آية اللّه السيد الشهيد حسن الشيرازي الإمام المفكر والمصلح الثائر

هوية الکتاب

آية اللّه السيد الشهيد حسن الشيرازي

الإمام المفكر والمصلح الثائر

مؤسس الحوزة الزينبية

قراءة في

فكره ومنهجه السياسي والإصلاحي

رسول الحجامي

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1441ه- . 2020م

الشجرة الطيبة

النجف الأشرف: شارع الرسول - سوق الحويش - قرب جامع الأنصاري

مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)

ص: 1

اشارة

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولى

1441ه- . 2020م

الشجرة الطيبة

النجف الأشرف: شارع الرسول - سوق الحويش - قرب جامع الأنصاري

مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}

[سورة الإسراء: الآية 80]

صدق اللّه العلي العظيم

ص: 3

ص: 4

مقدمة

لماذا نقرأ اليوم السيد حسن الشيرازي؟

لماذا نفتش في حقائب أفكاره.. لماذا نتفحص قصاصات تساؤلاته حول اهتماماتنا من السياسة الى مواقفنا التائهة في الوجود والحياة.. لماذا نعيد ترتيب قصائده التي تركها متناثرة بين أحداث أيامه.. لماذا نبحث في أعماق ذكرياته عن مستقبلنا.. لماذا تصدمنا فلسفته ونحن المتخمين بما لذ وطاب من معلبات عصر المعلوماتية والشبكة العنكبوتية.. لماذا نختبر الجلوس تحت ظل رايته الثورية وقد أجهدتنا الثورات بفصولها الأربعة.. لما نتقصى قوائم انجازاته في زمن ثقافة التخريب والتدمير.. لماذا نريد أن نتذوق كلماته الحلوة وقد أدمنا المرض بالسكري.. لماذا تفجر ذكراه ألف دمعة وفي يومنا يموت ألف شهيد.. لماذا نرشق البعض بالتخلف ونحن نعود الى الماضي لنستلهم فكر..

ونختم التساؤلات بسؤال:

أي من علامات الاستفهام ستظل ثابتة في نهاية السؤال حينما يكون الإمام آية اللّه الشهيد الشيرازي هو روح الجواب؟

استشهد السيد الشيرازي في عام 1980م وبالرغم من عمره القصير إلا انه ترك لنا إرثا فكريا وانجازا مؤسساتيا عظيما، اغضب أعدائه وحير أحبابه واستفز حاسدي ..

فقد كان فكرا ومنهاجا أيقظ في الأمة وعي النهضة وأرشدها الى سبل الارتقاء، انتمى للعصر وتجاوزه الى المستقبلية..

لم يعتاد البعض على العمل من اجل المستقبل، بالرغم من إن نهج مدرسة الرسول واله هو المستقبل، المستقبل الدنيوي والأخروي، والمستقبلية التي

ص: 5

تعتمد على البناء الصحيح والرؤية الحقة هي الضمان للفوز بالحياة الصالحة والفوز الأخروي.

كان السيد الشيرازي يتحرى أن ينطلق من الأسس الإلهية في كل عمل مهما كان وفي كل موقف مهما يكون، وفي جميع المجالات، وكان يجتهد في الابتداء بمقدمات صحيحة موثوق في سلامتها لينتهي الى نهايات سليمة وايجابية، لم يجامل ولم يلجا الى ظن ولم يستعير من أحد خطاه.

ففكره ينتمي الى واقع الأمة ليحقق لها هويتها الإنسانية والحضارية وفقا للمنهج الإسلامي في بناء الفرد والمجتمع، وأعماله كانت تأسيسا لمتطلبات المعاصرة لتحقيق أنموذج مستقبلي، لذا فهو يقدم أجوبة لأسئلتنا المعاصرة، ويقدم حلول لإشكالياتنا اليومية، وهو يستعرض أخطائنا التي مرت بنا وكأنه كان يستكشف عصرنا أو يستشرف المستقبل..

لذا فإننا أحوج إليه من أي وقت مضى، لأننا بحاجة الى مبادئه - مواقفه - منهجه الثوري - منهجه التغييري - آراؤه - أفكاره - كلماته - أشعاره - أخلاقه - سماته - شخصيته... ربما عاش ثائرا مطاردا غريبا شاهدا وشهيدا.

اليوم وغير كل الأيام نحن نشعر بالانتماء إليه.. نشعر بالحاجة له.. نشعر بضرورة فهم مسيرته ليس لأنها عظيمة وان كانت هي عنوان لهذه القيمة بل لأنها تقدم لنا حلولا لمشاكلنا واشكاليتنا، تتضمن أجوبة على أسئلتنا المقلقة وألغاز الاضطراب الذي نعيشه في حياتنا المعاصرة.

والسؤال: هل سبق السيد الشيرازي عصره فقدم ما زلنا بحاجة إليه أم تأمل عميقا في أحداث عصره؟ فانطلق يرسم مستقبل ما نحن فيه؟ أم انه التصق بكلمة اللّه فكان معبرا عنها؟ وحينما تشتق المواقف من السنن الإلهية فإنها تنتقل عبر الزمن دون أن تعاب أو تتلف.

جميع الأجوبة صحيحة وهنا تكمن عظمة هذه الشخصية.

ص: 6

خاطرة المدخل

في قدسية مدينة الشهادة كان يحبو..

ومن غذي لبان روحانيتها كان يتسامى، رفيفا بلون الفجر.. يتعالى في منبثق اشراقاتها..يوما بعد يوم.

كان ينمو عميقا في محرابها، متمددا في عروقها.. الى حرارة الدم المتفجر بالشهادة المقدسة، كان يستطيل نورا في ظل منائرها، ولان الفجر الوليد هو في موعد مع الشفق عند الغروب، فقد هجر المولود المهد وسار بخطى الإمام ملتحقا بقافلة الشهادة..

ومهما قيل فيه من عتب الرحيل، أو نظمت في فراقه قلائد الدموع، فقد التحق بكل ظمأ الأربعين من عمره بقافلة عشاق جده الحسين...

ولأننا مقطع صغير في حياة الخالدين، فلا نملك غير أن نقتبس نورا، ونرتشف فكرة، ونحتذي نهجا..

***

وصفه الغرباء بأنه هوية مدينة أسست بدماء الشهداء.

وقاتله طغاة الشعوب لأنه عاصفة الثورة التي لا تهدأ، وراية الحرية التي لا تسقط، وبذرة الحق التي لا تموت..

وضاق به القاصرون لأنه أخزى عجزهم، وعرى جبنهم، وقزم كسلهم، ومرغ أنوف حقدهم بحبه لهم، ومساعدته إياهم، وبذله ما قبضت يداه لعوزهم.

وعرفه المحبون انه جوهر لما يعتقد، وسراجا بما يؤمن، فكان في دورة الزمان:

ص: 7

شمسا أشرقت وغابت.

بينما ظل في حقيقة التاريخ والوجود والكون شمسا تشرق.

نحن من نغيب أنفسنا عنها، ونتوارى عن نورها خلف ظلال الأشياء، ومع كل لحظة وعي نفتح بصيرتنا لننهل منها: إيمانا ومعرفة، أو ما تسمى بحياة طيبة.

***

تخضبت نفسه بالروح الإلهي، فمر في حياة الأرض شمسا يلامس ضوءها الأشياء دون أن يلتصق بها، وتمنح الحياة للتراب دون أن يفقدها ذلك شيئا، بل يعظم بها فورة الحياة.

وترشف شفاه البصر أنوارها،

في داخله تزهر كلمات اللّه..

فترسم في القلب ذوبان الجسد، وتوهج الروح، فيقرأ الإمام آيات ربه في سراجه الداخلي، لا ليمد صوته في سمع الوجود، بل ليحيي في الأمة يقظة الإيمان، وليؤذن في أسماعها بوعي النهضة.

***

كيف بالرجل يقوم ليواجه في حلبة الموت جيش كامل العدة والعدد، جيش من القساة مرنوا على الوحشية، وطبعوا على الجريمة، وأتمروا بطاغية سفاح..

كيف به يزمجر هادرا:

واعمل لتطبيق الكتاب مجاهداً***إنّ العقيدة مصحف وحسام

واسحق جباه الملحدين مردّداً***لا السّجن يرهبني ولا الإعدام

حاصروه من كل جانب، غير انه ملأ الآفاق..

أرادوا أن يغيبوه في قعر سجن، فغيبهم في ظلمات أفعالهم، وأصبح ذاكرة شعب وتاريخ امة..

ص: 8

تآمروا على تصفيته، غير ان اللّه منحه في عنكبوت الهجرة(1) عمر جديد..

وفي عاشوراء هجرته(2) استرجعوا كل فاجعة كربلاء، واستعادت به كربلاء الق دماء شهداؤها...

فسقط الجسد بجراحات حسينية..

ونهض الشهيد مفعما بالخلود..

وبين الموت والحياة ارتسمت شفتاه بابتسامة النصر الأبدي.

***

واستراح الطغاة من الجسد الهزيل الذي ظل يحمل ندوب أنياب الجلادين، وخرائط سجون الظالمين، غير ان روح السيد الشهيد لم تمت بل تعاود كل يوم شروقها اليومي على الشعوب والجماعات والأفراد.

هم حسبوا ان المعركة تنتهي عند الجسد.

ومن جديد وجد الطغاة ان المعركة التي تبتدئ بدم الشهادة لا بد وان تنتصر براية حق.

ولم تمر غير دورة من الزمن حتى استطاع المؤمنون من إسقاط أصنام العراق..

وبملايين قلوب حسينية أعيد الق المسيرة الى كعبة الشهداء، لتعلن انتصار الإيمان على السيف.

***

ص: 9


1- من يطلع على تفاصيل حياة الإمام الشهيد يجد إن بين نجاته بالهروب من العراق ووقوعه في يد أزلام الطاغية لحظات أوهى من خيط العنكبوت، وقد كتب اللّه له بالهجرة عمرا بقدر سنين هجرة جده الرسول الاكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) .
2- استشهد السيد الشيرازي في السنة العاشرة لهجرته، وعاشوراء تعني العاشر ومنها سمي يوم استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) بعاشوراء، والمقاربة بين الجد والحفيد هي للمطابقة في المسيرة والنهج والقضية والشهادة.

ص: 10

القسم الأول: عظمة الشخصية وسمو الذات

اشارة

المبحث الأول: مدخل الهوية

المبحث الثاني: عظمة الشخصية

(في شخصية السيد الشيرازي)

ص: 11

ص: 12

المبحث الأول: مدخل الهوية

اشارة

عذرا سيدي لهذا العنوان (مدخل الهوية)، لأننا نستلهم سمو معناك لنكتشف ذواتنا التي ينيرها سراج شهادتك بزيت دمائك التي ملأت قلوبنا بحروف العلم ورايات الحرية..

ونقتبس فكرك ومواقفك لتكون لنا هوية، نلتصق بنهجها الإسلامي وبمنهجها الحسيني ونرفرف في آفاقها الإنسانية، لنكون أصلح للأمة وأقرب للّه...

***

ولادة في خلود الشهادة

ليست الولادة هي لحظة زمن متجردة من تاريخها، بل هي امتداد لكل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية باعتبار التاريخ هو تجسيد لجغرافيا الأحداث وفقا لتضاريس الزمن وحدود الجماعات والشعوب، فالولادة بؤرة لتقاطع تلك الأبعاد، وافق تتجلى فيه مؤثراتها وتتطاول فيه تراكماتها.

فالإنسان ابن ثقافته وابن عصره وابن مجتمعه، يرث منه بالاكتساب أكثر مما يرث بالوراثة، وتتجلى فيه ملامح الانتماء حتى تصهر لدى البعض تمايزه، وقد أثبتت الكثير من دراسات علم النفس وعلم الإنسان إن الإنسان ابن بيئته، ترسمه بسماتها وتحدده بأطرها، ولكن يبقى من بين الملايين من البشر من يعيد رسم الواقع بفكره أو كفاحه أو مواقفه، بالطبع هناك قلائل من رجال التاريخ وقادة المجتمع يصنعون الأحداث، لا تصنعهم الأحداث، قلائل عاشوا ليخلدوا وغيرهم عاش ليموت، قلائل وهبوا حياتهم للعطاء ليتجاوزوا الموت الى الخلود...

ص: 13

مثل أولئك يحسن بالدارس أن يتأمل كثيرا في طفولتهم فهي سر حركاتهم في فترات الرجولة، ومستودع مشاعرهم وأذواقهم وميولهم، وهي منبثق انطلاقهم نحو فهم العالم والتفاعل مع المجتمع، وكينونة علاقتهم باللّه عز وجل.

ومن أولئك الخالدين كان الشهيد آية اللّه السيّد حسن الشيرازي..

***

ولد السيّد حسن الشيرازي في عام 1937 في خضم التحولات الدولية والسياسية والاقتصادية التي كانت تزلزل المسرح الدولي بعد الحرب العالمية الاولى، وإبان معالجات واحتواء الآثار الكارثية التي عانت منها شعوب الأرض نتيجة الحروب والصراعات، حيث انعكست تلك التحولات والآثار على الخريطة السياسية والاقتصادية لدول العالم الإسلامي والعربي، إضافة الى بروز قوى دولية جديدة أعادت رسم خريطة التحالفات الدولية ومناطق النفوذ والصراع الدولي.

في مثل هذه الآفاق للأحداث والصراعات والتحالفات الدولية ولد السيّد حسن الشيرازي في مدينة النجف، العاصمة الدينية للتشيع، وصرح المرجعية، وعاصمة الإمامة الأولى.

إن سماحة آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي من عائلة علميّة عريقة في العراق، وقد بدأت هذه العائلة من آية اللّه العظمى الإمام المُجَدِّد السيّد محمد حسن الشيرازي، الَّذي عُرف بمُحاربته للإنكليز في قضيّة التبغ.

وأيضاً تَنتَسب هذه العائلة إلى قائد ثورة العشرين آية اللّه العظمى الميرزا الشيخ محمَّد تقي الشيرازي في كربلاء المُقدّسة، والمَدفون في حرم الإمام الحسين (عليه السلام) ، ثمَّ والد السيّد الشهيد، وهو آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي، والَّذي كان مرجعاً وعالماً كبيراً، وفقيهاً عظيماً.. كانت له مواقف جهاديّة كبيرة ومعروفة خُصوصاً في عهد المَدّ الشيوعي في العراق.. كما كانت له

ص: 14

مواقف أخرى في مَجال المُطالبة بالحُقوق من الدَّولة العراقيّة لصالح الإسلام ولصالح الشَّعب العراقي المُسلم.

ثُمَّ سماحة آية اللّه العظمى الإمام السيّد محمَّد الشيرازي، الأخ الأكبَر للشهيد السيّد حسن الشيرازي، الَّذي في الحقيقة خدم التشيُّع والشيعة، وبصورة عامّة الإسلام طوال حوالي ستّين عاماً، وألَّف الكثير من المُصنّفات الجميلة والقيِّمة في حُقول الإسلام المختلفة، كان عددها يَفوق الألف، ما بين موسوعة تجاوزت المائة مُجلّداً في الفقه، وبين دراسات في مَجالات مختلفة، وكُتَيِّبات وكُتُب ثقافيّة لعامّة النّاس.

وخلال حياته مرت بالعراق وبالأمة الاسلامية تحديات ومنعطفات عظيمة وكثيرة، وكان يمكن أن تؤثر هذه الأحداث وآثارها بشكل بسيط، لو كان هذا المولود قد نشأ في مكان آخر، أما وانه وليد الروضة الحيدرية والابن الرابع لآية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره) فانه قد ولد في نواة عصره، ولب محوره، ومركز الأحداث، ومنطلق المواقف، فالأحداث تدور حيثما دار في النجف او كربلاء او بغداد او بيروت او دمشق، والوقائع تسابق خطاه، والمواقف مرة تتقدمه وكرة يتقدمها، فالزمن لا ينفك يلاحقه والمكان لا يفتأ ينفتح عليه بآفاقه، حتى ابتلي به التاريخ، وابتلى بالتاريخ، فما هي إلا دورة من الزمن، وفترة من العصر (43 عاما كان عمره الشريف) حتى افترقا ليلتحق بقافلة جده الحسين (عليه السلام) في موكب الشهداء..

فحمل التاريخ كنزا من صفحات مشرقة حوت حياة مجاهد من آل الشيرازي قضاها في سبيل اللّه وخدمة الأمة..

وحمل الشهيد السيّد حسن الشيرازي وسام الخلود منقلبا إلى ربه راضيا مرضيا، مخلفا ينبوعا من القيم والمبادئ وثمارا من الأفكار والمواقف، وسحابات من الذكريات تبلل عطش الموالين بالشهادة...

ص: 15

فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.

***

بالطبع لا يكفي أن نقرأ التاريخ إذا لم نشعر به، وإلا فان المواقف والعبر سوف تنزلق من بين أيدينا كالرمال، هذه الحيوية في قراءة التاريخ تحول فعل القراءة الى سلوك يحاكي الاستجابة الطبيعية للمشاعر في الحياة.

ربما من الضروري أن نؤمن بأدق الموضوعيات في كتابة التاريخ، لكننا نرى إن القراءة الذاتية أو الحيوية للتاريخ تضمن لنا تفاعلا اكبر وآثارا أعمق، وفي ذلك تحقيق عميق لوظيفة التاريخ، فبعض المواقف تكون أوسع من زمنها، إنها تتمدد لتملأ الذاكرة، ذاكرة الشعوب والعقل الجمعي للمجتمع، إنها تأسر المؤرخ والمتلقي وتدفع بهما الى رؤية مشتركة، فيبدع الأول ويعتبر الثاني، وبينهما سواء على الورق أو في الحياة تتفجر تلك اللحظات بدلالاتها النابضة المفعمة بالحيوية..

في تاريخ آل الشيرازي - تلك العائلة العريقة العلمائية التي امتدت بجذور عميقة ومتينة في تاريخ الطائفة والامة فأثمرت مراجع للأمة الإسلامية ووطنيين قضوا في ساحات الجهاد في الدفاع عن كرامة الإنسان وحقوق الجماهير - تتأمل الذاكرة اشراقات الحياة الروحية الطاهرة وكأنها لحظة تأمل ساكنة في ضوضاء المعيشة من حولها.

اليوم تشرق روح جديدة في هذا البيت الذي ينتسب للنبوة برسالاتها، وللإمامة بمبادئها، انتماء بالدم والرسالة والمبدأ، اليوم تشرق روح جديدة في بيت آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي لتجدد الانتماء ولتكون حلقة أخرى من حلقات الخلود، وغرس جديد مبارك من غرس المرجعية.

كان البيت يضج بالحركة، فقد تدفق خبر الولادة القادمة كعطر زكي فواح، واشتملت الوجوه على أسارير منشرحة تسمو بها عبارات من الدعاء تحلق هنا

ص: 16

وهناك لتمتزج مع دعاء الإمام في وضوئه..

كان الإمام قد انتهى من وضوئه معدا روحه الخاشعة للقاء ربه في صلاة هي غذاء لروحه وحلاوة لنفسه حينما بشر بالولد، وانسابت كلمات القران في صوت هادئ مطمئن تتدفق من شفتيه.

حمل إليه الوليد مشرقا بجمال الطهر البريء، مزهرا بهالة مشعة من بهاء الإمامة، اخذ وليده بيدين من الحنو وقابله بملامح السرور، وهمس في أذنه مؤذنا (اللّه اكبر، اللّه اكبر)..

كان آية اللّه العظمى الميرزا مهدي الشيرازي يهمس لهذه الروح الجديدة أن تباشر فعلها في هذا الجسد بإشراقة من اسم اللّه وجلاله، مؤذنا أن يكون للحياة معنى الآذان في علاقتها باللّه والذات والآخر..

كان الآذان غذي للروح، بل وقيل للعقل أيضا، فما لا يدرك يختزن في اللاوعي ليعيد فيما بعد الإدراك تشكيله في العقل والنفس والمشاعر.

وما أن أتم الميرزا مهدي الشيرازي (قده) أذانه في أذن المولود الجديد حتى سئل:

- وماذا تسمونه سيدي؟

وكان الميرازا عاشقا حسينيا، فشخصت أمام عينيه رؤى كربلاء وملامح من شهاداتها القدسية فقفزت من عينيه دموع.. وفكر ان يواسي الحسين (عليه السلام) ، فسمى وليده (حسن)..

وأثلج صدره انه انشأ أولاده على الدفاع عن العقيدة والعدالة وحبب إليهم الشهادة في الجسد حيث الفناء في سبيل العقيدة، أو الحياة حيث الفناء في العلم والعمل في سبيل المبادئ، ثم تمتم: السلام على الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين..

***

ص: 17

غذي الطفولة

من أهم النظريات التربوية هي نظرية التعلم الاجتماعي وهي اكتساب الطفل للسلوك والقيم التي يتفاعل معها في محيطه الأسري، وبالتالي فان نمذجة الطفل وتقولبه تتم من خلال المحيط الاجتماعي دون وظيفة قصدية بل يلعب فيها التفاعل الفطري بين الطفل وأسرته دورا كبيرا.

فالبيئة الاجتماعية للطفل بما تحتويه من سلوك وقيم وأخلاق ومشاعر وأحاسيس تكون مثيرات يستجيب ويتنمط من خلالها سلوك الطفل. وكلما كانت تلك البيئة أكثر ايجابية وأكثر ثراء كلما غرست في نفسه وعقله أنماطا من السلوك أكثر رقيا وتهذيبا وسموا...

والعائلة التي نشا فيها السيّد حسن الشيرازي كانت محيط ثر غذته بلبان العقيدة ونمت اعصابه على نميرها، وكان أفقه العقلي مسرحا لها أشبعته بمبادئ المثل الأعلى. وغذته بقيم الرسالة الإسلامية، ومنحته مناخا قدسيا لبناء علاقته مع اللّه.

فالبيئة الأسرية التي نشا فيها السيّد حسن الشيرازي كانت ينبوعا روى عروقه بعقيدة مثالية، غذت روحه بالتوجه نحو اللّه وبصرتها بالسعي نحو طاعته والتلذذ بالصلة معه، وغذت نفسه بتهذيب أخلاقي وقيمي كشفت له عن معيار الحق نحو الصلاح وبنيت في ذاته شرعة التمسك بمنهاج الصالحين، وغذت عاطفته نحو المحبة والسلام.

ومن ارتباط المحبة بالفضيلة واتحاد الأخلاق بالإيمان في نفس الطفل يتولد الضمير وبه يشرق عقل الطفل، ثم يتدرج في سلم الترقي ويرتقي في مدارك المعرفة حتى يصل الى أعلى درجات الشعور الإنساني، فيدرك انه هو نفسه لم يخلق في هذا الوجود لذاته، ومن هنا يبدأ بمعرفة الواجب والحق.

فالمناخ التربوي في بيت المرجعية وفي غرة انصهارها بالأمة وذوبان الأمة

ص: 18

فيها قد تحولت الى طاقة هائلة من الحكمة والمشاعر والقيم تمددت في قلب وعقل وضمير تلك الطفولة المباركة التي كانت الغلاف الأول الذي أزهر تلك الشخصية الرائعة والعظيمة.

فالبيئة الاجتماعية التي احتضنته وأطرت طفولته وهذبت أحاسيسه ومشاعره كانت نقية بل بالغة النقاوة فانعكست هذه الآثار التربوية بصورة صافية ومؤثرة، فارتوت تلك الطفولة من أصفى ينبوع، وأعذب قيم فكان إن استطالت في الحياة منارا ترسل بأشعتها وعطائها الى أفق الأمة وعمق الإنسان، وهذا سر من كوامن الشخصيات الخالدة العظيمة في ضمير الشعوب.

إن عائلة آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي هي عائلة علم وتقوى وجهاد، وخدمات للإسلام والمسلمين والتشيُّع، وبالخصوص للشَّعب العراقي الأبي المُسلم.

هذه لمحة عن هذه العائلة الَّتي تمتاز أيضاً أنَّها من ذُرِّيّة رَسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وهي عائلة حسينية ينتمون نسبا ونهجا وفكرا وقضية الى الامام الحسين (عليه السلام) .. فهذه العائلة بسبب انتمائها إلى هذا الجَدّ الثّائر الشهيد، كانوا في الواقع عائلة جهاد، ولذلك استشهد بعضهم في سبيل الهدف المُقدّس، وهو إعلاء كلمة الإسلام، وكلمة أهل البيت (عليهم السلام) ..

وطَبعاً هناك مواقف وقضايا وخواطر في هذا المجال دَوَّنتها الكُتُب، يُمكن مُراجعة بعض ما ألَّفه المؤرخون لمدينة كربلاء المقدّسة، والتي اشارت إلى ثُلّة من فُقَهاء هذا البيت، كآية اللّه العظمى المُجَدِّد السيّد محمد حسن الشيرازي في سامرّاء، وآية اللّه العظمى الشيخ محمَّد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين، والمرحوم آية اللّه السيّد مهدي الشيرازي، وآية اللّه العظمى الإمام المجدِّد الثّاني السيّد محمَّد الشيرازي، الَّذي خسره الشيعة والأمّة الإسلاميّة في السَّنوات الأخيرة.

من أسرة العلم والأخلاق منهله***فالعلم والحلم والتّقوى له طعم

ص: 19

من كان والده «المهدي» هيبته***قد شابهت أنبياء اللّه إذ ختموا

وجه كأقدس ما شاهدت مزدهر***ومنحة اللّه ذاك الحسن والشّمم

وإخوة كبدور التَّم قد طلعت***عن الحياة فأين البدر يا حكم

«محمَّد» وبلاد اللّه تعرفه***بين الورى أينما حطّت به قدم

و«الصادق» الفذّ في علم وفي خلق***و«المجتبى» حيث كل منهم علم

هنّأتُ فيهم وقد أبنت غائبهم***كلّ الأنام فهم ما بيننا قمم(1)

وما هي إلا بعض من السنين حتى درج السيّد حسن الشيرازي الى الحوزة طالبا في العلوم الإسلامية ليبدأ رحلة العلم والعمل في جذوة أوقدتها الروح بالإيمان وصهرتها النفس بالصدق واليقين.

الهجرة الى كربلاء

وانتقل سيِّدنا الشهيد من النَّجف الأشرف إلى كربلاء المُقدّسة برفقة والده الجليل، لينشأ ويترعرع في رحاب سيِّد الشُّهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، ولا يخفى ما لهذه البيئة من أثر عميق في بلورة شخصيّة فقيدنا العظيم، وبالتّالي نُضوج آرائه في الإصلاح السياسي والاجتماعي، والَّتي استمدَّها أصلاً من أصول الدين الإسلامي الحنيف، والشريعة الغَرّاء، فكان القرآن العظيم، والسنّة المُطهّرة، والمَبادئ الحُسَينيّة، مَعينَه الَّذي لا ينضب. فرسَم من خلالها طرق الجهاد، وحدَّد من خلالها الأهداف، وفي مقدمتها انقاذ الأمّة من واقعها المتردي.

فسيِّدنا الشهيد ورث الجهاد والعلم أباً عن جد، فنشأ في تأمُّل الواقع، ونضج محدّداً لمُراده في نُصرة الإسلام ومذهب الحق، وآمَن بأن الحلّ يكمُن في عودة الأمّة إلى حضارتها وصميم ثقافتها. فعمل جاهداً في وضع أُطروحة للحكم

ص: 20


1- من قصيدة (طوبى لمن في هذه ظلموا) لسماحة الشيخ عبد الأمير النّصراوي، موسوعة السيد حسن الشيرازي ج 4ص 275.

الإسلامي تتلاءم وروح العصر، ومن يطّلع على كتابه القَيِّم (كلمة الإسلام)، يجد إن عزّ الأمّة ورفعة شأنها وحل أزماتها والسير بها نحو الحُريّة والرفاهيّة، يكمُن في اتباع المؤسّسة المرجعيّة.

كان آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي منذ السَّنوات الأولى من شبابه، رَجُلاً نشيطاً ومُجِّداً في الدّراسة مُنذ أن دخل في سلك رجال الدّين، برغبة وشوق وهدفية، وفي هذه المرحلة نستقبل السيّد الشيرازي في عنفوان شبابه بعد أن قضى أكثر من عشر سنوات في دراسته الدينية مستمدا ومنتهلا من توجيهات والده (الإمام والأب) منهاجا للحياة والفكر والعمل. ليكمل مسيرة العلم والجهاد والدرس على أيدي كبار علماء العراق، وانعكس هذا العلم مع نبوغه السريع، مكوِّناً خزيناً فكريّاً قادراً على إستنباط الأحكام الشرعيّة من الأصول الفقهيّة، فوصل إلى درجة الإجتهاد، ووضع تعليقاته في شرح العروة الوثقى.

وكان آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي حلقة وصل بين أساتذته الذين تَربّى على أيديهم، فكان خير تلميذ، وخير واع لمعلومات أولئك الأساتذة، فكان خير أستاذ وخير مدرّس وخير مربّي لجيل من التَّلاميذ.

فقد أخذ العطاء من الأساتذة، وأضاف إليه عطاءه الفكري الأصيل، وأفرغهما جميعاً في قلب وأذهان تلاميذه واحداً واحداً.

ومن جملة أساتذته:

- والده الفقيد المرجع الديني الكبير الزّاهد السيّد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي، حيث قرأ عليه الفقه والأُصول فترة من الزَّمن.

- آية اللّه العظمى السيّد محمد هادي الميلاني، الذي استفاد منه في الفقه والأصول والتَّفسير.

- الفيلسوف الشهير آية اللّه الشيخ محمّد رضا الأصفهاني، الذي استفاد منه في الفقه والأصول والفلسفة.

ص: 21

- أخوه الأكبر آية اللّه العظمى الإمام السيّد محمّد الحسيني الشيرازي، وقد استفاد منه في الفقه والأصول والتَّفسير والفلسفة وغيرها.

أمّا تلاميذ آية اللّه الشهيد فهم يُشَكِّلون جيلاً كاملاً من الفقهاء والفلاسفة والشُّعراء والأُدباء، فمنهم مَن تعلَّم منه في الفقه وحده، أو الفلسفة وحدها، أو تَربّي على يديه في الشِّعر والأدب.

ومنهم مَن اشترك في كلّ هذه الحلقات، فتعلّم من آية اللّه الشهيد ألواناً من العلم والثقافة، وبحقّ كان آية اللّه الشهيد الإمام السيّد حسن الشيرازي فرداً وتلميذاً وأستاذاً ومتعلّماً في الوقت نفسه، ولکن أصبح بعد ذلك مئات ومئات من خلال تلاميذه، والَّذين تربّوا على علومه وفكره.

كان السيّد حسن الشيرازي أنموذجا قدمته المرجعية في توجهاتها من خلال حراكها الجديد نحو تنمية الحوزة وتوعية الأمة، أنموذج طالب العلم، وأنموذج رجل الدين المصلح والثائر، وأنموذج مربي الجماهير ومرشدها.

وقد كان ذلك الأنموذج في انصهار دائم بحماسة العلم والعمل وفي بناء مستمر من أبيه الإمام ومن أساتذته ومن إخوته العلماء، وكأن الجميع حاول أن يمنحه عصارته من الفكر وتغذيته من العقيدة، وكأن الحق شاء أن يقدم للدنيا أنموذجه في هذا الإنسان في هذه المساحة من التاريخ.

بلى لقد استحالت تلك الشخصيات العظيمة التي حوله الى طاقة جارفة منحته الرسوخ في العلم والامتلاء بالإيمان والنزوع نحو تحقيق العدالة والتحرك ضمن منهج الرسالة، وهذا التيار الجارف من زخم الإيمان العقيدي بالعلم والعمل والعدالة احتوته روح الشباب المتحمسة الثائرة فلا بدع إن استوى قلبه على عقيدته واطمأنت روحه الى طهارة نفسه فأشرق ضميره بالمثل العليا وامتلأ وجدانه بقضايا الإنسان والوطن.

فمن قلبه تدفق ينبوع الخير للإنسان كأفق تتجلى فيه مشاعره، وفي أعماق

ص: 22

نفسه تفجرت ينابيع الفضيلة كمنهج يحدد معالم عقيدته.

لذا كان السيّد حسن الشيرازي مهوى القلوب وضياء الأبصار وينبوع الأفئدة تحوم حوله تروي غلتها، وتسكت عطشها، فكان قبلة الشباب الثائر وملتقى العلماء المجاهدين ومورد البسطاء والموالين..

جهاد الشباب

في الشباب تجتمع قوى الحياة، ويتجلى عنفوانها، فيموج بطاقات لا حصر لها، تتنوع في إثراء، وتختلف في أغناء، لا تعبر عن صورة الشخصية في هذه المرحلة فقط بل عن بانوراما الحياة كلها.

وحينما لا تكون هذه الطاقات والقوى مسترشدة وموجهة بأنماط من الحقوق والواجبات والحس العالي بالمسؤولية فان مرحلة الشباب تكون لينة ورخوة وبلا ثمر يانع.

لذا فكلما تحكم الشباب في طاقاتهم وقواهم كلما كان وقع تلك القوى والطاقات أكبر في طريق الحياة وأعمق أثرا في سجلات التاريخ.

وهناك شباب أطلقتهم المبادئ وأسرجت قلوبهم العقيدة فانطلقت أرواحهم تحت لواء الدفاع عن المثل العليا انطلاقا ينتهي بالسيل الى غاية الإسلام كدين وحياة، فيعلي من شانه كمنارات للحق ويبني للحياة صرحا من الفضيلة ومن أولئك الشباب الذين امتزجت دفقات عروقهم بروحية الجهاد ونبض العقيدة كان: السيّد حسن الشيرازي.. وهتافه عبر الدهور:

واعمل لتطبيق الكتاب مجاهداً***إنّ العقيدة مصحف وحسام

والجهاد ليس استبسالا من اجل مبدأ فقط بل هو عقيدة تتمدد في النفس وتستولي على الفؤاد وتتحكم في السلوك فتثمر مواقف تكون أكبر من عمر الزمن وأوسع من دورة التاريخ، لذا فكثيرا ما تبهرنا مواقف المجاهدين وكأن الزمن

ص: 23

يتوقف حيالها حتى تكون اشراقات في أفق التاريخ ونبض للعدالة والحق في ذاكرة الشعوب والمجتمعات، ولعل ثورة الحسين (عليه السلام) لهي المثال الأكثر نطقا في شفاه عقيدتنا، وعلى لسان حالنا.

أمل الشعوب ومجدها الإسلام***وسواه كفر زائف وظلام

فدع المبادئ كلها في معزل***إنّ المبادئ كلها هدام

واعمل لتطبيق الكتاب مجاهداً***إنّ العقيدة مصحف وحسام

واسحق جباه الملحدين مردّداً***لا السّجن يرهبني ولا الإعدام

إن قيل عصر النور هذا قلت بل***عصر الظلام له الشذوذ نظام

المسلم الشيعي فيه مجرم***والعفلق البعثي فيه إمام

والطّائفية ويلها من فتنة***عمياء يوقظ حقدها الأقزام

والطّائفية جدّدت تاريخها***فإذا لها الحكام والأحكام

والطّائفية لوّنت أزيائها***وتطرزت في عرضها الأقلام

لكنها هي لم تغير ذاتها***فشعارها الإرهاب والإرغام

دستورنا القرآن نهتف بإسمه***وشعارنا في العالم الإسلام

وزعيمنا الكرار لا ميشيل لا***ماركس لا القسيس لا الحاخام

إن قيل: عصر النور هذا، قلت: بل***عصر الظلام له الشذوذ نظام

المسلم الشيعي فيه مجرم***والعفلق البعثي فيه إمام(1)

هذه المعاني للجهاد وآفاق دلالاتها صيرها السيّد حسن الشيرازي الى نبض معاش وخبز يومي تستمد منه الأمة طاقتها في الحياة وينبوع يروي نسغ عروقها في علاقتها باللّه.

ص: 24


1- من قصيدة (موقف الإسلام الفاصل) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

الصورة

ص: 25

الصورة

ص: 26

لقد كان السيّد حسن الشيرازي وببراكين القوافي المعبرة عن معاناة المجتمع يفجر في الأمة مكامن القوة والاقتدار على مواجهة الظلم والانحراف، وكانت مواقفه عندما نقراها لا في سطور التاريخ بل في ثمار الأحداث والمواقف التي أنتجتها، نجد إن السيّد حسن الشيرازي قد ألهب الأمة قوة وحياة استمدها من علاقته باللّه ومن العقيدة المقدسة، وحملها الى الأمة حتى استحالت الأرض (العراق) والمدينة (كربلاء) الى فم لا ينطق إلا بالثورة والرفض للظلمة والمفسدين والمتجبرين، ويرفض كل إذلال وانحراف من أي قوة مهما استكبرت وان قتلت وشردت وهدمت وخربت.

كان السيّد حسن الشيرازي هو عطر ذلك الجو الحماسي الذي عبق به العراق، في مقتبل شبابه حيث قرر مواجهة السلطة البعثية التي أرادت أن تستبيح عقيدة وحقوق الشعب العراقي، وتهمش الإسلام وتنفي شعائره من ضمير الأمة وتنتهك مقدساته وتصادر عزته وكرامة هذه الانتفاضة التي ابتدأها السيّد حسن الشيرازي بقوله:

يا فتية الإسلام، أنتم أُمة***جبّارة تسمُو عن الأوهام

ولكم من الإسلام خير مناهجٍ***وشعائرٍ ومبادئ ومَرامي

ولكم من الإسلام خير قيادة***ستطيح بالأنصاب والأزلام

نفني المبادئ مثلما حطمتموا***الرجعيّة الحمراء بالإرغام

لا نَستعيض قيادةً مدسوسةً***عمّا لَدى علمائِنا الأعلامِ

وليسمع المستعمرون جميعُهم:***انّا نريد حكومةَ الإسلام

والوحدةُ الكبرى شعار نظامنا***والثورة البيضاء رمز قيام

فعلى قيادة حيدرٍ ومحمدٍ***سنطبّق الإسلام بالإسلام

وعلى شفاهي من فؤادي ثورةٌ***وعلى نشيدي من فتات كلامي

ص: 27

اللّه ربّي والشريعةُ مذهبي***والشعب شعبي والطريق أمامي

فإلى الأمام إلى السلام على هُدى***القرآن نحو مخطّط الأحلام(1)

تشير الى الارتباط الجوهري بين ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) والخط التثويري للأمة الذي سار عليه السيّد حسن الشيرازي:

واسحق جباه الملحدين مردّداً***لا السّجن يرهبني ولا الإعدام

كان السيّد حسن الشيرازي منارة من هذا الخط وثمرة من شجرة الجهاد، فكان أن اجتمع في شخصيته عنفوان الجهاد بعنفوان الشباب، فكان صوتا مدويا أمام الباطل، وشوكة في عيون الظلم في مقارعة النظام الدكتاتوري طوال عقد الستينيات، وكان اول المعذبين في سجون البعث العفلقي.

العلم، وتحمُّل المَسؤوليّة، والجهاد، والتصدّي، هذه الصِّفات كانت تمثِّلت في السيّد الشهيد، بالإضافة إلى فورة الشَّباب الَّتي كان يتمتَّع بها السيّد، أي هذه الصِّفات زائداً فورة الشَّباب عند السيّد جعلَته مُتمَيّزاً في زمانه، رغم أن البدايات عنده كانت في مرحلة الشَّباب وليست في مرحلة الكُهولة، فقد كان متميزاً وعُمره رُبَّما السّادسة عشر أو السّابعة عشر سنة، بصفات كالذّكاء، والتَّقوى، والتصدّي.

عام ثمانية وخمسين وتسعمائة وألف الميلاديّة وقع انقلاب في العراق باسم (ثورة عبد الكريم قاسم).. منذ ذلك الوقت بَرزت في مدينة كربلاء المقدّسة ظاهرة، وهي تأسيس حركات وأحزاب، بعضها كانت يساريّة، وما أطلق عليها بذلك الوقت ب(الحركات الشيوعيّة)، فأحس أبناء الإمام السيّد ميرزا مهدي الشيرازي بالخَطَر على دينهم، وعلى مُعتقدات النّاس، ولذلك بدأ الشهيد الشيرازي بإلقاء محاضرات في بعض أحياء كربلاء المُقدّسة، وبعض المَحَلاّت

ص: 28


1- من قصيدة (بطل الإسلام الخالد) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

المعروفة فيها، فأسَّس السيّد مَجلساً مُهمّاً وكان يحاضر فيه، وأنا كُنتُ في بدايات شبابي أيضاً أحضرها في بعض الأحيان، وكانت جُموع الشباب المُتديِّن، بل وحتى من غير المُتديّنين أيضاً يَرغبون بمعرفة آرائه.. فالسيّد كان يطرح الأيديولوجيّة الشيوعيّة الَّتي طالعها بدقّة، ودرسها بعناية، وكان ينتقدها في هذا المجلس إنتقاداً موضوعيّاً.

وكان المجلس يتعاظَم أسبوعا بعد أسبوع، ويوما بعد يوم، وكانت جماعات الشَّباب تفد إليه، وتَستَفيد من الشهيد الشيرازي، وكان له أثراً عظيماً (هذا المَجلس)، وما كان يُلقيه السيّد من مُحاضرات ونقد ودراسة عميقة أثارت بعض النّشاطات والفعّاليّات غير الإسلاميّة، والتي ردت بالتهديد وبالوسائل الملتوية..

لقد قام والده السيّد ميرزا مهدي الشيرازي باعداده الى معركة أعظم وأكثر حسما وهي مع السلطات التي كانت تسهل وتدعم اعمال هذه الجماعات، وكان السيّد حسن رجل الثورة وشاعر الجماهير المؤمنة، كان رجلاً قوي الفكر والمنطق، وبليغاً وفصيحاً وشجاعاً، وهذه الأمور قَلّ ما كانت تَتَوفَّر في أماكن أخرى، بل قَلّ من علماء ورجال دين مثقَّفين يهتمّون بهذه المَسائل، إمّا حفاظاً على أنفسهم من الخَطَر المحدق بهم، أو لأنَّهم كانوا لا يعيرون هذا الأمر أهمية.

كان السيّد الشهيد يُدرِّس الماركسيّة وينتقدها، ويُدرِّس الإقتصاد الماركسي وينتقده أيضاً، ومن هذه المُحاضرات أُلِّفَت كُتُب عديدة، وطُبعَت في العراق آنذاك، منها: كتاب (الوَعي الإسلامي)، و(الإقتصاد الإسلامي).. هذه الكُتُب أوجَدَت تياراً وسط الشباب، والكثير اهتَدوا إلى صوابيّة النظَريّة الإسلاميّة، والبرنامج الإسلامي في مجال الفلسفة والإقتصاد، وكان لها أثر سلبي على الحركة الشيوعيّة والإلحاد.

ص: 29

في مدرسة العلاّمة إبن فهد الحلّي

لقد كان مرقد العلاّمة إبن فهد الحلي يتوسط بستاناً مهجوراً فيه بعض الحشائش النّابتة على مياه (النّزيز) الذي كان قد غمر البستان، وكان المرقد على أثر ذلك متروكاً ليس له وافد ولا زائر، فحاول آية اللّه الشهيد وبتشجيع من أخيه الأكبر الإمام الشيرازي الرّاحل، وبهِمَّة المؤمنين من الكسَبة والتُجّار بتجديد المرقد، وتشييد المكان على شكل مدرسة علميّة ذات طابقين:

طابق أرضي يَحتَضِن في وسطه وعلى قلبه مرقد العلاّمة الحلّي، ويَضُم في باحته وعند فنائه - أطراف القبر الشريف - مُصلّى واسع كبير.

وطابق أعلى متربّع على الجوانب الأربعة من فضاء المصلّى، ذات غُرَف عديدة، أمامها مَمَرّ مُطِلّ على المُصلّى والمَرقد الشَّريف، وفي غرفة بسيطة منها تقع في زاوية الجنوب الغربي من المكان كان قد استقرَّ الشهيد فيها، لذا كانت هذه الغرفة الصغيرة والبسيطة مَقَرّاً لعَمَله الكبير، ومُنطَلَقاً لجهاده العظيم، وكان في نفس الوقت يستقبل فيها وافديه وزائريه.

ويمكن اعتبار ان منتصف عقد الخمسينيات كان البداية الكبيرة لنشاطات السيد الشيرازي أي في عمر الثامنة عشرة حيث بدأ نشاطه في تأسيس الجمعيات والروابط والمجلات والمشاركة في الانشطة الثقافية بشكل كبير، والمساهمة بشكل فعال في بناء تيار اسلامي سياسي ينطلق من الامامة ودورها في المجتمع ويرتكز على المرجعية.

الى اللّه..

بعد تعذيب وحشي في قعر سجون طغاة البعث العفلقي، وصدام مع رموزه الطاغوتية، وفي لحظة تحرر القيد عن الامام الثائر اضطر الى الهجرة الى لبنان ومن هناك بدأت مسيرة جديدة تتشكل بعد الهجرة.

ص: 30

مسيرة قدر لها ان تشكل انعطافة واسعة في التاريخ، والحرية والاسلام، مسيرة كانت مثمرة معطاء، في الفكر والثقافة والسياسة الاسلامية، مسيرة اسست لقلعة من المؤسساتية الشيعية على مستوى المنهج والتطبيق..

وكانت الحوزة الزينبية اعادة انتاج لخطاب كربلاء الاسيرة بين حراب الطاغية في بغداد، اعادة لترديد صوت الحسين (عليه السلام) في افاق العقيدة والاصلاح والثورة من فوق شفاه المنابر الزينبية.

وبينما كان لهيب الثورة يستعر في الداخل العراقي، كان صدام الطاغية يدرك ان السيد حسن الشيرازي هو حبلها السري الذي يغذيها بديمومة الحياة وصوتها الزينبي الذي يوصلها للعالم اجمع.

كان لآية اللّه السيّد حسن الشيرازي نشاطات دينيّة وسياسيّة واسعة في كلّ من سوريا ولبنان، ولهذا كان يقضي - غالباً - بداية كلّ أسبوع في سوريا، ونهايته في لبنان، لِكَي يُواصِل نشاطاته في البلدين.

وفي السّاعة السّادسة من مساء يوم الجمعة (2/5/1980م)(1)، عندما غادر السيّد حسن الشيرازي الفندق الَّذي يقيم فيه أثناء إقامته ببيروت، قاصداً مدرسة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) الدينيّة الواقعة في منطقة برج البراجنة، للمُشاركة في مجلس الفاتحة الَّذي أقامه سماحته بمناسبة شهادة آية اللّه العظمى السيّد محمّد باقر الصَّدر وشقيقته الكريمة، على أيدي الحزب الكافر والوحشي والبعثي في العراق.

إلاّ انَّه قبل وصوله إلى مجلس الفاتحة ركب في سيّارة تكسي، وفجأة في وسط الطَّريق أحاطَت به أربع سيّارات من أربعة جوانب يستقلها ازلام مخابرات الطاغية صدام، واطلقت رَصاصات غدّارة من رشّاشات مصوّبة نحو رأس الامام

ص: 31


1- المصادف يوم 16جمادی الثّاني عام (1400ه).

الشيرازي ومُعظَمها استَقَرَّت في رأسه الذى قَضى عُمراً فى خدمة الإسلام، وفي مُعاداة النِّظام البعثى الجائِر، وبذلك حَقَّق البعث أُمنِيَّته الَّتي حلم بها سنوات طويلة في القَضاء على شخصيّة من أبرز الشخصيّات الإسلاميّة..

وفي الطَّريق إلى المستشفى كان الإمام يَنتَزع أنفاسه الأخير، لينتقل بعدها إلى الخُلود الأبدي، في جَنَّةٍ عَرضها كعرض السَّماوات والأرض، وحلَّقَت روحه الطّاهرة إلى جوار أجداده الطّاهرين، محمّد وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) ، وقطعت إذاعة لبنان وسورية وبعض الإذاعات العربيّة الأخرى برامجها، لِتُعلِن فَجأة نَبأ إغتيال الإمام الشهيد السيّد حسن الشيرازي في بيروت.

عاش حسينيا في المنهج والنهج والمنهاج والتحق بقافلة شهداء الطف.

قتلوه كي يستنقذوا سلطانهم***لكنّ حصنهم الحصين تهدّما

أمّا الشهيد فلم يمت ونداؤه***ما زال في أجيالنا مستلهما

لا ما هوى ما زال عن عليائه***لا ما انطوى ولواؤه ما أرغما

حيٌ هو الحسن الشهيد وجرحه***ما زال ملتهب اللظى متورّما

حيٌ هو الحسن الشهيد على المدى***يحمي اللواء مرابطاً متحزّما

والنَّصر أصبح قاب قوس واحد***والصّبح بالأنوار أقبل مفعما

لاحت منائره وضوّع عطره***وشذاه فاح على الرّياض منسّما

نصر الدماء على السيوف شريعة***في الطف سنّ بنودها نهر الدّما(1)

فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا..

ص: 32


1- من قصيدة (ذاك الشهيد) للسيّد محمَّد رضا القزويني، موسوعة السيد حسن الشيرازي، ج4.

الصورة

ص: 33

المبحث الثاني: عظمة الشخصية في شخصية السيد الشيرازي

طرقة على بوابة الذات والآخر..

يضن التاريخ بعظمائه ويجعلهم من نفائس مكنوناته، وكل عظيم يلبسه ثوب عظمته، لتكون له في عالم الذكرى عنوان، وفي افق الانسانية تواصلا..

ولكن اي ثوب يناسب خطاك المثمرة بالعطاء، وقلمك المتفجر بالحكمة، وشفتاك الملتهبتان بقوافي الثورة؟..

كان ثوب الشهادة قصير عليك لان حياتك مفعمة بالعطاء الرسالي الذي رسم افقا جديدا للإسلام في حياتنا المعاصرة.

وكنا نحسب ان ثوب الشجاعة فضفاضا على مقاساتنا المعاصرة خصوصا بعد ان خذلنا امجاد التاريخ في فواصل كثيرة، لكنها كانت صدمة حينما وجدنا الشجاعة مقاسا لا يناسب حياة تحولت الى شجاعة في الحق، ومنك تعلمنا انها امتداد مع الحياة للثبات على المبدأ لا موقف تفرضه الحماسة الطارئة..

ويوم ذهبنا نمجد البطولة وجدناها قد مجدت بك، وأصبح لوقعها المعاصر في قلوبنا صور وانماط يمكن ان نحيي بها ارض واقعنا الموات.

ويوم اجتهدنا في جمع كلمة تليق بك وجدناك منحت (الكلمة) عظمة فكر وروح وعاطفة ومنهج وجمعتها في موسوعة فرقناها بذورا في حقول سنيننا.

الغريب في عظمتك الشخصية اننا كلما نكتشف جانبا منها نقترب أكثر منك، فهل هذا سر من جاذبية عبر التاريخ، ام هي من سحر دماء شهادتك التي بذرتها قربانا لمحبتنا في اللّه؟.

ص: 34

***

هناك على الدوام من يعيش عظيما ويصنع عظائم الامور،

لم تكن انت من أولئك.. عشت حياتك بسيطا، ملتصقا بنا، زاهدا بدنيا تحركها انت، ولم تستطع ان تحركك او تغير وجهتك.

عشت مطاردا، مرة في السجون، واخرى في المنافي، ولكنك كنت مباركا اينما حللت، كأنك روح الحياة وربيعها ينتقل من ارض الى اخرى، فتنمو المؤسسات والمدارس وتورق دور الطباعة والنشر والثقافة، وتهب نسمات حوار الفكر ويمتلئ الجو بطقس قدسي انساني المعنى اسلامي التوجه.

اذن دعنا من بوابة شخصيتك نبذر كلماتك في ايامنا لكي نحيي في اعماقنا حقيقة الاسلام وعشق الفكر وعاطفة الفلسفة ومشاعر الهوية..

دعنا نفتح أذرعنا لنسمات حواريتك الهادئة فقد مللنا من دوار زمن العواصف، ولم نخرج من مطحنة الالغاء الا رمادا تذروه رياح الفتن وتسحقه الشعوب في طرق الحياة.

دع نورك ينفذ الينا، نطالبك بالعودة لتعيش معنا المواقف من جديد فما زلنا لا نفقه لغة التحديات وخرائط النجاح..

اطلق كلماتك من شفاهنا، الم تعطك الشهادة جواز الحياة، اذن فامض معنا في دروبها نستلهم من كلماتك نبراسا ومن مواقفك متراسا..

عظمة الشخصية

اشارة

الشخصية العظيمة ليست بمغايرتها لكينونة ما تنتمي اليه بل بتفردها عما تنتمي له، انها شخصية انسانية بشكل لا يوصف لكنها متفردة عن الشخصية الانسانية بتمايز متفرد بها، وهي ليست متصارعة في داخلها، منهوكة القوى في صراع بيني مع مكوناتها، الروحي والمادي، التسامي والاشباع، الداخلي والمحيطي، بل هي متفاعلة في توازن، ومستقرة بنشاط، كل طاقتها في اتجاه

ص: 35

العطاء، نحو الانطلاق الكامل وبالقوة القصوى.

فالشخصية في تعريف علم النفس هي: (ذلك التنظيم الدينامي داخل الفرد لتلك النظم السيكوفيزيقية التي تحدد أسلوبه الفريد في التوافق مع بيئته)(1).

أي انها المجموع الكلي لأنماط السلوك الفعلية أو الكامنة لدى الكائن ويبدو واضحا في كتابات علماء النفس تصور الشخصية بوصفها تتكون من الأفعال والاستعدادات التي تنتظم في شكل هرمي تبعا لعموميتها وأهميتها. وتحتل الطرز أعلى مستويات العمومية والشمولية ومن بعدها السمات(2).

ان شخصية الفرد تتكون من خلال التفاعل المستمر بين الفرد وبيئته المادية والاجتماعية التي يعيش فيها وبخاصة ذلك الجزء من البيئة الذي يتكون من الأفراد الذين يحيطون به(3).

وهناك من يرى «أن الشخصية هي ما يعطي الفرد تآلفا ونظاما لجميع الأشكال المختلفة في السلوك الذي يمارسه»(4)، ومنهم من يرى ان الشخصية تتحدد وفقا للخصائص التي يتصف بها الفرد وتميزه عن غيره(5).

فالشخصية هي تفاعل الصفات الجسمية والعقلية والمزاجية والاجتماعية والخلقية التي تميز الشخص عن غيره تميزا واضحا وان كل صفة تميز الشخص عن غيره من الناس تؤلف جانبا من شخصيته، فذكاؤه وقدراته الخاصة وثقافته

ص: 36


1- ينظر تعريف جوردن البورت للشخصية في: هول، كالفين ولندزي، جادردنر. نظريات الشخصية. ترجمة: فرج أحمد فرج وقدوري حفني ولطفي فطيم. القاهرة، دار الشايع، الطبعة الثانية 1978، ص345.
2- ينظر تعريف ايزنك(Eysenck) للشخصية في: المصدر نفسه، ص ص497- 498.
3- Cleman.S. Psychology and Effective Behavior. BombayTroprovale sans. 1971، p.62.
4- هول، كالفين ولندزي، جادردنر. نظريات الشخصية، ص22.
5- المصدر نفسه، ص22.

وآراؤه ومعتقداته من مقومات شخصيته(1).

ويرى البعض ان الشخصية كامنة في الفرد نفسه، ومعنى ذلك أن الشخصية فضلا عن الجانب الظاهري لها، فان لها ذلك الجانب العضوي الذي ترتبط به سمات معينة كامنة في الفرد، ويمكن قياسها قياسا موضوعيا وذلك بصرف النظر عن ناحية التقسيم الاجتماعي(2).

هذه التعاريف العلمية تقدم الشخصية في معناها، لكنها تظل في دائرة بين المصطلحات ومعانيها، وما يهمنا في هذا الموضع ان نقدم الشخصية في اثارها الهامة وعناصرها الجوهرية وهي ما يعرف لسمات الشخصية.

إن لغة السمات تعد من ابسط الطرق وأقدمها في وصف الشخصية، وذلك من خلال التعرف على أنماط السلوك التي تصفها السمة وتسميتها بأسماء السمات. حيث إن السمات مفاهيم استعدادية تشير إلى نزعات للفعل أو الاستجابة على افتراض أن الشخص ينقل الاستعدادات السيكولوجية من موقف إلى آخر، وهي تتضمن قدرا من احتمال سلوك الشخص بطرق معينة(3).

فسمات الشخصية يمكن أن تشير بصفة عامة إلى الاتجاه المميز للشخص، أوهي تمكننا من التفريق بين فرد وآخر، ويمكن التنبؤ بسلوكه في المستقبل(4).

إن لسمات الشخصية خصائص عامة تتميز بها من أبرزها أن السلوك يتأثر بمجموعة من السمات أكثر مما يتأثر بسمة واحدة، فالسمات فضلا عن كونها

ص: 37


1- راجح، أحمد عزت. أصول علم النفس. القاهرة، دار الكاتب العربي، الطبعة السابعة، 1968، ص155.
2- الحافظ، نوري. تكوين الشخصية. بغداد، دار المعارف، الطبعة الأولى، 1961، ص19.
3- لازاروس، ريتشارد. س. الشخصية. ترجمة: سيد محمد غنيم. بيروت، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1981، ص54.
4- علاوي، محمد حسن. علم النفس الرياضي. القاهرة، دار المعارف، الطبعة الثامنة، 1992، ص83.

وحدة بناء الشخصية، فان للسمة خصائص الدافعية، فلسمة الشخصية القدرة على تنشيط الدافع أو كفه ومنعه(1)

(عبد الرحمن، 1971، ص146). كذلك فان السمة هي استعداد دينامي أو ميل ثابت نسبيا إلى نوع معين من السلوك يبدو أثره في عدد كبير من المواقف المختلفة(2).

والسمات تسمح بوصف الشخصية عن طريق تحديد العوامل التي يمكن اتخاذها لمكونات الشخصية، إذ يمكن وضع مقاييس لقياس كل مكون أو عامل من عوامل الشخصية أو وصفه كميا. بحيث نستطيع التمييز بين فرد وآخر على أساس تمييز هذا العامل أو ذاك من حيث الكم والنوع(3).

والسمات ثابتة نسبيا أي يبدو أثرها لدى الفرد في عدد كبير من المواقف المختلفة.

غير ان عظمة الشخصية ليست مجموع سمات متفردة في شخصية معينة، بل هي مجموع قدرات وقابليات اخرى مثل المرونة والتكيف والذكاء الاجتماعي والوجداني، فالنجاح يقوم على مقدار ما يستطيع المرء على تكييفها مع العصر التي هي شخصية ثانية، وهذا التزاوج على الدوام انما يتم من خلال المرونة بين شخصية الفرد والمجتمع.

ونحن اذ نقدم في شخصية الامام(الانسان) الشيرازي فإننا لا نقدم العظمة كقيمة للتقييم بل نقدم انموذجا للسلوك الانساني الذي حاز على ذلك التفرد وتللك الميزات..

نقدم كيف للشخصية الانسانية ان تستلهم معادلة من القيم والمبادئ

ص: 38


1- عبد الرحمن، سعد. السلوك الإنساني/ تحليل وقياس المتغيرات. القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، الطبعة الأولى، 1971، ص146.
2- Allport. R. B: The Scientific Analysis of Personality. Bultimore، Penguin، 1965،p.345.
3- Hilgard، J. P. Introduction to Psychology. Hore Rort Hrose and co. 1953،p.474.

والسلوكيات التربوية والدينية والاخلاقية لتمنحها قيمة متفردة ومتمايزة في الشخصية والسلوك والانموذج والموقف.

وحينما نقول عظمة الشخصية فإننا نقدم بيانا لنواحي العظمة المتعددة والمتنوعة في هذه الشخصية، عظمة الشخصية الثائرة، عظمة البطولة، عظمة الفكر، عظمة المضحي الشهيد، عظمة السلوك الشجاع.. وتعدد العناوين، والجوانب والمجالات، غير ان ذكرى هذه الشخصية تبقى شاخصة في طريق الخلود، لا لتدلنا على نماذج من المجد بدأنا ننسى طعمه، بل لتقدم لنا مسارا جديدا لكي نكون كلنا في الطريق نفسه وفي القيمة ذاتها، وهكذا هي عظمة الشخصية حينما تكون نهجا للحياة لا عنوانا لتخليد ذكرى الانسان.

فالسيد الشيرازي رجل ولكن فيه اية لكل الرجال، ومنار لكل المصلحين، وراية لكل الثائرين، وقاعدة لكل المؤسسين، ورائد لكل العاملين، لذا فمن الجدير ان نستوحيه على الدوام، مصدرا من مصادر الفكر والاصلاح والمعرفة.

وفي هذا الموضع سنأخذ ببعض نواحي شخصية السيد الشيرازي، لنقدم فيها رؤيتنا حول السيد الشيرازي كقدوة من خلال بعض سماته الشخصية ونستلهم منها مواقف في السلوك واسلوب في التعامل.

الجاذبية

هي اهم عناصر الشخصية المكونة، كما يرى علماء التربية وعلم النفس، فالجاذبية قوة آسرة (نسبة الى الأسر) ساحقة تفعل في الجماهير كما تفعل في الافراد، وان كان اسرها الجماعي أضعف من اسرها الفردي، ولكن على أي حال لا يختلف تأثيرها.

والجاذبية قد تكون طبيعية وتكون مصطنعة، بيد انه لا يقدر البقاء الا للأولى فقط، فقد يتسنى لكلا الصنفين الظهور بتناظر كبير. وقد تغلب الثانية احيانا ولكن مردها الى البوار بحيث لا يكتب لها البقاء.

ص: 39

والجاذبية سمة طبيعية في شخصية السيد الشيرازي، وعبق هذه السجية الطبيعية تحول الى حب في نفوس من تعرفوا اليه عن قرب او اتصلوا به بشكل مباشر، والحديث في مظاهر تلك الجاذبية كثير، وما نذكره قبس ضئيل من افق ما يزل يتمدد خارج الزمن والمكان.

- في احدى مواسم الحج رفضت الشرطة السعودية نصب علم البعثة المشرف عليها السيد الشيرازي، وطلب اعضاء البعثة ان يتحاور الشرطة المتعصبون مع المسؤول عن البعثة، فاستقبلهم السيد الشيرازي وما هي الا بضع دقائق من الحوار الهادئ حتى غير الضابط موقفه، وطلب من اعضاء البعثة ان يرفعوا اعلامهم حيثما يرغبون.

- كان لاحد رجال الدين في سوريا عداء للسيد الشيرازي دون ان يلتقي به، وفي يوم ما التقاه فانقلب العداء الى محبة واحترام شديد، وكان يردد: ان سيد حسن صديقي.

- يروى عن الكثيرين انهم كانت لديهم حساسية تجاه السيد الشيرازي لأسباب ذاتية او موضوعية خاصة بهم لكن ما ان التقوا بالسيد حتى شعروا بانجذاب كبير اليه وظلوا متواصلين معه الى يوم شهادته.

بالطبع ان للجاذبية مرتكزات وسمات فرعية ادق تستند اليها، وما لاحظناه من سجل ما كتب عن السيد الشيرازي نذكر منها:

- التواضع: كان يجلس مع الإنسان العادي أو غير العادي، لا تجد الفرق بينه وبين الجَليس، لتَواضُعه وخُلُقه.. فلذلك أحبّوه كَثيراً، فَقَد كان متواضعاً إلى أبعد الحُدود.. مع القرويين العلويين في قرى الساحل السوري، مع المسؤولين في دمشق، مع الزوار في كربلاء، مع العلماء في لبنان، مع التجار والفقراء، بمنظار الاخ الكريم يتعامل ويردد الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق، فأصبح مَحبوباً يحبّه النّاس بِمُختلف طبقاتهم.

ص: 40

فقد كان السيد الشيرازي يستَقبل النّاس جميعاً على قدم المُساواة، عالمهم وجاهلهم، صغيرهم وكبيرهم، ولم يكُن يعرف الكبر أبداً، بل كان من أعظَم النّاس تَواضُعاً، ومن أعظم النّاس ضيافةً لمُضيفيه ومُحبيه، فَلَربَّما دخل عليه الشّاب دون العاشرة أو فوقها، فينهَض من مجلسه مُستقبلاً له، آخذاً له، مُبتسماً مُقبلاً، لا يعرف الفرق بين صغير وكبير، وعالم وجاهل.. مقتدياً في ذلك بسيرة أجداده الكرام من آل البيت (عليهم السلام) الَّذين كانوا يتواضعون لكُلّ خلق اللّه تبارك وتعالى، من شَتّى الأديان، ومن شَتّى الأعراق والأطياف.

يقول احد المشايخ في (موسوعة الامام الشهيد) عن تواضع السيد الشيرازي: ما وجدته متكبِّراً قطّ، ولا متبرّماً من كثرة الأسئلة الَّتي كانت تَنهال عليه من الزُوّار الَّذين كُنّا نأتي بهم إلى سماحته، سواءً أكان ذلك في بيروت، أو في حيّ الأمين بدمشق، أو في فندق (سميراميس) بدمشق، أو حتّى حينما كان يحلّ ضيفاً على علمائنا في طَرطوس، أو صافيتا، فكان يستقبل الصَّغير والكبير، والمثقَّف والجاهل، وينتظر أسئلتهم، بكُلّ تواضع، ومحبة، ومعرفة..

- التسامح: هذه السمة عرفت عن السيد الشيرازي، كان معظم خصومه من الحاسدين، فكان يتعامل مع حسدهم على انه مرض من الواجب عليه ان يعينهم على التخلص منه، وعاش بروحية الداعية المنفتح على الجميع ينصت لهم ويعرض عليهم افكاره ومبادءه.

اما مواقفه مع من يؤذيه فهي تَسامُح وغَضّ النظر عن ذلك، ولطالما ردد في تلك المواقف ما كان يذكر عن الإمام السجّاد (عليه السلام) أنَّه كان يُسَبّ فيقول:

ولقد أمرُّ على اللئيم يسبّني***فمَضيت عنه قلت: لا يعنيني(1)

فهكذا كانت أخلاقه، الإعراض، والتَّسامُح، وحُبّ الآخرين، والمغفرة لمَن

ص: 41


1- متشابه القرآن: ج2، ص258. بحار الأنوار: ج56، ص44.

أساء إليه.. وهذه هي أخلاق السيّد حسن الشيرازي.

ومن أقوال السيّد الشيرازي: «أنا عفَوت عن مَن تَكَلَّم علَيّ، وعن مَن يتكَلَّم علَيّ اليوم، وعن مَن يتكَلَّم علَيّ في المستقبل»..

كان قمّة في الأخلاق والآداب، يتعامل بكُلّ خُلق مع جميع الأطراف حتّى مع أعدائه، ولقد كان يحذره البعض من بعض الأعداء الَّذين كانوا يتظاهرون بالصَّداقة معه، ولكنّه كان يُجالسهم ويُجاملهم ويتحدَّث معهم ولا يهتمّ. وكان ينظُر إلى خصومه كما كان ينظُر إلى أصدقائه، ويتعامل معهم تعامُل الأصدقاء.

ويروى ان السيد الشيرازي في عنفوان شبابه، ويوم كان فارس الميدان في كربلاء، وهو من هو، اعتدى عليه شخص وامام قبة جده الحسين (عليه السلام) ، بما يؤذيه الا انه اطرق برأسه هنيهة الى الارض ثم رفع كفيه داعيا للمعتدي بالهداية والصلاح.

ولرُبَّما سُئل عن كثير من الَّذين لا يُريدون له خيراً، فما كان يقول فيهم إلاّ خيراً، وما كان يغتاب أحداً، وكان يُنقل إليه أن (فُلاناً) يقول فيك كذا... وكذا... فيقول: «وفَّقه اللّه، سامَحَه اللّه، آجَره اللّه، غَفَر اللّه له»!

- حسن المعاملة: هناك فرق كبير بين ان تجبر نفسك على تحمل (بالتشديد) الناس، وبين ان تحمل نفسك الناس اليك. ففي الحالة الاولى ستشعر إنك تحت ضغط الواجب، ولربما سوف يزداد هذا الضغط يوما فلم تعد تحتمله، لكنه على العموم فهو حالة مزعجة ومؤذية لا بد وان تنعكس اثارها على الملامح والمظاهر.

حسن المعاملة لدى السيد كان يتدفق من حبه الكبير للناس بأنهم مادة قضيته في اللّه، هذا الحب هو انعكاس لعلاقته باللّه عز وجل، فرضا الناس ليس غايته بل ما يحقق هذا الرضا للّه، كان يحب للّه ويعمل للّه.

كان السيّد يحمل صدراً رحباً وأخلاقاً محمديّة، فهو (حسن).. حسن الفعال

ص: 42

وحسن الأقوال، اسم على مُسَمّى، يستَقبل ضيوفه على أحسَن وجه، ويكرمهم، ويعين المحتاج منهم، ويقضي حاجاتهم، وهكذا بالنِّسبة لكُلّ المسائل الحيويّة الأخرى..

كان يحب الجميع ويحترم بعمق ما هم عليه، وبالمقابل بادله الناس الحب والإجلال، ولَقَد اكتسَب هذا الحُبّ عند النّاس وعند الجماهير - سواء المثقَّفين منهم أو غير المثقَّفين - لخُلقه الكريم ولتَواضُعه الباهر.

كان تعامله مع النّاس بوجهٍ بَشوش، ولطيف، ومُبتسم.. لا يملّ من كثرة زائريه، ولا يملّ من إلحاح المُلحّين، ولا يقف في وجه المُجادلين، بل كان صاحب الوجه المُشرق النيِّر المُنبَسط.. كان يقوم بخدمة زائريه وضيوفه، ويُقدِّم لهم بيديه الكريمتين ما هو المَطلوب من ضيافة، إن كانت علميّة - روحيّة، أو غذائيّة ماديّة.

النشاط العقلي

من المعروف ان النشاط العقلي يرفع من قيمة المرء، وبالمقابل فان الخمول والضعف العقلي يحطه، والالمعية من الظواهر البارزة في ذوي الشخصية المتفردة، وهي تعبر عن وفور الاستعداد الذهني، ودقة الملاحظة، وحضور البديهة، وجمال المحاضرة، وسحر البيان، وغيرها..

الفكر الاستراتيجي: لقد كانت كلّ إهتمامات السيّد حسن الشيرازي إستراتيجيّة، فلم يكن يشغل نفسه بالتكتيكات أو بالتوافه من الأمور، كما انّه كان يسعى في نشاطاته إلى تأسيس كلّ ما هو جديد وإستراتيجي، فكان لا يحبذ الإستمرار على الرّوتين أو الإندماج بما هو قائم، أو التطفُّل على جهود الآخرين، لأنّه أدرك أن فلسفة التطوُّر في هذه الحياة قائمة على اكتشاف الأراضي البكر، واستغلالها في تَوسيع مَجالات العمل الإسلامي، وعدم الإكتفاء بما هو قائم وموجود، والَّذي يعني الإستمرار في المراوحة عند موطئ الأقدام، وذلك هو التخلُّف بعينه، أولم يقل المعصوم (عليه السلام) : «مَن استَوى يوماه فهو مَغبون، ومن كان

ص: 43

آخر يوميه شرّهما فهو ملعون»(1)؟!

ومن هذا الفهم الواعي لنظريّة التطوُّر كان السيّد الشهيد يسعى إلى ملئ الفراغات الإستراتيجيّة في أيّ موقع يراه هامّاً لمسيرة العمل الإسلامي، سواء كان ذلك الفراغ فكريّاً، أو سياسيّاً، أو إعلاميّاً، أو مؤسّساتيّاً، أو أيّ نوع آخر، بغَضّ النَّظر عن الزَّمان والمكان، والجهود الَّتي يحتاجها المشروع، والعَراقيل الَّتي سيواجهها، والمشاكل الَّتي ستعترضه، وسهام النَّقد والتَّحريض المضاد الَّتي سيتلقّاها في صدره، لأن المُهم عنده أن يَملأ الفراغ بمشروع إستراتيجي ومفيد.

سحر البيان: من المعروف عن السيد الشيرازي انه كان شاعرا يلهب الجماهير بقصائده الحماسية، في المهرجانات الشعبية في المناسبات الدينية، هذه المهرجانات كان يحضرها في ذلك الوقت الالاف من المُستمعين والضيوف في عقد الستينات من القرن المنصرم، وكان الوزراء وسُفَراء الدُّوَل الإسلاميّة من جملة الحاضرين، كما كان يحضر المهرجان وجهاء العراق وشيوخ العشائر والشخصيّات المُهمّة من الداخل والخارج، وكان النَّجم اللامع في هذه المهرجانات هو الشهيد الشيرازي، فقد كان اسمه مُتألّقاً، والجميع ينتظرون كلماته وقصائده اللاهبة الَّتي كانت تتحدَّث عن الوضع في العراق آنذاك، وكانت قصائده السياسيّة مُوجّهة ضدّ الحكومات الجائرة.. فكانت تثير الحماس في نفوس النّاس وتُضخ فيهم الوَعي، لتصبح فيما بعد حديث المَجالس في الأيّام الَّتي تَلي المهرجان.. فانظُر إلى أسلوبه وأدبه الشُّجاع.. كان يقول متحدِّياً المَدّ الأحمر، ومتحدِّياً البعثيّين والقوميّين وأمثالهم:

واسحَق جباه المُلحدين مُردّداً***لا السِّجنُ يُرهبني ولا الإعدامُ

ومن أقواله:

ص: 44


1- وسائل الشيعة: ج16، ص94، ح21073. بحار الأنوار: ج68، ص173.

وزَعيمُنا الكرّار لا ميشيل لا***ماركس لا القسيس لا الحاخام

وفي قصيدة أخرى يقول:

أرض العراق مجازر ومآتم***والرّافدان مَدامع ودماء

وفي كُلّ عام كانت الجَماهير تَنتَظر خطاب السيّد الشهيد، وقصيدته الجَديدة الرّائعة الَّتي كانت تَهزّ السّاحة آنذاك.

وكان خطيبا يسحر الجماهير بأسلوبه الرائع البليغ، اما بيان قلمه فهو بحبر الشعر وبريشة الادب وبمعاني البلاغة، والكثير من مؤلفاته تشهد بذلك وتدلل عليه.

بل تحولت الكثير من اشعاره الى هتافات وشعارات ضد الحكم الطاغوتي.

حضور البديهة: كان السيد الشيرازي ذو بديهة حاضرة، في حواراته مع شيوخ الوهابية وشيوخ الازهر، ومع المسؤولين السياسيين.

ص: 45

الصورة

ص: 46

المشاركة الوجدانية

هذه السمة تعبر عن أنبل ما في الانسان من شعور، وبها يسمو عن رتبة الاحياء الاخرى، ولعل الاسلام هو الدين الوحيد الذي اقام كل تعاليمه الروحية والزمنية على اساس من هذا الشعور، بل وجعله قاعدة الايمان، قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

كان السيد الشيرازي يعيش هموم الامة ومعاناتها، وكان يشارك الاخر مهما كان دينه او عرقه او فئته او انتماؤه، كان يشارك الاخر ضمن المشترك الانساني تعبيرا عن قيم الدين القيم (الاسلام) وتجسيدا لنهجه في الحياة.

والقصص والمواقف في هذا الجانب كثيرة جدا ونقتبس منها:

يروى أن السيّد الشهيد لَمّا سافر إلى الكويت (في واحدة من السفرات)، كان أهالي الكويت فرحين جدّاً بقُدومه، فكانوا يعطونه ظُروفاً فيها أموال كهديّة، فكان الشهيد من دون أن ينظُر إلى داخل الظَّرف، وكم مقدار الهديّة فيه، يُعطيه للفُقَراء والسّائلين والمُستحقّين، والطُلاّب، وكان يسأل مرافقيه خشية ان ينسى احدا ممن له حاجة.

وعندما يأتيه المحتاج ويطلب منه، فإنه يُعطيه على الفور، وفي بعض الأحيان عندما كان يأتي من لبنان، وتوصله السيّارة إلى المكتب، كان لا يملك ثمن الأجرة، فيقول للعاملين في المكتب: ادفعوا أُجرة السيّارة، وذات مرّة قالوا له: سيدنا، كيف لهذا الأمر أن يستمر؟! فمن المُحتمل ألا يكون أحد في المكتب يوماً ما.

وكان هو يجد صعوبة ان يحتفظ بمال في جيوبه بينما هناك حاجة له في اعانة ملهوف او تقديم خدمة للامة، كان السيد الشهيد كثير الإهتمام بالآخرين، فعندما يأتيه مُحتاج، ولا يملك شيئاً، كان يقول لمن معه: إدفع لفلان. ثم يسدد له

ص: 47

الدين.

كان لا يهتَمّ بنفسه، سواءً أَكَل أم لم يأكُل، ونام أم لم يَنَم، ولا أتصوَّر أن يكون له مَثيلاً اليوم، فهو الذي ترك النّوم، والأكل، والشّراب، والملذّات.

ذات يوم جاءه الاخوة(1)، وكان جالساً في مكتبه والسيّد جالساً أمامه، وكان عدداً من طلبة العلوم الدّينية قد اجتمعوا في المكتب بين يديّ السيّد، فقال السيّد مهدي: سيّدنا، سأقوم بكل ما تكلّفونني به، ولكنني أفكِّر أن أكون في خدمتك، وأن تتزوجوا! فابتسم الشهيد وقال: الفِكرة لا بأس بها، ولكن هل تعلم ماذا أريد؟ قال: وماذا تريد؟ قال الشهيد: هل ترى هؤلاء الطلبة؟ أُريد أن تَسعى في زَواجهم جميعاً، وأخيراً أنا!

لقد كانت سجيته الاهتمام بالآخرين أكثر ما يهتم بنفسه.

وعندما كان يعود السيّد من لبنان يسأل عن أمور وشؤون الحوزة والطلبة، وعندما كُنّا(2) نُخبره بأن أحد الطلبة مريض، كان ينهض فوراً ويذهب لعيادته، وهذه العادة التي كانت عند السيّد الشهيد قلّما كانت عند غيره، كما كان متميزاً في عواطفه وحركاته وسكناته.

وعندما كان الشهيد يعود من لبنان، فإذا كان يملك مبلغاً من المال ولو مائة ليرة، فكان يعطيني إيّاها، ويقول لي: «اعطيه لأحد الطلاّب الفقراء».

عصّارة الجزر

عصّارة الجزر(3)

لا أستطيع أن أصف المشاعر العاطفية والودّية التي كان يحملها السيّد الشهيد، لأنّها حقاً غير قابلة للوصف، ففي إحدى المرات ذهبتُ إلى السيّد،

ص: 48


1- السيّد مهدي الكسّار، نقلا عن موسوعة الامام الشهيد.
2- الشيخ أحمد علي الأحمدي، نقلا عن موسوعة السيد الشيرازي ج2ص151.
3- الشيخ أحمد علي الأحمدي، نقلا عن موسوعة السيد الشيرازي ج2ص151-152.

وكان يهمّ بالسفر إلى لبنان، وكنت منزعجاً بعض الشيء، فسألني عن سبب انزعاجي، فلم أجبه وقلت له: لا شيء هناك! ولكنه أصرَّ على أن يعرف سبب انزعاجي، فقلت لسماحته بأن ابني الشيخ محمّد رضا مريض، والدكتور وصف له عصير الجزر، وأنا لا أملك عصّارة الجزر، وقد انزعجت والدة محمّد رضا منّي، ولذلك انزعجت وأتيت إلى هنا.

فقال الشهيد: «قُم فوراً، واستدن بعض المال، واشتري عصّارة الجزر، وعندما أعود من لبنان ذكرني كي أعطيك المال».

فذهبت نفس اليوم واستدنت المال، واشتريت عصّارة الجزر وأخذتها إلى البيت، وعندما عاد الشهيد من لبنان، وبمجرَّد أن وصل إلى باب المكتب وكنت يومها في المكتب، قال لي: هل اشتريت عصّارة الجزر؟!

قلت: نعم. فقال: كم ثمنه؟

قُلت: ثلاثمائة وخمسون ليرة، فأعطاني المبلغ فوراً.

هذه صورة من مشاعر السيّد الشهيد الانسانية المرهفة ومودته للآخرين، والتي لا يمكن وصفها أبداً.

كما أن من خصاله، أنّه إذا دعاه أحد الطلبة لتناول طعام الغَداء، كان يُلبّي دعوته، ولا يرفضها، حتّى وإن كان الطعام عاديّاً جدّاً، فيأتي ويأكل معه.

إيثار في سبيل الواجب المقدس

يروي المرجع الديني آية اللّه العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) شقيق السيد الشهيد ان السيّد الشهيد كان من الزّاهدين في الحياة الدُّنيا، فَكَم من مَرّة أمكنه أن يشتري داراً فيأبى.. كُلَّما يحصل عليه، ينفقه في سبيل إرشاد النّاس، وهدايتهم، وخدمة المُجتمَع.

في ذات مَرّةٍ ذهب إليه شخص - ولا يزال ذلك الشَّخص موجود، وهو أحد

ص: 49

التُجّار - وكما نقل لي، قال: ذهبتُ للسيِّد الشهيد، وقلت له: لماذا تعيش هكذا؟! أنا أمتَلك الأموال، وأعطيك الحقوق المتعلّقة بها كُلّها، وهذه أموال مُصفّاة من الحُقوق، ملكي الشَّخصي، وأرغَب أن أشتري بهذه الأموال داراً لك تسكنها. فقال لي: «أنا الآن بحاجة لمُختلف الأمور الثّقافيّة، والحوزويّة، وهداية النّاس، وإرشادهم في شَتّى المَجالات، فإنّا بحاجة إلى هذا المال أكثر مما أنا بحاجة إلى دار أملكها، وإنَّني أستطيع أن أسكُن مُستأجراً». فَقُلت له: هذا المال أنا أعطيك لأجل أن تَشتَري داراً، أو عيِّن لي داراً أو مكاناً، أنا أشتريها لك.. أُريد أن تسكن أنت بمالي. فما تركني حتّى ناقشني، وبحث معي، فأخذ المال وأنفَقه كلّه، ولم ينفق منه شيئاً لنفسه.

هم کانوا يحاولون ان يخففوا عنه، وكان هو يسعى للتخفيف عن الامة..

المحبة دفعت بعض اتباعه الى التفكير في بناء بيت له، لكن هالهم ان الرجل الذي اشفقوا لبناء بيت له وجدوه يبني سكنا للامة.

وعلى مساحة اهتماماته وجدوا ان حياته هي قضية امة وامام، وعادة ما تنتهي بخاتمة الشهادة...

غذاء الروح

الرجل الذي كان يكتفي بقطعة صغيرة من الجبن وبعض الزيتونات من الصباح حتى المساء، كان يهتم كثيرا بغذائه الروحي..

كان يُراعي مَسائل الطَّهارة بكُلّ دقّة واحتياط، كان طاهراً حقاً بما للكلمة من معنى، وكان يُصلّي بخضوع وخشوع تام، وكان يجمع كُلّ فكره في أثناء الصَّلاة والدُّعاء، فكان يُصلّي ويدعو بكامل انتباهه من دون أن يتشتَّت فكره..

وكان مُقيّداً بالصَّلاة في أوَّل وقتها، فأينما كان، وبمُجرَّد سماعه صوت الأذان كان يترك جميع أعماله ويذهب فوراً لأداء الصَّلاة من دون تَأخير.

ص: 50

كان مُلتزماً بأداء المُستحبّات، ومُقيّداً بترك المكروهات، ومُواظباً على صلاة الليل، وكان يَسجُد بعد الصَّلَوات سجدات طويلة.

بالرغم من دوامات الاعمال والالتزامات والمسؤوليات، اليومية من (لقاءات، توجيهات، اجتماعات، تدريس، متابعات، حضور مناسبات وتلبية دعوات، و..و..). اما الاسبوعية فايام الاسبوع مفرقة بين لبنان وسوريا وربما دول اخرى في الخليج او افريقيا..

لكنه ملتزم بغذائه الذي يمده بكل اسباب القوة والعطاء..

حسيني

قيل عن كربلاء إنها تلد ثوارا يضيئوا في سماء الشهادة لأنهم يتنفسون هواء الحسين (عليه السلام) ويتناولون شرابه، لكن في بعض دورات الزمان نشهد ولادة كربلاء من قلب ثائر لتكون هي فعلا أم أبيها وليكون هو مجدد قرمزية شهادتها الخالدة.

بين غذي الطفولة ونمو الفكر كانت الشهادة إثارة دغدغت مشاعر الشاب الذي يتصل بالحسين (عليه السلام) بشريان من الدم والعقيدة والثورة..

ص: 51

الصورة

ص: 52

حسن الشيرازي الفتى الذي ضمخت عاشوراء قلبه برحيق الثورة وسقت كلمات الحسين عطش فكره واقلعت سفينة عاشوراء تبحر فيه الى موانئ الفواجع وبحار المعاناة، ولان خرائط البحار تبقى ثابتة فقد بدأ يعي حجم المأساة التي تعاني منها الامة وقساوة الامويين الجدد الذين أدرجوا في قافلة السبايا كل مقدرات الامة وحرياتها، ولان عاشوراء اليوم كانت بحجم الامة فقد كان الفتى الثائر يرى ان لا خلاص اليوم الا بموقف حسيني معاصر يختار الحرية على حياة الذلة والخضوع..

بهذه المشاعر التي ترفرف مثل عصافير من نار الالم والحزن كان صوته ينساب ليقرأ احداث الشهادة في عاشوراء..

كان والده العالم الكبير تشجيه قراءة ولده، ليس لصوته الحزين فقط بل ولأنه كان يشعر ان ذلك الصوت هو صوت الشهادة الذي سيلتحق يوما بقافلة الحسين (عليه السلام) .

عند ذاك كانت العائلة تجتمع في صحن الدّار، ويجتمع الموالين من عشاق الحسين لَيستَمعوا إلى المَصائب الَّتي يتلوها الشاب الحسيني، ويضج الناس بالبكاء..

والوالد كان من غُرفَته يستمع ويبكي وكأنه يرى ولده في صعيد كربلاء.

قد تكون غير بضع سنين حتى يشعر الجميع بان ذلك الفتى الحسيني قد اختار الشهادة عشقا ونهجا في الحياة..

وفي ايام محرم في الايام السوداء من قمع العفالقة الامويين كان يلبس كفنا وهو يرتجز ياحسين ليقود الشباب في احتجاج حسيني عاشورائي، فتقطع كربلاء قيود الصمت وتنادي خلفه جموع الشباب ياحسين ياحسين..

الشاب حسن الشيرازي العالم والاديب ابن العائلة الكريمة وكان يخرج ليلة عاشوراء ويومها حافي القَدَمين وبدون رداء إظهاراً للحُزن، ومُواساةً لآل بيت النَّبي

ص: 53

عليهم أفضل الصَّلاة يطوف على المواكب الحسينية يتفقدها ويلبي احتياجاتها.

السائر الى اللّه

بالرغم من تعاظم مسؤولياته وتزاحمها فقد كان فردا بواجبات امة، تصدى لها نتيجة لشرعية الواجب وقدسية القضية يوم كانت القضية ثورة على فراعنة العصر وتحدي لقوى الطغاة،

بالرغم من دقائق الواجبات التي ينفضها غبار نهاره على ليله، كانت روحه تنزلق الى الحج قبل جسده، ويسابق قلبه خطاه، ويطوف عشقه قبل الوصول الى مكة..

لأنه يعتقد (أن للكعبة فاعلية ذاتية مستقلة، ولها جاذبية تستقطب الأرواح وتوجهها إلى الأعلى، كما تستقطب الطائفين والمصلين وسائر المتعبدين، أو تبث إشعاعات روحية، تحرك ذبذبة العقل في اتجاه مصدره الأول وهو اللّه - سبحانه وتعالى - ، أو بأي شكل آخر... فقيموميتها للناس تكوينية أيضاً، وليست مجرد تشريعية رمزية.

فكان من الطبيعي أن تتكاثف تلك القيمومية، وتنطلق منها الحركات الدينية الكبرى:

أ - فآدم (عليه السلام) ، قبلت توبته هناك، وبدأ حركة الحياة، وحركة الدين في الحياة، من هناك.

ب - وإبراهيم (عليه السلام) ، بدأ حركته التأسيسية الكبرى من الكعبة، عندما ذهب بإسماعيل وأمه، وأسكنهما في جوار الكعبة.

ج - والرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بدأ الإسلام من حجر إسماعيل، ووضع نقطة بدء الكمال بقوله العظيم: (قولوا: (لا إله إلا اللّه)، تفلحوا).

د - والإمام الحسين (عليه السلام) ، بدأ ثورة (التصحيح) من مكة، متوجهاً إلى كربلاء المقدسة.

ه- - والإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) ، يبدأ ثورة (الرجعة الكبرى) من الكعبة، ليلة

ص: 54

ظهوره...)(1).

وكان السيد الشهيد يُعد المؤسِّس لبعثة أخيه المرجع الدّيني آية اللّه العظمى السيّد محمّد الشيرازي، وكان في كُلِّ عام يذهب إلى الحج، ويفتتح هذه البعثة، ويستَقبل الشخصيّات..

كان يتواجد في البعثة دائماً علماء كبار وشخصيات سياسيّة وإجتماعيّة، ووُجَهاء وشيوخ عشائر، وأساتذة حوزات..

وكان في بعثته عبارة عن كتيبة من جنود التبليغ ومنابر متنقلة لقضايا المسلمين ومعرض متجول للتعريف بشيعة ال بيت الرسول الاكرم..

كانت بعثته واحة الاجتماع ترتوي فيها قلوب المسلمين وتهفو اليها ارواح المؤمنين من كل شعوب الارض، وروضه في صحراء تورق فيها المعرفة وتزهر في العقول في تفتحها للعلم والحقيقة..

من كل الاجناس والمذاهب والطوائف يجتمع مع الحجيج او يجتمعوا به..

كان الحج يتجسد به، يتجلى في اعماله مع الامة، وفي انقطاعه الى اللّه عز وجل..

وفي مدينة جده رسول اللّه يبدأ الالم يعتصره ويدخل كل موسم في ثنايا جرح عميق اسمه البقيع، جرح ظل يحمله في قلبه الى يوم شهادته وهو يرى العبث الوهابي بقبور الائمة المعصومين (عليهم السلام) ..

كانت بعثته رائعة في التحَرُّك، وبالرغم من حصار الوهابيين حوله كان يصنع الفرصة، ويغتنم اللحظة، ويجعل من الحج مؤتمرا عالميا لمظلومية المسلمين والشيعة، وهذا ما دفع النظام البعثي الى محاولة اغتياله لمرات في مواسم الحج في ايام هجرته..

ص: 55


1- خواطري حول القران الكريم. السيد حسن الشيرازي، ج1 ص164.

وكان من أعمال البعثة مُساعدة رجال الدّين، والمَنكوبِين في الحج، والَّذين ضاعت، أو سرقت أو تلفت أموالهم..

أعمال العظماء وعيش الفقراء

ارايتم الرجل يقوم على اسم اللّه ويمضي باسم اللّه، لا يلتفت للدنيا الا بما تمد له من اسباب التواصل مع اللّه ولا يلتفت للآخرة الا بما يرضي به اللّه، فيتعملق على العوائق وتهرب من بين يديه العقبات وتهزم امامه جيوش التخاذل والتسويف فتغدو حياته منجزا للأعمال الباهرة وايامه سلما للمجد حينما يعبر المجد لا عن قيمة للتمايز بل قيمة لرقي الانسانية التي ابدعها اللّه عز وجل..

تدخل عليه فتجلس معه على الارض، يدعوك الى طعامه فياتي بقليل من الخبز والزيتون والجبن..

بيته (المستأجر) بلا اثاث..

بجبتين جلبهما معه في هجرته من العراق إحداهما للصَّيف والأخرى للشِّتاء، قابل الرؤساء واجتمع بالملوك، يعتني بنظافتهما الى الحد الذي اثر في لونهما، هما الجبتان اللتان شهدتا كل انجازاته وخطبه ودروسه وكتاباته، شهدتا كيف اذل الطواغيت وتحدى فراعنة الامة وافشل مؤامرات الحاقدين..

احدهما مزقتها رصاصات الغدر في يوم استشهاده والاخرى لف بها جسده الشريف وهو ينتقل بين ثلاث بلدان..

انه الامام الذي تاتيه الاموال كل يوم فينفقها في مواردها بل ويقترض عليها ثم يعود لبيته ليطلب من احد تلامذته او مرافقيه دفع اجرة التكسي، او يدفعها الحاج ابو احمد الذي نذر نفسه لرعايته والسهر على هذا الغصن المتوهج من تلك العائلة المقدسة..

وكم اهديت له سيارة، وكان يصرفها في قضاء حاجات المؤمنين، ويعاتب على ذلك، لكثرة تحركاته وسفره، لكنه كان يقول: كيف بالذين لا يملكون سيارة؟

ص: 56

دعوني قريب من الفقراء، اعيش كما يعيشون..

واستشهد الامام العظيم صاحب الانجازات التاريخية في سيارة اجرة في لبنان، ولم يكن له مرافق او حراس، كان يتنقل كاي انسان فقير.

لم يملك داراً ولا عقاراً، بل كان يعيش في شُقّةٍ صغيرة مستأجرة حتى آخر حياته، ولا زالت تلك الشقّة موجودة حتّى الآن في دمشق في حيّ الأمين، والحوزة العلميّة تجَدِّد عقد الأيجار في كُلّ سنة.

فبالرَّغم من أن الأموال الشَّرعيّة كانت تصل إليه أحياناً، فإنَّه لَم يَدَّخر لنفسه شيئاً منها، بل يُنفقها على مُستحقّيها من الفُقَراء وذوي الحاجة.

والواقع، أنَّه اقتَدى بجدِّه الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ، الَّذي كان يُوَزِّع أموال بيت المال على المُسلمين، ثُمَّ يرشّ فيه الماء، ويُصَلّي فيه ركعتين.

وحينما استشهد، وجدوا في جيبه دفتراً صغيراً كان قد سَجَّل فيه ديونه وأسماء أصحابها، فتكفّل أخوه الوَفيّ المُواسي الناصر، سماحة المرجع الدّيني آية اللّه العظمى السيّد صادق الحُسَيني الشيرازي بأداء ديونه كُلّها...

ابن خاصف النعل

احب الناس عليا وما يزالوا يعشقونه، انه الرجل الذي تعذب مئات الملايين في سبيل حبه، انه الانسان الذي حبه ايمان وبغضه كفر، علي فاز بقلوب الناس لانه انتمى اليهم برغم كل عظمته، اسكرهم تواضعه، وحيرتهم محبته للّه، وشجاعته امام كل ضعف يتصوره الفكر، لذا فلا عجب ان نسقط بقايا ظله هنا او هناك ولا بدع ان يحمل بعض ابنائه نبضات من بريق تلك السمات الخالدة..

فمؤسس الحوزة الزينبية والمفكر الاسلامي ورجل الدين السياسي المعارض للحكام العفالقة في بغداد، والامام في لبنان المقاومة، والرجل الذي يصبح في سوريا ويمسي في لبنان يلتقي السياسيين ويجتمع بالعلماء ويتحاور مع المفكرين ويدير شبكة من المؤسسات التبليغية والحوزوية والثقافية والخيرية،

ص: 57

كيف كان يتعامل مع المحيطين به..

منذ الصباح وحتى المساء كان جدول اعماله مزدحما، وبين هذه الاعمال كان ينتزع نفسه لأصحاب الحاجات ومن لديهم قضايا ومشاكل وامور شرعية وغيرها، ومن جاء للقاء شخصي ومن يزوره بمهمة من جهات اخرى.

كان يعطي الجميع حقه على حساب راحته وصحته..

يبدأ يومه بفطور بسيط جدا وكأس شاي، وكان حينما يصادف ان يعود للغداء يأكل أي طعام يوضع امامه وهو لا يعدو صنفا واحدا مع بعض الخبز..

في المساء عندما كان يَخلد للرّاحة، وكان يقول للحاج ابو احمد: «ضَع جانبي كأساً من الماء، وعند السّاعة العاشرة وبعد مُغادرة المراجعين والضّيوف، كان يَضَع رأسه على الوسادة، كنت أَظُن أنّه قد نام، ولكنّي لا أدري أنّه كان يقوم الليل ويجلس للمُطالعة والكتابة، وكنت أراه وأنا نائم، فيما يتحرك رُوَيداً رُوَيداً في الصالة وبيده الكتاب والقلم، فكان يسير بخُطُوات ويرجع خُطُوات، وهكذا يُطالِع ويَكتُب حتى أذان الصُّبح، وعندما يؤذِّن المُؤذِّن يقوم للصَّلاة والدُّعاء، وبعد الإنتهاء من صلاته يخلد قليلا للنّوم.

وعندما كان يعود السيّد الشهيد من لبنان يسأل عن أمور وشؤون الحوزة والطلبة، وعندما كُنّا نُخبره بأن أحد الطلبة مريض، كان ينهض فوراً ويذهب لعيادته، وهذه العادة التي كانت عند السيّد الشهيد قلّما غفل عنها، كما كان متميزاً في عواطفه وحركاته وسكناته.

عندما كان الشهيد يعود من لبنان، فإذا كان يملك مبلغاً من المال ولو مائة ليرة، فكان يعطيني إيّاها، ويقول لي: «أعطيه لأحد الطلاّب الفقراء».

وأتذكّر انَّه في إحدى المرات، وعندما كان عائداً من لبنان، لم يكن يملك إلاّ عشرة ليرات، فأعطاني إيّاها، وطلب منّي بأن أعطيه للذي يحتاجه، علماً أن في ذلك الوقت كان مبلغ العشر ليرات ذات قيمة.

ص: 58

وجاء في صباح إحدى الأيّام، عامل في مكتب السيد في الشام الى أحد اساتذة الحوزة الزينبية من المقربين للسيد الشيرازي فطلب منه ليرة سورية واحدة، فقُال له: وماذا تفعل بالليرة الواحدة؟! فقال: السيّد لم يتناول طعاما منذ البارحة، فقال له: وهل تكفي ليرة واحدة؟! قال: نعم، لأن طعام السيّد بسيط جدّاً، إنه قليل من الجبن مع الخبز لا غير، وإذا أسرف يكون بجانب الجبن خيار واحد، فأعطاه الليرة، والسيد شارد عن نفسه مشغول في عمل للّه سبحانه.

المؤسساتية

درس السيد الشيرازي واقع الامة ومناهج النهضة بها، ومبكرا اكتشف مفاتيح النهضة ومناهج الارتقاء، فوجد ان هناك عملا جبارا من الضروري القيام به، هو خارج امكانيات الفرد مهما كانت عظمته ومهما بلغ اخلاصه وتفانيه، وهناك ضرورة للامة في اشراكها في فعاليات النهضة وبرامج الارتقاء، لذا توجه السيد الشيرازي نحو المؤسساتية..

تأسيس المؤسسات الدينية والحوزوية والثقافية والفكرية والاجتماعية والخيرية في شكل ومحتوى ورسالة اسلامية. مؤسسات تمتلك استقلالية الهوية، وامكانية الديمومة، وفعالية التكيف مع الاحوال والظروف المتغيرة..

لم يسع لكي يكون اسمه منطلقا للتغيير، ولا مرتكزا للإنجاز، وان كان دوره حاسما وتاريخيا في نهج تأسيس تلك المؤسسات، بل وتحويل كل الاعمال والبرامج والفعاليات ذات نهج مؤسساتي لكي تضمن عنصر الديمومة وقابلية التكيف..

كان السيِّد الشيرازي يَعتبر التَّأسيس من وسائل الإصلاح، ومن وسائل النَّهضة في الأُمّة الإسلاميّة.. فالمسجد، أو الحوزة، أو المُستوصف، أو أي مشروع خيري، أو أي مشروع إنساني، أو أي مشروع ثقافي، أو أي مشروع تربوي، أو أي

ص: 59

مشروع إجتماعي، مَصاديق في نهضة الأمّة، ونهضة الشَّعب.

هذا الفكر المؤسساتي الذي بدأ السيد الشيرازي العمل به منذ ستينيات القرن المنصرم وأصبح سمة لكل المراجع والعلماء من الاسرة الشيرازية نجد ان النخب الى الان ما تزل متباطئة في فهمه والعمل به وما تزال جهود مراجعها وعلمائها العظيمة تنقطع بموتهم او مرضهم حتى وجب على كل ساعي في مضمار ان يبدأ دائما من الصفر وفي يوم ما يعود اليه.

مر نصف قرن على التجربة المؤسساتية والتي كانت في التقييم الصحيح لها ثورة في نهج العمل الاسلامي في المجالات كافة الدينية والتبليغية والعقائدية والفقهية والثقافية والخيرية، كانت ثورة السيد الشيرازي هي في تأسيس المؤسسات بل وتحويل الجهد الفردي الى جهد مؤسساتي..

كان السيد حسن الشيرازي يعمل وفقا لتوجيهات الامام المرجع السيد محمد الشيرازي الذي وجد ان لأخيه السيد حسن مجالا اوسع للتحرك ولتطبيق هذا النهج المفيد والمثمر للامة، خصوصا في لبنان وسوريا وافريقيا وبلدان الخليج، ولم تكن الاوضاع في العراق في حكومة البعث تسمح بذلك.

ومن اهم المجالات التي اسس فيها السيد حسن الشيرازي مؤسسات هي:

- تأسيس الحوزات.

- تأسيس دور النشر والتوزيع والطباعة.

- تأسيس المراكز والجمعيات الثقافية.

- بناء الجوامع والحسينيات.

- المدارس الدينية.

ص: 60

الصورة

ص: 61

- المؤسسات الخيرية:

وحينما نتذكر ان السيد الشيرازي لم يكن قائد تيار او رئيس حزب او مرجع ديني ولا صاحب أي منصب، سنفهم بعمق ما معنى ان يخلص الانسان في عمله للّه وحده، وكيف يمكن للّه عز وجل ان يهيئ له اسباب التفاعل الصحيح مع الامة ويذلل له العقبات والعوائق.

فالمهاجر الذي خرج من سجون بغداد مطاردا خائفا يترقب، كان حاملا راية الثورة الاصلاحية من كربلاء، لا استسلام.. لا إنحسار.. ولا تراجع.. ولا تَحجيماً للهدف.. فبمجرَّد الخَلاص بمعجزةٍ من العراق، والهجرة إلى سورية، شَمَّر السَّواعد لتأسيس الحوزة العلميّة في منطقة السيّدة زينب (عليها السلام) ، وعشرات المشاريع والمؤسّسات الأخرى، ومن ثمَّ مدرسة دينيّة في لبنان، وعشرات المؤسّسات والمشاريع الأخرى هناك، وزيارات لكثير من الدول الأفريقيّة، وغيرِها.. وعمل متواصل ومتنامٍ..

أجل، توسُّع دائم في دائرة الأهداف، ونجاحٌ يتلوه نجاح.. وهذه الحوزات والمؤسّسات الخالدة ما هي إلاّ دليل على ذلك، لأنَّه بدأ من النَّفس.. نسي نفسَه، وأعطى بلا حدود، وتحمّل كلّ الصّعاب وذلّلَها.. لأنَّه اكتَفى تأسّياً بجدّه الإمام الحسينِ (عليه السلام) بأن ما نزل به في عين اللّه سبحانه وعلمه.. فهو القائل:

فاترك المجد لشيطانٍ رجيم***والمعالي لعُتُلٍّ أو زنيم

إنَّه تَحَرَّر من هذه الدنيا، وخرج من قَفَص الجسمِ، فهو القائل:

كيف لي أن أتطوَّر؟!

كيف لي لو تُحبَس الآهات في صدري أن لا أتدمّر؟!

كيف لي من قفص الجسم وسجنٍ إسمه الدنيا، وأغلال تقاليد شعوبي أن أتحرَّر؟!

فكان فكره هو الثورة وهو الاصلاح، وكانت ايامه وسنينه ثماراً ومنجزات..

ص: 62

انه الشخصية الانسانية العظيمة التي ارتضت ان تكون قاعدة ارضية واساس تبنى عليه نهضة الامة ومشروعها الاصلاحي..

فالشخصيّة الفَذّة تعرف من خلال تحرّكات صاحبها، وتصرّفاته، ونوع تفكيره، وطموحاته، وكما يشير القول الماثور:ان المرء باصغريه، أي ان شخصيّة الإنسان تُعرَف من خلال أصغريه القلب واللسان، لأن كلّ أعمال الفرد وحركاته مُرتبطة بهذين العضوين الصغيرين في الحجم والكبيرين جدّاً في الوظائف والأعمال، من هنا فإنّا نعرف شخصيّة الإمام الشهيد من خلال إنجازاته العظيمة، ففي خلال سنوات قليلة استطاع أن يُنجِز ما يعجز عنه الكثيرون، وأن يؤسِّس الكثير من المؤسّسات المختلفة، ما تعجز ان تقدمه مؤسسات دولية عملاقة.

لأنه كان ينطلق من ايمانه الخالص باللّه سبحانه وتفانيه في سبيل قضايا امته الاسلامية..

ولقد كانت مملكة حلمه الأزلي، المؤطر بالإسلام والسَّلام، تَتَعدّى حدود المَسافات والأزمان، بل والمُسَمِّيات. فلا فرق لديه إن فتح مؤسَّسة ثقافيّة في سيراليون أو ساحل العاج في أفريقيا، أو في سوريا ولبنان، أو في باريس، مادامت غايته الإنسان ورسالته الإسلام.

فقام بتأسيس المؤسّسات المتنوّعة، وأهَمّ ما فيها إمتدادها على رُقعة جغرافيّة واسعة من العالم، فلا يمكن إغفال الجهد الجهيد الَّذي كان يبذله من أجل قيامها ونموّها وازدهارها، بما كان يواجهه من عراقيل طبيعيّة ومصطنعة يفتعلها البعض مِمَّن يناصب الإسلام والمسلمين العداء السّافر.

وبعد استقراره في لبنان أسَّس المؤسّسات الخيريّة والدينيّة والتربويّة والإجتماعيّة والثقافيّة والصحيّة، في كُلّ من سوريا ولبنان وفي أفريقيا وأوربا، وكانت من أبرزها، (مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام) الدينيّة) في بيروت، فاستدعى أساتذة من كُلّ من العراق وإيران للتَدريس فيها، وكانت بمَثابة النُّواة الأساسيّة

ص: 63

لقيام حوزة علميّة في لبنان فيما بعد.

وفي سوريا وإلى جوار مرقد الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) أسَّس (الحوزة العلميّة الزينبيّة).

وكان الإمام الشهيد يستثمر موسم الحج في تفعيل التنسيق بين عمل وترابط تلك المؤسسات في العالم الاسلامي في مَجالات ثلاثة وبأمور مترابطة، يكمِّل بعضها بعضاً:

الأوّل: تَعَرُّيف المسلمين على عمل وفائدة المؤسساتية في كلّ مكان.

الثّاني: قيامه شخصيّاً بإملاء الفَراغات الَّتي يمكنه إملائها مادّيّاً وفكريّاً وتقديم ما يمكن تقديمه لعمل تلك المؤسسات.

الثّالث: رَبط المؤسّسات الإسلاميّة بعضها ببعض، والتوسّط لتَعريف بعضها بالبعض الآخر، والتمهيد لتشكيل رابطة إسلاميّة عالميّة شاملة شيئاً فشيئاً.

ولهذه الأهداف الثَّلاثة كان يستغل كلّ فرصة لتعميقها وتوسيعها، من أجل ذلك كان يستفيد من تجَمُّع المسلمين في أيّام الحجّ، وهو المؤتمر الإلهي العظيم الذي مَهَّد اللّه سبحانه بسببه للمسلمين أكبر منفعة شاملة في الحياة.

واستطاع في المُدّة الَّتي عاشها خارج العراق - عشر سنوات - أن يكون المئات من المَشاريع الخيريّة، والمؤسّسات الفکريّة، ويُجري آلاف الإتّصالات السّياسيّة والإجتماعيّة، ويَعقِد آلاف الإجتماعات والمؤتمرات بشخصه، أو بنوّابه ومُساعديه، وينشر الاف من الكتب، والنَّشرات، والمنشورات عبر الجَرائد والمَجَلاّت..

صرف الوقت في مكانه:

عرّفت الحكمة: بانها وضع الشيء في موضعه، وقد جعل السيد الشيرازي من هذه الحكمة معيارا في استغلاله للوقت بأقصى ما يستطيع، بدءا من الاهم الى المهم..

ص: 64

كأنه كان يتسابق مع الوقت، سباق متواصل، دون هدر للأيام ولا للساعات ولا للدقائق ولا للثواني، كل لحظة هي انجاز عمل فعل في سبيل اللّه سواء توسعت فائدته لجميع الامة او اختصت بمجموعة من المحتاجين له، او كانت تواصلا مع اللّه عز وجل للاستعانة واستلهام مقومات الامداد الالهي..

كان السيد الشيرازي يستَفيد من الوقت كثيراً، ولا تَمرُّ عليه فُرصة إلاّ ويستَفيد منها، كما في الحديث: «الفُرَص تَمُرُّ مَرَّ السَّحاب»(1).. هكذا كان يتعامل مع الزَّمَن. فالزَّمن عنصر مهم في بناء حضارة الإنسان، وفي بناء حضارة الأمَم.. الزَّمن والإنسان ورأس المال، هذه عوامل بناء الحضارة، وكان يدعو تلامذته الى مراجعة أحاديث الأئمّة (عليهم السلام) في كيفية احترام الزمن.. وينصحهم بقول الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) : «إجتهدوا في أن يكون زَمانكم أربَع ساعات، ساعة لمُناجاة اللّه، وساعة لأمر المَعاش، وساعة لمُعاشرة الإخوان والثقاة الَّذين يعرِّفونكم عيوبكم، ويُخلِصون لكم في الباطن، وساعة تَخلون فيها للَذّاتكُم في غَير مُحَرَّم»(2).

كان السيد الشيرازي يستثمر وقته خلال فترة السَّفَر والحضر إلى أن يتهيَّأ..

في السيارة، في الطائرة، ينظم جداول اعماله، يكتب، يملأ قصاصات ورق يعيد بها خرائط افكاره،

خلال مائدة الطَّعام، فهنالك دائما عشرة دقائق من الفَراغ لتَحضيره، وبالتالي هناك مجال لإدارة او مناقشة بعض الاعمال، لا لتُضييِّع دقيقة واحدة،

وكان يمرّن العاملين معه على اكتساب هذه الخصيصة، ويدعو طلبته الى الاخذ بها، بل كان يعد تضييع الوقت اسراف في حقوق اللّه، باعتبار ان فسحة

ص: 65


1- مستدرك الوسائل: ج12، ص141، ح13731. بحار الأنوار: ج74، ص166-167. عوالي اللآلئ: ج1، ص291. غرر الحكم: ص473. خصائص الأئمّة: ص109.
2- بحار الأنوار: ج75، ص321و346. تُحَف العقول: ص409-410.

الحياة هي مسرحا لهوية الانجاز والفعل الانساني لا للعبث الفارغ والكسل الاجوف.

لذلك تمكَّن بشخصيَّته المُتميّزة، وفكره الوَقّاد، وذكائه الخارق واستغلاله للأوقات، أن يترك لنا هذا التُّراث العظيم والثمين.

هذا إذا عرفنا بأنَّه لم يكن ينام الّليل، حيث كان يفَكِّر ويكتُب، وينضم الشِّعر، ويقوم بهذه الأعمال الثّقافيّة والعلميّة مُضافاً على هذه الرّوحيّة الَّتي كان يحملها، فإن «هِمَم الرِّجال تُزيل الجبال»، يعني الهمّة العالية الَّتي كانت عنده، هي التي تدعوه إلى ذلك..

وهذا بالتحديد هو الذي جعلنا أمام كل هذا الإرث الثقافي الضخم من سماحة السيّد الشهيد.

روح الداعية

في يوم باريسي ممطر طرق الباب، فتح مضيف السيد الشيرازي الباب، وحاول ان يصرف فريق من المبشرين الجوالين خشية ان يسببوا ضيقا للسيد، لكن السيد الشيرازي رحب بهم وقال هاتوا ما عندكم..

تكلموا لبعض الوقت عن المسيح، وقالوا انهم يطبعون ملايين النسخ من منشوراتهم..

كانوا يتطلعون بدهشة الى رجل دين مسلم لم يصرخ في وجوههم او يقاطع ما يروونه من معتقدات..

في النهاية سألهم السيد: هل تعرفون ابا المبشرين؟

رددوا بضع اسماء..

فقال لهم السيد الشيرازي: أبو المبشِّرين ليس الَّذي يقول لَكُم بأن المَسيح (عليه السلام) يجلس ومعه صولجان على يمين اللّه، وعلى العَرش الذَّهبي. فإذا حَكيت لهؤلاء النّاس النّائمين على شاطئ التّايم، ماذا يقولون لك؟! هَل يحبّون

ص: 66

المَسيح (عليه السلام) القاعد هناك؟

صقعهم السؤال فقالوا: كلا.

فقال: الَّذي يقول كان المَسيح (عليه السلام) يتوسَّد الحجر، وسراجه في الليل القمر..

قالوا: مَن هذا؟!

قال: هذا أبو المبشِّرين.

قالوا: مَن؟!

قال لهم: هذا الإمام علي (عليه السلام) .

فقالوا: ما سَمعنا بالإمام علي (عليه السلام) ..!!

قاُل لَهُم: إسمعوا، هذا أبوكم، هذا أبو المبشّرين!

الدُّعاة دائماً هكذا، ليس غَرضهم أن يربحوا أموال النّاس، بل غرضهم أن يربحوا قُلوب النّاس.. نحن نعرف أن المَسيح (عليه السلام) كان يقول: «دَعوا صَيد السمَك، سأُعَلِّمَكم صيد الرِّجال»..

السيّد الشيرازي لم يكُن صَيّاد مال بقدر ما كان صيّاد قلوب.. يعني يريد أن يحبّ النّاس الحقيقة ويتبعونها.. حقيقة (كلمة اللّه)، كان مَهموماً بما هو أهَمّ.

لم ينظر الى اجناس البشر ولا الى اشكالهم ولا الى ما رضوا على الانتماء له بل كان يحاور عقولهم ويستميل قلوبهم ويفجر الطاقات التي اودعها اللّه فيهم..

كانت رسالته مع الانسان، مقتديا بالأئمة والانبياء (عليهم السلام) .

فن التعامل
اشارة

الدين المعاملة..

كل ما يصدر عن الانسان من سلوك هو مسؤول عنه وهو ينقل رسائل الى الاخرين.

فالإنسان يتكلم بلغته اللفظية، وما أكثر مستويات هذه اللغة واساليبها، والانسان يتكلم مع الاخر بمستويات صوته من ارتفاع وانخفاض وغيرها..

ص: 67

ويتكلم بحركاته وطريقة جلوسه ومصافحته وحركات وجهه وحركات شفتيه وحركات عيونه ورأسه.

والانسان يتكلم بأفعاله وجميع ما يصدر عنه، وبالمقابل قد يكون الصمت وعدم الفعل او الانفعال واحدة من ابلغ اللغات..

بهكذا مفاهيم اراد السيد الشيرازي ان يربي طلبته ومحبيه، انت تبعث دوما برسائل للأخرين عنك فكن دوما في مراقبة لنفسك، وحذر فيما يتصوره او يفهمه الاخرون منك.

وهنا نتوقف عند بعض سمات اسلوبه في تعامله مع الاخرين:

سحر الابتسامة:

تعرف الابتسامة بانها من اهم مفاتيح التعامل المتميز مع الناس، ويروى: أن الإبتسامة كانت لا تُفارِق شَفَتَيه، وكُلّ مَن يَلتَقيه يَراه هَشّاً بَشّاً.

سحر البيان:

كان السيد الشيرازي خَطيباً بليغاً، فصيح اللسان، جميل البيان، حسن الصّورة، يعطي الأمور حقّها..

وكان شاعرا معبرا عن احاسيس الجماهير ومعاناة الامة، ولسان حال المستضعفين، وكان الشعر عنده سماء تفتح افاقها لتأملات الانسان في نفسه وفي الكون لتبصر عظمة الخالق وروعة سر صناعة المخلوق..

سحر الهدية:

كان السيد الشيرازي يؤمن بان الهدية مفتاح القلوب، ولها تأثير بالغ على مواقف الاخرين، فكان يعد الهدية احدى اهم وسائل الاتصال والتواصل مع الاخرين، من الرعية او المسؤولين، وكل شيء كان قابل للإهداء من الكلمة الطيبة الى الكتاب، مرورا بكل ما يدخل الفرح على قلب الاخر.

حيوية الترحيب:

ص: 68

من السمات الشخصية التي يتميز بها السيد الشيرازي هي حيوية الترحيب، واهتمامه بالمجتمع به، واسلوبه الرائق بالحوار، وقدرته الرائعة بالاقناع.. وغيرها من السمات التي تجعل من يلتقي به من المستحيل ان لا يتمتع باللقاء، ولا يستفيد منه.

الاهتمام بالمظهر:

كان يؤكد على رجل الدين ان يكون مهتما بمظهره ونظافته واسلوب خطابه مع الاخرين، فكان السيد بالرغم من بساطة ملبسه الا انه كان دائم الاهتمام بنظافته وتناسقه، كان زاهدا لكن زهده لم يكن عن حاجة ولا افتقارا ولا رفضا بما احله اللّه بل تسخيرا لقضايا الامة والارتقاء بها عبر المنهج الالهي..

خريطة العمل
اشارة

ما الذي يجعل فردا واحدا ينجح فيما يقصر عنه مجاميع من الاخرين؟

لكل هدف خريطة ويبدو ان السيد الشيرازي قد سبق ابناء عصره ليس في النجاح بل في تصميم منهج له..

الطاقة الداخلية:

منح اللّه سبحانه لكل انسان حزمة من القدرات والامكانيات التي تمكنه من تحقيق اهدافه فيما لو اخلص النية وعقد العزم وتوكل على اللّه، وكان السيد الشيرازي يشير دوما الى طاقات الانسان الداخلية وكيفية تحفيزها واستثمارها بالشكل الامثل، وفي احد الموارد يقول: «ينبغي على كُلّ فَرد أن يستَثمر طاقاته، وأن لا يستَهين بمقدرته على تجاوُز الصِّعاب، فإن توماس أديسون استخدم أقَلّ من عُشر طاقاته الفكريّة - كما أعلَن بذلك الأطِبّاء بعد تشريح مُخِّه بعد وفاته - واستطاع أن يُنير العالَم باكتشاف الكهرباء ومُشتَقّاتها، فأطرد اليأس دائماً، وابتَسِم للحياة، وحاول أن تتقدَّم إلى الأمام دائماً».

ص: 69

الصورة

ص: 70

تحديد الهدف:

كانت للسيد الشيرازي استراتيجية متكاملة في التخطيط للأهداف من حيث:

- اهميتها واولويتها.

- متطلباتها ومرحليتها.

- عوامل قوتها ومعوقاتها.

فالتخطيط للبناء مهم، وكان يفرد للجانب المعنوي اهمية كبيرة ايمانا منه بان الجانب المعنوي هو عنصرا حاسما في معركة الارادة والبناء، وهو المنطلق لشحذ الهمم والعزيمة والتوكل.

أضف الى كل ذلك كان يضع اهدافه بشكل استراتيجي، بحسب انتمائه للمشروع الثوري الاصلاحي الاسلامي وواقع الامة المعاصر، لذا فان ما تركه لنا من ارث على مستوى الانجاز الفكري والمؤسساتي يدعونا للانتماء له من خلال الهوية والمنهج والهدف.

جهاد العمل:

أفضل انواع الجهاد هو البناء، البناء المعنوي والمادي الذي يجعلنا أكبر قدرة على مواجهة الشر الذي يتربص بنا، فالعمل جهاد ومعركة البناء هي المعركة الحاسمة في مسرح الحياة المعاصرة، والبناء لا نعني به فقط رصف الحجارة والحديد والخشب بل كذلك ربط القيم والشرائع والقوانين، بناء الانسان واعداده لكي يكون اهلا لحمل رسالة اللّه الى الانسانية جمعاء، والى هذه المفاهيم تطرقت الكثير من فصول كتاب السيد الشيرازي خواطري حول القران الكريم.

وانه ليس رجل منظّر فقط بل عالم عامل..

وفي مقام الجهد، كان شيئاً عاديّاً عنده بذل الجهود المُضنية، أمّا إذا كان الأمر يتطَلَّب بذل جُهود إستثنائيّة، فإنَّه يَسهَر الليل إلى الصَّباح، إمّا في إجتماعات مع المُؤمنين، أو العلماء، أو المُباحثة في شَتّى مَجالات الأمور الإسلاميّة، أو في

ص: 71

الكتابة، أو في المُطالعة، وعادة ما كان يُصَلّي صلاة الصُّبح، ثُمَّ لا ينام، وكان هذا مُتعارفاً عنده، ولَعلَّ الإستثناء قَليل جدّاً..

وخلال الأسبوع الواحد كان يقضي ثلاثة أيّام في لبنان، وثلاثة أيّام في سوريا، وبذلك يُدير الشُّؤون الدينيّة والسِّياسيّة في البلدين.. وفي بعض الأحيان كانت بعض المجاميع المتصارعة يقومون بإغلاق الطُّرُق، فكان يضطر لتغيير طريقه، وفي بعض الأحيان حيث الثلوج والجبال تعيق حركة السيّارة، كان السَّفر إلى لبنان يستغرق حوالي (12 ساعة)، إلاّ أن أمثال هذه المشاكل لم تكن تُعيقه عن عزمه في مُواصلة مهمَّته..

وكفيناك المثبطين:

كل من يقرا الموسوعة الموجزة عن السيد الشيرازي سيدرك كم كان ما يتعرض له السيد من تثبيط من قبل القريب الذي لم يدرك عمق تخطيطه ومن الحسود الذي اراد ثني عزمه..

واذكر هنا مثالين: الاول وهو ما يتعلق بتأسيس الحوزة الزينبية، وكان ما كان حولها، من تثبيط على مستوى الكلام الى الفعل الى المعارضة الى المحاربة الى العمل من اجل افشال التجربة، ولكن السيد الشيرازي كان ماضيا في هدفه حسبه اللّه والمؤمنين الصادقين من حوله والطلبة الذين اخرجهم البعثيون من ديارهم بغير حق، ولا ننسى ان اخيه المرجع محمد الشيرازي (قدس سره) كان له المرجع المرشد والاخ المساند في كل ما اهمه.

وإذا كانت الاعمال الكبيرة هي التي كانت تثير المثبطين فان الاعمال الصغيرة هي ايضا كانت تثيرهم، فقد كان السيّد الشهيد قد استأجر مَحَلّاً خصصه للنشاطات الإسلاميّة، وكان ذلك المحل في السابق محلاً للفُجور والخُمور، فَحوَّلها السيد الشهيد إلى مركز للتبليغ والوَعظ والإرشاد. وقد كان البعض ممَّن يُخالفه يسعى لتسقيط السيّد من خلال إثارة هذه القضية، بل كانت ثمة

ص: 72

محاولات لعَرقلة مَسيرة هذا المركز وإغلاقه بشتّي الوَسائل والطُّرُق، ترى هل الأفضل أن يَبقي هذا المكان مكاناً للخُمور والمَلاهي، أم أن الأفضل أنَّه تحوَّل إلى مركز للتبليغ وخدمة الإسلام؟!

في الحقيقة كان السيد الشيرازي يرد على المثبطين والحاسدين وغيرهم برد واحد عرف عنه وهو (المزيد من العمل).

لا خطوط حمراء في اداء الواجب:

لم تكن للسيد الشيرازي خطوط حمراء في اداء الواجب وخدمة الامة، حتى ولو اضطره ذلك الى العمل مع اعدائه، فبالرغم من عداء الحكم العارفي له ومحاولة تصفيته الا انه قدم لعبد السلام عارف دراسة مفصلة حول كيفية التعامل مع قضية فلسطين بالشكل الذي يضمن حقوق الشعب الفلسطيني، ومن ضمن نشاطاته، انَّه كان يذهب إلى بغداد، ويلقي المحاضرات التَّوجيهيّة من إذاعة بغداد، وكان أحياناً في البيت يُسَجِّل أشرطة مُحاضرات، ثُمَّ يبعثها للإذاعة في بغداد في ذلك العهد.

وكان البعثيون يدركون مدى التفاني الوطني في خدمة قضايا الجماهير فأرسلوا اليه للحضور الى بغداد بحجة التفاهم حول قضية شط العرب مع إيران، وبالرغم من تحذير المقربين له الا انه راى من الواجب ان يذهب لان في هذا الامر خدمة للامة وان كان فيها خطر على حياته وبالفعل قامت السلطات البعثية باعتقاله وغيبته بالسجون المظلمة.

ص: 73

ص: 74

القسم الثاني: قراءة في المشروع السياسي والإصلاحي

اشارة

المبحث الأول: قراءة وتحليل في ظروف وأحداث عصره

المبحث الثاني: مدخل لفلسفة الرؤية السياسية

المبحث الثالث: المنهج التغييري عند السيد الشيرازي

المبحث الرابع: القيادة المرجعية

المبحث الخامس: الوحدة في فكر السيد الشيرازي

المبحث السادس: مواقف وقضايا

ص: 75

ص: 76

المبحث الأول: قراءة وتحليل في ظروف وأحداث عصره

فجيعة اليقظة ووعي الثورة

لكي نفهم خريطة الأحداث في عصر السيد الشيرازي وموقفه من تلك الأحداث، وحيث إن المواقف لا تفهم وفقا لظواهرها فقط لان عين الحقيقة تحتاج الى تتبع جميع الأبعاد والعوامل، بل ويعد إغفال عامل أو حذفه هو تشويش للرؤيا وانتقاص لكلية الموضوعية، وبالتالي فإننا ملزمون في التأمل في أحداث ما قبل عصر السيد الشيرازي بما ارتبط بتأثيره عليه وعلى تشكيل مواقفه تجاه الأحداث المعاصرة له.

إن من أهم مفاصل المشروع السياسي للسيد الشيرازي هي:

- القيادة المرجعية.

- المنهج الإصلاحي.

- الوحدة الإسلامية.

- المنهج الثوري.

وحينما نشرع بقراءة لأحداث عصر السيد الشيرازي نجد أن مرتكزات مشروعه السياسي قد عبرت عما أفرزته قراءته للأحداث السابقة والمستقبلية لعصره، وبذلك فانه لم يشرع في مشروعه السياسي إلا بعد أن استوعب كل دقائق الأحداث والمحن والأزمات والإيديولوجيات التي مرت بالعراق على وجه الخصوص والشيعة بوجه عام.

ص: 77

إن ما عاناه العراق من ويلات الاحتلال العثماني وعلى مدى 400 عام وما رافق الاحتلال الانكليزي وموقف العراقيين بصورة عامة وشيعة العراق بصورة خاصة من ذلك الاحتلال وانهزامية الجيش التركي وصمود أبناء عشائر الوسط والجنوب ثم الزلزال السياسي الكبير في ثورة العشرين وإرهاصاتها في جدلية القيادة والأهداف وما أفرزته من نتائج منها تأسيس الدولة العراقية الحديثة والتآمر الانكليزي مع عشاق السلطة من بقايا زمر الثورة العربية لخطف استحقاقات الثوار ومن ثم التنكيل بهم ومحاربة المدن التي كان لها دور مميز في ثورة العشرين، وما رافق ذلك من حراك سياسي نشيط في جميع المستويات بدءا من تشكيل التنظيمات السياسية الى إفراز الإيديولوجيات في مجالات الحياة المختلفة، مع وجود تنوعات كثيرة لعلاقة السلطة بالقوى الأجنبية وبروز الدكتاتوريات العسكرية والمدنية والأحزاب القمعية والعنصرية ومسلسلات الانقلابات والانتفاضات مع تفشي أوبئة منها الطائفية والقومية والإرهاب وغيرها، كل هذه الأمور تتطلب في اقل اعتبار تأملا لأبعادها ومؤثراتها على ماله كبير علاقة مع مواقف ومشاريع السيد الشيرازي.

لذا ولكي نوجز في العرض ونسدد في الهدف فقد آثرنا أن نستعرض ملامح موجزة من:

- آثار الاحتلال العثماني على العراق.

- آثار الاحتلال الانكليزي على العراق.

- آثار ونتائج ثورة العشرين ودورها في تأسيس الدولة العراقية الحديثة (في العهد الملكي).

- أزمنة الرماد (المد الشيوعي - الحكم العارفي القومي - الحكم البعثي).

ص: 78

آثار الاحتلال العثماني على العراق

اشارة

العثمانيون(1) قبائل متوحشة عاشت في عزلة من الجهل والتخلف ثم انحدرت بطبيعة الكيانات المتوحشة تبحث عن بقايا الحضارات لتفترسها، لتعيد مأساة الأمة الإسلامية من غزوات المغول والتتار وبرابرة الخروف الأبيض والأسود، استوطنوا بلاد الأناضول، وكونوا إمبراطورية بنيت على امتصاص دماء الشعوب وخيراتها، ليس لديهم نظام معقد في الإدارة أو السياسة أو الاقتصاد بل كل ما يبرعون فيه هو استحصال الضرائب وتوسيع رقعة سيطرتهم على شعوب الأرض.

جثموا على صدر الأمة الإسلامية أكثر من ستة قرون، طمسوا خلالها كل آثار حضاراتها السابقة، بل كل ما يدل على الحضارة. وبعد أن استولوا على القسطنطينية جعلوها عاصمة لهم وأسموها اسطنبول وحولوا قصورها الى صناديق يكنزون فيها نفائس حضارات العالم التي ينهبوها.

استولى العثمانيون على العراق عام 1534م وهربوا منها أمام الجيش الانكليزي عام 1917م وبالرغم من 400عام من الاحتلال لم يخلف العثمانيون ورائهم في العراق ولو معلم أثري أو حضاري أو أي شيء يدل على عصورهم الطويلة من الاحتلال سوى خراب العراق وتدمير كل ارث حضاري ومعرفي ودفع إنسان وادي الرافدين الى عصور ما قبل التاريخ.

ص: 79


1- العثمانيون، آل عثمان، سلالة أصلها من اوساط اسيا وحكمت في تركيا (البلقان والأناضول) وفي أراض واسعة من بلاد العرب، ما بين سنوات 1280-1922 م. ينحدر العثمانيون من قبائل الغز (أوغوز) التركمانية، تحولوا مع موجة الغارات المغولية الغازية عن مواطنهم في منغوليا إلى ناحية الغرب. أقاموا منذ 1237م إمارة حربية في بيتيينيا (شمال الأناضول، ومقابل جزر القرم). تمكنوا بعدها من إزاحة السلاجقة عن منطقة الأناضول. في عهد السلطان عثمان الأول (1280-1300م)، والذي حملت الأسرة اسمه، ثم خلفاءه من بعده، توسعت المملكة على حساب مملكة بيزنطة (فتح بورصة: 1376م، إدرين: 1361م). سنة 1354م وضع العثمانيون أقدامهم لأول مرة على أرض البلقان ثم بدؤا باحتلال بلاد العرب.

هرب العثمانيون من ساحة المعركة وتركوا أهل الأرض التي استنزفوا خيراتها ونهبوا ثرواتها ودفعوا بشبابها ورجالها الى أتون حروبهم الاستعمارية وغزواتهم البربرية في شرق الأرض وغربها، تركوا أبناء العشائر العراقية وأهل البلدات والمدن في بغداد والبصرة والنجف يواجهون بصدور عارية وبأسلحة بدائية جدا جيوش بريطانيا العظمى.

هرب العثمانيون الذين ادعوا يوما إنهم حماة الدين وأصحاب الخلافة أمام من أسموهم الكفرة، ليتركوا العراق بلد الحضارات ومنار المعرفة ارضا يبابا يجثم فوقها الخراب وتصول في أرجائها أقدام المستعمرين الجدد.

لم يبن العثمانيون سدا ولم يشقوا نهرا ولم يكروا قناة ولم يؤسسوا مصنعا ولم يبنوا جامعة طوال 400عام في العراق، وبالرغم من إن انحطاط الدولة العثمانية كان عاما في ولاياتها، فكان همهم الوحيد هو جباية الضرائب من الفلاحين التعساء وأصحاب الحرف الفقراء وابتزاز التجار وشيوخ القبائل فيصف السائح نيبور العراق الذي اشتهر بنظام الري فيه منذ أقدم العصور وبازدهار قراه ومدنه واتصال رياضه وبساتينه حتى سمي بالسواد من اخضرار أرضه يصف الأراضي التي مر بها عن طريق النهر من البصرة الى الحلة عام 1756م (وهذه الأراضي الصالحة للزراعة تمتد الآن بعيدة عن النهر كالبادية تماما بسبب خلوها من السكان والجداول. تقع القرى بعيدة عن النهر بعدا لا باس به وهي مشيدة على أتعس طرز فالبيوت وأسوارها كلها من القصب، والخلاصة إني لم أصادف أكواخا أردأ من أكواخ هذه المنطقة الخصبة بطبيعتها والمشهورة منذ أقدم الأزمنة)(1).

وكانت سياسة العثمانيين المالية القائمة على استنزاف ثروات الولايات والرضوخ للضغوط الخارجية أو القرارات العشوائية سببا في ازدياد تردي الأوضاع

ص: 80


1- كارستن نيبور (رحلة نيبور الى بغداد) ترجمة سعاد هادي العمري - بغداد - 1954، ص67-68.

وانحطاط الأحوال فكانت الضرائب تفرض على سلع الترانسيت بين ولايات الدولة العثمانية وبسعر مرتفع جدا 15% ولقد كان لهذه الضرائب التي تفرض داخل نطاق الإمبراطورية العثمانية تأثيراً هاماً في تشجيع الاستيراد وتثبيط الانتاج المحلي(1).

ويصف المختصون بان السياسة الضريبية العثمانية كانت متخبطة وعشوائية وتهدف الى جبي الأموال بشتى الطرق والأساليب ومن أبرز ما وصفت به (دخول الدولة في معاهدات تجارية مع العديد من الدول جعلها غير قادرة على وضع التشريع الكمركي الملائم لها وبما يتناسب مع ظروف البلاد ومصالحها حيث أدى ذلك الى التدخل في سعر هذه الضريبة من قبل الدول الكبرى. وطغيان الهدف المالي. واعتمدت على نسب موحدة في فترة ثم تباينت في فترات أخرى وهذا يعني انها قائمة على أسس غير ثابتة ومحددة وواضحة. وان جباية هذه الضريبة كانت بصورة غير منتظمة حيث كانت في ولايات بغداد والموصل والبصرة كما كانت في سائر أنحاء الإمبراطورية العثمانية وذلك عن طريق الالتزام)(2).

ومن يود التحدث عن خراب الأرض في بلاد الاحتلال العثماني فان عشرات المجلدات لن تكفيه ومن خلفها مئات من مصادر التاريخ تمده بافجع جرائم الخراب والدمار، وبما إننا ألزمنا أنفسنا بإطلالة على ملامح الواقع العراقي في عصور الظلمة العثمانية فلابد أن نتأمل في ومضة من خراب الإنسان ونبدأ من التجهيل الذي مارسه العثمانيون بشكل لم يفقهم به إلا بعض حملات هولاكو، فاندثرت المدارس وتلاشى التعليم وحورب أهل العلم بكل حجة وأسلوب،

ص: 81


1- د. اياد عبد الجبار ملوكي واخرون، (التشريعات المالية والتجارية)، دار التقني للطباعة والنشر، مطبعة مؤسسة المعاهد الفنية، بغداد، 1985، ص ص178-179.
2- طلال محمود كداوي، (الضرائب الكمركية ودورها في التنمية الاقتصادية في العراق)، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الادارة والاقتصاد، جامعة الموصل، 1982، ص8-9.

فالعراق الذي كان في القرن الثاني عشر مقصدا لطلبة العلم حيث الكوفة وبغداد والبصرة ثم الحلة تحول الى يباب مقفرة من مدارس أو جامعات.

وكان إفتتاح المدارس الحديثة من حصة الاقليات الدينية غير المسلمة في العراق قد شهد ظهور المدارس التي تعتمد الأسس الحديثة، حيث ظهرت مدرسة الآباء الكرمليين عام 1721 والمدرسة الكلدانية عام 1843، ومدارس الاتحاد الإسرائيلي 1865.

وللحاجة الملحة الى موظفين ومحاسبين يعرفون الكتابة والحساب شرع العثمانيون بفتح بضع مدارس اولية في بغداد في ثلاث مراحل وأقدم مدحت باشا على افتتاح مدرسة رشدية عسكرية، واعتمدت هذه المدارس التركية لغة رسمية لها، والتي تم فيها استقبال الطلبة الذين أنهوا تعليمهم في الكتاتيب، وكان من الطبيعي أن تحظى تلك المدرسة بإقبال واسع من قبل الطلبة، لا سيما وأنها تتجه نحو تخريج ضباط عراقيين، وما يمكن أن يناله المتخرج من مكانة اجتماعية وفرصة وظيفية، ثم تم إفتتاح مدرسة رشدية مدنية عام 1870، الغاية منها الحصول على موظفين إداريين، إلا أن الإقبال على تلك المدرسة لم يكن بمستوى الاتجاه نحو المدارس العسكرية، حيث اصطدمت بعدة عوائق كان أبرزها، لغة الدراسة التركية، وعدم ثقة العراقيين بالجهاز التركي الإداري، حيث تأكد لدى الجمهور بأن المتخرجين من تلك المدرسة سوف لن ينالوا فرصاً متساوية أو متناسبة في التعيين، حيث تسود المحسوبية والوجاهة على حساب الكفاءة وعلى هذا تعرض التعليم المدني في العراق إلى ضربة في الصميم، حتى أنه بقي متخلفاً حاله حال التعليم في الولايات العثمانية الأخرى.

أما سياسة العثمانيين تجاه أهل العراق فقد اتسمت بسمات أي محتل من قهر للحريات وانتهاك للحقوق واستعباد وتسخير للناس بشكل لا أنساني وأتباع سياسة فرق تسد بين مكونات الشعب العراقي وإثارة النزعات القومية والدينية

ص: 82

والطائفية بشكل مريع وارتكاب المجازر بحق الأقليات الدينية والعرقية.

وكانت تسعى الى تفتيت النسيج الاجتماعي في وسط وجنوب العراق لإيقاف ثورات العشائر والمدن ضد سياستها الجائرة، فتارة تغري القبائل بعضها ضد البعض الآخر بالترغيب ومرة بالترهيب ومرة ثالثة باغتصاب الأراضي ومنحها لغير أهلها وأخرى بتدمير التكتلات العشائرية الكبرى أو إثارة النعرات الطائفية بين العشائر العراقية وغض الطرف عن الحملات الوهابية التي دمرت المدن والعتبات المقدسة في العراق وانتهاك مدن العراق وحواضره بشكل عطل الحياة وحول سكان المدن الى مدقعي الفقر بلا عمل.

العثمانيون والشيعة

تعرض الشيعة في الدولة العثمانية (وخصوصا في العراق) الى جميع انواع القمع والتعذيب والتشريد والنفي والقتل الجماعي ونهب الاموال وسلب الممتلكات مرة تحت عنوان العنصرية القومية ضد العرب ومرة تحت عناوين طائفية مقيتة، شردت عشائرهم وصودرت غلالهم وخربت قراهم ومدنهم في وسط وجنوب العراق وانتهكت لمرات عتباتهم المقدسة وبعد كل انتفاضة ضد الظلم والجور كان سلاطين بنو عثمان يطلقون فرنامات التكفير ضد الشيعة، فقد استحصل السلطان سليم الفتوى من (شيخ الاسلام..!) تعتبر الشيعة خارجين على الدين الاسلامي فقد قرر السلطان محاربتهم وقتلهم واسترقاق نسائهم وأطفالهم، وامر الوالي اسكندر باشا في سنة 975 ه- في التوجه الى بلاد المشعشع(الحويزة) فحاربهم وبدد شملهم وخرب بلادهم بعد ان حذرهم واتهمهم بالفسق والفجور والبدع(1).

اما الوالي مصطفى باشا (والي بغداد وهو صربي) فبعد ان قضى على ثورتين

ص: 83


1- العراق وإيران، للأستاذ حسن مجيد الدجيلي ص 20.

الاولى في القرنة والبصرة قادها (الامير مانع) والثانية قادها (حاكم الحويزة فرج اللّه) احتفل هذا الوالي بانتصاراته على غرار ما فعله المغول بأعدائهم اذ شيد اهرامات عالية من جماجم الثوار بلغ مجموع كل هرم منها الف جمجمة(1).

اما ثورات عشائر العراق في الفرات الاوسط والجنوب والتي كانت ردا على السياسات الوحشية والقمعية التي يتبعها العثمانيون فقد كانت وقائعها بالعشرات منها انتفاضات عشائر ال فتلة وعشائر المنتفق 983ه- وعشائر الغراف 1083ه- وعشائر الخزاعل وخفاجة 1016ه- وعشائر زبيد وآلبوسلطان وفي سنة 1763 م ذهب علي باشا (والي العراق) بنفسه على رأس حملة قمعية ليقتص من بني لام لرفضهم الرضوخ الى عبودية سلاطين الاستانة(2).

وغزا عمرو باشا بلاد عشائر الخزاعل واحرق لملوم العاصمة، وطرد شيخ القبيلة وآمر بقطع 6 رؤوس من اعيان الخزاعل وبعث بها الى الاستانة (اسطنبول)(3). وهجم الوهابيون سنة 1801 م على مدينة كربلاء المقدسة.

وفي صيف 1877 م ثار سكان مدينة النجف الاشرف وكربلاء ولكن الثورة في كربلاء المقدسة قمعت بمحاصرة المدينة واقتحامها، واتخذت القوات التركية تدابير عسكرية دون رحمة(4). والحملات الوحشية لنجيب باشا في كربلاء 1258 ه، وسليم باشا في النجف الاشرف 1268 ه، ومدحت باشا في الدغارة. وشبلي باشا في الشامية وابو صخير 1292ه.

وهجمات الاتراك ضد اهالي مدينة النجف الاشرف وكربلاء المقدسة في

ص: 84


1- الدجيلي ص 26.
2- دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث. عبد اللّه النفيسي دار ذات السلاسل، الكويت، 1990 ط1، ص81-82.
3- النفيسي ص 82.
4- دليل الخليج القسم التاريخ. لوريمر ج. الجزء 1 ص 486.

سنتي 1905-1906 وقد قصف الاتراك حرم الامام علي (عليه السلام) واستباحة المدينة من قبل جنود الاتراك. واستباحة الحلة في شهر تشرين الثاني سنة 1906 من قبل الاتراك(1).

آثار الاحتلال الانكليزي على العراق

تناسى سكان العراق الشيعة الظلم والجور الذي كانوا يلقونه يوميا من الاتراك عند احتلال الانكليز لميناء البصرة عام 1914 فبدات عشائر البصرة وجنوب العراق تراسل مراجع الدين الشيعة في العتبات المقدسة فأصدرت فتوى الجهاد التي تلزم كل ابناء الطائفة الشيعية في العراق الى مقاومة الاحتلال الانكليزي، وهبت عشائر الفرات الاوسط والوسط وجنوب العراق الى مقاومة الانكليز جنبا مع جنب الى القوات التركية، مقدمين رابطة الدين على حرياتهم ومظلوميتهم وارسل مراجع الشيعة ابناؤهم الى ساحات القتال وفي مقدمتهم محمد رضا ابن الميرزا محمد تقي الشيرازي، وبدا سكان المدن في النجف وكربلاء والناصرية والبصرة يبيعون ما يملكونه مقابل قطعة سلاح لكي يشاركوا في الجهاد المقدس وكذلك فعل ابناء العشائر، وتقدم علماء الدين للدفاع ضد المحتلين الانكليز.

كانت القوات الانكليزية اربعة عشر ألف جندي مقابل سبعة الاف جندي تركي مع ثمانية عشر ألف مقاتل من المجاهدين الشيعة واربعة الاف من عشائر عربستان الشيعية، ونتيجة للروح الانهزامية للجنود والضباط الاتراك خسروا معركة الشعيبة في البصرة امام الانكليز لكن المجاهدين والعشائر العراقية ظلت تجاهد بالرغم من عدم توفر السلاح وشحة العتاد وكانوا يستميتون في القتال رغبة منهم في نيل الشهادة وكان يشجعهم على ذلك وجود علماء الدين وتقدمهم الصفوف.

وتمردت العشائر العراقية على سرايا الجيش التركي المنهزمة من ساحات

ص: 85


1- النفيسي ص82.

المعارك تاركة العراقيين لوحدهم يلاقون المحتل الجديد والمجهز بأحدث الاجهزة والمدافع، وبلغت الروح الانهزامية للجيش التركي ان القوات التركية المنسحبة الى العمارة اضافة الى حامية المدينة قد كلفت بحماية العمارة بقيادة حليم بك، غير انها استسلمت جميعها استسلاما مشينا للجنرال تونزند الانكليزي وليس معه سوى 22جندي ونوتيا بريطانيا(1).

آثار ونتائج ثورة العشرين ودورها في تأسيس الدولة العراقية الحديثة

اشارة

كان البريطانيون يعتقدون قبل إقدامهم على احتلال العراق في الحرب العالمية الأولى، أن الشيعة سيستقبلون قواتهم بالأحضان والورود، لأن الشيعة كانوا من أكثر المستفيدين من هذا الاحتلال أو التحرير. وقد بنوا اعتقادهم هذا على أساس أنه طالما كان شيعة العراق هم أكثر من تعرض للظلم والاضطهاد في الحكم العثماني وعلى أساس طائفي، وحتى عدم الاعتراف بمذهبهم، ومعاملتهم كمنحرفين عن الإسلام الصحيح، أو حتى اعتبارهم كمشركين.

ولكن خاب ظنهم، لأن هذا التفكير البريطاني رغم عقلانيته لأنه يوافق المنطق السياسي حول السعي وراء المصالح الدنيوية، ولكنه كان يختلف كلياً عن ذهنية رجل الدين، وبالأخص الشيعة منهم حيث لهم طريقتهم المختلفة في التفكير، إذ كان رجال الدين في معظم الأحيان يضحون بمصلحة أبناء طائفتهم الدنيوية في سبيل الإسلام والمصالح الأخروية وفق معتقداتهم الدينية، واعتبار الدولة العثمانية إسلامية يجب مساندتها وإن كانت ظالمة، مقابل الانكليز «الكفار» الذين يجب محاربتهم حتى ولو كانوا عادلين.

ولذلك فوجئ الإنكليز بحرب الجهاد من قبل العشائر العربية الشيعية وبقيادة زعماء الدين ورؤساء العشائر. كما أشرنا عند حديثنا عن حرب الجهاد، أن هناك

ص: 86


1- النفيسي ص93.

«نتائج غير مقصودة لأفعال مقصودة». والحقيقة أن معظم التاريخ هو نتاج ثانوي byproduct، أي غير مقصود. ومن هذا النتاج الثانوي لحرب الجهاد نشوء الوعي الوطني الذي حفَّز على القيام بثورة العشرين التي كان من بين أهدافها طرد المحتلين البريطانيين وتأسيس دولة عراقية ذات سيادة كاملة.

وليس القصد هنا سرد تفاصيل الثورة، وإنما للتطرق إلى دورها في تأسيس الدولة العراقية الحديثة من قبل الإنكليز وعلى أساس التمييز الطائفي ضد الشيعة (المكون الأكبر من الشعب العراقي) وكيف إن ما حدث في ثورة العشرين ظلت نتائجه تخيم على علاقة الأغلبية الوطنية بالحكومات التي ظلت تدور في دوائر الاستعمار الشرقي والغربي.

وحول مصير العراق بعد احتلاله كانت هناك مدرستان في التفكير لدى البريطانيين، الأولى تتمثل في جماعة (مكتب القاهرة)، وكان برسي كوكس من هذه المدرسة التي ترى منح العراق استقلاله والانسحاب منه تدريجياً، وجماعة أخرى من البريطانيين في الهند (المكتب الهندي)، كانت ترى العكس، وكان أرنولد ويلسون، حاكم العراق أيام الثورة، من هذه المدرسة، ليس هذا فحسب، بل كان يعتقد البعض أنه كان في نية المدرسة الأخيرة أكثر من ذلك، أي حكم العراق حكماً استعمارياً استيطانياً، وفصل البصرة عن العراق وربطها بالهند، وجلب عدة ملايين من الهنود إلى العراق لتهنيده، وتغيير ديموغرافيته، وعزله عن البلاد العربية، واعتباره بلداً غير عربي، وتسمية خليج البصرة بالخليج الإنكليزي - الهندي. ورداً على هذا المخطط الاستعماري، إلى جانب الأسباب الموضوعية الأخرى، انفجرت الثورة العراقية الكبرى التي انطلقت رصاصاتها الأولى في 30 حزيران/يونيو 1920 من قبل عشائر بني حجيم في الرميثة بلواء (محافظة) الديوانية على أثر قيام الحاكم البريطاني بتوقيف زعيمهم الشيخ شعلان أبو الجون.

ص: 87

وقد مرت الثورة في مراحل ثلاث: أولاها تتمثل في الأحداث التي مهدت للثورة وهي الأحداث التي جرت في بغداد وكربلاء ودير الزور وتلعفر والموصل، والثانية تتمثل في الثورة المسلحة التي انطلقت في الرميثة في الثلاثين من حزيران 1920 ثم عمت منطقة الفرات الأوسط. أما الثالثة فتتمثل في انتشار الثورة في مناطق العراق الأخرى كديالى والغراف وغيرهما.

دور المرجعية في ثورة العشرين

وأسس محمد رضا الشيرازي نجل الميرزا محمد تقي الشيرازي ما يسمى بالجمعية الإسلامية في كربلاء بأواخر عام 1918 وضمت في عضويتها السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني والسيد حسين القزويني والسيد عبد الوهاب والشيخ محمد حسن أبو المحاسن وعبد الكريم العواد وعمر العلوان وعبد المهدي القمبر وغيرهم(1)

كانت هذه الجمعية تمتاز بالجرأة والفاعلية الأمر الذي دفع الانكليز إلى اعتقال عدد من أعضائها في (1 تموز 1919) وكان من بينهم عمر العلوان وعبد الكريم العواد وطليفح الحسون ومحمد علي أبو الحب والسيد محمد مهدي المولوي والسيد محمد علي الطباطبائي، مما دفع السيد محمد تقي الشيرازي بأن أرسل رسالة إلى (ولسن) يطلب منه إخلاء سبيلهم وإنهم لم يفعلوا شيئاً طالبوا بحقوقهم المشروعة وبالطريقة السلمية، وكان رد ولسن على الرسالة بالمراوغة والتملص مما أثار هذا الأمر حفيظة السيد الشيرازي الذي أعتزم السفر إلى إيران وإعلان الجهاد ضد الانكليز لما لهذا الأمر من استهانة بكرامة الوطنيين، وعندما أنتشر هذا الخبر بين الأوساط العراقية بدأت العديد من الرسائل تتوافد من الكاظمية والنجف يبدي أصحابها عزمهم على الهجرة معه ومجاهدة الانكليز من هناك، وكان من ضمن الرسائل حملت تواقيع

ص: 88


1- عبد الرزاق الوهاب، كربلاء في التأريخ، ج3(بغداد:1935)، ص25.

سيد كمال الدين ومحمد باقر الشبيبي ومحمد الشيخ يوسف والسيد حسين كمال الدين وعبد الرضا السوداني والسيد أحمد الصافي والسيد سعد جريو.

كان لعودة السياسيين المبعدين ابتهاج رائع في كربلاء يوم 2 ك1 1919 واستقبلوا بحفاوة عالية، إذ كانت عودتهم في نظر ولسن بمثابة تهدئة للوضع المتأزم في العراق، بينما نظر أبناء المدينة إلى أمر عودة المبعدين بمثابة نصر مؤزر صنعه أبطال وطنيين، وكان الجميع يكنون لهم هذا الشعور الذي يخالجهم متمنين أن يحصلوا ما حصل عليه إخوانهم من سمة وطنية.

أما في بغداد فقد تأسس في نهاية شباط 1919 حزب سري عرف باسم (حرس الاستقلال) ضم في عضويته السيد محمد الصدر والشيخ يوسف السويدي والشيخ محمد باقر الشبيبي وجعفر أبو التمن وعلي البازركاني وغيرهم كثير من الشخصيات الشيعية والسنية المنتمية له(1).

كانت هذه الأحزاب والجمعيات المذكورة وغيرها الكثير كانت تعمل بدعم وتوجيه من الميرزا محمد تقي الشيرازي وكان هناك نوع كبير من التنسيق المتبادل لتوحيد التحرك السياسي، ففي (21 نيسان 1920) ذكرى ولادة الإمام الحسين (عليه السلام) عقد اجتماع في بغداد حضره العديد من رجالات السياسة العراقية إلى جانب علماء الدين وسياسيي الفرات الأوسط الذين أنابهم كلاً من الحاج عبد المحسن شلاش والسيد هادي زوين حيث كان هذا الاجتماع على درجة عالية من الأهمية وكانت الغاية منه الخروج بتصورات يتم من خلالها التنسيق بين علماء بغداد وعلماء الفرات الأوسط والسياسيين حول الموقف الراهنة ورسم أبعاد التحرك الجديد. وفي هذا الاجتماع عرض السيد هادي زوين حالة الفرات

ص: 89


1- سليم الحسيني، دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار 1900-1920، (القدير للدراسات والنشر، بيروت:1995)، ص204.

الأوسط وذكر استعداد العلماء ورؤساء القبائل للعمل سوياً من أجل تغيير حالة العراق المزرية والخروج بنتائج هدفها مصلحة العراق وأهله(1).

ولهذا كان التهيؤ إلى الثورة قد وصل مراحل متقدمة لا يحتاج إلا لشرارة تطلق بيد المرجعية الدينية التي درست هي الأخرى حراجة الموقف ووصلت إلى نتيجة إصدار فتوى يُعلن فيها الجهاد ضد المحتل. ولهذا عندما استفتى عدد من زعماء العشائر العراقية الإمام الشيرازي حول جواز استخدام السلاح بوجه المحتل أجابهم الإمام الشيرازي بفتوى صريحة أشار فيها «بسم اللّه الرحمن الرحيم»، مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين. ويجب عليهم، في ضمن مطالبهم، رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم.

إن هذه الفتوى كانت بمثابة الركيزة الأساسية في انطلاق العمل الثوري ضد الاحتلال، إذ أُيدت من قبل خطباء وعلماء كربلاء ومنهم محمد حسين المازندراني ومحمد صادق الطباطبائي وعبد الحسين الطباطبائي، ومحمد علي الحسين وغلام حسين المرندي ومحمد رضا القزويني ومحمد إبراهيم القزويني ومحمد الموسوي الحائري وعلي الشهرستاني وهادي الخرساني وجعفر الهر وكاظم اليهبهاني وفضل اللّه وعلي الهادي الحسين(2).

كما وتداعى على ضوء هذه الفتوى العديد من علماء النجف الذين اجتمعوا وقرروا توجيه رسائل إلى رؤساء عشائر الفرات وخصوصاً عشائر الرميثة والسماوة يحثوهم فيها على الثورة وكان أبرز الذين حضروا هذا الاجتماع المهم الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ الجواهري والشيخ حسين كاشف الغطاء والشيخ رضا

ص: 90


1- سليم الحسيني، المصدر نفسه، ص204.
2- فريق المزهر الفرعون، الحقائق الناصحة في الثورة العراقية سنة 1920 ونتائجها، ط2. (بغداد:1995)، ص196.

راضي والشيخ جواد الشبيبي ونجل شيخ الشريعة(1).

كما عقد اجتماع آخر في منطقة المشخاب القريبة من النجف يوم 29 حزيران 1920 حضره عدد كبير من سادات ورؤساء الفرات الأوسط وقرروا فيه إعلان الثورة وأرسلوا عنهم مندوبين لإطلاع العلماء ورجال الدين في النجف على قراراتهم.

وكانت أهداف الثورة هي: الاستقلال التام للعراق، والدفاع عن عروبته، وقيام حكم دستوري، ديمقراطي، برلماني مستقل كما هو واضح من جميع الوثائق المدونة عن الثورة. ويعود ذلك إلى أن الإنكليز أنفسهم ساهموا في إثارة النزعة الوطنية وحب الاستقلال والحرية في العراقيين حينما وعدوهم بأنهم جاؤوا محررين لا فاتحين.

على أي حال، لقد كلفت الثورة الإنكليز ثمناً باهظاً في الأرواح والأموال مما اضطرهم إلى إعادة النظر في حساباتهم وتغيير مخططاتهم رأساً على عقب، واتخاذ موقف جديد من مستقبل العراق، فبدلوا مخططاتهم من الحكم المباشر الاستيطاني للعراق إلى تشكيل حكومة أهلية فيه، على أن يحكم الإنكليز من وراء الكواليس كمستشارين.

لذلك ساهمت ثورة العشرين في عداء الإنكليز ضد الشيعة، والعزم على معاقبتهم والانتقام منهم، وذلك بحرمانهم من حقوق المواطنة الصحيحة في الدولة الوليدة، وعدم مشاركتهم في السلطة استمراراً لما كان متبعاً في العهد العثماني. وقد لاقت هذه السياسة الرضا والترحيب من قبل النخبة العسكرية والمدنية العراقية التي كانت تخدم الحكم العثماني، وبعد انهيار الدولة العثمانية انضمت هذه الجماعة إلى الشريف حسين، وقد لعبوا فيما بعد دوراً مهماً في

ص: 91


1- عبد الشهيد الياسري، البطولة في الثورة العشرينية، (النجف:1966)، ص162-164.

توجيه سياسة الدولة الفتية ووجهوها وجهة طائفية وساهموا سلباً في مستقبل العلاقة بين مكونات الشعب العراقي(1).

والمقصود بالضباط الشريفيين هم الضباط العراقيون من خريجي المدارس العسكرية العثمانية وخدموا في الجيش العثماني، ثم انضموا إلى الشريف حسين وأبنائه إبان الثورة العربية عام 1916. وهؤلاء هم الذين هيمنوا على الدولة العراقية في العهد الملكي.

وتقول وثيقة بريطانية: إن الضباط القوميين في جمعية العهد الذين كانوا يقيمون في الشام، بعد فشل الثورة العربية (بقيادة الشريف حسين)، تطوعوا بإمرة القوات البريطانية لمقاتلة الثوار في الفرات الأوسط. فأوعزوا إلى أحد أعضاء الجمعية وهو (ثابت عبد النور) للاتصال بوزارة الخارجية البريطانية، عارضاً عليها «إن جمعية العهد يمكن أن تقدم مساعدة قيمة للإنكليز في تهدئة الأوضاع ما بين النهرين». ومع ذلك وبالرغم من اللحظات الدقيقة التي كانت تمر بها السلطات البريطانية في العراق، فقد رفضت هذا العرض. وكان رأي ولسن وكيل الحاكم الملكي البريطاني في العراق «أن هؤلاء السادة - الضباط العراقيين - يرغبون في جذب انتباه الحكومة البريطانية إلى أنفسهم، بأمل أن تؤدي تهدئة الوضع الراهن في الفرات، إلى حصولهم على مناصب جديدة، في ظل الإدارة العراقية». ويضيف: «وكان نوري السعيد قد كتب في الأول من أيلول عام 1920 خلال الثورة انه يضع نفسه للمرة الثانية تحت تصرف المندوب السامي»(2).

وقد سجل التاريخ اعترافات وشهادات من قبل الحكام الإنكليز وعراقيين في

ص: 92


1- عبد الخالق حسين، الطائفية السياسية وأزمة الحكم في العراق، ف5، http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/342.html
2- وميض عمر نظمي، الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية، ص 159 عن وثيقة بريطانية.

العراق على أهمية ثورة العشرين، ودورها في تأسيس الدولة العراقية، إذ تقول المس بيل في أوراقها بهذا الخصوص: «لم يكن يدور بخلد أحد ولا حكومة صاحبة الجلالة، أن يمنح العرب مثل الحرية التي سنمنحهم إياها الآن كنتيجة للثورة»(1).

ويقول ناجي شوكت في مذكراته عن أهمية الثورة: «في اعتقادي انه لولا هذه الثورة العراقية الكبرى، لما استطاع العراق أن يحصل حتى ولا على شبه استقلال، ولا كان من الممكن أن يدخل عضواً في عصبة الأمم، إلى جانب الدول العظمى، التي كانت تتمتع بهذه العضوية. فالعراق الذي أصبح أول دولة عربية مستقلة واحتل مقامه بين دول العالم، في الوقت الذي لم يكن هناك أي بلد عربي يحلم بالاستقلال، إنما هو مدين لثورته الكبرى هذه».

أن الثورة بدأت في الفرات الأوسط، وبتحريض من علماء الشيعة ونفذتها العشائر الشيعية، ولكن لا يعني هذا أن البعض من علماء وشخصيات أهل السنة لم يشاركوا فيها. في الحقيقة إن حرب الجهاد وثورة العشرين قد نجم عنهما أمران أساسيان وفي منتهى الأهمية، هما: إنبعاث روح الوطنية، والتقارب المذهبي. وبذلك توفرت للشعب العراقي فرصة ذهبية ولأول مرة في التاريخ، لنشوء الولاء الوطني، ومنحه الأولوية على الولاءات الثانوية: الدينية، والطائفية، والعشائرية.

لقد كان هناك عدد غير قليل من رجال الدين والشخصيات الوطنية من أهل السنة ساهموا مساهمة فعالة جنباً إلى جنب إخوانهم الشيعة. فقد كان هناك عدد من الفقهاء السنة الذين انظموا للثورة ومنهم مفتي الموصل الفقيه الشاعر محمد حبيب العبيدي الذي ساهم بكل ثقله الوطني في دعم ثورة العشرين، فكتب

ص: 93


1- وميض عمر نظمي، نفس المصدر، ص399.

قصائد شعرية تبدو وكأنها جزء من التراث الشيعي، ومنها هذه الأبيات(1):

ما علمنا غير الوصي وصيّا***أيها الغرب جئتَ شيئاً فريّا

ليس نرضى وصاية لقبيلِ***قسماً بالقرآن والإنجيل

أفبعد الوصي زوج البتولِ***أو تسيل الدماء مثل السيول

نحن نرضى بالإنكليز وصيا؟

أفبعد الحسين سبط الرسول***قد أريقت دماء خير قتيل

نحن نرضى بالإنكليز وصيا؟

ولكن هذا التقارب الطائفي لا يعني أن الجميع كانوا راضين عنه، إذ ذكرت المس بيل في أحد تقاريرها السرية البعض من هؤلاء ومن بينهم، سليمان فيضي الذي قال لها ما نصه: «أنتم لا يمكن أن تتركوا الأمور تجري على هذا المنوال الذي تجري عليه الآن...» ويضيف: «ويمكن أن أقول استطراداً أن هذا الاتحاد المتباهي بين الشيعة والسنة هو من أبغض الأمور إلى نفسي، ويجب أن أعتبر سيطرة الشيعة كارثة لا يمكن تصورها».

أما السيد عبد الرحمن النقيب فقد قال لمس بيل في حديثه معها جاء فيه: «خاتون، أن أمتكم أمة عظيمة وثرية قوية، فأين قوتنا نحن؟ وإنني إذ أقول مثل هذا القول أريد أن يدوم حكم الانكليز، فإذا أمتنع الإنكليز عن حكمنا فيكف أجبرهم على ذلك؟... وإنني أعترف بانتصاركم، وأنتم الحكام وأنا المحكوم...». ثم تطرق إلى الشيعة فأخذ يذمهم ذماً قبيحاً.

موقف المحتلين من الشيعة

ولمعاقبة قادة الثورة، ومكافأة الذين وقفوا ضدها من العراقيين، يقول الميجر

ص: 94


1- حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية في العراق، ص128، مطبوعات CEDI فرنسا عام 1989.

ديكسون وهو بمثابة الحاكم العام للفرات الأوسط: «إن النية يجب ان تتجه لتعيين الرجال ذوي الآراء المعتدلة دون غيرهم في المناصب السياسية، وضرب واضطهاد عناصر الثورة في حالة وجودها». كما وأوضحت المس بل وبانفعال شديد موقفها من الشيعة بالذات قائلة: «أما أنا شخصياً فأبتهج وأفرح أن أرى الشيعة الأغراب يقعون في مأزق حرج. فإنهم من أصعب الناس مراساً وعناداً في البلاد»(1).

ومن هنا نعرف أن الثورة أثارت مشاعر العداء والضغينة عند الإنكليز ضد الشيعة ولم يحاولوا إخفاءها. كما ولاحظ استخدام المس بيل لكلمة (الأغراب) في وصف الشيعة إذ منذ ذلك الوقت بدأت حملة اعتبار الشيعة أجانب في العراق لتبرير حرمانهم من حق المشاركة في الدولة.

ولم يكتف الإنكليز بزرع لغم الطائفية في الدولة الحديثة عند تأسيسهم لها، بل عملوا على تكريس تهمة الطائفية ضد كل من يشكو منها، إذ يقول الدكتور سعيد السامرائي في عقدة الاتهام بالطائفية في كتابه (الطائفية في العراق) ما نصه: «من ضمن الخطة التي وضعها الإنكليز لتدمير نفسية الشيعة العراقيين عندما أسسوا الدولة العراقية مجبرين، نتيجة للثورة العراقية التي فجرها وقادها وتحمل معظم تضحياتها الشيعة عام 1920، هي محاصرتهم بتهمة الطائفية، وذلك كي يردوا بمحاولة نفيها. ومحاولة النفي هذه ستكون:

أولاً: بتقديم آيات الولاء للدولة المضادة للأغلبية الشيعية بمختلف الوسائل التي في أبرزها التحيّز ضد الشيعي في التعيينات والترقيات والترشيحات والإيفادات والبعثات وصولاً إلى مشاركة الدولة وطاعتها بما تقوم به من اضطهاد طائفي ضد الشيعة أنفسهم، كما ونجد ذلك واضحاً وجليّاً وبطريقة عملية عند تشكيل أوَّل حكومة عراقيّة على أثر إنتصار الثورة، فقد تشكلت أول حكومة

ص: 95


1- حسن العلوي، نفس المصدر، ص134.

عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب وضمت تسعة وزراء، سبعة منهم من أبناء العامّة، وواحد من الشيعة، وآخر من الأقلِّيّات وهو يهودي يدعى (ساسون حسقيل)، وقد أعطي وزارة الماليّة، وبذا تفوَّق على الوزير الشيعي(1).

وثانياً: بالوقوف ضد كل شيعي يرفع صوته صارخاً بالمظلومية الواضحة للشيعة خشية أن تثبت تهمة الطائفية لأنهم قد أدخلوا في روعهم أن طلب الإنصاف هو تحيّز مذهبي»(2). علماء الشيعة ومراجعها وقاداتها لم يكونوا ببعيدين عن هذه السياسة الطّائفيّة، بل ان الأمر بدا جليّاً أمامهم، فجاهدوا مُحاولين كشف ذلك للأمّة من جهة، ومُخاطبة الحكومة، ومطالبتها بوضع حَدّ لهذه الإستراتيجيّة الاستعمارية من جهة أخرى، فعلى سَبيل المثال بعث الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء عام (1354ه) بمذكرة إلى الملك غازي، أبدى إستياءه من تقييد حريّة الصحافة والتمييز الطائفي الذي لحق بالأكثريّة الشيعيّة، وتجريدها من هويتها الوطنيّة، ودعى إلى إلغاء الضرائب، وتقليل عدد المُوظّفين في الدوائر الحكوميّة، وتهذيب مناهج وزارة المعارف، وجعل الدروس الدينيّة كسائر الدروس الأخرى، ومُراعاة العدالة في تقسيم المراكز الصحّيّة والعمرانيّة بين أبناء الشعب، وخاصّة في مدن الجنوب والعتبات المُقدّسة(3).

على أي حال، قرر الإنكليز تشكيل حكم أهلي في العراق وإعطاء المناصب لأولئك الذين ناصبوا الثورة العداء. فقد تأسس الحكم الوطني أو الأهلي في العراق عام 1921 بتخطيط من الحكومة البريطانية، واختير السيد عبد الرحمن النقيب رئيساً للحكومة الأهلية الأولى، مكافأة لإخلاصه للمحتلين، إذ ينقل المؤرخ مير بصري عن النقيب قوله: «إن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وأراقوا دماءهم

ص: 96


1- تاريخ العراق السياسي الحديث، للكاتب عبدالرزّاق الحسني: ص30.
2- سعيد السامرائي، الطائفية في العراق، ص 123-124، ط1، 1993، مؤسسة الفجر، لندن.
3- تاريخ الوزارات العراقيّة، للكاتب عبدالرزّاق الحسني: ص111.

في تربتها، وبذلوا أموالهم من أجلها، فلا بد لهم من التمتع بما فازوا به»(1).

وهذا هو ديدن العملاء في بيع الوطن مقابل امتيازات السلطة والتي عادة ما تكون خدمة للأجنبي المستعمر وقهر الشعب وسلبه حقوقه وثرواته.

موقف الدولة من المرجعية الشيعية

إن حرب الجهاد وثورة العشرين قد بينتا بوضوح ما للمرجعية الدينية الشيعية من نفوذ قوي في البلاد وتأثيرها الروحي على الجماهير. فكلمتهم مسموعة وبذلك كانوا يشكلون خطراً على سلطة الاحتلال، ومن بعدها على سلطة الحكم المرتبط بالدوائر الاستعمارية، إذ يقول الباحث إسحاق نقاش في هذا الخصوص: «وكان وجود مؤسسة دينية (شيعية) على هذا القدر من الاستقلال والنشاط السياسي، يشكل خطراً على السلطة العراقية الوليدة. لذا سعت الحكومات السنية العراقية المتعاقبة إلى اجتثاث سلطة المجتهدين الشيعة والمؤسسات الشيعية في البلاد». بالطيع ليس من منطلقات عقائدية بل لان تلك الحكومات بأشكالها العسكرية والقومية والحزبية كانت تابعة لهيمنة الدول الأجنبية لتحقيق مصالحها الانوية والحزبية ضد مصالح الشعب العراقي، وهي في نوبات قلقها المستمر من المرجعية الشيعية نراها لا تفتا تحاربها بشتى الوسائل الوحشية والدموية ليس لاختلاف فقهي أو تشريعي بل لأنها أدركت ومنذ ولادة الوعي الوطني المعاصر للشعب العراقي إن المرجعية لسان الشعب العراقي حينما يظلم وتصادر حريته، وهي منطلق لثوراته ومرتكز لضمان كرامته وسيادته.

أزمنة الرماد

اشارة

عانى الشعب العراقي الأمرين من الحكومات التي توالت على سدة الحكم في الدولة العراقية الحديثة التي نشأت بين الاحتلال الانكليزي 1914والاحتلال

ص: 97


1- مير بصري، أعلام السياسة في العراق، ص 137.

الأمريكي 2003، ومن أهم سمات هذا العهد:

- التبعية للقوى الأجنبية.

- الحكومات الدكتاتورية.

- مصادرة حقوق وحريات الأغلبية.

- التمييز الطائفي والقومي.

- الحروب العشوائية.

- استنزاف ثروات الشعب العراقي لجماعة السلطة (عائلة /عشيرة /حزب).

وقد أدى كل هذا الى انتشار الخراب والفساد والدمار الذي أصاب الإنسان والأرض وعطل عجلة النمو والحياة وحول أغنى شعوب العالم الى مجاميع من الفقراء في جبال الشمال أو في أراضي أهوار الجنوب الجافة.

وفيما يلي نستعرض ملامح كل مرحلة من مراحل هذه العهد:

الملكية

كانت حكومة فيصل الأول تحت الانتداب البريطاني وهي حكومة صورية تنفذ وتطبق السياسة البريطانية، وحتى بعد حصول العراق على الاستقلال التام فقد ظلت السلطة بيد الانكليز بشكل علني وجلي، ويوم شعر الانكليز بالقلق إزاء حركة مايس 1941 وإمكانية اتصالها بالدولة الألمانية قاموا باحتلال العراق مرة أخرى. علما إن القوات والقواعد الانكليزي العسكرية ظلت جاثمة على الأراضي العراقي مرة بحجة الانتداب وأخرى بالاحتلال وثالثة باتفاقيات مذلة ومهينة تكرس التبعية لها، وفي هذا الصدد يقول السيد محمد الشيرازي في كتابه تلك الايام:(إن الحكومات التي تعاقبت على العراق في العهد الملكي أبقت العراق ضمن رابطة الشعوب البريطانية. - ومن يتصفح بنود المعاهدات التي أبرمت خلال تلك الفترة مع بريطانيا تتجلى له هذه الحقيقة).

وغني عن القول إن الثروات العراقية كانت تستنزف لصالح بريطانيا ولدعم

ص: 98

مجهودها الاستعماري العالمي آنذاك وخصوصا في فترة ما بين الحربين العالميتين (الاولى والثانية) 1914-1945 م.

وكانت من أهم ملامح سياسة الحكومة الملكية تجاه الشعب العراقي هي:

- التمييز الطائفي العنصري: وذلك بحرمان الأغلبية الشيعية وخصوصا في مناطق الوسط والجنوب مما كانت تقدمه الحكومة لبقية المناطق او المكونات من بناء مدارس أو مستشفيات أو تعبيد طرق وغيرها، ولم يقبلوا في الوظائف الحكومية ونادرا ما كان الملك يتذكر فضل الأغلبية التي قامت بثورة العشرين وكانت سببا في وصوله الى الحكم في وقت كان متسكعا في لندن بعد أن طردته القوات الفرنسية من سوريا تنفيذا لاتفاقية سايكس بيكو، فكان جلالته! يقدم على استحياء مشاريع خدمية بسيطة جدا، مثلا وجه في عام 1928 أمراً عن طريق رستم حيدر رئيس الديوان الملكي، إلى رئاسة الوزراء، يطالب فيها تأسيس مدرسة لإعداد الموظفين ومن جميع الفئات وخاصة الشيعة كونهم حرموا من التمرن على فنون الإدارة أكثر من غيرهم في العهد العثماني، وحتى مثل هذه المشاريع على تفاهتها لم تكن تمرر ولا تنفذ، فقد رد عليه وزير المعارف توفيق السويدي بمذكرة مطولة يفند فيها الفكرة من الأساس، ودون أن تتضمن أية حجة قوية في محاولتها نسف الفكرة. ومما جاء في مذكرة السويدي قوله: «يتراءى لي أنه من الأمور المسلَّمة أن تتحكم العاصمة والمدن العظيمة في بلاد ما بمقدرات الأقسام الأخرى التي هي أقل شأناً منها، وهذا قانون اصطفائي طبيعي في العالم!!» ورغم إصرار الملك على تنفيذ المشروع إلا إنه لم ينفذ لأنه وكما يقول عبد الكريم الأزري: «كان سيمس جوهر النظام القائم على احتكار أجهزة الدولة المدنية منها والعسكرية من فئة واحدة تقريباً. وبوفاة الملك فيصل عام 1933 ماتت الفكرة معه!!»(1).

ص: 99


1- مشكلة الحكم في العراق، عبد الكريم الأزري، لندن، 1991، ص 16-22.

- غياب التمثيل السليم للأغلبية الشيعية في السلطة التشريعية (البرلمان) أو السلطة التنفيذية (الحكومة) أو السلطة القضائية (المحاكم): فعلى مستوى السلطة التشريعية وبعد سلسلة ثورات الفرات في اواسط الثلاثينيات من القرن العشرين والتي كشفت عن استياء الشيعة من سياسة التمييز الطائفي ورفضهم لواقعهم المر، وبعد قمع السلطة لهذه الثورات بحيث لم يعد هناك خطر داهم منها، وما يعنيه من توقع أن تتوجه السلطة لإجراء عمليات استرضاء وإن كانت ذات آثار بسيطة على الواقع، كان رد السلطة هو ترتيب عمليات انتخابات مجلس الأمة في 8/8/1935، بحيث انتخب لمحافظة البصرة التي يسكنها 90% من الشيعة 7 نواب من السنة ونائب واحد لكل من الشيعة واليهود والنصارى! ثم مجلس 1936/1937 صار للشيعة نائبان مقابل 6 نواب من السنة. وفي مجلس 1936/1937 هذا «انتخب» لمحافظة بغداد (50% من سكانها شيعة وقتئذ) 11 نائباً من السنة ونائبان لكل من الشيعة واليهود ونائب من النصارى(1).

- مصادرة الحريات وقمع الوطنيين وقتل وتشريد العشائر المطالبة بحقوق أبنائها والتضييق على علماء الدين ومحاولة فصلهم عن قاعدتهم الشعبية وترويج ثقافات الانحلال والانحراف.

وقد واجه المراجع وعلماء الدين هذه السياسات اللامسؤلة بالنصح والإرشاد كما يبين السيد محمد الشيرازي في اللقاءات التي كان يقوم بها علماء الدين مع القادة السياسيين وكذلك في إطلاق المطالبات التي تعبر عن حقوق الشعب العراقي والمبادرات الإصلاحية ولعل أهمها ميثاق مؤتمر النجف التي يذكرها السيد محمد الشيرازي في كتابه (تلك الأيام)، حيث اجتمع في النجف أكثر من مائتين من القادة السياسيين وشيوخ العشائر وعلماء الدين وبحضور المرجعية وخلص المؤتمرون في

ص: 100


1- المصدر السابق، عبد الكريم الأزري، ص 108-113.

في آذار/ مارس عام 1935، الى إصدار مشروع إصلاحي رفع الى الملك غازي وإلى رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، وتضمَّن اثنتي عشرة مادّة جاء فيها:

المادّة الأولى: لقد تمشَّت الحكومة العراقية، منذ تأسيسها حتى اليوم، على سياسة خرقاء لا تتفق ومصالح الشَّعب، واتخذت سياسة التفرقة الطائفية أساساً للحُكم، فتمثَّلت أكثرية الشَّعب بوزير واحد أو وزيرين، ممَّن يسايرون السُّلطة في سياستها، على الأكثر، وعلى مثل هذا الأساس تمشَّت الحكومة في سياسة التوظيف، فظهر التحيُّز صريحاً في انتقاء الموظفين، فظهر التحيُّز صريحاً في انتقاء الموظفين وأعضاء (مجلس الأمة»، بينما (القانون الأساسي) (الدستور) لم يفرِّق بين أبناء البلاد، كما نصَّت (المادّة السادسة)(1) من (القانون الأساسي)، فلإيجاد الاستقرار والطمأنينة في نفوس الشعب، ورفع التفرقة بين أبناء الأمة، يجب أن يساهم الجميع في (مجلس الوزراء) وفي (مجلس الأمة)، وفي سائر وظائف الدولة، كما يساهم في الجندية والضرائب.

المادّة الثانية: إن طريقة الانتخابات الحاضرة، أُسيء استعمالها حتى أصبح (مجلس الأمة) لا يمثل الشَّعب تمثيلاً صحيحاً. وضماناً لدفع التلاعب من ناحية الحكومة، نرى وجوب تعديل (قانون الانتخاب) على أساس ضمان الحرية المطلقة بوضع القيود التي تمنع الحكومة من التدخُّل المباشر وغير المباشر، وأن يكون الانتخاب بدرجة واحدة، واعتبار كل (لواء) منطقة انتخابية مستقلة.

المادّة الثالثة: لمّا كانت المادّة (77) من (القانون الأساسي)(2) تنصُّ على

ص: 101


1- جاء في المادّة «6» من القانون الأساسي العراقي: «لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون، وإن اختلفوا في القومية والدِّين واللغة».
2- جاء في المادّة «77» من القانون الأساسي العراقي: «يجري القضاء في المحاكم الشَّرعية وفقاً للأحكام الشَّرعية الخاصة بكل مذهب من المذاهب الإسلامية بموجب أحكام قانون خاص، ويكون القاضي من مذهب أكثرية السُّكان في المحل الذي يُعيَّن له، مع بقاء القاضيين السُّنيين والجعفريين في مدينتي بغداد والبصرة».

وجوب تعيين القُضاة الشرعيين من مذهب أكثرية السُّكان، في حين أن سلطات القضاء الشرعي منحت للحكَّام من مذهب أقلية السُّكان، فنطلب تطبيق أحكام المادّة المذكورة من (القانون الأساسي)، مع لزوم تدريس أحكام (الفقه الجعفري) في (كلية الحقوق» العراقية.

المادّة الرابعة: لما كانت (محكمة التمييز العراقية) المرجع الوحيد للحفاظ على أرواح وأموال الشَّعب، وقد سبق أن مُثلَّت الطائفتان، المسيحية واليهودية والعناصر الأخرى فيها، فعليه نطلب أن يكون في كل فرع من فروع المحكمة المذكورة عضو شيعي لتطمئن النفوس بأحكام المحاكم.

المادّة الخامسة: لما كانت الصحافة لسان حال الشعب الناطق، فيجب إطلاق الحريات الكاملة للصحافة، ورفع القيود الإدارية، وحصر المسؤوليات بالمراجع القضائية، تمشياً مع روح المادة (12) من (القانون الأساسي)(1) (الدستور).

المادّة السادسة: لما كانت الأوقاف العامّة أوقافاً إسلامية خصَّصت لخدمة الشَّرع الشريف، وإعاشة المتفرِّغين لهذه الخدمة، وما يتفرَّع عنها، غير أن سياسة الحكومة اتجهت إلى نواح أخرى، وأصبحت مواردها تُصرف على تشكيلات الأوقاف الإدارية وأهملت دُور العِلم، ومساجد العبادة، فعليه يجب الإقلاع عن هذه السياسة في إدارات الأوقاف العامّة، وصرف مواردها على المؤسسات الإسلامية بصورة عامة.

المادّة السابعة: تعميم وتعديل لجان تسوية الأراضي التي يتم بواسطتها الاستقرار الزراعي. كما نطلب الإسراع في تنفيذ قانون البنك الزراعي والصناعي،

ص: 102


1- جاء في المادّة «12» من القانون الأساسي العراقي: «للعراقيين حرية إبداء الرأي، والنشر، والاجتماع، وتأليف الجمعيات، والانضمام إليها، ضمن حدود القانون».

وتمليك الأراضي لأربابها من غير بدل.

المادّة الثامنة: إلغاء ضريبتي الأرض والماء، واستبدال ضريبة (الكودة) على المواشي بضريبة استهلال، وعدم فرض الضريبة على الآلات الرافعة.

المادّة التاسعة: إن وظائف إدارة الدولة في تضخم مستمر بسبب عدم استقرار الملاك. وإن رواتب الموظفين في تزايد بصورة لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي، ومع مستوى المعيشة، كما أن الموظفين قد تمادوا في الاستهتار بمصالح الشعب بعدم رعاية القوانين. فيجب اتخاذ تدابير سريعة لاستبدال موظفي الدولة المعروفين بسوء السلوك والسمعة، والتخفيف من نفقات الدولة بتخفيض رواتب الموظفين الضخمة إلى الحد المعقول.

المادّة العاشرة: إن معظم مؤسسات الدولة، الصحية والعمرانية والتهذيبية، لم تراع في توزيعها النسبة العادلة بين أبناء الشعب، خصوصاً في المنطقة الجنوبية من العراق. كما يجب وضع الأنظمة والقوانين لمنع تفشِّي الأمراض الاجتماعية والأخلاقية، وتهذيب مناهج المعارف، وجعل (الدُّروس الدِّينية) كسائر الدروس ذات درجة في الامتحان. والسعي وراء صيانة الأخلاق بمنع (البغاء).

المادّة الحادية عشر: عدم التعرُّض للأفراد بسبب الاشتراك في الحركات الوطنية الحاضرة من أبناء الشَّعب أو من الموظفين وأفراد الجيش والشرطة.

المادّة الثانية عشر: توقيف أحكام القوانين التي تعارض هذه الطلبات، واستبدالها بما يضمن تنفيذ الطلبات المتقدمة(1).

وبغض النَّظر عن النتائج التي ترتبت على هذا المشروع الإصلاحي، فإن المرجعية أقدمَت على تجربة إصلاحية كشفت عن وعي سياسي ناضج ذاك

ص: 103


1- عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية، ج 4، ص 92 وما بعدها، ط 7، دار الحرية للطباعة، بغداد 1988.

الذي آثر العمل السِّلمي على العمل المسلَّح، وعن وعي سياسي نجحت من خلاله في نقد طائفية الدولة بعيداً عن أية طائفية دينية مماثلة عندما رجع إلى (القانون الأساسي العراقي) (الدستور العراقي في العهد الملكي)، والى روحه المدنية ما يتعلق بتطبيق العدالة وإحقاق المساواة بين أبناء الشعب العراقي.

وبعد تأييد الشعب العراقي لهذه الوثيقة الإصلاحية قامت الحكومة بقمع مظاهر التأييد بكل وحشية وتحولت انتفاضات الجماهير في الرميثة 1935وسوق الشيوخ 1936 والفرات الأوسط الى مجازر بشعة للقوات العسكرية بحق المدنيين العزل.

المد الشيوعي

السياسة التي اتبعتها الحكومات وبتوجيه من الانكليز من حرمان للأغلبية ومصادرة الحقوق وإدارة متخبطة ونشر الفساد والانحراف بحجة عصرنة الشعب العراقي من خلال أماكن شرب الخمور والدعارة والقمار هيأ المناخ المناسب لانتشار الأفكار الشيوعية في وسط وجنوب العراق ومع قيام انقلاب 1958 سادَت العراق موجات وتيّارات إلحاديّة، اجتاحَت فغيَّرت عقائد الكثير من النّاس، وأصبحت الظُّروف استثنائية.. تيّار إلحادي طغى على الشّارع وحتّى على المَسرَح السِّياسي وارتَكَب العَديد من الفَجائع والأعمال السيّئة، حيث تمَّ قتل العديد من النّاس، ووضع ثقافة المُسلمين في العراق في وضع الاستهداف، بُغية تحطيم الكيان الثّقافي والرّوحي للشَّعب العراقي، حيث كانوا يتهجَّمون على التجمُّعات الدينيّة، وكذا كانوا يتهجَّمون على الشخصيّات الدينيّة، بل كانوا يتهجَّمون على العلَماء ومراجع التَّقليد، حتّى انَّه في أحد جرائدهم نشرت صورة كاريكاتوريّة في ذلك الوقت لأحد مراجع التَّقليد، كان الوجه والرَّأس لذلك المَرجع، والجسم لشيء آخر يسيء إلى المَرجع، كانت عمليّة إساءة وتسقيط.

كانت هذه التيارات تمثل احتلالا من نوع اخر يستهدف عقيدة الإنسان وقيمه

ص: 104

وكأنها حلقة متممة لما بدأ بتخريبه الاستعمار والحكومات العميلة له من خراب الأرض والوطن ومؤسسات الدولة..

هذه التيارات أطلق لها العنان في زمن حكم عبد الكريم قاسم وكانت تحاول أن تستحوذ على الشَّباب، وتثير التحلُّل والانحلال الخُلقي، وتمارس نفس قمعية من سبقها من الحكومات.

وبالمقابل كان هناك تيار قومي عنصري ينمو في المناطق العربية الأخرى، مغذيا الأحقاد العنصرية ضد كل ما هو ليس بعربي، فيتخذ المواقف العنصرية تجاه القوميات من الأقليات الأخرى، وحتى يتفرد بهذه الهوية فانه يبتكر نظرية جديدة في إسقاط الهوية العربية عن الأغلبية الشيعية وإطلاق مقولة كل شيعي ليس بعربي، وبالرغم من تفاهة وسخافة هذه النظرية إلا إنها وجهود المخابرات الامبريالية سرعان ما جندت لها أقلام عشرات الكتاب في ذلك الوقت(1).

هذان التياران تجليا بشكل واضح بعد انقلاب 1958وكان على عبد الكريم قاسم ان يلقي بثقله الى أحدهما او يلعب بصعود وهبوط كل طرف على حساب الطرف الاخر وهي سياسة خطرة سرعان ما ادت الى سقوطه.

وقد بدأت بوادر الخلاف مبكرة بين هذين التيارين حيث كانت القوى القومية بزعامة عبد السلام عارف وحزب البعث تنادي إلى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، في محاولة لخلق حالة من التوازن السياسي، بينما حاول الحزب الشيوعي العراقي الذي كان معارضا لفكرة الوحدة إلى طرح فكرة

ص: 105


1- هذه النظرية الطائفية ضد الشيعة انتشرت انتشار النار في الهشيم، وأصبحت الراية التي تقاتل تحتها دكتاتوريات عبد السلام والبكر وصدام وهي التهمة التي ما يزال يحارب بها الشيعة الى الآن في الحكومات الجائرة والفضائيات الطائفية.

التعاون مع الجمهورية العربية المتحدة في المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية بدلا من الوحدة السياسية والعسكرية الشاملة.

تدريجيا ساءت علاقات عبد الكريم قاسم مع بعض زملائه من أعضاء تنظيم الضباط الوطنيين أو الأحرار ثم تعكرت علاقته مع التيارات الوحدوية والقومية التي لعبت دورا في دعم انقلاب سنة 1958.

أما التيارات المتصارعة في الحزب الشيوعي العراقي فكانت طامحة للتحالف مع العميد عبد الكريم قاسم والتي كانت تمتد علاقتها معه منذ أمد بعيد حيث اعتقد قاسم أن بعض حلفاءه الشيوعيون أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم، وخاصة بعد تزايد نفوذ الحزب الشيوعي بعد ذلك الشعار التي كان يردده الكثير من الشيوعيين ومؤيدي الحكومة في إحدى المسيرات: «عاش الزعيم عبد الكريم، الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم» وجعلته يصمم منذ ذلك اليوم على تحجيم التيار الشيوعي المتحفز لقلب نظام الحكم وتقليم أظافره فقام بسحب السلاح من ميليشيا الحزب واعتقال معظم قادتها إلا أنه أبقى على التيار الموالي له وكان من قياداته العميد الطيار جلال الدين الأوقاتي قائد القوة الجوية والمقدم فاضل عباس المهداوي ابن خالة قاسم.

إن أبرز ملامح سياسة حكومة الجمهورية الأولى هي:

- ابتعاد عبد الكريم قاسم عن السياسة الطائفية: وفي عهد حكمه بذل قاسم جهداً استثنائياً وتدريجياً، وبهدوء للتخلص من جميع أشكال التمييز العرقي، والديني، والطائفي بحيث كادت الطائفية أن تختفي، حيث أكد على عدم الأخذ بالعرف السائد الذي كان معمولاً به في العهد الملكي في رفض الطلبة الشيعة في الكلية العسكرية، والضباط الشيعة على قلتهم في كلية الأركان، وفي مناصب الدولة الأخرى. كان سلوك قاسم في عدم التمييز بين أبناء العراق على أساس

ص: 106

مذهبي يعتبر انقطاعاً مع الموروث، وخروجاً على أحد أهم أركان السياسة العراقية التي بدأت منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921(1).

- الانفراد بتشريع قوانين لها مساس بالتشريع الإسلامي: يبدو إن حمى الثورية والرغبة بتغيير أحوال البلد بشكل انقلابي دفعت قاسم الى إطلاق حزمة من القوانين التي لها مساس بالتشريع الإسلامي وبالأعراف والتقاليد الاجتماعية دون مناقشتها من قبل السلطة الدينية، وهذا ما دفع المرجعية الى نقد هذه القوانين والتحذير منها.

- القفز على الواقع في إصدار القوانين: مثل قانون الإصلاح الزراعي، وكأن المشكلة تتعلق بالقوانين، وليس في الإعداد الحقيقي في تنفيذ القوانين، واهم ما في القانون إن يكون في مصلحة من شرع له، وليس لتحقيق هوى المشرعين (الواضعين له)، وان تتوفر الشروط الموضوعية لتطبيقه وهذا ما حصل فكثير من القوانين تثير لغطا ونزاعات وصدامات ثم تتحول حبرا على ورق أو تؤدي الى بروز نتائج سلبية اشد ضررا.

الانقلاب القومي

العنصرية القومية اتجاه عنصري قديم، متبلور عن العصبيات البدائية القبلية. فقبيلة قريش كانت تحمل طابعاً قومياً عنصرياً، فجاء الإسلام وألغى هذا التوجه واستبدله ب- «ليس لعربيّ على أعجَميّ فضل إلاّ بالتَّقوى»(2). إلاّ أنَّه وبمُرور الزَّمن ظهرت القوميّة بطابع سياسي، بعد أن تَبَلوَرَت وتأصَّلَت أيّام حكم معاوية بن أبي سفيان، فأسَّس ملكه في الشّام على هذا الأساس، وهذَّب عقول الشاميّين عليها، بل إن الكثير من الباحثين ذهبوا إلى إن الدولة العربيّة القومية والوحيدة في

ص: 107


1- الطائفية في العهد الجمهوري، عبد الخالق حسين، http://www.abdulkhaliqhussein.com.
2- بحار الأنوار: ج73، ص350. شرح نهج البلاغة: ج1، ص128. تحف العقول: ص34.

التاريخ هي الدولة الأمويّة(1).

إن التأريخ يُعيد نفسه - كما يقال - ، فقد فظهرت أطروحة القوميّة في البلاد الإسلامية مَرّة أخرى في مطلع القرن العشرين، ليظهر معها دعاتها وأنصارها، إلاّ إنها هذه المَرّة مشوبة بالاشتراكية، فظهر (عفلق) في سوريا و(جمال عبد النّاصر) في مصر كرائد للقوميّة العربيّة الحديثة، وقد تقمّص الأخير تعصُّب ودهاء معاوية، فعمل من أجل ما يدعيه من الوحدة العربية، متجاهلاً نظرية الوحدة الإسلاميّة، فالإسلام لا يشكِّل لديه شيئا يذكر.

بهذه الأفكار العُنصريّة تدخَّل عبد الناصر في الشؤون الداخليّة للدول العربيّة، فحارب اليمن والعراق حرباً باردة لعدم إتِّفاقهما معه، لاختلاف المصالح والآراء، إلاّ أن عبد الناصر وَجَد أخيراً من يكون له أذن صاغية، ويد ضارية في العراق، وهو (عبد السَّلام عارف) ذو الفكر القومي العنصري المتشدّد، فبدأ التَّخطيط والتعاون، فكان انقلاب 8 شباط عام (1963م)، وبذلك أصبح للفكر القومي موطئ قدم في نظام الحكم والسلطة المُطلقة في العراق، وبناءً على قاعدة (كُلّ شيعي عجمي) تعرَّض الشيعة لأقسى أنواع التنكيل والاضطهاد وانتقام عبد السَّلام وأزلامه. يقول الإمام الشيرازي: «كان عبد السَّلام ضدّ الشيعة بكُلّ ما تعنيه الكلمة»(2).

كان حكم عبد السلام عارف بداية لفصل اشد دكتاتورية وطائفية وقمعية فقد ابتدأ ساعاته الأولى بقتل رفيقه عبد الكريم قاسم مع زملاءه الآخرين في استديو الإذاعة بعد محكمة صورية لم تستمر إلا بضع دقائق بعدها أطلق الانقلابيون الرصاص على الزعيم قاسم ومن معه من قبل قيادة حزب البعث، وهكذا تم

ص: 108


1- التأريخ السياسي للدول العربيّة، للدكتور عبد المنعم ماجد: ص9.
2- الأخ الشهيد السيّد حسن الشيرازي، للإمام الرّاحل السيد محمد الشيرازي، ص31.

تدارك ما أعتبر خللاً في الأعراف التقليدية بوجود نظام عبد الكريم غير الطائفي، كما وتدارك عبد السلام عارف نفس الخلل المتمثل بوجود أغلبية شيعية في قيادة حزب البعث المدنية، فقام بحركة 18 تشرين الثاني عام 1963 ضد حزب البعث للتخلص من البعثيين الشيعة، ففي البيان الأول لحركة عبد السلام عارف، أشير إلى هؤلاء بكلمة الشعوبيين، وهو الوصف الذي يستخدمه الطائفيون في الحركة القومية للشخصيات الشيعية(1).

ويتوصل بعض الباحثين الى إن وضع الشيعي في السلطة وفي جميع الفترات هش دائماً، مهما بدا للناس انه قوي ومؤثر، وان العراقي في المفهوم الرسمي يظل طائفياً إذا لم يشترك في حملة اضطهاد الشيعة وإن كان سنياً كعبد الكريم قاسم. وهذا يجعل شيعة السلطة في مأزق فلا هم محسوبون على السلطة، ولا هم محسوبون على الشيعة(2).

وعن طائفية الرئيس عبد السلام عارف، يقول الدكتور سعيد السامرائي: عرف الرئيس العراقي عبد السلام عارف بالتطرف في طائفيته ضد الشيعة حيث كان لا يحتمل رؤية الشيعي حتى أنه قطع زيارته لشركة التأمين الوطنية يوماً (في عام 1965 أو 1966) لأنه وجد أن مدراء ورؤساء أقسامها وشُعَبها هم إما من الشيعة أو المسيحيين والذين تبوءوا هذه المناصب بكفاءتهم في هذه المهنة (التأمين) التي لا تحتمل وضع غير الكفوء فيها. مثل هذا الرجل لا يمكن أن ينتظر منه إصلاح لأنه غارق بالطائفية إلى درجة لا يستطيع فيها أن يرى سبيلاً آخر. هذا علاوة إلى جهله المركب عموماً(3).

ص: 109


1- ليث عبد المحسن الزبيدي، ثورة 14 تموز 1958 في العراق، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1979 - مقابلة شخصية بين المؤلف مع السيد هديب الحاج حمود، بتاريخ 21-6-1977، في العراق، ص404-405.
2- هاني الفكيكي، أوكار الهزيمة، دار رياض الريس، لندن، 1993، ص349-350.
3- هاني الفكيكي، نفس المصدر، ص 273.

ولأن السياسة كانت شبه محتكرة على العرب السنة منذ تأسيس الدولة العراقية، وهذا الاحتكار بدأ يخف تدريجياً في العهد الجمهوري القاسمي، ولكنه لاقى صعوداً حاداً وسريعاً في عهد حكم الأخوين عارف، لذا توجه الشيعة للتجارة فنجحوا فيها أيما نجاح. وفي هذا الصدد يقول حنا بطاطو: أنه (بعد هجرة اليهود في الخمسينات)، ملأ الرأسماليون الشيعة إلى حد كبير الفراغ الناجم في المجال التجاري البحت. ووصل هؤلاء في منتصف الخمسينات إلى شغل المراكز المسيطرة في أسواق بغداد الخاصة بالأقمشة والثياب والقمح. ودخلوا غرفة تجارة بغداد أيضاً. وبينما كان لهم في السنة المالية 1935م مقعدان فقط من أصل ثمانية عشر مقعداً في اللجنة الإدارية للغرفة، أصبح لهم في السنة المالية 1957 أربعة عشر مقعداً من أصل ثمانية عشر(1). وكانوا قد سيطروا على سوق الشورجة ومجالات أخرى.

ولهذا لما هيمن عبد السلام عارف على السلطة، أصدر قرارات عام 1964، استولت الحكومة على معظم التجارة ولاسيما الخارجية، وكانت القرارات هذه انتقاما من التجار الشيعة الذين تضرروا منها أكثر من غيرهم. وحتى المعامل والمؤسسات الاقتصادية مثل البنوك وغيرها التي تم تأميمها، تم طرد الإداريين الشيعة والمسيحيين، وعين مكانهم ضباط من الجيش. وكانت تلك الإجراءات التعسفية ألحقت أشد الأضرار بالاقتصاد العراقي. وليأتي صدام حسين فيما بعد ليعدم 42 تاجراً شيعياً عام 1992 بحجة عدم الالتزام بالأسعار!.

وبقي عبد السّلام عارف يُعادي الشيعة عامّة، والحوزة العلميّة في النجف الأشرف وكربلاء المُقدَّسة خاصّة، إلى أن عزم الغربيّون على تغييره، فأمروا

ص: 110


1- حنا بطاطو، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، الكتاب الأول، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية الأولى، بيروت، 1992، ص 310.

بإسقاط طائرته في البصرة فسقطت واحترقت(1).

الانقلاب البعثي
اشارة

حزب البعث: تم تأسيس حزب البعث في العراق عام 1948 أي في العهد الملكي في العراق، تم تأسيسه من قبل عراقيين درسوا في سوريا، حيث ان التأسيس الأول للبعث كان في سوريا، وبعد جمع خلايا حزبية أنشأها (ميشيل عفلق) مع خلايا أخرى أنشأها (زكي الارسوزي) المنظّر الحقيقي للبعث إضافة الى تنظيم أسسه (اكرم الحوراني) وتكون الحزب كنتيجة لاجتماع هذه الخلايا والتشكيلات.

وبالرغم من الصراعات الموجودة بينه وبين القوى السياسية الأخرى، إلا إن الحزب دخل (جبهة الاتحاد الوطني) التي تكونت قبل انقلاب 14 تموز 1958، وشارك في الحكومة الجمهورية الأولى في عهد عبد الكريم قاسم وذلك بشخص أمينه العام آنذاك (فؤاد الركابي - الذي قتله صدام في السبعينات) الذي أصبح وزيراً.

وبعد أشهر من الانقلاب العسكري في 1958 تفجّرت الصراعات بين حزب البعث ومعه المجموعات القومية من جهة وبين الزعيم عبد الكريم قاسم ومعه الشيوعيين والحركات الكردية من جهة أخرى، وفي عام 1959 قامت مجموعة من البعثيين (بضمنهم صدام) بمحاولة لأغتيال عبد الكريم قاسم ولكنها لم تنجح، كما ساهموا وبدعم مصري (في عهد جمال عبد الناصر) في التمرد العسكري الذي قاده (الشواف) في الموصل ضد حكومة قاسم.

وتمكن حزب البعث وبالتحالف مع بعض الشخصيات والقوى المدنية والعسكرية القومية من القيام بانقلاب عسكري ناجح (في 14 رمضان 8 شباط

ص: 111


1- الأخ الشهيد السيّد حسن الشيرازي، ص 39-40.

1963) وقاموا بقتل عبد الكريم قاسم والمقربين منه في مبنى الإذاعة وعرضوا أجسادهم المشوّهة بالرصاص والدماء على شاشات التلفزيون ونقلت فيما بعد العديد من التقارير والدراسات وجود دعم أمريكي وبريطاني لهذا الانقلاب للوقوف أمام النفوذ السوفيتي المتزايد في العراق.

وبعد أشهر من انقلاب شباط 1963 تفجرت الصراعات بين جناحين في حزب البعث يقود أحد الجناحين قائد ما سُمي آنذاك بالحرس القومي (منذر الونداوي) ومعه عدد من أعضاء القيادة القطرية، وكما تفجّرت الصراعات بين البعثيين وبين القوميين الناصريين المدعومين من جمال عبد الناصر مما أدى الى نجاح عبد السلام عارف في تنفيذ انقلاب عسكري ضد البعثيين بعد تسعة أشهر من حكمهم الأول واستطاع جذب بعض العسكريين البعثيين الى صفه في الانقلاب الأخير.

وقام البعثيون بمحاولة انقلاب فاشلة ضد عبد السلام عارف عام 1964، واخيراً بعد اربعة سنوات نجحوا في تدبير انقلاب عسكري ضد نظام عبد الرحمن عارف (شقيق عبد السلام عارف الذي توفي في حادث سقوط طائرته عام 965).

حيث نجح جناح البعث المؤيد لعفلق (كان يسمى بجماعة القيادة القومية وكان يسميه المناوئون له بجماعة البعث اليميني او جماعة شركة النفط البريطانية) بتاريخ 17 تموز 1968 من تنفيذ انقلاب عسكري مدعوم من مدنيين بعثيين وبالتواطؤ مع مسؤول الاستخبارات العسكرية عبد الرزاق النايف (قتلته مخابرات صدام في السبعينات في لندن) ومع قائد الحرس الجمهوري (ابراهيم الداوود) في عهد عبد الرحمن عارف، حيث مكنوا الانقلابيين من دخول القصر الجمهوري، وفيما بعد أغتالت مجموعة صدام قارئ

ص: 112

البيان الاول للانقلاب (حردان عبد الغفار التكريتي) في الكويت واغتالت كذلك (ناصر الحاني) الذي كان حلقة اتصال وتمويل بين المجموعة الانقلابية وبين سفارات غربية في بيروت(1).

الحكم البعثي:

لم يُعرَف حزب البعث في العراق وهو خارج السلطة بكونه حزبا ذو قاعدة شعبية واسعة، وانما كان يضم اعداد محدودة موزعة في مناطق ذات توجهات قومية وعشائرية خاصة، ويقال بان عدد اعضائه عند قيامه بانقلاب 17 تموز 1968 لم يتجاوز العشرات ولذا لجأ الى التحالف مع مسؤول الاستخبارات العسكرية في عهد عارف وكذلك طلب دعم بعض الدوائر السياسية والأمنية الغربية.

ولكن عندما يكون في السلطة يستخدم الحزب إمكانات الدولة وأجهزتها للضغط على المواطنين للانتماء بالترهيب والترغيب الى صفوف الحزب، حتى وصلت الحالة في الثمانينات في العراق، هو إن حصول العراقي على حقوق المواطنة يمر من خلال الانتماء الى حزب السلطة الذي هو حزب البعث. ويتم فرض شراء كتب الحزب على الموظفين في دوائر الدولة عند استلامهم لرواتبهم.

ومن يدرس تاريخ البعث في العراق، يكتشف إن أهم الوسائل التي اعتمدها حزب البعث للوصول الى السلطة، ليست هي صناديق الانتخاب أو الحركة الشعبية الواسعة او السبل الدستورية المعروفة وانما أهم وسائله هي الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية وطلب الدعم من دوائر خارجية.

ص: 113


1- أكرم الحكيم، دراسة عن الموقف من البعث والبعثيين الجزء الاول، http://www.albusultan.com/vb/showthread.php?t=311

الأمر الغريب الآخر هو إن المتابع لفترة حكم البعث الأخيرة (1968-2003) سوف يكتشف ان اغلب زعامات الحزب المدنية والعسكرية تم تصفيتها مباشرة او بطرق غير مباشرة من قبل صدام والمقربين إليه وأكبر مجزرة نفذها صدام بحق رفاقه كانت مجزرة حدائق القصر الجمهوري في تموز 1979 عندما أراد احتلال الموقع الأول في الحزب والدولة والجيش بدلاً من احمد حسن البكر حيث قام بقتل حوالي ثلثي القيادة القطرية وعدد كبير من الوزراء البعثيين وعدد من القيادات العسكرية البعثية وعدد من أعضاء قيادة فرع بغداد وغيرهم.

تميزت فترة حكم حزب البعث بقيادة صدام:

- بحملة واسعة لتصفية زعامات وكوادر وقواعد القوى الوطنية العراقية بمختلف توجهاتها الفكرية، وهو الأمر الذي لم تشهد العهود السياسية السابقة (1920-1968) له مثيلاً.

- وبانتهاكات صارخة وواسعة لحقوق الإنسان العراقي حتى بلغت عدد السجون المئات وأعداد المعدومين رسميا مئات الآلاف وأعداد المفقودين مئات الآلاف وأعداد المهجرين والهاربين ثلاثة ملايين عراقي.

- وبشن حروب خارجية على بعض الدول المجاورة للعراق.

- وبتأجيج الصراعات العنصرية والطائفية والاجتماعية والسياسية بين أبناء المجتمع العراقي العريق، وهو ما نشاهد نتائجه ومضاعفاته الخطيرة هذه الأيام.

- تدمير القدرة الاقتصادية للبلد من خلال الحروب وفتح الأبواب واسعة أمام التدخلات الخارجية التي وصلت ذروتها في الاجتياح العسكري الأمريكي للعراق(1).

ص: 114


1- أكرم الحكيم، المصدر السابق.

ومن جملة جرائم البعث البائد نذكر هذه الجرائم(1):

- فرض نظام حزب البعث الصدامي على الشعب العراقي بقوة الحديد والنار في 17 تموز عام 1968.

- ارتكب النظام جريمته التاريخية بإعدام آية اللّه السيد محمد باقر الصدر 8 نيسان 1980 واغتيال آية اللّه السيد حسن الشيرازي وقام بإعدام مالا يقل عن 16 عالما وشخصية من عائلة المرجع الديني السيد محسن الحكيم، كذلك في قتل أبناء المرجع الديني السيد الخوئي، وآية اللّه الغروي وآية اللّه البروجردي، واغتيال الإمام المرجع الديني السيد محمد الصدر ونجليه، وكذلك إعدام المئات من علماء الدين من أمثال آية اللّه السيد قاسم شبر وغيرهم.

- قتل النظام مالا يقل عن مليون عراقي منذ 34 عاما وشمل ذلك قيادات وكوادر حركات المعارضة العراقية وضحايا حروبه العدوانية وقد أعدم النظام مالا يقل عن 000/60 من أعضاء وأنصار الحركات الإسلامية.

- اعتقل النظام مالا يقل عن مليون عراقي منذ 34 عاما، وقد تعرض معظم المعتقلين إلى التعذيب الشديد باستخدام الأدوات الجارحة حيث استخدم النظام (107) طريقة للتعذيب.

- سجن النظام مالا يقل عن مليون عراقي في 300 سجن ومعتقل خاص، وتراوحت مدة محكوميات السجن بين الأشهر إلى مدى الحياة، وقد صفى النظام قتلا مجاميع من السجناء عند تعرضه للأزمات.

- استخدم النظام المواد الكيميائية ضد المعارضة العراقية، حيث استشهد عبد

ص: 115


1- هناك مراكز في داخل العراق وخارجه قد تخصصت بتوثيق جرائم البعث، وصدرت عشرات الكتب الموثقة لجرائم البعث وهناك عشرات المواقع الالكترونية التي تنشر هذه الجرائم موثقة بالأفلام والصور والوثائق.

الصاحب دخيل عندما ذوب النظام جسده بالحوامض المركزة من حامض الكبريتيك وحامض النتريك في مطلع السبعينات.

- إبادة الآلاف من القرى الكردية في شمال العراق، وحرب الإبادة التي بدأها النظام في السبعينات واشتدت في الثمانينات في عمليات الأنفال حيث قتل النظام 180000 كردي.

- استخدام السلاح الكيميائي ضد الشعب العراقي. حيث في 16-17 آذار 1988 قتل 5000 كردي وجرح 10000 آخرين عندما استخدم النظام أطنان من السلاح الكيميائي على منطقة حلبجة الكردية. وقتل وجرح الآلاف أثناء استخدام السلاح الكيميائي ضد المنتفضين في آذار 1991 في مدينة كربلاء المقدسة ومدن أخرى. كما استخدم السلاح الكيميائي في عمليات إبادة الاهوار في الجنوب العراقي.

- إبادة مناطق يسكنها التركمان العراقيون في شمال العراق.. وقد قتل المئات منهم.

- اضطهاد الأكراد الفيلية - وممارسة جرائم حرب إبادة ضدهم.

- اضطهاد الآشوريين، وتعذيبهم وإبعادهم.

- هجر النظام مالا يقل عن رُبع مليون عراقي إلى إيران بتهمة أن أصولهم إيرانية، وحرمانهم من كل ممتلكاتهم وأموالهم. وحجز أبناءهم بين عمر18 و28 عاما منذ نيسان 1980 ولحد الآن لم يعرف مصيرهم.

- قمع النظام حركة المعارضة في داخل العراق، ومنع الحريات، وتشكيل الأحزاب والإعلام الحر. وفرض الانتماء إلى حزب البعث الحاكم.

- جعل النظام عددا من جامعات العراق ومعاهده حكرا على المنتمين لحزب السلطة كدخول كليات مثل التربية والإعلام.

ص: 116

- فرض حزب البعث حكم الإعدام على المنتسبين للجيش العراقي الذين ينتمون إلى أي حزب غير حزب البعث. اجبر الجيش العراقي في خوض حروب ومعارك ليست لمصلحة العراق وانما لمصلحة صدام ودول أجنبية.

- شن الحرب العدوانية على إيران في 22 أيلول عام 1980، والاستمرار في العدوان لمدة ثمانية أعوام، واستخدام السلاح الكيميائي بشكل واسع، وضرب الأهداف المدنية، وتهديد الملايين بالإبادة، وضرب المساجد والمدارس والآثار، والسفن المدنية، ومسؤولية قتل وجرح أكثر من مليون عراقي وإيراني، وتدمير البلدين في مجالات عدة.

- غزو الكويت والتسبب في قتل الآلاف، والاعتداء على الآمنين في2 آب عام 1990.

- التسبب في حرب الخليج الثانية، وتهديد الأمن والسلم في المنطقة الخليجية، والتسبب في قتل عشرات الآلاف من الجيش العراقي.

- تسبب النظام في قتل ما لايقل عن 000/250 عراقي اشتركوا في انتفاضة شعبان - آذار 1991، حيث استطاع الشعب العراقي أن يسيطر على 14 محافظة خلال أسبوع إلى شهر.

- قتل وتهجير نصف مليون عراقي من أهالي اهوار الجنوب - وإبادة الاهوار.

- الجرائم البيئية حيث قام النظام بحرق الاهوار، وحرق آبار النفط الكويتية وعرض مناطق واسعة للدمار بسبب حروبه المتعددة. كذلك عرض الحيوانات والطيور التي كانت تعيش في الاهوار.

- التمييز العنصري ضد العراقيين - حيث ميز بين العربي والكردي والتركماني في المناصب والحقوق والمواقع السياسية.

- التمييز الطائفي بين العراقيين إذ قام النظام بمحاولات الفتن الطائفية،

ص: 117

لإشغال الشعب العراقي بمشاكله الداخلية ولكن الشعب كان أوعى من ذلك.

- استخدم النظام سم الثاليوم لقتل المعارضين - وقد قتل النظام مئات العراقيين من جرائه.

- اخذ الرهائن من أقارب الضحايا واستخدامهم كدروع بشرية وقد استشهد جراء ذلك المئات من العراقيين.

- اعتقال أقارب المعارضين للنظام والموجودين في خارج العراق وتعذيبهم لإجبار أقاربهم على العودة للعراق.

- تعرض أجيال من أطفال وشباب العراق للتخلف الثقافي بسبب الظروف العدوانية التي أوجدها النظام.

- سببت سياسة النظام العدوانية زعزعة سمعة العراق في العالم، والى ربط مستقبل العراق بعشرات القرارات التي هي ضد مصلحة الشعب العراقي، وتعريض أمن وسيادة العراق إلى الانتقاص والتهديد المستمر. إن الطبيعة المشاكسة والعدوانية لنظام صدام والتي تريد أن تفرض شخص صدام على العرب، وعلى العالم، أجبرت الشعب العراقي على دخول الحروب وبالتالي أدت تلك السياسة إلى تأخر أجيال من العراقيين عن الركب الحضاري والثقافي العالمي.

سقط النظام البعثي الصدامي في العراق عام 2003بعد أن تحولت بلاد الرافدين الى بلاد الرماد بكل ما تحمله الكلمة من معاني ودلالات بسبب وحشية النظام تجاه الشعب وبسبب سياساته الرعناء ودكتاتورية الدم على أشلاء أجيال الشعب العراقي وأغلبيته المظلومة.

ص: 118

الصورة

ص: 119

المبحث الثاني: مدخل لفلسفة الرؤية السياسية

الفكر السياسي

على الرغم من تنوع نتاجه الفكري وشخصيته المتعددة الأبعاد التي صنعت من الشهيد اية اللّه السيد حسن الشيرازي فقيهاً ومتكلماً وأديبا وفيلسوفاً ومفكراً، غير أن الجانب السياسي لفكر سماحته يعد الأكثر شهرة وشيوعاً مقارنة بالجوانب الأخرى(1).

أن الفكر السياسي للسيد الشيرازي ما هو إلا أحد أبعاد النشاط الفكري الأساسي والمتعدد الاهتمامات والمجالات لسماحته. وهذا ما منح فكره السياسي حيوية ودينامية جعلته يتغلغل في الأدب والفقه والفكر الاجتماعي والطرح العقائدي والخطاب الديني والحوار الإنساني، حتى يجد المتأمل إن الفكر السياسي للسيد الشيرازي يمتد في جميع مواقف حياة هذا المفكر وأطروحاته لكونه الفكر السياسي المعبر عن الحياة لا عن السياسة، انه الفكر الذي ينطلق من حاجات الإنسان والأمة والمجتمع وليس الفكر السياسي المفروض عليها.

ص: 120


1- ترك السيد حسن الشيرازي إرثا ضخما من النتاج الفكري في مجالات متعددة غير إن شهرة الفكر السياسي يعبر عن خصيصة سيكولوجية بالنسبة للأمة وهي إن الأمة ما تزل متعطشة للمشروع السياسي الإسلامي الذي يمكن أن يخلصها من أزماتها ومن استعبادها لأنظمة سياسية مستغلة ومتخبطة.

وكلمة الفكر في اللغة بمعنى التفكر والتأمل(1) وتعتبر نوع من الفعالية الذهنية للإنسان العاقل لأجل كشف المجهول. وفي كتب المنطق فإن الفكر هو عبارة عن ترتيب المعلومات من أجل كشف المجهولات، أو هو عبارة عن حركة الذهن من المبادئ نحو المطلوب.

والفكر السياسي - هو مجموعة من الأفكار والعقائد التي تطرح وبطريقة عقلائية ومنطقية مع الاستدلال في كيفية بناء الحياة السياسية أو وصفها وبيانها، والفكر السياسي لشخص هي تمثل استطاعته في بيان آرائه وعقائده بصورة عقلائية مع الاستدلال المنطقي، الى الجهد الذي تكون أفكاره وآرائه تخرج عن النطاق الشخصي أو (ليست شخصية).

وتدور اغلب مباحث الفكر السياسي حول الدولة والنظام السياسي وهو في صورته الهيكلية عبارة عن مجموعة المؤسسات التي تتوزع بينها عملية صنع القرار السياسي وهي المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والحكومة هي مؤسسة تعد من أقدم المؤسسات السياسية في العالم.

ص: 121


1- حيثُ جاءتْ مادَّة «فكر» في «لسان العرب» بمعنى إعْمال الخاطر في الشَّيء [ابن منظور: لسان العرب مادة (فكر)]، وفي «المعجم الوسيط» [انظر المعجم الوسيط: إبراهيم أنيس وآخرون، طبعة المكتبة الإسلامية إستانبول، تركيا، الطبعة الثانية (بدون تاريخ)، الجزء الثاني مادة (فكر). ص698]: الفِكرُ مقلوبٌ عن الفرك، لكن يستعمل الفِكرُ في الأمور المعنويَّة، وهو فركُ الأمور وبحثُها للوصول إلى حقيقتها. وجاء عند ابن فارس: «فكَرَ، الفاء والكاف والراء: تردّد القلب في الشيء، يقال: تفكَّر، إذا رَدَّدَ قلبه معتبرًا، ورجل فِكِّيرٌ: كثير الفكر» [مقاييس اللغة، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، عن دار الجيل، الطبعة الأولى 1411ه- /1991م، مادة (فكر)، الجزء الرابع ص446]. وقد وردت مادة (فكر) في القرآن الكريم في نحو عشْرين موضعًا، ولكنَّها بصيغة الفعل، ولم ترد بصيغة الاسم أو المصدر، قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [سورة المدثر، الآية: 18]، وقال تعالى: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 50]، وقال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأعراف، الآية: 176].

وتعرف الحكومة على إنها شكل من أشكال ممارسة السلطة في المجتمعات. ومن أهم العناصر الأساسية المشتركة بين جميع الحكومات وهي (قواعد تنظيم السلوك) و(السيادة) و(الشرعية) و(الاختصاص القضائي) و(تنفيذ القانون)، والبناء الاجتماعي وينشا عبر الترابط بين النظم الاجتماعية منها: (نظام عائلة أو قرابة، نظام سياسي، نظام معتقدات، نظام اقتصادي، نظام ثقافي.... الخ) وتتألف النظم الاجتماعية الرئيسية بدورها من مجموعة نظم فرعية.

كيف نقرأ الفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي؟

أمام فكر عملاق ونتاج عظيم وأطروحات ما تزل متجددة لبناء المستقبل وتطوير الحاضر لابد وان يكون منظور القراءة عنصرا مهما في توجيه القراءة وحصد ثمار التفاعل مع مادة ذلك الفكر، إن ثراء وتنوع الفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي قد يستدعي اقتراح عدة قراءات لهذا الفكر من خلال اختلاف منظور كل قراءة واتجاهها، ومنها:

- قراءة في الخطاب السياسي للسيد حسن الشيرازي: وتنطلق هذه القراءة من تحليل لآليات الخطاب السياسي واتجاهاته ومرتكزاته وبنيته البلاغية والأسلوبية ومدى الانسجام التكويني والبنيوي للأفكار والبنى اللغوية وغيرها من الكشوفات التحليلية التي يمكن أن تتفحص ذلك الخطاب كما ويمكن إضافة قراءات مقارنة حول خصائص الخطاب السياسي للسيد الشيرازي عبر الزمن أو عبر المكان وتحليل تلك الخصائص بما يثري فهمنا واستيعابنا لفكره.

- قراءة تاريخية للفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي: ويمكن أن تتبنى هذه القراءة أهم المحطات التاريخية التي شكلت انعطافات مهمة في ذلك الفكر وتسليط الضوء على أهم أحداث تلك المراحل واكتشاف خصائص كل مرحلة ومدى تأثير الأحداث التاريخية في التشكيل البنيوي للفكر السياسي وتفحص طبيعة النتاج للفكر السياسي لكل مرحلة ومن المؤكد أن تكون هذه القراءة مهمة

ص: 122

ومفيدة باعتبار إن السيد الشيرازي قد عايش التحولات الكبرى في تاريخ العراق المعاصر وهي الفترة الممتدة من منتصف الثلاثينيات الى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين وبذلك فانه عاصر الحكم الملكي والجمهوري والقومي والبعثي.

- قراءة اجتماعية في الفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي: هذه القراءة تنطلق من منظور اجتماعي في تحليل واكتشاف الفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي ويمكن أن تسلط الضوء على مواضيع مهمة منها مدى التناغم بين المتبنيات السياسية للمشروع السياسي له والنظم الاجتماعية السائدة في الأمة بحسب متغيري المكان والزمان وكذلك تحليل المشروع السياسي له وفقا للنظم الاجتماعية في المجتمع الإسلامي لمعرفة مدى تفاعل المشروع السياسي مع بنية الارتباطات والعلاقات في المجتمع الإسلامي ومدى انسجام هذه الرؤية مع النظرية التي يرسم القران الكريم كثيرا من تفاصيلها الاجتماعية.

- قراءة في آليات التنظيم والعمل السياسي: وهي قراءة مهمة يمكن أن تفصل لنا آلية التنظيم السياسي التي دعى لها السيد حسن الشيرازي ومقارنتها باليات التنظيم السياسي التي ظهرت الكثير من عيوبها اليوم بعد أن بدأت الأمة الإسلامية تحرز انتصارات على طريق تحررها من الاستعمار والحكومات المستبدة وتحليل تلك الآليات لمعرفة الأسس النظرية التي انطلقت منها وكذلك معرفة طبيعة الحراك السياسي واتجاهاته الإستراتيجية التي يتبناها في العمل السياسي والكيفية التي يتحرك فيها بين مستويات البنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع.

- قراءة اقتصادية للفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي: تتبنى هذه القراءة المنظور الاقتصادي في بنية الفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي ويمكن أن تنطلق من الأطروحات الاقتصادية المهمة التي تضمنها كتابه (الاقتصاد) ومجموعة الآراء والأفكار التي تضمنها كتابه (كلمة الإسلام) حول الاقتصاد

ص: 123

الإسلامي لا من حيث البحث في أطروحة كينونة الاقتصاد الإسلامي وهويته ووظيفته بل من حيث كونه جزء لا يتجزأ من الفكر السياسي الإسلامي وعنصرا مهما في بناء الدولة والإنسان والمجتمع.

وبالطبع فمن الممكن إيراد عدة مقترحات أخرى وهذه الاقتراحات تبين مدى الصعوبة التي يقع فيها الباحث حينما يتعين عليه تقديم قراءة عامة ومختصرة في مثل هكذا فكر سياسي نجد أنفسنا اليوم مدفوعين لإعادة قراءته لإيجاد منطلقات سليمة في فكرنا الأساسي تصلح لتطوير الواقع وبناء المستقبل على تأصيل متين للمشروع الإسلامي.

إن منهجنا التحليلي في هذه القراءة الموجزة للفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي يتضمن ما يأتي:

1- التركيز على المجالات الرئيسية في مباحث الفكر السياسي والابتعاد عن الخوض في المباحث الفرعية وذكر فقط ما تلزمه الضرورة من شرح المصطلحات والمفاهيم.

2- التأكيد في العرض على المباحث التي تشغل فضاءات الفكر السياسي المعاصر (الآن) وتأجيل المباحث الأخرى في دراسات أخرى يمكن أن تحلل النتاج العام للفكر السياسي للشيرازي.

3- بالرغم من أهمية التحليل المقارن خصوصا في مباحث الفكر السياسي إلا إننا آثرنا عدم الخوض فيها إلا بقدر ما تلزمه الضرورة القصوى.

4- بعض المباحث في الفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي تستلزم عرض وتقييم المتبنيات الفقهية التي ارتكزت عليها مع ذيولها من الأدلة والروايات لكننا لم نخض في تلك المتبنيات الفقهية إلا بما تلزمه الضرورة القصوى وبصورة موجزة وعامة لأسباب منها ما يتعلق بخصوصيات الجدل الفقهي وطبيعة الخطاب الفقهي واللذان يحيلان الى شروحات كثيرة في العرض تهم

ص: 124

المتخصصين في المجال الفقهي.

إن هذه القراءة بعد أن بينت تنوع القراءات وتعددها لمثل هكذا فكر ثر ومعطاء وبعد أن أشارت الى بعض منطلقات المنهج الذي سوف تتبعه في التحليل لابد وإنها تؤكد على إمكانية القراءات المتعددة والمتنوعة للفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي.

أما أهم سمات هذه القراءة فإنها تسعى لكي تكون قراءة ذات منطق واقعي منطلق من أزماتنا التي نعيشها وقد نكون بذلك ننقل إرهاصات المرحلة التي نمر بها الى ذلك الفكر ونتحرك تحت ضغط الأزمة التي نعيشها وبالتالي قد لا تكون قراءتنا للفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي سوى بحث عن حلول للازمات التي نعانيها ربما سوف يكون ذلك اختزالا لاستعراض الفكر السياسي للسيد الشيرازي لكنه سوف يحقق هدفا مهما ومفيدا للقراءة لأنها ليست قراءة من اجل الكشف عن كنوز ذلك الفكر بل محاولة لاستلهامه لفهم واقعنا المعاصر.

ونريد لهذه القراءة أن تكون جريئة في مشارطها التحليلية ودقة غوصها في أعماق فكر عملاق حورب وما يزل مرة من منطلق العداء وأخرى من منطلق الجهل وبالرغم من رسالة اللاعنف التي وسمت حراكه السياسي إلا إن السيد الشيرازي كان على الدوام وفي كل المراحل متبنيا للمنهج الثوري ذلك المنهج الذي قد نستعير منه بعض الجرأة والثورية في هذه القراءة وذلك هو الفهم العميق لمشروع السلام الإسلامي.

إنها قراءة ثورية نتبناها من ذلك الفكر للانطلاق نحو التغيير وفقا للمشروع الإسلامي (إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) إن آليات التغيير تستدعي الجرأة على إعادة تقييم الواقع ليس كنتاج مادي فقط بل كنتاج فكري أيضا وهذا يتطلب الوعي والارتكاز دوما على المعايير الإلهية في التقييم والتقويم.

ص: 125

مدخل لفلسفة الرؤية السياسية

الرؤية السياسية

الفكر السياسي هو مجموع النتاج الفكري في بحث وتأمل ودراسة مجموعة من المواضيع أو المباحث أو المجالات السياسية، وكلما تكثف هذا الجهد الفكري وتمحور حول رؤية سياسية كلما كان أكثر انسجاما وتناغما في استخدام أدوات منهج البحث، وفي الوصول الى نتائج مترابطة متتامة.

فالرؤية السياسية يمكن اعتبارها الحلقة الوسطى(1) بين الرسالة (وهي عادة تكون نظرة عامة وطريق دائم) وبين الأهداف (وهي محددات نظرية قابلة للإنجاز، متعينة بزمان أو مكان أو بكليهما).

فالرسالة عند بعض المفكرين المسلمين هي الإسلام وقد تكون العقيدة المذهبية أو فكر من يؤمن به، والرسالة عند بعض المفكرين الشيوعيين هي الشيوعية وقد تكون أحد مذاهبها أو نظرياتها. والرسالة عند بعض المفكرين العلمانيين هي العلمانية أو نظريات أخرى.

فالرسالة هي الأساس التنظيري الأول الذي ينطلق منه المشروع السياسي، وترتكز عليه جميع الأسس النظرية والتطبيقية اللاحقة ضمن تراتبية منطقية موضوعية متسلسلة.

هذا التأسيس التنظيري قد يكون مهما وضروريا من الناحية النظرية، أما من حيث التطبيق او ممارسة العمل السياسي فقد يكتفي البعض بتجميع أفكار او تصورات للشروع بالعمل، والذي عادة ما يكون عرضة لتناقضات نظرية وتطبيقية عاجلة أو آجلة تفكك بنيويته ومكوناته.

والذي لا ينطلق من رسالة لن تكون له رؤية، وان وجدت فإنها تكون رؤية

ص: 126


1- بحسب المنهج الاستراتيجي الحديث في التخطيط والبناء الفكري والمؤسساتي.

مرحلية بحسب المرحلة التي تعبر عنها أهدافه، وهذه المرحلية اعتمدتها الكثير من جماعات الإسلام السياسي(1) منذ مطلع القرن العشرين والى الآن، وبما إن الأهداف محكومة بالمتغيرات الخارجية فان الكثير من الأهداف يصاحبها التغيير والتعديل مما يضطر من يتبناها الى تغيير رؤيتهم السياسية مما يؤثر على مصداقيتهم لدى أتباعهم وصورتهم لدى مناؤيهم.

إشكالية التأسيس

يفترض التسلسل المنطقي في الأصل أن تكون هناك رسالة عامة (ومن أهم خصائصها أن تكون غائية ونوعية) ومن تلك الرسالة تشتق الرؤية السياسية (ومن أهم خصائصها أن تكون وسيلية ومحددة بمقاييس ومعايير تمكن من اشتقاق البرامج والأهداف السياسية)، ومن الرؤية السياسية تشتق البرامج والأهداف (وهي عادة تكون أدق تعينا، ومحددة بزمان أو مكان أو جماعة بحسب صياغة الهدف وطريقة بنائه).

غير إن هذا التسلسل المنطقي كثيرا ما لا يتم بصورته المتكاملة، فيفقد إحدى حلقاته أو أكثر، مما يجعله مفتقرا الى الاكتمال. وهذا النوع من الافتقار يحافظ على الترتيب المنطقي، فعلى افتراض مختزل إن التسلسل المنطقي يتضمن: الرسالة وهي الإسلام / الرؤية السياسية وهي إن الإسلام دين وحياة / وبرنامج سياسي هو تطبيق الشريعة الإسلامية.

فقد يدور مدار فكر سياسي حول الإسلام كرسالة سياسية ويتوقف عندها، كمن يبحث في الحاكمية وولاية اللّه ورسوله، فهذا الفكر قد تناول الرسالة وتوقف عندها، وبالرغم من أهمية هذا الفكر التأصيلي إلا انه بحاجة الى من

ص: 127


1- من الضروري أن نحدد من هم جماعات الإسلام السياسي؟ وهم الجماعات التي تتفاعل مع المجتمع عبر رسالة نكاد تكون مقتصرة على الإسلام السياسي وما يتصل بها، فالجانب السياسي هو الجانب المضخم والرئيس في الدعوة والتبليغ والإرشاد والحوار والدعاية والإعلان والعمل.

يشتق منه رؤى أو رؤية سياسية تكون أساسا لبناء برامج أو نظريات سياسية.

إن التتميم حالة طبيعية وصحية في الفكر السياسي بصورة عامة، والفكر السياسي الإسلامي بصورة خاصة، لان كل حلقة من تلك الحلقات قد تحتاج الى جهد جبار وعمل مثابر تضيق به إمكانيات الفرد الواحد، فيحتاج الى من يتمم مجالاته الفرعية أو مراحله اللاحقة، وقد يكون التوسع والتعمق هما من متطلبات الحياة السياسية للأمة وحراكها السياسي.

إن الإشكالية عادة ما تحدث حينما يتم قلب ذلك التسلسل المنطق رأسا على عقب، فتكون الأهداف أو البرامج أولا ثم الرؤية ثانيا ثم الرسالة ثالثا، وبما إن الرسالة عامة فإنهم يركزون على عموميتها في جدليات الفكر السياسي ويهملون غائيتها (فلسفتها الوظيفية) ويغيبون الرؤية السياسية تماما أو يجعلونها متغيرة تبعا للأهداف والبرامج السياسية.

فقد تؤسس جماعة حزبا وينتخب له رئيسا وقيادة ويحدد هدفه وهو الوصول الى السلطة.

قد يكون الطابع العام لذلك الحزب إسلاميا ويتبنى الرسالة الإسلامية في مجالات عدة (عامة)، لكنه هل تبنى الرسالة الإسلامية لتأسيس رؤية سياسية إسلامية مشتقة من نظم وفلسفة تلك الرسالة؟ أم تبناها كشعارات أو عناوين إعلامية ومنهجا للتحشيد والنصرة والمؤازرة؟

وقد تكون لذلك الحزب برامج سياسية جيدة ومفيدة للمجتمع، لكننا لسنا بصدد تقييم الأهداف، بل لتقييم الأسس التي انشيء وتأسس عليها ذلك الحزب.

في الرسالة الإسلامية لا يمكن بناء الأهداف بعيدا عن الرؤية الإسلامية، ومن ثم صياغتها إسلاميا، فذلك يعد تزويرا للحقائق وتضليلا لجمهور الأمة.

وهنا يكمن السر في تفرد المشروع السياسي للسيد حسن الشيرازي بانتمائه

ص: 128

الى الإسلام كرسالة والانطلاق منه كرؤية سياسية.

فلسفة الحياة عند السيد حسن الشيرازي

اشارة

يقدم الإسلام فلسفة لحياة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ويعد السيد حسن الشيرازي هذه الفلسفة هي الأساس الأول الذي يجب أن يبنى عليه الفرد والمجتمع الإسلامي(1)، لأنها الترجمان الصادق الذي سيعبر عن معاني ومفاهيم وأحكام الإسلام، بل يمنح هذه الفلسفة تفسير حتى جزئيات الحياة الإسلامية التي يعيشها الإنسان، فيقول في كتابه (خواطري حول القران الكريم): (فإذا عرفنا أن اللّه أتى بالإنسان إلى هذه الحياة، للقيام بتمارين معينة، تبلور جوهره وتنميه، فكل عمل يندمج في تلك التمارين، فهو واجب أو مستحب، وكل عمل يناقض - ولو قليلاً - تلك التمارين، فهو حرام أو مكروه.

كما أن الموظف، يؤتى به إلى مكتبه، لأداء أعمال معينة، واستقبال الضيوف عمل اجتماعي مستحب، ولكن: استقبال الموظف للضيوف في مكتبه، عمل ينافي دوره الوظيفي، فيعتبر إهمالاً يعاقب عليه.

فعلينا: ألا نقيم العمل بمفرده، وكأنه عينة نحللها بموضوعية، وإنما يلزم أن نقيمه في وضع الإنسان، الذي جيء به إلى هذه الحياة، لأداء وظيفة معينة: فكل ما يخدم تلك الوظيفة، فهو حسن، وكل ما يلغي تلك الوظيفة، فهو قبيح.

ولذلك: عندما يعرض القرآن الخمر والميسر، يعترف بأن فيهما منافع للناس، ولكنه يضيف بأن إثمهما أكبر من نفعهما، فيقول:

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فيهِما إِثْمٌ كَبيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما...}(2)، فمجرد المنافع لا يصلح دليلاً للحكم عليها إيجابياً.

ص: 129


1- قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}، سورة الذاريات، الآية: 56-57.
2- سورة البقرة، الآية: 219.

كما أن القرآن يعترف - في معرض الحديث عن بعض الامتحانات - بأن فيها نقصاً في: الأموال، والأنفس، والثمرات، ولكنه يضيف: وبشر الصابرين، لأنها مضرات يلزم تحملها، لأداء وظيفة الإنسان في الحياة، فيقول:

{ولنبلونكم ب- : شيء من الخوف، والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وبشر الصابرين * الذين - إذا أصابتهم مصيبة - قالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون * أولئك: عليهم صلوات - من ربهم - ورحمة. وأولئك: هم المهتدون}(1)، فمجرد المضرات لا يصلح للحكم عليها.

إذن: إنما يلزم دراسة كل شيء من جميع جوانبه، وأهمها: علاقته بهدف الإنسان في الحياة، وذلك: من أجل تقييمه، ثم: الحكم عليه).

ومن أهم مرتكزات هذه الفلسفة:

1- إن هناك حاجات دينية لدى الإنسان

وهي جزء من فطرة الإنسان ومن فكره الاجتماعي، وهذا النزوع هو موجود منذ الإنسان الأول والعصور القديمة، وقد بين القران إن هذه الفطرة هي فطرة كلية تشمل الإنسان والكون أي كل كائن حي وموجود كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَري ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ}(2).

وقوله تعالى: {يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذي فَطَرَني أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمينَ}(3).

فهذه الحاجات هي جزء من الطبيعة البشرية وهي ليست موهبة معينة أو قدرة

ص: 130


1- سورة البقرة، الآية: 155.
2- سورة الأنعام، الآية: 78-79.
3- سورة هود، الآية: 51-52.

خاصة بل إنها نزوع فطري نحو الارتباط باللّه عز وجل يمكن أن يكبته الإنسان (ولعل من ألطف معاني الكبت وأقربها الى العقل البشري هو الكفر والذي يعني إخفاء الشيء الحي ومنه كفر البذور أي غطاها بالتراب أو دفنها) وهذا هو الانحراف الروحي، وقد يسلك به الإنسان مسالك خاطئة كأن يعبد غير اللّه أو يشرك به وهذا هو الانحراف العقلي.

وهذا النزوع او التوجه نحو اللّه أشار إليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ ديناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ}(1).

وهذا التوجه نحو اللّه هو توجه كوني وجودي كلي كما يؤكد على ذلك قوله تعالى: {أَ فَغَيْرَ دينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(2).

فالإسلام هو التوجه الى اللّه، والوجه هنا ملتقى الحواس والمشاعر واللسان والتفكير، والإسلام هو ان تتوجه الى اللّه بمشاعرك بأفكارك بكلماتك، ويؤكد أمير المؤمنين هذا المعنى في نهج البلاغة حيث يقول:

لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل الصالح.

2- إن هناك حاجات حياتية لدى الإنسان

هذه الحاجات متنوعة في مجالات ومستويات متباينة، منها ما هو ضروري في حياة الإنسان وتواصل نوعه ونظامه الحياتي والاجتماعي، ومنها ما هو مهم في بناءه لعلاقاته وتعبيره عن نفسه (الاتصال والتواصل).

1- تلبية هذه الحاجات يجب أن يكون عن طريق المنهج الإلهي وهو

ص: 131


1- سورة النساء، الآية: 125.
2- سورة آل عمران، الآية: 83.

الإسلام(1) ومن أهم أسسه في فلسفة حياة الإنسان هي:

- نظام ترتيب الأولويات

هناك نظام معين لتنظيم حاجات الإنسان المتنوعة بمختلف مستوياتها، وقد بين اللّه سبحانه وتعالى أسس هذا النظام في القران الكريم، وقد بينت السنة النبوية والأئمة المعصومين (عليهم السلام) قواعد هذا النظام، واهتم العلماء بكثير من جوانب هذا النظام وقواعده إلا انه ظل مشتتا في مجالات كثيرة، في الفقه، وفي السياسة والاقتصاد الإسلامي، في الأخلاق وفي اجتماعيات الإسلام.

لذا فان هناك ضرورة على إن يقدم هذا النظام ككل متكامل للمسلم، لا تبين فيه القواعد بل والحالات الأساسية في ترتيب الأولويات في الحياة المعاصرة، مع التأكيد على إن الأولوية الأولى في هذا النظام هو الارتباط السليم باللّه من خلال الإسلام.

أي إن المعيار الأول لحياة الإنسان هي إدامة إيمانه باللّه بعد الإيمان به، وهذا لا يعني إن الإنسان لا يهتم بحاجاته الأخرى بل يرتب هذه الحاجات تبعا لنظام الأولويات في تلبية الاحتياجات وفقا للأوامر والأحكام الإلهية ففي حكم نجد الأولوية لحياة الإنسان(2)، وفي حكم آخر نجد الأولوية

ص: 132


1- فهناك صراط مستقيم للّه وهو الإسلام كما يشير الى ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرينَ} (سورة آل عمران، الآية: 85).وهو معيار الهداية وروح الرسالة كم في الخطاب الإلهي للنبي الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم) : {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصيرٌ بِالْعِبادِ} (سورة آل عمران، الآية: 20). وهو الأصل في تحقيق فلسفة الحياة والوجود الكوني كما بينت الآية (آل عمران -83) وهو رسالة كل الأنبياء كما بين القران الكريم.
2- ومن هذه الأحكام ما يشير إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، سورة البقرة، الآية: 173.

للشريعة(1)، لكن في كلا الحكمين فان المعيار هو التوجه للّه.

- نظام التوازن

وهو من أهم الأنظمة التي سير بها اللّه عز وجل الطبيعة الكونية والطبيعة الحياتية(2)، ويقوم النظام الإسلامي على التوازن الدقيق بين المتطلبات الحياتية والدينية، وقد تجلت الأوامر الإلهية بهذا النظام في القران الكريم، ومنها قوله تعالى:

{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(3).

- نظام العدالة

يضع الإسلام نظام تتحقق به العدالة في تلبية حاجات الفرد، بالنسبة لنفسه،

ص: 133


1- ومن مصداق هذه الأولويات قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، سورة التوبة، الآية: 111.
2- أكدت الحقائق العلمية عظمة الدقة في هذا النظام في الوجود الكوني والحياتي، بل إن عظمة هذا النظام الدقيق دفعت كثيرا من العلماء المتشككين الى إعلان إيمانهم باللّه، وبالمقابل فان هناك مئات الآيات التي تؤكد على هذا النظام الذي يوازن به اللّه عز وجل دقائق هذا الكون ومخلوقاته كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}، سورة الرعد، الآية: 8. وقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، سورة الحجر، الآية: 19-21. وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، سورة القمر، الآية: 49.
3- سورة الأعراف، الآية: 31-33.

وبالنسبة للآخر، وبالنسبة للمجتمع، ويعد ظالما لو تجاوز أحكام العدالة سواء لنفسه أو لغيره. وهذا النظام هو من أهم النظم في حياة الإنسان المسلم، وهناك أحكام وقواعد إلهية بينها القران وأكدها الرسول والأئمة من بعده توضح أهمية ودور هذا النظام.

الرؤية السياسية عند السيد حسن الشيرازي

اشارة

هناك غائيات رئيسية في الإسلام وأهمها غائية الإنسان نفسه في هذا العالم، وهي غائية مرتبطة باللّه (خالق هذا الكون ومن فيه) بلحاظ إن العلاقة بين الإنسان والآخر والكون علاقة تراتبية على طبيعة علاقته باللّه(1) بل هناك آلاف الأدلة على ذلك.

فهل اشتقت أهداف مثل هذا الحزب من هذه الغائية أم من أهداف أخرى (قد تكون محترمة ومفيدة مثل رفع المستوى الاقتصادي للفقراء)، وقد تكون أهداف حزبية ومصلحية (مثل زيادة الحصول على المناصب والتوسع بالامتيازات السلطوية وتسقيط المناوئين).

فإذا كانت الأهداف مصلحيه وفئوية وفيها مفاسد فان تجنب الدخول في هذا الحزب سيكون تقربا الى اللّه باعتبارها غائية مصيرية للإنسان المسلم، وان كانت الأهداف اجتماعية مفيدة فإننا أمام حالتين:

الأولى: ألا يروج هذا الحزب للتعصب الحزبي والحزبية بمعنى انه الأفضل والأكفأ ويتحول حاله حال أي مؤسسة مجتمع أهلي وعند ذاك يصبح الانتماء له ثانويا لان الإسلام عالج قضايا المجتمع بطرق يؤجر فيها المرء ويثاب باعتبارها ضمن واجباته في الحياة الإسلامية.

ص: 134


1- قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من أصلح ما بينه وبين اللّه أصلح اللّه ما بينه وبين الناس ومن أصلح أمر آخرته أصلح اللّه له أمر دنياه. ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من اللّه حافظ. (نهج البلاغة ج4 ص21).

والثانية: إن كان ذلك الحزب يدعو الى التعصبية الحزبية وإشاعة ثقافة التناحر والعداء، فان هذه من المفاسد التي نهى عن إشاعتها الشارع المقدس.

إن مناقشة هذه الاطاريح تقودنا الى التعمق في فلسفة السلطة في الإسلام وقطيعتها مع فلسفة السلطة في الفكر السياسي الغربي حيث تتمحور فلسفة الحكم في الإسلام على حاكمية اللّه بينما لا تخرج فلسفة السلطة في الفكر السياسي الغربي عن حاكمية الإنسان سواء كان فردا (ملكا أو رئيسا)، أو جماعة (حزبا أو تنظيما سياسيا) أو شعبا (برلمانا)، وبالتالي فان الرؤية السياسية وما يشتق منها من برامج وأهداف هي تعبير عن الفلسفة التي تنطلق منها.

فالسيد حسن الشيرازي حينما تقاطع مع مشاريع سياسية كان لأسباب أهمها إنها لم تمثل فلسفة الحكم الإسلامي والتي مدارها (اللّه - الإنسان)، بل استعارت معظم متبنياتها من النظريات السياسية الغربية والتي مدارها (الإنسان - الإنسان)، والإشكالية الأخطر إنها قدمت هذا الخليط المتناقض بصياغة إسلامية.

لقد حذر السيد حسن الشيرازي من التأسيس على مثل هذه المشاريع السياسية والتي ربما تكون أكثر انسجاما مع المشهد السياسي الدولي، لكنها تظل تحمل التناقضات وتخلق الإشكاليات داخل المجتمع الإسلامي، والسبب هو في فلسفة الحياة لدى المسلم وهي فلسفة غير مادية بل روحية، صحيح إن المسلم يريد أن يؤمن قوته ويحصل على عمل يناسبه ومستوى معيشي يلبي احتياجاته، لكنه لا يريد أن تتعارض هذه المتطلبات مع اطر حياته الإسلامية وضوابطها ونمطها.

وقد يضطر القائمون على هذه المشاريع الى تغيير الكثير من توجهات خطابهم السياسي حينما يمارسون عمليا فكرهم السياسي أو يصلون الى سدة الحكم، لا لتقصير منهم بل لان المقدمات المشوشة تقود الى نتائج مرتبكة، وهذا ما نبه إليه السيد الشيرازي قبل أكثر من أربعة عقود، فالكثير من

ص: 135

الإشكاليات بدأت تستفحل والكثير من الأزمات بدت مزمنة.

وبالطبع فنحن لا نشير الى أزمات التطبيق والتنفيذ والأداء بل نشير الى أزمات التنظير لدى الأحزاب والتنظيمات الإسلامية التي لم تلتزم بنظرية الحكم الإسلامي بصورتها التامة، أما نظرية نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، فهي نظرية مرفوضة بنص الهي قراني(1).

هل هناك مبررات لتأسيس نظريات خارج النمط الإلهي الإسلامي؟

بالطبع يمتلك هؤلاء المؤسسون مئات المبررات حول عدم إمكانية تنفيذ نظام الحكم الإسلامي بصيغته القرآنية، وبحسب الأنموذج النبوي والأمامي والمرجعي، والمبررات كثيرة جدا الى الحد الذي بدأنا نقرأ إن الإمام المهدي سيشكل جمهورية، وسيكون نظامها الاقتصادي اشتراكيا و...و...، وبالطبع لسنا بمعرض نقد الجمهورية أو الديمقراطية أو الرأسمالية أو الاشتراكية، لكن السؤال ما الضير في أن نقول إن الإمام سوف يحكم بحكم اللّه والإسلام؟!!

إن الرؤية السياسية للسيد الشيرازي هي رؤية مشتقة ومجسدة للرسالة الإسلامية، أي إنها:

- ليست رؤية تأويلية.

- ليست رؤية اجتهادية.

بل إنها رؤية تطبيقية للرسالة الإسلامية، وبالمقابل فإنها ليست رؤية جامدة

ص: 136


1- وهذا الرفض ثابت في المستوى العام وهو رسالات الانبياء باعتبارها كل واحد يجب الايمان به، كما يؤكد على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}، سورة النساء، الآية: 150. وفي المستوى التفصيلي لرسالة كل نبي فلا يجوز الايمان التبعيضي سواء للمسلمين وغيرهم كما يبين ذلك قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} سورة البقرة، الآية: 85.

ومتحجرة، لأنها مشتقة ومجسدة لرسالة الإسلام، وهي رسالة حيوية ومتنامية ومتكيفة مع المتغيرات، أما صياغة الأهداف وبناء البرامج السياسية فهي تحتمل الاجتهاد وتستدعي الإبداع والمرونة.

أبعاد الرؤية السياسية عند السيد حسن الشيرازي
اشارة

إن أهم متبنيات الرؤية السياسية للسيد الشيرازي هي(1):

1- إن الإسلام دين وحياة

منذ مطلع القرن العشرين تبلورت الكثير من النظريات والأفكار والمشاريع حول الإسلام السياسي، وبالضد كانت هناك الأطروحة الشيوعية حول استئصال الدين من الحياة، والأطروحة العلمانية حول فصل الدين عن السياسة.

وقد استطاعت مشاريع الإسلام السياسي من أن تنقل الإسلام الى حلبة الصراع السياسي، لكنها لم تنقل الإسلام الى الحياة، لذا ظلت حبيسة حلبة السياسة وأصبح الهدف هو الحكم الإسلامي لا المسلم ولا المجتمع الإسلامي بتبرير إن الحكم هو مفتاح التغيير، بينما النظرية القرآنية على الضد من هذا الطرح تماما.

لقد انطلقت الرؤية السياسية للسيد الشيرازي من إن الإسلام هو دين وحياة (والواو التي بينهما ليست لتعداد المكونات بل للإشارة الى امتداد الإسلام عبر الدين والحياة).

فالدين في الإسلام هو نمط حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، والحياة في الإسلام هي نمط روحي رفيع ومتميز من الحياة الدينية والأخلاقية، وبالتالي فان كل واجب ديني فيه بعد سياسي (يمكن أن يفعل ويمكن أن يعطل بحسب الإيمان والوعي).

ص: 137


1- نورد هنا جانبا من متبنيات الرؤية السياسية وسوف نتوسع في عرض البعض منها في المباحث القادمة من هذا الباب.

وبالمقابل فان كل عمل سياسي فيه بعد ديني (عند تعطيله يدخل المكلف في المحذور أو الخروج عن حدود الشرع).

فالسيد الشيرازي في حقيقة الأمر لم يبتدع نظرية سياسية إسلامية، بل قام بتحويل الرسالة الإسلامية الى رؤية سياسية إسلامية بصدق وأمانة وإخلاص وفهم عميق.

انه لم ينقل الإسلام الى السياسة، بل فعل الجانب السياسي في الإسلام، أي انه وبتعبير المناقلة نقل الإسلام الى الحياة.

هذه الرؤية هي جوهر الإسلام (أن تعيش الإسلام)، وهذا ما فعله السيد الشيرازي طوال حياته، وهو أن يحيا بالإسلام وفيه ويدعو إليه، يجاهد الطغاة ويؤسس الحوزات ويبني المدارس والجوامع والحسينيات، في بيروت كما في دمشق، وفي الكويت كما في البحرين، يبلغ ويرسل المبلغين الى قارات العالم وأطرافه، يؤلف ويدرس، وينقطع الى ربه، وينفث آهات نفسه شعرا عذبا، حلواه العمل الصالح، وديدنه العمل في سبيل اللّه، لكن في كل موقف وعمل وبين كل سطرين مما يكتب أو يقول تجده يجمع الدين بالحياة، بتنوعها وثراء أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بلا ضجيج إعلامي ولا شعارات سياسية طنانة.

2- حاكمية اللّه

إن حاكمية اللّه ثبتتها النصوص القرآنية والسنن الكونية.

3- تسلسل الحاكمية في الإسلام اللّه - النبي - الإمام وهؤلاء بالنص المعرف (وهو النص المعرف باسم وهوية المنصوص عليه)، أما (رواة الحديث / الفقهاء) فهؤلاء ينص عليهم بالنص المحدد (النص الذي يحددهم بالشرائط والمميزات التي تعينهم)، وهذه الحاكمية وظيفتها تنظيم حياة المسلم وفقا للأحكام الإلهية.

4- الإسلام ثورة وإصلاح: هذا المتبنى تجلى واضحا في النتاج الفكري

ص: 138

السياسي للسيد الشيرازي، فالثورة لديه هي إصلاح، ومن الضروري أن تنطلق من دوافع الإصلاح وترتكز على أهدافه وغاياته وإلا فإنها سوف تنقلب الى محاولة لتغيير الحكم والوصول الى مركز القرار.

وبالمقابل فان كل إصلاح لا يحمل محركات الثورية وروحها سوف يأسن في مستنقعات التسويف والمماطلة والمداهنة.

وسواء كان الواقع يتطلب ثورة أو إصلاحا فان كل عمل بهذا الاتجاه يجب أن يكون منبثقا من غائية الإنسان وولاية اللّه عليه، وهذا المتبنى في الرؤية السياسية للسيد الشيرازي هو استلهام عميق لثورية الإمام الحسين (عليه السلام) ومنهجه الإصلاحي، وقد كان اهتمام الشيرازي بالثورة الحسينية وبالشعائر الحسينية اهتماما كبيرا.

إن الرؤية السياسية تعد اليوم جزء مهما وحيويا من المنهج الموضوعي للفكر السياسي، وكلما كانت خصائص الرؤية السياسية ايجابية ومتميزة كلما كانت أكفأ في بناء الأهداف والبرامج السياسية على أسس تنظيرية متينة.

وحينما نتأمل خصائص الرؤية السياسية لدى السيد الشيرازي نجد إنها:

1- منسجمة ومتناغمة مع الرسالة (الإسلام)ومع محتواها الداخلي.

2- إنها واضحة وبسيطة وسهلة التوصيل.

3- قادرة على دفع الحاضر الى التوجه المستقبلي (أي إنها خارج إطارات الأهداف والبرامج).

4- قادرة على بناء الأهداف والبرامج وفقا للمتغيرات.

حينما تتصف الرؤية السياسية بهذه الخصائص فان ذلك يجعلها تحوز هوية الرؤية الإستراتيجية كما يرى الباحثون في هذا المضمار(1).

ص: 139


1- Thompson Strickland, "Strategic Management", McGraw, Boston، 2003.

ص: 140

المبحث الثالث: المنهج التغييري عند السيد حسن الشيرازي

اشارة

المشروع التغييري للسيد الشيرازي ينبع من مصدرين رئيسين وهما: القران الكريم والعترة النبوية الطاهرة. وكانت طروحات السيد الشيرازي هي تجسيد لخط الإمام الحسين (عليه السلام) ، ومحاولة لنهضة حسينية معاصرة هدفها الإصلاح ووسيلتها الثورة. لذا فلابد من وقفة تأمل، خلاصة رؤية.

المنهج القرآني في التغيير

المنهج التغييري في الإسلام، هو ليس من نمط تغيير الكينونات، أو مصادرة الهوية التكوينية للإنسان عبر الحضارة أو عبر الثقافة أو عبر التاريخ، بل إنها عملية ارتقائية تدفع بالهوية سواء كانت تحتل إنسانا فردا أم جماعة أم قبيلة أم شعبا أم أمة، هذا الارتقاء أو هذا التغيير هو لتطوير الواقع ومن أجل نظرة أكثر رقيا للتاريخ، ومن أجل تخطيط أفضل لبناء الإنسان.

إن الإسلام حركة تغييرية تستهدف تغيير الواقع الفكري والاجتماعي للإنسان، وليست دعوة توفيقية ترضى بالتوافق أو تقرّ الحالات المنحرفة والمتناقضة مع مبادئها، فهي تقوم على أساس الإيمان باللّه الواحد الأحد والدعوة إليه وهذه الدعوة تدفع الإنسان الى حركة تغييرية دائمية (دينامية) في الارتقاء والنمو والتطور والتسامي لتكامل الإنسان والمجتمع.

فالإيمان في الإسلام ليس فعل ديني بل رسالة تغييرية في بعدها الإصلاحي والثوري لدى الإنسان، فنسبة الإسلام كما يبين أمير المؤمنين (عليه السلام) هو تسلسل من تغييرات كبيرة تمتد من أعماق الروح مرورا بمشاعر الإنسان وعقله وموقفه من

ص: 141

نفسه والآخر والوجود وفقا لارتباطه مع اللّه، فالطبيعة التغييرية للرسالة الإسلامية هي دعوة إلى تغيير الفكر ومحتوى الذات من العواطف والمشاعر والملكات والقوى النفسية كقاعدة أساسية لأحداث التغيير الشامل في السلوك والعلاقات والنظم والحضارة ومنهج الحياة، ويوضّح القرآن: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ}(1).

وإنّ القلب السليم هو الفاعل الحقيقي في منهج التغيير والمعيار الذي يمنح هوية القيمة للدين والحياة، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ}(2).

فالتغيير يبدأ من أعماق النفس وتطهير الذات والوجدان لصياغة القلب السليم، الخالي من نوازع الشر، واستجابات الضلال والانحراف.

فالمنهج التغييري في الإسلام منهج يتجاوز لحظته الحالية ويعيد صياغة الماضي والمستقبل فضلا عن الحاضر ضمن رؤية تنفذ عبر الإنسان والمجتمع والتاريخ لا لتسلب هوية ما، وإنما لتعيد فاعلية أية هوية سواء في علاقاتها مع عالم الأشياء أو تفاعلها مع عالم الأفكار.

فالإسلام أنتج حضارة، أنتج أمة في مستوى التعبير عن الإنسانية، وأنتج كل الخصوصيات التي من شأنها أن تنمي الفرد والمجتمع وهذا المنهج التغييري في الإسلام ليس وليدا لمؤثرات خارجية سواء كانت قوة أم سلطة أم قانونا بل إنها نابعة ونبعت من سعي الإنسان وتبنيه لهذا الارتقاء أو التغيير، فانتقال الإنسان من الضلال إلى الإيمان انتقال من الظلمة إلى النور، انتقال الإنسان من الباطل، انتقال الإنسان من العبودية إلى الحرية، هو تغير داخلي في بنية الإنسان،

ص: 142


1- سورة الرعد، الآية: 11.
2- سورة الشعراء، الآية: 88-89.

صيرورته التكوينية والإسلام ليس إلا مسارا لبلوغ هذا التغيير كما في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ}.

فالرسالة الإسلامية هي رسالة إصلاحية، وكينونتها الإصلاحية في إنها رسالة كلية تدفع بالإنسان الى الانسجام مع السنن الإلهية للحياة والوجود، وهي رسالة ثورية في حدود ذلك الإصلاح، مع الاحتراز الشديد في تطهير دوافع الإصلاح والثورة من كل إشراك لغير اللّه، وجعلها خالصة للّه وحده قال سبحانه: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(1).

فالرسالة الإسلامية والمبادئ التي تدعو إليها، نفهم أنّها رسالة مغيّرة جاءت لتستأصل الواقع المنحرف بكامل أبعاده، وتجتث البنية الجاهلية (الجاهلة بحقيقة اللّه(2) والإنسان) من جذورها.

فهي دعوة للتغيير، التغيير ببعده الإصلاحي والثوري. وهي حركة دينامية لبناء الفرد والمجتمع والدولة بشكل متميز، وتغيير مستمر يقوم على أساس الإصلاح والثورة.

فنهج التغيير في الإسلام ليس لحظة ثورة فقط، وليس إصلاحا اجتماعيا فقط، وليس فقط دستورا قابلا للتطبيق من أجل رقي حضاري أفضل، الإسلام ثورة مستمرة وإصلاح مستمر، ودستور متنام، وتغيير اجتماعي ارتقائي، أما من يحاول أن يحصر الإسلام في لحظة ماضية، أو يقيده إلى بوصة من مسيرة التاريخ فانه

ص: 143


1- سورة الكهف، الآية: 110.
2- أول الدين معرفة اللّه سبحانه كما يؤكد أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج، وعن أبى عبد اللّه (عليه السلام) قال: خرج الحسين بن علي (عليهما السلام) على أصحابه فقال: أيها الناس إن اللّه جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه (علل الشرائع ج 1 ص 9). وسئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الإيمان فقال: الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان (نهج البلاغة ج 4 ص 50).

يحاول أن يلغي الجانب الأهم من معنى الإسلام، فديمومة الإسلام ليست مرتبطة بأبعاده التكوينية كدين أو منهج للحياة أو مسيرة للارتقاء البشري فحسب، بل مرتبطة بحاجة البشرية لمزيد من التطور والارتقاء والقرب من الكمال، وحينما نشير إلى التطور فأننا نريد التطور الآمن الذي يحفظ لنا هويتنا، وحينما نشير إلى الارتقاء فأننا نلمح إلى الارتقاء الذي لا يكون على حساب الآخرين بل ارتقاء الإنسان الذي يرتقي بالقيم وبعلاقاتنا مع الآخر وعلاقتنا مع الكون.

وعند تأملنا المنهج التغييري في الإسلام نرى بعدا واقعيا ينبع من حقيقة الإنسان، وسلسلة نحو المجتمع، فكل تغيير في الإسلام هو تغيير مستند على المستلزمات الواقعية لفعل التغيير من المجتمع.

فالمدة التي قضاها الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في معالجة المرحلة الحرجة من التغيير من المجتمع الإسلامي لم تكن هي المرحلة الحاسمة في إتمام كل تغيير مفترض، فالمعادلة في ذلك الوقت كانت تفترض إن هناك دوما مداخلات جديدة وبالتالي فان هذا يستلزم معالجات إضافية تتوازى معها وتتنامى مع قدر المجتمع على تجسيد البرامج الإسلامية المتنوعة في السياسة والفكر والاقتصاد ولكي يحافظ على حقيقة المشروع الإسلامي ونقصد هنا بالحقيقة هي المرتكزات الجوهرية للمشروع الحضاري للإسلام فلابد أن تكون هناك سلسلة من الملاكات البشرية التي تحتل دوما المسار الحقيقي للإسلام ولصورته المتكاملة.

الإمام الحسين (عليه السلام) بوصلة الإصلاح والثورة

إن المؤامرة الأموية لم تكتف بمحاولات القضاء على المرتكزات الجوهرية للرسالة الإسلامية، من خلال تهميش المنهج التغييري في الإسلام، ومحاولة حصر المشروع الحضاري الإسلامي بين قوسي العهد النبوي، ومن ثم محاولة إيهام المجتمع الإسلامي بوجود فواصل بين زمن الرسالة ودولة الإسلام، سعت ونفذت مؤامرتها للقضاء على الامتداد الحقيقي للنموذج الإسلامي في المجتمع

ص: 144

وهم اهل البيت (عليهم السلام) ، من خلال اغتيال وتهميش دورهم والتمرد على الحكومة الإسلامية بقيادة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) واغتيال الإمام الحسن (عليه السلام) نتوقف هنا للتأمل ووعي الحدث فالحسين (عليه السلام) قتل بنفس السيف الجاهلي الذي قتل به أبوه وأخوه وعمه وكل الصحابة الذين استشهدوا بين يدي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وبنفس السيف الجاهلي الذي شرد الأنبياء وقتل الأوصياء في مسيرة الإنسانية لارتقائها سلم التطور الحضاري.

ترى ما الذي أحدثته الثورة الحسينية؟ كان هناك تطور وتوسع في فهم الإسلام وتطبيقه والعمل من أجل تنمية المؤسسات المدنية في المجتمع الإسلامي ومع اشتداد المؤامرة الأموية وتوسعها وجد الإمام الحسين (عليه السلام) انه من الضروري أن يكون هناك فصل واضح، خط فاصل بين القيم الإسلامية وبين الانحطاطات الجاهلية خط فاصل بين كل حالة انتماء إسلامية وكل ارتداد أو ارتكاس في النحو نحو الجاهلية وما تمثله قيم الظلام وبدون هذا الخط الفاصل كان يمكن أن يتم تسريب أو إعادة الكثير من قيم وصور وأفكار الجاهلية العربية أو الجاهليات الأجنبية في العصر العباسي.

يروي الحسين (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قوله: «من رأى منكم سلطاناً جائراً مُستحلاً لحرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه مخالفاً لسنة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، ولم يغير ما عليه من قولٍ أو فعل فكان حقاً على اللّه أن يدخله مُدخله، ألا وأن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام اللّه، وحرموا حلال اللّه، وأنا أحق بهذا الأمر ممن غير». فيعقب الإمام (عليه السلام) بقوله: «ومن أحق بالتغيير مني، وأنا الحسين بن علي ابن فاطمة بنت محمد نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم وأولادكم، ولكم فيَّ أسوة».

في موضع ثان يقول الإمام الحسين (عليه السلام) :

ص: 145

«إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول اللّه، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق، فاللّه أولى بالحق، ومن رد عليّ أصبر حتى يحكم اللّه بيني وبين هؤلاء القوم واللّه خير الحاكمين».

وفي موضع ثالث يقول الإمام (عليه السلام) : «ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه».

فالثورة الحسينية عملت على إيقاظ الوعي لدى الأمة وكشفت عن خط المؤامرة (سواء كانت أموية أو غيرها) التي تستهدف تشويه المرتكزات الأساسية للرسالة الإسلامية وأسست نقطة البداية للمشاركة الشعبية للحفاظ على الإسلام فاستشهد في ثورة الحسين (عليه السلام) الصحابي الجليل وشيخ القبيلة وقارئ القرآن وراوي أحاديث الرسول إلى جنب فتيان البيت النبوي وشيوخه إلى جنب المؤمن الأعجمي والرسالي الكتابي والخادم والطفل والمرأة.. هذه التشكيلة من العناصر التي تجسد كل نبض الأمة وهوياتها، أعادت المسؤولية بما بذلته من أرواح طاهرة ودماء زكية في سبيل اللّه إلى الجماهير الشعبية.

من هذا المنطلق نفهم تأكيد الأئمة الأطهار (عليهم السلام) على كربلاء وعاشوراء، ليس تجسيدا للمأساة بل تأكيدا على القضية، القضية التي ليس من باب الصدفة أن يدعو إلى نصرتها الإمام سيد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) حتى آخر لحظة لا لشيء سوى لأن تلك الثورة التي فجرها بدمائه سوف تستمر لأنها ترتبط بالمحافظة على الإسلام وتسعى إلى الوعي به في مستوى الدعوة والعمل.

والثورية صفة تكتسي المواقف والمبادئ، وطريقا للتغيير ووسيلة للتحرر.

ويمكن لها أن توقظ الإنسانية على منابع قوتها ومصادر إلهامها، فتحولها الى بركان يعانق عنفوانه افق السماء وتصهر ناره حجارة الأرض.

وثورية الإمام الحسين (عليه السلام) لم توقظ في الإنسانية عنفوان قوتها على رفض

ص: 146

الظلم فقط بل رسمت من خلال الهوية الإنسانية ملامح العدالة المثلى.

لقد سعى الحسين (عليه السلام) الى العدالة المثلى والتي تجلت في صورة الإسلام المحمدي الى استعادتها كمبدأ للثورية في الإسلام، لذا فحيثما يستيقظ التاريخ على أصوات ثورة إسلامية نابعة من نسغه الحي فسرعان ما يميز هدير النهضة الحسينية شاخصا ومحركا فيها، إنها ليست محاكاة للهدير الحسيني المدوي أمام الموت والظلم، كما قال الشاعر: إذا لم يستقم دين محمد إلا بقتلي فيا سيوف خذيني... بل إنها انطلاقة منها وتجسيد لها عبر ملامح وأزمان وأمكنة تتغير، لكن عاشوراء يبقى يوماً ينزلق من موقعه التاريخي ليحيا ثوريته وإصلاحه في قلب الأمة ووعيها.

إن النهضة الحسينية ذات نهج تغييري بناء ينطلق من منظومة المبادئ الرسالية والتي كانت السبيل الوحيد للإصلاح، وهو الشعار الذي اتخذه الحسين (عليه السلام) لتقويم الانحراف في نظام الحكم وفي وعي الأمة، وهذا النهج انبعث مما يمثله الحسين (عليه السلام) وآل البيت من تجلي لرسالة الإسلام ومنهجه في الحياة.

وقد تبنى السيد الشيرازي المنهج القرآني في التغيير كما جسده الإمام الحسين (عليه السلام) القائم على الإصلاح والثورة ضد الانحراف والظلم.

أولا: المنهج الإصلاحي للسيد حسن الشيرازي

اشارة

أولا: المنهج الإصلاحي للسيد حسن الشيرازي(1)

آليات المنهج الإصلاحي
اشارة

من أهم سمات آليات المنهج الإصلاحي لدى السيد الشيرازي:

- اعتماد آليات الإصلاح الإسلامي.

ص: 147


1- في هذه القراءة نستعرض جانب من جوانب المنهج الإصلاحي للسيد الشيرازي عسى أن نوفق في عرض منهجه في دراسة مفصلة إن شاء اللّه عز وجل.

- دينامية آليات الإصلاح وشموليتها.

- فاعلية هذه الآليات ونتائجها الكبيرة.

ومن أهم هذه الآليات(1):

1- تعميق الإيمان باللّه تعالى، وبالرسالة الإسلامية

أولى هذه الآليات هو: تعميق الإيمان باللّه تعالى، وتوحيده سبحانه، والإيمان برسله وكتبه السماوية المنزلة، في مواجهة المادية الطاغية، التي تجحد أن للكون إلهًا يدبره ويحكمه، وأن في الإنسان روحًا هي نفحة من اللّه، وأن وراء هذه الدنيا آخرة. المادية التي تتوهم الحياة كما حكى اللّه عن مدعيها: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}(2) وقد تخللت هذه الدعوة معظم خطبه وكتبه ودروسه، وخصوصًا: الصراع بين الإيمان والمادية.. بين الإسلام الحضاري ومعاناة الإنسان والمجتمعات في الغرب.. والصراع بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي.

وهذا الإيمان باللّه والرسالة الإسلامية هو الزخم الدافع الذي دفع العرب من امة متخلفة متشرذمة الى امة تفوق بحضارتها كل الأمم الموجودة في العصر الإسلامي الأول، وقفزت الى القمة متخطية عشرات المراحل التي يجب أن يمر بها تطور الأمم، ويوضح السيد الشيرازي ذلك في كتابه خواطري عن القران بقوله: (فإذا وجد جيل واحد، قفز من فوق كل هذه الخطوات، ووصل إلى ما لعل البشر يصل إليه بعد قرون من هذا التاريخ، وهو الإسلام: فأكمل نظامه في أقل من عمر جيل، وأسس - في أقل من ربع قرن - أكبر دولة في التاريخ، بسطت ظلها على أوسع رقعة من الأرض حكمتها دولة واحدة وابدعت علوما وفنونا لا تزال الانسانية تشهد بعظمتها...، فإذا أوجد جيل قفز من البداوة البدائية إلى

ص: 148


1- هناك أيضا آليات عديدة نذكرها في المباحث الأخرى وفي الفصول التالية.
2- سورة الأنعام، الآية: 29.

الدولة الإسلامية الكبرى، فلا بد أن الإرادة الإلهية تدخلت في إخراجه من مدى فلكه بصورة اعجازية، وإلا فالزخم البشري لا يتيح لأي جيل أن يتقدم أكثر من خطوة. فالأمة الإسلامية لم تخرج - بطاقاتها - من تحت ركام التخلف إلى النور، وإنما أخرجها اللّه. واللّه - تعالى - لم يخرج هذه الأمة من الظلمات إلى النور، لتنعم وحدها بالنور، وإنما أخرجها (للناس) كافة، حتى تقود البشرية - جمعاء - في كل مظهر من مظاهر التخلف والانغلاق إلى كل مدى من آماد التقدم والانطلاق. فهي الأمة القائدة التي لم يسمح اللّه لها بالأهداف الوطنية والقومية وإنما وضع أمامها الأهداف الأممية والعالمية: فكل البشر إخوان في الدين أو نظراء في الخلق، وعلى أية أرض عاش المسلم فهي وطنه).

2- إبراز الأفق الحضاري للرسالة الإسلامية

كان هذا التوجه يشغل مساحة مهمة من كتابات السيد الشيرازي، وخصوصا الكتابات العامة غير التخصصية وكانت تعتبر عنصر مهم من لقاءات واجتماعات السيد الشيرازي مع الشباب، لأسباب بينها السيد الشيرازي في عدة مواضع من كتبه وخطبه، وأهمها:

أ. هناك تيارات منحرفة من داخل الأمة الإسلامية وخارجها تتهم الإسلام بانه سبب تخلف المسلمين، وبالمقابل تصدى السيد الشيرازي لتشريح هذا الاتهام على طاولة النقد الموضوعي والتحليل العلمي الدقيق وتبيين إن التعاطي الخاطئ والتفاعل الصحيح مع الإسلام هو سبب ضعف المسلمين، وهو يقول بهذا الصدد: (فالإسلام هائل التقدمية والواقعية، بحيث لا يمكن أن يعرض - بصورته الصحيحة الكاملة - في معارض الفكر إلى جانب النظم الأخرى، إلا ويشد إليه الأذهان، فيعلو ولا يعلى عليه. فلو ترك الإسلام - كمبدأ أو كدين - يشق طريقه إلى الوجود، لوجد في العالم أنصاراً يتقدمون به في كل مكان. ولكنا فرضنا عليه قيمومتنا - ولم نكن في مستواه -، فأعطينا عنه صورة ناقصة ومشوهة،

ص: 149

واعتبرنا أنفسنا مسلمين، فظن العالم أننا الصيغة العملية للإسلام، وحملوه كل أمراضنا، واعتقدوا أنهم إذا أسلموا أصيبوا بأمراض، فتحاموا عنه مبتعدين. وهكذا.. أصبح الإسلام محجوباً بالمسلمين، وكان الإسلام بألف خير لو لم يمثله المسلمون هذا التمثيل المشوه. وكان لكثير من المسلمين - اليوم - شرف الإنصاف لو يملكون الجرأة على أن يعدلوا الإسلام، فيصارحوا العالم ب- : (أنهم ليسوا مسلمين عقيديين، وإنما هم مسلمون عاطفيون، جاءهم الإسلام بالوراثة، ولم يتخذوه بالفعل). حتى يرفع الحيف عن الإسلام - على الأقل - ).

ب. هناك تيار يوهم الأمة إن الإسلام كدين هو سبب تخلف المسلمين وضعفهم، قافزا فوق حقائق التاريخ ومغمضاً عينيه عن عظمة الحضارة التي أنتجت من تلاقح الإسلام مع حياة الأمة ومصيرها.

ت. إن نهضة الأمة الإسلامية بحاجة الى أنموذج حضاري يجمع بين العطاء الحضاري الإسلامي والانطلاق من الفهم العميق للواقع ونقده وهذا ما افرز له السيد الشيرازي مساحة مهمة من مؤلفاته، منها: (الاقتصاد/ ج1و2)، (الاقتصاد العالمي، الاقتصاد الإسلامي) و(كلمة الإسلام) و(خواطري عن القرآن/ ج13).

3- الحوار مع الآخر
اشارة

كان السيد الشيرازي يدعو للتعايُش السلمي الإسلامي بين جميع المَذاهب الإسلاميّة وبين الأديان السماوية، وكان يُحاوِل ويعمل على صعيد التعايُش السِّلمي بين المسلمين والمَسيحيّين..

لقد كان هدفه الإستراتيجي، هو التواصل مع مختلف الأديان والمذاهب والملل والنحل، حتّى يستَطيع عبر هذا التواصل وهذه العلاقة، أن يستَفيد منها في خدمة قَضاياه وفكره، ولعله يستطيع عبر هذا التواصل أن يعرِّفهم الحقّ والحقيقة لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، وكان يؤمن بالحوار ويعده واجب إلهي من منطلق الآية (وجادلهم بالتي هي أحسن).

ص: 150

وكان السيد الشيرازي علويّاً بالمعنى الدَّقيق لكلمة الإمام علي (عليه السلام) : «النّاس صِنفان، إمّا أخ لك في الدّين، أو نَظير لك في الخلق»(1).

فالنّاس كُلّهم إخوة إلاّ العَدُوّ الَّذي يشهر في وجهك السَّيف، فهذا عَدُوّك فقط، وأمّا الآخرون فإنَّهم إخوة..

فالحوار هو الأداة التي كان يبني فيها السيد الشيرازي علاقته مع الآخرين ومواقفه منهم، فكان يعود الى الحوار الذي ينقطع مع الآخرين مرات ومرات، لأنه صاحب رسالة وقضية، ولعل حواراته مع المسؤولين في المملكة السعودية ومشايخ الوهابية بغرض المطالبة ببناء البقيع، رغم أسلوبهم في الحوار وموقفهم من علماء الدين الشيعة، إلا إن الذي يظهر من سلسلة الحوارات المتقطعة إن السيد الشيرازي كان يلقي الحجة عليهم في كل مرة، وفي كل مرة كان هناك من المحيطين من بدا يتفهم الموضوع ويعرف أصوله الفقهية والتاريخية والسياسية.

فالجميع في دائرة الحوار من اجل التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين الطوائف والأديان، واهم مميزات آلية الحوار كأداة إصلاحية عند السيد الشيرازي:

1- إيمانه الكبير بالحوار كأداة في الدعوة والتغيير من منطلق قرآني.

فالحوار هو أداة الدعوة ووسيلة التبليغ القرآنية التي كان يبني عليها السيد الشيرازي علاقته مع الآخرين إذا أردنا أن نعرف العلاقة المُميّزة والمُتميّزة مع الأديان السَّماويّة، أكان ذلك مع المُسلمين، أم المَسيحيّين، فلابدَّ من الرُّجوع إلى النَّدوات الخالدة في كربلاء المقدّسة، ومنها إلى بيروت، وإلى الشّام، ومنها إلى دول الخَليج، إلى أفريقيا.. لنعرف ونتعرَّف على اثر الحوار وثمراته في العقول والقلوب..

فقد كان السيد الشيرازي منفتح على جميع الأديان، وكانت له علاقات وطيدة

ص: 151


1- نهج البلاغة: ص427. شرح نهج البلاغة: ج17، ص32. مستدرك الوسائل: ج13، ص160-161. بحار الأنوار: ج33، ص600، وج74، ص242-243. تحف العقول: ص126-127.

مع الشخصيّات المَسيحيّة، فقد كَتَب مقدّمات بعض مؤلّفاته كُتّاب وأُدَباء مَسيحيّون، كالأديب المَسيحي جورج جُرداق في مُقدّمته على كتاب، (الأدب المُوَجّه)، وكذلك مع علماء المسلمين حيث كانت لهم علاقة وطيدة وحميمة مع السيّد الشهيد ومنهم: مُفتي الجمهوريّة العربيّة السّوريّة الشيخ أحمد كَفتارو، ومُفتي مدينة دمشق الشيخ بشير عبد الباري، ومع عموم العلماء كانت علاقته إيجابيّة.. سواءً كانوا مُسلمين - شيعة أو غير شيعة - أومسيحيّين، بمختلف الطَّوائف المَسيحيّة ومختلف المَذاهب والأديان، وحتّى الشخصيّات السياسيّة العلمانيّة كان للشهيد الشيرازي علاقات إيجابيّة معهم، ولم تَكُن تلك العلاقات علاقات شخصيّة، بل كانت من أجل القيَم السّامية.

2- إيمانه بأثر الكلمة كأداة للإصلاح من منطلق إسلامي

2- إيمانه بأثر الكلمة كأداة للإصلاح من منطلق إسلامي(1).

3- دينامية حراكه في الدعوة والتبليغ والهجرة.

انه الداعية الذي يطرق قلوب الشعوب، ويحاور فكر الجماعات، ويطوي الأرض بشعار إعلاء كلمة اللّه وإصلاح الأمة، يلبي النداء في ساحل العاج ويزور بلدان أفريقية أخرى ثم يعود الى باريس ليلتقي ببعض الجاليات الإسلاميّة هناك، ويتَفَقَّد أحوالهم، ويطَّلَع على أهَمّ مشاكلهم المُتمَثّلة في ضعف التوجيه الدّيني، وندرة النشاطات الإسلاميّة، فيقدَّم لهم بعض المُساعدات المادّيّة والمعنويّة والإرشاديّة حول كيفيّة المُواصلة لنشاطهم بأحسن وجه، ويحذَّر من الضعف والكسَل المانعين لكُلّ تحرُّك في سبيل اللّه عز وجل. وتنتظره في جدول مواعيده بلدان وشعوب أخرى.

4- شخصيته التي اتسمت بسمات الجاذبية والإقناع والكاريزمية والتواضع.

كان يملك الجاذبيّة الَّتي تستطيع أن تقيم علاقات قد لا تخطر على بال أحد،

ص: 152


1- ولعل من شواهد ذلك الثمانين كتاب المطبوعة في مجالات مختلفة من العلوم والفنون.

وكان البعض مَشدوداً إلى السيد الشيرازي، وكان هذا يدفعه إلى أن يزوره ويلتَقي به، وهناك أعداد كبيرة من النّاس الَّذين كانوا على علاقة معه. وكان متفهم ومَرن ومشع وجَذّاب، ويجيد فن الحوار والإصغاء، لذلك فلو جلس مع خوري، وبطرك، أو مع البابا، أو مع رجل من الطوائف الأخرى، كان لَطيفاً معهم، كان داعية توحيد، ويحترم معتقدات الآخرين وينطلق من (تعالوا الى كلمة سواء..).

5- إيمانه بأهمية الحوار الداخلي للشيعة كمنطلق للحوار مع الآخر.

ومنه الحوارات التاريخية مع العلويين، وعظمة تلك الحوارات وما أثمرت عنه من بركات ونتائج باهرة في توحيد صفوف الشيعة ورصها بما يخدم الإسلام وتكون ركيزة للوحدة الإسلامية ومنطلق للحوار الإنساني.

والعلويّون، وهُم طائفة من الشيعة، ويبلغ تعدادهم حوالي ثلاثين مليون نسَمة، يتوزَّعون في كُلّ من سوريا ولبنان وإيران وأفغانستان وتُركيا. وقد عاشَت هذه الطّائفة عصراً مُظلماً تحت الضغط، والكبت، والإرهاب، من قبَل الحكومات الجائرة.

ونتيجة لتلك الضغوط اضطرّ هؤلاء إلى إخفاء مذهبهم، وعدم التظاهُر بشعائرهم. فمَضت السَّنوات الطَّويلة وهم على هذه الحال، حتّى نشأت أجيال في فراغ عقائدي، فتصدّى السيد الشيرازي، وأخذ على عاتقه مَسؤوليّة إعادتهم إلى جُذورهم. فشمَّر عن ساعد الجدّ والعمل بإخلاص، داخلاً الميدان بهُدوء وصبر وأناة، فالتَقى السيد الشيرازي بعلماء العلويّين، وأبرز شخصيّاتهم، وعقد معهم سلسلة من الحوارات المُكثّفة من أجل إبراز هَويَّتهم الإسلاميّة الأصليّة.

وبعد صبر طَويل، تكلَّلَت المَساعي بالنَّجاح، حيث اتَّفَق الجميع على انَّهم من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وان الإنحرافات الطّارئة كانت بالحقيقة دخيلة عليهم، ولم تَكُن من الواقع في شيء، فأصدروا بياناً نشروا فيه هَويَّتهم الأصليّة وهي الدّين الإسلامي، وأن مذهبهم هو التشيُّع، وختموه بأسماء ثمانين من

ص: 153

علمائهم ورجالاتهم وشخصيّاتهم، وقد كَتَب مُقدّمته السيد الشيرازي بنفسه في 11 ذي القعدة (1392ه)، المُوافق (1972م)..

وقد صرَّح شاه إيران - محمَّد رضا بَهلَوي - عقب نشر إعلان العلويّين تشيُّعهم في سوريا، وعودتهم إلى مذهبهم قائلاً لزُملائه: «الشخص الَّذي يتمكَّن أن يؤثِّر على الملايين من الناس، ينبَغي أن يُخشى منه..»(1).

6- إيمانه بأهمية الحوار الإسلامي الداخلي كمنطلق للحوار مع الآخر.

كان السيد الشيرازي يعد الحوار الإسلامي - الإسلامي ركيزة أساسية لإطلاق حوار إسلامي عالمي، ففي لبنان على سبيل المثال كان للسيد الشيرازي حوارات ولقاءات مع علماء المسلمين في طرابُلس وصيدا والبقاع...

كان السيد الشيرازي يشارك في جميع الاحتفالات والمناسبات الدينيّة لجميع المذاهب والأديان الأخرى عندما كانوا يدعونه، فكان يُلبّي هذه الدعوات، ولاسيما في لبنان، فقد دُعي للمشاركة في إحدى الاحتفالات الدينيّة الكُبرى للمسيحيّين في بيروت، فكان من أوائل المُشاركين فيها، حيث ألقى فيها خطاباً مهماً، وقد نال هذا الخطاب إعجاب واستحسان المُستَمعين، واستقبلوا السيّد الشهيد بأحسن ما يكون.

ويكتب الكاتب والفيلسوف المسيحي جورج جرداق في تقديمه لكتاب (الأدب المُوَجّه):

«عرفت السيِّد حسن الشيرازي ذهناً صافياً ولساناً صادقاً، وقلباً مُحبّاً، ووَجهاً تنعكس عليه أنوار نفس كريمة وأخلاق رفيعة، وكأنَّه بذلك كُلّه مُجتمع المَزايا العالية، الَّتي لابدَّ أن يتصرَّف بها كُلّ من جاوَر الحسين بن علي في كربلاء، وكُلّ مَن اقتَبَس من سيرته العظيمة سُمُوّاً وعُلُوّاً»(2).

ص: 154


1- الأخ الشهيد السيّد حسن الشيرازي، للإمام الرّاحل السيِّد محمَّد الشيرازي: ص24.
2- راجع كتاب حضارة في رجل: ص613.

الصورة

ص: 155

4- الأدب رسالة

للأدب رسالة هادفة، تسمو بالإنسان وترتقي بالمجتمع، وهي جزء مهم وفاعل من حركة الإنسان تجاه اللّه وتأثره بالوجود ومكوناته، فالسيد الشيرازي يعتقد أن الأدب ليس مجرَّد أدب مترف يتنزق به المترفون، ويُتاجر به الإنتهازيّون، ويتشدق به المهَلْوسون، بل الأدب رسالة مقدّسة تهدف إلى إيقاظ العقل البشري عبر تصوير المَعاني، بألفاظ جميلة تدلف إلى القلب بليونة، وتسكن هناك بهدوء.

إن الأدب حينما تكون له رسالة إصلاحية، يكون أكثر قيمة ونفعا للمجتمع، والى ذلك يشير السيد الشيرازي بقوله: «إن كلمتك ليست ترفاً، ولا عبثاً، وإنَّما هي حياتيّة تحاول تَطوير سلوك النّاس أفراداً ومجتمعات» فالأدب رسالة.. لذلك كتب (الأدب المُوَجّه)، ليرسم الخطوط العامّة في كيفيّة إيجاد أدب هادف ينصب في إطار الرسالة والتَّوجيه، ومن ثمّ إبعاده عن تلك الميوعة والتحلُّل والعبثيّة، الَّذي يحاول البعض أن يوجده في ثقافة المجتمع، حيث يتحوَّل الأدب إلى مُجَرَّد سلعة أو لعبة في أيدي الضائعين والهامشيّين، ويفقد رسالته الإنسانيّة في إيجاد الوَعي، وبناء العقل والحسّ الإنساني..

لقد أكد السيد الشيرازي على رسالة الأدب وخصص لها العديد من الكتب منها (العمل الأدبي) و(الأدب المُوَجّه)، وهذه الأعمال العملاقة تبين لنا أهمية ودور الأدب الرسالي في المشروع الإصلاحي للسيد الشيرازي، وهذا قبس من آراءه في هذا المجال:

يقول السيّد حسن الشيرازي في كتابه الموسوم ب(العمل الأدبي):

«ليس هدف العمل الأدبي إعطاء الحقائق العلميّة، ولا القضايا التاريخيّة، وليس الأدب مكلّفاً بالتحدّث عن صراع الطبقات مثلاً، ولا عن النهضة الصناعيّة، ولا الكفاح السياسي أو الاجتماعي، إلاّ إذا انفعل الأديب، وهاجَت

ص: 156

لديه تجربة شعوريّة».

و«.. لابدَّ للأدب من الرّسالة قبل الألفاظ، لأن الرّسالة تفتح طريقها ولو بلا ألفاظ، بينما الألفاظ بلا رسالة. سراب كاذب، يحسبه الظمآن ماءً وسحاب خلب، يخدع ولا يخصب».

و«الأدب ليس ترفاً عقليّاً، يؤخذ في أحايين الرهق والفراغ، لمُجَرَّد التسلية والترفيه، والفاكهة الَّتي تَتَناول بعد الطَّعام، وإنَّما وضع لإرهاف البلاد، حتّى يخلَعوا أنانيّاتهم، ويتخلّوا عن شهوة الدَّم والاستئثار. فيَعمّ السَّلام الأرض».

و«الأدب الَّذي يتأثَّر به النّاس، هو الَّذي يتجرَّد من ذاته، ويبشر بحياة أفضل، كأنَّه ملاك يمشي على الأرض. ويعبر عن السَّماء، وكأن الهمس الَّذي يخرج من حلقه، دعاء يحمل أثير روحه بكلّ حرارة ومرارة، حتّى تردّده المَشاعر والعواطف قبل الألسنة والشفاه».

و«.. أترك نَوافذ بيتك مفتوحة لكُلّ الرياحين، ودَعها تَعتَصر بعضها وتئن في زحمة الإعصار، فعَسى أن تعقد فوق بيتك المعصرات، وتَتَجاوَب معها مواهب الأرض، غير أن الشجرة المَغرورة تكتشف كنوز الأرض، وتقدّمها إليك دون عناءٍ، ولكن في بستان مفتوح للنّور، للهواء، للمطر... لا في صندوق مُقفَل...».

ويعلِّق المؤلِّف السيد الشيرازي على مكانة الأديب، ومؤثّراته من إنجازات وإبداع قائلاً:

«الأفراد مهما عظموا فإنّهم إلى فناء تتلقف الأجداث رفاتهم، لكن الأديب العظيم عندما يولد، يولد معه كون عظيم، وحينما يموت يضيف إلى رصيد البشريّة كوناً عظيماً لم يسبق أن رآه إنسان، وكلّ لحظة يمضيها القارئ مع أديب، هي رحلة في كوكب منفرد متميّز الخصائص والسمات».

والتجارب الأدبيّة عوالم لا نهائيّة، تتّسم بذلك التنوُّع الهائل، كما لا ينضب ولا يتشابه طيف منّوع من الألوان والصور والانفعالات.

ص: 157

ويجزم علم الشخصيّة بأنّه لا يوجد على الأرض اثنان يتماثلان في الشعور، فكلّ إنسان كتاب فريد، لم تطبع منه غير نسخة واحدة، وهذه الحقيقة تفتح لنا نافذة على الكون الكبير الَّذي خلقه اللّه سبحانه وتعالى خلف الكون الصغير.

ويستطرد السيد الشيرازي قائلاً:

«إذا كُنّا نحلم بالتطلُّع إلى الأكوان التي خلقها اللّه في تصوّر الأفراد العاديّين، فكم يشوقنا التطلع إلى الأكوان السحريّة المخلوقة في تصوّرات الأدباء، وتنظيم رحلاتهم إلى تلك الأكوان للتملّي بمشاهدتها العجيبة».

5- منبر القافية وساحة المشاعر

اعتلى السيد الشيرازي منبر القافية ليلقي رسالته الإصلاحية للمجتمع، مرشدا وموجها، ومقدما فاكهة الحكمة على مائدة الشعر بمذاق المشاعر النبيلة وهي تضمد جراحات المجتمع، وتنير له طريق الخلاص لمعاناته ومآسيه.

فالسيد الشيرازي ينظر الى الشعر على انه «مُعاناة روحيّة عَفويّة، تنعكس عليها المُضاعفات النفسيّة والاجتماعية أكثر ممّا تَستَجيب للعبقريّة والذَّكاء».

والشعر هو التعبير عن معاناة الإنسان، والقصيدة لدى السيد الشيرازي تضع إصبعها على الجرح الإنساني تماماً، وتعرض مأساة الإنسان بوضوح لا يتلبّسه الغموض أو التستُّر، والشاعر بوصفه إنسان طَليعي وعين ثاقبة وفكر وقاد وخيال راق ونفس سامية، يقدِّم لنا في قصيدته (أين الإنسان) مشهداً متحرّكاً للعلاقات الإنسانيّة الحياتيّة، ولذلك نرى في هذه القصيدة جرأة كبيرة، ودقّة عالية في رصد الوقائع بلا تزيين أو مُحاباة، وجاءت لغة القصيدة موائمة لمضمونها، ولذا تعد هذه القصيدة من القصائد التحريضيّة للإنسان الَّذي يغفل سبل الخير، ويوغل في سبل الشرّ، فهي بمثابة ناقوس الخطر الَّذي يحذِّر الإنسان الشرّير من مغبة أعماله.

إذ يتساءل شاعرنا قائلاً:

أين الإنسان، ؟! وما هو شكل الإنسان؟

ص: 158

وما هو لون الإنسان؟ وماذا تعني الإنسانيّة في مجتمع الذؤبان،

ما دام الكون حديقة حيوان، ؟!

ماذا يعني قوس المحكمة العليا، وشعار الميزان، ؟!

ما دام السلطان يساوي الميزان، وليس الميزان يساوي السلطان،

ما دام الحرّيّات، بأيدي الجلادين، سيوف، وسياط،

ما دام القانون يفصّل كالمطاط؟..

ولا يطرح الشعر هموم الإنسان بل هو منار لكل التيه البشري كما في قصيدة (أنا عندي):

أنا عندي حكمة الإيمان باللّه المجيدْ،

أنا عندي فكرة العرفان بالكون العنيدْ،

فهو يفني كُلَّ شيءٍ،

ما عدى الإنسان والفعلَ الحميدْ.

فأنشر الإنسان في نفسِك تلقى ما تريدْ،

وستبقى وتزيدْ!

أنا عندي،

كل ما تبغيه عندي..

ولقد كان الشعر السياسي عند السيد الشيرازي أحد أدوات كفاحه ضدّ انحرافات بعض اللاّعبين على الساحة السياسيّة العراقيّة، خلال الفترة الآنفة الذكر، وهو دليل إنشغال فكر السيد الشيرازي بهموم العراقيين السياسيّة، والاقتصادية والفكريّة، كما في هذه الأبيات:

فالشَّعب لا يحميه غيرُ قيادةِ***الإسلام خير قيادة وإمام

والحكم منهارٌ إذا لم يتخذْ***دستوره مِن خالقٍ علاّم

فالكفر أفيونُ الشعوب، ودينُنا***أملُ الشعوب وفوق كلّ نظام

ص: 159

هذا طريق الثّائرين لشعبهم***وشعار كُلّ مجاهدٍ مقدام

قُم ثائراً للدين وافتح أعيناً***عاشت وماتَت في عمىً وظلام

حسبوا التقدُّم رَفْضَ كُلّ شريعةٍ***والكفرَ والإلحادَ خيرَ مرام

وكان الشعر سلاح السيد الشيرازي عندما أخذ يكشف عن زيف ذلك النِّظام الطّاغية، الَّذي يردِّد شعارات زائفة، يهدف من ورائها إلى نشر الشَّر، والحرب، وإبادة الجنس البشري.. وما سيفعله النِّظام الحاكم بشعبه والشّعوب المُجاورة من جَرائم وحُروب، وكان يقول كلمته ضدّ الطَّواغيت بكلّ جرأة وشجاعة، وكلماته موجودة ومثبتة في دواوينه.. يصف العراق:

أرض العراق مجازر ومآتم***والرافدان مذانب ودماء

6- الاهتمام بالشباب

کان السيد الشيرازي يهتم بالشباب اهتماما كبيرا منذ أن کان في كربلاء المقدّسة، ويوليهم عناية خاصّة لکی يعد نخبة من الشباب الإسلامي الواعي، المؤمن بالرسالة الحضارية والفكرية للإسلام، شباب متحصن ضد الانحرافات من التيّارات والأهواء المواکبة للشرق أو الغرب، ولا ينخرطوا في الأحزاب الباطلة، والتکتُّلات والمنظّمات الفاسدة، فيعمل لهم هيئات ومنظّمات عمل تشغيلاً لطاقاتهم في سبيل اللّه.

وباكورة هذا النشاط کان في تأسيس منظّمة دينيّة للشباب في أيّام المَدّ الشيوعي في العراق عام (1969م.1379ه) اسمها (الشباب الحسيني)، وکانوا يصدرون مناشير بمناسبات دينيّة ويوزّعونها علی أفراد المجتمع تحت عنوان، «منشورات الشباب الحسيني».

وکان آية اللّه السيد الشيرازي غالباً ما يستفيد من التجمّعات الضَّخمة التی کانت تتكون في مناسبات زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء المقدّسة،

ص: 160

ليعطيهم الغذاء الفکري عبر هذه المنشورات.

ومن أهم أعمال بالتوجه للشباب:

1- إقامة الحفلات الدينيّة والندوات الأسبوعيّة، من أجل توعية الشباب، ودفعهم نحو الدّين وتعاليمه ودروسه، والاستماع الى همومهم ومشاكلهم وحلها بالأسلوب الإسلامي، والتفكر في آفاق الإسلام الحضاري.

2- الاهتمام الكبير بالطلبة الشباب في المعاهد الدينية والحوزات سواء حينما كان في العراق أو بيروت أو سوريا.

3- تنفيذا لنصيحة المرجع السيد محمد الشيرازي فقد توجه السيد حسن الشيرازي الى الكتابة والتأليف بأسلوب قريب من الشباب ومنبثق عن مرحلتهم الحياتية من اجل توجههم لبناء المجتمع والدفاع عن رسالة الاسلام.

4- تأسيس مؤسسات للطباعة والنشر في لبنان والَّتي كان لها دور فاعل على السّاحة العربية والإسلامية منذ عام (1975م).

5- إعداد نخبة من الشباب وتطوير مهاراتهم في الكتابة والتأليف، إلى جانب الدّراسة العلميّة وتمرينهم على تأليف الكُتُب بطراز أدبي جميل، وكان يعتقد بضرورة هذه النّشاطات لما تُعانيه المكتبة العربيّة الإسلاميّة من نَقص واضح وفراغ من الكتب الإسلاميّة الصحيحة. وكان السيد الشيرازي يُرشِد تلاميذه إلى صياغة الفكر الإسلامي، وكتابته بأسلوب حديث وشكل بَسيط، حتّى يُمكَّن الشَّباب من معرفة الإسلام، وآدابه، وأحكامه، وقوانينه، وأخلاقه، بصورة سهلة وبلا تعقيد. ومِن أبرز كتبه في هذا المجال «التَّوجيه الدّيني»، وإنطلاقاً من هذه الضَّرورة الإجتماعيّة، فقد أسَّس لجنة أدبيّة لتعليم الكتابة الأدبيّة لطُلاّب العلوم الدينيّة، وترأس اللجنة بنفسه، لأنّه كان أديباً بارعاً، وكاتباً قديراً، يملك القلم والبيان، كما تشهد له مبتكراته وكتاباته الأدبيّة، وبدأ بتربية تلاميذه على الأدب والقلم.. وسُرعان ما ارتفع المُستوى الأدبي لَدى الطلاّب، وبَدؤوا يكتبون

ص: 161

المقالات الدّينيّة والبحوث الإسلاميّة بأسلوب أدبي جميل.. وبعد فترة تأسَّسَت المجلاّت الدّينيّة واحدة تلو الأخرى، وبدأت العناصر الشّابّة والأقلام اليافعة تكتب في مختلف المواضيع الإسلاميّة، وتنشرها بين النّاس من أجل رَفع المُستوى الفكري فيهم.

7- ترسيخ أسس الوحدة الإسلامية
اشارة

تعد قضية الوحدة من القضايا المهمة في فكر السيد الشيرازي باعتبارها إحدى ركائز الرسالة الإسلامية ويرى إن الوحدة هي قضية فطرية وكونية وإنسانية وإسلامية وهي من الأهداف الهامة للشرائع السماوية والانجازات الإنسانية القيمة.

والوحدة أمر الهي وواجب إسلامي قال عز وجل في كتابه الكريم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(1).

وفي عصرنا الحاضر شهدت الأمة الإسلامية العديد من التنازعات والفرقة نتيجة لمؤامرات داخلية وخارجية وعوامل عديدة أخرى، مما مهّد الأرضية لتكالب أعداء الأمة الإسلامية عليها وتمزيقها واستعمارها وغزوها ماديا وثقافيا وعزلها عن مكامن قوتها وموارد رفعتها. حيث شكّلت الاختلافات والتفرقة تهديداً حقيقياً للعالم الإسلامي ولكل مجتمع من مجتمعاته.

والى ذلك يشير السيد الشيرازي في خطابه الشعري للأمة:

بالدين فينا تلتقي الآراء***وستلتقي في ديننا الأهواء

أعداؤنا نَبذوا الفوارق بيننا***فالدين فيه وحدة وإخاء

والدين والدم والمصير ومنطق***القرآن والتاريخ والأعداء

صهرت جميع المسلمين لكي تقدم***الوحدة الدينية الشّماء

لا الطائفية تستطيع تحكماً***فينا ولا الحزبية الهوجاء

ص: 162


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

كان السيد الشيرازي على اتِّصال بكثير من العلماء - الشيعة والسنّة - لأنَّه كان داعية من دُعاة الوحدة الإسلاميّة.

كان يرى نفسه عالماً للمسلمين، قبل أن يكون عالماً للجعفريّين، فمَدّ يده بإخلاص ومحبّة وشوق وصدق إلى جميع علماء المسلمين في بقاع أفريقيا. وحتّى في لبنان أيضاً، وفي سوريا، وفي كُلّ مكان.

فالسيد الشيرازي لم يكن هَمّه ينحصر فقط في كربلاء المقدّسة، والنَّجف الأشرف، وبغداد.. وإنَّما كانت هُمومه تشمل كُلّ بقاع الإسلام، وكُلّ مُدُن وقُرى الإسلام، وجميع أطياف المسلمين، لأيّ مذهب وبلد انتموا..

فكان سعي السيد الشيرازي بأن يجمَع المُسلمين ويُوَحِّدهم، كما كان أخوه آية اللّه العظمى السيّد محمَّد الحُسَيني الشيرازي دائماً يَسعى إلى هذا الأمر، ولذلك استمَرَّ حوالي عشرة سنوات يوزِّع منشوراً مُهمّاً في الحَجّ، حيث يجتمع أكثر من مليوني حاج.. وبدأت هذه الكُتَيّبات الصَّغيرة بشعار، «يا أيُّها المُسلمون اتَّحدوا اتَّحدوا»، وكانت دعوةً صادقة إلى كُلّ المُسلمين.

إن كلمات الإمام السيد الشيرازي الآنفة قد عَبَّرت عن هذا المطلب السِّياسي:

والمُشركون مذاهب ومشارب***والمسلمون جميعهم أحباب

وفي سعيه لوحدة المسلمين سافر السيد الشيرازي إلى مصر، والتَقى بشيخ الأزهر (محمود شَلتوت)، وكانت الغاية من الزّيارة هي التباحُث لوضع حَدّ للفرقة الَّتي تنخر كيان الأمّة الإسلاميّة، لجمع كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، وكان السيد الشيرازي يقول تكراراً: «إن هذه الوحدات العسكريّة أو الإداريّة أو السياسيّة أو الإقتصاديّة، أو ما شابهها، هي فقاعات، سُرعان ما تَزول».

كان إيمانه وثيقاً بأن الوحدة إنَّما ينبغي أن تستند إلى الوحدة الفكريّة العميقة النّابعة من العقل والقلب والضمير.

وفعلاً أصدر شيخ الأزهر فتواه الشَّهيرة والجَريئة بجواز التعبُّد بمذهب

ص: 163

الشيعة، مذهب أهل البيت، وأنَّه كسائر المَذاهب الإسلاميّة، صحيح وجائز. وكانت المُباحثات مُثمِرة، ووعد شيخ الأزهر بإصدار فَتاوى وتَصريحات أخرى في هذا السَّبيل، غير أنَّه لم يَمض زمان حتّى فارق الحياة. فقام السيد الشيرازي بعدّة مُحاولات فيما بعد، إلاّ أنّها لم يكتب لها النَّجاح بسبب تَعذُّر الشيخ الَّذي خلف الشيخ شلتوت مَرّة بعد الأخرى بالأعذار.

وقد قام السيد الشيرازي بعدّة رحلات تبليغية إلى الكويت، بهدف نشر الوَعي الدّيني والثقافي، بعد أن تَلَقّى عدّة دعوات من بعض الشخصيّات الدينيّة والاجتماعية. وكانت المَرّة الأولى عام (1962م)، المُوافق (1383ه)، عندما وُجِّهَت إليه الدَّعوة للإشتراك بالمهرجان الدّيني الكبير الَّذي أقامته المدرسة الوطنيّة الجعفريّة بمناسبة عيد الغدير الأغر، لمُرور 26 عاماً على تأسيس هذه المدرسة. وكذلك قام بزيارات مماثلة لكثير من دول العالم الإسلامي.

ومن على منبر القافية، كان يهتف بشباب الأمة الإسلامية، قائلا:

يا فتية الإسلام، أنتم أُمة***جبّارة تسمُو عن الأوهام

ولكم من الإسلام خير مناهجٍ***وشعائرٍ ومبادئ ومَرامي

ولكم من الإسلام خير قيادة***ستطيح بالأنصاب والأزلام

نفني المبادئ مثلما حطمتموا***الرجعيّة الحمراء بالإرغام

لا نَستعيض قيادةً مدسوسةً***عمّا لَدى علمائِنا الأعلامِ

وليسمع المستعمرون جميعُهم:***انّا نريد حكومةَ الإسلام

والوحدةُ الكبرى شعار نظامنا***والثورة البيضاء رمز قيام

فعلى قيادة حيدرٍ ومحمدٍ***سنطبّق الإسلام بالإسلام

وعلى شفاهي من فؤادي ثورةٌ***وعلى نشيدي من فتات كلامي

اللّه ربّي والشريعةُ مذهبي***والشعب شعبي والطريق أمامي

ص: 164

فإلى الأمام إلى السلام على هُدى***القرآن نحو مخطّط الأحلام

سِيروا على اسم اللّه والقرآن***لبناء حكم زاهرٍ إسلامي

الصورة

ص: 165

التنظيم المرجعي دعامة للوحدة الإسلامية

وهذا التنظيم برأي السيد الشيرازي أفضل أنواع التنظيمات، لأنّه يحصّن الأمّة من الإنشقاقات الداخليّة، والإنفراط إلى كُتَل منحازة.

ويمنح للأمّة مناعة من تسلُّل الإتِّجاهات الأجنبيّة، ويصونها من تطفُّل القيادات الكاذبة عليها، والَّتي تريد إستنزاف إمكاناتها، كما وانّها تُحافِظ على الوحدة الإسلاميّة ووحدة الأمّة ووحدة الكلمة الإسلاميّة.

وكان السيد الشيرازي مؤمنا بالوحدة الوطنية ويعدها فضيلة للشعوب والمجتمعات وعنصر قوة في مواجهة الطغاة والمستعمرين، وفي نشاطاته السياسية كان عمله مُرَكّزاً من أجل تكوين جبهة إسلاميّة عريضة، للتَصَدّي للدكتاتوريّة المُتَسَلِّطة، تجمع كافّة التوجُّهات، والشخصيّات السّياسيّة، والعسكريّة، والدينيّة، والعشائريّة.. فقد كان السيد الشيرازي ذو جهاد ثوري، مرتبط إرتباطاً وثيقاً مع جهاد أخيه الإمام الرّاحل آية اللّه العظمى السيّد محمّد الشيرازي.. ومن هنا كانت خُطوة الإمام السيد الشيرازي لتكوين هذه الجبهة، خُطوة متقدّمة نحو الإنتصار، لاسيَّما وان شرارة الرَّفض إذا شملت كافّة الشرائح الإجتماعيّة، فإن قُوّات النِّظام لا يمكن أن تقف أمام طوفان المَدّ الشَّعبي المتنامي.

إن آية اللّه السيد الشيرازي كان يعد الوحدة سبيلا للاستقلال الوطني وتمكينا للشعب لاستعادة إرادته، في العراق آنذاك وفلسطين ولبنان وأفغانستان.

وكان يقول: «إن شاء اللّه سوف ينال الشّيعة في أفغانستان كامل حقوقهم في يوم من الأيّام، ولكن بشرطين اثنين، أوَّلاً، الإتحاد والوحدة فيما بينهم. وثانياً: الصبر والاستقامة، فإذا توفّر هذين الشرطين للشيعة في أفغانستان، يتمكنون من الانتصار، ويستطيعون نيل حقوقهم، وفي غير ذلك - لا سَمَح اللّه - فإنَّهم لَن يستَطيعوا نَيل حقوقهم».

وكانت من وَصايا الإمام السيد الشيرازي: «عليكم بتَوفير هذين الشرطين بكُلّ

ص: 166

ما تَستَطيعون، وإن قلبي ليحترق ويتَمزّق لِما يجري على الشّيعة في أفغانستان خاصة، وعلى المسلمين في كلّ مكان».

8- نقد العصبية القومية والعرقية والعصبيات الجاهلية

إن الدّين الإسلامي واحد، وهناك مساحة للاستنباط في الاجتهاد الفقهي، لكن بعض ذوي المصالح الخاصّة قد حَوَّلوا الإجتهاد بالرّأي إلى سبب لتمزيق كلمة المسلمين، وتحويلهم إلى طوائف دينيّة.

مع مرور السنوات وتعاقب الأجيال، تحوّلت الطّائفيّة إلى فتنة عمياء، لا ترحم أحداً من المسلمين، لأنّهم جميعاً وقعوا ضحيّة ما جلبته من عنف وإرهاب في مناسبات عديدة، وبسبب مجموعة من قصيري النَّظر، وذوي المصالح الخاصّة الأنانيّة لإلحاقها الأذى بالمسلمين، وتمزيقها لصفّهم، واستنزافها لقواهم وخيراتهم.

إن رفض الطّائفيّة لا يعتبر بأيّ شكل من الأشكال إلغاء أو رفض الخصوصيّة، ف«اختلاف أمّتي رحمة»(1)،

لكن المَرفوض هنا هو إلغاء الآخر وإقصائه، أيّ بمعنى إلغاء الحِوار الموضوعي بين المذاهب بهذه الروح وبهذه الأفكار، وهذا ما كان يؤمن به السيد حسن الشيرازي، وظَلّ يدعو إليه في مسيرة العمل الإسلامي الأصيل.

إن الحوار بين الطَّوائف يؤدّي إلى انفتاحها على بعضها، وقفزها فوق الجدار الوهمي بينها، وهذا الإنفتاح يؤدّي بدوره إلى فهم كلّ طائفة الأسلوب الَّذي تُفكِّر به بقيّة الطوائف، وهذا الفهم يؤدّي بدوره أيضاً إلى الإلتقاء على نقاط كثيرة، لأن نقاط الإلتقاء أكثر من نقاط الإفتراق، ونقاط الإلتقاء مع توفُّر حسن النيّة تُشَكِّل قاعدة متينة للتعاون المشترك، وحصر نقاط الإفتراق تمهيداً لتطويقها من أجل إعداد المناخ المناسب لتوحيد الكلمة، الَّذي هو أكبر آمال الطَّوائف كلّها، ولا

ص: 167


1- وسائل الشيعة: ج27، ص140-14، ح33425. بحار الأنوار: ج74، ص166. الإحتجاج: ج2، ص355. عوالي اللآلي: ج1، ص286. علل الشرائع: ج1، ص85.

يمكن أن تقوم قائمة لأيِّ دين، إلاّ بتوحيد كلمة أتباعه، ومن أجل إلغاء الطّائفيّة، لا عن طريق تكتيمها للمُجاملات واللياقات، وإنّما عن طريق تقليصها للتنفيذ.

إن أيّ شيء في الوجود، مهما كان صغيراً لا يمكن أن يخرج إلى النّور إلاّ بدراسة موضوعيّة، وعمل منسجم مع الواقع، فكيف يمكن لآمال كبار في حجم توحيد الكلمة وإلغاءِ الطّائفيّة أن تتحقَّق لو تجنبنا الحوار، وتجنبنا البحث المشترك، من أجل تحقيق هذه الآمال الكبار جرى هذا الحوار بين عملاق لبنان وعملاق مصر، وصدر كتاب المراجعات(1).

كان السيد حسن الشيرازي يرى أن الأمّة إذا اجتمَعَت على التَّقوى قويت واشتدّت، وصارت حصناً حصيناً، وقَلعةً منيعة.. كان يرى أن الحقّ سيَعود إلى الأمّة، بعزمها وتصميمها، وإيمانها، وها هو ينظُر إلى حقّها المُغتصب، فيقول السيد الشيرازي:

سَيردّ القُدس بالإيم--ان والعَ--زم المنيع

راي--ة الإسلام تَعل--و في فلسطين الصَّري--ع

ونحيّ--ي أرض سين--اء ب--أزهار ال--رَّبي--ع

سوف يقضي موكب النّور على جيش الظَّلام

وكان السيد الشيرازي يرى تَمَزُّق الأمّة، وتَفَرُّقها وتبعثرها ضَعفاً لها، ويرى أن التَغَنّي بالطّائفيّة والعصبيّة والعشائريّة وغيرها، نوح إبليس على الجنة، بل يرى أن التَغَنّي بالطّائفيّة كالأفعى السّامّة، تَترُك سُمومها القاتلة أينما حلَّت وحيثما وجدت.. فيقول:

والطّائفية ويلها من فتنة***عمياء يوقظ حقدها الأقزام

والطّائفية جدّدت تاريخها***فإذا لها الحكام والأحكام

والطّائفية لوّنت أزيائها***وتطرزت في عرضها الأقلام

ص: 168


1- المصدر: كتاب المقدّمات: ص110-113.

لكنها هي لم تغير ذاتها***فشعارها الإرهاب والإرغام

وقد ابتلى العراق بالحكم الطائفي منذ الحكم الاموي الى تأسيس الدولة العراقية الحديثة، التي كان فيها الحكم الطّائفي العنصري واضح المعالم إبان العهد الملكي المدعي للديمقراطيّة البرلمانيّة، أمّا العهد الجمهوري فكان أشدّ وطأة وأكثر ولاءً وعمالةً للدول الإستعماريّة لتنفيذ أوامر أسياده بكُلّ ما أوتي من قُوّة.

يقول الإمام الشيرازي الرّاحل: «وفي العهد الجُمهوري الَّذي ابتدأ بحكم قاسم، والأخوين عبد السَّلام وعبد الرَّحمن عارف، والبكر، وصدّام.. أيّ منذ السّادس والعشرين من ذي الحجّة عام (1377ه) ولحَدّ الآن دخل العراق مرحلة جديدة من الكبت الفكري والاضطهاد السياسي والحرمان من التمتُّع بالحقوق. وأضحت الطّائفيّة والاستبداد والدكتاتوريّة والابتعاد عن الدّين والقيَم السَّماويّة من أساسيات العمل السياسي..»(1).

والطائفيّة - كما يرى السيد الشيرازي - هي أبعد ما تكون عن الشعب العراقي، وإنَّما تثار الطّائفيّة بفعل جماعات تعتاش على مثل هذه الصراعات البغيضة، فهو يقول فيها:

والطّائفيّة ويلها من فتنة***عمياء يوقظ حقدها الأقزام

أمّا الشعب العراقي فليس له في الطائفيّة غرض، ولعلَّه البلد الوحيد الذي لم يكن الشعب فيه يعير أذناً، أو يبدي تحسّساً لمثل هذا الأمر، على الرغم من الفارق العددي الكبير بين أبناء طوائفه، ولذا يشرح السيد الشيرازي حال الشَّعب العراقي بالنِّسبة للطائفيّة قائلاً:

لا الطّائفيّة تستطيع تحكّماً***فينا ولا الحزبيّة الهوجاء

فالطّائفيّة جذوة مسمومة***يصلّى بها الهدام والبناء

ص: 169


1- تلك الأيّام، للإمام الرّاحل السيّد محمَّد الشيرازي: ص23.

فالسيد الشيرازي يدرك بأن عشق العراقيّين، وعيونهم، وآمالهم معلّقة صوب إقامة حكم الإسلام، الاسلام الذي يدعو الى التوحد والاعتصام بحبل اللّه، حيث جرَّب نظم الشرق والغرب، ممّا وضعته يد الأرض، فلم يبق أمامه سوى العيش في ظِلّ ما خَطَّته يد السماء:

وليسمع المُستعمرون جميعهم***انّا نريد حكومة الإسلام

الصورة

ص: 170

9- ترسيخ المنهج التربوي الإسلامي

كان الهم التربوي له مساحة كبيرة من فكر السيد الشيرازي ليس كآلية من آليات الإصلاح بل لأنه يعده عنصرا حاسما في تغيير واقع الأمة وبناء جيل الشباب، فقد وجد السيد الشيرازي إن الواقع التربوي للأمة يسوده الضعف وتنخره العديد من الآفات، ومن أهمها:

- غياب المؤسسات التربوية الرصينة التي يمكن أن تخرج متخصصين في مجال التربية قادرين على نشر المنهج التربوي الإسلامي.

- تغييب المنهج التربوي الإسلامي، ومحاولة إقصائه لصالح مناهج تربوية منحرفة وبعضها الآخر غريب عن واقع الأمة وتراثها الفكري والأخلاقي، ومحاولة زرع أراء وأفكار تشيع الانحراف والبغضاء في المجتمع.

- تغييب دور رجال الدين من خلال الإقصاء والتهميش والمطاردة والنفي والقتل، وبالتالي تعطيل الدور التربوي لرجل الدين وتأثيره الأخلاقي في المجتمع.

ولتعزيز هذا الجانب قام بمجموعة كبيرة من الأعمال العظيمة ومنها:

أولا: إنشاء المؤسسات التي تعزز العمل التربوي: وتشييد المدارس الدينيّة على مستويات راقية من جميع الجهات، ثُمَّ دعوة الطُلاّب، والتكفُّل بجميع شؤونهم الماديّة والمعنويّة حتى مُدّة معينة، وتربيتهم تربية رسالية بنحو، «كونوا دعاةً للنّاس بغير ألسنَتكُم»(1)، ومنها:

- في عام (1393ه) أسَّس الحوزة العلميّة الزينبيّة لطلبة العلوم الدينيّة في دمشق، بجوار الحرم المقدّس للسيّدة زينب (عليها السلام) بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد لاقى السيد الشيرازي في سبيل توطيد هذه الحوزة العلميّة وتركيزها أنواعاً من المَصاعب والمشاكل المُرهقة، وكان يتلقّاها بصدر رحب، وإيمان ثابت، وعزم

ص: 171


1- حديث للامام الصادق انظر وسائل الشيعة: ج1، ص7، ح171، وج15، ص246، ح20403. مستدرك الوسائل: ج8، ص457، ح9996، وج11، ص273، ح12981. بحار الأنوار: ج47، ص303.

راسخ، وتحدّ مُدهش.. ولا تزال الحوزة العلميّة تواصل طريقها على نهج مؤسّسها السيد الشيرازي.. من أهداف تأسيس الحوزة: الأوَّل: أن يُرَبّي تحت مظلّة الحوزة مجموعة من الشَّباب تربية إسلامية، ويثقفهم بثقافة الرسالة الإسلامية، ويغترفوا من علوم النبي واله ما يمكنهم من أداء واجباتهم الشرعية.. والثّاني: أن يحتضن طلبة الحوزة الذين فروا من جحيم الحكم العفلقي البعثي في العراق، ويهيئ لهم المناخ المناسب للتعلم والتعليم والتأثير في الأمة من خلال التوجيه والإرشاد والتبليغ والدعوة والتخلق بأخلاق القران والأئمة المعصومين..

- أسَّس «مدرسة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) » في بيروت، واستدعى أساتذة من العراق وإيران، لكي يقوموا بتَدريس وتوجيه وتربية الجيل الصّاعد، وكانت هذه المدرسة بمثابة النُّواة الأساسيّة لتأسيس حوزة علميّة في لبنان.

ثانيا: التركيز على الدور التربوي لرجل الدين في الإعداد التعليمي والتأثير في المجتمع:

كان السيد الشيرازي يوجه أساتذة الحوزة الى الاهتمام بالجانب التربوي لطلبة العلوم الدينية، لكي يعيش طالب العلم المنهج التربوي الإسلامي فكرا وحياة، وبالتالي يكون قادرا على نقل هذه التجربة التربوية العظيمة من ميراث الأنبياء والأئمة المعصومين الى الناس، ومن وصاياه الى أساتذة الحوزة في لبنان وسوريا قوله: (العالِم الدّيني قُدوة وفِكرة، فالنّاس يتَّبعون العالِم الدّيني القُدوة، أكثر ممّا يتَّبعون العالِم الدّيني الفِكرة، ومن ثمَّ صدقها، ويعتبرون عدم إنعكاس فكرته على واقعه دليلاً على عدم إيمانه بها، ومن ثمَّ عدم صدقها).

ثالثا: الاهتمام بالمنهج التربوي الإسلامي في المنتج الديني والفكري:

السيد الشيرازي كان يُرَكِّز على المنهج التربوي الإسلامي، وبالأخَصّ كان يُرَكِّز على تربية جيل مُسلم ومؤمن، ويُنَظِّم أمورهم تحت إشراف المَراجع العظام.

وفي هذا المَجال ألَّف كتابه، (كلمة الإسلام)، وحينما صَدَرت الطَّبعة الأولى

ص: 172

من كتابه، وقد أثار الكتاب ضجة سببها الأعداء والحاسدين، لان واحدة من مقاصد هذا النتاج الفكري هي إعداد جيل من الشَّباب المُؤمن في حركة جَماهيريّة بإشراف المراجع العظام وتحت رعايتهم، وبعيداً عن التَّحزُّبات المُغلقة والضيِّقة، معدة إعدادا رساليا تتجلى فيه قيم الإسلام وأخلاقيات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) .

ومن يطالع كتاب خواطري حول القران سيجد أن الخطاب التربوي الإسلامي هو الخطاب الأكثر تجليا بأسلوب أدبي علمي يجمع بين التحليل والتأمل، ذلك الأسلوب التربوي الذي يبتعد عن الوعظ المباشر ويمنح القارئ فرصة للتأمل والتفكر، والكتاب بأجزائه الثلاثة ينبوع لقراءات عميقة حول المنهج التربوي الإسلامي، وتفاعله مع الواقع المعاصر.

وفي كتابه الاقتصاد هناك جذر فلسفي يؤكد عليه السيد الشيرازي وهو علاقة النظم الاقتصادية الإسلامية بالمنهج التربوي الإسلامي، وقد بين السيّد حسن الشيرازي أن النُّصوص الإقتصاديّة الإسلاميّة لا يمكن أن تُحقِّق أهدافها في تنظيم العلاقات الإقتصاديّة للبشر تنظيماً عادلاً ورشيداً، إلاّ إذا طبقت ضمن إطار إسلامي عام، يقوم على قيم أخلاقيّة إسلاميّة، وعلاقات إجتماعيّة إسلاميّة، وطموحات إسلاميّة تأخذ في الإعتبار التَّوازن بين ما يستطيع الإنسان أن يحقّقه في دنياه وما يجب أن يتركه لآخرته.

رابعا: التأكيد على الدور التربوي للأدب:

يقول السيّد الشيرازي: «إن الأفراد - مهما عظُمُوا - يفنون عندما تلفِّف الأجداث رفاتهم، ولكن الأديب العظيم عندما يولد، يولد معه كونٌ عظيم، وحينما يموت، يضيف إلى رصيد البشريّة كوناً عظيماً، لم يسبق أن رآه إنسان، وكلّ لحظة يمضيها القارئ مع أديب عظيم، هي رحلة في كوكب منفرد، متميِّز الخصائص والسِّمات»(1).

ص: 173


1- العمل الأدبي: ص13.

وهذه المَيِّزة لا تتاح إلاّ لمن قوَّم النفس على حميد الأخلاق، وصان اللسان عن السفاسف، واهتدى إلى الطيِّب من القول، أيّاً كان موضوعه الأدبي الذي اختاره مجالاً له، لأن اللفظة تنبئ عن قائلها في تفكيره ومسلكه وطباعه ومنهجه في الحياة، فليس للأديب ولادة عاديّة، ولا رحيله أمراً عاديّاً، وإنَّما هو أثر كبير يترك أثراً عظيماً يتناسب مع مكانة الأديب وقدراته وثقافته، تكون بعد وفاته أعظم ما تكون، وأوضح ما تكون، إذ أن نتاجه الأدبي إنَّما هو إضافة معرفيّة في حياته، وإضافة معرفيّة بعد وفاته، وهنا تكمن عظمة الأديب، فليست كلّ كتابة أدباً، لأن الأدب في حقيقته، هو تربية للنَّفس، وتوطين لها على الفضائل ومكارم الأخلاق، آخذة بالدين والعلم والفلسفة والتاريخ. مُنسَجمة الرَّوابط، تتأسَّى بالعظماء، وتتعاظم بالمبادئ، وتبدأ دائماً بالحقّ، لأن الأدب ليس هو الكتابة العابثة اللاهثة وراء المادّيّة البَحتة المنفلتة من صائنات الأخلاق إلى مهالك الهَوى ومسارب الفجور، وهي أخطر ما تواجهه المجتمعات في حياتها.

خامسا: الأنموذج التربوي (القدوة):

تتقاسم الكثير من النظريات التربوية الحديثة في مجال التربية وعلم النفس دور القدوة في بناء النمط التربوي وتأثيره على عملية التعلم بالمحاكاة. اتَّفَق العديد من علماء سلوك الفرد والمُجتمع على أهمّيّة القُدوة، انطلاقا من أن القُدوة تُشَكِّل دافعاً فاعلاً يُشجِّع الإنسان على السَّعي وبذل الجُهد، والضابطة الَّتي تُساعد في تَقوية الحصانة ضدّ الانحراف والانزلاق إلى جادّة الضلال واللاعقل، فَضلاً عن أن الإقتداء بالنَّموذَج الصالح، والتأسّي بالقُدوة الطيِّبة يعد منهجاً يهتدي به الضالّون، وشمعة تُنير طريق البحث عن الحقيقة للحيارى والتائهين، كما أن الإقتداء مطلب قُرآني صرَّحت به الآية الكريمة:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ

ص: 174

وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(1) إذ تُشير الآية الشريفة إلى منهجيّة الإقتداء والتأسّي، وأهمّيّة ذلك، وضرورته من أجل ضمان خيري الدنيا والآخرة.

وقد كان السيد الشيرازي في أعماله اليومية ودقائق تفاصيل حياته رسالة عملية تنقل ما يؤمن به ويدعو إليه، ومن مئات المواقف والقصص التي نقلها أساتذة وطلبة الحوزات والمقربين والناس عنه نذكر ثلاثة مواقف لإبراز هذا الجانب(2):

- الزُّهد والايثار: مع أن الملايين من الأموال كانت تصل بيده، كان يعيش زاهداً عن كل ما يشغله عن التوجه الى ربه وكانت الأهداف والقيم هي التي تحدو آية اللّه السيّد حسن الشيرازي، ولم يكن يفكِّر بوضع حجر على حجر، ولم يكن يفكر بطعامه، أو ملبسه، ولا برحلات الترفيه، وأمثال ذلك، لأن الأهداف العُليا السّامية هي الَّتي كانت تحدوه، فكان يُناضل في سبيلها ليل نهار... ففي إحدى الأيّام أراد السيّد الشيرازي أن يَزور أحد الشخصيّات في إحدى الفنادق في بيروت، وأخذ معه الوَجيه المُجاهد الحاج حسين الرّكابي، وكان رفيقه في هذه الزّيارة. فذهبا إلى زيارة تلك الشخصيّة، وبعد انتهاء الزّيارة، وَدَّعا الرَّجُل وخرجا من الفندق، فقال السيّد الشيرازي للحاج حسين الرّكابي: «ما رأيك أن نَتَمشّى لنصل إلى المكتب؟!»، وكانت المَسافة بَعيدة، لَعلَّها تصل أكثر من كيلومتر ونصف، فخجل الحاج الرّكابي من السيّد الشيرازي ورضي بالطَّلب، فبدءا يَمشيان إلى أن وَصلا إلى المكتب، حينما وصلا إلى هناك سأل الحاج الرّكابي من الشهيد: لقد صرفنا وقتاً، ولَو كُنّا نَستَأجر سيّارة (تكسي) ونعود به إلى المكتب لَكان أفضل. فقال السيّد الشيرازي: «تريد الواقع والحقيقة، إنَّني لَم أكُن أملك أُجرة التَّكسي»!

ص: 175


1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- من يريد الاستزادة فليراجع موسوعة الامام السيد حسن الشيرازي وكذلك ما سطره العلماء والمؤلفين حوله.

- الحلم مع البساطة: إن من يقوم بالأعمال الجليلة ويؤسس المشاريع التاريخية من تأسيس الحوزات وتعبيد خط فكري وسياسي إسلامي ويجابه طواغيت عصره لا بد وان يثير عداوة الظالمين وألسنة الحاسدين لكنه يأمر محبيه بالإعراض عمن يسئ إليه مرددا ما كان يردده الإمام السجاد، أنَّه كان يُسَبّ فيقول:

ولقد أمرُّ على اللئيم يسبّني***فمَضيت عنه قلت: لا يعنيني(1)

هكذا كانت أخلاق السيد الشيرازي، الإعراض، والتَّسامُح، وحُبّ الآخرين، والمغفرة لمَن أساء إليه.. ومن وصاياه لمحبيه وطلابه: «أنا عفَوت عن مَن تَكَلَّم علَيّ، وعن مَن يتكَلَّم علَيّ اليوم، وعن مَن يتكَلَّم علَيّ في المستقبل».. والرجل الذي ملأ الدنيا ضجيجا في منازلة الظلم والجهل كان يَسكُن في شُقّة كائنة في حيّ الأمين بدمشق له فيها غرفة واحدة.. كان في كثير من الأيّام صائماً، وإذا كان مُفطِراً فإنَّما وجبة أو وجبتين من الزَّيتون، حتّى ذكر أنَّه كان يتناول زيتونات قد عَدّها على أصابعه، وشيء من الجبن، ثمَّ يأخُذ طريقه إلى العمل، وينشغل بالإهتمام والخدمة الإجتماعيّة للنّاس.

10- الديناميكية والحركية

في كربلاء كما في بيروت كما في دمشق وغيرها، حاملا لرسالة الإسلام ومبلغا بها، لن تجده إلا موجها وحوله الجماهير، أو مدرسا وحوله طلبة العلوم الدينية، أو محاورا وحوله نخب العلماء والمفكرين والمثقفين، أو ساعيا في حاجات المستضعفين وملبيا لطلبات المساكين، لا أقول انه دوما مشغول فقد ينشغل الإنسان بنفسه، لكن من يتعرف على حياة الشيرازي الشهيد يعرف أن هناك دوما كانت طائفة من الناس تنتظره، ولا ينتهي نهاره إلا في منتصف الليل حيث يأوي الى نفسه، منقطعا الى ربه وبعدها يمسك قلمه ليبحر في عالم

ص: 176


1- متشابه القرآن: ج2، ص258. بحار الأنوار: ج56، ص44.

الكتابة والتأليف، ثم ينام سويعات قبل أن يوقظ يومه بتكبيره للصلاة.

والشهيد الشيرازي منذ ريعان شبابه نزل إلى ميدان العمل الجهادي المخلص.. فكان مجاهداً لنفسه بكلّ ما للكلمة من معنى.. الليالي الطّوال في الشتاء، والليالي القصيرة في الصيف، لم يذق فيها طعم النّوم، كان فارساً في النَّهار وعابداً في الليل.. يقضي ليله في المطالعة والتَّفكير، وفي التَّخطيط لخدمة الأمّة، ولخدمة دين اللّه الحنيف..

حياته كلّها جهاد وتضحية.. وقد أكَّد على أهمّيّة نتائج أعماله ومشاريعه، ومن أهَمّ مشاريعه البارزة، مشروع الحوزة العلميّة في سيراليون، والحوزة العلميّة في السيّدة زينب، والحوزة العلميّة في بيروت، وهي مدرسة الإمام المهدي الدينيّة..

ألَّف حوالي ثمانين كتاباً، إعتقاداً منه بأن (الكلمة) مؤثّرة في النَّهضة الثقافيّة للأمّة، والنهضة الثقافيّة مقدّمة لنهوض الأمّة نهوضاً شموليّاً وحضاريّاً، فركَّز على الكلمة البليغة والكلمة الشجاعة.. كان يقول كلمته بكلّ شجاعة وجرأة دون خوف.. كان يقول كلامه الهادف المؤثّر في الآخرين، كمشروعه في صناعة وتوجيه الكلمة والَّذي كان مشروعاً راكزاً، وكتبه خالدة في الواقع. كتابه (كلمة الإمام الحسين) يشبه كتاب (نهج البلاغة) الَّذي يجمع كلمات أميرالمؤمنين، وكلماته الأخرى كذلك..

أمّا مشاريعه فمنها، «المشروع الإصلاحي» في العراق والدول الأخرى.. و«مشروع الكلمة»، و«مشروع تنظيم الشَّباب».. كان آية اللّه الشهيد يُمارِس نشاطاته السّياسيّة إلى جانب مسؤوليّاته الدينيّة بصفته رجل دين، باعتبار أن السِّياسة جزء لا يتجزَّء من الإسلام - كما هو الصَّحيح - وكانت له مواقف سياسيّة تِجاه القَضايا المَطروحة في الساحة، وقام بعدّة رحلات دينيّة تبليغيّة إلى القارّة الأفريقيّة، والأوربيّة، ودولة الكويت، والبحرين، وغيرها.. وعَيَّن في بعض هذه البلاد علماء دين يقومون بنَشر الإسلام وخدمة المسلمين..

ص: 177

الصورة

ص: 178

ثانيا: المنهج الثوري

اشارة

إن من أهم ملامح المنهج الثوري للسيد الشيرازي هي:

1- الانطلاق من الرسالة الإسلامية من حيث الهوية والمنهج والتوجه.

2- تبني الثورة الحسينية منطلقا للإصلاح والتغيير.

3- تبني القيادة المرجعية امتدادا للإمامة والنبوة الخاتمة وحاكمية اللّه.

4- التركيز على وعي النهضة لاكتشاف الذات ونقدها.

5- تأصيل مشروع في الفكر السياسي الإسلامي يعبر عن المنهج الثوري.

6- إعداد الشباب إعدادا حسينيا متبنيا للتربية الثورية ومبادئ الإصلاح.

7- توسيع دور رجال الدين في الفعاليات الإصلاحية في المجتمع في جميع المجالات وفي مقدمتها المجال السياسي.

8- استخدام آليات معاصرة في الحراك السياسي تعتمد على الالتصاق بالجماهير والتعبير عنها.

9- فضح الأقنعة التي يختبئ خلفها أعداء الإسلام والأمة.

10- الاهتمام بمستوى ودور الكلمة كأداة في العمل الثوري.

ومن يتأمل حياة السيد الشيرازي يجد إن الشطر الذي قضاه في داخل العراق كان مفعم بالثورية، وكان في عمل دؤوب في رفع معاناة الأمة والتخفيف من مآسيها تحت ظلم الحكومات الطاغية، لكن هذا لا يعني إن حياة العشر سنوات التي قضاها خارج العراق كانت بلا نشاط وفعاليات ثورية، بل قد تكون أكثر. وقد انطلق الى الأفق الدولي وصار يؤسس لا لوضع محلي بل لوضع إقليمي ودولي أصبح فيه الشيعة أكثر قدرة على رفد العالم بثمار الثورة الحسينية وجوهرها الإسلامي.

إن الحديث عن المنهج السياسي للسيد الشيرازي يقودنا الى الدخول في كل تفاصيل حياته، فكل أيامه معجونة بالثورية، الثورية التي لا تعني التغيير الدموي

ص: 179

بل تعني السير على طريق الإصلاح حتى لو تطلب ذلك الشهادة من اجل الثبات على خطى المسيرة وهذا المعنى للثورية هو من منهجية الثورة الحسينية.

ومن هنا سوف نتطرق الى جوانب من المنهج الثوري.

الثورة الحسينية الركيزة والمنطلق

وقد عبر الحسين (عليه السلام) عن هذا النهج في جميع المواقف الثورية ضد الظلمة والمنحرفين ومن أمثلة ذلك موقف الإمام من رفض البيعة ليزيد ابن أبي سفيان حيث خاطب الوليد بن عتبة بن ابي سفيان والي المدينة: (أيها الأمير إنا بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح اللّه وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر وقاتل النفس المحرمة، ومعلن الفسوق، ومثلي لا يبايع مثله).

وهذا الرفض الثوري قائم على العديد من المبادئ:

أ. إن البيعة عهد لا يتم إلا بين طرفين ينتميان لخط واحد وينتميان الى منظومة قيمية دينية وتشريعية واحدة وهذا ما بينه القران في رفض موالاة الكافرين. والحسين (عليه السلام) هنا لا يستعرض مكانته من الرسالة المحمدية بل يبين الخطر العظيم على هذه الرسالة لو اقترن اسمه بالبيعة ليزيد وما يمثله يزيد.

ب. إن الموقف الثوري الصحيح لا ينطلق من الشخصانية، بل بما يمثله هذا الشخص من سلوكيات ومواقف، فيزيد لا ينظر له في إطاره الفرداني بل في جملة ما يمثله من رمز للخلافة الإسلامية والتي سوف تعبر من خلال يزيد عن الفسق والجريمة والانحراف والظلم. فالموقف الحسيني جاء حاسما لان معايير الأمور لا تتعلق بالموقف الشخصي من يزيد بل ما سيمثله يزيد بالنسبة للأمة الإسلامية.

ت. إن البيعة والمبايعة هي استسلام وخضوع حتى الموت لإرادة السلطة المفترضة الطاعة وهي في أحد معانيها القرآنية بيع المؤمن للنفس للّه تعالى او من يمثله على هذه الأرض ومن ثمة يجب أن يكون فعل البيعة منطلقا من إدراك

ص: 180

ووعي تام لمن يبيع المرء نفسه؟ ولماذا يبايع وعلى ماذا يبايع؟ فإذا كان يزيد فاسقا مجرما فهل يبيع المؤمن نفسه للفسق والجريمة والظلم؟

ث. لا يمكن الخضوع لسلطة معلنة الانحراف ولا لحكومة تتحدى مشاعر وشريعة المجتمع الإسلامي وتتبنى المواقف المضادة لما يؤمن به ويقدسه.

وان هذا ليس استنطاقا لمبادئ النهضة الحسينية بل إشارة الى إن هناك تلاحما وتوحدا بين الثورية والمبدئية في كل مواقف الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته.

ومن هذا المنطلق يعد السيد الشيرازي ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي قاعدة التغيير في المجتمع من اجل الإصلاح، فالثورة الحسينية أسقطت الشرعية عن كل حكم في الأمة لا ينطلق من الرسالة الإسلامية، وإنها في لحظة تالية كانت ثورة خالدة لتحقيق ذلك الحكم، ومن هنا نفهم إن إقامة حكومة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) تنطلق من ثورة الحسين (عليه السلام) بل انها تجسيد لبعدها الآخر في إقامة حكومة تملا الأرض قسطا وعدلا.

وحينما تبتعد الأمة عن ثورة الحسين (عليه السلام) ، فإنها تفقد قدرتها على مواجهة الضعف الداخلي والخارجي الذي قد يكون استعمارا أو دكتاتوريات تنهش حقوقها وتقيد إرادتها، والى ذلك يشير السيد الشيرازي، بقوله: (ولو ألغينا ثورة الحسين عن حياة الأمة لم نجد لها قاعدة تتجمع فيها لتواصل مقاومتها الاستعمار)(1).

فقد يتساءل البعض:

- لماذا ثورة الحسين؟!

إن للجواب تراتبية فلسفية طويلة يمكن أن نوجزها بالتالي:

1- إن الإسلام حياة ودين: وواحدة من أهم معاجز القران الكريم هو ذلك

ص: 181


1- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 17.

التكامل ين الحياة والدين، وما أنتجه من بعد حضاري في زمن قصير جدا أذهل علماء الحضارة ومؤرخو التقدم، كما أشار الى ذلك السيد الشيرازي في تأملاته(1).

2- إن مكمن قوة الأمة في تفاعلها السليم مع الإسلام، وحينما لا يكون ذلك التفاعل سليما فان الأمة ستظل تعاني من التخلف والانهزامية، ويسوق السيد الشيرازي دليلا على ذلك بقوله: (أن الأمة الإسلامية تلاشت رغم توفر مؤهلاتها: فلا زالت إستراتيجية بلادها وحيدة في العالم، ولا زالت كتلتها البشرية تضاهي أضخم كتلة بشرية، ولا زالت أرضها أخصب أرض، ولا زالت مواردها الطبيعية أغنى موارد طبيعية، ولا زال نظامها الذي تقدمت به، محفوظاً لم تعبث به الأيدي، كما عبثت ببقية النظم السماوية... فالتصميم الذي جعل منها خير أمة (وهو الإسلام)، قائم لم يوضع تصميم أفضل منه. إنها لا زالت في طور التنويم وشل الإرادة من قبل أعداء الخارج ومضللي الداخل، وهي قادرة على استعادة دورها الحضاري حينما تستعيد تفاعلها الصحيح مع الإسلام، فإذا أخذنا نسبة المسلمين اليوم بكل القوى الكبرى مجتمعة، لم تكن أقل من نسبة المسلمين في ابتداء الإسلام بكل القوى الكبرى مجتمعة. وكما استعلوا عليها يوم ذاك، يمكنهم أن يستعلوا عليها اليوم. وكما أبدعوا - يوم ذاك - خططاً فاجئوا بها عالم الأمس، يمكنهم - اليوم - أن يبدعوا خططاً يفاجئون بها عالم اليوم. فالمسلمون بحاجة إلى اليقظة فقط، ليعودوا خير أمة. ولكن الأمم - كالأفراد - كلما طال سهادها عمق رقادها، وكلما عمق رقادها طال سهادها)(2).

3- إن ثورة الحسين بما تمثله من تجسيد للرسالة الإسلامية بنقائها النبوي، وببعدها الامامي أسقطت الشرعية (في منعطف تاريخي حاسم) عن كل حكومة

ص: 182


1- السيد الشيرازي، (كتاب خواطري حول القران).
2- السيد الشيرازي، خواطري حول القران، ج1 سورة آل عمران.

لا تنبثق منها ولا تنتمي لمسيرتها.

4- إن الثورة الحسينية (شعاع خلودي بدأ واستمر)، واهم عنصر من عناصر ديمومتها هو تجسيدها للرسالة الإسلامية، إنها ليست ثورة في حدود مرحلة تاريخية معينة في معارضة حكم معين، فالحسين (عليه السلام) لم يثر ضد أشخاص أو سلطة، بل ثار ضد حالة انحراف اعترت الأمة بعد إسلامها، وبالتالي فان البعد الثوري للثورة الحسينية سيظل فاعلا ما دام الانحراف موجودا، وسيظل البعد الإصلاحي خالدا بخلود الإسلام ذاته لأنه يجسد الإسلام النبوي مقابل (حسين مني وأنا من حسين(1)) إسلاميات الخلفاء والملوك والمذاهب والفرق والتحزب.

5- إن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تعيد إنتاج (ولادة) الثورة كل عام من خلال الشعائر الحسينية، إنها تعيد فضاء عاشوراء الملحمي، ومناخها الثوري ومنهجها الإصلاحي، (فمن منابرها ينطلق صوت القران وفي مواكبها تجري خصال محمد وعلي والزهراء وفي ظلها يعيش كل من هدى اللّه قلبه للإيمان فشاء أن يتفيأ ظلال الإسلام)(2).

6- يعد السيد الشيرازي الشعائر الحسينية هي جانب جوهري من الثورة

ص: 183


1- فيوما في بداية الدعوة خيرت قريش بقيادة بني أمية محمد النبي (ص واله) بين ترك الدعوة للإسلام أو القتل فرد قائلا «واللّه يا عماه! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره اللّه أو أهلك دونه»، [سيرة ابن هشام ج1، ص265]. وفي يوم آخر خيرت الجاهلية الأموية الجديدة سبط الرسول بين أن يشرعن لها تحريف الدين وإضلال الأمة أو القتل فاختار الشهادة. وإذا جمعنا بين قول الرسول الذي كان يكرره في مواضع كثيرة (حسين مني وأنا من حسين) ورد النبي على الجاهلية الأولى وجدنا إن حياة الإسلام ستكون مهددة حتى يظهر اللّه دينه والى أن يهلك النبي دونه، وقد استشهد جزء من النبي وبضعة منه (حسين مني) أما امتداد دين الإسلام وبقائه هو مصداق لقول النبي الجد (وأنا من حسين) أي امتداد وبقاء رسالتي ما كان لها أن تكون لولا شهادة الحسين وثورته.
2- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 17.

الحسينية وديمومتها، وان من يحارب الشعائر الحسينية هو بالتالي يخطط لضرب ديمومة الثورة الحسينية ويتآمر على عمقها الشعبي في ضمير الأمة في سبيل مصالح حكومات لا شرعية سلطت على رقاب المسلمين وأصبحت عميلة للاستعمار. (والواقع إن الشعائر الحسينية التي تمثل امتداد ثورة الحسين (عليه السلام) لا تهدد مصالح المستعمرين في بلادنا فحسب، وإنما تهدد مستقبل المستعمرين أنفسهم وفي بلادهم أيضا، فمن الطبيعي أن يحاولوا إلغاءها بألف طريق وطريق، وخلف ألف واجهة وواجهة، ومن وراء ألف مبرر ومبرر، ولكن هذه الإرادة الاستعمارية القوية لا تفرض علينا أن نقف مكتوفي الأيدي إزاءها، بل علينا أن نقف أمامها بإرادة أقوى واصلب منها حتى نهزمها ولا ننجرف بها)(1).

7- إن فلسفة الحكومات التي لا تمثل الإسلام (سواء حكومات لا شرعية داخلية أو قوى استعمارية) تقوم على استلاب الأمة لثرواتها ومكامن قوتها، وواحدة من أهم مكامن قوة الأمة هي ثورة الحسين (إن المستعمرين لا يحرصون على تحضرنا إلا بمقدار علمهم باستحالة استعمارنا، إلا عن طريق حضارتهم ولا يشفقون علينا حينما يرومون انتزاع مشعل ثورة الحسين (عليه السلام) من أيدينا، إلا لعلمهم بأننا ما لم نتخبط في الظلام، لا يسهل لهم سوقنا مثل الأغنام التائهة الى المجزرة، ولقد عشنا التجربة في أقسى وأبشع صورها)(2).

أسس النهضة ومنطلقاتها

التعمق في التحليل مع التأمل في الأطر الكلية للواقع كانت من اهم أدوات السيد حسن الشيرازي في قراءته لواقع الأمة وما تعانيه، فيرى ان تفسخ مكونات الأمة وتمزقها وتشرذمها لا يمكن فهمه إلا من خلال التحليل الدقيق للحالة

ص: 184


1- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 22.
2- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 23.

ومدى ارتباطها بالحالات الأخرى. وبالتالي فان نتائج التشرذم لا بد وان تكون لها مقدمات خارجية وداخلية، لذا فان هناك مجموعتين رئيسيتين من الأسباب لفرقة الأمة، الأولى: خارجية وسببها:

- جهات خارجية (دول - تحالفات دولية - معسكرات دولية) تتحرك نحو الأمة لسلب خيراتها وثرواتها.

- أسباب تتعلق بالتنافس الدولي والتسابق نحو مناطق النفوذ.

- أسباب تتعلق بظهور مذاهب ومدارس سياسية واقتصادية وفلسفية دأبت على أن تجعل من الأمة حقلا لتجاربها وأفكارها ومن شعوبها تابعين لآرائها ومعتقداتها.

الثانية: داخلية وسببها:

- حال الأمة بعد أن انحرفت عن قيادة اللّه، فانقسمت بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الى فرق ثلاث: واحدة انقلبت على النبوة، وأخرى انقلبت على الإمامة، وثالثة آمنت بالمسيرة الإلهية الواحدة فظلت على عهد النبوة الخاتمة والتزمت بعهد الإمامة كما نصها اللّه وبينها رسوله في غدير خم. ويحدد السيد الشيرازي تلك الأسباب في نقاط منها:

1- إن الأمّة تبخَّرت مناعتها أيّام الحكم العثماني عندما تحطَّمت تلك المَناعة تحت القنابل، وعرفت أنَّها تُواجِه صفحة جديدة.

2- بهرها بريق الحضارة المصدّرة إليها، فانقادت طوعاً بلا قيد أو شرط.

3- خروجها من النَّفق العثماني بنظرة مَمسوخة عن الإسلام، فكانت تَظُن أن العهد العثماني هو التَّجسيد العملي الحيّ لأقصى ما يهدف اليه الإسلام.

4- فصل الأمّة عن دينها كان عملاً جريئاً قامت به القُوّات الفاتحة، ثمَّ جرى بعد ذلك التَّخريب الفكري بصورة مركّزة.

5- غياب المرجيّات الفكريّة، أنتج تخلُّفا مُضاعفا في ظِلّ رؤى مشوّشة.

ص: 185

إن هذا الإندفاع اللاشعوري مع الإغراءات الدّعائيّة المعسولة، نفر بالأمّة إلى اتّجاهات وقطاعات متذبذبة، جرفتها بتيّاراتها على حدي الإغراء والإرهاب، وهكذا بقيت الأمّة رهن الحلول المتنوِّعة المنبثقة من خلفيّات مختلفة، كلّ يتفاعل مع القضيّة بحسبها(1).

ويتناول السيد الشيرازي كلّ فئة بأسلوب الوصف والنَّقد والتَّحليل بطريقة إستدلاليّة عقليّة ونقليّة لبيان مدلولات حلولها، إلاّ أنه يضع لمساته المعرفيّة على العناصر الطَّبيعيّة للنهضة الجذريّة للأمّة والَّتي تتلخَّص في:

1- وجود مبدأ شامل صحيح.

2- وجود قيادة محدودة حكيمة منتزعة من صميم ذلك المبدأ.

3- وعي الأمّة لذلك المبدأ وتلك القيادة.

4- إيمانها المطلق بهما معاً.

5- ثقتها بنفسها كأمّة تستجمع مؤهِّلات النهوض المُستقل.

6- تنفيذ الأمّة لذلك المبدأ - في واقعها - بإيحاء تلك القيادة.

فالعناصر الرئيسيّة إذن هي المبدأ والقيادة وإيمان الأمّة بهما، وهي حقيقة لا تخلو عن كونها سنّة حياتيّة، أو حركة تاريخيّة يشهد فصولها التّاريخ والمجتمعات بأنواع تفاعلاتها، بل إنَّك لا تجد فلسفة أو معتقداً يخلو من هذه العناصر أو إحداها، وقد صدق اللّه تبارك وتعالى بقوله: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً}(2). فهي رؤية معبّرة عن غاية التدبُّر والإمعان، بلا تحيُّز أو تعصُّب، لأنّها تحديد صادق تؤيّده تجارب الآخرين في نقاشاتهم الفكريّة وتجاربهم العمليّة، فهي فلسفة الحياة، والإنسان، والمجتمع(3).

ص: 186


1- موسوعة الشهيد حسن الشيرازي، ج3 ص235.
2- سورة الأحزاب، الآية: 62.
3- موسوعة الشهيد حسن الشيرازي، ج3 ص239.

وبعد هذه الأسباب الَّتي أوجزها الشهيد السيّد الشيرازي، يحدد منطلقات النهضة فيقول:

«فلنكن مفكّرين يعملون بإلهام الفكر المدبّر، والعقل المتربّص، قبل أن نكون عاطفيين، ولنشهد كياننا المتوقّع من القاعدة حتّى القمّة، ونعزِّز سيرنا بالتعبئة الفكريّة المَدروسة الَّتي تُرَحِّب بالتصحيح والتَّطوير، قاعدة فكريّة واقعيّة تتوالد باطراد، فالأمّة المسلمة اليوم تطوي فترة الإنتقال من الردة الجماعيّة إلى الإسلام، وهي أحوج إلى الوَعي، والحذق، والإتقان، والأمّة الإسلاميّة اليوم حيث تستشرف الكُتَل العامّة لإنقاذها، وتتطلَّع إلى السَّبيل الَّذي يبلغها الهدف العظيم، تتطلّع إليها الأطماع الجشعة من كلّ مكان، وكلّ أسلوب وصبغة. لابدّ للإسلام أن يُلَبّي نداء رغبتها، الرَّغبة المتفجّرة من الأعماق، ويطلق كلمته القويّة الصريحة).

وهذا الاشتباك والاضطراب والمَتاهات ليس له خلطة سحريّة في واقع الأمر، وإنَّما فقط أن تفكِّر وتستخدم الجوهرة الَّتي منحها اللّه عز وجل للإنسان هي الكفيلة الوحيدة بإيجاد الحلول النّاجعة لكلّ المعضلات، وهي المنفِّذ الوحيد لإنقاذ الأمّة نظيفة من التخلُّف، والجهل، والنّكوص.

- ظهور زمر من الطامعين باستعباد الأمة والتحكم بإرادتها.

- ظهور تيارات ومذاهب وأحزاب ضد رسالة الإسلام ودوره في الحياة وبناء الإنسان والمجتمع، فكانت تهدف الى تفتيت النسيج الاجتماعي والشعبي. وزرع بذور الفتن ورعاية النزعات العرقية والقومية وبعث الفتن الطائفية، وإقصاء الإسلام عن ساحات الثقافة والسياسة والفكر والاقتصاد.

- ابتعاد الأمة عن موارد إسلامها الصحيح.

ظهور توجهات فكرية تكرس روح التنازع والتخاصم، ومنها تفشي مفهوم التحزب والحزبية في الفكر السياسي الإسلامي وابتعادها عن قيادتها الإسلامية

ص: 187

الأصيلة المنبثقة من فلسفة الرسالة الإسلامية. إن هذه القيادة طبيعة منبثقة من فلسفة الحياة، ومنحدرة من خالق الكون والإنسان، الَّذي هو أجدر بكلّ شيء، وأحقّ وأعلم بكلّ شؤون الحياة والإنسان، كما أنّها منتزعة من صميم الإسلام والواقع الفكري والذاتي للأمّة، كما أنّها دينيّة صميميّة، يكوّن رباطها الأوسع والأقوى دين فكري يمثِّل إرادة السَّماء، وذلك للإنسجام الكامل الدقيق بين حقيقة القيادة وواقع الأمّة والإسلام، وأهدافهما واتِّجاههما وأساليبهما الَّذي يتجسَّد أروع ما يكون في النُّبوّة، ثمَّ في الإمامة، ثمَّ في الإجتهاد المطلق، أو الأعلميّة في الفقه الإسلامي المُنتزَع من صميم أعماق الواقع والأمّة.

إن هذا الإنسياب المنطقي الحيوي في إثبات إنحداريّة القيادة ومشروعيّتها، بحاجة إلى فهم واقعي لمعنى خطورة وعي الأمّة لمبدئها وقيادتها، فهم نابع من صميم إعتقادها وإيمانها لكلّ مفردات العقيدة، لأن الإخلال في أيّ جزء منها عمداً أو سهواً سيولد تصوُّرات ومفاهيم إجماعيّة يعبِّر عنها الإمام السيد الشيرازي ب- (الإنخفاض الفكري في واقع الأمّة) الَّذي يتسبَّب عادة من تلاقح عوامل ملخّصها:

1- إرتداد القيادة الإسلاميّة بهدف مسخ التصوُّر الإسلامي الكامل الصَّحيح في الرّأي العام الإسلامي، وضرب القادة الأصليّين وإبعادهم عن ذهنيّة الأمّة.

2- إنحراف الحكم الإسلامي عن مقاييسه الَّتي صمَّمها الإسلام في ميزان الأخوّة والمُساواة العادلة.

3- الإستعمار الفكري المسلّح بوسائله وأجهزته وتوجيهه بما يؤمِّن مصالحه.

ونتيجة لهذه العوامل الثلاثة، فقدت الأمّة وعيها لمبدئها وقيادتها، بل كسبت وعياً معاكساً لهما.

إن هذه الإنطباعات والتأثّرات الَّتي انتهت بالأمّة إلى هذه النتيجة المُستفيضة عن إنعكاس خاطئ في طريقة تفكيرها ومعالجتها لواقعها، جعلتها تلجَأ إلى

ص: 188

قيادات أجنبيّة عن طبيعتها وطبيعة حياتها، وتؤمن بمبادئ داخليّة على النظام التكويني، لأن الإنسان الحَيّ في هذه الحياة، يعيش حياة واعية مرتبطة بين المبدأ والقيادة والإيمان، يَستَمِد من كلّ واحد منها قوّة وسعادة تعينانه على تأدية الحياة(1).

التربية الثورية في مواقف الصمود

في كل احتدام من مواقف المواجهة مع الطواغيت والظلمة ومغتصبي كرامة الشعوب وهاتكي حقوق الإنسان الذي كرمه اللّه، وفي كل دفاع مصيري عن مقدسات الإسلام، ومع كل ظلم استوجب رفع لواء الثورة في امتداد حياة السيد الشيرازي، نجد درسا من دروس التربية الثورية، يشذب نزعات، ويهذب رغبات، ويرأب صدعات امة كان قدرها الجهاد من اجل الحرية والدفاع عن مسيرتها الى اللّه.

في طفولته، كما في شبابه، لكل لحظة نصيب من حرارة الثورة ونيرانها، مواقفه حسينية في ساحة الفكر أو فوق منابر الخطابة في محراب صلاته العاشقة أو معلقا للتعذيب في سجن الطغاة والظلمة.

ثائرا كرس كل حياته ليعيش حمل الإسلام والتبليغ به، بنهج علوي، وروح حسينية، لم تعوقه العوائق ولم تمنعه الموانع، لم تكبله قيود، كان بطل معركته ضد الباطل والظلم والجهل في بلدان متعددة وشعوب مختلفة..

يذكر التاريخ إن رأس جده الحسين (عليه السلام) طيف به على الرمح من بلد لآخر..

أما ثائرنا فكان يحمل رأسه على رمح الثورة ليطلب الإصلاح لأمة جده..

كانت خطاه تفجر وعي الأمة، وهجراته في التبليغ تحاصر الطغاة، وتركه للدنيا يغيض الحاسدين،

ص: 189


1- موسوعة الشهيد حسن الشيرازي، ج3 ص241.

ومن شفتيه تتطاير قوافي الحرية شرارا يكوي القلوب المظلمة بالشوق للعدالة.

ثلاثة عشر رصاصة أسقطت رأس السيد الشيرازي في أحضان الشهادة...

ليلتحق بقافلة الحسين وأبنائه وأنصاره.

دروس
سلطان الشر وطبيعة المعركة

ليس للشر سواء كان ظالما أو طاغيا، بعثيا أو أمويا، كافرا أو شيطانا، من سيطرة على روح المؤمن، ولا عقيدته ولا إيمانه بمبادئه، لقد ذاق السيد الشيرازي ألوان التَّعذيب طوال شُهور عَديدة، في سجون البعث العفلقي وتَفَنَّن فيها جلاّدوه بفنون التعذيب، حتّى تجاوزت الأربعين نوعاً، كان منها كوي الظهر والبطن بالمكواة الكهربائيّة عدّة مَرّات، وحَرق اللحية بالنّار، والتَّعليق مَنكوساً للتعذيب، و(كل أنواع التعذيب المتوحش تحمله جسده بقوة إيمانه وصبره الحسيني). وصَمَد السيد الشيرازي صُمود الأبطال، وكان يسمو بروحه، وإن استعبدوا جسده وأثقلوه بالقيود والأغلال، فبقيت روحه متألّقة، لا تستشعر إلاّ الخلود والعظمة، بل كانت الآلام الَّتي يعانيها تتحوَّل إلى شلاّل هادر، يستجمع قواه ويبني أفكاره من أجل أن يبدأ الجولة التّالية، ما دامت روحه باقية في جسمه لم تَرتَحِل..

ولكن أي جولة، وأي صولة، وهو مثقل بالقيود، تمر ساعات النهار لترسم وحشية البعث ووجوه جلادي صدام وأحقاد عفلق الكريهة، وببطء شديد يجر الليل لحظاته الثقيلة، بينما تتفتح شفاه جروحه بالآهات..

إنها ملحق قصير من ملحمة كربلاء عليه أن يبدؤها بشعار جده، واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد، وتساءل السيد اذا كانوا يريدون الانتصار على الجسد فما أهونهم من أعداء، وان كانوا يطلبون الموقف والإيمان والدين، فهيهات منا الذلة.. لن يستعبدوا روحي، ولن يزعزعوا إيماني، ولن

ص: 190

يغيروا مواقفي، ولكي يبلغهم حالة اليأس ويعلن في مرأى منهم انتصاره الإلهي، قرر السيد الشيرازي أن يشرع في الكتابة، وفي ذلك يقول الشهيد الشيرازي: «فقد بدأتُ بكتابة هذا الكتاب - خواطري عن القرآن - وأنا في السجن، وسرت فيه وأنا مثقل بالقيود.. سأسير خلفه متوكِّلا على اللّه عز وجل، فهو أمامي وهو المَسؤول عَنّي، فإذا أحسنت إتباعه فهو يملكني أكثر مِمّا أملك من نفسي، وسأجلس على مائدته بانتظار أن يفتح اللّه تعالى لي حرفاً، أو يطردني فهو وليِّ الَّذي دَلَّني عليه).

مكمن القوة وسر الانتصار

انه رجل لا يستسيغ من الملك غير جبة وعمامة، بلا منصب دنيوي (ولا حكومي)، ولا أتباع مأجورين، فلما أرعب سلطات الظلم وحكام الجور، وجيوش المرتزقة من أجهزة القمع البعثي، ولما تآمرت عدة أنظمة مستهترة لاغتياله، إذن أين مكمن قوته؟ وما هي مصادر تعبئته؟

مكمن قوته في إيمانه، الإيمان الصادق لن تنتصر عليه أي قوة شريرة، ولن تنال منه أبدا، لان طبيعته معنوية وسلاح الشر مادي، جسدي، والإيمان الصادق يعلن قيامة الشعوب ضد القهر والظلم والجور، والإيمان قوة لا تكتشفها رادارات الشر ولن تحيط بآثارها حسابات الظالمين.

كان للسيد الثائر رصيد مليوني من قلوب المستضعفين، وقافلة تاريخية من منجزات السبيل الإلهي، ولما كانت الأنظمة الشموليّة، خصوصاً الحكم البعثي الدكتاتوري في العراق خائفة على عروشها من جهاد الثُوّار والمؤمنين، استَمَرَّت بالسَّعي الدؤوب لاعتقال حامل لواء الإصلاح ورأس الثورة، ومرشد المسيرة الحسينية الجديدة المنطلقة من كربلاء لتنتشر في كل مدن العراق، ثم الى الشام والحجاز، والى أنحاء الأرض، كل ما يصدر عن السيد الشيرازي أما يدينهم، أو بالضد من مخططاتهم للقضاء على إسلامية المجتمع، واستعباد الشعب العراقي، والقضاء على شيعة آل بيت النبي (عليهم السلام) ، ولم يجدوا وسيلة أجدى من

ص: 191

اعتقاله، لتوقيفه عن نشاطاته السياسيّة والدينية والثقافية والإعلاميّة المُكَثّفة ضدّ النظام البائد، ولهذا فقد أقدم النظام على تنفيذ هذه الخُطوة الجبانة حين اعتقل السيّد الشهيد في أوائل ربيع الأول عام (1389ه)، نقل على أثرها فوراً لمركز التَّعذيب القاسي في قصر النّهاية المعروف وكان أول من اعتقله النظام البعثي المقبور بعد تسلمه السلطة عام 1968..

من صراع من اجل الحياة الى صراع من اجل الرسالة

بعد رحلة قاسية في السجون والمعتقلات أفرج عن السيد الثائر تحت ضغط هيجان الشارع الشعبي والعلمائي واحتقان الوضع العام ولكي يكسب النظام المقبور الوقت ليثبت اركان نظامه خرج السيد الشيرازي ووجد نفسه أمام إلحاح المقربين والمحبين للهجرة، ودفع المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي أخيه وسنده السيد حسن الشيرازي للخلاص من مؤامرة البعثيين لتصفيته للخروج من العراق الى بيروت خلال سويعات، فقد جاءت أكثر من رسالة تنبئ بالمخططات البعثية القذرة في تصفية أعداء النظام وفي مقدمتهم السيد الشيرازي، وهاجر الى بيروت ورجال النظام يلاحقونه..

بعد استشهاده وجدت بين أوراقه خطاطة كتبها تصف حالته أثناء خروجه من العراق ووصوله الى بيروت، هذه الخطاطة برغم قصرها فان فيها دروسا في الثورية وفي التهذيب الروحي وفي إخلاص النية للّه عز وجل في العمل في سبيل اللّه والإخلاص فيه، وهي تكشف عن ملحمة نهضة الروح للإنسان الذي نذر نفسه للّه ولنشر رسالته ودين الحق.

«كانت تُشير السّاعة إلى الثّانية بعد الظُّهر عندما حضر أحد الزُّمَلاء الأعزّاء إلى البيت وبيده المُوافقة على سفري، مشفوعة ببطاقة الطّائرة، وفي نفس اليوم حيث ما كانت عقارب السّاعة تُشير إلى السّادسة بعد الظُّهر، وكانت الطّائرة تَبتَعد عن أجواء العراق، هاربةً من كُلّ الأشباح المُخيفة والمجتمعة في بغداد،

ص: 192

ولكن نبضات قلبي الخافقة تنبض الكارثة بحذر، فما دمت في الجَوّ فأنا في الكارثة، فكم أعيدت الطّائرات المقلعة من بغداد، لأن البعثيّين يُعيدون فحص أسماء المُسافرين بعد إقلاع الطّائرة، فإذا أبدى أحدهم ملاحظة حول أحد المُسافرين، أعيدت الطّائرة ريثما يتَّخذ البعثيّون قراراً بشأن المسافر الَّذي أبديت حوله الملاحظة، فكيف بي وأنا الَّذي أثيرت بشأني ضجّة كبيرة، وكتبت صُحُف بيروت، انَّه سيصل إلى بيروت لإجراء عمليّة جراحيّة، ولا يتوقَّع أن يَعود إلى العراق في وقت قريب، ولكن نبضات قلبي لا زالت مُرتبكة، رغم بشارة المُضيفة بأن الطّائرة حطَّت في مطار بيروت، فأنا بعد في الطّائرة، ومن المُمكن أن تواصل قوس النزول إلى بغداد قبل أن تفتح على مسافريها أبواب الحياة. وعندما وصلت إلى مُفتِّش الجمارك، فتح حقيبتي ليجد فيها مع الملابس العاديّة سكّيناً صغيرة للفواكه، فقال مُبتسماً: هل المشايخ يحملون السكاكين في حقائبهم؟! فَقُلت: طَبعاً...! أو لست تعلَم أنّي قادم من بغداد؟! فقال: إذن الحمد للّه على السَّلامة، ولم يعلَم ان لكلمته معنى أكبر من الكلاسيكيّة الَّتي عناها.

عندما وضعت قدمي خارج البوّابة الرئيسيّة لمَبنى المطار، شعرت بكفّ توضع برفق على كتفي، فالتفت لأرى أحد أصدقائي العراقيّين وهو يقول لي: لقد كنت معك، ولكنّي الآن أستطيع أن أقول لك: الحمد للّه على السَّلامة، فدخلت إلى دائرة البريد لأبرق إلى شقيقي آية اللّه العظمى السيّد محمَّد الشيرازي بأنَّني وصلت بالسَّلامة. ثُمَّ جاءني في الغَد مُسافر يقول: لقد وصلت برقيَّتك، وقبلها وصلت برقيّة تمنعك من السفر، وكانت الجهات المُختصّة قد اتَّصَلَت لاسلكيّاً بالطّائرة لإعادتك إلى بغداد، ولكن ربان الطّائرة أجاب بأن المُسافرين خرجوا منها إلى الجمارك، ولم يعد بالإمكان إعادتهم إليها.

ودخلت في إحدى مُستشفيات بيروت، وأطللت من شرفتها على بيروت. هذا

ص: 193

الصَّدر الضيِّق الَّذي يجيش بالمُتناقضات، فوجدت قلبي ينبض نفس النبضات الكَئيبة الَّتي كان ينبضها في بغداد، فقد خرجت من صراع من أجل الحياة إلى صراع من أجل الرّسالة(1)، لأن بيروت سوف تكون في المقابل قاعدة عملي، لابدَّ أن أعمل فيها شيئاً، وكيف يمكنني ذلك وهنا مُلتَقى التيّارات المُوَجّهة بإمكانيّات دول، وأنا لست إلاّ فرداً واحداً يُواجه أكثر من حكومة مُعادية، وأكثر من حزب معادٍ، وليس وراءه إلاّ قلب واحد يخفق بحرارة، ولعلَّه القلب الوحيد الَّذي وجدته يخفق بهذه الدَّرجة من حرارة الأيمان، هو قلب أخي الَّذي يظن بي خيراً، ويأمُل منّي كثيراً، ولكن هو بدوره لا يملك إلاّ حرارة الايمان، وهو باقٍ في العراق يعاني صراعاً مَريراً من أجل الحياة والرّسالة معاً، فلا أستطيع أن أمدّ له يداً لإنقاذه، أو لتخفيف الضغط عنه، ولا أستطيع أن أقوم بعمل رسالي يروي بعض ظمأه إلى الأعمال الرّساليّة. ولَعَلَّ كُلّ قدم أرفعها هنا أضعها عليه هنالك، فأنا أعلَم أن البعثيّين يقتصّون منه على كُلّ عملٍ أقوم به أنا، فإنَّهُم يُعاقبون القريب بالبعيد، ويُشدّدون الضغط على مَن في قبضتهم بذنب الَّذي لا تطاله أيديهم.

إذن، فماذا أفعل أنا؟! يا اللّه...! أنت وَجِّهني وأيِّدني، فليست هناك قُوّة تَدعمني أو تمكنني، ولن أرضى أن أسير في ركاب قُوّة أرضيّة، فأنا بِعت نفسي للسَّماء. وقد قال القرآن الكريم لأمثالي: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ}(2). ولا أُريد أن أكون من الَّذين وبخهم القرآن بقوله: {أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}(3) .. يا اللّه...! أنت وليَّ ووليّ كُلّ المؤمنين، تَولاّني فقد استسلَمت لك يا ربّ، ياربّ... أعنّي في طريق الرِّسالة، كما أعنتني يوم أنقَذتني

ص: 194


1- تجسيد الإسلام كحياة ودين هو الهدف المحوري في حياة السيد الشيرازي.
2- سورة التوبة، الآية: 111.
3- سورة البقرة، الآية: 61.

من مَخالب الموت والذّل. دُلَّني يا إلهي، فليست هناك قوّة أطمَئنُّ إليها لإنقاذي، فقد تمزَّقت في السِّجن وتحت التعذيب، والآن أحاطَت بي مشاكل لتهرس ما تبقّى من أشلائي، لا تهملني هكذا حصيراً في الرِّياح المُتوَحِّشة، يا اللّه...! أجِب نبضات قلبي الَّتي تَهتف بك، وامسَح عن وجهي كآبة الحيرة، كما مَسَحت عنه كآبة الخوف والقَلَق.

لقد كان الزّائرون يتوافدون عليَّ، وكنت أبادلهم سلاماً بسلام، ولكنّي كنت شارداً مبدّداً، لا أستطيع تجميع قُوَّتي، وتَركيز نظراتي، وكانوا يغفرون إنهاكي، فأنا مريض هارب من جحيم الدنيا، ولكن حتّى اليوم لا أجرؤ على غفران ذلك. ليس من أجل الزّائرين، ولكن من أجل ضعفي في أداء رسالة أشعر بأنّها مُلقاة على عاتقي. وحَيَّرت الأطبّاء الَّذين كانوا يشرفون على علاجي. لماذا تتدهور صحَّتي؟! تصوَّروا أن الزّيارات والقراءة تُؤثِّر عليّ، فأرادوا منع الزّيارات والكُتُب عنّي، فَقُلت لهم: إمنعوا شلال التفكير أن يحفر في صدغي. ذقت بعض المَرارة الَّتي كانت تنهب أصحاب الرِّسالات، وهم يرون الحواجز تعترض رسالاتهم، حاولت أن أُسَلّي نفسي بضعفي، فلم أجده مقبولاً، لا أمام اللّه تبارك وتعالى، ولا أمام ضميري. وبقيت ضربات قلبي الخافتة الكئيبة هَمساً خاشعاً، تطرق على أبواب رحمة اللّه (عز وجل) وهي تقول بأنينها المَكبوت: «يا رب... إن رحمتك وسعت كُلّ شيء، وأنا شيء، فلتَسَعَني رحمتك..».

ص: 195

الصورة

ص: 196

سر الثبات ودرع الصمود

كان البعث عصابة سلطوية، سرقت الحكم في مطلع الستينات لكنها فشلت ثم عادت للمحاولة في 1968، فالقتل والارهاب والقمع امور اعتادتها وهي ضمن عملها الاجرامي ضد الشعب العراقي ونخبه السياسية، ومن المعروف ان العدو رقم واحد في تصورها كان السيد حسن الشيرازي فاعتقل سريعا بعد انقلاب تموز 1968 واودع مع نخب سياسية متنوعة الاتجاهات والاطياف في السجن، وقد صبّ البعثيون جام غضبهم على جميع مُعتقلي (قصر النّهاية)، باعتبارهم شخصيّات سياسيّة، ومسؤولين في الحكومات السّابقة، وقد ركَّزوا حِقدهم على ثلاث شخصيّات هُم، الإمام الشهيد السيّد حسن الشيرازي، ووزير الدفاع عبدالعزيز العقيلي، والشيخ عبدالعزيز البدري، الَّذي لم تَكُن صِحَّته وسلامة بدنه تَتَحَمَّل الأساليب البعثيّة القاسية تحت التَّعذيب.

وقد كان لثبات السيد الشيرازي وتحمله لأكثر من أربعين نوعا من العذاب أثرا كبيرا على رفاق السجن الذين أجلّوا وعظموا ذلك الثبات الحسيني على المبادئ الإسلامية، وحفز فيهم روح الصمود وحررهم من قيود الرعب الوحشي وأثقال الخوف من الموت، وبالمقابل فقد أثار في نفوس سجانيه شعورا بالقلق حيال وسائلهم الوحشية في التعذيب، بل وجعلهم يتصورون ان للثبات علاقة بقراءة تعويذة أو آية قرآنية فكانوا يسألونه: ماذا تقرأ عندما نُعَذّبك؟! فلم يَقُل شيئاً.. كان بعضهم يُعَذِّبه، والبعض الآخر يُقَرِّب أذنه من فَم الإمام السجين عَلَّه يسمع الآيات القرآنيّة أو الدُّعاء الَّذي كان يُرَدِّده السيد الشيرازي عند التَّعذيب، لكن السيد الشيرازي لم يكن يقرأ القران الكريم بشفتيه بل بكل روحه وجسده، كان ينبض بالقرآن فلا يشعر بوجع التعذيب على روحه، اما جسده فقد كان مسرحا لعواء ذئاب السلطة وانيابها القذرة.

ص: 197

ذلك الثبات الحسيني أرعب جلادي السلطة وجعلهم يفقدون الثقة بوسائلهم الوحشية، وادخل الرعب في قلوبهم، وبدءوا يشعرون إنهم في مواجهة فوق المستوى الطبيعي، وكل هذا بسبب إيمان السيد الشيرازي الخالص للّه والتجاؤه اليه، ومما ينقل ان السيد الشيرازي علق بحبل ثلاثة أيام، وان ذلك الحبل الَّذي كان مُعَلِّقا به الإمام السجين، حَلّ وسَقَط الإمام السجين على الأرض بصورة لم يلحق به أيّ أذى، فظنَّ الجَلادين أن صاحبه في السِّجن هو الَّذي أنزله، فانهالوا عليه بالضَّرب، إلاّ أنّه أخذ يصرخ ويقول: أنا مُقَيَّد ولا يمكنني أن أقوم بهذا العمل، فذهب الجلاوزة إلى ناظم كزاز وأخبروه، فأمرهم بشَدّه مرّة ثانية وتعليقه، وبعد ساعة وجدوا الإمام السجين على الأرض، فأخبروا كزار، فجاء غاضباً وشَدَّ الإمام السجين بيده شَدّاً مُحكَماً، وأخذ يَسُبّ ويَتَوَعَّد ويقول: من ينزلك مرّة ثانية، ووقف ينظر بنفسه، وما هي إلاّ دقائق حتّى فُكَّ الحبل، وسقط الإمام السجين على الأرض، عندها أخَذَ كزار يصرخ ويَسبّ سَبّاً بَعثِيّاً معروفاً، وهو يخرج من الزِّنزانة حائراً خائباً..

انتصار الإيمان على الموت

من أصعب اللحظات هو ان تجلس في زنزانة انفرادية في سجون البعث الصدامي لتنتظر لحظة الفجر لتعدم الحياة، قد يتحملها البعض لأنها خاتمة المطاف، ولكن ماذا لو كانت مؤامرة قذرة لثلم الثبات وكسر الصمود؟!

إنها واحدة من الأدوات الخبيثة في كسر صمود إمامنا السجين، لكنه قابلها بكل قوة وثبات، كانت كل نبضة منه ترفع راية مقاومة، وكل وجع يجدد يقربه خطوة من الانتصار، سواء كان شهادة أم حياة، يحكي الإمام السجين عن بعض المواقف التي مر بها في السجن قائلا:

«أخبروني في أحد الأيّام بعد أن عجزوا أن يأخذوا منّي أي اعتراف، أن حكم

ص: 198

الإعدام قد صَدَر عليك، وسوف ينفَّذ غداً صباحاً، وباعتبارك أعزَب سوف نأتي لك بصينيّة فيها شموع وحَنّاء، وكانت هذه عادة مسؤولي السِّجن قبل تنفيذ الإعدام بالعُزّاب.. وفعلاً جاؤوا بالصينيّة ووضعوها أمامي، وكانوا طوال الليل يدخلون عليّ كلّ ساعة لإرعابي وتخويفي، وعند الفجر يأتي أحدهم ليخبرني أن الإعدام أُجِّل إلى يوم غَدّ، وهكذا فعلوا بي ثلاثة ليال عَلَّهم يَنتَزعوا منّي شيئاً فلم يتمكَّنوا»..

وحينما يأسوا من انتزاع اعتراف، أو تقديم تنازل أو ثلم إرادته أعادوه الى مسالخ التعذيب الجسدي، ولكن هذه المرة بكل ما أوتوا من حقد وانتقام على العراق والإسلام والشيعة، وقد كان الإمام السجين حقا مرمى لكل هذه الأحقاد الاستعمارية الكافرة الأموية، واشرف على الموت عدة مرات، ونقل الى مستشفى الجيش تحت حراسة مشددة، هكذا يقول التاريخ، لكن من يقرا التاريخ جيدا يدرك كم كانت سلطة البعث العفلقي مرعوبة من سجين أنهكه التعذيب طوال أشهر، ودخل في نكوص صحي شديد حتى ترافقه تلك الحراسات المشددة الأمنية والعسكرية، وهو مثبت في قيوده مغمى عليه.

ما الذي كان يرعبهم؟!

مؤكدا ليس جسد الإمام الضعيف الذي أنهكه التعذيب، وإنما إيمانه، وذوبانه باللّه ورسالته، وعشقه لنبيه وال بيته، وذلك الفكر العملاق المتفجر حياة وحيوية نتيجة اجتماع هذه العناصر.

ص: 199

الصورة

ص: 200

تنوع أساليب وتعدد ادوار

تنوَّعت أساليب كفاح آية اللّه السيد الشيرازي تجاه هذه القُوى السّياسيّة، ففي العهد الجمهوري الأوّل، اعتمد السيد الشيرازي على الأساليب التّالية:

أوّلاً - إنشاء هيئة الشباب الحسيني، وكانت مُكلّفة بطباعة وتوزيع المنشورات الدينيّة الهادفة إلى توعية الأمّة، ومنع أبنائها من الإنحياز لصالح الفئات المعادية للإسلام.

ثانياً - تأليف الكُتُب الهادفة إلى الرَّد على أفكار القُوى العلمانيّة، وتَمجيد الفكر الإسلامي، والدَّعوة إلى تطبيقه باعتباره منقذ النّاس من الضلال، والمشاكل الإجتماعيّة، والسياسيّة، والإقتصاديّة. ومن بين هذه الكتب، كتاب (الإقتصاد)، الَّذي بَيَّن مثالب الأنظمة غير الإسلاميّة ومشاكلها، ثمّ عرض الفكر الإقتصادي الإسلامي، وأوضح قدرته على بناء دولة إسلاميّة قويّة مرفّهة، بعيدة عن كلّ أشكال القهر السلطوي والمالي والعنصري والطّائفي والتَّفاوت الطَّبقي والإنحراف الأخلاقي والأمراض الإجتماعيّة.

ثالثاً - إقامة مهرجان سنوي كبير بمناسبة ذكرى ولادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) . فقد استغَلَّه السيد الشيرازي لفضح سياسات القهر السُّلطوي، وكثير من السِّياسات الأخرى التي حكمت العراق في مجالات التربية والإقتصاد وغيرها.

وقد قرأ السيد الشيرازي في هذه المهرجانات قصائد ثوريّة مناهضة للكثير من مساوئ الواقِعَين السياسيَّين المحلّي والدولي. ومن قراءاته الشعريّة في هذا المهرجان نستل الأبيات التّالية:

أوما دَروا أن العراق بدينه***وبشعبه وبجيشه المقدام

خير من الشرق الكفور وكلّما***في الغرب من إفك ومن إجرام

إسلامنا شرع الحياة، ونهجها***نهج البلاغة منهل الأحكام

ص: 201

فعراقنا مَهد الحضارة والتقى***والعلم والأمجاد والإسلام

إسلامنا فوق الميول فلم تجد***خير المبادئ موطئ الأقدام

فالشَّعب لا يحميه غير قيادة***الإسلام خير قيادة وإمام

والحكم منهار إذا لم يتخذ***دستوره من خالق علاّم

لا نستعيض قيادة مدسوسة***عَمّا لَدى علمائنا الأعلام

رابعاً - تأسيس اللجنة الأدبيّة التي ترأسها السيد الشيرازي وتكفَّل فيها بتعليم بعض طلبة الحوزة الدينيّة الكتابة الأدبيّة، وقد استطاعت هذه اللجنة إعداد العَديد من كُتّاب المَقالات الأدبيّة والبحوث الإسلاميّة، ومهَّدت لإصدار مجلاّت ونشرات وكتب إسلاميّة عديدة مثل، (صوت المُبلّغين) و(نداء الإسلام) و(القرآن يَهدي) و(مبادئ الإسلام) وغيرها.

فقد كانت مجلّة (صوت المبلّغين)، مَجَلّة إسلاميّة شهريّة أصدرتها إدارة مدارس حُفّاظ القرآن الكريم. أمّا مجلّة (القرآن يهدي)، فهي مجلّة شهريّة خاصّة بعلوم القرآن وتفسيره، وبيان أسراره، وغير ذلك من المعارف، وكانت تُصدِرها إدارة مدارس حُفّاظ القرآن الكريم في كربلاء المقدَّسة.

وأمّا مجلّة (مبادئ الإسلام)، فكانت مجلّة شهريّة تُصدَر باللغة الإنكليزيّة، وتُرسَل بالبريد إلى أنحاء مختلفة من العالم.

ومجلّة (ذكريات المعصومين (عليهم السلام) )، فكانت تصدر في المناسبات والأعياد والوفيات لأهل البيت (عليهم السلام) ، وكان مَقَرّها مدرسة العلاّمة إبن فهد الحلّي في كربلاء المقدَّسة.

وأمّا مجلّة (أجوبة المسائل الإسلاميّة)، فكانت مجلّة تَتَولّى الإجابة على تساؤلات المواطنين الدينيّة، وكان آية اللّه السيد الشيرازي يُجيب على بعض تلك التساؤلات بنفسه.

وأمّا (منابع الثّقافة الإسلاميّة)، فكانت تَصدُر بصورة دوريّة كُتُباً علميّة وثقافيّة

ص: 202

إسلاميّة.

أمّا في العهد الجمهوري الثاني، الذي ساد فيه بصورة متتابعة أكثر من جماعة سياسيّة غير إسلاميّة، ناضل آية اللّه السيد الشيرازي ضدّ إنحرافات ذلك العهد بأساليب عديدة، منها:

أوّلاً - محاولة إدامة إقامة المهرجان السنوي بمناسبة ولادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) . وقد اضطرّ السيد الشيرازي إلى مُغادرة العراق مُتوجِّهاً إلى لبنان على أثر إلقائه قصيدة ناريّة في مهرجان عام (1964م).

ثانياً - محاولة إدامة نشاط وزيادة عدد المجلاّت الإسلاميّة.

ثالثاً - تشكيل وُفود عَديدة لمقابلة الرَّئيس العراقي آنذاك، عبد السَّلام عارف، ومن ثمّ أخيه الرئيس، عبد الرحمن عارف، من أجل توضيح حاجات الشعب، وغيرها من مسائل البلاد الملحة، ومساوئ السياسة العامّة للدولة، وهذا يمثل أسلوباً سلميّاً، لم ينطوِ على إستخدام العنف.

رابعاً - كتابة موضوعات أدبيّة ودينيّة للإذاعة العراقيّة، وقد جُمِع ما أذيع منها، ونُشِر في كتاب (التَّوجيه الديني).

خامساً - تأليف عدد من الكُتُب الإسلاميّة بهدف نشر تعاليم الإسلام في أوساط الشعب العراقي وباقي المسلمين.

ومن تلك الكتب، (كلمة اللّه عز وجل) و(كلمة الرَّسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ) و(كلمة الإمام الحسن (عليه السلام) ) و(كلمة الإسلام) و(حديث رمضان) و(إله الكون) و(إنجازات الرَّسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ) و(رسول الحياة) و(الشَّعائر الحسينيّة) و(العمل الأدبي) و(الأدب المُوَجَّه) و(الإشتقاق).

وللإمام الشهيد العديد من المَخطوطات التي لم تَسمَح الظروف بنشرها في عقد الستّينات للقرن العشرين الميلادي، مثل: (كلمة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ) و(كلمة فاطمة الزَّهراء (عليها السلام) ) و(كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام زين

ص: 203

العابدين (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام الباقر (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام الصادق (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام الكاظم (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام الرِّضا (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام الجواد (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام الهادي (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام العسكري (عليه السلام) ) و(كلمة الإمام المهدي (عليه السلام) ) و(كلمة السيّدة زينب (عليها السلام) ).

في عهد الرَّئيس المَقبور أحمد حسن البكر الذي ابتدأ منذ (17/7/1968م)، تعرّض السيد الشيرازي للإعتقال والتعذيب منذ ربيع الأوّل عام (1389ه) في سجن قصر النّهاية المُرعب ببغداد، ثمَّ نقل إلى سجن محافظة بعقوبة، ثمَّ أخرج منه بسبب ضغط الرأي العام المَحَلّي والدولي، وبعد الإفراج عنه، هاجر السيد الشيرازي إلى لبنان، حيث تلقّى العلاج، ثمَّ واصل كفاحه من أجل مبادئ الدين الإسلامي الحنيف. ومن هناك بدأت مرحلة جديدة من الكفاح في تجسيد مبادئ الإسلام وقيم القران الكريم في بناء الفرد والمجتمع والعالم.

كيف تكون عطاءا خالصا؟!

قيل إن الجود بالنفس أقصى غاية الجود.. والجود هو أن تعطي من قليل أو كثير.. إن جزء أو كلاً.. فهو عملية مهما تكن فهي ترتبط بالموقف من العطاء، ولأنها موقف فان الدوافع التي من ورائها لابد أن تكون نقية على الأقل هكذا يقول الشرع وتدعو الأخلاق.. لكن العطاء شيء آخر،

العطاء أن تكون ذا طبيعة معطاءة، أي أن العطاء يتحول الى جوهر روحي يحرك السلوك، فيكون الإنسان كيفما كان معطاءا بغض النظر عما يملك او ينفع، ولن يكون كذلك بالارتباط العميق باللّه، والى هذا يشير السيد الشيرازي بقوله: (ان الذي يعمل الخير للّه، يعطي عطاء مطلقاً في كل مجالات العطاء، يعطي بلا حساب وبدون أجر. وبعطائه - هذا - ينمِّي ضميره، ويربِّي مجتمعه على العطاء المطلق. فيعود عليه مجتمعه بالعطاء المطلق كرد فعل طبيعي، فتصل إليه عطايا المجتمع، في الوقت الذي يحتاج وأكثر مما يحتاج. ومن لا يعطي العطاء

ص: 204

المطلق، يهزل ضميره، ويربي مجتمعه على عدم العطاء المطلق. فيعود عليه مجتمعه بعدم العطاء المطلق، في الوقت الذي يحتاج)(1).

وكان هو مصداقا لذلك فمن يراجع موسوعة السيد الشيرازي يجد ان حياته كانت عبارة عن نهر جار من العطاء، ولابد وان تستوقف القارئ الكريم مواقف لا بد وان يتراجع امامها العطاء، نعم نحن نفهم ان هناك من في الشام او لبنان من كان ينظر الى السيد الشيرازي على انه مباركا اينما حل تورق مبادرة طيبة او تحل مشكلة مستعصية او تؤسس مدرسة او جامع او عمل خيري، ولكن كيف يمكن ان نفهم عطاء السيد الشيرازي في المواقف الصعبة؟!

بعد انقلاب البعث 1968 وتوتر العلاقات مع حكومة الشاه في ايران، قدم الى كربلاء مجموعة من الضباط - ليلا - وطَرقوا الباب بشدّة، وقالوا للسيد حسن الشيرازي، «إن الرَّئيس - البكر - يُريد استشارتك في كيفيّة حَلّ مُعضلة شَطّ العَرَب، فقد وصلت جميع المحاولات الى طريق مسدود، لذا طلب استشارتك لحلّ المُشكلة».

وبدأ السيد الشيرازي يحقِّق ويستشير أهل الخبرة وأهل الحَلّ والعقد من الصَّباح إلى المساء، وأخيراً قبل المغرب قرَّر أن يذهَب لإبداء الحلّ، فذهب، ولكن الى السجن !

كان هناك احتمال كبير أن السلطة تريد استدراجه الى بغداد لاعتقاله، لكنه اثر إلا أن يقدم النصح والمشورة من اجل المصلحة العامة حتى وان كانت لأعدائه، ولان مثل هذه المواقف من سنن آل البيت (عليهم السلام) فلم يعترض طريقه احد، ولم يثنيه محب.

وكم هي الدروس من رجل كانت حياته مدرسة للتبليغ والاصلاح والثورة، وما هذه الدروس الا قبس للدلالة الى الطريق وعلامة على ثراء المسيرة.

ص: 205


1- خواطري حول القران الكريم، السيد الشيرازي، ج3.

الصورة

ص: 206

مواقف
مع رأس الضلالة

منذ العصيان الابليسي الأول والشر يعتقد إن طبيعة الصراع هي حول المادة وان المعركة هي معركة الجسد، فالشر يريد أن يجر المعركة نحو ساحة أوهامه رافعا شعار (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) لكن حدود الانتصار الإلهي هي في ساحة الأمور المعنوية، والطغاة يستهدفون أجساد الثائرين لكنهم لن ينالوا من معنوياتهم وأرواحهم المرفرفة بالحرية، حتى اليوم فان الشعوب وبفطرة إلهية لا تستذكر أطول الناس أعمارا بل تستذكر مواقف شهدائها الثائرين بكل إجلال واحترام، فلا احد ينكر إن الحسين استشهد في يوم عاشوراء لكن هل استطاعت حكومات طاغوتية وعلى مدى أربعة عشر قرنا من أن تثلم ولو جزيئة صغيرة من ذكرها، بل كلما يزداد الشر في مواجهة ذكرى الحسين كلما يزداد حب الحسين حتى تحول الى مهرجان عالمي للشهادة وملحمة كبرى للمطالبة بالحرية، ولان رأس الضلالة البعثية عفلق هو وليد نقي للشر فقد جاء بكل الأوهام الابليسية لينال من السيد الشيرازي في أقسى حالات التعذيب، ليتلذذ بمرأى الإمام السجين وهو يقاسي أنواعا من التعذيب الوحشي في آن واحد.

تصور والدماء تخضب لحية السيد الشيرازي وجسده انه يستطيع أن يزف خبرا لنفسه بانتصار، وأبرقت عيني عفلق مؤسس حزب البعث في العراق بالشماتة، فشتم السيد وضربه باستهتار، وسخر منه وكالعادة الأموية راح يردد على الإمام السجين مواقفه الثورية وبعض أقواله وأبيات من شعره، ثم بدأ يحرق جسد الإمام بسيجارة، فجالت في عيني الإمام السجين الدموع، وظن هذا الطاغوت انه أصاب روح السيد، فقال عفلَق بسُخرية واستهتار: ألَم تَكُن أنت القائل:

واسحَق جباه المُلحدين مُردّداً، لا السِّجن يُرهبُني ولا الإعدامُ؟! فكيف تَبكي

ص: 207

من حرقة سيجارة؟!

كان عفلق الابليسي غارقا تماما في وهم قوة الظلم، فحسب أن الإمام السجين قد تأثر من التعذيب الجسدي، وقبل ان يغتبط عفلق بأوهامه قال له الإمام السجين: لا أبكي على نفسي، بل عِلّة بُكائي هي أنَّك رجل صليبي جئت تُعَذِّب عالِم دين مُسلِم ويَحرِسُك ضُبّاط مُسلمون من أبناء ديني.!

كل حرف من هذه الحروف لسع عفلق، ومزق شباك وهمه، شعر بالهزيمة في قعر نفسه المريضة، خشي أن يفتضح أمره، التفت الى الضباط من حوله، وجد أثر كلمات الإمام المقيد الى عمود وجسده دامي ما تزل تتدفق الى أرواحهم، وكأنه خشي (الفتنة) جمع كل الضباط الذين معه وغادر مسرعا.

(أما واللّه لا أجيبهم الى شيء مما يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضب بدمي..)

ليس للشر من أساس، بل هو متهاوي في ذاته، يحمل كل مقومات فناؤه من الداخل، سواء كان فردا ظالما أو عصابة متسلطة بالجور والقهر أو دولة مستكبرة..

كل ما نشاهده من تزييف للحقائق والمواقف والذي يقوم به جيوش من المزيفين وتصرف مئات المليارات عليه هو لإضفاء الشرعية على الشر (ظلما أو انحرافاً أو تضليلاً) أو لتبرير الشر، وحينما وضع الحسين على محك إضفاء الشرعية مع الحياة للشر (المتمثل بحكم يزيد للمسلمين) وبين عدم إضفاء الشرعية مع الموت، كان الحسين (عليه السلام) أمام خيار لا أقول تاريخي، بل أعظم منه، فبقاء الدين الإسلامي كان مرهونا بموقفه، لذا كان موقفه مبدئيا، كما يعبر عن ذلك الشاعر (إذا كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني).

وتطاول الشر بكل طغيانه وظلمه وجرائمه ووحشيته.

ووقف الحسين (عليه السلام) بدمه سدا منيعا للحفاظ على دين محمد ورسالته..

في يوم طويل من الشهادة والفداء والإباء، سار بخطى مطمئنة ينثر دمه في

ص: 208

ارض الخلود وهو يقول: (أما واللّه لا أجيبهم الى شيء مما يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضب بدمي..)..

إن عدم الشرعية التي رفعها الحسين (عليه السلام) وأهل بيت النبوة وأصحاب الحسين، هي التي حفظت لنا خط النبي واله، حيث الإسلام النقي الأصيل، وهي التي أسقطت والى الأبد أي طموح للحاكم اللاشرعي بنيل الشرعية من الإسلام المحمدي.

إن الشر يفتش في جروح رمز الحق عن التبرير والشرعية والأساس الذي يمكن أن يسوغ له أعماله فيخدع بها جمهور الأمة وعامة الناس، يتذكر السيد الشيرازي انه في السجن وبعد شهور التعذيب القاسية وليالي انتظار الإعدام المتكررة كان يظن ان هؤلاء العصابة العفلقية كانت تستهدفه، وكان يسليه ذلك فنهاية مبتغاهم فوزه بالشهادة، غير إنهم كانوا يحلمون بحلم أسلافهم من بني أمية، حلم الشرعية، ويروي السيد الشيرازي ذلك فيقول:

«وضعوا أمامي مجموعة أسماء، وطَلَبوا منّي أن أخرج إلى النّاس في برنامج تلفزيوني، واعتَرف على كُلّ هؤلاء بأنَّهم عملاء لدولة أجنبيّة، ».

يقول الإمام السجين: «حينَما نَظَرت إلى الأسماء، رأيت أنَّها تَضُم أكثر من ثلاثين اسماً من شَخصيّات شيعيّة كُبرى، من الشيخ شيخ الشريعة، إلى السيّد موسى الصَّدر، إلى السيّد مصطفى الخمَيني، إلى مجموعة من العلماء والخطباء، وكُلّ الشخصيّات الشيعيّة في ذلك الوقت، كُنت أرى بأن هؤلاء لا يقصدونَني شَخصيّاً فقط، ولَعلَّه لو كنت أنا المقصود بما يفعلون كان يهون عليَّ الأمر، لكن تبيَّن لي ان المُؤامرة كبيرة، وأن المقصود هو تَلويث سمعة الشيعة في العالم، وخاصّة رجال هذه الطّائفة الكُبرى، ولذلك صَبَرت وقدرت على أن أتحمَّل إلى النّهاية، وكنت مُستعدّاً للموت، وربَّما كان الموت بالنسبة لي أسهل مِمّا كُنت ألاقي).

ص: 209

كان طغاة البعث يبحثون في ايام صعودهم الى سدة الحكم عن مبرر سياسي - إعلامي لإبادة الشيعة وتشويه سمعة مراجعها وعلمائها.. الشيعة التي رفضت كل انحراف وتشويه في رسالة الإسلام فسموا رافضة..

كان العفالقة يحلمون بحلم أموي متعفن وهالهم أن يسمعوا صوتا حسينيا يتحدى أوهامهم المريضة: (أما واللّه لا أجيبكم الى شيء مما تريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضب بدمي..) ولم يطل الزمان كثيرا حتى خضبوا رأس الإمام السجين بدمه.

عاطفة سامية

كان اعتقاله قد أوجع روح السيدة والدته، فكانت تسفح الدموع والآهات وتدعوا طويلا للفرج، خصوصا وقد انقطعت أخبار ولدها عنها فلم تعرف شيئا عن حاله وأحواله غير شتات الظنون وكوابيس الأخبار عن سجون الطغاة وظلمة الشعوب.

وبعد شهور طويلة، سمح لوالدته بزيارته وبالرغم مما فيه فقد كان يخفي عنها ما يعانيه من السجن، وكانت آثار التَّعذيب بادية عليه، إلاّ انَّه كان يُحاول إخفاء آثار الحرق على ذراعه اليُمنى، فكان يُغَطّيها بالدشداشة، ثُمَّ تبدو ثانية خلال الحديث فيُغطّيها وهكذا.. وحينما سأل: «ماذا جرى عليك بالسِّجن؟! وما هي وسائل التعذيب الَّتي مارسوها ضدك؟!»، فامتَنَع من الإجابة وقال مُبتسماً: «صلّوا على محمَّد وآل محمَّد..»!

وفي البيت كان بعض أهل الدّار يسألونه: «ماذا جرى لك في السِّجن؟» فكان يُراعي إحساس الوالدة حتّى لا تَتَذكَّر الذّكريات المُرّة بذكر كلمة (السِّجن)، فكان السيد الشيرازي يقول لهم: «لا تقولوا سجن بعقوبة، بل قولوا مكتبة بعقوبة حتّى لا تَتَأذّى الوالدة»!

ص: 210

الصورة

ص: 211

التعذيب القاسي في سجن نظام صدام

كانت أساليب التَّعذيب وحشيّة وقاسية جدّاً، بحيث يصعب على الإنسان أن يتحمَّلها ويصبر عليها، فكثيرون من ماتوا تحت التَّعذيب، ولكنَّ اللّه تبارك وتعالى مَنَّ على هذا السيّد الجليل بالصَّبر والتحمُّل والإستقامة، كما مَنَّ عليه بحياة جديدة.

أمّا أنواع التَّعذيب الَّتي لاقاها سماحته في السِّجن فهي كثيرة، إليك بعضها:

1- إطفاء أعقاب السَّجائر في الوَجه والجسم.

2- التَّعليق بالمِروَحة السقفيّة.

3- التَّعليق بصورة مَقلوبة ثلاثة أيّام بصورة متَّصلة.

4- قلع أظافر اليدين والرجلين.

5- إشعال النّار في لحيته الكريمة.

هذا اضافة الى أعمال وحشية أخرى تُقرح العين وتُؤلم الفُؤاد.

خمسة أشهر كانت أخباره مُنقطعة عن أهله وذَويه، وكانت المُخابرات العراقيّة تَنشر أخباراً مُتناقضة عنه، فَتارةً تقول: انَّه بحالة جيّدة في السِّجن، وتارةً تقول: انه حُكِمَ عليه بالإعدام، وتارةً تقول: انَّه تحت التَّعذيب، وهكذا.

وبعد ثلاثة شهور من السِّجن والتَّعذيب، نقل سماحته إلى المُستشفى العسكري ببغداد، ومنه إلى سجن بعقوبة، حيث تحسَّنت حالته الصحّيّة قليلاً، وسمح النِّظام البائد لأهله بزيارته والإطمئنان عليه، ومن المفارقة هنا أن والدته، وحال سماعها بالسَّماح بمواجهته لما كان في صدرها من ألَم الفراق، ولهفة الشوق، والقلق على حياته، وهي الأمّ الحنون بعد طول إنتظار أمضته بالتضرُّع إلى اللّه تبارك وتعالى من أجل خلاصه من براثن السُّلطة القَذرة.

لقد أثَّر فراقه في نفسها وصِحَّتها أيما تأثير، تاركاً الندوب الغائرة في روحها، إلاّ أنّها عندما دخلت بلهف أمومتها، إستقبلها السيِّد الشهيد بنفسه، وسلَّم عليها،

ص: 212

وحاول تقبيل يدها الكريمة، لكنَّها سَحبتها منه مُتسائلة: «مَن أنت؟!».

إذ أنّها لم تَستَطع التعَرُّف عليه، لتغيُّر جذري في مَلامحه نتيجة التعذيب، فَظَلَّت العلويّة تلتفت يميناً وشمالاً بحثاً عن عزيزها.. وتركته وسارت وهي تسأل: «أين ولدي حسن..؟! أين حسن..؟!».

فَلَحق بها السيِّد الشهيد قائلاً لها: «أنا إبنك.. أمّاه أنا حسن..!!».

فَلَم تكد تُصدِّق عينها إلى ما صار عليه من تغيُّر، فاحتَضَنته وأجهَشَت بالبُكاء، ولم تقوَ على الوقوف، فهَوَت إلى الأرض مُغشيّاً عليها، فضجَّ المكان بالبكاء والنحيب...

لم تعرف وجهه على أثر السِّجن والتَّعذيب، بل عرفته من نَبَرات صوته، ولمّا أطلق سراح الإمام الشهيد فيما بعد، عاد إلى كربلاء المقدّسة الَّتي كانت على موعد معه، لتزف إليه تهاني الصّمود والإنتصار.

بعد تلك التَّجربة المَريرة مع البعث البائد، فكَّر الإمام الشهيد بطريقة أخرى يكمِّل بها مسيرته الثوريّة والجهاديّة، فكانت فكرة الهجرة الجهاديّة إلى خارج العراق، والَّتي أعطت بُعداً إقليميّاً وعالميّاً أوسع للحركة الإسلاميّة الثوريّة ضدّ البعث..

أمّا وسام الشَّهادة الَّذي ناله الشهيد الشيرازي، كان في الطَّريق إلى مجلس الفاتحة الَّذي أقامه على روح آية اللّه الشهيد السيّد محمّد باقر الصَّدر، الَّذي استشهد برصاص الغَدر البعثي في سجون العراق..

فللعلاقة الوثيقة الَّتي كانت تربط السيّدين الشهيدين، الصَّدر والشيرازي، أقام السيّد الشهيد الشيرازي مجلساً للفاتحة على روح الشهيد الصَّدر وأخته بنت الهدى في يوم الجمعة المُصادف 2 مايو (1980م)، وتوجَّه الشهيد الشيرازي إلى مجلس الفاتحة في مدرسة الإمام المهدي بمنطقة برج البراجنة، وفيما كانت السيّارة الَّتي تقله تُواصل سيرها، وإذا بثلاث سيّارات خصوصيّة تعترضه، وسيّارة

ص: 213

رابعة تقوم بمراقبة وتصوير ما يجري، وراحت الأيدي الآثمة العَميلة للبعث الَّتي خرجت من السيّارات تمطر الشهيد الشيرازي برصاص الحقد، حتّى ذهب شهيداً غريباً مخضّباً بدمه في سبيل اللّه على طريق جدّه الإمام الحسين (عليه السلام) .

الصورة

ص: 214

قوافي الثورة

للشعر طبيعة عجيبة لأنه يشتد تأثيره كلما حوصرت المشاعر، وطوردت الكلمات، وهربت القصائد الى أنفاق الهمس وبسبسة الصدور.

في زمن الرماد كان يقوم السيد الشيرازي بإطلاق قوافي الثورة بكل جرأة وشجاعة، لتزلزل عروش الطغاة، ولتمنح الشعب روح الحرية التي تحاول حكومة البعث أن تسلبها منه.

فكان الشعر منهجا للثورة، ينتهل منه الثائرون دروس الثبات، ومواقف الإباء.

وكان الشعر نبعا مطهرا، تغتسل فيه جروح الشعب، ويرى فيه المستضعفون دموعهم.

وكان الشعر آفاقا لحلم الإنسان المقهور، وجناحا لإرادته المكسورة.

- الإسلام رسالة اللّه الى الجماهير للخير المطلق والكمال التام غير إن الانحراف كامن في رفض القيادة الإلهية ومحاربة رموزها.

ورسالة الإسلام ثورة آدم***وتطوَّرت بتطوِّر الإنسانِ

فخصال إبراهيم أين خلت؟ وهل***تخلو الورى من حجَّةٍ وبيانِ؟!

لا.. فالحقائق كلّها معروفة***أما العِداء، فسرُّه أمرانِ:

حقد على شخص النبيِّ، وعقدة***بالكفر في الآباءِ والإخوانِ

فتنفَّسوا عنها بنسفِ قيادة***الإسلام، في أيدي بني سفيانِ

فتتبّعوا أبنائه بسيوفهم***وتتبعوا أصليه بالبهتان(1)

- الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) حتمية كونية تحفز الأمة للثورة من اجل الالتحاق بمسيرة صاحب دولة الحق، وتستنهض الهمم للإعداد الدائم لها.

ص: 215


1- من قصيدة (أقرباء النبي) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

خواطر يمليها الولاء مردّداً***قوافي تزهو كالجمان منضدا

وتبعث في دنيا العواطف ثورة***تبثّ نغام البشر شعراً مجسّدا

وُلد النُّور الطّهور الَّذي أبى***له اللّه إلا أن يكون المخلّدا

ألا وُلد الليث الَّذي وثباته***تقلّ جموح البغي إن هبّ مرعدا

ويملأ أجواء الفضاء بصرخة***تحطّم صرح الظّالمين الممرّدا

ويبعث في قلب الأثير أشعّة***تبدّد شمل الظُّلم والشِّرك والعِدى

وينشر للحقّ الصّريع لوائه***ويشهر في وجه الطُّغاة المهنّدا

ويهتف باسم البائسين ترحّماً***ويترك شمل الغاشمين مبدّدا

وينشر في الأرض العدالة والتُّقى***ويطوي عن الأرض الحتا والتمرّدا(1)

- صرخة ثورية يطلقها من زفير آهات الإمامة فتتجلى على مرايا الواقع المعاصر، فما ندري هل الإمام على (عليه السلام) يعبر عن واقعنا أم إننا نعيش آلامه أم إن الشاعر كان أفقا متصلا بين علي (عليه السلام) ومحبيه؟!.

صبّوا الجحيم عليَّ.. يا أعدائي!***وارْموا جرائِمكم على أفيائي

وتمزَّقوا حقداً عليَّ.. ومزِّقوا***أحشاء ليلكمُ بسيف دمائِي

وتوحَّلوا في المعضلات.. وأوقدوا***مصباح ظلمكمُ بزيت فنائِي

وتراشفوا من أدمعي.. وتراشقوا***في أعظمي.. وتقاسموا أشلائي

ثم: افْعلوا ما شئتمو، فأنا.. هنا..***في كل عرق منكمُ أضوائِي

لن تخلصوا منيِّ، فإنِّي رأسكم***أنتم.. وأنتم كلّكم أعضائي

أنا.. نشوة الصّهباء في أعصابكم***هل ترفضوني نشوة الصّهباءِ؟

أنا.. يقظة الإيمان في أعماقكم***ومحرِّك الإلهام في الإيماءِ

ص: 216


1- من قصيدة (الإمام الخالد) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

أنتم تروني اسْماً على أسمائكم***وأنا.. معلِّمكم على الأسماءِ

لا تخجلوا إن صرت قمَّة مجدكم***فالرَّمل بعض القمَّة الشمَّاءِ

فكفاي: أنِّي كنت من أوساطكم***وكفاكمُ: أن صرتموا أعدائي(1)

- الإمام المهدي رمز الثائرين، وحامل لواء دولة العدل، يذوب فيه صوت الثورة، وتتجلى فيه مبادئها، سيعود بحتمية الانتصار الإلهي لينتشل الإنسان من كل ضعف وشر..

سأعود فوق مناكب التيّارِ***وألغّم الأنوار بالإعصار

وسأنشر الأموات من موت الهوى***وأعبّد الأمواج للبحّارِ

وسأترك الدنيا على رهج اللظى***رهواً.. يلوذ مغولها بتتارِ

وأمزّق الأجيال: إمّا ترتضي***نهجي.. وإمّا تلتظي بالنّارِ

ويل الطغاة.. إرادة جبّارة***تطغي على المتعنّت الجبّارِ

حاشاي أن أدع الصّغار يشوِّ***شون على الكبار وينهشون قراري

كم يظلموني؟ هل دروا بعدالتي؟***من ينقذ الجزّار يوم الثّارِ؟

أنا.. لا العواصف تستطيل مدى المدى***أنا.. لا القواصف تنتشي بدمارِ

فإلى مَ أكبت آهةً إن أجهشت***في الصور، لاشْتعلت بسبع بحارِ(2)؟

- تصويرا لواقع الأمة المرير، ورفض هذا الواقع عبر الالتحاق بمسيرة الإمام صاحب العصر..

صاحبَ الأمرِ! هذه نعراتٌ***ترتمي في مصارع الشهداءِ

كلّ حزب بما لديه فَروحٌ***راح يدعو له بنوا اللقطاءِ

ص: 217


1- من قصيدة (همس الإمام أمير المؤمنين) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.
2- من قصيدة (صرخة الإمام المنتظر) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

غاب عنّا اسْتعمارُ غربٍ ولكن***أطلع الشرَقُ رأسَهُ كالقضاءِ

ودهتنا مبادئٌ.. كالأفاعي***تنفث السمَّ في صميم الدّواءِ

أنتَ! فاظْهرْ.. فأنتَ من تملأ ال***دنيا سروراً.. لا سائر الأمراء

صاحبَ الأمر! قمْ.. فأنتَ الذي***تقضي على كلّ فاجرٍ.. غوّاءِ..

قمْ.. فإنّ البلادَ ثارت غضاباً***حرِّرت عن حكومة العملاءِ

لكنِ الجهلُ أخمد الدينَ.. فيها***واعْتلتها سفاسف الجهلاءِ(1)

- هدير ثوري يشق عنان سماء كربلاء الإباء ليحفز الجماهير للثورة ضد الطغام ونبذ ثقافة الهزيمة والذل.

فلم يبق إلا حاسد أو منافق***يردّد محض الحقّ هاز مندّدا

فجاهلنا رغم السداد مفنّدا***وعالمنا - خوف الطغام - تبلّدا

وقد خدروا بالمغريات عقولنا***وأضحوا البّاءا يدولون سهّدا

فكيف نقر الذلِّ والذلُّ وصمة***من العار أمضى بل أشقّ من الرّدى

أما آن أن نلقى الطُّغاة بعزمنا***وننقض كالآساد وثباً على العدى

إلى مَ يسود الأجنبي بلادنا؟***إلى مَ نرى الشّعب الأبيّ مقيّدا(2)؟

ص: 218


1- من قصيدة (صاحب الأمر) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.
2- من قصيدة (الإمام الخالد) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

الصورة

ص: 219

- من جذور التاريخ تستمد الثورة عزيمتها، ومن أغصان الشهادة يتدلى عطائها..

أيُّها الثائر بين الحُسنيين!

جدّد العهدَ ببدر.. وحنينْ..

وبطولات عليٍّ.. وحسينْ..

لتدكّ القوّتين العظميينْ

نفخة الصور.. بقايا نغميْ

ودم يخترق الأرضَ.. دمي

وفم يختزل الجمرَ.. فميْ

وشباً سال جحيماً.. قلميْ(1)

- ملحمة تختزل بقوافيها عهود طويلة من المعاناة والماسي والتمييز الطائفي لتنفتح عبر آفاق التاريخ وجغرافية الهوية لا لترسم ملامح الحزن بل لتوقد ثورة الذات على الواقع لتعيد تأسيس هوية الإنسان الشيعي ضمن هويته الرسالية الإسلامية الإنسانية...

- الإنسان الشيعي

أنا فكر.. لم يزرعْ

أنا باب.. لم يشرعْ

أنا نبض.. لم يهجعْ

وبقايا حلم - كالنور - يجوب الأفق ولا يقنعْ

ويصارع كل الأجواء.. وكل الأشياء..

ولا يصرعْ

ص: 220


1- من قصيدة (يا إمام العصر) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

أنا لست كتاباً للتاريخِ،

ولا صُحُفاً يوميةْ.

أنا لست قضايا تحفظ في الأرشيفِ،

ولا حفلات صوفيةْ.

أنا لست سلال الورد على أعتاب المرضى.. وقبور الأمواتْ

أنا لست الأشياء الأثرية تجتلب السواح إلى المتحفْ

أنا لست قوارير العطر أمام المرآة السكرى من رائحة المخدعْ

أنا دمع ينفر - كالبارود -، وعرق يضرب - كالمدفعْ -

أنا وحي رسول.. أحرقه الطاغوت ولم يركعْ

أنا خبز فقير.. مات ولم يشبعْ

أنا جرح.. جرّبها كل سيوف العباس ولم يجزعْ

أنا شعب.. حاربه كل سلاطين الأتراك ولم يخنعْ(1)

- هي قصة شعب..

الشعب الخائِفُ..

والحزبُ المُتورّط في الثارْ

والجيشُ الجرّار بقمقمه السحّارْ

والوزراءُ الأسرى، ورئيسُ الجمهوريّة بالإيجارْ

هذا.. كلُّ عراق البعثِ،

وهذا.. ما يطلبه الاستعمارْ..

يا قصّة هذا الشعب الراقِد خلف الأبوابْ!

يا قصّة هذا الجلاّد الممعن في الإرهابْ!

ص: 221


1- من قصيدة (الإنسان الشيعي) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

يا دردشةَ الأغلالِ.. ويا زمزمةَ الأحبابْ!

يا نطفةَ هذا الرحم العاقر منه الأصلابْ!

يا لعلعة النارِ.. وقعقعةَ الأسلابْ!

متى، مليون متى، تصحين لينتحر الأغرابْ!

متى.. يرتفع الرأس لتنحدر الأذنابْ!

...................

يا هذا الجيل الطالع في حمأ الغِسلينْ!

كم تكسر سيف الحقِ،

وتلثم أحذية الجلاّدينْ؟؟

وتغازل حبّات الأغلالِ،

وترقص للجبّارينْ؟؟

هل ماتتْ - فيك - تعاليم عليٍّ.. وحسينْ..؟

هل نسيتْ ظلمات التاريخ بطولات رجال الدينْ؟

من عهد خليل الرحمانِ.. إلى شيخ العشرينْ..

أين المختارُ؟

فهذا ابن زياد يلتهم الأخضر.. واليابس كالتنِّينْ(1).

- ليس من خيار أمام المستضعفين سوى الثورة على الاستكبار والمتجبرين..

يا شعوب الأرض... هبّي للسلاحْ

وأسحقي الدنيا أجتياحاً واكتساح..

وأزرعي الجوَّ صلاحاً.. وفلاحْ..

إنّ جبريل ينادي للكفاحْ

ص: 222


1- من قصيدة (عراق البعث) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

ارفعي - فوق المجرّات - مهادْ

واعصفي - عبر المدى - نوحَ البلادْ

وانشري - في مرتع الظلم - حدادْ

واهتفي - في كل نادٍ - بالجهادْ

مزّقي حنجرة الأفق صياحْ

واخرقي الليل بأسراب الصباحْ

وارفعي - فوق الطواغيت - جناحْ

وانسفي - بالعدل - أبراج السفاحْ

تزهر الدنيا على جمجمتي

وصدى الإيمان من حنجرتي

يجعل الأرض رحى ملحمتي

وقوى الخير روى معركتي

دولتي ديني.. وديني دولتي

والنبيون سرايا ثورتي(1)

- قراءة من شفتي ملتهبة بالمعاناة، لواقع امة يسودها الظلم ويتلاعب بكرامتها ذئاب الفساد، وعملاء الاستعمار..

يا أمة الإسلام هذا وضعنا***من فاسد يهوي لما هو أفسد

فيسودنا مستعمر إن ناء جا***ء يسوسنا مستثمر متمرّد

مثل القطيع رُعاته تجّاره***فإذا نأوا أتت الذئاب تُصيّد

ويقول كل منهما: أنا مصلح***أرجو النجاة لكم وغيري مفسد(2)

ص: 223


1- من قصيدة (ضعاف الأرض) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.
2- من قصيدة (ميلاد القرآن وثورة الإسلام) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

- التحزبية حولت الأمة الى ساحة لتصفية الخصومات السياسية بين الدول الكبرى، وبثت ثقافة العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد..

فتناحُرُ الأحزاب مرآة بها***لِتناحر الدول الكبيرة مشهد

ولكل حزب سيّد عن وَكْره***النائي يُوجّه مكرَه ويُسمّد

والحزب مبدؤه انفلاتٌ مطلق***وله الكراسي والمناصب مقصد

أما المبادئ فهي أستار النوا***يا السود وهي بضائع تستورد

فلذلكم عَبْر الشباب يقودها***والمغريات المرهبات مصيد

- نقد ثوري لسكوت الجماهير على جرائم المتسلطين عليها، وإسقاط لأقنعتهم المختلفة التي تخفي تحتها وجه واحد من ملامح الظلم والاستغلال والتجبر.

كم مرة بالدمع والدم خُضّبت***بَرَدى ودجلة كي يفيق المشرق

والشعب مَلهاة الطغاة وإنه***تحت الحوافر للطغاة يُصفّق

فكم استعاد مهازلاً ومجازراً***غصّتْ بها دار السلام وجُلّق

والشعب مثل الأمس ظل مُنوّماً***يا شعب ما هذا السُّبات المطبِق

بالأمس جاء يقود ركبك ماركس***واليوم جاء يسوق ركبك عفلق

أو هل أصابك من قيادة أحمد***سوء يقيك مغرب ومشرق

زمر وأحزاب تصول وخلفها***فوضى المبادئ والعذاب المحدق

فبكل يوم مبدأ ومهرج***ولكل شعب ألف حزب ينهق(1)

- هذه القصيدة تحولت الى شعارات ثورية هتف بها الشباب الحسيني الثائر في العراق وهتفت بها الجماهير..

ص: 224


1- من قصيدة (ميلاد القيادة الإسلاميّة) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

واعمل لتطبيق الكتاب مجاهداً***إنّ العقيدة مصحف وحسام

و:

واسحق جباه الملحدين مردّداً***لا السّجن يرهبني ولا الإعدام

و:

والمسلم الشيعي فيه مجرم***والعفلق البعثي فيه إمام

أمل الشعوب ومجدها الإسلام***وسواه كفر زائف وظلام

فدع المبادئ كلها في معزل***إنّ المبادئ كلها هدام

واعمل لتطبيق الكتاب مجاهداً***إنّ العقيدة مصحف وحسام

واسحق جباه الملحدين مردّداً***لا السّجن يرهبني ولا الإعدام

إن قيل عصر النور هذا قلت بل***عصر الظلام له الشذوذ نظام

المسلم الشيعي فيه مجرم***والعفلق البعثي فيه إمام

والطّائفية ويلها من فتنة***عمياء يوقظ حقدها الأقزام

والطّائفية جدّدت تاريخها***فإذا لها الحكام والأحكام

والطّائفية لوّنت أزيائها***وتطرزت في عرضها الأقلام

لكنها هي لم تغير ذاتها***فشعارها الإرهاب والإرغام

دستورنا القرآن نهتف بإسمه***وشعارنا في العالم الإسلام

وزعيمنا الكرار لا ميشيل لا***ماركس لا القسيس لا الحاخام

إن قيل: عصر النور هذا، قلت: ***عصر الظلام له الشذوذ نظام

ص: 225

المسلم الشيعي فيه مجرم***والعفلق البعثي فيه إمام(1)

- إنها ثورة الإسلام، ثورة الفتية الذين امنوا باللّه وزادتهم شعائر الحسين هدى، ثورة التسليم بقيادة المرجعية، ثورة الهوية والمسيرة الحسينية...

يا فتية الإسلام، أنتم أُمة***جبّارة تسمُو عن الأوهام

ولكم من الإسلام خير مناهجٍ***وشعائرٍ ومبادئ ومَرامي

ولكم من الإسلام خير قيادة***ستطيح بالأنصاب والأزلام

نفني المبادئ مثلما حطمتموا***الرجعيّة الحمراء بالإرغام

لا نَستعيض قيادةً مدسوسةً***عمّا لَدى علمائِنا الأعلامِ

وليسمع المستعمرون جميعُهم:***انّا نريد حكومةَ الإسلام

والوحدةُ الكبرى شعار نظامنا***والثورة البيضاء رمز قيام

فعلى قيادة حيدرٍ ومحمدٍ***سنطبّق الإسلام بالإسلام

وعلى شفاهي من فؤادي ثورةٌ***وعلى نشيدي من فتات كلامي

اللّه ربّي والشريعةُ مذهبي***والشعب شعبي والطريق أمامي

فإلى الأمام إلى السلام على هُدى***القرآن نحو مخطّط الأحلام(2)

- نشيد ثوري مجلجل مفعم بالحماسة، ومعبر عن قيم الثورة ومنطلقاتها فالحرية حق الهي والخير سلاح ضد الشر والدولة هي الدين والدين هو الدولة، والإسلام هو الحياة والدين، والإيمان هو ملحمة الإنسان ضد كل انحراف..

صرخة الحقِ.. تنادي صرختي

وشعاع النصرِ.. نجوى قبضتي

ص: 226


1- من قصيدة (موقف الإسلام الفاصل) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.
2- من قصيدة (بطل الإسلام الخالد) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

وشهيدٌ م--اتَ صبراً.. قبلتي

حربتي حقيْ.. وحقي حربتي

ت--زهر الدنيا على جمجمتي

وصدى الإيمان من حنجرتي

يجعلُ الأرضَ رحى ملحمتي

وق--وى الخي--ر رؤى معركتي

دولت--ي ديني. وديني دولتي

والنبيّ--ون.. سراي--ا ثورت--ي

وال--رسالاتُ.. صفايا حجتي

وخلاصات الفتاوى.. قصتي(1)

ص: 227


1- من قصيدة (صرخة الحق) موسوعة الشهيد الشيرازي ج4.

المبحث الرابع: القيادة المرجعية.. نظرية قرآنية

القيادة المرجعية

هي قيادة تنتمي الى كينونة الإسلام وجوهر بعده البشري، فهي تنمو من داخل مؤسسة الإمامة لتقود الحياة ليس بسلطة الحكم بل لتجسد الأسلوب الأفضل للحياة، فقيادة الإسلام للحياة كما يصفها السيد الشيرازي هي إحياء الموات من الوجود وسقيه بمطر الإسلام الإلهي لتهتز فيه الحياة ويبعث فيه الخلود، وإلا فان فلسفة الحكم الإسلامي لا ترتبط بأي هوية يمكن أن تشكل انحيازا سلطويا ضد الإنسان وفرصته بحياة صالحة.

إنها القيادة من اجل كمال الإنسان وتكامل المجتمع، وللإنسان حرية الاختيار في أن يقود نفسه الى ظلم نفسه أو منحها الفوز الأبدي.

إنها قيادة صفوة الأمة من حيث شروط العدالة وشرائط العلم برواية حديث الأئمة ومنبع الاستنباط الصحيح للأحكام، وهي كما يصفها السيد الشيرازي (القيادة المرجعيّة هي أجدَر قيادة وُجدَت في العالم.. لو استثنينا قيادة الأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام) لقيادة أمّة من الأمَم، فقد توفّرت فيها المُؤَهِّلات والشروط الإحتياطيّة، حتّى أصبحت قيادة مثاليّة متوغلة في العبقريّة والنبوغ، إلى حيث كان من غير المعتاد تماثلها للوجود، لولا قوّة الإسلام ومعجزته في انتشال الإنسان من حَضيض البشر إلى فوق مستوى سبحات الملائكة، وإلى حيث أصبحت أمينة وقويّة إلى أبعد الحدود.

1- فأمّا ان القيادة المرجعيّة (أمينة)، فلأنّه لا يشغل أيّة وظيفة في أيّ واحد من مرافق هذه القيادة، إلاّ رجل (عادل) تمرَّس على مواصلة الواجبات، والإبتعاد عن

ص: 228

المُحَرِّمات، حتّى نَبَعَت في أعماقه (ملكة القوّة)، تعصمه عن إقتراف المنكر مهما ألحَّ به الإغراء، وقد تألَّقت هذه الطّاقة في المراجع حتّى كادت أن تحلِّق بهم عن المستوى البشري، وتركت للنّاس عبراً وأمثالاً.

2- وأمّا ان القيادة المرجعيّة (قويّة) إلى أبعد الحدود، لأن أقوى التَّنظيمات العالميّة الَّذي اتَّفق عليه النّاس جميعاً، وتَبَنَّته كافّة الدول، وجرب ألوف السنين في جميع أقطار العالم، وعلى كافّة القطاعات البشريّة، فنجح في ذاته، وأثبت تفوُّقه على مجموع التَّنظيمات الأخرى، حيث استطاع هو أن يضربها ولم تستطع هي أن تضربه.

3- إن أقوى القيادات المَبدئيّة، هي القيادة الَّتي تَتَوفَّر فيها أوسَع المؤهِّلات الَّتي أبرزت مبدأها إلى الوجود.. ومن أهمّ العناصر الَّتي ساهَمَت في تصميم الإسلام كدين خالد، ثمّ في تخرُّجه إلى الوجود، طاقتا (العلم) و(العدالة).. وقد اشترط أقصى الكميّات الممكنة منهما في المراجع الَّذين دَرَسوا الإسلام، وأتقنوا إجتماعيّاته بصورة تطبيقيّة فائقة، حتّى لا يكون في حاضرتهم أفقه منهم(1).

ص: 229


1- ونذكر هنا بعض الشروط الواجب توفرها في المرجع حتى يقلده الناس: 1- الإيمان: لأن المرجع يمثل الواسطة الى الإيمان كما تقدم في البحث وفقدان هذا الشرط يسلب منه أهليّته لهذا المنصب كائناً من كان. 2- العدالة: وهذا أمر يدركه الإنسان بعقله المجرد حتى لو لم تكن هناك نصوص واردة عليه. ولكن لأهمية هذا الأمر وردت نصوص كثيرة تؤكد ان العالِم الذي يتبع ليس العالِم الذي لديه خزين من العلم يفوق الاخرين بل لابد ان يكون عادلاً وأميناً في قضائه وبيان احكام الشريعة وإلا قد يكون بعض الشياطين أعلم بكثير من البشر ولكنه في النهاية شيطان لا ينفع ويضر. وايضاً ان انعدام هذا الشرط يولد حالة من الشك والريبة لدى الإنسان في تلقيه الاحكام الدينية وهل ان ما يعمله مطابق لما يريده المولى تعالى منه أو لا. 3- الأعلمية: نحن نرى الاختلاف في بعض المسائل الفقهية بين الرسائل العملية للمجتهدين فالبعض يأمر بوجوب صلاة الجمعة من يوم الجمعة والبعض الآخر يفتي بوجوب صلاة الظهر من يوم الجمعة، والبعض الآخر يفتي بوجوب الخمس في الهدية والبعض الاخر يفتي بعدم وجوبه. فهنا سيقع المكلف في حيّرة من أمره ومن يتبع حتى يفرغ ذمته هل يتبع أي مجتهد مهما كانت درجته العلمية ام لابد ان يبحث عن الاعلم؟. طبعاً، ان الطبيعة البشرية بطبعها تدفع الإنسان الى البحث عن الاحسن دائماً وعن الاعلم لأنه يمثل الحالة المثلى في اختصاصه. فنعمل بكلامه لأنه اكثر اطمئناناً وهدوءاً للنفس اضافة الى أن الاعلم يشترك مع غيره في مزية الفضيلة العلمية والاجتهاد ويزيد عليه بقوة العلم. فما موجود عند الآخرين موجود عنده مع اضافة وزيادة فيكون هو الاجدر والاولى بأخذ الاحكام منه. 4- لابد ان يكون طاهر المولد ورجلاً. وغيرها من الشروط التي تصب في نفس الاسباب الموجبة لأشتراط الشروط المتقدمة لأنها تبعث على الطمأنينة في الواسطة بين المكلف وربَّه.

ويشكِّل المرجع (القمّة) من رجل تبلغ به (طاقة العلم) إلى حيث يكون أعلم النّاس بالإسلام، وأوسعهم وعياً للدّين والإجتماع، وتبلغ به (طاقة العدالة) إلى حيث تنطبق عليه البنود الَّتي نَصَّ عليها في تصريحه الموشح بتوقيعه المبارك، «..مَن كان مِن الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مُطيعاً لأمر مولاه، فللعَوام أن يُقَلِّدوه..»(1).

4- إن أقوى القيادات المبدئيّة، هي القيادة الَّتي يختارها المبدأ في رأي الخاضعين، وتكون عليه (الرقابة الجماعيّة) الساهرة في قلوب كافّة أنصارها، حتّى لا يتدخَّل فيها (الفرض)، بل تكون إدارتها بمقدار رصيدها، وقد شاءت الفلسفة الديمقراطيّة تجسيد هذه القيادة في إنطلاق القيادة من ارادة الأكثريّة، لكن هذه الفلسفة لم تَنته إلى أنّها تفرض قيادة الأكثريّة النّاخبة على الأقلّيّة الرافضة، ولم تمنع من شراء الأصوات بالأموال والوجاهات وبقيّة المُغريات، بينما اتَّخذ الإسلام كافّة التَّدابير اللاّزمة بشأن القيادة، فترك للنّاس حريّة النَّظر في توفُّر شروط القيادة المرجعيّة في هذا الرَّجل أو عدم توفُّرها، ثمَّ ترك حريّة الإنظواء تحت قيادة هذا الرَّجل الَّذي اختارته الأكثريّة، أو الإنظواء تحت قيادة

ص: 230


1- وسائل الشيعة: ج27، ص131، ح33401. بحار الأنوار: ج2، ص88. الإحتجاج: ج2، ص458.

رجل آخر، وترك لكلّ فرد حريّة التسلُّل من تحت قيادته، في اللحظة الَّتي يجد فيها إرتداداً عن نهج الإسلام)(1).

مبدأ حكومة الإسلام

في البدء علينا أن نفرق بين نوعين من الحكومات هناك خلط بينهما في فكر الإسلام السياسي، وهما الحكومة الدينية وحكومة الإسلام، وهذا الخلط له مجموعة من الأسباب من بينها:

1- إن هناك تشويش فكري انتقل نتيجة هجرة مصطلح حكومة الكنيسة في القرون الوسطى الى الفكر السياسي الاستشراقي وتداوله كمصطلح مقابل أو موازي لحكومة الإسلام في الفلسفة النظرية وفي الآفاق التطبيقية.

2- إن هناك تشويه لنظرية حكومة الإسلام في مدياتها التطبيقية ارتدت على نكوص في قراءة المراجع النصية (القران الكريم والسنة النبوية) بشكل منحرف تمادى في بعض المراحل الى تزييف نصوص التشريع عند بعض الفئات (حركة الأحاديث الموضوعة على لسان النبي الخاتم).

3- ان هناك انحرافاً كبيراً في تطبيق حكومة الإسلام من حيث فلسفة الرسالة الإسلامية وفلسفة المقاصد واليات التطبيق والأسلوب، أي إننا إمام انحراف كبير في الوظيفية والوظيفة والتوصيف الوظيفي لحكومة الإسلام، وبتعددية الانحراف السلطوي في الإسلام أصبح لدينا انحرافات في المنظور والنظرية، مع ملاحظة إن الكثير من تلك التشوهات حاولت أن تحمي سلطتها بأغلفة دينية بعضها ذا بعد ديني والآخر ذا بعد مذهبي وعقائدي وفقهي، مما جعل أي إصلاح في فكر الإسلام السياسي يستوجب إصلاحا على مستوى الفقاهة والعقائد والتفسير، وقد يبدو التصحيح مؤلما في بعض المواضع لأنه يستوجب استئصال جزء مما أصبح

ص: 231


1- كتاب (كلمة الإسلام)، للمُفكِّر الإسلامي الشهيد السيّد حسن الشيرازي.

مسلما به لدى البعض.

وحينما نعترض على تداولية الحكومة الدينية لوصف حكومة الإسلام فإننا نعترض على وصف الإسلام بأنه دين فقط، الإسلام نمط حياة للإنسان والمجتمع، للحياة كما هو للدين، فالإسلام ليس تعاليم دينية بل هو تأسيس للحياة وفقا لأبعاد الحياة الدينية، والإسلام ليس نمط حياتي يعالج الاقتصاد والاجتماع والسياسة بل هو تأسيس للحياة وفقا للارتباط مع اللّه عز وجل.

وفي الفقه يتوازى أفق العبادات مع أفق المعاملات ليبرهن دوما إن حراك الفكر الإنساني يعتصر التساؤلات لإيجاد أنماط مبتكرة للحياة المعاصرة - محطات جديدة - يصل إليها عبر الإسلام، باعتبار الفقه كآلية إسلامية لإنتاج أنماط معاصرة للحياة عبر الاجتهاد.

أما الحكومة الدينية فهي حكومة منغلقة عن الحياة العامة، حكومة الرهبنة والصوامع والانقطاع عن نشاطات الحياة ومثل هذه الحكومة ثار عليها الإسلام وسفه آرائها ومعتقداتها وعدها ضربا من الشطط في فهم رسالة ودور الدين في حياة الفرد والمجتمع.

وبالمقابل ثار الإسلام على أنماط الحياة المنغلقة الأخرى التي تنغلق على متطلبات الجسد وتعطل البعد الروحي والديني للإنسان وتقطع علاقته بخالقه واستثمار هذه العلاقة لسمو الإنسان ورفعته وتجسيده لهويته الإنسانية عن طريق الالتزام بالإرشادات الإلهية التي تؤمن له السير على طريق مستقيم.

كذلك فإننا لا يمكننا أن نقدم من ملوك بني العباس أو بني أمية من كان يجتمع بوزرائه وقادة جيشه وهو سكران أو يذهب بهذا الحال مترنحا ليؤم المسلمين في الصلاة وهي عمل تعبدي مقدس. يعد مثل هؤلاء أنموذج لتطبيق حكومة الإسلام، بل إنها جريمة بحق الإسلام ومؤامرة ضده، ونعتقد الإخوة الذين ما يزالوا يدافعون بكل شراسة عن تلميع صور هؤلاء أن يستفيقوا لان هؤلاء

ص: 232

لا يستحقون منهم كل هذا الجهد على مدى أربعة عشر قرنا، أما إذا كان دفاعهم عنهم تعاطفا وإيمانا بما اقترفوه فالأفضل أن لا يزيفوا الحقائق إلا إذا كانوا مقتنعين إنهم ارتكبوا جرائم وهذا يدل على فصام بين الإيمان والتقييم لن نسميه نفاقا بل مرضا شفاهم اللّه منهم.

إن مبدأ حكومة الإسلام يقوم على عدة أسس أهمها:

1- إن الإسلام هو أساس حياة الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية

2- إن الإسلام دين وحياة وهو نظام للوجود الحياتي القائم على التناغم مع السنن والنظم الإلهية للوجود والعالم والخاضع لحكمة الخالق البارئ في التدبير.

3- إن قواعد وأحكام الأسس العامة في الحياة الإسلامية (في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها) تنبثق من نصوص وموارد التشريع الإسلامي.

4- يجب تفهم فلسفة الإسلام ومقاصده التشريعية والتدقيق في النصوص التشريعية واستخدام أفضل طرق استنباط وأساليب الاستقراء والالتزام بالموضوعية في بناء الأحكام وفحصها وعدم مخالفة الأحكام ولا باس بان (تشكل حول الموضوع دائرة من الاحتياطات الاستحبابية تحرزاً من المخالفة، لأن الأصل في الأمور السياسية هو الاحتياط، لأنها تتعلق بالآخرين الموجودين والذين سيوجدون في المستقبل بشكل مباشر أو غير مباشر).

5- إن هناك تسلسلا في قيادة الأمة نصت عليه نصوص التشريع يجب النهوض به لا يتكفل بوضع قضايا السياسة الفرعية أو الجوانب التنظيمية والفنية، فيجب الالتزام بالطريقة الشرعية أو المبدئية التي يفرضها الإسلام، أو تفرضها طبيعته، ويجب مراعاة الأحكام السياسية الثابتة ومراعاة أحكام الإسلام في كل جوانب الحياة، وروحه، وأهدافه التي يريد تحقيقها في هذه الحياة.

ص: 233

وأصبح الاستدلال على هذا المبدأ من مقدمات الفكر السياسي الإسلامي وهناك مجموعة من البراهين الاستدلالية عليه (من القران الكريم) منها:

مبدأ الولاية الإلهية

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1).

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}(2).

{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(3).

- إن ولاية اللّه ولاية مطلقة.

- إن هناك جانب عقائدي لولاية اللّه يمكن أن يعد ممهدا للولاية السياسية، ويبدو إن المرتكز العقائدي يحسم زاوية المنظور للولاية السياسية ودورها ونمطها وأسلوبها في حياة الفرد والجماعة والمجتمع والأمة.

- كل ولاية دونها محدودة. وما لم تكن مفروضة من اللّه سبحانه، أو مشرعة من الدين فإنها باطلة، وإذا كانت مفروضة ومشروعة فهي مجعولة من قبل اللّه سبحانه.

- ومن آيات الولاية ما يكون تشريعاً وفرضاً للولاية السياسية وتجسيداً للحاكمية في بعدها السياسي كقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(4) لأنها نزلت في مورد سياسي أو في ظروف

ص: 234


1- سورة البقرة، الآية: 57.
2- سورة آل عمران، الآية: 68.
3- سورة الانعام، الآية: 127.
4- سورة المائدة، الآية: 55-56.

سياسية، ولغرض بيان وجوب طاعة الإمام (عليه السلام) ، (وحصر الولاية بولاية اللّه سبحانه والنبي والإمام، يعني قطع الولاية على الأسس غير الدينية. وفرض الولاية السياسية بين المسلمين إنما يتفرع على هذا المبدأ ولا يقطع بخلاف تصور الولاية السياسية على غير أساس الدين).

الصورة

ص: 235

مبدأ طاعة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وطاعة الأئمة (عليهم السلام)

طاعة الرسول واجبة في القران الكريم كما تشير الى ذلك كثير من الآيات وتنص على دلالتها بتأكيدات قاطعة لا تقبل الشك ولا التأويل المغاير، ومن أمثلة تلك الشواهد قوله تعالى:

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}(1).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}(2).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}(3).

التأكيدات الكثيرة على طاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) تفرض سيادة الدين بالإطلاق تارة، وبالتنزيل تارة (أي إن بعض الآيات نزلت في موارد سياسية).

مبدأ مرجعية اللّه سبحانه والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ووجوب أتباعهم

فان آية وجوب الرد إلى اللّه سبحانه والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأولي الأمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}(4). نزلت في موارد سياسية، وهي واضحة في فرضها سيادة الدين وعدم تجاوزه وعدم التسرع في الخوض في الأمور، قبل الفحص عن حكمها في الإسلام ويؤكد على هذه المعاني السيد الشيرازي في تفسيره لهذه الآية: (1- طاعة اللّه مطلقة، وطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مطلقة. فإذا أصدر أمر من اللّه، أو من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، سقط الخيار: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً

ص: 236


1- سورة آل عمران، الآية: 32.
2- سورة الأنفال، الآية: 20.
3- سورة محمد، الآية: 33.
4- سورة النساء، الآية: 59.

مّبِيناً}. 2- طاعة أولي الأمر - كطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) - مطلقة، لاقترانهما، في أمر واحد: {يا أيها الذين... منكم}. فمن هم أولو الأمر، الذين فرض اللّه طاعتهم مطلقة؟ هل هم الحكام الكافرون؟ كلا.. لأن اللّه قال: {الذين يتربصون بكم... سبيلا}. فهل هم الحكام الذين يحكمون بالقوانين الوضعية؟ كلا.. لأن اللّه قال: {إنا أنزلنا التوراة.. الكافرون}، والكافر لا سبيل له على المؤمن فكيف بالطاعة. فهل الحكام هم الظالمون؟

كلا.. لأن اللّه قال: {وإذا ابتلى.. الظالمين}، والذي لا ينال عهد اللّه، لا يمكن أن يفرض اللّه له طاعة مطلقة. فهل هم الحكام العصاة؟

كلا.. لأن العاصي ظالم، وإن لم يكن ظالماً لغيره فهو ظالم لنفسه، والظالم لنفسه يعامل كالظالم لغيره، لأن اللّه قال: {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِيَ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلََئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً}.

فهل هم الحكام العاديون، المعرضون للخطأ؟ كلا.. إذ لا يمكن أن يفرض اللّه الطاعة المطلقة لمن هو معرض للخطأ، وقد فرض على الأمة تقويم الخاطئ فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.

وأخيراً: هل هم الأبوان، اللذان فرض اللّه طاعتهما؟ كلا.. لأن اللّه قيد طاعتهما بقوله: {وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، فليست طاعتهما مطلقة.

فإذن: هم الأولياء المعصومون، الذين أولاهم اللّه شؤون الناس، وعصمهم اللّه من الزلل، وآمنهم من الفتن، ثم: أمر الناس بطاعتهم طاعة مطلقة، لأنهم لا يخطئون إرادة اللّه عز وجل.

ص: 237

فبالسبر والتقسيم، يظهر: أن أولي الأمر - في هذه الآية - هم الأئمة المعصومون الإثنا عشر فقط. وقد روى ذلك علماء الشيعة ومفسروهم وعلماء السنة ومفسروهم - من شتى المذاهب - في كتبهم وتفاسيرهم(1).

ومن الآيات ما تشدد في هذا الجانب، وتحذر المسلمين من ان يسبقوا الدين بقول أو رأي أو فعل حتى على سبيل الاقتراح والمشورة.

وآيات وجوب إتباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كذلك تفرض سيادة الدين. وإتباعه (صلی الله عليه وآله وسلم) في حياته يكون مباشراً، وبعد وفاته يكون بإتباع سنته. {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(2).

وكان المسلمون يشددون على ضرورة اتباع سنة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في السياسة، ويحذرون من إماتتها بإتباع غيرها.

مبدأ إقامة الدين وتطبيق الشريعة

قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}(3) وتطبيق الكتاب ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فان إقامة الدين تشمل هذا المعنى أيضا، لأن الدين تناول جميع جوانب الحياة، لأنه لا يقام حتى في الجوانب غير السياسية مع سيادة غيره، ولأن الكثير من جوانب الدين يجب أن تقام من مستوى السلطة التنفيذية وبالسيادة السياسية، وان القرآن الكريم يقرر إن إنزال الكتاب مع إرسال الرسل، كان من اجل فرض سيادة الدين، ومن اجل الحكم على الناس وبين الناس.

ص: 238


1- خواطري حول القران، السيد حسن الشيرازي، سورة النساء، ج1.
2- سورة الحشر، الآية: 7.
3- سورة الشورى، الآية: 13.

وهناك العديد من النصوص القرآنية التي تنص على قيمومة الدين، وانه القيم على الحياة تتضمن سيادة الدين المطلقة. وكذلك الآيات التي تأمر المسلمين بان يقوموا للّه بالقسط {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(1)، وإنهم الشهداء على الناس، وإنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

والنصوص القرآنية توجب ظهور الدين الإسلامي، على الدين كله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(2) تقرر سيادة الدين السياسية، لأن القرآن يسمي القانون ديناً، بل انه يسمي السلطة الزمنية ديناً.

وآيات الخلافة والاستخلاف تفرض سيادة الدين، لأنها تجعل الإنسان خليفة اللّه في الأرض، وبما إن اللّه سبحانه موجود في كل زمان ومكان، فإنها لا تعني الخلافة في حالة الغيبة، وانما تعني الوكالة والنيابة.

أما وجوب تطبيق أحكام اللّه سبحانه، وإقامة حدوده وعدم تجاوزها، ووجوب الحكم بما انزل اللّه سبحانه فإن الكثير من النصوص القرآنية، تأمر بوجوب إقامة الحدود، وتطبيق الدين، وتحذر من مخالفة الدين، ولم تستثنِ جانباً من الدين، بل ان الفقهاء جعلوا عنوان الحدود خاصاً بالأحكام التي تتطلب ان تكون السيادة للدين، إدراكا منهم أن هذا اللفظ أقرب لهذا المعنى.

والنصوص القرآنية التي تشدد النكير على الحكم بغير ما انزل اللّه سبحانه، وتؤكد وجوب الحكم بما انزل اللّه، فإنها كانت في معرض بيان وجوب القضاء على وفق الدين، وهذا لا يكون إلا إذا كانت السيادة للدين.

ص: 239


1- سورة النساء، الآية: 135.
2- سورة التوبة، الآية: 33.

وتتضح خطورة هذا المبدأ، من جعل الحكم بغير ما انزل اللّه مساوياً للكفر {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، واعتبار الالتزام بحكم الإسلام هو الايمان الحقيقي، وان الايمان لا يتحقق، إلا إذا تحقق الاستسلام للحكم الإسلامي.

مبدأ الثابت والمتغير من الإحكام التفصيلية والفرعية

أنّ للإسلام، في مرحلة التشريع ومرحلة سنّ القوانين نوعان من النظم هما:

النظم الثابتة: وهي قوانين ثابتة لا تختلف من زمان إلى زمان كما ورد في الأثر عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة...»(1).

النظم الثانوية: وهي قوانين وتشريعات تسنّ لملء منطقة الفراغ التي لم تملأها القوانين الثابتة. وهذه التشريعات تختلف من زمان إلى زمان آخر، وذلك تبعاً لتغيّر الظروف والعوامل والأزمنة وتكون متأطّرة بإطار النظم الثابتة.

وقد اشتهر عن أهل البيت (عليهم السلام) ، القاعدة الفقهية المعروفة: «ما من واقعة إلا وللّه فيها حكم»، وبهذا المعنى الكثير من الأحاديث الشريفة، وبعض النصوص القرآنية التي تؤكد إن في الدين تفصيل كل شيء، وكل هذه التفصيلات والأحكام تبقى فعلية، ويجب تطبيقها الى يوم القيامة. فيجب دراسة كل قضية في مصادر التشريع، وبالطرق المعتبرة، لمعرفة حكم الإسلام والاستهداء بهديه، وهذا يعني سيادة الدين.

فالمرجعية الدينية: هي ذلك الدور الذي يكون فيه المرجع الجامع للشرائط واسطة بين المؤمنين وبين معرفة الإسلام. ولكن هذه الواسطة واسطة ظاهرية. وأما الواسطة الحقيقية هي الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشريف) في زمان الغيبة باعتبار كونه إماماً معصوماً لا يمكن تصور أي خطأ أو اشتباه في توجيهاته لأمته وأتباعه، أما

ص: 240


1- الأصول من الكافي، ج 1، 58.

المرجع الديني فإننا يمكن ان نتصور وقوع الخطأ والاشتباه في توجهاته لأنه ليس معصوماً. وإنما يبذل قصارى جهده في استنباط الاحكام الشرعية وبيانها للناس. ومع ذلك فإن الرجوع اليه في حال الغيبة له ضرورة قصوى بوصفه صاحب الخبرة المختص بهذا الأمر. ولكي يمكننا الاطمئنان بأننا نعمل ما يريده المولى تعالى منا وإننا معذورون لو انكشف لنا ان بعض أعمالنا مخالفة لما يريده المولى منا. ونقدم هذا العذر حجة لنا إذا وقفنا بين يدي اللّه سبحانه وتعالى للحساب وهذا ما يؤكده القرآن الكريم (وقفوهم انهم مسؤولون).

التنظيم المرجعي قراءة تحليلية مستقبلية

سؤال النهضة

لماذا التنظيم المرجعي؟

هل هو سؤال في الهوية؟ أم سؤال في مشروع النهضة؟ أم سؤال في متطلبات المرحلة؟ أم انه نظرية في الإسلام السياسي؟ أم...

لندفع بكل هذه التساؤلات وغيرها الى الإمام المفكر والثائر الشهيد، الى كتاباته، محاضراته، تأملاته، دروسه، .. نستسقي منها الإجابة، ونرتوي من فيض التوضيح، وننير بسراج المعرفة ما اعتم عندنا من ظلمة الجهل.

طرح السيد الشيرازي التنظيم المرجعي في مرحلة خطيرة جدا وحساسة، للمشهد السياسي الإسلامي بصورة عامة والمشهد الشيعي بصورة خاصة، وفي منعطف تاريخي مهم من إعادة إنتاج الفكر السياسي الشيعي، ونظرية إسلامية الحكم، ولنتأمل فقط المرحلة التي أعلن فيها السيد الشيرازي دعوته للتنظيم المرجعي.

أولاَ: إن اجتماع السقيفة كان تمردا مبكرا(1) (بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) )(2) على

ص: 241


1- اجتمع عدد قليل من المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في غفلة من عموم المسلمين الذين اجتمعوا حول جنازة رسولهم لدفنه ووداعه الوداع الأخير، ليؤمروا عليهم من وجدوه مناسبا، وليفرضوا أمرا واقعا مغايرا لمرحلة الإمامة بعد النبوة والتي نص عليها في حجة الوداع بأمر الهي، والسقيفة حرمت الأمة من ثمرات الإمامة بعد أن من اللّه عليها بالنبوة. وأنتجت لنا نظرية للحكم جعلت فاسقا مثل يزيد بن معاوية أمير للمؤمنين ومتسلطا على دمائهم وأموالهم وإماما مثل الحسين (عليه السلام) مطاردا ثم مذبوحا بصحراء كربلاء هو وأهل بيته.
2- وهل كان قبل وفاة الرسول تمرد وعصيان ولوي الأعناق وفتن ونفاق في مجتمع المدينة؟ نعم. هل كان هناك طابور من المنافقين ممن يحوك الدسائس والمؤامرات ضد الإسلام في حياة الرسول؟ نعم، والآيات القرآنية والحوادث التاريخية تشهد بذلك. هل هناك من كان يحاول أن يسترضي عصاة قريش ويتساهل مع جبابرتهم ورؤوس الكفر فيهم ولي الإسلام ليناسب أهوائهم الجاهلية؟ نعم.

قنوات الحكم الإسلامي، وتراتبية أدواره وتسلسلها، وكان من آثار هذا الانحراف إن الأمة حرمت من نعمة قيادة الإمامة(1)، وظلت تنوء تحت مشاريع القفز على السلطة مرة باسم القبيلة وأخرى باسم الهوية، وقد أبطل حججها أمير المؤمنين في نهج البلاغة، ثم سنت سنن الملوكية والقومية والمذهبية والعرقية في الحكم، والمفارقة انه كلما ابتعدت الأمة عن حقيقة حكومة الإسلام، كلما زادت عذاباتها وآلامها وترسخت نظم الدكتاتوريات والقهر والجور.

ثانياَ: إن الأمة تعرضت لموجات مؤدلجة طوال ثلاثة عشر قرنا لطمس نسغ النبوة الحي سواء عن طريق الإمامة أو المرجعية، وإفراغ الإسلام من قدرته على قيادة الحياة وسعادة الإنسان وبناء المجتمع.

ص: 242


1- لم تعيش الأمة قيادة الإمامة بعنوانها الصحيح ومعناها الحقيقي، أما فترة حكم أمير المؤمنين (حكومة علي (عليه السلام) ) فهي أنموذج للإمام حينما يحكم وليست تطبيقا لحكومة الإمامة بدليل إن الإمام كان معرضا عنها، لان الأمة بايعت الإمام على انه الخليفة وليس الإمام ولم يتجلى في مفهوم الأمة معان ومفاهيم بيعة الإمام ففي جيش الإمام علي (عليه السلام) في صفين منهم من كان يطيعه طاعة الإمامة كما وصفها القران ومنهم من كان يطيعه بحسب الهوى والآراء، ومنهم من كان يرد عليه ويعترض ويحتج ويعصي في ساحة المعركة، أما في كربلاء فان أصحاب الحسين قد وعوا وأدركوا معنى بيعة الإمام فقدموا نماذج عظيمة في الجهاد والشهادة والتضحية والسمو.

وبالتالي ترسيخ نسخة مشوهة عن الإسلام المحمدي، نسخة كتابها وضاعي الأحاديث، وأمر بها حكام بني أمية، وبني العباس، والسلاجقة، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين، وروجها خدام السلاطين من الوعاظ والمشايخ المأجورين، وكتاب السلطة من المؤرخين والمصنفين، والشعراء المرتزقة وأجيري القلم واللسان، والقائمة تطول كلما زادت الدولة ثراءً وبسطة.

ثالثاَ: إن الأمة الإسلامية تعرضت خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر الى الاستعمار الأوربي وهو استعمار كان مغايرا للاستعمار العثماني من حيث الأسلوب والآليات والتوجهات.

رابعاَ: تعرضت الأمة الإسلامية الى غزو ثقافي من بلدان سبقتها في النهضة الصناعية المعاصرة، وكسرت إرادتها باحتلال مباشر، وفرضت عليها المعاهدات المهينة.

خامساَ: في القرن العشرين الميلادي ترسخت أنماط من التكوينات السياسية والسلوكيات إضافة الى الأحزاب التي تأثرت واستوردت الكثير من النظريات السياسية في العالم الصناعي مرة بتأثير الغزو الفكري وأخرى بتأثير تدخلات القوى الدولية.

سادساَ: ظهور تيارات سياسية ونظريات وتوجهات حملت الإسلام مسؤولية تأخر المسلمين وتخلفهم وما أصابهم من نكسات وهزائم في جميع المجالات والمستويات.

اتجاهات الإسلام السياسي
الاتجاه السلفي

نقصد بالاتجاه السلفي ما يعرف اليوم بالتوجهات السلفية المنبثقة عن المذهب الوهابي (نسبة الى محمد بن عبد الوهاب والذي استقى مذهبه من آراء ابن تيمية)، وهذا الاتجاه عاد الى الإسلام لمواجهة الانحراف في الواقع، لكنه

ص: 243

عاد الى نقطة الانحراف نفسها، وبالتالي فمن المؤكد إن ما أنتجه اليوم أو ما سينتجه غدا هو أسوأ مما كان عليه، فنظرية الحكم الإسلامي التي تقدس يزيد هادم الكعبة، وهاتك حرمة مدينة رسول اللّه، وقاتل الحسين وشارب الخمر، ومن ولي أمور المسلمين بالوراثة، واخذ البيعة من الصحابة على إنهم عبيد له أي حكومة إسلامية ستنتج؟.

ثم إن المذهب الذي يربي ولاة أمره على الاقتداء بالحجاج وعبيد اللّه بن زياد هل نستغرب من هؤلاء لو أصبحوا يفسدون ويسفكون الدماء في بلاد المسلمين؟!

إن التوجه السلفي بحاجة الى مراجعة نقدية لإطاره النظري ومصادر المعرفة لديه، لان حلال محمد بن عبد اللّه النبي الخاتم هو حلال الى يوم القيامة، وليس حلال محمد بن عبد الوهاب، وان القران الكريم كتاب اللّه، أما كتاب البخاري فليس له قيمة إلا بما يحتويه من حديث صحيح للرسول، وقد جمع بعد مئات السنين، وما وجه له من طعون لرجاله ما لا يحصى، أما فرضه وترويجه من قبل الحكومات والسلاطين فهو يعود بنا الى محور السؤال وهو إذا كنا ننقم على الحكومات التي أوصلتنا لهذا الحال فلماذا نعود لنتبنى متبنياتها ونقتدي بأفعالها وننهج مناهجها؟! هذه المواجهة مع الحقيقة بدأ يبررها بعض مشايخ السلفية بتبريرات غير واقعية، منها الاستعمار والغزو الأجنبي، وهل لو كانت الأمة قوية لما صدت الغزو ولو كانت متقدمة لما انتصرت على أعدائها؟

لكنهم يخشون أن يواجهوا حقيقة أن الأمة ومنذ وفاة الرسول أبعدت عن الإمامة المعصومة، وحرمت من تطبيق حكومة الإمامة، وبالتالي بدأت تبتعد عن الإسلام ومنابعه الصحيحة.

الاتجاه التحزبي

وهذا الاتجاه يقوم على ركيزتين:

ص: 244

- نقد نظرية الإسلام السياسي الماضية بصورة لا يمس من احترامها، من اجل صياغة نظرية إسلامية موائمة للحياة المعاصرة وملبية لرغبات الجماهير (المسلمة).

- استخدام الأنماط السياسية التي يستخدمها الخصوم السياسيين من الأحزاب العلمانية والتيارات والحركات السياسية كالتنظيم الحزبي والمرجعية الحزبية واليات التواصل مع الجماهير وغيرها.

اتجاه القيادة المرجعية

وهو اتجاه مستمد من حكومة الإسلام في قيادة الحياة والتي تتسلسل من الولاية المطلقة للّه باعتبارها المرجع الأساس ثم مرجعية النبي الخاتم ثم مرجعية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ثم مرجعية رواة حديث الأئمة كما نص عليه الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشريف) وبشروطه المنصوصة بالفقهاء.

وهذا الاتجاه يستمد أصالته من النصوص الإلهية في القران الكريم والأحاديث النبوية المعتمدة ومن روايات الأئمة (عليهم السلام) ومن وقائع الغيبة الصغرى وسفارة الأربعة ومن توجيهات الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشريف) في وجوب الرجوع الى رواة الحديث في زمن الغيبة الكبرى(1).

ص: 245


1- ما رواه الكليني (قدس سره) عن إسحاق بن يعقوب الكليني، قال: «سألت محمّد بن عثمان العمريَّ (رضي اللّه عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشريف) ، قال: أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّه وثبّتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا فاعلم أنّه ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام) ، أمّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل اُخوة يوسف. أمّا الفقاع فشربه حرام، ولا بأس بالشلماب. وأمّا أموالكم فلا نقبلها إلاّ لتطهروا فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع فما آتاني اللّه خير مما آتاكم. وأمّا ظهور الفرج، فإنّه إلى اللّه تعالى ذكره، وكذّب الوقّاتون. وأمّا قول من زعم أنّ الحسين (عليه السلام) لم يقتل فكفر وتكذيب وضلال. وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه عليهم» كمال الدين وتمام النعمة، ج 1 -- 2، الباب 45، ص 483 -- 484. وفي مقبولة عمر بن حنظلة هناك رواية عن الامام الصادق (عليه السلام) : «عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال (عليه السلام) : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه تعالى: {يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}. قلت: فكيف يصنعان؟ قال (عليه السلام) : ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخف بحكم اللّه وعلينا ردَّ، والرَّادُّ علينا الرادٌّ على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه... إلخ». وقد فسّر العلماء قوله (عليه السلام) : ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا أنّ المراد منه هو الفقيه. واستفادوا من عبارته (عليه السلام) : (فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً) أي قد جعلته عليكم ولياً، فهو ولي أمركم وأمره نافذ فيكم. ولا يرد على ذلك أنّه كيف تكون للفقيه ولاية مع وجود المعصوم (عليه السلام) ، وذلك لأنّ المقصود من كلامه (عليه السلام) هو الوكالة والنيابة للفقهاء. الأصول من الكافي، ج 1، باب اختلاف الحديث، ص 67، وكذلك وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 27، ص 136 -- 137.

إن القيادة المرجعية هي عودة للأمة الإسلامية (بصورة عامة) لمبدأ حكومة الإسلام وامتداد للمرجعية المرتبطة بإمامة أهل البيت عند الشيعة، والسؤال الأهم هو هل واجهت القيادة المرجعية تحديات المعاصرة وقدمت حلولا للواقع الراهن؟ الجواب هو من تاريخ الحركة السياسية للفقهاء المراجع والمشروع السياسي للتنظيم المرجعي كما قدمه السيد حسن الشيرازي.

القيادة المرجعية مشروعا للنهوض

مقدمات تاريخية
اشارة

إن ثورة العشرين قد بينت بوضوح ما للمرجعية الدينية الشيعية من نفوذ قوي في البلاد وتأثيرها الروحي على الجماهير. فكلمتهم مسموعة وبذلك كانوا يشكلون خطراً على سلطة الاحتلال، ومن بعدها على سلطة الحكم المرتبط

ص: 246

بالدوائر الاستعمارية، بالطبع ليس من منطلقات عقائدية بل لان تلك الحكومات بأشكالها العسكرية والقومية والحزبية كانت تابعة لهيمنة الدول الأجنبية لتحقيق مصالحها الانوية والحزبية ضد مصالح الشعب العراقي، وهي في نوبات قلقها المستمر من المرجعية الشيعية نراها لا تفتا تحاربها بشتى الوسائل الوحشية والدموية ليس لاختلاف فقهي أو تشريعي بل لأنها أدركت ومنذ ولادة الوعي الوطني المعاصر للشعب العراقي إن المرجعية لسان الشعب العراقي حينما يظلم وتصادر حريته، وهي منطلق لثوراته ومرتكز لضمان كرامته وسيادته.

وقد تبلور نتيجة هذه المواجهة بين السلطات والمرجعية ظهور مدرستين في التيار المرجعي يمكن ان نطلق عليهما اصطلاحا مدرسة النجف الاشرف: وتضم التيار المرجعي الذي بدأ ينأى عن المرجعية بالتدخل في الأمور السياسية إلا بما يمس بيضة الإسلام، ولا يعمل على إقامة دولة إسلاميّة، ولا يرى إقامة صلاة الجمعة إلاّ عند ظهور الإمام الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشريف) ، ولا يؤمن بولاية الفقيه المطلقة، ولا بالجهاد الابتدائي في رُؤاه النظريّة الفقهيّة الفكريّة، إلاّ أنّه عمليّاً مارَس دوراً إصلاحيّاً شكَّل المناخ الملائم لانطلاق الحركة الإسلاميّة فيما بعد.

أما المدرسة الثانية فهي مدرسة كربلاء المقدسة وقد حملت على ظهرها تُراث المرجعيّة المُمتَد عَبر التّاريخ، بما يشتمل عليه هذا التّاريخ من مآثر خالدة، وسطور مملوءة بالشجاعة والجرأة والإقدام، من ثورة التِّنباك بقيادة المجدّد الشيرازي إلى ثورة العشرين بقيادة الميرزا الشيرازي، مروراً بحركة المشروطة بقيادة الآخوند الخراساني. حيث تدعو الى مبدأ حكومة الإسلام وقيادة الإسلام للحياة.

وقد حملت هذه المدرسة تراث المرجعيّة الخالد منذ الوحيد البهبهاني حتّى الميرزا الشيرازي قائد ثورة العشرين، مروراً بعشرات من المراجع الَّذين كان لهم دور إجتماعي وسياسي في الأمّة، وقد فهمت هذه المدرسة المرجعيّة بصورة

ص: 247

دقيقة، فليس المرجعيّة هي مجرَّد رسالة عمليّة في أحكام الحيض والنِّفاس، فالمرجع هو قائد، ولن يكون قائداً إلاّ عندما يتصدّى لأمور الأمّة، ولا ضير أن يكون للمرجع تنظيم نابع من التراث المرجعي على طول التّاريخ، على ألا يصطدم بأحد الأصول الإسلاميّة.

وكان دور الشهيد السيّد حسن الشيرازي هو دور المنظر لهذه المدرسة في ذلك الوقت العَصيب من تاريخ الأمّة، فقد كتب كتابه (كلمة الإسلام) في إنتخاب الطريق المُلائم للعمل الإسلامي من بين الأطروحات الثلاث، الأحزاب الإسلاميّة والحركات الفرديّة، والحركة المرجعيّة. فقيمة هذا الكتاب أنّه يُدَوِّن لمرحلة زمنيّة هي أوائل الستينات من هذا القرن، وربَّما تبدّل الكثير من ظروفها السياسيّة والدينيّة، وبالتالي الكثير من قناعات أصحاب الرأي.

فقد كانت هناك أشكال ثلاثة للتحرُّك الإسلامي في فترة الستّينيّات:

الشكل الأوّل: العمل الحزبي.

الشكل الثّاني: العمل الفردي.

الشكل الثّالث: العمل المرجعي.

أوّلاً: التحرّك الحزبي

كان التحرُّك الحزبي الشيعي في بداية الستّينات يوم كتب حسن السيد الشيرازي (كلمة الإسلام) في بداية إنطلاقته، فلم يكن واضح المعالم بحيث يمكن رصده أو وضعه تحت مَجهَر الدراسة لتقييمه، لأن نتائجه لم تبدو واضحة، فالتجربة كانت في بداية إنطلاقه، وكانت بحاجة إلى الزَّمن لكي يتمّ رصدها، وتقسيمها، والحكم عليها.

لكن كانت هناك تجارب في التحرُّك الحزبي الإسلامي على الصعيد السنّي، كالاخوان المسلمين، وحزب التَّحرير، وكان بمَقدور المراقب أن يرصد هاتين التجربتين ويقول كلمته فيهما، وأكثر آراء السيد الشيرازي عن الحزب الإسلامي

ص: 248

مستقاة من هاتين التجربتين اللتين كانتا من الوضوح بحيث يمكن وضعهما موضع الدراسة والبحث.

وكان أمام السيد حسن الشيرازي يضع تقييماً لهاتين التجربتين أمام العاملين الإسلاميين، بالأخصّ للَّذين أرادوا أن يَسلكوا الطَّريق نفسه، لكيلا يكرّروا الأخطاء الَّتي وقع فيها غيرهم، فوضع أمام هؤلاء خمس ملاحظات حول التحرُّك الحزبي، وهذه المُلاحظات - كما ذكرنا - مستقاة من تجربة الأحزاب الإسلاميّة في المُحيط السنّي الَّذي يختلف عن المُحيط الشّيعي.

الملاحظة الأولى: القيادة الديمقراطيّة أي القيادة الَّتي تُنتخب بصورة ديمقراطيّة، فلا يشترط في القائد الإجتهاد في الفقه الإسلامي، ولا أي شرط من شرائط المرجع، وإنَّما يتولّى قيادة الحزب فرد مفكّر، أو يشترك فيها أفراد مفكّرون، مِمَّن لهم السوابق الحزبيّة، وإن انحسرت عنهم كافّة مؤهِّلات (مرجع التَّقليد)، فإن المؤهّلات الحزبيّة إذا توفَّرت في شخص رغماً عن جميع النواقص والإنحرافات الأخرى، فإن الحزب يفضّله على من لا تَتَوفَّر فيه المؤهِّلات الحزبيّة، ثمَّ ينتخب هذا الفرد، أو تلك الكُتلة لقيادة الحزب إنتخاباً ديمقراطيّاً، يستند إلى إتفاق أكثريّة الأصوات العدديّة على ترشيحه لمركز القيادة(1).

الملاحظة الثّانية: تَلتَزم الأحزاب بالفكر الدّيمقراطي الَّذي يقوم على مبدأ (الشعب مصدر السلطات)، والذي يَمنَح للشعب أو للأكثريّة في أيّ نطاق حقّ التقنين والتشريع، بينما هو حقّ مُختَصّ بالخالق فقط ولا حقّ لأحد غيره في ذلك. يقول السيد الشيرازي: إن حركة الأحزاب الإسلاميّة بند صميم من الحركة الديمقراطيّة العفويّة، ولا يمكن فَرزها من الديمقراطيّة حتّى بسكين الجزاء(2)،

ص: 249


1- كلمة الإسلام: ص101.
2- المصدر السابق: ص102.

ويؤخَذ على الديمقراطيّة، لأن الديمقراطيّة منهج سياسي يحدِّد طريقة الحكم، وليس نظاماً داخليّاً يختلف مع الإسلام في قوانينه الداخليّة أو يتَّفق، فيتلخَّص مفعولها في جعل الشَّعب مصدر السُّلطات وإلغاء المصادر الأخرى(1)، الولاية المطلقة هي للّه عز وجل، وليست لأيّة سلطة أخرى الحقّ في الولاية على الآخرين.

الملاحظة الثّالثة: اتِّجاه الأحزاب إلى عبادة الفرد، باعتبار أن الحزب يفتقر إلى قوّة إمساك، فهو يتَّجه إلى عبادة الفرد، فيستطيع بواسطة هذه النَّزعة إضفاء طابع من القدسيّة على الحزب وقيادته.

يقول السيد حسن الشيرازي في ذلك: «فالحزب الَّذي يلقن جميع أعضائه باستمرار وجوب إطاعة الفرد القائد أو الأفراد المجهولين، لأنّهم يتفوّقون بالعبقريّة الحيّة، ويمتازون بنشاطات ونضالات سابقة لا يمكن لأحد إنجازها بعد توسُّع الحزب، ينحَدِر إلى عبادة ذلك الفرد المتفوّق أو أولئك الأفراد المتفوّقين عبادة لا شعوريّة عَمياء، حيث يتصوّرهم فوق المعدّل»(2).

الملاحظة الرابعة: الإفراط والتفريط، إفراط في الجانب السياسي، وتفريط في الجوانب الحيويّة الأخرى، كالأخلاق الإسلاميّة، والتربية الرّوحانيّة، وما شابه ذلك.

يقول السيد الشيرازي: «والأحزاب الإسلاميّة تكون متطرّفة تلحف على الجانب السياسي من الإسلام، وتهمل بقيّة الجوانب الحيويّة منه الَّتي لا يتكامل الإسلام إلاّ بها، تَبَعاً للتكتيك الحزبي الهادف إلى تكريس الجهود للتضافر على تسلُّق الحكم»(3).

فالسيد الشيرازي يرى أن أهداف الأحزاب السياسيّة هي الوصول إلى الحكم ولا شيء غير ذلك، فهي للوصول إلى مبتغاها تركِّز جميع أعمالها في الجانب

ص: 250


1- نفس المصدر السابق.
2- كلمة الإسلام: ص104.
3- المصدر السابق: ص107.

السياسي وتَتَناسى شيئاً فشيئاً الجوانب الحيويّة الأخرى من الإسلام.

والسيد الشيرازي لا يتنكر لهذا الهدف، فالوُصول إلى الحكم هو واجب شرعي على كلّ مسلم يستطيع إليه سبيلاً، لكن الملاحظة الَّتي يستذكرها في هذا الجانب، (ان الواجب المباشر الَّذي يواجه كلّ من يعمل للإسلام في مستوى الحكم هو أن يوسّع ويوصّل القاعدة الإسلاميّة في المستوى الشعبي، حتّى تَنبَثِق منها أجواء إسلاميّة تسمح للحكم الإسلامي أن يسودها، وتؤيّده حتّى يبقى طويلاً بعد تكونها) (1).

ثمّ يفترض السيد الشيرازي إفتراضاً، ويطالب الأحزاب الإسلاميّة بالجواب على إفتراضه: «لو افترضنا أن الحكم الإسلامي استطاع أن يقفز على القيادات الحكوميّة العُليا، بواسطة ثورة عسكريّة - مثلاً - في قطعة من الأرض، وكان الشعب لا يؤمن بأفضليّة الحكم الإسلامي، بل يعرفه من أبشع مظاهر التخلُّف والجُمود»(2)، فماذا سيفعل هذا الحزب؟ هل سيتوسَّل بالسلاح لإرغام الشعب، وضرب الفئات المناوئة، أم أنّه يستسلم لإرادة الشَّعب ويتنكر للإسلام فيبتعد تماماً عن أهدافه؟!

الملاحظة الخامسة: إن قيادة الحزب قيادة غير شرعيّة، فهي تباشر القيادة الَّتي لا يجوز لأحد تولّيها إلاّ بنصّ صَريح من المعصومين (عليهم السلام) ، يقول الإمام الشهيد السيّد حسن الحُسَيني الشيرازي: «والإسلام يحرم التصدّي للقيادة، إلاّ لمن تشمله النصوص السّابقة، بأن يكون نبيّاً، أو وصيّاً، أو مرجعاً، لأن اللّه تبارك وتعالى لم يجعل لإنسان على آخر سلطاناً ولو برضاه، وحَرَّم الإستغلال والتسخير، وعلى هذا الأساس يحرم تولّي القيادات الحكوميّة، بكلتا صورتيها: الديمقراطيّة النّابعة من رضا النّاس، والدكتاتوريّة المتفرّعة من الإستغلال

ص: 251


1- كلمة الإسلام: ص108.
2- نفس المصدر السابق.

والتسخير، فكيف بالتصدّي للقيادة الإسلاميّة»(1).

هذه هي الملاحظات الرئيسيّة الَّتي يوجِّهها الشهيد السَّعيد السيّد حسن الشيرازي للأحزاب السّياسيّة، وهي ملاحظة تتركَّز على جانبين اثنين:

الجانب الأوّل: أخذ الأحزاب الإسلاميّة بالديمقراطيّة، ولأن الديمقراطيّة تعطي الحَقّ للأكثريّة في كلّ شيء، فهي مناقضة لأصل مهم من أصول الإسلام. هنا لابدّ أن نفرِّق بين الديمقراطيّة كمبدأ والديمقراطيّة كمُمارسة.

فالديمقراطيّة كمبدأ تقوم على أربعة مبادئ هي:

1. حقّ الشعب في التشريع.

2. الأكثريّة معيار للحقّ.

3. سيادة الشعب فوق أيّة سيادة.

4. الشعب مصدر السُّلطات.

وهذه المبادئ مخالفة للمبادئ الإسلاميّة القائمة على مبدأ الولاية للّه، وأن السيادة للشريعة، وأن لاحقّ لأحد في التشريع، وان الأكثريّة ليست هي الحقّ، فالأخذ بهذه المبادئ تبعد الآخذ عن الإسلام، سواء كان حزباً أو دولة أو فرداً.

أمّا الديمقراطيّة كوسيلة، أي الأخذ بمبدأ التصويت والإقتراع العام، ثمَّ مبدأ الأخذ برأي الأكثريّة كحَلّ للمشكل، وليس لأن رأي الأكثريّة يمثِّل الحَقّ، هذه الديمقراطيّة لا بأس بها، وهي لا تختلف عن الشورى الإسلاميّة، فهي مُطابقة للشّورى في المبدأين اللَّذين ذكرناهما، فالشّورى هي أخذ آراء الآخرين، ثمَّ إعتماد الأكثريّة كحَلّ للمُشكل، وليس لأن الأكثريّة تمثِّل الحقّ، فإذا أخذت الأحزاب بالديمقراطيّة الثّانية، ولم تأخذ بالأولى فلا بأس بها.

الجانب الثّاني: تنكُّر الأحزاب الإسلاميّة للقيادة المرجعيّة، باعتبار أن القيادة

ص: 252


1- كلمة الإسلام: ص113.

المرجعيّة هي القيادة الصالحة المطابقة للشرع الإسلامي، وهي الَّتي تحافظ على توازُن المسيرة بين الإفراط والتَّفريط وبين السياسة والأبعاد الأخرى.

الصورة

ص: 253

العمل الفردي في مقابل المؤسساتية:

ولا يقصد بالتحرُّك الفردي هو أن يقوم كلّ فرد بالتحرُّك على طريقته وحسب، بل المقصود هو تحكُّم الروح الفرديّة في التحرُّك في مقابل الرّوح الجماعيّة. ويضرب لنا سماحة السيد حسن الشيرازي أمثلة عديدة عن حركة الأعمال الفرديّة، بالإنقلابات العسكريّة النّاجحة أو الفاشلة، فهي أعمال فرديّة، مثل حركة (منظّمة جيش التَّحرير الجزائري) فهي حركة عمل فردي، وحتّى ثورة غاندي في الهند لم تكن إلاّ عملاً فرديّاً، كما أن نهضة المسلمين لاستقلال باكستان لا تَعدو عملاً فرديّاً(1).

ويؤخذ على حركة الأعمال الفرديّة سِت ملاحظات هي:

الملاحظة الأولى: قيادة الحركة الإرتجاليّة، أي أن إنساناً استشعر هموم النّاس، فاندفع إندفاعاً عاطفيًاً، فأنشأ عملاً مستقلّاً في رأيه عن آراء الآخرين. وربَّما بلغ هذا الفرد مَدارج القيادة، وربَّما وصل إلى الحكم أيضاً، فوجوده في المكان الَّذي أسندته الشريعة الإسلاميّة لحملة الفقه والإجتهاد هو المأخذ الأوّل الَّذي يؤخذ على هذا الإنسان، وعدم كون القيادة قيادة شرعيّة هو المأخذ الَّذي يؤخذ على الأعمال الفرديّة.

يقول الإمام الشهيد: «ومجرَّد إبداع فكرة لا يعلم مَدى صحّتها أو انحرافها، لا يجعل الفرد أولى بالقيادة، من أولي الأمر الَّذين عهد اللّه عز وجل إلى بني آدم اتّباعهم حذو النَّعل بالنَّعل، والقذة بالقذة، وجعلهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم»(2).

الملاحظة الثّانية: إن طريقة العمل معتمدة إعتماداً كاملاً على أفكار ذلك الفرد، فإذا كانت أفكاره سقيمة، كانت الحركة سقيمة أيضاً، وإذا كانت أفكاره ثوريّة، كانت الحركة ثوريّة، وهكذا، فهذا الفرد سيُسَيطر على مقاليد الحركة، ويقود أفرادها إلى أهدافه الفرديّة، ولا عصمة للأفراد سيّما إذا كانوا في منزلة

ص: 254


1- كلمة الإسلام: ص127.
2- المصدر السابق: ص129.

المسؤوليّة الإجتماعيّة.

إن فرداً واحداً قد يقود مجموعة إلى الهلاك، وقد يقودهم ليرمي بهم في أحضان الإستعمار.

الملاحظة الثالثة: إنها حركة ضعيفة، لأنّها تعتمد على كفاءة شخص واحد، ومهما كان ذلك الشخص عبقريّاً وكفوءاً، فهو غير قادر على إدارة الأمور بطريقة حازمة. فمثل هذه الحركات تصاب بالعجز سريعاً، وهي تنتهي بسرعة فائقة، بينما الحركة الَّتي يريدها الإسلام هي حركة مستمرّة لا تنتهي بلمحة بصر، يقول الشهيد السيد الشيرازي في ذلك: «إنّها تكون وقتيّة محدّدة، لأن الحركة القاعديّة الَّتي تنبثق من إرادة الإسلام ذاته، تعيش جنباً إلى جنب مع الإسلام، وتتغذّى وقودها من حرارة الإسلام، واندفاعه الذاتي الأصيل، أما الحركة الفرديّة، فتتبخَّر فور ما يخبو ذلك الفرد المحرّك، أو تنهار تصورّاته، وتتبدَّل آراؤه، ثمَّ يستنتج السيد الشيرازي قائلاً: وبهذا نفسِّر بعض التحوّلات القياديّة الشّاملة الَّتي تجري في بعض الحركات الفرديّة، بحيث تحوّلها إلى شيء مباين للشيء السابق»(1).

الملاحظة الرّابعة: إنّها تصاب بالإفراط والتفريط نتيجة تحكُّم العقل الواحد في الحركة.

يقول السيد الشيرازي: «إنّها تكون متطرّفة جانبيّة، لأن التفكير هو العامل الموجّه للحركة، متى ما افتقد شموله وارتكز على جانب وغربت عنه الجوانب الأخرى، يصبح ضَيِّقاً لا يستطيع محض الحقائق إلاّ من زاوية حادّة، فلا يعطي الشيء نصيبه العادل من التوفُّر والإهتمام، وإنَّما يغالي في تقديره، حتّى يتَّجه إلى الإسراف والإفراط، فيبلغ التطرُّف الجائر»(2).

الملاحظة الخامسة: إنّها تجزئ الدين، فالإسلام إمّا أن يؤخذ كلّه، وإلاّ فلا، فما

ص: 255


1- كلمة الإسلام: ص135.
2- كلمة الإسلام: ص133.

الفائدة أن نأخذ بالإقتصاد الإسلامي ولا نأخذ بالأخلاق الإسلاميّة، أو نأخذ بالسياسة الإسلاميّة ولا نأخذ بالروحانيّة الإسلاميّة؟! الإسلام جسر واحد لا يمكن تجزئته إلى أعضاء، فنأخذ عضواً ونترك عضواً آخر، والحركة الفرديّة هي الَّتي تأخذ قسماً من الإسلام وتترك قسماً آخر، يقول السيد الشيرازي: «إنّها تَقتَرف عمليّة التَّجزئة الفاسقة للوحدة العضويّة في الإسلام، حيث تأخذ ببعضه وتهمل بقيّة أبعاضه»(1).

ويعزي سبب ذلك إلى القيادة، فيقول: «لأن القيادة متى كانت جامعة لشرائط (المَرجعيّة)، تكون داعية للإسلام كلّه»(2).

الملاحظة السّادسة: إنَّها تنتهي إلى عبادة الفرد، كما انتهت الأحزاب السياسيّة، ويصف السيد الشيرازي حالة الحركة قائلاً: «ويجلس أنصاره حواليه للتكبير والتسبيح، حتّى تَتَحوّل مجموعة كاملة دائبة على حلقة شاغرة، تعرف البطالة والتخاذل رسالةً وعملاً، والفخفخة والرّياء مشاركة في التصميم والبناء»(3).

فهذه الحركة هي أيضاً غير قادرة على إستيعاب الأمّة الإسلاميّة، لأنّها لم تستطع أن تنقذ نفسها من براثن المجتمع المتخلّف الَّذي تقوده النَّزعة الفرديّة.

ومن تلك الملاحظات نستنتج أن السيد الشيرازي لا يرى أيّة قيادة قادرة على إستيعاب الأمّة وتحريكها، غير القيادة الشرعيّة المتمثّلة بالعلماء العاملين المجتهدين الجامعين للشرائط، وهذا ما يؤخذه على الحركات الفرديّة، وهو أيضاً ما أخذه على الأحزاب الإسلاميّة.

أضف إلى ذلك أن وجود الفرد على رأس الهرم ينزع المجموعة إلى المغالات في تقديسه، فتظهر عبادة الأفراد في تلك الحركة، كما ظهرت في الأحزاب الإسلاميّة. وإلى جانب هذين الأمرين فإن قيام الحركة على شخص واحد يلغي دور

ص: 256


1- المصدر السابق: ص132.
2- نفس المصدر السابق.
3- المصدر السابق: ص133.

الآخرين، الأمر الَّذي سيؤدّي إلى فشل المجموع، لأنّهم قائمين على عقل وقدرة شخص واحد، بينما العمل الحركي لابدّ أن يقوم على جهد وتعاون المجموع.

الصورة

ص: 257

حركة الفقهاء المراجع

صيغة هذه الحركة، أن تتألَّف مِن قمّة، وجهاز، وقاعدة..

فالقِمّة تَتَمثَّل في المرجع الأعلى للمسلمين، الَّذي يكون فقيهاً جامعاً لمُؤهّلات المرجع الدّيني، وإذا بزغ الأعلم بين العلماء، أو الأورع، أو مَن تكامَلَت فيه المُؤهّلات الأخرى أوفر من غيره فهو المرجع الأعلى، وإذا تَساوى جميع الفقهاء في مؤهلاّتهم - وهو نادر - يكون المرجع الأعلى أيّهم اختار النّاس.

و(الجهاز) يتألَّف من إدارة عُليا يرأسها نفس (المرجع الأعلى)، وتنعقد في مَقَرّه، وتُوزَّع على أعضائها الأعمال الرئيسيّة، وهي تُؤدّي دور مجلس الوزراء في إيصال المعلومات إلى المرجع ومناقشتها معه، وتلقى الإتّجاهات والأوامر منه، ثمّ تعكس ذلك على الأمّة.. ومِن الأعضاء مَن يُعَبَّر عنهم بِالوُكلاء يوظَّفون في كافّة المناطق الَّتي يعيش فيها المسلمون، وهم يقومون بدور الوحدات الإداريّة باختلاف ومدى ونوعيّة الصَّلاحيّات المَمنوحة، فيقومون بتنظيم شؤون المسلمين، وتنفيذ أوامر القيادة فيها، واستيفاء الحقوق الشرعية وفق التَّعاليم المَرسومة، وتَحويلها إلى المرجع، واسترداد كميّة محدودة من الميزانيّة العامّة لتَوزيعها على الفُقَراء، وتَصريفها في المشاريع الإسلاميّة الَّتي يُوافِق عليها المرجع، والقيام بعمليّات التَّوجيه والتَّثقيف للأمّة، والإشتباك مع عناصر الشَّرّ المتطاولة على مُقدَّسات الأمّة، ورفع المعلومات الكافية عن منطقته في فترات معيَّنة إلى المرجع، واستمداد المساعدات المعنويّة منه.

و(القاعدة) هي مجموعة الأمّة الَّتي تُقلِّد ذلك المرجع، وتأخذ عنه دينها في كافّة الأحوال الشخصيّة والإجتماعيّة، وتُطيع أوامره ونواهيه.. وبعمليّة التَّقليد يرتبط كلّ مسلم بشخص المرجع الأعلى دون أيّما وسيط، والوكيل لا يُزاحِم هذا

ص: 258

الإرتباط المُباشر، ولكنّه يكون كالبريد بين إنسانين، لأن إحاطته بفتاوى المرجع، وأوسعية وعيه الدّيني عن أفراد قاعدته، تؤهِّلانه لأن تصل إليه أوامر وتوجيهات المرجع، ليذيع وينفّذ، دون أن تكون له ذاتيّة مُستقلّة بأزاء المرجع.

وإذا كان الواجب على كلّ مسلم لم يبلغ درجة الإجتهاد أن يُقلِّد المرجع الأعلى، فإن الواجب على جميع الأمّة أن تَنضَوي تحت قيادة المرجع الأعلى، وتنصهر في حركة فقهاء المراجع، فتتوَحَّد الحركة الإسلاميّة كلّها تحت زَعامة واحدة، هي زَعامة المرجع الأعلى، وتنظيمٍ واحد، هو التَّنظيم المرجعي، واتِّجاه واحد، هو اتِّجاه الفقهاء المراجع،

وهذا التَّنظيم المرجعي يُؤدّي إلى:

أ- حَصانة الأمّة من الإنشقاقات الداخليّة، والإنفراط إلى كُتَل منحازة، تبعث على إشتباكات دائمة في صميم الأمّة.

ب- مناعة الأمّة من تَسَلُّل الإتِّجاهات الأجنبيّة عن واقع الإسلام، إلى واقع الأمّة في حركاتها التَّصاعديّة التوسّعيّة، وزعزعة الإيمان في النُّفوس بإسم الإيمان.

ج- صيانة الأمّة من تَطَفُّل القيادات الكاذبة عليها، واستنزاف إمكاناتها لإرواء الرَّغبات الشخصيّة، وتأييد السُّلطات المَحَلّيّة الإستعماريّة..

د- حفظ وحدة الإسلام، ووحدة الأمّة، ووحدة الكلمة الإسلاميّة، حتّى لا يتجزَّأ الإسلام إلى ألف إسلام، والأمّة إلى ألف أمّة، والكلمة الإسلاميّة إلى ألف كلمة.. فلا تكثر المذاهب، والطَّوائف، والأحزاب، بل يبقى الإسلام واحداً، والأمّة واحدة، والكلمة الإسلاميّة واحدة أبداً..

إن القيادة المرجعيّة قَويّة إلى أبعد الحدود، وذلك للأسباب التالية:

1- إنه أقوى التَّنظيمات العالميّة الَّذي اتَّفَق النّاس عليه، وتبنَّته كافّة الدول،

ص: 259

وتمت تجربته من آلاف السّنين في جميع أقطار العالم، وعلى كافّة القطاعات البشريّة، فنجح في ذاته، وأثبت تَفَوُّقه على مجموع التَّنظيمات الأخرى، حيث استطاع أن يوجه اليها ضرباته، ولم تستطع هي من ذلك، إلاّ في فَترات من غفلة المنتظمين الَّتي لا تحُسب على نفس التَّنظيم.

أما التَّنظيم الحكومي الَّذي يحلم باستخدام كلّ عامل سياسي، تكون كافّة الأحزاب فيه محاولات طريقيّة لمجرَّد السَّيطرة عليه، وصيغة تنظيم الحكومات الحيّة والبائدة تَتَلَخَّص في تكوين كُتلة هرميّة مؤلّفة من قمّة، وجهاز، وقاعدة..

أ - «القِمّة» تَتَمثَّل في رئيس الحكومة، أو الملك، أو رئيس الجمهوريّة.

ب - «الجهاز» يتألَّف مِن إدارة عُليا تُوَزَّع على أعضائها الأعمال الرئيسيّة للحكومة وهي، هيئة الوزراء، وأعضاء يُعَبَّر عنهم بالحكماء، والمتصرّفين، والوُلاة، ومُدَراء الشُّرطة، ورؤساء البلديّات الَّذين يَرأسون الوحدات الإداريّة في كافّة المناطق الخاضعة للحكومة.

ج - «القاعدة» تشمل مجموع أفراد الشَّعب الَّذي تحدّده حدود الدولة.

فالتَّنظيم المرجعي أقوى من التَّنظيم الحكومي، لأنّه يشترك معه في بنود التَّنظيم، وعضلات الجهاز، فلكلّ منهما قمّة وجهاز وقاعدة، ويختلف منه من جهات:

أوّلاً: إن رئيس الحكومة يفرض نفسه وقوانينه ومشاريعه على الشَّعب بواسطة تلك الكُتلة الهِرَميّة الَّتي تُسمّى ب- «الحكومة»، والمسلّحة بأوسَع الطّاقات الماليّة والدعائيّة والتَّنفيذيّة.. فرئيس الحكومة يرتبط بالشَّعب بهذه الواسطة، ولا يمتلك الشَّعب رصيد يكفي لتَكوين حكومة جديدة، وإنَّما تكون الحكومة نفسها هي رصيد رئيس الحكومة.. وتعبيراً عن هذه الحقيقة نجد أن الرئيس الَّذي تنتهي مُدّة رئاسته تقل قيمته الشَّعبيّة عن حاكم في الوظيفة، فلا قيمة للرئيس، ولا لأيّ شيء في إنقياد النّاس للحكومة، وإنّما القيمة كلّها للسّلاح الَّذي يُؤيّد الحكومة.

ص: 260

بينما يكون المرجع الأعلى للمسلمين، رجلاً رشَّحته مُؤهّلاته لهذا المقام، وازدلف حوله كلّ فرد من المسلمين، لاكرهاً، بل إيماناً وثقة بشخصه، وله إدارة منظّمة ولكن غير مسلّحة، إلاّ بالطّاقات المعنويّة والكفاءات الدينيّة، وإن كانت لا تأبى عن إستخدام السّلطات الزَّمنيّة لتَولّي القيادة الحكوميّة للأمّة إن أُتيحت لها، غير أن وجودها الفعلي أعزل، لا يلتجئ رئيس الحكومة بوسيط طبيعي تلقائي، بحيث لو تخلَّت الحكومة عن رئيسها يبقى له الشعب، لأنّها تُعبّر عن المرجع لا خوفاً منها أو ثقة بها، حيث لا يوجد رصيد شعبي لهذه الإدارة، وإنّما الرَّصيد كلّه لشخص المرجع.. ومن هنا يظهر التباين الصّارخ بين طبيعة التَّنظيم الحكومي الَّذي يَستَنِد في وجوده وبقائه إلى الطّاقات المادّيّة المُتَمثِّلة بأوفر مظاهرها في السّلاح والمال، بحيث لو تخلَّت عنه يتبخَّر في اللحظات الأولى، وطبيعة التنظيم المرجعي الَّذي يستند في وجوده وبقائه إلى الطّاقات المعنويّة المتمثّلة بأوفر مظاهرها في العلم والعدالة، بحيث لو أيّدته الطّاقة المادّيّة، أو تخلَّت عنه، أو تظاهرت عليه، لا يزداد إلاّ قوّة ورسوخاً..

فطبيعة الأولى، طبيعة التسلُّط، والعنف، والإرغام.. وطبيعة الثانية طبيعة الإيمان، والثِّقة، والإخلاص.. من هنا يظهر أيضاً التَّباين الصّارخ بين قوّة التَّنظيمين، فقوّة (التنظيم الحكومي) أجنبيّة طارئة، ليس لها رصيد في واقع المجتمع، وإنّما هي قوّة السّلاح والمال اللذين يحتمى بهما التَّنظيم الحكومي، بينما قوّة (التنظيم المرجعي) قوّة أصليّة ذاتيّة، نابعة من صميم طاقته وكفاءته..

ثانياً: إن (رئيس الحكومة) خادم قد استوظفه الشَّعب لإنجاز أعمال مرسومة لقاء راتب محدود، فيعتبر خائناً لو حاد عن وظائفه قيد شَعرة، ولو كان هذا التخَلُّف نابِعاً عن عقيدته الدينيّة أو السياسيّة، مادام الشَّعب لم يوافق عليه بواسطة أكثريّة البَرلمان، فهو مستخدم محدود له عمل خاص، وراتب مُعيّن، ومُدّة مَعدودة، يخدم سيّده المطاع وهو الشَّعب الَّذي هو مصدر السُّلطات، وفي

ص: 261

وسع سيّده أن يُبدّل عامِله في أي لحظة شاء، أو يَرفضه نهائيّاً، فهو لا يختلف في منطق النِّظام والشَّعب عن مستخدم البلديّة في كافّة الإعتبارات، وإن تفضّل عليه بنوعيّة الخدمة، وكميّة الرّاتب، وكذلك كافّة الموظّفين في مختلف مرافق الحكومة، لأن في صلاحيّة الشَّعب تَطوير نوعيّة الحكومة، وإلغاءها لتأليف حكومة تناقضها في كلّ شيء..

بينما يكون (المرجع الأعلى) سيّد الأمّة لا خادمها، ويكون المُوجّه لإرادة الأمّة، ولا يتوجَّه بإرادتها، ولا يكون من صلاحيّة الأمّة تبديل عمل المرجع، ولا رفضه نهائيّاً ما لم يوجد أجدر منه بالقيادة الإسلاميّة، ولا يعمل المرجع لقاء راتب دنيوي، لأن الأمّة - في منطق الإسلام الَّذي ينطلق منه المرجع - ليست مصدر السُّلطات، بل اللّه عز وجل هو مصدر السُّلطات، والمرجع وسيط بين اللّه عز وجل والأمّة، لإيصال إرادته تعالى إليها.

وعلى الأمّة أن تُطيع اللّه عز وجل بواسطة المرجع، لا أن تطاع بواسطة المرجع، ولا راتب للمرجع، أما الأخماس فهي للإمام وللفقراء من ذرّيّة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، كما تُفصِّلها الآية الكريمة: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}(1).

والزَّكَوات للمَشاريع العامّة، ولفقراء الأمّة، كما يشرحها قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيل}(2).

وشخص المرجع إن كان غَنيّاً، يُحرَم عليه إستهلاك شيء من هذه الموارد في شؤونه الخاصّة، وإن لم يكن غنيّاً، يجوز له الإنفاق منها على نفسه، بصفته

ص: 262


1- سورة الأنفال، الآية: 41.
2- سورة التوبة، الآية: 60.

مسلماً لا بصفته مَرجِعاً، وأمّا أزاء مرجعيّته، فلا يستوفى شيئاً أبداً. ويبدو جَليّاً مدى الإختلاف بين طبيعة شخصيّة رئيس الحكومة في نظر القوانين الوضعيّة، وبين طبيعة شخصيّة المرجع الأعلى في نظر الإسلام.

ثالثاً: إن أفراد الشعب لا يرتبطون ب(رئيس الحكومة) مباشرة، وإنَّما يَرتَبِطون بمصالحهم فقط، ويريدون الحكومة لتمكِّنهم من مصالحهم، فإذا عاكس رئيس الحكومة والحكومة ذاتها مصالحهم، التجئوا إلى التخلُّص منه أو منها بالطُّرق الديمقراطيّة، أو الثَّورات المُسلَّحة، لأن الرئيس والحكومة ليسا من الأهداف الموضوعيّة للشَّعب، وإنّما هما من الوسائل الطريقيّة، أمّا الأهداف الذاتيّة الأصليّة فهي المصالح الفرديّة.

في الوقت الَّذي يرتبط جميع أفراد الأمّة بشخص (المرجع الأعلى)، لأنّه الطريق الوحيد الَّذي يُمكِّنهم من أهدافهم الدينيّة، ولا يتمكَّنون منها بأنفسهم ما داموا ليسوا بمجتهدين، فيكون وجوده رباطاً يَضمّ جماهير المسلمين بتقليده، ويجعلهم كُتلة موحَّدة لا تتسلَّل إلى واقعها الإنشقاقات، على أن من الأهداف الدينيّة الَّتي يثبت عليها الإسلام، هو تعظيم شخص القائد الدّيني، فينخرط بنفسه في المُقَدَّسات والشَّعائر الَّتي أنزل اللّه تبارك وتعالى فيها: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1).

رابعاً: إن شخصيّة (رئيس الجمهوريّة) شخصيّة روتينيّة جافّة، لا تستطيع الإنطلاق عن حدودها الحديديّة الجامدة إلى الحدود الإنسانيّة الطريّة النّامية، فرئيس الحكومة لا يحكم في خارج حدود بلده، ولا على أيّ إنسان من غير شعبه، إذ ليس من المُمكِن أن يَحكُم رئيس على ملايين الأميال من الأراضي، وملايين الأفراد من النّاس، ثمّ لا يمتد إلى ألوف من النّاس خارج حدود أراضيه،

ص: 263


1- سورة الحج، الآية: 32.

إلاّ إذا كان بالغاً أبعد حدود التحَجُّر والرّوتينيّة.. وهذا يُصوِّر مَدى تَوفُّر الإنسانيّة الإمتداديّة على جميع الأبعاد والإتِّجاهات المرجعيّة، وكلّ مرافق تفكير وشخصيّة المرجع الأعلى.

من هنا لم يظهر في الإسلام، وخاصّة في مدرسة التشيُّع، مرجع قُطري، ولا إقليمي ولا قَومي، على غرار رئيس الحكومة، وحتّى على نوع المراجع الدينيّين في الدّيانات البوذيّة، واليهوديّة، والمسيحيّة، وإنّما هو نوع توسّعي وثاب، ينسجم مع ما في الإسلام من توسّعية وثبات.

ولعل ميزة التنظيم المرجعي المقترح كطريق لنهوض المجتمع هو سهولة التَّنفيذ، لأنّه لا يحتاج إلاّ إلى إعادة توظيف لمفردات قائمة في الواقع، ومتركزة عبر تأريخ طويل، وهذا طبعاً واقعي جدّاً، لأنّه لا يجنح إلى إستحداث أيّ أوضاع غريبة، أو غير مألوفة لم يعتد عليها المجتمع المسلم، أو لا يستسيغها العرف، أو الثّقافة الموروثة، وهو أمر غاية في الأهمّيّة من ناحية إقناع الجماهير بالحلّ المقترح.

وهذا الحلّ أيضاً يكاد يجمع عليه علماء الأمّة، حيث صارت أطروحة المرجعيّة الرشيدة متبنّاة على نطاق واسع، وكتب فيها مراجع الأمّة وعلماءها، وليس هناك إختلاف في تلك الأطروحات إلاّ من حيث بعض التَّفاصيل الَّتي ربَّما يفرضها الظرف الإجتماعي والسياسي، أمّا الفكرة المحوريّة فإنّها تنحصر في تحويل الجهاز المرجعي إلى سلطة ودولة، وهو بصورته الكليّة مقبول من قبل العلماء، ولعلّ بعض الأطروحات تعالج نواحي، أهملتها أطروحات أخرى.

أمّا من النّاحية التطبيقيّة، فإن التَّجربة الثوريّة حتّى لو تلكَّأت، فإنّها في لحظة تلكّؤها تدعو الفكر إلى ملاحظة التلكُّؤ، والسعي إلى تقديم الحلول، وهكذا تتواصل التَّجارب وتتواصل عمليّة النضج الفكري في إطار الحركة الثوريّة الإسلاميّة، ويسجِّل لنا الفكر تقدّماً موازياً للحركة الإجتماعيّة على أرض الواقع.

وعلى هذا الأساس نرى أن آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي يؤكِّد على

ص: 264

أن وجود جميع المراجع في مجلس معيَّن يقوده المرجع الأعلى، علامة على أن الأمّة ممثّلة بجميع أفرادها في هذا المجلس، إذ أن كلّ مرجع سيمثِّل مقلِّديه، وهذا له عدّة ثمار هي:

أ - حصانة الأمّة من الإنشقاقات الداخليّة.

ب - مناعة تسلُّل الإتِّجاهات الأجنبيّة.

ج - حصانة الأمّة من تطفُّل القيادات الكاذبة.

د - حفظ وحدة الإسلام ووحدة الأمّة الإسلاميّة، كما أن هذا التَّنظيم فيه عناصر قوّة لا تمتلكها الأشكال التَّنظيميّة الأخرى(1).

ويتبيَّن لنا في النّهاية أن بقيّة الأسئلة والمستجدّات لا تحتاج منّا إلى إجابة، لأن الإجابة تأتي بعد الإنخراط في حركة المرجعيّة، وهي كفيلة بتقديم إجابة لكلّ مستجدّ في حينه، كما هو ديدنها في العصور الَّتي مرَّت، ذلك أنَّها هي كانت عنصر صيانة حركة الأمّة من التردّي، وتمكَّنت في ذلك عبر تقديم التضحيات المتواصلة.

وهكذا نجد أنفسنا أمام أطروحة نهضويّة متكاملة، وإضافة كبيرة إلى الفكر السياسي الإسلامي، يقدِّمها الإمام الشهيد السيّد حسن الشيرازي لتَتَقارن مع عمليّة إستنباط شرعيّة في دائرة الفقه، قام بها العلماء من أجل الوصول إلى أدلّة تؤكِّد سلامة هذا الطَّرح، وان الطَّرح المرجعي(2) ليس فكراً خاصّاً بعالم معيَّن، بل هو طرح يتمّ وفقاً للمباني الشرعيّة، حيث تلتقي في النّهاية القيادة الشرعيّة بالقيادة السياسيّة، متمثّلة في شخص المرجع الأعلى، كما يرى السيّد الشيرازي في المجلس المرجعي، أو القيادة المرجعيّة الَّتي يرأسها المرجع بنفسه.

ص: 265


1- كلمة الإسلام: ص143.
2- راجع كتاب الإمام والقيادة، لآية اللّه السيّد الحائري، صادر عن مكتبة السيّد الحائري: ص212-214، وكتاب المرجعيّة والقيادة لآية اللّه السيّد الحائري أيضاً..

الصورة

ص: 266

المبحث الخامس: الوحدة في فكر السيد الشيرازي

المقدمة

تعد قضية الوحدة من القضايا المهمة في فكر السيد الشيرازي باعتبارها إحدى ركائز الرسالة الإسلامية ويرى إن الوحدة هي قضية فطرية وكونية وإنسانية وإسلامية وهي من الأهداف الهامة للشرائع السماوية والانجازات الإنسانية القيمة.

ويؤكد السيد الشيرازي على إن فلسفة الوحدة الإسلامية تنطلق من ركيزتين:

(الأولى: وحدة مصدر الكون. فاللّه - وحده - رب الكون، كل الكون. لا تعدد في الإله، ولا تخصص في الإلوهية.

الثانية: وحدة نظام الكون. فالكون كله - من الذرة حتى السديم - خاضع لنظام واحد، متناسق ومتناغم ومتكامل)(1).

فالوحدة ركيزة أساسية في التطوير والازدهار والتقدم والمضي قدماً بمسيرة التنمية الثقافية والسياسية والاقتصادية والارتقاء بمختلف ميادين الحياة.

والوحدة أمر الهي وواجب إسلامي قال عز وجل في كتابه الكريم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا}(2).

وفي عصرنا الحاضر شهدت الأمة الإسلامية العديد من التنازعات والفرقة نتيجة لمؤامرات داخلية وخارجية وعوامل عديدة أخرى، مما مهّد الأرضية لتكالب أعداء الأمة الإسلامية عليها وتمزيقها واستعمارها وغزوها ماديا وثقافيا

ص: 267


1- من كتاب خواطري حول القران، (سورة الأنبياء: الآية 92).
2- سورة آل عمران، الآية: 103.

وعزلها عن مكامن قوتها وموارد رفعتها. حيث شكّلت الاختلافات والتفرقة تهديداً حقيقياً للعالم الإسلامي ولكل مجتمع من مجتمعاته.

والى ذلك يشير السيد الشيرازي في خطابه الشعري للأمة:

بالدين فينا تلتقي الآراء***وستلتقي في ديننا الأهواء

أعداؤنا نَبذوا الفوارق بيننا***فالدين فيه وحدة وإخاء

والدين والدم والمصير ومنطق***القرآن والتاريخ والأعداء

صهرت جميع المسلمين لكي تقدم***الوحدة الدينية الشّماء

لا الطائفية تستطيع تحكماً***فينا ولا الحزبية الهوجاء

فالطائفية جَذوةٌ مسمومة***يصلى بها الهدّام والبنّاء

والطائفية قوّة المستعمرين***يُثيرها العملاء والدخلاء

فلسفة الوحدة

الوحدة في إطارها الإسلامي هي سنة إلهية تسير لها عناصر الوجود المادي والمعنوي ضمن النظام الإلهي للوجود وتناغم مكوناته. أما الانحراف أو الشذوذ عن هذه المسيرة الإلهية فهو تنازع وتخاصم يؤدي الى الخروج عن نظام الوجود ومسيرة الحياة.

وكذلك تنعكس هذه الفلسفة على المجتمع الإنساني حينما يندمج مع النظام الإلهي للكون، فيبين السيد الشيرازي ذلك بقوله: (وكما لا ينحرف عن النظام - في الجزء التكويني منه - إلا ويكون مريضاً إن كان انحرافه في عضو فرعي، ويكون ميتاً إن كان انحرافه في عضو رئيس، كذلك: لا ينحرف عن النظام - في الجزء التكليفي منه - إلا ويكون فاسقاً إن كان انحرافه في حكم فرعي، ويكون كافراً إن كان انحرافه في حكم رئيس.

فالخارجون عن النظام في حكم رئيس، كفار، شأنهم شأن الأموات، في أنهم

ص: 268

يشكلون العناصر المرشحة للتفسخ، التي يلزم مواراتها عن الأحياء.

وأما الملتزمون بالأحكام الرئيسية، فهم مؤمنون، يشكلون المجتمع الذي يعبر عن الحياة: فإذا كانوا ملتزمين بكل الأحكام الرئيسية والفرعية، فهم الأصحاب الذين يمثلون قوام المجتمع. وإن لم يكونوا ملتزمين بكل الأحكام الرئيسية والفرعية، وإنما التزموا بالرئيسية وأهملوا الفرعية، فهم المرضى الذين يمثلون عثرات المجتمع.

فإلى هذا المجتمع - بما فيه السليم والسقيم - تتوجه الفلسفة الإسلامية، بأنكم جزء من هذا الكون الموحد، ولا يمكنكم الانسجام معه إلا إذا توحدتم في أمة واحدة: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً}.

خاصة: وأنكم صدرتم من مصدر واحد، وستعودون إلى ذلك المصدر الواحد، وقد صحَّ إيمانكم به. فأنتم موحدون في أصل الأصول، وهو الإيمان باللّه الواحد الأحد، فتملكون أهم عناصر التوحد، فلا مبرر لتفرقكم بعد اتفاقكم على الإيمان به، {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

إن سبب خراب السلام البشري وتفشي فايروسات البغضاء والتناحر هي قوى الشر والانحراف كما يشير اليها قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ}(2).

وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ}(3).

وقوله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ

ص: 269


1- من كتاب خواطري حول القران، (سورة الأنبياء، الآية: 92).
2- سورة النور، الآية: 21.
3- سورة البقرة، الآية: 208.

سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}(1).

أما الرسالة الإلهية فهي منهاج للوحدة وسبيل للتوحد كما يؤكده القران الكريم: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهيمَ وَمُوسى وَعيسى أَنْ أَقيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدي إِلَيْهِ مَنْ يُنيبُ}(2).

والإسلام دعوة للوحدة على أسس المشترك الإنساني والسنن الإلهية:

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(3).

وهو أنموذج لوحدة المشروع النبوي الرسالي في ادوار الحياة البشرية:

{آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ}(4).

وهذا التوحد في الإطار الإسلامي أمرا إلهيا كما اشرنا وواجبا دينيا لا ينبغي الحياد عنه، كما يشير الى ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ فَرَّقُوا دينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً

ص: 270


1- سورة البقرة، الآية: 102.
2- سورة الشورى، الآية: 13.
3- سورة آل عمران، الآية: 103.
4- سورة البقرة، الآية: 285.

لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ}(1).

إن الفرقة والتنازع هي دليل على الابتعاد عن الصراط المستقيم لان الاندماج بخط الرسالة يؤدي الى الألفة والانحراف عنه يؤدي الى التشرذم: {وَأَنَّ هذا صِراطي مُسْتَقيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(2).

وقوله: {وَأَطيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ ريحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرينَ}(3).

ومن هذه الفلسفة انطلق مفهوم الوحدة عند السيد حسن الشيرازي، فالإسلام هو قاعدة الوحدة بمستوياتها ومجالاتها، والقيادة الإسلامية للحياة هي السبيل نحو الوحدة والتوحد. ولم يقصر السيد الشيرازي هذا الطرح على كتبه ودروسه الفكرية والسياسية بل وكان جزءا من خطابه للأمة عبر قوافي الثورة لإصلاح واقع الأمة وتغييره، ومن تلك القوافي قوله:

وليسمع المستعمرون جميعُهم:***انّا نريد حكومةَ الإسلام

والوحدةُ الكبرى شعار نظامنا***والثورة البيضاء رمز قيام

فعلى قيادة حيدرٍ ومحمدٍ***سنطبّق الإسلام بالإسلام

وعلى شفاهي من فؤادي ثورةٌ***وعلى نشيدي من فتات كلامي

اللّه ربّي والشريعةُ مذهبي***والشعب شعبي والطريق أمامي

فإلى الأمام، إلى السلام على هُدى***القرآن نحو مخطّط الأحلام

سِيروا على اسم اللّه والقرآن***لبناء حكم زاهرٍ إسلامي

ص: 271


1- سورة الأنعام، الآية: 159.
2- سورة الأنعام، الآية: 153.
3- سورة الأنفال، الآية: 46.

قراءة في واقع الأمة

التعمق في التحليل مع التأمل في الأطر الكلية للواقع كانت من اهم أدوات السيد الشيرازي في قراءته لواقع الأمة وما تعانيه، فيرى ان تفسخ مكونات الأمة وتمزقها وتشرذمها لا يمكن فهمه إلا من خلال التحليل الدقيق للحالة ومدى ارتباطها بالحالات الأخرى. وبالتالي فان نتائج التشرذم لا بد وان تكون لها مقدمات خارجية وداخلية، لذا فان هناك مجموعتين رئيستين من الأسباب لفرقة الأمة، الأولى: خارجية وسببها:

- جهات خارجية (دول - تحالفات دولية - معسكرات دولية) تتحرك نحو الأمة لسلب خيراتها وثرواتها، وبالطبع فان إضعافها لن يكون إلا بتمزيقها، واهم الأربطة الموحدة لامتنا هي إسلامنا، وسياسة فرق تسد سياسة تخريبية شيطانية فعلت وما تزل تفعل فعلها في واقعنا الراهن(1).

- أسباب تتعلق بالتنافس الدولي والتسابق نحو مناطق النفوذ، وتردي حال الأمة في العهد العثماني المشؤوم جعلها منطقة للتصارع الدولي على النفوذ منذ القرن السادس عشر والى الآن. فتحولت منطقة الشرق الأوسط الى ساحة للقتال في الحروب العالمية، ومسرحا للمؤامرات والانقلابات أثناء الحرب الباردة والحرب الناعمة.

- أسباب تتعلق بظهور مذاهب ومدارس سياسية واقتصادية وفلسفية دأبت على أن تجعل من الأمة حقلا لتجاربها وأفكارها ومن شعوبها تابعين لآرائها ومعتقداتها.

الثانية: داخلية وسببها:

ص: 272


1- بعد تمزيق الأمة الى دول جاء الدور الآن الى مرحلة تمزيق الدولة الواحدة الى دويلات، عن طريق إدامة عمليات التفسخ والتحلل لمكونات الدولة سواء بإثارة النزعات القومية أو الدينية أو العرقية أو الطائفية وغيرها.

- حال الأمة بعد أن انحرفت عن قيادة اللّه فانقسمت بعد وفاة الرسول الى فرق ثلاث واحدة انقلبت على النبوة وأخرى انقلبت على الإمامة وثالثة آمنت بالمسيرة الإلهية الواحدة فظلت على عهد النبوة الخاتمة والتزمت بعهد الإمامة كما نصها اللّه وبينها رسوله في غدير خم. فترنحت بين انتخاب وراء الكواليس لم تجتمع فيه رؤوس القوم ولم يشهده المسلمون، وبين وصية ثم شورى مشروطة بما يعارض أسس الحكم الإسلامي وفي ثورة الأمة على واقعها عادت الى خيارها الإلهي لتتم حجة اللّه على الناس، غير ان حصاد الانحراف كان قد اخرج رؤوسه، فقد تفشى سلطان الأمويين الجائر / ثمَّ كانت ثورة الحسين (عليه السلام) ، وتوالَت من بعده الثورات المسلّحة وغير المسلّحة، إلى أن انتهت هيمنة الدولة الأمويّة، ثمَّ تلقفها العبّاسيّون، ومن بعدهم توغَّلت الأمّة في المتاهات، ثمَّ عاش حكّام الأمّة الجبّارين بعد أن أبادوا القبائل، وشحنوا السّجون مردة جبّارين، حتّى قيَّض اللّه هولاكو لإنهاء ذلك العَهد الموبوء بالشرور، لكنّها أيضاً عادت إلى النّكوص من جديد. ويصف السيّد الشيرازي حال الأمة بعد ذلك، فيقول:

«بقيت الأمّة في رقادها المفروض، تقتات القيود، وتمض الأنين، ثمَّ تفرش الأرض بالجباه الحامية تملّقاً لجلالة الجلاّدين، وان كان الخشوع كذوباً يفرضه النّير والكابوس، بقيت الأمّة تسبغ الموت والصَّمت على سعير صخّاب، ظلَّت الأمّة حتّى مات ثُوّارها، ولم يخلفوا غير الخانعين، وكان ان وجدت الهشاشة والضعف ممّا أغرى بالغرب أن يغزوهم وينتصر عليهم، كونه تمتَّع بالحرّيّة لأربعة قرون»،

ويحدد السيد الشيرازي تلك الأسباب في نقاط منها:

1- إن الأمّة تبخَّرت مناعتها أيّام الحكم العثماني عندما تحطَّمت تلك المَناعة تحت القنابل، وعرفت أنَّها تُواجِه صفحة جديدة.

2- بهرها بريق الحضارة المصدّرة إليها، فانقادت طوعاً بلا قيد أو شرط.

ص: 273

3- خروجها من النَّفق العثماني بنظرة مَمسوخة عن الإسلام، فكانت تَظُن أن العهد العثماني هو التَّجسيد العملي الحيّ لأقصى ما يهدف اليه الإسلام.

4- فصل الأمّة عن دينها كان عملاً جريئاً قامت به القُوّات الفاتحة، ثمَّ جرى بعد ذلك التَّخريب الفكري بصورة مركّزة.

5- غياب المرجعيات الفكريّة، أنتج تخلُّف مُضاعف في ظِلّ رؤى مشوّشة،

وبعد هذه الأسباب الَّتي أوجزها الشهيد السيّد الشيرازي، يحدد منطلقات النهضة فيقول:

«فلنكن مفكّرين يعملون بإلهام الفكر المدبّر، والعقل المتربّص، قبل أن نكون عاطفيين، ولنشهد كياننا المتوقّع من القاعدة حتّى القمّة، ونعزِّز سيرنا بالتعبئة الفكريّة المَدروسة الَّتي تُرَحِّب بالتصحيح والتَّطوير، قاعدة فكريّة واقعيّة تتوالد باطراد، فالأمّة المسلمة اليوم تطوي فترة الإنتقال من الردة الجماعيّة إلى الإسلام، وهي أحوج إلى الوَعي، والحذق، والإتقان، والأمّة الإسلاميّة اليوم حيث تستشرف الكُتَل العامّة لإنقاذها، وتتطلَّع إلى السَّبيل الَّذي يبلغها الهدف العظيم، تتطلّع إليها الإطماع الجشعة من كلّ مكان، وكلّ أسلوب وصبغة. لابد للإسلام أن يُلَبّي نداء رغبتها، الرَّغبة المتفجّرة من الأعماق، ويطلق كلمته القويّة الصريحة).

وهذا الاشتباك والاضطراب والمَتاهات ليس له خلطة سحريّة في واقع الأمر، وإنَّما فقط أن تفكِّر وتستخدم الجوهرة الَّتي منحها اللّه عز وجل للإنسان هي الكفيلة الوحيدة بإيجاد الحلول النّاجعة لكلّ المعضلات، وهي المنفِّذ الوحيد لإنقاذ الأمّة نظيفة من التخلُّف، والجهل، والنّكوص، وهنا يقول الإمام الشهيد السيّد الشيرازي:

(إقحام الإسلام في واقع الحياة رسالة تتطلَّب ألف عنصر وعنصر، وأحد هذه العناصر بعث الوعي الإسلامي الصحيح في معارض الفكر، ودحض الأفكار

ص: 274

الدَّخيلة، والتشوّهات المنتجة ممّا خلَّفه الطُّغاة المستبدّون الَّذين قاموا على أمور المسلمين، أو الَّذين يقومون، وما أفرزه الإستعمار.

إن المسلمين يمتلكون ذخيرة هائلة من الفكر والتَّجارب، ولهم العمق الحضاري الكبير، وهذا العمق والفكر إنَّما يراد قراءته مجدّداً وبأسلوب مختلف، بحيث انّه يتفاعل مع الحياة الواقعيّة بصورة حميمة وإنسانيّة، وذلك بكون الإسلام هو حقّ لكلّ الشعوب، ومن ضمن هذه الشعوب هو الآخر المختلف، كونه شريك الحياة والتَّواجد، وهو أيضاً معني بالدين والدنيا، ومن هذا المنطلق يمكن قراءة النُّهوض الإسلامي بشكل صحيح وعملي، وله مردودات متوقّعة، وليست ضرباً بخيالات طوباويّة، أو مثالات لا يمكن إيجادها إلاّ في خيالات الحالمين)(1).

- ظهور زمر من الطامعين باستعباد الأمة والتحكم بإرادتها. وكثيرا ما يرتبط هؤلاء بقوى الاستعمار ليستقووا بهم وليكسروا صمود الأمة ويضعفوا من قدرتها على المواجهة.

- ظهور تيارات ومذاهب وأحزاب ضد رسالة الإسلام ودوره في الحياة وبناء الإنسان والمجتمع، فكانت تهدف الى تفتيت النسيج الاجتماعي والشعبي. وزرع بذور الفتن ورعاية النزعات العرقية والقومية وبعث الفتن الطائفية، وإقصاء الإسلام عن ساحات الثقافة والسياسة والفكر والاقتصاد. ومن تلك الأحزاب: الحركات القومية وحزب البعث في العراق. وقد قاوم مخططاتها السيد الشيرازي بكل قوة وحارب سياساتها العدوانية وأساليبها المتوحشة تجاه الشعب العراقي ومعتقداته وحقوقه وثرواته وظل مواصلا ذلك الخط الثوري طوال حياته ولم تمنعه المسافات عن مواقفه تجاه أعداء الإسلام والشعب الى ان اغتالته يد النظام البعثي في بيروت.

ص: 275


1- موسوعة السيد حسن الشيرازي، ج3 ،ص316.

- ابتعاد الأمة عن موارد إسلامها الصحيح.

- ظهور توجهات فكرية تكرس روح التنازع والتخاصم ومنها تفشي مفهوم التحزب والحزبية في الفكر السياسي الإسلامي.

الصورة

ص: 276

أبعاد الوحدة

اشارة

ينظر السيد الشيرازي وفقا للمنظور القرآني الى الوحدة ضمن كلية الإسلام ونظام الخلق، وبالتالي فان للوحدة أبعاد على مستوى الماديات والمعنويات، وأبعاد الوحدة تتجلى في العلاقات بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والجماعة، وبين الجماعة والجماعة، إنها تناغم العلاقات والهويات، وتآلف العناصر بتنوع الأواصر، واتحاد الجزئيات بالانتماء للكليات.

وأبعادها العامة هي:

البعد الإنساني

يتكون الجنس البشري من عنصرين هما الذكر والأنثى (الرجل والمرأة) ومنهما تتكون الأسرة التي هي النواة الأساسية للمجتمع الإنساني، والأسرة هي المؤسسة الأولى لبناء الإنسان حيث أن الطفل (وهو رمز لديمومة الجنس البشري) يعتمد اعتماداً كلياً في إشباع حاجاته على أسرته وهذا ما يجعله أكثر قابلية في التأثر بمن حوله.

والتوحد بين (الرجل والمرأة) وقد ربط القرآن بين التكوين الخلقي وبين التكوين الاجتماعي في هذه الآية حيث دلّت عبارة (خلق لكم من أنفسكم) الى وحدة التكوين الخلقي كذلك أشار إليه القرآن في موضع آخر في قوله تعالى {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثيراً وَنِساءً}(1)، فالخلق من النفس الواحدة يشير الى وحدة التكوين الخلقي أما ذكر خلق الزوج منها فيشير الى وحدة التكوين الاجتماعي والذي يحصل من خلال الزواج وبناء الأسرة والتي هي المؤسسة الأولى لبناء المجتمع ولتنشئة الإنسان اجتماعياً. وقد عبّر القرآن عن عملية تكوين المجتمع

ص: 277


1- سورة النساء، الآية: 1.

من خلال إنتاج الأسرة للإنسان بقوله تعالى (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء).

وهذا الانتقال من وحدة التكوين الخلقي (الفسيولوجي) الى وحدة التكوين الاجتماعي (الزواج / الأسرة) لا يتم إلا من خلال وحدة التكوين النفسي القادر على تحويل المكونات الخلقية الى مكونات اجتماعية متوحدة. وهذا المجال النفسي مشحوناً في المنهج الإسلامي التربوي بشحنات عاطفة الاحترام والحب والتعاون والطمأنينة والأمن والى غيرها من الشحنات النفسية التي تفيض بها عاطفة السكن والمودة والرحمة والتي أشارت إليها الآية المباركة.

فالعلاقات الأسرية التي تشتق من العاطفة تلعب دوراً كبير في توثيق والتحام عناصر الأسرة الواحدة وتعمل على تفعيل وتقوية التماسك والتعاون بين أعضائها، وتتبنى الركائز المشتركة التي تتواصل من خلالها عملية التوافق والانسجام الأسري. فالعلاقة بين الزوج والزوجة هي علاقة حب وتعاون واحترام وأمن واستقرار بل ان الوحدة في التكوين الخلقي هي سبب إلهي لإيجاد هذه العلاقة بهذه الكيفية بين الزوج والزوجة.

وقد حث المنهج الإسلامي التربوي على تلك العاطفة الأسرية وشدد على تحديد معالمها والالتزام بقواعدها من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية ومآثر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بهدف تحقيق تربية صحية ونمو سليم للطفل. لقد جعل القرآن الكريم العاطفة الأسرية منبعاً تتفرع منه العلاقات الأسرية، كما في قوله تعالى {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً}(1)، وهذه الآية المباركة هي قاعدة لتوحد النوع الإنساني.

فهذا التنوع في الجنس البشري هو سبيل للتكامل والتوحد حيث تنطلق النظرية الإسلامية في التكامل من تنوع المكونات وتكاملها ضمن وحدة

ص: 278


1- سورة الروم، الآية: 21.

متكاملة، فهناك مكونات مختلفة ووظائف متنوعة تتكامل فيما بينها وفق نظام كوني شامل وضعه الخالق:

ففي الانتظام الكوني قال تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْديرُ الْعَزيزِ الْعَليمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(1).

وهذا الانتظام يخضع لمعادلات وموازين دقيقة جداً كما يشير الى ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}(2).

وقوله تعالى {وَكُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ}(3).

بل حتى موقع الكون يتحول الى جزء أساسي في هذا النظام الدقيق والمتكامل فهذه البلايين من النجوم كما استدل القرآن على ذلك تتوزع موقعياً وفق قانون معلوم كما في قوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيمٌ}(4).

ويعتبر التنوع المتكامل دليل على وجود اللّه سبحانه قال تعالى {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمينَ}(5).

هذا على المستوى المادي سواء كان في بيئة الإنسان أو في شكله الظاهر، أما في الاتجاه النفسي والاجتماعي والفكري، فيقول عز وجل {لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً...}(6)، وقال عز وجل {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي

ص: 279


1- سورة يس، الآية: 38-40.
2- سورة الحجر، الآية: 21.
3- سورة الرعد، الآية: 8.
4- سورة الواقعة، الآية: 75-76.
5- سورة الروم، الآية: 22.
6- سورة هود، الآية: 118.

الْأَرْضِ}(1)، وقال عز وجل (وقال الحق من ربكم ممن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

فالناس يختلفون في توجهاتهم الفكرية وميولهم النفسية ويتنوعون من حيث الأنساق الاجتماعية التي يكونونها. وهو تنوع تنظر اليه الشريعة الإسلامية على انه ضروري ومهم لديمومة المجتمع بلحاظ إن هناك في التشريع الفقهي ما يسمى بالواجب الكفائي وهو ضرورة أن يتصدى الفرد أو الأفراد الى واجب منتدب كأن يكون تحصيل علم في مجال معين أو قضاء خدمة أو ممارسة مهنة يحتاج اليها المجتمع وفي حالة عدم تصدي فرد أو أفراد لتلك الضرورة المجتمعية فان المجتمع بكليته يأثم وهو مؤشر على انحراف يجب معالجته وتصحيحه.

فالنظرة الإسلامية تعتمد على التنوع المتكامل بين أفراد المجتمع:

1- لأن هناك وظائف متنوعة تحقق أهداف متنوعة وضرورية للمجتمع.

2- إن ذلك التنوع من الضروري أن يقوم على نظام متكامل لتوزيع الأدوار وفق معيار العدالة بين الحقوق والواجبات.

ويعد السيد الشيرازي أن التنوع في الجنس البشري مع تمايزات (السلطة، الطبقة، العنصر، المال، القومية، الجمال) هي من فواضل جسد الإنسان، فيقول: (إن هوية الإنسان بروحه، وأما جسده: فمجرد لباس للروح، وأداة متحركة به. الجسد - كله - يبلى ويتبدل، باحتراق خلاياه. ففواضل الإنسان الحقيقة هي فواضل روحه، والكلمة الجامعة لفواضل الروح هي: (التقوى). لأن التقوى هي الحذر، والمتقي هو الذي لا يتحرك حركة - فكرية أو عضلية - إلا بعد التأكد والتثبت من استقامتها وصحتها، والمتقون هم الأصحاء الذين لا يهيمون ولا يندفعون وأكرم الأصحاء أكثرهم صحة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ} - الذي

ص: 280


1- سورة يونس، الآية: 99.

يتقن إكرام الناس حسب ذاتياتهم الأصلية، ولا يفضل أحداً لقرابة تقربه إليه، ولا يخدع، ولا يفتر - (أَتْقاكُمْ) وأكثركم صحة واتزاناً وحكمة في ممارسة الحياة)(1).

البعد العالمي

بحسب الرسالة الإسلامية فان البشر متساوون، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم)، لكنهم ايضا متمايزون، ويرشح السيد الشيرازي سبعة مميزات فارقة يمكن ان تتمايز بها الشعوب والقبائل والمكونات الاجتماعية والسياسية لكنها وبعد التحليل يقرر السيد الشيرازي بانها (هي مميزات فعلية. ولكنها جميعاً - مميزات للجانب الأرضي من الإنسان، ولا ترتبط بجانبه السماوي. فليست قيماً إنسانية، لأن الجانب الأرضي للإنسان جانب طارئ للإنسان، فمميزاته طارئة لا أهمية لها في المقياس الإنساني، فلا يصح الاعتراف بها، ومن ثم يكون التفاضل بها ظاهرة غير صحية.

والميزة الثامنة، تتعلق بالجانب السماوي للإنسان، فهي قيمة متأصلة لا يد من الاعتراف بها، ومن ثم يكون التفاضل بها ظاهرة صحية.

ووفق هذه الرؤية الواقعية الواضحة، أعلن الإسلام واقعية المميزات السبع الأولى، من دون الاعتراف بها قيماً إنسانية. وأعلن الميزة الثامنة قيمة إنسانية. وهي في الأساس - تختلف عن أخواتها، لأنها لا تعني أكثر من الانضباطية والاستقامة، فلا تشكل خطراً على صاحبها ولا على غيره، والتميز بها لا يعني أكثر من اعتبار صاحبها أسوة. فيما أخوتها تعني الاستعلاء بالميزة، فتشكل خطراً: على صاحبها، لأنها تضعه في إطار أكبر من حجمه. وعلى غيره، لأنها تفرض عليه الخنوع أمامه. والتميز بها، يعني طغيان الإنسان على أخيه الإنسان.

ص: 281


1- خواطري حول القران، التمايزات الاجتماعية في الإسلام.

كل هذا... إلى جانب حقيقة بديهية، وهي: أن سيادة عقلية المميزات والامتيازات، تفرق ولا تجمع، وتستفز ولا تستقطب.

وهكذا... أعاد الإسلام كل شيءٍ إلى حجمه الطبيعي، وجعل الهوية الإنسانية فوق كل التقلبات المادية)(1).

فالتنافس الحقيقي بين شعوب العالم من الضروري أن يوجه الى التقوى، والتقوى في الرسالة الإسلامية مفهوم ينفتح على كل ما يشترك بآفاق الهوية الإنسانية وقيمها النبيلة، وبالتالي فان جزءا مهما فيها يعد من المشترك الإنساني العالمي، والذي ينطلق ليوحد الشعوب على أسس صيانة الحقوق واحترامها.

إن الوحدة في بعدها العالمي ممكنة في إطارها الإسلامي الذي ينطلق من القيم الإنسانية، وهي ضرورية كما يشهد بذلك التاريخ العالمي البعيد والقريب، وما تنبؤ به الأحداث يوميا من نذر الشؤم وبراكين التوترات الدولية.

البعد الديني

يتجلى هذا النوع من الوحدة في اتحاد المؤمنين بالتوحيد وأتباع الأديان السماوية، والعمل معاً على طريق تحقق التوحيد:

- {وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ}(2).

فالأديان السماوية وبحسب النص القرآني تدعو الى وحدانية اللّه، كما يشير الى ذلك قوله تعالى:

- {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}(3).

فالوحدانية هي الرسالة التي بعث بها الرسل وهي الأساس الذي تتوحد به

ص: 282


1- المصدر السابق.
2- سورة البقرة، الآية: 163.
3- سورة الأنبياء، الآية: 25.

الرسالات كما في قوله تعالى:

- {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1).

الوحدانية متجسدة في الأديان، ومن الممكن أن تكون قاعدة لوحدة الدين لكن الشرط الثاني غير متوفر وهو الذي يفسد الدعوة الى كلمة سواء الا وهو (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه..).

وهذا هو التحدي الأهم في مسيرة الأديان في عدم إضفاء القدسية على المفاهيم والنصوص والأشخاص.. فاللّه يدعونا أن نكون ربانيين ننتمي إليه لا الى شي أقل منه كما يؤكد على ذلك الخطاب الإلهي في قوله تعالى:

{ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(2).

فالتوحيد كما يرى السيد الشيرازي قاعدة الوحدة الدينية ومرتكز التقارب بين الاديان،

قم وانشر المجدَ التّليدَ السّامي***وعلى هدى القرآن سِرْ بسلام

في موكب التوحيد تحت زعامةٍ***علويّةِ الأفكار والأحكام

فالشعب لا يحميه غيرُ قيادةِ***الإسلام خير قيادة وإمام

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا

ص: 283


1- سورة آل عمران، الآية: 64.
2- سورة آل عمران، الآية: 79-80.

نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً...}.

ففي هذه الآية ثمة تأكيد على أن الكلمة التي بيننا وبينكم أنما هي كلمة واحدة، أي التوحيد والابتعاد عن الشرك والتمسك بالوحدة.

كان المشروع الإسلامي هو العودة الى ما قبل ظهور البغي والعصبيات المريضة، وتفشي فلسفتها التمايزية التي حولت التمايز الديني الى تمايز لسلوك العصبية، وحولت الانتماء من الانتماء الى اللّه الى الانتماء الى التعصبية الدينية، لذا كانت العودة الى إبراهيم (عليه السلام) :

- {وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهيمَ حَنيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ}(1).

وعند ما انتفض أصحاب التعصبية الدينية رد القران مذكرا:

- {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ في إِبْراهيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ}(2).

- {ما كانَ إِبْراهيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ}(3).

ومن هنا يكتسب المشروع الإسلامي خصوصيته بأنه انتمى الى لحظة سبقت ولادته ليتحرر أو بالأحرى ليكون مشروع للتحرر مما يحتجز الإنسان أو الجماعة ضمن سور أو قيد التعصبية الدينية.

البعد الإسلامي

لقد أمر ربّ العالمين جميع المسلمين بالتوحُّد تحت راية الإسلام، وكلمة اللّه أكبر من كلّ كبير مستعلي بسبب منصبه السياسي، أو الطّائفي، أو ولاءه

ص: 284


1- سورة البقرة، الآية: 135.
2- سورة آل عمران، الآية: 65.
3- سورة آل عمران، الآية: 67.

العشائري، أو غير ذلك، وذلك في قوله تعالى في كتابه الكريم: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1).

إن هذه الوحدة الإجتماعيّة هي إحدى الوسائل المهمّة لتحقيق وإدامة السلام في الوطن الصغير أو الكبير، وهي خير ما يعبّر عن روح التعاون القائمة بين أبناء الأمّة أو الشعب، وهي كذلك خير ما يدلل على تحابُب هؤلاء النّاس، وابتعادهم عن العصبيّات المعبّرة عن إنفلاق أفكار أصحابها وأنانيّتهم، واستعلائهم بدون مُبَرّر شرعي(2).

كان السيد حسن الشيرازي على اتِّصال بكثير من العلماء - الشيعة والسنّة - لأنَّه كان داعية من دُعاة الوحدة الإسلاميّة.

كان يرى نفسه عالماً للمسلمين، قبل أن يكون عالماً للجعفريّين، فمَدّ يده بإخلاص ومحبّة وشوق وصدق إلى جميع علماء المسلمين في بقاع أفريقيا. وحتّى في لبنان أيضاً، وفي سوريا، وفي كُلّ مكان.

فالسيد حسن الشيرازي لم يكن هَمّه ينحصر فقط في كربلاء المقدّسة، والنَّجف الأشرف، وبغداد.. وإنَّما كانت هُمومه تشمل كُلّ بقاع الإسلام، وكُلّ مُدُن وقُرى الإسلام، وجميع أطياف المسلمين، لأيّ مذهب وبلد انتموا..

فكان سعي السيد حسن الشيرازي بأن يجمَع المُسلمين ويُوَحِّدهم، كما كان أخوه آية اللّه العظمى السيّد محمَّد الحُسَيني الشيرازي دائماً يَسعى إلى هذا الأمر، ولذلك استمَرَّ حوالي عشرة سنوات يوزِّع منشوراً مُهمّاً في الحَجّ، حيث يجتمع أكثر من مليوني حاج.. وبدأت هذه الكُتَيّبات الصَّغيرة بشعار، «يا أيُّها المُسلمون اتَّحدوا اتَّحدوا»، وكانت دعوةً صادقة إلى كُلّ المُسلمين.

ص: 285


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.
2- السيد الشيرازي خواطري حول القران، ج2.

إن كلمات الإمام السيد الشيرازي الآنفة قد عَبَّرت عن هذا المطلب السِّياسي:

والمُشركون مذاهب ومشارب***والمسلمون جميعهم أحباب

وفي سعيه لوحدة المسلمين سافر السيد الشيرازي إلى مصر، والتَقى بشيخ الأزهر (محمود شَلتوت)، وكانت الغاية من الزّيارة هي التباحُث لوضع حَدّ للفرقة الَّتي تنخر كيان الأمّة الإسلاميّة، لجمع كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، وكان السيد الشيرازي يقول تكراراً: «إن هذه الوحدات العسكريّة أو الإداريّة أو السياسيّة أو الإقتصاديّة، أو ما شابهها، هي فقاعات، سُرعان ما تَزول».

كان إيمانه وثيقاً بأن الوحدة إنَّما ينبغي أن تستند إلى الوحدة الفكريّة العميقة النّابعة من العقل والقلب والضمير.

وفعلاً أصدر شيخ الأزهر فتواه الشَّهيرة والجَريئة بجواز التعبُّد بمذهب الشيعة، مذهب أهل البيت، وأنَّه كسائر المَذاهب الإسلاميّة، صحيح وجائز. وكانت المُباحثات مُثمِرة، ووعد شيخ الأزهر بإصدار فَتاوى وتَصريحات أخرى في هذا السَّبيل، غير أنَّه لم يَمض زمان حتّى فارق الحياة. فقام السيد الشيرازي بعدّة مُحاولات فيما بعد، إلاّ أنّها لم يكتب لها النَّجاح بسبب تَعذُّر الشيخ الَّذي خلف الشيخ شلتوت مَرّة بعد الأخرى بالأعذار.

وقد قام السيد حسن الشيرازي بعدّة رحلات تبليغية إلى الكويت، بهدف نشر الوَعي الدّيني والثقافي، بعد أن تَلَقّى عدّة دعوات من بعض الشخصيّات الدينيّة والاجتماعية. وكانت المَرّة الأولى عام (1962م)، المُوافق (1383ه)، عندما وُجِّهَت إليه الدَّعوة للإشتراك بالمهرجان الدّيني الكبير الَّذي أقامته المدرسة الوطنيّة الجعفريّة بمناسبة عيد الغدير الأغر، لمُرور 26 عاماً على تأسيس هذه المدرسة. وكذلك قام بزيارات مماثلة لكثير من دول العالم الإسلامي.

ومن على منبر القافية، كان يهتف بشباب الأمة الإسلامية، قائلا:

يا فتية الإسلام، أنتم أُمة***جبّارة تسمُو عن الأوهام

ص: 286

ولكم من الإسلام خير مناهجٍ***وشعائرٍ ومبادئ ومَرامي

ولكم من الإسلام خير قيادة***ستطيح بالأنصاب والأزلام

نفني المبادئ مثلما حطمتموا***الرجعيّة الحمراء بالإرغام

لا نَستعيض قيادةً مدسوسةً***عمّا لَدى علمائِنا الأعلامِ

وليسمع المستعمرون جميعُهم:***انّا نريد حكومةَ الإسلام

والوحدةُ الكبرى شعار نظامنا***والثورة البيضاء رمز قيام

فعلى قيادة حيدرٍ ومحمدٍ***سنطبّق الإسلام بالإسلام

وعلى شفاهي من فؤادي ثورةٌ***وعلى نشيدي من فتات كلامي

اللّه ربّي والشريعةُ مذهبي***والشعب شعبي والطريق أمامي

فإلى الأمام إلى السلام على هُدى***القرآن نحو مخطّط الأحلام

سِيروا على اسم اللّه والقرآن***لبناء حكم زاهرٍ إسلامي

التنظيم المرجعي دعامة للوحدة الإسلامية

وهذا التنظيم برأي السيد حسن الشيرازي أفضل أنواع التنظيمات، لأنّه يحصّن الأمّة من الإنشقاقات الداخليّة، والإنفراط إلى كُتَل منحازة.

ويمنح للأمّة مناعة من تسلُّل الإتِّجاهات الأجنبيّة، ويصونها من تطفُّل القيادات الكاذبة عليها، والَّتي تريد إستنزاف إمكاناتها، كما وانّها تُحافِظ على الوحدة الإسلاميّة ووحدة الأمّة ووحدة الكلمة الإسلاميّة.

البعد الوطني

تبنى مثل هذه الوحدة على أساس المقومات الوطنية المشتركة نظير الثقافة واللغة والعرق والتاريخ، أو على أسس قومية عموماً وتتمحور حول المصالح الوطنية.

كان السيد حسن الشيرازي مؤمنا بالوحدة الوطنية ويعدها فضيلة للشعوب

ص: 287

والمجتمعات وعنصر قوة في مواجهة الطغاة والمستعمرين، وفي نشاطاته السياسية كان عمله مُرَكّزاً من أجل تكوين جبهة إسلاميّة عريضة، للتَصَدّي للدكتاتوريّة المُتَسَلِّطة، تجمع كافّة التوجُّهات، والشخصيّات السّياسيّة، والعسكريّة، والدينيّة، والعشائريّة.. فقد كان السيد حسن الشيرازي ذو جهاد ثوري، مرتبط إرتباطاً وثيقاً مع جهاد أخيه الإمام الرّاحل آية اللّه العظمى السيّد محمّد الشيرازي.. ومن هنا كانت خُطوة الإمام السيد الشيرازي لتكوين هذه الجبهة، خُطوة متقدّمة نحو الإنتصار، لاسيَّما وان شرارة الرَّفض إذا شملت كافّة الشرائح الإجتماعيّة، فإن قُوّات النِّظام لا يمكن أن تقف أمام طوفان المَدّ الشَّعبي المتنامي.

إن آية اللّه العظمى السيد محمد الشيرازي كان يعد الوحدة سبيلا للاستقلال الوطني وتمكينا للشعب لاستعادة إرادته، في العراق آنذاك وفلسطين ولبنان وأفغانستان.

وكان يقول: «إن شاء اللّه سوف ينال الشّيعة في أفغانستان كامل حقوقهم في يوم من الأيّام، ولكن بشرطين اثنين، أوَّلاً، الإتحاد والوحدة فيما بينهم. وثانياً: الصبر والاستقامة، فإذا توفّر هذين الشرطين للشيعة في أفغانستان، يتمكنون من الانتصار، ويستطيعون نيل حقوقهم، وفي غير ذلك - لا سَمَح اللّه - فإنَّهم لَن يستَطيعوا نَيل حقوقهم».

وكانت من وَصايا الإمام السيد الشيرازي: «عليكم بتَوفير هذين الشرطين بكُلّ ما تَستَطيعون، وإن قلبي ليحترق ويتَمزّق لِما يجري على الشّيعة في أفغانستان خاصة، وعلى المسلمين في كلّ مكان».

وحتى حينما كان السيد حسن الشيرازي ينزوي مستريحا من تلاطم أمواج الفكر، وحلبات النشاط السياسي، والتفاعل الإعلامي اليومي، ليخلد الى عالم الشعر فان هموم الوطن تتجلى بصور الحلم وآهات القافية، إن حضور الوحدة الوطنية وهموم أبناء الشعب تتقافز فوق أغصان قصائده، ومنها قصيدة عراق

ص: 288

البعث:

أين المختارُ؟

فهذا ابن زياد يلتهم الأخضر.. واليابس كالتنِّينْ.

أين رجال البصرةِ.. والموصلِ..؟

أين هتافات العمّال.. و(هوسات) الفلاحينْ..؟

أصبحنا نحلم.. حتّى بالزنجِ،

ونهتف: ألف نعمْ.. حتّى للتوّابينْ

وننام على السجّينْ...

رفقاً بالغدِ، يا بقيا نمرود.. وجنكيز.. وهولاكو.. وتتار..!

يا جنرال الشطرنجِ، ويا ديناراً يبكي - في السوق - على الدولارْ!!

وتغرد روح الوطن في الغصن التالي:

أرواح الشهداء تناديكَ،

ويدعوك أبو الشهداءْ

أحرار العالم ينتظرونكَ

في ساحات الزوراءْ

وفي الأنبارِ،

وفي الحدباءْ،

وعلى النجف الأعلى.. سيف عليٍّ يتهزهز في ترسانة عاشوراءْ

وعلى أقبية العبّاسِ.. تلوّح كفٌّ بتراءْ

يا محفظةَ القرآنِ. ويا أرضيّةَ طه المختارْ!!

ص: 289

المبحث السادس: مواقف وقضايا

اشارة

كان السيد حسن الشيرازي يُمارِس نشاطاته السّياسيّة إلى جانب مسؤوليّاته الدينيّة بصفته رجل دين، باعتبار أن السِّياسة جزء لا يتجزَّأ من الإسلام، وكانت له مواقف سياسيّة تِجاه القَضايا المَطروحة في الساحة.

كان يُفَكِّر بالعالم الإسلامي كُلّه، فكان يُفَكِّر بإنقاذ الشعب العراقي، وكان يفَكِّر بالشعب المَظلوم في أفغانستان، وأيضاً كان يُسافر إلى الخليج وأفريقيا، ويُلقي المُحاضرات هناك، وكان يكتُب عن فلسطين.

وفي كُلّ هذه الهُموم كان لا يُفَرِّق بين منطقةٍ وأخرى من العالم الإسلامي، وكانت الشموليّة عنده شاملة بكُلّ المَقاييس.

كان السيد الشيرازي يرى أن الأمّة إذا اجتمَعَت على التَّقوى قويت واشتدّت، وصارت حصناً حصيناً، وقَلعةً منيعة.. كان يرى أن الحقّ سيَعود إلى الأمّة، بعزمها وتصميمها، وإيمانها، وها هو ينظُر إلى حقّها المُغتصب، فيقول:

سَيردّ القُ--دس ب--الإيمان والعَ--زم المنيع

را--ية الإسلام تَعل--و ف--ي فلسطين الصَّريع

ونحيّ--ي أرض سين--اء ب--أزهار الرَّبيع

سوف يقضي موكب النّور على جيش الظَّلام

وينادي الأمّة في التقدُّم والقُوّة

أمّ--ة الإس--لام سيري دائم--اً نح--و الأمام

واجهَ--دي للحَ--قّ كيم--ا تلبسي ب--رد الكرام

ص: 290

واحملي القُرآن في كفٍّ وفي الأخرى الحسام

كَ--ي تُعيدي مَجدك الغاب--ر م--ن أيدي اللئام

وكان يرى تَمَزُّق الأمّة، وتَفَرُّقها وتبعثرها ضَعفاً لها، ويرى أن التَغَنّي بالطّائفيّة والعصبيّة والعشائريّة وغيرها، نوح إبليس على الجنة، بل يرى أن التَغَنّي بالطّائفيّة كالأفعى السّامّة، تَترُك سُمومها القاتلة أينما حلَّت وحيثما وجدت.. فيقول:

الطائفيّة جذوةٌ مَسمومةٌ***يصلى بها الهدّام والبنّاء

والطائفية قُوّة المُستعمرين***يثيرها العُمَلاء والدُّخَلاء

ص: 291

الصورة

ص: 292

موقفه من جهاد الشعب الأفغاني للتحرر

سانَد المسلمين المضطهدين في أفغانستان في مقاومتهم للشيوعيّة الحاقدة المتمثّلة في الإتّحاد السوفياتي المُعتَدي، وقد ساعد هذه المقاومة المسلمة مادّيّاً، ومعنويّاً، وإعلاميّاً..

وكان ينتظر اليوم الَّذي ينتصر فيه الشَّعب الأفغاني المسلم على الغَزو السوفياتي الحاقد، ويقيم الشَّعب بنفسه حكومته الإسلاميّة في أفغانستان.. وقد احتضن الطلبة الأفغان في الحوزة الزينبية وقدم لهم كل ما من شانه أن يعدهم إعدادا دينيا وعلميا ليكونوا فاعلين ومؤثرين في مجتمعهم، وقادرين على قيادة أتباعهم لما فيه صلاح الدين والدنيا.

موقفه من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان

- قام بدور كبير في الدفاع عن الجنوب اللبناني، وبذل جُهوداً واسعة من أجل المحافظة على وحدة لبنان، وعَدَم إفساح المَجال للأحزاب العَميلة الَّتي تَسعى إلى تَمزيقه وتَجزئة أراضيه..

- كَما دافَع عن المَحرومين والمُضطَهَدين، وساعد العَوائل المُشرَّدة من الجنوب، وواساهم ماديّاً ومعنويّاً، ووضع بعض البرامج الدينيّة لتَثقيفهم وتَسليحهم بسلاح العقيدة والدّين، صيانة لهم عن الإنحراف والضَّياع والعمالة للأجانب.

موقفه من قضية فلسطين

الإمام الشهيد كان يعتبر قضيّة القُدس، على أنها قضيّة الأمّة الإسلاميّة، لا قضيّة الأمّة العربيّة، ولا الفلسطينيّين وحدهم.. إن قضيّة القُدس وفلسطين، قضيّة عامّة شاملة، وما من مُسلم يسمَع بها إلاّ ويتألَّم لما جَرى ويَجري فيها.. لأن (فلسطين) بلاد إسلاميّة، فاحتلها اليهود والصّهاينة فتَشَتت هذا الشعب المُسلم

ص: 293

إلى خارج فلسطين، حيث هاجر قسم منهم إلى لبنان وقسم إلى سوريا ومصر وغيرها من البلاد.. وقسم منهم سَكَنوا في مُخيّماتٍ داخل فلسطين، حتّى لا يتركوا الأرض والبلاد، لذلك فان قضيَّتهم إسلاميّة بَحتة، وفي الحديث الشَّريف، «مَن أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(1) .. من هذا المُنطَلَق كان السيد الشيرازي يتألَّم ويتأذّى مما حَلَّ بالشعب الفلسطيني، وكيف أن اليهود والصّهيونيّة احتَلّوا هذه البلاد.

والواقع أن العَدُوّ ينظُر إلى قضيّة القُدس أنَّها قضيّة يَهوديّة عالميّة، فَكُلّ يهود العالَم يجمعهم العَدُوّ للدِّفاع عن إسرائيل، فيلزم من هذه الجهة أن يعبئوا الأمّة الإسلاميّة للدِّفاع عن قضيّة فلسطين والقدس..

وفي الواقع فان أسباب وقوع الاحتلال هو تقاعس المُسلمين.. حيث تركوا المَجال لأعدائهم، وأغلب الزُّعماء في ذلك الوقت كانوا عُمَلاء إلى الأجانب، وإلى أمريكا وبريطانيا، ولأجل الحفاظ على كراسيهم وعروشهم، مستعدين ليس فَقَط لبيع فلسطين، بل لبيع الإسلام كلّه!

ولذلك كان الإمام الشهيد السيّد حسن الشيرازي يتألَّم لِما يتألَّم به الشعب الفلسطيني، وكان بحسب إمكانيّاته وقُدراته يُساهِم ببعض الأمور.

ص: 294


1- الكافي: ج2، ص164. وسائل الشيعة: ج16، ص336، ح21700. بحار الأنوار: ج71، ص338.

الصورة

ص: 295

كانت مسألة «فلسطين» ومأساته، وشعبه، من هُموم السيّد حسن الشيرازي وطالما فَكَّر الإمام الشهيد وخَطَّط، وكثيراً ما حاضر وعمل المؤتمرات، وبإصرار وتأكيد بالغين، كان يتحدث عن «فلسطين» لدى مختلف المسؤولين من مختلف المُستويات على الأصعدة العربيّة، والإسلاميّة، والدوليّة.

كان السيّد حسن الشيرازي يُثير القضيّة على مختلف الأبعاد، فمع العلماء ومراجع التَّقليد يُثير القضيّة من النَّظرة الإسلاميّة والدينيّة، وعند الملوك والرؤساء يُثيرها من خلال سياسة المنطقة والشرق الأوسط، ومع زعماء آخرين للأحزاب أو الأديان الأخرى كان يُثير مسألة «فلسطين» في إستراتيجيّتها المعاصرة.

وقدم السيد الشيرازي أطروحة إستراتيجية لإنقاذ فلسطين والشعب الفلسطيني في مطلع حكم عبد الرَّحمن عارف، إلا إن تحول قضية فلسطين الى سلعة في المزايدات السياسية وارتباط الحكومات العربية بالدوائر الاستعمارية والامبريالية وخوفها المرضي من إسرائيل أدى الى أن تواجه السلطة العارفية السيد الشيرازي بالمزيد من التضييق والمطاردات على مواقفه تجاه حركات التحرر في العالم العربي والإسلامي.

وفي هذا المَجال بالذّات كان إجتماع الشهيد بمختلف أجنحة العمل الفلسطينى وفي مختلف المُستويات، بالأخصّ بياسر عرفات، رئيس منظّمة التَّحرير الفلسطينيّة، ولمَرّات مُتكرِّرة.

وحارب الاستعمار الصِّهيوني المتَمثّل في حكومة إسرائيل الغاصبة بقلمه ولسانه، وفي شعره ونثره وبيانه.. وكان يدعو المسلمين إلى الإتّحاد، والتَّضامن من أجل تَحرير القُدس الإسلاميّة وفلسطين المسلمة من أيدي الاحتلال الصِّهيوني الحاقد على الإسلام والمسلمين، وكان يبثّ روح الرَّجاء والأمل في نفوس المسلمين، ويعدهم بالنَّصر الأكيد على العَدُوّ الإسرائيلي.. ومن ذلك

ص: 296

قوله في إحدى قصائده الرائعة الَّتي أُلقيت في إحدى المهرجانات العامّة في العراق:

سَي--ردّ القُدس ب--الإيمان والعَزم المني--ع

راي--ة الإسلام تَعل--و في فلسطين الصَّريع

ونحيّ--ي أرض سين--اء ب--أزه--ار الرَّبي--ع

سوف يقضي موكب النّور على جيش الظَّلام

ويقول في إحدى قصائده حول فلسطين بعد واقعة (النَّكسة) الَّتي أصابَت المسلمين في عام (1967م):

هاتيك إسرائيل أكلة آكل***إن كان في سيناء ليث يوجد

ورسالة الصاروخ خير رسالة***لا ملحد فيها ولا متردّد

ولها عليك في كلّ يوم غارة***ولك الشكاوى دائماً تتجَدَّد

فالعار لو يبكي العراق لهولها***وتضجُّ مصر وجلق والمسجد

فاعصف بألف جهنم وجهنَّم***تودي بأطراف اليهود وتوقد

فمحمد سيقود ركبك إن سطا***واللّه ينصر والمَلائك تعضد

إيهاً فلسطين الشهيدة كم لَنا***فيها يطل دمٌ ودمع يجمد

إيهاً فلسطين الشهيدة إننا***نهوى سواك وعن طَريقك

نقصد دومي فلسطين الشهيدة ملجئاً***في النّائبات به فكن ونخلد

كما وقف موقف الرَّفض والاستنكار لمعاهدة الاستسلام الخائنة، الَّتي وقَّعها (أنور السّادات) مع الصهيوني (مناخيم بيغن) في كامب ديفد، وأصدر بياناً بشأن ذلك.

ص: 297

الصورة

ص: 298

موقفه من الثورة الإسلامية في إيران

كانت للإمام الشهيد وقفة مع انتفاضة خُرداد عام (1963م) ضدّ الشّاه في إيران، والَّتي تسَبَّبَت في سُقوط حَوالي ثلاثة عشر ألف شهيد مُدافع عن الإسلام في إيران ضدّ اتِّفاقيّة إيرانيّة - أمريكيّة، أطلق عليها اسم، «الكابيتاليسيون». فالعلماء والحوزات والشَّعب عارضوا هذه المُعاهدة، فانتَفَضَت الجَماهير الإيرانيّة، وتصدّى الشهيد الشيرازي آنذاك لإعلان المُعارضة ضدّ الشّاه، وبالتَّعاوُن مع أخيه الإمام الرّاحل، فقاموا بحركة واسعة ضدّ الشّاه، وأرسلوا بَرقيّات إلى كُلّ رُؤساء العالم، استنكاراً على ما جَرى من إراقة الدِّماء والمَجازر في إيران، وقامَت مُظاهرات في العراق تأييداً لانتفاضة الشَّعب في إيران، وعُموماً كان للإمام الشهيد دَوراً إعلاميّاً وسياسيّاً هامّاً في دعم انتفاضة الشَّعب في إيران.. وعُموماً، كان يُعتبر السيّد الشهيد من المُعارضين الأشدّاء ضدّ الشّاه، حيث سانَد الثَّورة الإسلاميّة مُساندة فَعّالة، بالبَيانات، والخُطَب، والمَقالات، وتَحريك الأجواء والحركة الإعلاميّة الواسعة ضدّ نظام الطُّغيان، نظام الشّاه المَقبور..

ص: 299

الصورة

ص: 300

في خَضم مواجهة الاستعمار في البلاد الإسلاميّة، سواء كان في إيران، أو في العراق، أو في أرجاء البلاد العربيّة، كان السيّد الشهيد (قدس سره) يحمل هذا الهَمّ، ولأن إيران رقعة ممتَدّة وكبيرة، وفيها أبناء المذهب الجَعفري من الفُرس والأتراك وغيرهم بعدد كبير.. لكن النظام الحاكم في إيران آنذاك، كان مدعوماً من الاستعمار، وكانت الموارد والخَيرات تَصُبّ في جيوب الأمريكيين والأوروبيين، فأغلب الأموال كانت تتسرّب إلى الخارج، والقَليل منها يظل في داخل البلاد، ومعظمها يذهب الى جيوب البلاط (الشّاهنشاهي)، فبالتّالي كان لابدّ أن يكون للسيد الشهيد موقف مشرّف في إسقاط هذه الأنظمة الطّاغوتيّة، وإبدالها بأنظمة إسلاميّة..

ومُعارضته لحكومة الشّاه كانت منذ بدايتها، ونستطيع القول إن أوَّل مَن أيَّد الثَّورة في الخامس عشر من خُرداد، هو المَرجع الدّيني الإمام الرّاحل السيّد محمَّد الشيرازي.

وفي وقتها كانوا يصدرون المَجَلاّت والمَقالات والكُتُب والشعارات والقصائد في تأييد الثَّورة، وكانوا مُساندين لها مُنذ بداية انتفاضة الخامس عشر من خُرداد.

ص: 301

الصورة

ص: 302

الثورة في العراق

موقفه من المد الشيوعي

فتح (عبد الكريم قاسم) الباب على مصراعيه أمام التيار الماركسي، فعاث الشيوعيون فساداً في الأرض... فجرف المَدّ الأحمَر الكثير من الشباب المسلم، ومن يتجرأ على الوقوف بوجه هذا التيار يتم سحبه بالحبال في السكك والطرقات أيّاً كان شأنه ومكانته. فما كان من سيِّدنا الشهيد إلاّ أن شمّر عن ساعديه مجاهداً، ليقف بوجه هذا المَدّ سَدّاً منيعاً، فأسَّس (الشباب الحسيني)، وبمُساعدة مجموعة من الشباب الرّسالي، وفنّد النظرية الماركسية وافكارها المُتناقضة، فنشر من أجل ذلك الكُتُب والمجلاّت، وعقَد الإجتماعات والمُؤتمرات، وتُوجت هذه الجهود بإقامة المهرجان الكبير في ذكرى ولادة أمير المؤمنين في الثّالث عشر من شهر رجب، فصيَّره مهرجاناً عالميّاً، فضح من خلاله حقيقة الأفكار الضالة والدخيلة ورموزها الشيوعيّة والبعثية، وكشف أصولهم ونواياهم، الأمر الَّذي أثار السلطات الحاكمة آنذاك، فعملت للحدّ من نشاط سيّدنا الشهيد، إلاّ أنه صلد كالجبل لا تزعزعه العواصف، فاستمَرَّ في خُطى ثابتة، مجاهداً ومُثابراً، لا تأخذه في الحقّ لومة لائم.

واستمَرَّ العمل والجهاد، وتحركت الغيرة الدينيّة في النفوس، وتركَّز العمل وفق المحاور التّالية:

أ - كشف النقاب عن زيف إدعاءات السُّلطة وفسادها.

ب - العمل لوضع أُطروحة سياسيّة إسلاميّة متكاملة حول نظام الحكم الإسلامي، وكيفيّة تطبيقه على أرض الواقع، باعتباره الأصلَح للأمّة.

ج - وضع الخُطوات العمليّة لبناء هيئات ومؤسّسات تأخُذ على عاتقها إنتشال المجتمع من التَيّارات العلمانيّة والالحادية وغيرها.

بالمقابل كان عبد الكريم قاسم على علم بالخُطورة الَّتي يمثِّلها رجال الدّين

ص: 303

وقاعدتهم الجماهيرية، وبخاصّة المثقفين منهم، فأوعز لجلاوزته بالإعتداء على رجال الدّين والمؤمنين، فكان الإعتداء على زُوّار العتبات المُقدّسة، بحجّة واهية مثل كونهم إيرانيين أو موالين لإيران(1).

وكلّما زاد الشيوعيّون من بطشهم، وتهوّرهم، وانتهاكهم للحرمات والمقدّسات وضربهم للمواقع الدينيّة، إزداد الوعي الدّيني السِّياسي، وأخذ البعض يفكِّر بصورة جديّة لإيجاد تكتُّل إسلامي يستطيع أن يواجِه الظُّروف العصيبة، ويتمكَّن من حماية الأمّة في فكرها وولائها.

وكانت هناك جهتان تتحرَّكان لمقاومة المَدّ الشيوعي:

الجهة الأولى، كانت ممثّلة بالعلماء والمراجع الدينيّة في كربلاء المُقدّسة، والنَّجف الأشرف، والكاظميّة المشرّفة.

الجهة الثّانية، كانت ممثّلة بالطَّبقة المثقَّفة الواعية.

فعلى الجبهة الأولى، أفتى بعض المراجع الدينيّة بتحريم الشيوعيّة، ففي تاريخ (20/2/1961م)، المصادف 2 شعبان (1379ه) أصدر الإمام السيّد محسن الحكيم فتواه والَّتي جاء فيها:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، لا يجوز الإنتماء إلى الحزب الشيوعي، فإن ذلك كفر وإلحاد، أو ترويج للكفر والإلحاد، أعاذكم اللّه وجميع المسلمين من ذلك، وزادكم إيماناً وتسليماً، والسَّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته»،

وكان لوالد الشهيد آية اللّه العظمى الإمام السيّد ميرزا مهدي الشيرازي قبل وفاته في عام (1380ه) دور بارز في مدينة كربلاء المقدّسة للتصدّي للشيوعيّة عندما استباحت المدينة المقدّسة، واستثارت العواطف الدينيّة، ونتيجةً لاستفزازاتها الَّتي تجاوزت الحدّ، مثلاً، نصب لوحة كبيرة على باب قبلة أبي

ص: 304


1- الأخ الشهيد السيّد حسن الشيرازي، للإمام الرّاحل السيِّد محمَّد الشيرازي: ص25.

الفضل العبّاس كتب عليها: (اللّه في قفص الإتّهام)!

وقد اعتمدت هذه الجبهة تحرُّكاً واسعاً في مجال الإفتاء وإلقاء الخطب وكتابة الكتب وإقامة الإجتماعات والهيئات الشَّعبيّة، وكان لهذا التحرُّك أثر كبير على مستوى تقليص إنتشار الشيوعيّة.

أمّا على صعيد الجبهة الثانية، وهي جبهة المثقّفين الإسلاميّين الَّذين كانوا يمثّلون نخبة الأمّة، وهؤلاء لم يرضوا بهذا القدر من التحرُّك، فكانوا يجدون في الشيوعيّة خطراً كبيراً لا يمكن مواجهته إلاّ بالسِّلاح الَّذي استخدمه الشيوعيّون وهو سلاح التنظيم، وقد توصَّل هؤلاء إلى ضرورة تشكيل حزب إسلامي لمقارعة المَدّ الشيوعي، ومن ثمَّ التَّمهيد لإقامة الحكومة الإسلاميّة.

من هنا جاء التفاوت في تفكير الطرفين، فبينما الجهة الأولى تحمل على ظهرها تُراث المرجعيّة المُمتَد عَبر التّاريخ، بما يشتمل عليه هذا التّاريخ من مآثر خالدة، وسطور مملوءة بالشجاعة والجرأة والإقدام، من ثورة التِّنباك بقيادة المجدّد الشيرازي إلى ثورة العشرين بقيادة الميرزا الشيرازي، مروراً بحركة المشروطة بقيادة الآخوند الخراساني. وقد شاهدت رأي العين الإنجاز الكبير الَّذي أدّى إلى إنحسار المَدّ الشيوعي بإصدار تلك الفتاوى، وقيام ذلك التحرُّك الكبير والواسع.

أمّا على الجبهة الثانية، فكانت الطَّبقة المثقّفة لا تؤمن إلاّ بالتغيير السِّياسي، فاندفعت إلى إنتهاج أسلوب التشكيل الحزبي كَرَد فعل للمدّ الشيوعي الطّاغي، فأخذت تدعو إلى تشكيل حزب ديني يقوم برسم خطوات التغيير السياسي في الأمّة عِبر المرحليّة التنظيميّة.

أما في مدرسة كربلاء الحركيّة فكان الأمر يختلف بعض الشيء، فقد حملت هذه المدرسة تراث المرجعيّة الخالد منذ الوحيد البهبهاني حتّى الميرزا الشيرازي قائد ثورة العشرين، مروراً بعشرات من المراجع الَّذين كان لهم دور إجتماعي وسياسي في الأمّة، وقد فهمت هذه المدرسة المرجعيّة بصورة دقيقة، فليس المرجعيّة هي مجرَّد

ص: 305

رسالة عمليّة في أحكام الحيض والنِّفاس، فالمرجع هو قائد، ولن يكون قائداً إلاّ عندما يتصدّى لأمور الأمّة، ولا ضير أن يكون للمرجع تنظيم نابع من التراث المرجعي على طول التّاريخ، على أن لا يصطدم بأحد الأصول الإسلاميّة.

وكان دور الشهيد السيّد حسن الشيرازي هو دور المنظر لهذه المدرسة في ذلك الوقت العَصيب من تاريخ الأمّة، فقد كتب كتابه (كلمة الإسلام) في إنتخاب الطريق المُلائم للعمل الإسلامي من بين الأطروحات الثلاث، الأحزاب الإسلاميّة والحركات الفرديّة، والحركة المرجعيّة. فقيمة هذا الكتاب أنّه يُدَوِّن لمرحلة زمنيّة هي أوائل الستينات من هذا القرن، وربَّما تبدّل الكثير من ظروفها السياسيّة والدينيّة، وبالتالي الكثير من قناعات أصحاب الرأي، ولو بقي السيّد الشهيد حتّى يومنا هذا، لكتب كتاباً آخر ينظر فيه للمرحلة الراهنة، لما عرف عنه بفهمه العميق للواقع، وتناغم أفكاره لحاجات المرحلة وضروراتها.

تنوَّعت أساليب كفاح آية اللّه الشهيد تجاه هذه القُوى السّياسيّة، فقد اعتمد الشهيد على الأساليب التّالية:

أوّلاً - إنشاء هيئة الشباب الحسيني، وكانت مُكلّفة بطباعة وتوزيع المنشورات الدينيّة الهادفة إلى توعية الأمّة، ومنع أبنائها من الانحياز لصالح الفئات المعادية للإسلام.

ثانياً - تأليف الكُتُب الهادفة إلى الرَّد على أفكار القُوى العلمانيّة، وتَمجيد الفكر الإسلامي، والدَّعوة إلى تطبيقه باعتباره منقذ النّاس من الضلال، والمشاكل الإجتماعيّة، والسياسيّة، والإقتصاديّة. ومن بين هذه الكتب، كتاب (الإقتصاد)، الَّذي بَيَّن مثالب الأنظمة غير الإسلاميّة ومشاكلها، ثمّ عرض الفكر الإقتصادي الإسلامي، وأوضح قدرته على بناء دولة إسلاميّة قويّة مرفّهة، بعيدة عن كلّ أشكال القهر السلطوي والمالي والعنصري والطّائفي والتَّفاوت الطَّبقي والإنحراف الأخلاقي والأمراض الإجتماعيّة.

ص: 306

الصورة

ص: 307

ثالثاً - إقامة مهرجان سنوي كبير بمناسبة ذكرى ولادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) . فقد استغَلَّه الشهيد (قدس سره) لفضح سياسات القهر السُّلطوي، وكثير من السِّياسات الأخرى التي حكمت العراق في مجالات التربية والإقتصاد وغيرها، وقد قرأ آية اللّه الشهيد في هذه المهرجانات قصائد ثوريّة مناهضة للكثير من مساوئ الواقِعَين السياسيَّين المحلّي والدولي. ومن قراءاته الشعريّة في هذا المهرجان نستل الأبيات التّالية:

أوما دَروا أن العراق بدينه***وبشعبه وبجيشه المقدام

خير من الشرق الكفور وكلّما***في الغرب من إفك ومن إجرام

إسلامنا شرع الحياة، ونهجها***نهج البلاغة منهل الأحكام

فعراقنا مَهد الحضارة والتقى***والعلم والأمجاد والإسلام

إسلامنا فوق الميول فلم تجد***خير المبادئ موطئ الأقدام

فالشَّعب لا يحميه غير قيادة***الإسلام خير قيادة وإمام

والحكم منهار إذا لم يتخذ***دستوره من خالق علاّم

لا نستعيض قيادة مدسوسة***عَمّا لَدى علمائنا الأعلام

رابعاً - تأسيس اللجنة الأدبيّة التي ترأسها السيّد الشهيد وتكفَّل فيها بتعليم بعض طلبة الحوزة الدينيّة الكتابة الأدبيّة، وقد استطاعت هذه اللجنة إعداد العَديد من كُتّاب المَقالات الأدبيّة والبحوث الإسلاميّة، ومهَّدت لإصدار مجلاّت ونشرات وكتب إسلاميّة عديدة مثل، (صوت المُبلّغين) و(نداء الإسلام) و(القرآن يَهدي) و(مبادئ الإسلام) غيرها.

فقد كانت مجلّة (صوت المبلّغين)، مَجَلّة إسلاميّة شهريّة أصدرتها إدارة مدارس حُفّاظ القرآن الكريم. أمّا مجلّة (القرآن يهدي)، فهي مجلّة شهريّة خاصّة بعلوم القرآن وتفسيره، وبيان أسراره، وغير ذلك من المعارف، وكانت

ص: 308

تُصدِرها إدارة مدارس حُفّاظ القرآن الكريم في كربلاء المقدَّسة.

وأمّا مجلّة (مبادئ الإسلام)، فكانت مجلّة شهريّة تُصدَر باللغة الإنكليزيّة، وتُرسَل بالبريد إلى أنحاء مختلفة من العالم.

ومجلّة (ذكريات المعصومين)، فكانت تصدر في المناسبات والأعياد والوفيات لأهل البيت، وكان مَقَرّها مدرسة العلاّمة إبن فهد الحلّي في كربلاء المقدَّسة.

وأمّا مجلّة (أجوبة المسائل الإسلاميّة)، فكانت مجلّة تَتَولّى الإجابة على تساؤلات المواطنين الدينيّة، وكان آية اللّه الشهيد يُجيب على بعض تلك التساؤلات بنفسه.

وأمّا (منابع الثّقافة الإسلاميّة)، فكانت تَصدُر بصورة دوريّة كُتُباً علميّة وثقافيّة إسلاميّة.

موقفه من الحكم القومي

كان السيد الشيرازي رافضا لسياسة الحكم العارفي القومي العنصري وتوجهاته الطائفية ضد الأغلبية والاستئثار الحزبي والسلطوي بالسلطة والحكم في العراق وإخضاع العراق تحت هيمنة السياسات الخارجية للدول الاستعمارية وقد عبر عن هذه المواقف تارة من خلال فعاليات النصح والتوجيه والمطالبات بحقوق الشعب وتارة أخرى بصورة مباشرة عبر الجماهير ومنها، إلقائه كلماته وقصائده الخالدة في الاحتفالات الَّتي كانت تُقام في الذِّكرى السنوية لميلاد الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في كربلاء المُقدّسة، وقد كانت احتفالات عالمية بكُلّ معنى الكلمة، إذ كان يحضرها سُفَراء الدُّوَل الإسلاميّة وشخصيات سياسيّة كانوا يلبون الدَّعوة الَّتي كانت تُوَجَّه إليهم من قِبَل لجنة الاحتفال.

فكان يلقى القَصيدةً فتهيج مشاعر الجماهير، ويرددها الكبار والصغار وعادة ما تتحول أبياتها الشعرية الى شعارات وهتافات ضد أزلام السلطة الظالمة، ويجهر بها كمن هو في قلب الشَّعب العراقي المَغلوب على أمره.

ص: 309

ومن رحيق ذلك الشعر قوله:

فالشَّعب نحن، وأنت أنت إمامنا***ورعاتنا العُلَماء لا العُمَلاءُ

عَلَويّة غَرّاء، لا أمويّة غوّاء***ينشد «بعثها» غوغاءُ

وأيضاً يقول:

قل للعزيز أصابنا الضَرّاء***فحياتنا داء وأنت دواء

أرض العراق مَجازر ومَآتم***والرّافدان مَدامع ودماء

وأيضاً يقول:

واعمل لتَطبيق الكتاب مجاهداً***إنّ العقيدة مصحف وحسام

واسحق جباه المُلحدين مُردّداً***لا السّجن يرهبني ولا الإعدام

دستورنا القرآن نهتف بإسمه***وشعارنا في العالم الإسلام

كم جربوا في الشعب حرياتهم***وانصبت الحمراء والصفراء

ثُمَّ انثنوا والناس أحياء وهم***أموات أو دفنوا وهم أحياء

وَيل العراق فليله لا ينقضي***حتّى تقوم حكومة الإسلام

لقد ناضل آية اللّه الشهيد ضدّ إنحرافات ذلك العهد بأساليب عديدة، منها:

أوّلاً - محاولة إدامة إقامة المهرجان السنوي بمناسبة ولادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب.

ثانياً - محاولة إدامة نشاط وزيادة عدد المجلاّت الإسلاميّة.

ثالثاً - تشكيل وُفود عَديدة لمقابلة الرَّئيس العراقي آنذاك، عبد السَّلام عارف، ومن ثمّ أخيه الرئيس، عبد الرحمن عارف، من أجل توضيح حاجات الشعب، وغيرها من مسائل البلاد الملحة، ومساوئ السياسة العامّة للدولة، وهذا يمثل أسلوباً سلميّاً، لم ينطوِ على إستخدام العنف.

رابعاً - كتابة موضوعات أدبيّة ودينيّة للإذاعة العراقيّة، وقد جُمِع ما أذيع منها،

ص: 310

ونُشِر في كتاب (التَّوجيه الديني).

خامساً - تأليف عدد من الكُتُب الإسلاميّة بهدف نشر تعاليم الإسلام في أوساط الشعب العراقي وباقي المسلمين.

ومن تلك الكتب، (كلمة اللّه) و(كلمة الرَّسول الأعظم) و(كلمة الإمام الحسن) و(كلمة الإسلام) و(حديث رمضان) و(إله الكون) و(إنجازات الرَّسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ) و(رسول الحياة) و(الشَّعائر الحسينيّة) و(العمل الأدبي) و(الأدب المُوَجَّه) و(الاشتقاق).

موقفه من الحكم البعثي

في عهد الرَّئيس المَقبور أحمد حسن البكر الذي ابتدأ منذ (17/7/1968م)، تعرّض الشهيد للإعتقال والتعذيب منذ ربيع الأوّل عام (1389ه) في سجن قصر النّهاية المُرعب ببغداد، ثمَّ نقل بعد فترة إلى سجن محافظة بعقوبة، ثمَّ أخرج منه بسبب ضغط الرأي العام المَحَلّي والدولي، وبعد الإفراج عنه، هاجر السيّد الشهيد إلى لبنان، حيث تلقّى العلاج، ثمَّ واصل كفاحه من أجل مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، ثم قام النظام البعثي في مطلع الثمانينات باغتيال السيد الشيرازي في بيروت.

كان النظام البعثي الطاغوتي ومنذ أول يوم استلم فيه السلطة بعد انقلاب 1968 قد شخص حركة السيد حسن الشيرازي على إنها من أخطر الحركات التي تعيق بسط سلطته الطاغوتية على الشعب وتفضح سياساته الدنيئة لما تتميز به من سمات اهمها:

1- تمثيلها لخط المرجعية ودعوتها الى التمسك بالتنظيم المرجعي كتمثيل لخط الامامة والنبوة وحاكمية اللّه عز وجل.

2- التصاقها بالشعب بجميع فئاته والانفتاح على جميع مكوناته وطبقاته دون الاختصاص بفئوية او نخبوية معينة.

ص: 311

3- تواصلها السياسي مع الجماهير كان يتم عبر المناسبات الدينية والشعائر الحسينية ومنابر الوعظ والارشاد مما زاد من تفاعل الجماهير المؤمنة وتمسكها بها.

4- انبثاق مطالبها من معاناة الشعب وماسيه والاصرار على تلك المطالب الشعبية والوطنية من خلال المواقف البطولية والصمود الشجاع للسيد الشيرازي ومن حوله.

5- مدى ما تمثله عائلة الشيرازي من مكانة جليلة لدى شعوب العالم الاسلامي بصورة عامة والشعب العراقي بصورة خاصة، ومن تراث جهادي عظيم من اجل الاستقلال والتحرر، وما تشغله من مكانة قيادية في القيادة المرجعية والشعبية.

6- الحراك الثقافي والفكري الذي تفرد به السيد الشيرازي وتوجيهه نحو الشباب المسلم بصورة خاصة.

7- اتساع مساحة الحراك السياسي للسيد الشيرازي وعلاقاته السياسية المحلية والعربية والاسلامية، ونقله لقضية مظلومية الشعب العراقي من اطارها المحلي الى المشهد الدولي.

كل هذه الميزات وغيرها مما تميزت به حركة السيد الشيرازي جعلت النظام البعثي الطاغوتي يستعجل الحرب الوحشية على السيد الشيرازي فضيق عليه وروقب وحوصر ثم اعتقل وعذب باشكال وحشية وتعرض الى أكثر من اربعين نوع من انواع التعذيب في سجون البعث وكانت قيادات البعث تشرف على تعذيبه حتى تغير حاله ونحل جسمه وضعف بينما تعاظم جهاده في اللّه وثباته على الحق ووصف لاحد السائلين عما جرى عليه من انواع التعذيب فقال: باختصار أقول لك، ونحن نتلقّى شَتّى أنواع التَّعذيب في قصر النّهاية ببغداد، كُنّا نُقارن بين ما نُلاقيه وما لاقاه أصحاب رسول اللّه، من أمثال بلال الحبشي، حينما كانوا يضعون الأحجار التي أحمتها أشعّة الشمس على بطنه وظهره، كُنّا نَرى أنه ما كان يلاقونه أولئك لم يكن تَعذيباً، كُنّا نتمنّى أن نتلقّى تَعذيباً كتعذيب

ص: 312

أصحاب رسول اللّه، كانوا يعذّبوننا إلى درجة أنَّهم يريدون أن ينسوننا أسمائنا، وكان التعذيب متنوعاً... و... و...، كان المعذّبون يطفئون سَجائرهم في أجسامنا، وكانوا يعلّقونَنا من أرجلنا. أمّا الضَّرب، ونَتف الشَّعر وخَلع الأظافر فكانت من الأمور العاديّة عندنا».

فقال السائل: «سيّدنا أكتُب ما لقيت»، قال السيد حسن الشيرازي: «أتَخاف أن أنسى» ؟! إن التعذيب الذي لاقَيته محفور في كُلّ خليّة من خلايا جسمي، ولا يُمكن أن أنسى».

وخشية تفجر الاوضاع خصوصا بعد التنديد الجماهيري ومطالبة العلماء باطلاق سراح السيد الشيرازي، تراجع النظام البعثي عن خططه الوحشية في قتل السيد الشيرازي مع ملاحظة ان الاوامر باعدام السيد حسن الشيرازي كانت قد صدرت اكثر من مرة غير ان الظروف المحلية والدولية لم تمكن البعثيين بالتجرؤ على هذه الخطوة في ذلك الوقت.

وفي محاولة يائسة قرر النظام البعثي القمعي ان يجبر السيد حسن الشيرازي على الاعتراف بمجموعة من الاكاذيب السياسية التي تهدم المكانة السياسية للقيادات الشيعية وتشوه سمعتها، وفي ذلك يروي السيد ما حدث (وضعوا أمامي مجموعة أسماء، وطَلَبوا منّي أن أخرج إلى النّاس في برنامج تلفزيوني، واعتَرف على كُلّ هؤلاء بأنَّهم عملاء لدولة أجنبيّة. وحينَما نَظَرت إلى الأسماء، رأيت أنَّها تَضُم أكثر من ثلاثين اسماً من شَخصيّات شيعيّة كُبرى، من الشيخ شيخ الشريعة، إلى السيّد موسى الصَّدر، إلى السيّد مصطفى الخمَيني، إلى مجموعة من العلماء والخطباء، وكُلّ الشخصيّات الشيعيّة في ذلك الوقت، وكُنت أرى بأن هؤلاء لا يقصدونَني شَخصيّاً فقط، ولَعلَّه لو كنت أنا المقصود بما يفعلون كان يهون عليَّ الأمر، لكن تبيَّن لي ان المُؤامرة كبيرة، وأن المقصود هو تَلويث سمعة الشيعة في العالم، وخاصّة رجال هذه الطّائفة الكُبرى، ولذلك صَبَرت وقدرت

ص: 313

على أن أتحمَّل إلى النّهاية، وكنت مُستعدّاً للموت، وربَّما كان الموت بالنسبة لي أسهل مِمّا كُنت ألاقي).

الصورة

ص: 314

القسم الثالث: قراءة في المشروع الديني

اشارة

الدعوة والتبليغ والحوار

المبحث الاول: مؤتمر الحج

المبحث الثاني: البقيع الغرقد شاهد الجريمة ومسرح المأساة

المبحث الثالث: الحوزة الزينبية

المبحث الرابع: الشعائر الحسينية تجسيد للقيم

وإقامة للإصلاح

المبحث الخامس: العلويّون شيعة أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 315

ص: 316

المبحث الاول: مؤتمر الحج

مؤتمر الحج عند الامام الشهيد

يشير السيد الشيرازي في شروحاته حول فريضة الحج وفلسفته الى جوانب عدة، منها ما يتعلق بفلسفة العبادات في الحج، ومنها ما يتعلق بالشعائر الإلهية، ومنها ما يتعلق بالأفعال الخاصة بالحجيج.

وقد تميزت أبحاث الإمام الشيرازي في الحج بتنوع توجهات محتويات المباحث فمنها ما يتعلق بالفقه وما ما يتعلق بالفلسفة الروحية والأخلاقية للحج ومنها ما يتعلق بتاريخ الشعائر الدينية في الحج ومنها ما يتعلق بالوظائف والأدوار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للحج، ويتناول بتفاصيل دقيقة كل ما يتعلق بالمفاهيم والعبادات والشعائر المرتبطة بالحج وهو يحللها ضمن ثلاث مستويات (فاعلية تشريعية، فاعلية تكوينية، فاعلية رمزية)(1).

ويذكر مثال ذلك إن (أن للكعبة فاعلية ذاتية مستقلة، ولها جاذبية تستقطب الأرواح وتوجهها إلى الأعلى، كما تستقطب الطائفين والمصلين وسائر المتعبدين، أو تبث إشعاعات روحية، تحرك ذبذبة العقل في اتجاه مصدره الأول وهو اللّه - سبحانه وتعالى - ، أو بأي شكل آخر... فقيموميتها للناس تكوينية أيضاً، وليست مجرد تشريعية رمزية.

ص: 317


1- يوحي التحليل الفلسفي للإمام انه يقابل بين فاعليات الحج الثلاث بالعقل الفقهي والعقل الحسي والعقل المجرد. ولما كان هذا الكتاب غير مختص بعرض مباحث الحكمة لدى السيد الشيرازي فقد آثرنا عرضها في مورد آخر إن شاء اللّه عز وجل.

فكان من الطبيعي أن تتكاثف تلك القيمومية، وتنطلق منها الحركات الدينية الكبرى:

أ - فآدم (عليه السلام) ، قبلت توبته هناك، وبدأ حركة الحياة، وحركة الدين في الحياة، من هناك.

ب - وإبراهيم (عليه السلام) ، بدأ حركته التأسيسية الكبرى من الكعبة، عندما ذهب بإسماعيل وأمه، وأسكنهما في جوار الكعبة.

ج - والرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بدأ الإسلام من حجر إسماعيل، ووضع نقطة بدء الكمال بقوله العظيمة: (قولوا: (لا إله إلا اللّه)، تفلحوا).

د - والإمام الحسين (عليه السلام) ، بدأ ثورة (التصحيح) من مكة، متوجهاً إلى كربلاء المقدسة.

ه- - والإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) ، يبدأ ثورة (الرجعة الكبرى) من الكعبة، ليلة ظهوره...)(1).

هذه على مستوى الفكر والدرس والتأليف أما على مستوى ممارسة الفريضة والتطبيق العملي فان السيد حسن الشيرازي كان يعد الحج من أهم واجبات المسلم المستطيع خصوصا إذا كان داعيا للّه ومبلغا لرسالاته، فقد التحق بهذه الفريضة المقدسة في أول شبابه(2) وعدها جهادا عالميا لتحقيق الأهداف الدينية والعقائدية والسياسية للمسلمين. وقصة حجه الأول وهي إن السيد في أول شبابه دخل الى منزل أبيه في كربلاء المُقدّسة في أيّام موسم الحج في عجلة من أمره، وأخبر والده الميرزا ووالدته بأنه يريد الذهاب للحج، ولما رأى نظراتهما المستفهمة حول هذا القرار المفاجئ ومعرفتهما بان وجوبية الحج لم تفرض عليه أردف مبررا:

ص: 318


1- خواطري حول القران الكريم. السيد حسن الشيرازي، ج1 ص164.
2- مصدر القصة موسوعة السيد حسن الشيرازي ج1.

«حدثت لديّ شُبهة أن الحج واجب علَيّ».

والاحتياط في هذه الشُّبهة أن يَحُجّ، وإن لم تكُن الشُّروط متوفّرة فيه..

والدته لَم تَكُن مُقتنعة بتوفُّر الشُّروط، ربما لان فيضها العاطفي دفعها لان لا تشجع فلذة كبدها الى مشاقة السفر وليالي طويلة من البعد عنها، فقالت:

«بني، ليس الحَج واجباً عليك»..

تفرس والده الميرزا مهدي ملامح وجه ولده، بدأ يقرا عزمه، ويتلمس ثورة الحماسة في صوت ولده، وبريق الرغبة في عينيه للمشاركة في الهجرة البشرية الى اللّه.

واطرق السيد حسن رأسه إجلالا لوالده، وقطع الميزا مهدي سكون الصوت وهو يصغي الى حوارات الأرواح الثلاث، فتقدم الى ولده وربت على كتفه مبتسما فرحا، وهو يقول:

«إذا يُريد الحج فما المانع أن يَحُجّ؟!».. ثم شجع ولده على الذّهاب إلى الحج، وكانت الشمس في منتصف السماء.

فذهب السيد الشيرازي ونسَّق مع بعض القوافل، وقبل أن تشرق الشمس في صباح جديد بدأ السيد الشيرازي الشاب رحلة الحج الأولى.

الاهداف الدينية

1- إدارة فعاليات ونشاطات بعثة الحج، وتثبيت دعائمها، وتفعيل دورها في خدمة حُجّاج بيت اللّه الحرام، وزُوّار النَّبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، والمشاهد المشرَّفة، والأماكن المقدَّسة، وحَثُّ النّاس على زيارة الأماكن المنسيّة، لا سيَّما قبر الصحابي الجليل أبي ­ذر الغفاري.

2- كان السيد الشيرازي يؤمن بالوحدة الإسلامية التي أمر بها اللّه عز وجل جميع المسلمين بالتوحُّد تحت راية الإسلام، وكلمة اللّه أكبر من كلّ كبير مستعلي بسبب منصبه السياسي، أو الطّائفي، أو ولاءه العشائري، أو غير ذلك،

ص: 319

وذلك في قوله تعالى في كتابه الكريم: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(1). وكان السيد الشيرازي على اتِّصال بكثير من العلماء - الشيعة والسنّة - في مؤتمر الحج لأنَّه كان داعية من دُعاة الوحدة الإسلاميّة. وكان يرى نفسه عالماً للمسلمين، قبل أن يكون عالماً لطائفة معينة، وإنَّما كانت هُمومه تشمل كُلّ بقاع الإسلام، وكُلّ مُدُن وقُرى الإسلام، وجميع أطياف المسلمين، لأيّ مذهب وبلد انتموا.. فكان سعي السيد الشيرازي بأن يجمَع المُسلمين ويُوَحِّدهم، كما كان أخوه آية اللّه العظمى السيّد محمَّد الحُسَيني الشيرازي دائماً يَسعى إلى هذا الأمر، ولذلك استمَرَّ حوالي عشرة سنوات يوزِّع منشوراً مُهمّاً في الحَجّ، حيث يجتمع أكثر من مليوني حاج.. وبدأت هذه الكُتَيّبات الصَّغيرة بشعار، «يا أيُّها المُسلمون اتَّحدوا اتَّحدوا»، وكانت دعوةً صادقة إلى كُلّ المُسلمين. إن كلمات الإمام السيد الشيرازي الآنفة قد عَبَّرت عن هذا المطلب السِّياسي:

والمُشركون مذاهب ومشارب***والمسلمون جميعهم أحباب

وكان يستثمر مؤتمر الحج ليمَدّ جسور الصَّداقة مع العلماء المُعتَدلين من أبناء الحجاز، المعروف عنهم أنَّهم لا ينتمون للوهّابيّة والوهّابيّين، او الفكر التكفيري للمسلمين، وبالفعل توطدت علاقة السيد الشيرازي مع الكثير من علماء الحجاز، ومنهم رئيس رابطة العالم الإسلامي آنذاك الشيخ محمّد القزاز، وكان فعلاً من الشخصيّات العلميّة الرَّفيعة الَّتي تجمع ولا تفرق. فقد توثَّقت العلاقة بين السيّد الشيرازي وبينه منذ لقاؤهم الأوّل، وكان الشيخ محمّد القزاز يبدي مشاعر الوِد والتَّقدير والإعجاب بالسيّد الشيرازي لما تلمس منه من حرص على وحدة المسلمين وفهم عميق لواقع وأحوال الأمة الإسلامية..

3- زيارة الوفود الَّتي جاءت إلى الحَجّ من مختلف البلاد، وتبادُل الحديث

ص: 320


1- سورة الأنبياء، الآية: 92.

معهم، والتعرّف على بلادهم وحكوماتهم وأوضاعهم واحتياجاتهم وغيرها، تمهيداً للقيام بما يمكنه إسعافهم به في الحجّ أو ما بعد الحجّ.

4- الاجتماع بالمَسؤولين في بلاد الحجّ، وبالعلماء القاطنين هناك، وحملهم على تخفيف الحدّة والشِدّة اللتين أوجبتا تَمزيق المسلمين، والمناقشة معهم حول تكفير المسلمين - من أجل تَقبيل ضَريح رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وزيارة البقيع، وغير ذلك من المسائل الَّتي عَمَّق الاستعمار الخلاف فيها - مناقشات بَنّاءة تدعو إلى وحدة الصَّف ووحدة الكلمة.

5- إقامة المؤتمرات العديدة والمكثَّفة مع علماء المسلمين والمفكّرين الذين قَصَدوا الحَجّ من مختلف الأقطار، ووضع ورقة عمل مشتركة معهم على صَعيد العلم والتَّقوى.

6- تَحريض الخطباء والمبلّغين على استغلال تلك المواقف الحسّاسة، بالوعظ والإرشاد، ودعوة النّاس إلى التمسُّك بالإسلام في كلّ جوانبه، والثورة على الظالمين في كلّ مكان، وبكلّ الأساليب الصحيحة في المسجد الحرام ومسجد النَّبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ومنى وعرفات والمشعر وغيرها من المُجتمعات العامّة، وكثيراً ما كان يدعم هؤلاء الخطباء دعماً مادّيّاً، ويغدق عليهم العطاء لكي يقوموا بدورهم البنّاء هذا خير قيام.

7- توزيع الكتب الإسلاميّة الداعية إلى الإتّحاد الإسلامي، والشّاجبة للتفرقة الطائفية والقومية والعنصريّة والقبليّة والإقليميّة وما إليها.

8- إحياء الشَّعائر الدينيّة، وحث النّاس على تعظيمها، كما فعل الإمام الشهيد (قدس سره) بالنِّسبة لقَبر أبي­ ذر الغفاري رضي اللّه عنه، حيث طَبَع منشوراً ووزّعه على النّاس ليدلهم بمكان قَبره، بين مكّة المكرَّمة والمدينة المنوّرة، على بُعد كيلومترات من المَدينة المنوّرة، في طريق مكّة المكرَّمة.

9- تعليم الحُجّاج مناسك الحجّ، وتصحيح أعمالهم وعباداتهم ومعاملاتهم

ص: 321

ونحو ذلك، ممّا كان الفقيد الشهيد الشيرازي يستغلّ هذه الفرصة العظمى من أجلها.

الصورة

ص: 322

الاهداف العقائدية

1- نشر التشيع وعقائد مدرسة آل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ومن فعاليات ونشاطات تحقيق هذا الهدف:

- نشر وتوزيع مئات الآلاف من الكراسات التعريفية بالشيعة والتي كان يؤلفها سماحة المرجع الشيرازي (هكذا الشيعة) و(اعرف الشيعة) وغيرها وكانت تطبع في العراق وحينما منعت السلطات العراقية طباعتها تعهد السيد الشيرازي بطباعتها في بيروت وقد تمت ترجمتها الى عدة لغات وأدخلت بعدة طرق ووسائل غير معلنة الى السعودية التي حاربت كل ما يمت للشيعة أو يعرف بهم خصوصا وان وسائل الإعلام والتواصل في عقد الستينات والسبعينات كان مقتصرا على الكتاب والمحاضرة تحت سلطة حكومات معادية لآل بيت الرسول ومضطهدة لأتباعهم.

- إقامة محاضرات تعريفية وتثقيفية حول مدرسة أهل البيت، وقد كان السيد الشيرازي يقوم بإلقاء المحاضرات ويكلف كذلك مَجموعة مِن الخُطَباء الموهوبين أمثال: السيّد هادي المدرسي والسيّد مرتضى القزويني، والشيخ عبدالحميد المهاجر، حيث يتوزَّعون في الحرم النَّبوي الشَّريف، أو البقيع، أو الحَرَم المكّي.. وحولهم مجموعة من الموالين يَحرسونهم من اعتداءات زبانية الوهابيّين ويُحَدّثون النّاس بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) ، ويَرُدّون الشبهات الَّتي تُثار حولهم وحول أتباعهم، وقد استمرَّت هذه الدَّعوة عِدّة سنوات، إلى أن سيطر الحزب الوهّابي على الحرمين الشريفين بوسائله الإرهابيّة المعروفة. ومنع جميع النشاطات والفعاليات الخاصة بالحجيج وتعطيل جزء مهم من فريضة الحج.

- فعاليات عيد الغدير: كان السيد الشيرازي يهتمّ اهتماما كبيراً بعيد الغَدير، وذلك لأنَّه أفضل الأعياد، وهو عيد اللّه الأكبر، الَّذي أكمل اللّه فيه الدّين وأتمَّ فيه النِّعمة ورضي فيه الإسلام ديناً بخلافة الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ،

ص: 323

وإمامته بعد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مُباشرةً.

وبما أن السيد الشيرازي كان يتشرَّف إلى حجّ بيت اللّه الحرام في كُلّ عام، فقد كان يُصادف عيد الغدير وجوده في مكّة المُكرَّمة، ولهذا كان يُكَرِّس نشاطه لهذا العيد السعيد على النحو التّالي:

1- تشجيع حملات الحَجّ على إقامة الاحتفالات الزّاهرة في أماكنها ومَقَرّاتها.

2- تشجيع الخُطَباء والشُّعراء المتواجدين في مكّة المُكرّمة على المُشاركة في الاحتفالات المَذكورة.

3- التَّشجيع على توزيع الحلويّات في بيت اللّه الحرام في ليلة عيد الغدير.

وكان السيّد السيد الشيرازي يحضر بنفسه في المَسجد الحرام، ويجلس أمام الكعبة المُشرّفة من جهة الميزاب، ويُحيط به جمع من العلماء والمؤمنين، ويتبادل معهم التَّهاني والتَّبريكات، بالإضافة إلى ما كان يَجري في مكّة المكرّمة، فإنَّه كان قد أصدَر أوامره إلى اللجنة المُشرفة على الحوزة العلميّة في مقام السيّدة زينب (عليها السلام) أن تُقيم الإحتفالات الزّاهرة في عيد الغدير، وعلى مُستوى أكبر من مكّة المُكرّمة، لأن الحُريّة المتوفِّرة هناك أكثر بكثير من مكّة المكرَّمة.

2- نشر ثقافة الوحدة الإسلامية ونبذ روح البغضاء والحقد والتكفير بين المسلمين.

3- نشر تعاليم الإسلام الصحيح والدعوة الى مراجعة موضوعية نقدية للعقائد والمذاهب التي روجتها السلطات الظالمة والمنحرفة في تاريخ الأمة الإسلامية. وذلك عبر الحوارات مع العلماء وتوزيع الكتب وعقد الاجتماعات مع المسلمين من أنحاء المعمورة وأقطاب الأرض، وقد تكون عن طريق الحالات الفردية كما في هذا الموقف وهو واحد من مواقف كثيرة كان السيد الشيرازي يوجه من خلالها المسلمين في اجتماع الحج الى حقيقة الدين وفضائل ال البيت (عليهم السلام) حيث كان السيد الشيرازي ذات مرة جالساً في الحَرَم النَّبوي، فخرج أحد الحُجّاج الإيرانيّين

ص: 324

من الحرم النَّبوي، وقبَّل باب الحرم، فجاءه أحد العلماء السّوريين ونهره، وقال: هذا شرك وبدعة! ولأن الحاج كان إيرانيّاً ولا يجيد اللغة العربيّة، فقَصَد السيد الشيرازي وطرح عليه القضيّة، فذهب السيد الشيرازي إلى ذلك العالم السّوري، وبعد السَّلام عليه سأله: من أي بلد أنت؟!

فقال له: من حلب، فسأله السيد الشيرازي عن مذهبه؟ فقال: حنفي.

فقال السيد الشيرازي: ذات مَرّة رأى أبو حنيفة الإمام الصّادق (عليه السلام) ، وهو مُتَّكئ على عصا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فطلب أبو حنيفة من الإمام (عليه السلام) أن يُعطيه العصا ليقَبِّلها، لكونها قد تبَرَّكت ببدن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثُمَّ التَفَت السيد الشيرازي إلى العالم السّوري وقال له: أنظُر إمام مذهبك يُقبِّل عصا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لكونها قد تبَرَّكت ببدنه، وهذا الشَّخص قَبَّل الباب لكونه منسوباً إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) .

فاستحسَن السّوري كلام السيد الشيرازي، وتأثَّر به، ثُمَّ دعاه السيد الشيرازي كي يَزور البعثة ويَستفيد من أدلّة الشيعة.

4- نشر ثقافة الحوار القرآنية وأدواتها الدعوية كالحكمة والموعظة الحسنة وتبني الأسلوب الإلهي في الاحتجاج وسياقة البراهين ونبذ الآراء التعصبية الجاهلية في رفض الآخر والتمييز العنصري.

5- تقديم موارد المعرفة الصحيحة للأمة في تعلم دينها من الرسول واله الأطهار. وكان الشهيد الشيرازي في كُلِّ عام يذهب إلى الحج، ويفتتح هذه البعثة، ويستَقبل الشخصيّات.. كان يتواجد في البعثة دائماً علماء كبار وشخصيات سياسيّة وإجتماعيّة، ووُجَهاء وشيوخ عشائر، وأساتذة حوزات.. وكان السيد الشيرازي في بعثته يُحاول أن ينشر الكتب، وأن يَعقد الإجتماعات المُفَصَّلة، وأن يقوم بنشاط إداري واسع وكبير.. كان يفتح علاقات مع شخصيّات سُعوديّة، وشخصيّات من مختلف العالم الإسلامي، وكان يَستضيف في البعثة شخصيّات علويّة وشيعيّة، علماً أن العلويّين فرع من الشيعة، ومن ضمن البيت

ص: 325

الشيعي، فكانت بعثة رائعة في التحَرُّك، وكان من أعمال البعثة مُساعدة رجال الدّين، والمَنكوبين في الحج، والَّذين ضاعت، أو سرقت أو تلفت أموالهم.. وقد أسَّس الشهيد الشيرازي برنامج التقسيميّة، وإلى الآن هناك برنامج التقسيميات في بعثات المَراجع، وأوَّل مَن بدأ بهذه التقسيميّة هو الإمام الشهيد السَّعيد السيّد حسن الشيرازي في مكّة المُكرّمة.

في الحقيقة كانت البعثة رائعة، وكان من أعضائها أحياناً الأستاذ الفاضل العلاّمة الشيخ جعفر الهادي وأيضاً المرحوم الشيخ قاسم الأسدي، وكان ضمن كوادرها كلٌ من المرحوم المجاهد السيّد علي الفالي، والعلاّمة الفاضل السيّد مُحسن الخاتمي، والعلاّمة الشيخ صادق الكرباسي، وآخرين من ضمن أعضاء هذه البعثة. فكانت بعثة نشيطة وقويّة وفاعلة، استمَرَّت إلى هذا اليوم لهمّة ذلك الشهيد الشيرازي، وهي من آثاره الباقية.

ص: 326

الصورة

ص: 327

المبحث الثاني: البقيع الغرقد شاهد الجريمة ومسرح المأساة

البقيع

البقيع بُقعة مُقدّسة، ومَهوى أفئدة المُسلمين في شرق الأرض وغربها، انها أعظم من مقبرة تاريخية، واوسع من سور الزمان الخارجي او سور المكان الداخلي، انها ليست ذكريات اسلامية يتوضأ بعبقها تاريخنا ووجودنا الاسلامي، ليست مكان لبارنوما رسالات الوحي وبطولات المسلمين، وحتى الذين يتوقفون لزيارته فهم يستشعرون الاسلام كله من خلال نوافذ التاريخ، او يطلون من شبابيك المقدس على عظمة الايمان الالهي حينما يفعل فعله في الشخصية البشرية.

كان البقيع مقبرة المسلمين في عهد الرسول، وهي تضمّ أجساد أبناء رسول اللّه (عليهم السلام) الطيِّبين الطّاهرين، وقبوراً أخرى، كزَوجات النَّبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وبناته، وعمّاته، ومُرضعته، وابنه إبراهيم، والسيّدة فاطمة بنت أسد، وزوجة أمير المؤمنين السيّدة أمّ البنين، ويصفها ابن جبير في رحلته بقوله قبل اكثر من ثمانية قرون: (وبقيع الغرقد شرقي المدينة، تخرج اليه على باب يعرف بباب البقيع، وأول ما تلقى عن يسارك عند خروجك، من الباب المذكور، مشهد صفية عمة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أم الزبير بن العوام، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء.

وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعليه قبة بيضاء. وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب، اسمه عبد الرحمن الأوسط، وهو المعروف بأبي شحمة. وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب، وعبد اللّه بن جعفر الطيار. وبإزائهم

ص: 328

روضة فيها أزواج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي (عليه السلام) ، وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه ورأس الحسن الى رجلي العباس (عليهما السلام) ، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشّيان بألواح ملصقة أبدع الصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمساميره على أبدع صفة، وأجمل منظر. وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) . ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة (عليها السلام) بنت الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ويعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوت اليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي آخر البقيع قبر عثمان، وعليه قبة صغيرة مختصرة. وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أم علي (عليهم السلام) . ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تحصى لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار..)(1).

وهكذا ظل حال البقيع ومشاهده الى ان ابتدع بن عبد الوهاب مذهب الوهابية في هدم ما اتفق عليه المسلمون من عقائد وبناء.

وتخريب البناء المشيّد على مَراقد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في البقيع، يُعد جُرحاً نازفاً في قلب كُلّ المؤمنين، ومَهما كانت تَبريرات الوهّابيّين، فإن الصّورة الحاليّة للبقيع الغَرقَد غير مقبولة لدى المُسلمين بأيّ حال من الأحوال.

وكان الامام حسن الشيرازي الشهيد يحمل هَمَّ البقيع إلى جانب هُموم المُسلمين الأخرى ولهذا بَذَل جُهوداً كثيرة من أجل بناء قبور الأئمّة (عليهم السلام) في البقيع، وإعادة الكرامة والحُرمة إلى القبور الخَربة، ولكنّ القلوب المَريضة والأيدي الأثيمة، أفسَدَت الأمر عليه، وحالَت دون تحقيق هذه الأُمنية، ولا زال البقيع يُعاني مِن الهَدم إلى يومنا هذا، والحكم للّه يوم فصل القضاء.

ص: 329


1- رحلة ابن جبير، ابن جبير، محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، أبو الحسين (المتوفى: 614ه)، دار ومكتبة الهلال، بيروت.ص154-156.

الصورة

ص: 330

اسباب هدم قبور الائمة (عليهم السلام)

كان من جملة ما قاموا بهدمه وتسويته بالأرض ومنع وضع أي ظل أو سقف عليه هذه القباب التي تعاهد المسلمون جميعا على بناءها والاهتمام بها حين قاموا بهدمها للمرة الثانية في الثامن من شوال سنة (1344) في البقيع خارجه وداخله وهي:

1: قبة أهل البيت (عليهم السلام) المحتوية على ضريح سيدة النساء فاطمة الزهراء - على قول - ومراقد الأئمة الأربعة الحسن السبط، وزين العابدين، ومحمد الباقر، وابنه جعفر بن محمد الصادق عليهم الصلاة والسلام، وقبر العباس ابن عبد المطلب عم النبي، وبعد هدم هذه القباب درست الضرائح.

2: قبة سيدنا إبراهيم ابن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

3: قبة أزواج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

4: قبة عمات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

5: قبة حليمة السعدية مرضعة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

6: قبة سيدنا إسماعيل ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) .

7: قبة أبي سعيد الخدري.

8: قبة فاطمة بنت أسد.

9: قبة عبد اللّه والد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) .

10: قبة سيدنا حمزة خارج المدينة.

11: قبة علي العريضي ابن الإمام جعفر بن محمد خارج المدينة.

12: قبة زكي الدين خارج المدينة.

13: قبة مالك أبي سعد من شهداء أحد داخل المدينة

14: موضع الثنايا خارج المدينة.

ص: 331

15: مصرع سيدنا عقيل بن أبي طالب (عليه السلام)

16: بيت الأحزان لفاطمة الزهراء (عليها السلام)

والسبب في ذلك هو اتمام المشروع الاموي بطمس كل ما يشير الى ال البيت من قريب او بعيد ويروي المدائني ان معاوية كتب الى عماله: إذا جاءكم كتابي فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه احد المسلمين في أبي تراب (الإمام علي) إلا واتوني بمناقض له في الصحابة فان هذا أحب إلي واقر لعيني وادحض لحجة أبي تراب وشيعته (شرح النهج ج11 ص44).وبالطبع لا تكمل سياسة الترغيب هذه إلا بسياسة إرهابية متممة ومكملة لها فكتب معاوية الى قضاته وولاته في الأمصار أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقب شهادة وبذلك حكم عليهم بعزلة اجتماعية تذكرنا بمقاطعة أهل مكة للمسلمين في شعب أبي طالب.

ثم كتب أيضا: انظروا من قامت عليه البينة انه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان. نعم فالحب جريمة ومودة أهل البيت هي ركن إسلامي متين فرضه اللّه سبحانه في قوله تعالى: {ذلِكَ الَّذي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}(1)، أما المحو من ديوان العطاء فما يزل يتجسد اليوم في إبعاد أتباع أهل البيت عن الوظائف وتعطيل شبابهم ومنعهم حقوقهم كمواطنين وتهميش دورهم وزجهم بالسجون بحجة محبة ال بيت الرسول والتشيع لهم.

ثم كتب معاوية كتابا آخر: من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه.(2) وصنو

ص: 332


1- سورة الشوری، الآية: 23.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج10 ص45.

هذه الجرائم الوحشية ما تقوم به السلطات الدكتاتورية من حملات قمع للأطفال والنساء والشيوخ والشباب وتعذيبهم في السجون وقتلهم دون جرم أو جريرة إلا إنهم أبوا أن يسيروا على نهج المشركين ومن ورثهم من سلاطين الجريمة وطواغيت الشر والرذيلة.

وهناك آلاف الأسماء التي حفظها لنا التاريخ ممن صلب أو نفي أو دفن حيا وعشرات الآلاف ممن سجن ونهب ماله أو هدمت داره.

ويصور لنا الإمام الباقر (عليه السلام) تلك المحنة بقوله: قتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره.

وطوال مدة دولتهم وهم يسبون عليا وال بيت الرسول (عليهم السلام) من على منابر المسلمين ليجعلوهم سنة يكبر عليها الصغير ويموت عليها الكبير، لان عترة الرسول هم حملة الكتاب وهم وصيته وهم الجزء الانساني من الثقلان كتاب اللّه وعترة رسوله، وبالطبع فان الدعوة الى طمس قبورهم هي محاولة لتغييبهم تماما عن وعي الامة وانظارها، مع ملاحظة ان اصرارهم كان يستهدف هدم قبر الرسول ومحو كل أثر له غير ان ردة الفعل من العالم الاسلامي كانت أكبر من جراتهم على اللّه ورسوله.

ان هدم قبور ال البيت ليست لها منطلق عقائدي بل هي اسلوب لجأ له اعداء اهل البيت قديما من زمن الأمويين ثم قام به بعض ملوك بني العباس ممن ناصب العداء لآل البيت الرسول وجرت العديد من المحاولات لتهديم قبر الامام الحسين (عليه السلام) وحاولت السلطات الظالمة والى سنين قريبة من منع الناس من زيارة قبور الائمة لما لهذه الزيارات من أثر ايماني وبعد عقائدي وتحفيز لوعي الامة على البحث عن مورد الاسلام الصحيح.

ص: 333

فلم تكن ظلامة الأئمة (عليهم السلام) المدفونين في البقيع في حياتهم فقط، وإنما مستمرة الى وقتنا الحاضر، من خلال هدم قبورهم وحرمان شيعتهم من زيارتهم وهو ظلم واضح جلي.

وهناك أسباب كثيرة جعلتهم يقومون بالجريمة النكراء لتهديم القبور المطهرة لأئمة البقيع نذكر أهمها:

1- القضاء على الاسلام.

لم يكن هذا العمل إلا لأجل القضاء على الإسلام، فلذلك عمدوا على تدمير كل أثر يدل على حضارة الإسلام، وهدموا ذلك الاثر تمهيدا للقضاء على المؤثر، لأنك ان قضيت على مدلول الشيء تكون مهدت للقضاء على الشيء نفسه، وها هم يهدمون آثار الإسلام وقبور عظماء المسلمين لأنها دالة على وجود الإسلام، ولو تسألنا من المستفيد من القضاء على الاسلام؟ لوجدنا حقيقة واضحة وهم اليهود، فلهم دور كبير توجيهي بهدم آثار الإسلام، فلذلك وكما قيل، أنهم توجهوا الى الاثر الباقي من باب خيبر فهشموها قطعةً قطعة!!!.

2- العداء لأهل البيت (عليهم السلام)

وهذا واضح جلي لأنه متوارث عندهم، مع العلم ان الذي أفتى بهدم القبور اعتمد بفتواه على ابن تيمية وابن تيمية هذا يقول (ان علي بن أبي طالب لم يصح إسلامه لأنه أسلم صبيا)!!!.

3- القضاء على ذكر أهل البيت (عليهم السلام)

من الامور التي تكشف عن إنسان وماله من أهمية عند اللّه أو في المجتمع، هو تقديس الناس واحترامهم له بسبب صلاح سيرته وتقواه، وخير دليل على هذا، القصة التي حصلت مع الإمام السجاد (عليه السلام) كما جاء في الرواية إن هشاماً بن عبد الملك عندما توجه بخدمه وحراسه لحج بيت اللّه الحرام اراد الوصول الى

ص: 334

الحجر الاسود فلم يستطع بسبب زخم الحجاج، فجلس في مكان حتى يخف الزخم، واذا بالإمام السجاد يتوجه نحو الحجر الاسود فانفرج له الحجاج سماطين واخذوا يتبركون به حتى وصل الحجر الاسود فلما راه احد الجالسين قال لهشام من هذا فأنكره!! (قال لا اعرف!) فوقف الفرزدق معرفا الإمام بقصيدته الرائعة، التي جاء منها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته***والبيت يعرفه والحل والحرم

ومن جملة الطرق التي يتخذها الناس لتقديس عظمائهم هي تخليد آثارهم وبناء قبورهم، فوجود قبور العظماء أو الآثار دلالة على مكانة اصحاب تلك القبور، وبما ان مكة والمدينة تأتيها الحجاج من كل بقاع العالم وقبور البقيع مشيدة، فإنها ستثير التساؤل عن اصحاب تلك القباب، وتلفت النظر إليهم، وكيف حصلوا على هذه المكانة، مما يؤدي لإنحياز ذوي العقول إلى مذهبهم، لأن الجواب سيأتي كجواب الفرزدق لهشام (هؤلاء خير الناس كلهم).

ص: 335

الصورة

ص: 336

4- الحسد

لا يتحمل الحاسد ان يرى النعمة بادية على أخيه المؤمن أو المسلم بل يسعى وبكل الطرق الى ازالة هذه النعمة، فلذلك أمر اللّه عز وجل بالاستعاذة منه {وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ}(1) وبعض آيات القرآن تحدثت عن جرائم القتل التي كان الباعث لها الحسد، كحسد قابيل لأخيه هابيل، وحسد اخوة يوسف ليوسف، ومن قتل اهل البيت (عليهم السلام) لم يكن الا حسدا بهم والإمام الباقر (عليه السلام) يقول في تفسير الآية {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}(2) يجيب (نحن المحسودين)، نعم وهؤلاء هدموا قبور الأئمة حسدا لأنهم وجدو أهل البيت (عليهم السلام) وذريتهم امتازوا في الدنيا بتلك الأضرحة والقباب المشيرة والدالة على شرفهم ومكانتهم عند اللّه عز وجل في الدنيا والآخرة، في الوقت الذي ذهب فيه الحاسدون وأئمتهم الى مزبلة التاريخ.

ص: 337


1- سورة الفلق، الآية: 5.
2- سورة النساء، الآية: 54.

الصورة

ص: 338

هدم البقيع

الوهابيون قد قدموا إلى تهديم قبور البقيع مرتين في التاريخ المشؤوم:

الوهابيون وكما هو معروف قد ورثوا الحقد الدفين ضد الحضارة الإسلامية من أسلافهم الطغاة من ناصبي العداء للرسول واله من اسلافهم الامويين قتلة حمزة وعلي الحسين (عليهم السلام) فكانوا المثال الصادق للجهل والظلم والفساد فقاموا بتهديم قبور بقيع الغرقد مرتين:

الأولى: عام 1220ه- - 1805 م

كانت الجريمة التي لا تنسى، عند قيام الدولة السعودية الأولى حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع وذلك عام 1220 ه- وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فني رائع حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن ولى خط الوهابيين لحين من الوقت.

الثانية: عام 1344ه- - 1925م

ثم عاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام 1344ه- وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة وقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار (عليهم السلام) وأهل بيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بعد تعريضها للإهانة والتحقير بفتوى من وعّاظهم.

فأصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعا صفصفا لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.

الموقف من بناء البقيع

كان السيد حسن الشيرازي يُقلل في المدينة المنوّرة من الذّهاب إلى البقيع لزيارة قبور أئمّة البقيع (عليهم السلام) ، وعندما يسأل عن السَّبب، يجيب بقوله: «الألم يعصر قلبي كثيراً حينما أدخل البقيع وأرى قبور الأئمّة الطّاهرين (عليهم السلام) هناك بهذا

ص: 339

الوضع المأساوي، وأرى أن بإمكاننا لو جَنَّدنا كلّ طاقاتنا وإمكانيّاتنا أن نرغم حُكّام الحرمين على السَّماح ببناء القباب على هذه القبور المقدَّسة».

وذات يوم ذهب إلى البقيع، فنزع حذاءه عند الباب، ومَشى حافياً إلى تلك القبور، وبدأ بالزِّيارة ودموعه تَتَساقط على خَدّيه بشكل متواصل حزناً على مظلوميّة أهل البيت (عليهم السلام) الراقدين هناك.

كان السيد الشيرازي يعتَقد أن بقاء قُبور أئمّة البقيع (عليهم السلام) مُهَدّمة وعلى هذه الحال الَّذي نَراه اليوم، إن دَلَّ على شيء إنَّما يَدلّ على ضَعفنا وتَفَكّكنا، وعلى خوار إرادتنا.. فكان السيد الشيرازي يشعُر بأن اللاّزم والواجب عليه أن يتحرَّك لبناء هذه القُبور الطّاهرة، لأنَّها رَمز لشخصيّتنا وهَيبتنا.

وكان السيد الشيرازي في كل موسم من مواسم الحج يقوم بمحاولات متعددة ومتنوعة في سبيل تفعيل قضية بناء البقيع وبمستويات واتجاهات متباينة، ومنها:

اولا: الحوار مع الساسة السعوديين واصحاب السلطة:

اجرى السيد الشيرازي عدة حوارات واجتماعات مع الساسة السعوديين لطرح قضية بناء البقيع فقد اجتمع السيد حسن الشيرازي مع الملك فيصل بن عبد العزيز في جدّة.

وفي إحدى رحلاته الى الديار المقدسة، التقى الملك فيصل، وتحدَّث معه بمنطق ديني وسياسي واجتماعي حول ضرورة إعادة بناء قبور أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، وكان من جملة حججه للملك فيصل: نحن لا نتحدث عن موتى، ولا نريد بناء القبور للمَوتى، إنما نُريد ذلك للأحياء، فأنتم تبنون مظلات للذي ينتظر الباص على قارعة الطريق، أليس كذلك؟! فقال الملك: نعم. قال السيد الشيرازي: مع ان بقائه في الشارع ومحاولة ركوب الباص ليس عَمَلاً من الأعمال المُستحبّة في الاسلام، فقط يريد بها الذهاب إلى بيته أو مركز عمله، لكن يُجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور. فقال الملك فيصل: نعم.

ص: 340

ثُمَّ قال السيد حسن الشيرازي: هَل مَن يقف لركوب الباص يستحقّ أن تُبنى لَه مظلّة، وهو لا يقوم بعمل مستحب، لكن مَن يقوم بزيارة القبور ويقرأ الفاتحة على الموتى، ممنوع عليه أن يستَظل في ظلّ، ويجب أن يبقى تحت أشعّة الشمس، أو تحت المَطَر؟! فابتسم الملك وقد شعر بقوة حجة السيد الشيرازي التي حولت القضية الى قضية خدمية لحجاج بيت اللّه الحرام، لكن الملك قال: إن هنالك علماء يحتجّون، اقنَعهم وأنا مَعَك! فقال السيد الشيرازي: «ليكن ذلك بحضورك، وأنت الحَكَم».

وعقد العديد من الاجتماعات مع الساسة السعوديين الذين احالو الامر الى رجال الدين الوهابيين، ولكن ذلك لم يثني من عزم السيد الشيرازي بل وجد فيه مضمار جديد يستحق التقدم والمحاولة ولم تحصل عنده حالة اليأس، بل كان مُتَفائلاً أن يُسهّل اللّه عز وجل بناء قبور الأئمّة (عليهم السلام) في البقيع، فكان يجتمع ببعض المسؤولين هناك، ويجري معهم المباحثات حول هذا الموضوع، والمواضيع الَّتي ترتبط بوضع الشيعة المأساوي في الحجاز...

ويصور لنا احد معاصريه(1)

عزمه ومثارته في قضية البقيع بقوله:

ومن أجل البقيع أشاد عَزماً***لتُبنى شاهقاً رَغم السعودِ

قُبورٌ هُدِّمتْ بالكفر حِقداً***لآل محمّد خير الوجودِ

وأمضى للعراقِ يشيد حكماً***يظل المسلمين بلا حدود

وألَّف فكرهُ الوقادُ كتباً***بلغنْ الأربعينَ عن الأسودِ

جهادٌ كالوصي له دويُ***سلام للوصي وللحَفيدِ

ويروي لنا المرجع آية اللّه العظمى السيِّد صادق الحسيني الشيرازي ما تعرض له السيد حسن الشيرازي من عقبات ومصاعب وعوائق في هذه المهمة

ص: 341


1- سماحة الحجّة الشيخ فاضل الفاضلي.

المستحيلة في حلبة الوهابية بقوله: (كان الشهيد الأخ رحمه اللّه يَسعى جاهداً لبناء البقيع، وإرضاء الحُكّام والعلماء في السعوديّة.. كان يحتاج إلى جُهد كبير وأموال طائلة.. فجاء الشهيد إلى الكويت، وجمع عدداً من التُجّار، وطَرَح عليهم الفكرة، وقال: «إبتداءاً نحتاج إلى مال، وذلك للإقناع فقط». فقال أحدهم: إنَّكُم إقنعوهم وسوف نتحمَّل كافّة مَصاريف البناء.. فضحك الشهيد وقال: «لَو أقنَعتهم الآن، وأجازوا بناء البقيع، فإنَّني لا أحتاج إليكم أصلاً، فإن عجائز كربلاء سيتكَفَّلن ببناء البقيع.. إنما المهم الآن، فإن النّاس لا يفهمون المُعادلة، فإن تحصيل الرُّخصة يحتاج إلى أموال ضخمة لا يتبرَّع بها أحد.. لقُصور الفَهم، وأمّا بعد تحصيل الرُّخصة، فلا تبقى مُشكلة..».

أقول: «وبالفعل.. لم يَفهَم أحد، بل الكثير وضع العراقيل حينما كانت الإجازة على قاب قوسين أو أدنى.. والمُشتَكى إلى اللّه، وسيكون هو الحكم بين السيّد الشهيد وبين المانعين..!!».

ثانيا: الحوار مع علماء الوهابية:

ويروي سماحة المرجع آية اللّه العظمى السيِّد صادق الحسيني الشيرازي جانبا من مساعي السيد حسن الشيرازي مع علماء الوهابية فيقول: (لقد جاهد الأخ الشهيد كثيراً من أجل إعادة إعمار قُبور أئمّة البقيع (عليهم السلام) ، ولأجل الوُصول إلی هذا الهدف ضَمَّ إلی صوته عدّة أصوات من مُختلف الشخصيّات، ولقد أخبرني، «أنَّه جلَس لَيالي مُتعَدّدة، من الليل إلی الفَجر مع المرجع السيّد أبوالقاسم الخوئي، حتّی تَمَكَّن من جَلب رضاه ومُوافقته لدعم المَشروع وتأييده.. كما كانت له جلسات مُركَّزة مع الشيخ الوائلي حتّی ضمَّه إلی هذا المَشروع وجلب تأييده، وكذلك السيّد جواد الشُبَّر، و.. حتَّی كسب موافقة مختلف الشخصيّات الشيعيّة من مختلف البُلدان..

ص: 342

ولقد قال السيّد مُجتبی الشيرازي، «ان الشهيد أسَّس لُجنة تَضُمّ عشرة أشخاص لأجل مُتابعة هذا المَشروع الضَّخم، وكان يَعقد معهم جلسات مُفصّلة.. وقد انتقل جميعهم إلی رحمة اللّه باستثناء السيّد مُرتضی القزويني، وحَبَّذا لو حصل لقاء معه ليبيّن تفاصيل تلك الجلسات، وما جَری فيها، والخُطوات الَّتي خطوها، وأسباب عرقلة المَشروع..».

وكان الأخ الشهيد يَعقد الجلسات مع علماء الوَهّابيّين لإقناعهم بالحُجّة والبرهان، كما كان يهدي الهدايا الثَّمينة والقَيِّمة لمَن بيدهم الأمر والنَّهي.. فعمل وواصل وجاهد حتّی كَتَب إليه الملك فيصل رسالة ووقَّعها بنفسه، مع أن الملك فيصل كان مُتكبّراً بشدّة، يَأبی عن مثل هذه الأعمال.. ولقد جاء في رسالته، «انَّنا نُوافق علی إعادة إعمار قبور أئمّة البقيع، ولكن هُنالك بعض العلماء مُتوقّفين في هذا الأمر، عليك أن تقنعهم..».

لقد قاسى الإمام الشهيد من أَجل البقيع وبناءه، وكم اجتمع مع علماء الوهّابيّة، وأجاب عن معتقداتهم الفاسدة، ولم يدع شبهة عندهم إلاّ وأَجاب عنها ببيان ساحر وأُسلوب بليغ، ولقد أرسل برقيّات ورسائل عديدة إلى كثيرين من رجال العلم والدّين، يدعوهم فيها إلى أن يضمّوا صوتهم إلى صوته، من أجل بناء جنّة البقيع، إضافة إلی إجتماعه مع العلماء، ومباحثاته معهم من أجل القضيّة نفسها، ولقد بَذَل الإمام الشهيد قصارى جهده من أَجل بناء هذه القبور الطّاهرة، لكن الجهل والظلم ونصب العداء لال بيت الرسول حال دون ذلك، إلاّ أن الإمام الشهيد قد مَهَّد الطَّريق كثيراً لمن يوفّقه اللّه تعالى في المستقبل.

وكانت نهاية مساعي الامام الشهيد هو ان اتَّصَل الملك السعودي بالحكومة العراقيّة ليتحرّى عن شخصيّة السيّد الشهيد، فَلَم يُجيبوه بشيء إيجابي حوله، حيث لم يكُن الشهيد يدور في فلك الحكومة، لذا أهملوا القضيّة، ولم يفلح

ص: 343

السيِّد الشهيد بعد كل الجهود لإنجاح المشروع، لكنه لم يستسلم للنتيجة، فقام سماحته بتأسيس لجنة تُتابع قضيّة البقيع. وبما أن السيّد الشهيد كان من العراق، لهذا أراد الملك أن يُحوِّل القضيّة من دينيّة مَحضة إلى سياسيّة أيضاً من أجل التملّص من تعهُّداته، ورأى أن تكون الحكومة العراقيّة هي القائمة بالأمر، لمَعرفته المُسبقة بخلفيّة الحكومة العراقيّة آنذاك، وتأكُّده من عدم موافقتها، وهكذا كان.

وقيل في وقتها، ان مِن بين مَن منَع تَحقيق هذا الأمر هو شاه إيران. الذي كان يطمح في أن يقوم بإعادة بناء قبور أئمّة البقيع (عليهم السلام) ، ويحقق من وراء ذلك مكسباً سياسيّاً. في كُلّ الأحوال، يمكن القول إن جهوده في هذا المَجال كانت جبّارة ومتميزة، مع انه لم يكُن يحتَل منصَباً سياسيّاً معيّناً في العراق أو غير العراق.

ص: 344

المبحث الثالث: الحوزة الزينبية

الحوزة الزينبية عظمة الانجاز في الزمن الصعب

هناك بعض المواقف.. وهناك بعض الأعمال التي لا تحوز عظمتها مما تشغله من مساحة في التفرد والتميز، بل وأيضا من عظمة كينونتها، وهي تنتصر على العوائق وتتجاوز المحن، لتولد للإنسانية أفق جديد من الحياة، أفق يتجاوز كل قصائد الأمل ونظريات النهوض، أفق كان هو النهضة، وهو مبعث جديد لولادة أكثر ضجيجا في حياة الفكر والعقيدة وحيوية في تحدي الظلمة والظالمين...

وبأي مشاعر سنقيم عظمة الانجاز الذي اتسعت مساحته لتشمل امة، وعمقه يستقر الى جذور العقيدة، وقوته حركت التاريخ لتنعطف به على رغم أنوف طغاته المتجبرين..

ومن كانت له طاقة كل هذا الجهد العظيم..؟!!

أليس هو السجين المعذب في غياهب سجون طغاة العراق، وعصابته العفلقية الدموية؟!

أليس هو من احرقوا صدره الفاطمي بالنار، ومزقوا ظهره الزينبي بالسياط؟!

أليس هو الفتى الحسيني الذين طافوا به السجون، فملئها صمودا وثبات، وعفر جباه استكبارهم بثرى ثباته في الحق؟!

من حق كل من لا يعرف السيد الشيرازي أن يتساءل: كيف يمكن لإنسان فرد عذب وسجن وطورد، وخرج من بلده مريضا، خائفا يترقب بطش طواغيت العصر، ويصل الى بلد آخر، فيؤسس كل هذه المؤسسات، والحوزة الزينبية

ص: 345

والمدارس الدينية في زمن اقل ما نقول عنه، انه كان ضد توجهاته وحركاته بل ووجوده أيضا؟!

كان السيد الشيرازي متدفق بالحماس المنبثق من الإيمان باللّه تعالى والإخلاص له في العمل، وحقق ما أنجزه لان عمله كان خالصا للّه، وما كان للّه ينمو ويثمر، ويجعلنا عاجزين عن فهم سر الانجاز الذي تحدى ظروف عصره..

الحوزة الزينبية رسالة على مدى التاريخ

يوما ما في دمشق وقفت السيدة زينب مقيدة في قافلة السبي، تسفح دمعة وتكتم غصة، في مجلس الطاغية يزيد الأموي وهو يضرب بقضيب ثنايا الإمام الحسين، وشفتي القران، ثم يستهزئ بالرسالة الإسلامية، ويتشفى بانتقامه لأهل الشرك من أشياخ الجاهلية الذين قضوا في معركة بدر، كان عليها أن تتحمل نشوة الباطل، وهو يحسب انه أصاب من الحق مقتلا.. وبدا الطاغية الجاهلي يترنم بما توهمه انتصار، وبين يديه رأس سيد الشهداء وإمام المتقين الإمام الحسين:

ليت أشياخي ببدر شهدوا***جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً***ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم***وعدلنا ميل بدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا***خبر جاء ولا وحي نزل

غفى يزيد الجاهلي في ظلمة اوهامه للحظات غير ان بريق الحق صعقه ورعد الصوت الزينبي مزق صمم وعيه:

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا على اللّه هوانا، وبك عليه كرامة؟ وإنّ ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلا ! أنسيت قول اللّه تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلي لَهُمْ خَيْرٌ

ص: 346

لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهينٌ}.

يا ابن الطلقاء...

كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فواللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، ولا تغيب منك شنارها، فهل رأيك إلاّ فند ! وأيّامك إلاّ عدد ! وشملك إلاّ بدد ! يوم ينادي المنادي: ألا لعنة اللّه على الظالمين، فالحمد للّه الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والرحمة، ولآخرنا بالشهادة والمغفرة..

وما هي غير هنيهة من زمن التاريخ حتى تجسدت الرؤية الزينبية ليزيد وللطغاة السائرين على دربه..

في دمشق وحين توهم الظلم انه بنى مملكة الشر المنيعة، سعى ومن وراء قناع الخديعة لطمس نور اللّه ودينه، فسارت قافلة الشهادة الى كربلاء لتسقط الى الأبد أقنعة الشر، ولتظهر للأمة الصراط المستقيم في خضم الواقع الملموس ولتجعل من دماء سيد الشهداء منارا خالدا يرشد مواقف الإنسان ويقوم تجارب الأمم.

وفي دمشق رفعت زينب (عليها السلام) راية الحياة.. لتشهد الى الأبد على سنة خالدة، خصها اللّه بالحسين وثورته، انه كلما يتوهم الباطل انه انتصر على كربلاء الشهادة، رفرفت راية التحدي الزينبية من الشام..

في الشّام في مثوى أميّة مَرقدٌ***يُنَبِّئُك كيف دم الشهادة يخلد

صرح من الإيمان زهو أمية***وشُموخ دولتها لديه يسجد

وتدور عجلة التاريخ ويتمادى الطاغية العفلقي في جراح العراق وتمزيق كربلاء، فيقتل من يقتل من علماء الدين ويفر من يفر ويهجر من يهجر من طلبة العلوم الحوزوية، وليس بعيدا كانت الحوزة الزينبية تنهض لتحتضن العلماء وتفتح افاقا جديدة لطلبة الحوزة، وكأنها تقدم رسالة على مدى التاريخ مفادها قوله تعالى:

ص: 347

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1).

أهداف التأسيس ومحددات المرحلة

أهداف التأسيس

كان السيد حسن الشيرازي ينظر الى فلسفة تأسيس الحوزات العلميّة واستمراريّتها، وبالأصالة المعهودة منه في جميع أدبيّاته، الى أن أصل مشروع الحوزات العلميّة يعود إلى عهد الرَّسول، وطبقاً لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(2)، والَّذي يحثّ على التفَقُّه والتثَقُّف في الدّين، وليس لمجرَّد التفَقُّه، بل لنقله ونشره، وكما يقال اليوم: يجب أن لا يكون التعلُّم لمجرَّد التعلُّم، بل للتعليم، ونشر العلم، والإلتزام، والعمل، والتَّحَرُّك، والتَّبليغ، وما إلى ذلك..

فالمَشروع ليس مُستحدثاً، أوترفياً، أو مُستهلكاً فقط.. بل ضرورة وحاجة وقاعدة لإشعاع الحضارة الإسلاميّة، واستمراراً لذلك الإشعاع، فإذا أريد لهذه الحضارة أن تستمر جذوتها ويسافر إشعاعها الى المستقبل، فعليها التَّضحية بجزء من الإنتاج وزخمه في الحاضر، لضَمان الإشعاع في المُستقبل، وإستمراره على مَرّ العصور..

والشهيد المؤسِّس يُشير إلى الأصالة والضَّرورة والحاجة، ويتطرَّق إلى المُرجَّحات في زحمة أعماله ومسؤوليّاته الكبيرة، ويرى انه مَهما كانت

ص: 348


1- سورة التوبة، الآية: 32-33.
2- سورة التوبة، الآية: 122.

التَّزاحُمات والأولويّات والمسؤوليّات الأخرى، فلابدّ من المَشاريع الحضاريّة التعليميّة التربويّة كالحوزات، حتّى بالتضحية بجزء من الإنتاجيّة في العمل والتَّبليغ في الحاضر لِضَمان المستقبل، لأن العمل والزَّمن يستهلك الطّاقات والموارد والعاملين.وذلك يعكس حرصه الشَّديد على العمل والتَّبليغ، وحمل القَضيّة، وأداء الأدوار الأخرى، والتَّأكيد على الهدفيّة في التَّعليم، والغرق في النَّظَريّات..

كما يُشير السيد الشيرازي في نفس الكلمة إلى حقيقة، وهو: إن الخُطَط القرآنيّة عامّة للجميع، وتَتَجاوز الزَّمن، فهي عناصر أصيلة من الخُطَط الكونيّة، ومصدر المجموعتين واحد، فهو اللّه عز وجل، والباري عندما يرسم الخُطَط، يجعلها قادرة على الانطلاق بذاتيَّتها نحو الأبد، ولا بدفعة يد، ولا بلمعة فكر».. وهنا لشهيدنا الشيرازي إشارة إلى نقطة محوريّة في الخُطّة والتَّخطيط، وتَتَلَخَّص في أن المُخَطِّط يجب أن يَضَع ضمن الخُطّة ما يضمن الإستمرار لها، وهو ما يُسمّى اليوم ب- «مأسسة الخُطّة»، و«مأسسة عمليّة التَّخطيط»..

نعم، بهذا العُمق الفكري القرآني الأصيل، والإيمان والإخلاص والتوكُّل والتوسُّل بدأ، فأنجز الكثير حول العالَم، منها هذا الصَّرح الشّامخ «الحوزة العلميّة الزينبيّة» دليل على نجاحه، وشاهد على فلاحه..

أولاً: إن تأسيس الحوزات الدينية هو واجب ديني وعقائدي: فالحوزة هي الكيان العلمي والفكري والثقافي لشيعة الرسول وال بيته الأطهار، والامتداد الشرعي لنهج النبوة الخاتمة ومدرسة الإمامة، وجبت بنص قراني يدعو الى علم الفقه وما يعاضده من اجل استنباط واستقراء الأحكام وفقا لمراجع التشريع الإسلامي، ولذلك تميزت هذه الحوزات بالاهتمام بالبحث عن الحكم الشرعي، وأخذه من مصادره الأصيلة وحججه، وبالحفاظ على حدوده، بعيدًا عن التأثر بالجهات الخارجية من سلطان أو عرف اجتماعي أو غير ذلك، جريًا على نهج

ص: 349

أهل البيت (صلوات اللّه عليهم)، والتزامًا بتعاليمهم الموافقة للفطرة، وحكم العقل السليم.

ثانياً: إن هناك أهداف تبليغية وثقافية للحوزة: فتنمية الثقافة الدينية والحكمة والتقوى والإخلاص والاهتمام بصلاح الدين والمؤمنين أعظم الأثر في تقريب وإصلاح أمرهم، وتوحيد كلمتهم، وعلاج مشاكلهم، وتخفيف أزماتهم، ومواساتهم، ومدّ يد العون لهم، حيث أوجب ذلك الشعور المتبادل بأبوة المرجعية الدينية، وتوثق الروابط بينها وبين المؤمنين.

ثالثاً: صنع الشخصيّة الإسلاميّة القادرة على قيادة الشعوب، ودعوتها إلى الدّين الإسلامي: بالإضافة إلى قدرتها على توعية المسلمين، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم وقد شخص السيّد الشيرازي الداء في الأمّة، وشخَّص الداء في هذا العالم، عالم الماديّات، عالم الحروب، عالم الأزمات والمصائب، عالم الإختلافات.. هذا هو الداء، عالم الماديّات المطلقة.. هو تربية الرِّجال المصلحين، في ظلّ الحوزات العلميّة.إن الحوزة العلمية الزينبية المقدَّسة الَّتي أسَّسها الإمام الشهيد في عام (1973م)، رَبَّت جيلاً من العلماء والمصلحين والمجاهدين والأدباء..

والحوزات منبع الرِّجال المصلحين.. الحوزات منبع العلماء والأدباء والمؤسّسين للمؤسّسات الإصلاحيّة.. منبع رجال الأدب والعلم والتَّضحية والجهاد في سبيل اللّه تبارك وتعالى..

وبعد مرور أربع عقود على تأسيس هذا الصَّرح الإستراتيجي المبارك، يتَّضح لكلّ ذي عين بصيرة أن تفكير الإمام الشهيد في تأسيس هذا المشروع كان إستراتيجيّاً حَقّاً، فالظُّروف القاسية الَّتي مَرَّت على العراق، في ظِلّ السُّلطة الدكتاتوريّة، والتداخلات السّياسيّة والأمنيّة والإداريّة، الَّتي مَرَّت على إيران منذ إنتصار الثورة عام (1979م)، كادَت أن تحرم الآلاف من طلبة العلوم الدينيّة من

ص: 350

التَّحصيل والدراسة وإكمال دروسهم وبحوثهم العلميّة والدينيّة، لولا أنّهم رأوا في الحوزة العلميّة الزينبيّة الَّتي أسَّسها الشهيد الشيرازي ملجأ آمِناً لَجَأوا إليه، وملاذاً يطمئن إليه، يمكن أن يحتضنهم ويرعاهم ويمنحهم الفرصة الذهبيّة الَّتي كانوا يحلمون بها في الحوزات والمناطق الأخرى.

لقد كان مشروع تأسيس الحوزة بحقّ عملاً إستراتيجيّاً، أحيا موقعاً إستراتيجيّاً في المنطقة والعالم الإسلامي، فكانت البَديل عن الحوزات التَّقليديّة الَّتي صعب على الكثيرين من الطَّلبة شدّ الرِّحال إليها لأسباب عديدة، أمنيّة، وسياسيّة، وإداريّة، وغيرها، لذلك نرى أن الحوزة اليوم تَحتَضِن العديد من كبار الأساتذة، ولمختلف المستويات التدريسيّة الحوزويّة، بالإضافة إلى احتضانها ورعايتها لكمّ وَفير من الطَّلبة الأجلاّء، ومن مختلف بلدان العالم.

ولا نجانب الحقيقة قَط، إذا قلنا بأن للحوزة العلميّة الزينبيّة، ومؤسّسها السيّد الشهيد، الفضل للوجود الواسع والمفعم بالخير والبركة الماديّة والمعنويّة اليوم في شوارع السيّدة زينب، بل ان لها الفضل على العديد من الحوزات العلميّة الدينيّة الَّتي شُيِّدَت في بقاع مختلفة من العالم، كبلدان، أفريقيا، والهند، والباكستان الَّتي اتّخذت منها منطلقاً لرحلة التَّأسيس.

كما ساهَمَت الحوزة الزينبيّة بشكل فَعّال في بناء جيل واسع من الأساتذة والحوزويّين الَّذين ينتشرون اليوم في مختلف أرجاء العالم، يبلِّغون رسالات اللّه عز وجل عز وجل، ويُدَرِّسون علوم الإسلام والقرآن وأهل بيت (عليهم السلام) .

رابعاً: إرسال المبلّغين الإسلاميّين إلى بعض الدول الإسلاميّة من أجل تَعميق الدّين والإسلام في صفوف المسلمين، وتوعيتهم أكثر فأكثر: ومِمّا لا شكَّ فيه، أن بقاء الأُمَم إنَّما هو بالفكر والشخصيّات، والمذهب الشّيعي الحقّ يتمتَّع بهذين العُنصرين، فالفكر الشّيعي الأصيل هو الَّذي يستقي جذوره وعلومه من الثَّقَلَين: كتاب اللّه المَجيد، وعترة رسوله، فَهُم «ينابيع العلوم عن الحيّ القيّوم»

ص: 351

كما في الزّيارة الجامعة الشريفة.

وشخصيّات المذهب الشّيعي هُم الأئمّة الإثنا عشر من أهل البيت (عليهم السلام) ، الَّذين أذهَب اللّه عنهُم الرِّجس، وطهَّرهُم تَطهيرا، فَهُم خُلَفاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الشَّرعيّون، الطّاهرون، المَعصومون، الرّاسخون في العلم، الجامعون للصِّفات الحَسَنة، والخِصال الحَميدة، والسَّجايا الكريمة، وقد جاء في الحديث الشَّريف: «إن النّاس لو علموا مَحاسن كلامنا لاتّبعونا»(1).

والحوزة العلميّة هي الكفيلة بإرساء قَواعد مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، وإرشاد النّاس، وهدايتهم إلى الصِّراط المُستقيم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تَتَمتَّع مَراقد أهل البيت (عليهم السلام) بجاذبيّة إلهيّة، تَستَقطب النّاس من كُلّ فجّ عميق، فما أحسن لو قامت الحوزة العلميّة إلى جانب إحدى المَراقد المُقدّسة لآل رسول اللّه الطّاهرين.

وقد نالَت دول القارّة السَّوداء حصّة الأسد في قائمة الدول. بالإضافة إلى مُساهمتها في بناء جيل آخر من الخطباء المُتمَيّزين الَّذين يجوبون البقاع في الاتجاهات الأربعة يبلِّغون ويرشدون ويحيون أمر أهل البيت (عليهم السلام) .

محددات المرحلة

الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي رافقت تأسيس الحوزة الزينبية، سواء على مستوى الوضع الدولي، أو ظروف العالم الإسلامي، أو الطائفة الشيعية يومئذ كلها محددت مرحلية كان لها تأثير مباشر، أو غير مباشر في تأسيس الحوزة الزينبية وعوامل نموها وتطورها.

هناك جملة من المحددات التي دفعت بالتعجيل بتأسيس الحوزة الزينبية، وهناك بالمقابل محددات كانت تعيق وتمنع حتى التخطيط لمثل هكذا عمل

ص: 352


1- وسائل الشيعة: ج27، ص92، ح33297. بحار الأنوار: ج2، ص30. مَعاني الأخبار: ص180.

كبير، وعندما نقول: عمل كبير فإننا نشير الى انه عمل تاريخي، لان تأسيس حوزة علمية تخرج المئات من علماء الدين من شتى بقاع الأرض وإحياء المراقد المطهرة في بلاد الشام هو عمل يحتاج الى توفيق إلهي أولا، والى جهود جبارة.

الحوزة العلمية في النجف الاشرف وكربلاء المقدسة

تعد الحوزة العلمية في النجف الاشرف، وكربلاء المقدسة الحوزة الأهم والأكثر تأثيرا في العالم لأتباع الرسول محمد وال بيته الأطهار، غير إن السياسات الطائفية التي مارسها الاحتلال العثماني، ثم الاحتلال البريطاني ثم المملكة العراقية، ثم الدولة العراقية في العهد الجمهوري قد أثرت على تحجيم دورها، وتعطيل الكثير من مشاريعها.

ومع وصول البعثيين والقوميين الى الحكم عام 1963م، بدأت الحوزة العلمية بعلمائها وأساتذتها وطلابها تستهدف بشكل مباشر، ويضيق على نشاطاتها بشكل كبير، ومع انقلاب 1968م ووصول البعث العفلقي الى السلطة بدأت تتكشف المخططات التي تستهدف الحوزة في العراق في سبيل تعطيل دورها العالمي والإسلامي والعراقي، ومن ثم استئصالها تماما من خلال القتل والتهجير لطلبتها وأساتذتها، وقد نفذت هذه المخططات منذ وصول زمرة صدام وجلاوزته الى سدة الحكم.

الحوزة العلمية في قم المقدسة

تعد الحوزة العلمية في قم المقدسة من الحوزات المهمة في تاريخ التشيع، وما زالت تواصل دورها الاثرائي الفاعل في البحث والاجتهاد الشيعي والتبليغ الإسلامي، غير إن الفترة التي أسست فيها الحوزة الزينبية هي عام 1973م، ويومها كانت لم تكن حوزة قم تصلح كحاضنة وراعية لطلبة العلم والعلماء الفارين من أزلام النظام الصدامي وسياساته الدموية، بسبب جملة من الظروف أهمها:

- إن حوزة قم كانت تتعرض لقمع منظم من سلطة الشاه البهلوي آنذاك.

ص: 353

- إن حوزة قم كانت تتعرض لتجاذبات سياسية بين مواقف العلماء تجاه صور التغيير المنشود في إيران وكيفية مواجهة النظام، وبالتالي كان هناك اضطراب كبير في التدريس الحوزوي لا يشجع على جذب من فر من جحيم البعث الى جحيم الشاه.

- إن هناك صعوبات تتعلق بالهجرة الى إيران.

الوضع اللبناني:

يعد جنوب لبنان مركز مهم من مراكز التشيع في العالم، وقد كان لعلماء جبل عامل أثر كبير في المسيرة العلمائية الشيعية، وإسهام كبير في الفكر الإسلامي، غير إن ظروف الجنوب آنذاك، والقلاقل التي كان الصهاينة الإسرائيليون يشيعونها في لبنان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كانت تؤدي الى اضطرابات عميقة في المجتمع اللبناني، أضف الى أن لبنان كان ساحة لتدخلات دولية وصراع إرادات محلية، ولم يكن مستقرا بما يشجع على بناء عملاق كتأسيس حوزة.

ولكن هذا لم يمنع السيد الشيرازي من تأسيسه الكثير من المدارس والمؤسسات الثقافية ودور النشر في لبنان، بل وشروعه في تأسيس الحوزة اللبنانية وجماعة العلماء وغيرها من الفعاليات في لبنان تبعا لإستراتيجيته في التخطيط المستقبلي، لبناء قاعدة علمية وإعلامية للتبليغ الإسلامي ونشر التشيع.

المجتمع السوري:

في ذلك الوقت كانت الجمهورية العربية السورية من أكثر البلدان العربية استقرارا، والشعب السوري شعب متقبل للرأي والرأي الآخر، أضف الى ذلك إن هناك طائفة مهمة من شيعة سوريا تكتم هويتها نتيجة لما تعرضت له من أبشع استئصال دموي وتشويه عقائدي، فكانت قضية العلويين حافزا مهما لتأسيس الحوزة الزينبية في الشام، أضف الى إن هناك ارتباط فريد ومتمايز بكل المستويات والاتجاهات بين عائلة الشيرازي والقضية الحسينية، ووجود مرقد

ص: 354

السيدة زينب بطلة كربلاء وصوت الثورة الحسينية قد حسم موضوع تأسيس الحوزة الزينبية، أما العقبات والعوائق التي كانت تعترض حتى فكرة التأسيس فهي أعظم من العمل نفسه، لكنها الإرادة التي تنطلق من إخلاص العمل للّه تعالى والتفاني في سبيله عز وجل.

الحوزة الزينبية قراءة للانجاز على المستوى التاريخي

من بيت مؤجر في قرية منسية

عادة تبدأ المسيرات التاريخية بخطوة صغيرة، وتتأسس المشاريع العملاقة بحجر واحد، وهكذا الحال مع الحوزة الزينبية التي بدأت ببذرة مباركة..

فقد كانت منطقة السيّدة زينب (عليها السلام) قرية صغيرة، والمناطق التي حولها كانت عبارة عن مزارع قبل عام (1973م)، وكانت تُعَد من الأرياف الدمشقيّة، ولم تكن آهلة بالسُّكّان، وبدا السيد الشيرازي تأسيسه للحوزة الزينبية باستئجار بيتاً قرويّاً، وبدأ بإلقاء الدُّروس، وشجَّع من في الشام من طلبة وأساتذة حوزة للمَجيء، واستقدم مجموعة من الكوادر العلميّة إلى هذه المنطقة، وآزره جمع غفير من العلماء الأغرار الَّذين هجّرهم نظام الطّاغوت من النَّجف الأشرف.. فآزروه ونصروه، وتأسَّست هذه الحوزة..

بين مدينتين

كان السيد الشيرازي في مطلع السبعينيات يقسم أسبوعه بين بيروت ودمشق، ففي بيروت كانت هناك الأعمال والفعاليات المتنوعة منها تأسيس المدارس الدينية والحوزة اللبنانية والمؤسسات الخاصة بالطباعة والنشر، إضافة الى مشاركاته الفاعلة في الحياة السياسية لتحرير الشعب العراقي من اسر النظام الدكتاتوري العفلقي، أما في سوريا فقد كانت تشغله الجولات التفقدية لأبناء الطائفة العلوية، وتشييد الجوامع والحسينيات، والحوار مع علماء الطائفة إضافة

ص: 355

الى تنمية مراحل بناء الحوزة الزينبية والمراقد الشامية المطهرة كمرقد السيدة زينب (عليها السلام) ومرقد رقية ابنة الإمام الحسين (عليه السلام) .

بعد سنتين

بعد سنتين(1)

القبر المقدس المهجور في ريف دمشق تحول الى مرقد يؤمه الزائرين، والقرية المنسية تحولت الى بَلدة ذات أهميّة دينيّة وسياحيّة.

والثلاثين طالبا الذين بدأت بتدريسهم الحوزة الزينبية أصبحوا ثلاثمائة، والأساتذة الثلاث أصبحوا جمعا من المدرسين في علوم الدين والفقه.

والحوزة التي بدأت ببيت أصبحت مدرسة دينية بدا صداها ينتشر الى خارج الشام، وبدأت تشكل أملا للعلماء والطلبة الذين تجبرهم سياسة البعث في العراق الوحشية على الهجرة.

الحوزة الزينبية تتسع

يمكن أن نعد إن الفترة المحصورة بين عام 1975م الى عام 1980 م أهم مرحلة في بناء الحوزة الزينبية لأسباب عديدة ومتنوعة، أهمها:

1- ازدياد شراسة الهجمة العفلقية ضد طلبة وأساتذة الحوزة في العراق في كربلاء والنجف، حيث تم تصفية وقتل وإعدام المئات، وترحيل المئات، وتضييق الخناق على نشاطات الحوزة في النجف الاشرف سعيا منهم الى تعطيلها ومن ثم استئصالها، وقد أدى ذلك الى هجرة الكثير من طلبة الحوزة وأساتذتها من جميع الجنسيات (عرب من بلدان متفرقة، عراقيين، أفغانيين، باكستانيين، جنسيات أخرى)(2)، واستقر معظمهم في الحوزة الزينبية ليكملوا

ص: 356


1- أي في عام 1975.
2- الطلبة الإيرانيون كانوا أما يقتلون في السجون أو بعضهم هجر ضمن نفي وتهجير العراقيين الذين ليس لهم تبعية عثمانية!!

دراستهم الحوزية أو ليعملوا في التدريس(1)، مع تشجيع السيد الشيرازي لهم على الخوض في التأليف وإصدار الكتب وممارسة النشطات الدينية والتبليغية للعام اجمع.

2- تبني الحوزة الزينبية وسائل تنموية متطورة في بناء الطلبة وتوجيههم وإعدادهم عقائديا وأخلاقيا، إضافة الى تطور إمكانيات الحوزة الزينبية من مستوى التأسيس الى النمو والتأثير في المحيط.

3- بدأت الحوزة الزينبية في هذه المرحلة تبرز سماتها التي تتفرد بها، فقد تحولت الى منار يمتد شعاعه في جميع الآفاق والأصقاع.

رؤية مستقبلية

كانت للسيد حسن الشيرازي رؤية مستقبلية بالنسبة للحوزة العلميّة الزينبيّة، فقد کانت له همّة عالية، لم يترکه أعداء اللّه والإسلام لتنفيذها، وهي بناء مدرسة ضخمة ذات عدّة أجنحة لطلاّب العلوم الدينيّة غير المتزوّجين، وللمتزوّجين مع عوائلهم، تضم دُور لسکناهم ومسجد ومکتبة وحسينيّة وحدائق معشوشبة، وغير ذلك.

وکان قد أعدَّ لهذا المشروع الضخم أرضاً کبيرة سعتها قرابة سبع ملايين متر مربّع، إلاّ أن حزب البعث الحاکم في العراق الذي کان يری في الامام الشهيد عائقاً کبيراً عن سيرهم إلی الأمام، اغتاله ليترك هذا المشروع الکبير دون إنجاز. وريثما يتمّ هذا المشروع الجبّار، کان قد استأجر الشهيد السعيد عدّة دُور حول

ص: 357


1- بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران والعودة المشرقة والفعالة لحوزة قم وتوسع إمكانياتها ودورها بدأت تستقطب العديد من الطلبة والأساتذة بعد عام 1981 م فهاجر قسم من طلبة وأساتذة الحوزة الزينبية الى حوزة قم، وبالمقابل فقد شهد عقد الثمانينات والتسعينيات من القرن المنصرم تدفق مستمر من العراقيين الى الحوزة الزينبية، وبالشكل الذي حول القرية المهجورة الى مدينة كبيرة عامرة.

مرقد سيّدتنا ومولاتنا صاحبة العصمة الصغری بنت أمير المؤمنين زينب الكبرى (عليها السلام) ، عدد منها مساكن لطلاّب العلوم الدينيّة، والعدد الآخر مدارس.

وكان الإمام الشهيد يُشَوِّق التُجّار على شراء أراضي الزينبيّة، وكان يشوِّق الطُلاّب أيضاً، فكان يوصيهم ويقول: «مَن يَملك أموالاً، فَليَشتر أرضاً، فلا يبقى الأمر هكذا، وسترون ازدهار هذه المنطقة».

وبالفعل فقد ازدحمت القرية وتحولت مدينة مزدحمة، تحولت الى كربلاء ثانية ولكنها في الشام، وقد ارتفعت الأراضي خلال عشر سنوات الى 150 ضعفاً ونمت المدينة بشكل كبير وتحول المرقد البسيط الى كعبة للزوار من جميع أنحاء العالم.

أمّا رؤيته لذلك فإنما نابعة من وصول التمام بالثقة باللّه عز وجل وإخلاص التوجه له تعالى، ولا تتوفر عند الأفراد العاديّين، فكيف استطاع أن يرى المستقبل، فيُشوِّق التجّار والطُلاّب والكسَبة، وقد قال: «اشتروا أطراف السيّدة زينب (عليها السلام) ، فلا يبقى المستقبل هكذا».

وكان البعض يستغرب ويعجب من أطروحة الإمام الشهيد ولسان حاله يقول: وما أدراك بالمستقبل؟! وهل تعلَم الغَيب؟! فلم يطمئنّوا إلى كلام السيّد الشهيد، لكن الإمام الشهيد كان مطمئن باللّه وسائرا في قافلة الحسين الى واحة الشهادة...

الإمام يودع الحوزة الزينبية

إن العمل الجبّار الذي قام به الشهيد السيد حسن الشيرازي بتأسيس الحوزة الزينبية في سوريا، لم يكن عملاً بسيطاً وطبيعياً، ويمكننا القول، إنها من الكرامات الإلهيّة للشهيد، فقد كان رجلاً مهاجراً ومنفياً من العراق، وكان يُعاني من الأمراض التي رافقته من السجن، وظلت آلام السجن تؤذيه كل ليلة الى ليلة

ص: 358

التحاقه بقافلة الشهادة، ولم يكن يملك الموارد الإقتصادية، ولم يكن مرجعاً حتى يعضد مشاريعه بقوة مرجعيته، ولم يكن تاجراً حتى يموِّل مشاريعه، ولم يكن هناك تاجر يأتي إلى السيّدة زينب (عليها السلام) ، حيث لم يكن هنالك زُوّار بالأساس حتى يلتقي بهم الشهيد، ولم يكن هناك موسم للزيارة، وأما ما تشاهدونه الآن، فإنما هو بعد تأسيس الحوزة العلمية الزينبية، وجهود السيِّد الشهيد، كما لم يكن الشهيد ذا نفوذ سياسي، مع افتقاده لكل ذلك، كان أمامه منافسين أقوياء، وهم أصحاب قدرات كبيرة، سياسيّة، واقتصاديّة، وغيرها، ولم يكُن هناك من يدافع عن مشاريع الإمام الشهيد إلاّ الشهيد نفسه، ومع ذلك تمكّن من النفوذ وتثبيت قدمه، وتأسيس الحوزة وسائر مشاريعه، وفتح قنوات العلاقات السياسيّة والإقتصاديّة مع الخليج، وجذب التجار إلى منطقة السيّدة زينب (عليها السلام) ، حتى باتت أراضي السيّدة زينب (عليها السلام) تُباع الآن بالأشبار، وأسعارها أغلى من المناطق الرّاقية في دمشق. وفي كل الأحوال فإن جميع أعماله لم تكُن خالية من الكرامات والتأييدات الغيبيّة.

وكانت علاقة الامام الشهيد بطلبة واساتذة الحوزة الزينبية قائمة على التوجيه والارشاد الاخلاقي والتربوي، وكان له تأثير كبير على كل من يلتقيه، وظلت أخلاقه ومحبته مؤثرة على قُلوب الطلاّب وحتى السوريّين المباشرين معه، حتى انهم ما يزالون يتذكرون أخلاقه العالية بعد مضي كل هذه الفترة الطويلة.

وقد خطب الشيخ أبو الفضل الخيِّر (أستاذ الرئيس السوري السابق حافظ الأسد) ذات مرة في الحوزة العلميّة الزينبيّة المُباركة بحضور عدد غفير من الشخصيات السياسية والثقافية، فقال في كلمته: «لا يستطيع أحد أن يُقلّل من محبّة السيّد حسن في قلوبنا، فهو يتحكم بقلوبنا»!

وبالفعل كان هو كذلك، فمحبّة السيِّد الشهيد مغروسة في قلوب كُلّ الأساتذة

ص: 359

وطلبة العلوم الدينية وجميع أصدقائه في دمشق والقرداحة واللاذقيّة ولبنان، سُنّة وشيعة.

وكان الشهيد الشيرازي يلقي دروسه ومحاضرات في الحوزة العلمية الزينبية، وفي البداية بدأ السيد الشهيد بإلقاء درس (التَّفسير) من على منبر الحوزة، وبعد ذلك شرَع بإلقاء (بحث الخارج)، ودرَّس (الأصول) على ضوء كتاب الكفاية.

كان (قدس سره) يُدَرِّس الفقه الإستدلالي، وأصول وقواعد الفقه الإستدلالي الَّذي يُعرَف في الحوزة ببحث الخارج على أساتذة الحوزة العلميّة الزينبيّة.

وكان يطرَح آراءه الفقهيّة بصورة إستدلاليّة عميقة ورفيعة المُستوى، وله كتابات فقهيّة إستدلاليّة تشهَد له بالإجتهاد، والعُمق الفقهي، وقُدرة الإستنباط.

كما كان السيّد الشيرازي يُلقي مُحاضرات دينيّة توجيهيّة في الحوزة، ويوصي أهل العلم والفضيلة بالاستقامة، وتحمُّل مَصاعب الحياة ونواقصها، للوُصول إلى الهدف المَنشود.

وقام السيّد الشهيد بتَدريس (بحث الخارج) في الحوزة العلميّة الزينبيّة، ويعتبر الخارج أعلى المراتب الدِّراسيّة في الحوزات العلميّة.

في عام 1980م كان السيد حسن الشيرازي قد أكمل المرحلة الثانية من تطوير الحوزة الزينبية، وبدا يخطط للمرحلة الثالثة وكانت عملاقة بكل معاني الكلمة، على مستوى البناء المادي والفكري والعقائدي، فاعد الأرض ورسم الخطط ورتب البرامج، واعد كل شيء لمن يريد أن يواصل مسيرته ثم سار الى الشهادة..

يا هنّ إني سائل عن فارس***هِمْنَا به دهراً فكان لنا حمى

دانت له قمم العلا فتعمّما***وسما بطيب خصاله فوق السّما

سل عن مآثره وإنجازاته***تنبئك كم كان الحكيم الملهما

ص: 360

«الزينبيّة» هذه من شادها***ورعى مدارجها فصارت معلما

نثر الزهور بها ففاح عبيرها***وسقى وورد جنانها متوسّما

ونمت براعمه بظلّ رياضها***وتفتّحت أكمامها فتبسّما

ص: 361

الصورة

الحوزة الزينبية قراءة للمنجز

تتشكَّل« الحوزة الدينيّة» وطلاّبها من جنسيّات مختلفة، جمعتهم رابطة الدّين، ووحدة المعتقد، ففيهم عدد كبير من الباكستانيّين والأفغانيّين والهنود، وعدد من الشَّباب السوريّين واللّبنانيين والعراقيّين والإيرانيّين، وقسم من بعض البلاد الأفريقية الَّذين وفدوا إلى سورية للدراسة الدينيّة العلميّة في الحوزة العلميّة الزينبيّة، وقد بذل الإمام الشهيد السيّد حسن الشيرازي جُهداً كبيراً للحصول على موافقة السُّلطات السوريّة على أن تُمنَح الإقامة للطلبة الَّذين جاءوا ونفروا من بلدانهم، للدراسة الدينيّة في الحوزة العلميّة.

ومن أجل ذلك بذل جهوداً جبّارة حتّى حصل على مرسوم خاص بالموافقة، وتعتبر هذه الموافقة نصراً كبيراً للحوزة ومؤسِّسها الإمام الشيرازي الشهيد، اذ انّها زادَت من عَزم بقاء أفراد الحوزة وطلاّبها في مواصلة الدّراسة الجادّة، وتحمّل المسؤوليّات الدينيّة، وأيضاً كانت سبباً لإلتحاق بعض الراغبين بدراسة العلوم الحوزويّة من جنسيّات شتّى.

وكان الإمام الشهيد يقوم بنفسه بمُتابعة قضايا رجال الدّين المُهَجَّرين من العراق، من أجل إبقاءهم في دمشق لتسهيل عملية التحاقهم بالحوزة، فهناك مشاكل الإقامة، ومشاكل السكَن... وكان يتَهلَّل وجهه فرحاً وسروراً إذا اجتاز بعض تلك العقَبات الكثيرة الَّتي كانت في الطَّريق، خاصّة تأمين الموارد الماليّة لتلك الحوزة وأولئك الأفراد القادمين، ولقد حاربه الكثير من المناوئين والمخالفين لهذا المشروع وهذه الحوزة، وقاموا بمحاولات كثيرة من أجل إجهاضها، ولكنَّها باءت بالفَشَل، فإن إرادة اللّه عز وجل كانت فوق التحَدّيات، وتَمَّ تأسيس الحوزة، وتجاوز عدد طلاّبها بعد فترة الألف طالب من مختلف بلاد العالم.

وفي الواقع، كان تأسيس الحوزة العلميّة في حيّ السيّدة زينب (عليها السلام) بدمشق،

ص: 362

خُطوة عظيمة جدّاً في الوقت الَّذي كان صَعباً جدّاً جدّاً، ودائماً يكون التَّأسيس صَعباً، وتكون الصُّعوبة بحجم العمل المؤسّس، فَكُلَّما كان كبيراً، كانت المَصاعب كبيرة وكثيرة، وهكذا كان تأسيس الحوزة العلميّة في الشّام.

وقد تنوعت نشاطات الحوزة الزينبية فمن بعض ما قامت به الحوزة العلميّة في المجالين، التَّوجيهي التَّربوي، والعمل السِّياسي.

ففي المجال الأوّل، أرسلت إدارة الحوزة الدينيّة الزينبيّة خطبائها ومدّرسيها وطلاّبها إلى بعض المناطق والمدن السوريّة من أجل تثقيف المجتمع بالثقافة الإسلاميّة والفكر الإسلامي الأصيل، والتعرّف على المراكز الدينيّة التوجيهيّة، وإلقاء الكلمات والخطب فيها، كالمناطق العلويّة، وحلب، وحمص، وصافيتا، وما أشبه. بالإضافة إلى قيام بعض الطلاّب من الحوزة بجولات تبليغيّة خارج الحدود السوريّة للوعظ والإرشاد، وبثّ الثّقافة المحمّديّة الأصيلة في بلدان مختلفة.

أمّا في المجال السياسي، فإن إدارة (الحوزة الدينيّة) أوفدت عدداً من علمائها وخطبائها إلى (أفغانستان) بعد الهجوم السوفيتي عليها من أجل تعبئة الجماهير المسلمة هناك في مواجهه المدّ الشيوعي، ومن المعروف ان الأفغانييّن من أشد الشعوب الإسلاميّة تمسّكاً بالدّين ورجاله. وقد كان لهذه الحركة الثوريّة - والَّتي تمَّت بتوجيه مباشر من سماحة الإمام الشهيد - أثراً كبيراً في تقوية الحالة المعنويّة للمؤمنين هناك.

مضافاً إلى أن الحوزة العلمية ومؤسّساتها الثقافيّة التّابعة لها استَنكَرت إتّفاقيّة الاستسلام بين مصر والعدو الصهيوني فيما عُرف باتفاقية (كامب ديفيد)، وهكذا كانت ولا زالت الحوزة العلمية الزينبيّة تواصل مسيرتها من اجل حقوق الشعوب الإسلامية.

وأمّا مَنافع هذه الحوزة المُباركة، وآثارها العلميّة والدينيّة، فلا تُعد ولا تُحصى،

ص: 363

وقد انتشرت في جميع انحاء العالم، شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً، وأثّرت في شُعوب الدول العربيّة، كسوريا ولبنان، وغيرهما بشكل محيَّر للعُقول، إذ قد تحَوَّل كثير من المسلمين إلى مُحبّي أهل البيت (عليهم السلام) بعدما كانوا لا يعرفون من الفضل إلاّ للصحابة، ولا يعلمون من الإسلام إلاّ مذهب السُنّة، والشّاهد على ذلك كتاب «المتحوّلون إلى الشيعة» في أربع مجلَّدات ضخمة لفضيلة الشيخ هشام آل قطيط، وقد جَمَع فيها أسماء الذين تَحوَّلوا من السنّة إلى الشيعة في سوريا ولبنان والأردن ومصر والسّودان والمغرب والجزائر وغيرها.

وقد شَقَّت هذه الحوزة المُباركة طريقها طوال أربعين عاماً رغم جميع العقبات والمنغّصات التي واجهتها لمنعها عن التقدم، وليس ذلك إلاّ لأجل إخلاص نيّة مُؤسِّسها، الذي كان هَمّه خدمة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، هذا هو السبب في إلتفاف جميع الطُلاّب والمدرّسين حوله، والتعاون معه بجدّيّة وإخلاص.

عقبات التأسيس ومصاعب البناء

أولاَ: ليس تأسيس حوزة علمية مثل عملية بناء مدرسة أو جامعة دينية، لان الحوزة بناء على مستوى المجتمع والعقيدة والتاريخ، ولم يصادف أن تأسست حوزة وتوسعت من خلال عقد من السنين أو حتى عقدين أو حتى ربع قرن او نصف قرن، ولم نقرا في تاريخ التشيع إن حوزة قد تأسست بجهود فرد مطارد منفي أنهكته سجون الطغاة ومزق جسده تعذيب الجلادين لكنها فجرت الإيمان في داخله فاستحال الى قوة أتمت نور اللّه في تحدي لظلمة الظالمين..

وحينما ندرس في تأسيس الحوزة الزينبية نتيقن انه لم تكن هناك أي محفزات أو مقدمات تصلح لمثل هكذا بناء عملاق، فلم يكن لا الظرف السياسي ولا المناخ العقائدي ولا التربة الاجتماعية ولا الإمكانيات المادية ولا أي شيء يمكن أن تؤسس عليه، إنها صحراء ببعدها المادي والمعنوي وليس هناك سوى بطلة

ص: 364

كربلاء وابن أخيها الذي قدم عليها عليلا من كربلاء بعد أربعة عشر قرنا ليؤسس كربلاء ثانية في عاصمة الأمويين، وكانت له نعم المعين..

وجعل اللّه أفئدة من الناس تهوي إليه، وعاش السيد الشهيد الشيرازي الحسيني سنواته العشر ينبوعا من المحبة والعطاء، للإنسان كيفما كان وللمجتمع كيفما توجه.

ثانياَ: إن من مُشكلات تأسيس المُؤسّسات، أن بعض النّاس تكون المعارضة طريقتهم في التعامل كُلّ مشروع، إمّا جَهلاً، فيكون التقييم خاطئاً، وإمّا المعارضة حَسَداً، فيعارضون المشروع لإثبات وجودهم الذي لا يظهر إلا من خلال إلغاء الآخر..

ومِمّا لا شكَّ فيه، إن طَريق الإرشاد والإصلاح ليس مَحفوفاً بالزُّهور، ولا مَزروعاً بالرَّياحين، بل تكثُر فيه الأشواك، والصّخور، والأحجار، والمُنعطفات، والمُنخفضات، فهناك المُخالفون والمُناوئون الَّذين لم يكمن يرُق لهم هذا العَمَل، أو لا يستسيغون هذه الفكرة، أو يحملهم الحَسَد والإختلافات الفكريّة لمُحاربة خُطُوات المُصلحين، فتراهم يحيكون المُؤامرات، ويَلجَأون إلى الأساليب التخريبيّة، ويبذلون قُصارى جُهودهم للتصدّي لهذه الخُطوة البنّاءة والحضارية، وهم يُسدلون السِّتار على عيونهم وقلوبهم، فلا ينظرون إلى النِّقاط الإيجابيّة لهذه الخُطوة أبداً.

وقد عارض بعض الأشخاص مشروع الإمام الشهيد لكن لدوافع غامضة بعضها أدانها التاريخ، والبعض الآخر سوف يحاسبهم اللّه عليها، اما السيد الشيرازي فقد كان ملتزم مع الجميع بقاعدة الحب في اللّه والتماس الأعذار للناس جميعا، ولم يجهد نفسه فيما يفعله المخالفون والمثبطون بل كان حريصا على انجاز عمله بكل دقة وإخلاص للّه عز وجل، وقَد بذَل كُلّ جُهده حتّى

ص: 365

تمكَّن من تأسيس هذه الحوزة، وتنميتها.. وكان الإمام الشهيد يؤكد على إن تأسيس الحوزة واحدة من أهم قضايا حركته فكان يردد كلمته الرائعة في تأسيس هذه الحوزة: «سَوف أسِّس هذه الحوزة، وأُناضِل في سبيلها، حتّى لَو أدّى ذلك إلى استشهادي». وفعلا ناضَل، وقاوَم، وحَلَّ مُشكلات هذه الحوزة بكثير من الجُهود، والمَتاعب، والمَصاعب، وبتوفيق إلهي متفرد.

ثالثاَ: هناك معوقات سببها بعض المتطرفين السوريين وبعض المتعصبين من المسؤولين السوريين، لأن دمشق من الناحية التاريخية تُعد عاصمة تاريخيا عاصمة للسلالة الأموية ولا بد ان هناك مخلفات كثيرة من الحكم الأموي ما تزل تعلق في بعض الأشياء المتحجرة من البشر والحجر، وتأسيس حوزة علميّة شيعيّة في هكذا مكان ليس بشئ هَيِّن، ولا بد إنهم أدركوا مدى تأثير حوزة علميّة شيعيّة بالقرب منهم وكيف لها أن تقضي على آخر زوايا الظلمة والتعصب والانغلاقية، لذا كانوا يبذلون أقصى جهدهم لمنع تأسيس هذه الحوزة.

فكانت هناك مشكلة الحصول على موافقة السُّلطات السوريّة لمنح أصحاب الجنسيّات المختلفة والمتعدّدة الإقامة في سوريا، والسماح للحوزة الدينيّة بممارسة نشاطاتها التربويّة والدينيّة والتوجيهيّة والإصلاحيّة، وتحصيل الموافقة الرسميّة لمثل هذا العمل الجَذري الجديد ليس بالأمر السهل الهيِّن كما قد يتصوَّر، ولكن أهميّة الهدف المُقدّس تُسَهِّل كلّ عسير، وتذلّل كلّ صعب.

فكان هناك إعتقال لعدد من الطلاّب، ودخولهم السجن، بل وتهجيرهم إلى الحدود التُركيّة واللبنانيّة وتعرضهم للاعتداء بالضرب، حتّى وصل الأمر إلى إصابة بعضهم بكسر في أضلاعه، وإسقاط الجنين لبعض نسائهم الحوامل، فكانوا يبقون عند الحدود لعدّة أيّام ربما تصل إلى أسبوع، حتّى يعمل السيّد الشيرازي بكُلّ جهد ومشقّة لانقاذهم، وقد اعتقل عدد كبير منهم، فيما ضُرب

ص: 366

الكثير منهم ضرباً مُبرحاً، فكان السيّد الشيرازي يُسلّيهم ويصبِّرهم.

وفي تلك الأيّام، بقي بعض الطُلاّب أسبوعين في السجن، وبعضهم ظلَّ جليس الدّار، لا يستطيع الخروج خوفاً من السجن والتهجير.

وفي أيام التأسيس الأولى كان السيد الشيرازي يتابع بنفسه متطلبات الطلبة المعتقلين من جهة ويتابع قضايا إقامتهم من جهة أخرى..

لقد قام السيد الشهيد بعملٍ جبّار حتّى تمكن من تحصيل الإقامات للمشايخ والطُلاّب، حتّى انه صدرت الإقامات وهم في السجن، فانتشر الخبر ولم يصدقه أحد، فأرسل السيِّد الشيرازي الإقامات إلى السِّجن، فخرجوا فرحين جدّاً، وخرج الآخرون من بيوتهم بعد اختفاء طويل، واستلموا إقاماتهم من السيّد الشيرازي، وهم لا يُصدّقون ذلك.

رابعاَ: الصعوبات المالية كانت مستمرّة في زمن الإمام الشهيد وحتى آخر أيّام حياته الشريفة، وما أن كان يحاول حلّ مشكلة، إلاّ وتحدُث هنالك مُشكلة أخرى لتعيق حركة الشهيد!

ذَكَرنا قبل قليل ان تأسيس الحوزة العلميّة، والإبتداء من نُقطة الصِّفر، ليس بالأمر السَّهل المُستسهل، بل هناك عقبات كثيرة تعرقل هذه الخُطوة العظيمة، وهناك مَصاعب ومَتاعب تُرافق هذا المَشروع الكبير، فهو قبل كُلّ شيء بحاجة إلى ميزانيّة مالية مَضمونة تكون بمَثابة الوقود الَّذي يضمن دوام العمل واستمراره. وهناك القوانين الرَّسميّة الَّتي ينبغي الإنتباه أليها في بعض المَجالات، وهناك وهناك...

وكان هدف الشهيد أن تكون مساكن المنتمين إلى الحوزة العلميّة الزينبيّة وأفرادها مع الأساتذه والمدّرسين، بالقُرب من مرقد السيّدة زينب الكبرى (عليه السلام) بنت الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، ليستلهموا منها دروس العبَر والصُّمود

ص: 367

والرَّفض والتَّضحية والفداء، من أجل إعلاء كلمة اللّه عز وجل في الأرض، بالإضافة إلى أن مرقد السيّدة زينب (عليه السلام) يُعتَبَر مركزاً دينيّاً هامّاً يقصده الألوف من الزوّار على مَدار السنة، وكون مقرّ الحوزة قريباً من المَرقد الطّاهر، فهو عامل مهم في تطوير الوضع الحوزوي، ورفع المُستوى الثقافي والدّيني من خلال الإستماع إلى نصائح الأساتذة وتوجيهاتهم، علاوةً على هذا يكون سبباً لمجيء بعض الشَّباب المؤمن، وتقديم الطلب لتسجيل أسمائهم من أجل الإنخراط في السلك الحوزوي بعد اطِّلاعهم على دروس ومناهج الحوزة وإدارتها.

بالإضافة إلى لزوم تأمين أماكن لإستيعاب أساتذة الحوزة ومدرّسيها والمشرفين على إدارتها.

فخصَّص دُوَراً خاصّة لإسكان أساتذة الحوزة مع عوائلهم، ودُوَراً لإسكان الطلاّب ومَن يتعلّق بهم، بالإضافة إلى تخصيص أماكن لإسكان طلاّب الحوزة العلميّة الزينبيّة غير المُتزوّجين، وأماكن خُصِّصت كقاعات للتدريس وإلقاء المحاضرات الدينيّة، بالإضافة إلى إقامة الحفلات الدينيّة والندوات الأسبوعيّة، من أجل توعية الشباب، ودفعهم نحو الدّين وتعاليمه ودروسه، ولولا صُمود الإمام الشهيد، وصدره الرَّحِب واستقامته، لما استطاع أن يُذلّل هذه العقبة الكؤود.

خامساَ: هناك عوائق وعقبات ظهرت نتيجة لنمو الحوزة الزينبية وازدياد دورها وتأثيرها في المحيط الشيعي، وتمثلت بظهور منافسين في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم سعوا لتأسيس حوزات أخرى من خلال إضعاف دور الحوزة الزينبية الأم، ولربما استغلوا سياسة الإمام الشهيد تجاه المخالفين والمنافسين بعدم مواجهتهم والاستغراق أكثر في العمل المثمر والإخلاص أكثر في توجيه العمل للّه عز وجل.

ص: 368

بالطبع فان نجاح أي مشروع تاريخي لا بد وان يخلق له منافسين وحاسدين وطامعين في فترة ما ثم يتجاوز ذلك المشروع كل تلك العقبات والمعوقات ليؤدي رسالته التاريخية..

كان للحاسدين أموال وإمكانيات لم تتوفر للإمام الشهيد، وكانت الحوزة الزينبية بقيادة الإمام الشهيد لا تدعوا الى مرجعية محددة ولا تدعو الى تقليد مجتهد بعينه، لان أهدافها ورسالتها وما فرض عليها من أعباء عقائدية في زمن خطير أوسع واكبر من الدخول في فرعيات وتفاصيل قد تشوش تحقيق الأهداف الكبرى، بالمقابل فان جميع المنافسين دعوا الى مرجعيات محددة منطلقين من أهواء شخصية بهم وبالطبع قد لا تمثل رأي مراجعهم في هذه القضية، فكانوا يحصلوا على دعم وتبرعات مقلدي المراجع، في وقت أراد السيد الشيرازي وبتوجيه من أخيه المرجع اية اللّه العظمى السيد محمد الشيرازي (قدس سره) أن تحتفظ الحوزة الزينبية لخصوصيتها الجامعة لكل الطلبة باختلاف أعراقهم وأجناسهم ومذاهبهم وتقليدهم، وبالطبع كان لا بد من دفع ثمن هذا التوجه في فترة ما لكنه اثبت انه كان قاعدة لانطلاقة مباركة ومثمرة للحوزة الزينبية.

استخدمت وسائل كثيرة لإضعاف الحوزة الزينبية نذكرها لنبين كيف كان يواجهها السيد الشيرازي برؤية إلهية عقائدية تحفز الطالب على الثبات على أهداف تعلمه وليس على ظروف عيشه.

فمن الضغوط التي مُورست ضد الحوزة العلمية الزينبية سعي المُخالفين لإخراج الطلاّب من سوريا إلى أفغانستان وإيران، حتّى أن بعضهم كانوا مستعدّين لإعطاء تذكرة الطائرة مجاناً لكلّ أفراد العائلة، حتّى لا يبقى الطالب في السيّدة زينب (عليها السلام) !

وكان البعض يُريد أن يُسافر تحت تلك الضغوط، فكان يستأذن السيِّد الشهيد

ص: 369

في السفر، فكان الإمام الشهيد يُجيبه في آخر الأمر قائلاً: «إن هذا الأمر لا يعنيني إن أردتُم الذّهاب، فاذهبوا واستأذنوا من السيّدة زينب (عليها السلام) فليس الأمر بيدي وإنَّما بيدها».

وعندها يعي الطالب أو الأستاذ إن الأمر غير متعلق بالسيد الشيرازي بل بالقضية التي تمثلها بطلة كربلاء والحوزة الزينبية.

ومنها انه كان يدفع للطالب والاستاذ عشرين ضعفا من الراتب الذي يدفع له في الحوزة الزينبية الام، وكان الامام الشهيد بعدهم بالحسنى ونبههم الى ان مثل هذه الامور مفيدة لكي يكتشف الانسان هويته هل هو طالب علم ام مال، وكان يقول للطلاّب باستمرار، «ان الحوزة هي بظل حرم السيّدة زينب (عليها السلام) ، فاصبروا وتحمّلوا المشاكل حتّى نُرسي دعائم الحوزة»، وقد ارتسم هذا التعبير في أذهان الطلاّب والأساتذة.

كلّ هذه المشاكل والصّعاب واجهت آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي، ولكن بصبره الطويل، وفكره الخلاّق، وعمله المتواصل، وسعيه الجاد، استطاع التغلُّب عليها الواحدة تلو الأخرى.

ومن خلال اتِّكاله على المولى تعالى سبحانه وتمسّكه بحبل اللّه المتين، استطاع السيد الشهيد أن يثبت جذور هذه الحوزة المباركة في أرض خصبة مباركة، عند مرقد عالمة آل بيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) السيّدة زينب (عليها السلام) ، وهي لا تَزال حتّى الآن مؤسّسة قويّة، وبحول اللّه عز وجل وحماية السيّدة زينب (عليها السلام) ستبقى قويّة إلى الأبد إن شاء اللّه تعالى، وهذا دليل حَيّ على أن أعمال الشهيد كانت خالصة لوجه اللّه تعالى، دون أن تَشوبها أي شائبة باطلة، لأن كُلّ عمل يكون للّه عز وجل ينمو ويُثمر.

فقد استطاع السيّد الشهيد تجاوز كُلّ هذه العَراقيل والموانع، أوَّلاً، بحلمه

ص: 370

وصبره الطويل وسعة صدره، وثانياً، بشخصيته الفذّة وبعبقريّته وفكره وسياسته الحكيمة وتواصله الدائم مع الرئيس حافظ الأسد ومع علماء الدّين وشخصيّاتهم السياسيّة وبإلقاء المحاضرات الدينيّة والعقائديّة بخطاب بليغ في أوساط العلويّين وشخصيّاتهم السِّياسيّة والتواصل الدّائم مع القُضاة والعلماء البارزين من أهل السنّة في جميع المُدن السوريّة وحواراته القيّمة معهم وسَعيه لقضاء حاجاتهم مقدمة لهدايتهم، كُلّ ذلك أدّى إلى نشوء علاقة طيِّبة بينه وبين جميع هذه الأوساط، مِمّا هيّأ له الظروف المناسبة لتأسيس الحوزة العلميّة الزينبيّة.

وكان الإمام الشهيد قد عزم على تحمُّل كُلّ تلك المَصاعب، وتجاوز كُلّ تلك العقبات، مُتوكّلاً على اللّه عز وجل ومُستعيناً، ومتوَسّلاً بأهل البيت (عليهم السلام) ، ليأخُذوا بيده إلى ما خير وصلاح، ويُكلّلوا عمله هذا بالتّوفيق والنّجاح.

وطالَما كان الشهيد يُردّد قوله: «إن هذه الحوزة باسم السيّدة زينب (عليها السلام) ، وبجوار مرقدها الشَّريف، فالمتوقّع منها أن تَتَشَفَّع إلى اللّه عز وجل لحلّ مشاكلها، وتحقيق آمالها».

كانت استراتيجيه في بلورة زخم تجاوز العقبات تنطلق من منطلق إيماني، من قوله تعالى: {إنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِر فَإنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(1)، و{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(2).

آفاق ممتدة ومنجزات عملاقة

الحوزة العلميّة في لبنان

تَمتاز لبنان عن غيرها من دول المنطقة بأنَّها ساحة جمعت فيها التوجهات والتناقضات والتنوعات الفكرية والسياسية، فلكلّ حركة، ولكلّ حزب، ولكلّ

ص: 371


1- سورة يوسف، الآية: 90.
2- سورة العنكبوت، الآية: 69.

منظّمة، ولكلّ دين، ولكلّ دولة، ولكلّ إيديولوجيّة أنصار وأتباع، ولهذا فإن الأحزاب والحركات السياسيّة تجد مرتعاً خصباً لها في الساحة اللبنانيّة، إضافة إلى الموقع الإستراتيجي للبنان في الجغرافيا.

ففي لبنان أصوات تدعو إلى أقصى اليمين، وأصوات تدعو إلى أقصى اليسار، وأصوات تدعو إلى الكفر والإلحاد والزَّندقة، والتّابعون لمختلف الأديان والحركات نشطون في فرض ما يدعون إليه على النّاس بمختلف الوسائل والطُّرُق المختلفة.

في بلد كهذا تبرز ضرورة قيام وارتفاع أصوات تأخذ على عاتقها مسؤوليّة الدَّعوة إلى اللّه، وحده لا شريك له بكلّ جد وإخلاص ومسؤوليّة، لتوعية المجتمع وتثقيفه بالثّقافة الإسلاميّة الأصيلة.

من هنا كانت ضرورة تأسيس «الحوزة اللبنانيّة»، والَّتي بدأت أوّل ولادتها عام (1391ه) ببناية ذات طوابق متعدّدة في منطقة «برج البراجنة»، وما أن أعلن عن إفتتاحها حتّى بادَر الكثير من الشَّباب المؤمن بتقديم الطَّلب للتسجيل، ومن أجل أن تؤدّي «الحوزة العلميّة» رسالتها الإسلاميّة على أتّم وجه وأحسنه، اختارت المدرسة مجموعة من الشباب المؤمن والمتديّن والَّذي تتوفَّر فيه الصفات الحسنة، والأخلاق النَّبيلة، فخَصَّصَت لهم أماكن للدّراسة، وأماكن لإسكانهم، وعلى أثر ذلك قدَّمت بعض الجمعيّات الإسلاميّة في القارّة السّوداء بطلباتها وعزمها على إرسال مجموعات منتخبة من خيرة شبابها وأبنائها من أجل دراسة الفكر الإسلامي والمَعارف الدينيّة.

ووافقت إدارة المدرسة، ورَحَّبَت بهذا الطَّلب، وعلى الفور أرسلت الجمعيّات الإسلاميّة بعدد كبير من أبنائها وشبابها إلى (الحوزة العلميّة اللبنانيّة)، ورحبَّت بهم إدارة المدرسة، وخَصَّصت لهم مراكز لإسكانهم، وهَيَّأت لهم بعض الأساتذة

ص: 372

لتدريسهم بعض المناهج باللغة الإنجليزيّة، كما وهَيَّأت لهم مَن يعلّمهم اللغة العربيّة، فراحت «الحوزة العلميّة في لبنان» تؤدّي رسالتها على أكمَل وجه وأتّمه في سبيل اللّه عز وجل وحده، ونجحت إلى حدّ كبير جدّاً في جلب انتباه الكثير من الشباب المؤمن، وصمدت أمام التيّارات الجارفة بكلّ صبر وشجاعة، وواجهت كلّ التحدّيات بكلّ عزم، وثبات واستقامة، فخَطت خطوات سريعة من أجل تنشئة جيل مؤمن يحمل الثّقافة الإسلاميّة، ويمكن تلخيص الرسالة الأولى «للحوزة العلميّة اللبنانيّة» فيما يلي:

1- صنع الشخصيّة الإسلاميّة القادرة على قيادة الشعوب، ودعوتها إلى الدّين الإسلامي، بالإضافة إلى قدرتها على توعية المسلمين، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

2- إرسال المبلّغين الإسلاميّين بعد توفُّر الشروط اللازمة فيهم إلى مختلف البلاد غير الإسلاميّة، وذلك من أجل الدَّعوة إلى الإسلام، وقد نالَت دول القارّة السَّوداء حصّة الأسد في قائمة الدول.

3- إرسال المبلّغين الإسلاميّين إلى بعض الدول الإسلاميّة من أجل تَعميق الدّين والإسلام في صفوف المسلمين، وتوعيتهم أكثر فأكثر.

وقد بَذَل مؤسِّس هذه الحوزة ورئيسها آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي المستحيل من أجل إنجاح هذه الفكرة المقدّسة، وقد وُفِّق إلى حدّ بعيد في تحقيق أهداف «الحوزة العلميّة اللبنانيّة»، وقد استطاعت الحوزة أن تُؤدي الكثير من مسؤوليّاتها، وقامت بدورها على أتم وجه غير إن ظُروف الحرب اللبنانيّة الداخليّة، والظُّروف الصَّعبة هناك لم تُساعد على نُمو المَشروع، وقد استمَرَّ خمس سنوات، وأنتج نُخبة جَيّدة من الخطباء والعلماء، وبعضهم اليوم وكلاء وعُلماء في مناطقهم.

ص: 373

الصورة

ص: 374

تأسيس «مكتب جماعة العلماء» في لبنان

لَقَد كانت السّاحة اللبنانيّة تُعاني من فَقر مدقع، ونقص فَظيع في رجال العلم والدّين، وكانت الأحزاب السِّياسيّة والحركات المُختلفة قد استقطبت بعض رجال الدّين للوقوف إلى جانبها والتَّصويت لها، وبين هذين الأمرين كان المُجتمع اللبناني الشّيعي يُعاني من فَراغ عقائدي وضياع ديني.

وفي عام (1397ه) أسّس السيّد حسن الشيرازي مكتب «جماعة العلماء» في لبنان، وترأسه بنفسه، وكان هذا المكتب يقوم بمختلف النّشاطات الدينيّة، من سياسيّة، وثقافيّة، ومن أجل تَنظيم الجُهود، وبَرمجة عمل هداية المجتمع وإرشاده، وغيرها.. على السّاحة اللبنانيّة والعالميّة، مُستَلهِماً برنامجه من الشهيد السَّعيد.

أمّا كيفيّة استطاعته لتوحيد جهود وأراء وتوجهات العلماء، فكان بلا شك قد بذل جهوداً كبيرة، وتجاوز عقباتٍ وحواجز لا يقدم عليها ولا يفكّر بها إلاّ مَنْ كان يحمل همّة عالية كالسيد الشهيد، وهي لا توجد إلاّ عند مَنْ يؤمن بعمق وصدق باللّه تبارك وتعالى، ويتوكل عليه لا بغيره، كما في الحديث الشريف عن الإمام الجواد (عليه السلام) ، «الثقة باللّه ثمن لكلّ غالٍ، وسُلّم إلى كلِّ عال»(1).

ولكن ومع الأسف الشَّديد لم يَدُم هذا العَمَل الكبير طَويلاً، فَقَد استُشهد السيّد حسن الشيرازي.

ص: 375


1- بحار الأنوار: ج75، ص364. أعلام الدّين: ص309.

الصورة

ص: 376

مؤسسات وحسينيات في مختلف قُرى ومُدُن سوريا ولبنان

کان السيّد الشيرازي مشغوفاً بالعمل بقوله تعالی {وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}(1)، فکان يودّ أن يخلّف أثراً ملموساً في کلَّ مکان تطؤه أقدامه الکريمة. فقد بنی وأسَّس في لبنان وسوريا في بلدان العلويّين، وقُراهم، وجبالهم مساجد کثيرة، وکان أحياناً يذهب إليها بنفسه، ويصمِّم لهم. وکذلك قام بإنشاء وترميم الحسينيّات، وهکذا فعل في سيراليون، وفي ساحل العاج بأفريقيا.

وکذلك أسَّس المکتبات العامّة في الحسينيّات والمساجد.

ويمكن ان نقسم تلك النشاطات والفعاليات على ثَلاثة مَراحل:

المَرحلة الأولى: كان السيّد الشيرازي يُسافر بنفسه إلى تلك المدن والقرى، ويتفَقَّد أحوال ساكنيها وأوضاعهم، ويعمل لقضاء حاجاتهم من النّاحية المعنوية كبناء المساجد والمكتبات والمؤسّسات الخيريّة وتأمين الكُتُب الدينيّة والعقائديّة لهم.

المرحلة الثّانية: إرسال المبلّغين إليهم لتبليغ الدّين الإسلامي الصحيح، ونشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .

المرحلة الثّالثة، بدأ السيّد الشيرازي بتأسيس المؤسّسات الإسلاميّة، وبناء المساجد في هذه المُدُن. من أبرزها، مسجد السيّدة فاطمة الزَّهراء (عليها السلام) في مدينة حمص ومسجد الإمام الحسين (عليه السلام) بصافيتا ومسجد الإمام الصّادق (عليه السلام) باللاذقيّة ومسجد الإمام الرِّضا (عليه السلام) بجبلة.

وقد عيَّن سماحته في هذه المَساجد أئمّة يقيمون صلاة الجماعة فيها، وينشرون أحكام الشَّريعة الإسلاميّة بين النّاس.

كما أسَّس حسينيّات عديدة في المدن والقرى، منها: حسينيّة في مدينة بانياس وأخرى في مدينة حمص، وهكذا الأمر بالنِّسبة إلى لبنان، ومن أشهر

ص: 377


1- سورة الشُّعراء، الآية: 84.

مؤسِّساته في لبنان حوزة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) الدينيّة وإقامة المؤسسات الثقافية والدينية مثل دار الصّادق (عليه السلام) للنشر.

إحياء المراقد في سوريا

كانت خدمات وإنجازات السيّد الشيرازي بالنسبة للحرمين - حرم السيّدة زينب (عليها السلام) وحرم السيّدة رقية (عليها السلام) - معنويّة مباشرة على الأكثر، كما بينّا فيما سبق، وإن كان يتبعها خدمات ماديّة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مثلاً تأسيس الحوزة العلميّة عند مرقد السيّدة زينب (عليها السلام) ، كان سبّباً في إفتتاح الحرم الشريف قبل أذان الفجر وغلقه بعد المغرب بساعات، وبسببه كثرت الزُوّار وزاد عدد المُصلّين، وأُقيمت فيها صلاة الجماعة صباحاً ومساءً، ولربَّما ظُهراً أيضاً.

هذا على صعيد المرقد الشريف، وكان لتأسيس الحوزة العلمية الدافع لأن تتحول قرية (الحجيرة) القريبة من المرقد الى مدينة صغيرة عامرة بالأبنية السكنية والحوانيت، كما شًيدت فيها الفَنادق والمتاجر وحتى العيادات الطبية والمؤسسات الثقافية، وكان من جملة الزُوّار أُناس ممن فضّل اللّه عليهم بالغنى، فقَدَّموا أمولاً ضخمة لتكميل بعض نواقص الحرم الشريف، مثل إنشاء أماكن صحيّة للزائرين وغير ذلك، كل ذلك هو من آثار وجود الحوزة العلمية الزينبية التي أسسها السيد الشهيد.

أمّا بالنسبة إلى حرم السيّدة رُقيّة بنت الإمام الحسين (عليهما السلام) ، فقد كانت بدايةً بيد الأوقاف، والأوقاف كانت تُعَيِّن خادماً أو إماماً للجماعة، وهذا الخادم كان يؤم الجماعة بنفسه، فكان يأتي وقت صلاة المغرب، يفتح الباب، ويُصلّي ثلاث ركعات ويذهب! وفي بعض الأحيان يبقى حتّى يُصلّي صلاة العشاء، ثُمَّ يُغلق الباب.

هكذا كان وضع حرم السيّدة رقية (عليها السلام) قبل حضور السيّد حسن الشيرازي هناك، أمّا بعد حضوره، فقد تغيرت الأمور تدريجيا الى الحد الذي أصبح فيه الحرمين الشريفين كبقيّة أماكن الزّيارات في بلاد الشيعة، وهو غاص بالزوّار.

ص: 378

وفي سيراليون في القارّة الأفريقيّة، أسَّس حوزة علميّة ولا زالَت الحوزة هُناك قائمة، والعَمَل الحوزوي مُستمرّ.

كان السيّد حسن الشيرازي شديد الإخلاص للّه سبحانه، لذا وفَّقه الباري عز وجل لبناء المشاريع العظيمة، والمؤسّسات الكبيرة، وقد أدى رسالته على أكمل وجه في بلاد الشام والعراق وفي بلدان الخليج وفي أفريقيا وغيرها الى أن التحق بقافلة الشهادة.

الصورة

ص: 379

الصورة

ص: 380

الصورة

ص: 381

الصورة

ص: 382

الصورة

ص: 383

المبحث الرابع: الشعائر الحسينية تجسيد للقيم وإقامة للإصلاح

الأمة والشعائر الحسينية

ومن هذا المنطلق يعد الشهيد السيد حسن الشيرازي ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي قاعدة التغيير في المجتمع من اجل الإصلاح، فالثورة الحسينية أسقطت الشرعية عن كل حكم في الأمة لا ينطلق من الرسالة الإسلامية، وإنها في لحظة تالية كانت ثورة خالدة لتحقيق ذلك الحكم، ومن هنا نفهم إن إقامة حكومة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) تنطلق من ثورة الحسين (عليه السلام) بل انها تجسيد لبعدها الآخر في إقامة حكومة تملا الأرض قسطا وعدلا.

وحينما تبتعد الأمة عن ثورة الحسين (عليه السلام) ، فإنها تفقد قدرتها على مواجهة الضعف الداخلي والخارجي الذي قد يكون استعمارا أو دكتاتوريات تنهش حقوقها وتقيد إرادتها، والى ذلك يشير السيد الشيرازي، بقوله: (ولو ألغينا ثورة الحسين عن حياة الأمة لم نجد لها قاعدة تتجمع فيها لتواصل مقاومتها الاستعمار)(1).

فقد يتسائل البعض:

- لماذا ثورة الحسين؟!

إن للجواب تراتيبية فلسفية طويلة يمكن أن نوجزها بالتالي:

1- إن الإسلام حياة ودين: وواحدة من أهم معاجز القران الكريم هو ذلك التكامل ين الحياة والدين، وما أنتجه من بعد حضاري في زمن قصير جدا أذهل

ص: 384


1- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 17.

علماء الحضارة ومؤرخو التقدم، كما أشار الى ذلك السيد الشيرازي في تأملاته(1).

2- إن مكمن قوة الأمة في تفاعلها السليم مع الإسلام، وحينما لا يكون ذلك التفاعل سليما فان الأمة ستظل تعاني من التخلف والانهزامية، ويسوق السيد الشيرازي دليلا على ذلك بقوله: (أن الأمة الإسلامية تلاشت رغم توفر مؤهلاتها: فلا زالت إستراتيجية بلادها وحيدة في العالم، ولا زالت كتلتها البشرية تضاهي أضخم كتلة بشرية، ولا زالت أرضها أخصب أرض، ولا زالت مواردها الطبيعية أغنى موارد طبيعية، ولا زال نظامها الذي تقدمت به، محفوظاً لم تعبث به الأيدي، كما عبثت ببقية النظم السماوية... فالتصميم الذي جعل منها خير أمة (وهو الإسلام)، قائم لم يوضع تصميم أفضل منه. إنها لا زالت في طور التنويم وشل الإرادة من قبل أعداء الخارج ومضللي الداخل، وهي قادرة على استعادة دورها الحضاري حينما تستعيد تفاعلها الصحيح مع الإسلام، فإذا أخذنا نسبة المسلمين اليوم بكل القوى الكبرى مجتمعة، لم تكن أقل من نسبة المسلمين في ابتداء الإسلام بكل القوى الكبرى مجتمعة. وكما استعلوا عليها يوم ذاك، يمكنهم أن يستعلوا عليها اليوم. وكما أبدعوا - يوم ذاك - خططاً فاجئوا بها عالم الأمس، يمكنهم - اليوم - أن يبدعوا خططاً يفاجئون بها عالم اليوم. فالمسلمون بحاجة إلى اليقظة فقط، ليعودوا خير أمة. ولكن الأمم - كالأفراد - كلما طال سهادها عمق رقادها، وكلما عمق رقادها طال سهادها.)(2).

3- إن ثورة الحسين بما تمثله من تجسيد للرسالة الإسلامية بنقائها النبوي، وببعدها الامامي أسقطت الشرعية (في منعطف تاريخي حاسم) عن كل حكومة لا تنبثق منها ولا تنتمي لمسيرتها.

4- إن الثورة الحسينية (شعاع خلودي بدا واستمر)، واهم عنصر من عناصر

ص: 385


1- السيد الشيرازي، (كتاب خواطري حول القران).
2- السيد الشيرازي، خواطري حول القران، ج1 سورة آل عمران.

ديمومتها هو تجسيدها للرسالة الإسلامية، إنها ليست ثورة في حدود مرحلة تاريخية معينة في معارضة حكم معين، فالحسين (عليه السلام) لم يثور ضد أشخاص أو سلطة، بل ثار ضد حالة انحراف اعترت الأمة بعد إسلامها وبالتالي فان البعد الثوري للثورة الحسينية سيظل فاعلا ما دام الانحراف موجودا، وسيظل البعد الإصلاحي خالدا بخلود الإسلام ذاته لأنه يجسد الإسلام النبوي مقابل (حسين مني وأنا من حسين)(1) إسلاميات الحلفاء والملوك والمذاهب والفرق والتحزب.

5- إن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تعيد إنتاج (ولادة) الثورة كل عام من خلال الشعائر الحسينية، إنها تعيد فضاء عاشوراء الملحمي، ومناخها الثوري ومنهجها الإصلاحي، (فمن منابرها ينطلق صوت القران وفي مواكبها تجري خصال محمد وعلي والزهراء (عليهم السلام) وفي ظلها يعيش كل من هدى اللّه قلبه للإيمان فشاء أن يتفيأ ظلال الإسلام)(2).

6- يعد السيد حسن الشيرازي الشعائر الحسينية هي جانب جوهري من الثورة الحسينية وديمومتها، وان من يحارب الشعائر الحسينية هو بالتالي يخطط لضرب ديمومة الثورة الحسينية ويتآمر على عمقها الشعبي في ضمير الأمة في

ص: 386


1- فيوما في بداية الدعوة خيرت قريش بقيادة بني أمية محمد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بين ترك الدعوة للإسلام أو القتل فرد قائلا «واللّه يا عماه! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره اللّه أو أهلك دونه»، [سيرة ابن هشام ج1، ص265]. وفي يوم آخر خيرت الجاهلية الأموية الجديدة سبط الرسول بين أن يشرعن لها تحريف الدين وإضلال الأمة أو القتل فاختار الشهادة. وإذا جمعنا بين قول الرسول الذي كان يكرره في مواضع كثيرة (حسين مني وأنا من حسين) ورد النبي على الجاهلية الأولى وجدنا إن حياة الإسلام ستكون مهددة حتى يظهر اللّه دينه والى أن يهلك النبي دونه، لكن النبي لم يستشهد بل من استشهد هو جزء من النبي وبضعة منه (حسين مني) أما امتداد دين الإسلام وبقائه هو مصداق لقول النبي الجد (وأنا من حسين) أي امتداد وبقاء رسالتي ما كان لها أن تكون لولا شهادة الحسين وثورته.
2- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 17.

سبيل مصالح حكومات لا شرعية سلطت على رقاب المسلمين وأصبحت عميلة للاستعمار. (والواقع إن الشعائر الحسينية التي تمثل امتداد ثورة الحسين (عليه السلام) لا تهدد مصالح المستعمرين في بلادنا فحسب، وإنما تهدد مستقبل المستعمرين أنفسهم وفي بلادهم أيضا، فمن الطبيعي أن يحاولوا إلغاءها بألف طريق وطريق، وخلف ألف واجهة وواجهة، ومن وراء ألف مبرر ومبرر، ولكن هذه الإرادة الاستعمارية القوية لا تفرض علينا أن نقف مكتوفي الأيدي إزاءها، بل علينا أن نقف أمامها بإرادة أقوى واصلب منها حتى نهزمها ولا ننجرف بها)(1).

7- إن فلسفة الحكومات التي لا تمثل الإسلام (سواء حكومات لا شرعية داخلية أو قوى استعمارية) تقوم على استلاب الأمة لثرواتها ومكامن قوتها، وواحدة من أهم مكامن قوة الأمة هي ثورة الحسين (إن المستعمرين لا يحرصون على تحضرنا إلا بمقدار علمهم باستحالة استعمارنا، إلا عن طريق حضارتهم ولا يشفقون علينا حينما يرومون انتزاع مشعل ثورة الحسين (عليه السلام) من أيدينا، إلا لعلمهم بأننا ما لم نتخبط في الظلام، لا يسهل لهم سوقنا مثل الأغنام التائهة الى المجزرة، ولقد عشنا التجربة في أقسى وأبشع صورها)(2).

8- إن على الأمة أن تستمد صمودها ضد المضللين والانحرافيين من الأمويين الجدد أو المتحالفين معهم من الثورة الحسينية، وتحويل المناخ الثوري للنهضة الحسينية الى طقس معاش عبر الشعائر الحسينية وجعلها منطلقا للتعبير عن إرادة الأمة ومواقفها، وفي هذا الصدد يقول السيد الشيرازي: (إن علينا إزاء هذا الموقف الاستعماري واجبان: واجب الاحتفاظ بثورة الحسين (عليه السلام) لأنها تمثل قيمة واقعنا وواجب الاحتفاظ بثورة الحسين (عليه السلام) لأنها تمثل إرادتنا المستقلة كما يكون علينا في مثل هذا الموقف أن نكون بنائين لا هدامين فنبني طوابق

ص: 387


1- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 22.
2- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 23.

جديدة فوق مجدنا الذي بناه آباؤنا ولا نهدم صرحنا المشيد اغترارا بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاء لم يجده شيئا ووجد اللّه عنده فوفاه حسابه)(1)، فالثورة الحسينية ليست مجموعة من القيم التي يمكن ان نتفاعل معها عن طريق الأفكار، بل إنها لها بعدا فاعلا يتعلق بإرادتنا.. يتعلق بمدى استقلالية هذه الإرادة، فالثورة الحسينية لا يتوقف دورها على أن تبين لنا أين معسكر الحرية وأين جيش الظلم والانحراف بل إنها تخيرنا لتشكيل مواقفنا وفقا لمدى إيماننا بها وتفاعلنا معها لذا يغدو الحديث عن التقليل من دور الشعائر الحسينية وكما يؤكد السيد الشيرازي انه حديث خطير لا يقل خطورة عن تهميش قضية وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) .

الأمويون الجدد والشعائر الحسينية

اشارة

هناك ثلاثة اتجاهات للأمويين الجدد في محاربة الشعائر الحسينية، لأنهم يدركون إن الشعائر هي الجسد المادي الذي تحل به روح النهضة الحسينية، وبدون هذا الجسد ستكون هذه الروح غير مرئية، وبالتالي لا تستطيع أن تتفاعل معها الأمة، لذا كانت هناك الروايات المشددة من أهل البيت والأئمة المعصومين على إحياء هذه الشعائر وإقامتها والدفاع عنها.

الاتجاه الأول: محاربة النهضة الحسينية

وهذا الاتجاه يستهدف ما يلي:

- تجسيد الصراع بين الإمام الحسين (عليه السلام) والأمويين على انه صراع بين الحكومة الشرعية والخارجين عليها. وكأن الأمة اجتمعت على بيعة معاوية ورضيت ببيعة يزيد، ويوما بعد آخر تتراجع هذه الأطروحة حتى لم تعد لها قيمة للمناقشة، فبسبب توفر المصادر التاريخية لشرائح كبيرة من الأمة واطلاعها على

ص: 388


1- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 22.

ثورات المسلمين في الكوفة والبصرة والمدينة المنورة ومكة على حكم يزيد، أصبح من المعلوم انه لا رضا له ولا إجماع يتحصل بالوراثة وبحد السيف واستباحة أعراض الناس وهتك حرمهم.

- تجسيد الصراع بين آل الرسول وطغاة قريش من رؤوس الكفر والنفاق على انه صراع بين بني هاشم وبني أمية، وبحسب التحليل التاريخي فهذه الأطروحة هي أطروحة عباسية أرادت أن تغير هوية الصراع العقائدي الى صراع قبلي يبرز فيه بني العباس كأنهم رؤوس القوم لبني هاشم.

- التقليل من أهمية ودور الإمام الحسين (عليه السلام) وكتم فضائله ومناقبه التي اجمع على نقلها علماء الأمة بشتى مذاهبهم ومشاربهم، وتنزيه يزيد والأمويين مما فعلوا مرة بإنكار ما ارتكبوه بحق آل بيت الرسول والأئمة الأطهار وأخرى بإلقاء التبعية على الولاة والحكام المتهورين أمثال عبيد اللّه بن زياد وأبيه والحجاج وغيرهم. وهذه الأطروحة يلجا لها بعض المؤرخين المعادين لآل بيت الرسول في كتبهم وأطروحاتهم.

وهذه الأطروحات في الجانب الفكري تصدى لها السيد الشيرازي من خلال النتاج الفكري والتحليل التاريخي وبين في كثير من الموارد حقيقة النهضة الحسينية ودورها الإصلاحي في الحفاظ على الإسلام كدين ومنهج للحياة.

أما في الجانب العملي فقد كان السيد الشيرازي يعمل بكل ما أوتي على نشر قضية الإمام الحسين (عليه السلام) في كل محفل ومجمع، في الحج وفي الشام وفي بيروت، وكان يشجع أساتذة الحوزة الزينبية وطلبتها على بذل الجهد والمثابرة في هذا الطريق.

الاتجاه الثاني: محاربة الشعائر الحسينية

يعد كتاب الشعائر الحسينية للسيد حسن الشيرازي هو الرد الرادع على كل من أثار الاتهامات والشكوك حول الشعائر الحسينية، والبرهان الساطع حول دور

ص: 389

وأهمية الشعائر الحسينية في المجال الديني والعقائدي والاجتماعي والإنساني.

وقد رد السيد على أهم الاتجاهات التي كانت مثارة حول الشعائر الحسينية من قبل الأمويين الجدد وأسيادهم من المستعمرين والمستكبرين.

الطغاة الدوليون والثورة الحسينية

كما إن هناك من امن بالحسين ونهجه في الثورة على الطغاة مثل روسو وغاندي ومفكرين ثوار في قارات العالم اجمع، ففي المقابل هناك طغاة وأنظمة دكتاتورية وجدت في الحسين وثورته ما يهدد مصالحها ويقوض عروشها، خصوصا وان لثورة الحسين طابع فريد لا يتكرر وهي انها لست جزء من التاريخ بل إنها جزء مهم من الحاضر فكل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء وكل طاغية هو يزيد، (وهذه الحقيقة أقضت مضاجع المستعمرين، فراحوا يجندون قواهم ويركزونها على هذه القاعدة الجبارة التي أبا اللّه لها أن تستسلم أو تهادن، فخسئت هجمات المستعمرين مفلولة خوارة، وبقيت هي أكثر توهجا واندلاعا، فجعلوا يبحثون عن سلاح جديد يهد هذه القاعدة التي لم يؤثر فيها أي سلاح، وأخيرا وقع اختيارهم على احزاب المسلمين - التي تكونت منذ تكونت بإشارة الاستعمار ثم لم تخدم سوى المستعمرين - فحركوها لضرب ثورة الحسين)(1).

لقد سعى الطغاة الدوليين الى إفراغ الأمة من عناصر قوتها، وكأنهم يعيدون ما فعله الأمويون ومنافقو قريش بعد انتصار الإسلام عليهم (فاختطف المستعمرون منا دستور القران ومؤتمر الحج بالحضارة والتقدم ثم بدا إنهم ما كانوا يهدفون مما يقولون إلا تحطيم كيان المسلمين فقذفوا الحكومات العزلاء في أتون الحرب وزجوا في الملايين في سجن الشيوعية ودفعوا مئات الملايين منا في بؤرة الأحزاب وشبكات العمالة والمهاترات)(2).

ص: 390


1- السيد الشيرازي، الشعائر الحسينية، ص 17.
2- الشعائر الحسينية، ص 23.

ويبين السيد الشيرازي إن الطغاة المستعمرون قد جربوا وعلى مدى التاريخ محاربة الشعائر الحسينية منهم السلاجقة والمماليك الأيوبيين والإخشيديين والعثمانيين والبريطانيين لكنهم اندحروا أمام ثورة الحسين (عليه السلام) ونهضته العالمية، فيقول السيد حسن الشيرازي:

(لقد جرب الاستعمار بنفسه حملات مباشرة على الشعائر الحسينية وكان من الطبيعي أن يفشل فالمسلمون مهما انجرفوا لا يأخذون دينهم عن المشركين ومن ثم استعار الأوجه المنحرفة التي انحدرت من أصلاب المسلمين ثم اتخذ منها نقطة انطلاق امتد منها سرطان الاستعمار الى شتى أعضاء الكيان الإسلامي فبرزت مع الأيام في المسلمين وجوه عميلة أو مسيرة تستر بها الاستعمار لنشر مبادئه وأفكاره وقد اجتهد الاستعمار قبل كل شي لتوجيه الأحزاب وجهته لأنها اقدر من المستعمرين وعملائهم على أن تنخر في كيان الإسلام)(1).

العباسيون الجدد والشعائر الحسينية

وهم مجموعة ممن يظهر احترامه لثورة الحسين لكنه يسعى الى إفراغها من محتواها المعاش في الواقع اليومي للإنسان الشيعي، مرة بانتقاد ظاهرة البكاء ومرة أخرى بنقد مظاهر الحزن وثالثة بنقد الشعائر والتحريض على إلغائها بحجة إن أعداء آل البيت قد يجدون فيها حجة لشن حملات عدائية حول شيعة آل البيت ومواليهم، وعلى كل تلك الحجج أجاب السيد الشيرازي وحذر من الانجرار لضلالات العباسيين الجدد الذين يرفعون شعار الرضا لآل محمد في العلن ويضمرون الشر لهم في السر، فيقول السيد الشيرازي:

(هذه الأحزاب لا تحارب ثورة الحسين لعقيدة تناهضها - كما تفعل الأحزاب الإلحادية - وإنما تحاول تنفيذ إرادة المستعمرين فيها لتقبض عمولتها، لا تستند

ص: 391


1- الشعائر الحسينية، ص 24.

في حربها الى دليل معين، وإنما تنتهز كل حق وباطل لضرب هذه الثورة المقدسة، فمرة تستدل بالآراء الشاذة لبعض المؤلفين، بينما هي لا تعترف بأولئك المؤلفين إلا للتستر بأسمائهم فحسب، وطورا تتذرع بان الأعداء يضحكون منا، فيما هي لا تحذر أن يضحك منها الأعداء والأصدقاء عندما جعلت من نفسها أصابع طيعة للاستعمار)(1).

ويسترسل السيد الشيرازي في تفنيد الرأي الأول الذي يعتمده أولئك المغرضون وهو الاعتماد على بعض الآراء الشاذة لبعض المؤلفين المغمورين الذين لا تصلح آراؤهم حجة في صغائر الأمور فكيف بالنسبة لقضية عظيمة مثل إقامة الشعائر الحسينية، ويأتي الى الأمر الآخر فيعالجه أيضا معالجة دينية عقائدية، فيقول: «وأما ترك الشعائر الحسينية لضحك الأعداء منها فهذا يكشف عن انهزامية بالغة في نفوس هؤلاء الحزينين، فهل ضحك الأعداء يبرر التخلف عن ديننا وشعائرنا؟

ولقد كان الجاهلون والمنافقون ألذع سخرية وأكثر ضحكا من الإسلام، غير إن النبي العظيم لم يعر سخريتهم من الاهتمام ما كان يعيرها لطنين الذباب فمضى في سبيله لا يلويه شيء حتى انتصر، وألقى القران ضوءا على واقعهم المتفسخ بقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}(2)، ولقد سخر اليهود بالآذان وسخر المشركون بالسجود، فلم تثن من عزم المسلمين شيئا، بل ضربوا على ذلك النهج المستقيم، غير مبالين بعثرات غيرهم، حتى ادخروا لنا التشيع عبر الزوابع الهوج.

ص: 392


1- الشعائر الحسينية، ص 18.
2- سورة البقرة، الآية: 14-15.

ولكن ما ضر الذين يقيمون شعائر دينهم إن يسخر منهم الجاهلون ما داموا يعلمون: إنهم على حق وان أعداءهم على باطل ولقد شكوا عند الإمام الصادق (عليه السلام) استهزاء الأعداء بهم فقال مهدئا روعهم: (و اللّه لحظهم اخطاؤا وعلى ثواب اللّه راغوا وعن جوار محمد تباعدوا).

بالإضافة الى موقفنا من الشعائر الحسينية يتركز على قاعدة فكرية وطيدة ليس لنا الانحراف عنها وان تظاهرت قوى العالم ضدها صحيح إن علينا أن نكف ضحك الأعداء عنا ولكن يجب أن نكف ضحكهم عنا هل بالتخلي عن واقعنا أو باستعراض فضائحهم حتى ينكمشوا على مخازيهم ولا يتطاولوا على مقدساتنا»(1).

ويخلص السيد الشيرازي الى إن هناك حتمية تاريخية في انتصار ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) والشعائر الحسينية وخلودها على مدى السنين والعصور والدهور، وهذه الحتمية تنطلق من حتمية عقائدية وإلهية سنها اللّه لهذه الشعائر أن تعتلي منابر الخلود، فيقول السيد الشيرازي:

«وأطمئنهم بأنهم وكل من في الأرض جميعا لو تناصروا لحرب هذه الشعائر العظيمة فإنما هم الذين سيفشلون وينهارون وينتصر الحسين ودعاته ولا تزداد شعائره إلا توسعا وانتشارا لأنهم ليسوا أقوى من يزيد الذي حشد لحرب الحسين (عليه السلام) ثلاثين ألفا أو يزيد من المجرمين الذين كان كل فرد منهم يتقرب الى اللّه بدمه فاكتسحهم الحسين (عليه السلام) واكتسح يزيد والحكومة الأموية كلها وارتفعت قبته الذهبية تناطح السحاب وانتصبت له في كل مكان راية تلوح وخطيب يروي البطولات»(2).

ص: 393


1- الشعائر الحسينية، ص 19-21.
2- الشعائر الحسينية، ص 26.

الصورة

ص: 394

السيد الشيرازي والشعائر الحسينية

كانت للشعائر الحسينية في حياة الإمام الشهيد السيّد حسن الشيرازي دور محوري، ومركزي، ومن يتتبع هذا الدور فسيجد إن لها تأثيرا كبيرا في جميع كتاباته وأعماله ومواقفه ومشاريعه السياسية والفكرية والعقائدية.

لم تكن لديه الشعائر هي ما يتعارف عليها بل لها تجلي عميق في ذاته حتى يصل الى انه كان يعيش عاشوراء وكربلاء يوميا في كربلاء أو سجون بغداد أو بيروت او في جبال العلويين او في البقيع او مكة... عاش زينبيا صادحا بالثورة ومات حسينيا مستشهدا في سبيل نهج ربه.

كان سماحة الإمام الشهيد من المَشهورين بمُساندة الشَّعائر الحُسَينيّة، وتشجيع مَن يقوم بها، فكان كثير التَّأكيد عليها، مُبيِّناً أهمِيَّتها، بل وضرورتها للإسلام والمُسلمين، وفي المناسبات الإسلاميّة لاسيَّما في شهر مُحرَّم الحرام، ذكرى عاشوراء سيّد الشُّهداء (عليه السلام) ، حيث يحضر كربلاء المُقدّسة الكثير من المواكب والهيئات الحُسَينيّة لإحياء هذه الذِّكرى.

كان يذهب لتَفَقُّدها، والإطِّلاع على احتياجاتها، ومُناقشة الصُّعوبات الَّتي تُواجهها، إعلاءً لراية الحسين (عليه السلام) ولمَبادئه وأهدافه.

عُرف عن الإمام الشهيد أيضاً، دفاعه عن الشعائر الحُسَينيّة أمام الهجمة الحاقدة الَّتي أرادت لشعلة هذه الشَّعائر أن تخبو، مع علمنا بالمساحة الكبيرة للعاطفة التي تحتلّها هذه الشعائر في النُّفوس، فهي وسيلة لإبراز للعاطفة الدينيّة، وتَستَقطب كثيراً من النّاس الَّذين يُمارسون هذه الشَّعائر المقدّسة، أما مُحاربتها فلَم تَخدُم شعار الإمام الحسين (عليه السلام) ، والَّذي نعلم أنه (عليه السلام) ثار من أجل الدّين، وخرج من أجل اللّه سبحانه، وحمل أهدافاً عظيمة وكبيرة، وإيصال هذه المفاهيم وهذه الأفكار إلى عامّة النّاس يتطَلَّب تقريبهم وجلبهم إلى الحُسَينيّات، والشَّعائر الحسينيّة، ومن ثُمَّ التشيّع بأفكار وأهداف الإمام الحسين (عليه السلام) . من هنا كان

ص: 395

للشهيد الشيرازي موقفاً عظيماً من الشَّعائر الحُسَينيّة والدِّفاع عنها، ومُحاربة الَّذين وقفوا أمام الشَّعائر، لا لشيء إلاّ لأنَّها أحد عناوين الانتقاد من الغرب أو الشَّرق لهذه الشَّعائر. وهذا ما يتعلَّق بالجانب الثّقافي من نشاط السيد الشهيد الشيرازي.

أما مشاركته الفعلية في الشعائر الحسينية، فنقتبس منها هذه الومضات:

- في مقتبل الشباب كان يتلو في عاشوراء قصة استشهاد الإمام الحسين أمام والده ومحبيهم بصوت شجي حزين وبكلمات ملؤها المشاعر الجياشة والعاطفة الملتهبة بحب آل البيت وعظم المأساة.

- كان يتفقد أصحاب المواكب الحسينية ويلبي احتياجاتهم ما أمكن، وكان على علاقة طيبة معهم ويهتم بهم، وكانوا يحبونه لأنه ينزل معهم الى الشارع ويدافع عن الشعائر الحسينية خصوصا وان كتابه الشعائر الحسينية كان قد صدر في وقت كان فيه أصحاب المواكب ومحبي الإمام الحسين يتعرضون الى ضغوط كبيرة، وكان يواجه سلطة العفالقة بكل شجاعة في تضيقهم على أصحاب المواكب وزوار كربلاء المقدسة، وبالطبع فان هذه الأعمال جعلت منه المدافع الأول عن الشعائر الحسينية في وقت كانت فيه الكثير من الجماعات تلوذ بالصمت.

- شجع الكثير من طلبته ومحبيه على تنمية قدراتهم الخطابية ليكونوا خطباء للمنبر الحسيني، وكذلك شجع الكثير من الشباب المؤمن المثقف على الكتابة في الثورة الحسينية والدفاع عن الشعائر الحسينية.

- كانت إقامة الشعائر الحسينية محور أساسي من فعالياته وأعماله سواء كان في الحج أو في الشام أو في أفريقيا أو في أي مكان.

- كان السيّد الشهيد يُقيم الشَّعائر الحُسَينيّة بنفسه، ومن جُملة ذلك أنَّه كان يَسير أمام هيئة التَّطبير، وفي إحدى السَّنوات جاء المُطبّرون، من شارع حبيب بن مظاهر، ووقفوا عند بيت الأخ الأكبر، وهم يُنادون: «يا حسين.. حيدر.. حيدر..»

ص: 396

وطال وقوفهم حتّى خرج إليهم السيّد الأخ الأكبر ليُرحِّب بهم، ويُشاركهم ويواسيهم العَزاء، فخرج حافي القدمين بدون رداء حُزناً على سيّد الشهداء (عليه السلام) ، والمُصيبة العُظمى الَّتي حلَّت بأهل الأرض وأهل السَّماء باستشهاده (عليه السلام) .

وفي إحدى السَّنوات، حيث الهُجوم الشَّديد علي المُطَبّرين، والشّائعات الَّتي كان يُثيرها بعض المُخالفين، جَمَع الأخ الشهيد رُؤساء الهَيئات في كربلاء المُقدّسة في اليوم الثّامن من شهر محرَّم، وقال لهم، «لابدَّ أن نخمد نار الفتنة، ونسدّ الطَّريق على المُخالفين، بأن نخرُج يوم عاشوراء قبل التَّطبير إلى صلاة الجماعة في صحن سيّدنا الإمام الحُسَين (عليه السلام) .. الكُلّ بأكفانهم وسُيوفهم، ليعرف الجميع أن المُطبّرين يصلّون والنّاس نيام، وبذلك تغلق أبواب الشّائعات..». وبالفعل في تلك السَّنة والسَّنوات الأخرى كان المُطَبّرون يلتَزمون بأداء الصَّلاة مع الأكفان البَيضاء، وكان المَنظَر رَهيباً جدّاً، إذ أن آلاف المُصلّين في صحن الإمام الحُسَين (عليه السلام) كانوا يرتدون الأكفان البيضاء، ويحملون السَّيف، ويقتدون بالسيّد الأخ الأكبر ويؤدون فريضة الصُّبح.

وكان الشهيد يخرج ليلة عاشوراء ويومها حافي القَدَمين وبدون رداء إظهاراً للحُزن، ومُواساةً لآل بيت النَّبي عليهم أفضل الصَّلاة وأزكى السَّلام(1).

هذه الفكرة الخلاّقة من السيد الشهيد جعلت اصطفاف المطبرين لصلاة الفجر، أعظم من التطبير نفسه، فقد لبس الجميع أكفانهم وحملوا سيوفهم، ورفعوا راياتهم البيض وقد اصطفوا في صفوف منظمة لأداء صلاة الصبح يوم عاشوراء في الحرم الحسيني، وكان لهذا المنظر دويٌ في كُلّ أنحاء العراق، حتّى إن الرعب والخوف دبّ أو أروقة السلطات الحاكمة، لذا في السنة التالية منعت الاجتماع والصلاة جماعة وبتلك الصّورة!

ص: 397


1- هذا جانب مما ترويه شقيقة السيد الشهيد، موسوعة السيد حسن الشيرازي ج1.

المبحث الخامس: العلويّون شيعة أهل البيت (عليهم السلام)

اشارة

العلويّين طائفة إسلاميّة، لكنهم تعرضوا طوال التّاريخ للاضطهاد، فواجهوا مشاكل من قبَل الآخرين، ولهذا غُيّبوا عن السّاحة، إلاّ إن سماحة آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي رأى أن هذا التَغَييب والتَعتيم على العلويّين له آثاره السَّلبيّة على الأمّة الإسلاميّة..

فهذه شريحة كبيرة تعيش في تركيا وبلاد الشّام.. وهُم جماعة طَيِّبة مُعتنقة الإسلام، إلاّ ان هذا التغييب والتعتيم تسَبَّب في أن ينعَزل قسم من هؤلاء عن السّاحة، وكان وَراء هذا التغييب تناسي الثقافة الإسلاميّة، وضعف التواصل الإسلامي معهم..

وهذا لم يكُن تَقصيراً منهم، بل كان نتيجة ما فرض عليهم من التَّعتيم والأذى - للأسف - في فترات مُعيّنة، لذا رأى السيّد الشهيد أنه من الواجب تواصل العلويين بإخوانهم، أو بالأصَح أن يرفع عنهم النقاب ويُعرّفهم للجميع، فتَعود اللحمة بينهم وبين الأمّة الإسلاميّة، فهُم جُزء منها يقيناً، ولذلك تحدَّث مع كبار العلويّين، واقترح عليهم أن يُظهروا عقائدهم ما داموا من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ، ومُعتقدين بأصول الدين وفروعه، وكانت لهم مَساجد في مختلف مناطق لبنان، وأيضاً في مختلف مناطق سوريا، إذن تغييبهم يُعد نوعاً من الظُلم، وربما يكون الاستعمار وراء ذلك، وهو الَّذي يَسعى إلى تَمزيق الأمّة الإسلاميّة، وتغييب جماعات منها، وتركهم مُهمَلين، حتّى تتحجم الأمّة وتضعف، والحال ان هؤلاء جماعة ضخمة في هذه البلاد الثَّلاثة (تُركيا، سوريا، لبنان).

ص: 398

وكان مشروع السيد الشيرازي وعمله موجهاً لهذه الطّائفة - العلويين - ، وهي طائفة شيعيّة إثنا عشريّة، تؤمن بالأئمّة الإثنا عشر (عليهم السلام) ، وبمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، غاية ما هنالك أنَّهم ابتعدوا لسنَوات طَويلة عن مراكز العلم والحوزات العلميّة والعلماء، من جانب آخر تعرضهم للضغوط من قِبَل العثمانيّين في بلاد الشّام، وسطوة الظُّلم الَّذي جرى عليهم، فقد أُبعدوا إلى الجبال والوديان، وإلى المناطق البعيدة عن المُدُن، ممّا جعلهم بعيدين عن كثير من عقائد الشّيعة الأصيلة.

فقد كان العلويّون يُحارَبون باسم الإسلام، وكانوا يُذبحون باسم الإسلام، ولأنّهم في المَساجد كانوا يُقتلون، فتلك العُقدة الَّتي جثمت على صدورهم بسبب الظُّلم الَّذي أتى باسم الإسلام لم يكُن من اليَسير، ولم يكُن من السَّهل أن يأتي مَن يَحلّها عندهم..

وبقدوم الإمام الشهيد، وبالحوار الَّذي راعى فيه خصوصيّات المنطقة، وبالنِّقاش الَّذي لم يجرح فيه المَشاعر، ولم يأتِ بلهجة التكفير، ولم يأتِ لكي يُعلِّمهم ما هو الإيمان، واتَّخذ في ذلك أسلوباً هو احترامه لطقوسهم، واحترامه لأدائهم شعائر الدّين، والَّذي في حقيقته لا يختلف عن أداء الشعائر في النجف الأشرف أو في أيّ بلد من بلاد الإسلام، واللاذقيّة هي مدينة من مُدُن الإسلام، لا تختلف في إسلامها عن طوس، أو كربلاء المقدّسة، ولا عن أيّ مدينة فيها مُسلمون، فسماحة السيّد الشهيد أتى إليهم وقلبه وصدره مفتوح لهم، فسمع كلامهم وآلامهم وهُمومهم، ولمّا كان معهم كما أرادوا، كانوا له كما أراد.

فصدرت الفَتوى الَّتي عُلِّقَت في كُلّ بيت، فلا تدخل إلى بيت إلاّ وتَراها، وهي فتوى سماحة الإمام السيّد محمَّد مهدي الشيرازي، (إن العلويّين مُسلمون، وهم من شيعة آل محمَّد (عليهم السلام) ).

ص: 399

اولاً: العلويون تاريخ الاضطهاد وجغرافية المحنة

اشارة

اضطهد الشيعة في بلاد الشام منذ ان نفى معاوية بن ابي سفيان الصحابي الجليل وحواري النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ابو ذر الغفاري من الشام وسيره على بعير بلا قباء مخفورا الى الخليفة عثمان باعتبار ان حديثه يفسد عقول اهل الشام، وهو الذي قال عنه رسول اللّه: (ما اظلت الخضراء ولا اقلت الغبراء اصدق لهجة من ابي ذر)(1)، وظل صحابة الرسول يبلغون الاسلام النقي من مدرسة اهل بيت الرسول ويبثون في المسلمين حب الرسول واله الاطهار، فانتشر التشيع في الشام منذ الفتح لكنه ظل كامنا طوال حكم الامويين الذين اعلنوا الحرب على اهل بيت الرسول وقتلوهم على طول البلاد وعرضها، بمجازر ووحشية ما تزل تجرح المشاعر وتستدر العواطف، وفي مقدمتها كربلاء بيومها العشورائي الحزين.

وقد ساهمت سياسة التهجير والنفي للقبائل العربية الموالية لال البيت التي مارسها الامويون الى دخول الكثير من القبائل العربية كقبيلة همذان الى سوريا ولبنان، وكانت من ثمرة تلك الماساة ان انتشر التشيع في اصقاع الارض(2)، في اعماق اسيا والهند وافريقيا، كما كانت مجازر العثمانيين وتهجيرهم شيعة بلاد

ص: 400


1- ويقول أمير المؤمنين في نهج البلاغة من كلامه (عليه السلام) لأبي ذر لما اخرج إلى الربذة: (يا أبا ذر إنك غضبت للّه فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وأغناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غدا، والأكثر حسدا، ولو أن السماوات والأرض كانتا على عبد رتقا ثم اتقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لآمنوك) (بحار الأنوار، العلامة المجلسي ج 22 ص 411).
2- وذلك مصداق لقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، (سورة التوبة، الآية: 32-33).

الشام سببا لنشر التشيع في بلاد المهجر في امريكا وبلدان امريكا الجنوبية(1).

وكانت الفترة الزمنية بين سقوط الدولة الاموية وبداية الدولة العباسية مرحلة التقط فيها موالي ال بيت الرسول انفاسهم وعاشوا مرحلة من مراحل الاستقرار وتوجه فيها علماؤهم نحو الائمة المعصومين لينتهلوا منهم العلوم والمعارف وكان هناك الكثير من شيوخ بلاد الشام من تلاميذ واصحاب الامام الصادق (عليه السلام) .

وما ان ثبت حكام بني العباس اركان حكمهم حتى تنكروا لثورة الامة الاسلامية وشعارها الثوري ومطلبها الرئيس وهو (الرضا لال محمد)، وعندها توالت الثورات ضد سياستهم المعادية لال بيت الرسول ومنهجها الاسلامي الاصيل في تطبيق الاسلام، في الكوفة والمدينة ومكة، وانعكست هذه الاحداث على اوضاع الشيعة في بلاد الشام في العصر العباسي الاول، اما في العصر العباسي الثاني فقد زاد التنكيل بالشيعة ومطاردتهم.

وقد كان لاحتلال السلاجقة بغداد وتلاعبهم بالخليفة العباسي وقيامهم بمجازر وانتهاكات مروعة للشيعة في بغداد والعراق واحتلالهم لبلاد الشام وانتهاجهم سياسة طائفية مقيتة هدفها تفريق المسلمين ونشر الصراعات المذهبية، ومما لاشك فيه ان شيعة الشام اصابهم الاذى الكبير من هذه السياسات الوحشية العنصرية.

ص: 401


1- كذلك ادت المجازر التي قام بها صدام واجهزته القمعية ضد الانتفاضة الشيعية عام 1991 الى هروب وتهجير اكثر من اربعة ملايين من شيعة العراق الى الولايات المتحدة الامريكية واوربا واستراليا واصبح هناك وجود ملحوظ للشيعة في اكثر من مائة وثلاثين دولة في جميع قارات العالم، بل لم تعد تخلو عاصمة في البلدان غير المسلمة من وجود مراكز وحسينيات للشيعة.

الصورة

ص: 402

1- العلويون من منارات حضارية الى سكنة كهوف معزولة

الظلم الذي يقتل الانسان على الحب والولاء لال بيت الرسول الائمة الاطهار، هو الوحشية التي تهدم البيوت على ساكنيها، وتنهب وتقتل وتفعل كل ما يخجل من ذكره التاريخ، ولقد تحمل الشيعة العلويين ظلما كبيرا، يصفه السيد الشيرازي: (فالاضطهاد الذي عانوه - كما عانته بقيّة الشيعة في العالم - على مدى ثلاثة عشر قرناً، لم يكن إضطهاداً سياسيّاً فحسب، وإنمّا كان إضطهاداً فكريّاً أيضاً، فهذا ما جعلنا شركاء في المحنة، ومسؤولين جميعاً عن الإشتراك في إزالة أسباب المحنة سياسيّاً وفكريّاً).

ولقد تضاعف الظلم على الشيعة العلويين في حكم الايوبيين ففي سنة (569ه) استولى الأيوبيون على مصر وأزالوا شعار الفاطميين، وقضوا على عاداتهم وتقاليدهم، وعزلوا قضاة الشيعة واستنابوا قضاة شافعيين، فساءت حال العلويين وفُتّ في عضدهم، وانتقلوا من سيء إلى أسوأ، ولما سُقط في أيديهم ورأوا أنهم قد حرموا من حرية اعتقادهم أقدس أمانيهم في الحياة وأغلى ما لديهم من ثمين، اخلدوا إلى السكينة إشفاقاً على نفوسهم و حرصاً على وحدة صفوف الأمة أن يعتريها التفكك و الانحلال، و هم في وقت أحوج ما يكونون إلى التضامن درءاً لخطر جيش الصليبين عدو البلاد المشترك.

كان موقف العلويين آنذاك بالغ الخطورة والرهبة، فهم بين نارين ملتهبتين، عسف الولاة وعاديات القرامطة، وأنكأ من هذا كله عجزهم عن درء أي الخطرين قبل وضع الحرب الصليبية الإسلامية أوزارها، لأن الواجبين الديني والوطني كانا يقضيان عليهم بالتعاون ولو مع مبغضيهم لاستنقاذ البلاد من أيدي الغزاة الطامعين وإقصاء الدخيل الأجنبي عنها، فنسوا مصالحهم الخاصة وتناسوا أحن جيرانهم وسوء معاملتهم في سبيل المصلحة العامة، وأبلوا في تلك الحرب الضروس بلاء حسناً، تلك الحرب التي كادت تأتي عليهم لوجودهم جغرافياً في

ص: 403

أتونها الملتهب، فقاتلوا قتال المستميت ذوداً عن مقدسات دينهم ومقرات بلادهم ودفاعاً عن نفوسهم:

وأشد ما يقطع قلوبهم حسرات أن رأوا بلاداً ملكوها بشفار سيوفهم وسقوا أرضها زكيّ دمائهم تتناهبها أيد لا عهد لها بها من قبل، وينعم بمرافقها وخيراتها غزاة فاتحون، وهم أصحابها الذين درأوا عنها غارات الروم وخطر القراصنة والإفرنج، يطردون عن مناهلها طرد غرائب الإبل(1).

وإنما أفضل ما اهتدوا إليه في تلك الفترة القاسية من حياتهم هو محافظتهم على أنسابهم العربية الصحيحة، واحتفاظهم بخالص الحب والولاء لأئمتهم المعصومين (عليهم السلام) ، وانشغال بعض علمائهم بتأليف كتب قيّمة تدل على سمو مكانة مؤلفيها العلمية والأدبية، وقد اشرنا إليها في الفصل الثاني من هذه العجالة وقدمنا نموذجاً من شعر أديبين من أدباء ذلك الجيل الرهيب، والحق أقول لو أتيح لعلماء ذلك العصر وأدبائه إظهار مؤلفاتهم للملأ، وتسنى لهم إيصالها إلى النفوس الحرة والعقول الواعية لكان لهم من أنصار العلوم والآداب في المجتمع نصير وظهير، ولكن أنّى لهم نشرها وقد كان ولاة الأمر أعداء مذهب التشيع وخصومه الألداء ضربوا بينهم وبين الظهور على مسرح الحياة بسور من العيون والأرصاد، يحصون عليهم أنفاسهم ويرقبون سكناتهم، فرغب الكثير منهم عن حياة الحضارة إلى عيشة البداوة، تفادياً من فتك ينتظرهم في نفوسهم كما مُنوا به في نفيس ولائهم إذ منعوا إعلانه فالتزموا كتمانه، فغادروا المدينة مدثرين الليل حجاباً إلى هذه الجبال التي اتخذوا منها أكناناً ومن غاباتها وكهوفها ملاجئ ومدخلات(2).

وجاء المماليك ودخلت سنة (1305م) وعندها أمر السلطان (محمد بن

ص: 404


1- ينظر كتاب النبأ اليقين عن العلويين، للشيخ المرحوم محمود الصالح، عن مؤسسة البلاغ - بيروت - لبنان.عام 1381 ه- - 1961 م.
2- المصدر السابق.

قلاوون) سلطان مصر، (من سلاطين المماليك البحرية) رجاله بتسيير حملة عسكرية عظيمة إلى جبال كسروان في لبنان لإبادة الطوائف الشيعية هناك إذ كانوا أصحاب البلاد آنئذ، كما فصله العلامة (المطران دبس) في كتابه (الجامع المفصل) وأوضحه المؤرخ (عيسى اسكندر المعلوف) في كتابه (دواني القطوف) حيث يقول: «ومن جملة من فتك بهم العرب النصيرية الذين كانوا في شمال لبنان، ولا سيما في المنيطرة، والعاقورة، ونواحي البترون، وعكار، والضنية، ثم امتدوا إلى كسروان قبل سنة (1305م) وكانوا أشداء يساعدون إخوانهم في (وادي التيم، ومرج عيون) والذين تخلصوا من الموت من هؤلاء رحلوا إلى الشمال، أي إلى جهات اللاذقية وإنطاكية واعتصموا في جبالها وبقي منهم قليل في لبنان»(1).

2- مجزرة الطاغية (سليم العثماني)

ثم لا نلبث أن نرى القدر بعد حين من الدهر يعكس آيته، فبينما العلويون آمنين مستسلمين لأخيلتهم المجنحة التي طارت بهم إلى ما وراء حاضرهم، فأنستهم غوائل الأيام ومصارع الأجيال التي طالما نقضت عهود أوفياء، وخانت قبلهم أمناء، إذا بالقدر الجبار يصدر عليهم أحكامه الجائرة، ويخرج لهم من خباياه من ينفذها على يديه، تلك الأحكام التي لا هوادة فيها ولا رحمة، يقوم بتنفيذها في أواخر القرن التاسع الداهية السفاح (سليم الأول العثماني) الذي أدرك بسبب الفوارق المذهبية ما في نفوس الشعب من كراهية أوجدتها السياسة الدهياء وغذتها أعمال الولاة الرعناء، وهل لمثل هذا الداهية أن يضيعها من يده فرصة ذهبية، فرأى أقرب ما يوصله إلى غايته في الشرق التظاهر بالغيرة على المذهب السني، فأغرى بعض صنائعه من قضاة الرشوة وعلماء السوء لإصدار فتوى بهدر دماء الشيعة (العلويين) فصدرت الفتاوي الحامدية وتنقيحها بإمضاء الشيخ (نوح الحنفي).

ص: 405


1- المصدر السابق.

ومن جراء تلك الفتوى الباطلة والقرية الصارخة بالظلم والإثم كانت هاتيك الفظائع المنكرة والمجازر الرهيبة التي مثل بها السفاح (العثماني) في الشيعة (العلويين) شر تمثيل.

لقد إمعن السلطان سليم في نفوس العلويين ودورهم قتلاً وتخريباً، لقد انصب عليهم انصباب السيل وانقض عليهم انقضاض الصواعق المحرقة، فأخذهم أخذاً وبيلا وفتك بهم فتكاً ذريعاً(1)، ولم تهدأ نفسه الثائرة وتستقر أعصابه المتوترة حتى ظن وظنت بطانته الفاسدة أن تلك الفرقة انقرضت أو كادت، فأغمد سيفه الأثيم وهو ينظر إلى تلك الدماء البريئة تقطر منه فتأخذه العزة بالإثم، وقد أباد بتلك الفتوى الجائرة من مؤمني حلب أربعين ألفاً أو يزيدون، وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون من ديارهم.

3- لجوء العلويين إلى جبالهم وبدء عصر العزلة

بعد أن سكنت هاتيك العاصمة الهوجاء والغضبة الجامحة أخذ العلويون السالمون من مجزرتين في العراق وسورية يجمع بعضهم بعضاً، ويتسللون تحت أجنحة الليل لو إذا هذه الجبال، متوافدين من مختلف الأنحاء يعتصمون بقننها ويلوذون بغاباتها وكهوفها، فراراً من تلك السيوف العادية التي كانوا يتمثلونها تقطر من دمائهم، ولم يقتصر السلطان سليم على تلك المجازر الرهيبة والفظائع المنكرة التي مثل بها في العلويين، بل استجلب العشائر التركية من الأناضول وكان يقدر عدد أفرادها بمليون نسمة، وأسكنهم في السهول المحيطة بمعاقل العلويين من جبال طوروس إلى جبال عكار،ولا تزال بقاياهم في هذه البقعة حتى اليوم، وسلطهم على العلويين المحاصرين في جبالهم بغية إفناء هذا الشعب عن بكرة أبيه، وهي فكرة خبيثة كانت ترمي إلى غرضين في وقت واحد، أولهما:

ص: 406


1- كتاب النبأ اليقين عن العلويين.

تتريك هذه البلاد، وثانيهما: القضاء على العلويين، وقد فشل الغرضان في هذه البلاد، ولكنهما نجحا في الأناضول حيث احتشد فيها بعدئذ الملايين من الترك والأرمن والأكراد.

وقد استطاع السلطان سليم أن يحشر العلويين السالمين من أذاه في هذه الجبال الوعرة الضيقة لا يستطيع أحدهم الخروج منها إلا إذا كان يفضل الموت على الحياة، فالترك محيطون بجبالهم إحاطة السوار بالمعصم وقد عمروا المدائن واستوطنوا السواحل وبثوا على منافذ الجبل العيون والأرصاد، وكثيراً ما كانوا يهاجمون العلويين في عقل دورهم فيقتلون ويدمرون وينهبون حتى اضطر أكثر العلويين إلى سكنى المغاور والأنفاق، تفادياً من سيوف أولئك الأتراك الذين (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

ومن تبين بعين الإنصاف مبلغ ما مُني به العلويون في تلك الأدوار المظلمة من مظالم تأباها الأذواق السليمة وتستنكرها الضمائر الحية، عذرهم على ما وصلت إليه حالهم وأكبر فيهم صبرهم وصمودهم لتلك العواصف الهوج التي كانت تتنازعهم صباح مساء، فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون كأن لا خلاق لهم في ملذات الحياة الدنيا ومترفاتها، وأبعدوا عن المدينة والاجتماع كأن لا وجود لهم في خارطة الوجود، وسكنت دورهم وصودرت أملاكهم ونهبت أموالهم فلا حول لهم على درء شيء من هذا كله ولا قوة، وبحكم ما نزل بهم من كوارث وما ألمّ بهم من نوازل ولبعدهم عن المدينة والاجتماع وانزوائهم في الغابات والكهوف، تأخروا في ميادين الثقافة العامة وتفشى فيهم الجهل والأمية، وسادهم التزمت والانكماش وزين لهم حب الحياة إيثار العزلة فألفوا الوحدة، واستسلموا للاستكانة وغضوا أبصارهم عما يحاك لهم من دسائس وأصمّوا أذانهم عما يسمعونه من تهم توجه إليهم وأكاذيب تلفّق عليهم، فلا يقابلون ذلك كله إلا بهز الكتف كأن الأمر لا

ص: 407

يعنيهم، أو كأن غيرهم المقصود بتلك الأراجيف والتخرصات(1).

الصورة

ص: 408


1- كتاب النبأ اليقين عن العلويين.
4- ثورة العلويين ضد الاستعمار الأجنبي الحديث

لما دخل الأجنبي الغاشم هذه البلاد منتدباً عليها كان أحرار العلويين في طليعة من أنكره واستنكر انتدابه، وكانت أول الثورات في الأمة ثورة العلويين التي نشبت في شهر أيار سنة (1919م) بقيادة المجاهد (الشيخ صالح العلي) ومؤازرة لفيف من وجهاء الشعب وقادته وكثير من رجال الجهاد والتضحية، من مختلف أبناء العشائر العلوية، الذين وقفوا في وجه الاستعمار صفاً واحداً متراصاً وأقاموا من صادق وطنيتهم سداً حصيناً بين المستعمر وأمانيه، وقد اشتهرت هذه الثورة ببسالة رجالها المجاهدين الأحرار وبإنهاك الفرنسيين وإهلاك كثير من قواتهم، مما اضطر السلطة العسكرية الفرنسية إلى تجهيز قوات كبيرة لمطاردتها، فقامت في شهر حزيران سنة (1921م) آخر معركة في القدموس دارت فيها الدائرة على الثورة وانتهت بانتصار الفرنسيين وقيام الحكم الانتدابي في البلاد(1).

5- مطاعن التاريخ وجروح الجغرافيا

نتيجة لعزلة مفروضة وحصار دموي لمئات السنين وظلم عقائدي وفكري وسياسي من قبل المحيط، فقد أصبحت صورة العلويين مشوهة وممسوخة في أذهان شعوب العالم الحديث وفي هذا يقول السيد حسن الشيرازي: «إن العلويّين كانوا من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) منذ البداية، ولكن الظُّروف القاسية الَّتي مَرَّت بهم منذ أيّام الناصبي السفّاك صلاح الدّين الأيّوبي، فقد فرضت عليهم التقيّة، وإخفاء الشَّعائر الدينيّة الشيعيّة، خوفاً من الأشرار والظّالمين، وبمُرور الزَّمان أدّى بهم الأمر إلى جهل الأجيال النّاشئة بمَذهب الآباء وعقائد الأجداد، فابتعَدوا عن المذهب الحقّ، إلاّ أن مَحَبّة أهل البيت (عليهم السلام) - وخاصّة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) - بقيَت على قُوَّتها وصلابتها، ولكنَّها بَرَزت

ص: 409


1- كتاب النبأ اليقين عن العلويين.

بشكل كبير»:

- ضمن مشروع تشويه صورة وحقيقة مدرسة آل البيت والأئمة الأطهار فقد سعى مبغضي آل البيت من النواصب والأمويين الجدد الى تشويه هذه المدرسة وهذا المذهب لترويج عزله ومحاربته وتكفير أتباعه، وبالطبع فقد نال العلويين جزء كبير من هذا التشويه والافتراءات.

- افتريت ألوف الأكاذيب حول العلويين من قبل أعداؤهم ولم يرد عليها سابقا لأسباب، أهمها:

- عزلة العلويين، وإخفاؤهم لمعتقداتهم العقائدية وطقوسهم الدينية.

- لا مبالاة العلويين برأي المحيط الذي ناصبهم العداء وهجرهم وأبادهم في مجاز جماعية.

- انقطاع وضعف العلاقة بين العلويين المحاصرين ومعاقل التشيع الرئيسية في العراق (النجف الاشرف وكربلاء المقدسة).

ص: 410

الصورة

ص: 411

ثانياً: تواصل وحوار

اشارة

كان العلويون في مدار اهتمام المرجعية الشيرازية وما زالوا، وما ان هاجر السيد حسن الشيرازي الى بلاد الشام عام 1970م وبتوجيه من الأخ المرجع السيد محمد الشيرازي بدا السيد حسن الشيرازي تواصله مع العلويين..

مع ملاحظة انه بعد النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي كانت هناك عدة تحركات كانت تسعى للتواصل مع العلويين سواء كانت من النجف الاشرف ومن المراكز الشيعية في لبنان لكنها لم تحقق غايتها ولم تثمر بتواصل حقيقي واندماج مع المحيط الشيعي والسؤال هو:

لماذا نجح السيد حسن الشيرازي بينما أخفق الآخرون؟!

1- الفهم العميق: كان السيد الشيرازي قد درس وفهم ماضي العلويين وحاضرهم، وكيف انعكست آثار المحن وماسي الاضطهاد على فكرهم واعتقاداتهم وسلوكهم، وكيف بدا يتحول الاعتقاد الى تقديس للاعتقاد بسبب الاضطهاد الطائفي التكفيري، بل إن السيد الشيرازي كان يدافع عن محنة العلويين في بلاد الشام وتركيا حتى قبل ذهابه الى الشام وتواصله معهم بشكل مباشر، وهذا يدل على إن العلويين كانوا محل دراسة وتأمل من قبل السيد الشيرازي.

2- الرسالة الصحيحة: الفهم العميق لقضية العلويين مكن السيد الشيرازي على أن يختار الرسالة الصحيحة للتواصل معهم. لم يدعوهم الى الإسلام كما فعل البعض وكيف يدعو من زرع ساحل سوريا ولبنان بالشهداء في مواجهة الصليبين؟! كيف يدعوا من كان علماؤهم يحمون ثغور المسلمين في وقت كان الخلفاء والسلاطين مشغولين بالجواري والغلمان؟! ثم كيف يدعو الى التشيع من صلبوا ألف عام على صليب الاضطهاد في سبيل حب علي (عليه السلام) حتى استحالت محبته الى نورا يضيء ظلمة السجن الذي دفنت به هذه الطائفة؟! لم

ص: 412

يدعوهم الى شيء بل مد يده وفتح قلبه.

3- الحب في اللّه: أعطى السيد الشهيد فرصة لنفسه حتى يحب جميع العلويين محبة صادقة وعميقة للّه وعند ذاك تقدم لتطبيب جروح طائفة نالت من المعاناة ما نالت بسبب حب الرسول وال بيته الأطهار.

4- الصبر على الحبيب: كان حبيبا لهذه الطائفة، تمنعوا منه فتواصل معهم، جادلوه طوال ليالي فتحاور معهم لسنين، ادخلوه في متاهات التساؤلات فأرشدهم الى منارات الأجوبة، أغرقوه في بحر المتشابهات فأنقذهم بسفن المحكمات، كانوا يستفزون كل تواصله فأباح لهم كل عطاءه، عرفوا انه يحبهم للّه، فلم يخشوا انقطاعه عنهم(1).

ومضات الغيض

حوار وتواصل طوال ايام وليالي عقد من السنين، تراكم من الحوارات ما يملئ الافق ويفتح الاتجاهات، تواصل في فضاءات الفكر وجغرافية المكان يستحق مؤلفات تتفرد بشذراته، لذا فنحن لا نقول غيض من فيض، بل ومضات من غيض في هذا الملمح من الاطلالة.

ص: 413


1- غير إن السيد المحب ترك محبيه سريعا والتحق بقافلة الشهادة عام 1980م.

الصورة

ص: 414

ليالي الحوار

تحرَّك السيّد الشهيد بأمر آية اللّه العظمى الإمام المُجَدِّد الثّاني للتواصل والحوار مع العلويين انطلاقا من إن العلويين هم شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ..

فالعلويّون هم طائفة مظلومة، فيهم العلماء، وفيهم الأُدباء، وهم شريحة في هذه الأمّة، وهُم مَحرومون من العلاقات المتينة مع مختلف شَرائح الأمّة الإسلاميّة، خُصوصاً المَرجعيّات الشّيعيّة، لأن المَرجعيّات لَم تكُن لَهُم جُسوراً مُمتدّة في أوساط العلويّين..

والإمام الشهيد فتح الكثير من قنوات الاتصال، ومَدّ الجُسور والتواصل معهم، وكان يَزورهم زيارات مُركّزة، ويعيش معهم، ويُحاورهم بصورة علميّة ومُطوّلة، ويَسهَر معهم حتى أذان الصُّبح، فيصلّون وينامون، ويبقى أيّاماً وليالي عندهم..

قلب يسمع ومحبة تنطق

العلويّون لم يكونوا بحاجة في الحقيقة إلاّ إلى أُذُن سامعة، وصدر رحب، ومَن يحبّهم، وينظر إليهم بعين نقيّة، حتّى يوضِّحوا له حالهم، والظُّلم الَّذي وقع عليهم على امتداد ألف سنة مضت إلى أيّامنا هذه تَقريباً، فالعلويّون سابقون على غيرهم بالإسلام، بل إن إسلام العلويّين قام على شكر اللّه عز وجل، وعلى النِّعمة العُظمى الَّتي هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، كما تنطق بها الآية المباركة: {ألْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1).

العلويّون بسبب مواقفهم وصدقهم وإخلاصهم في الولاء، تعرَّضوا إلى كثير من الإضطهاد والتَّعذيب في مختلف العُهود، حتّى قال العارف العلوي (المكزون السنجاري) عن الَّذين يُعذّبون العلويّين:

ص: 415


1- سورة المائدة، الآية: 3.

وما لنا إلاّ مُوالاتنا***لآل طه عندهم ذنب

وما بدى لهُم منّا***إلاّ الموَدّة والحُبّ

لذلك لم يلبِّ هذه الحاجة على الشِّكل الصَّحيح، إلاّ سَماحة الشهيد وبتوجيه من الإمام السيّد محمَّد مهدي الشيرازي، فكان لحضوره في هذه المنطقة دواءً يندمل فيه الجُرح، وشفاءً لما في الصُّدور، وكان رَيّاً للقُلوب العطشى لكي تُدافع عن نفسها، ولكي تُعلن إسلامها، ولمّا أتى إليها لَم يأتِ بصفته مُبلّغاً للإسلام، لأنَّهم مُسلمون، ولا بصفته هادياً إلى الحقيقة، لأنَّهم أهل الولاية والحقيقة، بل أتى لكي يقول لهم: «نحنُ نسمَعكم فقولوا»، فلذلك كان له الأثر الطيِّب في قلوب كُلّ العلماء والمَشايخ والسّادة والمُثقَّفين، والمَجالس والنَّدوات..

لقد كان السيّد الشيرازي عَلَوياً، وكان في البلاد العلويّة، ولم يكُن ضَيفاً عند العلويّين، ولا العلويّون كانوا يَشعُرون به ضَيفاً، بل كُنّا جميعاً عائلة واحدة، ولايتنا ولاية واحدة، ديننا واحد، إسلامنا واحد، كتابنا واحد.

مشاركة في السرّاء والضرّاء

كان السيّد الشيرازي قد نجح في تبليغه وحركته في جبال العلوين، لأنَّه ذهب إليهم وأكَل من طعامهم وشرب من مائهم، ونام على فراشهم، ولم يكُن عنده فكرة سلبية سابقة، بأنَّهُم غير مسلمين، وأنَّهُم ليسوا من الشيعيّة الإماميّة الإثنا عشريّة، وإذا كان هناك ضعف في تواصل العلويّين مع أبناء الأمة..

فهذا سببه الظُّلم التّاريخي والعَسف والقتل والتَشريد والإنقطاع في الكُهوف والجبال عن الحضارة والعلوم أكثر من أربعمائة أو خمسمائة سنة، وهذه الحقائق كانت موجودة عند السيّد الشهيد قبل أن يذهب إليهم.. أضف إلى ذلك، أنَّه كان رجلاً مُتواضعاً وبسيطاً، لا يُحبّ الأبهّة والكبرياء والغرور..

ص: 416

وكان هنالك إصرار من السيّد الشيرازي بأنّ لا تفوته مناسبة وفاة أو أربعين إلاّ ويُدعى السيّد الشهيد في ذكرى رجالاتهم وعلمائهم وأصحاب الشَّأن فيهم، حتّى يتكلَّم في المراسيم عن الموت وعن الإسلام وعن عظمة هذا الدّين وشؤونه.

وكان السيّد الشهيد بحر لا ينضب، فكان خطيباً ومحاضراً، وصاحب صدر واسع في الصَّبر والأناة.وإن مجموع هذه الصِّفات الكريمة، هي الَّتي جعلَت دعوته تمخر عبابها في بحور العلويّين، وفي أفئدتهم وقلوبهم.. وكان لهذا الرَّجُل المبارك الإحترام الكبير والمَوَدّة الكبيرة، أضف إلى ذلك أنَّه قام بالخير الكثير بالنِّسبة إلى مشايخهم، وشؤونهم.. وكثير من المكتبات الَّتي زرعها في البيوت والمُدُن والقُرى والحُسَينيّات ومعاهد تحفيظ القرآن الكريم، حيث كان له شرف تشييدها في تلك المناطق..

من دوافع الحوار

حاول السيّد الشيرازي كسر طوق العزلة الذي فرضه الشيعة العلويّون حول أنفسهم، فأَوجَدَ رابطة تَعاوُن وثيقة مع علمائهم وزعمائهم، وقام بإنشاء المؤسّسات والمعاهد الدينيّة والجوامع في مُدُنهم بذات المنطقة التي يسكنها العلويّون، وقام بزيارات متكرّرة لمدنهم، ومَدَّهم بالمساعدات الضروريّة، وكان يهدف من وراء ذلك إلى إنهاء عزلة هذه الطّائفة، وجرّهم إلى احضان الشيعة الإماميّة، وإزالة المخاوف عنهم بإصدار بيانات تؤكّد أن العلويّين هم من الشيعة، وكان من نتائج تلك الجهود أن أعلن العلويّون تشيُّعهم رَسميّاً في بيان وقّعه كبار علمائهم، يُعلِن إنتمائهم للطائفة الإسلاميّة الشيعيّة الجعفريّة، وبسبب معرفته الكاملة بأوضاع العلويّين، وتبنيّه لقضيّتهم، فقد أَجرت معه صحيفة الحياة اللبنانيّة مقابلة نشرتها في عددها الصادر بتاريخ الإثنين 16 تموز عام (1973م)،

ص: 417

ومما جاء فيها:

س: تبنّيتم قضيَّة العلوييّن منذ سنوات، فهل يُمكِن أن نعرف الدافع؟

ج: لابدَّ من الإجابة على هذا السؤال في شيءٍ من التبسيط، فسماحة أخي المرجع الديني السيّد محمّد الشيرازي منذ تولّيه مقام المرجعيّة، كان يُفَكِّر في قضيّة العلوييّن على أنهم جزء من العالَم الشيعي الذي يشعر بمسؤوليّته عنه، وقد كَلَّفَني منذ ثلاث سنوات بإجلاء الهويّة الدينيّة للعلوييّن مساهمةً منه في إزاحة الضباب التّاريخي الَّذي يَلفهم. وبالفعل قُمتُ بزيارة لهم في طرابلس بلبنان، ورتَّبت مجموعة لقاءات مع كبار علمائهم وثُقاتهم في بيروت، وقد أسفرت تلك اللقاءات عن بيانٍ أصدره مؤتمر اللاذقيّة باسم «العلويّون شيعة أهل البيت (عليهم السلام) »، بتاريخ: (11/11/1392ه)، وقد كتبت مقدّمة البيان شهادةً مني على صِحَّة ما جاء فيه.

س: بمُقتضى معرفتكم العميقة بهم، كيف تُصنّفهم طائفيّاً؟

ج: أتصوَّر أنّه بعد صدور بيانهم الموقَّع من قبل ثمانين رجلاً من كبار علمائهم ومُثقّفيهم، ليسوا بحاجةٍ إليّ وإلى غيري في تصنيفهم طائفيّاً، فالبيان يُعبِّر بوضوح وإسهاب أنّهم شيعة كبقيّة الشيعة في العالم، في جميع الجذور العقائديّة وفروعها، وقد وزّعت عشرات الألوف من نسخ البيان، وتُرجم إلى عدّة لغات أجنبيّة.

ص: 418

الصورة

ص: 419

ثالثاً: بيان الهوية وفجر النهضة

فجر النهضة

لقد اجتاز العلويون في أدوارهم الماضية أدهى وأمرّ ما تجتازه طائفة محكومة في مراحل حياتها، أهواء تتنازعهم وأدواء تصارعهم وجهل يفتك بهم وأمية تسودهم وحوادث مؤلمة تلم بهم وكوارث تنتابهم، وكلما نزلت بهم نازلة تضاءلوا أمامها واستكانوا لها وازدادوا انكماشاً على أنفسهم وابتعاداً عن المجتمع فيزداد المجتمع منهم نفوراً وعنهم بعداً وعليهم نقمة وبهم استهانة، وهم عما يعروهم لاهون مشغولون بأنفسهم عن تدارك أمرهم صابرون على بلائهم، مستسلمون لمشيئة القدر فيهم محتفظون بلغتهم العربية ودينهم الإسلامي وتقاليدهم القومية الموروثة وبأصولهم وأنسابهم العريقة، إلى ما قبل قرن ونيف، حيث انبعثت في نفوس بعض قادتهم روح اليقظة والتفكير، فعملوا ما في وسعهم للإنعاش والإصلاح.

وإني إذ أشير إلى بعض دعاة اليقظة وقادة الفكر في هذه الفرقة المسلمة، التي عبثت بمقدراتها أيدي الظلم وألسنة السوء والفساد أجيالاً طوالا، وفي مقدمة أولئك الصلحاء المصلحين الذين تألقت في سماء الجهاد نجومهم وارتفعت في الهيئة الاجتماعية أسهمهم ونشطت في ميادين الحياة أفكارهم وأبقت للأجيال القادمة أثرا طيباً ألسنتهم وأقلامهم، (الشيخ سليمان الأحمد) الذي تنخفض همة قولي دون أيسر وصفه، وأقل ما أقول فيه إنه الحائز قصب السبق في النشاط الفكري علماً وأدباً، والعامل لرفع مستوى الشعب الشعوذة والخرافات، ومن مراسلاته مع المجتهد العظيم الشيخ (محمد حسين آل كاشف الغطاء) ومن تعليقاته على الكثير من شروح الدواوين الشعرية لكبار الشراح يستدل على علمه بأصول الكلم وغوصه على درر المعاني وحسبه بينة على سمو مكانته العلمية أن

ص: 420

كان عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، ومجازاً من النجف الأشرف بلقب (مجتهد) وأقيم له في حياته (يوبيل ذهبي) تكريماً له وتقديراً لعلمه وأدبه(1).

بيان الهوية

وكان العلاّمة الشهيد يرى ضرورة إعادة الجيل الحاضر إلى هَويَّته الأصليّة والأصيلة، وإلى مذهب الأجداد الأوائل، مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، ومن هذا المُنطَلَق، بدأ العلاّمة الشهيد خُطوته الإصلاحيّة بالنِّسبة إلى العلويّين، وآل الأمر إلى إقرار علمائهم ومشايخهم بهذه الحقيقة، وصَدَر لَهُم كتاب بعنوان، «العلويّون شيعة أهل البيت (عليهم السلام) »، وهذا الكتاب يتضمَّن أسماء ثمانين من مشايخهم وعلمائهم الَّذين وقَّعوا على هذا الأمر، وصرَّحوا به.

فصدر ذلك البيان التاريخي، وقدّم له السيّد الشيرازي مُقدّمة طبعت في الطبعة الأولى، وقد خطَّط الشهيد لنَشر البيان في الخارج ومن ثُمَّ نشره في الدّاخل، لأنَّه إذا تَمَّ نشره في الداخل فربما يصدر القرار بمصادرته، فتفشل المُهمّة، وأما إذا انتشر في الخارج أولاً، فلا يُمكن منعه بعد ذلك.

لَمّا رأى الفُضَلاء العلويّون أنه أهلاً للحكمة، وأهلاً للسرّ، وافقوا معه وصَدَر البيان بهذا الكلام.

والآن الشيخ محمّد البامياني كَتَب ستّة مجلَّدات على هذا البيان، والمحرِّك له كان السيّد حسن الشيرازي والشيخ عبد الرَّحمن الخيِّر.

الشيخ عبد الرَّحمن الخيِّر هو النُّواة والبَذرة، فيما كان السيّد حسن الشيرازي هو المحرّك والمنفذ والمقنن، والبَاذل..

وبعد صدور البيان بإمضاء الكثير من علمائهم، قام كُلّ واحد من الموقعين

ص: 421


1- كتاب النبأ اليقين عن العلويين.

نشر كُتُب مُفصّلة تُوضِّح مَفاد البيان بصورة واسعة، وقد صدرت إلى الآن كُتُب كثيرة عن علماء العلويّين بهذا الشّأن.

البيان التأريخي

(كتب السيّد حسن الشيرازي مقدمة للبيان التاريخي الذي أكد فيه علماء الدين ومشايخ العلويين إضافة الى نخبة من أبرز شخصياتهم، وجاء فيها:

لقد وفقني اللّه تعالى لزيارة إخواننا المسلمين (العلويين) في الجمهورية العربية السورية من 3-7شعبان 1392ه، ثم زرت إخواننا المسلمين (العلويين) في طرابلس - لبنان، وذلك على رأس وفد من العلماء بأمر من سماحة الإمام المجدد المرجع الديني أخي:

السيد محمد الشيرازي (دام ظله)، فالتقيت بجماعة من أفاضل علمائهم ومثقفيهم، وبجموع من أبناء المدن والقرى في جوامعهم ومجامعهم، وتبادلنا معهم الخطب والأحاديث، فوجدتهم - كما كان ظني بهم - من شيعة أهل البيت الذين يتمتعون بصفاء الإخلاص، وبراءة الالتزام بالحق.

وهذا البيان الذي أجمع عليه الأفاضل من علمائهم خبر يصدق الخبر، فمن خلاله يرفع إخواننا المسلمون (العلويين) رؤوسهم فوق ما تبقى من ضباب الطائفية ليقولوا كلمتهم عالية مدوية: إننا كما نقول، لا كما يقول عنا المتقولون.

هذا البيان الذي يقدمه إلى الرأي العام أصحاب الفضيلة من شيوخهم هو واضح وصريح لأداء دلالتين:

الأولى: إن العلويين هم شيعة ينتمون إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالولاية، وبعضهم ينتمي إليه بالولاية والنسب، كسائر الشيعة الذين يرفع انتمائهم العقيدي إلى الإمام علي (عليه السلام) ، وبعضهم يرتفع إليه انتماؤه النسبي أيضا.

ص: 422

الثانية: إن (العلويين) و(الشيعة) كلمتان مترادفتان مثل كلمتي (الإمامية) و(الجعفرية)، فكل شيعي هو علوي العقيدة، وكل علوي هو شيعي المذهب.

وأود هنا - كأي مسلم له حق الحسبة - أن ألفت أنظار الذين يهملون قول اللّه

تعالى: «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبغون عرض الحياة الدنيا»، الفت أنظارهم، إلى أنه قد انتهى عصر التقاطع الذي كان يسمح بالتراشق بالتهم، وجاء عصر التواصل الذي لا يسمح بمرور الكلمة الا عبر الأضواء الكاشفة)(1).

رابعاً: منجزات ونشاطات

اشارة

هي بدايات لسطور من عمل يومي ومنجز عظيم يستحق التامل والتدبر، ولاننا في لحظة لاحقة من هذا المنجز فانه يستحق كل الاجلال والتقدير.. ولاننا نكتفي ببداية السطور فاننا مؤكدا نظلم عشر سنوات متواصلة من العمل الدؤوب والنشاطات المتواصلة وليس لنا من عذر سوى ان عظمة المنجز تغني عن تفاصيل بناؤك...

زيارات ميدانية

- كان السيّد حسن الشيرازي يقوم بزيارات ميدانية لبلاد العلويّين في سوريا، حيث يلتقي بالعلماء، والمثقّفين، وأرباب الفكر.. ويقيم بينهم بحسب ما تقتضيه الحاجة او يتوفر لديه الوقت، وكان يتنقل بين حمص وصافيتا واللاذقيّة، وكان يزور الكثير من القرى والبلدات ليطلع على أحوال العلويين ويجيب على تساؤلاتهم ويحفزهم على التواصل مع ابناء طائفتهم في عموم الأرض.

- كان للسيّد حسن الشيرازي برنامج للتواصل والحوار مع علماء العلويين

ص: 423


1- صدر البيان في 11/ ذي القعدة الحرام/1392ه- ومذيل بتوقيع ثمانين من كبار شخصيات العلويين.

والشخصيات المهمة والمشايخ، وكان المبادر في جمع علمائهم وأدبائهم في الإجتماع التاريخي الهام بمناسبة إصدار البيان الذي أعلن فيه بأن العلَويّين الشيعة هم من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ، ووقع عليه أكثر من ثمانين عالماً منهم، وطُبع البيان مع مقدّمة للشهيد (رحمه الله) في كتاب خاص تحت عنوان: (العلويّون، شيعة أهل البيت (عليهم السلام) )، وقد أحدث صدىً واسعاً في الأوساط الإسلامية، وفي الكتاب المذكور يؤكِّد هؤلاء العلماء بأنَّهم على عقيدة الشّيعة الإثنا عشريّة، وهُم ينتمون إلى هذا المَذهَب.

- كانت أكثر جولاته التّبليغيّة والدينيّة في مناطق السّاحل السّوري واللاذقية حيث كان على اتِّصال دائم مع علمائها ومفكّريها ومثقّفيها، بل كان يدخل إلى بيوتهم ومنازلهم، وكان يشاركهم طَعامهم ومائدتهم، ويسهر معهم حتّى الصباح، وذلك لكي يستَطيع أن يؤدّي خدمة أخرى أكبر ممّا هو عليه.ونظراً لهذا التواضع والسلوك والأخلاق الحسن الذي كان لديه، والعلم الذي كان يحمله بين جنبيه، فإن أولئك العلويّين كانوا يستَمعون ويَصغون إليه وإلى كلماته وفكره، وكانوا يقولون لابدّ أن ننهج ونخطوا نحو الطريق الذي يمشي فيه هذا الإنسان المصلح، ولهذا فقد أصدَروا البيان المشهور حول تجديد انتمائهم إلى مذهب آل البيت (عليهم السلام) بعنوان، (العلويّون شيعة آل البيت (عليهم السلام) )، ووقّع أكثر من ثمانين عالماً ومثقّفاً منهم، حيث أعلنوا أنّهم فرع أصيل من الشّيعة الإثنا عشريّة، وأنَّهم ليسوا بخارجين عن هذا المذهب.

ص: 424

الصورة

ص: 425

فعاليات ونشاطات في الثقافة الاسلامية

- كان السيّد الشيرازي يشجع على إقامة الفعاليات والنشاطات الثقافية الإسلامية لسببين الأول يتعلق بإبراز الهوية الإسلامية الشيعية للعلويين والثاني باعتبار تلك الفعاليات والنشاطات بيئة مناسبة لتنمية الوعي والتثقيف الإسلامي.

- معظم الاحتفاليات والمناسبات الثقافية والفكرية والدينية كان السيد الشيرازي يحرص على حضورها بنفسه ولكن مع تدافع الالتزامات والواجبات كان يضطر الى إرسال من ينوب عنه.

- في عقد السبعينيات من القرن المنصرم وفي الوضع الاقتصادي السوري وتهديدات العدوان الصهيوني المستمر كان الكتاب بعيد عن متناول الكثيرين من ابناء الطائفة العلوية فكانت واحدة من الفعاليات الثقافية لمكتب السيد الشيرازي هو توزيع الكُتُب الكثيرة على النّاس مَجّاناً، ابتداءاً من كتاب (المُراجعات) للسيّد عبد الحسين شرف الدّين، و(تسهيل الأحكام)، و(أصل الشيعة وأصولها)، و(عَليّ من المَهد إلى اللَحد).. إلى الكثير منها الَّتي كان يهديها إلى النّاس، كي يوقظ فيهم حِسّ القراءة والمُطالعة والنَّظر في قضايا الإسلام واهتماماته..

- وبعد ان اسس السيد الشيرازي الحوزة الزينبية وانتظم طلبتها في دروب العلم كان يرسل منهم الخطباء والمتميزين الى القرى والبلدات للتبليغ والإرشاد والتوجيه ولتقيم كل ما يمكن تقديمه ولإيصال كلمة اللّه سبحانه وتعالى إلى كلّ بيت وكلّ مكان.

بناء مؤسسات ومساجد وحسينيات

- بنى السيد الشهيد أثني عشر مَسجداً في سورية، سَمّى كُلّ مسجد باسم أحد الأئمّة (عليهم السلام) ، فهناك مسجد الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، ومسجد الإمام الحُسَين (عليه السلام) ، ومسجد الإمام الحسن (عليه السلام) ، إلى مسجد الإمام المهدي (عليه السلام) في

ص: 426

مناطق العلويّين، كالقرداحة واللاذقيّة وجبلة وصافيتا وغيرها.

- كان السيّد الشهيد يُقيم صلاة الجماعة في مقام السيّدة زينب (عليها السلام) ، وكان يجتمع حوله في صلاة الجماعة خلق كثير، وسكن في دمشق وأسَّس مكتب ومسكن، ومن آثاره المُباركة تأسيس الحوزة العلميّة الزينبيّة، وما تزال قائمة وتشكل معلماً دينياً وعلمياً بارزاً في سوريا.

- كان السيّد الشيرازي يشجع على تأسيس الجمعيات الخيرية والمراكز الثقافية في المدن والبلدات العلوية لدورها الثقافي والاجتماعي والديني الكبير على جميع شرائح المجتمع.

خامساً: العلويون في تركيا

اشارة

العلويون في تركيا هم امتداد للعلويين في بلاد الشام (سوريا ولبنان)، يشتركون معهم في العقيدة والمظلومية والوشائج المشتركة الاخرى، يوجد في تركيا في العصر الحاضر طائفتان من الشيعة: إحداهما - الشيعة الإماميّة، شأنهم في ذلك شأن إخوانهم في إيران والعراق وسائر البلاد الأخرى.

والطائفة الثانية - العلويّون، الذين يتّبعون نهجاً خاصّاً في التصوّف، وينتمي هؤلاء إلى المذهب الإماميّ.

وفضلاً عن الشيعة الإمامية، فهناك في تركيا أكثر من 20 مليون نسمة من العلويين الذين كانوا ينتمون إلى المذهب الشيعي الإماميّ، ثمّ تأثروا بشكل من اشكال التصوف.

وقد خضع هؤلاء العلويّون لضغوط شديدة خلال فترة الحكم العثمانيّ، ثمّ فسحت لهم الدولة العلمانية المجال لتسنّم المناصب الحكوميّة، فاحتلّ بعضهم مراكز جيّدة في الدولة والجيش.

بيد أنّ الحساسيّة الخاصّة التي أبدتها الدولة مؤخّراً تجاه العلويّين تمخّضت عن فرض قيود جديدة عليهم.

ص: 427

ويُقدَّر عدد العلويّين في تركيا بعشرين مليون نسمة، منهم ما يقرب من 6 ملايين نفر من الأكراد، وما يقرب من مليون واحد ونصف المليون من العرب التي يقطن أفرادها في الغالب قرب الحدود السوريّة. اما العلويين الأتراك فانهم في حدود 13مليون وقيل ان عدد العلويين قد يتجاوز 26 مليون من مجموع سكان تركيا (73) ونسبتهم السكانية تتراوح بين 25% الى 34% وتتمثل فيها معظم الأعراق والقوميات في تركيا.

تاريخ المحنة في تركيا
اشارة

ينقسم

تاريخ العلويين في تركيا الى ثلاثة أقسام:

الأول: تاريخ المحنة

انتشر التشيع قديما في تركيا ولعل دور مدينة الموصل التي ثبتت على تشيعها حتى مجيء العثمانيين ودور مدينة حلب الشيعية في العصر الاسلامي الوسيط وما قامت به كل من الدولة الحمدانية والفاطمية كان له دور مؤثر في نشر التشيع في الأراضي التركية، غير ان العداء بين العثمانيين والصفويين دفع حكام العثمانيين الى وضع السيف في رقاب الشيعة واتهامهم بالميل للصفويين وقد كان السلطان العثماني بايزيد الثاني وسليم الأول هم أول من أعملا السيف في رقاب الشيعة الموالين لال بيت الرسول في عامي 1511 و1513 م.

وتوارى العلويون منذ تلك الفترة عن الساحة وانطووا على أنفسهم، إلى أن أعلن مصطفى كمال أتاتورك حرب التحرير الوطنية بين عامي 1918 و1923 والتي انتهت إلى رسم حدود تركيا كما هي عليها اليوم وإعلانها جمهورية.

الثاني: فسحة الدولة العلمانية

الاضطهاد الذي عانى منه العلويين في تركيا سببه الاعتقاد الديني والولاء لعلي (عليه السلام) ، وبالتالي فان وصول تيار ديني متطرف الى الحكم سوف يؤدي الى قمع كل حقوق الأقليات الدينية لذا رحب العلويون في تركيا بحكومة اتاتورك

ص: 428

لأنها لا تحاكم الإنسان على خلفيته العقائدية، فكان إعلان الجمهورية، ثم سياسات مصطفى كمال، وصولاً إلى اعتماد العلمنة لأول مرة في تركيا، موضع ترحيب وسرور وتأييد مطلق من جانب العلويين الأتراك الذين وجدوا في هذه الخطوات فرصة مهمة وذهبية للخروج إلى النور لأول مرة بعد أربعة قرون من الاضطهاد. وهكذا أضحى العلويون الدعامة الأساسية للنظام الجمهوري العلماني في تركيا.

الثالث: القلق من العثمانيين الجدد

وصول حزب إسلامي طائفي الى سدة الحكم، وعودة الممارسات العثمانية اللاانسانية ضد العلويين وإقصائهم وتهديم دور العبادة يدفع بعلويي تركيا الى القلق والى الاستنجاد بالمنظمات العالمية لحقوق الإنسان بإنصافهم وبالطبع فهم يتطلعون الى جميع الشيعة في العالم الى مؤازرتهم.

وان ما يثير قلق منظمات حقوق الإنسان والخشية التي تنتاب المحافل الدولية هو تجاهل الحكومة التركية في حكم حزب التنمية والعدالة لحقوق أكبر الأقليات في تركيا وأكثرها ترسخا في المجتمع التركي إلا إنها الأكثر حرمانا من المشاركة في القرار السياسي والتمتع بالحقوق المتساوية مع بقية مكونات المجتمع التركي وهي الأقلية العلوية الضخمة التي يتجاوز عددها ال«25» مليون علوي.

فالأتراك العثمانيون والطورانيون ينكرون الهوية الثقافية والدينية للعلويين ويمارسون اقسى انواع التمييز والاضطهاد المذهبي بحقهم وهو ما دفع بجمعيات علوية تتبنى الدفاع عن حقوق العلويين برفع احتجاج وشكوى الى المفوضية الاوروبية لإرغام الحكومة التركية على الاعتراف بحقوقهم وقد حمل قرار المفوضية الاروبية قبل اكثر من سنة وقرار قمة بروكسل في 17 كانون الأول في العام الماضي رسالة واضحة الى الحكومة التركية بضرورة احترام حقوق

ص: 429

الأقليات الثقافية المسلمة وفي مقدمتها الاقلية العلوية التي تجاهد اليوم جمعياتها وعلى رأسها جمعية «جيم» - جمع - التي يتزعمها البروفسور عز الدين دوغان ومركزها اسطنبول من اجل تحقيق تلك الحقوق والمشاركة الكاملة في صنع القرار السياسي والخروج من حالة التهميش والاقصاء التي تمارسها السلطات التركية بحقهم.

ان العلويين اليوم في تُركيا يسعون لتجاوز المطالب الشكلية السابقة التي كانت تختصر في فقط الاعتراف بهم كاقلية مسلمة والاعتراف بحقهم في ان يتمثلوا في رئاسة الشئون الدينية أسوة بالسنة أو السماح لهم بإنشاء مجلس ديني خاصة بهم حيث هناك توجه جامح وكاسح في أوساط العلويين ان لم يعترف بهم كأكبر الأقليات المسلمة بعد السنّة في تركيا وإشراكهم في صناعة القرار فإنهم سوف يتوجهون لرفع رسالة الى المفوضية الاوربية لتشكيل كيان خاص بهم أو العمل بسياسة المحاصصة على غرار ما يجري في العراق في أن يكون لهم مناصب وزارية عليا وسيادية ووزراء ونواب في البرلمان ووفقا لحجمهم السكاني.

ص: 430

الصورة

ص: 431

الإمام الشهيد وموقفه من العلويين في تركيا

كان الإمام الشهيد مَهموماً بالعلويّين الشّيعة في تُركيا.. وكان يردد: «كيف ينبغي أن نصل إليهم؟! وما هي الطَّريقة الَّتي يجب أن نتبعها في إقامة الخطاب معهم؟».

هذه الهموم التي كانت تثقل السيد الشيرازي من الضروري ان نعرف المناخ الذي كانت تبرز فيه، وهو غياب وسائل الاتصال والتواصل التي يستطيع استخدامها السيد الشيرازي، من إذاعة وتلفاز وفضائيات والشبكة العنكبوتية وغيرها..

وبالرغم من ضعف إمكانيات السيد الشيرازي ومحدودية تحركاته الدولية الا انه استطاع القيام بتنفيذ برنامج أولي يتضمن ما يأتي:

1- إرسال الوفود الى العلويين العرب في لواء الاسكندرونة، بالاعتماد على التواصلات الاجتماعية بين علويين سوريا وتركيا، حيث إن جماهير العلويّين في اللاذقيّة يرتبطون بإخوانهم في (أضنة) و(اسكندرونة) بروابط الحَسَب والنَّسَب والزّواج وغير ذلك، فأرسل السيد الشيرازي مشايخ من العلويّين الفُضَلاء في اللاذقيّة إليهم على طريقة الزّيارة، أو السِّياحة، أو الاصطياف.. ففحصوا شؤونهم، ودرسوا شجونهم واحتياجاتهم.

2- إرسال الكتب الدينية والعقائدية ومن أبرزها: (الكافي)، و(التَّهذيب)، و(الإستبصار)، و(الغدير)، و(الميزان)..إضافة الى بعض المساعدات العينية والمالية لتَحسين مُصلّى، أو قُبّة مسجد أو حُسَينيّة أو معهد.. وخلال السَّنوات القليلة قبل استشهاد الامام استَطَاع أن يَتَواصَل مع العلويّين، لاسيَّما في أنطاكيا، وأنطاليا، والإسكندرون، ومرسين.

غير ان السيد الشيرازي لم ينفذ سوى بداية مشروعه تجاه العلويين في تركيا ثم اغتالته يد الغدر والظلم.

ص: 432

المبحث السادس: نحو تأصيل لاقتصاد إسلامي

منعطف تاريخي

لقد شهد العراق منذ بداية عقد الخمسينات من القرن الميلادي الماضي صِراعاً بين الأفكار اليساريّة والرأسماليّة، حيث تبنّت بعض التنظيمات السياسيّة العراقيّة ذات التوجُّهات الليبراليّة، الفكر الرأسمالي، فيما تبنَّت ودعمت التَّنظيمات السّياسيّة اليساريّة الفكر الماركسي، وقد تفاقم هذا الصّراع منذ أواخر عقد الخمسينات.

إن أسباب استفحال هذا الصّراع في تلك الفترة عديدة، لكن أبرزها هي:

1- إندفاع بعض الأحزاب القوميّة العربيّة نحو الأفكار الإشتراكيّة.

2- ظهور توجُّهات لإدماج أحزاب وطنيّة ليبراليّة مع أحزاب إشتراكيّة.

3- وصول إحدى القوى اليساريّة العراقيّة إلى مراكز القوّة والنفوذ في العراق بعد سقوط النظام الملكي في تمّوز يوليو (1958م).

4- دعم الدّول الليبراليّة المتقدّمة للأحزاب والتجمُّعات السّياسيّة العراقيّة المُعادية أو المنافسة لليسار العراقي، وقد جاء الدَّعم في إطار الحرب الباردة الَّتي كانت قائمة بين معسكري الشرق والغرب، ومحاولة من المعسكر الغربي لإضعاف خصمه عن طريق زيادته لعدد حلفائه، ومدّ ثقافته إلى مساحات جغرافيّة واسعة.

5- إنتشار الأفكار السّياسيّة اليساريّة واليمينيّة العلمانيّة بين مختلف أبناء بلد الرافدين، سواء أكانوا مقيمين في الأرياف أو المدن بسبب ضعف العمل

ص: 433

السّياسي الإسلامي وانتشار الأمّيّة السياسيّة، أو ضعف الوعي السياسي، ومحاولة الشرائح الإجتماعيّة المضطهدة الخلاص من أوضاعها المأساويّة عبر الإشتراك مع الأحزاب الراديكاليّة العلمانيّة للثورة على العلاقات الإجتماعيّة السائدة في البلاد.

6- إستعارة بعض الساسة العراقيّين اليساريّين للخطاب الإسلامي ورموزه لترويج الأفكار الإشتراكيّة تحت عنوان (إشتراكيّة محمّد)، و(إشتراكيّة الإسلام)، وغيرهما من العناوين والمُسَمّيات والموضوعات.

7- دعم الإتّحاد السوفيتي للعناصر الشيوعيّة العراقيّة الموالية له، لنشر أيديولوجيّته في العراق أوّلاً، وتوسيع مساحة انتشارها في العالم ثانياً، وتقليص النفوذ العالمي للأفكار الرأسماليّة ثالثاً.

إن إجتياح مبادئ العقيدتين الإشتراكيّة والرأسماليّة لأرض العراق في ذلك الوقت قد عُدَّ غزواً ثقافيّاً لهذا الوطن، وتحدّياً لعقيدة الإسلام الَّذي هو دين أكثريّة سُكّانه.

لقد سحرت الأفكار الوافدة إلى العراق عقول بعض أبنائه المسلمين، إمّا بسبب ضعف تمسُّكهم بعقيدتهم الدينيّة، أو جهلهم بها، أو قِلّة وَعيهم السِّياسي، أو لانبهارهم بمصطلحات الأفكار الوافدة، أو لغير ذلك.

إن هذا الهجوم الفكري على بلد من بلدان المسلمين، أو حوزتهم، أو رموزهم، قد أوجب على أبنائه العقائديّين مواجهته للدفاع عن دينهم وأتباعه، عملاً بفريضة الجهاد أوّلاً، وفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانياً، فعملاً بهذا الواجب ألَّف السيّد الشهيد كتابه المعنون ب(الإقتصاد)، ليردّ على الأفكار الرأسماليّة والماركسيّة ويفنّدهما، ويؤكِّد عجزهما عن إصلاح أوضاع العراق، وليثبت بأن الإسلام هو العقيدة الوحيدة الصالحة للتطبيق في هذا

ص: 434

الوطن، والقادرة على إنقاذ أهله من الفَقر والبطالة، وغيرها من مشاكل البؤس الَّتي ابتلوا بها منذ أن انسحب الإسلام من التَّطبيق بصورة كاملة(1).

مفهوم الإقتصاد الإسلامي عند السيد الشيرازي

تناول الشهيد الشيرازي في كتابه الموسوم ب- (الإقتصاد) مَحاور عديدة في الإقتصاد الإسلامي، فكرة الإسلام عن الملكيّة، الملكيّة الفرديّة ونطاقها، الفرديّة، الرِّبا، الترف الحرام، إستحباب الزِّيادة، القَرض، البنوك، البنوك الإسلاميّة، المكاسب المحرَّمة، الجزاء بلا عمل، الغِش، الرّشوة، السَّرقة، الجزاء على الحرام، الإكتساب بالحرام، الجزاء على الفرائض، الصَّيد، الإحتكار، الإمتيازات الملكيّة العامّة، برامج العمل، المضاربة، المزارعة والمساقاة، العمل بأجر، الهدايا والهبات، إستخراج المعادن، الصَّدقات، حكمة الصَّدقات، صدقات شَتّى، منابع ثروة بيت المال، الزَّكاة، حدود وموارد الزَّكاة، مقدار ومصارف الزَّكاة، الزَّكاة كفاية، زكوات مَسنونة، حقّ يوم الحساب، حقّ معلوم، بين الزَّكاة والضرائب، تعاليم للجباة، الخُمس، مصادر الخمس، توزيع الخمس، الجزية، الأنفال، مال الخراج، المقاسمة، وظائف بيت المال، محاربة الفقر والرّأسماليّة، نظام الإرث، توزيع التركة.

إن كلّ مفردة مِمّا ذكرناه تحتاج إلى بحوث في مفاهيمها ومؤشّراتها كدليل ونهج عمل إقتصادي سليم، فالإقتصاد الإسلامي فريد في نوعه، ومستقلّ عن غيره، ونسيج وحده. واهم خصائصه هي: ان الأرض تتَّسع لبني البشر مكاناً ورزقاً مع إمتداد الزَّمن. وان المالك هو اللّه سبحانه وتعالى، وليس الإنسان. وان حقّ الملكيّة المنسوب للإنسان، مُقيَّد بشرع اللّه سبحانه. وان المصلحة العامّة هي المصلحة الَّتي تتَّفق مع شرع اللّه سبحانه. وان الحقّ المعلوم في المال لغير

ص: 435


1- موسوعة السيد الشيرازي، ج3 ص178.

مالكه. وان مشروعيّة المال وحليّته. وان وضع المال في محلّه. وان تحريم تعطيل الطّاقة البشريّة. وان مصارف توزيع الثَّروة، وعدم جواز إنحصارها بأيد قليلة. وان وجوب تَداول الثّروات، وعدم جواز إنحصارها بأيد قليلة. وان الإقتصاد الإسلامي جزء لا يتجزَّأ من حياة الأمّة الإسلاميّة. وان الإقتصاد الإسلامي إقتصاد موجّه. وان الإقتصاد الإسلامي إقتصاد أخلاقي. وان الإقتصاد الإسلامي إقتصاد إنساني عالمي. وان الإقتصاد الإسلامي إقتصاد واقعي. وان الإقتصاد الإسلامي إقتصاد عقائدي. وان التَّعامل في الإقتصاد الإسلامي حرّ ما لم يصطدم بمانع شرعي، أو يتعدّ على حقوق الآخرين. وان الإقتصاد الإسلامي لا يأبى الإقتباس من غيره فيما لا يتعارض مع خصائصه الذاتيّة.

وتناول الكتاب الضوابط الأخلاقيّة للإقتصاد الإسلامي:

الأخاء، والإحسان، والتَّضحية، والإستقامة، والتَّقوى و...

وقد تناول مداليل الإقتصاد الطَّبيعة، ورأس المال، والعمل، والتَّنظيم، إضافة إلى كيفيّة توزيع الإنتاج بين عناصره الَّتي ساهمت في إيجاده، والتَّعامل والتَّداول النَّقدي في الإسلام، لا يزال العالم كلّه يتطلَّع إلى إقتصاد يخلو من العُيوب، تحكمه قواعد ثابتة، لا تؤثّر فيها المصالح الشخصيّة والمنافع الماديّة، وتدعمه شريعة ربّانيّة خالدة يستوي أمامها النّاس جميعهم، فيه من المُرونة وإمكانيّة الإستيعاب والتَّفريع مع المحافظة على القصد وسلامة الإتّجاه ما يواكب العقول البشريّة في تفتُّحها على سنن اللّه سبحانه في خلقه، وتسخيره لهم ما في السماوات وما في الأرض، وليس غير الإقتصاد الإسلامي يستطيع أن يحقِّق هذه الغاية، لأنّه لا يتعارض في خصائصه مع الجهد العلمي الَّذي حصلت عليه الإنسانيّة خلال تطوُّر تاريخها الحديث.

ولم يغب عن الإمام الشهيد الشيرازي درس متناقضات الغرب، ولكي يقف بمواجهة الغرب، محقِّقاً في الوقت نفسه وجهته الإقتصاديّة، عَمَد إلى إدخال

ص: 436

قيمة الأخلاق في الإقتصاد.

وكما حَدَّد مؤشّرات تنبئ بأن، «الرّأسماليّة سوف تسقط، وستسقط الشيوعيّة العالميّة، ويندَحر الإتّحاد السوفياتي في يوم قريب وقريب جدّاً»(1). وفعلاً انفجر الإتّحاد السوفياتي من الداخل وانهار صرحه كما توقَّع الإمام الشهيد حسن الشيرازي(2).

لَقَد أوضَح الإمام الشهيد السيّد حسن الشيرازي أن النُّصوص الإقتصاديّة الإسلاميّة لا يمكن أن تُحقِّق أهدافها في تنظيم العلاقات الإقتصاديّة للبشر تنظيماً عادلاً ورشيداً، إلاّ إذا طبقت ضمن إطار إسلامي عام، يقوم على قيم أخلاقيّة إسلاميّة، وعلاقات إجتماعيّة إسلاميّة، وطموحات إسلاميّة تأخذ في الإعتبار التَّوازن بين ما يستطيع الإنسان أن يحقّقه في دنياه وما يجب أن يتركه لآخرته.

مزايا الإقتصاد الإسلامي

أشار الإمام الشهيد الى أبرز مزايا الإقتصاد الإسلامي، وأفضليّته على الأنظمة الإقتصاديّة الأخرى، هي حقّ الملكيّة الخاصّة، وكيفيّة حمايتها وتنميتها، وما فرض الشارع المقدّس عليها من إلتزامات.

لقد أقَرَّ الإسلام للفرد بحقّ تملُّك الأموال، سواء أكانت نقديّة أو سلعيّة، وسواء استخدمت لأغراض الإنتاج أو الاستهلاك، وهذا ما يؤكّد بأن الإسلام قد أجاز للفرد إقامة المشروعات، أو امتلاك وسائل الإنتاج، وذلك ما لا تُجيزه الشيوعيّة.

وبالرَّغم من تمتُّع الفرد في ظلّ الإسلام بحقّ تملّك سِلَع الإستهلاك والإنتاج، إلاّ أنّه لم يمنَع هذا الحقّ بصورة مطلقة، أي أن الملكيّة الفرديّة في ظلّ الإسلام هي ملكيّة مقيّدة، وليست مطلقة كما هو الحال في النِّظام الرأسمالي، وإن هذه

ص: 437


1- كتاب الاقتصاد، للشَّهيد السيّد حسن الشيرازي، ص236.
2- توقع السيد الشيرازي ذلك حينما كان الاتحاد السوفيتي باوج قوته وقبل ان ينهار بعشرين عاما وكان انهياره مفاجاة عالمية غير متوقعة.

الحقيقة قد مَيَّزت الإسلام بكونه ذو مبادئ وسطيّة، لا إسراف فيها ولا حرمان.

ولكي يحمي دين الإسلام ملكيّة الأفراد من أيّ عدوان، فقد شَرَّع عُقوبات شديدة ضدّ مَن يعتدي عليها بالسَّرقة، أو الإغتصاب، أو بالإتلاف، أو بأيّ صورة من صُوَر العدوان.

إن إقرار الإسلام للفرد بحقّ التملُّك الشخصي للأموال، قد راعى ميول الإنسان الفطريّة أو غريزته في حُبّ التملُّك، كما اعتبر ذلك الحقّ وسيلة لتَنمِية دخل الفرد والأمّة، ووسيلة لتخطّي حاجز الفقر، وإنهاء الأمراض النّاجمة عن الحُرمان والعوز، كما أنّه يشجّع الإنسان على العمل، ويخلّص البلاد من مشكلتي البطالة الحقيقيّة والمقنعة.

ولكي يكون إستثمار الأفراد لأموالهم الخاصّة حَلالاً، أو ليكون امتلاك رأس المال واستهلاكه وتشغيله وتنميته حلالاً، وبعيداً عن المُحرَّمات والشُّبهات، فقد أوضحت شريعة الإسلام بعض الشُّروط الخاصّة باكتساب المال، وإنفاقه في أيّ من مجال الإستهلاك أو الإنتاج.

فقد حَرَّم الإسلام كسب المال عن طريق، الرِّبا والسِّحر والدَّعارة والقِمار والغِش والسرقة والرَّشوة والإحتكار والإمتيازات، وشَجَّع الكسب الشريف، وحَرَّم الترف،

فضلاً عن إلزام الإسلام لأتباعه بقواعد كسب المال وإنفاقه، فقد حماهم أيضاً، كمستهلكين من الإستغلال عن طريق نظام الحسبة الَّذي يُعتَبَر تطبيقاً لفريضتي الأمر المعروف والنَّهي عن المنكر.

بالإضافة إلى حماية الإسلام لملكيّة القادر على العمل أو كسب المال، فقد شرّع القوانين الَّتي تُمَكِّن ضُعَفاء المجتمع، كالأيتام والعَجَزة من إمتلاك المال، وذلك عن طريق إلزام القادر على كسب المال، بأداء الصَّدَقات، كالزَّكاة والخُمس والإيفاء بالنُّذور، وحثّهم على تقديم الهدايا (الهبات).

ص: 438

وتشجيعاً من رَبّ العالمين للمسلمين على تنمية أموالهم، باعتبارها وسيلة لتحسين أحوالهم المعاشيّة، وتخليصهم من الفقر، وتقويتهم عسكريّاً والدفاع عن وطنهم وأموالهم وعقيدتهم، فقد شَرَّع عِدّة قوانين تَخُصّ الأمور التّالية، وتنعكس بالإيجاب على التَّنمية:

- تَحريم العمل غير الشَّريف، أو غير الإنتاجي، كالرِّبا والغِش والقِمار والدَّعارة والإحتكار و...

- تَحريم البَخس، وهي محاولة شراء السِّلَع والخدمات بأسعار قليلة جِدّاً، فلا تُوَفِّر رِبحاً معقولاً للبائع.

- تحريم إستغلال الإنسان للإنسان.

- تحريم مُصادرة الحرّيّات العامّة.

- تحريم إضطهاد العُمّال.

- تحريم عمل السخرة.

- مَنع الإسراف، أو التَّبذير.

- ضَمان حقّ التملُّك الفردي.

- الجهاد بالمال في سبيل اللّه سبحانه.

- إلزام الأغنياء بإعالة غير القادرين على العمل.

- إلزام المسلم بحُبّ الخير لأخيه المسلم، وإلاّ فإن أداءه لكلّ الفرائض، من صوم، وصلاة، وحَجّ، وزكاة، وغيرها لن ينفعه، لقول الرَّسول (صلی الله عليه وآله وسلم) (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لا يؤمن أحدكم، حتّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

- حَثّ صاحب العمل على منح العاملين لديه أجوراً مُجزية متناسبة مع قدراتهم الجسميّة والعقليّة، وإنجازاتهم العمليّة،

- تَحبيب الرِّبح المعقول.

- تَقديس العمل الشَّريف، كاستخراج المعادن والرَّكائز والتِّجارة والعمل بأجر

ص: 439

و...

إن إلتزام المجتمع في العراق أو أيّ بلد مسلم آخر بقوانين الإسلام، سيؤدّي إلى تطويره وتخليصه من التخلُّف وعثرات الماضي، لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}(1).

ص: 440


1- سورة الأعراف، الآية: 96.

القسم الرابع: من مؤلفات السيد الشهيد

اشارة

المبحث الاول: أسلوبه

المبحث الثاني: قراءات موجزة لبعض مؤلفاته

المبحث الثالث: من مؤلفات آية اللّه الشهيد السيدحسن الشيرازي

ص: 441

ص: 442

المبحث الاول: مؤلفاته

اشارة

ترك لنا السيد حسن الشيرازي إرثا عظيما من المؤلفات القيمة تجاوزت السبعين عنواناً، مع ملاحظة ان ما صادره النظام البعثي في العراق في مداهماته الليلية وفي اعتقلاته للسيد الشيرازي من مخطوطات لكتب ومشاريع مؤلفات ضيعت هو أضعاف ما وصل الى مرحلة الطبع والنشر.

ولو تأملنا هذه المؤلفات لوجدنا ان قسم كبير منها ينتمي للفترة العراقية من حياة السيد الشيرازي وهي تمتد الى سنة 1970م.

وبالرغم من النشاط الديني والسياسي للسيد الشيرازي الا انه في تلك الفترة استطاع كتابة الكثير من المؤلفات، لان الفترة التي قضاها بعد هجرته من العراق (عشرة سنوات) كانت مزدحمة بالاعمال والفعاليات والنشاطات وتأسيس المؤسسات والحوزات الدينية، اضافة الى تنقله لمتابعة الاعمال بين سوريا ولبنان خلال الاسبوع ورحلاته التبليغية في ارجاء العالم.

اضافة الى ان حاجة الجماهير المسلمة في العراق كانت بحاجة الى وؤى معاصرة للفكر الاسلامي في مواجهة التحديات اليسارية والعلمانية والقومية وما ترسخه من عنصريات وعصبيات، اما في الشام فقد كانت هناك حاجة ملحة للتاسيس والبناء وما ان بدات المؤسسات تثمر بخطاب اسلامي وفكري عالمي حتى اغتالت يد الظالمين السيد الشيرازي، لكن هذا لا يعني ان هذه الفترة لم تشهد ولادة مؤلفات عملاقة لكنها لم تكن بالزخم المضاعف الذي تعودنا عليه من السيد الشيرازي الذي كان يستغل اوقات السفر وانتظار الرحلات وساعات الفجر الاولى ليكتب قصاصات ورق وكتيبات لتنتظم في قافلة مؤلفات المفكر

ص: 443

العظيم.

أسلوبه

تمتع السيد حسن الشيرازي باسلوب رائع متفرد، جمع بين عذوبة المفردة وعمق الفكرة وشفافية الخاطرة ومتانة الفقرة، ورشاقة الجملة، وجمالية البناء الاسلوبي، وبلاغة المعنى، انه الشعر المنثور، بقوافي الافكار وموازين المعارف، ولعل غير قارئ له يتمنى الامثولة، فنقدمها او الدليل فنبرهنه، وذلك بنقل شيئاً من مقدّمة كتابه «كلمة اللّه».

يقول في مقدّمة هذا الكتاب: «الآيات الَّتي نزلت على نبيّ من أنبياء اللّه (عليهم السلام) ، فآمن بها كلّ وديع فقير، لم يكن له هدف في الوجود، ولا ملجأ في الحياة إلاّ أن يمني نفسه بالأمل أو بالعمل في سبيل الخبز المعجون بدمعه ودمه، فآوته تلك الآيات إلى المَرفأ الأعلى، وخلقت منه قائداً صلداً تميد الأرض ولا يميد، ثمّ أعادته إلى الأرض، وقد ضاقت الأرجاء بعزائمه الكبرى، فأصبح يقتحم هازئاً بالمخاطر الَّتي تجتاح حياة الإنسان، ويتحدّى الهموم، ويصارع العواصف، ويتغلَّب عليها، ويرفع رأسه فوق تيّار الزَّمن، غير مغمور برذاذه، ويمضي على الدرب مصباحاً منيراً،

واكتَسَحَت تلك الآيات كلّ عتلّ مُستكبر يرفع رأسه وبيده السيف، ولا يحني رأسه للحقّ إذا لم يكن بيده السيف، وتركته في الفراغ ضباباً حائراً على سراب، مسافراً يبحث عن إياب، سؤالاً يدور حول نفسه بلا جواب، حتّى إذا ضاق بنفسه، ولم يجد ملجأ من الحقّ إلاّ من يحمل لوائحه، فقيراً كان أم غنيّاً، عاد إليه صاغراً ينفض عن رأسه أطياف الطغيان والكبرياء، فعاش تحت لواء الفقراء والودعاء الَّذين طالما اضطهدهم، أسعد منه ممّا لو كان عتلّاً متكبّراً، فللمستكبرين داخل أجسامهم الضَّخمة قلوب هَزيلة، لم تتمرَّس بالإنطلاق خارج حدودها، فلا تبرّر وجودها إلاّ بالإستكبار والإستعلاء، وللفقراء داخل أجسامهم الضامرة قلوب

ص: 444

شامِخة، لا يتبرَّر وجودها إلاّ بإعطاء الحقّ نصيبه من نفسها ومن غيرها على حدّ سواء».

بهذا الأسلوب الرَّفيع كتب العلاّمة الشيرازي أكثر من أربعة عشر كتاباً في أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة صفحة من الورق الكبير، ولهذا الجمال الهادئ خلق أدبه مع أدب أشهر الكُتّاب والمؤلّفين، وبذلك أصبح أديباً كبيراً تربطه مع أدباء العالم قرابة الكلمة المُفَكّرة، والخيال العملاق.

ونقرأ من كتابه (الأدب المُوَجَّه): «كلَّما رأيت نفسك - فجأة - تتهزهز على أُرجوحة مُعطّرة تُفني المَسافات، أو وجدت نفسك تسبَح على شرفات النجوم، حيث يدغدغك ألف خاطر أشقر، وصدع رأسك حلم الأنبياء، وكأنَّه يضطرب ويضطرم لينتزع منك إرادتك، ويتركك هشيماً خائراً، وكأنَّه يتحرَّك ليتولَّد منك، فاعلَم أنَّك في موسم الخصب والعطاء».

بمثل هكذا نظرات صادقة وأصيلة ينطلق قلمه، ويتوغَّل في سياحاته الفكريّة والأدبيّة الَّتي تسمّي أعمق مكنوناتنا بمُسمّياتها العادلة في لغة سهلة تفيض سحراً وجمالاً، لأنَّها تخرج من ذهن صافٍ بإيمانه، يشع مداده نوراً أخاذاً، ليتعدّى حدود الإمكان في الأبعاد التقليديّة نحو صميم الأشياء، فيكشف عن أعمق أسرار القلب وأحلام النفس وأماني الرّوح.

ص: 445

المبحث الثاني: قراءات موجزة لبعض مؤلفاته

اشارة

كان الشهيد الشيرازي يعتقد ان مِن وَسائل نهضة الأمّة، تَأليف الكتب، لأن الكتاب لَه تَأثير كبير في الطَّبقة المُثقّفة، والطَّبقة المُثقَّفة هي الَّتي تُوَجِّه الأمّة، فكان يُركِّز على هذه النّاحية.

وكان يَرى أن الأدب أيضاً من وَسائل النَّهضة في الأمّة الإسلاميّة.. فَألَّفَ كتابين رائعَين هُما، (الأدب المُوَجّه)، و(العَمَل الأدبي)، وهُما من الكُتُب الَّتي يُشار إليهما بالبَنان. فالأمّة الَّتي تَنمو فيها الحركة الأدبيّة، تكون في طَريق النهوض، فَقَد تكلَّم في كتاب، (العَمَل الأدبي) حول الرواية والقصّة والمَسرحيّة والشعر والتمثيليّة، ومُختلف الأساليب الَّتي تُساعد في نَهضة الأمّة.. فَألَّف الكتاب، ونَظم الشعر، لأن الشعر يلهب مَشاعر النّاس، ويُهَيِّجَهم للحركة والنشاط.

وكذلك قام الشهيد الشيرازي بتأسيس المُؤسّسات الدينيّة، كالحوزة العلميّة، لأن الحوزة العلميّة بمنزلة القائد للمُجتمع والمُرِبي له، وهي الَّتي تَصنَع رجال الكلمة والعلم والخطابة ومُدراء المؤسّسات وأساتذة الحوزات وإمام الجَماعات والقاضي والمُدرِّس والمؤلِّف.

إن الحوزة مُنطلق للنَّهضة، باعتبار أنَّها مُرَبّية لقيادات النَّهضة، فكان يعتقد بضرورة التَّأليف المُركَّز، وأهمّيّة الإعتماد على الأدب، وتأسيس المؤسّسات.

وخلَّف السيّد حسن الشيرازي وراءه إرثاً علميّاً وفكريّاً وأدبيّاً ضخماً، لم يأخذ حقّه من الدراسة والإعتناء، فنتاجاته الأدبيّة ومجموعاته الشعريّة نادرة الوجود، وأغلبها لم يطبع بعد، فلقد تجسَّدت في شعره نظريّات الحداثة في الأدب،

ص: 446

الأدب الواقعي، الأدب الإسلامي، وتميّز شعره بالواقعيّة والسلاسة والصدق. فكان بحقّ الشّاعر الواعي لواقع الأمّة ومعاناتها، ودائها ودوائها، وآلامها وآمالها، واحتياجاتها بكلّ صدق وأمانة، وقوّة وجرأة، وبأسلوب جذّاب سلس كأنّه السهل الممتنع.

ولقد كان أدب السيّد الشهيد أدباً ملتزماً اهتمَّ بمَشاكل المسلمين، ودافع عن مبادئ عقيدته وعقيدتهم، وناهض كلّ العقائد المنحرفة عن الصراط المستقيم، والقوى المعادية للإسلام وأتباعه.

إن ما يؤيّد وجهة النَّظر هذه، هو النّشاط الأدبي - عامّة بما فيه الشعر - للشهيد في العراق منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي، وحتّى إلى ما بعد هجرته منه في منتصف عقد السبعينات.

ولقد كان الشعر السياسي للسيد الشهيد أحد أدوات كفاحه ضدّ إنحرافات بعض اللاّعبين على الساحة السياسيّة العراقيّة، وهو دليل إنشغال فكر الشهيد بهموم العراقيين السياسيّة، والإقتصاديّة والفكريّة، فقد كان يستثمر كل مناسبة دينية او غيرها ليعبر عن واقع الامة ومعاناة الشعب العراقي ففي الإحتفال الديني الكبير الذي أُقيم في مدينة كربلاء المُقدّسة بدعوة من أخيه الأكبر المرجع الديني السيّد محمّد الشيرازي في عام (1962م) للإحتفال بمولد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، يقول في قصيدة ثورية:

في كلّ يوم، جاءنا مُستورد***لمَبادئ فشلت بكلّ نظام

فكأنَّنا شعب بدون قيادة***كي نَستَعير قيادة الأقزام

فعراقنا مهد الحضارة والتُّقى***والعلم والأمجاد والإسلام

وفي عام (1964م) أُقيم في كربلاء المقدّسة إحتفال مهيب ثالث بمناسبة ولادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وفي هذا المهرجان الجماهيري الكبير ألقى السيّد الشهيد كلمة ثمّ قصيدة جاء فيها:

ص: 447

فالشعب نحن وأنت أنت إمامنا***ورعاتنا «العلماء» لا «العملاء»

الحزب حزب اللّه ليس سواه في***الإسلام أحزاب ولا أنصاب

فهو الَّذي انهارت على أعتابه***الأحزاب والأنصاب والأراب

والمشركون مذاهب ومشارب***والمسلمون جميعهم أحباب

إن هذه الإشارات المختصرة للشعر السياسي للسيّد الشهيد تدلّ بكلّ وضوح على شدّة التصاقه بهموم العراق وحاضره، وسعيه إلى تخليصه من كلّ المظاهر السيّئة الَّتي ألمّت به بسبب الاستعمار والتبعيّة السياسيّة، وابتعاد الحاكم عن عقيدة الإسلام، والتآمر الخارجي، وارتباط بعض الأحزاب المحليّة بمصالح قُوى أجنبيّة.ولعلّ من يقرأ كلّ أشعار السيّد الشهيد سيجد أنّه قد طرح حكم الإسلام كطريق وحيد لخلاص العراقيّين من مآسيهم وأحزانهم المتوارثة عبر أجيال متعاقبة.

ص: 448

الصورة

ص: 449

وهنا نتوقف لقراءة موجزة لبعض من مؤلفات الامام الشهيد السيد حسن الشيرازي..

خواطري عن القرآن

خواطري عن القرآن/ ج1-3: الجزء الأول 527 صفحة، والجزء الثاني 563 صفحة، والجزء الثالث 594 صفحة، من الحجم الكبير، الطبعة الأولى: دار العلوم بيروت، لبنان، 1414ه- / 1994م.

بدأ هذه الخواطر وهو في السِّجن، وأكملها بعد خروجه، ويصرّ على انّها مذكّرات وضعت على الورق للتأمّل في القرآن والتدبُّر فيه، وهي ليست محاولة تفسيريّة بالمعنى الدَّقيق، وإنَّما متابعة لفهم القرآن برؤية شخصيّة ينقلها عن خبرته المعرفيّة العلميّة، وتدبُّره في الآيات القرآنيّة، فهو يأمل ويطمح أن يطالعها القارئ بالإرادة الكاملة، والفعاليّة الذهنيّة البعيدة عن الأنانيّة والإستسلام، ولا يأخذ القارئ ما كتبه - المؤلّف - على انّه وحي منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يعتمد المؤلّف كما هو المُتَعارف على الرِّوايات بشكل أساسي، وإن كان في بعض الأحيان يَستَعين برواية، أو حديث نبوي، أو رأي تفسيري يدعم رأيه وفهمه، ويرى المؤلّف الشهيد أن الأئمّة (عليهم السلام) رغم إستيعابهم القرآن، ما استطاعوا تفسيره لا لقصور فيهم - والعياذ باللّه - ولكن لعدم وجود القابل لفهم القرآن، لذا أصيبوا بخيبة أمل في زمانهم الَّذي عاشوا فيه، وبذلك احتفظوا بالمعاني السّامية العَميقة، خشية أن يتّهموا، كما ينقل عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) واصفاً هذا المعنى:

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به***لقيل ذلك مِمَّن يعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال المسلمين دمي***يَرون أقبح ما يأتونه حسنا

ثمّ يردف قائلاً: إنّه لا يتوقَّع من أحد أن يأخذ بشيء من هذه الخواطر، ولكن يتمنّى أن يقرأها بتأمُّل وإمعان، وأن تكون محاولته هذه كمدخل جديد إلى تفسير

ص: 450

القرآن، وبهذا يكون المؤلِّف قد أسَّس منهجاً جديداً، ورؤية فنيّة في فهم القرآن، لتعطي للباحث مساحة كبيرة لطرح رؤيته التأمّليّة العميقة في النصّ القرآني، ورفض المؤلِّف فكرة التَّفسير بدون الإعتماد على أهل البيت (عليهم السلام) ، لأنّهم هم الوحيدون الَّذين يستطيعون تفسيره، إعتماداً على الحديث الَّذي يقول: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به»(1)، فالمعصوم (عليه السلام) هو الَّذي يحيط بتفسير القرآن، وتحصّل من ذلك أن هناك تفسير لا يعرفه إلاّ المعصوم، وهناك تدبُّر وتأمُّل لا يعني تفسيراً بقدر ما يعني التَّفكير الشديد، والتأمُّل بعمق في أبعاد النَّص القرآني، بحيث تتكشَّف عِدّة آفاق ورؤىً تتضمَّن النَّص بصورة عميقة.

يحلِّل المؤلِّف مفهوم التَّفسير عند أهل البيت (عليهم السلام) ، ويصنِّف الأحاديث إلى ثلاثة أصناف:

الصِّنف الأوّل، الَّتي تحصر فهم القرآن في أهل البيت (عليهم السلام) ، مثل قول الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنَّما يعرف القرآن من خوطب به»(2).

والصِّنف الثّاني، الأحاديث الَّتي تمنع تفسير القرآن بدون مراجعة النّبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) مثل ما جاء في الحديث الشريف عن المعصوم: «من قال في القرآن برأيه أو بغير علم، فليتبوّأ مقعده من النّار»(3).

والصِّنف الثّالث، الأحاديث الَّتي تؤكِّد أن اللّه تعالى لم يعلّم القرآن لغير أهل البيت (عليهم السلام) مثل قول الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة: «ما ورثك اللّه من كتابه حرفاً»(4)،

ص: 451


1- الكافي: ج8، ص312. وسائل الشيعة: ج27، ص185، ح33556. بحار الأنوار: ج24، ص238، وج46، ص349-350.
2- الكافي: ج8، ص312. وسائل الشيعة: ج27، ص185، ح33556. بحار الأنوار: ج46، ص350.
3- وسائل الشيعة: ج27، ح33566، وح33607. مستدرك الوسائل: ج17، ص337، ح21519. بحار الأنوار: ج3، ص223، وج89، ص111. عوالي اللآلي: ج1، ص174. منية المريد: ص368.
4- وسائل الشيعة: ج27، ص47-48، ح33177. بحار الأنوار: ج2، ص292-293.

ثمَّ يرد المؤلِّف على هذه الأحاديث بقوله:

ويمكن الخروج من هذا المأزق بوجوه، أن آيات القرآن على قسمين: المحكمات والمتشابهات، الأولى تتناول أصول الشريعة والعقيدة، والثانية تتناول تفاصيل الشريعة والعقيدة، والأحاديث المذكورة تنصرف إلى الثانية وهي المتشابهات، لأن المحكمات واضحات، والوجه الثّاني الَّذي يطرحه هو أن التَّفسير ليس بيان الدلالات السطحيّة للكلمات والجُمَل، وإنَّما هو تَفجير العبارات، والإستفادة من تفاعل دلالاتها وطاقتها العميقة، ويطرح المؤلّف إشكالا ويجيب عليه، وهو إذا لم يكن فهم القرآن ممكناً فما فائدته؟! والجواب: أولاً أن فائدته تكوينيّة كوجود العناصر الأوّليّة للكون مع عدم معرفتنا لها، والثّاني أن النّاس يستطيعون أن يستفيدوا من القرآن بعد مراجعة تفسير أهل البيت (عليهم السلام) ، ويتطرَّق المؤلِّف للتفسير بالرّأي، والتَّحذير منه، كما أكَّدته الأحاديث الشَّريفة، والوَعيد عليه بالنّار(1).

ثمّ يُشرِع المؤلِّف في تفسير القرآن عبر التدبُّر فيه، ويبدأ بسورة الفاتحة، وينتهي بسورة النّاس، ثمَّ يختم بخواطر قصيرة، وينتخب من كلّ سورة عدّة آيات، ثمَّ يجعل للآيات عنواناً خاصّاً بها، وهذا العنوان يمثِّل الهدف الأساسي من الآية الَّتي يريد عرض الخاطرة فيها، ويأخذ المفهوم العام الَّذي تريد الآية أن توصله إلى الإنسان، ويحلّله تحليلاً فنّيّاً أدبيّاً فلسفيّاً علميّاً، وهو بذلك يرسم لوحة فنّيّة عن حركة الآية ليؤطرها بإطار عام تَنطَوي تحته عناوين شرعيّة.

هذا الأسلوب (التدبّري التأمّلي) - إن صَحّ تسميته بذلك - هو أسلوب فنّي رائع في العرض والتصوير، ويجعل من الآيات القرآنيّة مفاهيم كليّة تتحرَّك أمام الإنسان، لتشكِّل له صوراً متعدّدة في الإجتماع، والإقتصاد، والسِّياسة، وجميع

ص: 452


1- موسوعة السيد حسن الشيرازي، ج3 ص 298.

النواحي المدنيّة الأخرى، فضلاً عن صور الماورائيّات.

إن أسلوب التعامل العميق الهادئ في الآيات القرآنيّة يفتح للباحث آفاقاً كبيرة، لأن ألفاظ القرآن لها قابليّة التحرك الأفقي والعمودي، فالآية لها مفهوم ظاهري بسيط، ودلالات لغويّة محدّدة، تستطيع إدراك المعنى الظاهري منها، ولكن هناك بُعداً أعمق من هذا وهو البُعد الكوني الآفاقي الَّذي يظلّ يتحرَّك مُستمرّاً في الكون، ليعبِّر عن أزليّة خالقه السرمدي، وهذا المعنى عبر التأمّل والتدبُّر من الممكن إدراكه مع الشروط اللازمة له، من العلم والعمل، وهكذا نرى المؤلِّف يجعل عشرات العناوين للآيات القرآنيّة، وعشرات المفاهيم الثانويّة، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}(1)، إذ عَنوَنها ب(الحوار المنطقي لا السبّ)، وهنا يعطينا فهماً دقيقاً عن هذه الآية، وهو أن الأصنام والأوثان كانت العدو الأوّل للمسلمين، لأن الإسلام جاء ليحرِّر النّاس من عبادة الأوثان، ورغم ذلك يعلِّمنا القرآن أسلوباً هادئاً يتعامل مع المنطق والعقل، لا مع العاطفة، لأن العاطفة تؤثِّر على سلوك الإنسان الخارجي، ومن أجل عدم المَساس بقداسة اللّه عز وجل رفض مفهوم السبّ، وهكذا يعرض المؤلِّف بقيّة الآيات بنفس الأسلوب وبنفس المنهج.

وتميّز كتابه أيضاً بطرح الأسئلة والإجابة عليها، مِمّا يشوِّق القارئ، وكذلك ابتعد المؤلِّف عن الألفاظ الغريبة والمعقدة، أو المصطلحات الفلسفيّة الَّتي يصعب فهمها، مِمّا يجعل الكتاب أكثر بساطة، وينسجم مع كلّ مستويات القُرّاء، وبهذا تكون محصلة هذا الجهد التفسيري هي محاولة جديدة تستحق المتابعة، وإن كان هناك بعض الملاحظات الَّتي لا تنقص من مجهود هذا العمل الَّذي يستحق أن يكون مدخلاً جديداً لفهم القرآن بأسلوب ومنهج جديدين(2).

ص: 453


1- سورة الأنعام، الآية: 108.
2- موسوعة السيد حسن الشيرازي، ج3 ص 299.

الصورة

ص: 454

الاقتصاد

الاقتصاد/ ج1و2 (الاقتصاد العالمي، الاقتصاد الإسلامي): 320 صفحة من الحجم الكبير، طبع عدة مرات، الطبعة الأولى في العراق 1379ه- / 1960م.

أستعرض كتاب (الإقتصاد) (1) للإمام الشهيد فلسفة الرأسماليّة(2)، ثمّ عَرَض(3) مساوئ هذه العقيدة الَّتي ظهرت من خلال تطبيقها في الولايات المُتَّحدة الأمريكيّة وأوربا الغربيّة منذ ما زاد على القرنين من السنين.

ثمّ بيّن الفلسفة الشيوعيّة(4)، الَّتي ابتدعها ماركس بمعاونة إنجلترا، ثمّ بيّن أخطاءها وأخطارها(5).

ثمّ استعرض(6) الكتاب إقتصاد الفلسفة الإشتراكيّة المتبناة من قبل الإتّحاد السوفيتي، ومساوئ وأضرار تطبيقها على أرض الواقع.

ومن ثمّ استعرض الكتاب(7) تناقض نتائج تطبيق الفكر الإشتراكي في الإتّحاد السوفيتي، خاصّة مع الأسس الفلسفيّة للإشتراكيّة السوفيتيّة.

واستعرض بإيجاز شديد(8) التَّطبيق الإشتراكي المُشَوَّه في ألمانيا النّازية، وإيطاليا الفاشية.

بعد ذلك إستعرض الكتاب(9) جوانب من الإقتصاد الإسلامي.

ص: 455


1- موسوعة السيد حسن الشيرازي، ج3 ص 179.
2- من صفحة 33 إلى 42.
3- من صفحة 43 إلى 102.
4- من صفحة 105 إلى 135.
5- من صفحة 139 إلى 167.
6- من صفحة 171 إلى 191.
7- من صفحة 195 إلى 237.
8- من صفحة 241 إلى 243.
9- من صفحة 247 إلى 297.

من خلال هذا العرض الموجز لكتاب (الإقتصاد)، نكتشف إستراتيجيّته المتمثّلة بعرض الفلسفات المعاصرة المعادية للإسلام، وما يشوبها من أخطاء وتناقضات، وما جَلَبَته تطبيقاتها في بعض البلدان من مآسي وأحزان إلى شعوب هذه الدول، وبهذه الطَّريقة أثبت عدم صلاحيّة تلك الفلسفات للعراق، وأيّ بلد إسلامي أو غير إسلامي.

في السُّطور التّالية ستتم الإشارة إلى أبرز نقائص الأفكار العقائديّة غير الإسلاميّة، وبعض ملامح الإقتصاد الإسلامي.

فقد أشار إلى ذلك آية اللّه الشهيد السيّد حسن الشيرازي في بداية كتاب (الإقتصاد)، ثمّ عرض أفكار الرأسماليّة بصورة موجزة، وهي:

1- الملكيّة الفرديّة حَقّ مقدّس، مهما بلغت أو ثمنت بالنّقود، ولذلك لا يجوز الإعتداء عليها بالتأميم، أو بعرقلة حرّيّتها في العمل.

2- للفرد الدّور الأساسي في الحياة الإقتصاديّة.

3- للدولة دور ثانوي أو تكميلي في الحياة الإقتصاديّة.

4- ليس للدولة الحقّ في تخطيط النّشاط الإقتصادي، ويلاحظ بأن هذا المبدأ قد تجاوزته نظريّة (كينز) الَّتي سادت في الغرب حتّى أواخر عقد تسعينيّات القرن العشرين الميلادي المنصرم، ولكن النظريّة النقدويّة الَّتي بدأت مدرسة شيكاغو للإقتصاد بالدعوة إليها منذ منتصف عقد سبعينات القرن الميلادي العشرين، دَعَت إلى العودة إليه.

5- خضوع الأسعار بما فيها سعر خدمة قوّة العمل للعرض والطَّلب.

أمّا ملاحظات الشهيد على هذا النظام الإقتصادي السِّياسي، فمنها:

أ. إنّه يُساعد على تكوين الطَّبقات، لذا يقسّم المجتمع إلى طبقة فقيرة وأخرى غنيّة، وتتمتَّع الطَّبقة الغنيّة بإمتيازات إجتماعيّة تخل باستقرار الدولة،

ب. إلغاءه لدور التَّعاليم الدينيّة في تحديد العلاقات الإجتماعيّة عامّة، بما

ص: 456

فيها العلاقات الإقتصاديّة.

ج. إطلاق حرّيّة العمل الإنتاجي والتِّجاري، فيُساعد على توجيه قدر من عناصر الإنتاج المُتاحة - أي رأس المال - في أعمال ربويّة، وإفساح المَجال لنوادي القمار، وبيوت الدَّعارة بالعمل بحرّيّة.

د. تبنّي رأس المال فكرة التوسُّع الإستعماري من أجل الوصول إلى أسواق التَّصريف ومصادر الموادّ الخام.

ه. إمكانيّة تعرُّض العُمّال للبطالة، أو لتدنّي الأجور بسبب إعتماد قانون العرض والطَّلب في تحديد الأجور، أو بسبب دخول التكنولوجيا الحديثة إلى ميدان الإنتاج، أو غير ذلك من أسباب.

و. تعذُّر إستثمار بعض الموارد الإقتصاديّة المُتاحة والضروريّة لأمن البلاد الإقتصاديّة، أو العسكريّة، أو السّياسيّة.

ز. ضعف مستوى الأجور بسبب منافسة الآلة للأيدي العاملة، أو دورات الإنتاج، أو إعتماد المنافسين لسياسة الإغراق الإقتصادي أو...

ح. شيوع الفاحشة واضطرار النّساء إلى مُمارسة البغاء العَلَني والمستور، بسبب الفقر والبطالة وقِلّة الأجور، وسيطرة رأس المال على قوّة العمل.

ط. فَسح المَجال أمام النّشاط غير الأخلاقي كنشر الكتب والأفلام والصُّوَر الجنسيّة واختلاق الصحافة للقصص والأخبار الَّتي تزيد الطَّلب عليها، وفتح بيوت الدعارة ونوادي القمار والمَلاهي والحانات والمَسابح المُختَلَطة ونوادي العُراة.

ي. هَدر الثَّروات، كإفناء بعض الإنتاج، للحفاظ على أسعاره مرتفعة.

ك. إهمال العَجَزة.

ل. إمكانيّة التلاعُب بأسعار السِّلَع والخدمات بطُرُق غير محلِّلة أخلاقيّاً ودينيّاً، لحَجب الإنتاج عن السوق لبعض الوقت، من أجل تقليل العرض ورفع

ص: 457

السعر.

أمّا الفكر الماركسي، فقد استعرض سماحة الإمام الشهيد السيِّد حسن الشيرازي أبرز ملامحه، وهي:

1- إلغاء نظام العائلة.

2- إلغاء الأديان، وأيّة أفكار سياسيّة، وأخلاقيّة، وإقتصاديّة، سائدة في ظلّ الأنظمة ما قبل الشيوعيّة.

3- إقامة سُلطة دكتاتوريّة البروليتاريا في المرحلة الأولى منه، أي (الطّور الإشتراكي).

4- إخضاع الأسواق لسيطرة الدولة في الطّور الأوّل من الشيوعيّة، أي (العهد الإشتراكي)، حيث تحدّد العرض، والأسعار، والأجور،

5- إلغاء النُّقود والأسعار والدولة في الطّور الثاني من الشيوعيّة.

6- مصادرة وتأميم رأس المال الخاصّ، أو القضاء على الملكيّة الخاصّة.

أمّا أبرز ملاحظات السيّد الشهيد على هذه العقيدة فهي:

1- انّها عقيدة مثاليّة (خياليّة)، لأنّه لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع.

2- فشلت بعض التجارب تطبيقها، كما أن (لينين) قد حرّفها بعض الشّيء تحت ستار محاولة تطويرها، لعجزه عن تطبيقها ومثاليّتها.

3- محاربتها لغرائز الإنسان.

4- إختراعها لفكرة مراحل التّاريخ الخمسة، رجماً بالغيب.

5- دكتاتوريّة البروليتاريا لا يمكنها قيادة دولة.

6- نقض الدكتاتوريّة لحقوق الإنسان الأساسيّة، وخاصّة حرّيّة التَّفكير، والتملُّك، واعتناق الأديان.

7- إتِّهام رأس المال بالفَساد المطلق، بينما رأس المال غير المقيَّد بالتعاليم الدينيّة والأخلاقيّة هو الفاسد.

ص: 458

8- عدائها للأخلاق والأديان.

9- إيمانها في طورها الأوّل بالطَّبقيّة، وافتعالها العداء أو الصّراع مع رأس المال.

10- إعتمادها العنف والإرهاب كوسيلة لإثبات وجودها، وأدامته إلى زمن طويل قادم، إلى موعد تطبيق الطّور الثاني من الشيوعيّة.

أمّا أبرز مساوئ الإشتراكيّة الرّوسيّة الَّتي آمنت بأفكار (ماركس)، و(انجلز)، و(لينين)، فهي:

- لجوءها إلى العنف والقسوة الشديدة في تطبيقاتها.

- مصادرتها للحُرّيّات.

- سيطرتها على رأس المال.

- تبنّيها فكرة العمل الأجباري، أعمال السخرة.

- فشلها في رفع مستوى الإجراء إلى المستوى الَّذي بلغه إجراء الدول الرّأسماليّة.

- فشل الإقتصاد الرّوسي أو السوفيتي في مُجاراة إقتصاد الولايات المتَّحدة الأمريكيّة.

- إفقارها لأكثريّة الشَّعب.

أمّا الإقتصاد الإسلامي، فقد أشار الإمام الشهيد إلى أبرز مزاياه، وأفضليّته على الأنظمة الإقتصاديّة الأخرى، فمن جملة الأمور الَّتي أشار إليها الشهيد، هي حقّ الملكيّة الخاصّة، وكيفيّة حمايتها وتنميتها، وما فرض الشارع المقدّس عليها من إلتزامات.

لقد أقَرَّ الإسلام للفرد بحقّ تملُّك الأموال، سواء أكانت نقديّة أو سلعيّة، وسواء استخدمت لأغراض الإنتاج أو الاستهلاك، وهذا ما يؤكّد بأن الإسلام قد أجاز للفرد إقامة المشروعات، أو امتلاك وسائل الإنتاج، وذلك ما لا تُجيزه

ص: 459

الشيوعيّة.

وبالرَّغم من تمتُّع الفرد في ظلّ الإسلام بحقّ تملّك سِلَع الإستهلاك والإنتاج، إلاّ أنّه لم يمنَع هذا الحقّ بصورة مطلقة، أي أن الملكيّة الفرديّة في ظلّ الإسلام هي ملكيّة مقيّدة، وليست مطلقة كما هو الحال في النِّظام الرأسمالي، وإن هذه الحقيقة قد مَيَّزت الإسلام بكونه ذو مبادئ وسطيّة، لا إسراف فيها ولا حرمان.

ولكي يحمي دين الإسلام ملكيّة الأفراد من أيّ عدوان، فقد شَرَّع عُقوبات شديدة ضدّ مَن يعتدي عليها بالسَّرقة، أو الإغتصاب، أو بالإتلاف، أو بأيّ صورة من صُوَر العدوان.

إن إقرار الإسلام للفرد بحقّ التملُّك الشخصي للأموال، قد راعى ميول الإنسان الفطريّة أو غريزته في حُبّ التملُّك، كما اعتبر ذلك الحقّ وسيلة لتَنمِية دخل الفرد والأمّة، ووسيلة لتخطّي حاجز الفقر، وإنهاء الأمراض النّاجمة عن الحُرمان والعوز، كما أنّه يشجّع الإنسان على العمل، ويخلّص البلاد من مشكلتي البطالة الحقيقيّة والمقنعة.

ولكي يكون إستثمار الأفراد لأموالهم الخاصّة حَلالاً، أو ليكون امتلاك رأس المال واستهلاكه وتشغيله وتنميته حلالاً، وبعيداً عن المُحرَّمات والشُّبهات، فقد أوضحت شريعة الإسلام بعض الشُّروط الخاصّة باكتساب المال، وإنفاقه في أيّ من مجال الإستهلاك أو الإنتاج.

فقد حَرَّم الإسلام كسب المال عن طريق، الرِّبا والسِّحر والدَّعارة والقِمار والغِش والسرقة والرَّشوة والإحتكار والإمتيازات، وشَجَّع الكسب الشريف، وحَرَّم الترف،

فضلاً عن إلزام الإسلام لأتباعه بقواعد كسب المال وإنفاقه، فقد حماهم أيضاً، كمستهلكين من الإستغلال عن طريق نظام الحسبة الَّذي يُعتَبَر تطبيقاً لفريضتي الأمر المعروف والنَّهي عن المنكر.

ص: 460

بالإضافة إلى حماية الإسلام لملكيّة القادر على العمل أو كسب المال، فقد شرّع القوانين الَّتي تُمَكِّن ضُعَفاء المجتمع، كالأيتام والعَجَزة من إمتلاك المال، وذلك عن طريق إلزام القادر على كسب المال، بأداء الصَّدَقات، كالزَّكاة والخُمس والإيفاء بالنُّذور، وحثّهم على تقديم الهدايا (الهبات).

وتشجيعاً من رَبّ العالمين للمسلمين على تنمية أموالهم، باعتبارها وسيلة لتحسين أحوالهم المعاشيّة، وتخليصهم من الفقر، وتقويتهم عسكريّاً والدفاع عن وطنهم وأموالهم وعقيدتهم، فقد شَرَّع عِدّة قوانين تَخُصّ الأمور التّالية، وتنعكس بالإيجاب على التَّنمية، مثل: - تَحريم العمل غير الشَّريف، أو غير الإنتاجي، كالرِّبا والغِش والقِمار والدَّعارة والإحتكار - وتَحريم البَخس، وهي محاولة شراء السِّلَع والخدمات بأسعار قليلة جِدّاً، فلا تُوَفِّر رِبحاً معقولاً للبائع.- وتحريم إستغلال الإنسان للإنسان. - وتحريم إضطهاد العُمّال. - وتحريم عمل السخرة..وغيرها.

ص: 461

الصورة

ص: 462

العمل الأدبي

العمل الأدبي: 441 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الأولى، دار الصادق: بيروت، لبنان، 1387ه- / 1967م.

لقد نظر السيد الشيرازي إلى الأدب على أنَّه رسالة في الحياة من أجل الحياة، لها غاية تريد لها أن تكون ثابتة الجذور، واضحة النّظرة إلى المستقبل الأرقى، فهو يرى: «ان الأدب يحصد القِمَم، ويقطف النجوم، ليعبِّد للتّائهين المُستقبل الصّاعد، ولا ينحدر إلى المُستنقعات الآسنة الَّتي تلفت الصّاعدين إلى الوراء، حتّى ليحبسه النّاس مثاليّاً، وما هو إلاّ منتزعاً من صميمهم، ولكنَّه منتزع من قِمَمهم، لا من سفوحهم»(1).

تلك نظرة إلى الأعلى دائماً، إلى الحريّة المطلقة، فليس للأديب ولادة عاديّة، ولا رحيله أمراً عاديّاً، وإنَّما هو أثر كبير يترك أثراً عظيماً يتناسب مع مكانة الأديب وقدراته وثقافته، تكون بعد وفاته أعظم ما تكون، وأوضح ما تكون، إذ أن نتاجه الأدبي إنَّما هو إضافة معرفيّة في حياته، وإضافة معرفيّة بعد وفاته، وهنا تكمن عظمة الأديب، فليست كلّ كتابة أدباً، لأن الأدب في حقيقته، هو تربية للنَّفس، وتوطين لها على الفضائل ومكارم الأخلاق، آخذة

بالدين والعلم والفلسفة والتاريخ. مُنسَجمة الرَّوابط، تتأسَّى بالعظماء، وتتعظَّم بالمبادئ، وتبدأ دائماً بالحقّ، لأن الأدب ليس هو الكتابة العابثة اللَّهثة وراء المادّيّة البَحتة المنفلتة من صائنات الأخلاق إلى مهالك الهَوى ومسارب الفجور، وهي أخطر ما تواجهه المجتمعات في حياتها.

يقول الشهيد السيّد حسن الشيرازي:

«إن الأفراد - مهما عظُمُوا - يفنون عندما تلفِّف الأجداث رفاتهم، ولكن

ص: 463


1- العمل الأدبي: ص12.

الأديب العظيم عندما يولد، يولد معه كونٌ عظيم، وحينما يموت، يضيف إلى رصيد البشريّة كوناً عظيماً، لم يسبق أن رآه إنسان، وكلّ لحظة يمضيها القارئ مع أديب عظيم، هي رحلة في كوكب منفرد، متميِّز الخصائص والسِّمات»(1).

وهذه المَيِّزة لا تتاح إلاّ لمن قوَّم النفس على حميد الأخلاق، وصان اللسان عن السفاسف، واهتدى إلى الطيِّب من القول، أيّاً كان موضوعه الأدبي الذي اختاره مجالاً له، لأن اللفظة تنبئ عن قائلها في تفكيره ومسلكه وطباعه ومنهجه في الحياة،

إنَّك لتجد في رؤية آية اللّه السيّد حسن الشيرازي الأدبيّة إنتقالات من العالم الضيِّق المكبوت، إلى العالم الأرحب، من عالم الجهل وانهزام الذَّات الحائرة في المَجاهيل من حولها، إلى عالم الفضيلة والمثال الَّتي تخلَّصت من الجهالة، والأنانيّة، والإنحسار، والإنكسار، ومن عالم الظلمة النفسيّة الطّارئة الَّتي تنوء تحت أثقال سطوة الظلم والطغيان حيناً، والأنانيّة والإستكبار والعنت أحياناً، إلى عالم النّور الَّذي يبدِّد مسالك الحيرة والقلق، وبذلك يقضي الإنسان عمره على قِصَره في منجاة من الأذى واللوم، وينتقل الأدب من الخاصّ إلى العام، فيصبح عملاً إنسانيّاً تتَّسع له مساحة العالم، مع القدرة على الإبداع والإبتكار، يتميَّز بالشَّجاعة الأدبيّة القادرة على النَّقد والتَّجاوز، وصولاً إلى المُعجِز.

وهو بهذا يستحقّ (أن ينفق الإنسان في سبيله ما يستطيع من وقته المحدود، لأنّه عمل إنسانيّ يوسِّع نطاق الفكر البشري، ليَسع ما وُجدَ وما لم يوجد)(2)، فالقيمة الشعوريّة للأديب تُقَدَّر بمدى اطِّلاعه على الواقع المختبئ خلف القُشور والزيوف، والقيمة الشعوريّة للأدب تُقدَّر بمدى كشفه عن ذلك الواقع(3)، بمعنى

ص: 464


1- العمل الأدبي: ص13.
2- العمل الأدبي: ص15.
3- العمل الأدبي: ص24.

أن الأديب هو الإنسان القادر على اكتشاف حقائق الحياة، وارتياد آفاقها المجهولة أو المستغلقة، لفكِّ رموزها، وكشف مبهماتها، واستكناه جواهرها، واستنباط معطياتها، والإجابة على تساؤلاتها الحائرة بوضوح، بعيداً عن الإيهام والإبهام، ويقدِّمها في أيّ صورة تعبيريّة يُريد، ولكن بشرط أن تكون خدمة للمعرفة الإنسانيّة وتوعية للإنسان، في أصدق صورة، وأوضح عبارة، وأجمل تعبير.

ولابدَّ للأديب من إستخدام الصُّوَر وأبعادها، وألوانها، وطعومها، وروائحها، وظلالها، إذ أن للألفاظ والعبارات إشعاعات وإضاءات تحيطها، بحيث تتكامل الإشعاعات وتتواصل كما تتواصل الظِّلال، والإفراجات، والمُتعَرجات، والوهاد، والجبال، وغيرها من مكوّنات الصورة، فتولد اللوحة الَّتي ترسمها ريشة الأديب بالكلمات والألفاظ، يزيِّنها بسحر العبارة، وجمال الصورة، وروعة المشهد، وبذلك تأخذ مكانها في النَّفس الإنسانيّة، فتحرِّك إنفعالاتها، وتُثير كوامنها، وتفتح آفاق مشاعرها، بحيث يصبح القارئ مشاهداً مشاركاً للأديب في عمله الفنِّي.

وآية اللّه الشهيد الأديب السيّد حسن الشيرازي بما امتلكه من ذائقة وجدانيّة رفيعة، وأدب رصين عالي المُستوى، ولغة قادرة على التَّوصيل، يفسِّر كثيراً من الحالات الشُّعوريّة تفسيراً فلسفيّاً يبعث على الدَّهشة والإمتاع معاً، فهو يرى أن استخدام الأديب للألفاظ المعبِّرة عن مشاهداته وذكرياته الشُّعوريّة يتمّ بطريقتين:

الأولى: أن ينفعل الأديب بالتجربة الشعوريّة، ويبلغ الإنفعال من التوهُّج والحرارة والإشراق، بحيث يغمر الأديب كلّه، قلبه وفكره وأعصابه، فيجعله في شبه نشوة أو في نصف غيبوبة، وعندئذ يتمّ التعبير اللَّفظي عن هذه التجربة الشعوريّة بنصف وعي، فلا يتمّ إختيار الألفاظ ورصفها بإرادة كاملة الصحو، وإنَّما تقفز الألفاظ إلى مواقعها، وتتناغم مع بعضها، وكأنَّها تفعل ذلك بإرادتها لا بإرادة الأديب، وهذا ما قاد العرب إلى الإيمان بأن لكلّ شاعر شيطاناً، أو جنّيّاً يوحي إليه بالشِّعر.

ص: 465

الثّانية: أن يختار الأديب نفسه صياغة العبارات، بإرادة صاحية لا يرنقها شرود، وفي هذه الحالة ينبغي للأديب أن يهيِّئ للألفاظ نظاماً وجوّاً يسمحان لها بأن تشعّ كلّ رصيدها من الإيقاع والصور والظّلال، وأن تتناسق إيقاعاتها وظلالها مع الجوّ الشعوري الَّذي يريد عقده، وأن يعني المعاني الشعوريّة من الألفاظ دون المعاني التَّجريديّة.

ويُحبّ الشهيد السيّد حسن الشيرازي أن يُحوِّل النَّظر إلى أن القرآن الكريم هو الَّذي يسعفنا إلى النظائر أكثر ممَّا تسعفنا أعمال البشر، فقد يستقلّ لفظ واحد برسم صورة حيّة لمعنى ثقيل، لا بمحتواه المجرَّد، بل بجرسه تارة وبظلّه تارة أخرى، وبجرسه وظلِّه معاً آوِنة ثالثة(1).

فاسمع كلمة (مُزَحْزِحِهِ) في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ}(2)، فإِنَّها تصوِّر لك عمليّة الزَّحزحة الَّتي تحاول تحريك شيء ثقيل عن مكانه، ولكن تحاول عبثاً، لأنَّه ثقيل بحيث لا يتحرَّك من مكانه، وإن تحرَّك بمحاولة مرهقة، فسرعان ما يتدَحرَج إلى حفرته الَّتي تركَّز فيها على أثر ثقله(3).

وهذه إنَّما هي دعوة حُرّة إلى متابعة ألفاظ القرآن الكريم تزيد الأديب بلاغة وحكمة، إذ يجد فيها كلّ ما هو بحاجة إليه، فهو المجال الأوسع والأكثر وقعاً في النُّفوس، يسمو بها الذّوق، ويتَّسع الخيال، وتتَّضح الصُّورة ويتمّ الإبلاغ، ويحسُن الأسلوب، وتنبعث الحكمة، وتخصب المعاني، إذ أن ألفاظ القرآن ذات نور سرمدي، وطعم أبَدي، وشعاع لا ينتهي إشراقه، وكلّ حرف فيه له شخصيَّته الَّتي تنتظم في ألفاظه لتؤدِّي علمها بأبدع عبارة، وأجلّ لفظة، وأشرف معنى.

فهي تصنع أجواء تتناسب والغرض الَّذي نزلت من أجله، أو العلم الَّذي تريد

ص: 466


1- العمل الأدبي: ص30.
2- سورة البقرة، الآية: 96.
3- العمل الأدبي: ص30.

إيصاله، أو النهي الَّذي تحرِّمه، أو المسلك الَّذي ترشد إليه، بتناسق وتناغم عجيبين لا تجدهما في غير القرآن الكريم، لأنَّه تنزيل من ربِّ العالمين، يدفع عن الإنسانيّة القلق والإضطراب، ويرفع عنها الذلّة والهَوان، ويكرمها غاية الإكرام: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(1)، فاستحقّ بذلك التَّكريم والخطاب الشريف واللَّفظ اللَّطيف، حتّى حين يستحق الشِّدّة والتَّعنيف، بعد أن دلَّه على منابع الهدى والخير، وحذَّره من مهاوي الشِّرك والضَّلال، فخاطبه بما يَعي، ويفهم، ويعلم.

ص: 467


1- سورة الإسراء، الآية: 70.

المبحث الثالث: من مؤلفات آية اللّه السيد الشهيد حسن الشيرازي

(1-2) الاقتصاد/ ج1و2 (الاقتصاد العالمي، الاقتصاد الإسلامي): 320 صفحة من الحجم الكبير، طبع عدة مرات، الطبعة الأولى في العراق 1379ه- / 1960م.

(3-5) خواطري عن القرآن/ ج1-3: الجزء الأول 527 صفحة، والجزء الثاني 563 صفحة، والجزء الثالث 594 صفحة، من الحجم الكبير، الطبعة الأولى: دار العلوم بيروت، لبنان، 1414ه- / 1994م.

(6) الأدب الموجّه: طبع بحجم كبير، الطبعة الأولى، في بيروت، لبنان، 1385ه- / 1965م.

(7) العمل الأدبي: 441 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الأولى، دار الصادق: بيروت، لبنان، 1387ه- / 1967م.

(8) حديث رمضان: 264 صفحة من الحجم الكبير، طبع عدة مرات، الطبعة الأولى دار الصادق ودار صادر، بيروت، لبنان 1390ه- / 1970م.

(9) التوجيه الديني: 264 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الأولى: المركز العلمي بيروت، لبنان، 1399ه- / 1979م (خطب دينية أذيعت من إذاعة بغداد - العراق منذ العام 1382ه- إلى 1385ه).

(10) إله الكون: الطبعة الأولى 1380ه- 1960م طبع بحجم متوسط في النجف الأشرف، العراق.

(11) رسول الحياة (صلی الله عليه وآله وسلم) : طبع أولاً في العراق بحجم صغير، وثانياً طبع ضمن

ص: 468

كتاب (التوجيه الديني).

(12) بحوث وقصائد عن الإسلام والولاء: 124 صفحة من الحجم المتوسط، الطبعة الأولى: 1405ه- (لجنة الاحتفالات التأبينية) دار الهدى، قم، ايران.

(13) بحوث وكلمات: 128 صفحة من الحجم المتوسط، الطبعة الأولى: 1402ه، اللجنة المشرفة على احتفالات الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد المؤلف، قم، ايران.

(14) الشعائر الحسينية: 160 صفحة من الحجم المتوسط، طبع عدة مرات، الطبعة الأولى في العراق.

(15) حكم متنوعة: طبع بالحجم المتوسط في قم المقدسة، إيران.

(16) الصراع المرير: 32 صفحة من الحجم المتوسط، طبع عدة مرات.

(17) طغاة العراق: طبع في قم المقدسة، إيران، بالحجم الصغير.

(18) عراق البعث: طبع في قم المقدسة، إيران، بالحجم المتوسط.

(19) ميلاد القيادة الإسلامية: طبع عدة مرات، ومنها: طبع ضمن كتاب (حضارة في رجل) ص 179-185 ط الخامسة 1408ه- 1988م، دار الشهيد، بيروت لبنان.

(20) من حديث الولاء: 112 صفحة من الحجم المتوسط، طبع في قم المقدسة، إيران.

(21) من حقول التأمل: طبع في قم المقدسة، إيران بالحجم المتوسط.

(22) منابع الكلمة: 73 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى 1405ه- / 1985م مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(23) الطغاة: 106 صفحات من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى 1405ه- / 1985م مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(24) الاشتقاق: 97 صفحة من الحجم المتوسط طبع عدة مرات، الطبعة

ص: 469

الأولى في النجف الأشرف، العراق.

(25) عاشوراء: 46 صفحة من الحجم المتوسط، الطبعة الأولى: 1403ه- دار القرآن الحكيم، قم المقدسة، إيران.

(26) النصير الأول للإسلام: طبع عدة مرات، ومنها عام 1382ه- في العراق (طبع ضمن كتاب المهرجان العالمي بمولد بطل الإسلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ).

(27) بطل الإسلام الخالد: طبع عدة مرات، ومنها عام 1400 ه- في قم المقدسة، إيران (طبع ضمن كتاب: مواقف بطولية).

(28) موقف الإسلام الفاصل: طبع عدة مرات، ومنها عام 1400ه- في قم المقدسة، إيران (طبع ضمن كتاب: مواقف بطولية).

(29) إنجازات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : 40 صفحة من الحجم المتوسط، طبع عدة مرات، الأولى: طبع في لبنان على حساب مجلة العرفان البيروتية، والطبعة الثانية عام 1418ه، لندن، انكلترا.

(30) جذور الشرق: 144 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى: 1405ه- / 1985م مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(31) رسالة الصاروخ: 40 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى: 1405ه- / 1985م مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(32) قلت إعمل: 40 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى: 1405ه- / 1985م مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(33) أنا عندي: 43 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى: 1405ه- / 1985م مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(34) مقدمات: 158 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الأولى: 1409ه- / 1989م دار العلوم، بيروت، لبنان.

ص: 470

(35) نهج البلاغة ميناء الإنسانية المعذّبة: 26 صفحة من الحجم المتوسط، الطبعة الأولى 1417ه، لندن، انكلترا.

(36) مسند الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : 83 صفحة من الحجم المتوسط (كتب له مقدمة في 15 صفحة مع تعليقات قيمة على الأحاديث الشريفة) الطبعة الأولى: 1401ه- / 1981م، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(37) قصة البدء: 63 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى: 1419ه- / 1999م مركز الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بيروت، لبنان

(38) أنت المظفر: 32 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى: 1419ه- / 1999م مركز الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بيروت، لبنان

(39) أنا وأنت: 32 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى: 1419ه- / 1999م مركز الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بيروت، لبنان

(40) يا طموحي: 95 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى: 1419ه- / 1999م مركز الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بيروت، لبنان

(41) كلمة اللّه: 633 صفحة من الحجم الكبير، طبع عدة مرات، الطبعة الأولى: 1386ه- / 1966م، بيروت، لبنان.

(42) كلمة الإسلام: 232 صفحة من الحجم الكبير، طبع عدة مرات، الطبعة الثانية: 1400ه- / 1980م، قم المقدسة، إيران.

(43) كلمة الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) : 464 صفحة من الحجم الكبير، طبع عدة مرات، الطبعة الأولى 1384ه- / 1964م، بيروت، لبنان.

(44-45) كلمة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ج1و2: مخطوط، وقد صودرت النسخة الأصلية للكتاب من قبل السلطات الإيرانية في مطار طهران الدولي (مهر آباد) عام 1995م، ولم ترجعها لحد الآن رغم المحاولات الكثيرة.

ص: 471

(46) كلمة فاطمة الزهراء (عليها السلام) : 344 صفحة من الحجم الكبير، طبع في لبنان والكويت، الطبعة الأولى: 1421ه- / 2000م، دار العلوم بيروت، لبنان.

(47) كلمة الإمام الحسن (عليه السلام) : 256 صفحة من الحجم الكبير، طبع عدة مرات، الطبعة الرابعة: 1403ه- / 1983م، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(48) كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) : 320 صفحة، طبع في الكويت ولبنان، الطبعة الأولى: 1420ه- / 1999م، ديوانية الإمام الشيرازي، الكويت.

(49) كلمة الإمام السجاد (عليه السلام) .

(50-51) كلمة الإمام الباقر (عليه السلام) ج1و2.

(52-55) كلمة الإمام الصادق (عليه السلام) ج1-4.

(56) كلمة الإمام الكاظم (عليه السلام) : 352 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الأولى: 1421ه- / 2000م، هيئة محمد الأمين (صلی الله عليه وآله وسلم) - الكويت.

(57) كلمة الإمام الرضا (عليه السلام) : 484 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الأولى: 1419ه- / 1999م، ديوانية الإمام الشيرازي، الكويت.

(58) كلمة الإمام الجواد (عليه السلام) : 160 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الأولى: 1419ه- / 1999م، مركز الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) بيروت، لبنان.

(59) كلمة الإمام الهادي (عليه السلام) .

(60) كلمة الإمام العسكري (عليه السلام) : 319 صفحة من الحجم الكبير، الطبعة الثانية: 1421ه- / 2000م، هيئة محمد الأمين (صلی الله عليه وآله وسلم) - الكويت.

(61) كلمة الإمام المهدي (عليه السلام) : 592 صفحة من الحجم الكبير، طبع عدة مرات في إيران ولبنان، الطبعة الثانية 1403ه- / 1983م، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان.

(62) كلمة السيدة زينب (عليها السلام) وربيبات الرسالة: 216 صفحة من الحجم الكبير، طبع في لبنان والكويت، الطبعة الأولى 1419ه- / 1998م، مؤسسة السيدة زينب (عليها السلام) ، بيروت، لبنان.

ص: 472

(63) كلمة الأنبياء والحكماء (عليهم السلام) : مطبوع.

(64-65): كلمة الأصحاب/ج1و2: مطبوع.

(66) الإسلام أمل الشعوب.

(67) لا سلام إلا في الإسلام.

(68-69) حياة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ج1 و2: مخطوط، وقد صودرت النسخة الأصلية من قبل طغاة العراق.

(70) لا يا حكام الحرمين: مخطوط، وقد صودرت النسخة الأصلية من قبل طغاة العراق.

(71) تقريرات بحث الخارج (في الحوزة العلمية الزينبية): مخطوط.

(72) ميلاد القرآن وثورة الإسلام: طبع ضمن كتاب (حضارة في رجل) الصفحة 185، 192، الطبعة الخامسة 1408ه- / 1988م، دار الشهيد بيروت، لبنان (وهو عنوان قصيدة ألقاها الشهيد في الكويت، بعد أيام من نكسة حزيران 1967م، بمناسبة ذكرى ميلاد منقذ البشرية رسول الإسلام محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) عام 1387ه).

(73) شعاع من الكعبة: 96 صفحة من الحجم الجيبي.

(74) تفجر البراكين: 64 صفحة من الحجم الجيبي.

(75) رعشات مذعورة: 48 صفحة من الحجم الجيبي.

(76) أين الإنسان: 31 صفحة من الحجم الجيبي.

(77) نحن والقراصنة: 32 صفحة من الحجم الجيبي.

(78) مناجاة: 32 صفحة من الحجم الجيبي، الطبعة الأولى 1420ه- / 1999م، ديوانية الإمام الشيرازي، الكويت.

(79) ديوان الشهيد الشيرازي (رحمه الله) : مخطوط.

(80) أطروحة من أجل انقاذ فلسطين / كتبها في كراس وقدمها إلى الرئيس العراقي في وقته عبد الرحمن عارف عام 1963 م، وذلك إتماماً للحجة.

ص: 473

ص: 474

فهرس المحتويات

مقدمة... 5

خاطرة المدخل... 7

القسم الأول: عظمة الشخصية وسمو الذات

المبحث الأول: مدخل الهوية... 13

ولادة في خلود الشهادة... 13

غذي الطفولة... 18

جهاد الشباب... 23

الى اللّه... 30

المبحث الثاني: عظمة الشخصية في شخصية السيد الشيرازي... 34

طرقة على بوابة الذات والآخر... 34

عظمة الشخصية... 35

الجاذبية... 39

النشاط العقلي... 43

المشاركة الوجدانية... 47

إيثار في سبيل الواجب المقدس... 49

غذاء الروح... 50

حسيني... 51

السائر الى اللّه... 54

أعمال العظماء وعيش الفقراء... 56

المؤسساتية... 59

روح الداعية... 66

ص: 475

فن التعامل... 67

خريطة العمل... 69

القسم الثاني: قراءة في المشروع السياسي والإصلاحي

المبحث الأول: قراءة وتحليل في ظروف وأحداث عصره... 77

فجيعة اليقظة ووعي الثورة... 77

آثار الاحتلال العثماني على العراق... 79

العثمانيون والشيعة... 83

آثار الاحتلال الانكليزي على العراق... 85

آثار ونتائج ثورة العشرين ودورها في تأسيس الدولة العراقية الحديثة... 86

دور المرجعية في ثورة العشرين... 88

موقف المحتلين من الشيعة... 94

موقف الدولة من المرجعية الشيعية... 97

أزمنة الرماد... 97

الملكية... 98

المد الشيوعي... 104

الانقلاب القومي... 107

الانقلاب البعثي... 111

المبحث الثاني: مدخل لفلسفة الرؤية السياسية... 120

الفكر السياسي... 120

كيف نقرأ الفكر السياسي للسيد حسن الشيرازي؟... 122

مدخل لفلسفة الرؤية السياسية... 126

الرؤية السياسية... 126

إشكالية التأسيس... 127

فلسفة الحياة عند السيد حسن الشيرازي... 129

الرؤية السياسية عند السيد حسن الشيرازي... 134

أبعاد الرؤية السياسية عند السيد حسن الشيرازي... 137

ص: 476

المبحث الثالث: المنهج التغييري عند السيد حسن الشيرازي... 141

المنهج القرآني في التغيير... 141

الإمام الحسين (عليه السلام) بوصلة الإصلاح والثورة... 144

أولا: المنهج الإصلاحي للسيد حسن الشيرازي... 147

آليات المنهج الإصلاحي... 147

1- تعميق الإيمان باللّه تعالى، وبالرسالة الإسلامية... 148

2- إبراز الأفق الحضاري للرسالة الإسلامية... 149

3- الحوار مع الآخر... 150

4- الأدب رسالة... 156

5- منبر القافية وساحة المشاعر... 158

6- الاهتمام بالشباب... 160

7- ترسيخ أسس الوحدة الإسلامية... 162

8- نقد العصبية القومية والعرقية والعصبيات الجاهلية... 167

9- ترسيخ المنهج التربوي الإسلامي... 170

10- الديناميكية والحركية... 176

ثانيا: المنهج الثوري... 178

الثورة الحسينية الركيزة والمنطلق... 180

أسس النهضة ومنطلقاتها... 184

التربية الثورية في مواقف الصمود... 189

دروس... 190

سلطان الشر وطبيعة المعركة... 190

مكمن القوة وسر الانتصار... 191

من صراع من اجل الحياة الى صراع من اجل الرسالة... 192

سر الثبات ودرع الصمود... 196

انتصار الإيمان على الموت... 198

تنوع أساليب وتعدد ادوار... 201

ص: 477

كيف تكون عطاءا خالصا؟!... 204

مواقف... 206

مع رأس الضلالة... 207

(أما واللّه لا أجيبهم الى شيء مما يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضب بدمي..) 208

عاطفة سامية... 210

التعذيب القاسي في سجن نظام صدام... 211

قوافي الثورة... 214

المبحث الرابع: القيادة المرجعية.. نظرية قرآنية... 228

القيادة المرجعية... 228

مبدأ حكومة الإسلام... 231

مبدأ الولاية الإلهية... 234

مبدأ طاعة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وطاعة الأئمة (عليهم السلام) ... 236

مبدأ مرجعية اللّه سبحانه والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ووجوب أتباعهم... 236

مبدأ إقامة الدين وتطبيق الشريعة... 238

مبدأ الثابت والمتغير من الإحكام التفصيلية والفرعية... 240

التنظيم المرجعي قراءة تحليلية مستقبلية... 241

سؤال النهضة... 241

اتجاهات الإسلام السياسي... 243

القيادة المرجعية مشروعا للنهوض... 246

مقدمات تاريخية... 246

حركة الفقهاء المراجع... 257

المبحث الخامس: الوحدة في فكر السيد الشيرازي... 267

المقدمة... 267

فلسفة الوحدة... 268

قراءة في واقع الأمة... 272

أبعاد الوحدة... 276

ص: 478

البعد الإنساني... 277

البعد العالمي... 281

البعد الديني... 282

البعد الإسلامي... 284

البعد الوطني... 287

المبحث السادس: مواقف وقضايا... 290

موقفه من جهاد الشعب الأفغاني للتحرر... 292

موقفه من الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان... 293

موقفه من قضية فلسطين... 293

موقفه من الثورة الإسلامية في إيران... 298

الثورة في العراق... 302

موقفه من المد الشيوعي... 303

موقفه من الحكم القومي... 309

موقفه من الحكم البعثي... 311

القسم الثالث: قراءة في المشروع الديني

المبحث الاول: مؤتمر الحج... 317

مؤتمر الحج عند الامام الشهيد... 317

الاهداف الدينية... 319

الاهداف العقائدية... 322

المبحث الثاني: البقيع الغرقد شاهد الجريمة ومسرح المأساة... 328

البقيع... 328

اسباب هدم قبور الائمة (عليهم السلام) ... 330

هدم البقيع... 338

الموقف من بناء البقيع... 339

المبحث الثالث: الحوزة الزينبية... 345

الحوزة الزينبية عظمة الانجاز في الزمن الصعب... 345

ص: 479

الحوزة الزينبية رسالة على مدى التاريخ... 346

أهداف التأسيس ومحددات المرحلة... 348

أهداف التأسيس... 348

محددات المرحلة... 352

الحوزة العلمية في النجف الاشرف وكربلاء المقدسة... 353

الحوزة العلمية في قم المقدسة... 353

الحوزة الزينبية قراءة للانجاز على المستوى التاريخي... 355

من بيت مؤجر في قرية منسية... 355

بين مدينتين... 355

بعد سنتين... 356

الحوزة الزينبية تتسع... 356

رؤية مستقبلية... 357

الإمام يودع الحوزة الزينبية... 358

الحوزة الزينبية قراءة للمنجز... 361

عقبات التأسيس ومصاعب البناء... 364

آفاق ممتدة ومنجزات عملاقة... 371

الحوزة العلميّة في لبنان... 371

تأسيس «مكتب جماعة العلماء» في لبنان... 374

مؤسسات وحسينيات في مختلف قُرى ومُدُن سوريا ولبنان... 376

إحياء المراقد في سوريا... 378

المبحث الرابع: الشعائر الحسينية تجسيد للقيم وإقامة للإصلاح... 384

الأمة والشعائر الحسينية... 384

الأمويون الجدد والشعائر الحسينية... 388

الاتجاه الأول: محاربة النهضة الحسينية... 388

الاتجاه الثاني: محاربة الشعائر الحسينية... 389

العباسيون الجدد والشعائر الحسينية... 391

ص: 480

السيد الشيرازي والشعائر الحسينية... 394

المبحث الخامس: العلويّون شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ... 398

اولاً: العلويون تاريخ الاضطهاد وجغرافية المحنة... 400

1- العلويون من منارات حضارية الى سكنة كهوف معزولة... 402

2- مجزرة الطاغية (سليم العثماني)... 405

3- لجوء العلويين إلى جبالهم وبدء عصر العزلة... 406

4- ثورة العلويين ضد الاستعمار الأجنبي الحديث... 408

5- مطاعن التاريخ وجروح الجغرافيا... 409

ثانياً: تواصل وحوار... 411

لماذا نجح السيد حسن الشيرازي بينما أخفق الآخرون؟!... 412

ومضات الغيض... 413

ثالثاً: بيان الهوية وفجر النهضة... 419

فجر النهضة... 420

بيان الهوية... 421

البيان التأريخي... 422

رابعاً: منجزات ونشاطات... 423

زيارات ميدانية... 423

فعاليات ونشاطات في الثقافة الاسلامية... 425

بناء مؤسسات ومساجد وحسينيات... 426

خامساً: العلويون في تركيا... 427

تاريخ المحنة في تركيا... 428

الأول: تاريخ المحنة... 428

الثاني: فسحة الدولة العلمانية... 428

الثالث: القلق من العثمانيين الجدد... 429

الإمام الشهيد وموقفه من العلويين في تركيا... 431

المبحث السادس: نحو تأصيل لاقتصاد إسلامي... 433

ص: 481

القسم الرابع: من مؤلفات السيد الشهيد

المبحث الاول: مؤلفاته... 443

المبحث الثاني: قراءات موجزة لبعض مؤلفاته... 446

خواطري عن القرآن... 450

الاقتصاد... 454

العمل الأدبي... 462

المبحث الثالث: من مؤلفات آية اللّه السيد الشهيد حسن الشيرازي... 468

الفهرست... 475

ص: 482

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.