التعاون بين الأفراد, والإيثار والتضحية والتحلي بالأخلاق في اكتساب المال وإجراء المعاملات وتنظيم العقود.

ص: 227


1- سورة الأنعام؛ الآية 57.

ومن أجل ذلك أصبح للحق في الإقتصاد الإسلامي أهمية قصوى من الجانبين؛ المادي والمعنوي.

وأمّا الحقّ في الإقتصاد العالمي المعاصر فقد اقتُصر فيه على الجانب المادي الصرف, فصار الحقّ من أهم مصادر اكتساب المال وتثبيت دعائم الإقتصاد الحرّ والإقتصاد الإشتراكي, فلم يدعا مجالاً للجانب المعنوي في الحقوق مطلقاً.

وقد تقدم أنَّهم أدرجوا جملة من الحقوق في عنوان الملكية وجعلوها من مصادر الملك, ومن هنا تميَّز الحقّ في الإقتصاد العالمي المعاصر عن الحقّ في الإقتصاد الإسلامي؛ حيث اقتصر دوره في الأول على كسب المال فقط, بينما كان دوره في الأخير في الأخلاق والمال والتنظيم والتنسيق واضحاً. وسيأتي توضيح ذلك في البحوث الآتية إنْ شاء الله تعالى.

ص: 228

المصطلح السادس

اشارة

المال

والبحث يقع في تعريفه اللغوي, والتعريف العلمي في الفقه والقانون والإقتصاد, ودوره في الإقتصاد, وتحقيق الكلام فيه من جهات:

الجهة الأولى: التعريف اللغوي

عرَّف علماء اللغة المالَ بعدة تعريفات؛ يرجع أغلبها إلى سعة دائرة متعلقه وضيقها, وإلا فإنَّ معناه معروف, وهو يُذكَّر ويُؤنَّث, قال ابن منظور في لسان العرب: (المال معروفٌ: ما ملكته من جميع الأشياء ..... والجمع أموال)(1).

وقال ابن الأثير: (المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة, ثم أطلق على ما يُقتنى ويُملك من الأعيان. وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل لأنَّها كانت أكثر أموالهم)(2).

وقريب منهما أغلب تعاريف اللغويين. قالوا: (المال: ما يُملك من الأعيان, كالذهب والفضة والحيوان والدار والشجر).

وأكثر ما كان يراد بالمال عند أهل البادية الإبل, يقول القائل منهم: خرجت إلى مالي, يريد إبله.

وكان الحضري يقول : (خرجت إلى مالٍ لي بالطائف, يريد ضيعته. وجمع المال أموال ).

وفي المغرّب: (المال: كلّ ما يمتلك الناس من دراهم أو دنانير أو ذهب أو فضة أو حنطة أو شعير أو خبز, أو حيوان أو ثياب أو سلاح أو غير ذلك )(3).

وغير ذلك من أقوال أهل اللغة وإنْ اختلفت بين سعة دائرة متعلق المال وضيقها؛ كما عرفت.

ص: 229


1- لسان العرب؛ ج11 ص635.
2- النهاية في غريب الحديث والأثر؛ ج4 ص373.
3- المغرّب؛ ج2 ص228.

فيكون الأصل في هذه المادة: هو مطلق ما يملكه الإنسان.

والفرق بين المال والملك: إنَّ الملك يلاحظ فيه عنوان التسلط واستقرار شيء تحت يده, بخلاف المال فهو ما يكون له في نفسه قيمة تتعلق بشخص.

وعلى هذا يتعلق البيع والشراء والهبة والإنفاق والتصرف والتزين ورفع الحوائج والفقر والإبتلاء والكسب والشركة وغيرها بالمال. وقد ورد لفظ المال في القرآن الكريم في عدة موارد, قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1).

وقال تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(2).

والذي نستفيده من تلك التعريفات اللغوية:

أ- إنَّ كلمة المال -في البدء- إنَّما كانت للنقدين؛ الذهب والفضة, ثم صارت تطلق على النقد والعين.

ب- غالب استعمال كلمة المال في الأعيان التي تعدّ ثروة ومورداً لتنمية المال, كالإبل عند أهل البوادي, والضِياع عند أهل الحواضر.

ج- إعتبار التملك أو قابلية أنْ يملك عنصراً مقوماً لحقيقة المال.

وحينئذٍ يمكن استنتاج أنَّ المال لغةً: هو ما يملك من النقد والأعيان.

بل يمكن أنْ نقول بأنَّ المال هو ما يملك من الأعيان مطلقاً, لأنَّ مفهوم العين يشمل النقود باعتبار أنَّ من معاني كلمة العين النقد كما قال الطريحي في مجمع البحرين: (العين ما ضرب من الدنانير, ويجمع على أعيان)(3).

ص: 230


1- سورة الكهف؛ الآية 46.
2- سورة التوبة؛ الآية 55.
3- مجمع البحرين؛ ج6 ص287.

الجهة الثانية: تعريف المال في الفقه الإسلامي

اشارة

ورد في مجلة الأحكام العدلية: ( المال ما يميل إليه طبع الإنسان, ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة )(1).

وفي كتاب القاموس الفقهي: ( المال ما يميل إليه الطبع, ويجري فيه البذل والمنع)(2).

وفي كتاب المال المثلي والمال القيمي في الفقه الإسلامي قال: (المال في نظر فقهاء المذهب الحنفي: كل عين ذات قيمة مادية بين الناس)(3).

وقال الشيخ كاشف الغطاء في تحرير المجلة: (إنَّ مدار العقود والمعاملات على الأموال, وليس للمال حقيقة عينية خارجية كسائر الأعيان تتمحض في المالية تمحض سائر الأنواع في حقائقها النوعية, وإنَّما هو حقيقة اعتبارية ينتزعهاالعقلاء من الموجودات الخارجية التي تتقوم بها معايشهم وتسدّ بها حاجاتهم الضرورية والكمالية, فمثلاً الحبوب والأطعمة مال؛ لأنَّ البشر محتاج إليها في أقواته وحياته, وهكذا؛ كلُّ ما كان مثل ذا من حاجات الملابس والمساكن ونحوها قد انتزع العقلاء منها معنىً وصفياً عرضياً يعبر عنه بالمال)(4).

وقال في معجم لغة الفقهاء: (المال: إسم لجميع ما يملكه الإنسان, وأصله ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره, كالنقد وما يمكن أنْ يقوم مقامه).

وغير ذلك من الأقوال التي تتشابه في تعريف المال وبيان مقوماته.

ص: 231


1- تحرير المجلة؛ ج1؛ القسم الأول؛ ص128
2- القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً؛ ص344.
3- المال المثلي والمال القيمي في الفقه الإسلامي؛ ص25.
4- تحرير المجلة؛ ج1 ؛ القسم الأول؛ ص8.

مقومات المال

وقد وردت في مجموع تعريفات العلماء, وهي:

الأول: ميل الطبع إلى الشيء.

الثاني: إمكانية ادّخاره.

الثالث: جريان البذل والمنع فيه.

الرابع: أنْ يكون المال شيئاً مادياً وله وجود خارجي.

الخامس: أنْ يعتاد الناس كلّهم أو بعضهم تموّله وصيانته, بحيث يجري فيه بذل ومنع, فما لا يجري فيه ذلك بين الناس لا يعتبر مالاً ولو كان عيناً مادية, كالإنسان الحرّ وحبة القمح وكسرة الخبز وحفنة التراب والجيفة.

السادس: أنْ يكون للشيء منفعة متوفرة موصوفة بوصفين:

1- أنْ تكون مقصودة عند العرف, أي معتبرة عندهم ومطلوبة من قبلهم.

2- أنْ تكون محلّلة شرعاً, أي غير ملغىً اعتبارُ ماليتِها من قبل المشرع الإسلامي.

السابع: أنْ تتوفر في الشيء جهة توجب تنافس العقلاء فيه.

وإذا أردنا تلخيص تلك المقومات بحيث ندرج بعضها تحت عنوان البعض الآخر وتحت إطار مبدأ الحلال والحرام الشرعيين نقول: إنَّ من اعتبر في المالية الميل إلى الشيء بحسب طبع الإنسان, فإنَّه يريد بالطبع الجبلّة التي فطر الإنسان عليها.

والميل إلى الشيء يعني حبّ ذلك الشيء والإنحياز إليه.

ولا أشكال في أن ميل الطبع -إرادياً كان أو غير إرادي- لا يصدر من الإنسان شعوراً أو سلوكاً إلا إذا واجه سبباً مثيراً أو عاملاً حافزاً, وهو في المقام ليس إلا وجود ما يشبع حاجة الإنسان أو يلبّي رغبته في ذلك الشيء.

ص: 232

وعلى ذلك يصحُّ تفسير ما ورد في كلماتهم من العرف أو تقدير وجود المنفعة في الشيء في نظر العرف, أو وجود جهة في الشيء توجب تنافس العقلاء, فإنَّهاترجع إلى صلاحية الشيء لقضاء الحاجة وإجابة الرغبة, فتكون جميع تلك المذكورات ترجع إلى صلاحية الشيء لتلبية الرغبة أو إشباع الحاجة, فيكون هو العنصر الأول.

وأمّا ما ورد في عباراتهم من إمكانية الإدّخار وجريان البذل والمنع فإنَّه يمكن إرجاعهما إلى ما يتوفر عليه الشيء المتمول من قيمةٍ ماليةٍ, لأنَّ الإدّخار إنَّما هو للإحتفاظ بسبب وجدان هذه القيمة المالية في الشيء, وكذلك البذل فيه لصيانته والمنع له, أي حمايته؛ إنَّما هو بسبب تلك القيمة المالية.

ويُحمل على هذا أيضاً اشتراط كون الشيء نادراً, فإنَّما هو من أجل الإحتفاظ بقيمته المالية, وعلى ضوء ذلك يصحّ لنا التعبير عن جميع ذلك بالاحتفاظ بالقيمة المالية للشيء.

وأمّا ما ذكره بعضهم من اعتبار عنصر العينية فإنَّه يرجع إلى اشتراط كون الشيء المتمول لا بُدَّ أنْ يكون من الأعيان -نقوداً أو غيرها- وهو الرأي المشهور, وهي مسألة خلافية سيأتي التعرض لها عند ذكر مفردات المال.

وبعد هذه المقارنة يتَّضح أنَّ مقومات المالية هي عنصران:

1- صلاحية الشيء لتلبية رغبات الإنسان أو إشباع حاجاته.

2- قابلية الشيء للاحتفاظ بقيمته المالية.

وحينئذٍ نقول في تعريف المال: إنَّه كلَّ شيء فيه الصلاحية لتلبية رغبة الإنسان أو إشباع حاجته وقابليته للاحتفاظ بقيمته المالية.

ولكن الذي يحدّد هذين العنصرين ويحكم بتوفّرهما في الشيء ليكون مالاً إنَّما هو العرف, ومن المعلوم أنَّ العرف يختلف باختلاف الأمصار والأعصار, وعليه؛ قالوا بأنَّ ما يعدّه

ص: 233

العرف مالاً فهو المال كما أشار إليه الفيومي: (فقول الفقهاء: ما يتمول, أي ما يعدّ مالاً في العرف)(1).

لكن ذلك إنَّما يتمّ على ضوء حكم الشرع المبين, لأنَّنا نعلم بالضرورة أنَّ المشرع الإسلامي أهدر وألغى مالية بعض الأشياء؛ كالخمر وأمثالها, فلا بُدَّ من إضافة عبارة (تحليل الشرع) إلى ما ذكرناه.

فيكون حاصل ما ذكرناه أنَّ مقومات المالية هي:

1- إعتبار العرف بكون الشيء المتمول مِمّا يصلح لتلبية الرغبات والاحتفاظ بالقيمة المالية.

2- تحليل الشرع؛ بأنْ يصحّ تملّكه شرعاً؛ بلا فرق بين أنْ يكون الشيء يصلح تملكّه عيناً أو نقداً أو انتفاعاً أو ارتفاقاً أو ديَناً أو حقاً, والتي اصطلح عليها بمفردات المال كما سيأتي بيانها إنْ شاء الله تعالى.وعلى ضوء ما تقدم يمكن تفسير ما ورد في عبارة بعض علماء الإقتصاد؛ يقول الدكتور عزمي رجب: (وهم(2) لا يعتبرون المال إقتصادياً إلا إذا اقترن بميزتين اثنتين:

الأولى: أنْ يكون نادراً. أي أنْ تكون كميته محدودة بالنسبة إلى طلب الناس له, ومن هنا كان لزاماً على طالبه أنْ يقدم ثمناً للحصول عليه.

الثانية: أنْ يكون صالحاً ولو في نظر راغبه لقضاء حاجة ما أو تلبية رغبة لديه.

فالأموال الإقتصادية تكون أموالاً نادرةً نسبياً وهي تشمل الأشياء المادية من منتجات وأدوات وبضائع مختلفة -وهي المعبر عنها في لغة الإقتصاد بكلمة (السلع)-, والأشياء

ص: 234


1- المصباح المنير؛ ج2 ص586.
2- أي: الإقتصاديون.

غير المادية أو المعنوية المعروفة باصطلاح (الخدمات), وهي(1) تلك الأعمال التي يقدمها الأشخاص مباشرة كأصحاب المهن الحرة أو المؤسسات الخاصة والعامة كالمصارف وشركات السفر والإدارات الحكومية.

أمّا الأشياء والأموال المتوفرة بغزارة في الطبيعة والتي لا يوجب الحصول عليها بذل أي ثمن كالهواء ونور الشمس والماء في منابعه أو في الأنهار وما شابه ذلك, فهي ليست من الأموال الإقتصادية بناءً على المفهوم المتقدم.

ويمكن تلخيص عبارة المال الإقتصادي -إذن- بأنَّه: المال الذي يحقق رغبة أو يقضي حاجة, والذي يكون نادراً, بمعنى: لا يكون الحصول عليه إلا مقابل عمل أو ثمن معين.

والحاجة: هي شعور شخصي بالرغبة في الحصول على شيء معين.

والحاجة الإقتصادية أوسع نطاقاً منها في اللغة الجارية, فهي لا تقتصر على الأشياء الضرورية أو الملحَّة كالمأكل والمشرب والملبس أو ما شابه ذلك, ولكنها تتعداها إلى كل ما يطيب للإنسان أن يتمنى أو يطلب, سواء كان الشيء المطلوب مادياً أم معنوياً, نافعاً أم ضاراً.

والرغبة: هي شعور شخصي بالميل للحصول على شيء من الأشياء, وتختلف حدَّةً باختلاف مدى أهمية هذا الشيء في نظر صاحب الرغبة)(2).

ص: 235


1- الخدمات.
2- الإقتصاد السياسي؛ ص28 وما بعدها (ط.8).

الجهة الثالثة: المال في القانون

يختلف تعريف القانون للمال عن التعريف الفقهي له.

فقد ورد أنَّ المال هو الحق ذو القيمة المالية(1).ويقول الدكتور السنهوري: (المال في نظر القانون يتكون من حقوق, والحقّ في المعاملات (المالية) مصلحة ذات قيمة مالية يقرها القانون للفرد, وهو إمّا حقٌّ عيني أو حقٌّ شخصي؛ والحقّ الشخصي: هو رابطة بين شخصين؛ دائن ومدين؛ يخوّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل.

والحق العيني: هو سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين )(2).

وعلى ما ذكره يكون الشيء الذي يعتبر مالاً في نظر الفقه هو محلّ ذلك الحقّ, أي: هو ما يتعلق به ذلك الحقّ الذي هو المال.

فيكون الفرق بين الرأي الفقهي والرأي القانوني هو: إنَّ المالية في الرأي الفقهي صفة للشيء, أي أنَّها قيمة اعتبارية للشيء, سواء تعلق به حقّ الإنسان أم لم يتعلق به, أي: الوصف بحال الذات.

بينما تكون المالية في القانون تعني نفس الحقّ الذي يتعلّق بذلك الشيء ذي القيمة المالية, أي: الوصف بحال المتعلق.

فيكون الفرق بين الرأيين: إنَّ المالية فقهياً هي الشيء الذي يتعلق به الحقّ, وقانونياً هي الحقّ المتعلق بالشيء.

وقد ذكر بعض المؤلفين المحدثين أنَّه يمكن أنْ يكون أساس الفرق يرجع إلى أصل كلمة (مال)؛ فهل هي من الميل, أي ميل الطبع إلى الشيء المرغوب فيه؟.

ص: 236


1- المبادئ القانونية؛ ص254.
2- الوسيط؛ ج1 ص103.

أم هي من (ما لي) و(ما لك) و(ما له) المؤلفة من (ما) الموصولة واللام الجارة والضمير المجرور الذي حذف بسبب كثرة الإستعمال للتخفيف, وأصبحت الجملة أو شبه الجملة بعد الحذف إسماً, أي: مفرداً:

فعلى الأول؛ هو الشيء الذي يصلح لتعلق الحقّ به.

وعلى الثاني؛ هو الحقّ الذي يتعلق بالشيء.

والصحيح أنْ يقال: إنَّ المعنيين متلازمان, فإنَّه إذا ثبت كون الشيء له مالية عرفاً ثبت بالملازمة الحقّ لصاحبه, وبما أنَّ القانون يلاحظ الحقوق كثيراً عبَّروا عن المالية بأنَّها الحقّ, بخلاف الفقه؛ فإنَّ نظره إلى الأشياء.

والتعبير الثاني أوجه؛ فإنَّه ليس في كلِّ مورد تثبت فيه المالية حقاً, فإنَّه ربَّما لا يكون الحقّ مالاً بنظر العرف. ولا وجه لإثبات حقّ المالية وغير ذلك من المناقشات التي سيأتي بيانها إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الرابعة: دور المال في الإقتصاد

اشارة

سيكون البحث هنا بالأمور التالية:

1- مفردات المال أو الثروات.

2- مؤسسات المال.

3- تشريعات المال.

4- النظريات العلمية في دراسة المال؛ إستقرار الأسعار, التشغيل الكامل والنمو.

وسيأتي البحث في كل واحد منها إنْ شاء الله تعالى.

ص: 237

تقسيم المال

على ضوء ما ذكرناه في تعريف المال فقهياً وعناصره فقد قسّم بعض فقهائنا المال إبتداءً إلى نحوين:

* النحو الأول: ما كانت ماليته ذاتية؛ وهو كل ما يحتاجه الإنسان بحسب فطرته الأولية من المأكول والمشروب والملبوس وما شاكل ذلك.

وهذا النوع من المال لا تتوقف ماليته على جعل جاعل يتنافس العقلاء عليه, وإنْ لم يكن في البين جعل (أي: إعتبارٌ) من أحدٍ أو جهة.

ويلحق بما ذكر من المأكول والمشروب والملبوس ما كان كالحديد والخشب وما شابه.

* النحو الثاني: ما كانت ماليته بالجعل (أي بالإعتبار)؛ وهو على قسمين:

القسم الأول: ما كان فيه الجعل (الإعتبار).

يشترك فيه جميع البشر باختلاف عصورهم وبيئاتهم بدافع من الشعور بالحاجة الجماعية لمثله. وهذا يتصور في الأحجار الكريمة كالماس, والمعادن غالية الثمن كالذهب والفضة, وغيرها.

القسم الثاني: ما كان اعتباره خاصاً.

وهذا تارةً يكون اعتباره من قبل دولة أو بنك ليقوم مقام القسم الأول, كالأوراق النقدية -مثلاً-, وكثيراً ما حصلت لها تغطية مِمّا له قيمة ذاتية أو مجعولة بالجعل العام ليعمّ اعتبارها, كما هو الشأن في الدينار العراقي مثلاً.

وأخرى: ما يكون اعتباره بالنظر لما يترتب عليه من الآثار الخاصة, كطوابع البريد وتذاكر القطارات, وبطاقات اليانصيب وتذاكر مصلحة نقل الركاب (النقل الجماعي) وغيرها مِمّا كانت الورقة فيه فاقدة للاعتبار المالي لو تجردت عن الآثار الخاصة المترتبة عليها من قبل الدولة أو البنك.

ص: 238

فإنَّ ورقة الطابع -مثلاً- لا قيمة لها لو لم تتعهد الحكومة في قبالها بأنْ توصل الرسالة أو الرزمة إلى أيِّ محلٍّ شاء المرسِل مقابل هذا الطابع.

وكذا الطوابع المالية؛ فإنَّ السند الذي يحمل هذه الورقة يعتبر ذا أهمية في نظر الدولة والعرف, وهكذا الحال في بقية ما كان من هذا القبيل.

وهذه الآثار معتبرة توجب أنْ يتنافس عليها العقلاء فيبذلون بإزائها الأموال.ومن الطبيعي أنَّ قوام مالية الشيء -كما ذكرناه- أنْ يكون موضوعاً لغرض يبعث على تنافس العقلاء فيه.

وقد عرفت أنَّ هذا التنافس منوط بهذا الأمر الذي رُتّب عليها, وإلا فلا قيمة لتلك الأوراق لو خُليت ونفسها مجردة عن تلك الآثار.

والفرق بين هذين النحوين من القسم الثاني هو: إنَّ مالية ما كان على شاكلة طوابع البريد -مثلاً- إنَّما كانت بالإعتبار للأثر المترتب عليها, وهي في الوقت نفسه غير معتبرة من جانب العقلاء مالاً, بل هي ورقة يترتب عليها أثر خاص في نطاق اعتبار جعلها.

وأمّا مالية النحو الأول -كالدينار مثلاً-؛ فإنَّ هذه الورقة قد أصبحت بالفعل بواسطة الجعل والإعتبار لا فرق بينها وبين المعادن والأحجار الكريمة, بل قد يرجح العقلاء في كثير من الموارد الأوراق على النقدين ويفضلونها على المعادن وما شاكلها, لأنَّ الأوراق أخفّ للنقل والتعامل به من الذهب والفضة وغيرها.

والصحيح أنْ نقول بأنَّ المالية من العناوين الإعتبارية التي يعتبرها العقلاء عند توفر أسبابها ومقتضياتها, ولا شكَّ أنَّ المعتبِر يلاحظ تلك العناصر التي تقدم ذكرها فيكون المال كل شيء يمكن استخدامه وله قيمة قانونية ومادية لدى الناس سواء كانوا عامتهم أم طائفة معينة أم جهة خاصة.

ص: 239

وبعبارة أخرى: إنَّ أيَّ شيء يمكن اعتباره مالاً من النظرة الفقهية أو القانونية يعدّ ذا قيمة وقابلاً للامتلاك؛ بشرط أنْ يكون ذا استخدام مشروع, فيشمل السلع جميعها حتى النقود غير المغطاة بشرط عدم إلغائها, لأنَّها تفيد كوسيط صرف أو كمعيار تقاس به قيمة السلع الأخرى. فهل يشمل تلك الحقوق غير الملموسة مثل العلامات التجارية, والملكية الفكرية؟. وهذا ما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

مفردات المال

اشارة

والمراد بها الأشياء القابلة للتمول على ضوء ما تقدم بيانه في تعريف المال ومقوماته في الفقه الإسلامي. وبعض الفقهاء يعبرون عنها ب-(تقسيمات المال وأنواعه), فكان لهم تقسيم قديم ثم أضيف إليه تقسيمٌ جديد تبعاً لتطور الإقتصاد وتقدم الحياة.

ولكننا اتَّخذنا جانب التعداد باعتبار قابلية المتعلق للتمول, ولا مشاحة في الإصطلاح. فنقول: إنَّ الأشياء القابلة للتمول بحسب طبيعتها هي المفردات التالية:

1- الأعيان.

2- النقود.

3- المنافع.

4- القروض.

5- الحقوق.

وهناك أنواع أخرى وقع الخلاف فيها سيأتي التعرض لها إنْ شاء الله تعالى.

وتفصيل الكلام يستدعي ذكر كلّ واحد منها بحدِّ ذاته.

ص: 240

المصداق الأول: الأعيان

ولها إطلاقات ثلاثة:

1- المراد بالأعيان تلك الأشياء المادية ذات الوجود الخارجي في مقابل النقود التي هي أيضاً أشياء مادية لها وجود خارجي, إلا أنَّها اتَّصفت بصفة النقدية, ومن أجلها تميزت عن الأشياء المادية الأخرى التي هي الأعيان.

2- قد تطلق كلمة العين في اللغة العلمية؛ كلغة الفقه والقانون والإقتصاد على ما يعمّ الأشياء المادية مطلقاً؛ نقدية وغير نقدية, فيكون هذا الإطلاق شاملاً لجميع الماديات المنقولة وغير المنقولة.

وعليه؛ فيعم هذا الإطلاق الأرض والمواد الخام والمواد المصنعة والحيوان والنبات وما شابهها مِمّا يقبل التمول.

3- ما يختَّص بما ضرب من الدنانير والورق؛ ويسمى بالمال الصامت مقابل الحيوان الذي تسميه العرب بالمال الناطق.

وهذا الإطلاق كما ذكرنا سابقاً كان باعتبار طائفة معينة وفي عصر خاص.

ولكن الذي يعتمد عليه علمياً هو الإطلاق الثاني, والأول هو اصطلاح خاص في الفقه.

المصداق الثاني: النقود
اشارة

النقد معروفٌ عند الجميع, وفي جميع الأمم التي جعلت معياراً في تعيين الأعيان.

وقد ورد في المعجم اللغوي العربي بأنَّه: (العملة من الذهب أو الفضة أو غيرهما مِمّا يتعامل به)(1), والنقود كما هي المتداولة في عصرنا الحاضر قد مرَّت بمراحل متعددة وتطورت تطوراً هائلاً في الشكل والمضمون والقيمة.

ص: 241


1- القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً؛ ص385.

وليعلم إبتداءً أنَّ النقد هو مصطلح جديد, فلم تكن الوحدات النقدية القديمة معروفة باسم (النقد), أو إسم (العملة), وإنَّما كانت تعرف باسم (المال), فقد ورد في معجم مصطلحات الإقتصاد والمال وإدارة الأعمال: (عملة -مال-: تعني الكلمة في أصلها اللاتيني النقود المسكوكة في معبد (جوتومونيتا) الذي كان داراً لضرب النقود في الإمبراطورية الرومانية. ثم تطورت في استعمالها في غير اللغة العربية حتى أصبحت تعني -الآن- أي وسيلة أو واسطة متداولة للتبادل مقبولةعلى نطاق واسع كمعيار أو مقياس لقيمة الأشياء). والكلمة تشمل -بمعناها الضيق- النقود المعدنية أو الورقة التي تصدرها الحكومة. وهي تشمل -بمعناها الواسع- الأشياء التي يمكن قبولها لتسديد أثمان البضائع والخدمات والديون, كالشيكات والحوالات والكمبيالات.

وأمّا في اللغة العربية فقد ذكر جمعٌ من المؤرخين: (إنَّ النقود كانت جارية في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام, وهي التي كانت مسكوكة بسكّة ملوك الروم والفرُس, وكان أكثر ما ترد إليهم من الروم دنانير قيصرية, وأكثر ما ترد إليهم من الفرُس دراهم كسروية, وكانوا يطلقون على النقود الذهبية (العين) وعلى النقود الفضية (الورق))(1).

ثم تطور استعماها حتى أطلقت كلمة (النقد) إسماً للعملة؛ أخذاً من مهنة الصيرفة التي تقوم بنقد الدنانير والدراهم لتبيان خلوصها من شائبة الغش؛ وذلك باعتبار أنَّ عملية النقد تعني النقر, حيث ينقر الصيرفي العملة الذهبية أو الفضية لمعرفة سلامتها من الزيف, قال ابن منظور في لسان العرب: (التنقد والتنقاد؛ تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها)(2). ثم استعملت الكلمة إسماً للذهب والفضة المسكوكين, وبعد ذلك توسعوا في استعمالها فشملت جميع الوحدات النقدية؛ ذهباً كانت أو فضة أو غيرها.

ص: 242


1- تاريخ النقود الإسلامية (للسيد المازندراني)؛ ص33 (ط. 3).
2- لسان العرب؛ ج3 ص425.

وإذا راجعنا علم الإقتصاد في تعريف النقود نرى أنَّه يذكر وظائفها, ويجعلها من مبادئ التعريف, وذلك من أجل معروفيتها واستقرارها على الصيغة التي ذكرناها.

وظائف النقود

لا ريب في الدور المهم الذي يلعبه النقد في الإقتصاد العالمي المعاصر؛ مِمّا يجعل معرفة خصائصه ووظائفه ونتائجه من الأبحاث الأساسية للإقتصاد الحديث, بل يمكن القول بأنَّ اختراع النقد ووضع القوانين الخاصة به وما اتَّسم به من قبول عام كان من أهم العوامل التي أدَّت إلى ظهور الإقتصاد النقدي, فكانت الخدمات التي يقوم بها النقد منذ ظهوره من المميزات التي رجحته على غيره من اقتصاد المقايضة, وقد حافظ دائماً على هذه الخصوصية التي تعدّ نفعاً عاماً له.

ولعله من أجل عمومية نفعه ودوامه وانتشاره بين الأمم والمجتمعات ووضوح دوره في الإقتصاد لم يقدّم الإقتصاديون للنقد تعريفاً واضحاً ومقبولاً يعتمد على الأسس العلمية حتى الآن. إلا أنَّهم يذكرون وظائفه في تعريفه؛ ويمكن تقسيم وظائفه إلى نوعين:

الأول: الوظائف المالية.الثاني: الوظائف الإقتصادية.

أمّا الوظائف المالية؛ فهي عديدة كما ذكرها علماء الإقتصاد, وهي:

1- إنَّه وسيلة مبادلة.

2- إنَّه مقياس للقيمة.

3- إنَّه معيار لتحديد القيم.

4- إنَّه وسيلة لمستودع القيمة.

5- إنَّه وسيلة مبادلة تقبله العامة.

ص: 243

ولا يمكن لنا إنكار أَّن بعض الأموال يمكنها أنْ تؤدي جميع أو بعض وظائف النقد, ولكنها لم تصل إلى تلك الدرجة التي وصل إليها النقد, فإنَّ له من العظمة والأهمية في الإقتصاد بحيث يكون استعماله الصحيح يؤدي إلى انتعاش الإقتصاد العالمي, كما أنَّ النتائج السيئة التي تحصل لنظام نقد بلد معين إنَّما تكون بسبب عدم تطبيق النظام الدقيق؛ كالتضخم والبطالة والتوزيع غير العادل للدخل والثروة التي تظهر نتيجة الإغراق أو الندرة في عرض النقد.

وبعبارة أخرى: يكون ازدهار أو كساد النشاطات الإقتصادية في المجتمع تعبيراً عن نجاح أو فشل النظام النقدي, فيكون من أهم أهداف النظام النقدي تسهيل تبادل البضائع أو الخدمات وتفعيل هذه المعاملات؛ بحيث يتم اختصار الزمن والنفقات وسائر المشاكل المتعلقة بالتبادل.

النظرية النقدية

من أجل ما تقدم ذكره وغيره فقد ظهرت مفاهيم مهمة مثل: النظرية النقدية, والسياسة النقدية في عالم الإقتصاد. والتي يمكنها أنْ تحدد العلاقة بين المتغيرات الحادثة في طلب النقد والدخل النقدي من جهة, وتحليل كيفية الرقابة في عرض النقد في ظل الأهداف الإقتصادية العامة من جهة أخرى.

وهذه المفاهيم تتأثر في حدّ ذاتها بالنظام النقدي وفاعليته. وبما أنَّ النقد بمعناه العام إنَّما يقوم بتصديره البنك المركزي والمصارف التجارية والمؤسسات المالية, فمن أجل ذلك ينبغي التعرف على ماهية وكيفية عمل هذه المؤسسات في عرض ورقابة النقد.

وعلى أساس هذه التصورات الإقتصادية يسعى مسؤولو النقد في كلِّ بلد لتقديم تعريف عملي له, وبذلك اختلفت تعريفاتهم طبقاً لخصوصيات ذلك البلد, بل اختلاف هذه

ص: 244

التعريفات للنقد يعود إلى مستوى السيولة ودرجتها؛ ففي بلد مثل أمريكا التي تتمتع بسوق نقدية ومالية عالمية فإنَّ ذلك يرتبط مباشرة بماهية الأموال والممتلكات وسيولة متفاوتة, وإذا أردنا تحليل ما ذكروه في وظائف النقود ليتَّضح لنا الدور الكبير للنقود فنقول:

الأول: إعتبار النقود مقياساً لتقدير قيمة السلعة مقارنة بالسلع الأخرى.

فإذا أردنا -مثلاً- أنْ نعرف قيمة السكر بالنسبة إلى قيمة الرز, فإنَّنا نتوصل إلى ذلك عن طريق الوحدة النقدية, فإذا كان كيلو من السكر بعشرين ديناراً وكيلو من الرز بعشرة دنانير يكون الفرق بينهما الضعف, وهذا يعني أنَّ قيمة السكر ضعف قيمة الرز.

الثاني: إعتبار النقود وسيلة لتبادل السلع.

فإنَّ التبادل قبل اختراع النقود إنَّما كان عن طريق المقايضة التي تعنى مبادلة السلع بسلع أخرى مباشرة, أو مبادلة سلع بخدمات. ولكن المقايضة لا تخلو من صعوبات ذكرها علماء الإقتصاد منها: صعوبة توافر الرغبات المشتركة أو المتوافقة بين الأطراف المتبادِلة للسلع؛ لذا اختُرعت النقود وسيطاً لتبادل السلع.

الثالث: إعتبار النقود مستودعاً للقيمة.

وذلك بادّخارها لوقت الحاجة إليها, لأنَّ في النقود قابلية اختزان القيمة والمحافظة عليها. ومن المعلوم أنَّه منذ أنْ اهتدى الإنسان إلى استعمال النقد كان عليه أنْ يحتفظ برصيد من النقد لأغراض الإحتياط أو المدفوعات الآجلة, وإنْ كانت السلع الأخرى تقوم بهذه المهمة إلا أنَّها لا تخلو من عوائق؛ فإنَّ من السلع ما لا تحتمل التخزين لفترة طويلة, ومنها ما يتطلب إمكانات خاصة بسبب الحجم أو بسبب بنيتها الفيزيائية.

ص: 245

ومن أجل ذلك كان من أهم المعايير المعتمدة في اختيار السلعة لتكون نقداً مدى قابليتها لحفظ القيمة لأطول فترة ممكنة, ولهذا السبب حافظ الذهب والفضة على نقديتهما خلال أطول فترة في تاريخ النقد.

ولكن بعد انتشار العملات النقدية أصبحت هي المعول في الإحتفاظ بالثروة, ومع ذلك فقد كانت تتعرض للكساد والانقطاع ونقص القيمة الفظيع, فظلَّ الذهب والفضة النقدين اللذين يفيان هذا الغرض.

وبعد زوال قاعدة الذهب أصبحت وظيفة النقد كمخزن للقيمة محلّ شكّ وريبة, بل مورد تحفّظ كثير من الأفراد, وعلى العموم؛ فلم يكن أمامهم إلا أحد خيارين لحفظ ثروتهم؛

إمّا استعمال هذا النقد أو تحويله إلى أصول ذات سيولة منخفضة؛ مالية أو حقيقية.

وتقديم أحدهما على الآخر هو من أهم المشاكل الإقتصادية التي اختلفت آراء الإقتصاديين حولها, وتولدت عنها نظريات نقدية.

ومن الناحية العملية ومع تطور النشاط المالي والمصرفي فقد تم ابتكار عدة أدوات ادّخارية ذات عوائد ومزايا بقصد تشجيع الإدّخار النقدي, ومن أهمها وأكبرها فائدة إمكانية التسييل السريع, أي تستعمل كوسيط لتسوية المدفوعات, وأطلق عليها شبه النقد.وكيف كان؛ فإنَّه من أجل صيانة قيمة النقد, أو بالأحرى صيانة وظيفة النقد كمخزن للقيمة؛ تعتمد السلطات النقدية مجموعة من الأساليب والوسائل تسمى بالسياسة النقدية, كما أنَّ تحقيق الإئتمان يعني الثقة, فإنَّه يقع على عاتق الحكومات توفير كلّ الظروف النفسية والإجتماعية, فضلاً عن الظروف الإقتصادية؛ لدعم الثقة في هذا النقد الإئتماني, لأنَّ درجة الثقة هي أساس بناء التوقعات الإقتصادية, فخاصية النقدية في اقتصاد ما هي قضية تنظيم وقضية نظامية.

هذا ما يتعلق بالوظائف المالية للنقد.

ص: 246

وأمّا الوظائف الإقتصادية فهي تشمل:

1- النقد كأداة من أدوات السياسة النقدية.

2- النقد كعامل من عوامل الإنتاج.

وهما يرجعان إلى توظيف النقد للوظائف الأساس في الإقتصاد.

وعل ضوء ما ذكرناه يمكن الإستنتاج بأنَّ النقود لا تطلب لذاتها كسلعة يمكنها إشباع الحاجات الإنسانية والإستهلاكية والإنتاجية بصورة مباشرة, بل إنَّها تطلب لغرض استعمالها لتحقيق منفعة استهلاكية معينة, وتطلب أيضاً لتسهيل تبادل السلع والخدمات المختلفة في أثناء عمليات الإنتاج, أي أنَّ النقود يمكنها أنْ تلبي الحاجة الإنسانية الإستهلاكية والإنتاجية بصورة غير مباشرة؛ عن طريق استعمالها كوسيلة للحصول على السلع والخدمات الإستهلاكية الإنتاجية.

ومن جميع ذلك يمكن تعريف النقود بأنَّها: {كلُّ شيء يقبله الجميع قبولاً عاماً بحكم العرف أو القانون أو قيمة الشيء نفسه, ويكون قادراً على تأدية الوظائف المالية والإقتصادية المقررة}. لأنَّ الأهمية الحقيقية للنقود لا تقتصر على تأديتها لوظيفتها الأساس وسيطاً للتبادل فحسب, وإنَّما تظهر أهميتها أيضاً من خلال الوظائف الأساس والثانوية التي يمكن أنْ تقوم بها النقود في الحياة الإقتصادية. وغير خفي أنَّه يمكن إرجاع سبب قبول الأفراد للنقود قبولاً عاماً إلى أمرين أساسيين ينبعان من قيمتها السلعية, وقيمتها الإسمية؛ فإنَّ أصحاب المدرسة السلعية يرجعون سبب القبول إلى قبول النقد سلعة اقتصادية, وهذا هو الموافق مع الواقع التاريخي لتطور النقود من شكلها السلعي إلى شكلها الورقي.

وأمّا أصحاب المدرسة الإسمية أو الرمزية فيرجعون السبب في القبول العام للنقود إلى قوة القانون والأعراف, وهذا يمكن أنْ ينطبق على الصورة والحالة المعاصرة للنقود(1).

ص: 247


1- أنظر؛ إقتصادات النقود والمصارف (د. عبد المنعم السيد علي).
عدم كون النقد سلعة

ذكرنا أنَّ النقود عند الإقتصاديين لا تعتبر سلعة, بحيث تكون لذاتها بضاعة يمكنها إشباع الحاجات الإنسانية والإستهلاكية والإنتاجية بصورة مباشرة بل أنها تُطلبلغرض استعمالها لتحقيق منفعة استهلاكية معينة, أو تطلب لتسهيل تبادل السلع والخدمات المختلفة.

وإذا أردنا تحليل هذا الموضوع فقهياً نقول:

إنَّ كلَّ ما يصلح أنْ يكون سبباً في رفع حاجات الإنسان الإستهلاكية سواء كان بصورة مباشرة أم غيرها, ويتمتع بالندرة النسبية يكون بضاعة, وهذان الأمران يعتبران من عناصر ومقومات كون الشيء بضاعة, وهما ينشآن من الحقيقة الخارجية والتكوينية للبضائع, فالهواء -مثلاً- لا يدخل في هذا التعريف لوفرته في الطبيعة.

نعم؛ يطلق على البضاعة الحقيقية إقتصادياً (البضاعة الإقتصادية), وهي المال الحقيقي في مقابل المال الإسمي؛ فكلما تحقق للعنصرين المتقدمين مصداقٌ في ظلِّ اعتبار المعتبر, وأوجب رفع هذا النوع من الإحتياجات ولو على المال الإعتباري بأنْ يعتبر بضاعة؛ فقد تقوم الدولة باعتبارها المرجع الأساس, ويحظى بالقبول العام بإصدار النقود لتلبية الحاجات الإجتماعية؛ فإنها تعتبر مالاً.

ومن هذا المنطلق تضطر الدولة لتسهيل وتسريع وتوسعة رقعة المبادلات لتحقيق النمو الإقتصادي والرخاء الإجتماعي إلى اعتبار المال نقداً فيما إذا كانت قيمته الإستعمالية نفس قيمته التبادلية, وحينئذٍ يصدق عنوان المال على البضائع الحقيقية والنقود الإسمية كِليهما.

وعلى هذا الأساس يعتبر الفقهاء النقود الإسمية مالاً يحمل القيمة وإنْ لم يكن بضاعة, لأنَّ البضاعة مال حقيقةً, والنقد مالٌ اعتباريٌ, وبين البضاعة والمال عموم مطلق في الإصطلاح المنطقي.

ص: 248

وعليه؛ فإنَّ النقد ليس بضاعة على صعيد الإقتصاد الوطني ولكنه بضاعة على صعيد الإقتصاد العالمي, فإنَّ نقد كلّ بلد يعدّ بضاعة في البلد آخر وتتم مبادلته؛ هذا من جهة.

وإنْ كان النقد من جهة أخرى مقياساً ومستودعاً للقيمة ووسيلة متبادلة ووساطة لتبادل البضائع؛ إلا أنَّه ليس بضاعة على نحو الواسطة, لأنَّ البضاعة الوسطية إنَّما تكون في الحقيقة واسطة بين البضاعة التي تعبّر عن رأس المال والبضاعة الإستهلاكية, بينما النقد إنَّما يكون وسيلة يتَّصف بالوظائف الثلاث المتقدمة. وهذا مِمّا يمكنه أنْ يلعب دوراً في تحديد قيمة البضاعتين على أساس وحدته القياسية وتسهيل عملية المبادلات.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّه يمكن أنْ يقوم النقد بدوره الإقتصادي ويعمل بالوظائف التي تقدم ذكرها, وهو في الوقت نفسه يكون مالاً يقع مورد المعاملات عليه. ولكن ذلك إنَّما يتم وفق شروط وأحكام معينة وسياسة نقدية معينة؛ لئلا يضرّ بالإقتصاد الوطني.

أنواع النقود

تقسم النقود -إقتصادياً- إلى تقسيمات متعددة ومختلفة تبعاً لتعدد واختلاف الاعتبارات التي اتخذت أساساً للقسمة, فهناك معايير عديدة لتقسيم النقود.

معايير تقسيم النقود
المعيار الأول

المعيار الأول؛ على أساس مقام ومنزلة المعتبِر الذي اعتبر النقود.

وبذلك تنقسم النقود الإلزامية إلى قسمين:

القسم الأول: النقود الإسمية التي تتعاطاها الدولة؛ وهي التي تعرف بالنقد الشايع, وتنقسم إلى أربعة أقسام وهي:

1- النقود الرمزية المعدنية: وهي نوع من النقود الإلزامية, والتي تكون قيمتها النقدية اكثر مِمّا لها من قيمة سلعية, فإذا تساوت القيمتان كما إذا كانت القطعة من خمسين فلساً تعادل خمسين فلساً من الفضة فإنَّ مثل هذا النقد قد يخرج من المعاملة, وذلك

ص: 249

بإذابته واستخراج ما فيه من المعدن؛ فإنَّ الدولة تقوم بعرض مقادير مختلفة من حيث القيمة من هذه القطع النقدية بمقدار الحاجة, ومن المفروض أنَّ مقادير المعادن الموجودة فيها قليلة للغاية, بحيث إذا أذيبت وبيعت فإنَّها لا تؤثر في القيمة السوقية لهذه المعادن تأثيراً ملحوظاً.

2- الأوراق النقدية: وهي التي تصدرها البنوك المركزية؛ وهي نوع من النقود الإلزامية.

3- النقود الورقية الوثيقة: وهي أوراق تقوم الدولة بإصدارها في الظروف الحساسة والأوضاع التي تتطلب الدعم العام, وتتضمن مبلغاً محدداً ويشارك الجميع من خلال شرائها بتقديم المساعدة المالية للحرب أو إعانة الدولة للخروج من الأزمة التي تواجهها, ولكن يمتنع الناس من تبديلها إلى النقود الشايعة عادةً؛ فهذه الأوراق يمكن اعتبارها نقوداً إلزامية من نوع الديون, وهي تختلف عن مستندات القرض؛ فلا تترتب عليها فائدة سوى ما قرر من أجلها وهو دعم الحكومة في الظروف الصعبة.

4- النقد العسكري: وهو من ضمن الإجراءات التي يتَّخذها المحتلون فترة الحرب في الدول التي يسيطرون عليها؛ فيطبعون نقوداً عسكرية.

والغرض من طبع النقد العسكري من قبل المحتل هو إيجاد وسيلة مبادلة في البلد الذي يحتله لإمكان السيطرة عليه من قبل سلطات الإحتلال.

وبعبارة أخرى: تحقيق قدرة إجراء قانونية سهلة لدى القوات العسكرية المحتلة مقابل رفع حاجاتها الجديدة وشرائها السلع والخدمات الضرورية لأنَّها تواجه إبادة الأوراق المالية عند دحرها القوى الوطنية, وخلو المصارف من النقود لفقدان الثقة؛ فإنَّ عليها أن تصدر هذه النقود الجديدة لتفعيل النشاطات الإقتصادية في

ص: 250

المناطق التي تحتلّها, كما أنَّ هناك وسيلةأخرى للمحتل وهي طبع وتزوير نقود البلد الذي احتلته وهو أمر متعارف في الكثير من الحروب.

نعم؛ السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا يستفيد المحتل من نقد بلده كنقد عسكري في البلد الآخر؟.

والجواب عنه هو: إحتمال قيام القوى المناوئة بأعمال تلحق الضرر بنقود المحتل, إذ من الممكن أنْ تَدَّخر هذه القوى مقادير كبيرة من هذه النقود لتستفيد منها في الأوقات المناسبة لتوجه ضربة للمحتل, وافتعال حاجة مصطنعة أو شراء أسلحة ومعدات وغير ذلك من الأغراض التي تضرّ بنقد المحتل.

القسم الثاني: النقود الإسمية التي تقوم المصارف والمؤسسات المالية بتداولها, وهي على نوعين:

1- الأوراق المصرفية.

وهي الحوالات التي تصدر على شكل شيك مصرفي أو شيك ضمان أو حوالة مصرفية من مصرف في عهدته أو في عهدة مصرف آخر.

وهذه الأوراق تعتبر نوع نقد إسمي من قبل الخصم تدلّ على خصم لمصرف آخر.

2- الودائع تحت الطلب.

وهي عبارة عن النقود التي يدفعها أصحابها للمصرف على أنْ يردّها لهم أو لشخص آخر إذا ما أصدر أصحابها حوالة لغيرهم بمجرد الطلب.

وهي نوع نقدٍ إسمي من قبيل الخصم, وذلك لأنَّ المصارف تلتزم بردِّ مبلغ مساوٍ لها من النقد الإلزامي نقداً مقابل استلامها حوالة أو شيكاً يصدر عن صاحب الودائع. ومن الواضح أنَّ الحوالة والشيك ليسا مالاً وإنَّما وسيلة ووثيقة لانتقال هذا النوع من المال.

ص: 251

المعيار الثاني

المعيار الثاني؛ ويقوم على أساس المواصفات الطبيعية للمادة الخام.

المعيار الثالث

المعيار الثالث؛ ويقوم على أساس النقد والنسيئة.

ويتصور على حالتين:

1- النقد نقداً.

وهو النقد الذي تبلورت وتجلّت قيمته الإسمية في عين خارجية والتي تحمل القيمة التبادلية. وفي هذا النوع من النقود تنقطع العلاقة بين قيمتها التبادلية وبين قيمتها التي يعتبرها المعتبر من ناحية قانونية.

فإذا تلف النقد فإنَّه لا يتحمل المعتبِر المسؤولية في رفع ما بإزائها كما هو الحال في الذهب والفضة, فإنَّه إذا تلف فإنَّ من قام بضرب السكة لا يتعهد عادة بالتعويض.أو مثل النقود الإلزامية المتعارفة في عصرنا الحاضر؛ فإنَّ من نشرها لا يتحمل تعويضها لصاحبها إلا إذا لم تنقطع هذه العلاقة من الناحية القانونية, بحيث إذا لم يتلف ذلك الشيء فإنَّ المعتبِر ملزَم بدفع العوض لصاحب النقد.

ومثاله النقود الورقية المضمونة التسديد على أساس الذهب والفضة والتي كانت متعارفة من قبل الدول, وإنْ كان أصحاب الأوراق النقدية والنقود المتداولة يغفلون عن قابلية التبديل.

وكيف كان؛ فإنَّ الناس إنَّما ينظرون إلى مثل هذه النقود مستقلة, ومن هنا تسمية نقود نقد لا نسيئة؛ فإنَّ في هذا النوع من النقد يتصور كلّ واحد من الطرفين القيمة التبادلية مستقلة عند المعاملة.

2- النقد نسيئة.

وهو النقد الذي لا تتجسد قيمته الإسمية في شيء خارجي.

ص: 252

وبعبارة أخرى: إنَّ هذا النقد تكون عهدة التسديد فيه على عاتق القائم بعملية إصدار الوصلات, فهو قد تعهد في الذمة, فإذا تلفت تلك الوصلات الصادرة فالمحرر أو الناشر مسؤول عن التسديد لأصحاب الإيصالات؛ فلا تسقط عن العهدة.

كما أنَّ الأفراد في هذا النوع من النقود لا يغفلون عن قابلية تبدليها عند التعامل.

المعيار الرابع

المعيار الرابع؛ تقسيم النقود إلى نقود سلعية, ونقود إئتمانية.

وتقسّم النقود الإئتمانية إلى قسمين:

1- نقود ورقية.

2- نقود مصرفية (نقود ودائع).

النقود السلعية

والتسمية إنَّما جاءت من ناحية النسبة إلى السلعة, والسلعة كما عرفوها: (كل ما يُتَّجر به من البضاعة)(1).

وتعتبر هذه النقود تاريخياً المرحلة الثانية للنقود التي استعملها الإنسان بعد انتقاله من مرحلة المقايضة إلى مرحلة النقود؛ وذلك أنَّه كان يستعمل في المرحلة الأولى (مرحلة إختراع النقد) الحجارة أو الخرز وأمثالهما مِمّا تعطيه الدولة أو العرف الإجتماعي الإعتبار والقيمة المالية. ثم في المرحلة الثانية استعمل الإنسان السلع مقام الحجر وأمثاله نقوداً تعامل بها وتداولها, مثل القمح والشاي والقماش والتبغ وغيرها.

وقد اعتمد الإنسان في استعماله لهذه السلع نقوداً على قبول العرف لها واعتباره إيّاها, ويرجع هذا إلى أنَّها أيسر في تسهيل المبادلات وأسهل في تيسير القدرة على الوفاء بالإلتزامات.وإلى جانب استعمال الإنسان لأمثال السلع المذكورة استعمل سلعاً أخرى معدنية كالذهب والفضة والحديد والنحاس والزنك والقصدير وغيرها.

ص: 253


1- القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً؛ ص180.

ومن أجل ذلك لا تختلف النقود المعدنية عن سابقتها من بقية أنواع النقود السلعية في تأدية نفس الوظائف الأساسية للنقود في كونها قادرة على أنْ تكون وسيطاً للتبادل ومعياراً للقيمة ومخزناً لها وأداة للدفع المؤجل والإدّخار.

وعند استعمال الإنسان للنقود المعدنية انحسر استعماله للنقود السلعية غير المعدنية إلا قليلاً؛ لما تقدم من أنَّ في النقود المعدنية من يسر التعامل بها وسهولة تقدير قيم السلع بواسطتها وإمكانية ادّخارها مع المحافظة على قيمتها المالية.

النقود الإئتمانية

ويقال لها أيضاً (النقود الإعتمادية) و(النقود المعتمدة)؛ نسبة إلى اعتمادها من قبل الحكومات التي تصدرها, وائتمان الناس للحكومة التي أصدرتها وثقتهم بها.

والسبب في نشوء هذه النقود الإئتمانية هو تراجح أهمية النقود المعدنية وانحسار دورها في الحياة الإقتصادية أثناء الحرب العالمية الأولى.

إنَّ النقود الإئتمانية إنَّما تكتسب أهميتها الفعلية من خلال قبولها العام المبني على أساس قدرتها في توفير عنصر الثقة في تحويلها إلى السلعة المرتبطة بها, وعادة كانت هذه السلعة هي الذهب؛ مثل تحويل الجنيه الأسترليني أو الدولار الأمريكي إلى ما يساويه أو ما يعادل قيمته من الذهب من حينه.

كما أنَّ النقود الإئتمانية تعد دَيناً لحاملها على ذمة الجهة التي أصدرتها وحقَّاً لصاحبها في الحصول على ما يساويها من السلع والخدمات.

النقود الورقية

وهي المعروفة ب-(العملة الورقية) التي تصدرها السلطة النقدية في الدولة المتمثلة بالبنوك المركزية أو مؤسسات النقد وأمثالهما.

ص: 254

وقالوا: إنَّها عبارة عن وثائق متداولة تمثل دَيناً معيناً في ذمَّة السلطة النقدية التي أصدرتها لحاملها بالتفصيل الذي تقدم بيانه.

ويرجع تاريخ التعامل بالنقود الورقية إلى الفترة التي انتشرت فيها إعادة الإحتفاظ بالنقود المعدنية لدى التجار والصيارفة الذين كانوا يقبلون إيداع الأفراد لنقودهم والاحتفاظ بها مقابل منح المودّعين إيصالات أو سندات تتضمن كمية الأموال المودعة مع تعهد بإعادتها ودفعها لحامل السند أو الإيصال عند الطلب وبدون تأخير.

وبعد فترة زمنية أصبح الأفراد المودِعون والصيارفة أيضاً راغبين في استخدام هذه الإيصالات أو السندات أداةً لتسوية المدفوعات وإبراء الديون فيما بين الأطراف الدائنة والمَدينة مقابل الحصول على فوائد نقدية محددة؛ فالمودع قادر على استخدام السند أو الوصل في تسوية مدفوعاته, والصيرفي أو التاجر (ثمالمصرف فيما بعد) يحصل على مكافأة نقدية تتمثل في دفع المودِع لمبلغ الرسم المحدد والمتَّفق عليه مقابل الخدمة التي حصل عليها في إنجاز تسوية ديونه والمحافظة على أمواله من السرقة والضياع.

وقد لاحظ الصيارفة أنَّ الأموال المودَعة لديهم لا يتم سحبها كاملة في وقت واحد؛ مِمّا دفعهم إلى إصدار إيصالات جديدة, إلا أنَّها لا تستند إلى ودائع حقيقية مودعة لديهم, وأصبحت هذه الإيصالات كسابقتها مقبولة لدى الآخرين, إذ أنَّها يمكن أنْ تؤدي وظيفة النقود الأساسية وسيطاً للتبادل.

وبعبارة أخرى: أصبحت نقوداً ورقية مقبولة قبولاً عاماً وإنْ كانت لا تساوي حجم الودائع المعدنية, بل كانت عادة تزيد عنها وتفوقها حجماً.

وهذه الحال دفعت بالدولة إلى أنْ تضطلع بدروها في التدخل في تنظيم عملية الإصدار للنقود الورقية, ونشأت بموجب ذلك البنوك المركزية التي أخذت على عاتقها مهمة

ص: 255

الإصدار النقدي كجهة وحيدة ومحتكرة لعملية الإصدار النقدي الورقي الإلزامي الذي نتعامل به حالياً, وصفة الإلزام في النقود الورقية على مستوى التعامل بها نابع من قوة القانون, إذ لا يحقُّ للأفراد أو الهيئات التي بحوزتهم هذه النقود المطالبة بتحويلها إلى ما يعادلها أو ما يساوي قيمتها من المعدن المغطاة به (كالذهب في حينه)(1).

النقود المصرفية

والإسم المشتهر لها هو (نقود ودائع), ويعود تسمية هذا النوع من النقود ب-(النقود المصرفية) كنوع من مكونات وأنواع النقود الإئتمانية إلى كونها نقود ودائع.

والمقصود بالودائع -هنا- الودائع الجارية (أو الودائع تحت الطلب)؛ وهي عبارة عن الأموال التي يودعها طرف معين لدى المصرف التجاري, وتكون هذه الأموال المودعة قابلة للسحب من قبل المودِع في أيِّ وقت يشاء فيه سحبها بواسطة توجيه أمر من المودِع (الدائن) إلى المصرف التجاري (المَدين) عن طريق (الشيكات) التي تلزم الطرف المَدين بدفع المبلغ المذكور في الشيك لمصلحة حامله أو لأمره أو لأيِّ طرف آخر (المستفيد).

وهذه الأوامر بالدفع(2) تعتبر أداة أو وسيلة لتسوية المبادلات والمدفوعات وإبراء الذمة, لذلك فهي تقوم مقام النقود الإعتيادية, لأنَّها تؤدي وظائف الأخيرة, ولأنَّها ديون في ذمَّة المصارف لصالح المودعين, ولهذا سُمِّيت بالنقود المصرفية أو نقود الودائع.

وتشترك نقود الودائع مع النقود الورقية في كونها ديوناً لصالح مالكها أو حاملها في ذمَّة الجهة التي تلتزم بها؛ وهي البنوك التجارية في حالة نقود الودائع, أوالبنك المركزي في حالة النقد الورقي, أو من قبل الدولة عموماً بعد تأميم البنك المركزي والبنوك التجارية, كما هي الحال في كثير من الدول.

ص: 256


1- راجع النقود والمصارف (للشمري)؛ ص43- 44.
2- الشيكات المصرفية.

وتختلف الودائع أو النقود المصرفية عن النقود الورقية والسلعية من حيث أنَّ ليس لها كيان مادي ملموس, كما أنَّ الشيك الذي تُتداول هذه النقود بواسطته لا يتمتع بالقبول العام في التداول, حيث لا يلزم القانون الدائنين على قبوله, بمعنى أنَّ المَدينين لا يستطيعون إلزام الدائنين والبائعين على قبول الشيك في إبراء الديون وتسديد أثمان المشتريات.

ولكن بالرغم من هذا القصور نجد هذا النوع من النقود يمثل الجانب الغالب من العرض الكلي للنقود في البلاد المتقدمة اقتصادياً؛ ففي الولايات المتحدة مثلاً يبلغ حجم النقد المصرفي أو نقد الودائع حوالي 90% من العرض الكلِّي للنقود.

ويجب أنْ نتذكر أنَّ الوديعة -ليس الشيك- هي التي تعتبر نقوداً, فالشيك لا يعدُّ نقداً مثل ورقة النقد (البنكنوت(1)) فهو مجرد وسيلة لنقل مديونية البنك من شخص إلى آخر. ولا تتوافر فيه شروط القبول العام, لأنَّه يصدر من شخص غير معروف من الجميع, كما أنَّه متقيد بتاريخ معين, وينصُّ على كمية محددة من النقود وينتهي عمله بعملية واحدة(2).

القاعدة النقدية

قيل في تعريفها بأنَّها معيار أو مقياس خاص للقيام يقرره القانون كأساس لعملة البلاد.

وفي الوقت المعاصر إتَّخذت معظم البلدان الذهب أو الفضة أو عملات البلدان الأخرى المبنية على أساس الذهب أو الفضة مقياساً لنقدها(3).

ص: 257


1- هي أوراق مالية يصدرها المصرف وتكون لها صفة رسمية بحيث يتعامل الناس بها بدلاً من النقد؛ كسندات الخزينة وسندات السحب والشيكات والحوالات. والمنقول أنَّ أول من استخدم هذه الأوراق هم الصينيون.
2- النقود والبنوك ؛ ص28- 29.
3- المصدر السابق.
الوحدة النقدية

ويقصد بها الوحدة الأساسية لقياس نقد البلد, حيث تحدّد بالنسبة إليها قيمة جميع القطع النقدية والورقية أمثال الدولار في العملة الأمريكية, والجنيه في العملة البريطانية, والدينار في العملة العراقية والكويتية, والريال في العملة القطرية والسعودية والإيرانية, والدرهم في العملة الإماراتية, إلى غير ذلك.

السياسة النقدية في الفكر الإسلامي
اشارة

لقد ألَّف علماء الإسلام في هذا الموضوع كتباً قيّمة وإنْ كانت لا تخلو من تشويش واضطراب, بل فيها بعد عن التعليمات الإسلامية وقواعد الفقه, والفكر السائد عند أكثر المؤلفين في هذا المجال هو تطبيق ما في الإقتصاد العالمي على الفكر الإسلامي لتصحيحه وتقييمه.

وكيف كان؛ فإنَّ الذي نريد أنْ نثبته في المقام هو سياسة الإقتصاد الإسلامي بالنسبة إلى النقود على سبيل الإجمال, والتفصيل يأتي في محله إنْ شاء الله تعالى.

لا ريب أنَّ الإسلام أمضى كثيراً من الأمور الإقتصادية والإجتماعية التي كانت دائرة في المجتمعات المعاصرة لعصر التشريع, وكانت مهمة الإسلام الأولى هي:

أولاً: تصحيح العقيدة وإخراج الناس من الشرك والضلال إلى التوحيد والهداية, وقد إعتبر الشرك أساس كلّ تخلّف وانحطاط, واعتبره الظلم العظيم بحقِّ الإنسانية والأفراد.

ثانياً: تصحيح الطاعة والعبادة, وذلك عن طريقين:

الطريق الأول: إبطال البدع المستحدثة في الشرايع الإلهية السابقة وبيان زيفها.

الطريق الثاني: تهذيب العبادات الدائرة بين أتباع الأديان الإلهية, إمّا برفع بعض الشروط والقيود المفروضة أو بتشريع أمور جديدة, ولكنه لم ينسخ تلك العبادات من أساسها.

ص: 258

ثالثاً: تهذيب أخلاق الناس, لأنَّ الإسلام يرى أنَّ أساس كلّ كمال دنيوي وأخروي إنَّما يكون في الأخلاق الفاضلة, واعتبر أنَّ وراء كلِّ تشريع إلهي مكرمة أخلاقية؛ بدونها لا تؤثر الشريعة أثرها المطلوب.

رابعاً: تصحيح العادات الإجتماعية؛ إمّا بإلغاء الفاسد منها, أو تصحيح بعضها ليتطابق مع التعاليم الدينية.

خامساً: إصلاح النظام الإقتصادي المتداول ليتطابق مع روح الإسلام وتشريعه الأبدي.

وكان من جملة النظام الإقتصادي قبل الإسلام النقود التي كانت متداولة بين الأمم, ومنها الدنانير القيصرية, والدراهم الكسروية, ومنها النقود السلعية التي كانت دائرة في الجزيرة العربية, وقد ورد في القرآن الكريم لفظ الدراهم في قصة يوسف علیه السلام , والورق في قصة أصحاب الكهف.

وقد شرَّع الإسلام أروع التشريعات في الإقتصاد عموماً, وفي النقود بالخصوص يعتبر الإسلام أساس كلّ تشريع يلبي الجانب المادي والمعنوي في الإنسان ويتحقق بامتثالها السعادة الأبدية.

أهم ما شرَّعه الإسلام في سياسته النقدية

ونحن نذكر أهم ما شرَّعه الإسلام في سياسته النقدية:

1- إمضاء ما كان دائراً عند الناس من النقود بجميع أنواعها.

2- الإهتمام باستعمال النقد في المعاملات؛ وإنْ لم يبلغ المقايضة.

3- إعتبار أنَّ النقد واسطة للمبادلة, فإنَّ به يمكن تحقيق القيمة العادلة ورفع الغبن أو تخفيفه إلى أدنى مستواه, لأنَّه من اللوازم العامة في التجارة.

4- لم يهتم الإسلام بالجانب الخزني للنقود؛ الذي يعتبره الإقتصاد العالمي بأنَّه من الوظائف الأساسية للنقد وهي تخزين القيمة, فصار همّ الناس تخزين النقود والاحتفاظ بها.

ص: 259

إنَّ الفكر الحديث في البداية لم يعترف بهذه الوظيفة مع أنَّ الإسلام ذكرها قبل ذلك بقرون. نعم؛ إعتبر الإسلام الإدّخار فضيلة إسلامية, وقد ورد في النص القرآني الحثّ عليها, قال تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)(1). وفي الحديث أنَّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم إدَّخر لأهله قوت سنته.

5- إنَّ روح الشرع لا يوافق على الإحتفاظ بالنقود وسيلة لازدياد الثروة, قال تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)(2). ليتحكموا في البلاد وعلى العباد بما يشاؤوا وأرادوا.

6- جعل الغطاء للنقد الإسلامي هي الثروة للدولة, أو قطع الصلة مع نقود الكفر.

7- إعتبر الإسلام كلّ نقد متداول بين الناس يكون مقبولاً عندهم, وجعله الثمن للأشياء, سواء كان من الذهب أم الفضة أم من معادن أخرى أم ورقاً؛ إلا ما إذا دلَّ الدليل على الإختصاص بنوع معين, كما في الزكاة؛ حيث أنَّ المستفاد من الأدلة إختصاصها بالنقد المسكوك من الذهب والفضة, فلا زكاة في غيرها, وفي غير ذلك يجري كلّ حكم معلق على النقد المسكوكة بالنسبة إلى غيره من النقود الورقية.

8- علاج الطوارئ التي يتعرض النقد لها مِمّا يضرُّ بالإقتصاد, كالتضخم وما يفعله قيمتها حسب القواعد الثانوية والقرارات الطارئة, من دون اللجوء إلى سياسة النقد الأخرى ليكون للنقد الإسلامي إستقلالية. وسيأتي بيانها في محالها إنْ شاء الله تعالى.

وبذلك ننهي الكلام في المقام عن النقد الذي يعدُّ مصداقاً من مصاديق المال.

ص: 260


1- سورة النساء؛ الآية 9.
2- سورة الحشر؛ الآية 7.
المصداق الثالث: المنافع
اشارة

المصداق الثالث(1): المنافع

وهي جمعُ منفعة؛ وهي مصطلح فقهي واقتصادي, ويعبَّر عنها في القانون ب-(إنتفاع) و(حقُّ الإنتفاع).المنفعة (لغةً)؛ فسَّر علماء اللغة المنفعة بأنَّها ضدّ الضرّ, أو أنَّها الخير؛ سواء وافق هوى النفس أم لم يوافق, ومن هنا يكون بتر الذراع المصابة بآفة متعدية منفعة مع كراهة الإنسان لهذا البتر.

وقيل أنَّ المنفعة لغوياً هي كلُّ ما يُنتفع به.

المنفعة (فقهياً)؛ قال الفقهاء بأنَّ المنفعة ما يحصل عليه المنتفع من الشيء الذي ينتفع به, مثل سكنى الدار الذي يعدُّ ممارسة فعل السكن بالدار, والثمرة التي هي منفعة الأشجار, والفائدة.

وعليه؛ تكون المنفعة في الفقه مطلقه وعامة تشمل ما إذا كان من المعاني كالسكنى أو الأعيان كالثمرة والفائدة محللة أو محرمة, ويأتي بيان ذلك أيضاً إنْ شاء الله تعالى.

المنفعة (إقتصادياً)؛ عرفت المنفعة -إقتصادياً- بأنَّها مُا يلبِّي حاجة أو رغبة عند المرء, ويؤدي في النتيجة إلى إشباعها.

يقول الدكتور عزمي رجب: (لهذا التعبير (يعني المنفعة) مفهوم في اللغة الإقتصادية يختلف عن المعنى المعروف في اللغة الجارية؛ فإنَّ الشيء النافع أو المال النافع في الإصطلاح الإقتصادي هو كلُّ ما يلبِّي حاجة أو رغبة عند المرء, ويؤدي في النتيجة إلى إشباعها؛ بغضِّ النظر عمَّا إذا كان هذا الشيء نافعاً أو ضاراً في حدِّ ذاته, فقد يكون المال المطلوب ضاراً من الوجهة الصحية كالتبغ مثلاً, ولكنه يعتبر نافعاً من الناحية الإقتصادية عندما

ص: 261


1- من مصاديق مفردات المال.

يقوم بقضاء حاجة لدى راغبه. ومن هنا كان تقدير منفعة الأشياء ومدى هذه المنفعة أمراً شخصياً يختلف باختلاف الأشخاص وميولهم وحاجاتهم)(1).

وعليه؛ تكون المنفعة أمراً نسبياً يختلف باختلاف الميول والرغبات.

المنفعة (قانونياً)؛ لا تختلف المنفعة في القانون عمَّا ذكرناه في الفقه كثيراً. وهي فيهما أخصُّ منها في الإقتصاد؛ فإنَّها تشمل حتى ما لا يعدُّ منفعة عرفاً, مثل ما لو تملك شخص حشرة لا يعدُّ العرف الإستيلاء عليه تملكاً من أجل أنْ يشبع رغبته في التملك ويلبِّي حاجة التملك الموجودة في نفسه.

والحاصل من جميع ذلك:

أولاً: إنَّ مفهوم المنفعة تارةً يطلق على خصوص المعاني التي لا عين لها في الخارج كسكنى الدار, ولبس الثوب وعمل الخياطة. وأخرى يطلق على معنى عام فيشمل المعاني التي لا عين لها في الخارج, كما يشمل ما كان لها أعيان خارجية كنماءات الحيوانات من أصواف وألبان وأسمان وأولاد إلى غير ذلك, وثمار النباتات كالتمر في النخلة والعنب ونحو ذلك, والنبت بذاته كالعشب في المرعى,قال الشيخ كاشف الغطاء: (ولا تزال السيرة جارية على إجارة الأرض لرعي الأغنام في نباتها وعشبها)(2).

ثانياً: إنَّ منفعة كلِّ شيء بحسبه.

ثالثاً: إنَّ المنفعة أمر نسبي يختلف باختلاف الميول والرغبات.

رابعاً: إنَّ المنفعة في الفقه والقانون أخصُّ مِمّا عليه في الإقتصاد.

وأمّا الإنتفاع؛ فقد عرّف بأنَّه الإستفادة باستغلال المنفعة.

ص: 262


1- الإقتصاد السياسي؛ ص 23.
2- تحرير المجلة؛ ج1 قسم 2 ص130.

أو بعبارة أخرى: الحصول على المنفعة من الشيء ذي الفائدة, فيكون الفرق بين المنفعة والإنتفاع كالفرق بين الثمرة والإستثمار, أي: الإستفادة من تلك الثمرة.

أو قُل: بأنَّ المنفعة هي الفائدة. والإنتفاع هو الإستفادة.

أو قُل: بأنَّ المنفعة سكنى الدار. والإنتفاع بها هو ممارسة فعل السكنى بالدار. وقد تقدم بيان الفرق أيضاً في بحث الحقّ.

الإنتفاع في القانون, أو بالتعبير القانوني (حقّ الإنتفاع)

وهو الحقُّ الذي يخوّل الشخص إستعمال واستغلال ملك غيره, أمّا التصرف في الملك في غير مجال الإنتفاع فهو للمالك.

قال السنهوري: (الإنتفاع حقٌّ عيني يخوّل صاحبه إستعمال شيء مملوك للغير واستغلاله)(1).

وعليه؛ يكون الإنتفاع هو التصرف بالشيء على وجه يريد به تحقيق فائدة.

وقد أثبت القانون ذلك على نحو الحقيَّة بحيث يشمل المنفعة نفسها, بخلاف الفقه الذي خصَّه بالإستفادة مطلقاً.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ المنفعة تعدُّ مالاً عرفاً يترتب عليها الأحكام المتعلقة بالمال كالأعيان وغيرها.

المصداق الرابع: القروض

جمعٌ مفرده قرض, وتستعمل هذه الكلمة تارةً مصدراً, وأخرى إسماً للمصدر, ويراد به المال المقترض فيكون القرض -على المعنى الأول- هو دفع المال لمن ينتفع به على أنْ يردَّ بدله حين حلول الأجل المضروب أو عند الطلب إذا لم يكن مؤجلاً.

ويكون القرض -على المعنى الثاني- هو المال المدفوع نفسه.

ص: 263


1- الوسيط؛ ج 6 ص 46.

أمّا مشتقات مادة (ق ر ض) هي:

* الإقتراض: وهو أخذ المال من الطرف الذي ينتفع به مع إلتزامه بردِّ بدله.

* المقترِض: وهو الآخذ للمال, ويقال له المستقرض أيضاً.

* المقرِض: وهو الدافع للمال.

* بدل القرض: وهو المال الذي يرده المقترِض إلى المقرِض عوضاً عن القرض.

والدَيْن (بفتح أوله وسكون ثانيه)؛ الجمع: ديون وأدْيُن, وهو مصدر دان يدين, والمراد به ما كان في الذمة. وقد يلتقي القرض والدَين في بعض الموارد كما سيأتي بيانه, وبسببه إمّا عقد أو (إستهلاك) أو (إستعراض).

وذكر بعض فقهاء العامة أنَّ الدَين ينقسم إلى:

الدَين القوي: وهو بدل المال الذي قام الدليل على ثبوته في الذمة, كبدل القرض, ومال التجارة.

الدَين الضعيف: وهو بدل ما ليس بمال, كالمهر والوصية وبدل الخلع.

ولكنه ليس بشيء؛ لأنَّ المعروف بين الفقهاء أنَّ الدَين هو مال واجب في الذمّة؛ إمّا بالعقد كالتجارة أو عقد النكاح, أو بالإستهلاك كالإتلاف ونحوه, أو بالإستقراض؛ فيشمل الجميع, فيكون الدَين أعمّ من القرض, ويكون الأخير من أحد أسباب الدَين, يقال: (دنتُ الرجل؛ بمعنى أقرضته), وقد فرّق في القاموس المحيط بين القرض والدين؛ بأنَّ الدَين هو الذي له أجل, والقرض هو الذي لا أجل له. وفي العرف العام والخاص العلمي يستعملان مترادفين, وغرضين عن الفرق المذكور في القاموس المحيط.

ومشتقاته هي:

* الدائن: ويطلق للدافع.

* المدين والمستدين: ويطلق على الآخذ.

ص: 264

والصحيح؛ إنَّ الدَين هو أعمُّ من القرض؛ لما عرفت من أنَّ الأخير عقد خاص بين المقرِض والمقترض.

والمال المقترض في الذمة يسمى دَيناً. ومن هنا تلاقيا فصار كِلاهما ديناً.

قال الفقهاء: (الدَين هو مال تشتغل به ذمة إنسانٍ لإنسان آخر لأحد الأسباب التي توجب ذلك؛ كاقتراض مال يبقى عوضه في ذمة المقترِض, وابتياع شيء يكون ثمنه في ذمة المشتري, وبيع شيء موصوف مؤجل إلى أجل في ذمة البايع كما في بيع السلف, وكالتزويج بامرأة يؤجل صداقها في ذمة الزوج, واستئجار عين أو أجير يبقى بدل إجارته في ذمة المستأجر, وفدية خلع, أو مباراة تبقى في ذمة المرأة المختلعة, وضمان مال بسبب إتلاف أو عيب أو غير ذلك من موجبات الضمان, ونحو ذلك من أسباب اشتغال ذمة الإنسان بالمال, وهذا هو الدَين الذي يبحث عنه وعن أحكامه في كتاب الدين, ويطلق الدين أيضاً على ما تشتغل بهذمة الإنسان من الأموال والحقوق لجهة عامة أو جهة خاصة كالزكاة والخمس والكفارات والنذور وأشباهها)(1).

وقد عَرَّف القانونُ القرضَ بأنَّه: (عقد يلزم به المقرض أنْ ينتقل إلى المقترض ملكية مبلغ من النقود أو أيِّ شيء آخر على أنْ يردَّ إليه المقترض عند نهاية القرض شيئاً مثله في مقداره ونوعه وصفته)(2).

وفي كون القرض مالاً قال الشيخ كاشف الغطاء: (إنَّ مدار العقود والمعاملات على الأموال وليس للمال حقيقة عينية خارجية كسائر الأعيان تتمحض في المالية تمحض سائر الأنواع في حقائقها النوعية, وإنَّما هو حقيقة اعتبارية ينتزعها العقلاء من الموجودات

ص: 265


1- راجع كتاب الدَّين في رسائل الفقهاء.
2- القانون المدني المصري؛ المادة (538).

الخارجية التي تتقوم بها معايشهم وتسدّ بها حاجاتهم الضرورية والكمالية, فمثلاً: الحبوب والأطعمة مالٌ, لأنَّ البشر يحتاج إليها في أقواته وحياته. وهكذا كلُّ ما كان مثل ذا من حاجات الملابس والمساكن ونحوها قد انتزع العقلاء منها معنىً وصفياً عرضياً يعبّر عنه بالمال, وهو من المعقولات الثانوية باصطلاح الحكيم.

ولما كان مدنيّة الإنسان لا تتمّ إلا بالحياة المشتركة وهي تحتاج إلى المقابضة والتبادل في الأعيان والمنافع, وكان التقابض بتلك الأعيان -وهي العروض- مِمّا لا ينضبط أرادوا جعل معيار يُرجع إليه في المعاملات ويكون هو المرجع الأعلى والوحدة المقياسية, فاختاروا الذهب والفضة وضربت سكة السلطان عليهما لمزيد الإعتبار في أنْ يكون عليهما المدار, فماليتهما أمر اعتباري محض, لا فرق بينهما وبين سائر المعادن وغيرهما من حيث الذات والحقيقة. ولذا في هذه العصور حاول بعض الدول قلب الإعتبار إلى الورق ولكن مع الإعتماد عليهما.

ومهما يكن الأمر؛ فإنَّ المال لما كانت حقيقته تقوم على الإعتبار؛ فكما اعتبروا الأجناس الخارجية مالاً, فكذلك اعتبروا ذمة الرجل العاقل الرشيد مالاً ولكن مع الإلتزام والتعهد, فإذا التزم لك الثقة الأمين بمال في ذمته ووثقت به وجعلته كمالٍ وفي يدك أو صندوقك, وكذا العقلاء يعتبرون أنَّ لك مالاً عنده, أمّا من لا عهدة له ولا ذمة كالسفيه والمجنون والصغير, بل والسفلة من الناس الذين لا قيمة لأنفسهم عندهم الذي يعدك ويخلف ويحدثك فيكذب ويلتزم لك ولا يفي بالتزامه؛ فهؤلاء لا ذمة لهم ولا شرف, والتزامهم عند العقلاء هباء, ولا يتكون من التزامهم عند العرف مال.

فالمال إذاً نوعان؛ خارجي عيني, وهو النقود والعروض. واعتباري فرضي, وهو ما في الذمم؛ أعني الإلتزام والعهدة)(1).

ص: 266


1- تحرير المجلة؛ ج1 قسم 1 ص8-9.

وقال الأستاذ مصطفى الزرقاء في كتابه المدخل الفقهي العام: (فالديون في الذمم هي حقوق شخصية مملوكة لأصحابها, والتزامات على من هي في ذممهم).

ولكن قال فقهاء الحنفية: (إنَّ الدَين: هو وصف في الذمة)(1).

ومن أجل ذلك اختلفوا؛ هل يعتبرون ملكاً لصاحبه وهو في الذمة, أو لا يعتبرون لأنَّه مجرد وصف شرعي؟.

وقد رجَّح العلماء منهم النظر الأول, فقالوا: الحقُّ أنَّه يُملك, واستدلوا عليه بالتالي:

أولاً: جواز هبة الدين للمدين؛ وهي تمليك.

ثانياً: إعتبار الدَين المشترك من قبيل شركة الملك, حتى لو أخذ أحد الشريكين فيه من المدين شيئاً عن حصته يشاركه فيه الآخر.

ثالثاً: إنَّ الفقهاء قد يصفون الدَين بأنَّه مال حكمي, أي شيء اعتباري يملكه الدائن وهو موجود في ثروة المدين, فيصحُّ أنْ يُقال أنَّ الدَين عند الفقهاء مالٌ من حيث المال.

وقال أيضاً الأستاذ مصطفى الزرقاء: (والدَين في الفقه الإسلامي يعبر به في الأصل عن الناحية السالبة في الإلتزام النقدي أو ما في حكمه, أي عن الإلتزام الملتزم بدفع نقود وما في حكمها من الأموال المثلية التي تثبت في الذمة, كمن اقترض مثلياً أو أتلفه؛ فإنَّه يكون ملتزماً بمثله دَيناً في ذمته, وعليه وفاؤه من الأموال العينية المماثلة للثابت في الذمة)(2).

والمتحصل من جميع ذلك:

1- إنَّ القرض؛ بل مطلق الدَين في الإصطلاح الفقهي يطلق على المال الذي اشتغلت به ذمة المدين؛ وهو المتعارف عليه في عبارة الفقهاء.

ص: 267


1- كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم؛ ج1 ص814.
2- المدخل الفقهي العام؛ ج 3 ص 168.

2- إنَّ القرض يطلق على ذمة المدين ولكن بمعنى ما تتعهد به وتلتزم من ردّ البديل للدائن, ويعبّر عن هذا بالوصف كما في التعريف الحنفي, أو بالحقِّ كما في تعريف القانون المدني المصري, أو بالمال الحكمي, أي الإعتباري على رأي فقهي آخر.

3- إنَّ المال له نوعان؛ عيني خارجي, واعتباري فرضي وهو ما في الذمم, أي العهدة أو الإلتزام.

4- بيع ما في الذمم من المال له أحكام خاصة بعض أقسامه يكون باطلاً, وسيأتي بيانها في كتاب البيع إنْ شاء الله تعالى.

5- الإقتصاد العالمي -ومنه الإقتصاد الإسلامي- يقوم أغلب معاملاته المالية على بيع الدَين والقرض, ولا بُدَّ من تطبيقها على مقررات الشريعة الإسلامية لئلا تستغل المعاملات المالية في الإقتصاد الإسلامي من قبل الإقتصاد العالمي ويوجب ضعفه.

المصداق الخامس: الحقوق
اشارة

جمعٌ مفرده الحقُّ, وقد عُرّف في اللغة ب-(النصيب الواجب للفرد والجماعة)(1). وفي الفقه له معاني. وأمّا ما يرتبط بموضوع بحثنا فقد ذكروا له تعاريف:

1- إنَّه نحو من السلطنة في مقابلة الملك؛ كما يظهر من الشيخ الأنصاري قدس سره.

2- إنَّه مرتبة ضعيفة من الملك أو أول مراتب الملك؛ كما عليه معظم الفقهاء.

3- إنَّه سلطنة وملك, فيكون الحقُّ والملك والسلطنة معنىً واحداً وإنْ كان الحقُّ أخصّ منهما.

4- إنَّه الملكية غير الناضجة.

ص: 268


1- الإفصاح؛ ج1 ص248.

والصحيح أنْ يُقال: إنَّ جميعها يرجع إلى ملاك واحد وهو: إنَّ العلقة والإضافة الحاصلة بين المضاف والمضاف إليه إنْ كانت تامة صالحة لأنحاء التقلبات تسمى ملكاً, وإنْ كانت ناقصة لا تصلح إلا لنحو من التغلب لقصور في نفسها أو متعلقها تسمى حقَّاً. وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً؛ فراجع.

ومتعلقه قد يكون مالاً, أو شخصاً, أو هما معاً كالعين المستأجرة, فإنَّ للمستأجر سلطنة على المؤجر في حاله الخاص. وقد يكون من عليه الحق موجوداً وقد يكون معدوماً.

وكيف كان؛ فالحقُّ يقع أيضاً مورداً للمعاملات المالية, ويكون إمّا عوضاً أو معوضاً, ولكن عرفت مِمّا ذكرناه في بحث الحقّ أنَّ الحقوق ليست كلها قابلة لأنْ تقع مورد المعاملة؛ فراجع.

وبذلك نُنهي الكلام في مفردات المال ومصاديقه في الفقه والقانون.

والذي ينبغي أنْ يُقال: إنَّ الفقهاء يتَّفقون على أنَّ الأعيان والنقود مال, ويختلفون في ما سواهما؛ فقد ذهب بعضهم إلى إضافة المنافع إليها فتصير المفردات ثلاثة: الأعيان والنقود والمنافع.

وذهب آخر إلى إضافة القروض فتصير المفردات أربعة.

وذهب ثالث إلى جعلها خمسة؛ بإضافة الحقوق.

ولمّا قلنا بأنَّ مالية الشيء تتقوم باعتبار العرف وتحليل الشرع؛ فالعرف يختلف في مثل تلك الأمور من مجتمع لآخر ومن عصر إلى سواه, فيكون المرجع هوالعرف؛ فما يعدّه مالاً يعتدُّ به مالاً, إلا إذا ألغى الشارع المقدس ماليته؛ وسيأتي تفصيل ذلك.

ولا ريب أنَّ الإقتصاد العالمي المعاصر قد أعطى أهمية كبيرة للمال واعتبره الأصل والقاعدة في اقتصاده, بخلاف الإسلام؛ فإنَّه وإنْ جعل للمال أهمية خاصة إلا أنَّه حدَّده بحدود الدين والأخلاق.

ص: 269

المعاملة المالية

لمّا وقع البحث عن المال ومفرداته ينبغي البحث عن وقوعه طرفاً للمعاملة, ويسمى المعاملة المالية. وقد تقدم تعريف المال بأنَّه كلُّ شيء يعدُّه العرف مالاً, ويحلّ التعامل به شرعاً.

وأمّا المعاملة فهي عقد يتمُّ باتفاق طرفين والتزامهما بمضمونه وتعهدهما بالوفاء به.

وفي الفقه؛ هي عقد شرعي قوامه المال.

تصنيف المعاملة المالية

لا ريب أنَّ العقود على أنواع, وهي تختلف من حيث الأحكام والآثار المترتبة عليها, والذي يميز العقود بعضها عن بعض إنَّما هو محلُّ العقد, أي المعقود عليه.

وسوف يأتي في مبحث نظرية العقد مقومات العقد في الفقه الإسلامي, وهي:

* طرفا العقد (الموجب والقابل).

* محلُّ العقد (المعقود عليه).

* موضوع العقد (أثر العقد).

* ركنا العقد (الإيجاب والقبول).

والذي يكون سبباً في تمايز العقود إنَّما هو محلُّ العقد؛ فإنَّه إمّا أنْ يكون المالَ أو غيره, ففي عقد البيع هو المبيع, وهو الموهوب في عقد الهبة, والمرهون في عقد الرهن, والمتعة الجنسية المشتركة في عقد النكاح, إلى غير ذلك.

وعليه؛ تكون المعاملة المالية هي كلُّ معاملة يكون محلُّ العقد فيها هو المال, كما هو مقتضى تقييدها بالمالية؛ فإنَّ المعاملة التي لا يكون المعقود عليه هو المال لا تدخل تحت هذا العنوان. كعقد النكاح وإنْ اشتمل على عنصر المال الذي هو المهر, لأنَّه ليس هو المعقود عليه, وإنَّما

ص: 270

المعقود عليه في هذا العقد هو المتعة الجنسية المشتركة, فتكون المعاملة المالية صنف من أصناف المعاملات, وإنَّما تتميز بأنَّ المعقود عليه فيها هو المال.

أقسام المعاملة المالية

لا ريب أنَّ المعاملات المالية الدائرة في حياتنا الراهنة لها جهات كثيرة تنقسم بحسبها, فتكون أقسامها راجعة إلى تلك الحيثيات. والذي يرتبط بموضوع البحث -وهو الإقتصاد- هو التقسيم من ناحية قِدم بعضها وحداثة بعضها الآخر.

القسم الأول: هي تلك المعاملات الموروثة من عصور سابقة تضرب جذورها إلى عصر التشريع. ويطلق عليها عنوان المعاملات القديمة.

القسم الثاني: هي المعاملات الجديدة التي أفرزها التطور الإقتصادي في كلِّ المجالات كالتجارة والزراعة والصناعة, وأمثال عقود التأمين والنقل, وأمثال المؤسسات المالية الكبيرة كالبنوك والشركات المساهمة.

ولا ريب أنَّ موقف التشريع الإسلامي من المعاملات القديمة واضح؛ فإنَّه عندما جاء كانت في المجتمعات المعاصرة لعصر التشريع معاملات قائمة ذات أنظمة معينة مستفادة إمّا من الشرائع الإلهية السابقة على الإسلام, أو حاصلة من التجارب والعادات والعرف القائم حينئذ, ووظيفة التشريع هي تنظيم العلاقات الإجتماعية على اختلاف أنماطها واتّجاهاتها الإقتصادية وغيرها بما يرجع إلى تحقيق المصلحة أو درء المفسدة, أو بما يجلب النفع ويدفع الضرر, فاتَّبع التشريع الإسلامي في توفير هذا الغرض الخطوات التالية:

أولاً: إعطاء المشروعية لبعض هذه المعاملات وإمضائها, وذلك إمّا بتحليلها وتجويز التعامل بها, وإمّا بعدم الردع عنها.

ثانياً: سلب المشروعية عن بعضها الآخر, وذلك بتحريمها والردع عن التعامل بها.

ص: 271

ثالثاً: تهذيب بعض المعاملات القديمة, وذلك إمّا بإضافة عنصر إليها -جزءً أو شرطاً-, أو بحذف شيء منها, أو غيرهما, ثم الإعلان عن مشروعيتها وتجويز التعامل بها بالصورة المهذبة, وتحريم التعامل بها بصورتها القديمة غير المهذبة؛ كما بالنسبة إلى البيع والتجارات الدائرة بينهم؛ ففي البيع قال تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)(1), فأعطى المشروعية لمعاملة البيع وسلبها من معاملة الربا.

التشريعات التي ترتبط بالدَين في آية الدَين

وبالنسبة إلى معاملة الدَين والقرض فقد ورد في أطول آية في القرآن الكريم من سورة البقرة أروع التشريعات التي ترتبط بتهذيب هذه المعاملة, قال المقداد السيوري: (ففي الآية أحد وعشرون حكماً, بل ربَّما يذكر فيها فوائد تزيد على ذلك)(2), ونحن نذكرها مع شيء من التصرف:

1- إباحة الإستدانة؛ لأنَّها مِمّا قد يضطَّر الإنسان إليه في حياته, فتكون سائغة, ولأنَّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم استدان, وكذا أمير المؤمنين علي علیه السلام وسائر الأئمة علیهم السلام .

2- إباحة التأجيل؛ لقوله تعالى: (إِلَىٰ أَجَلٍ)؛ لأنَّ الدَين حقٌّ يثبت في الذمة, فهو أعم من المؤجل وغيره.

3- وجوب كون الأجل مضبوطاً؛ لقوله تعالى: (مُسَمًّى)؛ كاليوم والشهر والسنة لا ما يحتمل الزيادة والنقيصة كقدوم الحاج, وإدراك الثمرة.

4- الأمر بكتابة الدَين؛ لئلا يذهب مال المسلم بعوارض كالنسيان والموت والحجور.

5- وجوب كون الكاتب أميناً؛ لقوله تعالى: (بِالْعَدْلِ)؛ وهي صفة, أي كونه موصوفاً بالعدل كي لا يزيد ولا ينقص أو يفعل خلاف ما تراضى به المتعاملان.

ومنه يعلم اشتراط كونه ذا علم ودراية بدقائق المعاملات ليكمل المقصود منها.

ص: 272


1- سورة البقرة؛ الآية 275.
2- كنز العرفان؛ ج2 ص46-56.

6- وجوب كتابة الدَين وجوباً كفائياً؛ لقوله تعالى: (وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ)؛ فإنَّ النهي للتحريم كما قيل.

بل قيل بأنَّه فرض عين مع عدم غيره مِمَّن له علم بها أو مع ضرر صاحب الدَين بترك الكتابة.

وقيل: كانت واجبة عيناً فنسخت بقوله تعالى: ( وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ).

ولكن المعروف عند فقهائنا أنَّها مستحبة لأنَّها من مصاديق التعاون على البرّ؛ فيشمله قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ)(1), وواجبه على الكفاية ليتمّ نظام النوع.

7- إنَّ قوله تعالى: (كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ) هو متعلق ب- (يَأْبَ)كما قيل, أي: لا يأبَ كاتبٌ أنْ يكتب كما علّمه الله تعالى, فيكون (فَلْيَكْتُبْ) أمراً بعد النهي تأكيداً.

ويحتمل أنْ يكون متعلقاً بالأمر, أي (أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ), فيحتمل حينئذٍ معنيين:

أحدهما؛ كما علمه الله تفضلاً منه, فليتشبّه بأخلاق الله تعالى, وليتفضل بكتابة الدَين, كما تفضّل الله عليه, من قبيل قوله تعالى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(2).

والمعنى الآخر: أمره بأنْ يكتب كما علّمه الله تعالى من الفقه في تلك المعاملة, بحيث لا يكتب شيئاً يخالف مقتضاها مِمّا فيه ضرر أو بخس على المتعاملين.

فعلى الإحتمال الأول يكون الأمر للندب, وعلى الثاني يكون للوجوب.

كما إنَّه على الأول يكون النهي السابق مقيداً, وعلى الثاني يكون مطلقاً.

ص: 273


1- سورة المائدة؛ الآية 2.
2- سورة القصص؛ الآية 77.

8- قوله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ)؛ الإملال والإملاء بمعنى واحد وقد ورد كِلاهما في القرآن الكريم, وإنَّما وجب كون المملي هو الذي عليه الحقّ, لأنَّه المشهود عليه. ويجب عليه تقوى الله فيما يملله, ولا يبخس من الحقِّ الذي عليه شيئاً, والبخس هو النقص.

9- قوله تعالى: (فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَيَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)؛ ففيه: إنَّ السفيه: هو المبذر الذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصحيحة أو ينخدع في المعاملة, والضعيف: أي في العقل؛ بأنْ كان صبياً أو كبيراً لا عقل له. والذي لا يستطيع الإملاء: فهو إمّا الأبكم أو الأخرس؛ فليملل أولياء هؤلاء.

10- (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ)؛ وفيها دلالة على اشتراط الإثنينية في الشهادة بالدَين, فيدلُّ على عدم قبول الواحد, أمّا مع انظمام اليمين من المدَّعي فيقبل في فقهنا.

11- (من رِّجَالِكُمْ)؛ أي من المؤمنين, ويفهم منه أمران؛ أحدهما: إشتراط البلوغ في الشاهد لمكان ذكر الرجال, فلا تقبل شهادة الصبي, ويدخل المجنون بطريق أولى لعدم تعقله.

والآخر: إشتراط الإيمان؛ فلا تقبل شهادة الكافر إلا على تفصيل في الوصية.

12- (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)؛ وفيها الدلالة على جواز شهادة النساء منضمّات إلى الرجال, لكن في الديون والمعاملات وكلُّ ما يقصد فيه المال.

13- (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء)؛ أي من الرجال والنساء المرضيين في الدِّين, وهم العدول, فإنَّ الفاسق غير مرضي.

ص: 274

14- ( وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ)؛ قيل: إذا ما دعوا في التحمل والأداء معاً. وقيل في التحمل فقط. وقيل في الأداء فقط.

والأنسب لسياق الآية هو القول الثاني لأنَّ الكلام في التحمل لا في الأداء -الإقامة- وإنْ كان القول الأول له وجه وجيه؛ للإطلاق.

والنهي عن الإباء يستلزم الأمر بالتحمل لكنه على فرض الكفاية, وقد يكون فرض عين إذا لم يوجد غير الشاهدين.

15- (وَلاَ تَسْأَمُوْاْ)؛ أي لا تملّوا. (أَن تَكْتُبُوْهُ)؛ أي تكتبوا الدَين. (صَغِيرًا)؛ أي سواء كان الدَين قليلاً أم كثيراً.

وفيه الدلالة على استحباب كتابة الدين والإشهاد به, وذلك لأسباب ثلاثة:

الأول: إنَّه ( أَقْسَطُ عِندَاللّهِ)؛ أي أعدَل.

الثاني: إنَّه (وَ أَقْومُ لِلشَّهَادَةِ)؛ أي أعون لها, لأنَّ المكتوب أبعد من الزوال والنسيان.

الثالث: إنَّه (وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ)؛ أي أقرب في انتفاء الريب والشكّ, لأنَّ عدم الكتابة سبب لريب أحد الغريمين في أنَّه صادق أو كاذب.

16- (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً)؛ إستثناء من الأمر بالكتابة إذا كانت المعاملة بينكم تجارة حاضرة يداً بيد من غير غَيبة لأحد العوضين فليس عليكم جناح إنْ لم تكتبوا تلك المعاملة, فإنَّه لا يحتمل فيها شكٌّ استقبالي.

17- (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ)؛ فيما إذا لم تكن المبايعة بالدَين حتى لا يلزم التكرار.

وإنَّما أمر بالإشهاد عند المبايعة إرشاداً إلى رعاية مصلحتها وإذ لولاه كان مظنة التحريف والنزاع في كمية أحد العوضين أو شرط أو خيار أو بندم أحد المتابعين على البيع.

ص: 275

18- (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ)؛ وفيه قراءتان يختلف المعنى من أجلهما:

إحداهما: ( وَلاَ يُضَآرَّ) بالإظهار والكسر, والبناء للفاعل, وهي قراءة أبي عمرو.

وعليها يكون المعنى: لا يجوز وقوع المضار من الكاتب بأنْ يمتنع من الإجابة, أو يحرّف بالزيادة والنقصان وكذا الشهيد لا يمتنع إذا دعي للتحمل أو الإقامة ولا يكتم شيئاً مِمّا شهد به أو يزيد أو ينقص بما فيه ضرر على المشهود به.

وثانيهما: ( وَلاَ يُضَآرَّ) بالإدغام والفتح والبناء للمفعول, وهي قراءة الباقين.

وعليها يكون المعنى: لا يفعل بالكاتب والشهيد ضرر بأنْ يكلفهما قطع مسافة فيها مشقة من غير تكلّف مؤونتها, أو لا يعطي الكاتب أجرته وافية أو غير ذلك من أسباب المضارة.

19- ( وَ إِن تَفْعَلُواْ )؛ تلك المضار على أحد التقديرين (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)؛ أي خروج عن أوامر الله سبحانه.

20- (وَاتَّقُواْ اللّهَ)؛ أي: إعتمدوا التقوى في كلِّ ما أمركم الله تعالى به في أمور دينكم ودنياكم.

21- (وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)؛ أي: هذه الأحكام المذكورة كلُّها من تعليم الله تعالى لكم ترجع إلى مصالحكم وسعادتكم, فلا ترتابوا في شيء من ذلك لأنَّه بكل شيء عليم. وفي ذلك دلالة على أنَّ الأحكام كلُّها بتعليم الله سبحانه وتعالى.

ومن هذه الآية وأمثالها التي وردت في كيفية اكتساب المال واستخدامه والإنتفاع به نستفيد موقف الإقتصاد الإسلامي من المال والمعاملات المالية؛ فإنَّهما إنَّما جعلهما الله تعالى وشرَّع لهما الأحكام من أجل إسعاد الإنسان في عيشه وحياته الدنيوية ورعاية مصالح الناس, ومن أجل تقوية الجانب الأخلاقي في الإنسان, والإهتمام بالجانب العقائدي لئلا

ص: 276

يشتغل الإنسان بكسب المال فقط ويهتم بالجانبالمادي فقط ويتغافل عن الجانب المعنوي فيكون من مصاديق قوله تعالى: (أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ)(1)؛ همُّها الأكل والفساد.

وقد استفاد الفقهاء من المفردات الواردة في تلك الآيات الشريفة النظام الخاص بالإقتصاد الإسلامي وقاموا باستخراج القوانين والقواعد المتعلقة بالمعاملات وشرحوا مصطلحاتها وعناصرها ومقوماتها وأجزائها وشروطها ودرسوا باهتمام الآثار والنتائج المترتبة عليها, ثم إنَّه تقدم أنَّ المعاملات تتميز من حيث محلّ المعقود, ولها أقسام عديدة في الفقه؛ كالبيع والقرض والربا والإجارة والمضاربة والشركة والهبة والرهن ونحو ذلك.

هذا كلُّه موقف الإسلام من المعاملات القديمة.

أمّا موقفه من المعاملات الجديدة فقد تصدَّى بعض الفقهاء لبيان بعض أحكامها, لكن لا تصل إلى مستوى ما تطورت اليه تلك المعاملات في الإقتصاد العالمي.

وسوف يأتي البحث عنها مفصلاً بما يوافق متطلبات التطور, كما سيأتي بيان الفارق بين ما يقتضيه البحث في المعاملات القديمة, وينطلق البحث في المعاملات الجديدة. وهما من الفوائد التي نستفيدها من هذا التقسيم.

موقع المعاملة المالية في حركة المال

من المعلوم أنَّ المال لا يتحرك بين الناس أفراداً ومؤسسات إلا في ضمن عملياته المعروفة التي تتمثل فيها حركة تنقله, وهذه العمليات هي:

أولاً: الإنتاج

ويراد به: إستثمار ما في الطبيعة من ثروة؛ إمّا عن طريق الزراعة أو الصناعة أو الإستخراج, ونحو ذلك.

ص: 277


1- سورة الأعراف؛ الآية 179.

عناصر الإنتاج

وهي إقتصادياً: الأرض ورأس المال والعمل والتنظيم.

ويقصد بالأرض: الطبيعة ذات الريع بكل أبعادها وأجوائها.

ويقصد برأس المال: النفقة التي تبذل في عملية الإنتاج.

ويقصد بالعمل: الأيدي العاملة.

ويقصد بالتنظيم: خلق قيمة معينة, وذلك بإضافة عنصر المنفعة أو الفائدة.

وقد ينظم تلك العناصر عنصر المنفعة أو الفائدة إلى الشيء المنتوج بغية إعداده للإنتفاع به في عملية التبادل, وذلك بإيصاله إلى المستهلك أو بتنمية رأس المال لزيادة الثروة.

ثانياً: التداولويراد به: إنتقال المنتوج من مالكه إلى آخر عن طريق التبادل بنقود أو بأعيان أو منافع أو حقوق. والتبادل أو المبادلة هو المعاملة, وعن طريق التبادل يأخذ المنتوج أحد الطرق المذكورة في الكتب الفقهية في قسم المعاملات.

ثالثاً: التوزيع

ويراد به: إيصال المنتوج إلى المستهلك.

رابعاً: الإستهلاك

ويراد به: إنتفاع المستهلك بالمنتوج في تلبية احتياجاته الخاصة.

وهذا هو الطريق المتَّبع في الإقتصاد العالمي؛ حيث يعتمد على تحريك المال بالكيفية المذكورة, وقد حدد الشرع لكلِّ واحدٍ منها أحكاماً وآداباً تنصبّ في تخليص تلك عن السلبيات وتحديد أهدافها والغاية من ممارساتها التي ترجع إلى صلاح الإنسان وإسعاده وتنظيم شؤونه من حيث الجانب المادي والمعنوي.

ص: 278

والأجدر بالفقهاء تقسيم الفقه المعاملي على ضوء هذه العمليات ليواكب التطور الحاصل في هذه المجالات. وهناك طريقان آخران في هذا المجال -وهو تحريك المال- هما:

1- تنمية المال.

وذلك باستمرار تحركه داخل دائرة الإنتاج والتداول.

2- تخزين المال.

فإنَّ المشروعات تلجأ أحياناً إلى الإحتفاظ بمخزون من الكمية المنتجة لأسباب عديدة؛ منها: الرغبة في تأجيل بيع جزء من الإنتاج لفترة زمنية آجلة بأمل انتعاش الأثمان.

ومنها: الوفاء ببعض الطلبات غير المتوقعة دون الحاجة إلى زيادة الإنتاج.

ومنها: الرغبة في المحافظة على ثمن السلعة والهبوط(1).

ومن جميع تلك الطرق تحدث ظاهرة التبادل في حركة المال.

مجال البحث في المعاملات المالية

يقع البحث في المعاملات المالية في المجالين التاليين:

المجال الأول: الفقه؛ إنَّ الفقهاء يتناولونها من منطلقين:

1- دراسة النصوص الشرعية للمعاملات القديمة بدقَّة وإتقان, واستنتاج القواعد العامة والأحكام الشرعية منها؛ مضافاً إلى دراسة الإعتبارات العرفية للمعاملات العرفية, وتطبيق مؤديات النصوص على الواقع كما تقدم بيانه في ضمن بحوثنا المتقدمة.

2-دراسة واقع المعاملات الجديدة من خلال اعتباراتها العرفية, ومعرفة ما يوافق الشريعة منها وما يخالفها في تشريعاتها المعاملاتية من خلال المبادئ الإسلامية العامة والقواعد التي يمكن تطبيقها على مثل هذه المعاملات.

ص: 279


1- أسس علم الإقتصاد (إسماعيل محمد هاشم وعبد الرحمن يسر)؛ ص 200.

المجال الثاني: القانون

من المعلوم أنَّ المشرعين إنَّما يتناولون تلك المعاملات من منطلقين وهما: العرف والتشريع؛ لما تقدم في بحوثنا السابقة من أنَّ العرف من أهم مصادر القانون المدني, واعتبار ما درج الناس على اتّباعه, لأنَّ القانون هو ثمرة ظروف البيئة التي ينشأ فيها, فمن الطبيعي أنْ يكون للعرف الصدارة على باقي مصادر القانون(1).

ثم التشريع؛ وهو إجتهاد المشرع القانوني في إطار أصول القانون ومبادئه.

ولكن ذكرنا أنَّ القانون يعتبر من العناصر المهمة في الإقتصاد العالمي المعاصر, إلا أنَّ التشريع الإسلامي له الحكومة على تهذيب تلك القوانين الوضعية بما يوافق أحكام الشريعة الإسلامية.

ومن أجل ذلك لا بُدَّ من الرجوع إلى المنهج التشريعي الإسلامي الذي يتَّبع في الفقه الإسلامي دراسته بدقَّة وإتقان.

والمعروف عند العلماء أنَّ المنهج الفقهي يتبع خطوات معينة في سبيل تقنين تلك المعاملات المالية وتشخيص وتحديد موضوعها ومعرفة حكمها وآثارها؛ فيقع الكلام في هذا المنهج.

المنهج الفقهي

ويتمثل في المقام بالخطوات التالية:

أولاً: إعتبار العرف

والمراد به: أنْ ينظر الفقيه إبتداءً إلى ما درج عليه الناس على المعاملة, وكيفية التعامل معها حتى أصبح عرفاً بينهم, بمعنى ما تعارفوا عليه والتزموا به؛ وذلك ليتسنّى للفقيه تشخيص الموضوع ومعرفة شؤونه وملابساته.

ص: 280


1- المبادئ القانونية العامة (ط.4) (أنور سلطان)؛ ص 86.

ثانياً: النصوص الشرعية

وهو مِمّا يتحقق في ضمن أمور:

الأمر الأول: جمع الروايات الواردة في المعاملة ودراستها بدقَّة وإتقان والبحث فيها بشكل خاص, فإنَّ الفقيه بذلك يفهم معطياتها وحدود انطباقها على مفردة بحثه.

الأمر الثاني: مقارنة النتائج التي توصل إليها من ملاحظة الأمر السابق وكيفية تعامله مع النصوص بواقع الإعتبارات العرفية؛ فما وافق الروايات مع الإعتبارات يؤخذ به, وما خالفها يطرح.

الأمر الثالث: تطبيق القواعد العامة المسلمة في الفقه على تلك الإعتبارات.والمراد بالقواعد العامة:

1- العمومات والإطلاقات؛ التي بالرجوع إليها يستظهر الفقيه حكم المعاملة عند الشكِّ أو الجهل به, أمثال قاعدة الحلّ.

2- القواعد الفقهية؛ التي استنبطها الفقهاء من النصوص والأعراف العامة, أمثال قاعدة الوفاء بالعقود وقاعدة اللزوم وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ونحو ذلك.

ولا ريب أنَّ الرجوع إلى هذه القواعد العامة إنَّما يصحّ فيما إذا لم يوجد نص شرعي خاص يخصُّ المعاملة المبحوث عن حكمها, كما هو الشأن في بعض المعاملات المالية المستحدثة التي لا تلتقي مع شيء من معاملاتنا القديمة.

قال الشيخ كاشف الغطاء: (ونحن حيث نتكلم في أحكام العقود والمعاملات ننظرها من جهتين؛ وجهتها العرفية, ووجهتها الشرعية؛ فنأخذ بالإعتبارات العرفية بوجه عام, ثم نعقبه بالنظر في الأدلة الشرعية وما لها من التصرف الخاص من منع باتّ, أو اعتبار بعض

ص: 281

القيود والخصوصيات فنتبعه إنْ كان, وإلا فالعمومات تلزمنا بما عليه العرف العام في معاملاتهم)(1).

وقد تقدم في المباحث السابقة ما يرتبط بكيفية التعامل مع العرف, وذكرنا أنَّه إنَّما نتعامل مع العرف بشرط أنْ لا يكون مخالفاً لحكم شرعي ثابت, ولا يكون تابعاً لعادات تخالف النواميس الإلهية وروح الشريعة الدينية؛ كما هو الأمر كذلك في كثير من الأعراف والعادات في عصر النهضة.

تقسيم فقه المعاملات

ذكرنا أنَّه إذا أردنا أنْ نواكب التطور الحاصل في تحريك المال في ضمن عملياته المعروفة فلا بُدَّ أنْ نطرح تقسيماً جديداً لفقه المعاملات لنواكب هذا التطور الهائل لئلا تتَّسع الفجوة بين الفقه الإسلامي وحركة الإقتصاد بالنسبة للمال وحركته, ونحن نطرح تقسيماً جديداً يمكن أنْ نستوعب ذلك على الإجمال ويرجع التفاصيل إلى آراء الفقهاء فنقول أنَّ تقسيم المعاملات على ما يلي:

الأول: العقود التي ترتبط بالإنتاج هي:

1- عقد المزارعة.

2- عقد المساقاة.

3- إحياء الموات والشركات.

4- عقد الإجارة بالنسبة إلى الأعمال.

5- المضاربة.

6- عقد الإستصناع.

ص: 282


1- تحرير المجلة؛ ج1 قسم 1ص11.

الثاني: العقود التي ترتبط بالتداول هي:1- عقد البيع.

2- عقد الإجارة بالنسبة إلى الأعيان.

3- عقد الشفعة.

4- عقد الجعالة.

5- عقد الشركة.

الثالث: العقود التي ترتبط بالتوزيع هي:

1- عقد الحوالة.

2- عقد الهبة.

3- عقد الدين والقرض.

4- عقد الجعالة.

5- عقد الضمان.

الرابع: العقود التي ترتبط بالإستهلاك هي:

1- عقد التأمين.

2- عقد المضاربة.

الخامس: العقود التي ترتبط بتخزين بالمال هي:

1- عقد الوديعة.

2- عقد الرهن.

3- عقد الضمان.

ص: 283

السادس: العقود التي ترتبط بتنمية المال هي:

1- عقد المضاربة.

2- عقد الشركة.

3- عقد البيع.

4- ما يرتبط بالمؤسسات المالية والبنوك.

5- ما يرتبط بالنقل والمواصلات.

6- ما يرتبط بالنقود والسياسة النقدية.

7- ما يرتبط بالملكية التجارية والصناعية والتجارية.

8- ما يرتبط بالوقف والوصية ونحوهما.

وهناك بعض العقود تتعدد الجهات فيها فيمكن إدراجها في أيِّ واحد من تلك العناوين كما لا يخفى.

ثم إنَّه بعدما ظهر تعريف المال وتحريكه في عملياته المعروفة والتي منها المعاملة المالية وتبين تعريفها وكيفية إستفادة أحكامها وشروطها وآدابها وآثارها وموقعها بالنسبة إلى مطلق المعاملات, وذكرنا أنَّها على الإجمال عقد شرعيقوامه المال, وتبين لنا الأمور التي ترتبط بهذا الموضوع وهو المعاملات المالية التي هي متعددة, وذكرنا بعضها في مباحثنا السابقة, وأهمها هي العناوين التالية:

1- نظرية العرف.

2- نظرية الملك.

3- نظرية الحقّ.

4- نظرية الذمة.

5- نظرية العقد.

ص: 284

وقد تقدم البحث بما يتعلق بالعناوين الثلاثة الأولى مفصلاً(1).

أمّا البحث في العنوانين الأخيرين(2) إنَّما يكون في حدود ما يرتبط بمطلق المعاملة؛ مِمّا يساعد على معالجة أبعادها وشؤونها وملابساتها, والتفصيل يأتي في مواقعها.

نظرية الذمة
اشارة

لا بُدَّ من تعريف الذمة لغوياً وفقهياً وقانونياً:

الذمة (لغةً)

ذكر أرباب المعاجم اللغوية لكلمة (الذمة) أكثر من معنى؛

فمنها: العهد. وعُلِّل ذلك بأنَّ كلَّ حركة يلزمك من تضييعها الذمّ, فإنَّ نقض العهد يوجب الذمّ(3).

ومنها: الأمان.

ومنها: الكفالة. عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (المسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهم)(4).

ومنها: الحقّ.

ومنها: الحرمة. ففي الحديث عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله)(5).

ص: 285


1- نظرية العرف ونظرية الملك ونظرية الحقّ.
2- نظرية الذمة ونظرية العقد.
3- كتاب الكليات؛ فصل الذال, الذمة, ج2 ص346.
4- وسائل الشيعة؛ ج 15 ص 69.
5- لم ترد هذه الرواية من طرقنا, وإنَّما وردت في مسند إبن حنبل؛ ج36 ص392.

ومنها: الأمانة.

ومنها: الإعتقاد. قال أبو الفتح البستي:

ولا تقتلوه إنَّني أنا عبده *** وفي ذمتي لا يقتل الحرُّ بالعبدِ

في ذمتي بمعنى: في اعتقادي.ومنها: الضمان. يقال أنت في ذمة الله. أي في عهدته بمعنى مسؤوليته في حفظك ورحمتك.

ولكن المستفاد من مجموعها أنَّ تلك المعاني ترجع إلى معنى واحد وهو الإلتزام. وتلك تكون من لوازمه, فإنَّه من الواضح أنَّ مخالفة الإلتزام تستوجب الذَّم, وباعتبار ذلك سميت ذمة.

والذمة مفردٌ جمعها (أذمة) و(ذمام) و(ذمم).

الذمة في القانون

ذكرت الدارسات القانونية الذمة ولكنها انصبَّت على الذمة المالية؛ فقد عرفها علماء القانون بأنَّها: مجموعة الحقوق والإلتزامات لشخص ما(1).

ولكن هذا من تعريف المحلِّ بالحالّ.

وقيل بأنَّها: ما للشخص وما عليه من أموال وديون منظوراً إليها كلّها كمجموع.

ولكن هذا التعريف يرجع إلى النظرة التقليدية التي وضعها فقيهان من فقهاء القانون هما: (أوبري) و(رِوُ) وتختص بالذمة المالية.

وكيف كان؛ فإنَّ المراد بالأموال جميع الحقوق المالية؛ عينية وشخصية, بنوعيها المادي والمعنوي, فلا تشمل الذمة المالية الحقوق غير المالية.

وعليه؛ يشترط في الديون أنْ تكون ذات قيمة مالية ولا تتعدى إلى غير المالية.

ص: 286


1- معجم المصطلحات الفقهية والقانونية؛ ص171.

كما أنَّ المقصود بقولهم (كمجموع) أنَّ الذمة المالية تقوم على فكرتين رئيسيتين هما:

1- إندماج عناصر الذمة المالية في مجموع من المال.

2- إندماج الذمة المالية في شخصية صاحبها.

وفي الوسيط شارحاً عناصر الذمة المالية من حقوق وديون: (لا يُنظر إليها عند تصور الذمة المالية على أنَّها عناصر منفصلة بعضها عن بعض لكلِّ عنصر منها ذاتيته وكيانه الخاص به, بل ينظر إليها على أنَّها جميعاً مندمجة في كلٍّ لا يتجزأ, فتفنى ذاتية هذه العناصر في المجموع الذي تكوّنه, وتصبح كلها مجموعاً من المال .....

إنَّ هذا المجموع من الحقوق والديون الذي هو الذمة المالية لم يقم كوحدة فنيت فيها عناصرها فاستغرقتها جميعاً, لأنَّ الذمة المالية قد اندمجت في شخصية صاحبها وأصبحت امتداداً لهذه الشخصية وصورة منطبعة منها, فكما أنَّ الشخصية واحدة لا تتعدد؛ كذلك الذمة المالية وحدة لا تتجزأ)(1).ولعل الوجه في اعتبار الوحدة في عناصر الذمة المالية والذمة الشخصية لنفي تعدد الذمم حسب تعدد الديون والحقوق التي في الذمة ومع أنَّ الشخصية واحدة فلا تعدُدَ في وقتها.

ولكن سيأتي أنَّ التعريف الفقهي يستدرك ذلك, فلا حاجة إلى ما يرشد إليه.

وكيف كان؛ فإنَّ ما ذكره فقهاء القانون هو السبب في تعدد التعريف للذمة, وتردده بين المفهومين التاليين:

المفهوم الأول: صلاحية الشخص لأنْ تكون له حقوق وعليه واجبات.

المفهوم الثاني: مجموعة الحقوق والديون التي للشخص وعليه.

حيث كانت عملية الدمج بين الشخص والمال هي منشأ التردد المزبور.

ص: 287


1- الوسيط؛ ج 8 ص 227- 232.

والمراد بالشخص -هنا- الشخص الطبيعي والشخص المعنوي, قال السنهوري: (فالحقوق والدين يجب أنْ تسند إلى شخص طبيعي أو معنوي يكون مالكاً لها وملتزماً بها)(1).

وكيف كان؛ فإنَّه إذا أخذنا الذمة بمعنى الصلاحية أو الصلوح لتحمل العهدة -كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى- فإنَّ مجال تملك الشخص والتزاماته عن طريق ذمته المالية تكون متعددة, ويترتب عليه:

1- الضمان العام للدائنين.

2- إنتقال تركة المورث إلى الوارث بما عليها من ديون.

3- ما يعرف بالحلول العيني, وهو: خروج مال من ذمة شخص ودخول مال آخر في نفس الذمة بدلاً من المال الذي خرج, فيحل المال الجديد محل المال القديم ويسري عليه نفس النظام القانوني الذي كان سارياً على المال القديم(2).

والحاصل: إنَّ الذمة المالية القانونية تتمثل في صلاحية وقدرة الشخص على تحمل المسؤولية القانونية بشأن العلاقة القائمة بينه وبين المال حقاً أو ديناً.

الذمة في الفقه

عُرّفت الذمة في علمي الفقه والأصول بعدة تعاريف, مِمّا أدى إلى الإختلاف في مدلولها, ولا بُدَّ من تقديم أمور:

الأمر الأول: الكلام في الذمة في الفقه وأصوله على نحو الإطلاق؛ مالية وغير مالية.

الأمر الثاني: إنَّ الذمة التي وقع البحث فيها عند الفقهاء هي المحل؛ إمّا على نحو الوصفية أو القابلية أو غيرهما, وليس الغرض عندهم بالمال فيه من الديون والحقوق وأمثال ذلك.

ص: 288


1- المصدر السابق؛ ص 232.
2- المصدر السابق؛ ص 252.

الأمر الثالث: إقترنت الذمة عندهم بالأهلية, فينبغي ذكر معنى الأهلية وأقسامها لنعرف موقع الذمة منها؛ فقالوا: إنَّ المقصود بالأهلية -هنا- أهلية التكليف؛ التي تعني صلاحية الإنسان لتحمل مسؤولية التكليف الشرعي وما يوصل إليه من نتائج وما يترتب عليه من آثار دنيوية وأخروية, وهذه الأهلية إنَّما تتوفر للإنسان عند توافر شروطها لديه وهي:

1- البلوغ.

2- العقل.

3- القدرة.

وتقسم هذه الأهلية إلى قسمين: أهلية الوجوب وأهلية الأداء؛ والفرق بينهما هو: إنَّ أهلية الوجوب تعني صلاحية الإنسان لإيجاب الحقوق له وعليه. وأمّا أهلية الأداء فإنَّها تعني صلاحيته لضرورة الفعل منه على الوجه المطلوب شرعاً.

ولم تتحقق أهلية الوجوب في الإنسان إلا بعد توفر العنصرين المقومين لها:

الأول: قابلية الإنسان لثبوت الحقوق له. وبعبارة أخرى: صلاحية الإنسان للإلزام.

والآخر: قابليته لثبوت الحقوق عليه. أو قل: صلاحيته للإلتزام.

أمّا العنصر الأول -وهو الإلزام- فهو يثبت للإنسان وهو جنين في بطن أمه, وفي هذه الحالة لا يتطلب الأمر وجود ذمة مقدرة في شخصه, لأنَّ الحقَّ له لا أنْ يكون عليه.

وأمّا العنصر الثاني -وهو الإلتزام- الذي يعني ثبوت حقٍّ عليه فإنَّه يتوقف على أمرين:

الأول: قابلية الإنسان للتحمل بأنْ يكون صالحاً لإيجاب الحقوق عليه, وهذا لا يتحقق إلا بعد الولادة.

الثاني: وجود الذمة؛ بمعنى: أنْ يكون في الإنسان المؤهل للوجوب محلٌّ مقدر لاستقرار تلك الحقوق فيه؛ بحيث تُشغله تلك الحقوق حال ثبوتها, ويفرغ منها حال سقوطها.

ص: 289

وهذان الأمران اللذان يتوقف عليهما تصور الإلتزام متلازمان في الوجود متغايران في المفهوم, فإنَّه يلزم من كون الشخص أهلاً لتحمل الحقوق أنْ يكون في شخصه مستقراً ومستودعاً لها وبالعكس.

وعندئذ يمكن لنا القول بأنَّه مهما اعتبرت للشخص أهليه التحمل شرعاً اعتبرت له ذمة. مع العلم بأنَّه ليست تلك الأهلية هي الذمة بنفسها, بل بينهما فرق كالفرق بين معنى القابلية ومعنى المحلّ(1).والخلاصة:

عکس

ص: 290


1- الموسوعة الفقهية الكويتية؛ ج21 ص274.

وعلى ضوء جميع ما تقدم ذكره يتبين موقع الذمة وأنَّها محل الإلتزام خاصة, وبعد ذلك نذكر أهم التعريفات التي ذكرت للذمة:

التعريف الأول: تعريف إبن أبي جمهور الأحسائي في الأقطاب الفقهية؛ قطب 35؛ قال: الذمة: (معنى قائم بالمكلف مقدور له قابل للإلزام والإلتزام).

والمراد بالمعنى القائم بالمكلف هو محل التحمل.

التعريف الثاني: تعريف مجلة الأحكام العدلية؛ المادة (612): (الذمة لغةً: العهد. وشرعاً: محل عهد جرى بينه (أي الإنسان) وبين الله يوم الميثاق, أو وصف صار به الإنسان مكلفاً).

والظاهر أنَّ مراد المجلة من الذمة أهلية التكلف.

وفي (كليات أبي البقاء) في شرح ذلك قال: (الذمة الصالحة للوجوب له وعليه إنَّما تثبت له بناءً على العهد السابق الذي جرى بين العبد وبين ربه جلّ وعلا يوم الميثاق, كما أخبر الله تعالى بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(1) حتى التزم بهذا العهد جميع ما يمكن أنْ يجب عليه من الحقوق عند تحقق أسبابها, فإذا وجد سبب حقٌّ ولزم ذلك عليه قيل: (وجبت في ذمته), أي هذا الواجب مِمّا دخل في عهده الماضي ولزم عليه بحكم ذلك العهد).ثم إنَّ التردد في تعريف المجلة المزبور بين (محل أو وصف) فيه الإشارة إلى الخلاف بين الأصوليين في الذمة؛ هل هي ذاتٌ أو وصف كما سيظهر من التعاريف التالية.

التعريف الثالث: تعريف آخر في مجلة الأحكام العدلية؛ المادة (190): (الذمة: وصف يصير به المكلف أهلاً للإلزام والإلتزام).

وفي هذا التعريف تُرادف المجلة بين الذمة وأهلية الوجوب.

ص: 291


1- سورة الأعراف؛ الآية 172.

التعريف الرابع: ما ورد في (كليات أبي البقاء) عن فخر الإسلام أنَّه عرّف الذمة بأنَّها: (نفس لها عهد؛ فإنَّ الإنسان يولد وله ذمة صالحة للوجوب له وعليه).

وهو أيضاً يرادف بين الذمة وأهلية الوجوب, ولكن يذهب إلى أنَّها ذاتٌ لا وصفٌ.

ويعرف أبو البقاء في (الكليات) بقوله: (الذمة وصفٌ يصير الشخص به أهلاً للإيجاب له وعليه). فإنَّه يراها وصفاً مرادفاً لأهلية الوجوب.

التعريف الخامس: ما ورد في (المدخل) عن حاشية الحموي على الأشباه والنظائر أنَّ الذمة هي: (أمر شرعي مقدر وجوده في الإنسان يقبل الإلزام والإلتزام). ومراده بالأمر الشرعي المقدر وجوده -على الظاهر- محل التحمل, فيقترب من تعريف إبن أبي جمهور الأحسائي.

التعريف السادس: ما ورد في درر الأحكام في شرح مجلة الأحكام عن صدر الشريعة في (تنقيح الأصول) أنَّ الذمة هي: (وصف شرعي يصير به الإنسان أصلاً لما له وعليه).

فيكون مراده من الذمة أهلية الوجوب, لأنَّ من شروطها العقل -كما تقدم بيانها-.

التعريف السابع: تعريف الأستاذ الزرقاء في (المدخل الفقهي العام؛ ج3 ص181): (إنَّ لفظ الذمة في الفقه الإسلامي يفيد معنى الوعاء الإعتباري الذي يعي الديون الثابتة على الإنسان).

وظاهر هذا التعريف إنَّه يختص بالذمة المالية, إلا أنْ يعمَّ الديون ليشمل الديون المالية والأخلاقية وغيرها. كما أنَّه يعني بالذمة محل التحمل, فيلتقي مع تعريفي إبن أبي جمهور والحموي من هذه الناحية.

وحينئذٍ نقول: إنَّ الذمة ذلك المحل والوعاء الإعتباري في الإنسان الذي تحّل فيه الديون الثابتة عليه التي يلتزم صاحبها بالوفاء بها.

ويلخص الدكتور نزيه حماد آراء الفقهاء في معنى الذمة فيقول: (الذمة في اللغة بمعنى العهد والأمان والضمان).

ص: 292

أمّا في الإصطلاح الشرعي؛ فيرى الحنفية أنَّ الذمة عبارة عن وصف شرعي قدَّر الشارع وافترض وجوده في الشخص إيذاناً بصلاحيته لأنْ يكون له حقوق ولأنْ تجب عليه واجبات بحيث يكون بمنزلة السبب لكون الإنسان أهلاً للوجوب له وعليه. وعلى ذلك فهي ظرف ووعاء اعتباري يقدّر قيامه في الشخص بحيثيستقر فيه الوجوب ويثبت فيه الديون وسائر الإلتزامات التي تترتب عليه, كما تثبت فيه الحقوق التي تجب عليه.

وخالفهم في ذلك بعض الفقهاء؛ فنصوا على أنَّ الذمة ليست صفة مقدرة مفترضة, وإنَّما هي النفس والذات, فإذا قيل: ثبت المال في ذمة فلان, وتعلق بذمته, وبرئت ذمته, واشتغلت ذمته؛ فالمراد بذمته ذاته ونفسه, لأنَّ الذمة في اللغة العهد والأمانة ومحلها النفس والذات فسمي محلها باسمها(1).

نتائج البحث

أولاً: إنَّ الذمة أقرب إلى المحل منه إلى الحال, ولكن لشدة الإرتباط بينهما وعدم إمكان التفكيك بينهما قد يطلق الحال على المحل؛ كما في تعاريف فقهاء القانون.

ثانياً: الذمة إذا كانت محلاً للديون والحقوق والتكاليف فهم قد اختلفوا في حقيقتها بين كونها النفس أو الذات أو العقل, لعله من أجل عدم الوصول إلى حقيقتها اعتبر بعض الفقهاء بأنَّ الذمة وصف شرعي قدَّره الشارع وافترض وجوده في الشخص.

وإذا أردنا أنْ نفهم كون الذمة وصفاً على نحو المحل لا بُدَّ أنْ نعترف بأنَّه أقرب ما يمكن تصويره بالنسبة إلى شيء لم يعرف حقيقة ذاته.

ولكن الأصحّ من جميع ذلك أنْ نقول بأنَّ الذمة وعاء اعتباري قرره العقلاء والشارع قد رتّب عليه أحكاماً وآثاراً.

وهذا يوافق جميع تلك الأقوال.

ص: 293


1- معجم المصطلحات المالية والإقتصادية في لغة الفقهاء؛ ص 173.

ثالثاً: إنَّ الذمة هي الوعاء والظرف, والمظروف هو التكاليف الشرعية من الواجبات والمحرمات وغيرها والديون وسائر الإلتزامات التي تترتب عليها والحقوق مطلقاً, فلا يختَّص هذا الوعاء بخصوص المال والديون.

وهذه الجهة من أهم موارد الإفتراق بين الإقتصاد العالمي والإقتصاد الإسلامي؛ فإنَّ الذمة في الفقه الإسلامي واقتصاده يعمُّ المال والحقوق وسائر الواجبات والتكاليف, ومن هذه الناحية كانت الذمة محترمة عقلاً وشرعاً ولها مكانتها في الشرع الإسلامي ويجب على كلِّ فرد الخروج عن جميع عهوده والتزاماته.

رابعاً: الذمة هي السبب في جعل الإنسان ذا أهلية للوجوب له وعليه, وبها تميز الإنسان عن غيره من سائر الحيوانات؛ فإنَّها لا ذمة لها.

ومن هنا فمن أهمل ذمته ولم يعمل بما تملي عليه ذمته من الأحكام والأخلاق أصبح كالحيوان لا يعدّه العقلاء أهلاً للأمانة والوثاقة.

هذا ما يتعلق بالذمة بالمقدار الذي يتعلق بموضوع مباحثنا الإقتصادية, وهناك جوانب أخرى من البحث بالنسبة إلى هذا الذي تميّز الإنسان به.

نظرية العقد
اشارة

لا إشكال في أهمية العقد في الفقه والقانون, لأنَّه ينظم معظم العلاقات الإجتماعية والإقتصادية, وقد جعله الفقهاء عند تقسيمهم الأحكام الشرعية قسماً مستقلاً بذاته, حيث قسموا الفقه إلى أربعة أقسام وهي: العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام.

وإنَّما أقاموا هذا التقسيم على أساس مصلحة الحكم, فإنْ كانت المصلحة أخروية فهي العبادات, وإنْ كانت دنيوية فهي الأقسام الثلاثة الأخرى.

ثم قسموا هذه الثلاثة على أساس اعتمادها على الصيغة القولية وعدمها؛ فكان نصيب العقد من هذه القسمة أنَّه الحكم الذي يعتمد على الصيغة القولية من قبل طرفي العلاقة.

ص: 294

قال الشهيد -الذي يعتبر الرائد لهذا التقسيم-(1): (الحكم الشرعي ينقسم إلى الخمسة المشهورة: الوجوب, والحرمة, والإستحباب, والكراهة, والإباحة, وربما جعل السبب والمانع والشرط مغايراً لها, كالدلوك الموجب للصلاة, والنجاسة المانعة منها, والطهارة المصححة لها.

وكل ذلك ينحصر في أربعة أقسام: العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام. ووجه الحصر أنَّ الحكم الشرعي إمّا أنْ تكون غايته الآخرة, أو الغرض الأهم منه الدنيا؛ والأول: العبادات. والثاني: إمّا أنْ يحتاج إلى عبارة أو لا. والثاني: الأحكام. والأول: إمّا أنْ تكون العبارة من إثنين تحقيقياً أو تقديراً أو لا. والأول: العقود. والثاني: الإيقاعات).

ولكن السيد الوالد قدس سره في كتابه (تهذيب الأصول) وإنْ تابع الشهيد الأول في تقسيمه الرباعي مع فارق جعله المقسم وظيفة الإنسان شرعاً, وأقام قسمته على أساس قصد القربة, فقال: (إن وظائف العباد إمّا أنْ تكون متقومة بقصد القربة أو لا. والثانية -أي غير المتقومة بقصد القربة- إمّا أنْ تكون بين اثنين أو لا. والثالثة -أي التي لم تكن بين أثنين- إمّا أنْ تتوقف على الإنشاء أو لا. فالأول: العبادات. والثانية: العقود. والثالثة: الإيقاعات. والرابعة: الأحكام)(2).

وبعد التقسيم الرباعي للشهيد الأول نَظِّم تقسيمه بإدراج الأقسام الثلاثة عدا العبادات تحت عنوان المعاملات, ثم قسم المعاملات إلى الأقسام الثلاثة على نفس الأساس الذي اعتمده الشهيد قدس سره, فقال: (التشريع ينقسم إلى العبادات والمعاملات, والأخيرة تنقسم إلى العقود والإيقاعات والأحكام).

ص: 295


1- في كتاب القواعد والفوائد؛ ج1 ص 30- 31.
2- تهذيب الأصول؛ ج1 ص7.

وأخيراً ذُكر تقسيمٌ آخر وهو: إنَّ الأحكام تنقسم إلى العبادات والمعاملات (العقود) والإيقاعات والمرافعات.وقد تقدم في أحد مباحثنا السابقة الكلام حول تقسيم الفقه والإشكالات عليه؛ فراجع.

وفي المقام أردنا إظهار موقع العقود في الفقه وأهميتها في الشريعة.

موقع العقد في تصرفات الإنسان

تظهر أهمية العقود في حياة الإنسان أنَّها الجزء الأهم والأكثر شيوعاً في حياته الإجتماعية, وعليه يدور نظام الإجتماع والإقتصاد. وقد قسم الأستاذ الزرقاء المعاملات مِمّا يبين هذه الأهمية فقال: (العقد ضرب عن تصرفات الإنسان, والتصرف -بالمعنى الفقهي- هو: كلُّ ما يصدر عن شخص بإرادته ويرتب الشرع عليه نتائج حقوقية. وهو نوعان: فعلي وقولي؛

فالتصرف الفعلي: هو ما كان قوامه عملاً غير لساني, كإحراز المباحات, والغصب, والإتلاف, واستلام المبيع, وقبض الدين, وما أشبه ذلك.

والتصرف القولي نوعان: عقدي وغير عقدي؛

فالتصرف القولي العقدي هو الذي يتكون من قولين من جانبين يرتبطان, أي ما يكون فيه إتفاق إرادتين -كما سيأتي بيانه-, وذلك كالبيع والشراء, والإجارة والشركة وما أشبهها.

وأمّا التصرف القولي غير العقدي: فتحته نوعان؛ نوعٌ يتضمن إرادة إنشائية وعزيمة مبرمة من صاحبه على إنشاء حقٍّ أو إنهائه أو إسقاطه, كالوقف والطلاق والإعتاق والإبراء والتنازل عن حقِّ الشفعة, وهذا النوع قد يسمى (عقداً) أيضاً في اصطلاح فريق من فقهاء المذاهب؛ لما فيه من العزيمة المنشئة أو المسقطة للحقوق, فهي في نظرهم عقود وحيدة الطرف كالعقود ذات الطرفين من حيث وجود الإرادة المنشئة.

ص: 296

ونوعٌ لا يتضمن إرادة منصبّة على إنشاء الحقوق, لكنه أقوال من أصناف أخرى تترتب عليها نتائج حقوقية, وذلك كالدعوى؛ فإنَّها طلب حق أمام القضاء, وكالإقرار والإنكار والحلف على نفي دعوى الخصم؛ فإنَّها أخبار تترتب عليه مؤاخذات وأحكام قضائية مدنية )(1).

وهذا التقسيم وإنْ كان يبين كثيراً من مصاديق الأحكام لكنه لم يسلم من المؤاخذة عليه؛ منها الإغماض عن العقود المعاطاتية, فإنَّها كالعقود القولية في الأحكام والنتائج والآثار.

وبقية التقسيمات ترجع إلى ما ذكرناه وإنْ اختلفت التعبيرات, لكن المضمون والمحتوى واحد.

تعريف العقد

(لغةً): هو مصدر الفعل عقد يعقد, إذا باشر ربط شيء بآخر بعقدة تشدهما, كما إذا شدَّ الحبل بعضه مع بعض بحيث جعل فيه عقدة, ومنه أصل استعماله؛ حيث أنَّ ربط حبل بآخر عن طريق عقدة به, فيصير الحبلان حبلاً واحداً, والعقدة هي الرابط بينهما.

ذكروا: (عقد الحبل ونحوه: جعل فيه عقدة, وعقد طرفي الحبل ونحوه: وصل أحدهما بالآخر بعقدة تمسكهما فأحكم وصلهما). وقد تعدَّت دلالة العقد الحسية إلى دلالة أخرى معنوية بقرينة الوثاقة؛ فتشابهتا من هذه الناحية.

كما أشار إليه الراغب الإصفهاني بقوله: (العقد: الجمع بين أطراف الشيء, ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرهما)(2).

ص: 297


1- المدخل الفقهي العام؛ ج 1 ص 288 – 290.
2- المفردات؛ ص576.

وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم؛ قال تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1). فالعقد مصدر عَقَدَ, وقد استُعمل إسماً فيما يرتبط به الناس على تصرفٍ ما, ولذلك جمع على عقود.

وفي كتاب (نظرية العقد) للنقيب: (العقد: الربط والشد, فربط الحبل يعني الجمع بين طرفيه, ومن هذا المعنى الحسّي للربط كان استخلاص الربط المعنوي بين كلام طرفين أو بين كلامين).

وفي القانون ورد تعريفه كالتالي: (العقد: توافق إرادتين على إنشاء التزام أو أكثر)(2).

كما عرّفه الدكتور أنور سلطان(3) بأنَّه: (إتّفاق إرادتين على ترتيب أثر قانوني بإنشاء والتزام أو نقله أو تعديله أو زواله).

والفرق بين التعريفين المزبورَين؛ إنَّ الأول خاص بإنشاء الإلتزام فقط, بينما أضاف الثاني إليه نقله وتعديله وزواله؛ فيكون عاماً.

إلا أنَّ ما ورد في التعريف الثاني مورد الإختلاف عند العلماء وأنْ كانوا يفتون على أنَّ إنشاء الإلتزام هو العنصر المقوم لحقيقة العقد.

ومن أجل هذا الإختلاف بين القانونيين حدثت مسألة التمييز والتفريق بين العقد والإتفاق؛ فلا بُدَّ من بيانه:

تعريف الإتّفاق

عرّفه السنهوري بأنَّه: (توافق إرادتين أو اكثر على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه).

ص: 298


1- سورة المائدة؛ الآية 1.
2- الوسيط؛ ج1 ص137.
3- المبادئ القانونية العامة؛ ص 79.

كما يعرّف العقد بأنَّه: (توافق إرادتين على إنشاء التزام أو نقله)(1).

وجوه الفرق بين العقد والإتّفا

وحينئذٍ ذكروا في الفرق بين العقد والإتّفاق وجوهاً:

الوجه الأول: ما ورد في تعريفي السنهوري للإتّفاق والعقد في تخصيص العقد بإنشاء الإلتزام أو نقله, وتعميم الإتّفاق بالإضافة إلى إنشاء الإلتزام أو نقله يشمل التعديل أو إنهائه؛ فتكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلقي -كما هو المصطلح في علم المنطق- حيث يصدق على كلِّ عقد أنَّه إتفاق, ولا يصدق على كلِّ إتفاق أنَّه عقد؛ لانفراد الإتفاق عن العقد في تعديل الإلتزام أو إلغائه.

وكيف كان؛ فإنَّ تعريف السنهوري للإتفاق يلتقي مع تعريف الدكتور سلطان للعقد المتقدم ذكره, ويفترق عن تعريف الأخوين الجمال بشموله لنقل الإلتزام وتعديله وزواله.

الوجه الثاني: ما يظهر من تعريف فقهاء القانون لهما من أنَّ الفرق يرجع إلى أنَّ العقد إنشاء التزام فعلي, بينما الإتّفاق يرجع إلى إنشاء الإلتزام اقتضاءً وشأناً, أي ما تثبت فيه قابلية الإنشاء بعد الإتّفاق, فالفرق بين الإتّفاق والعقد يكون من هذه الناحية لا ما ذكروه من حيث العموم والخصوص, إذ قد في العقد بعض الشروط التي ترجع إلى بعض ما ورد في الإتفاق من التعديل والنقل والإنهاء وغير ذلك.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض فقهاء القانون من أنَّ مثار التفرقة بين الإتفاق والعقد كان سببه إختلافهما في الأهلية, ولكن أورد عليه بأنَّ الأهلية تختلف في العقود أيضاً بين نوع وآخر؛ فإنَّ ذلك لا يصلح لإثارة وجوب التفريق بينهما.

وعلى أيِّ حالٍ؛ فإنَّ السنهوري بعد التفريق بينهما بتعريفيه المذكورين قال: (ولا نرى أهمية للتمييز بين الإتفاق والعقد ونتفق في هذا مع أكثر الفقهاء القائلين بعدم أهمية التمييز

ص: 299


1- الوسيط؛ ج 1 ص 137.

بينهما ..... وإذا كان الفقهاء الذين يقولون بالتمييز يرون أهمية له من حيث الأهلية فهي تختلف في العقد عنها في الإتفاق, فإنَّه يلاحظ على هذا الرأي أنَّ الأهلية تختلّ (أيضاً) باختلاف العقود ذاتها, فهي في عقود التبرع -مثلاً- غيرها في عقود المعارضة, ومع ذلك لم يقل أحد أنَّ هناك فرقاً بين الهبة والبيع من حيث أنَّ كلاً منهما عقد لمجرد أنَّ الأهلية تختلف في أحدهما عنها الآخر)(1).

الوجه الرابع: ما ورد في عبارة السنهوري من أنَّ وجه الفرق بين العقد والإتفاق (إنَّه لا بُدَّ في العقد من إحداث أثر قانوني, فليس كل إتفاق يراد به إحداث أثر قانوني يكون عقداً, بل يجب أنْ يكون هذا الإتفاق واقعاً في نطاق القانون الخاص في دائرة المعاملات المالية, فالمعاهدة إتفاق بين دولة ودولة, والنيابة إتفاق بين النائب وناخبيه, وتولية الوظيفة العامة إتفاق بين الحكومة والموظف.ولكن هذه الإتفاقات ليست عقوداً, إذ هي تقع ضمن نطاق القانون العام الدولي والدستوري والإداري.

والزواج إتفاق بين الزوجين, والتبنّي -في الشرائع التي تجيزه- إتفاق بين الوالد المتبنّي والوالد المتبنّى, ولكن يجدر أنْ لا تدعى هذه الإتّفاقات عقوداً -وإنْ وقعت في نطاق القانون الخاص- لأنَّها تخرج عن دائرة العاملات المالية)(2).

وقال الدكتور سلطان بعد قصره العقد على المعاملات المالية -لأنَّه رأي القانون- (ويتحدد مجال العقد بالإتّفاقات المنشئة للإلتزام بين أشخاص القانون الخاص, فتخرج من مجاله الإتّفاقات المتعلقة بفروع القانون العام كالمعاهدة؛ وهي إتفاق بين دولة وأخرى

ص: 300


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

وتحكمها قواعد القانون الدولي العام, والنيابة وهي إتفاق بين النائب وناخبيه وتحكمها قواعد القانون الدستوري, والوظيفة هي إتفاق بين الحكومة والموظف وتحكمها قواعد القانون الاداري ..... غير أنَّه حتى في مجال القانون الخاص تقتصر منطقة العقد على الإتفاقات المتعلقة بالذمة المالية, فنستبعد الإتفاق المتعلق بروابط الأحوال الشخصية كالزواج لأنَّ الزواج ولو أنَّه إتفاق بين الزوجين إلا أنَّ القانون وحده هو الذي يحدّد آثاره, ولذا لا يعتبر عقداً بالمعنى الصحيح).

ومن جميع ذلك نستنتج ما يلي:

1- العقد في نظر القانون هو توافق الإرادتين لطرفي العقد. ولكن لا بُدَّ من أنْ يكون للعقد أثراً قانونياً وهو الإلتزام.

ويقتصر العقد على المعاملات المالية؛ فالعقد -إذن-: هو المعاملة المالية. فليس كل إتفاق هو عقد بالمعنى الخاص.

2- إنَّه يمكن إرجاع الفرق بين العقد والإتّفاق وإدخال كثير من العقود التي أخرجها القانون من التعريف للعقد بأنَّه إنشاء والتزام فعلي يترتب عليه الآثار الخاصة به بلا فرق بين أنْ يكون متعلق العقد مالاً وغيره, بينما الإتفاق لا يكون كذلك؛ إلا أنْ يكون التقييد المزبور في عباراتهم من المعاملات الماليتين هو اصطلاح خاص بالقانون فقط. وهذا يحتاج إلى دراسة وافية.

3- إنَّ الإقتصار في القانون على المعاملات المالية يكشف سرّ الإقتصاد العالمي المعاصر الذي ينبذ كل القيم والأخلاقيات فيقتصر على المال فقط, بينما الإقتصاد الإسلامي يعمّم العقود ليشمل المال وغيره, ويعتبر الوفاء بها من شروط الإيمان ويعتبره واجباً دينياً وأخلاقياً.

ص: 301

العقد في الفقه

ذكر فقهاء أهل السنة تعاريف متعددة للعقد نذكر بضعاً منها:

1- ما رود في شرح (مرشد الحيران): (إنَّه عبارة عن ارتباط الإيجاب الصادر عن أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه)(1).

2- ما ورد في شرح (مرشد الحيران) للأبياني والسنجقلي: (العقد ارتباط القبول بالإيجاب بحيث يكون بحالة موجبة لترتب حكمه عليه)(2).

3- تعريف البايرتي في شرح (العناية على الهداية): إنه (تعلّق كلام أحد العاقدين بالآخر شرعاً على وجه يظهر أثره في المحل)(3).

4- ما ورد في مجلة الأحكام العدلية؛ المادة (103): (العقد: إلتزام المتعاقدين أمراً وتعهدهما به, وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول).

5- ثم عقبت المجلة تلك المادة بمادة أخرى وهي المادة (104) في تعريف الإنعقاد بأنَّه (تعلق كلٌّ من الإيجاب والقبول بالآخر على وجه مشروع يظهر أثره في متعلقهما).

6- ما ورد في معجم مصطلحات أصول الفقه: (العقد: إتّفاق بين طرفين يلتزم به كلٌّ منهما تنفيذ ما تم الإتفاق عليه, ولا بُدَّ فيه من إيجاب وقبول)(4).

وغير ذلك مِمّا ذكروه في تعريف العقد؛ ولكنها لا تخلو من المناقشة.

والصحيح منها ما ذكره علماء الإمامية في تعريف العقد وهو الذي ورد في كلام الشيخ كاشف الغطاء في تحرير المجلة في تعريف العقد بأنَّه: (الإيجاب المقترن بالقبول) وفي

ص: 302


1- عقد القرض؛ خروفة 20.
2- المصدر السابق.
3- نظرية العقد للنقيب؛ ص 39.
4- معجم مصطلحات أصول الفقه؛ ص287.

تعريف الإنعقاد بأنَّه: (وقوع الإيجاب والقبول بنحو يترتب عليه الأثر المقصود من العقد).

ثم قال معلقاً على المادتين المذكورتين ومعقباً على جميع ما ذكره في تعريف العقد: (العقود ألفاظ وأقوال, وهي من مقولة الفعل, والإلتزام صفة نفسانية من مقولة الكيف).

والإرتباط وصف قائم بالإيجاب والقبول, وهو من مقولة النسب والإضافات.

فلا ربط لكلِّ واحد من هذه المفاهيم المتغايرة بالآخر, ولا وجه لتفسير بعضها ببعض, فالعقد ليس التزاماً ولا ربطاً ولا ارتباطاً, وإنَّما هو الإيجاب المرتبط بالقبول, أي الإيجاب المقترن بقبوله. وليس المنشأ بالإيجاب الإلتزام, بل الذي ينشأ به هو التمليك أو المبادلة, ولازمه عقلاً وشرعاً هو التعهد والالتزام, ولا شيء منهما بمدلول للإيجاب لا بالتضمن ولا بالإلتزام؛ فضلاً عن المطابقة.وليس الإيجاب -كما عرفت- إلا جعل ملكية زيد لدارك أمراً واقعاً, وحيث أنَّك أنشأت هذه الملكية وأوقعتها وجعلتها أمراً واقعاً فيلزمك عقلاً وشرعاً أنْ تلزم بها ولا تنقضها.

فالإلتزام حكم من أحكام العقد لا نفس العقد ولا جزء منه, بل ولا لازم له بل عرضٌ من عوارضه المفارقة.

وكذا الكلام في الإرتباط؛ فإنَّه وصف اعتباري لركنَي العقد -الإيجاب والقبول- لا جزء منه ولا مدلول له, وإنَّما هو معنى حرفي غير مستقل باللحاظ حتى يفسّر به العقد, على أنَّ الوصف المعتبر في الإيجاب والقبول هو الربط لا الإرتباط, فإنَّ المتعاقدين يرتبطان كلٌّ منهما بالآخر ولكنه قد يرتبط وقد لا يرتبط, وحال الربط والارتباط حال العقد والانعقاد ونظير الكسر والانكسار؛ فإذا كان العقد صحيحاً جامعاً للشرائط شرعاً وعرفاً, تقول: عقدته فانعقد. وإنْ لم يكن كذلك تقول: عقدته فلم ينعقد؛ كما تقول كسرته فانكسر تارة وكسرته ولم ينكسر أخرى, وهكذا الربط والارتباط.

ص: 303

وبهذا البيان يتَّضح المراد بالمادة (104) -في تعريف الإنعقاد- وهو: (تعلق كلٌّ من الإيجاب والقبول بالآخر على وجه مشروع يظهر أثره في متعلقهما).

وكان حقُّ التعبير أنْ يُقال: الإنعقاد وقوع الإيجاب والقبول بنحو يترتب عليه المقصود من العقد. فانعقاد والبيع أنْ يقع الإيجاب والقبول بنحو مؤثر للملكية وانتقال المبيع إلى المشتري, والثمن إلى البايع.

وانعقاد النكاح أنْ يكون الإيجاب والقبول مؤثراً زوجية كلٌّ من الرجل والمرأة للآخر الذي هو الأثر المطلوب من العقد.

فيكون العقد مؤثراً والانعقاد أثراً, أو الأول هو المسبِّب والثاني المسبَّب, أو قل أنَّ الأول موضوع والثاني حكم. وغير ذلك من التعبيرات الدالة على هذا المعنى.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ الإنعقاد ليس هو التعلق, بل هو الإيجاب المعلق مع بقية الشرائط؛ فتدبره جيداً.

وكلام الشيخ قدس سره متين جداً في تعريف العقد والانعقاد, ويظهر منه وجه المناقشة في كثير من التعاريف المذكورة لهما مِمّا تقدم نقل بعضها.

وفي (المدخل الفقهي العام) ينقل الأستاذ الزرقاء تعريف (مجلة الأحكام) تعريفاً فقهياً, وتعريف الدكتور السنهوري تعريفاً قانونياً ومعلقاً عليهما ثم يحلّل التعريف الفقهي فقال:

(العقد في اصطلاح الفقهاء الشرعيين كما عرفته المجلة (م/ 103- 104) هو: إرتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أمره في محله.

وفي عرف الحقوقيين بالإصطلاح القانوني هو: إتّفاق إرادتين على إنشاء حقٍّ أو على نقله أو على إنهائه.

والمقصود بالتعريفين الفقهي والقانوني متقارب, غير أنَّ التعريف الأول الفقهي أحكم منطقاً وأدقّ تصوراً, والثاني أوضح تصويراً وتعبيراً).

ص: 304

ثم حلّل التعريف الفقهي وقال: (إنَّ العقد هو من قبيل الإرتباط الإعتباري في نظر الشرع بين شخصين نتيجة إتفاق إراديتهما, وهاتان الإرادتان خفيتان, فطريق إظهارهما التعبير عنهما, وهو في العادة بيان يدلُّ عليهما بصورة متقابلة من الطرفين المتعاقدين, ويسمى هذا التعبير المتقابل إيجاباً وقبولاً).

والذي نستنتجه من التعاريف المتقدمة أنَّ أقربها إلى المعنى الحقيقي ما ذكره علماء الإمامية, وهو الذي ورد في عبارة الشيخ كاشف الغطاء؛ أي (الإيجاب المرتبط أو المقترن بالقبول) فهو الربط المعنوي كما ذكره بعضهم, فيكون الأقرب إلى المعنى الحقيقي للعقد الذي ذكره علماء اللغة والذي عدُّوه المعنى الحقّ للعقد, والتعريف الفقهي المعنى الإستعاري له.

تقسيم العقد

إنَّ الإيجاب والقبول من خلال واقعهما الإجتماعي قد يكونان قولين وقد يكونان فعلين, فينقسم العقد إلى:

1- العقد القولي: وهو الذي تستعمل فيه الصيغة اللفظية.

2- العقد الفعلي: وهو الذي لا تستعمل فيه الصيغة اللفظية, وإنَّما يعتمد على الأمارات الدالة على توافق الإرادتين -كما ورد في القانون- أو التراضي كما يستعملونه في الفقه, فمن منع من الفقهاء المعاطاة في العقود قسم المعاملة إلى عقدية وغير عقدية وهي المعاملة المعاطاتية. ومن جوَّز المعاطاة في العقود مطلقاً أو على تفصيل مذكور في الفقه قسم العقد إلى قولي وفعلي. فلا نزاع في البين إلا في المصطلح.

وعند تعريفهم للعقد بأنَّه الإيجاب والقبول فإنَّهم يريدون إمّا خصوص العقد القولي أو ما يشمله الفعلي, أو يخصّ المعاملة العقدية أو ما يشملها المعاطاتية على الخلاف بينهم في تحديد مفهوم العقد. وسيتَّضح ذلك فيما بعد إنْ شاء الله تعالى.

ص: 305

ولكن بالرجوع إلى واقع تعامل الشرع الحنيف مع المعاملات التي كانت قائمة في عصر التشريع وإلى الروايات الواردة في الموضوع لا يشكّ في أنَّ العقد يشمل الإيجاب والقبول القوليين والفعليين.

كما إنَّه لا يشك في أنَّ المعاطاة عقد إلا أنَّها عقد فعلي لا قولي, وهذا واضح الجريان في المعاملات المالية وغيرها, إلا إذا ورد من الشرع المنع منها. ففي عصر التشريع -كما هو واضح- إنَّ المعاملات المالية كانت تجري قولياً وفعلياً, والواقع الذي يعيشه الناس الآن هو امتداد لذلك الواقع.

هذا ما يتعلق بالواقع التاريخي للمعاطاة.

وقد استدلَّ فقهاؤنا على مشروعية المعاطاة بأمور:منها: سيرة المتشرعة من خلال تعاملهم بعضهم مع البعض, ولو كانت المعاملات مقصورة شرعاً على العقود اللفظية لرأيناه في سيرتهم, بل المشاهد هو التعامل باللفظ وبالفعل على حدٍّ سواء.

ومنها: الأخبار التي استعرض جملة منها المحقق البحراني في الحدائق الناضرة, وهي تفيد بظاهرها صحة المعاملة المعاطاتية التي تخلو من الصيغة, ويستفاد منها لزومها أيضاً, وسيأتي مزيد بيان لهذا في مواضعه إنْ شاء الله تعالى.

نتائج البحث في التعريفات المتقدمة وتحليلاتها

1- إنَّ العقد ليس هو الإرتباط, لأنَّه من أفعال المطاوعة. يقال: ربطته فارتبط, وهو بهذا يفيد معنى الإنعقاد, ويقال: عقدته فانعقد. فيكون الانعقاد نتيجة العقد إذا وقع صحيحاً, فالإرتباط هو الإنعقاد, وهذا هو الذي أفاده الشيخ كاشف الغطاء قدس سره.

ص: 306

2- العقد -في الحقيقة- إمّا هو الربط بين الإيجاب والقبول, لأنَّ بالربط بينهما يتحقق عقد أحدهما بالآخر. وإمّا أنْ يكون العقد هو مجموع الإيجاب والقبول والعلاقة بينهما التي هي ربط أحدهما بالآخر, فإنَّنا لو حللنا العقد نقول إنَّه يتكون من الإيجاب والقبول وربط أحدهما بالآخر.

والصحيح؛ إنَّ أحدهما يرجع إلى الآخر وإنْ ذكرنا أنَّ الأول أقرب المجازات إلى الحقيقة.

3- العقد؛ إمّا أنْ ينظر إليه مركباً؛ فهو الإيجاب والقبول والعلاقة بينهما.

وإمّا أنْ ينظر إليه بسيطاً؛ فهو ربط الإيجاب والقبول.

4- من المقارنة بين العقد في الفقه الإمامي وبين العقد في الفقه السني والقانون المدني يظهر أنَّ العقد في الفقه الإمامي أقرب إلى المعنى اللغوي والعرفي والمتعارف في التعريفات العالمية. وقد ذكرنا ما يثبت ذلك فيما سبق.

يضاف إلى ذلك أنَّ من يذهب إلى شمول العقد للإيجاب والقبول القوليين والفعليين يلتقي تعريفه والتعريف القانوني, لأنَّ الإيجاب والقبول الفعليين يعنيان التراضي, والتراضي هو ما يعبر عنه القانون بتوفيق الإرادتين.

أمّا على رأي من يقصر العقد على الإيجاب والقبول القوليين فلا يلتقي والرأي القانوني في العقد, لأنَّ توافق الإرادتين أو التراضي وحده على هذا المذهب لا يصلح عليه عقداً.

أمّا بالنسبة إلى تعريف الفقه السني الذي يرى أنَّ العقد هو: إرتباط الإيجاب والقبول فلا يلتقي معه تعريف الفقه الإمامي؛ للفرق بين الإيجاب والقبول, والارتباط الذي هو نتيجة الربط بينهما؛ كما تقدم بيانه.

ص: 307

عناصر العقد
اشارة

بعد معرفة مفهوم العقد لغةً وقانوناً وفقهاً لا بُدَّ من معرفة عناصر العقد التي هي أركانه التي يتقوم بها ولهذا سميت بالأركان وبالمقومات أيضاً, وهي:

1- المتعاقدان.

2- العوضان.

3- التعاقد.

ولا بأس في شرح ما يتعلق بكلِّ واحد من هذه العناصر في المقام ولو على سبيل الإجمال ويأتي التفصيل في مواضعه إنْ شاء الله تعالى.

العنصر الأول: المتعاقدان
اشارة

ويراد بهما طرفا العقد من الأشخاص -طبيعيين أو اعتباريين-, ويعبّر عنهما ب-(المتعاقدان) و(العاقدان) أيضاً, وهما اللذان يقومان بعملية التعاقد بإبرام المعاملة عن طريق ربط العقد بينهما, فيصبح كلٌّ منهما طرفاً في العقد وتنطبق عليه أحكام وآثار المعاملة.

وقد اشترط العلماء في كلٍّ من المتعاقدين توفر الصفات التالية:

شروط المتعاقدان
اشارة

1- البلوغ.

2- العقل.

3- الإختيار.

4- التملك.

أمّا البلوغ فلأنَّ شرطيته موضع الخلاف بين الفقهاء, وقبل سرد الأقوال وبيان أدلتهم عليها لا بُدَّ من التوطئة له؛ فنقول: إنَّ أحكام المعاملات تختلف باختلاف مراحل حياة الإنسان من حيث اكتمال الأهلية ونقصانها.

ص: 308

وهذه المراحل هي:

المرحلة الأولى: من الولادة إلى سنّ التمييز

وفي هذه المرحلة يكون الإنسان قاصراً غير مميز, ويصطلح الفقه على الإنسان في هذه المرحلة ب-(الصبي غير المميز) أو (الصغير غير المميز)و ولا خلاف بين الفقهاء في عدم صحة معاملات الإنسان في هذه المرحلة, لأنَّه فاقد الأهلية ولكنه يملك إذا وهب إليه أحد مالاً, كما يملك ما يرثه من وارثه, إلا أنَّه ممنوع من التصرف فيما يملكه.

المرحلة الثانية: من سنّ التمييز إلى سنّ الرشد

ويراد بها فترة ما بعد التمييز مروراً بسنَّ البلوغ إلى سنِّ الرشد. ويصطلح الفقه على الإنسان في هذه المرحلة -وبخاصة ما قبل البلوغ- (الصبي المميز) أو (المميز) فقط.

وقد عرفت المادة (913) من مجلة الأحكام العدلية, الصغير غير المميز بأنَّه: (الذي لا يفهم البيع والشراء, يعني من لا يعرف أنَّ البيع سالب للملكية, والشراءجالب لها, ولا يفرق بين الغبن الفاحش الظاهر كالتغرير في العشرة خمسة وبين الغبن اليسير).

فقد جعلت المناط في التمييز إذا عرف الصبي المميز أنَّ البيع سالب والشراء جالب ويميز بين الغبن الفاحش والغبن اليسير.

ولأنَّ الإنسان في هذه المرحلة يمتلك قدرة التمييز, ولكنه لم يصل إلى مستوى الرشد فيعدّ غير مكتمل الأهلية أي (ناقص الأهلية).

وفي هذه المرحلة إختلف الفقهاء في حكم تصرفات الصغير فيها بين المنع والجواز, حيث ذهب المشهور إلى المنع وغيرهم إلى الجواز.

وعلى الخلاف بين المجوزين في صحة وبطلان إنشاءاته أي إجرائه لصيغة العقد ووكالته عن الغير واستقلاله في التصرف, أو لا بُدَّ من إذن وليه في تصرفه بماله وتصرفه بمال غيره؛ كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

ص: 309

المرحلة الثالثة: من سنِّ الرشد وما بعدها

وفي هذه المرحلة يكون الإنسان مكتمل الأهلية ويصطلح عليه فقهياً ب-(الرشيد) أو (الراشد) ولا خلاف بين الفقهاء في صحة تصرفاته.

وقد عبّر الفقهاء عن المرحلة الثانية -التي هي موضع الخلاف- (البلوغ), وعن المرحلة الثالثة التي هي موضع الوفاق ب-(الرشد) أو (العقل) مرادفاً به الرشد.

ولكن الفرق بين التمييز والرشد أنَّ الأول مستوى من الوعي دون مستوى الرشد, أو هو أول مستويات الرشد, ومن هنا لم يعد المميز مكتمل الأهلية لأنَّ الأهلية الكاملة لا تكون إلا للرشيد.

ووضع القانون الفرنسي (المميز) بين مرتبة الرشد ومرتبة انعدام الأهلية بمنحه قسطاً من الأهلية(1).

ثم إنَّ هنا اختلاف في تحديد بداية مرحلة التمييز ونهايتها, ولا يهمنا ما يرتبط ببدايتها في المقام وإنَّما الكلام في نهايتها؛ حيث افترق القانون عن الشريعة فيها, فقد إعتبر القانون السنّ الثامنة عشرة نهاية لسنِّ الرشد, وإنْ أعطى لما قبله قسطاً من الأهلية. وأمّا الشريعة فقد حددّت البلوغ الشرعي هو الحدّ الفاصل بين التمييز والرشد, ففي سنّ التمييز له قسط من الأهلية, وإذا بلغ الإنسان حدَّ التكليف -وهو حدّ البلوغ- بلغ الرشد وتمام الأهلية إلا إذا كان سفيهاً, واعتبر الفقهاء بلوغ الإنسان إلى سنّ التكليف الشرعي هو من أهم الدلائل على رشده وأهليته كما هو واضح, (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)(2).

ص: 310


1- نظرية العقد للنقيب؛ ص 161.
2- سورة النساء؛ الآية 6.
الشرط الأول: البلوغ

لا خلاف في أنَّ سنّ البلوغ هو الحدّ الفاصل بين الصغر والكبر في الشرع, حيث أنَّ الإنسان في مرحلة الصغر لا يكون مورد التكليف الشرعي, وأمّا إذا وصل حدّ البلوغ فإنَّ التكاليف الشرعية تتنجز عليه بشروط مذكورة في علم أصول الفقه.

وإنَّما الكلام في شرطية البلوغ لصحة المعاملة, فإنَّ فيها خلاف بين الفقهاء؛ نذكر آراءهم على سبيل الإجمال.

الرأي الأول: وهو بطلان معاملة الصبي الذي لم يبلغ الحلم مطلقاً, وقد ذهب إليه المشهور, فذكروا: (ظاهر كلام جمهور الأصحاب أنَّه لا يصحُّ بيع الصبي ولا شراؤه ولو أذن له الولي)(1).

وقال النراقي: (لا يصحُّ بيع الصبي مطلقاً؛ مميزاً كان أو لا, بإذن الولي أو بدونه, في ماله أو مال غيره)(2).

بل عمموّا هذا المنع إلى جميع تصرفات الصبي إلا ما دلَّ الدليل على استثنائه؛ لكلِّ عباراته, ووصياته, وإيصال الهدايا, والإستئذان في دخول الدار؛ المدلول عليه بما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ)(3).

قال العلامة قدس سره: (الصغير محجور عليه بالإجماع؛ سواء كان مميزاً أم لا, في جميع التصرفات إلا ما استثني, كعباداته وإسلامه وتدبيره ووصيته وإيصال الهدية وإذنه في دخول الدار )(4).

ص: 311


1- الحدائق الناظرة؛ ج18 ص367.
2- مستند الشيعة في أحكام الشريعة؛ ج14 ص263.
3- سورة النور؛ الآية 58.
4- تذكرة الفقهاء؛ ج2ص73.

وأهم ما استدلوا به لهذا الرأي:

1- قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ)(1).

بتقريب: إنَّ منطوق الآية الكريمة يفيد عدم جواز دفع مال اليتيم إليه إلا أنْ يبلغ, ثم يختبر ويثبت رشده بالاختبار. وعلى هذا يكون مفهومها أنَّه إذا لم يبلغ اليتيم أو بلغ ولكن لم يكن رشيداً بالاختبار فلا يجوز دفع ماله إليه.

2- حديث رفع القلم المروي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ)(2).

بناءً على أنَّ المراد بالقلم قلم الإلزام؛ بما يشمل الأحكام التكليفية والوضعية.وخبر حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام فِي حَدِيثٍ قَالَ: (إِنَّ الْجَارِيَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْغُلَامِ, إِنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ وَدُخِلَ بِهَا وَلَهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ وَدُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا, وَجَازَ أَمْرُهَا فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ, وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ, وَأُخِذَتْ لَهَا وَبِهَا, قَالَ: وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ, وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ يَحْتَلِمَ أَوْ يُشْعِرَ أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ)(3).

وخبر عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام قال: (سُئل أبي -وأنا حاضر- عن اليتيم متى يجوز أمره؟ فقال علیه السلام : حين يبلغ أشده. قلتُ: وما أشده؟ قال: الاحتلام)(4).

ودلالة الخبرين على المدَّعى واضحة.

ص: 312


1- سورة النساء؛ الآية 6.
2- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 28 ص 23.
3- المصدر السابق؛ ج 18 ص 411.
4- البرهان في تفسير القرآن؛ ج 3 ص 530.

3- الإجماع؛ وقد ادّعاه غير واحد, منهم العلامة الحلّي في التذكرة كما تقدم, والسيد إبن زهرة في الغنية كما حكاه الشيخ الأنصاري في المكاسب حيث قال: (المشهور كما عن الدروس والكفاية بطلان عقد الصبي, بل عن الغنية الإجماع عليه وإنْ أجازه الولي)(1).

4- الشهرة؛ واستدلَّ بها الشيخ الأنصاري قدس سره في المكاسب, قال: (فالإنصاف أنَّ الحجة في المسألة هي الشهرة المحققة والإجماع المحكي عن التذكرة)(2).

الرأي الثاني: ما أشار إليه الشيخ الطوسي؛ حيث قال: (ولا يصحُّ بيع الصبي وشراؤه؛ أذِن له الولي أو لم يأذَن )(3). فيختص الحكم بالبيع فقط.

الرأي الثالث: إذا بلغ عشر سنين وكان رشيداً, قال النراقي: (ونقل جماعة من الأصحاب هنا قولاً بجواز بيع الصبي وشرائه إذا بلغ عشراً وكان عاقلاً)(4).

قال الشيخ الطوسي (وروي أنَّه: إذا بلغ عشر سنين وكان رشيداً كان جائزاً)(5).

ولكن ردُّوها بالضعف لأنَّه قياس على بعض تصرفاته المستثناة عن المنع, والقياس باطل.

الرأي الرابع: وهو جواز عقد الصبي حال الإبتلاء و(الإختيار) والذي أشارت إليه الآية الكريمة: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ)(6).

ص: 313


1- المكاسب (ط. الحديثة)؛ ج3 ص275.
2- المكاسب (المحشى)؛ ج7 ص341.
3- المبسوط؛ ج2 ص163.
4- الحدائق الناظرة؛ ج18 ص367.
5- المبسوط؛ ج2 ص163.
6- سورة النساء؛ الآية 6.

فإنَّ ظاهر الآية كون الإختبار قبل البلوغ؛ وهذا الرأي منسوب إلى إبن إدريس قال في: (ويظهر من (التذكرة) عدم ثبوت الإجماع عنده, حيث قال: وهل يصحُّ بيع المميز وشراؤه؟ الوجه عندي إنَّه لا يصح.

واختار في (التحرير) صحَّة بيع الصبي في مقام اختبار رشده)(1).

الرأي الخامس: ما اختاره فخر المحققين؛ وهو صحَّة بيع المميز بإذن الولي, قال الشيخ الأنصاري: (وقال في القواعد: وفي صحَّة بيع المميز بإذن الولي نظر, بل عن الفخر في شرحه: إنَّ الأقوى الصحة, مستدلاً بأنَّ العقد إذا وقع بإذن الولي كان كما لو صدر عنه. ولكن لم أجده فيه, وقوّاه المحقق الأردبيلي على ما حكي عنه)(2).

قال النراقي: (ويظهر من المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد المناقشة في هذا المقام؛ حيث قال بعدما نقل هذا الكلام: والإجماع مطلقاً غير ظاهر, والآية غير صريحة الدلالة, لأنَّ عدم دفع المال إليهم وعدم الإعتداد بإملائهم(3) لا يلزم عدم جواز إيقاع العقد وعدم الإعتبار بكلامهم؛ خصوصاً مع إذن الولي والتمييز.

ويؤيده اعتبار المستثنى فإنَّه لو كان مِمّن لا اعتداد بكلامه ما كان ينبغي الإستثناء, ولهذا قيل بجواز عقده إذا بلغ عشراً, أو عقده حال الإختبار, فإنَّ ظاهر الآية كون الإختبار قبل البلوغ, ولئلا يلزم التأخير في الدفع مع الإستحقاق.

إلى أنْ قال: وبالجملة؛ إذا جاز عتقه ووصيته وصدقته بالمعروف وغيرها من القربات كما هو ظاهر الروايات الكثيرة لا يبعد جواز بيعه وشرائه وسائر معاملاته إذا كان بصيراً مميزاً

ص: 314


1- المكاسب (ط. الحديثة)؛ ج3 ص279.
2- المصدر السابق.
3- وهو يشير إلى قوله تعالى: ( أَنْ يُمِلَّ هُوَ). [سورة البقرة؛ الآية 282]..

رشيداً يعرف نفعه وضره بالمال, كما نجده في كثير من الصبيان؛ فإنَّه قد يوجد منهم من هو أعظم في هذه الأمور من آبائهم فلا مانع له من إيقاع العقد خصوصاً مع إذن الولي أو حضوره بعد تعيينه الثمن )(1).

وقوّى هذا الرأي جمعٌ من الفقهاء وإنْ كان خلاف المشهور, فلا يعتبر البلوغ في صحة العقد مضافاً إلى العقل والقدرة على الإنشاء. واستدلَّ له بإطلاق أدلة العقود في أبواب المعاملات مع عدم صلاحية ما استند إليه في الحكم بالفساد بدونه.

الرأي السادس: ما ذهب إليه السيد الطباطبائي قدس سره: (الأظهر جوازه (يعني البيع) فيما كان (الصبي) فيه بمنزلة الآلة لمن له الأهلية لتداوله في الأعصار والأمصار السابقة واللاحقة من غير نكير, وحيث يعد مثله إجماعاً من المسلمينكافة, لكن ينبغي تخصيصه بما هو المعتاد في هذه الأزمنة؛ فإنَّه الذي يمكن فيه دعوى اتّفاق الأمة).

هذه هي الآراء في هذه المسألة مع أهم ما استدل به, ولكن عند الموازنة بينها لا بُدَّ من معرفة قوة الدلالة فيها على الرأي.

والصحيح من الآراء صحة العقد من قبل الصبي المميز وذلك:

1- لإطلاق أدلة الوفاء بالعقود في المعاملات.

2- والسيرة؛ أعني بها سيرة المتشرعة القائمة على صحة معاملات الصبي المميز, كما استدل بها المولى الأردبيلي قدس سره.

وأمّا الأدلة الأخرى فإنَّها قابلة للمناقشة يأتي ذكرها في الموضع المناسب إنْ شاء الله تعالى. ثم أنَّه حاول جمعٌ من الفقهاء الجمع بين تلك الآراء المختلفة. فقال السيد الوالد قدس سره: (النزاع في أنَّ عقد الصبي صحيح أو فاسد لا ثمرة له في هذه الأعصار وينحصر العقد

ص: 315


1- الحدائق الناظرة؛ ج18 ص368-369.

بالنكاح والإيقاع بالإطلاق -لأنَّ جميع المعاملات تقع بالمعاطاة-, وحينئذٍ فإنْ علم أنَّه آلة للولي فيصحُّ بلا إشكال, وإنْ شك فيه يحمل فعله على الصحة, لأنَّه مسلم. وإنْ علم العدم فتتوقف على إذن الولي)(1).

وقال بعضهم بأنَّ قصر السيرة المدَّعاة على تصرفات الصبي في الأمور الصغيرة لا الأمور الخطيرة. وبه يتم الجمع بين الشهرة الفتوائية المانعة من تصرفات الصبي في الأمور الخطيرة, والسيرة الدالة على جواز تصرفاته في الأمور الصغيرة.

هذا ما يتعلق بالبلوغ.

الشرط الثاني: العقل

عبّر بعضهم عن هذا الشرط ب-(العقل), وعبّر آخر عنه ب-(الرشد) والمقصود به -على كِلا التعبيرين- وصول الإنسان إلى مرتبة الرشد.

والرشيد كما عرفته المجلة العدلية؛ المادة (947): (هو الذي يتقيد بمحافظة ماله, ويتوقى السرف والتبذير).

واشتراط الرشد مِمّا تسالم عليه الفقهاء, ولا خلاف بينهم في صحة تصرفات الإنسان عند وصوله إلى هذه المرتبة, وهي مرتبة الرشد.

ومن المعلوم أنَّ مفهوم الرشد وغيره مِمّا يرتبط بالموضوع -وهي الجنون والعته والسفه والفضلة والإغماء والسكر والنوم- هي من المفاهيم العرفية التي يرجع في تحديدها وتعيين مصاديقها إلى العرف.

ويمكن إدخال هذين الشرطين (البلوغ والعقل) تحت عنوان واحد وهو (الأهلية) وتقدم تعريف (الأهلية) وقلنا: هي صلاحية الإنسان لأنْ يتصرف تصرفاً واعياًمدركاً لتحمل مسؤولية ما يترتب على تصرفه من أحكام وآثار شرعية وقانونية أو عرفية.

ص: 316


1- مهذب الأحكام؛ ج 16 ص 278.

وذكرنا أنَّها تنقسم إلى قسمين:

1- أهلية الوجوب؛ وهي: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق الشرعية له وعليه, أي صلاحيته لتمتعه بحقوقه وتحمله لمسؤولياتها.

2- أهلية الأداء؛ وهي: صلاحية الإنسان لاستعمال حقوقه, أي صلاحيته للقيام بالأعمال المشروعة ومباشرتها, أمثال البيع والشراء.

والمقصود في المقام منهما أهلية الأداء كما هو واضح.

ولا ريب أنَّ أهلية الأداء تتدرج بتدرج التمييز لدى الشخص الطبيعي, فهي تدور معه وجوداً وعدماً, تماماً ونقصاناً, فإنْ انعدم التمييز انعدمت الأهلية, وإذا كان التمييز ناقصاً كانت الأهلية ناقصة, وإنْ كان تاماً كانت تامة(1).

وعلى ضوء ذلك نقول:

· إذا كان الشخص تامُّ الأهلية فإنَّه لا خلاف بين الفقهاء في صحة تصرفاته, ومنها المعاملات المالية.

· وإذا كان فاقد الأهلية, فإنَّهم متَّفقون على بطلان تصرفاته المعاملاتية.

عوارض الأهلية

يتفرع على ما تقدم أنَّ الإنسان عندما يبلغ سن الرشد وتكتمل فيه أهلية الأداء فإنَّه قد يعرض الأهلية ما يوجب اختلالها, فيفقد الشخص بسبب ذلك العارض القدرة على الأداء. ويُعرّف القانون تلك العوارض ب-(عوارض الأهلية).

وفي علم الفقه تتمثل بالأحوال التالية: (الجنون والعته والسفه والغفلة والنوم والإغماء والسُكر), وقد ذكرنا أنَّ هذه المفاهيم عرفية يرجع في أمر تحديدها وتعيين مصاديقها إلى العرف, ولكن لا بأس ببيان الفرق بين كلِّ واحد منها.

ص: 317


1- نظرية العقد؛ ص 157.

الجنون: هو اضطراب في العقل يفقد الإنسان تمييزه, فلا يدرك أعماله الشرعية ولا يفهم معناها, فتنعدم لذلك أهليته.

والجنون على نوعين:

أ- الجنون الإطباقي: وهو الذي يستمر تأثيره على الوعي ويطبق على جميع أوقاته فلا يفيق صاحبه في وقت من الأوقات.

ب- الجنون الأدواري: وهو الذي لا يستمر تأثيره على الوعي, وإنَّما يعرض للإنسان دورياً فيفيق صاحبه في وقت, ويجنّ في وقت آخر.

تقول المجلة العدلية(1): (الجنون على قسمين: أحدهما: المجنون المطبق: وهو الذي يستوعب جنونه جميع أوقاته. والثاني: المجنون غير المطبق: وهو الذي يكون فيبعض الأوقات مجنوناً ويفيق في بعضها. وفي حالة الجنون تنعدم الأهلية؛ فلا تصحُّ تصرفاته, وفي حالة الإفاقة تصحُّ؛ لوجدان الأهلية).

العته: هي حالة نفسية دون مرتبة الجنون, يفقد معها الشخص بعض تمييزه فيكون المعتوه ناقص الأهلية.

وتعرّفه المجلة العدلية: (إنَّه الذي اختلَّ شعوره؛ بأنْ كان فهمه قليلاً, وكلامه مختلطاً, وتدبيره فاسداً)(2).

السفَه؛ عرَّفت المجلة العدلية الإنسان السفيه بأنَّه: (الذي يصرف ماله في غير موضعه, ويبذر في مصروفاته, ويضيع أمواله ويتلفها بالإسراف)(3).

ص: 318


1- المجلة العدلية؛ المادة (944).
2- المصدر السابق؛ المادة (945).
3- المصدر السابق؛ المادة (946).

ذو الغفلة؛ عرفتهم المجلة بأنَّهم: (الذين لا يزالون يغفلون في أخذهم وإعطائهم, ولم يعرفوا طريق تجارتهم وتمتعهم؛ بسبب بلاهتهم وخلوّ قلوبهم).

وقال السيد الطباطبائي قدس سره: (لا يجوز بيع المجنون ولو أدوارياً إذا كان (بيعه) حال جنونه, ولا المغمي عليه, ولا السكران, ولا الصبي, ولا السفيه, ولا المكره بغير حقٍّ, ولا الغافل, ولا النائم, ولا الهازل؛ بلا خلاف أجده؛ إلا في الصبي خاصة).

الشرط الثالث: الإختيار

قال الشيخ الأنصاريقدس سره: (ومن شرائط المتعاقدين الإختيار, والمراد: القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب نفس, في مقابل الكراهة وعدم طيب النفس. لا الإختيار في مقابل الجبر)(1).

واستدلَّ على هذا الشرط بوجوه كما ورد في كلام الشيخ قدس سره:

1- القرآن الكريم؛ مثل قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)(2).

2- السنَّة الشريفة؛ من خلال عدة روايات؛ منها: قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (لَا يَحِلُ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ)(3). ومنها: قوله صلی الله علیه و آله و سلم في الحديث المعروف بحديث الرفع المتَّفق عليه بين المسلمين, عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: (قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ؛ الْخَطَأُ, والنِّسْيَانُ, ومَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ, ومَا لَا يَعْلَمُونَ, ومَا لَا يُطِيقُونَ, ومَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ, والْحَسَدُ, والطِّيَرَةُ, والتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْوَةِ؛ مَا لَمْ يَنْطِقُوا بِشَفَةٍ)(4).

ص: 319


1- المكاسب (ط. الحديثة)؛ ج3 ص307.
2- سورة النساء؛ الآية 29.
3- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 14 ص 572.
4- المصدر السابق؛ ج 15 ص 369.

بالتقريب الذي ذكره قدس سره من أنَّ ظاهر الحديث وإنْ كان رفع المؤاخذة إلا أنَّ استشهاد الإمام علیه السلام به في رفع بعض الأحكام الوضعية يشهد لعموم المؤاخذة فيه لمطلق الإلزام عليه بشيء, ففي صحيحة الْبَزَنْطِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ؛ يُسْتَكْرَهُ عَلَى الْيَمِينِ فَيَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ, وَصَدَقَةِ مَا يَمْلِكُ؛ أَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ علیه السلام : (لَا؛ قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي مَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ, وَلَمْ يُطِيقُوا وَمَا أَخْطَئُوا)(1). والحلف بالطلاق والعتاق وإنْ لم يكن صحيحاً عندنا من دون الإكراه أيضاً, إلا أنَّ مجرد استشهاد الإمام علیه السلام في عدم وقوع آثار ما حلف به بوضع ما أُكرهوا عليه يدلُّ على أنَّ المراد بالنبوي ليس خصوص المؤاخذة والعقاب الأخروي.

3- الإجماع؛ كما ادَّعاه جمعٌ من الفقهاء.

4- ضرورة المذهب؛ كما استدلَّ بها صاحب الجواهر قدس سره.

فلا إشكال في اعتبار هذا الشرط, والمراد به هو قصد إيقاع محتوى العقد, أي المعقود عليه, وهذا القصد هو الذي يعبّر عنه –علمياً- بالإرادة.

وقالوا بأنَّه لا بُدَّ أن تكون هذه الإرادة حرّة؛ بأنْ يكون لكلٍّ من المتعاقدين الخيار في ذلك؛ إنْ شاء فعل, وإنْ شاء لم يفعل, وهو معنى الإختيار.

كما أنَّه لا بُدَّ أنْ يصاحب هذا الإختيار الرضى بالفعل, أي الرغبة النفسية فيه.

وبناءً على ذلك تكون الإرادة هي: إنعقاد العزم على إجراء المعاملة التي هي محل التعاقد.

والإختيار هو: تمكن المتعاقد من ترجيح فعل المعاملة أو تركها.

والرضى هو: الرغبة في فعل المعاملة.

ص: 320


1- المصدر السابق؛ ج 23 ص 237.

وبناءً على جميع ذلك لا بُدَّ من أنْ يكون العقد وليد إرادة حرة.

ويمكن أنْ ندرج تلك العناوين تحت عنوان واحد وهو حرية الإرادة, وهذا هو معنى ما أسماه الفقهاء ب-(الإختيار), فإنَّ المقصود منهما واحد.

ومن عيوب الإرادة المؤثرة عليها في إفساد العقد؛ الإكراه.

والمراد بالإكراه -هنا- هو: أنْ يُرغَم المتعاقد على إجراء المعاملة عن طريق التهديد بإلحاق ضرر معين به, فيقوم بالإجراء خوفاً من وقوع الضرر المهدّد به.

قال النراقي: (لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط الإختيار, فلا يصحُّ عقد المكره؛ لفوات الشرط المذكور)(1).وقال صاحب الجواهر: (والمكره بغير حقٍّ الذي هو مِمّا رفع الشارع الحكم عمّا أكره عليه من قول أو فعل؛ بلا خلاف أجده فيه بيننا, بل الإجماع بقسميه عليه, بل الضرورة من المذهب) (2).

الشرط الرابع: التملك

والمقصود به أنْ يكون المتعاقد مالكاً لما يريد أنْ يجري المعاملة عليه وقادراً على التصرف فيه شرعاً؛ بأنْ يكون ممنوعاً شرعاً من التصرف فيه بنقل ملكيته إلى الغير أو تسليط الغير على التصرف فيه أو أنْ يكون المتعاقد مِمَّن له الحقُّ أنْ يحلّ محلّ المالك شرعاً أمثال: والد المالك وجده لأبيه, ووكيل المالك, ووصي المالك, أو وصي أبيه وجده, والحاكم الشرعي وأمينه, وعدول المؤمنين أو غيرهم عند عدمهم.

ص: 321


1- الحدائق الناضرة؛ ج18 ص373.
2- جواهر الكلام؛ ج22 ص265.

وقال صاحب الجواهر: (أنْ يكون البايع -مثلاً- مالكاً للمبيع أو مِمَّن له أنْ يبيع عن المالك, كالأب والجد للأب, والوكيل للمالك, والقائم مقامه, أو المأذون عنهم والوصي له, أو لأحد الأبوين المذكورين, والحاكم وأمينه, بلا خلاف أجده في شيء منها, بل الإجماع بقسميه على ذلك, بل غيره من الأدلة كتاب وسنة واضحة الدلالة عليه, بل تدلُّ على زيادة عدول المؤمنين من باب الحسبة المستفادة من آية المعاونة: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ)(1), وعدم السبيل على المحسن: ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)(2), وإنَّ المؤمنين بعضهم أولياء بعض: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(3), وخيرية الإصلاح لليتامى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْ)(4).

وجملة من النصوص المعتبرة, كصحيح بْنِ بَزِيعٍ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أصحابنَا وَلَمْ يُوصِ, فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى قَاضِي الْكُوفَةِ فَصَيَّرَ عَبْدَ الْحَمِيدِ الْقَيِّمَ بِمَالِهِ, وَكَانَ الرَّجُلُ خَلَّفَ وَرَثَةً صِغَاراً وَمَتَاعاً وجَوَارِيَ, فَبَاعَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الْمَتَاعَ, فَلَمَّا أَرَادَ بَيْعَ الْجَوَارِي ضَعُفَ قَلْبُهُ عَنْ بَيْعِهِنَّ إِذْ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ صَيَّرَ إِلَيْهِ وَصِيَّتَهُ, وَكَانَ قِيَامُهُ فِيهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي, لِأَنَّهُنَّ فُرُوجٌ, قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام وَقُلْتُ لَهُ: يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْ أصحابنَا وَلَا يُوصِي إِلَى أَحَدٍ وَيُخَلِّفُ جَوَارِيَ, فَيُقِيمُ الْقَاضِي رَجُلًا مِنَّا فَيَبِيعُهُنَّ, أَوْ قَالَ: يَقُومُ بِذَلِكَ رَجُلٌ مِنَّا فَيَضْعُفُ قَلْبُهُ, لِأَنَّهُنَّ فُرُوجٌ, فَمَا تَرَى فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: (إِذَا كَانَ الْقَيِّمُ بِهِ مِثْلَكَ وَمِثْلَ عَبْدِ الْحَمِيدِ فَلَا بَأْسَ)(5).

ص: 322


1- سورة المائدة؛ الآية 2.
2- سورة التوبة؛ الآية 91.
3- سورة التوبة؛ الآية 71.
4- سورة البقرة؛ الآية 220.
5- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 17 ص363.

وغيره, بل مقتضى كثيرٌ مِمّا سمعت قيام الفساق مقامهم أيضاً مع عدمهم )(1).وإذا نظرنا إلى واقع هذا الشرط وهو كون المتعاقد حرّ التصرف في المعقود عليه, يمكن تسمية هذا الشرط ب-(حرية التصرف).

وحينئذٍ يحقُّ لنا اختصار شروط المتعاقدين -كما عليه القانون المدني- تحت العناوين التالية:

1- الأهلية.

2- حرية الإرادة.

3- حرية التصرف.

الخلاصة

هذا ما يتعلق بأحد عناصر العقد وأركانه (وهو المتعاقدان) في الفقه الإسلامي, ولا سيما الفقه الجعفري. أمّا ما يتعلق بها في القانون فقد ذكر السنهوري في ما يرتبط بها, قال: (العقد يقوم على الإرادة, أي تراضي المتعاقدين, والإرادة يجب أنْ تتجه إلى غاية مشروعة, وهذا هو السبب, فللعقد إذن ركنان؛ التراضي والسبب, وإذا كان التراضي في شكل مخصوص, كما في العقود الشكلية, ففي هذه الحالة يكون هذا الشكل المخصوص ركناً من أركان العقد)(2).

وأمّا المحل فهو ركن في الإلتزام لا في العقد, ولكن أهميته لا تظهر إلا في الإلتزام الذي ينشأ من العقد, فإنَّ محل الإلتزام غير التعاقدي يتولى القانون تعيينه, فليس ثمة احتمال أنْ يكون غير مستوفٍ للشرط. أمّا محل الإلتزام التعاقدي؛ فإنَّ المتعاقدين هما اللذان يقومان بتعيينه, فوجب أنْ يراعيا استيفاءه للشروط التي يتطلبها القانون, ومن ثم فالمحل يذكر عادة مقترناً بالعقد.

ص: 323


1- جواهر الكلام؛ ج22 ص272-273.
2- الوسيط؛ ج1 ص170.

ولما كان بحثنا في العقود فإنَّه يمكننا استنتاج أركانها مِمّا ذكره في كتابه الوسيط, وهي:

1- التراضي.

2- العقد, أي الشكل المخصوص, بمعنى الصيغة المعينة.

3- المحل.

4- السبب, أي الغاية المشروعة.

5- الجزاء المتمثل في البطلان.

ثم فسَّر التراضي بأنَّه تطابق إرادتين فقال: (يتم العقد بمجرد أنْ يتبادل طرفا التعبير عن إرادتين متطابقتين مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد)(1).

ثم فصَّل الكلام في أركان الإرادة (أو العمل القانوني) وهي نفس أركان العقد وقال: (أنْ تكون إرادة صحيحة أي إرادة صادرة من ذي أهلية وخالية من العيوب).والتعاقد يتم بتعبير كلٌّ من المتعاقدين عن إرادته على النحو الذي ذكرناه؛ وهو توافق الإرادتين, وقد يمر التعاقد بمرحلة تمهيدية لا يكون العقد فيها باتاً, ويتحقق ذلك في الإتّفاق الإبتدائي وفي العربون.

والتعبير عن الإرادة قد يصدر من الأصيل في التعاقد, وقد يصدر من نائب عنه, أمّا التعبير الصادر عنه من الأصيل إمّا أنْ يكون باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة المتداولة عرفاً كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال في دلالته على حقيقة المقصود(2).

أمّا الإرادة الكامنة في النفس الذي يكون المظهر الخارجي تعبيراً عنها, فهي عمل نفسي ينعقد به العزم على شيء معين, وما دامت الإرادة عملاً نفسياً فإنَّه لا يعلم بها من الناس إلا صاحبها ولا يعلم بها غيره إلا عبّر عنها بأحد مظاهر التعبير.

ص: 324


1- الوسيط؛ ج 1 ص 177.
2- راجع الوسيط؛ ج 1 ص 175.

وقد ذكرنا ما يتعلق بالإرادة في أحد مباحثنا السابقة, ولما كانت الإرادة عنصراً مهماً في العقود بل مطلق المعاملات؛ لا بأس أنْ نذكر في المقام بعض ما قاله القانونيون بما يوضح

المقصود؛ يقرر علماء النفس أنَّ الإرادة يسبقها عملان تحضيريان ويليها عمل تنفيذي؛

1- المرحلة الأولى: هي إتّجاه الفكر إلى أمر معين, وهذا هو الإدراك.

2- المرحلة الثانية: هي التدبير؛ فيزن الشخص الأمر ويتدبره.

3- المرحلة الثالثة: هي إمضاء العزيمة في هذا الأمر والبتُّ فيه, وهذه هي الإرادة. فإذا انعقدت الإرادة لم يبق بعد ذلك إلا المرحلة الأخيرة.

4- المرحلة الرابعة: وهي التنفيذ, وهي مرحلة خارجية؛

أمّا المراحل الثلاث الأولى فهي مراحل داخلية نفسية؛ إثنتان منها ترجعان إلى التفكير, والثالثة هي الإرادة المقصودة, وقد ميّز علماء النفس هذه المراحل بعضها عن بعض حتى لا تختلط الإرادة بالرغبة؛ فإنَّه شيء سابق, ولا تلتبس بالتنفيذ؛ فهو شيء لاحق.

والذي ذكره علماء النفس قد لا يوافقه علماء الأخلاق في بعضها, بل النظريات الحديثة في علم النفس لا تسلّم بالتمييز فيما بين المراحل المختلفة بهذا التمييز الدقيق, وذهبت إلى أنَّه من الصعب الجزم بأنَّ الإنسان لا يدخل في مرحلة التدبير إلا بعد أنْ يتم مرحلة الإدراك, فإنَّ الإدراك والتدبير ينفعل أحدهما مع الآخر فيتفاعلان كقطرة تسقط في مجرى فتمتزج بالماء فتؤثر فيه ويتأثر منه.

ثم إنَّ مرحلة التدبير لا يزن فيها الإنسان الأمر على هذا النحو المادي فيستخلص أسباباً للإقدام على العمل وأخرى للإحجام عنه, فإنَّ العمل النفسي أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً, فإذا ما انتهينا إلى مرحلة الإرادة خيّل لمن يتبع التحليل المتقدم أنَّهناك قوة نفسية مستقلة غير قوة الإدراك وقوة التدبير, هي التي تتولى البتّ في الأمر وتكون حكماً لا تعقيب على

ص: 325

حكمه, مع أنَّ الإرادة ليست إلا ما ينتهي إليه الإدراك والتدبير, فهي ليست مستقلة عنها, وما هي إلا امتداد طبيعي لما أودع في الإنسان من تفكير وتمييز وتبصر.

وما ذكروه خلط بين الإرادة إذا لوحظت على نحو التفصيل وبين ما إذا لوحظت على نحو البساطة؛ فراجع ما تقدم بيانه في بحث الإرادة.

والذي نستفيده من مجموعة ما ذكره علماء النفس والأخلاق والقانون أنَّ الإرادة هي مرحلة من مراحل العمل النفساني الذي يتبعه التنفيذ, وهو المعبّر عنه في الفقه ب-(الرضا).

وسيأتي البحث في اللفظ المعبّر عن هذه الإرادة الذي يسمى بالعقد وأقسامه, فإنَّه قد يكون التعبير صريحاً وقد يكون ضمنياً, وهل يكتفي بالإرادة الباطنة إذا اختلفت مع المظهر الخارجي أو لا؟.

العنصر الثاني: العِوضان
اشارة

لما كان موضوع بحثنا المعاملات المالية بما فيها العقود, والمعاملة -كما تقدم- إنَّما تقع بين طرفين وهما المتعاقدان, وتقوم على أساس مبادلة مال بمال, أطلق على كلِّ واحدٍ من المالين المتبادلين في اللغة والإصطلاح عنوان (عِوَض) لأنَّه يُعوَّض به المال المبذول, فإنَّ كلَّ طرف من طرفي المعاملة عندما يسلّم ماله للآخر بحكم العقد الجاري بينهما يعوضه الطرف الآخر عن ماله المبذول بمالٍ آخر, فيكون كلُّ واحد من المالين هو عِوَض عن الآخر.

وقد عُرّف العوض في اللغة بالبدَل, ومن ذلك تسمى المعاملة بالمعاوضة, والمبادلة, أي معاوضة مالٍ بمال, ومبادلة مالٍ بمال.

وعرَّفه المحامي غطاس في كتابه: (عوض؛ في القانون التجاري تعني الكلمة شيئاً ذا قيمة يعطيه أحد طرفي العقد لحمل الطرف الآخر على إبرام العقد أو الدخول معه في إتفاق)(1).

ص: 326


1- معجم مصطلحات الإقتصاد والمال وإدارة الأعمال؛ ص 128.

وعرَّفه بعضهم بأنَّه: (الشيء الذي يدفع على جهة المثامنة بعقد, وهو عام في النقود وغيرها, أمّا الثمن خاص بالنقود).

وقد اختص عقد البيع من سائر معاملات البيع بكلمتي الثمن والمثمن, فيطلق على أحد العوضين ثمناً والآخر مثمناً, والفرق بينهما من حيث التسمية في معاملة البيع, فما يقدمه البائع من العوض -وهو المبيع- يسمى مثمناً, وما يقدمه المشتري هو الثمن.

ومن هنا انصبَّت تعاريف الفقهاء والقانونيون على الثمن بالخصوص دون المثمن, ويرجع الوجه في ذلك إلى أنَّ تعاريف المثمن من تعريف الثمن, لأنَّهالمقابل له, قال الراغب الإصفهاني: (الثمن: إسم لمِا يأخذه البائع في مقابلة البيع عيناً (أي نقداً) كان أو سلعة, وكلُّ ما يحصل عوضاً عن شيء فهو ثمنه)(1).

وعلى ضوء هذا التعريف عرّف بعض المعاجم العربية الثمن ب-: (العوض الذي يؤخذ على التراضي في مقابلة المبيع عيناً كان أو سلعة )(2).

وفي التعبير يفترق الثمن والمثمن بتعدية الفعل (فعل الشراء أو البيع) إلى المثمن بنفسه وإلى الثمن بالباء, قال تبارك وتعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ )(3), ويقال: (بعتك الكتاب بدينارٍ واحد), وتقول: (إشتريت الكتاب منك بدينارٍ واحد), أو تقول: (إشتريت كتاب البلاغة بكتاب النحو).

وهناك اصطلاح آخر استعمله العلماء وهي كلمة (القيمة), والفرق بينهما وبين الثمن أنَّ القيمة هي تقدير مالية الشيء من خلال المقومين, والقيمة تأتي في التقدير مساوية للشيء عادة, بينما الثمن قد يساوي وقد يزيد وقد ينقص.

ص: 327


1- مفردات ألفاظ القرآن؛ ص177.
2- القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً؛ ص52.
3- سورة يوسف؛ الآية 20.

وذكروا في تعريف الثمن بأنَّه: (قيمة الشيء وسعره الذي تمّ التراضي عليه, فهو أعمّ من القيمة التي هي السعر الحقيقي الذي يقومه بها المقومون).

ويقول الدكتور عمارة في كتابه: (الثمن ..... ما يقدره العاقدان عوضاً للمبيع في عقد البيع... وما قدرّه أهل السوق فيما بينهم وروّجوه في معاملاتهم يسمى قيمة, لأنَّ قيمة الشيء هي عبارة عن قدر ماليته بالدرهم والدنانير بتقويم المقومين وهي مساوية له, بخلاف الثمن؛ فإنَّه يكون ناقصاً وزائداً)(1).

ويقول الدكتور نزيه حماد: (ويطلق الفقهاء كلمة (الثمن) في مقابلة (القيمة) ويريدون به العوض الذي تراضى عليه المتعاقدان, سواء كان مطابقاً للقيمة الحقيقية أم ناقصاً عنها أم زائداً عليها)(2).

والحاصل من جميع ذلك؛ إنَّ في المقام ثلاث مصطلحات:

1- العِوض: وهو البدل؛ أي شيء يدفع على جهة المعاوضة ويجري في كل المعاوضات.

2- الثمن: وهو العوض الذي يبذله المشتري مقابل المبيع الذي يقدمه البائع له, وهو يختص بالبيع, وغالباً يكون بالنقد, ولا بُدَّ أنْ يكون مورد التراضي بين المتبايعين.

3- القيمة: وهي السعر الحقيقي الذي يقومه بها المقومون, وتجري في المعاملات كلها ولا تختص بالبيع.

ص: 328


1- قاموس المصطلحات الإقتصادية في الحضارة الإسلامية؛ ص 136.
2- معجم المصطلحات المالية والإقتصادية في لغة الفقهاء؛ ص 131.
شروط العِوضين

إشترط الفقهاء في العوضين أنْ يتوفر في كلِّ واحد منهما أوصاف معينة وهي:

1- أنْ يكونا متمولين

قالوا: إنَّ اشتراط المالية في العوضين أمر أساسي تقتضيه طبيعة المعاملة المالية لتوقف اعتبارها مالية عليه. فتتقوم بالمال لكونها مالية.

وقد تقدم الكلام في المال وذكرنا أنَّ مالية الشيء تقوم على عنصرين أساسيين, وهما:

أ- إعتبار العرف؛ وبهذا العنصر يحترز عن الشيء الذي لا ينتفع به منفعة مقصودة للعقلاء, فإنَّه لا يعدُّ مالاً عرفاً, وقد ضربوا لذلك أمثلة كثيرة في الفقه, كحبة الأرز والخنافس والديدان, إلا إذا اتَّصفت بوصف يعطيها قيمة إجتماعية, وذلك كما إذا كتبت على الحبة آيات من الذكر الحكيم مِمّا تعدُّ بسببه مالاً عرفاً, أو كانت للديدان منفعة مادية معينة طبية ونحوها كدودة العلق. وغير ذلك.

ب- تحليل الشرع؛ ويحترز بهذا عن الأشياء التي أكد الشارع المقدس ماليتها, فإنَّها لا تعدّ مالاً كالخمر مثلاً.

وعليه؛ فمتى ما توافر هذان العنصران -إعتبار العرف وتحليل الشرع- في الشيء الذي يراد جعله عوضاً في المعاملة عُدَّت عوضاً.

وقد تسالم الفقهاء على هذا الشرط بلا خلاف بينهم.

2- أنْ يكونا مملوكين

وذلك لعدم صحة تصرف الإنسان تصرفاً تبادلياً, أي جعله عوضاً لينتقل إلى الطرف الآخر إلا في ملكه, ومنه كانت القاعدة الفقهية المعروفة: (لا بيع إلا في ملك).

وهذا الشرط أيضاً موضع وفاق الفقهاء.

ص: 329

3- أن يكونا طِلقين

والطِلْق -بكسر الطاء المهملة وسكون اللام- كما يعرّفه الشيخ الأنصاري بأنَّه: (تمام السلطنة على الملك, بحيث يكون للمالك أنْ يفعل بملكه ما شاء, ويكون مطلق العنان في ذلك)(1).

ولا يخفى أنَّ هذا التعريف يساوق حرية التصرف التي تقدم الكلام فيها عند اشتراط توافرها في المتعاقدين. ولكن الكلام هنا في العوض دون المتعاقدين.ومن أجل ذلك عرفت بعض المعاجم الطِلق ب-:(المطلق الذي يتمكن صاحبه فيه من جميع التصرفات). وبذلك يصلح أنْ يكون وصفاً للعوض, وذلك لأنَّ المراد بهذا الشرط أنْ يكون الشيء الذي يقصد استعماله عوضاً في المعاملة غير متَّصف بما يمنع المالك من التصرف به نقلاً وانتقالاً بغير إذن المرتهن أو إجازته. ولا يتَّضح ذلك إلا من خلال التعريف المعجمي المذكور.

ولا إشكال في اعتبار هذا الشرط, ولا خلاف فيه بين الفقهاء.

4- أنْ يكونا معلومين

والعلم بهما إنَّما يتحقق بالتالي:

أ- معرفة ماهية العوض من حيث النوعية.

ب- معرفة مقدار العوض من حيث الكمية إنْ كان مِمّا يقدر.

ج- معرفة أوصافهما المميزة.

فالمراد من كونهما معلومين أنْ يكونا معينين بتلك المقدرات التي تختلف بحسب الأجناس التي تقع مورد المعاملة.

ص: 330


1- المكاسب؛ ج4 ص29.

والدليل على هذا الشرط الحديث المروي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم الذي تلقّاه المسلمون بالقبول واشتهر بينهم, وهو: (نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ)(1), و(عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ)(2). وقد استدلَّ الفقهاء بهما في تفسير الغرر بالجهالة التي تعني عدم العلم.

5- أنْ يكونا مقدورين على تسليمهما

أي القدرة على تبادلهما بتسليم طرف عوضه إلى الآخر, قال الشيخ الأنصاري: (من شروط العوضين القدرة على التسليم, فإنَّ الظاهر الإجماع على اشتراطها في الجملة, كما في جامع المقاصد, وفي التذكرة: إنَّه إجماع, وفي المبسوط: الإجماع على عدم جواز بيع السمك في الماء ولا الطير في الهواء, وعن الغنية: إنَّه إنَّما اعتبرنا في المعقود عليه أنْ يكون مقدوراً عليه تحفظاً مِمّا لا يمكن فيه ذلك, كالسمك في الماء والطير في الهواء, فإنَّما هذه حالة لا يجوز بيعه بلا خلاف.

واستدلَّ العلامة في (التذكرة) بأنَّه: نهَىَ النبي صلی الله علیه و آله و سلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ؛ وهذا غرر.

والنهي -هنا- يوجب الفساد إجماعاً على الظاهر المصرّح به في موضع من (الإيضاح) واشتهار الخبر بين الخاصة والعامة يجبر إرساله)(3).

وقد جعل أكثر الفقهاء وأهل الخبرة ما نحن فيه من مصاديق الغرر, فإنَّ الكلَّ مفتون على أخذ الجهالة في معناه, سواء تعلق الجهل بأصل وجوده أم بحصوله في يد من انتقل إليه أم بصفاته كماً وكيفاً.

ص: 331


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 17 ص448.
2- المصدر السابق.
3- المكاسب (ط. الحديثة)؛ ج4 ص175-176.
العنصر الثالث: التعاقد
اشارة

تعريفه

تقدم ذكر تعاريف العقد, أمّا التعاقد فهو: إجراء العقد من الطرفين.

وقد ورد في اللغة: (تعاقد القوم)؛ إذا تعاهدوا.

والمعاقدة: المعاهدة. ومنه قولهم: تعاقدوا فيما بينهم؛ إذا تعاهدوا فيما بينهم.

ومن تعاريف العقد: إنَّه إتّفاق يتعهد بمقتضاه شخص أو أكثر بأداء مال أو عمل شيء لشخص أو أشخاص آخرين.

ومنه تعرف معنى التعاقد؛ أي إجراء العقد من قبل طرفي المعاملة المالية متضمناً تعهد كلٍّ منهما للآخر بالتملك والتمليك, والنقل والإنتقال.

عناصره

ذكر العلماء أنَّه إذا أريد أنْ يتمّ آثار العقد من التمليك والتملك أو النقل والإنتقال على التعاقد لا بُدَّ أنْ يكون مشتملاً على عنصرين مهمين هما قوام حقيقة العقد, وهما:

1- توافر إرادتي طرفي العقد وتوافقهما, ويعرف هذا في الفقه ب-(التراضي).

2- التعبير عن ذلك التوافق والتراضي بالقبول أو الفعل, لأنَّ وجود الإرادة لدى كلِّ طرف من طرفي التعاقد الذي هو قوام الرضى يحتوي العقد ومقتضاه, والإرادة أمر نفسي لا يعرف إلا بالتعبير عنها وإبرازها بمبرز؛ إمّا قولاً أو فعلاً, وبتحقيق الرضا خارجاً يتحقق التراضي.

ولازم هذا التراضي الذي يعدُّ توافق الإرادتين, ويتعهد كلُّ طرف من طرفي المعاملة بترتيب آثار العقد.

ص: 332

وحينئذٍ لا بُدَّ من:

أ- وجود الإرادة.

ب- التعبير عن الإرادة.

ج- توافق الإرادتين.

د- التعهد بترتيب آثار العقد.

توافق الإرادتين

عرفت معنى الإرادة سابقاً وحقيقتها وهي في الفلسفة حالة نفسية يمثلها الشوق المؤكد, أو قُل: رغبة ملحة للقيام بفعل من الأفعال؛ تحرّك صاحبها للقيام بالفعل, إشباعاً لتلك الرغبة.

وفي علم النفس: هي عمل ذهني يمرّ بمراحل ثلاث, وهي:

1- مرحلة التفكير؛ وهي المرحلة التي يتَّجه الفكر إلى أمر معين يرغب في تحقيقه.

2- مرحلة التقويم؛ وهي التي يقوم المرء فيها بتقييم ذلك الأمر ثم التصميم على تحقيقه.

3- مرحلة التحقق؛ وهي التي يقوم فيها المرء بإجراء ما يتحقق به الأمر.

وتقدم نقل كلمات السنهوري في هذا الأمر؛ فراجع.

التعبير عن توافق الإرادتين

عبَّر الفقهاء على تسمية هاتين الإرادتين ب-(الإيجاب) و(القبول), فإنَّ الإرادة التي تقوم بالعرض يسمى صاحبها ب-(الموجب), والإرادة التي تقبل ذلك العرض يسمى صاحبها ب-(القابل)؛ فيكون الإيجاب عرضاً, والقبول رضى بذلك العرض. قال الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله: (الموجب هو الذي يُملِّك ويمتلك, سواء تقدم لفظه أم تأخر)(1).

والقابل: هو الذي يرضى ويطاوع فعل الموجب, وتقدم ذلك أو تأخر.

ص: 333


1- تحرير المجلة؛ ج 1 ص 117.

فقضية الموجب والقابل ليست قضية تقديم أو تأخير وإنَّما الفرق بينهما جوهري ومعنوي وحالهما يشبه -في الجملة- الكسر والإنكسار.

والميزان العدل أنْ يُقال: الإيجاب: هو ما ينشئ به أحد العاقدين تمليك ماله وتملِّك مال غيره. والقبول: هو الرضى بذلك والالتزام به.

وعليه؛ يكون الإيجاب والقبول الوسيلتان التي عن طريقهما تبرز الإرادتان وتظهران في الواقع الخارجي. وعند تجاوب القبول مع الإيجاب يتحقق العقد.

ومن هنا ورد في القانون: يشترط العقدُ الجامع لإرادتين أو أكثر؛

من جهة أولى: عرضاً أو إيجاباً يصدر عن طرف.

ومن جهة ثانية: قبولاً بالعرض يردُّ من طرف آخر فليتقي العرض مع القبول وتتوافق الإرادتان بالتقائهما, فينشأ العقد عن هذا التوافق(1).

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ التعبير إذا أريد منه أنْ يتحقق إبراز توافق الإرادتين ورضى الطرفين لا بُدَّ أنْ يخطو الخطوات التالية:

1- الإيجاب أو العرض.

2- القبول أو الرضى بالعرض.

3- تجاوب القبول مع الإيجاب.

الشروط العامة

يشترط في الإيجاب ما يلي:

1- الشموليةبمعنى أنْ يكون العرض الذي يقدمه الموجب ويعرضه على القابل شاملاً لجميع الشروط المطلوبة واللازم توافرها لإبرام العقد وتحقيق مقتضاه.

ص: 334


1- نظرية العقد؛ ص 112.

2- الوضوح

بمعنى أنْ يكون التعبير -قولاً كان أو فعلاً- واضحاً؛ بأنْ لا يكون فيه ما يثير الإلتباس أو التحفظ.

ويشترط في الموجب أيضاً التالي:

أ- أنْ يكون جاداً في عرضه, أي لا يكون هازلاً أو في معرض اللهو والتسلية أو التعجيز.

ب- أنْ يكون جازماً في عرضه؛ غير متردد أو متريب.

تقسيمه

ينقسم التعبير عن التراضي أو توافق الإرادتين -على الرأي المشهور- إلى قسمين؛ أو قلْ: أسلوبين, وهما:

1- التعبير بالقول.

2- التعبير بالفعل.

التعبير بالقول

يتحقق ذلك باستعمال الصيغة -كما ورد في لغة الفقهاء- المُفهمة للمقصود, كما تقدم في اعتبار الوضوح في التعبير عن الإيجاب والقبول.

وقد عبّر عنه الفقهاء ب-(اللفظ الصريح) وهو الدالُّ على المعنى المقصود بوضوح في مقابل (الكناية)؛ التي هي اللفظ الذي لا يدلُّ على المعنى المقصود إلا بمساعدة القرائن.

قال الشيخ الأنصاري قدس سره: (والمراد بالصريح كما يظهر من جماعة من الخاصة والعامة في باب الطلاق وغيره: ما كان موضوعاً لعنوان ذلك العقد لغة أو شرعاً, ومن الكناية: ما أفاد لازم ذلك العقد بحسب الوضع فيفيد إرادة نفسه بالقرائن ..... والذي يظهر من النصوص المتفرقة في أبواب العقود اللازمة والفتاوى المتعرضة لصيغها في البيع بقول

ص: 335

مطلق وفي بعض أنواعه, وفي غير البيع من العقود اللازمة هو: الإكتفاء بكلِّ لفظ له ظهور عرفي معتدّ به في المعنى المقصود ..... إذ لا يعقل الفرق في الوضوح الذي هو مناط الصراحة بين إفادة لفظٍ للمطلب بحكم الوضع, أو إفادته له بضميمة لفظ آخر يدلُّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك اللفظ)(1).

وما أفاده قدس سره هو الصحيح؛ وذلك لأنَّ الوقوف عند عبارة معينة, وبخاصة إنَّ الألفاظ المذكورة هي باللغة العربية, فلا يتمُّ اشتراطها إلا إذا أتمَّ اشتراط إستعمال اللغة العربية لغة المعاملات المالية عند العرب وغير العرب؛ وهو غير تامّ, لماسيأتي من أنَّ الأمر على العكس لزيادة السيرة العقلائية, بل تطابق المجتمعات البشرية على إستعمال أهل كلّ لغة عبائر من لغتهم في المعاملات المالية بما تعارفوا عليها والتزموا بها وكان هذا الشيء بمرأًى من الشرع ومسمع منه ولم يصدر منه ما يمنع عن ذلك.

نعم؛ إنَّ الجميع متَّفقون على وضوح اللفظ سواءً كان مستنداً إلى الموضع أم القرينة المعتبرة عندهم, ومن أجل ذلك قال السيد الوالد قدس سره: (عقد البيع يحتاج إلى إيجاب وقبول, ويكفي كلُّ لفظ ظاهر في المعنى المقصود ..... وكذا في جميع العقود؛ فيكفي فيها أيضاً الظهور في المعنى المقصود)(2).

ثم إنَّ الفقهاء اختلفوا في شؤونها الأخرى, وهي:

1- إشتراط كون عبارة الإيجاب والقبول بصيغة الفعل الماضي المقصود به الإنشاء لا الإخبار.

والمشهور الإشتراط, وإنْ جوَّز بعض الفقهاء التعبير بكلِّ صيغة مفهمة دالَّة على المقصود, لأنَّ حقيقة العقد هو التراضي (توافق الإرادتين) وليست الألفاظ إلا مترجمة عنه.

ص: 336


1- المكاسب؛ ج3 ص120-126.
2- مهذب الأحكام؛ ج16 ص214-215.

قال الشيخ الأنصاري قدس سره: (المشهور -كما عن غير واحد- اشتراط الماضوية ..... ولعله لصراحته في الإنشاء؛ إذ المستقبل أشبه بالوعد, والأمر إستدعاء لا إيجاب, مع أنَّ قصد الإنشاء في المستقبل خلاف المتعارف)(1). وعن القاضي في (الكامل) و(المهذب) عدمه, ولعله لإطلاق البيع والتجارة وعموم العقود, وما دلَّ على بيع الآبق, واللبن في الضرع من الإيجاب بلفظ المضارع, وفحوى ما دلَّ عليه في النكاح؛ لا يخلوا هذا من قوة.

واستناداً لما جاء في بعض نصوص البيع, أمثال حسنة الْحَلَبِيِّ؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادق علیه السلام قَالَ: قُدِّمَ لِأَبِي مَتَاعٌ مِنْ مِصْرٍ, فَصَنَعَ طَعَاماً وَدَعَا لَهُ التُّجَّارَ, فَقَالُوا:نَأْخُذُهُ مِنْكَ بِده دوازده(2), قَالَ لَهُمْ أَبِي: (وَكَمْ يَكُونُ ذَلِكَ (3)؟ قَالُوا: فِي عَشَرَةِ آلَافٍ أَلْفَيْنِ, فَقَالَ لَهُمْ أَبِي: فَإِنِّي أَبِيعُكُمْ هَذَا الْمَتَاعَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً؛ فَبَاعَهُمْ مُسَاوَمَةً)(4).

وقال السيد الوالد قدس سره: (لا يعتبر في عقد البيع العربية ..... وكذا لا يعتبر الماضوية؛ فيصحُّ بالمضارع أيضاً ..... لإطلاق أدلة العقود وعموماتها)(5).

ص: 337


1- المكاسب (ط. الحديثة)؛ ج3 ص138.
2- إثنين على كلِّ عشرة.
3- قوله علیه السلام : (وَكَمْ يَكُونُ ذَلِكَ) مع ما علم أنَّه كان يعلم جميع اللغات يحتمل وجوهاً؛ منها: التقية وإرادة إخفاء تلك الفضيلة. ومنها: إرادة بيان معنى اللفظ لجميع أهل المجلس، ولعلَّ أكثرهم لم يكن يفهم معناه. ومنها: إحتمال كون المتكلم إستعمل اللفظ في غير معناه، ويكون له إصطلاح خاصّ. ومنها: الإنكار عليهم في استعمال الألفاظ الفارسية وهم عرب، ولغة العرب واسعة جداً لا ضرورة إلى خلطها بغيرها. ويحتمل غير ذلك من الوجوه.
4- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 18 ص 61.
5- مهذب الأحكام؛ ج16 ص215-216.

2- إشتراط أنْ تكون العبارة باللغة العربية.

وهو المشهور بين الفقهاء أيضاً, واستدلّوا عليه بأنَّ العربية هي القدر المتيقن من أسباب وسائل النقل والإنتقال والتأسي, ولعدم صدق العقد على غير العربي.

ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى عدم اشتراطه, وجواز إجراء العقد بأيَّة لغة أخرى, قال السيد الوالد قدس سره في الدليل على عدم اشتراطه: (للإطلاقات والعمومات الشاملة لجميع اللغات, وعدم ورود تحديد من الشرع في ذلك)(1).

ويكفي فيه أيضاً التقرير لسيرة العقلاء على ذلك.

3- إشتراط الترتيب بتقديم الإيجاب على القبول:

وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط على ثلاثة أقوال, وهي:

القول الأول: الإلتزام بالترتيب مطلقاً

أي بلا فرق في ألفاظ القبول وعبائره.

وقيل: إنَّه الأشهر عند فقهائنا, وإليه ذهب العلامة الحلي في (المختلف), واستدلَّ له تارة بالأصل؛ وهو إمّا أصالة عدم ترتيب الأثر بدون هذا الشرط, وإمّا أصالة البقاء على ملك مالكه؛ بمعنى: إنَّه إذا قدمنا القبول على الإيجاب نشكُّ في صحة العقد, والأصل الجاري هنا هو الإستصحاب على تقديم القبول سبباً شرعياً فيبقى على الأصل الذي كان عليه.

وأخرى: بالدليل العقلي؛ وهو أنَّ القبول فرع الإيجاب, والفرع بما هو فرع لا يعقل تقدمه على أصله وإلا لزم الخلف.

ونوقش كِلا الدليلين؛ أمّا الأول؛ فلأنَّه لا مجال للرجوع إلى الأصل بعد شمول إطلاق النصوص الشرعية كآية: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2) الشاملة لما إذا تأخر الإيجاب عن القبول.

ص: 338


1- المصدر السابق.
2- سورة المائدة؛ الآية 1.

وأمّا الدليل الثاني؛ فلا بُدَّ من الفرعية في التأثير بمعنى لا بُدِّيَّة وجودهما لا فرعية الترتيب أي تقديم الإيجاب على القبول, فإنَّ كلَّ واحد من الإيجاب والقبول مفتقر إلى الآخر.

القول الثاني: عدم لزوم الترتيب مطلقاً

فيجوز تقديم القبول على الإيجاب من غير فرق في ألفاظ القبول.

وقد ذهب إليه جماعة؛ منهم المحقق الحلي قدس سره, قال: (وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؛ فيه تردد, والأشبه عدم الإشتراط)(1), ودليله أمران:

1- الإطلاقات السليمة عن المقيد. كما ردَّ به القول الأول.

2- الروايات الواردة في باب النكاح الدالة على جواز التقديم, ففي خبر أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: أَتَزَوَّجُكِ مُتْعَةً عَلَى كِتَابِ الله وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ..... (فَإِذَا قَالَتْ: نَعَمْ فَقَدْ رَضِيَتْ وَهِيَ امْرَأَتُكَ وَأَنْتَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا)(2).

وفي الخبر المعروف في كتب الفريقين: (زوجنيها يا رسول الله ..... )(3).

فإنه إذا تمَّ هذا في النكاح؛ ففي غيره من العقود كالمعاملات المالية يكون أولى.

القول الثالث: التفصيل بين ألفاظ القبول

1- فليزم الترتيب بتقديم الإيجاب وتأخير القبول إذا كان بلفظ (قلبت) أو (رضيت).

2- ويجوز الترتيب وعدمه إذا كان القبول بغير ما ذكر.

وقد رأى الشيخ الأنصاري في (المكاسب) واستدلَّ للجواز بما استدلَّ به القول الثاني؛ وهي العمومات السالمة عن التخصيص وفحوى جوازه في النكاح.

ص: 339


1- شرائع الإسلام؛ ج2 ص7.
2- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 21 ص 43.
3- الإنتصار؛ ص291.

واستدلَّ للزوم الترتيب في الغرض الأول بالإجماع المنقول, وإنَّ تقديم القبول إذا كان بلفظ (قبلت) أو (رضيت) خلاف المتعارف, فلا تشمله الإطلاقات؛ لانصرافها إلى المتعارف, وإنَّ القبول فرع الإيجاب.

قال قدس سره: (والتحقيق؛ إنَّ القبول ..... فإنْ كان بلفظ (قبلت) فالظاهر عدم جواز تقديمه وفاقاً لما عرفت في صدر المسألة من التصريح به في (الخلاف) و(الوسيلة) و(الرائد) و(التذكرة) كما في (الإيضاح) و(جامع المقاصد), بل المحكي عن (الميسية) و(المسالك) و(مجمع الفائدة) أنَّه لا خلاف في عدم جواز تقديم لفظ(قبلت), وهو المحكي عن نهاية الأحكام وكشف اللثام في باب النكاح, وقد اعترف به غير واحد من متأخري المتأخرين أيضاً, بل المحكي هناك عن ظاهر (التذكرة) الإجماع عليه.

ويدلُّ عليه -مضافاً إلى ما ذكر وإلى كونه خلاف المتعارف من العقد- أنَّ القبول الذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب فلا يعقل تقدمه عليه)(1).

ويمكن مناقشة ما ذكره قدس سره بما يلي:

1- أمّا الإجماع فهو غير متحقق لوجود المخالف؛ كما بيَّنا.

2- وأمّا الدليل العقلي فقد عرفت أنَّ الفرعية لا تعني الفرعية الترتيبية, وإنَّما تعني الفرعية التكاملية.

ومن هنا قال السيد الوالد قدس سره في الدليل على جواز تقديم القبول على الإيجاب مطلقاً: (لتحقق إنشاء تملك المبيع عرفاً تقدم أو تأخر فتشمله الأدلة لا محالة, ولا يعتبر في القبول غير إنشاء التملك والرضاء بفعل البائع, والرضا يتعلق بالمستقبل كتعلقه بالماضي والحال, وكذا المطاوعة؛ فإنَّها إنْ كانت اعتبارية تدور مدار صحة الإعتبار عند العرف, ولا

ص: 340


1- المكاسب (ط. الحديثة)؛ ج3 ص143-144.

إشكال في صحَّة الإعتبار لديهم. نعم؛ في المطاوعة الخارجية كالكسر والإنكسار؛ لا وجه للتقدم كما هو معلوم, لأنَّه من تقدم المعلول في الوجود الخارجي على علته )(1).

وناقش ما ذكره الشيخ قدس سره بأنَّ الإجماع لا وجود له في المسألة الخلافية, وإنَّ فرعية القبول للإيجاب هي عين الدعوى, مع أنَّه لا يصحُّ في الموجودات المتأهلة الخارجية دون الإعتبارية التي تدور مدار الإعتبار كيفما اعتبر.

وأمّا المتعارف فهو من باب الغالب لا التقييد, فالمقتضي للصحة موجود والمانع مفقود.

وقد يتمسك لقول الشيخ قدس سره من التفصيل بأنَّ استعمال عبارتي (قبلت) و(رضيت) أنَّه المفهوم اللغوي لكلمتي (قبل ورضي), وكذلك المرتكز العرفي أنَّ القبول الذي هو يرادف الرضا لا يأتي إلا إذا كان هناك عَرْضٌ, فيأتي رضى بذلك العَرض وقبولاً به.

وبعبارة أخرى: إنَّ القبول والرضا ميل النفس إلى الشيء, فلا بُدَّ من وجود شيء لتميل النفس إليه.

ولكنه مردود أيضاً بأنَّه عين الدعوى التي تقدمت من الشيخ وغيره, والميل النفسي موجود قبلي للإيجاب والقبول, ثم يرد عليه القبول, فلا إشكال في تقديم القبول على الإيجاب مطلقاً بأيِّ لفظ كان.وقوع العقد بغير القول

تقدم ما يرتبط للتعبير باللفظ في الإيجاب والقبول, وهل يقعان بالإشارة المفهمة أو الكتابة؟.

وقد اختلف الفقهاء في الرجوع إليهما مطلقاً حتى مع التمكن من اللفظ والعبارة, أم أنَّهما يقومان مقام اللفظ مع عدم التمكن منه أو من التوكيل, ويأتي الكلام فيه في محله إنْ شاء الله تعالى.

ص: 341


1- مهذب الأحكام؛ ج16 ص216-217.
التعبير بالفعل

ويصطلح عليه في الفقه ب-(المعاطاة), كما يطلق عليه أسم (التعاطي) أيضاً.

والمعاطاة -في اللغة- مصدر الفعل (عاطى), يقال: عاطاه الشيء معاطاة وعِطاءً. إذا ناوله إيّاه, فالمعاطاة (المناولة).

و(التعاطي) أيضاً مصدر, والفعل منه (تعاطى الشيء تعاطياً) إذا تناوله؛ فعاطى: ناول, أو تعاطى: تناوله.

وكِلا الفعلين إذا وقعا معاً, وكان كلُّ واحد منهما من طرف يقال: (عاطى زيدُ خالد الكتاب, فتعاطى خالد الكتاب)؛ فإنَّهما -هنا- يعنيان التبادل والمبادلة, ويعطيان مجتمعين المعنى الغالب للمفاعلة والتفاعل, وهو المشاركة وإنْ كان الفقهاء أعطوا كلَّ واحد من المعاطاة والتعاطي, وباستقلال كلّ واحد منهما عن الآخر معنى المشاركة.

وكيف كان؛ فإنَّ المعاطاة –كمصطلح فقهي- تعني تبادل المناولة, بمعنى: إنَّ الموجب يناول ماله المتَّفق على مبادلته في عقد المعاملة المالية إلى القابل, والأخير يناول الموجب المال المقابل لما له حسب الإتّفاق.

ولا ريب أنَّ هذا التبادل في الإعطاء هو الغالب في المعاملات المالية, وإنْ كان يختلف في بعض المعاملات؛ حيث يكون فيها إعطاء وأخذ من دون أنْ يبادله الآخر بمال نقداً كما هو الحال في عقد القرض؛ فإنَّ فيه يستقر المال للموجب في ذمة القابل.

والمعاطاة باعتبار كونه فعلاً لا تقترن بالإيجاب والقبول القوليين, فقد إختلف الفقهاء في أنَّها تقوم مقام التعبير, فتكون عقداً بديلاً عن الإيجاب والقبول اللفظيين.

وقبل بيان الأمراء في هذه المسألة, لا بُدَّ من بيان أنَّ المعاطاة تتحقق في إحدى حالتين:

1- أنْ لا تشتمل المعاملة على اللفظ أصلاً.

2- أنْ تشتمل المعاملة على لفظ من أحد الطرفين وفعل من الطرف الآخر.

ص: 342

ومن هنا قال الزركشي في تعريفها: (المعاطاة: أنْ يوجد في أحد شقي العقد لفظٌ صدر من أحد المتعاقدين, ويشفعه الآخر بالفعل. أو لا يوجد لفظ أصلاً, ولكن يصدر الفعل بعد اتّفاقهما على الثمن والمثمن)(1).

ومن المعلوم أنَّ لفظ المعاطاة لم يرد في نصّ حتى يهتم بتفسيره, بل هو وارد في كلمات الفقهاء, قال السيد الوالد قدس سره: (والحقُّ أنَّها تشتمل كلُّ ما لم يشتمل العقد اللفظي مع الإجتماع لجميع الشرائط, سواء تحقق تعاطٍ في البين من الطرفين أم لا, فالأولى في العنوان أنْ يقال: إنَّ البيع -مثلاً- يتحقق بالعقد اللفظي, وبما ليس فيه عقد لفظي مع وجود مبرز آخر عن عنوان المعاهدة)(2). والفقهاء لهم رأيان في العلاقة المالية التي تتحقق بين الناس في المعاطاة, هما:

1- إنَّ المعاطاة من نوع العقود المالية كالبيع والقرض.

2- إنَّ المعاطاة معاملة مالية غير عقدية.

الرأي الأول: إنَّ المعاطاة من نوع العقود المالية كالبيع والقرض

وقد اختاره بعض العلماء وذلك لأنَّ قوام العقد -عند أصحاب هذا الرأي- هو التراضي بين المتعاملين سواء عبّر عنه بالألفاظ المبرزة له أم لم يعبّر بها, مكتفين عن الألفاظ بتبادل العوضين عن طريق التناول, ومن هنا تنقسم المعاملة عند أصحاب هذا الرأي إلى:

أ- عقد قولي؛ وهو الذي يشتمل على الإيجاب والقبول اللفظيين.

ب- عقد فعلي؛ وهو المعاطاة بكلا قسميها المتقدم ذكرهما.

ص: 343


1- معجم المصطلحات المالية والإقتصادية في لغة الفقهاء؛ ص426.
2- مهذب الأحكام؛ ج16 ص228.

قال السيد الوالد قدس سره: (لا ريب في تقوّم العقود مطلقاً بالعهد المبرز له, إذ لا يكفي مجرد العهد القلبي بين الطرفين من دون إبراز في البين باتّفاق العقلاء وإجماع الفقهاء, ومقتضى الأصل والعمومات والإطلاقات عدم شرطية خصوص اللفظ في حيثية الإبراز والإظهار, فيجتزي بكلِّ ما فيه جهة الإبراز وحيثية الإظهار عند العرف لأنَّ اعتبار اللفظ إنَّما هو لكشفه عن المعاهدة الواقعة والإرتباط المعاملي الواقع بين المتعاملين, ولا موضوعية فيه بوجه أبداً, فبكلِّ وجه كشفت المعاهدة الواقعة بينهما نثبت به المعاقدة والمعاهدة, ولا ريب في أنَّ التعاطي ونحوه يكشف عن المعاهدة والمعاقدة, وربَّما كان الكشف فيه أقوى من الكشف الحاصل من اللفظ)(1).

فالمعاطاة بناءً على هذا الرأي من المعاملات العقدية, وإنْ اختلف أصحابه في الآثار الشرعية التي تترتب على قسم من قسمي هذه المعاملة العقدية.وأقدم من ذهب إلى هذا الرأي الشيخ المفيد قدس سره المتوفى في سنة 423 ه- في رسالته: (والبيع ينعقد على تراضٍ بين الإثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعاً وتراضياه بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان)(2).

الرأي الثاني: إنَّ المعاطاة معاملة مالية غير عقدية

حيث أنَّ قوام العقد(3) هو الإيجاب والقبول اللفظيين.

وكذلك اختلف أصحاب هذا الرأي في الآثار الشرعية التي تترتب على معاملة كهذه, وأقدم من ذهب إلى هذا الرأي أبو الصلاح الحلبي -المتوفى سنة 447 ه- - قال: (وتفتقر

ص: 344


1- المصدر السابق؛ ص228-229.
2- المقنعة؛ ص591.
3- عند القائلين بهذا الرأي.

صحته (يعني البيع) إلى شروط ثمانية ..... وقول يقتضي إيجاباً من البائع وقبولاً من المبتاع ..... واشترطنا الإيجاب والقبول لخروجه من دونهما عن حكم البيع)(1).

والحاصل من جميع ذلك: إنَّ هناك اتّفاقاً في أنَّ المعاطاة معاملة, واختلافاً في أنَّها عقدية أو غير عقدية, وكذلك نخلص إلى أنَّهم مجمعون على أنَّ المعاملة العقدية معاملة مشروعة, ومتى ما استوفت شرائطها تقع صحيحة, وتترتب عليها آثارها الشرعية؛ من النقل والإنتقال والتمليك والتملك وغيرها.

وهم مختلفون في واقع المعاملة غير العقدية بين الصحة والبطلان, فيكون عندنا إجماع على أنَّ المعاملة مع التعبير القولي هي عقد, وبدونه مختلف في عقديتها.

وعلى ذلك ذكر الشيخ النراقي قدس سره: (إعلم أنَّ الشارع رتَّب أحكاماً على البيع وليس هنا نص أو إجماع دالٌّ على أنَّ البيع أو ما يتحقق به البيع ما هو؟)(2).

وحينئذٍ؛ فإمّا أنْ يقال أنَّه ليس له معنى لغوي أو عرفي معلوم لنا مع قطع النظر عن الشرع, فيلزم حينئذٍ علينا الإقتصار في ترتب الأحكام بما انعقد الإجماع على تحقيق البيع به.

أو يقال أنَّ له معنى كذلك معلوماً لنا, وحينئذٍ؛ فإمّا أنْ يكون قد ثبت شرعاً بإجماع أو غيره شرط لتحقق البيع أو لا؛

فإنْ ثبت؛ فيقتصر في تحقق البيع شرعاً بما هو واجد للشرط.

وإنْ لم يثبت؛ فيحكم بالترتب -أي ترتب أحكام وآثار البيع- في جميع ما يتحقق به البيع عرفاً أو لغةً.

ص: 345


1- الكافي في الفقه؛ ص352.
2- المستند؛ ج 2 ص 360.

ومن ذلك -وما سيأتي- حصلت الإختلافات في عقد البيع؛

فمن ظنَّ عدم ظهور معنى لغوي أو عرفي يضطر إلى الإقتصار على موضوع الإجماع, وهذا محطُّ قول جماعة بتخصيص البيع شرعاً بما كان مع الصيغة المخصوصة الجامعة لجميع الشرائط المختلف فيها.

ومن ظنَّ ظهوره, ولكن زعم الإجماع على اشتراط الصيغة في تحقق البيع لزمه القول به, ولكن يقتصر في الشرط بما هو محل الإجماع -بزعمه- على اشتراطه. وهذا مناط قول جمع مِمَّن يقول باشتراط الصيغة في تحقق البيع, ولكن يوسع فيها.

ومن لم يظهر ذلك الإجماع له ولم يعثر على دليل آخر على الإشتراط يوسع في تحقق البيع بما يتحقق به لغةً وشرعاً, وإلى هذا ينظر من اكتفى بمطلق اللفظ أو بالمعاطاة أيضاً.

وعلى ضوء ما ذكره قدس سره تكون نقطة الخلاف في هذا الموضوع في المرجع الذي يعتمد عليه في تحديد مفهوم البيع؛ هل هو الشرع أم العرف؟.

وحينئذٍ تقتضي منهجية البحث التماس التحديد العرفي, فإنْ كان فهو المرجع, وإنْ لم يكن يرجع إلى الشرع؛ إنْ كان في البين نص, وإنْ لم يكن فلا يبقى إلا التمسك بالإجماع.

فإنْ تمَّ أنْ يكون المرجع هو العرف فلا بُدَّ أنْ ينظر إلى فهم العرف لموضوع المعاملة الخاصة هل هو شامل للمعاطاة؛ فإنْ ثبت تعميم العرف للمعاطاة, صحّ التمسك بعمومات وإطلاقات البيع والتجارة, والعقود في هذه المسألة؛ لما ثبت في علم الأصول من أنَّ الرجوع إلى الاطلاق بعد تعيين الموضوع, وصدق المفهوم على فاقد القيد المحتمل دخله في موضوع الحكم, وهو الصيغة هنا.

ص: 346

ومن أجل ما تقدم نذكر الأدلة التي استدلَّ بها:

1- سيرة العقلاء؛ المستمدة من لدن تحقق التمدن والاحتياج إلى المبادلات إلى زماننا, وهي تدلُّ على صحة المعاطاة, بل قد ذكرنا سابقاً أنَّ البيع -معاطاةً- أسبق زماناً وأوسع نطاقاً من البيع بالصيغة.

ولا ينبغي الشبهة والتردد في أنَّ أول البشر في أول تمدنه واحتياجه إلى التبادلات كان قد تبادل الأجناس بالأجناس من غير إنشاء المعاملات باللفظ أو الإلتزام بإيقاعها به.

قال بعض الاعلام قدس سره: (وكان الأمر كذلك في جميع الأعصار, سواء كانت المعاملة بين الأجناس أم بينها وبين الأثمان في زمان تعرفها ورواجها, وكانت الأسواق من كلِّ ملَّة جارية على المعاطاة, وقلَّما يتَّفق الإنشاء اللفظي في إيقاع نفس المعاملة وإنْ كان التقاول قبل إيقاعهامتعارفاً, وقد كانت متعارفة في عصر النبوة وبعده بلا شبهة, فلو كانت غير صحيحة لدى الشارع أو غير مفيدة للملكية مع بناء العقلاء عليه, ومعاملة الملكية مع المأخوذ بها مطلقاً؛ لكان عليه البيان القابل للردع, أو معه كان اشتهاره كالشمس في رابعة النهار, لأنَّ ردع الشارع موجب لتغيير أسواق المسلمين في المعاملات كما هو واضح)(1).

2- سيرة المتشرعة؛ وهي الثابتة عند العلماء والصلحاء وغيرهم, إذ لم يعهد منهم إجراء الصيغة لدى شراء سلع الخبز واللحم وغيرهما, ولم يكن بناؤهم على صرف الإباحة, بل بناؤهم على الملكية, بل الظاهر أنَّ بناء العقلاء والمتشرعة على اللزوم أيضاً.

ص: 347


1- كتاب البيع للسيد الخميني؛ ج 1 ص 54.

وبالجملة؛ لا فرق لديهم بين إنشاء البيع بالصيغة وبين المعاطاة في الآثار؛ صحةً ولزوماً.

3- إعتراف الجميع بأنَّ قوام المعاملة التراضي وتوافق الإرادتين ما يكون كاشفاً عن المعاهدة الواقعية يكون مطلوباً عند جميع الناس, ولا ريب أنَّ التعاطي ونحوه يكشف عن المعاهدة والمعاقدة.

وعلى ضوء هذه الأدلة -ولا سيما السيرتين الثابتتين بالاستقرار الوجداني- يحصل لنا الإطمئنان بأنَّ للبيع -مثلاً- مفهوماً عرفياً يتمثل في التعاقد القولي والتعاقد الفعلي, بل هو في الفعلي أكثر وأتمُّ منه في القول.

وبعد ثبوت الفهم العرفي وشموله للمعاملة المعاطاتية وتمامية ذلك؛ نرجع إلى العمومات والإطلاقات, أمثال قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(1).

وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)(2).

وقوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(3).

والتمسك بها في نفي وجوب اشتراط الصيغة؛ فتصحُّ المعاطاة.

قال السيد الوالد قدس سره: (فمقتضى الأصل العملي واللفظي عدم اعتبار اللفظ في جميع العقود بعد ظهور أصل المعاهدة والمعاقدة بوجه معتبر إلا ما خرج بالدليل, وهذا هو عادة العلماء في نفي القيود المشكوكة في العبادات والمعاملات مطلقاً, فيكون المقام من إحدى صغرياتها)(4).

ص: 348


1- سورة البقرة؛ الآية 275.
2- سورة النساء؛ الآية 29.
3- سورة المائدة؛ الآية 1.
4- مهذب الأحكام؛ ج 16 ص 229.

ولعله من أجل ذلك كلّه كان المفهوم العرفي صادقاً بوضوح, وهو الذي أشار إليه المحقق النراقي قدس سره بقوله: (إنَّ من البديهيات التي لا شكَّ فيها أنَّ لفظي البيعوالشراء مِمّا يستعمله عامَّة الناس من أهل الأسواق والبوادي والخارجين عن شريعتنا -بل عن مطلق الشريعة- استعمالا خارجاً عن حدِّ الإحصاء, وليسوا شاكّين في معناه ولا مترددين ولا محتاجين في فهمه إلى القرينة؛ فهذا يقول: بعت واشتريت, وذاك: أبيع وأشتري, وثالث: هل يبيع؟ وهل يشتري؟ إلى غير ذلك, ويفهم المخاطب مراده من غير قرينة أصلاً, ولو لم يعلم القدر المجمع عليه شرعاً ولم يفهم إجماعاً أو شرعاً ولم تقرع سمعه صيغة فيقطع بذلك أنَّ ما يتحقق به البيع عرفاً أمر مضبوط معلوم عند أهل العرف مع قطع النظر عن الشرع, وهو ما يدلُّ عرفاً على نقل المالك ملكه به إلى آخر بعوض بقصد المبايعة, إذ عند حصول ذلك يستعمل لفظ البيع عندهم ويتبادر عنه حصوله, ولا يجوزون سلب الإسم معه, سواء كان ذلك بقبض كلٍّ من العوضين وهو المسمى بالمعاطاة, أم بقبض أحدهما مع ضمان الآخر, أم بألفاظ دالَّة على ذلك)(1).

وحينئذٍ؛ لا يصحُّ الإصغاء إلى التشكيك في صحة سيرة المتشرعة لإثبات المدَّعى, كما هو المتعارف عند السيد الخوئي قدس سره: (الظاهر عدم إمكان التمسك بسيرة المتشرعة في المقام, وذلك لعدم إمكان إثبات اتّصالها -بما هي سيرة متشرعة وكاشفة عن رضا الشارع- إلى زمان المعصوم علیه السلام , كيف؛ ومراجع التقليد من القدماء قبل المحقق الثاني كانوا يفتون صريحاً بعدم إفادتها الملك, وهل يمكن مع ذلك أنْ يكون سيرة المتشرعة في تلك الأعصار صحيحة ناشئة عن منشأ صحيح؟.

وهل يشكُّ -على فرض ثبوتها- في كونها ناشئة من عدم المبالاة؟.

ص: 349


1- مستند الشيعة في أحكام الشريعة؛ ج14 ص248-249.

ولا تقاس هذه بالسير التي لم تكن مخالفة لفتاوى مراجع التقليد في زمان ما. ويشهد لما ذكرناه عدم ثبوت السيرة من المتشرعة على إفادتها الملك في الأموال الخطيرة, فما ينبغي أنْ يتمسك به من السيرة إنَّما هي سيرة العقلاء وبما هم عقلاء, فإنَّها كانت ثابتة قبل الشرع والشريعة حتى في الأمور الخطيرة, ويكفي في إمضائها عدم ثبوت الردع عنها؛ ولم يثبت).

ولكن يمكن رد مناقشته بأنَّه لم يثبت أنَّ جميع الفقهاء العظام قبل المحقق الثاني قدس سره كانوا على عدم كونها بيعاً, وإنْ كان بعضهم يرى عدم ترتب الملكية عليها حسب اجتهاده, إذ من عدم صدق مفهوم البيع على المعاطاة -مع أنَّ الذي يدَّعي سيرة المتشرعة إنَّما يثبتها من جهة الإستقراء- لا يمكن أنْ يتحقق عملهم على التعامل الفعلي دون القولي؛ باعتبار كونهم متشرعة وأنَّهم يرضون بذلك باعتبار كونه شرعياً, وإلا فكم من سيرة للعقلاء لم يرتقوا بها في حياتهم؛ وسيأتي مزيد بيان في مستقبل الكلام إنْ شاء الله تعالى.

أدلة النافون لأنَّ المعاطاة معاملة عقدية

وكيف كان؛ فإنَّ المهم عندنا هو إثبات الفهم العرفي ثم التمسك بالعمومات والإطلاقات لإثبات أنَّ المعاطاة معاملة عقدية؛ وهو ثابت بما ذكرناه, ويتَّضح أكثر عند ذكر أدلة التنافي.

وأهم ما استدلَّ به النافون هو:

1- الإجماع.

وقد استدلَّ به السيد إبن زهرة في (الغنية).

2- نهي النبي صلی الله علیه و آله و سلم عن البيع غير المشتمل على إيجاب وقبول لفظيين.

قال السيد إبن زهرة فيما ذكرناه من اعتبار الإيجاب والقبول اللفظيين: (ولما ذكرناه نهى صلی الله علیه و آله و سلم عن بيع الملامسة والمنابذة, وعن بيع الحصاة على التأويل الآخر, ومعنى ذلك: أنْ يجعل اللمس للشيء أو النبذ له أو إلقاء الحصاة بيعاً موجباً)(1).

ص: 350


1- غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع؛ ص214.

3- النهي عن أكل المال بالباطل.

وقد استدلَّ به العلامة الحلي, قال: (ولا بُدَّ من الصيغة الدالة على الإيجاب والقبول للنهي عن الأكل بالباطل)(1), وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)(2).

4- إنَّ الرضا الحاصل عند المتعاملين حالة نفسية, ولا تعرف إلا عن طريق ما يظهرها من الإيجاب والقبول اللفظيين.

وقد استدلَّ به العلامة الحلي أيضاً, قال: (بل المأمور به التجارة عن التراضي, والرضا من الأمور الباطنة التي يعسر الوقوف عليها, فناط الشارع الحكم باللفظ الظاهر توصلاً على علم الباطن غالباً ولم يعتدّ بالنادر)(3).

5- الأصل.

ويريدون به أصالة بقاء الملك على مالكه عند الشكِّ في انتقاله من خلال المعاملة المعاطاتية.

وقد استدلَّ به العلامة الحلي, قال: (لا بُدَّ في عقد البيع من الإيجاب والقبول, ولا تكفي المعاطاة في العقد؛ ذهب إليه اكثر علمائنا.

وللمفيد قول يوهم الجواز؛ فإنَّه قال: والبيع ينعقد على تراضٍ بين الإثنين في ما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعاً وتراضيا بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان. وليس في هذا تصريح بصحته)(4)؛ فلم يثبت في المعاطاة.

ص: 351


1- نهاية الإحكام في معرفة الأحكام؛ ج 2 ص 448.
2- سورة النساء؛ الآية 29.
3- نهاية الإحكام في معرفة الأحكام؛ ج2 ص448.
4- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة؛ ج5 ص51.

6- ما ورد في رواية خَالِدِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام الرَّجُلُ يَجِي ءُ فَيَقُولُ: اشْتَرِ هَذَا الثَّوْبَ وَأُرْبِحَكَ كَذَا وَكَذَا, قَالَ: (أَلَيْسَ إِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ؟ قُلْتُ: بَلَى, قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ إنَّما يُحِلُّ الْكَلَامُ وَيُحَرِّمُ الْكَلَامُ)(1).

بتقريب: إنَّ قوله علیه السلام : (إِنَّمَا يُحِلُّ الْكَلَامُ وَيُحَرِّمُ الْكَلَامُ) يدلُّ على حصر البيع في البيع اللفظي, إذ المراد من (الكلام) في هذا السياق الإيجاب والقبول اللفظيان.

مناقشة الأدلة

1- أمّا الإجماع؛ فهو غير تامّ, لوجود المخالف في المسألة, كالشيخ المفيد رحمه الله وقوله واضح الدلالة على المفاد, وما قاله العلامة من أنَّه غير صريح بالصحة إلا أنَّه موهم للجواز غير وارد. وقد ذكرنا عبارة المفيد فيما تقدم؛ فراجع.

2- وأمّا حمل المعاطاة في النهي عنها على بيع الملامسة وبيع المنابذة, وهما من أقسام بيوع الجاهلية؛ فهو قياس مع الفارق, لأنَّ تلك البيوع اختَّصت بها العرب في الجاهلية, والمعاطاة ظاهرة اجتماعية في المعاملات المالية في مختلف المجتمعات البشرية وفي مختلف العصور, مع أنَّ تلك البيوع المنهية كانت مبنية على الغرر والجهالة, والمعاطاة بمعزل عنهما بالكلية.

3- وأمّا التمسك بعموم (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)؛ فهو إنَّما يصحُّ إذا قلتَ بأنَّ المعاطاة من الأكل بالباطل, وإلا فلا يصحُّ التمسك به, لأنَّ القاعدة لا تثبت مصاديقها, وإنَّما تشمل بالحكم بعد ثبوت مصداقيتها من الدليل آخر.

4- وأمّا الرضى النفسية؛ فإنَّها قد تبرز بالفعل كما تبرز بالقول, والدلالة عليها بكِلا الأمرين متحقق.

ص: 352


1- وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 18 ص 50.

5- وأمّا الأصل؛ فإنَّه إنَّما يتمسك به بعد فقد الدليل, والمفروض تحققه في السيرة العقلائية وغيرها مِمّا تقدم ذكره.

6- وأمّا الرواية؛ فلا دلالة فيها على وجوب استعمال الصيغة في العقد, إذ هي مجملة لا يصحُّ الإستدلال بها لشيء إلا بقرائن توجب ظهورها في المراد.

قال السيد الوالد قدس سره: (إذ المحتملات فيها كثيرة؛ منها: إنَّ لخصوص اللفظ موضوعية خاصة في التحليل والتحريم, فلا يكفي مجرد القصد وإنْ أبرز بفعل يدلُّ عليه. وعلى هذا الإحتمال يصير شاهداً للمقام. ومنها: إنَّ العنوان الواحد إنْ أُظهر بلفظ خاص يوجب التحليل, وإنْ أُظهر بلفظ آخريوجب التحريم, فإنْ قالت المرأة (أنكحتك نفسي) تحلّ, وإنْ قالت (ملكتك بضعي) تحرم. فلا ربط لها حينئذٍ بالمقام. ومنها: أنْ يراد بالكلام المحلل خصوص المقاولة المتعارفة قبل إيجاب البيع, وبالمحرم إيجاب البيع, ويشهد له صدر الحديث. ولا ربط له حينئذٍ بالمقام أيضاً. ومنها: إنَّ المحللات والمحرمات في أصل الشريعة منحصرة في اللفظ مطلقاً. وهذا الإحتمال بذاته باطل عند كلِّ متشرع فضلاً عن الفقيه)(1).

ولعمري؛ إنَّ المسألة أوضح موضوعاً وحكماً, لا سيما فيما قارب عصرنا من أنْ يستدلَّ عليها بهذه الأدلة ومناقشتها, ولا حاجة إلى هذا البحث الطويل غير المجدي؛ فإنَّ جميع المذاهب الفقهية الإسلامية والقانون المدني تذهب إلى أنَّ المعاطاة من أفراد المعاملات المالية ومصداقاً من مصاديقها, ويترتب عليها جميع ما يترتب على العقد من الآثار من النقل والإنتقال والصحة واللزوم, وإنْ اختلف بعض العلماء في ترتيب الآثار عليها, وحينئذٍ؛ لا حاجة إلى نقل خلاف الفقهاء في الآثار المترتبة على المعاطاة, وإنْ كان نقله على نحو الإيجاز لا يخلو من فائدة, فنقول:

ص: 353


1- مهذب الأحكام؛ ج16 ص227-228.
آثار العقد

ذكرها الفقهاء في موضوع البيع, لأنَّه المجال الذي بحثوها فيه بشكل أوفى, فإذا جرى فيه فإنَّه يكون في غيره أولى.

1- إتَّفقوا على إفادة العقد القولي التملك وعلى نحو اللزوم, وقد عبَّروا عنه ب-(إفادة الملك).

2- واختلفوا في التعامل الفعلي (المعاطاة) على قولين هما:

أ- بطلانه وعدم اعتباره معاملة أصلاً, وهو رأي العلامة قدس سره.

ب- صحته واعتباره معاملة, وهو رأي المفيد قدس سره.

3- واختلف القائلون بالصحة فيما يفيد من أثر على قولين, هما:

أ- إفادته إباحة التصرف فقط. وهو رأي الشيخ الطوسي قدس سره.

ب- إفادته الملك.

4- واختلفوا في نوعية الملك على قولين:

أ- إفادته الملك المستقر (اللازم). وهو رأي بعض الفقهاء المتأخرين ولا سيما المعاصرين.

ب- إفادته الملك المتزلزل (الجائز). وهو رأي المحقق الكركي قدس سره.

وسيأتي نقل كلمات الفقهاء في كتاب البيع ومناقشتها إنْ شاء الله تعالى.

ولكن من المفيد أنْ نذكر بعض فتاوى من تأثر برأي المحقق الكركي من الفقهاء المتأخرين؛ قال أبو الحسن الإصفهاني قدس سره: (مسألة 6: الأقوى وقوع البيع بالمعاطاة, سواء كان في الحقير أم الخطير. وهي عبارة عن تسليم العين بقصد كونها ملكاً للغير بالعوض, وتسليم عين أخرى من آخر بعنوان العوضية.

ص: 354

والظاهر تحققها بمجرد تسليم المبيع بقصد التمليك بالعوض مع قصد المشتري في أخذه التملك بالعوض, فيجوز جعل الثمن كلياً في ذمة المشتري, وفي تحققها بتسليم العوض فقط من المشتري إشكال.

مسألة 7: الأقوى أنَّه يعتبر في المعاطاة جميع ما إعتبر في البيع العقدي ما عدا الصيغة من الشروط.

مسألة 8: وأمّا المعاطاة؛ فالأقوى أنَّها مفيدة للملك, لكنها جائزة من الطرفين, ولا تلزم إلا بتلف أحد العوضين, أو التصرف المغيّر أو الناقل للعين. ولو مات أحدهما لم يكن لوارثه الرجوع, ولكن لو جنَّ؛ فالظاهر قيام وليه مقامه في الرجوع).

وذهب هذا المذهب كثير مِمَّن تأخر عنه أمثال السيد الحكيم قدس سره في (منهاج الصالحين).

وفي الفترة المعاصرة ظهرت فتاوى تلتقي مع فتوى الشيخ المفيد؛ من أنَّ المعاطاة كالبيع اللفظي في إفادتها اللزوم؛ قال السيد الوالد قدس سره: (مسألة 12: يقع البيع بالمعاطاة, سواءً كان في الخطير أم الحقير, وهي في الغالب عبارة عن تسليم العين بقصد كونها ملكاً للغير بالعوض, وتسليم شيء آخر من الطرف الآخر بعنوان العوضية.

وقال أيضاً في المهذب: (مسألة 13: يجوز في المعاطاة جعل الثمن كلياً في ذمة المشتري, ويصحُّ السلف المعاطاتي, كما تجوز النسيئة المعاطاتية.

مسألة 14: يعتبر في المعاطاة جميع ما يعتبر في البيع العقدي, ما عدا الصيغة من شروط المتعاقدين والعوضين, فلا يصحُّ مع فقد شيء منها, ويتحقق فيها الخيارات الآتية في محلها, وتسقط بما تسقط الخيارات في البيع اللفظي, فلو كان المبيع معيباً وتصرف فيه ليس له خيار العيب.

ص: 355

مسألة 15: تتحقق المعاطاة بوصول المبيع إلى المشتري والعوض إلى البايع؛ إنْ كان ذلك بعنوان إنشاء البيع اللفظي, وكذا بالمقاولة والمراضاة على العوضين بقصد إنشاء البيع الفعلي, وإنْ لم يكن إعطاء في البين.مسألة 16: لو لم يمكن تمييز البايع عن المشتري بالقرائن المعتبرة فأصل المعاوضة صحيحة, ولكن لا تترتب الآثار الخاصة للبايع ولا للمشتري على كلِّ واحد منهما بالخصوص, ويصحُّ أنْ تكون معاملة مستقلة.

مسألة 17: البيع العقدي لازم من الطرفين إلا مع وجود خيار في البين, أو إقالة من الطرفين, وأمّا المعاطاة؛ فيصحُّ القول باللزوم فيها أيضاً, ولكن الأحوط التراضي إنْ أراد أحدهما الردّ دون الآخر)(1).

وقد فصَّل الكلام في إقامة الدليل على ما ذكره في تلك المسائل ومناقشة ما استدلَّ به على الخلاف, وقد ذكر في إفادتها الملك واللزوم بضرورة المذهب, بل الدين في هذه الأعصار وما قاربها, ولشمول جميع ما تقدم لصحتها ولزومها لها(2).

وقال السيد الصدر في تعليقته على (منهاج الصالحين) على قول السيد الحكيم: (أمّا المعاطاتي فهو وإنْ كان مفيداً للملك إلا أنَّه جائز من الطرفين)؛ قال معلقاً: (بل الأقرب لزومه)(3). وهو الموافق لواقع المعاطاة الإجتماعي؛ التي هي ظاهرة اجتماعية عامة وقديمة قدم المجتمعات البشرية, تولد منها مجتمعاً بعد آخر, فإنَّ الناس مسلمين وغير مسلمين يتعاملون مع المعاطاة بترتيب جميع الآثار الشرعية أو القانونية أو العرفية التي تترتب على

ص: 356


1- مهذب الأحكام؛ ج 16 ص 226 - 243.
2- المصدر السابق؛ ص238.
3- منهاج الصالحين (المحشى للحكيم)؛ ج2 ص22.

المعاملة المالية المشروعة, ومن أجل ذلك كلّه إدَّعى السيد الوالد قدس سره الضرورة في هذه الأعصار وما قبلها.

وأخيراً؛ يظهر ضعف مناقشة السيد الخوئي على الإحتجاج بسيرة المتشرعة من أنَّنا لا نقوى أنْ نقول أنَّ موقف هؤلاء العلماء -وفيهم المراجع العظام- لا أصل له, ومن أجله قال بعض الآجلة: (وإنْ كان ما اخترناه خلاف المشهور؛ فربَّ مشهور لا أصل له).

وقد ذكرنا أنَّ السيد الخوئي درس المسألة في إطارها النظري بعيداً عن إطارها التطبيقي, وقد تقدم أنَّ إطارها النظري ينصبُّ على أنَّ العقد هو نتيجة التعاقد اللفظي, فلا تكون المعاطاة-على هذا- عقداً, ولأنَّها جارية بين الناس ولم يحصل ردع من الشارع المقدس عنها فلا توجيهاً شرعياً لهذا اللون من التعامل, إلا أنْ يقال بأنَّها إذن في التصرف.

ولأنَّه عند تلف أو إتلاف أحد العوضين أو التصرف المغيِّر أو الناقل لم يعهد أنْ حصل ترادٍّ من أحدٍ, وجَّهوا هذا بالقول بالملك المتزلزل الذي يستقر عند التلف أو الإتلاف أو التصرف المغيّر أو الناقل, فإنَّ المسألة نظرياً هكذا, ولكنها تطبيقياً غيره تماماً, لأنَّ الناس كما هو المحسوس وجداناً يقصدون من المعاطاة ترتيب جميع آثار العقد اللفظي, وهي تجري في جميع المعاملات المالية عندهم.فهذا هو الرأي المختار عندنا, وهو رأي اكثر الفقهاء المعاصرين.

هذا كلُّه بحسب ما ورد في الفقه الإسلامي ولا سيما الفقه الإمامي, وأمّا بحسب القانون المدني فقد ذكرنا ما يرتبط بالإرادة فيما سبق, وأمّا ما يرتبط بالعقد والمعاطاة؛ فقد ورد في القانون أنَّه يجب التمييز بين الإرادة الكامنة في النفس والمظهر الخارجي للتعبير عنها؛ أمّا الإرادة الكامنة في النفس فهي عمل نفسي ينعقد به الغرم على شيء معين, وما دامت الإرادة عملاً نفسياً فإنَّه لا يعلم بها الناس إلا صاحبها, ولا يعلم بها غيره إلا إذا عبّر عنها

ص: 357

بأحد مظاهر التعبير. والتعبير عن الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفاً, كما يكون باتّخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكَّاً في دلالته على حقيقة المقصود.

فيكون التعبير عن الإرادة -الذي هو مظهرها الخارجي وعنصرها المادي المحسوس-:

· طوراً تعبيراً صريحاً.

· وطوراً تعبيراً ضمنياً.

التعبير الصريح

إنَّما يكون التعبير صريحاً إذا كان المظهر الذي اتَّخذه -كلاماً أو كتابةً أو اإشارةً أو نحو ذلك- مظهراً موضوعاً في ذاته للكشف عن هذه الإرادة حسب ما هو المألوف بين الناس.

موارد التعبير الصريح:

1- أنْ يكون بالكلام, وذلك بإيراد الألفاظ الدالة على المعنى الذي تنطوي عليه الإرادة؛

أ- فقد يؤدي اللسان هذه الألفاظ مباشرة.

ب- وقد يؤديها بالواسطة؛ كالمخاطبة التليفونية.

ج- أو بإيفاد رسول لا يكون نائباً.

2- أنْ يكون التعبير الصريح بالكتابة في أيِّ شكل من أشكالها؛ عرفية أو رسمية, في شكل سند أو كتاب أو نشرة أو اعلان, موقعاً عليها أو غير موقع, مكتوبة باليد أو بالآلة الكاتبة أو بالآلة الطابعة أو بآية طريقة أخرى, أصلاً كانت أو صورة.

لكن كلُّ ذلك بشروط معينة, لأنَّ الإثبات بالكتابة يتطلب شروطاً أشدُّ مِمّا يتطلبه التعبير بغير الكتابة, كما هو واضح وبديهي.

3- أنْ يكون التعبير الصريح بالإشارة المتداولة عرفاً. فإشارة الأخرس غير المبهمة تعبير صريح عن إرادته. كما أنَّ أيَّة إشارة من غير الأخرس تواضعت الناس على أنَّ لها

ص: 358

معنىً خاصاً يكون تعبيراً صريحاً عن الإرادة؛ كهزِّ الرأس عمودياً دلالة عل القبول, وهزّه أفقياً أو هزّ الكتف دلالة على الرفض.

4- وقد يكون التعبير الصريح أيضاً باتّخاذ أيِّ موقف آخر لا تدع ظروف الحال شكَّاً في دلالته على حقيقة المقصود, فإنَّ عرض التاجر لبضاعته على الجمهور مع بيان أثمانها يعتبر إيجاباً صريحاً, والوقوف عربات الركوب ونحوها في الأماكن المعدَّة لذلك عرض صريح على الجمهور, ووضع آلة ميكانيكية لتأدية عمل معين كميزان أو آلة بيع الحلوى, أو لتوزيع طوابع البريد أو نحو ذلك مِمّا أثر في هذه الأعصار؛ كلُّ هذا يعدّ تعبيراً صريحاً.

التعبير الضمني

وهو ما إذا كان المظهر الذي اتَّخذه ليس في ذاته موضوعاً للكشف عن الإرادة, بحيث لا يمكن تفسيره دون أنْ يفرض وجود هذه الإرادة, مثال ذلك؛ أنْ يتصرف شخص في شيء ليس له ولكن عرض عليه أنْ يشتريه, فإنَّ ذلك دليل على أنَّه قبل الشراء إذ يتصرف تصرف المالك, وكالموعود بالبيع؛ يرتب حقاً على العين الموعود ببيعها, وكالدائن؛ يسلّم سند الدين للمدين, فهذا دليل على أنَّه أراد انقضاء الدين ما لم يثبت عكس ذلك, ونحو ذلك مِمّا هو كثير.

وأيُّ مظهر من مظاهر التعبير الصريحة أو الضمنية يكفي بوجه عام في التعبير عن الإرادة في نظر القانون, وإنْ كان هناك عقوداً شكلية تستلزم أنْ يتَّخذ التعبير مظهراً خاصاً في شكل معين. وكذا في بعض الموارد؛ لا تكون الكتابة مظهراً للتعبير عن الإرادة, بل طريقاً لإثبات وجودها بعد أنْ سبق التعبير عنها.

ص: 359

كما أنَّ هناك أحوال يجب أنْ يكون التعبير عن الإرادة فيها تعبيراً صريحاً, فلا يكتفى بالتعبير الضمني.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ المعاطاة في القانون تعدُّ من التعابير الصريحة في إرادة التعاقد, ويترتب عليها ما يترتب على العقد اللفظي من الملكية واللزوم وغيرهما من اللوازم والآثار.

ثم إنَّه إذا علم بتوافق الإرادة الداخلية مع مظهرها الخارجي, ففي هذه الصورة لا فرق بين أنْ يؤخذ بالإرادة الباطنة أو بالإرادة الظاهرة؛ ما دام الإثنان متطابقين. أمّا إذا اختلفا؛ كما إذا أمضى شخص عقداً مطبوعاً يتضمن شرطاً كان لا يقبله لو فطن له, أو مثل شخص ينزل في فندق على شروط لا يعلمها ولكنها مكتوبة ومعلقة في غرفته, وكمن يوصي على أثاث منزل بطريق الإشارة على بيان مطبوع, فإذا هو يؤشر على أثاث غرفة نوم وهو يريد أثاث غرفة استقبال, وغير ذلك مِمّا يبتلي بها الإنسان المعاصر؛ وهو كثير أيضاً. ففي القوانين المدنية خلاف, فإنَّ القاعدة المعروفة في القوانين اللاتينية أنَّ الإرادة الباطنة هي التي يؤخذ بها. ولكن النظرية الحديثة تأخذ بالإرادة الظاهرة.ومن هنا اختلفت المدارس الغربية في العقد كما اختلفت في الإلتزام, واختلفت أيضاً في نظرتها العامة للعلاقات القانونية؛ ففي بعضها تقف أمام المظاهر المادية المحسوسة فتكون نظرتها موضوعية. وفي بعضها الآخر تنفذ إلى البواطن النفسية فنظرتها ذاتية. كما عليه المدرسة الفرنسية, بينما تأخذ المدرسة الألمانية بالإرادة الظاهرة.

وقد جمع القانون الجديد بين الإرادتين على وجه معين, وقد أسهب الأستاذ السنهوري الكلام في هذه المسألة؛ فراجع(1).

ص: 360


1- الوسيط؛ ج 1 ص 179 – 180.
تقسيم العقد

تقدم بيان آثار العقد التي تترتب عليه إذا كان صحيحاً؛ فإنَّ أهم أثر يترتب على المعاملة المالية الصحيحة هو النقل والإنتقال عن طريق تبادل العوضين بين المتعاقدين أو المتعاملين, وحينئذٍ نعرف أقسام العقد أو المعاملة على ضوء الأثر المشار إليه؛ فإنَّه أساس هذه القسمة. فالملك الذي يحصل لكلِّ طرف من طرفي المعاملة نتيجة النقل والإنتقال ينقسم إلى قسمين:

1- الملك المستقر.

وهو الملك الذي لا يسمح معه بالترادّ ورجوع كلّ طرف إلى استرجاع عوضه أو ماله من الطرف الآخر.

2- الملك المتزلزل.

وهو الذي يسمح معه بالترادّ والرجوع ما دام أحد العوضين -على الأقل- باقياً عند طرف من طرفي المعاملة.

وفي ضوء هذا التقسيم تنقسم المعاملة أو العقد إلى:

1- العقد اللازم.

2- العقد الجائز.

اللزوم (لغةً): هو بمعنى الثبوت والدوام, يقال: لَزِمَ الشيء لزوماً, أي: ثبت ودام, ويقال: لزم الشيءُ فلاناً, أي: وجب عليه.

وفي اصطلاح الفقهاء: وصف يطلق على العقد الذي ليس لأيِّ طرف من طرفيه حلّه بالفسخ, أي ليس له إبطال المعاملة.

ص: 361

يقول الدكتور نزيه حماد: (لزوم العقد -في الإصطلاح الفقهي- يعني أنَّه بات لا يملك أحد طرفيه فسخه وإبطاله والتحلل منه, ذلك أنَّ العقد متى اكتسب صفة اللزوم, فليس لأحد العاقدين أنْ يرجع فيه وينقضه إلا باتّفاقهما على الإقالة؛ لأنَّ في نقض العقد تغيير للوضع الحقوقي الذي استقرَّ بين العاقدين, ومن أجل ذلكتوقف نقضه على التراضي كأصل العقد. ولا يخفى أنَّ اللزوم فكرة أساسية ضرورية في العقود, ولولاها لفقد العقد أهم خصائصه ومزاياه في بناء الأعمال والحياة الإكتسابية)(1).

الجواز (لغةً): هو التسويغ والترخيص بفعل الشيء. يقولون: جوّز له ما صنع وأجاز له, أي سوّغ له ذلك.

وفي الإصطلاح: وصف يطلقه الفقهاء على العقد الذي يحقُّ لطرفي المعاملة أو لأحدهما؛ فسخها وإبطالها.

فيكون الفارق بين اللزوم والجواز هو حلُّ العقد وعدم حلّه, فالجواز يعني الترخيص في حلّ العقد, وبعكسه اللزوم؛ فإنَّه يعني عدم الترخيص في حلّ المعاملة.

وفي ضوء ذلك قسَّم الفقهاء العقود إلى:

1- عقود جائزة؛ تنحلّ بالفسخ, كعقد الوكالة والوديعة والعارية ونحوها.

2- عقود لازمة؛ لا تنحلّ بالفسخ, أمثال البيع والإجارة.

والفسخ (لغةً): يعني الإزالة.

وفقهياً: هو حلُّ رابطة العقد الذي يعني إزالة أثر العقد, وذلك برجوع كلّ عوض إلى صاحبه قبل المعاملة. وقد عدّ الفقهاء اللزوم في العقود هو الأصل, قال الشهيد الأول: (الأصل في البيع اللزوم, وكذا في سائر العقود )(2).

ص: 362


1- معجم المصطلحات المالية والإقتصادية في لغة الفقهاء؛ مادة (ل ز م).
2- القواعد والفوائد؛ قاعدة 243.

وعلى أساس هذا الأصل -الذي بسَّط الشيخ الأنصاري في مكاسبه الكلام في إثباته بإقامة الأدلة القويمة عليه-؛ إنَّه إذا شككنا في جواز عقدٍ ما بحيث يسوغ لكلٍّ من طرفيه أو لأحدهما فسخه وإبطاله, ولا دليل عندنا يثبت جوازه أو ينفيه؛ فإنَّ المرجع هو الأصل المزبور ويحكم بلزومه.

وعلى أساس هذا التقسيم من اللزوم والجواز المرتبط بطرفي المعاملة تتنوع العقود إلى أربعة أنواع؛ إستعرضها الشهيد الأول, حيث قال قدس سره -بعد أنْ أبان أنَّ البيع عقد لازم-: (وأمّا سائر العقود؛ فمنها: ما هو لازم من طرفيه. كالنكاح والإجارة والوقف والصلح والمزارعة والمساقاة والهبة في بعض الصور والضمان بأقسامه, إلا الكفالة, وفي المسابقة قولان.

ومنها: ما هو جائز من طرفيه. وهو الوديعة والعارية والقراض والشركة والوكالة والوصية والقرض والجعالة والهبة في بعض صورها, لانتظام المصالح بجوازها, وإلا لرغب عنه أكثر الناس للمشقة بلزومها.

ويلحق بالوكالة .....ومنها: ما هو لازم من طرف وجائز من آخر. وهو الرهن وكفالة البدن وعقد الذمة والأمان, قيل: والهبة من ذي الرحم أو مع القربة, أو مع التعويض أو مع التصرف.

ويظهر اللزوم من الطرفين .....

ومنها: ما يكون في مبدئه جائزاً ثم يؤول إلى اللزوم. كالهبة بعد القبض, وقيل: أحد الأربعة السابقة(1), والوصية قبل الموت والقبول, وتلزم بعدهما)(2).

ص: 363


1- يعني هبة ذي الرحم ومع القربة والتعويض والتصرف.
2- القواعد والفوائد؛ ج2 ص243-245.

ولا يخفى أنَّ بعض ما ذكره في الأقسام الأربعة موضع خلاف بين الفقهاء, ويأتي التعرض لها في مواضعه؛ هذا بحسب النظر الفقهي. وأمّا بحسب القانون المدني؛ فقد ذكر الأستاذ السنهوري في كتابه الوسيط؛ أقسام العقود, قال: (ويمكن تقسيم العقد عدة تقسيمات إذا نظر إليه من جهات مختلفة:

الأول: فالعقد من حيث التكوين؛

إمّا أنْ يكون عقداً رضائياً. أو عقداً شكلياً. أو عقداً عينياً.

الثاني: وهو من حيث الموضوع؛

إمّا أنْ يكون عقداً مسمىً. أو عقداً غير مسمىً.

وإمّا أنْ يكون عقداً بسيطاً. أو عقداً مركباً مختلفاً.

الثالث: وهو من حيث الأثر؛

إمّا أنْ يكون عقداً ملزماً للجانبين. أو يكون عقداً ملزماً لجانب واحد.

وإمّا أنْ يكون عقد معاوضة. أو عقد تبرع.

الرابع: وهو من حيث الطبيعة؛

إمّا أنْ يكون عقداً محدداً.

وإمّا أنْ يكون عقداً احتمالياً.

وإمّا أنْ يكون عقداً فورياً. أو عقداً زمنياً).

ويأتي في المواضع المناسبة ذكر تلك الأقسام ونظر الشريعة بالنسبة إليها. والمناسب في المقام هو القسم الثالث, قال: (العقد الملزم للجانبين: هو العقد الذي يُنشئ التزامات متقابلة في ذمة كلٍّ من المتعاقدين. كالبيع؛ يلزم البائع فيه بنقل ملكية المبيع في مقابل أنْ يلتزم المشتري بدفع الثمن, والظاهرة الجوهرية في العقد الملزم للجانبين هو هذا التقابل القائم ما بين التزامات أحد الطرفين والتزامات الطرف الآخر.

ص: 364

العقد الملزم لجانب واحد: هو العقد الذي لا يُنشئ التزامات إلا في جانب أحد المتعاقدين فيكون مديناً غير دائن, ويكون المتعاقد الآخر دائناً غير مدين, مثل ذلك الوديعة المأجورة يلتزم بمقتضاها المودع عنده نحو المودع أنْ يتسلم الشيءالمودع, وأنْ يتولى حفظه, وأنْ يرده عيناً, دون أنْ يلتزم المودع بشيء نحو المودع عنده.

والعقد الملزم لجانب واحد هو كسائر العقود لا يتم إلا بتوافق إرادتين ).

ثم ذكر أهمية هذا التقسيم وقال: (إنَّ له أهمية كبيرة ترجع إلى أنَّ العقد الملزم للجانبين يُنشئ إلتزامات متقابلة ).

وهذا التقابل يؤدي إلى نتائج هامة لا نراها في العقد الملزم لجانب واحد وهي:

1- في العقد الملزم للجانبين؛ إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام كان للمتعاقد الآخر أنْ يفسخ العقد. أمّا في العقد الملزم لجانب واحد كالوديعة فلا محل لهذا الفسخ, لأنَّ المقصود منه هو أنْ يتحلل الطرف الآخر من التزامه, ولا التزام حتى يتطلب التحلل منه, فبقى أنْ يطلب تنفيذ الإلتزام الثابت في ذمة الطرف الأول.

2- في العقد الملزم للجانبين؛ إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ ما في ذمته من التزام كان للمتعاقد الآخر بدلاً من أنْ يطلب فسخ العقد أنْ يمتنع عن تنفيذ التزامه.

3- في العقد الملزم للجانبين؛ يطبق المبدأ القاضي بأنَّ تحمل التبعية يكون على التعاقد الذي استحال تنفيذ التزامه.

4- في العقد الملزم للجانبين؛ يعتبر التزام أحد المتعاقدين سبباً لالتزام المتعاقد الآخر, أمّا في العقد الملزم لجانب واحد؛ فلا يوجد التزام مقابل يمكن اعتباره سبباً .

ص: 365

ثم ذكر قسماً ثالثاً, وهو العقد الملزم للجانبين غير التامّ وكان القانون الروماني يعتبره وسطاً بين العقد الملزم للجانبين والعقد الملزم لجانب واحد.

ثم ناقشه واعتبره من العقد الملزم لجانب واحد(1).

وسيأتي الكلام في كلِّ ما ذكره في الموضوع المناسب إنْ شاء الله تعالى.

ص: 366


1- الوسيط؛ ج 1 ص 159 – 161.

المصطلح السابع: مصطلح العلمانية

اشارة

لا يتمُّ البحث عن الإقتصاد المعاصر بمفهومه العام إلا بعد مراجعة أسبابه ومقتضياته التي من أهمها العلمانية؛ فإنَّ لها التأثير الكبير في كلِّ مفردات حياة الإنسان المعاصر.

تمهيد:

اشارة

لقد اختلف الباحثون في مفهومها وتاريخها وأقسامها وأثارها ونتائجها وتأثيرها المباشر في سلوك الإنسان وأخلاقياته ومعارضتها مع الدين ومفرداته, حتى ذهب بعضهم إلى أنَّ العلمانية جردت الإنسان من جميع معطياته التي توصله إلى الكمال الذي أعدّه خالقه له في هذه الدنيا التي يعيش فيها برهة من الزمن ليستعدَّ إلى دار أخرى لينال فيها ما سعى إليه بصورة أكمل وأبهى وأجمل ليسعد بها, فإذا كانت العلمانية هي السبب في انحطاط الإنسان إلى الدرجة الأدنى في هذه الحياة وبلوغ الإنسانية إلى درجات البهيمية فلا يؤمل أنْ يكون للإنسان شأنٌ في غير هذه الحياة التي تظهر فيها حقائق ما اكتسبه الإنسان, وقد تحددت ملكاته وتعين مستقره ومأواه.

ولعلَّ اختلاف الباحثين يرجع إلى محاولتهم لإخفاء تأثير العلمانية السيء؛ التي أرادها أصحابها أنْ تكون آثارها وفق مخطط رهيب, حتى لا تقع مورد معارضة محبي الخير والإنسانية أو المتدينين؛ فيجهزون عليها في مهدها؛ فقد ظهرت العلمانية في طول تاريخها بمظاهر مختلفة وتحت مسميات كثيرة, فشملت جميع المفاهيم التي لها التأثير في الإنسان وحياته الدنيوية والأخروية, ودخلت في الدين وظهرت العلمانية الدينية, والغرض منها تفكيك معالم الدين ومفرداته, وإعلان الحرب الناعمة معها؛ معلنين ذلك طوراً, وعلى نحو السرِّ والخفاء طوراً أخرى, متَّخذين كلّ الوسائل والأساليب في هذا السبيل.

ص: 367

كما ظهرت العلمانية بأجلى صورها في السياسة, واتَّخذ أصحابها شعار فصل الدين عن السياسة, وحاربوا الدين في هذا المجال وحاولوا إظهار عجزه في هذاالمجال وحاولت بكل جهدها أنْ يسيطر على السلطة أفراد قد أعدَّتهم سلفاً لإنجاز هذه المهمة.

كما ظهرت في الحياة الإجتماعية؛ فأشاعت الفحشاء والمنكر بين الناس بكلِّ مظاهرها, متَّخذين شعار الحرية في سبيل تنفيذ مقاصدهم.

كما ظهرت في الأخلاق فأفسدته ولم تبق أيَّة مكرمة إلا وأبدلتها بالمساوئ, وجعلت الأخلاق وسيلة للوصول إلى المقاصد المادية, فلم تكن الأخلاق عند أصحاب هذه المدرسة مطلوبة لذاتها, لأنَّها مكارم وكمال نفسي للإنسان بحدِّ ذاتها.

وأمّا ظهور العلمانية في العلوم فقد أبدلتها من الحقائق إلى مجرد الشكوك, وسلبت الاطمئنان من القلوب الذي كان العلم يثبته فيها, وجعلت العلم مجرد وسيلة للوصول إلى أمور مادية صرفة, وأغفلت الجانب المعنوي في الإنسان بالكلية, مع علم أصحاب هذه المدرسة أنَّ العلم أعظم وأجلّ من أنْ يطلب به المادة, فقد يصل الإنسان بالعلم إلى أعظم ما وصل إليه الإنسان المعاصر في المدينة الحديثة.

وأمّا تأثير العلمانية في الإقتصاد فقد كان كبيراً؛ حيث جعلت الإقتصاد مادياً صرفاً واعتبرته وسيلة لكسب المال وسبباً في استيلاء مجموعة معينة -سواء كانت الدولة أم شركات أم أفراد- على مقدَّرات الحياة, وتسويق أطماعها على الأفراد, وإخماد نور العقل والفطرة, وإطفاء شعلة الأخلاق الوقّادة في النفوس؛ فجعلتها ديار بلاقع.

ومن أساليب العلمانية والدعاة إليها جعل الحيادة في كلِّ مرافق الحياة بيد أفراد أعدَّتهم فكرياً ونفسياً وعقائدياً وقد تعلّموا كل مظاهر النفاق في سبيل إضلال الناس وإبعادهم عن الدين الإلهي وتأثيره الكبير في الإنسان الذي جعله خالقه مستعدَّاً لقبوله لولا فكر الماكرين.

ص: 368

ولولا وعد الله تعالى بحفظ دينه وأسباب هداية الإنسان لكان مكرهم يوجب طمس نور الفطرة, فإنَّه كما قال تعالى: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)(1).

والبحث عن العلمانية طويل وعميق وذو جوانب متعددة, لكن الذي يناسب موضوع بحثنا هو تأثير العلمانية في الإقتصاد؛ الذي قد يغفل عند كثير من الباحثين.

والكلام يقع في ضمن فصول:

ص: 369


1- سورة إبراهيم؛ الآية 46.

الفصل الأول: في تعريف العلمانية وتحديد مفهومها وتاريخها

تعريفها

ربما يتناغم هذا المفهوم مع بعض المفاهيم الأخرى فيوهم أنَّه من المفاهيم الإصلاحية, فقد ذكر أصحاب المعاجم والمصادر الموسوعية تعاريف عديدة -هي من الإفراط والتفريط-:

التعريف الأول؛ ما ذهب إليه بعضهم من أنَّ العلمانية تعني المخالفة للقواعد الشرعية والتعاليم الدينية, والإنسجام مع كلِّ ما يرتبط بالأمور الدنيوية.

وقيل: إنَّ مادة العلمانية مرتبطة بالدنيا ومنفصلة عن الروحانية, فهي غير دينية وعامية وعرفية وأمية, وخارجية عن الصوامع ومخالفة للأمور الشرعية, ومنحازة إلى صيرورة الأشياء الدنيوية.

فالعلمانية تعني الدنيوية وغير الروحانية, والتحرر من قيود القساوسة أو الروحانية, وتعميم الملكية. فهي بالأحرى تعني الخروج عن عالم الروحانية (فيما يتعلق بالقساوسة) والانغماس في المادية, وإضفاء حالة من الدنيوية إلى العقائد أو مقامات الكنيسة.

التعريف الثاني؛ إعتبرت دائرة المعارف البريطانية النظام العلماني -والمصطلح عليه في الإنكليزية ب-(لايك (Laic))- من مصاديق العلمانية وذلك لأنَّ فصل الدين عن السياسة أخصّ من العلمانية وهي أعمّ من النظام العلماني, ورأت أنَّهما خطين من التكفير لا يعملان على نفي الدين بالكامل, وإنَّما يبعدانه ويفصلانه عن شؤون الحياة الدنيوية, ولا سيما فيما يتعلق بالجانب السياسي من الحياة.

التعريف الثالث؛ قد يقارن الإلحاد بالعلمانية, وذلك لأنَّهم عرَّفوا الإلحاد بأنَّه إنكار وجود الله تعالى, وعدم الإعتقاد بوجود الباري عَزَّ وَجَلَّ.

ص: 370

والفكر الإلحادي ينكر الدين تلقائياً, ولا يعمل معه بوصفه أمراً واقعياً.نعم؛ قد يوظف الإلحاد الدين ويتَّخذه وسيلة وأداة لتحقيق مآربه وأهدافه, وهذا هو الأسلوب (الميكافلي) الذي أسقط السياسة عن أصالتها, وبهذا الإعتبار تتناغم فكرة الإلحاد مع فكرة العلمانية.

2- إشتقاق العلمانية

إختلف الباحثون في اشتقاق هذه الكلمة وتاريخ دخولها في اللغة العربية.

الرأي الأول: قراءة لفظ (عَلمانية) (بفتح العين) مشتَّق من (عَلْم) أي العالم, كما ذهب إليه جمعٌ كبير من الباحثين, بل وقد انتهت لجنة اللهجات بمجمع اللغة العربية إلى ضبط كلمة (عَلمانية) بفتح العين, وقالوا بأنَّ أصل العَلمانية واحد في اللغة العربية كما في اللغة الأجنبية, وأول معجم عربي أورد هذه الكلمة بهذا المعنى هو المعجم الوسيط في طبعتيه الأوليين.

ثم ذكروا في تاريخ نشأة هذا المصطلح بأنَّ دخول هذه الكلمة عل المعجم العربي يرجع إلى أنَّ بدايتها مع انتشار المسيحية في بلاد الشام, وكانت الآرامية هي اللغة السائدة ويطلق عليها (اللغة السريانية), وعندما نشأت الكنائس في مدينة أنطاكية نشأت معها طبقة جديدة أطلق عليها لفظ (كهنة)؛ وظيفتهم ممارسة الطقوس الكنيسية وتقديم القدّاس ونشر التعاليم الدينية, و(كهنو) مفرد (كهنة), ويقال في النسبة إليه (كهنويو), والطبقة التي ينتمي إليها يطلق عليها لفظ (كهنوتو), وبعد الفتح العربي تغلبت العربية على الآرامية فعُربت (كهنوتو) إلى صيغة (كهنوت) والنسبة إليها (كَهنوتي).

ولكن المؤمنون كانوا يطلقون على الكاهن لفظ (عامو) بمعنى العامي أو الشعبي, ومن يقترب من الكنيسة يطلقون عليه لفظ (علمو) بمعنى العامي وزمني أو(دهري) أو (إبن

ص: 371

الدنيا) كما يطلق في النسبة إليه لفظ (علموبو) ومعناه في الآرامية دنيوي أو علماني, أي, خاص بالزمان أو بالجيل أو بالعالم. وقد أقاموا الحجج اللغوية على صحة اشتقاق هذه الكلمة لا يهمنا ذكرها.

الرأي الثاني: إنَّ الكلمة مشتَّقة من العِلم, فتكون قراءتها (عِلمانية) بكسر العين لا بفتحها, وقد اعتبر الشيخ مهدي شمس الدين كون العَلمانية بفتح العين المنسوبة إلى (عالم - العالم) على غير قياس, والذي يعني به ما يقابل (روحية - كهنويتة) أو ما يقابل (دينية) بوجه عام. واختار هذا الرأي جمعٌ من العلماء, فقالوا بأنَّها مشتقة من العِلم (بكسر العين). قال الشيخ شمس الدين: (والمقصود به أنْ يتولى قيادة الدولة: الحكم وأجهزته ومؤسساته وخدماته رجال زمنيون لا يستمدُّون خططهم وأساليبهم في الحكم والإدارة والتشريع من الدين, وإنَّما يستمدُّون ذلك من خبراتهم البشرية في الإدارة والقانون وأساليب العيش, وتكون الروح العامةالتي توجه الدولة والمجتمع في جميع مؤسساته الثقافية والسياسية والتشريعية وغيرها روحاً غير دينية)(1).

وفي مقابل ذلك أنْ يتولى قيادة الدولة والحكم رجال يستمدُّون خططهم وأساليبهم في الحكم من عدة مصادر من جملتها الدين, وتكون الروح العامة التي توجه الدولة والمجتمع ومؤسساتهما ذات منابع دينية أو متأثرة بالدين.

ثم ذكر في تاريخ نشأة هذه الكلمة بأنَّ هذا المعنون لمصطلح (عِلمانية) يتَّصل بالظروف التي نشأ فيها هذا المذهب السياسي وتطور في أوروبا في عصر النهضة الأوروبية, وما ولد من صراع المذهب بين الكنيسة من جهة والقوى الجديدة في حقول التجارة والعلم والفن والاجتماع والسياسة وغيرها من حقول الحياة في المجتمع السياسي من جهة أخرى.

ص: 372


1- ذكر في كتاب العلمانية في الإسلام (د. إنعام أحمد قدوح)؛ ص16.

والحاصل: إنَّ العلمانية -بناءً على هذا الرأي- عبارة عن قيام الحياة في المجتمع والدولة على ضوء المعطيات التي توفرها سيرة الحياة الطبيعية في العالم, وانطلاقاً من المشكلات التي تثيرها حياة الإنسان في العالم (في الزمان), وفي مقابل هذا المصطلح يمكن أنْ يوضع مصطلح (دينية) ثيوقراطية, ويُعنى به: دولة ينظم فيها المجتمع والسلطة على أساس من الدين, ويقودها بشكل مباشر أو غير مباشر رجال الدين والمؤسسات الدينية وتشيع فيها روح الدين ورؤيته الكونية.

ولكلِّ واحد من النظرتين لاشتقاق هذه الكلمة مؤيدون ومناصرون. فأخطأ أصحاب الرأي الأول قراءة العِلمانية بالكسر, كما أخطأ أصحاب الرأي الثاني قراءتها بالفتح, وهذا الإختلاف أوجب الغموض في معنى العلمانية عند المتتبعين لها.

وكيف كان؛ فإنَّ مصطلح العلمانية مصطلح خلافي جداً, شأنه شأن مصطلحات أخرى مثل (العولمة) و(التنوير) و(التحديث)؛ التي شاع استخدامها, وانقسم الناس بشأنها بين مؤيد ومعارض, ويمكن القول أنَّ الإختلاف في تحديد مفهومها يرجع إلى أنَّ العلمانية لم تكن في الأصل تتضمن حكماً يقينياً, فقد كانت تعني في شرع الكنيسة الرومانية رجوع رجل الدين أو القسّ إلى العالم, كما كانت تعني إبعاد مقاطعة أو ملكية ما عن رقابة السلطات الكنيسية, ولم تصبح العلمانية مفهوماً فكرياً مثقلاً بالمعاني ومثيراً للجدل إلا حديثاً, وبالتحديد منذ الحرب العالمية الأخيرة, حيث أصبحت تعني حسب موقع كلّ طرف؛ إمّا التحرر من قيود الدين وسلطة رجاله, وإمّا انحسار النصرانية والرجوع إلى الوثنية, وإمّا السيرورة(1) التي بها تخرج قطاعات تابعة للمجتمع والثقافة عن سلطة المؤسسات والرموز الدينية.

ص: 373


1- وهي الحدُّ الفاصل بين العلمانية والعلمنة.

وقد نشأ من هذا الإختلاف في مفهوم العلمانية أنَّ بعض الباحثين فرَّق بين كلمة (العَلمنة) وكلمة (العلمانية) التي تعني الدنيوية؛ لأنَّها مشتقة من العالَم, أي: الدنيا. فيكون العلماني هو الدنيوي الذي يهتم بالدنيا, بخلاف الديني والكهنوتي؛ اللذين يهتمان بالآخرة, وأما (العَلمنة) فإنَّها تأتي بمعنى أنَّ قطاعات من المجتمع أخذت مساراً مخالفاً للمؤسسات والرموز الدينية, وتظهر هذه الطريقة في المنهج السياسي الذي أراد أصحابه الإبتعاد عن الدين وفصله عن السياسة.

ومن ذلك يظهر أنَّ مصطلح العلمانية بالذات من أكثر المصطلحات إثارة للفرقة, إذ أنَّ الحوار والشجار حوله بهذه الحدَّة الواضحة تعطي انطباعاً بأنَّه مصطلح محدد المعاني والأبعاد والتضمينات, ولكن الأمر أبعد من ذلك بكثير, فإنَّه من المحتمل قوياً أنَّ أصحاب هذه الفكرة مِمَّن تعمدوا في إخفاء حقيقتها عن الناس وانشغالهم في أمور سطحية, ولكنهم من وراء ذلك ينفذون مقاصدهم ويرغمون الناس عليها, مبتعدين بذلك عن ردود أفعالهم.

طرق فهم ردود العلمانية

3- طرق فهم ردود العلمانية

لا يمكننا الوصول إلى فهم دقيق عن حقيقة هذه الفكرة والطريقة في مجالات الحياة اليومية إلا عن طريق معرفة تاريخ هذه الفكرة ومعرفة الأسباب والإشكاليات التي تعرض لها الباحثون في مؤلفاتهم في هذا الموضوع, وهي كما يلي:

1- تصوُّر أنَّ العلمانية فكرة ثابتة لا متتالية آخذة في التحقق, فإنَّ للعلمانية تاريخ طويل, الأمر الذي أدّى إلى أنَّ الدارِسين درسوا ما هو قائم فقط دون أنْ يدرسوا الحلقات المتتالية.

2- تصوُّر أنَّ العلمانية مجموعة أفكار وممارسات واضحة, مِمّا أدى إلى إهمال عمليات العلمنة الكامنة والبنيوية.

ص: 374

3- شيوع تعريف العلمانية باعتبارها (فصل الدين عن الدولة), وهذا مِمّا جعل القضية سطحية تماماً, وقلّص نطاقها, وهو من أهم إشكاليات العلمانيين.

4- إخفاق علم الإجتماع الغربي في تطوير نموذج مركب وشامل للعلمانية, الأمر الذي أدّى إلى تعدّد المصطلحات التي تصف جوانب وتجليات مختلفة لنفس الظاهرة, والإفتقار إلى وضوح الرؤية العامة العريضة, والعجز عن تحديد البؤرة المحددة.

5- القول بأنَّ مصطلح (علمانية) استقرَّ في الغرب في الستينات, إذ ظنَّ الجميع أنَّ معناه قد تحدد واستقر, ولكن في الآونة الأخيرة ظهرت بعض الدارسات التي تتناول هذا الموضوع من منظور جديد, مِمّا زادت المصطلح إبهاماً.

6- إنَّ المصطلح في العالم العربي قد حدثت فيه مراجعة, مِمّا أدّى إلى نوع من التصالح بين القوميين العلمانيين والإيمانيين.إنَّ دراسة كلّ واحد من هذه الإشكاليات على حدة تعطينا الفرصة للوصول إلى ما هو المقصود من هذا البحث, وهو حلُّ رموز العلمانية؛ فيكون حلُّ رموز العلمانية في ضمن أمور:

حلُّ رموز العلمانية
الأمر الأول: في تاريخ هذه النظرية

قال كثير من الباحثين أنَّ العلمانية ظهرت في الفكر الغربي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلادي, وذلك نتيجة الصدام الفكري بين الأساليب السياسية والإجتماعية والإقتصادية للكنيسة.

ولكن هذا الرأي يعارضه من ذهب إلى أنَّ هذه النظرية منسوبة إلى أرسطو طاليس, فقد ذكر كلٌّ من الفيلسوفين (دانتي) و(توما ألاكويني) أنَّ أرسطو ذكر في كتابه (السياسة): (إنَّ المجتمع في حدِّ ذاته بالغ حدود الكمال والاستغناء, فلا يحتاج إلى التطهير والحصول على الإذن من عامل فوق الطبيعة).

ص: 375

إنَّ هذه النسبة غير صحيحة, فإنَّ عبارة أرسطو لم تكن كذلك, فإنَّه قال: (فالطبع -إذن- يدفع الناس بغرائزهم إلى الاجتماع السياسي)(1).

ومع ذلك فإنَّ هذا الرأي لم يشاهد في المفاهيم المنسوبة إلى أرسطو طاليس, بل المشاهد أنَّه يذهب إلى أنَّ الحياة الفضلى إنَّما تتحقق بالاعتقاد بسعادة الإنسان, وهي عبارة عن مجموعة الخيرات الثلاثة, وهي:

1- الخيرات الخارجة عن وجود الإنسان.

2- الخيرات ذات الأبعاد الجسمانية.

3- الخيرات ذات الأبعاد النفسية والروحانية.

ويرى أنَّ خيرات النفس أعظم وأكثر الخيرات الأخرى أصالة, فإنَّ هذه الخيرات الثلاثة هي التي تسطيع أنْ تجلب السعادة للإنسان, وفي ذلك يقول: (وحينئذٍ؛ إذا كانت النفس هي أنفس من الثروة ومن الجسم فكمالها وكمالهما يكون على هذا القياس, وبحسب قوانين الطبع كلُّ الخيرات الخارجية ليست مرغوباً فيها إلا لمنفعة النفس.

وحينئذٍ؛ نحن نعد من الأمر المسلم به تماماً أنَّ السعادة هي دائماً على نسبة الفضلية والحكمة والطاعة لقوانينها, متَّخذين هنا شاهداً على أقوالنا الله نفسه الذي لا تتعلق سعادته العليا بالخيرات الخارجية, بل هي في ذاته وفي جوهر طبعه الخاص, ولا يمكن للمصادفة الطارئة أنْ تكسبنا الخيرات الموضوعة خارج النفس, في حين أنَّ الإنسان ليس عادلاً ولا حكيماً مصادفة أو بسبب المصادفة, ونتيجة لهذا المبدأ إنَّ الدولة الفضلى هي الدولة السعيدة والناجحة معاً, فالدولة شأنها كشأن الفرد؛ لا ينجح إلا بشرط الفضيلة والحكمة)(2).

ص: 376


1- كتاب السياسة لأرسطوطاليس .
2- السياسة؛ الكتاب الرابع, الباب الأول, الفصل الثالث, ص 337 وما بعدها.

ومن البديهي أنَّ الفضيلة والحكمة والعدالة لا يمكن أنْ تكون من الأمور الطبيعية والدنيوية التي تقوم على مجرد الغرائز واللذات الطبيعية.

ونتيجة ذلك؛ فإنَّ نظام الدولة والحكمة والسياسة وغيرها من أمور الحياة الدنيوية لا يمكن أنْ يكون منفصلاً عن الدين, ثم استطرد قائلاً: (قد تكون هذه الحياة الشريفة ذات الفضيلة والحكمة فوق طاقة الفرد, أو في الحدِّ الأدنى إنَّ الفرد الذي يعيش على هذه الشاكلة قد لا تكون موافقة لطبيعته الإعتيادية, بل من ناحية أنَّه يعيش ضمن حقيقة مقدّسة وبحجم عظمة هذا الأصل المقدس يرتفع نشاط أصل السعادة, فإذا كان الإدراك أمراً مقدساً فإنَّ اسعد أنواع الحياة ستكون هي الحياة المدركة .....

إنَّ السعادة لا تكون بالبخت والاتّفاق, بل هي موهبة من الله يغتبط الإنسان بها, حيث يستحق هذه الموهبة بمجهوده, ومن هنا وقع الشك في أمر السعادة؛ هل هي شيء يُتعلم أنْ يُعتاد أم يُستفاد بجهة أخرى؟ أو إنَّها تأتي بخط من الله أم بالبخت والاتّفاق؟.

إنَّه إنْ كان ههنا موهبة من الله تعالى للناس فخليق بها أنْ تكون موهبة من الله على الناس).

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ نسبة العلمانية إلى أرسطو طاليس باطلة, فهو بعيد عن التفكير العلماني كلَّ البعد.

وأمّا القول المتقدم نقله: (فالطبع -إذن- يدفع الناس بغرائزهم إلى الإجتماع السياسي)(1)؛ فلا يتنافى -أبداً- مع ضرورة تحصيل الإنسان للسعادة والفضيلة على المستويين الفردي والجماعي بواسط الدولة والسياسة.

فإنَّ قوله الآنف الذِكر ينسب سياسة الإنسان بحسب طبعه, وأمّا السعادة التي يريد اكتسابها من تلك السياسة الطبيعية لا تكون إلا بالجهد في نيل الخيرات الثلاث التي ذكرها في كتابه السياسة والأخلاق.

ص: 377


1- المصدر السابق؛ الكتاب الأول, الباب الأول, الفصل الثالث عشر, ص 97.

والحاصل؛ إنَّ نسبة العلمانية إلى مثل هذا الفيلسوف لا يمكن توجيهها إلا أنْ تقول أنَّها صدرت عن غفلة أو جهل بأفكاره وآرائه.

نعم؛ يكمن تصحيح القول بقدم العلمانية عن طريق آخر؛ وهو القول بأنَّها من أحد مظاهر الصراع مع الدين على مرِّ الزمان, ولا سيما تلك التيارات الملحدة المنكرة لأسس وقواعد الدين والأخلاق فهو أزلي وأبدي إلى أنْ ينقشع ظلمات الكفر والفساد في العقيدة والأخلاق.

وقد اتَّخذ هذا الصراع المرير مظاهر مختلفة في مسيره التاريخي, وقد حكى لنا القرآن صراع الأنبياء مع الكافرين وعقائد الملحدين وأفكار المنكرين بشتى صورها في عبارات بليغة وأسلوب واضح لا يمكن لأحد إنكار ذلك, ففي بعض الأطوار يتَّخذ هذا الصراع صورة الوثنية. وفي طور آخر يتَّخذ صورة: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)(1). وفي طور آخر يتَّخذ أفكار الماسونية التي ما برحت تعارض منهج الدين وهدي الأنبياء والأئمة الصالحين؛ إمّا في العلن أو في الخفاء.

وقد كان للماسونية الدور الكبير في انحراف مسيرة الإنسانية عن منهجها القويم الذي أودعه الله تعالى في فطرة الإنسان وصححتها الأديان السماوية؛ فإنَّه بقدر ما كان من جهد الأنبياء في سبيل هداية الإنسان كان جهد الماسونية المعارض في سبيل إضلال الناس, وقد نشأت الماسونية وترعرعت في مهد اليهودية, وسرعان ما اتَّخذت مسيراً فكرياً تخريبياً مع أغلب الأنبياء في بني إسرائيل ومن ثم انتشرت في جميع المجتمعات.

وقد اتَّخذت شتى الوسائل في هذا السبيل, حتى تلك التي يعتبرها الإنسان المتدين أنَّه من صميم الدين فيما إذا لم تكن وسائلها المضللة ناجعة في هذا المضمار, وقد دخلت في

ص: 378


1- سورة النازعات؛ الآية 24.

الإسلام بشتّى صورها بعدما قامت بتحريف اليهودية والنصرانية التي يعدُّها القرآن الكريم من الأديان الإلهية كاليهودية والإسلام, فأبدلتها بالمسيحية وأدخلت أنواع التحريف والزيغ والضلال في هذا الدين الإلهي.

والبحث عن الماسونية ودورها التخريبي يطول جداً وليس المقام موضع ذكره. والعلمانية التي ظهرت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ليست إلا مظهراً من هذا الصراع مع الدين ووسيلة من وسائل الماسونية لإحراف الإنسان عن كلِّ ما يرتبط بسعادته, فإنَّ مسار العلمانية ودورة حياتها وكواقع في الحواضن الإجتماعية المهتمة بالدعوة إليها, وكوظائف وممارسات تجري في جميع أطرها؛ الفكري والثقافي والمنهجي للمضادة مع الدين ومفرداته ومع رجال الدين على أكثر من صعيد لم يكن وليد وقت معين, بل استغرق أكثر من قرنين, ولكن ظهورها كمصطلح إنَّما كان في ضمن مظاهر وأدوار مختلفة, وإنْ كان في مسارها قد طرأ عليها الجزر والانكماش ولكنها برزت في القرون الأخيرة بصورة أوضح ولا سيما إذا برزت النزاعات الدينية وتصاعد دور الفاعل الديني والتوجهات الروحية, وحينئذٍ؛ تقفز الحواضن المبتعدة إلى واجهة الفكر والثقافة وغيرها.

وكان من أهم تلك الحواضن الوجود الأنثوي وحضوره الفاعل في صناعة الحياة, كما هو كذلك في دور إعادة البناء وإزاحة الأطر السابقة. وفي الآونة الأخيرة العولمة والحداثة وغيرهما, فكان لمسار العلمانية في صعودها وازدهارها أو تراجعها وانكماش دورها هو المدار الدائري المهم في تاريخ الفكر الحديث والمعاصر. وقد تخطى أطول فترات الصراع المنهجي والفكري في الزمن المعاصر.فلا يصحُّ لنا تحديد تاريخ معين لحدوث هذه الفكرة طالما أنَّها كانت مظهراً من مظاهر الصراع المرير مع الدين ومفرداته, وإنْ كانت في مسميات مختلفة, ولعل تسمية العلمانية حديثة.

ص: 379

الأمر الثاني:ما هو من أهم أسباب ظهور العلمانية وانتشارها

الأمر الثاني: ربَّما يقال أنَّ التاريخ السياسي للمجتمع البشري هو من أهم أسباب ظهور العلمانية وانتشارها في المجتمعات ولا سيما المجتمع الغربي.

فقد تمَّ طرح المنهج الفكري القائم على أساس فصل الدين عن الدولة في قبال الحكومة الدينية أو الحكومة الخاضعة لسلطة رجال الدين, والذي أطلق على هذا المنهج (الثيوقراطية)؛ التي تعني على ما ورد في المعاجم اللغوية والمصادر الموسوعية: الحكومة الإلهية وسيادة الله, والحكومة التي يكون الإله هو السلطان فيها, والاعتقاد بوجوب إقامة الحكومة الإلهية وإدارة الدولة على طبق الأحكام الإلهية, وغير ذلك مِمّا يفيد هذا المعنى.

ولاريب أنَّ هذا المسار للعلمانية لم يكن يتحقق إلا بعدما ظهر للسياسة الثيوقراطية منعطفات وانتكاسات متعددة في السياسة والحكومة وإدارة المجتمع, فلا بُدَّ أنْ يكون لنا إطلالة سريعة على مسار الدولة الدينية, فإنَّها من ناحية العلمية فقد ادَّعت المؤسستان الرسميتان الكنيسية والدولة الوفاء والتبعية للشعب كما جاء(1).

ولكن من الناحية النظرية فقد ورد في إنجيل (متّى)؛ الإصحاح الثاني والعشرين, الفقرة الحادية والعشرين: (دعوا ما لقيصر لقيصر, ودعوا ما لله لله).

فقد وقع التضاد والتنافي بين إدّعاء الحكم للسلطة الدنيوية, وادّعاء الحكم للسلطة الدينية والروحية. والفصل بين الإدّعائين في المجتمعات السابقة ليس بالأمر الممكن من الناحية العملية, لأنَّ الحضارات القديمة كانت تعتقد أنَّ المَلك أو الحاكم هو خليفة الله, فهو ممثل السلطة الإلهية أو السماوية, وقد كان شخص الإمبراطور يتمتع بصفات الديانة المسيحية, وأصبح المرجع الديني؛ حيث كان يشرف على الناس والكنيسة بالولاية الدينية, بل أضحى مورداً للعبادة بوصفه إلهاً في الأرض.

ص: 380


1- راجع دائرة المعارف البريطانية حول الكنيسة والدولة؛ ج 4 ص 590.

وبناءً على هذه العقيدة لا يمكن فصل الدولة عن الكنيسة, وإنَّما يتمُّ فصلها بوصفهما هويتين مختلفتين عندما يتمُّ رسم الخط الفاصل الذي يميّز بين المجتمع البشري العلماني من ناحية, وبين المجتمع الديني ضمن الإطار السياسي من ناحية أخرى.

فلا يصحُّ القول بأنَّ الفصل بين الدين والدولة قد بدأ من المسيحية, رغم أنَّها تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية في هذا الشأن, بَيد أنَّ الأمر قد بدأ في الديناليهودي, فإنَّه بعد سقوط أورشليم عام (586 قبل الميلاد) لم يعد اليهود يمثلون مجتمعاً سياسياً مستقلاً فقد تحولوا من حينها إلى أقلية دينية في دول غير يهودية.

ومنذ ذلك الحين انحازوا إلى التفكير في عضويتهم ضمن المجتمع الديني الخاص بهم ومواطنتهم العلمانية بوصفهما أمرين منفصلين.

وبعد ظهور الديانة المسيحية تعين على معتنقي هذه الديانة أنْ يعيشوا لفترات طويلة تحت سيطرة الحكومات غير المسيحية أيضاً.

وبعد انتهاء مرحلة معاناة المسيحيين التي تمثلت بالسجن والتعذيب والقتل والتشريد لفترات طويلة, وبداية مرحلة التسامح الديني من قبل الإمبراطور (قسطنطين) في القرن الرابع للميلاد؛ واجه المسيحيون مشكلة العلاقة التي يجب أنْ تقوم بين رجال الكنيسة وبين السلطة السياسية الحاكمة وحكامها الذين اعتنقوا المسيحية؛

فإنَّه من جهةٍ قد احتفظ الأباطرة المسيحيين لأنفسهم السلطة المنزلة التي كانوا يرونها لأنفسهم قبل أنْ يتحولوا إلى المسيحية, فإنَّ الفكر السائد الذي كان عندهم هو الوثنية, فلم يرق لهم أنْ يكونوا مجرد حماة للكنيسة فقط بل كانوا يرون أنفسهم قادة الكنيسة الروحيين أيضاً.

ص: 381

ولكن منذ عهد الإمبراطور (ثيودورس سيوس الأول) في نهاية القرن السابع للميلاد تمَّ تحويل دين الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية بعد القضاء على جميع مظاهر الشرك والبدع, وكانت هذه المرحلة هي بداية اندماج الكنيسة والسلطة, وأصبحتا وجهين للمجتمع المسيحي الواحد, فأضحى للمسيحية نوع من الرقابة والإشراف المعنوي, بل السلطة السياسية على كافة المواطنين بمن فيهم القادة والزعماء السياسيين في المجتمع(1).

ومن هنا وصف هذا المصدر الكنيسة الأرثوذوكسية الشرقية ب-(النظام البيزنطي) بمعنى الحكومة المطلقة لرجال الدين أو (البابوية القيصرية), فقد كان الأباطرة الشرقيون يعتبرون أنفسهم حماة وحراساً على الكنيسة, وإنَّ الله تعالى هو الذي منحهم هذه السلطة.

فأصبح بإمكانهم اصدار الأحكام فيما يتعلق بشؤون القسّ أو الكنيسة وضوابطها, وكان يتمُّ التعامل مع هذه الأحكام من قبل الكنيسة بوصفها قوانين الشريعة, وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنَّ الكنيسة كانت مستسلمة للسلطة السياسية بالمطلق, ولكن هذه العلاقة الجدلية التي كانت تصاحب التقدم والتقهقر المتبادل والتي كانت تقاس بمقدار قوة قادة الكنيسة أو السلطة والحكومة في الأزمنة المختلفة.ومن حيث أنَّ بعض القياصرة كانوا لا يراعون الحدود الأخلاقية للكنيسة فكانت الأخيرة تسحب دعمها لهم بشكل تدريجي.

وقد عمد (لويس بريهير) الذي يعدُّ من كبار الخبراء في الشأن البيزنطي إلى تعريف نظام الحكم في البيزنطية(2) بأنَّه سلطة دينية وثيوقراطية يتمتع الإمبراطور فيها بسلطات واسعة إلا في بعض المفاصل التاريخية, بينما كانت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في الشطر الغربي

ص: 382


1- راجع دائرة المعارف البريطانية؛ ج 4.
2- الروم الشرقية.

من العالم المسيحي تختلف اختلافاً كبيراً كما هو موجود في الكنيسة الشرقية, فإنَّ البابا قد جمع بين السلطة الروحية على جميع أنحاء الرقعة الجغرافية المسيحية وبين السلطة الكبيرة التي لم يتمتع بها أيَّ واحد من كبار أساقفة القسطنطينية.

وكانت من نتائج قوة السلطة الدينية ورجال الدين -وبالأخص الباباوات والأساقفة- وسعة رقعة نفوذهم حصول الإختلاف والنزاع بينهم وبين المَلك.

ومن ثم ظهرت فكرة العلمانية بقوة في الفترة الواقعة بين القرن الحادي عشر والثالث عشر للميلاد, وأصبح لها دعاة في السرِّ والعلن وشاعت على نطاق واسع, وإنْ كانت سلطة الدين ورجال الكنيسة أقوى بكثير من السلطة العلمانية أو لم يكن رجال الأكليروس يعتقدون بهذه النظرية, إذ كانوا يستفيدون من النزاع المحتدم بين البابا والإمبراطورية الرومية المقدسة.

ومن أساليب الكنيسة التي كانت سبباً في احترام الصراع وقوته أنَّه إذا قام شخص الحاكم بانتهاك القوانين الأخلاقية المسيحية أثناء ممارسته لمهامه فإنَّه سيكون عرضة للتحجيم من قبل الكنيسة شأنه شأن أيِّ فرد مسيحي في ذلك, ويكون غرضاً لنقد الكنيسة وتقريعها فيصير لقمة سائغة في أفواه الشعب ولا سيما تلك الفئات الموالية للكنيسة حتى يصل إلى درجة تهديده باستعمال القوة.

والأطروحة الأكثر تطرفاً هي التي قدَّمها البابا (بونتيفلس) والتي تقوم على أساس أنَّ السلطات الممنوحة من قبل السيد المسيح علیه السلام ل-(سان بطرس) والحواريين قد تمَّ تفويضها من قبلهم إلى خلفائهم من القساوسة والباباوات, وهي تشمل السلطة الدنيوية المادية بعد ثبوت السلطة الروحية المعنوية التي كانت ثابتة لهم بصورة أقوى من السلطة المادية الدنيوية.

ص: 383

وقد ذهب البابا المذكور إلى الإعتقاد بأنَّ السيد المسيح علیه السلام قد منح القديس (بطرس) وخلفائه سَيفين؛ إشارة منه إلى السلطة المعنوية الروحية, والسلطة المادية الدنيوية, فكان الباوبوات يتولون السلطة المعنوية الروحية بأنفسهم بينما يتولى السلطة الدنيوية أشخاص من خارج الكنيسة بتفويض من البابا. وكان على هؤلاء توظيف هذا السيف على طبق تعاليم وتوجيهات البابا.وفي ضوء هذه السلطات الواسعة للبابا ورجال الدين وتوجيهاتهم نشأت نظرية فصل الدين عن الدولة, وكان (مارتن لوثر) من الناحية النظرية هو الذي قدم نظريته الشهيرة التي تعتبر أكثر النظريات راديكالية بشأن فصل الدين عن السياسة تحت عنوان الملكيتين.

ويمكن اختصار نظريته بأنَّه يجب أنْ يحكم إنجيل الله رقعة الكنيسة, وقانون الشريعة يجب أنْ يحكم رقعة المجتمع, فإذا أردنا إدارة الكنيسة بالقانون الديني والمجتمع بواسطة الإنجيل سوف يضطَّر الناس إلى سحب القانون والقرارات إلى دائرة الفيض الإلهي, وسحب الأحاسيس والعواطف إلى دائرة العدالة الإجتماعية. وسيكون نتيجة ذلك تجريد الله من سلطانه بعد تتويج الشيطان ملكاً يحكم وينظّم العلاقات الإجتماعية, واتّخاذ ذلك ديناً رسميا في المناطق ذات الأكثرية السكانية مثل: (ألمانيا) والبلدان (الإسكندنافية), إذ أنَّ في أغلب هذه المناطق كان الأمراء يتمتعون بنفس النوع من الإدارة والإشراف الممنوحين للأساقفة الكاثوليكيين في روما.

ومن مثل آراء ونظريات هؤلاء أصبح مفهوم العلمانية أكثر وضوحاً في الغرب والشرق غير الإسلامي من المفهوم الثيوقراطي.

وصار مفهوم فصل الدين عن الحياة الدنيوية والسياسية والعلم أكثر مقبولية عند الناس من الثيوقراطية -حكومة الله- في المجتمع؛ فإنَّ عدم تدخل الدين في الحياة السياسية

ص: 384

والإجتماعية الدنيوية وإسناد الإدارة إلى الإنسان يعدُّ مفهوماً واضحاً لا يصعب إدراكه, في حين أنَّ مفهوم الحاكمية الإلهية الذي لا يحتمل معانٍ عديدة يكون مفهوماً غامضاً, فقد قيل في تفسيرها وجوهاً متعددة أهمها احتمالان إثنان:

الإحتمال الأول: إنَّ جميع الأنشطة في المجتمع التي تحصل من قبل العلماء والمفكرين في السياسة والعلم والثقافة والإقتصاد والحقوق هي من الله مباشرة؛ إمّا عن طريق الوحي أو الإلهام.

وهذا الإحتمال مردود بما يلي:

1- إنَّه لا ريب أنَّه لم ينزل الوحي على قادة المجتمع ولم يدَّعيه أحد منهم باستثناء الأنبياء الذين نالوا الحقيقة الدينية عن طريق الوحي وقاموا بإبلاغها إلى الناس.

2- إنَّ الوحي إذا نزل على قادة المجتمع -على فرض القبول- ينفي الإختلاف بينهم في حين إنَّ النزاع والخلاف واقع بينهم على حدٍّ كبير, بل تحول إلى مواجهات وصدامات أحياناً.

الإحتمال الثاني: إنَّ قادة المجتمع من السياسيين قد حصلّوا على قدر من التهذيب والصفاء الروحي, بحيث تعرض عليهم حالة من الشهود وينكشف لهم الواقع من الله تعالى, ويطيقون ما يشاهدونه من الحقائق على حياة الناس.

ولكن هذا الإحتمال باطل أيضاً؛ لكثرة الأخطاء الحاصلة من القادة السياسيين, بحيث لا يمكن نسبتها إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.

وعليه؛ فقد أصبح مفهوم العلمانية أكثر قبولاً وأشدُّ وضوحاً عن غيره, ولا سيما أنَّ العلمانية قد حصلت وتبلورت من التعارض الشديد بين رجال الكنيسة ورجال السياسة والمجتمع.

ص: 385

وكان من أهم جذور هذا التعارض أنَّ جميع التحولات الفكرية والنظريات العلمية قد ظهرت وتجلت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد, وقد أخذت في التطوير تدريجياً.

إنَّ هذا التحول الفكري قد حدثت في ضمن وقائع ثلاثة معروفة مهَّدت لظهور الأفكار العلمانية وانتشارها بسرعة هائلة.

الأمر الثالث: في ذكر الأسباب التي أدَّت إلى انتشار فكرة العلمانية

الأمر الثالث: في ذكر الأسباب التي أدَّت إلى انتشار فكرة العلمانية وقبولها بين الناس, ولا سيما طبقة المثقفين والعلماء.

إنَّ الأسباب كثيرة؛ نذكر المهم منها:

السبب الأول: أنواع الصراعات التي حدثت بين السلطة الظاهرية وسلطة الكنيسة, وبين هؤلاء بمصاديقهم, وبين رجال الكنيسة أنفسهم.

فالقسم الأول: التصادم الحادّ بين سلطة البابا والسلطة الفرنسية ما بين الاعوام (1269- 1303م), وكان من الآثار التي ترتبت على ذلك ظهور فكرة إمبريالية البابا وإضفاء الصبغة الدينية لهذه الفكرة وجعلها تحت قانون الشرع.

وفي نفس الوقت ظهر الإنتماء الوطني لدى الشعوب الفرنسية إثر ضمّ بعضها مع البعض وتشكيل جبهة وطنية مضادة؛ مِمّا أدّى إلى تبلور فكرة الإعتراض على سلطة البابا وإمبرياليته, فتعرضت إلى انتكاسة كبيرة, ومنذ ذلك التاريخ لم يستطع الباباوات استعادة مكانتهم السابقة.

وشيئاً فشيئاً ظهرت فكرة تحديد سلطات رجال الدين وحصرها في موارد معينة, كما نتجت عن هذه الفكرة ظاهرة أخرى هامة, وهي مسألة استقلال جميع السلطات بوصفها مؤسسات سياسية مستقلة في المجتمع.

ص: 386

ومن مجموع هذه الأفكار والنظريات تفشى روح الوطنية بين أفراد الشعب وظهر الوعي القومي بينهم في تلك الحقبة من الزمن.

القسم الثاني: الصراع بين يوحنا الثاني والعشرين ولويس البافاري؛ والذي استمرَّ ما يقرب من ربع قرن, حيث بدأ بالاعتراض على استقلال البابا.وفي خضم هذا الصراع بادر (غيوم دوكام) المتحدث باسم الروحانيين الأرثوذوكس إلى تحريض الفرنسيسكانيين(1), ومعارضة استقلال البابا, وقيادة جميع عناصر المعارضة وتحشيدهم إلى هذا الأمر.

ثم عمد (مارسيل دوبادو) إلى بسط فرضية المجتمع المدني وعمل على تطويرها وإخراجها باعتبارها نوعاً من العلمانية المقرونة بالتقوى والقريبة من المذهب الآراستي(2) القائم على أنَّه يجب على الحكومة قيادة شؤون الكنيسة والدين, وعليها تبعية الحكومة.

وفي أثناء هذا الصراع تكاملت فرضية تحجيم السلطة السياسية لرجال الدين وحصر مسؤولياتهم بشؤون العالم الآخر؛ مع إبقاء الكنيسة تتحمل مسؤوليتها كمؤسسة اجتماعية.

القسم الثالث: إحتدام الصراع داخل الكنيسة وبين رجال الدين أنفسهم -الذي يعدُّ الأول من نوعه-, وقد اختلف هذا الصراع عن غيره مِمّا سبق ذكره أنَّها كانت بين السلطتين الروحية والمادية.

وفي هذا النوع اتَّخذت معارضة سلطة البابا المطلقة شكلاً جديداً, حيث كانت هي المرة الأولى في تاريخ المسيحية, وإنَّها كانت تحت ذريعة القيام بالإصلاحات وفرض قيود دستورية, وإرغام سيدهم على القبول.

ص: 387


1- ممثل المنحرفين حسب اعتقاد أنصار البابا.
2- أتباع عقيدة توماس آراست في القرن السادس عشر للميلاد.

ولكن هذا الصراع لم يحسم لصالح المعارضين للبابا, ولم يفلح الحزب المعروف ب-(دعاة التهدئة) في تحقيق أهدافه, إلا أنَّه أسَّس فلسفة سياسية أدَّت في المستقبل إلى تحقيق نتائج سياسية هامة وأحدثت تحولات عظيمة؛ فقد أدَّى إلى فتح باب الحوار بين الزعماء الدنيويين وبين رعاياهم وحثهم على التفكير في تحجيم سلطة الحكام بواسطة الدستور والحكم التمثيلي.

فكان ذلك هذا هو المنشأ الإجمالي لانتشار الفكر العلماني في الغرب؛ حيث إعتبر الدين مخالفاً ومعارضاً للعدالة والحرية والعلم.

لقد كان من نتائج ذلك حصول نزعة عامة عند الجميع على إصلاح الدين على أيدي الطليعة من العلمانيين, لكن الذي حدث أنَّه من إفراط هؤلاء في تقييم الدين وتفريطهم في انتقاده ظهر (ميكافيلّي) ليزيد الإشكالية وقد تبني سياسته البغيضة وسيطرت على أفكارهم؛ مِمّا أوجب محو الأخلاق في النفوس وقلب الموازين وانتكاس القيم.

وسيأتي بيان الأثار الوخيمة التي ظهرت على مجالات الحياة.السبب الثاني: إنَّ نظرية التعديل في النسب التقريبية للمشاركة في البناء الحضاري وتوزيع السلطات والأولويات وما يترتب عليها من أهمية النسبية والتدريج الإجتماعي والإمتيازات سواء بالنسبة للمناهج أم الحواضن الإجتماعية المساهمة أم القادة, إذ شهدت الفترات السابقة والموسومة بالحداثة تهميشاً وتراجعاً للكثير من المناهج وانحطاط البحث والدراسة, وكذلك بالنسبة للحواضن أو للفئات الإجتماعية من الطوائف والمذاهب والأعراق والبلدان, وظهور نظريات وأفكار غريبة, وسيادة مركزيات غربية؛ حيث تبنت أفكار وأساطير جديدة, وتبنت سياسة سيادة الفرد؛ كلّ ذلك كان السبب في انتشار العلمانية في جميع العالم.

ص: 388

السبب الثالث: إنَّ في عصر النهضة ظهرت نظريات مختلفة تدور حول المرجعية الكامنة, أهمها نظريتان:

النظرية الأولى: النظرية التي تؤمن بالإنسان المطلق ومركزيته في الكون, ومن ثم يؤمن أصحاب هذه النظرية بأسبقية الإنسان على الطبيعة, فيكون عقل الإنسان هو المرجع النهائي, أو بالأحرى تكون المرجعية النهائية إنسانية. ولهذه النظرية جذور دينية أيضاً.

النظرية الثانية: النظرية التي تؤمن بأنَّ الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة, فهو لا يتمتع بأية مركزية أو تكون مطلقة, ومن أجل هذا يؤكد أصحاب هذه النظرية أسبقية الطبيعة على الإنسان, فتكون المرجعية كامنة في الطبيعة.

وعليه؛ فإنَّ المرجعية النهائية ليست إنسانية وإنَّما هي طبيعة مادية.

وقد نشب صراع حقيقي بين النظريتين وإنْ كان قد حسم لحساب النظرية الثانية, ومع غياب المرجعية للإنسان لم يبق إلا عالم الطبيعة والمادة, ولذا يكون الإنسان بما هو إنسان مادي ولا يحقُّ له أنْ يزعم لنفسه مركزية أو تكون مطلقة.

ولقد نشأت الفلسفة الغربية على أسبقية الطبيعة على الإنسان, والقضاء على أسبقية الإنسان على الطبيعة، مِمّا أدى الى ظهور الفلسفات المادية المعادية للإنسان تعبيراً عن ذلك. كما أنَّ معظم المصطلحات السلبية التي طورتها العلوم الإجتماعية الغربية تدور حول موضع واحد وهو إزالة الإنسان كظاهرة مركبة مستقلة حرة.

وحينئذٍ؛ كانت من أهم استجابات هذه المنهجية ظهور الفكر الإشتراكي, وخصوصاً الماركسي؛ حيث دأب هذا الفكر على تغيير شكل الإقتصاد وتغيير النظم السياسية, بل حياة الفرد الذي يدعى بالاغتراب, كما طرحت الإشتراكية نفسها باعتبارها نقيضاً للرأسمالية وحلاً لمشاكل الإنسان في عالم الحداثة, ثم إنَّ تصاعد أزمة الحضارة الرأسمالية

ص: 389

ومشاكلها جعل رأس الإشتراكية (لينين) يعتبر الإمبريالية في تصوره أعلى مراحل الرأسمالية.

ومن كلِّ هذا تمَّ تقسيم المجتمعات الصناعية الحديثة في الغرب إلى مجتمعات رأسمالية وأخرى إشتراكية؛ مِمّا أدّى إلى أنْ يكون هناك نموذجين بدلاً عن نموذج واحد وهو نموذج العلمانية والعلمنة, وإنْ كان في الواقع أنَّ كِلا النموذجين يرجعان إلى أمر واحد, وهو الإغتراب والاستغلال والتوجه نحو اللذات المادية، وتآكل الأسرة وضمور الحس الإجتماعي، وقد عبَّر علماء الإجتماع في أوائل القرن العشرين عن ذلك التلاقي بين المجتمعات الصناعية الرأسمالية والإشتراكية، وتهميش فعالية الايديولوجيات المختلفة.

والحاصل؛ إنَّ هذه النظريات في محورية الإنسان أو محورية الطبيعة -أي المادة- قد أدَّت إلى بروز فكرة العلمانية المبنية على فكرة الحداثة أيضاً.

وهناك أسباب أخرى يظهر للمتتبع لتاريخ فكرة العلمانية، ولكن كثيراً منها ترجع إلى أنَّها أسباب انتشار هذه الفكرة, وبعضها يرجع إلى إتّخاذها حركة فعالة في جميع المجالات بعد أنْ كانت محصورة على السياسة فقط ثم تطورت لتشمل البقية.

الأمر الرابع: هل أنَّ العلمانية على نحو واحد أو أنَّها على نحوين

الأمر الرابع: بعدما تبين تاريخ العلمانية وسبب نشأتها وتطورها وانتشارها فقد إختلف الباحثون في هذا المصطلح؛ هل أنَّ العلمانية على نحو واحد أو أنَّها على نحوين.

النحو الأول: العلمانية الجزئية؛ ويراد بها فصل الدين عن الدولة والسياسة.

النحو الثاني: العلمانية الشاملة؛ ولا تعني مجرد فصل الدين عن الدولة، وإنَّما فصل كلّ القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية.

وبتعبير آخر: هي فصلٌ عن طبيعة وحياة الإنسان في كِلا جانبيها العام والخاص, بحيث تنزع القداسة عن العالم ويتحول إلى مادة إستعمالية يمكن توظيفها للمصالح ولا سيما مصالح الأقوى.

ص: 390

والإشكال هو أنَّ تعريف العلمانية -في أكثر تعاريف الباحثين- ينصبُّ على فصل الدين عن السياسة وحسبْ؛ سواء كان في الغرب أم في الشرق, فهي تحصر عمليات العلمنة في المجال السياسي وربما الإقتصادي أيضاً؛ كما تقدم بيان ذلك.

وقد استبعدت النشاطات الإنسانية الأخرى أو لا أقل أنَّها تلتزم الصمت بخصوصها, وقد تبين مِمّا سبق أنَّ العلمانية بهذا المعنى قد ظهرت في المجتمعات المركبة إذ ثمة تمايز بين السلطات قد بدأ في الظهور في الإمبراطورية الوثنية التي يحكمها ملك متأله، إذ هناك تمايز بينه وبين كبير الكهنة وقائد الجيوش، فالمؤسسة الدينية لا يمكن أنْ تتواجد مع المؤسسة السياسية في أيِّ تركيب حضاري وسياسي مركب.

وقد خرج عن هذه القاعدة موردان:المورد الأول: بعض المجتمعات الموغلة في البساطة والبدائية؛ حيث نجد أنَّ رئيس القبيلة هو الساحر أو الكاهن, وأحياناً سليل الآلهة, وإنَّ طقوس الحياة اليومية طقوس دينية.

المورد الثاني: بعض المجتمعات التي يحكمها النبي المبعوث من الله تعالى باعتباره خليفة له سبحانه، كما في ملك داود وسليمان في فترة الملوكية في بني إسرائيل, وحياة خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم ؛ حيث كان الرسول والنبي والخليفة والحاكم والإمام, وقد نشأت في فترة حياته الكريمة الخلافة الإلهية.

وفي غير هذين الموردين كان التمايز بين السلطتين موجوداً نوعاً ما, إلا أنَّ في بعض الأدوار التاريخية كانت للكنيسة أو القساوسة والباباوات سيطرتهم على الملوك والأباطرة, وهي التي سببت النزاع والصراعات المختلفة, مِمّا دعي بعض القادة إلى كبح جماحهم وإرجاعهم إلى كنائسهم؛ وسمي ذلك بالعلمانية.

ص: 391

ولو كنّا نحن وواقع الأمر فإنَّ المؤسسة الدينية لا يمكن أنْ تتوحد مع المؤسسة السياسية في أيِّ تركيب سياسي وحضاري مركب، فإنَّ لكلِّ واحدة منهما رجال؛ فمنهم من يشتغل بأمور الدين ومنهم من يشتغل بأمور الدنيا، إلا في بعض الفترات الزمنية؛ حيث يتسلط أحد الطرفين على الآخر ويجعله هامشياً, فينشب الصراع حينئذٍ, ومن ثمَّ فإنَّ فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة العملية لم تكن مقصورة على المجتمعات العلمانية بأيَّة حال، وإنَّما هو موجود في معظم المجتمعات المركبة بشكل من الأشكال, فإنَّ الدولة -في واقع الأمر- تقوم بالإجراءات السياسية والإقتصادية ذات الطابع الفني, والتي لا يعرفها سوى الفنيين، ويعرف رجال الدين أنَّهم لا يقدرون على أنْ يقوموا بهذه المهمة، ومن أجل وضوح هذا الأمر الذي لا يمكن إنكاره ذهب بعض أصحاب العلمانية الجزئية إلى أنَّه لا تعارض في واقع الأمر بين العلمانية والتدين، وإنَّ بإمكانهما التعايش معاً، وهو أمر ممكن بالفعل إذا كان القصد هو مجرد التمايز بين المجال السياسي والإقتصادي وبين المجال الديني، وإبعاد رجال الدين والكهنوت عن مؤسسات صنع القرار السياسي، فهذا الأمر كان موجوداً، ومقتضى الإعتقاد أنَّ أعداء العلمانية لم يرفضوا هذا النوع من الفصل والتمايز إذا كان من حيث الإجراءات الفنية فقط طالما كانت النية هي حفظ المواقع والموازين؛ فلا بُدَّ أنْ يكون قصد أصحاب العلمانية أوسع من ذلك, وإنَّه ليس مجرد فصل الدين عن الدولة بل إنَّ تعريف العلمانية بهذا النحو فيه التجاهل التام عن قضية المرجعية والنموذج الكامن وراء المصطلح، أو إنَّه لا بُدَّ أنْ نسأل عن الإطار المعرفي الكلي الذي تتمُّ في إطاره عملية الفصل.

بل إنَّ مصطلح (علمانية) يراد به العزل عن أيَّة مرجعية نهائية، فهو يشير إلى مجموعة من الإجراءات تتمُّ من خلالها عملية الفصل باعتباره تجلياً لمنظومة مادية نسبية.

ص: 392

فالتحرك داخل الدائرة الصغيرة الجزئية وأنَّه لا شأن له بقضية المرجعية من السذاجة, إذ أنَّ العلمانية قد تحرك من العلمنة الجزئية كبداية لتطور أوسع بمرور الزمن أو من خلال تحقق الحلقات المتتالية التي كانت نماذج من العلمانية ثم تصاعدت معدلات العلمنة -لاسيما في العالم الغربي-؛ بحيث تجاوزت مجالات الإقتصاد والسياسة والايديولوجيا إلى طرد الدين عن حياة الإنسان, فقد أصبحت العلمنة ظاهرة اجتماعية كاسحة وتحولاً بنيوياً عميقاً يتجاوز عملية فصل الدين عن الدولة بل عملية التنظيم الإجتماعي (الرأسمالي والإشتراكي) بل تجاوزت التعريفات المعجمية, فإنَّها تصورات فكرية قاصرة محددة, فلم تعد هناك رقعة للحياة العامة مستقلة عن الحياة الخاصة؛ فإنَّ الدولة العلمانية والمؤسسات التربوية والترفيهية والإعلامية وصلت إلى وجدان الإنسان وتغلغلت في أحلامه, ووجَّهت سلوكه وعلاقته بأعضاء أسرته, وقوضت ما بقي من أخلاقيته الإنسانية؛ فضلاً عن أخلاقيته الدينية.

فقد تمَّ عَلمنة الأخلاقيات المسيحية، ولم يعد بالإمكان الحديث عن فصل هذا عن ذاك فقد انقلبت الحضارة -ولا سيما الغربية الحديثة- من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة.

فلا مجال لتفسير العلمانية بالجزئية، وإنْ استمرَّ هذا المصطلح وشاع حتى بعد اتّساع نطاق عمليات العلمنة حيث أصبحت أكثر شمولاً, ومن ثمَّ لا يمكن لأحد صياغة تعريف يجمع كلُّ التعاريف ليكون شاملاً له مقدرة تفسيرية عالية، مِمّا أدّى إلى أنْ يكون الحوار حول العلمانية مشوشاً؛ كلُّ واحد يسقط عليه معنىً مختلفاً عن غيره.

على أنَّ العلمانية مضافاً إلى كونها ظاهرة تاريخية مرَّت بأدوار متتالية؛ إبتدأت من الثورة على رجال الدين ثم مصادرة أموال الكنيسة ثم فصل السياسة عن الدولة ثم إشاعة الإباحية, وانتهت إلى رفض الأفكار والتأثر بالحضارات حتى صارت العلمانية مجموعة

ص: 393

من الأفكار الغربية صاغها بعض المفكرين الغربيين نشأت بسبب فساد الكنيسة وسطوتها وبعض المعتقدات الغريبة عن الدين المسيحي، وقد انتقلت هذه الفكرة إلى بلاد الإسلام؛ فتبنّاها بعض المثقفين والمفكرين ثم قلَّدتهم كثير من الناس, ثم أخذ نطاق التقليد يتَّسع تدريجياً حتى انتشرت في مجتمعاتنا.ولا إشكال في أنَّ عملية نقل وتطبيق الأفكار العلمانية تتمّ من خلال مخطط محكم, بل ربَّما هي مؤامرة عالمية وإنْ سميت بمسميات مختلفة.

ولا يمكن أنْ نقلل من أهمية الأفكار والممارسات العلمانية الواضحة, فهي تساعد -بلا شكٍّ- على تقبل الناس لها, خصوصاً إذا أشرف على عملية نقل الأفكار وفرض الممارسات مؤسسات ضخمة مثل الدولة المركزية والإعلام المضلل.

ومن أجل جميع ذلك لا تكفي دراسة العلمانية على أنَّها مجرد اصطلاح أو ممارسات واضحة, ولا ننسى أنَّ العلمنة إنَّما تتمُّ من خلال منتجات حضارية يومية أو أفكار شائعة وتحولات اجتماعية متتالية تبدو كلُّها في الظاهر أنَّها بريئة أو مقطوعة الصلة بالعلمانية الشاملة, وإنَّها تصوغ سلوكاً جديداً توجهه وجهة علمانية، ولذا سميت بأنَّها (بنيوية), والصفات البنيوية عادة ما تكون (كامنة) غير ظاهرة أو واضحة، وهي في الكمون والتخفي بحيث أنَّ معظم من يتداولونه يعتبرونها من المنتجات الحضارية ويعيشون في ظلال التحولات الإنقلابية التي تؤدي إلى توليد الرؤية العلمانية لا يدركون أثرها, ولذا سُميت ب-(علمنة بنيوية كامنة).

ويمكن أنْ يكون هناك مجتمع يتبنّى بشكل واضح ظاهرة ايديولوجية دينية أو رؤية علمانية جزئية، ولكن عمليات العلمنة الشاملة الكامنة من القوة بحيث إنَّها توجه المجتمع وجهة مغايرة تماماً لا يشعر بها أعضاء المجتمع أنفسهم.

ص: 394

بعض الأمثلة علی العلمانية

وإذا أردنا أنْ نضرب الأمثلة لذلك لَطال الكلام, ولكن نذكر بعض الأمثلة:

المثال الأول: إنَّ كثيراً من الأفكار التي تبدوا أنَّها محايدة بريئة لا علاقة لها بأيَّة ايديولوجية لكنها في الواقع تضمر الرؤية العلمانية، كما في فكرة الإنسان الطبيعي والعودة إلى بساطة الطبيعة؛ التي ربَّما يتمُّ الخلط بينها وبين مفهوم الفطرة، كذلك في القول بوحدة العلوم وتبني النماذج الموضوعية أو العقلية المادية؛ التي يتمُّ عادة الخلط بينها وبين مفهوم العقل ذي المرجعية الدينية، أو فكرة نهاية التاريخ، والمنظومات الحلولية، وخطاب التمركز حول الأنثى، وغيرها من الأفكار هي من سياسات الرؤية العلمانية ومن أهم تجلياتها, فإنَّ كثيرين مِمَّن قاموا بالترويج لهذه الأفكار لم يدركوا النماذج الكامنة وراءها.

المثال الثاني: تلك المنتجات الحضارية اليومية المألوفة التي تعتبر بريئة هي من أهم آليات العلمنة الشاملة للبنيوية الكامنة, فإنَّ أنواع الألبسة التي يلبسها الأطفال أو الكبار والتي عليها علامات خاصة وكتابات مخصوصة هي من آليات العلمنة، فإنَّ الوظيفة التي سُخِّرت تلك الألبسة من أجلها هي إلغاء الهوية ونفي الشخصية وتسخيرها لعالم الطبيعة والمادة، فهي عملية توظيف تُفقد المرء هويته وتحييده بحيث يصبح الإنسان منتجاً ومستهلكاً, مع أنَّ الكثيرين لا يدركون ذلك.

كما أنَّ السكن والمنزل الذي يُبنى على غرار الفكر الغربي أو الدولي فإنَّه يخلو عن الشخصية والعمق؛ حيث لا يكترث بالخصوصية والأسرار، وكذلك أثاث البيت إذا كانت على نمط غربي حديث فإنَّها تلفظ أيَّة خصوصية. وغير ذلك؛ فلو تخيَّل الإنسان أنَّه يلبس ما هو المستورد من الغرب بالكيفية الخاصة، ويسكن في منزل بُني على طريقة الكتل الصمّاء سابقة الإعداد, ويأكل طعاماً وظيفياً تمَّ طبخه بطريقة نمطية ويشرب تلك النماذج المستوردة، وينام على سرير وظيفي, ويعيش في مدينة شوارعها فسيحة يجري بسيارته

ص: 395

المستوردة فيها بسرعة، بل قد يهرول إلى المسجد أو الكنيسة حينما يحين وقت الصلاة وغيرها من العبادات والشعائر؛ فإنَّ مثل هذا الإنسان يتحول إلى إنسان وظيفي متكيف لا توجد في حياته خصوصية أو أسرار، فإنَّه إنسان قادر على تنفيذ كلّ ما يصدر إليه من أوامر دون أنْ يثير أيَّة تساؤلات أخلاقية أو فلسفية عنده, فإنَّ هذا الإنسان الوظيفي يقوم بالصلاة في مواقيتها، ولكن كلّ ما حوله خَلَق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة وجدواها.

المثال الثالث: من المعروف أنَّ الإتّحاد السوفيتي كانت دولة تُسيرها عقلية علمانية شاملة ذات طابع إلحادي مادي، أمّا الولايات المتحدة الأمريكية فهي على العكس من ذلك؛ تسمح بحرية العقيدة والتبشير والدعاية الدينية, وإنَّ كثيراً من الساسة يحرصون على حضور الصلوات يوم الأحد، بل إنَّ العملة الامريكية تتوج بعبارة (نحن نثق بالإله), وحسب الإنطباع الأولي لا بُدَّ أنْ يكون الإتّحاد السوفيتي أكثر علمانية من أمريكا، ولكن العكس هو الصحيح؛ فإنَّ الولايات المتحدة أكثر البلدان علمنة بلا منازع.

وهذا يعود إلى مجموعة أسباب من أهمها التغييرات البنيوية الضخمة والتي منها انتشار نمط الحياة في المدن الذي يؤدي إلى الهجرة من القرية إلى المدينة، وإلى تركيز البشر في رقعة محدودة، وظهور نمط جديد غير الأشكال القبلية أو القروية أو الأسرية, وتسارع إيقاع الحياة وتفكك الأسرة، وظهور مؤسسات حكومية تضطلع بكثير من أداور مؤسسة الأسرة، وانتشار مراكز الصنع والسوق كوحدات أساسية ومركزية, وتهميش القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية، وهيمنة الأخلاقيات المادية كأخلاقيات السوق وقوانين التجارة والبيع والشراء والعرض والطلب على الوجدان الأمريكي، وغيرها.

ص: 396

فإنَّ هذه التطورات البنيوية ولَّدت استعداداً ذهنياً ونفسياً لدى الإنسان الأمريكي للتعامل مع الواقع بشكل مادي صرف، فليس في الواقع إلا مادة نسبية منفصلة عن القيمة قد وظفت لتعظيم اللذة وزيادة المنفعة المادية، وإنَّ القيم الأخلاقية نسبية؛ فإنَّ البقاء للأصلح، فأصبحت بنية المجتمع علمانية شاملة.كلُّ ذلك أدّى إلى تفوق العلمانية في الولايات المتحدة, مع العلم بشراسة الدعاية الإلحادية في الإتّحاد السوفيتي, ولكن فعاليتها في عملية العلمنة أقل بكثير من فعاليات عمليات التمدن والصنع في أمريكا؛ التي هي أقوى بكثير من نظيرتها في الإتّحاد السوفيتي.

ومن جميع ما ذكرناه؛ إتَّضح مفهوم العلمانية وتاريخ العلمانية وأقسامها وأسباب انتشارها والنماذج التي تتَّصف بالعلمانية, ومن أراد التفصيل فليراجع الكتب المعدَّة في هذا الموضوع.

ص: 397

الفصل الثاني: بعض المصطلحات التي لها قيمة تفسيرية وتحليلية

اشارة

من خلال البحث والتوصل إلى تعريف العلمانية فقد وردت كذلك بعض المصطلحات التي لها قيمة تفسيرية وتحليلية ينبغي معرفتها ليتمّ البحث عن هذا المصطلح، وهي:

1- المطلق العلماني.

2- النموذج العلماني.

3- المتتالية النماذجية.

المطلق العلماني

فسَّره بعضهم بأنَّه الركيزة النهائية أو الأساس النهائي, ولكن الذي يراد به في هذا الموضوع هو الأمر الذي يتجاوز كلَّ الأجزاء ولا يتجاوزه شيء, وعليه يتحقق تماسك أجزاء النسق، فيكون مصدر الوحدة والتناسق والمرجعية النهائية.

وقد اعتبر العلماء أنَّ أيَّ نموذج فلسفي لا بُدَّ من أنْ يكون له مركز يشكل متعلقه ويقبله الأتباع دون مناقشة.ولذا؛ فقد أنكر جمعٌ من الباحثين في الفكر العلماني أنْ تكون بعض النماذج الفكرية العلمانية أيَّة نقطة مرجعية تتجاوز هذه الدنيا, إلا أنَّه مع ذلك فإنَّ هذه النماذج تستند إلى ركيزة أساسية ومرجعية نهائية كامنة في المادة(1).

فتكون المادة مرجعية نهائية مادية ومركز مطلق يشكل مصدر التماسك في الكون والمجتمع ويزوده بالهدف والغاية, فيشكل وحدته ويتجاوز كلَّ الأجزاء.

وهذا المطلق العلماني هو الأساس الكامن وهو وحدة المطلق النهائي، وهو وحده الثابت، وما عداه متغير ومجرد تنوعات.

ص: 398


1- إمّا الطبيعة أو الإنسان أو التاريخ.

وإنْ كان هذا المطلق النهائي (أو المرجعية النهائية المادية الكامنة) وقد اختلف التعبير عنه على مرِّ التاريخ.

ففي بداية الأمر كان (هريز) يشير إلى الدولة مثلاً بالتنين، وإلى الأخلاقيات بالذئب باعتبارهما تعبيراً عن الطبيعة/المادة.

كما إنَّ (لوك) تحدث عن عقل الإنسان والصفحة البيضاء, والتي لا تختلف عن الطبيعة/المادة.

وقام كثير من فلاسفة الإستنارة بمحاولة رؤية الإنسان باعتباره إله فحسب.

وجعل (بنتام) المنظومة الأخلاقية تدور حول المنفعة واللذة.

وقد انضمَّ إلى هؤلاء دعاة النظرية المعرفية الغربية التي زودت الساسة والقادة الغربيين بالإطار النظري لإدارة الملايين.

والجميع إنَّما يستند على المرجعية النهائية المادية الكامنة، وهو انتماؤهم العرقي المادي.

وحينئذٍ؛ يمكن تفسير تفاوتهم بالعودة إلى القوانين البيولوجية (الطبيعة/المادة).

أمّا الفلاسفة الماركسيون, الذين هم أصحاب رؤية مادية واحدية للإنسان فإنَّهم يتحدثون عن الدوافع الإنسانية والطبيعة البشرية بشكل ساذج أو أحادي البعد, مِمّا أدّى إلى ردَّة فعل الفكر الغربي, فأظهر مفهوماً أكثر تركيبية للإنسان وعقله وعلاقته بالطبيعة والمجتمع, فظهرت مطلقات ومرجعيات مادية أكثر تركيبية، مثل اليد الخفية عند (آدم سميث), والمنفعة عند (بتنام), ووسائل الإنتاج عند (ماركس), والجنس عند (فرويد), وإرادة القوة عند (نيتشه), وقانون البقاء عند (داروين), والطفرة الحيوية عند (برجستون), والروح المطلقة عند (هيكل)؛ وكلُّها تتَّحد مع المادة في نهاية التاريخ أو روح التاريخ أو روح الحضارة أو روح العصر وعبقرية المكان والتقدم اللانهائي وعبء الرجل الأبيض باعتباره عبئاً حضارياً, إلى غير ذلك من المفاهيم والنظريات.

ص: 399

ولكن رغم التركيبة الظاهرة لهذه المفاهيم إلا أنَّها مجرد تنويع مركب على مفهوم (المادة) نفسه؛ فإنَّ المنفعة والجنس والطبقة لا بُدَّ أنْ تفسر في نهاية الأمر تفسيراًمادياً, ومن ذلك يظهر أنَّ المطلق العلماني النهائي أو المرجعية النهائية الكامنة هي المادة (الطبيعة), وقد تتطابق الصورة الكامنة وراء المادة باعتبارها مفهوماً فلسفياً مع مفردات الحياة المادية كالسوق والمصنع وغيرها؛ فإنَّها شيء منتظم متَّسق خاضع لقوانين ثابتة منتظمة مفردة واضحة بسيطة رياضية حتمية آلية.

وهي لا يكترث بالفرد ولا بالإنسان ولا بالخصوصيات ولا بالغايات أو القيم الإنسانية, فهو يتجاوز الإنسان ولا يتجاوزه الإنسان.

فإنَّ السوق/المصنع -أخيراً- يحوي داخله قوانينه وكلُّ ما نحتاجه لفهمه, وهو (واجب الوجود) في النظم الرأسمالية والنظم الإشتراكية على حدٍّ سواء, فإنَّ في الفكر العلماني يتحقق التطابق المدهش بين الإنسان الإقتصادي والإنسان الطبيعي حينما ينخرط في السوق والمصنع, فيذعن لقوانينه التي لا تختلف عن قوانين المادة.

والأمثلة لهذا الإتّحاد في الفكر الغربي كثيرة؛ فإنَّ وصف دعاة الداروينية الإجتماعية للسوق لا تختلف عن وصفهم للمادة (الطبيعة), فكلُّ واحد منهما يكاد يكون هو الآخر، فإنَّ الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح قيم نهائية مادية تهيمن على السوق هيمنتها على المادة (الطبيعة), وعملية التطور عملية مندفعة من داخل المادة تماماً مثل آليات السوق, فإنَّ السلعة من المطلقات العلمانية والمرجعيات النهائية المادية الأخرى وكذلك رأس المال, وإنَّ تراكم المال هو المعيار المادي النهائي الذي لا يمكن تجاوزه. وفي المنظومة القومية العضوية يصبح الشعب العضوي هو هذا المطلق, وفي المنظومة الإمبريالية فإنَّ المطلق هو الحضارة الغربية. ومفهوم التقدم (المادي) من أهم المطلقات العلمانية.

ص: 400

ومن أهم مميزات المطلق العلماني أنَّه وإنْ كان كامناً لكنه ليس ساكناً، فهو يتغير ويتلون حسب المرحلة التاريخية.

ومن هنا أضيف في الفكر العلماني عنصر ثالث في الستينيات وهو مؤسسات اللذة, بحيث أصبحت دورة الإنسان ثلاثة:

· الإنتاج في المصنع.

· الإستهلاك في السوق.

· اللذة الحسية في الملاهي ونحوها.

ولكن هذه الإضافة لم تغير البنية الأساسية الشاملة, فإنَّها تنصبُّ في واحد وهي المادة (الطبيعة).

كما إنَّ المطلق العلماني قد ظهر أيضاً في شكل مؤسسة الدولة المطلقة التي أصبحت من أهم آليات العلمنة إبتداءً في العالم الغربي وانتهاءً في جميع العالم في نهاية القرن التاسع عشر؛ فإنَّ الدولة تتبع قانوناً شاملاً مستمراً يشمل الوطنبأسره، وهو قانون ثابت مطَّرد حتمي آلي كامن في الدولة, وإنَّ الفرد أو الإنسان مجرد وسيلة لتحقيق غاياتها ومصلحتها.

وبهذا المعنى تعدُّ الدولة المثال الكامل للمطلق العلماني.

وعند مراجعة المتتالية العلمانية يظهر أنَّ الإنسان الحديث قد تكيف مع المجردات المطلقة اللا إنسانية من خلال شعارات كشعار (العودة إلى الطبيعة) التي هي في واقع الأمر دعوة للإنسان إلى حركة المادة متجاوزاً بذلك وجوده المعين وحسّه الخُلقي وخصوصيته وفرديته وفطرته الإنسانية.

وقد حصل ذلك خلال عملية تنميط الإنسان وبرمجته وتدريب وجدانه على قبول المادة (الطبيعة) التي هي الكيان غير الإنساني المتجاوز للإنسان باعتبارها المرجعية النهائية.

ص: 401

والحضارة العلمانية الغربية حضارة فريدة تماماً، إذ أنَّها ولأول مرة في تاريخ الإنسان تُلغي الهدف والغاية ويتحرر المطلق منهما. وهذا هو الإدراك الأساسي الكامن وراء عالم ما بعد الحداثة، فهو عالم قد نمت تصفيته وتطهيره تماماً من المطلقات والمرجعية النهائية، فلا مركز ولا هامش, وإنَّما هو عالم لا يوجد فيه وضع خاص أو متميز لأيِّ شيء -حتى الإنسان-, فقد أصبح عالماً خالياً من المعنى فهو عالم نسبي تماماً، فالمرجعية النهائية في هذا العالم -في الحقيقة- أفكار المطلق النهائي الثابت، بل المطلق الثابت هو النسبي والمتغير، وهذا ما يعبر عنه الفكر المادي بالقول: (لا ثبات إلا لقوانين التغير).

ومع ذلك تظل الداروينية وفكرة البقاء للأقوى هي المرجعية الوحيدة الثابتة في عالم الواحدية وما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد.

هذا ما يتعلق بالمطلق العلماني.

النموذج العلماني

النموذج هو الذي يعبر عن الفكرة, وإنَّما يتعين لحظة تبلوره, وهي لحظة يفصح فيها النموذج عن جوهره ووجهه الحقيقي؛ وهو في العلمانية على نحوين:

النحو الأول: النموذج العلماني الشامل

وهو الذي تحدد في لحظة الصفر العلمانية، لأنَّ أسطورة أصل الوجود التي تطرحها العلمانية الشاملة تذهب إلى أنَّ العالم ظهر بالصدفة المحضة من مادة أولية سائلة غير مشكلة بنوع، ومن خلال تفاعل كيميائي بسيط أنتج خلية واحدة لزجة تطورت بالصدفة حسب قانون صارم, ثم نمت وتطورت إلى أنْ أصبحت الإنسان الطبيعي (المادي) ذا العقل الذي يشبه الصفحة البيضاء والذي لا يتمتع بأيِّ تميز عن الطبيعة، فهو بغير هوية محددة، ولا يمكن تجاوز ذاته الطبيعية، ويعيش خاضعاً تماماً لقوانين الضرورة والصيرورة

ص: 402

ولا يملك فكاكاً منها؛ فكانت كلُّ لحظات وجوده هي سيولة دائمة، فهي لحظة جنينية كاملة.ولكن نقطة الصفر -هذه- لا تختصُّ بالأصل فقط بل تنسحب إلى النهاية, وهي نهاية النموذج العلماني التي تفترض أنَّ الإنسان سيكون متحكماً تماماً في واقعه, متمركزاً تماماً حول ذاته، فهو كالإله؛ يتجاوز الخير والشر والبكاء والضحك ومن ثم يصل إلى نقطة نهاية التاريخ وقمة التقدم والفردوس الأرضي, ولكن هذه اللحظة رغم صلابتها هي لحظة جنينية أيضاً يفقد فيها الإنسان مركزيته وحدوده وهويته واستقلاله عن الطبيعة, ويصبح جزءً لا يتجزأ من الكلِّ, فيصبح الكون واحدياً مادياً تماماً متساويةً أجزاؤه.

ولهذا السبب تكون لحظة النهاية لحظة سيولة كاملة مثل لحظة البداية, ولحظة البداية شأنها شأن لحظة النهاية؛ هي أيضاً لحظة يمكن أنْ يحلَّ أيَّ شيء محلَّ آخر، وتسري على الإنسان القوانين التي تسري على الأشياء وتصبح المادة (الطبيعة) مرجعية النهائية المادية، فيصبح كائناً طبيعياً وشيئاً يشبه الإله.

النحو الثاني: النموذج العلماني في الفكر

إنَّ اللحظة النماذجية يمكن أنْ تكون لحظة فكرية؛ أي: تتحقق في نسق فلسفي يجعل صاحبه إلى جوهر الأمور.

ويمكن أنْ تكون لحظة فعلية؛ أي: أنْ تتحقق في الواقع نفسه حين يحاول شخص أو نظام اجتماعي أنْ يحقق النموذج بحذافيره ويفرضه فرضاً على الواقع.

ومن أهم الفلاسفة العلمانيين الشاملين من منظور اللحظة النماذجية الفكرية الفيلسوف (توماس هوبز) الذي تشكل كتاباته لحظة تعين للنموذج العلماني الشامل وواحديته المادية الصارمة، وإنكاره حرية الإنسان وإرادته ومقدرته على التجاوز، وقد تبعه (اسبينوزا)

ص: 403

بخطابه الهندسي المادي الصارم؛ حيث تختفي أيَّة غائية أو تجاوز، ويغيب الإنسان تماماً في المجردات اللا إنسانية.

وقد أثار هذا الوضوح في النماذج قلق كثير من الفلاسفة العلمانيين, فقاموا بمحاولات يائسة لإضافة محسنات فلسفية وثنائيات ظاهرية واقعية؛ من أهمها الجدل الهيجلي؛ الذي هو أهم محاولة في هذا المضمار, إذ أنَّه يصرُّ على جدلية الواقع وعلى تجاوز المعطيات الحسية للواقع بشكل مستمر, ولكنه مع ذلك ينطلق إلى نقطة الصفر العلمانية مرة أخرى مع التحام الذات بالموضوع مع نهاية التاريخ حين يتحقق الفعل الكلي والمطلق في التاريخ والطبيعة، وهي النقطة التي تنتهي فيها التجاوز.

وأمّا الفلسفة الماركسية فإنَّ كلَّ شيء ينتهي في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى المادة فقط، فيُردُّ الباطن (الروحي) إلى الظاهر المادي, وتُردُّ الهوية (الخاصة) إلى القانون العام، ويحلُّ ما هو غير إنساني محلّ ما هو إنساني، فيكون (العقل) في التحليل الأخير ليس إلا مادة تتراكم عليها الأحاسيس، وإنَّ الإنسان في نهاية المطاف ليس سوى جزء من الطبيعة، كما إنَّ عقله (في نهايةالأمر) ليس إلا صفحة مادية بيضاء تتراكم عليه الأحاسيس المادية التي تسجلها الأعصاب، فتصبح كل الأمور متساوية (نسبية) خاضعة للقياس، ويتم كشف كلّ شيء وتفكيكه, ومن ثمَّ يتحقق النموذج تماماً في اللحظة النماذجية، وتطلُّ الميتافيزيقيا العلمانية الشاملة بوجهها العدمي القبيح؛ حيث يقوض الإنسان تماماً، ويُردُّ إلى ما هو دون الكائنات, وتختفي كلُّ صلابة وتظهر السيولة الكاسحة، وما كان كامناً في النموذج يصبح ظاهراً وواضحاً.

والظاهر: إنَّ الفكر العلماني الشامل ليس فكراً تفكيكياً بطبيعته وحسب, وإنَّما هو فكر تقويضي وإبادي كذلك.

ص: 404

ونقطة الصفر العلمانية هذه يمكن أنْ تأخذ شكلاً شاملاً، وهو الذي يتَّضح في خطاب ما بعد الحداثة, الذي هو تحقق للعوامل التفكيكية داخل المنظومة التحديثية، وإنَّها تحقق للنسبية الكامنة في النموذج التحديثي، بحيث تصبح نسبية كاملة وصيرورة تامة، وسيولة شاملة.

وإذا كانت المنظومة التحديثية أدَّت إلى تفكيك الإنسان وإحساسه باللا معيارية، وإذا كانت الحداثة هي احتجاج الإنسان على ما يحدث له؛ فإَّن ما بعد الحداثة هي تطبيع كامل لهذه اللا معيارية, وتعبير عن تقبل الإنسان لحالة التنبؤ الناجمة عن التحديث.

وإذا أردنا أنْ تظهر المقدرة التحليلية لمفهوم نقطة الصفر العلمانية بصورة أوضح يمكن أنْ نضرب أمثلة كثيرة تبين لحظات علمانية شاملة نماذجية مختلفة, وإنْ كانت أقل عمومية من لحظة الصفر العلمانية ولكنها من تجلياتها:

أمثلة كثيرة تبين لحظات علمانية شاملة نماذجية مختلفة
اشارة

1- اللحظة السنغافورية؛ والتي يظهر فيها الإنسان الإقتصادي.

2- اللحظة التايلاندية؛ والتي يظهر فيها الإنسان الجسماني.

3- اللحظة الصهيوينة؛ والتي يظهر فيها الإنسان كمادة محض (الإنسان المادي الصرف).

4- اللحظة الإماراتية، والتي تجمع بين اللحظات السابقة متلبسة بالدين.

والإنسان في هذه الحالات جميعاً إنسان طبيعي وظيفي يُعرف في إطاره البيولوجي والإجتماعي.

ص: 405

اللحظة السنغافورية

وقد سميت كذلك نسبة إلى (سنغافورة)؛ التي هي بلد صغير في قارة آسيا, يتَّسم بأنَّه بلا تاريخ ولا ذاكرة تاريخية ولا تقاليد حضارية أو منظومات قيمية راسخة.فمن الممكن تجاهلها ببساطة أو تهميشها حتى يتحول الإنسان فيها إلى وحدة إقتصادية قادرة على الإنتاج والإستهلاك والبيع والشراء، ومن ثمَّ يصبح البلد كلُّه مجموعة من المحلات والفنادق والمصانع، وينظر الناس إلى أنفسهم لا أنَّهم كبشر، وإنَّما كوحدات إنتاجية استهلاكية.

ولذا فقد أصبحت سنغافورة حلم كثير من أعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث التي تتبنى التنمية في إطار إقتصادي محض.

والرؤية السنغافورية هي الرؤية المهيمنة على المنظمات الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين, التي تعطي القروض في الإطار السنغافوري المحض, فإنَّه قد اقترح أحد كبار الخبراء في البنك الدولي -ذات مرة- أنْ تتخلص الدول الغربية من نفاياتها النووية والعوادم الكيمائية وغيرها من الفضلات بإلقائها في البلاد الأفريقية مقابل إعطائها بعض المعونات الإقتصادية, وهذه هي الرؤية السنغافورية؛ التي ترى البلاد لا باعتبارها فنادقَ وأسواقاً ومصانعاً فقط، وإنَّما باعتبارها مقلب نفايات.

فإنَّ اللحظة السنغافورية لحظة أمسكت بتلابيب مجتمع بأسره، ولكنها يمكن أنْ تظهر على هيئة أفراد, وكثير من نظريات الإدارة في الولايات المتحدة ذات طابع سنغافوري كامل, فهي نظريات تدعو إلى إخضاع جميع حركات العامل وسكناته للدراسة حتى يمكن توظيفها تماماً في خدمة الإنتاج لكي يكون الجميع أبطال الإنتاج؛ بينما يقوم الإعلام ولا سيما الإعلانات التلفزيونية بتحويل الجميع إلى أبطال استهلاك, والدعوة إلى

ص: 406

السوق الشرق أوسطية في عالمنا الإسلامي -لا سيما العربي-, وهي دعوة إلى تحويل الإنسان العربي الإسلامي إلى إنسان سنغافوري.

اللحظة التايلاندية

وقد سميت كذلك نسبة إلى (تايلاند)؛ وهي بلد آسيوي أيضاً, أصبح قطاع البغاء فيه من أهم مصادر الدخل القومي، وتكون فيه لوبي قوي من ملوك البغاء والمخدرات حتى أصبح من المستحيل الآن تخيل (تايلاند) بدون هذا القطاع المهم.

واللحظة التايلاندية تعبير عن الإنسان الجسماني؛ حيث يتحول الإنسان تماماً إلى أداة للمتعة (في عصر ما بعد الحداثة والاستهلاكية العالمية), وإذا كانت الدعوة إلى تحويل كلُّ البلاد الى تايلاند مسألة صعبة؛ إذ يفزع الناس من نزع القداسة تماماً عنهم، إلا أنَّ الحديث عن السياحة وتطوير القطاع السياحي يخبئ عادة نزعة تايلاندية عميقة يتحاشى الجميع مواجهتها.

اللحظة الصهيونية

ولعلَّ هذه اللحظة هي من أوضح اللحظات النماذجية وأكثرها مادية، لأنَّها تعبير مباشر عن الإنسان المادي بمادته كمادة محضة وقوة كاسحة نظيرتها اللحظة النازية؛ التي تعتبر الإنسان كائناً طبيعياً مرجعيته النهائية المادة/الطبيعة.

ولا ريب أنَّ المرجعية الأخلاقية المادية عندهما إرادة القوة، ومن هنا تنظر إلى البشر جميعاً باعتبارهم مادة استعمالية يمكن توظيفها، ويقوم الأقوى والأصلح من الناحية المادية بهذه المهمة الصالحة.

ومن أجل ذلك فقد تمَّ تقسيم البشر -من منظور مادّي صرف- إلى أشخاص نافعين وأشخاص غير نافعين، وتقرر إبادة غير النافعين منهم مِمَّن لا يمكن إصلاحهم وتحويلهم

ص: 407

إلى عناصر منتجة، وذلك بعد دراسة علمية من منظور مادي مرشد, وإذا أردنا التعبير عن المجتمع الصهيوني (أو النازي)؛ فإنَّه مجتمع واحدي مادي نماذجي, تمَّ التحكم في كلِّ شيءٍ داخله -وضمن ذلك البشر-, فقد طبقت عليهم نماذج رياضية صارمة ذات طابع هوبزي واسبينوزي تم تطهيرها تماماً من خلال الإله, فلا رحمة ولا تراحم, ولا مجال فيها لأيَّة مرجعيات إنسانية, لأنَّ المرجعية الوحيدة هي المنفعة المادية وإدارة القوة.

ولا تعتبر اللحظة الصهيونية إنحرافاً عن الفكر العلماني الشامل. ومن إرادة القوة استبعدت الشعب الفلسطيني, فنظرت إلى فلسطين أرضاً بلا شعب، وحوَّلت كلَّ شيء إلى مادة، وأصبح اليهود مادة بشرية يتم تخليص أوروبا منهم عن طريق نقلهم, فقد أصبح كلُّ شيء قابلاً للاستعمال والنقل.

اللحظة الإماراتية

فقد جمعت فيها بين اللحظة السنغافورية؛ فأصبح الإنسان مادة صرفة وطاقة للإنتاج والاستهلاك. واللحظة التايلاندية؛ التي تعتبر الإنسان متعة حسية ولكن تحت ستار الدين, ومن ينعم النظر في حياة هذا البلد ونظائره من بلاد الإسلام يرى بصمات اللحظة العلمانية المادية واضحة, وكانت من نتيجة ذلك أنَّ الدين أصبح وسيلة للوصول إلى الهدف المادي الصرف, لا أنْ يكون غاية للاستكمال وتهذيب الروح.

ولهذا البلد نظائر في عالمنا الإسلامي؛ حيث طبق عليها نظرية السوق الشرق أوسطية كما تقدم بيانه, ومن أجل ذلك لم تنفصل اللحظات النماذجية الأربع, فهي لا تعترف إلا بالمادة, فقد تحول الإنسان إلى مادة نافعة انتزعت عنه القداسة بعد تعريته من إنسانيته، ويدخل الإنسان في الإباحية المعرفية؛ حيث لا حرمات ولا مطلقات, وتترك الإنسان عارياً عن مبادئه أمام مؤسسة قوية تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة.

ص: 408

وإذا تصورنا عالماً مادياً وأنَّ الأمور كلُّها متساوية والإنسان مادة لا قداسة لها ولا توجد سوى مرجعيات أخلاقية مادية, أو إنَّ النشاط الجنسي -على سبيلالمثال- يكون مجرد نشاط مادي شأنه شأن النشاط الإقتصادي, وتصبح الطاقة الجنسية مادة إنتاجية استهلاكية، ويصبح البغاء من أدوات الإنتاج, لا تختلف كثيراً عن إبطال الإنتاج في المصانع, ولا تختلف عن المعاق في معسكرات الاعتقال، فإنَّه يتحول الجميع إلى مادة استعمالية وإلى طاقة محض؛ فإنَّه لا إشكال أنَّ مثل هذا العالم يخلو عن كلِّ مفردة إنسانية ومنقبة أخلاقية, ويصبح الإنسان مثل السيدة (سدني بيدل باروز) عندما وجهت إليها إدارة ملف دعارة في نيويورك, كان خطُّ دفاعها أنَّ الدعارة عمل استثماري، وقد تحولت قصتها إلى عمل ناجح، بل قامت إحدى مؤسسات الرفاه الخيرية في أستراليا(1) بترتيب دورات تدريبية للبغايا حتى يمكنهن من تحسين أدائهن في ساعات العمل الشاقة, وعندما سُئل أحد مسؤولي الدورة عن الحكمة من وراء ذلك أجاب بأنَّ التخصص إحدى سمات العصر, وهي علمنة المصطلحات المستخدمة في وصف عملية تحول الإنسان الكامل المركب إلى إنسان طبيعي وظيفي؛ وهو الذي عليه النماذج العلمانية الأربعة المتقدمة. وهذا هو المتوقع تماماً من اللحظات العلمانية الشاملة النموذجية، وإنْ كانت اللغة التي تعبر عنها لغة محايدة تجعلنا ننسى إنسانية الإنسان.

فلم تكن الصهيونية تتحدث عن الإبادة كما لم يتحدث النازيون، وإنَّما كان عندهم عن (الحلّ النهائي) وعن الأرض التي جاء الصهاينة لزراعتها لا لاغتصابها.

ولا يتحدث أحد في اللحظة السنغافورية عن توظيف الإنسان وتسلّعه, وإنَّما عن تحسين مستوى المعيشة وزيادة الإنتاج وتوفير الرفاهية والرخاء لأكبر عدد ممكن, وغير ذلك من

ص: 409


1- وهي إحدى المؤسسات المدنية التطوعية غير الحكومية.

المصطلحات التي لا تشير إلى الأبعاد الكلية والنهائية المترتبة عليها؛ فإنَّ تحييد المصطلحات في حالة اللحظة التايلاندية يستحق قدراً من التوقف عنده، فإنَّ البغاء يتحول إلى أهم القطاعات الإقتصادية، ومن ثمَّ يصبح البغي عضواً في الطبقة الكادحة التي تقوم بنشاط إقتصادي منتِج ثم يتحول تدريجياً إلى بطلة قومية، وبعد مدة قد يصبح من واجب الجميع أنْ يؤدوا له الإحترام.

ولا يمكن لأحد الوقوف أمام تلك النماذج سوى الدين, ولم يتحلَّ أحدٌ بالشجاعة إلا المتدين، والعلمانية مهما حاولت لا يمكنها نزع القداسة عن ذات الإنسان بهذه البساطة؛ كما سيأتي بيانه.

المتتالية النماذجية

المقصود من المتتالية النماذجية هي تلك النماذج العلمانية التي تتحقق بطرق وأشكال مختلفة ولا يلزم أنْ تتحقق كلُّها وبالطريقة نفسها في كلِّ زمانٍ ومكانٍ،وإنَّما تتحقق بعض حلقاتها في بعض الأزمنة والأمكنة بطرائق متعددة، ولذا لا يلزم أنْ تبدو كلُّ سمات نموذج العلمانية الشاملة في كلِّ ظاهرة أو مجال إنساني بالطريقة ذاتها وبالمقدار نفسه، بل نجد أنَّ بعض السمات دون غيرها تظهر في مجال ما دون الآخر وبدرجات متفاوتة.

فلو أخذنا متتالية العَلمنة في أوروبا الغربية مثالاً فإنَّها تأخذ هذا الشكل تقريباً:

· علمنة المجال الإقتصادي في أواخر العصور الوسطى.

· علمنة المجال السياسي في القرن السادس عشر.

· علمنة المجال الفلسفي في القرن السابع عشر.

· علمنة المجال الوجداني والأحلام في القرن التاسع عشر.

· علمنة الحياة الخاصة والسلوك في القرن العشرين.

ص: 410

وهذه المتتالية تختلف عن متتالية العلمنة في أوروبا الشرقية؛ حيث تمَّ التحديث والعلمنة تحت رعاية الدولة.

كما تختلف كلتيهما عن العلمنة في الولايات المتحدة وروسيا القيصرية.

وكلُّ تلك التجارب في العالم الغربي تختلف بدورها عن متتالية العلمنة في العالم الثالث؛ حيث تمَّت عملية التحديث والعلمنة في البداية من خلال الإستعمار وجيوش المستعرين, ثمَّ من خلال الدولة التي تهيمن عليها النخب المحلية المغتربة.

وبالجملة؛ تختلف العلمنة من بلد لآخر حسب الظروف التاريخية والثقافية والإجتماعية لكلِّ بلد.

ولكن مِمّا يجدر ملاحظته هو أنَّ عمليات العلمنة البنيوية الكامنة قد تؤدي إلى توليد متتاليات جديدة للعلمنة في بعض البلاد ثم تنتقل إلى العالم الثالث؛ فإنَّه قد تتم أحياناً علمنة الوجدان من خلال الإعلام والأفلام الأمريكية، ثمَّ علمنة بعض جوانب السلوك من خلال الترويج لأزياء معينة وأشكال جديدة من المتعة, ثمَّ علمنة القانون.

ومع ذلك يظلُّ القطّاع الإقتصادي والقطّاع السياسي -مثلاً- يدوران في أطر أكثر تقليدية وأقل علمنة وحداثة, ولكنهما تظهران بصورة أشد في تركيب الأسرة -في العالم الثالث-؛ حيث أنَّ كلَّ جيل من أجيال هذه الأسرة، بل أحياناً كلُّ عضو قد تمَّت علمنته لمعدلات مختلفة.

ص: 411

الفصل الثالث: في بيان الحلقات المتتالية في فكر وثقافة وفلسفة العلمانية

ويمكن تصوير حلقات المتتالية النماذجية للعلمانية في الفكر والثقافة والإقتصاد كما يلي:

الحلقة الأولى:

حلول مركز الكون في العالم، وتصبح مرجعية الكون مرجعية كامنة فيه، وتختفي المرجعية المتجاوزة التي تفترض أنَّ هناك عالماً وراء هذا العالم المادي عالم الحواس الخمس.

فقد سمّوا مركز الكون الحالُّ فيه غيرُ المفارق له ب-(الإله) أو (روح العالم), وعلى هذه النظرية أسَّسوا فكرة وحدة الوجود, حيث يتوحد الإله مع الكون في جوهر واحد، ولكن في هذه الحالة تكون وحدة وجود روحية.

ثم قالوا بأنَّ هذه الوحدة الروحية إنَّما هي في الإسم فقط, لأنَّ مركز الكون الحالُّ فيه يمكن أنْ يسمى ب-(المادة/الطبيعة) أو القوانين الطبيعية أو غير ذلك من التسميات, وبذا تتحول وحدة الوجود الروحية (إسماً) إلى وحدة الوجود المادية (فعلاً).

الحلقة الثانية

الملاحظ إنَّ المبدأ الواحد ومركز الكون يحلُّ في بداية الأمر في كلٍّ من الإنسان والطبيعة بدرجة متساوية, ونتيجة هذا الحلّ المزدوج كانت ثنائية صلبة؛ ثنائية الإنسان في مقابل الطبيعة/المادة.

فيكون الإنسان مركز الحلول ويواجه الكون دون وسائط، يتمركز حول نفسه ويضع نفسه في مركز الكون، فيصبح مرجعية ذاته مكتفياً بذاته، وفي بداية الأمر تكون الإنسانية مركز الحلول، فتظهر النزعة الإنسانية, ويحاول الإنسان تأكيد جوهره الإنساني المستقلُّ عن الطبيعة ويتجاوزها بقوة إرادته، وتكون هذه الإنسانية مصدر تماسك للعالم، ومن ثمَّ

ص: 412

إدراك العالم من خلال هذه المقولة وافتراض أنَّ الإنسان يسبق الطبيعة، وينظر الإنسان إليها باعتبارها مادة استعمالية ويبدأ بإعادة صياغتها في الإطار المادي ليسخرها لصالحه.

ولكن في غياب المعايير فإنَّ الإنسان -الذي هو موضع الحلول- يصبح أمَّة أو عرقاً ما فتظهر العنصرية والصهيونية ونحوهما، وقد يصبح موضع الحلول قائداً أو زعيماً فتظهر النازية والفاشية، وقد يكون فرداً عادياً فتظهر النزعة النفعية المادية الحادَّة وتوجهه نحو اللذة بشدة، ويؤكد الإنسان نفسه في مواجهة الطبيعة والآخرين.

ومن الملاحظ أنَّ كلَّ هذه النزعات رغم تنوعها هي نزعات (إنسانية)؛ بمعنى إنَّها تفترض أنَّ مركز الكون هو البشر أو من البشر.وهي أيضاً نزعات واحدية؛ فهي ترد الكون بأسره إلى عنصر واحد(1), وهي رغم واحديتها فإنَّ لها مركز، ومن ثمَّ فهي واحدية صلبة، وهي نزعات تحاول توظيف الطبيعة وتوظيف الآخر.

إلا أنَّه بعد المراحل السابقة التي تتميز بالتمركز حول الذات الإنسانية يكتشف الإنسان أنَّ المادة (الطبيعة) مركز الحلول تقف صلبة متمركزة حول نفسها, أي إنَّها تصبح مرجعية ذاتها مكتفية بذاتها لا تكترث بالإنسان، وتردُّ كلَّ شيء إلى عنصر واحد(2), أي واحدية الطبيعة/المادة، وإنَّ لها مركزاً -رغم واحديتها- فهي واحدية صلبة, ويكون مصدر التماسك في الكون، أو يتمُّ إدراكه من خلالها فيسود الإفتراض بأنَّ الطبيعي يسبق الإنساني. ومن الطبيعي بعد ذلك أنْ يحدث صراع بين المركزين (الإنسان والطبيعة) ومن ثمَّ تنشأ الثنائية الصلبة التي أشرنا إليها.

ص: 413


1- واحدية إنسانية أو فردية.
2- الطبيعة/المادة.

الحلقة الثالثة

ثمَّ تنحلُّ الثنائية الصلبة إلى واحدية مادية صلبة, وحينئذٍ يكشف الإنسان عدم اكتراث الطبيعة (المادة) به. كما أنَّه يبين للإنسان أنَّ ذاته طبيعية رمادية، وإنَّ قوانين العقل(1) هي نفسها قوانين الطبيعة/المادة, فيكون كلُّ شيء مادياً، وبعد استبعاد الما وراء وما هو غير زمني تصبح المادة (الطبيعة) وقوانينها هي المصدر الوحيد لكلِّ المعايير والمنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية، وإنَّ النزعات الإنسانية ما هي إلا وهم إنساني.

ومن أجل ذلك تزول الثنائية الصلبة وتسود الواحدية (الطبيعة/المادة) الصلبة, إلا أنَّه مع ذلك تستمر بعض الجيوب الواحدية الإنسانية.

الحلقة الرابعة

إنَّ عملية ردّ الإنسان إلى المادة تتمُّ على عدَّة مراحل:

1- تقسيم حياة الإنسان إلى مجالات مختلفة, يصبح كلُّ مجال منها موضعاً للحلول؛ الواحد تلو الآخر، وحينما يصبح مجال ما موضعاً للحلول فإنَّه يتحرك حسب قوانينه الكامنة.

2- يصبح لكلِّ مجال كيانه وآلياته وأهدافه وأغراضه المستقلة عن الإنسان وعن المجتمع الإنساني، أي أنَّه يصبح مرجعية ذاته مكتفياً بذاته.

3- يستمدُّ كلّ مجال معياريته من ذاته ويتمُّ الحكم عليه من منظور مادي, وتكون كفاءته في تحقيق أغراضه، ويكتسب كلُّ نشاط شرعيته من مدى نجاحه في تحقيق أهدافه، فتصبح المعايير في المجال الإقتصادي إقتصادية، وفي المجال السياسي سياسية, وفي المجال الجمالي جمالية، وفي المجال الجنسي جنسية، وهكذا.

ص: 414


1- الذي يميزه عن بقية الكائنات.

4- وهذا يعني أنَّ كلَّ مجال يفلت من قبضة الإنسان، ومن ثمَّ ينفصل عن أيَّة معيارية أو غائية خارجة عنه (سواءً كانت دينية أم أخلاقية أم إنسانية) ويتحرر منها, وحينما تواجه الذات الإنسانية العالم تجده منفصلاً عنها غريباً عليها.

5- تنتقل هذه العملية من مجالات الحياة العامة إلى حياة الإنسان الخاصة والأسرة (أوقات الفراغ). كما تنتقل من خارجه (السوق-المصنع) إلى داخل ذاته أيضاً (أحلامه ومثالياته).

وتتصاعد هذه العملية إلى أنْ يصبح المجتمع بأسره مجالات غير متجانسة غير مترابطة متناثرة لا يربطها رابط، وحينئذٍ يتزايد تحديد النشاطات والوظائف.

الحلقة الخامسة

تعاد صياغة صورة الإنسان على النحو التالي:

1- يتمُّ النظر إليه منعزلاً عن كليته الإنسانية، وعن مضمونه الإجتماعي المركب، فهو إمّا إنسان إقتصادي خاضع لقوانين الإقتصاد وحركياته، وإمّا إنسان جسماني خاضع لقوانين الغريزة؛ لا يسأل أيّ سؤال كلي نهائي, وإنْ جال في صدره سؤال فإنَّه يجيب عنه إجابات مادية.

2- ولأنَّ الإنسان يعيش في الزمان والمادة فإنَّ مثل هذه الكيانات (السوق، التاريخ، الجسد والدولة) عادة ما تكتسب أبعاداً مادية, ويكون كثيراً من سمات المادة/الطبيعة لا تعترف بالإنسانية، وتكون حتمية لا تعرف القيمة.

3- يصبح لنا تسمية هذه الكيانات المجردة ب-(المطلق العلماني), وهي كيانات تهيمن على الإنسان تماماً.

ص: 415

4- وهذا يعني تبسيط ظاهرة الإنسان، إذ يصبح مجرد عناصر موضوعية قابلة للدراسة غير شخصية متماثلة إلى حدٍّ كبير، فيسهل معالجتها ودراستها والتحكم فيها وإخضاعها لنماذج تحليلية بسيطة وقواعد جزائية ذات طابع مادي كمي عام، وهذا هو الترشيد المادي للحياة.

الحلقة السادسة

إذا كانت العلمنة هي (الترشيد المادي) أي: إعادة صياغة الواقع المادي والإنساني في إطار نموذج الطبيعة/المادة بالشكل الذي يحقق التقدم المادي فقط مع استبعاد كل الاعتبارات المادية والأخلاقية والإنسانية, وكلُّ العناصر الكيفية والمركبة والغامضة والمحفوفة بالأسرار، ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد، ومن ثمَّ يمكن توظيف كلٍّ من الواقع المادي والإنساني بكفاءة عالية إلى أنْ يتحقق حلم نهاية التاريخ حين تتمّ برمجة كلّ شيء والتحكم في كلِّ شيء وضمن ذلكالإنسان نفسه -ظاهره وباطنه- ويؤدي إلى الترشيد المادي إلى ضمور الحيّز الإنساني واختفائه وإنكار التجاوز الكامل, ومن ثمَّ يتحقق شكل من أشكال العلمنة الشاملة.

الحلقة السابعة

1- ظهور المشروع التحديثي بالنزعة الإنسانية التي همَّشت الإله كما بدأ به الإنسان الغربي؛ حيث وضع الإنسان في مركز الكون.

وهي فلسفة العلمانية الشاملة التي تدور في إطار المرجعية الكامنة المادية، حيث ترى أنَّ الإنسان هو كائن مادي يضرب جذوره في الطبيعة/المادة لا يعرف حدوداً أو قبوراً، ولا يلتزم بأيَّة قيم معرفية أو أخلاقية، فهو مرجعية ذاته، ولكنه في الوقت نفسه يتبع القانون الطبيعي، ولا يقدر على الإحتكام إلى أيَّة أخلاقيات إلا أخلاقيات القوة المادية.

ص: 416

2- إنَّه بدلاً من أنْ تكون مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الخاص؛ كالإنسان الأبيض. وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتمُّ الدفاع عن مصالح عنصر معين.

وبدلاً من ثنائية الإنسان والطبيعة/المادة، وتأكيد أسبقية الأول على الثاني تظهر ثنائية الإنسان العنصري في مقابل الطبيعة والمادة وبقية البشر الآخرين، وتأكيد أسبقيته وأفضليته.

وبدلاً من الإحتكام إلى القيم الإنسانية تستخدم القوة. ومن ثمَّ يصبح أكبر همّ هذا الإنسان المتعنصر غزو الطبيعة المادية البشرية وتوظيفها لحسابه واستغلالها بكل ما أوتي من قوة وإرادة, وحينئذٍ يظهر الإستعمار.

3- للعلمانية مظهران؛ أحدهما نظري كالعلمانية الشاملة. والآخر تطبيقي بالممارسة وله مصاديق كثيرة منها الإستعمار؛ الذي له شكلان:

أ- شكل الدولة العلمانية الرشيدة؛ المتمثلة في الملكيات المطلقة والدول الديمقراطية والحكومات الشمولية، وهذا الشكل هو الأسبق والدائر في الداخل الأوروبي.

ب- الشكل النفسي؛ وهو الذي حصل في المرحلة اللاحقة، والحاصل من خلال إعادة صياغة صورة الذات بحيث يصبح الإستهلاك السبيل الوحيد أو الأساسي في حياة الإنسان الحديث المنعزل عن أسرته الخاضع للنسبية، ويتحدث (هايرماس) في هذا السياق عن استعمار الحياة، وجوهره الذي هو فرض الواحدية المادية على المجتمع, أي: ترشيده في الإطار المادي لصالح الطبقات الحاكمة.

ص: 417

4- وإذا كان الإستعمار هو المظهر العلمي للعلمانية, فإنَّه قد اتَّخذ أشكالاً متعددة في العالم كالإستعمار الإستيطاني والاستعمار التقليدي والاستعمار1- الجديد، وهو النظام العالمي (الجديد), وجوهر الجميع واحد؛ وهو فرض الواحدية المادية على سائر المجتمعات الإنسانية أو ترشيدها في الإطار المادي لصالح المجتمعات الغربية.

الحلقة الثامنة

تتصاعد عمليات الترشيد المادي ويتمُّ تطبيقها على مستوى العالم بدرجات متزايدة من آليات العلمنة, وبالخصوص الإستعمار بالدرجة الأولى، والنخب الحاكمة المغتربة ثانياً، مِمّا أوجب إلى تزايد تساقط الحدود والخصوصيات، بحيث يصبح العالم كلُّه مادة استعمالية، مجرد سوق ضخمة، ويصبح كلُّ البشر كائنات وظيفية أحادية البعد يمكن التنبؤ بسلوكها وتوظيفها.

وعندما يسود التجانس الكامل بين معظم أو كلّ المجتمعات البشرية, وعندما تتلاقى وتتَّبع نمطاً واحداً وقانوناً عاماً واحداً, وهو قانون التطور والتقدم العالمي الحتمي من منظور العلمانية الشاملة؛ حينئذٍ يصبح العالم مكوناً من وحدات قد تكون غير مترابطة ولكنها متشابهة؛ ما يحدث في الواحدة يحدث في الأخرى, وهو الذي سمّاه (ماكس فيبر) ب-(القفص الحديدي).

وبشكل عام؛ يمكن لنا القول بأنَّه بعد أنْ تصل المتتالية العلمانية الشاملة إلى التحقق في معظم حلقاتها تمحي الثنائيات(1), وتمحي بذلك تركيبة الإنسان ومقدرته على التجاوز(2), فيختفي الإنسان الفرد الحر الواعي المسؤول أخلاقياً واجتماعياً، وينزوي كيانه -كمقولة مستقلة- عن عالم المادة، ويصبح جزءً لا يتجزأ منها.

ص: 418


1- خالق ومخلوق، جسد وروح، ظاهر وباطن، عام وخاص.
2- تجاوز المادة، وذاته المادية.

ومع إنكار تركيبة الإنسان ومقدرته على التجاوز تسود الواحدية المادية وتنزع القداسة عن العالم (الإنسان والطبيعة) فيسقط في الحفرة المادية, ومن ثمَّ لا يوجد حيّز إنساني مستقل يتحرك بقدر من الإستقلال والحرية.

والإنسان المادي ليس فيه من الإنسان سوى الإسم، فهو كائن لا يتحرك في الحيّز الإنساني وإنَّما في الحيز المادي/الطبيعي، فمرجعيته النهائية مرجعية مادية كامنة، فهو كائن قد تمَّ اختزاله إلى بعد واحد وهو البعد المادي, ويتحول إلى ظاهرة مادية قابلة للدراسة الموضوعية، ولا يتحرك هذا الإنسان الطبيعي نحو اللذة والمنفعة, وهو مِمّا يؤدي إلى ضمور الحسّ الإجتماعي فيه، وتفريغ كثير من الظواهر الإنسانية من مضمونها، وتسيطر على المجتمع قيم التعاقدية والحياد الذي يخفي فيه قيم الصراع والداروينية والبقاء للأصلح؛ التي هي أخلاق عالم الحواسّ الخمس؛ فينقسم المجتمع إلى الأقوياء المنتصرين والضعفاء المهزومين، فإنَّ التمركز حول الذات يؤدي إلى التمركز حول الموضوع، إذ يجد الإنسان نفسه خاضعاً للحتميات الطبيعية/المادية، فهو مادة لا قداسة لها.كما إنَّ المؤسسات الضخمة كالدولة والإعلام ترشّد بيئته من الخارج كما ترشده من الداخل ويسود التنميط في حياته، فهو يتحول من غاية إلى الوسيلة, ومع تصاعد معايير مختلفة لمجالات الحياة تظهر في بداية الأمر معايير صارمة للحياة العامة -العالم الظاهر الكمي- وتترك الحياة الخاصة لكلِّ فرد إليه؛ يُسيّرها كما يشاء وحسب المعايير التي يراها، ثم تتغلغل العلمنة في الحياة الخاصة إلى أنْ تفرض على الإنسان معايير النسبية والصراع, ويتزايد الإرتباط بالعالم الحسِّي؛ عالم الجسد والجنس، ومن ثمَّ يضمر الإحساس بالتراث والتاريخ والهوية والخصوصية.

ص: 419

الحلقة التاسعة

ومن خلال ذلك يتمُّ تفكيك الإنسان تماماً وردُّه إلى الطبيعة/المادة، ومع ذلك يكون هناك إحساس بالكليات المادية وهي (مطلقات علمانية), التي تتحرك في الحيّز المادي، لكنها متجاوزة لحركة المادة. ولذا يمكن أنْ نتحدث عن الكلّ المادي المتجاوز؛ الذي يكون بمنزلة المركز المادي للعالم, الذي يكتسب تماسكه وصلابته من وجود هذا الرمز ويتحرك الإنسان الحديث باسم هذا المركز الإنساني في بعض الحالات والمادي في معضمها, وتسود النسبية ولكنها لا تكون مطلقة؛ بسبب وجود الكلّ المادي المتجاوز الذي يولد منه الإنسان الحديث المعيارية, وهذا هو عصر التحديث والحداثة والمادية؛ عصر حلم التجاوز من خلال المادة والعقلانية المادية.

الحلقة العاشرة

وبذلك قد تمَّ تقويض الذات الإنسانية، كما يتمُّ تقويض الموضوع المادي, إذ يكتشف الإنسان أنَّ الطبيعة الخارجية التي ينادي بها (داروين)، والطبيعة الداخلية التي هتف بها (فرويد) هي في واقع الأمر عالم من الفوضى والصراع والقوى الظالمة والمظلمة.

ومن أجل هذا فهي لا تصلح مصدراً للقيمة، وقد بيَّن علم الفيزياء الحديثة أنَّ عالم المادة غير منضبط تماماً, فهناك قوانين عدم التحدد والنسبية وغيرها، ومن ثمَّ تسقط المادة أنْ تكون مركزاً تماماً كما سقط الإنسان من قبل, وتسود الواحدية المادية التي لا مركز لها، وينتقل العالم من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة؛ وهي مرحلة الواحدية الطبيعية المادية السائلة، وهذا الإنتقال من عالم متماسك فيه معيارية(1) إلى عالم مفكك بلا معيارية، هو الإنتقال من عصر التحديث(2) إلى عصر ما بعد الحداثة؛ عصر البرغماتية (البرجماتية)

ص: 420


1- حتى وإنْ كانت مادية.
2- الحداثة.

واختفاء الذاكرة والرغبةفي تجاوز مرحلة اختفاء الذات والموضوع، ومن ثمَّ اختفاء المركز الإنساني والطبيعي، ومن ثمَّ فهي المرحلة اللا عقلائية المادية.

فإذا تمَّت عولمة العلمانية الشاملة في مرحلة الصلابة يتم علمنتها في مرحلة السيولة، فتظهر فكرة ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد، وهما يؤكدان أنَّ العالم لا مركز له، وإنَّ كلَّ الأطراف متساوية، وإنَّ النسبية أمر مطلق. فإذا كان النظام العالمي الجديد يؤكد على مستوى النظرية أنْ لا مركز له فإنَّه على مستوى الممارسة يتصرف باعتبار أنَّ الغرب له اليد الطولى في عالم أحادي القطب، فهو يشكل المركز في واقع الأمر.

فإنَّه لا ريب أنَّ تلك النماذج المتتالية التي ذكرناها في ضمن الحلقات العشر المتقدمة هي متتالية مجردة تتحقق بطرق وأشكال, ولكن لا يلزم أنْ تتحقق كلَّها وبالطريقة نفسها في كلِّ زمان ومكان، وإنَّما تتحقق بعض حلقاتها في بعض الأزمنة والأمكنة بطرق متعددة، وللعلمانيين أساليب عديدة قد تكون ناعمة، وربما تكون حادة، وقد ذكر أنَّ العلمانية في طيِّ العصور -لا سيما الوسطى منها- قد أخذت عناوين من العلمنة المتتالية.

كما إنَّه لا إشكال في أنَّ عمليات العلمنة البنيوية الكامنة تؤدي إلى توليد متتاليات جديدة للعلمنة في بعض البلاد -لا سيما العالم الثالث-.

لكن تحقق حلقة ما من المتتالية لا تجب بالضرورة أنْ تسبقها حلقات, لكن من المعلوم أنَّه بعد أنْ تسود الواحدية المادية لا يمكنك أنْ تسيطر على العالم، فإنَّه تظل هناك دائماً جيوب مقاومة من دعاة الواحدية الإنسانية ومن المؤمنين بالقيم الدينية, فهناك دائماً صراع حقيقي مع الدين وقيمه وأنصاره، فإنَّه على الرغم من أنَّ العالم قد دخل في مرحلة السيولة الشاملة إلا أنَّ هناك جيوباً إنسانية لا تزال تحاول تأكيد أسبقية الإنسان على الطبيعة, كما إنَّ هناك عقلانيين ماديين يحاولون تأكيد المادة باعتبارها مصدراً للمعيارية؛ فلا بُدَّ من الجواب على الأسئلة المطروحة التي هي شديدة الأهمية بل الخطورة أهمها.

ص: 421

الفصل الرابع: إستنتاج أنَّ العلمانية هي حركة وفكرة وعقيدة وثقافة وسلوك

اشارة

إنّ العلمانية تبتني على فكرة الصراع مع الدين ومفرداته وأنصاره, وهي عقيدة تقوم على أساس إنكار ما وراء الحسِّ، وربَّما تتلاقى مع فكرة الإلحاد وإنكار الإله.

وفلسفة العلمانية فلسفة وجودية صرفة تنكر الماورائية، وهي فلسفة تحررية معارضة للدين، وثقافتها الإنحلال عن كلِّ القيم الإنسانية والأخلاقية، وسلوكها الإستغلال والسيطرة على مقدرات الشعوب. وأما آلياتها فهي عديدة تختلف حسب اختلاف الظروف والزمان والمكان، ولكن من أهما:

1- الإستعمار والإمبريالية واستعباد الشعوب.

2- تقسيم الناس إلى سادة حاكمين، ومحكومين مقهورين.

3- السيطرة على الإقتصاد العالمي والسياسة العامة والمنظمات الدولية.

4- تقديم النخبة الحاكمة المغترين المنحازين.

5- إستغلال النساء في كلِّ المجالات.

6- إحتكار الإعلام وتسخيره لتنفيذ مآرب العلمانيين.

وقد تقدم في طيِّ مباحثنا السابقة وسائل أخرى خفية وجلية في هذا المجال.

هناك من الكتّاب والمثقفين من يدافع عن العلمانية بجدٍّ واهتمام، فبعضهم يدافع عن العلمانية في كلِّ المجالات، وبعضهم من يذهب إلى الأخذ ببعض مظاهرها في بعض المجالات. ومقتضى قواعد البحث العلمي وبيان ما ذكروه في هذا السبيل ضمن أمور:

الأمر الأول: إنَّ العلمانية دعوة تجديدية لتحكيم العقل والعلم في تصريف شؤون المجتمع بما يجعل المجتمع يعيش عالمه وعصره.

ص: 422

الأمر الثاني: إنَّ العلمانية تقف من الدين على الحياد بل، تعترف باستمراره وتلتزم بالمحافظة عليه، وتحصره في المجال الروحي؛ على أنْ لا يكون دين الدولة الرسمي الذي تنصُّ بعض الدساتير عليه وتدمجه في الهوية القومية. إذن؛ لا تعارض بين العلمانية والدين.

الأمر الثالث: إنَّ العلمانية تعايش الدين، ولا سيما الإسلام الذي يدعو إلى التسامح، وإنَّه لا يجبر أحد على الدخول فيه بالقوة والإكراه، وإنَّ الإسلام يقرُّ حرية الضمير وحرية الإعتقاد، فلكلٍّ عقيدته ومذهبه وأفكاره ومواقفه؛ بشرط أنْ لا تمسّ الدعوة المخالفة للإسلام وتعتدي عليه، فحينئذٍ يردُّ المسلمون العدوان بمثله؛ وإنَّ الإسلام دين تعايش مع الآخر فلِمَ لا تتعايش العلمانية مع الدين الإسلامي؛ شريطة أنْ لا يعتدي أحدهما على الآخر؟!.

الأمر الرابع: إنَّه لا ديمقراطية بدون العلمانية، وذلك لأنَّ الديمقراطية وإنْ لم تكن من نسل العلمانية إلا أنَّ الأخيرة هي نتاج الحداثة وهي أم الديمقراطية الجديدة التي لها دعائم ثلاث:

1- الديمقراطية السياسية.

2- الديمقراطية الإجتماعية.

3- الديمقراطية الإقتصادية.

فقد جعلت البعد السياسي وسيلة، ومن البعد الإجتماعي والإقتصادي غاية وهدفاً، لكن الديمقراطية لم تطرح مشكلة العلمانية، إذ ليس بينهما ترابط عضوي أو علاقة تلازم، إلا أنَّه لا ديمقراطية بدون علمانية.

ص: 423

الأمر الخامس: إنَّ العلمانية على نوعين: علمانية معتدلة، وعلمانية راديكالية.

وبما أنَّ المجتمعات تختلف من حيث تركيبها وبنيتها فقد تفيد العلمانية المعتدلة في مجتمع دون آخر؛ الذي لا تفيده إلا العلمانية الراديكالية، ومثل هذ التقسيم موجود في الإسلام، فهو إمّا معتدل أو راديكالي؛ الذي ينفي الآخر ويكفره، والعلمانية الراديكالية هي المغالية في طرحها لنظرية فصل الدين عن الدولة إلى حدِّ استئصال الدين والعدوان عليه.

ولكن الإعتدال يستدعي التوفيق بين طرفي النقيض بما يؤدي إلى التعايش والتفاهم، والتطرف يعني نفي الآخر وإقصاءه، والراديكاليون -كيفما كانت مواقعهم- يلتقون على النظرة الأحادية لذاتهم وتفكيرهم وأنَّ الحقَّ هو ما يعتقده ولا مكان لحقيقة أخرى.

الأمر السادس: إنَّ الإسلام دين يحترم العقل ويترك للمسلمين الحقَّ في استخدامه في شؤون دنياهم وحتى في تجاوز تطبيق بعض الحدود، وهذا مِمّا تدعو إليه العلمانية، ولذا كان المسلمون الأوائل في كثير من الأحيان هم الأقرب إلى الفكر العلماني.

الأمر السابع: إنَّ العلمانية هي الحلُّ شِئنا أم أبينا، بل في تطبيقها فائدة للإسلام، ولكن لا يفهم الكثيرون ذلك بسبب تشويه صورة العلمانية من قبل الإسلاميين.

وللتخلص من التطرف والإرهاب علينا أنْ نعيد تفسير القرآن الحديث بشكل عقلائي، فمن يفسر يجب أنْ يحمل عقلاً تنويرياً منفتحاً.

الأمر الثامن: إنَّ مفهوم العلمانية لا ينفصل عن جملة مفاهيم فلسفية أخرى تتكامل معه وتُتِّمه، وينسج معها خطاب الأنوار الليبرالي في أشكاله وألوانه المختلفة المتطورة من قبيل مفاهيم الملكية والمواطن والتعاقد والتسامح والحرية والتقدم، وقد تكاملت هذه المفاهيم في دائرة التاريخ الأوروبي، وعكست ملامح لا حصر لها من الصراع التاريخي والنظري في أوروبا، وقد توّج هذا الصراع كما هو معروف بالصورة الفرنسية في مجال الصراع السياسي التاريخي.

ص: 424

الأمر التاسع: إنَّ العلمانية ليست ضدَّ الدين، فإنَّه من الناحية النظرية لا يوجد في تعريف العلمانية ما هو معادٍ للدين، إذ المعنى الحقيقي هو: (لا علاقة له بالدين) أو (المحايد تجاه الدين) أو (المستقل عن المؤسسة الدينية) ، وطبقاً لتعريف (بانجر) الذي أورده عبد الوهاب المسيري نقلاً عن معجم السيسيولوجي المعاصر لتوماس فوردهولت؛ إنَّ العلمانية هي: الإعتقاد والممارسات التي لا علاقة لها بالجوانب غير المطلقة للحياة الإنسانية. أي أنَّها ليست معادية للدين ولا هي بديل للدين، بل مجرد قطاع واحد من قطاعات الحياة، أي أنَّها لا تتعرض لأيَّة منظومة معرفية وقيمة شاملة، فهي ليست رؤيا للعالم.

وفي التطبيق العملي؛ ففي مجتمع حر يسود فيه مبدأ (حياد المجال العام) يمكن لأعداء الدين التعبير عن رأيهم، ولكن ليس هذا لأنَّ العلمانية هي ضدّ الدين.ومن ناحية أخرى؛ ففي مثل هذا المجتمع الحر يمكن أنْ ينشط الدينيون، بل إنَّ أشدَّ الإسلاميين غلواً يعرفون أنَّ أكثر الدول التي تنشط فيها (الدعوة) حالياً هي الدول العلمانية، هم بالطبع يعرفون هذا جيداً وهم سعداء به، لكن ليس في هذا ما يجعلهم يقبلون السماح بإعطاء الحقوق التبشيرية في الدول الإسلامية.

الأمر العاشر: إنَّنا لا نعلم إنْ كانت العلمانية تشكل قطيعة مع جذورنا الإسلامية ولكنها بدون أدنى شكٍّ ثمثل قطيعة مع جذور التخلف إذ أنَّها شرط لازم من شروط التحديث، وبدون لفٍّ أو دوران لا يمكن وصف أيَّة منظومة أو مجموعة تقاليد تجافي أو تعارض أو ترفض حقوق الإنسان وترفض قيم الحرية والمساواة والعدالة(1) إلا بالتخلف، بل والهمجية، وحتى إذ كانت همجية مقدسة فهذا لا يقلل بل يزيد من همجيتها.

ص: 425


1- التي أصبحت كلها قيماً تتعارف عليها البشرية الآن.

ومن ناحية أخرى؛ إنَّ هذا السؤال يشي بفكرة خفية تستتر وراءه، وهي: إنَّ العلمانية مرتبطة بالمسيحية، وبالتالي فلا شأن للمجتمعات الإسلامية بها، إمَّا لأنَّها ظهرت في أوروبا نتيجة صراع مؤسستي الحكم والدين، وإمّا لأنَّ المسيحية لا تعرف نظام حكم، بل تفصل لاهوتياً بين مملكة الأرض ومملكة السماء، فيعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر.

وبالتالي؛ فالعلمانية هي إعادة لأصل كان الزمان قد أفسده، وكِلا الوجهين وإنْ كانا صحيحين بدرجة كبيرة لكن ليس في أيٍّ منهما ما يسند الزعم بأنَّ العلمانية هي مسألة تخصُّ المجتمعات المسيحية وإنَّه لا شأن للمجتمعات الإسلامية بالموضوع.

وهناك أمور أخرى ذكرها دعاة العلمانية في كلِّ المجتمعات -لا سيما المجتمع الإسلامي ومثقفي العالم الثالث- تدور كلُّها حول ما تقدم ذكره.

ملاحظات:

أولاً: لقد تبين مِمّا تقدم ذكره في حقيقة العلمانية من أنَّها فكرة وثقافة وحركة ثم فلسفة تحالف سائر الفلسفات التي تعتمد على الحقائق المتأصلة القديمة منها والحديثة؛ فإنَّ الفلسفة العلمانية تتبنى الوجودية وإنكار الماورائية وتعتمد المحسوسات وتخالف ما وراء الحسّ. فليست فيها فكرة الألوهية؛ إنْ لم تكن في بعض تجلياتها إنكار الله الخالق، ومن أجل هذا كانت فكرة العلمانية تتعانق مع فكرة الإلحاد كما قاله جمعٌ من الباحثين في هذا الموضوع.

ومع ذلك؛ كيف يمكن تصديق أنَّ العلمانية لا تعارض الدين الذي يقوم أساسه على الإعتقاد بالله سبحانه والمعاد؛ كما هو ثابت عند الجميع.

ثانياً: إنَّ ثقافة العلمانية هي الصراع مع الدين ونبذ القيم الأخلاقية الرصينة التي يدعو إليها العقل ويعضده الدين، فهي تتبنى الإنحراف ومراعاة المصالحواستغلال الإنسان في الوصول إلى تلك المصالح المادية، ومثل هذه الثقافة لا يمكن لها أنْ تتوافق مع تعاليم الدين وأخلاقياته.

ص: 426

ثالثاً: إنَّ سياسة العلمانية تعتمد على التفريق بين أفراد الإنسان وجعلهم طبقات وتتحكم عليهم طبقة البرجوازية ذات النفوذ المالي والإقتصادي، وجعل سائر الأفراد من الطبقة المحكومة؛ تستغلهم تلك الطبقة الحاكمة للوصول إلى أهدافهم ومآربهم.

وقد تبنت العلمانية الإمبريالية والاستعمار في قهر الشعوب واستغلال الثروات، وقد مارسوا أبشع أنواع الظلم والطغيان للوصول إلى هذا الهدف.

كما أنَّ العلمانيين كانت لهم الإزدواجية في سياساتهم؛ ففي الدول المتقدمة يترأس سدة الحكم طبقات خاصة مثقفة متعلمة، وفي دول العالم الثالث يسلطون الزمر المنتخبة التي هيأوهم من قبل للوصول إلى سدة الحكم، وهؤلاء يمارسون أنواع الظلم في سبيل قهر الشعوب، وقد اتَّخذت العلمانية كافة الوسائل والمبررات في هذا المجال؛ فترى أنَّهم في بعض الدول اتَّخذوا سبيل الديمقراطية. وفي بعضها الآخر عنوان الوطنية. وفي ثالث اتَّخذوا مفهوم القومية.

وفي جميع تلك الموارد كانت تحاول ذلك تحت ظلال عناوين مقدسة كالحرية والعدالة والمساواة، ولكنهم أبعد ما كانوا عن تلك المفاهيم؛ إذ كيف تكون هذه السياسة موافقة لقوانين العمل والمساواة وقواعد الدين الأصيلة.

رابعاً: إنَّ فكرة العلمانية تبنى على الواحدية المادية والثنائية للمادة والإنسان ثم الرجوع إلى الإنسان ثم اتّخاذ المادة الأحادية.

كلُّ ذلك الإختلاف لأنَّهم ليست لهم قواعد ثابتة تنطلق منها فكرتهم، فإنَّهم يراعون المصالح المادية في تسخير الإنسان كمادة لا كإنسان مفكر درّاك له مشاعر خاصة تختلف عن سائر المخلوقات؛ فكيف يمكن أنْ تكون العلمانية هي الأمل الذي يوصل الإنسان غير المادي الى آماله وأهدافه النبيلة.

ص: 427

خامساً: إنَّ اقتصاد العلمانيين يعتمد على معادلة الإنتاج والاستهلاك، ويكون دور الإنسان في هذا المجال هو الواسطة في كسب الثروة لطبقة خاصة، ولا يتورعون عن اتّخاذ أيَّة وسيلة للوصول إلى هذا الهدف؛ التي منها إيقاع الخلافات بين الشعوب تحت عناوين مختلفة وإيقاد الحروب بين الدول، ودورهم الوحيد هو استهلاك قدرات الإنسان وتقويض دعائم الإنسانية وقواعد الدين الحنيف. وتاريخهم يشهد على ما ذكرناه.

سادساً: إنَّ آليات ووسائل الوصول إلى أهدافهم متعددة ومختلفة؛ ففي مرحلةٍ يتَّخذ العلمانيون مفهوم فصل الدين عن السياسة.

وفي مرحلةٍ أخرى يتَّخذون الإستعمار والإمبريالية.وفي مرحلة ثالثة يقومون بتسليط النخبة المختارة عن طريق الثورات المتتالية في الدول.

أو اتّخاذ الديمقراطية والانتخاب في بعض الدول الأخرى.

حتى أنَّهم الدول المتقدمة الحرة لم تسلم من تسلط الطبقات الخاصة تحت ذرايع مختلفة مثل الأحزاب ذات العناوين البراقة؛ التي ورائها إمّا الشركات الكبرى أو مجموعات معينة، كالتنويرين والمسيحين الجدد أو الصهيونية أو الماسونية، وغير ذلك من المجموعات التي تتَّفق مع العلمانية في كثير من الآراء.

سابعاً: إنَّ العلمانية هي الأساس في سلخ الإنسان عن إنسانيته التي كرَّمه الله تعالى بها وجعله من أشرف مخلوقاته. فقد اتَّخذت العلمانية طرقاً عديدة في هذا المهمة؛

منها: إستغلال العنصر النسوي في شتّى المجالات مِمّا جعل مسألة الجنس من أهم أخلاقيات العلمانيين.

ومنها: إستغلال المال وكسبه وتخزينه بكلِّ وسيلة، ولو كانت مِمّا يحرمها العقل قبل الدين.

ومنها: التصرف في فكر الإنسان وجعله فكراً مادياً صرفاً يوظفه في المادة والمحسوس فقط.

ص: 428

ومنها: إستغلال الجانب العبادي وتوظيفه في دائرة الماديات وجعل العبادات مجرد طقوس خالية عن الروح الذي يسمو به الإنسان ويخرج من دائرة الملك إلى دائرة الملكوت وفوقها.

ومنها: تجريد الإنسان عن معنوياته وأخلاقياته الرصينة وجعلها مادية صرفة، فإذا كان في موضع أخلاقاً من الأخلاق الفاضلة، فإنَّه ليس إلا حاصلاً من تعويد من دون روح، أو من أجل الوصول إلى الأهداف المعينة.

ولم يكن الإنسان الذي يعيش في الدول الأوروبية -الذي يوصف بأنَّه ذو أخلاق فاضلة- قد اكتسب تلك الأخلاق من أجل كونها من الفضائل؛ بل العادات والقوانين هي التي اضطرته إليها. والدليل على ذلك: إنَّه لو تبدلت الأوضاع خرج منها واستبدلها بأخلاق مضادة. بخلاف الأخلاق التي تدعو إليها الفطرة والعقل والدين؛ فإنَّها فضائل لا تتبدل بتبدل الأوضاع، فالصدقُ صدقٌ ولو كان المتَّصف به في أسوء الحالات، ومن الوسائل التي اتَّخذها العلمانيون في تجريد الإنسان الشرقي وفي دول العالم الثالث أنَّه يطمح أنْ يعيش في الدول الأوروبية ويحاول بكلِّ جهد أنْ يصل إليها ولو أدّى إلى فقدان حياته، لأنَّه قد تمثل له أنَّ الحياة في تلك الدول هي السعادة، وهذه هي من مكائد العلمانيين لشدِّ اهتمام الشعوب بهم.فالعلمانية من أسوء ما عرفه التاريخ في سبيل استبدال إنسانية الإنسان وجعله مجرد إنسان آلي يتحكم فيه من يريد استغلاله، وقد بذلوا جهدهم في نشر أفكارهم عن طريق الإعلام الممنهج.

ولا بُدَّ من التنبيه على أمرين مهمين طالما تمسك بهما دعاة العلمانية لانتقاد الدين وإغواء المتدينين، أولهما: إنَّ الدين لا يفي بمتطلبات الإنسان المعاصر ولا يساير التقدم العلمي

ص: 429

لأنَّه يدعو إلى التخلف، والأمر الآخر هو: إنَّ الدين لوحده لا يمكنه أنْ ينهض بإدارة البلاد وسياسة العباد.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ دعاة العلمانية الشاملة أو العلمانية الجزئية إمّا أنْ يكونوا على جهل بحقيقتها وإنَّما اغترُّوا بمظاهرها، أو غافلون عن آثارها الوضيعة على الإنسانية والحضارة، أو متغافلون عنها، أو إنَّهم معاندون للحقِّ والعدالة ومن المسخرين في هذا المجال؛ شأنهم شأن النخب الحاكمة.

ص: 430

الفصل الخامس: في التنبيه

اشارة

والكلام يقع في أمرين:

الأمر الأول

الأمر الأول: ذكرنا في بداية البحث في الإقتصاد عند ذكر مفردة الدين أنَّه عبارة عن مجموعة متكاملة من:

1- المعارف المتعلقة بالعقيدة.

2- الأحكام التي تنظم عمل الإنسان.

3- الآداب التي ترشده إلى ما هو الصالح له.

4- الأخلاق التي تنظم سلوك الإنسان.

فلم يدع الدين جانباً من جوانب الإنسان العلمية والعملية والسلوكية والإدارية -الدنيوية منها والأخروية-، ولا يوجد في حياة الإنسان أمرٌ له الأهمية الكبرى مثل الدين وتعاليمه ومعارفه، حيث لم يدع أيَّ مجال للشكِّ والسؤال، فقد أتمَّ خالق الإنسان الحجَّة عليه بإنزال الدين وتشريعه المقدسة، وقد فصَّلنا القول في ذلك فيما تقدم من مباحثنا. إلا أنَّ الذي يهمنا البحث فيه في المقام هو هل أنَّ الدين يعارض التقدم والرقيّ والكمال المادي للإنسان في مجالات العلوم والتكنولوجيا؟.

لا بُدَّ أنْ يعلم بأنَّ الدين الإلهي قد تكفل بإصلاح الجانب المادي من الإنسان ليخرجه من درجة البهيمية ويتدرج به إلى أعلى درجات الإنسانية، حيث لا يكتفي بما تكتفي به سائر الحيوانات من الأكل والشرب والجنس، بل يسمو عن هذه ليستغلَّ فكره ويزداد من العلوم والمعارف ويوظفها في تهيئة وسائل العيش الهنيء في هذه الدنيا، فقد خلقه الله عَزَّ وَجَلَّ ليستعمر الأرض وقد خلق الأرض له، ولا يمكن أنْ يصل الإنسان إلى هذا الأمر

ص: 431

إلا بالعلم والمعرفة، ولا يوجد أيّ دليل في الدين يمنع الإنسان من هذا الأمر الذي له الأهمية الكبرى في حياته ما دام على هذه الأرض، وقد عاش الإنسان وسوف يعيش مهما طال به الزمن وهو على هذا المنهج وهذه الطريقة، وإنْ تفاوتت حالاته فقد بدأ حياته من بساطة العيش وأدواته ثم تطورت إلى أنْ وصل إلى نوعٍ من الكمال والإبداع تهيئة الوسائل واستغلالها في عيشه ليصل إلى درجة معينة من العيش الهنيء. وفي نصوص الدين ما يدلُّ على هذا الأمر ويدعو الإنسان إلى الكفاح في عيشه واستغلال ما خلقه الله من أجل أنْ يعيش بسعادة، لكن على قواعد متينة تبتني على أسس ثلاثة:

· العدل.

· المساواة.

· الحرية.

وهي من أهم القيم التي اعتمد عليها الإنسان في حياته حتى عصرنا الحاضر.

ومع ذلك لم يدع الدين الجانب المعنوي للإنسان، فإنَّه قد خلقه الله تعالى من مادة وروح قد نفخه فيه، فأصبحت له مسحة روحانية لا يمكن لأيِّ فرد من أفراد الإنسان مهما توغل في المادة التغافل عن الجانب الروحاني فيه فإنَّه يظلُّ متوقداً في داخله، وإنْ حاول نسيانه أو إطفاءه فإنَّه يظهر أمامه في بعض الأحيان والحالات التي تكفي أنْ تنبهه من رقدته، ولكنه يتجاهله ويستمر في طغيانه؛ فالدين قد لاحظ هذا الجانب فيه وقد سنَّ أروع التشريعات والآداب في سبيل إذكاء الجانب الروحاني الذي به امتاز الإنسان وقد كرمه الله تعالى به.

ومن أهم تشريعاته أنَّه خلق الإنسان ليعيش في هذه الدنيا مستغلاً الجانبين -المادي والروحاني- ويوظف أحدهما في سبيل الآخر، فهو يستغلُّ ما خلقه الله تعالى لأنْ يعيش،

ص: 432

ويذكي الجانب الروحاني فيه ، كما أنَّه يستغلُّ الجانب الروحاني في عيشه في هذه الدنيا لئلا يطغو الجانب المادي عليه ويجعله في صفِّ الحيوان.

وهذه المهمة لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق تنفيذ تعاليم الدين فقط، ولا توجد حضارة أو أيّ نظام أو قانون يتكفل ذلك، فإنَّها إمّا مادية محضة أو روحانية بحتة تخرج الإنسان عن دوره المثالي؛ وهذه هي مهمة الدين الإلهي، والبحث فيها يطول وليس المقام محلُّ ذكره.

لكن الأديان الإلهية مع اتّفاقها على كثيرٍ من الأصول والقواعد وما ذكرناه آنفاً من مهمة تساوي الجانب الروحاني والمادي في الإنسان ما دام يعيش على هذه الأرض؛ إلا أنَّ هذه الأديان تفاوتت في سبيل تهيئة الإنسان وتربيته لأسباب عديدة؛ فمنها ما اقتصرت على الجانب العبادي السلوكي كالديانة اليهودية والمسيحية وغيرها وأعرضت عن الجانب الإداري والسلطة الحاكمة، فإنَّ المصلحة اقتضت أنَّ تربية الإنسان وتهذيب سلوكه وتهيئته نفسياً من أجل مهمة كبرى أعظم، وأوكلت الجانب الإداري إلى قواعد العقل وقوانين العرف ما دامت لم تكن مضرة بعقيدة الإنسان وسلوكه.

فإنَّه ربَّما أقرَّت بعض الشرايع السلطة الحاكمة مع إرشادها إلى ما يهذب سلوكها مع الناس كما حصل مع النبي يوسف علیه السلام وغيره، فإنَّ الأنبياء علیهم السلام قبل نبينا خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم كانت مهمتهم تصحيح العقائد وتهذيب السلوك وتشريع الجانب العبادي للإنسان، فإنَّ المصلحة تعلقت بأنْ يكون الإنسان ذا عقيدة توحيدية وسلوك فاضل، فإنَّه إذا كانت الشعوب كذلك فإنَّ السلطة لا يمكنها مخالفتها، فهي تضطر إلى تغيير سلوكها، فقد كانت مهمتهم هذه وإنْ كانوا في بعض الفترات قد لاحظوا الجانب الإداري فأصبح بعض الأنبياء ملوكاً، ومع ذلك فلم يحارب الأنبياء السلطة الحاكمة إلا في حدود

ص: 433

تصحيح العقيدة، ولكن الدين لم يهمل الجانب الإداري والتقدم المعرفي والعلمي في الإنسان أبداً, فقد أوكل ذلك إلى قوانين العقل والفطرة، وإنْ حصل التمرد عليها تدخلَ الدين لإصلاحه.

ومن الأديان من اهتمَّ بالخلافة والاستخلاف والجهاد مع أعداء الله وهو ما اقتضى به دين الإسلام، وذلك لأسباب عديدة:

الأول: إنَّ دين الإسلام آخر الأديان السماوية، وإنَّ نبيَّه خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم ، فإنَّ الحكمة تقتضي الحفاظ على هذا الدين من التحريف والانحراف وضياع الأمة بجعل أميناً عليهم وهادياً يهديهم إلى الصواب إذا تشابهت الأمور وتشاكلت الأوضاع، ويدافع عن دينهم إذا تواردت عليهم الشبهات ويرفع الشكوك والأوهام.ولا بُدَّ أنْ يكون هذا الأمين له الأهلية الكاملة لتحمل هذه المسؤولية التي لا تقلُّ عن مسؤولية نبي هذه الأمة كما فصَّل الكلام فيه في علم الكلام.

الثاني: إنَّ القرآن المجيد قد تكفل بجميع ما يرتبط بهذه الأمة حتى قيام الساعة، فلم يهمل شيئاً مِمّا يرتبط بهدايتهم وبقاء دينهم وديمومته، قال عَزَّ وَجَلَّ: ﱥﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱤ(1). ومن أهم الأشياء التي ترتبط بحياة هذا الدين هو أمر الخلافة وحفظه من كيد الأعداء ومكرهم.

الثالث: إنَّ هذا الدين قد ابتُلي بالمشركين وضراوة عداوتهم له في حياة النبي صلی الله علیه و آله و سلم برهة من الزمن ثم تبدل عنوان الشرك إلى عنوان النفاق، واستبدل المشركون المنافقين ليقوموا بمهمة القضاء على هذا الدين بعد عدم تمكن المشركون من ذلك، فقد سنَّ القرآنُ الجهادَ ومحاربة أعداء الدين لأنَّهم لم يبرحوا من تحيّن الفرص للقضاء على هذا الدين وأهله.

ص: 434


1- سورة النحل؛ الآية 89.

وقد انتصر الإسلام على كِلتا الطائفتين في حياة النبي صلی الله علیه و آله و سلم واضطروا إلى الإنقياد ظاهراً إلا أنَّ قلوبهم كانت ملآى من الحقد والعداوة، وقد انضمَّ إليهم أهل الكتاب ولا سيما اليهود الذين كان لهم دور التخطيط والقيادة في تدريب الأعداء فكرياً وتنظيمياً، ورأس الأمة ورئيسهم كان يعلم بذلك ويعرف خططهم التي كانوا يدبروها ضدَّ هذا الدين في حياته وبعد ارتحاله.

ومن أجل هذا كلّه استُحدث في هذا الدين الجهاد مع الأعداء وقتالهم؛ الذي لم يكن في سائر الأديان، لأنَّها كانت متوالية ومتتالية إلا في بعض الفترات كما تقدمت الإشارة إليها، بخلاف دين الإسلام الذي لم يكن كذلك، لأنَّه آخر الأديان الإلهية ولا دين غيره.

ولا ريب أنَّ الجهاد مع الأعداء وقتالهم يحتاج إلى تجهيز الجيوش وتهيئة الأسباب والإعداد النفسي والمادي للمقاتلين المجاهدين، وغير ذلك مِمّا يرتبط بهذه الحالة، فلا بُدَّ أنْ يقوم بهذه المهمة قائد متَّصف بأوصاف عالية لا تقلُّ عن أوصاف النبي المشرع لهذا الحكم الإلهي، فإنَّ فيه إزهاق النفوس وهتك الأعراض وإتلاف الأموال، وأقلُّ خطأ في أيِّ واحد منها محسوب على الدين وعلى نبيِّه والقائد الذي يخوض المعركة التي ليست مثل سائر المعارك، فإنَّها ترجع إلى تثبيت الدين وإنقاذه من كيد الأعداء وحفظ المؤمنين من مكرهم، فلا بُدَّ أنْ يكون القائد عالماً عارفاً بأمور دينه وأساليب القتال، لا تأخذه في الله لومة لائم، ويكون معصوماً من الخطأ والزلل والزيغ.

ولم تبتلى الأمة بهذه الإبتلاءات إلا من جهة فَقد مثل هذا القائد في حروبها، لا سيما تلك التي سميت بالفتوحات، حيث أنَّ القادة لم يُعرِّفوا الدينَ الحقِّ إلى مندخل الإسلام، وأعقبت ذلك سلبيات كبيرة ومتعددة بقيت آثارها حتى عصرنا الحاضر، وإنكار ذلك مكابرة واضحة.

ص: 435

الرابع: إنَّ ارتحال قائد هذه الأمة إلى الرفيق الأعلى أوجب اضطراباً كبيراً في هذه الأمة في مسألة هي من أهم المسائل، لأنَّها ترتبط بقيادة الأمة والاستخلاف عن قائدهم المعصوم المؤيد من الله عَزَّ وَجَلَّ والمبعوث لشريعة متكاملة لا بُدَّ من تطبيقها بدقَّة كاملة، لأنَّها ترتبط بحياة أمة بأكملها، إذ لا نبي بعد ارتحاله، فلا بُدَّ أنْ يكون الخليفة المنصوب له الأهلية الكاملة للتصدي لقيادة الأمة، لا سيما أنَّه في مرحلة هي الحجر الأساس في حياته ومستقبلها، وعليها تقوم سعادتها وشقائها؛

فهو ليس مَلكاً كسائر الملوك منصوب بالتوارث ..

وليس سلطاناً كسائر السلاطين يتَّصف بالأبَّهة والبذخ والثراء ..

وليس أميراً يتسلط على رقاب النسب بالقهر والغلبة ..

بل هو خليفة الرسول الذي وصفه الله تعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)(1) ..

وهو قائد له الإشراف التام على تطبيق الشريعة على نفسه إبتداءً ومن ثمَّ على رعيته ..

هو أمير يترصد في إمارته أنْ لا يحصل ظلم ولا عدوان ..

هو ملك يعدل في رعيته بكلِّ دقة وأمان ..

هو راعٍ يستهدي رعيته ليكون لهم إماماً يقتدى به.

ولعمري إنَّ مثل هذا الإمام لا يمكن أنْ يتصور إلا أنْ يكون معصوماً من الخطأ والزلل.

ولا يصحُّ أنْ يصدر منه الظلم والعدوان، ولا بُدَّ أنْ يكون عالماً بجميع ما يرتبط بإدارة البلاد وقيادة العباد على اختلاف عاداتهم ومذاهبهم وأفكارهم.

ونصب مثل هذا الخليفة لا بُدَّ أنْ يكون تحت إشراف النبي المسدد من الله، العالم بالخفيات والجليات وما تضمره النفوس من السرائر والمنويات.

ص: 436


1- سورة القلم؛ الآية 4.

وكيف يمكن أنْ يكون ديناً تاماً وكاملاً ويعلم صاحبه أنَّه آخر الأديان ويعلم صاحبه أنَّه محاط بالأعداء من الداخل والخارج وقد نبّه بذلك مراراً وتكراراً في حياته وهو يهمل الإستخلاف ويجعل الأمة حيارى بالنسبة إليه مع علمه أنَّه أمر حيوي تهوي إليه النفوس وتتطلع إليه الأعناق؛ ويجعله شورى وهو يعلم ما في نفوس أهل الشورى؟! أو يجعله انتخاباً وهو يعلم بما فيه من التلاعب والتزوير؟! أو يجعله مهملاً لينقضَّ الأعداء عليه ويتسلطون على الدين وأهله؟!.

ولعمر الحق؛ إنَّ إنكار ذلك مكابرة واضحة وتعدٍّ على تعاليم الدين وقدسية نبيه.فإنَّه يجب الإذعان بأنَّ الدين وتعاليمه ونبيه وإرشاداته لم يهمل الإستخلاف وأمر الخلافة، وهو النبي الوحيد الذي جمع أمته تحت لواء واحد وجعل لهم وطناً واعتبر نفسه حاكماً عليهم، فصارت لأمة العرب لأول مرة في تاريخ حياتهم دولة وحاكماً ومحكوماً كسائر الأمم المعاصرة لهم بعد أنْ كانوا مشردين متقاتلين، وقد سنَّ الدين الجديد لهم الأحكام والتشريعات التي ترجع إلى لمِّ شملهم تحت لواء حاكم يحكمهم ويطبق عليهم شريعتهم. وقد فعله في حياته وأوصى به بعد ارتحاله؛ والبحث في ذلك يطول ليس المقام موضع ذكره، وإنَّما كان الكلام من أجل بيان أنَّ الدين الإلهي لم يهمل جانب السعادة للإنسان في حياته الدنيوية التي لا يمكن تحصيلها إلا بالعلم والكفاح والإدارة المسددّة.

وقد اتَّفقت الأديان الإلهية على عدم معارضة التقدم العلمي والفكري في كلِّ المجالات التي تخصُّ حياة الإنسان وتجلب له السعادة في هذه الدنيا، وسموّه ورفعته ورقيّه في درجات الكمال في الآخرة، فقد جمعت تعاليم الأديان الإلهية كِلا الأمرين على حدٍّ سواء ولم تهمل شيئاً مِمّا يرتبط بهما، فإنَّ تعاليمها ترشد الإنسان إلى كِلا الجانبين من دون أنْ يغلب أحدهما على الآخر، فلا يكون الإنسان روحانياً صرفاً وهو يعيش في دار الدنيا؛ دار

ص: 437

الأسباب والمسببات ويترك الكفاح والنضال في سبيل اكتساب وسائل عيشه واستمرار وجوده ويقتصر على ما هو الضروري له، أو يكون إنساناً مادياً صرفاً قد انتزعت الإنسانية من وجوده؛ فيصير كالبهائم لا همَّ له إلا اكتساب المال وخزنه وإشباع رغباته المادية وشهواته الجنسية وقد تخلى عن كل القيم والأخلاق، ليكون إنساناً صورة ولكن حقيقته شيء آخر، وهذا هو مسار العلمانية وتوجيهاتها وفلسفتها؛ كما تقدم بيان ذلك.

نعم؛ إختلفت الأديان في كيفية هداية الإنسان إلى الأمرين المتقدمين، فإنَّ بعضها اتَّخذت جانب العقائد والعبادة والسلوك وتربية الناس عليها وأوكلت الأمور التي تتعلق بحياته المادية إلى قوانين الفطرة والعقل وما تعارف عليه الناس؛ ما لم تكن مخالفة لتعاليم السماء، وحينئذٍ يتَّخذ الدين دور الإرشاد والإصلاح.

وبعضها الآخر قد اتَّخذت قوانين الفطرة والعقل وما تعارف عليه الناس من تشريعات خاصة متكاملة في كلِّ ما يتعلق بمفردات حياة الإنسان المادية؛ حتى الإمارة والخلافة والجهاد، وهو الذي اختصَّ به دين الإسلام.

ومِمّا تقدم ذكره يظهر فساد دعوى العلمانيين من أنَّ الدين يعارض التقدم العلمي والحضاري، وقد اغترَّ بهذه الدعوى بعض كتاب المسلمين.

الأمر الثاني: في شرح المقولة التي طالما يتمسك بها العلمانيون؛ وهي فصل الدين عن السياسة.
اشارة

والكلام فيه يقع تارة في المراد من الدين. وأخرى في المراد من السياسة.

الجهة الأولى: المراد من الدين

إنَّ الدين تارةً يطلق ويراد به ما شرَّعه الله تعالى وأنزله على رسوله ليبلغه الناس ويهتدون بهديه، وهذا الدين لا ريب في عصمته وشموليته وتماميته وكماله، فلم يهمل شيئاً بما يتعلق بحياة الإنسان المادية والمعنوية وفي كلِّ مجالاتها التي منها المجال السياسي، ومثل هذا

ص: 438

الدين كلٌّ لا يتبعض، فهو وحدة متكاملة, ولو اختلَّ مجالٌ من تلك المجالات استلزم الإختلال والنقص وهو خلاف الحكمة، وقد حذر الله تعالى في كتابه الكريم المؤمنين به من الإيمان ببعض الكتاب دون بعض وأوعد الذين جعلوا القرآن عضين.

فالدين الحقّ كامل متكامل يراعي أبسط الأمور كما يراعي أعظمها كالجانب السياسي لحياة الأمة والجانب الإقتصادي والجانب العبادي وغيرها، إذ الكلُّ يرتبط بعضه ببعض، وإنَّ المجموع هو الهداية الكبرى.

ومثل هذا الدين لا يمكن فصله عن السياسة، لأنَّها جزء من هداية الأمة، وأهميتها لا تقلُّ عن أهمية العبادة والطهارة والإقتصاد وغير ذلك، فالدين سياسة، وهي نفس الدين؛ بشرط أنْ تكون موافقة مع التعاليم الإلهية التي شرَّعها في هذا المجال.

فمن يقول بفصل الدين عن السياسة قطعاً لا يريد مثل هذه السياسة الإلهية والدين الرباني إذ لا تعارض بينهما، ولا نقص فيهما، فإنَّ كِلاهما قد شرعهما الله عَزَّ وَجَلَّ في سبيل سعادة الإنسان، وقائمة على أصول يقرُّ بها العقل والفطرة مع توجيه التعليم الإلهي، ولا يوجد عاقل يقرُّ بالدين الإلهي الكامل ويفر عن سياسته إلا أنْ يكون مكابراً معادياً لتعاليم الدين، أو يؤمن ببعضها ويكفر بالبعض الآخر، وهو لا ينال من ذلك إلا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.

وفي تاريخ الإسلام مَن طبَّق الدين بجدٍّ وإخلاص وبالتمام والكمال مثل رسول الإنسانية صلی الله علیه و آله و سلم في فترة حياته الكريمة؟ فهو العابد والقائد والإمام والخليفة، وقد مارس السياسة في فترة حكومته؛ سياسة الدين المعصومة من الخطأ، وإنْ عورض وعودي بأشدِّ المعاداة من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، فمن يراجع سيرته المباركة يظهر له أنَّ سياسته هي سياسة السماء؛ وكيف لا يكون كذلك وهو مظهر صفات الله المباركة؟!.

ص: 439

وتارةً أخرى يطلق الدين ويراد به ما هو الدائر عند الناس، أي الواقع العلمي لا الواقع الحقيقي الذي تقدم ذكره.

ولا ريب أنَّ مثل هذا الدين قد دخل فيه التحريف والأهواء والاجتهاد الخاطئ، فهو إمّا أنَّه لا يمتُّ للدين الإلهي بصلة إلا في الرسم فقط، وإمّا أنَّه صورة محرفة عنه.والإنسان المتدين إمّا أنْ يكون عالماً بتحريفه ومع ذلك يعتقد به فهو الكافر حقيقة، وإنْ تسمّى باسم الدين الذي يعتنقه، ويلحق به المعاند الذي لا يريد إزاحة جهله جحوداً أو استكباراً، وإمّا أنْ يكون جاهلاً؛ فإنْ كان معذوراً في جهله فإنَّ أمره إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وإمّا أنْ لا يكون كذلك؛ فإنَّ حكمه حكم القسم الأول؛ لعدم قبول عذره مع إمكان خروجه عنه.

ومثل هذا الدين لا يمثل ما أراده صاحب التشريع إلا من بعض المظاهر، وليس كلامنا في فسق المعتنقين به أو كفرهم فإنَّ له مجال آخر غير المقام.

ولا شكَّ في أنَّ سياسة مثل هذا الدين تختلف عن السياسة التي سنَّها التشريع، بل هما على تضادٍّ وتناقض، بل في كثير من الموارد تتطابق مع سياسة العلمانية وإنْ تظاهرت باسم الدين وتجلَّت في بعض مفرداتها؛ كما هو المعلوم لدى الخبير.

وحينئذٍ لا وجه لمعارضة العلمانية لمثل هذا الدين وسياسته التي هي من تجليات العلمانية ما دامت لم تكن مطابقة لتعاليم الدين الإلهي، وسياسته مخالفة لسياسة الدين الإلهي، فهي أداة من أدوات العلمانية، وقد ذكرنا أنَّ العلمانيين لهم أساليب مختلفة في هذا المجال، ومن أهمها إيصال النخبة المختارة إلى سدة الحكم، ففي المناطق التي ينتشر فيها دين معين فإنَّهم يحكمون باسم ذلك الدين ولكنهم يطبقون تعاليم العلمانية لا تعاليم الدين.

فما هو الوجه في فصل هذا الدين عن السياسة وهما على وتيرة واحدة من مجالي العلمانية؟ أليس ذلك من المكر والخديعة لتنفيذ ما يريدونه على الناس وإضلالهم؟!. وهذا هو الدائر في البلاد الإسلامية ولا يمكن لأحد إنكاره، إلا أنْ يكون معانداً أو جاهلاً.

ص: 440

الجهة الثانية: المراد من السياسة

بعدما عرفت مدلولات كلمة الدين وتطبيقاته، فالسياسة أيضاً لها مدلول وتطبيق، إنَّما معنى السياسة في اللغة، فقد ورد في لسان العرب بأنَّها من السوس بمعنى الرئاسة، ويطلق السوس على الطبع والخلق والسجية أيضاً.

فالسياسة هي القيام بالأمر بما يصلحه، والمقصود ب-(الأمر) هنا هو أمر الناس، وقد تطور المعنى الإصطلاحي لكلمة سياسة في الإستعمال إلى السياسة الإلهية، والسياسة النبوية، والسياسة المدنية، والسياسة الخاصة والسياسة العامة.

وعرَّفوا السياسة المدنية بأنَّها: (علم بمصالح جماعة مشتركة في المدنية سميت بها لحصول السياسة المدنية أي مالكية الأمور المنسوبة إلى البلدة بسببها).

وقال بعض الباحثين أنَّ كلمة (بوليتك) الفرنسية التي هي بمعنى السياسة في العربية؛ فإنَّ مردَّها إلى الكلمات اليونانية التالية:

1- بول؛ وتعني الدولة أو المدينة أو الناحية، أو اجتماع المواطنين الذين تتألف منهم المدينة.

2- بوليتيا؛ وتعني الدولة والدستور والنظام السياسي والجمهورية والمواطنة.

3- بوليتيكا؛ وتعني الأشياء السياسية والأشياء المدنية، أو الدستور والنظام السياسي، أو الجمهورية، أو السيادة.

4- بوليتيك؛ وتعني الفنُّ السياسي.

ومن هذه الكلمات يتحقق المفهوم اليوناني للدولة كدولة مدنية؛ بمعنى: إنَّ العقل اليوناني لم يتصور الدولة بدون المدينة، ولا المدنية بدون الدولة، ومن هنا جاء تأكيد أرسطو بأنَّ الإنسان حيوان سياسي، وإنَّ الإنسان الذي يعيش بدون دولة هو ملاك أو بهيم، والمقصود من حيوان سياسي هو حيوان مدني لا حيوان إجتماعي، لأنَّ الحيوانات يمكن أنْ تكون إجتماعية، والإنسان وحده يستطيع أنْ يكون سياسياً مدنياً.

ص: 441

وأخذت اللغة الفرنسية تستعمل كلمة (بولتياكا) بمعناها اليوناني، وقال (برونتولاتيني) في كتابه المعروف (السياسة): (حكم المدن؛ وهو أنبل العلوم وأسماها، ويتعلق بأرفع المناصب على الأرض، تشكل السياسة بصورة عامة جميع الفنون التي تهمّ الجماعة الإنسانية ).

ثم تطور الإستعمال إلى أنْ أصبحت الكلمة تعرف اليوم في قاموس الأكاديمية: كلُّ ما يتعلق بحكم الدولة وإدارة العلاقات الخارجية، وتعني الشؤون العامة والأحداث السياسية، والتحدث بالسياسة والسياسة الداخلية، وتتناول كصفة كلُّ ما يتعلق بالشؤون العامة وبحكم الدولة وبالعلاقات المتبادلة بين الدول.

والقانون السياسي هو مجموعة القوانين التي تحدد النظم الحكومية، وتعني العلاقات بين السلطة والمواطنين أو الرعايا.

وتذكر الإنسيكلوبيديا الكبيرة في كلمة (بوليتياكا) أنَّها تعني اصطلاحاً: فنُّ حكم الدولة، ولذلك يمكن تعريف علم السياسة بأنَّه: علم حكم الدول أو دراسة المبادئ التي تقوم عليها الحكومات والتي تحدد علاقاتها بالمواطنين وبالدول الأخرى.

والإشكال هو إنَّ السياسة التي اعتبرها الكتّاب والمؤلفون العرب والأجانب من أنبل العلوم وأسماها, وتعتمد على أصول يحكم بها الفطرة والعقل.

وهذه الأصول هي:

1- العدل.

2- المساواة.

3- الحرية.

4- الصدق.

ص: 442

وكان السياسيون حتى القرون الوسطى يحاولون تطبيق السياسة على هذه الأصول وإنْ كان بحسب الظاهر أو كان صورياً؛ سواء في الشرق أم في الغرب، وقد ذكرنا آنفاً من أنَّ السياسة الدينية هي أيضاً تعتمد على الأصول الثابتة مع موافقتها لتعاليم الشرع، فإذا كانت السياسة هي إدارة البلاد وسَوقالعباد إلى الإصلاح، مع مراعاة تلك الأصول، وكان الرقيب عليها شرع الله ودينه؛ فهي السياسة المثلى ومنتهى السعادة. وكلما انحرفت السياسة عن تلك الأصول وابتعدت عن الشريعة الغرّاء كانت وزراً ووبالاً على الناس، وجلبت الشقاء للأفراد.

ولما تدخلت الجمعيات السرية في السياسة وظهرت فلسفات كيدية وسياسات ميكافيلّية، وجعلتها العلمانية من فلسفتها وثقافتها؛ فإنَّ هذه السياسة ابتعدت كلَّ البعد عن مبادئ الأخلاق الفاضلة، كما هو الدائر في عالمنا المعاصر؛ فماذا يكون موقف الدين والمتدينين منها؟!. والاحتمالات التي يمكن تصويرها للجواب عن السؤال المزبور هي:

الإحتمال الأول: الإبتعاد كلّ البعد عن مثل هذه السياسة، فندعها لأهلها حفظاً للدين وأهله من التحريف أو الإنحراف والضياع.

ولكن هذا الإحتمال بعيد عن الصواب بالتالي:

أولاً: إنَّ الدين لم يسلم من كيد هؤلاء سواء ابتعد عنهم أم لا.

ثانياً: إنَّه مخالف لقواعد الدين وأصوله التي تدعو إلى العمل بالشريعة وتطبيق الدين مهما أمكن إليه من سبيل، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(1).

ثالثاً: إنَّ العلمانية هي التي تريد ذلك وهو مسعاها، وإنَّ فلسفتها كذلك ليشيع في الأرض الفساد.

ص: 443


1- سورة التغابن؛ الآية 16.

الإحتمال الثاني: الإنخراط في السياسة وإدارة البلاد وسَوق العباد عن طريق هذه السياسة الخاطئة التي فيها من السلبيات الكثيرة؛ لأنَّ المصلحة تقتضي ذلك.

فمن المصلحة: عدم انفراد غير المتورعين بالسلطة، فإنَّ الآثار تكون سيئة جداً؛ كما هو واضح لدى الخبير.

ومنها: إنَّ انخراط المتدينين في السياسة بقصد إصلاح النظام جزء من المهام الواقعة على عاتقهم.

ومنها: إنَّ ذلك يعتبر من التعاون على البرّ الذي هو من شؤون ولاية الحسبة التي أمر الله بها المؤمنين بإقامتها.

وغير ذلك من المصالح. ولكن يمكن مناقشة ذلك بأحد وجهين:

الأول: إنَّ المشاركة مع غير المتدينين في السلطة وإدارة الدولة إذا كانت وفق الآليات المتداولة في عصرنا الحاضر من الإنتخابات والديمقراطية والحرية وغير ذلك من العناوين هي من إيقاع النفس في مشكلة لا يمكن حلها بل في المهلكة، فإنَّ يد سلطة الدين والمتدينين المشاركين في السياسة محدودة في هذا المجال، فلم يكونوا قادرين على حلِّ المشكلات وفق النظرية الدينية التي يتبنوها.الثاني: إنَّ صفة الكيدية التي يعتمد عليها المعارضون؛ كما هو المفروض من هذه السياسة التي تتبنى المكر والخديعة، والمنسلخة عن قواعد وأصول السياسة التي اعتبرها العلماء والمفكرون من أنبل العلوم وأسماها هي التي توقع المتدينين في المهلكة، وبالتالي تحملهم فشل المشروع السياسي وتؤدي بحياتهم بحكم القانون. وبالآخرة تعلن للناس بأنَّ المشروع الديني لا يليق بالإدارة وليس له معرفة بالسلطة؛ كما هو المشاهد في كثير من البلاد الإسلامية.

ص: 444

الإحتمال الثالث: دخول المشروع الديني والأحزاب الدينية في السياسة والانفراد بالسلطة؛ إمّا بالقهر والغلبة, أو بالوسائل الحديثة من الانتخابات تحت العناوين المستحدثة من الديمقراطية والحرية ونحو ذلك, وإهمال الأحزاب الأخرى غير الدينية عن طريق تشريع القوانين في المجلس النيابي ونحوه.

وهذا الوجه وإنْ كان يسلم من بعض المناقشات التي أوردناها على الإحتمالات السابقة, ولكن المشكلة الكبرى التي تواجه مثل هذه الحكومة في عصرنا الحاضر أنَّ العولمة التي هي من أهم وسائل العلمانية جعلت العالم قرية واحدة والإعلام العالمي تحت سيطرة العلمانيين, فإنَّهم يصبُّون جلّ اهتمامهم بجميع الوسائل المتاحة عندهم في تغيير الرأي الوطني والعالمي ضد هذه السلطة الدينية وتحاك حولها كلُّ الأساليب الكيدية, مِمّا تجعل الشعوب تنقلب إلى الضدِّ المخالف للحكومة, وحينئذٍ تضطر إلى تغيير أسلوبها الديني وقوانينها الشرعية إذا أرادت الإستفراد بالسلطة أو إشراك غير المتدينين في السلطة, ومن ثمَّ عاد المحذور الذي ذكرناه في الوجه الثاني.

الإحتمال الرابع: تربية جيل كامل يتحلى بالأخلاق الفاضلة ويستشعر المسؤولية اتّجاه الدين الذي يعتقده واتّجاه الناس, ويتَّصف بالثقافات المعاصرة ويتعلم العلوم التي لها ارتباط وثيق بالإدارة والتربية, ويستوعب العلوم التي لها دخل في التقدم العلمي والتكنولوجي؛ حتى يتسنى لهم تسلم زمام السلطة والدين, وعلمائهم لهم دور الإرشاد والنصيحة وتصحيح ما يصدر منهم من الأخطاء, وبذلك يمكن إشراك غيرهم في السلطة بالشروط التي يفرضها القانون وإدارة البلاد إدارة مدنية علمية غير معارضة للدين, ويعيش المتدين والمجتمع المدني تحت ظلال هذه الحكومة والجميع يكونوا سدَّاً منيعاً لدفع كيد الأعداء؛ فإنَّهم لم يبرحوا عن عداوتهم لمثل هذه الحكومات.

ص: 445

ومثل هذه الحكومة لا تعارض مدنية السلطة إذا كانت وفق القوانين التي يكون أساسها العدل والمساواة والصدق والأمانة, ولم يعارض الدين مثل هذه السلطة المدنية بشرط أنْ لا تخرج عن تعاليم الدين الحنيف.

وليست هذه السلطة المدنية مثل مدنية السلطة التي ينادي بها العلمانيون؛ التي طالما يتبجحون بها ضد الدين والمتدينين، فإنَّ هذه السلطة لا تخرج عن ثقافة العلمانيينوتتَّخذ الإنسيابية والانحلال عن كلِّ الفضائل شعارهم, ومن وسائلهم نشر الفحشاء والمنكرات بين الناس وإبعادهم عن كل القيم الأخلاقية.

وبالمشروع الذي ذكرناه يمكن مواجهتهم والتخلص من مكرهم, فلا بُدَّ من التنبه التام والاستشعار بالمسؤولية بكلِّ دقِّة وإمعان؛ فإنَّ الأمر خطير ومتشعب ولا ينصلح بمجرد الوصول إلى السلطة فقط, إنْ لم يكن ذلك من أهم وسائل العلمانيين ومكرهم.

وبذلك ننهي البحث عن العلمانية وبيان حقيقها التي طالما خفيت على كثير من الناس -بل حتى العلماء والمثقفين- ودورها في الإنحطاط الخلقي والديني في العالم, وقد ذكرناه على إيجاز, وعلى المثقفين دراسة ما ذكرناه بصورة أوسع وإعلام الناس والأجيال بدور العلمانيين الخطير في العالم.

وبعد بيان ما يرتبط بحقيقة العلمانية لا بُدَّ من البحث عن دور العلمانية في الإقتصاد العالمي الذي هو موضوع بحثنا.

ص: 446

الفصل السادس: دور العلمانية في الإقتصاد العالمي

اشارة

لقد بدأت العلمانية بالاستيلاء على أموال الكنائس, ثم تطورت إلى السطوة على أموال الدول والشعوب عن طريق الإستعمار، ثم انتهت أخيراً إلى الإستيلاء على الإقتصاد العالمي عن طريق المؤسسات الدولية لصندوق النقد والبنك الدوليين والشركات العالمية، ولا سيما الشركات المصنِّعة للأسلحة, وغير ذلك مِمّا هو معروف لمن يراجع حقيقة الإقتصاد العالمي المعاصر الذي جعل الإنسان إمّا منتجاً أو مستهلكاً.

فقد أنتجت العلمانية إنساناً اقتصادياً, وهو الإنسان المتحرر تماماً من القيمة, ودوافعه الأساسية إقتصادية بحتة تحركه القوانين الإقتصادية وحتمياتها، فهو إنسان لا ينتمي إلى حضارة بعينها، وإنَّما ينتمي إلى عالم الإقتصاد العام، كما إنَّه لا يعرف الخصوصية ولا الكرامة ولا الأهداف السامية التي تتجاوز الحركة الإقتصادية, فهو يجيد نشاطاً واحداً وهو البيع والشراء، وجمع الأموال ومراكمتها وإنفاقها، وحينئذٍ أصبح الإنسان أحادي البعد نظير ما ذكرناه في بحوثنا السابقة في الإنسان الجنسي أو الجسماني الذي يشبه الإنسان الإقتصادي تماماً في بيئته, فإنَّه خاضع للحتميات الغريزية متجردة عن القيمة, والإنسان الطبيعي العلمانيالذي هو ذاته الإنسان الإقتصادي، وذاته الإنسان الجسماني قد يختلف في المضامين, لكن البنية واحدة؛ فلو أبدلنا كلمة (إقتصاد) وكلمة (جنس) بكلمة (طبيعة) لكان الأمر واحداً، وظلَّ كلُّ شيء كما هو ولم يغير شيئاً في الخطاب.

وقد حاولت العلمانية تقسيم الإقتصاد العالمي إلى اقتصاد رأسمالي واقتصاد اشتراكي, وكذلك قسمت المجتمعات إلى مجتمع رأسمالي ومجتمع اشتراكي, وذكرنا فيما سبق أنَّه لا فرق بين تلك الأقسام, وإنَّ جميعها تلتقي في المجتمع ما بعد الايديولوجي أو ما بعد الصناعي, وأشرنا إلى أنَّها مصطلحات تؤكد فكرة التلاقي.

ص: 447

وعلى الرغم من أنَّ العلوم الإنسانية الغربية تفرق بين الإقتصاد الإشتراكي والإقتصاد الرأسمالي, إلا أنَّهما مجرد تعبير عن المنظومة المعرفية العلمانية الإمبريالية التي تساوي بين الإنسان والطبيعة وترى أنَّهما مادة يمكن توظيفها، وأصبح العالم يدور في نطاق المرجعية الكامنة المادية، فقد تحددت الأهداف النهائية للإقتصاد كما تحددت آلياته في ضوء هذه الواحدية.

آليات الإقتصاد
أولاً: الأهداف النهائية

وهي كالتالي:

1- كون النشاط الإقتصادي نشاطاً اقتصادياً فقط, فهو مرجعية ذاته ولا يمكن الحكم عليه من منظور خارج عنه ومتجاوز له.

2- إنَّ الإقتصاد يدور في إطار المرجعية الواحدية المادية. وعليه؛ فإنَّ الأهداف الإقتصادية أهداف نهائية مجردة، لها مضمون لا إنساني أو متجاوز للإنسان.

3- النمو المستمر سمة أساسية للكون (الطبيعة/المادة) ومن ثم لعالم الإقتصاد.

4- الإنسان كائن إقتصادي (الإنسان الإقتصادي) تحركه الدوافع الإقتصادية الداخلية كحب الثروة وتخزينها, وتتحكم فيه العناصر الإجتماعية (علاقات الإنتاج).

والإنسان الإقتصادي تنويع على فكرة الإنسان الطبيعي, فهو يُرد إلى دوافعه المادية التي تأخذ شكل المصلحة الإقتصادية.

5- إنطلاقاً من ذلك يصبح تعظيم الإنتاج وزيادة الإستهلاك أي (المنفعة واللذة) هما المطلقات النهائية التي يجب تحقيقها, بغض النظر عن أيِّ شيء, أي (الخصوصية، القومية, تركيبة الإنسان، الإغتراب, تحطيم الأسرة) فإنَّ المهم أنْ يصبح الإنسان

ص: 448

بائعاً ومشترياً، ومنتجاً ومستهلكاً، ويستمر هذا الإتّجاه إلى أنْ تسيطر السلع تماماً, فيحدث ما يسميه علماء الإجتماع ب-(التسلع), أي يرى الإنسان نفسه كسلعة، وينتج عن ذلك ما يسمى ب-(الإغتراب), وهي ظواهر لا تقتصر على المجتمعات الرأسمالية كما هو موضح.

6- يتحول المجتمع ككلٍّ إلى سوق ومصنع.

ثانياً: آلية إدارة المجتمع

وهي تتم على نحوين:

الأول: من ناحية عملية ضبط الإقتصاد العلماني من خلال آليات لا شخصية؛ إمّا تلقائية غير واعية من خلال اليد الخفية (الرأسمالية) أو مبرمجة بشكل واعٍ من خلال لجان التخطيط (الإشتراكية) التي تقوم بعملية الضبط لتعظيم الإنتاج والاستهلاك.

الثاني: إحلال العلاقات التعاقدية المجردة محلّ العلاقات الإنسانية المتعينة، وإحلال الوظيفة الإقتصادية مكان القلب والروح والعوامل المعنوية والإنسانية كافة.

إلا أنَّ الإقتصاد الإشتراكي يختلف عن الإقتصاد الرأسمالي؛ فإنَّ في الإقتصاد الإشتراكي يتمُّ الحفاظ بمفهوم الإنسان في المراحل الأولى بنحو التمركز حول الذات, ثم تهيمن بعد ذلك الآليات والأهداف الموضوعية المجردة, أي مرجعية المادة، وحينئذٍ يصبح الإنتاج نهاية في حدِّ ذاته، كما يصبح الإستهلاك كذلك نهاية في حدِّ ذاته, فالإشتراكية الإنسانية داخلة تحت إطار المرجعية الكامنة المادية العلمانية, فتتشكل مرحلة أولية فقط ويتحقق خلالها التراكم, ثم تليها بشكل حتمي مرحلة الإنفتاح.

وبعبارة أخرى: إنَّ الإنفتاح حتميٌّ في كلِّ المجتمعات التي تسيطر عليها المرجعية الواحدية المادية، وهذه الحتمية تأخذ شكل شعار استهلاكي في المجتمعات الرأسمالية، وشكل سقوط الإشتراكية.

ص: 449

ومن ذلك يظهر أنَّ الإقتصاد العلماني قد مرَّ بمرحلتين:

المرحلة الأولى: المرحلة التقشفية

وهي المرحلة المركنتالية ثم الرأسمالية والتراكم الإمبريالي في غرب أوروبا، والمرحلة المركنتالية ثم الإشتراكية العلمية والتراكم الإشتراكي في شرق أوروبا.

المرحلة الثانية: المرحلة الإستهلاكية

وهي الإستهلاكية العالمية في كلِّ أنحاء العالم.

والمتصور هنا إنَّ ذلك هو تاريخ عام للإقتصاد الغربي بشقَّيه؛ الرأسمالي والإشتراكي دون تمييز، وقد تنبهت العلوم الإنسانية الغربية لهذا النمط. كما تحدث بذلك علم الاجتماع الغربي الرأسمالي عن نظرية التلاقي بين النظامين الرأسمالي والإشتراكي في مجتمع صناعي حديث واحد.

ثم إنَّ العلمانية الإقتصادية اعتمدت على نظريات عديدة في الإقتصاد, وكان من أهمها:

النظرية المركنتالية

والمركنتالية مأخوذة من الكلمة اللاتينية (مركانز) وتعني (تجارة)، والمركنتالية مصطلح يشير إلى نظرية إقتصادية ترجمت نفسها إلى إجراءات إقتصادية وتوجهات سياسية شاعت في الفكر الغربي من القرن السادس عشر واستمرت حتى القرن الثامن عشر، وقد تبنتها هولندا وإنكلترا وفرنسا بالدرجة الأولى ثم معظم الدول الأخرى, ومن المعروف أنَّ الملكيات المطلقة تبنت سياسة مركنتالية في مجالي الإقتصاد والسياسة، وقد ظهرت هذه النظرية نتيجة تعاظم نفوذ الدولة العلمانية المطلقة في العالم الغربي, فإنَّ ظاهرة الدولة

-بمعناها الحديث- ظاهرة جديدة, حيث كانت المجتمعات الغربية في العصور الوسطى مكونة من وحدات اقتصادية اجتماعية صغيرة تربطها روابط واهية، وكانت الدولة تسيّر

ص: 450

المجتمع من خلال مؤسسات عديدة مثل الأسرة ومؤسسات الإدارة الذاتية، كما كانت تزاحمها في السلطة مؤسسات وطبقات أخرى مثل الكنيسة والنبلاء.

ومع عصر النهضة بدأت قوة الدولة القومية والسلطة المركزية تتزايد, وذلك لأسباب عديدة من أهمها ظهور اقتصاد السوق وتراجع الإقتصاد الطبيعي وتحول قطاع كبير من التجار إلى رجال صناعة، ومن أهم الأسباب حدوث ثورة في الوسائل الزراعية, حيث ساهمت في تراكم رأس المال وتوفير الأيدي العالمة، كما أدَّت الإكتشافات الجغرافية إلى زيادة التجارة الخارجية التي أدَّت بدورها إلى زيادة تراكم رأس المال، ومِمّا ساعد على سهولة انتقال رأس المال تحسين وسائل المواصلات وتنامي القطاع النقدي للإقتصاد في مجتمعات أوروبا.

ويمكن تلخيص كلُّ ذلك في كلمة واحدة؛ وهي علمنة القطاع الإقتصادي, أي تحرره من علاقات الإنتاج الإقطاعية والقيم المسيحية, وتحوله إلى قطاع له حركياته وقيمه الكامنة فيه؛ المستقلة عن حركيات المجتمع وأخلاقياته، وظهور شرايع اقتصادية جديدة تقع خارج نطاق العلاقات الإقتصادية ذات الطابع المحلي والتقليدي.

وقد تحالفت الدول مع القوى الإقتصادية الجديدة لتزيد قوتها في مواجهة الأرستقراطية الإقطاعية، فبدأ نفوذ الدول والملوك يتعاظم مع نهاية القرن الخامس عشر على حساب الأمراء والنبلاء الإقطاعيين والكنيسة، وظهرت الدولة المطلقة كمؤسسة تعارض النزعة العالمية للكنيسة والنزعة الإقليمية والتخصصية لطبقة النبلاء.

وقد عبَّرت كلُّ هذه الإتّجاهات الجديدة عن نفسها في نظرية ميكافيلّي؛ التي ذهبت إلى أنَّ القطاع السياسي لا يخضع لأيَّة اعتبارات خُلقية, أي أنَّ القطاع السياسي شأنه شأن القطاع الإقتصادي؛ أصبح متحرراً من النظام والإقطاع والاعتباراتالأخلاقية, ومن ثمَّ فإنَّ الدولة

ص: 451

من حقِّها استخدام كلّ الوسائل لتنفيذ غاياتها، وأصبح مواطني الدولة وسيلة في يد الدولة, ثم تطورت إلى فكرة سيادة الدولة؛ فكانت فكرة جديدة كلياً.

ومن جميع ذلك تظهر ملامح نظرية المركنتالية (في مجال الإقتصاد) هي التي تقابل نظرية ميكافيلّي وبودان في المجال السياسي.

وتنطلق هذه النظرية من أنَّ الدولة هي المطلق والمرجعية النهائية للمواطنين؛ قوتها ومصلحتها العليا ونفعها أهداف نهائية ثابتة لا يمكن النقاش بشأنها, فهي تشبه المطلقات الدينية، بل إنَّها المطلق الوحيد.

فقد أصبحت الدولة المبدأ الواحد والمرجعية النهائية التي تستند إليها النظريات السياسية العلمانية -رأسمالية كانت أم إشتراكية-, وفيما بعد حلَّت الأمة في الفكر العلماني محلّ فكرة الدولة، وأصبحت مصدر السلطات حتى بدأت الدولة كأنَّها الوسيلة والأمة هي الغاية.

وكيف كان؛ فإنَّ جميع العناصر المادية والمعنوية والروحية تصبح مجرد وسائل لتحقيق الغايات النهائية للدولة، وهذه الدولة لا تهدف إلى إشباع حاجة سكانها وإسعادهم, وإنَّما تهدف إلى زيادة ثرواتها وإنتاجيتها وقوتها العسكرية والإقتصادية كهدف في ذاته.

وكانت نظرية المركنتاليين الإقتصادية تعتمد على أنَّ القوة إنَّما تتحقق في تراكم المعادن النفيسة ومراكمة الأموال, وأمّا مبادئ الإقتصاد فهي:

1- إنَّ ثروة العالم محدودة، ومن ثمَّ يكون حجم التجارة الدولية محدودة.

2- إنَّ ثراء دولة ما لا بُدَّ أنْ يكون على حساب الدول الأخرى.

3- حرص الدول على أنْ يكون الميزان التجاري في صالحها.

4- إنَّ التنمية الإقتصادية لا تتمُّ إلا من خلال تدخل الدولة المباشر في العمليات الإقتصادية كافة.

ص: 452

5- إنَّ على الدولة إصدار القوانين لحماية الصناعات المحلية.

6- ضمان الدولة بتدفق المواد الخام والمعادن النفيسة على الوطن, وتضمن أيضاً تدفق السلع المصنوعة منه.

ومن هنا كان من أيسر السبل في تحقيق هذا المخطط هو المستعمرات التي تحولت إلى أسواق مضمونة للسلع ومصادر رخيصة للمواد الخام والمعادن.

ومن الواضح أنَّ رأس المال الخاص لا يستطيع أنْ يصمد في مجال المنافسة في التجارة الدولية، كما أنَّه لا يستطيع تمويل العمليات الإستعمارية وضمان احتكار المستعمرات، فإنَّ هذه تحتاج إلى تلك العمليات العسكرية ذات الطابع القومي، وحينئذٍ تتطلب وجود سلطة مركزية.ومن هنا كانت النظرية المركنتالية في جوهرها تطبيق طرق إدارة المدينة في العصور الوسطى في الغرب, لا سيما المجال الإقتصادي على المجتمع بأسره، وإنَّ الدولة لا بُدَّ أنْ تلعب دور الضامن بالنسبة إلى سكان الدولة، فقد تحكمت تماماً في تقدير المحاصيل وفي استيراد المواد الخام, كما تتحكم في النشاط الإقتصادي(1) للمواطنين.

وبإزاء الفكر المركنتالي كان الفكر الكلاسيكي الإقتصادي وهو فكر (آدم سميث) وغيره؛ الذين هاجموا النظرية المركنتالية في أواخر القرن الثامن عشر، ونادوا بحرية التجارة وإلغاء القيود التجارية وإطلاق حرية رأس المال.

فإنَّ التفكير المركنتالي تفكير واحدي عضوي ينظر إلى الدولة وأعضائها باعتبارهم كلاً متكاملاً يزيد الإنتاج كنهاية في ذاته.

وهذا على عكس فكر الفلاسفة؛ الذي لا يهتمُّ بالإنتاج بقدر اهتمامه بقوانين العرض والطلب وآليات التوزيع.

ص: 453


1- التجاري والصناعي.

ومن هنا يلاحظ أنَّ التفكير الإقتصادي المركنتالي لا يحتوي على نظرية في القيمة, على عكس التفكير الإقتصادي الكلاسيكي.

وقد تحالفت الدول المركنتالية مع العناصر الرأسمالية في المجتمع ضد النبلاء وضد المدن التي ارتبطت بالنظام الإقطاعي حتى يمكنها فرض هيمنتها.

وقد أخذت الدولة مجراها وسنَّت تشريعات احتكارية وأصدرت قوانين في إصدار العملات وفرض الضرائب لتمويل المشروعات والضرائب الجمركية لحماية الصناعات.

كما إنَّ الفكرة المركنتالية أخذت تنمو نحو المركزية وتوحيد السوق والتجارة والصناعة وصبغها بالصبغة القومية, بل امتدَّ هذا النشاط ليشمل الدين فظهرت كنائس الدولة في إنكلترا، وكنائس الكاثوليكية التابعة للدولة في فرنسا, وكانت النظرة المركنتالية والدولة المطلقة علاقة تبادلية، وقد أدَّت هذه السياسة المركنتالية إلى إغراق أوروبا في الحروب طيلة القرن السابع عشر والثامن عشر لاشتمال جرثومة المركنتالية على الصراع الحتمي.

وهكذا استخدم المؤرخون اصطلاح المركنتالية الجديدة للإشارة إلى السياسة الإستعمارية التي اتَّخذتها الدول الغربية في أواخر القرن التاسع عشر في تقييم العالم, بحيث احتكرت كلُّ دولة مستعمراتها وحولتها إلى مصدر للمادة الخام وإلى سوق تحتكرها لبضائعها.وبالجملة؛ إنَّ ظهور الدولة المركنتالية هو بداية المرحلة التراكمية في الإقتصاد الغربي واستمرت خلال التراكم الإمبريالي في الغرب، والتراكم الإشتراكي في الشرق.

فإنَّ الدولة المركنتالية تشمل حلقة حاسمة في تاريخ الإقتصاد العلماني وهيمنة الدولة المطلقة وسيادة النماذج الواحدية المادية.

ص: 454

الرأسمالية

بعد الإنتقال من النظرية المركنتالية يأتي دور الرأسمالية التي هي في تصور (ماكس فيبر) شكل من أشكال الحياة الإقتصادية يهدف إلى تنظيم الإنتاج بهدف تعظيم الربح بشكل مستمر من خلال حساب التكلفة وأجور العمال والربح بشكل دقيق ومن خلال اقتراض النقود وتداولها ومراكمة رأس المال على شكل أموال وممتلكات واستثمارات، وهي حالة تتغلب فيها مجموعة من القيم الإقتصادية مثل حبُّ الترف والراحة والدعة والطمع والجشع والقرصنة على القيم الإنسانية وعلى العلاقات الإنسانية كافة، وإحلال الوظيفة الإقتصادية محلّ كلّ العوامل العاطفية والأخلاقية والمعنوية والإنسانية الأخرى؛ خيرها وشرُّها. وقد ميَّز (فيبر) بين ما يسميه المجتمع التقليدي وبين المجتمع الحديث؛ بأنَّ المجتمع التقليدي يظلُّ خاضعاً في تنظيمه –ككلّ- لقيم دينية أو لأعراف قبلية تلعب أواصر القرابة فيها دوراً قوياً، فهو غير قابل لأنْ يرد إلى مبدأ واحد.

أمّا المجتمع الحديث فهو مجتمع تم ترشيد معظم أشكال الحياة فيه, وذلك بتبسيطها وإخضاعها لمبدأ واحد.

ومن هنا فقد ميَّز (فيبر) بين رأسمالية المجتمع التقليدي والرأسمالية أو روحها في المجتمع الحديث بأمور:

1- في المجتمع التقليدي يكون النشاط الإقتصادي يصدر عن فكرة أنَّ العمل عبء عليه أن يحمله، ولذا يحاول المنتج أنْ يبحث عن الراحة والعمل لمدة أقل بقدر ما يمكنه، فهو يعمل حتى يفي بحاجته الأساسية فقط، فإذا حقق الثراء فإنَّه يتقاعد ويستريح، فلا تكون حياة الإنسان مكرسة تماماً للعمل والتراكم ولم يتم ترشيدها في ضوء الرغبة الواحدية في العمل والإنتاج.

ص: 455

2- إنَّ الهدف من العملية الإنتاجية في المجتمعات التقليدية ليس أموراً مجردة مثل التراكم أو تعظيم الربح والإنتاج وإنَّما أمور إنسانية مثل إشباع الحاجات الإنسانية والحصول على السلع الترفية، فلم تسيطر الواحدية الإنتاجية (والإستهلاكية) على كلِّ نواحي الإقتصاد.

3- إنَّ بنية المجتمع مستقرة في المجتمعات التقليدية, ولا تتصاعد فيها الرغبات الإستهلاكية عند الأفراد، وهو ما يعني استحالة تطور اقتصاد تراكمي توسعي بشكل مستمر، فالمنتج غير مستعد للتوسع والإبداع والتجريب، وسيستمر في إنتاج السلع نفسها لأشخاص عندهم الحاجات نفسها.

4- إنَّ في المجتمعات التقليدية تتعدد الإثنينية والدينية وتنوع الثقافات بسبب غياب الحكومة المركزية؛ الأثر الذي يعني استحالة إنتاج سلع نمطية.

5- إنَّ النشاط الإقتصادي في المجتمعات التقليدية لا يخضع لقانون عام يسري على الجميع؛ إذ تؤثر علاقات القربى والاعتبارات في قوانين التعامل فالمرء لا يستطيع أنْ يتعامل مع الغريب مثلما يتعامل مع القريب، ولا توجد قواعد ثابتة للإتجار أو لتحديد سعر الفائدة، فكلُّ شيء قابل للتفاوض بسبب غياب القانون الواحد.

6- إنَّ التجار في المجتمع التقليدي يتبنون قيماً مزدوجة، فهم يلتزمون تجاه جماعتهم بقيم أخلاقية مختلفة من تلك التي يتبنونها تجاه الغريب.

7- إنَّ العلاقة بين صاحب العمل والأُجراء في المجتمع التقليدي تتَّسم بأنَّها شخصية ومباشرة, وكثيراً ما يعمل صاحب العمل بيديه مع عماله, أي أنَّها علاقة تدخل فيها اعتبارات إنسانية شخصية.

ص: 456

8- التجارة في المجتمعات التقليدية بسبب ارتباطها برغبات التجار وتأثير علاقات القربى فيها وغياب القانون الواحد تصبح عملية شخصية غير رشيدة، يسود فيها الكرم والأريحية، والبخل والجشع، وكلُّها قيم(1) إنسانية تعني أنَّ التاجر فرد مركب له طموحه وأحلامه وليس وحدة اقتصادية رشيدة مضبوطة من خلال القانون الواحد العام.

من أجل ذلك كلّه تكون الرأسمالية في المجتمع التقليدي في واقع الأمر محاولة لمراكمة الثروات لا من خلال الإنتاج والاستثمار المنظم، وإنَّما من خلال نقل البضائع من مجتمع إلى آخر، أو من خلال القرصنة, أو تمويل الحروب وإقراض الحكومات والأمراء, أو من خلال الحصول على احتكارات أو حقّ جمع الضرائب، أو الإتجار في العملة أو المضاربات في البورصة، أو الإستثمار مع السلطة الحاكمة أو الدخول في مشاريع استعمارية استيطانية، أو الإستفادة من سطوة السلطة في الحصول على عمالة رخيصة، أو استغلال مصادر طبيعية مثل الملح والأنهار بدعم من السلطة وبتوجيه منها.ولذا نجد أنَّ الإستعمار في هذا الإطار يتطلب عائداً سريعاً مضموناً, ومن الملاحظ أنَّه لا يوجد تقييم واضح للعمل في النشاط الرأسمالي التقليدي؛ فالتاجر الدولي هو التاجر المحلي ولا يمكن أنْ يكون هو نفسه منتج السلطة أيضاً.

فلا ترشيد في الرأسمالية التقليدية بل هو على طرف النقيض منها، فإنَّها عملية تردُّ الواقع الإنساني المركب بأسره إمّا إلى مبدأ إقتصادي واحد أو إلى مجموعة من المبادئ الإقتصادية.

وهذا بخلاف الرأسمالية الرشيدة في المجتمعات الحديثة؛ فإنَّها ترجع إلى مبدأ واحد وهو رأس المال، وحينما يتمُّ ترشيد الواقع في إطاره فإنَّ ثمرة عملية الترشيد هي الرأسمالية

ص: 457


1- سلبية كانت أم إيجابية.

الرشيدة التي وصفها (ماركس) بأنَّها علاقات اجتماعية بين آلات وعلاقات, آلية بين الأفراد، فهي تؤدي إلى التنشيط.

والرأسمالية الرشيدة مركزها المدينة والمصنع وصلب المجتمع بخلاف الرأسمالية التقليدية فإنَّ مركزها البورصة وهامش المجتمع.

وقد تسمى كلتا الرأسمالية بمسميات مختلفة؛ فإنَّ (ماركس) يميز بين الرأسمالية الصناعية أو (الحقيقية) والرأسمالية الشكلية.

أمّا (فيبر) فإنَّه يميز بين الرأسمالية الرشيدة والرأسمالية المنبوذة.

ويفرق (سومبارت) بين رأسمالية الإستثمارات والرأسمالية التجارية.

والحقيقة؛ إنَّ وصفهم الرأسمالية المجتمعات التقليدية لا يختلف عن الجماعات الوظيفية المالية. ومن خلال الحديث عن أوصاف الرأسماليتين والفرق بينهما يتَّضح أنَّ كِلتاهما من مظاهر العلمانية وإنْ كانت هناك تفاوت بينهما من هذه الجهة؛ فإنَّ المجتمع العلماني الحديث والإقتصاد الرشيد باعتباره مجتمعاً يخضع لسلطة مركزية تقوم بعملية الترشيد بخلاف غيره, إلا أنَّ رأس المال لا يقوم لوحده بهذه العملية في المجتمعات الرأسمالية، بل تتمُّ عملية الترشيد والعلمنة من خلال عشرات المؤسسات التربوية والترفيهية الخاصة والعامة، ومن خلال عمليات تاريخية مركبة لأقصى حد. وهذا ما كان يحدث أيضاً في المجتمعات الإشتراكية العلمية؛ التي هي مجتمعات يسيطر عليه الحزب ولجانه المختلفة.

وثمرة كلُّ تلك الحالات هي ظهور الإنسان الطبيعي الرشيد الذي يردّ إلى مبدأ طبيعي مادي واحد، وقد عرفت أنَّه تارة يكون الإنسان الإقتصادي. وأخرى الإنسان الجسدي، وهو على كلِّ حال إنسان ذو بعد واحد يمكن التنبؤ برغباته وأحلامه، لأنَّها تمَّ ترشيدها من خلال المؤسسات، وقد عبر (فيبر) عن عملية الترشيد باعتبارها عملية تتجاوز التنظيم

ص: 458

الرأسمالي, بل ترتبط بالتنظيم العلماني الحديث؛ فقال: (إنَّ سيادة مجموعة القيم الآلية الموضوعية التي لا علاقة لها بإدارة الأفراد وهي جوهر الحداثة، وإنَّ المجتمع الحديث المرشد سيقضي علىالحرية الفردية وسيحول العالم إلى حالة المصنع بحيث يجد الإنسان نفسه في نهاية الأمر محاطاً من جميع جهاته بالمادة).

وكيف كان؛ فإنَّ الرأسمالية الرشيدة هي شكل من أشكال الحياة الإقتصادية -كما تقدم بيانه- يهدف إلى تنظيم الإنتاج بهدف تعظيم الربح بشكل مستمر من خلال حساب التكلفة وأجور العمال والربح بشكل دقيق, ومن خلال اقتراض النقود وتداولها ومراكمة رأس المال على شكل أموال وممتلكات واستثمارات، وفيها تتغلب مجموعة من القيم الإقتصادية على القيم الإنسانية, مثل حب الترف والدعة والجشع والقمع والقرصنة، بل هي تتغلب على العلاقات الإنسانية كافة, وتحلُّ الوظيفة الإقتصادية محلّ كلّ العوامل العاطفية والأخلاقية والمعنوية والإنسانية الأخرى.

ومن أجل ذلك كانت السمة الأساسية للرأسمالية الرشيدة هي سيادة مجموعة من القيم المعرفية والأخلاقية والقانونية والإقتصادية التي تمحو كلّ ما هو إنساني.

وقد اختلف الباحثون في تفسير ظهور الرأسمالية الرشيدة في الغرب, فقد ذهب كثير من المفكرين العلمانيين الماديين إلى أحادية السبب, وهو وضع الفكر مقابل المادة والمادة مقابل الفكر.

وذهب (فيبر) إلى ثنائيتهما وأكد أهمية كلٍّ منهما، فهو يرى أنَّ ظهور الرأسمالية يرتبط تماماً بوجود المصادر الطبيعية اللازمة وتطور التكنولوجيا وتكاليف النقل ووجود الأسواق وغيره، ولكنه مع ذلك لم يجد أنَّ هذه العناصر كافية في حدِّ ذاتها لدراسة أصول الرأسمالية، ولذا قام بدراسة مجموعة من الأفكار التي ساهمت في مساعدة الرأسمالية الرشيدة

ص: 459

على الظهور من خلال توليد شخصية محددة كنموذج مثالي؛ شخصية وظيفية تتَّسم بأبعاد نفسية وعقلية وأخلاقية معينة تخلق توأماً فكريا مع روح الرأسمالية الرشيدة.

ولكن الذي يظهر من كتاب فيبر (الأخلاقية البروتستانتية وروح الرأسمالية) أنَّ هذا النموذج الذي صاغه كان أكثر اتّساعاً من النطاق الذي حدَّده هو نفسه، فقد أدَّت أفكاره إلى ظهور الرؤية المعرفية العلمانية الرأسمالية.

ومن أراد التوسعة في رؤية فيبر في علاقة البروتستانتية بالرأسمالية الرشيدة ومعرفة النموذج الذي صاغه فليراجع كتابه, فإنَّ أفكاره تستخدم في تفسير ظهور الإنسان العلماني (الطبيعي/ المادي) ذي البعد الواحد وسيادة المرجعية المادية.

وكيف كان؛ فقد تزايدت معدلات الترشيد والعلمنة والكمون، وتحول المبدأ الواحد المقدس إلى المبدأ الواحد المادي، وتحول وحدة الوجود الروحية إلى وحدة الوجود المادية, ويتحول التقشف الدنيوي والزهد داخل الدنيا ابتغاء الآخرة إلى تقشف دنيوي بلا هدف أو غاية سوى التراكم، ويتحول البحث عن شواهد مادية إلى نزعة تجريبية وضعية ضيقة تنكر التجاوز وتهتم بالحقائق والتفاصيل، ويظهرالإنسان ذو البعد الواحد المتمركز حول ذاته لا (الإنسان النيتشوي(1)), فهو سليل (الإنسان البروتستانتي(2)), كما يظهر أيضاً (الإنسان البيروقراطي)؛ ذو البعد الواحد الذي يراكم الثروة بلا نهاية، ويهتم بالحقائق المادية التجريبية المتناثرة فحسب, فهو إنسان ضيق الأفق لا خيال له، حدود خياله هي حدود عالم الأشياء, وهو إنسان يذعن للأهداف المجردة الإنسانية ويرشد حياته في ضوئها, إنَّه سليل الإنسان البروتستانتي الذي تدرب على الدخول في علاقة مع إله لا يسبر غوره ولا يفهم سبله.

ص: 460


1- صاحب الإدارة المطلقة الذي يغزو العالم ويدمره ويوظفه لصالح ذاته المطلقة.
2- الذي يجسد الإله.

هذا الإنسان هو الإنسان الإقتصادي الذي يجسد مبدأ المنفعة ويتمثل لآليات السوق.

وهو الإنسان العادي الذي يعمل لصالح الدولة ويرشد حياته في ضوء ما يأتيه من أوامر.

وهو إنسان يتبع آخر الموضات والصيحات.

وهو الإنسان الجسماني الذي يجسد مبدأ اللذة، ويكرّس حياته لملذاته ويذعن إلى ما يصدر له من أوامر من قطاع اللذة.

وهو الإنسان الطبيعي/المادي البيروقراطي.

وهكذا ظهرت الرأسمالية الرشيدة التي تمَّ ترشيدها تماماً، وتستند إلى قوانين آلية تطمح إلى أهداف مجردة لا إنسانية مثل زيادة الإنتاج وتعظيم الأرباح, دون التفكير في غاية إنسانية أو أخلاقية.

ثم ظهرت الإستهلاكية الرشيدة, أي الإيمان بهذا العالم وحسب والرغبة في تحقيق الذات وتكريس كلّ طاقات الإنسان لتحقيق المتعة لنفسه, ومثل هذا الإنسان هو الإنسان الطبيعي/المادي يدور في إطار المرجعية الكامنة, فهو يعرف تماماً أنَّ العالم كلُّه(1) مكتفٍ بذاته, يمكن ردّه إلى قانون مادي واحد، فالرؤية الكامنة وراء الرأسمالية الرشيدة هي الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية وإنْ كانت قد أخذت شكل رأسمالية رشيدة في البلاد البروتستانتية, وقد أخذت أشكالاً أخرى في بلاد أخرى.

هذا ما أردنا بيانه في العلمانية ودورها في حياة الإنسان وفي الإقتصاد العالمي المعاصر.

ص: 461


1- الإنسان والطبيعة.

المصطلح الثامن: الإقتصاد

تمهيد:

كلمة الإقتصاد في اللغة العربية يقابلها كلمة economy التي هي أوسع انتشاراً في عالم الترجمة واللغة, وقد حاول الباحثون أنْ يجعلوا الكلمتين تشيران إلى مفهوم واحد, ولكن في الحقيقة فإنَّ الأمر ليس كذلك, فإنَّ الكلمة اللاتينية تحمل معنى يخالف المعنى لكلمة إقتصاد في مفهومها الإسلامي، بل تعبران عن مفهومين مختلفين لجملة من الأمور التي يمكن اكتشافها بعد بيان معنى الكلمتين.

أولاً: المعنى اللغوي لكلمة الإقتصاد

قال أرباب المعاجم اللغوية أنَّ مادة (ق ص د) تدلُّ على معانٍ عديدة:

1- إتيان شيء وطلبه. يقال: قصدته قصداً ومقصداً, وقصدته؛ له وإليه.

2- إكتناز في الشيء. ومنه الناقة القصيد, أي: المكتنزة الممتلئة لحماً, ولذلك سميت القصيدة في الشعر قصيدة؛ لتقصيد أبياتها أي تامة الأبنية.

3- قصد الشيء كسره. يقال تقصدت الرماح تكسرت, والقصدة: القطعة من الشيء إذا تكسر, والجمع قِصَد.

4- الإستواء وعدم السرف والقتر.

والأصل: قصدته قصداً ومقصداً.

والحقُّ؛ إنَّ مادة (ق ص د) تدلُّ على توجه إلى عمل وإقدام فيه, وتستعمل في غيره من القتل والكسر والعدل والقرب والرشد وغيرها بمناسبة مفهوم التوجه، فهي من لوازم الأصل ومن آثاره المترتبة عليه.

ص: 462

وقد وردت هذه المادة في النصوص كثيراً, ففي القرآن الكريم ذكرت في ستة موارد:

1- قال تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ)(1).

2- قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ)(2).

وكِلاهما بمعنى التوجه الدقيق إلى الشي, مِمّا يوجب نظمه ورعاية خصوصياته؛ كلٌّ بحسب حاله.

3- قال تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ)(3).

والتعبير بالقاصد للمبالغة؛ فكأن السفر متوجه إلى الحركة والجريان، وفيه إشارة إلى القرب.

4- قال تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)(4).

5- وقال تعالى: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ)(5).

والمقتصد في كليهما هو من يريد الإقدام والتوجه إلى العمل, فهو ليس بظالم لنفسه بالترك والإعراض, ولا من السابقين بالخيرات.

6- قال تعالى: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)(6).

والمقتصد هنا بمعنى المتوسط في الشيء؛ أعمّ من أنْ يكون مادياً أو معنوياً.

وأمّا القصيد والقصيدة التي بمعنى الناقة الممتلئة، والأبيات المخصوصة من الشعر؛ لأنَّها وقعتا مورد توجه وإقدام مخصوص.

ص: 463


1- سورة لقمان؛ الآية 19.
2- سورة النحل؛ الآية 9.
3- سورة التوبة؛ الآية 42.
4- سورة فاطر؛ الآية 32.
5- سورة المائدة؛ الآية 66.
6- سورة لقمان؛ الآية 32.

والإقتصاد؛ إفتعال من القصد, وهو بمعنى اختيار التوجه والإقدام إلى عمل, فإذا كان في الكسب والاكتساب ونحوهما يستلزم اكتناز المال مع التوازن والاستواء وعدم السرف والقتر, وقد وردت أيضاً في قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (القَصْدَ القَصْدَ تبلغوا)(1), أي: أسلك السبيل الوسط تبلغ غايتك.

وعن الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام : (إنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَى الله تَعَالَى رَجُلَانِ؛ رَجُلٌ وَكَلَهُ الله إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ)(2).

وفي حديث الرسول صلی الله علیه و آله و سلم : (ما عالَ مُقْتَصِدٌ ولا يَعِيل)(3), أي: ما افتقر من لا يسرف في الإنفاق ولا يقتر.

فيصحُّ أن يجعل كلمة (قصد) بمعنى الإقدام والتوجه إلى عمل جذرًا لكلمة الإقتصاد, ويلازم ما ذكرناه من الاستواء والاعتدال والتوازن والاكتناز, وقد توسع مفهوم الإقتصاد توسعاً كبيراً حتى أصبح له استقلالية وعلم خاص به.

ثانياً: التعريف العلمي

إنَّ أغلب الباحثين يعرّفون الإقتصاد بأنَّه علم يبحث عن المشاكل التي تواجه جميع المجتمعات في جميع العصور, بصرف النظر عن أنظمتها الإقتصادية وتطورها وحلّ تلك المشاكل, وأهم مشكلة هي كيف يستطيع المجتمع تدبير موارده النادرة, والتي لها استعمالات بديلة لإشباع حاجاته الكثيرة والمتزايدة, والإقتصادي هو الذي درس العلوم الإقتصادية دراسة وافية عميقة, وأصبح قادراً على معالجة النواحي الإقتصادية المختلفة معالجة علمية صحيحة.

ص: 464


1- النهاية في غريب الحديث والأثر؛ ج 4 ص67.
2- نهج البلاغة؛ خطب أمير المؤمنين علیه السلام ؛ الخطبة 17.
3- لسان العرب؛ ج11 ص488.

والمشاكل الإقتصادية التي يراد حلّها هي:

1- ندرة الموارد؛ فهي مهما كثرت لا تزال أقلّ من الطلب عليها.

2- الإستعمالات البديلة للموارد؛ حيث يمكن استخدام كلٌّ منها في استعمالات مختلفة فينقضي البحث عن سلوك الفرد نحو حالة التوازن المثلى وسلوك المؤسسة نحو الوضع الأمثل, وسلوك الجماعة كلُّها نحو السياسة الإقتصادية المثلى, فإنَّه بذلك تتحقق الغاية المرجوة والرفاهية الممكنة للأفراد والمجتمع.

3- كثرة حاجات المجتمع وتزايدها بسبب تزايد السكان وبسبب التقدم الحضاري والعلمي الذي يؤدي إلى خلق حاجات جديدة دائماً.

4- إنَّ سوء توزيع الدخل القومي بين فئات المجتمع يمكن أنْ يكون عاملاً على تزايد هذه المشكلة الإقتصادية؛ حيث أنَّه يعني أنَّ المجتمع لا يستطيع تحقيق التوازن الأمثل لموارده, وبذلك لا يستطيع تحقيق أقصى رفاهية ممكنة لأفراده عامة, وقد يكون ذلك أحد عوامل عدم الإستقرار الإقتصادي, وبذلك يزيد من تعقيد المشكلة الإقتصادية.

والخلاصة؛ إنَّ الإقتصاد علمياً بمعنى توزيع الموارد واستخدامها على الطريقة المثلى لتحقيق أقصى الأهداف الممكنة, كأقصى إشباع ممكن وأقصى ربح ممكن وأقصى رفاهية ممكنة للأفراد والمجتمع والمؤسسات.

وإذا رجعنا إلى آرائهم في لفظ الإقتصاد وجدنا اختلافهم في تحديده بمسميات مختلفة, إلا أنَّنا يمكننا تحديد موضوع الإقتصاد بأنَّه تدبير وإدارة شؤون المال بتأمين وسائل تنميته وإيجاده.

ص: 465

وعلى ضوء ذلك يصحُّ تعريف علم الإقتصاد بأنَّه: علم قوانين الإنتاج. وهو بحث علمي بحث لا ربط له بالعقيدة, وليس بحثاً فكرياً. وموضوعه معرفة الوسائل المؤدية لزيادة الإنتاج وتحسينه؛ كما تقدم بيانه.

النظام الإقتصادي

اشارة

وهو كلُّ بحث يتعلق بالثروة وتملكها والتصرف بها وتوزيعها, ومن هنا اختلف علم الإقتصاد عن النظام الإقتصادي؛ فإنَّ كلَّ بحث يتعلق بالإنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها فهو من علم الإقتصاد وقد عرفت أنَّه لا ربط له بالعقيدة, وإنَّما هو بحث علمي صرف في الوسائل المؤيدة لزيادة الإنتاج وتحسينه, بينما النظام الإقتصادي هو كلُّ بحث يتعلق بالثروة وتملكها والتصرف بها وتوزيعها, وهو بحث عقائدي؛ لأنَّ النظام الإقتصادي لا يختلف ولا يتأثر بكثرة الثروة ولا بقلتها.

وعليه؛ يكون منهج علم الإقتصاد هو تحديد المشاكل ومحاولة التغلب عليها بتوفير الثروة وإيجادها في البلاد؛ كما تقدم بيانه, وهذا يتعلق بالوسائل ومنهج النظام الإقتصادي؛ وهو توزيع المال المدبر, وهذا يتعلق بالفكر؛ فيكون البحث عن النظام الإقتصادي باعتباره فكراً يؤثر على وجهة النظر في الحياة ويتأثر بها.

ومن أجل ذلك كان البحث عن النظام الإقتصادي أهم وأكثر نفعاً, لأنَّ علم الإقتصاد له صفة علمية لا دخل فيها لاختلاف العقائد, ولأنَّ المشكلة الإقتصادية تكمن حول حاجات الإنسان ووسائل إشباعه والإنتفاع بهذه الوسائل, وهذه الوسائلموجودة بالكون, فإنَّ إنتاجها لا يسبب مشكلة أساسية في إشباع الحاجات, بل على العكس؛ فإنَّ إشباع الحاجات يدفع الإنسان لإنتاج هذه الوسائل وإيجادها, ولكن المشكلة الأهم في المجتمع تتحقق من تمكين الناس من الإنتفاع بهذه الوسائل, أو من عدم تمكينهم وحيازتهم لهذه الوسائل؛ الذي هو أساس المشكلة الإقتصادية التي تحتاج إلى علاج دقيق.

ص: 466

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ كثيراً من الباحثين وقعوا في الخلط بين الموضوعين وكان الواجب عليهم التمييز بينها حتى لا يقعوا في الخطأ الذي يلازم المزج بين المنهجين في البحث.

ومع ذلك كلّه فإنَّ علم الإقتصاد والنظام الإقتصادي كِلاهما يبحثان في الإقتصاد الذي يدرس التوزيع والإنتاج معاً, وإنْ كان يجب التمييز بينهما حتى لا نقع في الأخطاء التي تترتب على الخلط بين ما هو عقائدي وبين ما هو علمي من الأبحاث, وإنْ كان مبحث الإقتصاد له الأهمية الكبرى في حياة الأمم وتطورها ونحوها إذا كان قائدها فكر ووعي حكيمين وخلاقين.

التنبيه على أمور

ثم إنَّه ينبغي التنبيه على أمور:

الأمر الأول: إنَّ ما ذكرناه من أنَّ النظام الإقتصادي هو بحث في توزيع الثروة وملكيتها والتصرف بها, وهذه مرتبطة بالأساس العقائدي, فإنَّ كلَّ بحث في هذه الأمور يكون بحثاً عقائدياً في حقيقتها, إلا أنَّها لا تبحث في التوزيع, وإنَّما هي بحوث في أفكار أخرى مثل فكرة التخطيط المركزي للإنتاج الذي أتاح للدولة الحقّ في وضع سياسة الإنتاج والإشراف عليه, وهذه الفكرة لها أساس عقائدي الذي يعتبر من مقومات بعض المذاهب والأنظمة الإشتراكية أو ذات الإتّجاه الإشتراكي, بل هو من مهمات الفكر العلماني كما تقدم البحث عنه, مع أنَّه في الواقع إنَّ التخطيط المركزي للإنتاج والسماح للدولة بممارسة دورها في هذا التخطيط لا دخل له في عمليه التوزيع لكن مع ذلك كان لهذه الفكرة أساس عقائدي, وكذلك الآن في كثير من قضايا التوزيع في علم الإقتصاد؛ بالرغم من صلتها بالتوزيع دون الإنتاج كنظام الأمور والملكية الخاصة والحرية الإقتصادية.

الأمر الثاني: إنَّ التطور الإقتصادي هو العنوان الأهم الذي عكس على حضارات الشعوب, لا سيما الشبيبة منهم؛ فإنَّهم أكثر تأثراً بالتطور الإقتصادي التكنولوجي من دون تمييز بين علم الإقتصاد والنظام الإقتصادي, ومن دون تمييز بين

ص: 467

المدنية والحضارة, فإنَّه لو استطاع هؤلاء المبهورون بالتقدم العلمي والتكنولوجي أنْ يبحثوا في الإقتصاد على أساس التمييز بين علم الإقتصاد والنظام الإقتصاي ودرسوا الأخير بدقَّة وإمعان, وانعكاساته وأثره في حياة المجتمع والأفراد للتوصل إلى المشكلات الإقتصادية والإنسانية التي أدَّت إليها هذه النظم الإقتصادية, فأعاد النظر في انبهاره بتلك الحضارات الزائفة التي استخدمت العلم وسيلة للوصولإلى غايات وأهداف خاصة محددة لا لخدمة المجتمع, وقد عرفت في بحث العلمانية أنَّها استخدمت كلُّ تلك الوسائل للوصول إلى تغيير الإنسان المعنوي الروحاني إلى إنسان مادي صرف مزاجي.

الأمر الثالث: ذهب كثير من الباحثين الإسلاميين إلى أنَّ التعريف الإسلامي للإقتصاد يختلف اختلافا جذريا عن التعريف العلمي له, لأنَّه مأخوذ من القصد بمعنى الوسط وعدم الإقتار والسرف, وقد أقاموا على ذلك بعض الأدلة؛ منها: إنَّ كلمة (الإسلام) التي تدلُّ على الخضوع والإنقياد لله سبحانه وتعالى, وإنَّ فكرة الإستسلام للواحد الأحد تقابل الفكرة الأساسية لكلمة (إيكونوميس) والتي تعني التعامل مع المواد والحاجات؛ فهما فكرتان متباينتان تحملان قوانينهما الخاصة بهما التي لكلِّ واحدة تأثيره الخاص بها على الإنسان وسلوكه وسعادته.

ومنها: إنَّ رجال الإقتصاد يزعمون أنَّ المصادر الطبيعية محدودة بينما رغبات الإنسان وتمنياته غير محدودة, فلا بُدَّ أنْ يقع الإنسان في مواجهة الأزمات التي لا يمكن تجنيها ما لم يعالجها, إلا أنَّ الإنسان لا يرى أنَّ هنالك أزمة في المصادر الطبيعية, فإنَّها كافية لسدِّ حاجات الإنسان, إلا أنَّ الأزمة الحقيقية تأتي من ناحية سوء التوزيع الذي هو نتيجة طبيعية لفقدان العلاقة.

ومنها: إنَّ الثروة بزعم الإقتصاديين يمكن أنْ تكتنز من قبل أيِّ فرد, إلا أنَّ الإسلام يدين اكتناز الثروة من قبل جمع خاص, بينما آخرون بحاجة إليها.

ص: 468

ومنها: إنَّ الغاية المادية في الإقتصاد العالمي -ولا سيما الرأسمالي منه- هي جلب المنفعة والإلتذاذ والرفاهية, فإنَّها المحرك الأساس لعملية الإنتاج, بينما في الإسلام الغاية من عملية الإنتاج هي القيم والقرب إلى الله تعالى, والمصلحة إنَّما تكون الدافع الأقل أهمية في هذه العملية.

ومنها: ما دامت المصلحة تكمن في عملية الإنتاج في الإقتصاد العالمي فإنَّ المجتمع يتَّجه نحو الإسراف والتبذير, وهما محرمان في الإسلام.

ومنها: إنَّ الإستثمار والنشاطات الإقتصادية الأخرى كلُّها تدخل في إطار المنفعة في الأنظمة الإقتصادية العالمية, وتنظر إلى الزكاة والصدقات باعتبارهما خارجين عن المنفعة, إنْ لم يكن فيها الإسراف والتبذير.

وأمّا الإسلام؛ فإنَّه يرى أنَّ الصدقات والزكاة من أفضل أفراد الإستثمار.

ومنها: في الإقتصاد الحر؛ إنَّما يطلق يد المنتجين والمستثمرين ولهما الحرية الكاملة في نشاطاتهم الإقتصادية وفقاً لمبادئ السوق الحرة, بينما في الإسلام الحرية محدودة تحت ضوابط معينة.

ومنها: إنَّ القيم الإنسانية والدينية لا أثر لهما, أو لهما الأثر المحدود على الإقتصاد المادي, لأنَّ جميع النشاطات تقوم على أساس الربح والمنفعة, بخلاف الإسلام؛ فإنَّه يعتبر جميع الأنشطة التجارية وسائل للوصول إلى رضى الله تعالى والتقرب إليه عَزَّ وَجَلَّ والسعادة الأخروية.

وغير ذلك من الفروق التي يأتي التعرض لها في البحوث الآتية إنْ شاء الله تعالى.

ولكن يمكن التعليق على ما ذكروه بأنَّه خلط بين الإقتصاد كعلم يبحث عن جميع المشاكل الإقتصادية وبين النظم الإقتصادية, والإسلام من أهم النظم الإقتصادية التي سيأتي الكلام فيها إنْ شاء الله تعالى, مع أنَّنا ذكرنا ما يتعلق باشتقاق كلمة الإقتصاد؛ فراجع.

ص: 469

والصحيح؛ إنَّه لا بُدَّ من تعريف الإقتصاد على نحو يكون جامعاً مانعاً بناءً على التعريف المنطقي ليشمل النظام الإقتصادي.

فنقول: الإقتصاد هو العلم الذي يبحث عن مصادر الثروة وكيفية إنمائها وعلاج المشاكل التي تنجم عن سوء توزيعها وفق المقررات التي تحددها القوانين الوضعية أو الإلهية, ولمزيد من التوضيح لا بُدَّ من ذكر بقية المصطلحات التي لها دخل في تحديد الإقتصاد المتوازن.

التخطيط الإقتصادي

عندما انتشر الإستعمار في القرون الوسطى, فقد سيطر التخلف في كثير من دول العالم, وعندما حصلت هذه الدول على استقلالها حصل فرق شاسع بين الركون المسطر على أنشطتها الإقتصادية وبين ديناميكية النشاط الإقتصادي في الدول الصناعية المتطورة, وبين المستوى المعيشي المنخفض فيها ومستوى المعيشة المرتفع في الدول الإمبريالية؛ فصار لزاماً تنمية اقتصاديتها بأقصى سرعة ممكنة, ولذلك لم تترك اقتصادها للسوق الحرة, حيث أنَّ النمو الإقتصادي وفقاً لهذه السوق يحتاج إلى وقت طويل جداً, فأخذت الدول المتخلفة بأسلوب التخطيط حتى تضمن استغلال مواردها الإستغلال الأمثل لتحقق أفضل معدل لنمو ناتجها القومي, وبالتالي دخلها القومي, كما تضمن حسن توزيع هذا الدخل القومي بين فئات المجتمع وبين المناطق المختلفة في الدولة, وبذلك يتحقق تقدم المجتمع نحو الأهداف المنشودة من دون صراع فئوي من جهة كثر الوفرة في بعض المناطق, بينما تكون المناطق الأخرى محرومة.

وتتضمن عملية التخطيط مراحل ثلاث:

1- وضع الخطة الشاملة المتكاملة لجميع النشاطات الإقتصادية في تحمل مسؤوليتها جهاز التخطيط المركزي ومختلف الإدارات التي تشترك في التنفيذ.

ص: 470

2- تنفيذ الخطة وفقاً لما هو محدد لها, ومتابعة التنفيذ للتعرف على المشاكل التي يمكن أنْ تعترض التنفيذ, ووضع الحلول لها حتى يمكن أنْ يتمّ تحقيق جميع الأهداف المحددة بجميع أوصافها.

3- تقييم النتائج التي يمكن التوصل إليها في نهاية المدة المحددة للخطة؛ للإستفادة منها عند إعداد الخطة التالية.

لكن لا بُدَّ من التنويه إلى نجاح التخطيط كأداة لتحقيق التنمية السريعة لا يتوقف فقط على المعرفة العلمية الصحيحة بالمسائل الإقتصادية, وإنَّما يتوقف على إيمان المجتمع بكلِّ فئاته بالتنمية الإقتصادية وبالتخطيط كأسلوب لتحقيق هذه التنمية, ولذلك يجب أنْ يحسَّ كلُّ فرد بأنَّ التنمية العملية يجب أنْ تكون تابعة من داخل كلِّ فرد في المجتمع حتى يتكاتف مع الآخرين على إنجاحها.

وقد عرفت في مبحث العلمانية أنَّها تدخل في وضع الخطط الإقتصادية وهيمنة الدولة عليها، وتدخل الدول الإمبريالية في كثير من مفاصلها وإفشالها إنْ أرادت ذلك.

الريع الإقتصادي

الريع (لغةً): بمعنى الزيادة والنماء, بل مطلق العائد, وقد يطلق على فضل كلِّ شيء على أصله, نحو ريع الدقيق؛ وهو فضله على كيل البُرّ, وبهذا المعنى أخذه الإقتصاديون فقالوا في تعريفه بأنَّه: الزيادة فيما يدفع لعنصر إنتاجي معين من الكسب البديل له، أي عن كسب تحوله إلى نشاط آخر يمكن أنْ يقوم به.

مثال ذلك: إذا كان لدينا قطعة أرض تحقق إيراداً يساوي خمسة آلاف دينار من زراعتها, لكن بتحويلها إلى البناء أصبحت تحقق إيراداً يساوي خمسة عشر ألف دينار؛ فإنَّ بذلك يكون ريعها الإقتصادي يساوي عشرة آلاف دينار.

ص: 471

وأمّا في العرف فإنَّه يطلق على كلِّ ربح, فإنَّ الأجرة التي تؤخذ من إيجار مسكن أو أرض يسمى ريعاً.

فإذا افترضنا أنَّ أحد أصحاب المحلات التجارية المستأجر محلاً بإيجار بسيط لمدة معينة, ثم زادت حركة البناء والعمل في المنطقة بحيث أصبحت مأهولة, وزادت مبيعات المحلّ واستطاع أنْ يبيع بأسعار مرتفعة نتيجة ذلك؛ فإنَّه في هذه الحالة يحقق لصاحب المحل عائداً, ويعدّه العرف ريعاً.

ولكن في الإقتصاد يعدّونه شبه الريع, وذلك لأنَّ كلَّ عائد تحصل عليه مؤسسة ما أو عنصر إنتاجي معين يعتبر ربحا استثنائياً في الأجل القصير, ولكنه يصبح تكلفه حقيقية في الأجل الطويل, فهو ريع إقتصادي ولكنه شبيه بالريع, حيث بعد انتهاء فترة الإيجار يمكن أنْ يطالبه صاحب البناء برفع الإيجار, فقد يضطرّ إلى قبوله وإلا ترك المحل, لذلك تصبح هذه الزيادة في الإيجار جزء من التكاليف, حيث أنَّها تكلفة الفرصة الضائعة, وبذلك تحول الريع الذي كان قد حققها في الأجل القصير إلى تكلفة الفرصة الضائعة.ومثل ذلك أيضاً في الأجل القصير ما إذا كانت الأسعار مرتفعة؛ فيحقق المنتجون ربحاً استثنائيا, ولكنه (شبه ريع) يتلاشى تدريجيا في الأجل الطويل بسب دخول منتجين جدد وتزايد العرض الكلي وانخفاض السعر.

وبذلك قسم الإقتصاديون العائد إلى قسمين:

1- ريع؛ وهو ما إذا كان العائد يتحقق في الأجل الطويل. مثل الريع الذي يحصل عليه مشاهير العلماء والأطباء والمهندسين, وريع الأرض والمباني النادرة.

2- شبه ريع؛ وهو ما إذا كان عائد الندرة المؤقتة لإنتاج معين أو لعنصر إنتاجي معين, وهو بذلك يترتب على عدم التوازن المؤقت. وقد تقدمت أمثلته.

ص: 472

وأيَّاً كان؛ فإنَّ العرف يرى جميع ذلك من الربح والريع مطلقاً وإنْ ترتب عليه النقص بعد مدة. وعلى ذلك بيَّن الفقهاء الحكم الفقهي في الصدقات الواجبة إلا في صورة واحدة؛ وهي ما إذا استلزم انخفاض الريع الضرر؛ فإنَّه حينئذٍ له حكم آخر؛ كما سيأتي بيان في محله إنْ شاء الله تعالى.

النشاط الإقتصادي

وهو فرع من فروع علم الإقتصاد ومن فكره, ويعنى به: تحليل حركة النشاط الإقتصادي مع الزمن, سواء كان منطلق هذا النشاط السوق أم المؤسسة أم المجموع الإقتصادي.

والمراد به كون التحليل للنشاط الإقتصادي بحيث يقوم على أساس تحقيق التوازن وجريان العمل للوصول إليه, فإذا تحقق التوازن فإنَّ العمل يقع على استقرار وعدم التغيير إلا بالانتقال إلى توازن جديد, ولا بُدَّ في تحليل هذا النوع من دراسة العلاقات بين المتغيرات المختلفة, كما يفترض توفر الشروط التي تحققها حتى يتحقق التوازن بين هذه المتغيرات.

وأمثلة ذلك كثيرة؛ منها: تعادل العرض والطلب، وتعادل الإيراد الحدّي والتكلفة الحدية، وتعادل الإدّخار والاستثمار, وغير ذلك.

وبعد ذلك يتركز التحليل حول خصائص النشاط الإقتصادي ودراسته بجدّ بعد تحقق التوازن, فإذا تحقق توازن المؤسسة مثلاً لا بُدَّ من دراسة النتائج التي تترتب على ذلك وفقاً للفرضيات الإقتصادية التي اعتبرت أساساً لهذا التوازن, فمثلاً يلاحظ ما هي النتائج إذا كان الأساس هو سوق تسودها المنافسة الكاملة؟ وما هي النتائج إذا كان الأساس هو سوق يسودها الإحتكار؟.

وحينئذ نلاحظ أنَّ التوازن بهذه الطريقة في التحليل يعتبر توازناً مستقراً لا يتغير إلا إذا تغيرت العلاقات الأساسية التي يقوم على أساسها.

ص: 473

لكن الذي يلاحظ على هذه الطريقة أنَّ كلَّ شيء في الواقع يكون متغيراً مع الزمن, فلا يبقى توازن مستقر, ومن أجل ذلك ظهر الإقتصاد الديناميكي.وكيف كان؛ فإنَّ هذا النوع من التحليلات ساعد في توضيح كثير من المسائل الإقتصادية.

وهنالك اقتصاد حركي(1) يقوم على أساس العلاقات التي من المؤكد اعتمادها على الزمن, والتي تتضمن متغيرات ممكن تغييرها مع الزمن, كما في الإقتصاد الجزئي الذي يبدو أنَّ التحليل العنكبوتي يقدم لنا أنموذجاً للتحليل الديناميكي الذي يوضح مجرى التغيير في السعر والإنتاج خلال الزمن.

كذلك الأمر في نظرية النمو الإقتصادي؛ فإنَّه يجري تحليل العوامل التي تؤدي إلى تغيير الدخل القومي مع الزمن والتي تحدد معدل هذا التغيير.

كذلك في نظرية الدورة التجارية؛ يجري تحليل العوامل التي تؤدي إلى التقلبات الدورية في الدخل القومي خلال الزمن.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ الفكر الإقتصادي لا يزال معنياً بتحقيق التوازن لهدف أساسي, وإنَّ أهمية الإقتصاد الديناميكي لا تظهر إلا من معالجة مسائل إقتصادية كثيرة تتعرض للتغيير خلال الزمن, ولا يمكن دراستها وتحليلها إلا باستخدام هذه الطريقة في التحليل, ولا يكفي في هذا الإقتصاد مجرد ترك فكرة التوازن والعوامل المؤثرة فيه وعليه, ولا يخفى على العالم الخبير أنَّ الأديان الإلهية -ولا سيما دين الإسلام- قد اهتمَّت بالجوانب التنظيمية في الإنسان, وقد حثَّ الإسلام على تنظيم الإنسان؛ حالاته ونشاطاته وفق ما يراه صالحاً له ويجلب السعادة, وإنَّ الدين يصلح ما يكون موجباً لشقائه, ومن هنا لا يعارض الإسلام النشاط الإقتصادي وإنَّما دور الدين تصحيح مساره إذا كان فيه ما يخالف التشريع الإلهي,

ص: 474


1- ديناميكي.

فإذا أدّى الفكر إلى نشاط اقتصادي وتنظيم حالته الإقتصادية للفرد والمجتمع فإنَّه يمكن أنْ يقع مورد إمضاء الدين؛ فإنَّه لا يخالف الأعراف والعادات وسيرة العقلاء إذا لم تكن مخالفة للشريعة, وهذا ما سنبينه في مستقبل الكلام إنْ شاء الله تعالى.

الكفاية الإقتصادية

تعتبر الكفاية الإقتصادية من مصاديق النشاطات الإقتصادية ومن فروع علم الإقتصاد.

والكفاية الإقتصادية تتحقق من جهتين؛ إحداهما: الكفاية الإنتاجية التي تتعلق بطريقة توزيع الموارد النادرة في المجتمع وعناصر الإنتاج على النشاطات الإقتصادية التي تنتج السلع والخدمات المختلفة, بحيث نستطيع أنْ نقول إنَّ موارد مجتمع ما قد وزعت بكفاءة -إذا لم يمكن تغيير هذا التوزيع- دون أنْ يؤدي ذلك إلى أنْ يصبح بعض أفراد المجتمع في وضع أسوأ عمّا كانوا عليه قبل التغيير,وأمّا إذا أدّى التغيير إلى أنْ يفيد البعض ولم يحدث ضرراً للبعض الآخر يكون التوزيع للموارد أقل كفاءة.

وقد اصطلح على هذا المفهوم في الكفاية الإنتاجية ب-(مفهوم بارينو), وقد عنيت المدرسة الخاصة باقتصاديات الرفاهية بدراسة الشروط التي يجب تحقيقها حتى يمكن أنْ يتحقق التوزيع الأمثل, أي الأكثر كفاءة للموارد الإنتاجية بين النشاطات الإقتصادية المختلفة.

وكانت نتيجة هذه الدراسة التوصل إلى بعض الإقتراحات فيما يتعلق بالعوامل التي يمكن أنْ تضرّ بهذا التوزيع الأمثل كوجود الإحتكار في الإنتاج أو في الشراء, والضرائب غير المباشرة, ونحو ذلك.

أمّا الجهة الأخرى فهي: الكفاية الإنتاجية المراد بها تحديد أفضل كمية من المستخدمات الإنتاجية التي يمكن الجمع بينها لإنتاج حجم معين من الإنتاج عل أساس تكنولوجيا الإنتاج السائدة في صناعةٍ ما وعلى أساس أسعار هذه المستخدمات, فإنَّه على أساس أسعار

ص: 475

المستخدمات الإنتاجية يمكن تحديد التكلفة الكلية لكلِّ مجموعة من هذه المستخدمات واختيار ما هو أقلّ كلفة, وعلى ضوئه يلاحظ أنَّ الكفاية الإنتاجية تربط بين الإنتاج والتكاليف, وذلك على أساس كميات المستخدمات اللازمة وأسعارها في السوق, وبذلك يمكن تحقيق إنتاج معين بأقل تكلفة ممكنة, أو تحقيق أكبر إنتاج ممكن بتكلفة معينة.

وأمّا تعليقنا على هذه الخطوة الإقتصادية فإنَّها بكلتا زاويتيها هي من البرمجة الإقتصادية, التي ترجع إلى إصلاح الإنتاج والتوزيع, ومثل البرمجة لا يعارضاها الدين والشريعة الغراء, إذ أنَّ المطلوب هو إقامة القسط وإصلاح المجتمع, والإسلام لا يعارض ذلك, وقد سنَّ أحسن التشريعات في هذا السبيل مع مراعاة الجانب المعنوي والروحي للإنسان.

النمو الإقتصادي

اشارة

لا ريب أنَّ النمو المتواصل في الطاقة الإنتاجية للمجتمع تؤدي إلى نمو الدخل القومي, ومن أجل ذلك اهتمَّ الفكر الإقتصادي في تحليل النمو الإقتصادي, وأصبح الدور الهام في الإقتصاد الحديث خلال العقدين الأخيرين.

فإنَّ الإهتمام بمشاكل الدول النامية وعدم قدرة الأدوات التقليدية الإقتصادية لتحليل تلك المشاكل مِمّا أدّى إلى شيوع مجموعة متكاملة النظريات التي تتعلق بدراسة مشاكل النمو الإقتصادي.

كما إنَّه من ناحية أخرى أدّى التوظيف الكامل بالاهتمام بالدول الرأسمالية الصناعية إلى السؤال عن العوامل التي تحدد معدل نمو اقتصاد ما من عام إلى آخر, والفكر الإقتصادي لم يصل بعد إلى إجابة محددة على هذا السؤال, مع أنَّه هنالك اتّفاق عام على أنَّ معدل النمو يتوقف على عوامل كثيرة؛ منها: معدل نمو القوة العاملة, ومنها: معدل التقدم العلمي والتكنلوجي, ومنها: التقدم في مهارة القوةالعاملة والكفاية التنظيمية وغير ذلك من العوامل التي بيّناها في المواضع المناسبة.

ص: 476

وقد ذكر بعض الباحثين أنَّ النظريات في النمو الإقتصادي قد بقيت حتى اليوم تتميز بالتجريد والشكلية؛ حيث أعطت الإهتمام الكبير لدراسة الخصائص الرياضية لنماذج النمو التي تقدمها دون الإهتمام بارتباطها بالواقع التجريبي, ومن أمثلة هذه النماذج نموذج (هارود-ودومار).

إنَّ الإهتمام العام بالنمو الإقتصادي ينبع من المقارنة بين ارتفاع معدل النمو وبين ارتفاع مستوى الرفاهية في المجتمع إذا بقيت العوامل الأخرى على ما هي عليه.

مع أنَّ هذه المقارنة لم تكن متوقعه في بعض البلدان فإنَّ المقارنة بين معدل النمو ومعدلات النمو في بعض الدول توحي بأنَّ معدل الرفاهية لا يرتفع في بريطانيا بالسرعة المتوقعة.

ويجيب بعض الإقتصاديين على هذه الملاحظة بقولهم: إنَّ الشعب البريطاني يفضل الإستهلاك الحاضر بالمقارنة مع المستقبل, أي أنَّ معدل تفضيله الزمني أكثر ارتفاعاً من الدول الأخرى, لذلك يتميز الإقتصاد البريطاني بمعدل منخفض نسبياً, ولذلك يعتقد الإقتصاديون أنَّ الشعب البريطاني يجب أنْ يقلل من استهلاكه الحاضر حتى يمكن أنْ يزيد الإدّخار والاستثمار تبعاً لذلك حتى ينمو الإقتصاد البريطاني بمثل السرعة التي ينمو بها اقتصاد الدول الأخرى.

ولكن ذلك لا يحلّ المشكلة, ولذا اعتبره بعض الإقتصاديون أنَّه تفكير سطحي فقط, لأنَّه يتجاهل الخسائر الفادحة التي أصيب بها الإقتصاد البريطاني بسبب الحروب, لا سيما الحرب العالمية الثانية وظهور ألمانيا واليابان كدول صناعية قوية تنافس بريطانيا منافسة حادة تجعل اقتصادها لا يمكن أنْ ينمو بالمعدل المطلوب.

فقد غيَّر التطور الإقتصادي بعد الحرب الكونية الثانية -والذي شمل العالم أجمع- الظروف التي كانت سائدة قبل الحرب, والتي كانت تساعد الإقتصاد البريطاني على النمو بمعدلات مرتفعة للغاية, فقد بلغ الإقتصاد البريطاني مرحلة الشيخوخة ويحتاج إلى تغييرات جوهرية.

ص: 477

ومن أجل ذلك كلّه فقد انتقد البعض الإهتمام الزائد بموضوع النمو الإقتصادي وعلاقته برفاهية المجتمع, فإنَّ هذه الرفاهية ينحصر نموُّها بالنموّ الإقتصادي, فإنَّ هنالك أسباب أخرى عديدة؛ منها: تلوث البيئة وتكاليفه, ومنها: المناظر الطبيعية الجميلة التي تحولت إلى مجتمعات صناعية قذرة وتكاليفها, ومنها: الحروب المصطنعة, وغيرها.

ومن دون إزالة هذه العوالق لا تكون هذه الرفاهية الإجتماعية إلا مجرد وهم.

مراحل النمو الإقتصادي

ذكر علماء الإقتصاد خمس مراحل يمرُّ بها النمو الإقتصادي في المجتمعات المختلفة؛ إبتداءً من المجتمع الزراعي الفقير إلى المجتمع الصناعي المتقدم, وقد عالج (روستوك) المراحل في كتابه المعروف (مراحل النمو الإقتصادي), وهذه المراحل هي:

1- المجتمع التقليدي؛ حيث أنَّ التمسك بالتقاليد الإقتصادية والإجتماعية المتوازنة يؤدي إلى انخفاض إنتاجية الفرد وعدم قابليتها للزيادة, وهذا الإنتقاد إنَّما يصحُّ فيما إذا اقتصر على نفس الأدوات الإنتاجية مع ازدياد الحاجة إلى الإنتاج نظراً إلى ازدياد الكثافة السكانية, ولكن لو أمكن تطوير الأدوات والوسائل الإنتاجية واتّساع رقعة المساحة التي يمكن استغلالها في الإنتاج فإنَّه يمكن التغلب على المشكلة التي ذكروها بشرط عدم إهمال الجوانب الأخرى التي لها الدخل في الإنتاج.

2- مرحلة تواجد الشروط الأساسية لإقلاع النشاط الإقتصادي في عملية النمو؛ وهي مرحلة عبور المجتمع وتغلبه على الأنظمة التقليدية التي كانت تحول بينه وبين بدء النمو, وبذلك يستطيع الإستفادة من ثمار التقدم العلمي والتكنولوجي.

لكن عرفت أنَّ نفس النظام التقليدي لم يكن سلبياً لوحده إلا إذا انظمَّ إليه بعض العوامل الموثرة في تطور هذه السلبية, فإذا أمكننا إزالتها يمكن الإستفادة من النظام التقليدي في بعض الجوانب التي قد لا يمكن النظام الجديد معالجته.

ص: 478

3- مرحلة الإقلاع؛ وهي المرحلة التي يكون فيها المجتمع قد تخطى نهائياً جميع العقبات التقليدية والمقاومة للنموّ المستمر, وبذلك يصبح النشاط الإقتصادي قادراً على توليد استثماراته الخاصة وعلى تطوير تكنولوجيا إنتاجه وفقاً للظروف الخاصة وبمعدلات مرتفعة كافية لجعل النمو يدفع نفسه بنفسه.

لكن سيأتي أنَّ صبَّ الإهتمام على زيادة الإنتاج وتوليد الاستثمارات من أجل النمو المستمر لا يبرر ترك النظام التقليدي إذا كان مفيداً في جودة الإستثمار ودقَّة الإنتاج, فيمكن الإستفادة من التجارب التقليدية في تحسين الكيفية مقابل زيادة الكمية بسبب التطور العظيم في التكنولوجيا.

4- الإتّجاه نحو النضوج؛ حيث النمو متواصل, وحيث يجري تطوير صناعات جديدة ويقل الإعتماد على الواردات, ويزيد الإتّجاه نحو التصدير بحيث يصبح لدى المجتمع القدرة على استيعاب وتطبيق ثمار التقدم العلمي والتكنولوجي بكفاية متزايدة, لكن يمكن لنا التعليق على ذلك بأنَّ النضوج التامّ إنَّما يحصل في تحسين الكمّ والكيف والاستفادة من التجارب التي أثبت الزمان صحَّتها ونفعها ولو مع التطور الهائل في العلم والتكنولوجيا.

5- مرحلة تقدم الإستهلاك الجماهيري؛ حيث يجتمع الكثرة بالنسبة للسلع المعمرة والسلع الإستهلاكية المتطورة, وحيث يصبح إنتاج السلع والخدمات الإستهلاكية هي القطاعات التي تقود النشاط الإقتصادي في المجموعة.

وقد ذكروا أنَّ هذا التحليل يساعد لمراحل النمو الإقتصادي في التوصل إلى نتيجة هامة وهي: إنَّ المساعدات الإقتصادية يجب أنْ تمنح للمجتمعات التي تمر بمرحلة قبل الإقلاع لمساعدتها على الإنتقال إلى مرحلة الإقلاع, حيث أنَّه إذا تحقق ذلك تصبح هذه المجتمعات أكثر حركة وديناميكية, وبذلك يتناقص احتياجها إلى المساعدة.

ص: 479

ولكن لا يخفى أنَّ هذه النتيجة مرتبطة تماماً بالنظرة العلمانية للإقتصاد؛ حيث جعلت الإنسان إنساناً منتجاً ومستهلكاً فقط كما تقدم بيان ذلك, ولعله لأجل ذلك لم يلقَ تحليل مراحل النمو الإقتصادي استجابة واسعة بين الإقتصاديين المعنيين بالتنمية الإقتصادية, لأنَّه يبدو أنَّه تحليل سطحي ومبهم وغير متكامل عندما تحلّ المشكلات ونربطها بعمليات التنمية في المجتمعات النامية, لأنَّه لم يساعد ذلك في حل تلك المشاكل.

الحرية الإقتصادية

إنَّ القيود التجارية -لا سيما تلك التي كانت مفروضة في القرون الوسطى- قد أعاقت كثيراً من النشاطات الإقتصادية -لا سيما إنتقال المجتمع من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي الصناعي-, وهي مفروضة من الدول الكبرى الصناعية على الدول النامية حتى عصرنا الحاضر, وهي تعيق التقدم الإقتصادي للدول, ولذلك بدأت المطالبة بإلغاء هذه القيود وأصبح شعار العصور المختلفة منذ العصور الوسطى حرية العمل وحرية التجارة.

وقد ترتب على ذلك أنْ كان أحد أركان الفكر الإقتصادي الكلاسيكي عدم تدخل الحكومة في النشاط الإقتصادي للأفراد؛ باعتبار أنَّ تدخلها يعوق المجرى الطبيعي المفيد للفرد والمجتمع في مجموعه, وقد ظلَّت هذه السياسة مسيطرة على الفكر الأوروبي حتى منتصف القرن التاسع عشر؛ حيث بدأت الحرية المطلقة تمنع رجال الأعمال في نشاطاتهم الإقتصادية مثل الإحتكار بأشكاله المختلفة, ومثل التقلبات الإقتصادية بتبني عدم التخطيط والتوجيه, ومثل استغلال العمال -وخاصة في المستعمرات- إستغلالاً بشعاً.

ومن أجل ذلك اضطرت الحكومات إلى التدخل بإصدار بعض القوانين المنظمة للعلاقات الإقتصادية بين العمال وأصحاب العمل, والتي تحدُّ من الإحتكار من دون أنْ تقضي عليه,

ص: 480

ثم حلت الأدوار التجارية العنيفة التي أصابت النشاط الإقتصادي بأزمات حادة, مِمّا تترتب عليه بطالة أعداد كبيرة من العمال, إلى أنْ جاء (كينز)بنظريته؛ حيث وضعت المبررات لتدخل الحكومات بكلِّ الوسائل الممكنة, ومن خلال سياستها المالية وسياستها النقدية حتى تحافظ على إستقرار النشاط الإقتصادي ونموه المتوازن.

وقد اتَّبعت كثير من الدول تلك النظرية الكنزية وأثمرت إلى درجة كبيرة حتى أصبحت أساساً للأنظمة الإقتصادية في معظم دول العالم.

وقد تقدم في مبحث العلمانية أنَّ نظرية (كينز) أدَّت إلى آثار سيئة من نواحٍ أخرى, ومن المهم في المقام أنْ نوضح أنَّ الإسلام ضَمنَ الحرية الإقتصادية, وكانت الشريعة هي الضامنة في تصحيح مسار هذه الحرية, والفقه والإسلام هو الذي حدَّد المنهج القويم في حلِّ المشكلات التي تنجم من هذه الحرية.

الإحتكاك الإقتصادي

من الواضح أنَّ التغييرات الإقتصادية في مقام التطبيق لا يمكن أنْ تتحقق بكلِّ سهولة وسلاسة وانتظام؛ التي تعتبر الأسس في التحليل الإقتصادي النظري؛ حيث أنَّه لا بُدَّ من أنْ توجد اختناقات وضغوط وعوائق تجعل التغيرات تحتاج إلى وقت طويل حتى تطبق, كما تحتاج إلى خبرة الإقتصاديين لإيجاد الحلول لها.

وهذه الإختناقات والضغوط والعوائق والبطء هي ما يسمى في لغة الإقتصاد بالاحتكاك الإقتصادي.

ومن جملة الإحتكاك الإقتصادي وقوع التجمعات الصناعية داخل المدن والوحدات السكنية أو المرافق المختلفة, مِمّا يجب معالجتها بإنشاء تلك التجمعات الصناعية في مناطق بعيدة عن المدن لتخفيف ازدحامها بشروطها المطلوبة.

ص: 481

ومِمّا يجدر التنبيه إليه هو أنَّ هذا الإحتكاك الإقتصادي له مناشئ مختلفة يجب معالجة كلّ واحدة منها بقوانين وإرشادات خاصة, وإذا كان تحت إشراف أهل الإختصاص والفقهاء حتى لا تصطدم تلك الحلول بالشريعة فيكون اختناقاً آخراً.

السلعة الإقتصادية

والمراد بها: كلُّ شيء يمكن أنْ يشبع رغبة من رغبات الإنسان, سواء سلعة أم خدمة أم منفعة.

وبعبارة أخرى: كلُّ ما يمكن أنْ يُشبع حاجة من حاجات الإنسان, بشرط أنْ يكون في نفس الوقت له طلب وعرض في السوق, وبذلك يكون له ثمن, وهذا خلاف للسلع الحرة التي تكون لها منفعة ولكنها توجد في الطبيعة بكمية تفوق حاجة الإنسان لها, وهي إنَّما سميت حرة لأنَّه ليس لها عرض في السوق وليس لها ثمن, والسلعة الإقتصادية -بهذا المعنى- أخصّ من السلعة الفقهية التي سيأتي الكلام فيها إنْ شاء الله تعالى.

أقسام الإقتصاد

وهي كثيرة, أهمها:1- الإقتصاد القومي

يشير هذا الإصطلاح إلى النشاط الإقتصادي في مجوعة متضمناً النشاطات الإقتصادية المختلفة التي يشملها التصنيف الدولي الموحد للنشاط الإقتصادي.

وبعبارة أخرى: الإقتصاد القومي هو الذي توزع فيه موارد المجتمع بين قطاعات النشاط الإقتصادي وفروعه المختلفة وفقا لقواعد السوق الحرة, وهذه القطاعات هي:

أ- الزراعة والصيد والقنص.

ب- المناجم والمحاجر والنفط.

ج- الصناعات التحويلية.

ص: 482

د- الصناعات الإنشائية والبناء.

ه- إنتاج الكهرباء والغاز.

و- المرافق العامة.

ز- الخدمات المالية وخدمات التوزيع (التجارة).

ح- الخدمات الشخصية وخدمات الترفيه.

ط- النشاطات الحكومية.

ي- نشاطات أخرى لا تدخل في البنود السابقة.

2- الإقتصاد الحركي (الديناميكي)

ونعني به تحليل حركة النشاط الإقتصادي مع الزمن, سواء كان هذا النشاط خاص بالسوق أم بالمؤسسة أم بالنشاط الإقتصادي في مجموعة, ويقابل ذلك الإقتصاد الستاتيكي الساكن؛ الذي يقوم على أساس أنَّ تحقيق التوازن يجري العمل للوصول إليه, فإذا تحقق ينظر إليه على أنَّه سوف يستقر ولن يتغير إلا بالانتقال إلى توازن جديد, وقد تقدم الكلام في ذلك تحت عنوان النشاط الإقتصادي.

3- الإقتصاد الحر

أو (إقتصاد السوق الحر), وهو الإقتصاد القائم على المشروع الحرّ, أي الرأسمالية, وهي النظام الإقتصادي الذي يعتمد على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج أو تأجيرها من قبل الأفراد وتشغيلها لحسابهم الخاص, وذلك في ظلِّ الحرية الإقتصادية وحرية الإستهلاك وحرية إنتاج السلع المختلفة وحرية اختيار العمل بهدف تحقيق الربح أو أعلى عائد ممكن, وسيأتي دراسة مفصلة لهذا النظام الإقتصادي إنْ شاء الله تعالى.

ص: 483

4- الإقتصاد الإشتراكي

وهو الإقتصاد المبني على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وتوزيعه, وهو نظام يقابل النظام الرأسمالي الذي سيأتي تفصيل الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

5- الإقتصاد القياسي

وهو الإقتصاد الذي يقوم على استخدام الأدوات الرياضية والإحصائية في التحليل الإقتصادي؛ حيث تبدأ الدراسة الإقتصادية القياسية لأي مسألة اقتصادية بتركيب نموذج رياضي يشتمل على المتغيرات المختلفة الداخلية والخارجية التي يرى الباحث ضرورة أنْ ينضمها النموذج, والخطوة التالية تحديد شكل العلاقات بين هذه المتغيرات المختلفة واختيار المعادلات التي تعبر عن هذه العلاقات, مع تحديد أيٍّ من المتغيرات سوف يعتبر مستقلاً وأيّها سوف يعتبر تابعاً عند معالجة نموذج الدراسة, ثم على أساس أفضل البيانات الإحصائية المتوفرة وباستخدام الأساليب الإحصائية وحسب قيم النماذج, ثمَّ باستخدام أساليب الإستنتاج الإحصائي نختبر الفرضيات التي يبتني النموذج عليها, وذلك للحكم عليها؛ هل نقبلها أم نرفضها, ومن ذلك يظهر أنَّ الإقتصاد القياسي يعني بالدرجة الأولى اختبار صحة النظريات الإقتصادية, وبالتالي يقدم أساساً على التنبؤات الخاصة بالظواهر الكمية.

6- الإقتصاد الجزئي والإقتصاد الكلي

تقسم النظرية الإقتصادية في الوقت الحاضر إلى جزئين:

الإقتصاد الجزئي والإقتصاد الكلي

والفرق بينهما يبتني على مستوى التجميع الذي على أساسه تدرس الظواهر الإقتصادية, فالاقتصاد الجزئي هو الذي يعني بدراسة قرارات الوحدات الفردية (المستهلك, الأسرة

ص: 484

والمؤسسة), وكيف تتفاعل قرارات هذه الوحدات المختلفة لتحديد الأسعار النسبية للسلع والخدمات والكمية التي تباع وتشترى منها, والهدف النهائي من هذه الدراسة هو التعرف على العوامل المختلفة التي على أساسها يجري توزيع الموارد الإنتاجية التي يمتلكها مجتمع ما بين استخداماتها المختلفة, ومن الواضح أنَّ السوق يشكل المفهوم المركزي للإقتصاد الجزئي, حيث يجري فيه التعامل في السلع والخدمات وعناصر الإنتاج.

والإقتصاد الكلي هو الجزء الآخر من الفكر الإقتصادي الذي يعني أساساً بدراسة العلاقات بين المتغيرات الإقتصادية الكلية؛ وأهمها: الدخل القومي, والإنفاق الاستهلاكي الكلي, والإدّخار الكلي, والاستثمار في المجموعة, والتوظيف الكلي, وكمية النقود, والمستوى العام المتوسط للأسعار, وميزان المدفوعات.

والهدف الأهم لهذه الدراسة هو تفسير العوامل التي تحدد قيم هذه المتغيرات الكلية ومعدل التغير فيها من عام إلى عام, وكذلك تهدف هذه الدراسات إلى تحليل الدور الذي يلعبه الإنفاق الحكومي والضرائب والسياسة النقدية في تحديد المستوى العام للنشاط الإقتصادي, أي مستوى الدخل القومي والتوظف, وغيرها.ثم تتطرق هذه الدراسة إلى التعريف والتحليل التفصيلي للعلاقات بين المتغيرات الإقتصادية الكلية, وذلك للتوصل إلى معرفة الظروف التي يكون فيها النشاط الإقتصادي في مجموعة في حالة توازن مستقر (ستاتيكي), أو في حالة توازن حركي (ديناميكي), وخصائص كلُّ حالة من حالات التوازن, ويساعد ذلك على التغير في التنبؤ بالنتائج التي يمكن أنْ تترتب على التغير في أيٍّ من التغيرات الكلية كالاستثمار والإنفاق الحكومي, وتعتبر دراسات (كينز) بداية الدراسات الإقتصادية الكلية.

ص: 485

7- الإقتصاد التبادلي

إنَّ النظام الإقتصادي إذا قام على أساس التخصص وتقسيم العمل فإنَّه يعدُّ الأفراد في حاجة إلى التبادل؛ إمّا عن طريق المقايضة, وإمّا عن طريق استخدام أداة معينة تلقى قبولاً عاماً في التبادل في الأسواق, وقد تطورت أدوات التبادل حتى وصلت إلى النقود الورقية الإلزامية التي تستند إلى قوة الإبراء القانونية, والتي تستمد قوتها من الطاقة الإنتاجية للمجتمع عندما تكون قادرة على سدِّ حاجات الأفراد وعلى تصدير بعض الفائض إلى الخارج, ولا يمكن أنْ يوجد في الوقت الحاضر نظام إقتصادي لا يلعب فيه التخصص دوراً هاماً وشاملاً, ولا تلعب فيه النقود دوراً أساسياً كأداة للتبادل؛ بحيث إنَّ جميع الأنظمة الإقتصادية تعتبر أنظمة إقتصادية تبادلية.

8- الإقتصاد المختلط

وهو الإقتصاد الذي يتضمن عناصر مشتركة بين المشروع الخاص والمشروع الحكومي, والإقتصاد البريطاني نموذج هذا النظام؛ حيث يوجد قطاع خاص كبير ومجموعة من الصناعات المؤلفة, ولكن يمكن القول بأنَّه في الوقت الحاضر أصبح كل نظام إقتصادي نظام مختلط إلى درجة معينة؛ فالاقتصاد الإشتراكي يحتوي على قدر بسيط من المشروعات الخاصة, بينما الإقتصاد الرأسمالي يحتوي على قدر معين من الصناعات التي تديرها الدولة.

9- الإقتصاد المغلق

وهو الإقتصاد الذي لا يلعب دوراً في التجارة الدولية, وبذلك لا يتضمن نشاطات خاصة بالصادرات أو الواردات, ومن المفروض أنَّ هذا الإقتصاد لا يمكن أنْ يوجد في الواقع, ولكن هذا الافتراض يكون بسيطاً عند دراسة المتغيرات كالإنفاق الاستهلاكي والاستثمار والإنفاق الحكومي والضرائب؛ فإنَّ هذه المتغيرات الإقتصادية تتفاعل سوياً لتحديد

ص: 486

مستوى الدخل القومي والتوظيف, ومثل هذه الدراسة هي إحدى الوسائل التي تستخدم في الإقتصاد؛ حيث يبدأ التحليل بنموذج مبسط للغاية ثم يتدرج بإدخال متغيرات إضافية تؤدي إلى تعقيد النموذج الواقعيإذا استوعب صاحب الدراسة النماذج المبسطة, لكن لا بُدَّ من التنبيه إلى أنَّ الوصول إلى النموذج الواقعي لا يمكن أنْ يتحقق تماماً, لأنَّ النشاط الإقتصادي هو من التعقيد والشمول لكثير من المتغيرات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية بحيث لا يمكن تركيب نموذج يشملها جميعاً, لا سيما إذا علمنا بأنَّ بعض هذه المتغيرات لا يمكن قياسه والتعبير عنه يكون رقمياً ضمن النموذج, ومن ذلك يظهر أنَّه مهما تقدمنا في الدراسة لا يمكن أنْ يكون نموذج التحليل واقعياً تماماً على أساس الأدوات العلمية المتاحة للباحث في المرحلة الحاضرة من التطور العلمي.

10- إقتصاديات الرفاهية

يعني هذا الفرع من علم الإقتصاد بالأمور التالية:

أ- تعريف الكفاية الإقتصادية.

ب- تقييم الكفاية الإقتصادية لأنظمة معينة خاصة بتوزيع الموارد الإقتصادية.

ج- تحليل الأسس التي تبعاً لها يمكن لها الحكم على ما إذا كانت السياسة الإقتصادية المتَّبعة قد ساعدت على تحقيق الرفاهية الإجتماعية.

ويعالج الأمرين؛ الأول والثاني؛ بتحديد الشروط التي يجب أنْ تتوفر لتحقيق الغاية العظمى للكفاية الإقتصادية, ثم اختبار إلى أيِّ درجة تتَّفق بعض الأنظمة الواقعية (مثلاً النظام القائم على الأسعار) مع هذه الشروط.

أمّا الأمر الثالث؛ فيعالج بتحديد المبادئ والاختيارات التي يساعد تطبيقها على الحكم على ما إذا كانت بعض التغييرات المقترحة يمكن أنْ تؤدي إلى تحسين الرفاهية الإجتماعية

ص: 487

أم لا, ويعتبر إقتصاديو الرفاهية أنَّ هذا الفرع من علم الإقتصاد هو دراسة علمية موضوعية وليست دراسة أخلاقية, حيث أنَّه يدرس القوانين التي تحكم الزيادة أو النقص في شيء معين يسمونه ب-(الرفاهية), ولا يخفى أنَّ الإسلام لا يعارض اقتصاد الرفاهية, وقد حثّ الشرع الحنيف على ذلك فقال تعالى:(خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(1), لكن الرفاهية التي حثَّ عليها الإسلام تختلف عن الرفاهية التي يريدها الإقتصاديون؛ فإنَّ رفاهية الإسلام اقتصادٌ وخُلُق وليست رفاهية بذخ وترف واستعلاء, بل هي عند الإسلام للوصول إلى مكرمة أخلاقية من إعانة محتاج أو صلة رحم أو اجتماع لصالح الأمة ونحو ذلك, فاجتمعت في الرفاهية عند الإسلام الإقتصاد والخلق الكريم.

ثمَّ إنَّ هناك فروعاً أخرى للإقتصاد تبعاً لمتعلقه وهي: الإقتصاد الزراعي, الإقتصاد الصناعي, الإقتصاد التجاري واقتصاد النقود.

ولكن لا بُدَّ من التنويه إلى أنَّ النظام الإقتصادي الإسلامي لا يعارض تلك الأقسام والأنواع ما لم تكن مخالفة لقوانين الشرع الحنيف, أمّا ما يتعلق بالأنظمةالإقتصادية الثلاثة؛ الإشتراكية والماركسية والرأسمالية فإنَّه سيأتي الكلام فيها مفصلاً إنْ شاء الله تعالى, حيث أنَّ للإسلام نظاماً اقتصادياً خاصاً به.

الإمبريالية الإقتصادية

والمراد بها تبعية إحدى الدول اقتصادياً لدولة أخرى أكثر قوة من الناحية الإقتصادية, ويحدث هذا غالباً بالنسبة للدول النامية التي تكون في حاجة إلى رؤوس أموال تستثمر فيها ولا تستطيع أنْ تحقق هذه الأموال من مدَّخراتها الخاصة.

ص: 488


1- سورة الأعراف؛ الآية 31.

وحيث أنَّ الدول النامية تكون في الغالب منتجة للمواد الأولية والحاصلات الزراعية لذلك لا بُدَّ أنْ تعتمد على الدول الصناعية المتقدمة لتصل منتجاتها إليها.

ومن أجل ذلك يصبح للدول الإمبريالية المبرِّر لفرض سيطرتها على مثل هذه الدول النامية, سواء من الناحية التجارية المنظورة أم من ناحية حركة رؤوس الأموال, وتبعاً لذلك تستطيع الدول الإمبريالية أنْ تفرض سيطرتها على مجرى عملية التنمية في الدول النامية من حيث عرقلتها إذا أرادت, أو توجيهها وجهة معينة, أو الإحتفاظ بها كمنتجة للمواد الأولية والحاصلات الزراعية وموارد الطاقة إذا أرادت.

إنَّ التبعية أساس الصراع العالمي الإقتصادي والسياسي والعسكري حتى عصرنا الحاضر ولن تستطيع الدول النامية أنْ تكسر طوق هذه التبعية المدمرة لاقتصادها إلا بالتكامل الإقتصادي فيما بينهما وتحقيق أكبر قدر من الوحدة بين المجموعات المتتالية من هذه الدول حتى تحقق لها القوة في مواجهة الدول الإمبريالية اقتصادياً وسياسياً.

ومن المعلوم -كما سيأتي بيانه- أنَّ الإسلام قد أسَّس قواعد وأركان التكامل الإقتصادي, ولو كانت الدول الإسلامية قد اعتمدت عليها في اقتصادها لما أضحوا إلى التبعية للدول الإمبريالية, فإنَّ الدين الإسلامي كامل وإنَّما التقصير من المسلمين, لأنَّ الأنظمة لا تطبق الإسلام واكتفت بالتبعية والتبجح بها, وسيأتي بيان ذلك إنْ شاء الله تعالى.

العولمة الإقتصادية

اشارة

العولمة هي من أوضح المفاهيم الرائجة في عالمنا المعاصر, ولا سيما في العلوم الإجتماعية, بل أصبحت من أهم أوصاف الإدارة وأجزاءها, وأضحت شعاراً يتداوله السياسيون والصحافيون على اختلاف اتّجاهاتهم, والانتشار والتأكيد الواسع عليها هو مِمّا يدلُّ على أنَّنا نعيش في حقبة يتحدد فيها الجزء الأعظم من حياتنا الإجتماعية بفعل صيرورات كونية تذوب فيها كلُّ الثقافات والاقتصاديات وغيرهما مِمّا تنفرد به القوميات والشعوب المتعددة.

ص: 489

ومن أهم نتاج العولمة الكونية إيجاد اقتصاد كوني معولم يجمع كافة الاقتصادات القومية والاستراتيجيات المحلية لإدارة الإقتصاد, فيكون البحث عن كلِّ اقتصاد من مجرد النقل.

ويفيد هذا الزعم أنَّ الإقتصاد العالمي قد أصبح دولياً وبات خاضعاً لقوى سوق الجامعة, وإنَّ الشركات العابرة هي بحقِّ الفواعل الإقتصادية والأدوات الأساسية للتغيير؛ فلا تدين بالولاء لأيّ دولة بأكملها, فهي تستقر حيثما تقتضى المصلحة في السوق الكوني(1), وتعتبر عولمة الإقتصاد قلب منظومة العولممة بأكملها, والتي هي من أهم آليات العلمانية ومنظوماتها كما تقدم بيان ذلك في بحث العلمانية.

وقد اتَّخذ مؤيدو العولمة الإقتصادية خطابات تبشيرية؛ من عدالة ورفاهية وسوق حرة تكفل لجميع دول العالم النمو والسعادة والرفاهية وأصبحت للعولمة الإقتصادية منظمات عملاقة وهي: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية, وغيرها مِمّا هو كثير.

ومن أجل ذلك كلّه صار لزاماً دراسة العولمة الإقتصادية وخطابها ووعودها وخططها, وبيان أنَّها وعود مادية تنفي الخصوصية الإنسانية, وإنَّها تدور حول القيم التي جوهرها الإنسان الإقتصادي والإنسان الجسماني, وقد تقدم بيان ذلك في مبحث العلمانية.

وعود العولمة

وهي كثيرة ومتعددة الجوانب:

أولاً: وعود توحيد كلّ الأسواق

كان من وعود العولمة هو توحيد كل الأسواق لتصبح سوقاً واحدةً متنامية دائمة التوسعة والاتّساع لتشمل العالم بأسره وجميع سكان العالم وكلُّ الدول, وتصبح البحار والمحيطات

ص: 490


1- العالمي.

مجرد معابر وجسور واصلة, وتصبح الأجواء والفضاء طرقاً للتقارب والنقل والإنتقال للأفراد والسلع والخدمات والأفكار, ويصبح العالم فيه سوقاً رائجة للمنتوجات؛ مِمّا يتيح فرصاً ذهبية ومميزات للأسواق من خلال الأمور التالية:

1- لا توجد اختناقات نتيجة ندرة بعض المنتوجات, أو تكدس للسلع نتيجة الفائض أو حدوث أزمات في الأسواق, فإنَّ العولمة تعالج ذلك بسوقها المتوحد وأفكار فورية متكاملة.

2- سرعة تصريف المنتوجات وسرعة البيع وسرعة الإستهلاك؛ الناشئ من توسع الأسواق وحاجاتها وسهولة التجارة الإلكترونية.1- إمتياز الأسواق العالمية المفتوحة بالسهولة واليسر وحرية الإختيار الواسع للوكلاء والموزعين والمستهلكين.

ثانياً: وعود للمستهلكين

1- إنَّ السوق المفتوح المعولم يتيح للمستهلكين فرصة نادرة وحرية تامة لاختيار المنتج المناسب, سواء كان سلعة أم خدمة أم فكرة, وذلك بأقل الأسعار وأكبر جودة ممكنة؛ نتيجة التنافس الشديد بين الشركات.

2- إلتقاء أذواق المستهلكين؛ مِمّا يجعل هناك توحداً متزايداً يسمح باستخدام المنتوجات المعيارية والعمليات الصناعية على المستوى العام.

3- إنَّ الشركات متعددة الجنسيات وغيرها من آليات العولمة تعمل على زيادة درجة الترابط المتبادلة بين الشعوب الإنسانية والدول والحكومات, وتنمية الشعور بالإنسانية ومعاني السلام والرفاهية.

ص: 491

4- بناء قاعدة فكرية قائمة على وحدة العالم وعلى ملء فراغ القطاع العسكري الذي أحدثته الحروب العالمية وما بعدها, فإنَّ في العولمة لم تعد هنالك حروب باردة أو ساخنة.

5- معالجة أسباب القلق والخوف من الدمار الذي تسببه الحروب وفتح باب التعاون والمشاركة والاستثمار المشترك ليعيش العالم في تناغم تامّ وسلام.

ثالثاً: وعود الإنتاج العالمي

تعدُّ العولمة نتيجة للاستفادة من أساليب ووسائل الإنتاج المتقدمة وتطبيق التكنولوجيا بمميزات جدية في الإنتاج وهي:

1- الوفور الإقتصادي نتيجة زيادة حجم الإنتاج, مِمّا يوجب الإنخفاض في التكاليف المتغيرة.

2- طفرة في الإنتاج من حيث الحكم؛ الأمر الذي يرفع من اقتصاديات الحجم والنطاق والسعة للمشروعات (أي وفورات الحجم الكبير).

3- طفرة في الإنتاج من حيث النوعية والجودة ومن حيث المواصفات والخصائص, فإنَّ الإنتاج يتم حسب معيارية مسبقة, ويتحقق الأداء الراقي والإشباعي المرتفع والرضاء التام من المستهلكين.

4- طفرة في معالجة تكاليف الإنتاج مطلقاً؛ التكاليف الثابتة في الإنتاج والتكاليف المتغيرة من حيث استغلال وتوظيف قدرات التشغيل أو من حيث مستلزمات التشغيل كالطاقة المحركة ومواد الخام والآلات وغيرها, ومن حيث الوقت والزمن (عوامل الأداء والحركة والنقل).

ص: 492

رابعاً: وعود العمالةفقد وعدت العولمة العمال بمستقبل مشرق وكما يلي:

1- توظيف كامل للقوى العاملة, مع إتاحة أفضل نظم للتدرب واكتساب المعارف والتنمية القدرات وصقل الخبرات.

2- إيجاد عائد ومردود متوالٍ, ومتتاليات من الدخل, ومن تحسن الوظائف, ومن امتلاك دخول متصاعدة, وبالتالي إمكانيات هائلة على الإستهلاك وتحسين المعيشة.

3- تشجيع تطبيق الإختراعات وتشجيع قوى الإختراع, والبحث والتطوير على بذل مزيد من الجهد, واكتشاف المواهب والعباقرة ورعايتهم.

خامساً: وعود الدول النامية

إنَّ اندماج الإقتصاد العالمي سيتيح للدول النامية فرصاً جيدةً للتنمية والازدهار, مثل زيادة الطلب على منتوجاتها الأولية والزراعية التي تشجعها تلك الدول, والزيادة في التوسع في السياحة, وزيادة فرص التصنيع والإنتاج في تلك البلاد بدخول الإستثمار الأجنبي المباشر.

هذا خلاصة ما أردنا إثباته في وعود العولمة الإقتصادية في خطابها الرسمي, ولكن لنا التعليق على ذلك بما يلي:

أولاً: إنَّ العولمة الإقتصادية صورة أخرى عن الإستعمار؛ الذي كان سياسياً واقتصادياً وثقافياً, وكان الذي يقوم بهذا الدور الشركات الكبرى العالمية والحكومات الإمبريالية تحت غطاء الإقتصاد.

ثانياً: إنَّ وعود العولمة هي نفس وعود المستعمرين الذين وعدوا بها الشعوب والدول التي احتلوها واستعمروها.

ص: 493

ثالثاً: إنَّ تلك الوعود أقرب إلى الرؤى من كونها من الحقائق, ولا يمكن تطبيقها في الواقع العملي لكثرة المشاكل والاختناقات الإقتصادية التي أوجدوها بأنفسهم.

رابعاً: إنَّ تسلط الشركات العالمية والمؤسسات الدولية على النشاطات الإقتصادية للدول مِمّا يجعلها ترزح تحت سلطتها وقوانينها, فلا يصحُّ لأحد القول بوجود حرية إقتصادية للدول النامية, ويظهر ذلك بوضوح من فرض العقوبات الإقتصادية من الدول الكبرى إذا لم تقم الدول النامية من تنفيذ سياساتها والرضوخ إلى قوانينها.

خامساً: إنَّ نتيجة الحروب المصطنعة التي تثيرها الدول الإمبريالية فرض بيع الأسلحة للدول النامية؛ فإنَّها تثير الحروب لاستهلاك الأسلحة, فكيف يمكن أنْ تتحقق تلك الوعود؟.

سادساً: إنَّ العولمة الإقتصادية هي نفسها الإمبريالية الإقتصادية التي تقدم أنَّها من أجل الاستيلاء على ثروات الدول النامية والاستحواذ على منتجاتها وتبديلها بمنتجات بديلة تنتجها الشركات التي تحت رعاية الدول الإمبريالية.سابعاً: إنَّ العولمة الإقتصادية بل العولمة بجميع نشاطاتها هي محو الحضارات والثقافات والأديان وتبديلها بنشاطات بديلة قد صنعتها العلمانية لفرضها على شعوب العالم.

ثامناً: إنَّ الإسلام وإنْ ضمن الحرية الإقتصادية بين الشعوب والدول لكن هذه الحرية لا تمسّ كرامة الإنسان, ولا تحمي الثقافات المختلفة, ولا تفرض الإستغلال والهيمنة على الآخرين, فإنَّ الحرية الإقتصادية في الإسلام إنَّما جعلت لتلاقي الشعوب وانتقال الأفكار والاستفادة من تجارب الأمم لإعمار الأرض, ويدلُّ على جميع ذلك النصوص الشرعية كما سيأتي ذكرها إنْ شاء الله تعالى.

ص: 494

تاسعاً: إنَّ العولمة الإقتصادية المزعومة من أهم ركائز الإستعمار وأشدّ الوسائل في استعباد الشعوب وفرض سيطرة الدول الإمبريالية على الدول النامية بعدما لم تنجح تلك الدول الإستعمارية في إرغامها سياسياً, وفشلت في هذا السبيل بعد اتّخاذها جميع الوسائل والأساليب لمكافحة الشعوب, فالغرض من العولمة هو تهميش كل المؤسسات الإقتصادية الأخرى ما تفرضه العولمة.

عاشراً: إنَّ العولمة الإقتصادية هي الوجه القبيح للعلمانية, وقد أراد أصحابها تزيينها بتلك الوعود البراقة.

آليات العولمة الإقتصادية ومنظماتها

إتَّسمت العولمة الإقتصادية باستراتيجيات المعالم التي تسعى لتنفيذها بكلِّ الوسائل المتاحة, وقد تتنج عن استراتيجيتها منظمات عملاقة؛ إختَّصت كلٌّ منها بجانب من جوانب الإقتصاد العالمي, وعملت جميعها متآزرة من أجل تحقيق أهداف واستراتيجيات العولمة الإقتصادية. وقد اتَّخذت العولمة الإقتصادية شعار التحرير, بل قد أصبح ذلك السمة المميزة للسياسة الإقتصادية لمعظم دول العالم.

الخلیفة التاریخية

ويشمل التحرير المجالات الثلاثة الرئيسية للإقتصاد, وهي:

أولاً: تحرير النظام النقدي؛

ومن يقوم بمراقبته والسيطرة عليه عالمياً هو صندوق النقد الدولي.

ثانياً: تحرير النظام المالي والمصرفي في دول العالم؛

والبنك الدولي هو الذي يقوم بالمراقبة والسيطرة على هذه العملية.

ثالثاً: تحرير التجارة العالمية؛

والذي يتم بواسطة منظمة التجارة العالمية وما يتفرع عنها.

ص: 495

وقد أدَّت قرارات ومؤتمرات هذه المنظمات العملاقة الثلاث إلى تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات, وازداد الإتّجاه نحو التكتل الإقتصادي الإقليمي, وازداد توضيح عمل تلك المنظمات في العلاقة الترددية بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ فإنَّهما ينصبّان في منظمة التجارة العالمية.

عکس

ومن المعلوم أنَّ هذه العلاقات تغفل عن قصد مؤسسات إقتصادية أخرى كمؤسسة إقتصادية إسلامية عالمية ذات ثقل في هذه المعادلة كالبنك الإسلامي للتنمية والغرض واضح مِمّا ذكرناه آنفا؛ وهو تهميش تلك المؤسسات في صنع القرار العالمي، وإنْ كان الهدف من تلك المؤسسات ينسجم مع أهداف المنظمات الثلاث المزبورة.

ويمكن التعليق على ذلك بما يلي:

أولاً: إنَّ تلك المؤسسات الدولية والمنظمات العالمية قد هيمنت عليها الدول العظمى الرأسمالية؛ مِمّا جعلتها وسيلة للتسلط على الدول الأخرى ولا سيما الدول النامية.

ص: 496

ثانياً: إنَّ هذه المؤسسات والمنظمات أهملت غيرها من المؤسسات الإقتصادية التي لا تقلُّ أهمية عن تلك المؤسسات الدولية والمنظمات العالمية، وإنْ كانت تلك المؤسسات الإقتصادية تتَّفق مع الأهداف التي من أجلها وضعت تلك المنظمات الثلاث، وليس ذلك إلا من أجل السيطرة والهيمنة على اقتصاد العالم.

ثالثاً: إنَّ هذه المنظمات الثلاث تتَّصف بالنفاق السياسي ومحاباة الدول القوية والكيل بمكيالين؛ مِمّا اضطرَّ (هورست كوهلر(1)) أنْ يقول: (إنَّ اللا مساواة المتطرفة في توزيع مكاسب الرفاهية تشكل خطراً يهدد على نحو متصاعد الاستقرار السياسي والإجتماعي في العالم أجمع).

رابعاً: إنَّ هذه المؤسسات المالية الدولية ضليعة في ازدياد الفقر وانتشار الجوع وتفاقم الحرمان، وذلك لأنَّ هذه المؤسسات دفعت طيلة هذه السنوات الماضية -بمساعدةٍ وتحريضٍ من حكومات الدول الغربية- الكثير من بلدان العالم الثالث إلى انتهاج سياسات إقتصادية واجتماعية تعوق نموها.خامساً: إنَّ العديد من العاملين في هذه المؤسسات الدولية -لا سيما كبارهم- لهم علاقات وثيقة مع الأوساط المالية في الدول الرأسمالية، فإنَّ هذه العلاقة تشبه التواطؤ في التصالح.

سادساً: إنَّ هذه المؤسسات تتَّجه إلى إيجاد نظام تسلطي على جميع قادة العالم السياسيين؛ بحيث لم يعودوا يمتلكون الكثير من مجالات السيادة التي تمكنهم من اتّخاذ القرار.

سابعاً: إنَّ حصيلة سياسات هذه المؤسسات الدولية أدَّت إلى قيام تظاهرات صاخبة قبل كلِّ اجتماع سياسي إقتصادي، وهي شاهدُ صدقٍ على عمق العداء الذي تكنُّه فئات عريضة في دول الشمال والجنوب لمهندسي العولمة ومنظريها.

ص: 497


1- أحد مدراء صندوق النقد الدولي.

ثامناً: إنَّ الخلفية التاريخية لظهور مؤسسات العولمة الإقتصادية هي التي تجعلنا نقول أنَّها من آليات وأدوات الإستعمار الحديث، وذلك لأنَّه كان من نتائج الحربين العالميتين التين شهدهما العالم خلال القرن الماضي أنْ اصاب العالم الرعب والخوف من الدمار الشامل والحروب العاتية العبثية الظالمة، وقد غيَّرت الحروب الماضية -لا سيما الحرب العالمية الثانية- مسيرة التاريخ الحضاري والإقتصادي؛ فقد خسرت كثير من الدول -لا سيما المهزومة منها- سياسياً واقتصادياً، بل وسيادياً فقدت الجزء الأعظم من سيادتها على بلادها، وتفككت دول كانت تعدُّ عظيمة إلى دويلات؛ مِمّا لم يمكنها النهوض بمهامها إلا الوجهة الإقتصادية؛ التي هي الجهة الوحيدة التي قد سمح لها بالعمل فيها.

وأوزار تلك الحروب كبيرة ومتعددة الجوانب؛ خصوصاً أنَّه خرج من تلك الحروب دول مهزومة ودول منتصرة؛ أصبحت الأولى مَدينة للثانية بديون كثيرة جداً، وعلى رأس الدول المنتصرة الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث انتعش اقتصادها, فاتَّجهت استثماراتها تغزو العالم، وأصبحت الولايات المتَّحدة الأمريكية بمثابة الدائن الرئيس لمعظم دول العالم، وصاحبة أكبر رصيد من الذهب، ومالكة لمعظم الاستثمارات المباشرة في مناطق العالم المختلفة.

ونظراً لما تركته آثار الفترة -سالفة الذكر- على التجارة وشؤون النقد والمال في العالم فقد حاولت الدول الأوروبية أنْ تجد لنفسها وسيلة يمكن من خلالها توفير مصادر تمويلية ملائمة لإعادة التعمير والبناء واستئناف عمليات التنمية الإقتصادية والإجتماعية وتنشيط حركة التجارة الدولية، وتحقيق الإستقرار النقدي والمالي على المستوى العالمي؛ حيث اتَّجهت إلى إنشاء هذه المؤسسات العملاقة، فقد انعقد عام (1944 م) مؤتمراً دولياً في مدينة بريتون الأمريكية؛ حيث أُنشئ بموجبه (إتفاقية بريتون وودز)، وأصبحت بنودها نافذة لتأسيس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عام (1945م).

ص: 498

وأمّا نظام التجارة العالمي فقد أبرمت أولاً إتفاقية (الجات) ، ثم حلَّ محلَّها منظمة التجارة العالمية التي بدأت فعالياتها عام (1945 م) في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ فكانت نشأتها تحت رعاية الدولة المنتصرة الأولى في الحرب العالمية الثانية؛ وهي أمريكا التي انظمَّت إليها بعد ذلك الدول الرأسمالية، فأصبح العالم إلى قطبين؛ شمال ثري, وجنوب فقير, تملى عليها من قبل هذه المنظمات ما تريده دول الشمال فتنتج استعمارا جديداً، وهو الإستعمار الإقتصادي؛ تحت أهداف عالية وغالية جداً.

هذه هي الخلفية التاريخية لهذه المنظمات الدولية؛ ومن جميع ذلك يتبين أنَّ هذه المؤسسات الدولية والمنظمات العالمية لم توضع للأهداف المعلنة، بل هي على تضادٍّ معها، ولزيادة التوضيح ينبغي التعرض إلى ما يرتبط بهذه المؤسسات ولو على سبيل الإيجاز ضمن مواقع؛

الموقع الأول: صندوق النقد الدولي

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: النشأة

أُنشئ صندوق النقد الدولي -كما أشرنا إليه- بموجب إتفاقية (بريتون وودز) عام (1944م) والتي أصبحت نصوصها نافذة عام (1945م)، ولكنه بدأ مزاولة نشاطه فعلياً عام (1947م)، ويبلغ عدد أعضائه حالياً (183 عضواً)؛ بعد أنْ أصبح الباب مفتوحاً لعضوية الصندوق أمام جميع دول العالم من دون استثناء، ويشترط لاكتساب العضوية الوفاء بالالتزامات التي ترتبها الإتفاقية التي أنشأها الصندوق، ويعتبر الصندوق الحارس والقائم على إدارة النظام النقدي الدولي؛ عن طريق وضع القواعد التي تحكم السياسات النقدية للدول الأعضاء.

ص: 499

المبحث الثاني: الموارد

إنَّ للصندوق رأس مال تكون موارده من حصص الدول الأعضاء، بالإضافة إلى الموارد التي يمكن للصندوق الحصول عليها من خلال الإقتراض من الدول الغنية، كما أنَّه قد استحدثت موارد أخرى عام (1969 م)؛ وهي حقوق السحب الخاصة، وقد بلغ رأس مال الصندوق عام (2001 م) نحو (269 مليار دولار أمريكي) ، وتحدد حصص الدول الأعضاء عن طريق بعض المتغيرات مثل الدخل القومي للدولة، والإحتياطي من الذهب والعملات الأجنبية، ومتوسط الصادرات والواردات وغيرها من العوامل، وقد تمَّ وضع مجموعة من القيود على كيفية تكوين رأس مال الصندوق تحدد نشأته عام (1944 م) وهي:

1- تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتوفير الجزء الأكبر من إجمالي أصول الصندوق.1- تكون الحصة التي تشارك بها الولايات المتحدة الأمريكية ضعف التي تشارك بها المملكة المتحدة.

2- تتعادل حصة الولايات المتحدة الأمريكية مع حصة كلٍّ من المملكة المتحدة والدول المستعمرة من قبلها.

3- إرتباط حصص بقية الأعضاء بصورة أو بأخرى بحصص كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.

ولا بُدَّ من التنبيه على أنَّ لنظام الحصص صيغاً مخصوصة، وقد تمَّ مراجعة نظام الحصص إحدى عشر مرة.

المبحث الثالث: الحصص

لقد جُعل نظام الحصص المعمول به في تكوين رأس مال الصندوق, وحصة الدولة في رأس مال الصندوق تحدد مركزها النسبي في الإقتصاد العالمي, حيث تصبح الدول الغنية

ص: 500

ذات الحصص الكبرى في رأس مال الصندوق ذات صوت قوي؛ مِمّا يعطي لها حق أكبر في التصويت على قرارات الصندوق الهامة, وبصفة خاصة تلك القرارات المتعلقة بمراجعة الحصص وزيادتها, وقد ذكر الدكتور عادل المهدي جدولاً يبين مقدار الحصص والقوة التصويتية لبعض الدول الأعضاء في كتابه عولمة النظام الإقتصادي(1).

كما أنَّه تتيح حصة الدولة العضو إمكانية الحصول على تسهيلات من الصندوق بحسب تلك الحصة, حيث أنَّ الحدَّ الأقصى للسحب من الصندوق هو (300 %) من قيمة حصة الدول العضو, مِمّا يعني زيادة فرص الدول ذات الحصص الأكثر في سحب أكبر من رأس مال الصندوق. كما يتم تعيين الدول الخمس صاحبة الحصص الكبرى في المجلس التنفيذي في طريقة إدارة الصندوق كما سيأتي.

وعليه؛ يتَّضح هيمنة الدول الخمس الكبرى على الحصص نحو (40 %), وبالتالي على القوة الصوتية.

المبحث الرابع: الإدارة

يتكون الصندوق إدارياً من مجلس المحافظين الذي تضم عضويته محافظ ونائب محافظ يتم تعيينه من قبل الدولة العضو, والذي يكون غالباً وزير المالية للدولة العضو أو محافظ البنك المركزي, ويجتمع هذا المجلس مرة واحدة بالسنة.

أمّا مجلس الإدارة فيضمّ خمسة أعضاء يتم تعيينهم من بين الدول صاحبة الحصص الكبرى في رأس مال الصندوق؛ وهي الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا, بالإضافة إلى عدد آخر يتمّ انتخابهم من بين الدول الأعضاء.

ص: 501


1- عولمة النظام الإقتصادي؛ ص 101.
المبحث الخامس: الأهداف

يمكن تلخيص أهداف صندوق النقد الدولي بما يلي:

1- تشجيع التعاون النقدي الدولي عن طريق إيجاد مؤسسة دائمة يجري فيها التشاور حول المشكلات النقدية الدولية.

2- تيسير نمو التجارة الدولية نمواً متوازياً, مِمّا يتيح المحافظة على مستويات الدخول والعمالة وتنمية الموارد الإنتاجية.

3- العمل على تثبيت أسعار الصرف للعملات الأجنبية في الدول الأعضاء, وتقليل حدَّة المنافسة على تخفيض قيم العملة المحلية.

4- تصحيح الإختلال في موازنة المدفوعات للدول الأعضاء بإتاحة تسهيلات وموارد مالية لها بهدف مواجهة ما قد يطرأ على ميزان المدفوعات من عجز مؤقت.

المبحث السادس: الإجراءات

لتحقيق الأهداف سالفة الذكر يقوم صندوق النقد الدولي باتّخاذ مجموعة من الإجراءات التي غالباً ما تكون في حزمة متكاملة تسعى إلى تعميم خصائصها على الهياكل المالية للدول, وهذه الحزمة تتألف من:

1- تخفيض عجز الميزانية عن طريق تخفيض الإنفاق الحكومي وتخفيض الدعم ورفع الضرائب, فإنَّه قد تتطلب سياسات التحرير الإقتصادي من الدول ذات الإقتصاد المتحول(1) تغيير نظام الدولة الإقتصادي, حيث يلزم الدولة التخلي عن إنتاج السلع والخدمات(2).

ص: 502


1- كالإقتصاد النامي أو المتحول من الإقتصاد المركزي إلى الرأسمالي.
2- أي رفع الدعم عن تلك السلع والخدمات من خلال وضع الإطار المؤسساتي والقانوني الذي يسمح بتفعيل اقتصاد السوق في هذه الدول.

2- تخفيض قيمة العملة المحلية وإيجاد سوق حرة للنقد الأجنبي دون أيَّة رقابة من الدولة, وذلك إمعاناً في عملية التحرير لسعر الصرف المصاحب لتحرير التجارة والاستثمار الأجنبي, مِمّا يزيل قيود تدفق الإستثمار الأجنبي.

3- تخفيض الإقتراض الحكومي من البنوك المركزية والمحلية, ووضع سقوف محددة للمبالغ المقترضة.

4- تحرير التجارة الخارجية من خلال تخفيض التعريفات الجمركية ورفع الحواجز الجمركية, حيث تمثل المعاملات الخارجية مفتاحاً لاستراتيجيات التحرير في جميع الدول, وبذلك يساعد تحرير التجارة الخارجية للدول على تحسين الكفاءة التخصصية ورفع معدلات النمو بها.

5- سياسات إدارة الطلب, والتي تركز على تحقيق الأجور الحقيقية, خاصة في القطاع العام.1- إحداث تغييرات في أسعار الفائدة بحيث تعكس سعر الفائدة الحقيقي, وذلك لزيادة فرصة تحرير التدفقات المالية في حساب رأس المال.

المبحث السابع: الوظائف

قام صندوق النقد الدولي بعدة وضائف إضافية لتسهيل تنفيذ هذه الحزمة من الإجراءات في الدول الأعضاء, فمن ذلك:

1- تقديم المعونة الفنية عن طريق تخصيص بعض موظفيه وإرسالهم للدول الأعضاء لفترات معينة, وذلك لتقديم النصائح الفنية ولرسم وتنفيذ السياسات النقدية, وإعداد تشريع للبنك المركزي, وإعادة تنظيم البنوك المحلية, وتطوير الإحصاءات المالية, والمساعدة في تنفيذ البرامج المتعلقة بالتسهيلات التي يوافق عليها الصندوق للدولة المعنية.

ص: 503

2- تقديم برامج تدريب متكاملة ومتقدمة؛ وقد أنشأ الصندوق لذلك معهداً في عام (1964 م) يقدم خدمات وبرامج تدريبية في مجالات التحليل المالي والسياسات النقدية والمالية والإقتصادية وطرق ومناهج البحث في موازين المدفوعات, فضلاً عن التعريف والتدريب على سياسات الصندوق وأنشطته المختلفة.

3- التنسيق الفعّال بين نشاط الصندوق ونشاط البنك الدولي لخدمة الإقتصاد العالمي عامة والتجارة العالمية على وجه الخصوص, وقد أسهم صندوق النقد الدولي إسهاماً كبيراً في دعم اتّجاهات العولمة الإقتصادية وتحقيق المزيد من الدافع والحافز على التعولم للدول الأعضاء وغيرها, وسرعة الانخراط في تيار العولمة الإقتصادية, وللمزيد يراجع كتاب عولمة الإقتصاد العالمي للدكتور عادل المهدي وغيره.

الموقع الثاني: البنك الدولي

اشارة

ويعرف أيضاً ب- (البنك الدولي للإنشاء والتعمير), وفيه مباحث:

المبحث الأول: النشأة

إتّفق على إنشائه مع صندوق النقد الدولي في المؤتمر الذي دعت إليه هيئة الأمم المتحدة في (بريتون وودز) في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك في يوليو عام (1944 م), وقد حضر المؤتمر أربع وأربعين دولة, وبدأ البنك أعماله في حزيران عام (1946 م).

ويعتبر البنك الدولي المسؤول عن النظام المالي العالمي ويشرف على جزئياته وهيئاته, ويعمل البنك على تحرير النظام المالي لدول العالم وذلك من خلال تقديم قروض طويلة الأجل إلى كافة الدول وعلى أساس إقتصادي بحت.

ص: 504

المبحث الثاني: الموارد

تتكون موارد البنك الدولي من رأس المال المدفوع من الدول الأعضاء, كما قد أتيح للبنك الافتراضي من رؤوس الأموال الدولية الخارجية بشروط تجارية, وبذلك يتحقق التعاون بين رأس المال الخاص ورأس المال الحكومي العام في مجال الإستثمار الدولي؛ هذا بالإضافة إلى تسديدات القروض التي سبق منحها إلى دول الأعضاء, وقد بلغ رأس مال البنك المصرح به في (يونيو 2001 م) نحو (189,5 مليار دولار أمريكي).

ويقرض البنك الدولي الأعضاء بأسعار تجارية ولفترة زمنية طويلة تمتد إلى عشرين عاماً تقريباً, وقد كان البنك يقرض الدول الأعضاء في الفترة السابقة لعام (1980 م) بعملة معينة وسعر فائدة ثابت, إلا أنَّ التغيرات السريعة في أسعار صرف العملات المختلفة دفعت البنك إلى إيجاد صيغة جديدة لعمليات الإقراض والسداد. كما غيَّر البنك سياسته المتعلقة بأسعار الفائدة على القروض التي يقدمها؛ بحيث يتم إعادة سعر الإقراض كلّ ستة أشهر(1).

وتنصُّ بنود اتّفاقية إنشاء البنك الدولي على عدم منح قروض إلى الدول العضو إلا إذا تعذر الحصول على هذه القروض من المصادر الأخرى, وكان الهدف من ذلك بزعمهم عدم المنافسة مع مصادر الإقراض الخاصة. كما تنص الإتّفاقية أيضاً على أنَّ قروض البنك توجه أساساً إلى إنشاء أو المشاركة في إنشاء مشروعات بعينها, ولا تتمُّ هذه المشاركة أو الإنشاء إلا بعد دراسات متعددة من قبل خبراء البنك المركزي الدولي لضمان ربحية هذه المشروعات برأس مال والفائدة عليه, ويشرف البنك الدولي عن طريق خبرائه على جميع المراحل الخاصة بإنشاء وتشغيل المشروع الممول.

ص: 505


1- في يناير ويوليو من كلِّ عام.

وفي فترة الثمانينات عانت الدول النامية من ظاهرة تنامي مديونياتها, وبرزت أزمة سميت أزمة ديون العالم الثالث؛ مِمّا أدّى إلى وقوع هذه الدول تحت رحمة الدول الدائنة مباشرة مع تزايد دور هذه المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

وقد حدث تناغم شديد وتنسيق في الأهداف والوسائل والاستراتيجية بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ حيث اشترط البنك الدولي أنْ تكون الدولة الطالبة للقرض عضو في صندوق النقد الدولي قبل الإلتحاق بعضوية البنك الدولي, كما تتمُّ الإجتماعات المشتركة لكِلتا المؤسستين سنوياً حيث يجري تدارس أمور الشؤون النقدية والمالية العالمية.

المبحث الثالث: الأهداف

إنَّ الهدف العام من البنك الدولي هو تشجيع استثمار رؤوس الأموال لغرض تغيير وتنمية الدول المنظمَّة إليه, والتي تحتاج إلى مساعدة في إنشاء مشروعات ضخمة تكلف كثيراً, وتساعد في الأجل الطويل على تنمية اقتصاد الدولة, وبذلك تستطيع أنْ تواجه العجز الدائم في ميزان مدفوعاتها. وقد أوجز بعض الباحثين أهداف البنك بما يلي:

1- المساعدة على إعمار الدول الأعضاء؛ حيث تأسس البنك الدولي لإعادة البناء والتعمير لما دحرته الحروب العالمية الثانية, وذلك من خلال توفير رؤوس الأموال لأغراض إعادة الحياة الإقتصادية بإنشاء المشروعات التي من شأنها تنمية المرافق الإنتاجية.

2- تشجيع الإستثمار الخارجي المباشر في البلدان الأعضاء, وذلك عن طريق ضمان هذه الإستثمارات.

3- تشجيع تحقيق نمو متوازن في التجارة الدولية في الأجل الطويل, وذلك بتشجيع الإستثمارات وتحفيز الطاقة الإنتاجية للدولة وزيادة مواردها الخاصة.

ص: 506

4- العمل على تهيئة البيئة التجارية الأفضل في أراضي الدول الأعضاء والمعاونة على الإنتقال من اقتصاديات الحرب إلى اقتصاديات السلم.

5- تقديم القروض إلى القطاعات المتعلقة بالحاجات الأساسية للسكان, والتنمية الريفية, ومشروعات الإسكان منخفضة النفقات, والزراعة والصناعة والتعليم والصحة, وغيرها.

6- التوسع في قروض التكيّف الهيكلي, والتي تتطلب ضرورة إتّباع الدولة طالبة القرض لمجموعة من السياسات الإقتصادية يقرّها خبراء البنك وبالتعاون والتنسيق التام مع صندوق النقد الدولي.

المبحث الرابع: الآليات

يقوم البنك بمساعدة الدول إمّا بإقراض الدولة من أمواله الخاصة أو بإصدار سندات قروض للاكتتاب الدولي, وتقدم كلُّ دولة عضو في البنك من اشتراكها المحدد في رأس مال البنك ذهباً أو دولارات أمريكية, وبشكل عام يقوم البنك بإقراض الحكومات مباشرة أو بتقديم الضمانات التي يحتاجها للإقراض من دولة أخرى أو من السوق الدولية.

المبحث الخامس: الإجراءات

إنَّ من حصيلة التناغم والتنسيق التام بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أنْ وضع البنك شروطاً ينبغي للدول الطالبة للقرض أنْ تتَّبعها, ومن أهم هذه الشروط هي:

1- العودة إلى الإقتصاد؛ الحرّ بما يعني تخصيص القطاع العام في الدولة ذات السياسة الإقتصادية المركزية, وظهور ما يسمى ب-(الخصخصة).

2- إتّباع سياسة التقشف الحكومي؛ بخفض النفقات ورفع الدعم عن السلع الإستهلاكية الأساسية.

ص: 507

3- رفع الحماية عن المنتوج المحلي؛ مِمّا يعني تقليل دور الدولة في حماية القطاع العام والخاص الإنتاجي وتقليل الرسوم والتعريفات الجمركية مع زيادة الضرائب.

4- التركيز على التصدير الخارجي.

5- رفع القيود على التجارة الخارجية واعتماد الأسعار الحرَّة للصرف الأجنبي.

6- فتح المجال للاستثمارات الأجنبية والشركات الأجنبية دون قيد أو شرط.

المبحث السادس: المؤسسات

في إطار تنفيذ البنك الدولي لمهامّه الرئيسية الموكلة به واتّساع وظيفة قروضه ونشاطه -بعد أنْ كانت مركزة على قروض التعمير وإعادة البناء- تحول هذا التركيز لتقديم قروض للتنمية ومحاربة الفقر والتحول الإقتصادي في الدول النامية, فقد تطور البنك ليصبح مجموعة شاملة تتضمن خمس مؤسسات تنموية متميزة, وهي:

1- البنك الدولي للتعمير والتنمية.

2- مؤسسة التنمية الدولية.

3- مؤسسة التمويل الدولية (IFC).

4- وكالة ضمان الاستثمارات متعددة الأطراف.

5- المركز الدولي لتسوية منازعات الإستثمار.

وتعمل المؤسسات الثلاث الأولى -التي هي الأمّ في تحقيق التقدم الإقتصادي ورفع مستوى المعيشة- من خلال توجيه الموارد المالية من الدول المتقدمة اقتصادياً إلى الدول الآخذة بالنمو, ولكلِّ مؤسسة من مؤسسات المجموعة أسلوب يختلف عن المؤسسات الأخرى؛ فإنَّ البنك الدولي يقوم بتقديم القروض عموماً إلى الدول النامية التي بلغت مراحل متقدمة نوعياً من النمو الإقتصادي والإجتماعي, وتحسب أسعار الفائدة على القروض وفقاً للتكلفة التي يتحملها البنك من اقتراضه من سوق رأس المال.

ص: 508

وتقوم مؤسسة التنمية الدولية -التي تأسست عام (1960 م)- بتقديم المساعدة لذات الأغراض التي يستهدفها البنك الدولي, ولكن مع الإهتمام الأكبر للدول الأكثر فقراً من تلك التي يقرضها البنك الدولي وبشروط تمويل أيسر.

بينما تقوم مؤسسة التمويل الدولية -والتي تأسست عام (1956 م)- بالتنمية الإقتصادية في البلاد الأقل نمواً من خلال التركيز على تشجيع نمو القطاعالخاص باعتباره القطاع الأكثر حرية وديناميكية وفاعلية في هذه الدول التي تعاني من البيروقراطية الحكومية وضعف بنيانها الإنتاجي, فتعمل المؤسسة متضامنة مع البنك الدولي والوكالة الدولية لضمان الإستثمار لتحسين البيئة الإقتصادية التي في ظلِّها القطاع الخاص, والمعاونة على إعادة هيكلية القطاع العام, إضافةً إلى تطوير ومساندة جهود الدول النامية لتحسين القطاع المالي وتنشيط دور القطاع الخاص.

هذا ما يتعلق بهاتين المؤسستين الدوليتين(1) ولو على نحو الإيجاز؛ لمعرفة أهدافها وإجراءاتها وآلياتها؛ ولنا التعليق على ذلك:

أولاً: إنَّ تعاليم الإسلام لا تعارض إنشاء مؤسسات أو منظمات أو شركات دولية أو عالمية أو إقليمية يكون الهدف منها التعاون بين الدول لحلِّ المشكلات الإقتصادية وإعمار البلاد وتخفيف الفقر والعناء عن الناس، فإنَّ كلَّ ذلك مطلوب عقلاً ويحث عليها الشرع الحنيف, وفي قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ)(2) الحثُّ على ذلك؛ بعد أنْ كان الغرض الأهم من خلق الناس هو التعارف؛ كما يدلُّ عليه قوله عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(3), وسيأتي تفصيل منهج الإسلام في ذلك.

ص: 509


1- صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
2- سورة المائدة؛ الآية 2.
3- سورة الحجرات؛ الآية 13.

ثانياً: إنَّ تلك المؤسسات الدولية والمنظمات العالمية وإنْ وضعت قوانين وتعليمات لصالح الدول, وتحرير الإقتصاد العالمي لمعظم دول العالم, وسنّ القوانين في تنظيم الإقتصاد, وإعمار الأرض, ولا ريب أنَّ كلَّها مطلوبة في النظام الإقتصادي؛ إلا أنَّها أهملت المؤسسات الإقتصادية الأخرى التي تهدف إلى نفس الأغراض التي تتبناها المنظمات العالمية, وهذا الإهمال والإغفال إنَّما هو عن قصد؛ لإبعادها عن صنع القرار العالمي، لأنَّ المقصود أنْ يكون ذلك القرار تحت سلطة دول خاصة, بل فئة معينة.

ثالثاً: إنَّ تعليمات وقوانين تلك المؤسسات العالمية أدَّت إلى سيطرة الدول الإستعمارية على الإقتصاد العالمي, فتحول الإستعمار من الغزو والحروب إلى السيطرة على شريان الحياة الإقتصادية للدول وإذلال الناس من هذه الناحية والضغط على الحكومات لقبول إرادة الدول الإستعمارية.

رابعاً: إنَّ هذه المؤسسات الدولية أنشأت شركات عالمية كبرى ودعمتها بقوانينها, مِمّا أدى إلى سيطرتها على السياسة الدولية واقتصاد الدول.

خامساً: إنَّ إثبات جدوى هذه المؤسسات والوصول إلى أهدافها لا يمكن أنْ يتحقق إلا بتصحيح مسارها وإبعادها عن سيطرة الدول الإستعمارية، وتحقيق الحرية الإقتصادية للدول عن تبعيتها لاقتصاد تلك الدول الإستعمارية, وتأسيساقتصاد حرّ عن إملاء تلك الدول؛ ليتحقق نظاماً عالمياً متوازناً تحكمه قوانين تراعي اقتصاديات الدول في ظلِّ العولمة الإقتصادية، وهذا ما سنبينه في مستقبل الكلام إنْ شاء الله تعالى.

وتقدم بعض ما ذكرناه من الإيراد على صندوق النقد الدولي؛ فراجع.

ص: 510

الموقع الثالث: النظام التجاري العالمي

تمهيد

المقصود بالنظام التجاري العالمي هو مجموعة القواعد والاتّفاقيات والإجراءات والمؤتمرات والقرارات, والمنظمات التي تشرف على اتّجاه تدفق السلع والخدمات بين دول العالم المختلفة، وتقييم السياسات التجارية لهذه الدول.

وبالنظر لمكونات النظام التجاري العالمي المتقدمة فإنَّ الباحث يلمس بوضوح عناصر الأحكام فيه، وذلك أنَّ النظام قد أقيمت أهدافه الاستراتيجية من خلال القواعد والاتّفاقيات التي قد اتّفق عليها من قبل الدول المشاركة في النظام التجاري الدولي.

كما تقوم الإجراءات والقرارات بتقديم النموذج المثالي ورسم الخطط المطلوبة لتطبيق هذه الاستراتيجيات التي اتّفق عليها من قبل؛ فإنَّ المؤتمرات تزود النظام التجاري العالمي بالديناميكية اللازمة لمراجعة الاستراتيجيات والنماذج والإجراءات القائمة, مِمّا يتيح بصورة قوية تغيير ما يلزم تغييره لنمو وازدهار التجارة بين دول العالم.

كما تقوم المنظمات والمؤسسات بالدور الفاعل والرئيس في بناء منظومة التجارة العالمية؛ بتحويل ما سبق ذكره من الحيِّز النظري إلى حيِّز الوجود الفعلي بالتنظيم والإشراف على إدارة التجارة العالمية. والبحث في هذا الموضوع يقع ضمن نقاط:

النقطة الأولى: الأساس الإقتصادي لسياسة التجارة العالمية

لا إشكال في أنَّه لا يتمّ بناء السياسة الإقتصادية لتجارة الخارجية لأيَّة دولة إلا ضمن المكسب الأكبر الذي تجنيه الدولة من هذه السياسة في حاضرها ومستقبلها ضمن إطار الإقتصاد الدولي.

ص: 511

وللإرتباط الوثيق بين السياسة الداخلية والخارجية للدول وبين السياسة الإقتصادية للتجارة الخارجية لها فإنَّه كثيراً ما تولى السياسيون إدارة السياسة الإقتصادية للتجارة الخارجية للدولة بديلاً عن رجال الإقتصاد المعنيين بهذه القضية.

ولمعرفة الأساس الإقتصادي لسياسة التجارة العالمية في العصر الحديث لا بُدَّ من معرفة تطور السياسات الإقتصادية للتجارة العالمية في العصور السابقة حتىعصرنا الحاضر, والبحث في ذلك يقع من خلال معرفة المراحل التي مرَّ بها الإقتصاد والتجارة العالمية, ويمكن تلخيص تلك المراحل بما يلي:

المرحلة الأولى: مرحلة التجارة الداخلية والخارجية في التاريخ الإسلامي أثناء وحدة الأمة الإسلامية وسياستها الإقتصادية المتميزة عن سياسات اقتصاد الدول الغربية.

وسيأتي شرحها عند عرض موقف الإسلام أمام العولمة الإقتصادية إنْ شاء الله تعالى.

المرحلة الثانية: مرحلة الإقتصاد التجاري, أي الإقتصاديون التجاريون.

منذ نشأت الدولة القومية في أوروبا الغربية وما صاحبها من تغييرات سياسية داخلية وخارجية بدأ النشاط الإقتصادي العالمي ونشأ بذلك الإقتصاد كعلم من العلوم النظرية المستقلة, وقد نظَّر الإقتصاديون الغربيون منذ ذلك العصر إلى سياسة الدولة القومية الداخلية والخارجية عند بناء نظرياتهم الإقتصادية، وقد أطلق عليهم إسم (التجاريون), وقام هؤلاء النظراء الإقتصاديون والتجاريون بتعريف (ثروة الدولة/أو الأمة) وطبيعة تلك الثروة، ففي حين إعتبر التجاريون الأوائل النقود -وخاصة النقود الذهبية والفضية- العنصر الجوهري في تكوين الثروة, بل هي مرادفة للثروة؛ فيما اعتبر التجاريون المتأخرون الثروة القومية للدولة تتمثل في الأرض والعمل أو الصناعة، وجعلوا الذهب والفضة مقياس التجارة.

ص: 512

وقد اتَّفق (التجاريون) على أنَّ تدفق الذهب والفضة المميز الرئيس للتجارة الخارجية الدولية, الأمر الذي جعل سياستهم للتجارة الخارجية في التركيز على تحويل السلع إلى نقود، ولا يتمُّ هذا التحويل إلا عن طريق التداول, أي المبادلة في السوق، وقد كانت النقود (الذهب أو الفضة) إنَّما تستورد في مقابل تصدير السلع، فأصبح تراكم المعادن النفيسة مرادفاً لتراكم رأس المال النقدي الذي يتعين تشغيله لزيادة الثروة القومية, وأهم مميزات الإقتصاد التجاري هي:

1- التركيز على خلق فائض في ميزان التجارة مقابل دخول كمية من المعادن النفيسة, أي زيادة الصادرات على الواردات. ولا يتمُّ ذلك إلا بإيجاد فائض الإنتاج ممثلاً في فائض نقد, أي في ربح يمثل الفائض في الميزان التجاري.

2- حرص الإقتصاديون التجاريون على التوسع في الصادرات توسعاً لا يوازيه اقتحام المنتوجات الأجنبية للسوق المحلية.

3- إعتبر التجاريون السوق المحلية محدودة ضيقة، فأصبح هدفاً إلى تحقيق توسع في الصادرات توسعاً يمثل إضافةً للمبيعات.

4- يسعى الإقتصاديون التجاريون إلى توازن ميزان تجاري لصالح الدولة, وشرط هذا التوازن هو تدفق المعادن النفيسة -النقود- إلى الداخل, مع العمل على ضمان سوق إضافية في الخارج لسلعهم؛ لاستيعاب الفائض في الإنتاج.

وانطلاقاً مِمّا سبق يستطيع الباحث معرفة السبب في إصرار التجارة من ضرورة ضمان حرية التجارة الداخلية، أي توسيع السوق الداخلية عن طريق إزالة العوائق الداخلية بين المناطق المكونة للدولة وبناء الطرق وحفر القنوات؛ مع احتفاظ السلع القومية.

ص: 513

5- الإقتصاد التجاري يصرُّ على تنظيم الدولة للتجارة الخارجية، وذلك باتّخاذ الإجراءات الحمائية التي يقصد بها حماية الإنتاج المحلي إزاء الإنتاج الخارجي مِمّا يحدُّ من الواردات، ولذلك تفرض الدولة القومية الضرائب والجمارك على الواردات لحماية المنتوج المحلي.

6- إتّخاذ الإجراءات اللازمة لكسب المزيد من الأسواق الخارجية للصادرات الوطنية, مِمّا دعا الدول الغربية لتطوير أسطولها التجاري, كما توسعت في اكتساب المستعمرات والحفاظ عليها.

والحاصل؛ إنَّ السياسة الإقتصادية التي تبنتها الدولة القومية هي تدخل الدولة لتنظيم الحياة الإقتصادية، وهذا ما يعني تبني الإقتصاديون التجاريون نظرية التأكيد على مبدأ سيادة الدولة, وهو المبدأ الدستوري الذي تبنته الدولة القومية منذ نشأتها؛ كما تقدم بيان ذلك في البحث عن العلمانية؛ فراجع.

المرحلة الثالثة: مرحلة الإقتصاد التقليدي

وأفكاره تبنى على العلوم الإنسانية والمادية, وقد كان الإقتصاد التقليدي (الكلاسيكي) سابقاً في القرن الثامن عشر في أوروبا.

أمّا فكرة النظام الطبيعي فهي تتلخص في الإيمان العميق بأنَّ الطبيعة تحدد نظاماً كونياً شاملاً خالداً يتمُّ داخل هذا النظام, والتفاعل بين العالم الفيزيقي (أي الطبيعي/المادي) والعالم المعنوي كعلم النفس والإقتصاد، بحيث يحكم العالمين نظام طبيعي واحد؛ وهو الفكرة الثانية.

وأمّا فكرة النظرة المادية للكون؛ وهي تلك النظرة التي صاغت العقل الأوروبي في ذلك العصر، فكانت علومه كلها مادية، وتقضي هذه النظرية قضاءً مبرماً لا تغير فيه بأنَّ

ص: 514

الظواهر الإقتصادية كما جميع الظواهر المادية أو المعنوية تخضع لقوانين الطبيعة المادية، وهي قوانين موضوعية حقيقية مادية حتمية ميكانيكية.

ولا يخفى -بناءً على ما ذكرناه- في مبحث العلمانية أنَّ ذلك هو واجهة العلمانية وفلسفتها وعليها صاغ العلمانيون نظرياتها وقوانينها، وقد تقدم البحث عنها مفصلاً.وقد بنى الإقتصاديون التقليديون (الكلاسيك) نظرتهم في التجارة الخارجية على التقسيم الدولي للعمل إبتداءً من القيمة، حيث جعل الكلاسيك التقليديون المنفعة شرطاً للقيمة، فلكي تكون للسلعة أو المنفعة قيمة فإنَّه لا بُدَّ أنْ تكون نافعة للمجتمع, أي صالحة لإشباع رغبة أو حاجة ما, فهناك ارتباط وثيق بين العمل والقيمة، لأنَّها إنَّما تستمد عندهم من العمل، وتقاس بكمية العمل المبذول فيها. وتتميز هذه النظرية بما يلي:

1- إنَّ المنفعة شرط للقيمة, فلا تكون للسعلة قيمة إلا أنْ تكون نافعة للجميع.

2- الإرتباط الوثيق بين العمل والقيمة، وإنَّ القيمة تستمدّ مصدرها من العمل, وتقاس بكمية العمل المبذول فيها.

3- إنَّه على أساس نظريتهم في القيمة أسَّسوا نظريتهم في التجارة الخارجية، وهي التي أطلق عليها (نظرية المزايا النسبية أو المنافع النسبية) وهي تقوم على الإعتبارات الإقتصادية الخاصة بمبدأ التخصص في مجال العمل، وهذه النظرية وإنْ كانت قد صيغت قبل أكثر من قرن؛ إلا أنَّها ما زالت تحتلّ مكاناً بارزاً في مجال تفسير التجارة الدولية -لا سيما في عهد العولمة-، ولهذه النظرية مساهمات علمية متتالية ما زالت تثرى بها. وإنْ كانت النظرية قد وجه إليها أكثر من انتقاد وقد اعتراها النقص والقصور كما سياتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 515

4- إنَّ هذه النظرية قد اعتبرت لكلِّ دولة -ولظروف خاصة بها؛ إقتصادية, أو إجتماعية, أو غير ذلك- ميزة نسبية في إنتاج سلعة معينة؛ حيث تنتجها بتكاليف نسبية أقل, مِمّا يدفعها إلى التخصص في إنتاجها.

5- إنَّه على أساس الإختلاف الموجود بين الدول في التكاليف النسبية تقوم التجارة الخارجية، فقد يكون أحد البلاد أكثر كفاءة من غيره في إنتاج كلّ سلعة ممكنة، ولكن طالما إنَّه ليس أكثر كفاءة بدرجة متساوية في كلِّ سلعة فسيكون الأفضل لذلك البلد أنْ يتخصص في إنتاج تلك السلع التي يكون فيها أكثر كفاءة نسبياً، وأنْ يقوم بتصدير هذه السلع مقابل سلع تكون نسبة الكفاءة فيها أقل، ويكون المكسب الناتج أو الربح من عملية التجارة على أساس الفروق في النفقات النسبية لإنتاج السلعتين في البلد الواحد.

6- مِمّا تقدم يظهر أنَّه من السهل علينا أنْ نفهم الأسباب التي دعت التقليديين (الكلاسيك) إلى تنظيم سياسة التجارة الخارجية التي تتبلور في ضرورة تحرير التجارة الخارجية بحيث تترك السوق حرة وتلقائية أمام القوى الإقتصادية العالمية المختلفة، بحيث لا يكون للدولة دور إلا دور الحارس الذي تقتصر وظيفته على حفظ النظام العام من خلال حماية الملكية الفردية ضدَّ كلِّ عدوان داخلي أو خارجي، ولا تتدخل الدولة في الحياة الإقتصادية للمجتمع إلا في المجالات التي يحجم عنها رأس المال الفردي.

وبهذا افترق الإقتصاد التقليدي عن الإقتصاد التجاري الذي كانت الدولة القومية هي القائمة على تنظيم التجارة الخارجية والداخلية فيه كما تقدم بيانه, وإنْ كان كِلا الإقتصادين من واجهات العلمانية المتدرجة المتتالية؛ كما عرفت في بحث العلمانية.

ص: 516

وكيف كان؛ فإنَّ الفكر الإقتصادي التقليدي مطلقاً (الكلاسيك) و(نيو كلاسيك) أي التقليدي القديم والجديد؛ هو المحرك الرئيس في فكر العولمة الإقتصادية ومبادئه الأساسية في التجارة الخارجية الدولية التي تتبناها العولمة الإقتصادية.

النقطة الثانية: التطور التاريخي لمنظمات ومؤسسات ومؤتمرات النظام التجاري العالمي.

تقدم أنَّه قد سيطر الفكر الإقتصادي التقليدي على مقدرات الفكر الإقتصادي من أواخر القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين واستمر الحال في تطبيق أفكار الإقتصاديين التقليديين حتى بداية الحرب العالمية الأولى, حيث اختلَّت قواعد اللعبة الخاصة بقاعدة الذهب وتوسعت الدول في عملية الإصدار النقدي لتمويل النفقات اللازمة للحرب في وقت توقفت فيه أغلب الطاقات الإنتاجية، مِمّا أدّى ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة، وقد لجأت الدول إلى فرض قيود حمائية على تجارتها الخارجية تاركة بذلك الفكر التقليدي، كما أصيبت الدول بحالة من الكساد انعكست على تدهور الطاقات الإنتاجية وزيادة معدلات البطالة والتقلب السريع في أسعار الصرف.

كلُّ ذلك مِمّا أوجب الكساد العالمي الفجيع في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين في الفترة بين عامي (1929 و 1933 م), وبدا واضحاً أنَّ الدول قد اتَّجهت إلى عسكرة اقتصادها للخروج من حالة الكساد.

وما كاد العالم يفيق من أهوال تلك المشكلات السياسية والإقتصادية حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية عام (1936 م).

وقد فرضت معظم الدول في تلك الفترة القيود الكثيرة على حركة التجارة الخارجية -خاصة الواردات-, مِمّا كاد الأمر يرجع إلى أفكار التجاريين مع اختلاف في الزمان والأدوات وتغير مراكز القوى في العالم، واتَّسم النظام التجاري العالمي في هذه الفترة بالميل إلى التقييد والحماية التي أصبحت هي الأصل في المعاملات التجارية.

ص: 517

وقبيل نهاية الحرب العالمية الثانية بدى واضحاً أنَّ دول أوروبا قد أُثقلت بالديون الخارجية التي ضاعفها تعطُل معظم الطاقات, مع ما حطمته الحرب من البنية الأساسية في تلك الدول, إلا الإقتصاد الأمريكي؛ الذي عُدَّ من أكبر المستفيدين فيتاريخه من هذه الحرب, فقد أضافت الولايات المتحدة الأمريكية إلى طاقتها الإنتاجية القديمة طاقات إنتاجية جديدة بسبب تنامي أسواق واسعة لتصريف منتوجاتها المدنية والعسكرية على حدٍّ سواء, كما حقق ميزان مدفوعاتها فائضاً كبيراً ترتب عليه زيادة رصيدها من الذهب وزيادة ديونها المستحقة عند الدول الأوروبية، وبذلك خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية وهي في حالة من القوة الإقتصادية والعسكرية والسياسية, مِمّا أهلتها لأنْ تصبح إحدى القوى العظمى في العالم, مِمّا مكَّنها من إدارة الإقتصاد العالمي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت الدعوة لإنشاء نظام عالمي جديد يعيد صياغة العالم بشكل متناسب مع أوضاع القوى الجديدة؛ فعقد مؤتمر (بريتون وودز) عام (1944 م), والذي انبثق عنه ولادة مؤسستين عملاقتين في عالم الإقتصاد وهما: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذان تقدم ذكرهما آنفاً, واستكمالاً للتداعيات الإقتصادية لهذه الحرب عند دول أوروبا ورغبة الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة ترتيب أوضاع الإقتصاد الدولي بصور تتماشى مع مصالحها وأولوياتها فقد تقدمت الحكومة الأمريكية باقتراح إلى المجلس الإقتصادي والإجتماعي للأمم المتحدة لبدء مفاوضات تجارية دولية تهدف تحرير التجارة الدولية بين دول العالم من القيود المفروضة عليها منذ قيام الحرب العالمية الثانية, وفي ذلك عود إلى أفكار الإقتصاد الكلاسيكي.

ص: 518

وبناءً على هذا؛ إقترح المجلس الإقتصادي الإجتماعي للأمم المتحدة انعقاد المؤتمر الدولي للتجارة والتوظيف في لندن عام (1946 م), وأكمل المؤتمر أعماله في جنيف عام (1947 م), ثم اختتم أعماله في هافانا عام (1948 م)؛ وقد أسفر هذا المؤتمر عن وثيقة عرفت باسم (ميثاق هافانا) أو (ميثاق التجارة الدولية), وسيأتي ذكر قيودها إنْ شاء الله تعالى.

وفي أثناء المؤتمر الدولي المنعقد في جنيف عام (1947م) أقرت ثلاث وعشرون دولة على الإتّفاقية العامة للتعريفات والتجارة؛ وهي الإتّفاقية التي عرفت باسم (الجات), والتي يدور محتواها حول تخفيض الضرائب الجمركية بصورة متبادلة على الواردات السلعية للدول المشاركة.

وقد مرَّت إتّفاقية (الجات) بثمان جولات إبتداءً من عام (1948م)؛ حيث أصبحت الإتفاقية سارية المفعول, حتى جولة أورغواي الأخيرة عام (1993م), والتي كانت أهم هذه الجولات, حيث فيها تمَّ إنشاء العملاق الكبير (منظمة التجارة العالمية)؛ وإنْ تأخر عن يوم فكرتها عام (1945 م).

وهذه الإتّفاقية إنَّما دعمت الوضع الإقتصادي للدول الأوروبية, وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لما فيها من الشروط المجحفة للدول النامية، الأمر الذي جعلهذه الدول تطلق على إتفاقية (الجات) وصف (منتدى الأغنياء), واستلزم ذلك انسحاب أغلبية الدول النامية التي أحسَّت بوقوع الظلم عليها، ومن ثم لجأت إلى تكوين إطار مؤسسي جديد تابع للأمم المتحدة لمناقشة واقع الحال الإقتصادي في هذه الدول. وقد تمَّ عقد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، الذي عقد في أوائل عام (1964 م).

ص: 519

النقطة الثالثة: بنود ميثاق التجارة الدولية (ميثاق هافانا)

ذكرنا أنَّ الحكومة الأمريكية تقدمت إلى المجلس الإقتصادي والإجتماعي للأمم المتحدة باقتراح لعقد مؤتمر دولي للتجارة والتوظيف يهدف إلى تحرير التجارة الدولية من القيود التي فرضت عليها أبان الكساد العالمي ما بين عامي (1929 م و 1939 م) وما أدَّت إليه الحرب العالمية الثانية من معوقات في طريق التجارة الخارجية, وقد انعقد المؤتمر الدولي للتجارة والتوظيف في لندن عام (1946 م) وختم أعماله في هافانا عام (1948 م), وأسفرت هذه الاجتماعات عن (ميثاق التجارة الدولية) أو (ميثاق هافانا)؛ الذي اشتمل على مجموعة من القواعد والأسس للتوصل لاتفاقية التجارة الدولية, وبنود ذلك الميثاق تدور حول سلوك الدول في المبادلات التجارية مِمّا يحقق العدالة فيما بينها, وتحرير التجارة الدولية بين الدول, وهي:

1- بيان سياسات العمل والتوظيف والاستثمار.

2- إنشاء منظمة التجارة الدولية؛ لتكون الركن الثالث من أركان النظام الإقتصادي العالمي تحت مظلة الأمم المتحدة.

وإنْ كانت هذه المنظمة لم تبصر النور إلا بعد خمسين عاماً من إنشائها وذلك عام (1993 م) إثر جولة أورغواي للجات, والسبب في ذلك يرجع إلى امتناع المجلس التشريعي الأمريكي (الكونغرس) آنذاك، وإنْ كان الإقتراح صادراً من حكومتها, لأنَّ المجلس التشريعي الأمريكي رأى أنَّ تلك الإتفاقية لا تلبي مصالحها، فرفضت الإدارة الأمريكية التصديق عليها.

ص: 520

النقطة الرابعة: إتّفاقية (الجات) (GATT)
اشارة

للتعريفات والتجارة

أولاً: نشأتها

بالرغم من الموقف الغريب من إدارة الولايات الأمريكية تجاه ميثاق هافانا ولكنها لم تتخلَ عن سياستها إزاء التجارة الخارجية (الدولية) التي ترمي إلى تحريرها، ومعالإزدواجية التي عرفت بها الولايات المتحدة الأمريكية فقد دعت بعض الدول التي شاركت في مؤتمر جنيف -التي بلغ عددها ثلاث وعشرون دولة- إلى التفاوض حول اتفاقية دولية لتحرير التجارة, وجرت المفاوضات على أساس ثنائي, أي تبادل التنازلات الجمركية على السلع المختلفة، ثم تجميع هذه الإتّفاقيات الثنائية والتي تمَّ التوصل إليها لتؤسس إتّفاقية شاملة متعددة الأطراف لتحرير التجارة الخارجية في السلع, مع أنَّ هذا الغرض هو نفسه الذي أراده ميثاق هافانا -الذي تم رفضه من قبل الإدارة الأمريكية-، وكان رفضها تقويضاً للجهود الرامية لإنشاء منظمة التجارة الدولية، واستبدلت حينها باتفاقية (الجات).

ثانياً: (الجات) هي الإقتصاد الشائع للاتّفاقية العامة للتعريفات والتجارة

(الجات) هي الإقتصاد الشائع للاتّفاقية العامة للتعريفات والتجارة باللغة الإنكليزية التي تكون مختصرها (GATT).

(الجات) معاهدة دولية تنظم المبادلات التجارية بين الدول التي تقبل الإنضمام إليها, وقد ارتفع عدد أعضائها من (23 دولة) عند إبرام الإتفاقية عام (1947 م) إلى حوالي (140 دولة) عام (2001 م), ويطلق على الدول المنظمَّة إلى (الجات) ب-(الأطراف المتعاقدة).

وعلى الرغم من أنَّ (الجات) ليست منظمة عالمية من الناحية القانونية مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي؛ إلا أنَّها اكتسبت من الممارسة عبر نصف قرن تقريباً وضع المنظمة غير الدائمة التي تمارس مهامها من خلال سكرتارية مقرها في جنيف.

ص: 521

ومن ثمَّ أطلق على الدول المنظمَّة إلى (الجات) إسم (الأطراف المتعاقدة) لا إسم (الدول الأعضاء).

وتعتبر (الجات) النظام الوحيد المتعددة الأطراف والملزم قانوناً, حيث ينشئ حقوقاً والتزامات على الأعضاء, أي الدول المتعاقدة, كما يضع هذا النظام الإطار القانوني لهيئة دولية لإنهاء وتسوية المنازعات التجارية بين الأطراف المتعاقدة.

ويتكون نظام (الجات) من الإتفاقية العامة التي تكملها بعض الأدوات القانونية المستقلة, مثل إتفاقية الحواجز الجمركية, بالإضافة إلى بعض الترتيبات الخاصة بقطاعات معينة والتي يُتفاوض بشأنها في إطار (الجات), وتتولى الأطراف المتعاقدة الإشراف عليها.

ثالثاً: أهداف (الجات)

ذكرنا أنَّ الأساس الذي قام عليه (الجات) هو تكوين نظام تجارة دولية حرة لها أهدافها المميزة, وهذه الأهداف هي:

1- إزالة قيود التجارة العالمية والعمل على تنشيطها من خلال إزالة تخفيض الجمارك بأنواعها المختلفة؛ التعريفية وغير التعريفية.

2- الإرتفاع بمستوى المعيشة في الدول المتعاقدة, والإرتفاع بمستويات الدخل القومي, وتنشيط الطلب الفعال بالأطراف المتعاقدة, والسعي نحو التوظيف الكامل للقوى العاملة.

3- الإستغلال الكامل للموارد الإقتصادية للدول المتعاقدة، والتوسع في الإنتاج والمبادلات التجارية الدولية السلعية، وتشجيع الاستثمارات العلمية, وتسهيل تحرك رؤوس الأموال.

ص: 522

4- ضمان زيادة حجم التجارة العالمية الدولية, وإزالة القيود المحلية؛ من خلال تخفيض القيود الكمية والجمركية.

5- إنتهاج المفاوضات كأساس فاعل لحلِّ المشكلات الطارئة بين الدول المتعاقدة والمتعلقة بالتجارة, وفضّ المنازعات عن طريق التشاور.

رابعاً: مبادئ (الجات)

في سبيل تحقيق تلك الأهداف تأسست (الجات) على مبادئ رئيسية رأت أنَّها تكفل تحقيق هذه الأهداف, وأهم هذه المبادئ هي:

المبدأ الأول: مبدأ الدولة أَولى بالرعاية

يعتبر هذا المبدأ الركيزة الأساسية التي تقوم عليها فلسفة تحرير التجارة الدولية في اتّفاقية (الجات), والمقصود بمعاملة الدولة هو منح كلّ طرف من الأطراف نفس المعاملة الممنوحة من مزايا وإعفاءات يتمتع بها أيّ طرف آخر في سوق الدولة من دون قيد أو شرط ومن دون تمييز.

ومقتضى هذا المبدأ أنَّ أيّ مزايا تجارية تمنحها إحدى الدول الأطراف إلى دولة أخرى يجب أنْ تنسحب وبصورة تلقائية ومن دون شرط إلى جميع الأطراف المتعاقدة في الإتفاقية حتى لو لم تطالب هذه الدولة بذلك.

ومن ثمَّ ترتب على أعمال هذا المبدأ أنْ تتم المفاوضات المتعلقة بالتجارة الدولية على أساس جماعي أو متعدد الأطراف.

كما ترتب عليه أيضاً توسيع نطاق التخفيضات الجمركية بين جميع الدول المشاركة في اتّفاقية (الجات).

ص: 523

نعم؛ قد استثني من هذا المبدأ بعض الاستثناءات يخصّ معظمها الدول النامية؛ راجع كتاب (العولمة الإقتصادية) للدكتور عبد الله موجان.

المبدأ الثاني: مبدأ التخفيضات والالتزامات الجمركية المتبادلة

ولهذه التخفيضات صورتان, هما:

الأولى: تخفيضات جمركية مباشرة, وهي التي تتم خلال المفاوضات التي تدور بين الدول الأطراف المتعاقدة في اتفاقية (الجات).الثانية: تخفيضات جمركية غير مباشرة، وهي التي تنتج من جراء تطبيق مبدأ الدولة الأَولى بالرعاية. ويتمّ تنفيذ هذا المبدأ عن طريق مطالبة كلّ دولة متعاقدة في (الجات) بإيجاد قائمتين رئيسيتين, هما:

القائمة الأولى: تتضمن المنتوجات التي ترغب الدولة المتعاقدة في التوسع في تصديرها إلى العالم الخارجي ومن ثم تطلب من الأطراف المتعاقدة تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة عليها.

القائمة الثانية: تتضمن السلع التي تكون الدولة المتعاقدة مستعدة لإجراء تخفيضات جمركية عليها, أو تكون راغبة في التوسع في استيرادها من العالم الخارجي.

وقد تعرض هذا المبدأ لبعض الاستثناءات أيضاً.

المبدأ الثالث: مبدأ المعاملة الوطنية

تلتزم الأطراف المتعاقدة بموجب مبدأ الدولة الأَولى بالرعاية بعد التمييز بين منتوجات دولة ودولة أخرى من الدول الأطراف في اتّفاقية (الجات).

وتلتزم أيضاً بموجب المعاملة الوطنية بعدم التمييز بين المنتوجات المستوردة والمنتوجات المحلية؛ مِمّا يعني عدم إعطاء المنتوجات المحلية أيّ ميزة تفضيلية على المنتوجات المستوردة,

ص: 524

ويترتب على ذلك عدم لجوء الدولة المستوردة إلى القيود غير التعريفية مثل الضرائب أو الرسوم أو القوانين والإجراءات والقرارات التنظيمية الأخرى كوسيلة لحماية السلع المحلية.

المبدأ الرابع: مبدأ الشفافية

يعتبر هذا المبدأ أحد المتطلبات الهامة لنجاح نظام (الجات) باعتباره نظاماً تجارياً متعدد الأطراف؛ حيث يحقق للنظام استقراره وقابليته للتنبؤ وحفظه من الانهيار المفاجئ.

وتلتزم الأطراف المتعاقدة بموجب هذا المبدأ بضرورة قيام أي دولة بنشر قوانين أو تنظيمات أو لوائح أو قواعد إدارية مستحدثة لها تأثير على عملية البيع أو الشراء أو النقل أو التأمين أو التخزين أو الفحص أو العرض أو الإستخدام أو الخلط بالنسبة إلى أيِّ طرف من الأطراف المتعاقدة, كما ينبغي نشر جميع الإتّفاقيات التي توقعها الأطراف المتعاقدة والتي تؤثر على سياسات التجارة الدولية مطلقاً.

ومراعاةً لمبدأ الشفافية فقد تعرضت أغلب مواد الإتّفاقية إلى ضرورة مراعاة الوضوح في صياغة السياسيات التجارية بين الأطراف المتعاقدة, مع عدم اللجوء إلى اتّخاذ أيّ إجراءات جديدة من جانب واحد دون موافقة مسبقة من بقية الأطراف المتعاقدة بأغلبية ثلثي الأطراف على الأقل, وذلك ضماناً لتحقيق مبدأ الشفافية في العلاقات التجارية الدولية.ثم إنَّه قد مرَّت اتفاقية (الجات) منذ نشأتها عام (1947 م) وحتى عام (1993 م) بجولات عديدة تبلغ ثمان جولات؛ أقامتها سكرتارية الجات للأشراف على المفاوضات حول التعريفات الجمركية والقواعد والإجراءات المنظمة للتجارة الدولية بين الأطراف المتعاقدة في اتفاقية (الجات), وتختلف هذه الجولات من حيث الأهمية؛ فهي ليست على قدر واحد من الأهمية في حركة التجارية الدولية, وليس المقام ذكر تلك الجولات, ومن أراد التفصيل فليراجع كتاب (العولمة الإقتصادية) للدكتور عبد الله حسين الموجان.

ص: 525

ولنا التعليق على ذلك كلّه بأنَّ تلك الجهود الجبارة التي بذلتها الأمم المتحدة والدول في إتفاقية التجارة العالمية ورغم المؤتمرات والجولات العديدة والقرارات الصادرة لم تسلم هذه الإتفاقية من الإشكالات والانتقادات, من أهمها:

أولاً: إنَّ هذه الإتفاقية وقرارتها تنصبّ لخدمة الدول الكبرى الغنية, وهي المستفيدة الأكبر منها على حساب الدول النامية, حتى أنَّهم أسموها (منتدى الأغنياء).

ثانياً: إنَّ الإقتصاد العالمي شهد من الركود التضخمي في فترات مختلفة, وهي حالة تتميز بارتفاع معدلات التضخم وارتفاع معدلات البطالة معاً وفي آنٍ واحد, الأمر الذي ينتج عنه انخفاض معدلات النمو في الإنتاج المحلي الإجمالي, مِمّا استلزم أنْ تتبع دول منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية سياسات انكماشية؛ إنعكست على معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي في تلك البلاد, فلم تنهض إتّفاقية (الجات) بمهامها حينئذٍ ولم تؤثر بنودها في حلِّ المشاكل.

ثالثاً: ظهور سياسات الدول الصناعية الكبرى لحماية التجارة في مجال الصناعة والزراعة؛ مِمّا تؤدي إلى تقويض إتّفاقية (الجات) إلا تحت مفاوضات جديدة, وقد أدّى ذلك إلى خلافات كبيرة لا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الجماعة الأوروبية, مِمّا نتج من ذلك إلى تجديد مبادئ إتفاقية (الجات).

رابعاً: إنَّ هذه المنظمات هي وسائل استعمارية تتَّخذها الدول المستعمرة للاستيلاء على ثروات البلاد الأخرى وتركيعها أمام مطالبهم الإستعمارية, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 526

وقد نتج من جميع تلك المراحل والتطورات تأسيس منظمة عالمية أخرى, هي أخطر مؤسسة من مؤسسات العولمة, لأنَّها تمارس دوراً رئيسياً في تحقيق أهداف العولمة وتحويل الإقتصادات المنغلقة إلى اقتصاديات حرّة مفتوحة, مع دمجها في الإقتصاد العالمي, وهي:

منظمة التجارية العالمية (W.T.O).
اشارة

والبحث فيها يكون ضمن أمور:

أولاً: نشأتها

ذكرنا فيما تقدم أنَّ فكرة إنشاء منظمة التجارية العالمية ترجع إلى عام (1945 م)؛ عندما اقترحت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك إنشاء منظمة لإدارة التجارة العالمية على غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, إلا أنَّ الكونجرس الأمريكي رفض هذا المشروع لأنَّه لم يلبّي مصالحها, واستبدلت تلك المنظمة بالاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات)؛ كما تقدم بيان ذلك.

وقد نشأ عن إتفاقية (الجات) عدة اتفاقيات فرعية ساهمت في تأسيس منظمة التجارة متعدد الأطراف عام (1994 م) في جولة أورغواي, حيث أحسّت الدول الأطراف المتعاقدة بضرورة إيجاد إطار مؤسسي واحد يشمل إتّفاقية (الجات), وتعمل هذه المؤسسة على إدارة وتنفيذ والإشراف على تنفيذ الإتفاقيات التجارية التي وقعتها الدول الأطراف المتعاقدة في (الجات), ويكون ذلك كلّه عبر وسائل إلزامية لمراقبة عدالة ومشروعية تنفيذ الإتفاقيات الموقع عليها والخاصة بالتجارة الدولية.

فقد أعلن وزراء مالية واقتصاد (117 دولة) في مراكش عام (1994 م) تأسيس منظمة التجارة العالمية, وبقيام هذه المنظمة أول يناير (1995 م) اختفت إتّفاقية (الجات) التي نشأت عام (1948 م), وذلك بعد نصف قرن تقريباً, وحلّت محلها منظمة التجارية العالمية (W.T.O).

ص: 527

ثانياً: دواعي الإنشاء

إنَّ السبب في إنشاء هذه المنظمة أمران:

1- ما ذكرنا من أنَّ وضع الإتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات) كمعاهدة دولية لتنظيم المبادلات التجارية بين الدول التي تقبل الإنضمام إليها وهو الوضع الذي أدّى إلى اطلاق إسم (الأطراف المتعاقدة) على الدول التي انضمَّت إلى هذه الإتفاقية, ولم يسمح مع هذا الوضع أنْ يطلق إسم (الدول الأعضاء)؛ لأنَّه لم يكن لهذه الإتفاقية الوضع القانوني كمنظمة عالمية.

2- من الناحية العلمية؛ فقد أثيرت اعتراضات عديدة على بعض الإتفاقيات مِمّا اختلفت الدول عليها فجعلتها مقبولة عند بعض الدول دون بعض, فمثلاً عارضت الهند طويلاً فرض قوانين أكثر تشدداً على براءات الإختراع في مجال الأدوية في جولة (أورغواي).

أمّا بالنسبة إلى منظمة التجارة العالمية فإنَّها لا تسمح بمثل هذه الأوضاع, فإنَّ من يقبل الإنضمام إلى منظمة التجارة العلمية لا بُدَّ أنْ يقبلها جميعاً من دون إستثناء, فالهند في المثال السابق يتعين عليها تنفيذ قانون الملكية الفكرية الذي يتضمن قوانين محددة بشأن براءات الإختراع إذا ما أرادت الهند الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية. ومن أجل ذلك تمايز الوضعالقانوني وهيكل ووظائف ومهام ونطاق ومبادئ منظمة التجارة العالمية عن الإتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات) كما يأتي بيان ذلك.

ثالثاً: الوضع القانوني لمنظمة التجارية العالمية

1- إنَّ المنظمة لها شخصية قانونية, وعلى كلِّ عضو من أعضائها أنْ يمنحها الأهلية القانونية اللازمة لمباشرة مهامها.

ص: 528

2- تمنح المنظمة لكلِّ دولة عضو ما يلزم من امتيازات وحصانات لمباشرة مهامها.

وبناءً على هذا الوضع القانوني المتميّز للمنظمة فقد أطلق على الدول المنظمَّة إليها إسم (الدول الأعضاء) بدلاً من (الأطراف المتعاقدة) الذي يطلق على الدول المنظمَّة إلى إتفاقية (الجات).

ومن ثمَّ فقد أصبحت المنظمة في المؤسسة الدولية المسؤولة عن تنفيذ نتائج اتفاقيات (الجات) في جولة (أورغواي), حيث تضمنت على ستين إتفاقية وملاحق وقرارات وتفاهمات؛ كلُّ ذلك من إرث (الجات) في جولتها الأخيرة في (أورغواي) التي صارت ميراث المنظمة التجارية العالمية؛ التي هي مسؤولة عنها مسؤولية كاملة.

كما أنَّ نتائج هذا الوضع القانوني للمنظمة أنْ أصبحت جميع النتائج القانونية بمثابة حزمة واحدة من الالتزامات؛ تتعهد الدول الأعضاء أو التي تريد الإنظام إلى عضويتها بالموافقة عليها وقبولها جميعاً كصفقة واحدة, ولا يمكن تجزئتها كما كان في إتفاقية (الجات).

رابعاً: هيكل منظمة التجارة العالمية

إشتمل الهيكل التنظيمي للمنظمة على مجموعة من الأجهزة والآليات التي تمكّن المنظمة من إدارة أعمالها وتحقيق الأهداف المنوطة بها, والهيكل التنظيمي هو كالتالي:

1- المؤتمر الوزاري.

2- المجلس العام.

3- المجالس التابعة للإشراف العام للمجلس العام.

4- لجان أخرى.

ومن أراد الإطّلاع عليها فليراجع كتاب (عولمة النظام الإقتصادي) للدكتور عادل عبد المهدي.

ص: 529

خامساً: نطاق عمل منظمة التجارية العالمية

إتَّفقت الدول الأعضاء المُنشئة لهذه المنظمة على تحديد نطاق عملها بما يلي:1- تكون المنظمة الإطار المؤسسي المشترك لسير العلاقات التجارية فيها بين الدول الأعضاء في المسائل المتعلقة بالاتفاقيات والأدوات القانونية المقترنة بها؛ الواردة في ملاحق هذه الإتفاقية.

2- تعتبر الإتفاقيات والأدوات القانونية المقترنة بالإتفاقية المُنشئة للمنظمة -والتي تعرف باسم (إتّفاقيات التجارة متعددة الأطراف)- جزء لا يتجزأ من هذه الإتفاقية, وهي ملزمة لجميع الدول الأعضاء.

3- تعدّ اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف جزء لا يتجزأ من هذه الإتفاقية المُنشئة للمنظمة بالنسبة إلى الدول الأعضاء التي قبلتها, بخلاف اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف التي لا التزام بالنسبة إلى قراراتها وليست هي ملزمة للدول التي لم تقبل تلك الإتفاقية.

4- تختلف الإتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات) في عام (1993 م) من الناحية القانونية عن بقية اتفاقات (الجات), لأنَّها تعدّ من أهم نطاق عمل المنظمة التي اكتسبت المسؤولية عن هذه الإتفاقية التي صدرت عام (1994 م), والتي لها وضع قانوني خاص بها يختلف عن الوضع القانوني الخاص باتفاقية (الجات) عام (1947 م).

سادساً: وظائف منظمة التجارة العالمية

ذكرنا أنَّ منظمة التجارة العالمية هي الإطار المؤسسي الدولي الوحيد الذي يصنع ويطور ويشرف على تطبيق القواعد التي تحكم حركة التجارة الدولية بين دول العالم.

ص: 530

ومن أجل ذلك فقد حدّدت سلفاً السياسة التجارية الدولية التي تطالب المنظمة بالعمل على تحقيقها؛ فهي تتكفل تحقيق التدفق الحر والمستقر للتجارة الدولية, مع معالجة النزاعات التجارية التي تنشأ بين الأعضاء في المعاملات الإقتصادية الدولية.

وعلى ضوء ذلك يمكن تلخيص أهم وظائف المنظمة العالمية, وهي:

1- تُسهّل المنظمة تنفيذ وإدارة وأعمال اتّفاقات التجارة متعددة الأطراف, وتعمل على دفع أهدافها وتوفير الأطراف اللازمة للتنفيذ والإدارة.

2- تُدير المنظمة وتُشرف على سير وثيقة التفاهم المتعلقة بالقواعد والإجراءات التي تنظم تسوية المنازعات والتي عرفت باسم (تفاهم تسوية المنازعات), وقد انبثق عن هذه الوثيقة جهاز تسوية المنازعات.

وعليه فقد تجدّد المنظمة طرق عمل وأسلوب تشكيل فرق التحكيم وجهاز الإستثناء وحقوق والتزامات الدول في جهاز تسوية المنازعات.

3- توفر المنظمة الإطار التفاوضي اللازم بين أعضائها بشأن علاقتهم التجارية متعددة الأطراف.كما إنَّها توفر محفلاً لمزيد من المفاوضات فيما بين أعضائها, وتوفر أيضاً إطاراً لتنفيذ نتائج مثل هذه المفاوضات على النحو الذي يقرره المؤتمر الوزاري.

4- تدير المنظمة آلية مراجعة السياسة التجارية, والتي تُعرف باسم (آلية المراجعة), والتي انبثق عنها جهاز مراجعة السياسة التجارية, والذي يتولى مهمة مراجعة السياسيات التجارية للدول الأعضاء وفقاً لفترات زمنية محددة كلّ عامين للدول المتقدمة, وكلُّ أربعة اعوام للدول الآخذة في النمو, وذلك لتقييم هذه السياسات.

ص: 531

2- تقوم المنظمة بالتعاون مع كلٍّ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بغية تحقيق أكبر قدر ممكن من التناسق في السياسات والإجراءات والآليات الخاصة بالإقتصاد العالمي.

سابعاً: مبادئ منظمة التجارة العالمية

لا تختلف مبادئ المنظمة عن المبادئ التي قامت عليها إتفاقية (الجات), وهي الإتفاقية العامة للتعريفات والتجارة خلال نصف القرن المنصرم مع بعض التعديلات الخاصة بإخضاع كلّ السلع الصناعية والزراعية للتحرير التجاري الدولي من ناحية.

وإحداث تغلغل الأسواق (فتح الأسواق) من ناحية أخرى.

وتحرير التجارة الدولية في الخدمات من ناحية ثالثة.

وحماية حقوق الملكية الفكرية من ناحية رابعة.

هذا بالإضافة إلى تفصيل آلية تسوية المنازعات, وإمكانية إعادة التفاوض مع ضبط السلوك التجاري للأعضاء وفقاً لإطار مؤسسي ملزم(1).

وأهم تلك المبادئ لمنظمة التجارة العالمية هي:

المبدأ الأول: مبدأ التجارة من دون تمييز

وهو المبدأ الذي بمقتضاه تتساوى فيه جميع الدول الأعضاء في الحقوق والالتزامات التجارية الدولية؛ فقد نصَّت المادة الأولى من إتفاقية (الجات) ضمن الوثيقة الختامية بجولة (أورغواي) على شرط (الدولة الأَولى بالرعاية) الذي تقدم بيانه.

وهو الذي ضمن اتّساع نطاق التخفيضات الجمركية واستفادة جميع الأعضاء من أيِّ تخفيض جمركي.

كما نصَّت المادة الثانية على ضرورة عدم التمييز بين المنتوج المحلي والمنتوج الأجنبي.

ص: 532


1- كتاب عولمة النظام الإقتصادي؛ د. عادل عبد المهدي.

المبدأ الثاني: زيادة درجة التغلغل في الأسواقويقضي هذا المبدأ بالتزام الدول الأعضاء في المنظمة بإلغاء القيود الكمية وغير التعريفية على الواردات.

وعلى ذلك فإنَّ الدولة العضو بالمنظمة تلتزم بتقديم جداول التنازلات الجمركية المحددة من قبلها لفترة زمنية تبدأ من أول يناير عام (1995 م).

كما جعلت المنظمة قيوداً على حركة الدول الأعضاء في الاستفادة من الإستثناءات الممنوحة لأغراض ميزان المدفوعات أو الإعفاء من بعض الإلتزامات أو سحب أو تعديل الالتزامات.

المبدأ الثالث: مبدأ المعاملة التفضيلية للدول النامية

وهو نفس المبدأ المعمول به في النظام التجاري الدولي منذ إضافة الأحكام الإتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (الجات) عام (1966 م), ويخصّ هذه المبدأ الدول المتقدمة على تقديم مزايا تفضيلية للدول النامية من دون المطالبة بالمعاملة بالمثل, وذلك من أجل توفير الظروف الملائمة لتنمية البلدان الآخذة في النمو.

المبدأ الرابع: معايير الوقاية

أقرَّت إتفاقية (الجات) عام (1947 م) بحقِّ الدولة في فرض قيود كمية على وارداتها لحماية ميزان مدفوعاتها من الإصابة بالعجز.

كما أقرَّت الإتفاقية ذاتها بأحقيَّة الدول النامية في اللجوء إلى فرض القيود الكمية لحماية الصناعات الوطنية بها.

وقد ورثت المنظمة هذه المعايير من الإتفاقيات والإقرارات والنصوص والأدوات القانونية من إتفاقية (الجات) في جولة (أورغواي), فقد أوضحت إتفاقية مكافحة الإنحراف أنَّ الدول التي تصاب بضرر ملموس نتيجة الإغراق يمكنها فرض ضريبة جمركية إضافية على الواردات من الدول المُغرِقة.

ص: 533

كما يجوز تطبيق هذا الإجراء -أي فرض ضريبة إضافية على الواردات- في حالة قيام إحدى الدول بدعم صادراتها بصورة تؤثر على الأوضاع التنافسية في الدول المستوردة.

وغير ذلك من الظروف الطارئة.

المبدأ الخامس: إمكانية إعادة التفاوض

على ضوء هذا المبدأ يكون للمنظمة الحقّ في مراجعة الالتزامات والأحكام الواردة في الإتفاقيات, مِمّا يعني إمكانية تطوير هذه الإلتزامات والأحكام لتلائم الظروف الآتية للإقتصاد العالمي.

ووفقاً لهذا المبدأ أقرَّت إتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية الحقَّ لأيِّ دولة من الدول الأعضاء بتقديم اقتراحاتها لتعديل أحكام الإتفاقيات التجارية متعددة الأطراف وعرض الأمر على المجلس الوزاري في المنظمة.

وقد وضع هذا المبدأ أيضاً ما يتعلق بجداول التنازلات, حيث أوضحت وثيقة التفاهم الخاصة بأحكام ميزان المدفوعات أنَّه يجوز تعديل هذه الجداول علىالنحو المناسب ومراعاة التغييرات التي تحدث في ميزان المدفوعات من جراء تطبيق هذه الجداول, على أنْ لا يتمّ هذا التعديل إلا بعد إجراء المشاورات مع اللجان المختصة وإخطار المجلس العام بالتغييرات أو التعديلات في الجداول الزمنية التي التزمت بها الدولة العضو.

ومن ذلك يظهر أنَّ هذا المبدأ أعطى المنظمة التجارة العالمية ديناميكية كبرى.

ثامناً: المؤتمرات الوزارية لمنظمة التجارة العالمية

ذكرنا أنَّ المؤتمر الوزاري لهذه المنظمة هو أعلى سلطة في المنظمة؛ يعقد مرة كلّ سنتين على الأقل, وذلك من أجل مناقشة المستجدات الإقتصادية والتجارة العالمية, وكذلك لمتابعة سير مبادئ وأهداف منظمة التجارة العالمية, وأيضاً إعادة التفاوض حول بعض النقاط الخاصة بالتجارة العالمية والتي ما زالت معلقة ولم يتم أخذ قرار حاسم بخصوصها.

ص: 534

وقد انعقدت أربعة مؤتمرات وزارية منذ نشأة المنظمة عام (1994 م) وحتى عام (2001 م), وهي:

· مؤتمر سنغافورة عام (1996 م).

· مؤتمر جنيف عام (1998 م).

· مؤتمر سياتل أمريكا عام (1999 م).

· مؤتمر الدوحة عام (2001 م).

وقد أسهمت هذه المؤتمرات في اتّخاذ قرارات في مجال التجارة الدولية, وفي متابعة سير المنظمة نفسها وتفعيل آلياتها(1).

هذا ما أردنا ذكره في هذه المؤسسات الدولية الثلاث؛ البنك الدولي, صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية؛ والتي لها المساهمة الكبرى في تأسيس العولمة الإقتصادية والإشراف عليها وتنفيذ أهدافها وتحقيق ما تعدّ به العولمة.

العولمة الإقتصادية في الميزان
اشارة

ذكرنا في البحوث ما يتعلق بالعولمة الإقتصادية وآلياتها ومؤسساتها الثلاث العملاقة, وسوف نذكر في هذه البحوث مزايا وإيجابيات العولمة الإقتصادية وفقاً لما حققته من الوعود أو فشلت في تحقيقها, وهو النقد الداخلي للعولمة الإقتصادية وتبين ما تحمله من عناصر قوة أو ضعف ذاتي.

ولا بُدَّ أنْ يكون هنا ميزاناً تزن به العولمة الإقتصادية, وهو ينحصر في المنهج الإسلامي في الإقتصاد منها؛ هذا المنهج القويم وما خالفته, ومع بيان ما يمكن أنْ تستفيد منه الدول الإسلامية من خلال العولمة الإقتصادية ومنظماتها العملاقة.

ص: 535


1- من أراد التفصيل على أعمالها فليراجع كتاب العولمة الإقتصادية (د. عبد الله حسين موجان).

وحينئذٍ لا يكون البحث في العولمة وأثرها على اقتصاديات الدول النامية, والعولمة وأثرها في تحرير التجارة في السلع الزراعية في الدول النامية نافعاً إلابعد معرفة الصورة التي أقامها مريدو العولمة الإقتصادية والهامة الكبيرة التي أضافوها عليها.

فنقول: من المعلوم أنَّ الدول النامية عندما اتَّبعت سياسات إقتصادية خاصة بها, لا سيما في فترة الستينات والسبعينات صار اقتصادها أقرب إلى الإنغلاق الإقتصادي منها إلى الإنفتاح الإقتصادي على العالم الخارجي؛ على عكسها في فترة الثمانينيات وفي النصف الثاني منه بالخصوص, فإنَّه على أثر العولمة الإقتصادية صار لتلك الدول النامية إقتصاداً أقرب إلى الإنفتاح الذي أملأته العولمة بمنظماتها العملاقة, وكان هدف هذه السياسات في المقام الأول إصلاح الإقتصاد المهدم في تلك الدول, وذلك من خلال تفعيل آليات السوق عن طريق تحرير قطاع التجارة الخارجية وتحرير القطاع المالي والتخصيص (الخصخصة), ورفع الدعم وإصلاح وضع الموازنات العامة.

وقد كانت هذه السياسات من أهم العوامل التي أدَّت إلى زيادة انخراط الدول النامية في العولمة, وقد ساعد على ذلك كون غالب هذه السياسات التي فرضتها المنضمات الدولية العملاقة على صورة الحزم, ما يعني وجوب الأخذ بجميع الآليات الموجودة في الحزمة الواحدة.

إنَّ التناغم والتنسيق المتكامل بين المنضمات الثلاث العملاقة للعولمة الإقتصادية أدّى إلى تزايد عدد الدول المنضمَّة إلى منظمة التجارة العالمية التي هي المنظمة الرئيسية الفعالة في العولمة الإقتصادية, ومن هنا يجب التنبيه على أمور متعلقة بالعولمة والدول النامية:

1- صورة العولمة محاطة ببعض الظلال القائمة, فليست هي وردية دائماً؛ حيث أنَّ هناك بعض الدول التي تتضرر اقتصاداتها من جراء تزايد التكامل الإقتصادي

ص: 536

العالمي, وتحرير التجارة الخارجية وخصوصاً على المدني القريب, وذلك نتيجة الإجراءات التي يستلزمها الخصخصة وتحرير الأسواق ورفع الدعم, إلخ؛ من زيادة التكلفة الإجتماعية والإقتصادية وزيادة معدلات البطالة وعدم إستطاعة بعض الصناعات الوطنية منافسة الصناعات الأجنبية المماثلة من جراء رفع الحكومات حماية هذه الصناعات.

2- مارست منظمات العولمة إزدواجية في المعايير, فانحازت إلى مصالح الدول الصناعية الكبرى في مقابل مصالح الدول النامية, وهو الأمر الذي أدّى إلى تباطؤ كثير من الدول النامية في عملية الإندماج الكلي في العولمة, وإنَّ هذه الإزدواجية كانت ولا تزال من أهم عيوب العولمة الإقتصادية ومنظماتها العملاقة.

3- لا تزال كثير من الدول الصناعية الكبرى تحتفظ بكثير من الإنغلاق في سياستها الإقتصادية؛ لا سيما في مجال الزراعة والصناعات الصغيرة.

4- إختلفت الدول النامية في النمو؛ فقد حققت بعض الدول النامية التي اتَّبعت سياسات إقتصادية سليمة لإصلاح اقتصادها, مِمّا أدّى إلى ارتفاع معدلات النمو الإقتصادي مع انتهاج مستويات مرتفعة قبل أنْ تنخرط في العولمة, ثم انخرطت في العولمة. أمّا بالنسبة للدول النامية مجتمعة؛ فقد حققت غالبها معدلات نمو اقتصادها متأخرة, بل سجلت هذه الدول معدلات نمو أقل بكثير مِمّا سجلته في العقود السابقة عن عقود العولمة, ويرجع السبب في ذلك إلى جملة من الأمور التي سبق ذكرها في البحوث السابقة في سلبيات تحرير التجارة والإزدواجية في معايير منظمات العولمة وممارسات الدول الصناعية الكبرى.

ص: 537

5- إنَّنا لا ننكر أنَّه يمكن أنْ يكون السبب في فشل النمو الإقتصادي للدول النامية هو إهمال حكومات هذه الدول من الإستفادة من العولمة الإقتصادية, كما عانت هذه الدول من كثير من الممارسات الفاسدة لحكوماتها التي منها جمع أعضائها الأموال الكثيرة في بنوك سويسرا؛ مِمّا أدّى إلى زيادة تأخر النمو الإقتصادي في هذه الدول النامية.

كما أهملت حكومات الدول مواجهة آثار العولمة, مثل إهمال حلول مواجهة البطالة والحدّ من آثارها الإجتماعية, فلم تكن العولمة بمؤسساتها هي السبب الوحيد والرئيسي في تخلف الدول النامية, بل ربما كانت حكومات هذه الدول هي السبب الرئيسي في التخلف والتأخر, لكن لا بُدَّ من التنبيه على أنَّ التأخر والتخلف لهما أسباب عديدة كما تقدم, إلا أنَّ العولمة الإقتصادية لما كانت الأمل الوحيد في النجاة منهما وهو لم يتحقق ولم تلبِّ طموحات المنخرطين فيها, ونحن نريد أنْ نثبت سلبيات العولمة عند المنخرطين فيها وآثارها السيئة على العالم, فلا بُدَّ من البحث من وجهين:

الوجه الأول: العولمة الإقتصادية وأثرها على اقتصاد الدول النامية على سبيل الإجمال

أولاً: العولمة الإقتصادية ومعدل نمو نصيب الفرد الواحد من الدخل القومي

من الواضح أنَّ الإقتصاد الدولي قد عاش عصراً ذهبياً في الفترة ما بين عامي (1960 م) و(1980 م) مقارنة بالعقدين اللذين عاشت فيهما الشعوب أجواء العولمة بين عامي (1980 م) و(2000 م)؛ فإنَّ الفترة من عام (1960 م) إلى عام (1980 م) كانت حصة الفرد الواحد من الدخل القومي قد ارتفعت فيأمريكا اللاتينية وفي القارة الأفريقية وفي العديد من الأقطار العربية ارتفاعاً يدعو إلى الإعجاب.

ص: 538

بينما اتَّسمت الفترة التالية لها من عام (1980 م)(1) حتى عام (2000 م) وهي فترة العولمة؛ إتَّسمت بتراجع المستويات المعيشية لفئات عريضة في مجتمعات العالم الثالث, ففي أمريكا اللاتينية تراجع معدل نمو حصة الفرد الواحد من الدخل القومي من (78 %) في السنوات (1960م – 1980 م) إلى (8 %) فقط طيلة عقدي (1980- 2000 م).

وفي القارة الافريقية -حيث غالبية الدول النامية- قد انخفض معدل نمو نصيب الفرد الواحد من الدخل القومي من (39 %) إلى (14 %).

أمّا بالنسبة إلى الأقطار العربية؛ فإنَّ حصة الفرد الواحد لم تتغير في المتوسط إلا نادراً في الفترة الزمنية المزبورة, علماً بأنَّها شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في العقدين السابقين لعقدي العولمة.

ثانياً: العولمة الإقتصادية واتّساع الهوَّة بين الأغنياء والفقراء

إنَّ تراجع معدلات النمو إنَّما يعود لتطبيق آليات العولمة الإقتصادية, الذي أدّى إلى تضخم نصيب رؤوس الأموال والمحظوظين من ذوي الجاه والسلطة من الدخل القومي, مِمّا أدّى إلى ارتفاع عدد الفقراء وانتشار الشقاء والحرمان, وقد تفاقمت في السنوات العشرين على مستوى العالم كلّه, والسبب هو اللاعدالة في توزيع الخيرات والمكاسب, فإذا أردنا تقسيم سكان العالم على حسب مستواهم المادي إلى خمسة أجزاء؛ خُمس هو أغنى الأغنياء, وثلاثة أخماس وسطى, وخُمس هم أفقر الفقراء. فإنَّه في الستينات كان نصيب الفرد الواحد من أبناء ذلك الخمس الذي يعتبر من أغنى الأغنياء لا يزيد على (30 ضعفاً) مقارناً بالنصيب الذي يحصل عليه الفرد الواحد من أبناء الخمس الذي يعتبر من أفقر الفقراء, وفي نهاية عقدي العولمة -نهاية القرن العشرين- كان الفارق قد ارتفع ليصل إلى (78 ضعفاً).

ص: 539


1- وهو العام الذي يمكن اعتباره عام العولمة.

كما أنَّ متوسط دخول أعلى (20 دولة غنية) ما يزال يساوي (40 مرة) بقدر دخول الدول الأفقر, بينما كان الفارق قبل (40 سنة) يساوي (20 مرة), وقبل مائة سنة كان الفارق خمس مرات, أمّا في سنة (1820 م) فكان الفارق مرتين فقط, وإنَّ (10 %) من سكان الأرض الآن يحصلون على (70 %) من دخولها.

ثالثاً: العولمة واتساع اسواق الدول النامية

ذكرنا أنَّ العولمة قد وعدت في خطابها الرسمي الدول النامية بالازدهار والتنمية تبعاً لاتّساع الأسواق ونمو تجارتها الخارجية, لكن الأرقام والبيانات تشهد عكس هذا الأمر تماماً؛ فإنَّه في أفقر بلدان العالم حيث يقطن (40 %) من سكان العالملا يزال حصتهم من التجارة الخارجية بعد مضي عشرين عاماً على مشروع العولمة أقل من (3 %)؛ إنَّ هذه الفجوة الهائلة في الإستحواذ على التجارة الخارجية وتمركزها في أيدي أعداد قليلة من الأغنياء إنَّما وجدت في عصر العولمة, وعلى مرأى ومسمع من منظمات العولمة العملاقة والدول الصناعية الكبرى الداعمة للعولمة, بل نستطيع أنْ نقول بأنَّ هذا التفاوت الهائل إنَّما حصل من ممارسات هذه الدول الصناعية الكبرى(1) مع الدول النامية, ونتيجة القرارات الكثيرة الصادرة من هذه المنظمات العملاقة فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتّحاد الأوروبي لا تزال توصد أبوابها أمام السلع النسيجية من دول الجنوب الفقيرة, وذلك إمّا من خلال فرض حصص جائرة على صادرات الجنوب أو من خلال فرض رسوم جمركية عالية على هذه الصادرات.

كما تفرض الدول الصناعية الكبرى على المنتوجات الصناعية المستورة من الدول النامية رسوماً جمركية متصاعدة, وبذلك تثبط جهود التنمية الصناعية في الدول النامية.

ص: 540


1- أمريكا وأوروبا.

وقد بلغ الأمر مبلغاً عظيماً من التناقض عندما تعلم أنَّ الرسوم الجمركية التي تفرضها الدول الغنية المشاركة في منظمة التنمية والتعاون الدولي على المنتوجات القادمة من الدول النامية تبلغ أضعاف الرسوم التي تستوفيها فيها من تجارتها.

ومن أجل ذلك إعتبر بعض النقّاد أنَّ الحديث عن تحرير التجارة الخارجية خدعة؛ فقد ترك تحرير أسواق الدول النامية أمام منتوجات الدول الصناعية آثار مدمرة على الجهود التنموية في غالبية دول العالم الثالث.

الوجه الثاني: العولمة الإقتصادية وتحرير التجارة في السلع الزراعية في الدول النامية

لعلَّ السلع والمنتوجات الزراعية هي أهم ما تملكه الدول النامية لتقدمه في سياستها لتجارة الخارجية من خلال انفتاحها فيها, وذلك لوفرة الأيدي العاملة لديها ووفرة الرقعة الزراعية؛ مِمّا يجعل المنتوجات والسلع الزراعية هي المنافس الرئيس للدول النامية في السوق العالمية, لكن ما تمارسه الدول الصناعية الكبرى من ممارسات مع منظمة العولمة الإقتصادية في تكريس المعايير المزدوجة والنفاق السياسي لدول الشمال مِمّا جعلت موضوع المنتوجات الزراعية موضع الخلاف الكبير بين الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية والدول الأوروبية من ناحية أخرى, وبين الدول النامية من ناحية والدول الصناعية من ناحية أخرى؛ فإنَّه بينما تطالب البلدان النامية بضرورة المضي قدماً بتحريرالتجارة في السلع والمنتوجات الزراعية فإنَّ البلدان الصناعية تصرف (مليار دولار) في اليوم الواحد على الدعم الحكومي للإنتاج الفائض وإغراق الصادرات, مدمرة بذلك مصادر رزق المزارعين من ذوي الحيازات الصغيرة في الدول النامية, ومِمّا يوجب خسارة بلدان القارة الأفريقية وغيرها.

ص: 541

كما إنَّه يبلغ النفاق السياسي الذروة؛ حيث يطالب الرئيس الأمريكي دول الإتّحاد بضرورة فتح أسواقها أمام المنتوجات الزراعية التي أدخلت المصانع الأمريكية المتخصصة تغييرات جذرية على جينات بذورها تعظيماً لأرباح الزراع, رافضاً ما تقدمه دول الإتّحاد الأوروبي من تبرير من أنَّ هذه المنتوجات يمكن أنْ تنطوي على مخاطر جسيمة على صحة الناس, فإذا كان حال الدول الأوروبية هكذا فكيف تكون حال الدول النامية؟!.

واستمرت العولمة الإقتصادية بمؤسساتها في معاييرها الإزدواجية منذ جولة أورغواي في إتفاقية (الجات) مروراً بمنظمة التجارة العالمية ومؤتمراتها الوزارية, وقد تبين بعد الإعلان عن العولمة الإقتصادية ودعمها بكامل الوسائل المتاحة أنَّ جزءً مهما من العولمة الإقتصادية تعامله الدول الغنية باعتباره طريقا باتّجاه واحد, وأهم علامة على ذلك دعمها لمزارعيها بما يقرب من بليون دولار يوميا (300 بليون دولار سنويا), ومن ثمَّ أبقت حدودها وأسواقها مغلقة في وجه المنتوجات الزراعية من البلدان النامية والأفقر وجعلت المنافسة مستحيلة في هذا المجال, أمّا في المقابل فكان على تلك البلدان النامية أنْ ترفع الجمارك أو تخفضها, وأنْ تسقط الحمايات عن صناعتها وتتخلى حكومتها عن الدعم للمواد الأساسية والخدمات الصحية والتعليمية؛ الأمر الذي انتهى إلى نتيجة لا خلاف حولها, وهي ازدياد الهوَّة بين الدول الغنية والمتقدمة والدول الأخرى, بحيث يزيد المتقدم ثراءً وتقدماً والمتخلف فقراً وتخلفاً.

وقد تمَّ الوصول إلى اتفاقيات (الجات) وغيرها عبر درجة عالية من الإحتيال والضغوط والتهديدات والإغراءات والوعود الكاذبة, وإذا كنا نريد انتفاء العولمة فإنَّ التجارب تكون أقوى, فما الحجة من النقد اللفظي وإنْ كان مصداقاً لتلك التجارب, مِمّا جعلت أغلب حكومات الدول العالم الثالث تحسُّ بالكارثة والاقتراب منها, فأصبحت مؤتمرات

ص: 542

منظمة التجارة العالمية محور الصراع بين الدول الغنية وبين الدول النامية, وقد صار مؤتمر (كانكون عام 2003 م) حلبة صراع حقيقية, على رغم إتفاق أمريكا ودول أوروبا على الدعم الزراعي للدول النامية, وقد فشل مؤتمر كانكون وانشطر إلى بلدان شمال ودول جنوب بعد أنْ تحولت كتلة (ال- 21) من العالم الثالث إلى كتلة تضم تسعين بلداً, مِمّا أربكت الموقف وجعلت الإتفاق مستحيلاً مع هذه الدول النامية. ولهذا يمكن القول بأنَّ فشل المؤتمر كان أفضل من نجاحٍ يقوم على الإملاء وفرض مصلحة واحدة, ومنأجل ذلك كله بدأ ظهور ويلات العولمة, فقامت صرخات في وجه العولمة بكامل مؤسساتها.

ويلات العولمة الإقتصادية

بعدما عرفت الصورة الضبابية التي أحاطت بمؤسسات العولمة مِمّا سلبت الصورة الوردية التي أراد أصحابها ومروجوها أنْ يجعلوها للعولمة الإقتصادية فقد أدَّت ممارسات الدول الكبرى إلى نتائج عكسية في الدول النامية جراء السياسات التي بنتها المؤسسات المالية الدولية على عملية تحرير أسواق المال والسلع في الدول النامية, وكانت تلك السياسات في غاية التطرف, نضرب لذلك بعض الأمثلة, وهي:

أولاً: سياسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي

إنَّ صندوق النقد الدولي مثلاً يشرط على كلِّ بلد يرغب في الحصول على قرض منه أو من البنك الدولي شروط متعددة هي:

1- أنْ يفتح مصارفه وأسواقه المالية أمام رأس المال الأجنبي.

2- أنْ يخصص (يخصخص) أكبر قدر ممكن من المصانع والشركات الحكومية حتى لو لم تكن في البلد المعني الشروط الموضعية الضرورية لنجاح التخصيص (الخصخصة), مثل أنْ لا يمتلك البلد المعني مؤسسات الرقابة على المصارف وعلى أسواق المال ولا المؤسسات المعززة للمنافسة المانعة للاحتكار.

ص: 543

3- أنْ يحرر سوقه السلعية من كلِّ العوائق المقيدة للاستيراد والتصدير.

4- أنْ يخفض الإنفاق الحكومي المخصص للرعاية الصحية والتعليم ودعم المواد الغذائية وسلع الوقود الضرورية للفئات المسحوقة أو المخصصة لدعم صغار المزارعين وأصحاب المشاريع الصغيرة.

وهذه الشروط -وإنْ لم نذكرها كلّها- مجحفة, بل إنَّ كثيراً منها يتوافق مع النظرة الإقتصادية السليمة ولا يعارضها التشريع الإسلامي المالي, لكن بعضها إذا انظمَّ مع الآخر يكون مجحفاً جداً؛ كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

ثانياً: الكيل بمكيالين

إنَّ تصرفات الدول الصناعية الكبرى تتمّ بالنفاق والكيل بمكيالين, فهي تغلق أبوابها أمام السلع الواردة من الدول النامية لما يوجب خسارتها, فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتّحاد الأوروبي لا تزال وبالرغم من مرور ما يزيد على عشرين عاماً من مشروع العولمة توصد أبوابها أمام المنتوجات الزراعية والسلع النسيجية القادمة من دول الجنوب, كما تقدم بيان ذلك.

وقد وضع صندوق النقد الدولي مؤشراً لقياس مدى تقييد التجارة الخارجية في البلدان المختلفة, وبناءً على هذا المؤشر تترتب الدول من مرتبة رقم (1) وهي دول منفتحة تماماً إلى المرتبة رقم (10), وهي دول منغلقة تماماً, ولكن الذييثير العجب أنَّ مؤشر الصندوق الدولي قد جعل الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الإتّحاد الأوروبي واليابان في مرتبة رقم (4) من هذا المؤشر, في حين تحتل بلدان أفريقية مثل أوغندا وبيرو وبوليفيا المرتبتين رقم (1) ورقم (2)؛ أي أنَّ هذه الدول الفقيرة منفتحة تماماً وبدرجة أعلى من درجة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا واليابان, فإنَّ هذه الدول لا تزال تنتهج سياسات حمائية.

ص: 544

وقد منيت دول عديدة بخسائر جسيمة من جراء العولمة, وعلى سبيل المثال إندونيسيا والباكستان وماليزيا وكوريا والبرازيل وتركيا والأرجنتين؛ ففي أزمة الإقتصاد الإندونيسي عام (1997 م) يقول الدكتور عباس عدنان: (لربما كانت الأزمة التي عصفت بالإقتصاد الإندونيسي عام (1997 م) خير دليل على عقم الطريقة التي تحرر بها أسواق المال, وعلى المخاطر الإقتصادية والسياسية والإجتماعية التي يفرزها التحرير المتسرع, فإندونيسيا لم تكن بحاجة إلى رؤوس الأموال الأجنبية لتمويل عملية التنمية الوطنية, فهي كانت تمتلك ما فيه الكفاية من المدَّخرات.

ومن أجل ذلك لم يكن هناك مبرر موضوعي لتحرير أسواق المال الوطنية, ولكن الإدارة الأمريكية وبمساعدة ممثلي صندوق النقد الدولي استخدمت كلّ ما لديها من ضغوط سياسية وتجارية لإجبار الرئيس الإندونيسي على تحرير الأسواق الإندونيسية لتمكين صناديق الإستثمار وصناديق معاشات التقاعد الأمريكية من المشاركة في جني ثمار الإزدهار الإقتصادي في إندونيسيا فتدفقت على إندونيسيا رؤوس أموال عظيمة استثمرت في مجالات طويلة الأجل وإنْ كانت قد منحت كقروض لآجال قصيرة).

ثالثاً: سياسات صندوق النقد الدولي تجاه الأزمة المالية لدول جنوب شرق آسيا عام (1997 م).

بدأت الأزمة المالية الآسيوية عندما انهارت عملة تايلاند عام (1997 م) وفقدت العملة حوالي (35 %) من قيمتها برغم إستقرار قيمتها لما يقرب من عشر سنوات, ولم تلبث أنْ انتقلت العدوى إلى باقي دول المنطقة؛ ماليزيا وكوريا والفلبين وإندونيسيا, حيث تدهورت عملاتهم وانهارت البورصات وتهددت أوضاع البنوك, وتراجع نمو الإقتصاد القومي بشكل كبير فانخفض الناتج المحلي في إندونيسيا عام (1998 م) بواقع (13 %),

ص: 545

وفي كوريا (6.7 %), وفي تايلاند (11 %), وامتَّدت الأزمة لتشمل بلداناً أخرى خارج المنطقة, وقد فاجأت الأحداث الجميع على غير توقع.ويعتقد (جوزيف استجلز(1)) بأنَّ سبب الأزمة الاسيوية هو نصائح صندوق النقد الدولي, وإنَّ استفحال هذه الأزمة كان بسبب العلاج الذي نصح به الصندوق لهذه الدول, فاعتبر (استجلز) أنَّ الصندوق كان سبب المرض, وإنَّ علاجه أدّى إلى اشتداد الأزمة وتعميقها بدلاً من التخفيف منها؛ فقد كانت دول جنوب شرق آسيا قد حققت لمدة ثلاثة عقود نمواً اقتصادياً مذهلاً, مِمّا دعى البعض إلى اطلاق وصف (المعجزة الآسيوية) على هذا الإنجاز, وقد نصح صندوق النقد الدولي هذه الدول في هذه الفترة بضرورة التحرير السريع لحركات رؤوس الأموال, وقبل أنْ تكتمل صلابة النظام المصرفي والمؤسسات المالية تعرضت اقتصاديات هذه الدول إلى هزّات عنيفة نتيجة التقلبات السريعة والمفاجئة لحركة رؤوس الأموال والمعروفة بالأموال الساخنة, مع أنَّ هذه الدول لم تكن بحاجة إلى مثل هذا الإختبار الصعب, فقد كانت نتيجة هذا التحرير المبكر لحركات رؤوس الأموال أنْ بدأت بنوك دول جنوب شرق آسيا ومن وراءها العملاء في الاقتراض بالعملات الأجنبية لانخفاض أسعار فائدتها؛ لتمويل الإستثمار والتوظيفات المحلية, وقامت الأزمة بعد أنْ تدفقت الأموال الأجنبية المفاجئة بقوة إلى هذه الدول, ثم قررت الإنسحاب فجأة منها, مِمّا أوقع البنوك والمدنيين في أزمة, فانهارت العملات المحلية لهذا الإنسحاب المفاجئ لرؤوس الأموال الأجنبية وظهرت الكوارث الإقتصادية.

ص: 546


1- الذي هو أحد الإقتصاديين الأمريكيين المشهورين, وكان نائباً لرئيس البنك الدولي للشؤون الإقتصادية في الفترة (1997-2000 م).

وقد كان العلاج من الصندوق الدولي إرجاع الثقة بالإقتصاد, ولضمان عودة المستثمرين ورؤوس الأموال الأجنبية باتّباع أمرين: إمّا مساعدات خارجية ضخمة, أو إجراءات داخلية لضبط الأموال.

أمّا المساعدات فقد قرَّر الصندوق تقديم حزمة تحويلية لدول المنطقة تقدر ب- (95 بليون دولار) شارك فيها دول المجموعة الصناعية.

وأمّا الإجراءات الداخلية فقد كانت باتّخاذ مجموعة من الإجراءات؛ أهمها رفع أسعار الفائدة على العملة المحلية حمايةً لسعر الصرف, وحثّ المستثمرين على العودة للإفادة من أسعار الفائدة العالية.

وكِلا الأمرين لم يفد في الانفراج عن الأزمة, بل سبباً للكارثة الإقتصادية مِمّا هو مذكور على التفصيل(1).

رابعاً: منظمة التجارة العالمية وآثارها

تشارك منظمة التجارة العالمية في دعم وتعزيز السياسات الحمائية التي تنتهجها بلدان الشمال من خلال إتفاقية حقوق الملكية الفكرية وما تنطوي عليه هذهالإتفاقية من ترسيخ التخلف وتعزيز انتشار الفقر والأمراض, فإنَّه -كما هو المعروف- ملكية ما لا يقل عن (90 %) من حقوق براءات الإختراع تعود إلى بلدان الشمال, وبفضل هذه الإتفاقية أسَّست بلدان الشمال ومعها منظمة التجارة العالمية إمبراطورية أمست تفرض غرامات مالية باهظة على كلِّ من تسوِّل له نفسه الإنتفاع من مكتشفات ومبتكرات العصر, ولعلَّ الأدوية الخاصة بعلاج مرض نقص المناعة أحد الأمثلة على ما ذكرناه؛ فمع أنَّ هذا المرض يقضي على آلاف الناس كلّ يوم في القارة الأفريقية أصرَّت دول الشمال إحتكار

ص: 547


1- راجع كتاب العولمة الإقتصادية؛ د. عبد الله حسين موجان.

وتسويق هذه الأدوية بأسعار باهظة نادراً ما يستطيع مواطن أفريقي دفعها, ولولا بعض الضغوطات عليها لما تنازلت عن حقوقها الخاصة بهذا الشأن, ومن هنا وغيره فقد كان هناك أكثر من مبرر لعزوف دول العالم الثالث في المؤتمر الوزاري المنعقد في الدوحة عام (2001 م) عن البحث في تعميق الانفتاح التجاري, وإصرارها على أنْ تسبق ذلك مباحثات بشأن ما تحقق حتى الآن, وبشأن هذه الدول؛ من تكاليف تتأتى من تنفيذها لاتفاقيات جولة أورغواي الصعبة والمعقدة الخاصة بالتقييم الجمركي وبحقوق الملكية الفكرية من دون أنْ تشهد مزايا تحسين فرص الوصول إلى الأسواق, وقد تقدم في بحث الملكية بعض الكلام؛ فراجع.

صرخات في وجه العولمة

هذه بعض ويلات العولمة الإقتصادية ومؤسساتها الثلاث, ومن ذلك وغيرها ظهرت صرخات في وجه العولمة, نذكر بعضاً منها:

1- جوزيف استجلز الإقتصادي الأمريكي البارع, والذي تولى منصب نائب رئيس البنك الدولي للشؤون الإقتصادية في كتابه (خيبات العولمة), وانتقاداته اللاذعة على سياسات مؤسسات العولمة وخاصة صندوق النقد الدولي, ويرى أنَّ العديد من العاملين بالصندوق هم خريجو جامعات الدرجة الثالثة والرابعة, وليست لهم الخبرة الكاملة ولا مذكراتهم العلمية تزيد في قيمتهم العلمية.

كما سجل استجلز علامات استفهام حول العلاقة الوثيقة بين كبار العاملين في الصندوق وبين الأوساط المالية في نيويورك, وإنَّ هذه العلاقة ما يشبه التواطؤ.

2- قال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة (بطرس غالي): (ليست هناك عولمة واحدة بل عولمات, فعلى سبيل المثال هناك عولمة في مجال المعلومات والمخدرات والأوبئة والبيئة وقبل ذلك في مجال المال أيضاً, ومِمّا يزيد الأمر تعقيداً أنَّ العولمة صارت تتعاظم في المجالات المختلفة بسرعة متباينة مثل الجرائم الإرهابية).

ص: 548

ويستطرد متسائلاً: (أ يشرف على توجيه العولمة نظام تسلطي أم نظام ديمقراطي؟ إنَّ كثرة التحولات التي تعصف بالعالم لا تتحقق بدرجة متساويةفي أرجاء المعمورة, ففي بعض الدول تسود الديمقراطية, وفي بعضها يهيمن النظام الدكتاتوري).

ثم يرد على قادة الدول فيصفهم بأنَّهم لا يزالون يتصورون أنَّ السيادة الوطنية لا زالت في قبضتهم, وإنَّ بمقدرهم السيطرة على العولمة داخل النطاق الوطني.

3- يقول عملاق الإعلام (تيرنر) صاحب شبكة ( :(CNN(أنَّ الكوكب الأرضي صار يئنُّ تحت ضغط سكاني يفوق طاقته على التحمل).

ويكمل: (إنَّ أصحاب المليارات مشغولون الآن بتسريح كادرهم الإداري الأوسط قبل أنْ يكون لهم حق الحصول على راتب تقاعدي, وإذا استمرَّ الحال على ما هو عليه فعلينا أنْ ننتظر ثورة فرنسية جديدة يُساق فيها الأثرياء بعربات يجرها الثيران إلى ميدان المدينة لقطع رؤوسهم).

4- المظاهرات في كلِّ مكان.

أسَّست الصور التي تبثها محطات التلفاز العالمية قبل كلِّ اجتماع سياسي أو إقتصادي دولي شاهداً على عمق العداء الذي تكنُّه فئات عريضة في دول الشمال والجنوب لمهندسي العولمة ومنظّريها.

فكلَّما انعقد مؤتمر له علاقة بالعولمة تتحول الشوارع إلى ميادين قتال وتغدو قوات الأمن الداخلي في حالة تأهب قصوى, حتى انتهى من كثرة التظاهرات أنْ ظهرت العولمة المضادة, وإنَّها لا تنتهي إلى الذي لا يبغي إلا مصالح الطبقة الغنية في المجتمع الأمريكي والغربي, وتتَّخذ تلك العولمة المضادة صوراً شتّى وأساليب متعددة حتى تصل إلى أهدافها الإصلاحية العادلة.

ص: 549

وهناك بحوث أخرى تتعلق بالعولمة والعمل والعمالة ومجال التنمية البشرية سيأتي البحث عنها في الموضع المناسب إنْ شاء الله تعالى.

لكن ما يهم بحثنا في المقام هو واجبنا تجاه العولمة في جميع المجالات, ولا سيما في مجال التنمية البشرية إذا أردنا التعايش, وانطلاقاً من ضرورة التفاعل مع العولمة لا بُدَّ أنْ يكون هذا التفاعل يخدمنا ولا يجرنا إلى التخلِّي عن عقيدتنا ومبادئنا وثقافتنا وعاداتنا الحميدة المقبولة ديناً وعقلاً.

فيجب أنْ نبعد العولمة من مساوئها وننزهها من مضارِّها بتبديلها بالموروث الغني عند المسلمين, كما لا بُدَّ أنْ نستفيد مِمّا تقدمه العولمة من ميراث في كلِّ المجالات؛ فإنَّ للعولمة -كما ذكرنا سابقاً- آثاراً إيجابية في مجال التنمية البشرية.ولمواجهة آثار العولمة السلبية لا بُدَّ من الرجوع إلى تعاليم الدين الحنيف؛ التي منها ما ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(1).

والقاعدة التي أسَّسها نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم : (خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ)(2), والتي لها مصاديق عديدة في المال والعمل والجاه؛ من منطلق إنَّ أحبَّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم لعيال الله عَزَّ وَجَلَّ, فيكون أشرفهم عنده تعالى أكثرهم نفعاً للناس بنعمة يسديها لهم أو نقمة يزيلها عنهم ديناً أو دنيا.

منافع الدين و تعاليم كمبادئ

ولا ريب أنَّ منافع الدين أشرف قدراً وأبقى نفعاً, وفي الموروث الإسلامي العظيم تعاليم فذَّة وقواعد متينة يمكن أنْ نستفيد منها كمبادئ أساسية للتنمية البشرية والارتقاء بمستوى حياة جميع فئات الناس في جميع البلاد.

ص: 550


1- سورة المائدة؛ الآية 2.
2- مستدرك الوسائل ومستنبط الوسائل؛ ج12 ص391.

ونحن هنا نذكر المهم منها على سبيل الإيجاز:

1- رفع ثمار العلم والعمل على الإرتقاء بالتعليم, فإنَّ كلَّ أداء اقتصادي أو اجتماعي لأيِّ قطر يعتمد على وجه التحديد على واقع نظامه التعليمي, وإنَّ تطويره هو المدخل للتنمية الحقَّة.

2- نشر التعليم الفني, وتأسيس مؤسسات التعليم والتدريب.

3- البحث والتطوير العلمي.

4- تأسيس المنضمات الإجتماعية والمدنية النابعة من تعاليم ديننا الحنيف, وتفعيل دورها لمواجهة آثار العولمة على مختلف القطاعات.

5- وضع قوانين صارمة تحدد مسير الإستثمار الأجنبي المنتشر في البلاد الإسلامية, وتحديد مسارها مقابل الإستثمار المحلي.

6- إتّخاذ الإجراءات الإدارية والنظامية القانونية لتسهيل الإنفتاح الإقتصادي والانضمام لمنظمات العولمة, وهذا المبدأ يحتاج إلى مراجعة الإجراءات الإدارية وكثير من الأنظمة مثل مشروعات التوطين للقوى البشرية ونظم وقوانين العمل والتأمينات الإجتماعية.

7- الإلتفات إلى الحماية الإجتماعية, والإرتقاء بمستوى الصحة العامة وتقليل تأثير الصناعات على البيئة, وهذا الأمر يحتاج أيضاً إلى مزيد من الدراسات والاقتراحات الرامية إلى نموّ ورقيّ الحماية الإجتماعية؛ على أنْ يكون وفقاً لما تسمح به الشريعة الغرّاء.

8- مكافحة روح السلطوية الموجودة عند مجموعة معينة, فإنَّ الجميع لا يعرف أنَّ العولمة الإقتصادية روحها هو جعل السلطة في أيدي مجموعة متَّحدة من

ص: 551

رجالات أعمال دوليين وحكومات مدن همّها الأول هو تعزيز القوة التنافسية لتلك المشاريع والمؤسسات العالمية المستوطنة في مدنها, وهو الواقع المتحقق الآن, فقد أسَّست العولمة الإقتصادية (مدن معولمة) ذات طبيعة مختلفة كلياً عن تلك المدن التي ازدهرت في العقود الماضية كباريس ولندن ونيويورك وموسكو وشيكاغو, فقد استبدلت بمدن جديدة معولمة, مثل كوالالمبور عاصمة ماليزيا؛ وهي المدينة التي يتربع على كنفها أعلى ناطحات السحاب في العالم.

وبعد أنْ كانت برلين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية هي المدينة التي يعلو سطحها أكبر عدد من آلات البناء الرافعة أصبحت الآن بكين وشانغهاي هي المدينة التي يعلو سطحها أكبر عدد من آلات البناء الرافعة.

كما إنَّ بانكوك تحلُّ محلّ ديترويت كمدينة لصناعة السيارات.

وغيرها من المدن البديلة والمستبدلة, ومن ذلك نشأ عصر جديد منه يظهر فيه انصهار العدد الهائل من الإقتصاديات القروية والإقليمية والوطنية في اقتصاد عالمي شمولي واحد لا مكان فيه للخاملين, فإنَّ الذي يقوده أولئك الذين يقدرون على مواجهة المنافسة الهوجاء.

ولكن مع الإيجابيات التي صنعتها المدن المعولمة لبلدانهم مِمّا توحي أنَّ العالم صار سوقاً واحداً, والتجارة في نحو مطَّرد إلا أنَّه يبقى السؤال الكبير هو: هل إنَّ ذلك يحقق الحلم الذي طالما حلمت به الإنسانية؟ وهل إنَّ السلام الشامل قد تحقق أو كان قاب قوسين أو أدنى؟!.

ولا أظنُّ أنَّ الجواب يكون (نعم), بل الجواب (كلا بكلِّ تأكيد)؛ لما في العولمة من السلبيات والتفكيك بين مدن العالم من خلال النماذج للمدن المعولمة, لأنَّ التقدم التقني

ص: 552

المذهل في هذه المدن المعولمة يصاحبه إهمال واضح وشديد بالمشاعر الإنسانية, وإنَّ التناقض بين الفقراء والأغنياء في هذه المدن المعولمة يشير بتصدّع وتفكيك لم يسبق له مثيل.

وقد ظهر التفكك الإقتصادي في أرجاء المعمورة, فإنَّ الدول الصناعية تعمل على تعميق هوَّة هذا التفكيك؛ إذ تتحفظ باستمرار ما تقدمه تلك الدول الصناعية من معونة إلى الدول النامية التي أثَّر فيها هذا التفكيك الإقتصادي, فلا بُدَّ على ضوء تعاليم الدين الحنيف معالجة تلك الآثار بوقفة حكيمة من الدول الإسلامية, فقد هدَّد التفكيك والتجزئة دولها وغيرها حتى شملت الدول الكبيرة كالصين والهند.

هذا ما أردنا بيانه في العولمة والعلمانية ومؤسساتها, وسيأتي بيان ما يرتبط بها وفق المنهج الإسلامي إنْ شاء الله تعالى.

وبذلك ننهي البحث في ما ورد من المصطلحات التي لها الإرتباط بعلم الإقتصاد.

تم بعون الله تعالى الكتاب الأول من الإقتصاد الإسلامي ..

ويليه الكتاب الثاني إنْ شاء الله تعالى؛ في منهج البحث في علم الإقتصاد

ص: 553

المصادر والمراجع

1- القرآن المجيد؛ كلام الله تعالى.

2- نهج البلاغة؛ كلام أمير المؤمنين علیه السلام .

3- الإجتهاد؛ الأستاذ علي حيدر.

4- أسس علم الإقتصاد؛ إسماعيل محمد هاشم وعبد الرحمن يسر.

5- الأصول العامة في الفقه المقارن؛ السید محمد تقي بن محمد سعيد الحكيم. نشر: مجمع جهاني أهل بيت علیهم السلام , قم المقدسة، چاپ دوم 1418 ه-.ق.

6- الإفصاح في فقه اللغة؛ حسين يوسف موسی. الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي, قم المقدسة 1410 ه-. الطبعة الرابعة.

7- إقبال الأعمال( ط- قديمة)؛ علي بن موسى ابن طاووس. الناشر: دار الكتب الإسلاميه، طهران 1409 ه-، الطبعة الثانية.

8- الاقتصاد السياسي للإجماع؛ محمد ذياب, مجلة المسلم المعاصر.

9- إقتصادات النقود والمصارف؛ د. عبد المنعم السيد علي, الجامعة المستنصرية في بغداد, 1984.

10- الأمالي (للمفيد)؛ محمد بن محمد المفيد. الناشر: مؤتمر الشيخ المفيد, قم المقدسة 1413 ه-, الطبعة: الأولى.

11- الإنتصار في انفرادات الإمامية؛ على بن حسين الموسوي الشريف المرتضى. الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم 1415 ه ق، چاپ اول، محقق/ مصحح: گروه پژوهش دفتر انتشارات اسلامى.

ص: 554

12- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (ط. بيروت)؛ محمد باقر بن محمد تقي المجلسي ، محقق/ مصحح: جمع من المحققين، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت 1403، الطبعة الثانية.

13- البرهان في تفسير القرآن؛ السيد هاشم بن سليمان البحراني .، محقق/ مصحح: قسم الدراسات الإسلامية مؤسسة البعثة. الناشر: مؤسسة البعثة, قم المقدسة 1416 ه-، الطبعة الأولى.

14- بلغة الفقيه؛ محمد بن محمد تقي بحر العلوم. منشورات مكتبة الصادق، چاپ چهارم

1403 ه ق, تهران.

15- تاريخ النقود الإسلامية ؛ السيد موسى الحسيني المازندراني, دار العلوم, الطبعة الثالثة.

16- تحرير المجلة؛ محمد حسين بن علي بن محمد رضا كاشف الغطاء. ناشر: المكتبة المرتضوية، چاپ اول 1359 ه ق, النجف الأشرف.

17- تذكرة الفقهاء (ط. الحديثة)؛ العلامة حسن بن يوسف بن مطهر الأسدي الحلّي. الناشر: مؤسسه آل البيت علیهم السلام ، چاپ اول: قم المقدسة 1414 ه ق، محقق/ مصحح: گروه پژوهش مؤسسه آل البيت علیهم السلام .

18- التعريفات؛ السيد شريف علي بن محمد الجرجاني. الناشر: ناصر خسرو, طهران, تاريخ الطبع: 1412 ه-، الطبعة الرابعة.

19- تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب؛ محمد بن محمد رضا القمي المشهدي. محقق/ مصحح: حسين درگاهي ، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، مؤسسة الطباعة والنشر، الطبعة الأولى, طهران 1410 ه-.

ص: 555

20- تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة؛ الشيخ محمد بن حسن الحر العاملي. محقق/ مصحح: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ,: الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام ,: قم المقدسة 1409 ه-, الطبعة الأولى.

21- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورّام؛ مسعود بن عيسى بن أبي فراس ورام. الناشر: مكتبة الفقيه, قم المقدسة 1410 ه-, الطبعة الأولى.

22- تهذيب الأحكام؛ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي. الناشر: دار الكتب الإسلامية، چاپ چهارم, تهران 1407 ه ق.

23- التوحيد( للصدوق)؛ محمد بن علي ابن بابويه. محقق/ مصحح: هاشم الحسيني. الناشر: جماعة المدرسين، الطبعة الأولى, قم المقدسة 1398 ه-.

24- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام؛ محمد حسن النجفي. الناشر: دار إحياء التراث العربي، چاپ هفتم, بيروت, 1404 ه ق، محقق/ مصحح: عباس قوچانى- على آخوندى.

25- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة؛ يوسف بن أحمد بن ابراهيم آل عصفور البحراني. الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم المقدسة، چاپ اول, قم المقدسة 1405 ه ق، محقق/ مصحح: محمد تقى ايروانى- سيد عبد الرزاق مقرم.

26- الخلاف؛ ابو جعفر محمد بن حسن الطوسي. الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم المقدسة، چاپ اول, قم المقدسة ايران 1407 ه ق، محقق/ مصحح: على خراسانى- سيد جواد شهرستانى- مهدى طه نجف- مجتبى عراقى.

ص: 556

27- دائرة المعارف البريطانية؛ الناشر الموسوعة البريطانية المحدودة؛ 1768م.

28- دستور العلماء؛ عبد النبي بن عبد الرسول بن الأحمد نكري؛ دار الكتب العلمية, بيروت, الطبعة الأولى, 2000م.

29- رسالة في تحقيق الحق والحكم؛ محمد حسين الكمپاني الإصفهاني. الناشر: أنوار الهدى, قم المقدسة, 1418 ه ق, نوبت چاپ اول.

30- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى؛ محمد بن منصور بن احمد ابن ادريس الحلي. دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم المقدسة، چاپ دوم, قم المقدسة, 1410 ه ق.

31- السياسة لأرسطوطاليس؛ ترجمه عن الأغريقية جول بارتلمي, ونقله أحمد لطفي السيد إلى العربية, المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

32- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام؛ نجم الدين جعفر بن الحسن (المحقق الحلّي). الناشر: مؤسسة اسماعيليان, قم المقدسة, 1408 ه ق, نوبت چاپ دوم, محقق/ مصحح: عبد الحسين محمد علي البقال.

33- شرح العقائد النسفية؛ سعد الدين التفتازاني. الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية, القاهرة, 1407 ه-, الطبعة الأولى, تحقيق الدكتور حجازي سقا.

34- شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم؛ نشوان بن سعيد الحميري. الناشر: دار الفكر, دمشق, 1420 ه-. الطبعة الأولى.

35- الصحاح؛ إسماعيل بن حماد الجوهري. الناشر: دار العلم للملايين, بيروت 1376 ه-, الطبعة الأولى.

ص: 557

36- صحيح البخاري؛ محمد بن إسماعيل البخاري. المحقق: مصر, وزارة الأوقاف, المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. لجنة إحياء كتب السنة, الناشر: جمهورية مصر العربية، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء كتب السنة, القاهرة, 1410 ه-. ق, الطبعة الثانية.

37- عقد القرض في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي؛ علاء الدين خروفة, ط. الأولى, مؤسسة نوفل.

38- علم أصول الفقه؛ الأستاذ عبد الوهاب خلاف, مؤسسة نوابغ الفكر.

39- العلمانية في الإسلام؛ د. إنعام أحمد قدوح, مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر.

40- عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية؛ إبن أبي جمهور محمد بن زين الدين, محقق/ مصحح: مجتبى العراقي, الناشر: دار سيد الشهداء للنشر, قم المقدسة 1405, الطبعة الأولى.

41- العولمة الإقتصادية؛ د. عبد الله حسين موجان.

42- عولمة النظام الإقتصادي؛ د. عادل عبدالمهدي. (قضايا إسلامية معاصرة, الطبعة الأولى, عام 2003.

43- غرر الحكم ودرر الكلم (مجموعة من كلمات وحكم الإمام علي علیه السلام )؛ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي. محقق/ مصحح: السيد مهدي رجائي, الناشر: دار الكتاب الإسلامي, قم المقدسة, 1410 ه-, الطبعة الثانية.

44- غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع؛ ابن زهرة حمزة بن على الحسيني الحلبي. الناشر: مؤسسه امام صادق علیه السلام , قم المقدسة, 1417 ه ق, نوبت چاپ اول.

ص: 558

45- القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً؛ أبو جيب السعدي. دار الفكر, دمشق 1408 ه-.ق, الطبعة الثانية.

46- قاموس المصطلحات الإقتصادية في الحضارة الإسلامية؛ محمد عمارة, الطبعة الأولى, 1993.

47- القانون التجاري؛ د.مصطفى طه, قم المقدسة, 1404, الطبعة الأولى.

48- القواعد والفوائد؛ الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي. الناشر: كتابفروشى مفيد, قم المقدسة, نوبت چاپ اول, محقق/ مصحح: سيد عبد الهادي الحكيم.

49- الكافي (ط. الإسلامية)؛ محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني. الناشر: دار الكتب الإسلامية, طهران, 1407 ه-. الطبعة الرابعة.

50- الكافي في الفقه؛ أبو الصلاح تقي الدين بن نجم الدين الحلبي.

51- كتاب البيع؛ السيد روح الله الموسوي الخميني. الناشر: مؤسسه تنظيم ونشر آثار امام خمينى قدس سره, تهران 1421 ه ق, نوبت چاپ اول.

52- كتاب الكليات؛ أبي البقاء الكفوي؛ طبع كتاب الكليات ثلاث مرات إحداها بالمطبعة الأميرية ببولاق سنة 1281 ه-، والثانية بالمطبعة العامرة باستانبول سنة 1287 ه-، والثالثة في إيران بالحجر.

53- کتاب المفضل بن عمر؛ المفضل بن عمر, محقق/ مصحح: كاظم المظفر, الناشر: داوري, الطبعة الثالثة، قم المقدسة.

54- كتاب الملكية التجارية والصناعية؛ الدكتور علي نديم الحمصي.

55- كنز العرفان في فقه القرآن؛ المقداد بن عبد الله السيوري الحلّي. الناشر: انتشارات مرتضوى, قم المقدسة, 1425 ه ق, نوبت چاپ اول.

ص: 559

56- لسان العرب؛ محمد بن مكرم ابن منظور. الناشر: دار صادر, بيروت 1414, الطبعة الثالثة.

57- المال المثلي والمال القيمي في الفقه الإسلامي؛ الشيخ عباس كاشف الغطاء, مؤسسة كاشف الغطاء, النجف الأشرف, 1431.

58- المال وطرق استثماره في الإسلام؛ د. شوق الساهي, 1984.

59- المبادئ القانونية العامة؛ أنور سلطان.

60- المبسوط في فقه الإمامية؛ أبو جعفر محمد بن حسن الطوسي. المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية, تهران, 1387 ه ق, نوبت چاپ سوم, محقق/ مصحح: السيد محمد تقى الكشفي.

61- المجازات النبوية؛ محمد بن حسين الشريف الرضي. محقق/ مصحح: صالح، صبحي, الناشر: دار الحديث, قم المقدسة, 1422 ه-, الطبعة الأولى.

62- مجلة الأحكام العدلية؛ بيروت, 1388 ه-.

63- مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الطبعة الثانية، دار القلم بدمشق, سنة 1418 ه-.

64- مجمع البحرين؛ فخر الدين بن محمد الطريحي. الناشر: المرتضوي, طهران, 1417 ه-. الطبعة الثالثة.

65- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة؛ الحسن بن يوسف بن مطهر الأسدي (العلامة الحلّي). الناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم المقدسة, 1413 ه ق, محقق/ مصحح: گروه پژوهش دفتر انتشارات اسلامى, نوبت چاپ دوم.

ص: 560

66- المدخل الفقهي العام؛ الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء؛ دار الفكر, بيروت, الطبعة التاسعة.

67- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل؛ حسين بن محمد تقي النوري. محقق/ مصحح: مؤسسة آل البيت علیهم السلام , الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام , قم المقدسة, 1408 ه-, الطبعة الأولى.

68- مستند الشيعة في أحكام الشريعة؛ المولى أحمد بن محمد مهدى النراقي. الناشر: مؤسسه آل البيت علیهم السلام , قم المقدسة, 1415 ه ق, نوبت چاپ اول, محقق/ مصحح: گروه پژوهش مؤسسه آل البيت علیهم السلام .

69- مسند الإمام أحمد بن حنبل؛ الناشر: مؤسسة الرسالة, بيروت, 1416 ه-. ق, الطبعة الأولى.

70- المصباح المنير: أحمد بن محمد الفيومي. الناشر: مؤسسة دار الهجرة, قم المقدسة 1414 ه-, الطبعة الثانية.

71- معجم المصطلحات المالية والإقتصادية في لغة الفقهاء؛ نزيه حماد. الناشر: دار القلم, دمشق 1428 ه-. ق, الطبعة الأولى.

72- معجم المصطلحات الفقهية والقانونية؛ الدكتور جرجس جرجس، مراجعة القاضي أنطوان الناشف، الطبعة الأولى، بيروت, الشركة العالمية للكتاب، سنة 1996 م.

73- معجم لغة الفقهاء؛ الدكتور محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي، دار النفائس, ببيروت 1405 ه-.

74- معجم أصول الفقه؛ خالد رمضان حسن, الناشر: مطبعة المدني, القاهرة, 1418 ه-. ق, الطبعة الأولى.

ص: 561

75- معجم مصطلحات الإقتصاد والمال وإدارة الأعمال؛ نبيه غطّاس, مكتبة لبنان, بيروت, 1989.

76- معجم مقاييس اللغة (لإبن فارس)؛ أحمد بن فارس, الناشر, مكتب الإعلام الإسلامي.

77- المغرَّب؛ المطرزي، طبعة حلب, سنة 1402 ه-.

78- مفردات ألفاظ القرآن (الراغب الإصفهاني)؛ حسين بن محمد الراغب الإصفهاني, الناشر: دار القلم, بيروت, 1412 ه-, الطبعة الأولى.

79- المقنعة (الشیخ المفيد)؛ محمّد بن محمد بن نعمان العكبري (الشیخ المفيد), الناشر: كنگره جهانى هزاره شيخ مفيد رحمة الله عليه, 1413 ه ق, قم المقدسة, نوبت چاپ اول.

80- المكاسب( المحشّٰى)؛ الشيخ الأعظم مرتضى بن محمد أمين الأنصاري.

81- المكاسب المحرمة والبيع والخيارات (ط. الحديثة)؛ الشيخ الأعظم مرتضى بن محمد أمين الأنصاري, الناشر: كنگره جهانى بزرگداشت شيخ اعظم انصارى, قم المقدسة, 1415 ه ق, نوبت چاپ اول, محقق/ مصحح: گروه پژوهش در كنگره.

82- الملكية الصناعية والمحل التجاري؛ محمد حسني عباس.

83- منهاج الصالحين (المحشّٰى للحكيم)؛ السيد محسن الطباطبائي الحكيم, الناشر: دار التعارف للمطبوعات, بيروت, 1410 ه ق, نوبت چاپ اول.

ص: 562

84- مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام؛ السيد عبد الأعلى السبزواري, الناشر: مؤسسة المنار - دفتر حضرت آية الله, نوبت چاپ چهارم, قم المقدسة, 1413 ه ق, محقق/ مصحح: مؤسسة المنار.

85- الموسوعة الجامعة لمصطلحات الفكر العربي والإسلامي ( تحليل ونقد)؛ جيرار جهامي, الناشر: مكتبة لبنان ناشرون, بيروت, 1426 ه-. ق, الطبعة الأولى.

86- الموسوعة الفقهية الكويتية؛ إصدار وزارة الأوقاف الكويتية.

87- موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم؛ محمد علي بن علي التهانوي. المحق: علي فريد دحروج, الناشر: مكتبة لبنان ناشرون, بيروت, 1416 ه-. ق, الطبعة الأولى

88- نظرية العقد للنقيب.

89- النقود والبنوك؛ نظرة منهجية واقعية في موضوعات النقود والبنوك والبورصات والتأمين؛ جمال الدين عطية (سلسلة رسائل البنك الصناعي), العدد 87, عام 2006.

90- النقود والمصارف للشمري.

91- نهاية الإحكام في معرفة الأحكام (العلامة الحلّي)؛ العلامة الحسن بن يوسف بن مطهر الأسدي الحلّي, الناشر: مؤسسة آل البيت علیهم السلام , قم المقدسة, 1419 ه ق, نوبت چاپ اول.

92- النهاية في غريب الحديث والأثر؛ إبن أثير الجزري ومبارك ابن محمد, الناشر مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر, قم المقدسة, 1409ه-, الطبعة الرابعة.

ص: 563

93- نهج الحقّ وكشف الصدق (العلامة الحلي)؛ العلامة الحسن بن يوسف بن مطهر الأسدي الحلّي, الناشر: دار الكتاب اللبناني, بيروت, 1982 م, الطبعة الأولى.

94- نهج الفصاحة (الكلمات القصار للنبي صلی الله علیه و آله و سلم )؛ أبو القاسم پاينده, الناشر: دنياى دانش, طهران 1424 ه-, الطبعة الرابعة.

95- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة علیهم السلام - منتخب المسائل (الحرّ العاملي)؛ محمد بن الحسن العاملي, الناشر: مجمع البحوث الإسلامية, مشهد المقدسة, 1412 ه ق, نوبت چاپ اول, محقق/ مصحح: بخش حديث در جامعه پژوهش هاى اسلامى.

96- الوجيز في الملكية الصناعية؛ الدكتور صلاح الدين الناهي.

97- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد؛ عبد الرازق أحمد السنهوري, دار النشر للجامعات المصرية, القاهرة, 1952.

ص: 564

ص: 565

الفهرست

المقدمة . 7

مقدمة البحث . 13

الكتاب الأول: في بيان المصطلحات . 15

التعريف بالمصطلحات التي يحتاجها علم الإقتصاد, والتي لها التأثير المباشر في تحديد هويته . 19

المصطلح الأول: الدين . 19

المعنى اللغوي . 19

المعنى الإصطلاحي . 20

عناصر ومقومات وأركان الدين الإلهي . 21

العنصر الأول: الإلزام . 21

العنصر الثاني: المسؤولية . 21

العنصر الثالث: الجزاء . 22

العنصر الرابع: النية . 22

ما يمكن تصوره في النيَّة والعمل . 30

العنصر الخامس: الجهد والعمل . 37

تمهيد . 37

لماذا نعمل الواجب .. وفي سبيل أيّ هدف؟!. . 38

أقسام العمل (الجهد البدني) . 46

مفردات الدين . 49

المصطلح الثاني: الشريعة . 51

المعنى اللغوي . 51

ص: 566

المعنى الإصطلاحي .52

مميزات الدين الإسلامي عن باقي الأديان الإلهية .54

أقسام النظام التشريعي في الإسلام .57

الأسباب التي أدَّت إلى تقهقر المسلمين وانقلابهم على أعقابهم .58

المصطلح الثالث: الفقه .62

المعنى اللغوي .62

المعنى الإصطلاحي .63

مقاصد وأهداف الفقه .69

تقسيم الفقه .73

التقسيم الأول: ما ذكره جمع كبير من الفقهاء .73

التقسيم الثاني: ما أورده السيد الصدر قدس سره .74

التقسيم الثالث: ما ذكره بعض الفقهاء .75

التقسيم الرابع: وهو ينبع من موضوع الفقه .76

فلسفة الفقه .78

مصادر التشريع ومدارك الأحكام .82

مميزات قواعد وقوانين إستنباطالأحكام الشرعية .83

العرف والعادة .83

العرف بالمعنى الإصطلاحي العلمي .85

العرف في القانون .88

العرف في أصول الفقه السنيّ .88

تقسيمات العرف عند أهل السنة .89

ص: 567

حكم العرف عند أهل السنة .90

العرف عند الإمامية .91

الموارد التي يرجع فيها إلى العرف .92

تحديد دلالة العرف .96

بيان النتيجة التي يمكن تحصيلها من البحوث السابقة .97

عمومية الأحكام الشرعية لجميع أفراد الإنسان, وشموليتها لجميع حالاتهم .98

قاعدة الإشتراك .100

دلالة القاعدة .100

الدليل على القاعدة .102

تطبيق القاعدة .105

موارد انتقاض القاعدة -تخصيصاً أو تخصصاً- .106

قاعدة تكليف الكفار بالفروع .107

قاعدة عدم معذورية الجاهل .114

المصطلح الرابع: الملك .117

أولاً: المعنى اللغوي .117

ثانياً: المعنى الفلسفي .121

ثالثاً: المعنى الإقتصادي .122

رابعاً: المعنى في القانون المدني .122

خامساً: التعريف الفقهي .123

أسباب المِلك .125

فائدةُ المِلك .131

ص: 568

محلُّ الملك .132

النقطة الأولى: في الدليل على ثبوت مثل هذه الشخصية المعنوية الحقوقية .133

أركان الدولة الحديثة .144

النقطة الثانية: الإشكال على الشخصية الحقوقية .147

النقطة الثالثة: مصاديق الشخصية الحقوقية .154

النقطة الرابعة: شروط الشخصية الحقوقية .154

موارد ملكية الدولة .155

تتمة؛ وفيها أمرين .156

الأمر الأول .156

الأمر الثاني .157

أنواع الملكية .158

النوع الأول: الملكية الفردية .158

النوع الثاني: الملكية الجماعية .159

النوع الثالث: الملكية المطلقة التي يتبناها الإسلام .161

معالم الملكية في الإسلام .162

شروط الملكية الفردية في الإسلام .164

النوع الرابع: الملكية التجارية .166

النوع الخامس: الملكية الصناعية .168

الغاية من الحقوق التجارية والصناعية .170

أقسام الحقوق الصناعية .170

المبحث الأول: الإبتكارات الجديدة .170

ص: 569

المبحث الثاني: العلامات المميزة .172

الأهمية الإقتصادية للحقوق الصناعية والتجارية .177

أسباب حقوق الملكية الصناعية .178

مصادر قانون الملكية الصناعية والتجارية .180

دراسة الحقوق الحقوق الصناعية .183

الأول:حق الإبتكار (براءة الإختراع) . 183

الثاني:حقُّ براءات الإختراع .186

الثالث:الرسوم والنماذج الصناعية .189

الرابع:العلامات التجارية .190

الخامس:الإسم التجاري .190

السادس: الشعار, (كأحد صور الإسم التجاري) .191

المصطلح الخامس: الحق .192

المبحث الأول: في معنى الحقّ .192

المجال الأول: الحقُّ في اللغة .192

الحقُّ في الفلسفة .193

الحقُّ في الأخلاق .194

المجال الثاني: الحقُّ في القانون .195

تمهيد .195

أركان الحق .196

أقسام الحقّ .196

مصادر الحقّ .198

ص: 570

المجال الثالث: الحقُّ في الفقه .198

تحقيق الكلام .199

حقيقة الملك .199

مفهوم الملك .203

متعلق الملك .204

المبحث الثاني: حقيقة الحقّ .208

متعلق الحقّ .209

الأقوال في حقيقة الحقّ .209

الفرق بين الحقّ والحكم .212

الفرق بين الحق والملك .213

أركان الحق .214

المبحث الثالث: أقسام الحقّ .215

القاعدة في قابلية الحقّ للنقل والإنتقال والإسقاط .223

المبحث الرابع: أنواع الحقّ .224

المبحث الخامس: الحقّ في الإقتصاد العالمي المعاصر .226

المصطلح السادس: المال .228

الجهة الأولى: التعريف اللغوي .228

الجهة الثانية: تعريف المال في الفقه الإسلامي .230

مقومات المال .231

الجهة الثالثة: المال في القانون .235

الجهة الرابعة: دور المال في الإقتصاد .236

ص: 571

تقسيم المال .237

مفردات المال .239

المصداق الأول: الأعيان .240

المصداق الثاني: النقود .240

وظائف النقود .242

النظرية النقدية .243

عدم كون النقد سلعة .247

أنواع النقود .248

معايير تقسيم النقود .248

المعيار الأول .248

المعيار الثاني .251

المعيار الثالث .251

المعيار الرابع .252

القاعدة النقدية .256

الوحدة النقدية .257

السياسة النقدية في الفكر الإسلامي .257

أهم ما شرَّعه الإسلام في سياسته النقدية .258

المصداق الثالث: المنافع .260

الإنتفاع في القانون, أو بالتعبير القانوني (حقّ الإنتفاع) .262

المصداق الرابع: القروض .262

المصداق الخامس: الحقوق .267

ص: 572

المعاملة المالية .269

تصنيف المعاملة المالية .269

أقسام المعاملة المالية .270

التشريعات التي ترتبط بالدَّين في آية الدَّين .271

موقع المعاملة المالية في حركة المال .276

مجال البحث في المعاملات المالية .278

تقسيم فقه المعاملات .281

نظرية الذمة .284

الذمة في القانون .285

الذمة في الفقه .287

نتائج البحث .292

نظرية العقد .293

موقع العقد في تصرفات الإنسان .295

تعريف العقد .296

تعريف الإتّفاق .297

وجوه الفرق بين العقد والإتّفاق .298

العقد في الفقه .301

تقسيم العقد .304

نتائج البحث في التعريفات المتقدمة وتحليلاتها .305

عناصر العقد .307

العنصر الأول: المتعاقدان .307

ص: 573

شروط المتعاقدان .307

الشرط الأول: البلوغ .310

الشرط الثاني: العقل .315

الشرط الثالث: الإختيار .318

الشرط الرابع: التملك .320

الخلاصة .322

العنصر الثاني: العِوضان .325

شروط العِوضين .328

العنصر الثالث: التعاقد .331

التعبير بالقول .334

التعبير بالفعل (المعاطاة) .341

أدلة النافون لأنَّ المعاطاة معاملة عقدية .349

مناقشة الأدلة .351

آثار العقد .353

تقسيم العقد .360

المصطلح السابع: مصطلح العلمانية .366

تمهيد .366

الفصل الأول: في تعريف العلمانية وتحديد مفهومها وتاريخها .369

تعريفها .369

إشتقاق العلمانية .370

طرق فهم ردود العلمانية .373

ص: 574

حلُّ رموز العلمانية .374

الأمر الأول: في تاريخ هذه النظرية .374

الأمر الثاني: ما هو من أهم أسباب ظهور العلمانية وانتشارها .379

الأمر الثالث: في ذكر الأسباب التي أدَّت إلى إنتشار فكرة العلمانية .385

الأمر الرابع: هل أنَّ العلمانية على نحو واحد أو أنَّها على نحوين .389

بعض الأمثلة على العلمانية .394

الفصل الثاني: بعض المصطلحات التي لها قيمة تفسيرية وتحليلية .397

المطلق العلماني .397

النموذج العلماني .401

أمثلة كثيرة تبين لحظات علمانية شاملة نماذجية مختلفة .404

اللحظة السنغافورية .405

اللحظة التايلاندية .406

اللحظة الصهيونية .406

اللحظة الإماراتية .407

المتتالية النماذجية .409

الفصل الثالث: في بيان الحلقات المتتالية في فكر وثقافة وفلسفة العلمانية .411

الفصل الرابع: إستنتاج أنَّ العلمانية هي حركة وفكرة وعقيدة وثقافة وسلوك .421

ملاحظات .425

الفصل الخامس: في التنبيه .430

الأمر الأول: هل أنَّ الدين يعارض التقدم والرقيّ في مجالات العلوم والتكنولوجيا .430

الأمر الثاني: في شرح المقولة التي يتمسك بها العلمانيون؛ وهي فصل الدين عن السياسة .437

ص: 575

الجهة الأولى: المراد من الدين .437

الجهة الثانية: المراد من السياسة .440

الفصل السادس: دور العلمانية في الإقتصاد العالمي .446

آليات الإقتصاد .447

أولاً: الأهداف النهائية .447

ثانياً: آلية إدارة المجتمع .448

النظرية المركنتالية .449

الرأسمالية .454

المصطلح الثامن: الإقتصاد .461

تمهيد .461

أولاً: المعنى اللغوي لكلمة الإقتصاد .461

ثانياً: التعريف العلمي .463

النظام الإقتصادي .465

التنبيه على أمور .466

التخطيط الإقتصادي .469

الريع الإقتصادي .470

النشاط الإقتصادي .472

الكفاية الإقتصادية .474

النمو الإقتصادي .475

مراحل النمو الإقتصادي .477

الحرية الإقتصادية .479

ص: 576

الإحتكاك الإقتصادي .480

السلعة الإقتصادية .481

أقسام الإقتصاد .481

الإمبريالية الإقتصادية .487

العولمة الإقتصادية .488

وعود العولمة .489

آليات العولمة الإقتصادية ومنظماتها .494

الخلفية التاريخية ل-(صندوق النقد الدولي, البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية) .494

الموقع الأول: صندوق النقد الدولي .498

المبحث الأول: النشأة .498

المبحث الثاني: الموارد .499

المبحث الثالث: الحصص .499

المبحث الرابع: الإدارة .500

المبحث الخامس: الأهداف .501

المبحث السادس: الإجراءات .501

المبحث السابع: الوظائف .502

الموقع الثاني: البنك الدولي .503

المبحث الأول: النشأة .503

المبحث الثاني: الموارد .504

المبحث الثالث: الأهداف .505

المبحث الرابع: الآليات .506

ص: 577

المبحث الخامس: الإجراءات .506

المبحث السادس: المؤسسات .507

الموقع الثالث: النظام التجاري العالمي .510

تمهيد .510

النقطة الأولى: الأساس الإقتصادي لسياسة التجارة العالمية .510

النقطة الثانية: التطور التاريخي لمنظمات ومؤسسات ومؤتمرات النظام التجاري العالمي .516

النقطة الثالثة: بنود ميثاق التجارة الدولية (ميثاق هافانا) .519

النقطة الرابعة: إتّفاقية (الجات) (GATT) .520

أولاً: نشأتها .520

ثانياً: (الجات) هي الإقتصاد الشائع للإتّفاقية العامة للتعريفات والتجارة .520

ثالثاً: أهداف (الجات) .521

رابعاً: مبادئ (الجات) .522

منظمة التجارية العالمية (W.T.O) .526

أولاً: نشأتها .526

ثانياً: دواعي الإنشاء .527

ثالثاً: الوضع القانوني لمنظمة التجارية العالمية .527

رابعاً: هيكل منظمة التجارة العالمية .528

خامساً: نطاق عمل منظمة التجارية العالمية .529

سادساً: وظائف منظمة التجارة العالمية .529

سابعاً: مبادئ منظمة التجارة العالمية .531

ثامناً: المؤتمرات الوزارية لمنظمة التجارة العالمية .533

ص: 578

العولمة الإقتصادية في الميزان .534

سلبيات العولمة وآثارها السيئة على العالم .537

الوجه الأول: العولمة الإقتصادية وأثرها على اقتصاد الدول النامية 537

الوجه الأول: العولمة الإقتصادية وأثرها على اقتصاد الدول النامية .537

الوجه الثاني: العولمة الإقتصادية وتحرير التجارة في السلع الزراعية في الدول النامية .540

ويلات العولمة الإقتصادية .542

صرخات في وجه العولمة .547

منافع الدين وتعاليمه كمبادئ أساسية للتنمية البشرية والإرتقاء بمستوى حياة الناس .549

المصادر والمراجع .553

الفهرست .565

ص: 579

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.