النُّبُوةَ و الإِمامَةُ النَّشاةُ المُستَأنَفَةُ الاسلام الرسالة

هوية الکتاب

قِرَاءَةٌ فِي تَماثُلِ الأداءِ

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 3530 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف

BP221 .N33 2018 : LC

المؤلف الشخصي: الشرهاني، حسين علي - مؤلف.

العنوان: النبوة والامامة النشأة المستأنفة الاسلام الرسالة: قراءة في تماثل الاداء /

بيان المسؤولية: تأليف أ.د. حسين علي الشرهاني، أ.م.د. حيدر مجيد العليلي، أ.م.د. شهید کریم محمد، أ.م.د. علي رحيم ابو الهيل؛ تقديم السيد نبيل قدوري الحسني.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 2 جزء؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 554).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 160).

سلسلة النشر: (الندوات العلمية الموسعة، الندوة البحثية التاريخية؛ 4). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

تبصرة محتويات: موقف الامام علي (عليه السلام) من تغير السياسات الداخلية للدولة في عصر الخلفاء / أ.د. حسين علي الشرهاني - الاجتماع السياسي والاسلام المتغایر: بحث في معوقات النشأة المستأنفة / أ.م.د. شهید کریم محمد - موقف الامام علي (عليه السلام) من الفتوحات الاسلامية / أ.م.د. حيدر مجيد العليلي - حروب الامام علي (عليه السلام) بين المصادقة القرآنية النبوية وزعزعة مبدأ الألفة والجماعة / أ.م.د. علي رحیم ابو الهيل.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الادارة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حروب - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الإسلام والدولة

مؤلف اضافي: محمد، شهید کریم -- الاجتماع السياسي و الاسلام المتغایر: بحث في معوقات النشأة المستأنفة.

مؤلف اضافي: العليلي، حيدر مجيد -- موقف الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) من الفتوحات الاسلامية.

مؤلف اضافي : الجابري، علي رحيم ابو الهيل -- حروب الامام علي (عليه السلام) بين المصادقة القرآنية النبوية

ا وزعزعة مبدأ الألفة والجماعة و الاسلامية.

مؤلف اضافي: الحسني، نبيل قدوري، 1965 -، مقدم.

اسم هينة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم مؤتمر اضافي: النبوة والامامة في عصر التاسيس ضرورة التلازم ووحدة المسار (الاولى: 2017: كربلاء، العراق).

عنوان اضافي: الاجتماع السياسي و الاسلام المتغایر: بحث في معوقات النشأة المستأنفة.

عنوان اضافي: موقف الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) من الفتوحات الاسلامية.

عنوان اضافي: حروب الامام علي (عليه السلام) بين المصادقة القرآنية النبوية وزعزعة مبدأ الألفة والجماعة و الاسلامية.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ص: 2

سلسلة الندوات العلمية الموسعة: (4)

الندوة البحثية التاريخية

الجزء الثاني

الباحثون المشاركون

أ. د. حسين علي الشرهاني

أ. م. د. حيدر مجيد العليلي

أ. م. د. شهيد كريم محمد

أ. م. د. علي رحيم أبو الهيل

إصْدَار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسینیة المقدسة

(160)

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1440 ه - 2018 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر (عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600

07815016633

الموقع الألكتروني:

www. inahj. org

الإيميل:

Inahj. org@gmail. com

تنویة:

إن الأفکار والآراء المذکورة في هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالظرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعمائه العادّون، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أمّا بعد:

يُعد أمر التلازم بين النبوّة والإمامة وفقاً لما أفادت به النصوص، أمراً حتمياً في التكوين والمسار فقدّم ضرورة عقلية أثبتتها الوقائع الحياتية منذ وجود الإنسان على الأرض وإلى آخر لحظات الوجود التكليفي للمعقولات.

فمثلما كانت الضرورة التشريعية والعقلية تقتضي وجود الخليفة قبل الخليقة كذا تقتضي هذه الضرورة وحدة المسار في النبوّة والإمامة وإن اختلفت الرُّتبة بينهما واختصاص الوحي بالأولى حيناً واندماجهما حيناً آخر كالذي نجده في إبراهيم وسيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم)، وانقطاع الوحي في الثانية بعلّة الخاتميّة فلا نبيَّ من بعدي، لكنّهما لن یفترقا حتی یردا على سيّد النبوّة والإمامة الحوض يوم القيامة.

ص: 5

فمنذ الإعلان الأول عن وحدة المسار في «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(1)وضرورة التلازم في «يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ»(2)إلى الإعلان الأخير في وحدة المسار أيضاً في «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ»(3)وضرورة التلازم في «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»(4)

تتضح ملامح المشروع الإلهي في إصلاح الحياة في ساحة التكليف الإلهي أي: (هذه الأرض) وتتضح حكمة الله عز وجل في احادة الملائكة عن هذا المشروع الإصلاحي وهم الذين وَجَدوا في أنفسهم قيادة هذا المشروع مستفهمين من حضرة الجلال والعظمة والوحدانية «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(5)فكان الجواب في اختصاص الصلاح والإصلاح في تلازم النبوّة والإمامة من آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنه إلى عليّ وولده الأئمة الأحد عشر (عليهم السلام) الذين لم تعْلَمهم الملائكة بأسمائهم لكنها علمتهم بأنوارهم

«قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»(6).

إذن: هي وحدة المسار والتلازم اللذان لا ينفكّان في «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ

ص: 6


1- سورة البقرة: 30
2- سورة البقرة: 33
3- سورة الرعد: 6
4- سورة المائدة: 67
5- سورة البقرة: 30
6- سورة البقرة: 33

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(1)، وهم عترة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم خيرُ أمة أخرجت للناس؛ وهم آل إبراهيم الذي قال فيه عزّ وجل «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(2)فهم خير ما أخرجه الله للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في تصحيح مسار الشريعة وإصلاح الحياة.

ولهذه العلّة كانت وحدة المسار وضرورة التلازم وهو ما نجده جلياً في حدیث سيّد الأنبياء والمرسلين، الذي أخرجه الحافظ ابن المغازلي الشافعي (ت 483 ه) عن سلمان المحمدي (رضوان الله عليه) أنّه قال: (سمعت حبيبي محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

«كنتُ أنا وعليّ نوراً بين يدي الله عزّ وجلّ يسبّحُ الله ذلك النور ويقدّسُه قبل أن يخلق الله آدم بألف عام، فلمّا خلق الله آدم رکّب ذلك النور في صُلبِه فلم يزل في شيء واحد حتّى افترقنا في صُلب عبد المُطّلب: فَفِيَّ النبوّةُ وفي عَلِيٍّ الخلافة»(3).

لذا: فإن الحديث عن النشأة المستأنفة لإسلام الرسالة وقراءة التماثل في الأداء للنبوة والإمامة له من الأهمية البالغة في معرفة الجهود التي بذلها النبي والوصي (صلوات الله وسلامه عليهما) في قيام الإسلام وديمومية قيمه ومعارفه المتعددة في مختلف المجالات الحياتية.

ص: 7


1- سورة آل عمران: 110
2- سورة النحل: 120
3- مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام): ص 94

وإن روح النبوة والرسالة متجددة ومتماثلة في الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) لا سيما في شخص الوصي الإمام علي (عليه السلام).

وعليه:

سعت المؤسسة من خلال هذه الندوة العلمية بعنوانها المتجدد في النبوة والإمامة أن تسلط الضوء على الجزء الثاني من أبحاثها والذي خصص لدراسة النشأة المستأنفة لإسلام الرسالة وقراءة التماثل الأدائي وذلك في الأبحاث المشاركة والتي سلطت الضوء على دراسة بعض الجوانب المرتبطة بهذا التماثل الأدائي كموقف الإمام علي (عليه السلام) من تغيير السياسات الداخلية في عصر الخلفاء، ودراسة الاجتماع السياسي ومعوقات النشأة المستأنفة وحروب الإمام علي (عليه السلام) ومصاديقها القرآنية، ودور الإمام (عليه السلام) في الفتوحات الإسلامية.

ومن ثم فإن المؤسسة تسعى إلى إثراء الحقل السيري في ما يرتبط بالنبي والوصي (صلوات الله وسلامه عليهما) منذ النشأة الأولى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل الحسني الكربلائي

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

البحث الأول موقف الإمام علي (عليه السلام) من تغير السياسات الداخلية للدولة في عصر الخلفاء

أ. د. حسين علي الشرهاني جامعة ذي قار / كلية الآداب

ص: 9

ص: 10

مقدمة:

انقسمت الجماعة الإسلامية لمجموعتين رئيستين بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ الاولى هي تلك المجموعة التي انتجها حدث السقيفة، والتي أسست منهجاً في حكم الدولة يختلف كلياً عن المنهج النبوي، والثانية هي المجموعة التي آمنت بروح الإسلام ومنهجه القرآني وارتكزت في ایمانها على الاعتقاد بمبدأ الإمامة والقيادة المعصومة للأمة استناداً للنصوص القرآنية الصريحة التي قررت هذه القاعدة في حكم الجماعة الإسلامية.

لكن المجموعة الأولى التي انقلبت على المقررات السماوية استولت على الحكم وباتت تتحكم بالمسلمين واصبح وجودها امراً واقعاً، فانتهجت منهج خاصة في إدارة الدولة لا يماثل منهج النبوة، وتبع ذلك تغيرات كبيرة طرأت على الأداء الحكومي للدولة الإسلامية، فغودرت معايير التفاضل القرآنية لتحل محلها معايير أخرى لتتناسب مع طبيعة الانقلاب وأهدافه، فأصبح معيار القرب من السلطة وخدمتها المعيار الأعلى للتفاضل بين المسلمين، ثم تبعه معیار آخر للتفاضل وهو السبق في الإسلام ليكون معیاراً رئيساً في توزيع الأموال في الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، فأنتج هذا التفاضل مشاكل جمة في المجتمع الإسلامي وأوجد شرخاً كبيراً في بنيته، هذا الشرخ الذي عبر عن نفسه بقتل الخلفاء الثلاثة الذين أعقبوا خلافة أبي بكر، لذلك عندما تسنم الإمام علي حكم الدولة الإسلامية غير هذا المنهج

ص: 11

الذي حكم به المسلمون من خلال منهجه الفكري وممارسته السلوكية، فبدأ العودة تدريجياً إلى مقررات الإسلام النبوي الرسالي، على الرغم من المعارضة الكبيرة التي جوبه بها، فوضع حلولاً لكل المشاكل التي عانى منها المسلمون، والتي نتجت عن سياسات خاطئة اتبعت في عهد من سبقه من الخلفاء، ولو قيض له الاستمرار في الحكم لتغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع لكن عاجلوه بالقتل حتى يوقفوا النشأة المستأنفة للإسلام، ويضعوا حداً لاستمرار الإسلام المحمدي الذي تعارض مع مصالحهم، وما أنتجوه من دين لا يمت بصلة للدين السماوي إلا في الشكليات والطقوس.

لذلك جاء بحثنا المتواضع هذا ليؤشر على مواطن الخلل في حكم الدولة والمعالجات التي أوجدها الإمام ليعود بالمسلمين إلى إسلام السماء، ويؤكد على الترابط الوثيق بين النبوة والإمامة من خلال التكامل الأدائي الفعلي بينهما، الذي أصبح ممارسة سلوكية على أرض الواقع وليس تنظيراً فقط.

ص: 12

أسس مجموعة من المسلمين بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) نظاماً للحكم سموه نظام الخلافة، وعدوه مكملا لنظام الحكم في دولة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستند هذا النظام إلى الانقلاب الذي قاده الحزب القرشي في يوم السقيفة على النصوص القرآنية الصريحة والاحاديث النبوية الواضحة، فصودرت حقوق ال البيت (عليهم السلام) السياسية والاقتصادية، وسكتت الأمة عن هذا الانقلاب. وعبر الإمام علي (عليه السلام) عن الانقلاب الذي جرى في السقيفة وما تبعه من استباحة لحق البيت النبوي في خطبته الشقشقية، فقال مخاطباً الأمة: (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلى منها محل القطب من الرحا، ينحدر عنى السيل، ولا يرقى إلى الطير. فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها کشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بید جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجی، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا...)(1)، وهذا الخطاب هو بمثابة بيان رفض لما جرى في الدولة الإسلامية من يوم الانقلاب إلى وصوله للحكم.

ومع صعوبة الأمر وجرأة الحزب القرشي على مخالفة المقررات النبوية، سكت الإمام لأنه رأى أن السكوت فيه مصلحة للأمة، واعلن عن ذلك بقوله: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت

ص: 13


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 151

أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)(1)، ووفق هذا المفهوم كان الإمام ينظر إلى مصلحة الأمة وديمومة الإسلام، ولم يعر اهتماماً لما أخذوه إلا بمقدار تأثيره على مصلحة الإسلام العليا.

إن سکوت الإمام لم يشمل الحق السياسي فقط؛ بل تجاوز إلى أمور اخرى، فسكت عن سلب حقوق آل البيت الاقتصادية، كمصادرة اراضي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ومصادرة خمس ذوي القربی، وغيرها من الحقوق التي انتزعت منهم ليحجموا أثرهم في الأُمة، وقد تصور الانقلابيون أنهم استطاعوا أن ينتزعوا من الإمام كل عناصر قوته، ولم يدر في خلدهم أنَّ الإمام أكبر من ذلك کما وصف هو الأمر: (فوالله ما كنزت من دنیاکم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث...)(2).

على وفق هذا المفهوم وبهذا المنهج حكمت دولة الإسلام بعد أن سيطر عليها الانقلابيون، وأخذوا يتداولون السلطة فيما بينهم، فذهب الأول إلى ربه بعد أن قضى في الحكم سنة وأشهراً، ليعقدها لشريكه في الأمر : (فيا عجباً بینا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها

ص: 14


1- الشريف الرضی، نهج البلاغة، 1 / 124
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، 3 / 71

فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها، ويخشن مسها. ويكثر العثار فيها. والاعتذار منها...)(1)، فجعلوها أي السلطة مغنمًا يتقاسمونه بينهم، بعد أن تصوروا أنهم قادرون بمفردهم على قيادة الأمة وتقرير مصيرها، وذلك بعد تأسيسهم لذلك النظام السياسي القائم على الإقصاء والتهميش، وما لحقه من نظام اداری واقتصادي قائم على القرب من السلطة ومقدار تقديم الولاء لها، ونظام اقتصادي قائم على التمايز الطبقي والاستغلال.

لكن مع هذه السيطرة المطلقة على مفاصل الدولة وثرواتها وجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة مباشرة مع تنظيم إدارة الدولة واقتصادها، لا سيما بعد أن تدفقت إلى الخزينة أموال كثيرة من الفتوحات، الأمر الذي اضطرهم مرات عدة إلى الاستعانة بالإمام علي (عليه السلام)، وذلك لأنهم كانوا على معرفة يقينية مسبقة أنه لن يترك المسلمين وهم بحاجة إليه، كما أنهم على يقين تام بأنه كان حريصاً على سلامة الدولة والحفاظ عليها، على الرغم من تحفظاته على المنهج الذي بنيت عليه، فوضع حلولاً للكثير من المشاكل التي واجهت الدولة؛ بل أنه وضع برنامجاً متكاملاً لإدارتها وتنظیم اقتصادها، لكن المؤسف في الأمر أن المصادر التي اهتمت بتلك الحقبة التاريخية لم تعط الأمر ما يستحقه، لذلك يجد الباحث صعوبة في تتبع الموضوع وجمع اجزائه، لكن هذا الأمر لم يكن عائقا أمام من يريد أن يعرف فاعلية الإمام (عليه السلام) في إدارة الدولة وحاجة الأمة إليه.

وإجمالاً نستطيع القول إن الإمام (عليه السلام)) كان قد وضع برنامجاً

ص: 15


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، 3 / 71

لمن سبقه في الحكم، من أجل مكافحة آفة الفقر وإخراج الفرد المسلم من دائرة الفاقة والحاجة إلى بحبوحة العيش الرغيد من دون إذلال أو امتهان الكرامته، وذلك عبر إجراء بسيط ترعاه الدولة، وهو أن توزع الأموال التي تتجمع في كل عام ولا يبقى في بيت المال أي شيء، وفق قاعدة المساواة في الحصص، فيكون المسلم في هذه الحالة أشد التصاقاً بدولته التي ترفع شعار الإسلام، عندما يرى العدالة متحققة وأنه جزء مهم في هذه الدولة، وربط الإمام (عليه السلام) هذا الإجراء بمسألة أخرى، هي إبقاء الأراضي التي فتحت عنوة في العراق والشام ومصر وغيرها بيد الدولة، ولا توزع على الفاتحين حتى لا تتكون اقطاعيات وتظهر طبقات اجتماعية تذهب بالمنجز الذي تحقق في عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفق القاعدة القرآنية «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(1)، والغرض الرئيس لهذا المقترح الذي تحول إلى سياسة واقعة فيما بعد هو ضمان مورد ثابت لخزينة الدولة، ثم أردف ذلك بضرورة سن قانون للضمان الاجتماعي، ترعى فيه الدولة ضعفاء المسلمين ممن لا يقوون على العمل، وبذلك تكون الدولة قد غطت الحاجات الأساسية لكل فئات المجتمع، ومن اجل الحيلولة دون استئثار أصحاب السلطة بالأموال، واستباحة خزينة الدولة، وضع الإمام قاعدة لمقدار المستحقات المالية التي يجب أن يحصل عليها الحاكم، وفقاً لمبدأ الورع، وهذا يتعلق بالمسؤول الأعلى فقط، وليس كل المسؤولين في الدولة الذين يجب أن تحدد استحقاقاتهم المالية، وهذا أمر يتعلق بطبيعة نظام الدولة القائم على النظرية الإسلامية، فيكون الحاكم أنموذجاً للأمة، عندما يواسي

ص: 16


1- سورة الحجرات: الآية 13

ضعفاءها ومعوزيها. وهناك نقاط اخرى يمكن أن تضاف إلى ما تقدم في معالجة المشكلات التي واجهت الدولة سنتطرق لها تباعاً في ثنايا البحث.

لكن هذا البرنامج لم يطبق بصورة كاملة لاسيما فيما يتعلق بالمساواة بين المسلمين في العطاء وعدم خزن الأموال، فأدى هذا الأمر إلى مشکلات كبيرة ظهرت نتائجها لاحقا، فبعد أن كان المسلمون يأخذون عطاءً متساوياً في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر أصبحوا متفاوتين في أخذهم العطاء في عهد عمر بن الخطاب، فغودر معيار التقوى القرآني، وحل محله معيار القرب من السلطة وتأييدها وخدمتها، أو معيار السبق في الإسلام - وإن كان ظاهرياً نفاقياً - حسب سياسة التفضيل في العطاء التي أنتهجها عمر بن الخطاب، فأعيد تشكيل الجماعة الإسلامية التي جهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على صهرها وصقلها ضمن قالب الأمة الواحدة المتكاتفة، إلى مجتمع طبقي متفاضل على أساس ظاهر الانتهاء، وعلى أساس المستوى الاقتصادي والحالة المعيشية، مما أفقد مفهوم الأمة روحيتها الإنسانية والإسلامية على حدٍ سواء، وسنحاول في هذا البحث التركيز على الانتكاسة التي مرت بها الأمة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ثم ننهي بالمعالجات التي أجراها الإمام (عليه السلام) باعتباره وصياً على الأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

أولاً: الاجراءات الاقتصادية والادارية في عهد عمر بن الخطاب

بعد أن تولى عمر بن الخطاب الحكم بوصية أبي بكر المعروفة تصور أن بمقدوره أن يدير الدولة بمعزل عن الخط النبوي، طالما استطاع ان يستولي

ص: 17

هو ومن تحالف معه من الحزب القرشي على السلطة، وباشروا بأكبر عملية للإنسیاح خارج الجزيرة العربية والاستيلاء على الاراضي المجاورة للدولة الإسلامية، فبدأت المدن تفتح الواحدة تلو الأخرى، وبدأت الأموال تتدفق إلى خزائن الدولة، لكن هذه الأموال المتدفقة كانت بحاجة إلى إدارة وتنظيم، وبما أن عمر ومن كان معه ينحدر من تلك البيئة الصحراوية، لم يكن يعرف كيف يدير تلك الأموال، لذلك بدأ يستشير الناس في أمور الدولة لعجزه عن إدارتها، وقد حصل على نصائح عدة من المقربين للسلطة ممن كانت لهم خبرة في التجارة والأموال، لكن هذه النصائح لم تكن بمستوى الطموح، ولم تضع حلولاً ناجعة، فلجأ إلى الإمام علي ((عليه السلام)) ليجد عنده حلولاً لما تواجهه الدولة من تحديات، وهو على يقين تام أن الإمام ((عليه السلام)) لن يدخر جهدا يخدم به الدولة إلا وقدمه حرصا منه على ديمومة الإسلام.

ومع أن الإمام علي (عليه السلام) قدم رؤية متكاملة لكيفية إدارة الدولة إلا أن عمر بن الخطاب لم يلتزم بها كلياً وخالف بعض أجزائها المهمة، لا سيما ما يتعلق بكيفية توزيع الأموال على المسلمين كما أسلفنا، وأعلن عن مشروعه القائم على تقسيم الناس إلى طبقات تستند في ظاهرها إلى ما قدمه الفرد من خدمات للإسلام في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن حقيقتها أنه أراد أن يجعل الحزب القرشي في طبقة لا يصلها أي فرد في المجتمع الإسلامي، ويُبقي له اليد العليا على الأمة ما دام هذا الحزب هو من صيره حاکماً، فأطلق مشروعه عبر قوله المشهور: (لا أجعل من قاتل

ص: 18

رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه...)(1)، بمعنى أنه كان يريد أن

یمايز بين الناس بحسب ما قدموه في عصر الرسالة، فحول جهاد المسلمين الأوائل وتفانيهم في الإسلام إلى سعي لمكاسب مادية، وتبع ذلك أن تحول المجتمع الإسلامي إلى طبقات حسب ما تمتلكه كل طبقة من أموال وما تمنحه الدولة من امتیازات.

ويبدو أنَّ عمر بن الخطاب كان مصماً منذ البداية على إيجاد هذه الطبقية في المجتمع الإسلامي، فقد أشار على أبي بكر بذلك: (فلو فضلت أهل السوابق والقدم)(2)، لكن الأخير رفض الأمر لأن الأمة لم تكن متهيئة لاستقبال هذا التغيير الغريب عن تعاليم الإسلام التي تقضي بتساوي الجميع في الحقوق، وكون الأمة مثل الجسد الواحد، ومشروع الإسلام القائم على التكامل بين أعضاء المجتمع، ولم يقبل من حليفه المقرب وقال له: (إنما ذلك شيء ثوابه إلى الله عزَّ وجل، وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة)(3). لم يصر عمر على أبي بكر لتطبيق المشروع المقترح وتركه حتى تولى الخلافة، فأمضى ما أراده على الرغم من أن الإمام علياً (عليه السلام) كان قد نصحه بالقسمة بالسوية(4)، ضمن السياسة التي اقترحها للحفاظ على مثالية الإسلام ومبادئه السامية، مثلما اقترح عليه أن لا يبقي في بيت المال أي شيء ويقسم هذا

ص: 19


1- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 296
2- أبو يوسف، الخراج، ص 45
3- أبو يوسف، الخراج، ص 46
4- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 195

المال بالتساوي في رأس كل عام(1)، لكن عمر كان قد خطط للأمر منذ وقت مبكر ظناً منه أنه سيحقق مشروعه الذي يقضي بسيادة قريش على المسلمين مهما قدموا للإسلام، وجعلهم طبقة عليا حاكمة، فيستمر مشروع الحزب القرشي الذي يستند على إبعاد البيت النبوي عن ممارسة أي دور فاعل.

وقبل أن ندخل في موضوع الطبقية التي خلقها النظام المالي الذي سنه عمر بن الخطاب، لابد أن نتعرف على أثر الإمام في تنظيم أمور الدولة الإسلامية المفصلية، حتى نستطيع تصور فاعليته السياسية والإدارية وحاجة الأمة اليه بعد نبيها، لا سيما في عهد عمر بن الخطاب الذي كان يرجع إليه في الكثير من القضايا ليجد له حلولاً، ومن هذه القضايا مسألة حصته من الأموال الواردة، وذلك لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ من الأموال وفق الحق الوارد في القرآن الكريم، وعمر لم يكن مشمولاً بهذا التشريع، لأنه لم يكن من آل البيت الذين أوصى بهم الله تعالى وحفظ حقوقهم المالية ومكانتهم في المجتمع، ولم يكن بمقدور عمر أن يأخذ من الأموال بقدر ما يشاء، فلجأ إلى الصحابة يستشيرهم في الأمر، والشيء اللافت هنا أن الإمام علي (عليه السلام) كان يبذل النصيحة حينما يسأل عن أمو المسلمين وصلاحم، على الرغم من كل ما فعلوه معه، والأغرب من هذا انهم لم يستغنوا عنه، وذلك لعجزهم عن هذا الأمر، فقال عمر لمن تجمع عنده: (إني كنت امرءاً تاجراً يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني عن التجارة

ص: 20


1- البلاذری، فتوح البلدان، ص 267، اليعقوبي، تاریخ، 2 / 106، الطبري، تاریخ الرسل والملوك، 4 / 209

بأمركم، فما ترون أنه يحل لي من هذا المال)(1). فأشاروا عليه بمجموعة من الآراء، لكنه كان يريد رأي الإمام علي (عليه السلام) في هذا الأمر فقال:

(ما تقول أنت يا أبا الحسن؟ فقال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، وليس لك من هذا المال غيره، فقال: القول ما قاله أبو الحسن، فأخذ به)(2).

لقد كان هؤلاء يعون جيداً أنهم لن يستطيعوا الاستغناء عن الإمام (عليه السلام)، وهو لم يتردد بإسداء النصيحة للأمة، فكان جوابه ينطوي على روح الإسلام ومبادئه التي سعى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لغرسها في نفوس المسلمين، فكان الإمام (عليه السلام) بحكم كونه الوصي على الأمة بعد وفاة نبيها مسؤولاً مباشراً عن استكمال الأمر، فنصح عمر بأن يأخذ من المال بالمقدار الذي يسد به حاجته وحاجة عياله، ويبقى الحاكم يأخذ من المال حسب القناعة التي يفرضها عليه دينه وورعه وزهده، وهو أمر يحتاج وقفة طويلة لأنه ينطوي على جوانب انسانية عالية، لقد كان رأي الإمام (عليه السلام) يرتكز على المساواة ومشاركة الحاكم للمحكومين معاناة الحياة وقساوتها فيكون على معرفة تامة بما يعانيه الناس، فوضع بذلك قاعدة انسانية للحكم تقضي بان يواسي الحاكم أضعف المسلمين ولا يتميز عليهم بشيء(3)، وجعل الحاكم مجرد موظف يتقاضی اجراً على وظيفته، كذلك جَّرد المنصب من الامتيازات التي تدفع النفعيين للوصول إليه، فيصبح منصب الحاكم مكاناً للخدمة ليس إلا، وليس مغنماً يتقاتل عليه الباحثون عن

ص: 21


1- الطبري، تاریخ، 3 / 616، ابن أبي الحديد، شرح النهج، 12 / 220
2- الطبري، تاریخ، 3 / 616، ابن أبي الحديد، شرح النهج، 12 / 220
3- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 2 / 374

السلطة والثراء.

ثم استمر الإمام يحرس الدين ويحمي المجتمع الذي يستظل بدولة الإسلام، ولم يبتعد عن الأمة على الرغم من صعوبة الوضع، ولم يكتف بالتنظير والنصح بل سعى إلى ايجاد قواعد عامة للحكم، فسن تشريعات تحمي الفقراء وتضمن العدالة، ومن أهم هذه التشريعات اقتراحه نظام الحماية الاجتماعية أو الضمان الاجتماعي کما يطلق عليه اليوم، فورد في رواية أن كمية من الأموال وردت لخزينة الدولة فوزعت کرواتب للموظفين، وبقي منها فائض فتحیر عمر في كيفية التصرف بهذه الأموال، فطلب من مستشاريه النصيحة، فأشاروا عليه بأن يأخذها لنفسه(1)، لم يكن الجواب مقنعاً مادام قد أخذ حصته من الأموال وهو بحاجة إلى معالجة تنسجم والصورة التي كان يريدها للدولة التي انتزي على حكمها، لذلك توجه إلى الإمام علي (عليه السلام) ليجد له حلاً، فشرح له الإمام الكيفية التي كان يتصرف بها الرسول الأعظم مع الأموال الفائضة(2)، وهنا زاوج الإمام بين معالجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونظرته لإدارة الأموال، وهذا يؤكد ما نريد اثباته في البحث من أنه كان الوصي على الأمة، والملجأ الذي لا يخذلها عند حاجتها وحامي حقوقها، فسن برأيه هذا قانونا يحمي الفقراء ويحفظ إنسانيتهم، لاسيما أن هذه الطبقة التي كان يوليها اهتمامه الكبير، كانت تشغله أكثر من بقية الطبقات، لأنها طبقة عاجزة لا حول لها ولا قوة، وقد كانت مشورة بسيطة جداً لكنها حملت بين طياتها فكراً عجز الذين

ص: 22


1- ابن أبي الحديد، شرح النهج، 12 / 100
2- ابن أبي الحديد، شرح النهج، 12 / 100

تسلقوا إلى السلطة من دون حق أن يصلوا اليه، وأنى لهم ذلك إنه علم انفرد به الإمام (عليه السلام) واستحق به أن يكمل إسلام الرسالة، فما كان من هؤلاء الذين حاولوا تحجيم دوره إلا أن وجدوا انفسهم مضطرين للرجوع إليه لحل مشكلات الدولة.

والمسألة الأخرى التي كان للإمام أثر بارز في معالجتها وإيجاد حل لها هي مسألة الأراضي المفتوحة، التي لم تجد لها مؤسسة الحكم حلاً، لا سيما أن المنتمين لها انحدروا من بيئة صحراوية لا يحسنون التعامل مع الأراضي الزراعية في المناطق المتحضرة، وقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تعامل مع الاراضي التي ضمت إلى ممتلكات الدولة الإسلامية تعاملاً خاصاً، فلم يوزعها كما فعل بالغنائم بل تركها بيد أهلها يعملون فيها كما كانوا عليه من قبل مقابل نسبة من الحاصل، مثلما طلب يهود خيبر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبقيهم في الأرض لزراعتها(1)فوافق على ذلك مقابل دفع نصف الحاصل الذي يخرج منها(2)کما عمل الشيء نفسه مع ارض وادي القرى(3)، وأخذ منهم الخراج على أساس المقاسمة وليس المساحة، وهذا يحفز الفلاحين للاهتمام بالأرض، فكلما كان الناتج كثيراً كلما زادت حصصهم. وبذلك استثمرت خبرة المزارعين، واحتفظ بقوة المسلمين

ص: 23


1- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة المنورة، 1 / 177؛ البلاذری، فتوح البلدان، ص 22
2- الشافعي، کتاب الأم، 3 / 85؛ ابن سعد، الطبقات الکبری، 2 / 114؛ الطوسي، الخلاف، 3 / 474
3- الشافعي، کتاب الأم، 2 / 36؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 3 / 304؛ ابن شبة النميري، تاریخ المدينة، 1 / 177

واستعدادهم، وضمن مصدر ثابت لتغذية خزينة الدولة.

فلما فتحت أراضي السواد کتب سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب يسأله عن كيفية التصرف بالأراضي المفتوحة، فكان الرأي أن تقسم الأراضي على المقاتلين، وبالفعل عملوا احصاءً للأراضي والمقاتلين فتبين أن كل شخص سيحصل على مقاطعة كبيرة، وعلى أثر ذلك جمع عمر الصحابة ليتداول معهم في أمر الأراضي، وكان كثير من هؤلاء الصحابة هم من الفاتحين الذين سيحصلون على أراضي زراعية في حال قسمت أراضي السواد، لكن الغريب في الأمر أن مجرد جمع الصحابة واستشارتهم كان مخالفة صريحة لسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في إدارة الدولة وتنظيم اقتصادها، ولو أن الحاكم طبق ما كان متعارفاً عليه في زمن الرسول لما احتاج إلى أن يبحث عن حلول، ولو قلنا إن هذا الإجراء إداري يتناسب مع ظروف المرحلة لذلك ليس بالضرورة أن يطبق عمر ما فعله الرسول مع الأراضي، نجد أنه مخالف أيضا الطبيعة إدارة الدولة لأن اجراء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ناجحا جداً، وأسهم في ديمومة موارد بیت المال، والمدة ليست طويلة والظروف ليست متباينة، ومع ذلك كان الإمام (عليه السلام) حاضراً لترتيب أوضاع الدولة، ورعاية مصالحها العامة، لذلك عندما طلب منه عمر بن الخطاب المشورة خالف رأي المجموعة المتواجدة في المسجد التي أشارت عليه أن يوزع الأراضي على الفاتحين وعلى الصحابة المتواجدين في المدينة بقولها: (نقسمها بیننا)، وقال له: (إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن تقرها

ص: 24

في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا، فقال: وفقك الله)(1)، فاستجاب عمر لرأي الإمام علي (عليه السلام) في كيفية التعامل مع الأراضي وعمل به، لأنه يعد انقاذاً لاقتصاد الدولة وضمان لقوتها، فقد سمع من الصحابة رأيين متناقضين؛ الأول: يقضي بتقسيم الأرض بين الفاتحين فتتكون ملكيات خاصة تجعل الدولة ضعيفة أمامها، وهي نزعة أنانية قبالة مصلحة الدولة ومستقبل الأجيال القادمة وابتعاد عن الزهد الذي نادى به الاسلام؛ والثاني: أراد أن تبقى الأراضي الزراعية بيد الدولة كمورد اقتصادي ثابت لها، وكان الرأي الذي طرحه الإمام (عليه السلام) يناسب وضع الدولة ويحفظ هيبتها ويضمن قوتها، وذلك لأنها ستكون مشرفة عليها وعلى وارداتها، ولو اتبع رأي النفعيين لم يبق للدولة شيء والأموال حتى وإن بقيت في بيت المال فإنها سرعان ما تنفد ولا تستطيع الدولة أن ترتب أوضاعها، لذلك قبل رأي الإمام لأنه جعل فلاحي تلك الأراضي مواطنين يعملون على خدمة الدولة فقال له: (دعهم يكونوا مادة للمسلمين)(2).

لقد كانت المعالجة التي وضعها الإمام (عليه السلام) لمشكلة الأراضي قد وضعت حداً لتوسع طبقة الاقطاعيين الجدد، وحجمت ولو بشكل جزئي من قدراتهم في السيطرة على اقتصاد الدولة، وأرجعت للإسلام صورته المثالية وهو ما كان يتغياه الإمام بوصفه الوصي على الأمة والحبل المتين الذي تركه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها لتتعلق به، فحفظ طبقة الفلاحين من الاستغلال إذ جعلهم موظفين عند الدولة لهم كيان محترم

ص: 25


1- اليعقوبي، تاریخ، 2 / 102
2- قدامة، الخراج، ص 362

بدلاً من أن يصبحوا اقنانا مربوطين بالأرض يتبعون مالك اقطاعي.

وبناءً على ما تقدم قبل عمر بن الخطاب الرأي وكتب لسعد بن أبي وقاص کتاباً مفاده أنه يخاف أن وزع هذه الأراضي على المقاتلين فإنهم سيتقاتلون بينهم بسبب المياه وغيرها مما يؤدي إلى ضعفهم، ثم أرسل عثمان بن حنيف لمسح أراضي السواد وتقدير الخراج ومعه حذيفة بن اليمان.

وهنا لا نبالغ إن قلنا أن سياسة الدولة الاقتصادية اعتمدت إلى حد كبير على النصائح التي أسداها الإمام لمؤسسة الحكم، فأسهمت في تحسين صورتها وحافظت على الحد الأدنى من إنسانية الدولة، لكن الأمر الذي أساء إليها وجعل المجتمع الإسلامي يعيش حالة من التشظي والصراع الطبقي هو سیاسة عمر في توزيع الأموال على المسلمين، التي كانت مخالفة صريحة لما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، و آيات القرآن صريحة وواضحة في هذا الباب: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(1)، وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا ان ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى)(2)، فعاد بالمسلمين إلى عهد الجاهلية وميز الناس على أسس وضعها هو، وخلق طبقات ألغاها الإسلام وحاربها، وهو أمر سعی

ص: 26


1- سورة الحجرات، الآية 13
2- ابن حنبل، مسند احمد، 5 / 411؛ الطبراني، المعجم الأوسط، 5 / 86؛ ابن حجر، فتح الباري، 6 / 382

إليه منذ بداية الانقلاب لكن أبا بكر شريكه في الأمر رفضها(1)، فكان اعتراضه على منهج أبي بكر في توزيع العطاء هو استمرار لسلوكه الماضي في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كان دائم الاعتراض على قرارات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في محاولة لتقويض صورته النبوية حتى يسهل الاعتراض عليه ورد ما يقرره، وقد أمضى عمر ما يريده عندما وصل إلى الحكم فغير نظام الرواتب وفق الرؤية التي كان يتبناها.

وباشر بالتغيير عندما وصلت كمية من الأموال إلى خزينة الدولة الإسلامية، وهذه الكمية كانت أكبر من المعتاد لذلك تولدت حاجة لإيجاد نظم مالية وإدارية، تتناسب مع حجم الأموال الواردة، ولأن عمر لم يكن على معرفة بالكيفية التي يدير بها هذه الأموال جمع الناس في المسجد، وقال لهم: (إن شئتم أن نكيل لكم كلنا، وان شئتم أن نعد لكم عددنا، وان شئتم أن نزن لكم وزنا)، لكنه أدرك أن هذا الإجراء لا يتناسب مع إدارة اقتصاد دولة أصبحت مترامية الأطراف، فأفاد من خبرة بعض الصحابة الذين عملوا بالتجارة واكتسبوا معرفة بالإدارة، من خلال احتكاكهم بالدول المجاورة، فاقترحوا عليه أن ينشأ الديوان من أجل تسجيل أسماء المقاتلين وتوزيع العطاء(2)، فقبل عمر هذا الرأي وأنشئ ديوان العطاء(3)، وشكل على أثر ذلك لجنة لتسجيل الناس في الديوان، تكونت من: عقيل بن أبي

ص: 27


1- أبو يوسف، الخراج، ص 46؛ البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 348؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، 6 / 4
2- أبو يوسف، الخراج، ص 45؛ اليوزبكي، دراسات في النظم العربية الإسلامية، ص 113
3- صبحي الصالح، النظم الإسلامية، ص 313

طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبیر بن مطعم(1)، وأمرهم بتسجيل الناس حسب قرابتهم برسول الله فبدأ ببني هاشم، وأتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه، فإذا استوى الناس في القرابة قدموا أهل السابقة، ثم انتقلوا إلى الأنصار فسجلوهم ثم سائر العرب(2).

وبعد أن انتهى من التسجيل بدأ بتطبيق منهجه الذي سعى إليه قبل أن يتولى الحكم(3)، وعلى الرغم من أن المؤرخين لم يتفقوا على نسب العطاء، التي منحها للمسلمين، إلا أنهم اتفقوا على أنه قسم المجتمع الإسلامي إلى مجموعة من الطبقات، حسب مقدار العطاء الذي تأخذه كل طبقة، فطبقة كانت تأخذ عطاءً يصل إلى عشرة آلاف درهم(4)، وأُخرى تأخذ عطاءً لا

ص: 28


1- كان عقيل بن أبي طالب عالما بأنساب العرب، ينظر ترجمته ابن الأثير، أسد الغابة، 3 / 423 ۔ 424، ومخرمة بن نوفل الزهري القرشي ابن عم سعد بن أبي وقاص أسلم يوم فتح مكة وكان من المعروفين بحفظ الأنساب، ينظر ترجمته ابن الأثير، أسد الغابة، 4 / 337، وجبير بن مطعم النوفلي القرشي أحد أشراف قريش ومن الذين كانت تربطهم صلة برسول الله، إذ كان أحد الذين كسروا الحصار عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم في السنة العاشرة للبعثة، أسلم بعد سنة ست للهجرة، وفي رواية إنه أسلم عند فتح مكة، وكان من العارفين بأنساب العرب، ينظر ابن الأثير، أسد الغابة، 1 / 271
2- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 295؛ البلاذری، فتوح البلدان، ص 267؛ الطبري، تاریخ الأمم والملوك، 3 / 278
3- أبو يوسف، الخراج، ص 45؛ ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 296؛ ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 615
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 267 - 268، ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 615، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 108

يتجاوز ألفي درهم أو أقل من ذلك(1)، ثم تحولت هذه الطبقات الاقتصادية إلى طبقات اجتماعية، حسب نسبة الثراء الذي تتمتع به فأصبح الجهاد، والسابقة في الإسلام، سبباً في تكوين طبقة ارستقراطية غنية، لا تقدم للدولة أي خدمات سوی کونها أسلمت ودافعت عن الإسلام في بداية الدعوة، ثم اتكلت على هذه الميزة، فأصبحت النسبة الغالبة منها تأخذ العطاء وهي لا تؤدي أي عمل، وكان عطائها المرتفع هذا بمثابة رواتب تقاعدية، فكان هذا النظام الجديد الذي يكن معروفاً في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أدى إلى مشاكل جمة في المجتمع الإسلامي، فأصبح البون شاسعة بين الطبقة العليا التي أوجدها عمر وضعفاء المسلمين فمنهم من تعطيه الدولة اموالاً طائلة، وآخر لا يأخذ إلا الفتات الذي لا يسد حاجته، وازداد الأمر سوءاً مع تدفق كميات كبيرة من الأموال نتيجة للفتوحات، فتكدست الثروات عند الطبقة الارستقراطية الجديدة التي أنشأت في المدينة كنتيجة للتفاوت بالعطاء، وهؤلاء متقاعدون لا يؤدون أي عمل للدولة فوظفوا أموالهم بالتجارة، فزادت ثرواتهم قبالة بقية المسلمين وأصبح ثرائهم فاحشاً، وازداد الأمر سوءاً عندما اعتلى عثمان سدة الحكم وأبقى نظام الرواتب کما هو لعدم قدرته على تغييره، وزاد عليه أن أنشأ طبقة أخرى أقوى من الطبقة الأولى تمثلت بأسرته القريبة من بني امية الطلقاء، وأنتهی امره أيضا قتيلاً بعد أن خذلته الطبقة التي انشأها وسلطها على رقاب المسلمين، وهو على كل حال لا يستطيع أن يخالف مقررات عمر التي أصبحت في الوعي الإسلامي سنة لا يجوز مخالفتها كما سيأتي.

ص: 29


1- البلاذری، فتوح البلدان، ص 268، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 153

ومع حجم الخراب الذي اسس له عمر بن الخطاب عبر سياسته الاقتصادية، واستمرار عثمان على ممارسة السياسة نفسها، وما رافقها من خلل في الجهاز الإداري للدولة بعد ان سلم مقاليدها الأخير لأسرته، لم يقف الإمام علي (عليه السلام) مكتوف الأيدي بل كان حاضراً في كل الأحداث فاعلاً فيها، ينصح ويقدم المشورة ويتخذ المواقف الصلبة، على الرغم من الحصار الذي فرضوه عليه ومحاولات استبعاده وازاحته عن المكانة التي وضعها الله تعالى بها، فكان ملجأ الأمة وملاذها في وقت الشدة.

ثانياً: الاجراءات الاقتصادية والادارية في عهد عثمان

انتقلت الأمة إلى مرحلة جديدة عقب اغتيال عمر بن الخطاب الذي لم يخرج من الدنيا حتى مهد الأمور لسلفه عثمان ليلي الحكم من بعده، على الرغم من عدم قناعته به ومعرفته التامة بانه سيولي اسرته مفاصل الدولة، فقال له عندما رشحه مع المجموعة التي اختارها ليكون منها الخليفة من بعده: (كإني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، واثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب، فذبحوك على فراشك ذبحا، والله لئن فعلوا لتفعلن، ولئن فعلت ليفعلن، ثم أخذ بناصيته، فقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه کائن)(1)، نعم كان يعرف عثمان جيداً، ومع ذلك وضع تلك الخطة التي تقضي باستبعاد الإمام عن الخلافة، عندما جمع ستة من الصحابة هم كل من

ص: 30


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 186. وقد أوردت هذه الرواية مصادر أخرى بألفاظ مختلفة ينظر، ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 3 / 883، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 158

الإمام علي وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفي وهو راض عنهم، ليختاروا من بينهم خليفة، وفرض عليهم أن يختاروا خليفة من بينهم في غضون ثلاثة أيام(1)، تحت التهديد بالقتل، إذ قال لهم إذا أتفق خمسة منهم على مرشح وخالف واحد يضرب عنق الذي يخالف، وإذا اتفق اربعة على مرشح وخالف اثنان يضرب عنق المخالفين(2)، وإذا اتفق ثلاثة على مرشح والثلاثة الآخرون على مرشح آخر یختار عبد الله بن عمر ابن أحد المرشحين(3)، فإذا رفضوا يتم اختيار مرشح الجماعة التي فيها عبد الرحمن بن عوف، ويقتل من يرفض هذا الاختيار(4).

لقد خطط عمر بن الخطاب لاستبعاد الإمام جيداً فقد أدخله في الشورى ولم يستبعده لأنه لا يستطيع ذلك، فوضع هذه الخطة التي تنبه لها الإمام جيداً وعرف المغزى منها، فقال لعمه العباس بن عبد المطلب : (عدل بالأمر عني ياعم، قال وما علمك؟ قال قرن بي عثمان، وقال عمر کونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم

ص: 31


1- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 61، ابن شبة النميري، تاريخ المدينة المنورة، 3 / 895، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 295
2- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 3 / 925، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 42 - 43، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 160
3- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 3 / 925،، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 160، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 294
4- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 61؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 160؛ الطبري، تاریخ الرسل والملوك، 3 / 294

عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئا)(1)، كما عبر عن هذا المخطط في خطبته الشقشقية: (جعلها في جماعة زعم اني احدهم، فيا لله وللشوری متی اعترض الريب في مع الاول منهم - اي أبا بكر - حتى صرت اقرن إلى هذه النظائر، ..فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره)(2)، وعلى الرغم من هذه المعرفة بأنه مستبعد من الخلافة، لكنه دخل في الشورى، وبقي فاعلاً في كل الأحداث التي شهدتها الدولة الإسلامية طيلة مدة حكم عثمان مع التباين الشديد بينهما.

آلَ الحكم إلى عثمان وفق الطريقة المتقدمة بعدما رفض الإمام علي المساومة،

والإبقاء على الامتيازات التي حصلت عليها الطبقة الأرستقراطية، ورفض المنهج الذي أرادوه من السير على خطى أبي بكر وعمر في حفظ مكانة الحزب القرشي، وأطلق رأيه الذي لا يقبل المساومة: (اعمل بمبلغ علمي وطاقتي)(3)، لأنه كان يعرف يقيناً أن أعضاء الحزب القرشي كانوا مصرين على استبعاد الإمام، لمعرفتهم بأنه وصي الرسول الأعظم والخلف الذي اختاره الله تعالى ليكمل مسيرة الرسالة، والشخصية القوية التي من غير الممكن أن يسيطروا

ص: 32


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 294، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 191
2- فصغى رجل منهم لضغنه يقصد طلحة بن عبيد الله، لأنه ابن عم أبي بكر، وهناك خلاف بين بني هاشم اسرة علي وبين بني تيم اسرة أبي بكر وطلحة بسبب الخلافة، اما معنی ومال الآخر الصهره فهو يعني انحياز عبد الرحمن بن عوف لعثمان، لأنه متزوج أخت عثمان، ينظر ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، 1 / 184، 189
3- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 297؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 12 / 264؛ الأميني، الغدير، 9 / 115 - 117

عليها أو يجعلوها ضمن دائرتهم، فكانت مصالحهم أعلى من الالتزام بوصایا النبي ومقررات السماء، بعد أن استمتعوا بالدنيا وجرت الأموال في أيديهم، وأصبحوا طبقة عالية في المجتمع الإسلامي لا تشبهها طبقة.

طرح عبد الرحمن بن عوف على الإمام هذه الأمور، وهو يعلم مسبقاً أنه سيرفضها، فما معنى أن يشترط عليه كيف يسير الدولة ويفرض علیه سیاستها المستقبلية، وما معنى أن يسير بسيرة الشيخين وهو يعلم جيداً أن الإمام لم يكن مقتنعاً بسياستهما، لقد أراد هو ومن يقف وراءه أن يوهموا المسلمين بأن الإمام علي هو من رفض الشروط، لكن الإمام لم يكن غافلاً عن ذلك كله، وهو يعرف العلاقة التي تربط الأثنين زيادة على علمه بأن الحزب القرشي كان يسعى جاهداً لإبعاده عن الخلافة، كنتيجة طبيعية للعداء الذي خلفه تفاني الإمام (عليه السلام) في خدمة الإسلام، وجهاده ضد المشركين، فضلاً عن معرفتهم بمنهجه في إدارة الدولة ورؤيته لتوزيع الثروات، التي تتقاطع مع ما حصلوا عليه من امتیازات عالية، ومكاسب في ظل سياسة التمييز والتفضيل التي انتهجها عمر.

لقد تحولت الدولة بأكملها في عهد عثمان إلى ضيعة يتحكم بها بنو أُمية، فبدأت مرحلة جديدة من التغيرات تطرأ على مجمل الأداء الحكومي في الدولة الإسلامية، وقد عبر أبو سفيان بن حرب الأموي عن هذا التغير بقوله: (اعندكم أحد من غيركم، قالوا: لا، قال: يا بني أُمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة. قال: فانتهره عثمان، وساءه بما قال، وأمر

ص: 33

بإخراجه)(1)، وهذه مرحلة لم تصلها الدولة الإسلامية في عهد عمر، نعم كان التأسيس في عهده وهو من مهد للأمور لتصل إلى هذه المرحلة، لكن ما فعله عثمان فاق حد الوصف فقد دمر كل المكتسبات التي حققتها الرسالة الإسلامية، فاستحالت الدولة التي بناها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاهد الصحابة وعلى رأسهم الإمام علي (عليه السلام) في تثبیت اركانها إلى ملك عضوض لبني أُمية، وأفضل وصف لما آلت اليه الأمور في عهد عثمان ما قاله الإمام (عليه السلام): (إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته)(2).

لقد كان حجم الخراب كبيراً جداً، إذ بدأ عثمان بسياسة ممنهجة لتسليم الدولة لبني أمية، وكانت أولى خطواته توزيع الولايات الإسلامية على بني أمية، فعزل الولاة الذين عينهم عمر بن الخطاب واستبدلهم بكادر إداري من أسرته(3)، ممن لم تكن له سابقة في الإسلام أو مزية تذكر؛ بل على العكس لم يعرف عنهم إلا كل قبيح، وهذه هي العقلية العربية البدوية التي استند إليها الحزب القرشي، والتي تعد السلطة مغنماً يوزع على الاسرة، فكان هذا التغيير الإداري السيء قد التقی بسوء توزيع الثروات، وسوء استغلال الجهاز الإداري للسلطات الواسعة الممنوحة له من لدن مؤسسة الحكم، ومع

ص: 34


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 8 / 186؛ الجوهري، السقيفة وفدك، ص 87؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 53
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 250
3- ابن خیاط، تاریخ خليفة بن خیاط، ص 114؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 306

ثراءٍ فاحش منح لطبقة الصحابة الأوائل في عهدي عمر وعثمان، والثراء غير الشرعي لبني أمية بعد استيلائهم على الدولة، في قبالة فقر وجوع طبقات واسعة من المسلمين، فكان هذا التباين سبباً في التذمر الذي ساد معظم الولايات الإسلامية.

لقد تحولت تلك الدولة التي أُسست على العدالة والمساواة واحترام الإنسان وحقوقه إلى ضيعة يتقاسمها صبيان بني أُمية ويتصرفون بها كيفما شاؤوا، فوصف أحدهم الدولة وثرواتها، بالقول: (إنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون)(1)، هكذا أضحت الدولة الإسلامية بعد ان نزي عليها بنو امية الطلقاء وليمة لهم ولأسرهم، وأصبحت اراضي الدولة كلها بستاناً لهم: (إنما السواد بستان لقريش، تأخذ منه ما شاءت وتترك، حتى قالوا له: أتجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك)(2)، فانتشرت المظالم في كل مكان، ويأس المسلمون من عدالة السلطة ورغبتها في اصلاح الوضع.

ومع كل هذا الخراب وما مرت به الدولة الإسلامية من تمایز طبقي واستغلال غير شرعي للثروات وسيطرة مطلقة لبني أُمية الطلقاء على مرافق الدولة كلها، وقد عبر عنه الإمام بقوله: (اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلَّا فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلًا اتَّخَذَ البُخْلَ بِحَقِّ اللّهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً)(3)،

ص: 35


1- ابن الأثير، الكامل، 3 / 83
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 21
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 163

لكن مع هذه المعرفة وهذا الوصف الدقيق للأمور، لم يعتزل الإمام علي (عليه السلام) في بيته أو يترك المسلمين ومصيرهم، كما حاول بعض الرواة تصوير الأمر، بل كان فاعلاً في المجتمع الإسلامي قريباً من المسلمين، يتدخل لينقذ الإسلام إذا هدد، يقف بوجه السلطة إن اقتضى الأمر، يلجأ اليه كل مظلوم ليرد عليه حقه، مع الحفاظ على هيبة مؤسسة الحكم التي هي بالأساس للمسلمين جميعا، لذلك بدأ ينصح عثمان ويحثه على تغيير المنهج الذي يحكم به الدولة، ويصلح الأمور ويبدأ بإجراءات بسيطة، تقضي باستبعاد هؤلاء الذين سيطروا على مقدرات الدولة، والعودة إلى عدالة الإسلام والدولة التي أُسست لتكون مثالاً، دولة ليس فيها استغلال لا يظلم فيها احد تأمن فيها الناس وتصان كرامة الإنسان.

لقد كان عثمان يشعر بالخطر عندما بدأت الثورة ورغب في التغيير، وأراد الاستجابة لما طرحه الإمام، لكنه كان محکوماً بسياسة من سبقه ولا يستطيع أن يغيرها، لاسيما الاقتصادية منها، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يضع حداً لتجاوزات أسرته، فقد كان معاوية الذي جمع له عثمان الشام كلها وأصبحت ولاية مستقلة(1)، يتحكم بالأمور کما یشاء وبنى لنفسه دولة قوية غنية من دون علم مؤسسة الحكم أو من دون قدرتها على التدخل فيها، وهذا ما حذر منه الإمام: (فإن معاوية يقتطع الأمور دونك، وأنت تعلمها فيقول للناس: هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تَغِير على معاوية)(2)، فكان مسلوب الإرادة ليس

ص: 36


1- ابن خیاط، تاریخ خليفة بن خیاط، ص 112؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 338 - 339؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، 32 / 10
2- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 376 - 377؛ المفيد، الجمل، ص 100

بإمكانه أن يعمل شيئاً، فلا هو قادر على اصلاح الوضع، ولا هو راغب في تحجيم أسرته، وقد وصل إلى نقطة اللاعودة، ولم يكتف بحمل بني أُمية على رقاب الناس؛ بل قسَّم بیت المال بينهم، وحوله إلى ملكية خاصة فكان يتصرف بالذهب والجواهر التي كانت في بيت المال کما یشاء فيُلبسها لزوجاته وبناته، ثم أنه اقتنى الأموال وبني القصور وامتلك اموالاً لاحد لها(1)، قبالة حاجة المسلمين وجوعهم وفقرهم.

لقد بدأت بوادر الاعتراض تظهر في كَّل مكان على تصرفات عثمان وولاته من بني أُمية، ومع سکوت السواد الأعظم من الصحابة على هذا الخرق الكبير لعدالة الإسلام ومبادئه الأساسية، نتيجة لتمتعهم بمزايا التفاوت الطبقي والتوزيع غير العادل للثروات، لكن على الرغم من ذلك ظهرت أصوات معارضة هنا وهناك(2)، لا سيما من الصحابة الذين لم یکن لهم ارتباط بالحزب القرشي من الذين نذروا أنفسهم لله تعالى، أمثال عمار وعبد الله بن مسعود وأبي ذر الغفاري، فكانت النتيجة أن فرضت إقامة جبرية على عبد الله بن مسعود حتى وفاته(3)، ونكلوا بعمار عندما اعترض على سلوك والي الكوفة الوليد بن عقبة، وقال مروان بن الحكم لعثمان: (يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود قد جرَّأ عليك الناس، وأنك ان قتلته نکلت به من ورائه، قال عثمان: أضربوه فضربوه وضربه عثمان معهم، حتى فتقوا بطنه

ص: 37


1- البلاذری، انساب الأشراف، 5 / 36؛ المسعودي، مروج الذهب، 1 / 334
2- البلاذری، انساب الأشراف، 5 / 30
3- البلاذری، انساب الأشراف، 5 / 36؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 170؛ الأميني، الغدير، 9 / 3 - 15

فغشي عليه فجروه وطرحوه بباب الدار)(1)، ونفى أبا ذر إلى منطقة مهجورة خارج المدينة وتوفي وحيداً فيها(2)، هكذا كان سلوك عثمان وأسرته من الصحابة الذين خافوا على الدولة وأرادوا الحفاظ على صورة الإسلام.

ومع تكميم الأفواه والتنكيل الذي نال العديد من الصحابة لم يستطع بني أُمية السيطرة على الوضع، فظهرت بوادر الثورة في الأمصار الإسلامية، ووصلت مجاميع من الثوار إلى المدينة تطالب بالإصلاح، لم يبق مع عثمان سوی أسرته التي انتفعت من وجوده في السلطة، فيما وقف الآخرون الذين امتلأت جيوبهم من أموال المسلمين يحرضون عليه، لأن مرحلة عثمان انتهت عندهم وابتدأت مرحلة جديدة أرادوا فيها الوصول إلى السلطة، إذ رؤوا انفسهم أهلا لتولي الخلافة لاسيما بعد أن رشحهم عمر لها، فبدأوا يحرضون المسلمين على عثمان وبني أُمية، فكتبوا كتباً إلى الأمصار الإسلامية يستنجدون فيها من عثمان وأسرته(3)، وفي المقابل استنجد عثمان بعشيرته وأفرادها المتنفذين لاسيما معاوية الذي قدم المدينة وهو يشعر بالقوة، بعد ان بني مملكة قوية في الشام وحصنها جيداً لتكون قلعة تحميه وتحمي مكتسباته، فدخل المدينة محاولاً استغلال الفرصة لينتقم من كبار الصحابة الذين أذلوه وحطموا مجده الجاهلي هو وأسرته، ولم يستطع أن ينسى أنه من الطلقاء، فقال للصحابة مهدداً: (إن بالشام مائة ألف فارس كل يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم، لا

ص: 38


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 51
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172 - 173؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 354، والربذة منطقة تقع بين مكة والمدينة، وتبعد عن مكة ثلاثة ايام، ينظر یاقوت الحموي، معجم البلدان، 3 / 24
3- ابن قتيبة، الإمامة والسياسية، 1 / 54

يعرفون علياً ولا قرابته، ولا عماراً ولا سابقته، ولا الزبير ولا صحبته، ولا طلحة ولا هجرته، ولا يهابون ابن عوف ولا ماله، ولا يتقون سعدا ولا دعوته)(1)، لكن هذا الأمر لم يجد نفعاً، ولم يوقف الثورة ضد عثمان. الذي أخفق في اللجوء إلى الحوار مع رفاقه بالأمس؛ بل استند إلى اسرته بني أُمية لينقذوه من الموقف الذي هو فيه والأزمة التي تعاني منها الدولة، من دون أن يعترف بفشل سياسته الاقتصادية والإدارية، وأنه غير مؤهل لحكم الدولة الإسلامية، فخذلته عشيرته لاسيما معاوية الذي كان يدرك أن عثمان انتهى دوره، فأرسل جيشاً شكلياً مهمته الظاهرة انقاذ الخليفة، لكنه عندما علم بحصار الأخير امر قائد الجيش أن لا يتدخل في الأمور ویمکث بذي خشب المنطقة القريبة، فنفذ القائد الأمر حتى قتل عثمان وأمر الجيش أن يعود إلى الشام(2).

لقد عاش المسلمون الفتنة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والإسلام كان على مفترق طرق، أموال الدولة مقسمة بين المنتفعين، السلطة يتلاعب بها بني أُمية، المعترضون يحاصرون دار الخليفة وتوجهاتهم لم تكن واحدة فمنهم من ثار للإسلام ومنهم من ثار لمصلحته الشخصية، ومع كل ذلك كان الإمام (عليه السلام) حاضراً في هذه الأزمة ولم يكن بعيداً عنها، فلم يترك عثمان لوحده مع معرفته بأن أمره ليس بيده، لكن حاجة الأمة أكبر من الخلاف الذي سعى إليه بني أُمية.

ص: 39


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 47؛ ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 3 / 1094
2- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 172؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4 / 57 - 58؛ المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 98

لقد كان الإمام ينظر إلى عثمان بأنه يمثل رأساً للحكومة مع تحفظاته

على سلوكه، لذلك عندما استنجد به عثمان لرد الثوار عن المدينة استجاب لطلبه وحاور هؤلاء، وكانت النتيجة أن رجعوا إلى المدن التي جاؤوا منها، لكن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح لأن عثمان نقض الاتفاق وعاد إلى سيرته(1)، فعاد الثوار مرة أخرى ليحاصروه فاستنجد ايضاً بالإمام، الذي ألزمه أن یکتب کتاباً يتعهد فيه للناقمين على سياساته بإصلاح الأوضاع، فكتب: (هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين، أن لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه، ويعطى المحروم، ويؤمن الخائف، ويرد المنفي، ولا تجمر البعوث، ويوفر الفيء، وعلي بن أبي طالب ضمين المؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء في هذا الكتاب)، وأشهد الإمام مجموعة من الصحابة على الكتاب(2).

إن ما ورد في الكتاب من تعهدات كانت كفيلة بحل الأزمة وإخراج الأمة الإسلامية من محنتها، وهذا هو الدور الأبرز للإمام الوصي على الأمة والضامن لسلامتها، والذي لم يكن يبحث عن سلطة أو جاه أو منزلة أو مصالح ضيقة، إنما كان يريد أن يحافظ على صورة الإسلام ويصلح الخراب الذي أنتجته المؤسسة الحاكمة، في الوقت ذاته كان يريد أن يحفظ كرامة الحاكم والمكانة الاعتبارية لمؤسسات الدولة، بعّدها السلطة القائمة على حماية الناس والمسؤولة عن مصالحهم، كما كان حريصاً على أن يرجع المعترضون وقد تحقق لهم ما أرادوه، لكن إرادة عثمان لم تكن حقيقية لأنه كان محكوماً

ص: 40


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 394 - 395
2- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 3 / 1139 - 1140؛ البلاذری، انساب الأشراف، 5 / 62

بسيطرة بني أُمية عليه، فغير رأيه تحت هذه السيطرة المطلقة مرات عدة، وكان مروان هو المتحكم بالأمور(1)، وكانت زوجته تعرف ما ستؤول اليه الأمور، فنصحته بالالتزام بما وعد به المسلمين، والتمسك بنصائح الإمام علي، وعدم الانجرار وراء مروان؛ لأن ذلك سيؤدي إلى قتله(2)، فقال له الإمام بعدما آیس منه: (أرضيت من مروان ولا رضي منك، إلا بتحريفك عن دينك، وعن عقلك مثل جمل الضعينة، يقاد حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، والله أني لأراه سیوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك وغلبت على أمرك)(3).

نتيجة لكل ما تقدم ترك الإمام (عليه السلام) عثمان ولم يرجع له، لا سيما بعد أن اتهمه بنو أُمية بأنه وراء التمرد الذي عم الدولة ضد سياسة السلطة والمقربين منها(4)، وكانت النهاية أن حوصر بيت عثمان ومنع طلحة بن عبيد الله الماء عن داره ليضطره إلى الخروج فأرسل إلى الإمام (عليه السلام) مستعيناً به في إيصال الماء، فأدخل الماء بالقوة إلى داره(5)، وأنتهى الحصار بموته بعد أن هجم المحتجون على عثمان في بيته وقتلوه(6).

ص: 41


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 398؛ المفيد، الجمل، ص 103؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 145 - 146
2- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 397؛ ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، 2 / 146
3- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 397؛ المفيد، الجمل، ص 103
4- البلاذری، انساب الأشراف، 5 / 62؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 401
5- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 57؛ البلاذري، أنساب الأشراف، 5 / 90
6- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 73 - 76؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 399 - 426

ثالثاً: الإصلاح الاقتصادي والإداري في عهد الإمام علي (عليه السلام)

لقد كانت هذه النتيجة متوقعة جداً في ظل السياسات غير المتوازنة التي سير بها هؤلاء الدولة، فكانت المحصلة النهائية أن انتشر الفقر والحرمان في كل مكان، وكان التباين الطبقي هو العنوان الرئيس للدولة، والفساد الإداري عم الولايات الإسلامية، والأموال لم تعد ملكاً للمسلمين، وقد عبر الإمام عن رؤيته لواقع الدولة الإسلامية بالقول: (وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، والشر فيه إلا إقبالا، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أوان قویت عدته، وعمت مکیدته، وأمكنت فريسته، أضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلا فقيرا ...)(1)، هكذا وصف حال المسلمين بعدما أساء المتسلطون استعمال السلطة، وانتشرت المظالم في كل مكان، ولم یکن الإمام يخفي شيئا فقد شخص الواقع تشخیصا دقيقاً، ولم يكن يقتنع بالأقوال دون الافعال؛ بل عمل ما يستطيع ليخرج الأمة من المأزق الذي وقعت فيه، لاسيما أنه كان الوحيد من الصحابة القادر على إيقاف هذا التدهور، فهو ملجأ الأمة وكهفها الذي تحتمي به والذي لم يخذلها يوماً.

لقد كان المسلمون بحاجة لشخص يتمتع بمواصفات خاصة، بحيث تكون له القدرة والكفاءة على مواجهة الوضع المتأزم المليء بالمشاكل والتحديات الصعبة. ولم يكن يصلح لهذه المرحلة سوى الإمام علي (عليه السلام). لاسيما وأنه كان يدعو لمنهج مختلف تماماً عن سابقيه، وقد عبر عنه في مناسبات متعددة. ولعل المسلمين حينها كانوا بين عاملي ضغط. فهم

ص: 42


1- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 73 - 76؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 399 - 426

من جهة أدركوا تماماً حراجة الموقف وخطره، وأن الإمام (عليه السلام) هو الوحيد القادر على ملء الفراغ. ومن جهة أخرى شعروا بالندم لتركهم إياه سابقاً. ولعل هذا ما يحيل إليه إصرارهم على توليه الخلافة على الرغم من رفضه لها(1)، ويبدو ذلك واضحاً في جوابه لابن عباس: (ما قيمة هذه النعل؟. فقال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال (عليه السلام): والله لهي أحب إلى من أمرتكم، إلا أن أقيم حق أو أدفع باطلا)(2)، وقوله (عليه السلام): (فما راعني إلا والناس تعرف الضبع إلى، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي، مجتمعين حولي کربيضة الغنم. فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى وقسط آخرون)(3)، والذي يبين فيه الكيفية التي تمت بها بيعته.

اختير الإمام علي (عليه السلام) خليفة للمسلمين في اليوم الذي قتل فيه عثمان 18/ ذو الحجة/ 35 ه. أو اليوم الذي يليه(4)وكانت تمر بأوضاع غاية في الصعوبة والتعقيد في كافة نواحي الحياة، التي نجمت عن عاملين اساسيين هما:

1 - ظهور حالة التشظي في نسيج المجتمع الإسلامي بعد حادثة السقيفة،

ص: 43


1- إذ قال لهم: دعوني والتمسوا غيري، فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا. ينظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 450 - 454؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1 / 169؛ وينظر. البلاذري: أنساب الأشراف، 209 - 210؛ ابن أعثم، کتاب الفتوح، 2 / 434 - 435
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1 / 200
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 80؛ المجلسي، بحار الانوار، 32 / 76
4- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 31؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 177 - 178؛ البلاذري، أنساب الاشراف، 1 / 205

وتفاقم هذه الحالة بسبب النتائج السيئة للإجراءات المالية والإدارية التي أحدثها عمر بن الخطاب، لا سيما سياسة التفضيل في العطاء، التي أربكت وضع الدولة. والتي صرح بندمه على استحداثها فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين)(1). ومن ثم عدم قدرة ورغبة عثمان بن عفان بتغيير الأوضاع السابقة، واستفحال الآثار السيئة لتلك السياسة. إذ أنتجت مجتمعاً طبقياً، یکدس فيه الأغنياء من الذهب والفضة ما یکسر بالفؤوس، ويملكون الدور والبساتين والمئات من العبيد والإماء والخيول والجمال..(2). وقد زاد عثمان بن عفان الأمر سوءاً بإطلاق أيدي أقربائه من بني أمية وأعوانهم في أموال المسلمين، وتوليتهم على الولايات الإسلامية. أما من عارض تلك السياسات فكان نصيبه التنكيل والطرد والحرمان، حتى أن أبا ذر (رضي الله عنه) مات طريداً في الربذة، وهو لا يملك ما يكفن به سوی ثيابه(3). وكان من نتائج تلك السياسات أيضاً مقتل عمر وعثمان.

2 - استقلال معاوية في الشام بعد موت أخيه يزيد عام 18 ه(4). وتكوينه دولة شبه مستقلة عن الخلافة الإسلامية، وجيشاً خاصاً لا يعرف سوى

ص: 44


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 291؛ ابن حزم، المحلى، 6 / 158
2- ينظر: المسعودی، مروج الذهب، 2 / 261 - 263؛ ابن خلدون: تاریخ، 1 / 204 - 205
3- ابن سعد، الطبقات الکبری، 4 / 234 - 235؛ اليعقوبي: تاریخ، 2 / 172 - 173؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 1 / 253
4- ينظر: ابن سعد، الطبقات الکبری، 7 / 406؛ ابن قتيبة، المعارف، 345؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، 1 / 330

الولاء له ولبني أمية. وقد بلغ من سلطته هناك أن عمر بن الخطاب لما زار الشام تعجب من موكبه المهيب، فقال له: (أأنت صاحب الموكب العظيم؟. قال: نعم. فقال عمر: مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟. قال: مع ما يبلغك من ذلك. فقال عمر: ولم تفعل هذا؟. فرد معاوية: نحن بأرض جواسيس، العدو بها كثير فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به، فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر: ..لا آمرك ولا أنهاك!!)(1).

لقد جاء اختيار المسلمين للإمام علي (عليه السلام) لاعتبارات عدة منها؛ أنه أقربهم للنبي (صلى الله عليه وآله) نسباً ومكانةً، إذ تربي في بيت النبوة في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعبر عن هذا القرب بقوله: (وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أَخْلاَقِهِ، وَيَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ...)(2)، وهو أول من أستجاب لدعوته وصلى معه(3). وهو زوج ابنته فاطمة وأبو سبطيه. وهو البطل الذي دافع عن الإسلام بكل ما أوتي من قوة، وفدى النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه ليلة الهجرة، وهو حامل راية الإسلام ضد الشرك، وكان على الدوام عنصر الحسم والثبات في المعارك الإسلامية، في الوقت الذي هرب كثير من الصحابة حفاظاً على حياتهم، وتركوا النبي (صلى الله عليه وآله) في ساحة المعركة بين سيوف

ص: 45


1- ابن عبد البر، الاستیعاب، 3 / 1416 - 1418؛ ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 59 / 112 - 113
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 13 / 197
3- البلاذری، انساب الاشراف، 1 / 92 - 93؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 23؛ الطبري، تاریخ الرسل والملوك، 2 / 55 - 59

المشركين(1). فضلًا عن ذلك هو أفقه الصحابة وأعلمهم بالقرآن والسنة والقضاء(2). وهو الشخص الوحيد الذي نزلت بحقه العديد من الآيات القرآنية. وفوق هذا وذاك كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رشحه مسبقاً لخلافته في مرات عدة منها في السنة الثالثة للبعثة، عندما جمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بني هاشم من أجل دعوتهم إلى الإسلام، فقال لهم: (فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم)، فلم يجبه أحد من بني هاشم سوى علي (عليه السلام)، عندها قال لهم: (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأسمعوا له وأطيعوا)(3)، والاخرى في السنة العاشرة للهجرة عندما رجع الرسول (صلى الله عليه وآله) من مكة بعد أن أدى الحج فيها، فوقف في منطقة تسمى غدیر خم تقع بين مكة والمدينة، وكان معه عدد كبير من المسلمين، فخطب فيهم خطبة طويلة، ومن ضمن ما قاله: (معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟. قالوا: اللهم بلى. قال: من کنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه...)(4).

ص: 46


1- ينظر. البلاذری، أنساب الاشراف، ص 94؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 179 - 183
2- البلاذری، أنساب الاشراف، ص 97 - 101؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 193؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، 17 / 3350
3- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2 / 63؛ الحسكاني، شواهد التنزيل، 1 / 486؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، 42 / 50
4- ابن حنبل، مسند احمد، 4 / 281؛ القزويني، سنن ابن ماجة، 1 / 45؛ الترمذي، سنن الترمذي، 5 / 279

تولى الإمام خلافة المسلمين والدولة تعيش مشاكل كبيرة جدا، وهي مقبلة في الوقت نفسه على فتن لا يحتملها إلا أهل الصبر کما عبر الإمام عن ذلك: (وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الأمر إلا أهل الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر...)(1)، فلم تعد الأمور كما كانت عليه بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). لكن الصحابة الحوا على الإمام الحاحاً شديداً لقبول الخلافة: (أتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولابد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: لا تفعلوا فأني أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين)(2)، وفي رواية أُخرى: (فأتوا عليا فقالوا: يا أبو الحسن هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمرتكم، أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك، قال: فاختلفوا اليه مرارا، ثم أتوه في آخر ذلك، فقالوا له: لا يصلح الناس إلا بإمرة وقد طال الأمر، فقال لهم: إنكم قد اختلفتم إلي وأتيتم وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلا فلا حاجة لي فيه، قالوا: ما قلت من شيء قبلناه ان شاء الله، فجاء فصعد المنبر فأجتمع الناس إليه فقال: إني كنت کارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون علیکم،

ص: 47


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 36
2- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 450؛ وروى البلاذري وابن اعثم الرواية نفسها بلفظ آخر ينظر، أنساب الأشراف، ص 209، 210؛ کتاب الفتوح، 2 / 434 - 435

ألا وأنه ليس لي أمر دونكم، إلا أن مفاتیح بيت مالكم معي، ألا وأنه ليس لي أن أخذ منه درهما دونكم رضيتم، قالوا: نعم، قال: اللهم أشهد عليهم ثم بايعهم)(1)، وهناك نصوص كثيرة تشير إلى هذا المعنى، والغريب في الأمر أن اكثر من ألح على بيعته هما طلحة والزبير: (فدخلوا فيهم طلحة والزبير، فقالا: أبسط يدك فبايعه طلحة والزبير)(2).

والشيء اللافت للنظر في بيعة الإمام على الرغم من أنها كانت جماهيرية، وأن الإمة هي من اختارت وقررت مصيرها(3)، إلا أن هناك مجموعة من الصحابة وغيرهم لم يبايعوا الإمام، وهؤلاء كانوا نفر قلیل تحفظوا على البيعة لأسباب لا تتعلق بأهليته الإمام في تولي الخلافة، بل لقناعات شخصية لديهم، فلم يرد في أي رواية تاريخية أن الإمام أجبر أحداً على بيعته؛ بل سمح لهم بالتعبير عن آرائهم وهذه هي قمة ما يمكن أن تصل إليه أنظمة الحكم الديمقراطية، لكنه في الوقت نفسه لم يسمح لهم بأن يخلوا بنظام الدولة، أو يعبثوا بأرواح وأموال المسلمين، كما فعل مع الزبير وطلحة وعائشة ومعاوية والخوارج، عندما تمردوا على الخلافة الشرعية وأخلوا بالأمن العام.

وبعد أن تمت البيعة وأصبح الإمام خليفة للمسلمين بدأ ببرنامج إصلاح شمل كل مرافق الدولة، وكان لابد من تهيئة المجتمع الإسلامي لهذه

ص: 48


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 450 - 451؛ وروى هذه الرواية النعمان المغربي باختلاف بسيط، شرح الأخبار، 1 / 376 - 377
2- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 451
3- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 31؛ ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 65 - 66؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 178

الإصلاحات، لاسيما أن الطبقات المتنفذة لا يمكن أن تقبل باي تغيير يمس مکاسبها أو مكانتها، لذلك كان حريصا على مخاطبة الأمة وبيان خارطة الحكم الجديدة، من أجل التجهز والاستعداد للتغيير الجديد، فقال مخاطباً الصحابة الأوائل الذين أفادوا من السياسة المالية - الإدارية غير المتوازنة التي اتبعت في عهد الخلفاء الثلاثة: (ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة الحسان، فصار ذلك عليهم نارا وشنارا، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأمرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون، ويقولون حرمنا ابن أبي طالب من حقوقنا، ألا وایما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، یری الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله، وایما رجل استجاب الله وللرسول فصدق ملتنا، ودخل دیننا واستقبل قبلتنا، فقد أستوجب حقوق الإسلام وحدوده، فانتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بینکم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين جزاء، وما عند الله خير للأبرار)(1)، فكان هذا الخطاب الذي اقتبسنا جزءاً منه بمثابة بداية طريق الإصلاح، وهو نقطة الشروع لتغيرات كبيرة، وتقويض كامل للنظام الذي انتجه حدث السقيفة وما افرزه من منظومة ادارية او صلت المجتمع الإسلامي إلى حافة الضياع وفقدان اسلام الرسالة، فكان عام 35 ه بمثابة

ص: 49


1- الخصیبی، الهداية الكبرى، ص 271؛ ابن عبد ربه، العقد الفرید، 6 / 36 - 37؛ الطوسی، الأمالي، ص 729

نقطة العودة إلى الإسلام الرسالي المحمدي الذي قوضه الانحراف في مسار ادارة الدولة وتقسیم ثرواتها ومعايير التفاضل بين أفرادها طيلة المدة الممتدة بين وفاة الرسول الاعظم وبين استلام الإمام للحكم، فكان هذا العام يمثل بداية الرجوع إلى الإسلام النقي في مرحلة التأسيس، وعودة مستأنفة إلى روح عصر النبوة.

لقد كان الإمام يريد ان يبعث الروح من جديد في جسد الأمة، وينتشلها من المأزق الذي وقعت فيه، فحاول جاهداً ان يعود بالأمة لروح الإسلام الأصيلة التي اندثرت تحت وطأة الانقلاب، فتشظت إلى طبقات متناحرة نتيجة لسياسات خاطئة في ادارة الدولة، فقدمت المصالح الشخصية والفئوية، وأصبح التواكل والتثاقل واللامبالاة العنوان الرئيس لها، لذلك كان مجيء الإمام بمثابة استمرار لإسلام الرسالة ومفهوم الترابط والتكامل الأدائي بين النبوة والإمامة.

فبدأت المعالجات التي قام بها الإمام تأخذ طريقها في إدارة الدولة، وهذه

المعالجات يمكن أن نلخصها بمجموعة من الإجراءات هي:

1 - أعلن الإمام (عليه السلام) في اليوم الأول إلغاء الفوارق الطبقية التي وضعها عمر بن الخطاب، وقرر العودة إلى النظام المالي الذي كان سائداً في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنه كان على يقين کامل أن هذا الإجراء سيواجه بمعارضة كبيرة من قبل المنتفعين، فأعد العدة لهذه المعارضة وتهيأ لها جيدا، فكان خطابه جزءاً رئيسا من سياسته الجديدة، ثم استتبعه بالتطبيق العملي الذي لم يتأخر عن الخطاب، فوزع العطاء في المدينة بالتساوي

ص: 50

بين المسلمين من دون أي اعتبار لفوارق مصطنعة، فلم يميز بين المهاجرين والأنصار من الصحابة وبين غيرهم من المسلمين، فبرزت المعارضة تزامنا مع هذا التغيير وكان أول المعارضين هم طبقة الصحابة التي استفادت من التغيير الذي أجراه عمر على أسلوب إدارة الدولة، لكن لم يكن هؤلاء كلهم بالمستوى نفسه لأن الكثير منهم ساندوا سياسة الإمام الإصلاحية ووقفوا معه، وعرفوا أنه سيعود بهم إلى إسلام النبوة وهو الوحيد القادر على صيانة الدولة وحماية وجهها الرسالي الذي أنشاءه الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الوقت نفسه وقفت مجموعة أخرى بوجه هذه الإصلاحات، لأن النظام الذي وضعه عمر لم يكن يعني مجموعة من الأموال بل كان يمثل لهم طبقة اجتماعية عالية فوق الطبقات الأخرى، زيادة على طموحهم السياسي في تولي الخلافة أو الوصول إلى هرم السلطة حتى لو بصورة مستشارين أو وزراء أو حتى ولاة، لاسيما طلحة والزبير اللذين لم ترضهما الإصلاحات الجديدة وتصوروا أن وصول الإمام إلى الحكم سيحقق لهم مزيداً من المكاسب السياسية، ويتضح هذا من مجيئهم إلى الإمام (طلحة، الزبير) وخطابهم معه الذي يؤشر على طمعهم بالسلطة، (إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة فأشر كنا في أمرك، فقال: أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز والأود)(1)، لكن هذا الخطاب لم يكن يشبع غرورهما ونطرتهما المتعالية، فخاطبا الإمام بعد أن ساوى بين الناس في العطاء بالقول: (أعطيناك بيعتنا

ص: 51


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 180

على أن لا تقطع الأمر دوننا، وأن تستشيرنا في الأمور، ولا تستبد بها عنا، ولنا الفضل على غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القسوم، وتقطع الأمور، وتمضي الأحكام بغير مشورتنا، ولا رأينا ولا علمنا). واحتجا على قسمة العطاء فقالا: (خلافك عمر بن الخطاب في القسم، إنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لم يماثلنا في ما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا)(1).

لقد كانت الزبير وطلحة يمثلان ظاهرة استشرت في المجتمع الإسلامي واختلطت عليها الأمور، وقد أنستهم الأموال والقرب من السلطة والطبقية أنهما ينتميان إلى دولة دينها الإسلام الذي يفاضل بين الناس على معيار التقوى وليس المال أو النسب أو المكانة، ونسيا كما نسى غيرهما أن الإمام كان يمثل خط النبوة وهو الموصى به من الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن إسلام الخلافة غير المعايير واستبعد خط النبوة، فبدأوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أكفاء للإمام، لذلك كان جواب الإمام لهما بمثابة خطاب يذكر الأمة بالإسلام المحمدي وأُسسه التي غادروها، فقال لهما: (أما ما ذكر تماه من الاستشارة بكما، فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة، ولكنكم دعوتموني إليها، وجعلتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة، فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله وسنة رسوله، فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى آرائكما فيه، ولا رأي غير كما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه، واحتيج إلى المشاورة فيه، لشاورتكما فيه،

ص: 52


1- أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، ص 113؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 41؛ ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، 7 / 41

وأما القسم والأسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به..، وأما قولكما جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا، سواء بيننا وبين غيرنا، فقديما سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله في القسم، ولا آثرهم بالسبق والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم. وليس لكما عندي ولا لغير كما إلا هذا)(1). لقد كان الإمام ينظر إليهما على أنّهما كبقية المسلمين، مع أنه يعتمد عليهما لأنهما من الصحابة الاوائل الذين لهم خصوصية في الدفاع عن الإسلام والحفاظ على صورته المثالية، لكن هذا الامر لم يرض غرورهما وشعرا أنهما لم تعد لهما ميزة على الآخرين، لا سيما بعد أن رفض الإمام أن يعطيهما ولاية البصرة والكوفة(2).

لقد كان إلغاء الطبقية الاجتماعية أولى خطوات الإصلاح، تلك الطبقية التي عادت من جديد بعد أن ألغاها الإسلام وحذّر من عواقبها، لأنها لا تنتج سوى الأحقاد والتناحر بين أعضاء المجتمع، فقال في خطابه للأمة التي اعتادت الفوارق الطبقية: (إن آدم لم يلد عبداً ولا أمه، وأن الناس أحرار، ولكن الله خول بعضهم بعضا، فمن كان له باء فصبر في الخير، فلا يمن به على الله تعالى، ألا وقد حضر شيء ونحن مسوون فيه بين الأسود والأحمر)(3)، فاستشعر المنتفعون بخطورة الموقف على الامتيازات المتحققة، فقال مروان

ص: 53


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 42؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 41 - 42
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 71؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 180؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 451 - 452
3- الكليني، الكافي، 8 / 69؛ المجلسي، بحار الأنوار، 32 134

بن الحكم لطلحة والزبير (انه يقصدكم بهذا الكلام)(1). لكن هذا البرنامج الإصلاحي الذي اعترض عليه النفعيون، افرح الطبقات التي سحقتها السياسات التي اتبعها الخلفاء الذين أعقبوا حدث السقيفة، فجاءت الوفود من مختلف الأمصار الإسلامية لتبايع الإمام (عليه السلام) في المدينة(2).

لكن تطبيق هذا البرنامج كانت نتيجته أن خاض الإمام ومعه المسلمون الذين آمنوا بسياسته حروباً طاحنة أريقت فيها الدماء، إذ سعت الأطراف المستفيدة إلى إفشال برنامج الإصلاح؛ لأن ما فقدوه لم يكن شيئا بسيطاً، فقد فقدوا الأموال والسلطة فاستعدوا بكامل قوتهم للمواجهة، وفي الوقت نفسه كان الإمام ماضياً في سياسته الإصلاحية لأن المسالة لا تتعلق بإدارة الدولة فقط بل بصورة الإسلام العالية المثالية، لأن الإكثار والترف المقرون بحاجة طبقات اخرى من المسلمين باطل، لأنه أتى على حساب جوع المسلمين، والعدالة هي أن ينتفع الجميع من نعم الحياة، والتفاوت والطبقية التي حدثت أوجدت طبقات من الفقراء المحرومين، وهذا يتناقض مع الأسس التي قام عليها الإسلام، ونادى بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهمها العدالة الاجتماعية بجانبيها المادي والمعنوي، والعدالة تتناقض مع وجود غنى فاحش وفقر مدقع، هذا الفقر الذي يزعزع أركان المجتمعات، ويؤدي بها إلى الزوال، كما عبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول:

(كاد الفقر ان يكون كفرا)(3).

ص: 54


1- الكليني، الكافي، 8 / 69؛ المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 134
2- ابن أعثم، كتاب الفتوح، 2 / 438 - 441
3- الصدوق، الخصال، 1 / 12

لقد خلف الصحابة اموالاً لا حصر لها فاقت حد الوصف، فامتلك عثمان سبع قصور في المدينة فقط، وأموالاً عظيمة كانت مستثمرة في الزراعة والتجارة، وامتلك ألف عبد مملوك، وخلف في خزائنه ثلاثين مليون درهم وخمسمائة ألف درهم ومائة وخمسين دينار وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمتها مائتي ألف دينار(1)، والحال نفسه أنطبق على بقية الصحابة فامتلك الزبير دورا وخططا وضياعا في الحجاز والعراق ومصر(2)، وكان عنده ألف عبد وأمه يؤدون إليه الخراج(3)، وترك عند موته إحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالكوفة، ودارا بمصر(4)، وكان ماله يبلغ مائة وخمسين مليون ومائتي ألف درهم(5)، وكانت أرباح طلحه من أراضيه في العراق فقط أربعمائة ألف دينار(6)، وترك عند وفاته مليونين ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار(7)، وترك عبد الرحمن

ص: 55


1- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 76 - 77؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 7 / 214؛ الدميري، حياة الحيوان الكبرى، 1 / 49
2- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350
3- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350؛ الذهبي، دول الإسلام، 1 / 30
4- البخاري، صحيح البخاري، 4 / 52 - 53؛ البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 286؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، 18 / 431
5- البخاري، صحيح البخاري، 4 / 53؛ البيهقي، السنن الكبرى، 6 / 286؛ الذهبي، سير اعلام النبلاء، 1 / 67
6- ابن سعد، الطبقات الکبری، 3 / 221 - 222؛ الذهبي، سير اعلام النبلاء، 1 / 32 - 33
7- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 221؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، 25 / 120؛ الذهبي، سیر اعلام النبلاء، 1 / 33

بن عوف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة(1)، وكان لديه عند وفاته (ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه)(2)، وهناك أمثلة كثيرة على ثروات الصحابة لا مجال لذكرها هنا(3)، وهذه مجرد نماذج لما تمتع به هؤلاء من أموال، وهي تبرهن أن السبق للإسلام أصبح وسيلة للثراء، فغودرت معايير التقوى والعمل الصالح ونكران الذات وحل محلها التسابق لامتلاك الدنيا والطبقية المقيتة، فكانت نتيجة لذلك إجراءات الإمام الإصلاحية تتناسب مع حجم الانحدار الذي وصلت اليه دولة الإسلام، فألغى الفوارق الطبقية في العطاء كما أسلفنا، وقال للمسلمين: (ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة الله وطاعة الرسول، هذا كتاب الله بين أظهرنا، وعهد رسول الله وسيرته فينا، لا يجهل ذلك إلا جاهل معاند عن الحق منكر، قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» ثم صاح بأعلى صوته: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فان الله لا يحب الكافرين ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للأيمان، إن كنتم صادقين..، فأما هذا الفيء فليس لأحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا

ص: 56


1- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 350؛ الذهبي، دول الإسلام، 1 / 26؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 7 / 184
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 136؛ الذهبي، دول الإسلام، 1 / 26؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 7 / 184
3- للمزيد عن ثروات الصحابة ينظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3 / 148 - 149؛ ابن حنبل، العلل، 2 / 5

وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف يشاء، فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه)(1)، وقال في خطاب آخر: (إذا كان غدا إن شاء الله، فاغدوا علينا فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم، عربي وأعجمي، وكان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر)(2)، فحضر المسلمون من الصحابة وغيرهم وأمر كاتبه عبيد الله بن أبي رافع أن ينادي بأسماء الناس لاستلام عطائهم، وأمره أن يبدأ بالمهاجرين ثم بالأنصار ثم سائر الناس، وأمره بإعطاء الناس ثلاثة دنانير من دون تمييز(3).

2 - اتبع الإمام (عليه السلام) الإجراء الأول الذي ألغى فيه الطبقية بإجراء آخر لا يقل قوة عن الإجراء الأول، وهو إرجاع كل الأموال التي

وهبت من لدن السلطة الحاكمة إلى خزينة الدولة، فقال: (والله لو وجدته قد

تزوج به به النساء، وملكت به الإماء، لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق)(4)، وكان هذا الإجراء قد شمل الأمويين الذين افادوا من حكم عثمان واستولوا على كثير من أموال الدولة وأراضيها، كما أنه شمل مجموعة أخرى من الصحابة وغيرهم، لذلك حاول الأُمويون التفاوض معه حول الأموال التي نهبوها من دون حق في عهد عثمان، وقالوا له: (نحن إخوانك ونظرائك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على

ص: 57


1- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 40؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 40؛ المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 20
2- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 38؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 37
3- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 37 - 38؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 37 - 38
4- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 396؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 46

أن تضع عنا ما أصبنا من المال في أيام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنما أن خفناك تركناك، فالتحقنا بالشام)(1)، إلا أن الإمام (عليه السلام) رفض التفاوض مع من سرقوا أموال المسلمين وتقووا بالسلطة، لأنه غير مستعد أن يفرط بأي شيء مهما كان بسيطاً حتى تتحقق العدالة التي نادى بها الإسلام، ليحفظ الصورة المثالية لهذا الدين الذي لا يفرق بين الناس وفقاً لاعتبارات وضعتها السلطة ابتعدت فيها عن الصورة البيضاء لإسلام الرسالة، لذلك لم تثنه المعارضة التي واجهتها السياسة الجديدة عن عزمه في الإصلاح، مع صعوبة المهمة التي تحتاج إلى وقت طويل وجهد عالي، وربما لن تتركه المنية ليدرك تحقيق الإصلاح الشامل والتام. فكان يقول: (والله إن بقيت وسلمت لهم لأقيمنهم على المحجة البيضاء والطريق الواضح)(2)، فلم يستسلم لضغط المعارضة المتزايدة، ولا لضغط الوقت، فباشر بإرجاع أراضي الصوافي التي أقطعها عثمان إلى أملاك الدولة(3)، وصادر الأموال والإقطاعات الممنوحة لأسرته بغير وجه حق(4)، وأرجع الأسلحة التي أستولى عليها طلحه عندما نهبت دار عثمان إلى بيت المال(5)، وأمر برد الأموال التي أعطاها عثمان لبعض الناس أثناء حصاره(6)، واسترجع الأموال التي استولى عليها الولاة في زمن

ص: 58


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 178؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 39
2- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 38؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 38
3- ابن اعثم، الفتوح، 2 / 248؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 269
4- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 353؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 270
5- ابن عبد ربه، العقد الفريد، 6 / 215؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 270
6- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 270؛ الاميني، الغدير، 8 / 287؛ الهمداني، الإمام علي، ص 664

عثمان، فطالب الأشعث بن قيس والي أذربيجان بائة ألف درهم أعطاها له الخليفة، وأرجعها إلى بيت المال، كذلك فعل مع الولاة الآخرين الذين ثبت استيلائهم على أموال المسلمين بغير حق، وغرمهم الأموال التي أنفقوها أو أتلفوها(1).

3 - عمل الإمام (عليه السلام) على إصلاح عملية توزيع العطاء في العاصمة والأمصار الإسلامية، والعطاء يعتمد على أنواع الأموال الواردة إلى بیت المال، فكل فئة كانت تأخذ من الأموال المخصصة لها، فأموال الزكاة كانت توزع حسب النص القرآني على مجموعة من الفئات: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(2)، أي أن مال الزكاة لا يشمل المقاتلين وبقية موظفي الدولة، أما أموال الجزية توزع على المقاتلين الذين يدافعون عن الدولة(3)، وذلك لأن هذه الأموال هي بدل مالي يدفعه أهل الذمة بدلاً من اشتراكهم في الخدمة العسكرية ونظير لحماية أموالهم وأرواحهم، أما عطاء الطبقات الأخرى من غير المقاتلة، فكانت تؤخذ من الأموال المجباة من الخراج، كما يشترك المقاتلون والموظفون مع بقية الطبقات في أموال الخراج، وعليه تكون المساواة في الفئة نفسها، فمثلاً يتساوى المقاتلون عندما تقسم عليهم أموال الجزية أو الغنائم، كما تتساوى الفئات المستحقة للزكاة في تلك الفئة وهكذا. وفي هذا الباب عمل الإمام

ص: 59


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 396
2- سورة التوبة، الآية 60
3- الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 53؛ الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 118

على إنصاف المسلمين لا سيما أولئك الساكنين في الأمصار الإسلامية، فكانت سياسته تقوم على إنفاق الأموال في الولايات نفسها من دون أن تنقل للعاصمة، وهي خطوة باتجاه تحقيق العدالة والإنصاف والموازنة في الدولة الإسلامية، حتى يشعر المسلمون أن الدولة لا تعدهم مواطنين من الدرجة

الثانية، ويكون هذا حافزا لبذل الجهد والتعلق بالدولة وحمايتها، وكذلك هو معالجة لما مر به المسلمون الذين يسكنون الأمصار الاسلامية من تهميش وإقصاء مورس ضدهم في العهد السابق، فكان التنظيم يقضي بدفع رواتب الموظفين والمقاتلين وتوزع أموال الزكاة على مستحقيها، وتوزع أموال الضمان الاجتماعي والانفاق على المشاريع الزراعية والخدمات العامة، وفي النهاية يحمل ما يفيض إلى العاصمة إلى الخزينة المركزية(1)، ويؤيد ما ذكرناه الكتاب الذي وجهه الإمام لابن عباس والي البصرة في أن يقسم الأموال التي عنده بين المسلمين في تلك الولاية، حتى يصلوا إلى حد الاكتفاء، ولا يكون هناك حاجة ثم يرسل ما بقي عنده إلى العاصمة(2)، كذلك الرواية التي ذكرت أنه أرسل محمد بن أبي بكر واليا على مصر، أمره أن يجبي الخراج منها، ثم ينفق هذه الأموال على أهل العطاء في تلك الولاية(3)، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك لا حاجة لذكرها هنا.

وارتبط هذا الإصلاح الذي أنعش اقتصاد الولايات الإسلامية وجعل الرخاء يعم على ساكنيها، بإجراء عملي آخر تلخص في الإسراع بتوزيع

ص: 60


1- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 73 - 74
2- المنقري، وقعة صفين، ص 106؛ المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 402
3- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 393؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 557

الأموال مباشرة بعد وصولها إلى بيت المال، وهو إجراء القصد منه الحفاظ على كرامة المسلمين، ومعالجة الفقر المصطنع الذي أنتجته السياسات غير الصحيحة، فكان يباشر بالتوزيع بنفسه في العاصمة(1) حتى يفرغ بیت المال بالكامل ویکنسه بيده ويقول: (ينبغي لبيت مال المسلمين أن لا يأتي عليه يوم إلا كان هكذا، ليس فيه شيء، قد أخذ كل ذي حق حقه)(2)، وبعدها يصلي فيه ركعتين ويقول: (ليشهد لي يوم القيامة)(3)، وهذه إجراءات تهدف إلى الحيلولة دون إذلال المسلمين، وذلك بجعلهم ينتظرون العطاء من الدولة وهم بأمس الحاجة إليه، ولم يكن هناك مبرر لخزنها، ويبدو أن خزن الأموال كان سياسة ثابتة في السابق، وكان الإمام قد عایش هذه الحالة، لذلك عندما عاد من البصرة بعد معركة الجمل ودخل الكوفة، ذهب إلى بيت المال فوجد فيه كميات كبيرة من الأموال، فقال: (هذا ههنا والناس يحتاجون) فقسم المال بين المسلمين في اليوم نفسه(4)، وهذه هي المبادئ التي جاء بها الإسلام ونسفتها السلطة الحاكمة، وهو ما نريد قوله أنه عالج كل سياسة خالفت إسلام النبوة، فأذلت الانسان وامتهنت كرامته وجعلته تابعا للسلطة يتملقها ليحصل على حقوقه، فبدأ يعالج كل هذه الثقافات البعيدة عن الإسلام في خطابه اللفظي والسلوكي، ومن هذه المعالجات أنه كان يوزع العطاء على

ص: 61


1- الثقفي، الغارات، 1 / 50؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 198
2- البلاذری، انساب الأشراف، ص 132؛ الصدوق، الأمالي، ص 357
3- الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 79؛ الصدوق، الأمالي، ص 357؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 199
4- البلاذری، انساب الأشراف، 1 / 133؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، 42 / 476

المسلمين مرارا في السنة الواحدة(1)، (أعطي علي الناس في سنة ثلاث عطیات. ثم قدم عليه مال من أصبهان، فقال: هلموا إلى عطاء رابع فخذوا)(2)، لذلك لخص أحد الكوفيين تعامل الإمام مع رعيته عندما سأله معاوية عنها بالقول: (كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استفتيناه، ونحن والله مع تقریبه إيانا، وقربه منا لا نكاد نکلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله)(3).

وعلى الرغم من قصر مدة خلافة الإمام (عليه السلام)، إلا أن إجراءاته المركزة والجادة، أحدثت تغييراً في حياة المجتمع الإسلامي، ولعل حالة المجتمع الكوفي كاشفة عن هذا التغير الذي نتحدث عنه، وقد أعرب الإمام (عليه السلام) عن ارتياحه لتحقق هذا المقدار مما كان يصبو إليه من المساواة بين رعاياه، فقال: (ما أصبح بالكوفة أحد إلا ناعما. إن أدناهم منزلة ليأكل البر، ويجلس في الظل، ويشرب من ماء الفرات)(4). لقد ارتفعت حالة المسلمين المادية بشكل لافت، لاسيما الطبقات الفقيرة لأن الأموال التي كانت تأخذها الطبقات العليا عادت لتوزع عليها، وكان الحد الأدنى لما يستلمه المسلم

ص: 62


1- ينظر: الكوفي، مناقب أمير المؤمنين، 2 / 79؛ الصدوق، الأمالي، ص 357؛ أبو الشيخ، طبقات المحدثين بأصبهان، 1 / 279
2- الثقفي، الغارات، 1 / 83؛ البلاذری، انساب الأشراف، ص 132؛ المتقي الهندي، کنز العمال، 4 / 584
3- ابن عساکر، تاریخ دمشق، 24 / 401؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 18 / 224
4- ابن شبة النميري، المصنف، 8 / 157؛ المتقي الهندي، کنز العمال، 14 / 174؛ المجلسی، بحار الأنوار، 40 / 327

من عطاء أو أموال من الدولة لا يقل عن مائتا دینار في السنة الواحدة(1)، وهذه النسبة هي خط الشروع فقط، وهناك أموال أخرى أكثر من ذلك، لأنه كلما ازدادت العوائد المالية للدولة كلما زاد عطاء المسلمين، لأن هناك تناسب طردي بين الأثنين يستند على سياسة الإمام القاضية بتوزيع الأموال حال وصولها وامتناعه عن خزنها، ويعزز ما ذهبنا إليه من شيوع العدالة والمساواة وانتشار الرخاء في الدولة الإسلامية في عهد الإمام، أن أهل الكوفة طالبوا الوالي الذي أرسله عبد الله بن الزبير، بعد وفاة الإمام (عليه السلام) بخمسة وعشرين سنة(2)، بأن يطبق فيهم سياسة الإمام علي المالية، لأنهم كانوا يرون أنها حققت العدالة، وعاشوا في ظلها منعمين مترفين. لذا رفض أهل الكوفة أن تطبق فيهم سياسة الخليفتين عمر وعثمان، التي اقترحها الوالي الجديد كبديل لسياسة بني أمية في العراق، التي حرمت فيها شريحة واسعة من العطاء أو العيش الكريم، لذلك نجد أهل الكوفة عندما خطبهم الوالي الزبيري قائلاً: (أما بعد. فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثني على مصرکم وثغوركم، وأمرني بجباية فيئكم، وأن لا أحمل فضل فيئكم عنکم إلا برضى منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين). أجابوه بالقول: (إنا لا نرضى أن تحمل فضل فينا عنا، وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب، التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيتنا، ولا في أنفسنا فإنها إنها كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب

ص: 63


1- الصدوق، الخصال، ص 602؛ المجلسي، بحار الأنوار، 89 / 180
2- ينظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4 / 490

في فيينا)(1).

4 - إلغاء سياسة احتكار السلطة والإدارة ومحاباة الأقارب وتمييزهم، والعمل على إشاعة صفة التواضع ومواساة الفقراء والمحتاجين. وقد ضرب في هذا المضمون دروساً عظيمة وبالغة الأثر، ليُشعِر المسلمين بأنهم متساوون لا فرق بينهم، لاسيما أن أحد أهم الانتقادات التي وجهت لعثمان بن عفان، هي محاباته لأقربائه على حساب المسلمين بغير حق، مما أدى إلى ثورة انتهت بقتله، وفتحت من جراءها على الدولة الإسلامية مشكلات كثيرة. فكان الإمام علي (عليه السلام) حريصاً على أن لا يستأثر أقرباءه بالسلطة والإدارة؛ ليعلم المسلمين معنی تساويهم في نظر الحكومة الإسلامية الحقة، التي لا تؤثر أحدا على أحد، وليفسح لهم أكبر مجال ممكن في ممارسة حقهم في إدارة الدولة، وليبين لهم أنه وعائلته ومن يؤمن بنهجه ليسوا من طلاب السلطة والمنصب للظهور والتسلط والتمتع بامتيازاتها، إنما يتولونها لإقامة الحق ورفع الظلم لا أكثر. فأبعدهم عن أي مسؤولية، على تعيينه لأبناء عمه العباس على بعض الولايات الإسلامية، لبعض ما يتمتعون به من میزات وخصائص. وكان يراقبهم مراقبة شديدة ويحاسبهم على أي تصرف على الرغم من قربهم منه. وكانوا يأخذون عطاءهم مثل غيرهم من المسلمين، ودون أي امتیاز على غيرهم. وحقيقة الحال، إن هذا الإيثار والزهد والاكتفاء بأبسط ما يسد الرمق ويكسو البدن، لم يكن طارئ الحدوث في حياة الإمام علي (عليه السلام) و تعامله مع الآخرين. فقد صرح النص القرآني - منذ

ص: 64


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4 / 490

عقود خلت - بهذه الحقيقة، ونزل يمتدح فيه وفي أسرته هذه الصفة. فقال تعالى: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا.. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا»(1). وبالنتيجة فالزهد والإيثار والتواضع، غیر مرتبط بتصديه لخلافة المسلمين أو معزواً لها. وإلا فهو نزعة متأصلة في أعماق نفسه وروحه ووجدانه منذ أن تربي في حجر النبي (صلى الله عليه وآله)، وبدأ بإدراك حقيقة الحياة. فهذه النفس الكبيرة لا يوجد في تفكيرها أي وجود لملذات الدنيا كيف لا وهو القائل: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن اعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلته، وإن دنیاکم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سيئات العقل وقبح الزلل)(2). وعندما انتهت معركة الجمل تكلم مع أهل البصرة وقال: (ما تنقمون عليَّ يا أهل البصرة؟ وأشار إلى قميصه وردائه، فقال: والله إنهما لمن غزل أهلي. ما تنقمون مني يا أهل البصرة وأشار إلى صرة في يده فيها نفقته، فقال: والله ما هي إلا من غلتي بالمدينة، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فانا عند الله من الخائنين)(3). وكان الإمام (عليه السلام) يمتلك أراضي زراعية في المدينة المنورة، وهي أراضي موات أحياها بيده، عن طريق العمل فيها المدة من الزمن وحفر فيها آبار من أجل سقيها(4). وعلى الرغم من أن هذه

ص: 65


1- سورة الإنسان، الآية 8
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 247؛ المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 163
3- المفيد، الجمل، ص 224؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 367
4- ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، 1 / 221 - 222؛ الكوفي، مناقب امير المؤمنين، 2 / 81 - 83

الأراضي کانت وارداتها السنوية أربعين ألف دينار ذهباً(1)، إلا أنه خصص عوائدها للإنفاق على الفقراء والمحتاجين حتی بعد وفاته(2)، من دون أن يبقي لنفسه منها شيئاً، فيصل به الأمر في بعض الأحيان إلى أن يبيع سيفه، من أجل أن يشتري عشاءً له ولعائلته، لأن واردات أراضيه وراتبه يذهب إلى هذه الطبقات المحتاجة. كما ذكرت الروايات أنه كان يرقع ثوبه الذي يلبسه مرات عديدة، لأنه لا يمتلك ثمن ثوب جديد، فكان يقول: (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها)(3).

وهذا الأمر لا يتعلق بالزهد والدين الذي يدفعه إلى عدم التبذير فحسب؛ بل أنه كان يواسي بعمله هذا الفقراء والمحتاجين، ويعيش حياتهم، ومن أجل أن يكون قريبا منهم، ويتعرف على أثر الجوع عليهم فيجوع مثلهم ويشعر بمعاناتهم، ويلبس الملابس البسيطة مثلهم، فيستطيع أن يجد الحلول لمشاكلهم، كذلك حتى لا يشعر الفقير بامتهان لكرامته، وهو لا يمتلك ما يكفيه للمعيشة، عندما يرى الخليفة يعيش مثل حياته، فلا يستنكف من فقره. وهذا لا يعني أن الإمام (عليه السلام) كان يريد الناس أن يعيشوا حياة الفقر، بل العكس، فقد كان يريد الرفاه للجميع، والزهد شيء اختص

ص: 66


1- البلاذری، انساب الأشراف، ص 117؛ الشريف الرضي، خصائص الأئمة، ص 79؛ ابن طاووس الحسيني، کشف المحجة، ص 124
2- الكليني، الكافي، 4 / 22 - 23، الصدوق، من لا يحضره الفقیه، 2 / 71؛ ابن حجر، الإصابة، 7 / 343
3- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 117؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، 42 / 482؛ المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 26

به لنفسه، ففي الرواية أنه كان يأكل الطعام البسيط المتمثل بالخبز اليابس والزيت، فيما يطعم الناس اللحم والخبز(1). وعندما سألوه عن سبب الحياة البسيطة التي يعيشها، كان جوابه يرتكز على مواساة الفقراء: (يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة؟. فقال: ويحك إن الله عز وجل فرض على أئمة العدل، أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس کیلا يتبيغ بالفقير فقره)(2). وعليه فمن الطبيعي أن يكون الإمام (عليه السلام) حريصاً على أموال المسلمين، وعدم المساس بها. وهو لا يريد تصحيح السياسة المالية التي سبقته فقط؛ بل كان يهدف لإعادة المسلمين أو تعريفهم بروح الإسلام الحقة، أو لنقل مشروع الإسلام الشامل، ولذا كان يريد التأسيس لسياسة جديدة ترتكز على أن يكون الخليفة مواسياً لأضعف الناس وأبسطهم حالاً، وأن يتصف بالزهد والقناعة والإيثار....

5 - التأسيس لثقافة مراقبة السلطة، لا سيما في الجانب المالي. وقد ابتدأ الإمام (عليه السلام) بنفسه، من خلال إعلاناته المتكررة بأنه سيكون أميناً على أموال الناس وعطائهم ومعايشهم وكافة أمورهم، ودعوته المسلمين لمراقبة مدى تطبيق ما أعلن عنه، لذا نراه عندما دخل الكوفة خاطب الناس فيها بالقول: (يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي

ص: 67


1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 370؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 233
2- الثقفي، الغارات، 1/ 68؛ الحميري، قرب الإسناد، ص 113؛ المجلسي، بحار الأنوار، 63 / 56

وغلامي فأنا خائن)(1). وخاطب أهل البصرة بالخطاب نفسه(2). وبعبارة أخرى، هو أعلن عما يملكه - أو ذمته المالية كما يعبر عنها حاليا - وأعطى الفرصة الكاملة للمسلمين لمراقبة أدائه، سواء في الناحية المالية أو غيرها، ومحاسبته إن كان تجاوز على شيء مما يخصهم. وزاد على ذلك بأن استغنی عن الحق الطبيعي له بأن يتساوى مع بقية المسلمين في المأكل والملبس، وأن يتمتع بشيء من العطاء، لقاء کونه موظفاً في الدولة، فقد اعتمد في حياته

على أرضه الخاصة، التي كان يملكها منذ عهد النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) في المدينة(3). ومر بنا أنه خاطب المسلمين فقال: (يا معشر المهاجرين والأنصار. یا معشر قريش. اعلموا والله أني لا أرزؤكم من فينكم شيئا، ما قام لي عذق بيثرب)(4).

ولم يكتف بأن يعيش هو وحده حياة الكفاف والزهد والمواساة، بل ربي عائلته وأولاده على ذلك، فكان ولداه الإمامين الحسن والحسين (عليه السلام) يأكلان طعاما خشنا متواضعا، فتعجب أحد اصحابه من أكلهما هذا الطعام، ورحبة المسجد تحتوي على أطعمة طيبة، فسألها عن ذلك؟. فكان جوابها له يدل على مدى حفاظ الإمام (عليه السلام) على أموال المسلمين

ص: 68


1- الكليني، الكافي، 1 / 410 - 411؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 2 / 374؛ المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 26
2- الثقفي، الغارات، 1 / 68؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 200
3- المفيد، الجمل، ص 224؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 367
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 245 - 246

حتى في هذه الأشياء البسيطة، إذ قالا له: (ما أغفلك عن أمير المؤمنين)(1). أي أنت لا تعرف حرص أمير المؤمنين على هذه الأموال. وقد تعلم ذلك الرجل الدرس، ووعاه بشكل لا يقبل الشك أو المناقشة، ولذا نراه يبينه بحوار جرى بينه وبين صاحب له، كان تعجب من زهد الإمام وكفافه، أو طلب منه أن يزيد في عطائه أو ما شابه، إذ قال له: (ما تؤمل من رجل سألته أن يزيد في عطاء ابنيه الحسن والحسين دريهمات لما رأيته من حالتهما، فأبی علي وغضب من سؤالي إياه ذلك)(2). وكذلك كان تعامله مع باقي أسرته، فتذكر الروايات أن أخاه عقيل جاء إليه يسأله مالا، وأحضر أبناءه معه من أجل أن يستدر عطف أخيه، فكان رد الإمام يتناسب مع زهده وعدله و سیاسته في إدارة الدولة: (والله لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وقَدْ أَمْلَقَ، حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّکُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَه شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، کَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وعَاوَدَنِي مُؤَکِّداً وَکَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْه سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُه دِينِي، وأَتَّبِعُ قِيَادَه مَفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَه حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِه لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِیسَمِهَا، فَقُلْتُ لَه: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاکِلُ يَا عَقِيلُ، أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِه، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِه، أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى...)(3).

6 - تأسیس نظام الضمان الاجتماعي: سبق القول إن الإمام (عليه السلام)

ص: 69


1- الكليني، الكافي، 8 / 182؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 1 / 323
2- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 375؛ المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 113
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 11 / 245

أقترح على عمر بن الخطاب إعطاء فضول الأموال للفقراء(1)، بمعنى إنشاء صندوق للضمان الاجتماعي، وقد طبق هذا الأمر في خلافته بشكل رسمي، وهذه الأموال تؤخذ من الفائض بعد توزيع العطاء، وهذا يعني إن الفقراء والمساكين والمعدمين وغير القادرين على العمل، أو الذين يعملون لكن عملهم لا يدر عليهم كثيراً من الأموال، أو الذين يأخذون العطاء، لكن هذا العطاء لا يسد حاجة عوائلهم، تخصص لهم نسب من الأموال من الخزينة العامة للدولة. والمشمولون بهذا النظام كانوا يأخذون أموال الزكاة، لكن هذه الأموال لم تكن كافية لسد حاجتهم، وقد شمل هذا النظام اليتامی والأرامل الذين لا يوجد لهم مورد مالي يكفيهم، من أجل أن يعيشوا حياة کریمة شأنهم شأن غيرهم، إذ فقد هؤلاء من يعيلهم سواء في الحروب، أو توفوا وفاة طبيعية، وبقوا بدون معيل، فشملهم الإمام بالضمان الاجتماعي، إذ تذكر الروايات التاريخية، إن الأموال عندما تأتي إلى بيت المال من الولايات الإسلامية، يدعو اليتامى من أجل أخذ حصصهم من هذه الأموال(2). على الرغم من أنهم لم يكونوا من الموظفين أو العسكريين، و كان الخليفة يباشر هذه الأمور بنفسه، دون أن يتركها للموظفين، الذين ربما لا يشعرون بالحاجة الفعلية لهذه الطبقة، لذلك نجد في الروايات أن الإمام كان يتابع هذه الطبقة بنفسه، على الرغم من كونه خليفة المسلمين، ورأس السلطة في الدولة الإسلامية(3).

ص: 70


1- ابن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، 1 / 94؛ أبو یعلی، مسند أبي يعلى، 1 / 414 - 415
2- البلاذری، انساب الأشراف، ص 136
3- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1 / 382؛ المجلسي، بحار الأنوار، 41 / 52

لقد كان الإمام يتابع هذه الطبقة ويسد حاجتها بشكل كامل، ولم يتركها من دون رواتب، وعلى الرغم من أن المصادر التاريخية لا تبين لنا بشكل دقيق مقدار هذه الرواتب، إلا أنها ذكرت أنه خصص جزءاً من أموال بيت المال لهؤلاء، ويؤيد ذلك الكتاب الذي أرسله أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض عماله، عندما علم انه أخذ بعض الأموال من ولايته، إذ قال له: (فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها كأنك إنما حزت تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله أفما تؤمن بالمعاد؟ ولا تخاف سوء الحساب؟. أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما؟. وتشتري الإماء وتنكحهن بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم)(1). ولا يخفى أن الإمام (عليه السلام) عندما يشير إلى اليتامى والأرامل في الكتاب أعلاه، يعني أنهم طبقة تختلف عن طبقة العسكريين الذين ذكرهم في الكتاب نفسه، الذين يأخذون رواتبهم من خراج الأراضي وهذا يؤكد رأينا في أن الخليفة خصص جزءاً من أموال الخراج من أجل الرعاية الاجتماعية، لاسيما تلك المتعلقة باليتامى والأرامل، وربما يكون السبب في ذلك هو أن هؤلاء فقدوا آباءهم في المعارك، أي انهم كانوا جنودا، وكما ذكرنا فإن الجنود يأخذون رواتبهم من الخراج والجزية، فكان هذا الراتب الذي يأخذه اليتامى والأرامل هو أشبه براتب تقاعدي.

کما شمل نظام الضمان الاجتماعي طبقة الفقراء والمساكين، وهي من الطبقات المعدمة في المجتمع التي كانت تعيش على أموال الزكاة، وهذه

ص: 71


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 175؛ الدمشقي، جواهر المطالب، ص 84

الأموال لم تكن كافية لإعالة هؤلاء، لذلك التفت الإمام إليهم، وأمر في كتابه إلى واليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر، أن يخصص لهؤلاء رواتب ثابتة من خلال تخصيص حصة من بيت المال، ومن عائدات أراضي الصوافي التابعة البيت المال، فكتب له: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين..، وأجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد..، ولا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم)(1)، وهذا الكتاب يدل على أن هذا الأمر طبقه الإمام (عليه السلام) في كل أرجاء الدولة، إذ ليس من المعقول أن يوصي واليه على مصر به فقط، كذلك إشارته على عمر بن الخطاب بتخصيص مبلغ من المال لهؤلاء، تدل على أنه طبقه في جميع أرجاء الدولة وبصورة منظمة، ويبدو أن الإمام (عليه السلام) باشر هذه الأمور بنفسه في العاصمة، وأمر ولاته بمباشرتها بأنفسهم في مناطق مسؤولياتهم، وأمرهم بتعيين أشخاص موثوقين، من أجل إخبار الوالي عن الفقراء والمساكين، الذين ربما يستحون من طلب الأموال من الوالي أو غيره على الرغم من حاجتهم لها، ويدخل ضمن هؤلاء المعوقين الذين يشكون من عاهات دائمة تقعدهم عن العمل، والمرضى الذين يشكون من أمراض مزمنة(2)، وفي بعض الحالات التي تفيض فيها أموال في بيت المال، كان

ص: 72


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 80؛ المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 607 - 608
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 80؛ المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 607 - 608

الخليفة ينتخب أشد الناس حاجة ليبعث بها إليهم، وفي كثير من الأحيان تبقى بعض الأموال سواء كانت نقداً أو غيره في بيت المال، فيكون تخصيص هذه الأموال لهؤلاء المحتاجين(1).

ولم تقتصر الرعاية الاجتماعية على المسلمين؛ بل شملت غيرهم من أهل الكتاب الذين لا يمتلكون الأموال، فتذكر الروايات أن الإمام (عليه السلام) شاهد أحد النصارى يتكفف الناس، فسأل عنه، فأخبروه أنه نصراني هرم، وصار لا يقوى على العمل فأخذ يتسول: فقال لهم: (استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه) ثم أمر أن يجرى له من بيت المال راتباً يكفيه لمعيشته(2)، وهذا الأمر قمة العدالة الاجتماعية التي طبقها الإمام (عليه السلام) في حكمه، إذ لم يفرق بين الناس لمنزلتهم الاجتماعية أو الدينية، لأن العطاء يتعلق بكرامة الإنسان التي سعى الإسلام لصيانتها، كما أنه يبين أن ظاهرة التسول غير مقبولة في عهد الإمام (عليه السلام)، ويجب أن تعالج الدولة حاجة هؤلاء الذين لا يمتلكون أموالاً تكفيهم لحياتهم اليومية، لاسيما أنه كان يرى أن كرامة الإنسان ومعاشه، ليس له علاقة بالدين الذي يعتنقه، فحاول الإمام علي (عليه السلام) إزالة كل أنواع التمييز ضد الآخرين في دولته، لاسيما أن هذا التمييز أصبح متأصلا في نفوس المسلمين، وذلك عندما صنف عمر بن الخطاب الناس وفق طبقات، وفرض الجزية على أهل الكتاب من غیر العرب، ولم يأخذ الجزية من أقرانهم من العرب، بل فرض عليهم صدقة مضاعفة، وقد تعدى هذا التمييز أهل الكتاب إلى المسلمين، فأصبح

ص: 73


1- البلاذري، انساب الأشراف، ص 134
2- الطوسي، تهذيب الأحكام، 6 / 293؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، 15 /66

المسلم العربي يتكبر على المسلم من غير العرب، إذ تذكر الروايات أن امرأتين مسلمتين فقيرتين أتيتا إلى الإمام من أجل طلب مساعدة مادية، فأعطى كل واحدة منها مائة درهم، فأخذت غير العربية المال وذهبت، بينما بقیت العربية لتقول للإمام علي: (فضلني بما فضلك الله به وشرفك، قال: وبما فضلني الله وشرفني؟ قالت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت وما أنت؟ قالت: أنما من العرب وهذه من الموالي، فتناول أمير المؤمنين شيئا من الأرض ثم قال: قد قرأت ما بين اللوحين، فما رأيت لولد إسماعيل على ولد إسحاق عليهما السلام فضلا ولا جناح بعوضة)(1)، لذلك أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) معالجة هذه الأمور، وذلك بإزالة كل أنواع التمييز

في الدولة الإسلامية، ومن ضمن هذه المعالجات ما ذكرناه من تغيير سياسة توزيع الأموال، وجعل الناس متساوين أمام القانون، ولم تكن هذه المعالجة خاصة بالمسلمين فقط، بل تعدت إلى غير المسلمين أيضا، ففي رواية أن أحد المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة، فحكم الإمام على المسلم بالقتل نتيجة للجريمة التي أقترفها، إلا أن اخا الذمي تنازل عن الدعوى ضد المسلم، فقال له الإمام: (فلعلهم هددوك أو فرقوك [خوفوك])، فقال الذمي أن قتل هذا المسلم لا يرجع أخي، وقد أعطاه أهل المسلم مبلغاً من المال كتعويض، فرضي بهذا الحل وترك الدعوى(2).

7 - العمل على استدامة الموارد الاقتصادية والمالية للدولة. وهذا ما يمكن أن نستشفه عن طريق العديد من الكتب والتوجيهات لعماله وولاته المنتشرين

ص: 74


1- البلاذري، أنساب الأشراف، ص 141؛ النووي، المجموع، 19 / 385
2- الشافعي، كتاب الأم، 7 / 339

في الأمصار الإسلامية، ومثال ذلك أنه كتب إلى قرظة بن كعب وهو عامل الخراج على منطقة عين التمر التابعة لولاية المدائن(1)، أن يباشر بحفر أحد الأنهار ويجعل الفلاحين يعملون فيه وينفق عليه من بيت المال، ولا يجبر أحداً على العمل فيه، وفي الوقت نفسه يكون النهر لمن عمل عليه(2). وكان هذا العمل زيادة على فائدته للفلاحين، فإنه يسهم في انتعاش الأراضي الزراعية، ويعود بالفائدة على اقتصاد الدولة. وفي العهد الذي كتبه لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) تطرق إلى المشاريع الزراعية، فقال فيه: (ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة، أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فأجمع إليك أهل الخراج من كل بلدانك ومرهم فليعلموك حال بلادهم وما فيه صلاحهم ورخاء جبايتهم، ثم سل عما يرفع إليك أهل العلم به من غيرهم، فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم ما ترجو أن يصلح الله به أمرهم، وإن سألوا معونة إصلاح ما يقدرون عليه بأموالهم فأكفهم مؤونته، فإن عاقبة كفايتك إياهم صلاحا، فلا يثقلن عليك شيء خففت به عنهم المؤونات، فإنه ذخر يعودون به عليك لعمارة بلادك وتزيين ولايتك مع اقتنائك مودتهم وحسن نياتهم)(3).

ص: 75


1- المنقري، وقعة صفين، ص 11؛ البلاذری، انساب الأشراف، ص 446 ؛ الثقفي، الغارات، 2 / 447
2- البلاذری، انساب الأشراف، ص 192؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203
3- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 136 - 137؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 70 - 71

فقدم الإمام في هذا الكتاب عمارة الأرض على جباية الضرائب، وعمارة الأرض تعني تحسين الحالة الاقتصادية لها، بحيث يكون إنتاجها مرتفعا، فكانت جباية الضرائب تأتي بالدرجة الثانية من الأهمية، بعد أن تنفق الدولة الأموال على الإصلاح الزراعي، لذلك ألزم الإمام الدولة عبر ولاتها بتفقد الفلاحين ومعرفة حاجاتهم ، من أجل تقديم المعونات اللازمة لهم، ورفع إنتاجية الأرض، كذلك ألزمهم بالإنفاق على مشاريع الإصلاح الزراعي، في الحالات التي تتعرض فيها الأراضي الزراعية إلى آفات مثل الفيضانات، وقلة المياه التي تحتاج إلى حفر الأنهار، لأن الفلاحين في هذه الحالات لا يكونوا قادرين على معالجتها، ومن ضمن هذا الإنفاق الاستغناء عن ضريبة الخراج في بعض الحالات التي تصاب بها المحاصيل الزراعية بآفات طبيعية. وهنا يشير الخليفة إلى هذا المعنى بقوله: (وإنما يؤتى خراب الأرض لإعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإسراف الولاة، وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر، فاعمل عمل من يحب أن يدخر حسن الثناء من الرعية، والمثوبة من الله، والرضا من الإمام)(1). كذلك كانت سياسة الإمام (عليه السلام) تحمل بعداً اجتماعياً مها، هو التصاق الفلاح بالدولة والولاء لها، لأنه يرى إنها تراعيه وتراعي أرضه، وهذا الأمر فيه ضمان لاستقرار الدولة، وعلاج للمشاكل الاقتصادية فيها.

8 - الاهتمام بأراضي الدولة ورفع انتاجيتها: عندما تولى عثمان الخلافة بدأ بتوزيع الاقطاعات في أراضي السواد وغيرها. فقد ورد أنه لم يُقطع رسول الله

ص: 76


1- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 363؛ ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 138؛ المجلسي، بحار الأنوار، 74 / 254

(صلى الله عليه وآله) ولا أبو بكر ولا عمر وأول من أقطع وباع عثمان(1)، وينص البلاذري على أن: (أول من أقطع العراق عثمان، أقطع قطائع من صوافي كسرى، وما كان من أرض الجالية)(2)، وورد أنه أقطع أراض لمجموعة من المقربين، وهؤلاء كانوا يعطونها للفلاحين من أجل زراعتها بالثلث والربع، وكانت هذه الإقطاعات عبارة عن قرى كاملة(3)، وقد باع بعضهم تلك الأراضي التي منحت لهم(4)، فحرم بيت المال من أراض كثيرة كانت تدر الأموال على عموم المسلمين. وهذه الإقطاعات لم تمنح للفقراء والمستحقين من المسلمين، بل للصحابة الأغنياء الذين يمتلكون ثروات كبيرة(5)، ولأسرته من بني أمية من تأخر إسلامهم، الذين لم يكونوا موضع احترام من لدن المسلمين(6).

لذا ركز الإمام (عليه السلام) على صيانة مصادر الدولة المالية لا سيما الخراج، فغير نوع الضرائب المفروضة على الأراضي الخراجية ومقدارها، بما يتلاءم وإنتاج الأرض، الأمر الذي يؤدي إلى الحفاظ على إنتاجها، وعدم

ص: 77


1- ابن آدم، الخراج، ص 79؛ ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 641؛ المقريزي، الخطط المقريزية، 1 / 96
2- البلاذري، فتوح البلدان، ص 166؛ أبو عبيد، الأموال، ص 23؛ ابن رجب، الاستخراج، ص 22
3- أبو عبيد، الأموال، ص 276؛ ابن أبي شيبة، المصنف، 5 / 143؛ ابن سلمة، شرح معاني الآثار؛ 4 / 114
4- البلاذري، فتوح البلدان، ص 166؛ المقريزي؛ الخطط المقريزية، 1 / 96
5- البلاذري، فتوح البلدان، ص 166
6- ابن عساکر، تاریخ دمشق، 2 / 207؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1 / 269

ظلم الفلاحين في الوقت ذاته. ففي السابق كانت الضريبة تعتمد على مساحة

الأرض، على عكس ما فعله النبي عندما أخذ من يهود خيبر الضريبة على أساس المقاسمة(1)، ونظام المقاسمة فيه شيء من المراعاة للفلاحين، إذ أنه لا يأخذ الضريبة من الأرض غير المزروعة، كذلك إذا أصيب الحاصل بآفة زراعية أو غيرها، يكون الفلاح قادر على دفع الضريبة لأنها تعتمد نسبة الإنتاج، زيادة على فائدته للدولة، لأنه دقيق في احتساب الضريبة المأخوذة من كل المحاصيل، فتكون الدولة مستفيدة من زيادة الإنتاج، والفلاحون مستفيدون في حالة تعرض محاصيلهم المشاكل طبيعية أو غيرها.

وأولى الإمام (عليه السلام) اهتمامه الكبير بالفلاح وإنتاج الأرض، فوجه عماله لضرورة الاجتماع بالفلاحين، وسماع آرائهم فيما يتعلق بأراضيهم، والمشاكل التي يعانون منها، فقال لأحد ولاته: (أجمع أهل الخراج من كل بلد، ثم مرهم فليعلموك حال بلادهم، والذي فيه صلاحهم، وحال أرضهم وزجاء خراجهم، ثم سل عما يرفع إليك أهل العلم من غيرهم، فإن شكوا إليك ثقل خراجهم، أو علة دخلت عليهم من انقطاع شرب أو فساد أرض، غلب عليها غرق أو عطش أو آفة مجحفة، خففت عنهم ما ترجو أن يصلح الله به أمرهم، وان سألوا معونة على إصلاح مايقدرون عليه بأموالهم فأكفهم مؤنته)(2).

وقام بإصلاح نسبة الضريبة المفروضة على الأراضي الخراجية، فأرسل أحد العمال إلى منطقة المدائن والمناطق المحيطة بها، من أجل تقدير ضرائب

ص: 78


1- ابن سعد، الطبقات الکبری، 2 / 304 - 305؛ البلاذری، فتوح البلدان، ص 23
2- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1 / 362؛ ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 137 - 138

جديدة(1) فأوجد نظاماً ضريباً يزاوج بين خراج المساحة والمقاسمة. وقد وضعت تلك الضرائب عندما فتح المسلمون أراضي السواد، وفي ذلك الوقت لم تكن لهم معرفة جيدة بالأراضي الزراعية، ومعدلات إنتاجها من أجل تقدير الضريبة المناسبة عليها، وقد سار المسلمون على هذه النسب في عهد عثمان بن عفان دون تغيير أو معالجة لها، مع أنها كانت تضر بالفلاحين لأنها مقدرة على أساس مساحة الأرض بدون مراعاة للکمية المنتجة، وقد شهدت المدة التي سبقت خلافة الإمام (عليه السلام) شكاوى من نسب الخراج المأخوذة من الفلاحين، فقد أورد المسعودي(2) (إن الناس شكوا من كثرة الخراج).

وقد عمل الإمام (عليه السلام) على تخفيف الضريبة عن الفلاحين، بالمقدار الذي لا يضر بهم ولا باقتصاد الدولة، وعلى الرغم من أنه سار في جباية الضريبة على أساس المساحة، لكنه أخذ بنظر الاعتبار عنصر خصوبة التربة، وكمية الإنتاج كعوامل رئيسة في جباية الضريبة، فلم يأخذ الضريبة من مساحة الأرض سواء كانت مزروعة أو لا؛ بل أنه جباها حسب الكمية التي تنتجها هذه الأرض، وهذا يؤدي إلى العدالة في جباية الضريبة أولا، ومساعدة الفلاح الذي تصاب أرضه بآفة، تؤدي إلى قلة الإنتاج ثانيا. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة متعبة لموظفي الخراج، وتحتاج إلى خبرة بالأراضي الزراعية،

ص: 79


1- أوجد الإمام علي (عليه السلام) نظاماً ضريبياً جديداً يراعي الفلاحين لمزيد من التفاصيل ينظر: أبو يوسف، الخراج، ص 128؛ البلاذري، فتوح البلدان، ص 165؛ قدامة، الخراج، ص 368؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، 2 / 48؛ المفيد، المقنعة، ص 275
2- المسعودي، مروج الذهب، 2 / 346

وأمانة في تحديد الضريبة، ومراقبة مستمرة لإنتاج الأرض، بمعنى أن تكون الدولة مراقبة لنسب الضرائب وقريبة من الفلاحين، ويتبع ذلك توظيف أعداد كبيرة من العمال، من أجل التدقيق في النسب المأخوذة. لكن الإمام (عليه السلام) كان مصمماً على الإصلاح، الذي لا يهتم بزيادة كمية الأموال المجباة من الأراضي، بقدر ما يسعى لإصلاح وعمارة الأراضي الزراعية(1). کما راعى الوضع المالي للفلاح، ولم يسمح للجباة بإكراه الفلاحين، وأمرهم بإبداء المرونة في الجباية. وأن لا يجبروا الفلاحين في حالة عدم امتلاكهم لمبالغ الضريبة، أن يبيعوا ملابسهم أو دوابهم التي يعملون عليها، ويمكن تأجيل جباية الضريبة إلى وقت تيسر المال بيد الفلاح، وأعطاهم تعليمات مشددة، تمنعهم من ضرب أي من الفلاحين بسبب الأموال(2) وحثهم على التواضع للناس(3) وهذه التوصيات نابعة من روح الإمام (عليه السلام)، وفلسفته للحياة وإنسانيته، فضلاً عن كونها مبادئ وأخلاق إنسانية ولذا نجده يوصي واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه): (وأشعر قلبك

الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا، تغتنم أكلهم فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق)(4) فهو يرى أن هؤلاء العمال بمثابة سفراء للخلافة أمام الناس، وعليه يجب ان يكونوا بمستوى هذا التكليف. ويبدو أن المدة التي سبقته، شهدت مثل

ص: 80


1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 137؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 70
2- أبو يوسف، الخراج، ص 70؛ أبو عبيد، الأموال، ص 44؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 19
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 137
4- ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 127؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 32

هذه الممارسات غير الإنسانية، إذ سجلت بعض مصادر التاريخ حالات من التعذيب مارسه العمال على الفلاحين، بسبب عدم دفع مبالغ الخراج(1).

9 - منع التجاوز على اهل الذمة: أوجز الإمام علي (عليه السلام) السبب الذي من اجله اخذت الجزية من اهل الكتاب بالقول: (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا)(2)، وعلى أهل الذمة أن لا يقوموا بما يتنافى مع العقد المبرم، كالتآمر على الإسلام، ومصالح المسلمين وشن الحرب ضدهم، ومساندة أعدائهم وأن يلتزموا بإحكام الإسلام الجزائية التي تطبق بحقهم(3).

وفي إطار سياسة الإصلاح التي انتهجها الإمام (عليه السلام) مع كل الموارد المالية للدولة في عهده، باشر بإصلاح ضريبة الجزية، وهذا الإصلاح لم يكن في مبالغها المجباة فقط، بل شمل إصلاح طريقة الجباية أيضا، لا سيما التعامل مع أهل الذمة، لأن هؤلاء تعرضوا إلى بعض أنواع الظلم في المدة التي سبقت عهده. ومن الأمثلة على ذلك أن والي حمص عياض بن غنم، كان يعذب أهل الذمة الذين لا يدفعون الجزية، وذلك بأن يقيمهم تحت الشمس الحارة(4)، وهذه الممارسات لا تنسجم مع تعاليم الإسلام ولكن هذا العامل استغل سلطته لظلم الناس. ومما يؤاخذ عليه عمر

ص: 81


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 147؛ السهمي، تاریخ جرجان، ص 128
2- ابن قدامة، المغني، 10 / 479
3- كديور، المشروعية السياسية، ص 148
4- أبو يوسف، الخراج، ص 125؛ ابن حنبل، مسند احمد، 3 / 403؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3 / 290

بن الخطاب، إنه أعطاه تفويضاً بالحكم دون ردع، وهو يعرف أن عياض سيتجاوز على أموال المسلمين، لأن الصحابة قالوا له : (كيف تقر عياض

بن غنم وهو رجل جواد لا يمنع شيئا يسئله؟. ونزعت خالد بن الوليد في أن كان يعطي دونك)(1)، وكان جواب عمر أقبح من فعل عياض، إذ قال: (وإني مع ذلك لم أكن لأغیر أمرا قضاه أبو عبيدة بن الجراح)، لذلك لم يعط الإمام علي (عليه السلام) لأي شخص تفويضاً مطلقاً بالحكم، مهما كانت مكانته في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) أو قربه من الخليفة، أو تمتعه بميزة اجتماعية أو قبلية أو غيرها، وكان شديدا مع المقصرين من الموظفين. لأنه يرى ضرورة الإصلاح في هذا الجانب، وقد اوصى أحد عماله بالقول: (اياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو)(2)؛ بل إن أحد العمال اعترض على تلك التوصيات لمراعاتها أهل الذمة بشكل مثالي، و وأنها إذا ما طبقت فسوف لن يجبى أي مبلغ: (يا أمير المؤمنين. إذا أرجع إليك كما ذهبت من عندك. قال: وإن رجعت كما ذهبت. ويحك. إنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو يعني الفضل)(3).

وعالج كذلك حالات الاستبداد التي طبقت في العهود السابقة على أه-ل الذمة. فعلى الرغم من أن الاتفاقيات التي أبرمها المسلمون مع أهل الذمة

ص: 82


1- الصنعاني، المصنف، 5 / 455؛ الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 339؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، 47 / 277
2- الكليني، الكافي، 3 / 540؛ المفيد، المقنعة، ص 257؛ الطوسي، تهذيب الأحكام، 4 / 98
3- البيهقي، السنن الكبرى، 9 / 205؛ ابن الأثير، اسد الغابة، 4 / 24

تقضي دفع مبالغ مالية معينة للدولة، إلا أنه فرضت عليهم ضرائب خارج نطاق الاتفاقيات. لذلك عمل الإمام (عليه السلام) على رفع الحيف الذي قد لحق بهؤلاء ومنع من استحصال اي مبالغ اضافية منهم(1)، وفي حالة تعرض أهل الذمة لأي مضايقة، فإن عالاً في تلك المناطق، كانوا يمثلون الضابط الرئيس لتصرفات الجيش في مناطقهم، لأنهم يكتبون مباشرة إلى الخليفة، وينقلون له أي سلوك غير صحيح، الأمر الذي قد يؤدي إلى عزل قائد الجيش ومعاقبة المسيء، وهذا واضح من الكتاب الذي وجهه الإمام (عليه السلام) إلى الولاة والعمال: (مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤمِنِينَ إِلَى مَنْ مَرَّ بِهِ الْجَيْشُ مِنْ جُبَاةِ الْخَرَاجِ وَعُمَّالِ الْبِلاَدِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُ جُنُوداً هِيَ مَارَّةٌ بِكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَقَدْ أَوْصَيْتُهُمْ بِمَا يَجِبُ لله عَلَيْهِمْ مِنْ كَفِّ الأَذَى، وَصَرْفِ الشَّذَى، وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ وَإِلَى ذِمَّتِكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ، إِلاَّ مِنْ جَوْعَةِ الْمُضْطَرِّ، لاَ يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إِلَى شِبَعِهِ، فَنَكِّلُوا مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُمْ [شيئاً] ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُمْ عَنْ مُضَادَّتِهِمْ، وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيما اسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُمْ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ، فَارْفَعُوا إِلَىَّ مَظَالَمِكُمْ، وَمَا عَرَاكُمْ مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَلاَ تُطِيقُونَ دَفْعَهُ إِلاَّ بِاللهِ وَبِي، أُغَيِّرْهُ بِمَعُونَةِ اللهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ)(2).

10 - تفعيل نظام الرقابة المالية والضبط الإداري. لاسيما أن أحد أسباب الفساد السابق أن الحاكم لم يكن يحاسب عماله وولاته، وترك الباب مفتوحاً لهم ليتجاوزوا على أموال المسلمين وأرزاقهم لذا لم يكتف الإمام (عليه

ص: 83


1- المنقري، وقعة صفين، ص 144؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3 / 204؛ المجلسي، بحار الأنوار، 32 / 425
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 147؛ المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 486

السلام) باختيار الموظفين الصلحاء من ولاة وعمال خراج وجزية وغيرهم، بل تعدى ذلك إلى وضع نظام رقابي شامل لمراقبة هؤلاء العمال، لأن الرقابة الإدارية والمالية تمنع هؤلاء الموظفين من التلاعب بأموال المسلمين، حتى أنه كان يمارس الرقابة بنفسه في المناطق التي تخضع لسلطته مباشرة، ليس على أموال المسلمين فحسب بل حتى على معاملتهم الاقتصادية فيما بينهم(1)، وقد استند (عليه السلام) في تحقيق الرقابة عبر مجموعة من الإجراءات؛ منها انشاء نظام العيون هو احد المصادر المهمة التي يستقي منها الإمام (عليه السلام) وولاته معلوماتهم عن تصرفات العمال في الولايات البعيدة عن مركز الدولة، وكان بعض هؤلاء العيون يكتب للإمام بصورة مباشرة عن السلبيات والإيجابيات التي يرونها في مناطق عملهم. فكان الإمام (عليه السلام) يحيط بما يجري في الولايات، وقد أدَّى هذا النظام فاعليته في مراقبة تصرفات الموظفين التابعين للدولة، لاسيما أن الولاة كانوا حذرين في التعامل مع أموال المسلمين، لعلمهم بأن ليس لديهم أي حصانة إذا خانوا الأمانة التي في أيديهم، كما اعتمد على التفتيش الإداري الذي كان يتم من خلال استدعاء الولاة ومراجعة حساباتهم المالية(2)، أو من خلال إرسال بعض الأشخاص إلى المناطق لسؤال الناس عن تصرف العمال والولاة معهم، وهؤلاء المفتشين يرسلون لتلك المناطق حسب الحاجة لهذا الإجراء، وعليه فليس ثمة موظفين خاصين للقيام بهذه المهمة، وإنما كان الإمام (عليه السلام) يرسل اشخاصاً

ص: 84


1- الكوفي، مناقب امير المؤمنين، 2 / 60 - 63؛ المفيد، الأمالي، ص 197
2- المنقري، وقعة صفین، ص 21 - 22؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 200؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14 / 33

لأدائها(1)، يزاد على ذلك انه فعل الرقابة الشعبية على الولاة والعمال فطلب الإمام (عليه السلام) من الناس في الولايات الإسلامية، سواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة أن يراقبوا تصرفات الولاة والعمال، ويشخّصوا الأخطاء، وأن يوصلوا أي سلبية يرونها في ولاياتهم إليه مباشرة، أما عن طريق الكتابة له، أو المجيء إلى العاصمة وتقديم الشكاوي(2)، فكان الإمام (عليه السلام) يستقبل كتب وشكاوى المسلمين وغيرهم، بما أنهم رعايا للدولة(3)، وفي بعض الحالات كان الناس يفدون إلى الخليفة من أجل تقديم الشكاوى ضد الولاة والعمال(4).

ص: 85


1- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 204؛ المحمودي، نهج السعادة، 5 / 25
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 125؛ المجلسي، بحار الأنوار، 33 / 492
3- البلاذري، انساب الأشراف، 161؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 203؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 15 / 137
4- ابن طیفور، بلاغات النساء، ص 30؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 2 / 102 - 103

قائمة المصادر والمراجع

أولاً: القرآن الكريم

ثانياً: المصادر

- ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم الشيباني، (ت 630 ه)،

1 - اسد الغابة، مطبعة اسماعیلیان، طهران د ت.

2 - الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت 1966.

- ابن آدم، يحيى بن ادم القرشي (ت 203 ه)،

3 - کتاب الخراج، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعرفة، بيروت 1979.

- ابن أعثم، أحمد بن أعثم الكوفي (ت 314 ه).

4 - كتاب الفتوح، تحقيق علي شيري، دار الأضواء، بيروت 1991.

- البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي (ت 256 ه)،

5 - صحيح البخاري، دار الفكر، بيروت 1401.

- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه)،

6 - انساب الأشراف، الجزء الخامس، تحقیق محمد حمید الله. دار المعارف. مصر 1959.

- انساب الأشراف، الجزء الأول، تحقيق محمد باقر المحمودي، مؤسسة الاعلمي،

بيروت 1394.

8 - فتوح البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000.

- البيهقي، أحمد بن الحسين (ت 458ه)،

9 - السنن الكبرى، دار الفكر، بيروت د ت.

- الترمذي، محمد بن عیسی (ت 279 ه)،

10 - سنن الترمذي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر، بيروت 1403.

ص: 86

- الثقفي، إبراهيم بن محمد الثقفي (ت 283 ه)،

11 - الغارات، تحقیق جلال الدين المحدث، مطبعة بهمن، إيران 1395.

- أبو جعفر الإسكافي، محمد بن عبد الله المعتزلي (ت 220 ه)،

12 - المعيار والموازنة في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، تحقيق محمد باقر المحمودي، د. م د. ت.

- الحاكم النيسابوري، محمد بن محمد (ت 405 ه)،

13 - المستدرك على الصحيحين، تحقيق يوسف المرعشلي، دار المعرفة، بيروت 1406.

- ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني (ت 852)،

14 - الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وآخر، دار الكتب العلمية، بيروت 1415.

15 - ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر (ت 852 ه)، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ط 2، دار المعرفة، بيروت د ت.

- ابن أبي الحديد، عز الدين بن هبة الله (ت 656 ه)،

16 - شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، بيروت دت.

- الحسكاني، عبيد الله بن أحمد (ت بعد 500 ه)،

17 - شواهد التنزيل، تحقیق محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، طهران 1990.

- الحميري القمي، عبد الله (ت بعد 300 ه)،

18 - قرب الإسناد، مؤسسة آل البيت، قم 1413 ه.

- ابن حنبل، أحمد (ت 241 ه)،

19 - مسند احمد، دار صادر، بيروت د ت.

ص: 87

20 - العلل ومعرفة الرجال، تحقیق وصي الله محمود عباس، المکتب الإسلامي، بیروت 1408 ه.

- الخصيبي، الحسين بن حمدان (ت 334 ه)،

21 - الهداية الكبرى، مؤسسة البلاغ، بيروت 1991.

- ابن خیاط، خليفة بن خياط العصفري (ت 240 ه)،

22 - تاریخ خليفة بن خیاط، تحقیق سهیل زکار، دار الفكر، بيروت 1993. - ابن الدمشقي، محمد بن أحمد (ت 871 ه)،

23 - جواهر المطالب في مناقب الإمام الجليل علي بن أبي طالب (ع)، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم 1415 ه.

- الدميري، كمال الدين (ت 808 ه)،

24 - حياة الحيوان الكبرى، مطبعة مصر 1309.

- الذهبي، محمد بن أحمد (ت 748 ه)،

25 - دول الإسلام، تحقيق فهيم محمد شلحوت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1974.

- ابن رجب، عبد الرحمن بن أحمد (ت 895 ه)،

26 - الاستخراج في أحكام الخراج، تحقيق عبد الله الصديق، دار المعرفة، بيروت 1979.

-ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع (ت 230 ه)،

27 - الطبقات الکبری، دار صادر، بيروت د ت.

- السرخسي، أبو بكر محمد بن أبي سهل(ت 483 ه)،

28 - المبسوط، دار المعرفة، بيروت 1406.

ص: 88

- السهمي، حمزة بن يوسف (ت 427 ه)،

29 - تاریخ جرجان، ط 4، عالم الكتب، بيروت 1407.

- الشافعي، محمد بن إدريس (ت 204 ه)،

30 - كتاب الأم، ط 3، دار الفکر، بیروت 1983.

- ابن شبة النميري، عمر (ت 262 ه)،

31 - تاريخ المدينة المنورة، تحقيق فهيم محمد شلتوت، دار الفكر، قم دت.

- الشريف الرضي، محمد بن الحسن الموسوي (ت 406 ه)،

32 - خصائص الأئمة، تحقيق محمد هادي الاميني، مجمع البحوث الإسلامية، إيران 1406.

- ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي (ت بعد 400 ه)،

33 - تحف العقول عن آل الرسول، تحقيق علي اكبر غفاري، ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1404.

- ابن شهر آشوب، مشير الدين محمد بن علي بن شهر آشوب (ت 588 ه)،

34 - مناقب آل أبي طالب، المطبعة الحيدرية، النجف 1376.

- ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 235 ه)،

35 - المصنف، تحقیق سعيد محمد اللحام، دار الفكر، بيروت 1988.

- أبو الشيخ، عبد الله بن محمد بن حيان (ت 369 ه)،

36 - طبقات المحدثين باصبهان، تحقيق عبد الغفور عبد الحق، ط 2، مؤسسة الرسالة، بیروت 1992.

- الصدوق، محمد بن علي بن بابوية القمي (ت 318 ه)،

37 - الامالي، مؤسسة البعثة، قم 1417.

ص: 89

38 - الخصال، تحقيق علي اكبر الغفاري، جماعة المدرسين، قم 1403. 39 - من لا يحضره الفقيه، ط 2، تحقيق علي اكبر الغفاري، جماعة المدرسين، قم 1404.

-ابن طاووس الحسيني، علي بن موسى (ت 664 ه)،

40 - كشف المحجة في ثمرة المهجة، المطبعة الحيدرية، النجف 1370 ه. - الطبراني، سليمان بن أحمد (ت 360 ه)،

41 - المعجم الأوسط، تحقيق عبد الحسن إبراهيم الحسيني وآخر، مطبعة دار الحرمين، د م 1995.

- الطبري، محمد بن جرير (ت 310 ه)،

42 - تاريخ الأمم والملوك، تحقيق مجموعة باحثين، مؤسسة الاعلمي، بيروت

- الطوسي، محمد بن الحسن (ت 460 ه)،

43 - الامالي، تحقيق مؤسسة البعثة، دار الثقافة، قم 1414.

44 - تهذيب الأحكام، تحقيق حسن الخرسان، ط 4، دار الكتب الإسلامية، طهران 1390.

- ابن طيفور، أبو الفضل بن أبي طاهر (380 ه)،

45 - بلاغات النساء، مكتبة بصيري، قم د. ت.

- ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 430 ه)،

46 - الاستيعاب، تحقيق محمد علي البجاوي، دار الجيل، بيروت 1992.

- ابن عبد ربه، أحمد بن محمد الأندلسي (ت 328 ه)،

47 - العقد الفريد، تصحيح محمد أمين، القاهرة 1949.

- أبو عبيد، القاسم بن سلام (ت 224 ه)،

48 - الأموا موال، تحقیق محمد حامد الفقي، دار الكتب المصرية، القاهرة 1353.

ص: 90

- ابن عساکر، علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي (ت 571 ه)،

49 - تاریخ دمشق، تحقیق علي شيري، دار الفکر، بیروت 1995.

- ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم (ت 276 ه)،

50 - الإمامة والسياسة، تحقیق علي شيري، مطبعة أمير، قم 1413 ه.

- قدامة بن جعفر (ت310 ه)،

51 - الخراج وصناعة الكتابة، تعليق محمد حسين الزبيدي، وزارة الثقافة، بغداد 1981.

- ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن محمود (ت 620 ه)،

52 - المغني، دار الكتاب العربي، بیروت دت.

- ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت 774 ه)،

53 - البداية والنهاية في التاريخ، تحقیق علي شيري، دار إحياء التراث، بیروت 1988.

- الكليني، محمد بن يعقوب (ت 328 ه)،

54 - الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران 1388.

- الكوفي، محمد بن سليمان (ت بعد 300 ه)،

55 - مناقب الإمام أمير المؤمنين، تحقیق محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم 1412.

- ابن ماجة القزويني، محمد بن یزید (ت 275 ه)،

56 - سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 2، دار الفکر، بیروت دت. - المتقي الهندي، علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين (ت 975 ه)،

57 - کنز العمال، تحقیق بكري حياني وآخر، مؤسسة الرسالة، بیروت 1989.

- المجلسي، محمد باقر (ت 1111 ه)،

ص: 91

58 - بحار الأنوار، ط 2، مؤسسة الوفاء، بيروت 1983.

- المسعودي، علي بن الحسين (ت 356 ه)،

59 - مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق أمير مهنا، مؤسسة النور، بيروت 2000.

- المفيد، محمد بن محمد بن النعمان (ت 413 ه)،

60 - الامالي، تحقيق علي اكبر الغفاري، نشر جماعة المدرسين، قم 1403.

61 - المقنعة، جماعة المدرسين، قم 1410.

62 - الجمل، مكتبة الداوري، قم د. ت.

- المقريزي، أحمد بن علي (ت 845 ه)،

63 - الخطط المقريزية، مكتبة المثنى، بغداد 1970.

- المنقري، نصر بن مزاحم المنقري (ت 212 ه)،

64 - وقعة صفين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط 2، المؤسسة العربية الحديثة، مصر 1962.

- النعمان المغربي، النعمان بن محمد (ت 363 ه)،

65 - شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار، تحقيق محمد الحسيني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم دت.

- الهيثمي، علي بن أبي بكر (ت 807 ه)،

66 - مجمع الزوائد، دار الكتب العلمية، بيروت 1988.

- ياقوت الحموي، شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي(ت 626 ه)،

67 - معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1979.

68 - أبو يعلى، أحمد بن علي الموصلي (ت 307 ه)، مسند أبي يعلى، تحقيق حسين سليم، دار المأمون للتراث، بيروت د ت.

ص: 92

- اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب (ت 284 ه)،

69 - تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت د ت.

- أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم (ت 182 ه)،

70 - الخراج، دار المعرفة، بيروت 1979.

ثالثاً: المراجع

- الاميني، عبد الحسين احمد،

71 - الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت 1977.

- الحر العاملي، محمد بن الحسن،

72 - وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت، قم 1414.

- صبحي الصالح،

73 - النظم الإسلامية نشأتها وتطورها، دار العلم للملايين، بيروت 1956.

- کدیور، محسن،

74- المشروعية السياسية ونظريات الحكم في الفقه الشيعي، مدخل إلى الفكر السياسي في الإسلام، (مجموعة مقالات)، إيران 2001.

- الهمداني، أحمد الرحماني،

75 - الإمام علي(عليه السلام)، طهران دت.

- اليوزبكي، توفيق،

76- النظم العربية الإسلامية، ط 3، بغداد 1988.

ص: 93

ص: 94

البحث الثاني الاجتماع السياسي والإسلام المتغاير بحث في معوقات النشأة المستأنفة

أ. م. د. شهيد كريم محمد جامعة ميسان / كلية التربية

ص: 95

ص: 96

المقدمة:

بالرغم من إن العقود الثلاثة التي تلت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) قد شهدت تمدد دولة الإسلام خارج جغرافيا المجال الحجازي، إلا إنها كانت تحمل في تضاعيفها خواءً دینیاً کشف في اللحظات الحرجة - عن اجتماعها اللين والهش، و أفصح عن سمته السياسية المرتبطة بالمصالح لا بحقيقة الدين، سيما وإنه شهد حالة التصدع الأولى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة في اجتماع السقيفة) ومن ثم طفحت انعكاساته الكارثية في حرب (الجمل التي أجبر الإمام علي (عليه السلام) على خوضها، فمع ما كان يمثله من سلطة إسلامية منتخبة، ومع مبايعة القوم له وما كان قاراً في نفوسهم من فضله و سابقته ومع محاولاته الكثيرة تفادي هذه الحرب، وبمقدار ماکانت تبعثه في نفوس المسلمين الذين شاهدوها وشاركوا بها مشاعر الحزن والأسى على ما آلت إليه جماعتهم، فإن جند الجمل كانوا يندفعون إلى المقتلة الجماعية وكأنهم ينفذون أمراً إلهياً، وكأن العدمية العمياء سكنتهم فما عادوا يبصرون الله إلا عبر الهودج والجمل، ولا يبعد ذلك عما جرى في حربي صفين و النهروان وإن على نحو مغایر.

كانت هذه المرحلة من أعقد المراحل التاريخية التي مر بها الإسلام، حتى إنها - وبسبب ضبابيتها وعدم وضوح الرؤية فيها - قد شطرت الإسلام الفتي إلى فئتين كانت اللقاءات الحربية بينهما أعلى صوتاً من اللقاءات الودية بل لعل الأخيرة غابت عن الفعل التاريخي حينها، ولنا نستمع لصدى سؤال الحرث

ص: 97

بن حوط الليثي للإمام علي (عليه السلام): أترى أن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل؟!. فأجابه الإمام (عليه السلام): يا حار أنت ملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال وبإعمال الظن، أعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله(1)، لنتلمس ما رشحت به تلك المرحلة من الضبابية واختلاط المفاهيم والرؤى عند الجماعة الإسلامية،

ومدى تعرج الطريق بها على قرب العهد من عصر النبوة والرسالة.

فرض موضوع البحث ضرباً آخر من المراجعة وطريقة مغايرة من التناول لما يحاول أن يقرره من نتائج أو يعكسه من فهم معتمداً على دالته النصية في نهج البلاغة سيما مع الكم الهائل من نصوص النهج التي توخت تبديد هذا اللبس ولكن مع وفرة هذه النصوص وما استقر في الوجدان الإسلامي من بداهات تقود إلى إن الإمام علي (عليه السلام) كان يمثل نهجاً مغايراً يريد العود بالأمة إلى إسلام القرآن والنبوة، تبقى صعوبة النفث بروح هذه الحقيقة عبر تفعيل منهج المادية التاريخية وحراك النص أمراً صعباً للغاية، سيما مع ما يفترض من إن البحوث السابقة (ضمن هذا الملف قد استنفذت مقاصدها في رصد سلوكيات الإمام المغايرة في المنحى الديني ومجالات السياسة والاقتصاد وإدارة الدولة والمجتمع في أوقات السلم والحرب، هذا فضلاً عن الدراسات العديدة السابقة التي عنيت بهذه الجوانب، وأمام عمليات الرصد المتعددة والمتنوعة والمستمرة هذه، ما عسى بباحث أن يأتي بجديد في هذا الموضوع المفتوح على مصراعيه منذ زمن بعيد جداً، وكيف له أن يفلت من مضنة

ص: 98


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 2 / 238 - 239

التكرار وتجنب التفاصيل المعروفة، وبالمقابل تعميق المفاهيم التي قد تكون لازالت ثاوية في النصوص المبثوثة ذاتها.

إن التأمل في نصوص النهج التي ترشح بشكوى الإمام علي(عليه السلام) من الوحدة والغربة، وتعج بالروح الموجعة لذلك وبالدعوة المستمرة والدؤوبة للالتفاف حول برنامجه الإصلاحي، وبالمقابل ندرة الملتحقين به، إنما يحيل إلى إنه كان بصدد أكثر من مواجهة عائقة لمشروع الاستئناف، وإن المسألة لا تتعلق بشخوص هنا وهناك إنما بإعادة صياغة فهم جديد وآخر للدين، وتغيير للفاهمة الجماهيرية التي ألفته بشكله المشوه والمغاير تماماً لروحه وحقيقته لا على مستوى الممارسة السلوكية فحسب بل على مستوى المترسخ في الذاكرة والقار في اللاوعي والبداهات التي ليس من السهولة زحزحتها وتحريكها، ولعل الإمام (عليه السلام) قد أقر بهذه الحقيقة في أكثر من موضع(1).

مع عدم التمكن التاريخي الذي يعكسه هذا النص والواقع الذي عاشه الإمام(عليه السلام) والذي لم يكن يطرح بديلاً أو طريقة أخرى للتعامل (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز(2). لاشك لم يكن مشروع الاستئناف الذي تبناه ناظراً للحظته المعاصرة وواقعه الآني فقط، إنما كان يستهدف الحاضر

ص: 99


1- ينظر مثلًا. الكليني: الكافي، 59 -63
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1 / 202 - 203

والمستقبل الممتد على صعيد واحد، فهو إنما أراد بعمله وقوله تقديم منهج ورؤية فكرية وثقافية تقوم ما اعوج من مسيرة الإسلام. وسيحاول البحث تعميق بداهات هذه الحقيقة للوقوف على ما تحقق من ذلك الاستئناف ومعوقات ما لم يتحقق منه، أملاً في تقرير اختبارات فكرية جديدة تسهم في اعادة الاعتبار للمهمش و ترميم المجزوء، وإبراز الخصوصية والنسبية التي غُيبت - أمام الخطاب الشمولي والمطلق - جراء الفعل التاريخي فنعاها الإمام (عليه السلام) في أكثر من مناسبة(1) وبالنتيجة الاقتراب ما أمكن مما أراد النص أن يعكسه وحقيقة الدور الذي أداه، وذلك عبر محورين أساسيين هما:

المحور الأول: في تكوين الاجتماع السياسي الإسلام ما بعد النبوة:

على الرغم مما تحاول الرواية التراثية عكسه من عفوية الاجتماع الذي جرى في سقيفة بني ساعدة لسد الفراغ التشريعي الذي خلفه موت النبي (صلى الله عليه وآله) يبقى تراتب الأحداث وواقعها شي بغير ذلك تماماً، معلناً عن قطيعة بنحوما بين (الصورة الكائنة والصورة المكونة(2) التاريخية / التأريخية)، وإن هناك ثمة وظيفية ثقافية وفكرية طلب من الصورة الثانية تكوينها.

فبالعودة لما تنضح به الرواية(3) من الدهشة التي أصيب بها عمر بن الخطاب إثر وفاة النبي (صلى الله علیه و آله) حتى إنه أنكر موته و توعد من

ص: 100


1- ينظر على سبيل المثال: نهج البلاغة، 48، 409 - 410
2- التعبير من اجتراح الباحثة التونسية (ناجية الوريمي) في كتابها الائتلاف والاختلاف، 12
3- الطبري: تاریخ، 2 / 442 - 243

يقول بذلك وطرح فكرة أنه رفع إلى السماء کما رفع عیسی (عليه السلام) وإنه سيعود بعد حين..(1). نجدها تقصر ذلك الموقف على عمر وحده؟، وهو ممن تأخر إسلامهم، وممن أثبت له الموروث الروائي مخالفات عديدة للنبي (صلى الله عليه وآله) في حياته وبعد مماته(2). كما إن هذه الدهشة ستبدد نهائياً بمجرد أن أكد له صديقه أبو بكر موت النبي. والغريب في الأمر هو خلو مسرح الرواية - ومن ثمّ الحدث - إلا من هتين الشخصيتين، وكأن موقف الجماعة الإسلامية قد اختصر بهما!، فهل كان ذلك مجرد مصادفة، أم محاولة تأسيسية لما سيضطلعان به في السقيفة، ومن ثمّ تعاقبهما على الخلافة و ما شکلاه - لاحقاً - من محور اصطفاف مذهبي للإسلام السني. زد على ذلك أننا عندما نستحضر موقفه في الساعات الأخيرة من حياة النبي (صلى الله عليه وآله) نجده لا يبالي البتة بقرب افتقاده وما أنبأ به من رحيله الوشيك، بل إنه

جاهر باتهامه علناً بالهذيان وعدم الحاجة لوصيته مصرحاً بأن القرآن کافٍ

التنظيم حياة المسلمين(3).

والملفت للنظر هنا أنه يبرز - مرة أخرى - کناطق باسم الجماعة الإسلامية

ص: 101


1- ابن سعد، الطبقات الکبری، 2 / 267؛ اليعقوبي: تاریخ، 2 / 114؛ البخاري: صحيح، 4 / 194؛ الطبري: تاریخ، 2 / 442؛ ابن عبد البر: الدرر، 272؛ الشهرستاني: الملل والنحل، 1 / 31
2- الوريمي: الائتلاف والاختلاف، 154 - 180
3- ابن سعد: الطبقات، 2 / 224؛ أحمد بن حنبل: المسند، 1 / 325؛ البخاري: صحيح، 1 / 37؛ ابن حزم: الأحكام، 7 / 988؛ ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 5 / 246؛ النووي: شرح صحیح مسلم، 11 / 92 - 93.المقريزي: إمتاع الأسماع، 2 / 132؛ 14 / 446؛ ابن حجر: فتح الباري،1 / 186؛ 8 / 101

ومعبر عن رأيها!. وإذا ما ترکناسمة الفردية التي تزخر بها الروايات المؤسسة للحدث وتمعنا في جوه العام، فهو الآخر يوحي بتمَّحل واضح لواقع الدهشة والمفاجأة، ففضلاً عن تصريحات النص القرآني المتعددة كان النبي (صلى الله عليه وآله) ومنذ حجة الوداع وخلال مرضه الذي دام نحو (3 - 14 يوماً)(1) قد کرر تلميحاته إلى موته القريب(2)، بل ورد عن عبد الله بن مسعود قوله: »نعی إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر»(3)، وقد كانت هذه المدة كافية الأن يتناهی خبر مرض النبي (صلى الله عليه وآله) وقرب أجله لبعض القبائل فوقفت متربصة ومنتظرة جلاء الموقف(4).

مع هذه الثغرات التي لم تفلح الحنكة الاستعراضية للرواية بتجاوزها،

يبدو من الضروري العودة إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى أيام مرض النبي (صلى الله عليه وآله) أو قبلها بقليل، لتفحص الأساسات التي أُرسيت عليها - روائياً - الفترة ما بعد النبوية، فهناك في أحشاء تلك الأيام تكمن مفارقات أخرى أشد غرابة، ولكنها تلقي بضوء خافت على المرحلة اللاحقة، وسنحاول توسعة بقعة الضوء تلك بطرح احتمالات جديدة، علها تسهم في تفسير کيفية تكون الاجتماع السياسي لمرحلة ما بعد النبوة.

ص: 102


1- باعتبار إنه أصيب بالحمى والصداع يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر صفر، وتوفي لليلتين أو اثنتي عشر ليلة من ربيع الأول). الواقدي : المغازي، 3 / 117 - 1120؛ الطبري: تاریخ، 2 / 430، 442. والراجح (13 - 14 يوم). العيني : عمدة القاري، 16 / 99؛ 18 / 60
2- الطبري: تاریخ، 2 / 432 - 436
3- الطبري: تاریخ، 2 / 435
4- الطبري: تاریخ، 2 / 400؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 17 - 18

تذكر الروايات إن الأيام القلائل التي سبقت مرض النبي (صلى الله عليه

وآله) أو أثناء مرضه قد شهدت وصول أخبار تفيد بوثوب مسيلمة الكذاب في اليمامة وطليحة بن خویلد في سميراء والأسود العنسي في اليمن. فأما مسيلمة الكذاب فتقول الرواية إنه وفد على النبي (صلى الله عليه وآله) مع قومه ثم ارتد بعد عودته، وسمى نفسه رحمان اليمامة، وادعى بأنه شريك في النبوة، وكان يسجع لهم بعض المقاطع على أنها آيات أو حيت له فتبعه أهل اليمامة، وكتب للنبي: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن لنا نصف الأرض ولقریش نصف الأرض ولكن قريشا قوم لا يعدلون و يعتدون، فأجابه النبي: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد: فإن الأرض للهَّ يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين. وبعث إلى عامله هناك ومن يجتمع معه أن يقاتلوا مسيلمة. ثم تولى قتاله خالد بن الوليد فقتل في ما عرف بحديقة الموت عام (11 ه). والمهم في الأمر أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان على علم مسبق بدعوى مسيلمة وفتنته و سيطرته على اليمامة.

كذلك الحال بالنسبة لطليحة بن خویلد فهو الآخر قد تنبأ في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وسمى نفسه ذو النون، وكان يخشى أن يحاربه النبي (صلى الله عليه و آله) فبعث أخاه خبالاً بطلب الموادعة، فرفض النبي (صلى الله عليه وآله) موادعته، وأرسل إلى المسلمين هناك يأمرهم بمحاربته، وجرت

(1) الطبري: تاریخ، 2 / 400؛ 429 - 430؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 17-18.

(2) الطبري: تاریخ، 2 / 399 - 400. (3) الطبري: تاریخ، 2 / 504 - 519؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 20 - 24؛ 80 - 83. وينظر البلاذري: فتوح البلدان،

1 / 106 - 112

ص: 103

بينهم مناوشات أصيب فيها طليحة ولكنه لم يمت، فقالوا إن السلاح لا يؤثر به فتزايد أتباعه، و كان يفكر بالسيطرة على مجمل مناطق شبه الجزيرة العربية وفكر بغزو المدينة (ملكنا العراق والشام، والله لا نسحب ولا نزال نضرب حتى نفتح أهل يثرب) وبعد مناوشات مع جيش خالد بن الوليد هرب إلى الشام، ثم أسلم في عهد أبي بكر وحج معه، ومات في خلافة عمر في معركة نهاوند(1).

أما الأسود العنسي فكان بين خروجه ومقتله أربعة أشهر، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد راسل بعض المسلمين هناك بضرورة القضاء عليه قبل اتساع حركته، فقتل قبل موت النبي بيوم واحد أو ليلة واحدة، ووصل خبر قتله إلى المدينة بعد موت النبي(2). والمهم في الأمر أيضاً أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعلم بخروج الأسود العنسي وسيطرته على اليمن منذ أربعة أشهر تقريباً.

مع هذا الواقع العاصف بالإسلام الفتي، والمتربص بدولة المدينة، هل كان من الملح والضروري أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله) کامل القوة العسكرية في المدينة لتثأر لقتل زید بن حارثة في مؤتة قبل (3 سنوات) أو حتى لتخوض حرباً في منطقة بعيدة، وضد جبهة عسكرية مهيأة وقوية استطاعت هزيمة المسلمين هزيمة ساحقة في المحاولة السابقة، وهي لم تقم بما يشي بتهديدها لدولة المدينة؟!. ألم يكن الأولى توجيهها لأخطار المتنبئين

ص: 104


1- ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 25 / 149 - 172؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 24 - 25
2- الطبري: تاریخ، 2 / 430؛ 463 -473؛ المنتظم، 4 / 19 - 20

المداهمة و المحدقة بالمدينة؟!. ألم يكن الأولى استنقاذ المسلمين الذين فتنهم المتنبئون، وربما أجبروا بعضهم على الالتحاق بدعوتهم وقتلوا من خالفهم و عارضهم، سيما وإنه تناهت إلى مسامع النبي (صلى الله عليه وآله) تحركاتهم في تلك المناطق وحدوث المناوشات بينهم وبين عاله ومن أسلم هناك؟!.

وفوق هذا وذاك، ألم يوضع في الحسبان احتمال خسارة هذه المعركة أيضاً، مما يعني خوض مغامرة خطرة بحياة الإسلام ومساره التاريخي!؟. ومن الغريب إنه لم يعترض أحد من الصحابة على ذلك، ولم يعتذر أي منهم عن تخلفه بهذا العذر على رجاحته، بينما اعترضوا بحسب الروايات على صغر سن أسامة، وبحسبها أيضاً إنه إنما صدر من المنافقين دون غيرهم(1).

ومما يثير الدهشة أيضاً إن المنظومة الروائية تدعي إن النبي (صلى الله عليه وآله) حارب هؤلاء المتنبئين و جموعهم المتكاثرة بالرسل؟!(2) في الوقت الذي كان خطرهم يحوم حول اطراف المدينة، حتى إن بعض العشائر المرتدة مع طليحة بن خويلد الأسدي داهموها ليلاً..، مما اضطر أبا بكر لأن يوكل بعض الصحابة بحراسة أنقاب المدينة، وبعضهم يجوبها ليلاً مخافة توغلهم مرة أخرى!(3).

ص: 105


1- أحمد بن حنبل، مسند، 2 / 20؛ الجاحظ: العثمانية، 146 - 147؛ البخاري: صحيح، 5 / 84؛ مسلم: صحيح، 7 / 131؛ الطبري: تاریخ، 2 / 429؛ ابن حبان: صحیح، 15 / 535؛ ابن الأثير: الكامل، 2 / 317؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 2 / 495
2- الطبري: تاریخ، 2 / 431؛ ابن الأثير: الكامل، ؛ المقريزي: امتاع الأسماع، 14 / 220
3- الطبري: تاریخ، 2 / 476 - 477؛ ابن مسکویه: تجارب الأمم، 1 / 277 -278؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 75؛ ابن الأثير: الكامل، 2 / 344

ليس من السهولة القول إن النبي (صلى الله عليه وآله) مع كل الحيثيات السابقة لم يكن يستشعر هذا الخطر، ومن ثمّ لم يعره اهتمامه وطالب بشدة بإنفاذ جيش اسامة بل لعن من تخلف عنه!؟. لم تقدم الرواية المؤسسة إجابة مقنعة عن هذا التناقض. لماذا يا ترى بدا النبي (صلى الله علیه و آله) خاملاً ومتراخياً ازاء حركات المتنبئين التي تفوق خطورتها خطورة أي معركة أخرى مع وجود الوقت الكافي لمعالجتها، وفي الوقت الذي كانت الجبهة الإسلامية ممتلئة بالعنفوان والقوة والاندفاع سيما بعد انتصارات الأحزاب وخيبر وفتح مكة وحنين وتجاوز اختبار تبوك؟. إن مقابلة ما ذُكر من إنه ومنذ السنة السابعة للهجرة كان يتحدی امبراطوريات فارس وبيزنطة و يبعث برسائل تشي بالقدرة وخطاب الند للند إلى المناطق البعيدة النائية عنه، إلى قيصر الروم وکسری فارس وعظيم القبط وملك الغساسنة..، يدعوهم للاعتراف بنبوته ودخول الإسلام(1) بموقفه من هذه الحركات القريبة المتاخمة لدولته التي بدأت تنتقض من أطرافها يلح بفرض السؤال عن الحقيقة التاريخية لها وإن كانت موجودة بالفعل أو إنها کما وصفت فعلاً؟

كما يجدر السؤال هنا أيضاً لماذا يا ترى لم يلجأ النبي (صلى الله عليه وآله) لتألف هؤلاء المتنبئين كما فعل مع مشركي مكة وقطاع عريض من القبائل الحديثة الإسلام الذين استمالهم إلى جانبه وأمن معارضتهم عبر تشريع سهم المؤلفة قلوبهم. لماذا فضل خيار مقاومتهم وتصفيتهم بداية ولم يحاول

ص: 106


1- الواقدي: فتوح الشام، 2 / 39 وما بعدها؛ ابن حبیب: المحبر، 75 - 76؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 531؛ المسعودي: التنبيه والإشراف، 226 - 227

استتابتهم أو محاججتهم أولاً كما هي العادة مع هكذا نوع من الحركات؟!.

ويجب أن لا تنسينا غمرة الأحداث والاشكالات السابقة أن نسأل عن مدى إدراك القبائل المرتدة مع طليحة الأسدي إمكانية مهاجمة المدينة والسيطرة عليها وعلى الجبهة الإسلامية التي بدت في تلك المرحلة قوية متماسكة بحيث استطاعت القضاء على حركات التمرد المتعددة بعمليات خاطفة وانطلقت التأسس دولة الفتوح خلال مدة وجيزة؟. والسؤال الأهم من ذلك هو ما الغاية التي كانت تتواخها تلك القبائل بمداهمة المدينة؟، هل من المعقول إنها كانت تفکر بتأسيس نبوة جديدة في المجال الحجازي؟!. وهل كانت إمكانيات تحقيق ذلك متاحة ومتوفرة فعلا؟. وإن كانت هذه نيتها فعلا فلم لم تتوحد جهودها حول هذا الهدف المشترك، وظلت تحالفاتها مقتصرة على ما حكي من اتفاق مسيلمة الكذاب بسجاح التميمية؟(1).

ولعل مما يلح على السؤال عن طبيعة هذه الحركات، ما ورد من إن أوسعها وأشدها خطورة وهي حركة طليحة بن خویلد و القبائل المرتدة معه والتي هاجمت المدينة، كانت قد أرسلت وفداً إلى المدينة يعرض أن تلتزم هذه القبائل بأداء الصلاة وغيرها من الواجبات على أن لا تدفع الجزية والصدقات، فكان رأي غالبية الصحابة قبول ذلك، إلا إن أبا بكر قال: والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه(2). ونص الجاحظ (ت 250 ه) على إن المهاجرين و

ص: 107


1- ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 22 - 24
2- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1 / 22؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 10 / 58؛ فتوح البلدان، 1 / 113؛ الطبري: تاریخ، 2 / 479؛ ابن مسکویه: تجارب الأمم، 1 / 277؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 74 - 76؛ ابن الأثير: الكامل، 2 / 344

الأنصار قالوا لأبي بكر ليقبل الصلاة من العرب و يترك الزكاة، فإنهم لو قد صلوا لقد زکوا، فقال: والله لو منعوني عقالا مما أعطوه النبي (صلى الله عليه وآله) لجاهدنهم عليها، فقال المهاجرون والأنصار: أوليس قد قال النبي (صلى الله عليه وآله): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حجبوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله؟!. فقال: هذا من حقها، والله لو كنت وحدي لجاهدتهم حتى أقتل أو يظهر الله الحق ويزهق الباطل. ثم مضى نحو أهل الردة يريدهم مغضبا حتى لحقه المهاجرون والأنصار، فمنعوه وكفره وتقدموا أمامه. وهذا خبر نقله أصحاب الاخبار مرجئهم وشيعيهم إلا الروافض!؟(1).

وإذا ما أضفنا لذلك النص الذي نقله ابن اعثم الكوفي (314 ه) من إن أبا بكر قال للمهاجرين والأنصار أشيروا عليَّ ما الذي أصنع في أمر كندة. فقال أبو أيوب الأنصاري: إن القوم كُثر عددهم وفيهم نخوة الملك و منعه، فلو صرفت عنهم الخيل في عامك هذا، وصفحت عن أموالهم لرجوت أن ینیبوا إلى الحق، وأن يحملوا الزكاة إليك بعد هذا العام طائعين غير مكرهين، فقال أبو بكر: لو منعوني عقالا واحدا مما كان النبي (صلى الله عليه وآله) و ظفه عليهم لقاتلتهم عليه. ثم قال: إني عزمت أن أوجه إلى هؤلاء القوم علي بن أبي طالب، فإنه عدل رضا عند أكثر الناس..، فقال له عمر: صدقت إن عليا كما ذكرت وفوق ما وصفت، ولكني أخاف عليك خصلة منه فقال أبو بكر: وما هي؟. فقال عمر: أخاف أن يأبى لقتال القوم فلا يقاتلهم، فإن أبى ذلك

ص: 108


1- العثمانية، 81

فلم تجد أحدا يسير إليهم إلا على المكروه منه، فوجه عكرمة بن أبي جهل(1).

مع نصيَّ الجاحظ وابن اعثم واعتراضات الصحابة المعاصرين، والاشكالات والتناقضات التي غصت بها أخبار المتنبئين والردة يجدر استثارة كل ما رسخ في الذاكرة الإسلامية عنهما، ففي عمق الحدث وتضاعيفه تبرز صورة أخرى لتلك الحركات مفادها أنها على شاكلة رفض مالك بن نويرة وقومه أداء الزكاة لخلافة لم يعترفوا بشرعيتها الدينية، فقمعت بمنتهى أشكال القسوة والعنف، ولم يكن هناك بد من وسمها بعد ذلك - لتبرير اسراف الخليفة بسفك دماء المسلمين على خلاف ما رآه جل الصحابة حينها - بأنها حركات ردة عن الإسلام يقودها مدعوا النبوة المزيفون، سیما وإن هذه الصورة إنما أطلت على الموروث الإسلامي من خلال تاریخ الطبري (ت 310 ه) وعن طريق راويه الكذاب والمدلس والزنديق سيف بن عمر الضبي أو التميمي أو البرجمي أو السعدي أو الأسيدي الكوفي(2)، أو البصري متهم بالزندقة فضلاً عن إنه يروي الموضوعات عن الاثبات ويضع الحديث(3). قال الرازي: متروك الحديث فلم أكتب ما روی ومن روى عنه(4). وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق(5). وقال يحيى بن معين:

ص: 109


1- ابن اعثم، الفتوح، 1 / 56 - 57
2- ابن حبان: کتاب المجروحين، 1 / 360؛ المزي: تهذيب الكمال، 12 / 324
3- ابن حبان: كتاب المجروحين، 1 / 345 - 346
4- الجرح والتعديل، 3 / 579؛ 4 / 278
5- الكامل في ضعفاء الرجال، 3 / 436

ضعيف الحديث فلس خير منه(1). وقد ضعفه النسائي(2)، والعقيلي(3)، وابن الجوزي(4)، والدارقطني، وقال أبو داود: ليس بشيء(5). إذن لا خلاف بين علماء الجرح والتعديل إنه (کذاب / مختلق / زندیق / مدلس..).

وبالتركيز على موقف مالك بن نويرة ووسمه بالردة عن الإسلام في المدونة التراثية أو ما بثته في الوعي الإسلامي فإنه يتقاطع مع انعكاسات العنف المستخدم ضده وضد قومه داخل المدينة وبين الصحابة أنفسهم، فقد ورد إن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: إن خالداً قد زنی فارجمه، فقال أبو بکر: ما كنت لأرجمه فإنه تأول فأخطأ فقال عمر: فإنه قد قتل مسلماً فاقتله، فقال أبو بكر: ماكنت لأقتله فإنه تأول فأخطأ، فقال عمر: فاعزله، فقال أبو بكر: ما كنت أغمد سيفاً سله الله عليهم. وكان خالد بن الوليد قد قتله مع عدد من الأسرى من أبناء قومه، بعد أن أعطاهم الأمان وألقوا أسلحتهم، وقطع رأس مالك وجعله أثفية للقدر وحرقه بالنار، واعتدى على زوجته ليلة مقتله، وبذلك قال الشاعر:

ألا قل لحي أوطؤا بالسنابك *** تطاول هذا الليل من بعد مالك

قضى خالد بغيا عليه بعرسه *** وكان له فيها هوى قبل ذلك(6)

ص: 110


1- تاریخ ابن معين، 1 / 336؛ الكامل في ضعفاء الرجال، 3/ 435؛ المزي: تهذيب الكمال، 12 / 326
2- کتاب الضعفاء والمتروکین، 187
3- کتاب الضعفاء الكبير، 2 / 175
4- الموضوعات، 2 / 30
5- المزي: تهذيب الكمال، 12 / 326؛ ابن حجر: تهذيب التهذيب، 4 / 259 - 260
6- أبو الفداء: المختصر في تاريخ البشر، 1 / 157 - 158. وينظر. خليف-ة ب-ن خياط: تاريخ خليفة، 67 - 68؛ الطبري: تاريخ، 2 / 502 - 503؛ ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، 16 / 256؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4 / 296 - 297؛ الكامل في التاريخ، 2 / 358 - 359؛ ابن خلكان: وفيات الأعيان، 6 / 15؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3 / 36 - 37؛ ابن حجر: الإصابة، 5 / 559 - 560

ولتسويد صفحة مالك بن نويرة وتبرير تلك القسوة المفرطة والعنف الأهوج، أُدعي أن سجاح التميمية بعد أن ادعت النبوة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وتابعها بني تغلب في الجزيرة، راسلت مالك بن نويرة فأجابها وعرض عليها الإغارة على بعض أحياء بني تميم ففعلت ذلك(1).

بناء على ما تقدم، هل آن لنا القول بأن أخبار الردة والمتنبئين لم تحظ

بتحليل عميق ينفذ إلى جذورها ويفرز بين صورتها الكائنة وصورتها المكونة؟. يمكن التنويه هنا بالإشارات السريعة التي ألمح إليها المفكر التونسي هشام جعيط في كتابه (الفتنة - جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر)، فقد ذكر 111 إنه عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) تجلت الردة كظاهرة شبه عامة بين القبائل كنوع من نقض التواصل مع الدولة، ذلك التواصل الذي كان يدرك كرابطة شخصية قابلة للنقض فكان تصدع الولاء للدولة يعبر عنه بالارتداد عن الإسلام وإنما هو تمرد على صعيد الصدقة والزكاة(2) ويبدو إن تشديد الباحث على سمة الدولة الدينية(3) قد فوت عليه المفارقة الكبيرة وهي إن هذه الحركات لم توسم بالارتداد والتنبؤ إلا في التأريخ، بدلالة موقف

ص: 111


1- ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 22 - 24
2- الفتنة، 38
3- الفتنة، 38 - 40

الصحابة منها، سيما توقع عمر بن الخطاب رفض الإمام علي (عليه السلام) لمحاربتهم مما قد يؤدي لإحجام أي من الصحابة فعل ذلك، ومن ثم مطالبته بمعاقبة خالد بن الوليد لقتله مالك وقومه وهم على ملة الإسلام، وتبرير الخليفة لهذا الفعل على أنه تأول فأخطأ.

فضلاً عن ذلك فقد بدا جعيط مقتنعاً تماماً بوصف المصادر التأريخية لزعاء تلك الحركات بأنهم أنبياء مزيفون من نوع الكهنة المعروفين في واقع العرب حينها، وأن لهم شياطينهم الخاصة وكانوا يسجعون لأتباعهم بعض المقاطع المحاكية للنص القرآني، ويمارسون السلطة الروحية والزمنية كمحاكاة للشخصية النبوية، بعد أن أدركوا صعوبة بلوغ السلطة المنظمة إلا من خلال الحركة النبوية(1). ولكن يبدو إن الشكوك التي أطلقها المستشرقون وأشار لها جعيط حول الصورة الساخرة والمضحة لأولئك المتنبئين و سجعهم سيما مسيلمة وطليحة(2) ربما لا تشير لمحاولة الاستهزاء بهم وتسخيفهم واسقاطهم بقدر ما ترجح اصطناعها جملة وتفصيلاً، ومن ثم عدم وجودهم - على الهيئة الموصوفة - من الأساس.

يجدر الانتباه هنا إلى إن متابعة أحوال طليحة بن خويلد الأسدي تشير إلى

ص: 112


1- الفتنة، 39 - 40
2- ينظر السجع المنسوب لمسيلمة الكذاب. الطبري: تاريخ، 2 / 506 - 507؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 21 - 22. وقارن مع السجع المنسوب لطليحة الأسدي. البلاذري: أنساب الأشراف، 11 / 158. وقارن مع شاعريته. ابن الكلبي: أنساب الخيل، 37 - 38؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 2 / 465

إنه كان زعيما لقومه بني أسد وقد أراد غزو المدينة في السنة الرابعة للهجرة(1)، ثم كان من أبرز فرسان جيش الأحزاب الذين اقتحموا الخندق مع عمرو بن عبد ود وضرار بن الخطاب وعكرمة بن أبي جهل - الذي سيقود الحرب ضد ردته لاحقا!؟ - في السنة الخامسة للهجرة(2). أي إنه كان زعيمًا وشخصية مرموقة وليس بحاجة لادعاء النبوة ليتحصل على الزعامة كما رجح جعيط. سيما وإن وصف الجاحظ له قد خلا من الإشارة إلى ادعاءه النبوة فقد قال بأنه: «كان خطيباً و شاعراً و سجاعاً كاهناً ناسباً»(3). ولعل مما يرجح ذلك إن أبرز الملتحقين به والمتحالفين معه وهو عيينة بن حصين بن بدر سيد غطفان عندما ألقي القبض عليه بعد هزيمة طليحة وجيء به إلى المدينة مكتوفاً وجعل غلمان المدينة يضربونه ويقولون: أي عدو الله!، كفرت بالله بعد إيانك، نفى أن يكون قد آمن سلفاً (والله ما كنت آمنت)(4). والغريب إن طليحة تخلى عن نبوته وانخرط في صفوف جيوش الخليفة بإخلاص تام، وشارك بفاعلية وإيمان صلب في حروب الفتوح وأبلى فيها بلاءً حسناً حتى استشهد في معركة نهاوند(5). فيا ترى ما الذي حول هذا الخصم العنيد والمتنبئ و الزعيم الذي أسلم حديثاً إلى مؤمن صلب الإيمان حتى كان أحد

ص: 113


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 374
2- الواقدي: المغازي، 1 / 470
3- البيان والتبيين، 190
4- ابن قتيبة: المعارف، 302 - 303
5- ينظر. البلاذري: فتوح البلدان، 2 / 317؛ 320؛ الطبري: تاريخ، 3 / 49؛ 128؛ 214؛ ابن مسكويه: تجارب الأمم، 1 / 359 - 360؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 25؛ 209

الثلاثة الذين ما رؤي في أهل القادسية بمثل أمانتهم وزهدهم!؟(1).

تعويلاً على كل ما تقدم هل يمكننا طرح نظرية التحول إلى الإيمان جانباً، والحديث بواقعية أكثر عن صفقة سياسية اقتصادية مع هذا الزعيم المتمرد هيأها واقع الفتوحات الجديد، بعد توسع رقعة الدولة وهيمنتها على مجمل مناطق شبه الجزيرة كأمر واقع لا مفر منه، واجتذاب قوافل جديدة من القبائل المنضوية تحت راية الفتوح الواعدة بالمغانم والمكاسب، وتحول أسس التعاقد بينها وبين الدولة من شرط الخضوع للإسلام إلى الخضوع إلى السلطة السياسية للدولة؟، فقد كان الإسلام حينها أداة لتوحيد الفاتحين أكثر منه دعوة لأهل البلاد المفتوحة لاعتناق الإسلام(2) وكانت أيديولوجيا الجهاد غامضة بنحو ما فهي تسعى لبسط هيمنة الإسلام وإقامة سلطان الله دون أن تمتلك توجهاً رسالياً، فعلى مستوى المحارب العادي كان يحارب (لتكون يد الله هي العليا) ولكي يكون العالم خاضعاً الله، ولم يكن يحارب، بالضرورة، ليجر الآخرين إلى عقيدته(3)، وكان اندفاع المقاتلين أشبه شيء بالآلات الحربية المبرمجة، ولعل في المجازر والتصرفات الوحشية والمشينة - سيما من القائد الأعلى والأول للجيش خالد بن الوليد - التي رافقت تلك الفتوح خير دليل على ذلك(4).

ص: 114


1- الطبري: تاريخ، 3 / 128؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 209
2- أنتوني نتنج: العرب انتصاراتهم وأمجادهم، 41
3- هشام جعيط: الفتنة: جدلية الدين والسياسة، 43
4- مثال ما ارتكبه خالد بن الوليد بحق مالك بن نويرة اليربوعي وقومه وزوجته. ينظر. البلاذري: فتوح البلدان، 1 / 117 - 118؛ أبو الفداء: المختصر في تاريخ البشر، 1 / 157 - 158. ولا يبعد عن ذلك ما روي في إخضاع بني حنيفة ومسيلمة الكذاب، والعدد الهائل من القتلى في ما بات يعرف تأريخياً ب(حديقة الموت) وانصرافه مع كثرة من قتل حينها للتزوج بابنة أحد زعماء بني حنيفة، حتى وبخه أبو بكر (إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد). الطبري: تاريخ، 2 / 511 - 519؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 80 - 83. وينظر البلاذري: فتوح البلدان، 1 / 106 - 112. وروي عنه أنه أقسم إن فتح منطقة أليس ومنحه الله أكتافهم ألا يستبقي منهم أحدا قدر عليه، حتى يجري نهرهم بدمائهم. وفعلاً هزم أولئك الأعاجم، وهربوا أمام جيش الخلافة. فأمر خالد مناديه فنادي: الأسر الأسر. فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل بهم ذلك لمدة يومين، حتى قال له القعقاع: لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دمائهم. إن الدماء لا تزيد على أن ترقرق فأرسل عليه الماء تبر يمينك، فحول مجرى النهر فاختلط بدماء القتلى فسمي نهر الدم. الطبري: تاريخ، 2 / 561 - 562؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 6 / 380 - 381. هذا فضلاً عن تصرفه الباذخ والمسرف بالأموال المنهوبة من أهل البلاد المفتوحة وتوزيعها على المقربين منه، فضلاً عن عدم اهتمامه بأبسط احكام الإسلام حتى أنه كان يدهن جسمه بالخمر ويتدلك به. الطبري: تاريخ، 3 / 166 - 167

لعل العودة لأجواء تشكل الاجتماع السياسي بعد مرحلة النبوة تشي بهذه الحقيقة، فبعد أن أسقط ما في أيدي الأنصار بإحياء وتعميق الخلاف المزمن بين الأوس والخزرج، والحيلولة دون عقد إمارة جبهة الأنصار لسعد بن عبادة الخزرجي، الذي بلا شك ما كان ناظراً لانتخاب رئیس لكل الجماعة الإسلامية إنما كان يتوخى تحاشي هيمنة قريش المتزايدة منذ فتح مكة والتي ارتضوها على مضض ولأجل النبي (صلى الله عليه وآله) والاجتماع الإسلامي، سيما وإنهم بدأوا يشعرون بثقل جبهة المهاجرين والتي كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد استشعرها سلفا في أيام مرضه فقال: يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا

ص: 115

عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم(1). أما وقد رحل النبي(صلى الله عليه وآله) وتحول الأمر إلى سياسة زمنية فقريش ليس بأفضل منهم ولا بأكثر سابقة وأثراً في الإسلام، سیما عشائر قريش حديثة الإسلام التي قاتلوها في بدر وأحد وغيرها من المشاهد والتي لم يحسن اسلامها، ولكن جبهة الأنصار المطالبة باسترداد سيادتها على المدينة لم تتأخر في التصدع أمام الجبهة القرشية وحججها بحصر الخلافة في قريش.

يروى في ذلك إن عمر بن الخطاب قال: والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورط في هلكة»(2). وقال أبو بكر: نحن أول الناس إسلاما، وأمسهم برسول الله رحما، ولن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش(3). وحقيقة الحال لم تتمتع حجة قريش هذه بشرعية دينية، فالخلافة بهذا اللحاظ وبهذه الحجة من حق الإمام علي (عليه السلام) ولذلك قال الأنصار أو بعض منهم: لا نبايع إلا علياً(4). وعندما احتج عبد الرحمن بن عوف على الأنصار بأنهم ليس فيهم من هو أفضل من (علي وأبي بكر وعمر وأبي عبيدة) قال له المنذر بن أرقم: إن فيهم - يعني المهاجرين - رجلا

ص: 116


1- ابن هشام: السيرة النبوية، 4 / 1065
2- الطبري: تاريخ، 2 / 457
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 582
4- الطبري: تاريخ، 2 / 443؛ ابن الأثير: الكامل، 2 / 325؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2 / 22

لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني الإمام علي (عليه السلام)(1). أما وقد رفض ممثلو قريش عقد الخلافة للإمام علي (عليه السلام) فالمسألة إذن كانت بلحاظ الإمارة السياسية فالأنصار أولى بمدينتهم، أو فليكن منهم أمير ومن قريش أمير، ولذلك قال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة(2).

كان فریق قريش يعلم إن العلاقة بين الأوس والخزرج هشة إلى حد بعيد، وتحمل في تضاعيفها بنية قابلة للاشتعال وإن أي طارئ فردي يمكنه أن يشعلها فالبني والروح القبلية ظلت ثاوية في النفوس وإنما كان يحجبها شخص النبي (صلى الله عليه وآله)، ولذلك لم يرحب الأوس بتولي الخزرج الامارة عليهم فسارع أسيد بن خضير زعيم الأوس لمبايعة أبي بكر وقال: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا فقوموا فبايعوا أبا بكر. وكان الحباب بن المنذر قد قال لبشير بن سعيد الأوسي لمسارعته لبيعة أبي بكر: عققت عقاق ما أحوجك إلى ما صنعت؟، أنفستَ على ابن عمك الامارة(3). وقد رفض

ص: 117


1- اليعقوبي: تاريخ، 2 / 123؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 6 / 19 - 20
2- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1 / 15؛ الطبري: تاريخ، 2 / 458؛ ابن الأثير: الكامل، 2 / 330؛ النويري: نهاية الإرب، 19 / 34 - 35
3- الطبري: تاريخ، 2 / 458 - 459

سعد بن عبادة الخزرجي المريض والمستلقي على الفراش مبايعة أبي بكر رفضاً قاطعاً فهده عمر بالقتل فتصدى له ولده قيس وأخذ بلحية عمر وقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفى فيك واضحة..، وقال سعد أما والله لو أن بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيرا يحجرك وأصحابك، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع، احملوني من هذا المكان فحملوه إلى داره، وترك أياما ثم بعث إليه أبو بكر ليبايع بعد أن بايع الناس وبايع قومك فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل، وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم حتى أعرض على ربى وأعلم ما حسابي(1). وقد جرى تصفية سعد بن عبادة لاحقاً في الشام، فة أرسل إليه عمر بن الخطاب أحد الأشخاص ليأخذ البيعة منه، ولما كرر رفضه رماه بسهم فقتله، وألقيت تبعات مقتله على الجن ووضع في ذللك بيتين من الشعر هما:

قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده *** رميناه بسهمين فلم تخط فؤاده(2).

يجب أن نتذكر هنا أن العامل الأبرز في حسم بيعة أبي بكر هو تدخل قبيلة أسلم القاطنة غربي المدينة(3)، فقد روي إن سكك المدينة كانت تغص

ص: 118


1- الطبري: تاريخ، 2 / 459؛ ابن الأثير: الكامل 2 / 330 - 331
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 250، 589؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 7 / 40؛ السيوطي: المحاضرات والمحاورات، 75؛ ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 1 / 28
3- مونتغمري وات: محمد في المدينة، 120، 123

بأفراد تلك القبيلة ومن ثمّ كان هناك ضغط عسكري وفرض للبيعة بالقوة(1)، و لذلك قال عمر: ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر(2). وروى الجوهري(ت 323 ه): إن أصحاب السقيفة كانوا لا يمرون بأحد إلا خبطوه، وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبي(3). ومع ما يُرجح من أن هناك ثمة اتفاق مسبق مع هذه القبيلة، فتلك البيعة لا تبعد عن كونها مجرد مغالبة سياسية. ويجدر الانتباه هنا إلى إن قبيلة أسلم سبق وأن مارست دوراً انتهازياً، فعلى الرغم من وجود الاتفاق بينها وبين النبي (صلى الله عليه وآله) واعترافها بالطاعة له إلا أنها كانت تحافظ بذات الوقت على علاقات الصداقة وربا المصالح بينها وبين قريش، ولذلك أحجمت عن المشاركة في الحج في السنة السادسة للهجرة، إذ إنها آثرت عدم الاصطدام مع قريش، على الرغم من وضوح مقصد النبي (صلى الله عليه وآله) بأداء الحج وعدم وجود أي نية صدامية، إلا إن قبيلة أسلم كانت تحتمل ذلك سلفاً فآثرت عدم الخروج، ولكنها بالمقابل عرضت المشاركة بفتح خيبر ويبدو إنها من القبائل التي وسمت بالنفاق(4). ومهما يكن من أمر فإن خلاف السقيفة حسم بفرض الأمر الواقع لا بالتراضي ولا بالاختيار الطوعي والحر، وإذن فقد جرى تأسيس أول سلطة سياسية في إسلام ما بعد النبوة دون شورى تؤسس لها شرعيتها، ودون الالتفات الحقيقي لمعيار القرشية

ص: 119


1- ينظر. جعيط: الفتنة، 36
2- الطبري: تاريخ، 2 / 458 - 459
3- السقيفة وفدك، 48 - 49؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1 / 219
4- السقيفة وفدك، 48 - 49؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1 / 219

المتذرع بها في السقیفة(1).

صفوة القول، إذا كان الاجتماع السياسي لمرحلة ما بعد النبوة قد جرى على هذا النحو في عاصمة الدولة الإسلامية ومجتمع الصحابة ومهد الإسلام، بل إن ذلك العنف شمل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بیته وانتهاك حرمته وإحراقه بالنار(2). وقد تندم أبو بكر في آخر لحظات حياته على هذا التصرف الأهوج فقال: وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وأن أغلق على حرب(3). فهل يفسح هذا أو يؤسس لما يتبناه البحث من إن حركات المتنبئين وجل الأخبار الواردة عنهم إنما هي صور مكونة لا كائنة؟، بمعنى أنها كانت مجرد حركات معارضة لحكم سياسي وضعي تقمص لبوس الدين ليواصل ممارسة فرض السلطة المالية عليهم، فجرى قمعهم بقسوة بدوية لم يعهد لها نظير من قبل، ولما لم يكن هناك بدٌ من وسم هذا الفعل بسمة الدين وحماية الشريعة لتبرير اجتهاد الخليفة والحفاظ على السمة الدينية المدعاة لسلطته، سُلك الطريق الأقصر لذلك عبر إظهار تلك الحركات على أنها حركات ارتداد و تنبؤ محاكية للنبوة، كانت غايتها تشويه

ص: 120


1- ينظر. عبد الإله بلقزيز: تكوين المجال السياسي الإسلامي، 52 - 53
2- ينظر ابن قتيبة : الإمامة والسياسة، 1 / 30؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 8 / 527؛ ابن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد، 5 / 13
3- اليعقوبي: تاريخ، 2 / 137؛ الطبري: تاريخ، 3 / 430؛ ابن عبد ربة: العقد الفريد، 5 / 21؛ الطبراني: المعجم الكبير، 1 / 62؛ ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، 30 / 418 - 422؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2 / 47 - 48؛ الذهبي: ميزان الاعتدال، 3 / 109؛ تاریخ الإسلام، 3 / 118؛ الهيثمي مجمع الزوائد، 5 / 202 - 203؛ المتقي الهندي: كنز العمال، 5 / 631 - 632

الدين والشريعة، ولتبدو كذلك فعلاً جرى وضع بعض المقاطع السجعية على ألسنة أبرز زعمائها.

إلى هذا الحد هل يمكن لهذا الطرح أن يبرز اختیارات فكرية مغايرة تم تجاوزها سریعاً أو حجبها في شبكة الدراسات السابقة على ما امتازت به من حذق وجدية بحثية مثل: (کتاب الفتنة: جدلية الدين و السياسة في الإسلام المبكر للمفكر التونسي هشام جعيط، وكتاب تكوين المجال السياسي الإسلامي - النبوة والسياسة للمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز وكتاب المعارضة والسلطة في الإسلام - بحث في الإشكالية الفكرية والاجتماعية 121 للباحث اللبناني زهير هواري).

المحور الثاني: في معوقات النشأة المستأنفة:

لم يكن ما جرى في اجتماع السقيفة ناظراً للتمايز بين الإمام علي (عليه السلام) وأبي بكر أو غيره بقدر ما كان متعلقاً بتفاضل فئتي المهاجرين والأنصار، إذ كانت حجج فريق المهاجرين تركز على عنوان القرشية، ولعل في عبارة عمر بن الخطاب لابن عباس ما فتح مسامات هذه الحقيقة في وقت لاحق: یا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منکم بعد محمد؟، کرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا فاختارت قریش لأنفسها فأصابت ووفقت(1).

قطعاً لم يكن أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يمثلون أنفسهم بقدر

ص: 121


1- الطبري: تاریخ، 3 / 289

ما كانوا يمثلون قريش، وإذن هل يمكن الحديث عن إنهم لم يكونوا هم فقط من حضر ذلك الاجتماع من جانب المهاجرين؟. ويبدو من الراجح إن التحضيرات لهذه الخطوة قد سبقت وقوعها، أو انها - وعلى أقل الفروض - قد استغلت الأيام الثلاثة التي انشغل بها بني هاشم بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله) و دفنه)(1) لعقد الاتفاقات و الصفقات سواء القبائل الأخرى - أسلم مثلاً أو مع شخصيات المعارضة البارزة.

لعل مما يؤكد البعد (القبلي - القرشي) لخلافة أبي بكر إن قریش مكة كانوا يترقبون مايفسر عنه المخاض العسير لتلك الأيام الثلاث، فقد ورد إنه لما مات النبي (صلى الله عليه وآله) كان أكثر أهل مكة هموا بالرجوع عن الاسلام، حتى خافهم عتاب بن أسيد فتواری فقام سهيل بن عمرو - وهو من زعماء قريش وقد تولى تمثيلها في صلح الحديبية - وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع الناس و كفوا عما هموا به(2). وسنلحظ سهیل بن عمرو بعد قليل في المدينة - مع عكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان وغيرهم - وهو من أشد المتحمسين لإمضاء بيعة أبي بكر ومعارضة موقف الأنصار في العدول بالبيعة للإمام علي (عليه السلام) بل إنه أشار بفرض البيعة بالقوة ومقاتلة الأنصار، فساجلهم الأنصار واتهموهم بالانقياد للمصلحة المادية والبعد عن الدين(3).

ص: 122


1- توفي النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الإثنين ودفن يوم الأربعاء ليلا. ينظر. ابن هشام: السيرة النبوية، 4 / 1077؛ 1082؛ ابن سعد، الطبقات، 2 / 273 -274؛ السيوطي: تنویر الحوالك، 238
2- ابن هشام، السيرة النبوية، 4 / 1079
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 6 / 23 - 25

زد على ذلك إن هناك تحالفات و اتفاقات أخرى قد جرى إبرامها التمرير بيعة أبي بكر، فقد أكد المؤرخون على انه استمال أبي سفيان الذي كان ينادي: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، یا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم!، أين المستضعفان أين الأذلان علي والعباس، أبا حسن ابسط يدك حتى أبايعك..، مالنا ولأبي فصيل، إنما هي بنو عبد مناف، فقيل له: إنه قد ولى ابنك فقال: لقد وصلته رحم(1). کما اشترى ولائه السياسي بأن أعطاه أموال الصدقات فرضي عنه وبايعه(2). ويجب أن لا تفهم معارضة أبو سفيان هنا على أنها انحياز لجبهة الإمام علي (عليه السلام) أو بني عبد مناف عموماً أو حتى محاولة لخلط الأوراق وخلق الفتنة، إنما هي محاولة لزعزعة موقف أبي بكر والضغط عليه للحصول على الثمن الأغلى أو أكبر قدر ممكن من الفائدة مقابل ضمان ولائه للسلطة الجديدة، مع علمه المسبق باستحالة وصول أي من بني أمية لهذا المنصب بسبب موقفهم من الإسلام.

کما حاول أبو بكر استمالة العباس بن عبد المطلب فقد ورد إن عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة، قالوا له بعد أن استشارهم حول معارضة بني هاشم: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا یکون له ولعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لك على علي(3). هذا فضلًا عن أنه بمجرد مبايعته باشر بتوزيع الأموال بين أهل المدينة، وقد عدت إحدى عجائز بني النجار ذلك محاولة

ص: 123


1- الطبري: تاریخ، 2 / 499
2- ينظر. الطبري: تاریخ، 2 / 449. ابن عبد ربه الأندلسي: العقد الفرید، 5 / 11
3- اليعقوبي: تاریخ، 2 / 124

لكسب التأييد، و رشوة لشراء البيعة والرضا بها(1).

وعند النظر لتشكيلة حكومة أبي بكر والقيادة العسكرية التي استعان بها في قمع جيوب المعارضة لا نجد بين ال(11 لواء) التي عقدها لتلك المهمة شخصا من الصحابة الأوائل أو من بني هاشم أو من الأنصار!، فهي تقتصر على قريش وخصوصا متأخري الإسلام منهم(2). ويجدر أن نلحظ هنا مسألة أخرى وهي إن دعم قريش لأبي بكر وبالمقابل اعتماده عليها، ربما كان ينطلق من تفضيلها أن يلي الخلافة شخص تستطيع فرض إرادتها عليه، ويكون بالسليقة مراعياً للقيمة الاجتماعية لأشراف مكة، نستدل لذلك بموقفه من بلال وصهيب وسلمان عندما مر بهم أبو سفيان فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها بعد، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قریش و سیدها!، فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك فأمره أن يعتذر لهم(3). وقول أبي قحافة: «يا عتيق هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم»(4)، وكان وبخه حين سمعه مرة أيام خلافته يعلو صوته على صوت أبي سفيان(5)، وكذلك احجامه عن معاقبة خالد بن الوليد رغم إلحاح صديقه المقرب عمر(6).

ص: 124


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 580
2- الطبري: تاریخ، 2 / 117؛ 480
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 488 - 489
4- ابن سعد، الطبقات، 3 / 187؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 30 / 324؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 111
5- المسعودي: مروج الذهب، 2 / 299
6- ينظر. خليفة بن خياط: تاریخ خليفة، 67 - 68؛ الطبري: تاریخ، 2 / 502 - 503؛ ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 16 / 256؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4 / 296 - 297؛ الكامل في التاريخ، 2 / 358 - 359؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، 3 / 36 - 37؛ أبو الفداء: المختصر، 1 / 157 - 158

على هذا النحو ومع مواصلة الضغط والغلبة التي ألفها فريق المهاجرين في المدينة سيما بعد توافد القبائل (مزينة / جهينة / أشجع أسلم / غفار) نحوها لتحظى بشرف الهجرة(1) جرى عزل بني هاشم و مؤيديهم القلائل من الأنصار إذ لا يكاد يرد من أسماء الأنصار الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر وانحازوا إلى الإمام علي (عليه السلام) سوى البراء بن عازب و أبي بن کعب(2). وشيئاً فشيئاً أصبح صوت المعارضة ذا طابع فردي وهامشي إذ لم يجد سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج في مدينته وقومه وعشيرته ما يعزز موقفه، فآثر الخروج إلى الشام، ربما لينأى بنفسه عن الانتقام الذي بدأ يطال لا المعارضة في المدينة وحدها بل كامل المحيط والمجال الحجازي!. ومع ذلك لم يسلم من رغبة الانتقام التي تملكت عمر بن الخطاب فبعث إليه من قتله هناك في مقتبل خلافته(3)، ولم يثر قتله أية ردة فعل تذكر، کما توارت أيضاً

شخصية الحباب بن المنذر وخبی بريقها.

إذن فعبارة عمر بن الخطاب حول اختیار قریش لأنفسها تحيل لهذه الجبهة المتصلبة والمستمرة بالتصلب التي واجهها الإمام علي (عليه السلام)، وما خلفه هذا الاجتماع السياسي من هيمنة على مجمل الدور السياسي لمرحلة ما

ص: 125


1- هواري: المعارضة والسلطة في الإسلام، 91
2- اليعقوبي: تاریخ، 2 / 124؛ أبو الفداء: المختصر، 1 / 156
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 250، 589؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 7 / 40: السيوطي: المحاضرات والمحاورات، 75؛ ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 1 / 28

بعد النبوة، سيما وإنه مستمر بالنمو والتزاید بانضمام شعوب مناطق الفتح، والانتقال من المحيط الحجازي إلى التمدد على حساب مناطق النفوذ الفارسي والبيزنطي وغيرها، طمعاً بما تقدمه مناطق الفتح من غنائم وثروات كبيرة تعوض وتفوق ورادات التجارة العربية التي كانت تجوب الجزيرة العربية طولاً وعرضاً(1).

وقد استمرت الحال في خلافة عمر على ذات الوتيرة المتصاعدة في تدعيم هذه الجبهة، مع فارق الآثار السيئة للسياسة التي اتبعها في العطاء وتقسيم طبقات المجتمع وخلق الهوة الواسعة بين أفراده، وإذا كان عمر قد أراد بذلك - فيما أراد - التخلص من هيمنة قريش بعدها متأخرة في الإسلام وستقع في آخر سلم العطاء ومن ثمّ السلم الاجتماعي، فإنها لن تكون كذلك قياساً بالمنضمين الجدد للإسلام والموالي والحيف الكبير الذي وقع عليهم، ولعل فيهم من هو أشد اخلاصاً لقضية الإسلام ممن تقدمهم، وبالمقابل فإنه تغاضى عن دولة معاوية المتنامية في الشام حتى كان يلقبه بکسر العرب(2). وكانت الطامة الكبرى في عهد عثمان - مرشح قریش لضعفه وسهولة التحكم به - إذ تحولت مناطق الفتوح لإقطاعيات قرشية(3)، كما كان لها النصيب الأوفر من تكدس الثروات والغنائم التي زادت من شهية سياسة الفتح(4).

ص: 126


1- ينظر. جعيط: الفتنة، 43
2- البلاذري: أنساب الأشراف، 5 / 147؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3 / 1417؛ تاريخ مدينة دمشق، 59 / 112 - 115
3- ينظر. البلاذري: أنساب الأشراف، 5 / 433؛ الطبري: تاریخ، 3 / 365
4- ينظر. جعيط : الفتنة، 61 - 63

على إن سياسة الفتح لم تحرم الغطاء الديني والتشريعي بعدها غنيمة المسلمين وفيئهم المتأتي مما افاءه الله عليهم نتيجة لتفانيهم في الجهاد في سبيله وإعلاء راية التوحيد ونشر الإسلام..، وكان هذا الوجه القبيح للدين والحرب والاجتماع ينتظم تحت قاعدة الاجماع المقدس ومبدأ عصمة الأمة(1).

وهكذا خلقت العقود الثلاثة اللاحقة لوفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مجتمعاً مغايراً تماماً، وإسلاماً أكثر تغايراً عن إسلام الرسالة و النبوة وقد وجد الإمام (عليه السلام) نفسه مرغماً على مواجهة هذا المجتمع ومجابهة ذلك الإسلام فقتلة عثمان لم يكونوا يمتلكون مشروع سياسي بديل، بل بدو مربكين أمام المأزق الذي خلفته حركتهم، ومفتقدين لرؤية واضحة تخرجهم منه بالسرعة المطلوبة(2)، فتركوا الأمر لأهل المدينة: «أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون الإمامة، وأمرکم عابر على الأمة فانظروا رجلا تنصبونه ونحن لكم تبع»(3). ولم يبادر أحد لاختراق هيبة وجلال الموقف، وبالسليقة توجهت الأنظار نحو الإمام علي (عليه السلام) فکان انتخابه يعبر عن حركة جماهيرية تتوخى التغيير وردم الفراغ السياسي الذي خلفه قتل

ص: 127


1- ينظر مثلًا: الصنعاني: المصنف، 3 / 157؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7 / 227؛ أحمد بن حنبل: المسند، 4 / 130؛ 5 / 370 - 371؛ البخاري: صحيح، 8 / 78، 105؛ مسلم: صحیح، 6 / 21؛ ابن ماجة: سنن، 2 / 1322؛ أبو داود: سنن، 2 / 390؛ ابن حبان: صحيح، 10 / 438؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 1 / 110. وعن مفهوم الجماعة والسلطة التي مارسها ينظر كتابي رضوان السيد (الأمة والجماعة والسلطة) و (الجماعة والمجتمع والدولة)
2- ينظر. جعيط : الفتنة، 141 - 142
3- الطبري: تاریخ، 3 / 455

الخليفة، ولم يستطع الإمام (عليه السلام) التخلي عن تحمل المسؤولية في ذلك الوقت العصيب والاستثنائي لإعادة جمع جسم الأمة المتناثر، وتجاوز شبح المأساة ولحظة القلق من رؤية كل شيء يتفكك وينهار(1)، وذلك بعد أن سجل اعتراضه المبني على قراءة للواقع المشبع بالخطورة والمسؤولية في آن، وإدراكه عدم توفر القاعدة الجماهيرية التي يمكن أن يرمم بها وضع الإسلام المتآكل فقال: دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي، فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَه وُجُوه وَأَلْوَانٌ، لَا تَقُومُ لَه الْقُلُوبُ، ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ..، و اعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُکُمْ رَكِبْتُ بِکُمْ مَا أَعْلَمُ، ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ، وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا کَأَحَدِکُمْ وأَنَا لَکُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً»(2).

كان الإمام (عليه السلام) يعلم إن وصوله إلى السلطة سيجابه بالرفض من قبل الاجتماع السياسي القرشي، فضلاً عن إن مشروعه الاستئنافي للإسلام سيتقاطع مع الإسلام التاريخي - الخلافي، وقد بين هذه الحقيقة للمسلمين حينها فقال: (أَلَا وإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ کَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ الله نَبِیَّه، والَّذِي بَعَثَه بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً ولَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُکُمْ أَعْلَاکُمْ وأَعْلَاکُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا، والله مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً ولَا کَذَبْتُ کِذْبَةً، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وهَذَا الْيَوْمِ(3). وهذا ما حدث فعلاً فأشعلت بوجهه حروب (الجمل / صفين / النهروان) وسنحاول عدم الخوض بهذه المساحة التاريخية لأن أحد ابحاث الملف قد تكفل بها

ص: 128


1- ينظر. جعيط : الفتنة، 141 - 142
2- الشريف الرضي: نهج البلاغة، 136. وسنشير إليه في الاستعمالات اللاحقة بنهج البلاغة
3- نهج البلاغة، 57

مكتفين بالإشارة إلى إن السبب الرئيس لهذه الحروب هو مشروع الاستئناف الذي تمثله الإمام (عليه السلام) حيث كانت من أولياته تفتيت الهيمنة القرشية على إدارة الدولة، والاعتماد على معيار الإخلاص للإسلام النقي، فكان أن انحازت قريش لعائشة ومن ثم لمعاوية، ولم يحظ الإمام (عليه السلام) إلا بتأييد قسم من الأنصار وقلة قليلة من رجالات الجيل الثاني للإسلام. کما اضطر الإمام (عليه السلام) لمغادرة المجال الحجازي بعد أن أفرغته الفتوحات من طاقته البشرية والاقتصادية، وبعد تصدع دوره المركزي وتراجعه أمام بروز الأمصار (الشام / الكوفة / البصرة / مصر)، فقد كسر عثمان الانغلاق الذي كان مفروضاً على الصحابة، وسمح لهم بالانتقال للأمصار الجديدة(1)التي منحتهم فرصة المتاجرة وتنمية الثروات ورؤوس الأموال وبناء زعاماتهم الشخصية والسياسية، فأصبحت مجالاً لقيادة المعارضة التي سيصطدم بها مشروع الإصلاح والاستئناف الذي كتب له أن يواجه تحدياً واسعاً آخر على مستوى تغيير الفاهمة الجماهيرية المنحرفة منذ وقت طويل ولعل الإمام (عليه السلام) يشير لذلك بقوله: «وأيم الله ما اختلفت أمه قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها»(2). وهذا ما سيتناوله البحث عبر المجالات التالية:

أولاً - اصطدام مشروع الاستئناف بالقاعدة القرشية - العربية:

إذا ما تجاوزنا الأسباب الظاهرية المتعلقة بالحفاظ على المكاسب المادية

ص: 129


1- ينظر. جعيط: الفتنة، 61 - 65؛ ابراهیم بیضون: الإمام علي في رؤية النهج ورواية التاريخ، 65 - 66
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 5 / 181

التي تحصلت عليها الزعامات القرشية والطبقة المقربة من السلطة من أشراف العرب خلال المرحلة السابقة، والتي أعلن البرنامج الإصلاحي للإمام (عليه السلام) عن تهدیدها بشكل مباشر عبر ارجاعها لخزينة الدولة(1)، فإن المسألة تبدو أعمق من ذلك بكثير، فهي من طرف آخر تتخوف شخصية الإمام (عليه السلام) القوية التي لا تقيم لها أي اعتبار إلا بمقدار ولائها للإسلام، ويبدو إن مسألة تميز قريش وأشراف العرب لم تكن قارة في أذهانهم فقط، إنما كانت مترسخة في ذهن الفاهمة الجماهيرية عموماً بما فيهم بعض أصحاب الإمام (عليه السلام)!، إذ قالوا له: «يا أمير المؤمنين: أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره. فقال: أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور، لا والله لا أفعل ما طلعت شمس، وما لاح في السماء نجم، والله لو كان المال لي لواسیت بینهم فكيف وإنما هي أموالهم(2). وقال في موضع آخر: ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله»(3)وهذه الهاجس ينطلق مما ألفه العرب منذ أيام جاهليتهم حيث كان سيد القبيلة يتمتع بالحصة الأكبر من الغنيمة:

لك المرباع منها والصفايا ٭٭٭

وحكمك في النشيطة والفضول(4)

ص: 130


1- نهج البلاغة، 57
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2 / 203
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 8 / 109
4- ابن عبد البر، الاستیعاب، 3 / 1210

فإذا ما تجاوزنا بني أمية التي انحازت إلى الشام حيث دولة معاوية، فإن مطلب طلحة والزبير كان أن يحتفظ لهما الإمام (عليه السلام) بقيمهما الاجتماعية المتقدمة على من سواهم، وأن يشركهما في تسيير شؤون الدولة، وقد عتبا عليه في ذلك فقال: »لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً وأَرْجَأْتُمَا کَثِیراً، أَلَا تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْءٍ کَانَ لَکُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُکُمَا عَنْه؟، أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْکُمَا به؟، أَمْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَه إِلَىَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْه أَمْ جَهِلْتُه أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَه؟..، نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ الله ومَا وَضَعَ لَنَا وأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِه فَاتَّبَعْتُه، ومَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه و آله) فَاقْتَدَيْتُه، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِکُمَا ولَا رَأْيِ غَيْرِ کُمَا، ولَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُه فَأَسْتَشِیرَکُمَا وإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِینَ، ولَو کَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْکُمَا ولَا عَنْ غَيْرِکُمَا. أَمَّا مَا ذَکَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الأُسْوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْکُمْ أَنَا فِيه بِرَأْيِي، ولَا وَلِيتُه هَوًى مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا و أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) قَدْ فُرِغَ مِنْه، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ الله مِنْ قَسْمِه وأَمْضَى فِيهِ حُكْمَه، فَلَيْسَ لَکُمَا والله عِنْدِي ولَا لِغَيْرِکُمَا فِي هَذَا عُتْبَی»(1).

وهنا يبرز ثقل مشروع الاستئناف على هذه النفوس الطامحة التي لم تتخلص من أنانيتها وأنفتها وشعورها المتعالي بأن تتساوى مع من هو دونها، فهي وإن كانت قد قضت وطراً طويلاً في الإسلام فهي لا تنفك تنظر من زاوية قريش ومن سواها، و منظار الحر والعبد والعربي والمولى، سیما وإن هذه النظرة قد رسخت في العقود الثلاثة الماضية و أصبحت لا

ص: 131


1- نهج البلاغة، 322

تتقاطع مع الدين السياسي. وكذلك الحال بالنسبة للسيدة عائشة فخلافة الإمام (عليه السلام) تعني تجريدها من كل النفوذ الديني والاجتماعي الذي كانت تزاوله في عهد الخلفاء السابقين، سيما وإنها قد استقلت بالفتوى في عهدهم، وكان كبار الصحابة يصدرون عنها رأيها مسائل الدين والشريعة، فأصبحت المصدر الأول للأحكام الشرعية، فبحسب الزهري: لو جمع علم الناس كلهم لرجحهم علم عائشة، وهي بحسب هشام بن عروة بن الزبير: أعلم من رأى بالحلال والحرام والعلم والشعر والطب، والأقوال في مرجعيتها الدينية والعلمية وما تمتعت به من تقديم وتقدير عند الخلفاء كثيرة جداً(1)، وإنها كانت تستدرك على الصحابة وقد ألف في ذلك السيوطي وغيره(2). فكان من الصعب على عائشة أن تفقد كل هذا الجاه والمكانة، ولعل الفتنة التي أشعلتها عائشة هي ما جعلت الإمام (عليه السلام) يذم النساء قاصداً إياها ومن ع-لى شاكلتها، سيما وإن خطبته في ذم النساء جاءت بعد فراغه من حرب الجمل(3). كانت المطامع الشخصية المادية، والخوف من فقدان المركز الاجتماعي والديني - في ظل الإسلام المغاير - مضافاً للحقد والكره والحسد والشعور بالتضاؤل والاضمحلال أمام عظمة الإمام (عليه السلام) هي ما وحدت جبهة قريش ضده وضد مشروعه الاستئنافي للإسلام.

ص: 132


1- ينظر. الحاكم النيسابوري: المستدرك، 4 / 6 - 14؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 2 / 197 - 200؛ السيوطي: التفسير بالمأثور، 5 / 37؛ الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، 11 / 179 - 180
2- ينظر. حاجي خليفة: كشف الظنون، 2 / 1384
3- ينظر. نهج البلاغة، 105 - 106

كانت قريش تخاف من الإمام (عليه السلام) علمه وعدله وإنسانيته والتزامه الديني الصارم، وعلى حد قول السيدة الزهراء (عليه السلام): «وما الذي نقموا من أبي الحسن؟!، نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطأته، ونکال وقعته وتنمره في ذات الله»(1). وكان الإمام (عليه السلام) قد بين هذه الحقيقة لأخيه عقيل: «فَدَعْ عَنْكَ قُرَيْشاً وتَرْکَاضَهُمْ فِي الضَّلَالِ، وتَجْوَالَهُمْ فِي الشِّقَاقِ وجِمَاحَهُمْ فِي التِّيه فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي کَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ

رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) قَبْلِي فَجَزَتْ قُرَیْشاً عَنِّي الْجَوَازِي، فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وسَلَبُونِي سُلْطَانَ ابْنِ أُمِّي..، لَا يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً، ولَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً»(2). والإمام (عليه السلام) هنا ينص على التماثل بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وموقف الاجتماع السياسي القرشي منهما مفرقاً بذات الوقت بين إسلامه وإسلام قریش!.

وبغض النظر عن موضوع الخلافة وبداهة استحقاق الإمام (عليه السلام) لها وما قيل وكتب في ذلك، فإنه في هذا اللحاظ لم یکن صادراً عن حكم شخصي أو ظرفي فرضه حدث الحرب بينهما، إنما بناء على رؤية وإخبار سابق من النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد قال (عليه السلام) حين سئل عن الفتنة: إِنَّه لَمَّا أَنْزَلَ الله سُبْحَانَه قَوْلَه (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَکُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ)، عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا ورَسُولُ الله بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا هَذِه الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ الله تَعَالَى بِهَا؟. فَقَالَ: يَاعَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي..، إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالهِمْ، ويَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى

ص: 133


1- ابن طيفور: بلاغات النساء، 20؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 19 / 233
2- نهج البلاغة، 409

رَبِّهِمْ، وَیَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَه ویَأْمَنُونَ سَطْوَتَه، وَیَسْتَحِلُّونَ حَرَامَه بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ والأَهْوَاءِ السَّاهِیَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، والسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، والرِّبَا بِالْبَيْعِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِندَ ذَلِكَ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ؟ فَقَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ(1). ولذلك كان (عليه السلام) قد قال عند خروجهم عليه: «مَالِي ولِقُرَيْشٍ، والله لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ ولأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ، وإِنِّي لَصَاحِبُهُم بِالأَمْسِ کَمَا أَنَا صَاحِبُهُمْ الْيَوْمَ، والله مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّ الله اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيِّزِنَا»(2). وكان يكرر شكواه من قريش ومن أعانها(3)وبذات الوقت كانت نفسه الكبيرة وبالرغم من كل الظلم والحقد والجفاء الذي لقيه من قريش كانت تتألم لما أصابهم فورد إنه لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل قال: لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَذَا اَلْمَکَانِ غَرِیباً، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ کُنْتُ أَکْرَهُ أَنْ تَکُونَ قُرَیْشٌ قَتْلَی تَحْتَ بُطُونِ اَلْکَوَاکِبِ(4). وهو بذلك يحاكي نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان على شدة بلائه من قومه يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(5).

خلق الاجتماع السياسي القرشي إدارة ميكافيلية للحكم حيث الغاية تبرر الوسيلة، بل صبغ الإسلام بذلك، فكان ينظر للخلافة والسلطة على أنها

ص: 134


1- نهج البلاغة، 220
2- نهج البلاغة، 77
3- نهج البلاغة، 246، 336 - 337
4- نهج البلاغة، 337
5- القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفی، 1 / 106؛ السهيلي: الروض الأنف، 2 / 170

غاية، في حين كانت رؤية الإمام (عليه السلام) المنبثقة من الإسلام النقي أنها لا تساوي نعلاً بالية ما لم يقم حقاً أو يدفع باطلا(1). كان البعض يشير على الإمام (عليه السلام) بأن يترك ولاة عثمان في ولاياتهم لبعض الوقت درجاً على ما قام به الخلفاء من قبله، فقد جاءه المغيرة بن شعبة فقال: أشير عليك برد عمال عثمان عامك هذا فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك واطمأن الأمر لك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت، فقال: والله لا أداهن في ديني، ، ولا أعطى الدنيء في أمري، فأشار عليه بترك معاوية لأن له جرأة وهو مطاع في أهل الشأم، وله حجة بذلك أن عمر بن الخطاب قد ولاه الشام كلها، فقال: لا والله لا أستعمل معاوية يومين أبدا، وكان قد أشار عليه بترك معاوية أيضاً فأبى ذلك(2).

والمشكلة الأعمق هنا تتمثل بما ألفته الجماعة الإسلامية من جواز التعامل بهذه الطريقة وكأنها لا تتقاطع مع الدين، إذ لم يكن المنظار دينياً بقدر ما كان سياسياً لا يهتم لمعايير الأخلاق وأوامر الشريعة، أو بالأحرى لأن التغاير الديني قد جعل الإسلام يتكيف مع مصلحة السلطة والرئاسة. وبذلك كان الإمام (عليه السلام) ضحية التزامه الديني الكامل والصارم، وأفعاله التي تحكمها المبادئ، وروحه المشبعة بالقيم الدينية العميقة وطاعته لله التي هي المفتاح الرئيس لسلوكه وتعامله وهذا ما كان يعده البعض (تصلب وانعدام المرونة أو قلة معرفة بالسياسة)، وكم هو خيار صعب ومؤلم أن كان يمتلك ما يخرس ويقطع كل الألسن التي تغمزه وهو علي، ولكن مقابل الخروج على

ص: 135


1- نهج البلاغة، 76
2- الطبري: تاريخ، 3 / 461 - 462

أخلاقه ومبادئه والتزامه الديني، فقد كان يضعه بكفة ودفع هذه التقولات بالكفة الأخرى، إلا أن تلك النفس الكبيرة سرعان ما حسمت أمرها «إني العالم بما يصلحكم ويقيم أودکم ولکني والله لا أرى إصلاحكم بفساد نفسي إن من ذل المسلمين وهلاك هذا الدين أن ابن أبي سفيان يدعوا الأشرار فيجاب وأدعوكم وأنتم الأفضلون الأخيار فتراوغون وتدافعون»(1).

لقد أراد الإمام (عليه السلام) الارتفاع بالمجتمع لروعة قيمه ومثاليتها لا

أن يهبط هو لمستوى المجتمع المتدني الرخيص، لقد أراد لمشروع الاستئناف أن يلف جميع نواحي الحياة وفي مقدمتها الرؤية السياسية الشوهاء التي

تربى عليها المجتمع، فهي بحسبه إنما تصلح بمدى انسجامها مع الدين والأخلاق والمبادئ «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ ولَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَي مِنْه، ومَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ کَيْفَ الْمَرْجِعُ، ولَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِه الْغَدْرَ کَیْساً، ونَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيه إِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ الله قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْه الْحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ الله ونَهْيِه، فَیَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ»(2). وقال في ذات اللحاظ: «والله مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي ولَکِنَّه یَغْدِرُ ويَفْجُرُ، ولَوْ لَا کَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَکُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، ولَکِنْ کُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وكُلُّ فُجَرَةٍ کُفَرَةٌ، ولِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(3). إن التمعن في إجابة الإمام (عليه السلام) يحيل إلى إدراك عمق الغربة المنهجية التي كان يعيشها

ص: 136


1- البلاذري: أنساب الأشراف، 2 / 458
2- نهج البلاغة، 83
3- نهج البلاغة، 318

أزمة المقاييس التي خلفها الإسلام التاريخي - الخلافي(1)فبات من السهل على معاوية معها أن يتبجح بالقول: «لأستميلن بالدنيا ثقات علي ولأقسمن فيهم الأموال حتى تغلب دنیای آخرته»(2). وهي ذات المحنة التي عاشها الأئمة من بعده فقد شخصها عبد الله بن العباس للإمام الحسن (عليه السلام) بقوله: «إن أباك إنما رغب الناس عنه وصاروا إلى معاوية لأنه واسی بینهم في الفيء وسوی بينهم في العطاء فثقل ذلك عليهم»(3). ويبدو إن معاوية قد نجح بذلك، إذ روي عن أبي الكنود الأزدي(4)وهو أحد أفراد جيش الإمام (عليه السلام) في صفين إن أبا بردة(5)مع حضوره صفين كان يخون أمير المؤمنين (عليه السلام) ویکاتب معاوية سرا، فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة، وكان علیه کریما(6). کما نجح في استمالة آخرين، ويبدو إنه سيحقق نجاحه الكبير باستمالة عبد الله بن العباس کما سيأتي.

كانت مشكلة الإمام (عليه السلام) الكبيرة إن الإسلام الخلافي - التاريخي،

ص: 137


1- عنه ينظر. شهید کریم: قراءات في النهضة الحسينية الفصل الأول
2- المنقري: وقعة صفين، 636؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 8 / 77
3- ابن اعثم، الفتوح، 4 / 284؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 23
4- هو من قبيلة الأزد واسمه عبد الله بن عويمر. ابن أبي شيبة: المصنف، 8 / 54. وكان يروي عن الإمام علي (عليه السلام) وعبد الله بن العباس وهو ثقة. ابن سعد، الطبقات، 6 / 177؛ ابن حبان: الثقات، 5 / 44؛ وقد قتل في وقعة المذار وكان مع جيش المختار الثقفي. خليفة بن خياط: تاریخ، 203
5- يبدو إنه أبو برزة الأسلمي فقد ورد إنه (قيل لأبي برزة الأسلمي، لم آثرت صاحب الشام على صاحب العراق؟. قال: وجدته أطوى لسره، وأملك لعنان جيشه، وأنظر لما في نفسه) الجاحظ: العثمانية، 97؛ ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 62 / 84
6- المفيد: الأمالي، 129

قد أفسد المجتمع تماماً، وأعطى خصومه السياسيين فرصة استغلال ذلك والتبجح به، فلولاً ما منحه من فرصة لمعاوية من أن يسترجع مجده الجاهلي بقناع إسلامي لما تبجح الأخير بأن يدعي ما ليس له، وهذا ما نلحظه في جوابه على الرسالة التي بعثها له محمد بن أبي بكر التي أخفاها مؤرخو السلطة لأنها تزعج أتباع الإسلام التاريخي - الخلافي ففيها غلظة ولا يحتملون سماعها(1). كان مما كتبه محمد لمعاوية فيها قوله: وأنت اللعين بن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل وتجتهدان على إطفاء نور الله، تجمعان الجموع على ذلك وتبذلان فيه الأموال وتحالفان عليه القبائل على ذلك مات أبوك وعليه خلفته أنت، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق. وكان من جواب معاوية قوله: من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر..، قد كنا وأبوك معنا في زمان نبينا نرى حق علي لازما لنا، وسبقه مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده وأتم له ما وعده وقبضه إليه كان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه وخالفه، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن يك جورا فأبوك أسسه ونحن شركاؤه وبهديه أخذنا وبفعله اقتدينا ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب وأسلمنا له ولكنا رأينا أباك فعل ذلك فاحتذينا بمثاله واقتدينا بفعاله فعب أباك ما بدا لك أو دع والسلام(2).

ص: 138


1- ينظر. الطبري: تاريخ، 3 / 557؛ ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 3 / 274؛ البداية والنهاية، 7 / 348
2- نصر بن مزاحم: وقعة صفین، 118 - 121؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2 / 395 - 397؛ المسعودي: مروج الذهب، 3 / 17 - 19؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 3 / 188 - 190

ولم يكن معاوية هو المشكلة بقدر ما كان من أوصله ومکنه وجعل الإسلام مطية له ولأمثاله هو المشكلة، وإلا فهو واضح وضوح الشمس: «ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك وإنما قاتلتكم لأتأمر علیکم وقد أعطاني الله ذلك وانتم کارهون»(1). وكان ولده يزيد يوم نصبه ولياً لعهده وجعل الناس يمدحونه ويقرظونه قال له: يا أمير المؤمنين، ما ندري أنخدع الناس أم يخدعوننا فقال له: كل من أردت خدیعته فتخادع لك حتي تبلغ منه حاجتك فقد خدعته(2).

لقد منح الاجتماع السياسي القرشي وما أنتجه من الإسلام المتغایر، معاوية وغيره لا أن يتبجحوا بانتمائهم القبلي القرشي وحظوظهم في السلطة على أساسه، إنما على إنهم على قدم المساواة مع الإمام (عليه السلام) من وجهة نظر دينية! ولنا أن نستمع بذلك لعظيم توجع الإمام (عليه السلام) في قوله: «فَيَا لله ولِلشُّورَی، مَتَی اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّی صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِه النَّظَائِرِ»(3). وكذلك في قوله: «فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ!، إِذْ صْرِتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي، ولَمْ تَكُنْ لَه کَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ یَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُه ولَا أَظُنُّ الله يَعْرِفُه»(4). ولولا ما أنتجه ذلك الاجتماع

ص: 139


1- ابن أبي شيبة: المصنف، 7 / 252؛ أبو الفرج الأصفهاني: مقاتل الطالبيين، 77؛ ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 59 / 151؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، 3 / 147؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 8 / 140
2- المبرد: الكامل في اللغة والأدب، 2 / 83
3- نهج البلاغة، 49
4- نهج البلاغة، 369

لم يكن الإمام (عليه السلام) ليحاجج معاوية في بداهات البون الشاسع بينهما، ولكنها أصبحت قارة في ومترسخة في ذهن الفاهمة الجماهيرية بسب التغاير الديني، ومن ذلك قوله: «ومَتَی کُنْتُمْ یَا مُعَاوِيَةُ ُسَاسَةَ الرَّعِيَّةِ، ووُلَاةَ أَمْرِ الأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ ولَا شَرَفٍ بَاسِقٍ..، فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وأَخِيكَ وخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ، وذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي، وبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَي عَدُوِّي مَا استَبدَلتُ دِیناً ولَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً، وإِنِّى لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوه طَائِعِينَ ودَخَلْتُمْ فِيه مُكْرَهِينَ»(1). وكذلك قوله (عليه السلام): «وأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ ولَكِنْ لَيْسَ أُمَیَّةُ کَهَاشِمٍ، ولَا حَرْبٌ کَعَبْدِ المُطَّلِبِ، ولَا أَبُو سُفْيَانَ کَأَبِي طَالِبٍ، ولَا المُهَاجِرُ کَالطَّلِيقِ، ولَا الصَّرِيحُ کَاللَّصِیقِ، ولَا المُحِقُّ کَالمُبْطِلِ، ولَا المُؤْمِنُ کَالمُدْغِلِ»(2). كان من انعدام المقاييس أن أضطر الإمام للتمييز بينه وبين معاوية(3)وبذلك اصطدم مشروع الاستئناف بقوة بقاعدة الاجتماع السياسي.

ثانیاً - اصطدام مشروع الاستئناف بالقاعدة الجماهيرية:

ليس من السهولة القطع بأن مجتمع الإمام (عليه السلام) عرفه أولم يعرفه بالمستوى المطلوب بأنه يمثل الامتداد العضوي لرسول الله، سيما وإن الإمام (عليه السلام) ما فتئ يؤكد على هذه الحقيقة (وأَنَا مِنْ رَسُولِ الله کَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ، والذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ)(4)، (وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ

ص: 140


1- نهج البلاغة، 369
2- نهج البلاغة، 375
3- ينظر نهج البلاغة، 88؛ 259؛ 369 - 367؛ 385 - 386؛ 406؛ 410؛ 454. وغيرها
4- نهج البلاغة، 418

رَسُولِ الله بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وَأَنَا وَلَدٌ یَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ویُمِسُّنِي جَسَدَه ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ یَمْضَغُ الشَّيْءَ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ کُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه یَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً ويَأْمُرُنِي بِالاِقْتدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي کُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَیْرَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَی نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه فَقُلْتُ یَا رَسُولَ الله: مَا هَذِه الرَّنَّةُ؟، فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانِ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَتَرَی مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَکِنَكَ لَوَزِيرٌ وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ)(1). وكثيراً ما أشار لفضله وسابقته وفضل أهل البيت (عليه السلام)(2).

ومع ذلك كانت خيبة الأمل كبيرة على مستوى العامة وعلى مستوى بعض النخبة أيضاً، فبالنسبة للعامة يبدو إن المسألة أعمق من التفاضل في السمات الشخصية وهي تنفذ إلى حقيقة وعي الإسلام أو بالأحرى إلى ألفة الإسلام الجديد، سيما وإن الطبيعة الإنسانية غالباً ما تميل للالتحاق بصوت الأكثرية، وغالباً ما يجرفها منطق العقل الجمعي، وهي المسألة التي استغلها مفهوم الإجماع وما دشنته حاکميته في المنظومة الحديثية(3)التي يبدو أنها سمة

ص: 141


1- نهج البلاغة، 300 - 301
2- نهج البلاغة، 77؛ 92؛ 137 - 138؛ 162 - 163؛ 176؛ 201؛ 205 - 206؛ 215 - 216؛ 312 - 311؛ 357 - 358. وغيرها
3- ينظر مثلًا: الصنعاني: المصنف، 3 / 157؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 7 / 227؛ أحمد بن حنبل: المسند، 4 / 130؛ 5 / 370 - 371؛ البخاري: صحیح، 8 / 78، 105؛ مسلم: صحيح، 6 / 21؛ ابن ماجة: سنن، 2 / 1322؛ أبو داود: سنن، 2 / 390؛ ابن حبان: صحيح، 10 / 438؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 1 / 115. وعن مفهوم الجماعة والسلطة التي مارسها ينظر کتابي رضوان السيد (الأمة والجماعة والسلطة) و (الجماعة والمجتمع والدولة)

قارة في تاريخ البشرية، وقد شجبها النص القرآني في مواضع عديدة، فنص على أن الأكثرية (لا يعلمون 25 مرة) و (لايؤمنون 14 مرة) و (لا يشكرون 5 مرات) و (فاسقون 4 مرات).. الخ(1).

أكثر الناس

وهي حقيقة أدركها الإمام (عليه السلام) ولم تفته الإشارة إليها فقال: «لَا

يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً، ولَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً»(2). وقال أيضاً: «لاَ

ص: 142


1- خالد عبد الرحمن مقال بعنوان (الأكثرية في القرآن) :www .http: //fekr - 7or: blogspot.com/2014/10/blog-post.html
2- نهج البلاغة، 409

تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِه»(1). وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أكد على هذه الحقيقة في وصيته لأبي أيوب الأنصاري وعمار بن یاسر فقد ورد إنه قال لهما: سيكون من أمتي بعدي هنات واختلاف، حتى يختلف السيف بينهما، حتى يقتل بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني - یعنی علیا (عليه السلام) - وإن سلك الناس كلهم واديا وسلك عليٌ واديا فاسلك وادي علي وخل الناس طرا. یاعمار: إن عليا لا يزيلك عن هدی، یاعمار: إن طاعة علي من طاعتي وطاعتي من طاعة الله عز وجل(2). وقد مر بنا إن معاوية راهن ليس على اجتذاب عوام القاعدة الجماهيرية بل على اجتذاب النخبة أيضاً، بل إنه إنما كان يستهدفها بالأساس(3).

وإذا ما تجاوزنا القاعدة الجماهيرية العامة واصطدام مشروع الاستئناف بتثاقلها وتواكلها وتقاعسها عن نصرته و الجهاد معه، ودفع الظلم والاعتداء عن أنفسهم في المقام الأول، ومقدار الصدمة والوجع الذي عاشه الإمام (عليه السلام) جراء هذا الواقع المؤلم(4)، فإن المسألة تنفذ إلى عمق الدين والرسالة، إذ أصبح الإسلام الذي أنتجه الاجتماع السياسي هو المعبر عن روح الشريعة وأحكامها لا سواه!، ولنا أن نسمع هذه الحقيقة المرة وهذا الفهم المعكوس

ص: 143


1- نهج البلاغة، 319
2- الخوارزمي: المناقب، 193 - 194؛ ابن البطريق: عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، 451؛ ابن العديم: بغية الطلب، 7 / 3032؛ القندوزي: ينابيع المودة، 1 / 384
3- المنقري: وقعة صفين، 436؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 8 / 77
4- نهج البلاغة، 55 - 56؛ 69 - 73؛ 100؛ 258 - 259. وغيرها

والمغلق للدين والسنة مما رواه صالح بن کیسان إذ قال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلنا نكتب السنن فكتبنا ما جاء عن النبي، ثم قال الزهري: لنكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت: ليس بسنة فلا نكتبه، فكتب ولم أكتب فأنجح وضیعت(1).

وقد غدت هذه السنة الصحابية دين يتعبد به، وتولى الخلافة على أساسه!(2). بل إن مخالفتها وإن صدرت عن الخليفة اللاحق أمست تعد ضرباً من الخروج على السنة الأصيلة وروح الشريعة!، إذ يروى إن الإمام علي (عليه السلام) عندما دخل الكوفة طلب منه أهلها أن ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان - وكان عمر بن الخطاب شرع ذلك أيام خلافته - فزجرهم الإمام (عليه السلام) وأخبرهم أن ذلك خلاف سنة النبي (صلى الله عليه وآله)، فتركوه واجتمعوا فيما بينهم، وقدموا أحدهم للصلاة بهم، فلما سمع الإمام (عليه السلام) بذلك بعث إليهم ولده الإمام الحسن (عليه السلام) فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة، فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا وا سنة عمراه(3). هذا على الرغم من أن عمر بن الخطاب نفسه اعترف بأن أمره بذلك كان بدعة ولكنها بدعة حسنة حسب رأيه(4). ولا يبعد عن هذا تحریم

ص: 144


1- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 11 / 258 - 259؛ ابن سعد، الطبقات، 2 / 388 - 1389 ابن عبد البر: التمهید، 16 / 280؛ جامع بیان العلم وفضله، 1 / 76 - 77
2- ينظر. أحمد بن حنبل: مسند، 1 / 75؛ اليعقوبي: تاریخ، 2 / 162؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 4 / 32
3- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 12 / 283. وينظر: العيني: عمدة القاري، 7 / 236
4- مالك بن أنس: الموطأ، 1 / 114 - 115؛ المدونة الكبرى، 1 / 222 - 223؛ عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 4 / 259؛ ابن شبة النميري: تاريخ المدينة، 2 / 713 - 714؛ البخاري: صحیح، 2 / 252

عمر الخطاب لمتعتي الحج والنساء مع اعترافه أيضاً بأنهما كانتا معمولاً بهما في عهد النبي (صلى الله عليه وآله)(1). وهذا المنع أو التحريم هو الآخر يمثل جزئية من جزئيات مشروع الاستئناف التي عاقها الإسلام المتغاير. ومما يروى في هذا الصدد إن مروان بن الحكم شهد عليا وعثمان بين مكة والمدينة وعثمان ينهي عن المتعة، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا فقال: لبيك بحجة وعمرة معا، فقال عثمان: تراني أنهی عنه وتفعله، فقال: لم أكن لأدع سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول أحد من الناس(2).

ولكن يبدو إن سنة التحريم البديلة كانت ترسخت في ممارسة وفکر المجتمع الذي كان ينظر لرفض الإمام (عليه السلام)

على إنه اجتهاد کاجتهاد عمر وعثمان، وما دام المجموع والأكثرية معهما فرأيهما هو الأصوب، إذ يروى أن عثمان مرض وهو بمنی، فأتي بعض الناس إلى الإمام علي (عليه السلام) فقالوا له: صل بالناس فقال: إن شئتم صليت بکم صلاة رسول (صلى الله عليه وآله) فقالوا: لا إلا صلاة أمير المؤمنين عثمان أربعا فرفض أن يصلي بهم(3). كما إن الإمام (عليه السلام) لم يستطع عمل شيء

ص: 145


1- أحمد بن حنبل: مسند، 1 / 52؛ 3 / 325؛ الجصاص: أحكام القرآن، 1 / 338؛ ابن حزم: المحلى، 7 / 107؛ البيهقي: السنن الکبری، 7 / 206؛ معرفة السنن والآثار، 5 / 345؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 4 / 95؛ التمهيد، 8 / 355؛ الفخر الرازي: مفاتیح الغیب، 5 / 167؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 2 / 392؛ الذهبي: تذكرة الحفاظ، 1 / 366
2- الدارمي: سنن، 2 / 70؛ النسائي : سنن، 5 / 148؛ البيهقي: السنن، 5 / 22؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 4 / 65. وينظر: البخاري: صحيح، 2 / 153؛ مسلم: صحيح، 4 / 46
3- المارديني: الجوهر النقي، 3 / 165؛ ابن تيمية: مجموعة الرسائل والمسائل، 2 / 50؛ مجموع الفتاوی، 24 / 96

حيال تحریم عمر بن الخطاب لمتعة النساء، فما كان منه إلا الإشارة إلى الآثار السيئة المترتبة على منعها: «لولا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنی الا شقي»(1). ولذا كان من المستساغ عند عثمان والمسلمين أن يرفض حكم النبي (صلى الله عليه وآله) في الصدقة وتحديد مواردها بعد أن بعثه له الإمام علي (عليه السلام)(2).

لقد منح الإسلام المتغاير الخليفة حق الفتيا والتصرف دون ملحظ اللحرج من اصدار الأحكام الخاطئة بحسب قاعدة تأول فأخطأ، ولأن الاجتماع السياسي القرشي - وعمر بن الخطاب خصوصاً - لم يكن يعترف بصواب كل أفعال النبي (صلى الله عليه وآله) وعصمته بدلیل مخالفاته الكثيرة للنبي (صلى الله عليه وآله) حياً وميتا(3)، فإذا كان كذلك، وهو مسدد بالوحي، فلا بأس أن يخطئ حينها خليفته الذي تؤمن القاعدة الجماهيرية بالسليقة بأنه لا يشبه النبي في سلطته الدينية، وهو لا يختلف عن أي منهم(4)، ولذا قال أبو بكر: والله ما أنا بخيركم، أفتظنون أني أعمل فيکم سنة النبي (صلى الله عليه وآله) إذا لا أقوم لها، إنه كان يعصم بالوحي وإن لي شيطانا يعتريني، فإذا غضبت فاجتنبوني وإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني(5). وورد

ص: 146


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 12 / 253
2- ينظر. البخاري: صحيح، 4 / 48؛ ابن حزم: الأحكام، 2 / 232 - 233؛ 245 - 246؛ ابن حجر: فتح الباري، 6 / 150
3- ينظر. ناجية الوريمي: الائتلاف والاختلاف، 154 - 180
4- ينظر. عبد الإله بلقزيز: تكوين المجال السياسي في الإسلام، 44
5- عبد الرزاق الصناني: المصنف، 11 / 336؛ ابن سعد: الطبقات، 3 / 212؛ ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1 / 22؛ الطبري: تاریخ، 2 / 460؛ ابن عساکر : تاريخ مدينة دمشق، 30 / 304 - 305؛ ابن الجوزي: المنتظم، 4 / 69. ووصفت بیعته على لسان مدبرها عمر بن الخطاب بأنها (فلتة وقي الله شرها). الجاحظ: العثمانية، 196؛ اليعقوبي : تاریخ، 2 / 158؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 1 / 591؛ ابن عبد البر: الاستذکار، 7 / 258؛ الحلبي: السيرة الحلبية، 3 / 484

عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن(1)ولولا علي لهلك عمر(2)، ولولاك لافتضحنا(3)، بل اعترف بأنه الأجدر بأن يلي الخلافة وحمل المسلمين على كتاب ربهم وسنة نبيهم، والمحجة البيضاء والصراط المستقيم(4).

وفي هذا اللحاظ تغدو الخلافة مجرد تواصل مع قواعد الحكم القبلي السابق ولكن بصبغة دينية بعض الشيء بحكم سيادة المسلمين وليس بالضرورة أن يليها الأفضل بينهم، وهنا يبلغ مشروع الاستئناف أوسع مراحل الاعاقة، إذ إن الفاهمة الجماهيرية اعتادت أن تنظر للإمام (عليه السلام) على أنه لا يختلف عمن سبقه من الخلفاء أو غيره من الصحابة، على الرغم من قناعتها بأنه أوسعهم علماً وفقهاً، وأشدهم امتثالاً لأوامر الشريعة والدين،

ص: 147


1- ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، 152؛ البلاذري: أنساب الأشراف، 2 / 100؛ ابن مردویه: المناقب، 88؛ الخوارزمي: المناقب، 97
2- ينظر. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، 152؛ الباقلاني: تمهيد الأوائل، 547؛ ابن مردویه: المناقب، 88؛ الخوارزمي: المناقب، 97؛ السمعاني: تفسير، 5 / 154؛ الرازي: مفاتیح الغيب، 21 / 22؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 12 / 79 - 80؛ النويري: نهاية الإرب، 7 / 79
3- نهج البلاغة، 521 - 522
4- ابن شبة النميري: تاريخ المدينة، 3 / 883؛ الباقلاني: تمهيد الأوائل، 510؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 6 / 327

وأوثقهم صلة بالنبي (صلى الله عليه وآله) وسنته وإسلام الرسالة، يروي في هذا الصدد عن أبي موسى الأشعري إنه قال: ذكرنا علي ابن أبي طالب صلاة كنا نصليها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إما نسيناها وإما تركناها عمداً، یکبر کلما ركع وكلما رفع وکلما سجد(1). وقيل له أيام خلافته: «ألا تخلف رجلاً يصلي في العيدين بالناس؟. فقال لا أخالف السنة»(2). وكان حريصاً كل الحرص على أن يؤخذ الدين والعلم من مضانه الحقيقية ومصادره الصافية، وهو بذلك لا يصدر عن مجرد ثقة بالنفس وتمكن علمي و فکري، بقدر ما يصدر عن أمر مسبق للنبي (صلى الله عليه وآله) للمسلمين بالأخذ عنه: «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأتها من بابها»(3).

ولذلك كان الإمام (عليه السلام) ينادي (أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي..)(4). وكثيراً ما أكد على لزوم أهل البيت (عليه السلام) والأخذ عنهم (اعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَه، ولَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَه، ولَنْ تَمَسَّكُوا بِه حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَه، فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِه، فَإِنَّهُم عَيْشُ الْعِلْمِ ومَوْتُ الْجَهْلِ، هُمُ

ص: 148


1- احمد بن حنبل: المسند، 4 / 392؛ 411 - 412؛ البخاري: صحیح، 1 / 190 - 191؛ ابن عبد البر: التمهید، 9 / 176؛ ابن حجر: فتح الباري، 2 / 224؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 2 / 131؛ العيني: عمدة القاري، 6 / 57
2- البرقي: المحاسن، 1 / 222؛ الطوسي: الخلاف، 1 / 667
3- الطبراني: المعجم الكبير، 11 / 55؛ ابن عبد البر، الاستیعاب، 3 / 1102؛ الحاكم النيسابوري: المستدرك، 3 / 126 - 127؛ الهيثمي: مجمع الزوائد، 9 / 114؛ العيني: عمدة القاري، 16 / 215؛ السيوطي: الجامع الصغير، 1 / 415
4- نهج البلاغة، 280

الَّذِينَ يُخْبِرُکُمْ حُکْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ وظَاهِرُ هُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ ولَا يَخْتَلِفُونَ فِيه فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وصَامِتٌ نَاطِقٌ)(1). ونصوص نهج البلاغة طافحة بهذا المعنى(2).

وهذا التأكيد المتكرر إن دل على شيء فإنما يدل على ما یری حجم الانحراف الذي أنتجه الإسلام التاريخي - الخلافي حتى صار الدين والأحكام تؤخذ من المؤلفة قلوبهم، ومن قصاص اليهود. يروي في هذا الصدد إنه (عليه السلام) مر بقاص فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟. قال: لا، فقال له: لقد هلكت وأهلكت. ومر بآخر فقال له: ما کنيتك؟ . قال: أبو يحيى، فقال له: بل أنت أبو اعرفوني(3). أي إنه وأمثاله قد اتخذوا الدين والتصدي لمسائله وسيلة للتكسب وحب الظهور والرياسة وهم أبعد ما يكنون عنه، ولذلك كان يعتصر ألماً لواقع الجماعة الإسلامية الممزق فكرياً وثقافيا ومدى التلاعب بأحكام الدين والشريعة فقال في ذلك: ترد على أحدهم القضية في حكم من الاحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا!، وإلههم واحد ونبيهم واحد وکتابهم واحد!. أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه!، أم نهاهم عنه فعصوه!، أم أنزل دینا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه!، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى!، أم أنزل دینا تاما فقصر

ص: 149


1- نهج البلاغة، 205 - 206
2- نهج البلاغة، 119 - 120؛ 142 - 143؛ 162 - 163؛ 176؛ 201؛ 215 - 216؛ 250. وغيرها
3- عبد الرزاق الصنعاني: المصنف، 3 / 220 - 221؛ ابن الجوزي: نواسخ القرآن ومنسوخه، 30 - 31

الرسول عن تبليغه وأدائه، والله القائل: (ما فرطنا في الكتاب من شيء، وفيه تبيان كل شيء ) وذكر إنه يصدق بعضه بعضا، وإنه لا اختلاف فيه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)(1). وقال في ذات المعنى في ذم من يتصدى للعلم وهو ليس أهلاً له: (إنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَی اللَّهِ رَجُلَانِ، رَجُلٌ وَکَلَهُ اللَّهُ إِلَی نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِیلِ، مَشْغُوفٌ بِکَلَامِ بِدْعَةٍ وَدُعَاءِ ضَلَالَةٍ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ ضَالٌّ...، مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَی بِهِ فِی حَیَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ...، وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلًا مُوضِعٌ فِی جُهَّالِ الْأُمَّةِ..، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً..، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَی الْمُبْهَمَاتِ هَیَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْیِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِی مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْکَبُوتِ، لَا یَدْرِی أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ یَکُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَ إِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ یَکُونَ قَدْ أَصَابَ..، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ، وَ تَعَجُّ مِنْهُ الْمَوَارِیثُ. إِلَی اللَّهِ أَشْکُو مِنْ مَعْشَرٍ یَعِیشُونَ جُهَّالًا وَ یَمُوتُونَ ضُلَّالًا، لَیْسَ فِیهِمْ سِلْعَهٌ أَبْوَرُ مِنَ الْکِتَابِ إِذَا تُلِیَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَ لَا سِلْعَهٌ أَنْفَقُ بَیْعاً وَ لَا أَغْلَی ثَمَناً مِنَ الْکِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ لَا عِنْدَهُمْ أَنْکَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْکَرِ)(2).

وأمام هذا الواقع المشتت كان غاية مايتمناه الإمام (عليه السلام) أن يمنحه القدر فرصة وفسحة من الزمن لتقويم انحراف مسار الإسلام: (لَو قَدِ استَوَت قَدَمَايَ مِن هَذِه المَدَاحِضِ لَغَيَّرتُ أَشيَاءَ)(3). ولم يكن له بد من أن ينعي ذلك الواقع العصيب عل أذنا تصغي وقلب ينيب: (فَأَينَ

ص: 150


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1/ 288
2- نهج البلاغة، 59 - 60
3- نهج البلاغة، 523

تَذْهَبُونَ وَأَنَّی تُؤْفَکُونَريال والْأَعْلامُ قَائِمَةٌ والْآیَاتُ وَاضِحَةٌ والْمَنارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَیْنَ یُتَاهُ بِکُمْ وکَیْفَ تَعْمَهُونَ وبَیْنَکُمْ عِتْرَةُ نَبِیِّکُمْ، وهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وأَعْلامُ الدِّینِ وأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ، فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ، ورِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِیمِ الْعِطَاشِ..)(1).

المشكلة الأعمق هنا إن هذه النداءات الحريصة والمتكررة، والخصال والمزايا التي تفرد بها الإمام (عليه السلام) باتت غير منظورة في مجتمع الإسلام المتغایر، ولعل عظم الهوة التي خلفها هذا الإسلام بينه وبين الإسلام النبوي، مع رغبة التغيير الجامحة التي أدت بالجماعة الإسلامية إلى الثورة على عثمان، هي ما جعلت الكل يدرك استحالة قيامه بالأمر و الوقوف بوجه الانهيار الجارف، واعادة نظم فرط الأمة في تلك اللحظات الحرجة والخطرة، فأحجم كل الصحابة الطامعين منهم والطامحين عن التصدي للموقف إلا الإمام (عليه السلام) فامتدت الأعناق إليه، وقد عبر عن ذلك بقوله: «إِنِّی فَقَأْتُ عَیْنَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ یَکُنْ لِیَجْتَرِیءَ عَلَیْهَا أَحَدٌ غَیْرِی بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَیْهَبُهَا وَاشْتَدَّ کَلَبُهَا»(2). وقال في موضع آخر: «وَبَسَطْتُمْ یَدِی فَکَفَفْتُهَا وَمَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاکَکْتُمْ عَلَیَّ تَدَاكَّ الاْبِلِ الْهِیمِ عَلَی حِیَاضِهَا یَوْمَ وِرْدِهَا، حَتَّی انْقَطَعَتِ الْنَّعْلُ، وَسَقَطَ الرِّدَاءُ وَوُطِیءَ الضَّعِیفُ، وَبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَیْعَتِهِمْ إِیَّایَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِیرُ وَهَدَجَ إِلَیْهَا الْکَبِیرُ وَتَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِیلُ وحَسَرَتْ إِلَیْهَا الْکِعَابُ»(3). ولكن ما إن هدأت الفتنة وزال خطر الانهيار

ص: 151


1- نهج البلاغة، 119 - 120
2- نهج البلاغة، 137
3- نهج البلاغة، 350 - 351

حتى عاد الطامحون والطامعون من الصحابة إلى إبراز أصواتهم وصدورهم (فَمَا رَاعَنِي إلَّا والنَّاسُ كَعُرْفِ الصّبحِ إلى يَنْتَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبِ، حَتّى لَقَدْ وُطِيءَ الْحَسَنَانِ وَشُقَ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعينَ حَوْلِي كَرَيِيضَةِ الْغَنَمِ، فَلَمَّا نَهَضَتُ بِالأمْرِ نَكَقَتْ طَائِفَةٌ ومَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ)(1). وكأننا نقف بصورة مباشرة أمام الصورة التي رسمها النص القرآني لهؤلاء الصحابة في عهد الإسلام الناشئ في قوله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ»(2).

قلنا إن خيبة الأمل كانت كبيرة جداً على مستوى القاعدة العامة وعلى مستوى بعض من رجالات النخبة، وهنا تفرض شخصية عبد الله العباس حضورها بشكل يثير الصدمة من أن يطعن مشروع الاستئناف من قبله، وأن يتمكن الإسلام المتغاير من أن ينفذ إلى روحه وقلبه فلا يبالي بما فعل، بل ويتبجح بأن ذلك حق له وإنه على استعداد للمسير إلى معاوية والاعتراف بخلافته!، في وقت كان الإمام (عليه السلام) يواجه أحلك الظروف وأشدها قسوة وغربة، ويتأسى بأن يندب القلة القليلة من أصحابه من نخبة النخبة کمالك الأشتر وعمار بن یاسر ومالك بن التيهان و خزيمة ذو الشهادتين(3) سیما وإنه كان يعول عليهم في تحقيق مشروع الاستئناف، ولعلنا نستشف ذلك في

ص: 152


1- نهج البلاغة، 49
2- الأحزاب / 19
3- ينظر. نهج البلاغة، 264

عهده لمالك وغيره من ولاته وعماله وعساكره(1).

يظهر إن النبرة التي أرساها الاجتماع السياسي القرشي حول أفضلية قريش عموماً، ومن ثم استعملها بإسفاف كبير أبو سفيان ومن بعده ابنه معاوية حول تساوي بني عبد مناف(2)، واغراءات الأخير وتشجيعه على الخذلان، تمكنت من التسرب لنفس عبد الله بن العباس، فخان الأمانة وسرق أموال الفيء في البصرة، وكانت ستة آلاف ألف فحملها في الغرائر(3) وخرج إلى مكة بحماية خاله الضحاك بن عبد الله الهلالي الذي كان على شرطة البصرة وباقي أخواله من بني هلال وبمساعدة بني هوازن وبني سليم وغيرهم فخرج بها إلى مكة، وقد لحقتهم أخماس البصرة من قبائل (الأزد و بکر بن وائل وتميم وغيرهم) لاستخلاص الأموال منهم، ولما رأت بکر بن وائل والأزد قبائل قيس مع ابن عباس تراجعت عن قتاله احتراماً لهم، ولكن قبيلة تميم رفضت رأي الأحنف بن قيس بترك قتالهم، فناوشهم وسقط بعض الجرحى بينهم، فرجع الأزد و بکر بن وائل وقالوا لبني تميم: والله لنحن أسخي أنفسا منکم، ترکنا لبني عمكم شيئا أنتم تقاتلونهم عليه، فخلَّوا عن القوم وعن ابن أختهم فأرجعوهم(4). وكان عبد الله بن العباس قد سرق هذه الأموال

ص: 153


1- ینظر نهج البلاغة، 369-370؛ 375-377؛ 412 -445؛ 450 -451؛ 461-462
2- ابن قتيبة: الأخبار الطوال، 187؛ الطبري: تاریخ، 2/ 499
3- وعاء يستخدم لحمل التبن وغيره. الجوهري: الصحاح، 2/ 769
4- البلاذري: أنساب الأشراف، 169/2 - 173؛ الطبري: تاریخ، 4/ 108-109؛ ابن عبد ربه: العقد الفرید، 5/ 102-107؛ النويري: نهاية الإرب، 203/20 - 205

بحجة قرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1) تأويلًا لقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...»(2).

إن التمعن في كلمات الإمام (عليه السلام) تحيل إلى مدى الألم، والشعور بالخيبة وفقدان الأمل بالإصلاح، بمعنى إنه كان موجعاً لا لفقد المال وإنما لأن الخيانة جاءت ممن كان يعتمد عليه في تحقيق مشروعه ويثق به إلى حدٍ بعيد، ولنا أن نرى جرح الإمام (عليه السلام) العميق لهذه الخيانة في اللغة المستخدمة ونوعية العبارات (أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي؛ لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَيَّ. فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وَأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ، وَهَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ فَتَكَتْ وَشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ، فَلاَ ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ، وَلاَ الأَمَانَةَ أَدَّيْتَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وَكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ، فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ، رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ..، أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا

ص: 154


1- ابن عبد ربه: العقد الفرید، 102/5
2- الأنفال / 41

مِنْ أُولِي الأَلْبَابِ كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الإِمَاءَ وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلاَدَ، فَاتَّقِ اللهَ وَارْدُدْ إِلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ لأُعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ، وَلأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلا دَخَلَ النَّارَ. وَوَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا..)(1).

وإذا ما قارنا هذا الكتاب الذي وجهه الإمام (عليه السلام) لعبد الله بن العباس بالكتاب الذي وجهه لعامله مصقلة بن هبيرة الشيباني على أردشير خرة في بلاد فارس، بان لنا الفرق بين الخطابين والألم بين الموضعين على اتفاق الجرم، إذ كان الأخير قد تصرف بأموال ولايته أيضاً (بَلَغَنِی عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ کُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ، وَ عَصَیْتَ إِمَامَكَ، أَنَّكَ تَقْسِمُ فَیْءَ الْمُسْلِمِینَ الَّذِی حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُیُولُهُمْ وَ أُرِیقَتْ عَلَیْهِ دِمَاؤُهُمْ فِیمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ، فَوَ الَّذِی فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَئِنْ کَانَ ذَلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَیَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِی مِیزَاناً، فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ، وَ لَا تُصْلِحْ دُنْیَاكَ بِمَحْقِ دِینِكَ فَتَکُونَ مِنَ الْأَخْسَرِینَ أَعْمَالاً، أَلَا وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَ قِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِینَ فِی قِسْمَهِ هَذَا الْفَیْ ءِ سَوَاءٌ..)(2).

ص: 155


1- نهج البلاغة، 412 - 414
2- نهج البلاغة، 415

والأشد ألماً في هذا الأمر إن عبد الله بن العباس لا يعتذر عن خيانته بل يدعي إن تلك الأموال حق له دون غيره!، بل ويتهم الإمام (عليه السلام) بأنه ارتكب جرماً أكبر من السرقة، وهو إنه سفك دماء المسلمين!. فقد ورد إنه أجاب الإمام (عليه السلام) عن هذا الكتاب بالقول: (أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظم على ما أصبت من بيت مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال أكثر مما أخذت، والسلام)(1). فكتب إليه الإمام (عليه السلام) يتعجب من تبجحه بهذه الدعوى، ويبين له إن حقه لا يعدو حق غيره من المسلمين في ذلك المال(2)، فأجابه ابن عباس بأن سرقته لذلك المال أهون عند الله من دماء المسلمين التي سفكها لأجل الخلافة، (أما بعد فقد فهمت تعظیمك علي مرزأة ما بلغك أني رزأته، ووالله لأن ألقي الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها، وبطلاع ما على ظهرها، أحبّ إليّ من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة، فابعث إلى عملك من أحببت)(3). فرد عليه الإمام (عليه السلام) بأنه كان ممن شارك في سفك تلك الدماء إن كانت محرمة، فتمادی ابن عباس في عناده وغيه، ويبدو إنه کشف أخيراً عن حقيقة مكنون صدره، إذ كتب للإمام (عليه السلام) مهدداً: (والله لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملنه إلى معاوية يقاتلك به)(4).

ص: 156


1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16/ 170
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16/ 170
3- البلاذري: أنساب الأشراف، 2/ 170 - 171؛ ابن اعثم، الفتوح، 4/ 241 - 242؛ ابن عبد ربه: العقد الفريد، 5/ 103 - 108؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 / 170
4- ابن عبد ربه: العقد الفرید، 5/ 104

وهنا نصل إلى أصل العقدة، فحجج ابن عباس التي حاجج بها الإمام (عليه السلام) تتطابق تماماً مع حجج اسلام الاجتماع السياسي القرشي، فهو من صادر خصوصية الإمام (عليه السلام) و امتیازه عمن سواه، وهو - معاوية وحزبه - من اتهموه بسفك دماء المسلمين!، بل لعل ابن عباس لا يخجل من التصريح بأن تقاربه من معاوية ومنهجه يرجح على اقتناعه وتمثله لمشرع الاستئناف!، بل يصرح بأنه محض أساطير. وهذه هي الطامة الكبرى و خيبة الأمل الموجعة والخيانة التي تنفذ إلى صميم منهج ومشروع الإمام (عليه السلام) بِعَّد ابن عباس ابن عمه وتلميذه وقد صاحبه على امتداد مسار المواجهة مع الإسلام المتغاير وقد حاول البعض دفع هذه الخيانة عن ابن عباس واتهام المؤرخين بأنهم قد ضخموا القصة بفعل القصاص وما يضيفونه من زيادات على أحداث التأريخ(1).

ولكن هذا لا ينفي أصل الخيانة والسرقة، ولعل شدة وقعها على أمير المؤمنين (عليه السلام) واضح جداً في ثنايا كتابه الذي وجهه لابن عباس، فضلاً عن إن المقابلة بين عبارة الإمام (عليه السلام) (تَبتَاعُ الإِمَاءَ وتَنکِحُ النِسَاءَ) وما ورد في النقل التأريخي من إنه اشترى ببعض ذلك المال ثلاث جواري حجازيات (شادن وحوراء وفتون) من عطاء بن جبير بقيمة ثلاثة آلاف دينار(2). لا يحيل إلى صنعة القصاص وتضخيمهم بقدر ما يحيل إلى دقة الرصد، بحيث عين أسماء الجواري واسم مالكهن (البائع) و قيمة الشراء، فضلاً عن تمییز کونهن مولدات حجازيات حصراً. كما إن أحد رواة هذا الحدث هو

ص: 157


1- ينظر جعفر مرتضى العاملي : ابن عباس و أموال البصرة
2- ابن عبد ربه: العقد الفرید، 5/ 105

أحد الشهود المعاصرين له والمشاركين فيه وهو أبو الكنود الأزدي - سابق الذكر - الذي كان أحد أعوان عبد الله بن العباس في البصرة، فلما فعل ما فعل جاء إلى الإمام علي (عليه السلام) فأخبره بما جری(1) فتلى الإمام (عليه السلام) قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ»(2). ولعل في إشارة الإمام لهذه الآية دون غيرها - مع الانتباه للآيات التالية المرتبطة بها - لتصريح لا يقبل الشك بأن ما وقع من ابن عباس يتجاوز سرقة تلك الأموال!. ثم إن متابعة أحوال عبد الله بن العباس فيما بعد تشير إلى إنه خان الإمام الحسن (عليه السلام) وأيضاً عبثاً حاول المؤرخون والباحثون دفع هذه الخيانة عنه(3)، ولعل مما يدل على انحيازه لمعاوية ودنياه سلفاً إننا سنراه بعد الصلح مباشرة بين مستشاري معاوية في الشام(4).

لقد كان مشروع الاستئناف صارماً وحازماً، لشدة الانحراف الواقع، وهو بذلك يتطلب نفوساً كبيرة وقوية تتمثل خطى الإمام (عليه السلام) وتستلهم سلوكه، وهم قلة قليلة ونادرة الوجود، ولذلك آلمه بشدة وقسوة فقده لمالك الأشتر (رحم الله مالکا، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله)(5)،

ص: 158


1- ابن عبد ربه: العقد الفرید، 106
2- الأعراف/ 175
3- ينظر. الكعبي: صورة أصحاب الكساء، 662 - 671
4- ينظر. الطبري: تاريخ (الطبعة القديمة)، 4 / 127؛ فلهاوزن: تاريخ الدولة العربية، 106. وقد حرفت في الطبعة التي حققها محمد أبو الفضل ابراهيم إلى عبيد الله . ينظر، ج 5/ 167
5- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 15/ 98

(مَالكٌ وَمَا مَالِكٌ! وَاللهِ لَوْ كَانَ جَبَلاً لَكَانَ فِنْداً - أی المنفرد من الجبال - وَلَوْ کَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً، لاَيَرْتَقِيهِ الْحَافِرُ وَلاَ يُوفِ عَلَيْهِ الطَّائِر)(1). فضلًا عن ذلك فقد كان مشروعه بمنتهى الدقة والمتابعة والواقعية إذ كان ينبع من روحه المشبعة بالإخلاص للإسلام والإيمان وتنضح بالإنسانية التي افتقدت في وقت سابق، وهذا ما نستشفه في وصاياه لولاته وعاله وتشديده عليهم بمراعاة هذا المنحى (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ، یفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَیؤْتَی عَلَی أَیدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یعْطِیكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَآلِی الْأَمْرِ عَلَیكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ)(2).

وهنا لا يكتف الإمام (عليه السلام) بأن يوصي واليه بالرحمة بالناس والتواضع لهم على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم، وإنه و إياهم متساوون بحسب الدين أو الحلقة الإنسانية، إنما يشدد عليه بأنه كوالي لا يفضلهم حتى بالسلطة، فهو مسلط عليه بل إنه كخليفة لا يفضله ولا يفضلهم بحسب هذا المعيار فالله مسلط عليهم جميعاً. وهنا يبلغ النبل الإنساني غايته ومداه ومنتهاه. على إنه في هذه الكلمات لم يكن يصدر عن مجرد ترف فكري أو بوح بمكنونات نفسية وتعاطف شعوري مع ال، إنما هو فقراء أو المحرومين

ص: 159


1- نهج البلاغة، 554
2- نهج البلاغة، 27 - 428

أو سواهم، إنما هو يصدر عن طبيعة سلوكية قارة في نفسه جُبلت عليها شخصيته ومنهجه في الحياة، وحقيقة فكره ونفسه وروحه التي استحوذ عليها البعد الإنساني حتى تغلغل في كل ذرة من ذراتها، وصاغ ذلك الضمير العملاق وتلك الكينونة الفريدة التي عكست معنى العظمة الإنسانية عبر التاريخ، ومن ثمّ فهي ممارسة عملية دائمة تفرد بها عن غيره من عظماء الفكر الإنساني وحكام الشعوب فكان من القلائل الذين شفعوا النظرية بالعمل عبر مسار الإنسانية الطويل، بدلالة ما وصفه به ضرار بن ضمرة النهشلي: (كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، و يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نکلمه هيباله، يعظَّم أهل الدّين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القوّي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله..)(1).

أراد الإمام (عليه السلام) لخاصته وولاته أن يقتدوا بفعاله ويتأسوا بسلوكه وشخصيته، ليكون هو وحكومته أول من يطبق

برنامج الإصلاح ومشروع الاستئناف، ولذلك نجده يسارع بالكتابة لواليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري بعد أن بلغه أنه استجاب لدعوة طعام من أحد أشرافها (أَمّا بَعدُ يَا ابنَ حُنَيفٍ، فَقَد بلَغَنَيِ أَنّ رَجُلًا

ص: 160


1- ابن عبد البر، الاستیعاب، 3 / 1107 - 1108؛ ابن عساکر: تاريخ مدينة دمشق، 24 / 402

مِن فِتيَةِ أَهلِ البَصرَةِ دَعَاكَ إِلَي مَأدُبَةٍ فَأَسرَعتَ إِلَيهَا، تُستَطَابُ لَكَ الأَلوَانُ وَ تُنقَلُ إِلَيكَ الجِفَانُ، وَ مَا ظَنَنتُ أَنّكَ تُجِيبُ إِلَي طَعَامِ قَومٍ عَائِلُهُم مَجفُوّ وَ غَنِيّهُم مَدعُوّ، فَانظُر إِلَي مَا تَقضَمُهُ مِن هَذَا المَقضَمِ، فَمَا اشتَبَهَ عَلَيكَ عِلمُهُ فَالفِظهُ، وَ مَا أَيقَنتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَل مِنهُ، أَلَا وَ إِنّ لِكُلّ مَأمُومٍ إِمَاماً يقَتدَيِ بِهِ وَ يسَتضَيِءُ بِنُورِ عِلمِهِ، أَلَا وَ إِنّ إِمَامَكُم قَدِ اكتَفَي مِن دُنيَاهُ بِطِمرَيهِ، وَ مِن طُعمِهِ بِقُرصَيهِ، أَلَا وَ إِنّكُم لَا تَقدِرُونَ عَلَي ذَلِكَ وَ لَكِن أعَيِنوُنيِ بِوَرَعٍ وَ اجتِهَادٍ وَ عِفّةٍ وَ سَدَادٍ، فَوَاللّهِ مَا كَنَزتُ مِن دُنيَاكُم تِبراً، وَ لَا ادّخَرتُ مِن غَنَائِمِهَا وَفراً، وَ لَا أَعدَدتُ لبِاَليِ ثوَبيِ طِمراً، وَ لَا حُزتُ مِن أَرضِهَا شِبراً...، وَ إِنّمَا هيِ َ نفَسيِ أَرُوضُهَا بِالتّقوَي لتِأَتيَ آمِنَةً يَومَ الخَوفِ الأَكبَرِ، وَ تَثبُتَ عَلَي جَوَانِبِ المَزلَقِ، وَ لَو شِئتُ لَاهتَدَيتُ الطّرِيقَ إِلَي مُصَفّي هَذَا العَسَلِ، وَ لُبَابِ هَذَا القَمحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا القَزّ، وَ لَكِن هَيهَاتَ أَن يغَلبِنَيِ هوَاَي، وَ يقَوُدنَيِ جشَعَيِ إِلَي تَخَيّرِ الأَطعِمَةِ وَ لَعَلّ بِالحِجَازِ أَو اليَمَامَةِ مَن لَا طَمَعَ لَهُ فِي القُرصِ وَ لَا عَهدَ لَهُ بِالشّبَعِ، أَو أَبِيتَ مِبطَاناً وَ حوَليِ بُطُونٌ غَرثَي وَ أَكبَادٌ حَرّي...، أَأَقنَعُ مِن نفَسيِ بِأَن يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ المُؤمِنِينَ وَ لَا أُشَارِكُهُم فِي مَكَارِهِ الدّهرِ، أَو أَكُونَ أُسوَةً لَهُم فِي جُشُوبَةِ العَيشِ..)(1).

ولعل المقابلة البسيطة بين هذا الكتاب وبين ما كان عليه واقع الخلافة والمسلمين في العقود الثلاثة السابقة يفصح عن مدى البون الشاسع بين الإسلامين وعن مدى دقة وصرامة مشروع الاستئناف وصعوبته على القاعدة الجماهيرية المستفيدة من السياسات السابقة والإسلام السابق. فالمقارنة بين

ص: 161


1- نهج البلاغة، 416 - 420

الأرقام المهولة للأموال والثروات التي تمتعت بها الطبقة الحاكمة والمقربين منها في السابق مقابل الفقر المدقع الذي عاشت به الطبقات الفقيرة، وبين ما ينشده الإمام (عليه السلام) تفصح عن كارثة كبرى على كافة المستويات فقد كانت أموال عثمان النقدية فقط، عند موته (0.00.150 دینار ومليون درهم) وأما أملاكه غير المنقولة فكانت تساوي (000.100 دینار) فضلاً عن الجمال والجياد وغيرها، وفضلاً عما فقد من الأموال أثناء مقتله وهي (35 مليون ونصف مليون درهم)، وفضلاً عن البيت الذي بناه بالحجر والخشب الثمين جداً!. وكان طلحة والزبير من أكثر الصحابة ثراء وأموالاً، فقد ترك الأول عند موته (0.0.200.2 درهم، و 00.600 . ألف دينار ذهب) وقد قدرت ثروته بقيمة ثلاثين مليون درهم. وكان يجني يومياً من ضيعة له في العراق (1000 درهم) وسنوياً بين (000.000.000.400 ألف درهم)، وكان يرسل لعائشة سنوياً (00.10 . درهم) مضافاً للدور الفاخرة التي كان يملكها. أما عبد الرحمن بن عوف فقد ترك بعد وفاته (1000 جمل، 3000 رأس غنم، 100 حصان) وأراض بمساحات شاسعة، ومن الذهب ما یکسر بالفؤوس، وباع أرضاً له بقيمة (000.40 ألف دينار ) وأخرى بذات المبلغ. وكان الزبير أغنى الجميع فقد كانت ثروته تتراوح بين (35- 65 مليون دینار) و كان يملك دوراً متعددة (11 دار في الدينة، 2 في البصرة، 1 في الكوفة، 1 في مصر) و حدائق في ضواحي المدينة، وأراضي زراعية كثيرة، وعقارات في الكوفة والفسطاط والاسكندرية، فهي ثروات موزعة في كل مكان تقريباً. وخلف زید بن ثابت بعد موته من الذهب ما یکسر بالفؤوس، فضلاً عن الأموال والضياع وغيرها. و هكذا هي أحوال باقي الصحابة والمقربين من

ص: 162

السلطة، أما بنو أمية فكانت ثرواتهم تفوق الحدود، فقد اعطى عثمان لابن عمه مروان بن الحكم خمس أموال أفريقية (0.0.200.000.100 دینار) واعطى عمه الحكم (000.300 درهم) وأعطى أموالاً ضخمة لغيرهم من بني أمية والمقربين منه(1).

وكانت سياسة التفضيل بالعطاء التي اتبعها عمر بن الخطاب قد أنتجت تكديس الأموال والثروات عند فئة من الناس و حرمان الآخرين مما يسد الرمق، فكانت آثارها وخيمة جداً على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتشريعية، فقد خلقت مجتمعاً طبقياً، يمزقه التفاوت الواسع في تحصيل العطاء والأرزاق، فبينما كان بعض الصحابة يخلف من الذهب والفضة ما یکسر بالفؤوس، ومن الأموال والضياع والبساتين ما يفوق واردات قبيلة كاملة وفي اسطبلاته ومراعيه آلاف من الخيول والأغنام والجمال، كان هناك من لا يجد ما يسد به رمقه وما يشبع به جوع أطفاله، وقد اعترف الخليفة نفسه بفساد هذه السياسة، وتندم أيما ندم على انتهاجها فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء(2).

وفي الوقت الذي كان رجالات السلطة في العهد السابق - سيما القريشيون منهم - يتبجحون بأن مناطق الفتوح ليست سوى إقطاعيات قرشية (السواد

ص: 163


1- جعيط: الفتنة، 62 - 64
2- الطبري: تاریخ، 3 / 291؛ ابن حزم: المحلى، 6 / 158

بستان لقريش)(1)، نجد الإمام (عليه السلام) يحاول جاهداً عکس هذا المفهوم تماماً، عبر تغيير التعامل مع سكان المناطق المفتوحة كما في عهده لمالك الأشتر، ووصاياه و تعليماته لولاته وعمال الخراج و غيرهم، ومنها قوله: (مِن عَبدِ اللّهِ عَلِيّ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ إِلَي أَصحَابِ الخَرَاجِ، أَمّا بَعدُ..، فَأَنصِفُوا النّاسَ مِن أَنفُسِكُم وَ اصبِرُوا لِحَوَائِجِهِم، فَإِنّكُم خُزّانُ الرّعِيّةِ، وَ وُكَلَاءُ الأُمّةِ وَ سُفَرَاءُ الأَئِمّةِ، وَ لَا تُحشِمُوا أَحَداً عَن حَاجَتِهِ وَ لَا تَحبِسُوهُ عَن طَلِبَتِهِ، وَ لَا تَبِيعُنّ لِلنّاسِ فِي الخَرَاجِ كِسوَةَ شِتَاءٍ وَ لَا صَيفٍ، وَ لَا دَابّةً يَعتَمِلُونَ عَلَيهَا وَ لَا عَبداً، وَ لَا تَضرِبُنّ أَحَداً سَوطاً لِمَكَانِ دِرهَمٍ، وَ لَا تَمَسّنّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النّاسِ مُصَلّ وَ لَا مُعَاهَدٍ، إِلّا أَن تَجِدُوا فَرَساً أَو سِلَاحاً يُعدَي بِهِ عَلَي أَهلِ الإِسلَامِ، فَإِنّهُ لَا ينَبغَيِ لِلمُسلِمِ أَن يَدَعَ ذَلِكَ فِي أيَديِ أَعدَاءِ الإِسلَامِ فَيَكُونَ شَوكَةً عَلَيهِ، وَ لَا تَدّخِرُوا أَنفُسَكُم نَصِيحَةً وَ لَا الجُندَ حُسنَ سِيرَةٍ وَ لَا الرّعِيّةَ مَعُونَةً)(2).

ولنا أن ندرك بعد هذه المقاربة البسيطة والوجيزة حقيقة ما كان ينشده الإمام (عليه السلام) من إصلاح مسيرة الإسلام كنظام شامل لجميع نواحي حياة الفرد والمجتمع، وبذات الوقت صعوبة مشروع الاستئناف هذا ومدی المعوقات التي وقفت في طريقه والتي لم يجد الإمام (عليه السلام) حيالها بداً من أن يبث هذا المشروع في خطبه وكتبه ووصاياه وقبلها بسلوكه وعمله. وكيف إنه لم يكن يمثل مشروع إدارة للسلطة والسياسة بقدر ما كان ينشد ويمثل مشروعاً استئنافياً للإسلام يجعل كل فرد في الإمة مسؤولاً عن تحقيقه بقدر ما يستطيع. فضلاً عن ذلك فهو لم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بما

ص: 164


1- ينظر. البلاذري: أنساب الأشراف، 5 / 433؛ الطبري: تاریخ، 3 / 365
2- نهج البلاغة، 425

يستطيع اصلاحه أو كان يستهدفه بمشروعه الاستئنافي إلا وأشار إليه، ففضلاً عن اسهابه في تبيان أحكام الشريعة وحقيقة الدين وباقي مناحي الثقافة الإسلامية، فهو لم ينس أن يحدد لعماله حتى أوقات الصلاة وطبيعة ادائها، إذ بعث بكتاب إلى أمراء البلاد في الصلاة قال فيه: (أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ اَلظُّهْرَ حَتَّی تَفِیءَ اَلشَّمْسُ مِنْ مَرْبِضِ اَلْعَنْزِ وَ صَلُّوا بِهِمُ اَلْعَصْرَ وَ اَلشَّمْسُ بَیْضَاءُ حَیَّهٌ فِی عُضْوٍ مِنَ اَلنَّهَارِ حِینَ یُسَارُ فِیهَا فَرْسَخَانِ وَ صَلُّوا بِهِمُ اَلْمَغْرِبَ حِینَ یُفْطِرُ اَلصَّائِمُ وَ یَدْفَعُ اَلْحَاجُّ إِلَی مِنًی وَ صَلُّوا بِهِمُ اَلْعِشَاءَ حِینَ یَتَوَارَی اَلشَّفَقُ إِلَی ثُلُثِ اَللَّیْلِ، وَ صَلُّوا بِهِمُ اَلْغَدَاةَ وَ اَلرَّجُلُ یَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ، وَ صَلُّوا بِهِمْ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ وَ لاَ تَکُونُوا فَتَّانِینَ)(1).

على إنه بالجانب الآخر بين أسفه على المتعذر التحقق من مشروع الاستئناف فقال في نص مطول: (قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله متعمدين لخلافه ناقضين لعهده مغيرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي..، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة، ورددت صاع رسول کما کان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قضي بها، ونزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأرحام، وسبيت

ص: 165


1- نهج البلاغة، 426

ذراري بني تغلب، ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطایا، وأعطيت کما کان رسول الله يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وألقيت المساحة، وسويت بين المناكح، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه، ورددت مسجد رسول الله إلى ما كان عليه، وسددت مافتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه، وحرمت المسح على الخفين، وحددت على النبيذ وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، و أخرجت ر من أدخل مع رسول الله في مسجده من كان رسول الله أخرجه، وأدخلت من أُخرج بعد رسول الله ممن كان رسول الله أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه إذا لتفرقوا عني..)(1).

ص: 166


1- الكليني: الكافي، 59 - 63

قائمة المصادر والمراجع:

المصادر الأولية:

- ابن الأثير: أبو الحسن علي بن أبي الكرم بن محمد بن عبد الكريم بن الشيباني (630 ه / 1232 م).

1/ الكامل في التاريخ، (دار صادر - دار بيروت، بیروت - لبنان 1385 ه / 1965 م).

2/ أسد الغابة في معرفة الصحابة (المطبعة الوهبية: مصر - القاهرة 1280 ه / 1863 م).

- ابن الأثير: أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري. ت (606 ه / 1209 م).

3/ النهاية في غريب الحديث والأثر. تحقيق: طاهر أحمد الزاوي و محمود محمد الطناحي (ط 4، مؤسسة اسماعیلیان: قم - إيران 1383 ه / 1963م).

- أحمد بن حنبل: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (241 ه/ 855 م).

4/ المسند (ط 1، المطبعة الميمنية: القاهر - مصر، 1313 ه/ 1895 م).

- ابن أعثم: أبو محمد أحمد بن اعثم الكوفي، ت (314 ه/ 926 م).

5/ کتاب الفتوح، تحقيق: على شيري (ط 1، دار الأضواء، بیروت - لبنان، 1411 ه/ 1991 م).

- البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (256 ه/ 869 م).

6/ صحيح البخاري، (دار الفکر، بیروت - لبنان، 1401 ه/ 1981 م).

- البرقي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن خالد (ت 274 ه/ 887 م).

7/ المحاسن. تصحیح و تعليق: جلال الدين الحسيني (ط 1، دار الكتب الإسلامية: طهران - إيران 1370 ه/ 1950 م).

- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر (279 ه/ 892 م).

8/ أنساب الأشراف، تحقیق وتعلیق: محمد باقر المحمودي (ط 1، مؤسسة الأعلمي: بيروت - لبنان 1394 ه/ 1974 م).

ص: 167

9/ جمل من أنساب الأشراف. تحقيق: سهیل زکار و ریاض زركلي (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان، 1417 ه/ 1996 م).

10/ فتوح البلدان. تحقيق: صلاح الدين المنجد (ط 1، مكتبة النهضة المصرية: القاهرة - مصر 1376 - 1956 م).

- البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين. ت (458 ه/ 1065م).

11/ السنن الكبرى. (طبعة دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن الهند / 1344 ه/ 1925 م.).

- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر. ت (255 ه/ 868 م).

12/ البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون(ط 7، مكتبة الخانجي: القاهرة - مصر 1418 ه/ 1998 م).

13/ العثمانية. تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون (ط 1، دار الكتاب العربي: القاهرة - مصر 1374 ه/ 1955 م).

- الجصاص: أبي بكر أحمد بن علي الرازي. ت (370 ه/ 980 م).

14/ أحكام القرآن. ضبط وتخریج: عبد السلام محمد علي (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1415 ه/ 1994 م).

- أبو جعفر الإسكافي: محمد بن عبد الله المعتزلي. ت (240 ه/ 835 م).

15/ المعيار والموازنة. تح: محمد باقر المحمودي (ط 1، إيران 1402 ه/ 1981 م).

- ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي القرشي (597 ه/ 1200 م).

16/ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. تحقيق: محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا(ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان، 1412 ه/ 1992 م).

17/ کتاب المجروحين. تح: محمود إبراهيم زاید(د.ت، د. م. ط).

18/ الموضوعات. تح: عبد الرحمن محمد عثمان (ط 1، المكتبة السلفية: المدينة المنورة - السعودية 386 ه/ 1966 م).

19/ نواسخ القرآن. (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان د ت).

ص: 168

- الجوهري: أبو بكر أحمد بن عبد العزيز - ت (323 ه/ 934 م).

20/ السقيفة وفدك. تقديم وجمع وتحقيق: محمد هادي الأميني (ط 2، شركة الكتبي: بيروت - لبنان 1413 ه/ 1993 م).

- الجوهري، إسماعيل بن حماد (393 ه/ 104 م).

21/ الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار (ط 1، القاهرة - مصر، 1376 ه/ 1956 م)

- ابن أبي حاتم الرازي: أبو محمد محمد بن إدریس. ت (327 ه/ 938 م).

22/ الجرح والتعديل (ط 1، دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1371 ه/ 1951 م).

- حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله . ت (1067 ه/ 1656 م).

23/ کشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. (طبعة دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان د. ت).

- الحاكم النيسابوري: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد، (405 ه/ 1014 م).

24/ المستدرك على الصحيحين، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي (دار المعرفة، بيروت - لبنان، د. ت)

- ابن حبان: علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (354 ه/ 965 م).

25/ صحيح ابن حبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط (ط 2، مؤسسة الرسالة، بیروت - لبنان، 1414 ه/ 1993 م).

- ابن حبيب: أبو جعفر محمد. ت(245 ه/ 859 م).

26/ کتاب المحبر (ط 1، دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن - الهند 1361 ه/ 1942 م).

- ابن حجر: شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 ه / 1448 م)

27/ الإصابة في تميز الصحابة. دراسة وتحقيق وتعليق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمد معوض (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1415 ه/ 1995 م).

28/ تهذيب التهذيب. تقديم: خليل الميس (ط 1، دار الفكر: بیروت - لبنان 1404 ه / 1984 م).

ص: 169

29/ فتح الباري في شرح صحيح البخاري. تحقيق محب الدين الخطيب (ط 1، دار الكتب السلفية، د. ت)

- ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله محمد. ت (656 ه/ 1258 م).

30/ شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهیم(ط 1، دار احیاء الكتب العربية: القاهرة - مصر 1378 ه/ 1959م).

- ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد. ت (456 ه/ 1063 م).

31/ المحلى. (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان د.ت)

32/ الأحكام. (ط 2، مطبعة العاصمة: القاهرة - مصر. د. ت)

- ابن خلکان، أبو العباس أحمد بن محمد بن ابراهيم، (681 ه/ 1282 م).

33/ وفيات الأعيان وانباء ابناء الزمان، تحقيق: احسان عباس (دار الثقافة، بیروت لبنان، د. ت).

- خليفة بن خياط: أبو عمرو شبيب العصفري. ت(240 ه / 854 م).

34/ التاريخ. تحقيق وتقديم: سهیل زکار (ط 1، دار الفكر: بیروت - لبنان 1414 ه/ 1993 م).

- الخوارزمي: الموفق بن أحمد بن محمد المكي. ت (568 ه/ 1172 م).

35/ المناقب. تح: مالك الحمودي (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم- إيران 1411 ه/ 1990 م).

- الدارقطني: أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد. ت (385 ه/ 995 م).

36/ سنن الدارقطني. تعلیق و تخریج: مجدي منصور سید الشوری (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1417 ه/ 1996 م).

- الدارمي: أبو محمد عبد الله بن الرحمن بن الفضل بن بهرام. ت (255 ه/ 828 م).

37/ السنن (ط 1، مطبعة الحديثة: دمشق - سوريا 1349 ه/ 1930 م).

- أبو داود السجستاني: سليمان بن الأشعث. ت (275 ه/ 888 م).

ص: 170

38/ سنن أبي داود. تحقیق وتعليق: سعيد محمد اللحام (ط 1، دار الفكر: بیروت - لبنان 1410 ه/ 1990 م).

- الدينوري: أبو حنيفة أحمد بن داوود الدينوري (282 ه/ 895 م).

39/ الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر (ط 1، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر، 1960 م).

- الذهبي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان، (748 ه/ 1347 م).

40/ تاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، (ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 1407 ه/ 1987 م).

41/ سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرنؤوط (ط 9، مؤسسة الرسالة، بیروت لبنان، 1413 ه/ 1993 م).

42/ میزان الاعتدال. تح: علي محمد البجاوي (ط 1، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1382 ه/ 1963 م).

- ابن سعد: محمد بن سعد بن منيع الزهري. ت (230 ه/ 844 م).

43/ کتاب الطبقات الكبير (ط 1، دار صادر: بيروت - لبنان د. ت).

- السهيلي: أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد (ت 581 ه/ 1185 م).

44/ الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام. تقديم وتعليق وضبط: طه عبد الرؤوف (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1409 ه/ 1989 م).

- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911 ه/ 1505 م).

45/ الدر المنثور في التفسير بالمأثور. (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان. د ت).

46/ تنویر الحوالك في شرح موطأ مالك. ضبط وتصحيح: محمد عبد العزيز الخالدي (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان د ت).

47/ الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير. (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1401 ه/ 1981 م).

- ابن شبة النميري: أبو زيد عمر. ت (262 ه/ 875 م).

ص: 171

48/ تاريخ المدينة المنورة. تح: فهيم محمد شلتوت (ط 1، دار الفكر: قم- إيران 1410 ه/ 1989 م).

- الشريف الرضي: أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي البغدادي. ت (406 ه/ 1015 م)

49/ نهج البلاغة - خطب الإمام علي. تحقيق: صبحي الصالح (ط 1، بيروت - لبنان 1387 ه/ 1967 م).

- الشهرستاني: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر. ت (548 ه/ 1153 م).

50/ الملل والنحل. تح: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور (ط 3، دار المعرفة: بيروت - لبنان 1414 ه/ 1993 م).

- ابن أبي شيبة: أبو بكر عبد الله (235 ه/ 849 م).

51/ المصنف في الاحاديث والاخبار. ضبط و تعليق: سعيد اللحام (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1409 ه/ 1989 م).

- الصالحي الشامي، محمد بن يوسف (942 ه/ 1535 م).

52/ سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد. تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان، 1414 ه/ 1993 م).

- الصدوق: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه / 894 م).

53/ الأمالي. تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة (ط 1، قم المقدسة - ایران، 1417 ه/ 2007 م).

- الطبراني: أبي القاسم سلیمان بن أحمد الطبراني (360 ه/ 970 م).

54/ المعجم الكبير. تحقيق: حمدي عبد المجيد(ط 2، دار احیاء التراث، بیروت - لبنان، 1397 ه/ 1976 م).

- الطبري، أبو جعفر محمد بن جریر (310 ه/ 922 م).

55/ تاریخ الرسل والملوك والأمم(ط 4، مؤسسة الأعلمي: بيروت - لبنان، 1403 ه/ 1993 م). و (ط 2، دار المعارف: مصر - القاهرة 1387 ه/ 1976 م). وهي

ص: 172

بتحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم.

56/ جامع البيان عن تأویل آي القرآن، تقديم: خليل الميس، ضبط وتخریج: صدقي جمیل العطار (دار الفكر: بيروت - لبنان 1415 ه/ 1995 م).

- ابن طيفور: أبو الفضل بن أبي طاهر . ت (380 ه / 990 م).

57/ بلاغات النساء. (ط 1، مکتبة بصيرتي: قم - إيران 1361 ه/ 1942 م).

- الكليني: أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق (ت 329 ه/ 950 م).

58/ الكافي. تصحیح و تعليق: علي أكبر غفاري (ط 3، دار الكتب الاسلامية: طهران - ایران، 1388 ه/ 1946م).

- ابن عبد البر: أبو عمر يوسف أحمد بن عبد الله أحمد النمري (463 ه/ 1070 م).

59/ التمهيد. تحقيق: مصطفى أحمد ومحمد عبد الكبير (ط 1، المغرب، 1387 ه/ 1977 م).

60/ الاستذكار. تح: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1421 ه/ 2000 م).

61/ الاستيعاب في معرفة الأصحاب. تح: علي محمد البجاوي (ط 1، دار الجيل: بيروت - لبنان 1412 ه/ 1991 م).

62/ جامع بیان العلم وفضله. (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1398 ه/ 1978 م).

- ابن عبد ربه الأندلسي: أحمد بن محمد. ت (328 ه/ 939 م).

63/ العقد الفريد. تح: مفيد محمد قميحة (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1404 ه/ 1983 م).

- عبد الرزاق الصنعاني، أبو بكر عبد الرزاق بن همام (211 ه/ 826 م).

64/ المصنف. تحقيق: حبیب الرحمن الأعظمي، (ط 1، المجلس العلمي، بيروت - لبنان 1392 ه/ 1972 م).

- ابن العديم: كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جرادة، ت (660 ه/ 1262 م).

ص: 173

65/ بغية الطلب في تاريخ حلب. تحقيق: سهیل زکار (مؤسسة البلاغ: بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

- ابن عساكر: أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي (571 ه/ 1175 م).

66/ تاريخ مدينة دمشق. تحقيق: علي شيري (ط 2، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1415 ه/ 1995 م).

- العقيلي: أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسی بن حماد. ت (322 ه/ 933 م).

67/ کتاب الضعفاء. تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي (ط 2، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1418 ه/ 1998 م).

- العيني: أبو محمد محمود بن أحمد. ت (855 ه/ 1451 م).

68/ عمدة القاري في شرح صحيح البخاري. (دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان د. ت).

- ابو الفرج الأصفهاني: علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم (356 ه/ 966 م).

69/ مقاتل الطالبيين. (ط 2، مؤسسة دار الكتاب: قم - إيران، 1385 ه/ 1965 م).

- الفخر الرازي: أبو عبد الله فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين. ت (606 ه/ 1210 م).

70/ مفاتح الغيب. تح: أسعد محمد الطيب (المكتبة العصرية: صيدا - لبنان د. ت).

- أبو الفدا: عماد الدين إسماعيل بن علي صاحب حماة. ت (732 ه/ 1331 م).

71/ المختصر في أخبار البشر: تاريخ أبي الفداء (ط 1، المطبعة الحسينية المصرية: مصر 1325 ه/ 1907 م).

- القاضي عياض: أبو الفضل عياض بن موسی بن عیاض اليحصبي (ت 544 ه/ 1149 م).

72/ الشفا بتعريف حقوق المصطفی (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1409 ه/ 1988 م).

- ابن قتيبة : أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (276 ه/ 889 م).

ص: 174

73/ الإمامة والسياسة، تحقيق: طه محمد الزيني، (مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، 1387 ه/ 1967 م).

74/ المعارف. حققه وقدم له: ثروت عكاشة (ط 4، دار المعارف: القاهرة - مصر 1388 ه/ 1969 م).

- القندوزي: سليمان بن إبراهيم الحنفي. ت (1294 ه/ 1877 م).

75/ ينابيع المودة لذوي القربی. تح: علي جمال الحسيني (ط 1، دار الأسوة للطباعة والنشر: قم - إيران 1416 ه/ 1995 م).

- ابن كثير: أبو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي (774 ه/ 1372 م).

76/ البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري (ط 1، دار احیاء التراث، بیروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

- ابن الكلبي: أبو المنذر هشام بن محمد (ت 206 ه/ 821 م).

77/ انساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها. تحقيق: أحمد زكي (ط 1، الدار القومية للطباعة والنشر: القاهرة - مصر 1384 ه/ 1965 م).

- ابن ماجة: أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة (ت 275 ه/ 888 م).

78/ سنن ابن ماجة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (ط 1، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1373 ه/ 1954 م).

- مالك بن أنس. أبو عبد الله الأصبحي. ت (179 ه/ 795 ه).

79/ کتاب الموطأ. تحقیق و تصحیح و تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي. (طبعة دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1406 ه/ 1985 م). 80/ المدونة الكبری (طبعة مطبعة السعادة: مصر - القاهرة 1323 ه/ 1904 م).

- المبرد: أبو العباس محمد بن یزید. ت (286 ه/ 899 م).

81/ الكامل في اللغة والأدب. تعليق: محمد أبو الفضل إبراهيم (ط 3، دار الفكر العربي: القاهرة - مصر 1417 ه/ 1997 م).

ص: 175

- المتقي الهندي: علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين (ت 975 ه/ 1567 م).

82/ کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتصحيح بكري حياني وصفوة السفا (مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1409 ه/ 1989 م).

- المزي: أبو الحجاج يوسف المزي (742 ه/ 1341 م).

83/ تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: بشار عواد معروف، (ط 4، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1406 ه/ 1985 م).

- المسعودي: أبو الحسن علي بن الحسين بن علي ت (346 ه/ 1055 م)

84/ التنبيه والإشراف. (ط 1، دار صادر: بيروت - لبنان دت).

85/ مروج الذهب و معادن الجوهر. تحقيق: يوسف اسعد داغر (ط 2، دار الهجرة: قم - ایران 1385 ه/ 1965 م).

- ابن مسکویه: أبو علي أحمد بن محمد الرازي (ت 421 ه/ 1030 م).

86/ تجارب الأمم. تحقيق: أبو القاسم إمامي (ط 2، دار سروش: طهران - إيران 1422 ه/ 2001 م).

- مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261 ه/ 874 م).

87/ الجامع الصحيح (ط 1، دار الفكر، بيروت - لبنان، د. ت).

- المفيد: أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (413 ه/ 1022 م).

88/ الأمالي. تحقيق: الحسين أستاذ ولي و علي أكبر الغفاري (ط 1، جماعة المدرسين: قم إيران 1414 ه/ 1993 م).

- المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد. ت (845 ه/ 1441 م).

89/ إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع. تح: محمد عبد الحميد النميسي (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1420 ه/ 1999 م).

- المنقري: نصر بن مزاحم. ت (212 ه / 827 م).

90/ وقعة صفين. تح: عبد السلام محمدهارون (ط 2، المؤسسة العربية الحديثة: القاهرة- مصر 1382 ه/ 1962 م).

ص: 176

- النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر. ت (303 ه/ 915 م).

91/ السنن (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1348 ه/ 1930 م).

- النووي: محيي الدين أبو زکریا یحیی بن شرف. ت (676 ه / 1277 م).

92/ شرح صحیح مسلم (ط 1، دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان 1407 ه/ 1987 م).

- النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب. ت (733 ه/ 1332 م).

93/ نهاية الأرب في فنون الأدب. تح: مفيد قميحة و حسن نور الدين (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1424 ه/ 2004 م).

- ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري. ت (218 ه/ 833 م).

94/ السيرة النبوية. تحقيق وضبط: محمد محيي الدين عبد الحميد(ط 1، مکتبة محمد علي صبيح: مصر - القاهرة 1383 ه/ 1963 م).

- الهيثمي : نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (807 ه / 1404 م).

95/ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، (دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

- الواقدي: أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد. ت (207 ه/ 822 م).

96/ کتاب المغازي. تح: المستشرق مارسدن جونس (ط 3، عالم الكتب: بيروت - لبنان 1404 ه/ 1984 م).

97/ فتوح الشام (ط 1، دار الجيل: بيروت - لبنان دت).

- اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب ابن واضح. كن حياً عام (292 ه/ 904 م).

98/ تاريخ اليعقوبي (دار صادر: بيروت - لبنان د. ت).

المراجع الثانوية:

- بلقزيز : عبد الإله.

99/ تكوين المجال السياسي الإسلامي - النبوة والسياسة (ط 1، مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت - لبنان 2005 م).

ص: 177

- بیضون: ابراهیم.

100/ الإمام علي (عليه السلام) في رؤية النهج ورواية التاريخ (ط 1، دار بیسان: بيروت - لبنان 1999 م).

- جعيط: هشام.

101/ الفتنة - جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر. ترجمة: خليل أحمد خليل، (ط 4، دار الطليعة: بيروت - لبنان 2000 م).

العاملي: - جعفر مرتضى.

102/ ابن عباس وأوال البصرة - دراسة وتحليل (ط 1، مطبعة الحكمة: قم - إيرا 1396 ه/ 1976 م).

- فلهاوزن: یولیوس.

103/ تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية. ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، مراجعة: حسين مؤنس (ط 1، لجنة التأليف والترجمة والنشر: القاهرة - مصر 1419 ه/ 1968 م).

الكعبي: شهید کریم.

104/ صورة أصحاب الكساء بين تجني النص واستباحة الخطاب الاستشراق - هنري لامنس أنموذجا (ط 1، دار الكفيل: كربلاء العراق 1437 ه/ 2015 م).

105/ قراءات في النهضة الحسينية (ط 1، قسم النشاطات الفكرية والثقافية التابع للعتبة الحسينية: كربلاء - العراق 1439 ه/ 2018 م).

- نتنج: آتوني.

106/ العرب انتصاراتهم وأمجاد الإسلام. ترجمة: راشد البراوي (ط 1، مكتبة الأنجلو المصرية: القاهرة - مصر 1974 م).

- هواري: زهير.

107/ السلطة والمعارضة في الإسلام - بحث في الاشكالية الفكرية والاجتماعية 11 -

ص: 178

132 ه. (ط 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر : بيروت - لبنان 2003 م).

-وات: مونتغمري.

108/ محمد في المدينة. ترجمة: شعبان برکات (ط 1، المكتبة العصرية: بيروت - لبنان د. ت).

- الوريمي: ناجية بو عجيلة.

109/ في الائتلاف والاختلاف - ثنائية السائد والمهمش في الفكر الإسلامي القديم. (ط 1، دار المدى: بيروت - لبنان 2004 م).

ص: 179

ص: 180

البحث الثالث موقف الإمام علي (عليه السلام) من الفتوحات الإسلامية

أ. م. د. حيدرمجيد العليلي جامعة المثنى / كلية التربية للعلوم الإنسانية

ص: 181

ص: 182

المقدمة:

يسلط هذا البحث الضوء على موقف الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من الفتوحات الإسلامية أو المعارك التي تمدد بها المسلمون خارج شبه الجزيرة العربية بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) في عصر الخلافة (11 - 41 ه/ 632 م- 661 م) وقد اسسنا اغلب مضامين هذا الموقف على نصوص مستقاة من كتاب نهج البلاغة؛ زيادة على جاءت به المصادر التاريخية في سيرة الإمام علي (عليه السلام)، وقد اقتضت الدراسة أن نقدم لأثر الإرث النصي في مشروعية التمدد العسكري في خطاب عصر ما بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم أشرنا إلى موقف الإمام علي (عليه السلام) من الاحداث التي تلت موت النبي (صلى الله عليه وآله) التي وسمناها بالاعتزال والموضوعية، وبينا أثر الفتوحات والصورة النفسية للعرب في رؤية الإمام علي (عليه السلام) وبعدها أشرنا إلى دوره الأيديولوجي الذي ظهر لنا بأنه على ثلاث مبتنيات مفاهيمية: (المشورة - التخطيط - التوجيه عن بعد)، وتطرقنا في عجالة إلى سياسته (عليه السلام) المباشرة من الفتوحات أبان خلافته، وقد عولنا في هذا البحث على جملة المصادر التي نقلت مقولات الإمام علي (عليه السلام) في هذا الصدد وبعض الروايات التي لها صلة بدوره في هذه الفتوحات وقمنا بتحليلها وتقييمها والتي سيجد القارئ قائمة بها في نهاية البحث.

وقد خلصنا من خلال هذا البحث إلى أن الإمام علي (عليه السلام) لم

ص: 183

يقف مكتوف الأيدي إزاء تداعيات الأحداث اللاحقة، وآثر على نفسه إلا أن يضطلع بدور يضفي عنصر التوازن على الأحداث للحفاظ على هوية النبوة الرسالية من التحول إلى صورة الدولة التوسعية وضمان نشر المبادئ الاخلاقية في المناطق المفتوحة عن طريق زج أصحابه في هذه المعارك، و تقديم المشورة التي تكفل تحقيق الاهداف بأدنى الخسائر البشرية، والحيلولة من دون وقوع هجوم مضاد في حالة اندحار الجماعة.

ص: 184

الإرث النصي في مشروعية التمدد العسكري في خطاب عصر ما بعد النبي (صلى الله عليه وآله)

إن التساؤل الذي تتمحور حوله هذه الدراسة؟ هل كان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) مؤيدا للفتوحات؟ أو كان رافضا لها؟

إن الخوض في اتون هذا الموضوع يلزمنا التعرض أولا لمشروعية الفتوحات وتفكيك حيثيات الخطاب المتداول يومذاك، والتعرض لأسباب نشوبها لبيان موقف الإمام علي (عليه السلام) منها.

لعل الاتصال العسكري بين المسلمين والأقوام المحيطة بأرض الإسلام ظهر في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) وتشكل في صور عدة، فجاءت الصورة المبكرة من رسم القرآن الكريم في مخيال مسلمي عصر الرسالة في سورة الروم التي نزلت في المرحلة المكية(1) في تحديد ملامح النصر والهزيمة لصراع قوتين عالميتين يومذاك (الدولة الساسانية - الدولة البيزنطية) اللتان يتسوران حكومة الاسلام الناشئة جغرافياً، ويخال لنا ان القرآن الكريم نبه مبكرا لتباين موازين القوة الذي سيكون جزءا من المرحلة اللاحقة، والا ما هو وجه الصلة بين مجموعه من البدو المحدثين في اعتناق دين جديد و صراع قوى ليس لهم منه أي مجال في المكافئة؟

أما الصورة الثانية فقد رسمتها المرحلة (الرسالية) المتمثلة برسائل النبي (صلى الله عليه وآله) إلى حكومات العالم القديم فارس وبيزنطة والاسكندرية

ص: 185


1- الروم (1-5)

والحبشة وعمان..(1)، التي حوت عبارة «اسلم تسلم»(2) ولعل هذه العبارة فسرت على انها تحمل دلالة انذارية من قبل كسرى ملك الفرس فقام بتمزيق رسالة النبي(3)، على الرغم من ان خطاب النبي (صلى الله عليه وآله) كان ينطوي على روح السلام والتذكير والعظة التاريخية بعاقبة الأقوام السابقة(4).

ولما بلغ الرسول ما جرى من أمر كسرى دعا عليه بقوله: «مزق الله ملكه»(5)، ولعل رد فعل النبي لم يكن ردا انفعاليا انيا يحمل صبغة حماسية ثأرية بل كان رد فعل اعتباري بدعائه لطمس سلطان كسرى، ولعل هذا من شانه ان يترك في عقلية الجماعة يوم ذاك إشارة إلى أن النبي كان يحمل نظرة إزاحية لملك كسرى، هذه الصورة التي تشربت في مخيال الصحابة الذين فرضت عليهم ظروف المعارضة ان يتحولوا إلى جماعة في حالة نفير عام بفعل حالة الدفاع المستمر التي بلغت (27) غزوة و (63) سرية خلال (12) سنة(6).

ويبدو ان الروحية القتالية التي تمخضت عنها نتائج المعارك على حياة النبي (صلى الله عليه وآله) عززت الصورة الجهادية الحماسية للمسلم الذي يحمل السيف ردا للظلم أو دفاعا عن النفس في المرحلة الأولى، لكن هذه

ص: 186


1- ابن هشام، السيرة 2/ 607
2- ابن كثير، السيرة، 3/ 498، 508
3- ابن حبان، السيرة، 1/ 297
4- حمل نص رسالة النبي إلى هرقل ملك الروم تذكيرا بإثم الأريسيِّين، كما حملت رسالة النبي إلى كسرى ملك الفرس - تذكيرا بإثم المجوس ابن كثير، السيرة، 3/ 501، 508
5- ابن حبان، السيرة، 1/ 297
6- النمري، الدرر في اختصار المغازي، 1/ 95

الصورة سرعان ما تغيرت بعد ان لمس الفاتحون نشوة الظفر ووفرة غنائم المناطق المفتوحة من النفائس والعبيد والأراضي.

ولاتفوتنا الاشارة إلى الصورة الصدامية المباشرة التي رسمتها احداث غزوتي مؤتة سنة (8 ه) وتبوك سنة (9 ه)(1) مع الروم وحلفائهم، ولعل صيغة الامر التي حملتها الآية الكريمة في قوله تعالى: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»(2) والتي قرن فيها القرآن الكريم بين (القتال) و (الجزية)، زيادة على الترفع الاعتباري بصيغة (وهم صاغرون)(3) لوحت بمشروعية الحرب ولاسيما ان هذه الآية وردت بين نصوص سورة التوبة الانذارية، وعلى الرغم من ذلك فان القران الكريم لم يحمل بين دفتيه أي نص يسوغ الانسياح في اراضي الاخرين فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يؤسس نظاما امبراطوريا، ولعل سياسة النبي (صلى الله عليه وآله) في مصادرة اراضي اليهود وتقسيمها بعد ان نكث اليهود مواثيقهم صورة اخرى تؤسس لمشروعية التمدد في اراضي اهل الكتاب، وقد لمسنا اشارات نسبت إلى النبي حول هذه الفتوحات كقوله: «والَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُفتَحَنَّ عَلَيكُم فَارِسٌ وَالرُّومُ حَتَّى يَكثُرُ الطَّعَامُ فَلَا يُذكَرُ عَلَيهِ اسمُ الله»(4).

ص: 187


1- الواقدي، المغازي، 2/ 755؛ 3/ 989
2- التوبة، 29
3- التوبة، 29
4- البيهقي، دلائل النبوة 6/ 334، السيوطي، الخصائص الکبری، 2/ 191

لقد حوت متون كتب السير بين طياتها اشارات مباشرة إلى ان النبي (صلى الله عليه وآله) قد وعد أصحابه بان الله سيورثهم كنوز كسرى وقيصر ويبدو ان هذه المقالة قد اعطت للمنافقين مساحة للتهكم والتكذيب، فقد ورد في احداث غزوة الخندق سنة (5 ه) حين تمكن الخوف من النفوس واطبقت العرب على المدينة تحاصرها وكان الخندق الفيصل الذي يمنع سيوف الأحزاب عن رقاب اهل المدينة، فأردف أحد المرجفين قوله: «يَعِدُنَا مُحَمّدٌ كُنُوزَ كِسرَى وَقَيصَرَ، وَأَحَدُنَا لا يَأمَنُ أَن يَذهَبَ إلَى حَاجَتِهِ»(1)، فنزل قوله تعالى: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا»(2).

وقد أفرد الشامي بابا كاملا جمع فيه الأحاديث بإسنادها التي أخبر فيها النبي (صلى الله عليه وآله) بهلاك كسرى وقيصر، وإنفاق كنوزهما، وأنه لا يكون بعدهما كسرى ولا قيصر فكان قوله (صلى الله عليه وآله): «إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده»، وقوله: «لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى التي في القصر الأبيض»، وقوله: «أبشروا، فو الله، لأنا من كثرة الشيء أخوف عليكم من قلته، والله، لا يزال هذا الأمر فيكم حتى تفتح لكم أرض فارس والروم وأرض حمير، وحتى تكونوا أجنادا ثلاثة: جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن، وحتى يعطى الرجل المائة دينار فيتسخطها»(3).

ص: 188


1- ابن هشام، السيرة 1/ 522؛ الواقدي، المغازي 2/ 460
2- ابن سيد الناس، عیون الاثر، 1/ 242؛ ابن كثير، السيرة 2/ 346
3- سبل الهداية والرشاد 10/ 82

ونخال ان هذا النوع من الروايات يحملنا بعد مطالعة جزئياتها إلى الظن بأنها مركبة لإضفاء صفه المشروعية لهذه المعارك وإن كان قد ورد عن النبي مثل هذا النوع من الروايات فلا يخلو هذا الإرث من المبالغة لاشتمالها على إشارات ميدانية.

وفي رواية أخرى ان رجلاً من كندة دخل على العباس إذ خرج رجل من خبأ قريب منه إذ نظر إلى السماء فلما رآها مالت قام يصلي، ثم خرجت امرأة، فقامت تصلي خلفه، ثم خرج غلام فقام معه يصلي، فقلت للعباس: ما هذا؟ قال: محمد بن أخي، وامرأته خديجة، وابن عمه ع-لي، وامرأته خديجة، وابن عمه علي، يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه، و يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر(1).

وكان المكيون المستهزئون إذا رأوا المسلمين يتهكمون بقولهم: «قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر، أي لأن الصحابة كانوا متقشفين، ثيابهم رثة، وعيشهم خشن»(2)، ونخال ان هذا النوع من الروايات يعطي مشروعية لكل ما جرى من أعمال عسكرية لاحقة، على الرغم من ان النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتبنَ أي سياسة إزاحية توسعية في عهده ولم يرد في أي مصدر تاريخي أن الرسول قد وضع خططا لإسقاط البيزنطيين والفرس، ولعل المتتبع لغزوات النبي وسراياه يلمس انها جميعها كانت حروبا دفاعية، ومن ثمّ فان النهج الهجومي للخلفاء جاء متعارضا مع النهج العسكري

ص: 189


1- السيوطي، الخصائص، 2/ 198
2- برهان الدين، السيرة الحلبية، 1/ 450

الدفاعي للنبي (صلى الله عليه وآله)، ومن ثمّ ان تغير المنهج السياسي من منهج (الدفاع - المهادنة) في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى منهج (الهجوم - الاجتياح) في عصر الخلافة يطرح علامة استفهام خطيرة؟

واذا ركنا إلى صحة هذا النوع من النصوص التي اشارت إلى زوال ملك كسرى وقيصر فإننا نرى انها جاءت جزءا من نظرية استشرافية تنبئية غير تبريرية، عن اخبار مستقبلية اخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بحدوثها من بعده، بعضها يرتبط بأحداث معاصرة له وبعضها يمتد إلى قرون لاحقة، هذه الرؤية اما ان تكون قد نُسِبَت للنبي لاحقا لتعطي بُعدا تبريريا لتسويغ السياسة الاجتياحية اللاحقة للخلفاء لخلق مجال حيوي لتخصيب المؤسسة السياسة الناشئة وديمومتها اقتصاديا وعسكريا، حتى تكتسب مواصفات الدولة القوية ضمن المعايير القروسطية لقيام الدول (الحق الالهي بالحكم - الحدود المترامية - المركزية العسكرية - اللامركزية الادارية - النظام الضريبي)؛ أو انها نصوص سليمة استشرافية اخبارية، تعرضت لاحقا للتركيب، ونحن نذهب إلى الاعتقاد بهذا الراي لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نُقِل عنه انه اخبر بأحداث تعصف باهل بيته (عليهم السلام) واخبر عن أعداءهم فما كان رده أزاء هؤلاء؟ هل قام بإزاحتهم بالرغم من أن ادراكه بمجريات الأحداث من بعده؟ والاجابة كلا(1).

ص: 190


1- احصى المقريزي بابا كاملا عن الرؤيا الاستشرافية للنبي عن احداث خطيرة في التاريخ الاسلامي كوقوع الفتن ومقتل الحسين (عليه السلام) وقيام مدينة بغداد و خرابها واحوال المسلمين والكوارث الطبيعية كالزلازل.. لمزيد ينظر المقريزي، إمتاع الأسماع، 12/ 3 - 390

ويبدو أن كُتَّاب الحوليات والكهنة توقعوا حصول الفتوحات التي تحدَّث عنها كتب الأولين ويخبرنا التاريخ النسطوري ان يونان - صاحب دیر برطورا في سنجار - تنبأ قبل وفاته ببطلان حكم الفرس على يد أولاد اسماعيل عندما ظهر شكل في السماء يشبه الرمح ويومها تفائل الناس وعدت علامة ظهور ملك العرب الذي يعد عقابا على معصية المسيحيين(1).

ان هذا النوع من النصوص يحتاج إلى وقفة تحليلية شمولية موضوعية، لكن ما يعنينا في هذا المقال ان صحاب السقيفة لجأوا بدهاء وحرفية إلى تبني منهجا توظيفيا للإرث المحمدي النمطي السائد: (النصي - السّيري الاستشرافي) لإضفاء الصبغة المشروعية على القرار الجديد للخليفة البشري بعد أن فقدت الأمة القرار السماوي المتمثل بوحي عصر النبوة، بعبارة أخرى، يتم أدلجة الإرث المحمدي ليتسق مع المرحلة الجديدة المتأزمة التي تحمل صورة قاتمة ثلاثية الأبعاد متمثلة: ب (بالصدمة بموت النبي - انقطاع الوحي - ازاحة الإمام علي - الانقسام).

الإمام علي (عليه السلام) بين الاعتزال والموضوعية

لقد أحدث وفاة النبي سنة (12 ه/ 632 م) في المدينة، صدمة عنيفة تركت أثرا في صيرورة الأحداث اللاحقة وجل هذه الأحداث خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) و حيثيات قضية السقيفة التي أظهرت لأول مرة وجود فرقتين في الإسلام فرقة الزمت نفسها بيعة الإمام علي (عليه السلام) و فرقة


1- عيتاني، رواية المغلوبين 61-90

رکنت لمقررات اجتماع السقيفة(1).

وقد أجمع المؤرخون على أن الإمام علي (عليه السلام) لم يكن راضيا عن الاحداث الانقلابية التي تلت موت النبي (صلى الله عليه وآله) فقال علي (عليه السلام): «يا معشر المهاجرين، الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودورکم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منکم، أما كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر الرعية؟ والله إنه لفينا؛ فلا تتبعوا الهوى؛ فتزدادوا من الحق بعدا»، فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته من الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا وانصرف علي إلى منزله ولم يبايع، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة (عليه السلام))(2).

وقد أشار في موضع لاحق بنحو دقیق ما جرى من أحداث بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) وكيف اعتزل ساحة التنافس، وكيف رجع لاحقا ليضطلع بدوره للحفاظ على الارث المحمدي من الزوال والتحريف في كتابه إلى أهل مصر: «أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وآله نذيراً للعالمين،.. فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله عن أهل بيته ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس

ص: 192


1- للمزيد حول الأحداث التي وقعت بعد النبي ينظر، الجوهري، السقيفة وفدك، 37-97
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/ 12

على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دین محمد فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما کان کما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتی زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتَنَهنَه»(1).

ولا أدلّ من هذه المقولة على أنه قام ليأخذ موقعه للحفاظ على القيم الأخلاقية للإسلام زاهدا بكل ما تنطوي عليه ملامح الحكم، إذ لم يشارك الإمام علي (عليه السلام) في ايّ عمل عسكريّ بصفة قائد أو مقاتل و لم يعمل قاضياً أو واليا أو عاملا علي الصدقات حتى توليه الخلافة سنة (35 ه/ 655 م)، وقد أثبتت الأحداث انه اضطلع بمهمة الجندي المجهول يتعامل بمنتهی الموضوعية مع الأمر الواقع الذي يتعلق بحياة المجتمع، ناصحا لتقويم سياسة الخلافة التي أمست امرا واقعا يتحكم بمصير الآلاف من البشر والقضية أبعد من أن يُؤثر حقوقه عليها لذلك نجد عمر يقول فيه: (عجزت النساء أن تلد مثل علي بن أبي طالب، لولا على لهلك عمر)(2).

ويبدو أن دور الإمام كان يتمحور في خلق منهج التوازن بين التحولات الأيديولوجية الجديدة وبين الارث المحمدية الذي اثبتت جميع الأحداث انه كان خير من يمثله باعتراف الجميع، ولم نجد في النصوص التاريخية ما يثبت

ص: 193


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17/ 151
2- الرازي، مفاتیح الغیب، 21/ 380 محب الدين الطبری، ذخائر العقبی 1/ 82

ان الإمام علي (عليه السلام) أشار على أبي بكر أو عمر بن الخطاب بإذکاء نار هذه الحرب الدينية، بل أن الجهاد من وجهة نظره مشروط بالعدل والثقة، إذ يقول (عليه السلام): «لاَ یَخْرُجُ اَلْمُسْلِمُ فِی اَلْجِهَادِ مَعَ مَنْ لاَ یُؤْمَنُ عَلَی اَلْحُکْمِ وَ لاَ یُنْفِذُ فِی اَلْفَیْءِ أَمْرَ اَللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) فَإِنَّهُ إِنْ مَاتَ فِی ذَلِكَ کَانَ مُعِیناً لِعَدُوِّنَا فِی حَبْسِ حَقِّنَا وَ اَلْإِشَاطَةِ بِدِمَائِنَا وَ مِیتَتُهُ مِیتَةٌ جَاهِلِیَّةٌ»(1).

ان الفهم السليم لمجريات أحداث هذه المرحلة يضعنا على طريق فهم موقف الإمام علي (عليه السلام) من الفتوحات بل ومن جميع الأحداث اللاحقة في حكومة الخلافة.

ويبدو أن هذه الأحداث ظهرت کرد فعل على الفراغ الذي أحدثه موت النبي (صلى الله عليه وآله)، ولعل الصورة الرسالية السلمية للمهاجرين والانصار التي كانت کالبنيان المرصوص أبان حياة النبي (صلى الله عليه وآله) سرعان ما تصدعت لتحل محلها صورة اصطبغت بالصبغة البشرية التقليدية المتمثلة (الطموح - الازاحة - التنافس)، حينما انصهرت الحماسة الدينية في بوتقة واحدة مع النعرة القبلية التي سعى النبي على مدى (23) عاما لإجهاضها.

ان التحول نحو أيديولوجية حرب التأديب العسكرية التي مثلت مرحلة ما قبل الفتوحات، تدعونا لترجيح رأي مؤداه أن أبا بكر حاول أن يقلل من الاحتقان المتزايد في الجبهة الداخلية بين المهاجرين والانصار والاوس والخزرج ومن هم على بيعة الإمام علي (عليه السلام) ومن ذهبوا إلى ترسيخ مقررات

ص: 194


1- الشيخ الصدوق، الخصال، 625

السقيفة، وكان اعتزال الإمام علي (عليه السلام)، فاعلا ومحفزا لمحاولة نقل هذه الفورة بعيدا عن مركز الأحداث ولاسيما وأن الروح القبلية برزت للعيان بحلتها التوحيدية الجديدة، ولعل مسيلمة الكذاب الذي أعلن نبوته المزيفة أبان حياة النبي (صلى الله عليه وآله) لكن النبي لم يتخذ أي اجراء قمعي إزاءه(1).

وبعد أن تمّ اخضاع جميع أرض الحجاز جنوبا إلى سلطة المدينة نلمس توجها صوب الشمال والشمال الغربي والشمال الشرقي بعد أن استحوذ المركب (العصبي - العقدي) على العقلية العربية لنيل المغانم الاخروية أو الغنائم الدنيوية، هذه القوه البشرية المتدفقة والمتزايدة بفعل تزايد اعتناق الموالي للإسلام، والثقة المتأتية من اخضاع الحجاز، هذه الانتصارات وضعت الخلافة في موقع يسمح لها أن تعطي أوامرها للانسیاح في الأراضي القريبة والبعيدة، الذي ساعدهم في ذلك معارضة القبائل العربية المضطهدة بفعل سياسة الدولتين البيزنطية والرومانية، ولما عزم أبو بكر على محاربة الروم سنة (13 ه/ 634 م)، شاور الصحابة، فقدَّموا وأخَّروا، فاستشار عليه الإمام عليَّ (عليه السلام) بقوله: «إن فعلتَ ظفرت» فقال: «بُشِّرت بخير»(2)، ويخيل لنا ان هذا النص لا يحمل أي اشارة عن الظرفية التي اشعلت الجدل حول مقاتلة الروم ولم نلمس ان الإمام علي حث على قتال الروم للظفر بمغانم بلادهم بل يلوح لنا انها جاءت امتدادا للسياسة التأديبية التي نهجها النبي (صلى الله عليه وآله) في غزوتي مؤته وتبوك، ولعل هذه المرحلة لم تكن فكرة الاستحواذ على أملاك الامبراطوريتين الساسانية والبيزنطية قد تشكلت في

ص: 195


1- الواقدي، الردة، 29
2- اليعقوبي، التاریخ، 2/ 133

العقل الجمعي للصحابة.

ولعل حالة الاضطهاد التي كانت ترزح تحت وطأتها القبائل العربية والاقليات الدينية المسيحية(1)، امست ذريعة لإضفاء الشرعية على هذه الفتوحات، ولعل رسائل ملك فارس یزدجر الثالث لإمبراطور الصين يرد فيها أن عرب فارس تسببوا في انهيار الساسانيين، وجاء في تاريخ ميخائيل الكبير ما نصه: (إن الله إله النقمة الذي وحده له السلطان على كلّ شيءٍ، هو الذي يغيّر الملك كما يشاء ويعطيه لمن يشاء، ويقيم عليه الضعفاء، إذ رأى خيانة الروم الذين ينهبون كنائسنا وأديرتنا كلما اشتدّ ساعدهم في الحكم، ويقاضوننا بلا رحمة، جاء من الجنوب بأبناء إسماعيل، لكي يكون لنا الخلاص من أيدي الروم بواسطتهم.

إن فائدتنا لم تكن يسيرة، حيث إننا تحررنا من خبث الروم ومن شرّهم وبطشهم وحقدهم المرير علينا وتمتعنا بالطمأنينة)(2).

الفتوحات والصورة النفسية للعرب في رؤية الإمام علي (عليه السلام)

كان الإمام علي (عليه السلام) أكثر الناس حكمة بأحوال من عاصره وكان مدركا بان اللهاث المحموم وراء المكاسب والمصطبغ بالصبغة الدينية بات متأصلا في النفوس وأن الإيمان بدين الله لم يكن متأصلا لديهم جميعا، ولا أدل من جوابه حينما سُئِل لو أن النبي ترك ولدا ذكرا قد بلغ الحلم، وآنس

ص: 196


1- قام البطريك بنیامین بتسليم الاسكندرية إلى العرب مقابل ارجاع كنائسهم من الخلقدونيين، عيتاني، المغلوبين، 114
2- خلف، الرواية السريانية، 38

منه الرشد، أكانت العرب تسلم إليه؟ أمرها فرد قائلا: «لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت، أن العرب كرهت أمر محمد وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته، ونفرت به ناقته، مع عظیم إحسانه إليها، وجسيم مننه عندها، وأجمعت مذ كان حيا على صرف الامر عن أهل بيته بعد موته، ولولا أن قريشا جعلت اسمه ذريعة إلى الرياسة، وسلما إلى العز والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوما واحدا، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعا، وبازها بكرا، ثم فتح الله عليها الفتوح، فأثرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجا، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطربا، وقالت: لولا إنه حق لما كان كذا»(1).

يستوقفنا هذا النص لأنه بمثابة تحليل سيكولوجي دوغمائي للحاضنة البدوية المحيطة بالنبوة من الناحيتين (النفسية و الروحية)، وكيف لجأت هذه الحاضنة إلى تبني منهج: (المسايرة - الازدواجية - الاضمار - والانتحال - ومصادرة المجد الروحي - والتوظيف الترسيخي للسلطة الكلاسيكية الاعتبارية اللقبيلة) من ثم يأتي دور الفتوحات (المكاسب الغنى - الترف - المصادقة) هذه المغانم التي عُدت مكافأة من الله واستبدال عسر حالهم باليسرة وسببا في بقائهم على الاسلام وعدم ارتدادهم، ولعل الإمام علي (عليه السلام) اراد ان يخبرنا بان هذه الحاضنة يوم ذاك لم تبلغ المرحلة (التجريدية الروحية) بل لا زالت ترزح تحت تأثير المبتنيات العقلية (التجسيدية الجاهلية) في اشارة

ص: 197


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20/ 299

إلى ان الفتوحات كانت مصادقة على ذلك، ولو افترضنا عكس ذلك أي ان المسلمين اندحروا في المعارك هل كانوا سيبقون على اسلامهم؟ وهذا جل ما ذهب اليه الإمام علي (عليه السلام) أي أان العقلية العربية لم يستحكم فيها الايمان المطلق من دون لمس المكاسب بمعنی ارتباط المكاسب الاقتصادية بالتوازن (النفسي - الديني) لدى المسلمين.

لقد كانت روح الرياسة والمغانم متأصلة في نفوس الفاتحين الفارين من جدب الحجاز إلى الواحات الغنّاء في العراق والشام ومصر وغيرها فكان أبو عبيدة بن الجراح احد ابرز قادة الفتح قبل معركة اليرموك سنة (15 ه/ 636 م) سأل أصحابه واستشارهم لما رأي كثرة الروم و تأهبهم في أمر القتال فقال له أحدهم: «لا ردنا الله إلى أهلنا سالمين إن خرجنا من الشام وكيف ندع هذه الأنهار المتفجرة والزروع والأعناب والذهب والفضة والديباج ونرجع إلى قحط الحجاز وجدبه وأكل خبز الشعير ولباس الصوف ونحن في مثل هذا العيش الرغد فإن قتلنا فالجنة وعدنا ونكون في نعيم لا يشبه نعیم الدنيا فقال أبو عبيدة: صدق والله قيس بن هبيرة وبالحق نطق ثم قال: يا معاشر المسلمين أترجعون إلى بلاد الحجاز والمدينة وتدعون لهؤلاء الأعلاج قصورا وحصونا وبساتين وأنهارا وطعاما وشرابا وذهبا وفضة ما لكم مع ما لكم عند الله عز وجل في دار البقاء من حسن الطعام ولقد صدق قيس بن هبيرة في قوله لنا ولسنا ببارحين منزلنا هذا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين»(1).

ص: 198


1- الواقدي، فتوح الشام، 2/ 327-328

الدور الأيديولوجي للأمام علي (المشورة - التخطيط - التوجيه عن بعد)

يبدو أن حيثيات الأمر الواقع والتطورات الديناميكية للأحداث الزمت الإمام علي (عليه السلام) بأن يضطلع بدور محوري في مجريات الأحداث ولاسيما وان الفتوحات تعد مراهنة خطيرة تمثل تمددا عسكريا في مناطق لم يألفها العرب، وكان يدور رحاها مع اكبر قوتين عسكريتين في ذلك العصر لذلك كان ينبغي الحيلولة من دون الانكسار والتعرض إلى غزو معاكس من قبل احدى القوتين أو في حالة اجتماعهما معا، فضلا عن نشر تعاليم الإسلام السمحة في المناطق المحررة والحفاظ على الممتلكات العامة والتقسيم العادل للغنائم وبلوغ النتائج باقل عدد ممكن الخسائر، وتقليل حدة النعرة الحماسية للفاتحين، فقد تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع هذه المعطيات، لاسيما وانه في مقام لا يملك فيه القرار السياسي المباشر وليس له الا المشورة.

قال (عليه السلام) .. «اللهم إنك تعلم إني لم أرد الامرة، ولا على الملك والرياسة، وإنما أردت القيام بحدودك، والأداء لشرعك، ووضع الأمور في مواضعها، وتوفير الحقوق على أهلها»(1). ولذا قام بتقديم اليد الطولى في حسم الازمات وكان عمر بن الخطاب لا يستغني عن مشورته، التي كانت سببا في نجاة الامة من الازمات أو الآراء غير الموضوعية التي يسوقها البعض من قبيل النصح.

فبعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر (13 ه/ 634 م) اجتمع اهل فارس الحرب المسلمين في مئة وخمسين ألفا، وتعاهدوا على أن يخرجوا المسلمين من

ص: 199


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20/ 299

أرضهم ويغزوهم في بلادهم، حتى انهم قتلوا كل مسلم في مدنهم، وتقاربوا مما فتحته الجيوش الاسلامية، وانهم قصدوا المدائن ويصيروا منها إلى الكوفة، فاستشار عمر بن الخطاب أصحابه، فأشاروا عليه ان يمضي بنفسه لحرب الفرس ومنهم طلحة بن عبيد الله و الزبیر بن عوام و عثمان بن عفان الذي رأي الاخير ان يجمع قوة من اهل الشام واهل اليمن ویتوجه بهم الخليفة على راسهم قوة من اهل المدينة من ثم تتوجه إلى الكوفة(1).

ولما سأل علي (عليه السلام) صور لعمر الخارطة السياسية للأحداث بمنتهى البراعة بقوله: «فَإِنَّكَ إِنْ أَشْخَصْتَ أَهْلَ اَلشَّامِ مِنْ شَامِهِمْ سَارَتْ أَهْلُ اَلرُّومِ إِلَی ذَرَارِیِّهِمْ، وَ إِنْ أَشْخَصْتَ أَهْلَ اَلْیَمَنِ مِنْ یَمَنِهِمْ سَارَتِ اَلْحَبَشَةُ إِلَی ذَرَارِیِّهِمْ، وَ إِنْك أَشْخَصْتَ مِنْ هَذَیْنِ اَلْأرضِ اِنْتَقَضَتْ عَلَیْكَ اَلْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَ أَقطَارِهَا، حَتَّی یَکُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ أَهَمَّ إِلَیْكَ مِمَّا بَیْنَ یَدَیْكَ مِنَ العَورَاتِ وَالعِیَالَاتِ، أَقْرِرْ هَؤُلَاءِ فی أمْصَارِهِمْ وَاکْتُبْ إلَی أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَلْیَتَفَرَّقوا ثَلاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ في حُرَمِهِمْ وَ ذَرَاریِّهِمْ، فِرْقَةٌ في أَهْلِ عَهْدِهِمْ حَتَّي یَنْتَقِضوا، وَلْتَسِرْ فِرْقَةٌ إلَی إِخْوَانِهِم بِالْکُوفَةِ مَدَدًا لَهُمْ، إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ یَنْظُرُوا إِلَیْكَ غَداً قَالُوا: هذَا أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ أَمِیرُ الْعَرَبِ وأَصْلُهَا، فَکَانَ ذلِكَ أَشَدَّ لِکَلَبِهِمْ عَلَیْكَ، وَأَمَّا مَا ذَکَرْتَ مِنْ مَسِیرِ الْقَوْمِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ أَکْرَهُ لِمَسِیرِهِمْ مِنْكَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَی تَغْیِیرِ مَا یَکْرَهُ، وَأَمَّا عَدَدِهِمْ فَإِنَّا لَمْ نَکُنْ نُقَاتِلُ فِیَما مَضَی بِالْکَثْرَةِ وَلَکِن بِالنَّصْرِ»(2).

ص: 200


1- الطبري، الرسل والملوك، 4/ 125؛ الدينوري، الاخبار الطوال، 1/ 134
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/ 393

فالنص السابق يدل على العمق الاستراتيجي في نظرة الإمام علي (عليه السلام) الميدانية، فإن خروج مقاتلي اليمن يعرض أهلها لهجوم مضاد من الاحباش، وخروج الشاميين يعرضهم لهجوم مضاد من الروم، وان خرج وجد المتربصون من العرب فرصة للانقضاض الامر الذي سيجلب الويلات على الاهالي، واشار عليه بالحرب النوعية وذكره ان معاركهم التي خاضوها حسمت بالنصر ولم يكن لهم الغلبة العددية، و اشار عليه ان يجند الثلث من قوة اهل البصرة، حتى لا يرى الاعداء في ذلك ضعفا في القيادة أو يظنوا ان ثمة نقص في الرجال والمستشارين ليخرج كبيرهم بنفسه وهنا نلمس ترتیب الاولويات الدفاعية:

1. حماية الاهالي.

2. الحيلولة دون حدوث ارتدادات داخلية من المنافقين.

3. توظيف ما تبقى من القوة بشكل نوعي في الاعمال العسكرية .

4. اختيار القيادة المثلى المضطلعة بالخبرة الجغرافية (من اهل العراق) لانهم اعلم بارضهم.

وقد اشار عليه بتكليف النعمان بن مقرن(1) للاضطلاع بهذه المهمة فكان جواب عمر قال: (ويحكم! عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو

ص: 201


1- النعمان بن مقرّن أبو حکیم، صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كان إليه لواء قومه يوم فتح مكة، ثم كان أمير الجيش الذين افتتحوا نهاوند، المقريزي، امتاع الاسماع، 1 / 371

الحسن! والله لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي)(1).

وكان الإمام علي (عليه السلام) ينصح بعدم خروج الخليفة خارج اسوار المدينة وصرح بذلك في اكثر من مناسبة فكان يرى بأن الخليفة ينبغي عليه ان يتحصن بموقع محوري يحافظ فيه على بؤرية التوجيه المركزي لمجريات الاحداث والحيلولة دون ان يصبح الخليفة طرفا في معركة عسكرية مباشرة تحتمل النصر أو الهزيمة فنراه يقول لعمر بن الخطاب: «فکن قطباً، واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب»(2).

ونجده في موضع آخر يذكره بذلك حينما عزم على غزو فلسطين وفتح بیت المقدس يومها نصحه بعدم التوجه إلى هنالك واشار عليه بارسال من يقوم مقامه بمعية مقاتلين اشداء ومستشارين حکماء ليضطلعوا بالمهمة فان تحقق النصر أو الهزيمة يكون الخليفة بمأمن فقال له: (إنك متی تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لاتكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه فابعث إليهم رجلاً مجرباً، واحفز معه أهل البلاء وإلنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن كانت الأخرى، كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين(3)، ولعله بذلك حاول ان يحافظ على هيبة الاسلام وخليفته بمظهر الفاتح الغازي الامر الذي يشتتت صورة الاسلام في اذهان الشعوب المفتوحة، لكن عمر بن الخطاب رأي غير ذلك فذهب بنفسه.

ص: 202


1- ابن اعثم، الفتوح، 2 / 295
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 95
3- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، 8 / 296

ولعل مشاركة بعض الشخصيات المقربة من الإمام علي (عليه السلام) في الفتوحات على شاكلة سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري(1)، التي التزمت ببيعته الإمام (عليه السلام) ولم تركن إلى مقررات السقيفة واضطلاع هذه الشخصيات بدور انساني واخلاقي لتطبيق وصايا الإمام علي (عليه السلام) في ادارة شؤون المناطق المفتوحة والاقلال من المنافسة المحمومة على الغنائم وتقليل وطأة الحرب في شذرات نزرة بين متون المصادر، ولعلها قرينة على وجود دور للإمام علي (عليه السلام) في توجيه الاحداث ميدانيا من خلال صفوته من هؤلاء الصحابة.

أما عن سلمان الفارسي فعرف عنه أنه كان رائد المسلمين وداعيتهم في فتح فارس(2) وكان يخاطب الفرس بقوله: «إِنَّمَا أَنَا رَجُلُ مِنکُم فَارِسيُّ، تَرَونَ العَرَبَ تُطِيعُنِي، فَإِن أَسلَمتُم فَلَکُم مِثلُ الَّذِي لَنَا، وَعَلَيکُم مِثلُ الَّذِي عَلَينَا...»(3)، ان هذه النبرة التي حملتها كلمات سلمان لهي دلالة واضحة على عمق الخطاب الذي يحمله بين طياته في عرضه لقيم الاسلام الحقيقية التي لا تفاضل بين عربي أو اعجمي الا بالتقوى، وكيف ان سلمان بالرغم من انه من غير العرب فله الأمر على رقاب الفاتحين لعلو منزلته في الاسلام.

ويبدو ان الإمام علي (عليه السلام) كان له رأي بمسالة الغنائم فذهب إلى ان توزع الحصص بالتساوي بين الجميع، اما عن نفسه فكان زاهدا بكل

ص: 203


1- كان سلمان وابي ذر على مقربة خاصة من الإمام علي ع انهما الوحيدان اللذين حضرا مراسيم دفن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) السرية ليلا، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 115
2- الطبري، الرسل والملوك، 4 / 14، ابن الاثیر، الکامل، 2 / 341
3- الأصبهاني، تاريخ اصبهان، 1 / 82

ما جلبته الفتوحات من مكاسب، فلما فتحت المدائن طلب الخليفة عمر مشورة الصحابة في كيفية التعامل مع بساط کسري الذي كان يفتخر به على الملوك ملوك الدنيا(1) فقال له علي (عليه السلام): «لم يدخل عليك جهل ولا تقبل شكا وإنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت ولبست فأبلیت وأكلت فأفنيت قال فوالله لقد صدقني يا أبا الحسن ثم إنه قسم البساط قطعا بين الناس قال فأصاب كل رجل منهم قطعة فباعها بنحو العشرين ألف دينار»(2).

وكانت له نظرة بعيدة الامد في الاراضي المفتوحة فحين شاور عمر الصحابة في ارض الكوفة قال له بعضهم نقسمها بيننا فشاور علیا (عليه السلام) في ذلك فقال له: «ان قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيئ بعدنا شيء، ولكن تقرها في ايديهم يعملونها فتكون لنا ولمن بعدنا فقال وفقك الله هذا الراي»(3).

وفي رواية اخرى ان عمرا لما اردا مشورته في قسمة السواد يوم جلولاء قال له: «لولا ان يضرب بعضکم وجوه بعض القسمت هذا السواد بینکم»(4)، ويبدو ان الإمام علي (عليه السلام) كانت له نظرة عميقة في قضية الملكية

ص: 204


1- 3600 ذراع مربعة " أرضه مفروشة بالذهب وموشی بالفصوص وفيه رسوم ثمار بالجواهر، وورقها بالحرير، وفيه رسوم للماء الجاري بالذهب - وقد بیعت قطعة صغيرة منه ب 20 الف درهم، ابن الوردي، تاریخ ابن الوردي، 1 / 138
2- ابن الوردي، تاریخ ابن الوردي، 1 / 138
3- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي 2 / 151
4- البلاذری، فتوح البلدان، 1 / 262

الفردية، وكان موقفه واضحا في سعيه من الحد من تأسيس طبقة برجوازية في الاسلام أو تحول الإسلام إلى فاعل لقيام منظومة طبقية من خلال ضمان بقاء النظام الاقتصادي المرتبط بالنظام الزراعي ببيت المال العام الامر الذي يكفل العدالة الطبقية، ويستطيع المطلع على سير الاحداث اللاحقة ان يدرك تداعيات تشكل الأرستقراطية الاسلامية ولاسيما في خلافة عثمان بن عفان وكيف كانت فاعلا مباشرا لزوال الخلافة بفعل الفتن التي وقعت لاحقا التي اودت بقتله سنة (36 ه / 656 م)(1).

وحين تولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة عكف على إبقاء ملكية الاراضي بيد الدولة للحيلولة من دون حدوث أي انقسام بين المسلمين بسبب اللهاث وراء المكاسب ويبدو ان الإمام علي (عليه السلام) كان واعيا للنتائج السلبية التي جلبتها الفتوحات على لحمة المسلمين، وتحولهم من حالة الزهد إلى الترف و ظهور الطبقية في الاسلام، وهنا يلوح الينا تساؤل ساترك امر مناقشته للقارئ الكريم، هل كانت المغانم التي جلبتها الفتوحات سببا في الفتن اللاحقة؟

سياسته المباشرة من الفتوحات أبان خلافته

هنالك رأي مؤداه أن الإمام علي (عليه السلام) أوقف الفتوحات الإسلامية، لكن اشارات عن معارك قام بها المسلمون في خراسان والسند والهند، قد وقعت في عهده، ففي رواية الطبري الذي اورد قوله: «بعث علي بعدما رجع من صفين جعدة بن هبيرة المخزومي إِلَى خُرَاسَان، فانتهى إِلَى

ص: 205


1- الیعقوبی، تاریخ الیعقوبی، 2 / 174

أَبرَشَهر، وَقَد كفروا وامتنعوا، فقدم عَلَى علي فبعث خلید بن قرة اليربوعي، فحاصر أهل نيسابور حَتَّی صالحوه، وصالحه أهل مرو، وأصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلنا بأمان، فبعث بهما إِلَى علي، فعرض عليهما الإسلام وأن يزوجهما، قالتا: زوجنا ابنيك، فأبى، فَقَالَ لَهُ بعض الدهاقين: ادفعهما إلي، فإنه کرامة تكرمني بِهَا، فدفعهما إِلَيهِ، فكانتا عنده، يفرش لهما الديباج، ويطعمهما فِي آنية الذهب، ثُمَّ رجعتا إِلَى خُرَاسَان»(1)، ونلمس في هذه الرواية ان الإمام علي ارسل حملة تأديبية إلى خراسان التي فتحها المسلمون سنة 18 ه / 638 م) وقیل (22 ه / 642 م) - وقيل انه فتحها اكتمل في سنة (31 ه / 651 م) في زمن عثمان بن عفان(2)، وهي ضمن نطاق الدولة، ويبدو ان كلمة كفروا وامتنعوا تلوح (بالارتداد ومنع الصدقات)، الامر الذي يقطع بان المنطقة كانت ضمن نطاق المناطق التي دخلها المسلمون في عهد من سبقه من الخلفاء، ولعل الإمام انفذ هذه الحملة لبسط الامن ولاسيما وان هذه المرحلة كانت تعد الاكثر اضطرابا بسبب الحروب الداخلية، كمعركة الجمل سنة (36 ه / 656 م) ومعركة صفين سنة (37 ه/ 657 م)، ومعركة النهروان سنة (38 ه / 658 م)(3).

ويرد ایضا في تاريخ خليفة بن خياط في أحداث سنة (36 ه) ارسال الحَارِث بن مرّة العَبدي إِلَى غَزو الهِند فجاوز مکران إِلَى بِلَاد قندابيل ووغل

ص: 206


1- الرسل والملوك، 5 / 64
2- ابن الاثير، الکامل، 2 / 414؛ اليافعي، مراة الجنان، 1 / 72
3- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2 / 568، 628، 721

في جبال القيقان فَأصَاب سَبَايَا كَثِيرَة(1).

وايضا في فتوح البلدان يرد ان الامام علي (عليه السلام) انفذ حملة لغزو السند اذ يرد: «لما كان آخر سنة ثمان وثلاثين وأول سنة تسع وثلاثين في خلافة علي بن أَبِي طالب (عليه السلام) توجه إِلَى ذلك الثغر الحارث بن مرة العبدي متطوعا بإذن علي فظفر وأصاب مغنما وسبيا و قسم في يوم واحد ألف رأس»(2)، ويبدو جليا اضطراب هاتين الروايتين لسبين الاول، لان مکران وبِلَاد قندابيل و جبال القيقان تعد من مناق السند على حسب ما جاء به البلدانيين(3)، الامر الذي يضعف نظرية ارسال حملات لفتح الهند، فضلا عن الوضع الداخلي الذي يحول دون التمدد في اماكن بعيدة بل على العكس تماما ان المعارك الداخلية يمكن ان تعد فرصة سانحة لتلك المناطق للتعدي على المسلمين ولم تثبت المصادر التاريخية ان في عصر الإمام علي توسعت مساحة الدولة ولم يكن للمسلمين حكم على مناطق جديدة كما يبدو جليا في سياق النص ان الحملة لم تكن لفتح السند بل كانت موجهه إلى ثغر، والثغر لغةً کُلُّ فُرْجَةٍ فی جَبَلٍ أَو بَطْنِ وادٍ أَو طَرِیقٍ مَسْلُوكٍ؛ او مَا یَلِي دَارَ الحَربِ، أو مَوضِعُ المَخافَة مِن فُروج البُلدانِ أو المَوضِعُ الَّذِي يَکُونُ حَدًّا فَاصِلًا بَينَ بِلَادِ المُسلِمِينَ وَالكُفَّارِ، أو مَوضِعُ المَخَافَةِ مِن أَطراف البِلَادِ(4)،

ص: 207


1- ابن خیاط، تاریخ خليفة، الذهبي، تاريخ الاسلام 3 / 583
2- البلاذري، فتوح البلدان، 1 / 417
3- مجهول، حدود العالم من المشرق إلى المغرب، 1 / 140؛ البكري، معجم ما استعجم، 3 / 1097؛ الحموي، معجم البلدان 4 / 402
4- ابن منظور، لسان العرب، 4 / 103

الامر الذي يقطع بان الإمام علي (عليه السلام) لم ينهج سياسة توسعية اتجاه اراضي السند قدر اعتماده سیاسة تحمل في طياتها حيثيات دفاعية على الرغم من اغفال الاخبارين المسلمين الاشارة إلى تفصیلات هذه الحملة العسكرية، وصفوه القول ان عهد الإمام علي (عليه السلام) لم يكن عهد فتوحات ولم يتبنى الإمام سياسة توسعية عدا ما مکان دارجا من الحملات العسكرية التأديبية للمناطق الواقعة تحت نفوذ سلطة الخلافة.

ص: 208

الخاتمة

ان قراءة حيثيات النصوص التاريخية لوقائع الفتوحات الإسلامية تكشف النقاب بنحو جلي عن الدور الانساني الذي اضطلع به الإمام علي (عليه السلام) في وقت کان وبجدارة رائد المعارضة الموضوعية الخلاقة، التي برزت بقدرته على تغليب المصلحة العامة على الجوانب الشخصية ورص الصفوف في اوقات الازمة، زيادته على قدرته العالية على الوصف التحليل النفسي الطبيعة المجتمع المعاصر له.

ويبدو أن مشورة الإمام علي (عليه السلام) كانت سببا في الحفاظ على الجبهة الإسلامية من التصدع داخليا وخارجيا، من خلال قدرته الخّلاقة على خلق سياسة التوازن، على الرغم من التداعيات التي حدثت بعد أحداث السقيفة، كذلك قدرته على توجيه الاحداث دون ان يكون له دور مباشر بصفة قائد أو أمير جيش ومن خلال وجود من يمثل منهجه في الميدان من الصحابة أمثال سلمان وأبي ذر.

کما لمس الباحث ان المصادر التاريخية قد أسرفت في تصوير الفتوحات الإسلامية على أنها تعبير عن حالة جهادية والإقلال من الحماسة الاقتصادية للفاتحين فضلاً عن اغفالها الإشارة إلى الخسائر البشرية والمادية والحضارية التي وقعت بفعل العمليات العسكرية للفاتحين المسلمين، كما لمسنا اغفالا متعمدا لدور الإمام علي (عليه السلام) في حفظ الإسلام والمسلمين كما لمسنا بنحو جلي أن الفكر العسكري للإمام علي (عليه السلام) قائم لتحقيق

ص: 209

أهداف أخلاقية غير استتباعيه غير توسعية لشعوب المناطق المفتوحة، من خلال جعل سياسة التوزيع العادل للثروات والحد من ظهور الاقطاعية في الاسلام بفعل إبقاء يد الدولة على الأراضي الزراعية.

ص: 210

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

1. ابن أبي الحديد: عز الدين أبي حامد بن عبد الحميد، (ت 656 ه / 1258 م).. شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، ط 1، دار احياء الكتب العربية، د. م، 1959 م.

2. ابن اعثم: أبو محمد أحمد الكوفي، (ت 314 ه / 926 م). كتاب الفتوح، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - د. ت.

3. ابن الاثير: أبو الحسن عز الدين علي بن أبي الكرم الشيباني. (ت 630 ه / 1233 م).، تحقيق عبد السلام تدمري،. الكامل في التاريخ، دار الكتاب العربي بيروت، 1997 م.

4. ابن الوردي، عمر بن مظفر بن عمر، (ت: 749 ه / 1391 م)، تاريخ ابن الوردي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996 م.

5. ابن حبان، بن معاذ بن مَعبدَ، (ت: 354 ه / 964 م)، السيرة النبوية وأخبار الخلفاء صحّحه، وعلق عليه السيد عزيز بك، ط 3 وجماعة من العلماء، دار الكتب الثقافية، بيروت، 1417 ه.

6. ابن خياط، أبو عمر و الشيباني (ت: 240 ه / 854 م)، تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، ط 2، دار القلم، مؤسسة الرسالة، دمشق. بيروت، 1397 ه.

7. ابن سيد الناس، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، اليعمري (ت: 734 ه / 1333 م)، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تعليق، إبراهيم محمد رمضان، ط 1، دار القلم، بيروت، 1993 م.

ص: 211

8. ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن (ت: 571 ه / 1175 م)، تاريخ دمشق تحقيق عمر و بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، 1995 م.

9. ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي (ت: 774 ه / 1372 م) السيرة النبوية من البداية والنهاية لابن كثير تحقيق، مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة لبنان، 1976 م.

1. ابن منظور، محمد بن مكرم، (ت: 711 ه / 1311 م)، لسان العرب، ط 3، دار صادر، بيروت، 1414 ه.

11. ابن هشام عبد الملك الحميري، السيرة النبوية لابن هشام، (ت: 213ه / 828 م) تحقيق، مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، ط 2، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1955 م.

12. أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري (ت: 487 ه / 1093 م)، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع بن محمد البكري الأندلسي عالم الكتب، ط 3، بيروت، 1403 ه

13. أبو نعيم الاصبهاني، أحمد بن عبد الله، (ت: 430 ه / 1038 م)،: تاريخ أصبهان تحقيق، سيد كسروي حسن، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990 م.

14. البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر (ت: 279 ه / 892 م)، فتوح البلدان، دار ومكتبة الهلال بيروت، 1988 م.

15. البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي (ت: 458 ه / 1065 م) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، دار الكتب العلمية، ط 1، بيروت، 1405 ه.

16. الجوهري، أبو بكر أحمد بن عبد العزيز (ت: 323 ه / 934 م) السقيفة وفدك، تحقيق محمد هادي الاميني، شركة الكتبي، بيروت، 1413 ه.

17. الحموي شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت (ت: 626 ه / 1228 م)، معجم

ص: 212

البلدان، ط 2، دار صادر، بيروت، 1995 م.

18. خلف، تيسير، الرواية السريانية للفتوحات الاسلامية، ط 1، دار التكوين، دمشق - بيروت، 2016 م.

19. الدينوري أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (ت: 282 ه / 895 م) الأخبار الطوال، ط 1، تحقیق، عبد المنعم عامر، دار إحياء الكتب العربي القاهرة، 1960 م.

20. الذهبي شمس الدين أبو عبد (ت: 748 ه / 1347 م)، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، ط 1، تحقیق، بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، بیروت، 2003 م.

21. السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت: 911 ه / 1505 م)، الخصائص الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.

22. الشامي، محمد بن يوسف الصالحي (ت: 942 ه / 1535 م) سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، ط 1، تحقيق وتعليق، عادل أحمد، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية بيروت، 1993 م.

23. الشيخ الصدوق، أبو جعفر محمد بن بابويه القمي، (ت 381 ه / 991 م) الخصال، تحقيق علي اكبر غفاري، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية (قم - د. ت).

24. الطبري، محمد بن جرير بن يزيد (ت: 310 ه / 922 م) تاريخ الرسل والملوك، ط 2، دار التراث، بيروت، 1387 ه.

25. عيتاني، حسام، الفتوحات الاسلامية في رواية المغلوبين، ط 1، دار الساقي، بيروت - 2011.

26. فخر الدين الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر (ت: 606 ه / 1209 م)، مفاتیح الغيب (التفسير الكبير)، ط 3، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1420 ه.

27. مجهول (ت: بعد 372 ه / 982 م) حدود العالم من المشرق إلى المغرب، ترجمة

ص: 213

وتحقيق (عن الفارسية) يوسف الهادي، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، 1423 ه.

28. محب الدين الطبري أحمد بن عبد الله (ت: 694 ه / 1294 م)، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربي، عالم النشر، القاهرة، 1356 ه.

29. المقريزي، أحمد بن علي تقي الدين (ت: 845 ه / 1441 م)، إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، ط 1، تحقیق، محمد عبد الحميد النميسي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1999 م.

30. النمري، الحافظ يوسف بن البر، (ت 463 ه/ 1070 م)، الدرر في اختصار المغازي والسير، ط 2، تحقيق، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1403 ه.

31. نور الدين، أبو الفرج علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي (ت: 1044 ه / 1634 م)، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، ط 2 دار الكتب العلمية، بيروت، 1427 ه.

32. الواقدي، المغازي، ط 3، تحقیق، مارسدن جونس، دار الأعلمي، بيروت، 1989.

33. الواقدي، فتوح الشام، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997 م.

34. الواقدي، محمد بن عمر بن واقد (ت: 207 ه / 822 م) الردة مع نبذة من فتوح العراق وذكر المثنى بن حارثة الشيباني، ط 1، تحقيق، يحيى الجبوري، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990 م.

35. اليافعي، أبو محمد عفيف بن سليمان (ت: 768 ه / 1366 م) مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، ط 1، وضع حواشيه، خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997 م.

36. اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب (284 ه / 897 م). تاريخ اليعقوبي، الناشر مؤسسة ونشر اصحاب اهل البيت، دار صادر - بيروت -د. ت.

ص: 214

المبحث الرابع حروب الإمام علي (عليه السلام) بين المصادقة القرآنية والنبوية ومبدأ الألفة والجماعة الإسلامية

أ. م. د. علي رحيم أبوالهيل الجابري جامعة ميسان / كلية التربية الأساسية

ص: 215

ص: 216

المقدمة:

شكلت خلافة الإمام علي (عليه السلام) أنموذجاً فريدا في تجربة الحكم الإسلامي في الجانب العسكري والحربي، فمجالها العسكري والحربي لم يكن إلا ضمن إطار الحدود الإسلامية جغرافيا وبشريا، إذ لم يكن متاحا لها أن تتوسع على رقعة خارج رقعة الدولة الإسلامية، كما أن الطرف الآخر كان ينتمي بشكل أو آخر للمنظومة الإسلامية بشكلها العام لذا كانت تلك الحروب موجهة نحو الداخل الإسلامي ولم يكن للخارج أي نصيب منها.

لقد خاضت كثير من الدراسات في شرعية حروب الإمام علي (عليه السلام) الثلاث (الجمل - صفين - النهروان) كان منها ما هو واضح في حكمه وإثبات ما لها من الشرعية ومنها ما تردد في تصحيحها واعتبرها اجتهادات شخصية لم يكن ليؤمر بها أو يكن هو صاحب الحق المطلق فيها.

إلا أننا وفي هذا البحث نحاول أن نسلط الضوء على جملة من الأفكار و الإثارات منها ما يخص ما سبق وأخرى تختص بالخيارات المتاحة لتجنب الصدام الإسلامي الداخلي في خلافة الإمام علي (عليه السلام) ودعوى وجودها، إضافة إلى نتائجها على الصعيدين الديني والسياسي.

ص: 217

أولا: الأبعاد التوافقية ما بين جهاد الرسول (صلى الله عليه وآله) و حروب أمير المؤمنين (البعد الشرعي انموذجا)

لم تكن الأبعاد الحاكمة على شرعية حروب الإمام علي (عليه السلام) إلا كما كانت حاكمة على جهاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله) وسائرة في فلكها، بل إنها مبتنية على أساس شرعي متوافق تمام الموافقة معها، ولعل الخوض في تفاصيل ذلك الأمر لا يحتاج منا إلا النظر بعمق في دلالة مجموعة من النصوص الروائية التي حددت الحدث مسبقا وبينت نتائجه المستقبلية وتطوراته ومراحله، فالرسول صلى الله عليه وآله لم يدخر جهدا في بيان مدى الترابط بين ما فعله مع كفار قريش وبين ما سيأتي به الإمام علي (عليه السلام) و إن كان بعد حين، فقائد كما هو الرسول (صلى الله عليه وآله) مدرك تمام الإدراك أن هذا التوسع في رقعة الجغرافيا الإسلامية في عهده وما اندمج بها من افراد إما مجبرا أو متخيرا أو فاقدا لخيار المواجهة لم يكن له ليتربى تربية كما يريدها الله ورسوله لذا كان متيقناً خصوصا بعد أن اتضح له ضحالة التفكير المحيط به أنه وبمجرد أن ينتهي دوره في مرحلة التنزيل (مرحلة الجذب الكمي) ستأتي مرحلة الإفصاح والتعريف بحقيقة ذلك المنجز الإلهي (مرحلة الانجذاب النوعي)، والتعريف بجزئيات المشروع الإلهي حتما سيلقي بظلاله على الأمة وسينتج ردات عكسية تجاهه من أولئك الذين نظروا الى الإسلام على أنه هيمنة ورئاسة ولم ينظروا إليه على أنه رسالة سماء سامية أو من الذين لم يترسخ في قلوبهم، لذا جاء الرسول (صلى الله عليه وآله) معرفا بما سيحدث وبمن سيقوم بهذا الجهد ليؤسس لقاعدة المرحلة القادمة ويبين حقيقتها دون أن يتغافل عنها أو يهملها.

ص: 218

لعل من بين أبرز تلك الإشارات على ذلك ما ورد في أغلب مصادر المسلمين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «ان منكم من يقاتل على تأويله - أي القرآن - کما قاتلت على تنزيله قال: فقام أبو بكر وعمر فقال: لا ولكن خاصف النعل وعلي يخصف نعله»(1).

لعل أهم ما ينتج عن هذا النص الصحيح و المتحقق الصدور منه (صلى الله عليه و آله) هو:

1. إن المعرفة الحقيقة بدين الله وكتابه الكريم تمر بمرحلتين أساسيتين، الأولى قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي التنزيل والثانية ستبدأ والرسول (صلى الله عليه وآله) غير موجود و هي مرحلة التأويل وقائدها هو الإمام علي (عليه السلام).

2. إن أي دعوى للقتال من بعده (صلى الله عليه وآله من أي صحابي هي دعوة مشوبة باللاشرعية إن لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام هو قائدها وهو المقنن لها والمخطط لها.

3. إن ما سيحدث على يد أمير المؤمنين (عليه السلام) هو التطابق تمام المطابقة مع ما حدث مع الرسول (صلى الله عليه و آله)، فلا جدوى لما قام به الرسول (صلى الله عليه و آله) من دور إن لم يكن أمير المؤمنين مكملا له.

4. ان ما فهمه الصحابة من هذا الحديث أن هذا القتال هو منقبة لمن یقوم به والدليل على ذلك أن الرواية تقول فاشر أبَّت لها أعناق أبو بكر

ص: 219


1- أحمد بن حنبل، المسند، 3 / 33، ابن عساکر، تاریخ دمشق، 42 / 453

وعمر رغبة في هذه المنقبة، ولو لم يكن كذلك لما رغبوا فيها.

5. يبدو أن الرسول (صلى الله عليه و آله) كان متيقناً بأن المسلمين بعده سيخوضون حروبا بينهم و أن قادتها مختلفين بمعنى أنها تحدث في مدة حكم غيره إلا أنه أراد أن يميز حروب الإمام علي (عليه السلام) عنها لذا أجاب أبا بكر وعمر ب (لا) بينما أثبت ذلك لأمير المؤمنين، وقد يكون هذا الأمر فيه دلالة على عدم المشروعية والمشروعية.

6. إن أي فرد من المسلمين خالجه التفكير في شرعية ما سيقوم به أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو انما قد شك في ما قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله).

7. تكامل البناء الإسلامي لا يكون إلا بخوض هذه الحروب التي يمكن أن تعتبرها حروب تنقية وفلترة لمن دخل الإسلام وإزاحة الصدأ الذي حجب بريق الإسلام من أن يظهر ويشع.

8. کما يبدو من حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) أن قتال التأويل أصعب من قتال التنزيل، فقتال التنزيل عرفه لنا الرسول (صلى الله عليه و آله) بقوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»(1)، إلا أن قتال التأويل هو خاص بترسخ الإسلام في القلوب «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(2) وهذا الأمر لن

ص: 220


1- الشافعي، كتاب الأم، 4 / 181
2- سورة الحجرات، الآية: 14

يلقى رواجا عند الناس أو يتقبلوه بر احبة صدر لأمور عدة أهمها أن من قاتل على التنزيل هو رسول الله (صلى الله علیه و آله) وكانت معه معجزة واستطاع من خلالها أن يجتذب الناس، إضافة إلى ما تحقق له من حاکمية وقوة عسكرية أجبرت الكثير على المسايرة له، وهذه الأمور غير موجودة في قتال التأويل فأمير المؤمنين (عليه السلام) انما كان يعتمد على البقية الباقية ممن عاصر الرسول (صلى الله علیه و آله) ممن لازالت مكانة أمير المؤمنين مترسخة في اذهانهم نتيجة لما شاهدوه من بلاء له وما سمعوه من رسول الله بحقه وهم كما قلنا قلة، فالفارق الزمني بين حروب الإمام (عليه السلام) وبين عصر الرسول (صلى الله علیه و آله) قد تجاوز الخمسة والعشرين عاما وهو زمن ومدة خلقت جيلاً جديداً من المسلمين الذين ينظرون لما تتداوله السلطة السياسية وقليل منهم من كان واعيا لتلك المكانة فهذا الجيل الجديد اصبح ينظر اليه على أنه صحابي شأنه شأن أي صحابي آخر من المعاصرين له مما يعني صعوبة التحاق هؤلاء به واعترافهم بمكانته الدينية وضرورة عدم الاختلاف عليها وهذا ما كان قارا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وغير متوافر لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فقدسية الرسول لدى المجتمع تختلف تمام الاختلاف عن أمير المؤمنين.

كما يضاف إلى ذلك أن الرسول (صلى الله عليه و آله) أتى بالرسالة السماوية الواجبة النفاذ والتطبيق وهذا مترسخ في أذهان الجميع حتى وإن خاض لأجلها الحروب إذ أن حروبه ستكون موجهة نحو من لا يؤمن بالله و بتلك الرسالة وكانت أغلب حروبه تأتي مشفوعة إما بمعجزة أو وحي

ص: 221

قرآني يحث المسلمين على القتال و الجهاد ويسوغه لهم، بينما في عهد الإمام علي (عليه السلام) لم يكن له أي شيء من ذلك فحروبه موجهة نحو الداخل وظاهره إسلامي وهذا ما أشار إليه سلام الله تعالى عليه بقوله «وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام. والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الاسلام واحدة. لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وآله ولا يستزيدوننا»(1) وكانت تلك العقبة من أهم العقبات التي واجهت الإمام فلم یکن له أي وحي يسعفه في ذلك ويشد به أزره، به وحتى الإشارات التي صرح بها الرسول وجدت من الأهواء ما شكك فيها وذابت أمام نظرة القداسة التي نظر بها لمخالفي الإمام علي (عليه السلام).

وعلى الرغم من حالة التهيئة الذهنية التي حاول الحديث أن يعطيها لمجتمع الصحابة والمسلمين لما يحمله من دلالة وعمق وتعريف بالحالة الإسلامية المستقبلية إلا أنه قد تعرض لمحاولات التحريف المكاني والزماني لصدوره وهذا عامل آخر يضاف إلى العقبات التي واجهت أمير المؤمنين، فالحديث ورد بما نصه عن أبي سعيد الخدري قال: «كنا جلوسا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وآله فخرج علينا من بعض بيوت نسائه قال فقمنا معه فانقطعت نعله فتخلف عليها علي يخصفها فمضى رسول الله صلى عليه وسلم ومضينا معه ثم قام ينتظره وقمنا معه فقال: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن کما قاتلت على تنزيله فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال لا ولكنه خاصف النعل قال فجئنا نبشره قال وكأنه قد سمعه»(2)، غير أن

ص: 222


1- نهج البلاغة، 58
2- أحمد بن حنبل، المسند، 3 / 82

أيادي التلاعب وإن لم تستطع أن تغير في دلالته ورمزيته إلا أنها تلاعبت بجغرافيا صدور الحديث ووقته، فالحديث حدیث مدني نطق به الرسول (صلى الله عليه وآله) في مسجده بعد أن خرج من أحد بيوت نسائه وهذا هو الصحيح إلا أن البعض اخرجه ليكون منتميا إلى جغرافيا خارج المدنية وتحديدا في عام الحديبة، هذا أول تلاعب به.

وأما التلاعب الثاني فقد غير المخاطب والمقصود به فبعد أن انتمی الحديث إلى بيئة خارج المدينة راح يروج إلى أن المقصود به هو قريش المشركة بعد أن رفضت دخول النبي (صلى الله عليه وآله) إلى مكة و أرسلت سهيل ابن عمرو ليکون نص الحديث: «لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين فقالوا يا رسول الله: خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا فأرددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الایمان، قالوا من هو یا رسول الله؟ فقال له أبو بكر من هو يا رسول الله وقال عمر من هو یا رسول الله؟ قال هو خاصف النعل وكان أعطى عليا نعله يخصفها»(1)، ولعل طرق التلاعب بهذا الحديث واضحة لمن ألقي طرفة عين عليه، فهو قد الغي المخاطب المستقبلي، وقد حذف منه أن عليا (عليه السلام) سيقاتل على التأويل کما قاتل رسول الله (صلى الله

ص: 223


1- الترمذی، السنن، 5 / 298

عليه آله) على التنزيل وأن هدفه واطاره هو قریش الكافرة التي لم تستسلم بعد لرسول الله ولم تسمح له بدخول مكة، ولعل أوضح الأمثلة على عدم مصداقية هذه الرواية هي مجموعة المعطيات المضطربة فيها فقريش تخاطب الرسول (یا رسول الله) وهي التي رفضت وفي الموقف نفسه أن يكتب في کتاب الصلح اسمه ويسمه بالرسالة هذا أولا، وثانيا هي رغبة قريش في أن تفقه من خرج من ابنائها بالدين (خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم) ففضلا عن أن لفظة فقه هي لفظة اسلامية نتساءل أي دين ذلك الذي ستفقههم به قريش، فهي حتى ذلك الوقت لم تؤمن برسالة الإسلام؟!.

غير أن تلك المحاولة التي حاولت أن تقصي التوافق والمصادقة القرآنية النبوية لحروب الإمام علي (عليه السلام) لم تستطع أن تنفذ إلى أصحاب البصائر المخلصة فخلال تتبعنا لصدى هذا الحديث نجد أن صداه كان واضحا عند إجلاء الصحابة الذين أبدوا التمازج بين ما خاضه النبي (صلى الله عليه و آله) من حروب وبين ما صائر إليه أمير المؤمنين (عليه السلام).

ولا شك أن هذا الحديث لم يكن هو الوحيد الذي أفاض به الرسول (صلى الله عليه و آله) ليدلل من خلاله علة مدى التوافق بين حروبه و حروب الإمام علي (عليه السلام)، بل تعداه إلى تحديد الفئات التي سيقارعها أمير المؤمنين في قتال التأويل بمسمياتها و أوصافها، فقد ورد أنه صلى الله عليه وآله

ص: 224

قال الأمير المؤمنين: «تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين»(1).

فالحديث لا يعطي حقيقة من قاتل الإمام بل يحدد طبيعة تكوين المرحلة التالية من تاريخ الإسلام، التي تدلل أن طبيعة الكيان الإسلامي سیمر بمرحلة التقاطع الداخلي، التي تصل بالمسلمين إلى التناحر، والحديث يحدد نعوت و مواصفات هذه التكتلات فمنهم الناكثون الذين تراجعوا عن البيعة وهم أهل الجمل والذين شكلت مرکزية قادتهم الثلاث ومقامهم في الإسلام حافزا قوياً للمعارضة الإمام و الوقوف بوجهه، وكانت من أخطر حرکات المعارضة المنظمة وأولها ضد أمير المؤمنين، فالزبير وطلحة وعائشة لهم من الرمزية مالهم عند المسلمين لذا ذهبوا بعيدا في استغلالها نتيجة لجملة من العوامل أهمها أن طلحة و الزبير وحسب ظاهر الروايات كانت تخالجهما الأحلام بالمشاطرة في الحكم مع أمير المؤمنين ويبغيان على أقل التقدير حکم البصرة والكوفة وهذا واضح من الرواية التي تقول: «وقال طلحة دعني آتي البصرة فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل وقال الزبير دعني آتي الكوفة فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل فقال حتى أنظر في ذلك»(2) ولعل رفض الإمام (عليه السلام) لذلك كان ناتجا من حقيقة المعرفة بحالهما وطبيعة تفكيرهما لذا أكد ذلك بقوله «إن العراقَين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضر با الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو کنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما

ص: 225


1- ذكر السيد الأميني تفاصيل ذلك في كتابه الغدير 3 / 188 وما بعدها
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 3 / 196

ظهر لي من حرصهما على الولاية، لكان لي فيهما رأي»(1).

أما عائشة فهي الأخرى كانت تنظر إلى أن خلافة طلحة متحققة ولم يعد بينه وبينها إلا مقتل عثمان لذا القت بكل ما تعتقد أن من شأنه تحقيقها واقعيا فاستعملت مسارات عدة في ذلك منها ايضاح موقفها الحقيقي من حكم عثمان، وتقديم طلحة كمرشح بديل عنه، إضافة إلى أمور اخرى متعلقة بطبيعة علاقتها الشخصية مع أمير المؤمنين (عليه السلام)(2).

ثانياً: جدلية الخيارات واصطدامها بالثوابت الدينية والسياسية..

يشكل خيار التنحي عن خوض حرب بين المسلمين في خلافة الإمام علي (عليه السلام) احدى الرؤى التي روج لها، إذ يستغرق البعض بعرض رؤيته لتلك الحرب وإمكانية معالجة وضع الدولة الإسلامية بدون قتال فقتاله سلام الله عليه - حسب بعضهم - لم يكن بعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أمر منه حتى يكون ملزما بتنفيذه وعدم تجنبه أو الاجتهاد فيه، وليس فيه أي مصلحة لحالة الإسلام والمسلمين ونتائجه غير محسوبة أو معلومة بل فيه من الضرر على الإسلام فقد أطمع الكفار وأوقف نشر الإسلام وهذا ما أدركه امير المؤمنين فيما بعد، وكان بإمكانه اتخاذ وسائل أخرى غير السيف لجمع الكلمة وعدم تفرقة المسلمين(3).

ص: 226


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 71
2- البلاذري، أنساب الأشراف، 2 / 217، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 180، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 215 وما بعدها
3- ابن تيمية، منهاج السنة، 6 / 208. أمحزون

لعل كل هذه الرؤى تنطلق من منطلق المكتسب السياسي فهو المحرك لذلك ما تفكر به وتنطق به مقصية تمام الإقصاء لأي مسحة دينية أو مبدئية كانت هي الدافع والمحرك لكل وجود أمير المؤمنين في هذه الحياة، فأمير المؤمنين لم يتوخَ النصر بالجور وهو قادر عليه حين أشير عليه بتولية معاوية شهراً ثم يعزله لتستقيم أمور الحكم(1)، كما كان بإمكانه أن يولي بعضهم أمورا إدارية أو مالية في دولته ويبقى على تماسكها، أو أن يميز هذا أو ذاك على غيره في عطاء أو ثناء فيكسب وده ويستميل قلبه، غير أن المنظومة الأخلاقية الدينية التي كانت تتمثل بشخصيته لم تكن لتوجد له مبررا لذلك.

لقد أوضح أمير المؤمنين طبيعة الخيارات المتاحة لديه في هذه الحرب بعدة مقولات أهمها قوله سلام الله عليه: «قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا اَلْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ حَتَّی مَنَعَنِی اَلنَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِی یَسَعُنِی إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ اَلْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ فَکَانَتْ مُعَالَجَةُ اَلْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَیَّ مِنْ مُعَالَجَةِ اَلْعِقَابِ وَ مَوْتَاتُ اَلدُّنْیَا أَهْوَنَ عَلَیَّ مِنْ مَوْتَاتِ اَلْآخِرَهِ»(2) إن هذا الخطاب يشير إلى عمق التدبر و التفكر عند أمير المؤمنين في هذا الأمر وأنه قدغاص في عمق أحداثه ونتائجه فلم يجد له من خيار إلا الحرب التي لم يكن مستعجلا أو مندفعا لها بل أخذ رويته في كيفية تجنبها، غير أن تكليفه الديني لم يكن ليسمح له بغض الطرف عن قتالهم أو أن يعطيه خيارات أخرى غير التي قام بها، ولعل هذا الكلام في دلالة وعمق على حقيقة تلك الحروب وأنها حروب انما كان مأمورا بها وهو الشخص الذي انحصر به تنفيذها وهذا ما يتضح من كلامه السابق الذي

ص: 227


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 10 / 233، ابن کثیر، البداية والنهاية، 8 / 330
2- نهج البلاغة، 103

ربط فيه بين القتال و الكفر أو الجحود بالشريعة التي أرسل بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كونه كان مأمور بها «أُمرتُ بقتال الناكثين و القاسطين والمارقين»(1)

إن عدم تعجله بقتال هؤلاء واضح تمام الوضوح من خلال جملة من الروايات التي أفاضت بها المصادر الإسلامية فهو عندما بلغه ان طلحة والزبير وعائشة قد هاجوا بمكة بدعوى الإصلاح والثأر لعثمان قال «وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا وأقتصر على ما بلغني عنهم»(2) وأنه عندما طلب منه التجهز لقتال معاوية وكان قد ارسل جرير إليه كان رده سلام الله عليه «إِنَّ اسْتِعْدَادِی لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَجَرِیرٌ عِنْدَهُمْ إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ وَصَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَیْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ وَلکِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِیرٍ وَقْتا لاَ یُقِیم بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعا أَوْ عَاصِیا وَالرَّأْیُ عِنْدِی مَعَ الْأنَاهِ فَأَرْوِدُوا وَلاَ أَکْرَهُ لَکُمُ الاْءِعْدَادَ وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هذَا الْأَمْرِ وَعَیْنَهُ وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ فَلَمْ أَرَ لِی فِیهِ إِلاَّ الْقِتَالَ أَوِ الْکُفْرَ بِمَا جَاءَ مُحَمَّدٌ (صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وآله) إِنَّهُ قَدْ کَانَ عَلَی الْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثا - وَأَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالاً فَقَالُوا - ثُمَّ نَقَمُوا فَغَیَّرُوا».

ومن جانب آخر كان أمير المؤمنين متيقنا أن الإبقاء على هؤلاء هو تنازل عن مبادئه الدينية وطعنا في الدين لذا نراه يقول: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رَسُولاً هَادِیاً بِکِتَابٍ نَاطِقٍ وَأَمْرٍ قَائِمٍ، لَا یَهْلِكُ عَنْهُ إِلَّا هَالِكٌ، وَإِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ الْمُشَبَّهَاتِ

ص: 228


1- البلاذري، أنساب الأشراف، 2 / 138، ابن اعثم الكوفي، الفتوح، 2 / 550، الصدوق، الخصال، 145، النعمان المغربي، شرح الأخبار، 1 / 339، ابن عساکر، تاریخ دمشق، 42 / 469، المتقي الهندي، کنز العمال، 11 / 292
2- الطبري، تاريخ الرسل، 3 / 466

هُنَّ الْمُهْلِکَاتُ إِلَّا مَا حَفِظَ اللَّهُ مِنْهَا، وَإِنَّ فِی سُلْطَانِ اللَّهِ عِصْمَةً لِأَمْرِکُمْ، فَأَعْطُوهُ طَاعَتَکُمْ غَیْرَ مُلَوَّمَةٍ وَلَا مُسْتَکْرَهٍ بِهَا وَاللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَیَنْقُلَنَّ اللَّهُ عَنْکُمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَا یَنْقُلُهُ إِلَیْکُمْ أَبَداً حَتَّی یَأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَی غَیْرِکُمْ إِنَّ هؤُلاَءِ قَدْ تَمَالَؤُوا عَلَی سَخْطَهِ إِمَارَتِی، وَسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَی جَمَاعَتِکُمْ: فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلَی فَیَالَةِ هذَا الرَّأْیِ انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِینَ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا هذِهِ الدُّنْیَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَیْهِ، فَأَرَادُوا رَدَّ الْأُمُورِ عَلَی أَدْبَارِهَا. وَلَکُمْ عَلَیْنَا الْعَمَلُ بِکِتَابِ اللَّهِ تَعَالَی وَسِیرَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَالْقِیَامُ بِحَقِّهِ، وَالنَّعْشُ لِسُنَّتِهِ»(1).

«اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ یَکُنِ الَّذِی کَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِی سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَیْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلکِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِینِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِی بِلَادِكَ فَیَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَهُ مِنْ حُدُودِكَ»(2).

إن تتبع سير حركة الإمام يدلل بوضوح على أنه لم يكن ليختار الحرب إلا بعد أن وصلت الأمور إلى طريق مسدود ولعل تتبع سير اهل الجمل يدلل على ذلك بوضوح إذ يذكر ابن قتيبة أن طلحة والزبير «لما استبان لهما أن عليا غير موليهما شيئا، أظهرا الشكاة... فانتهي قولهما إلى علي فدعا عبد الله بن عباس وكان استوزره، فقال له: بلغك قول هذين الرجلين؟ قال: نعم، بلغني قولها. قال: فما ترى؟ قال: أرى أنهما أحبا الولاية. فول البصرة الزبير، وول طلحة الكوفة، فإنهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من عثمان، فضحك علي، ثم قال: ويحك، إن العراقَين بهما الرجال والأموال، ومتى تملکا

ص: 229


1- نهج البلاغة، 82
2- نهج البلاغة، 14

رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضر با الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية، لكان لي فيهما رأي»(1). مما حدى بها أن يخرجا إلى مكة للقاء عائشة ومنها إلى البصرة وما أكد وصولهم إليها وبشكل لا يقبل النقاش أن الطبيعة العدوانية والتهيؤ للحرب واستعمال القوة كان هو السمة الأبرز في تحرك أهل الجمل من بدايته وحتى نهاية المعركة وذلك من خلال تتبع نماذج محددة ترصد تحركهم من بدايته وحتی نشوب المعركة.

إن ما حذر أمير المؤمنين (عليه السلام) منه في كلامه السابق من تفتت الجماعة الإسلامية وانقطاع نظامها قد حدث بالفعل مع وصول أهل الجمل للبصرة إذ لم يكن لهم من هم إلا أن يسيطروا على إدارتها وبيت مالها ويستغفلوا ساکنیها بأنهم قد طلبوا بدم عثمان المظلوم، غير أن الوالي رفض دخولهم إليها أو تسلیم مؤسسات الحكومة، «فخرج إليهم عثمان بن حنيف فتواقعوا حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا و کتبوا بينهم کتابا أن يكفوا عن القتال،

ص: 230


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1 / 71. إن تتبع سيرة حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) تنبئ بمثالية منقطعة النظير وأن تلك المثالية هي التي حتمت عليه خوض ما كان کارها له و متیقنا من صحته، فلم يكن له التريث في العزل أو توليه أحدهم إلا وفق مواصفات حددها بقوله «أَنَّهُ لاَ یَنْبَغِی أَنْ یَکُونَ عَلَی الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْکَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِینَ الْبَخِیلُ، فَتَکُونَ فِی أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَلاَ الْجَاهِلُ فَیُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلاَ الْجَافِی فَیَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلاَ الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَیَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَلاَ الْمُرْتَشِی فِی الْحُکْمِ فَیَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَیَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ، وَلاَ الْمُعطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَیُهْلِكَ الأُمَّةَ» نهج البلاغة، 14

ولعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال والكلاء، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءا، ولا يعرض بعضهم لبعض حتى يقدم علي»(1) إلا أنهم خرقوا الاتفاق وأغاروا على بيت المال وقتلوا حراسه وانتهبوه، واهانوا ممثل الخليفة الشرعي وكادوا أن يقتلوه مع العلم أنه من كبار الصحابة.

مهد هذا الاعتداء على هيبة الدولة وقتل جنود الخلافة قيام أنصار الإمام علي (عليه السلام) بالزحف ومواجهة أهل الجمل لتبرز إلى المعطى التاريخي معركة الجمل الأصغر التي صُفِّيَ فيها ما كان موجودا من مقاومة لأنصار الإمام (عليه السلام) وأحرقت الدور وسيطر أهل الجمل على إدارة البصرة بشكل تام.

وصل الإمام (عليه السلام) إلى البصرة وراح يرسل الرسل إلى أهل الجمل ليستعلم عن سبب قدومهم وما أحدثوه، في مسعى سلمي طالما عهد من الإمام علي (عليه السلام)، فقد أرسل ابن عباس إلى الزبير قائلا له: «لا تلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصا أنفه يركب الصعب ويقول هو الذلول ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكة منه وقل له يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا»(2) وكان في ذلك كله يحاول أن ينتفع من مواطن اللين فيهم عن طريق إثارة صلة الرحم التي بينه وبين الزبير، وبعدها أرسل عمار بن ياسر إليه ولما أخبر بقدوم عمار،

ص: 231


1- خليفة بن خياط، تاريخ خليفة، 137
2- نهج البلاغة، 1 / 76، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 162، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 5 / 8

رفع الزبير صوته بالقول: «» وا انقطاع ظهراه! وا جدع أنفاه! وا سواد وجهاه! ويكرر ذلك مرارا»(1).

ولعل موقف الزبير هذا ناتج من إدراكه للدلالة الشرعية التي يحملها إرسال عمار بن ياسر كون النصوص الدينية التي صدرت بحق عمار من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) هي نصوص قد وعاها الزبير وغيره وهذا الارسال يعني تمام الحجة وتذكيرا له بموقفه المائل عن الحق، ثم عمد حين لم يصل إلى نتيجة وبعد أن اصطف العسكران أن يطلب من الزبير أن يخرج له ليذكره بأحاديث قالها الرسول (صلى الله عليه وآله) للزبير نبهه فيها بأنه سيقاتل الإمام وهو ظالم له، مما أسفر ذلك عن تنحي الزبير عن القتال ولكن الباقين أصروا على القتال(2)، ومن ثم فإن الإمام لم يكن إلا ليسعى إلى خيار السلم و التريث وفسح أكبر مجال لخيارات المسامحة ودرء القتال، لكنه لم يفلح إلا في رد الزبير عن القتال.

كما إن الحرب قد وقعت بعد أن استفرغ الإمام (عليه السلام) الطرق السلمية مع أهل الجمل، فحين صف الإمام أصحابه للقتال أخذ يوصيهم بأن «لا يرمين رجل منكم بسهم، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح، حتى أحدث إليكم، وحتى يبدأوكم بالقتال وبالقتل، فرمى أصحاب الجمل عسكر علي (عليه السلام) بالنبل رميا شديدا متتابعا، فضج إليه أصحابه، وقالوا: عقرتنا

ص: 232


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 168، وينظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 521
2- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 514، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 167

سهامهم يا أمير المؤمنين. وجيء برجل إليه، وإنه لفي فسطاط له صغير، فقيل له: هذا فلان قد قتل. فقال: اللهم اشهد، ثم قال: أعذروا إلى القوم، فأتی برجل آخر فقيل: وهذا قد قتل، فقال: اللهم اشهد، أعذروا إلى القوم، ثم أقبل عبد الله بن بدیل بن ورقاء الخزاعي، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل، قد أصابه سهم فقتله، فوضعه بين يدي علي (عليه السلام)، وقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخي قد قتل»(1).

ثم قال لأصحابه «أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه فان قطعت يده أخذه بيده الأخرى وإن قطعت أخذه بأسنانه قال فتى شاب أنا فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم فلم يقبله إلا ذلك الفتى فقال له علي اعرض عليهم هذا وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره والله في دمائنا ودمائكم فحمل على الفتي وفي يده المصحف فقطعت يداه فأخذه بأسنانه حتى قتل»(2)، إن هذا يدلل على اصرار أهل الجمل على القتال والتحريض عليه، مما يعني أن الحرب لم تكن مجهولة البداية أو مضطربة الأحداث ومن ثمّ فإن أمير المؤمنين ليس هو من أشعلها أو حبذها بل ما اتی به أهل الجمل قد حدد الخيارات و أباح الحرب ولم تسمح بوجود بديل عن خوضها.

لقد أوضح أمير المؤمنين كل ما جرى مع أهل الجمل وعدم ابقاءهم أي خیار متاح أمامه بقوله: فَخَرَجُوا یَجُرُّونَ حُرْمَهَ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّی اَللَّهُ عَلَیْهِ

ص: 233


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 111
2- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 520، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 112

وَ آلِهِ) کَمَا تُجَرُّ اَلْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِینَ بِهَا اَلْبَصْرَةَ، فَحَبَسَا نِسَاءَ هُمَا فِی بُیُوتِهِمَا، وَ أَبْرَزَا حَبِیسَ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ) لَهُمَا وَ لِغَیْرِهِمَا، فِی جَیْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَ قَدْ أَعْطَانِیَ اَلطَّاعَةَ، وَ سَمَحَ لِی بِالْبَیْعَةِ، طَائِعاً غَیْرَ مُکْرَهٍ، فَقَدِمُوا عَلَی عَامِلِی بِهَا وَ خُزَّانِ بَیْتِ مَالِ اَلْمُسْلِمِینَ وَ غَیْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً، وَ طَائِفَةً غَدْراً فَوَ اَللَّهِ لَوْ لَمْ یُصِیبُوا مِنَ اَلْمُسْلِمِینَ إِلاَّ رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِینَ لِقَتْلِهِ، بِلاَ جُرْمٍ جَرَّهُ، لَحَلَّ لِی قَتْلُ ذَلِكَ اَلْجَیْشِ کُلِّهِ، إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ یُنْکِرُوا، وَ لَمْ یَدْفَعُوا بِلِسَانٍ وَ لاَ بِیَدٍ. دَعْ مَا إِنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ اَلْمُسْلِمِینَ مِثْلَ اَلْعِدَّةِ اَلَّتِی دَخَلُوا بِهَا عَلَیْهِمْ»(1) وقد ذكر الإمام الباقلاني بقوله عن حروب أمير المؤمنين (عليه السلام) «ثم ما ظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة من استدعائهم ومناظرتهم وترك مبادأتهم والنبذ إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه (لا تبدؤوهم بالحرب حتى يبدؤوكم ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يكبس بيت ولا تهج امرأة) وفي رواية أخرى ولا يكسر بيت ورده رحالات القوم إليهم وترك اغتنام أموالهم وكثرة تعريفه وندائه على ما حصل في قبضته من أموالهم . ..إلى غير ذلك مما سنه من حرب المسلمين حتى قال جلة أهل العلم لولا حرب علي (عليه السلام) لمن خالفه لما عرفت السنة في قتال أهل القبلة، هذا مع ما علم من شجاعته وغنائه وإحاطته علما بتدبير الجيوش وإقامة الحدود والحروب وحماية البيضة. ..وكثرة ما ظهر منه من مناظرته لأهل البصرة وصفين وحروراء والنهروان ولطيف ما أحتج به وأبان من نفسه وفضل رأيه وأنه على الواضحة في سائر ما أتاه مما أنكروه»(2).

ص: 234


1- نهج البلاغة، 85
2- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، 547

إن عدم وجود خيارات متاحه لأمير المؤمنين لخصها الكاتب المغربي أمحزون بقوله: «و أما ما قيل من استعال علي (عليه السلام) القوة في غير مواطنها بإيثاره الحرب على السلم و الرفق في الأمور فإن ذلك لم يعهد في سياسة علي (عليه السلام) إلا عند الضرورة و عندما تفرض عليه الحرب فرضا ... فلم يكن يلجأ إلى الحرب إلا حين لا يمكنه اخماد الفتنة إلا بها... علي حارب من يعتقد انهم خرجوا على الخلافة وعنده لا يمكنه التساهل في ذلك... والمعهود من أسلوب علي في مواقفه استعمال الحكمة وعلاج الأمور بالرفق ما أمكن علاجه فإذا لم يتمكن حينها يلجأ إلى الحرب»(1)، اننا نعتقد أن مجرد حدوث تلك الحروب يعني أنها الخيار الأخير أمام امير المؤمنين (عليه السلام) فالنصرة لا تطلب بالجور أي أن ما تسمى خيارات هي في الحقيقة تسمت عند أمير المؤمنين بالجور كونها تحتوي على حل يدعم حكمه ولكن فيها جور على غيره من المسلمين مثل قضية اقرار معاوية أو التغاضي عن انحراف الخوارج، وقد تكون هذه الأمور اجراءات سياسية عند البعض ولكنها عند الإمام جور على الدين و الناس وهي خيانة وكفر لما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) خصوصا وان أمير المؤمنين قد استوفى كل مراحل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ولم يبدأ بالقتال.

ثالثا: حرب الإمام (عليه السلام) وحقيقة المفهوم.

لم يكن غائبا عن الأذهان أن لا يحدث تلاعب بحقيقة الجهد العلوي المبذول في حروب التأويل بل كان متوقعا ان تتأطر بأطر اجتهادية تبعا

ص: 235


1- تحقيق موقف الصحابة، 427 - 428

للتوجهات العقائدية والفكرية لهذا الطرف أو ذلك، فالنظرة التي تسلط على أي حدث تاريخي حتما ستخضع لمجموع مقومات ترتبط في أغلبها بشخصية المجتهد أو الباحث، وما وجدناه في هذه الجنبة التاريخي لا يشذ عن تلك الأمور، فقد برزت مجموعة من المفاهيم والمسميات و النعوت التي عرفت بها حروب الإمام علي (عليه السلام)، البعض منها يأتي متوافقا مع مفهوم التأويل والبعض يعبر عن اجتهادات ذاتية لا دليل على صحتها.

فلم تكن مفردة (حرب الفتنة) غائبة عن تلك المفاهیم بل كانت حاضرة وبقوة عند مجموعة من الفقهاء والمحدثين وحتى الباحثين المعاصرين، وهنا ينبغي لنا عرض النصوص التي صرح بها عن ذلك واصحابها ودوافعها ومدى توافقها مع الحقيقة الشرعية لتلك الحروب؟.

لا شك أن اولى حوادث تداول مفردة الفتنة بعد رسول الله (صلى الله عليه ويله) قد ارتبط ببيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعده وتحديد عندما رفض سعد بن عبادة ما يجري من إعداد لشخصية أبي بكر وتقديمه خليفة للمسلمين «ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل من الأنصار قتلتم سعدا قال: عمر فقلت وأنا مغضب قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر»(1) وإن الاطلاع على نص الرواية يعطي حقيقة المعنى للفتنة عند المسلمين فهي هنا تعني الإعتراض على التوافق الحاصل على بيعة الحاكم من قبل المسلمين لغرض جمع كلمتهم ويختص بالخروج على البعد السياسي / الديني لقيادة

ص: 236


1- ابن حبان، الصحيح، 2 / 157 وينظر: البلاذري، أنساب الأشراف، 1 / 582، ابن عساکر، تاریخ دمشق، 20 / 283، الذهبي، تاريخ الإسلام، 2 / 11

دولة الإسلام. هذا المفهوم الذي انطلق من السقيفة شكل تأسيسا فقهيا ومعرفيا عند جماعة المسلمين لنعت كل من حاول أن يخرج عن المألوف والمتعارف عن الجماعة كون حقيقة هذه اللفظة ومفهومها يدلان على السلبية للفعل أو الأمر الموسوم بها لذا قامت بعرض حروب الإمام (عليه السلام) تحت هذا المفهوم.

وفي ذلك تواجهنا نصوص ابن تيمية التي تعد الأشد ضراوة وغرابة فهو يصرح عن تلك الحروب بمجموعة ليست بالقليلة من الآراء و النصوص مستعرضا اياها من جنبتين، الأولى التي راح يلمح من خلالها إلى أن الدخول في قتال الفتنة أمر منهي عنه وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) تشير إلى أن القاعد فيها خیر من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي، والتي أوصلته إلى نتيجة ثانية وهي أن «ترك القتال كان خيرا من فعله من الجانبين»(1)، «وان قتال الفتنة مثل قتال الجاهلية لا تضبط مقاصد أهله و اعتقاداتهم» وكذلك انها حروب اجتهادية لا نص فيها.

إن ما استعرضه ابن تيمية وغيره من الباحثين(2) من أحاديث الفتنة لكي يدعموا بها آراءهم ويجعلوها مصداقا على حروب الإمام علي (عليه السلام) عليها مجموعة من الملاحظات أهمها:

1. إن حديث الفتنة قد روي بعدة روايات انحصر طريقها بسعد بن

ص: 237


1- منهاج السنة، 4 / 497
2- ينظر على سبيل المثال: حسان، الفتنة بين الصحابة، السويد، القتال في الفتنة، أمحزون، تحقيق موقف الصحابة في الفتنة، الغامدي، تسديد الإصابة فيها شجر بين الصحابة

أبي وقاص، وابو هري-ة، و محمد بن مسلمة، وابو بكرة بن زياد، وابو الأشعري وابنه أبو برد، و عديسة بنت أهبان(1)، وكلها تقول أن موسی الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أخبر بوقوع الفتنة وأمرهم بأن يقعدوا فيها ويلازموا بيوتهم ويكسروا سيوفهم فإن تعرض لهم أحد للقتل يكونوا كابن آدم المقتول(2)، ونص رواية أحمد بسنده عن سعد بن أبي وقاص يشير إلى ذلك صراحة قال: «سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي ويكون الماشي فيها خيرا من الساعي قال وأراه قال والمضطجع فيها خير من القاعد» وفي موضع أخر فيها زيادة: «قال أفرأيت إن دخل على بيتي فبسط يده إلي ليقتلني قال كن كابن آدم»(3).

2. إن هذا الحديث ذو مسحة تبريرية واضحة والقناة التي رفدتنا به هم الممتنعين عن المشاركة في الحرب التي خاضها الإمام (عليه السلام) ضد معارضيه وعن طريقهم أخذ مكانه في التراث الإسلامي، لذا يمكن أن يكون ذلك الحديث تبريراً لموقفهم الذي خذلوا فيه الحق المتمثل بالإمام علي (عليه السلام)، هذه نقطة في هذا الجانب، ولا يستبعد أن يكون هذا الحديث ذا صناعة واختلاق أموي قامت بنشره مؤسسة الوضع الأموي، ولكي يلاقي

ص: 238


1- عديسة بنت أهبان بن صيفي الغفاري روت عن أبيها وكان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) حديثا في القعود عن القتال وقت الفتنة. ابن سعد، الطبقات، 8 / 481، ابن الأثير، أسد الغابة، 5 / 98
2- ابن حنبل، المسند، 2 / 185
3- ابن حنبل، المسند، 2 / 185

قبولا ورواجا ويأخذ جانباً من المقبولية أسند لهؤلاء كونهم من الذين اشتهر أمرهم بأنهم لم يساندوا الإمام علي (عليه السلام) واعتزلوا الحرب، إذ الغريب أننا وحسب تتبعنا لم نجد هناك أي مصدر أخر لهذا الحديث غير هؤلاء.

3. إن الإجراء الذي توجب على الناس اتخاذه في الفتنة حسب هذا الحديث غير مقبول، فالحديث يصرح بالجلوس وانتظار ما ستؤول إليه الأمور، وهذا الإجراء قد یکون صحيحا في حال لم يتمكن الشخص من معرفة أي الأطراف المتنازعة على حق، وأما مع المعرفة الأكيدة فالواجب نصرة الطرف المحق، ولا يشك أحد أنه بوجود الإمام علي (عليه السلام) فالطرف المحق واضح كون الرسول (صلى الله عليه آله) قد صرح بملازمته (عليه السلام) للحق أينما كان وهو أمر اجمع المسلمون على قطعية صدوره من الرسول (صلى الله عليه وآله) بحق الإمام علي (عليه السلام)(1)، أضف إلى ذلك أنه ليس من المتوقع أن يثبط الرسول (صلى الله عليه وآله) الناس عن علي (عليه السلام) وهو يؤكد في مناسبات عدة على نصرته وشرعية حروبه وحتمية وقوعها، فهل يعقل أن يثبطهم عن نصرة الحق.

4. إن علماء الإسلام لم يتقبلوا مضمون هذا الحديث وعمدوا إلى نقده بأمور عدة أهمها أن فيه مضامين تشجيعية لأهل الباطل وخذلان لأهل الحق و مخالفة للأمر برد الظلم الذي قد يصدر من بعض الناس على ضعفاء المسلمين ونسائهم، ونجد ذلك واضحا في كلام الطبري الذي أورده ابن

ص: 239


1- أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، 36، الطبراني، المعجم الكبير، 23 / 329، الخطيب البغدادي، تاریخ بغداد، 14 / 322

حجر، إذ قال: «لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد ولا أبطل باطل ولوجد أهل الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المحرمات من أخذ الأموال وسفك الدماء وسبي الحريم بأن يحاربوهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه فتنة وقد نهينا عن القتال فيها وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء»(1) فهل یا تری غابت تلك المصلحة عن ذهن الرسول (صلى الله عليه وآله)؟!.

5. إن القعود عند وقوع الفتنة بين المسلمين هو مذهب اختص به أبو بكرة ومجموعة من الصحابة قد تنحصر بالمتخلفين عن القتال - وليس مذهب العامة من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة بل إن رأيهم نصرة المحق، وهذا ما صرح به النووي إذ قال «وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام يجب نصر المحق في الفتن والقيام مع - بمقاتلة الباغين كما قال تعالى (فقاتلوا التي تبغي) وهذا هو الصحيح وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمبطلون»(2)، وإذا تساءلنا من هو المحق في هذه الحروب، فإن النووي يؤكد الحقيقة التي تقول بأن الحق مع علي (عليه السلام) في كل تحركاته لذا يقول: «ان علي (عليه السلام) المحق المصيب في تلك الحروب هذا مذهب أهل السنة وكانت القضايا مشتبهة حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا

ص: 240


1- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 13 / 29، الشوكاني، نيل الأوطار، 7 / 99
2- شرح صحیح مسلم، 18 / 10

ولم يتيقنوا الصواب ثم تأخروا عن مساعدته»(1).

6. وفي هذا الحديث مخالفة للآيات القرآنية التي تقول: «وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ»(2)، وكذلك قوله تعالى: «فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(3) وكذلك يتعارض مع الأحاديث التي تشرع الدفاع عن النفس إذا ما حاول شخص الاعتداء(4)، فكيف يأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث أصحابه أن يتشبهوا بابن آدم القتيل، وهل يعقل أن يتعارض کلام الرسول (صلى الله عليه وآله) مع القرآن وأحاديث أخرى حدث بها، ألا يدلل هذا على أن الحديث ليس قطعي الصدور منه (صلى الله عليه وآله) وأنه جاء لتكبيل أي إرادة تحاول أن تنتفض ضد الباطل مع الحق و تخذيل أكبر قدر من الناس عن الحركة التصحيحية التي يقودها الواعون من أبناء الأمة ومن ثمّ لا يستبعد أن يكون هذا الحديث صنع في مصانع أموية لغرض فض الأمة عن أي جهد ثوري مضاد لها.

7. إن هناك من الروايات ما تقول أن المقصود بهذا الحديث هو أبو موسى الأشعري دون باقي الناس، إذ وردت الرواية أن عمار بن ياسر كان يقول لأبي موسى وقد راح يثبط الناس عن نصرة الإمام (عليه السلام) بتحديثهم بهذا الحديث: «يا أبا موسى أنشدك الله ألم تسمع رسول الله (صلى الله

ص: 241


1- شرح صحیح مسلم، 18 / 10
2- سورة الشورى، الآية: 39
3- سورة الحجرات، الآية: 9
4- مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 2 / 4، الشافعي، كتاب الأم، 1 / 257، أحمد بن حنبل، المسند، 1 / 190، الترمذي، الجامع الصحيح، 2 / 237، ابن حزم، المحلى، 11 / 108

عليه وآله) يقول من كذب علي متعمدا فلیتبوأ مقعده من النار فأنا سائلك عن حديث فإن صدقت وإلا بعثت عليك من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يقررك ثم أنشدك الله أليس إنما عناك أنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسك قال إنها ستكون فتنة في أمتي أنت يا أبا موسى فيها نائم خير منك قاعدا وقاعد خير منك قائما وقائم خير منك ماشيا فخصك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعم الناس فخرج أبو موسى ولم يرد عليه شيئا»(1)، ولعلنا نميل إلى هذا الأمر فالرسول (صلى الله عليه وآله) قد أطلق الحديث تحذيراً لفرد واحد من الصحابة معروف باسمه وجعله خاصا به وان الفتنة إذا وقعت خير له أن يكون فيها قاعدا لأنه إذا ولج فيها سيضطلع بدور خطير ليس أهلاله تترتب عليه نتيجة كارثية. وهذا ما حصل بالفعل من قبوله التحكيم - ولكن أتت دوائر الوضع فيما بعد وجعلته أمر لجميع المسلمين وذا دلالة عامة مع أنه أمر خاص لفرد من الصحابة.

8. هل من المعقول أن يعلم كل هؤلاء الذين أتت الرواية من طرفهم بحكم من تحرك في هذه الفتنة ويغيب حكمها وأثرها عن باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله).

9. ان هذا الحديث معارض بحديث نبوي ورأي للصحابة بأن يلتزموا في الفتنة جانب القرآن وعلي (عليه السلام) وليس البيوت، فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله): «ستكون فتنة بعدي فالزموا عليا فإنه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة وهو معي في السماء العليا وهو الفارق بين الحق

ص: 242


1- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3 / 298، أبو يعلى، المسند، 3 / 204

والباطل»(1)، وكذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: «ستكون فتنة فمن أدركها فعليه بخصلتين كتاب الله وعلي بن أبي طالب...»(2)

وما روي من أن أبا ذر كان عالما بوقوع الفتنة وكان يوصي بالتزام جانب الإمام علي (عليه السلام) وهذا ما صرح به بشكل واضح في قوله: «إنما ستكون فتنة لا تشبه هذه التي نحن فيها فإن أدركتها فعليك بعلي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول وقد أخذ بيد علي (عليه السلام): هذا أول من آمن بي، وصدقني، وهو أول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وهذا سلم الله، وهذا حرب الله، وهذا الذي يعصم من الفتنة، وهذا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظالمين، وقد خاب من افترى»(3).

وفي رواية أخرى عن أبي رافع، قال: «سیر عثمان أبا ذر إلى الربذة، فأتيته لأسلم عليه، فلما أردت الانصراف قال لي: إنه ستكون فتنة، ولست أدري أدركها أم لا، ولعلك أن تدركها، فان أدركتها فعليك بالشيخ علي بن أبي طالب، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول له: أنت أول من آمن بي ويصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت یعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكفرة»(4).

ص: 243


1- الذهبي، میزان الاعتدال، 1 / 188، ابن حجر العسقلاني، لسان المیزان، 1 / 357
2- ابن عساکر، تاریخ دمشق، 42 / 41 - 42، ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، 2 / 414، 3 / 283
3- البلاذری، انساب الأشراف، 118، النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2 / 264
4- النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2 / 278، وينظر أيضا: أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة 290، الطبري الشيعي، المسترشد، 215

10. والعجيب أن هذه الروايات تؤيدها وتعضدها رواية صحيحة تشير الى أن كلا من طلحة والزبير وعائشة كانوا يوصون بالتزام جانب الإمام علي (عليه السلام) إذا ما وقعت الفتنة، ففي رواية نقلها الطبري بسند صحيح عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن جاوان قال «قلت له أرأيت اعتزال الأحنف ما كان؟ قال سمعت الأحنف قال: حججنا فإذا الناس مجتمعون في وسط المسجد يعني النبوي وفيهم علي والزبير وطلحة وسعد إذ جاء عثمان فذكر قصة مناشدته لهم في ذكر مناقبه قال الأحنف فلقيت طلحة والزبير فقلت إني لا أرى هذا الرجل يعني عثمان الا مقتولا فمن تأمراني به قالا علي فقدمنا مكة فلقيت عائشة وقد بلغنا قتل عثمان فقلت لها من تأمريني به قالت علي قال فرجعنا إلى المدينة فبايعت عليا ورجعت إلى البصرة فبينما نحن كذلك إذ أتاني آت فقال هذه عائشة وطلحة والزبير نزلوا بجانب الخريبة يستنصرون بك فأتيت عائشة فذكرتها بما قالت لي ثم أتیت طلحة والزبير فذكرتهما فذكر القصة وفيها قال فقلت والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحواري رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا أقاتل رجلا أمرتموني ببيعته فاعتزل القتال مع الفريقين»(1)، ومن ثمّ فهذه الرواية تؤكد على التزام جانب علي وليس الاعتزال وهي تؤكد على أن أعداء علي (عليه السلام) هم من أمروا الناس بالتزامه وهو تقرير لقول الرسول (صلى الله عليه وآله) من أنه لا يخرج عن هدى ولا يدخل في ردی.

ص: 244


1- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 13 / 29

وقد يؤيد هذه الأمور ما نقل عن الرسول (صلى الله عليه وآله) من أنه قد أوصى المسلمين أن ينصروا الأمير في الفتنة(1)، وهو إطلاق عام، وان كان أبو هريرة قد وجهه الى شخص عثمان، غير أن هذا التوجيه لم يرتضه الباحثون لذا صرح السيد شرف الدين بقوله» وربما حرف الكلم عن مواضعه، کما فعل في الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله: ستكون بعدي فتنة واختلاف قالوا فما تأمرنا عند ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله - وقد أشار إلى علي -: علیکم بالأمير وأصحابه. لكن أبا هريرة آثر التزلف إلى آل أبي العاص وآل معيط وآل أبي سفيان فروی لهم ان النبي صلى الله عليه وآله أشار في هذا الحديث إلى عثمان وقد حفظوا له هذا الصنع»(2)، کما لم يرتض ذلك أبو رية اذ عدّ هذا الحديث هو عبارة عن هدية من أبي هريرة إلى آل أبي العاص(3).

والنتيجة التي نتوصل إليها أن حديث القعود في الفتنة شأنه شأن بقية الأحاديث القابلة للمداولة وأن إخضاعه للموازين العلمية لا يدلل على ما ذهب إليه ابن تيمية ومن تبعه، بل إن المرجحات قد تدلل على كثير من مواطن الخلل فيه مما يضعف قيمة الاستدلال به.

إن هذا الأمر غير مستغرب من ابن تيمية ومن سار في فلك آراءه فوصمه حروب الإمام (عليه السلام) بحروب الجاهلية أو بوصفها حروب فتنة

ص: 245


1- ابن أبي شيبة، المصنف، 7 / 491، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3 / 99
2- شرف الدین الموسوي، أبو هريرة، 30
3- أبو هريرة، شيخ المضيرة، 229

كانت نتاجا لما يعتقده من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قاتل للرئاسة لا للديانة لذا أتی حکم ابن حجر على ابن تيمية واضحا إذ قال: «وأن العلماء نسبوه إلى النفاق لقوله هذا في علي كرّم الله وجهه، ولقوله أيضًا فيه: إنه كان مخذولا، وإنه قاتل للرئاسة لا للديانة».

أما بخصوص المرجح الثاني لتسمية حروب الإمام علي (عليه السلام) بالفتنة لكونها حروب قامت على اجتهاد الإمام علي ولم يكن مؤمرا بها، فإن ذلك الأمر ليس بصحيح وما ذكرناه سابقا يبين الأمر النبوي لأمير المؤمنين (عليه السلام) بقتال التأويل وقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وكذلك ما ذكر عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله «حربك حربي وسلمك سلمي»(1)، وهذا أمر يعني أن كل من حارب علياً أو حاربه هو محارب

ص: 246


1- صرح ابن تيمية عن هذا الحديث بقوله: وهذا الحديث ليس في شيء من كتب علماء الحديث المعروفة لا روي بإسناد معروف. ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قاله لم يجب أن يكونوا قد سمعوه فإنه لم يسمع كلَّ منهم كلَّ ما قاله الرسول (صلى الله علیه و آله) فكيف إذا لم يعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قاله ولا روي بإسناد معروف بل کیف إذا علم أنه كذب موضوع على النبي (صلى الله عليه و آله) باتفاق أهل العلم بالحديث» منهاج السنة، 4 / 495، بينما يروي أحمد بن حنبل هذا الحديث في مسنده 2 / 442 ما نصه «نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال أنا حرب لمن حاربکم وسلم لمن سالمکم» وكذلك روي في غيره من المصادر بما نصه: «أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم» ينظر: الترمذي، صحيح الترمذي، 5 / 699، الطبراني، المعجم الكبير، 3 / 30، المعجم الصغير، 2 / 3، الحاكم الحسكاني، شواهد التنزیل، 2 / 44، ابن مردويه، المناقب، 304، الذهبي، میزان الاعتدال، 1 / 176، الموفق الخوارزمي، المناقب، 150، ابن کثیر، البداية والنهاية، 8 / 40، وغيرها من المصادر

لرسول الله و أن من سالمه هو مسالم لرسول الله، والعجيب أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قد خص أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الحديث وكأنه اشعار لكل من حاول التخلف أو الانشقاق وعدم الالتحاق أو التشكيك بحروب الإمام علي (عليه السلام) في دلالة واضحة على حجم الرصيد الشرعي الذي ارتكزت عليه هذه الحروب الثلاث.

لعل أصدق المفاهيم التي يمكن أن توسم بها حروب أمير المؤمنين (عليه السلام) هو حرب البغاة وهو مفهوم مرتكز على جملة من المعطيات الإيجابية التي جعلت من حروب الإمام قائمة و مستظلة بآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، فهي تعبيرا حي لما ورد في قوله تعالى «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» لذا صرح علماء المسلمين بأن من حارب أمير المؤمنين (عليه السلام) هم البغاة(1). كما أن ذلك المفهوم منسجم مع قول الرسول (صلى الله عليه وآله) لعمار بن یاسر (رضوان الله علیه): «ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»(2).

ص: 247


1- لقد ورد عن الشافعي قوله: «أخذنا احکام البغاة من سير علي» وقد نقل ابن حجر عن الرافعي قوله «وثبت أن أهل الجمل وصفين والنهروان بغاة» وعن ابن خزيمة قوله «کل من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في امارته فهو باغ على هذا عهدت مشايخنا»
2- أحمد بن حنبل، المسند، 3 / 22، 3 / 91، البخاري، الصحيح، 3 / 207

رابعا: الجهاد العلوي ودعوى زعزعة مبدأ الألفة والجماعة

لعل عرض الآراء السابقة من قبل الذين خاضوا في حروب الإمام علي (عليه السلام) بنبأ بأنهم جميعا قدعدوا تلك الحروب بمثابة عامل أساس في زعزعة الدولة الإسلامية والألفة التي كانت تنعم بها وترفل في ثناياها، ومؤكَّد أن مرور أي كيان بشري بحالة صراع وحروب حتما سيؤثر على طبيعة الحياة لسكان ذلك المجتمع أو الكيان فلا بد وأن تحصل بعض المنغصات التي تربك الدعوة الموجودة، والأمر لا يكاد يكون مختلفا في مدة حکم وحروب الإمام علي (عليه السلام) فقد ثُكلت الأمة الإسلامية بقتلاها من جميع الأطراف المتصارعة وأوجدت نوعا من الضغينة و التنافر بين أتباع الاتجاهات المختلفة، غير أن جملة من الأمور ينبغي ملاحظتها لندرك بعدها أن حروب الإمام (عليه السلام) ليست هي العامل الأساس الذي زعزع الأمة وألفتها بل هناك مجموعة من المعطيات هي التي حتمت على تلك المدة أن تكون بهذا الشكل.

لو تتبعا طبيعة الألفة المزعومة في المجتمع الإسلامي نجد أنها قد منیت بخيبة أمل واضحة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) مباشرة، إذ إن المسلمين سرعان ما تزعزعت عقيدتهم وأصبحوا يموج بعضهم ببعض بل ويتقاتلوا أحيانا، فما جرى من أحداث في سقيفة بني ساعدة ينبئ عن حقيقة ذلك الأمر، فالمسلمون من قريش يحاولون أن يؤمروا أبا بكر والأنصار لا يرتضون ذلك إلا أن تكون لهم حصة النصف من الإمارة مما أدى إلى ممارسة بعض الأمور العدوانية من قبل جماعة من قريش على الأنصار حتى وصل

ص: 248

الأمر أن يؤخذ الحباب بن المنذر ويوطا في بطنه ویدس التراب في فمه(1) لأنه قال: «أنا جُذَيلُها المُحَكَّك وعُذَيقُها المُرَجَّب منا أميرٌ ومنكم أميرٌ يا معشر قريش وَكَثُرَ اللّغَطُ وارتفعتِ الأصواتُ»(2)، بل كاد أن يصل الأمر إلى قتل زعيم الأنصار سعد بن عبادة، إذ يشير عمر بن الخطاب إلى ذلك بقوله «ونزونا على سعد حين قال قائل: قتلتم سعدا، قلت: قتل الله سعدا، إنه منافق»(3)، لا لشيء إلا لأنه لم يوافق على ذلك المستجد السياسي الذي يحاول أصحابه أن يستغلوا الفرصة.

لقد تعدى الأمر ذلك كثيرا فرواية ابن الأثير تشير إلى أن الألفة بين المسلمين وصلت إلى أدنی نسبها حين استقوى أبو بكر على المسلمين بقبيلة أسلم إذ یروی عن ذلك فيقول «جاءت أسلم فبايعت فقوي أبو بكر بهم وبايع الناس بعد»(4) أي أن القوة العسكرية كانت هي السلطة التي فعلت حكم أبي بكر وليس الألفة أو الإجماع، فبيعة الناس بعد الاستقواء بقبيلة أسلم يدلل على الإجبار والإكراه وليس السلم والألفة؟!، يضاف إلى ذلك

ص: 249


1- الجوهري، السقيفة وفدك، 66، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6 / 40
2- عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، 5 / 444، أحمد بن حنبل، المسند، 1 / 56، البخاري، الصحيح، 8 / 27 ابن حبان، الثقات، 2 / 157، البيهقي، السنن الكبرى، 8 / 142، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 24
3- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2 / 459، وينظر: عبد الرزاق الصنعاني، المصنف، 5 / 444، أحمد بن حنبل، المسند، 1 / 56، ابن حبان، الثقات، 2 / 157، البيهقي، السنن الکبری، 8 / 142، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 24. وإذا كان عمر لم يجرؤ على قتل سعد بن عبادة جهارا، فقد سخر له جنا سياسيا قتله خلسة وغدرا بعد حين من السقيفة
4- الكامل في التاريخ، 2 / 331

شيء آخر هو أن ما جرى بعد السقيفة ينبئ بشدة النزاع وعدم وجود أي مساع سلمية لذا وصل الأمر إلى:

1. استباحة بیت الزهراء لشدة المعارضة التي التجأت إليه ومشاركتها في الامتناع عن البيعة، قال ابن عبد ربه الأندلسي «وأما علي والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر ليخرجوا من بيت فاطمة وقال له: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا بن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا ما دخلت فيه الأمة»(1) «حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فیشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)! والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك، إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت، قال: فلما خرج عمر جاؤوها فقالت: تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن علیکم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف»(2).

بل تعدى الأمر إلى أن يقتل صحابي على اثر عدم قبوله للمستجد السياسي والنظام الذي يترأسه أبو بكر بل وتستباح قبيلته وعرضهم، فمالك

ص: 250


1- العقد الفريد، 5 / 13
2- ابن أبي شيبة، المصنف 8 / 527، المتقي الهندي، کنز العمال، 5 / 651

بن نويرة كان واضحا في رفضه لأبي بكر وهو ممن شهد له الرسول (صلى الله عليه وآله) بالجنة، غير أنه ذهب ضحية خرقه الإكراه والعنف الذي، أولد نظاما سياسيا طارئا، وحروب الردة في حقيقة الأمر مثال للقتال الذي حدث بين المسلمين لأهداف تقوية وإرساء قواعد حكم أبي بكر فمالك بن نويرة نموذج لحروب الردة التي قتل فيها المسلمون في حكم أبي بكر، إذ لا يستطيع أحد أن يقول أن من قتل فيها كان كافراً إذ لو كان كافراً لما سميت حروب ردة وإنما سميت مسمى آخر كون الردة تقال لمن كان مسلم ثم خرج عن الإسلام(1)، وهذه الحروب فيها رد صريح على السلمية والألفة المزعومة التي رفل بها المجتمع المسلم قبل خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام).

بل إن ما جرى في حكم عثمان من تعد صارخ على خلص الصحابة (أبي ذر، عمار، عبد الله بن مسعود) واضح في كونه لا ينتمي إلا إلى دلائل الفرقة و الاختلاف، فأبو ذر مات منفيا في الربذة، وعمار ضرب وقت الظهر بعد أن أخرج بأمر من عثمان حتى أفاق وقت العشاء، عبد الله بن مسعود قطع عطاءه ومات متأثرا بأعمال عثمان.

هذا النموذج الروائي يوضح أن الألفة والجماعة الإسلامية مرت بموقف لا تحمد عليه قبل خلافة الإمام علي (عليه السلام)، إلا أن الإمام (عليه السلام) حاول بعد توليه الحكم أن يُرجع الأمور إلى نصابها وأن يزرع في المسلمين الحب والود لإسلامهم بعد أن بدا للمعدمين منهم أنه إسلام قريش

ص: 251


1- أبو حبيب، القاموس الفقهي، 147، فتح الله، معجم ألفاظ الفقه الجعفري، 208، قلعجي، معجم لغة الفقهاء، 221

الذين عدّوه مصدراً للثراء الفاحش(1) حاول أن يلغي الفوارق الإثنية بين المسلمين ليعزز الألفة والود فلم يفرق بين أبيض وأسود أو قرشي و غيره أو حر و عبد بل كانوا سواسية عنده كل هذه الأمور كانت ترنو إلى تعزيز مبدأ الجماعة والألفة الإسلامية غير أنه فوجئ بدعاة الحرب وقد أشعلوا أقطار الدولة الإسلامية عليه ورغم ذلك لم يكن إلا ليعالج الأمور على روية وهدوء قدر ما أمكن وكان جلّ مبتغاه أن يحافظ على جماعة المسلمين من أن ينفرط عقدها لذا لم يكن ليخالف المنهج الذي رفعه من أول ما استبيح حقه «والله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين» فبعد خمس وعشرون عاما من تلك الكلمة نراه يجدد مقولته بأختها حين قال: (إن هؤلاء قد تمالأوا على سخطة إمارتي وسأصبر مالم أخف على جماعتكم. فإنهم إن تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين، وإنما طلبوا هذه الدنيا حسدا لمن أفاءها الله عليه، فأرادوا رد الأمور على أدبارها. ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله والقيام بحقه والنعش لسنته «اللهُمَّ إِنَّكَ

ص: 252


1- عن طبيعة نظرة قريش للإسلام نورد ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك «ولولا أن قريشا جعلت اسمه - أي النبي (صلى الله عليه وآله) . ذريعة إلى الرياسة، وسلما إلى العز والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوما واحدا، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعا، وبازلها بکرا، ثم فتح الله عليها الفتوح، فأثرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الاسلام ما كان سمجا، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطربا، وقالت: لولا إنه حق لما كان كذا، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها، وحسن تدبير الامراء القائمين بها، فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرین، فكنا نحن من خمل ذكره، وخبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها، ومات كثير ممن يعرف، ونشأ كثير ممن لا يعرف ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 20 / 299

تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ یَکُنِ الَّذِی کَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِی سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَیْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلکِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِینِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِی بِلَادِكَ فَیَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَهُ مِنْ حُدُودِكَ»

غير أنه اضطر اضطرار إلى أن يخوض حرب الجمل ومن بعدها صفين ثم النهروان التي لم يكن يتعامل مع الخوارج بالرغم من تصريحهم العلني بعدم الخضوع له كخليفة إلا بمسالمة و ألفة وكان طابع الإنصاف والمسالمة يكاد يكون هو الغالب على تعامله معهم، فقد أعطاهم حرية التكتل السياسي والمعارضة السلمية بشرط أن لا تمس أمن وكيان المجتمع الإسلامي وجماعته ولا تضعف هيبة الدولة أو تتعرض لها، ولم يمنعهم من ممارسة المعتقد الديني الذي اعتقدوه، ولم يقطع عنهم استحقاقهم المالي المعين لهم من بيت مال المسلمين، لذا ورد عنه (صلوات الله عليه أنه قد تعرض لأكثر من صورة من صور التطرف الخارجي المعارض غير أن قابله بالرد الذي يتناسب مع نوع المعارضة و عدم زعزعة المجتمع فمن تلك الصور أن أحد الخوارج نادي في ظهر أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يصلي «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»(1).

وفي أخرى قام إليه أحد الخوارج قائلا: «لا حكم إلا الله، ثم قام آخر فقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله. فأشار عليهم بيده: اجلسوا. نعم، لا حكم إلا لله، كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم. ألا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا لن نمنعكم

ص: 253


1- سورة الروم، الآية: 60

مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا. ثم أخذ في خطبته» وفي رواية «إنا لا نمنعهم الفيء ولا نحول بينهم وبين دخول مساجد الله ولا نهيجهم ما لم يسفكوا دما وما ينالوا محرما»(1).

وحتى في نهاية حكمه لم يسمح بقتالهم إنصافا وعدلا فهو القائل: «لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه يعني معاوية وأصحابه»(2) خلافا لما فعله معاوية بن أبي سفيان الذي لم يسمح لهم بأن يبقوا في جزيرة العرب وشن عليهم حربا ابتدأها من أول يوم دخل فيه الكوفة سنة 41 ه، إذ تشير المصادر إلى أن معاوية تشدد في أمر خروج الكوفيين على الخوارج فلم يسمح لمعتذر منهم ولم يقبل عذر أحدهم، لذا خرجت الكوفة طالبة مناجزة الخوارج، ولم تحفظ لهم هوية المعارضة السلمية او الحقوق التي حفظت لهم زمن الإمام علي (عليه السلام).

إن وسم خلافة الإمام علي (عليه السلام) بسمة الزعزعة للجماعة الإسلامية ما هو إلا تناسي لتلك الأحاديث التي حددت أطر التحرك العلوي المقدس الذي لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه إلا منفذا لإرادة الواقع الإسلامي المشرعن من قبل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأحاديث عدة ذكرنا قسما منها، كان الواقع الإسلامي حقاً وحقيقة يحتاج مثل هكذا علاج

ص: 254


1- البلاذري، أنساب الأشراف، 355 الطبري، تاريخ الرسل و الملوك، 4 / 54، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 3 / 334، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2 / 269، 178، ابن كثير، البداية والنهاية، 7 / 312
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 5 / 98

بعد أن غيب نقاء الإسلام ودرست أحكامه ومبادئه ولم تكن إلا ضربا لهالة التقديس لبعض المسميات التي نمت وترعرعت في مناطق الظل وشكلت طفيليا كاد أن يغير وجه الإسلام الحقيقي.

ص: 255

قائمة المصادر والمراجع

* القرآن الكريم

* ابن الأثير، أبو الحسن على بن أبي الكرم بن محمد بن عبد الكريم بن الشيباني (630 ه / 1232 م).

1. الكامل في التاريخ، (دار صادر - دار بيروت، بيروت - لبنان 1385 ه/ 1965 م).

2. أسد الغابة في معرفة الصحابة، (دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، د. ت).

* أحمد بن حنبل، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، (241 ه/ 855 م).

3. المسند (دار صادر، بيروت - لبنان، د. ت).

* الباقلاني، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب (403 ه/ 1013 م)

4. تمهد الأوائل وتلخيص الدلائل، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر (ط. 3، بيروت - لبنان، 1414 ه/ 1993 م).

* البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي (256 ه/ 869 م).

5. صحيح البخاري، (دار الفكر، بيروت - لبنان، 1401 ه/ 1981 م).

* البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر (279 ه/ 892 م).

6. أنساب الأشراف، تحقيق وتعليق: محمد باقر المحمودي (ط 1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1394 ه/ 1974 م).

* البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (458 ه/ 1065 م).

7. السنن الكبرى، (دار الفكر، بيروت - لبنان، د. ت).

ص: 256

* الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (279 ه/ 909 م).

8. الجامع الصحيح، تحقيق وتصحيح: عبد الوهاب عبد اللطيف (ط 2، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1403 ه/ 1983 م).

* ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (728 ه/ 1328 م).

9. منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تحقيق: محمد رشاد سالم (دار الفضيلة للنشر، الرياض - السعودية، 1242 ه).

* الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد، (405 ه/ 1014 م).

10. المستدرك على الصحيحين، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي (دار المعرفة، بيروت - لبنان، د. ت).

* ابن حبان، علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (354 ه/ 965 م).

11. صحيح ابن حبان، تحقيق: شعیب الارنؤوط (ط 2، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1414ه/ 1993 م).

* ابن حجر، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 ه/ 1448 م).

12. لسان الميزان (ط 2، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، 1390 ه/ 1971 م).

13. مقدمة فتح الباري، تقديم: حسن عباس زكي (ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1998م).

* ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين ابن أبي الحديد المدائني (656 ه/ 1258 م).

ص: 257

14. شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (ط 1، دار احیاء الكتب العربية، بيروت - لبنان، 1378 ه/ 1959 م).

* الجوهري، أبو بكر أحمد بن عبد العزيز البصري البغدادي (323 ه/ 934 م).

15. السقيفة و فدك، تقديم وجمع وتحقيق: محمد هادي الأميني (ط 2، شركة الكتبي للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1413 ه/ 1993 م).

* الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي (463 ه/ 1070 م).

16. تاریخ بغداد، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا (ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1417 ه - 1997 م).

* ابن خلکان، أبو العباس أحمد بن محمد بن ابراهیم، (681 ه / 1282 م).

17. وفيات الأعيان وانباء ابناء الزمان، تحقيق: احسان عباس (دار الثقافة، بيروت - لبنان، د. ت).

* خليفة بن خیاط (240 ه/ 854 م).

18. تاریخ خليفة بن خیاط، تحقيق: سهیل زکار، (دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، د. ت).

* الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان، (748 ه / 1347 م).

19. تاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، (ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 1407 ه/ 1987 م).

20. میزان الاعتدال، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، د. ت).

ص: 258

* ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الزهري، (230 ه/ 844 م).

21. الطبقات الكبرى (دار صادر، بيروت - لبنان، د. ت).

* الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس (204 ه/ 819 م).

22. كتاب الأم (ط 2، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1403 / 1983 م).

23. الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر (المكتبة العلمية، بيروت - لبنان، د. ت.).

24. المسند (دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، د. ت)

* الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (360 ه/ 970 م).

25. المعجم الصغير، (ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، د. ت).

26. المعجم الكبير، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، (ط 2، دار احياء التراث، بيروت - لبنان، 1397 ه/ 1976 م).

* الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (310 ه/ 922 م).

27. تاريخ الرسل والملوك (ط 4، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، 1403 ه/ 1993 م).

* ابن عبد ربه، أحمد بن محمد الأندلسي (428 ه/ 941 م).

28. العقد الفريد، تصحيح: محمد أمين (القاهرة - مصر، 1949 م))

* عبد الرزاق الصنعاني، أبو بكر عبد الرزاق بن همام (211 ه/ 826 م).

29. المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، (ط 1، المجلس العلمي، بيروت لبنان، 1392 ه/ 1972 م).

* ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي (571 ه/ 1175 م).

ص: 259

30. تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: علي شيري (ط 2، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1415 ه/ 1995 م).

* الإمام علي (عليه السلام) (40 ه/ 664 م).

31. نهج البلاغة (ط 4، مؤسسة أنصاريان للنشر، قم المقدسة - ايران، 1426 ه / 2006م).

* ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري، (276 ه/ 889 م).

32. الإمامة والسياسة، تحقيق: طه محمد الزيني، (مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، 1387 ه/ 1967 م).

* القندوزي، سليمان بن إبراهيم الحنفي (1294 ه/ 1877 م).

33. ينابيع المودة لذوي القربى، تحقيق: سيد علي جمال أشرف الحسيني (دار الأسوة للطباعة والنشر، ايران، 1416 ه/ 1996 م).

* ابن كثير، أبو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي (774 ه/ 1372 م).

34. البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري (ط 1، دار احياء التراث، بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

* المتقي الهندي، علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين (ت 975 ه/ 1567 م).

35. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط تصحيح بكري حياني، صفوة السفا (مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1409 ه/ 1989 م).

* ابن مردويه، أبو بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الإصفهاني (410 ه/ 1019 م).

36. مناقب الإمام علي (عليه السلام)، جمع وتحقيق عبد الرزاق محمد حسين حرز

ص: 260

الدين، (ط 2، دار الحدیث، قم المقدسة - ایران، 1422 ه).

* مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج ابن مسلم القشيري النيسابوري (261 ه / 874 م).

37. الجامع الصحيح (ط 1، دار الفكر، بيروت - لبنان، د. ت).

* الموفق الخوارزمي، الموقف بن أحمد المكي الحنفي الخوارزمي (568 ه/ 1172 م).

38. المناقب، تحقيق: مالك المحمودي (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة.

ایران، 1414 ه)

* الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (807 ه/ 1404 م).

39. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، (دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

المراجع

* أمحزون، محمد.

40. تحقیق موقف الصحابة في الفتنة من مرويات الإمام الطبري والمحدثين (ط. 2، القاهرة - مصر، 1428 ه/ 2007 م).

* الأميني، عبد الحسين أحمد الأميني النجفي.

14. الغدير في الكتاب والسنة والأدب (ط 4، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 1397 ه/ 1977 م).

* ابو حبيب، سعدي.

42. القاموس الفقهي (ط 2، دار الفكر - بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

ص: 261

* حسان، محمد.

43. الفتنة بين الصحابة (مكتبة فياض للتجارة والتوزيع، ب. م. ب. ت.).

* أبو ریه، محمود.

44. شیخ المضيرة أبو هريرة (ط 3، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت - لبنان).

* السويد، عبدالله بن عبدالعزيز.

45. القتال في الفتنة دراسة تأصيلية عقدية (ط. 1، المملكة العربية السعودية، 1429 ه/ 2008 م).

* الغامدي، ذياب بن سعد بن آل حمدان.

46. تسديد الإصابة فيما شجر بين الصحابة، مراجعة وتقريض: صالح بن فوزان الفوزان (ط 2، دار المودة، المملكة العربية السعودية، 1425 ه).

* فتح الله، أحمد.

47. معجم الفاظ الفقه الجعفري (ط 1، السعودية، 1415 ه/ 1995 م).

* قلعجي، محمد.

48. معجم لغة الفقهاء (دار النفائس، بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

ص: 262

المحتويات

مقدمة المؤسسة...5

البحث الأول موقف الإمام علي (عليه السلام) من تغير السياسات الداخلية للدولة في عصر الخلفاء

مقدمة:...11

أولاً: الاجراءات الاقتصادية والادارية في عهد عمر بن الخطاب...17

ثانياً: الاجراءات الاقتصادية والادارية في عهد عثمان...30

ثالثاً: الإصلاح الاقتصادي والإداري في عهد الإمام علي (عليه السلام)...42

قائمة المصادر والمراجع...86

البحث الثاني الاجتماع السياسي والإسلام المتغایر بحث في معوقات النشأة المستأنفة

المقدمة:...97

المحور الأول: في تكوين الاجتماع السياسي الإسلام ما بعد النبوة:...100

المحور الثاني: في معوقات النشأة المستأنفة:...121

أولاً - اصطدام مشروع الاستئناف بالقاعدة القرشية - العربية:...130

ثانياً - اصطدام مشروع الاستئناف بالقاعدة الجماهيرية:...141

قائمة المصادر والمراجع:...168

ص: 263

البحث الثالث موقف الإمام علي (عليه السلام) من الفتوحات الإسلامية

المقدمة:...183

الإرث النصي في مشروعية التمدد العسكري في خطاب عصر ما بعد النبي صلى الله عليه وآله)...185

الإمام علي (عليه السلام) بين الاعتزال والموضوعية...191

الفتوحات والصورة النفسية للعرب في رؤية الإمام علي (عليه السلام)...196

الدور الأيديولوجي للإمام علي (المشورة - التخطيط - التوجيه عن بعد)...199

الخاتمة...209

قائمة المصادر والمراجع...211

البحث الرابع حروب الإمام علي (عليه السلام) بين المصادقة القرآنية والنبوية ومبدأ الألفة والجماعة الإسلامية

المقدمة:...217

أولا: الأبعاد التوافقية ما بين جهاد الرسول (صلى الله عليه وآله) و حروب أمير المؤمنين (البعد الشرعي أنموذجا)...218

ثانياً: جدلية الخيارات واصطدامها بالثوابت الدينية والسياسية...226

ثالثا: حرب الإمام (عليه السلام) وحقيقة المفهوم...235

رابعا: الجهاد العلوي ودعوى زعزعة مبدأ الألفة والجماعة...248

قائمة المصادر والمراجع...262

ص: 264

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.