أُمُّ المُؤمِنينَ خَدِیجَةُ بِنتُ خُوَیلِد سَيِّدَةٌ في قَلْبِ المُصْطَفَى صَلَی اللهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ

هوية الکتاب

أُمُّ المُؤمِنينَ

خَدِیجَةُ بِنتُ خُوَیلِد

سَيِّدَةٌ في قَلْبِ المُصْطَفَى صَلَی اللهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ

الدكتور محمد عبده يماني

المرء مع من أحب اللهم أسكنه فسيح جناتك مع حبيبك سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم

مُؤَسَّسَةُ عُلُومِ القُرْآن

مَنَارْ لِلنَشْرِ وَالتَوْزيْع

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1421 ه- - 2000 م

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1421 ه- - 2000 م

مؤسسة علوم القرآن

منار للنشر والتوزيع

دمشق هاتف 22200 فاكس 2114184 ص ب 13277

E-mail: manarest@mail.sy

ص: 2

بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

الإهداء

إليك يا أماه.. إليك زوج المصطفى وحبه وسنده وعضده من الله.. فقد أكرمه الله بك زوجاً وكرمك لتكوني أول المسلمين.. إليك اهدي كتابي هذا عن سيرتك العطرة

«سيدة في قلب المصطفى صلى الله عليه و آله سلم»

وإليك فاطمة الزهراء أيتها البضعة الطاهرة من أصل طاهر وفي رحم طاهر.. إليك يا أصل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم.. إليك وقد شاء الله أن ينحصر فيك نسب رسول الله صلى الله عليه و سلم.

وإليكن بنات المصطفى زينب ورقية وأم كلثوم وإليك عبد الله أيها الطيب الطاهر وإليك أيها العزيز القاسم وإليك إبراهيم آخر أولاد المصطفى رضي الله عنكم أجمعين. إليكم آل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن جدتكم الأولى الطاهرة الطيبة زوج المصطفى وأم الزهراء. وإلى كل محب ومحبة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم.

وإلى كل من يحب أن يتعلم عن هذه السيدة الكريمة..

وآل بيتها.. آل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم.

محمد عبده يماني

ص: 4

عَن أَنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ جِبِريلُ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه و سلم وَعِنْدَهُ خَدِيجَة ، :قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُ خَدِيجَةَ السَّلَام »

فَقَالَتْ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَام ، وَعَلَى جِبْرِيلَ السَّلَام ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

ص: 5

رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

ص: 6

قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم : مَا أَبْدَلَنيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا ، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بيَ النَّاسُ ، وَ صَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنيَ النَّاسُ ،

وَ وَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِيَ النَّاسُ وَ رَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ».

ص: 7

ص: 8

مقدمة

لله في خلقه شئون يبديها و لا يبتديها ، يرفع أقواماً ويخفض آخرين ، وله اجتباء واصطفاء من بين ما خلق، فبارك بقعاً من الأرض ، وقطعاً منها، وحرم أشهراً، واصطفى رسلاً ، وكرم عباداً : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (1)

و هو في اجتبائه واصطفاءه يهب ما يشاء لمن يشاء، عطاء غير ممنون . يختار عن علم سابق ، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ﴾ (2)

فإذا قضى لبعض خلقه بالفضل، وكتب له من الحسنى ما قدر له، فذلك هو العز الذي لا يهون، والشرف الذي يعلو على كل شرف، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

ومن هذا المقام ماصح عن الرسول الكريم صلی الله علیه و سلم «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار».

ونتلو في هذا المقام قوله تعالى : (قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ) (3)

وقد أراد سبحانه أن يجعل في خضم تيار البشرية معالم يهتدي بها الناس، بها تقاس الكمالات، وتلتمس فيها القدوة والأسوة، ويبقى

ص: 9


1- سورة آل عمران - الآية : 33 .
2- سورة الملك - الآية : 14 .
3- سورة آل عمران - الآية : 26 .

على مدى الدهر سيل الهدى والنور يتدفق منها، يتطلع إليها كل جيل، أفقاً مشرقاً، وأنجما ثواقب يتعلم منها ما يعرف به معاني الكمال والجلال ، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (1).

وضرب الله لذلك أمثالا كثيرة في القرآن الكريم من قصص الأنبياء والمرسلين، والرواد والصديقين، والأمم والأفراد: ﴿لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ ) .(2)

فاختار آدم عليه الصلاة والسلام وجعله خليفة في الأرض : ﴿ وَإذ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِیفَةً) (3) وجعل ذريته خلفاء في الأرض. واختار منهم الرسل والأنبياء ليكونوا شموس هداية ودعاة خير : (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (4) واختار أمة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ، لتكون خير الأمم. (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (5)

(هُوَ اجْتَبَكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) (6)

(وَكَذَلِكَ جَعَلْتَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا) (7)

واختار من القرون جميعاً طیقرن الرسول صلی الله علیه و آله سلم «خير القرون قرني»

ص: 10


1- سورة الأحزاب - الآية : 21 .
2- سورة يوسف - الآية : 111
3- سورة البقرة - الآية : 30
4- سورة النساء - الآية : 165
5- سورة آل عمران - الآية : 110
6- سورة الحج - الآية : 78
7- سورة البقرة - الآية : 143

والمراد به قرن الصحابة رضي الله تعالى عنهم .

«إن الله اختار أصحابي على العالمين بعد النبيين والمرسلين» واختار من بين أصحابه العشرة المبشرين بالجنة ، واختار من العشرة أبابكر وعمر وعثمان وعلياً. ثم بعد العشرة أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان . قال صلی الله علیه و آله سلم: «أنتم خير أهل الأرض» .

واختار أهل بيته وطهرهم تطهيرا (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) (قُل لَآ أَسْئَلُكُم عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2) .

- «تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» .

- واختار نساءه على نساء العالمين .

- (یَنِسَآءَ النَّبِيِ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ) (3)

- واختار من بين نسائه حورية الدنيا التي فاقت حور الجنة .

- «خير نسائها خديجة».

- «والله ما أبدلني الله خيراً منها».

فمن تكون خديجة؟

إنها أصل الشرف، ومحتد الكرم، وطيب العنصر وطهر علو النسب فلا امرأة تسبق خديجة .

الشريفة الكريمة . . الطاهرة .. الطيبة .

الحسيبة النسيبة .. الجيدة (أم هاشم) كما يسميها جيرانها أهل مكة المكرمة . فالسيدة خديجة رضي الله عنها يجمعها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم

ص: 11


1- سورة الأحزاب - الآية : 33
2- سورة الشورى - الآية: 23
3- سورة الأحزاب - الآية : 32

النسب في جده قصي من جهة أبيها وفي لؤي من جهة أمها وفي عبد مناف بن قصي من جهة جدتها لأمها .

لقد اختار الله هذه السيدة لتقف بجوار المصطفى ، وأكرمها وكرمها ، ورزقها رجاحة العقل . . وحسن الخلق . . وآتاها حزماً وعزماً. .وصموداً وإخلاصاً ووفاء وسعة رزق ، سخرها لخدمة سيدنا محمد . . وعونه على إبلاغ الرسالة فصمدت . . وضَحَت . . شدت أزره وأيدته، وأحاطته بالرعاية والحب والحنان ، فكانت عظيمة بوفائها وعطائها لرسول الله صلی الله علیه و سلم .

بيتها بيت مجد وشرف ، ومكانها في قومها معقد الآمال ، ومنتهى المنى، يتمناها منهم كل سيد وشريف ، ويسعى إلى خطبتها كل من

ينشد الأصالة والنجابة والكمال والجمال.

لا تدانيها في ذلك امرأة فضلاً عن أن تسبقها .

لقبها في الجاهلية بين قومها «الطاهرة» أما مالها وغناها، فما عرفت

لها قرينة في الغنى والثراء بين قومها . . حازمة لبيبة ، ذكية أريبة ، حصان رزان ، سيدة الكاملات، وأجمل الجميلات خَلْقاً وخُلُقاً. سبقت إرادة الله فاختارها عرساً لنبيه ووزيراً ، ومعيناً ومشيراً، وسنداً ونصيراً، واختصها وحدها من بين نسائه بحضور أول الوحي، وأول الاصطفاء، وأول نزول القرآن، وكانت أول المجاهدات، وأول الصابرات ، وأول الباذلات .

ثم جعل ابنتها فاطمة من بعدها أم عترته وأصل ذريته، وكانت السيدة خديجة رفيقة شبابه وكهولته . أفرده لها وأفردها له زوجاً عروباً، وقلباً حبيباً، ودفئاً خصيباً جمع له فيها حب الزوجة وسكنها ، ورأفتها ورحمتها ، وعطف الأم وحنانها،

ص: 12

ووفاء الحبيبة وصدقها ، وفداء المؤمنة به وعونها ، مع صدق المشورة وطهر السريرة ، ودأب الوزيرة، وحلم حازم ، وبر دائم ، وحنان موصول ، ومال مبذول، وحب لا يحول.

واسأل أيام تحنثه في الغار ، كيف كانت له معيناً، وسل ليالي الشعب حينما قاطعت قريش النبي وأهل بيته، كيف كانت صبوراً جسوراً، على رغم سنها، ووهن جسمها ، وكيف بذلت مالها في إطعام المحاصرين، ومواساة المعذبين ، وسل عن كل ذلك وفاء خير الناس لها حبيبها المصطفى من بعد رحيلها ، ذكراً لمناقبها ، وتعدادا لمواهبها، وبقاء

على عهدها وصلة لأحبائها .

«إني لأحب حبيبها» .

«اللهم هالة».

«أرسلوا هذا إلى أحباء خديجة» .

«كانت تأتينا أيام خديجة» .

«إنها أم المؤمنين الأولى،

وزوج الحبيب الأولى،

والمسلمة الأولى

والصديقة الأولى،

والحبيبة الأولى،

والمجاهدة الأولى. . والوزيرة الأولى التي هيأتها العناية الإلٰهية له صلی الله علیه و سلم .

سيدة نساء العالمين ،

وأم فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، (1)

ص: 13


1- رواه البخاري.

رضي الله عنها وأرضاها .

فبين يديك أم المؤمنين . . أقدم كتابي هذا . . باقة حب ووفاء . فهذا كتاب. . أكتبه بقلبي وعقلي قبل قلمي وحبي لك يا أم هاشم . . أيتها الطاهرة . . أكتبه من وحي الحب والإيمان والجوار ، فقد جاورناك عمرنا كله وكنا ننعم ولا نزال والحمد لله . . بنعمة جوارك في مكة المكرمة، فقد شاء الله أن يتوفاك قبل الهجرة وأهل مكة يعتزون بهذا الجوار ويفاخرون به. . ويسمونك «الجيدة» لما لمسوا منك من وفاء . . وحب . . لهذا النبي الكريم بل ولكل من أحبك . . وآل بيتك الطيبين الطاهرين .

فإليك . . أيتها الصديقة الأولى. . والحبيبه التي أحبها المصطفى . . وتزوجها . . فكانت خیر سند وخير عضد. . إليك أيتها السيدة الكريمة . . أقدم كتابي . . وأضعه بين يديك . . واسأل الله القبول .

وإن المتتبع لسيرتك العطرة يحار من أين يبدأ ! و بم یبدأ! و ماذا يكتب في ذكرك ، وفضلك، وسبقك، وجهدك، وجهادك !

وكم يحار العقل إذا نظر في شأنك و تتبع سيرتك!

وكم يعتز التاريخ عندما يستعرض حياتك ! ويقف إجلالا لهذه السيرة العطرة، والسيدة الفاضلة .

وكم نطأطي ء الهام احتراماً إذا قيل خديجة بنت خويلد .

فماذا أبقيت لأهل النبل وقد كنت سيدة النبلاء .

وماذا تركت لأهل الشرف وقد كنت قمة الشرفاء .

وماذا فاتك من الكرم حتى يذكر معك الكرماء.

وماذا نقصك من الفراسة ! وقد سبقت إلى معرفة مكانة سيد الأنبياء .

وماذا عند الحكماء لم تبلغي فيه الذروة العلياء !

ص: 14

عقيلة قريش وسيدة مكة

وأمنية ذوي الشرف والهمة

الرفيعة المنيعة

الودود الولود

الطاهرة المطهرة . . الكريمة المعطاء

تغضى العيون إجلالاً لمقامها

وتهتز القلوب فرحا عند ذكرها

كانت الزوجة الرؤوم كأنها أم زوجها

والمحبة العروب كأنها العروس كل يوم في ودادها وجمالها وبهائها

والسيدة الحصان التى تهتف جوانب مكة بعفافها وحيائها

والوزيرة المؤازرة عند الشدائد لزوجها ونبيها

سألت التاريخ عن نظيرها فقال : هيهات . . هيهات !!

وسألته عن يوم زفافها فقال : أهديت ذروة النساء لسيد الأولين والآخرين.

وسألته عن نسلها فقال : حسبك انهم عن أشرف العالمين، فرض الله على عباده حبهم والصلاة عليهم في الصلاة.

أماه يا أم الزهراء البتول ، أشبه اهل بيته به ، وأولهم لحوقا به .

أماه ياجدة آل الرسول.

والفريدة التي ملأت حياته أنساً وتزوجته بكراً، فلم يعرف النساء قبلها .

فظل يذكرها كل حين ولا ينسى .

ولم يقترن بسواها حياتها كلها .

وبشرها ببيت في الجنة، لاصخب فيه ولا نصب

ص: 15

وحفظ عهدها من بعدها في أهل ودها

أماه . .

يا خيرة الله لنبيه .

وهديته إلى صفيه .

يا أم القاسم والطاهر . . وزينب ورقية وأم كلثوم .. وأم أبيها البتول .

وناظمة عقد السلالة الطاهر الباهر.

شغلت بكمالك وفعالك أهل السماء.

وبالسلام عليك من الله جبريل جاء.

أماه ..

ماذا أقول والبيان - مهما سما وعلا - يعجز عن إظهار قدرك .

والشعر يحار أمام جلالك وطهرك .

وماذا يبلغ بيان الناس كلهم أمام دمعة الحبيب عند ذكرك .

دمعة هي أغلى وأعلى من كل بيان .

وماذا يملكون من المدح أمام قوله : «و الله ما أبدلني الله خيراً منها».

وأصدق من كل ما ينطق به لسان .

فسلام عليك يا أول وأكمل أمهات المؤمنين اقتراناً به، وأكملهن وفاء له، وأكثرهن تضحية لأجله، ومعذرة منكن أيتها الأمهات الطاهرات الكاملات المكملات.

وسلام عليكن مجتمعات .

من كل أبنائكن المؤمنين .

إلى يوم الدين . . و رضي الله عنكم آل بيت رسول الله أجمعين .

ص: 16

بين يدي السيدة خديجة

إن حياة أم المؤمنين خديجة تاريخ مشرف ومشرق لسيدة . . طاهرة . . شريفة فاضلة، أكرمها الله عزوجل فاختارها زوجاً لهذا النبي الكريم والرسول العظيم، وأكرمها عزوجل بسمعة ، عطرة وسيرة فاضلة في الجاهلية والاسلام . . وعقل راجح، وهمة عاليه، فكانت أول من أسلم وصدق وآمن برسول الله صلی الله علیه و سلم، حتى إنها بشرته و هدَّأت من روعه حين جاءه الوحي أول مرة، وعاد الى بيته مشفقا على نفسه مما سمع و رأى و هو يقول : زملوني . . زملوني .

خديجة بنت خويلد التي لها حق في رقبة كل مسلم ومسلمة بما قدمته لسيدنا محمد صلی الله علیه و سلم و هي أول أمهات المؤمنين. . وقفت معه وأيدته، وشجعته ونصرته وأعطته وأعانته على المضي. . ودعمته بكل ما تملك. هذه السيدة التي صبرت مع رسول الله على إيذاء قريش وعنتهم وظلمهم . .ودخلت معه الشعب، تقف الى جانبه، وتتحمل معه أعباء تلك المحنة مع أنها رضي الله عنها لم تكن معنية بالمقاطعة . .

لأنها ليست من بني هاشم، ولكنها آثرت الدخول مع النبي صلی الله علیه و سلم إلى الشعب وتحملت الجوع . . والحرمان في سبيل نصرة زوجها الأمين . . شهامة ومودة ومشاركة صادقة . . و إيماناً حقيقياً بالرسالة والرسول . فقد خرجت عن بيتها الرفيع و مقامها المنيع، ودخلت معه الشعب، فكانت من جملة المحاصرين، ولم تبال بسنها التي قاربت على الستين رغبة في نصرة سيد المرسلين، ومتابعته فرضيت بالحياة الخشنة القاسية و زهدت بحياة العز والرفاهية ، وذاقت مرارة الجوع والعطش

ص: 17

فكيف لا يقف التاريخ إجلالاً لمقامها الرفيع .

والسيدة خديجة رضي الله عنها . . كانت ذات شأن و فضل في قومها فعرفت بالطاهرة . . وقد حفظها الله من أرجاس الجاهلية فكانت تشعر يقلق وعدم قناعة بعبادة الأصنام و لهذا كانت تلجأ الى ابن عمها ورقة بن نوفل تسأله و تبثه قلقها وحيرتها .

نشأت السيدة خديجة في بيت طيب وبيئة كريمة، فبيت أهلها من أعرق بيوت قريش وأعلاهم نسباً، و ثراء، و وجاهة.

وقد ولدت رضي الله عنها قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة . أبوها خويلد بن أسد بن عبد العزى أخ لعبد مناف . . و أمها فاطمة بنت زائدة و أم فاطمة هی هالة بنت عبد مناف الجد الثالث للنبي صلی الله علیه و سلم.

تزوجت هذه السيدة الجليلة برسول الله و هى ابنة أربعين سنة، بينما كان هو في الخامسة والعشرين، وكانت قد رغبت في الزواج به بعد ما علمت من أخبار فضله و أمانته و بركته ، و ما أخبرها به غلامها ميسرة مما شاهده في رحلته معه في تجارتها الى الشام . . و رعاية الله سبحانه و تعالى له ، وكان قد تقدم لخطبتها كثيرون من أشراف قريش، فرفضت ذلك بإباء و شمم ، و أراد الله لها الخير و الفضل . . فكان ذلك الزواج المبارك الميمون.

عاشت هذه السيدة حياة هنيئة رغدة في جوار رسول الله قبل أن يوحى اليه، فلما أتته النبوة، وتحمل في سبيل الدعوة الأذى و الآلام ، و الحرمان، وقفت الى جانبه ، و صبرت معه ، و ضحت في سبيله.

كانت وزيرة صدق . . صدقته ، و صدقت معه، و كانت خير عون و سند و نصر بتوفيق الله عزوجل و كانت الصديقة الأولى.

فما أن نزل الوحي على رسول الله صلی الله علیه و سلم حتى كانت أول من صدق و آزر

ص: 18

و وقف مع سيدنا محمد ، تشد من أزره ، و تعينه، و تبذل كل غال و نفيس في سبيل راحته ، وعندما كان يذهب إلى غار حراء قبل نزول الوحي، و يظل هناك متبتلا لأيام طويلة ، كانت تسأل عنه، و ترسل رسلها ليطمئنوها عليه، وكانت تحمل إليه الطعام والشراب، لاتكل ولاتمل، ثم تصعد إلى الجبل الذي يبلغ ارتفاعه ثمانمائة وستة وستين متراً فوق سطح البحر . كل ذلك لتطمئن عليه، وتعينه على ماهو فيه، وتفعل ذلك وهي فرحة سعيدة.

و قدر لها تلك المواقف الصابرة الشجاعة، فلما ماتت، أحس بآلام فراقها، وظل وفيا لها، يثني عليها، و يذكر مواقفها الصادقة، وتضحياتها الكبيرة، فبنى لها بذلك مكانة مرموقة في قلوب المؤمنين و المؤمنات حتى قيام الساعة، وخصها الله عزوجل، فجعل ذرية النبي صلی الله علیه و سلم محصورة فيها ، فلم يرزق الولد من غيرها .

إنها خديجة. .

إنها الصديقة . .

إنها الوفية . .

الإنسانة التي اختارها الله لهذا الدور. .

و هيأها لهذا الشرف. .

وأكرمها . . وكرّمها . . فكانت لها تلك السيرة العطرة، والصحبة الكريمة لسيدنا رسول الله صلی الله علیه و سلم .

و قد ماتت و دفنت بمكة . . فكسبنا جوارها في البلد الحرام حيث دفنت بمقابر المعلاة في الحجون وهى في الخامسة و الستين قبل الهجرة بثلاث سنوات .

ماتت رضي الله عنها قبل الإسراء و المعراج . .

ص: 19

و قبل أن تفرض الصلوات الخمس. .

في رمضان . . في الحادي عشر منه . .

وبعد خروج بني هاشم من الشعب . .

بعد أن أدت واجبها كاملا. . و وقفت مع رسول الله صلی الله علیه و سلم تؤيده، و تثبته و تنصره تدثره و تزمله و تصدقه، وتبذل كل ما تملك في سبيل نصرته و راحته حتى انها كانت رضي الله عنها تقطع ثلاثة أميال على رجليها من بيتها الى جبل النور ثم تصعد الى غار حراء تطمئن على رسول الله صلی الله علیه و سلم و تحمل له الماء و الزاد و تثبته . . وكانت في بعض الليالي تلقاه في موضع مسجد الإجابة في المعابدة وتبيت معه هناك ثم يعود إلى الغار للتعبد، و تعود هى إلى بيتها . . و في كل الأحوال كانت تحرص على راحته، و تطمئن على سلامته، وتعمل كل ما في وسعها لسعادته.

وما أن وافق أبو طالب على أن يكون علي رضي الله عنه في كنف سيدنا محمد . . يرعاه ويربيه، حتى قامت برعايته، وفرحت بمقدمه . . وأعطته من حنان الأمومة ما جعله يشعر بالحب الكبير لها و لرسول الله صلی الله علیه و سلم . . و نشأ في ذلك البيت الطيب الطاهر .

هي امرأة فاضلة كريمة حنون . . حنت ورقت لمرضعة رسول الله صلى الله عليه و سلم حين جاءت تسأل عنه فزارته في منزل السيدة خديجة التي فرحت بها و أكرمتها . . أكرمت وفادتها، وأعطتها من المال ما يساعدها على حياتها في الباديه، فقدمت لها قطيعاً من الغنم و بعض الإبل هدية لها . و لهذا فقد كان يوم وفاتها يوم حزن . . و ألم و سمي ذلك العام بعام الحزن . . فقد توفيت فيه الزوج الطاهرة الصديقة الأولى . . و توفي فيه أبوطالب عم رسول الله صلی الله علیه و سلم الذي وقف معه يؤازره و يعضده . . ويحميه

ص: 20

و يمنعه و لهذا ما نالت قريش من رسول الله صلی الله علیه و سلم إلا بعد وفاة عمه

أبي طالب . .

ولا شعر بالوحدة . . إلا بعد وفاة الحبيبة خديجة . . فخلّف غيابها حزناً و ألماً فقد كانت الزوجة . . والرفيقة . . والعضد. . والسند. . و الأم . . رضي الله عنها وأرضاها .

ص: 21

ص: 22

لماذا السيدة خديجة ؟

سؤال يتردد في الأذهان عبر الزمان !! لماذا كانت خديجة هي الزوجة الأولى؟. . والجواب في رأيي هو أن هذه سيدة اختارها الله لسيدنا محمد في مرحلة دقيقة . . اختارها الله سبحانه على علم وهو العليم الحكيم، لتكون بجواره صلی الله علیه و سلم في مرحلة مهمة من حياته . . وحياة الرسالة، فكانت الأمينة . . وكانت الرزينة. . وكانت الصّدِّيقة والصَّدِّيقة و الصادقة . . إنها سيدتنا خديجة الطاهرة أم المؤمنين وأول المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها. لا تسبقه ولكنها من حوله كالهالة حين ترنو إلى البدر، إنها أولى نساء النبي اللواتي منحهن الوحي وسام التميز والفخار: (ينِسَآءَ النّبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ) . وسجل الحديث عن المصطفى خطابه لأكثر هن عنده بعدها قرباً ودلالاً - وهى أمنا عائشة رضي الله عنها، ولكنه قال عن حبيبته و وزيرته الأولى خديجة الكبرى: «ما أبدلني الله بها خيراً منها، صدَّقتني إذ كذَّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ لم يرزقني من غيرها» (1) . فشهد لها حتى على نسائه جميعاً بالخيرية المطلقة، وأكمل القرآن دائرة الكمال، التى تضم كل الآل، حيث يقول (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) وكيف لا يثب إلى الذهن أول ما يتأمل، هذا البيت الكريم الذي عماده خاتم النبيين، وحرمه سيدة نساء أهل الجنة، وسراجه الزهراء البتول،

ص: 23


1- المعجم الكبير للطبراني
2- سورة الأحزاب - الآية : 33

سيدة نساء العالمين، بضعة الرسول فلذة كبده زوجها أبو عترته، وحامل لوائه، علي بن أبي طالب، وريحانتاه سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، ودرتاه عقيلتا بيت النبوة، زينب الطاهرة، و أم كلثوم الفاخرة وصنوهما رقية الصابرة المهاجرة، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

أما لماذا السيدة خديجة؟ فقد كشفت عنه في حياتها الأقدار فيما شهدت به الأحداث، وفسرته الإرهاصات، ونطق به الوحي على لسان الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. فهي الصحابية الأولى قبل كل الصحابة - والنبي الكريم صلی الله علیه و سلم - قال فى شأن الصحابة «إن الله اختار لي أصحابي» وهى رضي الله عنها بدون ريب أول هؤلاء اختيارا من الله، و أولهم إيمانا و أولهم بذلاً، وأولهم نصراً، وأولهم جهاداً، و أولهم حباً الله ورسوله وكل أيامها ،وأحوالها ،وخطراتها، وسعيها منذ عرف في مكة الصادق الأمين قبل الرسالة -صلی الله علیه و سلم- و حتى وفاتها صفحات مشرقة، ولهذا كانت خديجة، وكانت لها كل تلك المكانة باختيار الله عزوجل لتكون بجوار حبيبه تعضده وتقف معه .

والصحائف التالية التي سنعطرها بما ييسره الله لنا في شأن درة نساء الوجود هذه إنما هى عرض بالوقائع والتحليلات والأحداث للإجابة على هذا السؤال من جانبه العام.

نحن نؤمن إيمانا مطلقا لا يعرض له شك، أن كل شيء في هذا الوجود إنما يجرى بإرادة الله وتدبيره، وقدره وعلى مقادير معلومة قبل وجوده، مرتبة قبل ظهوره، محددة المقدار و الخصائص، والهدف والنتائج لأنها من تقدير العزيز العليم.

ص: 24

نعم، ليس هناك احتمال للمصادفة فيما يقع، ولا للعشوائية فيما يجري.

فإذا تساءلنا عن ظهور هذه السيدة الجليلة فى حياة هذا الإنسان الكامل وفي هذا الظرف المحدد من عمرها، وما مر بها من شؤون وأحداث، وما عرف به رسول الله صلی الله علیه و سلم من تطلعه إلى الحقيقة - وتعطشه إلى الهدى، وموقفه من ثوابت عصره، و سلوكيات بيئته في جدها وهزلها وعلمها وجهلها، وحربها وسلمها .. لو تساءلنا عن ذلك كله بعد أن أصبح تاريخاً مدوناً ، وواقعاً مدهشاً، وحديثاً معجباً، يشغل الناس منذ أربعة عشر قرناً. فسنجد استحالة مطلقة أن يحل محل هذين الانسانين العظيمين - محمد بن عبدالله الصادق الأمين وخديجة بنت خويلد الكاملة الطاهرة - أى رجل وامرأة ممن سبقهما في الوجود، أو عاصر هما في الحياة، أو جاءت به القرون من بعدهما . وهذا ليس قولاً متزيداً، ولا تجاوزا للحقيقة، وإنما ينطق به الواقع المشهود، والنظر الوئيد، وهو قدر الله وتقديره سبحانه .

وسيدة النساء خديجة نشأت في بيئة مكة الحرام، التي تدور معاني السيادة فيها حول قيم تكاد ترتبط كلها بمعنى القداسة الموروثة لبيت الله الحرام، والبلد الحرام، والأشهر الحرم، فسدانة البيت العتيق شرف يتباهى به القائمون عليه، ويتوارثونه كابراً عن كابر، ويقاتل من أجله

قصي بن کلاب الجد الرابع لخديجة، ولمحمد بن عبد الله .

والرفادة والسقاية وغيرها تقوم بها بيوت تراها عماد مجدها، وآية شرفها . ورعاية قداسة المكان والزمان أمر تلتزم به كل بطون مكة، وأخلاق البداوة الفطرية من شجاعة وكرم، وحماية الجار، و إغاثة المستجير، و إباء الضيم ، لم يطفئها استقرار المدنية، ولا ترف التحضر .

ص: 25

وقد يقول قائل : هذه أمور يشارك خديجة فيها كثيرات ممن عاصرنها من نساء مكة و لكنا نقول : إن الذروة في كل شيء لاتتاح إلا لآحاد، وإن المواريث والاستعداد الفطرى لا يتساويان أبدا في سكان البيئة الواحدة و يعرف ذلك، بالسلوك الفردى والاختيار الشخصي بين المتاحات المتماثلة والمتباينة. فيتميز بهذا شخص عن آخر . ومن ينظر بعمق في حياة هذه السيدة ويلاحظ ما أكرمها الله به من نور وبصر وبصيرة، وما أحاطها به من رؤى، وما ألهمها من تدبر وتفكر، وتريث حماها من الاندفاع في المستنقعات الوثنية وعبادة الأصنام، فتأففت، وترفعت، ونفرت منها. وعندما جاءتها تلك الرؤيا العظيمة وأحست بذلك النور في هذه الرؤيا يهبط في دارها و يغمر كل شيء، و یبهر الأبصار، هبت خديجة من نومها وهي تعيش هذا الحلم، الذي ملأ عليها حياتها، ونور ليلتها فما أن استيقظت حتى حرصت على أن تستعيد تلك الرؤيا بين رهبة وأمل، وأخذت تتساءل عن هذه الشمس التي رأتها تهبط في دارها، وتضيء لها الدنيا حتى أصبح البيت كله نوراً وهرعت إلى ورقة بن نوفل كعادتها دائماً ورآها متلهفة وأخذ يسألها عن سبب مجيئها، فروت له تلك الرؤيا تماماً كما شاهدتها، وإذا بوجهه يتهلل وتبدو السعادة على ملامحه ويبشرها كعادته: البشرى البشرى يابنة العم فإن هذه الرؤيا إنما تعني أن الله سيكرمك بنور يدخل إلى منزلك وأحسب والله أعلم أنه نور النبوة (1) .

الله أكبر يا خديجة هذه بشرى عظيمة !! وخرجت شاردةً بذهنها بعيداً بعيداً، تتخيل هذا النور وتسترجع كل ما كانت تفكر فيه، و تحس به في نفسها و وجدانها وأخذت تسأل ورقة،

ص: 26


1- كما جاء في كتب السيرة، وكما جاء في كتاب «السيدة خديجة» لحسن الملطاوي ص 44

ماذا تعني بنور النبوة فقال لها : إنه نور من نور الله، ورسالته إلى الأرض، وأحسب أنه نور خاتم النبيين ياخديجة .

وهكذا عاشت خديجة على هذا الأمل، تسترجع هذا الحلم العذب، وتتمنى أن تتحقق الرؤيا .. ولهذا فقد راحت تتفرس وتدقق في كل من يتقدم لها، وتقيسه بمقياس ذلك الحلم وذلك النور الذي هبط في بيتها ، فردت الكثير ممن تقدموا لخطبتها، وظلت تنتظر أمر الله، وفتح الله ، وكرم الله ، ليحقق لها ذلك الحلم.

وجلست في يوم مع نساء قريش عند الحرم، وطافت بالبيت العتيق، وراحت تدعو الله أن يحقق حلمها، وعادت إلى النساء تجلس معهن يتجاذبن أطراف الحديث. وهنا جاء صوت يجلجل بجوارهن من حبر من أحبار اليهود وقف بجوار النسوة وأخذ ينادي: يا معشر نساء قريش . . يا معشر نساء قريش !! فالتفتت النسوة، وأخذن يصغين السمع فقال: يا معشر نساء قريش إنه يوشك أن يظهر نبي فأيتكن استطاعت أن تكون فراشاً له فلتفعل !! فضحكت النسوة وحسبن اليهودي يهرف بما لا يعرف، ورمينه بالحصباء، و استهزأ به جمع آخر منهن، وقبحه بعضهن و أغلظن له القول، كل هذا وخديجة بنت خويلد صامتة تنظر بعمق، وتفكر في مقولة اليهودي الذي هيج ما بنفسها من مشاعر، وأعاد إليها ذكرياتها وتذكرت الحلم، وتذكرت الحديث مع ابن عمها ورقة حول النبي القادم، و حول خاتم الأنبياء، وأحست أن هذا اليهودي لا يهرف بما لا يعرف وليس برجل مجنون بل إنه يعي ما يقول (1)

لقد تذكرت حلمها يوم أن رأت الشمس تهبط في سماء مكة لتستقر

ص: 27


1- كما جاء في كتب السيرة

في منزلها، وأدركت أهمية هذه الرؤيا، وأنها رؤية صادقة وأنها رمز لأحداث قادمة، فتذكرت بشارات ابن عمها ورقة بن نوفل، وما ذكر لها مما جاء في التوراة والإنجيل، وأحست أن هناك أمراً يعلمه الله قادم لا محالة وأن لها نصيباً في هذا النور القادم (1) وتذكرت ترددها على ابن عمها ورقة تأخذ عنه علمه، وتسأله عن خواطرها ورؤاها، وهو الهاجر للاوثان، الباحث في الأديان مع رفقة له، یسعون في ذلك سعيهم، ويرتحلون من أجل ذلك إلى مشارق الأرض ومغاربها، يطلبون الدين ويبحثون عن سمات النبي المنتظر ، وزمانه ، ومكان خروجه، و ترتحل معهم خديجة بروحها، ووعيها، وتطلعها وتساؤلها، وجمعها لحصاد بلغوه من سمات وأخبار .

تفعل هذا ولا حاجة لمثيلاتها إليه، وهي الشريفة فلا تسعى بهذا إلى شرف، وهي الثرية فلا تطلب بهذا مالا ولا ثراء، وهي المرغوبة

المطلوبة، فلا ترجو بهذا التعرض للأنظار، ولا استرعاء الانتباه .

وإذا هي سيدة أكرمها الله . . وكرمها . . واختارها لتكون بجوار سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في تلك المرحلة الحاسمة من حياته . . إنها اختيار الله . . هو أدبها . . وفضلها . . وأكرمها بهذا الفضل . فکانت زوج خاتم النبيين، وأم المؤمنين، وأم الذرية الطاهرين. .

وأول من وقف معه. .

وأول من صدقه . .

وأول من تزوجه . .

ص: 28


1- انظر کتاب رجال مبشرون بالجنة ترجمة سيدنا مالك بن سنان (رضي الله عنه) وكتاب أهل البيت تأليف الأستاذ أحمد خليل جمعة، نشر اليمامة للطبع والنشر والتوزيع دمشق

وأول من شهد له . .

ولهذا كانت خديجة . . ولم يكن أحد غيرها !!

ص: 29

ص: 30

نسب السيدة الطاهرة خديجة

لقد اختار الله سبحانه السيدة الكريمة لتكون زوجة لأعظم البشر سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ، وقد اختار لها الآباء والأمهات من أكرم العناصر، واختار لها البيئة التي نمت فيها وترعرعت . . فهي عطاء وراثة وبيئة، كريمة وأصل عريق وحسب ونسب كريم، اختارها الله وهيأها له، ورفدتها العوامل التي تركت طابعها المميز في كل ما أحاط بها من ظروف الزمان على امتداده، والمكان على تنوعه واتساعه .

ولا شك أن العرب هم أشد الناس عناية بالأنساب، وأكثر الناس حرصا على حفظها وتذاكرها، اعتزازا بالأصالة، ومباهاة بالخؤولة، ثم العناية الفائقة بنسب الأمهات مهما ترتفع الأصول وتبتعد . . وكان النسب عندهم علما يعنى به الحفاظ، وكان من أشهر علماء الأنساب في عصر الرسالة في مكة أبوبكر الصديق رضي الله عنه، وجبير بن مطعم بن عدي، ولو كان التدوين فاشيا قبل الإسلام لقرأنا من مآثر القوم وقصصهم ما يملأ مجلدات يزهو بها التاريخ، لكن عصر التدوين تأخر، وبقي علم الرواية فأثبت لنا ما رواه لنا عن الحفاظ الثقات من نسب صحيح . . وأشار الى الأنساب التي فيها شك أو ارتياب .. وبما أن قريشا أشرف القبائل العربية فنسبها محفوظ بشكل دقيق لا نظير له . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتسب الى عدنان، ويتوقف عنده ويقول عما بعد عدنان : «كذب النسابون» (1)

ص: 31


1- رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس

ويروى في هذا الصدد حديث لا ترفعوني فوق عدنان أو لا تجاوزوا معد بن عدنان . . وقرىء وقروناً بين ذلك كثيراً .

وإذا نظرنا إلى الشجرة الزكية التي كانت السيدة الطاهرة فرعاً منها، وجدناها تضم الخيار ممن عرفوا بكرم المنبت، ونقاء السيرة والسريرة، فسلسلة نسبها كما ذكرته كل المصادر: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب . .

إذن تلتقي هذه السيدة العظيمة مع رسول الله صلی الله علیه و سلم في جدهما قصي ابن كلاب. وقصي يعد من أعظم قادة مكة على مر عصورها قبل الإسلام. لقد توفي أبوه (كلاب بن مرة) وتركه فطيما مع أخيه زهرة بن كلاب، وتزوجت أمهما (فاطمة بنت سعد الأزدية) من ربيعة بن حرام العذري، فاحتملها إلى بلاده، وأخذت معها (قصيا) وبقي زهرة في مكة، لأنه بلغ مبلغ الرجال حين وفاة أبيه . وشب قصي في (بني عذرة) غريباً لا يعرف إلا أنه ابن (ربيعة) زوج أمه، حتى استب مع رجل من قضاعة فعيره بأنه ملصق فيهم، وليس من صميمهم، ودخل قصي على أمه يستطلعها الخبر فقالت له : صدق، إنك لست منهم ولكن رهطك خير من رهطه، وآباؤك أشرف من آبائه، وأنت قرشي، وأخوك زهرة، وبنو عمك بمكة، وهم جيران بيت الله الحرام. وعاد إلى مكة رجلاً ذا همة عالية، فوجد قبيلتي خزاعة وبكر تليان أمر البيت، وكانت خدمة الكعبة وولاية شئونها ولازالت شرفا يتنافس فيه المتنافسون . ورأى قصي أنه أولى بالكعبة ورعايتها من خزاعة وبكر لأنه قرشي، وقريش سليل إسماعيل وصريح ولده.

ص: 32

و نشبت حرب شديدة بين قريش وحلفائها بقيادة قصي من جهة، وبين خزاعة وبكر من جهة أخرى، ثم لجأوا الى الصلح والتحكيم، وحكموا

«يعمر بن عوف» فقضى أن قصياً أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة. وبدأت قريش بل مكة كلها بقصي عهداً جديداً، تضاءلت معه أمجاد

خزاعة وجرهم .

وأحدث قصي وظائف دينية إضافة إلى ما كان من قبل، وجمع بيده الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، وأسس دار الندوة، وجعل

بابها إلى الكعبة، وفيها كانت تجتمع قريش وتقضي أمورها وتتشاور . . وكان اللواء يعقد في هذه الدار، وكانت لا تزف عروس إلا فيها، وكذلك تدريع الصبية الصغيرة، وهي سن تستحق فيها أن تلبس لباساً يسمى الدرع، وسموه مجمعا لأنه جمع أمور قريش، ودانت له مكة وأيدته قريش بقوة، واعترفت به سیدا لا ينافس، وبعد وفاته قسمت تلك الوظائف الدينية بين أولاده، وظلت إلى ظهور الإسلام .

أما أبوها - رضي الله عنها - خويلد بن أسد، فهو في الذروة من قريش نسبا وشرفا ومكانة، سريا من سراتهم، وسيدا من ساداتهم، مقدماً فيهم الشرفه وسنه ومواقفه، ومما يذكر له انه واجه آخر التبابعة ملوك اليمن، وحال بينه وبين ما أراده من أخذ الحجر الأسود معه الى اليمن. وهو من أقران عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويذكر المؤرخون أنه كان ضمن الوفد الذي ذهب بقيادة عبد المطلب الى اليمن لتهنئة سيف بن ذي يزن، لانتصاره على الحبشة وطردهم من بلاده.

وأم السيدة خديجة هي فاطمة بنت زائدة، وينتهي نسبها إلى عامر بن لؤي، وجدتها هي هالة بنت عبد مناف الذي يصل إلى لؤي بن غالب، فكلا أبويها من أعرق البيوت في قريش نسبا وأعلاهم حسباً .

ص: 33

وهي تلتقي مع النبي صلی الله علیه و سلم في الجد الثالث عبد مناف. فهي كما قال الحافظ ابن حجر : من أقرب نسائه صلی الله علیه و سلم في النسب، ولم يتزوج غيرها من ذرية قصي إلا أم حبيبة .

وعمها: عمرو بن أسد، كان بعد وفاة أبيها يوم الفجار زعيم قومه ومقدمهم.

وأختها : هالة بنت خويلد . زوجها الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف .

وابن أختها : أبو العاص بن الربيع، الذي تزوج ابنتها زينب بنت رسول الله صلی الله علیه و سلم، والذي كان يلقب بالأمين، وقد اختلفوا في اسمه فقيل لقيط، وقيل الزبير، وقيل غير ذلك، وكان من رجال مكة المعدودين . وابن اخيها : حكيم بن حزام بن خويلد، وأمه صفية، وقيل فاختة، وقيل زينب بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى . قتل أبوه حزام يوم الفجار مع جده خويلد، ويقال عنه انه ولد في جوف الكعبة. كان من سادات قريش، وصديقاً للنبي صلی الله علیه و سلم قبل المبعث، وكان عالماً بالأنساب والأخبار، عاقلاً سرياً فاضلاً نقياً، ثم أسلم ونال شرف الصحبة والرواية عن النبي صلی الله علیه و سلم وحصل على الرفادة، ومن المعلوم أن حكيم بن حزام الأسدي قد أخذ هذه الرفادة بواسطة قصي عندما رأى قصي أن عبد الدار وهو أكبر أبنائه غير مؤهل وهمته دون همم إخوته ورأى فيه ضعفاً أكرمه فقلد حزام المكرمات الخمس وهي الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة ليبلغ بها، وثبت أخوته ولكن عندما سادت بنو عبد مناف أرادوا أخذ هذه المكرمات من بني عبد الدار قهراً وحالفهم على ذلك أربعة بطون من قريش هم: تيم ،زهرة، بنو أسد، بنو الحارث، ويعرفون بالمطيبين، وحالف بنو عبد الدار بطون مماثلة

ص: 34

هم: هصيص، مخزوم، بنو عدي، وبنو عامر بن لؤي، وأما حكيم بن حزام فقد آلت إليه دار الندوة بالشراء من بني عبدالدار، وباعها على معاوية . (1) ويكفيه شرفاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له «أسلمت على ما أسلفت من خير» .

وابن عمها: ورقة بن نوفل، بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان قد كره عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب، وكانت خديجة رضي الله عنها تسأله عن أمر النبي صلی الله علیه و سلم ، فيقول لها: ما أراه إلا نبي هذه الأمة الذي بشر به موسى وعيسى، ويحكى أنه قال في ذلك شعراً منه :

هذي خديجة تأتيني لأخبرها *** وما لنا بخفي الغيب من خبر

بأن أحمد يأتيه فيخبره *** جبريل أنك مبعوث إلى البشر

فقلت علَّ الذي ترجين ينجزه *** له الإله فرجّي الخير و انتظري

وأخرج ابن عدي في الكامل من طريق إسماعيل بن مجالد عن أبيه الشعبي عن جابر عن النبي صلی الله علیه و سلم : رأيت ورقة في بطنان الجنة عليه السندس .

وابن أخيها: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي . حواري رسول الله صلی الله علیه و سلم ، وأمه عمة النبي صلی الله علیه و سلم، صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب

ص: 35


1- «انظر تحفة الألباب في شرح الأنساب ص: 76-1/79» وسمي قصياً لأن أمه تزوجت بعد أبيه فسافر بها إلى بلاده وابنها صغير، قسمي قصياً لذلك، ثم عاد إلى مكة وهو كبير ولم شعث قريش وجمعها من متفرقات البلاد، وأزاح يد خزاعة عن البيت وأجلاهم عن مكة ورجع الحق إلى نصابه، وصار رئيس قريش على الإطلاق وكانت له الرفادة والسقاية وهو سنها والسدانة والحجابة واللواء وداره دار الندوة. من كتاب «محمد رسول الله» للشيخ أسعد صاغرجي، ص 108 .

الشورى في وصية عمر، أسلم وله اثنتا عشرة سنة، هاجر الهجرتين، وهو أول رجل سل سيفه في سبيل الله (1) ، وكان يوم بدر معتجراً بعمامة صفراء (2) ، فقال النبي صلی الله علیه و سلم: إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير، وفيه قال النبي يوم بني قريظة، «إن لكل نبي حوارياً وإن حواري الزبير » (3). هذه خديجة بنت خويلد .. وهذا نسبها الطاهر الكريم.. وأصلها الأصيل . . وقد التقت برسول الله صلی الله علیه و سلم في أكرم عصب . .

وأجل نسب . . فكانوا ذرية بعضها من بعض . . فكانوا فروعاً طاهرة لشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . . رضي الله عنهم جميعاً .

ص: 36


1- رواه الحاكم في «المستدرك» 360:3-361 وسكت الحاكم هو والذهبي، وفي إسناده ابن لهيعة، وعزاه الحافظ في «الإصابة» إلى الزبير بن بكار.
2- رواه ابن سعد 103:3 بإسناد صحيح.
3- رواه البخاري من حديث جابر (3719) ، وابن سعد 1 :105 من حديث عليّ .

مسكن السيدة خديجة رضي الله عنها

كانت دار أسد بن عبد العزى جد خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة للكعبة من شقها الغربي، بينها وبين الكعبة تسعة أذرع، فكان ظل الكعبة يقع على دار أسد بن عبد العزى في الصباح، وظل دار أسد يقع على الكعبة في العشي حتى إن دار أسد هذه تسمى «رضيعة الكعبة» لشدة قربها منها، وكانت الشجرة التي في فنائها تمتد أغصانها ناحية الكعبة فتتعلّق بها بعض أثواب الطائفين حول الكعبة، فقطعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفداها ببقرة.

وقد رأى عمر - رضي الله عنه - أن هذه الدار قد ضيقت كثيراً على الكعبة، وآذت الطائفين حولها، فهدمها، وأدخل أرضها في المسجد الحرام، وأعطى أهلها مالاً عوضاً عنها، بيد أنهم رفضوا أخذه، ثم أخذوه بعد أن طعن عمر رضي الله عنه، ومات، وقيل لهم : لمن تتركونه؟

وحين تزوجت خديجة رضي الله عنها قبل الإسلام زواجها الأول قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنت بفوة أجياد الكبير، أسفل «جبل خليفة» الذي يسميه الناس اليوم «جبل القلعة» في موقع مدخل النفق المواجه لباب الملك عبد العزيز، ولما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلها الى البيت الذي ابتنى بها فيه، والذي كان قبل ذلك لحكيم بن حزام، فاشتراه منه رسول الله صلی الله علیه و سلم . ويقع شرقي المسعى، أمام باب النبي صلی الله علیه و سلم الحالي، مع میل قليل إلى الشمال، وعلى بعد خطوات ليست كثيرة من الباب . وفيه انجبت خديجة رضي الله عنها جميع أولاده صلی الله علیه و سلم، و فيه توفيت رضي الله

ص: 37

عنها، ومنه هاجر رسول الله صلی الله علیه و سلم، ثم باعه عقيل بن أبي طالب بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا البيت هو الذي أشرق فيه نور الإسلام، وأضاء الخافقين، وهو البيت الذي شهد انطلاق الرسالة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو البيت الذي تردد فيه جبريل الأمين على طٰه الأمين، وأوحى إليه فيه بالسبع المثاني والقرآن العظيم (1). وهو البيت الذي مكث فيه صلی الله علیه و سلم ثلاث عشرة سنة يدعو الناس منه إلى التوحيد، وترك عبادة الأوثان، ومن هذا البيت قدَّم رسول الله نفسه لقريش وللناس، أنه مرسل من رب العالمين، ومنه استنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة لقريش وللناس كافة فنزل عليه فيه (يَأْيُّها المُدَّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبِّكَ فَکَبّرْ . .) و (يَأَيُّهَا الْمُزَّملُ قُمِ أَلَّيْلَ إِلَّا قَلِيلَا . .) وأنزل عليه (فَأَصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ . .﴾ و ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) وقوله تعالى ﴿ قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) ثم إنه نزل في هذا البيت أكثر من ثلثي سور القرآن الكريم .وخلاصة أقوال العلماء هنا هي أن الذي نزل من القرآن بمكة اثنتان وثمانون سورة والذي نزل بالمدينة المنورة عشرون، و هذا بدون خلاف و أن الذي اختلف فيه اثنا عشرة سورة . (2)

وذكر أهل السير أن كبار كفار قريش مثل : أبي جهل، و أبي سفيان بن حرب و الأخنس بن شريق ، كانوا يستمعون خفية حول هذا البيت لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طوال الليل حتى الفجر .(3)

وقد أهدت خديجة رضي الله عنها بيتها الذي كان لها في أجياد إلى

ص: 38


1- في موكب السيرة النبوية ص: 24 للشنقيطي
2- المدخل لدراسة القرآن الكريم ص: 203 لمحمد محمد أبي شهبة .
3- السيرة النبوية لابن هشام .

ابنتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم «زينب» حين تزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى، وفيه ولدت له ابنته أمامة، ومنه هاجر أبو العاص ابن الربيع رضي الله عنه، فأخذه بعد هجرته بنو عمه مع ما أخذوا من رباع المهاجرين.

ص: 39

الصورة

رسم تقريبي لبيت السيدة خديجة المشهور بمولد السيدة فاطمة (بمكة)

انظر الصورة أسفل الصفحة 41

ص: 40

الصورة

رسم تقريبي للكعبة المشرفة وللدور التي كانت تحيط بها كما وصفت في الكتب القديمة ومنها دار اسد بن عبد العزي جد السيدة خديجة وهي الدار التي سكنتها قبل زواجها

منظر عام لبيت السيدة خديجة رضي الله عنها كما كشفت عنه حفريات التوسعة و تظهر فيه غرف المنزل وساحاته كما وصفت في الكتب القديمة

ص: 41

الصورة

صورة مكبرة للمحراب الموجود بمكان استقبال الوفود في منزل السيدة خديجة و كان يصلي فيه الرسول صلی الله علیه و سلم

ص: 42

الصورة

مدخل غرفة الرسول صلی الله علیه و سلم في منزل السيدة خديجة رضي الله عنها و قد كانت هذه الغرفة من الأماكن التي يتعبد فيها رسول الله صلی الله علیه و سلم

ص: 43

الصورة

مكان مولد السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها

ص: 44

الصورة

خارطة قديمة لمكة المكرمة وتظهر فيها المواقع حول المسجد الحرام ومنطقة الشعب و دار أبوطالب و دار السيدة خديجة ودار أبو سفيان والمولد النبوي

ص: 45

الصورة

خريطة لمكة المكرمة وتظهر فيها المواقع التي ذكرناها في الكتاب حول المسجد الحرام ثم ربط ذلك بالشوارع المحيطة بالمسجد

ص: 46

الصورة

خريطة لمكة المكرمة وتظهر فيها منطقة سوق الليل والفشاشية وفيها مكان بيت السيدة خديجة أم المؤمنين

ص: 47

الصورة

صورة جوية حديثة لمنطقة ما بعد التوسعة حول المسجد الحرام وتظهر فيها المناطق الأثرية محددة وكذلك منطقة الشعب

ص: 48

السيدة خديجة في الجاهلية

لم تكن السيدة خديجة رضي الله عنها امرأة عادية في الجاهلية . . بل تميزت بأنها ذات جاه و وجاهة، وإيمان فطري . . وسمو نفس، وطهارة

سلوك، حتى سميت بالطاهرة . . وعرفت بهذا اللقب قبل الاسلام، فهي امرأة قريبة من مصادر الإيمان. . تشعر في أعماق نفسها بكثير من القلق نحو الوثنية الجاهلية . . ولهذا كانت كثيراً ما تلجأ لورقة بن نوفل حتى قبل زواجها من رسول الله صلی الله علیه و سلم، تعرض عليه مناماتها . . وكل ما يمر بها من إحساس أو رؤيا تراها . . أو هاجس تحس به، و هي بالجملة في قلق من جو الجاهلية، و ضلالات الوثنيه، وهى ليست بدعاً في سلوكها، وليست الوحيدة التي تحس بهذا الإحساس نحو الوثنيه الجاهلية، والسيدة خديجة أدنى ما تكون من ورقة بن نوفل بن عبد العزى، ودنوها منه كان على نحوين من الدم والود الفكري . . وكان هذا الود، أو القرابة الفكرية، ينتزع إعجابها به انتزاعا، ويحملها على كل لون من ألوان الخلود إليه، في سكينة واطمئنان . . وبلغ ذلك عندها ما بلغ حتى غدت أشبه بتلميذة، تسترشده وتستنير يرأيه في كل ما يعرض لها، من أمر نفسها، وشئونها .

ولاشك أن حياة السيدة خديجة كان فيها من الفطرية والنقاء ما أسهم في قبولها لدعوة الرسول صلی الله علیه و سلم، عندما حدثها بخبر السماء، بل إنها وقفت إلى جانبه وأيدته حتى قبل أن يعرف هو أنه نبي، وكان في خوف وقلق واضطراب .

و من ينظر بعمق في هذه المسألة و يتأمل في حياة هذه السيدة في

ص: 49

الجاهلية يرى أنها كانت من تلك الطليعة التي كانت تفكر وتتأمل فيما يفعله القوم من حولها، من عبادة للأصنام، وسؤال للأزلام، فكانت تنفر من كل ذلك، ولا تقبله، ولكنها لا تستطيع أن تفصح عن كل ما تحس به، بل كانت تكتفي بالتفكير العميق، وتقترب من كل أولئك الذين ينحون هذا المنحى، وينهجون هذا المنهج، حتى تصل إلى حالة من الرضا والطمأنينة، فكان الناس يرونها كثيرة التردد على ورقة بن نوفل تسترشده، وتستهديه، وتسأله عن أمور تمر بها في أحلامها، و تعكس ما يجول في خاطرها من نفور من هذه الأصنام، ولهذا فما أن رأت النور حتى كانت أول المؤمنين به صلی الله علیه و سلم، و أول الساعين إليه، و أول المؤيدين له، فقد كان فيه استجابة لكل تلك الرؤى التي كانت تراها ، وكان فيه إجابة لكل التساؤلات التي حامت من حولها .

ومن ينظر بعمق في أحلام السيدة خديجة يجد أن الأمور اللافتة في أحلامها مثلاً أنها كانت دائماً بيضاء مشرقة، ومعناه أن نزوعها على رغم ما يصدقه، كان مشفوعاً بالثقة المحض، وترقب الانتصار (1)

والحقيقة أن ورقة بن نوفل نفسه لم يكن الوحيد الذي أنكر تلك الوثنية . . بل هناك جماعات كثيرة كانت تقف في تردد . . و بعضها في خجل . . ومعظمها في شك من تلك الآلهة التي تعبد في الجاهلية، حتى إن بعضهم يضرب رأس الصنم إذا لم تأت الأمور كما يشتهي، وبعضهم يأكل إلهه بعد ما صنعه من تمر، كما فعل عمر بن الخطاب في الجاهلية، وبعضهم يسخر من إلهه عندما يرى الثعالب تبول عليه، وأنشد شعرا في ذلك يقول فيه :

أرب يبول الثُّعلبانُ برأسه *** لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالب

ص: 50


1- مثلهن الأعلى السيدة خديجة للشيخ عبد الله العلايلي ص: 29

ولنقرأ معا هذا النص لابن إسحٰق كما أورده الشيخ عبد الله العلايلي حدث ابن إسحٰق: أن قريشا اجتمعوا في عيد لهم يوماً، عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه، وينحرون له، ويعكفون عليه ويطوفون به . وكان ذلك عيداً لهم في كل سنة يوماً، فخلص منهم أربعة نفر نجيا ، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا، وليكتم بعضكم على بعض. قالوا : أجل، وهم: ورقة بن نوفل بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن أسد بن عبد العزى، و زيد بن عمرو بن نفيل . فقال بعضهم لبعض :

تعلمون والله، ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. ما حجر نطيف به، لا يسمع، ولا يبصر ، ولا يضر، ولا ينفع . . يا قوم

التمسوا لأنفسكم ، فإنكم والله ما أنتم على شيء.

فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم . . فأما ورقة بن نوفل، فاستحكم في النصرانية وابتاع الكتب من أهلها، حتى علم علما من أهل الكتاب، وأما عبيد الله بن جحش، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، فلما قدم الحبشة تنصر، وأما عثمان بن

الحويرث ، فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر ، وحسنت عنده منزلته .

وأما زيد بن عمرو بن نفيل، فوقف، فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل المؤودة، وقال أعبد رب إبراهيم، و بادی قومه بعيب ما هم عليه .

وكان يرى مسندا ظهره الى الكعبة وهو يقول : يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح أحد على دين إبراهيم غيري .

ثم يقول :

ص: 51

اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه . . ثم يسجد على راحتيه. وله شعر كثير بهذا المعنى ومنه :

أربا واحدا أم ألف رب *** أدين إذاتقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعاً *** كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا عُزى أدين ولا ابنتيها *** ولا صنمي بني عمرو أدور

ولا غنما أدين وكان ربا *** لنا في الدهر إذ حلمي يسير

عجبت، وفي الليالي معجبات *** وفي الأيام، يعرفها البصير

واستمر به شأنه، حتى خرج يطلب دين إبراهيم، ويسأل الرهبان والأحبار، حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام جميعا، وعلى أنه شام اليهودية والنصرانیة، فلم يرض شيئا منهما، فآب يطلب مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه(1) .

ويعلق العلايلي على ما رواه ابن اسحاق فيقول (2) : هذه الرواية تحمل إلينا الكثير الكثير، وتوقفنا على ما نود أن نقف

عليه، وترينا بكل وضوح مكان الريب وحدته من النفس العربية، و مكان الضيق بهذا الريب، ورغبة التحرر منه، على أي شكل . . ولا بأس بأن يكون أي شكل، فهو أرحب وأغنى وأمتع . ولا تعجل فتظن أن هذا الاستخفاف المرتاب، إنما خالط هذا النفر فحسب، فقد كانوا من مجتمعهم الطليعة، ومن كثرتهم الصفوة المختارة . . أما الجماهير الغفيرة الضخمة، فقد كانت قانعة مغتبطة، يلذ لها ما تمارس من طقوس وتباشر من شعائر، وما تصطنع من عبادات تجد فيها عبادة تأملها . . و ما يدرينا، لعلها كانت تجد فيها أكثر

ص: 52


1- راجع ابن هشام في السيرة 1 ص : 248،242
2- العلايلي.

من ذلك، تجد فيها تعبيراً أتم وأوفى.

هذا صحيح، لو كانت الرواية المذكورة هي كل ما لدينا من كوى ونوافذ نطل منها، ونستشفَ من خلالها، ولكن الروايات - و أريناك جانبا منها - كثيرة كثرة مطلقة، وهي كافتها بمكان ذلك الريب المستخف ، والجحود المتنكر. على أن هذه الرواية و إن تك مثالاً خاصاً، فإننا وضعناها موضع البيان والشاهد، لأمر بعينه، لتجيء موضحة مبلغ الارتياب وحدته وشبوبه .

وهي في هذا القصد وافية أكبر إيفاء، ومعلنة أبلغ إعلان، بأنه كان ريباً حاداً، يتميز بالعنف واللوعة، والتساؤل المنطوي على مرارة . . وليس على فجيعة هذه الوثنية في قلوب أبنائها المتحركة فيهم بظفر وناب، من شخص «زيد بن عمرو بن نفيل» ذلك الرجل المأساة، وبعبارة أخرى، ذلك الرجل الذي كان يحمل المأساة في الضمير، يريد لو يتخفف منها على أي نحو .

إنه يحاول أن يهرب ولكن عبثاً يسعى وعبثاً يحاول، فهربه منها هرب من نفسه، وما كان ذلك هيناً يسيراً، وما كان ذلك مستطاعاً سائغاً . .

فقد يوسع الخطوة هنا وهناك، ضارباً بين فجاج وسهول، يلتمس يقينه الضائع واطمئنانه الشرود.

إنه ليس بمطيق أن يسكن إلى ما عنده، وهو حين يسكن إليه أو حين يحاول، فإنما يجمع نفسه إلى حيرة بالغة الأسى، لاتفتأ تدور عنده بمثل مس الشوك اللاهب، وتتوهج في خياله «كأطراف الرماح» على حد تعبير والبة بن الحباب في القديم.

وأي طعم هو أكثر مرارة وأنفذ واخزة من قوله :

ص: 53

أرباً واحداً أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور

ومن يتتبع نظرة هذه الفئة إلى ماحولها من عبادة للأوثان وتعلق بها، یحس بأن تلك الطليعة من ورقة بن نوفل ومن حوله والسيدة خديجة التی كانت تتردد عليه كانو ينكرون هذه العبادات، ولا يرتاحون إليها على أية حال ، وينتقدونها، ويغمزون ويلمزون، ويستغربون تعدد الأرباب من ناحية، ويركزون على حيرتهم كيف يصنع الانسان رباً من تمر ثم يأكله ! أو يغضب من رب فيحطمه! أو يكسل عن رب فيهجره؟! فكل تلك الأرباب بالنسبة لهم لم تكن مقنعة، بل كانت مقلقة .

هكذا إذا كان وضع هذا النفر في خضم الجاهليه الوثنيه الطاغية . .

وهكذا نحس بأن هذه السيدة الجليلة خديجة كانت على منهج هذا النفر و قريبة . . منه . . وكانت في شك وريب وحيرة وقلق مما حولها ومن حولها من عبادة الأوثان. . حتى شاء الله أن تكون أول من آمن برسالة سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم و بهذا اطمأنت نفسها . . واستقرت وهداها الله عزوجل إلى صراطه المستقيم.

أزواجها و ذريتها قبل الرسول صلى الله عليه وسلم

ما إن بلغت السيدة الطاهرة سن الزواج حتى كانت محط أنظار الشباب من قريش، و من يداني خديجة في مكانتها ! إنها من أعرق بيوتات قريش نسباً، لقد نشأت في بيت واسع الثراء، إلى جانب ما ورثته من شرف الأصول وطهارة المنبت، وكانت فتاة جميلة، راجحة العقل، كريمة الأصل. فتزوجها (أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي) و عاشت معه مدة

ص: 54

قصيرة ورزقت منه بولدين : هند وهالة . . ثم توفي تاركا لها ثروة ضخمة .

ثم تزوجت من بعده عتيق بن عائذ المخزومي، ثم توفي عنها بعد أن رزقت منه ببنت اسمها هند كذلك.

و عاشت السيدة خديجة عيشة هنية راضية مع أولادها هند وهالة ابني أبي هالة، وهند بنت عتيق بن عائذ المخزومي.

أما هند بن أبي هالة :

فقد عاش مع أمه خدیجة بعد وفاة أبیه، و حینما تزوجت سیدة العظيمة من رسول الله صلی الله علیه و سلم لم يفارقها، وتربى في حجر النبي الكريم، وكان يباهي أنه ربيب رسول الله صلی الله علیه و سلم، وتأثر بالأخلاق العالية التي أكرم الله بها محمداً صلی الله علیه و سلم، وأهل بيته.

وهو الذي نقلت عنه صفات رسول الله صلی الله علیه و سلم وهيئته فقد طلب منه ابن اخته الحسن بن علي رضوان الله عليهم أجمعين أن يصف رسول الله صلی الله علیه و سلم فوصفه له .

وشارك هند رضي الله عنه في غزوة أحد، وقد روى ابن حجر في الاصابة بسنده أن هنداً قال : قلت : يارسول الله ما حملك على أن نزعت ابنتك عن عتبة بن أبي لهب حتى حرشته عليك ؟ فقال صلی الله علیه و سلم : «إن الله أبى لي أن أتزوج أو أزوج إلا إلى أهل الجنة» قال أبو عمر : كان هند هذا فصيحاً بليغاً، وصف النبي صلى الله عليه وسلم فاحسن واتقن (1) وقد قتل هند بن السيدة العظيمة في معركة الجمل، وكان في جيش علي بن أبي طالب، رضي الله عن جميع أصحاب رسول الله .

ص: 55


1- الإصابة لابن حجر.

وأما ابنها هالة بن أبي هالة، فتروي بعض المصادر أنه شبَّ وترعرع ثم وقد الى المدينة، فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح عند سماع صوته وقال : اللهم هالة، ثم ضمه الى صدره.

ولا يصح هذا الخبر، والصواب أن من استأذن على رسول الله، خالته هالة أخت السيدة خديجة، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم لقدومها وعرف في صوتها استئذان خديجة، وقال اللهم هالة(1) .

ويبدو أن الذي أورد الخبر الأول خلط بين الشخصين لتشابه الاسمين فساق الخبر على أن الذي وفد واستأذن هو هالة بن أبي هالة .

هند بنت عتيق بن عائذ المخزومي

لقد عاشت هند مع أمها العظيمة خديجة إلى أن بلغت سن الزواج، فتزوجها ابن عمها (صفي بن أميه بن عائذ المخزومي )، فولدت له محمداً، وقد عاش محمد وكانت له ذرية في المدينة المنورة، وكان يطلق على هذه الذرية «بنو الطاهرة» لما كانت تتمتع به جدتهم رضي الله عنها من صفات عظيمة، ولما لها من الأثر الكبير والذكرى العطرة والمكانة العالية في نفوس المسلمين.

الرحلة إلى الشام

كانت خديجة رضي الله عنها ترسل الرجال في تجارتها الى الشام . . و الى أماكن أخرى . . وكانت دائما تدقق و تمحص، وتختار حتى تضمن سلامة أموالها . . و عظيم ربحها. . وكانت تسمع عن أمانة سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم . . وما يقوله الناس عنه . . وما يشهدون له به من أمانة . .

ص: 56


1- رواه البخاري.

وصدق . . وعفاف . . ثم تذكرت عندما كانت تجلس مع نساء أهل مكة يوم اجتمعن في عيد لهن في الجاهلية، فتمثل لهن رجل ؛ فلما قرب نادى بأعلى صوته: يا نساء مكة؛ إنه سيكون في بلدكن نبي يقال له، أحمد فمن استطاعت منكن أن تكون له زوجاً فلتفعل ؛ فحصبنه ( أي رمينه بالحجارة ) إلا خديجة، فإنها عضت على قوله، ولم تعرض له، وخالف موقفها كل النساء.

ثم هاهي ذي تتسمع لشائعة وبشرى تنطلق هنا وهناك عن نبي آخر الزمان، وأحاديث ابن عمها ورقة وأترابه من الباحثين عن الدين الصحيح، والنبي المنتظر، وتذكرنا تطلع ابنة عمها رقية بنت نوفل الى أن تكون أما لجنين من عبد الله بن عبد المطلب - حين شامت في وجهه علائم توحي بأنه أبو النبي المنتظر ، فدعته إلى نفسها علها تكون أم ذلك النبي. ولكن والد الرسول صلی الله علیه و سلم رفض طلبها، ولم يقبل عرضها، فقد عرف بنبله وطهارته واستقامته، وهذه الحادثة تؤكد ماعرف عنه من أخلاق كريمة، وما روي عن كعب الأحبار في تنقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاصلاب الطاهرة، وتصادق على ماذكره سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم عندما قال : «خرجت من نكاح غير سفاح» وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام» (1) فالله سبحانه وتعالى قد اختار لسيدنا محمد والده من أسرة كريمة وأصلاب طاهرة نظيفة، وأودعه رحم أم كريمة عرفت بنبلها وطهرها، وهذه من خصائصه صلی الله علیه و سلم . كل هذا وغيره جعل خديجة تتبع أخبار فتى بني هاشم، وأمين قريش محمد بن عبد الله - وتختزن في ضميرها كل ما يصل إليها من أنباء عفافه و مروءته وصدقه

ص: 57


1- البیهقی .

وأمانته، وتصونه كما تصونت هي عن أدران الجاهلية و أوثانها، و سيء عاداتها .

فما أن سمعت حث عمه أبي طالب لابن أخيه الأمين أن يعرض على خديجة أن يسافر في مالها إلى الشام، حتى أرسلت هي إليه - كما تحكي بعض الروايات - أو رحبت بعرضه أو عرض عمه أبي طالب، واعدة أن تعطيه ضعف ما تعطي غيره، وكأنها وجدتها فرصة تربط فيها أسبابها بأسباب محمد الأمين، وكأني بها أرادت أن تجمع الخبرة العملية، إلى الخبر المستفيض عن هذا الفتى الأمل .

يحكي الرواة أن خديجة التي ولدت قبل الهجرة بثمان وستين عاماً، واتصفت بالحزم، والرشد، والعفة والعقل، حتى دعاها قومها في الجاهلية الطاهرة . وكانت تاجرة ذات مال، تستأجر الرجال في مالها، وتدفع لهم المال مضاربة، فيكون عيرها وحدها كعامة غير قريش، وبلغها عن رسول الله صلی الله علیه و سلم ما بلغها من صدقه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقة، وقول أبي طالب لابن أخيه صلی الله علیه و سلم: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة؛ وهذه خديجة تبعث رجالا من قومك؛ يتجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك . وبلغ هذا الحديث مسامع خديجة فأرسلت هي إليه. ومما روى الواقدي وابن سعد وغيرهما أنها أرسلت إليه في ذلك، فكان مما قالته : إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، (ذكره ابن اسحٰق) .

وعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل مما كانت تعطى غيره من التجار - وفي رواية أن أبا طالب شرط عليها

ص: 58

ضعف ما تعطي غيره، فرحبت سعيدة بذلك. وقبل رسول الله صلی الله علیه و سلم عرضها، وخرج في مالها، الى بصرى بالشام، وأرسلت معه غلامها ميسره، وأوصته أن يقوم على خدمته، وألا يخالف له أمراً ، وأن يرصد لها أحواله وقيل : أن أبا طالب ذهب إليها وقال لها : يا خديجة، هل لك أن تستأجري محمداً؛ فقد بلغنا أنك استأجرت غلاماً ببكرين (1) ولسنا نرضى لمحمد دون أربع أبكار، فقالت : لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب وأيا ما كان، فقد ارتحل هو وميسرة وبلغا بصرى، فباعا بضاعتهما بضعف ما كانت تربح من قبل، واشتريا ما يعودان به بأربح مما كان يشتري من قبل . . وعادا سالمين غانمين . وتقدم ميسرة عند دخولهما مكة ليكون بشيراً بسلامة العودة، ووفرة الربح، وكانت خديجة مع نساء لها في علية لها تنتظر سماع بشرى ميسرة، وما يعدده مما رأى من عجائب مع الأمين ومن بركة تجلت في یسر الرحلة، ورواج التجارة، وسهولة البيع والشراء، ومضاعفة الربح ، وتبدى على البعد محمد الأمين على ناقته ميمماً بيت خديجة، فأشرفت من عليتها، ولما جاء ميسرة حدثها فقال : رأيت الغمامة تظلله في كل هاجرة . . إذا سار سارت معه، وإذا جلس ثبتت فوق رأسه لا تتحرك . ورأيت شجرة جلس تحتها، فمالت عليه بأغصانها تظلله، وكان مجلسنا قريباً من صومعة راهب (بعض السير تسميه بحيرى، وبعضها تسميه نسطوراً وبمراجعة السيرة وجدنا أن الحقيقة أن الراهب الذي التقى به ميسرة في تجارة خديجة في مسيره مع رسول صلى الله عليه وسلم هو نسطور،

ص: 59


1- البكر بفتح الباء الفتي من الإبل، والأنثى منه بكرة. «مختار الصحاح»

وليس بحيرى، وإنما بحيرى التقى به في رحلته الأولى (1) مع عمه أبي طالب حينما أخذه معه إلى الشام وعمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وهو الذي أشار على عمه بالرجوع به إلى مكة خشية عليه من مكر اليهود) ودعاني الراهب فسألني قائلا : من هذا الذي يجلس تحت الشجرة ؟

فقلت له : إنه محمد بن عبد الله . . فتى من أهل الحرم .

فقال الراهب : إنه والله نبي هذه الأمة، وهذه الشجرة ماجلس تحتها إلا نبي. وأخذ يسأل عن بعض شأنه، فقال له ميسرة، ان رجلاً بايعه - فاستحلفه باللات والعزى - فغضب محمد وقال : ما حلفت بهما قط، وما أبغض شيئا مثلهما، فقبل الرجل الصفقة، وقال لي : هذا والله النبي الذي نترقبه، فاحرص عليه ثم انصرف (2).

و بین دهشة خديجة وصواحبها من هذا الحديث، وصل محمد الأمين فسلم حيباً، وأدى ما عنده من أموال خديجة، ثم انصرف وخديجة في عجب ودهشة، تدور في نفسها رؤى وخواطر وتساؤلات :

أهو . . هو . .؟ هل محمد الأمين هو النبي المأمول ؟ والأمل المرتقب !!

وسارعت فأرسلت اليه ضعف ما شرطت . وكانت فرصة أن وُفِّقت لاستئجاره و إرساله . . فقد عاد بالربح الوفير . . والخير الكثير . . والخبر المثير . . وكان أمينا في كل شيء. .

وعلى كل شيء . . وكانت رحلته إلى الشام بداية حديث في النفس .

ص: 60


1- ذكره الحافظ ابن حجر في «الإصابة» وعزاه إلى مغازي ابن إسحق، وهو مروي فی «طبقات» ابن سعد 1 : 121 ورواه مطولاً ابن أبي شيبة في «مصنفه» (37244) من طبعة دار القبلة . ولقاؤه صلی الله علیه و سلم بنسطورا : مروي في «طبقات» ابن سعد أيضاً 1: 130
2- رواها ابن سعد في «الطبقات» 1 : 130

خديجة . . كانت من الحنفاء

عندما ارتبطت السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها برسول الله صلی الله علیه و سلم كان المجتمع المكي مجتمعاً تعمه الوثنية الحمقاء التي تقدسها جاهلية الآباء والكبراء من أهل الشرك والضلال والظلم والظلام، ومع ذلك كله فقد ظهر بين الحين والحين من ينأون بأنفسهم الزكية عن تلك المسيرة الهوجاء، فنوّر الله قلوبهم وساروا بنوره عزوجل نحو إيمان بأن الله واحد أحد، وأنه رب هذا البيت، وأن هذه الأصنام التي يعبدها الناس لا تضر ولا تنفع، ولهذا فقد كانوا مرتبطين بقلوبهم بالله، وعقولهم تبحث جاهدة عن حقيقة هذا الإلٰه وهؤلاء هم الحنفاء الذين ساروا على منهج التوحيد، ومنهم شهداء باعوا أنفسهم لله ، ومنهم صدوق صادق يشهد بوحدانية الله، وينظر بنور البصيرة في عالم الملك والملكوت، فهداهم الله إلى ملته الحنيفية البيضاء، على أننا لابد أن نعلم أن الحنيف هو الذي ولد على دين الفطرة ولم تخرجه ملابسات الزمان ولا المكان عن توحيد الله، فالله سبحانه وتعالى يرعى هؤلاء وينير لهم الطريق بنور الحق وهم الحنفاء. و إذا بدأنا بالبداية الأولى فإنها تبدأ بسيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، هو الذي تحلى بها وتجلى بسرها، فتحدى قومه وكسَّر الأصنام، ونصح أباه آزر بالدخول في دين التوحيد، فأعرض وأصرّ على مجاراة قومه في وثنيتهم فأقسم إبراهيم ليحطمن أصنامهم بعد أن يولوا مدبرين، وقد فعل بأصنامهم ما فعل عليه الصلاة والسلام فأوقدوا ناراً و وضعوه في المنجنيق لإلقائه في النار، فكان آخر كلامه حسبنا الله ونعم الوكيل،

ص: 61

ونزل جبريل عليه السلام قبل أن يلقى الخليل في النار وهو موضوع في المنجنيق فقال جبريل ألك حاجة يا إبراهيم فقال له الخليل عليه السلام: أما إليك فلا ! فقال له : أسأل لك الله تعالى، فقال: علمه بحالي يغني عن سؤالي ! ثم ألقوه في النار فقال الله : (يَنَارُ كُونِي برداً

وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَهُمُ الْأَخْسَرِينَ) وهكذا كان الحنفاء دائماً في صلتهم بالله، فالله حافظهم وناصرهم ومؤيدهم.

فلا عجب إذا كانت سيدتنا خديجة تمشي في ظلمات الليل البهيم إلى غار حراء لتؤدي لزوجها عليه الصلاة والسلام متتطلبات حياة العُبّاد المخلصين، ولا تخشى في طريقها المظلم بالليل شيطاناً مريداً، ولا لصاً عنيداً، ولا سبعاً كاسراً، ولا مجرماً غادراً، لأنها في أمان الله .

وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمان

فاصطد بها العنقاء فهي حبائل *** واقتد بها الجوزاء فهى عنان

فأمنا السيدة خديجة ما نامت عن المخاوف، وإنما قامت برسالتها خير قيام مع زوجها عليه الصلاة والسلام كما قامت مع أهلها بواجبها على أحسن حال، ورعت الأرامل، والأيتام، والوافدين إليها، من أهل البر والإحسان، وطلاب المعرفة والحقيقة الموصلة إلى رضوان الله .

حنفاء آخرون

وهناك مجموعة من الحنفاء منهم الشهيد زيد بن عمرو بن نفيل ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الذي دان بدين الحق ودعا إليه فاجتمعت عليه قبيلة كلب على مشارف الشام وقتلوه فمات شهيداً ليبعث أمة وحده كما أخبر عنه النبي صلی الله علیه و سلم . ومنهم قُس بن ساعدة خطيب عكاظ العظيم، وقد قال المستمعيه إن لله دينا غير ما أنتم عليه، والله إن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً

ص: 62

سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج . إلى آخر ما قال .

ثم يأتي بالدليل تلو الدليل ليبرهن على عقيدة توحيد الله تعالى، وقد سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه خيراً، ومنهم أكثم بن صيفي حكيم العرب ومرشدهم إلى سبل الخير، ومنهم زهير بن أبي سُلمى حكيم الشعراء وفخر الأدباء وهو الذي يقول في معلقته : -

ومهما يكن عند امرى من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

فلا تكتُمن الله ما في نفوسكم *** ليخفى ومهما يُكتم الله يعلم

يؤجل فيوضع في كتاب فيدخر *** ليوم حساب أو يعجَل فينقم

. . . . . . . . . إلى آخر القصيدة

فهو في أبياته هذه يقر بتوحيد الله تعالى، ويصفه بأنه يعلم كل شيء و كل ما يعمل الإنسان يوضع في كتاب فيدخر ليوم القيامة فيحاسب عليه صاحبه فهو مؤمن بالبعث والحساب وباليوم الآخر .

وقد أوصى ولديه كعباً وبجيراً أن يسبقا الناس إلى خبر سيرد من السماء قريباً، وتوفي قبل البعثة النبوية بعامين تقريباً و كان يقصد بخبر السماء بعثة النبي صلی الله علیه و سلم و لم يدرك نزول خبر السماء وأسلم ابناه من بعد .

و من الحنفاء النبلاء ورقة بن نوفل ابن عم السيدة خديجة الذي دان بالحنيفية السمحاء ولم يكتف بالتعبد بها بل حملته همته العالية أن يتعلم العبرانية ويقرأ كتب أهل الكتاب ويتبحر فيها .

وهو الذي قال عند ماذكر له النبي صلی الله علیه و سلم ما جرى له في غار حراء : هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، هذا الناموس الذي أنزله الله على عيسى، ياليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجيّ هم؟» قال نعم لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به

ص: 63

إلاَ عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً (1).

ولم يلبث إلا قليلا وتوفى رضي الله عنه مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت آيات المدثر سارع للاسلام سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه ، وكان من الحنفاء الموثوق بهم، ولم يسجد لصنم قط، وكان مسموع الكلمة في أهله وفي قريش وغيرهم لصدقه وأمانته رضي الله عنه الله عنه وأرضاه وسارع سيدنا علي كرم الله وجهه مع صغر سنه وحداثة عمره رضي الله عنه .

ومنهم عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم .

ومنهم عداس غلام عتبة بن ربيعه ، وسلمان الفارسي وغيرهم.

هذه طائفة ممن عرفناهم من حنفاء العرب من الرجال.

ودعونا الآن نلقي الضوء على الحنيفيات من نساء العرب

فأول من نبدأ بها السيدة آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت ترى النور الرباني، وتأتيها البشارات بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من الملائكة و ممن سبقها من أفاضل نساء الأولين السيدة أسيه امرأة فرعون، والسيدة مريم أم سيدنا عيسى، وكل أولئك بشرن بميلاد خير الأنام صلى الله عليه وسلم.

وكذلك كانت أمهات النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً من لدن حواء إلى السيدة آمنة كن من الحنيفيات.

ص: 64


1- رواه البخاری .

الزواج الميمون

عادت خديجة من عند ابن عمها ورقة بن نوفل . . أستاذها ومستشارها الذي تطمئن إلى قوله وتثق في علمه، فقد كان معروفاً بأنه يكتب الكتاب العبراني، وكتب من الانجيل ما شاء الله أن يكتب - كما ورد في البخاري كتاب بدء الوحي - عادت من عنده تتراءى لها الأحلام التي طمحت إليها عمرها كله، ويدور في خواطرها أمر يهدهد مشاعرها . . .

أمر تستخفي به في ضميرها تصوناً وحياءً.

وتحار، كيف تستعلن به في واقعها تشوفاً ورجاءً.

وسبحت مع أحلامها، ترجو وتأمل، وتتساءل !!

أحقا هي معجزة الأيام قد آن أوانها . . ؟

وثمرة الأزمان على مر الدهور، قد طابت وحان قطافها ؟

يا فرحة العمر لو تحقق ذلك الحلم، وعاشته عروساً هانئة لنبي كريم.

أحقاً قد رضيت عنها السماء، فكشفت لها بهذا الإرهاص، من وراء سدوف الغيب أمر هذا النبي المنتظر، الذي أفنى ورقة وصحابه عمرهم كله تطلعا لظهوره، ورصدا لأوصافه وموعده .

فإن كان ذلك كذلك . . .

فكيف تصبح له زوجاً و معينا و وزير صدق؟

تهبه عمرها ،وحبها ،ومالها، هانئة بقربه ورضاه

وتحظى به زوجاً ومعلماً وحبيباً، وتشرف به قريناً فريداً مرغوباً .

ص: 65

فلتسع إلى الاقتران به ما وسعها السعي، فهذا شرف لا يُفوَّت،

وفضل في الحياة وفي الممات.

وباتت ليلتها تقلب وجوه الرأى في سريرتها . . تود أن تجد من حيرتها مخرجا، ولأملها في واقع حياتها مكانا .

وسبحت مع تأملاتها و أحلامها . . . ولكن. . .

كيف تدرك ذلك . . ؟

وهي التي تقدم إليها العديد من سادة مكة وما حولها خاطبين، فصرفتهم في رفق حازم، يأبى ولا يجرح. . متعللة بأنها بعد وفاة زوجيها السابقين، لا ترغب في الزواج، وحسبها أن تعتني بولديها من أبي هالة، وبنتها من عتيق . وأصبحت شاردة ساهمة . . تفكر في أمرها، وتسبح مع أمنيتها، وتقلب النظر فيما يبلغها ما تتمنى، علها تجد سبيلا تصل به إلى ما تريد.

ومرت أيامها بطيئة مثقلة

وبينما هي في سهومها ووجومها . لمحتها عين ذكية، عرفت أن أعماقها تموج بما لا تستطيع البوح به، كانت هذه العين عين صديقتها موضع سرها : نفيسة بنت منبة، التي سرعان ما سألتها مشفقة .

ما شأنك يا خديجة ؟

عهدي بك مع حزمك بشوشاً ودوداً، فما هذا الوجوم وما هذا الشرود؟

وترددت خديجة، ولاذت بالصمت حيناً، ثم حزمت أمرها، وأفضت الى صديقتها بدخيلة نفسها .

يا نفيسه، إنّي أرى في محمد بن عبد الله ما لا أراه في غيره من

ص: 66

الرجال، فهو الصادق الأمين، وهو الشريف الحسيب، وهو الشهم الكريم، وهو إلى ذلك له نبأ عجيب، وشأن غريب، وقد سمعت ما قاله ميسرة غلامي عنه، ورأيت ما كان يظلله حين قدم علينا من سفرته، وما تحدث به الرهبان عنه .

وإن فؤادي ليكاد يجزم بأنه نبي هذه الأمة.

فقالت نفيسه : وماذا يشغل بالك من ذلك حتى تصبحي في هذه الحالة من السهوم والشرود؟

فقالت لها : أتمنى أن يكون لي زوجاً . . ولا أدري كيف أصل الى ذلک .

فقالت نفيسة : تأذنين و أنا أدبر الأمر؟

فسرت خديجة وقالت في فرح : افعلي يا نفيسة ما تستطيعين . .

وانسلت نفيسة تتحسس مكان محمد بن عبد الله الأمين، حتى لقيته منفردا مع نفسه فحيته ثم قالت (1) :

أرسلتني خديجة دسيساً إلى محمد بعد أن رجع من الشام فقلت : يا محمد !! ما يمنعك أن تتزوج؟!

فقال : ما بيدي ما أتزوج به.

قلت: فإن كفيت ذلك، ودعيت الى الجمال، والمال، والشرف والكفاءة . . ألا تجيب ؟

قال : فمن ؟

قلت : خديجة .

قال : وكيف لي بذلك ؟

قلت : علي وأنا أفعل.

ص: 67


1- كما ذكره ابن سعد 84/1

فأسرعت تبشر خديجة . . فأرسلت إليه بنفسها . (1)

فقالت : يا بن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك . فكلم أعمامك ليسعوا في ذلك .

وتروي السيرة الحلبية في ذلك أن النبي صلی الله علیه و سلم لما أرسلت إليه خديجة ، استأذن عمه أبا طالب في أن يتوجه لخديجة . . فأذن له . . وبعث بعده جارية له يقال لها : نبعة فقال لها : انظري ما تقول له خديجة .

فخرجت خلفه، فلما جاء صلی الله علیه و سلم الى خديجة، أجلسته وأخذت تكلمه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي ، والله ما أفعل هذا الشيء، لكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي يبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإلٰه الذي سيبعثك لي .

فقال صلی الله علیه و سلم : والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبداً، وإن يكن غيري فإن الإلٰه الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيمك أبداً .

وحددت له موعداً، فحضر ومعه أعمامه ، فيهم أبو طالب، والعباس وحمزة ، فخطبوها من عمها - على اصح الأقوال - لأن أباها قتل في

حرب الفجار قبل ذلك . وقام أبوطالب خطيباً فقال (2) :

الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، و زرع اسماعيل ، وضئضى معد - أي معدنه - وعنصر مضر - أي أصله - وجعلنا حضنة بيته - أي

ص: 68


1- ابن هشام 189/1
2- السيرة الحلبية ح1 ص : 140،138

المتكفلين بشأنه - وسواس حرمه - أي القائمين بخدمته - وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً ، وجعلنا حكام الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونيلا ، وفضلا ،وعقلا ، وإن كان في المال قل ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل ، ووديعة مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتا عشرة اوقية ونشا ( والنش عشرون درهماً، والأوقية أربعون درهما، وكانت الأواقي والنش من ذهب كما قال المحب الطبري، اي فيكون جملة الصداق أربعمائة وثمانون درهماً شرعياً). وقيل: أصدقها عشرين بكرة - ( أقول : لا منافاة ، لجواز أن تكون البكرات عوضا عن الصداق المذكور ) .

وقال بعضهم: يجوز أن يكون أبو طالب أصدقها ما ذكر (أي الذهب)، وزاد النبي صلی الله علیه و سلم من عنده تلك البكرات في صداقها، فكان كل ذلك صداقاً، والله أعلم .

وقام ورقة بن نوفل يجيب أبا طالب فقال :

الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت ، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها ، وأنتم أهل ذلك كله ، لا ينكر العرب فضلكم ، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم ورغبتنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا علي معاشر قريش اني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله ، وذكر المهر . (1)

فقال أبو طالب :

أحببت أن يشركك عمها .

ص: 69


1- ذكرها الزرقاني في «شرح المواهب» 202:1

فقال عمها :

اشهدوا علي معاشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد .

وأولم عليها النبي صلی الله علیه و سلم ، ونحر جزورا، وقيل جزورين، وأطعم الناس، وأقيم العرس السعيد.

وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ، ويضربن الدفوف .

وفرح أبو طالب فرحاً شديداً، وقال : الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الغموم .

وفرح أهل مكة بهذا الزواج الميمون ، حتى إنهم قاموا يتغنون بذلك سرورا و غبطة يقولون منشدين (1) .

لا تزهدي خديج في محمد *** نجم يضيء كضياء الفرقد

وفي هذا يقول صاحب الهمزية الإمام البوصيري :

ورأته خديجة والتقى *** والزهد فيه سجية والحياء

وأتاها أن الغمامة *** والسرح أظلته منهما أفياء

وأحاديث أن وعد رسول الله *** بالبعث حان منه الوفاء

فدعته الى الزواج وما أحسن *** ما يبلغ المني الأذكياء

ويقول شاعر آخر:

بعثت إليه و إنها لأبية *** ماذا عليها إن أحبت أحمدا

ماذا إذا خطبته وهي عفيفة *** أتعاب من ترجو الزواج لتسعدا

إيه خديجة قد سننت شريعة *** وأبى فؤادك عزة أن يخمدا

وجعلت للفتيات حق تخير *** أفكنت تدرين الذي يأتي غدا

ص: 70


1- كما ورد في موكب السيرة للشنقيطي ص : 19 فيما نقله عن الروض الأنف.

ورضيت بالشهم الفقير وقبله *** أعرضت عمن في غناه تفردا

ويقول آخر :

قد رأته بين الكرام فريداً *** وافي الفضل صادقا محمودا

وأولو العلم قد رأوه حرياً *** أن يكون المنبأ الموعودا

قال نسطور مثل قول بحيرى *** هو بشرى المسيح صارت وجودا

في الأناجيل وصفه مكتوب *** ونراه في كتبنا موجودا

وسجاياه تاج كل السجايا *** حاز كل الفخار فذّاً حميدا

فدعته خديجة النبل زوجاً *** وأجاب الأمين سمحاً سعيداً

خير زوجين في البرية طهراً *** ووفاء وعفة وجدودا

في تفسير سورة الضحى :

في هذا المقام نجد الزمخشري في تفسيره الكشاف ح-4 ص- 221 يقول عند تفسيره لقوله تعالى ﴿ وَوَجَدَكَ عَآئلاً فَأَغْنَى) . ووجدك عائلاً - فقيراً - وقرىء عيلا كما قرىء عديما (فَأَغْنَى) فأغناك بمال خديجة، أو بما أفاء عليك من الغنائم . وكذلك يقول الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ج- 10 ص- 67 يقول ﴿وَوَجَدَكَ عَآئلًا فَأَغْنَى) أي أغناك بخديجة رضي الله عنها .

ومن أجل ذلك كله كافأها رسول الله صلی الله علیه وسلم ، وجازاها على إحسانها إليه في حياتها بأن لم يتزوج عليها غيرها، وبلغت منه مبلغاً لم تبلغه امرأة قط من زوجاته بعدها ، وكافأها الله بأن جعلها دون كل نسائه أم ذريته، وجدة عترته.

ص: 71

ص: 72

زواج تم بتقدير الله واختياره

لماذا تزوج رسول الله بخديجة بنت خويلد . ؟ هذا سؤال يردده كثير من الناس ، على الرغم من أنها أكبر منه سناً، وعلى الرغم من وجود عشرات الفتيات في قريش وغيرها من القبائل ، وكلهن حريصات على الزواج به صلی الله علیه و سلم فلماذا آثر الزواج بخديجة، ولماذا أقبل عليها وقبل بها، وبعض الناس يسألون هذا السؤال في براءة ورغبة صادقة في معرفة الحقيقة، والبعض يثير هذا السؤال في خبث وغمز ولمز، وخاصة عندما يثار هذا السؤال من قبل بعض المستشرقين المغرضين ، والذين يجنحون إلى إتهام الرسول صلی الله علیه و سلم بأنه إنما تزوج بالسيدة خديجة طمعاً في مالها، ودعونا الآن نناقش هذا الموضوع بموضوعية ونضع الحقائق أمامنا واضحة.

أولاً : إن هذا الزواج كان اختياراً ربانياً فالله عزوجل بعلمه وقدره السابق اختار السيدة خديجة لتكون بجوار رسول الله صلی الله علیه و سلم ، فهذا الزواج هو بقدر الله قبل كل شيء.

ثانياً : إن المتتبع للحوادث التاريخية والإرهاصات التي سبقت هذا الزواج يلاحظ أنه صلی الله علیه و سلم لم يسع ولم يذهب إلى السيدة خديجة، وإنما هي التي سعت إليه ورغبت في التعرف عليه والزواج به، وقد حرصت في أول الأمر على أن تربطها به علاقة عمل وتجارة فازداد اعجابها به ، ومعرفتها بفضله وأمانته وسمعته، وما أحاط بتلك الرحلة من أخبار وكرامات ، وما جرى فيها من أحداث دلت على فضله ونبله وخصوصيته. ولهذا فقد زاد اعجابها وتعلقها به ، وحرصها على الإقتراب منه ، والارتباط به ،

ص: 73

فكان أن أرسلت إليه ، وهي التي خطبته وبادرت الى الإتصال به وعرض نفسها عليه.

ثالثاً : عندما علم الرسول صلی الله علیه و سلم برغبة السيدة خديجة وأنها حريصة على الزواج به ، وهي من هي من النساء المعروفات بالفضل والخلق والنسب الطيب . . والجمال والكمال ، وهي ذات أصل وفضل وحسب ونسب ومكانة بين قومها، مع ما عرف عنها من عقل راجح وحكمة ومكانة عالية بين الناس، فعندما نظر صلی الله علیه و سلم إلى كل هذه الأمور ووازن بينها ، وجد أنها ستكون السيدة المناسبة لمثله، ولهذا فقد قبل العرض ورضي عندما علم برغبتها في الزواج به ، وشاور أهله وهم من أشراف القوم وكبارهم ، فأيدوه وشجعوه، لأن الاختيار كان اختياراً سليماً موفقاً، ولهذا تقدم لخطبتها بأمر الله أولاً وأخيراً، ولماعرف عنها من صفات حميدة، ولهذا تزوجها ، فكان لها رضي الله عنها ذلك الشأن العظيم في حياته وفي دعوته، وشاركته الكفاح، وصبرت معه، حتى أظهر الله دينه ، ونصر رسوله صلی الله علیه و سلم، فكانت نعم الرفيقة، ونعم الزوجة ، ونعم الناصرة له ، رضي الله عنها وأرضاها .

رابعاً : أما عن القضية التى يحاول بعض المغرضين من المستشرقين الغمز واللمز بها، وهي أنه صلی الله علیه و سلم إنما تزوجها لمالها، فالحقيقة هی أنه صلی الله علیه و سلم نشأ نشأة كريمة عفيفة زاهداً في المال ، أمينا على كل ما يقع في يده، ومن زهده الذي ينفي أنه إنما قبل الزواج من السيدة خديجة لمالها هي تلك الحوادث والروايات الصحيحة التى رويت عن قريش عندما ضافوا بدعوته صلی الله علیه و سلم وأرادوا أن يصرفوه عنها فعرضوا عليه المال والجاه ودعونا ننظر إلى النص هنا بعمق عندما عظم على أبي طالب فراق قومه، ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا ابن أخي إن

ص: 74

قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا فابق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وانه ضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال له : «يا عم ! والله ! لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى ، أو أهلك فيه ما تركته» ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (حصلت له العبرة التي هي دمع العين) فبكى ثم قام، فلما ولّى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا ابن أخي ! فأقبل عليه فقال : اذهب يا ابن أخي ! فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك .

(1)

ومن ينظر في هذا النص يلاحظ سمو خلقه صلى الله عليه وسلم وعفته وزهده في المال، ولو كان يرغب مالاً لقبل هذا العرض فهذا أفضل من أن يأخذه عن طريق السيدة خديجة لأنه عرض عليه من أكابر قريش ، وقادتها ورجالها، وعرض معه الجاه ولكنه صلى الله عليه وسلم رفض ذلك كله ولهذا فإن من يحاول الغمز في قضية زواج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أن الزواج إنما كان طمعاً في مالها فهذا رد واضح عليه ، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم صوره مشرقة واضحه ، وكل ممارساته وعفته ترد هذا الاتهامات إلى أصحابها وتنفيها عنه.

بأبي أنت وأمي يارسول الله . . أي طمع أورغبة في مال أو جاه . . وإنما كان يتحرك بأمر الله ويدعو إلى كلمة الله . . ويجاهد . . ويصبر . . ويحتسب . . حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى .

إذا أردنا أن نعدد ما حبابه الله رسوله صلى الله عليه وسلم مما أغناه به عن جميع

ص: 75


1- سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، الشيخ أسعد محمد سعيد صاغرجي ص: 181,180

الأموال نرى أنه :

أولاً : خيَّره ، بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً، فاختار صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً رسولاً (1) ، فهنا فضّل صلى الله عليه وسلم حالة العبودية .

ثانياً : أنه صلى الله عليه وسلم لما آلت إليه أموال بني النضير وبني قريظة ونفائس مدخراتهم من حلي ومتاع خالصة له لم تغير من سيرته في المال ، وخاصة بعد تتوق الزوجات إلى ذلك حيث أرهقنه بالإلحاح والطلب للتوسع في النفقات والمتاع، فشق عليه ذلك، فأنزل الله في ذلك، تخييرهن في قوله تعالى (يَأَيُّها النَّبِيُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْن أُمَتِعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا وَ إن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظيماً) .

ثم آلت إليه أموال هوازن وثقيف ، وهي أكبر غنيمة غنمها المسلمون فقسمها كلها على البَرّ والفاجر والمسلم والكافر ثم قال بعد إلحاحهم في الطلب «يا أيها الناس والله لو كان لكم عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، وما الفتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً، ثم أخذ وبرة من سنام بعيره فرفعها وقال والله مالي من فينكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم .

ثالثاً : ثم إنه صلى الله عليه وسلم راودته الجبال أن تتحول له ذهباً فأبى ذلك الزهادته في الدنيا وزينتها ، وعاش عيشة الكفاف حتى أنه ارتحل إلى الرفيق الأعلى ودرعه مرهونة في نفقة عياله، ولم يورث درهماً ولا ديناراً . وإذا نظرنا بعمق في هذه المسألة وجدنا أن الزعم الذي زعمه المستشرقون - بأن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة كان الغرض منه هو

ص: 76


1- كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

الحصول على ثروتها، أو طمعاً في الاستفادة من مالها - ما هو طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رسالة الإسلام السمحاء حقداً وحسداً، كما هی عادتهم وهو باطل وكذب وافتراء .

ولا يفتر أعداء الإسلام في إلصاق الأباطيل والتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالإسلام من غير إثبات ولا دليل ، ولا قرينة تدل على صدق الدعوى. وهم ماديون لا يؤمنون بالمعجزات ولا بالكرامات التي يتولى الله بها أولياءه الذين خصهم واصطفاهم مثل مريم بنت عمران التي كان (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (1)

وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني . .

الحديث . (2)

وقول الشاعر :

ومن يعترض والعلم عنه بمعزل *** يرى النقص في عين الكمال ولا يدري

وهم كما قال الله عنهم أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا

عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسِ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (3). وقصد المستشرقون أيضاً من وراء هذه المزاعم تشويه الإسلام والنيل من رسول الله صلی الله علیه و سلم وذهبوا إلى أبعد من ذلك واعتبروا تعدد الزوجات في الإسلام وخاصة زوجاته صلی الله علیه و سلم طعناً والرق والحدود في قطع

ص: 77


1- سورة آل عمران الآية: 37
2- رواه البخاري (1961-1965) ومسلم 774:2-776 (55-61) عن أنس، وابن عمر، وعائشة، وأبي هريرة.
3- سورة الأنعام الآية: 7

يد السارق، ورجم الزاني ، كل ذلك يعتبرونه مطاعناً في الإسلام. والذي يدرس نشأة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنه عندما بلغ الفتوة مارس أعباء الحياة وتحمّل المسئولية في سن مبكرة حيث بدأ في السعي للرزق برعي الغنم لأهل مكة بقراريط، ثم اشترك مع أعمامه في حرب الفجار حيث كان ينبل لهم السهام، ثم عمل تاجراً أجيراً، واستمر في كسب رزقه بعد زواجه من خديجة رضي الله عنها . وهذا ما اعترض عليه كفار قريش وأعابوه عليه بأن تميزه عنهم بالرسالة يجعله في مكانة العظماء الذين لا يمارسون تكسب رزقهم في الأسواق ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا أَو يُلقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَو تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) (1) فهلا كفاه الله مؤونة رزقه بأن يلقي عليه كنزاً، أو جنةً يأكل منها من غير كد المعاش ، حتى يستغني عن التكسب في الأسواق، لولا أنه كان يتطلب معيشة رزقه في الأسواق لما اعترضوا على ذلك .

وهذا لا ينفي أن خديجة رضي الله عنها كانت تواسيه بمالها، وكذلك أبوبكر الصديق رضي الله عنه ، ومما يؤكد خبث المستشرقين ودسهم على الإسلام هو مقولتهم بأنه صلی الله علیه و سلم هو الذي رغب في الزواج من خديجة رضي الله عنها بقصد الحصول والاستفادة من ثروتها .

ومما يؤكد بطلان تلك المزاعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتقدم إلى خديجة باديء ذي بدء، وإنما الذي تؤكده الروايات أن السيدة خديجة سعت إلى الزواج منه من خلال ما يلي :

ص: 78


1- سورة الفرقان الآيتان: 8،7

فخديجة هي التي رغبت في الزواج، وعملت بالوسائل الظاهرة والخفية :

أولاً : طلبها له بأن يتاجر في مالها، وتكليف غلامها ميسرة بأن يتقصّى لها ما يتكشف له من حقيقة أسرار خُلقه وصدقه وأمانته وشهامته، وهو ما عرف عنه في قريش، حتى يتأكد لها ذلك وزاد أن ظهر لميسرة بعض الخوارق من الغمام الذي كان يظله وخبر الشجرة التي استظل بها وكلام الراهب نسطور .

ثانياً: أنها دست إليه صديقتها «نفيسة بنت منية» فقالت هل لك في المال والجمال والعز والشرف، وهي بذلك تريد استطلاع رأيه في الموافقة على الزواج منها .

ثالثاً : استدعاؤها له ومشافهتها له مباشرة بقولها يا ابن عم . . الخ.

فهذه الحقائق تدل على أن الرغبة كانت من طرف خديجة رضي الله عنها وأنها كانت تتابع أخباره وخطواته ، فلما اطلعت على سيرته استشعرت في أعماقها بأن هذا الإنسان مؤهل للرسالة في صفاته وأخلاقه وتعاملاته، ولهذا ذكرت له في أكثر من مرة مؤكدة على هذا المفهوم وهي تقول : والله إنك لنبي هذه الأمة ، وفي مرحلة أخرى تقول : إنك لتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر، والله لن يخزيك الله أبداً، وكانت تشعر بعفته وأمانته ونبله ، وحياته واضحة جلية أمامها . . حياة كفاح وعمل صادق نبيل في كسب الرزق سواء في رعي الغنم أو التجارة، ولهذا فقد مالت إلى التعامل معه، ولم يقف التعامل عند هذا الحد بل امتد حتى بعد الزواج يعينها في تدبير تجارتها، ويخرج مع رجل من قريش استأجرته خديجة في تجارتها إلى سوق حبشة، وهو سوق بتهامة وكان رسول الله صلی الله علیه و سلم يحدث عن خديجة فيقول : ما رأيت

ص: 79

من صاحبة الأجير خيراً من خديجة ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبئه لنا وهذا ما أيده القرآن بقوله تعالى ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) (1) وقوله تعالى ﴿ وَوَجَدَكَ عَائلًا فَأَغْنَى) (2)

قال القرطبي في تفسير هذه الآيات كانوا يقولون له «فاسأل ربك يجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك» ج- 329/10 وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

ص: 80


1- سورة الفرقان الآيتان: 8،7
2- سورة الضحى الآية : 8

أولاد المصطفى من خديجة

إنهم ذرية المصطفى صلی الله علیه و سلم . . انهم النطف الطاهرة، والأولاد البررة. . أبوهم سيدنا محمد ، و أمهم سيدتنا خديجة الكبرى . . إنهم أشجار عريقة الجذور والانساب، كلهم يتصفون بالشرف ويمتازون بالادب ، فهم ذرية بعضها من بعض . . من أعرق بيوت قريش، ومن نسب شرف وصدق وأمانة ، وأم فاضلة لا يدانيها أحد في شرفها وعزتها ورفعتها في مكة المكرمة ، بل وفي غير مكة المكرمة .

لقد كانت ثمرة هذا الزواج العظيم أن ولدت للرسول الأعظم القاسم وکان یکنی به صلی الله علیه و سلم .

وعبد الله (وهو الطاهر ، وهو الطيب) سمي بالطاهر والطيب لأنه ولد بعد النبوة، وتوفى عبد الله وهو صغير .

ومن البنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة .

أما القاسم فقد بلغ مرحلة المشي ثم توفي فحزنت عليه أمه حزناً شديداً كما حزن عليه الرسول صلی الله علیه و سلم .

ص: 81

بنات النبي صلی الله علیه و سلم

زینب، رقيه ، أم كلثوم، فاطمة

كلهن من خديجة وكلهن أدركن الإسلام وهاجرن إلى المدينة، وهاجرت رقية رضي الله عنها الهجرتين .

زينب : عاشت مع أبويها أسعد ما يعيش إنسان بين أبوين كريمين ، وتترعرعُ الفتاة، وتشب ثم يتقدم إليها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، وهو من أكرم شباب قريش وأنبلهم، ثم هو يلتقي نسباً مع الرسول الكريم صلی الله علیه و سلم في عبد مناف بن قصي، وقد عرف بأمانته، فمنح ثقة الناس فكانوا يعطونه أموالهم ليتاجر بها، فتقدم حتى صار في الصف الأول من أثرياء قريش. وانتقلت زينب إلى عش الزوجية، وقدمت لها أمها الجليلة قلادة يوم عرسها كان لها شأن وأي شأن بعد الهجرة المباركة بعد ردح من الزمن. وتأخر إسلام أبي العاص بن الربيع، فقد كان يخاف أن يقال : ترك دين آبائه من أجل امرأته . وانتهى الأمر إلى هجرة السيدة زينب إلى المدينة، وفراقها لزوجها في قصة وأحداث سنفصلها في فصل قريب وبحسبنا هنا أن نشير إليها .

رقية وأم كلثوم:

خطبت رقية حين بلغت سن الزواج مع أختها أم كلثوم إلى ولدي أبي لهب عتبة وعتيبة .

لكن ما إن بدأ الرسول صلی الله علیه و سلم يجهر بالدعوة حتى كان عمه أبولهب أول

ص: 82

المناهضين والمجاهرين بالعداوة له مع امرأته (حمالة الحطب)، فكان أن طلب من ولديه أن يردا ابنتي محمد صلى الله عليه وسلم لينشغل بهما وبأختهما فاطمة، لما أراد الله بهما من صيانتهما وحفظهما من البيت الكافر . أما رقية فقد تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه وعنها، وهاجر بها الهجرتين. وأما أم كلثوم فبقيت مع أختيها فاطمة وزينب في بيت أبيهما الرسول الأعظم حتى هاجر الى المدينة، ثم لحقن به، فلما توفيت رقية تزوج عثمان أم كلثوم بعد أختها، وبقيت معه حتى توفيت هي كذلك، رضي الله عنها، ولهذا سمي رضي الله عنه «بذي النورين» لأنه تزوج ابنتين من بنات رسول الله صلی الله علیه و سلم، ولم يتزوج أحد بنتي نبي غير عثمان رضي الله عنه .

فاطمة الزهراء :

ولدت قبل البعثة بخمس سنوات، وعاشت في كنف أعظم والدين ، وصحبت أباها في أسعد الأيام، ثم في أقساها مرارة ولقد كانت أحب أولاده إليه، صحبت أبويها في حصار الشعب ، وذاقت مع المحاصرين ألم الحرب النفسية والاجتماعية، التي شنها عليهم كفار مكة .

وهاجرت مع أبيها، بعدما فقدت الأم العظيمة وتركتها في ثرى مكة الطاهر، ولقد أراد الله لهذه النسمة الطاهرة أن يحفظ فيها ذرية نبيه الكريم، فتزوجها فتى الفتيان علي بن أبي طالب وأحسن صحبتها، وكان له منها الذرية الطاهرة.

ولقد هم علي أن يتزوج عليها ابنة أبي جهل - عمرو بن هشام - فغضب لها رسول الله صلی الله علیه و سلم وانطلق الى المسجد ليعلن :

«إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، اللهم إلا أن

ص: 83

يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم» . ثم تابع صلی الله علیه و سلم يقول : إن ابنتي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني

ما آذاها، وإني أتخوف أن تفتن في دينها .

ثم ذكر صهره أبا العاص بن الربيع فأثنى عليه في مصاهرته فقال : «حدثني فصدقني ووعدني فأوفى لي، وإني لست أحرم حلالاً، ولا أحل حراماً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله، وبنت عدو الله في بيت واحد أبداً»، ولم يكن يخطر ببال علي رضي الله عنه أن يغضب رسول الله حين فكر بالزواج من بنت أبي جهل، ولم يكن يؤثر على رضا الله ورسوله شيئاً أبدا، ولقد كانت كلمة النبي صلی الله علیه و سلم بالغة الأثر على الإمام علي، لا سيما حين ذكر صهرا له من بني عبد شمس، وأنه وفى له وصدق فيما حدثه، فعدل عن فكرة الزواج، ليس من ابنة أبي جهل فحسب، وإنما من أي امرأة أخرى، إكراما لابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤذى أو تمس مشاعرها بسوء .

وظل مخلصاً لها إلى أن توفيت رضي الله عنها بعد الرسول الكريم بستة أشهر، ونفذ وصيتها فتزوج أمامة بنت أختها زينب لترعى أولاد خالتها الراحلة .

كانت رضي الله عنها كريمة الخلق، نبيلة النفس، مرهفة الحس، سريعة الفهم، عميقة التفكير ، متوقدة الذهن، جزلة المروءة غراء المكارم ، لا يخالطها شيء من الزهو ولا الخيلاء.

وكانت سبطة (1) الخليقة في سماحة وهوادة ، إلى رحابة صدر، وسعة أناة ، وسكينة ووقار، ورفق ورزانة ، وعفة وصيانة .

عاشت قبل وفاة أبيها متهللة العزة، وضاحة المحيا ، حسنة البشر،

ص: 84


1- سبطة ناعمة

باسمة الثغر، وغربت بسمتها منذ وفاة أبيها صلی الله علیه و سلم .

كانت رضي الله عنها بضعة من أبيها رسول الله صلی الله علیه و سلم ، مفطورة على العفة والطهر والنقاء، لا يجري لسانها بغير الحق، ولا تنطق إلا بالصدق، ولا تذكر أحدا بسوء، فلا غيبة ولا نميمة، ولا همز ولا لمز، تحفظ السر، وتفي بالوعد، وتصدق النصح، وتقبل العذر، وتتجاوز عن الإساءة، صادقة في قولها، صادقة في نيتها، صادقة في وفائها، وهي تعرف أن زوجها علياً ما بلغ مكانته عند رسول الله صلی الله علیه و سلم إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة .

عن عمرو بن دينار قال : قالت عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت أحدا قط أصدق من فاطمة غير أبيها» . قال : وكان منها شيء، فقالت عائشة : «يا رسول الله سلها ، فإنها لا تكذب» . وفي الاستيعاب لابن عبد البر بسنده، قالت عائشة : «ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولدها» (1) . وكانت رضي الله عنها أمينة ، حافظة للسر، لا ترضى لنفسها أن تذيع لأحد سراً، أو تفشي له أمراً، وقد سمعت من زوجها قوله : طوبى لعبدِ نومة، عرفه الله ولم يعرفه الناس، أولئك مصابيح الهدى، وينابيع العلم ، تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء ، ليسوا بالمذابيع البذر (2) ، ولا الجفاة المرائين (3) .

لقد عاشت السيدة فاطمة أيام الدعوة في بدايتها، وما صاحبها من الابتلاء والمعاناة العظيمة، فقد كتب لها ان تشهد المحنة وعظم البلاء

ص: 85


1- رواه الحاكم 160:3-161 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي
2- ليسو بالمشهورين في كل الأوساط
3- سنن الدارمي 1/93 المقدمة باب 17

منذ طفولتها الباكرة، ومنذ نعومة أظافرها، وأن تعيش دون أخوتها جميعا مع أبيها منذ بدء الوحي حتى يجود البطل الأسمى، والصابر العظيم والمعلم الكبير بأنفاسه، ويلحق بالرفيق الأعلى، فقد كانت معه وبجواره، لم تفارقه حتى بعد زواجها من علي كرم الله وجهه وإلى حين انتقاله للرفيق الأعلى.

وقد أخذت فاطمة تمشي نحو ميادين المعركة، وكان صغر سنها يتيح لها أن تخرج من البيت وتتحرك خارجه وتتبع أباها حيث ذهب، وتشاهده وهو يدخل إلى أندية قريش ومحافلها داعيا ومبشرا ونذيرا، ويلقى في سبيل دعوته ورسالته ما يلقى من أذى السفهاء وكيدهم. وقد أكرمها الله سبحانه وتعالى بأن رزقها فقها وعلما، فهي سيدة فقيهه فاضلة ، لها باع طويل لا ينكر في تبليغ الدين والدعوة، والتفقيه بالقرآن والسنة .

ولهذا فعندما نتحدث عن فقهها كنصوص، نجد أن هناك مواقف محدودة تعرضت فيها لبعض القضايا الفقهية ، إلا أنها رضي الله عنها كانت تنظر بنور الله عزوجل، الذي نور قلبها وأكرمها وجعلها واحدة من أربع هن سيدات نساء العالمين ، كن خير نساء الأرض أجمعين . وإن كانت السيدة فاطمة - رضي الله عنها - قد شغلت بالمواقف العظيمة التي وقفتها ، والبلايا العظيمة التي تصدت لها، فهي تقف إلى جوار المصطفى صلی الله علیه و سلم في كل المحن التي مرت به، وكان لها دور كبير في رعايته عليه أفضل الصلاة والسلام، وخاصة بعد وفاة أمها رضي الله عنها حتى توفاه الله تعالى، ولعل الموقف العظيم الذي وقفته، كما يروي البخاري عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلی الله علیه و سلم كان يصلى عند البيت، و أبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض : أيكم

ص: 86

يجيء بسلا جزور بني فلان ، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم (وهو عقبة بن أبي معيط) ، فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي صلی الله علیه و سلم فوضعه على ظهره، وأنا أنظر لا أغنى شيئا لو كانت لي منعة قال : فجعلوا يضحكون ، ويحيل بعضهم على بعض (أي يتمايل بعضهم على بعض مرحا وبطرا) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءت فاطمة فطرحته عن ظهره. الحديث (1). رضي الله عنها فقد كانت شجاعة وكانت وفية، كانت حياتها كلها تعبيرا عن فقه النبوة الذي تلقته عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فجاءت نموذجا للمرأة المسلمة الصالحة الكاملة التي أخذت من ذلك الينبوع العظيم، ومن أخلاق أبيها وأخلاق أمها، ونشأت وترعرعت في مدرسة النبوة مما أعانها على القيام بتلك المهام الأساسية الكبرى.

وكل حياة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء دروس وعبر وعظات ، ففي صباها ناصرت الدعوة، ودافعت عن أبيها، وفي تزويجها وجهادها وصبرها على شظف العيش خير دليل على زهدها وصبرها، وهي في كل ذلك أسوة للبنات المسلمات في بيوت الآباء والأزواج، تربية الأولاد أحسن ماتكون التربية . وحسبها أنها كانت قرة عين المصطفى صلى الله عليه وسلم، تربت في مدرسة النبوة، وفطرت على الذروة العليا من الخلق الكريم. وحسبها ما لقبها به صلى الله عليه وسلم: «أم أبيها» رواه الطبراني، وحسبها ما قاله صلى الله عليه وسلم «إن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها» كما رواه الطبراني بإسناد حسن، وما عوذها به عندما أدخلها على علي رضي الله عنه : «إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» كما رواه الطبراني .

ص: 87


1- رواها البخاري (240)، ومسلم 1418:3 (107).

ص: 88

خديجة . . بل أَصَدِّق الله ورسوله

صورة عملية لمعنى اليقين

إذا رسخ الإيمان حتى بلغ حق اليقين، غمر النفس بسكينة لا تزلزلها الأحداث، ولا تعصف بها النوازل ، مهما كانت شديدة الوطأة ، مثيرة للوجدان والعواطف . . فرباط الإيمان يسكن القلب الجائش، حين تدلهم الأمور، فقد وصف الله حال أم موسى ساعة أن ألقت بولدها في اليم، وذكر أنه ربط على قلبها لتكون مؤمنة صابرة مصدقة بوعد الله لها، فقال: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَٰى فَرِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (1) وفي موقف الحديبية يذكر الله في سورة الفتح - ما يربط بين الثبات عند النوازل، وازدياد الإيمان واليقين - ويكرر ذلك في عدة مواضع من السورة.

ففي الآية الثالثة يقول سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادوا إيمَناً مَعَ إِيمَنِهِمْ) (2) ، وفي الآية الثامنة عشرة يذكر سبحانه أنه اذا علم صدق الايمان في قلب عبده، أنزل السكينة عليه ، اذا نزلت به نازلة : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (3)

واقرأ معى في الآية السادسة والعشرين من نفس السورة التي تبين

ص: 89


1- سورة القصص - الآية: 10
2- سورة الفتح - الآية : 4
3- سورة الفتح - الآية : 18

إسعاف الله سبحانه لعباده المؤمنين ساعة المواجهة مع عدوهم بإنزال السكينة عليهم، وتثبيت منطقهم فلا يقولون إلا ما يرضاه، وأنهم بإيمانهم ويقينهم أهل لذلك : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُم

كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقِّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) (1) .

والآيات والمواقف في مثل هذا المقام كثيرة، مما ورد في بدر والخندق، وحنين وهكذا نجد العلاقة واضحة بين الإيمان والثبات، وبين الكفر والنفاق والجزع فقد وصف الله أهل الكفر بالهلع والجزع حيث قال عن يهود بن النضير في سورة الحشر : (فَأَتهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَیْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَأُوْلِي الْأَبْصَٰرِ) (2)

ويقول في بني قريظة من سورة الأحزاب : ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (3) ووصف المنافقين وتزلزلهم أمام الشدة فيقول في نفس السورة:(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (4) ويصف انهيارهم قائلا: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ) (5) ويصف دخائل قلوبهم في سورة التوبة: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لَا

ص: 90


1- سورة الفتح - الآية : 26
2- سورة الحشر - الآية : 2
3- سورة الأحزاب - الآية : 26
4- سورة الأحزاب - الآية : 12
5- سورة الأحزاب - الآية : 19

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (1) وما سقناه في هذا المقام - من نزول السكينة في قلوب أهل الايمان بقدر إيمانهم، وعصف الزلزلة بقلوب أهل الفساد والكفر والنفاق - يصبح بمقتضى هذه النصوص القرآنية القاطعة ميزاناً نقيس به الإيمان، ومعياراً يكشف عن مقدار اليقين.

فإذا استعملنا هذا المعيار في تقويم مواقف أمنا الصادقة، والصديقة الأولى الصابرة سيدة نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد - رضي الله

عنها - أدركنا الحقيقة، ورأينا الصور الصادقة لهذه السيدة الحبيبة .

واذا ما نظرنا في حادثة مهمة وموقف عصيب وهو يوم وفاة القاسم أو الطاهر على اختلاف الروايات - فالمهم هنا ما جرى منها لا من الذي مات ، يروى السهيلي في الروض الأنف (2) «أن خديجة رضي الله عنها دخل عليها رسول الله صلی الله علیه و سلم بعد المبعث وهى تبكي ؛ فقالت : يا رسول الله ؛ درت لبينه القاسم - تصغير لبنة - تعنى بقايا اللبن في ثديها - فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعه ؟ فقال لها : إن له مرضعاً في الجنة تستكمل رضاعته ، قالت : لو أعلم ذلك لهون علي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أسمعتك صوته في الجنة فأجابت : بل أصدِّقُ الله ورسوله !! . يا لنفحات اليقين الإيماني في قلب هذه المكلومة بفقد ولدها، الملتاعة حين در ثديها بلبنها ترضعه إياه، فبكت رحمة وحزناً وشوقاً إلى الرضيع ، والوليد الذي باعد الموت بينه وبينها، ومع ذلك حين يعرض عليها الرسول أن يسمعها صوته في الجنة، لا تغلب لهفة الشوق ، ولا الحنين المعتصر لدموعها عمق يقينها، وصدق إيمانها

ص: 91


1- سورة التوبة - الآية : 45
2- الروض الأنف - 123/1-124

فتأبى أن تسمع صوته بل تتسامى إلى أفق يقينها وبشرى زوجها . إن أي أم غير خديجة الصديقة لو سمعت مثل هذا العرض لسارعت إلى طلب تحقيقه، تريد أن تسمع صوت الراحل الذي لن يعود أبداً، وتلح في ذلك ما شاءت، ولكنها ما تلهفت، ولا ألحت، لأن سكينة الإيمان الراسخ قهرت شوق الأم اللهفى .

فانطلق إيمانها قبل لسانها يقول في راحة المؤمن الذي يصدق خبر السماء، ولا تشوب تصديقه ريبة تطلب البرهان، أو تسأل في هذا الغيب المشاهدة والعيان، إنه يقين المؤمنة الصادقة المصدقة لرسول الله صلی الله علیه و سلم .

من هنا ومن أحداث كثيرة مثل هذا عرفنا أثر الإيمان الصادق في النفس الصادقة، ومعدن اليقين الكامل حين تنصهر فيه النفس الكاملة، فيهبها كمالا لم تعرفه البشرية لأنه لا يتكرر، ونموذجا تحار فيه العقول والأفهام، لأنه فوق ما تتصور وامرأة تخلل حب الله ورسوله كيانها، فصفا وأشرق وتحرر، وسما بها حتى أصبحت من سيدات نساء العالمين، وحبيبة سيد الأولين والآخرين، ولم تبال بمكائد الشيطانة حمالة الحطب أم جميل، ولا غلواء زوجها الحقود أبي لهب، يوم أن أقسما على ولديهما عتبة وعتيبة أن يطلقا ابنتيها رقية وأم كلثوم، مضارة لها وكرها، وتسفيهاً لدعوة زوجها وتكذيباً وزجراً، ونحن نعلم أنه لا شيء تضيق به الأم مثل طلاق بناتها، وأنها تدفع وقوع ذلك بكل ما تستطيع لو وجدت إلى ذلك سبيلا، وتجزع أشد الجزع إذا وقع ذلك لواحدة من بناتها، فما بالك بوقوعه لاثنتين دفعة واحدة دون ذنب لهما إلا أن أباهما الكريم نبی مرسل يدعو إلى الله، وأمهما صديقة طاهرة تؤازر دين الله، وتشد عضد زوجها وحبيبها الذي اصطفاه الله .

ص: 92

لكنها لم تبال ولم تعاتب، وثبتت على الحق مواسية كريمتيها، ولم تهن لما أصابها وأصابهما في سبيل الله، وما ضعفت ولا استكانت، وحسبها وحسب وجدانها الطهور أنها أرضت الله، وآمنت بالله، وصبرت لأمر الله محتسبة ما تلقاه هي ومن تحبهم عند الله . فكانت لها تلك المكانة التي لم تنلها امرأة غيرها عند الله وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ص: 93

ص: 94

حياة السيدة خديجة رضي الله عنها من الزواج إلى البعثة

هناك سؤال حاولت أن أجيب عليه ورجعت الى عدد من المصادر أتتبعها فلم أجد جوابا شافيا متكاملا، والسؤال عن السيدة خديجة رضي الله عنها وماذا كانت تفعل في الفترة التي أعقبت الزواج من رسول الله صلی الله علیه و سلم؟ والى حين نزول الوحي عليه في غار حراء. . وما القضايا التي شغلتها ؟ . . وما الاحداث التي مرت بها؟ وماذا كان يشغل سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم ؟ ولذلك فقد تابعت ما استطعت في هذا المجال وجمعت ما توصلت إليه من حياة السيدة خديجة رضي الله عنها، بعد الزواج من رسول الله صلی الله علیه و سلم، وإلى حين البعثة وحاولت دراسة هذه الفترة التي تزيد عن خمسة عشر عاما تقريبا وماذا تم فيها؟ وبالذات فيما يخص السيدة خديجة بنت خويلد ؟ وماذا فعل رسول صلى الله عليه وسلم خلال هذه الفترة؟ هل كان يشتغل في تجارة السيدة خديجة؟ أم هل كانت كلها سنوات تعبد ؟ والسيدة خديجة ماذا كان يشغلها طوال هذه المدة؟ . وعندما بدأت الاجابة على هذه الأسئلة لاحظت أن السيدة خديجة رضي الله عنها بما جبلت عليه من فطرة كريمة وإنسانية عالية وحنان فیاض ما إن تزوجت رسول الله صلی الله علیه و سلم ، حتى أحاطته بكل رعاية وعناية وحب، وكانت تحرص على كل ما يرضيه، ولقد كانت هذه السنوات هی السنوات التي شغلت فيها السيدة خديجة رضي الله عنها بإنجاب أولادها جميعاً، فقد رزقت في هذه الفترة بالسيدة زينب، ثم السيدة

ص: 95

رقية، ثم السيدة أم كلثوم، وبعبد الله الذي عرف بالطيب والطاهر، ثم القاسم الذي كان يكنى به رسول الله صلی الله علیه و سلم، ثم بفاطمة الزهراء رضي الله عنها، وكانت السيدة خديجة منشغلة بتربية هؤلاء الاولاد من بنين وبنات، ثم شاء الله سبحانه وتعالى أن يختار إلى جواره سيدنا عبدالله الصغير، ثم القاسم، ولكنها فى الوقت الذي كانت قد انشغلت فيه بتربية هؤلاء الاولاد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكرمها برعاية سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك عندما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمه أبي طالب أن يعطيه علياً ليربيه، وقد لاحظ كثرة الأولاد عنده فأراد أن يخفف عنه .

وقامت السيدة خديجة برعاية سيدنا علي بن أبي طالب، وحنت عليه كحنوها على أولادها، فتربى فى بيت النبوة بين سيد الأولين والآخرين وبين سيدة من سيدات نساء العالمين فشرب من مشرب النبوة العزم، والحزم، والهمة، والقوة والشجاعة، والنجدة، والرجولة، ومن الأم الكبرى خديجة حسن السيرة، وطيب الخلق، ونقاء السريرة، والبذل والسخاء، وتربى هذا الفدائي على هذه الأسس العالية، والاخلاق الفاضلة، فكان منه ما كان ليلة الهجرة، وذلك الصمود الذي جعله يفتدي بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينام في فراشه، وهو يعلم أن القوم يترصدونه ويتربصون به في الخارج، وقد طمأنه الحبيب وهو يقول له صلی الله علیه و سلم، والله لن يصلوا إليك يا علي، ثم كانت له تلك المبارزة في يوم بدر، وكذلك الثبات العظيم فى يوم أحد، وفتكه بعمرو بن عبد ودّ المتكبر الذي استصغره واستكبر نفسه فأرداه سيدنا علي - رضي الله عنه - يوم الأحزاب . وهو فاتح حصن خيبر وقاتل مرحب بن منبه بطل اليهود العنيد ، وكم قتل من صناديد اليهود وكان سيدنا علي صاحب

ص: 96

الراية يوم خيبر، وفاتح بابها، وهو حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبيب سيدتنا خديجة، أحباه وتربى بينهما فكان ذلك الصنديد، وكان ذلك البطل الذي يتحدث عنه التاريخ حتى يومنا هذا، وهو من قال له الرسول صلى الله عليه وسلم «أنت أخي في الدنيا والآخرة» (1) «أما ترضى أن تكون بمنزلة هارون من موسى» (2) وهو زوج الحبيبة أم أبيها فاطمة الزهراء وهو أبو الحسنين الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وأبو الأطهار من آل البيت الأخيار، ولاشك أن نسبه الكريم، وحسن تربيته على يد سيدة نساء العالمين السيدة خديجة، وتحت رعايتها هو ما ساهم في بلورة شخصيته رضي الله عنه .

وبعد سيدنا علي بن أبي طالب، نشهد فضل هذه السيدة الكريمة وهى تربي بطلا آخر من حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أخي السيدة خديجة الزبير بن العوام بن خويلد رضي الله عنه، عندما مات أبوه وهو فى الثانية من عمره، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وقد أرادت هذه السيدة أن تنكفى على ابنها وتربيه، ولكن الأم الكبرى بحنانها وبعطفها وبإنسانيتها حرصت على أن يتربى هذا الانسان فى بيت النبوة، فيحظى بخير تربية بين أهل هذا البيت فيسلك مسلكهم ويشرب من مشاربهم .

وعاش الزبير بن العوام بينها وبين أمه صفية مكرماً من الجانبين، محفوفا بالكرامة، ومؤيدا بالعزة الالهية، فكان رابع من أسلم، وأول من سل سيفاً فى الاسلام على الكافرين، وكان دون الرابعة عشرة من عمره وهابته قريش رغم أنفتها وقوتها، وهو صاحب الجواد يوم بدر

ص: 97


1- رواه الترمذي (3720) وقال: حسن غريب، والحاكم 14:3 وسكت عنه، لكن ضعفّه الذهبي، كما ضعفّه اخَرون.
2- رواه البخاري (3706) ، ومسلم 1870:4 (31).

والثابت يوم أحد، يدفع الأشرار عن الوصول الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفديه بنفسه بعد أن انهزم من انهزم وقتل من قتل من جيش المسلمين .

والزبير هو ذلك الرجل الذي كان له الدور البارز في حروب الردة، ولم يشق له غبار، وكان هو كاسر شوكة الروم في اليرموك، وفاتح حصن بابليون في مصر. وجاء ابنه عبد الله على منهجه، وأبناؤه كلهم أسود حرب ، ورجال علم، وهمة ونجدة وعزيمة.

ثم هذا سيدنا زيد بن حارثه رضي الله عنه، هذا الابن المتبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأمنا الكبرى خديجة، حيث ربته وعنيت به فكان ذلك الرجل الذي لايشق له غبار، ورعته زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم، بعد أن اشترته من سوق الرقيق، وهو من قبيلة كلب بني عامر، اختطفه المجرمون في غيبة عن أهله وأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامله المعاملة الكريمة، ولما رات السيدة الكبرى خديجة احسان زوجها المصطفى إليه، وهبته له فازداد حبه له، وازداد تعلق سیدنا زید برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسي أهله واعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيدة خديجة هما أهله وعشيرته، وظل بنو عامر يبحثون عنه أكثر من عامين حتى أعلمهم بعض من رآه عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرح لهم كيف يعامله، وأنه يرعاه خير رعاية، وسمع أبوه وعمه بفضل هذا النبي الكريم وهذا الشريف من أشراف مكة، فذهبوا اليه وطلبوا منه أن يدفعوا له ما يطلبه عليه الصلاة والسلام ليأخذوا ابنهم منه ، فرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يفتديه بأى مال، وقال لهم لا أخذ منكم شيئاً ولا أسلمه لكم فتأثر أبوه وعمه فلما رأى تأثرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبيه وعمه هل لكما في خير من ذلك؟ فقالا وماهو ؟ قال آتيكم بزيد وأخيّره بين البقاء معي وبين الذهاب معكم، فإن اختاركم فخذوه بدون أن أكلفكم شيئاً، وإن اختارني فلا أسلمه لكم، ولن أسلم من

ص: 98

اختارني لأحد فقال الأب والعم قولة واحدة : لقد أنصفتنا، وأحسنت إلينا، فأحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال يازيد أتعرف هذين الرجلين؟ قال نعم هذا أبي وذاك عمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ان شئت فاذهب مع أبيك وعمك ، وإن شئت فابق معنا، فقال زيد : والله لا أختار أحدا غيرك فقال أبوه أتختار أن تكون عبداً على الحرية مع أهلك فقال زيد: ما أنا بالعبد مع سيدي الكريم بل أنا فوق الأحرار فوجم أبوه وعمه ولكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمسك بيد زيد بين الناس وقال أُشهدكم أن زيداً إبني أرثه ويرثني فصار زيد يدعى بعد ذلك زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال أهله : لك الحق يازيد أن تختاره علينا (1) فعاش في رعاية سيدة نساء العالمين.

وظل يعرف بزيد بن محمد إلى أن جاءت رسالة السماء والنبوة لسيدنا محمد فكان زيد وعلي بن أبي طالب أول المسلمين، وتربى زيد على المثل العليا في القوة والشجاعة والرجولة وفنون الحرب والاقدام والمروءة (فكان أول قائد يغزو دولة الروم فى الشام بثلاثة آلاف رجل) وسمي بعد ذلك باسمه الأصلي ولما نزلت الآية (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (2) ، سمي زيد بن حارثه ولما جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لغزوة مؤته عين زيداً أميراً، وإن قتل فالأمير جعفر بن أبي طالب، فان قتل فالأمير عبد الله بن رواحه، فماذا كان موقف زيد عندما تكاثر الروم وزاد عددهم وأشار عليه بعض المسلمين بترك القتال والرجوع لأن القوتين غير متكافئتين فى العدد والعدة، لكن القائد الملهم زيداً قال

ص: 99


1- جاء هذا المعنى في «الإصابة».
2- سورة الأحزاب - الآية : 5

قولته المشهورة: إنما جئنا لإعلاء كلمة الله، أو الموت في سبيل الله ، والتقى بالروم يحصدهم حصداً حتى استشهد وسجل تاريخاً مشرفاً و مجداً عظيماً ذلك هو الشهيد زيد الذي تربى في مدرسة النبوة وفي كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفى بيت المصطفى ولقد غرس زيد في ابنه أسامة هذه الأخلاق الحميدة الرجولة والشجاعة والإباء فكان أن ترعرع أسامه بن زيد على نفس منهج أبيه ، وأكرمه الله بنشأة حسنة فولاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وثق به قيادة الجيش الذي يحارب الروم، وهو مايزال في السابعة عشرة من عمره فكان القائد الهمام الذي اعتز به الإسلام، وأدخل الرعب في قلوب المرتدين من جزيرة العرب حين انتصر المسلمون على الروم، وهكذا استفاد من مدرسة الإقدام التي عاشها في رحاب النبوة إنه أسامة بن زيد الذي تربى أبوه وأمه فى بيت رسول الله صلی الله علیه و سلم، وأم اسامة هي أم أيمن هذه السيدة التي نالت الخير كله، وعاشت مع السيدة خديجة وكان زوجها زيد قائداً بطلاً، وابنها كذلك قائداً بطلاً بعد أبيه ، وكانت هى مثلاً أعلى في سمو الآداب ومكارم الاخلاق .

وزيد بن حارثة هو الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن من بين سائر الصحابة، وهو البطل الذي جعل نفسه فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حجارة سفهاء الطائف، وهو الحب الرسول الله صلی الله علیه و سلم حيث قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبنه أسامة : «هو الحب ابن الحب» .

ثم هناك ميسرة هذا الغلام الأمين الصادق الذي عاش عند السيدة خديجة، فكانت تعامله معاملة كريمة وتقدر له تصرفاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وصدقه وأمانته، وكانت السيدة خديجة تتذكر بعد زواجها من الرسول الأعظم صلی الله علیه و سلم، ما أخبرها به ميسرة عن جلوس النبي صلی الله علیه و سلم ، تحت الشجرة عندما كانوا في طريقهم إلى الشام ، تلك الشجرة التي لا يجلس تحتها

ص: 100

سوى الأنبياء كما أعلمه الراهب نسطورا، وقال له إن هذه الشجرة لا يفطن لمنزلتها ومزيتها إلا المصطفون الأخيار، ولذلك لم تجلس تحتها قريش في رحلاتها إلى الشام ولم يفطن إليها أحد ولكن نزل عندها رسول الله صلی الله علیه و سلم، فوعى ميسرة كلام الراهب وذكره بدقه للسيدة الكبرى كما سمعه، ولكونها سيدة أكرمها الله وشرح صدرها وهيأها لتكون بجوار المصطفى صلی الله علیه و سلم فما إن ذكر لها ميسرة تلك القصة حتى وعتها واستوعبتها .

ثم إن السيدة خديجة - رضي الله عنها - كانت ترعى في المنزل أولادها من زوجيها السابقين وتربيتهم على الخير والفضل وبذل المعروف، وكانت رضي الله عنها تتصدى لهذا الأمر بكل أمانة وعزم وإخلاص، وكانت تتحمل في تلك البيئة الحجازية كامل مسئولية هذه الأسرة، وتقوم بها خير قيام، وهو أمر فوق طاقة الأكثرين من الرجال الأقوياء الأشداء فضلا عن النساء، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل مسيرته ليخرج الناس من الظلمات الى النور، وكان يتعبد قبل ذلك في غار حراء بعيداً عن الخلق لعله يجد الوسيلة لهداية قومه، ويلتمس طريقه إلى الله سبحانه وتعالى وكانت السيدة الكبرى مشغولة بالأسرة وتوفير مايلزمها، في الوقت الذي كانت تشتغل فيه بتجارتها التي تنفق منها على الأسرة، وعلى الوافدين على الساحة العظمى، وكان همها الأكبر هو سيدنا محمداً صلی الله علیه و سلم، فكانت تذهب إليه فى غار حراء، في جنح الليل وشدة الظلام، فأي امرأة هذه؟! إنها الموصولة بالله رب كل شيء و هو الحافظ لها من كل شيء فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، ثم كانت تصعد الجبل وتبذل الجهد الشاق الذي لا يتحمله إلا القليل، وكانت تسير كل هذا الطريق لتوفر له المأكل والمشرب، وتسير إلى غار

ص: 101

حراء، في طرقات وعرة، ومرتفعات عالية، ومنخفضات هاوية، تسير بين الصخور والأحجار، لا تهتم إلا براحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت تسير وهى واثقة بأنها في حماية الله ورعايته، وترى الحبيب صلی الله علیه و سلم يناجي ربه، وتتأمل مقامه، وتود لو أنها كانت لها خلوة قريبة منه لتقوم بخدمته بصورة أكبر وأقرب، ولكنها تحرص على خصوصيته، وتؤثر أن تتركه في وحدته مع الله عزوجل، وتعود إلى بيتها لترعى كل أولئك البنات والصبيان وتكرمهم وتوفر لهم ما يحتاجون إليه وهنا قد يسأل سائل لمَ لا تخاف السيدة الكبرى من جفوة الطريق وبعده السحيق، ولماذا لا تخشى من اللص الغادر، والمجرم الفاجر، أو السبع الكاسر ، وهى امرأة وحيدة لاحول لها ولا قوة، تسير فى جنح الليل وظلامه، بين الصخور والمرتفعات، ولا تخشى أحداً أبداً، لماذا لم تخف هذه السيدة؟ .

وكانت امرأة ذات أهداف نبيلة، حفظها الله وأكرمها وكرمها، شأنها في ذلك شأن أولئك النفر الذين حفظهم الله عزوجل، أمثال سيدنا عمر رضي الله عنه الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماسلك عمر بن الخطاب فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر» (1) وقال أيضاً «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر» (2) وقد حفظ الله سبحانه وتعالى خديجة وأمنها وأمن روعها، ذلك الرب الكريم الذي رعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه في الغار (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ

ص: 102


1- رواه البخاري (3683) ومسلم (1863:4-1864 (22) بلفظ : «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قَطُّ إلا سلك فجأ غير فجك» .
2- رواه أحمد 353:5 من حديث بريدة الأسلمي بإسناد صحيح بلفظ: «إن الشيطان لیَفْرَق منك يا عمر» .

مَعَنَا ) (1) وكذلك كان الله مع هذه السيدة يحفظها ويرعاها، وقد هيأها لمهمة شاقة تتحمل فيها أعباء رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سعادة وهناء وفرح وتحملت أعباء الاهتمام بمنزلها وبكل الذين يعيشون فيه مع تنوعهم وتعدد منابتهم، لكنهم كانوا في وئام كامل، وماسمعنا عنهم ولا فيما بينهم مماراة، ولا مخاصمة، ولا مجافاة، بل كانوا جميعاً إخواناً متحابين، فسبحان من نزع ما في صدورهم من غل فعاشوا تحت ذلك الظل، في رحاب السيدة ورعايتها رضي الله عنها، وكانت توفر لهم ما يحتاجون إليه من مطالب الحياة في وقت كان فيه الناس يعانون من ضيق العيش وقلة القوت، فى واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم ، وكل ذلك كانت توفره السيدة خديجة رضي الله عنها لأولادها، ولمن ترعاهم فى منزلها من أهل رسول الله، إنها سيدة ثبتها الله بالقول الثابت، وجملها بالتقوى، وقواها بالعزيمة الصادقة، واختارها لتكون بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ص: 103


1- سورة التوبة - الآية : 40

ص: 104

أيام حراء

هذا فصل خصصته عن خديجة - رضي الله عنها - مع زوجها الأمين صلی الله علیه و سلم أيام حراء، وتَعَبَده هناك في غار حراء، فمنذ ضمهما البيت السعيد قامت رضي الله عنها بواجبها كاملاً نحو زوجها الحبيب، فملأت أيامه سعادة وهناء (1) ، تتحسس مراضيه فتسارع إليها، وتجعل نفسها و مالها وحياتها وكل ما تملك ومن تملك موقوفاً على راحته، مبذولاً في حبه، فلا شيء عندها أعز من بسمة رضا تراها ترف على وجهه الكريم، ولا شيء مهما كان إلا وهو فيما يشاؤه مبسوط و مبذول . وانظر إليها حين رأته صلی الله علیه و سلم يعطف على غلامها زيد بن حارثه ويكرمه، فهو أول من أسلم من العبيد . فسارعت تقدمه إليه هدية - وتهبه له ملكاً خالصاً.

وتأمَّل في ودها ورعايتها لعلى بن أبي طالب في بيتها كأنه أحد أبنائها، حين أحضره النبي ليكفله تخفيفاً عن أبي طالب لما اشتدت السنون وضاقت به الحال .

وانظر إلى مالها تبسط يده صلی الله علیه و سلم فيه، لا تراجعه في أمر، ولا ترده عما يشاء.

وانظر إلى إكرامها لكل من له صلی الله علیه و سلم به صلة، أو له عنده يد أو مكرمة . ويوم حببت إليه الخلوة، وصار يتجه إلى غار حراء، يعتكف متأملاً ، ويتعبد متبتلاً ، فلم تعاتبه على غياب، ولم تسأله عن ذهاب أو إياب، ولم يكن موقعها في هذا موقف الراضي المستسلم وحسب، وإنما

ص: 105


1- المحیط 35/1

موقف المعين المدعم، تجهز وتعد له ما يحتاجه في خلوته تلك من طعام وشراب ومهاد، تجهزه قبل خروجه، وتحمل إليه إن طالت غيبته فوق ما يكفيه ما حمله معه، وترسل إليه إن تأخر، بل وتحمله بنفسها إلى متعبده البعيد في حراء - والذى لا يقل بعده عن ثلاثة أميال - تصعد بعدها الجبل الشاهق إلى ذروته، حيث الغار قائم إلى اليوم، يجهد الفتى الصاعد إليه فما بالك بها .

وفي بعض الأحيان كانت تصحبه في خلوته هذه، تخدمه وتؤنسه، وتسقيه وتطعمه، وتشد عزمه فيما توجه إليه من نسك وتأمل. وكثيراً ما وافاها صاعدة إليه، فتلقاها فى السفح ، وباتا معا في شعب قريب من الجبل، ويسمى مكانه الآن بمسجد الإجابة .

وكثيراً ما كانت تصعد إليه فى غار حراء، فلا تجده أحياناً، فتبحث هنا وهناك حول الغار ، فإذا أعيت بثت في الجبل ومن حوله من ينشده، حتى تطمئن وتوقن بأنه سالم موفور فيجدونه في بعض الشعاب أو على سفح الجبل متأملاً شاخصاً ، فيعودون إليها مبشرين بسلامته . وكانت أيام خلوته هذه تطول وتقصر - حسب الحال - فربما نفد زاده سريعاً إذا غشيه بعض العابرين بالجبل فيطعمهم، فيعود سريعاً ليتزود لمرة أخرى.

فيكون مكثه أحياناً بضعة أيام قد تكمل عشراً، وقد تزيد حتى تبلغ شهراً، خاصة في رمضان الذى كان كثيراً ما يتمه في خلوته . يطعم الخبز، ويأتدم الزيت، حتى جاءه الوحي. وفي أيامه التي ينزل فيها من حراء، كان يسعى كشأن الرجل في مكة متاجراً، وقد كان له شريك في الجاهلية يسمى أبا السائب - صيفي بن أبي السائب - وقد ورد أنه قدم عليه يوم الفتح فتلقاه بالبشر قائلاً : مرحباً

ص: 106

بأخي وشريكي، ومدحه قائلاً عنه : كان لا يداجي (أي لا يراني) ولا يماري وإن كان معلوماً أنه كان يبيع ويشتري قبل النبوة، ولكن شراءه بعد النبوة كان أكثر من بيعه، وبعد الهجرة لم يبع إلا ثلاث مرات، وأما شراؤه بعدها فكثير .

ولما أصبح في عقده الرابع بدأت تظهر له المبشرات، يسمعها أو یراها، يقظة أو مناماً، مثل سماعه نداء يأمره بستر عورته حين كان يحمل الأحجار من أجياد لبناء الكعبة ومثل تسليم الحجر والشجر عليه، وفي هذا يقول البوصيري :

والجمادات أفصحت بالذي *** أخرس عنه لأحمد الفصحاء

ويقول السبكي في تائيته :

وما جزت بالأحجار إلا وسلمت *** عليك بنطق شاهد قبل بعثة

فكانت خديجة - رضي الله عنها - إذا سمعت من ذلك شيئاً زاد يقينها فيما ظنته يوم اختارته من بين الناس زوجاً، وتأكد لديها ما توقعته من أنه نبي آخر الزمان المنتظر . ومن ذلك مارواه عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلی الله علیه و سلم قال لخديجة :

«إذا خلوت سمعت نداء أن يا محمد يا محمد ، وفي رواية : أرى نوراً أي يقظة لامناماً وأسمع صوتاً ، وقد خشيت أن يكون والله لهذا أمر» فقالت كلا يا ابن عم، ما كان الله ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم، وتصدق الحديث . (1) وروي أن إسرافيل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحمل له الوحي، واستمر ذلك ثلاث سنوات، ما عدا القرآن، فالقرآن نزل

ص: 107


1- رواه ابن أبي شيبة (37258) من طبعة دار القبلة، والبيهقي في «دلائل النبوة» 158:2 وليس فيه «أرى نوراً»

بواسطة جبريل فقط عليه السلام ، وحديث بدء الوحي في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه (وهو التعبد) الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك جبريل بصورة إنسان فقال: اقرأ . فقال: ما أنا بقارىء . قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني . فقال: اقرأ. فقلت : ما أنا بقارىء . فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني . فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارىء . فأخذني فغطّني الثالثة ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ » (1) .

فرجع بها رسول الله صلی الله علیه و سلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال : زملوني . . زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي .(2)

وهنا تقف العقول فى عجب من يقين هذه المرأة الفذة وجوابها لزوجها في هذا الموقف الذي يزلزل صناديد الرجال، ويبعث أول ما يبعث في أي امرأة سواها الخوف والجزع .

ولكنها خديجة الحازمة المتطلعة إلى نبأ الغيب ، المتشوقة إلى أملها

ص: 108


1- سورة العلق - الآيات: 5-1
2- رواه ابن سعد 191:1 ، والبيهقي في «الدلائل» 132:2 عن الشعبي مرسلاً، و عرضه ابن سعد على شيخه الواقدي فأنكره، وقال الصالحي في سيرته الشامية 310:2 بعد كلامِ طويل «فظهر أن المعتمد ما مشى عليه الواقدي».

في أن يكون زوجها الحبيب صاحب البشرى، وموئل النبوة ومقصد الوحي من السماء، فكان جوابها الذي روته كل السير وأثبته أهل الصحاح والسنن، كان جوابها الذي صب في وجدانه السكينة، وغشاه وهي تدثره وتضمه إليها بالطمأنينة : «لا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق».

فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، وكان امراً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمی، فقالت له خديجة : يابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مارأى . فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟. قال: نعم.

لم يأت أحد قط بمثل ماجئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.

وفى نفس المصدر ح- 1 ص 164 .

عن يحيى بن بكير قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ابتداء الوحي، أي بعد فترته ، فقال : لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلی الله علیه و سلم قال : جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت عن يميني فلم أری شيئاً، فنظرت عن شمالي فلم أری شيئاً، فنظرت عن خلفي فلم أری شيئاً، فرأيت شيئاً بين السماء والأرض وفي رواية : فإذا الملك الذى جاءني بحراء على كرسي، فرعبت منه فأتيت خديجة فقلت دثروني دثروني، وفي رواية زملوني زملوني، وصبوا علي ماءً بارداً،

ص: 109

فنزلت هذه الآية (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) (1) .

وواكبت خديجة الوحي قرآناً وتكليفاً منذ نزوله، فحين علم جبريل عليه السلام النبي صلی الله علیه و سلم الوضوء والصلاة، قبل فرضها خمس صلوات. صلت رضي الله عنها معه في نفس اليوم كما أورد أهل السير - فكانت أول من صلى من هذه الأمة.

يقول دحلان ح-1 ص- 168 :

وقد روي أن جبريل ظهر له صلی الله علیه و سلم في أول ما أوحي إليه في أحسن صورة، وأطيب رائحة وهو بأعلى مكة، وفي رواية . بجبل حراء فقال : يا محمد، إن الله يقرئك السلام ويقول لك : أنت رسولي إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء، فتوضأ منها جبريل عليه السلام، ورسول الله صلی الله علیه و سلم ينظر إليه، ليريه كيفية الطهور للصلاة، ثم أمره أن يتوضأ، كما رآه يتوضأ، ثم قام جبريل يصلي مستقبلاً الكعبة وأمره أن يصلي معه فصلى ركعتين ثم عرج إلى السماء ورجع صلی الله علیه و سلم إلى أهله، فكان لا يمر بحجر إلا وهو يقول : السلام عليك يارسول الله ، فسار صلی الله علیه و سلم حتى أتى خديجة رضى الله عنها فأخبرها ، فغشي عليها من الفرح، ثم أخذ بيدها وأتى بها إلى زمزم فتوضأ ليريها الوضوء، ثم أمرها فتوضأت، وصلى بها كما صلی به جبريل عليه السلام . وهي بهذا أول من آمن. . وأول من ثبت وأول من توضأ و أول من صلى قال في المواهب اللدنية : أول من آمن بالله، وصدق برسول صلى الله عليه وسلم : صديقة النساء خديجة رضي الله عنها، فقامت بأعباء الصديقية. وكانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، واستدلت على ذلك بما فيه من الصفات الحميدة،

ص: 110


1- سورة المدثر الآيتان: 1-2

كقرى الضيف وحمل الكل، وعرفت أن من كان كذلك لا يخزى أبداً، وهو من بديع علمها رضي الله عنها .

ولما استعلن بالرسالة، وأعرضت قريش عن الإيمان، وكذبته و آذته بالقول والفعل، وجاهرت في عدائه، وتعذيب أصحابه، كانت خديجة المواسية الرؤوم خير من يخفف عنه ألمه، ويهون عليه أمرهم و ما يكرهه منهم .

ص: 111

الصورة

منظر قديم لجانب من منازل مكة و غار حراء الشهير بجبل النور

ص: 112

الصورة

خارطة لبعض جبال مكة المكرمة و أوديتها و هي توضح مسيرة رسول الله صلی الله علیه و سلم والسيدة خديجة رضي الله عنها

من منزل رسول الله صلی الله علیه و سلم و أم المؤمنين خديجة إلى غار حراء في جبل النور

ص: 113

الصورة

صورة مسجد الإجابة ويقع في منتصف الطريق بين غار حراء و منزل السيدة خديجة وقد أقيم في المكان الذي كان يلتقي به الرسول صلی الله علیه و سلم في بعض الأوقات بالسيدة خديجة بدلاً من صعودها إلى جبل النور

ص: 114

الصورة

منظر لجبل النور . . . على قمة غار حراء و هو يطل في شمم على مكة المكرمة

مدخل من أعلى الجبل إلى داخل الغار

ص: 115

الصورة

مدخل الغار حيث كان يدخل رسول الله صلی الله علیه و سلم

منظر من داخل الغار حيث كان يتعبد رسول الله صلی الله علیه و سلم

وتظهر في آخر الصورة فتحة يمكن أن يرى من خلالها الحرم الشريف

ص: 116

الصورة

فتحة نافذة داخل الغار تطل على مكة المكرمة ويمكن أن يرى من خلالها الحرم المكي الشريف منظر لمكة المكرمة من داخل الغار

منظر لمكة المكرمة من داخل الغار

ص: 117

بدء الوحي . . والطاهرة . . و ورقة بن نوفل

وهذه صورة أخرى مشرقة من صور حياة السيدة خديجة، فما إن حدثها رسول الله صلی الله علیه و سلم بخبر السماء ونزول الوحي عليه حتى كان لها ذلك الموقف المشرف، فزملته و دثرته، وثبتته وآمنت به، ثم لم تكتف بذلك فسلكت كل السبل للاطمئنان على الدعوة في مهدها.

كانت خديجة قد سمعت من ميسرة عندما أرسلت محمداً صلی الله علیه و سلم في تجارتها أموراً عظيمة، قال ميسرة: «خرج صلی الله علیه و سلم حتى قدم الشام، فنزل في سوق بصرى في ظل شجرة، قريباً من صومعة راهب من الرهبان يقال له «نسطورا» فاطلع الراهب إلى ميسرة و كان يعرفه فقال : يا ميسرة : من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ . فقال : هذا من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب : ما نزل تحت الشجرة قط إلا نبي (یريد ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي)، واذا صحت رواية من قال في هذا الحديث (لم ينزل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم) »(1) .

ثم حضر رسول الله صلی الله علیه و سلم سوق بصری، فباع سلعته (أي تجارته) التي خرج بها، واشترى ما أراد ان يشتري، فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل : احلف باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما حلفت بهما قط وإني لأمر بهما فأعرض عنهما» فقال الرجل : القول قولك. (وقال لميسرة : أتعرف هذا ؟ قال : نعم. قال: الزمه فإنه نبي). ثم أقبل رسول الله صلی الله علیه و سلم قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة إذا

ص: 118


1- سیره ابن هشام

كانت الهاجرة واشتد الحريرى ملكين يظلانه من حر الشمس وهو على بغيره.

فلما قدم مكة، باعوا متاعهم الذي جاءوا به، وربحوا ربحاً لم يربحوا مثله قط، فقال ميسرة : أتجرنا لخديجة أعواماً كثيرة، ما رأيت ربحاً قط أكثر من هذا الربح على وجهك، فلما رأت خديجة أن تجارتها قد ربحت أضعفت له ما سمت .

ولما دخل ميسرة على خديجة أخبرها بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذي خالفه في البيع .

كانت خديجة تتوقع ماحدثها به ميسرة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، فأصبحت تعرف كل خلجة من خلجات مشاعره وأحاسيسه، فقد كانت قريبة من عقله وقلبه، متربعة في وجدانه، ولم يكن صلی الله علیه و سلم يخفي عنها شيئا مما يلم به، بل كان يفضي إليها بكل مايجول بخاطره وما يجري معه في أدق تفصيلاته .

لقد بدأ ذلك الوحي بالرؤيا الصادقة، فلم يكن يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح فى الصدق والتحقق، ولكنها كانت مؤمنة بأن الله لا يريد به إلا خيراً.

ثم حبب إليه الخلاء ليتفكر في هذا الكون ومنشئه ومديره، وكان من المتوقع من زوجة في مثل عطفها وحبها ألا ترضى بابتعاد زوجها عنها يوماً واحداً، فكيف بأيام وأسابيع.

لكنها خديجة ذات العقل والقلب الكبير والفكر الراجح، تؤيده في هذا وتزوده ليخلو بنفسه هناك في غار حراء، يتحنث فيه (يتعبد) الليالي ذوات العدد، ثم يعود إليها حيث السكن و الطمأنينة ثم يتزود لمثلها، وكل ما تراه الآن ومانحسه حولها، وما يحدثها به الصادق

ص: 119

الأمين يؤيد ما تتوقعه وما كان حدث به ميسرة .

قد جاءها الزوج الحبيب خائفاً مرتعداً ترجف أطرافه، ويخفق فؤاده، وهو يطلب عندها الاطمئان قائلاً : دثروني . .دثروني، وفتحت له قلبها وآوته وزملته ودثرته، وأخبرها بنبأ الوحي وقال لها : لقد خشيت على نفسي .

فكان جواب السيدة العظيمة : «كلا، والله لا يخزيك الله أبداً»، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر) ما أروعه من موقف وما أجل ماحباك به الله أيتها الطاهرة من عقل وحكمة !! وما أعظم ما استقبلت به النبأ الذي هز المصطفى الحبيب

وروعه !!

وهكذا جعلها الله عوناً و وزيراً لحبيبه صلی الله علیه و سلم تشد أزره وتثبته وقد روى البيهقي في الدلائل : ان خديجة رضى الله عنها قالت لرسول الله صلی الله علیه و سلم فيما كانت تثبته : يا ابن عم هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك اذا جاءك ؟ فقال : نعم . فقالت: إذا جاءك فأخبرني. فبينا رسول الله صلی الله علیه و سلم عندها إذ جاء جبريل، فرآه رسول الله . فقال: یاخديجة هذا جبريل قد جاءني. قالت : يا ابن عم قم فاجلس على فخذي اليسرى. فقام فجلس عليها. فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم . قالت: فتحول فاجلس على فخذي اليمنى. قالت: فتحول فجلس على فخذها اليمنى. فقالت: هل تراه ؟ قال : نعم . قالت: فتحول فاجلس في حجري. قالت فتحول فجلس في حجرها. قالت: هل تراه ؟ قال : نعم . قال : فتحسرت وألقت خمارها و رسول الله صلی الله علیه و سلم جالس في حجرها. ثم قالت له : هل تراه ؟ قال : لا. قالت : يابن عم اثبت و أبشر

ص: 120

فو الله إنه لملك، وماهذا بشيطان (1).

وقبل أن نسترسل في هذه القصة الهامة دعونا نتوقف لحظة عند هذا الموقف من السيدة خديجة، لأن قولها للنبي ( عندما حدثها عما رآه حين جاءه الوحي أول مرة (والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الدهر).

لقد أقسمت بأن الله تعالى لا يخزي من يحمل تلك الصفات وفي قسمها هذا إشارة واضحة إلى صفاء فطرتها ، وإلى ثقتها العظمى بالله تعالى، وفي ذلك إشارة أيضاً الى أن هذه الصفات ممدوحة في كل زمان ومكان، وهي صفات اجتماعية فيها معنى التكافل والتعاون، وقد حث عليها ربنا سبحانه في الشرائع السابقة ثم في شريعة الإسلام.

لعل الجواب هناك عند ابن عمها ورقة بن نوفل ولماذا ورقة بن نوفل ؟

انها تعرف أنه امرؤ نبذ أوهام المجتمع المكي وترهاته و أوثانه و تنسك منذ دهر . . و توجه بقلبه و عقله إلى عبادة الله . . و راح يبحث و يدرس في الديانات السماوية الباقية، درس اللغة العبرانية وقرأ بها الانجيل - و ربما قرأ التوراة - واتخذ النصرانية ديناً لأنه شعر بأنها الديانة الوحيدة القريبة من الحق، لقد قرأ الإنجيل ودرسه بالعبرانية، دراسة متأنية، واختار وكتب لنفسه ماشاء الله له أن يكتب (2) ، وتعمق في الإنجيل و فهم ما فيه من بشارات فهماً حقيقياً دون تبديل و علم منه أن نبيا قد أظل زمانه، وعلماء أهل الكتاب ينتظرونه .

ص: 121


1- سیره ابن هشام 239
2- فتح الباري شرح الحديث (3) من بدء الوحي 34/1

وأقبلت إليه ومعها الرسول الكريم صلی الله علیه و سلم ، ثم قالت : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك .

فقال له :ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى؟

فأخبره رسول الله صلی الله علیه و سلم خبر مارأى . فاهتز ورقة اهتزازاً عنيفاً وما تمالك أن هتف : هذا الناموس الذي انزله الله على موسى ياليتني فيها جذعاً (شاباً قوياً) ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك «فقال رسول الله صلی الله علیه و سلم أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ماجئت به الا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.

لقد أيقن ورقة أنه النبي الذى ينتظره وينتظره معه علماء أهل الكتاب أن رب السماء قد اختار محمداً لحمل آخر رسالة من السماء إلى

الأرض، لقد امتلأ قلبه إيماناً مع إيمانه ونطق بتلك الكلمات التي تهز المشاعر : ياليتني فيها جذعاً . . ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك . . وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.

و سمع الرسول الكريم صلی الله علیه و سلم كلمات ورقة وتيقن أنه مختار من رب السماء . وسمعت السيدة الطاهرة تلك الكلمات، فكان سرورها عظيماً.

ما أعظم حظها حين اختارت المصطفى صلی الله علیه و سلم زوجاً لها، وما أعظم ماحبتها به القدرة الإلهية وما أكرمها به رب السماء إذ جعل بيتها مهبط الوحي، واختار زوجها الحبيب ليكون نبياً، وما أعظم سعادتها وهي تعود بالمصطفى إلى بيتها .

هل يمكن لبشر أن يتخيل تلك اللحظات التى عاشتها تلك السيدة العظيمة الطاهرة، وهي تستمع إلى ابن عمها الشيخ الورع الزاهد يقول بقلب مطمئن : إنه نبي هذه الأمة، وكان ورقة بن نوفل قد كبر وعمي

ص: 122

ولم يعد يبصر ، ولكنه كان فرحاً بلقاء الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفرح وهو يسمع منه إرهاصات النبوة وتباشير الرسالة .

لقد كانت سعادتها غامرة وهي تتلقى البشرى بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و أنه نبي هذه الأمة، هذه الكلمات من ورقة ابن نوفل جعلتها سعيدة، وغمرت قلبها فرحاً وسروراً، فقد جاءت تأكيداً لما كان يحدثها به زوجها الأمين، و لما كانت تراه من رؤى، وتشعر به من مشاعر، ثم كيف كانت ترى رسول الله صلی الله علیه و سلم وقد حببت إليه الخلوة، وأصبح يميل إلى البعد عن الناس، فلما جاءها بخبر السماء، وآت يأتيه و رؤيته للملك، ثم كيف فاجأه الوحي في غار حراء، كل هذه الأمور جعلتها أول المؤمنين وأسرع المصدقين، ولم تكتف بذلك بل حرصت على إعانته في تحمل هذا العبء : (اصبر يا ابن العم . . فاني والله احسب انك لنبي هذه الأمة المنتظر).

سبقت الدنيا كلها بالايمان . . بمجرد أن أخبرها بنزول جبريل و بدء الرسالة السماوية .

كانت أول من آمن . .

كانت أول من صدق . .

كانت أول من وقف معه . .

كانت أول من صلى معه قبل أن تفرض الفرائض . .

ورجعت إلى بيتها وهي سعيدة فرحة بنشوة البشرى، وأدركت عظم المسئولية الملقاة على هذا الحبيب بمجرد ما سمعت من خبر السماء : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (1)

وصممت الطاهرة واستعدت لتحمل المسئولية مع رسول الله صلی الله علیه و سلم ،

ص: 123


1- سورة المدثر - الآيات: 1-5

وثبتت تعينه وتؤيده وتنصره وتقف معه، فقد اختارها الله سبحانه لتكون عوناً لنبيه صلی الله علیه و سلم رضي الله عنها و أرضاها .

وظلت على ذلك الحال . . وبقيت على تلك الصورة المشرقة صادقة . . مصدقة مؤمنة . . محتسبة مضحية بكل ما تملك في سبيل عون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يؤدي حق الله . . ويبلَغ الرسالة و يؤدي الأمانة . . إنها خديجة الزوجة المؤمنة . . والرفيقة . . و المعينة . . والمؤيدة . . والمدثرة . . والمزملة . . رضي الله عنها وأرضاها .

ص: 124

البشرى

حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلوة، فكان يذهب إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، ثم يعود إلى خديجة ليتزود لمثلها.

وأنه ظل بعد نزول الوحي يتردد إلى حراء ويتعبد فيه، وها هي ذى خديجة الطاهرة تزوده بالطعام والشراب ليتفرغ للعبادة، مع أنها في أشد الحاجة إلى وجوده بجانبها، وخاصة بعد نزول الوحي، لقد تغير كل شيء بعد نزول الوحي من السماء. . فقد كان بيتها هو البيت الوحيد في الدنيا الذي اختاره الله لآخر رسالات السماء .

فأي مشاعر كانت تهز كيانها !!

الله وحده يعلم بماذا كانت تفكر، وكيف استقبلت ذلك النبأ العظيم.

إنه لشيء يفوق طاقة البشر تصوره.

أي أحاسيس طافت بالطاهرة وهي تتلقى أنباء السماء نوحى إلى الزوج الحبيب، ليس في مقدور البشر أن يتخيلوا ما كان يلم بالسيدة الطاهرة من أفكار وعواطف، ولكن الشيء المؤكد أنها لم تعد تطيق البعد عن الزوج العظيم الذي اختاره رب السماء، ليكون آخر رسل الله إلى الثقلين، وقد حرصت أن تكون على مقربة منه، ترعاه، وتؤنس وحشته، وتعينه على مواصلة عبادته وتبتله إلى الله، وكانت تفعل كل ذلک وهي في غاية السعادة والثقة في الله عزوجل، وانه سوف يكرم هذا الحبيب الذي اختاره لهذا الأمر الجلل العظيم، وبعثه رحمة للعالمين وكانت رضي الله عنها على مقربة منه دائما تحوم حوله، وتسأل عنه، وتطمئن عليه، ولا تنقطع عنه، وتظل رائحة غادية توفر له

ص: 125

الطعام والشراب، وتؤنس وحشته، وقد قدمت إليه صلی الله علیه و سلم يوما فرآها جبريل عليه السلام فقال له: «يارسول الله! هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» (1).

وحينما أبلغها رسول الله صلی الله علیه و سلم لم تذهلها البشرى مع روعتها وإنما أجابت بالعقل الوافر : إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام و رحمة الله و بركاته .(2)

أي عقل حباك الله به أيتها الأم الطاهرة !! وأي فقه صدر عنك قبل أن

يعرف الفقه وأصوله وفروعه !! لقد قلت :

«إن الله هو السلام» .

لقد كان لك من عقلك الوافر وتفكيرك العميق أن أثنيت على الله ،

وذكرته باسم من أسمائه، وكنت السباقة، وكان ذلك إلهاماً الٰهياً.

نعم إن الله هو (السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(3) .

ثم ما أعظم هذه البشرى : بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.

بيت من قصب !! وما هذا القصب ؟! .

إنه اللؤلؤ، أو هو المنظوم بالدرر واللآلىء كما جاء عن السيدة فاطمة الزهراء إذ قالت : قلت يا رسول الله ! أين أمي خديجة؟ قال: في

ص: 126


1- البخاري فتح الباري: 166/7 (3820)
2- فتح الباري 172/7
3- سورة الحشر الآية : 23

بيت من قصب .قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا، من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت . (1)

«بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب» ولم يقل بقصر فلماذا؟ . لأن البيت يدل على السكينة والطمأنينة والأمن. لهذا كانت مكافأتها مناسبة : بيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب. بيت في الجنة فيه السكینة والطمأنينة والراحة جزاء لما عانته السيدة الطاهرة في سبيل الدعوة والدعوة في مهدها.

لكم عانت وهي تقف إلى جانب الزوج الرسول الحبيب، وهو يتلقى صابراً محتسباً أذى قريش وهى إلى جانبه تعينه وتؤيده، وهو يبثها همومه وأحزانه، فيجد عندها الأنس والراحة، وكانت تزيل عنه كل وحشة، وتهون عليه كل عسير راضية محتسبة .

وكانت تشاركه في كل أموره وهمومه، وما يلقى من نصب وتعب . . ألم تختر المقام معه في الشعب، والشعب محاصر ثلاث سنوات كاملات، صابرة على مشقة الجوع وتعب البدن، وهي تخطو نحو الستين من عمرها، لقد عانت ما عانت وهي ترى الظلمة من كبراء قريش يثيرون الصخب حول زوجها الحبيب، ويوجهون إليه قوارص الكلم ، وشتى أنواع الأذى شاتمين هازئين .

فكان ثوابها من الله مناسباً : بيت في الجنة لاصخب فيه ولا نصب، لقد فعلت ما لم يفعله العظماء، كانت أول من آمن، و أول من صدق،

و أول من دثر و زمل، و بذلت كل نفيس وغالِ حين قوبل النبي صلی الله علیه و سلم بالجحود والحرمان . . و واسته بنفسها، فكانت وزير صدق وكانت من خير نساء الدنيا منذ زمانها إلى يوم القيامة، قال فيها الرسول الوفي

ص: 127


1- ابن حجر في الفتح 171/7 نقلاً عن الطبراني في الأوسط.

«خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة » (1) . ويكفيها ذلك فخراً، ويكفيها ذلك جزاءً من رب شكور !!

وعرف الرسول الكريم حق الطاهرة فكان حريصاً على ما يسرها ويرضيها، فلم يتزوج عليها حتى لا يسبب لها أدنى أذى في حياتها .

وسمى العام الذي توفيت فيه عام الحزن .

وظل وفيا لها طيلة حياته صلی الله علیه و سلم فكان يثني عليها خير الثناء، و يكرم صديقاتها وأخلائلها وكل من تصله بها رحم. فهنيئاً لك أيتها الطاهرة الكريمة حب النبي و وفاؤه، وهنيئا لك مكانتك العظيمة في قلبه الكبير، وهنيئا لك أعظم بشرى تلقاها بشر بعد الأنبياء، وهنيئا لك حب المسلمين جميعا في أقطار الأرض على اختلاف مناهجهم .

لقد حللت في قلوب المسلمين جميعا المحل السامي العالي، وكيف لا تكون لك تلك المكانة !! وأنت ما أنت عليه من خصال حميدة، وفعال كريمة، وما فعلته وقدمته للدعوة الإسلامية وما بذلته في سبيلها . كل طائفة من طوائف المسلمين تجعلك في القمة بين النساء لما حملته من صفات الخير والحق والنبل، وكل فرقة تعتبر نفسها أولى بك من سواها، وتعتبرك الأولى بين نساء العالمين، إلى جانب مريم ابنة عمران، لقد رفع الله من ذكرك في العالمين، كما رفع من ذكر زوجك النبي العظيم، فلا يكاد يذكر شيء من سيرته العطرة في بدايات الدعوة وقبلها إلا والسيدة الطاهرة تذكر فيه بالثناء العاطر :

ص: 128


1- رواه البخاري (3815) ومسلم 1886:4 (69).

علوت فلم تدرك مقاماتك الكبرى *** فغيرك لاتدعى - وإن عظمت - كبرى

وكم في نساء العالمين عظيمة *** ولكنها إن قورنت بك فالصغرى

وأصبحت مهداً للرسالة حاضنا *** تلقيتها من حين ما نزلت إقرا

وأنت التي طمأنت طه بأنه *** تلقى من الله الرسالة والذكرا

وزملته، دثرته، ولورقة *** ذهبت به یتلو عليه الذي يقرا

ولما أتى جبريل قمت بخلعك النقاب *** فلم يمكث فأعلنتها بشرى

كتبت حروفاً من حياة محمد *** فأصبحت في أعلى صحائفها سطرا

وقد شكر المولى صنيعك إنه *** الشكور وهذا الفعل يستوجب الشكرا

فأهداك مولاك السلام سلامه *** وأعطاك في الفردوس من قصب قصرا (1)

ص: 129


1- الأبيات من قصيدة (الكبرى) لعبد القادر الخرد.

صلاتها مع رسول الله صلی الله علیه و سلم:

كانت السيدة خديجة أقرب ما يكون إلى رسول الله صلی الله علیه و سلم، وكانت تتابعه، وتقتدي به، وتسمع منه وتحفظ له، وتسعى إلى حفظه ورعايته، وكان كلما أتاه جبريل بعد المرة الأولى يعود إليها ويخبرها أو يحدثها، ولهذا فقد كانت رضي الله عنها أول من صلى مع رسول الله صلی الله علیه و سلم ، فحين فرضت الصلاة على رسول الله صلی الله علیه و سلم جاءه جبريل وهو بأعلى مكة، وفجر له عيناً في جانب الوادي، فتوضأ جبريل والرسول ينظر إليه ويعلمه جبريل كيفية الوضوء والطهور للصلاة، وقام جبريل فصلی برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والرسول يتتبعه في صلاته، وبعد ذلك ذهب الرسول إلى سيدتنا خديجة وعلمها كيف تتوضأ بنفس الطريقة التي تعلمها من جبريل ثم علمها كيف تصلي، وصلى بها، فكانت رضي الله عنها هي المأمومة الأولى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)

القباب التي بنيت على قبر السيدة خديجة :

لمّا توفيت خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم في العاشر من شهر رمضان سنة عشر من البعثة بعد خروج بني هاشم من الحصار فی الشعب دفنت في الحجون .(2)

ص: 130


1- القصة بتمامها في سيرة ابن هشام 244:1 قال: «قال ابن إسحٰق: وحدثني بعض أهل العلم . أن الصلاة حين افترضت . وكذلك هي في «تاريخ الطبري» 535:1 وهذا إسناد منقطع معضل، لا يصح، وروي بإسناد آخر متصل، لكنه ضعيف، رواء الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» - (72) من «بغية الباحث» - وفيه إشكال أشار إليه السُّهيلي في «الروض الأنف» 384:1 قال : «الوضوء على هذا الحديث مكيٌّ بالفرض، مدنيّ بالتلاوة، لأن آية الوضوء مدنية».
2- الإصابة لابن حجر 605/7

وقد بنيت القبة التي كانت مقامة على قبرها سنة 950ه- من الحجر القاحوط الذي أتي به من منطقة الشميسي، وقد بنيت بمعرفة الأمير الشهيد محمد بن سليمان الجركسي أمين الدفاتر بمصر في زمن ولاية داود باشا نائب السلطان سليمان القانوني . وكان على القبر قبل ذلك تابوت خشبي، ثم جددت هذه القبة بعد ذلك عام 1298ه-.

ص: 131

ص: 132

فقه السيدة خديجة

إن من ينظر في حياة السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وفي ماضيها التليد قبل زواجها من رسول الله صلی الله علیه و سلم ثم في طريقة اختيارها لرسول الله صلی الله علیه و سلم وحرصها على الارتباط به عليه الصلاة والسلام، ثم في حياتها معه يحس برجاحة عقل هذه السيدة ونبل أصلها وكرامة محتدها وعمق فكرها وحصافتها، وحسن تدبيرها وتفكيرها وحرصها على الخير. . وحبها وتقديرها واحترامها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا كانت بعد زواجها من الرسول صلی الله علیه و سلم عوناً له وسنداً ليس بمالها وجاهها فقط ولكن بكل ما أوتيت من قدرات. وقد أحاطت النبي صلی الله علیه و سلم بحب كبير وتقدير عظيم، وكانت ترعاه وتخشى عليه وتتبع مسيرته وكان صلی الله علیه و سلم يحبها حباً عظيماً ويأنس لمشاورتها ويحرص على عرض الأمور عليها والاستئناس برأيها وكانت إذا عرض عليها الأمر تفكر فيه بجدية وعمق ونظرات ثاقبة، ولهذا فإذا ما تتبعنا بعض الحوادث التي عرضت عليها وأبدت فيها رأياً أو أشارت به نجد في ذلك فقهاً، وعمقاً وفكراً وحصافة رأي .

ودعونا نستعرض بعضاً من نماذج هذا الفقه والفهم اللذين تميزت بهما هذه السيدة الكريمة رضي الله عنها . أولاً : - لقد كانت حصيفة واعية فما أن سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اقتربت منه وتتبعت سيرته وحرصت على أن تربطها علاقة عمل معه وهذا من فهم هذه السيدة وعمق تفكيرها .

ثانياً : - لقد أجمع كتاب السيرة والمؤرخون على أنها أول من آمن

ص: 133

برسالة سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم ، ولم يكن إيمانها عاطفة عابرة، وإنما عن بصيرة ويقين وتصديق وتمحيص أدى بها إلى ذلك الإيمان الكبير .

ودعونا نرى هذا الموقف الذي استعرضناه سابقاً حين كانت تغدو وتروح على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء لتطمئن عليه، وحدث أن رجع إليها يوماً خائفاً يرجف فؤاده قائلاً : دثروني . . دثروني . . زملوني . . زملوني . . فقد خشيت على نفسي فكان جوابها بكلمات الإيمان والثقة في الله عزوجل فقالت له : كلا والله لن يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر . هكذا طمأنته وشدت أزره من منطلق ايمان عمیق ورأي ثاقب وفقه ببواطن الأمور.

ولأنه صلی الله علیه و سلم على هذا الخلق العظيم لن يخزيه الله أبداً لأنه رب كريم، وهي على ثقة من ذلك لأنها مؤمنة بهذا الرب وأنه لا يضيع من يثق به ويتوكل عليه. وهذا اللون من الإيمان يذكرنا بموقف أمنا هاجر رضي الله عنها عندما تركها سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الوادي في مكة، وليس في ذلك الوادي زرع ولا ماء ولا حياة، فقالت له وهو يهم بالرحيل : لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فقال لها : في ثقة النبي المؤمن بربه عزوجل ، «أترككم الله» فعادت تسأله : أو أمرك بهذا ؟ تريد أن تتأكد بأن الله قد أمره بهذا الأمر فقال سيدنا إبراهيم : نعم فجاءت إجابتها إجابة إنسانة مؤمنة واثقة في الرب عزوجل فقالت له وهي تضم وليدها : إذاً لا يضيعنا أبداً. هكذا في إيمان راسخ تحدثت أمنا «هاجر» وتحدثت به سیدتنا خديجة في نفس المكان وبنفس النبرات الإنسانية وبنفس الإيمان والثقة بالله عزوجل .

ص: 134

ثالثاً : يظهر فقه السيدة خديجة عندما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: يا خديجة إنه يأتيني آتِ (ويقصد بذلك جبريل عليه السلام) فقالت له وهي تريد أن تعرف حقيقة الوحي إذا جاءك أخبرني فقال لها في يوم من الأيام : هاهو ذا يا خديجة قد أتى، وهنا تظهر رجاحة عقل هذه السيدة وفهمها حيث قالت للرسول صلی الله علیه و سلم أجلس على شقي الأيمن فجلس على شقها الأيمن فقالت له : هل تراه؟ قال: نعم، قالت السيدة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس على شقي الأيسر فجلس على شقها الأيسر فقالت له : هل تراه الآن؟ قال : نعم، فقالت له: أجلس في حجري فتحول وجلس في حجرها فقالت له : أتراه الآن؟ قال : نعم، فرفعت خمارها عن رأسها وبقيت حاسرة الرأس وقالت له : هل تراه الآن؟ قال : لا ، فقالت قولتها المشهورة «يا محمد ما هذا بشيطان هذا ملك من ملائكة الرحمن» . قالت رضي الله عنها ذلك بفقه لأن الملك غادر المكان عندما كشفت عن رأسها وأدركت أن هذا التصرف لا يتصرفه شيطان، بل هو ملك من الملائكة ، هذا وأيم الله فقه و أی فقه .

رابعاً: - وهذه لقطة أخرى تظهر رجاحة عقل هذه السيدة وفقهها، فقد ذهبت إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل وهي تعرف ما لديه من علم وما هو عليه من دين وطلبت منه أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقص عليه ما رأى وما سمع فكان جواب ورقة بعد أن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم : قدوس قدوس إنه الناموس الأكبر الذي نزل على موسى وإنك يا محمد نبي هذه الأمة. وجاءها هذا الكلام تأييداً كبيراً وتوثيقاً عظيماً لرأيها وشعورها وحدسها وزاد من إيمانها بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خامساً : - دعونا نرى فقها واضحاً جلياً لهذه السيدة عندما ذهبت

ص: 135

كعادتها إلى غار حراء تحمل الماء والزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوصلت إليه وهو مستغرق في عبادته، متفرغ لربه عزوجل، ومناجاته له، فأتاه في تلك اللحظات جبريل عليه السلام وقال له: يا محمد يا رسول الله هذه خديجة قد أتت ومعها إناء فيه إدام وشراب، فإذا أتتك فاقرأ عليها من ربها السلام، ومني السلام، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب . وحينما بلغها رسول الله صلی الله علیه و سلم بذلك جاءت إجابتها على مستوى رفيع وفقه عظيم، فقد قالت رضي الله عنها تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته .

هنا يظهر فقه هذه السيدة وعظمتها وعمق فهمها فلم تقل على الله السلام وإنما تأدبت مع الله عزوجل فقالت (الله السلام وعلى جبريل السلام) ما أعظمه من فقه قبل أن يعرف الفقه وما أعظمه من فهم تميزت به سیدتنا خديجة رضي الله عنها . هذه لمحات من فقه هذه السيدة التي نسأل الله أن يجزيها عنا و عن المسلمين كل خير، فقد أدت واجباً عظيماً وخدمة جليلة، ورعاية كبيرة، لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفاها الله وكأنها قد نابت عنا جميعاً في خدمة رسول الله، وأصبح لها في رقابنا دين ومنة كبيرة، فجزاها الله عنا و عن المسلمين خير الجزاء.

ص: 136

الطاهرة شهيدة الشعب

ودعونا الآن نتتبع جانباً من السيرة العطرة لهذه السيدة العظيمة، وصبرها واحتسابها وحبها وحدبها على الرسول صلی الله علیه و سلم، وذلك في محنة الشعب، يوم تنادت قريش بعزل النبي صلی الله علیه و سلم وحصاره مع أهله بني هاشم و بنی المطلب، والتضييق عليهم في الشعب، ومقاطعتهم، فلا تبيعهم ولا تشتري منهم، ولا تزوجهم ولا تتزوج منهم، وفي ذلك ما فيه من المشقة والعسر والعنت !! ومضت قريش عاتية في غلوائها، حاقدة في عدوانها، غافلة عن الهدي الذي أهدي إليها من السماء، والمجد الذي فتح لها باب السيادة العالمية والعلاء، نسيت ما ملأ وجدان عقلائها من تشوق إلى نبي آخر الزمان، ولا ما تحدث به المتحنثون والعرافون والرهبان، بل نسيت أن عناد طغاتها في حقيقته لم يكن صادراً عن اعتزاز بمواريث الوثنية المنطفئة في ضمائرهم، ولقد صرح فرعونهم الأثيم بذلك، فلم يعد خافياً أنها أحقاد وعصبيات تعمي العيون عن باهر النور، و روعة الفجر المطل من خلف ثنايا الأفق، لقد قال فرعونهم أبوجهل في تعليل حقده و عناده : كنّا وبني هاشم كفرسي رهان . . حتى إذا تحاذت الركب، قالوا منّا نبي !! فمتى ندرك هذه . . لا والله لا نقربها أبدا .

وهاجر المهاجرون من وطأة العذاب إلى الحبشة، وبقي صاحب الدعوة والصابرون معه، ورغم ما كان يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن حوله من المؤمنين من صنوف العذاب والآلام إلا أن ذلك لم يتن آخرين من الدخول في الدين الجديد، حتى عمر الذي كان قد هم بقتل النبي صلی الله علیه و سلم ،

ص: 137

لكن بهره صدق اليقين، واستجاب الله فيه دعوة النبي الكريم فأسلم، ومن قبل ذلك بزمن يسير، ودخل في دين الله أسد الله وأسد رسوله حمزة عم رسول الله صلی الله علیه و سلم، فلم يجد المعاندون إلا أن يحاصروا المؤمنين، ويكتبوا وثيقة بمقاطعتهم اجتماعياً، فلا يحدثون تزويجاً إليهم، واقتصادياً بألا يبيعوا لهم ولا يبتاعوا منهم، وذلك أمر قد يجد فرجة مسعفة في مجتمع آخر غير المجتمع المكي، يقع على القرب منه ريف منتج، أو يضم هو في أرضه بعض ما يحتاجه الأحياء من زروع وثمار، أو يأوي سكانه إلى حاكم مركزي، يخشون إن أفرطوا في العدوان أن يغضب ويتدخل، أما مجتمع مكة فسراته المعاندون هم المالكون للسلطان المدني والتسلط المالي، والقهر العسكري، وعماد حياتهم ما يجلبونه في قوافلهم مما يأكلون ويلبسون، فمن منع البيع والشراء فيهم فقد حرم كل أسباب البقاء، ويصمد المؤمنون لهذا الأمر وهم واثقون بالقدرة العليا التي يؤمنون بها، ويخاصمهم هؤلاء المعاندون في أصل هذا الايمان.

وإذا كان من شان من عاش الحياة الخشنة وتمرن على خشونتها وقسوتها، أن يتحمل كثيراً من شظف العيش إذا فرض عليه ذلك، وذلك شأن أهل البادية والبسطاء من أهل القرى والحواضر، فإنه لمن العجب العجاب أن تحتمل قسوة الحصار، ولوعة الشعب، وشدة العيش امرأة منعمة كل عمرها مثل سيدتنا خديجة بنت خويلد، وأن تنحاز إلى من حاصرتهم قريش مختارة راغبة، حتى تستعلن بإيمانها العميق بهذا الدين الذي كانت أول من تطلع إلى فجره، وامتد حدسها قبل مجيئه بالكشف عن شخصية النبي المنتظر، مما رغبها بالسعي للزواج منه، تأييده ودعمه والتصديق بكل ما يقول. وحتى تؤكد حبها

ص: 138

الصادق لمن توقعت نبوته فأحبته، فتى نبيلاً صادقاً أميناً، وأحبته بكل ما يملك القلب الطاهر من ينابيع العاطفة الطاهرة المتوقدة، بعد أن غدا نبيها المتمنى، وهاديها الكريم، نعم تزوجته فتى وسيماً شريفاً أميناً ذا خلق عظيم، مع توقعها له التميز على كل الرجال بما يدور حوله من إرهاصات، ولكن هذا الحب أصبح شيئا فوق الوصف، يوم أن تحقق لها فيه النبي الأمل، والرسول الموعود.

وكان هذا الحب النابع من الايمان هو زاد هذه السيدة العظيمة المرهفة أيام محنة الشعب، وقسوة الحصار، وكان ألمها البالغ فيه فيضا مأساوياً من معدة جائعة، وجسد منهك من أثقال السنين، وتبعات الجهاد، وكان أشد مايؤلمها، ويعتصر قلبها له ألماً أن ترى زوجها الحبيب، ونبيها المفدى يتحمل كل ذلك الأذى والتعب والنصب، ويتحمل فوق ذلك وقدة الاشفاق على أصحابه الصامدين لمحنة تنشق لوطأتها الجلاميد . وهو يراهم يأكلون أوراق الشجر حتى تقرحت أشداقهم، فهى تحمل معه همومه كلها. هموم دعوته، وهموم محنته، وهموم أصحابه، وتبذل ما استطاعت من مالها لتخفف عنه وعنهم حدة المأساة التي عاشت ساعاتها الممتدة طيلة سنوات الشعب الثلاث، تحمل كل ساعة على مداها حدثاً جديداً وألماً شديداً .

فلم ترض السيدة العظيمة أن تبقى في دارها المترفة تنعم برغد العيش، لقد كان ذلك بيدها لو أرادت، ولها في عشيرتها بني أسد قوة ومنعة، ولكنها آثرت أن تلحق بزوجها الحبيب، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنها.

تركت مباهج الدنيا و زينتها، ولحقت بالمجاهدين الصابرين تقف إلى جانب الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وتشد أزر أصحابه ،

ص: 139

وتذوق معهم مرارة العيش وشظفه، وقسوة الطغاة . . كيف لا ؟

أليست أول من آمن؟ و أول من صلى مع الرسول الحبيب صلی الله علیه و سلم؟ . .

آمنت به حين كفر الناس، وصدقته حين كذبه الناس، و واسته بمالها وحنانها حين حرمه الناس . . كانت له وزير صدق يجد عندها الأمن والأمان، والثقة والحنان، والمودة الصادقة، والحب الكبير . . وكأني بها تسترجع ذكريات عزيزة ، حين فجأه الوحي في غار حراء. . فأسرع إليها خائفاً مرتعداً ترجف بوادره و يخفق فؤاده، فتتلقاه كالأم الحنون وتطمئنه بقولها : كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.

أم كيف تنسى حين جاءها ثانية مرتجفاً وهو يقول: دثروني، دثروني . . فأسرعت إليه ليجد في صدرها الحاني السكينة والطمأنينة . . لقد كانت معه في كل حين بقلبها وعقلها وجوارحها كلها، تؤيده وتثبته و تزيل همومه، وتحنو عليه.

فهل تتركه الآن يحاصر في الشعب بعيداً عنها !! وهي التي وهبت حياتها وكل ما تملك من أجل الحبيب، وفي سبيل الدعوة معه إلى الله . . لقد آثرته على الدنيا بكل ما فيها ومضت معه إلى الشعب لتواصل ما بدأته معه في الدعوة والتثبيت والتأييد والنصرة، ولتكون له كما

كانت دائما يداً حانية، و زوجاً حنوناً، وأما رؤوماً صادقة ومصدقة .

ولم تمنعها سنها وهي تخطو نحو الثالثة والستين من متابعة الجهاد، وهي التي كانت بحاجة إلى الراحة، وإلى من يعتني بها . . لكن الحبيب في أشد الحاجة إليها، فلتتحامل على نفسها، وتمضي معه صابرة مجاهدة . . ولقد أثر موقفها في رجال عشيرتها، كيف يرضون أن تجوع

ص: 140

وتحرم؟ . . تلك المرأة العظيمة التي كانت تغدق على بيوتات عشيرتها من البر والخير ما لم يكن يفعله كبار أغنيائهم، بل كبار كرمائهم . فاندفع بعضهم يحمل إليها الطعام سراً . . وها هو ذا ابن أخيها حكيم ابن حزام بن خويلد يحمل إليها القمح، ومرة يلقاه أبوجهل فيحاول منعه ويتماسك الرجلان، ويراهما أبو البختري بن هشام - وهو ابن عم خديجة - فيتصدى لأبي جهل ويضربه بعنف ويشجه ويلقيه إلى الأرض، ثم يطؤه وطاً شديداً .

ولم تكن السيدة الطاهرة، رضي الله عنها، تستأثر بالطعام الذي يرسل إليها، وإنما توزعه على جميع من في الشعب، ولا تنال منه إلا أقل من أي فرد منهم. لقد أثرت فيها هذه المعاناة من الحصار، والخوف على الرسول الكريم صلی الله علیه و سلم ، والهموم التي تحملها في جوانحها

و الآلام التي صدمتها من موقف كبراء قريش، وتحالفهم ضد أشرف الناس وأنبلهم وأعظمهم في ميزان الرجال والأخلاق، وهالها انحدار القيم إلى هذا الحد، يتناصرون ويتعاونون على الباطل، ويعرضون عن الحق حسداً من عند أنفسهم، حتى بعد ما تبين لهم الحق، وروعها أكثر تمالؤهم وتناصرهم على الشر، وإلغاء عقولهم وعواطفهم، واتباع شيطان مريد، هو الجهل والسفه هو أبو جهل .

كيف انحدر كبراء مكة وشيوخ عشائرها إلى هذا المستوى ! فرضوا أن يحاصروا شيخ مكة وسليل أمجادها أبا طالب بن عبد المطلب، ويمنعوا عنه وعمن معه أبسط مقومات العيش، أثر هذا كله في صحتها، لكنها كانت تتماسك حرصاً على موقف الرسول الحبيب.

لقد كانت محنة الشعب من أقسى ما واجهه الرسول صلی الله علیه و سلم بعد أن ينست قريش و سفهاؤها من صده عن الدعوة، كانوا قبل الحصار

ص: 141

يسمعونه قوارص الكلم، ويرمون الأقذار على بيته، ثم بعدها على رأسه الشريف، ثم راحوا يتفننون في إيذاء أصحابه الذين أسلموا بالضرب والتجويع حتى الكي بالنار، وثبت أولئك المجاهدون للمحنة، وصبروا على العذاب والكيد، وكان الرسول صلی الله علیه و سلم يتألم لما يتعرض له أصحابه، فأذن لمن يريد بالهجرة إلى الحبشة، لأن فيها ملكاً عادلاً يستطيعون أن يعيشوا في كنفه آمنين على أنفسهم ودينهم. وهاجر كثير من أصحابه رضوان الله عليهم، وكان منهم ابنته رقية مع زوجها عثمان بن عفان سليل المجد والشرف والغنى والرفاهية !!

وثبت الباقون في مكة يدعون إلى الله لا يفترون، ولا يأبهون لأفاعيل قريش، وبدأ الإسلام ينتشر خارج مكة، وهذا ما هال قريشاً، فإن لها سلطانا داخل مكة ولكن لا يدلها على القبائل خارجها، فلجؤوا إلى الإغراء المادي عسى أن ينفع فعرضوا على الرسول الكريم صلی الله علیه و سلم کل مباهج الدنيا، أرسلوا إليه (دبلو ماسياً محنكاً) هو عتبة بن ربيعة يفاوضه على الدنيا مقابل الكف عن الدعوة.

قال عتبة للرسول الكريم صلی الله علیه و سلم: إنك منا حيث علمت في السطة (الشرف) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم . . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل بعضها .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد أسمع . . فقال عتبه . يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، و بذلنا فيه

ص: 142

أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه.

حتى إذا فرغ عتبة قال له النبي صلی الله علیه و سلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: اسمع مني . قال : أفعل .

فتلا رسول الله صلی الله علیه و سلم : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (1) ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ إلى أن بلغ : (أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه. ثم انتهى رسول الله صلی الله علیه وسلم إلى السجدة فسجد، ثم قال : قد سمعت أبا الوليد فأنت وذاك.

فقال عتبة : ما عندك غير هذا ؟ فقال صلی الله علیه وسلم: ما عندي غير هذا . . فقام عتبة عنه. ثم إن الملأ من قريش سألوه عما أجابه به محمد صلی الله علیه وسلم، فكان من جوابه أنه سمع كلاماً ما سمع مثله قط و قال لهم : والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة . . ثم عرض عليهم اقتراحاً معتدلاً فقال : يا معشر قريش أطيعوني و خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، يا قوم أطيعوني في هذا الأمر، واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاماً ما سمعت أذناي كلاماً مثله، وما دريت ما أرد عليه .

ص: 143


1- سورة فصلت - آیات 1-5

قالوا سحرك والله يا أبا الوليد . . قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. (1)

وكان يميل إلى رأي عتبة هذا بعض العقلاء من قريش، وكان فيه خير كثير لو أخذوا به، وتركوا رسول الله صلی الله علیه و سلم وشأنه.

ولكن الطاغية أبا جهل استخدم كل ما يملك من فجور وقسوة وحقد، و راح يثير في نفوس كبراء مكة الحمية حمية الجاهلية، تدفعه إلى ذلك مرارة الحقد الأسود على آل عبد مناف عموماً، وبني هاشم منهم على وجه الخصوص، وذلك لسبقهم في المكارم والأمجاد . . ولم يكن كرهه للرسول صلی الله علیه و سلم ودعوته نابعاً من ايمان باللات والعزى و بقية الأوثان والأصنام، وإنما كان حسدا واستكبارا وغيرة أن ينزل القرآن على سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم، لماذا على محمد وليس على غيره من عظماء قريش، وقد عبر القرآن عن ذلك حاكيا قولهم : ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (2) ويخبره الله ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (3) لقد عرف أبو جهل وحزبه أن الحق مع سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم ومع ذلك كابر واعرض ونأى بجانبه، أعلنها حرباً لا هوادة فيها ، وراح يعبىء (الرأي العام) في مكة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك كله لشعوره بتفوق آل عبد مناف على آل مخزوم عشيرته التي هو زعيمها. ويظهر ذلك جلياً في محاورته للأخنس بن شريق بعد ان استمعا معاً إلى ما يتلوه رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات بينات، وكان أبوجهل

ص: 144


1- رواها ابن أبي شيبة في «مصنّفه» (37263) من طبعة دار القبلة، وعنه رواها أبو يعلى (1812) من طبعة دار القبلة، وقد قال عن سنده الصالحي في «سيرته الشامية» 2 447 سند جيد
2- سورة الزخرف- الآیة : 31
3- سورة الانعام - الآیة : 33

قد سمعها معه، ودخل عليه الأخنس في بيته وقال له : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال أبو جهل: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا، فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجائينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذا، فوالله لا نسمع له أبداً ولا نصدقه .(1) هذا إذن أكبر دوافع أبي جهل لمحاربة الرسالة المحمدية ومحاولة إسقاطها، مع دوافع أخرى كثيرة . .

ثم لجأ زعماء قريش إلى أبي طالب ليكف ابن أخيه، ودافعهم أبو طالب باللين أولاً، لكن حين وجد إصرارهم على المطالبة بأن يسلمهم اياه كان جوابه الحازم الحاسم: والله لا نسلمه أبداً.

وأحست قريش أن زمام الأمور بدأ يفلت من يدها بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، اللذين كان لإسلامهما وقع كبير في نفوس المسلمين، إذ وجدوا فيهما قوة وسنداً، وكان له أثر أكبر في نفوس المشركين كذلك، وما ذلك إلا لقوة شكيمتهما وبأسهما، فإذا أضفنا إلى هذا هجرة مجموعة كبيرة من المسلمين إلى الحبشة، استطعنا أن نتصور مشاعر كبار المشركين من أهل مكة وهم يرون نفوذهم يتقلص، وأعداد المسلمين في ازدياد وقوة ومنعة، وبدأ زعماؤهم في التشاور ، ثم أجمعوا أمرهم على أن يقاطعوا بني هاشم وبني المطلب، فلا ينكحوا إلى بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا بذلك صحيفة ثم علقوها في جوف الكعبة توكيداً بذلك الأمر على أنفسهم .

ص: 145


1- سيرة ابن هشام ج- 1/ 316

ثم أعلن زعماء قريش أنهم سيقتلون محمداً صلی الله علیه و سلم ، وبهذا يقضون على دعوته . . فلما فعلت قريش ذلك انحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، واجتمعوا اليه . . وخرج أبولهب من بني هاشم، وظاهر قريشاً على أهله بني هاشم وبني المطلب، وقال لإمرأته (حمالة الحطب) ألم أنصر اللات والعزى ؟ . . قالت بلى .

واستمر الحصار المرير ثلاث سنوات إلى أن أذن الله فأرسل على الصحيفة الظالمة الأرضة، وهي حشرة صغيرة تعيش على أكل الورق والخشب فأكلتها ولم تبق فيها إلا اسم الله، ونزل الوحي على رسول الله صلی الله علیه و سلم بذلك. وأخبر عمه أباطالب، فقال : والله إنك لم تكذبني ونهض إلى رجال قريش، وكانوا عند البيت .

وقال أبوطالب للنفر القرشيين هاتوا صحيفتكم، وظنوا أن أباطالب جاء ليسلمهم ابن أخيه بعد ان أنهكهم الحصار، لكن أباطالب طلب إحضار الصحيفة قبل أن تطلع قريش على ما جرى لها. . وبعد أن جاؤوا بها قال لهم أبوطالب : قد جئتكم بأمر فيه النصفة لنا ولكم. ثم قال لهم : إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا وأخبرهم بما قال النبي صلی الله علیه و سلم فان كان صادقاً فانتهوا عن قطيعتنا، وأنزلوا عنها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي !!

وقال القوم : قد رضينا وتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي کما قال الرسول صلی الله علیه و سلم ، فزادهم ذلك شراً وكبرياء وغطرسةً وإصراراً على الظلم واتباعاً للباطل . . لكن رهطاً من عقلاء قريش هالهم والمهم ما آلت إليه حال بني هاشم وبني المطلب، ومن التحق بهم في الشعب، وكان على رأس هؤلاء : هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وزمعة بن الأسود، وأجمعوا أن يمزقوا

ص: 146

الصحيفة، وكان من أمر أبي طالب مع الذين حاورهم بشأن الصحيفة، وكانوا حاضرين المحاورة فتنادوا من جنبات المسجد بإبطالها، وغُلب أبوجهل هذه المرة على أمره، وخذله الله، وأذله ونصر عبده ورسوله سيدنا محمداً والذين معه . وخرج المسلمون من الحصار، وهم أمضى عزيمة، وأشد قوة، لم يزدهم الحصار إلا إيماناً وإصراراً على المضي في الدعوة، وكان أثر الحصار سيئاً على قريش، فقد تسامعت به العرب، وزاد إعجابهم بالمسلمين وثباتهم مع نبيهم، فزاد عدد الداخلين في الإسلام. وخرجت (الطاهرة) منهكة القوى متهالكة البدن قد جاوزت الخامسة والستين أو كادت .

لكن أملها كان قوياً في أن تتابع رحلة الجهاد مع الرسول الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين .

ولكن ما إن انتهى الحصار الخانق وخرجت منه مع حبيبها وصحابته حتى قضت شهيدة الصبر والمصابرة، لنوازل المطاردة المسعورة من أعداء الله للمؤمنين بالله، والدعم والمؤازرة للحبيب الصادق الصامد المجاهد، وكانت بذلك أول شهيدة من آل البيت النبوي الكريم.

ص: 147

ص: 148

الرحيل

ورحلت أم المؤمنين . . وزوج المصطفى الأمين. . السيدة خديجة بنت خويلد . . رحلت السيدة الإنسانة إلى جوار ربها . . رحلت الزوجة والأم . . والرفيقة والعضد . . رحلت هذه المرأة الفاضلة، والإنسانة الخالدة التي كانت خير عون، وخير رفيق، وخير جليس، وخير صديق. . رحلت الحبيبة التي احترمته وأحبته . . وعضدته ودثرته . . وزملته ورافقته. . وكان عام رحيلها عام ألم وحزن . . فقد رحل في نفس العام عمه أبوطالب . . هذا الرجل الذي وقف إلى جواره، وصمد يدافع وينافح عنه . . ويحميه ويؤويه . . ولهذا فقد كان فراقهما معاً فراقاً مؤلماً . . ولكن إرادة الله شاءت ألا يكون رحيل السيدة خديجة إلا بعد أن أكرمه الله . . وثبته وأظهره وأيده . . فرحلت إلى جوار ربها مطمئنة النفس، وقد بدأ الناس يلتفون حوله صلی الله علیه و سلم .

رحلت خديجة بنت خويلد بعد أن سلمت الراية إلى ابنتها الطيبة الطاهرة . . أم أبيها . . فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلی الله علیه و سلم . . رحلت الزوجة المؤمنة المحبة، بعد أن أعانته على احتمال أقسى الشدائد، وأصعب الأحداث، بعد أن قاطعته قريش، وقست عليه، واضطرته إلى أن يلوذ بالشعب، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وأعلنوا الحرب التی لا هوادة فيها، وأعلنوا مقاطعة ظالمة باغية دون رأفة ولا مراعاة

لنسب، أو جوار، أو حق إنساني لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

لكن الله قيض له خديجة فوقفت إلى جواره، ودخلت معه الشعب، وتركت دارها وجارها ومكانتها، وخرجت مع الزوج الحبيب والنبي

ص: 149

الكريم . . وأقامت معه تخفف عنه الألم، وتسري عنه الهم، وتشاركه بلايا المقاطعة، وكان قد تقدم بها السن فلم تبال، ونال منها الإعياء فلم تابه به، وبلغ بها المرض مبلغاً عظيماً، ولكنها استمرت في الوقوف مع رسول الله صلی الله علیه و سلم ، مع أنها ليست معنية بالمقاطعة، فهي ليست من بني هاشم، ولكنها صمدت وتحملت من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقفت خديجة نفس الموقف الصلب الذي وقفه أبوطالب يوم علم تصميم رسول الله صلی الله علیه و سلم على المضي بالدعوة ، وقال له قولته المشهورة في صدق و رجولة و إصرار : (يا ابن أخي قل ما شئت، فلن أسلمك لهم حتى أوسد في التراب دفينا).

نعم ثبت أبوطالب وثبتت خديجة إلى أن سلط الله الأرضة على الصحيفة المعلقة في الكعبة، ولم يبق إلا اسم الله، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عن طريق الوحي، ومزقت الصحيفة وانتهت المقاطعة . . وتوفي أبوطالب وكان حدث وفاته شديداً على رسول الله بسبب مواقفه العظيمة من النبي، واشتد الأذى على رسول الله صلی الله علیه و سلم ، وجاءت وفاة السيدة خديجة أم المؤمنين في نفس العام. . هذه السيدة التي كانت سكناً وأنساً ورأفة ومودة، فكانت وفاتها مصيبة كبرى بعد وفاة أبي طالب، وأصبحت الدار خالية والجو مكفهرا، وغدت مكة موحشة، فكان عام الحزن ذلك العام، ولم تنل قريش من رسول الله صلی الله علیه و سلم إلا بعد وفاة هذين السندين الصادقين المحبين، فكانت وفاتهما حزناً وألماً وضياع سند، وفقدان نصير، ولكن كان الله معه، يؤيده وينصره، وتعلم الدنيا كلها كيف صبر رسول الله صلی الله علیه و سلم ، وتحمل مع أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن ينصره ويظهره بدون كل هذه المتاعب، لكنه الدرس الذي يعلم فيه الأمة الإسلامية كلها، فهو القدوة وهو الأسوة، ويصرح القرآن

ص: 150

الكريم :(أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) (1) .

ومع كل ذلك يدعوه عزوجل لأن يخاطب هؤلاء الناس بالحكمة والموعظة وأن يجادلهم بالتي هي أحسن : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (2) .

وبقي رسول الله صلی الله علیه و سلم محافظاً على ود هذه السيدة الحبيبة وحبها وتقديرها واحترامها . . فقد ظل يذكرها ويتذكرها دائماً . . وحفظ لها ذلك الود . . و أبقى على الحب الكبير في قلبه. . والتقدير العظيم لما صنعت معه . . فقد كانت حقاً نعم الزوجة ونعم الرفيق والعضد والناصح الأمين .

وقفت معه . . و أعطته عندما حرمه الناس. . ونصرته عندما خذله الناس . . وصدقته يوم كذبه الناس . . وآمنت به عندما كفر أكثر الناس . . وأغدقت عليه من ودها وعطفها وحنانها ولهذا فقد ظل يذكرها ويتذكرها . . ويدعو لها و يكرم صديقاتها، ويصل قرابتها . . و من ينظر في حياة السيدة خديجة يدرك أبعاد ذلك الدور المشرق الذي قامت به في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسيرة الدعوة الإسلامية .. ويتجلى أثر هذا الدور في الحزن الذي أصابه صلی الله علیه و سلم على فراقها، ولكن عناية الله ورعايته كانت فوق تلك المحنة فما إن رحلت هذه السيدة حتى أكرمه الله بمزيد من التأييد والنصر، وتوالت عليه البشائر، وأقبل من الإنس والجن على الإسلام، فأسلم نفر من الجن وأسلم عداس . .ثم جاءت حادثه الإسراء والمعراج لتكون دعماً وتأييداً وتبشيراً وتطميناً له صلی الله علیه و سلم .

ص: 151


1- سورة الرعد الآية : 31
2- سورة النحل الآية: 125

وشاءت إرادة الله أن يلقى النبي صلی الله علیه و سلم جماعة من الخزرج كانوا قد قدموا من المدينة للحج، فدخلوا في الإسلام فأصبحوا له أنصاراً، وتوالت أحداث النصر وبشائر الفرج، فجاء الإذن بالهجرة . . ثم كانت

الهجرة . . و وصل إلى المدينة المنورة . . وخرج من مكة وهو متألم يخاطبها : «لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» ويجأر إلى الله عزوجل بالدعاء : «اللهم وقد أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك» .

وتوالت أحداث النصر . . وكان الفتح . . وكان النصر . . واظهر الله سبحانه وتعالى دينه . . ونصر نبيه وحبيبه . . ودخل مكة فاتحاً منصوراً . . وعاد إلى مكة . . وما إن وصلها حتى تذكر الحبيبة الوفية خديجة بنت خويلد. . فضرب خيمته بجوارها بالأبطح على مقربة من قبرها في المعلاة . . وراح يدعو لها ويستغفر ويتذكر فضل هذه الإنسانة ويعتز بمواقفها معه . . ووفائها له . . وكأن لسان حاله يقول : ما شعرت بضيق أو كرب وأتيت خديجة إلا فرجت عني . . وأزالت كربتي . . فقد كانت تعضدني وتصدقني وتؤمن بي، وتضع كل ما تملك في سبيل هذه الدعوة الإسلامية . . وكنت كلما رجعت إليها تشد أزري إذا هاجمني القوم . . وتصدقني إذا كذبوني . . وتهون علي رضي الله عنها وأرضاها .

ولهذا فقد حلت هذه السيدة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبها كما لم یحب أحداً من الناس . . وكرمها وأكرمها دائماً . . بل وكرمها رب العالمين من فوق سبع سموات عندما جاءتها البشارة بواسطة جبريل عليه السلام وهو يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رآها تأتي من أسفل الجبل: «يا محمد هذه خديجة قد جاءتك ومعها إدام وطعام فإذا أتتك أبلغها من

ص: 152

ربها السلام ومني السلام» رضي الله عنها وأرضاها وجزاها عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

وقد حافظ رسول الله صلی الله علیه و سلم على حبها، وحفظ لها مكانتها في قلبه ولهذا كان يصرح دائما وأمام زوجاته جميعاً، بل أمام السيدة التي أحبها بصورة خاصة . . السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق . . فكان يقول : «والله ما أبدلني الله خيراً من خديجة» . . لقد كانت ذات مواقف مشرفة . . وأفعال حميدة . . وحتى عندما غارت السيدة عائشة وهي ترى ذلك الحب الكبير للسيدة خديجة من رسول الله صلی الله علیه و سلم، فقالت له قولتها : كأن لم يكن في الدنيا من امرأة سواها . ولم يتردد عليه الصلاة والسلام في الدفاع عنها، بل أيد موقفه وعزز حبه واحترامه وأكد لهن جميعاً بل للعالم أجمع أن خديجة سيدة في قلب المصطفى صلی الله علیه و سلم.

ولهذا عندما نزل في قبرها وأودعها التراب شعر بألم شديد، وأخذ يدعو لها بالرحمة، وحفظ لها ذلك الحب في قلبه وعقله ووجدانه، لقد كانت صورة صادقة للإنسانة الفاضلة، والرفيقة الكريمة، والزوجة المخلصة، والمؤمنة الصادقة، ولهذا فقد ظلت سيرتها مشرقة وستظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

وقد وجدت خلال رحلاتي في أوربا بعض الناس الذين أسلموا في الغرب يقولون بكل صراحة أنهم أسلموا بعد أن قرأوا عن حياة السيدة خديجة بنت خويلد، وموقفها من رسول الله صلی الله علیه و سلم، وقد أدى هذا الأمر إلى احترامهم لهذه السيدة لنبلها وصدقها وسلامة موقفها، وصدق تعبيرها وأمانتها وشجاعتها، ولهذا فقد آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا في دين الإسلام .

رحم الله السيدة خديجة وتغمدها برحمته وأسكنها فسيح جناته

ص: 153

وجزاها عنا وعن المسلمين كل خير وطابت هذه الحبيبة وطابت سيرتها رضي الله عنها وأرضاها .

الصورة

جانب من مقبرة المعلاة ويظهر فيها قبر السيدة خديجة رضي الله عنها

مكان قبر السيدة خديجة رضي الله عنها . . وبجوارها ابنها القاسم في ركن المكان .

ص: 154

الصورة

صورة لمكان قبر السيدة خديجة رضي الله عنها عندما كان عليها بعض القباب قبل إزالتها . . وبجوارها قبر القاسم ابنها رضي الله عنه وكان لهذا المقام سدنة يأذنون للناس بالدخول والسلام على السيدة خديجة في قبرها وابنها

ص: 155

ص: 156

القلادة . . وذكرى عطرة

كان أبو العاص بن الربيع من أبرز شباب مكة وأنبلهم، وأكرمهم شيماً وخلقاً، وأعرقهم أرومة ونسباً، فهو الى جانب أنه قرشي في صميم قريش وأشرافها، فانه يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه في الجد الثالث، عبد مناف بن قصي، وحسبك بذلك نسباً وشرفاً، ثم هو يلتقي به أيضا من جهة أمه بهذا النسب الشريف .

فأمه هی هالة بنت خويلد أخت سيدتنا خديجة، التي تلتقي في النسب مع رسول الله صلی الله علیه و سلم في الجد الرابع قصي بن كلاب بن مرة، لأن جدها لأبيها هو أسد بن عبد العزى بن قصي . . وأم خديجة ينتهي نسبها الى الجد الثامن لرسول الله صلی الله علیه و سلم لؤي ابن غالب بن فهر، وهي فاطمة بنت زائدة، وأم فاطمة أيضا هي هالة بنت عبد مناف بن قصي .

وقد كانت سيدتنا وسيدة نساء العالمين خديجة وهي خالته تؤثره بحبها ورعايتها، وتعتبره بمثابة ابن لها .

وقد شب كريم الخصال، زكي النفس، محببا الى قومه، معروفا بينهم بالشرف والمروءة والرجولة والشهامة والصدق والأمانة، لهذا كان موضع ثقتهم وتقديرهم، يأتمنونه على أموالهم وتجاراتهم، يسافر فيها إلى الآفاق تاجراً، ثم يعود إليهم بالربح الوفير، فيملؤون بطاح مكة بالثناء العاطر عليه في يمنه وحسن سعيه، وطهارة يده وأمانته. وقد كانت هذه الصفات الكاملة، والمكانة العالية التي بلغها بين شباب مكة ورجالاتها، مع قرابته لرسول الله صلی الله علیه و سلم نسباً وصهراً، مما جعله يتقدم لخطبة بنت خالته زينب الحبيبة من أبيها الصادق الأمين ،

ص: 157

وبكر في خطبته لها قبل أن يسبقه إليها بعض فتيان قريش وأشرافها ممن يطمحون إلى هذا النسب العالي الكريم.

وبدون شك . . تحسب أن خالته الكريمة السيدة خديجة قد مهدت له ودعمته ويسرت عليه الأمر عند زوجها الحبيب سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم وما كان لمحمد الصادق الأمين الذي يعرف للأمانة قدرها، وللصدق حقه ومكانته أن يتردد في قبول هذه الخطبة وبخاصة وهو يرى قرب هذا الخاطب منه ومن خالته الحبيبة نسباً وشيماً، وتقريبها له وداً وحناناً كأنه ولدها .

وسرعان ماتم هذا الزواج الميمون، وزفت فتاة مكة، وزهرة هاشم، وابنة الطاهرة سيدة مكة من أشرف رجالاتها - محمد الأمين - إلى أبي العاص بن الربيع فتى مكة، وأكرم شبابها .

وماكان أسعد السيدة خديجة وهي تنتقي طرف هذا العرس، وما يطلب في مثل هذه المناسبات، وكم كانت فرحتها غامرة وهي تخلع على ابنتها العروس في ليلة زفافها، قلادة عزيزة عليها، هي عقد نفیس، من حجر كريم، كانت خديجة تنزین به، فخلعته في حبور غامر، وطوقت به عنق ابنتها العروس زينب إعزازاً وحباً، وكأنها تتذكر وهي تفعل ذلك لحظات هنائها يوم زفت هي به إلى زوجها الحبيب منذ سنين في عرسها السعيد. وعاشت زينب العروس الهانئة مع زوجها وابن خالتها أبي العاص بن الربيع حياة ملؤها السعادة والهناء، تنعم بحبه الصادق، وحب أبويها الكريمين لها ولزوجها .

ومرت الأيام هادئة هانئة ، تزيد العروسين السعيدين كل يوم قربا وحباً، واستيقظت مكة ذات يوم على نبأ عجيب، إن محمداً بن عبد الله

ص: 158

الصادق الأمين يعلن أنه نبي، ويدعو إلى ملة إبراهيم، ويعيب الأوثان وعبادتها والذين يعبدونها، ويأمر الناس بخلع هذه الأوثان، وإفراد العبادة لله الواحد الديان.

واهتزت أرجاء مكة لهذا الأمر الجديد الخطير، وأبى الصناديد من أهلها أن يستجيبوا لهذه الدعوة، رغم ترقب الكثير من بينهم لظهورها، وكثرة مارددوه من أقوال عرافهم وكهانهم وعقلائهم عن قرب زمانها، وأوصاف وعلامات صاحبها !!

ولجوا في عنادهم لجاجاً عنيفاً، وحاولوا حجب نورها عن مجتمعهم بل عن الدنيا كلها، لا تكذيباً لحاملها، بل حسداً له أن يختص بها، وخوفاً من أن تضيع مكانتهم ، وينحسر سلطانهم في مكة والحرم الذي يفخرون به على كل العرب، ويملكون الصدارة عليهم، وكان من أشد الحانقين والمناوئين للرسول الكريم في دعوته أبولهب عمه، وزوجه الحاقدة على خديجة - أم جميل - يدعمهم في ذلك عتاة جفاة من أمثال أبي جهل وعصبته، وكانت دعواهم الضالة وحجتهم الباطلة هي قولهم : (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (1) . وكان من كيدهم أن جعلوا عتبة وعتيبة ابني أبي لهب يطلقان رقية وأم کلثوم بنتي رسول الله صلی الله علیه و سلم من خديجة، ليشغلاه ببناته ومشكلات بيته عن أمر الدعوة الجديدة !!

واستجاب الولدان لأمر أبيهما أبي لهب، وكيد أمهما أم جميل، وتحريض العناة من قريش، فطلقا الزهرتين الطاهرتين .

واتجه الكيد من هؤلاء المتآمرين إلى أبي العاص ليطلق هو الآخر زوجه زينب الطاهرة، وأغروه بأن يزوجوه أي امرأة سواها يختارها من

ص: 159


1- سورة الزخرف - الآية : 31

أشرف بيوتات قريش، لكنه ردهم في إباء، وصدهم في استعلاء على كل وعيد أو إغراء، فقال لهم : لا والله إني لا أفارق صاحبتي ، وما أحب لي بامرأتي امرأة من قريش . قال ذلك وأصر عليه . . مع أنه لم يدخل بعد في دين صهره النبي الکریم ، ولعل مما أخره عن أن يسلم في ذلك الحين أنفته من أن يقولوا : غلبته امرأته وحبه لها فأدخلته في دين أبيها . ومرت السنون . . ورزق منها بطفلين . . «أمامة» و«علي». وكانت الهجرة . . وذلك بعد وفاة السيدة خديجة . . وأقام النبي صلی الله علیه و سلم بالمدينة. وبقيت زينب مع زوجها الذي لم يسلم بعد وطفليهما في مكة . . وبدأت المناوشات والسرايا بين المسلمين وكفار مكة حتى جاءت غزوة بدر . . و استكرهت قريش أبا العاص كما استكرهت العباس ابن عبدالمطلب على الخروج لحرب المسلمين .

خرج أبو العاص . . حياء من أن يقولوا حبسته امرأته أن يخرج مع قومه في استنقاذ غيرهم وأموالهم .

وكانت المعركة . . معركة بدر الكبرى . . ونصر الله رسوله والمؤمنين، وقتل صناديد الكفر وأسر من أسر، وكان من بين الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج الحبيبة زينب، وابن أخت الحبيبة الراحلة خديجة الطاهرة .

وسيق الأسرى من بدر إلى المدينة المنورة. . واستعرضهم الرسول صلی الله علیه و سلم . . ثم وزعهم على أصحابه ليقوموا بشأنهم حتى يقضي في أمرهم بما يقضي وكان من بين من ضمهم إليه صهره أبو العاص فأحسن نزله وأكرمه وقد أوصى أصحابه بالأسرى خيراً.

وظل أبو العاص عند النبي صلی الله علیه و سلم حتى أرسلت قريش في فداء أسراها .

ص: 160

وبلغ أعلى فداء قدمته قريش أربعة آلاف درهم في كل أسير. وقدم عمر بن الربيع أخو أبي العاص - في فداء أخيه . وتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم : بعثتنى زينب بنت محمد بهذا في فداء زوجها أخي - أبي العاص بن الربيع (1) وقدم إلى الرسول صلی الله علیه و سلم صرة أخرجها من ثيابه، وحل النبي صلی الله علیه و سلم وكاء الصرة ونظر فيها . فاهتز للمفاجأة !!! لقد وجد في الصرة قلادة . . قلادة عزيزة لم يكد يراها حتى اغرورقت عيناه . وهاجته الذكريات وقد رق رقة شديدة لم يستطع أن يستخفى بها .

إنها قلادة خديجة التي كانت هديتها إلى ابنتهما زينب ليلة عرسها، خلعتها من عنقها وألبستها إياها في يوم زفافها، أرسلتها إلى أبيها الحبيب تقدى بها الزوج ابن الخالة الحبيب .

وساد الحاضرين من الصحابة الكرام صمت جليل وترقب ولهفة، يكتنفه احترام وقور لمشاعر هذا النبي العظيم الذى يفدونه بالمهج والأرواح. ثم قطع هذا الصمت الجليل صوت رحيم جليل، لقد سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فى رحمة وحنان لأصحابه المتلهفين المترقبين: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها فافعلوا» (2) مع أن الله فوضه فى القرآن فى هذا الأمر أن يقبل الفداء من الأسير أو يمن عليه بلا فداء ﴿فَإمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءَ) (3). وكان جواب الصحابة جميعاً في حماس يهدئه جلال الموقف : نعم يارسول الله . . نفعل . . نفعل ما أحببت . أليسوا هم الصحابة الكرام والأنصار العظام الذين قام خطيبهم

ص: 161


1- السيرة 2- ص : 316-317 . والطبري 2-468
2- رواه أبو داود (2685) من طبعة دار القبلة، وأحمد 6 : 276 وإسناده صحيح.
3- سورة محمد الآية : 4

بالأمس القريب قبيل المعركة حين قال لهم صلی الله علیه و سلم : «أشيروا علي أيها الناس» فقام سعد بن معاذ - رضي الله عن سعد بن معاذ - قام فقال : يارسول الله آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جنت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا . فسالم بنا من شئت، وحارب بنا من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، ودع منها ما شئت، وما أخذت منها أحب إلينا مما تركت .

تفويض مطلق. ولكنه كمال النبوة في العرض، وكمال الصحبة وصدق النية فى العطاء والعرض.

وقبل أن نسترسل في قصة القلادة هذه لابد من الإشارة الى أن حادثة رد القلادة من النبي صلی الله علیه و سلم لابنته السيدة زينب عندما بعثتها لتفدي زوجها الذي كان في الأسر بعد معركة بدر، هذه الحادثة تشير الى عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث علم الأمة قيمة التشاور، حيث شاور المسلمين قبل رد القلادة رغم أنه صاحب الأمر والنهي يستطيع أن يردها دون مشاورة لكن الله تعالى قال له (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (1) فالرسول ينفذ أمر الله تعالى .

وفي الحادثة قمة الوفاء من النبي صلی الله علیه و سلم لزوجته السيدة خديجة وهي في قبرها وذلك حيث تذكرها برؤية القلادة ، التي قدمتها السيدة خديجة لإبنتها السيدة زينب عند زواجها من أبي العاص رضي الله عنهم، لقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى القلادة وقد نزعتها ابنته من يدها، لتفدي زوجها من الأسر .

إن تصرف النبي صلی الله علیه و سلم لم يكن عن هوى ذاتي، أو على حساب الأمة فهو صلی الله علیه و سلم شاور القوم أولاً فرأوا ما رأى، وثانياً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصرف

ص: 162


1- سورة آل عمران الآية: 159

إلا من خلال الوحي فقد كان رد القلادة سبباً في إسلام أبي العاص فيما بعد.

ثم استدنى رسول الله صلی الله علیه و سلم صهره الأسير الذي مَنَّ عليه بلا فداء، أبا العاص بن الربيع . . استدناه، وأسر إليه حديثاً لم يعلم فحواه إلا الله، إلا أنهم رأوا أبا العاص يحني رأسه ويهزه علامة الموافقة على ما قيل له، ثم انطلق إلى مكة حرّاً موفوراً ومعه القلادة العزيزة.

فلما خرج من المجلس وابتعد التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأثنى عليه خيراً وكان مما قال عن أبي العاص : «والله ماذممناه صهراً» ووصل إلى مكة ودخل على زوجته الحبيبة، ابنة الخالة الحبيبة وابنة الصهر الكريم الحبيب الذى أكرم ومنَّ . واستقبلته زينب بفرحة من عاد إليها الحبيب الغائب من شدة مؤلمة وأزمة مرهقة، وأسر بغيض، لكنها لمحت وجوماً يغشى فرحة اللقاء، وحيرة تبدو من حركاته في ساعة ظنتها تمحو عنه كل آثار البعد والأسى .

وسألته : مابك أيها الحبيب ؟

وظل واجماً لا يجيب !

وألحت تسأل !! وازداد الصمت ثقلاً والوجوم كآبة !!!

وظلت تتساءل وتلح . .

وأخيراً انفرجت شفتاه عن إجابة كان لها وقع الصاعقة عليها !!

لقد أجاب عن تساؤلها الملحاح بكلمات خرجت من فمه كالهمس متعسرة متعثرة مستسلمة يائسة .

إنه الفراق يا بنت الخالة . . أجل إنّه الفراق المر. . وإنما جئتك مودعاً فأجهشت ببكاء وألم . . وهي تقول من بين الدموع الحرى : أو قد هنت عليك . . وخضعت أخيراً لكيد قريش. . وأطعتهم في فراقي

ص: 163

فصمت حائراً . . ذاهلاً . .

ولما ألحت دموعها وكلماتها المختنقة بالعتاب . .

قال لها : لا والله ما أطعت فيك قريشاً . . وما كنت لأطيعها مهما الحت ووعدت أو توعدت . .

فقالت في عجب : فقيم إذن الوداع والفراق !!

فقال في حسرة وألم : لقد وعدته بذلك . . ولا بد من الوفاء بما وعدت . فقالت: وعدته . . من هو هذا الذي وعدته !! فقال : إنه أبوك الكريم. . شرط عليّ أن أردك إليه . . وقال لي : إن الإسلام فرق بيننا، ولا يجوز في دينه أن تبقي عندي . قالت: وما يضيرك ان تسلم ونبقى معاً . . ونرحل إلى أبي فنقيم معه . فقال : ما أيسر ذلك عندك وما أشده علي .

تريدين أن تتحدث قريش أنى إنما أسلمت لأستبقيك . . أو لأني جزعت للأسر . . أوشمت بهم في الهزيمة . . أترضين هذا لي . . لو كان

الحال غير الحال لفعلت ولكن ليس عندي إلا الصبر فتجهزي للرحيل .

وتهالكت زينب الوفية یائسة . .

كان أملها أن يسلم هذا الزوج الشهم النبيل. . فكل ما فيه من خلق ومروءة يرشحه ليكون خير من يسلم طواعية . . ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه وبعد فترة صمت واستسلام سمعته يقول : إن أباك أرسل اثنين من أصحابه لمرافقتك في سفرك إليه، إنهما :

زيد بن حارثة، ورفيق معه من الأنصار ينتظران عند بطن يأجج (1)

فاستعدي لترحلي معهما . .

فقالت : ألا ترافقني إلى دار الهجرة؟

ص: 164


1- مكان على بعد ثمانية أميال من مكة .

فقال: لا يا ابنة الخالة. . هكذا رسم أبوك . . وسأنفذ كل ما طلب وخرج من البيت مودعاً حزيناً يحبس دموعه ولا يكاد .

وأخذت تتهيأ للسفر، وحان الموعد، وودعت زينب أبا العاص بن الربيع وداعاً مؤلماً، وداع محبة، لا سيما أن في أحشائها جنيناً منه، ولم يشأ أن يرافقها إلى حيث ينتظر زيد وصاحبه، خاف أن تخونه عواطفه ومشاعره، فأرسل معها أخاه كنانة بن الربيع. وانطلق كنانة يقود بعيرها نهاراً على مسمع و مرأى من قريش، وهال

قريشاً أن تخرج بنت محمد صلی الله علیه و سلم هكذا في تحد سافر لهم ولمشاعرهم، وخاصة بعد مصابهم في معركة بدر. فخرج رجال منهم في أثر المهاجرة وأغذوا السير حتى أدركوها في مكان يقال له «ذو طوى» (1) وكان أسبقهم هبارُ بن الأسود. وروع هذا الكافر الحاقد الفاقد لكل معاني الإنسانية، روع المؤمنة المهاجرة بالرمح، ثم نخس البعير الذي ألقى براكبته على صخرة هناك، فوقعت على ظهرها وهنا وقف «كنانة بن الربيع» ونثر أسهمه وهو يزأر : والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما . فرجع الجبناء المطاردون، و وقف أبوسفيان بعيداً يقول لكنانة : كف عنا نبلك حتى نكلمك .

فكف كنانة، وتقدم أبو سفيان حتى دنا منه وقال : إنك لم تصب يا ابن الربيع ، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته علانية من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا من مصيبتنا، ونكبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن، لعمري مالنا حاجة في حبسها عن أبيها، ومالنا في ذلك من ثارة، ولكن أرجع المرأة، فإذا هدأ

ص: 165


1- سكان في ضواحي مكة المكرمة.

الصوت، وتحدث الناس أنا قد رددناها فسر بها سراً فألحقها بأبيها . (1) وكبر على كنانه أن يردها ليعود فيتسلل بها سراً بعد أن ذاع في الناس أن قريشا قد ردتها، لولا أن سمع توجعها وتألمها، والتفت إليها فراعه أن رآها تنزف دماً، وقد طرحت على إثر وقوعها جنينها على أديم الصحراء. وعاد بها إلى مكة مرة أخرى حيث كان أبو العاص بن الربيع إلى جانبها بضعة أيام لا يفارقها حتى استردت بعض قواها، فخرج بها كنانة مرة أخرى حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وهي تعاني من الإعياء بسبب الإجهاض الذي حدث لها.

ولم يتبعها أحد من الكفار المشركين الذين جن جنونهم بالأمس القريب بسبب خروجها، فقد عيرتهم هند بنت عتبة بكلام مثل السهام، قرعت به أسماعهم، وسخرت منهم به فقالت : أمعركة مع أنثى عزلاء، فهلا كانت هذه الشجاعة يوم بدر؟ وأنشدت تقول : أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة وفي الحرب أشباه النساء العوارك وعاد كنانة إلى أخيه أبي العاص بعد أن أطمأن عليها في صحبة زيد ابن حارثة وصاحبه .

واتجهت زينب إلى المدينة المنورة، واستقبلها أبوها صلی الله علیه و سلم وأهلها، وغضب حين علم بما جرى لها غضباً شديداً، وأمر بعض أصحابه أن ينطلقوا إلى مكة ويحرقوا الرجلين الذين قاما بهذا العمل الدنيء الجبان، ثم في صباح اليوم التالي وبعد أن هدأت نفسه، عاد صلی الله علیه و سلم وطلب منهم أن يكتفوا بالقتل فقط ، لأنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله تعالى. ثم يشاء الله أن تقع قافلة لأبي العاص بيد سرية من المسلمين بقيادة زيد بن حارثة، ويستولوا على ما فيها من أموال، ويهرب أبو العاص

ص: 166


1- الطبری 470/2

متخفياً خائفاً ويلتجيء إلى زينب في المدينة مستجيراً. وألقى إليها بالنبأ، وأدارت الأمر بفكرها، ثم انتظرت حتى الفجر، ثم دخلت المسجد وحين بدأ الرسول صلی الله علیه و سلم بتكبيرة الإحرام ودخل في الصلاة نادت : أيها الناس إني أجرت أبا العاص بن الربيع !! وحينما سلم الرسول صلی الله علیه و سلم من الصلاة أقبل على الناس وقال : أيها الناس هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا نعم يا رسول الله. قال أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم ، ثم أضاف (بعد وقت يسير) : أنه يجير على المسلمين أدناهم وقد أجرنا من أجارت .

ثم انصرف من المسجد، ودخل على ابنته زينب، وطلب منها أن تستوصي به خيراً ولا تدعه يقربها لأنها لا تحل له. وفي النهار بعث النبي صلی الله علیه و سلم من يصحبه إلى المسجد حيث كان الرسول مع أصحابه ثم خاطبهم قائلا :

إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً فإن تحسنوا وتردوه عليه، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو في الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به، فأجابوا : يا رسول الله : بل نرد عليه أمواله كلها حتى التافه واليسير .

وعاد أبو العاص إلى مكة ومعه أموال الناس التي كان يتاجر بها لهم، وحينما وصل وعرفوا أن أموالهم سالمة، وقد رد إلى كل ذي حق حقه، وقف في جمع منهم ونادى : يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ .

أجابوا : لا ، فجزاك الله خيراً فقد وجدناك وفياً كريماً.

فقال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده و رسوله . . والله ما منعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن أكل أموالكم،

ص: 167

فلما أداها الله إليكم وفرغت منها ، أسلمت .

ثم لم يلبث أن توجه إلى المدينة المنورة حيث الزوجة الحبيبة المنتظرة، توجه إلى المسجد النبوي الشريف، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم : فرد الرسول إليه زينب على النكاح الأول.

ومع أنه بعد هذا الفراق اجتمع الشمل من جديد لكنه لم يدم إلا عاماً واحداً، حيث توفيت الزوجة الحبيبة، وتركت للزوج الملتاع علياً

وأمامه .

أما علي فتوفي قبل أن يراهق.

وأما أمامة فقد عاشت مع أبيها ومع جدها صلی الله علیه و سلم تؤنس وحشتهما بفراق الراحلة، وبعد وفاة خالتها فاطمة تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبقيت عنده حتى استشهد .

هذا هو أبو العاص . . الرجل الوفي. . والصهر الكريم . . والصحابي الجليل. . أحبه رسول الله . . وكَرمه وأكرمه. . وأحبته أم المؤمنين خديجة وفرحت به ورحبت . . و أحبته السيدة زينب زوجاً وفياً . . و رفيق درب محترم . . وإنساناً على خلق وأدب . . و رجلاً ذا أصل وشهامة ونسب كريم . . واحترمته قريش. . واحترمه كل من خالطه أو عامله . . وقدره كل من عرفه . . فقد كان صادقاً أميناً ذا مروءة . . أكرمه الله بالإسلام . .وشرح صدره للايمان. . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . . و توج الله كل تلك الصفات بتاج الإيمان . . بعد أن شهد له رسول الله صلی الله علیه و سلم بأنه : «والله ما ذممناه صهراً».

رحم الله أبا العاص . . ورضي الله عنه صحابياً جليلاً . . وصهراً كريماً لسيدنا محمد صلی الله علیه و سلم . . وزوجاً للحبيبة زينب بنت رسول الله صلی الله علیه و سلم .

ص: 168

احتفاء أهل مكة بذكرى السيدة خديجة

يحتفي أهل مكة بذكرى السيدة خديجة بنت خويلد، ويتتبعون حياتها وعشرتها مع رسول الله صلی الله علیه و سلم ثم وفاتها، ويأتي ذلك في إطار تعويد الناشئة على الاحتفاء بجوانب السيرة النبوية، ولهذا فهم يتتبعون سيرة السيدة خديجة و حياتها ويتذكرون فضائلها، وقد عرفت أماكن كثيرة في مكة المكرمة، ومنازل تخصص أهلها في الاحتفاء بحياة السيدة خديجة، ولقد لبيت دعوات كثيرة من هذه المناسبات، فوجدت أنها احتفاءات مشروعة تقتصر على قراءة القرآن الكريم وبعض جوانب سيرة السيدة خديجة وحياتها مع رسول الله صلی الله علیه و سلم . . وفي بعض بيوت أهل مكة يقيمون احتفاءاً مماثلاً للسيدة فاطمة الزهراء، ولاشك أن هذه المناسبات، يستفاد منها كمناسبات تاريخية تذكر الناس عامة، والناشئة بصورة خاصة، وتجذب اهتمامهم إلى أمجاد الإسلام، وأحداثه، وتاريخ الأمة الإسلامية، مما يساعد على ترسيخ القيم والمثل في نفوسهم عن طريق استعراض تلك الأمجاد، وعرض أمثال هذه السيرة العطرة أمام أعينهم، وتبسيط الأحداث حتى تصل إلى قلوب الناشئة وعقولهم، وتعرفهم على جوانب من سيرة هذه السيدة، وابنتها السيدة فاطمة، وبقية بنات رسول الله صلی الله علیه و سلم .

وقد أسهمت هذه المجالس - في رأيي - في ربط الناس بجوانب من السيرة النبوية، ولاسيما الأطفال والناشئة، وأجمل ما فيها مجالس علم وأدب تروى فيها جوانب من السيرة ، ويستمع الناس إلى ألوان من الشعر والنثر الجميل .

ص: 169

وفي مجالس سيرة السيدة خديجة يبدأ المجلس بقراءة القرآن، ويتناوب مجموعة من القراء بأصوات مختلفة، وتلاوات متعددة، وقراءات متنوعة ، ثم تبدأ مجموعة من المنشدين بقراءة قصائد مختارة في مناقب أم المؤمنين الطيبة الطاهرة. كما جاءت في بعض الكتب وأشهر تلك الكتب، هو كتاب (البشرى) في مناقب السيدة خديجة الكبرى لمؤلفه الدكتور السيد محمد علوي المالكي . وهو عالم من علماء مكة الأجلاء، ومن أسرة علم كريمة، و والده وأجداده من علماء المسجد الحرام، ويحرص على تربية كثير من الطلاب وتعليمهم وإعادتهم إلى بلادهم وبخاصة طلاب دول شرقي آسيا وأندونيسيا، وله كثير من المؤلفات في الدعوة الإسلامية والفقه وجوانب من السيرة النبوية .

وهذه لقطات من السيرة التي تتلى حيث تقرأ مثل هذه النماذج فيقولون: وخديجة التي تشرفت بعشرته وصحبته ، وفازت بخدمته، وشهدت يوم بعثته، وقامت بتأييده في دعوته، ومؤازرته ونصرته، . . وبعد ذلك ينتقلون إلى إسمها ونسبها ولقبها : سيدتنا خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، الأسدية.

وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني غالب بن لؤي .

وقد حفظها الله تعالى من أرجاس الجاهلية، فأحاط عرض هذه السيدة الزكية وصانه من كل أذية وبليه ،برعايته، ولذلك كانت تلقب بالسيدة الطاهرة .

ثم ينتقلون إلى مولدها :

وقد ولدت رضي الله عنها قبل ولادته بنحو خمس عشرة سنة، فنشأت في بيت طاهر طيب الأعراق . .

ص: 170

فكانت رضي الله عنها متكاملة، حسناً، وعقلاً ، وجمالاً، وفضلاً، حازمة في جميع أمورها .

وظهرت أسرار تلك الأخلاق المرضية والأوصاف الحسنة الزكية، فيما بلغته بين قومها في الجاهلية، من مكانة علية، ورتبة سنية .

ثم يذكرون بداية ارتباطها بالرسول صلى الله عليه وسلم :

وقد أراد الله تعالى لهذه السيدة الطاهرة أن تجمع بين شرف الدنيا وعز الآخرة، حين وصلت إليها أخبار سيد المرسلين، بأنه التقي النقي الأمين، فما كان منها إلا أن بعثت إليه وعرضت عليه أن يتجر لها في مالها . . فقبل عليه الصلاة والسلام، وخرج بتجارتها مع غلامها ميسرة، الذي حدثها بما شاهد من بعض علامات النبوة .

وينتقلون بعدها إلى قصة زواجها من الحبيب المصطفى: ولما أراد الله تعالى لها السعادة الأبدية، والشرف والفضل على نساء البرية . . فاختارت لنفسها سيد ولد آدم أجمعين، الذي تكاملت فيه خصال الكمال والجلال . . فما كان منها إلا أن أرسلت له نفيسة بنت منية، وسيطاً إليه فقالت له : ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما في يدي شيء، فقالت: فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟ قال : ومن؟ . . قالت :خديجة، وألهمه الله الجواب الموفق، فكانت خطوة مباركة موفقة، فشاور أعمامه، فتقدم حمزة فكلم عمها، ثم ذاع الخبر واشتهر الأمر، وحضر رؤساء قريش يتقدمهم أبوطالب .

وأصدقها رسول الله صلی الله علیه و سلم عشرين بكرة (1) ، وقيل : اثنتي عشرة أوقية من ذهب ونصف .

ص: 171


1- الفتیة من الابل .

وتزوج نبينا الأمين سيدتنا أم المؤمنين خديجة، وقد أتم خمساً وعشرين وأتمت هي الأربعين.

وبعد ذلك يذكرون أزواجها قبل الرسول صلی الله علیه و سلم وأولادها منهم ، ثم ينتقلون إلى حياتها مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، بادئين بإرهاصات النبوة التي أشهرها الرؤيا الصادقة، إذ كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يجاور في كل سنة شهراً في غار حراء ، مشتغلاً بالعبادة والتفكر في ملكوت الأرض والسماء.

وكان إذا خرج إلى حراء، تتكفل خديجة بكل حاجاته، وتحقق له كافة رغباته، وتهيء له الطعام والشراب ، وتيسر له ما تستطيع من الأسباب، فينقطع لمقصوده ويقبل على معبوده . كانت على ثقة من أنه سيكون له شأن عظيم، يتحدث عنه المسافر والمقيم. . فما أكمل الأربعين حتى جاء اليوم الذي هيأته القدرة الربانية، لإبلاغ الرسالة السماوية، حين فاجأه الوحي في غار حراء. . فرجع إلى زوجته. .وفؤاده يرجف وقال: زملوني، زملوني . . فزملته .

ثم يأتي الكلام عن موقفها مع الرسول صلی الله علیه و سلم في دعمه وتأييده، وأن الذي جاءه هو الحق، وأن الله لا يخزيه أبداً، لأنه يصل الرحم، ويحمل الكل ويكسب المعدوم.

ويأتي بعد ذلك الحديث عن ذهابها به إلى ورقة .

ثم اختبارها للملك حين طلبت من الرسول أن يجلس عن يمينها وعن يسارها ثم في حجرها ثم كشفت عن رأسها حتى تأكدت أنه ملك، وليس بشيطان .

ص: 172

ثم يأتي الحديث عن مزاياها وخصالها، وأنها أول من آمن على الإطلاق، وأنها وقفت معه تواسيه، وتهون عليه المشاق، وتبعث الطمأنينة في نفسه . وأنها . . وأنها أول من صلى معه قبل أن تفرض الصلوات الخمس . وأنها أفضل أزواج المصطفى عليه الصلاة والسلام. وأن (خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة) كما روى الشيخان عن سيدنا علي رضي الله عنه . ومن خصائصها أن أولاده جميعاً منها ما عدا إبراهيم فهو من السيدة ماريه القبطية .

ويمضى الحديث بالتفصيل عن أولاده صلی الله علیه و سلم، وأنهم كلهم ماتوا صغاراً، إلا بناته الأربع : زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة الزهراء رضي الله عنهن . وأن نسله قد انحصر في ابنته فاطمة من الحسن والحسين ، رضي الله عنهم أجمعين .

وبعد ذلك يذكرون مكانة السيدة خديجة في قلب المصطفى صلی الله علیه و سلم و وفاءه لها، وحفظه عهدها، حتى بعد وفاتها بدهر طويل.

ثم عندما يصلون إلى وفاتها يقرؤون هذا الجزء : ولما تمت لها الكمالات الباهرة، وتوطنت الرتبة السامية العلية الفاخرة، وامتدت أنوارها وآياتها المتكاثرة، توفيت رضي الله عنها في اليوم الحادي عشر من رمضان، قبل هجرة سيد ولد عدنان بثلاث سنين على الأصح من الأقاويل، وقيل بأربع وقيل بسبع على ما قيل . ولم يصل عليها صلی الله علیه و سلم، لأنها لم تشرع الصلاة على الميت في ذلك الأوان، ونزل النبي صلی الله علیه و سلم في قبرها، وسوى عليها التراب، وأحسن نزلها، وهي فضيلة لها دون غيرها من أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن أجمعين إلى يوم الدين، وكان لها من العمر خمس وستون ،

ص: 173

ودفنت بمقبرة المعلاة المعروفة بالحجون وهذا وإن كان ثبت بطريق الآحاد، إلا أنه اشتهر كل الاشتهار بين كافة العباد.

وحين يصلون إلى هذا الموقف يدعون الله أن يجزيها خيراً عن المسلمين، لما قدمته لرسول الله صلی الله علیه و سلم .

ثم يدعون بهذا الدعاء :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد ، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، و أوسع من أعطى ، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لاند

لك ، كل شيء هالك إلا وجهك ، لا تطاع إلا بإذنك ، ولا تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر ، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوب بك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت ، والحرام ما حرمت . والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الغفور الرحيم، نسألك بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك، أن تقيلنا وتجيرنا من النار بقدرتك يا أرحم الراحمين . اللهم تحمدك على ما هديت ، ونشكرك على جزيل ما أسديت، ونستعينك على رعاية ما أسبغت من النعم ، ونستهديك الشكر على ما كفيت من النقم، ونعوذ بك من عثرات اللسان، وغفلات الجنان، ومن غدرات الزمان ، ونسألك اللطف فيما قضيت . وقدرت، والمعونة على أمضيت ، ونستغفرك من قول يعقبه الندم، أو فعل نزل به القدم، فأنت الثقة لمن توكل عليك، والعصمة لمن فوض أمره إليك ، (وَأُفَوِّضُ

ص: 174

أَمْرِى إِلى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (1) ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير. اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك، وارزقنا طاعتك وطاعة نبيك سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم، وعملاً بكتابك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلی الله علیه و سلم .

اللهم اجعلنا نخشاك وكأنا نراك أبدا حتى نلقاك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك .

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى ، والعفاف والغنى ، وحسن الظن وحسن الخلق .

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك .

اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء .

اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

اللهم جمل أمورنا ما أحييتنا، وعافنا ما أبقيتنا، وبارك لنا فيما خولتنا، واحفظ علينا ما أوليتنا، وارحمنا إذا توفيتنا، وسامحنا إذا حاسبتنا، ولا تسلبنا الإيمان وقد هديتنا . اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا ، وترد بها الفتن عنا، وتصلح بها حالنا، وتحفظ بها غائبنا وترفع بها شاهدنا وتبيض بها وجوهنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء.

ص: 175


1- سورة غافر آیة : 44

اللهم أعطنا إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمة ننال بها شرف كرامتك .

اللهم إنا نسألك الفوز عند القضاء، ونزل الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء .

اللهم خذ بأيدينا في المضائق، واكشف لنا وجوه الحقائق، ووفقنا لما تحب وترضى، واعصمنا من الزلل، ولا تسلبنا ستر إحسانك، وقنا مصارع السوء، واكفنا كيد الخائنين وشماتة الأضداد، والطف بنا في سائر تصرفاتنا، واكفنا من جميع جهاتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم اعطنا من الدنيا ما تقينا به فتنتها، وتغنينا به عن أهلها، ويكون بلاغا لنا إلى ما هو خير منها ، فانه لا حول ولا قوة إلا بك .

اللهم إنا نسألك نعمة تامة، ورحمة شاملة، وعافية دائمة، وعيشاً رغيداً، وعمراً سعيداً، وإحساناً تاماً، وإنعاماً عاماً، وعملاً صالحاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً.

اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واختم بالسعادة اجالنا، وحقق بالزيادة أعمالنا، واقرن بالعافية غدونا و آصالنا، واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا، وأصبب سجال عفوك على ذنوبنا، ومنَّ علينا بإصلاح أعمالنا، واستر عيوبنا، واجعل التقوى زادنا، وفي دينك اجتهادنا، وعليك توكلنا، واعتمادنا . اللهم ثبتنا على نهج الاستقامة، وأعذنا من موجبات الندامة یوم القيامة، وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقنا عيشة الأبرار، واكفنا واصرف عنا شر الأشرار، واعتق رقابنا و رقاب آبائنا و أمهاتنا من النار، یا عزیز یا غفار یا کریم یا ستار یا حلیم یا جبار برحمتك يا أرحم الراحمين .

ص: 176

اللهم كما مننت على السيدة خديجة بتمام التصديق والإيمان بنبيك سيدنا محمد صلی الله علیه و سلم، فمن علينا بذلك يا قديم الإحسان وكما تفضلت عليها بتعظيم حرمته، وحفظ عهده وذمته، ونصر حزبه ودعوته، ومتابعة سبيله وسنته، وتأييد كلمته وحجته، فتفضل علينا بذلك، واكتب لنا من ذلك الحظ الأوفر ، والنصيب الأكبر، ووفقنا للاستمساك بسنته، ولزوم ملته، حتى نموت عليها، واحشرنا في زمرته وتحت لوائه واجعلنا من رفقائه، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه، وانفعنا بمحبته، وتب علينا، واحفظنا من جميع البلاء والبلواء والفتن، ما ظهر منها وما بطن، واغفر لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . ولما رأى هذه الرسالة شيخنا العلامة الشيخ محمد نور سيف أحد كبار العلماء المدرسين بالمسجد الحرام قال رحمه الله :

أيا مهدى البشرى سعدت لك البشرى *** بنيل الرضى من تلكم الجدة الكبرى

ودمت قرير العين يا من تحبها *** تفوز بما ترجو بدنياك والأخرى

ولقد تعاقبت الأجيال في مكة المكرمة، تحتفي وتعنى وتهتم بمولد السيدة خديجة . . وكان هذا الاحتفاء في الزمن الماضي يأخذ شكل الاحتفال . . فكان الناس يجتمعون في المسجد الحرام، في يوم مولد السيدة خديجة، ثم يخرجون إلى باب السلام. . ويقفون هناك وينتظرون حضور الحاكم أو الوالي أو الأمير . . ثم يسيرون في اتجاه مقابر المعلاة في موكب مهيب . . يهللون ويكبرون فيه، وينشدون الأناشيد . . ثم إذا وصلوا إلى المعلاة، يتجهون إلى ناحية قبر السيدة خديجة . . وعندها يخرج سدنة مقام السيدة خديجة - وهم آل الباروم - فيستقبلون الموكب، ويقف الجميع يقرأ الفاتحة ويس، ثم يدعون

ص: 177

للسيدة خديجة، ويسألون الله أن يجزيها خيراً على كل ما فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعودون إلى الحرم . . أو إلى منازلهم .

وقد تم إيقاف كل هذه الاحتفالات منذ زمن طويل، وأزيلت القباب والمباني التي كانت مقامة على قبر السيدة خديجة أو حولها للسدنة . .وما يزال القبر الشريف محفوظا ومعتنى به في نفس المكان، يزوره الناس ممن يرغب، ويسلمون عليها رضي الله عنها وأرضاها.

ص: 178

دور الشعر في تكريم السيدة خديجة

أحاول في هذا الفصل أن ألقي الضوء على نماذج من الشعر الذي قيل في سيدتنا خديجة بنت خويلد . . رضي الله عنها وأرضاها . هذه السيدة التى أحبها الله . . وحببها إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وحببه إليها . .

حتى خلّد الله هذا الحب السامي بحكمته فاختارها لتكون رفيقة دربه . .

وسند جهاده، وعونه وعتاده . . زملته ،و دثرته ، ووقفت إلى جانبه، وكانت الصديقة الأولى. . والزوجة الأولى. . والمؤمنة الأولى. . والحبيبة الأولى . . وحظيت منه بحب كبير . على أن الحب الذي حظيت به سيدة النساء خديجة، طراز فريد لم تحظ به امرأة أخرى في أي زمان! .

فلقد فازت بحب مجتمعها الذي عاصرته جاهلية وإسلاماً، وفازت بحب خاتم النبيين فى حياتها معه، وبعد رحيلها عن دنيانا، حتى قال عنها: «إني قد رزقت حبها» (1) بل امتد حبه لها إلى أن جعله يحب كل من يحبها فقال : «إني لأحب حبيبها» (2). وبلغ من عمق هذا الحب أن لم تستطع امرأة أخرى أن تملأ الفراغ الذي تركته في حياته، أو تنسيه حبه لها . . «لا والله ما أبدلني الله خيراً منها» . مع أن الله تعالى قد زوجه بعدها بزوجات فاضلات . . أمهات للمؤمنين عفيفات كريمات فاضلات .

وإلى جانب هذا الحب العظيم. فازت كذلك بحب المؤمنين جميعاً

ص: 179


1- رواه مسلم وابن حيان عن عائشة .
2- حدیث صحيح، رواه ابن حجر في الإصابة .

في عصرها، وفي كل العصور بعدها حتى اليوم في إجماع رائع وحب عظيم لها ولكل ولدها .

وقد تجسد هذا الحب وفاء كريماً دائماً عند حبيبها صلی الله علیه و سلم، وتذكراً لها، وتخليداً لمواقفها ومناقبها - في حديثه المتجدد عنها كل يوم - وتكريمه وصلته لقرابتها وصديقاتها بعد وفاتها، وحفظه لعهدها بعد وفاتها، مما جعل لها ولكل من لاذ بها مكانة كبيرة في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم حتى ذريتها من غير النبي صلی الله علیه و سلم .

ولسائل أن يسأل، لماذا لم تسمع من شعراء النبي صلی الله علیه و سلم شعراً فيها كما نسمع من شعراء اليوم؟ .

والجواب: أن الشعراء لم يقولوا في ذلك العصر النبوي شعراً في غيرها من النساء، وذلك لأن المرحلة المكية التي استغرقت حياتها مع النبي صلی الله علیه و سلم، وما فيها من أحداث وصراع تشغل الأذهان والألسن عن مثل هذه الأغراض، وكذلك لم يكن هناك شعراء مسلمون يشغلهم هذا الجانب، ولم يظهر دور الشعراء المسلمين إلا في المرحلة المدنية، حيث تميز المسلمون في مجتمع جديد، قيادته لنبيهم صلی الله علیه و سلم. تفجر الأحداث فيه قرائح الشعراء بما فيها من غزوات وسرايا، ومواجهات جدلية مع قادة المشركين وشعرائهم وخطبائهم، فقالوا في ذلك ما قالوا استجابة لطبيعة المرحلة، خطابة وحواراً وشعراً، وكان السراج المنير الذي يجتذب كل المشاعر في تلك المرحلة هو الرسول صلی الله علیه و سلم، وكانت خديجة الطاهرة رضي الله عنها - في ذلك الوقت - غائبة عن حياتهم، وإن لم تغب عن مشاعرهم وتكريمهم، بما حفظوا من مناقبها وأخبارها التي طالما رددها الرسول صلی الله علیه و سلم، ويكفي لتأكيد ذلك غيرة أمنا الكريمة عائشة رضي الله عنها التي تذكر أنه صلی الله علیه و سلم كان يكثر من ذكر خديجة إلى

ص: 180

درجة أثارت فيها الغيرة من الضرة - مع أن خديجة كانت تحت أطباق الثرى - وهي غيرة الزوجة التى تجد زوجها الحبيب يذكر أمامها في دخوله وخروجه الثناء العاطر على خديجة الراحلة - وهي غيرة لم يكن مصدرها الحقد على خديجة رضي الله عنها، ولكنها محاولة لنيل قدر اکبر من الاستئثار بحبه - في دلال الزوجة المحبة تطلب من زوجها المزيد من الاهتمام، وكأنها تقول له: وأنا أيضاً هنا، وتذكر السيدة عائشة فيما ترويه في هذا الشأن شدة تأثر النبي صلى الله عليه وسلم من قولها، وتدعو الله تعالى في سرها أن يذهب غضبه منها، وتعاهد الله أن لا تعود إلى مثل ذلك أبدا، وهي تروي ماقاله في مناقب ضرتها خديجة، في اعتراف منها بأنها أخطأت حين قالت بأن الله قد أبدلك خيراً منها . . وفي هذا

مافيه من الدلالة الواضحة على عظمة نفسها، واقرارها بفضل خديجة، وتفضيلها على نفسها، بل إنها تروي ذلك لإظهار هذا الفضل، ليكون لها شرف إذاعته في الناس إلى يوم القيامة، رغم مافيه من حرج عليها ، وكانت تستطيع أن تسكت عن ذلك فلا تذيعه، ويبقى سراً مكتوماً إلى الأبد، ولكن هذا ليس من خلقها، وهي الصديقة بنت الصديق، والزوجة الأثيرة تعرف سمو منزلتها عند رسول الله صلی الله علیه و سلم، وأنها أحب نسائه إليه بعد خديجة .

بل ولتسمع الدنيا كلها كمال خلق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكمال أخلاق الصحابة الذين كانوا أفضل خير أمة أخرجت للناس !!

ونلحظ فيما نرى من مؤلفات قديمة وحديثة، تسلسل هذا الاهتمام والتوقير والحب لهذه السيدة الجليلة الطاهرة، وكثرة ما كتب عنها في السير والتراجم والتواريخ وماكتب عنها من مؤلفات خاصة بها، ولو حاولنا احصاء هذه المؤلفات لبلغت العشرات فيما تصل إليه أيدينا،

ص: 181

وقد يغيب عن حصرنا عشرات أخرى، تجعل المحصلة النهائية تدخل في حساب المتين .

أما الشعر، فلو أحصينا ما ينشد على أسماعنا، أو ما كان يقرأ في دواوين الشعراء في عصور مختلفة لوجدنا من ذلك قدراً كبيراً، ما بين فصيح معرب، وعامي مطرب، ولعل أقدم ماقيل من رجز ذاك الذي تغنت به النساء في عرسها :

لا تزهدي خديج في محمد *** نجم يضيء كشهاب الفرقد

ولكنني في هذه المحاولة المجتزأة سوف أحاول تقديم دراسة عجلى لقصائد من حصلت على أشعارهم في هذه الصديقة الأولى الطاهرة خديجة الكبرى. ولقد أصبح كثير مما يقال فيها نوعاً من التراث، يروى وينشد ولا يذكر قائله، بل لانكاد نعرف القائل في كثير مما سمعناه. وإن يكن بعضه مازال معروف القائل والمصدر، خاصة للشعراء المعاصرين

مثل :

1 حدث عن الفضلى فأنت مصدق *** فالفضل فيها ثابت ومحقق

للشاعر : بدوي طيب الأسماء.

2 ومثل :

شرفاً قد بلغت من مولاك *** يا خديج بالمصطفى قد حباك

للشاعر : طٰه بن حسن السقاف .

3 ومثل :

قف بالحجون سويعة يا حادي *** واقر السلام أهيل ذاك الوادي

للشاعر : السيد جعفر الميرغني .

ص: 182

4 ومثل :

يا راحلاً إن جئت وادي المنحنى *** فاحطط به وأنزل على كنز المنى

للشاعر : السيد الحبيب عبد الله الحداد .

5 ومثل :

كرموا ذات العفاف *** كرموا بنت خویلد

للشاعر : السيد فؤاد أمين حمدي .

6 وله أيضا :

جمال قريش قد تجلى بطلعة *** لجدة آل البيت بنت خويلد

7 ومثل :

يا شعب أهل المعلا

للشاعر : السيد محمد بن علي المحضار .

8 ومثل :

بشراك سيدتنا بشراك *** آل الرسول جميعهم أبناك

9 ومثل :

صلاة بالبكور وبالعشية *** على المختار والزهرا الرضية

للشاعر : السيد محمد بن علي المحضار .

10 ومثل :

بالله يا بدر التمام

للشاعر : السيد محمد أمين كتبي .

11 ومثل : قصائد :

ياخدرها كم كنت معراج الهدى *** ياخدرها أوما اهتززت إلى الندا

للشيخ : السيد محمد بدر الدين .

ص: 183

12 وقصيدة :

سعيت إليك مبهوراً *** ودربي يورق النورا

13 وقصيدة :

يسمو علاك وليس أين *** فسماك أعلى الجنتين

14 وقصيدة :

يازوجة أحمدنا الهادى *** وسراجاً من خير سراج

15 وقصيدة :

الشعر يزهر حين ينظم مدحها *** والقلب يطهر حين يلزم حبها

16 وقصيدة:

وحقك ما في القلب غير هواك *** وما تقت إلا إلى لقياك

17 وقصيدة :

شع السنا في روضها لالاء *** وانظره في المعلا يفيض بهاء

18 وقصيدة :

بنفسي من سمت فوق الثريا *** ونالت أحمد الدنيا العليا

وهذه من قصائد للشاعر محمد بدر الدين، وهناك قصائد كثيرة لا يعرف أصحابها :

19 وقصيدة :

سلام الله قد سبق السلاما *** لزوجة خير من صلى وصاما

20 وقصيدة :

يا واهب العطايا *** بأشرف البرايا

وهناك قصائد فيها مدائح ومناجاة تضمنت كثيرا من مواقف الثناء على السيدة خديجة مثل :

21 يا أهل الإسعاد *** والعطا والإرفاد

ص: 184

22 ومثل :

سعدنا في الدنيا *** وفوزنا في الأخرى

23 ومثل :

ربي سألتك بحرمة سيدتنا خديجة *** زوجة المصطفى عجل لنا بالفريجه

24 ومثل :

يا أم فاطمة البتول تشفعي *** لقرابة يسعون حول حماك

وهناك قصيدة جميلة للسيد عبد القادر جيلاني الخرد، يقول في مطلعها :

علوت فلم تدرك مقاماتك الكبرى *** فغيرك لا تدعى - وإن عظمت - كبرى

وكم في نساء العالمين عظيمة *** ولكنها إن قورنت بك فالصغرى

ثم يتحدث عن فراستها رضي الله عنها فيقول :

تفرست في وجه النبي فراسة *** عرفت بها ما كان من أمره سرا

رأیت به نور النبوة ساطعا *** فأسرعت نحو النور فزت به مهرا

بميسرة قد يسر الله كل ما *** تريدينه فاليسر قادك لليسرى

ثم يعرج على الطريقة التى طمأنت السيدة خديجة بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه جبريل لأول مرة :

وأنت التي طمأنت طٰه بأنه *** تلقى من الله الرسالة والذكرا

ص: 185

وزملته دثرته، ولورقة *** ذهبت به یتلو عليه الذي يقرأ

ولما أتى جبريل قمت بخلعك *** النقاب فلم يمكث فأعلنتها بشرا

كتبت حروفا من حياة محمد *** فأصبحت في أعلا صحائفها سطرا

وقد شكر المولى صنيعك إنه *** الشكور. وهذا الفعل يستوجب الشكرا

فأهداك - مولاك السلام سلامه *** وأعطاك في الفردوس من قصب قصرا

*****

مراتب لا يعلى عليها ورفعة *** لكم خصصت فالله أعلا كمو قدرا

ترعرع هذا الدين في بيتكم كأنه *** التوأم الروحي لفاطمة الزهرا

وسنحاول في إيجاز عرض مناهج الشعراء في مدح سيدتنا وأمنا العظيمة خديجة الكبرى والحديث عما تعرضوا له من شأنها، مع التمثيل لذلك بشيء من أشعارهم، والشاعر العربي قديماً كان يقف على الأطلال ويحيي الربوع والأماكن، ويذكر الأحبة، وكذلك يفعل كثير من شعرائنا اليوم وسنلاحظ أنهم تكلموا عن الحجون والمعلا وماحولهما من

ص: 186

الأماكن وحنوا إليها لوجود دارها بجوارها أو لوجود قبرها فيها . . وخدرها كان هناك .

فنجد الشاعر : السيد جعفر الميرغني يقول :

قف بالحجون سويعة يا حادي *** واقر السلام أهيل ذاك الوادي

وأنخ ركاب الشوق في سوح العلا *** سوح الكرام السادة الأمجاد

والشاعر السيد عبد الله الحداد يقول :

يا راحلاً إن جئت وادي المنحنى *** فاحطط به وانزل علی کنز المنى

واقر السلام لجيرة حلوا به *** وانشد فؤادا ضاع في ذلك الفنا

ويقول الشاعر السيد أحمد بن محمد بن علي المحضار :

يا أهل شعب المعلا *** والذي في أعلى

حيي بتلك المعلا *** سیدتنا الكبرى

أما الشاعر السيد مصطفى أحمد المحضار فيقول :

خديجة الصدق أم المؤمنين ومن *** حلو بشعب الحجون الطيب الأرج

وله أيضا :

وقد هبت نسيمات المعالي *** من المعلاة أرض الأبطحية

رياض الخير في حرم شريف *** هواطل جوده فيها مرية

أحب لها جياد وما يليه *** وزمزم والصفا فيها معيه

سقى الله الأباطح والمصلى *** ووادي الحي ما برقت سريه

ويقول الشاعر السيد عبد القادر الخرد- يصف عام الحزن بعد وفاتها :

ولكن صدر المصطفى لم يضق بها *** فقابلها بالحلم وأدرع الصبرا

وظل وفيا سيد الرسل ذاكراً *** ودادك في الأصحاب حتى قضى العمرا

ص: 187

إذا ذكرت يوما خديجة عنده *** تنهد مشتاقا وأعجبه الأطرا

وعائشة لما ادعت أفضلية *** تغير وجه المصطفى الطهر واحمرا

وشاهد في بدر قلادة زينب *** وقد أرسلتها تفتدي الزوج في الأسرى

فرق لها، سالت من الدمع عينه *** الشريفة لما حركت قلبه الذكرى

فحبك في قلب النبي ممكن *** هنيئا فقد حزت السعادة والفخرا

ويقول الشاعر محمد بدر الدین :

بالمعلا قد جئت أناجي *** كلهيف برحابك لاجي

قد جئت حماك بآثامي *** لأعود بغفران الناجي

وفي أخرى يقول :

سعیت إليك مبهورا *** و دربي يورق النورا

بروضك في ذرا المعلا *** رأيت النور منظورا

على جنباته شهب *** تزف من السما حورا

و صائف من جنان الخلد *** قد أغضين توقيرا

يلذن بروضك الميمون *** درن بقدسه سورا

وفي مقام آخر يقول :

يا قبرها ولديك أكرم زوجة *** أرضت شمائلها النبي محمدا

لو تملك الافلاك في آفاقها *** سعياً لجئن إلى رحابك سهدا

ص: 188

أما الشاعر السيد طه السقاف فيقول :

وأتينا إلى الحجون وفيه النور *** والطيب قد سرى من شذاك

ونجد معنى الوقوف عند الحجون والمعلا معنى مشتركاً بين كثير من الشعراء، وتمجيد من حلوا به وإقراءه السلام عليهم والتغني بشذاه ونسيمه، وتعلق القلوب به - ولمح السنا والنور في أرجائه - والإحساس بالحنين والحنان الدافق الذي لم يحبسه الموت - بل وتشخيص الطبيعة - فكل ما حول الضريح حشم يستقبلون الزائرين، وكأن كل شيء في مهرجان فالصخر مبتسم، والثرى متهلل والطير شاد والغصن يميل بظله نحو الزوار ويحييهم، وهناك ترجى من الله المغفرة، وتمتلىء النفس سعادة بمكان يشرق منه النور، وتحف به الحور، وصائف من الجنة أغضين في سكون توقيرا كأنهن سور حول هذا الرمس الميمون الذي ضم أكرم زوجة أرضت النبي الكريم - حتى إن الأفلاك تتمنى أن تسعى إلى هذا المكان خاشعة إلى مكان التقى فيه النور والشذا والتقى .

فإذا انتقلنا إلى موضوع شرف السيدة خديجة، ومكانتها قبل الإسلام وقبل زواجها من النبي صلی الله علیه و سلم، فسنجده أيضاً موضوعاً مشتركا بين كثير من الشعراء، تكلموا عن مكانتها وعقلها وطهرها وكرمها وغناها فنجد الشاعر : السيد طه السقاف يقول :

وقريش وهم حماة الأرض *** قد أكبروك في علياك

عرفوا أنك الحكيمة عقلا *** حرة برة يعم نداك

قد جمعت الخلال نبلاً وطهرا *** وسخاء والجود من يمناك

ونجد الشاعر السيد مصطفى أحمد المحضار يقول :

في الجاهلية قد علوت مكانة *** والله بالمال الكثير حباك

ص: 189

ويقول الشاعر السيد محمد بدر الدين :

كم سيد قد جاء يطلب ودها *** لكنها رضیت محمد سيداً

أما الشاعر : السيد فؤاد أمين حمدي فيقول :

إنها أصل تسامى *** إنها حسن تفرد

وفي قصيدة أخرى له يقول :

جمال قريش قد تجلى بطلعة *** لجدة آل البيت بنت خويلد

حوت كل آيات الجمال بوصفها *** وأخلاقها والأصل أكرم محتد

وأمجاد أصل كم رأينا ثماره *** تفرع من أصل النبي محمد

سبقت جميع الأمهات أصالة *** وحسناً و أخلاقاً و فزت بمقعد

ويقول الشاعر السيد بدوي طيب الأسماء :

حدث عن الفضلى فأنت مصدق *** فالفضل فيها ثابت ومحقق

والشاعر السيد جعفر الميرغني يقول :

حازت فضائل لم يحزها غيرها *** في عصرها من حاضر أو بادي

ويقول الشاعر السيد عبد القادر الخرد :

ربحت رسول الله حين خطبته *** فكنت له مأوى. شددت له أزرا

وأصبحت مهداً للرسالة حاضنا *** تلقيتها من حين ما نزلت إقرا

فهم متفقون على جمالها وكمالها وجودها وغناها ورغبة السادة فيها وإكبار قريش لها - وتفوقها على نساء عصرها بسعيها في ذلك .

وقد تكلموا عن فراستها، وسفره في مالها، وخطبتها له، وذهابها إلى ورقة، فقال السيد محمد أمين كتبي :

سعيت إليه من قبل ارتقابا *** ليوم نبوة تمحو الظلاما

وقال السيد محمد بدر الدين :

بنفسي من سمت فوق الثريا *** تطالع أحمد الدنيا الأبيا

ص: 190

ص: 191

شأنه في غد نبي عظيم *** فاحفظيه عشية وضحاك

فهنيئا بلغت مجداً كبيرا *** لم تنله من النساء سواك

فإذا نظرنا إلى تشرفها فوق شرفها بزواجها من الصادق الأمين صلی الله علیه و سلم، فسنجد الشعراء قد أفاضوا في ذلك .

فالشاعر : السيد جعفر الميرغني يقول :

وأقصد هناك فريدة الحسن التي *** حوت الفخار بسيد العباد

وقل السلام عليك يا أم الهدى *** زوج الرسول الهاشمي الهادي

واستمع إلى الشاعر السيد فؤاد حمدي يقول :

قد حوت كل المزايا *** حين زفت لمحمد

ويقول أيضاً:

عليك سلام الله أكرم زوجة *** لأفضل مخلوق وأكرم سيد

جمعت صفات قد تعذر عدها *** وحسبك أن تحظي بحب محمد

والسيد أحمد المحضار يقول :

أنت العظيمة منزلاً ومكانة *** وجلالة جلت عن الادراك

وعلوت في الإسلام وحدك رتبة *** فاقت سموا رفعة الأفلاك

ويقول الشاعر أيضاً :

سلام الله قد سبق السلاما *** لزوجة خير من صلى وصاما

ویقول الشاعر السيد محمد أمين كتبي :

فلها من الفضل الذرا *** ولها من المجد السنام

والله شرفها وطهر *** عرضها من كل ذام

ويقول آخر :

سعيت إليه من قبل ارتقابا *** ليوم نبوة تمحو الظلاما

فحزت الخير والإسلام جمعا *** وأول من بما أمر التزاما

ص: 192

ويقول الشاعر السيد محمد بدر الدين :

ياخدرها وغدوت معراج الهدى *** لما استفاض النور فيك وغردا

ويقول أيضا :

سلاماً زوجة المختار مبعوثاً ومنصورا

وفي قصيدة أخرى له :

یسمو علاك وليس أين *** فسماك أعلى الجنتين

ويقول في غيرها :

يا زوجة أحمدنا الهادى *** وسراجاً من خير سراج

يا أماً شرفها ربي *** بمحمد في خير زواج

و شرفت به فوق نسا *** وحباك المنعم بالتاج

ويقول شاعر آخر :

بشراك باتصال *** بالمصطفى الرسول

بشراك بالمعية

ويقول السيد السقاف في هذا :

شرفاً قد بلغت من مولاك *** يا خديجاً بالمصطفى قد حباك

نلت ما نلت رفعة ومقاما *** منة منه ربنا أعطاك

وحباك الإلٰه فضلاً عظيماً *** و بخير الأنام نلت مناك

ولعلك تدرك معي أنهم جميعا يؤكدون حقيقة أنها بلغت غاية الشرف بزواجها من الرسول صلی الله علیه و سلم . فقد حازت الفخار بسيد العباد، وحوت كل المزايا حين زفت له ، وحسبها من الفخر حبه لها، فلها ذروة الفضل وسنام المجد، وأصبح خدرها يستفيض فيه ومنه نور النبوة والوحي فهي زوجة الهادى سراج من خير سراج شرفها الله بحبيبه في خير زواج ففاقت

ص: 193

بذلك كل النساء شرفاً .

ومن المعاني المشتركة التي تحدث عنها الشعراء في قصائدهم أن خديجة سيدة النساء وأفضلهن زوجاً ولا تقاس بغيرها فضلاً وطهراً اسمع

معی قول الشاعر بدوي طيب الأسماء في ذلك :

هذى خديجة لاتقاس بغيرها *** إلا وكان لها المقام الأشهق

أما السيد طٰه السقاف فيقول :

أنت للطهر والفضيلة رمز *** وبعقل الحكيم فقت سواك

وفي آخرها يقول :

فهنيئا بلغت مجداً كبيراً *** لم تنله من النساء سواك

ويقول شاعر:

يا أفضل النساء *** حقاً بلا مراء

ويقول الشاعر : السيد محمد بدر الدين :

ما مثل خدرك يا خديجة رفعة *** طهراً و تشريفاً و مجدا معردا (1)

ويقول أيضاً:

حبيبة خير خلق الله *** قد أعطيت تعبيرا

فأنت وفاطم أعلى *** نساء الخلد تصديرا

ويقول السيد محمد أمين كتبي :

وخديجة الكبرى التي *** بالجود سابقت الغمام

فلها من الفضل الذرا *** ولها من المجد السنام

ويقول السيد أحمد المحضار :

أنت العظيمة رتبة ومكانة *** وجلالة جلت عن الإدراك

فبخ بخ يادرة قرشية *** ما في النسا من قد رقت مرقاك

ص: 194


1- الصلب الشديد المنتصب

اما السيد فؤاد أمين حمدي فيقول :

كرموا ذات العفاف *** كرموا بنت خویلد

من سمت كل النساء *** وعلت عن كل فرقد

ويقول أيضاً:

وفأنتم منارات الهدى ورحابه *** اليكم تناهى كل عز وسؤدد

واسمع الشاعر بدوي طيب الأسماء يقول في قصيدته : حدث عن الفضلى :

وأدر حديث خديجة الكبرى أدر *** فحديثها بشذا الفضائل يعبق

مهما أفاض الواصفون لفضلها *** و تسابقوا بالمدح فيها أخفقوا

لاتحصر الألفاظ غر صفاتها *** بل لايفى التعبير مهما نمقوا

یاجدة الحسنين والأشراف من *** يعلو علاك وفي المفاخر يلحق؟

والشاعر السيد جعفر ميرغني يقول :

وعلت على هام السِّماك برتبة *** وسمت على الأمثال والأنداد

يا من كرامتها كشمس ظهيرة *** يا من إغاثتها كقدح زناد

أما عن كناها وأوصاف التكريم لها فما أكثرها في أشعارهم، فإذا كانوا فيما أسلفنا قالوا أنها لاتقاس بغيرها، وأنها رمز الطهر والعفاف والفضيلة، وأنها بلغت مالم تبلغه سواها وأنها وابنتها أعلى نساء الجنة مكاناً، و أن الألفاظ لا تحصر صفاتها، فاسمع معنا ما أطلقوه عليها من الكنى وعبارات التكريم :

يقول السيد جعفر الميرغني : إنها أم الورى وأم البتول وذات التقى وجدة الحسنين، وجدة السبطين وبحر الندى والجود.

وقل السلام عليك يا أم الورى *** زوج الرسول الهاشمي الهادي

أم البتول خديجة ذات التقى *** من بشرت بالفوز والاسعاد

ص: 195

يا جدة الحسنين والسبطين يا بحر الندى والجود والإمداد وعند السيد بدوي طيب الأسماء : هي أم فاطمة البتول وأم من ولدهم

الرسول وجدة الحسنين والأشراف :

يا أم فاطمة البتول وأم من *** ولد الرسول الهاشمي المعرق

يا جدة الحسنين والاشراف من *** يعلو علاك وفي المفاخر يلحق؟

و هی عند السيد مصطفى المحضار أم المؤمنين، وأم من حلوا بشعب الحجون العطر، وأم فاطمة البتول، وجدة السبطين، وخير النساء، وأم

آل البيت والنساك.

خديجة أم المؤمنين ومن *** حلوا بشعب الحجون الطيب الأرج

ويقول :

يا أم فاطمة البتول تشفعي *** لقرابة يسعون حول حماك

يا جدة السبطين يا خير النساء يا أم آل البيت والنساك

أما السيد محمد أمين كتبي فهي عنده خديجة الكبرى، وأم البتول واخوتها، وأم المؤمنين فيقول :

وخديجة الكبرى التي *** بالجود سابقت الغمام

أم البتول وأم اخوتها *** كدر في نظام

بالله أم المؤمنين *** تذكري هذا الغلام

أما السيد فؤاد حمدي فهي عنده أم المؤمنين وزوج محمد وكفى بهذا شرفاً :

فهي أم المؤمنينا *** إنها زوج محمد

وهي جدة آل البيت وجمال قريش :

جمال قريش قد تجلى بطلعة *** لجدة آل البيت بنت خويلد

ص: 196

وهى الدوحة الكبرى، و جدة الآل، وأم زهراء الوجود، وجدَّة نسلها :

هي الدوحة الكبرى تمد غصونها *** على خير أهل الأرض أحفاد أحمد

فيا جدة الآل الكرام تحية *** من القلب أهديها بحب مجدد

أیا أم زهراء الوجود تفضلي *** علينا بفيض من حنانك مسعد

أيا أم فاطمة وجدة نسلها *** زهوراً على هذا الأديم الممهد

أما الشاعر السيد محمد بدر الدين فيقول هي أم الآل - والعترة كلهم

من نسلها، وهي أم فاطمة، وهي أمنا، وزوج خير الأمتین، وحب النبي

ووزيره، ودفء عمره، وأوفى النساء فيقول :

والعترة الغر الكرام جميعهم *** من نسلها أعلام صدق للهدي

ويقول :

سلام أم آل البيت *** مبذولا ومنثورا

سلام أم فاطمة *** على مثواك منشورا

سلام أمنا الغراء *** لا أحصيه تقديرا

أما ما سبقت اليه غيرها فكانت الأولى فيه فاسمع ما قالوه في ذلك : السيد السقاف يقول في ذلك : أنها أول من آمن، و أول من ثبت، و أول من جاءته البشرى :

أنت من أنت . أنت أول شخص *** صدق النور إذ دعا يا هناك

عندما قال عائدا من حراء *** زملوني زملته بكساك

کنت نعم الحنون خففت عنه *** كلما جاء منه نحوك شاك

لا تخف سيدى حبيبي كلا. . *** كيف تخزى وأنت فوق السماك

كنت تولي الجميل تصنع عرفا *** أنت تحنو علی الیتیم الباکي

أنت تقري الضيوف أنت كريم *** صادق القول طاهر كالملاك

لست تخزى وأنت خير أمين *** لن تجازي بشقوة وهلاك

ص: 197

وأمين السماء جاء ببشرى *** وسلام يهديه من مولاك

والبشارات جمة وكثير *** وببيت في جنة قد حباك

وقال شاعر آخر :

قد فزت بالسلام *** من ربنا الرحيم

وله أيضاً :

وجنة النعيم *** في غرفة بهيه

غرفتها عظيمة *** من قصب كريمة

وهبتها كرامه *** بشراك بالعطيه

آمنت بالبشير *** والناس في كفور

رزقت بالذراري *** فاحظي بهم سنيه

اما الشاعر محمد بدر الدين فيتكلم عن تفردها بالتثبيت و التدثير وعدم الزواج عليها وأنه لم يَشْكُ منها يوماً - وأنها أول من جاء جبريل إليه في خدرها - و أول من جاءته البشرى و السلام من الله، والبيت من القصب خصوصية لها - وكانت أول من صبر معه من نسائه، وجاهدت بالنفس والمال فيقول عن خدرها :

في كل يوم غدوة أو روحة *** للروح إذ يلقى لديك محمدا

لولا حراء لكان منزلك الذي *** أهدى إلى الدنيا الرسالة والهدى

وعن تأييدها وتفردها معه :

أما البطولة إذ رأته مفزعا *** يرجو الدثار فما أجل و أمجدا

وحديثها والله لن تخزى سرى *** في نفسه كالري في أثر الصدى

والحب تبذله كريماً طيباً *** وتعينه بالمال حتى يصمدا

كانت لديه وحدها وكفى بها *** ينضو لدى أحضانها ما أجهدا

لم يَشْكُ منها مرة أو تجفه *** يوماً وكان هناؤها أن يسعدا

ص: 198

ويجيء جبريل الأمين محيباً *** من ربه يحكي السلام مرددا

ومبشرا بالبيت من قصب لها *** في قمة الفردوس ربي شيدا

ويقول :

سلام ساقه جبريل *** من مولاه مأمورا

يزجي البيت من قصب *** بدار الخلد معمورا

ويقول :

قد کنت درع جهاده *** ومعينه في الأزمتین

-----

وخديجة من جاءها *** جبريل يحمل بشريين

بشرى السلام من السلام *** ميراً من كل غين

والبيت من قصب بلا *** نصب و إقرارا لعين

أما السيد أحمد المحضار فيقول في ذلك :

بادرت من دون النساء ببيعة *** لم ترض بالأوثان والإشراك

ويقول شاعر آخر :

سلام الله قد سبق السلاما *** لزوجة خير من صلى وصاما

وقصر في الجنان لذات حسن *** يفوق جبينها البدر التماما

فكم جاء الحبيب إليك يسعى *** فكنت له السكينة والسلاما

حلفت لشد عزمته يمينا *** بأن الله لا يخزي الكراما

وصدقت النبوة في بكور *** وفي الإيمان لم تخشَيْ ملاما

أما السيد مصطفى المحضار فيقول :

وكمال هذا السعد ما قد نلته *** في جنة المأوى بها مأواك

والقصر من قصب ساج بلا صخب *** هان بلا نصب رب السما أعطاك

والسيد محمد أمين كتبي يقول :

ص: 199

والله بشرها بما *** ترجو من الرتب السوام

وبمنزل قصب بجنته *** على طرف التمام

قصب هو الدر المجوف *** من يتيم أو توام

والسيد فؤاد حمدي يشارك في هذه المعاني فيقول :

زملته دثرته *** صدقت قول الرسالة

حينما عاد إليها *** خائفا مما جرى له

لا تخف أنت نبي ***مرسل من ذي الجلاله

أول الناس جميعا *** صدقت بشری محمد

قبلها ما قام إنس ***خلف طٰه للصلاة

بشرت دون سواها *** ان بيتا من قصب

بين جنات نعيم *** وخلود مرتقب

وهي شدت أزر طه *** حينما اشتدت مواقف

في حصار الشعب قامت *** لا تبالي بالعواصف

ويقول :

وقد أرسل الله العليم سلامه *** إليك فيا مرحى بهذا التفرد

وفي قمة الفردوس فزت بمنزل *** سعدت به بين النعيم المخلد

وكنت بهذا المجد أول فائز *** بما نلت من حب النبي المؤيد

واسمع الشاعر بدوي طيب الأسماء يقول :

في السابقين إلى الهداية فذة *** في رأس قائمة الهداة تحلق

كم هونت صعباً وحلت معضلا *** لتثبت المختار فيما يقلق

لم تدخر وسعاً لدفع ملمة *** عنه وترأم بالحنان وتغدق

قد صدقته وآمنت وترفقت *** والناس عنه تباعدوا وتفرقوا

ص: 200

ويقول :

جبريل ينزل بالسلام مبلغاً *** عن ذي الجلال وبالتحية ينطق

ومبشراً لك في الجنان بمنزل *** قصب دعائمه تضيء وتشرق

وهذا السيد جعفر ميرغني يقول :

فخر بقصر أي قصر مثله . . *** في جنة جلت عن التعداد

جادت على خير الأنام بمالها *** فأنالها الحسنى وخير مراد

نصرت حبيب الله في أعدائه *** ظفرت بكل جميلة وأيادي

شرفت بتصديق وصدق طاهر *** سبقت باسلام على الأجواد

وتزمل المختار حتى يسكن *** الروع المثار بإذن مولى هادي

وتثبت المحمود في عزماته *** بمقالة تدنى من الإسعاد

أما أخلاقها - وحسنها وتقواها وصبرها - وصفات التكريم التي عرضوها لها فهي دوحة للدين - سراج هاد - باب الهادى - قمر وكوكب و شمس - حورية اختارها الله لنصر دينه :

في هذه المعاني نسمع الشاعر السيد طه السقاف يقول :

أنت حورية ورمز فخار *** أنت طهر والطهر من أسماك

قمر للوجود أشرق نورا *** كوكب قد أضاء من علياك

ويقول الشاعر محمد بدر الدین :

ياصبرها والناس حول حبيبها *** رصد يذيب الشامخ المتشددا

يا آية الإخلاص كيف رضاؤها *** بذهابه للغار كي يتعبدا

ياللبطولة فى الزمان تفردا *** والصبر والإخلاص فيك تجسدا

ويقول :

فهوى الحبيب هو الذي *** تسعين فيه و تغرمين (1)

ص: 201


1- تغرمين : تتحملين شيئاً عظيماً .

وبذا الوفاء بلغت أرفع *** من سماء الفرقدين

-----

أحبيبة أحمد وسراجا *** يهديني في الليل الداجي

يا باب الهادي وحنانا *** يتلقى المحزون الشاجي

يقول الشاعر السيد أحمد بن محمد المحضار :

لما بدت في برجها شمس الضحى *** وتبلجت بجمالها عيناك

ويقول السيد مصطفى المحضار :

خديجة الصدق أم المؤمنين ومن *** حلوا بشعب الحجون الطيب الأرج

ويقول السيد محمد أمين كتبي :

وخديجة الكبرى التي *** بالجود سابقت الغمام

أما السيد فؤاد حمدي فيقول :

حوت كل آيات الجمال بحسنها *** وأخلاقها والأصل أكرم محتد

اذا أسفرت عن وجهها كان حسنها *** يغيب نور النيرين بمرصد

هي الدوحة الكبرى تمد غصونها *** على خير أهل الأرض أحفاد أحمد

فأنتم منارات الهدى ورحابه *** إليكم تناهى كل عز وسؤدد

واستمع إلى الشاعر بدوي طيب الأسماء يقول :

لا تحصر الألفاظ غر صفاتها *** بل لايفي التعبير مهما نمقوا

اختارها الله الحكيم لنصرة *** الدين الحنيف تحوطه وتصدق

ويقول الشاعر السيد جعفر الميرغني :

يامن لها الجاه العريض ومن لها *** الفيض المفيض لكل قلب صادي

اما قضية الحب حب المؤمنين جميعاً لها وحبها للنبي صلی الله علیه و سلم و حبه العظيم لها فاسمع ما قالوه فيه وما أكثر ما قالوا :

وارع الذمام لجيرة حلوا به *** وانشد فؤادا ضاع في ذاك الفنا

واقر السلام أهيله عني وصف *** ماحل بي بعد البعاد من الضنى

ص: 202

واستعطف الأحباب كيما يعطفوا *** فهمو همو أهل المكارم والثنا

وابدأ لهم بالله ألا يقطعوا *** حب المحب المستهام وإن جنى

وأرى الحياة اذا خلت من وصلكم *** أن الممات أسر منها والفنا

أنتم مرادي لا أبالي بعدما *** ترضون عني من أحب ومن شنا

بودادكم تحيا القلوب وحبكم *** نور السرائر خیر شيء يقتنى

وبقربكم ووصالكم تنعم الأرواح *** في روض المسرة والهنا

وهذا بدوي الطيب الأسماء يقول:

أنى لمثلي أن يقوم بمدحها *** وبضاعتي في سوقها لا تنفق

إني لأخجل أن أقوم ببابها *** وصحائفي سود وفعلي موبق

لولا المحبة ثم أني مؤمن *** وهي الرؤوم - ومن سواها يشفق

لثنيت عزمي عن زيارة قبرها *** خجلا - وقلبي مستهام يخفق

لكنها أمي أحن لبيتها *** مهما حييت فبابها لا يغلق

وهذا شاعر آخر يقول :

فيا أم البتول أتيت أسعى *** وقلبي عند روضكمو أقاما

وكيف يضام من وفدوا إليكم *** ومن فيكم - على البعد استهاما

أما الشاعر فؤاد حمدي فحبه متجدد. .

فيا جدة الآل الكرام تحية *** من القلب أهديها بحب مجدد

وكل قلوب المؤمنين تشوقت *** لتنعم بالرضوان في طهر مشهد

ثم يعبر عن الحب المتبادل بينها وبين النبي صلی الله علیه و سلم فيقول :

بقلب حبيب الله ما حاز مثله *** ولا قال عن أخرى كبنت خويلد

والشاعر محمد بدر الدين يصور حبها له قبل أن تخطبه :

سبحت خديجة في خواطر أمسها *** والشوق في طي الضلوع توقدا

من ذا يبلغه بأن فؤادها *** أرق الخواطر قد أحب محمدا

ويصور حبه صلی الله علیه و سلم وحزنه على فراقها وسعيها في رضاه :

ص: 203

عام من الأحزان عام فراقها *** لاشيء ينسيه وإن يك قد بدا

كانت لديه وحدها وكفى بها ***ینضو لدی أحضانها ما أجهدا

لم يشك منها مرة أو تجفه *** يوماً وكان هناؤها أن يسعدا

ولئن تعددت الحلائل بعدها *** فلقد تذكرها على طول المدى

ويحن إذ يلقى صواحبها كما *** لو كان يلقاها ويشجيه الصدى

«لأهم هالة» ياحناناً دافقاً *** من قلبه يحكي الوفاء مجردا

وحديث عائشة وغيرتها وما *** قال النبي، معالم لن تجحدا

ينهل والدمعات ملء حديثه *** أن ليس أكرم من خديجة محتدا

آوت وأهدت مالها وتحملت *** والشر في الوادي عليه تمردا

القبر

أما حبها الذي كان دفء عمره، ومحرك سلوكها فيقول فيه :

يا حب أحمد في الورى *** و وزيره في الأبطحين

يا دفء عمر محمد *** أوفى نساء العالمين

-------

فوهبته القلب الرؤوم *** مبراً من كل رين

تسعين في مرضاته *** لا عتب لاشكوى لبين

واذا أوى للغار قمت *** لعونه بكلا اليدين

فهوى الحبيب هو الذي *** تسعين فيه بغير مين

وحب الشاعر لها يكاد يعجزه عن التعبير، وهو يطهر القلب وأنيس القبر .

حبيبة خير خلق الله *** قد أعبيت تعبيرا

يطهر حبكم والآل *** قلب المرء تطهيرا

وحبكمو أنيس القبر ***يملأ جوفه نورا

رأيت هواكمو في *** الآي متلوا ومذكورا

ص: 204

وحبكمو شفاعتنا *** رواه الكل مسطورا

و یعبر طه السقاف عن حبها للرسول صلی الله علیه و سلم وحبه و وفائه لها فيقول :

احتضنت الرسول أعظم هاد *** حبه حل في صميم حشاك

لك منه الحب العظيم وود *** دائم الفيض لم تنله سواك

أنت للمصطفى الحبيبة حقاً *** وأتاه البنون من أحشاك

حفظ الود في صحابك أما *** جئت أذري الدموع في ذكراك

وخديجة واحدة من النساء الكوامل الأربع - يقول في ذلك فؤاد حمدی :

وهى احدى سيدات *** کاملات فاضلات

فاطم ثم خديج *** تاج كل الصالحات

مريم منهن تاج *** ثم آسية لدات

قد أتى عنهن نص *** قاله الهادي محمد

ويقول عن حزن الرسول عليها ونزوله في قبرها :

بعد ستين وخمس *** ودعت ختم الرسل

کم یکی طٰه عليها *** ثم في القبر نزل

هذه احدى المزايا *** بعدما وافي الأجل

خصها الله بهذا *** بین زوجات محمد

ويقول بدوي طيب الأسماء عن مقامها بين الكوامل الأربع :

يا أخت آسية ومريم في العلا *** وبصحبة المختار فضلك أسبق

ما زال يمدحها ويذكر فضلها *** وعلى قرابتها يحن وينفق

وهذه قصيدة فيها بشرى بالتيسير والشفاعة يوم القيامة من قصيدة للشاعر محمد بدر الدين :

الشعر يشرف حين ينظم مدحها *** والقلب يطهر حين يلزم حبها

ص: 205

أما اللسان فقد نجا من لغوه *** لما حكى عنها وردد ذكرها

من حب ربي قد حبينا حبها *** وبفضل ربي قد منحنا قربها

ومما قاله البوصيري في همزيته عن أمنا العظيمة خديجة الكبرى :

و استبانت خديجة أنه *** الكنز الذي حاولته والكيمياء

ورأته خديجة و التقى والزهد *** فيه سجية والحياء

وأتاها أن الغمامة والسرح *** أظلته منهما أفياء

وأحاديث أن وعد رسول الله *** بالبعث حان منه الوفاء

فدعته إلى الزواج وما أحسن *** ما تبلغ المني الأذكياء

وأتاه في بيتها جبريل *** ولذي اللب في الأمور ارتیاء

فأماطت عنها الخمار لتدري *** أهو الوحي أم هو الإغماء

فاختفى عند كشفها الرأس جبريل *** فما عاد أو أعيد الغطاء

ونختم بقصيدة لشاعر من آل البيت . . في ريعان شبابه، وهي تميزت بعبارات صادقة تعبر عن حب وشوق تنطق بلسان كل محب للسيدة خديجة وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم :

دخلتُ بالجاه !

منك البشائرُ يا أمّاه فاستلمي *** هذا القصيدَ. . فإنّي صِرْتُ في الخَدَمِ

ما كنتُ أكتبُه . . بل كان يكتُبني *** هذا القريضُ. . مرايا الجُودِ والكرمِ

***

ياربِ صلِّ على الهادي وعترتِه *** عدَّ الخلائق مِنْ عُرب ومِنْ عَجَمِ

ياربِ صلِّ عليهم دائماً أبداً *** واغفرْ خطايا مُحِبِ مُذْنِبٍ سَقِمِ

***

نورٌ من الغيب بينَ اللوح والقلمِ *** طوى الزمانَ فألقَى الرَحْلَ بالحرمِ

مُذْ حَلَّتِ الشمسُ في دارٍ لكَمْ طَهُرتُ *** وأنتَ في الوجدِ حالَ الظاميءِ النَهِم

فالعقلُ ينْشُدُ حظاً لا مثيلَ له *** والقلبُ يرْقُبُ نورَ الشمس من أُمَمِ

والسِّر يجمعُ حباً لا حدودَ لهُ *** مقامَ قلبٍ تقيٍ عارفٍ فَهِمِ

ص: 206

وكان ذا السِّر يا أمّاه أن سَلِمَت *** منكِ السريرةُ بالتسْليمِ. . لمْ تَجِمِ

أبْصَرْتِ مِعراجَ قُربِ لا نظيرَ لهُ *** فَبعْتِ من أجله الدنيا بلا ندمِ

وكُنْتِ خيرَ محبٍ عاشقٍ وَلِهٍ *** ختمتِ بالبدءِ معنى البدءِ بالخَتَمِ

بادرتِ بالحبِّ يا خيرَ النساءِ هوىً *** فكُنتِ قُدوةَ منْ يهوى ومنْ يَهِمِ

والحبُّ كالزرعِ إن ترويه تَحْصُدَهُ *** والذكرُ للحبِّ حُكْمُ الماءِ فإغْتنمِ

يممْ خديجاً وقاربْ في معيّتها *** لعلَّ شوقَكَ بالإخلاصِ يسْتَقِمِ

***

يارب صلِّ على الهادي وعترتهِ *** عدَّ الخلائق مِنْ عُربٍ ومِنْ عَجَمِ

ياربِ صلِّ عليهم دائماً أبداً *** واغفر خطايا مُحِبٍ مُذْنِبٍ سَقِمٍ

***

أم البتول ويا كترَ الوراثةِ يا *** خيرَ الشقائقِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عجم

يا صِنْوَ مريمَ يا صدِّيقةً شَرُفَتْ *** بالحِلمِ والطُهْرِ والإيثارِ والكَرَمِ

يا أسبقَ الناسُ إذ صلَّى محمّدُنا *** فكنتِ أوَلَ منْ في الخَلْقِ يأتمم

يا أعظم الناسْ يومَ الشعبِ تضحيةً *** حاشاك . . ما ضِقت من شكوى و لا برم

بشراكِ لما وصلتِ المصطفى وصلتْ *** إليكِ رحمةُ ربٍ واصلٍ الرحمِ

بشراك أمَّاهُ أن أهداكِ سيّدُه *** سلامَ جبريلَ وصلاً غيرَ مُنْفَصِمِ

أهدى إليكِ سلاماً منه متصلاً *** أنعمْ بِمُسْتَلَمٍ منهُ ومُسْتَلِمِ

***

دخلتُ بالجاهِ يا أمّاه مُلْتَمِساً *** یا بابَ أحمدَ إكراماً لملتزمِ

نَفسي فِداكِ وأهلي والحياةُ معي *** هَلاَّ شَفَعْتِ لدى المختارِ في القِسَمِ

هذه نماذج من الشعر الذي قيل في هذه السيدة الجليلة التي أحبها الناس في الجاهلية وفي الاسلام، وقدروها ووقروها، وبعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمق حبها في قلوب المسلمين، وشكروا لها صنيعها مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم و عبروا عن حبهم وتقديرهم شعراً ونثراً أو نشيداً أو غير ذلك من ألوان التعبير وذهبت خديجة بنت خويلد ولقيت ربها وبقي حبها خالداً فى نفوس الناس .

ص: 207

رحم الله خديجة وأكرمها وكرمها وجزاها عن المسلمين خير الجزاء.

ص: 208

الأحاديث الواردة في مناقب السيدة خديجة

* عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» متفق عليه .

رواه البخاري : كتاب مناقب الأنصار : باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة . وفضلها رضي الله عنها، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة : باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رقم (69) .

* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «يارسول الله هذه خديجة. قد أتتك، معها إناء فيه إدام - أو طعام، أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها عزوجل، ومني. وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» متفق عليه.

صحيح البخارى : كتاب مناقب الأنصار : الباب السابق، وفي غيرهما. وصحيح مسلم : في الكتاب والباب السابقين رقم (71) .

* وعن إسماعيل بن أبي خالد رحمه الله قال : قلت لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر خديجة ببيت في الجنة؟ قال : نعم . بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب . متفق عليه .

صحيح البخاري : في الكتاب والباب السابقين، وصحيح مسلم : في الكتاب والباب السابقين رقم (72).

* وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ماغرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ماغرت على خديجة، ومارأيتها ، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: «أنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد» لفظ البخاري :

صحيح البخاري : في الكتاب والباب السابقين، ومسلم : في الكتاب والباب

ص: 209

السابقين رقم (76 ) .

* وعنها رضي الله عنها قالت: ماغرت على امرأة ماغرت على خديجة، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لما كنت أسمعه يذكرها. ولقد أمره ربه عزوجل أن يبشرها ببيت من قصب في الجنة، وأنه كان ليذبح الشاة ثم يبعث بها إلى خلايلها . متفق عليه .

صحيح البخاري : في الكتاب والباب السابقين . وصحيح مسلم : في الكتاب والباب السابقين، رقم (74) .

* وفي رواية لمسلم عنها رضي الله عنها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة» .

قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني قد رزقت حبها» صحيح مسلم : في الكتاب والباب السابقين رقم (75).

* وعنها رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد - أخت خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرف استئذان خديجة، فارتاع (1) لذلك فقال : «اللهم هالة» قالت: فغرت، فقلت: ماتذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها . متفق عليه .

صحيح البخاري والطبراني في الكتاب والباب السابقين رقم (78) .

* زاد أحمد والطبراني : فقال صلى الله عليه وسلم : «ما أبدلني الله عزوجل خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، و واستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عزوجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء».

ص: 210


1- رواه أحمد (293/1) والفضائل له رقم ( 250 ، 252 ، 259) والطحاوي في مشكل الآثار (50/1) والنسائي في السنن الكبرى (93/5 ، 95) وفضائل الصحابة (196، 197-200) وأبو يعلى رقم 2722 والطبراني في المعجم الكبير (407/22) (7/23) والحاكم في المستدرك (594/2) (160/3 ،185) وابن حيان (47/15) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وعزاه في مجمع الزوائد (223/9) لأحمد برجال الصحيح. أنظر فتح الباري (134/7) .

مسند أحمد (6 : 117-118) والمعجم الكبير (23 ، 13 رقم 21 ، 227) وفي مجمع الزوائد (9 : 224) تحسينه .

* وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «حسبك من نساء العالمين : مریم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون» رواه أحمد (3: 175) وفضائل الصحابة رقم (1325 ، 1331 ، 1337 ، 1338) وعبد الرزاق (برقم 20919) والترمذي : كتاب المناقب: باب فضل خديجة رضي الله عنها، رقم (3878) وابن حيان (464:15) والحاكم (3: 157 ، 158) وصححوه وأقره الذهبي والطحاوي في مشكل الآثار (1 : 50) وشرح السنة (رقم 3955) والطبراني في المعجم الكبير (402:22) (7:23) .

* وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض خطوطا أربعة، قال: «أتدرون ما هذا؟» قالوا : الله ورسوله أعلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، و مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون».

* وعن أنس رضي الله عنه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم : وعنده خديجة ، قال: «إن الله يقرىء خديجة السلام» فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته .

رواه النسائي في الكبرى - (5: 94) وفضائل الصحابة (197 ، 198 رقم 253) في عمل اليوم والليلة (301 رقم 374) والحاكم في المستدرک (3: 186) وصححه وسكت عنه الذهبي .

* وعن عفيف الكندي رضي الله عنه قال : كنت امرأً تاجراً، فقدمت الحج، فأتيت العباس بن عبدالمطلب، لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امراً تاجراً، فوالله إني لعنده بمنى، إذ خرج رجل من خباء قريب منه ، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت، بمنى قام يصلي، قال : ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام حين راهق

ص: 211

الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي، قال : فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبدالمطلب، ابن أخی قال : قلت : من هذه المرأة؟ قال هذه امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: من هذا الفتى؟ قال : هذا علي ابن أبي طالب، ابن عمه، قال: فقلت : ما هذا الذي يصنع ؟ قال يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز کسری و قیصر.

قال : فكان عفيف - وهو ابن عم الأشعث بن قيس، يقول: وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه - : لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ، فأكون ثالثاً مع علي بن أبي طالب رواه احمد في المسند (1 : 209-210) والنسائي في خصائص علي (رقم6) والبخاري في تاريخه (7: 74-75) وأبو يعلى في مسنده (3: 117-118) والطبراني في الكبير (18 : 100-102) من طريقين والحاكم في المستدرك (3: 183) وصححه وأقره الذهبي والبيهقي في الدلائل (2: 162-163) وابن سعد (8 : 17 - 18) وعزاه في مجمع الزوائد (9 : 103) لأحمد برجال ثقات، وأبي يعلى والطبراني. وله شاهد من حديث ابن مسعود (9 : 222) مجموع طرقه حسن .

ص: 212

الخاتمة

يا أم المؤمنين ويا أول المسلمين يتساءل كاتب هذه الكلمات في ختام هذا الحديث عنك هل يستطيع قلمه أن يرتقي ليخط بمداده بعض مآثرك العظمى على الأمة الإسلامية؟ وعلى تاريخ الحضارة الإنسانية كلها ؟

وهل يستطيع بيان الحرف - ولو غمس بالضياء - أن يسمو إلى منازل عليائك، فيقدم - متواضعاً - بضاعة مزجاة إلى مقامك السامي؟

وكيف يستطيع ؟

فأنت أول من آمن حين كفر الناس.

وأنت أول من أعطى . . حين منع الناس.

و أول من صدق . . حين كذَّب الناس .

وأنت أول من واسى حين اشتد أذى الكفار .

وأنت أول وأسخى من بذل حين حرم الناس.

وأنت أول من وقف مع المصطفى صلى الله عليه وسلم تشدين من أزره .

وأول من دثَّر . .

وأول من زمَّل. .

وهل يمكن لمؤمن أن ينسى موقفك العظيم؟

حين فاجأ الوحي سيد المرسلين.

وجاءك الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله

ترجف بوادره و يخفق فؤاده وهو يقول :

زملوني . . زملوني . .

ص: 213

دثروني . . دثروني . .

فكنت سكنه المطمئن، وكنت المهدىء لروعه، وكنت الزوجة الصالحة، والرفيقة الفالحة .

أم كيف ينسى مؤمن يوم جاءك الحبيب قائلا :

لقد خشيت على نفسي

فكان جوابك : كلا والله لن يخزيك الله أبداً

إنك لتصل الرحم

وتحمل الكل

وتكسب المعدوم

وتعين على نوائب الحق

ابشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.

فما أروع مواساتك

ثم موقفك العظيم يا أم المؤمنين الذي يدل على رجاحة العقل يوم ذهبت بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم

إلى ابن عمك ورقة

تريدين التثبت مما جاء من خبر السماء

فأي عقل راجح وأية حكمة منحك رب السمٰوات

وحينما جاءه الملك في بيتك

وأردت أن تعرفي حقيقته

فطلبت من الرسول الأعظم

أن يجلس بجانبك ثم يتحول إلى يمينك ثم إلى يسارك ثم إلى حجرك، ثم كشفت عن رأسك

ص: 214

وهذا فقه، وايم الله أي فقه . .

فما أعمق الفقه الذي خصتك به العناية الإلٰهية !

يا أم المؤمنين

لقد علمنا سيدنا صلى الله عليه وسلم

الحب والإخلاص والوفاء

بإخلاصه ووفائه لك

وظللت في أعماق مشاعره

لا يفتأ يذكر الزوجة الحانية والأم الرؤوم

بعد سنوات وسنوات

كان يذبح الشاة ويقسمها ويقول : ارسلوا إلى صديقات خديجة

فما أروع الإخلاص

وتزوره إحدى صويحباتك فيهش إليها ويكرمها ويفرح بقدومها

وهو يقول : كانت تغشانا أيام خديجة

ويعلمنا أن حسن العهد من الإيمان

و مهما ننسى فلن ننسى ما قرأناه في السيرة العطره

حين استأذنت أختك هالة على المصطفى صلى الله عليه وسلم

فعرف فيه استئذان خديجة، ففرح وقال اللهم هالة . . وذكر حب خديجة . . ووفاء خديجة . . وأيام خديجة . .

فما أعظم مكانتك في فؤاد المصطفى الوفي الأمين

لقد حللت من قلب الرسول الكريم محلاً لم يبلغه أحد

حتى أخذت الغيرة أمنا عائشة رضي الله عنها فقالت: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة

يا أول أمهات المؤمنين

ص: 215

لقد جمعت أنبل السجايا وأعظم الصفات

وجاء تكريمك من رب السماوات

جاءتك التحية من رب العرش العظيم

يحملها الروح الأمين إلى الرسول الكريم

يا رسول الله هذه خديجة قد أتت

معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب

فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني. .

فكان جوابك : إن الله هو السلام

وعلى جبريل السلام

وعليك يا رسول الله السلام و رحمة الله وبركاته

فما أعمق ما حباك الله من الفقه الذي سبقت به

أجلة الفقهاء

وزادك ربك تكريما بالبشارة العظمى

يحملها جبريل أيضا من رب السماء إلى رسول الله

«بشَّر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»

ثم بعدها تكريم وأي تكريم

يحمل البشرى العظيمة

من الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم

خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة

فهنيئا لك يا أم المؤمنين

ببشارة رب السمٰوات والأرضين

وهنيئا لك حب المصطفى صلى الله عليه وسلم و تكريمه و وفاؤه وحبه . .

وكاتب هذه الكلمات

ص: 216

فإن لك في أعناقنا جميعاً منة . . و حقاً . . فقد وقفت إلى جوار المصطفى صلى الله عليه وسلم . . وكأنك تنوبين عنا جميعاً . . تؤدين الواجب عن كل هذه الأمة . . فكان الحب . . وكانت التضحية . . وكان الوفاء. . وكان العطاء. .

رضي الله عنك . . وأرضاك أحسن الرضى

وجزاك عنا و عن المسلمين خير الجزاء.

أمّاه . . رحمك الله . . و رحم آل بيت رسول الله . . وأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

محمد عبده يماني

1 ذي الحجة 1419ه-

ص: 217

المصادر والمراجع

1- القرآن الكريم

2- صحيح الإمام البخاري

3- صحيح الإمام مسلم

4- سنن النسائي

5- سنن أبي داود

6- سنن ابن ماجه

7- سنن الترمذي

8- الموطأ للإمام مالك

9- مسند الإمام أحمد بن حنبل

10- المصنف لابن أبي شيبة

11- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني

12 - السيرة النبوية لابن هشام

13- الروض الأنف للسهيلي

14- السيرة الحلبية

15- سبل الهدى والرشاد المعروف بالسيرة الشامية

16 - تاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري

17 - الطبقات الكبرى لابن سعد

18 - الشفا للقاضي عياض

19- تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس لحسين بن محمد الديار بكري

20 - أخبار مكة للأزرفي

21 - الاستيعاب في أسماء الأصحاب لابن عبد البر

22 - أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري

23- الاصابة في تمييز الصحابة

24 - أعلام النساء لعمر رضا كحالة

25- البداية والنهاية لابن كثير

ص: 218

26 - تاج العروس للزبيدي

27 - تاريخ الإسلام للذهبي

28 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (تفسير القرطبي)

29- تهذيب الأسماء و اللغات للنووي

30- فتح الباري لابن حجر العسقلاني

31- جمهرة أنساب العرب لابن حزم

32- جوامع السيرة لابن حزم

33- سير أعلام النبلاء للذهبي

34- شفاء الغرم بأخبار البلد الحرام للفاسي

35- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين لتقي الدين الفاسي

36- الكامل لابن كثير

37- كشف الظنون لحاجي خليفة

38- لسان العرب لابن منظور

39- المحبر لابن حبيب

40- الدر المنثور في طبقات ربات الخدور لزينب فواز

41- المعارف لابن قتيبة

42- نسب قريش للمصعب الزبيري

43- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي

44 - السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين لمحب الطبري

45 - السيدة خديجة أم المؤمنين لعبد الحميد طهماز

46 - المرأة العصرية وأمهات المؤمنين (السيدة خديجة) لحديوي حلاوة

47- مثلهن الأعلى (السيدة خديجة) للشيخ عبد الله العلايلي

48-كتاب الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين لأبي منصور بن عساكر

49- نساء حول الرسول صلى الله عليه وسلم لمحمود طعمة حلبي

50- خديجة أم المؤمنين لعبد المنعم محمد عمر

51- امتاع الأسماع للمقريزي

52- حياة محمّد للأستاذ محمد حسین هیکل

ص: 219

53- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد

54- عبقرية محمد للعقاد

55- تراجم سيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطيء

56- إنها فاطمة الزهراء للمؤلف

57- أمهات المؤمنين لوداد سكاكيني

58- محمد في حياته الخاصة للدكتور نظمي لوقا

59- السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي

60- دلائل النبوة للبيهقي

61- عيون الأثر لابن سيد الناس

62- سيرة نبي الهدى والرحمة لعبد السلام حافظ

63- حياة الصحابة للكاندهلوي

64- الاعلام لخير الدين الزركلي

65- أم المؤمنين خديجة بنت خويلد المثل الأعلى لنساء العالمين لابراهيم محمد حسن الجمل

66- السيرة النبوية لابن اسحاق بتحقيق محمد حميد الله

67- أنساب الأشراف للبلاذري بتحقيق محمد حميد الله

68- السيرة النبوية لدحلان

69- اتحاف الورى بأخبار أم القرى لابن فهد

70- سيرة ابن اسحاق بتحقيق محمد حمید الله

71- المواهب للدينة للقسطلاني

72- ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربي لمحب الدين الطبري

73- الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي

74- نور اليقين للشيخ محمد الخضري

75- زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأسرار الحكمة في تعددهن لابراهيم حسن الجمل

76- القلادة و أبوالعاص بن الربيع

77- غيرة السيدة عائشة

78- ورقة بن نوفل للدكتور عويد المطرفي

ص: 220

صدر للمؤلف

1- علموا أولادكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

2 - علموا أولادكم محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

3- بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم

4- إنها فاطمة الزهراء

5- هكذا صام رسول الله صلى الله عليه وسلم

6- هكذا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم

7- بدر الكبرى (المدينة والغزوة)

8 - المعادلة الحرجة في حياة الأمة الإسلامية

9- حوار مع البهائيين

10- البابية

11- أفريقيا لماذا؟ لا تضيعوا أفريقيا كما ضاعت الأندلس

12- للعقلاء فقط 1-2

13- قادم من بكين : الإسلام بخير

14- وكشفت أزمة الخليج عوراتنا

15- نظرات علمية حول غزو الفضاء

16- الأطباق الطائرة حقيقة أم خيال

17- أقمار الفضاء غزو جديد

18 - الجيولوجيا الاقتصادية

19- وداعاً هالي

20- مشرد بلا خطيئة

ص: 221

سيصدر قريباً للمؤلف

1 - علموا أولادكم محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

2- قضايا تعليمية

3- الأقليات المسلمة في العالم. . واإسلاماه

4- روسيا والمسلمون ومحنة الانفتاح الجديد

5- الخليفة الخامس

6- THE MEANING OF ISLAM

ص: 222

الفهرس

- المقدمة . . . 9

- بين يدي السيدة خديجة . . . 17

- لماذا السيدة خديجة ؟ . . . 23

- نسب السيدة الطاهرة خديجة . . . 31

- مسكن السيدة خديجة رضي الله عنها . . . 37

- السيدة خديجة في الجاهلية . . . 49

- خديجة كانت من الحنفاء . . . 61

- الزواج الميمون . . . 65

- زواج تم بتقدير الله واختياره . . . 73

- أولاد المصطفى من خديجة . . . 81

- خديجة . . بل أصدق الله و رسوله . . . 89

- حياة السيدة خديجة رضي الله عنها من الزواج إلى البعثة . . . 95

- أيام حراء . . . 105

- بدء الوحي. . والطاهرة . . و ورقة بن نوفل . . . 118

- البشرى . . . 125

- فقه السيدة خديجة . . . 133

ص: 223

- الطاهرة شهيدة الشعب . . . 137

- الرحيل . . . 149

- القلادة وذكرى عطرة . . . 157

- احتفاء أهل مكة بذكرى السيدة خديجة . . . 169

- دور الشعر في تكريم السيدة خديجة . . . 179

- الأحاديث الواردة في مناقب السيدة خديجة . . . 209

- الخاتمة . . . 213

- المصادر والمراجع . . . 218

- صدر للمؤلف . . . 221

- سيصدر قريباً للمؤلف . . . 222

- الفهرس . . . 223

ص: 224

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.