الحکمة في اختصاص الأنبیاء علیهم السلام بضعف الحال

هوية الکتاب

الحكمة في اختصاص الأنبياء علیهم السلام بضعف الحال

الناشر:...مؤسسة علوم نهج البلاغة.

الطبعة:...الأولى.

عدد النسخ:...1000 نسخة.

التصميم:...احمد عباس مهدي عباس.

التنضيد والاخراج الفني:...علي جاسم محمد علي.

ص: 1

اشارة

الناشر:...مؤسسة علوم نهج البلاغة.

الطبعة:...الأولى.

عدد النسخ:...1000 نسخة.

التصميم:...احمد عباس مهدي عباس.

التنضيد والاخراج الفني:...علي جاسم محمد علي.

ص: 2

سلسلة الانبياء في نهج البلاغة (9) الحكمة في اختصاص الأنبياء علیهم السلام بضعف الحال تأليف محمد حمزة الخفاجي

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الاولى 1437 ه - 2015 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام - مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع: www.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَ لَو أَرَادَ اللّهُ سُبحَانَهُ لِأَنبِيَائِهِ حَيثُ بَعَثَهُم أَن يَفتَحَ لَهُم كُنُوزَ الذّهبَانِ وَ مَعَادِنَ العِقيَانِ وَ مَغَارِسَ الجِنَانِ وَ أَن يَحشُرَ مَعَهُم طُيُورَ السّمَاءِ وَ وُحُوشَ الأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَ لَو فَعَلَ لَسَقَطَ البَلَاءُ وَ بَطَلَ الجَزَاءُ وَ اضمَحَلّتِ الأَنبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلقَابِلِينَ أُجُورُ المُبتَلَينَ وَ لَا استَحَقّ المُؤمِنُونَ ثَوَابَ المُحسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الأَسمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَ لَكِنّ اللّهَ سُبحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أوُليِ قُوّةٍ فِي عَزَائِمِهِم وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَي الأَعيُنُ مِن حَالَاتِهِم مَعَ قَنَاعَةٍ تَملَأُ القُلُوبَ وَ العُيُونَ غِنًي، وَ خَصَاصَةٍ تَملَأُ الأَبصَارَ وَ الأَسمَاعَ أَذًي، وَ لَو كَانَتِ الأَنبِيَاءُ أَهلَ قُوّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلكٍ تُمَدّ نَحوَهُ أَعنَاقُ الرّجَالِ وَ تُشَدّ إِلَيهِ عُقَدُ الرّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهوَنَ عَلَي الخَلقِ فِي الِاعتِبَارِ وَ أَبعَدَ لَهُم فِي الِاستِكبَارِ وَ لَآمَنُوا عَن رَهبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُم أَو رَغبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِم، فَكَانَتِ النّيّاتُ مُشتَرَكَةً وَ الحَسَنَاتُ مُقتَسَمَةً وَ لَكِنّ اللّهَ سُبحَانَهُ أَرَادَ أَن يَكُونَ الِاتّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التّصدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الخُشُوعُ لِوَجهِهِ وَ الِاستِكَانَةُ لِأَمرِهِ وَ الِاستِسلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصّةً لَا تَشُوبُهَا مِن غَيرِهَا شَائِبَةٌ وَ كُلّمَا كَانَتِ البَلوَي وَ الِاختِبَارُ أَعظَمَ كَانَتِ المَثُوبَةُ وَ الجَزَاءُ أَجزَلَ».

نهج البلاغة، الخطبة 191.

ص: 5

ص: 6

مقدمة المؤسسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلق الله وآله الطيبين الأخيار.

وبعد:

فهذه سلسلة خاصة بما ورد في كتاب نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حول بعض الأنبياء عليهم السلام وقد تناول فيها الإمام جوانب مختلفة من حياتهم وما ارتبط بهم ابتداءً من آدم عليه السلام حيث بيّن الإمام علي عليه السلام العلة في خلقه وما رافق هذا الأمر من ابتلاء للملائكة وغير ذلك مما ارتبط بهذه الشخصية.

والحديث في نهج البلاغة عن الأنبياء عليهم السلام لم يكن شاملاً لجميع الأنبياء وإنما يكتفي الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بذكر بعضاً فهم،

ص: 7

وهم (آدم وموسى وعيسى وداود ويحيي وسليمان والحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أخذ الحيز الأكبر من البيان والتعريف في كلام أمير المؤمنين عليه السلام.

ولذا:

وجدت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تضع بين يدي القارئ الكريم هذا البيان الوارد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الشخصيات الربانية ضمن هذه السلسلة مع بيان موجز لما أورده الشراح لكتاب نهج البلاغة فضلاً عن رفد هذه الألفاظ الشريفة بما يناسبها من روایات شريفة نبوية عن آل البيت عليهم السلام بغية الوصول إلى معنی واضح يأخذ بأيدينا ويد القارئ الكريم إلى ما يحب الله ويرضى.

السيد نبيل الحسني مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وإحسان مننٍ والاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن المجازاة أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها»(1)، والصلاة والسلام على النبي المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد..

يبيِّن الإمام علي عليه السلام في هذه الخطبة قدرة الله تعالى على فعل أي شيء، قال تعالى:

«لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ

ص: 9


1- من خطبة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام: الاحتجاج، للشيخ الطبرسي، ج 1، ص 132؛ بلاغات النساء لابن طيفور، ص 15

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1)، فهو الرزاق حيث يستطيع بقدرته أن يجعل الأنبياء أكثر الناس ثراء وأولي قوة ويجعل كل المخلوقات تحت إمرتهم ويحشر معهم وحوش الأرض وجميع المخلوقات، فيكون العباد - خبيثهم وطيبهم مؤمنهم وكافرهم - خاضعين لهم، فلو جاء الأنبياء للناس بكل ملذّات الحياة والقدرات فلا سبيل لنفور العباد عنهم لأن البعض سيتبعهم طمعاً والبعض الآخر يتبعهم قهراً فحينها يسقط الابتلاء الدنيوي، ولكن الله أحب أن يُطاع أنبياؤه بلا طمع ولا جبر، فتكون العبادة خالصة لله وتكون باختيارهم فبهذا يميز الله عباده المتواضعين من عباده المتكبرين، قال تعالى:

«لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ»(2).

لذا جعل الله ظاهر رسله ضعيف ولكنهم

ص: 10


1- سورة الأنعام الآية: 120
2- سورة الأنفال، الآية: 37

بالحقيقة أقوى الناس إذ هم المقربون إلى الله فكل إنسان قريب إلى الله قوي و حكمة الله اقتضت أن يجعل أنبياءه ورسله بهذه النظرة المتواضعة أمام الناس ليوضح لهم أن هنالك اناساً اصطفاهم من خلقه يعبدونه ويطيعونه في كل الأحوال، في غناهم وفقرهم، في صحتهم ومرضهم يعملون بأمره، فهم أحباؤه من تبعهم نجی ومن تخلف عنهم هلك.

محمد حمزة الخفاجي

ص: 11

المسألة الأولى

قوله عليه السلام: «ولو اراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم.. وبطل الجزاء»

أي حين بعثهم «أن يفتح لهم كنوز الذّهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان، لينفقوا منها ويكونوا ذوي سعة ومنعة وعزّ ورفعة تدفع بها اعتراضات الجاحدين، وتنقطع ألسن المعاندین، ولم يقولوا فيهم مثل ما قالوه لنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم:

«مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا

ص: 12

مَسْحُورًا»(1)، وأن يحشر معهم طير السّماء ووحوش الأرض احتشاما وإعظاما لقدرهم وإجلالا لشأنهم في أعين المبعوثين إليهم»(2).

«لَفَعَلَ» لقدرته على كلّ شيء، لكنّه تعالى لا يفعل ما ليس بحكمة، قوله تعالی:

«وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ...»(3).

كما أنّ السّلاطين لا يفعلون إلاّ ما تقتضيه السياسة لا ما تهواه السَوَقَة، وقد أشار عليه السّلام إلى مفاسد فتح ما ذكر لهم، وحشر ما سطر معهم بقوله: «ولو فعل لسقط البلاء» اللام فيه للعهد الذكري، أي: بالبلاء والابتلاء المفهوم من قوله عليه السّلام قبل فإنّ الله سبحانه يختبر عباده

ص: 13


1- سورة الفرقان الآية: 7 - 8
2- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، السيد حبيب الله الهاشمي الخوئي ج 11، ص 334
3- سورة المؤمنون الآية: 71

المستكبرين.

«وبطل الجزاء» اللام فيه للعهد الذهني، أي: الجزاء المعهود في الشرائع للمطيعين والعاصين(1).

وقال ميثم البحراني في شرحه: إنه كان يسقط البلاء: أي ذلك البلاء المشار إليه وهو بلاء المتكبرين بالمستضعفين من أولياء الله وهو ظاهر.

اذ لا مستضعف يبتلون به اذن، وذلك إن الأنبياء عليهم السلام كانوا ينقطعون إلى الدنيا حينئذ عن جناب الله فينقطع عنهم كما سيشير إليه عليه السلام وحينئذ ينقطع الابتلاء بهم وبما أتوا به من التكليف، وكذلك يسقط بلاء الأنبياء بالفقر والصبر على أذى المسكنة من المكذبين لهم بالضرب والقتل.

وكان يبطل الجزاء: أي جزاء العبادات

ص: 14


1- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، للعلامة التستري، ج 2، ص 50

والطاعات، إما لسقوط البلاء بها أو لأن الطاعات إذن تكون عن رهبةٍ أو رغبةٍ فيسقط الجزاء الأخروي عليها وكذلك يبطل جزاء الأنبياء الذي كانوا يستحقونه بحسب فقرهم وصبرهم عليه(1).

جاء في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عن أبي عبد الله عليه السلام البلاء وما يخص الله به المؤمن، فقال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الناس بلاء في الدنيا؟ فقال:

«النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه»(2).

وروي عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب،

ص: 15


1- شرح نهج البلاغة، ميثم البحراني، ج 4، ص 754
2- الكافي، ج 2، ص 252، ح 2

عن زيد الزراد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله عند الله الرضا ومن سخط البلاء فله عند الله السخط»(1).

وفي صفات الشيعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«لا تكونون مؤمنين حتى تكونوا مؤتمنين وحتی تعدوا النعمة والرخاء مصيبة، وذلك أن الصبر على البلاء أفضل من العافية عند الرخاء»(2).

ص: 16


1- المصدر نفسه، ج 2، ص 253، ح 8
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 3، ص 260

المسألة الثانية

قوله عليه السلام: «اضمحلّت الأنباء... ولا لزمت الأسماء معانيها».

أي أخبار الأنبياء، والمراد باضمحلالها انمحاؤها وذهاب أثرها، وذلك لأنّ الغرض الأصلي من بعثهم ورسالتهم أن يجذبوا الخلق إلى الحقّ الأوّل عزّ وجلّ ويزهّدوهم عن الدّنيا ويرغّبوهم في الآخرة، فإذا فتحت لهم أبواب الكنوز والمعادن، واشتغلوا بزخارف الدّنيا وكانوا بزّي أهلها لم تؤثّر موعظتهم في القلوب ولم يبق وقع للرسالة عند الناس، ولا وجدوا للمبعوثين إليهم مقالاً وتعريضاً عليهم بأن يقولوا يا أيّها الرّسل لم تقولون ما لا تفعلون، أنتم تزهّدونا عن الدّنيا وترغبون فيها، وترغّبونا في الآخرة واشتغالكم بغيرها، فيبطل بذلك المقصود الأصلي من البعث

ص: 17

وتضمحلّ الرسالة إذ ذاك.

وقال الشارح البحراني في وجه اضمحلال الأنباء ما محصّله: إنّ الأنبياء وإن كانوا أكمل الخلق نفوساً وأقواهم استعداداً لقبول الكمالات النفسانية، إلاّ أنهم محتاجون إلى الريّاضة التّامة بالإعراض عن الدّنيا وطيباتها وهو الزهد الحقيقي، فيكون تركهم للدّنيا شرطا في بلوغ درجات الوحي والرّسالة وتلقّي أخبار السّماء، فلو خلقوا منغمسين في الدّنيا وفتحت عليهم أبوابها لانقطعوا من حضرة جلال الله، واضمحلّ بسبب ذلك عنهم الأنباء، وانقطع عنهم الوحي، وانحطّوا عن مراتب الرسالة(1).

قال عليه السلام: «ولما وجب للقابلين أجور المبتلين»

(لأن المراد بالمبتلي من أظهر التمحيص على

ص: 18


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 335

حقيقة، ولن يكون هذا إلا في الضرّاء وساعة العسرة ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين لأن أهل الإحسان يعطون ولا يطمعون في الربح ولا لزمت الأسماء معانيها لكل كلمة معنى تدل عليه، ولكل اسم مسمى يفهم منه، ومعنى الإيمان بالله ورسله هو التصديق به وبهم، ولو أسمينا من آمن طمعا أسميناه مؤمنا لوضعنا الكلمة في غير مدلولها، والاسم في غير مسماه)(1).

وقال ابن میثم: ولا لزمت الأسماء معانيها. روي بنصب الأسماء على أن تكون هي المفعول ومعانيها الفاعل، والمعنى أنّه لم تكن المعاني لازمة الأسماء فيمن سمّي بها، مثلا من سمّي مؤمنا لا يكون معنى الإيمان الحقّ لازماً لاسمه فيه. إذ كان إيمانه بلسانه فقط عن رغبة أو رهبة، وكذلك من سمّي مسلماً أو زاهداً بل من سمّي نبيّاً أو رسولاً

ص: 19


1- في ظلال نهج البلاغة، ج 3، ص 127

لا يكون في الحقيقة كذلك لانقطاع النبوّة والرسالة عنه، وفي نسخة الرضيّ رحمه الله برفع الأسماء، والمراد أنّها كانت تنفكّ عنها فتصدق الأسماء بدون مسمّياتها وهو كالأوّل. وببيان هذه اللوازم ظهرت كبرى القياس. والنتيجة إذن متّصلة مقدّمها قوله: لو أراد الله. إلى قوله: الأرض، وتاليها قوله: لسقط البلاء. إلى قوله: معانيها، وحاصل النتيجة أنّه كان يلزم من إرادته تعالى بأنبيائه تلك الأمور وقوع جميع هذه المفاسد.

ثمّ يرجع البيان إلى استثناء نقيض تالي هذه النتيجة لاستثناء نقيض مقدّمها وهو أنّ هذه المفاسد لم توجد وليست ممّا ينبغي أن توجد، فلذلك لم يرد بهم تلك الأمور(1).

ص: 20


1- شرح نهج البلاغة، لابن میثم البحراني، ج 4، ص 755

المسألة الثالثة

قوله عليه السلام: «ولكنَ الله سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم»

قال العلامة التستري في شرحه: وكون أولي العزم من الرّسل منحصراً بخمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد صلّى الله عليه وآله وعليهم لا ينافي كلامه عليه السّلام في كونهم كلّهم أولى قوّة في عزائمهم، لأنّ جميعهم كانوا أولي عزم في دعوة الناس إلى ربّهم، وأولئك كانوا أولي عزم خاص في ذلك، بحيث كانت أوقاتهم مستغرقة في الدعوة.

جاء في قوله تعالى عن لسان نوح عليه السلام:

«قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا»(1).

ص: 21


1- سورة نوح، الآية: 5

وروي في الكافي عن الصّادق عليه السّلام:

«أنّهم صاروا أولي العزم لأنّ نوحاً بعث بكتابه وشريعته، وكلّ من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه، حتّى جاء إبراهيم عليه السّلام بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به، فكلّ نبيّ جاء بعد إبراهيم عليه السّلام أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف، حتّى جاء موسى عليه السّلام بالتوراة وشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصحف، وكلّ نبيّ جاء بعد موسى عليه السّلام أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه، حتّى جاء المسيح عليه السّلام بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه، فكلّ نبيّ جاء بعد المسيح عليه السّلام أخذ بشريعته ومنهاجه، حتّى جاء محمّد صلى الله عليه وآله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء أولو العزم من

ص: 22

الرّسل.

وفي تفسير القمي: معنى أولي العزم أنّهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله، والإقرار بكلّ نبيّ كان قبلهم وبعدهم، وعزموا على الصبر على التكذيب والأذى؛ فقال: قال بعض المفسّرين في قوله تعالی: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»(1).

إنّ (من) للتبيين لا للتبعيض، وإن كلّ الرسل أولو العزم.

وهو كما ترى خرق الإجماع، وكيف كان؟ فيشهد لقوله عليه السلام من كون جميعهم أولي قوّة في عزائمهم أنّ يوسف عليه السّلام في السّجن كان يدعو الناس إليه تعالى، فقال لصاحبي سجنه: «أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ

ص: 23


1- سورة الأحقاف، الآية: 35

الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ»(1).

وأنّ يعقوب عليه السّلام حتّى في احتضاره کان يدعو إليه تعالى، قال سبحانه: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(2).

ص: 24


1- سورة يوسف، الآيتان: 39 - 40
2- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، التستري، ج 2، ص 51

المسألة الرابعة

وقوله عليه السلام: «وضعفة في ما ترى الأعين من حالاتهم».

لأنهم عليهم السلام يلبسون أبسط الملابس ويأكلون بقدر الحاجة فتجد أبدانهم ضعيفة، فحينما يراهم غيرهم يحسبهم أضعف الناس ولكنهم عليهم السلام أقوياء، فحينما يذكر الإمام عليه السلام النبيَين موسى وهارون عندما دخلا على فرعون قال ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل(1) فإن الله خاطبهم فقال:

«إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخشوع والخوف الذي ينبت في قلوبهم فيظهر على أجسادهم فهو شعارهم ودثارهم الذي يستشعرون، ونجاتهم التي فيها يفوزون»(2).

ص: 25


1- الخطبة القاصعة، ص 318
2- بحار الأنوار، ج 13، ص 36

والله أحب لأنبيائه التواضع والخشوع وأن يكون جوهرهم في داخلهم فلا يعرفهم إلا الله، ومن مناجاة الله الموسى عليه السلام قال: أمت قلبك بالخشية. وكن خلق الثياب، جديد القلب، تخفی على أهل الأرض وتعرف بين أهل السماء(1).

وجاء في قوله تعالى عن شعيب عليه السلام حينما خاطبه قومه:

«مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا»(2).

فإن أهل الدنيا لو كانوا يفقهون لعرفوا أن الأنبياء والأولياء لهم قوة إيمانيه لا يقدر أن يغلبها أحد من العباد، فبإيمانهم وعزائمهم هزموا الطغاة.

روي في كتاب بحار الأنوار ما حدث في خيبر عن أبي عبد الله الجدلي قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول:

ص: 26


1- تحف العقول، ص 491
2- سورة هود، الآية 91

«لما عالجت باب خیبر جعلته مجنا لي فقاتلتهم به، فلما أخزاهم الله وضعت الباب على حصنهم طريقا ثم رميت به في خندقهم، فقال له رجل: لقد حملت منه ثقلا، فقال ما كان إلا مثل جنتي التي في يدي في غير ذلك المقام»(1).

وذكر أصحاب السيرة أن المسلمين لما انصرفوا من خيبر راموا حمل الباب فلم يقله منهم إلا سبعون رجلاً»(2).

وفي مناقب ابن شهر آشوب روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم خيبر عممه بيده وألبسه ثيابه وأركبه بغلته، ثم قال:

«امض يا علي وجبرئیل عن يمينك، وميكائيل عن يسارك، وعزرائيل أمامك، وإسرافيل وراءك ونصر - الله فوقك، ودعائي خلفك»(3).

ص: 27


1- بحار الانوار، ج 21، ص 17، ح 11
2- المصدر نفسه
3- المصدر نفسه

وخبّر النبي صلى الله عليه وآله رميه باب خيبر أربعين ذراعا فقال صلى الله عليه وآله:

«والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكا»(1).

ص: 28


1- بحار الانوار، ج 21، ص 19

المسألة الخامسة

قوله عليه السلام: «مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذي»

إن أصل القناعة قناعة القلب، قال عليه السلام:

«القناعة عز وغنى، الحرص ذل وعناء»(1).

فكانت عيونهم وقلوبهم مليئة بالخير فلا ينظرون إلى زينة الحياة الدنيا لذلك اختارهم الله وفضلهم على سائر خلقه فلو تأملنا إلى حياتهم فكان لبسهم الخشن وكانت مائدتهم لا تزيد عن إدامين.

فقد روي عن أحمد بن محمد بن خالد، عن

ص: 29


1- مستدرك الوسائل، الطبرسي، ج 12، ص 61، ح 3

علي بن الحكم، عن الحسين بن فرات، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من أراد أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيرهِ»(1).

ومما ذكر في غزوة الخندق: (فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه، فبعثوا جابر بن عبد الله الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه واله يعلمه ذلك، قال جابر: فجئت إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله مستلقٍ على قفاه، ورداؤه تحت رأسه، وقد شد على بطنه حجرا، فقلت: يا رسول الله إنه قد عرض لنا جبل لا تعمل المعاول فيه، فقام مسرعا حتى جاؤوه، ثم دعا بماء في إناء وغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه، ثم

ص: 30


1- وسائل الشيعة، ج 21، ص 531، ح 7

شرب ومج ذلك الماء في فيه ثم صبه على ذلك الحجر، ثم أخذ معولا فضرب ضربة، فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثم ضرب أخرى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثم ضرب أخرى قبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور اليمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:

«أما إنه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق».

ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل. فقال جابر: فعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله مقوى أي جائع لما رأيت على بطنه الحجر، فقلت: يا رسول الله هل لك في الغداء؟ قال:

«ما عندك يا جابر؟».

فقلت: عناق وصاع من شعير، فقال:

«تقدّم وأصلح ما عندك».

قال جابر: فجئت إلى أهلي فأمرتها فطحنت

ص: 31

الشعير وذبحت العنز وسلختها، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوي فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله قد فرغنا فاحضر معك من یا أحببت، فقام صلى الله عليه وآله إلى شفير الخندق ثم قال:

«يا معشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً».

وكان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلهم ثم لم يمر بأحد من المهاجرين والأنصار إلا قال: أجيبوا جابرا، قال جابر: فتقدمت وقلت لأهلي: قد والله أتاك رسول الله صلى الله عليه واله بما لا قبل لك به، فقالت: أعلمته أنت ما عندنا؟ قال: نعم. قالت: هو أعلم بما أتى، قال جابر: فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله فنظر في القدر ثم قال:

«اغرفي وأبقي».

ص: 32

ثم نظر في التنور، ثم قال:

«أخرجي وأبقي».

ثم دعا بصحفة فثرد فيها وغرف، فقال:

«يا جابر ادخل على عشرة».

فأدخلت عشرة، فأكلوا حتى نهلوا، وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم، ثم قال:

«يا جابر علي بالذراع».

فأتيته بالذراع فأكلوه، ثم قال:

«أدخل على عشرة».

فدخلوا فأكلوا حتى نهلوا وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم، ثم قال:

«يا جابر عليّ بالذراع».

فأتيته فأكلوا وخرجوا، ثم قال:

«أدخل علي عشرة».

فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم، ثم قال:

ص: 33

«يا جابر عليّ بالذراع».

فأتيته بالذراع، فقلت: يا رسول الله كم للشاة من ذراع؟ قال:

«ذراعان».

فقلت: والذي بعثك بالحق نبيا لقد أتيتك بثلاثة، فقال:

«أما لو سكت يا جابر لأكلواكلهم من الذراع».

قال جابر: فأقبلت ادخل عشرة عشرة، فيأكلون حتى أكلوا كلهم: وبقي والله لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياما)(1).

وقوله عليه السلام:

«وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى».

والخصاصة تعني الفقر، فمن رآهم عليهم السلام أو سمع عن أحوالهم تألم عليهم من أذى الحرمان لأن الله عز وجل زوى عنهم الدنيا فلم

ص: 34


1- بحار الانوار، ج 20، ص 219، 220

يعطهم منها الا ما تيسر منها ليذخر لهم في الآخرة وينالوا أعلى الدرجات والكرامات، فما نال إنسان من الدنيا شيئاً الا أنقص من عطائه في الآخرة، والله أراد لهم النعيم الأبدي، فالإمام علي عليه السلام يصف النبي موسى في قوله «وَإِن شِئتَ ثَنّيتُ بِمُوسَي كَلِيمِ اللّهِ صلی الله علیه و آله وسلم حَيثُ يَقُولُ: «رَبّ إنِيّ لِما أَنزَلتَ إلِيَ ّ مِن خَيرٍ فَقِيرٌ»(1).

وَ اللّهِ مَا سَأَلَهُ إِلّا خُبزاً يَأكُلُهُ لِأَنّهُ كَانَ يَأكُلُ بَقلَةَ الأَرضِ وَ لَقَد كَانَت خُضرَةُ البَقلِ تُرَي مِن شَفِيفِ صِفَاقِ بَطنِهِ لِهُزَالِهِ وَ تَشَذّبِ لَحمِهِ»(2).

ص: 35


1- سورة القصص، الآية: 24
2- نهج البلاغة، محمد عبده، الخطبة 159، ص 252

المسألة السادسة

قوله عليه السلام: «ولو كانت الأنبياء أهل قوَة لا ترام وَعِزَةِ لاَ تضَامُ.. أو رغبة مائلة بهم»

قال حبيب الله الخوئي في بيان هذا الحديث:

(قياس اقتراني آخر من الشكل الأوّل أيضا تأكيداً للقياس المتقدّم ذكره، أي لو أراد الله بالأنبياء إذ بعثهم أن يكونوا أهل قوّة وقدرة لا يمكن أن تطلب وتقصد لبلوغها الغاية، وأهل عزّة وقهر وغلبة لا يمكن أن تنتقص أو تظلم أي يظلم صاحبها لانتهائها النهاية.

وأهل ملك وسلطنة «وَمُلكٍ تمتدّ نحوه أعناق الرجال وتشدّ إليه عقد الرّحال»

أي يأمله الآملون، ويرجوه الراجون فإنّ كلّ

ص: 36

من أمَّلَ شيئا لا سيّما إذا كان ملكا عظيما يطمح إليه بصره ويسافر برغبته إليه يحطّ مطايا الآمال عنده، فكنّى عن ذلك بمد العنق وشدّ عقد الرّحال.

والحاصل أنّ الأنبياء لو بعثوا بالقدرة والقوّة والملك والسلطة لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار أي أسهل في اعتبارهم بحالهم وأسرع في إِجابتهم لدعوتهم كما هو المشاهد بالتجربة، فانّ الملوك لا تصعب إِجابتهم كما تصعب إِجابة الفقراء لا سيّما على المتكبّرين المتجبّرين «وأبعد لهم في الاستكبار» لأنّ الملوك أبعد من أن يتكبّر عليهم ويستنكف من طاعتهم بخلاف البائس الفقير»(1).

قوله عليه السلام:

«ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم».

إن فرعون حينما رأى الطوفان وأدركه الغرق

ص: 37


1- منهاج البراعة، الخوئي، ج 11، ص 393

خضع لأمر الله وآمن بعدما رأى العذاب، فهنا الإيمان جاء عن الخوف والقوة التي تخضع لها جميع الجبابرة وكذلك في يوم الفتح، قال تعالى:

«إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا»(1).

فإن بعض الذين دخلوا لدين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان من باب الاستسلام وليس الدخول للإسلام عن وعي وإيمان كما حدث لأبي سفيان فقد استسلم للرسول لأن الله قد نصر نبيه وقهر به أعداء الاسلام، فبمجرد أن غاب النبي ردوا إلى كفرهم، قال تعالى في محكم كتابه:

«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ

ص: 38


1- سورة النصر، الآيتان: 1 - 2

يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(1).

وقوله عليه السلام: «أو رغبة مائلة بهم».

إن أغلب الناس تميل لأهل السلطة والنفوذ وتكون هذه الميول من باب الاستفادة كونهم يملكون المال والجاه فيحظون بما يريدون، فتكون ميولهم لتحقيق غاياتهم لا عن حب أو معرفة، ولكن الله عز وجل أراد أن تكون الطاعة واتباع الرسل عن معرفة، لذلك جعل طريق الحق صعباً لكي يميز عباده، فالاختبار لا يقاس في ساعة اليسر وإنما يقاس في ساعة العسر، فمن كان يميل إلى الدنيا يتضح ومن كان محب حقيقياً يتضح أيضاً.

في رواية أن الإمام الحسين عليه السلام قد قال:

«اعلموا أنكم خرجتم معي لعلمكم أني أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر لأنهم قد

ص: 39


1- سورة آل عمران، الآية: 144

استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس يكن لهم مقصد إلا قتلي وقتل من يجاهد بين يدي، وسبي حريمي بعد سلبهم، وأخشى أنكم لا تعلمون أو تعلمون وتستحيون، والخداع عندنا أهل البيت محرم، فمن كره منكم ذلك فلينصرف، فالليل ستير، والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومن واسانا بنفسه كان معنا غداً في الجنان، نجيا من غضب الرحمن، وقد قال جدي: ولدي حسين يقتل بطف كربلاء غريبا وحيدا، عطشانا فريدا، من نصره فقد نصرني، ونصر - ولده القائم، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة.

قالت سكينة، فو الله ما أتم كلامه إلا وتفرق القوم من عشرة وعشرين فلم يبق معه إلا واحد وسبعون رجلا، فنظرت إلى أبي منكسا رأسه فخنقتني العبرة فخشيت أن يسمعني، ورفعت طرفي إلى السماء وقلت: اللهم إنهم خذلونا فأخذلهم»(1).

قال أبو مخنف: (كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه

ص: 40


1- کربلاء الثورة والمأساة، أحمد حسين يعقوب، ص 296

من الرضاعة، مقتل عبد الله بن بقطر، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدري أنه قد أصيب فأتى ذلك الخبر حسينا وهو بزبالة، فأخرج للناس كتابا فقرأ عليهم. بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وعبد الله بن بقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام.

فتفرق الناس عنه تفرقا، فأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة، وإنما فعل ذلك لأنه ظن أنما اتبعه الاعراب لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون علام يقدمون، وقد علم أنهم إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه)(1).

ص: 41


1- انصار الحسين، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص 40

وقال الدينوري: (وقد كان صحبه قوم من منازل الطريق فلما سمعوا خبر مسلم، وقد كانوا ظنوا أنه يقدم على أنصار وعضد، تفرقوا عنه، ولم يبق معه إلا خاصته. إذن فقد بقي رجال الثورة الحقيقيون وحدهم بعد أن انجلى الموقف وتبين المصير. وقد كان هذا الاعلان الذي سمعه الناس من الحسين في زبالة هو الاختبار الأول في هذه المسيرة، وقد أدى إلى تفرق الكثيرين الذين رافقوه عن رغبة وطمع، وبقي معه هؤلاء الرجال النادرون الذين سيعرفهم التاريخ عما قليل باسم أنصار الحسين)(1).

قال هشام عن عوانة بن الحكم عن لبطة بن الفرزدق بن غالب عن أبيه قال: حججت بأمي فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج وذلك في سنة 60 ه إذ لقيت الحسين بن علي

ص: 42


1- المصدر السابق نفسه

خارجاً من مكة معه أسيافه وتراسه، فقلت لمن هذا القطار فقيل للحسين بن علي، فأتيته فقلت بأبي وأمي يا ابن رسول الله ما أعجلك عن الحج؟ فقال لو لم أعجل لأخذت، قال ثم سألني ممن أنت؟ فقلت له امرؤ من العراق، قال: فو الله ما فتشني عن أكثر من ذلك واكتفى بها مني، فقال أخبرني عن الناس خلفك، قال فقلت له: القلوب معك والسيوف مع بني أمية والقضاء بيد الله، قال فقال لي: صدقت قال فسألته عن أشياء فأخبرني بها من نذور ومناك، قال: وإذا هو ثقيل اللسان من برسام أصابه بالعراق، قال: ثم مضيت فإذا بفسطاط مضروب في الحرم وهيئته حسنة، فأتيته فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص فسألني فأخبرته بلقاء الحسين بن علي، فقال لي: ويلك فهلا اتبعته فو الله ليملكن ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه، قال: فهممت والله أن ألحق به ووقع في قلبي مقالته ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم فصدني ذلك عن اللحاق بهم)(1).

ص: 43


1- تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، ج 4، ص 290

المسألة السابعة

قوله عليه السلام: «فكانت النيّات مشتركة.. وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل».

«فكانت النيّات مشتركة»: مشتركة بين الله وبين ما يأملونه من الشهوات، غير خالصة له تعالى من هوى الأنفس كما في قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»(1).

«والحسنات مقتسمة» بينه تعالى وبين تلك الشهوات «ولكنّ الله سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله» وأنبيائه «والتصديق بكتبه» وصحفه السماوية «والخشوع لوجهه» والخنوع لذاته «والاستكانة» والتمكين «لأمره والاستسلام»

ص: 44


1- سورة الفرقان، الآية: 43

والانقياد «لطاعته امورا له خاصة» أي مختصّة به ممحضة له كما قال:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(1) «لا يشوبها» أي تلك الامور «من غيرها شائبة» رغبة أو رهبة.

وانما أراد عزّ وجل اختصاص هذه الامور له وخلوصها من شوب الرغبة والرهبة لعظم البلوى والامتحان حينئذ(2).

فإن الله عز وجل جعل عباده مخيرين في طاعته وجعل مصيرهم بأيديهم، فمن أراد الدنيا أعطاها له ومن أراد الآخرة نالها قال تعالى:

«مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا

ص: 45


1- سورة البينة، الآية: 5
2- منهاج البراعة، ج 11، ص 394

لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ»(1).

جاء في وسائل الشيعة، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن أحمد بن يونس، عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:

«إنما خلد أهل النار في النار، لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة، لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: قل كلٌ يعمل على شاكلته قال: على نيته»(2).

وقوله عليه السلام: «وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل»

إن الله تعالى يجازي الإنسان على قدر بلائه، فلذلك نجد الأنبياء والأوصياء أكثر ابتلاء لأنهم يعرفون عظيم الأجر ويعرفون إن الله يجزي

ص: 46


1- سورة الشورى الآية: 20
2- وسائل الشيعة، ج 1، ص 51

الصابرين، فكانوا يتسابقون على الصالحات وإن تبعتها أعظم البلايا.

عن الصادق عليه السلام قال:

«إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالجوع حتى يموت جوعا، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالعطش حتى يموت عطشا، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالسقم والأمراض حتى يتلفه، وإن كان النبي ليأتي قومه فيقوم فيهم يأمرهم بطاعة الله ويدعوهم إلى توحيد الله وما معه مبيت ليلة فما يتركونه يفرغ من كلامه ولا يستمعون إليه حتى يقتلوه وإنما يبتلي الله تبارك وتعالى عباده على قدر منازلهم عنده»(1).

عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث - إن نبياً من الأنبياء بعثه الله إلى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملك، فقال: إن الله بعثني إليك فمرني بما شئت، فقال لي: أسوة بما

ص: 47


1- قصص الانبياء، للجزائري، ص 14

يصنع بالحسين عليه السلام(1).

قال أبو عبد الله عليه السلام: «إن أيوب ابتلي من غير ذنب»(2).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«إن الله تبارك وتعالى ابتلى أيوب عليه السلام بلا ذنب فصبر حتى غُيّر، وإن الانبياء لا يصبرون على التعبير»(3). فإن الله عوّض نبيه أيوب عليه السلام في الدنيا، قال تعالى:

«وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ»(4). وجزاء الآخرة أعظم.

ص: 48


1- وسائل الشيعة، ج 3، ص 265
2- علل الشرائع، للشيخ الصدوق، ج 1، ص 76، ح 2
3- المصدر نفسه، ح 4
4- سورة الانبياء، الآيتان: 83 - 84

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

1. أنصار الحسين، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ال-دار الإسلامية، ط 2، 1401 ه - 1981 م.

2. بحار الانوار، العلامة المجلسي، تحقيق: الشيخ عبد الزهراء العلوي، دار الرضا بيروت، لبنان، 1403 ه - 1983 م.

3. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، محمد تقي التستري، مؤسسة التاريخ العربي، ط 1، 1432 ه - 2011 م.

4. تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: نخبة من العلماء الأجلاء، مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، ط 4، 1403 ه - 1983 م.

5. تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحراني تحقيق: علي أكبر الغفاري مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط 2، 1404 ه - 1363 ش.

6. شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني تحقيق: عدة من الأفاضل وقوبل بعدة نسخ موثوق بها، ط 1، قم - ایران. تابستان 1362 ش.

ص: 49

7. في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية، مطبعة ستار، ط 1، 1427 ه.

8. الكافي، الشيخ الكليني، تصحيح: علي اكبر الغفاري، دار الكتب الاسلامية طهران، 1363 ه.

9. كربلاء الثورة والمأساة، أحمد حسين يعقوب، الغدير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان، ط 2، 1418 ه - 1997 م.

10. مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي، تح: مؤسسة ال البيت لإحياء التراث.

11. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي، المطبعة الاسلامية بطهران، ط 6.

12. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان.

12. النور المبين في قصص الانبياء والمرسلين، السيد نعمة الله الجزائري، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم، ايران. 1404 ه.

14. وسائل الشيعة، الحر العاملي، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم المشرفة، 1414 ه.

ص: 50

المحتويات

مقدمة المؤسسة...7

المقدمة...9

المسألة الأولى...12

قوله عليه السلام: «ولو اراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم.. وبطل الجزاء»...12

المسألة الثانية...17

قوله عليه السلام: اضمحلت الأنباء ... ولا لزمت الأسماء معانيها»...17

المسألة الثالثة...21

قوله عليه السلام: «ولكنّ الله سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم»...21

المسألة الرابعة...25

وقوله عليه السلام: «وضعفة في ما ترى الأعين من حالاتهم»...25

المسألة الخامسة....29

قوله عليه السلام: «مع قناعة تملا القلوب والعيون غنى وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى»...29

المسألة السادسة...36

قوله عليه السلام: «ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام وَعِزَّةٍ لا تُضّامُ.. أو رغبة مائلة بهم»...36

المسألة السابعة...44

ص: 51

قوله عليه السلام: «فكانت النيات مشتركة.. وكلّما كانت البلوي والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل»...44

المصادر والمراجع...49

ص: 52

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.