الاستنساخ بین التقنیة و التشریح

هوية الکتاب

الاستنساخ بین التقنیة و التشریح

تالیف : العلامة السید علي الموسوي السبزواري

موسسة الاعلمی المصبوعات

بیروت - لبنان

المقدّمة

بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ

لما كان الحديث عن الاستنساخ فلا ننسي أنفسنا هذا الإنسان الذي يعدّ نسخة طبق الأصل عن الكون الفسيح،و قد قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:

و تحسب أنّك جرم صغير *** و فيك انطوى العالم الأكبر

فهو معجزة إلهيّة قلّ الالتفات إليها و التبصّر فيها و أخذ العبرة منها حتّى من نفس الإنسان،و إن كانت له محاولات يسيرة لكشف المجهول فيه،لما أودع فيه خالقه من حبّ العلم و الاستطلاع عن الغيب.و لذا نشأ الإنسان-منذ وجوده على هذه البسيطة-على التفكّر في كيفيّة الوصول إلى كشف الحقائق المودعة في الأشياء التي حوله،و كان أوّل العلوم التي اتّخذها وسيلة إلى مبتغاه من العلوم الماديّة هي علوم الحياة،التي كانت في بدايتها بسيطة تبعا لبساطة الحياة، و لكنّها اكتنفت باكتشافات منذ مسيرتها الأولى حتّى بلغت ذروتها في القرن العشرين.

و لا يمكن إغفال المساهمات التي حصلت من رسل اللّه عز و جلّ و أنبيائه، و الأديان الإلهيّة في تطوير تلك العلوم التي تمسّ حياة الإنسان،فقد هبط أبو البشر إلى الأرض حاملا معه جميع ما يتعلّق به من هموم الحياة،فلا بدّ أن يكون قد حمل معه أيضا حلول تلك الهموم الحياتيّة،و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ،و لا ريب أنّ الأسماء التي تعلّمها مخلوقه المحبّب الذي اعتنى به اعتناء بليغا لها شأن كبير في حياة الإنسان بكلّ

ص: 1

ما لها من ثقل محتمل،فابتدأ حياته مزوّدا بكلّ ما له شأن فيها ليستفيد منها في صراعه مع الطبيعة.

و لقد قدّر اللّه تعالى أن يكون لذلك دخل في سلوك الإنسان،و من هنا أصبح كائنا أخلاقيّا محبّا للعلم و اكتشاف المجهول و الاستعلام عن المزيد.

و لم تكن ملازمة العقل لهذا الكائن الأخلاقيّ وليدة الصدفة بعد أن خلقه اللّه تعالى بيده وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ليعيش حياة ملأى بالكفاح و الصراع،فكان العقل ملازما للعلم،و هما جناحان يطير بهما الإنسان في مسرح الحياة التي لا يعلم آخرها إلاّ العليم الخبير.

و قد بدأ الإنسان المسيرة في تطوير إمكانياته الهائلة في تسخير الطبيعة حتّى وصل إلى الكثير من الغايات المنشودة،و استغلّ العديد من طاقاته.

و من نافلة القول التذكير بأنّ وصوله إلى هذا الحدّ من العلم و التقنية لم يكن من مجرّد الصدفة أو الطفرة أو العمل المضني و غض النظر عن دخل القضاء الإلهيّ و قدره في مسيرة الإنسان،فإنّه من البعد عن الحقيقة و الواقع بمراحل،و قد قال عزّ من قائل: هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً*`إِنّٰا خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً *`إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً .

فإنّ الآيات الشريفة تبيّن مسيرة الحياة و سرّ خلق الإنسان،و جهده في تكوين مصيره،و دخل القضاء و القدر الإلهيّين في ذلك.

مضافا إلى أنّها تشير إلى بداية علوم الحياة،و بالخصوص القسم الذي يرتبط بعلم الجينات،و أنّ الإنسان مخلوق من تلك النطفة ذات الأمشاج التي كشف أسرارها علم الجينات و الهندسة الوراثيّة المتطوّرة بفضل التقنية الحديثة و وسائلها الدقيقة.

و بفضل الجهود الجبّارة تطوّرت علوم الحياة و تشعّبت أنواعها لتشمل كافّة خصوصيات الحياة المتعدّدة،فأصبح من أهمّ فروعها العلوم الوراثيّة المتشعّبة و السريعة التطوّر،لتكون أحد أبوابها الهندسة الوراثيّة التي تعنى بتركيبة الجينات و دراسة خصوصياتها و إعادة هندسة الخلية وراثيا بهدف اكتسابها صفة لم تكن تمتلكها بالسابق،أو تقوية صفة بها،أو تصحيح خلل وراثي موجود و نحو ذلك.

فهو علم تطبيقيّ قد حلّ كثيرا من الغموض الذي كان يكتنف مبدأ خلق الكائنات الحيّة من أصغرها إلى أعقدها في السلم التطوريّ كالإنسان،و كشف أسرار الخلية.و ما زال الجهد متواصلا،و قد لمسنا آثاره في كثير من مظاهر الحياة،التي منها تحسين الإنتاج النباتيّ و الحيوانيّ و تكثيره،و حلّ بعض المشاكل،و تشخيص كثير من الأمراض الوراثيّة،و كشف العلاج لها،و صنع الأدوية الخاصّة.

و هو علم طموح يسعى إلى مزيد المعرفة و الاكتشافات التي توّجت أخيرا بأهمّها،و هو كشف خارطة الجينات التي تعدّ ثورة علميّة في هذا المضمار،و من قبله الاستنساخ أو الاستنسال،الذي هو خلق نسخة مطابقة للأصل شكلا.و هو و إن كان في بداياته و يصاحبه الغموض،لكن البداية قد تحقّقت و الجهود متواصلة،و قد تجاوز العلماء مرحلة الاستحالة إلى الوقوع،فلم يبق إلاّ إزالة الموانع و المشكلات التي تكون عائقا في سبيل التكثير و التعميم ليشمل الإنسان،ممّا قد أثار جدلا واسعا بين العلماء و أرباب السياسة و المصلحين و علماء الأديان و القانون بما لم يكن معهودا في موضوع آخر.

و قد طلب منّي بعض الإخوان أن أكتب حول هذا الموضوع العتيد،و قد كنت متردّدا في بدء الأمر لأسباب عديدة،منها عدم وضوح الموضوع حتّى عند من يقول بإباحته بل تكثيره،و عدم الإحاطة كاملا،و قلّة المصادر،و لمعرفة ما ينتج من خضم الجدال،و ما يمكن للعلماء من إقامة الحجج و البراهين.

ص: 2

و بعد العزم و التوكّل على اللّه عزّ و جلّ أقدمت على كتابة هذه الرسالة متوخيا الموضوعيّة و الدقّة المطلوبة في جميع العلوم لا سيّما هذا الموضوع الشائك.

و قد وقع الاختيار على أن يكون الكتاب مشتملا على مدخل يتضمّن شرحا لموضوع علم الهندسة الوراثيّة و مسيرته التاريخيّة.

ثمّ الفصل الأوّل في الاستنساخ تسمية،و تجربة،و الأهداف،و الصور المحتملة.

و في الفصل الثاني اذكر فيه الجوانب الاجتماعيّة و الأخلاقيّة،و الحجج و البراهين التي أقيمت حول هذا الموضوع إيجابا أو سلبا.

و أمّا الفصل الثالث فقد عقد لبيان الجانب التشريعيّ له من ناحية الشرع الإسلاميّ الحنيف،و إقامة الأدلّة الشرعيّة على النفي أو الإثبات.

ثمّ ذكرت في الخاتمة بعض آراء الباحثين و العلماء التي سطرت في هذا الموضوع،و ما يمكن تحصيله من الفصول السابقة.

و في الختام لا بدّ من الاعتراف بالعجز أمام الجهود الجبّارة التي بذلها العلماء في هذا السبيل،كما أنّه لا بدّ من إبداء الشكر الجزيل لهم تطبيقا للحديث المعروف:«من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق».

و لئلاّ يتّخذ المجاهدون من العلماء الذين أنكروا الجوانب الأخلاقيّة للنسيخ-باعتبار أنّه يوجب هدم القيم المتعالية-الذريعة فيقول قائل منهم:إنّ البحث عن الاستنساخ أدّى إلى ترك الشكر،فكيف بالنسخة الخارجية؟!.

نسأل اللّه عزّ و جلّ التوفيق للجميع فإنّه الهادي إلى سواء السبيل، وَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أوّلا و آخرا.

النجف الأشرف25/ صفر الخير-1422 ه علي الموسوي السبزواري

المدخل

إنّ أشدّ العلوم ارتباطا بالإنسان هي العلوم الحياتيّة التي تمسّ الحياة بجميع مالها من الخصوصيات،و قد بدأت مسيرتها من أيسر الأمور التي تحيط بحياة الإنسان و نمّت نموا مطردا في جميع الشؤون من حيث الدقّة و الشمول و الموضوعيّة،حتّى أصبحت أهمّ العلوم الماديّة و أعمّها،لكثرة فروعها و أبوابها، و الذي يهمّ البحث عنه في هذا الكتاب هي الهندسة الوراثيّة التي تهتمّ بالجينات الوراثيّة و تفنيتها،أو بالأحرى يكون التعامل في هذا الفرع من العلوم الحياتيّة التطبيقيّة مع المادة الوراثيّة و إعادة صياغتها و تركيبها بصورة مباشرة،فهو من العلوم التي لا يمكن الاستغناء عنه في مجال العلوم البايولوجيّة الحديثة.

و يمكن تعريف هذا العلم بأنّه يتكفّل دراسة التناقل الجينيّ بين الكائنات الحية و كسر الطوق المفروض على كلّ كائن حي،بحيث يمكن نقل الجينات بين الحيوانات و النباتات و سائر الأحياء المجهريّة بمختلف أنواعها.و موضوع الهندسة الوراثيّة هو الخلية و بالأخصّ الجينات التي هي من أجزاء الخلية في الكائن الحي،و لمزيد من الإيضاح نقول:

إنّه غير خفي على أحد أنّ الإنسان مركّب من بدن و روح،و بالإمكان الوصول إلى كينونته أكثر من الوصول إلى روحه و عقله،فإنّه مهما أوتي من

ص: 3

العلم فإنّه عاجز عن الوصول إليهما،كما قال تعالى: قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً .

و جسم الإنسان يتكوّن من العناصر التي تملأ الكون،و هو لا يختلف عن غيره من الكائنات،سواء كانت حية أم لا حياة لها.

و معرفة كينونة الإنسان لا يتوقّف على معرفة صفاته من الحسن و الجمال و العطف و الصفاء،فإنّ هذه الصفات و مثيلاتها لا تتدخّل من قريب و لا من بعيد في التركيب العنصريّ لجسم الإنسان،الذي يتكوّن من 65% من الماء الذي خلق اللّه سبحانه و تعالى منه كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ،و ما تبقى من وزن الجسم إمّا مواد عضويّة أو غير عضويّة.

و الأولى مركّبات معقدة يدخل فيها عنصر الكربون الذي يعتبر من النظائر يختلف في جسم عن آخر،و تنقسم تلك المركبات إلى بروتينات و مائيات الكربون و دهون.

و الثانية أملاح معدنية جلّها من العظام التي يكسبها صلابتها.

و للبروتينات شأن خاصّ في تكوين الأحياء،فإنّ معظم البروتوبلازم في الخلايا يتألف منها،و لها التأثير المهمّ في حياتها،فإنّ الظواهر التي تبديها الكائنات الحيّة تتوقّف على الخواص الطبيعيّة الكيميائيّة لمحاليل البروتينات.

و تتكوّن البروتينات من جزئيات متنوّعة تسمّى بالأحماض الأمينيّة، التي يوجد منها بالجسم ما يزيد على عشرين نوعا.و ربّما يحتوي الجزء الواحد من البروتين آلافا من الأحماض الأمينيّة تتّحد مع بعضها بنسب و طرائق متباينة في أنواع البروتين المختلفة،كما تتّحد حروف الهجاء في بنية الكلمات.

و هذه البروتينات هي الحلقة الأولى في خلق الأجسام التي يتسنّى لها أن تنبض بالحياة بإذن اللّه تعالى.

حقّا أنّ البروتين تعتبر كلمة من كلمات اللّه التي قال عزّ و جلّ فيها: قُلْ لَوْ كٰانَ اَلْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمٰاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنٰا بِمِثْلِهِ مَدَداً .

و هذه الجزئيات التي تؤلّف ترابيّة الأجسام العنصريّة تعتبر المعدّات بالتعبير الفلسفيّ،أو السرّ الأعظم في أصغر وحدة من وحدات الحياة و هي الخلية،التي ما زالت أمامنا مرحلة طويلة بين تلك الجزئيات و بين تلك الوحدات.

و الخلايا جسيمات صغيرة لا ترى إلاّ بالمجهر،فلو أخذت خلية واحدة من كريات الدم الحمراء-مثلا-ذات حجم متوسط فهي لا تتجاوز كلّ عشرة آلاف مليون منها غراما واحدا.

و هذه الملايين من الجزئيات المتنوّعة تجعل من التفاعلات الكيميائيّة أمرا معقدا،و لذا اعتبرها العلماء من أكثر ما في الوجود تعقيدا في آلية الكائنات الحيّة،ممّا جعلت دراستها شاقّة و معقّدة،ربّما يظلّ كثير منها مجهولا لا يعلم أسرار الحياة فيها إلاّ اللّه سبحانه و تعالى.

و الخلايا على أنواع متعدّدة،فهي إمّا جسميّة،كخلايا العضلات و العظام و الدم و الأعصاب و غيرها.

أو جنسيّة،كالخلايا النطفيّة،و البيوض،و حبوب اللقاح.

كما أنّها إمّا لا نواة لها،كخلايا الكريات الحمر في أجسامنا.أو لها النواة، التي لها دور أساس لعدد من الوظائف الحيويّة،إذ بدونها لا تنقسم الخلية أو تعمر طويلا،و هي سرّ النشاط في حياة الخلية.

و تتكوّن النواة من جسيمات صغيرة تسمّى كروموسومات أو الصبغيّات التي تحمل الوراثة للخلية،و تختلف أعدادها في فصائل الأحياء المختلفة،و تتراوح من الخلية الواحدة إلى عدّة مئات،ففي الخلايا الجسديّة

ص: 4

للإنسان يبلغ عددها 46 كروموسوما،و في الحصان 66،و في الأغنام 54، و الفأر المنزليّ 40،و الفراشة الأسبانيّة 380،و في ذبابة الفاكهة 8،و البصل 16، و البازلاء 14...

أمّا في الخلية الجنسيّة(المنويّة)،فالعدد على النصف من عدد الجسميّة في الإنسان،ففي النطف الذكريّة 23 كروموسوما،و في البيضات الأنثويّة 23، فإذا ما تمّ التلقيح كان للخلايا المولودة نفس العدد الذي يوجد في خلايا أبويه و هو 46 كروموسوما،حيث تنقسم باستمرار مولدة الفرد الجديد.

و يغلّف الخلية-نباتيّة كانت أم حيوانيّة أم ميكروبيّة-غشاء نصف صلب،الغاية منه حماية أنواع مختلفة من الحبيبات المطمورة في مادة غرويّة تعرف بالبروتوبلازم،التي تعتبر مادة الحياة،بل كان الاعتقاد أنّ بواعث الحياة إنّما تكمن في البروتوبلازم و الحبيبات الخلويّة.

و لكن التجارب العديدة و المعقدة أثبتت أنّ تلك الجسيمات التي في النواة هي قوام الحياة و تقوم مقام ماكينة الخلية الوراثيّة،و تعتبر الكروموسومات اليوم الهيكل الذي تصطف عليه مكونات أصغر حجما-تدعى بالجينات- اصطفافا ثابت الشكل.

فإذا تحقّق الوضع الذي تلتئم بموجبه جينات الفرد بعضها مع بعض، سواء كان هذا الفرد إنسانا أم ميكروبا هو الذي يرسم الشخصية الوراثيّة.

و لكن بالرغم من اختلاف الجينات من حيث المسالك الوراثيّة التي ترسمها،فإن هذه القابلية تكمن في مجموعة واحدة من المركبات الكيميائيّة هي الأحماض النوويّة،و تتشابه كلّ الأحماض النووية في الجينات من حيث تركيبها الكيمائيّ العامّ و إن اختلفت من حيث التفاصيل إلى حدّ قد يؤدّي إلى ظهور التباين الكبير في الكائنات الحيّة.

و قد كان خالقها العظيم دقيقا و بديعا في صنعه و حكيما في فعله،حيث

ص: 5

جعل تلك العمليات الكيميائيّة لخلق هذه الثروة الطائلة من عالم الأحياء الذي يزخر بغرائب الأشكال و الأنواع فسبحانه ما أعظمه من خالق!!

و بإيجاز شديد في معرفة تركيبة الخلية الحية أنّها تتكوّن من جزءين أساسيين:النواة و السايتوبلازم،و محاطة بغلاف أو جدار حسب درجة تعقيد هذه الخلية.و كلّ نواة تتكون من مجموعة من الكروموسومات عددها خاص لكلّ نوع من الأحياء،كما عرفت آنفا.و كلّ كروموسوم يتكوّن من خيط طويل من جزيئة كيمياويّة يطلق عليها كلمة مركبة من حروف ثلاثة لها أهمية كبيرة، و هي )DNA( أو الحامض النوويّ،أو خيط الحياة الذي يتكوّن من مجموعة من الجينات،و كلّ جين يكون مسئولا عن تصنيع وحدة أساسية بنائية لذلك الكائن.

فكلّ خلية من خلايا أجسامنا تنطق بعظمة الخالق سبحانه و تعالى،فإنّه لو وسعنا أن نشاهد خلية حية نجدها في نشاط شديد و لا قرار لها بحال،و تتغيّر أشكالها باستمرار،و على أشدّ ما تكون نشاطا حينما تنقسم إلى خليتين. و يرجع سرّ هذا النشاط الحيويّ إلى التفاعلات الكيمياويّة الحاصلة فيها،و التي قوامها أكسدة المواد العضويّة التي تؤدّي إلى ظهور أنواع مختلفة من الطاقة تتمثّل فيما تقوم به الخلايا من أعمال،كحركة العضلات و إفراز الغدد.

و من هنا يظهر أنّ إبليس المطرود من رحمة الباري قد أخطأ عند ما تحدّى خالقه محتجّا بأنّه مخلوق من طاقة من نار،و آدم خلق من مادة من طين.و لم يعلم أنّ الطاقة و المادة سيّان كلتاهما يتسنّى لها التغيّر-كما أو نوعا-إلى الأخرى،فأخرج نفسه بهذا الجهل من مكان الأصفياء و خوطب بخطاب: فَاخْرُجْ مِنْهٰا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ .

كما أنّه عجيب أمر أبينا آدم عليه السّلام كيف نسى النعمة التي حباه بها مولاه،

ص: 6

فأشقى نفسه و ذريته من بعده بحكمة متعالية قد تقصر أفهامنا عن دركها، و لشرحها موضع آخر.

ثمّ إنّ كلّ واحدة من تلك الكروموسومات تتألّف من عدد هائل من الشرائط و الألياف،و كلّ ليف يتألّف من خيوط البروتينات و الأحماض النوويّة التي يسود فيها الحامض النوويّ (DNA) الذي تمّ التعرّف عليه عام 1944 م و اعتبروه الشفرة الوراثيّة.و قد أثبتت التجارب أنّ الأحماض النوويّة هي التي تحمل المعلومات الوراثيّة،و أنّ تلك الأحماض مطيعة لأمر بارئها لا تعصيه في الاحتفاظ بأسرار الوراثة و إظهار ما يمكن إظهاره،و إخفاء الباقي.

ثمّ إنّ مادة (DNA) من أكبر الجزئيات المعروفة التي تعطي تركيبا أدقّ منه يعرف بالجينات،و هي الموروثات التي هي عبارة عن مجموعة كبيرة من النيوكليتدات مرتّبة ترتيبا خاصّا ضمن سلسلة الحامض النوويّ.

و يقدّر عدد الجينات في نواة كلّ خلية بشريّة بعشرين ألفا،و يتسبّب عن نقص أيّ منها أو خلل في تركيبتها،نوع من المرض الوراثيّ الذي له أنواع كثيرة و العلم بها قليل.

و يوجد زوج واحد من الكروموسومات في كلّ نواة يحدّد الجنس، و عضوا هذا الزوج من الكروموسومات الجنسيّة متشابهان في الأنثى،و أمّا في الذكر فالعضوان يختلفان،أحدهما ينتج وليدا ذكرا إن هو لقح البويضة،و الثاني ينتج أنثى إن كان تلقيح البويضة من نصيبه،و من هنا يظهر أنّ بويضة الأنثى لا دخل لها في تحديد جنس الوليد.

و قد صار مصطلح الجين لوصف الوحدات القاعديّة للوراثة،و هو الذي يتحكّم في الصفات الوراثيّة،منها الشكل،و اللون،و الطول،و القدرات الجسميّة و العقليّة،و الإصابة بمرض وراثيّ معيّن و نحو ذلك.

و ذكروا أنّ عدد المورثات في كلّ كروموسوم يقدّر من(1000-000،10) مورثة،و كلّ مورثة مسئولة عن صفة معيّنة،كالشعر،و لون العين،و شكل الأنف،و لون الجلد،و حجم المعدة و شكلها،و طول القامة،و طول الأصابع و غير ذلك من الصفات.

و عرفت ما يتعلّق بالخلايا الجنسيّة التي تتركّب من النطف(حيا من الذكر) و عددها 23 من الكروموسومات،و البويضة من الأنثى التي تحتوي على العدد المشابه من الكروموسومات،و عند اتّحادهما في عملية التكاثر تنتج البويضة المخصبة،فيكون محتواها من الكروموسومات كاملا،نصفها من الرجل و النصف الآخر من الأنثى،لتكون الصفات الوراثيّة موروثة من الطرفين،و عند انقسام هذه البويضة المخصبة الحاوية للعدد الكليّ-و هو 46 جينا-ينتج الجنين الذي تحتوي خلاياه الجسميّة على العدد الكليّ.

و لكن،تبقى تلك الخصوصية للبيضة الملقحة التي تنفرد بها دون سائر خلايا الجسم في السائل الخلويّ(السايتوبلازم)الذي يحيط بالنواة،فإنّ عظمة هذا السائل الخلويّ تظهر عند ما تتكاثر البويضة الملقّحة،و تسرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة لعدد محدود من الأجيال،فما تكاد تصل إلى كتلة من اثنتين و ثلاثين خلية حتّى تتفرّع خلايا الأجيال إلى اتّجاهات و تخصّصات شتّى ذات وظائف متباينة،و تتخلّق إلى خلايا الجسد و الأعصاب و الأمعاء و غيرها،فتنحو إلى تكوين جنين ذي أنسجة و أعضاء مختلفة،و هي على الرغم من شبهها بخلايا الأمّ التي انتجتها من حيث عدد الجينات،لكن بالقدرة التي أودعها خالقها فيها تنطفئ طوائف من الجينات الموجودة على الكروموسومات لكنّها غير فعالة،في تمايز ينتج لكلّ مجموعة من الخلايا أن تقضي إلى نسيج أو عضو من أنسجة الجسم و أعضائه المتعدّدة.

و هناك فرق بين الخلايا الجسميّة و الخلايا الجنسيّة أنّ الأولى تتكاثر

ص: 7

بالانقسام الخيطيّ Mitosis ،و يتضاعف بموجبه كلّ كرموسوم مكوّنا كروموسومين متماثلين و متجاورين،بحيث يظهران كأنّهما كروموسوم واحد،و عند ما تبدأ عملية الانقسام تتباعد الكروموسومات جميعها و تنقسم إلى نصفين يتمّم كلّ واحد منهما نفسه إلى شريط كامل،بالتقاط المواد اللازمة من السائل المحيط به،و هكذا تتكوّن شبكتان صبغيتان تغلف كلّ واحدة منهما نفسها بغلاف نوويّ،لتصبح هناك نواتان تقتسمان السائل الخلويّ،و يحيط بكلّ منهما غشاء خلويّ،و تصبح الخلية خليتين،و هكذا أجيالا بعد أجيال من الخلايا المتماثلة،كخلايا الجلد أو الكبد أو العظام...إلى آخره.

أمّا الخلايا الجنسيّة،فتعتمد على الانقسام الاختزاليّ meosis ،و القصد منه أنّ الخلية الجنسيّة عند الإخصاب و اتّحاد الحيمن بالبيضة تندمج النواتان و تصبحان نواة واحدة فيها 23 زوجا من الكروموسومات،لا ينشطر الشريط الكروموسوميّ إلى نصفين،بل تبقى الأجسام الصبغيّة سليمة و يذهب نصفها ليكوّن نواة خلية،و النصف الآخر ليكوّن نواة خلية أخرى،فتكون نواة كلّ خلية جديدة مشتملة على 23 كرموسوما،لا على 23 زوجا.

إذا عرفت ما بيّناه لك من بعض خصوصيات الخلايا و الجينات و وظائفها، يتّضح لك عمل الهندسة الوراثيّة،التي هي كالآلة في عدم إمكان الاستغناء عنها. فموضوع هذا العلم هي الجينات،و عمله دراستها دراسة تفصيليّة من حيث تركيبها الكيميائيّ،و مكوّناتها الأساسيّة،و بالتالي ترجمتها إلى وحدات من الأحماض الأمينيّة،التي هي بدورها تشكّل مادة بناء الكائن الحي(البروتين)، و يمكن تلخيص عمل الهندسة الوراثيّة بما يلي: 1-دراسة الجينات دراسة تفصيليّة من جميع الجهات.

2-دراسة التناقل الجينيّ بين مختلف الأحياء،محطمة جدار الأنواع

ص: 8

المتقاربة،أي:إمكانية نقل الجينات بين الحيوانات و النباتات و الأحياء المجهريّة بمختلف أنواعها.

3-دراسة التركيب الأساس للمادة الوراثيّة،و ميكانيكيّة ترجمة المعلومات المخزونة في جزئية ال (DNA) إلى بروتين.و هذه المعرفة هي حصيلة جهود جبارة من البحث الدؤوب المضني الممتدّ إلى عشرات السنين أدّت إلى إمكانية نقل و تبادل قطع من المادة الوراثيّة من كائن حي إلى آخر مثله، و تعتبر تلك القاعدة لانطلاق عملية الاستنساخ،كما ستعرف.

4-دراسة المعضلات و إيجاد الحلول لها،و قد فتحت أبوابا واسعة لتلبية الرغبة العلميّة لدى العلماء،و استكشاف ميكانيكيّة الحياة.

5-إعادة هندسة الخلية وراثيا بهدف إكسابها صفة لم تكن تمتلكها في السابق،أو تقوية صفة ضعيفة بها،أو تصحيح خلل وراثيّ موجود و نحو ذلك.

و قد برز هذا الفرع من علوم الحياة إلى الوجود عام 1973 م،و اعتبر علما مستقلا في أوّل مؤتمر في ولاية كاليفورنيا عام 1975 م،و هو مؤتمر )Asilmore( .و أخذ في التقدّم منذ ذلك الحين بحيث لا يمكن تجاهل ما نتج عنه من الآثار الجبّارة التي ثبت فيها النفع العام،كلّ ذلك بفضل التقنيات الحديثة و وسائل الكشف و الاختبار الدقيقة،ممّا سهلت له التقدّم السريع من تاريخ ولادته،و إن كان لي التحفظ في ذلك ممّا سنذكره في مستقبل الكلام و أشرنا إليه في المقدّمة من أنّ هذا الفرع بل سائر فروع علوم الحياة لا يمكن لنا تحديد ولادتها بوقت معين،فقد نشأت مع أوّل خلية أرادت الحياة على هذه الأرض.

نعم التطورات السريعة المتلاحقة لم تكد تحصل إلاّ بفضل الجهود المضنية و وسائل الكشف الحديثة،كما عرفت.

و على أيّة حال،فقد انعقد أوّل مؤتمر لمناقشة ما أفرزته الهندسة الوراثيّة من سلب و إيجاب و وضع الخطوط العريضة لدراسة ما ينجم من هذه التقنية

ص: 9

الحديثة للجينات من الفوائد و الإضرار،و قد تطوّرت سريعا بعد هذا المؤتمر في عقد الثمانينات و التسعينات،ممّا دعا بعض الدول المتقدّمة إلى وضع حدود خاصّة و خطوط لا يجوز تجاوزها،إلاّ أنّها لم تكن رادعا لأسباب معروفة لدى الدارسين و العلماء،فكانت للمتصدّين لهذا العلم تجارب تلو التجارب حتّى توّجت تلك بالاستنساخ،الذي كان كالقنبلة الذريّة في كثير من الجهات و إن اختلفا موضوعا.و مع كلّ هذا لم يكن بالسهل إنكار حصيلة تجارب هذه التقنية و تطبيقاتها من الفوائد الجمّة جنبا لجنب بعض الإضرار،و نذكرها على سبيل الإجمال.

أمّا فوائد الهندسة الوراثيّة فهي: 1-تقنية الجينات التي مكّنت العلماء من معرفتها و طرق عملها،و تلك الشفرة الوراثيّة المكوّنة من ثلاثة أحرف،التي هي سرّ حياة الخلايا من الكائنات الحية،و قد عرفت سابقا أنّ هذه التقنيات هي العمود الفقريّ للهندسة الوراثيّة التي كان لها الفضل في كشف عمل الخلية البكتيريّة و الفيروس و حلّ كثير من ألغازها،و ما كان بالإمكان وقوعه تحت المتناول لو لا الدراسة المستقبليّة للأحياء المجهريّة من الناحية البايوكيميائيّة و الوراثيّة.

2-الدراسة المستفيضة و العميقة لتقنية الجينات في بعض الفيروسات و البكتريا المرضيّة،التي ساعدت على تصنيع الأدوية الفعالة،و فهم طرق الوقاية من العوامل المرضيّة.

3-الاستفادة من دراسة التركيب الجينيّ للأحياء المتعدّدة الخلايا،بعد استخدام الأحياء المجهريّة و جعلها كأداة لها في إصدار الخريطة الجينيّة للإنسان في شتاء عام 2000 م )Human Genome Project( ،و التي اعتبرت أكبر إنجاز علميّ في بداية القرن الواحد و العشرين،و صار بالإمكان حلّ ألغاز الحياة و خصوصياتها في جينات الإنسان،ممّا تترتّب عليه من الآثار العظيمة التي نتمنّى أن تكون طيبة.

ص: 10

و لم يكن بالإمكان الوصول إلى ذلك إلاّ بجعل الأحياء المجهريّة وسيلة إلى المشاريع المستقبليّة،و أداة لنقل و استنساخ المعلومات الوراثيّة،و جعلها أرشيفا يحتفظ به،باعتباره سجلا يحتوي كلّ المعلومات يرجع إليه كلّ حين، و أهمّ تلك الأحياء المجهريّة هي بكتريا ال )Ecoli( ،لو فرة المعلومات فيها،و عن تركيبها الوراثيّ،ممّا يسهّل التعامل معها.

4-التطبيقات في المجال الصحّيّ في إنتاج الأمصال و الهرمونات لمعالجة الأمراض و بأسعار زهيدة،بعد أن كانت تستخلص من الكائنات الراقية.

5-إنتاج النباتات الجديدة من دمج نباتين مختلفين في نبات واحد، و تطوير نباتات مقاومة للأمراض،و تكثيرها على وجه اقتصاديّ توفيرا للغذاء العالميّ،و ذلك بنقل الجينات في النبات لكسبه مناعة طبيعيّة ضدّ الأمراض المختلفة و الآفات الزراعيّة،أو مقاومتها لكثير من الأمراض البكتيريّة و الفيروسيّة،و في الوقت الحاضر هناك أكثر من 80 نباتا خضع لتجارب الهندسة الوراثيّة.

6-التطوير في إنتاج اللقاحات التي هي المادة الأساس للوقاية من الأوبئة، كما هو الحال في مرض الجدريّ و الكساح،و قد بدأت الأبحاث في تقنية الجينات إلى تحسين اللقاحات القديمة،و إنتاج لقاحات جديدة أكثر فعالية لأمراض جديدة كالملاريا،و الأيدز،و القرحة المعويّة.

7-إنتاج المواد الكيمياويّة و البروتينات المهمّة لمختلف الاستخدامات و الأغراض الصيدلانيّة،و ذلك باستعمال الهندسة الوراثيّة الأحياء المجهريّة في التقنية الحيويّة لإنتاج مواد كيمياويّة عضويّة كالأحماض،و الأحماض الأمينيّة، و السكريّات،و المضادات الحياتيّة،و الهرمونات،و الأنزيمات و غير ذلك.

ففي الجدول الآتي يبيّن بعض البروتينات المنتجة بواسطة التقنية الحيويّة.

ص: 11

آ-الانسولين لمعالجة مرض السكر.

ب-هرمون النمو لمعالجة نقص النمو.

ج-الانترلوكين لمعالجة السرطان.

د-الانترفيرون لمعالجة الفيروسات و السرطان.

8-العلاج بالهندسة الوراثيّة،و ذلك بإدخال القطع الصحيحة من الجين في الخلايا الجسديّة مكان القطعة المريضة أو المعطوبة غير الصالحة لإنتاج البروتين،كالتجربة التي قام بها الدكتور اندرسون لعلاج مرض نقص المناعة الحادّ،و هي أوّل تجربة أعطت ثمارها عام 1990 م،ممّا فتحت الباب لإدخال هذه التقنية في علاج بعض الأمراض الوراثيّة.

هذه هي الجوانب المشرقة للهندسة و الوراثيّة،و الدراسات مستمرّة لاكتشافات جديدة نأمل أن تكون في خدمة الإنسانيّة و تحصيل حياة سعيدة.

أمّا الإضرار التي قيل إنّها حصلت من تلك التجارب،أو الآثار السلبية التي يمكن أن تستحصل من تطبيقات هذا العلم،و هي الجوانب المظلمة لهذا الفرع من علوم الحياة،فنذكر بعضا منها:

1-إمكان إنتاج بكتريا مرضية أو كائن وبائي مقاوم للمضادات الحياتية للفتك بالشعوب،أو إنتاج حشرات أو فطريات ناقلة للأمراض،أو قوارض أو غيرها من الحيوانات و الأحياء المجهريّة لتخرج و تفتك بالناس و الشعوب، سواء كان ذلك عن قصد أم لا،فتصير أوبئة لا يمكن السيطرة عليها و يعجز المختصّون عن معالجتها.

2-الاستخدامات في الحروب البايولوجيّة.

3-دمج الكائنات الحية في كائن واحد،مثل محاولة دمج البطاطا مع الطماطة.

4-إنتاج السوبرمان الذي ينقل إليه أرقى الصفات الحيوانيّة من القوّة

ص: 12

و السرعة،و الحركة و الخفّة فيها،وحدة البصر،و كبر حجم الدماغ،و سرعة الاستجابة و غير ذلك من الصفات،و تسخيره للسيطرة على العالم.

و لأجل ما ذكرناه من الجانب المظلم و غيره اتّجه بعض العلماء إلى القول بإلغاء فعاليات الهندسة الوراثيّة،أو تحديدها بوضع قوانين صارمة.

و لكن إذا أردنا المحاورة العلميّة مع هؤلاء نقول:

أوّلا:إنّ مجرّد الفرض و التخمين لا يصير سببا في المنع و التحديد،و إلاّ لما قام لصرح العلم أساس،و قد شكّك جمع من العلماء و الباحثين في صحّة ما تقدّم من الإضرار.

و ثانيا:إنّ ما ذكر إنّما هو أمر طبيعيّ بالنسبة إلى جميع العلوم،فقد تستغلّ في سبيل الإضرار بالإنسان،كما هو معلوم لدى الجميع.

و ثالثا:إنّ الخير الكثير الذي يستفاد من العلوم لا يعقل أن يمنع لأجل الشرّ القليل،فلو أخذنا علم الطب الذي هو أكثر العلوم الحياتيّة مساسا بالإنسان و أشدّ احتياجا إليه،و قد أحسّ الإنسان بنفعه و آثاره،فلا يخلو من الآثار السلبيّة و الجوانب المظلمة،بعضها تشترك مع الهندسة الوراثيّة،و لم يكن يدور في خلد أحد أن يمنعه أو يحدّده أو يقلّل من قيمته،و هذا أمر بديهيّ لا يمكن تجاهله. فلتكن الهندسة الوراثيّة مثل سائر العلوم.

نعم،يمكن القول بأنّ تلك الإضرار التي يحتمل تحقّقها من هذا العلم ربّما يتمّ الابتعاد عنها و دفع المخاوف الحاصلة منها بإرساء قواعد و أسس رصينة صارمة،و سيطرة دوليّة تمنع الخوض في تلك الأبحاث و التجارب لإنتاج تلك الأسلحة المدمّرة للإنسانيّة،أو تحدث أضرارا بالنسبة إلى الإنسان،فتختصّ بما يجلب الخير و السعادة له.

و الإسلام دين سماويّ متكامل أتى في سبيل سعادة الإنسان و تحقيق الحياة الهنيئة له،و قد سنّ قواعد و أسسا علميّة حكيمة تبعث الطمأنينة في نفس

ص: 13

الإنسان،و تثبت دعائم الحقّ و العدل في الحياة،و من مميزات تعاليم هذا الدين الحنيف أنّ تشريعاته و قوانينه لها من الشموليّة و الدقّة و الاستيعاب و الديمومة و الثبات ما يشتمل على موجبات العمل بها و الردع عن مخالفتها في عرض واحد،و فيها من شفافيّة التعامل مع الأحداث و المستجدّات ما لا تكون في أي تشريع.

فهو لم يمنع من أيّ علم و معرفة إلاّ إذا اشتملت على مفاسد يقرّرها المشرّع العظيم،فلو لم يرد منع من قبله تكفي تلك النصوص القرآنيّة و ما ورد في السنّة الشريفة التي تحثّ على طلب العلم و التحريض على التعلّم و اكتساب المعرفة في تحليل هذا العلم و جواز تعلّمه و الخوض في تجارب الهندسة الوراثيّة،و لا يوجد دليل يمنع من ذلك،إلاّ ما قد يقال:من دلالة الآيات الناهية عن الخلق و الإيجاد.

لكن إثبات ذلك موضع نقاش بل منع،فإنّ عمل الهندسة الوراثيّة لا يعدّ شركا في الخلق،و لا تدخّلا في شئون الخالق العظيم،بل هو استفادة من نعمه المباركة،و إظهار عظمة الخالق،و بيان قدرته الكاملة،و سيأتي البحث عن ذلك في مستقبل الكلام.

كما ذهب جمع من العلماء إلى المنع من الاستنساخ الذي يعدّ تاج تجارب الهندسة الوراثيّة،و جوهرة اكتشافاتها.و لكن البحث عن ذلك يحتاج إلى تفصيل سوف نذكره في الفصول الآتية إن شاء اللّه تعالى.

الفصل الأوّل : المفهوم العلمي للاستنساخ

المفهوم العلمي للاستنساخ

لم يختلف أحد في المفهوم العلميّ للاستنساخ، فإنّه نقل الخلايا بغير طريقة التوالد الطبيعيّة،فإنّ في الاستنساخ لا يلجأ العلماء إلى الخلايا الجنسيّة (النطف و البيوض)كما هو المعمول في تكثير النسل و التوالد،و إنّما يلجئون إلى خلايا جسميّة ذات عدد كامل من الكروموسومات،حيث توضع في وسط خاصّ تنقسم و تولد فردا جديدا.

و في الحقيقة أنّ اللجوء إلى الخلايا الجسميّة ليس بالأمر الغريب،حيث إنّنا نلجأ إلى تكثير النباتات(الورد-العنب-المطاط..)عن طريق الأقلام،و القلم ما هو إلاّ مجموعة من الخلايا الجسميّة حيث توضع في الماء أو التربة المناسبة لتنمو إلى نبتة جديدة.

و قد نجحت التجارب التي أخذت فيها كمية من الخلايا الموجودة في قمّة الساق في النخل(الجمار)،حيث تركّب قطع منها في وسط مناسب لتنمو تدريجيا حتّى تولد نبتة(نخلة)جديدة،و كانت هذه هي الخطوات الأولى لعملية الاستنساخ،ثمّ أخذت خلايا جسميّة(حيوانيّة)و تركت في وسط زراعيّ مناسب،حيث أخذت هذه الخلايا بالانقسام التدريجيّ و النمو و التمايز حتّى كوّنت حيوانا كاملا مطابقا تماما للفرد الأصليّ الذي أخذت منه هذه الخلية الجسميّة.

فالاستنساخ في الخلية الجينيّة ممكن الحدوث رغم أنّ العملية لا تخلو من الصعوبات التقنية و الحاجة إلى الصبر و المثابرة،و إن توفّرت الإمكانيات الكبيرة في المختبرات البايولوجيّة المخصّصة لعلم الأجنة.

و إنّما الكلام في أمور لا بدّ من بيانها:

المصطلح

ذكر الباحثون لهذا الموضوع اصطلاحين:الاستنساخ،و الاستنسال، و اختلفوا في ترجيح أحدهما على الآخر.

أمّا الدلالة اللغويّة لهاتين الكلمتين،فالاستنساخ مصدر من النسخ بمعنى نقل الشيء من موضع إلى موضع آخر ،و منه قوله تعالى: إِنّٰا كُنّٰا نَسْتَنْسِخُ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ،و من تطبيقات هذا المعنى عمل نسخة أخرى من كتاب مكتوب مطابقة للأصل.و الاستنسال في اللغة هو طلب النسل الذي هو بمعنى الانفصال،يقال:نسل الشيء انفصل عن غيره..و الولد:ولده،و يقال:نسل بولد.. نسّل توالد،و أنسل بعضهم بعضا .

ص: 14

و إطلاق الاستنساخ على الوجود أو الإيجاد أو الكائن الجديد بغير الطريق المألوف لا بدّ أن يكون لأحد وجوه: 1-إمّا لمجرّد النقل،باعتبار أنّ المخلوق الجديد قد نقل من خلية كاملة التكوين البايولوجيّ تحمل الصفات الوراثيّة الكاملة،و زرعها في رحم أنثى لا يكون إلاّ مجرّد محيط خارجيّ ملائم لطور حياة هذه الخلية لتكون جنينا ثمّ وليدا.

2-أو لمجرّد المشابهة بين الأصل و الفرع.

3-إنّ كلمة الاستنساخ قد وضعت لتقابل كلمة )cloning( الإنكليزيّة التي هي من أصل يونانيّ )klon( بمعنى البرعم الوليد.

و لأجل كون الترجمة غير دقيقة،باعتبار أنّ كلمة )clone( الإنكليزيّة

يقابلها في المعاجم(نسيلة)،و هي تعني تكوين خلايا و أنسجة و أعضاء أو أجنة سابقة واحدة،و أمّا كلمة الاستنساخ فإنّه يقابلها بالإنكليزيّة كلمة )Transcription or copying( .

و ذهب بعض الباحثين إلى اختيار كلمة الإنسال أو الاستنسال،باعتبار أنّها الكلمة الصحيحة للترجمة الإنكليزيّة.

و لكن تصحيح الكلمة من هذه الجهة أوجب الوقوع في مأزق آخر،و هو أنّ الاستنسال كما عرفت يفيد التوالد،و يبعّد المعنى المقصود بالاستنساخ،مضافا إلى أنّ القوانين المرعية في الأحوال الشخصيّة التي تستقي معظم أحكامها في الدول الإسلاميّة من الشرع الحنيف قد ورد فيها لفظ النسل و مراد فاته،فيمكن استنباط الحكم الفقهيّ منها في تشريع الاستنسال،مع أنّه موضع تشكيك كما ستعرف.

و الحقّ أن يقال:إنّه من حيث الاصطلاح اللغويّ لا الاستنساخ يكون مطابقا للأصل الإنكليزيّ،و لا الاستنسال مطابق للإطلاق العربيّ،كما عرفت.

فإنّه إمّا لغويّ،و قد عرفت الأمر فيه،فإنّ الاستنساخ تكاثر لا جنسيّ،و النسل تكاثر جنسيّ.

و إمّا شرعيّ،و التنسيل في الشرع إمّا أن يحصل من عقد الزواج بين الرجل و المرأة،أو من الشبهة الحاصلة منهما أو من طرف واحد،أو السفاح كذلك.و تترتّب على التوالد الحاصل من تلك الطرق أحكام شرعيّة معروفة في الفقه الإسلاميّ،يأتي التنبيه عليها.و هي من أهمّ نقاط الخلاف في جعل الاستنساخ شرعيّا،الذي هو-كما عرفت آنفا-تكاثر لا جنسيّ،و لا ربط له بمسألة خلق الإنسان،إذ ليس له وجه صحيح مقبول أبدا.

فإنّ الخلق بالمعنى الواسع الأشمل لمطلق التقدير و الإيجاد المتحقّق في خلق آدم و حواء و ذرّيتهما بالكيفيّة المعروفة المذكورة في القرآن الكريم-

ص: 15

كقوله تعالى: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوٰاجاً ، و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا لِيَسْكُنَ إِلَيْهٰا ،و قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ ،و قوله تعالى: وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ*`مِنْ نُطْفَةٍ إِذٰا تُمْنىٰ -لا ينافي خلق الاستنساخ و هو لم يخرج عن تقدير اللّه عزّ و جلّ و قضائه،فهو الذي خلق اَلْإِنْسٰانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ و أعطاه القدرة على صنع ما يعلّمه،فهو و عمله مخلوق للّه سبحانه و تعالى وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ ،و يأتي مزيد بيان.

و أمّا من الناحية القانونيّة،فإنّه و إن لم نملك المعلومات الموثّقة عن ماهية الأحكام القانونيّة للدول-إذ هي تختلف كثيرا بالنسبة إلى قوانين الأحوال الشخصيّة-و لكن نفترض أنّها تقوم على المنع باعتبار جعل النسل من الزواج الحاصل من العقد بين رجل و امرأة تحلّ له شرعا،غايته إنشاء رابطة للحياة المشتركة،كما في قانون الأحوال الشخصيّة المعمول به في العراق رقم 188 لسنة 1959 م،الذي يستقي أكثر أحكامه من التشريع الإسلاميّ.

لكن دلالة القوانين على رفض الاستنسال تحتاج إلى مراجعة و تثبيت قيود خاصّة لإخراج مثل هذا التوالد.فإنّ النسل بحسب تلك القوانين و إن كان غاية من غايات الزواج بين الرجل و المرأة و وسيلة للنسل،لكنّه لا يدلّ على الانحصار.

فالمصطلحان المزبوران لا يخلوان عن نقاش،لا سيّما الثاني منهما.

لكن الذي ينبغي أن يقال:أنّ المصطلحات العلميّة التي تنقل إلى اللغة

العربيّة لها قواعدها و أصولها و المرجع الخاصّ بذلك النقل،فهي لا تخلو:إمّا أن تبقى على مفرداتها اللاتينيّة،كما في عدد كثير من الأمور مثل علم البكتريا و علم الجينات و نحوهما،فتكون متكفّلة لما يترتّب عليها من الآثار القانونيّة و الأخلاقية.

و إمّا أن تنقل إلى اللغة العربيّة التي تتّصف بالأصالة و الموضوعيّة و الشموليّة،بحيث تتكفّل ما يترتّب عليها من الآثار المزبورة.

و الكلمة التي ينقل إليها المصطلح العلميّ إن كانت من النصوص الإسلاميّة،فهي بالأولى تتكفّل الجانب التشريعيّ أيضا.

و في الموضوع الذي نبحث فيه يمكن الاستئناس له بكلمتين وردتا في أهمّ مصادر التشريع الإسلاميّ.

الأوّل:القرآن الكريم في قوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ .

فإنّ دلالة لفظ(مثل)على النسخة المأخوذة من الخلية الجسميّة بمكان من الوضوح.و سيأتي البحث عن هذه الآية المباركة إن شاء اللّه تعالى.

الثاني:السنّة الشريفة،فقد ورد في بعض نصوص أحكام الأولاد عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه قال:«من سعادة الرجل أن يكون له الولد،يعرف فيه شبهه و خلقه و خلقه و شمائله» .و النصّ و إن كان مختصّا بالولد و تكوّنه المعروف،و لكنّه شيء و استنباط التسمية من النصّ شيء آخر.

فإنّه يمكن أن نستنتج من هذين النصّين الإسلاميّين المصطلح العربيّ لذلك المفهوم العلميّ المعروف،فإمّا أن يأخذ المثيل من القرآن الكريم،أو الشبيه من السنّة النبويّة الشريفة،و يترتّب عليها ما يترتّب من الآثار الأدبيّة و القانونيّة و الشرعيّة،كما ستعرف.

و أمّا المصطلحان المعروفان و إن اختلفا مفهوما و لكنّهما في الواقع يحكيان عن مرتبة من مراتب الخلق،فالاستنساخ يحكي عن النسل الحادث بعد جعل الخلية المخصّبة في رحم الحيوان،و الاستنساخ يحكي عن السبب البعيد و هو الخلية الجسميّة التي أخذت من الأصل فكان الوليد شبيها له.فكلا المصطلحين ينظر إلى الأسباب التي لا بدّ من توفّرها في إثبات النتيجة،كما في سائر العلل المادية،و مثل ذلك واقع كثيرا.

ص: 16

إلاّ أنّنا نستعمل المصطلح الشائع عند الكتّاب،و هو الاستنساخ،و يقع اختيارنا عليه لكونه أقرب لبيان المعنى العلميّ،و لأنّه شاع استعماله في البحوث العلميّة،و هو أبعد من المأزق الذي وقعت فيه الكلمة الأخرى.مع أنّ تسمية هذا المشروع بالاستنسال يخصّه بخصوص استعماله لأجل النسل، بينما هو أعمّ،فإنّه ربّما يكون للعلاج دون النسل.

و أمّا الإيراد بعدم دقّة الترجمة الصحيحة للأصل الإنكليزيّ في الاستنساخ،فيمكن ردّه بما تقدّم،فراجع.

تاريخ الاستنساخ

ذكرنا آنفا أنّ الاستنساخ ليس جديدا في اللبائن و الثدييات،فقد كانت محاولات عديدة في السابق أخفق كثير منها.

فقد تمّ استنساخ بعض القرود في ولاية أريغون في أمريكا من خلايا جينية.كما تمّ أيضا في أحد مختبرات بلجيكا عن طريق حثّ خلية مخصّبة بواسطة سلك زجاجيّ،ممّا أدّى إلى انقسامها إلى توأمين متماثلين.و غيرها من التجارب المتعدّدة التي من خلالها صار بالإمكان الاستنساخ في الخلايا الجينيّة رغم الصعوبات التقنيّة الكثيرة،فقد بدأ الاستنساخ في المختبرات العلميّة الدقيقة بالتحكّم في الجينات و ترتيب صيغها الكيميائيّة فكّا-أي:قطع الجينات

ص: 17

عن بعضها البعض-و وصلا-أي:وصل المادة الوراثيّة المضيفة بالجينات المتبرّع بها-.

و نتج عن تلك الحصول على الجينات الجديدة،ثمّ استنساخ ما يريده الباحثون منها.و في عام 1973 أعلن عن التناسل الذاتي لأوّل جين.كما أنّ في عام 1974 تمكّن العالم(ستانلي كوهين)من استعمال طريقة الترقيع(التوحيد الجينيّ) GeneSplicing حيث نقل قطعا كرموسوميّة من ال )DNA( للضفدع إلى بكتريا القولون.

ثمّ تطورت الدراسات و الأبحاث إلى الاستنساخ الخلويّ،بإفراد خلية واحدة معروفة التركيب و الوظيفة و الشكل،و بعبارة أخرى:أنّها محدودة تصنيفيّا تسمّى نسيخة )CLONE( ،ثمّ توليدها بحيث لا تعطي إلاّ النوع نفسه، و تمّ ذلك خلال تقنية زراعة الخلايا في الأوساط البيئيّة المحدّدة و المعروفة.

و كان من تطبيقات هذا النوع معالجة الأجنّة قبل ولادتها،و ذلك بأخذ خلايا الجنين الموجودة في السائل المنويّ و زراعتها في بيئة صالحة صناعيّة، و فحصها لمعرفة وجود الكروموسومات الشاذّة التي تؤدّي إلى تكوين تشوّه وراثيّ للجنين،فينتج من ذلك معالجة بعض الأمراض الوراثيّة،مثل الأمراض الخاصّة بالجهاز المناعيّ،و مرض الثلاسيميا،و ذلك بطريقة زراعة خلايا الكبد الجينيّ،حيث تحفّز خلايا من كبد الجنين الطبيعيّ المجهض و تغرس عن طريق الإبرة في وريد الحبل السريّ للجنين المشوّه،و تذهب هذه الخلايا إلى كبد الجنين و تعمل بعد ذلك على تصنيع البروتين المطلوب.

و بما أنّ جهاز المناعة في الطور الجنينيّ غير مكتمل،فإنّ زراعة خلايا من جنين إلى آخر لا ترفض،كما في حالة زراعة الأعضاء.

و من تطبيقات هذا النوع من الاستنساخ دراسة التمايز الخلويّ،و الخلايا السرطانيّة.

ص: 18

ثمّ بلغت التجارب الدقيقة إلى استنساخ الجنين الكامل بعد أنّ كان أمرا محالا،و لكنّه لا يخلو من تعقيد،إذ إنّه يبقى السبب الحقيقيّ في قضية تمايز الخلايا أمرا مجهولا و من الصعب العلم بأنّه كيف تمّ تصنيفها بحيث ينصرف بعضها إلى خلايا العظام و تعطى لها،و أخرى تعطي خلايا كبد،و ثالثة خلايا عصبيّة،و هكذا مع أنّها جميعا مجتمعة متجاورة لا تمايز بينها.

مضافا إلى أنّ هذا التخصّص لو حصل لا يمكن لها التراجع عن تخصيصها أبدا،إلاّ في بعض الحالات النادرة.

و من ثمّ كانت الدراسات صعبة و دقيقة تحتاج إلى التواصل مع الصبر و المثابرة،و كان من نتيجة هذا القسم من التجارب أن حصلت تطبيقات جديدة للاستنساخ،منها فصل الخلايا بعد الانقسام الأوّل أو الثاني للبويضة المخصّبة،و هو يؤدّي إلى تكوين نسخ متطابقة تماما 100%،كما في التوائم،لأنّ المادة الوراثيّة مصدرها واحد و هو البيضة المخصّبة.

و قد تمّت هذه التقنية عام 1993 على الإنسان بعد التلقيح الاصطناعيّ الأوّل(طفل الأنابيب).

و منها الاستنساخ بطريقة زراعة النواة،و تعتمد التقنية في هذا النوع على قتل نواة البويضة غير الملقّحة بالأشعة،و زراعة نواة خلية جسديّة مكانها، بحيث تكون مشتملة على العدد الزوجيّ للكروموسومات،بينما كانت نواة البويضة تحتوي على العدد الفرديّ بعد حثّها-كهربائيّا-على الانقسام يتمّ إعادتها إلى أمّ مستقبلة فتنمو و تؤدّي إلى تكوين الجنين.

و كانت أوّل تجربة في هذا المجال على الضفدعة عام 1952.

و في عام 1962 تمكّن العالم جورج كيردن من استنساخ ضفادع من أنوية الأمعاء للطور البالغ،كما جرى تطبيق فكرة الاستنساخ على أجنّة الفئران.

و في عام 1997 قام فريق مكون من أربعة علماء بقيادة الاسكتلنديّين

ص: 19

(أيان و لمت)و(كيث كامبل)في معهد(روزلين)في اسكتلندا ب(277)محاولة تجريبيّة،استطاعوا خلال ذلك الحصول على(29)جنينا،نجح الحمل في ثلاثة عشر منها،و لم تكتمل الولادة إلاّ في حالة واحدة هي النعجة(دولي)،فكانت نسبة النجاح 277/1.

و أخيرا نجحوا في استنساخ ستّ نعجات معدّلة وراثيا بجينات بشريّة لإنتاج عوامل التخثير الدمويّة،و أشهرها هي النعجة(بولي)التي تحمل جينات بشريّة معدّلة،و لكن لم تتم ولادة تلك النسيخة المعدلة إلاّ بعد مرورها بخطوات عديدة و هي:

الأولى:أخذ خلية من ضرع النعجة المراد استنساخها،و كان عمرها 6 سنوات،و عرفت سابقا أنّ هذه الخلية لما كانت خلية جسميّة تحتوي على العدد الكليّ للكروموسومات،فهي تحتوي على كلّ العوامل الوراثيّة.

الثانية:احتضان هذه الخلية في أطباق مختبريّة مزوّدة بالمواد الغذائيّة الضروريّة لبقائها حيّة فقط،و إن لم تكن كافية لنموها و انقسامها.

الثالثة:تخفيض تغذيتها بنسبة 20/1،و هي النسبة الأدنى لبقائها حية، و لكن دون الفعاليات الطبيعيّة(أي:العمليات الأيضيّة للخلية كافة)،و في هذه الحالة يتوقّف الزمن عند هذه الخلايا(الهامدة)،و تصبح جيناتها عرضة لإعادة برمجتها،و هذه الحالة هي المطلوبة للسيطرة على تنشيطها في الوقت المناسب.

الرابعة:الحصول على بويضة غير مخصبة من نعجة أخرى-مغايرة تماما في النوع-أزيلت النواة الحاوية على الجينات الوراثيّة مع الإبقاء على كافة المحتويات الأخرى،فأصبحت مستودعا غذائيّا فقط.

الخامسة:وضع الخلية الهامدة الكاملة بجنب الخلية الخالية من النواة (البويضة)ثمّ تعريضهما لشحنتين كهربائيّتين،الأولى لدمج الخليتين(مثل فقاعتي صابون)،و الثانية لتوليد الطاقة فستعاد حيوية الخلية النائمة

ص: 20

و تحفيزها على إعادة الانقسام و ممارسة فعالياتها الطبيعيّة،فكانت الحصيلة أنّه تمّ إدخال العدد الكليّ من كروموسومات الخلية الحاوية على نواة خلية الضرع إلى المستودع الغذائيّ،فحصل مزج نواة الخلية الجسميّة(الضرع)مع خلية البيضة المنزوعة عنها النواة.

السادسة:الحصول على البيضة كما لو كانت مخصّبة توا لاحتوائها العدد الكليّ للكروموسومات،و تركت الخلية لتتكاثر-الذي هو مهمّتها الطبيعيّة- و بعد حوالي ستّة أيام تكوّن الجنين منها،ثمّ نقلت تلك الخلايا المتكاثرة من المختبر و زرعت في رحم نعجة مهيأة لحضانتها،و بعد إكمال مدّة الحمل ولدت الحامل المولودة الجديدة التي أطلق عليها اسم(دولي)،فهذه النعجة عبارة عن نسخة مطابقة للنعجة التي تبرّعت بخلايا ضرعها.

فكانت النتيجة من هذه التقنية المضنية-و التي لم تتم بسهولة-الحصول من خلية جسميّة منضمّة مع خلية جنسيّة(بويضة)مستقلّة اتّحدتا بانسجام، و بدأت مسيرتها الطبيعيّة،و بعد الفترة المطلوبة في الحمل تمّ الحصول على المولود الجديد الذي سمّيت بالنعجة(دولي).

و يمكن تلخيص المسيرة التاريخيّة للاستنساخ بما يلي:

في عام 1950 تمّ أوّل نجاح لتجميد حيامن من الثيران بدرجة-87 م لنقلها و استخدامها في التلقيح الصناعيّ.

1952 تمّ أوّل استنساخ حيوانيّ لضفدع من خلية جنسيّة.

1962 استنساخ ضفدع من ضفدع صغير.

1985 استنساخ أوّل خنزير مهندس وراثيا لإنتاج هرمون النمو البشريّ.

1986 استخدام أوّل رحم للحمل بالتلقيح الاصطناعيّ،حينما تقدّمت أمريكيّة لاستخدام رحمها لهذا الغرض،ثمّ حاولت الاحتفاظ بالطفل المولود، و بذلك أحدثت أزمة قانونيّة.

ص: 21

1997 الإعلان عن وجود النعجة(دولي)المستنسخة من خلية ضرع نعجة أخرى.

و الأمر الذي تميّزت به التجربة الأخيرة من بين مئات من التجارب التي باءت بالفشل:أنّ التجربة الأخيرة اختصّت بصوم الخلية الجسميّة،إذ منعوا عنها الغذاء لمدّة خمسة أيّام،و إن كان هذا الصوم قد حصل من غير قصد لكنّه كان السبب في نجاحها دون غيرها.

و يمكن أن يكون التفسير العلميّ لهذا الصوم و تأثيره في نجاح التجربة هو جعل الكروموسومات بدرجة ضعيفة،ممّا سهل إمكانية إعادة برمجتها.

كما أنّ الميزة الأخرى لها أنّها التجربة الناجحة من بين 277 تجربة تمّ إجراء العمليات عليها،ممّا حدا بعض العلماء أن يعتبروها من السلبيات التي انطوت عليها تقنية الاستنساخ،و هو يعني أن يكون عدد الأجنّة الملقّحة في أيّة محاولة للاستنساخ كبيرا مهما نجحت محاولات التطوير لهذه التقنية.

و كيفما كان،فإنّه بعد نجاح استنساخ أجنّة الحيوانات و من قبلها النباتات أصبح استنساخ الإنسان على و شك الوقوع أو قاب قوسين أو أدنى،و إنّما الزمن هو الكفيل بتحقّقه.و هذا هو النذير الذي جعل العلماء و الباحثين و الفقهاء و رجال القانون بل حتّى أرباب السياسة في اضطراب و حيرة من هذا الأمر.

و لكن الذي لا بدّ من التنبيه عليه-و نحن بصدد الحكم الفقهيّ و القانونيّ لتلك السلسلة من التجارب التي أدّت إلى هذه العملية-أنّ تلك المراحل من التطوير و المراتب في الاختبارات المتعدّدة التي سبقت عملية الاستنساخ لم يكن فيها أيّ مانع تشريعيّ،قانونيّ أو شرعيّ،فهي تجارب علميّة قد أذن اللّه عزّ و جلّ للناس بها،كما ضمنت القوانين الوضعيّة إباحتها.سوى ما قد يقال من أنّها استلزمت هدر طاقات و موت أجنّة بلا مبرر،بل إنّ استعمال هذا العدد من التجارب لإنجاح ولادة بشريّة واحدة يبدو و كأنّه مجزرة،و هو الذي يستنكره صاحب أي ضمير حي.

ص: 22

و إنّها ممّا يفتح الشهية لدى الباحثين و القادرين على البحث العلميّ، و تكون حافزا آخر لمواصلة الأبحاث حول هذا الموضوع لاستكشاف سائر آفاقه و تحقيق ما لم يحققه غيرهم،و فتح الطريق إلى عوالم جديدة في المعرفة لم تكن معروفة من قبل.

و لكنّ جعل ذلك من مميزات هذا الحقل من حقول المعرفة،و من الوجوه المشرقة لها أولى من أن يجعل من الوجوه المظلمة لها و من سلبياتها.فإنّ كلّ تجربة علمية لا بدّ من أن تسبقها تجارب مخفقة،كما تلحقها،ناجحة تكون فاتحة لسائر الآفاق العلميّة.

و قتل الأجنّة بالشكل الذي ذكرناه لا يترتّب عليه تكليف إلهيّ،إذ المحرّم شرعا هو قتل الأجنّة في الرحم من بدء انعقادها إلى حين الخروج و الإلقاء.و أمّا قبل الدخول في الرحم و استقرارها فيه،فلا يترتّب عليه حكم شرعيّ إلاّ الكراهة، و هي تزول لأجل أغراض أخرى يحدّدها العقلاء،إذ إنّها من الأحكام الأوّليّة بالاصطلاح الفقهيّ تتغيّر بعروض عناوين أخرى ثانويّة،مثل الضرر أو الغرض الأهمّ و نحوهما،و سيأتي مزيد بيان.

أنواع الاستنساخ

يستفاد ممّا ذكرناه في المسيرة العلميّة للاستنساخ أنّ له أنواعا معينة:

الأوّل:الاستنساخ في النباتات،و تقدّم أنّه من أسبق أنواع الاستنساخ، و قد استفيد منه كثير من الأمور المتعلّقة بها.

و الظاهر أنّه لم يختلف اثنان في جوازه،و لا مانع منه من الوجهة الشرعيّة،و لكن لا بدّ من تقييده بما إذا لم يستلزم منه ضرر مطلقا.

الثاني:الاستنساخ في الحيوان،و هو ما يمكن تحصيله من خلايا جينيّة بعد دخول النطف(الحيمن الذكريّ)إلى البويضة،و بعد تلقيحها تقوم الخلية

ص: 23

المخصّبة بالانقسام،و كما هو المعلوم عند الأخصائيّين يخرج الجنين من غلاف البويضة و يعلق بالرحم،و بعد نشوء عدد معيّن من الخلايا المنقسمة يتمّ الاستنساخ،و ذلك بأخذ(جين)واحد ذي أربع خلايا(نتجت بالانقسام)، و توضع كلّ خلية بعد فصلها و عزلها في غلاف مستقلّ لكلّ منها،ثمّ تودع الخلايا الأربع مع أغلفتها في حاضنة مستقلّة مناسبة محاطة بمحلول يحتوي غذاء كاملا،كالذي يتوفّر في رحم المرأة.

و بعد تهيئة رحم خاصّ و تحفيز حالة الإخصاب و غريزة الاحتضان لهذه الخلايا في ذلك الرحم الذي يراد جعله حاضنا لها،يتمّ ذلك بالحمل الكاذب،أي: مجامعة الرجل للمرأة الحاضنة من دون أن يؤدّي ذلك إلى الحمل.

ثمّ تنقل الخلايا الأربع إلى أربعة أرحام في أربع نساء حاضنات،فتخرج أربعة أجنّة متشابهة تماما.

و السؤال الذي يطرح نفسه في هذا النوع من الاستنساخ يكون عن نقاط متعدّدة:

الأولى:عن التلقيح الأوّل بين الخليتين الجنسيّتين(النطفة و البويضة).

فإنّه إمّا أن يكون بين الذكر و الأنثى من أفراد الحيوان،أو يكون بين الجنسين من أفراد الإنسان،و حينئذ إمّا أن يكون بين الزوجين،أو بين غيرهما.

و الحكم يختلف بحسب تلك الاحتمالات،و هو و إن كان واضحا في الأوّل فإنّه لا إشكال في ذلك بين أفراد الحيوان إلاّ إذا ترتّب عنوان ثانويّ محرّم.

إنّما البحث فيما إذا كان بين أفراد الإنسان،فإن كان من الوقاع بين الزوجين،فلا إشكال في الحليّة،لأنّه أمر سائغ حدث من علاقة مشروعة.

و أمّا إذا كان بين أجنبيّين لا علاقة مشروعة بينهما،فلا إشكال في الحرمة،و يكون من السفاح،و لا حرمة لماء الزاني.

الثانية:عن الوقاع الثاني المحفّز،فإنّه إذا كان بين الزوجين،فلا إشكال في الحليّة أيضا.

ص: 24

و أمّا إذا كان بين أجنبيّين،فالكلام نفس ما ذكرناه آنفا،و الولد يتبع الحكم الشرعيّ،فإن كان من وقاع شرعيّ،فالولد مثله أيضا،و إلاّ فلا.و لكن ممّا يهون الخطب في هذا الوقاع أنّه لمجرّد التحفيز من دون ترتّب اللقاح عليه.

الثالثة:عن الرحم المستعار،فالخلاف فيه بين الفقهاء قائم من وجهين:

في أصل تشريعه،و الظاهر أنّه لا بأس به في ما إذا لم يستلزم محرّما من النظر إلى العورة و لمسها.و في الولد المتكوّن فيه،فهل ينسب إليه أو ينسب إلى صاحب النطفة-أي:الماء-كما ورد في بعض النصوص،و سيأتي الكلام عنه.

الرابعة:عن حكم أصل هذه العملية مع قطع النظر عمّا ذكرناه.و الظاهر أنّه لا إشكال فيها من الناحية الشرعيّة أو القانونيّة،إلاّ ما قد يقال من شبهة الخلق و نحوها،و يأتي ذكرها.

النوع الثالث:و هو الاستنساخ على نحو التكرير،و ذلك بأخذ الجنين بعد علوقه في جدار الرحم ثمّ تقسيمه إلى جزءين،ثمّ جعلهما في غلاف جنينيّ يهيّأ له،ثمّ يزرع في رحم أو أرحام،فتحصل أجنّة متشابهة.و ربّما تتمّ هذه العملية بعد تجميد البويضات لزرعها في الوقت المناسب حسب الحاجة.

و الوجوه التي سبق ذكرها تأتي هنا أيضا.مع شرط التحفّظ الجيد على انتساب المكرّرين إلى أبيهما و أمّهما الحقيقيّين،و أبيهما و أمّهما المستعارين في النوعين السابقين،بحفظ المعلومات حتّى لا تختلط الأنساب.

النوع الرابع:و هو الأكثر جدلا،و هو الاستنساخ بين الخلية الجسديّة و الخلية الجنسيّة(البويضة)،و الاستغناء عن التلقيح المعتاد بين الخلايا الجنسيّة،فيكون التكاثر في هذا النوع لا جنسيّا،كما تقدّم تفصيله.

و لكن الذي تحقّق من هذا النوع صورتان:

إحداهما:أخذ الخلية الجسميّة من ضرع نعجة،و بويضة من نعجة أخرى،و زرع الخلية المخصّبة في نعجة ثالثة،فتمّ ولادة النعجة(دولي).

ص: 25

ثانيهما:أخذ الخلية الجسميّة من جنين،و البويضة من نعجة أخرى، فنشأت النعجة(بولي).و لحدّ الآن لم يقع مثل هذه العملية إلاّ في الحيوان.و أما في الإنسان فهو على و شك الوقوع،و لكنّه غير واقع فعلا.

و اختلف العلماء في حكم هذه العملية،و فصّلوا الكلام فيها بذكر الإيجابيات و السلبيات فيها،و ما يترتّب عليها من الإشكالات العقائديّة و العلميّة و الاجتماعيّة و الأخلاقيّة و الفقهيّة و القانونيّة،على ما ستعرف مفصّلا.

صور الاستنساخ

عرفت أنواع الاستنساخ،و ما هو الواقع في الخارج منها،أي:الاستنساخ النباتيّ و الحيوانيّ،و الذي تحقّق فيه فردان:أحدهما من ضرع نعجة و بويضة من نعجة أخرى فولدت النعجة دولي،و الثاني من خلية جنين نعجة و بويضة نعجة أخرى فحصلت النسيخة نعجة(بولي).

و لكن الصور المحتملة و التي يمكن للعقل تصويرها أكثر من ذلك بكثير و متعدّدة،و هي:

الأولى:أن يكون الاستنساخ بين الحيوانات،

سواء كانت متشابهة في النوع أم مختلفة،أو كان بين الإناث أو الذكور،أو الاختلاف.

و الحكم في جميع هذه الصور هو الإباحة.و أمّا الولد فيتّبع الاسم الذي ينطبق عليه،و الطهارة و النجاسة و الحليّة تدور مدار ذلك الاسم.

و إن لم يكن له شبيه،ففيه بحث و إن كان الأصل يقتضي طهارته و حرمة الأكل.

الثانية:أن يكون الاستنساخ بين النبات و الحيوان،

و الحكم هو الحليّة إن لم يستلزم عنوانا محرّما.

الثالثة:أن يكون بين الحيوان و الإنسان.

و لا ريب أنّها موضع الجدل و النقاش،و يجب التأمّل في الحكم و تطبيقه على الأدلّة الشرعيّة،و يأتي الكلام فيه.

الرابعة:أن يكون بين أفراد الإنسان،و لها حالات:

1-أن يكون بين الإناث فقط،بأن تؤخذ الخلية من أنثى و تزرع نواتها في بويضة أنثى مثلها.

2-أن يكون بين الذكور فقط،بأخذ الخلية من الذكر و زرع نواتها في نطفة ذكر آخر مثله.

3-أن يكون بين الذكر و الأنثى على النحو السابق.

و على جميع التقادير،فإمّا أن تكون الخلية الجسميّة و الخلية الجنسيّة من بدن واحد،و ذلك:

آ-بأخذ خلية من بدن امرأة و زرع نواتها في بويضة نفسها.

فإمّا أن تكون متزوّجة.

أو تكون غير متزوّجة،سواء كانت باكرا أم لا.

و على كلّ منهما،فإمّا أن تودع الخلية في رحم صاحبة البويضة،أو تودع في رحم مستعار.

ب-أخذ خلية من بدن رجل و زرع نواتها في نطفة نفسه.

و إمّا أن تكون الخلية(الجسميّة و الجنسيّة)من فردين متشابهين أو مختلفين،و هي:

أوّلا:أن تكون الخلية الجسميّة من جسم امرأة و زرع نواتها في بويضة امرأة أخرى،و في هذه الحالة فإمّا أن تكون المرأتان متزوّجتين،أو غير متزوّجتين أو بالاختلاف.و على الجميع فإمّا أن تزرع الخلية المخصّبة في رحم صاحبة البويضة،أو في رحم صاحبة الخلية الجسميّة،أو في رحم مستعار.

ص: 26

و ثانيا:أن تكون الخلية الجسميّة من جسم امرأة و تزرع نواتها في نطفة رجل.

ص: 27

و المرأة إمّا أن تكون متزوّجة أو لا.و على كلّ منهما إمّا أن تزرع الخلية المخصّبة في رحم صاحبة الخلية الجسميّة،أو في رحم مستعار.

و ثالثا:أن تكون الخلية من جسم رجل و زرع نواتها في نطفة رجل آخر، و زرع الخلية المخصّبة في رحم مستعار،أو في رحم زوجة صاحب الخلية الجسميّة،أو زوجة صاحب الخلية الجنسيّة(النطفة).

و رابعا:أن تكون الخلية الجسميّة من جسم رجل و زرع نواتها في بويضة امرأة.و عليه فإمّا أن تزرع الخلية المخصّبة في رحم مستعار،أو في رحم صاحبة البويضة.

و على جميع التقادير الأربعة،لا بدّ من تحديد الرجل و المرأة اللذين هما مصدر الخليتين،و الرحم المراد زرع الخلية المخصّبة فيه،بأن يكون الزرع في رحم الزوجة إذا كانت الخليتان(الجنسيّة و الجسميّة)من الزوجين.

أو يكون الزرع في رحم مستعار إذا كانت الخليتان من أجنبي و أجنبيّة،أو في رحم صاحبة البويضة بإذن الزوج إذا كانت متزوّجة،أو بغير إذن منه.

و الرحم المستعار إمّا أن تكون صاحبته خالية من الزوج،أو تكون متزوّجة،بإذن من الزوج،أو بغير إذن منه.

و إمّا أن يكون الزرع في رحم حيوان لا إنسان،بلا فرق حينئذ بين أن تكون البويضة من زوجين،أو من أجنبيين متشابهين أو مختلفين.

و إمّا أن يكون الزرع في رحم اصطناعيّ،لا من الحيوان و لا من الإنسان.

هذه هي الاحتمالات التي يمكن للعقل تصويرها،و التشريع يختلف باختلاف تلك الموارد.

الخامسة:أن تكون الخلية الجسميّة من بدن ميت زرع نواتها في بويضة حي،و إيداع الخلية المخصّبة في رحم آخر،

و تنطبق على هذه الصورة كثير من الحالات السابقة.

ص: 28

و تلك و إن كانت فروضا علميّة في هذا الوقت،و لكن ربّما تتحقّق و تقع في الخارج في وقت آخر،بفضل التجارب العلميّة و التقنيّة الحديثة،و اهتمام العلماء و المتصدّين بمواصلة الأبحاث،و طلب المزيد من المعرفة في هذا المجال و كشف المجهول عن الموضوع بما يكون سبيلا لاستكشاف آفاق جديدة و فتح الطرق إلى عوالم لم تكن معروفة من قبل.

آثار الاستنساخ

لم يكن الاستنساخ بدعا من سائر الأمور الماديّة التي لا تخلو عن جوانب مشرقة و أهداف جميلة و آثار نبيلة،أو جوانب مظلمة،و أهداف ضارّة و آثار سيئة،و لكن الموضوع المبحوث عنه الذي ذكره العلماء له جوانب مشرقة متعدّدة،و قد أيّدتها التجارب المتكرّرة ممّا يعتبر من مميزات هذه العملية،إذ إنّ الآثار السيئة التي يذكرها الباحثون إنّما هو مجرّد فروض علميّة فقط لم تلبس لباس الوجود و لم تتحقق بعد في الخارج،و إنّما تذكر درءا للمخاطر و من باب سدّ الذرائع،و لأنّ ما يستلزم منه الفساد بمنزلة الواقع.و نحن نذكر أوّلا الأهداف الجميلة،و الوجوه المشرقة،ثمّ نعقّبها بذكر أضدادها.

الوجوه المشرقة

و هي متعدّدة ترجع إلى مصالح الإنسان،و تهدف إلى حلّ كثير من معضلاته إن هو أحسن استعمالها ضمن حدود معينة و قواعد مضبوطة، و أهمّها:

1-الاستفادة منه في تكثير النباتات و الإنتاج الحيوانيّ و تحسينهما كيفية و كمية و نوعا،و من ثمّ المساعدة في القضاء على أزمة الغذاء في العالم،و تحقيق الأمن الغذائيّ.

ص: 29

2-إنّه يساعد على إعادة تكثير الحيوانات المهدّدة بالانقراض.

3-إنّ الاستنساخ يساعد على تحسين النوع و إنجاب أطفال لهم طابع وراثيّ معيّن أو حسب الطلب،ممّا يمكن إنتاج أفراد أو مجموعات من الأشخاص المتشابهين و المتطابقين في تلك الصفات المراد نسخها،من أصحاب الفكر و ذوي المواهب و القدرات الخلاقة الفائقة،أو صفات الجمال،أو قدرات عقليّة فائقة،كإنتاج أشخاص فائقي الجمال أو الأبطال في ميدان الحروب و الرياضة و العلم و الفن و أصحاب المواهب العقليّة.

4-الاستفادة من الاستنساخ في علاج العقم في بعض الحالات،فيما إذا لم يستطع الرجل الإنجاب بالطرق المعتادة،فإنّه يمكن أخذ خلية جسديّة من جسمه،تؤخذ نواتها لدمجها في خلية جنسيّة منزوعة النواة مأخوذة من زوجته،ثمّ تزرع الخلية المخصّبة في رحم صاحبة البويضة.كما أنّ المرأة التي لا يستطيع جسدها إنتاج البويضات بالعدد الكافي،فإنّه يمكن بالاستنساخ فكّ جنين واحد منها إلى عدّة أجنّة،يحتفظ منها بالعدد الكافي احتياطا للمستقبل.

5-استخدام الاستنساخ وسيلة تأمين على الحياة و الصحّة، لاستعاضتهم عن الأبناء المتوفّين أو الذين يصابون بإعاقة نتيجة لحادث.

6-إنّ الاستنساخ يزوّد العلماء بكثير من صفات الخلايا السرطانيّة و تمايزها و الأمراض الوراثيّة و معرفة المناعة لها،ممّا يفتح الباب لمعرفة علاجها و السيطرة عليها،فمثلا يمكن معرفة الأسباب وراء سرعة انقسام الخلية السرطانيّة،و التعرّف على الطرق لإيقاف انقسام الخلايا الجنينيّة، و بالتالي يمكن استخدامه في وقف انقسام الخلايا السرطانيّة.

7-استخدام الاستنساخ لإنتاج أعضاء و قطع احتياط و توفيرها للزراعة بدل الأعضاء التالفة في جسم الإنسان،كاستبدال كلية أو قرنية أو نحوهما، فيستبدل التالف من جسم المريض بالعضو المستنسخ السليم.فهو يفيد في

ص: 30

تطوير تقنية صناعة الأنسجة الحيّة في الإنسان،و ذلك بهدف صناعة نسيج واحد متكامل،مثل النسيج العصبيّ أو الأوعية الدمويّة المتكاملة من خلال تحفيز نمو الخلايا بشكل منتظم.

و من المعروف كما ثبت أيضا أنّ الجسم لن يرفض العضو الجديد المأخوذ بهذه الصورة،و إن كان فيها أخطار خاصّة يمكن حلّها في المستقبل.

8-إنّ الاستنساخ من أهمّ الطرق لمعرفة الألغاز المحيّرة في الجسم البشريّ مثل الحبال الشوكيّة،و عضلة القلب،و نسيج الدماغ،و التي لا يمكن تجديدها أو تعويضها بعد إصابتها،فتكون دراسة الاستنساخ البيولوجيّ لتحديد تلك الألغاز.

9-إنّه يساعد على عمل دراسات مستفيضة للأمراض الوراثيّة و التشوّهات الجينيّة و طرق تجنّبها في النسخ البشريّة المستحدثة جينيّا، كمرض السكريّ،و الصرع،و ضمور المخ،و عمى الشبكية الوراثيّ و أمراض أخرى.

10-إنّه يساعد على التحكّم في نوع الطفل المولود-ذكرا أو أنثى-الذي يشغل بال كثير من الناس و لهم في ذلك رغبات مختلفة لها التأثير في حياة الأفراد و الشعوب،فإنّ في بعض الشعوب يكثر عدد الإناث بشكل كبير حتّى تصل النسبة ثلاث إلى واحد،و في بعضها ثمان إناث إلى واحد،و ربّما تزيد النسبة تلك،و في حالة الحرب التي تستهلك كثيرا من الرجال،و تبقى الإناث من غير أزواج،و في ذلك مشاكل كبيرة يعرفها الكثير.و بطريقة التحكّم في نوع المولود-ذكرا كان أم أنثى-تحلّ كثير من المشكلات،إذا ما نظّم تنظيما سليما يخلق نسبة جديدة متوازنة متناسبة.

و لكن،قد يكون ذلك من سلبيات الاستنساخ إذا ما استخدم في غير الهدف الصحيح،كما ستعرف.

ص: 31

11-و بعيدا عن الفروض العقليّة و احتمالات العلماء و أروقة التجارب،إذا أردنا أن نبحث الموضوع من الجانب العاطفيّ،فإنّ الاستنساخ هو السبيل الأمثل لتخفيف آلام العاشقين و همومهم و حزنهم العميق الذي تحصّل من فراق عشيقهم و فقدان أحبّتهم،الذين هم بين وقع الهيام الثقيل الذي يفقدهم الراحة و ربّما يؤدّي بحياتهم و هلاكهم،و بين تمنّي اللقاء و الفوز ببغيتهم و أملهم الوحيد،و بين وحشة الفراق الذي يزيد في آلامهم و يسلب استقرارهم،و يأتي الاستنساخ ليكون فرجا بعد الشدّة و ليفتح لهم باب الأمل،و يرجع لهم قرارهم، فيتسلّون بالنسخة المشابهة للأصل الجميل،و يعتاض بالشبيه عن الأصل المفقود،فيخفف عنهم ثقل الفراق،و هذا الأثر الحسن الذي يترتّب على الاستنساخ لم يتفطن إليه غيرهم،فإنّه لا يعرف الحب إلاّ من يكابده.

12-إنّ ما ذكر كله إنّما يمثل الجانب الماديّ لهذه العملية التي يمكن أن تنالها التجارب و الوجود الخارجيّ المحسوس له،و قد غفل عن الجانب الغيبيّ لها،و ربّما يعذر العلماء و المتصدّون لها لأنّ طبيعة عملهم تقتضي ذلك،و كيف لم يكن لهم العذر كذلك و قد استغرقت المادة مشاعرهم و حلبت ألبابهم؟!

و لكنّ علماء الأديان و الروحانيّين منهم لم يكن العذر في الغفلة عن الجانب الروحيّ للاستنساخ،الذي فتح الباب لمعرفة أصل من أصول الأديان الإلهيّة الذي كثر الجدال فيه بين المنكر له البتة و المعترف به،و هم ليسوا على وئام تامّ فيه.

و السرّ يرجع في ذلك إلى كونه غيبا محضا لا يمكن أن تناله أدوات الحسّ، إلاّ أن يكون قد منّ اللّه عزّ و جلّ عليه تلك الموهبة الخاصّة التي يرى بها ملكوت الأشياء.

و ذلك هو المعاد الجسمانيّ الذي يجب الاعتقاد به بحكم العقل و السمع عند المليّين،و لكن لأجل الشبهات الكثيرة التي أثارها الفلاسفة و الحكماء حوله

ص: 32

ممّا جعل بعضهم ينكر المعاد مطلقا و يقول باستحالته،و آخر ينكر المعاد الجسمانيّ عقلا و يقول بالروحانيّ فيه،و منهم رئيس فلاسفة الإسلام ابن سينا الذي ذهب إلى المعاد الروحانيّ،و جعل المعاد الجسديّ ممّا دلّ عليه السمع فقط و إن لم يقبله العقل،قال الفيلسوف القدير صدر الدين الشيرازيّ في كتابه القيّم الأسفار الأربعة:«اتّفق المحقّقون من الفلاسفة و المليّين على أحقيّة المعاد، و ثبوت النشأة الباقية،لكنّهم اختلفوا في كيفيته،فذهب جمهور الإسلاميّين و عامّة الفقهاء و أصحاب الحديث إلى أنّه جسمانيّ فقط،بناء على أنّ الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم و الماء في الورد و الزيت في الزيتونة.و ذهب جمهور الفلاسفة و أتباع المشائيّين إلى أنّه روحانيّ،أي:عقليّ فقط،لأنّ البدن ينعدم بصوره و أعراضه لقطع تعلّق النفس بها،فلا يعاد بشخصه تارة أخرى،إذ المعدوم لا يعاد،و النفس جوهر باق لا سبيل للفناء إليه، فتعود إلى عالم المفارقات لقطع التعلّقات بالموت الطبيعيّ.

و ذهب كثير من أكابر الحكماء و مشايخ العرفاء،و جماعة من المتكلّمين كالغزاليّ،و الكعبيّ،و الحليميّ،و الراغب الأصفهانيّ،و كثير من أصحابنا الإماميّة كالشيخ المفيد،و أبي جعفر الطوسيّ،و السيد المرتضى،و المحقّق الطوسيّ،و العلاّمة الحليّ(رضوان اللّه عليهم أجمعين)إلى القول بالمعادين، ذهابا إلى أنّ النفس مجرّدة تعود إلى البدن» .و كلامه قدس سرّه واضح يبين وجوه الخلاف و سره على نحو الايجاز.

إلاّ أن القائلين بحشر الأجساد وقعوا في خلاف عظيم في كيفيته،فهل يكون في عين البدن الذي كان في الدنيا،أو يكون في مثله.

و موجز القول في المعاد أنّه بمعنى العود،أي:إعادة اللّه تعالى البدن الذي انعدم و عود الروح إليه.

و لكنّ العود هذا يتصوّر على أنحاء ثلاثة:إمّا إعادة البدن و الروح كلاهما

ص: 33

بعد انعدامهما.أو إعادة البدن فقط،لأنّ النفس موجودة،و تبقى بعد الموت.أو بعود النفس إلى بدن،سواء كان ذلك البدن من تلك الأجزاء بعينها أم من غيرها، بشرط أن يكون العائد هو ذلك الإنسان.

و هذه الفروض العقليّة إنّما جاءت لأجل عدم إمكان تصوير إعادة المعدوم،فبعد انعدام الحياة و البدن و استئناف خلقهما مرة أخرى إنّما يكون بخلق جديد،فقد وقع السؤال في هذا المخلوق الجديد في يوم القيامة هل هو عين البدن الذي كان في دار الدنيا؟الذي استحال إلى تراب و أكلته الهوام،و صار جزءا من بدن آخر،و استحال إلى عناصر أخرى يستحيل إرجاعه من تلك العناصر.فلا يمكن القول بالعينيّة.

أو إنّه قد جمع من تراب ما،و إن لم يكن أجزاء نفس البدن الأوّل؟فهو أيضا غير صحيح،إذ إنّه لم يتعلّق به تكليف حتّى يقع مورد الثواب أو العقاب.

و لأجل ذلك قال بعض الفلاسفة:إنّ العود هو الذي فرض فيه بقاء شيء و تجدّد شيء،كما يقال:إنّ فلانا عاد إلى الإنعام،أي أنّ المنعم باق و ترك الإنعام ثمّ عاد إليه مرّة أخرى،أي:أنّه عاد إلى ما هو الأوّل بالجنس و لكنّه غيره بالعدد، فيكون عودا في الحقيقة إلى مثله لا إليه .

و بناء عليه،فالعود إنّما يكون بالمثل،و يدلّ عليه قوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ .

و ذكر المفسّرون لكلمة(المثل)معاني متعدّدة،بعضها يغاير المعنى الذي يدلّ عليه لفظ(مثل)في اللغة و العرف،مع أنّ الآية الكريمة في مقام بعث الإنسان و إعادته للجزاء بعد الموت بخلق مثلهم.

و المتكلّمون استخدموا هذا الدليل القرآنيّ في مجال إثباتهم جواز حشر الأجساد،فاللّه يحكم على الشيء بحكم مثله،و يجعل سبيل النظير و مجراه مجرى نظيره .

و لكنّ المراد من المثل أحد معنيين:

الأوّل:أن يكون اللحاظ بالنسبة إلى البدن دون النفس،فالبدن اللاحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه،لكن الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله،لأنّ الشخصيّة بالنفس،و هي واحدة بعينها .

و لكن هذا المعنى واضح بالنسبة إلى البدن الذي تتبدّل في كلّ آن أجزاؤه، بأن ينعدم جزء منه في آن و يأتي مثله في الآن الثاني،فهو لا يزال يتغيّر.كما هو الشأن في كلّ مركّب،فإنّه ينتفي بانتفاء أحد أجزائه،بخلاف النفس المجرّدة النزيهة عن المادة و تغيراتها،المأمونة من الموت و الفساد.

الثاني:أن يكون المراد من الآية الكريمة هو أنّ المعاد يوم القيامة مثل هذا الذي في الدنيا مشابه له تماما و لو بخلقه من جزء منه،كما نبّه إليه الغزاليّ، و هو يعرف عن كفاية المثل من غير حاجة الى صدق العينيّة.

و بما أنّ الإنسان تتبلور حقيقته بروحه و نفسه،و هي محفوظة في إعادة البدن سواء كان عينه أم مثله،و أنّ الغرض من حشره ببدنه عدم إمكان تعذيب الروح أو تنعيمها إلاّ عن طريق البدن،فإذا كانت الشخصيّة محفوظة فلا تنقطع الصلة بين المبدأ و المعاد،لا سيّما أنّ أجزاء البدن المبعثرة معلومة للّه سبحانه، فهو يركّب الأجزاء المبعثرة،و تتعلّق بها الروح،قال سبحانه و تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .

و البحث في المعاد و إن كان طويلا،و ذكرنا ما هو المهمّ المقصود في المقام لتقريب المعنى إلى الذهن،و هو أنّ إعادة الإنسان و إن كان قد صعب على الأفهام قبوله في وقت من الأوقات إلاّ أنّ الاستنساخ قرّب الغيب إلى الشهود، و هو يحكي لنا كيف يمكن خلق المثل و لو من خلية جسميّة من بدن الميت.

نعم،ربّما يصعب الإقرار بكيفية أخذ الخليتين الجسميّة و الجنسيّة،من أجسام قد ماتت خلاياها و تلاشت أجزاؤها و تقطّعت أوصالها.كما أنّ التلقيح بين الخليتين أمر لم يكن من السهل قبوله و تحقّقه في ذلك الوقت،و لكنّه هيّن بعد إمكان خلق المثل و تحقّقه،و ندع سائر الخصوصيات إلى علم الباري علم الباري عزّ و جلّ، و إن كان بعض النصوص الإسلاميّة يشير إلى الجواب عن بعض تلك المشاكل و الشبهات.

ص: 34

فقد ورد في بعض الأحاديث أنّ لكل بدن أجزاء أصلية لا يمكن أن تصير جزءا من غيره،بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها .و يظهر من المحقّق الطوسيّ ارتضاؤه ،و هو يشير إلى مشكلة الخلية الجسميّة و كيفية تحصيلها.

كما ورد عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:«إنّ الروح مقيمة في مكانها،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة،و البدن يصير ترابا كما منه خلق،و ما تقذف به السباع و الهوام من أجوافها ممّا أكلته و مزّقته، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض، و يعلم عدد الأشياء و وزنها،و أنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض النشور فتربو الأرض،ثمّ تمخض مخض السقا فيصير تراب الذهب كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء،و الزبد من

اللبن إذا مخض فيجتمع تراب كلّ قالب إلى قالب،فينتقل بإذن اللّه القادر إلى حيث الروح فتعود الصورة بإذن المصوّر كهيئتها،و تلج الروح فيها،فاذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا» ،و هو يشير إلى المشكلتين:كيفية الحصول على الخلية الجسميّة،و مشكلة زرع النواة في البويضة و تلقيحها.

و الاستنساخ هو الذي هيّأ لنا معرفة خلق المثل،و هو الذي يقرّب المعاد الجسمانيّ إلى القلوب الغافلة،و يحلّ كثيرا من الشبهات التي أثيرت حول المعاد الجسمانيّ،فهو الذي قرّب الغيب إلى الشهود و الحسّ،بحيث لا يبقى للمنكر أيّ عذر،فلو لم يكن للاستنساخ إلاّ هذا الأثر الجميل لكان كافيا في عظمته و حسن التواصل في هذه العملية و كشف المزيد من آفاق المعرفة في هذا السبيل فقط. و لا نحتاج الى تكثير النسل به،فإنّه كثير و لم تعهد هذه الأرض منذ أن خلقها اللّه عزّ و جلّ أن رأت لنفسها مثل هذا العدد الهائل من السكان،حتّى اضطرّت الدول و الحكومات إلى سنّ قوانين تحديد النسل.

كما أنّ الأهداف الأخرى لهذا العمل لها طرق معينة معروفة غير الاستنساخ،يمكن التوصّل إليها بغير هذه العملية.

الوجوه المظلمة

قبل أن نذكر ما قاله المعارضون لهذه العملية من السلبيات لا بدّ من التنبيه على أمر،و هو أنّ طبيعة الحياة تفترض تناقل الخبرات بين الأجيال المتوارثة لكلّ ما في تلك الحياة من إيجابيات و سلبيات،و لا بأس بأيّة عملية و تجربة تحفظ لنا تلك الخبرات،و إن كان في فرد مستنسخ يتمثّل فيه وجود الإنسان لأسباب عديدة،يكون قائدا عليما أو رياضيا أو سياسيا.

فإنّه يمكن عدّ أغلب الأطفال نسخا متشابهة عن ذويهم في الجانب

ص: 35

الماديّ،و هو التشابه في الشكل،مضافا إلى الجانب المعنويّ و هي الطباع و الصفات الموروثة.

كذلك يكون الفرد المستنسخ،فإنّه و إن تضمّن من المخاطر و السلبيات ما لم تكن في الطفل المولود بالطرق الطبيعيّة،لكنّه لا يختلف عنه في أصل الخلق و الأمانة الملقاة على كلّ واحد منهما.

كما أنّ الاستنساخ كسائر الحوادث التي اكتشفها الإنسان في القرون المتأخّرة التي طالما أحدثت الرعب و الخوف في نفس كلّ فرد،بل ربّما سبّبت القتل و الدمار،كالقنبلة الذرية التي صار اسمها قرين الخوف،و غيرها ممّا هو كثير.

و بعبارة أخرى:لم يكن الاستنساخ معدوم النظير في مرّ العصور،مع الفرق الكبير-الذي يتميّز به الاستنساخ البشريّ-أنّه مجرّد فرض لم يتحقّق بعد في الخارج،ممّا يمكن جعل ضوابط و قوانين قبل حدوث الحدث،ممّا يمكن جعله في المسار الصحيح و الاستفادة منه في الأهداف المشرقة و النافعة للبشريّة جمعاء.

مع أنّا ذكرنا أنّ فيه جهة كشف المجهول،الذي لم يقتصر على الجانب الماديّ فقط كما عرفت.

و من جميع ذلك نستفيد أنّ المنع أو الحرمة في الاستنساخ البشريّ لا بدّ و أن يكون مستندا إلى أحد أمرين:

أحدهما:الحرمة الذاتيّة،كحرمة عبادة الأصنام و الزنا.

الثاني:الحرمة التي تعرض على كثير من الأمور لأجل عناوين عارضة على ذاتها.

فإذا أمكن إثباتهما أو أحدهما يتعيّن القول بالحرمة،فلا يجوز التعاطي بهذه العملية و يحرم العمل في هذا الحقل.و إلاّ فالقاعدة الأوّليّة في جميع الأشياء

ص: 36

الحليّة و الإباحة حتّى يرد فيها النهي.نعم قد تتغيّر و تتبدّل بالوجوه و الاعتبار، فيكون الحكم و الاعتبار الابتدائيّ في الاستنساخ البشريّ هو الحليّة،إلاّ أنها قد تتغيّر بالعنوان الثانويّ،فيكون النهي فيه بالوجوه و الاعتبار الذي هو أحد الوجوه الثلاثة في الحرمة و النهي.فالحكم الشرعيّ في هذا الموضوع هو الحاسم في شرعيته،و هو الذي نثبته في الفصول القادمة.

و على أيّة حال،فقد ذكروا للاستنساخ البشريّ مخاطر و سلبيات ربّما تعدّت الخيال فيها،و يمكن تصنيفها إلى أقسام:

الأوّل-العقائدية:

لأنّه تصرّف في الخلق الذي يختصّ باللّه عزّ و جلّ، و أنّه تغيير لخلقه،ممّا اعتبره جمع أنّه شرك باللّه تعالى،و كما عدّه جمع آخر من عمل الشيطان الذي أمرنا اللّه عزّ و جلّ باجتنابه،و لا ريب أنّ جميع ذلك قبيح عقلا و منهيّ عنه شرعا.

الثاني-الأخلاقيّة:

و قد ذكروا لها وجوها:

أوّلا:إنّ الاستنساخ البشريّ يوجب تجريد الإنسان عن إنسانيته،الذي ميّزه اللّه عزّ و جلّ عن بقية المخلوقات الحيوانيّة بذاتيته،إذ لا يمكن القبول أن يكون انتاجه شبه إنتاج القطيع من الأبقار أو الخراف.

و ثانيا:إنّه قد ينشأ من الاستنساخ جيل من المخلوقات ينشقّ عن الجنس البشريّ يختلف عنه في الأشكال و النفسيات،و مثل هذا ليس مشكلة في شأن الحيوانات المستنسخة،لأنّه يمكن القضاء عليه دون حرج،أما في البشر فهو مشكلة خطيرة،بل قد يؤدّي غرور العالم إلى تدمير الكيان الإنسانيّ بأكمله.

و لذا يخشى العلماء أنّه قد ينشأ من بعض الأخطاء في أثناء عملية الاستنساخ أن يوجد في المواليد عاهات و أمراض غريبة،ربّما قصد منها تنفيذ مآرب عدائيّة.

و ثالثا:إنّه يؤدّي إلى تغيير طبيعة الارتباط بين الطفل و والديه تغييرا

ص: 37

جذريّا،لا سيّما عند من نشؤوا نشأة دينيّة،كما أنّ الفرد المستنسخ في هذه الحال يفقد نصف العلاقات الوالديّة،هذا عدا القيم التي يحملها كلّ فرد،و هي قيم خاصّة به باعتباره شخصا متميّزا عن غيره من الناس.

و رابعا:الاستنساخ إنّما يجعل تقنية خلق الإنسان من أجل قتله،فإنّه لا يمكن لأحد أن يتبنّى فكرة أن يكون الطفل حديث الولادة حقلا تحصد منه الأعضاء،فيؤخذ منه عضو لا يمكن تعويضه،كالقلب مثلا.فإنّ إجراء كهذا يجعلنا نعدّ الاستنساخ تقنية خلق الإنسان من أجل قتله.

و خامسا:إنّ استنساخ الأفراد و تشابه أفراد المجتمع و تحوّله إلى أصحاء،أقوياء،أذكياء ممّا يوجب شقاء هذا المجتمع بالتأكيد،و تموت بين أهله الرحمة و المودّة و الإيثار،فصار الاستنساخ من أهمّ السبل في اختلال قواعد الأخلاق المرعية في خلق الإنسان و اختلال أركانه.

الثالث-الاجتماعيّة:

فقد ذكر الباحثون و العلماء أنّ الاستنساخ ربّما يؤدّي إلى تدمير المجتمع على المدى البعيد،و ذلك لأسباب عديدة:

منها:أنّ النواميس الجارية في الخلق أن جعل اللّه عزّ و جلّ كلاّ من الذكر و الأنثى سكنا للآخر،و جعل ذلك أساس بناء المجتمع،و لا يمكن أن تستمرّ الحياة بشكل سليم في مجتمع يحدث فيه خلل ديموغرافيّ،بحيث يكون المستنسخون جميعا ذكورا أو إناثا.

و منها:أنّ التفرّد في المظهر الجسديّ يعطي الشخص هويته التي يعرف بها،و التي بها يمكن أن يتميّز الشخص في المعاملات المدنيّة،و الجنايات، و سائر الأمور الاجتماعيّة و غيرها،و قد قامت الأنظمة في العالم على تحمّل كلّ إنسان مسئولية أعماله،و استحقاقه لحقوقه التي يحفظها له المجتمع،فلو أنّ الاستنساخ أخذ مجراه في البشر،و وجد من الإنسان عدّة نسخ متطابقة،فإنّ هذا يجعل من العسير تحديد محلّ الحقوق و الالتزامات عن الأعمال البشريّة، و هي مشكلة كبيرة لا يمكن حلّها بسهولة.

ص: 38

و منها:أنّ توحيد الأفراد في الاستنساخ من أهمّ السبل التي يتذرّع بها المجرمون و أعداء الإنسانيّة لتنفيذ مآربهم،فإنّه و إن لم تقدّر تلك العواقب في الحال،و لكنّه يؤدّي إلى تدمير المجتمع على المدى البعيد.

و منها:أنّ الاستنساخ يؤدّي إلى إنهاء دور الذكر الفاعل في المجتمع،بل قد يؤدّي إلى الاستغناء عن الرجال في عملية الإخصاب،خلافا لما كان عليه منذ ابتداء الخليقة،و بانتشاره في المجتمعات-لا سيّما البعيدة منها عن الإرشاد الدينيّ-سوف يؤدّي إلى انحطاط مرتبة الرجال و تفوّق النساء،و هو ما فيه من ضرر على الحضارة و التقدّم.

و منها:أنّه يوجب اختلال النسب و ما يترتّب عليه من الحقوق،لا سيّما نظام الأسرة الذي له الدور الكبير في تنظيم المجتمع،فالطفل الذي ينشأ في هذا النظام الجميل و تحت رعاية عموديه محاطا برعاية و حنان الأب و الأمّ مطمئن النفس،يختلف كثيرا عن اللقيط أو اليتيم اللذين يعيشان في نكد و عنت.و الطفل النسيخ الذي يضيع نسبه و لا يحظى برعاية و الديه و يكون منبوذا في المجتمع و نظام الأسرة قريبا من الدرجة الثانية،فلن يحبّه أحد كابن في الأسرة.

كلّ ذلك ممّا يترتّب على هذه العملية التي تؤدّي إلى تغيير طبيعة الارتباط بين الطفل و والديه تغييرا جذريا،و تتغيّر القيم الاجتماعيّة و الأخلاقيّة بين الأطراف،ممّا سينتهي بنا إلى الفوضى الأبديّة،و هو أمر شديد الخطورة.

الرابع-الإنسانيّة:

إنّ الاستنساخ يؤدّي إلى سلب القيم الإنسانيّة الدائرة بين الأفراد و المجتمعات،منها ذلك الارتباط الوثيق بين الطفل و والديه، و قد عرفت أنّ الاستنساخ يؤدّي إلى فكّه و تغيره تغييرا جذريا.

كما أنّه يؤدّي إلى سلب شعور ابنك-مثلا-المستنسخ بذاته باعتباره فردا،و تفرض عليه أمرا قد لا يرضاه لنفسه بتدخلك السافر ضد طبيعة الأمور.

كما أنّ إلغاء التزاوج الجنسيّ المألوف،و إشاعة الزواج اللاجنسيّ عن

ص: 39

طريق الاستنساخ يؤدّي إلى تجريد الإنسان من إنسانيّته،و قد ميّزه اللّه تعالى عن بقية المخلوقات الحيوانيّة بذاتيّته.

كما أنّ الاعتماد على الاستنساخ في إنجاب الذراري المتشابهة و ذات الصفات الوراثيّة المتميّزة،مع الاستغناء عن الأجنّة التي لا تتمتّع بهذه الصفات عن طريق الإجهاض،ممّا سيزيد من ترخيص الحياة البشريّة خاصّة في بلاد مثل أمريكا التي تتمّ بها كلّ عام مليون و نصف المليون من عمليات الإجهاض لسبب تافه،أو بغير سبب على الإطلاق.

فيكون الاستنساخ من أكثر السبل للاعتداء على الإنسان و موت الأجنّة، فإنّه سيفضي إلى وجود أجنّة فائضة ليس أمامها إلاّ الموت،أو الاستزراع في أرحام سيدات ترتبط بالفرد النسيخ،فإن تركت للموت فكأنّه أنشئت حياة لتسلّم إلى الموت،و إن أودعت أرحام نساء أخريات،فمعناه أنّ سيدة ستحمل جنينا غريبا،لا هو من زوجها و لا هو منها،و لا هو من نطاق عقد الزواج.

فلم يكن الاستنساخ مجرّد وسيلة لتكثير الأفراد المتشابهة،بل هو آلة لقتل الأجنّة،كما أنّ استخدام أعضاء النسخ البشريّة في عمليات زراعة الأعضاء قد يؤدّي إلى استحداث سوق زراعة لهذه التجارب المخيفة،التي ستهدر كرامة الإنسان و شرف وجوده،و تستغلّ لانتشار الجريمة في المستقبل.

و من عظيم الأمر في الاستنساخ أنّه يفضي إلى استنساخ الجسم فقط،لا استنساخ الإنسان.

الخامس-المشاكل الجينيّة:

إنّ المواد الغذائيّة الموجودة في البويضة-أي: في المستودع الغذائيّ-تكون في الغاية محدودة،لذا فإنّها تستطيع أن تساعد لتنمية الجنين لفترة قصيرة فقط،و حيث إنّ إعادة برمجة المعلومات الوراثيّة تتطلّب وقتا أطول للنمو،و محدوديّة هذا المستودع الغذائيّ لا تنسجم مع نمو الجنين لفترة كافية.

ص: 40

كما أنّ مسألة عمر الخلية التي تستنسخ من المشاكل و العقبات أيضا، فعلى الرغم من أنّ عمليات الاستنساخ فيها من التقدّم العلميّ و البايولوجيّ و التقنّي ما يدهش الإنسان،فهي لا تعدو عن أنّها عملية تنتج طبقات تعاني من الهرم(الكبر في العمر)عند ولادتها،و مسألة الهرم تأتي من انقسام الخلايا المتوالي و الدائم،ينتج عند فقدان أجزاء من الحامض النوويّ.

ثمّ إنّ لكلّ خلية عمرا افتراضيّا،فإنّ الخلية التي أخذت من إنسان عمره (50)عاما-على سبيل المثال-عند أخذ نواتها و استنساخها،فما هو عمر النسخة،فهل هو نفس العمر،أم استكمال الجزء الباقي من عمر صاحبه،أم عمر جديد.

و يعتقد المؤيّدون للاستنساخ بأنّ هذا الموضوع سيفتح الآفاق أمام التغلّب على الشيخوخة إذا نجحت هذه الأبحاث.

السادس-المشاكل العلميّة:

إنّ الاستنساخ يعرّض الإناث حاملات الأجنّة الملقّحة إلى التبعات الصحيّة التي تحتملها عملية إخفاق الحمل،أي:موت الجنين و الإسقاط،و التي لا بدّ أن تحدث للأجنّة التي سوف تخفق في الوصول إلى مرحلة الولادة.

كما أنّه طريقة يتدخّل بها الإنسان في بدن الإنسان،و قد يلحقه الضرر جرّاء كثير نم العمليات الجراحيّة.

ثمّ لو كانت الغاية من الاستنساخ هو استمرار وجود الإنسان و تكثير أفراده المتشابهة،و تناقل الخبرات و غير ذلك من الأسباب،فإنّ جميع ذلك يمكن تحصيله من الطرق الطبيعيّة،و إنّ أغلب الأطفال يمكن عدّهم نسخا متشابهة من ذويهم في الأشكال و الطبائع،و تتحقّق فيهم جميع الرغبات و الأهداف من وجود الإنسان،و لو كان السبب القيادة العلميّة أو السياسيّة و الرياضيّة مثلا.فإذا كان المانع عن الطريقة المألوفة هو عدم الضمان في الاحتفاظ بتلك الغايات

ص: 41

و الأهداف،(فهو)موجود في الاستنساخ أيضا،فما الضمان في أنّ ذلك لا يحدث مع النسخة؟فإنّ ظروف العلاقة لن تكون نفسها الآن قطعا،نحن سنتغيّر،و هو أيضا كذلك.

بل يمكن أن يكون القول بأنّ التأثير في الأجيال القادمة التي تحصل من الطرق المألوفة أقلّ من غيرهم الذين يتمّ تحصيلهم من عملية الاستنساخ،كما هو المعروف من تداخل التركيب الوراثيّ مع المؤثّرات المحيطة و غيرها.

إذن،لا يوجد مسوغ لاستنساخ شخص و انتظار العدد نفسه من السنين.

ثمّ إنّ عملية استنساخ النعجة(دولي)قد مرّت ب 276 محاولة فاشلة،و لو استعملنا هذا العدد من التجارب لإنجاح ولادة بشريّة واحدة لبدا الأمر و كأنّه مجرّد مجزرة،و هو أمر يستحيل قبوله من أيّ صاحب ضمير حي بأن يجعل الإنسان و أجنّته حقولا للتجارب،كما أنّ خلايا الإنسان مكوّنة من 46 كرموسوم مبرمجة و مركّبة بطرق معيّنة،فإذا حدث خلل في هذا التركيب فإنّه يؤدّي بالإنسان إلى ما لا يقلّ عن خمسة آلاف مرض.

السابع-المشاكل القانونيّة:

لم يتمكّن القانون من مسايرة العلم في سرعة نموه و تطوره،و لكنّه لا يمكنه تجاهل آثار التقدّم و ما نتج عنه من مظاهر، و إن كان تدخّل المشرع أتى متأخّرا،و لعلّه كان انتظارا لنضج المسألة العلميّة و وضوح أبعادها،إذ لا بدّ للقانون أن يبني تشريعاته على الحقائق العلميّة بجانب الحقائق الطبيعيّة و الاجتماعيّة و التاريخيّة،فإنّ العلم و إن كان يقدّم الأمل،لكنّ القانون لا بدّ أن يقدّم الحماية.

و لمّا كان الاستنساخ مجرّد فرض علميّ و لم يتحقّق بعد في الخارج،فلم تكن للتشريعات القانونيّة للدول فيه سوى ما صدر من الجمعية العامّة للأمم المتّحدة أو منظمة اليونسكو،و لكن لم يكن لهذين الإعلانين أيّ ملزم قانونيّ سوى أنّهما صدرا بصفة التوصية،و لذا يكون الاستنساخ في المجال القانونيّ

ص: 42

تابعا للباعث الدافع للعمل،و حينئذ لا بدّ من البحث عن الهدف،فنرجع إلى ما ذكرناه سابقا.

نعم،إذا كانت هناك تساؤلات قانونيّة،فإنّما تكون بالنسبة إلى بعض الأمور المرتبطة بهذه العملية،و هي:

1-إثبات الشخصية القانونيّة للنسيخ،بحيث يتمتّع بالمزايا القانونيّة بوصفه إنسانا،أو أن حكمه حكم الحيوان،أو حكم الجماد؟.

2-النسب لهذا الكائن المستنسخ،فهل يثبت النسب بينه و بين الشخص الذي أخذت منه الخلية التي جرى الاستنساخ منها؟و ما ذا تكون هذه العلاقة؟ فهل هي علاقة البنوّة أو الأخوّة،أو لا هذه و لا تلك،بل هو نفسه؟.و من المعلوم أنّه يترتّب على كلّ واحد منها أحكام خاصّة.

3-الصلة بين النسيخة و المرأة التي زرع في رحمها و نما جنينا حتّى ولدته،فهل هو ابن لها،أم لا،باعتبار أنّ رحمها مجرّد محيط حيويّ لنموه البايولوجيّ و لم يكن اشتراك في تكوينه الوراثيّ الكروموسوميّ،كما أنّه لم يتكوّن في رحمها نتيجة تلقيح بويضتها الأنثويّة بحويمن ذكريّ لرجل،كما يتطلب التكوين الوراثيّ الطبيعيّ للاستنسال الحيوانيّ؟.

4-حكم صاحبة الخلية المستنسخ منها الوليد،فهل يصحّ اعتبارها في حكم الأب لهذا الكائن،أو أنّها تعتبر أمّا ثانية له مع صاحبة البويضة،أو ثالثة مع المرأة الحاضنة،فيكون الوليد من دون أب؟.

هذه هي أهمّ ما يرتبط بهذا الجانب،فلا بدّ للقانون الجواب عنها إن لم يكن للشرع الحنيف حكم خاصّ بها،و إلاّ فهو تابع له.

الثامن-المشاكل الفقهيّة:

و هي كثيرة و متعدّدة تتعلّق بأصل مشروعية هذا العمل،ثمّ بالآثار المترتّبة عليه من حيث الأهداف و الغايات، و النسب،و حرمة النكاح و التوارث و النفقة،و الجناية على الأجنّة المستنسخة

ص: 43

و غير ذلك،و لا بدّ من ذكرها على التفصيل،و قد عقدت الفصل الثالث لهذا الجانب، و هو البحث الفقهيّ و بيان الأحكام الشرعيّة و رأي فقهاء الشريعة الإسلاميّة فيها.كما أنّ الفصل الثاني عقد للجواب عن بقية المشاكل التي ذكرناها،و من اللّه نستمد العون،إنّه خير ناصر و معين.

الفصل الثّاني: تمهيد يتعلق بالتشريع

اشارة

لا ريب أنّ كلّ تشريع،سواء كان إلهيا أم تشريعا وضعيّا لا بدّ أن يستند على أساس متين و قاعدة رصينة لا خلل فيها حتّى يكون ملزما للناس،و إلاّ فالتكاليف الاقتراحيّة التي لم يكن لها أيّ إسناد واقعيّ ليست لها صفة الإلزام و لا يجب تنفيذها.

و هذه الأسس و القواعد التي تستند عليها التكاليف تتّصف بالموضوعيّة و الدقّة و الاستيعاب و الشمول،بحيث تشمل جميع ما يمكن تصوّره من الفروض و المحتملات.

و هي إمّا أن ترجع إلى المصالح و المفاسد الواقعيّة التي ربّما لا يمكن للعقول درك خصوصياتها،إلاّ إذا وهب اللّه تعالى علمها لأحد.

أو يكون مرجعها إلى المنافع و المفاسد المترتّبة على الأشياء،كما هو الشأن في أغلب القوانين المجعولة،و التشريعات الوضعيّة.

و هذه الأخيرة تنقصها الدقّة و الشمول و الاستيعاب.إذ ربّما يدرك العقل منفعة شيء و هي في الواقع لا تكون كذلك.كما أنّه قد يدرك العقل و العقلاء أمرا مطلقا و هو في الواقع مقيّد،كما هو الأمر بالعكس أيضا.و لذا ترى اختلاف القوانين الوضعيّة،و تفاوتها في الفترات الزمنيّة في بلد معيّن فضلا عن البلاد المتعدّدة،و يرجع ذلك إلى فقد الصفات المقوّمة للثبات و الشمول،فإنّه مهما حاول الإنسان أن يظهر القوانين المجعولة بتلك الصفات لكن تنقصها الدقّة، فتبدو بعد وهلة من الزمن أنّها لم تكن كذلك،فيرجع إمّا إلى تصحيحها،أو إلغائها لعدم وفائها بالمطلوب.

ص: 44

هذا إذا كانت ترجع إلى أساس النفع و الضرر،و أمّا إذا كان أساسها الأهواء و الآراء التي يمليها أرباب السياسة و ذوو المصالح الشخصيّة،فالأمر أوضح.

بخلاف التكاليف الإلهيّة التي يكون أساسها المصالح و المفاسد التي هي حقائق واقعيّة لا يدركها إلاّ المشرع العظيم العالم بحقائق أحكامه،و هذه المصالح و المفاسد الواقعيّة تتّصف بالثبات فلا يطرأ عليها التغيير و التبديل، و الشموليّة لجميع الأفراد،و الاستيع اب فتستغرق جميع الحالات و أفراد الزمان و أجزاء المكان،فكانت التشريعات الإلهيّة هي بنفسها حقائق متكاملة.

أقسام التشريعيات الإلهية

و هي تنقسم إلى أقسام عديدة:

الأوّل:الحكم الواقعيّ الأوّليّ،

و هو الحكم المجعول على الأفعال و الذوات بعناوينها الأوّليّة من دون قيد طروء العنوان الثانويّ،و قيد الشكّ في حكمه الواقعيّ،كالوجوب بالنسبة إلى صلاة الصبح مثلا،و الحرمة بالنسبة إلى الخمر.

و في مثل تلك يطلق عليها الأحكام الواقعيّة،و على متعلّقاتها الموضوعات الواقعيّة.

الثاني:الحكم الواقعيّ الثانويّ،

و هو الحكم المترتّب على الموضوع المتّصف بوصف الاضطرار و الإكراه-و نحوهما من العناوين الثانويّة- و عنوان مشكوك الحكم،فإذا كان صوم شهر رمضان ضرريّا أو حرجيّا على أحد،أو أكره على الإفطار،فإنّه يكون جواز الإفطار،أو حرمة الإمساك حكما واقعيّا ثانويّا،و الموضوع المعنون بتلك العناوين موضوعا ثانويّا.

الثالث:الحكم الظاهريّ،

و هو الحكم المجعول عند الجهل بالواقع و الشكّ فيه،كالحكم المستفاد من أدلّة اعتبار الأمارات،و أدلّة الأصول العمليّة .

و على ضوء ذلك يظهر نوع الحكم الشرعيّ لهذا الموضوع العتيد،فإن أمكن استفادة الحكم من الكتاب و السنّة بالعنوان الأوّليّ،يكون حكما واقعيّا أوّليّا.

فإنّ كان الحكم المستفاد هو الحليّة،فلا شكّ أنّه يكون حكما أوّليّا واقعيّا، و قد يتغيّر بحسب العناوين الطارئة،كالضرر و نحوه.

و إن كان الحكم هو الحرمة،فلا ريب في أنّه قد يتغيّر و يتبدّل بطروء العناوين الثانويّة المجوّزة،كالاضطرار،و الضرورة.

و أمّا إذا كان الحكم المترتّب عليه من الأحكام الظاهريّة،فالأمر أوضح.

و في جميع الحالات فإنّ الأحكام الواقعيّة الثانويّة تتقدّم على الأحكام الواقعيّة الأوّليّة.

إذا تبيّن ما ذكرناه يكون البحث في موضوع الاستنساخ من وجهين:

الأوّل:من حيث المبدأ،

و أنّ الاستنساخ هل هو حرام أو أنّه مباح؟

الثاني:من حيث العمل و التطبيق،

و كيفيّة استخدام هذا الكشف العلميّ كسائر الكشوف العلميّة إمّا لمصلحة الإنسان و الأهداف المشروعة بمعزل عن المصالح السياسيّة أو التجاريّة،فإنّ تحديد الأهداف التي ينبغي أن يخدمها العلم هو أمر أسمى من أن يترك للسياسيّين المحترفين،و أوسع و أرحب من أن يترك للعلماء المتخصّصين،و

ص: 45

إنّما الواجب أن يشارك فيه المفكّرون و ذو النفوس الطيبة و كلّ من يهمّه مصير الإنسان و يفكر في هذا المصير بنزاهة و تجرّد عن الأهداف الفاسدة.أو يرجع إلى غير مصلحة الإنسان.

و هذا هو الحقّ في تنقيح الموضوع في الأحكام الثانويّة.

و لا أظنّ أنّ القوانين الوضعيّة-مطلقا-خارجة عن هذا الإطار العامّ في كلّ تشريع،فإنّه أمر عقليّ لا يسع لأحد إنكاره.

و قد نصّت القوانين المدنيّة الوضعيّة على أنّ مشروعية أيّ فعل أو تصرّف أو إجراء أو سلوك إنّما يكون بحسب الباعث الدافع للعمل،كما نصّت معظم التشريعات العالميّة على هذا المعيار كسبب لمشروعيّة التصرّف.

كما أنّ القوانين الجزائيّة تنصّ على أنّه لا جريمة و لا عقاب إلاّ بنصّ،فإذا كانت عملية الاستنساخ غير محرّمة لعدم اعتبارها جريمة بنصّ قانونيّ، فإنّها من جملة التجارب و الكشوفات العلميّة التي لم يحرّمها القانون بالشكل العامّ .

و من هنا كان المهمّ البحث في الاستنساخ من الناحية العمليّة و الآثار المترتّبة عليه و الأهداف التي تكون سببا لإجراء كشوفاته.و أمّا البحث عنه من حيث المبدأ،فسيأتي في البحث الفقهيّ.

فإن أمكننا إثبات الحرمة لهذا العمل لأجل تلك الوجوه السلبيّة التي ذكرناها،فنرفع اليد عن الأصل الدالّ على الحليّة.و إلاّ فالحكم هو الجواز و إباحة العمل.

و بناء عليه،يكون هذا الإنجاز العلميّ بحاجة إلى تقنين ينظّمه و يحكمه، حتّى لا يستغلّ ضدّ مصلحة الإنسان و الأسرة و المجتمع و الصالح العامّ، كسائر الكشوفات العلميّة.

فلا بدّ من الرجوع إلى تلك الوجوه المتقدّمة التي ذكرت سببا لسلب مشروعيّة الاستنساخ و البحث عنها بالتفصيل،لنرى مدى دلالتها على المطلوب.

و أوّل المشاكل التي تواجه الاستنساخ المشكلة العقائديّة،

و قيل في تفسير هذه العقدة وجوه عديدة:

الأوّل:أنّ عملية الاستنساخ خلق،و هو منحصر باللّه عزّ و جلّ.

الثاني:أنّها تغيير لخلق اللّه عزّ و جلّ،و هو محرّم،لأنّه ممّا أمر به الشيطان.

الثالث:أنّها خروج عن السنن الكونيّة في الخلق،و لا سيّما في خلق الإنسان الذي دلّت النصوص الشرعيّة على أنّه من ذكر و أنثى بطريقة التكاثر الجنسيّ المألوف،و الاستنساخ مخالف لهذه الطريقة الطبيعيّة.

فمن الكتاب الكريم آيات عديدة،منها قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالاً كَثِيراً وَ نِسٰاءً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ اَلَّذِي تَسٰائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحٰامَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً .

و غيره ممّا هو ظاهر في كون الخلق من ذكر و أنثى فقط.

و من السنّة الشريفة ما رواه البيهقيّ في شعب الإيمان عن عبد اللّه بن مسعود قال:حدّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«إنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة،ثمّ يكون علقة مثل ذلك،ثمّ يكون مضغة مثل ذلك،ثمّ يبعث اللّه إليه ملكا بأربع كلمات:يكتب رزقه،و عمله،و أجله،و شقيّ أم سعيد،ثمّ ينفخ فيه، فو الذي لا إله إلاّ هو،إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلها،و إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها».

ص: 46

و لا بدّ من البحث في نقاط ثلاث:

الأولى:في معنى الخلق الذي هو بمعنى التقدير،

قال الزبيديّ:الخلق في كلام العرب على وجهين:الإنشاء على مثال أبدعه،و الآخر التقدير.و كلّ شيء خلقه اللّه فهو مبدؤه على غير مثال سبق إليه أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ ،

و فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ .قال ابن الأنباريّ:معناه أحسن المقدّرين، و قوله تعالى: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً أي:تقدّرون كذبا .

و قال ابن منظور:خلق اللّه الشيء يخلقه خلقا،أحدثه بعد أن لم يكن، و أصل الخلق التقدير،فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها-الأشياء-خالق، و بالاعتبار للإيجاد وفق التقدير خالق .

و المستفاد من كلام أهل اللغة أنّ الخلق بمعنى التقدير المستقيم، و يستعمل في الإبداع أيضا،كقوله تعالى: خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ ،

بقرينة قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ .و في إيجاد شيء من شيء، كقوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ .

فالمراد من الخلق التقدير،و هو مقدّم على الإيجاد،و كلّ موجود مقدّر، و ليس كلّ مقدّر موجودا .

و من ذلك يعرف أنّ الاستنساخ و سائر الكشوفات العلميّة ممّا قدّره اللّه تعالى و يكون مخلوقا له عزّ و جلّ،فليس هو خارجا عنه.

و غريب أن يكون الكشف العلميّ خلقا لكائن حي كما يخلقه اللّه عزّ و جلّ و يوجده.و واضح أنّ العلماء اكتشفوا سرّ الخلايا الحيّة و تكوينها و وظائفها، و بالخصوص سرّ الخلايا الوراثيّة(الجينات)،و أنّ القصد هو التحكّم في الصفات الوراثيّة،و لم يكن قصد العلماء خلق الخلايا الحيّة أبدا.

مع أنّ الاكتشافات العلميّة التي منها الاستنساخ الحيوانيّ ترجع كلّها إلى خلق اللّه عزّ و جلّ،فإنّه قد يكون منه تعالى ابتداء،كما في خلق السماوات و الأرض،و قد يكون بواسطة الملائكة أو الإنسان،فإنّه منسوب إليه سبحانه أيضا نظير أعمال الإنسان،فإنّه مع كونه مختارا ينسب عمله إليه،كذلك تكون منسوبة إليه عزّ و جلّ،و هي نظرية الأمر بين الأمرين التي أسّسها أئمة أهل البيت عليهم السّلام في قولهم المشهور:«لا جبر و لا تفويض،بل أمر بين أمرين» ، و الجميع مخلوق له تبارك و تعالى: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ .

فإن كان الإنسان قد خلق النسيخ،و أفاض اللّه عزّ و جلّ هذا العلم عليه كسائر العلوم و الاكتشافات،و لكنّه لم يكن مستقلاّ في الخلق أبدا،فهو عزّ و جلّ أفاض علمها على الإنسان و أذن فيها قال تعالى: وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّٰ بِمٰا شٰاءَ .

و ممّا يدلّ على ذلك أنّ العلماء إن كانوا أوجدوا الشبيه في الجسم الخارجيّ،و لكنّه ليس بمقدور لهم و لا لأحد من سائر المخلوقات أن ينفخ فيه الروح عدا خالقها العظيم،فإنّه عزّ و جلّ هو وحده الخالق للأرواح،و قد عرفت في المقال الأسبق أنّ الإنسان بنفسه و روحه لا بكينونته،و بعد الولادة يكون إنسانا سويّا مهما كان سبب تكوينه و إن كان عن طريقة الاستنساخ،فكان مصداق قوله عزّ و جلّ: يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ*`اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّٰاكَ فَعَدَلَكَ .

و على ضوء ما ذكرنا يتّضح أنّ عملية الاستنساخ لا تضرّ بمسألة العقيدة التي تدلّ على كون الخلق من اللّه العزيز المتعال.

الثانية:إذا لم تكن عملية الاستنساخ من الخلق المنحصر به عزّ و جلّ، و لكنّها من تغيير الخلق الذي يأمر به الشيطان،

كما حكى عنه عزّ و جلّ فقال: وَ قٰالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبٰادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً*`وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذٰانَ اَلْأَنْعٰامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطٰانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرٰاناً مُبِيناً*`يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مٰا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطٰانُ إِلاّٰ غُرُوراً .

ص: 47

فإنّ الخلق في الآية و إن كان أعمّ من الخلق الصوريّ-أي:الطبيعي،أو الفطريّ الذي هو الدين-و لكنّ تغيير الخلق لا بدّ أن يكون فيه نوع من المعارضة مع خلق اللّه سبحانه و تعالى،كما هو ظاهر الآية المباركة بمقتضى المقابلة بين فعل اللّه تعالى و صنعه و بين فعل الشيطان،و هو قد يكون حسيّا ماديّا،صفة أو صورة،كأنواع المثلة،و التشويهات و التبدّلات التي يأمر بها الشيطان المطيعين له في أصناف خلق اللّه تعالى،و قد ضرب اللّه عزّ و جلّ مثلا لذلك ببتك الآذان الذي كان من فعل أهل الجاهليّة،فكانوا يحرّمون تلك الأنعام التي قطعت آذانها أو شقّت على أنفسهم.

و قد يكون تغييرا معنويّا،متمثّلا بالخروج عن الفطرة السويّة،و الإعراض عن الدين الحنيف و التعاليم الإلهيّة و تبديلها و تحريفها و تغييرها،و ذلك بإتيان أنواع الرذائل و المنكرات،أو ترويج الباطل،و إشاعة الفحشاء،و تحويل النفس عمّا تدعو إليه دواعي العقل و الفطرة،قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ .

و لا ريب أنّ فطرة الناس هي أساس الكمالات و منبع الخيرات،و أصل

الفضائل و المكارم،و لها السلطة على جميع مشاعر الإنسان إذا لم يعترها الضلال و الغواية،و لم يتلبّس بما يفسد الفطرة من الرذائل و المنكرات و الجرائم .

فالمستفاد من قوله تعالى: لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ أنّ التصرّف في الكائنات و السلطنة عليها إنّما يكون من شئون بارئها و خالقها،و ليس لغيره عزّ و جلّ ذلك،فلا تشمل كلّ تصرّف و تغيير،فضلا عمّا ورد في الشرع الحنيف، كالختان،و تقليم الأظافر،و الخضاب،و قطع العضو الزائد،أو الفاسد في الإنسان و نحو ذلك.

و على ضوء ذلك يظهر ما في مقالتهم بأنّ الاستنساخ تصرّف لم يأمر به اللّه تعالى،بل هو من تغيير خلق اللّه الذي يأمر به الشيطان و يتعارض مع خلقه سبحانه في الإنسان،فيحرم من هذه الجهة.

و يمكن الجواب عن هذه الشبهة بوجوه:

الأوّل:أنّ الاستنساخ إن كان فيه تغيير لخلق اللّه عزّ و جلّ-جدلا-لكنّه لم يكن فيه معارضة مع خلق اللّه سبحانه،فهو خلق الشبيه لما خلقه اللّه تعالى الذي أبدع صنعه فيه،و قد علمت أنّ الحرمة تقتصر على ما كان فيه المعارضة مع خلق اللّه سبحانه،و لا تشمل مطلق التغيير،سواء كان في الإنسان أو في الحيوان أو النبات.

و هذا هو الحقّ الموافق لظاهر الآية الكريمة-كما عرفت-إلاّ أنّه أمر نسبيّ، فقد يدّعي بعض عموم الآية لمطلق التغيير،أو أنّ في الاستنساخ المعارضة مع خلق اللّه عزّ و جلّ.

و يمكن ردّه بأنّه لا عموم في الآية الكريمة بحيث يشمل مطلق التغيير،فإنّ ظاهرها يدلّ على أنّ المناط في الحرمة المعارضة مع خلق اللّه سبحانه.

كما أنّ مجرّد ادعاء المعارضة ما لم تكن مقترنة ببراهين ثابتة لا يمكن قبولها.

إذ إنّ المعارضة لا تخلو عن حالات،فإمّا أن تكون مقصودة من الطرف أو الأطراف التي تمارس عملية الاستنساخ أو غيرها ممّا يكون تغييرا لخلق اللّه عزّ و جلّ،و لا ريب في الحرمة حينئذ كما هو واضح.و لكنّ ذلك يحتاج إلى معرفة القصد و العلم به،و بدونه لا يمكن الحكم بالحرمة.

أو تكون انطباقيّة قهريّة.و لكن إثبات ذلك في غاية الصعوبة.

أو تكون عرفيّة يحكم بها العرف.و هو أيضا غير تام في المقام،فإنّ الاختلاف العظيم في الاستنساخ يكشف عن عدم قناعة العرف بالمعارضة في التغيير الحاصل من الاستنساخ.

الثاني:أنّ الاستنساخ تكثير في الأفراد المتشابهة،و تغيير للطريقة التي يمكن الحصول بها على تلك الأفراد،لا تغيير في الحقيقة،فإنّ الإنسان بروحه لا بكينونته و جسمه،فلم يكن تغييرا للفطرة التي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا .

الثالث:أنّه لم يكن تغييرا لدين اللّه عزّ و جلّ و ما تضمّنه من الأحكام و الآداب.

ص: 48

الرابع:أنّ الاستنساخ لم يكن خلقا جديدا،و لا تغييرا لخلق اللّه تعالى،فإنّه موجود في الحيوانات الدنيا،مثل البكتريا و الأميبا،و كذلك في النباتات بصورة عامّة،فهو تكاثر موجود في الطبيعة،و لكنّه كان مفقودا في الحيوان،فبفضل الكشوفات العلميّة و التقنية الحديثة تمّ معرفة أسرار الخلايا و الجينات،فسحب العلماء تلك الطريقة إلى الحيوان،فهو بالأحرى كشف علميّ لا غير.

و لأجل ذلك يظهر أنّ عملية الاستنساخ لم تكن تغييرا معارضا لخلق اللّه تعالى،فلا تشمله الآية الكريمة.

النقطة الثالثة:أنّ الاستنساخ يخالف سنّة اللّه عزّ و جلّ في التكاثر البشريّ،

و من هذه النقطة يمكن الانطلاق إلى حرمته باعتبار كونه خلاف الفطرة و الخلق في الإنسان.

فإنّ المستفاد من النصوص الإسلاميّة أنّ خلق الإنسان إنّما يكون من مبدأ معيّن،ثمّ يمرّ بمراحل مختلفة و أدوار متعدّدة في مواضع و أمكنة معيّنة، و التعدّي عنها يحرم لمخالفته لسنّة اللّه عزّ و جلّ فيه.

و لا بدّ من بيان كيفيّة خلق الإنسان و مبدأ تكوينه و أدواره و مراحله، و الموضع الذي خلق فيه و نشأ تكوينه.

فالقرآن الكريم يصرّح بأن آدم عليه السّلام هو أوّل أفراد البشر على الأرض الذي أحكم اللّه عزّ و جلّ فيه صنعه و أتمّ خلقه فكان أحسن الخالقين،و لعظيم اعتناء اللّه تعالى بهذا المخلوق المحبّب لديه فقد بيّن منشأ خلقته و أصل إيجاده،ثمّ بعد نفخ الروح فيه و خلقه إنسانا سويّا كاملا،جعله خليفته في الأرض،و لكن لم تتم هذه المهمّة إلاّ بتكثير النسل و انتشار الذرية مدى الدهر،فجعل له مبدءا آخر، فتعدّدت مناشئ تكوينه،و لقد وصف عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام كيفيّة خلقه بأبلغ عبارة،فقال:«ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض من سهلها و عذبها و سبخها تربة سنها بالماء حتّى خلصت،و لاطها بالبلة حتّى لزبت،فجبل منها صورة ذات أحناء و وصول،و أعضاء و فصول،أجمدها حتّى استمسكت،و أصلدها حتّى صلصلت لوقت معدود و أمد معلوم،ثمّ نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها،و فكر يتصرّف بها،و جوارح يخترمها،و أدوات يقلّبها،و معرفة يفرق بها بين الحقّ و الباطل،و الأذواق و المشام و الألوان و الأجناس،معجونا بطينة الألوان المختلفة و الأشباه المؤتلفة و الأضداد المتعادية،و الأخلاط المتباينة،من الحرّ و البرد،و البلّة و الجمود» .

فالمنشأ الأوّل هو التراب أو الطين،و الصلصال،و الحمأ المسنون

ص: 49

و الفخّار،و في التراب العناصر المكوّنة لجسد الإنسان،فكان خلق آدم منها و منه انتشرت ذريته الذين لم تخرج العناصر المكوّنة لأبدانهم عن العناصر الأولى في الفرد الأوّل،و الآيات التي تدلّ على ذلك متعدّدة:

منها:قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ -الآية ،و قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اَللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ قٰالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

،و قوله تعالى: وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ إِذٰا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ .

و هو يدلّ على المبدأ و وجوده في البشر المنتشر.

و منها:قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ ،و قوله تعالى: إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِنْ طِينٍ لاٰزِبٍ .

و منها:قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ صَلْصٰالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ،و قوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ صَلْصٰالٍ كَالْفَخّٰارِ

.

و هذه الآيات الكريمة تبيّن أن تكوين الإنسان إنّما هو العناصر الموجودة في التراب،بخلاف الجنّ الذين تمّ خلقهم من نار،كما قال تعالى: وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مٰارِجٍ مِنْ نٰارٍ ،و الملائكة التي خلقت من النور،كما تدلّ عليه بعض النصوص.

و المنشأ الثاني هو الماء،الذي وصفه عزّ و جلّ بأوصاف مختلفة تبيّن

جوانب متعدّدة منه،كقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ ، و قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسٰانُ مِمَّ خُلِقَ*`خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ ،و قوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذٰا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ .

و غير ذلك من الآيات الكريمة التي تدلّ على أنّ المبدأ الثاني هو السبب في انتشار نسل آدم و بقاء ذرية الإنسان الأوّل،كما هو صريح قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمٰاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً ،بل هو الأصل في خلق كلّ دابة تدب على الأرض،قال تعالى: وَ اَللّٰهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مٰاءٍ .

و لا ريب في كون المراد بالماء النطفة التي وردت في عدّة آيات،و إن كان الماء هو العنصر المهمّ من بدن الإنسان فإنّه يبلغ 65% من التكوين الماديّ له و البقية هي سائر العناصر الأخرى التي مصدرها التراب-كما عرفت في أوّل هذا الكتاب-و بعد انتقال تلك العناصر إلى الصلب بعملية خاصّة صعبة تشكّلت أوّل نطفة جامعة لتلك العناصر الأوّليّة و حاوية لجميع الخصائص المكوّنة لسائر الأفراد المتشعّبة منها،المتشابهة في الصفات الذاتيّة لتلك العناصر، و المتماثلة في الشكل و الهيئة لتبقى هذه السلسلة إلى ما يريد اللّه عزّ و جلّ من البقاء لها.

فإن كان التراب المصدر لحدوث الإنسان،و لكن الماء-أي:النطفة،كما عرفت-هو المصدر في بقائه،و يعدّ كلاهما من مناشئ تكوينه.و إلى صاحب الماء ينسب الولد،و هي القاعدة المتّبعة في النسب،كما دلّت عليها النصوص الشرعيّة،منها قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمٰاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً

وَ صِهْراً .و منها ما ورد في نصوص أهل البيت عليهم السّلام:«إنّما الولد للصلب» .

فهو الملاك في إثبات النسب و إلحاق الأولاد بالآباء،و به يقطع كلّ شك.

و الحاصل أنّ لنشأة الإنسان و تكوينه مصدرين،أحدهما التراب،و الآخر الماء،و عرفت أنّ الأوّل يمثّل مرحلة الحدوث،و الثاني مرحلة البقاء.

فلا بدّ لكلّ عملية خلق إنسان أن لا تخرج عن أحد هذين،و المفروض أنّ الأوّل كان في ابتداء الخلق منه تكوّن أوّل فرد من أفراد الإنسان،و هو آدم أبو البشر،و به امتاز عن غيره،و انتهى دوره في الخلق و إن بقيت آثاره في هذا المخلوق.كما عرفت.

و بقي الأمر الثاني الذي هو معيار في التكاثر و الانتشار و تنسيل النسل، و لا ريب في أنّ هذا المبدأ لا يخرج من مرحلة الاقتضاء إلى مرحلة الفعليّة إلاّ بطيّ الأدوار المختلفة،و المرور بالمراحل المتعدّدة التي نبّه إليها القرآن الكريم و السنّة الشريفة،و هي:

الأولى:النطفة،و قد دلّت عليها آيات متعدّدة.

ص: 50

قال تعالى: إِنّٰا خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً .و قال تعالى: وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ*`مِنْ نُطْفَةٍ إِذٰا تُمْنىٰ .

الثانية:العلق.

قال تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ .

الثالثة:المضغة،كما ورد ذكرها في آية الحج .

و قد وردت جميعها باستثناء الأخيرة في قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

كما أنّ آية الحج اشتملت على الجميع من دون استثناء،قال تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحٰامِ مٰا نَشٰاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ .

و هي أجمع آية في القرآن الكريم تبيّن جميع ما يتعلّق بخلق الإنسان، المبدأ الأوّل لتكوينه و هو التراب الذي به تحقّق أصل خلقه و منشأ تكوينه،ثمّ المبدأ الثاني الذي به يتحقّق النسل و نشر أفراده،و هو الماء المتمثّل في النطفة، ثمّ أدوار تكوين الخلق الجديد من هذا الماء،و هي النطفة،و العلقة،و المضغة ينشأ خلقا كاملا و ذلك بتقدير اللّه العزيز العليم،و بيّنت مقر نشأة الكائن الجديد، ثمّ المراحل التي يمرّ بها الإنسان بعد ولادته حتّى الوفاة.

فهي من جوامع الآيات التي تبيّن ما يتعلّق بخلق الإنسان من بدء التكوين إلى حين الولادة،خلقا من بعد خلق حتّى الممات.

أمّا مستقرّ هذه النطفة و محل تكوين هذا الكائن،فقد نبّه إليه القرآن الكريم في آيات معدودة،و جعله في ثلاثة مواطن:

1-الصلب و الترائب: قال تعالى: خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ*`يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ اَلصُّلْبِ وَ اَلتَّرٰائِبِ ، و هو يدلّ على أمرين:أحدهما مستقرّ ذلك الماء،و هو صلب الرجال و ترائب المرأة.و الثاني:أنّ الماء هو منشأ خلقه،و بذلك يكون نظير الآيات التي تدلّ على المبدأ الثاني و هو الماء المتحقّق من امتزاج ماء الرجل و ماء المرأة(الحيمن و البويضة).فتكون من الآيات التي تنصّ على كيفيّة خلق الإنسان و تتحدّى من يخرج عنها و يتعدّى تلك الكيفيّة.و إذا كانت الآية تتضمّن جهة أخرى من البحث و هي إثبات المعاد و إثبات قدرة اللّه عزّ و جلّ في الإعادة بعد المبدأ،لكن ذلك لا يضرّ،فإنّ الآيات القرآنيّة لها بطون قد تجتمع في آية واحدة،فإنّ القرآن كلام فصل ليس بالهزل،فالإشكال على الاستدلال بأنّ الآية ليست ناظرة إلى جهة الخلق موهون جدا،و هي ليست مثل آية الصيد في عدم إمكان استفادة طهارة ما عضّه الكلب،فراجع .

2-الأرحام: قال تعالى: وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحٰامِ مٰا نَشٰاءُ .و قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحٰامِ كَيْفَ يَشٰاءُ .و قال تعالى: وَ لاٰ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ .

3-البطون: قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمٰاتٍ ثَلاٰثٍ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ .

و الظاهر أنّ المراد من البطن في المقام هو الرحم الذي ذكره عزّ و جلّ في مورد آخر،و يدلّ عليه مجموعة أمور:

1-التبادر.

2-قرينة أدوار الخلق من النطفة،و العلقة،و المضغة،خلقا بعد خلق،التي ذكرت في آيات أخرى،فإنّها تكون في الرحم،كما تقدّم.

3-إنّ الظلمات الثلاث إنّما تتحقّق في الأرحام دون غيرها.

ص: 51

فالمراد من بطون الأمّهات أي:أرحامهن،فلا حاجة إلى استعراض كلمات اللغويّين في بيان معنى البطن،و معرفة المفهوم له،إذ لم يختلف فيه اثنان.

فالقول بأنّ المراد من البطن في الآية الكريمة هو مطلق ما يكون في جوف الإنسان مقابل الخارج الظاهر ،غير سديد،فإنّه خلاف ظاهر الآية الكريمة.

هذا ما يتعلّق بمسألة خلق الإنسان بإيجاز،بقي التنبيه على أمرين:

الأوّل:قد دلّت الآيات الشريفة على أنّ الخلق كان من نفس واحدة،منها قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالاً كَثِيراً وَ نِسٰاءً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ اَلَّذِي تَسٰائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحٰامَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ،و مثله ما تقدّم في آية الزمر،و هو يدلّ بوضوح على أنّ خلق الإنسان إنّما كان من نفس واحدة،و منها خلق زوجها

و منها بثّ النسل و تحقّق نشر ذريتهما رجالا كثيرا و نساء.و نظيره قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا لِيَسْكُنَ إِلَيْهٰا فَلَمّٰا تَغَشّٰاهٰا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّٰا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اَللّٰهَ رَبَّهُمٰا لَئِنْ آتَيْتَنٰا صٰالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ .و قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ

.

و المستفاد من مجموع الآيات الواردة في خلق الإنسان أنّ ابتداء خلقه كان من التراب،و منشأ تكوينه هو الطين،و بذلك امتاز خلقه عن خلق الملائكة و الجنّ،و بعد خلقه نفخ خالقه فيه الروح فصار صالحا سويّا مركّبا من الجسد و النفس.و من هذه النفس الواحدة خلق زوجها منها لحكمة خاصة بيّن بعضها القرآن الكريم،منها السكن بينهما،و نشر الذرية منهما فقط من دون مخلوق آخر بينهما.

فكانت تلك النفس الواحدة مصدر تكوين الزوجة،و هما معا مبدأ انتشار الذرية و بثّها في أرجاء المعمورة على مرّ الدهور و كرّ العصور.

و كان خلق الذرية و انتشارها من التكاثر الجنسيّ الحاصل بين الزوجين ليكون الرحم مستقرّ النطفة التي كان موطنها الصلب و الترائب،لتمرّ بالأدوار التي هيّأها خالقها لتكوين خلق جديد، فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ .

و من ذلك يظهر أنّ النفس الواحدة هي نفس الخلق الأوّل الذي كان منشأ تكوينه التراب.و أنّ جميع أفراد الخلق و أطواره كلّها من خلق اللّه تعالى و مظهر إبداعه.

و الظاهر من التعبير(النفس الواحدة)أنّه لبيان وجه الحكمة في خلق الزوجة،بأنّها تلك النفس،و أنّ بينهما من الوحدة ما يقتضي الألفة و السكن

بينهما،فينتقلان إلى ذرّيتهما و تنشأ الأجيال اللاحقة عليهما.

و يدلّ على ذلك قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ .

فلم تكن النفس الواحدة مصدرا آخر و خلقا غير المبدأ الأوّل.

و من لطائف ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي وردت في خلق الإنسان أنّه تكرّر لفظ الخلق فيها للتأكيد على أنّ جميع أطواره و أدواره و أفراده هي من خلق اللّه عزّ و جلّ،و إن كان بعضها من صنع الإنسان،و هو العلّة القريبة في تكوينه.

و هذا ممّا يؤكّد على أنّ خلق الإنسان لم يخرج عن دائرة خلق اللّه تعالى، فهو أوّلا و آخرا يرجع إليه.

الثاني:اختلف العلماء في توجيه ما ورد في السنّة الشريفة في كيفية خلق السيدة حواء عليها السّلام،فقد وردت نصوص متعدّدة في تفسير قوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا ،التي ادّعى بعضهم أنّ المستفاد منها كون خلقها نوعا جديدا يختلف عن خلق زوجها آدم عليهما السّلام،و لا بدّ من ذكر بعض هذه النصوص و نرى مدى دلالتها على المطلوب.

ففي سنن ابن ماجة:«انّ اللّه تعالى لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير..» .

ص: 52

و في مسند الإمام أحمد:«إنّ النساء خلقن من ضلع لا يستقمن على خليقة..» .

و في كتب الخاصّة،منها ما رواه المجلسيّ عن محمّد بن على بن إبراهيم قال:«كان مكث آدم في الجنّة نصف ساعة،ثمّ أهبط إلى الأرض لتمام تسع

ساعات يوم الجمعة،و ذلك في وقت صلاة العصر،قال:و سمّيت العصر لأنّ آدم عصر بالبلاء،قال:ألقى اللّه النوم على آدم فأخذ ضلعه القصير من جانبه الأيسر فخلق منه حواء،فلم يؤذه ذلك،و لو آذاه ذلك ما عطف عليها أبدا،فقال آدم:ما هذه؟هذه امرأة،لأنّها من المرء خلقت،قال:ما اسمها؟قال:حواء،لأنّها خلقت من شيء حي.فقال ابن عبّاس:سمّيت حواء لأنّها أمّ كلّ حي.قال جعفر:سمّين النساء،لأنس آدم بحواء حين أهبط إلى الأرض و لم يكن له أنس غيرها» .

و يستوقفنا الحديث عد خلق حواء الذي حصل من بعد خلق آدم و عند نومه بالخصوص،و أكّد ذلك بالأسماء التي أطلقت على هذا المخلوق الجديد المرأة،و حواء.

و هناك روايات أخرى تشبه ما ورد في الرواية المتقدّمة،و يظهر من المجموع أنّ خلق السيدة حواء كان من آدم عليه السّلام بطريقة غير مألوفة.

و لكن،بإزاء هذه المجموعة طائفة أخرى من الأخبار تبيّن كيفيّة خلق حواء من آدم بما لا تدع مجالا للشكّ في أنّ خلقها لا يختلف عن خلق آدم إلاّ أنّ الأخير هو الأصل و الأوّل تبع له،لحكمة خاصّة.

ففي نهج البيان عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال:«إنّها خلقت من فضل طينة آدم عند دخول الجنّة» .

فهو يبيّن أنّ الخلق كان من فضل الطينة،لا من ضلع معيّن كان موجودا في بدن آدم ثمّ استل منه و خلقت منه حواء،كما في الروايات السابقة.فلا بدّ أن يكون المراد منها أنّ تلك الفضلة لو جعلت في جسد آدم لكان موضعها هو الضلع الأيسر،كما تدلّ عليه معتبرة عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال:«سألت أبا جعفر عليه السّلام:من أي شيء خلق اللّه حواء؟فقال:أيّ شيء يقولون هذا الخلق؟

قلت:يقولون:إنّ اللّه خلقها من ضلع من أضلاع آدم،فقال:كذبوا،أ كان اللّه يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟قلت:جعلت فداك يا بن رسول اللّه،من أيّ شيء خلقها؟ فقال:أخبرني أبي عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله:إنّ اللّه تبارك و تعالى قبض قبضة من الطين فخلطها بيمينه،و كلتا يديه يمين،فخلق منها آدم،و فضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء» .

و هذه الرواية معتبرة سندا و شارحة لجميع ما ورد في هذا الموضوع و رافعة للغموض الموجود في الروايات الأخرى،و لا بدّ من ردّ غيرها إليها، لموافقتها لظاهر الآية المباركة،فتكون حواء قد خلقت من فاضل طينة آدم عليه السّلام، فاتّحدا في أصل الخلق الذي كان من الطين،إلاّ أنّ الفرق أنّ طينة حواء قبل أن تخلق منها كانت مقتضية لأن تجعل في آدم،و بالخصوص في ضلعه الأيسر، و لذا كان هذا الاقتضاء باقيا في المرأة أبدا،فهي تهمّ إلى ما اقتضت منها.و إلى ذلك يسير ما رواه أبو عليّ الواسطيّ عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال:«إنّ اللّه خلق آدم من الماء و الطين،فهمّة ابن آدم من الماء و الطين،و إنّ اللّه خلق حواء من آدم فهمّة النساء من الرجال،فحصّنوهن في البيوت» .

و لا بدّ من حمل تلك الأخبار على محامل معيّنة بما لا ينافي ما ورد في الطائفة،و إلاّ فتطرح.

و الحاصل أنّه لم يكن هناك إلاّ خلق واحد للإنسان لكنّه ذو مراتب مختلفة و أدوار متعدّدة طوليّة.

و من ذلك يظهر فساد ما ذهب إليه بعض الباحثين من أنّه كان لخلق بعض البشر طريق معين يختلف عن الطريق المألوف ،فإنّه نشأ عن عدم الإمعان في جميع الأخبار الواردة في هذا الموضوع،كما عرفت.

و من جميع النصوص الإسلاميّة الواردة في خلق الإنسان نستفيد أنّ للّه سبحانه عناية خاصّة بالإنسان،فهو مخلوقه المحبّب،فقد تعلّقت مشيئته المباركة أن يخلق آدم من الطين و الماء،ثمّ يخلق حواء من فاضل طينته،لحكمة ربانيّة عالية،ثمّ يتحقّق النسل و تنتشر الذرية من التلاقح بين الجنسين مرورا بأدوار الخلق في الرحم حتّى ينشئ خلقا آخر،فلخلقه طرق معينة طوليّة.

ص: 53

و بعد ما عرفت ذلك يبقى السؤال المثير للنقاش،و هو:كيفيّة إدخال عملية الاستنساخ في طرق خلق الإنسان التي وردت في الكتاب و السنّة،و قد ذكروا أطروحات متعدّدة:

الأولى:التمسّك بكيفيّة خلق حواء التي اعتبرها بعض الباحثين مختلفة عمّا هو المألوف في خلق الإنسان،فإنّ خلقها حصل باستلال ضلع من أضلاع آدم،فصار هذا الضلع مبدأ تكوينها،و هذا يدلّ على رجحان الاستنساخ .

و لكن،عرفت آنفا بطلان القول بأنّ خلق حواء يختلف عن خلق آدم،فإنّ خلقها من الطين إلاّ أنّ طينة حواء كانت من فضلة طين آدم بحيث لو أراد اللّه تعالى أن يجعل ذلك الفاضل في جسد آدم لوضعه في الضلع الأيسر،كما دلّت عليه معتبرة عمرو بن أبي المقدام المتقدّمة.و كان ذلك قبل نفخ الروح فيها،و قبل تحقّق الضلعيّة،و قد عرفت أنّه لا بدّ من حمل الروايات التي يظهر منها أنّ الاستلال كان حين نوم آدم و رقوده،إمّا على أنّ الضلع بالنسبة إلى حواء كان مادة فيها اقتضاء الحياة،لا الحياة الفعليّة من كلّ جهة،إذ لو كانت الحياة من كلّ جهة لاستلزم أن تكون حواء أختنا و أمّنا لأنّها متفرّعة منه.

أو على أنّ التبعيض الذي تدلّ عليه كلمة(من)في الآية الكريمة وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا ،هذا التبعيض في الجملة،بحيث لا يكون عن طريق التوليد أو استلال الحي من الحي.

على أنّ استفادة تلك الكيفيّة لخلق حواء باستلال الضلع،ما يدّعيه بعض يبتني على كون(من)في الآية الكريمة تبعيضيّة،بحيث تكون طينة حواء بعض آدم.و لكنّ الحقّ أنّ(من)لبيان الجنس،كما في قوله تعالى: لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ .

الثانية:أنّ الآيات المباركة تدلّ على أنّ الإنسان إنّما يكون في الأرحام التي هي بمعنى الباطن،أي:ما يكون خارجا على الظاهر.و بناء عليه يكون استلال الخلية من داخل الجسم إنّما هو استلال من البطن،و بما أنّ الخلية جزء من باطن الإنسان و هي المبدأ الأوّل لتكوينه،صحّ إطلاق الخلق في بطون الأمّهات على عملية الاستنساخ،لا سيّما مع ملاحظة تنمية الخلية التي تنقل إلى رحم حيوانيّ أو بشريّ و استعدادها للتنامي و التكاثر،فلا يتنافى ذلك مع البطن حتّى لو أردنا منه البطن الاصطلاحيّ .

و يمكن مناقشة ما ورد في هذه الفكرة بوجوه:

أوّلا:إنّ إرادة الجوف و الداخل مقابل الظاهر من كلمة البطن خلاف المتبادر منه،لا سيّما الآية الكريمة،كما عرفت.

ثانيا:على فرض القبول،فهو لا يدلّ على كون الخلية التي تستلّ من الداخل بما يصحّ إطلاق الخلق في بطون الأمّهات على عملية الاستنساخ،كما هو واضح.

ثالثا:إنّ موضوع البحث هو أنّ عملية الاستنساخ هل تعدّ من مناشئ خلق الإنسان المعروفة التي وردت في النصوص الإسلاميّة،أم أنّها طريقة جديدة،سواء استلّت الخلية من داخل الجسم و باطنه أم ظاهره.

كما أنّ تنمية الخلية في البطن بالمعنى الاصطلاحيّ لا تغيّر الجهة المبحوث عنها،كما هو معلوم.

الثالثة:أنّ المستفاد من آيات خلق الإنسان أنّه ليس للّه تعالى صيغة ثابتة في خلق الإنسان حتّى يكون تجاوزها مستوجبا تجاوز القواعد الحاكمة على الخلق،و المشيئة الإلهيّة قد تعلّقت بأن يكون في خلقه طرق متعدّدة،يكون الاستنساخ من إحدى تلك الطرق،و استشهد على ذلك بأنّه قد تمّ خلق بعض البشر بطريقة مختلفة عمّا هو المألوف:

1-منهم السيّدة حواء التي خلقت من ضلع آدم،كما عرفت.

2-و منهم خلق آدم الذي حصل من التراب لا من طريق الاتصال الجنسيّ و التفاعل بين الحيمن و البويضة.

3-خلق عيسى عليه السّلام الذي ولد من غير أب،كما أشارت إليه الآيات من سورة مريم: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهٰا مَكٰاناً شَرْقِيًّا* `فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجٰاباً فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا*`قٰالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا*`قٰالَ إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا*`قٰالَتْ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا*`قٰالَ كَذٰلِكِ قٰالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ رَحْمَةً مِنّٰا وَ كٰانَ أَمْراً مَقْضِيًّا .

ص: 54

فقد تمّ الخلق في هذه الموارد من غير الطريق المتعارف و هو التكاثر الجنسيّ الحاصل من التلاقح بين منيّ الرجل و بويضة المرأة،كما هو الحال في تكاثر الحيوانات،فإنّه يتمّ عن طريق التلقيح بين نطفة الذكر و بويضة الأنثى أيضا.فالمستفاد من هذه الطرق غير المتعارفة أنّ خلق الإنسان غير منحصر في ذلك،بل لم يتم دليل على ذلك،و لم يصرّح به نصّ .

و لكن،يؤخذ على هذا القول بأنّ ظاهر الآيات المباركة التي نزلت في خلق

الإنسان-و التي هي في مقام البيان و التفصيل-أنّ خلقه لا يخرج عن تلك الطرق التي بيّنها عزّ و جلّ،و هي الطين و التراب،و هو المبدأ الأوّل،و الماء الذي هو المبدأ الثاني الذي يعدّ السبب في انتشار الذرية و تكاثر النسل عن طريق التكاثر الجنسيّ و التوليد الذي يجب أن يمرّ بأدوار الخلق الجديد و أطواره.

أمّا الأفراد التي ذكر أنّها خارجة عن الطرق المألوفة و القواعد العامّة،فهي في الواقع لم تخرج عن القواعد العامّة،كما عرفت.

فإنّ خلق السيدة حواء كان كخلق المبدأ الأوّل في كونه من الطين،و إن كان خلقها من فاضل طينة آدم،كما دلّت عليه النصوص،فلم يخرج خلق حواء عن دائرة خلق آدم.

و أمّا خلق عيسى عليه السّلام،فهو و إن كان من غير أب خلافا للمعهود من هذه الناحية،كما أنّه لم يحصل من التلاقي الجنسيّ،و مسّ البشر،كما هو صريح الآية المباركة،إلاّ أنّ المحتملات فيه هي:

1-أن يكون خلقه معجزة إلهيّة خارجا عن القواعد العامّة،كما يدلّ عليه قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اَللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ قٰالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .و بناء عليه لا يمكن أن يكون مثل ذلك سببا للخروج عن القواعد العامّة،و الطرق المألوفة،فإنّ المعجزة لها حدودها و قواعدها و أحكامها الخاصّة بها،و لا يقاس عليها غيرها.

2-أن يكون خلقه موافقا لنواميس الطبيعة و جاريا على وفق الأسباب و المسبّبات،كما هو المستفاد من ظاهر الآيات المباركة،فإنّ تمثّل الروح عليه السّلام لمريم العذراء عليه السّلام و نفخ الروح فيها ممّا جعل فيها الحالة الانعقاديّة، نظير ما يحدث في المرأة عند التلاقي الجنسيّ و استقرار ماء الرجل في رحمها. فتحقّقت البويضة المخصّبة،ثمّ مرّت بالمراحل و الأدوار التي لا بدّ أن تمرّ بها في رحم المرأة.

و هذا الاحتمال غير بعيد،نظرا للشواهد الموجودة في الآيات المباركة التي وردت في خلق سيدنا عيسى عليه السّلام،و تحقيقا لقانون الأسباب و المسببات الجاري في هذا العالم،حيث إنّ اللّه تعالى أبى أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها.

و لما عليه التحقيق في المعجزة التي بظاهرها خرق للنواميس،و لكنّها في الواقع لا تخرج عن قانون الأسباب التي ربّما تكون خفية لا يعلم بها إلاّ من تجري على يديه المعجزة،موهبة من اللّه العليّ القدير،و يشهد لذلك تمثّل الروح بشرا سويّا،و الكلام في ذلك خارج عن نطاق البحث.

و بناء على هذا الاحتمال يمكن أن يكون ذلك منحصرا في فرد معيّن لم يأذن اللّه عزّ و جلّ في التعدّي عنه،كما هو ظاهر آية المثل إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اَللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ .

3-أن يكون خلقه جاريا على القواعد العامّة،و موافقا لقانون الأسباب الذي يبتني عليه عالم الملك،و لم يرد نصّ أو دليل على تخصيصه في فرد معيّن، فيكون شاهدا على جواز الاستنساخ و حلّيته،فيكون طريقا آخر للتكاثر.

و لكن إثبات ذلك مشكل جدّا،نظرا لما ورد في خلق الإنسان المستفاد منه أنّ للّه عزّ و جلّ في خلقه صيغة ثابتة،و هي الطريقة المألوفة المتمثّلة في التكاثر الجنسيّ و مرور الجنين بأدواره المتعدّدة في الرحم،و عملية الاستنساخ و إن كان تشابه الطريق المألوف في النمو و التكاثر،و لكن مبدأها يختلف عن المبدأ المعروف في خلق الإنسان النسل و الذرية.

الرابعة:أنّ أمر خلق الإنسان يدور بين خلق متعارف حاصل من التكاثر الجنسيّ و التلاقح بين الخليتين الجنسيّتين(الحيمن و البويضة)،و خلق غير متعارف كخلق سيّدنا عيسى عليه السّلام،و الاستنساخ إن لم يكن من الأوّل يكن من الثاني.

ص: 55

و لكن عرفت آنفا أنّ الآيات الكريمة التي تحدّد مناشئ خلق الإنسان

ص: 56

ظاهرة في التخصيص و تحديده في الطرق المألوفة التي بيّنت النصوص الإسلاميّة كثيرا من خصوصياتها،و اشتملت على إشارات لم يتفطّن إليها إلاّ بعد التجارب الحديثة و الكشوفات الجديدة،التي منها كشف الخلية التي عدّت من آيات اللّه العظيمة،و اعتبرتها العلوم الحياتيّة المادة الأساس في الحياة،و الأصل في خلق الإنسان،فإذا كان ظاهره لحما و دما و عصبا و عظما،لكنّه مؤلف من أعداد كبيرة من الخلايا،و هي تتكوّن من العناصر المعروفة التي ترجع إلى أصلها،و هو التراب-كما عرفت في أوّل الكتاب.

فلا مجال للقول بأنّ له طريقا غير مألوف يمكن إدخال عملية الاستنساخ فيه.فإنّه و إن كان مورد إرادته عزّ و جلّ،و لكنّه لا يكون أصلا يتّخذ أساسا لعمليات أخرى.

و الحاصل من جميع ذلك:إن لم تصح تلك الآراء السابقة في إدخال عملية الاستنساخ في خلق الإنسان المستفاد من النصوص الإسلاميّة الدالّة على الحصر-كما عرفت-و لكن لنا أن نقول:إنّه إذا لم يمكن إدخال الاستنساخ في الطرق التي ذكرها عزّ و جلّ في خلق الإنسان،و لا يصحّ إدراجه في الطرق غير المألوفة،كخلق سيدتنا حواء و سيدنا عيسى عليهما السّلام،باعتبار أنّها طرق خاصّة لا يمكن جعلها أساسا و قاعدة للانطلاق منها إلى عمليات أخرى،فلا يبقى للاستنساخ إطار شرعيّ من هذه الناحية يجعله مشروعا.

نعم،يصحّ لنا الرجوع إلى الأساس الذي قام عليه خلق الإنسان و تحقّق كيانه،و هي الخلية،التي عرفت أنّها المادة الأصليّة في خلقه،ممّا يصحّ افتراض كونها الملاك في الخلق،و قد كانت على خفاء حتّى اكتشفها العلم الحديث،و قد بيّنت التجارب المتكرّرة بعض أسرارها.و من جملة الكشوفات العلميّة بالنسبة إليها إمكان استلال خلية من جسد إنسان-مثلا-فيخلق منها خلق سويّ بالطريق المالوف،قد مرّت عليه الأدوار المختلفة،بحيث لم يكن الإنسان

ص: 57

المولود عن طريق الاستنساخ مغايرا لذلك الخلق الأصل،فانحصر الاستنساخ بين الخلية المستلّة من بدن إنسان أو حيوان بالطرق المألوفة،و بين المرور بالمراحل التي أعدّها اللّه عزّ و جلّ لهذا المخلوق،نظير أطفال الأنابيب،و الأرحام الاصطناعيّة،حيث لا تصل النوبة إلى الكلام عن أنّ الاستنساخ من الطريق المألوف أو غيره.بل هو تطوير الطريق المألوف.

و مثل ذلك كثير،فقد خلق اللّه عزّ و جلّ الأنعام للناس ليركبوها،و لكن طوّرت عملية النقل لتكون بالوسائل الحديثة،كالطائرات و السيارات و السفن الحديثة،ممّا ينطبق عليه قوله تعالى: وَ يَخْلُقُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ .

فليكن الاستنساخ من هذا القبيل،فهو خلق ممّا لا يعلمون.

و بعبارة أخرى:أنّ كثيرا من الاكتشافات الحديثة التي منها الاستنساخ ترجع إلى استخدام الوسائل لمعرفة المجهول من نواميس الكون،التي أودعها اللّه عزّ و جلّ في الأشياء،ممّا تدلّ على عظمة بارئها و علمه الأتمّ و قدرته التامّة و بديع صنعه فيها،لتكون دلائل توحيده،و براهين على حكمته،و حججا على خلقه،و علامات على صدق الدعوة،كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .فلم يكن الاستنساخ خروجا عن القواعد العامّة،و الطرق المألوفة، بل هو منها و تطبيق من تطبيقات ناموس الكون المودع في الخلية،و مظهر من مظاهر أسرارها،شأنه شأن الاكتشافات العلميّة الأخرى مثل القنبلة الذرية، و الكهرباء،و غيرهما ممّا يرجع إلى استخدام العقل لمعرفة القواعد الحاكمة في الخلق،فالخلية هي العلّة في تكوين الإنسان،سواء كانت سائلة أو جامدة مستلّة من جسد الإنسان نفسه.

خلاصة البحث

و في نهاية هذا البحث يمكن تلخيص ما ورد فيه بما يلي:

أوّلا:إنّ الخلق في اللغة يأتي بمعنى التقدير،

و من تطبيقاته الإحداث بعد العدم،فليس هو من المشترك اللفظيّ كما يبدو من ظاهر كلام بعضهم،كما أنّه لم يكن للشرع فيه اصطلاح خاصّ به.

و إذا أتى الخلق في مورد بمعنى إيجاد الشيء من العدم،فالعالم الذي يخوض غمار البحوث و التجارب لم يوجد من العدم شيئا،فإنّ العالم-إيان و لموت-لم يأت بشيء من العدم،و أكثر ما فعله هو اكتشاف طريقة أخرى للتوالد و التكاثر هي موجودة في أصل الخلق،لم يعلم الإنسان مسبقا عنها أي شيء،و ربّما يكون هناك مئات الطرق لعملية التوالد و التكاثر في علم اللّه سبحانه،فأصل الخلق تعلّق بتلك الخلية الحيّة المبرمجة و المشفّرة و المأمورة من اللّه سبحانه بالانقسام و التكاثر و تخليق الإنسان عبر أطوار متعدّدة و مراحل كثيرة .

فمفهوم الخلق و إن كان ينطبق على ما اكتشفه العلماء لكنّه لم يخرج عن تقدير اللّه،لأنّهم لم يخلقوا شيئا أو سنّة كونيّة أو قانونا طبيعيّا من العدم،بل هو اكتشاف سرّ من أسرار الحياة بعد أن كانت كلّها مورد تقدير اللّه العليّ الحكيم.

ثانيا:إنّ النصوص الإسلاميّة ذكرت الكثير ممّا يتعلّق بخلق الإنسان بصورة وافية،

و تضمّنت من الإشارات و الرموز في هذا الموضوع بما لم يكن له مثيل في غيره من سائر المخلوقات،التي يستفاد من انحصار طرق الخلق فيها بما ورد في تلك النصوص،فلا يجوز التعدّي عنها،و الإنسان من هذه الجهة يختلف عن غيره من سائر المخلوقات،إذ لم يرد في الشريعة ما يدلّ على حصر

ص: 58

الإنسان في إنتاجه و عمله و سلوكه ضمن الطرق المألوفة،بل رقي الإنسان إنّما هو باستحداث الطرق الأخرى و استخدام نواميس الكون المودعة فيه التي يطلق اللّه تعالى عليها بالبحث و الاجتهاد و الاستزادة من المعرفة ،و لكن لا بدّ من تقييده بما إذا لم يرد فيه تحريم في الشرع الحنيف،كما ورد النهي عن التكاثر الجنسيّ الحاصل من السفاح.

ثالثا:إنّ الاستنساخ لم يكن من تغيير الخلق الذي يأمر به الشيطان أتباعه و يحثّ الإنسان عليه،

فإنّ المحتملات فيه لا تخلو عن وجهين:

فإمّا أن يراد به مطلق التغيير في الصورة و السيرة و الظاهر و الباطن.

و هو ممنوع صغرى و كبرى.

أمّا الأولى،فلأنّه ليس كلّ تغير يدخل ضمن الآية الكريمة،و الاستنساخ لا يعدّ تغييرا للخلق و لا تصرّفا في الإنسان،لا في ظاهره و لا في باطنه،بل يعدّ النسيخ مثل الأصل و مطابقا له بالصورة المطلوبة المرغوبة عند الجميع،من الجمال و غيره.

و أمّا الثانية،فلأنّ القول بالتعميم يخالف الدليل العقليّ،و النقليّ،و إجماع العلماء،و سيرة المسلمين،فإنّ قطع العضو الزائد،أو إجراء العمليات الجراحيّة لأجل حفظ النفس أو دفع الضرر أو لغاية عقلائيّة حميدة و نحو ذلك،لا تشمله الآية الكريمة جزما.

نعم،لا بدّ أن يكون في حدود ما قرّره الشرع الحنيف،إذ لا يجوز للإنسان أن يتصرّف في نفسه و بدنه بما يشاء باعتبار كونه مالكا لها و له الولاية المطلقة عليها،إذ إنّ تلك الولاية لم تثبت له على الإطلاق.و يكفي الشكّ في ثبوتها كذلك في عدم جواز التصرّف المطلق،و لا يصحّ التمسّك بعموم السلطنة،لأنّه من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة،كما هو مذكور في علم الأصول.

و إمّا أن يكون المراد منه تغييرا خاصّا فيه،ممّا يوجب الخروج عن طاعة اللّه تعالى و المعارضة مع خلقه عزّ و جلّ،و التمرّد على القواعد الحاكمة في التكوين.

و تغيير الشيطان لخلق اللّه عزّ و جلّ لم يتحقق خارجا إلاّ بعد سبق تغيير يكون هو السبب فيما يقع من الإنسان من تغيير خلق اللّه تعالى،و هو إضعاف تأثير الفطرة و إخفاؤها،و هو ممّا له الأثر الكبير في تفكير الإنسان،فتحقّق الأرضيّة الخصبة لوساوس الشيطان و أمانيه.لذا يعتبر القرآن الكريم أنّ ما يعده الشيطان من الغرور الذي هو الخداع،لأنّ تلبيسه يرجع إلى الإيهام على الفطرة و خداع الفكر،و لكنّه لا يخرج عن إرادة اللّه عزّ و جلّ،و قد ورد في السحر الذي هو عمل شيطانيّ و أفعال السحرة: وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ .و هو مهما حاول من التأثير في الإنسان لكنّه لا يمكنه طمس الفطرة و تبديلها،فإنّ إرادته عزّ و جلّ تعلّقت بأنّه لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ تعالى.

و على جميع الاحتمالات،فليس الاستنساخ من تغيير خلق اللّه.

و أمّا ما ذكره بعض من أنّ الأمر الذي يهفو إليه الشيطان و يوسوس إليه ليس متطابقا مع الإرادة الإلهيّة.فغير قابل للتحقّق في الخارج،و من هنا حكمت الآية الكريمة عليه بأنّه غرور،فإنّه بعيد عن التحقيق،فإنّه و إن كان جميع ما يقبل التحقّق في الخارج لا بدّ أن يكون مورد إرادته تعالى،و لكن ليس كلّ ما تعلّقت به الإرادة الإلهيّة هو مورد رضائه عزّ و جلّ،فإنّ المعاصي و الآثام و أنواع الظلم و إن تعلّقت بها الإرادة الإلهيّة،إلاّ أنّها لم تكن مورد رضائه،فإنّ اللّه تعالى لا يرضى بالمعاصي و الآثام،كما لاٰ يَرْضىٰ لِعِبٰادِهِ اَلْكُفْرَ .

و من ذلك يظهر بطلان القول بأنّ القضية لو لم تكن داخلة في دائرة الإمكان لما تحقّقت في عالم الخارج.فإنّه لا ريب فيه،فإنّ المستحيل لا تحقّق له

ص: 59

في الخارج.و لكن ليس كلّ ممكن هو بواقع في الخارج،كما أنّه ليس كلّ ما هو واقع في الخارج يكون مورد رضائه عزّ و جلّ،و المفيد في الاستنساخ هو الرضا لا أصل الإرادة،و تفصيل الكلام في موضع آخر.

و كيف كان،فإنّ الشيطان إنّما يريد من الإنسان الضلال و الغواية و تغيير خلق اللّه تعالى في هذا السبيل،و لا يمكنه الحصول على ذلك إلاّ بالتصرّف في فكر الإنسان و إخفاء الفطرة الداعية إلى الهداية و الفضائل،و لذا كان من وجوه الحكمة في بعث الأنبياء إثارة دفائن العقول.

رابعا:إنّ الاستنساخ لا تعارض فيه مع خلق اللّه عزّ و جلّ،

فإنّه راجع إلى تقديره تعالى،كما أنّه ليس من تغيير خلقه،فإنّه لا يعتبر خرقا لقوانين الخلق و لا القواعد الحاكمة على الكون،بل هو استخدام الوسائل للوصول إلى نواميس الكون،و كشف المجهول منها،و هو مورد إرادة اللّه و رضائه عزّ و جلّ كما لا يخفى.

خامسا:إنّ الاستنساخ و إن كان طريقا خاصّا للتكاثر إلاّ أنّه يغاير التكاثر المتحقّق في الطريقة المألوفة

التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه الكريم،و هي التكاثر الجنسيّ الذي لا بدّ له من المرور بأدوار الخلق في بطون الأمّهات خلقا من بعد خلق.و نقطة الخلاف بين الطرفين في بدء مسيرة الخلق،فإنّ الاستنساخ يبتدئ من خلية جسميّة،و لكن الطريق المألوف يبدأ من الخلية الجنسيّة المستحصلة من التلاقح الجنسيّ بين الرجل المرأة.و لكن الطرفين يتّفقان في المسير،و يسبران غور الأدوار الخلقيّة في بطون الأمّهات.

سادسا:إنّ الاستنساخ من أهمّ السبل لاستغلال القواعد الحاكمة في الخلق،

لا سيّما الخلية التي هي اللبنة الأساس لجسد الإنسان،و إنّ الطرق التي ذكرها اللّه عزّ و جلّ من المألوفة و غيرها-كخلق سيدنا آدم و سيدتنا حواء و سيدنا عيسى عليهم السّلام-إنّما هي تبيان كيفيّة استخدام هذه الخلية التي لها مناشئ

ص: 60

مختلفة،و تطويرها و تنميتها،و الاستنساخ طريق آخر من طرق استخدام العقل لكشف الناموس المودع في أهمّ آية من آيات اللّه سبحانه و أعظم كلمة من كلماته التامات.

و لا نحتاج بعد ذلك إلى التماس الوجوه العليلة في إدخال الاستنساخ في طريق من طرق الخلق غير المعروفة،أو إدخاله في مكان الخلق،أو أنّه غير خارج عن إرادة اللّه عزّ و جلّ فلا يكون تغييرا لخلقه،و نحو ذلك.فإنّ جميع ذلك تطويل بلا طائل تحته،بل إنّ كثيرا منها مدخول فيها من وجوه متعدّدة،كما عرفت.

و بهذا ننهي الكلام عن المشكلة العقائديّة التي ذكرها الباحثون حول عملية الاستنساخ،و عرفت أنّه لا مشكلة عقائديّة فيها،بل إنّها اعتراف بعظمة البارئ عزّ و جلّ و عظيم صنعه و حكمته المتعالية،و بديع خلقه في الخلية،و في الاستنساخ يظهر ذلك كلّه،كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .

المشكلة الأخلاقيّة و الجواب عنها

لا ريب أنّ الإنسان يختلف عن سائر الكائنات في أنّه كائن أخلاقيّ مزيج قوى متخالفة متصارعة،فهو مركّب من عقل و قلب و إرادة،فكانت له حياة عقليّة و انفعاليّة و فاعلة،و لكلّ واحدة من هذه الثلاث وظائف معيّنة و آثار خاصّة، و من امتزاجها يكون هذا الكائن الخاصّ إنسانا،فهو المفكّر المدرك.و باتّحادها تنشأ وحدة تركيبيّة تصدر عنها أفعال خاصّة،و بها يبلغ الإنسان سعادته التي خلق لأجلها،و وظيفته هي أن يحافظ على هذه الوحدة التركيبيّة.

و من هنا صار في الإنسان انبعاث داخليّ فطريّ إلى الأخلاق يساير جميع مراحله،فكانت له حاسة أخلاقيّة يميّز بها الخير و الشرّ،كما يميّز بالحاسة الجماليّة المودعة فيه بين الجميل و القبيح.

و من هذه الحاسة الأخلاقيّة نستطيع أن نؤسّس القواعد الخلقيّة و القانون الأخلاقيّ العامّ.

و تلك القواعد الخلقيّة هي التي تخاطب الضمير الإنسانيّ،و يرغب إليها الإنسان لأجل الحقيقة ذاتها و أهمّيتها الخلقيّة،فهي لم تكن غريبة عليه،فكانت لها صفة الإلزام،و قد قال تعالى: بَلِ اَلْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ*`وَ لَوْ أَلْقىٰ مَعٰاذِيرَهُ .

و لكنّ هذا النور الفطريّ الباطنيّ قد يلقى موانع توجب طمسه،و هي كثيرة كالعادات،و البيئة،و الوراثة،و التربية،و شواغل الحياة المادية،و لهذا كان لا بدّ من بعث الأنبياء و ذوي النفوس المصطفاة الملهمة بالوحي،لإزالة الغشاوة عن ذلك النور الفطريّ،فيثيرون للناس دفائن العقول،و يكمّلون ما كانوا يحتاجون إليه في كمالهم،فكان نور الوحي الإلهيّ مكمّلا لنور الفطرة التي أودعها اللّه في الإنسان،قال عزّ من قائل: إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً .

و قد أسّس القرآن الكريم قواعد حكيمة و ضوابط معينة في تعيين الفكر الأخلاقيّ القرآنيّ،لا يسع المقام ذكرها.

و من جملة تلك القواعد التي يدلّ عليها العقل أيضا أنّ الإنسان قد خلق و له القدرة على أن يكون خيّرا أو يكون شريرا بتربيته و رغبته،قال تعالى: وَ هَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ ،فبقدرته يأخذ بالخير فيكون خيرا،أو يأخذ بالشرّ

فيكون شريرا،قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا*`وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا .

فالتزكية و الدس ترجعان إلى الإنسان نفسه.

و من نافلة القول الإشارة إلى أنّ تلك الحاسة الخلقيّة و التمييز بين الخير و الشرّ ترجع إلى الجانب الروحيّ في الإنسان،لا الجانب الماديّ،و لذا قيل:إنّ الإنسان بروحه لا بكينونته.و قد أجاد القائل:

أقبل على النفس و استكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

و لا ريب في أنّ أفراد البشر يختلفون في الميول و الغرائز،فقد خلق اللّه عزّ و جلّ بعض الأفراد و فيه غريزة حبّ القتال و الفروسيّة،فلا راحة لهم إلاّ أن يقاتلوا،فإن كانت هذه الغريزة في إنسان قد امتلكه الإيمان و حبّ الخير،فيوظّف تلك الغريزة في سبيل اللّه و إحقاق الحقّ و إبطال الباطل،ليسود العدل في

ص: 61

أرجاء المعمورة،كما قال تعالى: اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ اَلْأُمُورِ .و إن كانت في نفس علاها الكفر و الشرّ و حبّ الظلم و العدوان،فإنّه ينشأ من توليه الفساد العامّ،كما قال تعالى: وَ إِذٰا تَوَلّٰى سَعىٰ فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ

.

و على ضوء ما ذكرناه يتّضح الجواب عن المشاكل الخلقيّة التي أثيرت حول عملية الاستنساخ،فإنّ الفرد المستنسخ قد خلق و ألهمه اللّه عزّ و جلّ حبّ الخير و أودع فيه الحاسة الخلقيّة،فهو باختياره إمّا أن يكون شاكرا،أو يكون كفورا،شأنه شأن سائر أفراد البشر المخلوقين بالطريقة المألوفة،فليس هناك إنسان شرير بحسب ذاته و لا إنسان خيّر كذلك،و إنّما يختار أحد النجدين بكسبه و عمله برغبة منه،فيستحقّ الثواب و العقاب باكتسابه.

و ما ذكر من مشاكل ليست من مساوئ الاستنساخ فقط،بل تجري في سائر أفراد البشر إذا خرجوا عن الطاعة و ابتعدوا عن القواعد المفروضة لتنظيم العلاقات الأسريّة و الاجتماعيّة،و أعرضوا عن التعاليم الإلهيّة في تهذيب النفوس.و لا يخفى على ذوي البصائر أنّ ذلك واقع في جميع المجتمعات،و كلّ ما أثير حول الاستنساخ موجود في كثير من الأفراد.فقد انتزعت الرحمة من القلوب،و ضعفت العلاقات بين الأولاد و آبائهم،و نشأت أجيال فقد فيها كثير من الصفات المطلوبة التي كانت متوفّرة في السلف،فالإشكال ليس منحصرا في الاستنساخ.

مع أنّه ليس إلاّ تكثير في الأفراد و التحكّم في كينونة الإنسان دون نفسه، التي يخلقها بارئها و يلهمها فجورها و تقواها،فهي تتقبّل كلا الأمرين من الخير و الشرّ،و يحدّد اتّجاهها عمل الإنسان نفسه،كما عرفت.فإنّ العلماء و إن تمكّنوا من خلق الإنسان من خلية جسميّة،لكنّهم لم يتمكّنوا مهما بذلوا من الجهد أن يخلقوا روح حيوان أو إنسان،فإنّه من المجرّدات لا سلطة لهم عليه أبدا،فما أشدّ غفلة الإنسان حيث يتجاهل المشاكل الأخلاقيّة الحاصلة له من البعد عن أصول المكارم،و قواعد الأخلاق،و الابتعاد عن التعاليم الإلهيّة،و ارتكاب المعاصي و الآثام و انتهاك أعظم الحرمات،و قد قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسٰادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّٰاسِ .

فلا وجه للتغاضي عن المؤثّرات التي أوجبت صرف النفس الإنسانيّة عن كمالها،و صبّ الاهتمام إلى المستنسخ فقط،و البحث عن الجوانب الأخلاقيّة لعملية الاستنساخ.مع أنّه يمكن سنّ تشريعات خاصّة و وضع قواعد معينة لتنظيم العلاقات في الاستنساخ و تحديد سلوك الفرد المستنسخ،ممّا يمكن دفع العراقيل التي تقف أمام هذه التقنية من جهة الأمور الخلقيّة التي تنتج عنها.

إذا عرفت ذلك،فإنّه يتّضح الجواب على المشاكل الخلقيّة و المساوئ الأخلاقيّة التي أثيرت حول الاستنساخ،فنقول:

أوّلا:إنّ الاستنساخ لم يقم بتجريد الإنسان عن إنسانيته،فإنّه ليس إلاّ تطبيق القواعد الحاكمة في الخلية،و معرفة أحد النواميس الكونيّة،كما تقدّم.

و مع أنّ إنتاج الحيوان و الإنسان يتشابهان في التكاثر الجنسيّ،و لم يقل أحد:إنّ الإنسان فيه ما يشبه الأبقار و الخراف،فكيف يكون شبيها في إنتاجه عن طريق الاستنساخ؟!!إذ لا فرق بين الإنتاجين.

فإنّ إنشاء جيل عن طريق الاستنساخ يتّفق أفراده في كثير من الصفات الظاهريّة،كالجمال و القوة،و الذكاء،و نحو ذلك،لا يختلف عن إنشاء جيل آخر بنفس المواصفات عن طريق التكاثر الجنسيّ،فإنّ كثيرا من الصفات تنتقل إلى الأبناء عن طريق الوراثة،بل و يمكن نقلها باتّباع التوجيهات التي وردت عن بعض المفكرين المصلحين،أو ما ورد في بعض التعليمات الدينيّة،لا سيّما دين الإسلام الذي أبدع في هذا المجال،و تضمّنت النصوص الشرعيّة كثيرا من التوصيات في هذا السبيل .فلا فرق إذن بين الإنتاجين،فيمكن إنتاج جيل يتحكّم الإنسان في الصفات التي يريد إثباتها،و هو عمل مشروع في حدّ نفسه.

و لكن،يجب أن يكون ذلك تحت ضوابط معيّنة و قواعد محكمة حتّى لا يحدث خطأ فينشأ جيل على خلاف المطلوب،و ذلك بسنّ تشريعات خاصّة في هذا المجال حتّى لا يستبدّ الغرور بعالم يفتك بالانسان و يهلك الحرث و النسل نتيجة سفاهة حاصلة منه،نظير تلك التشريعات الموضوعة في التكاثر الجنسيّ،فإنّ

ص: 62

الخطر الحاصل من مخالفة تلك ليس بأقلّ من الخطر الحاصل من التكاثر في الاستنساخ،مع الفرق بأنّ الخطر في الأخيرة دفعي،و في الأوّل تدريجي و هو غير ضائر،كما هو معلوم.

و ثانيا:إنّ ما ذكر من تغيير طبيعة الارتباط بين الطفل و والديه في الاستنساخ،فهو لا يختصّ به،بل هو حاصل أيضا في التكاثر الجنسيّ،فإنّ مخالفة القوانين الموضوعة فيه-التي تصحّح الارتباط بين أفراد الأسرة و لا سيّما الولد مع والديه-توجب التغيير،بل فكّ ذلك الترابط الروحيّ،كما هو المحسوس في المجتمعات التي تحلّلت عن كثير من العادات و التقاليد و القوانين الوضعيّة أو الأحكام الإلهيّة،التي كانت ترعى تلك الروابط الأسريّة و توفق بين أفراد الأسرة،كما عرفت.

مع أنّه يمكن وضع قوانين تصحّح الروابط بين الأبناء و الآباء في الاستنساخ،بتنظيم العلاقة الأسريّة بين أطرافها الحاصلة عن طريق الاستنساخ.

ثالثا:إنّ الاستنساخ طريق للتكاثر و لم يكن طريقا لخلق الإنسان من أجل قتله،فإنّ القوانين المجعولة لحماية الإنسان كافية في الصدّ عن قتله بأيّ طريق كان.و سيأتي في البحث في الفقهيّ معرفة الحكم الشرعيّ في الفرد المستنسخ، فإنّه كسائر الأفراد،و أنّ الأحكام المجعولة في هذا الموضوع تشمله،فلا يجوز قتله و هو في بداية مسيرة الحياة في الرحم إلى آخر لحظة من الحياة التي قدّرها اللّه عزّ و جلّ له،و لا يجوز التعدّي عليه و لا على أعضائه،فإنّ ذلك محرّم شرعا، و قد وضعت قوانين و أحكام شرعيّة دقيقة لضمان حياته.

فلا فرق بين الاستنساخ و غيره،فقد اتّخذ الظالمون و أعوانهم سبيل القتل في الوصول إلى مآربهم و أطماعهم،و استخدموا الإنسان لإجراء التجارب عليه،و قتلوا ملايين الأفراد ظلما و عدوانا،فقد سبق الاستنساخ تجارب كثيرة لأجل قتل الإنسان،منها تجربة القنبلة الذريّة التي جعلت الديار بلاقع من أهلها.

رابعا:إنّ دعوى كون الاستنساخ سببا في انتزاع الرحمة و المودّة من القلوب و ضعف العلاقات الأسرية و الاجتماعيّة،خالية عن البرهان،فقد عرفت

ص: 63

أنّ الإنسان بروحه،و أنّ نفسه هي التي تثبت فيها الأخلاق الحميدة،و يمكن تربيتها لزرع المودّة و الرحمة في القلوب و رفع أسباب النفرة و الكراهية بينها، و لا دخل لأسباب كثرة الإنسان في ذلك أبدا.

بلا فرق بين أن تكون الأفراد متشابهة صورة أو مختلفة مثلا،سواء كانوا متّفقين في الصفات-بأن كانوا أقوياء أصحّاء أذكياء-أم لا،فإنّ الاستنساخ لم يكن الوسيلة في موت النفوس،و لا السبيل في اختلال قواعد الأخلاق و لا اختلال أركانه.فإنّ الموضوع فيها هي النفوس التي تتأثّر بالتربية و التعليم و التزكية و نتائج الأعمال،دون أسباب وجود الإنسان و طرق تكثيره.

أمّا العلاقات الأسريّة بين الفرد المستنسخ و والديه،فسيأتي البحث عنها في مستقبل الكلام.و على الإجمال أنّها لا تختلف عن سائر العلاقات الحاصلة من الطريقة المألوفة،أي:طريق التكاثر عن التلاقح الجنسيّ،فإنّه إذا تمّت الضوابط المعيّنة بتنظيم العلاقات على ضوئها،و إلاّ فإنّ له أحكاما خاصّة يمكن تطبيقها على الفرد المستنسخ،كما ستعرف.

و لكن سيأتي أنّ المشكلة الأخلاقيّة من أهمّ المشاكل التي اتّفق الجميع على خطورتها،ممّا يوجب التوقّف عندها و البحث عن علاجها بجدّ.

و لا وجه للقول بأنّ الأجرام و إن كان محرّما إلاّ أنّ فعل ما قد يستغلّه المجرم ليس محرّما .فإنّ الكلام ليس في استغلال المجرم لفعل معيّن،بل هو في إنشاء جيل كلّهم مجرمون إن كان للاستنساخ الاقتضاء التامّ في إنشائهم، فليس هو مثل استخدام المجرم الوسائل المحلّلة في إجرامه،كما هو واضح.مع أنّ المشكلة الأخلاقيّة لا تقتصر عليه،فلها آثار أخرى خطيرة.

المشكلة الاجتماعيّة و الجواب عنها

لا ريب أنّ نظام الاجتماع له قواعده و أركانه و أحكامه،و لو أردنا تعريف الاجتماع بحيث يجمع تلك-و لو على سبيل الإشارة و الإجمال-فيقال فيه:إنّه مجموعة العلاقات المتحقّقة بين الأفراد،ابتداء من العلاقات الأسريّة إلى علاقات القبائل و الشعوب و الأمم.فمن أهمّ أركانه-بل يعتبر من مقوماته-وجود مجموعة من الأفراد على اختلاف في الجنس،فإنّ الحياة تستمرّ بالشكل المطلوب لو لم يحدث خلل ديموغرافيّ بين الذكور و الإناث،فإن حدث خلل فيه نتيجة ظروف معينة كالحروب و الأمراض و الكوارث الطبيعيّة و غيرها،فإنّه يختلّ التوازن و تحدث مشاكل لا بدّ من معالجتها في حينها و سنّ تشريعات معينة و أحكام خاصّة لتنظيم العلاقات الاجتماعيّة على الوجه الأحسن.

و قد حدث مثل ذلك الخلل الديموغرافيّ في الاجتماع الإنسانيّ مرّات عديدة نتيجة الحروب المتكرّرة التي كانت تحدث و تأكل الرجال و تبقي النساء، و يبلغ أعدادهن ضعف بل ربّما يصل إلى الضعفين من دون أن يختلّ فيها النظام الاجتماعيّ،و إن حدثت مشاكل معينة و كانت القوانين الحكيمة هي التي تقلّل من آثارها الوخيمة،بل رفعها.

و الذي يمكن استخلاصه من المسيرة التاريخيّة للنظام الاجتماعيّ أنّه لا ينهار بالكلّية ما دام الإنسان موجودا على هذه البسيطة،و إن لم يكن على وتيرة واحدة لا تقبل التغيير و التبديل أبدا،فكم من نظام اجتماعيّ مألوف تغيّر إلى نظام آخر كرّات و مرّات.كما أنّ كثيرا من القواعد التي كانت قائمة في مجتمع معيّن قد انهارت و تغيّرت إلى قواعد أخرى،و طرأ عليها التغيير و التبدّل المحسوسان و لم ينهر ذلك النظام الاجتماعيّ و بقي على ما كان عليه.

كما أنّ المعايير و الموازين التي بها يميّز حسن الأشياء و قبحها في

ص: 64

الأنظمة الاجتماعيّة ربّما يطرأ عليها الاختلاف،فتختلف الأحكام،بل القواعد و الأركان،و لربّما يتغيّر أصل النظام.كلّ ذلك ممّا يثبت أنّ أيّ نظام من الأنظمة الاجتماعيّة المعروفة إنّما هو أمر نسبيّ يتغيّر باختلاف أسباب التغيير،كما هو الشأن في الأمور النسبيّة،و هذا واضح جلي.

و المستفاد ممّا ذكرناه أنّ طروء أسباب التغيير و انهيار نظام اجتماعيّ أو حدوث خلل في أحد أركانه و تبدّل قاعدة من قواعده،لا يوجب رجوع الإنسان إلى الحيوان،و لا يستلزم انهيار حياة الإنسان بالكلّية.

و من هنا يعرف أنّ الاستنساخ لو أوجب تغييرا في جانب من الجوانب الاجتماعيّة المعروفة،فإنّه لا يستلزم انهيار النظام الاجتماعيّ للإنسان بالمرّة، فهو كسائر الحوادث التي عرفناها في مرّ التاريخ،فلم يكن بدعا جديدا،فإذا استلزم منه التغيير و التبديل فله حينئذ أحكام خاصّة أو ينشأ نظام جديد وفق أسس جديدة و أحكام تليدة،فتستمرّ الحياة بالشكل الجديد.

نعم،يجب أن تكون التشريعات الجديدة وافية بالمقصود و تجلب المرغوب و تأتي بالسعادة للأفراد،و عليها ضمانات كافية،لئلاّ يقع التجاوز و الإعراض عن تطبيقها،فتحدث السلبيات التي ذكرت على هذه العملية الجديدة و تتّخذ وسيلة لهدم الكيان الاجتماعيّ،و جلب الشقاء للإنسان.

و على ضوء ما تقدّم يمكن لنا الجواب عمّا ذكر من السلبيات على الاستنساخ:

أوّلا:إنّ تغيير النواميس الكونيّة لم يكن مختصّا بالاستنساخ،فإنّ الحروب و الأمراض و الكوارث الطبيعيّة توجب الخلل الديموغرافيّ في المجتمع، و تستتبع مشاكل اجتماعيّة،ثمّ معالجتها بأمور يتمّ وضعها حينها،فليكن الاستنساخ مثل تلك الأمور.

و ثانيا:إنّ الاستنساخ لا يغيّر هوية الشخص و لا يوجب اضطراب

ص: 65

العلاقات الاجتماعيّة و لا تفويت الحقوق أيضا،فإنّ الأفراد المتشابهة في المجتمع واقع،كما في التوائم المتشابهة،و لم يحدث أن وقع خلل في تلك العلاقات.

مع أنّه يمكن أن يتوسّل بالعلاقات الوضعيّة التي تتّفق عليها جميع الدول و أصحاب العلائق،لتمييز الأفراد المتشابهة التي تنتجها عملية الاستنساخ.

لا سيّما أنّ التقدّم العلميّ و التقنّي الحاصل في جميع المجالات ممّا يسهّل الأمر في وضع تلك العلاقات،بحيث تكون بسيطة يسهل تحديد محلّ الحقوق و الالتزامات،و من تلك العلاقات-و على سبيل الأطروحة فقط-جعل علامة معيّنة على الأجساد لتمييز صاحبها عن غيره.أو صنع كارتات ممغنطة في غاية الدقّة و التقدّم و التقنية يثبّت فيها مشخّصات صاحبها،فيمكن تمييز الأفراد المتشابهة بسهولة فائقة.و غير ذلك ممّا يمكن اختراعه في الوقت المناسب إذا كثرت الأفراد المتشابهة عن طريق الاستنساخ.

و بذلك يمكن تمييز المجرمين و أعداء الإنسانيّة،و تثبت الحقوق في محالها،و تتمّ العلاقات العائليّة الخاصّة و نتخلّص من هذه المشكلة التي سيحدثها الاستنساخ.

و ثالثا:إنّ الاستنساخ لا يوجب موت الغرائز في الإنسان حتّى ينهي دور الرجال في المجتمع،بل إنّ الفرد المستنسخ مثل سائر أفراد الإنسان عنده الغرائز و الشهوات التي خلقها اللّه تعالى في طبيعة الإنسان.

فإنّه في الاستنساخ يبقى الرجل و المرأة على طبيعتهما،ففي كلّ واحد منهما الميل الفطريّ إلى الجنس المقابل،فيظلّ الطريق المألوف-و هو التكاثر الجنسيّ-يساير الاستنساخ و لا يمكن رفعه أبدا.فإذا وضعت القوانين المحكمة لتحديد النسل أو تشذيبه و إنتاج الأفضل،فإنّه بالتأكيد سيكون نافعا في عملية الاستنساخ.

ص: 66

كما أنّ الرجل لا يختصّ دوره بخصوص الإخصاب حتّى يؤدّي الاستنساخ إلى إنهائه و انحطاط مرتبة الرجال و تفوّق النساء عليهم،فإنّه سيظلّ الفرق بينهما أبدا من نواح متعدّدة،كما هو معلوم.

فالفرق السيكولوجيّ بين الرجل و المرأة هو كاف في حفظ منزلة كلّ واحد من الطرفين،و لا يوجب الاستنساخ الاختلال الوظيفيّ لكلّ واحد منهما.

و رابعا:إنّ نظام الأسرة له قواعده و أحكامه،و فيه من الآليّة المرنة التي يمكن بها أن يتعيّن أيّ عنوان طارئ،و الاستنساخ كغيره من الأمور الحادثة التي لا بدّ من تعيين حكمها،و سيأتي في الفصل الآتي البحث عن النسب الثابت بين الابن المستنسخ و والديه،و أنّه لا فرق بينه و بين غيره الذي يتكوّن بالطريقة المألوفة،و يترتّب على الأبناء أحكام النسب الصحيح الشرعيّ المبحوث عنه في الفقه الإسلاميّ.

و سيبقى الطفل حينئذ تحت رعاية الوالدين،و لا سيما الأمّ التي حملت الجنين مدّة الحمل و نشأ و ترعرع في بطنها،و الأب الذي ما برح ينتظر ولادة الجنين صحيحا معافى ليتّخذه ولدا له،و قد أودع اللّه في قلبهما العطف و الحنان بالنسبة إلى المولود الجديد،كما خلق فيهما سائر الغرائز،فالاستنساخ لا يؤدّي إلى سلب هذه العواطف الإنسانيّة.

و لذا يختلف الولد المستنسخ عن اليتيم الذي فقد أحد والديه،أو اللقيط الذي لم يعرف والديه،فهما و إن لم يحظيا برعاية الوالدين أو أحدهما،إلاّ أنّ التشريعات السماويّة التي جاءت لإنقاذ الإنسان من الشقاء و الحرمان و الهلاك قد سنّت أحكاما تشريعيّة حكيمة لضمان إرجاع هذين النمطين من الأفراد إلى أحضان المجتمع،بحيث لا يشعران بالنبذ و الواحدة من قبل أفراد المجتمع.

و أمّا الفرد المستنسخ،فهو فرد من أفراد الأسرة تشمله العواطف الغريزيّة للوالدين،و لو فرض جدلا اتّحاده معهما فإنّه تشمله الأحكام

ص: 67

التشريعيّة و القوانين الوضعيّة التي شرّعت لحمايتهم و اعتبارهم من أفراد المجتمع و نظام الأسرة،فإذا كان هناك خلل في هذا الجانب إنّما هو يرجع إلى الإعراض عن تطبيق تلك التشريعات و النكوص عن الطاعة،و لا يرجع إلى أصل التشريع و القانون.

و الحاصل:أنّه ليس الاستنساخ من الأسباب التي تؤدّي إلى الفوضى في القواعد الأخلاقيّة و القيم الإنسانيّة،و لا هو يوجب تغيير النظام الاجتماعيّ،و لا يوجب البلبلة في الحقوق و الأحكام،فإنّه إن حدث ذلك فيمكن كبح جماحه عن طريق وضع القوانين الخاصّة،أو أنّه يوجب تأسيس نظام اجتماعيّ جديد وفق قواعد و أسس أخرى.و مثل ذلك ليس معدوم النظير كما عرفت.

المشكلة الإنسانيّة و الجواب عنها

لا ريب في أنّ القيم الإنسانيّة تبتني على قواعد حكيمة يقرّ بها العقل الإنسانيّ،و قد بحث عنها الفلاسفة و العلماء في مواضع مختلفة من العلوم، و درسوها دراسة وافية و اعتبروها من أهمّ النظريات التي لها من الشموليّة و الدقّة و الاستيعاب لجميع جوانب حياة الإنسان قلما يكون لغيرها مثل تلك الأهمّية،و هي نظرية الحسن و القبح العقليّين التي تعتبر من النظريات القيميّة التي تحدّد بها القيم الأخلاقيّة،كما أنّ أهمّيتها تظهر من كونها أساس قانون الجزاء على الأعمال.و البحث عن التفاصيل موكول إلى الموضع المناسب ليس هذا الكتاب منه.

و كيف كان،فإنّ القيم الإنسانيّة و المكارم الأخلاقيّة و الفضائل و غيرها إنّما تحدّد قيمتها الاعتباريّة عند هذه النظرية،فإذا حكمت على أمر بحسنه اعتبر ذلك من القيم الإنسانيّة أو مكرمة من مكارم الأخلاق،كما أنّه إذا اعتبرته قبيحا كان ذلك فسادا أخلاقيا و مضرّا للإنسانيّة.

ص: 68

و الذي يهمّنا في المقام عرض عملية الاستنساخ على هذه النظرية العقليّة و معرفة قيمتها الأخلاقيّة.

و قد عرفت سابقا أنّ الاستنساخ يعتبر كشفا علميا لا ريب في حسنه كسائر الكشوف العلميّة،و إنّما الذي يجعله من أحد الطرفين-الحسن أو القبيح- هو الأثر المترتّب عليه،و إذا تذكّرنا ما ذكرناه مرارا من أنّ الاستنساخ إنّما هو وسيلة لخلق إنسان،و هو مركّب من نفس و جسد،و لكلّ واحد منهما مميزات و صفات،و الذي يتدخل فيه الاستنساخ إنّما هو صفات الجسد.و أمّا النفس الإنسانيّة-صفاتها و خواصها و آثارها-فإنّ لها أسرارا لا يعلمها إلاّ بارئ النفوس،لأنّ الفرق بينهما كبير جدا يظهر من تباين موضع خلقهما،فإنّ النفس من عالم المجرّدات،و الجسد من عالم المادّة،و صفات كلّ واحد من العالمين تختلف عن الآخر،و إن كان تأثير كلّ واحد منهما في الآخر حاصلا في الجملة لا يسع لأحد إنكار ذلك مهما كانت وجهة نظره.

و صفات النفس ليست بتلك المثابة بحيث يمكن للاستنساخ التأثير فيها و تغييرها،فإنّ تلك الصفات لها مؤثّراتها الخاصّة المتعدّدة،من الغرائز، و الوراثة،و عمل الإنسان نفسه،و التربية،و التعليم،و تزكية النفوس بالكمالات، هذا عدا القضاء و القدر الإلهيّين الذين لهما التأثير الكبير،و هما يرجعان إلى أسرار الخليقة التي لم يطلع عليها سواه عزّ و جلّ.

كما أنّ ما يوجب تغيير تلك الصفات و القيم كثير قد استوفى القرآن الكريم جميع ما يتعلّق بها بأفصح كلام و أعذب أسلوب،و شرحتها السنّة الشريفة، و حذّر اللّه تعالى الإنسان عن اقترافها،و جعله عزّ و جلّ من صميم الشرائع الإلهيّة،و أمانة يجب على الأنبياء أداؤها.

فإنّ من أهمّ ما يوجب تهذيب النفوس هو الرجوع إلى طاعة اللّه عزّ و جلّ و إتيان الواجبات الإلهيّة التي لها الأثر الكبير في هذا المضمار،كما أنّ ما يوجب

ص: 69

تغييرها هو النكوص عن الطاعة و ارتكاب المعاصي و الآثام و هتك حرمات اللّه تعالى التي لها آثار وضعيّة في الإنسان و العالم المحيط به،بل في أصل النظام الكونيّ،قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسٰادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّٰاسِ .

فالمسلم الذي يعرف حقيقة الإيمان باللّه عزّ و جلّ يدرك بوضوح مدى تأثير الأعمال في الصلاح أو الفساد،أو السعادة و الشقاء.

و يعلم أنّ من جملة الأعمال المحرّمة التي شدّد الإسلام النكير عليها هو الفحشاء،فإنّ لها التأثير الكبير في النفوس،و الذرية و الاجتماع،بل النظام،ممّا لا يمكن تجاهله مهما بلغ الإنسان من التحدّي للقواعد و القوانين،فإنّ السفاح يذر النفوس و الديار بلاقع من الكمالات و المكارم.

فإن اعتبرنا الاستنساخ من السفاح و الزنا،فلا ريب في أنّه يؤدّي إلى سلب القيم الإنسانيّة،شأنه شأن التكاثر الجنسيّ المحرّم.

و لكن إذا ثبت-كما سيأتي-أنّه ليس من الزنا أبدا،فإثبات كونه ممّا يؤدّي إلى ما ذكر يحتاج إلى دليل،و إلاّ كان مصادرة على المطلوب.

إذا عرفت ذلك،فإنّه يمكن الجواب عمّا أورد على الاستنساخ من هذه الجهة بوجوه:

الأوّل:أنّ القيم الإنسانيّة التي تبتني على أسس قويمة و قواعد حكيمة يقرّ بها العقل،و أسباب تغييرها معروفة،و ليس الاستنساخ منها،و إن كان له بعض التأثير في النفوس،و لكنّه لا يختصّ به فقط،فإنّ كثيرا من الأمور الماديّة لها ذلك التأثير أيضا،منها التكاثر الجنسيّ المعروف في بعض الحالات.

فالاستنساخ لا يفكّ ذلك الارتباط الوثيق بين الطفل و والديه،فإنّه يرجع إلى غرائز فطريّة أودعها اللّه في الإنسان-و بها تميّز عن غيره من المخلوقات-

ص: 70

لا يمكن تغييرها إلاّ بسلب إنسانيّة الإنسان.نعم قد يؤدّي بعض الأمور إلى إضعاف هذه الغريزة،كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة،و المشاهد في بعض المجتمعات،و لكن لا يعقل زوالها بالمرّة عن طبع الإنسان الذي أودع فيه مجموعة من الغرائز التي منها غريزة الأمومة في الأمّ،و الأبوة في الأب.

و غير ممكن أن يكون الاستنساخ مسوغا في سلب شعور الابن عن ذاته كفرد،و قد ذكرنا سابقا أنّ الفرد إذا عرف أنّ طريقة الاستنساخ لم تكن من المحرّمات الشرعيّة و أقرّتها القوانين الوضعيّة،فهو يستشعر بذاته،و يرى أنّه ابن من الأسرة و إن فرضت عليه الأمور إنّما يكون ذلك أمرا طبيعيّا صادرا ممّن يهمّه أمر الأسرة و له التأثير في تربية الابن.

و لا ريب أنّ ذلك الشعور لا يثبت إذا لم يكن الفرد يعرف كونه من الأفراد الشرعيّين من المجتمع،و لو كان متولّدا عن الطريق الطبيعيّ المألوف.

الثاني:أنّ ما ذكر من أنّ الاستنساخ يوجب إلغاء التزاوج الجنسيّ، و إشاعة التزاوج اللاجنسيّ عن طريقه فقط،ممّا يؤدّي إلى تجريد إنسان عن إنسانيته،و قد ميّزه اللّه تعالى بذاتيته.فإنّه أمر مرفوض لأنّه لا بدّ من التفريق بين التزاوج و التكاثر،فإذا كان الاستنساخ ممّا يؤدّي إلى إلغاء التكاثر عن طريق التزاوج الجنسيّ أو بالأحرى التقليل منه دون إلغائه،فإنّه يبقى التزاوج على حاله،إذ هو تابع للميل الفطريّ الموجود في الجنسين،و هو لوضوحه لا يسع أحد إنكاره.

يضاف إلى ذلك أنّ الاستنساخ نظير الطريق المألوف في التكاثر الجنسيّ يشتركان في هذا الجانب سلبا و إيجابا.فهو وسيلة من وسائل خلق الإنسان الذي تتوفّر فيه جميع مقومات إنسانيته،لا لاختلاف بينه و بين الفرد الذي تولّد من التزاوج الجنسيّ.

الثالث:أنّ الاستنساخ إذا كان تحت ضوابط معينة،و قيّدته القوانين

ص: 71

المحكمة و أحكام شرعيّة ملزمة لا يوجب الإجهاض،كما لم يوجب التزاوج الجنسيّ ذلك إلاّ إذا كان خروجا عن الطاعة،فإنّ له حينئذ أحكاما خاصّة،كما هو معروف.

فالاستنساخ إذا كان موجبا لإنجاب الذراري المتشابهة،لكنّه لا يوجب ترخيص الحياة،إذ لا يجوز الاجهاض لأيّ غرض كان،إلاّ إذا كان هناك مسوغ شرعيّ و قانونيّ له في أي مجتمع كان.

و حينئذ لا بدّ من الوصول إلى الهدف المنشود من الاستنساخ من اتّباع القوانين الموضوعة في هذا المجال،كما أنّه لا بدّ للفرد المستنسخ من الوصول إلى كماله من حين نشأته من خلية جسميّة إلى وضعها في الرحم بعد تلقيحها بالبويضة،ثمّ التولد من طي المراحل جميعا،و يجب على الغير احترامه،نفسا، و بدنا،و مالا كسائر أفراد الإنسان،و لا يجوز قتله في جميع مراحل نموه و حياته،كما لا يجوز هتك حرمته بأيّ وجه من الوجوه،كما هو الثابت في الشريعة الإسلاميّة و غيرها.

هذا كلّه إذا كان الاستنساخ أمرا مشروعا،و أمّا إذا كان مرفوضا شرعا و قانونا-جدلا-فإنّه أيضا لا بدّ من حفظ حياة الفرد المستنسخ و احترامه ضمن الحدود و الأحكام التي شرّعتها الشريعة الإسلاميّة أو القانون الوضعيّ،نظير الولد الذي يتولّد عن طريق السفاح،فلا يجوز قتله أو بيع أعضائه،و نحو ذلك.

فالفرد المستنسخ إنسان يترتّب عليه جميع ما يترتّب على غيره،فالكلام يقع في أصل مشروعية عملية الاستنساخ لا إخراج الفرد عن ربقة الإنسانيّة، كما هو واضح.

فما ذكر من أنّ الاستنساخ يفضي إلى استنساخ الجسم فقط لا استنساخ إنسان،غير سديد.

المشكلة الجينيّة و الجواب عنها

تختلف المشكلة الجينيّة عن مثيلاتها من المشاكل في أنّها موانع تقع أمام عملية الاستنساخ،فإذا ثبتت مشروعيته،فلم يبق إلاّ إزالة تلك الموانع،فإذا تمّ بفضل جهود العلماء و الكشوفات الحديثة،فتنتج هذه العملية ثمراتها،لوجود المقتضي و عدم المانع كما في سائر العلل الماديّة،و قد ابتليت الاكتشافات العلميّة بمثل تلك الموانع،و قد أزيلت بفضل الجهود الجبّارة التي بذلت في هذا السبيل،كما ارتفعت العقبات التي كانت تحول دون وقوعها في الخارج.

و المشاكل الجينيّة لا ترجع إلى سلب الاقتضاء عن هذه العملية العتيدة، فندع مشكلة توفّر المواد الغذائيّة في المستودع الغذائيّ-البويضة-إلى جهد العلماء في رفعها بالطرق العلميّة الحديثة المناسبة.

كما أنّ عمر الخلية التي يستنسخ منها،فإنّه لا يكون مشكلة تقف أمام التقدّم التقني الهائل في هذا المضمار،و ربّما يتغلّب العلماء عليها،و قد تؤدّي الأبحاث الجارية على الخلايا-و بالخصوص الجينات الوراثيّة-إلى التغلّب على الشيخوخة في الإنسان،و ليس عمر الخلية حسب.

و بالجملة:أنّ الاستنساخ إذا تمّ اقتضاؤه فلا تبقى مشكلة إلاّ إزالة الموانع و العقبات،فإذا تحقّق ذلك،فلا بدّ أن يحصل المقصود من هذه العملية،و إلاّ فلا يتحقّق،و لا تصل النوبة إلى المشروعيّة و عدمها.

و حينئذ تقع هذه المهمّة على العلماء و الباحثين في التقنية الوراثيّة،فإذا أمكنهم رفع الموانع و العقبات،كما أزيلت عوائق كثيرة التي لو لا جهودهم لما وصل الاستنساخ إلى الحدّ الذي وصل إليه الآن.

المشكلة العلميّة و الجواب عنها

حقّا أنّ المشاكل العلميّة التي أثيرت حول هذا الموضوع لا بدّ من الاهتمام بها،و على العلماء الاعتناء بشأنها و حلّها،و إلاّ آلت جهودهم إلى الفشل،إذ لا هدف محدد يمكن الوصول إليه من هذه العملية،و كلّ أمر إذا انعدم الهدف فيه فإنّه يكون عبثا،و إذا كان المقصود من الاستنساخ إنجاب الذراري المتشابهة، فهذا حاصل في الإنجاب بالطريق المألوف،فلا حاجة إلى الاستنساخ.

كما أنّ تعريض الإناث في هذه العملية غير الهادفة إلى التبعات الصحّية أثناء حملها الأجنّة الملقّحة،أمر مرفوض عقلا و قانونا.

و لكن يمكن حلّ هذه المعضلة،فإنّ التقدّم العلميّ الكبير في الأمور الصحّية قد خفّف كثيرا من الصعوبات و العراقيل و التبعات الصحّية للنساء الحوامل،ممّا أوجب تقليل كثير من الهموم و التخفيف من المخاوف لهنّ.

ص: 72

و مع أنّ الاستنساخ و غيره على حدّ سواء في هذه المعضلة،فإنّ الحمل بالطرق المألوفة أيضا يعرّض النساء الحوامل لما ذكر،بلا فرق بينها و بين المرأة الحامل في الاستنساخ.

و حينئذ،فلا يعتبر الاستنساخ من طرق تدخّل الإنسان في بدن إنسان آخر مثله،و لو فرض كونه كذلك فلا يستلزم إلاّ نادرا،و يثبت في هذه الحالة الحكم الخاصّ بها.مع أنّ تصرّف إنسان في بدن آخر مثله لا يترتّب عليه أيّة مخالفة قانونيّة إذا كان بإرادة الطرف الآخر،و إن كان الحكم الشرعيّ بالجواز يختصّ بما إذا لم يحصل ضرر عليه،و إلاّ فلا يجوز.

نعم،إذا كان التصرّف في صالح الطرف الآخر فليس هو بممنوع و لو استلزم الضرر،كما هو سيرة الأطباء الذين لم تتم أعمالهم إلاّ من هذا الطريق.

يبقى الأمر المهمّ و هو السؤال عن الهدف الذي ينبغي التوصّل إليه من

ص: 73

الاستنساخ،فإنّ كلّ المحتملات التي يمكن تصوّرها في الفرد النسيخ يمكن تحصيلها عن الطريق الطبيعيّ المألوف،و هو التكاثر الجنسيّ.

فالولد المستنسخ يشبه الأطفال من غير الاستنساخ في أنّ الجميع نسخ متشابهة عن ذويهم في الأشكال و الطبائع و الرغبات،فإذا كان هناك مانع من الاحتفاظ بها في غير الولد النسيخ،فهو أيضا موجود في الولد المستنسخ،فإنّها تتغيّر حسب الظروف الخاصّة في الإنسان في الفردين على حدّ سواء.

اللهمّ إلاّ أن يقال:إنّ الاكتشاف العلميّ هو بنفسه غاية من الغايات الحميدة التي يسعى الإنسان إليها،و يجب على كلّ فرد معرفته،لما أودع اللّه تعالى في الإنسان من غريزة حبّ العلم و اكتشاف المجهول.و هذا من أسمى الأهداف الذي يكفي أن يجعل سببا في مشروعيّة الاستنساخ،سواء ترتّب عليه ثمرة في الخارج أم لا.

و قد عرفت في الفصل السابق أنّ الأهداف التي تكفي في مشروعيّة الاستنساخ لم تقتصر على ما ذكر حتّى يمكن تحصيلها من الإنسان المتولّد بالطريق العاديّ.بل إنّ المطلوب المهمّ من الاستنساخ هو التكاثر في الذرية بما يريده العلماء أو الوالدان من الصفات المرغوبة،و مثل ذلك لا يمكن تحصيله في التكاثر الجنسيّ،فالمبرّر للاستنساخ واضح لدى المختصّين،و لا يضرّه انتظار الزمن الذي لا بدّ منه لنمو الطفل مدّة الحمل،فإنّه مشترك بين الطرفين،الطبيعيّ و غيره.

ثمّ إنّ المحاولات الفاشلة التي سبقت عملية الاستنساخ لإنتاج النعجة (دولي)و التي قد مرّت ب(276)محاولة،لا يصحّ أن تكون سببا في المنع،لأنّ تلك المحاولات تقلّ قطعا عند استنساخ البشر،فإنّه أصبح أقرب إلى الوقوع قبل استنساخ النعجة(دولي).

مع أنّ اعتبار المحاولات الفاشلة قبل نجاح ولادة الإنسان النسيخ من

ص: 74

القتل المعروف أوّل الكلام.فإنّ حكم القتل إنّما يبتدئ من حلول النطفة في رحم الأنثى،و إنّ الاجهاض محرّم في كلّ الشرائع الإلهيّة،و قد شرّع الإسلام في هذا الموضوع أروع الأحكام و أدقّها،فقد حكم بحرمة الإجهاض و قتل الجنين مطلقا، و لكنه فصّل في الحكم بين الإجهاض قبل ولوج الروح في الجنين فحكم بالجواز إذا استلزم وجوده ضررا على الأمّ الحامل.و أمّا بعده فلا يجوز مطلقا،و مع ذلك فقد حكم بوجوب الدية في جميع الحالات حتّى في صورة الجواز.و تقدير الدية يبتدئ من عشرين دينارا-أي:69 غراما من الذهب-في النطفة المخصّبة،ثمّ تأخذ سيرا تصاعديا كلّ أربعين يوما من العشرين إلى أربعين إلى ستين إلى ثمانين إلى مائة دينار،ثمّ بعد ولوج الروح عند اكتمال الجنين أربعة أشهر، تكون الدية كاملة و هي ألف دينار في الجنين الذكر،و خمسمائة دينار في الجنين الأنثى .

هذا كلّه حكم الجنين و الإجهاض.و أمّا النطفة قبل دخولها الرحم،فلا يترتّب على إلقائها إلاّ الكراهة.

و يشترك في تلك الأحكام جميع أفراد الإنسان،بلا فرق بين أن يكون متولّدا عن الطريق المتعارف أو عن طريق الاستنساخ،فلا يكون أمرا جديدا،مع التجارب العديدة التي أجريت على أطفال الأنابيب و أودت بحياة الكثير،ممّا يجعل الاستنساخ نظيرا لها.

و أمّا جعل الاستنساخ موجبا لحدوث خلل في الترتيب الطبيعيّ الموجود في الجينات،فهو أمر غريب في حدّ نفسه،فإنّ العلماء و الباحثين يحاولون الاستفادة من هذا الترتيب الطبيعيّ المبرمج،بحيث إذا اختلّ لا يمكن الاستفادة منه،و الاستنساخ هو من نتائج هذا الترتيب الذي لم يتوصّل إليه العلماء إلاّ بعد جهد جهيد،فكيف يكون الاستنساخ من موجبات الخلل،إلاّ إذا حصل من غير قصد،كما يحصل في كلّ التجارب و الكشوفات،كما هو واضح.

فالاستنساخ لم يكن مجزرة توجب هلاك الأجنّة،بل هو طريق خاصّ من الطرق المتعدّدة لخلق الإنسان،فإن أودى بحياة إنسان،فله حينئذ أحكام خاصّة يمكن بها تفادي النقص الحاصل بسببه على الحياة.

المشكلة القانونيّة و الجواب عنها

يعرف الجميع أنّ القانون يبني تشريعاته على الحقائق الطبيعيّة و الاجتماعيّة و التاريخية،بجانب الحقائق العلميّة،فإنّ العلم و إن كان يقدّم الأمل، و لكن القانون يقدّم الحماية.

و من المعلوم أنّ القانون لم يمكنه مسايرة العلم في سرعة نموه و تطوّره،و مع ذلك فإذا لم يتحقّق الفرض العلميّ في الخارج،فليس للقانون تشريع فيه،كما هو الحال في الاستنساخ البشريّ،فإنّه لم يخرج عن الفرض العلميّ بعد.

و حينئذ يدور التشريع القانونيّ مدار الباعث الدافع للعمل،فلا بدّ من البحث عن الهدف من الاستنساخ،فإن كان نبيلا،كان القانون في حمايته،و إلاّ كان له تشريع خاصّ به.

فليست لنا مشكلة قانونيّة بالنسبة إلى الاستنساخ إلاّ بعض التساؤلات التي تقدّم ذكرها،و هي و إن كانت وجيهة لا يمكن التغاضي عنها،بيد أنّها تعتبر من الشؤون الاجتماعيّة،و لا سيّما الأحوال الشخصيّة للوليد النسيخ،فإذا قرّر الشرع الحنيف عملية الاستنساخ و حكم بأنّ الفرد النسيخ هو إنسان يترتّب عليه جميع ما يترتّب على غيره من أفراد الإنسان من الأحكام،فإذا اعتبره ابنا شرعيّا لمن أخذت منه الخلية،فيثبت النسب الشرعيّ بينه و بين والديه،و سائر أفراد الأسرة.

كما أنّه إذا حكم الشرع بأنّه ولد للأمّ الحامل التي أخذت منها البويضة

ص: 75

و زرعت بعد تخصيبها في رحمها،فتثبت الأمومة لها،و سيأتي البحث عن جميع ذلك في الفصل الآتي.

نعم،إن لم يثبت للشرع حكم خاصّ فيما ذكرناه،فلا بدّ حينئذ أن تكون تشريعات خاصّة،و حينئذ يكون لكلّ حادث حديث.

فلم يبق من الجوانب المتعدّدة لهذا الموضوع العتيد إلاّ الجانب التشريعيّ، و إثبات مشروعيته و ذكر الأحكام الفقهيّة لما يترتّب على هذه العملية،و سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

الفصل الثّالث : تمهيد يتعلق بأنواع الحكم

تمهيد يتعلق بأنواع الحكم

قد ثبت في علم أصول الفقه و غيره أنّه لا تخلو واقعة من الوقائع من حكم إلهيّ تشريعيّ، و قد ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام قوله:«ما من واقعة إلاّ و للّه فيها حكم،حتّى أرش الخدش».

و هو على أنواع:

1-الحكم التكليفيّ،

و هو الاعتبار الشرعيّ الذي يتضمّن الاقتضاء و التخيير،و هو منحصر في الخمسة المعروفة،و هي:الحرمة،و الوجوب، و الندب،و الكراهة،و الإباحة.

2-الحكم الوضعيّ،

و هو الاعتبار الشرعيّ الذي لا يتضمّن الاقتضاء و التخيير ،و هي كثيرة مثل:الشرطيّة،و الجزئيّة،و اللزوم،و الضمان و نحو ذلك.

3-الحكم الشرعيّ التأسيسيّ،

و هو الحكم الذي أسّسه الإسلام لمصالح خاصّة،و هو يشمل التكليفيّ و الوضعيّ.

4-الحكم الإمضائيّ،

و هو الحكم الذي كان دائرا في الاجتماع الإنسانيّ، و قد قرّره الشرع الإسلاميّ و أمضاه،كأكثر أحكام المعاملات .

5-الحكم الأوّليّ:

و هو الحكم المجعول للشيء أوّلا و بالذات،الخالي عن قيد طروء العنوان الثانويّ،و قيد الشكّ في الحكم الواقعيّ،كالوجوب المترتّب على صلاة الصبح،و الحرمة المترتّبة على شرب الخمر،فيطلق عليها الأحكام الواقعيّة،و على متعلّقاتها الموضوعات الواقعيّة.

6-الحكم الثانويّ،

و هو الحكم المجعول للشيء بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصّة كالاضطرار و الإكراه،و نحوهما من العناوين الثانويّة غير عنوان مشكوك الحكم،كصوم شهر رجب فإنّه مستحبّ،و لكن إذا تعلّق به النذر صار واجبا لأجل النذر،فاستحبابه حكم واقعيّ أوّليّ،و وجوبه حكم واقعيّ ثانويّ،و تسميته ثانويّا لأنّه في طول الواقع و موضوعه عنوان ثانويّ عارض على العنوان الأوّليّ الأصليّ .

إذا عرفت ذلك نقول:إنّ الاستنساخ واقعة جديدة لا بدّ أن يكون للشرع فيه حكم تشريعيّ.فإن قام الدليل الشرعيّ على الحرمة،فلا بدّ من وقف ممارسة هذه العملية،و تحريم التجارب التي تؤدّي إليها.

و إلاّ،فالحكم هو الحليّة،لما هو المعروف بين الفقهاء من أنّ الأصل في الأشياء هو الحليّة عند فقدان الدليل على الحكم الإلزاميّ.و قد استدلّوا عليه بأدلّة عديدة،و لا نحتاج بعد ذلك إلى دليل خاصّ يدلّ على الإباحة.

ص: 76

مضافا إلى أنّ الشكّ في الحرمة يقتضي الرجوع إلى أصالة البراءة، و الحكم بالإباحة،الذي هو حكم ظاهريّ مجعول عند الجهل بالواقع و الشكّ فيه .

و الوجوه المتصوّرة في حرمة الاستنساخ هي ثلاثة:

الأوّل:الحرمة الذاتيّة،

كحرمة اتّخاذ الشريك للّه تعالى،أو السجود للصنم و نحو ذلك،فيكون الاستنساخ حراما لأجل كونه تدخّلا في خلق اللّه تعالى،و أنّه خروج على قواعد التكوين الإلهيّ،و تلاعب بهندسة الجينات و معايير المورثات.

و قد عرفت الجواب عن جميع ذلك،فليس هو حراما بالحرمة الذاتيّة.

الثاني:الحرمة التشريعيّة،

كحرمة الزنا،و حرمة شرب الخمر و نحو

ذلك،و قد عرفت أيضا أنّه لا بدّ أن يندرج تحت أحد العناوين المحرّمة،كالزنا و نحوه،و سيأتي البحث عن ذلك،و تقدّم بعض الوجوه الذي تمسّك به بعض الباحثين،و عرفت الجواب عنه.

الثالث:الحرمة بحسب الأدلّة الثانويّة،

و لكنّها لا تنافي الحكم الواقعيّ الأوليّ،فإنّ كلّ موضوع و عمل قد يتغيّر حكمه الأوّليّ إلى الثانويّ بحسب العنوان الثانويّ العارض على العنوان الأوّليّ الأصليّ،كما عرفت آنفا.

فإنّ الاستنساخ من المواضيع التي تطرأ عليها العناوين الثانويّة،فتوجب تغيير الحكم الأوّليّ.

فيقع الكلام ضمن أمور:

حكم الاستنساخ

و إذا أردنا أن يكون البحث مستوفيا الجوانب المتعدّدة لهذا الموضوع إنّ الاستنساخ بحدّ نفسه مع قطع النظر عمّا يترتّب عليه من الآثار ليس من العناوين المحرّمة في الشرع الإسلاميّ،بل هو يرجع إلى استخدام نواميس الكون التي أودعها اللّه عزّ و جلّ في مخلوقاته،ممّا يزيد في معرفة الإنسان،فهو نهج علميّ يكشف عن آيات اللّه سبحانه الدالّة على عظيم قدرته،و بديع صنعه، و تمام علمه،ممّا يزيد في إيمان الإنسان بربّه،و تثبيت حجّته على عباده، و إرشاد الإنسان إلى صدق دعوته،قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، فهو آية من الآيات الأنفسيّة التي أرانا اللّه عزّ و جلّ إيّاها،الدالّة على أنّه الحقّ الذي هو شهيد على جميع تلك الكشوفات العلميّة التي تؤدّي إلى كشف تلك الأسرار الإلهيّة التي أودعها في مخلوقاته،و منها سرّ الخلق من الخلية

ص: 77

الجسميّة.و لا يعتبر تدخّلا في خلق اللّه تعالى،و لا خروجا عن قواعد التكوين الإلهيّ،و ليس تلاعبا بهندسة الجينات و معايير المورثات،بل هو استفادة من تلك التقديرات الدقيقة التي أودعها خالق الخلايا فيها،كما قال عزّ من قائل: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ،فقد اكتشف الاستنساخ بعض أسرار الجسد الإنسانيّ في سبيل توليد النسخ المتشابهة،أو استبدال بعض الأعضاء التالفة،و ما إلى ذلك.

فسيكون القول بالحرمة محتاجا إلى دليل،فإن لم يكن فلا محالة نرجع إلى الأصل الذي يدلّ على الإباحة،و القائل بها لا يطالب بالدليل حينئذ.

نعم،إنّ القول بالإباحة لم يكن على إطلاقه،بل هو مقيّد بما إذا لم يكن هناك عنوان جانبيّ يوجب تحريمه،و إلاّ فإنّ حكم الاستنساخ سيتغيّر تبعا لتلك العناوين،و لو كان اقتضاء المصلحة العامّة أن لا يكون الإنتاج عن هذه الطريقة فيحرم حينئذ.هذا كلّه لو لم يكن حكم عقليّ أو فطريّ دالّ على حرمة الاستنساخ لمصلحة خاصّة،كما ستعرف.

الاستنساخ و الزنا

فإنّهما يختلفان من حيث الموضوع،إذ الزنا التقاء جنسيّ بغير وجه شرعيّ،و أمّا الاستنساخ،فليس هو التقاء جنسيّا أبدا،فهو خارج عن الزنا موضوعا.و لمزيد الإيضاح نذكر بعض كلمات فقهاء الفريقين:

1-قال المحقّق الحليّ من فقهاء الإماميّة في تعريف الزنا:«هو إيلاج الإنسان ذكره في فرج امرأة محرّمة من غير عقد،و لا ملك،و لا شبهة،و يتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة قبلا أو دبرا» .كما عرّفه الشهيد قدس سره بأنّه:«إيلاج البالغ

العاقل في فرج امرأة محرّمة من غير عقد،و لا ملك،و لا شبهة،قدر الحشفة عالما مختارا» .و الظاهر أنّ بعض القيود فيه راجع إلى إقامة الحدّ على الزاني.

و كيف كان،فإنّ تعريفهما للزنا هو المشهور عند فقهاء الإماميّة.

2-و عند الأحناف،كما ذكره الكاسانيّ:«الزنا اسم للوطء الحرام في قبل المرأة الحيّة في حالة الاختيار في دار العدل ممّن التزم بأحكام الإسلام العاري عن حقيقة الملك و شبهته،و عن حقيقة النكاح و شبهته،و عن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه للملك و النكاح» .

3-و عند الحنابلة:هو فعل الفاحشة في قبل أو دبر .

4-و عند المالكيّة كما عرّفه أحمد الدرديريّ من علمائهم:الزنا إيلاج مسلم حشفته في فرج آدمي مطبق عمدا بلا شبهة و إن دبرا .

5-و عند الشافعيّة،فقد عرّفه البيجوريّ:إيلاج المكلّف و لو حكما فيشمل السكران المعتدي الواضح حشفته الأصليّة المنفصلة أو قدرها عند فقدها في فرد واضح محرّم بعينه في نفس الأمر مشتبها،طبعا مع الخلو عن الشبهة .

و الظاهر اتّفاق جميع الفقهاء على اختلاف مذاهبهم على أنّه وطء المرأة في قبلها وطءا خاليا من الملك و الشبهة .و هذا هو المعنى العرفيّ للزنا،و ألحق الفقهاء به بعض القيود لدليل خاصّ،كإلحاق الدبر بالقبل.فليس في الزنا اصطلاح شرعيّ خاصّ،كما زعمه بعض الباحثين،فاعتبر أنّ هناك فرقا بين الفهم العرفيّ لهذه الكلمة و بين التحديد الشرعيّ لها .

و كيف كان،فإنّ الاستنساخ يختلف عن الزنا من ناحية الموضوع و الحكم،فليس هو بحرام من هذه الجهة،و لا يعتبر الأولاد من هذا السبيل أولاد زنا.

الاستنساخ و النكاح الشرعيّ

من الواضح أنّ النكاح له إطلاقان:

الأوّل:العقد الذي يستحلّ به استمتاع كلّ من الزوجين بالآخر.

الثاني:الضمّ و الجمع و الوطء .

ص: 78

و استعمال الفقهاء لهذه الكلمة لم يخرج عن أحد هذين المعنيين،فلم يكن لهم اصطلاح خاصّ بهم فيه،قال في الجواهر:«فلا ريب في عدم ثبوت حقيقة شرعيّة له(أي:النكاح)،بل هو لغة و شرعا مستعمل في العقد و الوطء» .

و كلا المعنيين لا ينطبق على الاستنساخ،فهو تكثير لا جنسيّ،كما عرفت، فليس هو وطءا،و لا هو عقد يستحلّ به الاستمتاع،اللهمّ إلاّ أن يكون بين صاحب الخلية الجسميّة و بين صاحبة البويضة عقد شرعيّ،فيكون الاستنساخ حينئذ بين الزوجين.

و لكن ذلك لا يرتبط بالمطلوب الذي نحن بصدد إثباته،فمن الوجهة الفقهيّة لا يمكننا اعتبار الاستنساخ من النكاح حتّى تترتّب عليه أحكامه و تثبت لوازمه و ملزماته،كما لا يمكننا أن نعتبره من الزنا حتّى يكون محرّما و تترتّب عليه أحكامه.

و حينئذ لا بدّ من إثبات الانتساب بين الأطراف الثلاثة-الفرد النسيخ، و صاحب الخلية الجسميّة،و المرأة التي حملت الخلية المخصبة و نما الولد في

رحمها-من التماس وجه صحيح له،فيقع الكلام في الولد المستنسخ،ثمّ في الوالد،و أخيرا في الأمّ.

الوليد المستنسخ

مفهوم الولد من المبيّنات العرفيّة،و لكن عند مراجعتنا للمعاجم اللغويّة نجد أنّ له إطلاقين:عامّا،و خاصّا.

الأوّل:مطلق حدوث شيء عن شيء،و خروجه منه،سواء أ كان في الحيوان أم الجماد.يقال:ولد الأرض النبات،أي:أخرجته.و تولّد المطر من السحاب،و الثمر من الشجر.و إليه أشار ابن فارس بقوله:الولد يأتي بمعنى أصل صحيح،و هو دليل النجل و النسل،ثمّ يقاس عليه غيره،و من ذلك الولد .

و يدلّ عليه كلام الراغب:و تولّد الشيء من الشيء حصوله عنه بسبب من الأسباب .

الثاني:خروج الحيوان عن الحيوان و تولّده منه،و إليه تشير أغلب كلمات اللغويّين.قال ابن منظور:الولد،الوليد الصبي حين يولد.و قال بعضهم:الصبية أيضا وليد..و الولد اسم يجمع الواحد و الكثير،و الذكر و الأنثى،و الوالد:الأب، و الوالدة:الأمّ،و هما الوالدان..و قال ابن سيده:الولد و الولد-بالضمّ-ما ولد أيّا كان،و هو يقع على الواحد و الجمع،و الذكر و الأنثى .

و تستعمل الولادة و الولد في الفقه غالبا في خصوص تولّد الإنسان من الإنسان،الذي هو موضوع الأحكام الخاصّة في الشريعة الغرّاء من تكليف أو وضع.

و عند عرض الفرد المستنسخ على هذين الإطلاقين لمفهوم الولد،فإنّ الإطلاق الأوّل يشمله بوضوح،فإنّه يصدق عليه تولّد الشيء من الشيء،و إنّ الخليتين هما الأصل الصحيح للوليد المستنسخ،فيطلق عليه الولد بلا ريب،فهو ولد تكوينيّ لوالده صاحب الخلية.

أمّا الإطلاق الثاني-أي:تولّد الإنسان من الإنسان-فلا بدّ أن يكون البحث حينئذ عن أنّ ذلك هل يكون قيدا له؟كما يستفاد من ظواهر كلمات الفقهاء، فلا ريب أنّه لا يصدق على الفرد المستنسخ،إذ الاستنساخ-كما عرفت-ليس توالدا من إنسان.فلا بدّ من التماس وجه صحيح لإدخال هذا الفرد الجديد في هذا العنوان،إذ إنّ معظم الباحثين في موضوع الاستنساخ يتردّدون في إطلاق الولد عليه ليكون صاحب الخلية والدا له،لأنّ الأخصائيّين الذين بحثوا هذا الموضوع لم يناقشوا إطلاق اسم الولد على المستنسخ،بخلاف أطفال الأنابيب،فإنّهم اتّفقوا على أنّ الطفل منسوب إلى الأب و الأمّ.و حينئذ يجب البحث عن المناط الذي أوجب إطلاق اسم الولد على المتولّد عن الطريق المألوف و تنقيحه ليمكن إدراج غيره فيه،و هو يحتاج إلى معرفة موارد إطلاق الولد في الفقه و القانون و العرف لتشخيص المناط و تنقيحه و تطبيقه على الفرد.

ص: 79

إطلاقات كلمة الولد

1-الولد الشرعيّ المتولّد من العلاقة الجنسيّة الحاصلة بين الزوجين عن طريق النكاح الذي يعدّ من أهمّ الروابط الاجتماعيّة و أقدمها،و أعمّها،

فلا يخلو منه مجتمع من ابتداء الخليقة في جميع المراحل التأريخية،كما أنّه الأساس الذي تتحدّد بموجبه جملة من العلاقات و الارتباطات الفرديّة،و الأسريّة، و القبليّة و غيرها،فإنّ النكاح هو الذي يربط الفرد بأبويه و أسرته،و تنشأ به العلاقات الأخرى و النسب المختلفة.

ص: 80

كما أنّ النكاح من أبرز العقود الاجتماعيّة و أهمّها،و قد اهتمّت به الشرائع الإلهيّة،و ركّزت القوانين المدنيّة عليه و وضعت لهذا العقد قواعد و ضوابط و أحكاما خاصّة،فمثل هذه العلاقة المشروعة بين الرجل و المرأة إذا وافقت تلك القواعد و الضوابط تسمّى نكاحا،و الأولاد المتولّدون عن هذه العلاقة الجنسيّة المشروعة يعتبرون أولادا شرعيّين ينتسبون إلى الأبوين و الأسرة و القبيلة و المجتمع،و تترتّب عليهم جميع الحقوق المترتّبة على هذه العلاقة الجنسيّة المشروعة عند الجميع.

و لا ريب أنّ هذه العلاقة المشروعة تختلف مصاديقها عند المجتمعات و القوانين الوضعيّة،و الشرائع الإلهيّة،أو المذاهب المختلفة،فربّ عقد نكاح يكون مشروعا عند مذهب لا يكون كذلك عند آخر،نظير عقد النكاح المؤقّت، الذي يكون مشروعا في المذهب الشيعيّ الإماميّ،كالعقد الدائم،و إنّما المعتبر هو العقد المشروع مطلقا مع قطع النظر عن الخلافات.

2-الولد المتولّد عن طريق الاستمتاع الحاصل بين المالك و مملوكته،

الذي كان من الطرق المعروفة بين الناس مدّة طويلة،و إن لم يكن له في العصور الأخيرة أثر بعد إلغاء العبوديّة.و هذا النوع لا يختلف عن سابقه في أنّ الولادة تحصل عن الطريق الطبيعيّ،و هو الالتقاء الجنسيّ بين الرجل و المرأة.

3-ولد الشبهة،

و هو المتولّد من الارتباط الجنسيّ بين الرجل و المرأة لشبهة حاصلة لهما أو لأحدهما،كما إذا اعتقد الرجل أنّ المرأة زوجته أو حليلته، و يكون الولد المتكوّن عن هذا الارتباط الجنسيّ الخاصّ ولدا شرعيّا أيضا،و إن اصطلح عليه عند الفقهاء ولد الشبهة.

و الشبهة تنقسم إلى شبهة في العقد،بحيث توجد صورة العقد دون حقيقة.أو شبهة في الفعل،بأن يظن الحرام حلالا فيأتيه.أو شبهة في المحلّ،كما إذا وطأ امرأة في فراشه ظنّا منه أنّها امرأته فإذا هي أجنبيّة.و يجمعها قول

ص: 81

الفقهاء في تعريف وطء الشبهة بأنّه الذي ليس بمستحقّ واقعا مع عدم العلم بالتحريم .

كما أنّ الشبهة ربّما تكون من الطرفين،فيحكم بإلحاق الولد بكليهما.

و ربّما تكون من طرف واحد،فيلحق الولد به فقط،و يعدّ الولد شرعيّا من ناحية المشتبه فقط و يلحق به.

4-ولد الملاعنة،

فإنّه إذا تحقّقت شروط اللعان و تلاعن الزوجان درئ عنهما الحدّ،و انتفى الولد عن الرجل دون المرأة،و زال الفراش بينهما،و تحقّق التحريم بالمؤبّد،و هذه هي الأحكام الأربعة المعروفة الثابتة في اللعان.فالولد بعده لا يدعى لأبيه،و لكن لا يرمى بأنّه ابن زنا.و في حديث ابن عبّاس:«انّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله لما لاعن بين هلال و امرأته فرّق بينهما،و قضى أن لا يدعى ولدها لأب،و لا يرمى ولدها،و من رماها أو رمى ولدها فعليه الحدّ...» ،و لا يتحقّق التوارث بين الولد و الملاعن.

5-ولد الزنا،

و هو المتولّد من الالتقاء الجنسيّ بين الرجل و المرأة عن طريق غير شرعيّ أو قانونيّ،فهو و إن كان ولدا تكوينيّا لهما إلاّ أن الشرع أو القانون ينفي النسب عنه،فلا تثبت الأحكام الخاصّة به،

و هنا لا بدّ من التمييز بين النوعين من الأحكام المترتّبة على هذا القسم من الأولاد.

النوع الأوّل:و هي تلك الأحكام التي تترتّب على النسب التكوينيّ،

و هي كثيرة،منها:جواز النظر لكلّ واحد من الطرفين للآخر إذا اختلفا في الجنس، فيجوز للأب النظر إلى ابنته،كما يحلّ للأمّ النظر إلى ولدها،و إن كان متولّدا من السفاح.

و منها:حرمة النكاح،فلا يجوز للأب أن يتزوّج ابنته و إن كانت من

السفاح،كما لا يحلّ للأمّ أن تتزوّج بولدها كذلك،كما أنّه لو زنى بامرأتين-مثلا- فولد من إحداهما ذكر،و من الأخرى أنثى،فهما أخ و أخت،و لا يجوز الزواج بينهما .

النوع الثاني:الأحكام المترتّبة على النسب الشرعيّ،و أهمّها التوارث،

فإنّ التوالد من الزنا مانع من التوارث بين أطراف هذه العملية إن كان الزنا من الطرفين،فلا توارث بين الأب و الأمّ و الولد.و إلاّ انتفى التوارث من طرف الزاني فقط،لانتفاء النسبة شرعا في الزاني.

و قد عرفت أنّ الاستنساخ لم يكن من الزنا،فالولد الذي يتولّد عن هذه العملية ليس من أولاد الزنا.

6-الولد بالتبنّي الذي هو قديم جدّا،

و قد كان شائعا في عصر نزول القرآن الكريم،كما تدلّ عليه الآيات الكريمة،قال تعالى: وَ مٰا جَعَلَ أَدْعِيٰاءَكُمْ أَبْنٰاءَكُمْ ذٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوٰاهِكُمْ ،و قال تعالى: اُدْعُوهُمْ لِآبٰائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّٰهِ .

و قد اعتبرت المجتمعات في جميع المراحل التأريخيّة التبنّي من موجبات انتساب المتبنّى إلى المتبنّي،بل عدّه بعض التشريعات ولدا شرعيّا،و يعضده كثير من القوانين الوضعيّة،فتحكم بالتوارث بينهما،كما تمنع من الزواج بينهما.

و الظاهر أنّه لا يمكن اعتبار ولد الاستنساخ من هذا النوع،فإنّه تكاثر غير جنسيّ حاصل بين خلية جسميّة و جنسيّة،بينما الولد بالتبنّي خارج عن دائرة التكاثر،سواء كان جنسيّا أم جسميّا بين المتبنّي و المتبنّى.

7-الولد من زواج موهوم،

الذي هو أحد نوعي الزواج في بعض البلاد

ص: 82

الأوربيّة،فإنّ الزواج عندها إمّا كنسيّ أو عرفيّ الذي هو خلاف الأصول المعتمدة في الكنيسة،و يعدّ زواجا موهوما.

8-الولد بالولاية التشريعيّة التي تختصّ بها الكنيسة،

و بموجبها يمنح البابا حكما بإلحاق بعض الأولاد بآبائهم إذا كانت ولادتهم قبل زواج أبويهم.

كما أنّ بعض فرق المسيحيّة تعتبر اعتراف أبوي الطفل به-تصريحا أو تلميحا-بعد زواجهما من موجبات الإلحاق أيضا .

انتساب الولد المستنسخ إلى أبيه

و كيف كان،فإنّه يظهر من سرد تلك الأنواع أنّ الولد المستنسخ لا يدخل في أيّ واحد منها،فلا يمكن إثبات البنوّة الشرعيّة أو القانونيّة بين الولد النسيخ و صاحب الخلية،و لما عرفت من الاختلاف الموضوعيّ بين هذه العملية و سائر الأنواع.

اللهمّ إلاّ أن يثبت الانتساب بأحد الوجوه الأخيرة مثل التبنّي،و الولاية، و الرضاع و نحو ذلك،و لكن تلك لها أحكام خاصّة و حدود معينة،يفقد فيها عنصر الشمول و الاستيعاب.

مع أنّ الاستنساخ يختلف عن تلك موضوعا،فهو ولادة طبيعيّة حاصلة من التقاء الرجل و المرأة بطريق مشروع أو غيره،و الاستنساخ إنّما هو تكاثر لا جنسي،كما عرفت.

نعم،يبقى مورد واحد يمكن أن نجعله بابا للولوج فيه و تصحيح الانتساب به في عملية الاستنساخ.فقد ورد النصّ فيه في الفقه الإماميّ و عمل به الفقهاء،و حكموا بالانتساب من دون أن يكون التقاء جنسيّ بين الرجل و المرأة، و قبل بيان كيفية الاستفادة منه و جعل الاستنساخ من طرق الانتساب أيضا لا بدّ من إيراد النصّ لنرى مدى دلالته على المطلوب.

روى الكلينيّ في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال:«سمعت أبا جعفر

ص: 83

و أبا عبد اللّه عليهما السّلام يقولان:بينا الحسن بن عليّ عليه السّلام في مجلس عليّ عليه السّلام إذ أقبل قوم،فقالوا:يا أبا محمّد أردنا أمير المؤمنين.قال:و ما حاجتكم؟قالوا:أردنا أن نسأله عن مسألة،قال:و ما هي تخبرونا بها؟قالوا:امرأة جامعها زوجها فلما قام عنها قامت بحموتها-أي:بشهوتها-فوقعت على جارية بكر فساحقتها، فوقعت النطفة فيها فحملت،فما تقول في هذا؟فقال الحسن عليه السّلام:معضلة و أبو الحسن لها.و أقول:فإن أصبت فمن اللّه و من أمير المؤمنين،و إن أخطأت فمن نفسي،فأرجو أن لا أخطئ إن شاء اللّه:يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية في أوّل وهلة،لأنّ الولد لا يخرج منها حتّى تشقّ فتذهب عذرتها،ثمّ ترجم المرأة لأنّها محصنة،و ينتظر بالجارية حتّى تضع ما في بطنها و يرد الولد إلى أبيه صاحب النطفة،ثمّ تجلد الجارية الحدّ،فانصرف القوم من عند الحسن عليه السّلام فلقوا أمير المؤمنين عليه السّلام فقال:ما قلتم لأبي محمّد؟و ما قال لكم؟فأخبروه،فقال:لو أنّني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر ممّا قال ابني» .

و البحث حول النصّ يكون من وجوه:

الأوّل:أنّه صحيح السند،جامع لشرائط العمل،فلا قدح فيه من هذه الجهة.

الثاني:أنّه يدلّ على ثبوت الحدّ على طرفي المساحقة،و هو موضع وفاق بين العلماء على الإجمال.

أمّا حكم المساحقة(الكسر)،فإنّ صريح النصّ هو الرجم،و لكنّه موضع خلاف بين الفقهاء،و المشهور عند الإماميّة الجلد،ترجيحا لما دلّ عليه من النصّ و الإجماع،و طرحا للرواية المتقدّمة،و لا يضرّ تقطيع الرواية إذا كان هناك دليل يخالفها في حكم معين،كما في المقام.

و احتمل بعض العلماء العمل بالصحيح في مورده،فيحكم برجم المحصنة المساحقة التي جامعها زوجها و ألقت النطفة في رحم المرأة الأخرى.

و هو بعيد،لاشتمال النصّ على التعليل المقتضى للتعدية لكلّ محصنة، و هو موضع خلاف،كما عرفت.فيطرح في هذه الفقرة لمعارضته بروايات أخرى معتبرة تدلّ على جلد المساحقة،و لا ضير في ذلك،كما هو المعروف في الفقه.

و أمّا جلد الجارية فموضوع اتّفاق العلماء،لثبوت موجبه،و هو تحقّق السحق باختيارها،و تفصيل الكلام موكول إلى محلّه.

الثالث:ثبوت المهر للملوكة عن المساحقة لأنّها السبب في إذهاب العذرة،و ديتها مهر نسائها،و ليست زانية حتّى يسقط حقّها في دية العذرة،لأنّ الزانية قد أذنت في الافتضاض،و هي ليست كذلك.

الرابع:صريح النصّ في لحوق الولد بصاحب النطفة،و استدلّ الفقهاء عليه أيضا بأنّه ماء غير زان،و قد انخلق منه الولد فيلحق به شرعا،بل هو الموافق للعرف و اللغة،و قد خرج الزاني عنهما،فيبقى غيره .

و قد ناقش جمع من الفقهاء في ذلك،و لم يكتفوا في لحوق الولد شرعا بما ذكر ما لم يكن عن وطء صحيح أو شبهة،و ليس المقام منه،فذهبوا إلى أنّه ليس مطلق التولّد من الماء موجبا للنسب شرعا.

و لكن الإشكال ظاهر فيما ذكروه بعد ورود النصّ الصريح بالإلحاق، و جعل المناط في النسب الشرعيّ هو الاختلاق من الماء المحترم شرعا،فيخرج ماء الزاني الذي أسقط الشرع حرمته،الذي يدلّ عليه قول نبيّنا الأعظم في ما رواه الفريقان:«الولد للفراش و للعاهر الحجر» .

فيكون الوطء الصحيح أحد الوجوه الشرعيّة في ثبوت النسب،و هو أعمّها و أكثرها شيوعا،و الوجه الآخر هو الاختلاق من الماء المحترم شرعا،

كما هو صريح النصّ المتقدّم،و يدلّ عليه أيضا قول الصادق عليه السّلام:«إنّما الولد للصلب،و إنّما المرأة وعاء» .

فإذا كان المناط من الإلحاق ثبوت النسب،و هو الانخلاق من الماء،و قد خرج الزنا بدليل خاصّ،فيكون ولدا شرعيّا لصاحب الماء،و عرفيّا بحسب اللغة أيضا.

فيمكن التعدّي عنه إلى الاستنساخ،فإنّ الولد انخلق من خليته أيضا،و إنّ العلّة في ذلك هي تلك المورثات الموجودة في كلتا الخليتين الجنسيّة(الصلب) و الجسميّة،و ليست الصورة المائيّة لها الدخل في تكوين

ص: 84

الولد،بل المورثات، كما اكتشفته العلوم الحديثة،و لا سيّما الهندسة الوراثيّة،كما أنّ الوطء لم يكن العلّة التامّة في تكوينه،بل كان وسيلة لوضع تلك المورثات في المحلّ المناسب ليتمّ الخلق.

مضافا إلى أنّ الماء أو الصلب هو المحلّ المناسب لحفظ مقومات انتساب الولد لأبيه،و هذه الجهة محفوظة في الخلية الجسميّة أيضا،لوجود تلك المقومات فيها،فيحصل العلم بالمناط.

و بناء على ذلك،فالولد المتكوّن من الاستنساخ يلحق بصاحب الخلية، و يعتبر أبا له بمقتضى ما استفدناه من الروايات المتقدّمة.و قد علمت أنّ الخارج منها هو الزنا،و هو لا ينطبق على الاستنساخ كما عرفت.

و الحاصل أنّ البنوة التكوينيّة التي يكون المناط فيها مطلق حدوث شيء من شيء و خروجه منه،صادقة على الولد المستنسخ بلا ريب و إشكال، فيصدق أيضا على صاحب الخلية كونه أبا له.

كذلك تصدق البنوّة الخاصّة الشرعيّة،و القانونيّة تبعا لها،بعد تنقيح المناط،نظير ذلك ما ذكره الفقهاء في بحث الوضوء من أنّه لا يجوز للمحدث

ص: 85

مسّ كتابة القرآن،و ألحقوا به مسّ اسم اللّه و الرسول و الأئمة و سائر المعصومين عليهم السّلام،لتنقيحهم مناط الحكم من الاحترام الجاري من الموارد المذكورة،و ليس ذلك من القياس بشيء ،و لكن الاعتماد على تنقيح المناط يحتاج إلى العلم بالمناط و عمل الأصحاب.

هذا،و إنّ الذي نستفيده من عملية الاستنساخ هو إثبات البنوّة الخاصّة- أي:الشرعيّة-ليتحقّق الانتساب بين الولد و صاحب الخلية حتّى يكون أبا له،و لا تكفي البنوّة التكوينيّة،فإنّها ثابتة في ولد الزنا،و ولد الملاعنة.

و على ضوء ما ذكرنا يتبيّن فساد ما ذكره بعض الباحثين من أنّ البنوّة الشرعيّة و العرفيّة و القانونيّة أعمّ من البنوّة التكوينيّة،هذا لو حكمنا باختصاص التكوينيّة بالمولود من الطرق المتعارفة .

فإنّه أوّلا:لا وجه لجعل البنوّة الشرعيّة و العرفيّة و القانونيّة أعمّ،و البنوّة التكوينيّة أخصّ،بأن تكون مختصّة بالمولود من الطرق المتعارفة،بل هي تشمل الجميع،كما عرفت آنفا.لأنّ البنوّة الشرعيّة أو القانونيّة تختصّ بتلك التي يجب توفّر الشروط المعتبرة فيها،و منها أن لا تكون عن وجه محرّم،فكيف تكون أعمّ من البنوّة التكوينيّة؟!

و ثانيا:و على فرض التسليم،إنّ الذي يفيدنا إنّما هي البنوّة الشرعيّة الخاصّة لإثبات النسب الصحيح بين الفرد النسيخ و صاحب الخلية،و الأمّ حاملة تلك النطفة،حتّى يصبح ابنا لصاحب الخلية و هو أب،و هي الأمّ.

و أمّا البنوة القانونيّة،فهي تابعة للبنوة الشرعيّة،لا سيّما تلك البلاد التي تعتبر الشرع مصدر قوانينها في الأحوال الشخصيّة.

و أمّا البنوّة العرفيّة،فقد عرفت الحال فيها.

انتساب الولد المستنسخ إلى أمه

الأمومة إذا رجعنا إلى معاجم اللغة و كتب الفقهاء يظهر أنّ كلمة الأمّ تأتي بمعنى أصل كلّ شيء .و عليه فلا ريب في صدقه على المرأة التي تولّد منها الفرد المستنسخ صاحبة البويضة،و لا شكّ في كونها أمّا له،و لما لم يكن الاستنساخ من الزنا المحرّم،فإنّه تثبت الأمومة لها و يتحقّق النسب بينهما شرعا.

و لا نحتاج إلى سرد المصاديق المتعدّدة للأمومة،كالأمّ الشرعيّة،و هي التي تحمل من زواج شرعيّ،و الأمّ الرضاعيّة،و الأمّ بالاحترام التي تنحصر بزوجات الرسول صلى اللّه عليه و آله،و الأمّ الحاملة،و الأمّ باللعان.

فإنّه بعد صدق الأمّ التكوينيّة عليهنّ و اشتراك كثير منهنّ في الأحكام-إلاّ النسب الشرعيّ و الإرث اللذين يختصّان بالأمّ الشرعيّة-لا فائدة فيه،فلا يجوز الاقتران بها من قبل ولدها المستنسخ الذي تكوّن من بويضتها و نما و ترعرع في رحمها و تولّد منها،كما أنّه يمكن إلحاقه بها شرعا و يثبت النسب بينهما أيضا، و يصحّ الاستدلال على ذلك بأمور:

الأوّل:ما تقدّم من معنى الأمّ الذي يصدق عليها،بلا ريب.

الثاني:إنّه مع الولادة و عدم صدق الزنا يكفي في إلحاق الولد بالأمّ و اعتبار كونها أمّا له ،و الإشكال عليه بأنّه يستلزم كون الإنسان بحكم الحيوان،و من المعلوم الفرق بينهما بمشروعية النكاح في الإنسان دونه.

و يمكن الجواب عنه بأنّه لا دليل على كون الإنسان بحكمه في ذلك،كما هو واضح،فإنّ النسب في الإنسان لم ينحصر بما ذكر حتّى يكون بحكم الحيوان، بل فيه شروط معيّنة لا يحتاج توفّرها في الحيوان.

الثالث:النصّ المتقدّم الذي ورد فيه:«إنّما الأمّ وعاء»،فإنّ هذا العنوان ينطبق على الأمّ التي حملت الفرد المستنسخ.

الرابع:أنّ العنوان الذي ثبتت به البنوّة بين الفرد المستنسخ و بين صاحب الخلية ينطبق على المرأة صاحبة البويضة أيضا،فراجع.

ص: 86

و الحاصل أنّه لا ينبغي الشكّ في صدق الأمّ التي تكوّن الفرد النسيخ منها، و صاحبة البويضة التي حملته و أولدته.

و استدلّ بعض الباحثين على نفي الأمومة عنها بقوله تعالى: اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسٰائِهِمْ مٰا هُنَّ أُمَّهٰاتِهِمْ إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ إِلاَّ اَللاّٰئِي وَلَدْنَهُمْ ،

باعتبار أنّ القيد يدلّ على حصر الأمومة بالولادة عن الطريق الطبيعيّ المألوف، و الفرد المستنسخ لم يكن كذلك،فلا تثبت الأمومة،و لا تترتّب عليه الأحكام الشرعيّة.

و الحقّ أنّ الآية الشريفة ظاهرة في أنّ الزوجة بمجرّد قول الزوج لها: «أنت عليّ كظهر أمّي»لا تصير أمّا له،و إنّما أمّهاتهم اللائي ولدنهم،فليست هي في مقام بيان نفي الأمومة التكوينيّة التي منها أمّ الفرد المستنسخ.و من المعلوم أنّ الاستنساخ لا يمنع من انطباق عنوان الولادة بعد ما انتقلت البويضة المخصّبة بالخلية الجسميّة إلى صاحبة البويضة،و حملها و ولادته.

و ممّا ذكرناه يظهر أنّه لا حاجة إلى التماس دليل خاصّ لإدراج أمّ الفرد المستنسخ في بعض المصاديق المتقدّمة،فإنّ ذلك من التطويل بلا طائل.

كما أنّ اعتبار كون الرابطة بين الفرد المستنسخ و الأمّ أقوى من أيّ ولد، لأنّه نسخة طبق الأصل .

فلم يعرف له وجه صحيح،فإنّ الأمومة إذا انطبقت على امرأة بعد تحقّق

شروطها و مقوماتها التي منها الرابطة الخاصّة التي تكون بين الأمّ و ولدها،من دون فرق بين الأفراد،بل قد تكون في المتولّد من الزنا أقوى،مع أنّ الشريعة الغراء لا تقرّ بالنسب بينهما و إن كانت أمّا تكوينيّة له،و ما هو النافع في هذا البحث هو الأوّل دون الأخير.

و كيف كان،فقد ثبت من جميع ما ذكرنا النسب الشرعيّ بين الولد المستنسخ و والديه،و هو يقتضي ترتّب أحكام خاصّة،و هي:

1-حرمة النكاح،

فلا يجوز للأب الاقتران بابنته المستنسخة-على فرض تحقّق مثل هذا الفرض-كما لا يجوز للأمّ الاقتران بولدها المستنسخ،و كذا لا يجوز للأخ الاقتران بأخته المستنسخة،و غير ذلك ممّا حرّمه الشرع المبين،كما ستعرف.

2-ثبوت النسب

بين الفرد المستنسخ و بين بقية أفراد الأسرة،كالإخوة.

3-ثبوت التوارث بين الفرد المستنسخ و من يثبت نسبه شرعا،

فالأب يرث ابنه،كالعكس،كما يثبت بينه و بين إخوته،و سائر أقاربه،كما هو مفصّل في الفقه.

و لتوضيح ذلك و ما يمكن أن يستدلّ عليه،و ما يثار من التساؤلات و الجواب عنها،لا بدّ من بسط الكلام في كلّ واحد من تلك الأحكام المتقدّمة.

الزواج بين أطراف عملية الاستنساخ

تقدّم في بداية هذا الفصل بعض تقسيمات الأحكام الشرعيّة التي منها الأحكام التأسيسيّة و الأحكام الإمضائيّة،و عرفت الفرق بينهما،و أنّ غالب العقود الدائرة في المجتمع هي من القسم الأخير،فقد أمضاها الشرع المبين إلاّ إذا أضاف إليها قيدا أو شرطا أو حذف منها كذلك،فلا بدّ من اتباعه حينئذ فيما قرّره.

ص: 87

و من جملتها عقد النكاح الذي يعتبر من أهمّ العقود الاجتماعيّة،فهو يلبّي أهمّ غرائز الإنسان،و يحفظ كيانه و نسله،و قد قرّره الشرع الإسلاميّ في أروع تشريعات خاصّة و أدقّ الأحكام التي شرّعها في هذا الموضوع المهمّ.

و تقرير الإسلام لعقد النكاح و إمضاؤه له إنّما يكون من وجهين:أحدهما يرجع إلى المسلمين مع الشروط المعيّنة،و الآخر يرجع إلى غيرهم،فقرّر ما هو المعمول في سائر المجتمعات و الأديان،سواء كانت إلهيّة أم وضعيّة، فقال صلى اللّه عليه و آله:«إنّ لكلّ قوم نكاحا» .

و من جملة التشريعات أنّه حرّم نكاح جملة من النساء ممّن ذكر هنّ اللّه عزّ و جلّ في محكم كتابه،فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ وَ عَمّٰاتُكُمْ وَ خٰالاٰتُكُمْ وَ بَنٰاتُ اَلْأَخِ وَ بَنٰاتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اَللاّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ اَلرَّضٰاعَةِ وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ وَ رَبٰائِبُكُمُ اَللاّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسٰائِكُمُ اَللاّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلاٰئِلُ أَبْنٰائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاٰبِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّٰ مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً*`وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ .

و قد تضمّنت هذه الآيات المباركة جملة من الأحكام الاجتماعيّة التي تحدّد مسئولية الفرد تجاه التزاوج و النسل،و تبيّن النكاح المحلّل الصحيح عن النكاح المحرّم الفاسد تهذيبا للشهوة العارمة،و جعلها في المسار الصحيح، و تصحيح النسل،كما حدّدت الآيات ما يحرم من النكاح من النساء بعد بيان كيفيّة المعاشرة مع الأزواج في آيات أخرى سابقة.

و قد احتوت على نوعين من الأحكام،أحدهما يرجع إلى ما هو المحرّم من النكاح،و الآخر يتعرّض لما هو الجائز منه،و الحلال من الزواج.

و تعتبر تلك الآيات المباركة أجمع الآيات التي وردت في هذا الموضوع، و هي أساس جملة من الأحكام التشريعيّة التي ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة، و قد جمعت كلّ مقومات التشريع،و دلّت على أنّ المطلوب في كلّ نكاح تحصين النفس و التعفّف دون الابتذال و سفح الماء من غير غاية سوى تلبية الشهوة العارمة،و من ذلك يتبيّن روح الشريعة في هذا الحكم الإلهيّ.

و من الجدير بالذكر أنّ جملة من المحرّمات المذكورة فيها ممّا حرّمته الشرائع الإلهيّة و كثير من المجتمعات،بل يمكن القول بأنّ تحريم الأصول و الفروع بالنسبة إلى الرجل ممّا حرّمه العقل أيضا.فقد أثبت علماء الطبيعة و مهرة خواص الآثار أنّ اتصال الفرع بالأصول أو بالعكس يستلزم حدوث مفاسد و مضار،لهم في ذلك أدلّة و شواهد في النباتات و الحيوانات،و نسبوا بعضا إلى فلاسفة اليونان و غيرهم.و تحريم الأمّ على الابن،و البنت على أبيها، أو الأخت على الأخ داخل فيما ذكروه،و لعلّ العلوم الطبيعيّة الحديثة تكشف النقاب عن بعض الآثار .

و قبل بيان ما يمكن الاستشهاد به في إثبات المطلوب،لا بدّ من بيان أمور:

الأوّل:الآيات المباركة المتقدّمة تضمّنت أنواعا من المحرّمات في النكاح، و هي:

المحرّمات النسبيّة،كالأمّهات،و البنات،و الأخوات،و العمّات،و الخالات، و بنات الأخ،و بنات الأخت.

و المحرّمات بالمصاهرة،كزوجة الأب،و أمّهات الأزواج،و الربائب، و حلائل الأبناء،و الجمع بين الأختين.

و المحرّمات بالرضاع،كالأمّ،و الأخت الرضاعيّة،و ذكرهما بالخصوص للدلالة على أنّ الحال في الرضاع،كالحال في النسب،و يدلّ عليه قول نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .و الإطلاق فيه لا بدّ من تقييده بما ورد في السنّة من الشروط،بل لكلّ واحد من تلك الأنواع شروط معينة ليس المقام مورد ذكرها.

الثاني:أنّ القيد المذكور في قوله تعالى: مِنْ أَصْلاٰبِكُمْ لا مفهوم له، و لأجل ذلك يثبت الحكم لحليلة الابن من الرضاع على الأب أيضا،لقوله صلى اللّه عليه و آله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

كما أنّه يمكن التعدّي أيضا إلى الولد المستنسخ،لما تقدّم من الاستدلال بتنقيح المناط و عدم الموضوعيّة لخصوص النطفة،بل هي طريق لحفظ مقومات الأبوة،و كينونة الأب،و هذا ما يتحقّق في الخلية الجسميّة و عملية الاستنساخ أيضا.

ص: 88

الثالث:المراد من الأبناء في قوله تعالى: وَ حَلاٰئِلُ أَبْنٰائِكُمُ ،كلّ من انتسب للإنسان بولادة،سواء كان مباشرة و بدون واسطة أم معها،كابن الابن و ابن البنت،أي:أولئك الذين يسمّون بأولاد الصلب،مقابل التبنّي الذي كان شائعا في عصر نزول القرآن الكريم،فقد كانوا يعاملونه معاملة الولد الصلبيّ في كلّ ما يترتّب على النسب من الآثار،كالخلطة،و الخلوة،و عدم الحجاب و نحو ذلك،و قد أبطل الإسلام تلك العادة.

ثمّ إنّه ذكر سبحانه المحرّمات النسبيّة في أصناف:

الأوّل:الأمّهات.و الأمّ هي كلّ امرأة ولدتك،و هذا العنوان ينطبق على أمّ الفرد المستنسخ أيضا،و لما لم يكن الاستنساخ من الزنا،فإنّه يثبت النسب بينهما شرعا،و يترتّب عليه جميع ما يترتّب على النسب الشرعيّ من الأحكام و الآثار،و سيأتي مزيد بيان.

الثاني:البنات.البنت هي كلّ بنت يرجع نسبها إليك بلا واسطة أو معها.

و بعبارة أخرى:كلّ أنثى ولدتها،أو ولدت ممّن ولدتها .

و العموم يشمل البنت المولودة من الطريقة الشرعيّة،و غيرها كالمولودة من الزنا،لصدق البنت عليها.

و قد علمت سابقا أنّ قوله صلى اللّه عليه و آله:«الولد للفراش و للعاهر الحجر»في مقام بيان نفي آثار النسب الشرعيّ و فوائده عند الشكّ و التردّد،لا نفي الحقيقة و جميع الآثار المترتّبة على الولادة التكوينيّة.

و على ضوء ما ذكرناه سابقا في معنى الولد من أنّه شيء يتولّد من الشيء كابن الإنسان،يتّضح أنّه لا فرق بين الابن و البنت،فتدخل البنت المستنسخة ضمن الآية الكريمة و تشملها أيضا،كما يأتي أيضا مزيد بيان.

الثالث:الأخوات.و الأخت هي كلّ أنثى ولدها شخص ولدك بلا واسطة، و العموم يشمل كلّ أقسامها،الأخت من الأبوين،أو من الأب،أو من الأمّ.

الرابع:العمّات،و العمّة كلّ أنثى هي أخت لذكر تنتسب إليه بالولادة منه بواسطة أو بدونها.و العموم يشمل الأقسام الثلاثة المتقدّمة في الأخت.

الخامس:الخالات.و الخالة كلّ أنثى هي أخت لأنثى تنسب إليها بالولادة منها،فهي تقابل العمّة.

السادس:بنات الأخ،و العنوان يشمل فروعهن أيضا.

السابع:بنات الأخت،و يشمل فروعهن أيضا.

و هذه الأصناف السبعة هي التي وردت في الآية الكريمة التي تحرّم مؤبّدا على الرجل،بعضهن أصوله و هي الأمّ،و أخرى فروعه و هي البنت،و ثالثة من الحواشي القريبة،و رابعة من الحواشي البعيدة.

و الآية نصّ في الحكم لا تقبل النقاش و التأويل،و العناوين المأخوذة فيها معروفة عند العرف،فلا غموض في دلالتها.

إنّما الكلام في الفرد المستنسخ الذي هو موضع جدل و نقاش في تحقّق انتسابه إلى طرفي عملية الاستنساخ.

و لكن،بعد ما قدّمناه يتّضح الحكم فيه،و نقول بشمول الآية الكريمة له، فيحرم على الرجل الاقتران بالبنت المستنسخة منه-على فرض إمكانه، فالمعروف أنّ الرجل لا يمكن أن تستنسخ منه بنت-نعم يمكن فرض ذلك في ما إذا كانت مستنسخة من زوجته أو أنثى أخرى،و حملت بها زوجته فتكون بنتا له تبعا ،و إن كان ذلك خارجا عن مفروض البحث الذي هو فيما إذا كانت الخلية الجسميّة من الزوج،و البويضة من زوجته.و ممّا يهون الأمر أنّ البحث كلّه مبني على الفرض و التخمين،فإنّ استنساخ البشر ما زال في بدايته،كما أنّ التقنيات المستعملة فيه بدائيّة أيضا.

و كيف كان،فإنّ إطلاق البنت على المرأة المستنسخة صحيح،و يتحقّق النسب الشرعيّ بينها و بين أبيها و أمّها،كما عرفت آنفا.

ص: 89

و الإشكال المعروف في المقام من وجهين:

الأوّل:أنّ المتولّد من الاستنساخ إنسان ليس له نسبة مع أحد،مثل المخلوق من العدم،أو من التراب،فلا بأس بالنكاح و الاقتران معه،سواء كان رجلا أم امرأة.

و أجاب بعض الباحثين عنه بأنّ النكاح مبنيّ على الاحتياط،و أنّ الشكّ في صحّة النكاح يوجب عدمها،فلا بدّ من الاجتناب عنه في مثل هذا الفرض المبحوث عنه.

و الحقّ أنّ ما ذكره غير تامّ،فالنكاح و إن كان مبنيّا على الاحتياط،و لكن ذلك لا ينطبق على ما ذكره من الأمثلة،فإنّ الاحتياط إنّما يكون حسنا إذا كان هناك شبهة أو شكّ و تردّد في المورد،و إلاّ فلا وجه لحسنه.

و الأمثلة التي ذكرها لم يكن فيها شبهة حتّى يحسن الاحتياط معها،فإذا

ص: 90

خلق الباري عزّ و جلّ امرأة من العدم و لم يكن مانع من الاقتران معها،لا وجه للاحتياط حينئذ.كذلك إذا لم يكن للفرد المستنسخ نسبة مع أحد،فهو كالمخلوق من العدم،فلا شبهة حينئذ.

نعم إذا احتملنا ثبوت النسبة،كان الاحتياط حسنا،بل يجب إذا كان الاحتمال قويا،فلا يصحّ للأب النكاح كما لا يجوز الاقتران معه.و هذا هو الذي أردنا إثباته آنفا.

الثاني:أنّ الشبهة التي تكتنف الفرد المستنسخ هي من قبيل الشبهات المفهوميّة،بمعنى الشكّ في تحديد مفهوم البنت و أنّ المراد منه المتولّدة بالصورة الطبيعيّة الحاصلة عن طريق الاتّصال الجنسيّ و التلاقح بين النطفتين -حيامن الرجل و بويضات المرأة-أو أنّ المراد من البنت كلّ ما يتولّد من المرأة المتزوّجة،سواء كان بطريق متعارف أم لا.و السبب في ذلك هو أنّ المتبادر إلى الذهن من الابن و البنت الإنسان المتكوّن من التلاقح بين ماء الرجل و بويضة المرأة،فلا يشمل الاستنساخ،فالشبهة تكون أقرب إلى الشبهة المفهوميّة دون المصداقيّة التي ترجع إلى عدم معرفة حقيقة الفرد المستنسخ،لأنّ حقيقته بمكان من الوضوح،فهو إمّا رجل أو امرأة .

فالمشكلة إن كانت موجودة فهي ناشئة من عدم وضوح مفاهيم هذه الكلمات،مثل مفهوم الولد،و البنت،و الابن،فهل المراد منه كلّ من ينتزع من الإنسان،و من تعود خلقته إلى الإنسان،و يكون الولد منسلا منه،بحيث يعود إليه بحسب الخلقة،أو خصوص الإنسان المتكوّن من الحيامن و البويضة.

فإذا رجعنا إلى النصوص الشرعيّة التي منها الآية الكريمة المتقدّمة نرى بوضوح أنّ فيها عمومين،أحدهما:عمومات التحريم التي تدلّ على حرمة اقتران الأب بابنته المستنسخة و الأمّ بولدها كذلك،و الأخ بأخته النسيخة.

و الثاني عمومات الحليّة،كقوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ ،التي تدلّ على الحليّة و عدم حرمة الاقتران بما ذكر.

و ذلك لأنّ اللغة لا تأبى الانطباق على كلا المفهومين،بينما النصوص الشرعيّة لم تتضمّن تحديدا معينا لكلمة الولد و الأخ،و الأخت،و الأمّ،و الأب، فتكون الشبهة مفهوميّة.و لا ريب أنّ إجمال الخاصّ يؤثّر في العامّ إذا كانا متّصلين،فلا يمكن استفادة الحكم منها،أي:أنّ الفرد المستنسخ عن طريق الاستنساخ لا يشمله العامّ،لأنّ الخاصّ قرينة على عدم تعلّق الإرادة الجديّة بالعامّ،بل الخاصّ المتّصل يعتبر امتدادا للعامّ،فيتوقّف ظهوره عليه،كما لا يمكن الجزم بشمول الخاصّ له،لأنّ الشبهة في مفهوم الخاصّ.

و الحاصل أنّه لا يمكن التمسّك بالنصوص الشرعيّة و الاستدلال بها في مورد البحث،فلا يمكن الحكم لا بالتحليل و لا بالتحريم على ضوء النصوص .

و الصحيح أن يقال:إنّ مفهوم الولد و البنت و الابن من المبيّنات لغة و عرفا و شرعا،إذ ليس للأخير اصطلاح خاصّ فيه،و إنّما اعتبر في صدقه الشرعيّ شروط معيّنة بأن يكون الولد متكوّنا عن طريق النكاح،لا السفاح ليثبت النسب الشرعيّ بينهما،و إلاّ كان الولد منسوبا إليه تكوينا لا شرعا،كما عرفت سابقا، فلا إشكال في مفهوم البنت.

نعم،إن لم يمكن إثبات مشروعية الاستنساخ فلا يثبت النسب الشرعيّ بين الرجل صاحب الخلية و الولد،لا نفي مفهوم الولد عنه و لو تكوينا،فيصحّ لنا التمسّك بعموم قوله تعالى: وَ بَنٰاتُكُمْ في حرمة النكاح،و إن كانت البنت مولودة عن عملية الاستنساخ.

و من ذلك يظهر أنّ إدراج الشكّ في المقام في إحدى الشبهتين-المصداقيّة و المفهوميّة-غير صحيح،بل الموضوع واضح في هذه العملية،و إنّما الإشكال في ثبوت النسب الشرعيّ بينهما.

فليست الشبهة فيه مصداقيّة باعتراف الجميع،إذ ليس الشكّ ناشئا عن عدم معرفة حقيقة هذه المرأة المستنسخة.

و لا مفهوميّة،إذ لا شكّ في كون الفرد المتولّد عن هذه الطريقة هو ولد إمّا بنت أو ابن،و عموم الآية الكريمة يشمل هذا الفرد المشكوك نسبه شرعا، المعلوم انتسابه تكوينا.

ص: 91

و الحاصل أنّه لا إشكال في صحّة التمسّك بالآية الكريمة المتقدّمة و الحكم بحرمة اقتران الأب صاحب الخلية الجسميّة،و ابنته المستنسخة،كما يحرم اقتران الأمّ صاحبة البويضة مع ابنها المستنسخ،كما لا يجوز الاقتران بين الأخ و أخته المتولّدة عن هذه الطريقة.

نعم،حرمة النكاح لا تستلزم ثبوت النسب الشرعيّ بين الأب و البنت، و الأمّ و ابنها،و الأخ و أخته،إذ التفكيك بينهما واضح،كما في المتولّد من السفاح، فلا خفاء في تحديد حكم هذا الفرد المستنسخ من جانب النصّ الشرعيّ الذي هو نصّ في العموم،بحيث يشمل المورد.

فلا تصل النوبة إلى التمسّك بالأصول العمليّة،كما ذهب إليه الباحث المذكور ،سواء كان الأصل هو استصحاب عدم تأثير العقد و الحكم بحرمة النكاح،أم البراءة و الحكم بحليّة النكاح.فإنّه لا أساس علميّ للرجوع إليهما،و إن كان الأخير باطلا من وجوه متعدّدة.فإنّه مع وجود الدليل لا يصحّ الرجوع إلى الأصل،فإنّ الأوّل مقدّم على الأخير على كلّ حال،كما هو المعروف الثابت في علم الأصول.

على أنّ ما ذكره بعض الباحثين في كيفيّة الرجوع إلى الأصل موضع نقاش،سواء كان الأصل البراءة الشرعيّة،أم الاستصحاب كما هو مختاره ، فإنّ في كلامه مواضع للنظر ليس المقام مورد ذكرها.

و الحاصل أنّ الدليل الشرعيّ يقتضي حرمة الاقتران بين الأب و ابنته المستنسخة،و هي الموافقة لقاعدة الاحتياط التي أطبق الفقهاء على إجرائها في الأعراض و الأموال و الدماء.و يؤيّد ذلك أيضا الأصل الجاري في عقد النكاح الحاصل بينهما بعد الشكّ في تأثيره.

فإنّ مقتضاه عدم ترتيب الأثر على كلّ عقد يشك في تأثيره لجهة من الجهات،فيعضد الأصل العمليّ الدليل أيضا.

التوارث و الاستنساخ

الإرث من أهمّ الموارد الاجتماعيّة الذي له العموميّة و الشمول،و لا يخلو منه مجتمع من المجتمعات و لا ينفكّ عنه فرد من الأفراد،و قد تسابقت المجتمعات كافّة و الأديان الإلهيّة و الوضعيّة في وضع القوانين و التشريعات الخاصّة في هذا الموضوع المهمّ،لكن الإسلام قد سبقها كلّها في وضع أدقّ القوانين و أروع التشريعات التي تبتني على قواعد حكيمة و أصول واقعيّة تتكفّل جميع ما يرتبط بهذا الحكم التشريعيّ.

فقد قسّم المنتسبين إلى الميت إلى طبقات،تبتدئ بالأقرب منهم إلى الأبعد، و لا يرث الأخير إلاّ بعد فقد الأقرب،و جعله الفقهاء قاعدة يعتمدون عليها في باب الإرث،فقالوا:الأقرب يمنع الأبعد.و استدلّوا عليها بقوله تبارك و تعالى:

وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ .

كما أنّه سنّ تشريعا خاصّا وفق نظام دقيق حكيم،حيث جعل فريضة الرجل ضعف فريضة الأنثى،تطبيقا لقوله عزّ من قائل: يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ ،حفظا لدور كلّ من الذكر و الأنثى في الحياة،و المهمّة الملقاة على عاتق كلّ واحد منهما في الاجتماع.و إذا أردنا البحث حول ما وضعه التشريع الإسلاميّ في هذا المجال لطال بنا الكلام و خرجنا عن المقصود الذي وضع لأجله هذا الكتاب.

و المهمّ هو البحث عن تحقيق التوارث بين أطراف عملية الاستنساخ من الفرد المستنسخ و أبويه،و سائر أقاربه،فإنّه لا يخرج عن أحد العناوين المأخوذة في أدلّة الإرث،فهو إمّا أن يكون ابنا،أو بنتا،أو أختا،أو أخا.

و على ضوء ما ذكرنا من البحوث السابقة فإنّ الكلام لا يخرج عن أحد احتمالين:

الاحتمال الأوّل:أن يثبت كون الفرد المستنسخ ولدا شرعيا منسوبا إلى والديه،و يكون فردا من أفراد الأسرة الشرعيّة،فهو كسائر الأفراد الذين يتولّدون عن الطريقة المألوفة،و قد عرفت أنّ هذا الاحتمال هو الحقّ المطابق للأدلّة الشرعيّة.

و حينئذ لا ريب في شمول إطلاقات أدلّة الإرث و عموماتها له، كقوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ ،فيثبت له حصّته من تركة مورثه،فإن كان الفرد المستنسخ ذكرا فله ضعف نصيب الأنثى،و إن كان أثنى فلها نصف ما يستحقّه الذكر،لعموم قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ ،و غيره من العمومات.

ص: 92

الاحتمال الثاني:عدم ثبوت النسب الشرعيّ،فلا يصحّ لنا التمسّك بالعمومات المتقدّمة،لعدم إحراز الموضوع،و يعتبر العلماء التمسّك بالعامّ في مثل ذلك من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة المجمع على عدم صحّته .

و ليس الموضوع هو مطلق الولد ليدخل تحت العموم المذكور،فإنّ الإرث في الشرع الإسلاميّ يختصّ بالعنوان الخاصّ منه،و هو الذي ثبت نسبه شرعا و لم يكن فيه من موانع الإرث المعروفة،و إلاّ فلا يرث لجملة من الأدلّة،مثل قوله صلى اللّه عليه و آله:«الولد للفراش و للعاهر الحجر» .و من هنا إذا لم يثبت هذا العنوان الخاصّ و كان مشكوكا،فلا يصحّ لنا التمسّك بالعامّ،لما هو المعروف من أنّ القضية لا تتكفّل إلاّ بيان الحكم للموضوع من دون دلالة لها على أنّ الفرد المشكوك من مصاديق الموضوع.

و لو كنّا نحن و أدلّة الإرث و الاستنساخ-الموضوع الجديد-الذي يدور أمره بين الاحتمالين المزبورين،فإنّ الباحث لا يخرج عن طريق الصواب إذا أردنا الاحتياط فيه و جعل حصة من التركة للفرد المستنسخ مثل سائر أفراد أسرته الذين يرثون من مورثهم،حتّى لا يحرم من يحتمل فيه أن يكون ولدا واقعيّا،و يمكن لنا تصوير الاحتياط في وجوه:

1-تبرّع والد الفرد المستنسخ إليه مقدار ما يمكن أن يرثه بعد موت الوالد، مشترطا عليه أن يتنازل عن حصّته و لا ينازع بقية الورثة في حصصهم من التركة،و ليكن هذا الشرط ضمن عقد لازم واجب الوفاء عليه،فلا يجوز له معارضتهم في تركة مورثهم.

2-وصية الأب أن يعطى لولده المستنسخ مقدار ما يستحقّه من التركة واقعا،فيخرج الموصى به من الثلث و يدفع له بعد موت الوصي،فمثلا إذا كان

هذا الفرد المستنسخ ذكرا و كان له أخ متولّد عن الطريق المألوف،فإنّه بعد الوصية من أبيهما يعطى للابن المستنسخ من ثلث التركة-الذي يختصّ به المتوفّى-مقدارا يساوي حصّة أخيه غير المستنسخ،و هكذا إذا كان بنتا و لها أخت كذلك فإنّه يدفع لها بمقدار حصّة الأخت من الثلث بعد الوصية.

3-تنازل كلّ واحد من الورثة عن المقدار الزائد عن حصّته المقرّرة لو كان الفرد المستنسخ أحد الورثة،فيرث بمقدار حصصهم.

و غير ذلك من الوجوه التي يمكن حفظ حقّ الفرد المستنسخ من الإرث.

و تلك الوجوه توافق الاحتياط و يحفظ بها حقوق الأطراف جميعا،و لم يكن فيها أيّ نوع من التجاوز على النصوص الشرعيّة،و تنحلّ المشكلة التي يمكن أن تثار في هذا الموضوع.

الخلاصة

إنّ عملية الاستنساخ و إن كانت من الموضوعات الحديثة التي لم يكن لها ذكر في النصوص الإسلاميّة و أدلّة الشرع الحنيف،إلاّ أنّه يمكن لنا استنباط حكمها من العمومات و الإطلاقات و تطبيق القواعد الفقهيّة عليها،و قد عرفت أنّ من أهمّ الأدلّة التي يمكن بها إثبات مشروعيّة عملية الاستنساخ هو استنباط المناط من الأدلّة الشرعيّة و تنقيحه،و هو من الأدلّة الذي اعتمد عليه الفقهاء في جملة من الموارد مع الشروط الخاصّة،منها:العلم بالمناط حتّى لا يدخل في القياس الذي لا يقول به كثير من المذاهب،و منها الإماميّة.

و قد عرفت أنّ المناط المستفاد من الأدلّة الواردة في باب النكاح و الأولاد من الفقه التي منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:«إنّما الولد للصلب و المرأة وعاء» ،هو حفظ مقومات كينونته،و تعود خلقته إليه،و هذا المناط موجود

ص: 93

في الخلية الجسميّة التي هي قوام عملية الاستنساخ جزما،فلا بدّ أن يلحق الولد المتكوّن من الاستنساخ إلى صاحب الخلية،و يكون هو والدا له،و يترتّب على هذا الحكم جميع ما يترتّب على النسب الشرعيّ،و هي:

1-ثبوت المحرميّة بين الأب و بنته المستنسخة،و الأمّ و ابنها،و كذا بين سائر أفراد الأسرة من الإخوة و الأخوات.

2-حرمة النكاح،فلا يجوز للأب الاقتران بابنته،و الأمّ بابنها،و الأخ بأخته.

3-ثبوت التوارث بين أفراد الأسرة الواحدة،فيرث الأب من ولده المستنسخ،و بالعكس.

هذا كلّه بالنسبة إلى أصل هذه العملية مع قطع النظر عن العوارض الطارئة،فإنّه قد ينقلب الحكم الأوّليّ إلى الحكم الثانويّ،كما هو الشأن في سائر الأحكام الشرعيّة إذا عرض عليها عنوان طارئ،كالاضطرار،و الضرورة، و العسر و الحرج،و غيرها .فإذا ثبت أنّ الاستنساخ أدّى إلى تلك المفاسد التي ذكرناها في الفصل السابق،فإنّه لا ريب في ثبوت الحرمة و انقلاب الحليّة فيها إليها.

و لكن الحرمة هذه لا توجب انقلاب النسبة الشرعيّة إلى غير الشرعيّ لو خالف أحدهم الحكم الثانويّ،يشبه بذلك حرمة الاقتراب أثناء فترة الحيض،فإنّ الزوج إذا تجرّأ و خالف الحكم الإلهيّ و قارب زوجته في تلك الفترة،و حملت و ولدت فإنّ الولد منسوب إليهما شرعا،و الحرمة العرضية لا توجب إلحاقه بالزنا.و سيأتي مزيد بيان.

و لا بدّ أن يعلم أنّ جميع ما ذكرناه يختصّ بما إذا كان كلّ واحد من الأب و الأمّ و الولد متميّزا من غيره،كما إذا أخذت الخلية الجسميّة من الرجل، و البويضة من المرأة،و بعد التلقيح توضع النطفة المخصبة في رحم صاحبة البويضة حيث تلد الولد المستنسخ.و أمّا الأقسام الأخرى غير ذلك فلها أحكام أخرى سوف نبحث عنها.

حكم صور الاستنساخ

ذكرنا في الفصل الأوّل صور الاستنساخ و أنواعه و حالاته،أمّا صوره فهي:

الأولى:الاستنساخ من النبات:

فالظاهر أنّه لا إشكال في الجواز لأيّ غرض كان،إلاّ إذا استلزم محرّما فيحرم حينئذ.

و الدليل على هذا الحكم هو قاعدة الحليّة،و أصالة الإباحة اللتان أثبتهما العلماء بأدلّة كثيرة،منها:قوله تبارك و تعالى: كُلُوا مِمّٰا فِي اَلْأَرْضِ حَلاٰلاً طَيِّباً فإنّه إذن صريح بالانتفاع فيما ليس فيه نهي شرعيّ.و منها:قول الصادق عليه السّلام:«كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه» .و غير ذلك من الأدلّة التي تعرّض لها العلماء في كتب الفقه و الأصول،و لم يستشكل أحد في الحكم على ما يبدو.

و لقد استفاد الإنسان من إجراء الاستنساخ في النباتات و تطبيق الهندسة الوراثيّة عليها فوائد جمّة مذهلة،منها:إزالة العيوب و تحسين أنواع النباتات و تكثير محاصيلها،و وقايتها من المخاطر و الهلاك و الأمراض،كما استطاع العلماء تحسين بعضها لتقاوم الحرّ الشديد و الجدب و قلّة الماء،بل استطاعوا أن

يستحصلوا على نباتات من غير بيئتها،ممّا كان له الأثر الكبير في شئون التغذية.

الثانية:الاستنساخ في الحيوان:

و الحكم فيه نفس الحكم السابق، و دليله أيضا قاعدة الحليّة،و ذكر العلماء بعض الموارد التي تدخّل الإنسان في بعض خصوصيات تكوين الحيوان،مثل تزاوج الفرس و الحمار و إنتاج البغل، و تزاوج الضأن و المعز و نحو ذلك ممّا أقرّه الإسلام و اعترف به الفقهاء و لم يتردّد منهم أحد.

و من ذلك أيضا يمكن استئناس الجواز في الاستنساخ أيضا في مجال الحيوان إلاّ أن يستلزم منه كارثة تجلب الفساد و تهلك الحرث و النسل،فلا ريب حينئذ في حرمته عقلا و نقلا،كما هو واضح.

ص: 94

و على ضوء ذلك،فإنّ حكم الفرد المستنسخ في الحيوان يتبع الاسم الذي يطلق عليه،فإن كان من الحيوان المحلّل الأكل ترتّب عليه حليّة الأكل،و إن كان من الحيوان الذي لا يجوز أكله فيحرم،كما أنّه في الطهارة و النجاسة يتبع الاسم،و غير ذلك من الأحكام المترتّبة على العناوين المأخوذة من النصوص الشرعيّة.

و إذا تولّد حيوان ليس له اسم عند العرف و لا في الأدلّة الشرعيّة، فالمعروف عند الفقهاء التفصيل بين الطهارة،فحكموا بها،لأصالة الطهارة في كلّ مورد يشكّ فيه.و بين الأكل فقالوا بالحرمة،لأصالة عدم التذكية في مشكوك اللحم،سواء كانت الشبهة موضوعيّة أم حكميّة.

و أمّا الصلاة في اللباس المصنوع من جلد مثل هذا الحيوان أو شعره أو و بره،فالمعروف بين الفقهاء جوازها فيه،و إن ذهب بعضهم إلى بطلانها، و التفصيل مذكور في كتاب الصلاة،فراجع.

الثالثة:الاستنساخ بين الحيوان و الإنسان:

فالظاهر أنّ الحكم فيه هو

ص: 95

الحرمة،و ذلك لأنّ جعل الإنسان حيوانا،أو بالعكس إنّما هو من تغيير خلق اللّه المنهي عنه،لأنّه من خطوات الشيطان التي ورد النهي الصريح عن اتباعها .

نعم،إن كان الفرد المستنسخ من هذه العملية ممّا ينطبق عليه عنوان خاصّ معروف ترتّب عليه حكمه،كما إذا صدق عليه أنّه إنسان أو حيوان،فلا إشكال في الحكم حينئذ.

الرابعة:الاستنساخ في الإنسان:

و هو موضع الجدل و المناقشة،كما عرفت،و ذكرنا أنّ له حالات متعدّدة:

1-أن تكون العملية بين الزوج و زوجته،

و هذه هي الحالة المتيقنة من الأدلّة التي يمكن التمسّك بها لإثبات حليّة العمل،و تحقّق النسب الشرعيّ بين الفرد المستنسخ و أبويه،فيحرم الاقتران و يثبت التوارث،و قد جعلناه المنفذ في الدخول إلى أصل هذه العملية و الحكم بالحليّة فيها مطلقا،كما عرفت مفصّلا.

2-أن تكون بين رجل معيّن،و امرأة كذلك،

و زرع النطفة المخصّبة في رحم صاحبة البويضة،و هذه الحالة تلحق بالأولى،و يمكن استنباط حكمها من صحيح محمّد بن مسلم الوارد في المرأة التي ساحقت جاريتها فحملت من ماء زوج الأولى فقد حكم عليه السّلام بلحوق الولد لأبيه صاحب الماء .كما ورد:«إنّما الولد للصلب،و المرأة وعاء» ،و عرفت أنّ التعدّي من موردها إلى الاستنساخ إنّما يكون بتنقيح المناط،و تقدّم الكلام فيه فراجع.

نعم،إن كانت المرأة صاحبة البويضة متزوّجة،و المفروض أنّ الرجل صاحب الخلية الجسميّة أجنبيّ،فإنّه لا إشكال في لحوقه بهما،إلاّ إذا حصلت شبهة،فلا بدّ من مراجعة الأدلّة حينئذ،و سيأتي مزيد بيان.

3-نفس الحالة السابقة لكن بإيداع الخلية في رحم مستعار،

فتكون

أطراف العملية أربعة:الرجل صاحب الخلية الجسميّة،و المرأة صاحبة البويضة،و المرأة الحامل صاحبة الرحم المستعار،و الولد المستنسخ المتولّد.

و حكم هذه الحالة من حيث نفس العملية،فقد عرفت أنّه الجواز،لما تقدّم من الأدلّة التي تدلّ على ذلك.

و أمّا النسب الشرعيّ،فالظاهر ثبوته بين الولد و أبيه،و أما الأمّ فقد وقع الخلاف فيه،فقد ذهب جمع من الفقهاء إلى أنّ الأمّ النسبيّة للمولود هي التي ولدته،استنادا إلى قوله تعالى: إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ إِلاَّ اَللاّٰئِي وَلَدْنَهُمْ ،فتكون صاحبة الرحم هي الأمّ النسبيّة للفرد المستنسخ.

و لكن عرفت سابقا أنّ الآية الكريمة وردت في حكم الظهار،و نفي قول المظاهر،فلم تكن في مقام بيان القاعدة الكلّية،مع أنّه يمكن حملها على الفرد الشائع.

و الرجوع إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:«إنّما المرأة وعاء» لا يثبت المطلوب أيضا،لأنّ الوعاء أعمّ من ذلك،فالعمدة هو الماء الذي تنعقد منه النطفة التي هي مبدأ تكوين الإنسان.و هذا هو الذي يدلّ عليه قوله(صلوات اللّه عليه): «إنّما الولد للصلب».و لكن الاحتياط في مثل هذا الموضوع الجديد مرغوب فيه عقلا و نقلا.

4-أن تكون الخلية الجسميّة من رجل غير معلوم،و البويضة من امرأة معلومة،

فالظاهر عدم ثبوت النسب بينه و بين الفرد المستنسخ،لفرض أنّه غير معلوم بعد عدم جريان حكم الزنا،و لكنّه يثبت مع الأمّ فتكون الأمّ النسبيّة لفرض أنّها صاحبة البويضة،و هي ولدته أيضا،أمّا إذا زرعت النطفة في رحم مستعار فقد تقدّم الكلام فيه آنفا.

ص: 96

5-الحالة نفسها مع كون المرأة صاحبة البويضة غير معلومة،

فلا نسب حينئذ،لفرض كون الأب و الأمّ كلاهما مجهولا،و لكن إذا زرعت النطفة المخصّبة في رحم مستعار،فالكلام فيه ما تقدّم،و يقوى كونها الأمّ النسبيّة في هذا الفرض.

6-أن تكون الخلية الجسميّة من رجل معلوم،و البويضة من امرأة معلومة ذات بعل،و التلقيح في رحمها،

فإن علم أنّ الفرد المستنسخ متكوّن من هاتين الخليتين-الجسميّة و الجنسيّة-و المفروض عدم جريان حكم الزنا،فإنّه يلحق بالرجل و الأمّ شرعا.

و إن لم يعلم و شكّ أنّه من الفراش أو من التلقيح،و يمكن فرضه فيما إذا كان الرجل صاحب الخلية الجسميّة توأما مع الزوج متشابهين في الصورة، و الحكم هو الإلحاق بصاحب الفراش،لتغليبه .

و هذه الحالات تشترك في أنّ طرفي هذه العملية متميّز كلّ واحد منهما عن الآخر،فتؤخذ الخلية من رجل معلوم إمّا زوج،أو أجنبيّ معلوم،أو غير معلوم، و البويضة من امرأة كذلك،و الزرع إمّا أن يكون في رحم صاحبة البويضة،أو في رحم مستعار،و قد عرفت أحكامها آنفا.

7-أن تكون الخلية الجسميّة من بدن امرأة و زرع نواتها في بويضة نفسها،

و الحكم فيه هو الجواز،و لحوق الولد المستنسخ بالمرأة لتولّده منها،فلا يجوز لها الاقتران به،و يتوارثان أيضا،و لكنّه يكون بلا أب.و له نظائر في الشرع الإسلاميّ،كولد اللعان،حيث ورد في الفقه أنّه إذا تمّ اللعان بين الزوجين بالشروط المقرّرة،ينتفي الولد عن والده شرعا.

و لا فرق في هذه الحالة أن تكون المرأة متزوّجة أم خليّة عن الزوج.

نعم،إذا حصلت شبهة في الفرض الأوّل فلا بدّ من الاحتياط،و ترك الزوج الاقتران بالبنت المستنسخة التي تولّدت من زوجته،لما ذكرناه آنفا.

8-الحالة السابقة و لكن بإيداع الخلية في رحم مستعار.

و الحكم ما ذكرناه،فتكون صاحبة البويضة هي الأمّ الشرعيّة للولد المستنسخ،و لا يترك الاحتياط مع الأمّ الحامل،لذهاب جمع من الفقهاء إلى كونها الأمّ،لأنّها ولدته،فلا يقترن أحدهما بالآخر،لأصالة فساد عقد النكاح عند الشكّ في صحّته،و لا يصحّ التمسّك بالعمومات و الإطلاقات لفرض الشبهة.

كما أنّ الاحتياط في التوارث بينهما هو التراضي بين جميع أطراف الإرث،لوجود الشبهة التي تقتضي هذا الاحتياط.

أمّا نظر الولد المستنسخ للمرأة التي ولدته،فالأصل يقتضي عدم الجواز إلاّ بالمقدار المسموح به شرعا،و يدلّ عليه أيضا عمومات أدلّة حرمة النظر إلى الأجنبيّة و إطلاقها،إلاّ ما استثني و هو الوجه و الكفّان إلى الزندين.

9-أن تكون الخلية الجسميّة من بدن رجل و زرعت نواتها في نطفة نفسه،

و إيداع الخلية المخصّبة في رحم امرأة إمّا أن تكون زوجة صاحب الخلية الجنسيّة،فالظاهر ثبوت النسب الشرعيّ بين الولد المستنسخ و صاحب الخلية الجنسيّة،لعمومات الأدلّة و إطلاقها،منها قوله عليه السّلام:«إنّما الولد للصلب»،كما يثبت النسب أيضا مع الأمّ الحامل التي تولّد منها،للفراش،و الولادة.فلا يجوز لكلّ واحد منهما الاقتران بالفرد المستنسخ،فإن كان ذكرا فلا يجوز للأمّ الاقتران به،و إن كان بنتا فلا يجوز للأب الاقتران بها.و الظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في حكم هذه الصورة،فتترتّب جميع أحكام النسب.

ص: 97

و إمّا أن تكون المرأة صاحبة الرحم المستعار،و الحكم ما عرفته سابقا في مثلها،و إن كان الاحتياط أيضا يجري في هذا الفرض أيضا.

نعم،إن كانت هذه المرأة متزوّجة،فالأحوط للزوج أيضا إجراء أحكام الربيبة على البنت المستنسخة فيحرم عليه نكاحها،كما هو نصّ الآية الكريمة ،كالاحتياط في ترك النظر إليها إلاّ في موارد الاستثناء.

10-أن تكون الخلية الجسميّة من رجل و الجنسيّة من رجل آخر،و بعد التخصيب تودع في رحم امرأة.

و الحكم ما ذكرناه آنفا في الصورة السابقة،و لكنّ الأب الشرعيّ يكون صاحب النطفة فقط،فإنّه لا يمكن أن يكون لفرد أبوان في مرتبة واحدة شرعا، فيدور الأمر بين الرجلين،و صاحب النطفة هو الأقرب للواقع،أخذا بإطلاق قوله عليه السّلام فيما تقدّم نقله:«إنّما الولد للصلب»،و إنّما تعدّينا إلى غيره عند فقد الأصل المنطوق و المفروض وجوده.و إن كان الاحتياط المزبور يجري في المقام أيضا،فيترك الاقتران بالبنت المستنسخة،كما أنّ التوارث يكون برضاء ورثة المتوفّى جميعا.

و أمّا المرأة الحامل التي تكوّن الجنين في رحمها،فقد عرفت الحكم فيها آنفا.

11-أن تكون الخلية الجسميّة من جسم امرأة،و الخلية الجنسيّة من رجل،

و إيداع البويضة المخصّبة إمّا في رحم صاحبة الخلية الجسميّة،فلا ريب في ثبوت النسب الشرعيّ بين الفرد المستنسخ و أبويه،لفرض عدم إحداث الاستنساخ في هذه الصورة شيئا جديدا بالنسبة إلى الرجل،كما هو واضح،فهو صاحب الصلب فيشمله قوله عليه السّلام:«إنّما الولد للصلب».و أمّا المرأة فهي التي ولدته،و تأثير الخلية الجسميّة في تكوينه،فلم يغيّر الاستنساخ من الواقع شيئا.

أو تودع في رحم مستعار،فالحكم ثبوت النسب الشرعيّ بين الولد المستنسخ و الرجل فهو أب شرعا،لما تقدّم من الأدلّة.

و أمّا الأمّ الحامل-فقد عرفت الأمر بالنسبة إليها-فهي التي ولدته،كما أنّ المرأة صاحبة الخلية الجسميّة كان لخليتها الدور في تكوين الفرد المستنسخ،و التعدّي إليها بسبب تنقيح المناط الذي كان هو الاعتماد في الحكم السابق.

ص: 98

لكنّ الشبهة في هذا أقوى،لعدم جريان التنقيح المزبور بالنسبة إليها، و الاحتياط الذي تقدّم ذكره يجري في المقام أيضا،فإنّه سبيل النجاة،فلا تقترن بالولد المستنسخ،و لا يتحقّق الإرث بينهما إلاّ برضاء ورثة المتوفّى.

هذه هي أهمّ ما يمكن فرضه في هذه العملية،و هناك فروض أخرى تعلم أحكامها ممّا ذكرناه فتعرف أشباهها منها،مع العلم بأنّها مجرّد فروض ربّما يستحيل تحقّق بعضها،و لا يعلم الغيب إلاّ اللّه تعالى،و لكنّ العلم بالشيء أولى من الجهل به.

يبقى أمر لا بدّ من التنبيه عليه،و هو أنّ جميع تلك الحالات تشترك في شروط يجب توفّرها ليتمّ الحكم،و هي:

الأوّل:يشترط في هذه العملية أن يكون كلّ من الرجل و المرأة-اللذين تؤخذ منهما الخلية-معلومين،لأنّ المجهول لا يلحق به النسب عرفا و قانونا و شرعا،لظواهر الأدلّة الشرعيّة،و إجماع الفقهاء بل الأمّة.

الثاني:أن لا يكون عنوان محرّم في البين يوجب انتفاء النسب شرعا،كما إذا أخذت الخلية الجنسيّة(النطفة)عن طريق الزنا،فإنّ الشرعية الإسلاميّة أسقطت حرمة ماء الزاني،كما اشتهر بين الفقهاء من أنّه:«لا حرمة لماء الزاني» .

الثالث:يشترط أن تكون الخلية المأخوذة من الطرفين،و النطفة المخصّبة محفوظة من كلّ خلط أو اشتباه،و إلاّ فلا يحصل الانتساب شرعا.

الرابع:أن يكون المباشر لإجراء عملية الاستنساخ خبيرا مطّلعا على أسرار هذه العملية،لئلاّ يترتّب عليها ضرر أو كارثة في المجتمع الإنسانيّ، و الدليل عليه واضح،لأنّ ما يستلزم منه الضرر حرام بحكم العقل و النقل، كقوله صلى اللّه عليه و آله:«لا ضرر و لا ضرار» .

الجناية على الفرد المستنسخ

لا ريب في حرمة الجناية بجميع أشكالها على الإنسان في جميع مراحل عمره،من حين النطفة و بداية تكوينه إلى آخر لحظات حياته.

و يدلّ على هذا الحكم الأدلّة العقليّة و النقليّة،و تقرّه جميع الشرائع الإلهيّة و القوانين الوضعيّة،فأصل الحكم مسلّم،فإن كان هناك خلاف فهو إنّما يكون في بعض الخصوصيات التي تختلف فيها الأعراف،و القوانين الوضعيّة،بل حتّى الشرائع الإلهيّة،بلا فرق بين أن تكون الجناية مباشرة أو تسبيبا،لأنّ التسبّب إلى الحرام حرام .

و تتصوّر الجناية في عملية الاستنساخ على وجوه:

الأوّل:أن تكون على الخلية الجسميّة،

و المراد من الجناية الأعمّ من الضرر و الاتلاف و القتل،على الأطراف أو النفس، فالظاهر عدم الحرمة،للأصل،أي: أصالة البراءة عن الحرمة،و أصالة الحليّة،إلاّ إذا استلزم منها الجناية على صاحب الخلية باتلاف جزء من بدنه،فإن كان بإذن منه و إبراء ذمّة الجاني عن الدية فلا إشكال،و بدونها يثبت الحكم التكليفيّ و هو الحرمة،و الوضعيّ و هو الدية،فإن كانت مقدّرة في الشرع الإسلاميّ أو القانون الوضعيّ فيجب على الجاني دفع ذلك المقدار المعيّن إلى المجني عليه،و إن لم تكن مقدرة فالحكومة، و هي مقدار من المال يعيّنه أهل الخبرة بموافقة الحاكم أو القاضي،كما هو مفصّل في الفقه .

الثاني:أن تكون على الخلية الجنسيّة،سواء كان باتلافها و قتلها أو بإسقاطها عن التأثير،أو اتلاف أحد أجزائها،

فالظاهر الجواز و عدم الحرمة أيضا،لما ذكرناه من الأصل الجاري في الحكمين-التكليفيّ و الوضعيّ-فإنّه

يجوز إلقاء النطفة و إتلافها قبل وصولها إلى الرحم و استقرارها فيه،و إن كان يكره ذلك .

ص: 99

نعم،إن استلزم من أخذ النطفة محرّم،كما إذا كان استخراجها عن طريق العادة السريّة،أو الزنا المحرّمين في الشرع الإسلاميّ،فيحرم أخذها حينئذ، كما هو معلوم،و لا حرمة لمثل هذه النطفة شرعا.

الثالث:أن تكون على النطفة المخصّبة قبل استقرارها في الرحم،

فالظاهر هو الجواز مع الكراهة،للأصل الجاري في الحكمين التكليفيّ و الوضعيّ،كما عرفت.

الرابع:أن تكون على النطفة المخصّبة بعد استقرارها-أي:الأجنّة-

و الثابت المسلّم عند جميع المسلمين،و تدلّ عليه الأدلّة العقليّة و النقليّة حرمة الجناية مطلقا عليها،و ثبوت الدية في ذمّة الجاني،و لا ريب في كلا الحكمين شرعا و عرفا و قانونا،و إن كان خلاف فإنّما هو في ترتيب الدية و مقدارها و بعض خصوصياتها،فقد ورد في فقه الإماميّة أنّه لو استقرّت النطفة في رحم ففي إسقاطها عشرون دينارا،و إن كان الحمل علقة فأربعون دينارا،و في المضغة ستون دينارا،و إن لم يكتس اللحم و هو عظم ففيه ثمانون دينارا،و إذا اكتسى اللحم و تمّت خلقته ففيه مائة دينار-و لا فرق في جميع ذلك بين الذكر و الأنثى،و إن و لجته الروح،فألف دينار إن كان ذكرا،و خمسمائة دينار إن كان أنثى لو كان الجنين بحكم الحرّ المسلم،و استند الفقهاء في ذلك إلى جملة من الأخبار .

و لهم في التحديد في المراتب المذكورة طريقة معيّنة،حيث قالوا إنّ الحمل أربعين يوما نطفة،و أربعين يوما علقة،و أربعين يوما مضغة،فإذا تمّ

أربعة أشهر كملت خلقته،و إذا دخل الشهر الخامس ولجه الروح ،و الدليل عليه الإجماع،و النصوص المتعدّدة .

و في قتل الأجنّة صورة كثيرة:

1-الإجهاض و قتل الأجنّة بدون مصلحة

فهو حرام-كما عرفت-لأنّه إسقاط و إبطال لمادة الحياة الإنسانيّة،و هو قبيح في نظامي التكوين و التشريع.

2-أن يكون مع المصلحة،

و لا بد أن تكون أقوى من المفسدة الموجودة في الحرمة،و تعيين تلك المصلحة ينحصر في تشخيص أهل الخبرة و الاطلاع تحت نظر الحاكم الشرعيّ المطّلع على جميع الخصوصيات،و لعلّ بعضها من تقديم الأهمّ القطعيّ على المهمّ،و في هذه ترتفع الحرمة،و تبقى الدية على حالها .

و لكن،لا بدّ من التفصيل بين الإجهاض قبل ولوج الروح في الجنين فالحكم كما ذكرنا في الحرمة و الجواز مع المصلحة و بدونها،و مقدار الدية.

و بين أن يكون الإجهاض بعد ولوج الروح في الجنين،فالظاهر الحرمة على ما هو المعروف عند الفقهاء،و المصلحة المزبورة إن اقتضت الإجهاض قبل الولوج مع ثبوت الدية لا تصير موجبة للإجهاض بعد الولوج،و في هذه الحالة تفصيلات مذكورة في كتب الفقه .

3-الجناية على أعضاء الجنين،

فإنّها محرّمة بلا إشكال،للأدلّة التي ذكرناها.و تلحظ دية أعضاء الجنين بالنسبة إلى ديته،و في الجراحات و الشجاج على النسبة.هذا فيما إذا لم تلجه الروح،و إلاّ فإنّه كغيره من الأحياء.كلّ ذلك للإجماع،و الإطلاق و العموم،و ما ورد في كتاب ظريف عن علي عليه السّلام:

«قضى في دية جراح الجنين من حساب المائة على ما يكون في جراح الذكر

و الأنثى و الرجل و المراة كاملة» ،و لا بدّ أن يكون ذلك بعد تمام الخلقة و لم تلجه الروح.و أمّا بعد الولوج،فيكون كغيره من الأحياء،كما عرفت.

ص: 100

4-إذا تعدّد الجنين تعدّدت الدية بالإجهاض،

فلو كان ذكرا و أنثى فدية ذكر و أنثى و هكذا،لوضوح تعدّد السبب الذي يقتضي تعدّد الدية،و التداخل لا دليل عليه في المقام مع مخالفته لأصالة عدم التداخل.

و في المراتب السابقة كلّ مورد أحرز التعدّد فتكون دية المرتبة متعدّدة، كما عرفت آنفا .

5-لو سقط الجنين بالجناية و لم يحصل نقص لا في الجنين و لا في الأمّ،

كما إذا كانت المرأة تضع بعد شهر-مثلا-بحسب عادتها فوضعت قبله لأجل الجناية،و لم يحصل لهما الضرر.فالأصل يقتضي عدم ثبوت شيء على الجاني، إلاّ بما يراه الحاكم الشرعيّ،و هو الحكومة في أمثال المقام .

هذه هي أهمّ فروع الجناية على الجنين المتكوّن عن طريق الاستنساخ، و قد عرفت أنّ الحكم هو الحرمة و ثبوت الدية،فلا يجوز الإجهاض مطلقا،إلاّ في مورد خاصّ و هو ما إذا كانت مصلحة محرزة عند الحاكم الشرعيّ تقتضي سقوط الجنين و إجهاضه،مشروطا بما إذا لم يلج الروح فيه.و إلاّ حرّم مطلقا كما هو المشهور بين الفقهاء،و إن ذهب بعضهم إلى أنّه في هذه الصورة يقدّم الأهمّ و هو حياة الأمّ فيما إذا دار الأمر بين أن يرد على الأمّ عيب أو مرض،فإنّه حكم بتقديم حياة الأمّ و جواز إسقاط الجنين،و لكن المعروف المشهور عدم الجواز، و ينتظر حتّى يقضي اللّه تعالى،لاطلاقات أدلّة حرمة الإجهاض و قتل النفس المحترمة.

و من هنا يعلم حرمة ما اصطلح عليه بالخلايا النشأة المأخوذة من الأجنّة لغرض تحصيل جينات وراثيّة كاملة أو أعضاء جسد الإنسان و تكثيرها،إلاّ في

موارد خاصة لا بدّ من توفّر شروط معينة و تحت إشراف الأخصائيّين،و مراقبة الحاكم الشرعيّ المطّلع على الأمور،لئلاّ يستلزم من تلك العملية ضرر أو كارثة للنوع الإنسانيّ،و البحث في هذا القسم يحتاج إلى معرفة الخصوصيات،و هو خارج عن موضوع بحثنا.

6-الجناية على الفرد المستنسخ بعد الولادة،

سواء كانت على النفس أم الأطراف،فلا ريب في الحرمة،لاطلاقات الأدلّة الدالّة على حرمة قتل النفس المحترمة،بل هو محرّم في جميع الشرائع الإلهيّة و القوانين الوضعيّة،و عموم العرف في كلّ المجتمعات.

و لا يفترق فيما ذكرناه من الأحكام بين القول بحليّة الاستنساخ أو حرمته،بعد فرض كون الفرد المستنسخ إنسانا،أيّا كان مبدأ تكوينه،و حرمة العملية لا يضرّ بالانطباق كما هو واضح،و لم يسقط الشرع المقدّس احترامه، و على فرض سقوط النسب الشرعيّ فإنّه يكون نظير حمل الزنا،فإنّ المشهور بين الفقهاء عدم جواز اسقاطه،لأنّه ولد تكوينيّ،فيترتّب عليه جميع ما يترتّب على ولد المسلم،إلاّ ما خرج بالدليل.

نعم،تمسّك بعض الفقهاء بإطلاق ما أرسلوه إرسال المسلّمات:«لا حرمة لماء الزاني»،الذي تمسّكوا به في جملة من الأبواب الفقهيّة.فإن قلنا بشمول عدم الاحترام لمثل الإسقاط بعد ولوج الروح،فيجوز الإسقاط.

و لكنّ الكلام في اعتبار ذلك و عمومه حتّى لمثل الفرض ،هذا كلّه في حمل الزنا،و أمّا ولد الزنا فإنّه لا يجوز قولا واحدا،لأنّه إنسان يترتّب عليه جميع ما يترتّب على غيره من الأحكام،سوى ما نفاه الشرع و القانون.فليكن-حمل الاستنساخ كذلك.

هذا ما يتعلّق بالجناية على الفرد المستنسخ حملا كان أو غيره،و قد ذكرنا أهمّ ما يمكن فرضه،و هناك فروض أخرى يظهر حكمها ممّا ذكرناه.

الخاتمة

ختام البحث ذكرنا ما يتعلّق بهذا الموضوع المثير للجدل و النقاش،و عرفت أنّ عملية الاستنساخ و إن كانت خارجة عن الطريق المألوف في التلاقح الطبيعيّ، و لكنّها تلاقح بين خليتين،إحداهما جسديّة،و ذلك بعد تفكيك مكوّناتها و سحب المادة الوراثيّة منها، و حقنها في بويضة أنثى جرى عليها عكس ما

ص: 101

حصل في الأولى بإبقاء النواة تماما،نظير سحب لبّ الجوز من القشرة و وضعه في قشر جوزة أخرى،و تحت ما يشبه التلاحم الكهربائيّ يتمّ إقحام المادة الوراثيّة في البويضة التي كانت مهيئة من قبل و تنتظر استعادة ما فقدت من تلك المواد الوراثيّة،فيوحى إليها أنّ الذي سرق منها أعيد إليها.و بعد استجماع هذه الخلية الجديدة مكوناتها يتمّ زرعها في رحم معيّن،فيؤدّي إلى إنتاج جديد.كلّ ذلك بفضل الذكاء الإنسانيّ و الفكر الذي منحه اللّه عزّ و جلّ للإنسان،فتمكّن من الخروج عن دائرة الطريقة المتعارفة من(الجنس و الإنجاب)إلى طريقة جديدة، و ربّما يفاجئنا التسارع العلميّ إلى إنجازات جديدة منها إنتاج النسخة الجديدة من الإنسان،و لعلّه أصبح قريبا بعد التوصّل إلى الخريطة الوراثيّة التي تعدّ بحقّ معجزة القرن الواحد و العشرين،حيث انتهوا إلى مشروع مهمّ أسموه بمشروع الجينوم البشريّ )HumanG enomeP roject( ،الذي يمثّل الإنسان كمشكاة عظيمة في التركيب من الجينات،حيث الجينة في الكروموسوم و هو في النواة و هي في الخلية،و هي في النسيج،و هو في عضو و العضو في جهاز،و الجهاز في بدن.

ص: 102

الأقوال في الاستنساخ

و بعد توضيح الموضوع و إمكان تحقّقه في المستقبل القريب وقع النقاش في الحكم الشرعيّ،كما هو الشأن في كلّ جديد،ففي الأمس القريب كان البحث في أطفال الأنابيب،و كان النزاع و السجال كبيرا،فافترقوا إلى طائفتين إحداهما تقول بالحرمة،و الأخرى بالجواز،و في موضوعنا المبحوث عنه أيضا اختلف العلماء و الباحثون فيه،و أهمّ ما قيل فيه هو:

القول الأوّل:الحرمة،

و اعتمد القائلون بها على ما ذكرناه في البحوث السابقة، و يمكن تصنيف ذلك إلى موانع موضوعيّة،و موانع شرعيّة.

و الموانع الموضوعيّة التي ذكرناها هي:

أوّلا:

هل النسخة الجديدة شخصيّة مستقلّة،أو صورة طبق الأصل من جميع الجهات،بحيث لو فرض أنّ الأصل لو نام يبقى النسيخ يقظا يؤدّي أعمال الأصل يكمّلها من النقطة التي انتهى إليها.

و ثانيا:

إنّ البحث في الاستنساخ يدور حول الجسد فقط،فأين موضوع النفس من كلّ تلك الفعاليات،فهل يستطيع الأصل-مثلا-أن يطلق على نسخته (أنا)أم لا؟

و ثالثا:

دور العوامل المؤثّرة لنفسيّة الأمّ،و حالات الرحم،من حيث الشباب و الهرم،و نحو ذلك.

و الموانع الشرعيّة التي ادّعوها هي:

الأوّل:تغيير خلق اللّه،

و منافاة الاستنساخ للفطرة السليمة التي قال عزّ و جلّ فيها: فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ ،فإنّ اللّه عزّ اسمه خلق الإنسان و فطره على غرائز عديدة، و الاستنساخ قد يوجب خرقها أو إبطالها.

الثاني:هدم الأسرة التي تبتني على قواعد و ضوابط معينة،

و حدّد الشرع عقوبات معيّنة لمن تجاوزها،و الاستنساخ هدم لتلك القواعد و الضوابط.

الثالث:امتهان كرامة الإنسان التي صانها اللّه عزّ و جلّ،و شرّف خلقه،

قال تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ ،و الاستنساخ من موجبات امتهان تلك الكرامة التي منحها اللّه تعالى للإنسان،بإخضاعه للتجارب و اللعب في جيناته التي تتضمّن فطرته و مورثاته.

الآراء في التحريم

و لأجل ذلك و غيرها ذهب كثير من الفقهاء و العلماء إلى الحرمة،و إن اختلفوا في خصوصياتها بين التحريم المطلق و التحريم النسبيّ.

فمنهم من قال بتحريم الاستنساخ مطلقا،كما ذهب إليه مفتي مصر الدكتور نصر فريد و اصل،حيث قال:إنّنا نحرّم استخدام عمليات الاستنساخ الحيويّ حتّى في علاج بعض حالات العقم،لأنّ للّه في خلقه شئونا خاصّة،و أنّ ذلك سيفتح أمامنا الباب للتمادي في مثل هذه العمليات التي تشكّكنا في ديننا .

ص: 103

و من الواضح أنّ ما ذكره من الدليل-و هو التشكيك في الدين-لا يمكن أن يكون دليلا في هذا الحكم العامّ و هو التحريم المطبق،فهذا القول لا يستند على مبنى فقهيّ معتبر.

و منهم من ذهب إلى التحريم حتّى في مجالات الهندسة الوراثيّة،كبعض علماء الأزهر،مستدلّين عليه بأنّه تغيير في خلق اللّه،و هو من خطوات الشيطان كما قال تعالى: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّٰهِ .

و قد عرفت الجواب عن ذلك بما لا مزيد عليه،و قلنا:إنّ الاستنساخ ليس تغييرا لخلق اللّه عزّ و جلّ،بل هو استفادة من النواميس المودعة في الكون، و يشمله قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ

أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .

و ذهب جمع ثالث-و هم الأكثر-إلى التحريم لا لنفس العمل،بل للعناوين الثانويّة الطارئة،و هي تلك الجوانب السلبية المظلمة التي ذكرناها في الفصل الثاني،نذكر على سبيل المثال:تكثير المجرمين و السفاكين،و إيجاد الأسلحة الجرثوميّة الفتاكة التي تقضي على الجنس البشريّ كلّه،و غير ذلك من الوجوه.

و ذكرنا أنّ ذلك مجرّد افتراض لا يمكن أن يكون دليلا لإثبات حكم لا بدّ أن يبتني على أصول و قواعد محكمة،مع أنّه لا يختصّ بالاستنساخ،فكلّ واجب أو مباح صار سببا لمثل ذلك انقلب إلى الحرمة،لكن لا على سبيل الافتراض،بل على سبيل الحقيقة و الاقتضاء التامّ.

هذه هي الآراء التي ذكرت في وجه تحريم الاستنساخ،و عرفت ما يتعلّق بها من المناقشات.

القول الثاني:التفصيل بين العمل في مجال الهندسة الوراثيّة،فالرأي هو الجواز مطلقا،

لأجل الآثار الطيبة التي يجينها الإنسان من هذا المجال،و قد ذكرنا كثيرا منها فيما سلف.

و بين الاستنساخ،فالقول هو التحريم لما يترتّب عليه من الآثار السيئة، و الأهداف غير المشروعة.و استدلّ عليه بأنّ الاستنساخ إساءة الاستخدام،و أنّ فيه الوصول إلى الأهداف غير المشروعة،و أنّ فيه تسلّط الإنسان على نفسه، و هو غير مسموح به شرعا،فإنّ تصرّفات الإنسان في جسده محدودة بالحدود التي نصّ عليها الشارع،و كذلك الأمر بالتصرّف في أجساد الآخرين.

و عليه،فيجوز إذا كانت الأهداف مشروعة،مشروطة بأن تكون في مجال الاطلاع على قوانين اللّه في الخلق و توسيع آفاق العلم و المعرفة.و أمّا التعميم على النسل البشريّ فالحرمة،لأنّه يستلزم هدم الأسرة،و نسف الحياة

ص: 104

الزوجيّة،و إلغاء الروابط الأسريّة التي أرادها اللّه تعالى،و إلغاء الطريق الطبيعيّ في تكثير النسل و تنسيل البشر.و في غير هذه الحالة فلا مانع بالقول بالجواز، كما في الحالة الأولى .

و لكن الإشكال عليه:

أوّلا:بأنّ القول بالجواز في الهندسة الوراثيّة على الإطلاق،و الحرمة في الاستنساخ لأجل الأهداف غير المشروعة،لم يكن قولا جديدا،فإنّ تغيير الأحكام لأجل الأهداف المترتّبة على الموضوع لا يسع أحد إنكاره،بل هو واقع في الخارج،لكنّه أمر نسبيّ،فربّما يكون هدفا مشروعا في وقت و يكون غير مشروع في وقت آخر.

و ثانيا:إنّ جعل الأهداف مشروعة مطلقا في الهندسة الوراثيّة لا يخلو من مجازفة،فإنّ من جملة مجالات الهندسة الوراثيّة الاستنساخ الذي يعتبره محرّما،فإنّه لو لا علم الهندسة الوراثيّة لما توصّل العلماء إلى الاستنساخ.

و ثالثا:إنّ اعتبار الاستنساخ أمرا مشروعا في الاختبار الفرديّ و محرّما في الاختبار النوعيّ،مع اشتراكهما في كثير من السلبيات إلاّ النوعيّة منها،أمر يبعث على الدهشة،لا سيّما في هذا العمل الذي لا ينفكّ عن الأثر الخارجيّ،فهل يمكن تصوير استنساخ من دون قتل الأجنّة أو تكثيرها و لو فردا واحدا و نحو ذلك.

فإمّا أن يكون الاستنساخ مشروعا بحدّ نفسه،لأجل الأهداف المشروعة، و منها التوسّع في آفاق العلم و المعرفة،و الاطلاع على قوانين اللّه تعالى.و إمّا أن يكون محرما لأجل تلك السلبيات و الوجوه المظلمة،فيغضّ النظر عن الإيجابيات،لأنّ إثمه أكبر من نفعه.

و رابعا:إنّ الحكم بالحليّة في الاختبارات الفرديّة لأجل عنوان خاصّ من

ص: 105

الاضطرار و نحوه،أمر معقول و يقرّه الشرع المبين،و لكنّه لا يضرّ بأصل الحكم إذا كان محرّما،كما هو واضح.

القول الثالث:الحليّة التي توافق الأصل الأوّليّ بالنسبة إلى الأشياء إذا لم يرد فيها حكم شرعيّ خاصّ.

و هو الموافق للأدلّة العقليّة و النقليّة،و قد اعتمد عليه كثير من فقهاء المسلمين،و عليه إجماع فقهاء الإماميّة.فإذا لم تثبت الحرمة بدليل قاطع نرجع إلى أصالة الحليّة و الإباحة في الاستنساخ،و لا يصحّ جعل الأمور التي ذكرناها سابقا دليلا للحرمة،فإنّها أقرب إلى الوهم و الرأي الشخصيّ.

و قد عرفت أنّ هذا الرأي أقرب إلى الأدلّة الشرعيّة،و لكنّه حكم أوّليّ قد ينقلب إلى حكم ثانويّ إذا طرأ عليه عنوان ثانويّ،كما تقدّم.و بذلك يمكن التوفيق بين الآراء المختلفة.

و لأجل مزيد من التوضيح ننقل كلمات بعض العلماء و الباحثين.

نعم،يبقى حاجز القيم الأخلاقيّة من أكبر الحواجز في وجه الحكم بالحليّة و بقاء الاستنساخ على حكمه الأوّليّ،و له من الأهمّية الكبيرة ممّا غلب كلّ الحواجز و العقبات،و عمّ القول به عند الكلّ،فأبدى الجميع قلقهم بالنسبة إلى الآثار السلبية التي قد تنجم من الاستنساخ و تؤثّر على الحياة برمّتها،فتصبح كارثة لا يمكن تفادي آثارها.و لعلّه لذلك أبدى العلماء و المختصّون اهتمامهم الكبير بهذا الجانب من المسألة الأخلاقيّة، يقول الدكتور محمّد سليمان الأشقر:إنّما الاستنساخ و ما شابهه من الاكتشافات علوم نستمد بفتح اللّه تعالى منها لخلقه ما يشاء و متى يشاء،لتكون تذكرة و عبرة و مجالا للتأمّل في قدرات اللّه تعالى و أسراره التي بثّها في الخلق، و ليكون ما فيها من النفع المباح ممّا تصلح به حياة البشر حين تضيق بهم الحياة .

و لا شكّ أنّ الباحث لاحظ الجانب المشرق في هذه العملية،فهل يكون مسوغا لتعميم العملية في تكثير الإنتاج عن هذا الطريق؟

و يقول الدكتور محمّد علي البار:إنّ الاستنساخ ليس مرفوضا كلّيا ما دام في عالم النبات،لما له من فوائد تعود على النبات بشكل فعّال،و في مسائل زرع الأعضاء و أخذ الخلايا و تنميتها لتخفيف الجهاز المناعيّ الذي يرفض القلب المزروع أو الكلية المزروعة،كما له من فوائد مع الأطفال الصغار الذين يولدون ناقصين و الذين لا يستطيعون الرضاعة الطبيعيّة،فيمكن عن طريق زرع جينات إنسانيّة لصناعة لبن من ثدي امرأة و وضعه في نعجة أو بقرة ليشربه الطفل كأنّه لبن طبيعيّ.لكنّ المشكلة إذا دخلت تجارب الاستنساخ عالم الإنسان،فإنّه الطامة الكبرى،و هو الشيء الذي يرفضه الدين و الخلق و العرف و التقاليد العالميّة للمجتمع الدوليّ كلّه .

و لكنّه لم يبيّن الطامة الكبرى التي سيحدثها الاستنساخ،فإنّ مجرّد الافتراضات لا يكون مسوغا لتشريع حكم إلهيّ أو تغييره،لئلاّ يكون تقوّلا على اللّه تعالى،فيقع في طامة أخرى مشابهة لتلك الطامة الكبرى إن لم تكن أقوى.

و يقول الدكتور أحمد شوقي-أستاذ الوراثة في جامعة الزقازيق:أودّ أن أعترف بأنّ الأخلاق كثيرا ما تخسر المعركة أمام الاعتبارات الاقتصاديّة، و الأهداف الاجتماعيّة قصيرة النظر،انظروا إلى سوق المبيدات الضارّة، و الأدوية ذات الآثار الجانبيّة الحادّة،و لا أقول سوق تجارة الأسلحة و المخدرات و الدعارة،فكلّها توظّف فيها منجزات التقدّم العلميّ و التكنولوجيّ، لنعلم ضعف الجانب الأخلاقيّ في كثير من الحالات .

لكن،بناء على ما ذكره الفاضل المحترم،فإنّ المشكلة الأخلاقيّة تتقارن

مع أغلب الاكتشافات الحديثة،ممّا توجب تغيير القيم الأخلاقيّة،ممّا نشاهده في عالمنا المعاصر،و نلمسه بالحسّ و الوجدان،و نتحسّر على ما فات منها،فلم يصدر فتوى بالتحريم،فما الذي يحدث عند ممارسة عملية الاستنساخ و تكثير النسل عن هذا الطريق عمّا هو الموجود في هذا العالم الذي خسر الإنسان فيه نفسه،و نعاني منه أشدّ العناء فإذا تمكّن العلماء و المرشدين الصالحين من وقف السير الانحداريّ للأخلاق في الإنسان،فإنّه هناك يتّضح ما سيصدر من الاستنساخ من آثار.

و قال الدكتور الشيخ محمّد سعيد البوطيّ:«إنّ الاستنساخ هو لون من ألوان التلاعب بهندسة الجينات و معايير المورثات،و من المعلوم أنّ القرآن نبّه إلى أنّ البيئة المناخيّة و الاجتماعيّة و الوراثيّة مركّبة تركيبا

ص: 106

كيميائيّا و أحيائيّا دقيقا،و أنّه لا يجوز للإنسان التلاعب بمعاييرها،فاللّه سبحانه يقول: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ،و يقول أيضا: إِنّٰا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ ،ثمّ يقول ناهيا عن التلاعب بهذه المعايير: وَ لاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا » .

و يؤاخذ عليه أنّه من المصادرة على المطلوب،و أنّه كيف يمكن أن يكون الاستنساخ بهذه الدقّة تلاعبا بالمعايير،مع أنّه إذا كان في صالح العلم و المعرفة، و الغرض الجميل،و الهدف النبيل لا يكون تلاعبا بلا إشكال،و إلاّ استلزم حرمة جميع الاكتشافات الحديثة،فإنّها تلاعب فيما قدّر اللّه عزّ و جلّ،و لا يحكم عليها بأنّها إفساد في الأرض.

و من جميع ما ذكرناه يتبيّن وجه النقاش في كثير من أقوال الباحثين

و العلماء الذين يحكمون بالحرمة من دون بيان دليل،كما في مقالة الأستاذ عبد المعطي البيوميّ:إنّ الإسلام يحظر الاستنساخ .

و ابن عثيمين:إنّ الاستنساخ أكبر فساد في الأرض...ثمّ قال:إنّي أرى أنّ أدنى عقوبة للذين ابتكروا الاستنساخ أن تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف،هذه أدنى عقوبة،و إلاّ فيجب إعدامهم .

فإنّ الحكم كذلك دفع للفاسد بالأفسد،و قد عرفت أنّ الحكم على الاستنساخ بالفساد من المصادرة على المطلوب الذي نريد إثباته.

و قال السيد محمّد سيد طنطاويّ في جواب له عن الاستنساخ مستشهدا بالآية الكريمة هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحٰامِ كَيْفَ يَشٰاءُ و وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ*`مِنْ نُطْفَةٍ :«أمّا غير ذلك فهو حرام» .

و قد عرفت في الفصل الثاني الجواب عن الاستدلال بالآية المزبورة، و ذكرنا أنّ الاستنساخ و إن خرج عن الطريق المألوف في التكاثر،لكنّه لا يخرج عن قضاء اللّه و قدره،و أنّه لا تنقصم عرى الزوجيّة،و لا يضمحل دور الزوجين- الذكر و الأنثى-في المجتمع،و إن أمكن تحقّق التفاوت في الكمية،و لكنّه ليس بضائر،فإنّه ربّما يكون في الطريق المألوف في أوقات معيّنة،فلا بدّ أن يكون للحرمة دليل غير ما ذكر.

و من ذلك كلّه يظهر أنّ ما ورد في جواب سماحة الشيخ جواد التبريزيّ:

من أنّ الاستنساخ يوجب اختلال النظام أو حصول الهرج و الفوضى و رفع التمايز و الاختلاف بين أبناء البشر،الذي اقتضته حكمة اللّه سبحانه و توقّف

النظام العام عليه،و غير ذلك من المشاكل الاجتماعيّة التي ذكرناها في سالف البحث و عرفت الجواب عنها أيضا.

مع أنّه يمكن درؤها بسنّ تشريعات خاصّة تتضمّن أحكاما و ضوابط معيّنة لكبح جماح هذه العملية العتيدة إذا تبيّن الفساد منها،كما هو الحال في الطريق المألوف في التكاثر،فقد وضعت أحكام تشريعيّة تضمّنت تحديد الموضوع و الهدف و تحديد المسير،و المجازاة على المخالفة،و العقاب على العناد.

قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي

كما أنّ مجلس مجمع الفقه الإسلاميّ قد اتّخذ في دورة مؤتمره العاشر عام 1997 قرارات جعلها بعضهم الفصل و القرار الأخير،و التي يجب العمل بها و الالتزام ببنودها،و هي:

أوّلا:تحريم الاستنساخ البشريّ بطريقتيه المذكورتين،أو بأي طريقة أخرى تؤدّي إلى التكاثر.

ثانيا:إذا حصل تجاوز للحكم الشرعيّ المبيّن في الفقرة(أوّلا)فإنّ آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعيّة.

ثالثا:تحريم كلّ الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجيّة،سواء كان رحما أو بويضة،أو حيوانا منويّا،أو خلية جسديّة للاستنساخ.

رابعا:يجوز شرعا الأخذ بتقنيات الاستنساخ و الهندسة الوراثيّة في مجالات الجراثيم و سائر الأحياء الدقيقة و النبات و الحيوان،في حدود الضوابط الشرعيّة بما يحقّق المصالح و يدرأ المفاسد.

ص: 107

خامسا:مناشدة الدول الإسلاميّة إصدار القوانين و الأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة و غير المباشرة أمام الجهات المحلّية أو الأجنبيّة، و المؤسّسات البحثيّة و الخبراء الأجانب للحيلولة دون اتّخاذ البلاد الإسلاميّة ميدانا لتجارب الاستنساخ البشريّ و الترويج لها.

ص: 108

سادسا:المتابعة المشتركة من قبل كلّ من مجمع الفقه الإسلاميّ و المنظمة الإسلاميّة للعلوم الطبيّة لموضوع الاستنساخ و مستجداته العمليّة، و ضبط مصطلحاته و عقد الندوات و اللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعيّة المتعلّقة به.

سابعا:الدعوة إلى تشكيل لجان متخصّصة تضمّ الخبراء و علماء الشريعة،لوضع الضوابط الخلقيّة في مجال بحوث علوم الأحياء(البيولوجيا)، لاعتمادها في الدول الإسلاميّة.

ثامنا:الدعوة إلى إنشاء و دعم المعاهد و المؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال الأحياء(البيولوجيا)و الهندسة الوراثيّة في غير مجال الاستنساخ البشريّ وفق الضوابط الشرعيّة،حتّى لا يظلّ العالم الإسلاميّ عالّة على غيره و تبعا في هذا المجال.

تاسعا:تأصيل التعامل مع المستجدّات العمليّة بنظرة إسلاميّة، و دعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانيّة في التعامل مع هذه القضايا و تجنّب توظيفها بما يناقض الإسلام،و توعية الرأي العامّ للتثبت قبل اتّخاذ أيّ موقف،استجابة لقوله تعالى: وَ إِذٰا جٰاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذٰاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلىٰ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ .

النقد المتوجه إليها

و لا ريب أن،تلك القرارات صدرت نتيجة جهود جملة من فقهاء المسلمين، و هي تنصب في الصالح العامّ،و لا شكّ أنّهم لاحظوا الجوانب المظلمة في الاستنساخ فأصدروا أحكاما بالتحريم و اعتبروها من اللوازم الذاتيّة له،بحيث لا يمكن تبديلها أو تغييرها كسائر لوازم الماهيات،و أعرضوا عن النظر إلى

نفس العملية من حيث هي،أو الآثار الإيجابيّة التي يمكن أن نستفيد منها.

ثمّ إنّه إن كان قرارهم الموقّر بالتحريم مستندا إلى ما ذكرناه من أدلّة القائلين بالتحريم كما هو الظاهر،فقد عرفت أنّها قابلة للنقاش.

مع أنّه كان الأجدر أن يكون القرار المزبور مشروطا بأمور و ضوابط معيّنة،و قواعد محكمة،كما اعتبروا ذلك في بحوث علوم البيولوجيا(الحياة)، كالقرار السابع.

و لعلّ البند الرابع فيه بعض الأمل بعد ما استشعروا بأنّ الحكم بالتحريم مطلقا فيه تضييع الفرص المتعدّدة للاستفادة من هذا الاكتشاف الجديد،و إعطاء الغير المبادرة إلى الاستئثار به،فأجازوا التعامل بالاستنساخ و الأخذ بتقنياته و الهندسة الوراثيّة في مجالات الجراثيم و سائر الأحياء الأحياء الدقيقة و النبات و الحيوان في حدود الضوابط الشرعيّة بما يحقّق المصالح و يدرأ المفاسد.

فإذا تحقّق هذا المناط من الاستنساخ البشريّ،فلم لا يكون الحكم فيه بالجواز أيضا في حدود تلك الضوابط الشرعيّة؟

إلاّ أن يكون نظرهم أنّ الاستنساخ البشريّ لا يجنى منه إلاّ الشرّ فقط، و هو خلاف الوجدان.

و لأجل ذلك كلّه ذهب جمع من العلماء و الباحثين إلى الحليّة و جواز التعامل معه،إلاّ إذا نتج منه الشرّ،و أصبح كارثة لا يمكن تفادي آثارها السلبيّة، فلا إشكال في الحرمة حينئذ،و الحكم بوقف التجارب و عقوبة كلّ من يتعاطاه، و ذلك كلّه واضح حسب الأدلّة الشرعيّة،و هو مقتضى الجمع بين الأدلّة الواقعيّة الأوليّة و الأدلّة الثانويّة،كما عرفت سابقا.

تقريب الحاجز الأخلاقي

يبقى أمر قد أشرنا إليه سابقا،و هو الحاجز الأخلاقيّ الذي توقّف عنده جميع من بحث في الاستنساخ و اعتبروه من أهمّ الموانع التي تقف أمام الحكم بالحليّة لما فيه من الآثار الوخيمة على الفرد و المجتمع،و لعلّه كان السبب

ص: 109

الوحيد في إجماع الألسن على المنع،و فيهم من لا يؤمن باللّه تعالى و لا يعتقد بشريعة،فتوافقت الدول التي تتبنّى أنظمة علمانيّة مع المؤسّسات الدينيّة،فقد أدان البابا بولس الثاني التجارب الخطيرة و رفض عملية الاستنساخ،و أكّد الحاخام اليهوديّ على أنّ الاستنساخ البشريّ ينافي الشرعيّة الدينيّة اليهوديّة.

كما أصدرت إيطاليا قرارا تحظر تجربة الاستنساخ البشريّ أو الحيوانيّ.و في فرنسا أكّد سكرتير الدولة للشئون الصحّية أنّه لا يمكن التفكير أو القبول بأن تطبق على الإنسان التقنيات التي استخدمها معهد روزلين في أدنبرة لاستنساخ دولي.و في الصين طالب العلماء الحكومة بضرورة سنّ قوانين تحرّم تطبيق عمليات الاستنساخ على البشر.و عارض مجلس النواب الألمانيّ فكرة استنساخ الإنسان معارضة شديدة،و وافق على منع هذه التجارب في المانيا،بل طالب بالحظر الدوليّ للاستنساخ البشريّ،و طلب من الحكومة التدخّل.

و أعلنت الولايات المتحدة على لسان رئيسها كلينتون أنّ المؤسّسات الاتحاديّة الأمريكيّة لن تمول البحوث حول الاستنساخ البشريّ،و طلب من الأسرة العلميّة الأمريكيّة الامتناع عن إجراء البحوث في هذا المجال،و كذلك موقف رؤساء الدول الأوربيّة و الدول الصناعيّة السبع الكبرى في مؤتمرهم المنعقد في امستردام في 1997/6/18.

و كذلك منظمة مؤتمر العلوم و الثقافة الإسلاميّة- ISESCO -المنعقد في مراكش في 1997/6/20.

و تقدّم نقل ما ورد في بنود مجمع الفقه الإسلاميّ المنعقد في /6/28 1997،و نقلنا فيما سبق آراء جمع من العلماء و المفكّرين و الباحثين في المنع عن العمل بالاستنساخ البشريّ.

و لأجل ذلك يصعب على الفقيه الجزم بالحكم و الفتوى بالإباحة معرضا عن هذا الاتّفاق،و ما يترتّب على الاستنساخ من المفاسد الخلقيّة.

ص: 110

مع أنّه يمكن إرجاع ذلك الاتّفاق إلى بناء العقلاء على الامتناع عن العمل بالاستنساخ البشريّ،و نشكّ في شمول دليل الإباحة له حينئذ،كما هو عادة الفقهاء في أبواب المعاملات.أو إرجاعه إلى ذلك الإحساس الداخليّ الذي أودعه اللّه تعالى في الإنسان الذي به يميّز بين الحقّ و الباطل،و الخير و الشرّ،و المعبّر عنه في القرآن الكريم و النصوص الإسلاميّة بالفطرة،التي بها نعرف أهمّ الموضوعات التي تمسّ الإنسان في جميع أدواره و مراحله و العوالم التي يرد عليها،و هو التوحيد و عبادة اللّه الواحد الأحد و نفي الشريك عنه.

و في السنّة الشريفة الاستفادة من هذا الإحساس الداخليّ في تعيين الحكم الشرعيّ،فقد أرجع الأئمة الهداة عليهم السّلام المخاطبين في بعض الموارد إلى الفطرة،كما في رواية يونس:قال:«سألت الخراسانيّ-أي:الإمام الرضا عليه السّلام- عن الغناء،و قلت:إنّ العباسيّ ذكر عنك أنّك ترخّص في الغناء،فقال عليه السّلام:كذب الزنديق ما هكذا قلت!!سألني عن الغناء فقلت:إنّ رجلا أتى أبا جعفر عليه السّلام فسأله عن الغناء،فقال:يا فلان إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل،فأين يكون الغناء؟قال:مع الباطل،فقال عليه السّلام:قد حكمت» .

و لعلّ هذا الإطباق على المنع الذي هو على مستوى العالم كلّه،و من مختلف الشرائح في المجتمع الإنسانيّ على اختلاف معتقداتهم و مذاهبهم و طبقاتهم نابع عن هذه الفطرة.فيكون الحكم بالمنع هو الموافق للاحتياط ريثما يبيّن الزمان ما سوف يتحصّل من التجارب و التحقيقات و الكشوفات العلميّة، و يتّضح الأمر فيه أكثر ممّا هو عليه الآن،فإنّ التوقّف في الشبهات خير من الاقتحام فيها،اللهمّ إلاّ أن يكون الاتّفاق المزبور يرجع إلى أمور ماديّة و أغراض خاصّة.

فيكون البحث الذي ذكرناه في هذا الكتاب-فيما أظنّ-فيه الكفاية لمعرفة

ص: 111

الحكم سلبا أو إيجابا،و فيه يجد القارئ الكريم المحاولة الجادة لكشف اللبس عن هذا الموضوع الذي كثر الجدل فيه،بل ربّما يكون له الأثر الكبير في المستقبل،و إنّ ذلك الإجماع على المنع ربّما ينقلب إلى الدعوة إلى العمل بفضل الجهود التي يبذلها العلماء و الباحثون في سبيل تهذيب هذا الكشف الجديد، و تقليل الآثار السيئة كما هو الشأن في أغلب الكشوفات الحديثة،فيرتفع الخوف الذي زرع في نفوس العلماء و الفقهاء و غيرهم ممّن له رأي فيه.

و مع ذلك كلّه،فإنّ الإسلام لا يمنع البحث في الآيات التكوينيّة و الأنفسيّة و معرفة أسرارها و كشف المجهول فيها ليتبيّن للإنسان أنّ اللّه هو الحقّ،و أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .

و في الختام أرجو من اللّه العليّ القدير أن يتقبّل هذا الجهد المتواضع، و يعفو عمّا صدر من زلل،فإنّه بالإجابة جدير،كما أرجو من القارئ الكريم أن ينظر في هذا المؤلّف بعين الرضا و الإرشاد إلى مواضع الخلل. وَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أوّلا و آخرا.

ص: 112

المصادر

1-وسائل الشيعة-الحر العاملي،طبعة بيروت.

2-جواهر الكلام-الشيخ محمد حسن النجفي-طبعة بيروت.

3-مواهب الرحمن-السيد السبزواري-طبعة قم.

4-تهذيب الأصول-السيد السبزواري-طبعة بيروت.

5-مهذب الأحكام-السيد السبزواري-طبعة قم.

6-الأصول العامة-السيد محمد تقي الحكيم-طبعة بيروت.

7-مصطلحات الأصول-المشكيني-طبعة قم.

8-معجم لغة الفقهاء-د.محمد رواس و حامد صادق-طبعة دار النفائس.

9-محيط العلوم-نخبة من العلماء العرب-طبعة دار المعارف بمصر.

10-الاستنساخ البشري و موقف الشريعة الاسلامية-حسن السيد عز الدين بحر العلوم-طبعة مكتبة الالفين.

11-الاستنسال بين العلم والدين-د.محمود الحاج قاسم-مطبعة الزهراء- الموصل.

12-الاستنساخ البشري-جملة من الباحثين-نشر دار الحكمة بغداد-سلسلة المائدة الحرة،العدد:44.

13-الانسان و الكائنات الحية-اعدادالمكتبالعالميللبحوثطبعةبيروت.14الاستنساختقنيةوفوائدومخاطرد.صالحعبدالعزيزالكريم.15الاستنساخفيميزانالشريعةالاسلاميةد.محلم.

ص: 113

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.