العتبة العباسية المقدسة
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية
نحن والغرب[1]
مقاربات في الخطاب النقدي الاسلامي
إعداد وتحرير
أ.د. عامر عبد زيد الوائلي - هاشم الميلاني
2017م
ص: 1
هویه الکتاب
.الکتاب:
نحن والغرب.. مقاربات في الخطاب النقدي الاسلامي
.إعداد وتحرير :
أ.د. عامر عبد زيد الوائلي - هاشم الميلاني
.الناشر:
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية/العتبة العباسية المقدسة .
.الطبعه:الأولی 2017م-1438ه_
ص: 2
مدخل منهجي لمعرفة الغرب
مقدّمات تأسيسيّة في علم الاستغراب: لماذا الاستغراب
هاشم الميلاني...12
جدلية الأنا والآخر: مشروع الخطاب النقدي الاسلامي
أ.د. عامر عبد زيد الوائلي...30
في إمكانية معرفة الغرب: ملاحظات منهجية
رضا داوري الأردكاني ...37
الاستغراب القسري في جدل التثاقف بين المركز والهوامش
نجلاء مكاوي...50
المركز والضواحي بصدد المطلق الحضاري في التاريخ العلماني الغربي
رضا داوري الأردكاني...75
العالم الإسلامي وعلم الاستغراب النقدي
أحمد كلاته ساداتي ...93
نقد الغرب في القارة الأفريقية (الدول العربية )
محمد عبده .. من نقد الذات إلى تجديد الفكر والخطاب الديني
ا.د. مصطفى النشار...117
قراءة الخطاب النقدي للغرب في الفكر العربي الحديث والمعاصر
محمد رشيد رضا أنموذجاً
د. صباح حمودي...145
ص: 3
مالك بن نبي .. من نقد الذات والآخر إلى بناء نظرية جديدة في البناء الحضاري
أ.د. مصطفى النشار...163
مفهوم الغرب وأسسه التكوينية في الفكر الحضاري عند مالك بن نبي
الدكتور الحاج دواق ...188
نقد الفكر الغربي في فكر الشيخ حسن البنا
أ.د. عامر عبد زيد الوائلي ...208
«الآخر» في فكر سيد قطب
د. محمد شهید...225
محمد قطب ونقده للتنوير الغربي
أ.م. الدكتور ياسين حسين الويسي...242
محمد عزيز الحبابي : فلسفة إنسانية ومشروع نهضوي
د. أحمد بوعود ...263
عبد الوهاب المسيري ونقد التحيز للنموذج الغربي
د. غيضان السيد علي...278
الحداثة الغربية : درس معرفي أم خوف / قبول مرضي ؟
دراسة في فكر عبد الوهاب المسيري
عماد الدین محمد عويس عشماوي...303
منهجية الفاروقي في قراءة النموذج المعرفي الغربي
:دكتور حسان عبدالله حسان...355
ص: 4
نقد قيم الحوار مقاربة للمنهج النقدي عند طه عبد الرحمن
الباحث: طارق الفاطمي...392
جدلية الصراع والتدافع بين الشرق الاسلامي والغرب العلماني
في فكر الدكتور محمد عمارة
.م. م . محمد عبد المهدي سلمان الحلو...409
نقد الغرب في القارة الهنديّة
أَبو الأعلى المودودي ونقد مبادئ المدنية الغربية
د. غيضان السيد علي...427
قضية الإسلام والغرب عند الندوي
د. محمود أحمد عبد الرحمن علي كيشانه ...450
مُحَمَّد إقبال وحوار الاسلام والغرب
أ.م.د. رائد جبار كاظم ...465
غاندي ومعضلة الغرب: قراءة في البديل الحضاري لظاهرة الاستعمار
د. مونيس بخضرة ...485
ص: 5
ص: 6
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »
ص: 7
في عملية تأسيس علم الاستغراب (أي النظرة الشرقية للغرب بما فيها من تحليل وتوصيف ونقد توجد حلقة مفقودة لم تلق اهتماماً من قبل الدارسين والباحثين، حيث بقيت مهجورة طيلة الفترة المعاصرة التي احتك فيها العالم الاسلامي بالغرب، وتلك الحلقة هي الاطلاع والوقوف على مشاريع علماء الامة الاسلامية ومفكريها خصوصاً والشرق عموماً في دراسة الغرب وتحليله ونقده وتفكيك تجلياته في واقعنا المعاش من قبل النخب.
هذه الحلقة المفقودة تعدّ محوراً رئيساً في عملية تأسيس علم الاستغراب؛ إذ تساهم في تطوير هذا المولود الجديد ونموّه، وتدفع عجلته إلى الامام، إذ الاطلاع على تجلي الغرب على الشرق عموماً والامة الاسلامية خصوصاً، وتلقي النخب الشرقيةوالاسلامية لهذا التجلي، وما أحدثه من تيارات ومدارس فكرية معرفية متنوعة، يجعلنا أمام كم هائل من الأعمال الفكرية والجهد العلمي، ويختصر لنا الطريق ويعطينا الادوات الكافية للقيام بهذه العملية، إذ من شاور الناس شاركهم في عقولهم.
هذا الكتاب جاء كخطوة اولى تلبية لهذه الحاجة، حيث اشترك فيه مجموعة من الباحثين لاظهار مشاريع علماء الامة الاسلامية وكيفية تلقيهم للغرب وتحليله ونقده، ونحن وإن لم نف بجميع الاعلام ولكن أشرنا إلى أبرزهم، رغم اعتقادنا بانّ المشروع بحاجة إلى تفصيل أكثر من خلال كتابات مستقلة تلقي الضوء على جميع ما أنتجه علماؤنا الأعلام في مؤلفاتهم وأبحاثهم حول الغرب وطرق الوقوف أمامه أو التواصل معه.
ونحن إذ نقدّم هذا الكتاب إلى المكتبة العربية والاسلامية، نقدم شكرنا وتقديرنا للاستاذ الدكتور عامر عبد زيد الوائلي حيث اهتم بمخاطبة الباحثين واعداد وتحرير
ص: 8
البحوث، كما نشكر الاستاذ الدكتور السيد ستار الاعرجي حيث شاركنا في مراجعة بعض البحوث وتسجيل ملاحظات قيّمة، وكذلك معهد العلوم والثقافة الاسلامية حيث سمح لنا بالاستفادة من بعض البحوث الفارسية وكذلك نشكر جميع من ساهم في تصحيح البحوث واخراجها وترجمتها.
وأخيراً نعتقد ان هذا العمل جهد بشري يعتريه ما يعتري البشر من السهو والنسيان.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الامين وآله الميامين.
النجف الاشرف
مدير المركز
هاشم الميلاني
شهر رمضان 1438 ه_
ص: 9
ص: 10
ص: 11
هاشم الميلاني(1)
لماذا الاستغراب
إنّ الحضارات لا تتولّد ولا تتكوّن عن فراغ ،بل كل ولادة حضارية وانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى في تاريخ البشرية والحضارات وتعاقبها يسبقه تراكم معرفي وثقافي يمهد للانتقال والولادة الجديدة، وهذا التراكم المعرفي ينشأ من حركة دورانية بین الأنا والآخر أو قل :حركة ديالكتيكية وتفاعل إيجابي مستمر بين ما هو موجود عند ال_ (أنا) وعند ال_(آخر)، وبتلاقحهما وتفاعلهما المستمر تتولد حضارات جديدة. هذه الحالة السنة المستمرة في تعاقب الحضارات منذ بداياتها الأولى وإلى يومنا الحاضر. فانظر إلى الحضارة اليونانية ثمّ الإسلامية ثمّ الغربية لتقف على مدى الفعل والانفعال والتأثير والتأثر الموجود بينها . هذا من جهة.
ومن جهة ثانية فإننا قد دخلنا في سجال عميق مع الغرب منذ قرنين من الزمن أي إبان الغزو الفرنسي لمصر 1213 هجري / 1798 ميلادي) حيث وإن لم يكن أول احتكاك مباشر بين المسلمين والغربيين لكنه بالتاكيد كان بداية انطلاقة نحو التغريب والاستعمار الثقافي والسياسي. هذا السجال قد أسال حبرا كثيرا وسوّد أوراقا كثيرة وأنتج كتبا ومجلات وفيرة مختلفة، وانقسمت على اثره الساحة الإسلامية والوطن العربي إلى تيارات مختلفة يمكن تلخيصها في تيارين كبيرين:
ص: 12
-التيار الاسلامي بما فيه المعتدل والاصولي والسلفي .
-التيار التغريبي بما فيه الليبرالي والقومي واليساري.
وكل واحد من هذين التيارين بما فيهما من تشعبات داخلية اتخذ موقفاخاصا تجاه الغرب.
ومن جهة ثالثة فان الغرب قد تجلى لنا بتجليات عدة:
1- التجلي السياسي
2 -التجلي الثقافي
3 -التجلي الفكري والمعرفي
4- التجلي التقني.
وفي مقام التعرف على الغرب وفهمه نقديا ومعرفيا لا بد من الفصل بين هذه التجليات ودراستها بمناهجها والياتها الخاصة، ويلزم عدم الخلط بينها، اذ يؤدي ذلك إلى الوقوع في هفوات معرفية ومنهجية كثيرة.
من هذا المنطلق ومن خلال الدعوة إلى بذل الجهد المعرفي والسعي نحو إعادة مجد الحضارة الإسلامية وإحيائها من جديد وتقديم بدائل معرفية ثقافية للزمن المتوحش الذي نعيشه اليوم، الذي ظهرت بوادره في الفترة المعاصرة من خلال كتابات أمثال صموئيل هنتغتون في التنظير والدعوة إلى صراع الحضارات وصدامها لاسيما الإسلامية والغربية وما أعقبته هذه الدعوة من أحداث عالمية دامية من قبيل أحداث 11 سبتمبر وظهور فرق مارقة أمثال القاعدة وداعش .من هذا المنطلق تكمن أهمية السعي نحو تأسيس مشروع معرفي يرنو إلى تحليل الغرب ونقده الوقت نفس، أو ما يسمى بعلم الاستغراب لتحصين الأنا وتحسينها، والخروج من الاستعمار المعرفي والثقافي الحديث الذي سيطر على كثير من النخب الفكرية العربية والإسلامية في
ص: 13
وضعنا الراهن، والوصول إلى بناء حضارة إسلامية متكاملة.
إنّ هذا المشروع وهذه العملية لتأسيس علم الاستغراب ليست بالأمر الهين لتتمّ وتنتهي خلال أيام بطباعة بعض الكتب أو الدراسات، بل هو مشروع تأسيسي ربما يمتد ويطول بقدر الفراغ والتخلف المعرفي والثقافي الذي شهدناه في عالمنا العربي والإسلامي، وهو بحاجة إلى مزيد من الصبر وبذل الجهد والإبداع الفكري والمعرفي لتكوين منظومة متكاملة ذات أهداف وآليات واضحة .
في هذه العجالة سنذكر أهم المفردات والموارد التي نحتاجها في تكوين هذه المنظومة وتأسيس علم الاستغراب ،ونشير إليها في ما يلي:
1. المصطلح :
الاستغراب، مصدر من باب الاستفعال بمعنى طلب الشيء، وإرادة التعرف عليه والمقصود منه هنا المعنى الاصطلاحي، أي :طلب الغرب بغية التعرف عليه.
ولا جدوى للدخول في المعنى اللغوي إذ يبعدنا عن المقصود.
ولا يخفى أنّ طلب الشيء وإرادة التعرف عليه يستلزم التجرد والموضوعية التامة ليتسنى الوقوف على الشيء من جميع جهاته إذ إنّ تدخل الحب والبغض يفسد المعرفة السليمة، ولكن بما أنّ اتّخاذ الموقف يتلو مرحلة المعرفة فمن الطبيعي أن يتخذ الإنسان موقفاً سلبياً أو إيجابياً في المرحلة الثانية.
وفي ما نحن بصدده فقد أنتج التعرف على الغرب في عالمنا العربي والإسلامي ثلاثة اتجاهات:
1 .الانبهار.
2. الرفض والعداء المطلق.
3. التعامل والتفاعل الإيجابي.
ص: 14
2. الغرب:
السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه في عملية تأسيس علم الاستغراب سيكون عن الغرب؛ ما هو الغرب وأين يقع؟!
عندما يطلق الغرب قد يراد منه عدة معان، وهذه المعاني لا تكون عرضية بل تقع طوليةومشككة، وهذه المعاني هي:
1. الغرب الجغرافي: وهو ما ترسمه الخطوط الجغرافية والخرائط العالمية لما يقع في جهة الغرب من آسيا وأفريقيا لتشمل بلدان أوروبا وأمريكا وكندا. هذه الحدود الجغرافية قد شكلت اليوم تحالفات سياسية كالحلف الأطلسي لتتخذ جبهة موحدة أمام الشرق الجغرافي والسياسي.
2. الغرب الثقافي: وهو ما أنتجه الغرب من ثقافة في عصوره المختلفة إلى أن انتهت إلى ثقافة العلمانية والليبرالية والفردانية والرأسمالية في جميع المجالات.
3. الغرب الحضاري: وهو المنظومة المعرفية والثقافية والسياسية والاقتصادية المتكاملة التي ولدت في الغرب الجغرافي إبان عصر التنوير واستمرت إلى يومنا الحاضر ،وتحاول أن تبسط سيطرتها على العالم كله وتلغي باقي الحضارات. ويمتد جغرافيا ليشمل أيضاً كندا ونيوزيلندا.
والذي نقصده في عملية علم الاستغراب التأسيسية هو الشق الأخير أي الغرب الحضاري الغرب كعقيدة وفن وفكر ومعرفة واقتصاد وسياسة و.... الغرب كمنظومة متكاملة رغم وجود التعدد واختلاف الآراء فيه.
وهذا لا يعني إلغاء باقي المعاني إذ إنّ الغرب الحضاري تولّد في أحضان الغرب الجغرافي والثقافي ، فهذه المعاني طولية وليست عرضية، وبهذا يصح التقابل الموجود في مقولة الغرب والإسلام من حيث المعنى والمحتوى إذ الإسلام كدين والغرب لحضارة يصح تقابلهما معنى، أما لو أردنا مجرد المعنى الجغرافي لأصبح المعنى
ص: 15
غريباً لا تناسق فيه، كما لو قلنا الشمال والإسلام أو الجنوب والإسلام.
الغرب كمصداق للحضارة يختلف جغرافياً بحسب الزمان، ففي مرحلة زمنية كانت الحضارة الغربية تعني الحضارة اليونانية، بينما اليوم تعني حضارة أوروبا وأمريكا،وقد يتقشّع المستقبل عن حضارات غربية تقع في مناطق جغرافية أخرى.
وبهذا يظهر أنّ ما ذكره البعض من أنّ «كلمة (غرب) في المرجعية العربية الإسلامية لم تكن تعني يوماً من الأيام وجود (آخر) يقع بالتحديد خارج بلاد الإسلام ولا ديناً و لاحضارة تمثل (الآخر) بالنسبة إلى الإسلام وإنما صارت هذه الكلمة تحمل بصورة ما هذه المعاني جميعها من خلال الترجمة من اللغات الأوروبية»(1) لا وجه له؛ لأنّ الآخر الغربي آنذاك كان يعتبر الحضارة اليونانية، ونحن لسنا من دعاة الوقوف على الكلمات والحروف بل نروم الوصول إلى المعاني والمحتوى من وراء الكلمات والحروف، فعدم استخدام كلمة (الغرب) في الأدبيات الإسلامية آنذاك لا يعني عدم وجود المحتوى والمعنى المتمثل بالحضارة اليونانية.
بقي شيء آخر يتعلق بثنائية الغرب - أوروبا، حيث حاول البعض وضع خطوط فارقة بينهما ودعا إلى رفع الالتباس الواقع في عدم التفرقة بين أوروبا والغرب (2).
وقد ذهب الدكتور حسن حنفي إلى أنّ لفظ أوروبي يدل على المعنى التاريخي الحضاري ، وليس على الواقع الجغرافي السياسي كما يدل على ذلك لفظ غربي. الغرب صفة للتراث وأوروبا صفة للوعي أو الشعور ،الغرب واقع وأوروبا ماهية، الغرب مادة وأوروبا صورة. الغرب لفظ سياسي يوضع عادةً في مقابل الشرق أما أوروبا لفظ فكري إلى حد ما، كما ذهب بالآخرة إلى أنّ اللفظين :غربي - أوروبي يستخدمان على البدل في العصور الحديثة(3).
ص: 16
3 .الاستغراب والتغريب:
هناك فرق بين الاستعمال اللغوي للكلمات وبين الاستعمال الاصطلاحي، حيث إِنّ الأوّل يدلّ على الاستعمال بحسب الوضع اللغوي ويُهتدى إليه من خلال قواميس اللغة أو تصريح الواضع. أما المعنى الاصطلاحي فيتجاوز المعنى اللغوي - رغم أنّه ربما لا يتقاطع معه -ليشمل المعنى المتفق عليه من قبل جهات مخصوصة في أي حقل معرفي خاص ولا يمكن الاهتداء إليه من خلال القواميس اللغوية الصرفة.
وهذا يظهر في استخدام كلمة (الاستغراب) حيث أطلقها البعض وأراد منها التغرب(1)، ولا ضير في ذلك طالما أنّ المصطلحات تستخدم بحسب التوافق بين شريحة فكرية مخصوصة، إذ إنّ باب الاستفعال - كما قلنا - بمعنى طلب الشيء، فيصح استعمال الاستغراب بكلا المعنيين، فهو تغرّب لأنه طلب للغرب وانبهار به، وهو استغراب بمعنى طلب التعرف على الغرب عرضاً ونقداً.
4 .الضرورة :
هل نحن بحاجة إلى هذا الحقل المعرفي، والقيام بمحاولات لتأسيس علم الاستغراب؟ ما الضرورة القاضية بذلك؟! ما الجدوى وراء تأسيس هذا العلم؟!
إذا أردنا أن نجمل القول في الضرورة فهي محاولة لزوم تعرف (الأنا) على (الآخر) والنفوذ في بناه الفكرية والمعرفية لتحديد الموقف السليم تجاهه في عملية إعادة بناء الحضارة الإسلامية. أما التفصيل فيتلخص ضمن النقاط التالية:
1.نعتقد أنّ ديننا خاتم الأديان، وأنّ الحضارة الإسلامية هي التي ستحكم العالم في المستقبل. هذا المعتقد يتعارض مع أسس الغرب ومبانيه ودعواه في السيطرة التامة على العالم، فيحاول زعزعة الوضع والحيلولة دون تحقق هذا المدعى. إذاً نحن بحاجة إلى التعرف على الغرب حق المعرفة للوقوف على أساليبه والإطلاع على مناهجه من أجل صد المخاطر وتحصين المجتمع أمام استلاب الهوية والغزو
ص: 17
العسكري المحتمل والثقافي المتحقق.
2 .قد أشرنا إلى أنّ الحضارات تتلاقح وتتفاعل في ما بينها، ونحن في مشروع إعادة بناء الحضارة الإسلامية لا بد من أن نتعرف على باقي الحضارات ومن أهمها الحضارة الغربية المعاصرة، ونستفيد من النتاج المعرفي التقني السليم الذي أنتجته البشرية لسد الفراغات وتحسين الحياة المعيشية والمعرفية.
3 .لزوم التخلّص من الاختراق والاستعمار الثقافي، ولا يتسنّى ذلك إلا بعد التعرف التام على الغرب والوقوف على نقاط القوة والضعف والمخططات والآليات المستخدمة من قبله قديماً وحديثاً.
4 .العالم اليوم - بفضل الثورة المعلوماتية والتقنية الجديدة - أصبح كقرية صغيرة، وفي هذه القرية لا بد من التفاعل مع الآخر وعدم الانفعال أمامه، ولا يتسنى ذلك إلا بالتعرف التام عليه.
5. التعرف على الآخر والتفاعل معه نداء من صميم الدين يفرضه علينا الواجب الديني للاقتباس والتزود من نقاط القوة (اطلب العلم ولو بالصين )(1)والوقوف على مكامن الخطر وعدم الوقوع في الفخ (العَالِم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(2).
6 . قد أبتلى العالم الإسلامي، لا سيّما نخبه الفكرية، بالتغرب والانبهار أمام الغرب واستلاب الهوية، ولا يمكن التخلص من ذلك ومعالجة من هذه الأزمة إلا بالتعرف الموضوعي على الغرب، وتفكيك بناه وأسسه ومقوماته، إذ الانبهار فرع تصوّر التفوّق التام للآخر في جميع المجالات حيث إنّ«حب الشيء يعمي ويصم»، وهذه الصورة الخيالية سوف تتقشّع بعد تفكيك البنى والوقوف على نقاط القوة والضعف ولا يبقى مجال للانبهار، بل سوف ينتقل الإنسان من الانبهار إلى الموضوعية ويخرج من طور
استلاب الهوية.
ص: 18
7. قد حوّل الغرب - بفضل تفوّقه - العالم إلى مركز وأطراف حيث إنّه هو المركز والآخر هو الطرف، وللخروج من هذا المأزق وقلب الطاولة لا بد من تأسيس علم الاستغراب، فإما أن نكون مراكز كلّنا أو أطرافاً كلّنا.
8 . وأخيراً الغرب واقع نعيشه حقيقة سرت في جميع مفاصل حياتنا، وذلك من خلال ما أحرزه من تقدم علمي ومعرفي وتقني، فلا بد من تحديد الموقف أمامه، هل نأخذه ككتلة واحدة وكما هو من دون تمييز بين الآليات والمناهج والمعتقدات والنتائج؟! أم يمكننا تفکیکه و غربلته ؟ أسئلة شغلت النخبة الإسلامية والعربية منذ أكثر من مائة وخمسين سنة. ولا يمكن الإجابة عنها إلا بسبر أغوار الغرب والتعرف التام عليه.
5 .الأهداف:
إنّ الدوافع الكامنة- في الضمير الواعي واللاواعي-تجاه أهداف تأسيس علم الاستغراب ، تختلف من شخص إلى آخر ومن تيار إلى آخر، فالإسلامي والقومي واليساري رغم اشتراكهم في نقد الغرب غير أن دوافعهم مختلفة. وباختلاف الدوافع تختلف المنطلقات أيضاً، فالإسلامي ينطلق في نقد الغرب من أسسه الدينية ومبانيه الفكرية المأخوذة من القرآن والسنة وتراثه الفكري والمعرفي، كما أنّ القومي ينطلق من منطلق الدفاع عن القومية والحفاظ على الهوية الجمعية والعرقية والقبلية لمجتمعه وأمته، والأمر نفسه يصدق على اليساري حيث ينتقد الغرب من منطلق الدفاع عن حقوق العمال ومكافحة الإمبريالية وتفوّق السوق وما شاكل، وكذلك الأمر في سائر المذاهب الفكرية والتيارات المعرفية المناهضة للغرب.
قد تكون بعض الأهداف مشتركة مع ما ذكر في الفقرة السابقة (الضرورة) ولكن مع هذا يمكن الإشارة إلى الأهداف التالية:
1. النفوذ في البنى الفكرية والمعرفية الغربية للوقوف على ما أدى إلى قوام الحضارة الغربية وكشف مبانيها ومقوماتها.
2. تفكيك الأسس والمباني وغربلتها للقيام بالتفاعل والتعامل الإيجابي معها
ص: 19
حيث يتم أخذ الإيجابي ورفض السلبي.
3 .القيام بمراجعة شاملة لتاريخ الغرب للوقوف على مخططاته طوال هذه الفترة لأخذ العبرة منها من جهة، ورسم طريقة التعامل مع الغرب المعاصر من جهة ثانية، إذ إنّ الغرب المعاصر امتداد للغرب الماضي، ولا يمكنه الخروج من ماضيه.
4 .كشف الفراغ المعرفي والخُلقي الموجود في الغرب جراء الابتعاد عن المعنى والدين.
5 . التخلّص من التغرب والانبهار أمام الغرب من خلال محاكمته والوقوف على نقاط ضعفه وأزماته.
6 . التحرر من الاستعمار الثقافي والهيمنة الغربية على جميع مفاصل حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية.
7. الاعتقاد بأنّ الغرب ليس مصدراً للمعرفة في جميع ما تحتاج إليه البشرية، بل هو أيضاً يشكو من أزمات كثيرة.
8 . خلق التوازن بين الأنا والآخر من خلال التفاعل الإيجابي وفتح باب الحوارمع الآخر،وتكوين الذهنية الإسلامية والعربية بحيث تتمكن من مساجلة الغرب ومحاكمته وأن تكون ندا له.
9. القضاء على المركزية الأوروبية وردّ الغرب إلى حدوده الطبيعية.
10. التحرّر من الخوف تجاه الغرب بعد اكتشاف حدوده وإثبات محدوديته.
11. قلب الطاولة وجعل الغرب مدروساً بعد أن كان دارساً.
12. الوقوف على الخلافات والتناقضات الكثيرة الموجودة في الغرب وبين العلماء أنفسهم، والعلم بأنّ الغرب ليس كتلة منسجمة واحدة وغير متناقضة. إذ إنّ البعض منا بعد أن يصل إلى الانبهار أمام الغرب ويتغرّب، يتصوّر أنّ ما وصل إليه الغرب في جميع مفاصل حياته مقدس وصحيح لا غبار عليه ولا يتطرّق إليه الخطأ ،
ص: 20
إنّ الوقوف على الخلافات الموجودة في الغرب يُبدّد هذا الوهم ويثبت بأن ما وصل إليه الغرب ليس أمراً نهائيّاً ومقدّساً.
13.وأخيراً تقديم حلول ومعالجات علمية وعملية منبثقة من الفطرة السليمة والوجدان الحي المعتمد على المبادئ الإنسانية والوحي الإلهي، لأزمات الغرب تلبية للوظيفة الإنسانية الملقاة على عاتقنا في مساعدة الآخر إذ الناس صنفان «إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق »(1).
6 .الآليات ومنهج العمل:
قد تتداخل هنا أيضاً بعض الآليات ومناهج العمل مع الأهداف، ومع هذا يمكن إيجاز القول فيها كالآتي:
1. هناك اتجاهات وطرائق مختلفة في دراسة الغرب، فتارةً ننظر إلى الغرب ككيان تاريخي نشأ في نقطة زمنية معينة وامتد على طول التاريخ، وتارةً أخرى ننظر إليه من زاوية المدارس والمذاهب الفكرية المختلفة التي نشأت فيه، وثالثة من خلال الرموز والعلماء والنخب الفكرية وما قدموه من مشاريع متنوعة، ورابعة من خلال تقسيمه إلى أدوار حيث تدرس كل دورة على حدة، وخامسة على دراسته على حسب الموضوع كالاقتصاد والسياسة والثقافة وهكذا. ولا يمكن الاستغناء عن هذه الاتجاهات في عملية تأسيس علم الاستغراب بل نحتاج إلى جميعها.
2. استخدام المناهج البحثية نفسها التي صاغها الغرب واستخدمها لدراسة الشرق أو دراسة سائر المواضيع المعرفية والعلمية من قبيل المنهج التاريخي، التحليلي الوصفي، الاستقرائي وهكذا.
3. اتخاذ الموضوعية والحياد العلمي :«وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا» (المائدة: 8)
ص: 21
4. الاعتماد على المصادر الرئيسة الغربية بلغاتها الأصلية مهما أمكن، لما في بعض الترجمات من هفوات لا تغتفر.
5 .التواصل مع منتقدي الغرب شرقاً وغرباً؛ سواء الذين نشأوا في أحضان الغرب وغاضهم جبروته وسحقه للآخرين، أم دول أمريكا اللاتينية أم دول الشرق أمثال الصين وروسيا واليابان، ناهيك عن العالم الإسلامي والعربي بما فيه من أصولي ومعتدل وقومي ويساري.
6 . تصطبغ الدراسات المقدمة إما بتحليل ونقد أو مجرد وصف الظاهرة أو الموضوع أو الشخص أو الفكرة.
7. النظرة الشمولية إلى الغرب وعدم الاقتصار على حقل معرفي واحد فلا بد من أن يحتوي علم الاستغراب على جميع شؤون الغرب التاريخي والفلسفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والأخلاقي وغيرها من الموارد التي كونت الحضارة الغربية وتعد من مقوماتها الأساسية.
8 . القيام بعملية التصنيف والأرشفة إما بحسب البلد أو الموضوع أو الأشخاص أو المدارس والمذاهب أو الأدوار إذ إنّ نصف العلم تنظيمه.
9. الانطلاق من ثقافتنا وتراثنا وقيمنا الدينية والإنسانية.
10. في عملية الاقتباس من الغرب في ما هو إيجابي لا بد أن يكون عملنا تأسيسيّاً بمعنى عدم الاقتصار على الترجمة والنقل الصرف بل التأثير والتأثر المتقابل بأن نمزجه بثقافتنا ونضيف عليه أو ننقص منه بحسب الحاجة والمصلحة والبيئة التي نعيشها، وبهذا نتمكن من هندسة العلم المأخوذ ولي عنقه بما يتوافق مع قيمنا والتخلّص من التقليد والاقتباس الصرف.
11. دراسة مشاريع علماء الإسلام المعرفية في نقد الغرب والاستفادة منها في عملية تأسيس علم الاستغراب.
ص: 22
7. الفوائد والنتائج:
بعد أن يتمّ تأسيس علم الاستغراب ،ويتحوّل إلى مشروع في صميم وعي الأمة يكتب وينظر ويفكر فيه الصغير والكبير، يتوارثه الأبناء عن الآباء، والصغار عن الكبار، يمكن أن نجتني الفوائد التالية:
1. استرجاع الثقة بالنفس بعد ما تتمكن من فهم الغرب والدخول معه في سجالات علمية وتفاعل مستمر ومتكافئ .
2. الخروج من مركزيّة الغرب والتعامل معه معاملة الند للند، وجعله مدروساً بعد أن كان دارساً.
3 .الخروج من الانبهار أمام الغرب والتخلّص من حالة التغرب.
4 .الهندسة العكسية للاستشراق ودراسة الغرب للشرق، من خلال تأسيس علم يماثله، باسم الاستغراب يهدف إلى دراسة الغرب بكل موضوعية.
5. التعرف على خدع الغرب ومكره لا سيما في الجانب السياسي والإمبريالي من خلال الوقوف على تاريخه في المستعمرات وما أنتج من دمار واستلاب للهوية، ومن فرضِ لقيم الغرب بشتى الوسائل، وتقديم مصلحته على مصلحة الشعوب المستعمرة.
6 .إضافة علم جديد ممنهج إلى سائر العلوم التأسيسية التي تدرس في الجامعات
الإسلامية، وفتح مناخ جديد أمام الباحثين لخلق آثار رائدة ومبدعة.
7 .التخلص من التقليد الأعمى لعلوم ،الغرب، وعدم الاكتفاء بترجمة نتاج الغرب المعرفي من دون نقد وتمحيص وكأنه وحي منزل ومقدس.
8 .الهفوات والمخاطر :
كل أمر تأسيسي – لاسيما عند بداياته - لا يخلو من هفوات ومخاطر، إذ إنّه ما
ص: 23
دام في مرحلة التأسيس لا يعدو أن يكون تنظيرياً لم يدخل في مضمار السباق ولم يقيم بمحك العمل، إذ إنّ مقام النظر ما دام لم يتفاعل مع مقام العمل لن يُقوّم ولن تظهر مواقع خلله ،ونقصه وعليه فالتقييم النهائي لعملية تأسيس علم الاستغراب والوقوف على مواقع الخلل ونقاط الضعف بحاجة إلى مدة زمنية يتم فيها تطبيق هذا العلم على أرض الواقع.
ولكن مع هذا يمكننا في مقام التنظير رسم بعض الهفوات العامة التي ربما يقع فيها الباحث، نشير إلى أهمها في ما يلي:
1.الوقوع في مغالطة الوجه والكنه أو الجزء والكل، حيث يتم فيها أخذ الجزء مكان الكل والوجه مكان الكنه، بمعنى أن نأخذ جهة واحدة ونطاقاً واحداً من الغرب ونقتصر عليه ونزعم أنّه المقوّم الوحيد للغرب أو الحضارة الغربية، ونغفل عن باقي الجوانب التي كوّنت تلك الحضارة وهذا ما وقع فيه الدكتور حسن حنفي حيث اقتصر في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب )على الوعي الفلسفي الأوروبي وجعله أم العلوم الأخرى، فقال: «فالوعي الأوروبي بالنسبة لنا هو الوعي الفلسفي، فالفلسفة أم العلوم الوعي الأوروبي بالنسبة لنا فلسفي خالص ليس السياسي أو الاقتصادي.. الوعى الفلسفي هو أساس الوعي أساس الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالوعي الأوروبي لديّ يشير إلى منطقة الوعي الخالص الذي يحمل التصورات للعالم؛ هوأساساً الوعي الفلسفي أو الوعي النظري»(1).
وسبب ذلك هو كونه متخصصاً في الفلسفة، درس الوعي الأوروبي باعتباره ظاهرة فلسفية شكلاً ومضموناً، فليأت متخصصون آخرون ليدرسوا الغرب من وجهة نظر سائر التخصصات.
2. الاقتصار على الوصف دون الدخول إلى مرحلة التحليل والنقد والتأسيس ،فيصبح المستغرب مجرد ناقل لقصة الغرب ويكون أشبه بعلم التاريخ الذي يدرسه
ص: 24
الدارسون في طيات دراساتهم الجامعية عن الدول المختلفة ومذاهبها الفكرية.
3 .عدم لحاظ البيئة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها الغرب، وتكوّن في أحضانها وترعرع في ظلّها، ومحاولة تطبيق بعض النماذج الغربية في واقعنا وبيئتنا وثقافتنا المتخالفة - ربما - مع تلك، لا سيما في عملية النقل والاقتباس الإيجابي.
4. الاقتصار على استمرار نقد الغرب دون محاولة العبور عن الغرب وهضمه وإعادة تأسيس الحضارة الإسلامية.
5. الغفلة عن خلفيات ناقدي الغرب من الغربيين إذ إنّ المنطلقات والخلفيات تختلف عند الناقدين للغرب، فهناك من ينتقد الغرب من منطلقات يسارية وماركسية ويجعل البدائل اشتراكية وهناك من ينتقد الغرب من منطلقات تقويمية بمعنى أنه ليس ناقداً للغرب بالمعنى الحقيقي بل ينتقد أزمة خاصة للتخلص منها بغية الوصول إلى تقويم الغرب لا تقييمه، وهناك من ينتقد الغرب من منطلقات إنسانية ويدعو إلى تغيير سياسات الغرب لأنّها توجب دمار البشرية والإنسانية.
ففي عملية تأسيس علم الاستغراب لا بد أولاً من الاستفادة من جميع هذه النقود، وثانياً الالتفات إلى المنطلقات والخلفيات لكل ناقد كي لا نقع في فخ النتائج والحلول المعطاة والتي ربما لا تتوافق مع مبادئنا وقيمنا، أو فخ الدعوة إلى تقويم الغرب واستمرار حياته من خلال نقد الغرب. وعلى سبيل المثال عندما يأتي هوسرل وينتقد الغرب في كتابه (أزمة العلوم الأوروبية ) فإنّه لا يريد بذلك إلا أن يخرج بنتيجة أخرى تصبّ في مصب الغرب نفسه، حيث أسس مذهب الظاهريات وهو لا يقلّ خللاً عما كان قبله وبحاجة إلى نقد وتحليل.
6 .عدم التمييز - في مقام الاقتباس - بين قيم الغرب التي صنعت الحضارة المعاصرة والتي تأسست على الانقطاع عن عالم الغيب وما وراء المادة، وبين الآليات والمناهج التي يمكن استخدامها دوماً وتكون خنثى - إن صح التعبير - لا تحمل
ص: 25
أي مبادئ وقيم.
7 .جعل الغرب كتلة شريرة واحدة ورفضه جملةً وتفصيلاً.
8 . جعل الغرب كتلة خيرة واحدة والانبهار أمامه وقبول جميع ما فيه.
9. الاستغراب والاستشراق:
هناك خلاف بين المفكرين في أنّ الاستغراب هل يمكن عده المعادل المعكوس
للاستشراق أو لا؟!
فقد ذهب الدكتور حسن حنفي إلى أنّ الاستغراب يعادل ويناظر الاستشراق، وانطلق من سؤال مركزي يقول : «إذا كان الغرب قد استطاع وضع الاستشراق، فلماذا لا يستطيع الشرق وضع الاستغراب؟ »(1)ومن خلال هذا التساؤل ينطلق ليقول:« الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل والنقيض من الاستشراق. فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب) يهدف علم الاستغراب إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر »(2) . وآلية فك هذه العقدة عنده تكون من خلال تحويل الغرب من ذات دارس إلى موضوع مدروس.
يقوم بسرد بعض الفوارق بين الاستغراب والاستشراق من قبيل:
1. أنّ الاستشراق كان منطلقاً من منطلق القوة والانتصار واستعمارنا، أما الاستغراب
يكون من باب الدفاع عن النفس.
2. اختلاف المناهج بينهما .
3. الاستشراق تغير شكله وورثته العلوم الإنسانية خاصة الأنثروبولوجيا الحضارية
ص: 26
وعلم اجتماع الثقافة، بينما الاستغراب ما زال بدائياً ولم يتطوّر.
4. الاستشراق لم يكن محايداً بينما الاستغراب أقرب إلى الحيادية نظراً لأنّه لا يبغي السيطرة والهيمنة بل يبغي التحرّر من أسر الآخر.
أما الدكتور رضا داوري أردكاني فيذهب إلى خلاف ذلك، وينفي هذا التناظر شكلاً ومضموناً ومنهجاً، فإنّه يرى من جهة أنّ هذا التناظر لم يرد في أي معجم وقاموس لغوي بحيث لم يُجعل الاستغراب مناظراً للاستشراق، ومن جهة ثانية وجود الخلاف البنيوي بينهما حيث إنّ الاستشراق هو نسبة خاصة بين الباحث وموضوع بحثه، بين الذات الدارس والموضوع المدروس ،في هذه النسبة يكون الدارس مهيمناً ومتسلّطاً على الموضوع المدروس ولم تكن له أيّ علقة معه، إذ ما دام لم يدخل الموضوع تحت تملك وتصرف وإحاطة الدارس التامة لا يمكن أن يكون موضوعاً مدروساً، وعليه فهذه العملية لم تتحقق في الاستغراب إذ لم نتمكن من جعل الغرب موضوعاً مدروساً لأنّه أولاً قد استولى علينا ولم يدخل تحت تصرفنا وأحاطنا وتملكنا، وثانياً إنّنا قد أصبحنا متعلقين بعلومه ومعطياته المعرفية بحيث لم نتمكن من جعله موضوعاً للدراسة حتى ننظر إليه نظرةً فوقيّة خارجية محايدة. (1)
ويقول أيضاً: «إذا أردنا أن نجعل الاستغراب مناظراً للاستشراق لا بد أن يكون الغرب قد انتهى وقته أو أوشك على الزوال»(2) .« إذا كان الاستشراق بمعنى تقريرودراسة آثار حضارة فقدت مستقبلها وانحبست في الماضي، فمن الصعب القيام بتأسيس علم على غراره باسم الاستغراب؛ لأنّ الغرب مضافاً إلى أنّه لم ينحبس في الماضي، قد أصبح قبلة لكثير من البشر في العالم، فمن يلهث وراء الغرب لا يمكن أن يكون مستغرباً»(3).
ومع هذا يرى الدكتور داوري أنّ الاستغراب ممكن فيما لو حلّ الشرقيون محل
ص: 27
الغرب إبان القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وكان وضع الغرب شبيهاً بوضع دول آسيا وأفريقيا في هذه القرون الأخيرة، بيد أن تحقق هذا الأمر لو لم يكن محالاً مستبعد جداً.
نعم ربما يهوي الغرب نحو الانحطاط ويتجدّد الشرق وتتفتح قرائح الفكر والعلم فيه ولكن ستتولد حينئذ نسبة جديدة لم تكن عكس نسبة الغرب الحالي مع باقي دول العالم، وعليه سوف لا ينظر الشرق حينئذ إلى الغرب بنفس سياق الاستشراق ومناهجه (1).
وأخيراً يرى الدكتور داوري أننا لو أردنا أن نفهم الاستغراب على غرار معنى الاستشراق فلابد من رعاية الضوابط التالية:
1 .الذي يحاول دراسة الغرب (المستغرب) لا بد أن يتحرّر من قيود الغرب ويرى نفسه منفكاً عنه.
2. لزوم الإحاطة بماهية التاريخ الغربي بكليته، وبما أنّ مفتاح ذلك الفلسفة والتقنية لا بد من معرفة الفلسفة والتقنية الجديدة ؛لا مجرد التعرف بل من خلال التعرف على نسبتهما مع العالم الجديد. لاسيما التأمل في نهاية الفلسفة الغربية وأوضاع ما بعد الحداثة.
يشترط في الوصول إلى الاستغراب ،النفوذ في فكر الغرب وآدابه وفنونه وتاريخه ومن موقع الإشراف من الأعلى، ومن خلال إدخالها في عالمنا الفكري بأن تكون تحت سيطرته.
3. لزوم التعرف التام على منشأ العلم والثقافة والحقوق والسياسة في العالم الجديد ، والوقوف على أدق معانيها، والتحرر منها وعدم الوقوع في أسرها.
4. لم يكن تكوين علم الاستغراب أمراً مستبعداً اليوم، لما يُطرح من توقف التجدّد
وتحجيمه.
5 .لا يصح للاستغراب أن يتبع مناهج المستشرقين لصعوبة ذلك وتعذره، ومن
ص: 28
رام ذلك سيكون نتاجه ناقصاً، إذ لازم ذلك أولاً تقديم دراسات تحقيقية في سياسة الغرب وآدابه وفنونه وفلسفته واقتصاده وثقافته، وهذا بحاجة إلى الإحاطة التامة بتلك العلوم والكتب الغربية المؤلّفة فيها. وثانياً يلزم - لتحقق ذلك - التحرّر من هيمنة الغرب والنظر إليه من الأعلى والخروج من عالمه، ولا يخفى صعوبة تحقق هذين الشرطين.
وختاماً فإنّ أفضل فلسفة تعيننا في الوقت الحاضر على الاستغراب هي مباحث ما بعد الحداثة كطريق للوصول إلى علم الاستغراب ،إذ إنّ مباحث ما بعد الحداثة شككت في مبادئ الغرب وأسسه، وهذا ما يفسح المجال لتأسيس علم الاستغراب(1).
10. الخاتمة:
هذه أهم المقدّمات التأسيسية لعلم الاستغراب لا بد من التوصل إليها من خلال ورشات عمل تخصصية وإقامة ندوات ومؤتمرات والاستعانة بالمختصين في مختلف الحقول المعرفية.
ولابد من التنويه مرّةً أخرى إلى أنّ علم الاستغراب لا يعني إطلاقاً القيام بمعاداة الغرب ورفضه جملةً وتفصيلاً، بل هو سجال فكري معرفي موضوعي مستمرلاسترجاع الأنا وتقويمها من جديد.
كما نتمنّى فتح مقاعد دراسية في الجامعات الإسلامية والعربية تختص بعلم الاستغراب وفقاً للآليات والأهداف التي مرّ ذكرها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وآله الطاهرين.
ص: 29
أ.د. عامر عبد زيد الوائلي(1)
أولاً: التحديد المفهومي:
في تحديد العلاقة مع الآخر من خلال توصيف «الغرب والإسلام» هي عبارة لا تبدو قديمة في تبيان تلك العلاقة مع الآخر فهي عبارة طارئة نقلت إليها بالترجمة الحرفية من اللغات الأوربية. ليس هناك في النصوص القديمة مثل هذا التعبير، أما النصوص الحديثة التي ترجع إلى بداية القرن الماضي على الأكثر فمن النادر جدا العثور فيها على هذا التقابل بين «الغرب» و «الإسلام». ذلك أن العبارة التي برزت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، في الخطاب العربي الإسلامي، هي عبارة «الإسلام والنصرانية» وذلك في إطار المقارنة بين موقف كل من الإسلام والمسيحية من العلم والعقل الخ .. (قارن مثلا: کتاب محمد عبده :( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية).
وهذا التحديد يلغي التوصيف العقائدي أما تحديد يأخذ تحديد الجهات مثل«الشرق والغرب »فهو توصيف ظهر حديثا مع الحداثة الغربية، على الرغم من أنّ التراث الديني استعمل توصيفات مماثلة كما جاء في القران الكريم ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب (البقرة177).
فإن اصطلاح «الغرب »Occident West أي الدول الغربية، والشرق»،Orient East بمعنى الدول الشرقية، وهما معاً مترجمان من اللغات الأوربية التي ميزت
ص: 30
في هذا الأخير بين الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى، وذلك بحسب القرب والبعد عن أوربا.
فهذا التوصيف له مرام استشراقية غربية في تجزئة العالم الاسلامي ومنحه توصيفاً يتجاهل الهوية الجامعة سواء أكان إسلامياً أم عربياً . فهناك توصيف يراعي التميز بين الغرب كجهة موحدة مركزية ويقابلها شرق ويعمل على تصنيفه اذ تجلى هذا في(المعاجم الأوربية المعاصرة يتم التمييز بين« الغرب» occident كجهة جغرافية وبين« الغرب» Occident (بحرف O الكبير للدلالة على العلمية) مثل مصطلح جيو سياسي الذي يطلق على:
1) «جزء العالم القديم الذي يقع غرباً في الإمبراطورية الرومانية».
2 )أوربا الغربية والولايات المتحدة، وبكيفية عامة الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي.
3 )بلدان أوربا الغربية والولايات المتحدة تحديداً، وقد تختص بهذا المعنى كلمة (West Ouest بالفرنسية) ...(1).
وقد تأخذ هذه العلاقة مع الآخر بعداً غير واقعي بل تخيلياً اصطناعياً فهناك كثير من الصور النفسية اسقطها الآخر (الغرب) على الشرق الاسلامي هي مجردة من الحقيقة بل مختلقة اذ يرتبط اختراع الآخر؛ لأن الخطاب حول الآخر هو بالأساس يعد خطاباً حول الاختلاف .(فإن التساؤل فيه ضروري حول الأنا أيضاً، ذلك أن هذا الخطاب لا يقيم علاقة بين حدين متقابلين، وإنما علاقة بين آخر وأنا متكلمة عن هذا الآخر)(2). فإن تحديد العلاقة بين الأنا والآخر على الرغم من بعدها التاريخي والسياسي إلا إنها كانت علاقة غير مفكر بها تبدو مضمرة لكن الدراسات المعاصرة في مجال الخطاب هي من اتاحت لها الظهور من خلال بحثها في تلك العلاقة
ص: 31
وارتباطها بالهوية والاختلاف من خلال البعد الظاهراتي الذي أخذ تحولاً يراعي الجوانب النفسية في كشف صورة الآخر، وهذا ما يمكن ملاحظته في (اختلاف بين السياقين الوسيط والحديث في العلاقة بين الأنا والأخر إنما يعكس اختلافاً جلياً في صورة الآخر في الثقافة العربية، وفي مجال الآخرية، فإن كان مجال الآخرية في السياق الحديث قد اختزل في الغرب وحده، فإن مجال الآخرية في السياق الوسيط كان متشعباً ومتعدداً وممتداً بامتداد المعلوم من العالم آنذاك)(1). فان التصور عن الآخر كما قلنا هو فعالية نفسية مثلما هی سياسية تحاول ان تمنح الآخر توصيفاً او تنميطاً وهو قد يكون سلبياً او ايجابياً، وعلى الرغم من انه قد يكون سلبياً وقد ظهرت كثير من الدراسات كشفت عن علاقة الغرب المستعمر بالآخر وهي دراسات تدخل في نطاق يهتم بدراسة الاستعمار الكولونيالي، وما يحمله من تنميطات هومي بابل Homi K.Bahah) فهو يرى أن المستعمر يميل إلى تنميط المستعمر من خلال وصفه بصفات ثابتة ومبالغ فيها،ويحرص على تكرارها، مثل وصف المستعمر بالوحشي والانحراف الجنسي(2). من هنا نستطيع الاستدلال على طبيعة العلاقة الغرب والإسلام بأن لها كثيراً من المضامين الايديولوجية والنفسية والوجدانية بل تركت أثرها في كثير من الصور النمطية في تصوير كل من الطرفين احدهما للآخر وهذا جزء من علاقة الصراع الطويلة بين الطرفين في أثناء العصر الوسيط وحقبة الاستعمار، شكلت حضوراً وراسباً عميقاً في الخطاب الجمعي بكل حمولاته المعنوية . اذ نستطيع ان نعرض إلى تحولات تلك العلاقة.
ثانياً: إن جدلية العلاقة بين الأنا والآخر:
من أجل تحليلها نجد أنها تحتوي على مضامين الأيديولوجية سواء أكانت صريحةً أم مضمرةً، إذ تكتنز علاقات تقوم على القوة، وبالآتي فإنه يقودنا إلى اكتشاف عنف رمزي؛ لأنه يحاول أن يفرض دلالات معينة على الآخر انطلاقاً من ادعائه شرعية ما،
ص: 32
يحاول من خلالها اخفاء او إضمارها علاقة القوة تلك، لكن تبقى تلك القوة تحمل
طابعاً رمزياً.
تولدت بأشكال متنوعة من قبل الآخر الذي فرض ثقافة ولغة بوصفها تحتكر معنى العلمي والحداثي وبالتالي الانساني بقيمة المعاصر، ولكي يكون الآخر غير الغربي من ضمن حدود المنظومة الانسانية العربية التي تدعي الكونية، لا بد أن يتكلم اللغة نفسها وينتمي إلى منظومة القيم الانسانية نفسها . فان هذه المعرفة التي تدعي الكونية هي يقينا محدودة الموقع وكل معرفة هي منشأة إنشاء فالمعرفة الاوروبية في العلوم :(الاجتماعية والإنسانية والطبيعية)وفي الآليات الفكرية لها موقع جغرافي كان يمثل مكان النشأة الخاص بها مرتبط بإشكالية أوروبية معرفة وإيديولوجيا إذ المعرفة الأوربية الاستعمارية بكل ملحقاتها التاريخية السياسية والأخلاقية فهي وليدة هذه القوالب الكونيالي للسلطة كما صور بورديو إن علاقة القوة هي التي تعين دائماً حدود فعل قوة الإقناع التي يمتلكها النفوذ الرمزي(1) . من هذه المقولة نجد أن المعرفة الغربية تمتلك منظومة عرفية للتصنيف الاجتماعي هي التي اخترعت النزعة الغربية كما تجلت بالاستشراق والتميز بين جنوب أوروبا عن مركزها وعلى مدى هذا التاريخ الطويل أعادت رسم خارطة العالم على أساس : (عالم أول وعالم ثان وعالم ثالث )أبان الحرب الباردة إن أماكن اللا- فكر( أي اماكن الأسطورة والأديان غير الغربية والفولكلور)، والمناطق والشعوب التي تنطوي على التخلف قد استفاقت اليوم من عملية التغريب التي طال أمدها بعد ان تم اختراعها بوصفها anthropos»، بوساطة موضع تلفظات عرف نفسه بنفسه باعتباره (humanitas)، والآن فإن هناك اتجاهاً خارج الفکرالغربي من العالم الثالث لم يعد يطالب بالاعتراف به من طرف اوروبا بإدراجه في الانسانية، وقد تنوعت الثقافات التي احتكرت التمثيل الكوني الانسانية وما بعدها بمجرد خطابات محلية من هنا تاتي ضرورة مراجعة نقدية للآخر ومعرفته، (فإنّ عمليّة التحكّم في المعرفة لن تُدعى إلى المساءلة. ومن أجل أن نضع التأسيس الحديث /الكولونيالي لعملية التحكّم في المعرفة ، موضع سؤال، من الضروري، أن
ص: 33
نركز على العارف بدلا من التركيز على الشيء المعروف. وذلك يعني أن نذهب إلى الافتراضات الحقيقية التي تشدّ موضع التلفّظات)(1).
أولاً: كانت التجربة الأسبانية أول لغة تحتكر الكونية وقد نزعت نزوعاً إلى نفي الآخر المسلم اذ إسبانيا (الكاثوليكية )الطامحة إلى الوحدة والنقاء الدينيين والمنطلقة إلى قيادة العالم النصراني، ما كانت لتسمح ببقاء المسلمين على دينهم، فبعد التخلص من اليهود، بدأت ماكنة القمع والتنصير و تفتيش الأرواح «الكاثوليكية تحول أنظارها إلى الأقلية الدينية والعرقية الأخرى على ارضها وشرعت فور غزو غرناطة إلى تنصيرها قسرياً، وهي العملية التي بدأها رجل الدين المتعصب ثيسنيروس في إقناع المسلمين بالتخلي عن دينهم واعتناق النصرانية، باستعمال الشدة والتعذيب والسجن لإجبار المسلمين على اعتناق النصرانية (2)، وقد ارتكبت الفظائع بحق المسلمين من محاكم تفتيش والتحول إلى المسيحية في ظل ضغط الكنيسة وقسوتها وعنفها الرمزي والجسدي يطارد العرب الموريسكية كان عنفاً رمزياً يقوم على محو الهوية الإسلامية وقد تجلى بأشكال متنوعة من منع اللغة العربية وكتابتها في وقت كانت بمثابة ميراث معنوي الحديث بالعربية كان يعني المخاطرة بجذب انتباه محاكم التفتيش) (3). وكان الختان ممنوعاً كعلامة تميز للهوية لهذا (كانت عقوبة الختان هي النفي الدائم وخسران جميع الممتلكات وبذلت جهود لتعقب اولئك الذين كانوا يقومون بعمليات الختان )(4) كانت تلك الاوضاع قد عكست موقفا غربياً عنيفاً وعصابياً تجاه الآخر.
ثانياً: أما في زمن الثقافة الانكليزية والفرنسية وعبر الانكليزية والفرنسية، والألمانية، فهما من شيد الحداثة الصلبة ومشاريع العلوم الانسانية والاستشراق
ص: 34
من أجل معرفة الآخر وإخضاعه وهنا يحث أن المعرفة التي تحتكر التمثيل العلمي والشرعية الانسانية والتي ارتبطت بعملية الهيمنة الكونيالية وتحضير الشعوب المتخلفة يظهر (إنّ الافتراض الأساسي هو أنّ العارف متورّط دوماً، على مستوى سياسة الجغرافيا وعلى مستوى سياسة الأجساد في صلب المعروف، على الرغم من أنّ الإيبستيمولوجيا الحديثة) غطرسة النقطة الصفر على سبيل المثال ( قد عملت على إلغاء الطرفين وخلقت صورة الملاحظ المتحلّل من أي رابط الباحث المحايد عن الحقيقة والموضوعية، الذي يتحكم في نفس الوقت، في قواعد الاختصاص ويضع نفسه أو نفسها في موقع متميّز من أجل التقييم والإملاء)(1)، وقد كانت المعرفة وبخاصة أصحاب النزعة الوضعية بذلوا جهودهم في اعتبار كل فلسفة تكاد تكون ميتافيزيقا ومنها مسائل القيم والحقيقة والجمالية وقضايا الفلسفة النظرية كقضيّة الله وخلود الروح واللانهائية وانقسام العالم ومعنى الحياة فكلها مسائل عدوها ضرباً من العبث مادامت لا تربطها أي اصرة في ميدان العلم فهي ليست من قبيل المسلمات التحليلية والتجريبية (2).
وكانت حركات المقاومة في العالم الثالث قد انخرطت في عصيان معرفي يعمل على فك ارتباط عن سحر الفكر الغربي عن الحداثة والمثل العليا للإنسانية في حقبة الاستعمار أو اليوم بوعود البنك الدولي ووعوده بالنمو الاقتصادي والازدهار في ظل اقتصاديات العولمة المتوحشة (3). بحيادية وموضوعية يثبت إدوارد سعيد أن الشعوب العربية والإسلامية ليست بما توصف به من ،تخلف بدلیل مقاومتها العجيبة ودحرها المستمر للاستعمار، ومع ما سبق كله لم يناد سعيد بمحاربة الغرب، أو كراهيته، وإنما يدعو إلى فهمه أولا، ثم مواجهته بما يكفل الحرية، والاستقلال للشعوب المستضعفة(4). فان معرفة الغرب هي الغاية التي يصل اليها خطابنا النقدي
ص: 35
هذا الاحتجاج تنوع في العالم الثالث وفي عالمنا جاء الاحتجاج الاسلامي ليمثل موقفاً نقدياً للآخر، فهو يستمد شرعيته من تراث اسلامي اذ ( يركز على المدلول الرسالي للحوار، فهو يعبر عن قيمة حضارية، إذ هو أسلوب الأنبياء والرسل في التبليغ والدعوة وبالتالي أحقية هذا التيار في تقديم الإسلام والحضارة الإسلامية للطرف الآخر». فعلى الغرب ... أن يحاول خوض الحوار مع أولئك الذين يمثلون بجدارة الفكر والثقافة الإسلاميين. أما المتغربون الذين هم في حقيقة الأمر تمثيل ناقص ومشوّه للغرب نفسه، فإن حوار الغرب معهم لا يشكل ديالوغاً و(حواراً ثنائيا)، ليس ذلك وحسب، بل إنه لا يشكل مونولوغاً و (مناجاة أحادية)، أيضا كما يؤكد على ذلك خاتمي وهو أحد أبرز رموز هذا التيار في حوار الحضارات(1). وقد اخذ هذا التيار موقفاً احتجاجياً اكثر جذرية في نقد الغرب وتبيان تناهي مقولاته التي تدعي الكلية والشمولية في حين هي تمثل نزوعاً للهيمنة على مصائر الشعوب ونهب خيراتها والعمل على افقارها.
جاء هذا الكتاب في توصيف حركة الاحتجاج والمقاومة لدى الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر إذ تم تناول فكر مجموعة كبيرة من مفكري التيار الاسلامي في هذا الكتاب سواءً في حقبة النهضة أم في التيار المعاصر إذ تم تناول الرؤية النقدية لدى هؤلاء المفكرين وتصوراتهم النقدية للفكر الغربي بروح تحليله وصفة تستلهم فهم الفكر الغربي ونقده من أجل فهم الآخر وإزالة التغريب الذي ترك أثره في كثير من الأجيال التي لم تنتبه إلى آليات الآخر في نفي الآخر والعمل على مواصلة أزماته : (الفكرية والمجتمعية والحضارية) على صعيد المنهج والرؤية .
ص: 36
رضا داوري الأردكاني(1)
على الرغم من تداول مصطلح «الاستغراب»، فإنّ سبر معناه يثير الاستغراب؛ فقد ألفنا تعبيري «الاستشراق» و «المستشرق»، نتيجة انهمام مؤسسات متخصصة بهذين الحقلين في أوربا وأميركا منذ قرنين من الزمان.
في المقابل، غابت الدراسات في مجالي «الاستغراب» و«المستغرب». ولعلّ من النادر العثور على مصطلح «Oxidentalism) (الاستغراب )كمقابل لمصطلح «Orientalism» (الاستشراق) في أي معجم لغوي، وفي حال وجوده، فلا يشير إلى معنى« الاستغراب» المتوخى .
لم يكتسب «المستشرق» صفته تلك بمجرد إحاطته ببعض المعلومات حول الشرق، بل نشأ كلَّ من مصطلحي المستشرق» و «الاستشراق» نتيجة تحوّل «الشرق» موضوعاً لحقل معين من الدراسات والأبحاث.
ألم يكن ممكناً قيام بعض الشرقيين جغرافياً بالمبادرة للاطلاع على الغرب، ليصبحوا «مستغربين»؟
ص: 37
ألم يدرس كثير من علماء الشرق وطلابه في الغرب، الأمر الذي سمح لهم بالاطلاع على الغرب؟
يدرس أطفالنا في كتبهم الدراسية تاريخ كلّ من أوربا وأميركا وجغرافيتهما، حتى أنّ العلوم التي تُدرَّس في الثانويات والجامعات،ليست في أغلبها سوى ترجمة لأعمال الغربيّين، ناهيك عمّا دوّنه المستشرقون الغربيون من تاريخ علومنا وفلسفتنا وفنوننا وآدابنا، لينحصر دورنا بترجمتها فحسب.
إذاً، لسنا غرباء عن الغرب، بل نعرفه بطريقة أو أخرى.
مع ذلك كله، لماذا نفتقر« للمستغربين»، ونفتقد فرعاً معرفياً يُعرف باسم «الاستغراب» حتى الآن؟
وبالتالي هل تختلف معرفتنا بالغرب ،عن معرفة المستشرقين بالشرق؟
إنّ هاتين المعرفتين متمايزتان تماماً؛ فمعرفة الغرب بالشرق هي معرفة استقصائية، أما المعرفة التي نمتلكها عن الغرب - كما يُعبر غابرييل مارسيل - فهي معرفة أوّليّةٌ ناقصة، تمثل مجموعة العلوم الرسمية التي تلقيناها من الغرب، لا تشكل إلا مجرد أخبار وصلتنا عنهم.
في المقابل، لم يأخذ المستشرقون شيئاً منّا، بل قاموا بدراسات في علومنا وثقافتنا وآدابنا ومعتقداتنا؛ جاعلين من تاريخنا موضوع بحثهم، متخذين مبدأ إعطاء الأولوية للمواضيع التي تخدم أغراضهم في الغلبة.
لقد حالت هيمنة الغرب دون تمكننا من اتخاذ الغرب موضوعاً لدراساتنا، نتيجة عجزنا عن تأطيره ضمن حدود قدرتنا، كما أن بدايات احتكاكنا بالغرب كشفت حاجتنا للعلوم والقوانين والتقاليد الغربية، ما حرمنا من مقاربة الغرب بنظرة موضوعية لانعدام القدرة أو المجال لدينا للقيام بذلك.
في هذا السياق، يبدو أننا بحاجة إلى تقديم قدرٍ من الإيضاح في هذا الخصوص،
ص: 38
من خلال التأكيد على أنّ «الاستغراب» يختلف كلّيّاً عن الإحاطة بعلوم العالم الحديث وآدابه وتقاليده؛ فلم يُصنف علماؤنا الأقدمون الذين أخذوا الطبّ والفلك والنجوم والفلسفة من اليونانيين وقاموا ببسطها في زمرة المتخصصين في «اليونانيات»، بل لم يُطلق عليهم هذا العنوان أصلاً .
ناهيك عن أننا لا نسبغ على أدباء الشرق وفلاسفته وعلماء الدين فيه لقب المستشرقين، وما إطلاق صفة المتخصصين في الإسلاميّات على علماء الإسلام إلا على سبيل التسامح ، لأنّ علماء الدين لا يحظون بذلك اللقب ما لم يؤمنوا بذلك الدين ويبلّغوا أحكامه، بينما ليس من الضروري أن يكون المتخصص ب_«الإسلاميات» معتقداً بذلك الدين ومتمسكاً به.
إذاً، يشكّل «الاستشراق» علاقةً خاصةً بين الباحث والمواضيع التي يدرسها، في نسبة بين« فاعل» المعرفة وموضوعها، والتي يُعبر عنها في لغة الفلسفة الأوروبيّة بالنسبة بين «Subject» (الفاعل) و «Object» (الموضوع)، دون وجود أي ميل لدى فاعل المعرفة نحو مفعولها، مكتفياً بوضعه أمامه حتى يتعرف عليه من خلال المناهج العلميّة المقرّرة، ليدخله في نطاق العلم.
ولا تشدّ سائر العلوم الحديثة عن تلك النسبة؛ بمعنى أنّ منهجية البحث تقتضي من الباحث مقاربة متعلق (بفتح اللام) بحثه بنظرة موضوعية تعتمد الحيادية؛ إذ يمكن لأديب وشاعر فارسي تناول شعر فارسي بهذه المنهجية ويكتب عملاً في تاريخ الأدب، دون التغاضي عن النسبة« ما وراء الموضوعية »التي تربطه بالشعر الفارسي، والتي تبتعد عن النظرة الحيادية؛ فيمكن للقارئ الفارسيّ للشعر الفارسي تناول أنواع الشعر وصوره بحثاً ودراسةً، دون أن يتأثر تذوّقه للشعر بمنهجية البحث، لأنّ تذوّق الشعر والاستئناس به ليسا إلا نتيجةَ ميله له؛ فالشاعر يهوى الشعر، دون أن يُعاب عليه ذلك، أو يُعترَضَ عليه بحجّة لزوم اتخاذ الحيادية سبيلاً في رؤيته الشعرية.
لطالما كان أدباؤنا وشعراؤنا متذوّقين للشعر ومستأنسين باللغة، ومع ذلك لم يظهر
ص: 39
ما يُسمّى بتاريخ الأدب الفارسي إلا في العصر الحديث؛ إذ تعود بواكير الكتابات في تاريخ الأدب الفارسي والفلسفة الإسلامية و... إلى أعمال المستشرقين التي حذا حذوها باحثونا وعلماؤنا فيما بعد، وقد تعاملت المدرسة الوضعية مع ذلك التقليد باعتباره أمراً مفروضاً وضرورياً مع ازدراء كلّ نسبة وطريق آخر سواه.
ويتجلى هذا الأمر بأوضح صورة في حقل الدين والعلوم الدينية؛ إذ يمكن لشخص ما أن يكون مؤرّخاً للأديان أو يمتلك معلومات واسعةً في أحكام دين ما أو عدة أديان، دونَ أن يعني ذلك اعتقاده بأي منها.
وكم من قادة روحيّين لم تمنع مكانتهم كعلماء في الدين ومبلّغين لأحكامه، من مقاربة الدين وفق نظرة موضوعية بحتة، لأنّ تلك الرؤية للدين لا تعدو أن تتعامل معه كمتعلق (بفتح اللام) لعلوم المستشرقين، بينما تختصر نسبة الناس للدين بتلك النسبة التي تربط المستشرقين بالثقافات والأديان الشرقية فحسب، في حالة تقيّد حراك البشر ضمن ساحة واحدة فقط للعلم الموضوعي وحدَه فيها الكلمة الفصل، في انعكاس لفئة مغلوب على أمرها أمام الغرب، دون إضفاء صفة «الاستغراب» عليها، حتّى ولو كانت ملمة بالعلوم الحديثة.
إنّ كلّ ما ذكرنا آنفاً لما يرفع الغموض عن موضوع البحث بعد؛ إذ لم نتبين الفرق بين
«الاستغراب» من جهة، والإحاطة بعلوم الغرب وثقافته من جهة أخرى؛ الأمر الذي يدعونا لتسليط الضوء على أقسام العلم تخفيفاً لحالة الإبهام.
في الوهلة الأولى، يمكن تقسيم العلم قسمين: أحدهما العلم الموضوعي الذي يحيط فيه العالم بالمعلوم ويتصرّف به، والآخر العلم الذي لا يشرف فيه العالم على المعلوم أويتحكّم به، بالرغم من عدم انفصاله عنه.
كما ينقسم العلم الأوّل الموضوعي بدوره إلى قسمين؛ أحدهما العلم بالأمور والأشياء التي تتصل بالعالم الموجود والمتجدّد، سواءً كانت تاريخيّةً أو ثقافيةً أو طبيعيةً، والآخر العلم بالأمور ذات العلاقة بعالم متشتت، لم يبلغنا منه سوى مجموعة
ص: 40
أخبار وآثار ،والذي يُعدّ الاستشراق من سنخه؛ فلو كان من المقرر التعامل مع
«الاستغراب» ك_«الاستشراق»، عندئذ يلزمنا انتظار نهاية العصر الغربي أو افتراض حالة يكون العصر الغربي قد بلغ فيها نهاياته.
علينا الأخذ بعين الاعتبار فكرة إعراض المستشرق عن الاهتمام بأي شيء لا يزال ينبض بالحياة في الشرق، فقد قام المستشرقون بدراسات مهمة في مجالات العرفان والفلسفة والكلام والأدب والسياسة و.... لكن لم نعثر على باحث مستشرق أنجز دراسات في علم أصول الفقه، ويعود السبب في ذلك، برأيي، إلى صعوبة نسبة علم أصول الفقه إلى الماضي، للجوء الفقهاء إليه في استنباط الأحكام، دون أن يعني كلامنا اعتبار كلّ من الفلسفة والعرفان والكلام والأدب ميّتةً عفا عليها الزمن، وأنّه لم يبقَ من العلوم الحيّة سوى أصول الفقه، لأنّ كافّة العلوم والمعارف حيّة، ولكنّ المستشرق ينسبها للماضي.
لايخفى أنّ هناك فلسفةً وكلاماً وعرفاناً وأدباً في الغرب أيضاً، لكل منها تاريخه الخاص ، فإذا بادر شخص غير غربي بالبحث في تاريخ آداب الغرب وفلسفته وكلامه، فلماذا لا نعتبره «مستغرباً»؟
بعبارة أخرى، إذا كان للمستشرقين أن يُجروا أبحاثهم ودراساتهم في تاريخ الشعوب
الشرقية وفلسفتها وآدابها ،وعلومها، حتّى يُعدّوا نتيجة ذلك في عداد المستشرقين فلماذا لا يمكن لنا - نحن الذين أخذنا بعلوم الغرب، ونعتبر أنفسنا وغيرنا في حاجة إليها - أن نُعَدَّ «مستغربين »من خلال القيام بدراسات في علوم الغرب وآدابه؟.
إنّنا، بتناولنا تاريخ فلسفة الغرب وكلامه وآدابه سنقوم بتجميل تاريخنا من خلال المعلومات التي نحصل عليها في هذه العملية، بينما يتّخذ المستشرق من ماضي الشرق مادةً لتاريخه، مضفياً على تاريخ الشرق وماضيه صبغةً غربية.
كان «بيرجسون» يقول، في سياق حديثه عن المعرفة العلمية والعقلية، بأنّ العقل يُسكّن الأشياء المتحركة والمتغيرة ذاتيّاً؛ إذ كان يرى بأنّ العقل الذي تبلور في مرحلة
ص: 41
تاريخ الغرب الحديث لايميّز حقيقة الموجود الذي يمثل عين الحياة والنشاط والسيرورة والصيرورة، بل يبحث عن صورة الأشياء الميّتة والجامدة.
إذا ك ان هذا الكلام منوطاً بقبول بعض مبادئ فلسفة «بيرجسون» وقواعدها، عندئذ يمكن تظهير صورة الموضوع بطريقة أخرى؛ إذ عندما ننظر إلى التاريخ وفق المنهجية الفيزيائية، فإنّ تاريخ البشر وماضيهم سيتبدّل إلى شيء فيزيائي خاضع لقوانين الفيزياء.
لقد كتب المستشرقون تاريخ الشرق من موقع التسلّط والهيمنة والغلبة؛ الأمر الذي يجعل من معرفتهم بالشرق مختلفةً كلّيّاً عن معرفتنا بالغرب ، بل لا مجال للمقارنة بينهما ، لأنّهم تمكنوا من اتخاذ الشرق موضوعاً لأبحاثهم ومعرفتهم، بينما لم تتعدَّ معرفتنا بالغرب شكلاً من أشكال المساهمة في تلك المعرفة؛ فالإحاطة بالعلم والتكنولوجيا الغربية يشكل نوعاً من المشاركة في التاريخ الغربي، ولا ينبغي الخلط بين هذا النوع من المعرفة و «الاستغراب».
لقد أخذت الأمم الشرقية، منذ قرون عديدة بعلوم الغرب وآدابه وفلسفته وتكنولوجيّته، دون أن يُعتَبروا «مستغربين»، بل لم يتعامل أحدٌ مع منهجيّتهم وسلوكهم فی هذا السبيل كنوع من «الاستغراب».
بناءً على ذلك، هل يمكن اعتبار «الاستغراب» مفهوماً مستحيلاً يحول دونَ تأسيس فرع بحثي تحت هذا العنوان؟
إنّ التمييز بين مصطلحي« الاستغراب» و «الاستشراق»، يعيننا على استعراض شروط تحققه - أي «الاستغراب» كما يلي:
1- ينبغي على من يتصدون لدراسة «الاستغراب» تحاشي الشعور بالتبعية للغرب والدونية تجاههم، من خلال الحفاظ على استقلاليتهم وحريتهم، أو تنمية حس التمايز بينهم والعالم الغربي كحد أدنى، رافضين التعامل مع الغرب كنموذج للكمال
ص: 42
المتوخى، أو باعتباره المعلم والموجّه، مكتفين بالنظر إليه كآخَرَ مختلف.
لقد نشأ الاستشراق في ظروف كان الغرب يعتبر نفسه قمّة العالم والمهيمن عليه.
إنّ مقاربة معرفة الغرب وأدبه كغاية المعرفة والأدب الإنسانيّين، أو التعامل معهما کانحراف عن مبادئ الأخلاق وأصول الدين تحول دون إمكانية تبلور «الاستغراب»، لتحوّل الغرب في هذه الحالة إلى شيء بعيد عن صورة الآخر.
فلو ابتعدت الدراسات التي ظهرت في الآونة الأخيرة واتسمت بالعبثية - حول وجود الغرب عن النزعات الأيديولوجية، لساهمت في تسليط الضوء على شروط إمكانية تحقق مشروع «الاستغراب».
لقد صادفنا خلال بحثنا جهات تنكر أيّ ماهيّة للغرب أو ذاتيّة له، مدعيةً أنّ ما بلغه الغرب من قدرة ومكانة ليس خاصاً به، بل يمكن، وينبغي للعالم كافةً أن يصل إلى تلك المرحلة.
إن تبني هذا القول صحيح نسبياً من إحدى الجهات؛ بمعنى أن يتصوّر مدعوه احتكار الغرب الجغرافي للعلم والتكنولوجيا ،عندئذ يحق لهم القول بأنّ كافة سكان العالم يمكنهم أن يأخذوا بذلك العلم الجديد، وسلوك سبيل التنمية العلمية والتكنولوجيّة، إلا أنّ محلّ النزاع ليس في القول بأنّ كلاً من العلم والتقنية الحديثة خاصة بمجموعة من البشر، بل يكمن في أنّ تاريخاً معيناً يحمل مبادئ خاصةً قد تبلور في الغرب، وبسط جناحه على كافة أرجاء العالم، محوّلاً تاريخ العالم إلى تاريخ عالمي ،واحد، وفي مثل هذا التاريخ الواحد كيف يمكننا تمييز الآخر وتحديد الخصوصيات؟
لا شكّ في أنّ من ينكرون وجود الغرب وكينونيته سيتعاملون بالضرورة مع
«الاستغراب» بلا مبالاة، وحتى لو برّروا لأنفسهم التعامل مع هذا الموضوع، فإنّهم يحصرونه في نطاق معرفة الغرب، والاطلاع على تاريخ الغربيين وجغرافيتهم وآدابهم وعلومهم.
ص: 43
أمّا أولئك الذين يقاربون الغرب تاريخاً عالميّاً، ذا ماهية ومزايا معيّنة، فإنّهم يجارون تلك الفئة من الغربيين الذين يتساءلون عن بدايات الغرب ومآلاته، ويسبرون حقيقة تاريخ الغرب في سبيل معرفته فهم بمعنى ما يتقبلون فكرة إمكانية تحقق «الاستغراب» لابسنخه الاستشراقي؛ فلا يتخذ المستغرب من الغرب موضوعاً لبحثه، بل يستوعب تاريخه في ضوء ماهيّته التي يبحث عنها ماهية في ضوء تاريخه.
يمثل هذا النوع من فهم تاريخ الغرب وماهيّته نوعاً من المعرفة الظاهراتية، التي تستلزم الاحتكاك بعالم الغرب وفهمه من الناحية التجريبية.
2 - يستلزم إطلاق مشروع« الاستغراب» استيعاب التاريخ الغربي بشكل عام، والذي ينحصر سبيل بلوغه في سبر فلسفته، ويتمظهر في تقنيته، ما يستدعي الإحاطة بكليهما (الفلسفة والتقنية الحديثتين)؛ إذ لم يعد كافياً في هذه العمليّة مجرد دراسة تلك الفلسفة في الجامعات وتأليف الكتب حول تاريخها وترجمتها وطبعها ونشرها وجمع المعلومات عن آخر الآراء والأفكار الفلسفيّة هناك، بل ينبغي التأمل فيها من خلال وعي النسبة بينها وبين العالم الحديث، لا سيّما عبر التفكير في نهاية الفلسفة الغربيّة وأحوال ما بعد الحداثة.
لا يولد «الاستغراب» بكتابة مقالة حول الثورة الفرنسيّة، أو ترجمة عمل أدبي فلسفي، لأنّ الشرط الأساس لتحققه يتمثل في القدرة على التغلغل في فكر الغرب وفنّه وتاريخه وترسيخ الأقدام فيها.
إن كتابة مقالة تناقش فلسفة فيلسوف وشعر شاعر من خلال جمع معلومات من هنا وهناك، تجسّد في أحسن الحالات اتباعاً لمنهج ودراسة جديدة، إلا أن يتمكن الباحث من إعادة قراءة الموضوع وتحديد موقعه في سياقه التاريخي؛ بمعنى أن ينظر إليه من موقع المشرف في إطلالة بانورامية.
قد نكتب مئات المقالات حول«سوفوكليس» و«أفلاطون» و«فيرجل»و «بوئيسيوس» و «سانت أوغستين »و «توماس مور» و «هيغل» و «غوته» و «نيتشه» و ...
ص: 44
إلا أنّ ذلك كلّه قد لا يكون كافياً لإضفاء صفة «الاستغراب »عليها؛ لأنّ أقصى ما يمكن أن تعكسه تلك المقالات إثبات شغفنا بكبار شعراء الغرب وأدبائه وفلاسفته ،وعلمائه بينما «المستغرب» الحقيقي هو ذلك الشخص القادر على إدخالهم في منظومتنا الفكرية.
قد يقال: ألم يكن نيكلسون مهتماً ولهان بالمولوي؟ ألم يصرف «ماسينيون» ردحاً من عمره في البحث حول أحوال «الحلاج» وآثاره؟
إنّ إطلاق «ماسينيون» عنوان «محنة الحلاج على كتابه أكبر دليل على تعلّقه بسيرة
«الحلاج».
لسنا في حاجة لسرد الأمثلة حتى نثبت ولع كبار المستشرقين بالأعمال التي أنجزوها؛ فقد كان بعضهم عاشقاً للشرق والشرقيين، دون أن ينسوا ما يربطهم بالتاريخ الغربي، بل إن كثيراً منهم صرّحوا أو لوّحوا بإيمانهم بوحدة التاريخ، وما جرى في الماضي سواءً في الشرق أو أي مكان آخر على الأرض لم يكن سوى مقدمة للتاريخ الغربي.
3 - مشروع «الاستغراب» رهن بمعرفة منشأ ومعنى كلٌّ من العلم الحديث والثقافة الحديثة والحقوق الحديثة والسياسة الحديثة، وطالما أطلقنا أحكامنا على العلم والسياسة و... بناءً على المشهور السائد من الآراء فلا يمكننا أن نكون «مستغربين»؛ فلا نتوقع من مؤيدي الديمقراطية الاشتراكيين، والفاشيين،والنازيين، و... أن ينتموا إلى تلك الفئة.
طبعاً، ليس على «المستغرب »أن يكون معارضاً لتلك النزعات جميعاً، بل عليه أن يكون متحرّراً منها، ولا تخلو تلك النزعة للاستقلالية من صعوبة مع ذلك، فإن تعسّر التحرّر من تقاليد الغرب الظاهرية من سياسة وحقوق وغيرها، لا يُقارن بمشقة التحرّر من هيمنة تقنية الغرب وفلسفته.
ص: 45
4-مع ذلك كلّه، فقد توافرت في الغرب ظروف يمكن في ضوئها تصوّر إيجاد مجال لبروز «الاستغراب»؛ إذ لم يعد مشروع «الاستغراب» اليوم نوعاً من الترف الذي لا لزوم له نتيجة ظهور أشخاص يدّعون بأنّ الحداثة قد وصلت إلى مرحلة من الجمود والتوسع الصوري والرسميّ، الأمر الذي قد يرسّخ في أذهاننا فكرة توقف التجدّد وجموده.
في المقابل، يمتاز الفكر «ما بعد الحداثوي بالرفض للتعامل مع كل جديد ما یمهد الأرضيّة للعودة إلى الشرق واقتباس كلمات مفكريه ومرشدي الفكر الروحي والمعنوي لإضاءة طريق المستقبل.
5 - ليس «الاستغراب» ردّة فعل على «الاستشراق»؛ فلا يمكن ل_«المستغرب». ولا ينبغي له تطبيق المنهجية الاستشراقية في معرفة الغرب، لأنّ استخدامها في الغرب شاق للغاية، لن يُفضي إلى شيء سوى تقديم تقرير ناقص عن موضوع الدراسة، كما حدث قبل مئتي عام في إيران، حين ظهرت مجموعة من الأشخاص الذين خاضوا تجربة كتابة تقارير حول سياسة بريطانيا وبعض الدول الأوربية.
إن سبر «الاستغراب» ودراسته في حاجة إلى القدرة على كتابة مقالة بحثية أو تأليف كتاب تحقيقي حول السياسة والأدب والفن والثقافة والاقتصاد والفلسفة في ،الغرب، ما يؤكد أهميّة ترجمة كافّة الأعمال الفلسفية والأدبية والسياسية والتاريخيّة الغربيّة المهمّة من ناحية، ويفرض على اللّغة أن تتمتّع بالمقدرة والحيوية اللازمتين تمهيداً لخلق هذا التحوّل التاريخي الكبير.
لا يعني«الاستغراب»الاكتفاء بمعرفة أمور في التاريخ والجغرافية والأدب والفلسفة الغربية؛ إذ لو كان الأمر كذلك، لما احتجنا للتفكير في إيجاد فرع علمي باسم«الاستغراب».
إنّ أطفالنا في المرحلتين الابتدائية والإعدادية يقرؤون تاريخ وجغرافية أوروبا وأمريكا، ويطالعون القصص الغربيّة ويطلعون على سير الشخصيات الغربية البارزة.
ص: 46
فضلاً عن مطالعة قرائنا ترجمات الكتب الأجنبية، ناهيك عن أن كثيراً من الأفلام والبرامج التلفزيونية التي نشاهدها هی من نتاج الغرب، كما أنّ ما نتعلمه في مدارسنا عن الغرب وما ينعكس في وسائل تواصلنا الاجتماعية عنه، لا تمكن مقارنته بما يعرضه الغربيون أنفسهم عن الشرق في كتبهم وإذاعاتهم وتلفزيوناتهم.
مع ذلك كلّه ، فإنّ للغربيين« مستشرقيهم» و «استشراقهم» ، بينما لانطلق اسم
« المستغرب» على علمائنا المُلِمّين بأوضاع الغرب وأحوالهم؛ إذ على سبيل المثال، لم نطلق صفة «المستغرب» على كل من «عبد اللطيف شوشتري» و«اعتصام الدين» و«أبي طالب الأصفهاني» و «آقا أحمد الكرمنشاهي» ، مع أنهم خاضوا غمار تجربة تقديم توصيف النظام السياسي في الغرب، وقاربوا سلوك الأوربيين السياسي في مناطق أخرى من العالم.
من غير المقبول الادّعاء بأنّ المستشرق يتناول دراسة الشرق باعتباره تاريخاً مضى بينما لا يمكن اعتبار الغرب موضوعاً ل_«الاستغراب» لأنه لم يلتحق بالماضي بعد؛ حيث يوجد اليوم مستشرقون يدرسون الأوضاع الجارية في كل من إيران والصين والهند ودول إسلاميّة وشرقيّة أخرى بصورة عامة.
يمثل المستشرقون بشكل عام انعكاساً لمظاهر الثقافة الغربيّة، فإنّ هناك مجموعةً منهم تنتمي للمرحلة النهائية والأخيرة من الاستشراق، ويمتاز أعضاؤها بالاهتمام بالأوضاع المعاصرة ويميلون غالباً إلى الاهتمام بالسياسة أكثر، وينشغلون بالتفكير في خلق تحوّل سياسي في الدول غير الغربية وتنتابهم حالات القلق من ظهور سیاسات مخالفة للغرب فيها.
فإذا كان مسموحاً للاستشراق أن يتناول الأوضاع الجارية وعدم الاكتفاء بدراسة الماضي، فلماذا لا يمكن تناول الاستغراب للأوضاع الجارية في الغرب؟
لا يخفى أنّ للغرب ماضياً يمكن دراسته، ولكن معرفته العميقة تحتاج إلى شروط منها، لزوم سبر ماهيّة ،الغرب، أو تقبّل ادعائه، كحد أدنى، بضرورة التعامل معه معه ککیان
ص: 47
ذي عنوان تاريخي مميّز يختلف عن التواريخ الأخرى ويفرض تأثيره على العالم كله.
في المقابل، لا يحتاج سكان العالم الغربي إلى «الاستغراب»، ما يفرض على من يسعى إلى إطلاق ذلك المشروع أن يكون من خارج ذلك العالم، علماً أنّ الخروج من هذا النطاق في عصرنا الحاضر أمر شاق للغاية؛ إذ كيف يمكن تصوّر اتخاذ الغرب موضوعاً للبحث طالما لم يتحرّر كلَّ من الرؤية والفكر والرأي والعقل والقلب والروح من قيوده؟
لقد علّم الغرب البشر ، طوال 400 عام ، كيفية النظر إلى الموجودات وانتخاب الطريق ومآله، متقمصاً خلالها دور دليل عمل وعلم، أو مدعياً الهداية والقيادة على الأقلّ، معتبراً نفسه تجسيداً للعلم والعقل معاً، فكيف يمكن التفكير بإنزاله من سدة العلم والسلطة بتلك البساطة، وتحديده في إطار حدودنا المعرفية؟
لقد حدّد الغرب بنفسه حدود الإدراك والمعرفة، ولا يمكن لمن يتواجد في إطار تلك الحدود تصوّر ما وراءها !
لا يمكن لمشروع «الاستغراب» أن يتحقق إلا بالتحرّر من الغرب عبر التحرّر التاريخي من عالمه والخروج منه؛ فلا يمكن اعتبار مجرّد المعارضة السياسية أو النقاش والجدل في المواضيع الثقافية والفلسفية دليلاً على التحرّر من الغرب، لأنّ كثيراً من سكان الغرب، بل حتى بعض حراكات ذلك العالم حالياً، تخالف بعض تلك السياسات، وتعكس آراء اجتماعية وفلسفيةً خاصةً بها.
إنّ التحرّر من الغرب لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال خلق حالة من الثورة في رؤية الناس ،ووجودهم وهذا لا يتم إلا من خلال إدراك ماهية الغرب، واستيعاب أصوله ومبادئه ، الأمر الذي لا يخلو من قدر من الألم والمشقة يعادل ما تحمله تلك الثورة معها من صعوبات، ولا يمكن بلوغها بمجرد البحث والدراسة.
قد يبادر البعض لتبرير بعض الفلسفات الغربيّة ورفض أخرى وفق معايير يعتبرونها
ص: 48
من المشهورات والمقبولات؛ علماً أنّ تلك المقاربات تسدّ الطريق أمام معرفة الغرب محوّلة العلم إلى حجاب مانع، يصيبنا بحالة يكون فيه العلم أشدَّ علينا من الجهل.
في الظروف الحالية، إن الفلسفة «ما بعد الحداثوية »هي الفلسفة الوحيدة التي يمكن لها، بشكل أو بآخر، أن تشكل سبيلاً لمعرفة الغرب، والتي تتميز بإخضاع كافة مبادئ الغرب ومرتكزاته للتشكيك والتساؤل بعيداً عن الجدل لإثبات قضيّة أو نفيها، ما يمهد الطريق لخلق بدايات التحرّر من غلَبَة الغرب وهيمنته ،كمنطلق لمعرفته بحق ؛ إذ يتصف الفكر ما بعد الحداثوي بالطريقيّة لا الموضوعية، الأمر الذي يجعل من تأييده أو معارضته مؤشراً على سوء الفهم، وإنّنا بحاجة إلى معرفة الغرب لأنّ فتح طريق المستقبل يتوقف على استيعاب وضع البشر بصبغته الغربية في العصر الحاضر.
ص: 49
نجلاء مكاوي (1)
استخدمت الثقافة الأوروبية عدة استراتيجيات، وهي تؤطر فكريا ما اعتقدته تفوقًا أوروبيًا على كافة الحضارات والثقافات، تضمنت التنظير لتلك الرؤية، وصياغة الخطاب الذي يبرر السيطرة الأوروبية على الثقافات الأخرى، من خلال تعميم القيم والممارسات الأوروبية على« الآخر» الذي اعتُبر وصُوِّر ذا قيم وثقافة أدنى، ويستوجب تقدمه الدوران في الفلك الثقافي الغربي.
وضعت النظرة للعالم في الوعي والثقافة الأوروبية أسس مفهوم المركزية الغربية، وما استتبعها من تجليات ثقافية، فوفقا للتصور الأوروبي المبني على نظرة ثنائية للعالم برابرة ومتحضرون فإن الغرب هو منتج القيم الإنسانية، والمحدد الوحيد المسار انتقال أي ثقافة من البربرية إلى المدنية وهي كل الثقافات غير الغربية، وواضع معايير التقدم والتخلف.
وقد ظهر مفهوم الغرب، تمخضًا عن الحقبة الطويلة التي يصطلح عليها بالعصر الوسيط، التي طورت جملة من العناصر الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية، فاندمجت لتشكل هوية أوروبا، وبانتهاء تلك الحقبة ظهر المفهوم بأبعاده الدلالية الأولية، التي تمثلت في تثبيت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية علي أنها ركائز أساسية تشكل هويته. وأدت هذه العملية إلي ولادة مفهوم
ص: 50
المركزية الغربية، الذي تتجلى إشكاليته في أنه يؤسس وجهة نظر حول الغرب بناء على إعادة إنتاج مكونات تاريخية ،توافق رؤيته، معتبراً إياها جذورًا خاصة به،ومستحوذا في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعًا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها. فيما تقصد المفهوم أن يمارس إقصاء لكل ما هو ليس غربيًّا ، دافعًا به إلى خارج الفلك التاريخي الذي أصبح الغرب مركزه، على أن يكون مجالاً يتمدد فيه، وحقلاً يجهزه بما يحتاج إليه(1).
ساعدت عوامل عدة على تدشين وتثبيت الهوية الغربية الحديثة، ووضوح وتجلي مفهوم التمركز، فبجانب الثورة الفكرية والعلمية، وحلول العلمية العقلية محل الرسالة الدينية، ما كرس لتمركز «الأنا»عند الغرب، الذي صار رمزا للتحضر، بينما العالم الآخر هو رمز للتوحش والهمجية، بعد أن نابت ثنائية حيوية أوروبا / خمول العالم عن ثنائية الإيمان/ الكفر التقليدية ،أو ثنائية التمدن /التوحش، فإن بداية الإعلان عن الزمن الأوروبي، وتشكيل هوية محددة إعمالاً للمركزية الغربية جاءت مع الكشوف الجغرافية الكبرى، وعبور كولمبوس للمحيط الأطلسي عام 1492، حيث أقصيت أمريكا وتاريخها القديم، وطمست معالمها ابتداءً من تحديد تسمية تحتفي بالاتباعية للذات الغربية، هذه التسمية التي حاولت ممارسة الإقصاء بإخفاء هويتها الحقيقية وإخماد وطمس أصلها، فكان الإعلان عن هوية أوروبا الغربية وذاتها بقتل الآخر واستبعاده(2). واستمرت الآثار السياسية والثقافية لهذه الحملة كامنة في صميم الثقافة الغربية، ولعل أبرز تجلياتها نظرة الغرب الاستعلائية إلي نفسه والتي ترافقها النظرة الدونية للثقافات والشعوب غير الغربية، وقيمها، وثقافتها، والشعور بالتفوق لدى الذات الغربية. هذه النظرة التي تجلى تطورها فی كونها أضحت مبررًا عنصريًا بواجهة أخلاقية لتوسعات أوروبا الاستعمارية في بلاد من اعتبرتهم هوامش، مروجة خطاب المنوط بإخراجهم من الظلام والجهل
ص: 51
وإلحاقهم بركب الحضارة، وإن كان باستخدام القوة، بكافة تمثلاتها.
ثمة منظومات فكرية صاغت أسس فكرة التمركز الأوروبي، وأصلت له من أجل صناعة صورة تشرعن للغربي إقصاءه للآخر وتهميشه وتجلت في نظريات أصلت للحضارة الأوروبية بادعاء النقاء، وعدم تأثرها بأي حضارة أخرى غير غربية، وانعدام القيمة والتأثير المطلق للحضارات الأخرى، وقد أشار الأنثروبولوجي الفرنسي، جيرار ليكريلك، إلى دور «النظريات التطورية»في رسم صورة عن حضارات متفرقة ومتأخرة تتقدمها أوروباوتشكل نموذجاً يمكن تتبع خطاه، فقد كان بناء تلك النظريات أحد الطرق التي حاولت أوروبا بواسطتها أن تفهم التنوع الثقافي في العالم الذي اعترفت به، إبان التوسع الاستعماري. ففي إطار مقاربة كهذه يمكن ترتيب المجموعات البشرية تبعًا لخط زمني طويل يمثل في الوقت نفسه سلمًا للتقدم، بحيث يظهر هذا الخط الإنسان وقد انتقل من حالة التوحش إلى البربرية، ثم إلى المرحلة المتحضرة. وإذا قدر لكل المجتمعات أن تتقدم تبعًا لهذا الخط، فإن بعضها كان أكثر« تقدما» من البعض الآخر، بعضها يقود السباق، وبعضها الآخر يشكل جزءًا من المتبارين، وثمة بعض ثالث يسير في ذيل المتبارين. وهنا، تحتل أوروبا وبشكل طبيعي، كليًّا، موقعًا يجعلها رأس الحضارة (إنها الحضارة بامتياز ) أما «الحضارات الأخرى» (الإسلام، الهند الصين) فقد كانت أكثر« تأخرا». وفي النهاية فإننا نصادف مجتمعات متوحشة أو «بدائية» لا حق لها بأن يطلق عليها صفة «المتحضرة»، وتاليا فإنه لا بد لها أن تكتفي بموقع صاحبة «ثقافات»(1).
الزعم الأوروبي بإمكانية تصنيف المجتمعات الإنسانية، والحضارات والثقافات الأخرى، تبعًا لتقدمها على سلم التقدم الثقافي والاجتماعي، الممثل في الحضارةوالحداثة ، الأوروبية، استند إلى مبادئ العقلانية والعلمانية، التي رسختها فلسفة الأنوار التي انطلقت في أوروبا في القرن الثامن عشر ، ومثلت مرجعًا تأسيسيًا للفكر الغربي الحديث، وشكلت منعطفاً تاريخياً تحكم في مجمل الإنتاج المعرفي الغربي
ص: 52
والعالمي، حيث أحدثت قطيعةً معرفيةً مع النسق المعرفي الذي كان سائدا غربا، كانت ضروريةً للخروج من أفق التخلف والدخول في مسالك النهضة، فعملت على تعمیم نموذجها باعتباره نموذجًا كونيًا يصلح في كل زمان ومكان؛ وتشكلت مركزية غربية عنصرية تمثلت باحتقار الثقافات والشعوب الأخرى، وخصوصا الشرقية منها، وبدت الممارسة الاستعمارية أكثر وضوحًا مما كانت تتخفى خلفه من المثل العليا للأنوار، فانقلب العقل إلى اللاعقل، والعدل والمساواة إلى الاستبداد، وزحفت أوروبا إلى العالم لفرض هيمنتها وسيطرتها بذرائع تحرير العالم وتمدينه، وفق أيديولوجيا الاستعمار(1).
الاستعلاء المعرفي
هنا تفترض النظرية التطورية أن الاختلافات بين الثقافات (أو بين الحضارات) هی اختلافات ناجمة، أساسًا، عن الموقف المتقدم نسبيا على طريق التقدم التقني الوحيد. إنه طريق واحد لا يمكن تحاشيه، فكانت عبارة «الخط الوحيد» عبارة تقرن بهذه المقاربة في أغلب الأحيان. حيث تقوم أوروبا بقيادة مباراة الحضارات، وفي إثرها يسير صف من الثقافات الصغيرة البدائية المعزولة والقديمة، والتي أصيبت بالتأخر التقني، وبالتالي الثقافي. فانعزال الحضارات الواحدة عن الأخرى، وهذا ما كان قاعدة طيلة التاريخ، قد آل إلى الانتهاء مع تشكل السوق العالمية، وتوسع الحضارة الحديثة، المولودة في أوروبا بشكل كوني. أما الحضارات الكبرى الأخرى سيكون بوسعها لاحقًا أن تتكيف مع الخطوط الكبرى لهذه الأخيرة. فيما يتهدد الفناء الحضارات الأخرى، خاصة لجهة خصوصيتها الثقافية (الدينية بوجه خاص)، ولجهة التأقلم مع الوضع التقني، أي أن الدخول في العالم الحديث -أو في الحضارة كما كان يقال -يمر باكتساب الشكل الثقافي الوحيد، وبامتلاك العلم والتقنية(2).
على ذلك، فالنمط الغربي هو الوحيد المتعين محاكاته لتطور المجتمعات،
ص: 53
التي اعتبرتها أوروبا تحمل عناصر الثبات، ولا تسمح خصوصيتها بالتقدم، بينما الثقافة الأوروبية الحديثة تمتلك عناصر التطور المستمر، لذلك كان من الضروري أن يقسم العالم إلى مركز وهوامش ،مركز غربي من حقه التمدد والسيطرة لفرض نمطه،وهوامش تحتاج إلى التغيير والتحديث، بينما كانت تلك ذريعة للاستجابة إلى التحولات المرتبطة بالرأسمالية، وتلبية حاجات الغرب الاقتصادية، عبرالانطلاق بتوسيع مجاله الاقتصادي خارج نطاق القارة الأوروبية، في ذلك الجزء من العالم الذي اعتبر مجالاً مستحقًا للتمدد.
تجلت الأهداف المرتبطة بقاعدة النظام الرأسمالي، التي تحمل طابعه، والتي وقفت وراء تقسيم العالم إلى مركز وهوامش وعمل خطاب التمركز الغربي على إخفائها، في مسار عملية التحديث المدعاة من قبل الغرب للدول التي استعمرها ،واعتبر أنها بما تحمله من خصوصية سبب في عدم الاستجابة للحداثة، كمشروع فلسفي وتجربة تاريخية، فصُنفت مجتمعاتها بأنها «ممانعة» للتحديث، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية، حيث اتضح أن تحديث العالم ليس هدفًا غربيًّا، بقدر ما كان هدفًا خطابيًا لنزعة التمركز الغربي حول الذات، وفي القلب منها نسق الفكر الكولونيالي. فما سعى الغرب إلى تصديره للمجتمعات الأخرى إنما هوأشكال الحداثة الملونة ،كي تصبح هوامش فعالة، تعمل كأسواق مفتوحة لسلعه من دون إنتاج، وجمهور مستهلك لإعلامه من دون ثقافة. ومن تلك الفجوة بين حاجة الغرب إلى تحديث هوامش المجتمعات الأخرى، وخوفه العميق من حداثة متونها، ولدت الإشكالية التي صارت مألوفة عن ازدواجية المعايير داخل مشروعه الحضاري، فحكم بعض المعايير مسارات تطوره الذاتي وتحكمت نقائضها بمسارات تمدده الخارجي؛ حيث احتل الغرب بلادًا ووظف أصحابها، في خدمة مشاريعه، فظل البناء الفلسفي المعتمد لمشروعه الحضاري عاجزاً عن حمل مشروع كوني حقيقي(1).
تمثلت تناقضات أطروحة التمركز الثقافي الغربي ،في رفض أوروبا التنوع
ص: 54
البشري الثقافي، وادعائها امتلاك الحقيقة، موجهة بنزوع إمبريالي، مستند إلى أيديولوجيا التقدم والعقل والحرية، أسهم في تبلور تناقضاتها وأوجهها المتعددة، وفي تطبيق نظريات العلوم الإنسانية الحديثة على الآخر، هذا التطبيق الذي عبر بوضوح تام عن النزعة الاستعلائية لمرجعياته الفكرية، التي يجعلها الأوروبيون في المقدمة دائماً.وفي هذا السياق تعرض الباحث إدريس هاني في دراسته حول «نقد الإنتروبولوجيا والتمركز الأوروبي - حالة إفريقيا » إلى اصطدام هذه النظرة الغريبة للذات بحقيقة مرة تمثلت بالنموذج الأفريقي، في إطار المعطيات الأنتروبولوجية التي أُريد لها أن تُسخر في خدمة التمركز الأوروبي، لكنها انقلبت ضده، حيث غابت المصاديق الأنتروبولوجية في المجتمعات المدروسة، ومن ضمنها المجتمع الأفريقي .هذا المجتمع الذي يمتلك خصوصية الذوق وخصوصية الاتجاه، وبدلاً من أن تلتفت الأنتروبولوجيا إلى التراث الأفريقي، الذي يعبر عن الهموم والأفراح المشتركة بين الشعب الإفريقي وبين المجتمعات البشرية، راحت تؤكد على تفسيرات التجلي البدائي في العقل الإفريقي وانغلاقه، من خلال دراسة بعض المظاهر الأسطورية في هذا المجتمع (1).
تبين التركيب المتناقض للمشروع الثقافي الغربي، بالرغم من صنع أوروبا لنفسها أقنعة مكنتها من ممارسة الأدوار المتناقضة، ومع إعادة منظريها كتابة تاريخ الإنسانية انطلاقاً من طموحاتهم المتمثلة في مزيد من السيطرة على العالم، في صلب المشروع نفسه، وأطروحة التمركز الأوروبي، الذي وظف في الحرب الأيديولوجية الرامية إلى تعميم التفوق الغربي في مختلف أصعدة الحياة. هذه الأطروحة اقتضى بناؤها الخلط بين معطيات تنتمي إلى مجالات معرفية ،وأخرى ترتبط بالتوظيف الايديولوجي الرامي إلى إنجاز مهام سياسية وأيديولوجية محددة، وهنا إشارة إلى السوسيولوجيا الاستعمارية والأبحاث اللغوية، وأنثروبولوجيا الإثنيات، وغير ذلك من المجالات المعرفية التي تم فيها توظيف الآلية الأيديولوجية المتمركزة على الذات
ص: 55
الغربية، كذات فاعلة في التاريخ بهدف ضمان استمرار فاعليتها بأكثر من وسيلة،ثم حماية مكتسباتها ومصالحها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والايديولوجية.(1)
هذه التناقضات التي تكشفت، مع تطور مشروع الحداثة، وتجلي ازدواجية المعايير في الأدوار التي مارستها الحضارة الغربية، بجانب المقاومة التي أبدتها الشعوب غير الأوربية، أطلقت النقاش حول نقد المركزية المعرفية الغربية، فالنزعة التحررية التي صاحبت عمليات مواجهة الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا، أبرزت عاملاً آخر ساهم في إضفاء النسبية على ايديولوجيا التمركز الثقافي الغربي. يتعلق الأمر بالخصوصيات الثقافية والتاريخية للأمم والشعوب غير الأوروبية، فلم تعد الأحكام المعرفية العامة التي بلورها الفكر الغربي وبلورتها العلوم الإنسانية في لحظات تشكلها، وتشكل نماذجها المعرفية والأبستمولوجية أحكاماً عامة ومطلقة، بل تم إضفاء كثير من النسبية عليها . فلا يمكن للمعارف السوسيولوجية والسيكولوجية أن تصبح كونية وعامة إلا بإدخال عناصر المتغيرات التي تنتمي إلى مجالات خارج محيط المركز الغربي(2) .
على المستوى الخطابي، أي العناصر المكونة للخطاب وآليات تطبيقاته، فقد قدمت تشخيصات للآخر الغربي، وقراءة لخطابه الكولونيالي، وكان من أهم من اشتغل في هذا المجال فرانز فانون وهومي بابا، وقد وصف الأخير خطابات المستعمر بأنها تتميز بتمثيلاتها الساحقة، وتصير إنشاء متخيلاً يقدم سرداً يقتنع بأنه ممثل للسكان التابعين. وكما وصفه بابا فالخطاب الكولونيالي هو جهاز يعمل على الاعتراف بالاختلافات العرقية والثقافية والتاريخية، وإنكارها ووظيفته الاستراتيجية الغالبة هي خلق فضاء للشعوب التابعة بإنتاج معارف تمارس من خلال المراقبة ساعيًا إلى إقرار استراتيجية عن طريق إنتاج معارف بالمستعمر والمستعمر، التي تكوّن
ص: 56
نمطية مقولته ،لكنها تقدم تقويماً متناقضاً. فالقراءات المنمَّطة التي اتخذت شكلاً مقولباً وشبه ثابت ،لكن بصورة مختلطة ومجزأة عن تنوعات في التوصيف الذي ألصقه الآخر بالسكان الأصليين بواسطة سردياته، فهم أنماط دونية تستأهل التوجيه، وقبولها يرتبط بقابليتها للمعرفة، ووضعيتها التابعة، فجعل الأسود متوحشاً ومن أكلة لحوم البشر، لكنه أكثر خنوعاً. فالكائن الأسود هو تجسيد للجنسانية الهائجة، ومع ذلك فهو بريء كالطفل، إنه صوفي وبدائي وساذج، ومع ذلك، إنه الأكثر دنيوية(1).
لا يقر الخطاب الاستعماري بالمساواة، ولا يؤمن بالشراكة الإنسانية في القيم العامة، وتقوم فرضيته على ثنائية ضدية، كما يذهب الباحث العراقي، عبد الله إبراهيم، فالمستعمر ممثل الخير وسمو المقام والرفعة الأخلاقية والتقدم، أما المستعمر فمستودع للشر والانحطاط والدونية والتخلف ،ولا سبيل إلى لقاء بينهما إلا حينما يدرج المستعمر كتابع للمستعمر ، فربما جرى تعديل وضعه، لكنه لن يكتسب السوية البشرية الطبيعية، فيكون بذلك مثل العبد الذي يحاول تقليد سلوك سيده، لكنه لن يتبوأ رتبة السيادة، فعبوديته تبقى هي المانحة لقيمته. وكذلك الأمر في سوق التداول الاستعمارية، حيث تكون التبعية علامة امتثال بها تتحدد قيمة التابع(2).
جدلية التابع والمتبوع
لقد أراد الخطاب الاستعماري تملك الآخر، فلم يضعه في مستوى رتبته، إنما حجزه في رتبة التابع، فمارس بذلك نوعًا من الرغبة في التملك، وعدم الإقرار بها، إذ قام المبدأ الاستعماري على فكرة السيطرة على الآخرين بالقوة المعززة بالمراقبة والعزل، والأخذ بفكرة تفوق الطبائع والثقافات؛ فروج لمعرفة خدمت المصالح الاستعمارية، وسعى إلى تثبيت صورة راكدة للمجتمعات المستعمرة، فكان بذلك جزءًا من وسائل السيطرة عليها، لأنه وضعها في موقع أدنى من موقع الشعوب
ص: 57
المستعمرة. وانشق مضمونه إلى شقين: ظاهر ادعى الموضوعية، وقام بتحليل الأبنية الثقافية والاقتصادية والدينية لتلك المجتمعات ،بمناهج وصفية لا تنقصها الدقةالعلمية ، ولكن تعوزها الرؤية الصحيحة، ومضمر روج لفكرة التبعية، ومؤداها ألا سبيل لبعث الحراك في ركود المجتمعات الأصلية، إلا باستعارة التجربة الغربية في التقدم، وتبني خط تطورها التاريخي(1).
بالنسبة للشرق العربي والإسلامي، اتضح الخطاب الغربي المتمركز حول ذاته في الكتابات الاستشراقية التي قدمت صورة نمطية للشرق في المتخيل الغربي، فلم يستطع النشاط الاستشراقي التحرر من مضامينه الغربية في قراءاته، وانطلق المستشرق من أرضية ثقافته الخاصة ،بإسقاطات غير عادلة عند التناول والتقييم، ومن منطلقات الفكر الأوربي نفسه في مراحل تفوقه(2).
وفي هذا السياق تطرق إدوارد سعيد في كتابيه«الاستشراق»و«تعقيبات على الاستشراق» إلى أسس التفكير الغربي تجاه العرب والمسلمين، وبين أن الغرب تشكل وعيه تجاه الشرق على أساس الاستشراق، فذكر أن الدارسين الأوروبيين قاموا بوصف الشرقيين بأنهم غير عقلانيين وضعفاء ،ومخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية والقوية والرجولية. واعتبر سعيد أن موطن الضعف الأساسي في خطاب الاستشراق هو التحيز الأيديولوجي الغربي ضد المسلمين، كانعكاس للإمبريالية الثقافية الأوروبية(3).
ص: 58
على ذلك، يمكن القول بأن الغرب روج لمعرفته عبر خطاب خدم أهدافه ومصالحه ، كرس صورة للآخر غير الغربي، وثقافته وعناصرها، تستدعي ضرورة الدوران في فلك التطور والمعرفة الغربيين، كمكونات للتجربة الغربية، التي اعتبرت النموذج الأوحد و الأمثل للتقدم الإنساني.
2- الثقافة في بنية نظام السوق :عولمة قسرية
ثمة خلاف حول مراحل تطور العولمة، ومدلول الكلمة من حيث النشأة والتشكُل، فإذا كان المصطلح حديثاً، فإن الظاهرة «كواقع عالمي» قديمة، ارتبطت بالإمبراطوريات الكبرى في التاريخ التي نزع معظمها باتجاه تأسيس«الطابع العالمي للثقافات والحضارات»، فأيّ حضارة منتصرة أو« قاهرة /غالبة»تختزن في داخلها نزوعا ، أو «مشروع نزوع »باتجاه العالمية والكونية في الدعوة إلى مبادئها، وأنساقها المعرفية الحضارية الخاصة بهدف تحويلها لحالة دعوتية سلوكية عامة. لكن هذا النزوع يصبح نوعًا من القهر والضغط والاستعمار، عندما تنطلق مفاعيله على شكل سلوك عدواني، ينزع للهيمنة والتسلط في فرض نمط وحيد أحادي على الآخر، على مستوى الفكر والثقافة وأساليب العمل والحياة(1) .
هناك من يربط، العولمة بعصر النهضة في أوروبا، ثم الثورة الصناعية، وما أدت إليه من نشأة الطبقة البرجوازية، وتطور النظام الرأسمالي، وحركة الاستعمار التي زادت حركة التجارة وتبادل السلع بهدف توفير الأسواق ومصادر المواد الخام، وتأمين طرق التجارة، وضمان استمرارية عملية التراكم اللازمة لتطور النظام الرأسمالي ، ثم أخذت مسارها التطوري مع تقدم وسائل التواصل والاتصال الحضارية، فقد كان ذلك التواصل ، والتفاعل البشري يتزايد ويتعمق من حين لآخر، حتى وصل حاليا إلى أعلى أشكاله وأنماطه ،من خلال هذا الكم الهائل المتدفق من وسائل الإعلام والتواصل، والتقنية الحديثة المعاصرة العابرة للحدود، والآفاق الكونية التي تأسست
ص: 59
على قاعدتي التبادل التجاري والتبادل المعلوماتي، بآليات ومعايير معقدة تجعل من السوق العالمية ساحة مفتوحة لكل من يمتلك المال لشراء الأسهم والمستندات والمعلومات في دقائق معدودات(1).
ويعتبر الباحث المغربي، عبد اللطيف الخمسي أن تاريخ العولمة محكوم بتحولات عميقة قد ترجع إلى التحولات العميقة التي عرفتها رأسمالية القرن التاسع عشر، وحكمته فلسفة فرض نموذج واحد للمعرفة والتطور، وضعت لصالح هيمنة محددة، شكلت منطلقا خطيرًا على الصعيد المعرفي والتاريخي، تمثل في وضع حد فاصل بين شعوب متقدمة، عقلانية وأخرى بدائية،ما زالت تعيش المرحلة الميتافيزيقية، وبأن ليفي بريل هو خير معبر عن هذا المنطق في كتابه الشهير«العقل البدائي»،والذي يمكن اعتباره إنجيلاً لكل التصورات المدافعة عن عولمة قسرية، لا ترى أمامها إلا نظام السوق، وقيمة الربح. فخطاب العولمة الآن يجد سنده الكبير في الأنثروبولوجيا الاستعمارية المتمركزة حول العرق، وحول ثنائية شعوب بدائية/ شعوب عقلانية متحضرة. كما أن فلسفة هيجل باتت تشكل المنطلق الأساسي لأغلب منظري العولمة، وذلك استنادًا إلى أطروحة «نهاية التاريخ»، والعلاقة الدموية بين العبد والسيد، والصدام الحضاري، التي تشكل الخلفية الفلسفية لكل دعاة العولمة ، «ففلسفة هيجل التاريخية في ارتباط بأطروحة العولمة ليست سوى تبرير نظري لمشروعية هيمنة السيد العقلاني على الإنسان الشرقي الغارق في ضلالات الوهم والتعصب»(2).
ما يستهدفه نظام العولمة من إقرار وضمان سيطرة مطلقة للغرب الرأسمالي، وفرض أنماطه، وجد تأسيسا له في الفهم والتصور الغربي القائم على استخدام أي تمايزات ثقافية وعرقية لصالح العولمة، ثم في الليبرالية الجديدة، كعقيدة اقترنت بتمدد وتطور ظاهرة العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.
ص: 60
النيوليبرالية كظاهرة ايديولوجية
مع ظهور الليبرالية الجديدة، كمفهوم أيديولوجي، ظهرت مفاهيم واصطلاحات جديدة مرافقة للخطاب النيوليبرالي، ومؤسسة له، مثل المنافسة الحرة، وإحلال السوق محل الدولة، وفتح الأولى وزيادة مرونتها . فقد استخدم هذا الخطاب، ظاهرًا وضمنيًّا كلمة
«الحرية»، وبعض مفاهيم الليبرالية التقليدية، مثل أهمية الفرد، والحد من دور وتدخل مؤسسة الدولة، والسوق الحرة.
ومن بين مظاهر الفكر الليبرالي الجديد، وتأثيره على الأفراد، ظهور مواطن انعزالي، يتميز بدرجة عالية من البراغماتية، أو الذاتية، وينطلق سياسيا من وحي التسرع، ومحاولة ابتلاع الآخر، ماديًا واجتماعياً. فالليبرالية الجديدة تؤسس لمفهوم جديد حول الواقع الاجتماعي وتبعاته الاقتصادية، وكذلك حول النظريات الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية، بما في ذلك توسع هوة الخلل الداخلي التي تلقي بآثارها على حياة سكان هذه البلدان. وتتضح بين مواطني الغرب الذين يعيشون في ظل النظام الليبرالي الجديد في وضع، فيما يتمتع سكان المناطق القريبة من المركز بحياة أفضل من سكان المناطق الواقعة على الهامش. وتستغل الليبرالية الجديدة هذه الحالة، من وحي الصياغة الأيديولوجية من أجل توظيف الثروة المادية والأسواق الخارجية لصالح سكان المركز(1).
لم تقتصر اتجاهات العولمة على إزالة الحواجز بين الأسواق المالية، وتوسيع مبادلات السلع والتكنولوجيا والخدمات ورؤوس الأموال ووسائل الاتصال، بل لها اتجاه آخر تندثر بمقتضاه الخصوصيات الثقافية وأنماط الاستهلاك الخصوصية من جراء تجانس الطلب، وخضوع المنتوجات لتنميطات موحدة، ذات بعد كوني شامل. فالسوق المعولمة ترفض اعتبار وجود خصائص وطبائع ثقافية أو سيكولوجية محلية، وبذلك فإن العولمة تقضي بميلاد نموذج جديد للتبادل له بعد كوني(2).
ص: 61
لقد ارتبط الحديث عن الثقافة في بنية نظام السوق العولمي، باستخدامها في التوظيف لبعده الاقتصادي، وما ترتب عليه اجتماعيًا، فأصبحت الثقافة سلعة، أجاد استخدامها واستغلال اختلافها وتبايناتها الشركات متعدية الجنسية، من أجل الترويج للسلع عابرة الحدود، ذلك الاستخدام الذي كرس الاختلاف، ووظفه تجاريا، من منطلق عنصري وتمييزي، يُبقي «المتخلف» متخلفا، حتى يُستثمر تخلفه، ويصب في صالح القائمين على السوق المفتوحة، والمروجين لها، وواضعي قوانيها. وبالتالي، أعادوا تعريف الثقافة وكل ،افتراضاتها، وارتباطاتها بالهوية والبيئة والجغرافيا، حتى تناسب تحديات نظام العولمة من تحولات اقتصادية وتكنولوجية واجتماعية، بل تُسخَّر من أجل تلك التحولات.
في سعيه للترويج لمفاهيمه وسياساته الاقتصادية الرئيسة، روج الخطاب النيوليبرالي للثنائية ذاتها :الآخر المتخلف/ الغرب المتقدم، مُعزيًا تخلف الأول لأمور ملازمة ذاتية، منها الثقافة، فبجانب فشل الدولة في الإدارة، والافتقار للطاقة البشرية المؤهلة، وانعدام روح المبادرة، وحاجة الدول الصغرى للكبرى للتدخل ومؤسساتها، في رسم سياسات الدول الصغرى الاقتصادية؛ من أجل تطويرها، اعتبر ذلك الخطاب أن ثقافة الآخر المتخلف الفقير هي المسؤولة عن تخلفه، وأنه يتعين دعمه بواسطة «برامج مساعدة التنمية». هنا يصبح جزءًا من تعريف الثقافة، أنها إذا كانت عاملاً للتقدم، فمن الممكن أن تكون أيضًا عاملاً مضاداً له، أي سببًا في الفقر والتخلف والنتيجة المترتبة على هذا الطرح هي: نحن أغنياء لأن ثقافتنا تدفع وتشجع على ذلك، وهم فقراء، لأن ثقافتهم لا تسمح لهم بالتقدم، وعليه، فإذا كان الازدهار مرهونا بالثقافة، فالتخلف نتيجة لها أيضًا». أي أن الثقافة تحدد فرص التنمية أو التخلف فإذا ما أخذنا بهذا التحليل، فلا مجال للهروب من هذا المصير، والمحصلة النهائية التي تترتب عن ذلك هي أن الدول النامية لا مفر لها من العولمة. فجانب عولمة الاقتصاد وفتح أسواق الآخر ، تعدت ،مع الليبرالية الجديدة، حدود الاقتصاد والسياسة إلى عولمة ثقافة معينة، هي ثقافة الأنا، وبسطها على الآخر، لأنها
http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481
ص: 62
الوحيدة الكفيلة بالمبادرة والتقدم والازدهار والحرية(1).
موضعة الثقافة تلك في نظام العولمة تربط بين معارك العولمة الاقتصادية والسياسية من جهة، والثقافية من جهة أخرى، ولا تفصل بينها، فإذا كان ذلك النظام قائم على الاستغلال والهيمنة الاقتصادية، فإن تدمير، وابتلاع، واستضعاف ثقافة الآخر، وطمس تشكيلاته الثقافية، مقوم أساسي لفرض الهيمنة وتكريسها، كرأسمال رمزي يوظف لصالح رأسمال مالي. ويقوم بدور محدد، بجانب الدور الاقتصادي والسياسي، في عملية الانصهار القسري في النظام العالمي.
أما الجدل حول التجانس الثقافي والتنوع الثقافي، وتبني خطاب الاختلاف الثقافي لفتح مسارات جديدة للمجتمع العالمي، ولتشارك دول الشمال والجنوب في إنتاج ثقافة بديلة، والترويج لزوال فكرة المركز والهوامش، فيقتضي مقاربة لمفهوم الاختلاف لدى منظري العولمة، وتبعات التجانس المنشود على أساسه.
من منظور الغربيين، أصحاب مدرسة التنوع الثقافي للعولمة، فإن الاختلاف والاختلاط بين الثقافات يفترض مقاومة أفكار النقاء الثقافي، والثقافات الأصلية الموحدة، وزعزعة مفهوم الثقافة التقليدي الذي - من وجهة نظرهم - حبس الهوية الثقافية في دائرة العرق الحتمية، بوضعه حدودًا واضحةً أو «سياجًا وهميا» يحيط بكل ثقافة، وأن كل من يقعون داخل هذه الثقافة متفقون ومشتركون، في الوقت الذي تشير الدراسة والملاحظة إلي الاختلافات والانقسامات في أساليب الحياة. فتلك النظريات تدعو إلى الاحتفاء بالتنوع الثقافي والاختلاط والتداخل الثقافي في عصر العولمة، وترفض نموذج المركز والأطراف، متجاهلة توزيع القوة والسلطة في النظام العالمي(2) .
تقول ماري تريز في قراءتها لخطاب ما بعد الحداثة، من منظور ما بعد كولونيالي، أن الفكر الما بعد حداثي، (الذي انبثق عنه خطاب العولمة)، ينزع إلى إذابة
ص: 63
الاختلافات بتجاوز الحدود والهوامش، بوصفها حواجز مصطنعة، سوف تأتي بنتيجة عكسية. فتقبل الاختلاف في كافة أشكاله دون تمييز قد يفضي إلى تحويله إلى نموذج معمم في محاولة للتوصل إلى مفهوم للعالمية يتأسس على لاختلاف ، مما يعني تأكيده دون محاولة التعرف عليه، أو التداول معه. وفي تأكيد الاختلاف ما ينذر بعهد جديد من الكولونيالية المستترة، تتخفى وراء خطاب فكري معكاس الخطاب الكولونيالية، الذي اتخذ من نشر الحداثة الغربية ذريعة للفصل بين العالم المتمدين والآخر المتخلف لإضفاء صفة الشرعية على تطلعات الغرب الاستعمارية. ففي مواجهتها للحداثة الغربية بتوجهاتها الإمبريالية، وخطاب المركزية، عالجت ما بعد الحداثة الخطأ بمثله بخلق نظام عالمي جديد لمواجهة نظام عالمي سابق وكأنها تحارب الشمولية بمثيلتها. فبرغم إسهام حركة ما بعد الحداثة في تقويض بنى الحداثة السلطوية، إلا أنها ساعدت على إقامة عولمة شمولية بديلة، ينبغي نقضها بمؤازرة العناصر المقاومة لرأس المال(1).
لقد اقتضت خطة التجانس العالمي، أن تصبح شروط السوق مقياسًا معقولاً مُعدًا داخل أشكال الحياة في الأطراف، وآلية ذلك التدفق الثقافي، ونشر أنساق فكرية، وسلع ثقافية عابرة للقوميات، بل وهيمنتها عبر التكتلات الكبرى التي تضطلع بمهمة الثقافة في النظام العالمي، التي لا تهتم بجودة تلك السلع، ولكن بحجم ما تحققه من مصالح، وهذا بالضرورة يأتي على حساب الثقافات المحلية، فهذه السلع لا تعبأ بأي تمايزت ثقافية لسكان الأطراف« المستهلكين» لتلك الثقافة، المنتمية إلى أسس غربية في أساسها، والقادرة على الاختراق والتأثير بحكم امتلاك المركز مقومات تفوقها لجهة الإغراق الثقافي.
عن التصورات الخاصة بالمستقبل الثقافي في عالم اليوم، الذي يموج بالتفاعل والتبادل الثقافي المتواصل ، ليس فحسب من الزوايا الثقافية والاقتصادية، كما كان الحال في المرحلة الكولونيالية، وإنما أيضًا من زاوية بنائه الثقافي، العالم الذي لا
ص: 64
يشكل قرية عالمية تتسم بالمساواة، بل هو ليس سوى صرح مبني، بصرامة، دونما تناسق أو تماثل بين المركز والأطراف، يذهب أولف هانرز في تصوره لسيناريو تحقيق التجانس العالمي للثقافة إلى أنه يجري التصوير الخطابي للتهديد القاتل للإمبريالية الثقافية، باعتباره يضم ثقافة التكنولوجيا العالمية للمدن والعواصم، إضافة إلى المساندة التنظيمية القوية في مواجهة ثقافة شعبية صغيرة لا حول لها ولا قوة. ولكن
« الإمبريالية الثقافية»، كما أصبح واضحًا، تمتلك علاقات بالسوق تزيد عن علاقاتها بالإمبراطورية. ويعمل المحرك الرئيسي المزعوم لعملية التكرار البشري العام للاتساق في الرأسمالية الغربية السابقة على الدوام على إغراء مزيد من المجتمعات نحو الاعتماد على أهداب المجتمع الاستهلاكي، عالمي النطاق الآخذ في الاتساع .وتحقيق التجانس ينتج أساسًا عن طريق تدفق الثقافة كسلعة من المركز نحو الأطراف، ووفقًا لهذه الرؤية فإن الثقافة العالمية المتجانسة الوافدة، سوف تكون ،على وجه العموم، صيغة من الثقافة الغربية المعاصرة، وعندئذ سيظهر فقدان الثقافة المحلية بشكل متمايز عند الأطراف(1).
سيناريو «الفساد بالأطراف»..
بينما يقول هانرز بأن هناك سيناريو آخر يتعلق بالعملية الثقافية العالمية، ولكنه قابع في موضع خفي، ولا يخرج كثيراً للمنافسة مع سيناريو تحقيق التجانس العالمي، وهو سيناريو «الفساد بالأطراف»، إذ إن ما يصوره كمتتابعة متكررة دوريًا يقع أينما يمنح المركز مثله العليا، وأفضل معارفه ،مع وجود شكل مؤسسي،وأينما تتبنى الأطراف هذه المثل والمعارف ،ثم سرعان ما تقوم بإفسادها. يحدد هذا السيناريو لمن يقعون في المركز متى يتشاءمون بشأن دورهم في تحسين العالم، بل ويرتابون في الأطراف ويسخرون منها. ويتعلق الأمر بمركزية عرقية عميقة، إذ تفرض توزيعا غير عادل على الإطلاق للقوة والتأثير، وبذلك يأتي إنكار صحة وقيمة أي تشكيلات قائمة لدى الأطراف، وكانت مأخوذة في الأصل من المركز .وهنا تكمن قضية وجود قدر من
ص: 65
الاختلاف الثقافي، ولكنه اختلاف بین الثقافة وغير الثقافة ،بين الحضارة والهمجية(1).
أما عن الأدوات، وحتى تتوفر أسواق لاستهلاك منتجات العولمة المادية والرمزية، بصناعة وتعميم الشخصية الاستهلاكية، وتعميم نموذج موحد للقيم، متجاوز للخصوصية ومفكك لعناصرها، فقد تلازم إنتاج العولمة بإنتاج الصورة الخائلية، ولعب التقدم التقني وعلم المعلومات في تطوير النظم الخائلية مفضيًا بدوره إلى دعم الاقتصاد الرأسمالي، الذي يعتمد بشكل أساسي على الخائلي لتطوره. وعلى خلاف رأس المال الصناعي، الذي اعتمد على إنتاجية العمل وتحولها إلى الإنتاج الكمي، يعمل رأس مال العولمة عبر دائرة السبرانية العابرة للأقطار، بفعل ضخ المعلومات الفورية عبر الشبكات الإليكترونية، مختصرًا المسافات. وصارت الصورة سلعة جاهزة للاستهلاك السريع وسهولة التداول لما تسهله من إمكانية التواصل عبر الحدود إلى أبعد المواقع. فسهل ذلك ظهور أنظمة سلطوية مغايرة للأنظمة الكولونيالية السابقة تعتمد إدارتها على الصورة الخائلية من جهة، والبنوك وشركات استثمار الأموال المتعدية للجنسيات من جهة أخرى، حيث يعد نظام البيع والتعامل عبر كروت الائتمان دربًا من البيع الخائلي، فهو بيع مُرْجَأُ السداد، مما يُعجل بتداول رأس المال. فالسداد المؤجل يساعدالرأسماليين على إعادة توظيف الأموال، ومن ثم تسديد ديونهم، وبهذا النظام يغدو تداول رأس المال عملية خائلية غير منتهية، ينمو فيها رأس المال كجسم بدون أعضاء في شبكة من أنظمة خائلية تنتمي إليها ثقافة الصورة المعولمة، فيتراكم رأس المال بمعدل تداول الأموال وتداول الصور، ومثلما يتولد المال عن المال تتولد الصور عن الصور(2).
كما أن الإعلام الجديد، الذي تزامن تطوره مع ظاهرة انتشار وتوسع العولمة، أسهم في تنامي قيم العولمة، التي توهم بامتلاك الحرية المطلقة في الاختيار والامتلاك الخصوصي للأشياء والأفكار، ولعب دورًا كبيرًا في تشجيع القيم الاستهلاكية. فالعولمة خلقت فيضًا من الخيارات، ولكنها أوجدت تقاربًا في التطلعات والقيم،
ص: 66
التي تركزت على رغبة الإنسان في التملك والاكتساب، وهو ما أصبح معروفًا في الخطاب السائد بالتنميط الثقافي، أي توحيد التطلعات والرؤى والقيم حتى الأحلام، حيث تصبح متشابهة لدى الجميع؛ فيتجه الفرد أكثر فأكثر إلى الفردانية، وهي قيمة تعتبر الفرد مركز الكون، ومرجعية ذاته، ويتم بالتالي إسقاط أي اعتبارات يؤمن بها المجتمع لفائدة قيم العولمة، وعلى الرغم من تصدير انطباع واهم بالحرية، عبر الإعلام الجديد، فإنها ليست مطلقة، فهي موجهة من طرف الشركات العملاقة متعدية الجنسية التي تهيمن على الإعلام الجديد، كغيره من أدوات التواصل والاتصال، وبالتالي فالمضامين، بل حتى أشكال تصميم وتقديم القنوات والمواقع والتطبيقات لیست محايدة من الناحية القيمية، بل تعكس مضامين قيمية متحيزة لقيم السوق، وموجهة نحو الاستهلاك والتسلية والترفيه، أكثر من البناء الفكري والتفكير النقدي(1).
لذلك، فاجتياح العولمة، وتأثيراتها على الثقافات المحلية، المرتبطة بسياقات العولمة الاقتصادية والسياسية وتبعاتها على دول الأطراف، وأفضت إليه تجربة التحديث الغربية التي سعت إلى إدماج الشعوب قسراً، إلى خلق ثنائيات فكرية تعمل على الإقصاء، وما أنتجته العولمة من تفاوت في مصادر المعرفة والعلم، كنتاج للتفاوت الاقتصادي، وسعيها أيضًا إلى فرض قيمها وتسليع الثقافة التي تحدد المنظومة أنها هي«الثقافة»،كل ذلك قد أفرز مقاومة متعددة الاتجاهات من بينها التشدد في التمسك بالخصوصية القومية، التي ازداد حولها الجدل، في إطار جدل الثقافة بين العولمة والخصوصية، والمحلي والعالمي .
3- اتجاهات المقاومة الثقافية( الخصوصية - الكونية - الخروج من الثنائيات)
دفعت مآلات الهيمنة المعرفية والفكرية الغربية، وما كشفت عنه من مظاهر تأزم هذا النموذج الغربي وتحيزاته ونسبيته، واستمرار عملية فرضه بصيغ استحدثتها العولمة، إلى ظهور حركات مقاومة، أعادت النظر في مبادئ مركزية المعرفة الغربية، ومشروع
ص: 67
الحداثة، وقيمه، ووضعية الثقافة في منظومة العولمة .وتصاعد الجدل حول مفهوم الاختلاف الثقافي والحضاري، وضوابطه، ودوره، وآلیات مقاومة الهيمنة الغربية الثقافية، ما أفرز عدة اتجاهات في طبيعة وشكل تلك المقاومة في المجتمعات التي اعتبرت هوامش ، تنوعت أسسها ومنطلقاتها، وما قدمته من بدائل.
أنتج النموذج المعرفي والحضاري الغربي، الذي سعى إلى الهيمنة، حالة من الحداثة الشك واليأس في مبادئ عصر التنوير، ومشروع بجميع قيمه وأسسه التي قام عليها، بما في ذلك مقولات العقل والعلم والتقدم والتحرر، فبرغم ظاهر انتصار العقلانية ومبادئها، وما قادت إليه من غنى فكري، وتنوع معرفي، وتقدم علمي وتقني هائل، إلا أن هذا الانتصار قد انحرف عن مساره ، وأدى إلى نقيض مقصوده، ولا أدل على ذلك من أن هذه العقلانية التي بشَّرت الإنسان بعالم تسوده الطمأنينة والسعادة هی التي أدت إلى تدميره. (1).
لقد حملت بداية القرن العشرين علامات ضعف وتراجع الانتصار الثقافي الغربي، فتبع الحرب العالمية الأولى، والتي كانت بمثابة تمزق داخلي في قلب الحضارة الأوروبية، استعادة بعض المفكرين لوعيهم بحقيقة الاستعمار، وما عليه من وحشية، وما يعانيه من ضعف. وتولدت أفكار بدفع الشعور بضرورة فهم التاريخ الأوروبي على ضوء التاريخ العالمي في حركيته، وعلى ضوء رؤية كونية للإنسان، حيث الأوروبي، ومهما كانت عظمته الحاضرة أو الماضية، ليس إلا صورة من صور الإنسان، وحيث الغرب ليس إلا صورة ممكنة للحداثة. ويقول جيرار ليكريلك «على الحضارة الغربية أن تقابل بالحضارات الكبرى التي يشهدها التاريخ، فلا تعتبر الحضارة الأوروبية بمثابة الحضارة بامتياز، إلا إذا كان في ذلك بعض السذاجة والادعاء» (2).
ص: 68
غواية الاستغراب
في المقابل، وفي مواجهة قوى إمبراطورية تريد إعادة تشكيل العالم، طبقاً لرؤاها ومصالحها، لجأت كثير من المجتمعات إلى الاعتصام بنفسها، وبقيمها، وبثقافتها، وذلك في رغبة عارمة للحماية الذاتية. فأضيف إلى أسباب التنازع، كالأيديولوجيات المطلقة، والاستبداد، والاستغلال، والمصالح، تنازعات نتاج المركزيات الثقافية ،التي وجدت لها دعماً من أطراف التنازع، وبسبب غياب النقد الذي يجرد تلك المركزيات من غلوائها، في نظرتها المغلقة إلى نفسها وإلى غيرها، فقد تصلبت تصوراتها، واصطنعت لهادعامات عرقية أو دينية أو ثقافية، أدت إلى زرع فكرة السمو والرفعة في الذات والدونية والانتقاص في الآخر، ومع أن كثيراً من أطراف العالم تداخلت في مصالحها، وثقافاتها، وأفكارها، لكن ضعف الفكر النقدي حال دون أن تتلاشى المركزيات الكبرى(1). التي أسست لمفهوم الخلاف ينحصر في كونه مرادفا للتميز والتفوق، أو العزلة والانقطاع.
على نقيض بعض المثقفين العرب، ومثلما حدث في معظم ما سمي «العالم الثالث»، الذين انبهروا بالغرب وشعاراته ،وحضارته، ولغته، وانعكست العقدة التاريخية لديهم في تبني ما قدمه من أفكار وتصورات ومناهج، دون اعتراف بنسبية ثقافته وتاريخيتها، ما دفع إلى الانصهار في الثقافة الاستعمارية التي استهدفت الثقافات المحلية، فإنه كثيرًا ما اقترن أدب المقاومة بالقومية المتطرفة، ونشأ خطاب أصولي متمسك بالجذور الثقافية المحلية، وارتفع صوت الخطاب القومي بمعانيه الثقافية والدينية. وتقول ماري تريز بأنها نزعة يمكن تفسيرها بوصفها آلية لتعريف الذات ،وتأكيدها، واعتبارها عنصرًا من عناصر المقاومة، لما هو دخيل عليها ويسعى لتهميشها. وفي مواجهة خطاب الهيمنة المتستر وراء مزاعم العولمة، الذي يعمل على تقليص الإحساس بالهوية المشتركة في استهانته بالتاريخ المشترك للأمة لتحويل الاهتمام بحاضر تسيره قوانين السوق والتطلعات الاستهلاكية، تتجه بعض العناصر
ص: 69
المحبطة إلى تخييل التراث والارتكان إلى أحد مصادره، لتأصيل جذوره، واقتطاع جزء من التاريخ لتأصيله، مما يستدعي وضع شروط لتفسيره ومن ثم تقنينه، ويأتي ذلك كرد فعل للمجتمع الاستهلاكي، الذي أسبغ كافة أنشطته بالطابع التجاري. فالخطاب الأصولي في خلقه للأسطورة، يسعى لتطهير الثقافة من النمط الاستهلاكي، بيد أنه يخفق في سعيه لأنه غالبًا ما يقيم نسقا معرفيًا يتعارض والدور الرئيسي للثقافة، حيث يعلي ثقافته على غيرها من الثقافات، ويكسبها الرفعة، ففي تطرفه لتأكيد الهوية وتنقيتها من الصورة الواهنة التي أضفاها الآخر عليها، يخلق الخطاب الأصولي لغة كولونيالية معكوسة تعمل على تهميش الآخر ، لتأكيد الذات، في محاولة منه لتأسيس مركزية جديدة مضادة(1).
وعن تأكيد القيم الثقافية، كجزء من تأكيد الذات ،يقول إيمانويل والرشتاين أنها كمقاومة ثقافية منظمة ومخططة، تماثل المقاومة السياسية، وتعد جزءا لا يتجزأ منها، فعند تعمّد تأكيد (أو إعادة تأكيد )قيم ثقافية بعينها كانت قد تعرضت للتجاهل أو الانتقاص من قدرها، من أجل الاحتجاج على فرض القيم الثقافية للأقوياء على حساب قيم الضعفاء «فإننا نعمل على تقوية الأضعف في نضاله السياسي داخل دولة معينة وداخل النظام العالمي ككل، ولكننا عندئذ نمارس ضغوطاً لإثبات صحة قيمنا المؤكدة (أو المعاد تأكيدها )من زاوية المعايير التي وضعها الأقوياء... فعندما يعمل القائمون على تخطيط المقاومة الثقافية على تأكيد ثقافة بعينها فإنهم في واقع الأمر (يعيدون)إضفاء الشرعية على مفهوم القيم العالمية، لذلك تشتمل المقاومة الثقافية على المأزق نفسه، كما هو حال المقاومة السياسية، التي تستخدم هياكل النظام من أجل معارضته، وهو ما يضفي شرعية جزئية على تلك الهياكل، وبذلك تقبل جزئيًا شروط النقاش كما حددتها القوى المهيمنة»(2) .
في المجتمعات العربية والإسلامية، لخص البحث عن الذات لتأكيدها، عبر
ص: 70
تضخيمها والتمركز حولها، مفهوم ومنظور الخصوصية الثقافية لدى الأصوليين في مواجهة هيمنة الغرب، فالخطاب الأصولي استدعى التراث، واختزل الصراع الكوني في صراع ما بين الإسلام والكفر، وبأنها معركة تخوضها الهوية الإسلامية ضد التغريب، فتلخصت المواجهة الثقافية في ثنائية الهوية الإسلامية/التغريب، وارتكز مفهوم خصوصية الهوية الثقافية على ركائز ،عقدية وبالتالي منطلقات الصدام مع ،الغرب، فأضحى السلاح الوحيد هو التمسك بجوهر تلك الهوية، وأصالتها، والعودة إلى الجذور أي داخل إطار التراث وليس بالتحرر منه أثناء التفكير، أو تأسيس معرفة علمية لجهة فهم إشكاليات الحداثة وعلاقة التبعية بين المجتمعات التي خضعت وتخضع للهيمنة الغربية الرأسمالية وإشكالات وتعقدات الواقع العربي والإسلامي، ومن ضمنها أسباب التخلف الذاتية، بعيدًا عن استدعاء التقولب التراثي، وتغذية شعور مقابل بالتفوق، والانعزال والانزواء.
في مقاربته للأصولية الإسلامية، اعتبر عبد الله إبراهيم بأنها ليست في صدام مع الحضارة الغربية، بل مع الأصولية الغربية. فالحضارات بذاتها لا تتصارع؛ لأنها المكسب النهائي للعقل البشري، لكنها وهي تتفاعل في ما بينها، تنتج أصوليات راديكالية ناقمة وعنيفة هذه الأصوليات المغلقة على نفسها هي التي تتصادم، وليس الحضارات الكبرى، «فما نجده الآن ليس صراعاً بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، إنما هو نزاع عنيف بين أصولية إسلامية لها تفسيرها الضيق للدين، وبين مزيج من أصولية إمبريالية - أميركية ذات بطانة مسيحية، تقول بالتفسير نفسه، وإذا كانت الجماعات الجهادية والسلفية تمثل الطرف الأول فالمركزية الغربية، ومنها العولمة الاقتصادية والثقافية القائمة على الاحتكار والاستغلال والهيمنة بما في ذلك الأصولية المسيحية، التي نشطت في الفكر الديني خلال العقود الأخيرة تمثل الطرف الثاني، إذ يحاول كل طرف خلق مجال ثقافي وديني للتحيزات الخاصة به،فيمارس العنف باسم الحضارات التي ينتمي إليها ، لكن تلك الحاضنات الكبرى لا علاقة لها بصراعاتهم». وعليه، تبطل بعض جوانب فرضية صاموئيل هنتنغتون القائلة بصراع الحضارات، فالأصح هو أن جماعات راديكالية أصولية تؤجج العنف داخل
ص: 71
هذه الحضارة أو تلك ضد مجموعة مضادة. إذن، فنحن بإزاء صدام للأصوليات وليس للحضارات، وبعبارة أخرى هنالك نزاع بين قوى تريد فرض هوية كونية، وقوى إقليمية تدعي الحفاظ على الهويات الخاصة(1).
على صعيد آخر، وفي سياق أوسع، ففي مقابل الحركات التي تبنت نزعات الغلو الديني والتطرف القومي، وأنتجت أيدلوجيات توافرت فيها درجة عالية من الكراهية للآخر، فإن حركات أخرى أفرزت نقدًا تحليليا للتجربة الاستعمارية، وتمكنت من تفكيك ركائز الخطاب الاستعماري، فانبثقت «دراسات ما بعد الحقبة الاستعمارية»، التي هدفت إلى إعادة النظر بالتركة الاستعمارية الثقافية في العالم، خارج المجال الغربي. وتشطت تلك الدراسات إلى فروع عدة؛ فشملت سائر المظاهر الثقافية من فنون وآداب وكتابة تاريخية. وظهرت على أنها رد فعل على تحيزات الخطاب الاستعماري، الذي اختزل الشعوب والثقافات غير الغربية إلى أنماط مضادة للتحديث، وعائقة للتطور، وقدم لها وصفًا يوافق مقولاته(2).
وسرعان ما تفرعت عن تلك الدراسات دراسات أخرى، سعت إلى إعادة الاعتبار للرؤى الأصلية، وفحص الظواهر الثقافية والدينية والعرقية، بعيدًا عن الإكراهات النظرية التي مارسها الخطاب الاستعماري. ثم ما لبثت دراسات ما بعد الكولونيالية أن تعمقت في سائر أنحاء العالم فشملت المرأة والجنوسة والأعراق، والتاريخ، والهوية، والمقاومة، والأقليات ومفهوم الأمة، وأساليب الهيمنة الثقافية، وأفرغت المنهجيات التقليدية من محتواها وأجهزت عليها، إذ ضخت أفكارًا جديدة، وتصورات مبتكرة تحليلها للظواهر الاجتماعية والثقافية. ولعل أبرز ما تمخضت عنه ظهور جماعات ناقدة، اندرجت في ما يصطلح عليه ب_«دراسات التابع»، التي أصبحت عابرة للقارات، وهدفت إلى نقد الخطاب الاستعماري وفرضياته واقتراح المناهج البديلة لدراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي وتفكيك المقولات الغربية في الآداب، والثقافات، والمناهج، وسحب الثقة العلمية والثقافية منها، عبر اقتراحات أخرى مغايرة
ص: 72
أكثر كفاءة، تعالج بها شؤون المجتمعات خارج المركز الغربي(1).
لقد استهدفت قراءة خطاب ما بعد الحداثة من منظور ما بعد كولونيالي، التوصل للغة نقدية تعمل على التخلص من الرواسب المتبقية من الماضي الإمبريالي، وقادرة على تعميق الوعي بالكولونيالية الجديدة المستترة في خطاب ما بعد الحداثة. فقد تناول نقاد ما بعد الكولونيالية - التي اعتبر الناقد الأسترالي، سايمون ديورنج، أنها ممثلة لحالة الشعوب والأمم والجماعات التي عانت من الاستعمار، وتريد تأكيد هويتها بعيدًا عن المفاهيم الأوروبية، التي تزعم العالمية، ولا تتبناها في واقع الأمر - قضية الاختلاف من منظور مغاير فالتعرف على الاختلاف بالنسبة لهم فيه سعي للتواصل عبر الثقافات، ويتركز سعيهم في قراءة التراث الثقافي من منظور يحترم الخصوصية، كما يرصد تفاعل تلك الخصوصية بالمؤثرات العالمية، فهو مسعى سياسي مغاير لموقف نقاد ما بعد الحداثة، في تناولهم للاختلاف تناولاً استطيقيا، أي ذريعة للتأمل السلبي، بدلاً من التفكير الإيجابي في كيفية تشييد معابر بين الثقافات(2).
إذن، فإن مشروع الكونية الثقافية، في شكله وصياغاته وإدارة الغرب له ،المستهدف الهيمنة والتوظيف من أجل مصالحه، قوبل بمقاومة متباينة الاتجاهات، فما بين تمركز مضاد، ومشروع يستبدل هيمنة بأخرى، ويقابل التعصب والعنصرية والاستعلاء بمثلها، بنزعة ماضوية ،تسلب أيّ ثقافة محلية القدرة على مواجهة الدينامية القوية والمتقدمة لثقافة اليوم، لافتقادها أسلحة الخصم والرؤية الموضوعية، وإدراك أبعاد وطبيعة الصراع واتجاه آخر يسعى إلى تنقيح تاريخ العالم من المركزية بإعادة إنتاج الهويات التي انتزعت عنها ثقافاتها بفعل المستعمر، ويقدم نقدًا للمشروع الثقافي الغربي في مجمله واتجاه يرفض النزعة الأصولية، والتقوقع حول الذات، ونبذ الحداثة، ويدعو إلى القطيعة مع التراث مع نقد الحداثة، وعدم إغفال الذات، وعناصر تأزمها، بالركون إلى الخصوصية ، والانغلاق عليها.
ص: 73
بين هذا وذاك يستمر الجدل، وتتعقد خلافات اتجاهاته، ما أفرز تمردا على سياقات وأطر المواجهة التقليدية، تمثل في ضرورة الخروج من ثنائيات تراث /حداثة، خصوصية كونية المستعمر المستعمر، بخلق مساحة جديدة تكسر انغلاق دائرة المواجهات المتأزمة ، وتتأسس على المساءلة، حتى تكون مقاومة الهيمنة أكثر فاعلية.
الخروج من الثنائيات، وخلق هذه المساحة ضروري، ليس من أجل مواجهة الآخر القمعي فحسب، بل من أجل أن تتكشف فيه المواجهات الداخلية، أيضًا، المتمثلة في الانقسامات داخل الأمة الواحدة مساحة تقوم على تنمية العناصر المشتركة بين الثقافات،في المجالين المعرفي والاجتماعي، وتحقيق التواصل النقدي مع الذات والآخر، وفق جدل بين العقل والتاريخ على قاعدة الإبداع، حتى يمكن للهوية الثقافية أن تكون جزءًا من بناء ذات مستقلة، تستطيع مواجهة معارك الهيمنة الاقتصادية والسياسية، وتقويض أطروحة كونية الثقافة الغربية، والتمركز العرقي والطبقي وتوجه المعرفة الأحادي لنظام العولمة.
ص: 74
رضا داوري الأردكاني(1)
الهدف من اختيار عنوان المركز والضواحي الإشارة إلى أوضاع العالم المعاصر التاريخية والثقافية. هل العالم المعاصر عالم واحدٌ مركزه ثابت والمناطق الضواحي تابعة لهذا المركز ، مستفيدةٌ منه؟ إنّ عبارة المركز والضواحي أو المركز والاطراف مناسبة لمثل هذا الوضع، لأننا إن حسبنا مثلاً العالم المعاصر مجموعةً من الثقافاتِ المختلفة والمتباينة، تفقد عبارة المركز والضواحي معناها. من الواضح أنَّنا نقصد حين نقول المركز الغرب والتاريخ الغربي. هل تقع آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية في ضواحي الغرب؟ المركز والضواحي مفهومان متلازمان لا ينفصلان عن بعضهما. إذا وجدت الضواحي يجب أن يكون المركز موجودًا، وإذا كان هنالك مركز يجب أن يكون هنالك ضواح. انطلاقا من هذا الفهم فإنّ العالم الحالي هو الغرب طراً، ولا شيء خارج الغرب، والإختلاف والتفاوت على درجات من الشدّة والضُّعف. إنْ استخدمنا بدلاً من عبارة المركز والضواحي عبارة المتن والحاشية تتراخى العلاقة إلى حد ما بين أجزاء العالم، على الرغم من الإقرار بوحدة العالم، وذلك لأنّ المتن والحاشية غير متلازمين، أو على الأقل يمكن أن يكون المتن من غير حواش. إنما في كل الأحوال الحاشيةُ هي حاشية المتن، وسُمّيت كذلك نسبةً إليه وتبعا له. إِنْ نظرنا إلى العالم المعاصر نر نوعًا من التماثل والتشابه في أساليب العيش في جميع أنحاء الارض، فنظام الحياة وأنماط السلوك السائدة منذ أربعة قرون في أوروبا الغربية
ص: 75
وأميركا الشمالية باتت معتمدةً إلى حد ما في جميع انحاء الدنيا منهجًا للحياة. أيمكننا انطلاقًا من هذه الملاحظة أن نعدّ أوروبا الغربيّة وأميركا الشمالية المركز أو المتن وبقية العالم الضواحي أو الحواشي ؟ إنّ لفظة الحاشية تعني أحيانًا ما هو خارج المتن أو الفرعي. إذًا إِنْ حسبنا المتن أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، ووضعنا بقية العالم في حاشيته، التفسير الممكن هو أن جوهر العالم هو المتن نفسه وبقية العالم شروح وإحالات وشواهد زائدةٌ على المتن. لكنّ العالَمَ غير المتطوّر إنما هو ظلُّ العالَمِ المتطوّر أكثر من كونه توضيحا أو تفسيراً لمتن هذا العالم، بعبارة أخرى إنّ العالم غير المتطوّر قد صُنعَ من فضلة عجنة العالم المتطوّر ، وهذان العالمان متشابهان، علما أنَّ الشية بينهما شَبَهُ ظاهري وعَرَضى.
لقد عُدَّتِ الحضارة الغربية في المخطط الأساسي للتاريخ الغربي وفي الإيديولوجيات الحديثة، وحتى في معظم فلسفات التاريخ، وفي بعض النظريات العلميّة ( نظرية تطوّر الأجناس، ونظريات التطوّر التاريخي والإجتماعي )الحضارة الأخيرة والحضارة المطلقة، ويجب أن تعم العالم كلَّه، وأنْ يدخل فيها البشر جميعًا. من رؤى القرن الثامن عشر عولمة التاريخ الغربي، وقد صدقت هذه الرؤيا إلى حدّ تجاهل مخاوف بعض بناة الحداثة أمثال «ديدرو »و «دوساد». وفي فلسفة القرن التاسع عشر وآدابه المزيد من الآثار التي تعبر بوضوح عن الشك والتردُّد، لكن هذه الآثار غير مرئية بوضوح، ويبدو أنَّها لم تترك أثراً في عجلة التاريخ الاوروبي، فآذان القرن التاسع عشر لم تسمع صوت نيتشه، ولم يدرك أحد إلا بعد وقت طويل أَنَّ نظرية اللاوعي التي طرحها فرويد لم تكن محضَ نظرية من نظريات علم النفس أو الطب النفسي، وإنما الإعلان عن أزمة في وجود الإنسان الذي كان قد أخذ على عاتقه مسؤولية صناعة التاريخ الحديث. لقد طرح فرويد تساؤلات حول الوجود الفاعل القائم بذاته للعلم والعمل، لكنّ هذه التساؤلات والابحاث الأهم والأكثر صراحةً التي أنجزت في النصف الأوّل من القرن العشرين، على الرغم من أنّها شککت نوعًا ما في مطلقيَّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، لم ترد فيها أي إشارة إلى منافسة الحضارات الأخرى( الماضية) للحضارة الغربية، حتى أنّ توينبي وشبينغلر
ص: 76
أيضًا اللذان أعلنا عن إقتراب أجل التاريخ الغربي وموته، لم يتكلما على حضارة أو حضارات في مواجهة الحضارة الغربية، لم يكن بإمكانهما بحث موضوع المركز والأطراف و المتن ،والحاشية، ففي نظرهما لا وجود إلا لحضارة واحدة حيّة ناشطة، والحضارات الاخرى ميتةٌ خامدة ساكنة. انطلاقا من فرضية السكون والموت هذه يمكننا الكلام على مُقترح المركز والأطراف بإمكان العالم الساكن الخامد أن يكون حاشيةً أو أطرافًا أو ضواحي للعالم الحيّ الناشط، وأن يستمد منه القوة والحياة، لكن حين نولي تواريخ أخرى غير التاريخ الغربي أهميَّةً، فإنَّ هذه التواريخ ليست حواشي المتنِ الغربي أو ضواحي المركز الغربي، بل هي تواريخ وحضارات مستقلة. متی نقولُ وكيف نقول أنَّ هنالك تاريخاً مستقلاً وحضارةً تستمدُّ منه الزخمَ والحيويّة وهل يوجد اليوم كما يقول بعضُ الكتاب السياسيين ما يُسمّى التاريخ الصيني أو التاريخ الياباني أو الروسي أو اللاتيني أو غيرها ؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب ذكر معيار لوجود تاريخي ما ولحياة ثقافة ما. لا ريب في أنَّ الثقافةَ الإسلامية ثقافةٌ عظيمة، وأنَّ ماضي الصين واليابان ماض بهي. لكن كم طوى تاريخ الصين واليابان من الحقب ؟ نقول بصراحة أكبر : ما هو الهدف الذي تريد أن تبلغه الصين واليابان؟ وإلى أين تريدان الوصول ؟ وما هو المآل الذي تبغيانه ؟ أتريدان أن تصبحا الصين واليابان؟ وهل الصين الآن غير صينيّة واليابان غير يابانية ؟ إنَّهما تريدان منافسة أميركا الشمالية وأوروبا الغربية في تطوير العلم والتقانة ومضاعفة القوَّة. كما أن البلدان غير المتطوّرة تسعى بدورها إلى التطوّر متخذةً انموذجًا لها وأسوةً البلدان الصناعيّة المتطوّرة أو السائرة على طريق التطوّر.
لغز التسمية
يمكننا أن نستنتج الآن أنَّ العالم كله موحدُ الهدف، وأنَّ العالم عالم واحد. الخلاف قائم حول تسمية هذا التاريخ ، لماذا نسميه التاريخ الغربي ( إنّ تاريخ أي أمةٍ يحدّده المستقبلُ الذي تضعه هذه الأمة نصب عينيها . وليكون هنالك مستقبل من الضروري تذكر الماضي. لكنَّ ماضي أي شعب من الشعوب سواءٌ تُذكَّرَ أو لم يُتَذَكَّر، لا يدلُّ
ص: 77
على طريق المستقبل ما لم يتجلّ في طريقة حياة الناس، وبهذا المعنى هو ليس تاريخ الأمّة ) . إنْ لم نعد تاريخ التطوّر والتحديث هو التاريخ الغربي، ما هو الاسم الذي نطلقه عليه ؟ البشر في أي تاريخ يولون لأنفسهم شأنا ومكانةً، ولديهم ضوابط ومعايير ومثل عليا ونماذج يحتذونها، ويسعون إلى جعل أقوالهم وأفعالهم مطابقةً لتلك المعايير، ويحاولون الاقتراب من مثلهم العليا . لم يرد مطلقًا في أيّ كتاب تاريخي أنَّ الصينيين في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد أو الإيرانيين في ذلك الزمان، كان لديهم برنامج تنمية اقتصادية وتقنيّة، وأنهم كانوا يسخرون إمكاناتهم وقدراتهم من أجل تنفيذ مثل هذا البرنامج. لقد ذكرتُ الصين مثلاً لأنّها بلد شيوعي، وحافظت على معظم تقاليدها الصينية، وقلّما قلّدت الغرب السياسي في المظاهر. مع هذا فإنّ ما يسير السياسة الصينية أو الثقافة الصينية اليوم هو برنامج التنمية. يقولون أن التنمية لا علاقة لهابالغرب ، لكنَّ العالم وصل إلى حيثُ يتوجب عليه أن يطوي طريق التنمية. من الممكن قبول هذه الجملة ، لكن هنالك نقطتان لا يجب تجاهلهما، وهما: أولاً: أنْ لا وجودَ في العالم لتواريخ متعدّدة، بل تاريخ واحد، هو التطوّر التقني، له صورة واحدة في جميع أنحاء العالم على الرَّغم من الفوارق التاريخية والثقافية والتقاليد القومية والوطنية وهذه الصورة الواحدة نوعا ما، تلغي الفوارق الظاهرية تدريجيًا أو تجعلها باهتة. أما النقطة الثانية (الأساسيّة أكثر) فهي: أنَّ تاريخ التنمية بدأ بطرح مبادئ وأفكار خاصة في أوروبا الغربية، على أساسها استقامت السياسة والاقتصاد وحتی الآداب. لم تكن التنمية جموحًا أو رغبةً أو فكرةً سطحية راودت شخصا أو أشخاصًا والآخرون يرونها ويقلدونها. لقد أصبحت فكرة التنمية ممكنةً حين ظهر إنسان جديد، رأى إلى نفسه موجوداً مختلفًا عن البشر السابقين، وأتى بفكر جديد، وبطرح جديد للحياة. لقد وجد هذا التفكيرُ المُنْشِئُ العلم والسياسة الجديدين في أوروبا في عصر النهضة، وهذا التطوّر رافقه انتقال مركز السلطة السياسية إلى أوروبا الغربية، التي أصبحتِ المركز والعالم كله الاطراف والضواحي .
مقترح المركز والاطراف بناءً على ما ذكرناه معناه أنَّ تاريخ العالم المعاصر تاريخ الذين تحدثوا أيضًا عن تاريخ عالمي، وأسسوا علم التاريخ (حتما التاريخ لم
ص: 78
ينوجد حينَ دُون التاريخ في الغرب، والأولى أنه لم ينوجد في الغرب الجديد)، كانوا يقصدون بعبارة «التاريخ العالمي »التاريخ الغربي، أي التاريخ الذي قرّر فيه الإنسان أن يتحكّم بكلِّ شيء وأن يُسخّر لنفسه كلَّ شيء. إن الكلام على ولادة بشر جدد في أوروبا في القرون الأربعة الأخيرة، تختلف نظرتهم إلى العالم وإلى ما فيه عن نظرة البشر السابقين، والكلام على أنّ العلم والتقانة والسياسة والنظام والعقل تختلف كلّها عما كانت عليه في العصور السابقة، ليس قضيّة معقدة. لكن هذه القضية البسيطة جدًّا لم يدركها بعض الفضلاء الذين يتعاطون الفكر الفلسفي. يقولون مثلاً أنّ تقبّل الغرب لا يحلّ أيّ معضلة. لكنْ إنْ افترضنا أنَّ طرح قضية ماهية الغرب لا يحلّ أي مشكلة، فإنَّ تجاهل طرح هذه القضيّة يحرمنا إمكانية طرح القضايا، أو الأصح أن نقول أن قضيّة عصرنا المهمة والأساسية هي قضية الغرب. يُقال أنّ في الغرب الجغرافي أمورًا جيّدة وأمورًا سيئة. في الغرب ولدت الديمقراطية وكذلك سيطرت الفاشية والنازية لمدّة وإن قصيرة. في الغرب علم وصلاح، وفيه أيضًا ظلم وفساد. أي سياسة هي السياسة الغربية ؟ الديمقراطية أم الاشتراكية؟ ولماذا يجب أن يُسمّى العلم والتقانة غربيين؟ يبدو الاعتراض مسوَّغاً على الأقل ظاهرياً بالنسبة إلى الذهن غير الفلسفي، والبعيد من الفلسفة. ففي الغرب أي في أوروبا وأميركا الشمالية مجموعة من الأفكار والأقوال والمعتقدات ومناهج العلم والعمل، وأنماط السلوك، مختلفة ومتناقضة. هل يجب أن تُعد هذه المجموعة الغربَ، أَمْ أَنَّ البعض منها يُذيّلُ عنوان الغرب؟ هذا السؤال والأسئلة المشابهة بشكل عام ناجمة عن نظرة وجودية. الوجودية وإن كانت صحيحة وصائبةً في موضعها (في العلم مثلاً)، تصل في الفلسفة إلى الإضطراب الفكري الغرب ليس مجموعةً واحدة، ولا يجب أيضاً أنْ يُعدَّ شيئاً من ضمن الأشياء الموجودة. يعترضون : إن كان من غير الممكن إطلاق اسم الغرب على أي شيء من الأشياء الموجودة في الغرب الجغرافي، وحتى على مجموع تلک الأشياء، فالغرب إذاً عدم .مبدئيًا يجب أن يكون هذا الاستدلال عائدا إلى أولئك الذين يعتقدون أنَّ الوجود عدم محض، لأنَّ الوجود ليس له أي مصداق في الخارج، وليس اسماً لأي شيء. الإنسان في رأيهم فرد غير مكلف، أقواله وأفعاله لايقيدها
ص: 79
أي قيد أو شرط من خارج ،فرديّته، وفي أي مكان وأيّ فرصة الأعمال كلّها بالنسبة إليه متماثلة، وبإمكانه أن يفعل ما يريد، وإنْ تكلَّم أحدٌ على الإمكانات والظروف، فهو في رأيهم معاد للحريّة وجبري المعتقد، لا سيّما إن سمعوا أنّ للناس دائماً عالماً يتحدّد فيه إلى حد ما الاتجاه العام لأعمالهم وتصرّفاتهم وأقوالهم يعتمدون هذا القول مستندًا ليقولوا :ألم نقل إنّهم جبريون، ويعدّون ذلك العالم هو المحدّد لسلوك الأشخاص وأقوالهم؟ والحجّة التي يوردونها هي : إن كان العالم هو الذي يوجه أقوال الناس وسلوكهم، وهناك عالم باسم العالم الغربي، لماذا لا يوجه هذا العالم أفعال الغربيين وأقوالهم وهم أحرار في التعبير عن الآراء المختلفة، ولديهم مثل والكثير من الإبداعات، أما الناس الذين لا رأي لهم والحياة التي يحيونها تقليدية، فما هو عالمهم وأين؟ وأولئك الذين تحكمهم أنظمة فاسدة ومستبدة، وأنظمة إدارية وثقافيةوتعليمية مضطربة ومتهالكة وعاجزة وغير منتجة في أي عالم أو عوالم يعيشون؟
لقد رسم العقل المنسجم مع كوجيتو ديكارت والعقلانية التي استوت على عودها بعد دیکارت في القرن التاسع عشر الحدود الجغرافية لرؤية الغرب الحداثوي وعمله. لو لم يكن هذا الفضاء موجودًا لما توسّع نطاق العلم والتقانة الجديدين. هذا الفضاء محدود أيضًا، وهو كذلك شرط الإمكان بالنسبة إلى العلم والتقانة، بحيث أنَّ المكانَ الخالي من هذا الفضاء لا نموّ فيه للعلم والتقانة ولا رسوخ. إنّ العالم الغربي هو هذه الظروف والإمكانات فإن نظرتم إلى هذه الظروف والإمكانات على أنها عدم (وهي عدم بتقدير ما )يمكنكم حينئذ حسبان الغرب والعالم الغربي عدما أيضًا. هذه الظروف والإمكانات ليست متاحة في كلّ الأمكنة بالمقدار نفسه. هل يمكن أن نفترض أن العالم الحالي عالم واحد، متاحة فيه الظروف لتحقق العلم والتقانة والسياسة الجديدة، وفي أطرافه وضواحيه الظروفُ والإمكانات غير متاحة كما يجب؟ مصدر هذه المشكلة الاعتقاد بأنّ العالم واحد لكن من أين وكيف ولماذا صار العالم واحدًا؟ قبل بداية العصر الحديث وحتى القرن التاسع عشر، قلما جرى الحديث عن عالم واحد، ولم يُنجز أي بحث عن العالم الذي تشكّلُ أوروبا أو الغرب مدارًا له.
ص: 80
إِنْ وُجد اليوم عالم واحد، أو ذكر ، فإنّه عالم قد توحّد حول محور الغرب. قبل أنْ يلتحق العالم كله بالتاريخ الغربي، ويتبنّى مبادئ التقدم والحرية، كانت هناك حضارات مختلفة ذات مبادئ ومثل عليا متفاوتة، وكان لكلِّ عالم قوله وسلوكه، وإنْ قامت بین هذه العوالم علاقة أو صلة ما، لا يتموضع أحدها في المركز والآخر(أو الآخرون) في الحاشية . فالعلاقات الثقافية التي قامت بين الصين والهند، أو بين الهند والإسلام والإسلام واليونان وأخيرا بين المعارف والعلوم الإسلامية وبين فلسفة القرون الوسطى المسيحيّة، كانت صلات بين ثقافتين متعادلتين إلى حد ما ومتوازيتين أنا في هذا البحث لن أتطرق إلى تلك العلاقات، وماذا أثمرت لكن بسهولة يمكن القول إن لم ينجم عن تلك الثقافات ثقافةُ فذة أخرى، ماذا يمكننا أن نتوقع من اختلاط الثقافة الغربية بالثقافات الأخرى اختلاطًا لم يقتصر على الدرجات والمستويات، ولم يكن حدثاً غير متوقع، قهريًا ولا إراديا، هل نتوقع تفتق يوم مشرق وتاريخ حي وناشط . كذلك فإنّ تبنّي طرح المركز والأطراف أو المركز والضواحي لا يحلّ المشكلة، لأنّ التاريخ الغربي لن يحتل المركز إلا في حال تفوّق على التواريخ والثقافات الأخرى، وهذه الثقافات بدورها لن ترضى بأن تكون أطرافا وضواحي وحواشي إلا حين تبتعد عن جوهرها الأصلي، وتتخلى عنه أو تنساه. هذا، يُقال في عصرنا كلام آخر حول هذا الموضوع، لا يمكن التغاضي ، كلامٌ، ملازم لنقد الحداثة. فهنالك حاليًا بصورة عامة مجموعتان من المفكرين تعملان على نقد الحداثة. مجموعة تنتقدها علها تنقى وتتخلّص من عيوبها فتدوم. بين هؤلاء اختلاف أيضاً، فبعضهم يكتفي بالانتقادات السطحية السياسية والبعض الآخر لا يستسيغ سيطرة وسائل الإعلام ،وسيطرة الثقافة الإعلاميّة. لكن الأكثر جديةً في تفكيرهم يقولون إن حقيقة الحداثه لم تظهر ولم تتحقق حتى الآن بالكامل. أي أن عقل القرن الثامن عشر لم يكن محض عقل آلي، وتحويل العقل إلى عقل الي انحراف. لذا يجب تدارك هذاالانحراف،والاستعداد لاستقبال عقل دقاته صدى الكلام المشترك والتفاهم. هنالك أخيراً مجموعة رابعة هي على الرغم من أنها غير يائسة من مستقبل الحداثة، لاتصدر عنها أفكار طوباوية، إنما تصف الحضارة الحديثة على نحو يوحي
ص: 81
أنها تريد أن تفسح مجالاً للتعدّدية في أحاديثنا الدينية وفي الإنجيل وفي الشعر الأوروبي الحديث، إنّ الخلاص يأتي من حيث أتى الخطر (وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال يأتي الفرج عند فناء الصبر).
نهاية الميتافيزيقا
لقد وصل علم ما بعد الطبيعة الغربي إلى نهايته، وطالت العدمية على نحو فاعل كلَّ الأمكنة وكلَّ الأشياء. في هذا العصر فقدت الحقيقةُ صفة الثبات والديمومة. في عصرنا الحقيقة حادثة من الحوادث، وفي هذا الوضع الحقيقة ليست في متناول أي شخص وأيّ سلطة. هذا الحدث جعل الحجاب الذي كان يستر الثقافات الأخرى أكثر رقّةً وشفافيةً، والهرمنطيقيا التأويلية المناسبة في الغرب لهلامية عصر ما بعد الطبيعة وطواعيته ربما أصبحت نوعًا من الذكرى في أطراف هذه الحضارة وحواشيها. إن وافقنا على هذا القول تصبح عبارة المركز والأطراف في غير مكانها أو غير مستساغة، إنما تبقى العلاقه بين المركز والأطراف مبهمة. إذا تذكرنا خطر الوقوع في فخ النفسانية (بسيكولوجيسم) يمكننا مقارنة الروح المعنوية للأوروبيين بالروح المعنوية لأهل الضواحي والأطراف، لا سيّما إن أخذنا في الحسبان تغير هذا الوضع في القرن العشرين لا سيما في عقوده الأخيرة نسبةً إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
لم تكن أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تعرف أكثر من عالمين وإنسانين العالم والإنسان اللذان يملكان تاريخا وحضارة والعالم والإنسان اللذان ينقصهما ذلك، ويجب أن يبلغاه . في ذلك الزمان لم يكن هنالك ذلك الزمان لم يكن هنالك وجود للمركز والأطراف، في ناحية كان يوجد عقل وصحوة ومعرفة، وفي الناحية الأخرى يوجد جهل وغفلة لدى الإنسان الشرقي والعالم الشرقي، اللذان كانا من متعلقات فكر الغرب وعمله. لكن في القرن العشرين، لا سيّما في اواسطه تغير الوضع إلى حد ما، عانت أوروبا من الفاشية والنازية والستالينية، والحروب المدمّرة واختبرت كذلك العدمية التي كان نيتشة ودستويوفسكي قد وصفا بها التاريخ الغربي، وما بعد الطبيعة انتهت بالمسار الروحي والمعنوي والفكري. في هذه الأثناء التي كان الغرب قد انصرف فيها عن
ص: 82
مطلقية تاريخه وحضارته كلّيًا، أو لم يعد مصرا عليها، تفتحت براعم مشاعر التعلّق بالثقافة والماضي التاريخيين في العالم القديم. مع هذين الحدثين المتوازيين تغيرت النسبةُ بين بين العالمين اللذين يسميان نامياً وغير نامٍ أو متقدمًا ومتخلفا، أي حين شاعت في كل الأمكنة عاداتُ الغرب وأسلوب الحياة الغربي، وأصبح الناس في جميع أنحاء الدنيا مستهلكين للبضائع الغربية، صار العالم في الظاهر غربيًّا كليا، وإذا كانت هنالك فوارق ففي درجات التنمية ومراتبها في هذا العالم الواحد ظاهريًا يمكن تسويغ تصوّر المركز والأطراف. مع ذلك يجب أن يكون بين المركز والضواحي نسبة ضرورية وعلاقة ذاتيّة. لكن نحن حتى وإن علمنا أنّ المركز هو أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وبقية مناطق العالم هي الأطراف والضواحي، لا نعلم المركز مركز ماذا، ولا نعلم بماذا تستفيد الأطراف منه إن كان المركز مركزاً سياسيًا أو اقتصاديًا فالفائدة الأكبر التي تصل إلى الضواحي منه هي السيطرة والظلم والسلب والنهب . أمّا إن كان المركز مركزا علميا وفكريا فيجب التأمل في كيفية انتشار هذه العلوم والأفكار والآداب من المركز إلى الأطراف. هل بالإمكان القول أنّ علاقة المركز بالأطراف ظلم واعتداء في السياسة والاقتصاد، وتربية وهدايةٌ في العلم والفكر؟ هذا الوضع المزدوج ظاهريًا دفع البعض إلى إنكار وحدة الغرب، رائيًا إليها مجموعة من الأمور المختلفة والمتباينة من الطبيعي أن يرفض هؤلاء أيضاً مُقترح المركز والأطراف لأنّ عيونهم ترى بمنظار التعدّديّة. لكنّ انتقال العلم والتفكير والأدب من المركز إلى الأطراف لا يتنافى وسياسة الغرب الثقافية والعلميّة. أوّلاً لأنّ التفكير غير قابل للتعليم والانتقال، فالعلم على الرغم من أنّه يُتعلّم يبقى في حدودِ المواضيع التي تدرس ما لم يستند إلى أسس التفكير . ثانيا : يهاجر الدارسون أصحاب المواهب من بلدان الأطراف إلى المركز، وهنالك يبدأون البحث والتحقيق. أما في الفلسفة والأدب فالوضع مختلف نوعا ما، إذ قلّما تُسمع حكاية أو شكوى عن هجرة الكتاب والفلاسفة من الحواشي إلى المركز. لا يعني ذلك أنّ الشعراء والكتاب والفلاسفة الآسيويين والأفارقة واللاتين لا يهاجرون إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. نحن نعرف اليوم كتابًا وفلاسفة أسماؤهم آسيوية وأفريقية وإسلامية، ويمكن العثور على معالم من الثقافة
ص: 83
واللغة والأفكار القديمة في آثارهم. لا يجب أن نقارن هؤلاء في انتسابهم إلى الغرب بالعلماء والباحثين، إذ ليس من الضروري أن يأنس العلماء أنساً تاما باللغة والثقافة الغربيتين، لكنَّ الكتاب والفلاسفة الذين هاجروا إلى الغرب وأنتجوا هنالك آثاراً، واشتهرت أسماؤهم، تربيتهم غربيّة، وحتى إذا أوردوا مواد فكرية وشعرية من لغةالآباء والأجداد في آثارهم، فأسوتهم الفكرية والفنية المفكرون والمبدعون الغربيون. هل يجب عدُّ هذا الأمر دليل ارتباط أوثق بين المركز والأطراف؟ نعم أو لا؟ إذا كان ذلك الكاتب القادم من جزر المارتينيك ويكتب القصة في فرنسا باللغة الفرنسية، أو ذلك المفكر الفلسطيني الأصل، الذي يعيش في أميركا يفكران بلغتهما الأم وكلَّ منهما له رأيه في ما يتعلق بقضايا قومه، والأهم من كلِّ ذلك، إذا كان إلى حد ما المظهر الأخلاقي والفكري لأمته، يمكن القول أنّ العلاقة بين المركز والأطراف باتت محكمةً وراسخة. إنما لا يمكن القول بمجرد أن يصل إيراني أو مصري في أوروبا الغربية أو أميركا الشمالية إلى مقام علمي وثقافي رفيع، أنّ ذلك دليل على العلاقة الوثيقة التي تربط المركز بالأطراف. من بين المتنوّرين والكتاب والفلاسفة وعلماء الإجتماع الكبار المعاصرين ذوي الأصول الآسيوية والأفريقية كثيرون حملوا جنسية البلد المضيف، وأكثر من ذلك ارتبطوا بذلك المكان روحيّاً وخلقيًا . أما القول أنّهم يوردون في آثارهم مواضيع عن بلادهم وأمتهم فذلك لا أهمية له بحد ذاته، إنما يجب النظر بأي عين ومن أي زاوية يعالجون تلك المسائل. منذ حوالى المائة عام وعديد من العلماء والباحثين في التاريخ والأدب في البلدان الآسيوية والأفريقية، يتبعون مناهج البحث الاستشراقية. كان اتِّباع هذا المنهج دليلاً على العلاقة والنسبة الخاصة بين العالم الغربي والعالم القديم غير المتطوّر والمستعمَرَ مهما كانت هذه النسبة، لم تكن نسبة بين المركز والأطراف، لأنّ الأطراف ليس لها حيثية الأطراف إلا إن سميناها حواشي وأطرافًا قياسًا على أحياء الصفيح العشوائية في المدن الكبرى غير المنظمة في البلدان غير المتطوّرة.
ص: 84
مشكلة المثقف المستغرب
الفرضية في مُقترح المركز والأطراف هي (أو يجب أن تكون )أنّ هنالك ذهابًا وإيابًا من المركز إلى الأطراف ومن الأطراف إلى المركز، وأن تستوعب الأطراف روحية نقد الغرب، وأن تنظر من موضع عالمي لا يمكن مبدئيًا إلا أن يكون غربيًّا إلى الغرب وإلى جميع الحضارات والثقافات، وتكون حصيلة هذه النظرة المهمة الصعبة المتمثلة بأن يتبادل مفكرو الأطراف الأفكار والهموم مع المفكرين وأصحاب الرأي الغربيين، وكذلك إدراك قضايا قومهم ووطنهم . لكن كيف يكون هذا الأمر ممكنا؟ وهل اتباع فيلسوف غربي والنظر من خلال نظارته إلى قضايا بلدنا مختلف عن اتباع نظرة المستشرق ؟ الاختلاف هو في نوع العلاقة وكيفيتها. إذا كان المثقف في هذا العصر يكرّر كلام الفيلسوف الغربي تقليدًا، قطعا هو أدنى قدراً ومكانةً من متتبع التاريخ والأدب الذي كان منذ ثلاثين سنة يتبع في أبحاثه منهج المستشرقين. إنما يوجد اليوم في العالم غير المتطوّر تنويريون يعزفون هم والفلاسفة والمفكرون الغربيون اللحن عينه، ويقولون الكلام نفسه. والفلسفة المعاصرة اقتربت هي الأخرى إلى حد ما من التذكرة التاريخية، وتحوّلت إلى حيّز للتأمل في التاريخ الغربي. النقطة الأخرى هي مدى الحدّة الذي بلغته مشكلة التخلّف وعدم النمو، وإشتداد تيار عولمة الاقتصاد وتجارب الحياة وجميع شؤونها وأساليبها، والوجود الإنساني. في هذا الوضع لم يعد هنالك معنى لفصل هذا المكان عن ذاك المكان، وانتساب أمّة إلى عصر ما قبل الحداثة وأخرى إلى ما بعد الحداثة منذ خمسين عامًا كان المتنوّر فكرياً في مجتمعنا إذا قال أو كتب شيئًا من الفلسفة الغربية، يبقى ما يقوله ويكتبه في حدود المحاضرة الدراسية. أما اليوم فقضايا الفلسفة المعاصرة تنعكس أيضًا انعكاسًا واسعًا في الصحف. ربما لم يكن ما يُكتب حول التقليد والحداثة وما بعد الحداثة، وغير ذلك من القضايا الفلسفيّة معمّقا بمعظمه، لكن المهم أن قضيّة المستقبل قد طرحت، وكلّ الأقوام والشعوب في العالم مدعوة للتأمل والتفكر في أوضاعها. أنا لا أقول أنّ الآذان كلَّها صاغية لتسمع هذه الدعوة، حتى أن كثيرين من الذين يقولون أنّهم قد سمعوا الدّعوة ولبوا النداء، لا يعرفون من أين جاء النداء، ومن أي اتجاه،
ص: 85
وإلامَ يدعوهم كان الباحث الذي يتبع المنهج الإستشراقي، يعتقد أنّ الجميع يجب أنْ يسيروا في هذا الطريق. بعبارة أخرى، كان يؤمن أنّه يتبع المنهج العلمي ولم يكن يعد هذا المنهج تابعًا لأي ثقافة. حاليا تغير الوضع لم يعد المنهج البحثي للمستشرق منهجًا علميًا خالصًا. فقد تنبه أهل الرأي في جميع أنحاء العالم قليلاً أو كثيراً إلى أوضاعهم التاريخيّة، وأخضعت أصول التاريخ الغربي ومبادؤه وقيمه التي كان يُعتقد أنّها مطلقة للتساؤل . لم يعد أفقُ التاريخ الغربي واضحًا، فقد حُجب تدريجيا ويزداد قتامةً. مع ذلك تطوّرت الثقافة الغربية بسرعة هائلة، وعيون كلّ أهل الأرض وآذانهم تتابع هذه الثقافة السريعة التطوّر والانتشار. في هذا الوضع بات التحديث أمرًا إلزاميا، ولا يمكن غض النظر عنه وتجاهله. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الطرق معبدة وسالكة للحاق بركب الحداثة والتحديث. المشكلة هی أنّ البشر على الأقلّ في الظروف الراهنة لا سبيل أمامهم سوى سبيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، وحين يَلجُونَهُ يجدون أنه غير معبد وغير سالك، وتعوزُهم الإمكانات الكافية لإزالة العقبات وتعبيد الطريق. هذه المسألة السهلة ظاهريًا تُفهم في حال انصبّ التفكير على وضع الغرب والعالم المتخلّف والنسبة بينهما . حاليًّا هنالك فريقان في البلدان غير المتطوّرة يتصدون للكتابة فريق معارض للغرب سياسيًا، وينظر تاليا إلى الثقافة والحضارة الغربيتين نظرةً سياسية، ويعلن معارضته ،لها ، ولا شأن له في ما يخص العلم والتقانة الجديدين من أين أتيا ، وكيف حصلَ الغرب هذه القوّة الحالية. لكن يُفهم من فحوى كلامهم أنّ الغرب يجسّد الكذب والخداع والتآمر ، وقد سخّر العالم بهذه الوسائل. إفراط هذا الفريق استوجب تفريط الفريق الآخر ، الفريق المفرط آذاه وأغضبه أن يرى بشرًا يقرنون العلم والحرية والرفاهية بالكذب والغش والخداع ، ويقولون إنها من معطيات الشيطان فتأهب للدفاع عن القيم الغربيّة، واصفًا أحيانًا الوضعَ القائم في الغرب بأنّه وضع مثالي أو قريب من المثال، ويمتدح العلم والحرية والعدالة، والبعض من هذا الفريق يتخيّل أنَّ هذا الوضع سيستمر إلى ما لا نهاية، وأن العيوب والنواقص ستزول. وفي الواقع، يرى أنّ ليبرالية الديمقراطية الغربية هي الوضع الدائم للتاريخ. هذا الفريق ينظر أيضًا بمنظار سياسي إلى العالم وإلى أحواله، وإلى الثقافة والفكر،
ص: 86
ولكنْ أيَّا كان الأمر فإنّ هذا الفريق أكثر نجاحًا من الفريق الآخر في عمله، وكلامه أكثر قبولاً . فمن يُنكر حرية البشر وحقوقهم ولا يُقم وزنًا لرفاهية الناس وراحتهم، من الطبيعي أن لا يلقى كلامه آذانا صاغية. إنّ أحد المبادئ في السياسة وفي مخاطبة الناس بثّ الأمل في نفوس المخاطبين. ليس المقصود أنّ السياسيين يخادعون الناس، أو يجب أن يُخادعوا، إنما هم أنفسهم يجب أن يكون لديهم القليل أو الكثير من الأمل بالمستقبل، وأن يضعوا أمام أعين الناس طرحاً واضحاً نسبياً عن المستقبل القريب. يتبين أنّ هذا الفريق من السياسيين يلقى قبولاً أكبر لدى الناس. تُرى مَنْ مِنَ الفريقين على حق في هذا النزاع؟ ظاهريًا هذا السؤال لا معنى له ولا مسوّغ والبعض ربما بمجرد أن يسمعه أو يقرأه سيصرخ قائلاً أنْ لا إنسانَ سليم الفطرة يقول إنَّ الاستبداد أفضلُ من الديمقراطيَّة، والمرضَ أفضلُ من الصحة، والفقر أفضل من الغنى واختلال حبل الأمن أفضل من الأمن والأمان. إذا من أين أتى هذا البحث وما هو مسوّغه؟ فلو أن هنالك طرحًا عن عالم غير العالم الغربي أمام أعيننا، ربما انتفى هذا النزاع، ولم نكن مجبرين على المقابلة بين الحرية والاستبداد. لكن في العالم الراهن حيث انتشرت القيم الغربية قليلاً أو كثيراً في كلِّ مكان، ويتسع نطاق انتشارها بواسطة الحروب والقهر وأفقُ المستقبل كالح ومحجوب، لا يمكن تجاوز هذه المتضادات، وطالما أنّها موجودة فإنّ نفي أحدها إثبات لضدّه. لكن هل من الممكن برفض الديمقراطية الخروج من التاريخ الغربي؟ بعض المفكرين رأى أن تاريخ الحداثة يمكن أن يصل إلى نهايته كالتواريخ الماضية (التاريخ اليوناني مثلاً وتاريخ القرون الوسطى)، وأن يبدأ عصر جديد، وعلى هذا الأساس ستنوجد قيم وقواعد ومبادئ وعلاقات غير تلك الموجودة في العالم الراهن، وستكون هي السائدة والديمقراطية التي يعود نسبها إلى نظام الحداثة، ستكون أفضل صور الحكم في النظام الجديد لإثبات هذا القول، لدى أنصار الديمقراطية أدلتهم، وبإمكانهم أن يبينوا أن هنالك حكومات حتى اليوم، قد داست مبادئ الديمقراطية بأقدامها، وحتى إن كان ذلك باسم العدالة، فقد ضاعفت الظلم في العالم. لكن هل ستظل عجلة الزمان تدور على هذا المنوال؟ وهل سيبقى نظام الحداثة هو النظام الأبدي للحياة
ص: 87
البشريّة ؟ مهما كان الجواب عن هذا السؤال فإن الذين تربّوا على مبادئ الحداثة، وتفكيرهم محصور داخل حدودها من الصعب جداً أن يتخلّوا عن هذه المبادئ ويتطلعوا إلى فضاء آخر. لهذا السبب نرى أشخاصاً ربما بحسن نية ينسبون كلّ من لديه تساؤلات ومآخذ حول مبادئ النظام السياسي الغربي إلى الفاشية والنازية والستالينية. ليس من المستبعد كما يبدو، في إطار النظام الفكري والثقافي والتقني للعالم المعاصر، أن يُتهم من يفكر بمبادئ العلم بمعاداة العلم، وأن يُصَنَّفَ من يتجاوز ظاهر الديمقراطية إلى باطنها وحقيقتها في خانة أعداء الحرية، ولا عجب أنّ هذه العقلية شائعة في العالم غير المتطوّر. أشرنا من قبل إلى أنّ الفريق الأول يمكن أن يكون شديد الإعجاب والتعلّق بأحدث وسائل التقانة، مع ذلك لا ينتقد الغرب نقدًا بناءً، بل يركّز أكثر على عيوب الغرب وعلى الحداثة. أما كتاب الفريق الثاني فإنّهم يستسيغون صورة الحياة الغربية ونظامها السياسي ،ويرونها أحياناً مثالاً يُحتذى ، وإن عارضوا أحياناً بالعمل السياسي القوى الغربية، يسمون البحث في ماهية الديمقراطية والليبرالية نقيضا للحريّة وموالاة للاستبداد والفاشية، ويتحدّث أشخاص من الفريق الأوّل أحيانًا عن الحرية والديمقراطية بطريقة معيّنة كأنما يتحدثون عن جريمة أو فضيحة. في الفريق الثاني أيضاً أشخاص على النقيض من مبدإ الحرية الذي يحملون لواءه، يذكرون باحتقار حتى أسماء الفلسفات، فالتأويلية على ألسنتهم تتحوّل إلى مرض خطير أو قذارة أو نجاسة. هذا هو الوجه المشترك بين الفريق الأول والفريق الثاني فالدعوة إلى التحرّر والحرّية بتعصب لا تتوافق مع الفلسفة أيضاً، والتأويلية شأنها شأن أي فلسفة أخرى قابلة للنقد، لكن من يَرَ أنّ فسادها وبطلانَها أمر محتوم، ويجب تفنيدها ورفضها، ليس من أهل الفلسفة، ولا تربطه أي علاقة نسب أو قرابة بعالم الحرّيّة، وإنْ تكلّم على الحرية فكلامه ليس نابعاً من القلب، أي أنّ قلبه ولسانه ليسا على وفاق. لكن يتوجب علينا أن لا نحكم على أي بلد من البلدان انطلاقاً من آراء أهل الإفراط أو أهل التفريط فيه . الإشارة إلى هذه النقطة تهدف إلى إفساح المجال أمام سؤال جديد حول النسبة بين الأطراف والمركز. هل فهم المركز فهم عميق والأطراف فهمها سطحي وظاهري، وإذا عارضت المركز لا تعرف ماذا
ص: 88
تعارض؟ وما هو الأثر الذي تتركه معارضتها؟ يبدو أنّ المجموعات المعارضة والمقاومة لتسلّط القوى الغربيّة غير منتبهة أو غير مهتمة بمعرفة الطريق التي تنفذ منه القوّة والسيطرة لذا لا تفكّر بإقفال هذه الطريق، وربما ترى أيضاً أنها غير معنيّة بإقفالها، وقطعاً معارضتها في بعض الحالات قليلة التأثير أو لا تأثير لها.
الاستعلاء بما هو منهج وعقل
انطلاقاً مما قلناه، يمكن أن نفترض صورتين مثاليّتين للبشر، إحداهما صورة الغربيين الذي يعدّون مكانتهم ومهمتهم فتح العالم واحتلاله، يعرفون فضلاً عن عناصر قوتهم مواطنَ ضعفهم إلى حد ما، وبما أنّهم حتى هذه اللحظات يتطلعون إلى المستقبل، فهم لا يجهلون المشاكل التي تعترض طريقهم وقتامة أفق المستقبل. إلى جانب هؤلاء كم كبير من أهل أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، هم على الرغم من الخلافات السياسيه في ما بينهم حتى المعارضون منهم للغرب عيونهم مصوّبةٌ على مُنجزات الغرب،ويريدون الوصول إلى حيث وصل هؤلاء عادةً لا يعرفون إمكاناتهم وقدراتهم ونقاط ضعفهم ، ولا الطريق التي يجب أن يسلكوها ليحصلوا على ميزات النمو والتطوّر. هل يشكل هؤلاء أجزاء ضواحي الغرب؟ هؤلاء ليسوا بالمستوى نفسه حياتيا ومعيشيَّا، ومعتقداتهم مختلفة، وأنظمة الحكم في بلادهم مختلفة أيضًا، وآراؤهم في ما يتعلّق بالأنظمة السياسية القائمة في الغرب متناقضة كما رأينا. إذا نظرنا إلى هذه الضواحي والأطراف نظرةً سياسيةً سنرى بلادًا ليس بينها أي توافق وانسجام تقريبًا، وإذا كانت في الظاهر مستقلّة سياسيًا، فإنّ استقلالها لا يظهر كثيراً في مقاومة المركز والتصدي لهيمنته، وهو أشدّ بروزاً في خدش وجوه بعضهم البعض. حتما المركز أيضًا بالمنظار السياسي غير موحد ، لكن حين يحدث ما يمس مبادئ العالم الحديث وقواعده وأصوله تتقارب مواقفه. في هذه المواقف لايُحسب أهل آسيا وأفريقيا من الأطراف، لأن جماعات من أهل المركز ترى أنّ المناطق غير الغربية مقر الأفكار المخالفة للحضارة الغربية، وفيها ينشأ ليس فقط المعارضون للظلم المحيق بهم والآتي من الغرب، بل المعادون للحضارة الغربيّة ومبادئ الحرية وحقوق البشر.
ص: 89
لقد بدأ نقد الحضارة الغربية ومبادئ التاريخ الغربي في الغرب نفسه، وتعمق واشتدَّ في أوساط الغربيين، واهتم مستنيرو البلدان الأخرى بهذه الانتقادات، وربما جعلها عدد منهم مادة الحقد على الغرب. لكن أوّلاً عدد هؤلاء قليل، وثانيًا، هم لم يستمدوا حقدهم من جذور آبائهم وأجدادهم بل من عدميّة الغرب. حتما من هذه الأطراف نفسها ناسُ كُثر لا شأن لهم بمبادئ الحرية وحقوق البشر، أو أنّهم لا يولونها أهمّيّةً ، لكن من الممكن أن يقولوا إنّ القوى الغربيّة نفسها لا تطبّق المبادئ التي تدّعي حمايتها، هؤلاء ليسوامعارضي المبادئ التي اصطلح على تسميتها غربية، وإنْ صُنّفوا في حاشية الغرب أو أطرافه، يمكن أن يجدوا مسوّغا له.الفريق الأوّل كما أشرنا من قبل هو إن تأملنا بدقة اهتماماته وتجاوزنا أقواله وأفعاله، لا ينتمي إلى التاريخ الغربي. هؤلاء ليسوا من أهل الرأي، ولا يقترحون حلولاً لتجاوز المبادئ الغربية، كذلك لا يتخطون حدودَ مواجهة الغرب ومقاومته سياسيا . ما يميز هؤلاء من سائر الجماعات السياسية المعارضة للهيمنة الغربية هو عنفهم. وإذا كان لديهم فكر أو علم فهم يقصرون استخدامه على تدوين برامجهم وسياساتهم العنفية، وتنفيذ أعمال العنف. بعبارة أخرى مخالفتهم لمبادئ الحضارة الغربية مخالفة سطحية، لا تأثير لها، ويمكن أن تكون فقط أثراً من آثار الأزمة أو مَعْلَمًا من معالمها في العصر الحديث. النقطة الأهم أنّ أعمال العنف هذه، تخرج إلى حيّز التنفيذ بالأساليب التي وُضعت في الغرب، وبالأدوات التي صنعها الغرب وفي كلّ الأحوال، حين يستهدف أحد أعمال العنف إحدى القوى الغربية، لا يمكن أن نسمي ذلك أكثر من عداء ومحاربة لها، ولا شك أنّ الخلاف والصراع والحروب بين القوى السياسية الغربية والعالم غير المتطوّر، كانت قائمة منذ بداية التاريخ الاستعماري ولا تزال قائمةً، إنها حرب المظلوم على الظلم والظالم.
لا يجب هنا أن نتحدث عن مستقبل هذا الخلاف، وعما سيؤول إليه أمره في المستقبل، وما هي النتائج التي سيتسفر عنها، لكن يجب أن نعلم أنّ كلّ مسألة تُطرح في هذا الباب مناسبة لرأينا في ما يتعلّق بالغرب وبالعالم غير المتطوّر. المتفائل بالغرب يحكم على مستقبل العالم بنظرة تفاؤليّة، ومن يعتقد أنّ قوّة الغرب قد اعتراها
ص: 90
الاضطراب والوهن وأنها آيلة إلى الضعف يمكن أن ينظر إلى العالم نظرة تشاؤمية.
فضلاً عن ذلك، الفكرةُ الشائعة في العالم غير المتطوّر إلى حد ما، لا سيّما بين المتنوّرين المتعلّمين لا تتوافق وفكرة وحدة العالم، وبناءً عليها كلُّ بلد قائم بذاته، وعلى الجميع أخذ ما هو جيّدٌ ولائقٌ والتخلي عن العيوب والمساوئ بالنسبة إلى أصحاب هذا التفكير مفهوم الشرق والغرب لا معنى مثمرا له. وهؤلاء يَعُدّون تلقائيًا مُقترَحَ المركز والأطراف أيضًا بلا معنى. يمكننا من زاوية معيّنة أن نصنف ضمن هذه الزمرة نفسها المجموعات السياسية المعارضة لها والمعارضة للغرب أيضًا. الآن هنالك مجموعتان لمفهوم الأطراف والمركز لا معنى لهما: مجموعة تعتقد أنّ الغرب يمكنه من خلال الحوار إدخال جميع الشعوب في العالم الغربي، ومجموعةٌ أخرى تميل إلى الإعتقاد أنَّ الغرب بإمكانه من خلال الحوار أن يتعلّم الكثير من الثقافات الأخرى، ويجب كذلك على العالم كله أن يتعلّم من الغرب. ربما يكون لكلمة الحوار مكان ملائم جدًا في كلام هذه المجموعة، لكن من غير المعلوم حقيقةً هو كيف يمكن أن يتحقق هذا الأمر، ومن هم المتنوّرون والمفكرون الذين يعبرون عنه. الخلاصة أنّ الأرضيّة الفكرية والمقترح المناسبان لعبارة المركز والضواحي هما في ما يلي: نحن نعيش في عالم واحد تحكمه مبادئ وقواعد واحدة، لكنّ علاقةأهل الأرض بهذه المبادئ والقواعد متفاوتة الدرجات، ولم تصبهم آثارها وفوائدها بالمستوى نفسه هذا العالم ليس موحد النسيج، لكن يجب أن يصبح كذلك. يجب على المركز أن يقبل الاختلاف (فهذا الاختلاف موجود في داخله أيضًا، وهو جزء من ماهيّته)، والأطرافُ يجب أن تنظر إلى المركز وهي مدركةً وضعها أطرافًا وضواحي ، أو بصراحة أكبر نقول إنَّ المتنوّرين والمفكرين والسياسيين في البلدان الأطراف يجب أن يشكلوا حالة من التبادل الروحي والفكري بين المركز والأطراف. هذه طوباوية أوائل القرن الحادي والعشرين. لقد بدأت الحداثة طوباويا، وفي القرن العشرين احتل الفكر غير الطوباوي مكان الفكر الطوباوي . هل يعود البشر من جديد إلى مرحلة الطروحات الطوباوية ؟ ما أعرفه أنا هو أنّ مصير العالم كله مرتبط ببعضه، وحتى إن لم نعط الغرب موقع المركز ومكانته، لا يمكننا أن ننكر أنّ كلّ ما يحلّ به،
ص: 91
وأي تغير يصيبه سيؤثر في الأمكنة الأخرى كلّها. لكنّ خرابه سيكون خرابا للعالم كلَّه. ليس من الضروري أن نفكر بالخراب الأفضل أن نفكر أن مراكز العلم والتفكير والحضارة انتقلت تاريخيًا طيلة العصور والقرون من مكان إلى آخر - علمًا أنّ أيّ مركز حضاري طيلة التاريخ لم يحظ بما يحظى به المركز الغربي من قوّة ونفوذ. في أوائل القرن العشرين نبّه بعضُ المفكرين ،الغرب، إلى أنّ مركزيته في خطر، ونصحوا أوروبا أن تتقي هذا الخطر الداهم. اليوم تغير الوضع إلى حد ما فما قاله هوسرل في النصف الأوّل من القرن العشرين حول أزمة أوروبا، لا يتكرّر على ألسنة الفلاسفة المعاصرين. لكن هنالك سياسات تريد بالعنف والشدّة والرعب أن تحافظ على مركزية القوة في الغرب (الغرب الذي يبدو أنّه يتجزأ، أو أن مركزا جديدًا يظهر في داخله)، لكنّ المركز مركز التفكير ، والسياسة لا تخلق تفكيراً، ولا تستطيع أن تقضي على التفكير. يجب أن تُصالح السياسة الفكر.
ص: 92
أحمد كلاته ساداتي (1)
الغرب كوجود اجتماعي وتاريخي (حدا أدنى) أو كبيئة ذات رؤى واستراتيجيات خاصة(حدا أقصى)، أمر واقع لا شكّ فيه. وهو بحاجة على نحو مستمر إلى أن يُعرف ويُدرس.والواقع أنّ كلَّ المجتمعات الإنسانية في العصر الحاضر قد تمّ اجتياحها، وهي سواء على الأصعدة الإنسانية المحدودة كالسلوك الفردي وأنماط العيش، أو على مستوى القضايا الكبرى الاقتصادية والثقافية، خاضعة كلُّها في عالم اليوم لسيطرة مفاهيم الغرب وإيديولوجيّته. هذه الإيديولوجيّة لها مفاهيمها وقيمها الخاصة، وتتميّز بعلم وجود خاص، وعلم معرفة خاص أيضًا. ولها تعريف مشخّص للإنسان. ولكشف مفاهيم هذه الإيديولوجيّة هنالك حاجة إلى علم منهجية خاص.
في خضم عدوانية الغرب الكاسحة في العصر الحاضر، فإنّ حوزة العلم والمعرفة هي الساحة التي تتحقق من خلالها مطامع الغرب وأهدافه، وهذا الموضوع هو الأكثر بروزاً في العصر الحديث. إنّ علوم الغرب قد وضعت جميع الحوزات العلمية، ابتداءً من العلوم الطبيعية والرياضيات وصولاً إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية بمختلف تشعباتهاوفروعها، تحت مظلتها الإيديولوجيّة. وبغض النظر عن المفاهيم التي تشكل المبادئ الأساسيّة لهذه العلوم من الواجب القول: أنّ هذا الاجتياح - اجتياح كامل بمختلف المعايير. وأحد أبرز محامل هذا الاجتياح علم الاستشراق». فعلمُ
ص: 93
الاستشراق خطاب يسعى من خلال مسار علمي، وبصورة ممنهجة، إلى خلق شرق كنسي التوجه (الخطاب الأولي للاستشراق)، أو شرق يضع نفسه في خدمة الغرب (الخطاب الاستشراقي المتأخر والاستعماري). ومن المؤكّد أنّ هذين الهدفين كانا في العصور الوسطى أي منذ القرن السادس عشر الميلادي وما بعده، محور الحراك والتفكير الاستشراقيين بمعنى أن يكون الشرقُ شرقًا في خدمة الكنيسة والاستعمار.
من الطرق أو الاستراتيجيات المؤدية إلى كشف علم الاستشراق مفهوميًا ونظريا، وكشف غيره مما يُحاك في الغرب علمُ الاستغراب. هذا المبحث يرى إلى علم الاستغراب خطابًا مختلفًا مفهوميًا عن علم الاستشراق علة ذلك أيضًا أن مفهوم الاستشراق نشط في نطاق المباحث والنظريات الغربية. في حين أنّ المفكر غير الغربي إذا شاء أن يتعرّف الغرب، أو أكثر من ذلك إذا أراد أن يتصدّى لنقد الغرب، لا سيّما الفكر الغربي، يحتاج إلى أسس نظريّة وإلى منهجية مغايرة لمبادئ الاستشراق. ومن المؤكد أنّ الاستشراق سبيل من السبل المؤدّية إلى معرفة الغرب وعلاقته بالشرق.
إنّ مبدأ نقد الغرب وتقويمه يختلف في العالم الإسلامي على نحو خاص، عنه في البلدان الشرقية الأخرى ذات الإيديولوجيات المختلفة. ومن أسباب ذلك أيضًا سبب مرتبط بتميّز الرؤية الإسلاميّة إلى العالم أو الإيديولوجيا الإسلامية من الإيديولوجيا الغربيّة. ففضلاً عما يميّز «الشرق» بالمعنى العام من الغرب والفكر الغربي، فإنّ الإسلام والإيديولوجيا الإسلامية أكثر تجذرًا وحضورًا من المعتقدات الشرقيّة الأخرى كالهندوسية والكونفوشيوسية والبوذية، سواء كان ذلك بمعنى الدين كدين، أو بالمعنى الأشمل للعلم والمعرفة وسبب ذلك أيضًا الاختلاف الماهوي بين الإيديولوجيا الإسلامية التي هي في الأصل ومن حيث المبدإ غير علمانية، والإيديولوجيات والمعتقدات الأخرى التي تُظهر كما هو ملاحظ نوعًا من التساهل بالنسبة إلى العلمانية على الرّغم من عدم تصريحها بتبنيها رسميا. في الإسلام، استنادًا إلى كتابه المقدّس، أي القرآن الكريم، يمكن بصعوبة تعرف تفاسير العلمانية، بناءً على ذلك، هنالك شكلان من التضاد بين الشرق والغرب: تضاد عام كليّ، أي أنّ
ص: 94
الشرق شرقُ والغربَ غرب ، وتضاد خاص متعلّق بالمجالات المعرفية والإيديولوجيّة الرؤيويّة في العالم الإسلامي.
هذا المبحث يسعى إلى تقويم أبعاد علم الاستغراب وتحدياته في العالم الإسلامي. أما سؤال البحث فهو التالي: ما هي الأمور الأساسية التي تميّز الإسلام من الغرب؟ وما هي التحدّيات التي تواجه علم الاستغراب في الظروف الحالية؟ سيحاول هذا التحقيق أن يجيب عن هذين السؤالين متسلّحًا بالأدلة، وبعين ناقدة. أما الفرضيّة فهي أن علم الاستغراب في الإسلام مختلف عنه في الرؤى والإيديولوجيات الشرقية غير الإسلامية.
الغرب الإسلام والتناقضات البنيوية
إنّ الغرب بالمعنى المفهومي العام، بعيدًا من النطاق الجغرافي الخاص مجموعة بلدان، أو هو قسم من العالم. والغرب بهذا المعنى أبعد من الواقع التاريخي والاجتماعي؛ علماً أنّ الغرب بمنظار علم المعرفة، نمط تفكير تحقق في إطار تاريخي معين وفي نطاق جغرافي خاص، وهو على مستوى رفيع من التحليل، الذي يمكن أن يتمّ بغض النظر عن البيئات الجغرافية. الحد الأقصى الذي يمكن أن يُعطى لمعنى الغرب هو أنّه بنية مفهوميّة (Conceptual construct)، ناجمة عن الأوضاع والأحوال التاريخية والاجتماعية في القرون الخمسة الأخيرة، إنما تعود رؤيوياً وإيديولوجيا إلى المفاهيم الأدبية والفلسفيّة اليونانية. هذه البنية المفهومية تحتوي علومها الخاصة : علم الوجود وعلم المعرفة ، علم الإناسة وعلم القيم، وعلم المنهج. على هذا الأساس، الغرب هوية مفهومية بالفعل. هوية دالة ليس فقط على مفاهيم معرفيّة خاصة، أو بنية تاريخية خاصة، بل هي دالة على رؤية إلى العالم مختلفة. والحاضنة التي نمت فيها مفاهيمُ«الغرب» القيمية هي العلم والفكر الحديثان.
بناءً على ما تقدّم، إنّ الغرب بنيةٌ مفهوميّة التحَمَت بقيم التفكير الحديث، وحين يجري الكلام على الفكر الحديث إنما نقصد الفكر الغربي. وفي تقويم «إيمان،
ص: 95
وكلاته ساداتي»(1)، أخضعت خصوصيات الفكر الغربي للتقويم، لا سيما أصالة العينيّة والإدراك الحسي ، والنسبية، والفكر الإنساني المحور، والثنوية والعلمانية. أما شایغان (2)في تقويمه فقد رأى أنّ علم الغرب علمٌ عدواني، والدليل على ذلك اكتشاف البارود.فاكتشاف البارود في الصين منذ آلاف السنين، لم يؤد إلى اكتشاف القنبلة، في حين إنّ مثل هذا الاكتشاف في الغرب الحديث جُعلَ وسيلة للسيطرة على الغير. هذه الخصوصيات تجسّدت في الغرب فكرًا سلطوياً وعدوانيًّا، لا سيما في العصر الحديث.
إنّ طريقة مواجهة الغرب كحضارة لها سماتها الخاصة المذكورة آنفا، تختلف عن أسلوب المواجهة الذي اعتمدته الحضارات السابقة تجاه بعضها، فاليونان وإيران ومصر والهند والصين وبلاد ما بين النهرين تحاربت في مراحل تاريخية مختلفة، إنما بأسلوب مختلف وبشكل عام، كانت الحضارة الأدنى تسعى إلى اكتساب المعرفة من الحضارة الأرقى علميًّا ومعرفيًا وبنى اجتماعية. المثال المحسوس في هذا السياق هو المواجهة التي جرت بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية في العصر العبّاسي، ونشوء حركة الترجمة من اللغات الأجنبية، لا سيّما اليونانية، بالعربية. وما نتج عن ذلك من إيجاد الأرضيّة المعرفيّة اللازمة لانبعاث عصر سُمِّيَ بشكل عام عصر «الحضارة الإسلاميّة»(3) .
مع ذلك فإنّ أسلوب مواجهة الحضارة الغربية الحديثة لسائر الحضارات، لا سيّما العالم الإسلامي تختلف عن التوجهات والأساليب القديمة. فالحضارة الجديدة في الغرب ذات بنية عدوانية، ولها خطابها الخاص. هذه الحضارة على الرغم من أنّها انبنت على المفاهيم الأدبية والفلسفية اليونانية من ناحية، وعلى المسيحية العلمانية من ناحية ثانية، طرأعليها في العصر الحديث نوع من التحوّل التاريخي، أبرز وجوهه العدوانية والسيطرة. في هذا الخطاب كلّ ما هو غير غربي من مفاهيم ومقولات
ص: 96
ونظريّات يُعدّ غريبًا أجنبيًّا، منحطاً، ويتوجب أن يرتقي على النمط الغربي، وما أشار إليه إدوارد سعيد في رائعته الاستشراق يؤكد هذه المقولة(1). إنّه خطاب كل بنية غير غربيّة في داخله يجب أن تمُحْصَ وتحوّل إلى بنّى غربيّة. وعلى هذا الأساس يجب أن يتم تغريب كلّ شيء، ليس فقط حوزات العلوم والمعرفة، بل جميع مجالات الحياة الإنسانية من أبسط أنماط السلوك الإنساني وصولاً إلى البنى الاجتماعية والسياسية الكبرى هنا يجدر بنا أن نطرح السؤال التالي: هل بالإمكان استخدام الأساليب والطرق التقليدية نفسها التي اعتمدتها الحضارات السابقة في مواجهة هذه الحضارة؟ بمنظار هذا البحث المواجهة بالطرق القديمة قاصرة وعاجزة عن المحافظة على الحضارات غير الغربيّة، وفوق ذلك، ستؤدّي إلى القضاء على مكوّنات هذه الحضارات وإذابتها في الحضارة الغربيّة. لقد وقف الغرب بما يحمل من ،صفات أبرزها عدوانيته في مواجهة الشرق،لا سيّما العالم الإسلامي ، وأبرز ميادين المواجهة في هذا الخضم هو الإسلام.
إنّ المواجهة بين الشرق والغرب كما أشرنا من قبل مواجهة بين إيديولوجيّتين أو رؤيتين إلى العالم. يرى افتخار زادة أنّ التناقض بين الشرق والغرب هو في الأصل تناقض بين فطرتين وبين إيديولوجيّتين، وبين ثقافتين وفكرين، وأخيراً وليس آخراً، إنّ غاية الكمال لدى كلَّ منهما مضادّة لغاية الكمال لدى الآخر»(2). على هذا الأساس هنالك تضاد بنيوي بين الشرق والغرب على جميع الأصعدة المتعلّقة بعلم الوجود، والمرتبطة بماهية الواقع ، وماهيّة الإنسان والهدف من الخلق، وما إلى ذلك. وقد أكّد عدد كبير من المحققين على أوجه التناقض المبدئية بين الإسلام والغرب على صعيد كل من علم الوجود وعلم المعرفة، وعلم القيم، وعلم الإناسة»(3)
ص: 97
لنا
إيمان، وكلاته ساداتي (1)يريان أن لا إمكانية لوجدان نقطة مشتركة في المبادئ الأساسية لعلم المعرفة بين الفكر الغربي والإيديولوجيا الإسلامية، ونظراً لوجود تناقضات جدّيّة مستعصية في المفاهيم الأساسيّة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، لا يمكن ملاحظة أيّ باب مشترك بين هذين الخطابين الفكريين المختلفين الإسلام والغرب أُطُرهما مختلفة، والأطر المختلفة تعرض مفاهيم مختلفة ومتمايزة، وتقدّم تحليلات مختلفة عن المعطيات المتماثلة. إنّ متانة هذه الأطر المعرفية، التي تتضمّن بشكل أساسي مفاهيم وجوديّةً ، محكمة إلى حدّ أنّنا إن أردنا عرضَ المفاهيم الإلهيّة (2)في إطار مادّي، لن تكون المخرجات سوى استنباطات علمانية من المفاهيم اللاهوتية. على سبيل المثال في الإسلام يوجد مفهوم الحرية، والحرية من المفاهيم التي أكدت عليها شرعة حقوق الإنسان الحديثة في الغرب. مع ذلك، فإنّ الحرية في هاتين الرؤيتَين الفكريّتين تعبّر عن مفاهيم مختلفة والاختلاف المعنوي هنا سببه الاختلاف في الرؤى والأطر. يقول جعفري في مقارنته بين النظريتين الإسلامية والغربية حول مفهوم الحرية:
يقرّ الفكر الغربي الحرية الفرديّة المطلقة لبني البشر، في حين أن الحرية الفردية والحرية العامة على السواء في الفكر الديني الإسلامي وفي النظام القِيَميّ الإسلامي محدودة ومحصورة ضمن الحدود التي وضعتها الشريعة(3).
وصف شودوري أيضًا مبادئ الفكر الإسلامي وأصوله بأنّها مناقضة للفكر الغربي (4)، فهو يرى ان الفردانية (Individualism) ، والثنوية (Dualism) خاصیتان لا يمكن إنكارهما في الفكر الغربي، وهما مضادّتان للفكر الإسلامي؛ تثبت المعطيات التاريخيّة وجودَ صراع دائم في الحوزة العلمية (الاجتماعيّة)، أحد طرفيها الفردانية المنهجية (Methodology Individualist) المبنية على العدوانية الغربية المحور،
ص: 98
وفي الطرف الآخر الإيديولوجيا التوحيدية للواقع في إطار الإسلام. إنّ النظام في الغرب، تاريخيًا وبمعتقداته الوضعيّة، معتمد في استمراريته ومركزيته على عالم قد تفرد في حين أنّ الإسلام إيديولوجيا تامة متكاملة تنهل من ظواهر فعلية مبنية على التوافق العام، مع التأكيد على محورية العلم في بناء العالم والأنظمة الموجودة فيه(1).
لقد انتهى الأمر بالعلم الغربي إلى ظهور بعض الخصوصيات، كأصالة العينية، وتحوّل العلم إلى علم صُنعي( Man made) والمأزق المعرفي للعلم، والتعددية (Pluralism) والفوضوية (Anarchism). وعلى العكس من ذلك، في الإيديولوجيا التوحيديّة وعلم المعرفة التوحيدي (Tawhidy epistemology) ووحدانية العالم غائيّة الوجود والعلم هي الخاصية الذاتية للعلم وللمعرفة العلمية. فالعلم في الفكر الدينيّ لا ماهيّة بشرية له، وإنما هو مبني على القانون الإلهي( Divine law). في مثل هذه الرؤية تفقد كلٌّ من أزمة العلم المعرفية، والعلمانية الدنيوية (Secularism)، وأصالة العينية، والفوضوية مفهومها، وينظر الإنسان إلى ساحة العلم على نحو يجعله يدرك غاية الوجود ومعناه.
خطاب الاستشراق و «الإسلام» الذي يريده الغرب:
كما أشرنا من قبل الاستشراق مفهوم طرحه إدوارد سعيد منذ أربعة عقود. مرجعيّة هذا المفهوم خطاب توليفي علمي سياسي واجتماعي، تشكل في الغرب منذ سبعة قرون، لتوصيف الشرق، وبالأخص العالم الإسلامي على النحو الذي يريده الغرب. ويربط سعيد الاتجاهات الاستشراقية المتأخرة بالقضايا السياسية في العالم الغربي، يقول: سياسيا بذل الغرب أقصى جهوده ليقف في وجه الإسلام. ومن المؤكد أنّ القوميّة العربية كانت في الحرب العالمية الثانية حركةً أعلنت كرهها وعداءها للإمبريالية الغربية ؛وليصفّي حسابه معها وينتقم منها، كثّف جهوده لإبراز القضايا والمسائل التي تجعل الإسلام مقبولاً لديه(2).
ص: 99
الاستشراق ،خطاب العلم والقوّة. لقد بذل الغرب ورجال الكنيسة الجهود الحثيثة اعتمادًا على قوتهما، لتقديم المعرفة التي يرغبان بها عن الإسلام، لذلك بحثوا عن مواطن الاختلاف والتمييز:
إنّ جوهر الاستشراق بني على أساس الفصل والتمييز بين الشرق والغرب، أمّا مهمّة هذا التمييز فتثبيت سيادة الغرب وتفوقه على الشرق... الحقيقة أنّ الاستشراق أو نظريات الغربيين حول الشرق، كانت انعكاسًا لتحكّم الغرب وسيطرته على الشرق، ولطالما سهلت هذه السيطرة(1) .
على الرغم من أنّ موضوع الاستشراق بنظر زماني يعود تاريخه إلى ستة قرون قبل الميلاد(2)، لكنّ الاستشراق كنشاط منظم وعدائي يعود إلى العام 1933م، حين قرّر المجمع العلمي المسيحي في فيينا افتتحاح كرسي في كل جامعة من جامعات عواصم الغرب الكبرى لتعليم اللغات العربيّة واليونانية والعبرية، ليصبح بالإمكان التغلغل بين العرب، وتنصيرهم(3). يصوّر دسوقي أيضًا أربعة مراحل للاستشراق: 1) المرحلة الأولى بعد فتح المسلمين الأندلس، وازدهار الحياة العلمية في تلك الديار 2) المرحلة الثانية بعد الحروب الصليبية، حتى القرن الثامن عشر الميلادي؛ 3) المرحلة الثالثة من منتصف القرن الثامن عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ 4 )والمرحلة الرابعة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال مستمرة. وللمرحلة التي أعقبت الحروب الصليبية خصوصيتها (4) .
إنّ الشرق الذي اختلقه هذا الخطاب شكل موضوع بحث وتحقيق لعدد كبير من منتقدي الاستشراق، وبالأخص إدوارد سعيد الذي كان على رأس مفنّدي موضوع الاستشراق. يرى سعيد أنّ الاستشراق كما يدلّ تاريخه، قد بذل المساعي
ص: 100
الحثيثة ليحول التلقين والفرضيّات إلى حقائق لا جدال حولها»(1). هذه الإملاءات والفرضيّات موجّهةً بصورة عامة إلى العالم الإسلامي، لأنّ الاستشراق توليف خطابين هما: الخطاب المسيحيّ اليهودي والخطاب الاستعماريّ. إنّ بصمة الاستعمار في الاستشراق بارزة للأسباب والدوافع نفسها التي تحضر فيها الكنيسة» (2) . وعلى الرّغم من غلبة التوجه الاستعماري في مفهوم الاستشراق المتأخر، لكن مبادئه بشكل عام متسترة بالتوجهات الكنسيّة التبشيرية التي كانت تسعى إلى تنصير العالم الإسلامي:
يجد الباحث في تاريخ الاستشراق، انّ عليه أن يخطو أولى خطوات البحث من الكنيسة، فيعلم أنّ الجيل الأوّل من المستشرقين كان من الرهبان والقساوسة، ومن ثمَّ يصل إلى واقع مفاده أنّ بعض المستشرقين كانوا منذ البداية ولا يزالون من اللاهوتيين المسيحيين واليهود(3).
إنّ التبشير المسيحي والاستشراق تياران متكاملان ومتداخلان، لا يمكننا الفصل بينهما؛ فهذا يفتح الطريق بما يضعه في متناول الآخر من تحقيقات ومباحث ومعلومات، وذاك يقدّم الدعم بما يزرعه من شكّ في العقائد والأصول الإسلامية الأساسيّة، وفي الحياة العقائدية والأخلاقية للمسلمين، ليتمكن من نشر المسيحية في أوساطهم وتنصيرهم(4).
إنّ الاستشراق خطاب احتلّ حيّزاً واسعًا من النشاطات الإنسانية، من كتابة التاريخ وتدوينه إلى اللاهوت فالفنّ لا سيّما السينما، ومجموعةً من الطموحات العالمية التي سعت في أوج عزّها إلى تسخير كلّ شيء، وبالأخص ال_«غير» [الآخر]. في كلّ عمل من هذه الأعمال، بحسب أرضيّته بذلت المساعي الحثيثة لتقديم المسوّغات لتحقير الشرق وبالأخص الإسلام، وانتهاك حرمة الرموز الإسلامية، لا سيّما نبي الإسلام؟؛ زرع الشكَّ في وحيانية القرآن ومدح أنظمة سياسية محدّدة في التاريخ
ص: 101
الإسلامي، ومن ضمنها الحكم الأموي؛ تأسيس منابر في الجامعات الاوروبية باسم منبر العلوم الإسلامية التاريخيّة؛ تعزيز الصراع المذهبي، والتناقضات الداخلية في الإسلام؛ تشويه شخصية مسلمي الشرق الأوسط في العصر الحاضر؛ التجريح بجدوى المفاهيم المبدئيّة في الإسلام كالحجاب والجهاد؛ تقديم صورة عن الإسلام إرهابية ومناقضة للحضارة والمدنيّة؛ تعزيز تبعيّة النخب والعلماء المسلمين للعلوم التي ينتجها الغرب، والتي تعالج مختلف المواضيع الإسلامية، وغير ذلك... إِنّ خطاب الاستشراق محوره الكتابات التاريخية والفلسفية واللاهوتية، والرواية والقصة، والفن ولا سيما السينما(1).
الاستغراب وأبعاده
ني
يمكننا أن نعرف شكلين عامين للاستغراب : النقدي وغير النقدي. إذا تقرر أن يُنمّى علم الاستغراب ويُعزّز بصفته أحد فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، فالحاجة ماسة إلى التسليم بواقع مفاده أنّ الاستغراب يختلف موضوعًا وأسلوبًا عن الاستشراق، علمًا أنْ لا مجال لإنكار كون الاستشراق والاستغراب وجهين لعملة واحدة. فطرح خطاب الاستشراق مثلاً وتقويمه، يشكل جزءًا من موضوع الاستغراب. وحين يتم تعريف وتقويم الماهيّة العدوانية للغرب من الطبيعي أن تتوضّح من خلال هذا التعريف ماهيّة الغرب أيضًا. لهذا السبب يؤمن آهيسكا بالحوار والتفاعل بين الاستغراب والاستشراق. ففي كلا الاتجاهين يمكن طرح علاقات القوة السلطوية بموضوعات مثل «الأنا» و«الآخر»(2). مع ذلك، في الظروف والأوضاع الحالية، الاستشراق ماهيته
«عدائية»، والاستغراب ماهيّته «دفاعيّة» ، لذا يجب القول إنّ الاستغراب لا يمكنه ان يلجأ في تقويمه للغرب إلى الأساليب والأنماط الاستشراقية. من ناحية أخرى، وبناءً على المباحث المذكورة آنفا، والقائلة إنّ إيديولوجيا الشرق غير عدوانية الاستغراب يختلف عن الاستشراق معنى وتوجها.
ص: 102
إن نحن عدنا إلى المصادر والنصوص العلميّة يمكننا العثور على تعريف عام للاستشراق أي خطاب العلم والسلطة الذي يسعى إلى تنظيم ديار الشرق الأسطورية على النسق الذي يريده؛ لكن في ما يتعلق بالاستغراب لا وجود لتعريف واضح لا لبس فيه. من بين الباحثين الشرقيين بذل كل من آهيسكا من تركيا وتوكلي طارقي من إيران، جهودًا لعرض نمط من الاستغراب في وطنه، نمط لا بد من أن يقدّم تعريفا للاستغراب. آهيسكا، في كتابه الذي تطرق فيه إلى تقويم الاستغراب في تركيا، عرف الاستغراب أنه أبعد من موضوع الاختيار من الحضارة الغربية، وأنه أبعد من المقاومة أو الثورة في مواجهة الغرب كما هو الحال في الشرق الأوسط . هو يرى «أنّ الاستغراب استراتيجيا ونهج وتكتيكات ذات اتجاهين خطابي وغير خطابي، يستخدمها «الشرقي» ردا على الغرب. بالنسبة إلى تركيا الاستغراب طريق للعودة إلى الأصالة، التي قضت عليها عملية التحديث، وهو في الوقت عينه مسعى لمواكبة التاريخ المعاصر(1).
بالنسبة إلى آهيسكا الاستغراب ليس فقط مرشدًا للسياسة بمعناها المحدود، بل هو المرشد لكم كبير من المواضيع بدءًا من تنشئة الأطفال، ومن العلاقات الأسرية وصولاً إلى الهُويّتين القوميّة والدينية، وفي أداء النخب كذلك من خلال بث البرامج الإذاعيّة(2). لذا فإنّ علم الاستغراب الذي يقصده آهيسكا إنما هو نوع من العودة إلى الذات بحذاء قوّة الغرب مالك العلم والتقانة الحديثين. أما توكلي طارقي فله نظرة مختلفة إلى موضوع الاستغراب في إيران. يمكن وصف نظريته بأنها غير نقدية كليًّا، تأتي في سياق عرض معرفة الإيرانيين بالغرب عرضًا ،وصفيّاً، كما أنّه استنادًا إلى مقالة كول(3) الاستغراب اللامرئي، وعلى مفهوم «العقلانية الغربيّة »لدى فيبر، تطرّق إلى تأريخ تعرّف الإيرانيين الغرب منذ بداية القرن الثامن عشر الميلادي، وما بعده؛ إنّها رؤية بشكل عام غير نقديّة للغرب(4) .
ص: 103
في التحقيق الذي أجراه سنوغراز حول موضوع البوذية والديانة الميجية في اليابان وعلاقة هذا الموضوع بالاستشراق والاستغراب، اعتمد مسبقا نهجًا يتراوح بين النقد والمسايرة ، وقدّم التعريف التالي للاستغراب:
«الاستغراب مصطلح يمكن استخدامه لوصف استعانة آسيا بالغرب؛ وهو مفهوم غيرمضاد للاستشراق »(1) .
وهو يقول بنوع من التساهل بالنسبة إلى الاستغراب في تقويمه له في بلاده:
إن إحدى مشكلات ظاهرة« الاستغراب »عدم التمييز بين القومية اليابانية وخطاب المستشرقين الغربيين بصدد البوذية (2). »
يتبين من فحوى الكلام أنّ الاستغراب لدى سنوغراز شكل آخر مختلف عن الاستغراب لدى آهيسكا وتوكلي طارقي. ويمكن عدُّ هذا النوع من الاستغراب شكلاً آخر من استغراب الغربيين أنفسهم. لا ينظر إلى الاستغراب بصفته عدوا وإنما بصفته بنية خاصة أنتجتها قرون خمسة من العمل الفكري. في هذا النوع من الاستغراب:
1- ليس هنالك من منحى خطابي بالنسبة إلى موضوع «الغرب» وإنما صدى للتوجّه الذي يجعل الغرب فيه ذاته موضوعًا ذاتيا، لا ليسيطر على موضوعه بل ليعرفه للآخرين.
2 إنّه توجه مبني بشكل عام على النرجسية(3)، ومسعى لتعريف الغرب بصفته مرشدًا للآخرين، يرشدهم إلى طرق العمل.
3 -الغرب هو المحور الذي تدور حوله الأمور المعرفية بأجمعها.
4 -ارتقى بنفسه من المستويات الفكرية إلى المستويات الإيديولوجية، ليصنع لنفسه مفاهيمها الإيديولوجيّة.
ص: 104
على العكس من هذا التوجه غير النقدي، أو الضئيل نقده، يُبرز فن الوجه النقدي للاستغراب، المبني على الأطر الفكرية لميشيل فوكو، والذي كان الأساس الذي ارتكز عليه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق. يقول فن آخذا في الحسبان موضوعي الاستعمار والرأسماليّة في تعريف الاستغراب:
إنّ الاستغراب من خلال هذه الرؤية فضاء مفهومي وتاريخي، يؤلّف الخاصة حكايته عن الموضوع وحكايته الخاصة عن التاريخ هذه الحكاية يمكن أن تصبح هدفًا لعدائية،الحداثة ،وأن تتأثر بها على مستوى العالم، بسبب الرؤية إلى العالم بناءً على المخطط الذي وضعته الحداثة والاستعمار الأوروبي (1) .
يتبين بوضوح من خلال تعريف فن أنّ الاستغراب الذي يرمي إليه ليس أنموذجا من المعرفة النقدية للغرب بوصفه (أي الغرب) حيّزا مكانيًّا مختلفًا عن الشرق وإنما يتضمن نظرة نقدية إلى حد ما؛ نقد لعدوانية الاستعمار والحداثة. إنّ تقويم فن للاستغراب يأتي في سياق نظرة علم معرفيّة بالنسبة إلى تشكل الحداثة بصفتها عرقاً خاصا هو العلم/القوّة السلطوية. مع ذلك، على الرغم من أن رؤيته مبنية على الأسس الفكرية لفوكو، لكن ليس بمعنى اتخاذ موقف حيال الغرب. نوع من إثنلجة الحداثة بصفتها بنية ناجمة عن العلم/ القوّة السلطوية ومرتبطة بالرأسمالية والاستعمار(2).
إنّ هذا الخطاب ذا الرؤية النقدية للغرب، حين يوضع على بساط البحث في العالم الإسلامي ، يتحوّل إلى خطاب يتجاوز البنى الفوقية للموضوع، محاولاً دخول مستوياته التأسيسية والإيديولوجيّة. وكما أنّ الغرب في الاستغراب غير النقدي يصبح المحور الذي تدور حوله الأمور المعرفية بأجمعها في هذه الرؤية النقدية يعرف الغرب بوجهه الإيديولوجي، المضاد للمفاهيم الإسلاميّة، وتوضع السيطرة الغربية والعدوانية الغربية موضع النقد الجدّي، الذي لا يزال دون ريب في مرحلة تشكله الأوّليّة. حاليا هذه الرؤية موجودة إنما بشكل مبعثر، وعلى نحو لا يتيح تقديم تعريف
ص: 105
لها ضمن خطاب ما أو مقولة ما بصورة عامة تشكلت في القرن المنصرم أشكال من المقاومة في البلاد الإسلامية في مواجهة الغرب ابتداءً من مواقف السيد جمال الدين الأفغاني وأقرانه كالشيخ محمّد عبده ورشيد رضا، وسيد قطب، وصولاً إلى انتصار الثورة الإسلاميّة وما أعقبها من قضايا في العالم الإسلامي.
بناءً على هذا المذهب الفكري، الغرب، إيديولوجيًّا، معاد للمبادئ الإسلامية. لهذا السبب، يجب مقاومته لصون الهوية الإسلاميّة. على الرغم من فاعلية هذه الاستراتيجيا سياسيا، لكنّها في مجال العلم والمعرفة بحاجة إلى الأرضية الملائمة وإلى الإنتاج العلمي. من هذه الزاوية في نطاق العلم والمعرفة الاستغراب النقدي المبني على الأسس والمبادئ الإسلامية، إمّا أنّه لما يتشكل، وإما أنّه عالج القضية بالمفرق، ويفتقد إلى المعالجةالمعمّقة . إذا تقرّر تعريف الخطوط العريضة لهذا المذهب الاستغرابي أي الاستغراب النقدي في العالم الإسلامي، فالفرضيات التالية هي الأهم:
1 -«الغرب» موضوع يتجاوز الفكر المتعلّق بمنطقة جغرافية خاصة، إنما له مبادئه القيمية الخاصة.
2 - الغرب بنية قولية مناقضة ليس فقط للمفاهيم الإلهية والإسلامية، وإنما أيضًا، وفي الكثير من الحالات لديها، على العكس مما تدعيه، الكثير مما يُناقض المفاهيم الإنسانية.
3 - الإمبريالية بعد من أبعاد البنية الخطابية الغربية، متغلغلة في مختلف النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية .
4- المفاهيم الإسلامية أفضل من المفاهيم الغربية سُبُلَ حلٌّ للمسائل الإنسانية والاجتماعيّة ، وبالأخص العدالة.
5-لقد ابتُلي العالم الإسلامي مؤخرًا بنوع من الانذهال السياسي والفكري، ومن الضروري أن يتخلّص من هذا الوضع. ومما يحتاجه للخروج من هذا المأزق معرفة الغرب معرفةً صحيحة.
ص: 106
الاغتراب النقدي، المقاومة والتحدّيات:
من الممكن بشكل عام عدّ حركات المقاومة التي واجهت الغرب في القرن العشرين وليدة نوع من اللاوعي التاريخي والاجتماعي للتصدي للغرب، وهي من هذه الزاوية نوع من الاغتراب النقدي. هذا الادّعاء سببه أيضًا أنّ الخطاب المسيطر على هذه المقاومات لا يعرف الغرب رسميًّا، وإنما هو منتقد جدّي له. علمًا أنّ هذه المعرفة مرتبطة بسطح القضايا. تُعرَّف مقاومة الغرب ونقده في إطار الدفاع عن الهوية الوطنية والاقتصادية والإسلاميّة، ولكنّها تحتاج إلى ارتياد مباحث ممنهجة ومعمقة معرفيا .
انطلاقا من المباحث المطروحة آنفا، يمكن القول إنّ الاستغراب النقدي، نوعٌ من الاغتراب الخاص بالدول الإسلامية في الشرق الأوسط. هذا النوع من الاستغراب يبحث عن نوع من العودة إلى الذات ليتمكن من الخلاص من سيطرة الغرب الفكرية والثقافية. يعرف إدوارد سعيد الحركات التحرّريّة في الشرق وفي العالم الإسلامي بأنّها مقاومة للإمبريالية الغربية، يقول:
من ناحية أخرى إنّ حركات التحرر التي قامت في القرن العشرين في الشرق وفي البلاد الإسلاميّة، كما يقول أنور عبد الملك قضت فعليًّا وعمليا على أفكار المستشرقين ونظرياتهم ، وفضحت الإمبريالية الغربية (1).
إنّ الاستغراب النقدي في العالم الإسلامي، هو الحجر الأساس المعرفي لمثل هذه المقاومات؛ إنّه مقاومةٌ تتصدّى لأسس علم الوجود الغربي. فهنالك مواطن خلاف بنيوية بين الإسلام والغرب في العديد من المقولات، ومنها تعريف الواقع وقوامه، وتعريف الإنسان والهدف من خلقه، وهدف الخليقة، وغير ذلك. هذه الفروقات غير موجودة بين الحضارات الأخرى والغرب، وإن وُجدت ففي الحدّ الأدنى. إنّ مقاومة الدول غير الإسلامية للغرب تهدف بشكل عام إما إلى المحافظة على مصالحها الاقتصادية، أو إلى الدفاع عن هويتها الثقافية. أما مقاومة الإسلام
ص: 107
للغرب. فتتضمن وجهًا إيديولوجيا وقيميَّا. وعلى هذا الأساس، لا يقتصر التناقض بين الإسلام والغرب على عدم الاعتراف بالقيم الغربية الأساسيّة، وإنما يذهب أبعد من ذلك، فهو على الضد منها بنيويا.
إنّ إدوارد سعيد يُعارض تشكل خطاب باسم الاستغراب، ويرى سبب ذلك فی حاجة الشرق إلى تعرّف الخطاب الاستشراقي، وعدوانيته، لتشكيل خطاب يسعى إلى خلق شرق آخر يُدعى الغرب:
أتمنّى قبل أيّ شيء آخر أن أبين لقرائي الأعزاء، أنّه لا يجب أن يحتل الاستغراب مكان الاستشراق( أي لا يجب جعل الاستغراب رداً على الاستشراق) فمَن كان في الماضي يحمل علامة «الشرقي» لن يعجبه هذا الفكر، وبما أنّه كان يُحسب شرقيًّا هو مستعد، وأكثر من الحدّ ، لدراسة «الشرقيّين»الجدد أي« الغربيين»الذين صنعهم وصقلهم بيديه. كأن معرفة الاستشراق معناها، كيف يمكن، وعلى أي نحو، أن ينجر مَن ضلّلته وأغوته هذه المعرفة، أو أي معرفة أخرى في أي مكان وفي أي زمان، نحو الابتذال والانحطاط. واليوم إمكانية هذا الانحطاط أشدّ ربما أكثر من أي وقت مضى(1).
ربما كان سبب معارضة إدوارد سعيد هو أنّ الاستشراق نفسَه يُعَدُّ بديلاً من ،الاستغراب، فحين يُعرف خطاب الاستشراق يُفهم مقدار كبير من ماهيّة الغرب.مع ذلك يبدو أنّ العالم الإسلاميّ على نحو خاص بحاجة إلى خطاب الاستغراب. خطاب تحليل موضوعه يفوق التحليلات الموجودة في الاستشراق.
من الواضح أنّ الاستغراب سيُتيحُ للعالم الإسلامي فرصة جديدة سيُعرف لنا ماهيّة،الغرب، وعلومه، لا سيّما علم الوجود وعلم المعرفة، ونهج ظاهرة تُدعى «الغرب». مع ذلك هنالك تحدّيات وعوائق تواجه الاستغراب في العالم الإسلامي بشكل خاص ؛ التحدّيات الأساسية في هذا المجال هي:
1- مكانة الاستغراب وأجواؤه اليوم تختلف عن ظروف الاستشراق في القرن الماضي.
ص: 108
2 - التصدّي للغرب تصدّ لظاهرة مسلّحة بالعلوم والفنون، وبشكل خاص العلوم الإنسانيّة المعقدة، المنظر لها. لذا، فإنّ الغرب ظاهرة معقدة، هلامية ومتعدّدة الوجوه.
3 - العالم الإسلامي يواجهه فقر في التنظير ، وهذا الفقر النظري أدّى إلى أن يبقى الموقف المتخذ في مواجهة الغرب محصورًا في إطار المواضيع القيمية، بدلاً من أن يكون مبنيا على أسس نظرية مدوّنة، مرتكزة على مباحث علوم المعرفة والوجود والمنهج. ولا يمكن الشروع بتعرف الغرب، اعتمادًا على المواقف القيمية المحضة.
4- النظريات الجديدة في الغرب، عثرت على حيّز من الهلامية الفكرية، وهذه الهلامية معرفتها ليست بالأمر السهل إنّ استخدام الأنماط اللاخطية (Nonlinear) والمنطق المشوّش أو الضبابي (Fuzzy logic) والنظرية السلكية أو الخطية (String theory)، ونظرية التعقيد(Complexity)، ونظرية الفوضی(Chaos theory) فی التحليلات الاجتماعية، والأنماط المقولبة المبنيّة على هذه النظريات، قد أتاحت كلّها للغرب الفرصة كي يكون تعرّفه أمرًا صعبًا بالنسبة إلى العالم الإسلامي والشرق.
5 - الاستغراب كما أشرنا من قبل، مفهوم مختلف عن الاستشراق. فهو، قبل أن يكون عملاً عدائيا، عمل دفاعي بشكل عام للمحافظة على هويتنا وصونها، ولهذا الأمر سببان:
1) الغرب، أصالة، موضوع وظاهرة عدائية.
2 )عرف الشرقُ الغرب من موضع دوني (من حيث التنظير وتعرف المباحث العلم معرفية وما شابهها ...).
وهل بإمكان مَن هو في وضع متدن تعرّف عدوانيّة جموحة؟ الجواب عن هذا السؤال ليس سهلاً، أو هو على الأرجح جواب سلبي.
6 -إنّ أرضية الاستغراب النقدي الإسلامي، تختلف عن أرضية الاستشراق. ففي الوقت الراهن، حيث يتموضع العلم والمعرفة في الغرب وفي الفكر الغربي، يحتاج
ص: 109
الاستغراب النقدي إلى أنْ يُفصَلَ عن تلك الحاضنة، وإلى طرح أرضية مختلفة وحاضنة محلية، لتقديم خطاب مختلف عن العلم والفكر الغربيين الموجودين في الاستشراق فمعرفة الغرب تحتاج إلى معرفة أبعاده كلها ومن بينها الاستشراق. مع ذلک يجب أن يُفصل الاستغراب النقدي من حيث كونه مبنيا على مفاهيم قيميّة خاصة عن أرضيّة الاستشراق ذات المفاهيم القيمية الخاصة بها (العدوانية الغربية، والثقافة الغربيّة، وإيجاد أرضيّة مختلفة لطرح القضية ومنهج التحقيق، ووضع النظريات. هذه الأرضيّة من أهم احتياجاتها الأولية معرفة الغرب الوافية، بأبعاده كلّها ومن ضمنها الاستشراق.
طرح أفق جديد:
في عصرنا، الجهاد الفكري حاجة ملحة، لنصدّ بواسطته الاجتياح الكاسح الفكري والثقافي المتعدّد الألوان والأشكال لذواتنا ومجتمعاتنا. وهذه المسؤولية المهمة تقع على عواتق العلماء والمفكرين والباحثين المسلمين كي لا تكون على الأرض فتنة ويكون الدين كله لله(1). هذه المقالة ترى إلى الاستغراب النقدي موضوعًا معقدًا، وأهمّ المسائل المتعلقة به قضيّة معرفة الغرب معرفةً دقيقة. هذه المعرفة يجب أن تُحرف عن التعريف الجغرافي (مثل معرفة أميركا الشمالية أو الجنوبية أو الشرقية أو الغربية)، باتجاه معرفة الغرب بصفته أرضيّة معرفية خاصة . تغيير الاتجاه يتطلب تعرف النظريات الغربيّة في المجالات المختلفة من التأريخ والفلسفة إلى علم النفس وعلم الاجتماع والمنطق، وغير ذلك من العلوم، ومن ضمنها علم الاستشراق. إنّ الأفق الجديد البديل يتضمن الاستراتيجيات التالية لإيجاد استغراب نقدي في العالم الإسلامي:
1)- يجب أن يحافظ الاستغراب النقدي على ما لديه من أخلاق المقاومة المبنية على القيم الإسلاميّة، وفي الوقت عينه يجب أن يوجه اهتمامه إلى المستويات الأكثر تأصيلاً أي إلى علم معرفة المقاومة.
ص: 110
2) من الضروري تعرّف الحاضنة الحالية للعلمانيّة التي يقوم علم المعرفة الغربي بإنتاج وإعادة إنتاج المعرفة في داخلها.
3) -تعرف النظريات الغربية، من النظريات الكلاسيكية في العلوم المختلفة وصولاً إلى النظريات الجديدة.
4)-تعرّف النظريات الجديدة التي تؤكّد بشكل عام على الأنماط اللاخطيّة والهلامية، التي يصعب حتما تعرف أسسها العلم وجوديّة.
5) للاستغراب وجه إيجابي أيضًا، وهو، مبدئيًا، الإجابة عن سؤال: ما هو «الشرق» أي الإسلام والتراث الإسلامي، وما هي المسافة الفاصلة بينه وبين مثله وتطلعاته.
6)- الاستغراب النقدي في العالم الإسلامي يحتاج إلى عمل تنظيري معرفي واسع مصدره «نحن». ومع الأخذ في الحسبان الفقر في النظريات، نحن نحتاج إلى وضع نظريات في جميع فروع العلوم الإنسانية.
7)- العلم الغربي، لا سيّما علم الاستشراق يؤدّي دور عجل السامري، وحين نتمكن نحن من العثور على علم استغراب دقيق، لا نعود بحاجة لأن نتغدى من هذا العجل. لذا فإنّ أرضيّة الاستغراب النقدي تحتاج إلى مفاهيم خاصة بنا في ما يتعلق بعلم الوجود وعلم المعرفة وعلم الإناسة وعلم القِيَم، أي إلى «نظريات إسلامية» بشكل عام. إذًا علم الاستغراب تعوزه النظرية.
استنتاج
إنّ موضوع علم الاستغراب يواجه حاليا بالنسبة إلى أي حضارة، لا سيّما بالنسبة إلى الحضارة الإسلاميّة تحدّيًا وأصولية تُدعى العلمانية والغربية. إنّ الغرب بنية عدوانية هجومية نقلت عناصر هويتها إلى جميع مفاصل المجتمعات وعروقها، ومن ضمنها المجالات العلمية والمعرفية. فإذا اعتمدها الاستشراق، فإنّ تلك المواجهة لن تفضي إلى أي نتيجة، ولن تتمخض عن شيء، لأنّ الغرب كعجل السامري، الذي
ص: 111
أذهل الجميعَ سحر الجواهر التي صُنع منها، وحاجات هذا العالم الإنساني التي يلبّيها في الوقت الحاضر حاجات صنعيّة. وطالما أن المجتمعات كلها، ومن ضمنها المجتمعات الإسلامية، تتغذى من حليب هذا العجل ولحمه، فإنّ أيّ نظرية نقدية لن تفضي إلى أي نتيجة. لن يُحسَب الاستغراب في العالم الإسلامي هوية فكرية ومعرفية مستقلة، إلا حين يخرج من الشبكة الفضفاضة التي اصطاده الغرب بها، الشبكة المتعلقة والمرتبطة بها كل الأمور والشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لذا فإنّ الاستغراب النقدي يحتاج إلى شبكة مترابطة من المفاهيم والبنى الإنسانية والاجتماعية، بإمكانها أن تطرح من دون الحاجة إلى حلبي عجل السامري، بنيانًا معرفيا حديثًا ينافس الاستشراق؛ بعبارة أخرى يجب أن يكون الاستغراب النقدي مستقلاً في أموره كلها عن الغرب ليصبح قادرًا على أن يتعرف الغرب بصفته موجودًا مستقلاً وهويّة مستقلة لا يعني هذا حتمًا إنكار اكتشافات الغرب وإبداعاته العلمية والمعرفية. فالغرب له وجهان عامان شاملان، أحدهما الطبيعي، وجه العلم والمعرفة، والآخر وجهه الإيديولوجي. يجب أن يعرف الاستغراب الانتقادي وجوهَ الاختلاف في هذه الحالة سيتشكل طرح ابيستيمولوجي اسمه
« الاستغراب النقدي».
المصادر والمراجع :
-افتخار زادة محمود رضا،«مقدّمة عن خدمة الاستشراق وخيانته» مقالة منشورة فی سیر تاریخی اندیشه و ارزیابی شرق شناسى [المسار التاريخي للفكر الاستشراقي، وتقويمه]، طهران منشورات هزاران 1376ش [1997م].
- إيمان، محمد تقي، وأحمد كلاته ساداتي، منهجية العلوم الاجتماعية في الإسلام لمحة عن نظرية مسعود العالم تشودهاري، مقالة منشورة في مجلة روش شناسی علوم انسانی [منهجية العلوم الإنسانية]، قم: مركز بحوث الحوزة والجامعة، العدد 63، 139ش[2010م].
- إيمان، محمد تقي ، وأحمد كلاته ساداتي، «جولة في الإيديولوجيا والعلم»،
ص: 112
مقالة منشورة في مجلة معرفت فرهنگی و اجتماعی [المعرفة الثقافية والاجتماعية]، العدد 4، 1389ش [2010م].
-إيمان، محمد تقي، وأحمد كلاته ساداتي ،« دراسة تطبيقية حول مسؤولية العلوم الاجتماعية في الإسلام والغرب»، مقالة منشورة في مجلة روش شناسی علوم انسانی
[منهجيّة العلوم الإنسانيّة]،قم مركز بحوث الحوزة والجامعة، العدد 69، 1390ش[2011].
- إيمان، محمد تقي، وأحمد كلاته ساداتي، «منهجية العلوم الإنسانية لدى المفكرين المسلمين » (عرض نمط أنموذج من علم المنهج في العلوم الإسلامية)، قم مركز بحوث الحوزة والجامعة، 1392ش [2013م] .
-جوادي آملي، عبد الله، معرفت شناسی در قرآن [علم المعرفة في القرآن]، قم،منشورات إسراء، 1378ش [1999م].
-زاهد، سعيد، واحمد کلاته ساداتي،« أسلمة العلم لدى عطاس وفاروقي (دراسة تطبيقية)»، مجلة مطالعات معرفتی در دانشگاه اسلامی [ دراسات معرفية في الجامعة الإسلامية]، 1391ش [2012م]، العدد 50، ص 16.
-زماني محمد حسن آشنائی با استشراق و اسلام شناسی غربیان [تعرف الاستشراق وعلم معرفة الإسلام لدى الغربيين] ، قم ، 1388 ش [2009م]، منشورات المصطفى الدولية.
- دسوقي، محمد، سیر تاریخی و ارزیابی اندیشه شرق شناسي [المسار التاريخي للفكر الاستشراقي، وتقويمه]، ترجمه بالفارسية محمود افتخار زادة، طهران، منشورات هزاران.
- سعيد، إدوارد، شرق شناسی شرقی که آفریده غرب است [الاستشراق؛ الشرق الذي خلقه الغرب]، ترجمه بالفارسية أصغر عسكري خانقاه وحامد فولادوند،
ص: 113
طهران، 1361ش [2082م]، مؤسسة مطبوعات عطائي.
-شایگان ،داریوش،افسون زدگی جدید [خرافة الحياة الجديدة]، ترجمته بالفارسيّة فاطمة ولباني ،طهران 1386 ش [2007م] نشر وتحقيق فرزان روز.
-گلشني ،مهدي ،از علم سکولار تا علم دینی [من العلم العلماني إلى العلم الديني]، طهران، 1388ش [2009م]، مركز بحوث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية.
Ahiska. M. (2010). Occidentalism in Turkey. questions- of Modernity and National Identity in Turkey Radio_Broadcasting، London: I. B. TaurisPublishers.
Choudhury. M. A (1995). The Epistemic Ontic Circular -
Continuity World View of Tawhidi Methodology in the Natural and Social Sciences' in M. A. Choudhury (ed.). The Epistemological Foundations of Islamic Economic, Social and Scientific order. Vol. 4. Ankara: Statistical. Economic and Social Research and Training Center for Islamic Countries.
(1997)؛Choudhury،M.A-
Money in Islam A Study in Islamic .
Political Economy، London and New York: Routledge.
Choudhury، M. A. (1998). Studies in Islamic Sciences- London: Macmillan.
Choudhury، M. A. (2006). Belief and knowledge -formation in the Tawhidi uperspace'. The Koranic Principle of Complementarities Applied to Social and Scientific Themes. Scienc and Epistemology in
.the Qur'an Lewiston، NY: The Mellen Press.
ص: 114
Choudhury, M. A. (2007). The Universal Paradigm and- Islam World- System Economy. Society. Ethics and Science. World Scientific Publishing Vo. Ltd. British Library Cataloguing in- Publication Data.
Cole J. R. (1992). Invisible Occidentalism: eighteenth -century -Indo- Persian constructions of the West. .Iranian Studies. No. 25.
Jafari M. F. (1992). Counseling Values and Objectives- A comparison of Western and Islamic Perspective'. A Paper was presented at National Seminar on Islamic Counseling Selangor, Malaysia. 17 December 1992. published in AJISS: Vol. 10. No. 3.
Kamali. M. H. (2003). Islam. Science and Rationality: A- .Brief Analysis' Islam Sciences Vol. 1, No. 1
Said. E. (1977). Orientalism. London: Penguin-
Sardar. Z. (1977). Science. Technology and- Development in the Muslim World. New Jersey: .Croom Helm. London: Humanities Press.
Snodgrass. J. (2003). Presenting Japanese Buddhis to the west. Orientalism.
Occidentalism and the Volumbian Exposition.- Chapel Hill: the University of North Carolina Press.
Tavakoli-Targhi. M. (2001). Refashioning Iran- Orientalism. Occidentalism and Histography, st Antony's Series. Oxford.
Venn C. (2000). Occidentalism. Modernity and Subjectivity. London: Sage Pub.
ص: 115
ص: 116
ا.د. مصطفى النشار(1)
حينما يكاد يخيم الظلام علي فكر المصريين ويمنعهم من رؤية الحقيقة فإن الله يقيض لهم طاقة نور تهديهم إلى الطريق المستقيم وتنتشلهم من عتمة الظلام إلى نور الحقيقية الوضاء.
وقد كان الإمام الشيخ محمد عبده هو طاقة النور التي فتحت أعين المصريين علي عصر جديد في الفكر والعقيدة معا؛ فهو الإمام المجدد في الخطاب والفكر الديني، كما هو ذلك الفيلسوف صاحب الموقف الفلسفي من كان ما في العصر من طريقة في التعليم اعتبرها عقيمة وغير مجدية، إلى نظام سياسي كرس التبعية وجثم علي صدر المصريين اعتبره نظاما استبداديا، إلى فهم مغلوط للقرآن اعتبره آفة المفسرين ورجال الأزهر ورجال الدين، فدعي إلى إعادة النظر فيه وقدم أمثلة علي هذا التجديد المنشود في تفسيره لبعض أجزاء القرآن وفي فتاواه الشهيرة، كما طالب بتطوير النظام التعليمي ليدخل فيه العلوم العصرية رياضية كانت أو طبيعية حيث أن القرآن دعى المؤمنين إلى اتخاذ العلم سلاحا للتقدم والعقل وسيلة للفهم الإبداع.
إنه الإمام المجدد، والفقيه المجتهد والفيلسوف الداعي للعقل والعلم ومدنية الدولة وقبل أن نتعرف علي هذه الوجوه المتعددة لمحمده عبده لنتساءل بداية عن
ص: 117
حياته وكيف تطور فكرة خلال هذه الحياه التي كانت قصيرة في عمر الزمن وان كانت عظيمة الأثر جليلة القدر عند كل من تعرف علي إنجازات صاحبها وبصماته التي لاتزال وستظل تفعل فعلها في كل من يطلع علي آثار صاحبها وأفكاره التجديدية التنويرية الملهمة.
أولا :حياة الإمام وتطوره الفكري (1):
ولد محمد عبده عام 1849م (1266ه_) لأسرة عريقة من أهالي محلة نصر بمركز شبرا خيت من مديرية البحيرة؛ فهو ابن عبده خير الله أحد أعيان هذه القرية ولأم ذات أصول عربية عريقة حيث تنسب إلى قبيلة بني عدي وتعود في نسبها إلى الخليفة عمر بن الخطاب، ورغم أن أسرته لم تكن ثرية بمعايير ذلك الزمان، إلا أنها كانت مضرب الأمثال في الكرم والورع والشهامة.
ونستطيع أن ننظر إلى حياة الإمام علي أنها تطورت عبر عدة مراحل، أولها مرحلة النشأة والتلمذة، وثانيها مرحلة الأستاذية والانخراط في الحياة العامة وثالثها مرحلة التنقل والترحال ورابعها مرحلة الاستقرار بمصر والاشتغال بالمناصب الرسمية الكبرى.
أما المرحلة الأولي فتبدأ منذ نشأة الإمام في تلك الأسرة العريقة حيث أراد له والده منذ البداية تنشئة علمية فعلمه القراءة والكتابة في المنزل ثم انتقل إلى دار حفظ القرآن
(الكتاب) حتى أتم حفظه في عامين اثنين كما يروي لنا ذلك بنفسه في سيرته الذاتية، وبعد ذلك حملة والده للذهاب إلى طنطا ليكمل تعليمه في المسجد الأحمدي تحت رعاية أخوه لأمه وكان قد بلغ حوالي الثالثة عشرة من عمره؛ حيث يروي لنا هو أنه قد بدأ تعلمه في المسجد الأحمدي عام 1279 حيث تعلم في البداية
ص: 118
فنون تجويد القرآن، ثم بدأ من عام 1281ه_ الجلوس في دروس العلم حيث تلقى شرح الكفراوي علي الأجرومية، وقضى في ذلك عام ونصف العام تعثر خلالها، أنه يقول حتى أنه لم يكن يفهم شيئا «الرداءة طريقة التعليم حيث كان المدرسون يفاجئونهم بمصطلحات نحوية أو فقهية لايفهمونها» .
مما ترتب عليه أنه أدركه اليأس من النجاح في هذا المجال وهرب عند أخواله مختفيا مدة ثلاثة شهور، ولما عثر عليه أخوه الشيخ مجاهد حاول أن يعيده إلى المسجدالأحمدي مرة أخرى ولكنه رفض وعاد إلى بلدته محلة نصر» علي نية ألا يعود أبدأ إلى طلب العلم، فقد قر في عزمه آنذاك أن يشتغل بملاحظة الزراعة كما كان يشتغل الكثير من أقربائه.
ولما عاد إلى قريته تزوج أملاً في الاستقرار في القرية، لكن والده أبى عليه ذلك وأصر علي أن يصطحبه أحد أقربائه الأشداء بعد أربعين يوما من زواجه علي صهوة حصان وشيعه بنفسه من محطة سكة حديد إيتاي البارود ليركب القطار المتجه إلى طنطا، لكنه تعلل لهذا المرافق بشدة الحر وطلب أن يستريحا ولما رفض طلب إليه أن يعود هو إلى القرية بصحبة الحصان وهو سيتجه إلى طنطا صبيحة اليوم التالي بعد أن يقضى الليلة مع أقربائه ببلدة غالب.
ولكن ما حدث أنه استقر هناك خمسة عشر يوما كاملة التقى خلالها بالشيخ درويش الذي حول اتجاهه إلى العلم مرة أخرى، فلقد جاءه الشيخ درويش هذا ومعه کتاب لأحد أساتذته من الصوفية وأعطاه إياه ليقرأه تمنع صاحبنا في قراءة ما فيه يومين ولما ألح عليه الشيخ درويش وأخذ يشرح له معانيه حتى استقر في نفسه أهمية العلم والتبحر فيه لأن هذا الكتاب الصوفي احتوي علي معارف الصوفية وحديثهم عن آداب السلوك وكيفية ترويض النفس على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذائل، ولما أتى اليوم الخامس كان قد قرر البعد عن الشطط وعاد مرة أخرى إلى حب المطالعة والفهم فسأل شيخه الشيخ درويش في اليوم السابع عن طريقتهم الصوفية، فقال طريقتنا الإسلام ، ولما تساءل صاحبنا أليس كل هؤلاء بمسلمين؟
ص: 119
رد الشيخ قائلا: لو كانوا مسلمين لما رأيتهم ينازعون علي التافه من الأمور ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب!
ولما سمع صاحبنا هذا الكلام «كان - وكما يقول هو - كالنار التي أحرقت جميع ما لدي من المتاع القديم متاع الدعاوى الباطلة والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون وان كنا في غمرة ساهية».
لقد كانت هذه الأيام أياما فارقة في حياة صاحبنا لدرجة أنها وجهته وجهة أخرى كان يتصور أنه لن يعود لها بعد، وجهة التعمق في المعرفة الدينية، فلقد أخرجه هذا الشيخ - كما يقول هو - من سجن الجهالة إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى أخلاق التوحيد ولقد عاد بعدها إلى طنطا والمسجد الأحمدى مرة أخرى ولكنها فيما يبدو كانت عودة مختلفة حيث وجد نفسه للمرة الأول يفهم ما يقرأ وما يسمع لدرجة أنه تحول إلى من يطالع لرفاقه الدروس ويشرح لهم المعاني.
وذات يوم وهو في غمرة ذلك رأي درويشا مجذوبا قال له قولة وجهته للدراسة في القاهرة، لقد قال له هذا الدرويش دون أن يعرف من هو «ما أحلي حلوى مصر البيضاء» ففهم من ذلك أنه عليه أن يتجه إلى القاهرة لاستكمال تعليمه بالأزهر الشريف، وقد كان حيث سافر إلى القاهرة في منتصف شوال من عام 1282ه_ حيث بدأ يتلقى العلم هناك علي أيدي أساتذة الأزهر وشيوخه مع المداومة علي العودة إلى قريته كل شهرين حيث كان يلتقي في أيامه بالقرية بالشيخ درويش فيتبادلا المعرفة والدرس معا، والطريف أن هذا الشيخ كثيرا ما سأل صاحبنا، «أما درست المنطق، أما درست الحساب، أما درست شيئا من مبادئ الهندسة ولما أخبره صاحبنا بأن هذا العلوم ليست معروفة في الأزهر قال له التمس هذه العلوم عند من يعرفها.
علي كل حال فقد كان صاحبنا قد أصاب في السنوات الثلاث التي قضاها في الأزهر إلى هذا الحين ثلاث سنوات حظا غير قليل في دراسة العلوم النقلية والعقلية وخاصة علي يد الشيخ درویش خضر السابق ذكره والشيخ محمد الرفاعي
ص: 120
والشيخ عليش والشيخ حسن الطويل الذي كان عالما حاد الذكاء عارفا بالرياضيات والهندسة والفلسفة القديمة ملما بمصطلحاتها والشيخ محمد بسيوني وغيره من العلماء واشتغل هو نفسه بدراسة علوم اللغة والفلسفة والمنطق والتوحيد ووجهته هذه الدراسات المستقلة وجهة اجتماعية وفكرية وإدارية ووطنية وسياسية جديدة وقد عظمها في نفسه حقا اللقاء بالسيد جمال الدين الأفغاني الذي صاحبه في أول زيارة له لمصر سنة 1287ه_ وأخذ يتلقى عنه منذ ذلك الحين بعض العلوم الرياضية والفلسفية، وكم عاني من جراء ذلك هو وأستاذه جمال الدين من نقد وأقاويل تشكك في أهمية هذه العلوم ولما كان يعرض ذلك علي شيخه الأول الشيخ درويش في بلدته كان يشد من أزره قائلا له: ما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة.
وعلى كل حال فقد واصل صاحبنا دراسته في الأزهر تحت رعاية هؤلاء الشيوخ الأفاضل حتى حصل علي شهادة العالمية الأزهرية عام 1294ه_، وذلك بعد حوالي اثني عشر عاما من التحاقه بالدراسة فيه.
وهنا تبدأ المرحلة الثانية من حياة فيلسوفنا الفكرية حيث بدأ مرحلة الأستاذية من حياته عقب تخرجه وحصوله علي هذه الشهادة العالمية من الأزهر حيث انتقل من كرسي التلميذ إلى ممارسة دور الأستاذ وقد كانت دروسه في الجامع الأزهر تكتسب طابعاتجديد يا حيث علم فيها المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يقرأ علي تلاميذه تهذيب الأخلاق المسكويه في الوقت الذي كان يقرأ عليهم أيضا جانبا من تاريخ أوروبا حيث كان يدرس لهم كتاب فرانسوا جيزو تاريخ المدنية في أوروبا وفرنسا» الذي كان قد نقله إلى العربية حينئذ نعمة الله خوري تحت عنوان التحفة الأدبية في تاریخ تمدن الممالك الأوروبية».
وحينما عين مدرسا للتاريخ في مدرسة دار العلوم حديثة النشأة حينذاك درس لطلابه مقدمة ابن خلدون كما ألقى من خلالها ومن خلال بعض المصادر الغريبة دروسا في فلسفة التاريخ لم يحفظها لنا التاريخ للأسف، وقد عين الإمام أيضا مدرسا في الألسن لكنه تخصص فيها في تدريس اللغة العربية والأدب العربي والثقافة الإسلامية.
ص: 121
وفي هذه المرحلة أيضا لم ينس الإمام المشاركة في الحياه الاجتماعية والسياسية حيث بدأ الكتابة لجريدة الأهرام منذ إنشائها عام 1876م، وكانت مقالاته كلها تتخذ طابعا إعلاميا وتنويرا واضحا حيث كانت من أوائل مقالاته فيها عن «الكتابة والقلم»، ومقال عن «المدبر الإنساني والمدبر العقلي الروحاني» ومقالا عن «العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية »إلى غير ذلك عن المقالات التي تحض جميعها علي التغيير واتخاذ العقل أساسا لحياة علمية واجتماعية سليمة.
وربما كانت هذه المقالات الصحفية هي مادعا رياض باشا رئيس النظار لاختياره لرئاسة تحرير جريدة الوقائع المصرية وهي التي كانت بمثابة نشرة رسمية لأخبار الدولة فحولها الشيخ الإمام إلى جريدة تكتب فيها المقالات الأدبية والاجتماعية حيث أنشأ فيها قسما غير رسمي لنشر هذه المقالات الإصلاحية التنويرية وشاركه فيها سعد زغلول والشيخ عبد الكريم سلمان وغيرهما، وقد نشر فيها هو نفسه مقالات ينتقد فيها أداء بعض أجهزة الحكم وخاصة الأجهزة المشرفة علي نظارة وزارة المعارف، وقد ترتب علي هذه المقالات النقدية لنظارة المعارف إنشاء المجلس الأعلى واختياره عضوا فيه. كما نشر فيها أيضا مقالات تهتم بنقد ما هو غير مستحب من أخلاق وعادات اجتماعية وسياسية ودينيةوتحدث كذلك عن ما يصلح لمصر من نظم للشورى السياسية.
وقد ازداد نشاط الشيخ محمد عبده في هذه الفترة حيث بدأ الكتابة لكل الصحف المعروفة آنذاك، والمشاركة في عشرات المجالس والاتصال بالهيئات المختلفة حكومية ومدنية، فكان شعلة من الناشط والممارسة للعمل والجدية في التعبير عن آرائه الإصلاحية والدفاع عنها، وكان بكل هذا النشاط الإصلاحي التنويري سببا من أسباب قيام الثورة العرابية. وحينما أدرك خصومه ذلك قدموه للمجاكمة معتبرين إياه من زعماء الثورة وكان نتيجة هذه المحاكمة أن قضى فى السجن ثلاثة شهور للتحقيق ثم صدر الحكم بنفيه ثلاث سنوات خارج مصر.
وهنا تبدأ المرحلة الثالثة من حياته؛ مرحلة التنقل والترحال، حيث بدأت هذه
ص: 122
المرحلة بالتوجه أولا إلى بيروت وكان ذلك عام 1883م، وكان عمره آنذاك حوالي أربعة وثلاثين عاما. وقد بدأ اثناء مقامة في بيروت بالتدريس في المدرسة السلطانية وبشرح أمهات الكتب مثل« نهج البلاغة» و «ديوان الحماسة» و«مقامات بديع الزمان»، كما قيل أنه ألقى بعض الدروس في المسجد العمري في تفسير القرآن الكريم علي نحو غير مسبوق.
وكذلك ألقى دروسا في التوحيد جمعت بعد ذلك في كتابه «رسالة التوحيد»، ثم ترجم رسالة الأفغاني «الردّ علي الدهريين »عن الفارسية وسرعان ما دعاه السيد جمال الدين الأفغاني إلى باريس. وهناك اشتركا معا في تأسيس أهم دورية عربية فی ذلك الزمان والمكان هي مجلة العروة الوثقى وقد كان لهذه المجلة تأثيرا واسعا في إنارة الأفكار مما أقلق الإنجليز والفرنسيين، وبالطبع فقد اختلفت كتابات الإمام في هذه المجلة عن كتاباته في «الوقائع» حيث شغل في الأولى بقضايا الإصلاح لكل العالم الإسلامي وحاول في مقالاته فيها الكشف عن الوجه الحقيقي الصافي للإسلام،ذلك الوجه الذي لايتعارض مطلقا المدنية ولا يعوق التقدم بل يحض عليهما ويدفع إليهما .
ومن باريس سافر الإمام إلى لندن وخطب في البرلمان الإنجليزي وهو يرتدي عمامته الشهيرة، كما التقى بالكثير من رجال الصحافة والإعلام والمثقفين وأوضح للجميع مدى كراهية المصريين للحكم الأجنبي وهدد بعدم دفع الضرائب من المصريين مما يجعل الحكم الأجنبي مستحيلا وأكد لهم أن العقيدة الإسلامية تحرم علي صاحبها الاستسلام للغير.
ولكن يبدو أن كل ذلك لم يكن فيه جدوى حيث ظل الاستعمار الإنجليزي موجودا دون أن يتزحزح، وبدأ الإنجليز في اضطهاده واضطهاد مجلة «العروة الوثقى» أيضا فتوقفت المجلة عن الصدور بعد ثمانية عشر عددا من أعدادها.
وقد أحبط ذلك كلا من جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده فسافر الأول
ص: 123
إلى فارس، ورجع الثاني إلى بيروت حيث واصل هناك ما كان قد بدأه من رسالته الإصلاحية وخلق حركة علمية راقية في بيروت؛ فجعل من بيئته ندوة للبحث العلمي والأدب، واتصل بالجرائد وكتب في جريدة «ثمرات الفنون» مقالات عديدة وبالطبع فلم يخلو الأمر وهو علي هذه الحالة من النشاط العلمي المكثف النشاط العلمي المكثف من حسد الحاسدين وكيد الكائدين مما أدي بالشيخ الإمام إلى ترك التدريس مضطرا.
وبعد أن قضى الإمام هذه السنوات الست في السفر والترحال مضطرا، عاد إلى مصر عام 1989، ليعاوده بنفس الهمة والنشاط دوره التنويري وليبدأ من هذا التاريخ المرحلة الأربعة من حياته الفكرية الخصبة مرحلة الاستقرار وتولي المناصب الرسمية بالبلاد، حيث أنه في نفس عام عودته عين قاضيا بمحكمة بنها وتدرج في سلك القضاء حتى أصبح في عام 1891 مستشارا بمحكمة الاستئناف. ويبدوأن تعيينه في هذه المناصب القضائية كان محاولة من الخديوي توفيق ابعاد الإمام عن المناصب القيادية في مجال العمل الأكاديمي حيث كان المفروض أن يعمل ناظرا لمدرسة دار العلوم أو حتى أستاذا فيها لأنه كان قد بدأ حياته العملية مدرسا فيها.
وما أن توفى الخديوي توفيق وتولي الأمر الخديوي عباس عام 1892 عاودته فرصة استعادة دوره التنويري وممارسة أعمال الإصلاح الديني وذلك لقربه من الخديوي الذي أعطاه صلاحيات واسعة مكنته من فرصة إصلاح الشعب الثلاث المتصلة بالدين وهي الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية .
ولما بدأ من إصلاح الأزهر نجح في بعض الإصلاحات الشكلية فزاد رواتب المدرسين الشرعية ونظم أمور الجراية ومساكن الطلاب والإشراف الصحي عليهم لكنه حينما بدأ يتعرض لإصلاحات تتعلق بجوهر رسالة الأزهر من حيث تطوير المواد الدراسية وطرق التدريس بدأت المعارضة لجهوده وزادت العقبات في طريقه ،ولكن لم ييأس وظل يحاول إلى أن لاحت الفرصة ليصبح شيخا للأزهر لكن الخديوي فاجأه بتعيينه مفتيا للديار وكان ذلك عام 1899م وعين غيره شيخا للأزهر مما أضعف فرصه لإصلاح الأزهر كما كان يطمح إلى ذلك.
ص: 124
وعلي كل حال فلم يتوقف الشيخ الإمام عن محاولة ذلك عن طريق الحوار مرة والكتابة مرات وكم كان شديد الجرأة في التعبير عن آرائه في وجه الخديوي ومشايخ الأزهر ، فكان نتيجة ذلك أن حاربوه وكتبوا ضده التقارير السرية، وأشاعوا بين العامة کفره وزندقته، لكنه واجه كل ذلك بثبات مواصلا ما استطاعه من أسس الإصلاح سواء من خلال مشاركاته في المناصب الحكومية وصلته بدوائر صنع القرار أو من خلال جهود تطوعية قادها مثل تأسيسه وأخرين الجمعية الخيرية الإسلامية ورئاسته لها عام 1900م. كما أسس في ذاته الوقت جمعية إحياء العلوم العربية» التي قامت بتحقيق ونشر العديد من كتب التراث والمخطوطات التراثية.
ونظرا لأن فتاوى الإمام كانت ذات طبيعة ثورية ولم يكن يخشي فيها لومة لائم، كان من الطبيعي وحال الغالبية العظمي من الأزهريين حال الجمود والتقليد أن يهيجوا عليه ويهاجمونه، بل ويتأمرون عليه لدرجة أن لفقوا له صورة شمسية مع بعض نساء الإفرنج. وهكذا حورب بأحط الوسائل ليس من زملاء الأزهر فقط، بل وكذلك تآمر عليه الخديوي عباس حلمي كرد فعل طبيعي لجرأة الشيخ في الحق وتوجيهه الانتقادات إلى مواقفه.
وقد أدي كل ذلك إلى أن يفضل الشيخ محمد عبده الاستقالة من منصب المفتى ومن مجلس إدارة الأزهر عام 1905 واكتفى بالعمل في مجلس شورى القوانين ومجلس الأوقاف والجمعية الخيرية الإسلامية والمشاركة في امتحانات دار العلوم وإعداد مشروع مدرسة القضاء.
ولم تدم حياته عدة شهور بعد ذلك حيث ألم به مرض عضال أعيا الأطباء، وتوفي في الحادي عشر من يوليو عام 1905م عن نحو ستة وخمسين عاما وشيعت جنازته رسميا في الإسكندرية والقاهرة وكان مشهدا مهيبا دفن علي أثره بمدافن المجاورين وقد نعته كل الصحف العربية والسورية ووصفت بدقة مشهد وفاته وجنازته المهيبة. وقد رثته جريدة الشرق الغراء في عددها الصادر يوم الأربعاء من جمادي الأول عام 1323ه_ الموافق 12 يوليو تموز عام 1905 قائلة:
ص: 125
عليكم سلام الله ما ذكر اسمكم - وذلك بين الناس آخره النشر
فساوي قلوب الناس الحزن رزوه - كان صدر الناس في حزنه صدر
فإن أظلمت أرض الشام لحزنه - فلم يخل من ذاك الصعيد ولا مصر
ثانيا : رسالته الفكرية:
لقد حدد محمد عبده بنفسه رسالته الفكرية في ثلاث مهام رئيسية هي (1):
تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين علي طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه لتتم حكمة الله في حفظ العالم الإنساني، وأنه علي هذا الوجه يعد صديقا للعلم باعثا علي البحث في أسرار الكون، داعيا إلى احترم الحقائق الثابتة مطالبا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل.
إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره الجرائد علي الكافة منشأ أو مترجما من لغات أخرى أو في المراسلات بين الناس.
التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة علي الشعب وما للشعب من حق العدالة علي الحكومة.
وقد أشرنا فيما سبق إلى جهود محمد عبده في إصلاح أساليب اللغة العربية وتطويرها من خلال تحريره لمجلات شتى وكتاباته الصحفية كذلك من خلال خطابه الفقهي وفتاواه الشهيرة وجهوده في إصلاح الأزهر ........ الخ.
أما فيما يخص جهوده السياسية فقد ألمحنا كذلك في سرد أحداث حياته إلى جرأته في الحق أمام الحكام والمسئولين وأنه لم يكن يخشي في الحق لومة لائم، كما
ص: 126
أنه كان حريصا طوال حياته علي المشاركة في صنع الوعي لدى الرأي العام في مصر بمعرفة حقوق الأفراد علي الحكومة والحاكم فهو بشر يخطئ ويصيب وأن رده عن الخطأ لا يكون إلا بنصح الأمة ومفكريها له بالقول وكم واجه الشيخ الإمام حكام عصره رغم أن «الاستبداد كان في عنفوانه والظلم قابض علي صولجانه ويد الظالم من حديد والناس كلهم عبيد له أي عبيد علي حد تعبيره.
ولعل ذلك هو ما حدا بالشيخ الإمام إلى القول في معرض مناقشاته الفكرية مع الفيلسوف الغربي الشهير رينان :« فإن شئت أن تقول إن السياسية تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فأنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من لفظ السياسة، ومن معني السياسة من كل حرف يلفظ من كلمة الرياسة ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس(1).
لقد كان محمد عبده إذن يكره السياسية وكل من ينتمون إليها، ومع ذلك فقد كان حريصا علي أن يوجهها في بلده قدر استطاعته لخدمة المصريين وصالح المسلمين
«ما استطاع إلى ذلك سبيلا» .
وعلي أية حال فإن نجاح محمد عبده في رسالته الإصلاحية لا يقاس بمدى ما حققه من نجاح في المسألتين الثانية والثالثة من مهامه الرئيسية التي قال أنه اضطلع بها، وإنما يقاس في اعتقادي بمدى نجاحه في المهمة الأولي الخاصة بتحرير الفكر الديني من التقليد والجمود.
وفي توضيح مدى ذلك النجاح ينبغي التمييز به جانبين من جوانب رسالته في هذا الإطار، أولهما الجانب النقدي الذي أرتكن علي تساؤل ظل يشغل الإمام طوال حياته وهو ما أسباب الجمود لدي المسلمين وما هي الأسباب الكامنة وراء هذا
ص: 127
التخلف والجمود الذي يعاني منه العالم بالإسلامي؟ وثانيهما التساؤل عن الأسس التي يمكن أن يبني الإصلاح الديني علي أساسها وكيف يمكن لأمة تمتلك هذا الدين العظيم أن يتجدد فكرها الديني وتنهض من كبوتها؟!.
والحقيقة أن ماقدمه محمد عبده في هذين الجانبين إنما يكشف عن عقلية فلسفية تجديدية، حيث أن طرحه لتلك التساؤلات كان ينم عن موقف فلسفي أصيل لديه وليس مجرد نزوع لأحد الأئمة إلى التجديد بأي حال وبأي شكل؛ فمحمد عبده قد تميز حقا بهذه العقلية الفلسفية النقدية التي تنزع إلى إعادة البناء ورسم طريق جديد للتقدم والنهوض . وقد أحسن أساتذتنا الأفاضل حينما نظروا إلى الإمام محمد عبده علي أنه
«رائد الفكر المصري الحديث وعلي أنه من بعث التفكر الفلسفي في مصر (1)».
ثالثا: الجانب النقدي من فلسفته الإصلاحية في تجديد الفكر الديني:
لقد كان محمد عبده مؤمناأ بأن النقد هو الوسيلة المثلى للإصلاح والتجديد حيث أنه به تكشف العيوب وتبدو النقائص ومواطن الضعف، وقد كتب في ذلك قائلا في إحدى مقالاته: إن الانتقاد نفثه من الروح الإلهي في صدور البشر، تظهر في مناطقهم سوقا للناقص من الكمال، وتنبيها يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به الانتقاد قاصف من اللائمة تتنفس عنه القلوب اللائمة تتنفس عنه القلوب لتقريع الناقصين في إهمالهم ورفع طلاب الكمال إلى منتهي ما يمكن لهم(2) .
ويبدو أن النقد كان من السمات العقلية الواضحة لمحمد عبده منذ حداثة سن ،وقد سبق أن أشرنا من سيرة حياته كيف أنه رفض الاستمرار في التعليم علي يد مدرسي المسجد الأحمدي في مطلع التحاقه بهم وانتقد طريقتهم في التعليم. لقد رفض من
ص: 128
البداية الأسلوب التلقيني الجامد الذي كانوا يستخدمونه مع التلاميذ وطلاب العلم. وقد لازمته هذه السمة النقدية طوال حياته دارسا ومعلما وكاتبا ومفسرا وصاحب وجهة نظر جديدة في الفتاوى الشرعية.
لقد ساعدته هذه الروح العقلية النقدية علي التمييز بين الإصلاح الحقيقي في منابعه الأصلية الصافية النقية، وبين الإسلام كما يعيشه ويتصوره المسلمون المعاصرون. إن المسلمين المعاصرين يعاب عليهم الكثير مما ليس في حقيقة إسلاما؛ «فما تراه الأن مما تسميه إسلاما هو ليس بإسلام وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج، ومن الأقوال قليلا منها حرفت عن معانيها، ووصل الناس بما عرض علي دنيهم من البدع والخرافات إلى الجمود» (1).
أ-صور من الجمود نحتاج للتحرر منها:
وقد توقف محمد عبده كثيرا أمام هذا الجمود الذي أصاب الإسلام علي يد المسلمين وأخذ يعدد مظاهرة ويوضح مدى ما شكله من جناية جنت علي صحيح الدين وأفقدته قوة العقل الذي دعى إليه وسعة العلم الذي أمر أتباعه أن يحصلوه. ومن هذه الجنايات التي سببها الجمود في الدين مايلي:
1 - جناية الجمود علي اللغة العربية:
لقد اعتبر محمد عبده أن أخطر جناية لهذا الجمود علي الإسلام تبدأ بما حصل للغة العربية علي يد أهلها الذين قصروا في إجادتها لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين علي فهم الدين الفهم الصحيح ولا الحفاظ علي كتب الأولين من الفقهاء والأئمة لدرجة أن المرء إذا ما أراد الوصول إلى أحد هذا الكتب فكأنه- وعلي حد تعبير- الإمام« يطلب المصحف في بيت الزنديق ». إن ضياع آثار الأقدمين وعدم فهم ما كتبوا إذا ما وجدت كتابتهم، إنما يعني ببساطة أنه إذا ما تكلم أحد بلغة هؤلاء القوم وهي لغة ديننا وكتابنا المقدس لا يجد من يفهم ما يقول ؛ «وأي ضرر أعظم من عجز القائل
ص: 129
عن أن يصل بمعناه إلى العقول ؟!(1)». إن الجناية علي اللغة العربية وهي لغة القرآن ولغة الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، إنما هي جناية على فهم الدين الصحيح.
2 - جناية الجمود علي النظام والاجتماع:
كان الاختلاف في الفهم حول العقائد يعد فيما مضى من اختلاف الأشخاص في الرأي والنظر ولم يكن يفسد للود قضية لأن الأصل لدي الجميع واحد وهو القرآن وما صح من السنة النبوية، ولكن لما جاء« دور الجمود - دور السياسة – أخذ المتخالفون في التنطع وأخذت الصلات تتقطع وامتازت فرق وتألفت شيع، كل ذلك علي خلاف ما يدعو إليه «الدين وقد رد الإمام كل هذه التمييزات الوهمية إلى مسائل لفظية وضرب من الشهوات وضروب السياسات التي اشعلت نيران الحرب بين المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذا الفرقة التي يظن الناظر فيها الآن أنها لا دواء لها » (2) .
إنه الجمود الذي جعل كل منتمي لها إلى إحدى هذه الشيع يتجمد عند رأي شيوخها دون أن يتحلي بمرونة معرفة كل الآراء وكل وجهات النظر والمفاضلة بينها بما يوافق العقل وصحيح النقل.
3 - جناية الجمود علي الشريعة وأهلها:
وهذا الجمود - علي حد تعبير الإمام - في أحكام الشريعة «قد جر إلى عسر حمل الناس علي إهمالها؛ كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام سمحا تسع العالم بأسره وهي اليوم تضيق علي أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقى إليها، وأصبح الأتقياء من حملتها يتخاصمون إلى سواها»(3).
والحقيقة التي يراها الإمام واضحة هي أن الشريعة تتسع لكل المستجدات وأنها
ص: 130
قابلة لأن تتطور بتطور الحاجات لكن ضيق أفق أهلها وعدم فهمهم الدقيق لها يجعلهم يضيقونها علي أنفسهم وأهليهم.
جناية الجمود علي العقيدة:
وبالطبع فإن هذا الجمود في العمل بالعقيدة يخلف جمودا في العقدية ذاتها، وهذا الجمود الأخير في رأي الإمام أشد ضررا ، وقد ترتب هذا وذاك علي أن الناس« نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته السنة من أن الإيمان يعتمد اليقين ولا يجوز الأخذ فيه بالظن وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته والتصديق بالرسالة وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال الآخرة وفرض العبادات وهيآتها»(1).
وقد أكد الإمام علي «أن كل ما نراه من البدع المتجددة إنما منشؤه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد والجمود عند حد ما قال الأول- أي أول- بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله وإعمال العقل في العقائد علي خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنن الطاهرة» (2) .
جناية الجمود في النظم التعليمية:
وقد أشار الإمام إلى الجمود الذي ساد النظم التعليمية سواء في المدارس النظامية الحكومية أو الأهلية، وكذلك إلى الجمود في المدارس الأجنبية؛ فإن كان تلاميذ المدارس الأولي يتعلمون وفق نظام تقليدي لا يستطيع تحصينهم بصحيح الدين وإعمال العقل فإن تلاميذ المدارس الأجنبية يعانون من أنهم يتعلمون ما يمكن أن يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون ، إذ« تترك أفئدتهم فارغة خاوية من كل دافع أو زاجر ، اللهم إلا زاجرا عن خير أو دافعا إلى شر، مما يجعل إلههم هواهم وإمامهم شهوتهم» (3).
ص: 131
ب دعوات تجديدية آفتها التقليد:
ولعل صور الجمود التي حصرها الإمام فيما سبق قد انعكست على تحليله المحاولات الاجتهاد السابقة حيث وقف منها موقفا نقديا حيث اعتبر أن دعوة الإمام أبن تيميه لم تهتم إلا بالظاهر ظاهر النصوص رافضة أي تدخل للعقل، بل أنها رفضت من الأصل وجود مشكلة التأويل ولم تبحث لها عن حل(1).
كما رفض أيضا محاولة محمد عبد الوهاب لأنها رفضت التمدن عامة ودعت إلى إتباع السلف الصالح دينا ودنيا ولم تدرك أن الإتباع هنا يؤدي إلى الجمود والتخلف، لقد كان أصحاب هذه الدعوة أضيق أفقا من الدين ولم تلفت إلى الأصول التي قام عليها(2) .
لقد كان محمد عبده يري أن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم ينص عليها في كتب الأولين، ويتساءل هل نوقف سير العالم لأجل هذه الكتب ؟! ويحمل فقهاء الأمة المتقاعسين عن مراعاة مصالح الناس وفقه الضرورة المسئولية أمام الله عن هذا التقاعس ويؤكد أنهم يجب عليهم أن يعرفوا حالة العصر والزمان ويطبقوا عليها الأحكام بصورة يمكن للناس إتباعها(3).
ولم تكن الرؤى النقدية لمحمد عبده بقصد الرفض لآراء الآخرين واجتهاداتهم، بل علي العكس فقد كان يعتبر أن هذا النقد جاء بغرض تمحيص هذه الآراء وتقويمها، حيث كان يعتبر أنه« لولا النقد ما شب عالم عن نشأته ولا أمتد ملك عن منبته، أتري لو أغفل العلماء نقد الآراء وأهملوا البحث في وجوه المزاعم أكانت تتسع دائرة العلم وتتجلى الحقائق للفهم ويعلم المحق من المبطل» (4).
والحقيقة أن أبرز ما ميز نزعة محمد عبده التجديدية هو هذه القدرة النقدية الفائقة التي جعلته يعمل عقله في كل ما حوله، وفي كل ما ينتجه من فتاوى وأراء حتى أصبح
ص: 132
بحق إمام المجددين في عصره وامتدت رسالته التجديدية بآثارها الإيجابية إلى وقتنا هذا، وستظل رؤيته التجديدية بلاشك ذات أثر باق ما بقى الإسلام دينا يؤمن الناس به وعقائد وشرائع يسعي بها الناس في الأرض لتحقيق التقدم والرقى. ولعل ذلك مايدعونا الآن لأن نتساءل عن الأسس بنى عليها محمد عبده تجديده؟.
رابعا: الجانب الإيجابي من فلسفة الإمام التجديدية للفكر الديني :
والحقيقة أن جوهر دعوة الإمام التجديدية يتمثل في ذلك الصفاء الذهني والنقاء العقائدي الذي جعله يعود إلى النظر في حقيقة الإسلام ويرده إلى أصوله الثابتة التي لاخلاف حولها شرعا وعقلا .
فهو يري بكل بساطة ووضوح«أن الإسلام في الحقيقة دعوتان؛ دعوة إلى الاعتقادبوجود الله وتوحيده ودعوة إلى التصديق برسالة محمد صلي الله عليه وآله وسلم»(1).
أ - الأصول الثمانية للنزعة التجديدية:
والنزعة التجديدية التي يتبناها الإمام تقتضي تجديد الفكر الديني عن طريق العودة إلى الأصول الحقيقية للإسلام والعمل بموجبها وقد عدد من هذه الأصول ثمانية هي(2).
النظر العقلي لتحصيل الإيمان حيث أن النظر العقلي هو وسيلة الإيمان الصحيح.
تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض حيث اتفق أهل الملة الإسلامية علي أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل وبقى في النقل طريقان؛ طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في عمله، وطريق تأويل النقل مع المحافظة علي قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.
ص: 133
البعد عن التكفير حيث إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل
الإيمان من وجه واحد حمل علي الإيمان.
الاعتبار بسنن الله في الخلق، حيث أن لله في الأمم والأكوان سننا لا نتبدل، والسنن هي الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلي حسبها تكون الآثار وهي التي تسمي شرائع ونواميس.
قلب السلطة الدينية، فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا علي عقيدة أحد ولا سيطرة علي إيمانه، وليس لمسلم علي مسلم مهما علا كعبه في الإسلام علي آخر مهما انحطت منزلته إلا حق النصيحة والإرشاد ومن هذا فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه.
حماية الدعوة لمنع الفتنة، فرغم أن الدين الإسلامي دين جهادي إلا أن ذلك لا يعني أبدا كما يقول خصومه أنه دين قتل لأن القتال فيه إنما شرع لرد اعتداء المعتدين علي الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم. ولم يكن ذلك للإكراه علي الدين ولا للانتقام من مخالفيه إن القتل ليس من طبيعة الإسلام بل في طبيعته العفو والمسامحة، فالإسلام الحربي كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ثم يترك الناس وما كانوا عليه من الدين.
مودة المخالفين في العقيدة، وقد بدا ذلك في إباحة الإسلام للمسلم الزواج من الكتابية سواء كانت مسيحية أو يهودية ولم يفرق الإسلام في حقوق الزوجية.
الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وقد بدا ذلك في كل الأمور الدينية التي خففت بموجب الأمور الدنيوية؛ فالحياة في الإسلام مقدمة علي الدين حيث نهى الإسلام عن تقشف الزهادة وأعطي للصائم رخصا للإفطار وأباح للمسلم الزينة والتطيب ودعا للتوسط في الإنفاق. كما نهي عن الغلو في الدين في الوقت الذي دعا المسلم فيه إلى طلب كل ما يكسبه الرفعة وال والسؤدد والعزة والمجد وأكد علي أنه لا يتوفر لهم ذلك إلا بالعلم وطلبه في أي مكان ومن أي لسان.
ص: 134
وقد أفاض محمد عبده في بيان كيف أن تمسك المسلمون الأوائل بهذه الأصول والعمل بموجبها هو ما جعلهم سادة العالم وهو ما مكنهم من الإبداع في كل العلوم أدبية كانت أو عقلية أو كونية(1).
ب منهجه التجديدي في تفسير القرآن:
علي الرغم من أن الإمام لم يفسر القرآن كاملا، وإنما اقتصر علي تفسير سورة الفاتحة والأجزاء الخمسة الأولي منه، إلا أن ملامح عديدة تبدو من خلال ذلك لما اتبعه من رؤى تجديدية يمكن البناء عليها حتى يمكن الوصول إلى لب المعاني والمقصود الأسمي من الآيات القرآنية، حيث أن الإمام قد استنهض الهمة في تحرير الفكر من التقليدوجعل العقل هو أساس الإيمان والتفسير في أن معا. وقد استهدف من هذا التفسير أن يفهم القرآن علي أنه كتاب دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم في الدنيا والآخرة.
أما المنهج الذي استخدمه محمد عبده في تفسيره فهو يقوم علي عدة أسس منها(2):
فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة غير مكتف بقول فلان وفلان وعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، كما يراعي أن القرآن يفسر بعضه بعضا .
فهم الأساليب حيث ينبغي أن يكون للمفسر من علمها ما يمكنه من ممارسة الكلام البليغ والتفطن لنكته ومحاسنه الوقوف علي مراد المتكلم منه.
علم أحوال البشر حيث أن هذا الكتاب هو آخر الكتب السماوية فلابد للناظر فيه من أن يكون عالما بأحول البشر في أطوارهم وأدوارهم ومناشيء اختلاف أحوالهم من قوة وضعف وعز وذل وعلم وجهل وإيمان وكفر ويحتاج في هذا إلى معرفة
ص: 135
الكثير من العلوم والفنون وأهمها التاريخ بأنواعه.
العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن.
العلم بسيرة النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل.
وقد ترتب علي التزام الإمام بهذه الأسس أن قدم تفسيرا عظيما مارس فيه حق الاجتهاد «مع ضرورة مراعاة الاتساق في عموم النص، ومراعاة طبيعة اللغة وسياق الكلام سواء علي مستوي أجزاء السورة القرآنية أو علي مستوي تتابع السور. وكان ذلك سبيله إلى بيان العلاقة بين المحكم والمتشابه» وإلى نقده للكثير من دعاوي النسخ وإلي إظهار كمال النص ومعقوليته المطلقة »(1).
كما كشف الإمام في تفسيره أن من خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مبينة أو قريبة منها مع كون الجميع في سياق موضوع واحد»(2).
كما أن من خواصه كذلك أن تري المقدس العام في الخاص وأن يرتفع من الجزئي إلى الكلي ومن الفرد إلى النوع الإنساني ومن الواقعة المحددة إلى المبدأ الذي تدل عليه. وبتطبيق ذلك على القصص القرآنى مثلا نجد أن العبرة المقصودة لاتتوقف علي الجزئيات وتعيينها طالما جاءت هذه القصص في اطار الموعظة الحسنة أو الاعتبار وليس لبيان التاريخ ولا للحمل علي الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند السابقين(3).
وعموما فقد ساهمت هذه الأسس التي استند عليها الإمام في تفسيره للقرآن في أن تصل اجتهاداته في فهم القرآن وتأويل بعض آياته حدا جعل تفسيره رغم أنه لم يكتمل تفسرا متميزا نجد فيه من فيوضات الاجتهاد مالم نجده في غيره(4).
ص: 136
ج -موقفه من قضايا الحجاب ومشروعية الفنون والآداب وتعدد الزوجات:
تتجلي جرأة الإمام محمد عبده في فتاواه الدينية التي تساير العصر وتتعرض لأدق قضاياه في ضوء ما وجد فيه مراعاة مصلحة الناس والأمة وربما جاء الكثير منها تحت أو وفق فقه الضرورة؛ فلقد كان الشيخ محمد عبده يعتبر أن الإفتاء سلطة مدنية وليس سلطة دينية لأنه لم يوجد في الإسلام تلك السلطة الدينية علي عقائد الناس وتقرير الأحكام بشأنها، بل تعد الفتوى مسألة خاصة بشئون الدنيا وما يستجد من أمورها، كل ما هنالك أن المفتى إنما يفتي مستندا علي النص الديني مع إعمال العقل في الاجتهاد مراعاة المصالح الناس المتجددة حسب مقتضيات العصر الذي يعيشون فيه.
ولما كانت قضية الفنون الجميلة من القضايا المهمة في حياة البشر في عصرنا، فقد أفتى الإمام ردا علي من يحرمون الفن في الإسلام بأن الدين الإسلامي يرحم ما يحرم في ذاته مثل الكذب والسرقة والقتل.. الخ. أما الضرورات التاريخية التي لزمت الابتعاد عن بعض الفنون الجميلة حماية للعقيدة فقد انتهت وبالتالي فقد زال سبب التحريم.
ومن هنا فقد نظر الإمام للفنون الجميلة نظرة متنورة واعتبرها وسيلة لرقى المشاعر وتهذيب الأرواح. وأنها مجرد وسيلة لتصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجسمانية وهذه الوسيلة تجعل المرء يقف مبهورا أمام عظمة الإنسان الذي خلقه الله وأودع فيه هذه الملكات. وقد أكد علي أن حكم الشرع علي كل هذه الفنون يتمثل فيما يلي: «أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لاخطر فيها علي الدين لا من وجه العقيدة ولا من وجه العمل». أما حديث الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم): أن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، فالمرجح في نظرة أنه جاء أيام الوثنية حيث كانت الصور تتخذ في ذلك العهد بشيئين الأول : اللهو والثاني : للتبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين والأول مما يبغضه الدين والثاني مما جاء الإسلام بمحوه، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان
ص: 137
تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات(1).
وقد تناول الشيخ محمد عبده أيضا مسألة حجاب المرأة بنفس القدر من الجرأة في الإجتهاد مستندا علي النص؛ وقد قال في ذلك لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصا تقضى بالحجاب علي ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين (ويقصد النقاب والعباءة التي تغطي النساء بالكامل والذي ما زال سائدا في بعض الدول الإسلامية)، لوجب علي اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهرة الأمر لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة»(2). وبعد أن بين أن منطق العقل يوضح استحالة تعامل المرأة وهي محجوبة في صناعة أو تجارة أو خدمة أو زراعة يقرر أن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة علي الإسلام والباقية بعده .إن المشروع في الإسلام كما ورد في النص القرآني هو«ضرب الخمر علي الجيوب «كما في صريح الآية وليس في الآية وليس في ذلك شيء من التبرقع والانتقاب(3).
أما رأيه فی مسألة تعدد الزوجات فيعد مثلا ثالثا عني اجتهاده في الفتوى وجرأته في مخالفة ما جرت عليه العادة حيث اعتبر أن مسألة تعدد الزوجات عادة يجوز إبطالها وما ذلك إلا« لأن شرط التعدد هو التحقق من العدل»، وهذا الشرط مفقود حتما، فإن وجد في واحد في المليون فلا يصح أن يتخذ قاعدة ومتي غلب الفساد علي النفوس وصار من المرجح ألا يعدل الرجال في زوجاتهم جاز للحاكم أو لصاحب الدين أن يمنع التعدد صيانة للبيوت عن الفساد(4).
ص: 138
د- موقفه عن قضية الحرية الجبر والاختيار):
لقد تعرض محمد عبده لدراسة هذه القضية ،قضية حرية المرء واستقلاله الذاتي إزاء القدر في ثنايا أراء المستشرقين التي تنسب التأخر والجمود الذي عليه الناس في البلاد الإسلامية لما يؤمنون به من ضرورة الخضوع للقضاء والقدر الإلهي؛ فمن جانب يسلم محمد عبده بأن العامة من المسلمين قد اصطبغ تفكيرهم فعلا بالقدرية المأخوذة عن فكرة الجبر أو القضاء والقدر، لكنه من جانب آخر يري أن غالبية المفكرين المسلمين من جميع الفرق أقرب إلى القول بمذهب حرية الإنسان في الاختيار، وهو يري في «رسالة التوحيد» أن الإنسان يدرك أعماله الاختيارية ويزن عواقبها بعقله وينسب إليها القيم عن طريق إرادته ويقوم بها بدافع في نفسه .وأيا ما كان فإن الإنسان يعلم بالتجربة أن هناك قوة أعظم من نفسه هو مسئول أمامها، وعندما يقول القرآن «.. ما تصنعون»« وبما كسبت أيديكم »فإن قوله هذا يتضمن المسئولية ومن ثم الحرية اللازمة لأنه لن يكون ثمة عدل في اعتبار الإنسان مسئولا عن أعمال وأحوال تفرضها عليه إرادة أو قوة خارج نفسه. ويستدل الإمام علي هذا بمبدأ «المجاهدة» فقوله تعالى: ««وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا » (سورة العنكبوت آية 69) يبين أن هدى الله میسر لمن يجاهدون في سبيل الاهتداء إلى الحق والخير والصواب ،وكما أن الناس تحكمهم في حياتهم الاجتماعية قوانين الله الخلقية، وهم قادرون علي معرفة الشرائع الإلهية بالتدبر وعن طريق الوحي، فإنه إحرار حين يعملون بها أو يخرجون عليها كحريتهم في إطاعة القوانين الدنيوية أو عصيانها وإذا خرقوا القانون فهم معرضون في كلتا الحالتين لقضاء السلطة الأخلاقية وعقابها(1).
صحیح أن الله ينفذ مشيئته في الناس وفي الحياة عن طريق دفع الناس بعضهم ببعض، لكن في خضم هذا التدافع التاريخي يستطيع الإنسان أن يهتدي بالتجربة إلى الحق والصواب ،فلقد وهب الله الإنسان الحس والعقل وفيهما الكفاية ليستكشف
ص: 139
بهما ما هو ضروري للمحافظة علي النفس وليميز الصواب من الخطأ وقد وهب الإنسان كذلك العاطفة والشعور اللذين يدفعان إدراكه العقلي ووهبه الإرادة الحرة ليتصرف فيما يصل إليه العقل الذي تغذيه العاطفة(1).
(ه_) رؤيته الإصلاحية في الأخلاق والسياسة:
لقد كان جل اهتمام محمد عبده بعد الإصلاح الديني اصلاح الأحوال الاجتماعية
والسياسية، وقد فطن إلى أن إصلاح الأخيرين لا يكون إلا بداية من الإصلاح الأخلاقي، وقد أقام رؤيته للإصلاح الأخلاقي علي مبدأ الجمع بين العلم والعمل (2) ؛ إذ من شأن إصلاح الأخلاق إصلاح النفوس والضمائر وإذا ما صلحت النفوس والضمائر صلحت العلاقات الاجتماعية بين الناس.
ويري محمد عبده أن أهم الأسس التي يجب أن تقوم عليها العلاقات الاجتماعية بين الناس والتي تحقق الترابط والتضامن بينهم هي المحبة إذ من شأنها أن تشعر كل نفس أن بقاءها مرتبط ببقاء الكل، والكل منها بمنزلة بعض قواها المسخرة لمنافعها ودرء معناها فالمحبة عماد السلم ورسول السكينة إلى القلوب وهي الدافع لكل المتحابين علي العمل لمصلحة الآخر إن من شأن المحبة أن تكون حفاظا لنظام الأمم وروحها لبقائها(3).
إنه يعتقد اذن بأنه إذا سادت المحبة وحلت محل الأثرة، وانتفت الأنانية ازداد ترابط المجتمع وتضامن أفراده، وحلت الرحمة في القلوب بدلا من القسوة فيعطف غنيهم على فقيرهم ويرحم قويهم ضعيفهم ويوقر صغيرهم كبيرهم ويتماسك المجتمع ويترابط أفراده (4).
ص: 140
إن سيادة الفضيلة والأخلاق بين الناس في نظر محمد عبده هي ما يزيد شعور الفرد بانتمائه إلى الجماعة ولعله يبذل ما في وسعه لزيادة وتحقيق السعادة والخير للجميع؛ يقول الامام: «إن الاتحاد ثمرة ذات فروع وأوراق وجذور الأخلاق هي الفاضلة وبغير المحبة لا تقوم للأخلاق قائمة فيجب أن تكون التربية الجديدة تربية غيرية مستنيرة بالمعنى الصحيح؛ فالعلم الحقيقي هو الذي يعلم الإنسان من هو ومن معه، فيتكون من ذلك شعور واحد وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد»(1).
وخلاصة القول أن مفكرنا يري ببساطة أن تقدم الأمم ورقيها إنما يقوم علي أساسين هما: العلم والأخلاق. أنظر إليه وهو يؤكد ذلك قائلا: «وهذان الأساسان الجليلان متلازمان في عالم الوجود متى سبق أحدهما إلى بلاد تبعه الآخر علي الأثر، ومتى فارق واحد منهما جهة تعلق الثاني بغباره، فلا يكاد يرفع قدمه أو يضعها إلا وصاحبه يرافقه ، بهذا ينبئنا التاريخ وتحدثنا سير الدول التي ارتفع بها منار العدل أو بزغت فيها شموس العلم كيف تمتعت بالنورين وطارت إلى أوج السعادة بهذين الجناحين ..»(2).
وبالطبع فإن الأمم لا ترتقي وتتقدم إلا عبر وجود نظام سياسي يؤسس لعلاقة جيدة بين الحكام والمحكومين ويفتح المجال أمام الجميع للإسهام في تقدم الأمة. ولذلك فقد كان ضمن اهتمامات محمد عبده للإصلاح السياسي. وقد قال عن ضرورة هذه العلاقة بين الحاكم والمحكومين «إن حاجة الرعية للحاكم لا تقل أبدا عن حاجته إليهم، وإذا كانت الرعية بمثابة الآلة للحاكم في تنفيذ مشاريعه فهي ليست ألة صماء بل أنها ذات إرادة وشعور وحين يختل الشعور وتفسد الإرادة فلا فائدة من إصدار القوانين والأحكام» (3).
ولقد استخدم محمد عبده أسلوب التدرج في تطبيق منهجه الإصلاحي السياسي
ص: 141
حتى تكون الحياة السياسية متلائمة مع طبيعة المجتمع وتستمد قوانينها من مبادئ
الشورى والعدالة والمساواة وخاصة عند استخدام السلطة والقانون(1).
وقد أكد محمد عبده علي ذلك في مذكراته حينما اعتبر أنه كان معنيا في حياته بأنه كان من دعاة التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة علي الشعب، وما للشعب من حق العدالة علي الحكومة، إنه كان ممن دعوا الأمة المصرية إلى معرفة حقها علي حاكمها، فإن وجبت عليهم طاعته فهو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم وأنه لا يرده عن خطئه ولا يقف ضد طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول. وهو يعترف بأنه قدأصاب بعض النجاح في ذلك وأنه أخفق في كثير مما وجه إليه عزيمته (2).من أمور.
ولقد أدرك الإمام أهمية الاقتصاد بالنسبة إلى السياسة، واستقرار المجتمع فقال: «إن الاقتصاد هو فضيلة من فضائل الإنسانية الجليلة، بل هو من أهمها، مدحته جميع الشرائع وبينت فوائده ،وهو كغيره من الفضائل مركب من أمرين : بذل وإمساك وأعني أن الاقتصاد هو التوسط في الإنفاق»(3).
كما أدرك الفرق بين الإنتاج والاستهلاك باعتبارها أحد المقاييس الهامة في قياس مدى تمدن الأمة وتحضرها، فإذا كانت الأمة تنتج ما تستهلكه وتزيد عليه فهي متقدمة، وإذا كان العكس ووقفت عند مجرد الاستهلاك فهي متخلفة وأن لبست لباس العز الزائف. وهو يقول في ذلك:« إن الأمم المتمدنة وإن أنفقت الأموال الكثيرة في تشييد القصور وتزيين الملابس وتحسين الأساس إلى غير ذلك من المصارف فإنما يكون على نسبة مخصوصة من إيراداتهم الحائزين لها بالكد والتعب في إبراز المصنوعات الجميلة والمخترعات الجميلة التي تكسب صاحبها في قليل من الزمن ثروة واسعة وقدرا رفيعا، ولا يجيزون الإنفاق من رأس المال إلا إذا مست ضرورة لا محيص عنها، ومع ذلك فنفقاتهم هذه لا تتجاوز حد اللزوم ولا تخرج عن دائرة احتياجاتهم »(4).
ص: 142
ولعل قائل يقول هنا : لقد ركز الإمام علي الاقتصاد باعتباره الأساس لقياس تمدن الأمم وتحضرها ، ولهذا القائل أقول انه لم يركز علي الاقتصاد إلا باعتباره ثمرة من ثمار التقدم المعرفي والعلمي في الأمم المتقدمة. أنظر إليه يقول في عبارة تكاد تجعله يعيش معنا الآن في عصر ما يسمي «قوة المعرفة» و «المعرفة قوة «عصر القرن الحادي والعشرين يقول الإمام منذ أكثر من مائة عامة : «إن التغالب في هذه الأوقات أصبح معظمه - إن لم أقل جميعه- تغالب الأفكار والآراء؛ فالأمة ذات البسطة في الأفكار والمهارة في المعارف هي الأقوى سلطانا والأقوم سياسة وهي الغالبة علي من سواها»(1).
وفي هذه العبارة ما فيها من تأكيد علي أن التنافس بين الأمم إنما يكون في الأساس تنافسا في كم ما تمتلكه هذه الأمة أو تلك من أفكار وعلوم جديدة حيث أن من يملك قوة المعرفة والفكر هو الأقوى سلطانا والأقوم سياسة.
ولا يظنن أحد أن محمد عبده هنا ينظر بعين الإعجاب والإعجاز للأمم الغربية المتقدمة التي تمتلك الأن ومنذ أيامه بالطبع قوة المعرفة وصناعة التقدم، فالحقيقة أنه لا يقول ذلك إلا ونصب عينيه تقدم وصلاح أحوال وطنه وبلده مصر، فإذا كان العلم أساس التقدم وكثرة الخيرات، فإنه يري أن مصر والمصريين لديهم إمكانية أن يصلوا إلى تحقيق هذا التقدم؛ إذ أن خصوبة أرض مصر واعتدال مناخها وتحمل أبنائها مكابدة العمل تعد عناصر يمكن أن تجعل من مصر دولة غنية «لا تفني كنوزها ولا تفرغ خزائها وأنها بما يأتي من الثمرات لقادرة علي حفظ ناموسها وتقوية شوكتها، بل أن تكون سلطتها مبسوطة إلى أقطار أخرى » (2) .
- نقلا عن: : د. سعيد مراد: نظرات في الإصلاح الاجتماعي عند الإمام محمد عبده، نشر ضمن كتاب "الشيخ محمد عبده الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة سبق الإشارة إليه، ص 154.
-محمد عبده الأعمال الكاملة - ج 3، ص 41
-نقلا عن د. حامد طاهر : محمد عبده وأفكاره المستقبلية نشر ضمن كتاب " الشيخ محمد عبده الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة، سبق ذكره، ص 96.
ص: 143
إذن ففي رأي محمد عبده، أن مصر تملك المقومات الطبيعية الأساسية للحصول علي الريادة والتقدم بما تملكه من ثروات مادية وبشرية ،كل ما هنالك إن علي المصريين - علي حد تعبير الإمام - أيضا إن يحسنوا «استعمال هذه الأسباب الجليلة.. ليوضع كل شيء في موضعه الطبيعي وتستعمل كل وسيلة لما يناسبها»(1). وهذا لا يتأتي إلا بالعلم الذي يؤدي امتلاكه وحسن تطبيقه إلى تجنب ضلال الآراء وسوء الاستعمال المقترنين دائما بالفقر والضعف والانحلال.
فهل إلى ذلك العلم من سبيل وهل إلى التقدم والرقي نحن سائرون أم أننا سنظل نرزح تحت نير سوء الفهم وسوء الاستخدام ومن ثم سنظل نشكو الفقر والضعف ؟!.
إن الإجابة علي هذه التساؤلات من شأننا نحن الآن، وإن كان قد مضى علي هذه التحذيرات والتفاؤلات التي أطلقها الإمام أكثر من مائة عام فإن علينا الأن وبعد مضي كل هذه السنوات ونحن لانزال نعاني من الفقر والضف، بأن نفيق وأن نواجه تقدم الآخرون بسلاح العلم وأن نحسن استغلال مالدينا من ثروات طبيعية وبشرية حتى يمكننا العودة إلى مصاف الأمم المتقدمة، الغنية بثرواتها وبعلومها وعلمائها ومفكريها.
إن علينا الآن أن نحسن التفكير في استخدام مالدينا من إمكانيات متسلحين بسلاحي التقدم عند الإمام وعند كل ذوي نظر وفكر: الأخلاق والعلم، أو العلم والأخلاق، ولا يهم أي منهم يتقدم علي الآخر لأنهما في سبيل التقدم الحضاري للأمم حدان متضايقان لا يغني أحدهما عن الآخر ولا يوجد أحدهما بدون الآخر.
ص: 144
د صباح حمودي(1)
حياته:
الشيخ محمد رشید رضا (ت1354ه/1935م)(2)، احد رواد الوعي العربي، اذ يعد من الشخصيات الإصلاحية والتجديدية التي ظهرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فهو يمثل آخر حلقات مدرسة استاذه الشيخ محمد عبده (ت1323ه_/ 1905م) وحركة الإصلاح في الفكر العربي الحديث والمعاصر(3)، فقد ثابر على السير أكثر من سواه في الاتجاه الذي شقه له أستاذه، وغدا
ص: 145
منذ تلك اللحظة حتى مماته تلميذه الأمين على أفكاره واتجاهه، وحامي سمعته ومؤرخ حياته، وبحكم هذه التلمذة سار على طريقته لإنهاض الامة الاسلامية لتعيد مجدها وفقا للمتغيرات الآنية والمستقبلية،بمعنى ان الاحياء لا يعني عودة للقديم ،فهذا مستحيل، وانما هي صورة منتقاة نستقي من القديم جذوره واصوله ونستقبل من المعاصر احتياجاته ومتطلباته.
اذ مثلت حركته رد فعل متوازن للتحدي الذي يواجه العالم الإسلامي، فكان خصيماً للاستبداد وعدوا للطغيان وداعياً وواعياً مستنيراً يستجيب لصوت الضمير ويستوحي مبادئ الحق، ولهذا وجه نقداً حاداً للحكم المتسلط وللاستبداد في كل اشكاله، لأنه لا يتماشى مع الاخلاق والعادات الحميدة ولا مع ماضي العرب التاريخي ولا مع القرآن الكريم، ومن الواجب، بل من الممكن القضاء عليه، وبحكم كونه مفكراً ومعلماً دينياً وسياسياً من الدرجة الأولى، ومحترفاً للعمل فيه، الا أن مساهماته( النظرية والعملية) في هذا المجال لم تنل العناية الكافية من قبل المؤرخين العرب الذين أرخوا لحركات الإصلاح والنهضة، فضلاً عن أنه لا يمكن قراءة خطابه النقدي دون الرجوع إلى تاريخ الفكر البشري، كونه تاريخ (نقد) كما مثلته الحضارات قديماً وحديثاً، فهو اداة التحول والانتقال من مرحلة إلى اخرى، لأنه شرط للأبداع والابداع شرط التقدم والنهضة، من هنا اخذ النقد عند (رضا) يخترق الخطاب الديني والسياسي، ليعبر إلى مجالات اخرى مثل الادب والعلوم الانسانية والطبيعية، لأنه نسيج ضمني وغير مباشر بحيث يدخل في سياق تمفصل المضمون وعلى اختلاف مستوياته.
ونتيجة لهذا، لا يمكن الحديث عن مساهماته في الإصلاح والتجديد، دون إغفال التطورات السياسية والاجتماعية التي هجمت على الدولة العثمانية بعامة، والمشرق العربي بخاصة ،إذ تابع (رضا) انهيار الخلافة الإسلامية في الاستانه نتيجة الفساد السياسي والإداري الذي كان ينخر جسدها، فضلاً عن تراكم أعمال وأنشطة
ص: 146
حركة التنظيمات التركية المنادية للإصلاح والتغيير، والتي انتهى بها المطاف إلى إلغاء الخلافة بعد وصول الكماليين إلى السلطة في تركيا، وزد على ذلك الصراعات الفكرية التي نشبت بين دعاة التغريب من جهة ،والإصلاحيين المتشبثين بالتجديد والتغيير في إطار الأصالة الإسلامية من جهة أخرى، كل هذه المعطيات الموضوعية لا بد من استحضارها لمعرفة الحجم الحقيقي للمساهمات النقدية للشيخ محمد رشيد رضا ومنهجه في الإصلاح الديني والسياسي والنهضوي.
عليه، سيعتمد الباحث في بحثه هذا على المحاور الاتية: (النقد لغة واصطلاحاً، محمد رشيد رضا ورأيه في الاصلاح الديني موقفة النقدي من الغرب والاستعمار، ونقده للتغريب)، فضلاً عن الخاتمة مع أهم الاستنتاجات.
النقد لغةً واصطلاحاً
1-2- النقد لغة:
يقال : نقد الشيء نقداً: معناه نقره ليختبره أو ليميز جيده من رديئه، ويقال: نقد الطائر الفخ ،ونقدت رأسه بإصبعي ،ونقد الدراهم والدنانير وغيرهما نقداً، وتنقاداً: أي ميز جيدها من رديئها، وفلان ينقد الناس : أي يعيبهم ويغتابهم (1).
والنقد خلاف النسيئة، واخراج الزيف منها، ويقال ايضا: أنه قد نقدها وينقدها نقداً، وانتقدها ،وتنقدها، ونقده اياها نقداً: اعطاء فانتقدها أي قبضها(2).
2-02النقد اصطلاحاً:
النقد عند المحدثين هو التعليل، أي اظهار ما في الحديث من علة، وعلة الحديث هي التحريف، والناقد هو المعلل، ونقد الكلام بمعنى كشف عيوبه، بمعنى هو
ص: 147
تقويم، وهو جزء من المنطق ويتعلق بالحكم، وبهذا المعنى يقال نقد المعرفة،ونقد العقل ، والنقد الادبي أو الفني الخ.. إذاً هو الفحص والتمحيص الدقيق الذي يهدف بيان ما في الاثر من عيوب أو محاسن ،والفكر النقدي هو الذي يدقق ويتفحص من غير تحيز ولا يقبل القول على علاته فيتجه بتساؤله إلى المضمون، ويسمى داخلياً، أو يتجه إلى الشكل ويسمى نقداً خارجياً أو ينبه إلى العيوب ويسمى نقداً سلبياً أو يبين المحاسن ويسمى نقداً ايجابياً(1).
اذ ان من خصوصيات التفكير الفلسفي سواء كان إسلامياً أم غربياً يتميز بكونه يتحدد من خلال (النقد) تجاه لحظته الزمنية وهو ما يجعله يتعارض مع ما هو سائد سواء في المجال المعرفي أم القيمي أم على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، فلا نجد أي فيلسوف عبر تاريخ الفلسفة ومهما كانت منظومته الفلسفية التي يؤكدها الا ومارس النقد على الفلسفة السابقة، أي نقد الفيلسوف اللاحق لسابقيه. اذ نجد ان الفلاسفة المسلمين نقد بعضهم بعضاً، فابن رشد نقد ابن سينا والغزالي، ونقد الاخير الفارابي وابن سينا وهكذا برع الفلاسفة المسلمون كما هو الحال عند اخوان الصفا وأبن سينا وصولاً إلى ابن رشد في نقدهم مناهج الجدل عند المتكلمين دفاعاً عن مناهج البرهان عندهم ، فضلاً عن نقد الفقهاء المنطق الأرسطي الصوري القديم كونه منطقاً عقيماً غير منتج وليس ذا فائدة، وهكذا نقد الفقهاء معظم المناهج العقلية والنقلية، وصولاً إلى ابن خلدون الذي نقد مناهج قدماء المؤرخين مبيناً أخطاءهم واستعمل منهج الملاحظة والمشاهدة والوصف التاريخي المباشر للأحداث(2) .
موقفه النقدي من الغرب والاستعمار
نجد ان (رضا) هنا قد ربط بين التصورات والمفاهيم الإسلامية من جهة، وبين إلمامه بواقع العصر ومشكلاته جيداً من جهة أخرى، إذ كان ذا باع طويل بسبب أسفاره
ص: 148
ومخالطته لعدد من علماء الغرب وفلاسفتهم، فتعرف على أفكارهم وطروحاتهم، فكانت له انتقادات وردود فعل عنيفة عليهم وبخاصة في(مجلة المنار)، فقد كان متصدياً ومقاوماً ومنتقداً للأفكار الهدامة المتمثلة بالاستعمار الغربي ودوره السلبي في المجتمعات (الاسلامية) بعامة (والعربية) بخاصة، رغم كل إمكانيات هذا الاستعمار ودهائه، الا انه لم يستطع ان ينفذ إلى داخل هذه المجتمعات، ولهذا اتجه (رضا) إلى التعبئة الروحية المتمثلة بالإصلاح عن طريق جعل الاسلام اساساً للتربية الوطنية، فكان لا بد لهذه التعبئة من ان تنقد الاخر وعناصره الفكرية والداعين والساعين له، اذ وجد ان هذا الاستعمار ادى إلى فقدان الاستقلال السياسي للامة العربية والى نهب ثرواتها الوطنية ومحاولته تهديد اللغة العربية ومحوها ، ولهذا تناول مسألة النفوذ الغربي وعدائهم للعروبة،وان أطماعهم هي السبب في انقسام الامة العربية إلى دول منفصلة بعد الحرب العالمية الأولى، وبذلك نرى ان هذا الازدواج في هذه التعبئة اخذ طابعا نظريا (سياسياً)، ومنهجياً عمليا ً(دينياً).
علماً ان (رضا) قد شاركه في الكتابة في هذه المجلة عدد من المفكرين الذين ينتمون إلى اقطار عربية مختلفة منهم على سبيل المثال لا الحصر: (عبدالمحسن الكاظمي، ومحمد روحي الخالدي، وشكيب ارسلان، والشيخ احمد الاسكندري ،والرافعي والمنفلوطي) وغيرهم من قادة الفكر والتوجيه في العالم الاسلامي، إذ أن هذه المجلة تأسست على نمط مجلة (العروة والوثقى) التي أسسها السيد جمال الدين الأفغاني (ت 1314ه_/ 1896م ) بالتنسيق مع تلميذه الشيخ محمد عبده عام (1885م)، بعد نفيهما من مصر من هنا ازداد اتصال (رضا) بهذه المجلة (العروة الوثقى) بعد ان وجهته إلى السعي نحو المقاومة والتحرير والاصلاح، ورسمت له منهجاً علمياً جديداً، وعرفته بأسباب الفساد والتفكك في بلاد الشرق، فضلاً عن انها فتحت له آفاقاً واسعة لم يكن يعرف عنها شيئاً، بحيث دفعت به إلى الطريق الطويل الذي سلكه قبله كبار المصلحين وقادة التحرير(1).
ص: 149
ونتيجة لكل هذا، استطاع (رضا) أن يتصل بجمال الدين الافغاني الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق (السياسة)، فضلاً عن اتصاله بأستاذه محمد عبده الذي نادى ايضاً بالإصلاح والتجديد ولكن عن طريق (التربية والدين)، اذ كان (رضا) أشد تأثراً بأستاذه وبخاصة فيما يتعلق بالموقف من الاستعمار، غير أن أشد ما أثر في موقف (رضا) سلباً في بداية مشروعه النقدي - الإصلاحي هو توجيه أستاذه محمد عبده له نحو الجهاد من أجل( الإصلاح الديني والتربوي) دون (السياسي)، وفي الواقع فإن آراء عبده لم تكن لتشجع على ممارسة العمل السياسي على الإطلاق، وهذا ما يميز حركة عبده عن حركة جمال الدين الأفغاني(1) .
وهنا خرج (رضا) بعد ان تعرف على منهجي استاذيه بمنهج خاص به جعله يوائم بينهما، فنادى بالإصلاح والتجديد ولكن عن طريق( الدين والسياسة) معاً، من خلال إيقاظ الشعور الاجتماعي والتربوي والعلمي... الخ.
لذلك دعا علماء الأمة إلى القيام بواجباتهم، فرأى أن تنفير العرب من الترك هو مفسده، وان من يسعى إلى التفرقة بيننا وبينهم فهو عدو لنا ولهم، فعندما قام الاتحاديون الأتراك بالانقلاب على السلطان عبد الحميد عام (1908) أجبره على إعلان الدستور، هنا كان (رضا) مثل غيره من الزعماء والمفكرين العرب ممن قبلوا وأيدوا الانقلاب اعتقاداً منهم بأن إعلان الدستور هو بمثابة إطلالة عهد جديد تسوده ،الحرية، غير أنه لم يلبث في العام التالي أن أصيب بخيبة أمل شديدة من الاتحاديين على أثر زيارته للقسطنطينية، ولما تأكد من أن الاتحاديين الأتراك ماضون في سياستهم المتواطئة والمستبدة فأخذ يكشف أوراقهم ويبين خطر سياستهم لا على فلسطین ،فحسب، بل على الأمة الإسلامية كلها (2)، إذ تناول كيفية تواطؤ الاتحاديين مع الصهاينة لبيعهم أراضي السلطان عبد الحميد ومساعدتهم في الاستيلاء على فلسطين، ومن أجل مكافحة هذا المد (الصهيوني) ودرء خطره حدر من بيع الأراضي
ص: 150
لليهود أو لغيرهم من الأجانب، ولهذا يقول «إنني اعتقد أن الذين باعوا أراضيهم لليهود لم يكونوا يعلمون أن بيعها خيانة لله ولرسوله وللأمة كلها، كخيانة الحرب مع الأعداء لتمليكهم دار الإسلام وأهلها »(1) من هنا اقترح على العرب جمع قواهم كلها للدفاع عن الإسلام وتصحيح عقائدهم،فجمع بين العمل في ميدان الفكر الإسلامي وبين الإصلاح السياسي لمقاومة الصهيونيين بكل طرق المقاومة، كاشفاً عن وجه بعض القوى التي ظهرت آنذاك، والرامية إلى الاستعاضة عن الخلافة العثمانية بخلافة جديدة، معداً هذه الفكرة وحياً أجنبياً من شأنه أن يخدم المصالح الأجنبية العالمية التي تقف وراءه الحركة الصهيونية وبخاصة (انكلترا) التي لا تزال ممعنة في إرهاب عرب فلسطين وانتزاع وطنهم وإعطائه لليهود الصهاينة قسراً، لتجد لهؤلاء ملكاً قلب البلاد العربية يكون حاجزاً بين(مصر والحجاز وفلسطين)، مما يمنع قيام دولة عربية إسلامية قوية موحدة تقف في وجه الاستعمار الأوروبي(2).
علماً انه كان من الممكن وبحسب رأيه القبول بالخلافة العثمانية على أنها (خلافة
بالضرورة)، مع أنها لم تكن خلافة أصيلة، لأنها تفتقر إلى أحد الشروط الجوهرية للاجتهاد وهو عدم معرفتها اللغة العربية ،هذا من جانب، ومن جانب آخر وجدناه قد عاش في عصر كثر فيه الضعف والجمود الذي مس البلاد الاسلامية، فأخذت دول الاستعمار تتكالب عليها من كل جانب، حتى اذا ما هزمت الدول العثمانية في الحرب
العالمية الاولى، اخذت دول الاستعمار تنهشها وتتقاسم املاكها في البلاد العربية.
اذ عاصر (رضا) كل هذه المصائب وشاهدها بأم عينه فكان لا بد له كمقاوم ومصلح وسياسي ان يكون له مواقف مذكورة ضد المستعمرين، ومن هنا اخذ ينشر افكاره الاصلاحية على صفحات (المنار)، وذلك بما تسمح سلطات الاحتلال الانكليزي بنشره رغم الحرية النسبية التي وضعها الانكليز له، فكان هدفهم من ذلك هو اجتذاب المفكرين والمصلحين للعيش في مصر حتى يكونوا تحت مراقبتهم
ص: 151
ويكتبوا في ظلهم (1)، ورغم عيشه المبكر في مصر الا انه لم يكن ذا اتصال كثير بهم، فهو لم يتصل بالإنكليز الا بشخص واحد وهو (متشل انس) الذي كان موظفاً بوزارة المالية المصرية، وقد مدحه (رضا) كثيرا وذكر انه كان اشد الانكليز استقلالاً في الفكر وحرية الرأي، فكانت له مذكرات سياسية ودينية معه من خلال عقد الصلة الذي أولفها لهم الشيخ محمد عبده (2).
وفي الواقع ان افكار (رضا) لم تكن بالطبع من الأمور التي يمكن الاستعمار السكوت عليها، ولذلك لم يكن الانكليز يطمئنون له رغم اقامته بينهم، ولهذا كانت رسائله البريدية موضع مراقبة شديدة وبخاصة اثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها(3)، وحينما يئس من الدولة العثمانية بعد تولي الاتحاديين الحكم وظهور مساوئهم، اخذ ينقدهم ويعمل ضدهم، فرأى من الافضل ان يثير عليهم الانكليز، ولكنه خاب امله بالفشل حين رأى انهم يعملون لهدم( العثمانيين والعرب) معاً .
هنا نلاحظ ان الانكليز فهموا هذا التغير من (رضا) فغضبوا عليه وفكروا في نفيه إلى
( مالطا ) ، ولكنهم عدلوا عن ذلك، لانهم رأوا ان ذلك يضر بهم اكثر من ان ينفعهم، فبقاؤه في مصر وتحت اعينهم اسلم لهم ، ولهذا تركوه، فأصبح عدواً للأتراك الاتحاديين والانكليز معاً(4).
رغم بقائه تحت مراقبتهم، الا انه واصل نقده ضدهم من خلال كتاباته الوطنية، اذ كانت له مواقف مشرفة خاصة في اخراج بعض المسلمين الذين كانوا معتقلين في سجونهم( بكفالة من قبله)، وحصل ذلك قبل ان يزداد غضبهم عليه(5)، علما ان هذه العلاقة السيئة بينهما قد ازدادت حين ظهرت معاهدة (سايكس بيكو )على السطح فعارضها بشدة وبقوة، واخذ يطعن بها وينقدها بسبب تعسف الانكليز وظلمهم
ص: 152
للمسلمين، ونتيجة لذلك استمر من غير هوادة يكشف دسائسهم ومؤامراتهم، واخذ يذكر في مقالاته ان الشعوب الاسلامية والعربية ساعية إلى تحطيم (الاسد)، اذ ان جهاده ونقده لم يكن ضد الاستعمار الانكليزي فحسب، بل هاجم ونقد ايضاً كلاً من الاستعمار الايطالي عندما هاجم ليبيا، والاستعمار الفرنسي من خلال سياسته في المغرب العربي واحتلاله للشام (1) . ومن اجل مقاومة الغرب المستعمر نجده قدم ثلاثة خيارات من اجل النهضة والاصلاح الحضاري والسياسي وهي تقوم على ثلاث نقاط:
1--3محور الإصلاح الديني من اجل مواجهة الاخر:
بدءاً اقول ان (محمد رشيد رضا) قد كتب الكثير من المقالات والدراسات التي تهدف إلى النهوض بالأمة وتقويتها، اذ ركز اهتمامه إلى (الحكام والعلماء) لأنهم بمنزلة الروح والعقل المدبر للإنسان، لأن في صلاح حالها صلاح حال الأمة، إذ يقول« إذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها من الرذائل فاشية في أمة، فأحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد، وعلى علمائها ومرشديها بالبدع والفساد والعكس بالعكس» (2)
ولهذا كان أشد الداعين إلى أن يكون الإصلاح الديني عن طريق (التربية والتعليم)،
كونه أحد رواده الذين حملوا راية( التجديدوالاجتهاد)، وهو بذلك يتفق مع استاذه محمد عبده في أهمية هذا الجانب، لان سعادة الامم بأعمالها، وكمال اعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف، من هنا حدد(رضا) العلوم التي يجب إدخالها في ميدان التربيةو التعليم لإصلاح شؤون الناس ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والمعرفة، ومن هذه العلوم :الفقه وأصول الدين والتاريخ والجغرافيا والاجتماع، والاقتصاد(3)، وغيرها. على اعتبار أن (التربية والتعليم) هما قضيتان مركزيتان في حركة النهضة الاسلامية.
ص: 153
ونتيجة لذلك عني بقراءة القرآن الكريم وحفظه، فضلاً عن قراءته لبعض الكتب الصوفية وبخاصة كتاب (احياء علوم الدين )لابي حامد الغزالي، اذ تعلق به وحبب اليه التصوف، الا انه تركه وانصرف إلى تلاوة القرآن الكريم(1)، ولهذا يقول «رأيت في اثناء ذلك كثيراً من الامور الروحية الخارقة للعادة، كنت اتأول الكثير منها، وعجزت عن تأويل بعضها »(2)وفي موضع آخر يقول «ولكن هذه الثمرات الذوقية غير الطبيعية لا تدل على ان جميع وسائلهامشروعة أو تبيح ما كان منها بدعة كما حقق ذلك »(3). ولهذا السبب وجد من الضروري ان يقوم بواجبه النقدي الاصلاحي، الذي استقاه من قراءته للقرآن الكريم مستذكراً قوله تعالى: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ تَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ»
سورة الأعراف الآية (51).
نجده لم يكتف بدور الموعظ والموجه والناصح والناقد، وإنما نزل بنفسه إلى ميدان التعليم، فقرر دعوته إلى إصلاح التعليم ب_(العمل)، إذ حاول تطبيق ما يراه محققاً للآمال ، فأنشأ مدرسة أسماها (دار الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة المدربين لنشر الدين الإسلامي.
لذلك شرع من خلال مجلة (المنار) التي أصبحت منبراً للدعوة والإصلاح والتجديد، وأثراً عميقاً في الفكر الإسلامي، إذ أصدر العدد الأول لها عام (1898)، واستمر بإصدارها بانتظام شبه كامل حتى وفاته في مصر عام (1935)، ويمكن القول أن هذه المجلة كانت منذ تأسيسها بمثابة سجل لحياته(4)، فضلاً عن مجادلاته اللا متناهية والعنيفة في هجومها ودفاعها على السواء، التي من خلالها اخذ ينشر الأخبار التي كانت تأتيه من أطراف العالم الإسلامي، مبيناً آراءه في سياسات العالم والتي من
ص: 154
خلالها هاجم الترف والاسراف، وحذر من الجهل والتخلف(1)، فظل قلمه يصول في(المنار) ويجول مرشداً المسلمين إلى النظر في سوء حالهم من خلال تذكيرهم بما فقدوه من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما اضاعوه من مجد ابائهم الأولين، فنادى بأن يعلموا ان قيمة الدين ليست في اسراره الروحانية فحسب، بل في الحقيقة التي يعلمها للإنسانية(2) . فأخذ يؤكد على المحبة والتآلف بين الناس لا لتوكيد الفتنة والانقسام ،فكانت محاولاته انتقائية الطابع ذات أهداف اجتماعية - سياسية أراد من خلالها أن يوفق بين (العلم والدين) فربط التفسير بالمكتشفات العلمية الحديثة، كي يستمد كل طرف مشروعه من الطرف الآخر(3) .
2- -3 محور الاصلاح السياسي
وقد ترجم موقفه النقدي من الغرب على أرض الواقع من خلال الفعل السياسي اذ كان محمد رشيد رضا رغم كونه مفكراً( إسلامياً) وغيوراً على دينه، الا أنه كان (سياسياً) ومحترفاً للعمل فيه، فكان متعدد الجوانب والمواهب بحيث شغل نفسه بهموم أمته وقضاياها، فبعد أن توفي أستاذه الشيخ محمد عبده (ت1323ه/1905م)، كان (رضا) قد بلور بالفعل رؤية خاصة للإصلاح السياسي في الدولة العثمانية من خلال إقامة دولة إسلامية نموذجية فيها، ولهذا دعا إلى إقامة نظام سياسي إسلامي دستوري يلتزم بمبادئ الشورى والعدل والحرية، بحيث يشارك فيه الشعب ويلتزم فیه السلطان باستشارة زعماء الشعب وممثليه، بحيث تخضع الحكومة لمساءلتهم (4)، ولهذا السبب وضع رسالة في إحياء الخلافة على أساس إسلامي أصيل يتناسب مع حالة العالم الإسلامي في العصر الحديث(5)، إذ تناولت الرسالة موضوعين أحدهما
ص: 155
(نظري) والآخر (عملي)، فالنظري يعتبر أفضل ما كتب في النظرية الإسلامية للحكم من حيث التأصيل والتنظيم منذ الكتاب الذي وضعه الماوردي في (الأحكام السلطانية) في القرن الرابع الهجري، أما العملي فقد تناول المشاكل التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى والتي أثرت على مصير الخلافة(1)، ولهذا جاهد في إنشاء عدة تنظيمات سياسية دعا ن خلالها إلى إصلاح سياسي على أساس إسلامي في الدولة العثمانية، بمعنى أنه رأى أن النظام السياسي الفاسد في الدولة العثمانية هو الأولى بالإصلاح، لذلك فضل استخدام وسائل الإعلام وقيادة أنشطة سرية وغيرها لإنجاز هدفه هذا وإنجاحه، فضلاً عن أنه عمل مع رعايا بعض العثمانيين في مصر لإنشاء منظمة سرية باسم (جمعية الشورى العثمانية) التي ضمت ممثلين عن معظم الجماعات العرقية والدينية في الدولة العثمانية، إذ ترأس هذه الجمعية عام (1906)، فكانت نشطة في الدعوة إلى إصلاح الدولة العثمانية في مصر وبعض الدول الغربية(2)، وأكد أن الدولة العثمانية يجب أن تصبح وطناً لجميع الشعوب المنضوية تحت لوائها، بغض النظر عن أعراقها ودينها، ومن ثم يصبح لدى رعاياها هوية وطنية لا تتعلق بشخص حاكمها، بل تتمتع جميع شعوبها بحقوق وواجبات متساوية(3)، فكان يعتبر الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية، بالرغم من انتقاده لحكامها لعدم التزامهم بالمبادئ الإسلامية في الحكم (4).
إذاً، إن مفهوم الإصلاح والتجديد السياسي عنده هو مفهوم محوري، لأنه هو أحد أوجه التجديد في فكره ، لأن مفهوم (السياسة والإمامة) ارتباط متين بالسنن الربانية في المجتمعات والحكم 35 . فإن مصدر السلطة في الإسلام يعود للأمة عن طريق أهل (الحل والعقد) من ذوي العدل والكفاءة والحكمة المنتخبين شعبياً، ومن ثم يختارون من بينهم الأفضل للإمامة(5).
ص: 156
خلاصة القول، إن (رضا) كان أكثر ما يؤكد عليه هو عودة الخلافة الإسلامية إلى ما كانت عليه في صدر الإسلام عن طريق الانتخاب، وهنا يقول: «إن الأتراك نقضوا هذا القانون، فلا بد من اعتزال هذا الأمر وإفساح المجال للناس لانتخاب الشخص القوي الحكيم المقتدر من بين أبناء الشعب العربي... ولكن إذا كان هناك شخص غاصب لمقام الخلافة بالقوة فطالما لم ينحرف عن الشريعة الإسلامية، يجب على المسلمين طاعته بحكم الضرورة لتجنب الفوضى والفتنة والاضطراب السياسي».
بناءاً على هذه الأحداث التاريخية سلك المسلمون في أمر السياسة والحكم بثلاثة اتجاهات مختلفة، الأول - ما يسمى بحزب الجمود والتقليد الفقهي، والثاني- حزب التقليد الإفرنجي، والثالث - هو حزب التجديد والإصلاح، وهذا الأخيرهو الذي ينتمي إليه الشيخ (رضا) وأخذ يضع له برنامجاً سياسياً(1)، إذ أن من أهم أنظمة العمل فيه تتركز على الآتي:
برنامج المدرسة التي تخرج منها الخلفاء والمجتهدون.
برنامج انتخاب الخليفة.
برنامج الديوان الإداري والمالي، ويضم هذا (مجلس الشورى، ومجلس الإفتاء، ومجلس تعيين الوزراء والقضاة والمثقفين ومجلس الدعوة)(2)وغيرها.
3--3 محور الاصلاح ورفض التغريب
1-3-3 شرع إلى التأسيس النظري للإسلام بوصفه ديناً يقوم بمجابهة انتشارحملات التبشير للمسيحية في العالم الإسلامي، ففي كتابه (الوحي المحمدي) الذي
ص: 157
نقلت بعض فصوله إلى لغات عده ، اذ يرى (شكيب أرسلان) بحسب ما يقوله أيوب
أبو ديه، أنه كان موجهاً للأوربيين ليعلموا أدلة الإسلام على صحة الوحي المحمدي(1).
2-3-3- رغم انه كان يكره حياة الأوربيين الاجتماعية، فكان يعتقد أنه من الممكن لأوروبا أن تعتنق الإسلام لولا الكنيسة ورجال السياسة، هذا من جانب، ومن آخریری أن تخلف الإسلام نفسه داخلياً، إذ أن هذا السؤال قد طرحه قبله أستاذه محمد عبده، بأنه «لماذا البلدان الإسلامية متخلفة في كل ناحية من نواحي التمدن»(2)؟، ويجيب
(رضا) على هذا ،إن تعاليم الإسلام وقواعده الخلقية من شأنها إذا فهمت على حقيقتها من تحقيق الاصلاح، فالإسلام الحقيقي ينطوي على أمرين: الأول- (القول بالتوحيد)، والثاني-(الشورى في شؤون الدولة)، وبفضل (القرآن الكريم )ومبادئه الخلقيةالموضوعية يمكن بعثها من جديد(3) ، من خلال عودة المسلمين إلى كتابهم المقدس (القرآن الكريم)، كما في قوله تعالى:«إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» سورة يوسف، آية (2).
3-3--3 يرى أنه من الضروري للإسلام أن يتحدى العالم الجديد، وان يقبل بالمدنية الجديدة بالمقدار الكافي لاستعادة قوته كما كانت دوماً، منسجماً مع تفكيره، ومنطقياً مع نفسه، إذ كان موقفه هذا مستنداً إلى أحد مبادئ الإسلام، وإن الجهاد لزام على المسلمين، لكنهم لا يستطيعون تأديته ما لم يصبحوا أقوياء، ولا يمكن ذلك ما الم يقتبسوا علوم الغرب وفنونه التقنية(4) ؛ لأن أوربا نفسها لم تتقدم إلا بفضل ما تعلمته من المسلمين في إسبانيا وغيرها.
3-3--4 يؤكد أن هزيمة العرب وتقسيم بلادهم وانكشاف زيف الوعود الغربية،
ص: 158
والاتجاه المغترب ودعواته العلمانية الملحدة التي أخذت تتصاعد مع سقوط فكرة الخلافة لتنفيذ البرنامج الصهيوني ضد العرب ومستقبلهم ونهضتهم(1). لهذا يراهن على العامل السياسي في تحريك التاريخ من جانب، ويرفض التعصب الديني والالحاد من جانب آخر.
5-3-3 ميز بين مسيحية الإنجيل الحقيقية (جوهر الحقيقة )التي تحثهم على الارتباط بالأهل، وبين مسيحية المتفرنجين الزائفة التي تخدم الأجنبي ومؤسساته وسياسته، بعد أن عزا تبرم المسيحيين (العرب) لا من الدين الإسلامي فحسب، بل من الساسة وسلوكهم المشين وجهلهم ومظالمهم .
6--3-3 يرى أن في مكونات التاريخ العربي ثمة قوانين وسنن حيوية يشهد عليها الواقع المعاشي ويعترف بها النص المقدس (القرآن الكريم )أبرزها: الصراع بين الأمم والشعوب، يراد به إظهار الطرف الذي ينحاز إلى الحق والعدل، ويتوج بانتصار المتقين والصالحين ممن منحهم الله الخلافة على هذه الأرض وسلبها من الفاسقين والظالمين. ونسبية الحقيقة التاريخية، هذا يعني لكل زمان شروطه ولكل مكان اشتراطاته، وهذا هو منطق التطور الذي علينا مراعاته، الذي به ارتقى الإسلام بالعمران وبفنون العرفان 49(2).
نستنتج من ذلك، أن هذه الشروط نابعة من صلب الأمة وظروفها، وحركتها لا تقود إلى النهضة إلا بالتمسك بالنبوة وتراث خلافة النبوة، فضلاً عن تضامن المسلمين واتحادهم والنهوض بهم كرافد نقصي من خلاله كل أسباب الضعف والانحطاط
ص: 159
والتخلف والاستبداد، حتى لو تطلب الأمر من الأمة الثورة لإصلاح شأنها، وبهذا تكون النهضة في التاريخ العربي فعلا ووعيا حرا داخليا ينشأ بفضل التفاعل الايجابي الشبكة العوامل الذاتية والموضوعية.
الخاتمة وأهم الاستنتاجات:
من خلال سير البحث توصل الباحث إلى عدة استنتاجات أهمها:
وجدنا ان التفكير الفلسفي سواء كان إسلامياً أم غربياً تميز بكونه يتحدد من خلال (النقد)، اذ لا نجد أي فيلسوف ومهما كانت منظومته الفلسفية التي يؤكدها الا ومارس النقد، أي نقد اللاحق لسابقيه.
أن الاصلاح الديني لديه هو اصلاح يتم بالإسلام وفي الاسلام، قائم على تهذيب الاخلاق، من هنا اخذ يوائم بين (العلم والدين) من خلال ربط الاخير بالمكتشفات العلمية الحديثة كي نواكب التطور ونضاهي الدول الاجنبية في درجة تقدمها وتطورها.
لاحظنا أن الشيخ محمد رشيد رضا، قد تميز عن أساتذته ومعاصريه من دعاة الإصلاح الإسلامي، فقد رأى منذ البداية بأولوية إقامة نظام إسلامي- سياسي دستوري يلتزم بمبادئ الشورى والعدل والحرية، بحيث يشارك فيها الشعب وممثليه.
لقد عاش (رضا) فترة عصيبة من حياة الأمة الإسلامية تغيرت فيها ملامحها السياسية والتي تمثلت بسقوط الدولة العثمانية، رغم ذلك فهو لم يقف مكتوف الأيدي حيال هذه الأزمات التي عصفت بالبلاد من دون اقتراح حلول، ومن هنا وضع برنامجاً فكرياً تربوياً سياسياً لفت من خلاله الانتباه إلى الآثام والمعاصي الناتجة عن ترك النظر في سنن الأرض والتي باتت أشد ضرراً على جسد الأمة العربية، اذ كثر فيها الضعف والجمود ، ولهذا أخذت دول الاستعمار تتكالب عليها والسيطرة على أملاكها، ومن هنا فقد كان منتقداً ومقاوماً شرساً لهم، فكانت له مواقف مشرفة ليس ضد الاستعمار الانكليزي فحسب، بل ضد تواطؤ الاتحاديين الاتراك وذلك لبيعهم الاراضي لليهود، واستمر من غير هوادة يكشف دسائسهم ومؤامراتهم حتى
ص: 160
وصل جهاده ونقده إلى الاستعمار الايطالي والفرنسي ، ومن أجل مكافحة هذا المد
(الصهيوني) ودرء خطره أخذ يحذر من بيع الاراضي لليهود أو لغيرهم من الاجانب، لان بيعها خيانة لله ولرسوله وللامة الاسلامية، فدعا العرب إلى جمع قواهم للدفاع عن الاسلام باعتبارهم أهل رسالة وأصالة ودين، كاشفا زيف الوعود الغربية، والاتجاه المغترب ودعواته إلى العلمانية الملحدة التي أخذت تتصاعد لتنفيذ البرنامج الصهيوني ضد العرب ومستقبلهم ونهضتهم.
لقد وقف (رضا) موقفاً حازماً من الاستبداد الذي تجذر لدى الأتراك، إذ يؤكد دائماً على أن السلطة مصدرها الأساس هو الشعب، ويكون ذلك عن طريق نوابها أهل الحل والعقد)، فلا شرعية لتوريث أو انقلاب على إرادة الشعب فالدولة التي تكون سياستها قائمة على العدل والحق فإنها بالتأكيد تؤول إليها وراثة الأرض، أما التي تقوم بالعكس فتزول والتاريخ خير شاهد على ذلك، فليس للحاكم خيار من هذا.
لاحظنا كذلك انه استطاع ان يتصل بجمال الدين الافغاني الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق (السياسة)، فضلاً عن اتصاله بأستاذه محمد عبده الذي نادى ايضاً بالإصلاح والتجديد ولكن عن طريق( التربية والدين)، لان آراءه لم تكن تشجع على ممارسة العمل السياسي على الاطلاق وهذا خلاف واضح بين الافغاني وتلميذه عبده، في حين نجد ان (رضا) قد سار على منهجي استاذيه بمنهج خاص به بحيث جعله يوائم بينهما، فنادى بالإصلاح والتجديد ولكن عن طريق(الدين والسياسة) معاً، اذ يبين ان الدين ليس في اسراره الروحانية فحسب، بل في الحقيقة التي يعلمها للإنسانية، اما السياسة فهي التي تصون الدين وتحفظ الدنيا، فضلاً عن انها تنشرالاخوة الانسانية.
من خلال سیر البحث وجدنا ان (رضا) قدم مشروعاً حضارياً إصلاحياً نهضوياً شاملاً منطلقاً من إيمانه بشمولية الاسلام، ولهذا اخذ يستجيب للتغير لدواعي العمران المدني ويعيد للعرب دورهم التاريخي بعد اهمالهم للتراث والعلم الحديث، بعد ان تخلفوا عن هذا الدور بحكم الاستبداد، ورأى انه لا سبيل لعلاج ذلك الا بمشروع
ص: 161
(الامة الوسط)، لذلك اخذ يراهن على العامل السياسي الذي من خلاله اخذ يرفض التعصب الديني والالحاد.
إذاً، فلا نهضة الا مع عقيدة صالحة من خلال تجاوز الجمود، فضلاً عن اصلاح الدولة وضمان وحدة القيادة وعدالة الحكومة، وبذلك تكون النهضة في التاريخ العربي فعلا ووعيا داخليا حتى تتمكن الامة من تحقيق تواصلها مع تراثها وعقيدتها وقيمها مع علوم العصر وروحه.
ص: 162
أ.د. مصطفى النشار(1)
تمهيد
يحتل مالك بن نبي من فلاسفة العالمين العربي والإسلامي المحدثين والمعاصرين مكانة متميزة؛ لأنه كان أبرزهم اهتماما بفلسفة الحضارة والتاريخ المعاصرين ولاينافسه في ذلك إلا محمد اقبال، وتعدي اهتمامه بهذا المجال الحيوي التركيز على الدرس النظري إلى التركيز على كيفية استخدام مقولاته ونظرياته في وضع نظرية جديدة تكون جديدة بصورة النهضة إلى العالم الإسلامي من جديد.
وقد نجح إلى حد كبير في وضع هذه النظرية العامة في تفسير الحضارات وجعل نقطة البداية فيها هي الروح الدينية حيث اعتبر أن الفكرة الدينية هي الأساس في أي تغير حضاري ليس في الحضارة العربية الإسلامية وحدها، بل في كل الحضارات السابقة عليها واللاحقة لها. ومن ثم فقد بنى تحليلية لواقع العالم الإسلامي ودراسة طریق نهوضه من خلال هذه النظرية التي تستند على ثلاثة عناصر هي: الإنسان، التراب، الزمن. وكم كان أصيلاً أيضاً في تحليله للحضارات الإنسانية عموماً استناداً على هذه العناصر، وكم كان أصيلاً أيضاً في تحليلاته الجزئية لكل واحد من هذه العناصر ومحاولته من خلال هذه التحليلات خلق الدافعية لدى العرب والمسلمين
ص: 163
للعودة إلى الريادة الحضارية من جديد.
وقبل الخوض في التعرف على هذه النظرية البديعة وتحليلات صاحبها المبدعة
يجدر بنا أن نتساءل: من هو مالك بن نبي؟!
أولاً: حياته وتطوره الفكري (1):
إنه مالك بن عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي الذي ولد بمدينة تبسة التابعة لولاية قسنطينة شرق الجزائر، وكان ذلك في الأول من يناير عام 1905 الموافق 5 من ذي القعدة عام 1323ه_. وقد ولد لأب يعمل موظفاً بالقضاء الإسلامي. ومن ثم فقد ترعرع في أسرة محافظة متوسطة الحال حيث قيل أن والدته اضطرت للعمل بالحياكة وباعت أثاث منزلها لتستطيع الانفاق على تعليمه هو وأخوته. اما بلدة تبسة التي ولد فيها وقضى معظم طفولته بين أرجائها فكانت أقرب إلى البداوة منها إلى المدينة ومن ثم كان الحضور الفرنسي فيها قليلاً رغم أن الاحتلال الفرنسي كان جاثماً على الجزائر جميعها. وقد تلقى تعليمه الأولي في هذا الوسط الريفي الهادئ بعيداً عن المدن الكبيرة. وبالطبع فقد تلقى دروسه في المساجد ودرس القرآن الكريم وفي ذات الوقت التحق بمدرسة فرنسية حصل منها على الشهادة الابتدائية. ثم انتقل بعد ذلك إلى قسنطينة ليكمل تعليمه هناك.
والملاحظ على هذه النشأة أنها نشأة مزدوجة التأثير على فيلسوفنا حيث إن التعاليم العربية الإسلامية كانت قرينة التعاليم الغربية الفرنسية؟ ففي الوقت الذي تأثر فيه آنذاك بصديق له كان دائم الاستشهاد بآيات القرآن الكريم وكذلك بأنباء بلدته الذين اعتصموا بالإسلام ديناً وباللغة العربية لغة حتى لا تذوب هويتهم في هوية المستعمر، نجده قد تأثر كذلك بمعلمه الفرنسي «مارثان» الذي علمه تذوق اللغة والآداب الفرنسية.
ص: 164
وقيل أن ابن نبي قد طالع في هذه الفترة كتابين هامين كان لهما أكبر الأثر في حياته الفكرية بعد ذلك هما«الإفلاس المعنوي: هل هو للسياسة الغربية في الشرق؟»
«للشاعر الإسلامي أحمد محرم ، «ورسالة التوحيد«للإمام محمد عبده وقد اكتشف من خلالهما الكثير من أوضاع العالم الإسلامي. والى هذه الفترة أيضاً يرجع اهتمامه بكتابات عبد الرحمن الكواكبي وخاصة كتابه «أم القرى» وكذلك بكتابات عبد الحميد بن باديس والمجلة التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين برئاسته «مجلة الشهاب».
ولم يمنعه هذا الاهتمام بهؤلاء المفكرين الإسلاميين الكبار وكتاباتهم من الاهتمام في ذات الوقت بقراءة العديد من الكتابات الفرنسية للمفكرين الفرنسيين، وكذلك لم يمنعه ذلك من التردد على البعثات التبشيرية الانجليزية حيث تعرف على الإنجيل
وناقش هؤلاء المبشرين في أدق أفكارهم.
إن هذه النشأة مزدوجة الثقافات أثرت أبلغ الأثر في تكوين ابن نبي الفكري وجعلته يفكر لأول مرة في زيارة باريس وهو في العشرين من عمره ليبدأ مرحلة فكرية جديدة في حياته يمكن أن نطلق عليها مرحلة التنقل والسفر، ولما كان أبرز ما فيها هو استقراره فترة في باريس فيمكن أن نطلق عليها أيضاً المرحلة الباريسية حيث كان قد خاض تجربة سفر فاشلة إلى باريس قبل ذلك وكانت قصيرة الأمد عاد بعدها إلى مسقط رأسه حيث حاول الاهتداء إلى عمل يناسبه فعمل في محكمة فلو التي وصل إليها في مارس عام 1927م« ووفر له هذا العمل الاحتكاك المباشر بقضايا الشعب وفئاته البسيطة مما كان له كبير الأثر على تفتح عقله على حالة بلاده وحال البسطاء من شعبها في ظل الاحتلال. وقد استقال من هذا المنصب بعد حوالي عام من توليه أثر نزاع مع كاتب فرنسي لدى المحكمة المدنية، ولم يدم تردده طويلاً حال تفكيره في العودة إلى باريس حيث أعاد الكرة وسافر إليها عام 1930م لتطول سفرته هذه المرة حيث كان الهدف علمياً في الأساس، وقد حاول في البداية أن يدرس الحقوق بمعهد الدراسات الشرقية إلا أنه لم يسمح له بذلك حيث كان هذا النوع من
ص: 165
الدراسات الإنسانية الحقوقية غير مسموح به للجزائريين، ورغم تأثره الشديد بذلك إلا أنه تحول إلى الدراسات العلمية العملية حيث التحق بمدرسة اللاسلكي ليتخرج مساعد مهندس مما جعله متخصصاً في التكنولوجيا ومهتماً بها بعد ذلك، وكان تخرجه في هذه المدرسة عام 1925م.
وقد انغمس ابن نبي في هذه السنوات الدراسية العلمية في الحياة الفرنسية تماماً واختار الإقامة في باريس بدليل أنه تزوج من امرأة فرنسية أسلمت على يديه. وبدأ يوسع من علاقاته الفكرية والثقافية في باريس حيث التقى فيها بشكيب ارسلان - داعية العروبة والإسلام المعروف – كما التقى هناك أيضاً بغاندي الزعيم الهندي الشهير وصار له ذلك الحضور المميز في أوساط المغاربة والجزائريين حتى لقب آنذاك بزعيم الوحدة المغربية. كما استطاع أن يقيم جسور التواصل مع أبناء جاليات أخرى كانت تعاني هي الأخرى من الاحتلال.
والطريف أنه بعد هذه الرحلة الباريسية والإقامة الطويلة فيها حاول العودة إلى الجزائر والاستقرار فيها لكنه لم يوفق إلى ذلك حيث لفت انتباهه أن بلاده تحولت تحت يد الاحتلال من زراعة القمح إلى زراعة العنب التي تصنع منه الخمور للفرنسيين المحتلين ، ولم يعجبه ذلك وبدلاً من أن يكافح لمواجهته داخل البلاد، عاد إلى فرنسا مرة أخرى وكان ذلك في عام 1939م حيث تفرغ للعمل الفكري فعمل صحفياً في جريدة اللوموند وزاد اهتمامه بقضايا بلاده ومشكلات العالم الإسلامي وبدا ذلك بوضوح حينما بدأ يكتب سلسلة من المؤلفات المهمة مثل كتابه عن «الظاهرة القرآنية» عام 1946م ثم كتابه «شروط النهضة «عام 1949م الذي طرح فيه لأول مرة مفهوم القابلية للاستعمار، وكذلك كتابه «وجهة العالم الإسلامي» عام 1954م. ولما قامت الثورة الجزائرية المسلمة في ذلك العام تفاعل معها كثيراً. وفكر في الرحيل إلى القاهرة التي كانت في تلك الفترة تحتضن كل حركات التحرر الوطني وتتبنى كل قضايا التحرر وتدافع عن قيم العروبة والإسلام بكل ما أوتيت من قوة .ومن ثم كان قراره بالسفر إلى القاهرة ليستقر فيها عدة أعوام من عام 1956 حتى عام 1963. وهذه الفترة من حياته
ص: 166
يمكن أن نطلق عليها المرحلة القاهرية حيث اختلفت وتمايزت عن مراحل حياته السابقة، إذ أنه أتقن العربية وبدأ يحاضر بها في العديد من المعاهد والجامعات، وكم رحبت به المنتديات الفكرية للمفكرين والمثقفين المصريين والعرب بالقاهرة وتوالت أعماله الفكرية الجادة في القاهرة حيث أصدر أول كتاب باللغة العربية وبخط يده كتاب «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ثم كتاب «تأملات في المجتمع العربي» وكتاب «میلاد مجتمع» وكذلك كتاب «حديث البناء الجديد». كما كتب في تلك الأثناء عام 1957م كتاب« النجدة »الشعب الجزائري يباد» وكتاب« مشكلة الثقافة »عام 1958م. ولكل هذا النشاط الفكري المميز تم اختياره مستشاراً للمؤتمر الإسلامي بالقاهرة. وتأثرا بحركة التحرر الأفريقي التي كانت تقودها مصر في عهد جمال عبد الناصر كتب كتابه
«فكرة الافريقية الأسيوية عام 1956» .
أما المرحلة الأخيرة من حياته وهي ما يمكن أن نطلق عليها مرحلة الاستقرار بالجزائر والمزاوجة بين العمل الفكري والعمل الدعوي العملي فقد كان يطمح فيها إلى أن يرى أفكاره ذات تأثير على بني وطنه حيث أنه عاد إلى الجزائر بعد الاستقلال عام 1963م ليتولى العديد من المناصب العامة التي تركزت في حقل التعليم الذي كان يعتبره الأساس المتين لتكوين جيل جديد يحمل عبء النهضة والتقدم للوطن. فقد عين عام 1964م مديراً للتعليم العالي وقام بمهمته خير قيام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولم يتوقف عن الأعمال الفكرية النظرية حيث واصل سلسلة مؤلفاته المتميزة فكتب عام 1964م «آفاق جزائرية» و« انتاج المستشرقين »عام 1968م وكذك «الإسلام والديمقراطية» في العام نفسه. وبدأ كتابته مذكراته التي ظهر منها عام 1965م مذكراته «شاهد للقرن - الطفل».
ولما أتى العام 1967م استقال من مناصبه التنفيذية وفضل التفرغ للعمل الإسلامي والتوجيهي حيث ساهم بنشر المقالات المتتابعة في الصحف الجزائرية وخاصة في مجلة «الثورة الافريقية African revolution »التي خصها بمقالات عن تصوراته الفكرية لاشكاليات الثقافة والحضارة والمجتمع ، وقد نشرت هذه المقالات في
ص: 167
كتبه بعد ذلك. وقد كتب في الفترة نفسها كتباً مهمة منها «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» عام 1970م الذي عده البعض من أهم ما كتب باللغة العربية في القرن العشرين ،والجزء الثاني من مذكراته» مذكرات شاهد للقرن - الطالب» عام 1970 أيضاً. وفي عام 1972م نشر «المسلم في عالم الاقتصاد» و«بين الرشاد والنية» ومن أبرز ملامح هذه المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية، تلك الندوة الأسبوعية التي كان يعقدها في بيته والتي كان يحضرها الشباب المثقف وكذلك الكثير من العاملين في وزارة الأوقاف والشئون الدينية. وقد حث هؤلاء على مواصلة هذه الملتقيات النوعية لتوعية الأجيال الصاعدة بقضايا الأمة، وبناء عليه قامت الدولة بافتتاح مسجد بالجامعة المركزية. ويبدو أنه لشدة نجاح هذه الندوات واستمراريتها قررت الدولة تكريما لشخصه أن تحولها إلى ملتقى دائم للفكر الإسلامي يقام كل عام في الجزائر .
ولم يتوقف نشاط مالك بن نبي في هذه المرحلة عند حدود بلاده الجزائر، فقد قبل دعوة سورية لإلقاء محاضرة بسوريا عام 1972م. وقد اختار لها عنواناً موحياً هو« دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين». وقد اعتبرت هذه المحاضرة من قبل مؤرخيه أشبه بالوصية التي أوصى بها مالك بن نبي المسلمين قبل وفاته. وقد توفي مالك بن نبي بعد ذلك بحوالي عام حيث كانت وفاته يوم أكتوبر 1973م في الجزائر العاصمة بعد هذه الحياة الطويلة الحافلة بالعطاء الفكري والعمل الذي أسهم بشكل كبير في تدعيم حركة التنوير والتحرر العربيين على مدى أكثر من خمسين عاماً في القرن العشرين عانى فيها ما عانى مثل كل العرب من تبعات الاستعمار وعاصر حركات مقاومته كما شهد انكسارات العرب وانتصاراتهم فقد غادر مصر في عام 1967م وهو عام النكسة ومات في الجزائر بعد أن استمتع كغيره من العرب بسماع أخبار النصر الذي تحقق على يد الجيش المصري والجيوش العربية في السادس من أكتوبر عام 1973.
ثانياً: نظريته في البناء الحضاري:
إن قضية القضايا عند مالك بن نبي هي نهضة المسلمين والبحث عن كيفية هذه
ص: 168
النهضة وقبل ذلك عن معوقاتها منذ غروب شمسها بعد انتهاء عصر دولة الموحدين في الأندلس. لكن معالجة ابن نبي لهذه القضية إنما تأخذ منهجاً فكرياً أصيلاً كل الأصالة لأنه يربطها ويصل إليها عبر نظرية في البناء الحضاري هي من الأصالة والعمق بحيث ينبغي أن نتوقف عندها أولاً، ولعل السؤال الجوهري المبدئي فيها هو : ما الحضارة ؟!
إن تعريفه للحضارة ينبثق من رؤية ثابتة مؤداها أن الحضارة فكرة أو هي نتاج فكرة لكن هذه الفكرة ليست بعيدة عن المجال الحيوي الذي تنشأ فيه ؟ فقد عرف ابن نبي الحضارة في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» قائلاً: «إن حضارة ما هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ» (1)، كما عرفها في كتابه «شروط النهضة» قائلاً :« أن الحضارة مجموعة من من العلائق بين المجال الحيوي ( البيولوجي) حيث ينشأ ويتقوى هيكلها وبين المجال الفكري حيث تولد وتنمو روحها(2) . ومن هاتين الزاويتين يعيد تعريف الحضارة بشكل أكثر شمولاً فيقول: «أنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره»(3) .
وينحل البناء الحضاري في رأيه إلى عناصر ثلاثة هي: الإنسان، والتراب، والوقت،
وهو يصيغها في معادلة أشبه بالمعادلات الرياضية هي:
حضارة = انسان + تراب + وقت(4).
وقبل أن يسارع أحدنا إلى نقد هذه المعادلة بقوله إن هذه العناصر الثلاثة متوفرة لدينا كما لدى الأمم الأخرى ومع ذلك فلا توجد الحضارة بمعناها الوثيق إلا لدى أحدها فقط فلماذا غابت عن الأمم الأخرى ؟!
ص: 169
يجيبنا ابن نبي على هذا الاعتراض قائلاً: إن الماء نتاج للأيدروجين والاكسجين وبرغم هذا فهما لا يكونانه تلقائياً ! ولذا قيل إن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقتضي تدخل ( ترتيب) ما بدونه لا تتم عملية تكون الماء. وبالمثل فإن هناك ما يطلق عليه ( مركب الحضارة) أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض. ويرى مالك بن نبي أن هذا المركب حسب رؤيته وما يدل عليه التحليل التاريخي في رأيه - هو الدين، هو الفكرة الدينية التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ(1).
إن الحضارة في رأيه« لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها «فهكذا كان الأمر في الحضارة الإسلامية وكذلك في الحضارة المسيحية ولعله «ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في
البوذية بذور الحضارة البوذية وفي البراهمية نواة الحضارة البراهمية»(2) .
وعلى ذلك فهو يعتقد أن المدنيات الإنسانية حلقات متصلة تتشابه في أطوارها أطوار المدينة الإسلامية والمسيحية؛ إذ تبدأ الحلقة الأولى بظهور فكرة دينية، ثم يبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها بعد أن تفقد الروح ثم العقل(3) .
إنه يؤمن اذن بدورانية التاريخ وبأن كل حضارة من الحضارات تمر بأطوار معينة من البناء إلى السقوط والانهيار، وهو يعتقد أن منحى السقوط الذي تغلقه عوامل نفسية أحط من مستوى الروح والعقل، وطالما أن الإنسان في حالة يتقبل فيها توجيهات الروح والعقل الفردية فهو في الطريق إلى الحضارة ونموها، حيث إن هذه العوامل النفسية تختزن بطريقة ما فيما وراء الشعور ،وفي الحالة التي تنكمش فيها تأثيرات الروح والعقل، تنطلق الغرائز الدنيا من عقالها لكي تعود بالإنسان إلى مستوى الحياه البدائية. وهو يضرب المثل هنا بالحضارة العربية الإسلامية، إذ كان أساسها أن الدين قد بعث في المسلم روحاً محركة للحضارة، فلم يلبث بعد مرحلة
ص: 170
قضاها في الخلافات والحروب أن عاد إلى حيث هو الآن، انساناً بدائياً(1).
وعلى ذلك فإن أي حضارة «تقع بين حدين اثنين هما: الميلاد والأفول... والمنحنى البياني لا يبدأ بالضرورة من النقطة الأولى في خط صاعد ليصل إلى النقطة الثانية في خط نازل وبينهما طور وسيط هو: «الأوج، وبين الطورين الأولين يوجد بالضرورة توازن معين يشير إلى تعاكس في الظاهرة، فطور الأفول النازل هو عكس طور النهضة الصاعدة وبين الطورين يوجد بالضرورة اكتمال معين هو طور انتشارالحضارة وتوسعها» (2).
إن الدورة الحضارية تتم إذن على هذا المنوال« إذ تبدأ حينما يدخل التاريخ فكرة دينية معينة، وتنتهي حينما تفتقد الروح نهائياً الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح. وقبل بدء دورة من الدورات الحضارية أو في بدايتها يكون الإنسان في حالة سابقة للحضارة، أما في نهاية الدورة فإن الإنسان يكون قد تفسخ حضارياً وسلبت منه الحضارة تماماً فيدخل هنا في عهد ما بعد الحضارة»(3).
وإذا كان هذا الإنسان هو في الأساس باني الحضارة وعلى يديه أيضاً تنتهي، فإنه بلا شك يعد العنصر الأهم في البناء الحضاري، فلكي توجد الحضارة لا بد من الإنسان القادر على استخدام العنصرين الآخرين التراب والوقت للوصول إلى الهدف:« بناء الحضارة والتفوق الحضاري. ولكي يؤثر الإنسان الفرد في تركيب التاريخ وصنع الحضارة فإنه يؤثر في مجتمعه ككل بثلاثة مؤثرات: أولاً : «بفكره وثقافته وثانياً :بالعمل وثالثا: برأس المال»(4) .
أما الثقافة فهي التي يكتسبها الفرد بصورة عملية من بيئته ومجتمعه إذ أن «الثقافة هي مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته
ص: 171
كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته». إن الثقافة إذن هي« المحيط الذي يعكس حضارة معينة
والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر»(1) . إن هذا التعريف للثقافة يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان الفرد وفلسفة الجماعة مع الأخذ في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر احدى الحضارات(2).
إن ثمة مركباً اجتماعياً للثقافة يتألف من أربعة عناصر يتخذ منها أي شعب دستوراً لحياته المثقفة أولا:ً عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية وثانيها :«عنصر الجمال لتكوين الذوق العام وثالثها :منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام ثم رابعاً: الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع أو الصناعة على حد تعبير ابن خلدون»(3) .
إن الثقافة بعناصرها الأربعة السابقة هي ما تشكل صورة الحياة في حضارة ما، وينبغي أن ندرك جيدا أن الحياه في أي مجتمع معين قبل أن تتأثر بالفنون والصناعات
(العنصر الرابع فيما سبق) أي بالجانب المادي أو الاقتصادي من الحضارة تتخذ اتجاهاً عاماً ولوناً شاملاً يجعلان جميع تفاصيلها مرتبطة بالمبدأ الأخلاقي وبذوق الجمال الشائعين في هذا المجتمع، ويمكن صياغة هذه العلاقة في صورة جبرية هكذا: مبدأ أخلاقي + ذوق جمالي = اتجاه حضارة(4) .
إذن تختلف الحضارات باختلاف التوجيه الثقافي للإنسان الصانع لهذه الحضارة أو تلك، إذ من الممكن أن تبدأ الحضارة بتوجيه أخلاقي معين أو بذوق جمالي معين وكلاهما سيتبع بالتأكيد حسب رؤية ابن نبي بفكرة دينية أو روحية معينة.
ص: 172
وبالطبع فإن التوجيه الثقافي لا بد أن يبدو في عمل الإنسان وهو العنصر الثاني من عناصر نظام الإنسان إذ أن« العمل وحده هو الذي يخط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي ورغم أنه ليس عنصراً اساسياً كالإنسان والأرض والتراب إلا أنه يتولد من هذه العناصر الثلاثة»(1) . ومن ثم فلابد من توجيه العمل حيث تسير جهود الأفراد كلهم في اتجاه واحد بما في ذلك جهد الراعي والفلاح وصاحب الحرفة والتاجر والطالب والعالم والمرأة والمثقف حتى يضع كل واحد منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء الحضاري« إننا نعمل ما دمنا نعطي ونأخذ بصورة تؤثر في التاريخ، فتوجيه العمل هو تأليف كل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان وخلق بيئته الجديدة» (2).
ولا شك أن المال والثروة يشكلان عاملاً مهماً في البناء الاقتصادي والاجتماعي لأي حضارة بأوزان مختلفة حسب درجة التطور الحضاري.. وإذا كان اصطلاح الثروة سواء كانت متعلقة بالمواد الخام أم بناتج حركة التجارة كان معروفاً من قبل، فإن اصطلاح رأس المال الحديث عادة ما يكون منفصلاً عن صاحبه، إن الثروة مرتبطة بصاحبها أو بما يملك من مواد خام أو كائنات حية، أما رأس المال فهو في جوهره المال المتحرك الذي يتسع مجاله الاجتماعي والاقتصادي، والقضية بالنسبة لنا هنا هي قضية منهج يحدد بمقتضاه التخطيط الاقتصادي المناسب للبناء الحضاري، وأساس هذا التخطيط الاقتصادي الأمثل هو أنه «لا يكون فيه مكان لتركيز رؤوس الأموال في أيدي فئة قليلة تستغل السواء الأكبر من الشعب، بل يجب أن يتوفر فيه إسهام الشعب مهما كان فقيراً وبذلك يتم التعادل بين طبقات المجتمع وتنسجم مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد»(3)، وإذا تم توجيه الثروة ورأس المال على هذا النحو سيسير متضامناً مع توجيه الثقافة وتوجيه العمل ومن ثم يكون الفرد قد استكمل الشروط اللازمة لتشييد التيار الحضاري.
وإذا كان ذلك كله يخص الإنسان ومشكلاته في البناء الحضاري، فماذا عن التراب ؟!
ص: 173
إن التراب في اصطلاح مالك بن نبي يعني الأرض المليئة بالثروات التي يتوقف البناء الحضاري على قدرة الإنسان صانع الحضارة الجديدة على استخدامها وحسن توظيفها والاستفادة منها ، والتراب هو إذن أحد العناصر الثلاثة التي تكون الحضارة فإذا ما توفر «المركب الديني»« التركيب هذه العناصر»(1) . والمشكلة عند ابن نبي هي كيف يحول الناس في أي حضارة الرمال إلى عامل بناء حضاري بتحويلها إلى أرض خصبة أو على الأقل الانتصار على الرمال بتحويلها إلى بيئة خضراء زراعية أو بالانتصار عليها بالاستفادة من الموارد الطبيعية الكائنة تحتها .إن انتصار الإنسان على نوائب الطبيعة وأهوالها - التي أخذ ابن نبي الرمال مثلاً عليها - إنما هو رسالة الإنسان الحضارية بعلمه وعمله عبر الجهود الفردية والجماعية.
إن هذه الجهود هي ما تجعلنا ننتصر على كل ما يخيفنا في الطبيعة ومن ثم نمهد
لصنع حضارة جديدة.
ولا شك إن عنصر الزمن بالنسبة للعنصرين السابقين في البناء الحضاري في غاية الأهمية، حيث أن استغلال الوقت الاستغلال الأمثل في العمل ومواجهة التحديات الحضارية مسألة في غاية الأهمية إذ« انه في ساعات الخطر في التاريخ، تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، إذا استيقظت ،ففي هذه الساعات التي تحدث فيها انتفاضات الشعوب ،لا يقوم الوقت بالمال، كما ينتفي عنه معنى العدم «إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يقدر »وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية، أي حينما يكون لازماً للمحافظة على البقاء أو لتحقيق الخلود والانتصار على الأخطار يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة ويدركون قيمتها التي لا تعوض؛ ففي هذه الساعات لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم. وإنما الساعات نفسها، فيتحدثون حينئذ عن ساعات العمل، إنها العملة الوحيدة المطلقة التي لا تبطل ولا تسترد إذا ضاعت، إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع وأن يجدها المرء بعد ضياعها ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة ولا ان تستعيدها إذا مضت »(2)
ص: 174
هكذا عبر ابن نبي عن ابن نبي عن أهمية الزمن والوقت بالنسبة لمن يصنعون الحضارة ، إن الحياة والتاريخ خاضعان للتوقيت والزمن ، وكلما كان الإنسان قادراً على استغلال الوقت في العمل الجاد وقادراً على اكتشاف التوقيت المناسب لبدء العمل أو إنهائه باتقان، كان انجازه الحضاري عظيماً وجديراً بالانتباه ،إن الاستخدام الأمثل للزمن له أمثلة عديدة رائعة مثل التجربة الألمانية التي انتصرت على ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي خلفت ألمانيا محطمة مدمرة لم يبق لها أي شيء تقيم عليه بناء نهضتها، ومع ذلك لما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الألماني في مستهل عام 1948 وكان آنذاك في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه، نجح خلال عشر سنوات في تحقيق المعجزة والعودة إلى الواجهة الاقتصادية للعالم، إن الشعب الألماني لم يكن يملك أنذاك إلا العناصرالثلاثة: الإنسان والتراب والأرض، وبهم صنع المعجزة الألمانية.
وكم كان ابن نبي بليغاً حينما أراد أن يحفزنا للصنيع نفسه بقوله : إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباء، كما يهرب الماء من ساقية خربة. ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي، قيمة هذا الأمر»(1) .
ولكن لم يقل ابن نبي أي نظام تربوي يمكن أن يولد في الشعب العربي الإسلامي هذا الامر ، هذا في الوقت الذي يقرأون فيه صباح مساء القرآن الكريم الذي كثيراً ما أقسم فيه الله بالزمن وقيمته الوقت ،وفي الوقت الذي نبههم فيه بأن العمل المتقن الخالص لوجه الله هو فقط ما سيكون محل تقديره سبحانه وتعالى لهؤلاء المؤمنين به.
ثالثاً: مشكلات النهضة الحضارية للعالم الإسلامي:
وعموماً فإن السؤال الأهم هنا هو : إلى أي حد يمكن أن توظف هذه النظرية لمالك بن نبي في تفسير البناء الحضاري في تحليل واقع الحال عند العرب المسلمين ؟! ما عوائق النهضة لدينا ؟ وكيف يمكننا التغلب عليها ؟ !
ص: 175
في الحقيقة أن جوهر المشروع الفكري لمالك بن نبي يتمحور حول تلك التساؤلات ومحاولة الإجابة عليها؛ فقد انطلق مشروعه الفكري من فكرة محورية هي أن نهضة
أي مجتمع انما تتم في نفس الظروف التي شهدت ميلاده. وعلى ذلك فإن إعادة بناء المجتمع الإسلامي الحديث لا بد أن ينطلق من الفكرة الدينية الأصيلة كأساس لأي تغيير اجتماعي. وقد عبرت الآية الكريمة« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»(الرعد آية 1) عن ذلك، وقد أخذ مالك بن نبي هذه الآية نقطة الارتكاز الأساسية في منظومته الفكرية (1)، لقد اعتبرها شرعة السماء غير نفسك تغير التاريخ(2).
إن مشكلة العالم الإسلامي في نظره ليست فيما يستحق من رغائب، بل فيما يسودنا من عادات وما يراودنا من أفكار وفي تصوراتنا الاجتماعية بما فيها قيم الجمال والأخلاق وما فيها أيضاً من خصائص تعتري كل شعب نائم»(3) .
وإذا قال بعضنا كما يتردد دوماً إن أسباب تخلفنا وجمودنا تكمن في ذلك الاستعمار الذي لم يترك أرضاً عربية إلا احتلها ونهب ثرواتها وربطها باقتصاده حتى بعد الاستقلال، فإن مالك بن نبي له وجهة نظر أصيلة ومختلفة في هذا الأمر؛ إذ أنه يعتبر أننا لم نستعمر إلا لأننا لدينا تلك «القابلية للاستعمار». إنه يرى أن من الجرأة أن نقرر« أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار والتي تمكن له في أرضها »(4).
إن كابوس الاستعمار لا يذهب عن أي شعب بكلمات خطابية أو أدبية «» إنما بتحول نفس يصبح معه الفرد شيئاً فشيئاً قادراً على القيام بوظيفته الاجتماعية جديراً بأن تحترم كرامته وحينئذ يرتفع عنه «القابلية للاستعمار ولن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتص دمه فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضع حاكميه تلقائياً إلى الوضع الذي يرتضيه »(5) .
ص: 176
إن التخلف الذي يعيشه المسلمون ينبع في الأساس من داخلهم ويعود إلى طبيعة تشکیل عقليتهم وشخصيتهم التي ترسبت فيها مفردات الثقافة السلبية، ولا حل لهذه المعضلة إلا بالتحول من مجتمع غير فعال إلى مجتمع فعال، وفاعلية أي مجتمع إنما تنطلق من فاعلية الإنسان، وقد كان مالك بن نبي يقول في ذلك أنه «إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ»(1).
والحقيقة أن ما يقف أمام حركة الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية إنما هو فكره المكبل بالكثير من القيود منها «أنه فكر خاضع لطغيان الشيء والشخص»(2) إذ يتمحور فكرنا حول أشخاص أو زعماء بعينهم أو حول وثن من الأوثان أو شيء من الأشياء، ولا يمكن أن يتحول الإنسان إلى كائن فعال بشكل إيجابي في التاريخ إلا إذا تمحور فكره حول الفكرة وليس حول هذا الشخص أو حول هذا الشيء. إن الأفكار في رأي ابن نبي هي المحركة للأشخاص ومن ثم للمجتمعات والتاريخ».
ولعل من تلك القيود أيضاً تلك الازدواجية اللغوية الذي يعاني منها المسلمون،فقد غرس العصر الاستعماري فيما غرس من الظواهر المتصلة بالهياكل الاقتصادية والاجتماعية والإدارية في البلاد المستعمرة ظاهرة خاصة هي ازدواجية اللغة التي تتعلق ببناه الثقافية والعقلية وبأفكاره(3). ولقد أحدثت هذه الازدواجية اللغوية انشقاقاً في العالم الثقافي للبلاد الإسلامية ليس فقط ذا طابع جمالي بل أيضاً ذو طابع أخلاقي وفلسفي(4) ، فلقد ترتب عليها ظهور طائفتين من النخبة؛ النخبة التي تتكلم العربية وتحاول استرداد أصولها الإسلامية، والنخبة التي تتكلم اللغة الأجنبية سواء كانت الفرنسية في الجزائر أم الانجليزية في مصر. وكل منهما كان مصيره الفشل حيث لم تنجح الطائفة الأولى في إرساء اتصال بين الروح العربية المعاصرة والتقاليد الأصلية للسلف الصالح لعدم وجود اتصال حقيقي بنماذجها المثالية. والطائفة الثانية لم
ص: 177
تستطع إرساء اتصال مع حضارة العصر لعدم فهمها لروحها العملية؛ فافتقاد الأفكار الأصيلة من ناحية وافتقاد الأفكار الفعالة من ناحية أخرى جعل هذه الشعوب تراوح مكانها ولا تتقدم(1).
وبالطبع فإن مالك بن نبي هنا إنما يلمح من خلال اشكالية ازدواجية اللغة إلى الإشكالية التي شغلت النخبة المثقفة العربية منذ بداية الحقبة الاستعمارية وحتى اليوم اشكالية الأصالة والمعاصرة، وهي في اعتقادي اشكالية مزيفة إذ كان يمكن الاستفادة من ازدواجية اللغة حيث أن اللغة الأجنبية التي أتت مع المستعمر ليست شراً كلها بل كان يمكن الاستفادة منها ببساطة في الإطلاع على منجزات العصر وكأداة لفهم الآخر ، ومن ثم كان من الممكن تلاشي ما ترتب على ثنائية اللغة من اشكاليات عوقت التقدم والنهضة التي كانت مأمولة في ظل التحدي الذي فرضه الاستعمار بتقدمه التقني والمادي لكن للأسف تغلبت النظرة الدونية واستسلم أهل البلاد المستعمرة لأنه كان لديها بحسب اصطلاح ابن نبي «القابلية للاستعمار!.
وعموماً فإن هذه الثنائية اللغوية والازدواجية الثقافية ليست هي فقط المشكلة وإنما المشكلة الأكبر التي عوقت ولا تزال تعوق التقدم والنهوض هي ازدواجية أو ثنائية أخرى أهم أشار إليها مالك بن نبي وهي ثنائية «الأفكار الميتة والأفكار المميتة» أما الفكرة الميتة فهي «الفكرة التي بها خذلت الأصول، وانحرفت عن مثلها الأعلى وليس لها جذور في العصارة الثقافية الأصلية «اما الفكرة المميتة فهي« الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعدما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي».(2) ويقصد مالك بن نبي بالفكرة الميتة تلك الأفكار التي ننقلها عن التراث دون وعي بأنها ليست هي بنت الجوهر الأصيل للحضارة العربية الإسلامية، كما أنها بخلعها من جذورها ومحاولة زراعتها في بيئة لم تعد هي بيئتها كما لم تكن هي كذلك بيئتها الأصلية إنما يعني أنها فكرة ماتت بانتزاعها من أصلها ومن منبتها الأصلي. وهي تتلاقى لديه في حاضرنا المعاصر بالأفكار المميتة التي هي
ص: 178
الأفكار الغربية المستوردة التي لا تتفق مع هويتنا ولا تتوافق مع جوهرنا الأصيل. وفي رأي بن نبي أن تلاقي الأفكار الميتة مع الأفكار المميتة إنما يمثل أحد العوائق الكبيرة أمام نهضة الأمة لأنه« ما أن نبدأ بمعالجة الأفكار الميتة التي لم يعد لها جذور في بوتقة الثقافة الأصيلة للعالم الإسلامي، حتى نصطدم بالأفكار المميتة التي خلفت في عالمها الثقافي الأصيل جذورها ووفدت إلى عالمنا»(1).
إن الحقيقة التي يلفت انتباهنا إليها ابن نبي هي أن المشكلة في العالم الإسلامي هي مشكلة أفكار؛ إذ أنه منذ انحطاطه ما بعد عصر الموحدين يواجه مشكلة أفكارلامشكلة وسائل؛ فتراثه الذي ورثه من عصور الحضارة الإسلامية غدا أفكارا ميتة، أما نماذجه الروحية التي تعود إلى العهد الأول فقد خانتها أفكاره الموضوعة التي خالفت النموذج المطبوع، الذي أرساه العصر الأول ، وحينما افتقد الإحاطة بمشاكله وولى وجهه شطر العالم الغربي، فإن أفكاره المقتولة بفعل الانحطاط قد استخدمت من الحضارة الغربية أفكاراً انبتت عن جذورها وامتصتها مع سمومها القاتلة، فلا هي ادركت نمط الحضارة الغربية في اندفاعه التطوري الفعال المستمد من أصالته المقيمة في حدودها الجغرافية، ولا هي أحيت نماذجها الأصلية في انبثاقها الروحي. وهكذا تضافرت أفكارها الموروثة الميتة والأفكار القاتلة المجتثة من جذورها الغربية لتنتقم من هذا العالم كما ينتقم جسر سيء ء البناء بالانهيار على من بناه»(2).
وخلاصة القول أن العقول العربية وقعت أسرى هذين النوعين من الأفكار وهما معاً يمثلان العائق الأكبر أمام اليقظة والنهوض إذ أن الأفكار الميتة تسكن العقول ولا تدفع حاملها إلى أي مجهود أو نشاط فهي معلومات عقيمة متوارثة تجمدت لدى حامليها ومن ثم كانت أحد أسباب انحطاط الخط البياني الحضاري للأمة الإسلامية، أما الأفكار المميتة فهي التي قتلت الإبداع في النفوس بما لها من قدرة خبيثة على الإخماد وكبح جماح العقول وكسر الهمم وهي التي خلقت في أبناء الأمة الاستسهال وساعدت في تغيب القدرة التحليلية في فهم المشكلات المعقدة رغم أنها في أصلها
ص: 179
وعند أهلها تفعل عكس ذلك تماماً، كما أن الواقع في العالم الثقافي الغربي ليس كله مميتاً، فنحن لم نأخذ منه على حد تعبير مالك بن نبي إلا النفايات، الجزء المميت من
تلك الحضارة »(1).
والسؤال هو : لماذا تذهب النخبة المثقفة المسلمة بالضبط للبحث هناك عن هذه العناصر المميتة وليس عن العناصر الصانعة للنهضة والتقدم كما فعل اليابانيون والصينيون على سبيل المثال ؟!
والحقيقة أن ابن نبي لم يجد الاستثناء من هذه القاعدة العامة التي وقع في فخها معظم النخبة المسلمة ،لم يجده إلا لدى محمد إقبال إذ وجد أن «فكر اقبال جعل من ثقافته شغفاً، واستحق الاحترام لتجرده.. إنه بجهد شخصي أو لصدفة استثنائية استطاع أن يقضي على مخزون الأفكار الميتة التي وجدها في بيئته عند ولادته. ونجد فی عمله الاهتمام بتجديد أفكار بيئته عبر كتابه الذي ترك ثمرته للأجيال «إعادة بناء الفكر الإسلامي»(2).
إن المشكلة في رأي ابن نبي إذن ليست في التتلمذ على الحضارة الغربية «لأنه ومنذ عام 1860 تتلمذ المجتمعان الإسلامي والياباني في مدرسة الحضارة الغربية وبينما أصبحت اليابان قوة اقتصادية كبرى في العالم لأن الأفكار المميتة في الغرب لم تعد تصرفها عن طريقها فقد بقيت وفية لثقافتها، لتقاليدها ولماضيها بينما وجدنا ذلك في اليابان، وجدنا أنه بعد ما يقرب من قرنين من الزمان ورغم الجهود الحميدة التي بذلت في سبيل النهضة في العالم الإسلامي، نجده لا يزال مجتمعاً ذي نموذج متخلف»
(3).
إذن المشكلة التي نواجهها وتطرح نفسها علينا بقوة لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها !
إن صنع الحضارة إنما هو مرهون ببشر أصحاب فاعلية يتفاعلون مع الأفكار
ص: 180
بإيجابية، إن أهم شروط الفاعلية في نظر ابن نبي أن ينظر الإنسان إلى نفسه على أنه صانع التاريخ ومحركه ؛ فالتاريخ نتاج عمل وليس نتاج مقولات نظرية، ومشكلة المسلم اليوم أنه لا يفكر ليعمل، بل يفكر ليقول ويتكلم وقد أدى ذلك ولايزال إلى ضياع الاستفادة من العلم والمال والوقت في صنع حضارتنا الحديثة المنشودة.
رابعاً: الطريق إلى النهضة :
إن ادراك المشكلات السابقة وهي جميعاً مشكلات فكرية والوعي بها ربما يكون عند مالك بن نبي نقطة البداية في طريق الفعالية والحضارية، لكن أولى خطوات هذا الطريق عنده في اعتقادي هي مرة أخرى تغليب الفكرة على الشيء.
1) تغليب الأفكار على الأشياء:
إن المرحلة الحالية في العالم الإسلامي في نظر ابن نبي تتسم بطغيان الأشياء على الأفكار وذلك على أصعدة مختلفة؛ فعلى الصعيد النفسي والاخلاقي نجد أن الأشياء تمثل القمة في سلم القيم، وتتحول خلسة الأحكام النوعية إلى أحكام كمية دون أن يشعر أصحاب تلك الأحكام بانزلاقهم نحو الشيئية أي نحو تقويم الأمور بسلم الأشياء. فالموظف على سبيل المثال يعتمد في تحديد رتبته في الترتيب الإداري بعدد الأجهزة التي يستعملها أو لا يستعملها وليس بقدر العمل الجاد الذي يؤديه !
إن الشيئية تجر إلى هفوات كثيرة ذات مغزى وخاصة في مجال الأدب السياسي ! ففي كلمة تأييد لإحدى البلاد الإسلامية تقرأ عبارة «الحكومة وشعبها» فعكست هنا علاقة الملكية فبدلا من أن يكون للشعب حكومة أصبح للحكومة شعب وأضحى المالك مملوكاً !(1).
أما على الصعيد الاجتماعي فإن هذه النزعة الشيئية الكمية تولد مظاهر اجتماعية غير متوقعة، فمثلاً على باب إدارة من إدارات الحكومة نجد موظفاً يراقب الداخلين ويسجل أسماءهم. وإذا ما عدت إلى نفس الإدارة في اليوم التالي ترى أن التسجيل
ص: 181
والموظف الذي يتولاه غير موجودين. وهكذا فالوظيفة قد ذهبت مع الموظف ! ونفس الشيء على الصعيد الفكري إذ نجد مؤلف أي كتاب لا يسأل عن أي بحث عالج وكيف تم معالجته دائماً، بل عن عدد الصفحات التي كتبها فيه(1)!
أما على الصعيد السياسي فقد تسللت الشيئية وطغيان الأشياء وخاصة في ميدان التخطيط ؛ فعندما يواجه بلد إسلامي ما مشكلة التخلف فهو يواجهها إما بالاستثمار الأجنبي وتلقي المعونات المالية أو بزيادة معدل الضرائب. كما يقع أفراد المجتمعات الإسلامية في حاضر العالم الإسلامي في خطر تجسيد المثل الأعلى في شخص وليس في فكره قد يحققها أي شخص يختار، وقد تسبب ذلك في الكثير من الضرر بالأفكار الإسلامية المتجسدة في أشخاص ليسوا في حقيقة الأمر أهلاً لحملها، فمن ذا الذي يستطيع تجسيد الأفكار دون أن يعرض المجتمع كله للخطر ؟! إن خطر التجسيد قد وضعه القرآن صراحة في الوعي الإسلامي حتى على شخص الرسول ذاته بقوله «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ »(آل عمران...144)
(2).
إن الأمة لن تتقدم إلا بتقديم الفكرة على الشيء وعلى الشخص أو على الأقل علينا أن ندرك« إن للعالم الثقافي ( والحضاري) بنية ديناميكية تتوافق مظاهرها المتتالية مع علاقات متغيرة بين العناصر الثلاثة الحركية: الأشياء والأشخاص والأفكار»(3)وإن اختلال التوازن في هذه العلاقة لصالح الشيء يولد الاضطراب ليس فقط في الدول المتخلفة وإنما أيضاً فى الدول المتقدمة.
إذن علينا إعادة التوازن بين الأفكار والأشياء والأشخاص بهذا الترتيب الذي يعطي الأولوية دائماً للفكرة على الشيء والشخص معاً.
(2) التوافق مع روح العصر مع الحفاظ على أصالة الأفكار:
ص: 182
إن الإشكالية هنا كما صاغها ابن نبي تكمن في أن «فكرة أصيلة «لايعني ذلك فعاليتها الدائمة، وفكرة فعالة ليست بالضرورة صحيحة. والخلط بين هذين الوجهين يؤدي إلى أحكام خاطئة، وتلحق أشد الضرر في تاريخ الأمم حينما يصبح هذا الخلط في أيدي المتخصصين في الصراع الفكري وسيلة لاغتصاب الضمائر. إن الفكرة إما صحيحة أو باطلة، وحينما تكون صحيحة فإنها تحتفظ بأصالتها حتى آخرالزمان لكنها في المقابل يمكن أن تفقد فعاليتها وهي في طريقها حتى ولو كانت صحيحة، فلفاعلية الفكرة تاريخها الذي يبدأ مع لحظة دفعتها الأصيلة لتهز العالم أو يعتقد فيها كنقطة ارتكاز ضرورية لقلب ذلك العالم .وبصفة عامة فإن الفكرة تظل فعالة طالما أنها أثارت العواصف وشيدت شيئاً أو هدمته»(1).
والسؤال هو: أين نحن الآن في العالم الإسلامي من هذه الإشكالية؟!
إننا الآن في عصر الانتاجية؛ ذلك العصر الذي لا يكفي فيه أن نقول الصدق لنكون على حق ! فمنطق هذا العصر لا يكون اثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي، فالأفكار صحيحة إذا ضمنت النجاح(2)، إن هذه إشارة واضحة إلى سيادة المنطق البراجماتي الأمريكي على هذا العصر(3) حتى على الجانب الآخر من العالم الشرقي الشيوعي، فهذا هو ماوتسي تونج يقول هو الآخر: إن أفضل دليل على سلامة أفكارنا هو نجاحها في الإطار الاقتصادي(4).
إذن فليست المسألة في أن يقبل المجتمع الإسلامي أو يرفض الأسلوب العملي هذا أو ذلك، كما لا يكفي أن يعلن عن قدسية القيم الإسلامية، بل علينا أن نزود هذه القيم الأصيلة بما يجعلها قادرة على مواجهة روح العصر والتكيف معه دون تقديم تنازلات إلى الدنيوي على حساب المقدس، فقط علينا – على حد تعبير ابن نبي – أن نحرر
ص: 183
المقدس من بعض الغرور الاكتفائي والذي قد يقضي عليه. أي علينا العودة ببساطة إلى روح الإسلام الأصيلة نفسها، تلك الروح التي عبر عنها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) حال عودته من احدى الغزوات وسط شهر رمضان وكانت مشقة الصوم كبيرة على الصائمين، حينما عزا الفضل في الانتصار في تلك الغزوة إلى الذين أفطروا في ذلك اليوم.ونحن اليوم أكثر من أي وقت مضى بحاجة للتذكير بهذا الهدى النبوي الذي يعطي في حالة معينة الأولوية لفضيلة الفعالية على فضيلة الأصالة.
فالمجتمع الإسلامي مدعو اليوم لأن يستعيد تقاليده العليا وقيمه الأصلية ومعها حسن الفعالية. ومن أجل أن يثبت العالم الاسلامي بمنطق العصر أن أفكاره صحيحة، لا توجد أمامه إلا طريقة واحدة هي اثبات قدرته على تأمين الخبز اليومي لكل فرد(1).
3) التخطيط الدافع للفعالية الاجتماعية:
كما كانت الأفكار أساس الديناميكية الاجتماعية وهي المحركة للأشخاص والأشياء معاً، فإن الفكر الذي يخطط للمستقبل ينبغي أن يركز على «خلق الشروط الدينا منيكية الاجتماعية ثم يحدد الوسائل التي ستتولى تسيير تلك الديناميكية الاجتماعية. وذلك لأننا - على حد تعبير ابن نبي - لا نستثمر ما نريد بل ما نستطيع ولا نستثمر بوسائل الغير إنما بالوسائل التي تقع بالفعل تحت أيدينا(2).
وهنا يكون السؤال : ما الوسائل المتوفرة حقيقة في بلد عند نقطة الصفر من انطلاقه؟!
لقد أجاب ابن نبي على هذا السؤال مسترشدا بالتجربتين الألمانية والصينية؛ فلقد بدأت ألمانيا في التحرك عام 1948م بخمسة وأربعين ماركا وهذا مبلغ تافه في الاستثمار، ولذا فقد كان استثمارهم الحقيقي في رأسمال الأفكار التي هي في رأس كل ألماني، في تصميم الشعب الألماني، وفي الأرض الألمانية التي كانت فقيرة
ص: 184
ومحتلة من الآخرين لكنها كانت السند اللازم لكل نشاط. وفي نفس الفترة أقلعت
الصين الشعبية في شروط أشد قساوة وبدمار أكبر خلفته الحرب وبغض النظر عن خيار الصين الأيديولوجي فقد أنشأت رأسمالها من الأفكار الأولية، وأن تجربتها في بيئة اجتماعية اقتصادية كبيرة الشبه بغالبية البلاد الإسلامية تلقي كثيراً من الضوء على الرسائل البدائية للإقلاع (1).
إن هذه الإمكانيات التي انطلقت منها الصين وهذه الإمكانيات تتوافر لأي أمة أو بلد في هذا المستوى الصفري هي:
أ) الزراعة وهي في حالة بدائية إلى حد ما.
ب) ما يتوفر لديه من مواد أولية في السوق وفي باطن الأرض.
ج) طاقة العمل أي الأيدي العاملة وما يمكن تحويله إلى ساعات عمل فعلية. ومن خلال هذه الإمكانيات البسيطة يمكن الانطلاق اقتصادياً على مرحلتين:
أ) مرحلة اقتصاد الكفاف
ب )مرحلة اقتصاد التطور - أي الإقلاع بمعنى الكلمة (2) .
وبناءاً على هذا وذاك، فإن المجتمع الإسلامي يستطيع في نظر مالك بن نبي أن
يستعيد فعاليته بأن يضع دفعة واحدة في أساس تخطيطه مسلمة مزدوجة:
أ )كل الأفواه يجب أن تجد قوتها
ب )جميع الأيدي يجب أن تعمل
وعندئذ سوف لا تكون أفكاره مثقلة بعدم الفعالية لأن كل الأيادي سائرة في
ص: 185
تحريك عجلة ديناميتها الاجتماعية، والمدافعون عنه سيأخذون في اعتبارهم، أنه ليس المطلوب الدفاع عن أصالة الإسلام بل مجرد إعادة فعاليته إليه بتحريكهم قواه
الانتاجية(1).
وفي اعتقادي أنه ينبغي أن نسعى إلى زيادة مساحة الوعي بأهمية أن بأهمية أن يوجد بيننا من يفهم هذا المخطط البسيط وشديد الفعالية لمستقبل العالم الإسلامي إذا ما أراد المسلمون في أي بلد إسلامي إعادة الروح الإسلامية الأصيلة إلى الوجود. إنها تلك الروح الوثابة العاملة المحبة للعمل والاتقان فيه ، تلك الروح التي لا تقبل وجود عاطل أو جوعان إنها روح المشاركة في العمل والدفاع عن حق العامل في الحياة الكريمة. إن إعادة هذه الروح ليست عبر الكلمات والشعارات الرنانة التي صرنا نسمعها صباح مساء في كل أرجاء العالم الإسلامي، وإنما إعادتها عبر العمل الجاد والمتقن. إننا حقيقة لا نفتقد الأفكار بقدر ما نفتقد إدراك وامتلاك الكيفية التي تحولها إلى عمل خلاق يسد جوع الجوعى ويحافظ على كرامة الإنسان المسلم من الامتهان والتسول.
إن مالك بن نبي قدم لنا بتلك الكلمات البسيطة - بعد طول تنظير - خطة عملية للخروج من نفق الجمود الفكري والكسل العملي، فقط على كل منا حكاماً ومحكومين أن نؤمن بأن الإنسان الفرد هو صانع الحضارة والتقدم وسط بيئة اجتماعية داعمة وخلاقة، وأن الإنسان المسلم يمتلك من الطاقة الروحية ما يكفي لبدء العمل بشرط أن يكون ناتج هذا العمل توفير الطعام لكل الأفواه، وتوفير الحياة الكريمة لكل عامل يعمل هذا هو التحدي وعلى قدر استجابتنا يمكن أن نكون بعد أن أصبحنا اليوم وبعد أكثر من أربعين عاماً على وفاة مالك بن نبي أمة في مهب الريح مهددة بالتقسيم بل مهددة بالفناء.
فهل نعي أنه لم يعد أمامنا اليوم إلا الاستجابة لهذا التحدي الوجودي لأمة كانت في سابق عهدها رائدة الأمم وقائدة الدفع الحضاري للإنسانية، أتمنى أن نكون على وعي بأننا الآن في هذه اللحظة التي بلغ فيها التحدي ذروته ولم نعد
ص: 186
نملك رفاهية التردد، بل علينا فوراً ودون إبطاء مواجهة التحدي بالأفعال وليس بمجرد الأقوال والتغني بأمجاد ماض لم نكن نحن صانعيه، وكل ما علينا الآن أن نبرهن على أننا حقاً ورثته ولا نزال نحمل أمانته، ولا نزال قادرين على حمل هذه الأمانة بتحويل الأقوال إلى أفعال، والأفكار إلى خطط عملية لتحقيق التقدم لأمة هي«خيرأمة أخرجت للناس».
ص: 187
الدكتور الحاج دواق(1)
مدخل:
إذا اندفع التاريخ تلقاء قدره، كشفت مساحة العالم عن أشكال حضارية مختلفة، دلّت على ألوان كثيرة من التدافعات بين شعوب الأرض وسكانها. ولأن من الحقائق الملازمة والمصوّرة لتطور أوضاع العالم وأحواله؛ تبرز أن الكيانات التاريخية الكبرى تقع بينها احتكاكات جمة بقصد إظهار المكنة الثقافية والجدوى الاجتماعية لما تحمله من قيم، فإنها ولابدَّ أن تميل إلى نوع من العمل في اتجاه كبت الأطراف المقابلة لتأبيد تسلطها على الأوضاع، وضمان مصالحها باستمرار في سياق استغلالات عميقة تستنزف الثروات والمقدّرات وقبلها الإنسان.
ولأن العلاقات الحضارية هي أعلى شكل ممكن من الصلات الوجودية في التاريخ، فإن لكل أمة أو شعب أو قوم أو دولة، نصيبه القليل أو الوافر من الإكراهات والضغوط من الأطراف الأخرى. وإذا أخذنا مثالا العالم الإسلامي، فإننا سنجده منذ بواكير تشكله الأولى قد مني بوابل من الضغوط التي قصدت القضاء على تجربته الحضارية وخنق عطاءاته الثقافية لعلة أو لأخرى خاصة من قبل أكبر التسلطات
ص: 188
المتاحة آنئذ من الروم والفرس، واستمر الحال في جدل انبساط و انقباض تاريخيين، مرة في صورة انكفاء ومدافعة، وأخرى خروج وامتداد.
ومع الوقت استطاع أن يحقق لنفسه انجازات نوعية واستثنائية بالنظر إلى عمره التاريخي وامكانياته الحضارية، لكن استمرار ذلك كان مرهونا بضرورة وجود وفرة عارمة من الإرادة الحضارية التي تتيح له المقدرة على توظيف الامكانات والمقدرات التي يحوزها. فخبا بريق الغاية التاريخية الكبرى وتراجعت الطاقات المعنوية التي أمدته لقرون طويلة، فترهلت أوصاله،ودخل في دوامة صراعات متوالية، تجليها البارز؛ التناحرات السياسة بين العائلات الحاكمة وباعثه الباطني فقدان المبرر النظري والفكري إزاء جدوى أن يستمر الإسلام في التاريخ، فانقلب الكل ضد الكل.
هذه الحال أسلمته في إطار منطق التداول الكوني بين التجارب الحضارية الكثيرة إلى أن يتولى زمامه غيره، خاصة لما قويت رغبة المتسلطين في الانتقام التاريخي واستعادة الجغرافيات المفقودة، وتلقين القوي السابق حضاريا درسا يجعله يقر بخطيئة إسقاط حضاراتهم في السابق. ومن أبرز التجارب التي مارست إكراهها وعنفها على العالم الإسلامي، الغرب، أو ما أنعته بالظاهرة الغربية. ومن أهم مفكرينا الذين تعاطوا فلسفيا معها المفكر الجزائري مالك بن نبي« رحمه الله »(1973م) واعتبار اختيارنا له في تناول بنية الظاهرة الغربية وتكوينها، أنه صاحب نظريات إزاءها، وحيث تعتبر من أهم المدونات الفكرية التي تعاطت معها معرفيا وعملت على سبر عمقها الرؤيوي وانعكاساتها المدوية على كل نطاقات التاريخ، وتقاطعاتها الدموية والاستغلالية للعالم الإسلامي.
فما هي الظاهرة الغربية عنده؟ومن أين نشأت واستلت مبررات تكونها وتطورها ومآلها؟ ما التجليات والأنماط الثقافية والحضارية لهذه الظاهرة؟ وكيف انعكست بحمولاتها على العالم والعالم الإسلامي؟ وما أبرز آثار ذلك؟
ص: 189
0 - 1 في التشكل التاريخي والبنية المفهومية للغرب:
مفهوم الغرب :
مصطلح الغرب the west يدل في خضم استخداماته الجمة، على استقراره دلاليا على جملة عناصر بالتأليف بينها تعطينا حقيقة معقولة بها نتصور ونملك ونفسر ونحكم على هذه الظاهرة التاريخية الممتدة. والغرب يدل في مستوى أول على موقع جغرافي من الأرض، قبال المناطق الأخرى كالشرق مثلا، أو يدل على نمط وحدوي من الخصائص التاريخية والاثنية والثقافية والحضارية عموما، والتي تشكل في مجموعها ملمح النقاء إزاء الأنماط المفارقة أو المختلفة، قوميا ولسانيا، وما إلى ذلك من معايير التفريق(1).
وهنا يكون الغرب هو الوحدة النسبية بين سكان أوروبا خاصة ومن انحدروا منها وتوزعوا في العالم، حيث يشتركون في الخلفية التاريخية ذات الأصول الإغريقية والرومانية والجرمانية أساسا، إضافة لبعض الاثنيات الصغيرة، وأعرافها من الفلسفة اليونانية والقانون الروماني، والديانتين المسيحية واليهودية، والتي تقطن جميعها منطقة غربية من الأرض وانفتحت على العالم الجديد (جديد حسبهم وهو من أقدم العوالم والأمم)أي الولايات المتحدة الأمريكية، وتبادلت بينها وأوروبا القيادة التاريخيةللمجموع المنعوت بالغرب (2).
و «... كانت الاستعمالات الأقدم (للغرب) أو نظائرها في اللغات الأخرى تشير ..... إلى اتجاه أو منطقة على خارطة سياسة معينة، مثل تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى غرب - شرق في أواسط القرن الثالث، وانقسام الكنيسة المسيحية إلى غربية وشرقية بدءا من القرن الحادي عشر ، والعالم الجديد للأمريكيتين منظورا إليهما من أوروبا أو المحيطات التي تقع إلى الغرب البعيد من المملكة الوسطى (في الصين) على أن التعبير الذي أكتسب طابعا عالميا عن (الغرب) لم يقع في الاستعمال العام إلا عبر
ص: 190
القرنين المنصرمين بوصفه التكوين الرئيس في أوروبا الغربية التي صار ينظر إليها باعتبارها كلية الحضور في السيطرة الاستعمارية على عموم أرجاء العالم»(1)
تبدو المقاربة السالفة متراوحة بين معان متعددة للمصطلح، ومرد ذلك الأساس الذي شكل المنظور وبناه، فإذا اعتمدنا التاريخ ،وجدناه كيانات موحدة انفصلت الدواع سياسية أو دينية، فظهرت داخلها أجزاء بعضها يقع غرب المقر الرئيس السابق -أي العاصمة - وأخرى شرقه ،فكان الغرب للمقابل. أو يكون التعين تبعا للموقع الجغرافي للناظر من أدنى نقطة بالنسبة إليه إلى أقصاها، فيكون الغرب موقعا متبدلا باستمرار. لكن القار في هذا التوظيف؛ الإشارة إلى غرب الأرض دائما، أو مغرب الشمس ، وأدل مفهوم هنا أوروبا كلية ،كلية الحضور، بداعي الهيمنة والسيطرة والتخارج الذي مارسته بعيدا عن حدودها لتعميم نموذجها الحياتي على العالم، أو غربنة الآخرين، فتشكل الوعي الشقي إزاء الغرب، أي انطباع الناظرين باعتبارهم مجالا لتنفيذ الطموحات ،والآخر الناظر إليه بما هو نموذج نهائي يحتذى في إطار تحقيق يوتوبيا الخلاص العام.
الأسس التكوينية ومصادر التشكل:
«على أن المفهوم الذي يقول إن الأوربيين يمثلون نظاما يكاد يكون مختلفا للكائنات لم يكن مجرد نزعة للتركيز العرقي على الذات، لولا مجرد محصلة لنرجسية دفاعية، لقد جاء مستندا إلى منجزات عصر النهضة الأوروبية والثورة العلمية ومرحلة التنوير، ومن ثم جاء التشديد على المعرفة وعلى العقل ... وكذلك على القوة وعلى العقل. ولكن فيما كانت تلك المنجزات حديثة العهد، فقد كانوا يعودون بجذورها إلى عصور سبقت تكمن في هيكل الثقافة، وفي التراث الذي تناهى من الإغريق (أو الجرمان)، وفي الأنعم التي جاد بها الله عزّ وجل وأضفاها على شعب مختار، ثم إلى مقدم المسيحية..»
(2) إذن المفهوم تشکل عبر تراكمات تداخلت فيما بينها ولم تستقر
ص: 191
فوق بعضها كما الطبقات الجيولوجية، فلا يمكننا القول أن كل مرحلة ألغت سابقتها، بل رفدتها بأهم سماتها وميزاتها، وبتشابكها واستحالتها تكونت روح متقاربة المعالم أو موحدتها، يمكن وسمها بالغرب.
فإذا كانت الأصول هناك، فاستعادتها هنا، وبإصرار قاد إلى بناء روح مغامرة تواقة للعلم والمعرفة ،ومترجمة لذاتها في تقنية كبرى،سمحت لها بالسيطرة على الطبيعة ومن ثم على التاريخ ،في مزيج متنوع بخصائص تم الوعي بها بالتدريج.
«... ويؤكد بول فاليري Paula Valery أن ثلاثة تقاليد شكلت أوروبا[الغرب كما
في الكتاب ]:
المسيحية وبأكثر دقة الكاثوليكية في المجال الأخلاقي.
التأثير المستمر للقانون الروماني في مجالات القانون والسياسة والدولة.
التراث الإغريقي في مجال الفكر والفنون، ولماذا نفصل هذه التيارات عن مصادرها ؟ لأنه هكذا يتولد الإيهام بأن الغرب ما هو إلا بداية مطلقة (ليس قبله شيء)، وأنه ظهر كنبتة قد نمتنع عن تتبع جذورها، نبتة منعزلة ووحيدة من المعجزة التاريخية(1).
إذن؛ هي خصائص متكررة ذات سمة يشبه أن تكون قارة، مغرقة في تكريس مفهوم التكوين المنعزل، والتشكل الاستثنائي ضمن مزيج خاص، جمع العقل إلى الروح فالأخلاق، وقبلها الجغرافيا، التي ضمت اليونان وأطلت على المحيط الأطلسي، في البداية، ثم ذهبت إلى أطراف عوالم أخرى، صبغتها بلونها الثقافي الخاص، ما أدى إلى نمط من الخصوصية الفريدة في الظهور والتطور. سماها غارودي رحمه الله بالمعجزة التاريخية. و«رغم ذلك يحقق «الغرب» بوصفه بناء أسطوريا آثارا قوية حين يجمع إلى ذاته خصائص متنوعة ومتناقضة ... فهو كعنصر أسطوري ما زال ينظم طريقتنا التراتبية
ص: 192
في إسناد مكان إلى شعوب ومؤسسات على الخريطة العالمية_التاريخية»(1).
يقودنا المعنى المتضمن في التعريف السالف إلى حقيقة أن الغرب ليس واحدا من حيث ما هو ، أي كحقيقة موضوعية ماثلة بشكل صلب ومتعينة كصخرة صلدة في صفحة العالم وشريط التاريخ، بل هو بوتقة انصهرت فيها معطيات مختلفة، بعضها جاء من الشرق، كما هو حال المسيحية، وأخرى من الغرب، كالقانون الروماني وقبله الفلسفة الإغريقية في عصريها الهليني والهلينستي. ثم إضافات العبقرية الحداثية وفتوح المعرفة وتطورات العلم ومنجزات التكنولوجيا وتأويلات الأيديولوجيا للتاريخ الكوني. كل هذا تدامج، فانبثقت عنه ظاهرة أدركت نفسها كيانا واحدا مقابل الآخرين
«...وهكذا يؤدي الغرب دورا أيديولوجيا في الرغبات التنظيمية للمجتمعات غير الغربية بقدر ما يؤديه في ما يسمى بالمجتمعات الغربية. وحتى الثمانينيات من القرن الماضي كان كثير من سكان بقية العالم يتخيلون أن الغرب هو المؤشر على مستقبلهم والهدف الذي ينبغي أن تتطور مجتمعاتهم نحوه...»(2) بالإضافة للمعنى المفهومي الذي قد يمنحه مصطلح الغرب فإنه يتيح شكلا من التحليل الإجرائي بتصنيف أنماط معيشة وأساليب حياة بالنظر إليه، وقد يتعدى الاعتبار المعرفي البحت في تصوير أجزاء العالم وتطوراته، إلى ناحية أيديولوجية تقوم على الدعوى إلى التبشير بنموذج الحياة الغربية بوصفها أعلى مثال ممكن لتطور الحضارات، أو بالنظر إليه كسقف متجاوز تغلب على التخلف وحقق التقدم المطلق . ولا يتركز تصور التقدم المطلق تصورا وضعيا إلا على التطور العلمي والتقني الذي يقيس قدرة الإنسان على الطبيعة وعلى أخيه الإنسان، ومن المهم أن تكون عصور البشرية قد أخذت اسمها من التقنيات المستعملة، عصر الحجر المنحوت ،الحجر المصقول، عصر البرونز، عصر الحديد...إلى عصر الآلة البخارية والكهرباء وعصر الطاقة النووية ...» (3)
ص: 193
يظهر أن نزوع السيطرة، والتسلط التقني بل كما سماها غارودي- الدكتاتورية التقنية، تعد لازمة تصورية في بناء مفهوم الغرب، فبعيدا عن التقدم اللانهائي في التاريخ، والممتد في المكان ،لا نجد لدلالة الغرب معنى كما حدده نقاده حتى من الفلاسفة الغربيين، فالمعرفة قوة في الأساس، ولا يؤشر على جدواها سوى استخدامها، والاستخدام ،يبدأ عند التكنولوجيات الرفيقة، وصولا عند الآليات الإعدامية في أدوات الحرب والتنافس في تطويرها.
إلى هذه النقطة نجدنا - تحليليا - أمام فوات مفهومي لا يسمح بتجميع مادة معرفية منضبطة وذات مقدرة تفسيرية عالية تشير إلى المصطلح - الغرب -«. . . وهذا المفهوم ذو الدلالات المتموجة، لم يمتثل أبدا للمعنى الجغرافي الذي يوحي به فقد راهن منذ البدء على المقاصد السياسية والدينية والثقافية، ومن ثمة ثبّت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية على أنها ركائز ،قارة تشكل أسس هويته... وتتجلى إشكالية هذا المفهوم من أنه تقصد أن يؤسس وجهة نظر حول- الغرب- بناء على إعادة إنتاج مكونات تاريخية توافق رؤيته معتبرا إياها جذورا خاصة به، ومستحوذا في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها، إلى ذلك تقصد ذلك المفهوم أن يمارس إقصاء لكل ما هو ليس غربيا، دافعا به خارج الفلك التاريخي الذي أصبح -الغرب - مركزه...»
وهنا لا نعدم تقريرا مفاده أن الإشكالية التعريفية ليس منشؤها منطقيا غالبا، أي تنبعث من تداخلات التصورات والأحكام العقلية بمقدار ما تنبثق عن استعمالات خاصة ترجع إلى التدافعات والمعارك الاصطلاحية بين الثقافات المختلفة، لذلك تلقف الغرب ظاهرة متماوجة الدلالة بل متلاطمة، نظرا لما تسوقه من مادة ذات مصادر كثيرة ومختلفة، في بنائه ومفهمته والقار عندنا أن المعنى تشكل بتطورات كثيرة وتداخل عقول علمية وفكرية بل وأيديولوجية في تشكيله.
ص: 194
وتبرز ميزة لافتة في تكوين معنى الغرب، وهي التشابك والتمازج الاستثنائي لمعطيات بعضها مادي جغرافي، والأخرى عسكرية سياسية اقتصادية، وقبلها جميعا ثقافية ودينية «ولم يكن حظ الحضارة المسيحية في نفوس أهلها وبنيها كحظ الحضارة الإسلامية، فقد نشأت المسيحية في وسط فيه الخليط من الديانات، والثقافات العبرية والرومانية واليونانية، فلم تُتح لها أن تدخل قلوب الناس وسط الزحام الفكري الثقافي لتؤثر فيها تأثيرا فعالا، ولم يكتب لها أن تعمل عملها إلا عندما بلغت وسط البداوة الجرمانية في شمال أوروبا، حيث وجدت النفوس شاغرة ، فتمكنت منها وبعثت فيها الروح الفعالة التي اندفعت بها لتكون حلقتها في سلسلة التاريخ... إلى مرحلة التوسع العقلي، التي انطبعت بطابع (ديكارت )والتوسع في البلاد الذي حققه (كريستوف كولومبوس) باكتشاف أمريكا [بتأثير] شروط خلقية وعقلية ضرورية للإنسان لكي يستطيع أن ينشئ ويبلغ حضارة...»(1).
ج- المكون المسيحي وطبيعة التشكل الحضاري للظاهرة الغربية:
يظهر أن التحليل الذي أوردناه فيما يخص المسيحية وحضارتها لا صلة له بمعنى الغرب وهو تفسير يختص بنشأة المسيحية وارتحالها، لكن الممعن فيه جيدا، يستنتج أن مالك بن نبي قد عبر عن أوروبا وحضارتها أي الغرب الأول، ثم المتطور فيما بعد، قد تلقفت المسيحية وحقنتها بروحها، والعكس منطبق، والتأمت مكوناتها الكثيرة ضمن روحانية أخلاقية خاصة دفعت بها إلى الوعي الذاتي المجتمع من قوة القبائل الجرمانية، وعبر قانون الرومان ،ووازعهم الإمبراطوري، وقيم المسيحية كلها، كوَّن ما نسميه الغرب.
ثم أضفى عليه ديكارت (1650 Descartes) عقلانية المنهج والفهم والتعقل العلميين، لما ابرز ضرورة المعركة العلمية المنهجية. وانبعثت عن فلسفته مغامرة فكرية كبيرة، انتهت إلى تشييد صرح العقل الفلسفي والعلمي الغربي، أي الغرب منظورا إليه من خلال تطور فكر فلاسفته وعلمائه، ثم بعض الاهتزازات التاريخية التي عبر عنها
ص: 195
فلاسفة الأفول والسقوط كما هو حال اشبنجلر (1936 Spengler) في مؤلفه المهم أفول الغرب، أو ألبرت شفيتزر (1965) Schweitzer) في فلسفة الحضارة.
فليست المساواة التحليلية، بين أوروبا في مرحلة ما من عمرها التاريخي، وبين المسيحية وامتداداتها الخاصة، خروجا عن مألوف الاتجاهات التحليلية التي درست تاريخ الحضارة، فالغرب/ أوروبا/ المسيحية، ثالوث مندمج وتركيبة فريدة في نمط علاقات أخرج للعالم هجينا متميزا، عد بوصف ما، الحضارة الأفضل التي عرفها الإنسان.
«عندما نتحدث عن الحضارة اليوم في معرض الثناء، فالذي نعنيه بالحضارة هو ذلك المجموع من الاعتقادات والعادات السائدة في أوروبا وفي أجزاء الكرة الأرضية التي يقطنها أناس من أصل أوروبي، وإذا توخينا من هذا التحديد بعض الغايات وجدناه مرادفا للعالم المسيحي، وإذا توخينا غايات أخرى غيرها وجدناه مرادفا للبلدان التي حسنتها الثورة الصناعية، ... استطاعت بفضل العلم التطبيقي... أن تفرض على الكرة الأرضية بكاملها سيطرتها ... هذه الحضارة هي إرثنا، ونحن ،ولربما العالم بكامله، مرتبطون بها ... »(1)
إذن؛ الغرب هو أوروبا الممتدة من اليونان بعادات خاصة، وتقاليد متوارثة، تم رفدها بالقيم المسيحية، وإعادة بنائها وتأويلها في عمليات متتالية بدأت مع عصر النهضة، ووصلت ذروة المعاودة الإنشائية في عصور الحداثة الكبرى وتقنياتها العلمية اللافتة. «ولعل أثر هذه النظرية قد لوحظ في الثقافة الغربية في عهد نهضتها، حيث كان (توماس الاكويني )ينقيها ..-ولو عن غير قصد منه- لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية، ولم تكن ثورته ضد ابن رشد وضد القديس (أوغسطين) إلا مظهرا للتجديد السلبي، حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية أو ميراثا ميتافيزيقيا للكنيسة البيزنطية وأتى بعده (ديكارت) بالتجديد الإيجابي، الذي رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الطريق الذي بُني على النهج التجريبي، والذي
ص: 196
هو في الواقع السبب المباشر لتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي»(1) يظهر المنوال الجدلي في تكون الغرب كظاهرة مستقلة في التاريخ، من الأداءات الواعية التي مارستها عبقريته، متمثلة في فلاسفته ومفكريه ولاهوتييه، حين عمدوا إلى فك الارتباط بين المنجزات المعرفية المنقولة من تراثات الغير، والروح الثاوية بين عناصرها تمهيدا للعملية الثقافية العميقة، التي تعيد تأليف ونسج تلك العناصر، ضمن صياغات خاصة تولد المعنى الجديد وتعمل على ضخه في أوصاله، والدفع به إلى الأطراف التاريخية القصوى في شكل النماذج اليوتوبية التي ستتصور مستقبل أوروبا والغرب، وهكذا كان ديكارت مدركا لما قام به الاكويني، فقام به، أحدهما سلبا والآخر إيجابا.
فالعمليات التأسيسية للمجتمعات غالبا ما تحتاج لمسوغات تمنح في هيئة فكرة متعالية ذات طابع ميتافيزيقي أو ديني، وقد تعطى في شكل تبريرات فلسفية أو دينية تتجه إلى مجالات تعريف الإنسان وتعيين دوره في التاريخ، وهذا ما قام به الغرب-وعلى رأسه أوروبا - حالما بنى«... مسوغاته التقليدية، المسوغات التي أعطت للشخصية الأوروبية في القرن التاسع عشر أقصى توترها، عندما كانت أوروبا تؤمن بالتقدم العلمي وبالحضارة وبالاستعمار رسالة حضارية، فكانت هذه المسوغات تحرك وتوجه كل الطاقات الاجتماعية، اليد والقلب والعقل في أوروبا، وتوحد صفوفها في العالم، إذ كان الأوروبي ينظر إلى التقدم العلمي ميزة يمتاز بها عقله، وإلى الحضارة على أنها فطرته، وإلى الاستعمار على أنه امتداد حضارته خارج أوروبا وقد كانت هذه الأشياء وعلى الأقل الشيئان الأولان منها. تحقق الإجماع في الداخل في حدود أوروبا والإعجاب في الخارج خارج حدودها»(2).
فالتوليفة الثقافية بمكونات التاريخ التي وضعت أمام أوروبا إمكانية أن تتكون وتتألف ككيان تاريخي ذي خصوصيات وسمات منحت لها مبرر الوجود في المقام
ص: 197
الأول، ثم الامتداد والمضي إلى الإعلان عن أعباء تاريخية خاصة، سواء كانت محقة أم مخطئة، إلا أنها حركت إرادتها وحشدت قواها للقيام بأدوار ومهام وسمتها بالرسالة التحضيرية للآخرين فالروح الاستعمارية جزء مكيف من طبيعة الغرب، لأنه يرى في الآخر أقل منه شأنا، وأضعف وضعا، ودعاه إلى مغادرة حدوده، لتعميم صورته الثقافية وطرازه الحياتي.
«وبقدر ما كان مجتمع غربي أوروبا يتحلل ويتفكك، بالمواد المتخلفة عن هذا التحلل ذاتها استطاعت المسيحية أن تبني المجتمع الجديد خطوة خطوة، وهو المجتمع الذي نطلق عليه هذه الأيام بالمجتمع الغربي... لقد خلف اختفاء الإمبراطورية الرومانية في الواقع جميع مكونات المجمع الروماني من أشخاص وأفكار وأشياء على حال من الفوضى كان من المحتم تنظيمها بطريقة أخرى وكانت الفكرة المسيحية هي التي استخرجت النسق الغربي من غضون الفوضى...»(1)فالغرب حسب التحرير السابق؛ هونسق قيمي أتاحته المسيحية بروحها المتوثبة إلى بناء تاريخ عالمي، رتب رمما حضارية سابقة، موروثة من اندثار الشكل السياسي لروما الإمبراطورية، وأعاد لحمها ضمن عمل شاق، كان نتيجته ظهور الغرب.
ونتيجة لتدخل الاعتبار المسيحي في تجميع الركام التاريخي السابق عن ارتحالها لأوروبا، تلملمت تلكم العناصر في إطاروحدة، وهنا نسأل: «هل تمثل أوروبا من هذه الناحية وحدة ثقافة خاصة ؟ بالطبع، إنها من زاوية معينة تجسد قدرا مشتركا وقد ارتسمت صورته في القرون الوسطى خاصة بفضل العلماء ولغتهم اللاتينية، دامت هذه الهوية على مر العصور،أثبتت الثقافة الأوروبية دعوتها العالمية عبر العقل الباروكي(القرن السابع عشر) وبواسطة عقل علمي فاعل من باريس إلى برلين، وحتى أبعد من ذلك، كما لا يجب نسيان الفلسفة ومساهمتها في تحقيق الأهداف العقلانية اللامتناهية، ولدت أوروبا في الشرق السامي، وفي أثينا الفلاسفة وتبدو شخصية ثقافية ذات مهمة
ص: 198
عالمية ...»(1) يبدو أن النص الذي سقناه لإثبات المدلول المفهومي والتاريخي للغرب، يخالف السياق التحليلي الذي بنينا عليه استنتاجاتنا عند مالك بن نبي، فالأخير يشير إلى مركزية الوصل الذي قامت به المسيحية لأوروبا فغذتها بروح التجميع والنزوع العالمي، ثم نجدنا أمام عناصر كثيرة شكلتها وأوجدتها، أيعني ذلك أننا انسقنا خلف تناقض تفسيري لم ننتبه له ؟ لا نفهم ما فعله ابن نبي إلا بالرجوع إلى نظريته الكلية حول الحضارة، والتي تقوم على الفكرة الدينية كأساس رتق البناء التاريخي بلحمة حضارية واحدة متماسكة جعل الأوروبي/الغربي يشعر بالانتماء والهوية الواحدة قبال العالم، لذا صدرنا رؤيته لمعنى الغرب بقوله أن المسيحية مثلت الوخزة القيمية الأولى التي وحدت من تصارع بالأمس القريب. فلا الإسكندر المقدوني، ولا إمبراطورية روما تمكنت - رغم أسوارها وجيوشها - من بلوغ ذروة المادة التاريخية التي جمعت كل تلك الاثنيات واللغات والأعراق تحت مظلة واحدة.
«فلقد شكلت الفكرة المسيحية ( أنا ) الأوروبي أو ذاته، كما صاغت (منظر) أوروبا الذي نشهده مشهد في منتصف هذا القرن العشرين، ولا ريب أن الناظر المتطلع سوف يذوب دهشة من وحدة هذا المنظر ، والشخصية التي تعطيه الحياة وتحركه، فإن أوجه التشابه بين الأشخاص والأفكار والأشياء هناك تعد في الواقع في منتهى الوضوح. وبرغم هذا فإن تلك ظاهرة عامة»(2)هي في النهاية تبرز الكيان الحضاري والثقافي والسياسي والاقتصادي الذي تسمّى بأوروبا مبدأ الغرب الأول وقلبه.
ثانياً - أنماط الظاهرة الغربية وأشكالها الثقافية والحضارية:
انتهينا من السوق المفهومي للعناصر المختلفة التي كونت الغرب إلا أنه ظاهرة مركبة، وليست بسيطة، وأنها عميقة ممتدة إلى عمق الماضي الذي تواردت منه المواد التاريخية الأولى، ثم تألفت مع مكونات أخرى ، فأظهرت إلى العالم كيانا كبيرا بتجليات مختلفة حددت له نمطية خاصية، وقدمته في أشكال وبنيات يتسلط بعضها
ص: 199
أحيانا ويتأخر أخرى. وهكذا بدا الغرب في التاريخ لا«... باعتباره مجرد حوادث تتعاقب، دون ما ربط جدلي بينها، فإن هذه النظرة تؤدي إلى نتائج معينة، ليست هي التي تنتج عن نظرنا إليه، حينما نعده سيرا مطردا تترتب فيه الحوادث ترتيبا منطقيا كما تترتب عن الأسباب مسبباتها ...»(1) فالغرب إذن؛ كتاريخه أو كالتاريخ، بنية مضطردة. تطورت في مسار طويل، تداخلت أساسيات عديدة في دفعه إلى مصيره، بعد أن يكون في صيرورة وجدل مستمرين.
«إن حضارة ما هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ، وبني هذا المجتمع طبقا للنموذج الأصلي لحضارته إنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي يحدد سائر خصائصه التي تميره عن الثقافات والحضارات الأخرى، إن الفكرة المسيحية قد أخرجت أوروبة إلى مسرح التاريخ، ولقد بنت عالمها الفكري انطلاقا من ذلك. ومع عصر النهضة استعادت اكتشافها للعالم الإغريقي فتعرفت على سقراط باعث الأفكار، وأفلاطون المؤرخ لتلك الأفكار، وأرسطو مشترعها» (2) فما دمنا في سياق تحليل حضاري للظواهر التاريخية، يكون الغرب نتيجة رؤية كونية فسرت له العالم ومنحته مبرر وجوده في التاريخ، وكذا مسوغ بقائه واستمراره وكلما احتدم الواقع بتحدياته، التفت المجموع إلى النموذج الجذري/الأصلي، المركوز في خبايا هيكل الثقافة، وهو هنا دعامتان، إحداهما؛ تستقي من المسيحية الروح، والأخرى من اليونان شكل الروح وطريقة انتظامها، التي أتاحها مجموع مفكرين هم بمثابة الآباء المؤسسين، إلى جانب المسيح عليه السلام، وبولس، هناك سقراط وأفلاطون وأرسطو، كل بلمسته وإضافته. وبالتجاوب معهم جميعا نكون أمام الأفكار الكبرى التي شيدت صرح الغرب ورمت به إلى أتون المعترك التاريخي الغاص بالحضارات»... فنحن لا نستطيع – في اعتقادي- أن نحلم باكتساب الفهم الذاتي الضروري للتعامل مع مآزقنا الراهنة ما لم نبادر إلى استحضار
ص: 200
المنابع الأعمق لعالمنا ونظرتنا العالمية الحاليين... »(1).
وكلما تم الكشف عن الأسس الأولى والجذور المتقادمة، كلما ظهرت المبررات المعقولة ، لما يحدث في التاريخ، فالحضارة في المحصلة التحليلية النهائية هي نتاج فكرة تم تمثلها بكيفية ما وشرع في نسج الحياة على منوالها التبريري والتعليلي، بل «إن المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة دائما بالأفكار الدافعة... فينبغي أن نلاحظ مع ذلك أن هذه القوى هي التي جعلت تلك المجتمعات تنبثق من العدم، ونشرتها على مسرح التاريخ حيث بقيت قائمة بقدر ما بقيت هذه القوى تدعمها »(2) ومع ميل مالك بن نبي إلى الفكرة الدينية كأساس أولي في عمليات الإنشاء أو الاستئناف التاريخيين، فهو يؤمن بعوامل أخرى قادت إلى ظهوره، لكن باعثها الجوهري هو الفكرة، بعيدا عن المضامين واختلافاتها«فهناك في الواقع علاقة جدلية بين الأفكار والأحداث الاجتماعية والسياسية في كافة مراحل التاريخ «(3)باعتبار الأخيرة صدى وانعكاساً لتأسيسات المفكرين وتنظيراتهم، وهنا نجد ضالتنا التحليلية في بسط الحقيقة الثقافية والتاريخية للغرب، من خلال أفكار فلاسفته ومؤرخيه.
«إن مصادر الحضارة الغربية جد قديمة ومتنوعة في آن، وهي ترتكز برأي على أقنوم من ثلاثة مفاهيم: المعرفة،الإنسان، التقنية في شكلها الحديث للثورة الصناعية» (4)فتشترك هذه الأسس الثلاثة في خلق بنية تاريخية ذات نمط متميز، منبثقة ودفاقة، حركية تؤمن بالإنسان ومركزية في العالم حتى ما يختص بمفهوم الإله/ الشخص/ أو الآلهة / الأشخاص، وخصوصية المعرفة المنبثقة عن عقله ومنطقه وطريقة تفكيره في العالم، وكيف يصبّ الأخير في قوالب منطق محدد، ثم ترجمته إلى نوع من التكميم الذي يسهل التحكم والسيطرة والاستخدام فنحن بإزاء نمطية تصوّر العالم
ص: 201
على أنه فضاء كبير يمكن فهمه والتعرف إليه، وأيضا التحكم فيه، بواسطة التقنية التي لا يقف أمام تطورها واستخدامها شيء، وهي معطيات تراكمت عبر مكابدات تاريخية متطاولة غير أن نظراتنا العابرة ... جعلتنا ننظر إليه وكأن تاريخه قد ابتدأ من يوم التفتت إليه أنظارنا، فأعرناه بعض اهتمامنا في صورته الطارئة لا في جوهره ، وهذا شأن شبابنا في نظرتهم إلى الأشياء، فإن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد، لولا صلات اجتماعية خاصة لا نتصور هذه الصناعات والفنون بدونها. فهي في الأساس الخلقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه، بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده من علوم وفنون »(1)
وعمق الصلة بين الجذور المعنوية الناشئة عن حمولة ثقافية، ذات مضامين معرفية خاصة، بررت للإنسان الغربي هويته، وعرفته أمام العالم، ومنحته الدفعات التاريخية المتوالية لكي يتمكن من بناء صرحه الحضاري، ورغم أن الأساس الأخلاقي هو القاعدة التي قامت عليها الأداءات الثقافية المختلفة من علوم وفنون وصناعات، إلا أننا لا نعدم وجودها في سياق التنظيرات الفلسفية والمعرفية المختلفة، التي تصورت إنسانا عارفا متحكما في العالم، وخلقت مسوغات مثلت له روابط التواصل مع أخيه الإنسان ومع الوجود.
وقد حدد روجيه غارودي 2012 Roger Garaudy مسلمات ثلاث إضافة للسابقة، من جهة كونها الدعائم الأولى التي بنت رؤية الغرب الحديث لله سبحانه، وللعالم والإنسان والحياة والتاريخ. وتتمثل في:
مسلمة ديكارت نجعل أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها»، طبيعة أخذت بوجهها الآلي إذ قامت مسلمته على علاقات تسيطر على طبيعة جردت من أي غاية خاصة.
ص: 202
- مسلمة هوبز الذي حدد العلاقات بين البشر« الإنسان ذئب يهاجم أخاه الإنسان» إنها علاقات منافسة في السوق ومواجهات بين الأفراد والجماعات، علاقة السيد بعبده، وهي «توازن الرعب »على مستوى قدراتنا النفسية الحالية.
- مسلمة مارلو الذي أعلن موت الرب «أيها الإنسان كن إلها بعقلك وسيد العناصر كلها »وهكذا يصبح ضعف البعد المفارق لدى الإنسان ورفضه أي قيمة مطلقة مقدسين(1).
تبدو المسلمات الآنفة متباعدة، كل منها ينتمي إلى سياق فلسفي خاص، إلا أن تحليلنا من خلال التطور الثقافي ومآلاته الحضارية الكبيرة يجعلنا نسلم بارتباطها الوثيق، حيث أن المواضعة الديكارتية عينت أفق الصلة الجذرية للإنسان بالعالم کله ، فنصبته سيدا عليه فوقه، وجعلت الطبيعة مضمار تسابق للتسلط على الأشياء والهيمنة على موادها . فديكارت«... أتى ... بالتحديد الإيجابي للثقافة الغربية طريقها الموضوعي الذي بني عليه المنهج التجريبي، والذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم الحضارة الحديثة تقدمها المادي» (2) فالمانح لثقة الظاهرة الغربية في نفسها، هو تعينها في التقدم بوصفه الحالة الثابتة في التاريخ،وكونه لن إلا بتحقق من معرفة توفر بالمنهج الناشئ عن مقدرة الإنسان وقدرته في التحكم في كل ما يحيط به.
وانعكست المسلمة الديكارتية الناظمة للصلة بالطبيعة، في فحوى التأسيس للاجتماع البشري والشروع من حقيقة تاريخية مفادها؛ أن الناس يتصارعون ويتبادلون الصلات فيما بينهم وفق تسديد طبيعي يقوم على الغلبة للأقوى، والجميع في توجس دائم من الجميع، وهو ما أعلنه هوبز لما كشف عن العمق العدواني للبشر، فإما أن تكون معتديا، أو ترد عدوانا، أو أن تلغى. وهذه قيمة عامة سبغت روح التنظيرات السياسية في الغرب وبررت من خلالها الأطروحات الفلسفية المختلفة مقولة العقد الاجتماعي. سواء من خلال الإقرار بالطبيعة الفاسدة ابتداء، أم بالتي ستفسد بعد
ص: 203
حين، وهنا نجدنا أمام ثانية الأثافي. فالأولى ضبطت العلاقات الوجودية مع الطبيعة، والثانية الصلات الأخلاقية مع الناس، ثم يكتمل المشهد بإقصاء التعالي والمطلق، والدعوى إلى موت الإله ،الذي اضطرته الأسطورة اليونانية أن يكون بشرا أو شخصا ثم أكملت المسيحية الإنجاز الكبير، حالما سبغته بمعتقد مقدس. فدخل الإله في التاريخ ومنه لا يملك ،انعتاقا وحينها فقدت الثقافة الغربية كل صلة بالمتعاليات وارتبطت بالروح المادية والوازع التسلطي على الأشياء، خاصة وأن العلم قدر على رفدها بقوة هائلة تمثلت في التقنية متطوعة الكل، وسالبة الوعي، ومنقلبة على الإنسان ذاته.« كما ولو أن طبيعة الأوروبي الممتلئة بآدميته لا تدع مجالا للألوهية والباعث العميق لذلك موصول بثقافته ذات الجذور الطبيعية المحدودة في سياق تناولات ناشئة عن ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية»(1).
فالسمة العلموية والتقنية التي غلبت على الفكر الغربي لا تنفي وجود جيوب رفض واحتجاج فلسفي يدل على حضور مستويات أخرى في الثقافة الغربية، كالمثاليات المختلفة وكذا النزعات الروحانية، لكن المستبد بها، وما يقدمها في ميدان العرض الحضاري هو الطابع الحسي والتقني «ذلك أن أوربة كانت قبل (لوكراس) بوعده، وقبل (بلانك)وبعده الأرض المختارة للفكر الكمي ولوضعية(أوجسنت كونت)ومادية(ماركس). فالفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساساً إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة فهو يصل إلى المادية في شكليها :
التشكل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي.
والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي»(2)
تلك إذن أهم السمات الحضارية التي طغت على التجربة الحضارية الغربية، وكونتها، ودفعت بها إلى اكتساب الطابع الإمبراطوري ونزعة الامتداد على حساب كل شيء، الأرض- الطبيعة - حسب ديكارت، الإنسان- الذئب- تبعا لهوبز، الملطق
ص: 204
الإله/ الميت مع نتشه 1900 Friedrich Nietzscheم أو مارلو والتنافس في الغرب تجسيدا للقيم السابقة أدخل الإنسانية إلى عالم «مثقل بالعلم وبتقانته الإمبراطورية ،إنه يضج بروح الحرب وبوسائل الحرب... إن روح القرن التاسع عشر التي ادعت تحقیق سعادة الإنسان بواسطة الآلات قد انتهت إلى إفلاس محزن، فلم يعد العالم ينتظر الخلاص على يد العلم ...» (1) حيث هو سبب مآسيها لتغوله، وتضخمه وقيامه كمطلق مواز لكل شيء، ومع أن ما سقناه من تحليل لمالك بن نبي يرجع لأواخر الأربعينيات من القرن المنصرم، إلا أن جدواه التفسيرية لا تزال ماثلة، خاصة لشيوع روح الحرب الدائمة، وبث منطق الفرقة وتسخير مقدرات الإبداع في التسابق نحو التسلح، والاختبارات المهددة للوجود البشري، وبذلك يكتمل الثالوث القيمي من خير وحق وجمال،وتتجلى المعرفة المترجمة لحقيقة الوجود في مشهد تاريخي وحضاري ووجودي كبير، يثقل على صدر العالم بنموذج ذي سمات متينة، سميناه الغرب أو الظاهرة الغربية وقلبه أوروبا.
ألم نلمح قبلا إلى الأساس الديني لتكون الغرب من أساطير اليونان، إلى تحالف الإمبراطورية مع المسيحية، ومنها إلى استدماج العنصر اليهودي، ثم ها نحن الآن أمام إقرارات تفيد بعناصر أخرى وسمت الغرب وأظهرهته في مسحة علمية وتقنية مهيمنة ثقافيا وتاريخيا ؟
لم يغب ذلك مالك عن بن نبي، لما أبرز أنه من الوجهة التاريخية يتعين عليناملاحظة أن الأفكار (الماركسية) قد استخدمت لنموها واكتمالها كل البنية التحتية النفسانية والمفاهيمية المسيحية الذي حول إنجيل (يسوع المسيح )إلى إنجيل(لماركس) وجمع المطامح التواقة إلى( ملكوت الرب الإله)، إلى مطامع متشبثة (بالفردوس الأرضي)، فالفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة، وإما بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، في التركيبة المتآلفة لحضارة ما، وفي تشكيل إرادتها ...»(2) فالوظيفة
ص: 205
التعبوية والتجييشية تؤديها الأيديولوجيا والفكر كما يؤديها الدين. فالماركسية في النهاية هي بنية محفزة حاضة على الفعل، ودافعة للقيام بالأعمال التاريخية الاستثنائية، وباعثة على تأمل المستقبل البعيد من خلال الثورة على أوضاع الحاضر، كما هو الشأن تماما للعلموية ودعواها إلى التمسك بالمعرفة العلمية الوضعية والمادية ،الموصولة بالمنهج التجريبي الواقعي، المحكوم بالرؤية الطبيعية، واستخدامات التقنية.
وهكذا تكون أوروبا قد «... حسمت حالتها الخاصة منذ بضعة قرون، داخل الإطار المسيحي دون ريب، ولكن مع مبادرات في الميدان الفني، والأدبي والفلسفي، كانت تذهب إلى ما وراء المبدأ الإنجيلي. فقد تشكل الفكر الأوربي المعاصر في جو العقلانية الفرنسية، والجمالية الايطالية، ومع ذلك ففي كل مرة كانت تنتاب هذا الفكر استثارة أو تحد وافد من الخارج، كان يرجع من جديد إلى أصله المسيحي»(1)
تكمن الخلفية الرؤيوية للظاهرة الغربية في العمق الديني لطبيعة الفكرة ذاتها، حتى ولو انقذفت في اتجاه اللادينية المحضة، فالوازع الدفين المحرك لعجلة التاريخ الغربي؛ هو الأساطير المؤسسة في فجر الحضارة الإغريقية، ومنها إلى استمداد المسيحية واللمسة اليهودية، وفي حالات التوتر الكبرى التي تشعره بالتهديد، يلتفت إلى المعنى الديني ويستدعي الحالة اللاهوتية لمجابهة أعبائه وتخطي مشكلاته، سواء كانت فكرة دينية مباشرة أم شبيهتها أم بديلتها، وفي النهاية، اللبوس مختلف والمثوى واحد.
نتمنى أن تكون التحليلات السابقة قد استوفت بعض الخصائص الأركان التي بها وصف مالك بن نبي الظاهرة الغربية وبين أنماطها، ولكن هناك لازمة أساسية لا يفوتنا التنويه بأهميتها وهي: أن الغرب لم يكتمل دفعة واحدة، خاصة وأنه لا يزال ماضيا إلى قدره التاريخي، ثم لأن مركز الثقل فيه تبدل من جهة لأخرى، زيادة إلى مقدرته العالية الآن على استيعاب التنوع وتذويب الانتماءات المختلفة في صياغة مذهلة من الوجهة الحضارية، ومع ذلك يمكننا إجمال خصائصه وقضاياه الأساسية
ص: 206
في جملة ملامح تعد في كليتها «... الأفكار التي نظمت الغرب بالإنسان المرمي في العالم، الذي تهدد خصومة الأشياء يصوغ أفكارا تساعده على فهم الطبيعة وعلى السيطرة عليها. الإنسان، الإنسانوية، التاريخ، الشخص، الفرد. هذه التصنيفات الأساسية تنظم فكر الغرب. وأما العقل، والعلم، والطريقة، والجدلية، والنظام، والفوضى والخواء، والمفهوم، والطبيعة، والتقدم، والصيرورة فهي تعطي الثقافة الأوروبية معناها ، هذه الثقافة المتأثرة كما رأينا بالإرث اليوناني (الجدلية العقل...) وأيضا بالإرث المسيحي
(اللامتناهي...) كل هذه الأفكار نظرية، لكن ثمة أفكار تدير العمل الفردي والجماعي: الأخلاق، العدالة، المساواة، الكرامة، السعادة، الشخص، السياسة، الديمقراطية ... إنها مفاهيم تتمازج فيها الرؤية اليهودية- المسيحية والمذهب الطبيعي اليوناني وتؤسس للفكر الأوروبي. أخيرا إن فكرة الجميل، والجمال والذوق والجمالية... تذكرنا بأن الإنسان الأوربي هو ذلك الإنسان الجميل، الذي يطارد الجمال المولود في المدينة القديمة حيث الجمال علامة الخير»(1).
رغم الطول النسبي للنص السابق، إلا أنه لخص معروضات مالك بن نبي في وحدة تحليلية مهمة ولافتة، حيث أبرز امتن المبادئ والعوامل والمعطيات التي ألقت بالغرب في وجه العالم، وسمحت له بأن ينطلق في عمل تاريخي دؤوب، بدأ عند اليونانيين القدامى، ثم فقد قوته وإرادته لما يقارب الألف سنة، ثم عاود دورته الإنجازية من فجر النهضة، مستلهما كل تاريخه، بما فيه العصور الوسطى، وبنى حداثة بفتوح مذهلة قدمت للإنسان التفوق والظهور التاريخي الكبير، متخطيا حتى أعرق الإمبراطوريات وأقواها في التاريخ. لكن في الوقت عينه، أقحمه ضمن مآس غير مسبوقة، أظهرها ما ينعت بالاستعمار/ التدمير ، ثم الاستشراق، والاستنزاف المبرمج لثروات الآخرين /الأغيار.
ص: 207
أ.د. عامر عبد زيد الوائلي(1)
مقدمة
راهنية البحث: نود هنا أن ندخل في الإطار النظري لهذا البحث وهو جدلية الصراع بين الأنا والآخر الغربي الذي يتجسد كاستعمار يمارس هيمنته الكونيالية بكل عنفها على الإنسان والوجود من خلال ما أقامه من التثاقف الكونيالي وفرض منظومته الثقافية كمنتصر يفترض بالمهزوم أن يقلده في الثقافة وآليات الحكم على الآخر.
وقد كان العالم العربي والإسلامي قد عاش أشكالاً متنوعةً من الهيمنة وكانت ردود فعله متنوعة بین النقد وبين التقليد والتثاقف معه تقليدا واقتباسا للحداثة من أصحاب الاختلاف أو نفيا ونقدا من أصحاب الهوية أو الأصالة. فالتراث الإسلامي كان يمتلك إرثًا حضاريًا كبيرًا إذ كان الانتماء في ظل التجربة الإسلامية لا يقاس على أساس الدين، وإنما على أساس المسالمة والمحاربة، لأنّ الإسلام عدَّ أهل الأديان الأخرى المسالمين من أهل دار الإسلام؛ أي أنّ لهم حق المواطنة الكاملة.
على عكس ما يشيعه الغرب من أزمة الاقليات وغياب حقوق الاختلاف التي اتخذ منها وسيلة للتدخل في شؤون المنطقة وعمل على خلق الفرقة واشاع الصراعات العرقية من أجل أن يتخذ منها ذريعة للتدخل في شؤون العالم الإسلامي.
ص: 208
وكان التيار الإسلامي بكل أشكاله قد بحث العلاقة مع الآخر فتنوعت مواقفه فمنها من رضي التثاقف معه، ومنها من مارس نقدًا للغرب وكانت تلك النقود المرجعية المعنوية في المقاومة للخطاب الكونيالي التي خاضها المجاهدون لفترات طويلة في الجزائر ومصر والكثير من العالم الإسلامي كالهند.
إذ تبزغ راهنيته في مقاومة الكونيالية الغربية وما صاحبها في نظر التيار الإسلامي من غزو ثقافي وجدوا فيه بابًا من أبواب تقليد الغرب بالعادات والتقاليد وأشكال الثقافة التي تختلف مع ما ورثه العرب والمسلمون، من تراثهم وشريعتهم التي اتخذوا منها رأسمال رمزياً في مقاومة الخطاب الكونيالي من خلال تحليل العلاقة بين الآخر الغربي والذات وما أوجدوه من علاقات صراعيَّة بين العقل الغربي وعالمنا العربي الإسلامي.
فالبحث يتناول بالتحليل أفكار واحد من قادة الحركات الإسلامية هو الشيخ حسن البنا وما قدَّمه من فكر نقديّ للغرب وبيان مظاهر التغريب عنده وما وجد فيها من تأثير سلبي على الواقع الاجتماعي والسياسي بحسب تصوره النقدي إذ برز كصاحب موقف مدافع عن الهوية الإسلامية في مقابل من انتقده واتهمه من أصحاب الفكر التغريبي والعلماني، ونحن هنا نجده واحدًا من ممثلي الخطاب السلفي في نقوده التي اتسمت بالشمولية والجذريَّة مما جعله واحدًا من المرجعيات الإسلامية التي أثرت بعمق بالمشهد الإسلامي في وقته وبعده إلى اليوم في تصور العلاقة مع الآخر سواء كان : غربيًا، أم حداثيًا عربيًّا.
الأطروحة: لقد كانت هناك إشكالية صراع بين الغرب الكونيالي الذي اندفع إلى احتلال العالم العربي الإسلامي بكل قوة مما ساهم في ظهور ردة فعل لدى الآخر المسلم الذي كان في البداية يجد في الغرب تجربة حضارية بحث فيها مفكرو النهضة وعملوا على التثاقف الإيجابي معها. ولكنَّ الأمر اختلف حين تحول الغرب إلى قوة صادمة مدمّرة محتلة معادية عنصرية فكان لا بد لهذا الموقف أن يجعل الفكر الإسلامي يقف مليا بإزاء الغرب وهذا ما حدث مع الشيخ رشيد رضا.
ص: 209
فالغرب هنا تحول إلى قوة صدام يقوم على الهيمنة والإكراه مما جعل منه مشروعًا معاديًا استيطانيًا أعاق النهضة الاسلامية من خلال قوته الصلبة العسكرية أو من خلال قوته الناعمة من منتجات الحداثة وما صاحبتها من سلوكيات ومعتقدات وقيم تتعارض مع ما هو قار في العالم الإسلامي.
وكان لا بد من ظهور مفکرین مسلمين يمارسون خطاب المقاومة لهذا المد الكونيالي وكان الشيخ حسن البنا قد قدَّم مشروعًا سياسيا ودينيا يقاوم الاحتلال وقيمه ويقترح بديلاً له.
وهذه الروح المقاومة التي تتشبث باختلافها وتمايزها عن الآخر وتجد من الضرورة احياء هويتها والعمل على ترسيخ منظومتها الثقافية التي اننتجها الوجود الحي والمستقل.
بالتأكيد هذا يتطلب وجود رؤية مقاومة تعد المرجعية البديلة للحداثة الصلبة القادمة من الاستعمار الغربي، وتتمظهر هذه المقاومة برفض التغريب من الداخل وتعمل على مقاومة المحتل من الخارج.
المبحث الاول
المرجعية الفكرية في نقد الغرب
من أجل الحديث عن رؤيته النقدية لا بد أولا من الحديث عن المنظومة التي اتخذ منها مرجعيته في النظر إلى الآخر، لأن المرجعية لا بد من حاكميتها في الرؤية والمنهج اللذين كان لهما الأثر في النظر إلى الآخر وأثار الحداثة الغربية التي تسللت إلى المجتمع الإسلامي عامة والمصري خاصة، فالمشكلة هی الأخرى مرجعية حاكمة في الواقع الاجتماعي والسياسي، إذا نحن أمام مرجعيتين ولكل منهما رؤيتها ومنهجها في الحياة، فالنقد لدى الشيخ السلفي حسن البنا محكوم بموجهات مرجعية من ناحية ومن ناحية أخرى فإنَّ الآخر وما يمثله من اختلاف في الرؤية والمنهج سواء كان في الخارج أم في الداخل أم حركات وأحزاباً أم مؤسسات تم بناؤها على أساس
ص: 210
مرجعيّة غربيَّة وهو ما يعرف لدى التيار الإسلامي ب_ (التغريب او الغزو الثقافي).
أمَّا المنظومة التي تأثر بها وكان لها أثرها في تكوينه المعرفي والعقائدي أي السياسي، فهي ما يُعرف بتيارات الاسلام السياسي أو الفكر الإسلامي وهو مصطلح حديث الصياغة؛ ولكنَّه في مضمونه الفكري والعقدي ينتمي إلى تراث الاسلام من
حيث تناوله المعارف الإسلاميّة وعلوم القرآن والبحث الكلامي في الله وصفاته الخ(1)
فالفكر مثله مثل أي فكر لا بد من أن يخضع إلى تحولات تصاحب المتغيرات التي تطرأ على الحياة فيكون الفكر مسايراً لتلك التحولات التي تحتاج إلى تجديد في الوقت الذي تبقى فيه الاصول ثابتة؛ ولكنَّ التحولات في التلقي والتفسير والمعالجة للنصوص والأحكام والسنة، والقول بتجديدها أمر مرفوض مطلقا (2) .
ولكنَّ التحول المهم هو الفهم الحديث للتجديد الذي يتناسب وحاجة الأمة الذي أصبح (Modernization) استجابة من جانب الفكر لمتطلبات الواقع التي تتطلب المزيد من الضبط والتطبيق والالتزام (3) ومراعاة الضوابط الشرعية، من ناحية، ومن ناحية أخرى الحاجات والتحديات، ولعل مرجعية الشيح حسن البنا تتضمن هذا الأمر إذ تجاوزت المؤسسات الجامدة فجمع بين الرؤية السلفية التي ورثها عن أساتذته من قبيل محمد عبده ورشيد رضا الذين جمعوا بين الحاجات الراهنة في زمانهم وتجديد الحلول العملية (4) ولكنَّه كان أقرب إلى رشيد رضا (1282-1354 ه- 1935-1865م) الذي كان أميل إلى السلفية منه إلى التجديد. وأبرز ملامح هذا التجديد. ارتبطت ايضا بالضغوط الاستعمارية في الخارج وآثارها في الداخل لهذا ظهرت حركة أو ظاهرة (الصحوة الإسلامية)(5)، يمكن القول إن المفكرين والمصلحين الإسلاميين
ص: 211
جاهدوا في سعيهم لإصلاح الفكر الإسلامي وتجديده لمواجهة، التحديات الخارجية والداخلية، التي استهدفت الأمة الإسلامية في عقيدتها وهويتها وثقافتها الإسلامية، لكي يبرهنوا على أن الدين الإسلامي هو الأصلح لكل زمان ومكان، وأن له القدرة على تنظيم أمور الحياة للإنسانية جمعاء، ليكون هذا الفكر قادراً على مواجهة تحديات العصر، والتصدي للغزو الفكري، الذي يشنه المستعمرون ودوائرهم الثقافية على الإسلام ديناً وحضارة.
كان حسن البنا قد تأثر في تحولات رشيد رضا بعد أن كان الأخير قد تأثر بمشروع محمد عبده الإصلاحي، ولكنَّه غير موقفه وهذا يعود إلى سببين: أولهما ما شاهده من الغرب الذي تآمر على البلدان الاسلامية في زوال الخلافة الاسلامية التي ظنها في تركيا بسبب الغرب واحتلال الاراضي الاسلاميَّة في ليبيا وفلسطين وغيرها من ديار الإسلام، وفي مقابل ذلك تخاذل حكام المسلمين تجاه تلك التطورات وعدم اكتراثهم بها، فكل تلك العوامل جعلته يشعر بمسؤوليته الشرعية والإنسانية للقيام بواجب الإصلاح(1). ولكنَّه تأثر بالفكر الإخواني الوهابي وفكر ابن تيمية (661 728-ه_ 1261-1328م) . وكان لهذا أثره في مشروع البنا الإخواني إذ صرح «الشيخ حسن البنا» (1324-1368ه- 1909 - 1949م) بأنه قد تأثر بأفكار رشيد رضا قائلاً: «... نحن سلفيون من أتباع الشيخ رشيد رضا»،(2)ولكنَّه أكد أن دعوته على الرغم من سلفيتها (هي كذلك إنسانية تدعو إلى الأخوة بين بني الإنسان، وترمي إلى إسعادهم جميعًا لأنها إسلامية، والإسلام للناس كافة ليس لجنس دون جنس ولا لأمة دون أخرى.)(3)
ص: 212
قد كان مشروعه الاصلاحي يصطبغ بصبغة سياسية واجتماعية (إذ نراه قد أرسل الرسائل إلى الملك والحكومة ومجلس الأمن والسفراء وذلك لعلاج الخلل السياس الذي كانت تعاني منه الدولة والدول الإسلامية.
اما الجانب الاجتماعي فبين أثر التربية على الفرد والأمم واهتم بالمناهج التعليمية وقام بمحاربة الفساد الذي تقوم به الجمعيات الأهلية، واهتم بقضايا المرأة والأسرة (1)
و كان يمثل مشروعًا اسلاميًا حركيا يختلف عن المؤسسات الدينية التقليدية مثل الأزهر من ناحية ومن ناحية أخرى مختلف مع التيارات والأحزاب التغريبية أو المتأثرة بالغرب وموقفها من العلمانية التي وصفها رشيد رضا من قبل (بصفات مرذولة ك_ »المتفرنجة»و «الملاحدة»)(2) .
فان رشيد رضا هنا يهاجم امتدادات الغرب عبر المؤثرات الحداثية التي وصفها برؤية اقصائية سوف تؤثر بعمق بالمشهد الإسلامي الحركي عامة والاخوانية خاصة فان رشيد رضا كان يحمل مشروعاً يقوم على اصلاح حال المسلمين من خلال السلطة عبر إحياء مشروع الخلافة وإن دفعه هذا إلى نقد المؤسسات الإسلامية القائمة متهما اياها بالجمود وهذا ما تجلى في قول حسن البنا: ( الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من ركانه، ويعتمد على الإرشاد، وقديما قال الخليفة الثالث رضى الله عنه : »إن الله ليزرع بالسلطان ما لا يزرع بالقران« فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر )(3)لهذا انتهجوا موقفا وسطا بين التقليد والتفرنج، أي إنهم يحاولون تجاوز المؤسسات السياسية التي يضنون أنّها قائمة بالتأثر بالمحتل فهي متفرنجة ويهاجمون المؤسسات التقليدية كونها جامدة خاضعة إلى استبداد الحكام .فهم
ص: 213
بهذا يختلفون عن الطرفين. لكن الطرف الذي يتهم بالتفرنج هو موقف يعتمد على تصور إسلامي مختلف متمثل بعلي عبد الرزاق (1305 1386ه_ - 1888-1966م) «الإسلام وأصول الحكم» (1925) وعبد الحميد بن باديس (1307-1358ه_ - 1889- 1940م) وموقفه من إشكالية الحكم(1).
فكان لهؤلاء موقف مختلف من رشيد رضا وموقفه من الغرب والتغريب اذ يرى رشيد رضا أن علاقة الإسلام بالمجتمع عبر الدولة وأن الدولة تستمد شرعيتها من أهل الحل والعقد وأن الفرد ملزم أمام الدولة، التي يكون فيها أي الدولة الخليفة الذي يعتمد على التغلب والطبيعة القهرية للدولة، وان تنصيب الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد للإمام أو الخليفة واجب عليها شرعا تأثم كلها بتركه وتعد حياتها جاهلية مع فقده .(2) وهو هنا يعتمد على ميراث سني يرى أن الطريق إلى حماية الدين يأتي من خلال الخلافة(3) ولكنَّ حسن البنا اختلف عن استاذه خاصة وعن الميراث السني عامة باعتماده على منهج جديد أكثر واقعية ينتمي إلى الحركات الشعبوية الشمولية هو الدولة الاسلامية على الرغم من أنه أخذها عم رشيد رضا بعد تعديل تحولت فيه من خلافة : ممتنعة وطوباوية، إلى دولة إسلامية ممكنة وواقعية) (4).
المبحث الثاني
نقد الفكر الغربي
وهذه المرجعية هي المرجعية التي شكلت الأطر العامة لمقدمات الشيح حسن
ص: 214
البنا في نقد الغرب والتغريب في الداخل والمشروع الذي يقدمه بوصفه البديل عن كل هذا اذ نجده ينتقد الوضع القائم في العالم الاسلامي عامة ومصر خاصة في أيامه وما فيه من تغريب وابتعاد عن الإسلام.
نقد التاثير الغربي على المستوى الداخلي:
يناقش الاوضاع الداخلية في مصر من اسلامي كما تجلت لدية في مرجعياته الفكرية ويبدأ في مناقشة اهم قضية في الحراك الاسلامي باعتبارها المقولة الكلية نزولا إلى الجزئيات، انها قضية «الحكم» ويطرح سؤالاً : يتساءل فريق من الناس: هل في منهج
المسلمين أن يكونوا حكومة وأن يطالبوا بالحكم ؟ ، وما وسيلتهم إلى ذلك ؟(1).
طبعا هذه الاسئلة كانت ولا تزال مهمة وحيوية وعلى اساسها يمكن تصنيف طبيعة الخطاب الاسلامي، ويقول: ولا أدع هؤلاء المتسائلين أيضاً في حيرة، ولا نبخل عليهم بالجواب.
فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدى الإسلام الحنيف كما فهموه ، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في اول هذه الكلمة. وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من أركانه، ويعتمد على الإرشاد ، وقد جعل النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) الحكم عروة من عرى الإسلام والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفرع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر. والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهاً مرشداً يقرر الأحكام ويرتل التعاليم ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره، فإن النتيجة الطبيعة أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد ونفخة في رماد كما يقولون.
فقد يكون مفهوماً أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا
ص: 215
من أهل التنفيذ إصغاءً لأوامر الله وتنفيذاً لأحكامه، وإيصالاً لآياته وأحاديث نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم) ، أما والحال كما نرى: التشريع الإسلامي في واد والتشريع الفعلي والتنفيذي في وادٍ آخر، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف... أن الإخوان المسلمين لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها من ينهض بهذا العبء، ولتطلب حكامها بحقوقها الإسلامية، وليعمل الإخوان المسلمون)(1)، فهو هنا يعطي تفعيلاً لما قاله رشيد رضا عبر المطالبة الجهادية باستلام السلطة والمطالبة بتنفيذ دول بناء الخلافة فهو يرفض أشكال الحكم المستعارة من الغرب ذات الطابع المتفرنج حسب وصف الشيخ رشيد رضا، وعلى هذا نجد موقف الشيخ حسن البنا يتجلى في موقفه من :
«نقد القوانين الوضعية «: في الوقت الذي يبين فيه موقفه من الثورة بالقول: (أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصرحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وسريع لهذه المشاكل فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح.) وانطلاقا من هذا الموقف نجد يبين موقفه من الدستور ويقول (يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر) ص 188 اما عن القوانين الوضعية (على ان هذه القوانين الوضعية كما تصدم الدين ونصوصه تصدم بالدستور الوضعي نفسه الذي يقرر أن دين الدولة هو الإسلام، فكيف توفق بين هذين يا أولي اللباب ؟)(2)
نقد ظاهرة الأحزاب السياسية في مصر : كان البنا يبدو غير موفق في موقفه من ظاهرة الاحزاب كما يقول عبد الله النفيسي بقوله : (أرى أن البنا لم يوفق فيها، فهي
ص: 216
عدم تقبله الدائم للحزبية والاحزاب مما يعكس لديه غياب النظرية المتكاملة لعلاقاته السياسية داخل مصر . يؤكد البنا في أكثر من رسالة وخطبه وحديث ومقالة ان الاخوان ليسوا حزبا من الاحزاب وان الاخوان ينكرون على الاحزاب حزبيتها ونقدي (أي (النفيسي) لهذا الامر ينصب على محورين:
نظري وعملي نظريا ما هو الحزب ؟) النظري من خلال تعريف الحزب اذ يعرف (ذو فرجه du verger )و ( إدموند بيرك E.Burke) و (جان بودان (J.Bodin) في موضوع الاحزاب كظاهرة من ظاهرات الاجتماع البشري السياسي اقول: يعرف هؤلاء الحزب ربما بألفاظ مختلفة لكنهم يجمعون على أن الحزب السياسي هو اتحاد بين مجموعة من الافراد بغرض العمل معا لتحقيق الصالح القومي وفقا لمبادئ خاصة متفق عليها جميعا».
اما العملي: الحزب كظاهرة طبيعية من ظواهر الاجتماع السياسي، اما رفض البنا للأحزاب بحجة ووجود أحزاب متنافسة بل ومتطاحنة لا يعني أن الحزب كظاهرة سياسية تقع في خانة السلبيات، أليس جماعة الأخوان حزبا؟ والجواب يبدو أن جماعة الأخوان في مصر لم تزل تحاول الخروج من هذا المأزق الذي كان نتيجة لخطأ كبير في اجتهاد البنا رحمه الله ) .(1)
إذ يشير« عبد الإله بلقيزيز« إلى ان نقد «حسن البنا للأحزاب ودورها التخريبي كما يعتقد يعود إلى نقطتين هما(أولها، اعتقاد البنا، بآثار ونتائج الحزبية في الاجتماع الوطني ، ويتعلق ثانيهما بما يعتقد أنه مجافاة من الحزبية لفكرة وحدة الأمة في الإسلام، وتهديد بالفتنة في نظامه.)(2).
اما «حسن البنا» فقد قال في هذا الموضوع (يعتقد الإخوان أن هذه الحزبية قد افسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم،
ص: 217
ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر.)(1) وعن اليات الوصول إلى السلطة (اي الانتخابات )فهو وان كان لا يحرض على الثورة لكنه يراها قادمة بالضرورة كما مر بنا ولا يرى ان الحكام يمتلكون شرعية دينية، ولا يرى في القوانين الوضعية الا بديلاً عن الشريعة وعندما وصل إلى الانتخابا قال: (حسبنا ان نشير هنا إلى الانتخابات ،وهو وسيلة اختيار النواب الذين يمثلون الأمة ويقومون بتنفيذ دستورها وحمايته، وما جره هذا القانون على الأمة من خصومات وحزازات، وما أنتجه من أضرار يشهد بها الواقع الملموس)(2).
رؤيته حول الحياة البرلمانية : ( ويعتقدون أن النظام النيابي، بل حتى البرلمان، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر .) (3) ومن ثم يقدم البديل الذي استعاره مصر.) من استاذه الشيخ رشيد رضا وهو مقولة أهل الحل والعقد التي أشرنا إليها فيقول البنا فيها ويؤكد في المقابل على سلطة أهل الحل والعقد وهم: أولا: الفقهاء المجتهدون الذين يعتمدون على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام.وثانيا :أهل الخبرة في الشؤون العامة .وثالثا: من لهم نوع من قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت وشيوخ القبائل(4). هذا على مستوى نقد التغريب أو أثر الغرب على الشرق داخليا.
من الملاحظات النقدية على موقف الشيخ حسن البنا هذا: إنَّ نقد المباني الدستورية والسياسية وتقييد إرادة الأمة بأهل الحل والعقد واتهام الأحزاب بالفساد والربط بين الدين والسياسة أثار ردوداً متنوعةً في المجتمع فمنهم من أشار إلى تناقض فكر الشيخ البنا ومحاولة الهيمنة على الحياة السياسية وإلحاق الأحزاب بالإخوان المسلمين كمنظمة سياسية دينية.( إلا أن دعوته إلى وجوب حل هذه الأحزاب لم تكن - البتة - من أجل مصلحة مصر، كما أوحى بذلك، بل من أجل إخلاء الساحة لحزب وحيد هو حركة «الإخوان المسلمين «، أو لتشكيل إطار سياسي
ص: 218
جامع يكون فيه للحركة مركز القيادة)(1) ولكن تلك النقود التي قدمها الشيخ حسن البنا إلى المؤسسات التغريبية مستوردة من الغرب لأنها مفارقة للفكر الاسلامي وتشجع على الانقسام الاجتماعي والفتنة كما هو قار في تاريخ الإسلام؛ مما قاد إلى استنتاج قدمه احد الباحثين في فكر الإخوان هو( اللامؤسسية) إذ يرى (إن هذا التركيز على المبادئ العريضة العامة، على الرغم من صحتها وأهميتها – يعتبر من العوامل المساعدة على ظهور اللامؤسسة، خاصة إذا بقيت الحركة واقفة عند هذه المبادئ ولم تتجاوزها تصلح للظرف المعين والزمان الذي نعيش فيه.)(2).
الخلافة هي الحل :
الخلاصة التي نخرج به هنا ان الشيخ كان يحارب التغريب في الفكر المعاصر وهو يتجلى في نقل واستنبات المفاهيم الغربية متمثلة بالقوانين الوضعية، والدستور، والانتخابات ورغم هذا فهو يدرك ان الثورة ليست هدفاً لكنها قادمة ازاء الانهيار والصدمات التي تواجها الحياة السياسية وما تكتنز من غموض دستوري وابتعاد عن الشريعة وغياب الحكام الذين يلتزمون بها.
وياتي العلاج بقوله : (أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله... والإخوان المسلمون المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع ذلك يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها ...)(3) .
أما موقفه من الاستعمار الغربي فيرى:
وبعد نقد التأثير الغربي من خلال حركة التغريب يمارس الشيخ حسن البنا نقد
ص: 219
الغرب بشكل مباشر ويفضح تآمره على الأمة الاسلامية إذ يصف التلاعب الغربي بمصائر الشرق المسلم فهو يؤكد على موقفين: الأول تمثل بنقد الغرب ومقاومته اذ (أن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله هذه واحدة، والثاني أن الإسلام فرض على المسلمين أن يموتنوا أئمة في ديارهم، سادة في اوطانهم، ليس ذلك فحسب، بل إن عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول في دعوتهم والاهتداء بأنوارهم الإسم التي اهتدوا بها من قبل.
هنا يعتقد الإخوان المسلمون أن كل دولة اعتدت وتعدت على أوطان الإسلام دولة ظالمة لا بد أن تكف عدوانها، ولا بد من أن يعد المسلمين أنفسهم ويعملوا متساندين على التخلص من نيرها .)(1) الثاني، تمثل الدعوة إلى الجهاد للعدوان وهذا ما قام به الإخوان في مصر عبر مقاومة المحتل او الحرب في فلسطين ضد الاحتلال والاستيطان . وقد بين البنا موقفه من القضية الفلسطينية بقوله: (إن انجلترا لا تزال تسئ إلى فلسطين، وتحاول أن تنقص من حقوق أهلها، وفلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها أرض الإسلام وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. ففلسطين دين على انجلترا للمسلمين لا تهدأ ثائرتهم حتى توفيهم فيه حقوقهم... ولنا حساب بعد ذلك مع انجلترا في الأقاليم الإسلامية التي تحتلها بغير حق، والتي يفرض الإسلام على أهلها وعلينا معهم أن نعمل لإنقاذها وخلاصها.)(2)أما فرنسا وهي القوة الثانية الاستعمارية وقتها التي قال فيها: ( أما فرنسا التي ادعت صدقة الإسلام حينا من الدهر فلها مع المسلمين حساب طويل، ولا ننسى لها هذا الموقف المخجل مع سورية الشقيقة، ولا ننسى لها موقفها في قضية المغرب الأقصى والظهير البربري.... وليس حسابنا مع إيطاليا بأقل من حسابنا مع فرنسا ،فطرابلس، طرابلس العربية المسلمة الجارة القريبة العزيزة، يعمل الدوتشي ورجاله في إفنائها وإبادة أهلها واستئصالها ومحو كل أثر للعروبة والإسلام منها.(3)
ص: 220
مواقف تعبر عن موقف مقاوم جهادي لهذا كان خطابة احياء الجهاد، والمقاومة.
تأكيده على الخطاب الشمولي الوحدوي للمسلمين اذ يجد أنَّ الذين انتصروا لايختلفون عن الفاشيين الذين انهزموا فالهدف وغياب الأخلاق واحد وهذا ما يظهر في قوله :( لقد انتهت الحرب العالمية الثانية، التي قضت على العنصريات الحديثة في أوربا عنصرية النازية والفاشية، فرأينا بعدها الدول الاوربية الكبرى تسعى سعيا حثيثا إلى التجمع والتكتل ، باسم العنصريات تارة، والمصالح تارة اخرى).(1) ثم انه يدرك نقاط الضعف في العالم الاسلامي هي الفرقة والتقسيم لهذا يقول : ( نريد أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية وأضاعت وحدته المطامع الأوربية. ونحن لهذا لا نعترف بهذه التقسيمات السياسية ولا نسلم بهذه الاتفاقيات الدولية، التي تجعل من الوطن الإسلامي دولا ضعيفة ممزقة يسهل ابتلاعها على الغاصبين، ولا نسكت على هضم حرية هذه الشعوب واستبداد غيرها بها.) (2) فرفض العهود الغربية القائمة على الهيمنة.
انه يؤكد أمراً اخر فيما يتعلق بالعلمنة «او فصل الدين عن السياسة فيقول بهذا الامر: ( فصل الدين عن سياسة الدولة العامة فصلاً تاماً. وذلك إن صح في الأمم الغربية فلا يصح أبداً في الأمم الإسلامية، لأن طبيعة التعاليم الإسلامية غير طبيعة تعاليم أي دين آخر، وسلطة رجال الدين المسلمين محصورة محدودة لا تملك تغيير الأوضاع ولا قلب النظم، مما جعل القواعد الأساسية في الإسلام على مر القرون، تساير العصور وتدعو إلى الرقي وتعضد العلم وتحمي العلماء .)(3)
البعد القيمي وأثره في النهضة الاسلامية : ثم انه يؤكد على نقده الجذري لتلك الثقافة وما تشيعه من مظاهر الخراب الأخلاقي والقيمي إذ إن أهم الظواهر التي لازمت الحضارة الغربية المادية التي أقصت الدين عن الحياة تتلخص في: الإلحاد
ص: 221
والشك في الله وإنكار اليوم الآخر والوقوف عند حدود الكون المادي المحسوس والإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستمتاع وإطلاق الغرائز والمغريات والأثرة في الأفراد وفي الطبقات والشعوب والربا والتفنن في صوره،وتعميمه بين الدول والأفراد. وقد أنتجت هذه المظاهر المادية في المجتمع الأوروبي فساد النفوس وضعف الأخلاق والتراخي في محاربة الجرائم ، فكثرت المشكلات وظهرت المبادئ الهدامة واشتعلت الثورات المدمرة، وتناحرت الشعوب وتمزقت الدول، وأثبتت هذه المدنية الحديثةعجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني وإقرار الطمأنينة والسلام فيه وفشلت في إسعاد الناس على الرغم مما فتحته عليهم من حقائق العلم والمعرفة وما وفرت لهم من أسباب الغنى والثراء وما مكنته لدولها في الأرض من قوة وسلطان ولما يمض عليها قرن من الزمان(1) .
الحراك السياسي ودور الإخوان المسلمين فيه:
قد تكون هذه المرحلة هي امتحان لما سبق من افكار وخطب وتنظير بحق علاقة الجماعة وهي تحلي لفكر المؤسس وفي اخر ايام حياته قبل استشهاده وهي المرحلة الثالثة بین (1949-1945)، وهي تعد أخطر مرحلة مرت بالبنا والجماعة معا، بعد استكمالهم البنى التنظيمية للجماعة، وبعد انتهاء الحرب، ومن اهم الاحداث كانت اغتيال البنا مؤسس الجماعة في 2/12/ 1949، وكانت فترة 1945- 1949 فترة اضطراب سياسي واضح لدرجة أنه تعاقب على الحكم فيها -على قصرها - ثلاث وزارات .وكانت علاقة الاخوان بهذه الحكومات تتفاوت من حيث درجة المواجهة فقط، غير انها لم تكن بأي حال من الأحوال مستقرة، ففي مبادراتها كانت تعكس حركة في طور الصعود. واستطاع البنا - بسعته النفسية والشخصية - ان يثبت في تاريخ الجماعة بعض الأعراف والأصول التنظيمية والادارية(2). وقد كان للبنا دور في مواجهة الاستعمار والتظاهر ضد الاتفاقيات التي كبلت الشعب المصري، ودور في المقاومة المسلحة للاستيطان اليهودي في فلسطين واحداث
ص: 222
الحرب هناك(لقد عرض البنا 1940 على خمسة اشخاص هم صالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شربت وعبد العزيز احمد ومحمود عبد الحليم، انشاء (نظام خاص)، أي جهاز عسكري تواجه به الجماعة مسؤوليتها ازاء الانجليز في الداخل والصهاينة في فلسطين )(1) .
الخاتمة: «طبيعة معارضته للغرب»
إنَّ ما يظهر من خلال ما تطرقنا إليه أنَّ هناك موجهات متنوعة تقف خلف تصنيف نقد الشيخ حسن البنا للغرب وأبرزها هو العامل السياسي ولكن هناك عوامل دينيَّة وأخلاقيّة واجتماعيَّة حاضرة في خطابه الإسلامي الحركي.
وأبرز الموجهات السياسية كانت تلك التي ورثها من أستاذه رشيد رضا وهو يرصد العدوان الغربي الذي نقل كل الألم والمشقة إلى العالم الإسلامي ومساهمته في زوال المشروع السياسي الجامع كما تصوره الشيخ رشيد رضا للمسلمين هو مشروع الخلافة.
بالإضافة إلى تمزيق ديار المسلمين واحتلالها وزرع المستوطنات الغربية والصهيونية والفاشية في فلسطين وليبيا وغيرها من ديار الإسلام، ومما زاد الألم وعمَّق المأساة تخاذل الحكام المسلمين عن حماية أراضي الإسلام؛ لأنهم بالأساس صنيعة الاستعمار وألعوبة بيده بعد الاختراق الثقافي الذي مارسه الاستعمار قبل احتلاله المباشر للأرض.
مما جعل من الإصلاح مطلباً حيوياً في مواجهة التغريب والأطروحات العلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة ومن هنا جاء الإصلاح على أسس سلفية يقوم على تقديم بديل يتفق مع روح الأمة هو «الحكومة الإسلامية« التي تعد البديل الموضوعي
لما هو قائم.
ونجد أنَّ هذا الطرح يبدو أكثر واقعية من طرح مفهوم الخلافة الذي طرحه
ص: 223
رشید رضا من قبل ومن جانب آخر وجد أن الدخول بالعملية السياسية والدستورية والمطالبة بالإصلاح التدريجي الذي تقوم على قبول الدستور القائم على جعل الاسلام دين الدولة ومصدر التشريع وصولا إلى قيام الحكومة الاسلامية التي تزيح الحياة الحزبية وتنقل تقرير المصير من يد الأمة إلى يد أهل الحل والعقد مستثمرا التجارب الاسلاميَّة في عهد الخلافة الراشدة.
أمَّا الجانب الاجتماعي والأخلاقي عنده فيتجلى في مقاومة مظاهر الانحراف وتطبيق الأحكام الشرعية عبر التربية الشبابية التي تحاول انشاء جيل يخلق قطيعة مع الأجيال القديمة فتحدث تحولاً اجتماعيًا وأخلاقيًا يقاومان الانحلال الأخلاقي والغزو الثقافي كما كان يتصوره. من خلال الدعوة السلفية التي كان يعتنقها، فهي كذلك إنسانية تدعو إلى الأخوة بين بني الإنسان، وترمي إلى إسعادهم جميعًا لأنها إسلاميَّة، والإسلام للناس كافة ليس لجنس دون جنس ولا لأمة دون أخرى.
ولكنَّ هناك نقاط ضعف تؤخذ عليه منها :
هيمنة النشاط السري الجهادي على الجماعة التي ضعفت عن المواجهة قادت إلى اغتياله.
وأيضا احتكاره القيادة وعدم إعداد القيادات البديلة مما أدى إلى إحداث إرباك كبير بعد اغتياله.
بالإضافة إلى انه جعل من الجماعة بديلاً عن الحياة السياسية وجعل من جماعة الحل والعقد بديلاً عن الأمة مما ساهم في غياب المؤسسات القانونية.
وتحول الجماعة إلى مؤسسة معارضة للأنظمة السياسية القائمة. وقد اختارت العمل العسكري بديلاً عن العمل السياسي المدني.
ص: 224
د. محمد شهید(1)
مقدمة:
يعتبر سيد قطب من أهم أقطاب الفكر الإسلامي في مرحلة امتدت إلى نهاية الستينيات. لكن اثر فكره بقي فعالا لفترة أطول امتدت إلى الآن؛ ولربما تأثيرها سيبقى لسنوات أخرى قادمة وقد تكون لأجيال متعددة. وقد يكون الإرث الفكري الذي خلفه الرجل وراء هذا الأمر. ذلك أن قراءة فكره وتأويله قد تناولته مدارس وحركات وجماعات من الداخل الإسلامي، فتلقته جهة بالقبول فتبنته ودافعت عنه، فى حين تلقته أخرى بالرفض فلفظته وتبرأت منه.
وهذا الاختلاف في تناول فكر سيد قطب وتراثه لم يحدث في العالم العربي والإسلامي فحسب، أي لم يكن هذا الاختلاف خارج الجماعة التي بقي ينظر لها وتتبنى فكره أي جماعة“ الإخوان المسلمون“؛ بل حصل هذا الاختلاف واحتدم حتى داخل الجماعة. وهو ما يمكن ملاحظته في الانتقادات أو المراجعات التي صدرت من يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي بخصوص الفكر الحركي بدرجة أولى.
وبذلك فسيد قطب، مع ثلة أخرى من المفكرين والدعاة الإسلاميين قليلة، يعتبر من أكثر الأعلام إثارة للجدل في الفكر الحركي والفكر الإسلامي عموما. وقد يكون أهم أسباب هذه الإثارة التي أحدثها فكره هو امتداد قلمه وعقله إلى مجالات متعددة من الثقافة الإسلامية. فقد كتب في التفسير في ظلال القرآن“. وللتفسير
ص: 225
تداخل وتقاطع مع عدد كبير من العلوم أقلها الفقه الإسلامي وأصوله وعلم الكلام.. وهذه العلوم كما معروف عند أهل الاختصاص الاختلاف والتعدد والتنوع فيه هي السمة البارزة. كما كتب في الأدب بألوانه: نثرا وشعرا وقصة ورواية. وكتب في الفكر والثقافة وصنف كما برز في الفكر الدعوي والحركي.
وسيد قطب بهذا هو منظر من الطراز الكبير في الساحة الإسلامية، أحببنا أم كرهنا، يقرأ له الكثيرون ويدرسون كتاباته إلى الآن يتأثرون بها ويؤطرون بها لقاءاتهم واجتماعاتهم ومن ثم فهي تشكل لبنة أساسا في فكر وثقافة هؤلاء. يكتسي تتبع أرائه وقراءتها أهمية بالغة من اجل فهم ما يجري في الواقع المعاصر.
كما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أن التفاعل مع فكر هذا الرجل لم يقتصر على الذات الإسلامية فقط. فقد تجاوز الأمر ذلك إلى التيارات الفكرية الأخرى في العالم العربي والإسلامي التي تنطلق من رؤية علمانية تخالف سيد قطب ولا تتقاطع
معه في نظرها. بالإضافة إلى ذلك فهو مجال للدراسة والبحث حتى عند “الآخر “ في الغرب بكل أطيافه باعتبار أن فكره يشكل الثقافة الأصلية والأساس لعديد من التيارات الإسلامية كما سبقت الإشارة.
وقد جرت عليه بعض أفكاره الجريئة الكثير من الهجوم والنقد اللاذع، حتى صار
[2]
بعض منها لصيقاً به؛ فقد استقبلت مفاهيم من قبيل "الجاهلية" (1)و"الحاكمية" (2)و"التصور الإسلامي"(3). . بردود فعل متباينة. فمن جهة استقبلت بحفاوة وإعجاب شديدين، ومن جهة أخرى قوبلت باستهجان ورفض كبيرين..
وقد عرف أيضا ببعض الأفكار التي قسمت الفكر الإسلامي إلى طرفين، من مثل تبنيه القول بان الاجتهاد الفقهي ليس أولوية بالنسبة للدعوة الإسلامية بل الأولوية القصوى تكون لبناء المجتمع الإسلامي أما البرامج والاجتهاد الفقهي فيكون بعد
ص: 226
تأسيس المجتمع متأسيا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي في نظره كان اهتمامه الأول ببناء المجتمع الإسلامي وان التشريعات والقوانين لم تنزل إلا في الفترة
المدنية(1).
"الآخر" في فكر سيد قطب
وبعيدا عن هذا الأخذ والرد في فكر سيد قطب، وبعيدا أيضا بين تبني هذا الفكر أو التخلي عنه؛ فإنه هذه الورقة الوقوف عند موقف سيد قطب من" الآخر".
يهم وبكلمة يهم هذه الدراسة متابعة تصور سيد قطب للمخالف للعقيدة والفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية عموما. وإذا كان" الآخر" رسخ بشكل جلي في ذهن المسلمين والعرب بالغرب فانه قد تجلى في صور وأنماط متعددة عند سيد قطب سيتم متابعتها في الصفحات التالية.
في الفترة التي عاش فيها سيد قطب ( (1906-1966) لم يكن قد تبلور الصراع الفكري بين العالم الإسلامي والعالم الآخر في أعلى صوره وأوضح معالمه. لذلك يجد المتابع للآخر أو ما يسمى بالغرب في كتابات المفكرين الذي عاشوا هذه المرحلة وما قبلها غيابا أو شحا لهذه المصطلحات والتعابير . غير انه كانت مفاهيم ومصطلحات مستعملة ومتداولة بشكل كبير في الساحة الفكرية والثقافية في العالم العربي بالخصوص.
ومن هنا يمكن تفهم غياب مصطلح "الغرب" بحمولاته الفكرية والثقافية والحضارية، عند سید قطب بالخصوص، وكذلك المصطلحات المشابهة من قبيل "الآخر" التي تدل على المغاير للذات والمختلف عنها من حيث الفكر والثقافة والحضارة ونمط العيش. في مقابل ذلك ستنشط مصطلحات كانت سائدة ومعروفة آنذاك من قبيل "المستعمر" والصليبية" و"اليهود“ و" أهل الذمة" و"الرجل الأبيض".
كما لا ينبغي أن تغيب عنا أن هذه الفترة كانت فترة اشتدت فيها حدة الآلة العسكرية
ص: 227
الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي، مما سيؤجج الوضع ويحدث نوعا من الشرخ بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ومع هذا الهجوم العسكري الدموي العنيف الذي تمثل خاصة في الاستعمار بكل مآسيه وويلاته، فقد نشط هجوم آخر لا يقل عنه عنفا وباسا انه الغزو الثقافي والفكري في شتى ألوانه وضروبه. هذا الهجوم المزدوج اللون حشر الفكر التقليدي للأمة الذي تحمل لواءه الثقافة الإسلامية في الزاوية ليتقهقر للوراء في موقف ضعف وهوان. غير أن ثلة من المفكرين والدعاة والمصلحين سيتسلحون بما يسمونه "عزة الإسلام" والثقة في الدين الإسلامي ليشنوا هجوما مضادا ولو بوسائل ومناهج ضعيفة وتقنيات بدائية على هذا الفكر الدخيل وعلى الاستعمار الغاشم. وهو ما سيلحظ بشدة في طبيعة الأسلوب ربما" القوي" أو "المتشدد" أو" العنيف"(1) . عند سيد قطب وغيره من مفكري المرحلة..
وسيد قطب مفكر وداعية كباقي دعاة الإصلاح يهمه من بين ما يهمه بناء مجتمع يناسب تصوره وطموحه لكن دون إغفال المجتمع المحيط ومكونات الواقع الآخر. لذلك تعرض في مشروعه الفكري والحركي في مرات متعددة لبعض من هذه الهموم من خلال الحديث عن طبيعة المجتمع الإسلامي ومكوناته دون إغفال التعرض ل
"الآخر" سواء المعادي منه أم الصديق أم المحايد.
المجتمع الإسلامي مجتمع سلمي عالمي
ولمعرفة موقف سيد قطب من "الآخر" بكل ضروبه وتموقعاته سواء في داخل المجتمع الإسلامي أم في خارجه، فإنه من المفيد الوقوف على موقفه أو تصوره للسلم انطلاقا من التصور الإسلامي. فهو لا يترك فرصة إلا ويؤكد على سلمية الإسلام وإنسانيته مع ربطه بالمنظور الإسلامي الذي يسميه أصلا ب "التصور الإسلامي".
ذلك أن" فكرة السلام في الإسلام فكرة أصيلة عميقة، تتصل بالإنسان اتصالا وثيقا بطبيعته، وفكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة التي ترجع إليها نظمه جميعا؛ وتلتقي عندها تشريعاته وتوجيهاته، وتجتمع إليه شرائعه وشعائره بشكل لا
ص: 228
يخطر على بال الباحثين الدارسين أنفسهم لهذا الدين.. إلا أن يبلغوا بالبحث والدرس إلى الجذور العميقة البعيدة، ويتتبعوا امتدادها بالبحث والدرس إلى الجذور العميقةالبعيدة، ويتتبعوا امتدادها وتفرعها ،في يقظة وصبر وإحاطة...(1)
هذا المنطلق هو الذي يجعل من المجتمع الإسلامي، بكل مكوناته خصوصا في مناطق مليئة بالحساسيات الدينية والأقليات الاثنية والتنوعات المذهبية أيضا، مجتمعا منفتحاً بعيداً كل البعد عن العنصرية البغيضة والقومية المقيتة. فيؤكد ذلك حين يقول : "المجتمع الإسلامي مجتمع عالمي، بمعنى انه مجتمع غير عنصري ولا قومي ولا قائم على الحدود الجغرافية، فهو مجتمع مفتوح لجميع بني الإنسان، دون النظر إلى جنس أو لون أو لغة، بل دون نظر إلى دين أو عقيدة "(2)
وبذلك فالتصور الإسلامي ينشد السلم المؤسس على العدل انطلاقا من الشريعة الإسلامية الربانية المصدر وهو التصور الذي يهدف إلى تأسيس مجتمع بعيد من المنزلقات الطائفية والاثنية والمذهبية، مفتوح للبشر بغض النظر إلى لونهم أو لغتهم
أو عقيدتهم.
انطلاقا مما سبق سيتضح الإطار العام الذي يضع فيه سيد قطب" الآخر" في المجتمع الإسلامي وخارجه. فإذا كان السلم والمجتمع المنفتح هدفا للإسلام فإن قضايا أخرى تتطلب التوضيح والبيان في هذا الإطار ولعل من أهمها قضية دعوة "الآخر" إلى الإسلام وبالتحديد حرية الناس في الدخول إلى الإسلام من عدمه أو بالأخص قضية الإكراه في الدخول في الإسلام. وهي مسالة في غاية الأهمية في النظر إلى "الآخر" والتعامل معه.
3 .في إكراه" الآخر" على الدين:-
أثناء تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
ص: 229
الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » [البقرة: 256]، يعلق سيد قطب قائلا: "وفي هذا المبدا يتجلى تکریم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه.. وهذه هي أهم خصائص التحرر الإنساني..
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق "الإنسان" التي يثبت له بها وصف "إنسان". فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.. ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة.. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.(1)
ف" الآخر" ، بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه، مطلوب من المسلمين أن يعرضوا المشروع الإسلامي عليه، وهذا حق من حقوقه؛ ورغم ربانية الإسلام واطلاقيته وشموليته وأفضليته على باقي الأديان وفق التصور الإسلامي- فإن الحرية والعدل هي المدخل إلى قلبه، وعقله وهي المفتاح الذي يمكنه من القبول أو الرفض. وعليه ف"إن الإسلام لم يشأ أن تكون وسيلته إلى حمل الناس على اعتناقه والإكراه في أية صورة من الصور، حتى القهر العقلي عن طريق المعجزة لم يكن وسيلة من وسائل الإسلام كما كان في الديانات قبله، من نحو الآيات التسع لموسى، والكلام في المهد وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى.. لقد شاء الإسلام أن يخاطب القوى المدركة في الإنسان، ويعتمد عليها في الاقتناع بالشريعة والعقيدة، وذلك جريا على نظرته الكلية في احترام هذا الإنسان وتكريمه (2).
فالإسلام يتبرأ من العنف ولا يقبل به وسيلة لدعوة الناس وإقناعهم بالدخول في دينه، فينبذ العنف والقهر الذي يولد نفورا وكراهية تكون مدخلا للنفاق وشراء الذمم وإشاعة فكر الحقد والتعصب .. ولذلك فالإسلام "لم يشأ.. أن يجعل القهر المادي
ص: 230
وسيلة للاقناع، أو لحمل الناس على اعتناقه بالإكراه، ولم يضق ذرعا باختلاف الناس
في المنهج والعقيدة، بل اعتبر هذا ضرورة من ضرورات الفطرة، وغرضا من أغراض الإرادة العليا والناس: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلفينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود : 118]. ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لَّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [المائدة: 48] .
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس:99] ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ (البقرة: 252) .
فليست غاية المسلمين أن يكرهوا أحدا على اتباع الإسلام، إنما كل غايتهم أن تترك لهم حرية الدعوة وأن تترك للناس حرية الاعتقاد؛ فإذا تبين الرشد من الغي، فقدتركت الحرية للناس بعد هذا التبيين، وبطل الإكراه والقهر بنص القرآن(1).
في حرية اعتقاد "الآخر":
يعتبر الإسلام اعتناق الدين الإسلامي يتأسس أصلا على إخلاص النية والعبادة لله الواحد الأحد. وهذا المنطلق هو أرقى معاني التحرر من كل أدران التراب والترفع للسمو إلى صفاء الروح والسماء. وهذا التحرر لا معنى له إلا إذا تجسد في النفوس والعقول والقلوب؛ وهو ما لا يتحقق إلا بترك الناس أحرارا أمام اختياراتهم وقناعاتهم الدينية والاعتقادية. لذلك فالشريعة الإسلامية لا تلزم الناس بعقيدتها بل تفتح لهم وتيسر لهم سبل الاعتناق بالدليل والبرهان. ليس هذا فحسب، بل الإسلام" لا يريد حرية العبادة لأتباعه وحدهم ،إنما يقرر هذا الحق لأصحاب الديانات المخالفة، ويكلف المسلمين أن يدافعوا عن هذا الحق للجميع ، ويأذن لهم في القتال تحت هذه الراية، راية ضمان حرية العبادة لجميع المتدينين... وبذلك يحقق أنه نظام عالمي حر،يستطيع الجميع أن يعيشوا في ظله آمنين ،متمتعين بحرياتهم الدينية على قدم المساواة مع المسلمين وبحماية المسلمين(2).
ص: 231
لذلك يعلنها سيد قطب صراحة وبدون مواربة في دعوته إلى حرية الاعتقاد واختيار الدين الذي يختاره الناس دون إكراه أو إجبار حين يقول: "إننا ندعو إلى نظام، تستطيع جميع العقائد الدينية أن تعيش في ظله بحرية وعلى قدم المساواة، ويتحتم فيه على الدولة وعلى جماعة المسلمين، القيام بحماية حرية العقيدة، وحرية العبادة للجميع، وأن يلجأ غير المسلمين في أحوالهم الشخصية إلى دياناتهم كذلك؛ وإن يكون لجميع المواطنين فيه حقوق وتبعات متساوية، بدون تمييز .. وان يرتكز هذا كله ؛على عقيدة في الضمير؛ لا على مجرد التشريعات والنصوص؛ التي لا تكفي وحدها للتنفيذ السليم.
ويرتبط بحرية الاعتقاد مفهوم يثير نقاشا وجدلا كبيرين في الساحة الإعلامية داخليا وخارجيا، إنه مفهوم “الجهاد“ . لقد علق بالجهاد الكثير من المعاني والأحداث التي غیرت صورته سلبا وأعطت للآخر وجها قبيحا وذميما للإسلام والمسلمين. حيث برز إلى الوجود التكفير والتبديع والتفسيق وهو ما فتح المجال إلى الاقتتال تحت لافتة المقدس والتقديس . فتفلت الجماعات التكفيرية من عقالها لتحدث ضررا كبيرا وجرحا عميقاً في حائط الإسلام وصورته وهو ما يتطلب جهودا طويلة من اجل تلميع هذه الصورة ولأم الجرح الغائر.
يحاول سيد قطب، وان في زمان سابق على الوقت المعاصر، تقليل الأضرار وتلميع الصورة بالقول: "ومع الإذن للمسلمين بالقتال لتحقيق هذا الغرض، فإنهم أمروا ألا يعتدوا، وحددت لهم الأحوال التي يجب فيها القتال لتحقيق ذلك الغرض والتي فيها لا يجوز ، فهم مكلفون أن يقاتلوا من يقاتلونهم، ومن يفتنون فريقا منهم عن دينهم- والفتنة أشد من القتل لأنها اعتداء على اخص خصائص الإنسان، وهي حرية الوجدان،- وهم منهيون عن الاعتداء وعن قتال أعدائهم في الأمكنة والأزمنة التي يحرم فيها القتال إلا إذا بدأوهم بالقتال(2) فغاية الجهاد وهدفه ليس الاعتداء ونشر الفتنة بقدر ما يسعى إلى جعل عرض الدين أمام الآخر ليدخلوا فيه أو يتراجعوا
ص: 232
عنه بدون ضغط أو إكراه،"وهنا نجد كذلك أن الغاية من هذه الحروب هي دفع العدوان بدون اعتداء، ودفع الفتنة عن الدين وترك الدين لله، والقاعدة العامة هي أن لا حرب إلا مع المحاربين ومع الطغاة الذين يصدون الناس عن دينهم ظالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين."(1)
كما يرى سيد قطب أن الضربات الاستباقية والوقائية حق للمسلمين لا يطعن في حسن تعاملهم مع الآخر إذا تطلب الأمر ذلك،" وهنالك فريق آخر يدعو الإسلام إلى حربهم حربا وقائية: أولئك الذين ينقضون معاهداتهم السلمية مع المسلمين، ويكررون هذا النقض، بحيث يبقى المسلمون في قلق من حياتهم في كل لحظة، فعلى المسلمين أن يعلموهم بنبذ ما بينهم وبينهم من معاهدات. ولكن حتى هؤلاء ليس للمسلمين عليهم من سبيل إذا هم آثروا السلم وجنحوا إليها واختاروها :
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةٌ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ » [الأنفال:55-162 ..(2)
كما أن هناك" راية أخرى يحارب تحتها الإسلام كما قلنا، راية حماية الضعفاء من الظلم ،والظلم كافة قياما بشريعة الله في العدالة الإنسانية بغير ما غاية سوى تحقيق كلمة الله في سبيل الله.« فَلْيُقَاتِلْ في سَبيل الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَا لَكُمْ لا
ص: 233
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذه الْقَرْيَةِ الظَّالِم أَهْلَهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لنا من لَّدُنكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا » [النساء: 74-76] ..(1)
ليخلص في النهاية إلى ما يلي: "وإذن فهي الحرب كذلك لدفع الظلم والطغيان ،لا للإكراه على العقيدة، ولا كراهية للآخرين بسبب العقيدة، إنما هي الوسيلة العملية لدفع الظلم وإقامة العدل، وتحقيق الأمن وحماية الضعفاء(2).
ولما كان منشود المسلم في الآخرة هو الأجر والثواب الذي ينجيه من الآخرة، فإن المسلم العاقل الحكيم يعلم يقينا أنه "وفيما عدا تلك الإغراض التي استعرضنا، لا يحتسب الإسلام للمسلم أجرا في قتاله، ولا يقبل منه جهادا ليس سبيله..
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليرى فمن في سبيل الله؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (الشيخان).
وكلمة الله هي إحقاق الحق، ودفع الظلم، وحرية العقيدة .. (3).
في نقد "الآخر":
يقدم سيد قطب نقدا لاذعا للمجتمع الغربي، الذي يرى فيه تحقيق وتجسيم الابتعاد عن الهدي الرباني، فيقول : "والعاقل "الواعي"الذي لم يأخذه الدوار الذي يأخذ البشرية اليوم. حين ينظر إلى هذه البشرية المنكودة يراها تتخبط في تصوراتها، وأنظمتها، وتقاليدها، وعاداتها، وحركاتها كلها تخبطا منكرا شنيعا .. يراها تخلع ثيابها وتمزقها كالمهووس !وتتشنج في حركاتها وتتخبط وتتلبط كالممسوس.. يراها تغير
ص: 234
أزياءها في الفكر والاعتقاد، كما تغير أزياءها في الملابس، وفق أهواء بيوت الأزياء!.. يراها تصرخ من الألم، وتجري كالمطارد، وتضحك كالمجنون، وتعربد كالسكير، وتبحث عن لا شيء! وتجري وراء أخيلة! وتقذف بأثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به یداها من أحجار وأوضار !
لعنة! لعنة كالتي تتحدث عنها الأساطير(1) !
ثم يضيف "إن هذه البشرية تعاني من الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب، وتهرب من واقعها النفسي بالأفيون والحشيش والمسكرات، وبالسرعة المجنونة، والمغامرات الحمقاء، و"بالتقاليع "السخيفة... وذلك بالرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسرة، والفراغ الكثير .. لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتضاعف كلها كلما تضاعف الرخاء المادي والتيسيرات الحضارية..
إن هذا الخواء المرير يطارد البشرية كالشبح الرعيب يطاردها فتهرب منه. ولكنها
تنتهي كذلك إلى خواء مرير(2) .
بالإضافة إلى هذا يزيح الستار عن ظاهرة غريبة تتعلق بالدين والتدين في الغرب.فيشير إلى ان "كثيرين ممن لم يعيشوا بعض الوقت في أوروبا وأمريكا– أو ممن عاشوا هناك ولكنهم لم يتعمقوا وراء الظواه - كثيرا ما تخدعهم كثرة الكنائس وانتشارها -وبخاصة في الولايات المتحدة حيث تقوم في البلد الصغير الذي لايتجاوز تعداده عشرة آلاف نسمة أكثر من عشرين كنيسة أحيانا.. وكثيرا ما تخدعهم كثرة مظاهر الاحتفالات الدينية والمراسم والأعياد الدينية.. وكثيرا ما تخدعهم كثرة الأحزاب التي تحمل أسماء “المسيحية“.. ثم كثيرا ما يخدعهم ما يكتبه ويذيعه رجال الدين من كتب ومقالات وبحوث وإذاعات في موضوعات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية البحتة أحيانا..
ص: 235
كثيرا ما يخدعهم هذا كله فيحسبون أن للدين شأنا في أوروبا وأمريكا. وان لرجال الدين أثرا في الحياة الاجتماعية هناك.. وهذه نظرة سطحية لا تدرك حقيقة ما هو واقع هناك (1).
وهو إذ يعرض لهذا الأمر ويصور فداحة الموقف وشدة الأزمة التي يعيشها الغرب، يريد أن ينبه إلى الغفور الرحيم الذي يفتح الأبواب أمام الناس جميعا ليدخلوا في كنفه. ذلك أن من رحمته تعالى أن جعل الناس ".. في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء؛ ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ؛ ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود ..والرضاء . . (2) .
والإسلام أصلا يراعي مصلحة الناس جلبا ويرد عنهم المفاسد درءا ليهنأ الناس ويسعدون في مجتمع يحفظ لهم حقوقهم ويوجههم نحو ما يفيدهم، ذلك أن الإسلام "هو الإسلام، إسلام القلب لله وحده بلا شريك، وهذا هو أساس العقيدة الذي لايتبدل، أما التشريع الذي ينظم حياة الجماعة فهو الذي يتطور في الرسالات الإلهية على أيدي الرسل، تبعا لمصلحة البشرية ودرجة نموها، وتطور إدراكها.. حتى إذا جاء عليها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كان قد احتضن الفكرة الأساسية في دین الله الواحد، واستبقى الصالح من المبادئ والتشريعات والنظم في الرسالات السابقة، وأكمل الناقص منها وأتمه : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا » [المائدة: 3] (3)
ورغم ما يمكن أن يثار من سوء فهم في هذا المجال فإن سيد قطب يعلن تقبل الإسلام للآخر والتعاون معه لضمان العيش المشترك والأمن والأمان في هذه الأرض.
ص: 236
فالإسلام "... وتمشيا مع نزعته العالمية، لا يبت الصلة بينه وبين من لا يؤمنون به ما داموا لا يحاربونه، ولا يمنعون دعوته أن تبلغ الناس، ولا يفسدون في الأرض، ولا يعتدون على الضعفاء؛ بل يفسح للداخلين في سلطانه مجال الحياة كاملا، ويفسح لمن لا سلطان له عليهم مجال التعاون العالمي في الخير والصلاح "(1).بل أكثر من ذلك جعل المساواة في الإنسانية من أسس العدالة الاجتماعية التي يسعى إلى تحقيقها الإسلام والثقافات الإنسانية المتعددة. فيقرر أن "هذه الأسس التي أقام عليها الإسلام العدالة الاجتماعية هي:
1 .التحرر الوجداني المطلق.
2. المساواة الإنسانية الكاملة.
3. التكافل الاجتماعي الوثيق "(2)
إن انفتاح الإسلام واستعداده للتعايش والتسامح لا يعني عدم قراءة الآخر بكل تلاوينه وفهمه عن كثب، وبالخصوص ما يسميه سيد قطب "بالصليبية العالمية" والصهيونية العالمية" لذلك يؤكد أن خصائص الإسلام وبالضبط الشمول والواقعية والهيمنة " .. هي التي تعبت منها الصليبية العالمية في هجومها على( الأمة المسلمة) في (الوطن الإسلامي). كما أنها هي التي تعبت منها الصهيونية العالمية كذلك، منذ عهد بعيد! ومن ثم لم يكن بد أن تبذلا معاً الجهود الجبارة لحصر هذا الدين في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية؛وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية ومنعه من الهيمنة على نشاط الحياة البشرية .. وذلك كله كخطوة أولى، أو كموقعة أولى، في معركة القضاء عليه في النهاية!(3)
ثم يربط بينهما وبين العلمانية حين يقول : "وبعد أن أفلحت تلك الجهود الجبارة؛ ونالت انتصارها الحاسم على يد (أتاتورك) - البطل !!! - في إلغاء الخلافة الإسلامية؛
ص: 237
وفصل الدين عن الدولة ؛ وإعلانها دولة (علمانية) خالصة . عقب محاولات ضخمة بذلت في شتى أقطار( الأمة المسلمة) في (الوطن الإسلامي) التي وقعت في قبضة الاستعمار قبل ذلك، لزحزحة الشريعة الإسلامية عن أن تكون هي (المصدر الوحيد) للتشريع؛ والاستمداد من التشريع الأوروبي؛ وحصر الشريعة في ذلك الركن الضيق المسدود: ركن ما سموه (الأحوال الشخصية ) ! (1)“
كما يؤكد تحالف هذه القوى العالمية وتكالبها ،منفردة أو في جبهات، لمواجهة الصحوة الإسلامية أو ما اسماه ب “طلائع البعث الإسلامي“ حيث ”صاحب هذه المحاولة ضربات وحشية تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان على ظهر هذه الأرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي لا تلتقي على شيء في مشارق الأرض ومغاربها، إلا على الخوف من البعث الإسلامي الوشيك؛ الذي تحتمه طبائع الأشياء، وحقائق الوجود والحياة، ودلالات الواقع البشري من هنا ومن هناك.(2)
ولا ينسى للكنيسة والمسيحية أخطاءها العلمية التي حولت مجرى التاريخ“ ثم كانت الطامة الكبرى، يوم وقفت الكنيسة بما تبنته من آراء“علمية“ خاطئة وخرافات وأساطير شائعة، واعتبرته جزءا من الدين والعقيدة.. يوم وقفت بهذا الغثاء في وجه المنهج العلمي التجريبي الذي تسرب من الجامعات الإسلامية إلى التلامذة الأوربيين، في وجه النتائج “العلمية“ الحقيقية التي أخذ هذا المنهج والتلامذة الأوربيون العلماء يصلون إليها .. وحرقت العلماء، وطاردتهم وأنكرت مناهجهم ونتائج تجاربهم جميعا“ .(3)
ليخلص في الأخير في نقده للغرب إلى نتيجة تبين في نظره حقيقة موقف الغرب من العالم الإسلامي:“إن الغرب الرأسمالي والاشتراكي سواء، يناصبنا العداء كله كتلة واحدة. وفي فلسطين شاهد من ذلك العداء الناصب قريب. وهو في الوقت ذاته
ص: 238
يسومنا الذل والخسف في تبجح ظاهر، ولا يخفض من نبرة الاستعلاء الفاجر إلا في أبان الهزيمة والانكسار“(1) .
ورغم شراسة“الغرب/ العدو“في نظره، ورغم إمكاناته المادية والعسكرية والتقنية والمالية الهائلة التي لا تترك المجال واسعا للمقارنة بينها وبين العالم العربي والإسلامي، فإنه يجدد التأكيد على قوة الإسلام والمسلمين وقدرتهم على مواجهة التحديات؛ فيقول : “ولكننا نعلم كذلك أن هذا الدين أضخم حقيقة، واصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود كلها، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج اكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. وإلى منهجه القويم للحياة. (2) فيكون الرجوع إلى الله والتوبة بداية التصحيح سواء بالنسبة للمسلمين أم بالنسبة إلى الآخر الذي يختلف معهم مهادنا أو محاربا.
والآخر/ العدو يعسر في نظره التفريق بين عناصره ومكوناته في مواجهتها وعداوتها للاسلام. وهنا“ يصعب الفصل بين عداء الصليبية للإسلام وعداء الاستعمار . فكلاهما يغذي الآخر ويسنده ويبرره. والإسلام عقيدة استعلاء تكافح الاستعمار حين تستيقظ في نفوس أصحابها، ورجعة الحكم إلى الإسلام توقظ هذه الروح بشدة، فتفسد على الاستعمار خطة الاستغلال والاستدلال“(3) (والرأسمالية : 98)
خاتمة:
يبقى سيد قطب دائما مفكرا مثيرا للكثير من ردود الفعل المتباينة. ذلك أن نصوصه وكتاباته استقبلت من طرف تيارات وجماعات متباينة التوجه. منها من رأت فيه الايجابي فالتقطته وطورته وسارت عليه، ومنها من أسقطت هذا الجانب فاتجهت
ص: 239
رأسا إلى التوجه المناقض للايجابي فيه فتبنته. وهذا سبب وجود تيارات تكفيرية صدامية لم تستطع التمييز والنظر بعمق في كتاباته كما تعاملت بتطرف ربماغيرمسبوق حتى مع النص الشرعي .
لذلك لا بد من التمييز بين شخصيتين في نظرنا عند دراسة فكر سيد قطب خاصة في قراءته للآخر؛ فسيد قطب المفكر الداعية المنفتح هو غير سيد قطب المنظر للحركة الإسلامية.
فالأول يتبنى الإسلام بدون قيود وضوابط مسبقة تفرض نظرة علمية متوازنة يحضر فيها التوازن والانفتاح والتسامح والرحمة. ويظهر ذلك في تبنيه وعرضه للكثير من الأفكار والأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى بناء مجتمع أنساني منفتح على الثقافات والأجناس والأعراق الأخرى وليس المسلمة فقط كما يتوهم كثير من قصار النظر ودعاة التكفير والتطرف والعنف فيدعو إلى مجتمع أنساني تتحقق في حرية الاعتقاد والتسامح في النظر إلى الآخر والسلم ويحقق العدالة الاجتماعية ليعيش الجميع في حب وود متعايشين.
أما الثاني، فينضبط لقوالب جاهزة تدفعه إلى التشبث أكثر بالحركة الإسلامية والمجتمع الإسلامي بدرجة أكبر ؛ فيغيب المجتمع الإنساني وهدف الإسلام ومقصده الاسمى، ليفسح المجال للتضايق من الآخر والنظر إليه نظرة عداء وتناقض وليس نظرة صديق وتكامل. وهما ما التقطه العديد من الأغبياء والجهلة من التكفيريين المتطرفين.
وهنا لا يبدو أن سيد قطب تأثر في السجن ليكون أكثر تطرفا في مرحلة الاعتقال وما بعدها. ذلك أن“ في ظلال القرآن“ وهو بمثابة موسوعته التي بث فيها جل تفكيره كتب جزء منه إبان الاعتقال ومع ذلك فيه الكثير من ذلك فيه الكثير من التسامح والانفتاح والدعوة إلى السلم والأمن والأمان.
إن تراث سيد قطب يحتاج إلى دراسة علمية معرفية وغير ايديلوجية. لان جل من
ص: 240
درسه إما أبناء الحركة الإسلامية أو أبناء التيارات العلمانية بكل أطيافها. فيتصيد كل تيار ما يحتاج إلى دعم نظرته من فكره.
ومن أهم المواضيع هنا التي تحتاج إلى قراءة جديدة معرفية كما سبق نظرته إلى الآخر الذي يختلف معنا وسبل تحقيق المشترك الإنساني معه. وهذه مهمة تتطلب مخلصين ومجتهدين متسلحين بالأمانة والصدق والتجرد.
بيبلوغرافيا الدراسة:
سید قطب : “الإسلام ومشكلات الحضارة“، دار الشروق - القاهرة-ط:11، 1992.
سید قطب : “السلام العالمي والإسلام“ ، دار الشروق - القاهرة - ط : 12 ، 1993
سید قطب :“العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار الثقافة - الدار البيضاء - ط : 8، 1983
سيد قطب : “المستقبل لهذا الدين“، دار الشروق - القاهرة
سید قطب :“خصائص التصور الإسلامي ومقوماته“، دار الشروق-بيروت-ط:7، 1980.
سید قطب:“ دراسات إسلامية“، دار الشروق - بيروت- 1978
سید قطب : “في ظلال القرآن“ ، دار الشروق، ط: 9، 1980
سيد قطب : “معالم في الطريق “، دار الثقافة - الدار البيضاء- ط : 8 ، 1983
سيد قطب : “معركة الإسلام والرأسمالية“، دار الشروق - بيروت-ط:7، 1980.
سید قطب :“ نحو مجتمع إسلامي“، دار الثقافة - الدار البيضاء-ط :6، 1983
سيد قطب : “هذا الدين“، دار الشروق - القاهرة - ط :15 ، 2001
سيد قطب: “مقومات التصور الإسلامي“، دار الشروق-القاهرة-ط: 3، 1988.
ص: 241
.أ.م. الدكتور ياسين حسين الويسي(1)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على امام الاولين والآخرين محمدوآله الطيبين الطاهرين وصحابته المنتجبين ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين.
وبعد
فان هذه الامة قد تميزت بثلاث لم يتميز بها غيرها وهو«الانساب والإعراب والإسناد» فحديثها مسند، وكلامها معرب وفردها منسب، وما ذلك الا لحفظ حقوق
ابناء هذه الامة، وعلينا اليوم ان نحفظ حقوق مفكريها وما قدموه من علم وعمل، فنكون شهداء على الناس كما وصفنا تعالى في محكم التنزيل ويكون الرسول علينا شهيداً.
إن ما ندونه اليوم في حق مفكري الامة الاسلامية انما هو هو سفر يروي أعمالهم
للاجيال القادمة، فيتعلمون منه العبر، عسى ان يغير الله تعالى بهم حال هذه الامة.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع واهمية الشخصية التي نحن بصددها وبصدد موقفه من التنوير الغربي كل ذلك كان سببا لاختياره عنواناً لبحثي الموسوم: «محمد قطب ونقده للتنوير الغربي» ولقد واجهتني صعوبة في التوفيق بين بعض الآراء للشيخ
ص: 242
محمد قطب تبدو متناقضة ولكن حسبي انني اجتهدت في عرض النص المتناقض
وتركت للقارئ الكريم الحكم عليه.
فكانت مشكلة بحثي هي نقد التنوير الغربي في فكر محمد قطب،
فقدمت لبحثي هذا بمقدمة ومبحثين كان الأول في حياة الشيخ محمد قطب وثقافته، والمبحث الثاني: كان في نقده لصور التنوير الغربي، وقد ختمت بحثي بخاتمة تضمنت اهم النتائج التي توصلت اليها في هذا البحث. سائلاً الله تعالى العلي القدير ان يجعلنا هادين مهديين وان ينفعنا بعلمنا ويعلمنا ما لم نعلم. والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول: حياته وثقافته.
المطلب الأول: حياته.
اسمه ومولده محمد قطب ابراهيم حسين شاذلي، ولد في قرية موشا وهي احدى قرى محافظة اسيوط، بصعيد مصر، سنة 1919م...(1)لابوين كريمين متوسطي الحال ، يحملان سمات اهل الصعيد من سمرة في البشرة، وقسمات وجوههم تعكس بعض ما جبلت عليه فطرتهم من غيرة على العرض وطيب متأصل في اعماق النفس هذا فضلاً عن العاطفة الفياضة الجياشة التي تربطهم بشدة بهذا الدين القويم... قضى طفولته في هذه القرية وانطبعت في مخيلته صورها ومشاهدها، وتأثرت نفسه بمناظرها وتفتحت مشاعره واحاسيسه على جمالها وبهائها(2).
عاش الاستاذ المفكر محمد قطب حياته ينهل العلوم ويحصلها مما كان له أثر في تكوينه الفكري؛ فقد بدأ دراسته الابتدائية والثانوية في القاهرة، واستقرت الاسرة كلها
ص: 243
هناك عند شقيقه سيد، بعد وفاة والده - رحمه الله - ثم التحق بجامعة القاهرة، حيث درس الانجليزية وآدابها، وتخرج عام 194م تابع دراسته بمعهد المعلمين، وحصل على دبلوم المعهد العالي للمعلمين في التربية وعلم النفس عام 1941م(1) .
وبعد حصوله على الدبلوم العالي عمل بوظائف عدة لفترات مختلفة. فقد عمل بالتدريس لمدة اربع سنوات بعدها عمل بإدارة الترجمة بوزارة المعارف بمصرلمدة خمس سنوات. ثم عاد وعمل بالتدريس مرة اخرى لمدة عامين كذلك عمل في دار الكتب المصرية، حيث اصبح مشرفاً على مشروع( الالف كتاب) الذي كان يقدم فيه للكتاب المهم بثمن زهيد (2). وبعد خروجه من السجن عام 1972م تعاقد مع جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة - جامعة ام القرى حالياً - وعمل فيها استاذاً في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة (3).
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: (ومما ينبغي الالتفات اليه ان الاستاذ الشيخ - محمد قطب - لم يحصل على درجة الدكتوراه، لكن اهليته العلمية جعلته في هذه المكانة العلمية السامقة بالجامعة .)(4)
كانت حياته عبارة عن عطاء فكري متواصل فقد درس واشرف الاستاذ محمد قطب على عدد كبير من العلماء والدعاة العاملين مثل: سفر الحوالي، محمد القحطاني علي العلياني علي الحربي، سعيد بن مسفر القحطاني..... الخ)(5)
ص: 244
لقد كتب الشيخ وألف في مجالات مختلفة وجمع بين التراث والمعاصرة، فناقش كثيراً من قضايا التراث بروح العصر، ومن جملة هذه القضايا، الدراسات التاريخية من القرآن الكريم ناظراً في ذلك نظرة المتفحص الذي يسرد احوال البلاد والعباد من خلال عرض النص المقدس وتحليله، مدافعاً عنه من شبهات المبطلين، وانه قرآن معجز، لا يأتون بمثله مهما كثرت مذاهبهم الفكرية، ولا يفوتنا ان نذكر ان الشيخ مر بمراحل ثلاث مهمة في حياته.
الاولى: هي مرحلة تأثره بشقيقه (سيد قطب)(1). وموقفه من السلطة.
والثانية: مرحلة بداية النشاط الفكري ومحنته وسجنه.
الثالثة:هي مرحلة سفره إلى السعودية واقامته بها حتى دخل في جو الدراسات الاكاديمية. وخاض مجالات علمية اخرى، فضلا عما ذكرنا وقد جادل العلمانيين ونقد المادية وبين خطرها. واكد على واقع الفن الاسلامي ومنهجه، ومن خلال التراكم المعرفي لديه من خلال دراسته في الدبلوم العالي بالمعهد العالي للمعلمين وحصوله على اجازة المعهد له في التربية وعلم النفس (2)، فعالج النفس البشرية من خلال دراساته، مقدماً رؤية الاسلام للعالم المعاصر، وامكانية تطبيق الشريعة، وكيفية دعوة الناس للاسلام وكيف ان الاسلام اخرج الناس من الجاهلية والظلمات ثم عادت الجاهلية إلى هذا العالم مركزاً على عصره الذي عاش فيه فسماها بجاهلية القرن العشرين، سيادة المفاهيم الخاطئة التي يجب ان تصحو، مبيناً اصالة العلوم والمعارف الاجتماعية في الاسلام، مقتبساً ذلك من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومطبقاً تلك المفاهيم على واقعنا المعاصر في ظل العولمة التي اجتاحت مجتمعاتنا الاسلامية مؤكداً على ان التطور قد لا يكون في التخلي عن ركائز الايمان بل في الثبات على العقيدة، مؤكداً على دور المرأة وقضية تحريرها من مفاهيم العبودية التي كانت سائدة في عصره، وصولاً إلى قضية التنوير في عالمنا الاسلامي ودعوة العقل إلى العودة معنا إلى تمحيص التراث وتبرئته مما لحقه من ادران الفكر
ص: 245
المعادي الذي يتربص به وبنا، كان ولا يزال ليدعي ان تخلفنا سببه تراثنا وهي دعاوى باطلة. وظل المفكر محمد قطب هذا دأبه في جهاده الفكري حتى توفي سنة 2014م.
المطلب الثاني: ثقافته
تكمن ثقافة الشيخ الاستاذ محمد قطب من خلال مؤلفاته التي تركها، فضلا عن الخبرات التي اكتسبها من خلال دراسته ومشروعه الفكري، فقد كتب في مختلف الفنون وبالرغم من ان اجازته كانت في الآداب الانجليزية الا انه برع في الفكر الاسلامي ، وسوف نعرض لاهم مؤلفاته وجميعها مهمة حيث عالجت قضايا الامة
الاسلامية، ومن هذه الدراسات والكتب :
1 -دراسات قرآنية.
2- التأصيل الاسلامي للعلوم الاجتماعية.
3 - التطور والثبات في حياة البشرية.
4 - العلمانيون والاسلام.
5 - الانسان بين المادية والاسلام.
6 - المسلمون والعولمة.
7 - ركائز الايمان - 1997م.
8 - رؤية اسلامية لاحوال العالم المعاصر.
9 - حول تطبيق الشريعة.
10 - جاهلية القرن العشرين - 1974م.
11 - شبهات حول الاسلام.
ص: 246
12 - قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم.
13 - كيف ندعو الناس.
14 - لا يأتون بمثله.
15 - مذاهب فكرية معاصرة.
16 - مفاهيم ينبغي ان تصحح.
17 - كيف نكتب التاريخ.
18 - هل نحن مسلمون.
19 - هلم نخرج من ظلمات التيه.
20 - واقعنا المعاصر.
21 - منهج الفن الاسلامي.
22 - ماذا يعطي الاسلام للبشرية.
23 - دراسات في النفس الانسانية.
24 - قضية تحرير المرأة.
25 - قضية التنوير في العالم الاسلامي.
26 - منهج التربية الاسلامية، وهو في جزئين.
27 - مغالطات - 2006م.
28 - لا اله الا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة.
ص: 247
29 - العلمانية .
30 - الطرف الآخر من البيت - رواية. 2005م.
31 - ابن بطوطة رحلة الخمسة والعشرين عاماً، 1995م. الفه مع سامي بجيرمي.
يعد الاستاذ المفكر محمد قطب رواد التربويين الاسلاميين اذ اكد على التربية الاسلامية وضرورتها من خلال وضعه الوسائل التربوية، من خلال كتابه مناهج التربية الاسلامية الذي ضمنه اصلاح النفس البشرية، والذي هو اساس لكل اصلاح وسوف نقوم بعرض مشروعه الفكري من خلال مؤلفاته ومجمل هذا المشروع يتلخص في
ثلاثة محاور رئيسة هي:
أولاً : اصلاح النفس.
ثانياً: اصلاح المجتمع.
ثالثاً: الاصلاح السياسي.
ومشروع الاصلاح العام يتمثل في قوله تعالى: [إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ] (1)وسنوجز القول في محاور الاصلاح الثلاثة:
أولاً : اصلاح النفس البشرية : ويركز فيه الاستاذ محمد قطب على التربية الاسلامية،
وهي تربية« القاعدة الصلبة» وهي حقيقة مفهوم لا اله الا الله والعمل بمقتضاها(2) .وكانت مؤلفاته بهذا الجانب تتمثل في المجالات الانسانية، الادب والشعر وقد عرف الادب الاسلامي بأنه: (تعبير جميل عن الكون والحياة والانسان، من خلال تصور الاسلام للكون والحياة والانسان) (3)في مجال علم النفس كتب دراسات في النفس الانسانية محاولاً بيان ان هذه العلوم نشأت في الغرب وفي جو مضاد للاسلام فينبغي
ص: 248
التصدي لهذا الغزو الفكري(1).
ثانياً: اصلاح المجتمع، وتتمثل عملية اصلاحه للمجتمع من خلال كتبه التالية الاسلامي التأصيل للعلوم الاجتماعية، والتطور والثبات في الحياة البشرية، ونقده
العلمي للمجتمع الغربي من جهة ونقده للمجتمعات الاسلامية التي ابتعدت عن شرع الله، فكتب حول تطبيق الشريعة، وجاهلية القرن العشرين، وقضية تحرير المرأة، وقضية التنوير في العالم الاسلامي(2) مركزاً على شمولية العقائد الاسلامية التي تجمع بين الواقع وبين اصول العقيدة وثوابتها في تنسيق رائع.
ثالثاً: الاصلاح السياسي:وقاعدة هذا الاصلاح هي ان الحاكمية لله وهو بهذا متأثر بأخيه سيد قطب وابي الاعلى المودودي(3)، واساس هذه القاعدة التوحيد الذي ترتكز عليه جميع الاديان السماوية قبل ان يمسها شيء من التحريف..، وقد اثرت نظرته هذه في طلابه لاسيما منهم سفر الحوالي(4) .
المبحث الثاني: نقده لصور التنوير الغربي.
المطلب الاول: نقد للعلمانية والانسانية الغربية.
يبدأ الاستاذ محمد قطب نقداً للعلمانية بعد ان يسعى إلى ترجمتها فهو يرى ان (العلمانية هي الترجمة العربية لكلمة Secularism Seculorite) في الترجمات الاوربية. وهي ترجمة مضللة لأنها توحي بأن لها صلة بالعلم، في حين هي في لغتها الاصلية لا صلة لها بالعلم بل المقصود بها في تلك اللغات هو إقامة الحياة بعيداً عن الدين، أو الفصل الكامل بين الدين والحياة.)(5)
ص: 249
ثم يذكر التعريف الذي اوردته دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة «Secularism»بأنها : ( حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها. ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر. ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت ال Secularism تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الانسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم بالانجازات الثقافية البشرية، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة. وظل الاتجاه إلى ال_ Secularism يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية .)(1)
وبعد تعريف العلمانية من خلال المواضع المعرفية المعتمدة وبيان انها لا تمت للعلم بصلة، يعود الاستاذ محمد قطب إلى بيان لب العلمانية فيقول: إن (نبذ الدين وإقصاءه من الحياة العملية هو لب العلمانية.)(2) وحتى لا نكون مهملين لحركة التاريخ فإن ظهور العلمانية في أوروبا كان أمراً لا بد منه.
يقول محمد قطب :( وتبدو نشأة العلمانية في أوروبا أمراً منطقياً مع سيرالاحداث هناك ،اذا رجعنا إلى الظروف التي شرحناها...اي إلى عبث الكنيسة بدين الله المنزل، وتحريفه وتشويهه، وتقديمه للناس في صورة منفرة، من دون ان يكون عند الناس مرجع يرجعون اليه لتصحيح هذا العبث وارجاعه إلى اصوله الصحيحة كما هو الحال مع القرآن المحفوظ- بقدر الله ومشيئته- من كل عبث او تحريف خلال القرون.)(3) وهنا مبنى النقد الذي يقدمه محمد قطب للعلمانية في أوروبا ليس من باب محاسبة أوربا على( انحرافاتها في مجال الدين والعقيدة... ولكن الذي يعنينا هو شرح هذه الانحرافات وبيان الصورة التي حدثت عليها، والظروف التي احاطت بها منذ مبدئها حتى صارت إلى ما صارت اليه.
ص: 250
ونخطئ - من وجهة نظرنا الإسلامية -إن قلنا إن«العلمانية» حدثت فقط بعد النهضة. فالحقيقة -من وجهة النظر الاسلامية- ان الفصل بين الدين والحياة وقع مبكراً جداً في الحياة الاوربية، أو انه - إن شئت الدقة - قد وقع منذ اعتناق أوروبا المسيحية، لأن اوربا ... قد تلقت المسيحية عقيدة منفصلة عن الشريعة ... ولم تحكم الشريعة شيئاً من حياة الناس في أوروبا الا الاحوال الشخصية فحسب، أي: انها لم تحكم الاحوال السياسية ولا الاحوال الاقتصادية ولا الاحوال الاجتماعية في جملتها.)(1) لذا فهي( لم تألف الصورة الحقيقية للدين ابداً في يوم من الايام انما الذي تقصده أوروبا حين تطلق هذه الكلمة هو ابعاد ما فهمته هي من معنى الدين عن واقع الحياة، متمثلاً في بعض المفاهيم الدينية، وفي تدخل«رجال الدين»باسم الدين في السياسةوالاقتصاد والاجتماع والفكر والعلم والادب والفن. وكل مجالات الحياة... وبعبارة اخرى نقول إن ما نبذته أوروبا حين اقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقة الدين... انما كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الاوربية... فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا اقصاءاً كاملاً من الحياة.)(2) .
فاذا كان ذلك الاقصاء للكنيسة قد نجح في اوربا، فهو بعيد المنال بالنسبة لديننا لأنه هو الحياة. أما ( الإنسانية-والعالمية كما يدعونها احياناً- دعوى براقة، تظهر بين الحين والحين ، ثم تختفي لتعود من جديد!يا اخي كن انساني النزعة- وجه قلبك ومشاعرك للانسانية جمعاء... دع الدين جانباً فهو امر شخصي... علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب...لكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك في الدين... فإنه لا ينبغي للدين أن يفرق بين البشر...بين الاخوة الانسانية! تعال نصنع الخير للبشرية كلها غير ناظرين إلى جنس أو لون أو وطن أو دين.)(3)
ثم يوجه نقده إلى هذه الشعارات فيصفها بأنها :(دعوى براقة...يخيل اليك حيث تستمع اليها انها تدعوك للارتفاع فوق كل الحواجز التي تفرق بين البشر على
ص: 251
الارض. تدعوك لترفرف في عالم النور... تدعوك لتكون كبير القلب، واسع الأفق،كريم المشاعر..،تنظر بعين انسانية، وتفكر بفكر عالمي، وتعطي من نفسك الرحبة لكل البشر على السواء، بدافع الحب الانساني الكبير.)(1)
هذه الشعارات لا تختلف عن عبارات الماسونية التي تقول :(«اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك الا ترى شبهاً بين هذه الدعوة وتلك؟ اما ترى انهما قریبتان بل شقيقتان؟... وادخل بلا عقيدة ... فهكذا يريدك الشياطين ليستعبدوك... ليسخروك لمصالحهم .)(2) وأما وجه المقارنة بينهما أي بين الماسونية ودعوى الانسانية يتضح في( الفارق أنه في تعبير الماسونية الخشن التوقع بوضع الدين جنباً إلى جنب مع النعال. لأن المقبل على الماسونية لا يقبل عليها الا وقد خلع دينه بالفعل أو اوشك على خلعه، فالكلمة الخشنة لا تؤذيه بل قد تكون منه موضع ترحيب! فهي كلمة للتوكيد. وقد تكون للتهديد. من بقيت في قلبه بقية خفيفة من بقايا الدين... فلينتبه وليخلعها قبل الدخول أما في دعوى الانسانية فالتعبير للترغيب والتحبيب، ومن ثم فهو مهذب لطيف يبتلعه من يبتلعه وهو مسرور ... ولكن هذا وذاك يدعوك في النهاية إلى ان تترك دينك وتواجه الحياة بلا دين )(3).
المطلب الثاني: نقد للشيوعية والالحاد الغربي.
إن اول نقد وجهه محمد قطب للشيوعية هو عدم اعتدادهم بعلم النفس ف_ (يؤمن الشيوعيون بادئ ذي بدء بأن علم النفس كلام فارغ... لأنه يقرر أن في النفس الانسانية نزعات« فطرية» يولد بها الانسان، وهذا يفتح الباب لمن يريد ان يقول ان حب الملكية نزعة فطرية في البشر اجمعين !ومن دون ذلك يصبح كل شيء سخافة من سخافات الرأسماليين. ولكنهم مع ذلك يحبون فرويد ويؤمنون به! ذلك انه يشبع شهوتهم تحطيم المقدسات كلها، وتلويثها، وتصويرها بأنها قيود ابتدعها المجتمع« الاقطاعي
ص: 252
ثم الرأسمالي» لحماية ذاته، ولكنها في ذاتها شيء يستحق الاعتبار.)(1) لأن فرويد يُعد عاملاً مساعداً للفكرة الشيوعية حيث تأثر بدارون( وأنه نقل إلى علم النفس آراء دارون الخاصة بعلم الاحياء ونذكر هنا أن الشيوعيين كذلك قد تأثروا به في أكثر من ،موضع حتى لنستطيع أن نقول إنهم نقلوا إلى علم الاقتصاد وعلم الاجتماع تلك الآراء المستمدة من عالم الحيوان.
وكان أشد ما تأثروا به ثلاث نقط رئيسة. أولها : القول بالطبيعة من الله. وثانيها: القول بأن الكائنات الحية تتبع في تطورها خطاً«حتمياً» ينشأ من ضغط البيئة المادي الخارجية عن الكائن الحي، ومحاولة الكائنات أن تكيف حياتها مع البيئة... وثالثها النظرة المادية الحيوانية إلى الانسان، تلك النظرة التي تنفي الجوانب الروحية والمثل العليا، وتؤمن بعالم الجسد وحده ، وبالواقع الذي تدركه الحواس فحسب.)(2)
وهنا يناقش محمد قطب الشيوعية باعتبارها( التطور الاخير للحضارة المادية الاوربية ولم تكن شيئاً جديداً كما يريد دعاتها ان يفهموا الناس في الشرق والغرب)(3) اما اذا ما عُدنا إلى فرويد فإنه ساعدهم في هدم المقدس ( فإذا تحطمت المقدسات، وتلوثت صورتها في نفس الفرد، وفي نفس المجتمع نتيجة لذلك، فقد كسبت الشيوعية نصف المعركة. على الاقل! وهذا هو مصدر الاعجاب الشديد برجل لا يؤمن بكل لا يؤمنون)(4) ، وأهم ما جاءت به الشيوعية هو تأكيدها على الالحاد وهو ( بمعنى انكار وجود الله، والقول بأن الكون وُجد بلا خالق أو ان المادة أزلية ابدية، وهي الخالق والمخلوق في ذات الوقت- بدعة جديدة في الضلالة فيما احسب لم توجد من قبل في جاهليات التاريخ السابقة، ومن المؤكد على أي حال أنها لم توجد بهذه الصورة وبهذا الاتساع الذي تمارسه الجاهلية المعاصرة، في أي فترة سابقة من فترات التاريخ) (5).
ص: 253
فالنقد الذي يوجهه محمد قطب للشيوعية في انكارها لوجود الله هي مقولة لم تقل بها الجاهليات السابقة وإن من استدلَّ بالدهر بين الذين ذكرهم القرآن على انهم اصول للشيوعية والالحاد فهو غير مصيب في ذلك لأن هؤلاء انكروا البعث ولم يُنكروا الخالق ولم يقولوا بأن الطبيعة خالق ومخلوق في آن واحد.(1)لقد ارتبط الشيوعيون بالتجريبين من خلال فرويد و دارون وقد تعرض الاستاذ محمد قطب لنقد نظرية دارون لا من حيث كونها نظرية علمية ولكن من حيث ما خلفته من ايحاءات تكمن فيها مواضع الخطر. حيث يقول محمد قطب (ولن نتعرض هنا للوقائع العلمية التي تحتوي عليها النظرية ، انما نتعرض للفلسفة التي ادت إلى ظهورها وأثرت في تطبيقاتها فيما بعد. فهذه الفلسفة ليست واقعاً علمياً، ولاهي حقيقة موضوعية ثابتة» حتى تكون فوق مستوى النقاش ! إنما هي نزعة شخصية وزاوية نظر معينة يحاسب عليها صاحبها ولو ادت إلى كشف بعض الحقائق الجوهرية. ذلك انه ليست الحقيقة ذاتها هي التي تعمل حتى في ميدان العلم التجريبي كما يُخيل لكثير من الناس.
وانما الطريقة التي تعرض بها الحقيقة، والوجهة المقصودة منها، هي التي منحتها الاثر وترتب عليها النتائج، سواء في العلم اوفي المجتمع والحياة.)(2) إن الايحاءات التي جاءت مخبأة خلف هذه النظرية هي المقصودة من وراء النظرية (فنحن في الشرق خاصة يخدعنا هذا العنوان الضخم عنوان «العلم التجريبي» فنظن انه حقائق نهائية ثابتة، لا يُعتبر من يتصدى لمناقشتها الا جاهلاً او مخرفاً أو قد كان ينبغي أن نحترس في الايمان بالمعلومات «العلمية» حتى في العلوم البحتة كالرياضيات والطبيعة والكيمياء، ونحن نرى أن العلم ما يزال في طفولته، وما يزال كل يوم يصل إلى افاق جديدة فيلغي الغاء تاماً معلومات كان ينظر اليها بالأمس على أنها حقائق نهائية لا تقبل الجدل ولا تحتمل التأويل.)(3) ثم يستدل على ذلك بإبطال اينشتاين لقوانين نيوتن حيث يقول: (وليس العهد ببعيد حين قال اینشتاین: ان قوانین نیوتن
ص: 254
في الجاذبية لا تصلح للتطبيق ألا على سطح الكرة الارضية، ولكنها لا تصلح للكون لكبير. فهي اذن حقائق محلية صغيرة لا حقائق مطلقة وهي قابلة للنقض والتبديل حين تطبق «على الاتساع» واليوم تكتشف اسرار الذرة، فتنشأ حولها نظريات كثيرة في تفسير الكون والحياة كانت مجهولة من قبل، ويبدو بجانبها بعض ما كان يسمى «نظريات علمية نهائية» اقرب إلى الخرافات والاساطير . فاذا كان هذا في ميدان العلوم البحتة، التي تخضع خضوعاً كاملاً للتجربة العلمية، فأولى بنا إذن ان نكون اكثر احتراساً ونحن نتلقى نظريات علم النفس، او النظريات التي تتصل بمجاهيل لم يتح للعلم التجريبي ان ينفذ اليها حتى اليوم)(1).
المطلب الثالث: نقده للعقلانية والتنوير الغربي
يرى محمد قطب ان(العقلانية- بمعنى التفسير العقلاني لكل شيء في الوجود اوتحديد خصائصه مذهب قديم في البشرية، يبرز اشد ما يبرز في الفلسفة الاغريقية القديمة. ويمثله اشد ما يمثله سقراط وارسطو. ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الاغريقية- التي تمثل العقلانية قسماً بارزاً منها - تسيطر على الفكر الاوربي، حتى جاءت المسيحية الكنسية فغيرت مجرى ذلك الفكر في انعطافة جادة تكاد تكون مضادة لمجراه الاول الذي استغرق من تاريخ الفكر الاوربي قروناً عدة. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود انما صار هو الوحي _ كما تقدمه الكنيسة_ وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك، ومحاولة تقديمه في ثوب معقول . )(2) .
اذن فالعقلانية هي العودة لما قبل المسيحية فلقد( كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائداً في توجيه الانسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة. وكان يقصد بالدين «المسيحية» وكان يراد من المسيحية «
ص: 255
الكثلكة»وكانت الكثلكة تعبر عن «البابوية »والبابوية نظام كنسي ركز« السلطة العليا» باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير« الكتاب المقدس» على البابا واعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوّى في الاعتبار بين النص الكتاب المقدس وافهام الكنيسة الكاثوليكية)(1).
وقد وجه محمد قطب نقده إلى الفكر الأوربي انه يتنقل من جاهلية إلى جاهلية فيقول: ( وانما ظل الفكر الاوربي في الحقيقة يتنقل من جاهلية إلى جاهلية حتى عصره .الحاضر. فمن الجاهلية الاغريقية والرومانية إلى جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطى، إلى جاهلية عصر الإحياء، إلى جاهلية عصر «التنوير» إلى جاهلية الفلسفة الوضعية ... الى الجاهلية المعاصرة) (2) .
ثم يشرح ببيان جاهلية كل عصر في تتبع خط العقلانية في الفكر الاوربي فقد(كانت العقلانية الاغريقية لوناً من عبادة العقل وتأليهه، واعطائه حجماً مزيفاً اكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجود كله إلى «قضايا» تجريدية مهما يكن صفاؤها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته بحركته الموّارة الدائمة، بمقدار ما يختلف «القانون» الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي تبحث عنه... قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي، وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع او لا يقبله، أو يتماشى معه أو يخالفه! وكان اشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة«القضية الالوهية»و«قضية الكون المادي »وما بينهما من علاقة)(3) .
وتبدو قضية الالوهية والكون من اهم القضايا التي بين فيها محمد قطب انحرافات تلك الفلسفة العقلانية . ثم بين انتقال الفكر الاوربي من سيادة العقل إلى سيادة الدين
ص: 256
التي يفترض ان تكون انتقالة من الظلام إلى النور (ولكنه في الحقيقة دخل في ظلمات حالكة ليس فيها ذلك البريق الذي تميزت به الفلسفة الاغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقية لذلك البريق، وعن كونه هادياً أو مضللاًعن الطريق) (1). وفي الوقت الذي يلزم التزام العقل بالوحي واستمداده منه في المسائل التي لا يستطيع الوصول اليها ( لكن الكنيسة الاوربية افسدت ذلك كله بما ادخلته من التحريف على الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية على الارض)(2) .
ويصف قطب التحريف الذي اصاب الدين بأنه تخبط وجاهلية (حين قالت: ان الله ثالث ثلاثة أقانيم وان المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الاقانيم الثلاثة وانه ابن الله وفي الوقت ذاته اله وشريك لله في تدبير شؤون الكون)(3). والأهم من ذلك أنه ( حجر على العقل البشري ان يعمل وان يفكر - رغم وجود مناقضات لقضايا بديهية في العقل البشري ثم نشأت في الفكر الاوربي تلك «المسلّمات» أو العقائد المفروضة فرضاً التي لا يجوز مناقشتها «»Dogmas لا لأنها – في حقيقتها- من الامور التي ينبغي للعقل ان يسلم بها من دون مناقشة، ولكن لأنها ناقضة للعقل ومفروضة عليه فرضا من قبل رجال الدين الذين زعموا لأنفسهم حق صياغة العقائد وفرضها على الناس بالقوة دون ان يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين ، يجوز فيهم كل شيء حتى اهدار الدم وازهاق الأرواح)(4).
ويذكر قطب في موضع آخر أن (هذا الدين بصورته التي قدمتها الكنيسة الاوربية، الذي صاحبه طغيان الكنيسة وحجرها على الارواح والعقول- لم يكن صالحاً للحياة، لا لأنه دين كما ظنت أوروبا - بجهالة - وهي تفر من طغيان الكنيسة، ولكن لأنه ذلك الدين المحرف...وليس العجب أن أوروبا ثارت على هذا الدين وتمردت عليه في نهاية الامر ، بل العجب أنها ظلت اثني عشر قرناً كاملة لا تحس بما في حياتها الدينية
ص: 257
من انحراف خلال قرونها الوسطى المظلمة .)(1)
يقول قطب: (تلك قصة أوروبا مع الدين الذي عرفته ومارسته خلال قرونها الوسطى المظلمة، فحلّ بها ما حل من ظلام وتأخر وجهل وظلم وخرافة وانحسار (2).
ويرى ايضاً( ان الايجابيات- التي لحقت بقضايا التنوير في العالم الاسلامي-كان يمكن ان تكون اكثر كثيراً، والسلبيات اقل كثيراً لو لم تتخذ الحركة النهج الاوربي وتصر على انه هو الطريق الذي لا طريق غيره .)(3)
ويرى قطب ان الطامة الكبرى في حلقة التنوير في العالم الاسلامي أنها تتخذ (التقليد في محاربة التقليد! فلم يكن شيء مما انتجه التنويريين في مواجهة الاسلام اصيلاً، ولا صادراً من عند التنويرين انفسهم. فما كان من كتاباتهم ضد الدين في عمومه فهو ترجمة ركيكة لما قاله كتاب الغرب في الدين مع الفارق الذي اشرنا اليه انفا... وما كان من كتاباتهم ضد الاسلام بالذات فهو ترديد لما يقوله المستشرقون، حرفاً بحرف وافتراءً بافتراء فيرتكبون مرة اخرى حماقتين «عقلانيتين»: حماقة التقليد بغير بصيرة، وحماقة اخذ الحكم على الشيء من اعداء الشيء، الذين هم بداهة حكام غير امناء لأنهم اعداء)(4).
والحقيقة أن للأستاذ محمد قطب نقداً كثيراً على صور التفكير الغربي بما فيها الديمقراطية ونظرة المسيحية للإسلام وغير ذلك من الامور وانما اكتفينا بإيراد ما يخص صور التنوير في هذا الفكر ويمكن ان يخصص للموضوعات الاخرى بحث منفرد ودراسة تكون اكثر شمولية للقضايا التي تطرق اليها مفكرو الغرب لكل اتجاهاتهم. واخيراً نسأل الله الهداية والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ومن تبعهم ووالاهم إلى يوم الدين.
ص: 258
الخاتمة.
لقد تبين لنا من خلال ما كتبنا من ورقات الامور الآتية:-
1- اننا نكتب عن شخصية فذة ومفكر كبير في العالم الاسلامي المعاصر.
2 -ان هذا المفكر درس العلوم ودرسها وكتب والف عشرات الكتب في مجال الفكر الاسلامي. حتى استقر به المقام في جامعة الملك عبد العزيز – جامعة ام القرى حالياً - حتى وافاه الاجل.
3- ان هذا المفكر ينتمي إلى فكر الاخوان المسلمين الذي تولى زعامته في مصر
أخوه سيد قطب الذي اثر فيه ايما تأثير .
4- لقد تطرق الشيخ محمد قطب إلى نقد صور التنوير الغربي المتمثلة في العلمانية والانسانية الغربية، وكذلك نقد الشيوعية والالحاد والتجريبية الغربية، وايضا نقد العقلانية والتنوير الغربي.
5- اعتبر الشيخ العصور الوسطى عصوراً مظلمة في حين كانت تدرجا طبيعيا لتاريخ الفكر الانساني كما اشارت إلى ذلك الدراسات الحديثة.
6- قدم الشيخ منهجه المميز في نقد الفكر الغربي من خلال ايراد الحجج والاستشهاد بكتابات الكتاب الغربيين انفسهم.
7-نقد أولاً منهج التنويريين في قياس التنوير الغربي وتطبيقه على المجتمع الاسلامي والامة الاسلامية، موضحاً الفرق بين المجتمعين والظروف المحيطة بهما.
8- دافع الشيخ بكل ما اوتي من قوة عن الاسلام ضد التنويريين الا انه ربط مصير الاسلام بمصير الدولة العثمانية، والحقيقة ان الدولة العثمانية انتهت والاسلام لا يزال قائماً حتى يرث الله الارض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ص: 259
9- حاول الشيخ ان يفند كل ادعاءات التنويريين ويقسمهم إلى الاوائل والمتأخرين ويعد الاوائل مخلصين يعوزهم المنهج اما المتأخرون فيعدّهم اعداء الاسلام الذين يعلمون ما يعملون.
وأخيراً نسأل الله العلي القدير ان يجعل اعمالنا خالصة لوجهه الكريم انه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحابته المنتجبين ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين.
ص: 260
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
ابو الاعلى المودودي، نظرية الاسلام السياسية، لاهور، ط1، 1387ه_ 1997م.
البهي، د. محمد الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي،مكتبة وهبة،القاهرة، (د،ت)،
الحوالي، سفر، العلمانية، دار الهجرة، الرياض، (د، ت).
الخالدي، صلاح عبد الفتاح، سلسلة اعلام المسلمین، دار القلم، دمشق، ط1، 2000م.
الخالدي صلاح عبد الفتاح، سيد قطب الاديب الناقد والداعية المجاهد والمفكر المفسر الرائد، دار القلم ، دمشق - سوريا، ط1، 1421ه_ 2000م،
السحار، سعيد جودة، موسوعة اعلام الفكر العربي، مكتبة مصر ودار مصر للطباعة، القاهرة، ط1، 2003م.
طه حسین، مستقبل الثقافة في مصر، طبعة القاهرة (د، ت).
القرضاوي، د. يوسف، ابن القرية والكتاب سيرة ومسيرة، دار الشروق، القاهرة ،ط1، 2002م.
قطب ،محمد، حول تطبيق الشريعة، مكتبة السنة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1998.
كيف ندعو الناس، دار الشروق القاهرة، ط1424 ، 3ه_ 2003 -م.
لا اله الا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، دار الشروق، القاهرة، 1423ه_ 2002-م.
قضية التنوير في العالم الاسلامي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2002م.
ص: 261
مفاهيم ينبغي ان تصحح، دار الشروق، القاهرة، ط8،1415ه-1994-م .
واقعنا المعاصر، مؤسسة المدينة، القاهر، 1986م.
مذاهب فكرية معاصرة، دار الشروق، القاهرة، ط10، 2008م.
الانسان بين المادية والاسلام، دار الشروق، القاهرة -مصر، ط12، 1418ه_، 1997م،
منهج الفن الاسلامي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1983م.
الكيلاني د. رعد شمس الدين الفكر الاسمى والتحديات المعاصرة، مكتب شمس الاندلس للطباعة والنشر، بغداد، ط1، 2016.
المجذوب، محمد، علماء ومفكرون عرفتهم، دار الشروق، الرياض، ط4 ، 1992م.
منير، ياس، محمد قطب نبذة عن حياته ومنهجه الفكري والحضاري موقع طريق الاسلام الجديد على شبكة الانترنت في 7 جمادى الأخرة، 1435ه_ 7/ 4/ 2014م.
ه_ ج ولز ، معالم تاريخ الانسانية، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، (د،ت).
ص: 262
د. أحمد بوعود (1)
تعتبر الفلسفة كما يقول راكيتوف الخلاصة الروحية لعصرها، وبصفتها فلسفة العالم المعاصر هي منظومة معارف خاصة عن مكانة الإنسان في العالم، وعن موقفه من العالم المحيط»(2)؛ ذلك أن هناك قضايا في الواقع الإنساني ومشكلات تتطلب آفاقاً فكرية واسعة ونظرة واعية مبصرة للعالم ومكوناته وهذا ما تزعم الفلسفة تحقيقه. وفي هذا السياق يمكن أن ندرج اهتمام الفلسفة المعاصرة بالإنسان، ذاك الإنسان الذي بدأ يحس بالغربة في عالم هو من صنع الإنسان نفسه. وهكذا فإن السر وراء الاهتمام بالإنسان هو ضیاعه؛ فقد فَقَدَ هويته وكينونته وكرامته في ظل التقدم الصناعي والتكنولوجي والحروب المتتالية. من هنا تعالت الأصوات منادية بتأكيد حريته وكرامته وقيمته.
إن مفهوم الإنسان في الفلسفة المعاصرة تتجاذبه فلسفتان هما:
- الفلسفة الوجودية، وهي تطور لفلسفة الحياة، وخلالها كان الإلحاح القوي على حرية الإنسان واستقلال إرادته، وكذلك مسؤولية الإنسان عن أخيه الإنسان، رغم طبيعة العلاقة التي تجمع بينهما وهي علاقة التشييء الصراع. لكن، مع هذا كان هناك انقلاب على الدين والقيم والأخلاق، بل حتى كرامة الإنسان كما تتهم بذلك وجودية سارتر.
ص: 263
- الفلسفة الشخصانية، وهي التي لم تنف التي لم تنف عن الإنسان حريته واستقلال إرادته، بل أضافت إلى ذلك إثبات وكرامته وقيمته وأنه ليس شيئا بين الأشياء. وفي هذا رد على الوجودية بل إن الشخصانية لم تظهر إلا من أجل الجانب الديني الذي غيبته الوجودية.
لكن الجانب الديني في الفلسفة الشخصانية لم يكتمل إلا مع محمد عزيز الحبابي الذي نهل من القرآن والحديث ليثبت مفهوما للإنسان لا يوجد في الفلسفة الغربية. أو إن شئت فقل هو تطوير وتجاوز لما بناه مونييه. لقد أثبت الحبابي حرية الإنسان واستقلاله من خلال القرآن والحديث النبوي، كما حدد علاقة الإنسان بالآخر بعلاقة الشهادة، وهو مفهوم قرآني. وربما تكون هذه أهم ما يميز مفهوم الإنسان عند الحبابي عن غيره من الفلاسفة شخصانيين وغيرهم.
فَمن محمد عزيز الحبابي ؟ وما نظرته للإنسان؟ وقبل ذلك، ما نظرته للدين؟
مَن محمد عزيز الحبابي ؟
ولد محمد عزيز الحبابي في ديسمبر1922 بمدينة فاس، والتحق بالمسيد لحفظ القرآن الكريم قبل أن يلتحق بالتعليم الابتدائي، ثم بالمؤسسة الإعدادية مولاي إدريس المخصصة للدراسات العصرية المزدوجة وللتلاميذ اللامعين. هذه التربية طبعت شخصية الطفل وأصلت أفكاره وتصرفاته، ولم يفارقه طيلة حياته لكونها نابعة من ثقافة قوية ومن إيمان راسخ. هذا الأساس الإسلامي القوي شكل واحدا من الأساسين القويين لشخصية الحبابي.
وفي السوربون برز محمد عزیز الحبابي طالبا له فضول في المعرفة وباحثا استثنائيا
في مجال الفلسفة الذي لا يهدي نفسه لمحبيه من أول يوم. وهكذا، فإن الحبابي ، المشبع بالثقافة العربية وبالإسلام باعتبارهما خلقا اجتماعيا وممارسة دينية، تميز عن غيره منفتحا، وبدون استثناء، على التيارات الفكرية الكلاسيكية والحديثة، مدمجا بدون شرط مسبق الفلسفة الشرقية مع أسرار الحداثة. إن فكر الحبابي فكر نقدي لكنه
ص: 264
تواصلي، ويتجلى هذا في النماذج الفكرية التي تأثر بها: الشيخ محمد بن العربي العلوي ، والأستاذ محمد إبراهيم الكتاني، وأبوه عبد العزيز. كما نجد نماذج أخرى من قبيل غاستون باشلار ومارتن هيدجير وجون بول سارتر ...
كان الحبابي رحمه الله رجل ثقافتين استطاع الموازنة بينهما بشكل منقطع النظير؛ حيث لا نجد في شخصيته تشظيا بين الحداثة والتقاليد. وفي هذا السياق يمكن القول إن اللغة الفرنسية كانت بالنسبة للحبابي أداة للاندماج المادي ووسيلة إلى المعارف الأجنبية، بينما اللغة العربية هي اللغة الوطنية والهوية الثقافية ولغة الإسلام. وهذه الازدواجية جعلت منه كاتبا معروفا في الثقافتين الفرنسية والعربية.
وقبل أن يتوفى الحبابي يوم 23 غشت 1993 ترك إنتاجا فكريا يوحي لنا بفيلسوف واقعي حيث الأفكار لا تنفصل أبدا عن الأشخاص والأحداث، من كتابه «من الكائن إلى الشخص» إلى أطروحاته حول الغدية مرورا ب »من المنغلق إلى المنفتح» وصولا إلى الموقف الإسلامي من الحداثة.
-1 الدين في فلسفة الحبابي
يؤكد محمد عزيز الحبابي أن هناك حقائق غير عقلانية، منها الوحي. وهذه الحقيقة
«أكثر انتشارا مما هو عقلاني أو قابل للتعقلن »(1) . وهذا يتفق مع ما ذهب اليه باسكال حين قال: إن هناك حقائق يدركها القلب ويعجز عنها العقل، بل إن العقل يحتاج إليها لينطلق منها .
يعتبر الحبابي أن الوحي« بطبيعته ثورة» (2) ، وذلك لأن الثورة تغيير يتوخى الأفضل، وكذلك الوحي، فهو رسالة الأنبياء والرسل غايتها تغيير أحوال الناس والسمو بهم. إن الوحي يتجاوز الوضعيات الخاصة، يقلب كل مجاميع دواليب حياة الفرد(الماديةوالروحية) سعيا إلى الكلية الإنسانية. ورغم أن الوحي يقترن بإطار تاريخي، إلا أنه
ص: 265
يسعى إلى الكونية والشمولية.
يهدف الوحي حسب الحبابي إلى تطهير نفسي، وإلى استقامة الأهداف التي ترومها أفعالنا»(1). وهذا ما تقصد إليه الآية الكريمة: ﴿نَّ اللَّهَ لا يُغَيْرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيَّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ (الرعد: 11). من هنا، فإن هدف الدين هو السمو بالحياة والتطلع إلى وجود إنساني، بالطاعة لأخلاق متعالية والبحث عن الكمال بمواجهة تملك الغرائز.
إن هذه القوة التي من خلالها يصل الفرد إلى اكتشاف ذاتيته وشخصيته في العالم ،وفي جماعة الأشخاص، هي نفسها التي تجعله واعيا بعلاقاته وصلاته بالله. إن الوحي يأتي من الخارج لكي يعرفه بالربانية ويجعله مرتبطا بالمتعالي.
لكن، ما المتعالي أو المفارق؟
ليس كل شيء قابلا للتعريف في نظر الحبابي؛ فهناك أشياء لا يمكن تعريفها کالموت والأوليات الهندسية، والتعالي transcendance أيضا غير قابل للتعريف. إننا نعرف ما نريد تجربته، لكن على العكس من ذلك، فالتجارب الوجودية تعاش وتظهر بدون توضيح أو برهان. هكذا يريد الحبابي أن يجعل من التعالي والموت حقيقتين بديهيتين. ينطبق عليهما قول سورين كيركغارد الذي يرى أن البراهين لا تستخدم من أجل الوصول إلى إثبات الوجود، وإنما تستخدم من أجل استنتاج شيء من هذا الوجود، وأن البرهنة على وجود ما هو موجود يعتبر أوقح اعتداء وجعل ذاك الموجود مثار سخرية . يقول :« هل ستحاول البرهنة على وجود الملك بالإتيان بسلسلة من البراهين والحجج ؟ لا إن كنت جادا فإنك ستبرهن على وجود الملك بإذعانك وبنمط حياتك. وهكذا مع البرهنة على وجود الله، إنها لا تتم بالبراهين، ولكن بالعبادة» (2) .
ص: 266
أما العلم فإنه يبدو محدودا؛ إنه قادر على تحقيق الكثير، ولكن في نفس الوقت ما يجهله هو على قدر كبير من الأهمية. وجهل العلم وقصوره عن الإدراك لا يعني بأي حال من الأحوال عدم وجود المدرك. ويضرب هنا مثالا بالدالتوني daltonien فيقول : إذا كان الدالتوني غير قادر على التمييز بين الألوان ولا يرى بعضها، فهذا لا يمنع أن تكون هذه الألوان موجودة؛ فالعدم ليس شيئا لا يصل إلى إدراكنا وتمثلنا، بل العدم هو مطلقا ما لا يو يوجد»(1)
لتعريف الله، سبحانه وتعالى، ينطلق الحبابي من الآية الكريمة: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةِ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُور﴾ (النور: 35). لكنه يؤكد أن قول الإنسان: « يا إلهي» يأخذ معنى آخر، ويستشهد هنا بأبي حامد الغزالي الذي يقسم إقرار الناس بوحدانية الله تعالى إلى أربعة مستويات:
- الأول: إقرار بالشفتين، وهم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم
مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: 167).
- الثاني: الاعتراف بوحدانية الله مع الاجتهاد في الطاعة وممارسة الشعائر الدينية.
وهذا هو شأن عامة المسلمين.
- الثالث: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وفي هذا المستوى توجد المعرفة اليقينية والمؤكدة.
- الرابع: وهو أعلى مستوى، يرى فيه المؤمنون وحدانية الله تعالى في جميع الظواهر، وهم العارفون.
ولمعرفة الله تعالى يرى الحبابي أن هناك طريقين:
ص: 267
الأول: التسليم بالوحي والرجوع إليه، وهذا هو مجال الإيمان.
الثاني: التسليم بواسطة العقل لتصديق معطيات الوحي (وذلك انطلاقا من الإيمان).
وهكذا يتبين أن العقل لا ينشئ إيمانا، وإنما يعززه ويصدقه. وهذا ما نجده في قصة إبراهيم عليه السلام حين طلب البرهان من ربه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن ليَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ (البقرة: 260). إن الإيمان هبة ربانية؛ أي أن الله هو الذي يشرح قلوب المؤمنين ليؤمنوا .
ويقارن محمد عزيز الحبابي بين مهمة كل من الفلسفة والدين فيقول: «إذا كانت الفلسفة تعلمنا( أو تحاول أن تعلمنا) طريقة استخدام الحق في الاندهاش والتساؤل، فإن الدين يبحث في رسم مراحل معرفة الله السداد الدين الخالقنا »(1).
2 - الإنسان/ الشخص في فلسفة الحبابي
بداية يوضح الحبابي بأنه يفضل استخدام لفظ الشخص لسببين:
الأول : «لأنه مأخوذ من جذر اشتقت منه كلمة شخص التي توافق مفهوم «الذات»،
في معنييها السيكولوجي والمجتمعي»(2)
الثاني: «أن العبارات التي استعملت ،حتى الآن، للدلالة على الشخصانية، تظهر غير مطابقة وغير ملائمة. ف_« الفردية» من فرد individu، والفرد لا يتوفر على الوعي النفساني والمجتمعي الذي يتميز به الشخص. أما «الذاتية» فتطابق ال_«أنا»، وهو في
مستوى عميق من حيث السيكولوجيا، وضئيل من الناحية المجتمعية» (3) .
ثم يعرف الحبابي الشخص بأنه «قوة مبادرة واختيار ، يلتزم ويندمج، وينسجم،
ص: 268
يشعر فيقبل أو يرفض؛ تلك هي الخصائص اللازمة للاعتراف بأن الشخص استقلال ذاتي»(1). لكن ماذا يعني أن للشخص استقلالا ذاتيا؟وما هي محددات الإنسان؟ وما طبيعة علاقته بالآخرين ؟
يلفت الحبابي انتباهنا إلى اهتمام المفكرين الإسلاميين بلفظة الإنسان، ويمثل لذلك بما رواه ابن حزم عن نزاع حصل بين من يدعي أن «إنسان» لا يطلق إلا على الجسد وحده( مثل أبي الهذيل العلاف)، وبين من يقول إنه يختص بالنفس وحدها (رأي إبراهيم النظام)، وبين من يرى أن «إنسان» يطلق على الوحدة التي تتألف من الجسد والنفس معا، حيث يؤكد ابن حزم في نهاية حديثه أن «إنسان» يطلق على الجسد،( ألا يبقى الميت إنسانا؟)،كما يدل على الروح لأنها نواة الحدث الشعورية والقدرات المختلفة والأمزجة. وأخيرا، يعبر، بإنسان، عن وحدة الجسد والروح؛ إذ إن كل واحد منهما يرتكز على الآخر(2) .
وينتقد ابن السبكي التعريف السائد لدى العلماء واللغويين، والذي يجعل «الإنسان هو هذه الجملة المصورة ذات الأبعاض والصور، وأنه الجسد المخصوص بهذه الصورة المخصوصة»(3). ويتساءل: هل يمكن أن نسمي جبريل عليه السلام حين جاء في صورة دحية الكلبي إنسانا ؟ أجابوا بأن الظاهر منه كان على صورة ظاهر الإنسان، ولم يكن باطنة حينئذ كباطن الإنسان - فلم يكن إنسانًا.
إن ابن السبكي يرى أن الإنسان ليس مجرد البدن ، بل «البدن المقوم بهذه الروح البشرية، وبهذا خرج جبريل في صورة دحية الكلبي؛ فإن الصورة لدحية، ومقومها جبريل حالة تشكله بها، وهذا شيء يقع»(4).
أما الحبابي فيعرف الإنسان بأنه «الكائن الذي قد بلغ تشخصنه درجة من النمو
ص: 269
تجعله، حينما يقوم بنشاط ما، يحقق نوايا ترمي إلى أبعد من الأشياء الفردية، إنه من الذات، تفهما للأوضاع وللوسائل التي يقتضيها الفعل الرامي إلى هدف معين. فالربط بين الأجزاء والمجموع، عمل يصدر عن وعي رابط دينامي، يبرز للعالم في نفس الحين الذي يظهر فيه الكائن ، ثم يفتتح وينمو مع الشخص في سيره نحو الإنسان»(1).
إن هذا التعريف يحدد الإنسان ويميزه عن غيره من الكائنات بالتشخصن الذي يعني الوعي والعقل والمسئولية والقصد. وهذه المميزات تجعل من الإنسان كائنا مسئوولاً عن أفعاله، كما أنها هي التي تحدد قيمته. من هنا فإن الإنسان في نظر الحبابي هو الكائن الذي كرمه الله ،وازداد كرامة بفضل ما سماه بالدين الجديد (الإسلام)، حيث أصبح يشعر بشخصيته. ويتجلى هذا التكريم في عدد من الآيات التي نزل بها القرآن الكريم. ومن مظاهر هذا التكريم سجود الملائكة له، بينما ينهاه الله عن أن يسجد أمام أي كان، ما عداه تعالى. وقد أوجب على الملائكة أن يسجدوا لله وللإنسان. كل هذا يجعل للإنسان قيمة لا تضاهى بين سائر الكائنات. بل إنه غاية في ذاته.
إن تكريم الإنسان هذا، وتميزه بالمسؤولية تلك، يجعلان منه كائنا شاهدا على الناس. وهذه الشهادة هي التي تحدد علاقته بالآخرين حسب الحبابي.
1- استقلال الشخص
أن يكون للشخص استقلال ذاتي يعني حسب الحبابي أن «لا وجود لنموذج إنساني أو لقالب يفرغ فيه جميع الأشخاص ليكونوا على نمط واحد؛ إذ لكل شخص وجهته وتطلعاته الخاصة، وهي منبع لا ينضب من العفوية والمبادهة»(2)، ويستشهد الحبابي هنا بقوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلَّيهَا فَاسْتَبقُوا الْخَيرات ﴾ (البقرة: 148)، وقوله عزوجل: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾
(الإسراء: 84).
ص: 270
ليس هذا فحسب، بل إن الاستقلالية، وهي لب الشخصانية، تعني رفض الشخص الطاعة العمياء واعترافه بالقيمة العليا للعقل والفكر. كما تعني أن يكون حرا له القدرة على القبول والرفض. لكن هذه الحرية يحددها الحبابي فيما يلي:
1-« لا توجد الحرية، بصفة مطلقة مجردة، ونقصد أن الحرية الحق لا تكون لازمة، إن كل حرية تكون متعدية وإلا بقيت بدون محتوى»(1) .
2 -« لابد من تكاملية بين الحريات: أي أن كل حرية تستلزم حريات أخرى معنى أنه لا حقيقة لأية حرية إلا في مجموعة من الحريات تتكامل معها وتتكيف وتكمل بها» (2) .
3 - «لا تفهم أية حرية إلا إذا ارتكزت على معايير » (3) .
ويورد محمد عزيز الحبابي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:
«أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَولي؛ فَإِني لا أَدْرِي لَعَلَّي لا أَلْقَاكُم بَعْدَ يَومِي هَذَا في هَذَا المَوقِفِ، أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَمْوَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم إِلَى يَوْمِ تَلْقَونَ رَبَّكُم... وَإِنَّكُم سَتَلْقَونَ رَبَّكُم فَيَسْأَلُكُم عَنْ أَعْمَالِكُم ....»(4) ثم يقرر الحبابي أن الإسلام يعتبر كل كائن إنساني شخصا، ولا فرق بين العربي والعجمي، ولا اعتبارا للون أو اللغة أو العرق. وإنما الفرق الوحيد الذي يمكن اعتباره هو التمييز بين المؤمن وغير المؤمن.
إن الشخص في الإسلام يتحدد من جانبين: جانب بيولوجي، وجانب روحي. وهو ما عناه الحبابي بقوله : «إنني إرادة ،وامتحان لبواعث ما أريد، وتقرير، وذكرى، وبيئة .. إني كل هذا، من حيث أنا شخص وفي نفس الوقت، إني فعاليات بيولوجية، وتنفيذ.. من حيث أنا كائن. وزيادة على الشخص والكائن، وابتداء من اتصالهما الوثيق، يمكنني أن أكون إنسانا» (5) .
ص: 271
ويرجع الفضل في تجاوز ما هو بيولوجي، إلى هذا النفخ الإلهي الذي به تبدأ حياة روحية تسترسل في نموها حتى تصل إلى تفتحها الكامل عند الشهادة.
ب -الشهادة وعلاقة الأنا بالآخر
بخصوص علاقة الأنا بالآخر يؤكد الحبابي أن الأنا في الإسلام «معشري»(1)؛ ذلك أنه يتعرف بنفسه على ذاته، ويكون معرفة عنها، وفي الذات يتركز الوعي، إذ هي الكينونة الصميمة للفكر وهو يمارس العبادات والمعاملات، طبقا للفقه الإسلامي. ويوضح الحبابي أنه بالرغم من اختلاف الذوات فإنها تتحاب في الله وتتواصل في ما بينها عن طريق تلك المحبة. وهذا يعطي للعلاقات الإنسانية معنى أسمى.
ويستشهد الشخصاني الحبابي بقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (البقرة: 143)، وذلك لكي يقرر أن المؤمن يشهد أمام العالم وأمام الآخرين. ويحدد هذه الشهادة من جانبين: الأول سيكولوجي والثاني سوسيولوجي:
- فمن الجانب السيكولوجي، «يترتب عن الشهادة تأسيس علاقة مع الآخر، مادام
الأنا والآخر يشتركان في أداء نفس الشهادة»(2).
- وأما من الجانب السوسيولوجي، فإن الشهادة تكتسب تشخصها وعيانها في تكليف وجودنا الشخصي وتصرفاتنا في مواجهة الآخر. على هذا الأساس، فالمؤمن جزء من
«النحن». إن إيمان بعض من الناس ينتصب في مقابل إلحاد الآخرين»(3).
ويوضح الحبابي كيف أن الإنسان يصير مؤهلا للحكم وتحمل الشهادة بمختلف أنواعها بمجرد ولوج عالم الإيمان وتوحيد خالقه. يقول :« فعندما ينطق المرء «أن لا إله إلا الله» يصبح مسلما، وبالتالي يشعر بأنه قادر على إصدار أحكام، وتحمل
ص: 272
الشهادة، يعني أنه قادر على استخدام عقله، واستثمار حريته واستقلاله الذاتي»(1). من هنا يتحمل الإنسان مسئوليته ومسئولية غيره. وهذا ما دفع الحبابي إلى تحديد ما سماه بالمنبع الفكر ولوجي للالتزام في الإسلام، والذي يعني أن جميع جميع المسلمين مدعوون للقيام بهذه المهام، فعلى كل مؤمن أن يتحمل مسئولية عواطفه، وأفكاره،
وتقديراته، وحتى نيته ومسئولية الأحكام التي يصدرها، ونتائج الأفعال التي تتحقق
بها تلك الأفكار والعواطف والأحكام» (2) . ويشترط الحبابي للقيام بالمسئولية العمل
بقلب طاهر ووعي واضح.
3 - حقوق الإنسان
لم تكن حقوق الإنسان مجالا للدراسة والبحث والنظر إلا أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. إن اغتصاب الكرامة الإنسانية كان ولا يزال واحدة من مخجلات الإنسانية المعاصرة. إن العالم الثالث غير مساهم ولا راغب فيما يدور اليوم من حروب، ولكنه يعاني ويتحمل عواقبها الحمقاء.
يعرف الحبابي الحق بأنه ما كان منسجما مع قاعدة، أو هو ما يسمح به القانون.
وهكذا، فالقوانين تحتاج إلى أصل وأساس، وهذا الأساس هو نتيجة اتفاق وبرهنة عقلية على صوابية ما يخص الإنسان من حقوق طبيعية.
فی الإسلام، الحق هو الله سبحانه وتعالى ، وبالتالي «مقاومة حقوق الإنسان تعني تنصيب الإنسان نفسه خصما لله»(3). ورغم هذا الطابع، فإن الحق لا يهدى وإنما يجب السعي وراءه لانتزاعه، «وما ضاع حق وراءه طالب».
لكن، من هو الإنسان المقصود في عبارة «حقوق الإنسان»؟
يجيب الحبابي بأن الإنسان المقصود هنا هو في الغالب الفرد المنتمي لشعب لا
ص: 273
يعارض مصالح الدول العظمى الحامية لحقوق الإنسان»في عالم النفاق والهوان وقدسية القوى»(1).
إن أزمات اليوم تتجاوز قدرات اليمين واليسار معا إن الأحزاب الاشتراكية، كما الأحزاب الليبرالية ،في نظر الحبابي، لم تعرف، ولم تستطع أن توجد سياسة مناسبة للمشكلات المعاصرة. إنها لا تدرك كيف تحقق المساواة بين الشعوب ، فضلا عن تحقيقها بين مواطني البلد الواحد، ولا كيف تؤمن الحريات وتتطلع إلى الكوني والإنساني.
إن الديمقراطية الغربية تعيب بشكل كبير وبأعلى صوتها على دول العالم الثالث استهانتها بحقوق الإنسان. وهذا في نظر الحبابي صحيح، غير أنه ليس أقل صحة من كون الغرب يضيع كثيرا من المواد الغذائية ومواد أخرى ذات الأولوية للضرورة الإنسانية، بينما شعوب العالم الثالث يموت فيها الملايين سنويا بسبب الجوع. ويضيف بأنه «ليس فقط الانشطار بين الشمال والجنوب هو وحده الآخذ في التوسع، وإنما أيضا تقديس الدولة، ودول أعلى مقابل دول أدنى . وإن حق الفيتو في مجلس الأمن واحد من مظاهر هذا التقديس إن الدول نفسها تنصب نفسها أساتذة وسادة الكوكب الذين يجب على الآخرين الخضوع لهم»(2) .
ثم يميز الحبابي بين الحق والواجب فيذهب إلى أن واجبي ليس إلا حق الغير، لأني عندما أحافظ على حقوق الآخر فإنني أو في بواجباتي، والعكس صحيح. وهذا ما ينبه إليه المبدأ القرآني في كثير من آيات القرآن الكريم أوردها الحبابي منها قوله :تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾( آل عمران110)
إن القرآن الكريم، كما يؤكد الحبابي، يدعو إلى الانخراط الكامل، كأفراد وكأعضاء
ص: 274
أمة إسلامية وأمة كونية. إنه انخراط أفقي وعمودي في نفس الوقت، ونقط التقاء هذين البعدين تمثل الوعي الأخلاقي.
4- بين مستقبل الإنسان وغده
بداية يميز محمد عزيز الحبابي بين المستقبلية والغدية بأن هذه الأخيرة «تؤمن بأن الإنسان يحمل دوما آمالا، ويؤمن بأن في استطاعته أن يصنع تاريخه ويكتبه بصيغة
يصنع المستقبل، متى توفرت بعض الشروط ، أي متى أزيحت الأنقاض عن الطريق»(1). أما المستقبلية فهي تحاول أن «تتنبأ بما سيكون عليه الغد القريب اقتصاديا وتقنيا، طبقا للمعطيات الحالية» (2)
تنطلق الغدية من افتراضات أساسية يحددها الحبابي في خمسة(3):
ا- وعي ذلك التناقض لاتخاذ مواقف للصراع ضده.
ب -تعميم توعية ضمائر الثالثيين دول العالم الثالث بما لا يسير سويا، في هذا العالم وبما يجر جرا نحو العواصف والمفاجآت الجهنمية.
ج- تقييم مقدار عمق الغرق وإظهار أن أغلبية الغارقين من الثالثيين.
د- تحريض انتباه عزم الثالثيين على ضرورة البحث عن شيء آخر بعالم آخر، مادام
الحاضر في عالم اليوم سيتركهم دون أن يمتلكوه.
ه_ أن تجعلهم يعانون التزاما موجها نحو القيم والمبادئ المشتركة بين مجموع الإنسانية (وهذا يقتضي رفض النماذج الموجودة اليوم، وقد انحرفت وفقدت مصداقيتها) وذلك هو المراد من القطيعة .
من هنا، فإن المستقبلية لا تعطي أحكاماً قيمة ولا أخلاقية، إنها فقط تتوقع في
ص: 275
الأحوال والأوضاع ما يمكن أن يواكب التطور الاقتصادي والتقني، ولا تهمها كرامة الإنسان، بينما الغدية تبحث عن الشمولية، وتستلزم ذهنية جديدة، والتزاما يدفع دول العالم الثالث إلى القطيعة مع عالم القهر والاستبداد، غايتها أن تعيد للإنسان مركزيته في العالم.
وإذا كانت المستقبلية تقيس التقدم بأرقام ودخل وربح وخسارة، فإن الغدية تقيسه بمقياس الرقي الإنساني العام، فهي توجه أفعالنا انطلاقا من قيم أخلاقية شمولية. وهكذا فالتقدم من خلال الأول تقدم احتكاري خالص وخاص، بينما التقدم الثاني شامل وصلب ما تفتقده الإنسانية اليوم.
وخلاصة ما يرمي إليه محمد عزيز الحبابي من خلال الغدية« أن تغير عالم اليوم
ليحل محله عالم غد عالمي يسوده التعاون بصدق، وتكتمل فيه أبعاده كل إنسان، البعد المادي والوجداني والفكري والروحي. إن المستقبلية للبعض والغدية للجميع ، مقصد الغدية أن تحل الفضيلة محل النفاق »(1) .
إن هذا التصور ينسجم انسجاما كبيرا مع ما تدعو إليه مقاصد الشريعة الإسلامية على مستوى الإنسانية:التعارف والتعاون والتكامل، تحقيق الخلافة العامة للإنسان في الأرض، تحقيق السلام العالمي القائم على العدل، الحماية الدولية لحقوق الإنسان.
ص: 276
خاتمه
إن فلسفة الحبابي فلسفة مشروع نهضوي يهم الإنسان بمختلف حيثياته، وللإنسانية جمعاء، همه في هذا كله أن يسود العالم الفضائل والأخلاق، ويخرج الإنسان من أنانيته التي يكاد أن يذوب فيها، وينتشل الضعيف من براثن القوي، سواء كان هذا القوي فردا أم جماعة. كما أنه يرجو أن يعاد الاعتبار لحقوق الإنسان وكرامته المهدورة، ويسود السلم . ولن يتم كل هذا إلا بإعادة النظر في الإنسان وموقع الصحيح في هذا الكون. كما أنه لم يغفل أبدا مهمة الدين الذي يهدف إلى تطهير هذا الإنسان من كل شوائب الأنانية والعنف والكراهية. كما أن هذا الدين حافز أيضا لاحترام حقوق الإنسان وحسن علاقته بالآخر. إنها فلسفة واقعية مثقلة بهموم التغيير والإصلاح تغيير الإنسان وواقعه.
ص: 277
واليهودية والصهيونية، والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، والحداثة وما بعد الحداثة، والأيديولوجيا، والموضوعية والتحيز - بدراسة ونقد الفكر الغربي والحضارة الغربية بشكل عام من خلال محاولاته للوصول إلى الطريق الأمثل للمسار الصحيح للنهضة العربية المأمولة، فتوقف كثيراً عند النموذج الحضاري الغربي بما أنه النموذج الحضاري المسيطر والمهيمن في الوقت الراهن. وبما أن الغرب في نظر المسيري قد تحول - عند أصحاب المشاريع النهضوية العربية على اختلافها - من بقعة جغرافية وتشكيل حضاري له خصوصيته ومفاهيمه إلى منبع ومصدر للفكر العالمي والإنساني الحديث، وأصبح اللحاق به هو الهدف الأسمى والغاية المنشودة؛ وذلك البساطة النموذج المعرفي العقلاني الغربي وجاذبيته ونتيجة كذلك لانتصارات الغرب المعرفية والعسكرية في كافة المجالات والجبهات لكنه – في الحقيقة- لم يتوقف هذا النموذج كمعظم المفكرين المعاصرين عند الوصف والتحليل والرصد والنقد والتنظير وبيان نقاط الضعف والقوة أو الرفض المجرد، بل تجاوز ذلك إلى تقديم نموذج جديد وبديل لهذا النموذج. ورأى أنه من الضروري مجابهة المسلمات والبديهيات التي باتت راسخة في العقل العربي من قبيل أن الغرب متقدم وأن قوته لا تقهر، وأننا متخلفون وأن ضعفنا واضح ونهائي(1) . ولذلك فإن منطلقات المسيري في
ص: 279
نقده للغرب هي في الأساس منطلقات معرفية علمية أيديولوجية؛ فهو لا يكتفي ببيان مناطق الضعف في النموذج المعرفي الغربي المهيمن على الوجدان البشري بصفة عامة والوجدان الإسلامي بصفة خاصة؛ بل إنه يتقدم بخطى شجاعة ناحية صياغة نموذج معرفي بديل يستفيد من العلم الغربي ومن كل العلوم والتجارب الإنسانية، وينطلق في الوقت ذاته من تراثنا حتى يمكن توليد معارف وعلوم جديدة نحقق بها امكانياتنا الابداعية. ومن ثم يرفض المسيري النموذج الغربي كنموذج حضاري وحيد يفوق كل النماذج الحضارية الأخرى لما فيه من تميز للصفات المادية على حساب الصفات المعنوية ؛ فطغيان النزعة المادية همش مركزية الإنسان أو اغتال إنسانيته وحوله إلى شيء مادي خاضع لحتميات المادة والطبيعة وقوانينها، مما أدى إلى نفي أي بعد آخر له، وعندما يتم تشيؤ الإنسان في أي حضارة فإن ذلك يعني أنه أصبح بلا معنى. أي أن الإنسان في هذا النموذج الغربي قد تبدلت مكانته بصورة كاملة؛ فمن جعل الإنسان الغاية الأخيرة للخليقة وأنسنة كل شيء من أجله حتى الإلهي المقدس إلى البنيوية التي أماتت الإنسان إلى ما بعد الحداثة التي أماتت المعنى الواحد والمطلق.
أولاً : نقد النموذج المعرفي الغربي عند المسيري
يرى المسيري أن انبهارنا بالغرب أدى إلى أننا أصبحنا غير قادرين على رؤيته رؤية نقدية، ويقرر حاجتنا الماسة إلى ضرورة الوصول إلى تلك الرؤية النقدية، لأن ذلك سيكون بمثابة خطوة أساسية نحو التحرر من التبعية الإدراكية. ومن ثم فإن النموذج الغربي ليس بلا سلبيات وليس هو النموذج الكامل الذي يجدي نفعاً في كل عصر وحين ولكنه نموذج بشري عادي يحمل من السلبيات ما يحمل من الايجابيات. فقام المسيري بتوجيه سهام النقد الابستمولوجي والاكسيولوجي للنموذج المعرفي الغربي مما يعني الخطوة السلبية الممهدة لرفضه قبل تقديم الخطوة الايجابية التي تتمثل في وضع نموذج بديل يتفادى كثيراً من تلك المساوئ ويكون أكثر نفعا للواقع العربي. وكان من أهم تلك المساوئ التي انتقدها المسيري يتمثل فيما يلي:
ص: 280
تشيو الإنسان
سحب النموذج المعرفي الغربي الأشياء من عالم الإنسان ووضعها في عالم مستقل يسمى عالم الأشياء المادية : الاقتصادية - السياسية - السلع. ويرى المسيري أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد الذي يتم فيه سحب الإنسان من ذاته من عالم الإنسان ووضعه في عالم الأشياء. إذ يسود منطق الأشياء على كل من الأشياء والإنسان ويسري قانون طبيعي مادي واحد على الإنسان والطبيعة(1) ، فوضعت الكثير من المصطلحات الوصف المجتمع الحديث وحال الإنسان فيه ، وكانت مصطلحات :الإغتراب - التشيؤ - الإنسان ذو البعد الواحد أنسب المصطلحات وأصلحها لوصف حاله ومآله(2).
وهذا يعد بحسب كانط اعتداء سافراً على كرامة الإنسان؛ إذا يفرق كانط بين عالم الإنسان وعالم الأشياء، ويرى أن الفرق الحاسم أن الإنسان له كرامة وأن الأشياء لها ثمن فما له ثمن فمن الممكن أن يستبدل بشيء آخر مكافئ له؛ أما ما يعلو على كل ثمن، وما لا يسمح تبعا لذلك بأن يكافئه شيء، فإن له كرامة» (3) . وقد أطلق المسيري على هذه العملية اسم ترشيد الإنسان والترشيد هو عملية علمنة تعني إعادة صياغة المجتمع والإنسان على هدي القوانين العلمية المادية الصارمة الكامنة في المادة والمتجاوزة للإنسان. وكل هذا بهدف التحكم في المجتمع الإنساني حتى يمكن توظيف الإنسان على أكمل وجه أو إن شئت قل استغلاله على الوجه الأمثل كشيء له ثمن وليس كإنسان تحترم إنسانيته . ومن ثم يؤكد المسيري مرارا وتكرارا على أن «الإنسان ليس مادة صماء تعكس حركة المادة بشكل مباشر، حتمياً آلياً أبلها »(4) .
وهكذا يرى المسيري أنه يجب أن ندرك أن المشروع المعرفي الغربي يضمر نزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في
ص: 281
الكون، يكفر ليس بالإله الخالق فقط ولكن بالإنسان أيضاً، إذ يُعلن موت الإله ( كما جاء على لسان نيتشه) ثم موت الإنسان باعتباره كائناً متميزاً عن الطبيعة، ثم ينتهي به الأمر أن ينزع القداسة عن كل شيء وينكر المعنى.
سيادة المادية والتجرد من العواطف
إن أشد ما يأخذه المسيرى على النموذج الحضاري الغربي هو الامتثال التام الفرضيات العلم الحديث، الذي يحرص على الموضوعية والتجرد من العواطف وعلى الحياد وعدم الاكتراث بالغايات الأخلاقية والإنسانية، ويظهر هذا في الهجوم الشرس على الطبيعة البشرية كمفهوم مرجعي للعلوم الإنسانية، وهو ما ينمي في الإنسان المقدرة على الإنفصال عن المضمون الإنساني والأخلاقي لأي فعل يقوم به وعن أي آثام يقوم بارتكابها(1). كما يعمل على خلق ما يمكن تسميته عند المسيري ب_» ترشيد الإنسان الحديث» أي خلق إنسان متكيف حركي مرن ،واقعي هويته لا تتسم بالصلابة، يمكنه تغيير قيمه بعد إشعار قصير، بل ويمكنه إعادة بناء شخصيته بسرعة حتى يواكب التطور ويتبع آخرالصيحات والموضات ، ويساير الحركة المتسارعة للجميع والتي تكون عادة بلا هدف إنساني واضح(2) . كما تصبح المشاعر والأحاسيس مجردات شخصية ليس لها معنى إلا للحياة الخاصة للإنسان وعلى نحو ضيق للغاية؛ فلا مساحة لها في ظل النظرة الموضوعية المادية للإنسان الذي حول ذاته إلى موضوع ومن ثم يصبح إنسانا نمطيا يمكن التنبؤ برغباته والتخطيط المركزي لاحتياجاته وطموحاته. حيث يتطابق الإنسان الرشيد مع الإنسان الطبيعي (الجسدي -الجنسي -الغرائزي) فكلاهما إنسان واحدي ذو بعد واحد يتجاوز ما هو إنساني ويتجاوز أيضا كل الغائيات الإنسانية والأخلاقية.
نسبية الحقائق العلمية ونسبية الأخلاق
إذا كان العلم المادي ينظر إلى كل الأمور بنظرة نسبية، فنظراً لسيادة روح العلم
ص: 282
المادي للنموذج الحضاري الغربي فإن ذلك قد أدى إلى ظهور نسبية مطلقة تؤدي إلى المساواة بين كل الأمور في جميع الوجوه وإلى تسويتها، وهذا يؤدي فيما يرى المسيري إلى ضمور الحس الخلقي وإلى تزايد المقدرة على الحكم على ما هو إنساني بمقاييس غير إنسانية(1). ومن ثم تصبح كل الأمور نسبية مادية متساوية مرنة خاضعة للحوسلة والتوظيف. وهنا تتساوى الحقائق الاحتمالية العلمية بالحقائق الدينية والأخلاقية المطلقة، فتنتفي كافة المطلقات لصالح الاحتمالية. وإن كان هذا يصب بلا شك في نزع فتيل التعصب من القلوب إلا إنه يلقي بظلال الشك والريبة في النفوس.
ويصبح مصدر الأخلاق ليس الإله أو الدين أو الغايات الإنسانية وإنما المجتمع أو العلم. فحين يصبح المجتمع مصدراً للأخلاق فإن كل مجتمع يخلق قيمه الاجتماعية التي تخدم مصالحه، وأن الإنسان يتحلى بالأخلاق نتيجة للتطبيع الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية فحسب. فتصبح الأخلاق هي اتباع الرأي المجرد للأغلبية وليس محاكمة هذا الرأي من منظور أخلاقي متعين. أما حينما يصبح العلم مصدرا للأخلاق فإن القوانين الأخلاقية تؤسس على هدي القوانين العلمية (المجردة) والحسابات الرياضية الرشيدة والوضعية، كما هو الحال في الفلسفات النفعية التي جعلت الأخلاق هي المنفعة واللذة وأصبح الهدف من الحياة هو البحث عنها وتعظيم الانتاج والدخل(2). ومن ثم تنهار القيم الأخلاقية الكبرى تحت أقدام المنفعة واللذة وتصبح إنسانية الإنسان وكرامته قابلة للتداول التجاري والنفعي. ومن ثم تصبح القضايا الأخلاقية قضايا معرفية ، فمشكلة الإباحية في الغرب هي عند المسيري قضية معرفية وليست أخلاقية فحسب؛ لأنها باتت جزء من الهجوم على الطبيعة البشرية وعلى قداسة الإنسان فالرؤية العلمانية الإمبريالية طبعت الإنسان ونظرت إليه باعتباره مادة صرفة، والاباحية هي تعبير عن الاتجاه نفسه فتجريد جسد الإنسان من ملابسه هو نوع من نزع القداسة عنه حتى يتحول الإنسان، خليفة الله في الأرض في الرؤى
ص: 283
الدينية، ومركز الكون في الرؤى الإنسانية، إلى مجرد لحم يوظف ويستغل بحيث يصبح مصدراً للذة... فلا فارق بين السخرة في ألمانيا والبغاء في تايلاند (1).
أيديولوجية ما بعد الحداثة والموت العام
وجاءت أيديولوجية ما بعد الحداثة لتعلن حالة الموات العام فبعد أن أعلنت مرحلة موت الإله لأجل الإنسان ثم موت الإنسان وموت المعنى ونهاية التاريخ والأيديولوجية والأدب والفلسفة، فلا يسعنا سوى القول بأنها حالة الموات العام. وأيديولوجية ما بعد الحداثة هي أيديولوجية امبريالية تعبر عن عصر الاستهلاك وتعلن موت الإنسان بعد موت الإله، وتنكر وجود أي مركز، وتنفي أية مرجعية من أي نوع، فهي حرية كاملة وخضوع كامل لقانون الصدفة، وهي منظومة فلسفية تطهرت تماما من
الفلسفة والإنسان والمطلقات(2) . فهذه السيولة ( الفلسفية )هيا لسمة الأساسية للرؤية العلمانية في العصر الحديث، عصر الاستهلاكية العالمية. والتي تتمثل في الغياب التام لكافة المرجعيات، وهذا يعني غياب الأديان ودورها في حياة الإنسان، وتآكل الذات وفقدانها لحدودها، وتآكل الموضوع وفقدانه لحدوده، وهيمنة النسبية المعرفية الأخلاقية من ثم استحالة الوصول إلى فكرة الكل، سواء كانت هي فكرة الإله أم الأخلاق المطلقة أم الطبيعة البشرية أساس الأنطولوجيا الغربية. كما يعني ذلك أيضا اختفاء العقل التركيبي وتظهر معلومات متناثرة (ذاكرة الكلمات المتقاطعة) لا يربطها رابط ، وتصبح تجاربنا بلا معنى وبلا عمق ويتحول التاريخ إلى مجرد لحظات جامدة، وزمن مسطح لا عمق له، ملتف حول نفسه لا قسمات له ولا معنى ويتزامن الحاضر والماضي والمستقبل، وتتساوى تماما مثل تساوي الذات والموضوع والإنسان والأشياء، ولكنه تزامن دون استمرارية، فثمة انقطاع كامل(3). وهكذا تحمل ما بعد الحداثة عدة معان أهمها نهاية التاريخ ونهاية للقيم الخلقية المتعارف عليها، وموت الإله وموت المعنى. وتحول الإنسان إلى مادة استعمالية،
ص: 284
وإلى كائن ذي بعد واحد تحركه الدوافع المادية وأهمها الدافع الاقتصادي والدافع الجنسي، ولذا فالمصالح الاقتصادية والبحث عن اللذة التي لا تتجاوز عالم المادة والحواس الخمس ولا تصل إلى عالم التطلعات والأسرار والأشواق والتاريخ المركب هي المحرك الأول والأخير لسلوكه، وهي المرجعية النهائية لوجوده.
العنصرية والامبريالية
يتسم النموذج الحضاري الغربي بعنصرية التفاوت أي وجود تفاوت ثقافي بين الأجناس، وبأن هذا التمايز له أساس (بيولوجي- بيئي - وراثي)والإقرار بتفوق الرجل الأبيض، وسبغ القداسة على الإنسان الغربي وعلى تاريخه وحضارته، ونزع القداسة وتغييبها عن الآخر غير الأوربي وعن تاريخه وحضارته بل يعتبر أن حضارة الآخر وتاريخه هو نقطة انحراف عن النقطة التي يتجه نحوها التاريخ العالمي. ولذلك يرى المسيري أن الظاهرة الصهيونية بعنفها المتزايد- في الحقيقة - ما هي إلا ظاهرة غربية عرقية امبريالية وليست ظاهرة يهودية فحسب كما يظن البعض.(1) ومن ثم يبرر المسيري كيف يتعامل الأوربي بعنصرية مقيتة مع الشعوب الأخرى؛ فيحاول أن يوقف عمليات التحديث في أي مكان آخر في العالم، ويقمع كل الثورات ليضمن تدفق العمالة والمواد الخام الرخيصة وليضمن وجود مجال حيوي يشكل امتداداً استراتيجيا واقتصاديا له، حتى يظل العالم الغربي، منتجا ومستهلكا، أما العالم الثالث فيظل متخلفا بدائيا ومستهلكا لبعض بضائع أوربا وأفكارها(2).
ومن ثم ينكر النموذج الحضاري الغربي تاريخ الآخر وإنسانيته، ولم يقبله إلا كمادة استعمالية. كما تكررت ممارسات النظام الامبريالي الدولي القديم بأشكال تتراوح بين درجات مختلفة من الحدة والتبلور في أنحاء آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولولا وعيه بأن هذا الشكل الامبريالي القديم ستكون خسارته فيه أكبر وستكلفه خسائر فادحة ما تخلى عنه ولكنه في الحقيقة لجأ إلى حروب أكثر خسة ونذالة
ص: 285
وهي حروب الجيل الرابع بتفعيل سياسة الإغواء والإغراء للنخب الحاكمة وللشعوب على السواء وباسم البحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وتفعيل الديمقراطية. ومن ثم فلم تستبعد الحضارة الغربية إبادة الآخر والتخلص منه دون رحمة ولا شفقة كما لوحظ ذلك في النازيةوالصهيونية.
استحالة المشروع المعرفي والحضاري الغربي
يرى المسيري أيضًا أنه يجب أن نعرف أن المشروع الغربي الذي يزعم إنه جاء السد كل الثغرات وللتوصل للقانون العام مشروع مستحيل من الناحيتين المعرفية والعلمية. فمن الناحية المعرفيةيفترض هذا النموذج بساطة العقل وبساطة واقع الإنسان الطبيعي والاجتماعي وبساطة الدال اللغوي وبساطة المدلول الإنساني وبساطة العلاقة بينهما . وهو يفترض بيقين كامل متعصب أن رقعة المجهول ستتناقص بالتدريج وستتزايد رقعة المعلوم، وأن المجهول سيتم معرفته. وأن تحكم الإنسان في الواقع سيصبح كاملاً . وهو افتراض أقل ما يوصف به أنه طفولي وسخيف. والملاحظ العابر للعالم سيدرك هذا تماما (1).
أزمة الحضارة الغربية الحديثة
كما يرى المسيري أن الحضارة الغربية قد دخلت مرحلة الأزمة، فقد تخلى كثير من علمائها ومفكريها عن تفاؤلهم بخصوص حضارتهم التي لم تشعر بالثقة الكاملة بنفسها كما كانت تفعل حتى نهاية القرن التاسع عشر، فقد فقدت كثيراً من إحساسها بمكانتها الخاصة في التاريخ ومركزيتها وعالميتها خاصة مع تصاعد أزمات هذه الحضارة ابتداءً من حربيها العالميتين وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الايدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته، وهي كلها أمور كان لا يتحدث عنها إلا الشعراء في شعرهم، والروائيون في رواياتهم ، والعلماء في دراستهم
ص: 286
العلمية الرصينة التي لا يقرؤها سوى غيرهم من العلماء، ولكنها مع نهاية الستينات أصبحت أخبارًا يومية تتناقلها الصحف والإذاعات والمجلات(1).
نماذجية الانحراف
أي أن النموذج الامبريالي الغربي عبر في نماذج واضحة وصريحة عن انحرافه وبدا وجهه الحقيقي قبيحاً يثير الاشمئزاز، وذلك من خلال هجمته الاستعمارية الشرسة على بلاد الشرق مغتصبا خي