ابتلاء الانبیاء علیهم السلام

هوية الکتاب

ابتلاء الانبياء علیهم السلام

الناشر:...مؤسسة علوم نهج البلاغة.

الطبعة:...الأولى.

عدد النسخ:...1000 نسخة.

التصميم:..احمد عباس مهدي عباس.

التنضيد والاخراج الفني:...علي جاسم محمد علي.

ص: 1

اشارة

الناشر:...مؤسسة علوم نهج البلاغة.

الطبعة:...الأولى.

عدد النسخ:...1000 نسخة.

التصميم:..احمد عباس مهدي عباس.

التنضيد والاخراج الفني:...علي جاسم محمد علي.

ص: 2

سلسلة الأنبياء في نهج البلاغة (10) ابتلاء الأنبياء علیهم السلام تأليف محمد حمزة الخفاجي

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1437 ه - 2015 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام على الأكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع:

www.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «قَدِ اِخْتَبَرَهُمُ اَللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ اِبْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ اِمْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَحَّصَهُمْ بِالْمَکَارِهِ» نهج البلاغة: الخطبة القاصعة، ج 2، ص 317.

ص: 5

ص: 6

مقدمة المؤسسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلق الله وآله الطيبين الأخيار.

وبعد:

فهذه سلسلة خاصة بما ورد في كتاب نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حول بعض الأنبياء عليهم السلام وقد تناول فيها الإمام جوانب مختلفة من حياتهم وما ارتبط بهم ابتداءً من آدم عليه السلام حيث بيّن الإمام علي عليه السلام العلة في خلقه وما رافق هذا الأمر من ابتلاء للملائكة وغير ذلك مما ارتبط بهذه الشخصية.

والحديث في نهج البلاغة عن الأنبياء عليهم السلام لم یکن شاملاً لجميع الأنبياء وإنما يكتفي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بذکر بعضاً فهم،

ص: 7

وهم (آدم وموسى وعيسى وداود ويحيي وسليمان والحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أخذ الحيز الأكبر من البيان والتعريف في كلام أمير المؤمنين عليه السلام.

ولذا:

وجدت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تضع بين يدي القارئ الكريم هذا البيان الوارد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الشخصيات الربانية ضمن هذه السلسلة مع بيان موجز لما أورده الشراح لكتاب نهج البلاغة فضلاً عن رفد هذه الألفاظ الشريفة بما يناسبها من روایات شريفة نبوية عن آل البيت عليهم السلام بغية الوصول إلى معنی واضح يأخذ بأيدينا ويد القارئ الكريم إلى ما يحب الله ويرضى.

السيد نبيل الحسني مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وإحسان منن والاها، جم عن الإحصاء عددها، ونأى عن المجازاة أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها»(1)، والصلاة والسلام على النبي المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرین.

وبعد...

فقد جعل الله الدنيا دار اختبار وامتحان للبشر، فالرخاء فيها امتحان وكذلك البلاء، فمن شكر عند الرخاء نجح ومن صبر عند البلاء فلح،

ص: 9


1- من خطبة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام (الاحتجاج، للشيخ الطبرسي، ج 1، ص 132؛ بلاغات النساء، لابن طيفور، ص 15)

وإن الله حينما يبتلى عباده فهو يبتليهم لأسباب ومنها رفع درجاتهم، وهذا البلاء لا يكون إلا للأنبياء والأولياء والمؤمنين، فإن العلة من ابتلاء الرسل عليهم السلام هي لرفع منازلهم الدنيوية والأخروية.

فالله جل وعلا حينما يبتلي انبياءه فلا شك أن في ذلك ارتفاعاً لدرجاتهم كون الأنبياء معصومين من الأخطاء وهذا هو اعتقادنا بالأنبياء، فكلما زاد ايمان الإنسان زاد بلاءه، إذاً فالأنبياء هم أشد الناس ابتلاءً وكذلك الحجج الأطهار كونهم أعبد الناس وأزهدهم وأقربهم إلى الله، الله أراد لأنبيائه الدرجات الرفيعة والمنزلة القريبة، ذلك لمعرفته بأنهم قادرين على تحمل الأخطار والمخاوف وجميع الابتلاءات من أجل رضاه.

عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

ص: 10

«إن لله عز وجل عباداً في الأرض من خالص عباده ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلا صرفها عنهم إلى غيرهم ولا بلية إلا صرفها إليهم»(1).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله عند الله الرضا ومن سخط البلاء فله عند الله السخط»(2).

فحينما بعث الله لنا رسله فهو يعلم أن يحبون المعروف وينكرون المنكر ويعلم أنهم معصومون من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها لذلك خصهم بالرسالة وابتلاهم بجميع الابتلاءات، فما وجد منهم إلا الرضا له والتسليم لأمره.

وإن الحكمة من ابتلاء الأنبياء عليهم السلام

ص: 11


1- الكافي، الكليني، ج 2، ص 253، ح 5
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 253، ح 8

لِيُرِي الله عباده أنه سبحانه امتحن أحب خلقه وابتلاهم بأصعب الأمور لكي يلتجئوا إليه في كل الملمات ولا ينشغلوا عنه، ليعرف الناس أن الله حينما يبتلى عبده إنما هو تطهیر له من الذنوب أو زيادة له في القربي من الله.

محمد حمزة الخفاجي

ص: 12

المسألة الأولى

اختبار الأنبياء بالجوع

قوله عليه السلام: «قَدِ اِختَبَرَهُم اللهُ بِالمَخمَصَةِ»

والمراد بالمخمصة: الجوع، فإن أغلب الأنبياء عليهم السلام كانوا فقراء، وحكمة الله اقتضت أن يكون أنبياءه وأولياءه فقراء ليكونوا أسوة للعباد فيراهم الفقراء على هذا الحال فيتأسوا بهم ولا يتأسفوا على ما زوي عنهم من طيبات الدنيا وزينتها.

قال الإمام عليه السلام لعاصم بن زیاد:

«.. إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَی أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ یُقَدِّرُوا أَنْفُسِهِمْ

ص: 13

بِضَعَفَةِ النَّاسِ، کَیْلاَ یَتَبَیَّغَ بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ..»(1).

إذاً فالعلة التي من أجلها جعل الأنبياء والحجج فقراء، هي مواساةً للفقراء والمحرومين والمستضعفين کي يشاركونهم في معيشتهم ليزداد الفقراء إيمانا ولا يكون الفقر سبباً لكفرهم وبيان أن الله حينما يبتلي أحداً من عباده بالجوع لا لهوانه عليه ولكن ليزداد أجراً، فإن مائدة الدنيا قليلة نسبة الى لمائدة الآخرة قال عليه السلام:

«..فَإِنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَی مَائِدَهٍ شِبَعُهَا قَصِیرٌ، وَجُوعُهَا طَوِیلٌ»(2).

روي في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«دفن ما بين الركن اليماني والحجر الأسود سبعون نبيا

ص: 14


1- نهج البلاغة، الخطبة، 208، ج 2، ص 351
2- المصدر نفسه، ج 2، ص 344

أماتهم الله جوعا وضرا»(1).

ومن كتاب له لابن حنيف حينما سمع أنه دُعِيَ إلى وليمة فقال له عليه السلام:

«.. أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِی بِأَنْ یقَالَ، هذَا أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ، وَلَا أُشَارِکُهُمْ فِی مَکَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَکُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِی جُشُوبَةِ الْعَیشِ، فَمَا خُلِقْتُ لِیشْغَلَنِی أَکْلُ الطَّیبَاتِ، کَالْبَهِیمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَکْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا یرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَکَ سُدًی أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِیقَ الْمَتَاهَةِ وَکَأَنِّی بِقَائِلِکُمْ یقُولُ، إِذَا کَانَ هذَا قُوتُ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ، فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ، وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّیةَ أَصْلَبُ عُوداً، وَالرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً، وَالنَّابِتَاتِ العِذْیةَ أَقْوَی وَقُوداً وَأَبْطَأُ خُمُوداً»(2).

ومن كلام له عليه السلام يصف فيه حال

ص: 15


1- الكافي، ج 4، ص 214، ح 10
2- نهج البلاغة، ج 3، كتاب 45، ص 449

موسى وهارون حينما دخلا عليهما السلام إلى فرعون فقال فرعون للملأ الذي كان معه:

«ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل»(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه متحدثاً عن نبي الله عيسى عليه السلام:

«وكان أدامه الجوع»(2).

فالفقر شعار الأنبياء والله لا يريد لأنبيائه وأوليائه شيئاً من هذه الدنيا سوى فعل الخيرات لينالوا في الآخرة أعلى الدرجات، قال تعالى:

«وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»(3).

وقال عليه السلام:

ص: 16


1- نهج البلاغه، خطبة القاصعة، ج 2، ص 318
2- المصدر نفسه، الخطبة 159، ج 2، ص 252
3- المطففين: 26

«وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النَّعَمِ، فَقالُوا «نَحْن أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِینَ»(1) (2).

قال تعالى:

«أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ»(3).

روي عن علي بن حديد رفعه قال: قام عیسی ابن مريم خطيباً فقال:

«يا بني اسرائيل! لا تأكلوا حتى تجوعوا، واذا جعتم فكلوا، ولا تشبعوا، فإنكم اذا شبعتم غلظت رقابكم، وسمنت جنوبكم ونسيتم ربكم»(4).

ص: 17


1- سبأ: 35
2- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ج 2، ص 322
3- المؤمنون: 55 - 56
4- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 2، ص 246، ح 10

فالترف والطيب من العيش كثيراً ما ينسیان الآخرة وينسيان الإنسان شعوره بالفقراء، أما الجوع فيذكر الإنسان بأن هنالك أناساً فقراء ومحرومين، فالشعور بالآخرين يعطي انطباعاً رحیماً في قلب الإنسان ويكون قريباً من الفقراء وبعيداً عن التكبر وهذا ما أراده الله لأنبيائه.

وإن الله حينما ابتلى أنبياءه بالجوع لكي يختبرهم فوجدهم صابرین قانعين بكل ما أتاهم الله سواء كانوا في حال عسر أو يسر، قال عليه السلام:

«ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذي»(1).

ومن مناجاة الله لموسى قال تعالى:

«يا موسى إرض بكسرة من شعير تسد بها جوعتك،

ص: 18


1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ج 2، ص 319

وبخرقة تواري بها عورتك، واصبر على المصائب، وإذا رأيت الدنيا مقبلة عليك، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، عقوبة عجلت في الدنيا، وإذا رأيت الدنيا مدبرة عنك، فقل: مرحبا بشعار الصالحين»(1).

وقد ذُكر أن النبي سليمان عليه السلام رغم المُلك الذي أعطاه الله إياه إلا أنه كان يأكل خبز الشعير، قال أبو الحسن عليه السلام:

«كان ملك سليمان ما بين الشامات إلى بلاد إصطخر وكان عليه السلام يطعم أضيافة اللحم بالحواري ويطعم عياله الخشكار وياكل هو الشعير غير المسحول»(2).

فالأنبياء عليهم السلام كانوا يأكلون خبز الشعير لا لأنهم فقراء وإنما زهدهم بالدنيا ممتزج معهم فلا يريدون أن يأخذوا منها إلا بقدر

ص: 19


1- مستدرك سفينة البحار، ج 2، ص 133
2- النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، نعمة الله الجزائري، ص 360

الضرورة ليدخروا لأنفسهم في الآخرة وذلك هو النعيم الأبدي، وإنما طلب سليمان ذلك الملك لإذلال الأغنياء والجبابرة الذين يحبون السلطة والتكبر والتجبر على الناس فأذلهم بملکه وهذه كانت غايته ومراده.

قال رسول صلی الله عليه وآله:

«أبغوني في الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم»(1).

وعنه صلى الله عليه وآله:

«إنما ينصر الله هذه الأمة بضعیفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم»(2).

* * * *

ص: 20


1- میزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1704
2- المصدر السابق نفسه

المسألة الثانية

اختبار الأنبياء بالمجهدة

قوله عليه السلام: «وَإِبتَلاَهُم بِالمَجهَدَةِ»

المجهدة: يعني المشقة، فالجهد الذي بذله الرسل لإعلاء كلمة التوحيد والمعاناة التي عانوها بسبب المخالفين والمتكبرين لا يقدر على تحملها إلا الأنبياء والصديقون، فإن الله ابتلى أنبياءه بجهد الرسالة السماوية وثقلها ومشقة تبليغها.

والناس أصناف؛ فيهم العالم وفيهم الجاهل وفيهم الهمج الرعاع فهؤلاء لا يفقهون شيئا، والأنبياء واجهوا في تبليغ رسالاتهم اصنافاً شتی من الناس، قال تعالى:

ص: 21

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ»(1).

وقوله تعالی:

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ

ص: 22


1- الأعراف: 59 - 64

سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ»(1).

روي في البحار: (إن نوحاً عليه السلام كان أول نبي نبّأه الله بعد إدريس، وكان إلى الأدمة ما هو، دقيق الوجه في رأسه طول، عظيم العينين، دقيق الساقين، طويلاً جسيماً، دعا قومه إلى الله حتی انقرضت ثلاثة قرون منهم كل قرن ثلاث مائة سنة يدعوهم سراً وجهراً فلا يزدادون إلا طغياناً، ولا يأتي منهم قرن إلا كان أعتى على الله من الذين قبلهم، وكان الرجل منهم يأتي بابنه وهو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول: يا بني إن بقيت بعدي فلا تطيعنّ هذا المجنون.

وكانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتی يسيل

ص: 23


1- العنكبوت: 14

مسامعه دماً وحتى لا يعقل شيئا مما يصنع به فيحمل فيرمي في بيت أو على باب داره مغشيا عليه، فأوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فعندها أقبل على الدعاء عليهم ولم یکن دعا عليهم قبل ذلك، فقال:

«رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ» إلى آخر السورة، فأعقم الله أصلاب الرجال وأرحام النساء فلبثوا أربعين سنة لا يولد لهم ولد، وقحطوا في تلك الأربعين سنة حتى هلكت أموالهم وأصابهم الجهد والبلاء، ثم قال لهم نوح: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا»

الآيات، فأعذر إليهم وأنذر فلم يزدادوا إلا كفراً، فلما يئس منهم أقصر عن كلامهم ودعائهم فلم يؤمنوا وقالوا: "لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا" الآية

ص: 24

يعنون آلهتهم، حتى أغرقهم الله وآلهتهم التي كانوا يعبدونها..)(1).

فكان من الصعب هداية هذه الملل المتفرقة عن الحق المجتمعة على الباطل إلا بالجهد والتعب الذي قد يطول أياما وليالي بل يطول سنيناً حتى تستیئس الرسل من تکذیب المعاندين فينصر الله رسله ويتمم نوره ولو كره المشركون.

جاء في كتاب عيون أخبار الرضا من أسئلة المأمون للإمام الرضا عليه السلام قال المأمون: (لله درك أبا الحسن أخبرني عن قول الله عز وجل: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا»، قال الرضا عليه السلام:

يقول الله عز وجل: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» من

ص: 25


1- بحار الأنوار، المجلسي، ج 11، ص 299

قوم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن)(1).

لذا كانت مشقة التبليغ من أصعب المشاق، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصعب الامور کون الناس في ضلالة فمن الصعب هدايتهم، فكل نبي عانی ما عاني من أمته حتى نصره الله.

* * * *

ص: 26


1- عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 179

المسألة الثالثة

اختبار الانبياء بالمخاوف

قوله عليه السلام "وَاِمتحَنَّهُم بِالمَخَاوِفِ"

إن مخاوف الأنبياء عليهم السلام كانت على دين الله من الأعداء والمخالفين لكي لا يضل الناس عن طريق الحق، فلا يجوز نسبة الخوف المذموم الى الأنبياء.

فالخوف نوعان خوف ممدوح وخوف مذموم، أما الخوف المذموم الذي يؤدي الى الجبن فهو بعيد عن الأنبياء عليهم السلام ويؤكد ذلك قوله تعالی:

ص: 27

«إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ»(1).

أما الخوف الممدوح فهو الخوف الذي يحترز به الانسان عن المخاطر، فكانت الرسل تتحذر من الأعداء، فحينما قضى موسى على ذلك الفرعوني داد وأصبح خائفا يترقب، قال تعالى:

«فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(2).

فالأنبياء حينما يتحذرون من الأعداء لا خوفاً على أنفسهم بل هنالك رسالة سماوية في أعناقهم عليهم أن يؤدوها بالشكل الصحيح فكل نبي له دور، فخوف الأنبياء الوحيد هو الحفاظ على الدين من الضياع بسبب أهل الضلالة والبدع لأن

ص: 28


1- النمل: 10
2- القصص: 21

الفراعنة والمتجبرين يرغمون الناس في طاعتهم واتباع ملتهم وإن كانت فاسدة فإن لم يفعلوا يقتلونهم، قال تعالى:

وإن«إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا»(1).

إذاً فإن خوفهم عليهم السلام كله لأجل الدين كذلك على الضعفاء والمساكين أن لا يضللهم الطغاة أو يجبروهم بأساليب مخوفة كالصلب والقتل على أن يتبعوا ملتهم، فهذه مخاوفهم التي امتحنهم الله فيها وليس خوفهم لأنفسهم، فلو خيرت الأنبياء أن يبقوا في الدنيا أو يلاقوا الله عز وجل لاختاروا لقاء الله بأي طريقة كانت.

ومن كلام له عليه السلام قال:

ص: 29


1- الكهف: 20

«نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فی الْبَلاءِ کَالّذِی نَزَلَتْ فی الرّخاءِ وَ لَوْ لا الأجَلُ الّذی کَتَبَ اللّهُ عَلَیْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أرْواحُهُمْ فی أجْسادِهِمْ»(1).

وخوف الأنبياء عليهم السلام من أن لا يؤدوا المهمة التي كلفوا بها أو يقصروا في تبليغهم للرسالة السماوية كما حدث للنبي يونس عليه السلام، قال تعالى:

«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ»(2).

جاء في تفسير القمي (كصاحب الحوت) يعني

ص: 30


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192، ج 2، ص 329
2- القلم: 48 - 50

یونس عليه السلام لما دعا على قومه ثم ذهب مغاضباً لله، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: «إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ» أي مغموم)(1).

وفي رواية اخرى لأبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام ونادي في الظلمات ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر أن لا إله إلا أنت سبحانك (تبت إليك) إني كنت من الظالمين، فاستجاب الله له فأخرجه الحوت إلى الساحل ثم قذفه فألقاه بالساحل وأنبت الله عليه شجرة من يقطين»(2).

فكان خوف النبي يونس عليه السلام وهمه ها الوحيد هو رضا الله رغم أنه في ظلمات ثلاث وأن

ص: 31


1- تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي، ج 2، ص 383
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 319

لا تزول منزلته الرفيعة عند الله بسبب غضبه على قومه.

وكذلك ما حدث للنبي آدم عليه السلام حينما أكل من الشجرة، مجرد أن عاتبه الله ندم وطلب التوبة وسأل الله أن يعيده الى مرتبته وكان من البكّائيين الخمس فتاب الله عليه واصطفاه وجعله خليفة في الأرض.

فالأنبياء لا يخافون على شيء من حطام الدنيا وإنما خوفهم على دينهم وخوفهم على منازلهم ومراتبهم التي رتبهم الله فيها، وهنالك كثير من المخاوف والمواقف التي امتحن الله سبحانه بها أنبياءه ومنها ما حدث للنبي إبراهيم عليه السلام حينما أرادوا أن يرموه بالمنجنيق ويحرقوه بالنار، فأي شيء أصعب وأخوف من النار التي جعلها الله

ص: 32

عذاباً للعاصين إلا إن النبي ابراهيم عليه السلام لم يكترث لهذا الموقف وكان مفوضاً أمره لله تعالی أجمل التفويض، ففي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام عن قصة إبراهيم ورميه بالمنجنيق، قال:

«.. فحبس إبراهيم وجمع له الحطب حتى إذا كان اليوم الذي ألقى فيه نمرود إبراهيم في النار برز نمرود وجنوده وقد كان بُني لنمرود بناء لينظر منه إلى إبراهيم كيف تأخذه النار، فجاء ابلیس واتخذ الهم المنجنيق لأنه لم يقدر أحد أن يَقرب من تلك النار عن غلوه سهم وكان الطائر من مسيرة فرسخ يرجع عنها أن يتقارب من النار وكان الطائر إذا مر في الهواء يحترق، فوضع إبراهيم عليه السلام في المنجنيق وجاء أبوه فلطمه لطمة وقال له ارجع عما

ص: 33

أنت عليه.

وأنزل الرب ملائكته إلى السماء الدنيا ولم يبق شيء إلا طلب إلى ربه وقالت الأرض يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره فيحرق وقالت الملائكة يا رب خليلك إبراهيم يحرق، فقال الله عز وجل:

أما إنه إن دعاني كفته، وقال جبرئیل: یا رب خليلك إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره سلطت عليه عدوه يحرقه بالنار فقال أسكت إنما يقول هذا عبد مثلك يخاف الفوت هو عبدي آخذه إذا شئت، فإن دعاني أجبته فدعا إبراهيم عليه السلام ربه بسورة الإخلاص «یا الله یا واحد یا أحد یا صمد یا من لم يلد ولم يولد ولم یکن له كفواً أحد نجني من النار برحمتك» فالتقى معه

ص: 34

جبرئيل في الهواء وقد وضع في المنجنيق، فقال: يا إبراهيم هل لك إلي من حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى رب العالمين فنعم، فدفع إليه خاتماً عليه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله ألجأت ظهري إلى الله أسندت أمري إلى الله وفوضت أمري إلى الله، فأوحى الله إلى النار كوني برداً فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتى قال وسلاماً على إبراهيم وانحط جبرئیل وجلس معه يحدثه في النار ونظر إليه نمرود، فقال من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم، فقال عظيم من عظماء أصحاب نمرود إني عزمت على النار أن لا تحرقه، فخرج عمود من النار نحو الرجل فأحرقته فآمن له لوط وخرج مهاجراً إلى الشام ونظر نمرود إلى إبراهيم في روضة خضراء في النار ومعه شيخ يحدثه

ص: 35

فقال لآزر ما أكرم ابنك على ربه، قال وكان الوزغ ينفخ في نار إبراهيم وكان الضفدع يذهب بالماء ليطفئ به النار قال ولما قال الله للنار کوني برداً وسلاماً لم تعمل النار في الدنيا ثلاثة أيام ثم قال الله عز وجل:

«وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ»(1).

وروي في مجمع البيان، قال ابن عمر ومجاهد: إن الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار، رجل من أكراد فارس، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

وقال وهب: إنما قاله نمرود، وفي الكلام حذف. قال السدي: فجمعوا الحطب حتى إن الرجل منهم ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله فيشتری به

ص: 36


1- تفسير القمي، ج 2، ص 72 - 73

حطب، وحتى إن المرأة لتغزل فتشتري به حطبا، حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار، لم يدروا كيف يلقونه، فجاء إبليس فدلهم على المنجنيق، وهو أول منجنيق صُنِع، فوضعوه فيها ثم رموه، «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ»(1).

ومن تلك المخاوف ما حدث ليوسف عليه السلام حينما عزم اخوة يوسف أن يرموه في غیابت الجب، فهذه المحنه التي من الصعب أن تطمئن نفس الإنسان العادي فيها ويكون قلبه متوجها الى الله، فالإخوان استحوذ عليهم الشيطان وكذلك ظلام الجب فكان خوفه أن لا تحل على إخوته نقمة الله وغضبه ويقتلوه فيدخلون النار

ص: 37


1- مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 7، ص 98

بسببه.

جاء في البحار قيل: (كانت أرضهم مذئبة.

وكانت السباع ضارية في ذلك الوقت؛ وقيل إن يعقوب عليه السلام رأى في منامه كأن يوسف قد شد عليه عشرة أذؤب ليقتلوه، وإذا ذئب منها يحمي عنه، فكأن الأرض انشقت فدخل فيها يوسف فلم يخرج إلا بعد ثلاثة أيام، فمن ثم قال هذا، فلقنهم العلة وكانوا لا يدرون؛ وروي عن النبی صلی الله عليه وآله أنه قال: لا تلقنوا الكذب فتكذبوا، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الإنسان حتى لقنهم أبوهم)(1).

وقال الحسن: (جعل يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في البلاء إلى أن وصل إليه

ص: 38


1- بحار الأنوار، ج 12، ص 220

أبوه ثمانين سنة، ولبث بعد الاجتماع ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة؛ وقيل: كان له يوم القي في الجب عشر سنين؛ وقيل: اثنا عشر؛ وقيل: سبع؛ وقيل: تسع، وجمع بينه وبين أبيه وهو ابن أربعين سنة)(1).

وقال علي بن إبراهيم: فقال لاوي: ألقوه في هذا الحب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين، فأدنوه من رأس الجب فقالوا له: انزع قميصك، فبكى فقال: يا إخوتي تجردوني؟! فسل واحد منهم عليه السكين فقال: لئن لم تنزعه لأقتلنك، فنزعه فدلوه في اليم وتنحوا عنه، فقال يوسف في الجب: "يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إرحم ضعفي و قلة حيلتي وصغري" فنزلت سيارة من

ص: 39


1- المصدر نفسه، ج 2، ص 221

أهل مصر، فبعثوا رجلا ليستقي لهم الماء من الجب فلما أدلى الدلو على يوسف تشبت بالدلو فجروه فنظروا إلى غلام من أحسن الناس وجها فعدوا إلى صاحبهم فقالوا يا بشرى هذا غلام فنخرجه ونبيعه ونجعله بضاعة لنا فبلغ إخوته فجاؤوا وقالوا هذا عبد لنا، ثم قالوا ليوسف لئن لم تقر بالعبودية لنقتلنّك، فقالت السيارة ليوسف ما تقول؟ قال: نعم أنا عبدهم، فقالت السيارة أفتبيعونه منا؟ قالوا نعم فباعوه منهم على أن يحملوه إلى مصر (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين)(1).

* * * *

ص: 40


1- تفسير القمي، القمي، ج 1، 341

المسألة الرابعة:

التمحيص بالمكاره

قال الإمام عليه السلام: «وَمَحَّصَهُم بِالمَكَارِهِ»

محَّصهم: أي طهّرهم وأخرج الجوهر المكنون في صدورهم، فكلما زاد ابتلاؤهم زاد توجههم لله عز وجل وفوضوا أمرهم لخالقهم، ففي قصة النبي أيوب عليه السلام ومرضه وما جرى له من ابتلاء عظیم بیان لجميع الخلق أن الله حينما اختارهم إنما هو عالم بأنهم أفضل خلقه وأطهرهم وأكثرهم تحملاً لابتلاءاته، عن أبي عبد الله عليه السلام في

ص: 41

البلاء وما يخص الله عز وجل به المؤمن، فقال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: من أشد الناس بلاء في الدنيا؟ فقال صلى الله عليه و آله وسلم:

«النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله فين صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه»(1).

روي في تفسير القمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن بلية أيوب عليه السلام التي ابتلي بها في الدنيا لأي علة كانت؟

قال لنعمة أنعم الله عليه بها في الدنيا وأدی شکرها وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس من دون العرش فلما صعد ورأى شكر نعمة أيوب

ص: 42


1- الكافي، ج 2، ص 252، ح 2

حسده إبليس وقال يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبداً فسلطني على دنياه حتى تعلم أنه لا يؤدي إليك شكر نعمة ابدا، فقيل له قد سلطتك على ماله وولده، قال فانحدر إبليس فلم يُبقِ له مالا وولدا إلا أعطبه فازداد أيوب شكرا لله وحمداً، قال فسلطني على زرعه، قال قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب لله شكراً وحمداً، فقال یا رب سلطني على غنمه، فسلطه على غنمه فأهلكها فازداد أيوب لله شكرا وحمدا وقال يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينه فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه، فبقي في ذلك دهراً طويلاً يحمد الله

ص: 43

ويشكره حتى وقع في بدنه الدود وكانت تخرج من بدنه فيردها ويقول لها ارجعي إلى موضعك الذي خلقك الله منه، ونتن حتى أخرجه أهل القرية من القرية وألقوه في المزبلة خارج القرية، وكانت امرأته رحيمة بنت يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين تتصدق من الناس وتأتيه بما تجده، قال فلما طال عليه البلاء ورأى إبليس صبره أتی أصحابا له کانوا رهبانا في الجبال وقال لهم: مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى ونسأله عن بلیته فركبوا بغالا شهبا وجاؤوا فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه فقرنوا بعضا إلى بعض ثم مشوا إليه وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه، فقالوا: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعل الله كان يهلكنا إذا سألناه وما نرى ابتلاءك

ص: 44

بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره؟ فقال أيوب: وعزة ربي إنه ليعلم أني ما أكلت طعاما إلا ويتيم أو ضيف يأكل معي وما عرض لي أمران كلاهما طاعة لله إلا أخذت بأشدهما على بدني، فقال الشاب سوأة لكم عمدتم إلى نبي الله فعيرتموه حتى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها، فقال أيوب: يا رب لو جلست مجلس الحكم منك لأدليت بحجتي فبعث الله إليه غمامة فقال: أيوب أدلني بحجتك فقد أقعدتك مقعد الحكم وها أنا ذا قريب ولم أزل، فقال یا رب إنك لتعلم إنه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدهما على نفسي، ألم أحمدك ألم أشكرك ألم أسبحك؟ قال: فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان يا أيوب من صيرك تعبد

ص: 45

الله والناس عنه غافلون؟ وتحمده وتسبحه وتكبره والناس عنه غافلون؟ أتمنّ على الله بما لله فيه المنّة عليك؟ قال: فأخذ أيوب التراب فوضعه في فيه ثم قال لك العتبی یا رب أنت فعلت ذلك بي، فأنزل الله علیه ملکا فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان وأطرأ وأنبت الله عليه روضة خضراء ورد عليه أهله وماله وولده وزرعه وقعد معه الملك يحدثه ويؤنسه»(1).

وكذلك ما حدث لنبيي الله إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام من عظيم البلاء فحينما رأى ابراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح اسماعیل، قال تعالی:

«فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي

ص: 46


1- تفسير القمي، ج 2، ص 239 - 241

الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»(1).

حدثنا علي بن الحسين بن علي بن الفضال عن أبيه: قال: سألت أبا الحسن علی بن موسی الرضا عليهما السلام عن معنى قول النبي صلى الله عليه واله: انا ابن الذبيحين؟ قال: يعني إسماعیل بن إبراهيم الخليل عليه السلام وعبد الله بن عبد المطلب، أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» وهو لما عمل مثل عمله «قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ»

ص: 47


1- الصافات: 102

ولم يقل: يا أبت افعل ما رأيت «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح يأكل في سواد ويشرب في سواد وينظر في سواد ويمشي في سواد ويبول في سواد ويبعر في سواد وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاما وما خرج من رحم أنثى وإنما قال الله عز وجل: «كن فيكون» فكان ليفدي به إسماعيل فكل ما يذبح في منى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة فهذا أحد الذبيحين)(1).

جاء في تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: «وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى

ص: 48


1- عیون أخبار الرضا، ج 1، ص 189

اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(1).

فإن قوم موسى استعبدهم آل فرعون وقالوا لو كان لهؤلاء على الله كرامة كما يقولون ما سلطنا عليهم، فقال موسى لقومه يا قوم إن کنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ان کنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجّنا برحمتك من القوم الكافرين)(2).

وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل الله تبارك وتعالى في ليلة المعراج أي الأعمال أفضل: (.. يا أحمد وجوه الزاهدين مصفرة من تعب الليل وصوم النهار وألسنتهم کلال إلا من ذكر الله تعالی قلوبهم في صدورهم مطعونة من كثرة ما يخالفون

ص: 49


1- يونس: 84 - 85
2- تفسير القمي، ج 1، ص 314

أهواءهم، قد ضمروا أنفسهم من كثرة صمتهم، قد أعطوا المجهود من أنفسهم لا من خوف نار ولا من شوق إلى الجنة ولكن ينظرون في ملكوت و دوره السماوات والأرض كما ينظرون إلى من فوقها فيعلمون أن الله سبحانه أهل للعبادة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يعطى في أمتي مثل هذا؟

قال: يا أحمد هذه درجة الأنبياء والصديقين من أمتك وأمة غيرك وأقوام من الشهداء، قال: يا رب أي الزهّاد أكثر أزهّاد أمتي أم بني إسرائيل؟ قال: إن زهاد بني إسرائيل في زهاد أمتك كشعرة سوداء في بقرة بيضاء فقال: يا رب وكيف ذلك وعدد بني إسرائيل أكثر؟ قال: لأنهم شكوا بعد اليقين وجحدوا بعد الإقرار، قال النبي صلى الله

ص: 50

عليه وآله وسلم: فحمدت الله كثيرا وشكرته ودعوت لهم بالحفظ والرحمة وسائر الخيرات، وقلت: اللهم احفظهم وارحمهم واحفظ عليهم دينهم الذي ارتضيت لهم، اللهم ارزقهم إيمان المؤمنين الذي ليس بعده شك وورعا ليس بعده رغبة، وخوفا ليس بعده غفلة وعلما ليس بعده جهل، وعقلا ليس بعده حمق، وقربا ليس بعده بعد، وخشوعا ليس بعده ضجر، وحلما ليس بعده عجلة واملأ قلوبهم حياء منك حتى يستحيوا منك كل وقت، وبصرهم بآفات الدنيا وآفات أنفسهم ووساوس الشيطان فإنك تعلم ما في نفسي وأنت علام الغيوب)(1).

وعليه:

ص: 51


1- الوافي، الفيض الكاشاني، ج 26، ص 146

فإن الله تعالى قد ابتلى أنبياءه ورسله عليهم السلام بأنواع البلاء كالجوع والمشقة والخوف من التقصير في أداء ما كلفوا به، أي: الخوف على دين الله وحفظ شرائعه، فضلاً عن تمحيصهم بالمكاره مع مالهم من المنزلة والشأن عند الله تعالى والمحل السامي لديه فكيف يكون حال بني آدم عليه السلام وقد استوجبوا البلاء بفعل المعاصي والآثام.

إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإنما جعل البلاء للأنبياء رفعة لدرجاتهم وأسوة لعباده وقدوة لهم في الصبر والتسليم والتفويض لله حباً للخالق وما يصدر عنه وهم الموقنون بأن الله اللطيف الخبير الجليل الحليم لا يقدّر إلا ما هو جميل وتام في المنفعة والمصلحة.

ص: 52

فنسأل الله أن يرزقنا اللطف والكرامة والصبر والشكر وحسن العاقبة.

ص: 53

المصادر والمراجع

القرآن الكريم:

1. بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، تحقيق، السيد ابراهيم المينانجي؛ محمد الباقر البهبودي، مؤسسة الوفاء دار احياء التراث، بيروت - لبنان، ط 2، 1403 ه - 1983 م

2. تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي، تحقيق وتعليق: السيد طيب الموسوي الجزائري، موسوعة دار الكتاب للطباعة والنشر - ایران، ط 3، د. ت.

3. تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1415 ه - 1995 م.

4. عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1404 ه - 1984 م.

5. الكافي، الشيخ الكليني، تحقيق: علي أكبر الغفاري،

ص: 54

مطبعة حيدري، دار الكتب الإسلامية - طهران ط 3، 1367.

6. مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، تحقيق وتصحيح: الشيخ حسن بن علي النمازي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1418.

7. ميزان الحكمة، محمد الريشهري، تحقيق: دار الحديث، ط 1،

8. نهج البلاغة، تحقيق: محمد عبده، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان.

9. الوافي، الفيض الكاشاني، تحقيق وتعليق وتصحيح: ضياء الدين الحسيني الأصفهاني، مكتبة الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام العامة - أصفهان، ط 1، 1406 ه. ق 19 / 3 / 1365 ه. ش.

10. وسائل الشيعة، الحر العاملي، مؤسسة ال البيت لإحياء التراث.

ص: 55

المحتويات

مقدمة المؤسسة...7

المقدمة...9

المسألة الأولى...13

اختبار الأنبياء بالجوع...13

قوله عليه السلام: «قَدِ اِختَّبَرَهُمُ اللهُ بِالمَخمَصَةِ»...13

المسألة الثانية...21

اختبار الأنبياء بالمجهدة...21

قوله عليه السلام: «وَاِبتَلاَهُم بِالمَجهَدَةِ»...21

المسألة الثالثة...27

اختبار الانبياء بالمخاوف...27

قوله عليه السلام «وَاِمتَحَنَهُم بِالمَخَاوِفِ»...27 المسألة الرابعة:...41

التمحيص بالمكاره...41

قال الإمام عليه السلام: «وَمَحَّصَهُم بِالمَكَارِهِ»...41

المصادر والمراجع...54

المحتویات...56

ص: 56

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.