السيف والسياسة في الاسلام
الصراع بين الاسلام النبوي والاسلام الأموي
الكاتب المصري صالح الورداني
بطاقة تعريف: وردانی صالح Wardani, Salih
عنوان المؤلف واسمه: السيف والسياسة في الاسلام، الصراع بين الاسلام النبوي والاسلام الأموي/ الكاتب المصري صالح الورداني
تفاصيل النشر: قم: موسسة المعارف الاسلامیة، 1417ق. = 1376.
مواصفات المظهر: ص 208
شابک : بها:4800ریال ؛ 4800ریال
لسان : العربية
ملحوظة: افست از روی دار الجسام: قاهره، م1996
ملحوظة: کتابنامه: ص. [204]؛ أيضا مع ترجمة
موضوع : شیعه - دفاعیه ها و ردیه ها شیعه - عقاید
تصنيف الكونجرس: 1376 9س4و/5/BP212
تصنيف ديوي: 297/417
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 908-77م
ص: 1
ص: 2
ِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَ ما محمّد إلّا رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإین مَّاتَ أو قُتِلَ اٝنقَلَبتُم عَلَىٰ أَعقَٰابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَىٰ عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيئًا و َسَيَجزِى اللهُ الشَّكِرِينَ [آل عمران آية 144]
ص: 3
ص: 4
كنت قد أعلنت عن هذا الكتاب منذ عدة سنوات تحت عنوان: «صفين». رؤية جديدة لحركة التاريخ. و كانت خطة الكتاب تقتضى بحث الصراع الذي دار بين الامام على و معاوية و نتائج هذا الصراع و انعكاساته على واقعنا . . إلا اننى عندما خضت في الوقائع والأحداث التاريخية تبين لي أن وقعة صفين لم تكن سوى واجهة لأحداث أكبر انبنت على أساسها وتولدت منها . من هنا فقد عدت إلى الوراء لأبحث فى أمر عثمان. والبحث في أمر عثمان دفعنی إلى البحث فى أمر عمر . والبحث فی أمر عمر دفعني إلى البحث في أمر أبي بكر حتى وصلت إلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لاكتشف أن الانحراف بدأ مع احتضاره و أن صفين بدأت من هنا . . و منذ وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بدأت السياسة يساندها السيف تلعب لعبتها لتبرز لنا الخط القبلى الذى أرسى دعائمه ابوبكر وعمر والذي قام على أساسه الخط الأموى فيما بعد. . لم تكن صفين سوى نهاية الطريق بالنسبة لمسيرة الإسلام القبلی الذی ساد بعد وفاة لرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) . وأن فقه صفين يتوقف على فقه مرحلة احتضار الرسول . .
لقد برز بعد وفاة الرسول خطان :
خط سار في طريق القبلية نتج من سقيفة بنی ساعدة . . وخط سار فى طريق آل البيت وتحالف مع الأمام على . . الخط الأول مثل الإسلام القبلى .
والخط الثانى مثل الإسلام النبوى . .
وان الصراع قد احتدم بين الإسلام القبلى والإسلام النبوى فور وفاة وان كان الإسلام القبلى قد تحققت له السيادة فقد بقى الإسلام النبوى في ساحة المواجهة . . تارة يصارع السيف. . وتارة يصارع السياسة .
ص: 5
وتارة يصارعهما معاً. .
إن الهدف من هذه الدراسة هو بعث الدعوة الى إعادة كتابة التاريخ الاسلامي وإعادة قراءته من جديد فمن الواضح أن هذا التاريخ قد صبغتة السياسة وطغى فيه الرجال على النصوص وتغلبت فيه النزعات على القيم الاسلامية . . ولقد استمر المسلمون منذ وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وحتى اليوم يرصدون حركة التاريخ بعين واحدة . هي عين القداسة دون أن ينظروا إليها بعين النقد . .
ومنبع هذه النظرة يكمن في تلك الاغلال السلفية التي طوق بها المسلمون والتى تحول دون رؤيتهم لحركة التاريخ بصورة متكاملة بمعزل عن القداسة التي أضفيت على رموز وشخصيات معينة لعبت دوراً بارزاً فى دائرة هذه الحركة. ونحن لا نهدف من خلال هذه الدراسة الى التجريح أو الطعن والتشويه وهدم رموز معينة هي محل قداسة المسلمين ولكن الهدف هو وضع النصوص فوق الرجال ثم وزن هؤلاء الرجال على ضوء هذه النصوص . . ما نهدف إليه هو أن نرسى قاعدة تعيننا على قراءة التاريخ قراءة متبصرة من خلال النصوص لا من خلال الرجال . .
ان البحث فى وقائع التاريخ يجب أن تكون له دلالاته الواقعية. وما طرحناه في هذه الدراسة إنما له انعكاساته على واقعنا وما نعايشه من خلال واقع الاسلاميين والفكر الاسلامي بصورة عامة . . وما يجب أن يدركه الذين يتصدون لأمر الدعوة والتوجيه في الميدان الاسلامي أن فقه حركة التاريخ مقدمة ضرورية لفقه الاسلام . .
وان فقه الماضي مقدمة لفقه الحاضر .
ومن الماضى إلى الحاضر كانت رحلة هذا الكتاب الذى ارجو أن يكون خطوة على طريق تحرير العقل المسلم من اغلال الماضی. .
صالح الورداني القاهرة يناير 1996م
ص: 6
وأطلت الفتنة برأسها والرسول
لا زال على فراش المرض..
ص: 7
ص: 8
منذ أن بدأ المرض يشتد برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وبدأت الفتنة تبرز على ساحة المدينة بین قطاعات المهاجرين والأنصار. تلك القطاعات التي كانت تهيأ نفسها لاستثمار مرحلة ما بعد الرسول . .
كانت زعامات قريش التی أطاح بها الإسلام في مرحلة الفتح ترقب من بعيد البيت النبوى وتطورات مرض الرسول . .
وكانت قطاعات المهاجرين فى المدينة تتداول الأمر فيما بينها على ضوء وصية الرسول في حجة الوداع وما تنزل من القرآن في أواخر حياته. و ذلك بهدف وضع ملامح المرحلة القادمة. مرحلة ما بعد الرسول. وتحديد دورهم فيها . .
و كانت الأنصار ترقب الاحداث في توجس خوفاً من فقد مكانتها و وضعها الاستراتيجي بوفاة الرسول . .
و كان المنافقون يعدون العدة لإنهاء مرحلة السرية والتخفى و تجهيز أنفسهم للتكيف مع المرحلة الجديدة . .
و كانت هناك فئة قليلة من المؤمنين منشغلة بالرسول و مستقبل الدعوة و ردود الأفعال التي سوف تحدث بعد وفاته على مستوى المدينة و خارجها . .
و يلاحظ من خلال استقراء الروايات التي تشخص لنا واقع المدينة أثناء مرض الرسول أن هناك ضغوطاً كان يواجهها الرسول من فئات مختلفة لها توجهاتها المختلفة . ويبدو أن هذه الضغوط كانت تتركز جميعها حول مسألة الخلافة و الحكم و مثل هذه الضغوط لا تكون إلا إذا كان الرسول قد أشار أو حدد الأمر في شخص أو جهة معينة كانت محل التنازع . فلو لم يكن الرسول قد أشار الى أحد لما كان هناك مبرر للاختلاف و التنازع أمامه. فالواجب الصبر حتى يقضى الله أمره. فإن عوفى كان بها . و إن توفاه الله اختاروا من بينهم من يقوم بالأمر ..
إلا أن الروايات لا تقودنا إلى مثل هذه الاستنتاجات . و إنما تؤكد أن الرسول
ص: 9
كان يشغله مستقبل الدعوة و أمر الأمة من بعده و يريد أن يحدد لها معالم الطريق حتى لا تضل و تشقى لكن هناك فئات ترى هذا الأمر يصطدم مع مصالحها و نفوذها و يهدد مكاسبها . فكانت تعمل على وضع العراقيل التي تحول دون تحقيقه .
والرسول كقائد يودع أمته يدرك أن هناك مجموعة من الاخطار تتهددها على مستوى الداخل و الخارج لابد له من أن يضع خطة لمواجهتها .
لابد له من ان يتخذ بعض الخطوات على مستوى الخارج حيث الروم و الفرس يتربصون بالإسلام و المسلمين.
و لابد له من اتخاذ خطوات على مستوى الداخل حيث يوجد المنافقون واليهود . .
و على مستوى الخارج كان تجهيز جيش اسامة . و على مستوى الداخل كان كتابة الوصية و خطبة الوداع . .
هل يمكن أن تخلو خطبة رسول يودع امته و لا نبی بعده. من خطوط عريضة تسير عليها الامة من بعده . .؟
ان الإجابة على هذا السؤال تدعونا إلى التأمل فى نصوص خطبة الوداع الواردة في كتب السنن كما تدعونا إلى التأمل فى الآيات القرآنية التي ارتبطت بتلك الفترة . .
و على رأس النصوص القرآنية التى ارتبطت بحجة الوداع قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَسُولْ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إنْ لَمْ تَفعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رسالَتَه و اللهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسْ) (1)
ص: 10
فقد أشار كثير من المفسرين و الفقهاء إلى ان مناسبة هذه الآية كانت حجة الوداع و ان الأمر الصادر للرسول كى يبلغه للأمة كان يتعلق بمستقبل الدعوة من بعده . .
يروى البخاری عن عائشة قالت : من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما انزل عليه فقد كذب و الله يقول (یَا أَيُّهَا الرَسُولْ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيكَ مِنْ رَبِّكَ )(1) و السؤال الذى يطرح نفسه هنا هو : لماذا تقول عائشة هذا الكلام . . ؟ لا شك ان هناك مناسبة ما اضطرتها إلى قولها هذا.
و يبدو ان هناك من أكثر القول حول هذه الآية وان هناك شيئاً ما له أهميته نزلت به الآية . .
و لا يعقل بل لا يجوز ان يوجه الاتهام إلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بكتمان ما أنزل الله . فإن هذا الكتمان بكافة أحواله هو فى صالح المنافقين والقبليين و اصحاب المصالح و الاهواء. فما الذى يضطرهم إلى تكذيب الرسول و اتهامه بالكتمان و هم يعلمون ان القرآن يتنزل على الرسول فاضحاً لهم و كاشفاً لنواياهم ..
إذن الرسول لم يكتم شيئا و أبلغ الامة ما انزل إليه. لكن الكتمان جاء من أطراف أخرى. و هو ليس كتماناً لنصوص قرآنية بلا شك و إنما هو كتمان لقول الرسول حول هذه النصوص و يبدو أن هناك اتجاه كان يؤمن بأن هذه الآية كانت تتعلق بوصية الرسول فيمن يخلفه من بعده. و لعل هذا يبرر قول عائشة الذى يشير إلى أن الآية لو كانت تشير إلى هذه القضية لبين الرسول ذلك و ما كتمه . . و هو ما يبرر رواية عائشة الأخرى فى البخارى التى تقول منكرة وصية الرسول لعلى : متى أوصى إليه. . ؟ فلقد أنخنث فى حجرى و ما شعرت أنه مات. فمتى أوصى اليه ..؟ (2)
وإذا ما استعرضنا النصف الآخر للآية الذي يقول : (و إنْ لَمْ تَفعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رسالَتَه و اللهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسْ) تبين لنا ان هناك أمر جلل بلغ للأمة أوجب
ص: 11
طمئنة الرسول بأن ردود الافعال من قبل المنافقين والقبليين وأصحاب الاهواء لن تضره شيئا وهو ما يمكن فهمه من قوله تعالى (و اللهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسْ) . . والرسول تتنزل عليه الآيات بكثير من الاحكام يبلغها للناس منذ سنوات فلماذا ارتبط تبليغ هذا الأمر الأخير بالعصمة من الناس ..؟
وقوله تعالى : (اَليَوم اَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتي ورَضيتُ لَكُم الإسْلام َدينا ) (1) من الآيات التي نزلت في حجة الوداع كما روى الجمهور عن ابي سعيد الخدري ان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) دعا الناس إلى على في يوم غديرخم. وأمر بما تحت الشجرة من الشوك فقام فدعا عليا. فأخذ بضبعيه فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطى رسول الله وعلى. ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية .. ثم قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فعلى مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله . . (2)
يروى البخارى أن رسول الله خطب فى الناس فقال : ألا تدرون أى یوم هذا؟ قالوا الله و رسوله أعلم. قال حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال : اليس بيوم النحر ؟ قلنا بلى يارسول الله. قال : أي بلد هذا . . ؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا بلى يارسول الله قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا. فى بلدكم هذا. ألا هل بلغت. قلنا نعم . .
قال اللهم فاشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ يبلغه من هو أوعى له فكان كذلك . قال : لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . (3) وفي رواية : لا ترتدوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . . (4)
ص: 12
وعن جرير قال : قال لى رسول الله فى حجة الوداع : استنصت الناس. ثم قال : لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .. (1)
وروی مسلم : ايها الناس : اسمعوا قولى . فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف ابداً. أيها الناس أن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا وان كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمی موضوع ودماء الجاهلية موضوعة و أن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث و ربا الجاهلية موضوع. و اول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله . .
أيها الناس. إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطع فيما سوى ذاك فقد رضي به ما تحقرون من أعمالكم. فاحذوره على دينكم. أيها الناس : ان النسئ زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً و يحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله و يحرموا ما أحل الله . وان الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات و الأرض. السنة أثنا عشر شهراً. منها أربعة حرم. ثلاثة متواليات. ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر الذي بين جمادي وشعبان .
اتقوا الله فى النساء. فإنكم إنما اخذتموهن بأمان الله و استحللتم فروجهم بكلمة الله .
ان لكم عليهن حقا. و لهن عليكم حقاً. لكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه .
فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح . و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف. فاعقلوا أيها الناس قولى فإني قد بلغت. و قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده ابداً ان اعتصمتم به: کتاب الله و سنه رسوله . .
يا أيها الناس : اسمعوا و اطيعوا و إن أمر عليكم عبد حبشى مجدَّع ما أقام فيكم كتاب الله .
ص: 13
أيها الناس : اسمعوا قولى و اعقلوه. تعلمن ان كل مسلم أخ للمسلم. وان المسلمين إخوة فلا يحل لامرىء من أخيه إلا ما اعطاه عن طيب نفس منه . فلا تظلموا أنفسكم. اللهم هل بلغت وانتم تسألون عنى فما انتم قائلون . . ؟(1) .
و روى ابن سعد : أرقاءكم. أرقاءكم. أطعموهم مما تأكلون و اكسوهم مما تلبسون. و ان جاءوا بذنب لا تريدون ان تغفروه. فبيعوا عباد الله ولا
تعذبوهم . .(2)
و روى ابن اسحاق فى سيرته نفس هذه الرواية كما رواها ابن سعد في طبقاته .
تروى كتب السنن ان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : انى أوشك أن أدعى فأجيب و انى تارك فيكم الثقلين : كتاب الله و عترتي أهل بيتى . وان اللطيف الخبير اخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض. فانظروا كيف تخلفونى فيهما . . (3)
و في رواية : انى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى كتاب الله و عترتى أهل بيتى و لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفونى فيهما . . (4) و في رواية مسلم: ايها الناس. إنما أنا بشر يوشك ان يأتيني رسول ربي فاجيب و اني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله عزوجل فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب الله تعالى و استمسكوا به فحث على كتاب الله و رغب فيه . و قال: أهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بیتی (5). .
و فى رواية ان الامام على نشد الناس في الرحبة قائلاً : من سمع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)
ص: 14
يقول في غدير خُم - موضع ماء خطب فيه الرسول أثناء حجة الوداع - إلا قام . فقام من قبل سعيد ستة. و من قبل زيد ستة. فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول لعلى يوم غدير خم: أليس الله أولى من المؤمنين . قالوا : بلى . قال: اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه. اللهم وال من والاه و عاد من عاداه . . (1) وعن البراء بن عازب قال : أقبلنا مع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في السنة التي حج فنزل فى بعض الطريق . فأمر الصلاة جامعة . فأخذ بيد على فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم . قالوا: بلى . قال : ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا : بلى: قال: فهذا - أى على - ولى من أنا مولاه. اللهم وال من والاه و عاد من عاداه . .(2)
و يقول ابن تيمية عن أهل السنة: و يحبون أهل بيت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ويتولونهم و يحفظون فيهم وصية رسول الله حيث قال يوم غدير خم : أذكركم الله فى أهل بيتي . . (3)
من خلال عرض الروايات السابقة نلخّص إلى ما يلى:
- ان رواية البخارى قد حددت أمامنا عدة أمور مستقبليه :
الأول يتعلق بحفظ الدماء بین المسلمين . .
و الثاني يتعلق بعدم الالتزام بالأول. .
و الثالث يتعلق بشهادة الرسول . .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : لماذا يركز الرسول في خطبة يودع فيها أمته على الدماء و الردة. ثم هو يبلغ ذلك و يشهد عليه ليعلن براءته أمام الله كرسول ناصح لأمته . . ؟ .
ص: 15
إن هذا البلاغ إنما هو إشارة صريحة من قبل الرسول إلى قطاع من صحابته يبدو من مواقفهم و ممارساتهم ما يدعو إلى هذا التحذير . .
و لعل هذا هو المعلم الوحيد الذى تبرزه رواية البخارى فيما يتعلق بمستقبل الدعوة و حال الأمة بعد وفاة الرسول . .
و لا يوجد ما يبرر الصراع و التطاحن و شهر السيوف و ضرب الاعناق بعد الرسول إلا الحكم و السعي نحو الفوز به . . و لقد كانت ولاية ابى بكر سبباً مباشراً في قيام صراع مسلح بين المسلمين حسمته السيوف بقسوة فيما سمى بقتال مانعى الزكاة . . .؟؟
وما ذكره البخارى هو جزء من خطبة الوداع أما بقيتها فقد شتتها كعادته بين الأبواب التي ترتبط بموضوعاتها . فالجزء الخاص منها بالربا وضعه في باب الربا و الجزء الخاص بالنساء وضعه في باب يلائمه و هكذا .. و هذا من شأنه أن يضيع المفهوم العام لخطبة الوداع و يبدد أغراضها . .
أما رواية مسلم فهى رواية متكاملة حددت عدة معالم واضحة :
الأول : حفظ الدماء . .
الثاني : نبذ الجاهلية . .
الثالث : وضع الربا . .
الرابع : احترام النساء . .
الخامس : الاعتصام بالكتاب والسنة.
السادس : طاعة الحكام ..
السابع : حفظ الحقوق بين المسلمين
الثامن : البلاغ والشهادة . .
وكون أن الرسول يوصى أمته بحفظ الدماء و نبذ الجاهلية و احترام النساء و حفظ
ص: 16
الحقوق و وضع الربا فهذا أمر مقبول عقلاً. لكن الأمر الغير مقبول هو حضه على الاعتصام بالكتاب و السنة و طاعة الحكام . . فكان من الأولى أن يحض على الكتاب وحده فلم تكن السنة قد جمعت و لم تكن معروفة كمصدر للتشريع. حتى الكتاب - حسب رواياتهم - لم يكن قد جمع و لم يكن يحفظه إلا القلة القليلة من الصحابة . و يبدو أن إضافة السنة هنا هي من اختراع الرواة حيث أن هناك رواية أخرى لمسلم ذكر فيها الكتاب وحده و لم يذكر السنة . .
أما طاعة الحكام فمن الواضح أنها من اختراع السياسة كي تمهد للأنظمة الحاكمة التي سوف تقوم بعد وفاة الرسول. و هى قضية مهدت لها عشرات الاحاديث الأخرى التي تلزم الأمة بطاعة الحكام و ان كانوا فجاراً ينتهكون حرمات الناس . . (1)
وما رواه مسلم والبخارى وغيرهما إنما يتعلق بالشق الأول من خطبة الوداع . لكن هناك شق آخر للخطبة تفوق أهمّيته أهمية الشق الأول. خطبه الرسول في مكان آخر أثناء عودته من الحج مكان يدعى غدير خم بالقرب من المدينة . . و هذا الشق لم يروه البخارى إنما رواه مسلم وكتب السنن الأخرى. وهو محل جدل بین السنة والشيعة. حيث ان السنة تشكك فيه وان اعترفت به فهى تشكك في ابعاده والمراد منه. بينما الشيعة تعده من أقوى التصريحات النبوية على وصية الرسول للإمام على والتى تؤكد ان الرسول وضع خطوطاً عريضة للأمة تهتدى بها بعد وفاته فيما يتعلق بالحكم والامامة وسائر أمور الدين . . وكون ان الرسول يوصى في حجة الوداع بكتاب الله وآل بيته فإن المسألة يكون لها مدلول آخر. وكونه يمسك بيد على ويعلن أنه وليه ويدعو لمن والاه ويدعو على من عاداه فإن المسألة هنا تزداد وضوحاً . .
ص: 17
ولعل هذا ما دفع بخصوم على من الصحابة إلى إنكار ما سمعوه من الرسول بحقه بعد وفاته عندما احتدم الصراع على الحكم. فقد كانت القبلية لا زالت مستحكمة فى نفوس الناس آنذاك. كما ان المنافقون وهم قطاع بارز في المجتمع المدنى فى حياة الرسول قد برز أكثر بعد وفاته .
ويبدو أن هناك تحالف بين جبهة القبليين وجبهة المنافقين تم في مواجهة جبهة على وشيعته من الصحابة انتهت بهزيمة جبهة على . .
ويروى ان عليا شكى الناس لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقام الرسول خطيباً فقال : أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله . . (1) والناس هنا بالطبع هم قطاع من الصحابة كان يتقول على على ويحسده على
مكانته من الرسول و علو شأنه في الإسلام . . وقد حسم رسول الله هذا الأمر بالحكم على مبغضى الامام على وكارهيه بالنفاق فيما يروى على لسان على: عهد إلى النبى الأمى: (أنه لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق . .)(2)
و يروى: كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله بأمرين : صلاة العتمه و بغض عليا . . و مثل هذه الروايات إنما تشير إلى أن الجبهة المعادية لعلى كان لها وجودها فى حياة الرسول. كما ان الجبهة المناصرة له كان لها وجودها أيضاً.
و ابن تيمية و هو خصم للشيعة ولكل الخارجين على خط بني أمية أقر بأن الرسول أوصى في غدير بأهل البيت و ذكر قوله ( أذكركم الله في أهل بيتي) في عقيدته الواسطية دون ذكر بقية كلام الرسول في على . . وبالطبع فإن ابن تيمية لا يرى ولا يفهم من كلام الرسول هذا ما يفهمه أصحاب العقول من أنه دلاله على أحقيتهم بالإمامة والاتباع من بعده. وهذا الفهم لدور آل البيت هو الذي ساد بعد وفاة الرسول وانتصر له ابن تيمية وتلقفته الحكومات
ص: 18
منه حتى آل سعود اليوم ليصبح هو الفهم السائد لدى مسلمى الحقبة النفطية المعاصرۃ . . (1)
كثرت الروايات التي تتحدث عن جيش اسامة في كتب السنن وكتب التاريخ. إلا ان هذه الروايات على كثرتها لم تكشف لنا السر وراء إصرار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على بعث هذا الجيش إلى الخارج فى مثل تلك الظروف التى كان يعيشها المجتمع المدنى آنذاك وهو يترقب وفاة الرسول ما بين ساعة وأخرى . . لقد كان الرسول كثيراً ما يردد وهو على فراش المرض: أنفذوا بعث أسامة . أنفذوا بعث أسامة . . (2)
ان إصرار الرسول على ضرورة تحقيق هذا الأمر يكشف لنا عدة حقائق :
الأولى: ان هناك قوى تقف في طريق تحرك هذا الجيش . .
الثانية: ان تحرك هذا الجيش له أهميته القصوى بالنسبة لحركة الدعوة . .
الثالثة: ان الرسول كان يتعجل خروجه . .
الرابعة: ما هي حكمة تولية فتى صغير على كبار الصحابة في بعثه عسكرية هامة كهذه ؟
يروى البخارى : استعمل النبي أسامة فقالوا فيه . . فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قد بلغنى أنكم قلتم فى اسامة و أنه احب الناس إلى . .
لماذا يقول الصحابة في أسامة. و ماذا يقولون فيه . .؟
هذا ما لم تخبرنا الرواية. إلا ان هناك رواية أخرى اكثر تفصيلا . .
عن ابن عمر قال ان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بعث بعثاً و أمر عليهم أسامة بن زيد فطعن
ص: 19
الناس في إمارته . فقام رسول الله فقال : ان تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة ابيه من قبل. وأيم الله ان كان لخليقا بالامارة وان كان لمن احب الناس إلى . وان هذا - اسامة - لمن أحب الناس إلى بعده . . (1) والرواية الثانية تجلى لنا الموقف بصورة اكثر وضوحاً وهو ان هناك طعناً في اسامة ورفضاً لإمارته . وان هذا الموقف كان قد اتخذ مسبقاً من إمارة ابية في غزوة مؤتة التي استشهد فيها . . والسؤال الذى يفرض نفسه هنا : أليس الطعن في إمارة اسامه يعد طعناً في أمر الرسول الذي عينه . . ؟
وهل هذا الموقف كان يتركز في أسامة بشخصه أم فى أهداف البعثة؟ ان الأمر على ما يبدو يتجاوز المسألة الشخصية ويشير إلى أن هناك قضية أخرى اكبر من أسامة ومن بعثته . . وكعادة الروايات التى تروى فى كتب السنن خاصة الصحيحين و تتعلق بمواقف الصحابة وتجاوزاتهم. فإنها تكون مبتورة المعنى أولا تسمى الشخص أولا تفصل الحدث . . والهدف من وراء ذلك هو محاولة التمويه على الحقيقة وعدم إثارة الشبهات حول شخصيات معينة حتى لا تهتز في أعين المسلمين . . وهو أمر يعود أولاً واخيراً إلى أمانه الراوى .
انظر حديث عائشة : خرج رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في مرضه وهو مستند على رجلين أحدهما العباس ورجل آخر. وكان الرجل الآخر الذى لم تسمه عائشة هو على . . (2) وانظر حديث ابو هريرة : حفظت وعاءين عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وعاء بثثته . اما الآخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم . . (3)
ص: 20
وانظر حديث ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس : اشتد برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وجعه . فقال ائتونى اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبداً. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع . فقالوا ما شأنه أهجر . فذهبوا يردون عليه . فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونى إليه وأوصاهم بثلاث . قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب و اجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم . وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها . .فالبخارى هنا لم يخبرنا من الذى قال عن الرسول : ما شأنه أهجر . وهى طعن في الرسول وإتهامه بالتخريف والهلوسة . . ثم أنه لم يخبرنا عن الثالثة هل سكت عنها ابن عباس أم سكت عنها هو ، وهو على ما يبدو من الرواية متأرجح بين ان يكون ابن عباس سكت عنها أو نسيها هو . كما فاته ان يذكر ان الذى طعن في الرسول وهو على فراش المرض هو عمر بن الخطاب . .
ومثل هذا الامر ينطبق على الروايات المتعلقة بجيش أسامة فقد ذكرت رواية البخارى: استعمل النبي أسامة فقالوا فيه . .
وفى الرواية الثانية فطعن الناس في إمارته . . ولم يخبرنا البخارى من الذين قالوا في أسامة ومن الذين طعنوا في إمارته من الصحابة . .؟ إن مثل هذا الأمر يطابق النهي عن الخوض في خلافات الصحابة واعتبار ذلك من المحرمات ومن أصول العقيدة كما تنص على ذلك كتب العقائد.. (1)
فكلا الأمرين الهدف منهما التغطية على أحداث التاريخ التي تتعلق بالصحابة حتى لا تهتز صورتهم في أعين المسلمين وتفقد الثقة فيهم وتكون النتيجة هي خروج المسلمين عن خط أهل السنة وخط الحكام على ماسوف نبين .
ومن المعروف أن جيش أسامة كان فيه كبار الصحابة وعلى رأسهم أبى بكر و عمر عدا الامام على الذى أبقاه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الى جواره . .
ص: 21
وهنا تتضح لنا معالم جديدة حول هذا الحدث.
ماذا كان يهدف الرسول من وراء تأمير فتى كأسامة على أبي بكر وعمر وكبار الصحابة ثم يصر على ضرورة خروجهم من المدينة فى أسرع وقت. وهو الذى على فراش الموت. ومن الممكن أن يتوفاه الله في أية لحظة فلا يكون إلى جواره في المدينة أحد من الصحابة لعل هذا الأمر أثار الريب في نفوس الصحابة وجعلهم يتلكأون في الخروج محتجين بصغر سن أسامة .
ولعل جواب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : أن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل يشير الى شكه في موقفهم مذكراً لهم أن هذا الموقف اتخذتموه من قبل من أبيه زيد ولم يكن زيد صغير السن . .؟
إذن هؤلاء القوم كانوا يضمرون فى نفوسهم أمراً ويتحججون بحجج واهية كي لا يخرجوا من المدينة. ولكن لماذا يريدون البقاء في المدينة . . ؟
ان الجواب على هذا السؤال تكشفه لنا الرواية التي ذكرناها آنفاً وهى رواية يوم الخميس حين طلب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يكتب لهم كتاباً لا يضلوا بعده. فهاجوا وماجوا وطعن بعضهم في الرسول حتى يفوتوا عليه كتابة هذا الكتاب. فهذا الحدث قد كشف لهذه الطائفة التى يتزعمها عمر على ما يبدو وعلى ماسوف نبين أن الرسول يضمر شيئا يتعلق بالأمر من بعده. فمن ثم هم لايريدون أن يفوتهم هذا الأمر. و مما يؤكد هذا الظن أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قد كرر هذا الموقف في غزوة تبوك مع الامام على و صرح أمام الصحابة بمقالة فيه أثارت الريب في نفوسهم . .
يروى البخارى أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج إلى تبوك واستخلف عليا . فقال : أتخلفنى فى الصبيان و النساء؟ قال : ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى . إلا أنه ليس نبى بعدى . .(1)
ص: 22
ولعل الصحابة تذكروا هذا النص حين أمرهم بالخروج في بعث أسامة وأدركوا أن الأمر يحمل أبعاداً أخرى تتعدى مسألة الخروج خاصة بعد أن رأوا الرسول قد استبقى عليا مع إصراره على خروجهم من المدينة .
ان بعث أسامة يكشف أمامنا قضية هامة و هى قضية التفضيل . تفضيل الصحابة على بعضهم. وتفضيل أبي بكر و عمر على الصحابة بل على الأمة. فإن هذا التفضيل لو كان حقيقة ما جعل رسول الله أسامة أميراً على أبي بكر و عمر و ما استبقى علياً .. كما يكشف لنا من جهة أخرى أنه لو كان الرسول قد نص على استخلاف أبى بكر كما يقال ما وضعه على مقدمة الجيش بينما هو على فراش المرض الذى توفى فيه (1)
يقول ابن حجر : كان تجهيز أسامة قبل موت الرسول بيومين فندب الناس لغزو الروم فى آخر صفر . ودعا أسامة فقال : سر الى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش . . فعقد الرسول لأسامة لواء بيده . وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر وأبي عبيدة و سعد و سعيد و قتادة بن النعمان و سلمة بن أسلم ثم اشتد على الرسول و جعه : فقال انفذوا بعث أسامة. فتكلم فى ذلك قوم منهم عياش بن أبی ربيعة المخزومی. فجهزه أبوبكر بعد أن استخلف . .(2)
وقد أنكر ابن تيمية أن يكون أبو بكر وعمر كانا في بعث أسامة. لكن ابن حجر رد عليه و أورد عدد من الروايات التي تبطل قوله . . (3) و هنا يطرح أمامنا السؤال التالى : لماذا يحاول ابن تيمية نفى وجود أبوبكر و عمر فى بعث أسامة . . ؟
أليس وجودهما بعد امتثالا لأمر الرسول و هو شرف لهما . . ؟ .
ص: 23
لماذا يحاول ابن تيمية أن ينفى عنهما شرف الامتثال لطاعة الرسول والجهاد فى سبيل الله ؟
إن ابن تيمية قد اتخذ هذا الموقف في معرض رده على العلامة الحلى أبرز علماء الشيعة المعاصرين له. وقد اضطر فى مواجهته إلى التشكيك في حديث الثقلين المروى في صحيح مسلم وهو ما دأب ابن تيمية على فعله في مواجهة خصومه من العلماء داخل أهل السنة و خارجها خاصة من الشيعة . . (1) و الطريف فى هذا الأمر هو تجهيز أبوبكر للجيش بعد وفاة الرسول و بعثه إلى الروم . . يقول ابن حجر : و لما جهزه أبو بكر بعد أن استخلف سأله - أي أسامة - أن يأذن لعمر بالاقامة - في المدينة - فأذن . . تأمل . . (2)
لماذا عمل أبوبكر على استثناء عمر من جيش أسامة ..؟
لقد جهز أبوبكر الجيش امتثالا لأمر الرسول حيث أنه قد رفع شعاراً مفاده إنما أنا متبع و لسيت بمبتدع . . و عمد إلى تقليد الرسول فى كل مواقفه و ممارساته . . فإذا کان هو كذلك فلماذا عمل على استثناء عمر . أليس ذلك مخالفة لسنة الرسول و أمره. و هو قد استثنى نفسه بحكم تسلمه الخلافة فبأي حجة استثنى عمر . . ؟ هل يمكن أن نتهم أبوبكر بالسطحية فى فهم النصوص إذ أن الغرض من بعث أسامة قد انتفى بوفاة الرسول واستخلافه. بينما هو يصر على خروجه و يستثنى منه عمر. أم أن أبابكر يحاول أن يموه على الهدف الحقيقى من بعثة أسامة؟ ولنترك القوم مع جيش أسامة على أبواب المدينة ينتظرون و يراقبون من بعد تطورات مرض الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وهم بموقفهم هذا قد تحايلوا على أمر الرسول: فلا هم نفذوا أمره و لا هم ظاهرون أمامه. و بدا و كأنهم يوهمون الرسول أنهم خرجوا . .
هل مثل هذا السلوك يصح من إناس تخرجوا من مدرسة الرسول . .؟
ص: 24
روى البخارى عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس. . وما يوم الخميس؟ اشتد برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وجعه : فقال : أئتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. فتنازعوا و لا ينبغى عند نبي تنازع: فقالوا ما شأنه أهجر استفهموه . فذهبوا يردون عليه . فقال دعوني فالذى أنا فيه خير مما تدعونى إليه. و أوصاهم بثلاث . قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب . و أجيزوا الوفد بنحو ماكنت أجيزهم . و سكت عن الثالثة أو قال فنسيتها . .
و في رواية : لما حضر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) و فى البيت رجال : فقال النبي هلموا اكتب لم كتابا لاتضلوا بعده . فقال بعضهم أن رسول الله قد غلبه الوجع و عندكم القرآن. حسبنا كتاب الله . فاختلف أهل البيت واختصموا . فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده . و منهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو و الاختلاف . قال رسول الله : قوموا .
قال ابن عباس : ان الرزية كل الرزية ماحال بين رسول الله و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم و لغطهم . .(1)
وفى رواية ثالثة عن ابن عباس : لما اشتد بالنبى وجعه قال : أئتونى بكتاب أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده . قال عمر : ان النبى غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا . فاختلفوا و كثر اللغط . قال : قوموا عنى و لا ينبغى عندى التنازع . فخرج ابن عباس يقول : أن الرزية كل الرزية ماحال بين رسول الله و بين كتابه . .(2)
قال القرطبي و غيره أئتونى أمر وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال . لكن ظهر لعمر مع طائفة أنه ليس على الوجوب و أنه من باب الارشاد إلى الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قول الله تعالى
(مَا فَرَّطنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) . .
ص: 25
وقال الخطابي : إنما ذهب عمر إلى أنه لو نص بما يزيل الخلاف لبطلت فضيلة العلماء وعدم الاجتهاد. .
وقال ابن الجوزى . . وإنما خاف عمر أن يكون مايكتبه فى حالة غلبة المرض فيجد بذلك المنافقون سبيلا إلى الطعن في ذلك المكتوب . .
ويقول ابن حجر معلقاً على قول ابن عباس : إن الرزية كل الزرية ماحال بين رسول الله و بين كتابه . . وليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه هذا الظاهر . بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث. و جزم ابن تيمية فى الرد على الرافضي - الحلى- بما قلته ، إنما تعين حمله على غير الظاهر لأن عبيد الله بن عباس راوی الحدیث تابعی من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها لأنه ولد بعد النبی بمدة طويلة ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى . . (1) وروت عائشة أن الرسول في حال احتضاره كان يقول : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .(2)
و یروی أن الناس قد ذكروا عند عائشة أن علياً كان وصياً. فقالت : متى أوصى إليه فقد كانت مسندته الى صدرى (أو قالت حجرى) فدعا بالطست . . فلقد أنخنث فى حجرى وما شعرت أنه مات. فمتى أوصى إليه . . ؟(3)
و روى عن عائشة أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) كان اذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده. فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التى كان ينفث وأمسح بيد النبي عنه . .
و قد أذن له فى أن يمرض فى بيت عائشة من قبل نسائه لما يعلمن من محبته لها وارتياحه إليها . . (4)
ص: 26
و فى بيت عائشة إشتد به الوجع . وكان يقول: أهريقوا على من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلى أعهد إلى الناس . ثم خرج عاصباً رأسه بعد أن صب عليه الماء فجلس على المنبر ثم قال : أيها الناس ان آمن الناس على في ماله وصحبته أبوبكر. ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا. و لكن إخوة الإسلام . لاتبقين في المسجد خوخه إلا خوخة أبي بكر. وانى فرط لكم. وأنا شهيد عليكم. و إني والله لأنظر إلى حوضى الآن. وانى أعطيت مفاتيح خزائن الأرض. و انى والله ما أخاف أن تشركوا من بعدى ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها . . (1) ويروى عن عائشة قالت : قال لى رسول الله فى مرضه أدعى لى أبا بكر أباك وأخاك . حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل : أنا أولى . ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر . . (2)
ولما حال المرض بين رسول الله وبين الخروج قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس . فقالت عائشة : يارسول الله : ان أبا بكر رجل أسيف (رقيق) وأنه إذا قام مقامك لم يكد يسمع الناس . فقال : أنكم صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس . . (3)
ويروى عن عائشة أنها قالت : ورأساه : فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ذلك لو كان وأنا حى و استغفر لك و أدعو لك . فقال عائشة، و اثكلتاه و الله أنى لأظنك تحب موتى و لو كان ذلك لظللت آخر يومك معرساً ببعض أزواجك . .
فقال النبي : بل أنا و ارأساه . لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون . ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله و يأبى المؤمنون . . (4) وإذا ماقمنا بمناقشة هذه النصوص المتعلقة بمرض الرسرل و وفاته فسوف تتكشف
ص: 27
أمامنا بعض النتائج التى من الممكن أن تقودنا الى حل بعض النقاط الغامضة المتعلقة بوصية الرسول فرواية ابن عباس المتعلقة بطلب الرسول كتابة كتاب تهتدى به الأمة بعد وفاته التزم أمامها أهل السنة بسياستهم التبريرية المعتادة لذلك السلوك وتلك المواقف المتناقضة مع روح الاسلام ومع العقل التي سلكها الصحابة وفي مقدمتهم عمر أمام نبيهم مما هو واضح من خلال أقوالهم التي عرضناها والتي ترتكز في صميمها على هدم أية محاولة لتفسير النص تفسيراً يمس الصحابة و لو بشيء من النقد حتى لا تهتز صورتهم في أعين الناس فيفقدوا قدوتهم و تضيع مثاليتهم حتى لو أدى ذلك إلى الجام العقل وتكبيله. فالعقل لا يمثل أهمية كبيرة عندهم ولو كانوا يحترمونه ما اخترعوا كل تلك القواعد التي تزجره عن الخوض في خلافات الصحابة أو فى النصوص المنسوبة للرسول الخاصة بطاعة الحكام أو تلك المتناقضة مع القرآن والتي هي صحيحة بطرقهم . .(1)
وقد نقل ابن حجر أن المقصود بالكتاب في حديث ابن عباس هو تعيين الخليفة (2)
وقال عياض : معنى كلمة هجر التي ذكرها عمر : أفحش . يقال هجر الرجل اذا هذى. وأهجر إذا أفحش . . (3)
إذا كان معنى كلمة هجر بهذه الصورة فهل يحق لصحابى أن يقولها لنبيه . .؟
يقول ابن حجر : وقوع ذلك عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) مستحيل لأنه معصوم في صحته و مرضه لقوله تعالى (و ما ينطق عن الهوى . . (4)
فهل كان عمر يجهل أن الرسول معصوماً . . ؟
و ليت أهل السنة يسيرون في تأويل مواقف الصحابة على أساس القرآن كما فعل ابن حجر في مواجهة موقف عمر من الرسول . . لو فعلوا ذلك لكانوا قد
ص: 28
أغلقوا الباب في وجه السياسة الى الإبد. فقد استثمرت السياسة مواقف الصحابة أفضل استثمار . واشتقت من أحداث السقيفة ومواقف عمر وعثمان ما بنيت على أساسه قواعد العلاقة بين الحاكم والمحكوم . .(1)
إلا أن هذا الاستدلال الذى بناه ابن حجر على الآية يعد من فلتاته . فقد تابع أهل السنة في مواقفهم التى تبرر أفعال الصحابة و ممارستهم على أساس السياسة وعلى أساس كونهم عدول مجتهدون . .(2) والحق أن موقف عمر كان رزية كبيرة تسببت في تعويق مسيرة الإسلام و ضياع الأمة وشتاتها بين الحكام والفقهاء وأهل الأهواء . . وهو فعل يضاف إلى سيئات الرجل وليس محمدة له كما يحاول فقهاء التبرير تصوير ذلك .
والعقل لا يقبل أن يحمل مثل هذا السلوك من قبل عمر على محمل الخير . أى خير في معارضة نبي؟ واذا اعتبرناه مجتهدا فهل يحق له الاجتهاد على أمر رسول الله ..؟
وقول عمر حسبنا كتاب الله قول مغرض . فهو لم يكن من الحافظين لكتاب الله المسلمين بأحكامه وان كان مخترعو الأحاديث وفقهاء التبرير قد حاولوا أن يضفوا عليه صفة الفقيه المجتهد ويدل على ذلك موقفه بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حين ادعى عدم موته وهدد القائلين بموته وهو موقف لا ينم عن علمه بطبيعة الرسالة ودور الرسول. ولم يتخذ هذا الموقف أحد سواه حتى جاء أبوبكر ففقهه بالآية . فقال كأنى أسمعها أول مرة . . (3)
ان موقف عمر ومن حالفه إنما يشير إلى أن هناك جبهة من الصحابة كانت ضد كتابة الوصية وموقف هذه الجبهة إنما ينبع من يقينها أن هذه الوصية ليست في صالحها. اذ لا يعقل أن ترفض أمة وصية نبيها في احتضاره وهى تعلم أنه خاتم الرسل. فإن عدم وجود رسل من بعده يجعل الحاجة لهذه الوصية أشد وأكثر مصيرية .
ص: 29
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو : لماذا استجاب الرسول لعدم الكتابة وطرد الجميع . . وكان من الأولى له كرسول خاتم أن يصر على كتابها لكونها مسألة مصيرية تتعلق بمستقبل الاسلام والمسلمين . . ؟ إن الجبهة المعارضة لكتابة الوصية كانت تعلم بموقفها هذا أنها لن تحول بين الرسول وبين الوصية . فهى لن تستطع بحال أن تمنع الرسول من أداء مهمته لكونه مؤيد من قبل الله تعالى ومن مهمته أن يوصى أمته حال وفاته. فالوصية جزء من البلاغ الذى هو أساس مهمته والذي بعث من أجله . . لكن هناك فرق بين أن يكتب الرسول الوصية وبين أن يبلغها شفاهية . عندما يكتبها تكون حجة على المخالفين الى يوم الدين ويصبح من العسير تحريفها . . و عندما تكون شفاهية فهنا يكون الباب مفتوحاً للتأويل والتزييف . فإن تحريف القول أيسر من تحريف الكتاب . .
وهذا هو هدف جبهة عمر أن تحول دون كتابة الوصية وليس منعها و هو ماحدث
و يلاحظ أن معظم الروايات الخاصة باحتضار الرسول ووفاته إن لم نقل جميعها تروى على لسان عائشة . ومثل هذا الأمر يثير فى النفس تساؤلات عديدة . . أولها : لماذا اختصت عائشة بهذه الروايات دون غيرها من نساء النبی . .؟ والإجابة على هذا التساؤل تدفعنا الى مناقشة حقيقتين تتعلقان بعائشة .
الأولى تتعلق بفضائلها وموقعها من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) . . والثانية : تتعلق بموقفها من الامام على. .
فبخصوص فضائلها فهي كما يرويها البخارى و مسلم و غيرهما تنقل على لسانها . أى ترويها هي عن نفسها كحال أبى هريرة الذي روى جميع فضائله عن نفسه . وهو أمر مرفوض عقلاً إذ أن الفضائل من المفروض أن يرويها عنها غيرها حتى تكون مقبولة عقلاً بينما يلاحظ أن فضائل الامام على يرويها عنه كثير من الصحابة ولم يروها هو عن نفسه .
ص: 30
والمتأمل فى الأحاديث التي تختص بفضائل عائشة يجد أن هذه الأحاديث لا تشير الى فضيلة بل ربما أشارت إلى العكس من ذلك . لنتأمل على وجه المثال الأحاديث التي تروى على لسانها عن غيرتها من خديجة ومن نسوة الرسول عموماً . .
روی مسلم عن عائشة أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ذكر خديجة فغرت فقلت : و ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت فى الدهر فأبدلك الله خيرا منها . الى هنا تنتهى رواية مسلم . إلا أن هناك رواية أخرى رد فيها الرسول عليها قائلا : لا والله ما أبدلني الله خيرا منها و روت عائشة : ماغرت للنبى على امرأة من نسائه ماغرت على خديجة لكثرة ذكره إياها وما رأيتها قط . . (1)
و فى هذا رد كاف على عائشة وكون خديجة أفضل منها . وماذا يمكن أن تكون قد قدمت عائشة للدعوة من بذل وعطاء حتى تفضل خديجة ؟ أنها لم تقدم شيء سوى كم كبير من الأحاديث التي خدمت الخط الأموى ونصرته على آل البيت . وتأمل قول فقهاء التبرير في الرواية المذكورة . . ينقل النووى شارح مسلم قولهم : الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك ولهذا لم يزجر - أى الرسول - عائشة عنها . . (2) وقال القاضى : وعندى أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها ولعلها لم تكن بلغت حينئذ . . (3)
فإذا كان القوم يبررون تجاوزات عائشة مع الرسول بصغر سنها فبماذا يبررون مواقفها الأخرى. وهل صغر سنها يبرر لها أن تتجاوز حدودها مع الرسول؟.
ص: 31
و تأمل الرواية التى تقول ان عائشة اذا كانت راضية عن الرسول تقول و رب محمد و إذا كانت غاضبة عليه تقول و رب إبراهيم أى أنها إذا أغضبت من الرسول كانت لا تذكر اسمه . . (1)
هل هذا سلوك يليق بإمرأة نبي . .؟ . وكيف لها أن لا ترضى عن رسول الله . .؟ و ماهو حكم من لا يرضى عن رسول الله في فقه القوم . .؟ .
ان مثل هذا السلوك لا يكون إلا من امرأة غير راشدة تلهو في حجر رسول الله أو كما تقول الروايات تلعب بالبنات عند الرسول . . (2)
و یروی مسلم عن عائشة أن نسوة النبى أوفدن إليه فاطمة (علیها السلام) و هو مضطجع معها تسأله على لسانهن العدل في ابنة أبي قحافة . فقال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : أي بنية الست تحبين ما أحب ؟ فقالت بلى قال فأحبى هذه (عائشة) . .
فأرسل نسوة النبى بعد ذلك زينب بن جحش فسألت الرسول العدل في ابنة أبي قحافة. ثم وقعت في عائشة واستطالت عليها والرسول ساكت. وهنا هجمت عائشة على زينب وحسبما تقول الرواية على لسان عائشة : فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها. وفي رواية أخرى قلما وقعت بها لم أنشبها أن أثخنتها غلبة . . (3)
ص: 32
والمتأمل فى هذه الرواية يتبين له كم هى تحط من قدر الرسول وتظهره بمظهر الرجل المنشغل بنسائه المتعلق بهن المشغول بمشاكلهن الشغوف بابنة أبى بكر بحيث لا يفارق خدرها ولا يمل جوارها . . وكيف يطالب الرسول بالعدل وهو الذي بعث لتحقيقه بين الناس . . ؟ واذا كان الرسول عاجز عن تحقيق العدل بين نسائه وقد قرب عائشة على حسابهن أليس من الأولى أن يكون عاجزا عن تحقيق العدل بين الناس . . ؟
ان هذا الصدام بين إمرأتين من نساء الرسول على مشهد منه بينما هو يواجهه بالتبسم قائلاً لزينب : إنها ابنة أبى بكر . ليدل على تهاون من قبل الرسول واصرار منه على تقديم عائشة وظلم بقية نساءه . وكيف لنا أن ننسب الى الرسول هذا اللهم لا تؤاخذنا . لكنها روايات القوم . . ولنتأمل رواية ثالثة على لسان عائشة تكشف لنا مدى إنشغال الرسول بها حتى و هو مع نساءه فى ليلتهن : تقول الرواية : ان كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ليتفقد - نساءه - يقول أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا . ؟ - استبطاءً ليوم عائشة - . . (1) إن الرسول بهذه الصورة التي تصورها لنا هذه الرواية ليس إلا مجرد عاشق ولهان ليس على لسانه سوى عائشة كما ليس في قلبه سواها. وما علاقته بنساءه الآخريات سوى علاقة فاترة لا نشوة لها ولا أثر . فإن النشوة والأثر لا يكون إلا مع عائشة فهل يرتضى مسلم أن يكون رسوله بهذه الصورة الفاضحة . .؟ .
ثم ان هذه الرواية كما تؤكد عائشة كانت قبل وفاة الرسول بساعات قليلة أى أن عمر الرسول وقتها قد جاوز الستين ببضع سنين بينما هى لم تتجاوز الثمانية عشر عاماً. فهل يعقل أن شيخاً في مثل هذا السن يكون متعلقاً بالنساء إلى هذا الحد . . ؟
تقول عائشة استكمالا للرواية السابقة : فلما كان يومى قبضه الله بين سحرى ونحرى : أى أن الرسول بعد أن أفلت من نساءه وظفر بعائشة توفاه الله دون أن يقضى وطره منها . أى أن الرسول مات في حضن عائشة . .
ص: 33
هل يمكن أن يحتمل العقل والوجدان المسلم مثل هذه الوقاحة في حق نبيه . .؟ ويروى البخارى نفس الرواية السابقة بشيء أكثر فجاجة وتعرية للرسول أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لما كان فى مرضه جعل يدور فى نسائه ويقول أين أنا غدا . .؟ حرصا على بيت عائشة . قالت عائشة : فلما كان يومى سكنٍ (1)
و هذه الرواية كأنها تقول لنا أن الرسول رغم مرضه كان شغوفا بالجنس و الطواف على نسائه اللواتي لم يشبعن شغفه حتى جاء الى عائشة فتتحقق له السكن معها وهذا التفصيل الفاضح لم تكشفه رواية مسلم السابقة : ويروى مسلم عن عائشة أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) . .(2) و هذه الرواية تكشف لنا أن علاقة الرسول بنسائه كانت على الملأ . حتى أن الناس كانوا يعرفون يوم عائشة من بين الأيام الأخرى التى يطوف فيها على نسائه و هذا يعنى أن حركة الرسول بين نسائه كانت تحت رقابة الناس انتظاراً ليوم عائشة فيهرعون نحوها بهداياهم تقربا للرسول . .
إن هذا الحديث يشير إلى دلالة خطيرة و هى أن الطريق إلى رضا الرسول يكون بواسطة عائشة . و هذا يعنى أن عائشة سيطرت على قلب الرسول و وجدانه و أحاسيسه للدرجة التي جعلتهم يستثمرون هذا الحب فى كسب رضا الرسول عن طريق رشوة عائشة بهداياهم . مما يعنى بطريق غير مباشر رشوة الرسول الذي تصوره الرواية أنه يغضب لغير الله ويرضى لغيره سبحانه و بواسطة عائشة يكسب الناس رضاه . فهل سيطرت عائشة على الرسول إلى هذا الحد . . ؟
ان البخارى يروى نفس هذه الرواية بشيء من التفصيل. تقول الرواية : ان نساء النبى اجتمعن بأم سلمة بسبب أن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وقلن للرسول : انا نريد الخير كما تريده عائشة . و طلبن من الرسول أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث دار . فذكرت أم سلمة الأمر للرسول ثلاثاً و هو
ص: 34
يعرض عنها ثم أجابها فى الثالثة بقوله : يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل على الوحى و أنا فى لحاف إمرأة منكن غيرها . .(1) و ظاهر الرواية يفيد أن نسوة النبي استفزهن أمر الهدايا فاجتمعن لهذا الغرض و أوفدن أم سلمة للتحدث بلسانهن مع الرسول الذى كان في مكانه المعتاد الى جوار عائشة . فهل كان الرسول لا يشغله سوى النسوة و مشاكلهن . . ؟
ان الرواية تقول ان الرسول انحاز الى عائشة كما انحاز اليها في الرواية السابقة ضد بقية زوجاته معتبرا ان مثل هذا السلوك يعتبر أذى له مؤكدا أن درجة عائشة أعلى من درجتهن لأن الوحى كان ينزل فى لحافها و لم ينزل في لحافهن فهل كان الوحى يتنزل على الرسول وهو في لحاف عائشة . . ؟
أليس هذا امتهانا للوحى و للرسول أن تتنزل آيات الله في هذا الموضع . . ؟ لقد بلغ القوم مبلغاً عظيماً فى محاولاتهم اختراع المناقب لعائشة الى الدرجة التي أهانوا فيها الرسول و أهانوا فيها الوحى و أهانوا فيها بقية زوجات الرسول . . وتستمر عائشة فى رواية فضائلها قائلة: قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) یا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام. فقلت : و عليه السلام و رحمة الله . وهو يرى مالا أرى . . (2)
و يبدو أن القوم أرادوا أن ينتزعوا لعائشة منقبة على لسان الوحى بعد أن عجزوا عن انتزاعها من لسان الرسول . حتى أن أنس بن مالك يروى على لسان الرسول قوله : فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام . .(3)
ألم يجد الرسول شيئاً يفضل به عائشة على غيرها سوى الطعام . . ؟ . هل كان الرسول أكولاً وعاشقا للطعام إلى الحد الذي يضرب به المثل . .؟ . تروى عائشة : كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) اذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة
ص: 35
على عائشة وحفصة فخرجتا معه جميعاً. و كان الرسول إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها . فقالت حفصة لعائشة : ألا تركبين الليلة بعيرى و أركب بعيرك فتنظرين و أنظر . قالت بلى . فركبت عائشة على بعير حفصة و ركبت حفصة على بعیر عائشة. فجاء رسول الله الى جمل عائشة و عليه حفصة فسلم ثم سار معها حتى نزلوا . فافتقدته عائشة فغارت. فلما نزلوا جعلت تجعل رجلها بين الإذخر . و تقول يارب سلط على عقربا أو حية تلدغني . . رسولك و لا أستطيع أن أقول شيئا . .(1)
ان هذا النص يفرض عدد من التساؤلات: هل كان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يأخذ نساءه معه عند الخروج . .؟ ولماذا ندمت عائشة على ما فعلت مع حفصة . . ؟ وهل الغيرة تدفع بأم المؤمنين إلى محاولة الانتحار بوضع رجلها في نبت تكثر فيه الهوام كالحيات وغيرها . .؟ ان القرآن يكشف لنا أن رسول الله كان يخلف دائماً النساء و الصبيان و العجزة عند خروجه للغزو . و هو الدافع الوحيد لخروجه فلم يكن يخرج لسبب آخر فلم نسمع أن الرسول خرج للصيد أو التنزه فلم يكن لديه الوقت لمثل هذه الأمور و الذى تؤكده كثير من الروايات ان مسؤوليات و تبعات الدعوة كانت ثقيلة عليه بحكم كونه خاتم الأنبياء . والاسلام هو خاتم الرسالات (إنَّا سَنُلقَى عَلَيك قَولاً ثَقيلاً). .
فهل رسول خاتم يحمل مثل هذه المسؤولية لديه وقت للهو مع النساء . . ؟ وهل يمكن لامرأة مثل عائشة أن تتدلل على الرسول الى هذا الحد . . ؟ وهل الرسول بمثل هذه السذاجة بحيث تنطلي عليه حيلة حفصة فيأخذها وهى على بعير عائشة ويسلم عليها ولا يعرفها . .؟ و تروى عائشة : فلما نزل برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) المرض - ورأسه على فخذى غشى
ص: 36
عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره الى السقف ثم قال : اللهم الرفيق الأعلى. قالت عائشة قلت إذا لايختارنا . .(1)
هل طمعت عائشة فى رسول الله الى الحد الذى تريد أن تجعل الرسول يفضلها على الرفيق الأعلى ويختار جوارها على جواره . .؟
كم حطت هذه الروايات من قدر الرسول و أهانته حتى وهو على فراش المرض جعل من فخذى عائشة وسادته . .
ولقد بلغ من خيال القوم فى صنع مناقب عائشة أن جعلوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يحلم بها وهو في مكة وربما من قبل أن تولد. .
تروى عائشة : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أریتک فى المنام ثلاث ليال جاءنی بك الملك فى سرقة من حرير فيقول هذه امرأتك فاكشف عن وجهك فإذا أنت هی : فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه . . (2)
و إذا ماتبين لنا أن روايات عائشة لا تصرح بمناقب لها بقدر ماتعريها وتفضحها و تحط من قدر الرسول و مكانته أدركنا أن الهدف من هذه الروايات ليس هو عائشة في ذاتها و إنما الخط الذى سوف يتولد منها . و ادركنا أيضا حجم مكانتها و موقعها من الرسول و موقفه منها . ان اختلاق مثل هذه الروايات ليدل على ان موقع عائشة من الرسول كان مهزوزاً وان موقف الرسول منها كان لا ينم عن الرضا عنها أو عن ابيها. فلو كان موقع عائشة من الرسول حسناً ما كانت هناك حاجة إلى خلق مثل هذه الروايات التي تسئ إليها قبل ان تسئ للرسول . ولترك الأمر للإطراف الأخرى تروى محاسنها وتصف موقعها وتعدد مناقبها . لكن الأمر كما هو واضح أمامنا هو من اختلاق عائشة او اختلق على لسانها . . وهذا الامر ندركه بقليل من التأمل فى مناقب خديجة فقد جاء على لسان الامام
ص: 37
على انه قال سمعت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : خير نسائها مريم بنت عمران . وخير نسائها خديجة بنت خويلد (1).
و يروى أبو هريرة : أتى جبريل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك فأقرأ عليها السلام من ربها عزوجل و منى و بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب .(2)
وتروى عائشة : بشر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة (3) . ويروى أيضاً : أن الرسول إذا ذبح الشاة يقول : أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة فأغضبته يوماً فقلت خديجة فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إني قد رزقت حبها (4) . فها هى مناقب خديجة تروى على لسان الآخرين حتى على لسان عائشة نفسها وهاهى الروايات تثبت أن خديجة أفضل من عائشة . .
و ها هو الرسول يبشرها ببيت فى الجنة ولم يبشر عائشة . و ها هو الرسول بعد موتها يظل وفياً لذكراها ويكرم خلانها و أقربائها حتى أدى الامر إلى غضب عائشة . . و ها هو الرسول يصرح أنه قد رزق حبها . و ها هو جبريل يقرأها السلام من الله سبحانه من قبل أن يتزوج الرسول بعائشة و بمقارنة النصوص الواردة في خديجة و الروايات التي ترويها عائشة عن نفسها يتبين لنا صحة مناقب خديجة و بطلان مناقب عائشة . كما يتبين لنا عظيم مكانة خديجة وموقعها من الرسول وضعف موقف عائشة .(5)
لقد كانت عائشة صغيرة السن و قد تركها الرسول و عمرها ثمانية عشر عاما .
ص: 38
فكيف يمكن لمن في مثل سنها أن ترث كل هذا العلم الذي ينسبونه إليها وقد قضت سنی بلوغها مع الرسول في شكل وغيرة وغرام كما تحكى الروايات على لسانها؟ وكيف يمكن للرسول أن يأتمن إمرأة فى مثل هذا السن على علم السماء؟ أليس هذا يتناقض مع قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : لن يفلح قوم ولو أمرهم إمرأة (1) وقد قيل عنها أنها روت عن الرسول أربعين الف حديث فكيف وعت كل هذا الكم من الاحاديث عن الرسول فى فترة البلوغ القصيرة التی قضتها مع الرسول . ؟ . ان مثل عائشة كمثل أبى هريرة كلاهما روى كما هائلا من الأحاديث على لسان الرسول في مدة تثير الشك فى هذا الكم و مدى تناسبه مع فترة معايشتهم .
إن الأمر على ما يبدو يتجاوز عائشة وأبو هريرة . إنه خط يريد أن يفرض على الأمة من خلالهما مما سوف يتضح عند استعراضنا موقف عائشة من الامام على و إن محاولة إرجاع موقف عائشة العدائى من الامام إلى حادث الافك وقول الامام للرسول (تزوج يارسول الله إن النساء كثيرات) إنما هو تسطيح لحقيقة الموقف وجذوره. فقد وقفت عائشة من بعد وفاة الرسول إلي جوار أبيها ضد الامام وأنصاره من الصحابة وضد فاطمة التي اصطدمت بأبيها بسبب ميراث الرسول وقاطعته وتوفت غاضبة عليه . .
و لا شك أن الامام كان يمثل خط آل البيت الذي اصطدم بجبهة القبليين و المنافقين بعد وفاة الرسول بسبب الخلافة. وعندما يتبين لنا ان عائشة كانت تقف في صف الجبهة المناوئة للإمام تتكشف لنا جذور موقفها العدائي منه . . ودور عائشة فى مواجهة الامام إنما برز بشكله السافر في عهد الامام وبعد مقتل عثمان. فلم تكن هناك حاجة لبروزها في عهد أبيها وعهد عمر من بعده لسيادة الخط القبلى و اختفاء خط الإمام.
و بعد سيادة الخط الاموى بعد مرحلة صفين استثمرت مواقف عائشة من الامام
ص: 39
كما استثمرت مكانتها كزوجة للرسول فى إضفاء المشروعية على هذا الخط عن طريف إسباغ الفضائل عليها و اختراع الروايات على لسانها كما استثمرت شخصية أبو هريرة و ابن عمر من بعد(1)
و مما سبق يتبين لنا ان اختصاص عائشة برواية أحاديث احتضار الرسول أمر مستهدف له غاية محددة هي ضرب وصية الرسول و توجيهاته الحقيقية التي أدلى بها قبل وفاته كى تهتدى بها الأمة.
فعائشة تتوافر بها كل المقومات اللازمة لدعم خط بني أمية في مواجهة خط آل البيت . هذه المقومات التي تتمثل فيما يلي :
- قربها من الرسول.
- كراهيتها للإمام على .
- كونها إبنة أبي بكر الخليفة الأول. .
- مواقفها مع زوجات الرسول . .
- صغر سنها .
وبالطبع ليس هناك من بين زوجات النبى من تتوافر بها هذه المقومات سوى عائشة فمواقفها وممارستها في حياة الرسول والتى نزل القرآن يؤكدها رشحتها للقيام بهذا الدور . . (2)
من هنا يتبين لنا أن التركيز على روايات عائشة الخاصة بوفاة الرسول لن يقودنا الى الحقيقة التي نبحث عنها و سوف يؤدى بنا الى التعتيم على الخط الآخر خط آل البيت الذى يقول بالوصية و المناهض لبنى أمية والخلفاء . .
ص: 40
وهذا يقودنا الى تقصى الروايات الأخرى التي تتعلق بوفاة الرسول والتي رويت من جهات أخرى غير جهة عائشة . .
يروى أن العباس جاء الى النبى فى وجعه الذى توفى فيه فقال على ماتريد؟ فقال العباس : أريد أن أسأل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يستخلف منا خليفة . فقال على : لا تفعل . قال : و لم . قال أخشى أن يقول لا فإذا ابتغينا ذلك من الناس قالوا : أليس قد أبى رسول الله . . ؟(1) و سئل على : أخصكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشيء؟ فقال ماخصنا رسول الله بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ماكان في قراب سيفى هذا . قال . فأخرج صحيفة مكتوب فيها : لعن الله من ذبح لغير الله . ولعن الله من سرق منار الأرض. ولعن الله من لعن والده . ولعن الله من آوى محدثاً . . (2)
وفى رواية ماعهد الى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) شيئا خاصاً من دون الناس . إلا شيء سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفى . قالوا فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة قال فإذا فيها : من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين . لا يقبل منه حرف ولا عدل. قال و إذا فيها ان ابراهيم حرم مکه و إني أحرم المدينة. حرم مابين حريتها وحماها كله. لايختلي خلاها و لا ينفر صيدها. و لا تلتقط لقطتها الا لمن أشار بها. ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره و لا يحمل فيها السلاح لقتال . قال وإذا فيها : المؤمنون تتكافؤ دماءهم و يسعى بذمتهم أدناهم و هم يد على من سواهم . ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده . . . (3) وفي روايات أخرى يأتى السؤال بصيغة أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله . أو ماكان النبى يسر إليك . أو أفشىء عهده إليك رسول الله . . (4)
ص: 41
وفى رواية البخارى سئل الامام على عما تركه له الرسول فقال كتاب الله وهذه الصحيفة. فقيل ومافي هذه الصحيفة قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر . . (1)
وسئل عبدالله بن أبي أوفى. أوصى النبي؟ قال : لا . فقلت: كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بها؟ قال : أوصى بكتاب الله . . (2)
و يروى أن الذين غسلوا الرسول بعد وفاته ثلاثة على بن أبي طالب و الفضل بن العباس و أسامة بن زيد . و كان على يغسله و الفضل و أسامة يحجبانه . . (3) وفى رواية علي والعباس والفضل . . (4)
و يروى أن الرسول فاضت روحه بين يدى على .(5)
يروى ابن عباس : والله لتوفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وأنه لمستند الى صدر على وهو الذى غسله وأخى الفضل بن عباس . (6) و یروی : قال رسول الله فى مرضه : أدع لى أخي. فدعى له عليا . فقال : أدن منى . فدنوت منه فاستند إلى فلم يزل مستنداً إلى وأنه ليكلمنی حتى أن بعض ريق النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ليصيبنی .(7)
و يتضح لنا من خلال هذه الروايات أن بعضها يناقض روايات عائشة والبعض الآخر يعطينا مدلولات جديدة لم تشر إليها روايات عائشة كما أن هناك روايات منها تدعم رواياتها .
ص: 42
أما الروايات التى تناقض روايات عائشة فهى الروايات التي تتحدث عن تغسيل الإمام على للرسول و وفاته بين يديه . . و يلاحظ أن هذه الروايات لم تروها كتب الصحاح مثل البخارى ومسلم . و إنما رواها ابن سعد في طبقاته وأحمد في مسنده والطيالسي وغيرهم. أما الأحاديث التي روتها عائشة فقد رواها البخارى ومسلم . و الهدف من وراء هذا الأمر هو دفع المسلمين الى تبنى موقف عائشة أو بمعنى آخر تبنى الخط الأموى والتشكيك فى خط آل البيت حيث أن البخاري ومسلم محل ثقة المسلمين لصحة أحاديثهما وإجماع الأمة عليهما . والحق أن تقديم البخارى ومسلم على غيرهما من كتب الأحاديث إنما هي قضية سياسة فى المقام الأول ولا صلة لها بالشرع . فهذان الكتابان يخدمان خط بني أمية وخط الحكام ويعاديان خط آل البيت وان كان موقف البخارى أشد عداءاً من موقف مسلم. إلا أن موقف مسلم أشد عداءاً من الكتب الأخرى . . (1) والباحث في مسألة الاجماع على صحة هذين الكتابين سوف يتبين له أن مسألة الاجماع هذه مشكوك فيها . . (2) إلا أن هذا لا يعنى أن هناك أحاديث صحيحة في كتب الأحاديث غير البخارى ومسلم وعلى رأسها حديث غدير خم المذكور سابقاً والذي رواه أحمد والنسائي والترمذى وغيرهم . . من هنا فإننا بمناسبة الحديث عن البخارى ومسلم نتوجه بالدعوة إلى الفقهاء والمتخصصين من أهل الحديث والأثر الى العمل على جمع الأحاديث الصحيحة كلها في كتاب واحد بما فيها البخارى ومسلم والأحاديث الواردة بطرق آل البيت المعمول بها عند الشيعة الإمامية مع ملاحظة ضبط هذه الأحاديث بالقرآن بحيث يتم استثناء الأحاديث المتناقضة معه . فهذه هى الخطوة الاولى و الاساسية على طريق الوحدة الاسلامية . .
ص: 43
و نعود الى الروايات التي نحن بصددها فنقول أن الروايات التی تكشف لنا تساؤلات القوم حول وصية الرسول واختصاص الامام على بها إنما تعطينا مدلولاً هاماً وهو أن هناك وصية يحاول البعض التعتيم عليها فيختلقون الروايات على لسان الامام التي تنفى هذه الوصية. وليس من المقبول عقلاً أن الامام على المشهود له من قبل جميع الأطراف بوافر العلم وهو الذى قال فيه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أنا مدينة العلم وعلى بابها . . (1) ليس من المقبول عقلا أن يكون ميراثه العلمى من الرسول هو تلك الأمور الشكلية مثل فكاك الأسير وعدم قتل المسلم بالكافر والقصاص بينما نجد واحدة مثل عائشة يقول فيها ابن حجر أنها حفظت عن الرسول شيئا كثيراً فأكثر الناس الأخذ عنها ونقلوا عنها من الأحكام و الآداب شيئا كثيراً حتى قيل أن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها . . (2) وليس من المعقول أن واحداً مثل أبو هريرة أو ابن عمر يرثان من علم رسول الله ما يفوق الامام بنسبة لا تجعل هناك مجالاً للمقارنة . . (3) ان مثل هذا الأمر يثير الشك في نفوس العقلاء. غير أن تقصى حركة الرسول و علاقة الامام على به سرعان ماتكشف لنا أن رفع عائشة و ابن عمر وأبو هريرة على حساب الامام إنما هي مسألة سياسية من صنع بني أمية. . والمدقق في خط بني أمية الذي تحول فيما بعد إلى أهل السنة والجماعة يتبين له أن هذا الخط يرتكز على هذه الشخصيات الثلاثة . . وليس من المعقول أيضا أن يترك الرسول الأمة بلا وصية فهذا الأمر يناقض القرآن الذى جاء به ويخل بمهمته ودوره كرسول خاتم.
ص: 44
فالقرآن يقول :(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَٰالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِینَ) (1) فهل يجوز للرسول أن يخالف القرآن الذى جاء به وهو يأمر بالوصية . .؟ واذا كانت الوصية واجبة فى حق المؤمنين فيما يتعلق بالأموال والتركات وما يتعلق بالمصالح الدنيوية . أفلا تكون واجبة فيما يتعلق بمستقبل الإسلام و المسلمين؟ يروى البخارى أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : ماحق أمرىء مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا و وصيته مكتوبة عنده . . (2)
فهل الرسول يناقض نفسه يأمر بالوصية ولا يطبقها . .؟ و أيهما نصدق القرآن و الرسول أم هؤلاء الذين ينكرون وجود الوصية من الصحابة وفقهاء التبرير . .؟
ان المتتبع لحركة الرسول سوف يجد أنه كان يطبق الوصية في كل مناسبة تقتضى تطبيقها . فى الغزوات والعلاقات الشخصية وحين الموت . . وقد أوصى الرسول للإمام على فى المدينة حين خرج في غزوة تبوك . . و أوصى أبا بكر ليصلى بالناس في مرضه . . و أوصى بلعن بناة القبور في المساجد . . وأوصى بالنساء في حجة الوداع . . وأوصى بالأنصار قبل وفاته .. فإذا كان يوصى بمثل هذه الأمور التي جاءت بها روايات القوم وهو على قيد الحياة. أليس هذا دليلاً على كونه قد وضع الوصية نصب عينيه . ؟ .
ص: 45
واذا كان قد خلف علياً في المدينة و هو في غزوة سوف يعود منها . أليس من الأولى أن يستخلف و هو راحل عن الدنيا . ؟.
ان فقهاء التبرير ليخوضون في مثل هذه المواقف و الممارسات و يحاولون طمس معالمها و تبديد أهدافها بتبريرات و تأويلات واهية تصطدم بالعقل كما تصطدم بالنصوص بهدف الحفاظ على خط ورثوه عن أسلافهم و اعتبروه من صلب العقيدة ..
ص: 46
احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ....
الإمام على
ص: 47
ص: 48
تعد مرحلة السقيفة بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مرحلة سيادة الخط القبلى على واقع المسلمين . فقد أخذ هذا الخط امتداده وشرعيته من تلك المرحلة متسترا بستار الشورى . .
ان الراصد لما دار في السقيفة يتبين له بوضوح أن الأمر كان أبعد مايكون عن الشورى و إنما هو في الحقيقة أشبه بالانقلاب على خط واضح الملامح وضع أسسه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .
و من السذاجة تصور أن معاوية حمل راية المواجهة ضد الإمام دون أن يستند إلى ركائز ثابتة تؤهله برفع هذه الراية. وهذه الركائز إنما كانت تقوم على أساس الواقع القبلى الذى فرض فی مرحلة السقيفة و استمر حتى عصر الإمام على . .
يروى شهاب الدين النويرى أحداث السقيفة قائلا : وكان من خبر سقيفة بني ساعده أنه لما توفى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) اجتمعت الأنصار في سقيفة بنی ساعدة و قالوا نولى هذا الأمر بعد رسول الله سعد ابن عباده . و أخرجوا سعد إليهم و هو مريض. فلما اجتمعوا قال سعد لأبيه أو لبعض بنی عمه : إني لا أقدر أشكو أى أن أسمع القوم كلهم كلامی. و لكن تلق منى قولى فاسمعوه. فكان سعد يتكلم و يحفظ الرجل قوله فيرفع به صوته . فيسمع أصحابه . فقال بعد أن حمد الله و أثنى عليه : يا معشر الأنصار . ان لكم سابقة في الدين. و فضيلة في الاسلام ليست لقبيلة من العرب. ان محمدا (صلی الله عليه وآله وسلم) لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن و خلع الأوثان . فما آمن به من قومه إلا رجال قليل. و الله ماكانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله . و لا أن يعزوا دينه . و لا أن يدفعوا عن أنفسهم فيما عموا به . حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق اليكم الكرامة. و خصكم بالنعمة و رزقكم الإيمان به ورسوله و المنع له و لأصحابه . و الاعزاز له و لدينه و الجهاد لأعدائه . فكنتم أشد الناس على عدوه من غيركم حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً و كرهاً. و أعطى البعيد المفادة صاغراً داخراً و حتى أثخن الله
ص: 49
لرسوله بكم الأرض. ودانت باسيافكم له العرب . وتوفاه الله إليه و هو عنكم راض. و بكم قرير العين. استبدوا بهذا الأمر دون الناس .فإنه لكم دون الناس . . فأجابوه بأجمعهم. أن قد وفقت فى الرأى . و أصبت في القول . ولن نعدوا مارأيت . نوليك هذا الأمر فإنك فينا رفيع . و لصالح المؤمنين رضاً . . (1) وتجنباً للصدام مع المهاجرين طرح بعض الأنصار فكرة المشاركة في الامارة . من الأنصار أمير و من المهاجرين أمير . و كان رد زعيمهم سعد بن عبادة هذا أول الوهن . .(2)
كان هذا هو موقف الأنصار أما موقف المهاجرين فيظهر لنا من خلال تحرك عمر الذي تزعم حركة المهاجرين في مواجهة الأنصار . .
يروى النويرى أن عمر لما أتاه الخبر ذهب إلى أبی بكر فوجده مشغولا (3) . فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لابد لك من حضوره . فخرج إليه فقال : أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولى هذا الأمر سعد بن عبادة. و أحسنهم مقالة من يقول منا أمير و منكم أمير. فخرجا مسرعين نحو السقيفة و جمعا في طريقهما عددا من المهاجرين و تنازعوا بين الذهاب أو حسم الأمر بينهم دون الأنصار. ثم قرروا الذهاب . قال عمر: و الله لنأتينهم . .
وخطب أبى بكر فى أهل السقيفة قائلاً: ان العرب لا تعرف هذا الأمر الا لهذا الحى من قريش هم أواسط العرب داراً و نسباً . . و صاح أحد الأنصار : منا أمير و منكم أمير يا معشر قريش . .
و ارتفعت الأصوات و كثر اللغط . و هنا أصدر عمر قراره لأبي بكر : أبسط يدك
ص: 50
نبايعك : فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون . و بايعه الأنصار . ثم نزوا على سعد . قال قائلهم : قتلتم سعد بن عبادة . فقال عمر : قتل الله سعدا. و إنا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبى بكر أنا خشينا إن فارقنا القوم و لم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة . فإما أن نبايعهم على مانرضى . أو نخالفهم فيكون فشل . . (1) وهناك روايات أخرى تنص على تصريحات أخرى لأبي بكر و عمر و الأنصار كل فى مواجهة الآخر يقول فيها أبو بكر : إن قريشا أحق الناس بهذا الأمر من بعد الرسول لا ينازعهم ذلك إلا ظالم . فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. لاتفاتون بمشورة و لا تقضى دونكم الأمور . . (2) أما تصريح الأنصار في مواجهة المهاجرين فقد حمله الحباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا معشر الأنصار . املكوا على أيديكم . فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم. ولن يجترى مجترى على خلافكم . و لن يصدر الناس إلا عن رأيكم . وأنتم أهل العزة والثروة وأولوا العدد والتجربة . و ذوو اليأس والنجدة. وإنما ينظر الناس الى ماتصنعون. فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم. وتنتقض أموركم فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم . فمنا أمير ومنهم أمير . . (3) و كان رد عمر أكثر عنفاً . قال : هيهات؟ لا يجتمع إثنان فی قرن. إنه والله لا يرضى العرب أن يؤمروكم ونبيها (صلی الله عليه وآله وسلم) من غيركم . ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمورها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم . و لنا بذلك على من أبی من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين . من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته . ونحن أولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط فی هلكة . . و رد الحباب على عمر بلغة أشد عنفاً فقال : يا معشر الأنصار . املكوا على أيديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر. فإن أبوا عليكم ما سألتموه . فاجعلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور. فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم . فإنه باسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين .
ص: 51
ورد عمر : إذن يقتلك الله . . ورد الحباب : بل إياك يقتل . . (1) وصاح صوت من المهاجرين (أبو عبيدة : يا معشر الأنصار انكم أول من نصر و آزر . فلا تكونوا أول من بدل و غير . . (2) وطالب بشير بن سعد من الأنصار قومه بالتخلى عن هذا الأمر لقريش ابتغاء وجه الله. و قال أبوبكر : هذا عمر وأبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا . (3) ورجح عمر و أنصاره كفة أبي بكر و قدموه للخلافة و حدث صدام بين الأنصار بسبب مبايعة بعض الأنصار له . و تحركت الأوس لمبايعة أبي بكر حتى تفوت الفرصة على الخزرج بزعامة سعد بن عبادة. ویروی و دخلت قوات قبيلة أسلم الموالية لأبي بكر المدينة وسيطرت على دروبها و مسالكها و لما رآها عمر قال فى فرح : ما هو إلا أن رأيت أسلم. فأيقنت بالنصر . . (4) و یروی أن الناس أقبلوا من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطئون سعد بن عبادة . وقال ناس من أصحاب سعد : اتقوا سعدا لاتطئوه . قال عمر : اقتلوه . اقتلوه . . قتله الله. ثم قام على رأسه فقال : لقد هممت أن أطأك حتی تندر عضدك . . فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر ثم قال : والله لو حصصت منها شعرة ما رجعت و فى فيك واضحة . . (5)
و يروى ابن عبدالبر : و تخلف عن بيعته سعد بن عبادة و طائفة من الخزرج و فرقة من قريش ثم بايعوه بعد غير سعد . . (6)
ص: 52
و كان عمر يحرض أبي بكر على سعد ليجبره على البيعة فقيل له : أنه ليس يبايعكم حتى يقتل و ليس بمقتول حتى يقتل معه ولده و أهل بيته و طائفة من عشيرته. فتركوه . .(1)
كان هذا العرض التاريخى على جانب الأنصار و قطاع من المهاجرين القريشيين. الا أنه هناك جانب آخر من قريش كان بعيداً عن السقيفة. و هذا الجانب يملك رصيداً أقوى من رصيد قطاع أبوبكر وعمر ومن تابعهما . يملك رصيداً شرعياً. ويملك رصيداً جماهيرياً . . ويملك رصداً تاريخياً. ويملك وزناً أكبر في قريش . . ذلك الجانب هو جانب الهاشميين بزعامة آل بيت النبى والذي كان مشغولا بتجهيز الرسول للدفن بينما القوم يتصارعون في السقيفة . . و يروى في نهج البلاغة أن عليا سأل عما حدث في السقيفة . فقال : ماذا قالت قريش . ؟ قالوا : احتجت قريش بأنها شجرة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) . فقال على : احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة (2) وتروى كتب التاريخ روايات تشير الى صدامات وقعت بين جناح الهاشميين بقيادة الإمام على و جناح القريشيين بقيادة عمر بن الخطاب. و كان الصدام الأول بين فاطمة وبين أبى بكر حين طالبته بميراث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فى فدك ورفضه طلبها محتجاً بحديث رواه هو . .
ص: 53
يقول أبوبكر : سمعت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) نحن معشر الأنبياء لانورث و ما تركناه صدقة . (1)
و من المعروف أن قاطمة خاصمت أبي بكر و هجرته غاضبة حتى ماتت فدفنها على علیه السلام ليلاً فى خفية عن القوم . وكانت وفاتها بعد وفاة الرسول بستة أشهر . . (2).
و كما كان عمر يحرض أبی بكر على سعد. أصبح يحرضه على على و يطالبه بحسم الأمر معه واجباره على البيعة له لما يشكله موقفه من خطورة على استقرار الحكم القبلى الذى أرسى دعائمه ويعد نفسه لقطف ثمرته . . ان عليا لم يكن وحده فقد كان معه بنى هاشم وكثير من العناصر الفاعلة في المجتمع المدنى من الأنصار و المهاجرين مثل العباس و عمار بن ياسر و أبوذر الغفاري و سلمان الفارسي و بلال بن رباح و المقداد وجابر بن عبدالله و ابن عباس و غيرهم . . و تروى الروايات أن عمر هم بإحراق بيت فاطمة الذي كان مقراً للقطاع المعارض الحكم أبى بكر بقيادة الامام على . . (3)
و يبدو أن ممارسات عمر هذه قد زادت من حدة العداء بينه وبين الامام على . يروى الطبرى أن عليا أرسل الى أبى بكر أن أئتنا و لا يأتنا معك أحد (يقصد عمر) . .
فقال عمر لأبى بكر : والله لا تدخل عليهم وحدك . .
ص: 54
فقال أبوبكر : وما عساهم أن يفعلوا بي . . والله لآتينهم إلا منفرداً . . فدخل أبوبكر على بني هاشم و فيهم على والعباس . فاستقبلوه استقبالاً حسنا . (1) ويروى المسعودى : ولما بويع أبوبكر فى يوم السقيفة وجددت البيعة له یوم الثلاثاء على العامة خرج على فقال : أفسدت علينا أمورنا و لم تستشر . و لم ترع لنا حقاً . . فقال أبوبكر : بلى . ولكنی خشيت الفتنة . و كان للمهاجرين و الأنصار يوم السقيفة خطب طويل . ومجازبة في الامامة . و خرج سعد بن عبادة ولم يبايع. فصار إلى الشام . فقتل هناك في سنة خمس عشرة. وليس كتابنا هذا موضعاً لخبر مقتله. ولم يبايع أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة .(2)
وينقل في كتب التراجم والتاريخ الكثير من الروايات التي تنسب لأبی بكر وعمر وعمر بن العاص وابن عمر وغيرهم وذلك في وقت الاحتضار وهم على مشارف الموت. تلك الروايات التى تشير الى ندمهم الشديد على ما اقترفوه فی حياتهم بسبب السياسة .
يروى المسعودى عن أبي بكر : ولما احتضر قال : ما آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتها وددت أنى تركتها . وثلاث تركتها وددت أنى فعلتها . وثلاث وددت أنى سألت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) عنها : فأما الثلاث التي وددت أنى تركتها : فوددت أنی لم أكن فتشت بيت فاطمة و ذكر فى ذلك كلاماً كثيراً. وودت أنى لم أكن قد حرقت الفجاءة وأطلقته نجيحاً أو قتلته صريحاً . و وددت أنى يوم سقيفة بني ساعدة قذفت الأمر فی عنق أحد الرجلين فكان أميرا و كنت وزيراً .
ص: 55
والثلاث التي تركتها ووددت أنی فعلتها : وددت أنى يوم أتيت بالاشعث بن قيس أسيرا ضربت عنقه . فأنه قد خيل لى أنه لا يرى شرا الا أعانه. و وددت أني كنت قد قذفت المشرق بعمر بن الخطاب. فكنت قد بسطت يمينی وشمالي في سبيل الله. وودت أنى يوم جهزت جيش الردة ورجعت أقمت مكاني فإن سلم المسلمون سلموا . وان كان غير ذلك كنت صدق اللقاء أو مدداً . والثلاث التي وددت أنى سألت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) عنها . وددت أني كنت سألته فى من هذا الأمر فلا ينازع الأمر أهله . ووددت أني سألته عن ميراث العمة وبنت الأخ فإن بنفسى منها حاجة. ووددت أنى سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب فنعطيهم إياه . (1) و لم يكن الصراع على الحكم ينحصر بين الأنصار وبين قطاع أبوبكر وعمر من المهاجرين إنما كانت هناك قطاعات أخرى تتطلع الى الحكم من قريش على رأسها قطاع السفيانيين الذين تزعمهم أبوسفيان بن حرب الذي فقد سلطانه و نفوذه بعد فتح مكة . . ولم يكن أمام أبوسفيان الذى لا توجد له شوكة فى المدينة سوى تحريض الإمام علىُّ على المجتمعين في السقيفة. . يروى الطبرى أن أبا سفيان قال للإمام : مابال هذا الأمر (الخلافة) في أذل قبيلة من قريش وأقلها . والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا و رجالا . .
و كان جواب الإمام: مازلت عدوا للإسلام وأهله فما ضر ذلك الاسلام وأهله شيئا . والله ما أريد أن تملأها عليه خيلاً ورجالاً ولو رأينا أبابكر لذلك أهلاً ما خليناه و إياها . يا أبا سفيان ان المؤمنين قوم نصحه بعضهم لبعض متوادون. وان بعدت ديارهم وأبدانهم وأن المنافقين قوم غششة بعضهم لبعض . . (2)
ص: 56
و يروى الطبرى أيضا أن الإمام على سارع ببيعة أبي بكر و لزم مجلسه و هناك روايات أخرى تقول أنه بايع بعد ستة أشهر و بايع بعده شيعته من الصحابة . . (1) يقول الإمام : فأمسكت يدى حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام. يدعون الى محق دین محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدفا تكون المصيبة به على أعظم من موت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ماكان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب. فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل و زهق و أطمأن الدين وتنهنه . .(2)
و مثل هذه الروايات التي تتحدث عن بيعة الإمام لأبي بكر سواء كانت قبل سته شهور أو بعد هذه المدة أو حتى بعد دفن الرسول مباشرة. إنما تؤكد حقيقة واحدة و هى ان الإمام كان له موقف مما جرى بالسقيفة بشكل عام و من أبي بكر و عمر بشكل خاص . إن تسامح الإمام فى أمر البيعة لا يعنى تخليه عن موقفه الفكرى والعقائدي تجاه هذا الخط القبلى الذى بدأت توضع قواعده أمامه . فهذا التسامح لا يخرج عن كونه موقفا سياسيا في مواجهة الأمر الواقع . فالإمام لم يتنازل عن قضيته ولكن تنازل عن شخصه من أجل حفظ قضيته التي تعكس الجوهر الحقيقى للإسلام. . لقد كان الإمام مخير بين ان يتنازل عن إمامته من أجل الحفاظ على الإسلام أو يصطدم الواقع وتكون النتيجة خسارة الإسلام وخسارة الإمامة فقد كانت جيوب المنافقين بالمجتمع المدنى قوية وكانت القبلية مستشرية. هذا على مستوى الداخل. أما على مستوى الخارج فكانت هناك قوى الروم والفرس تتربص بالمسلمين. .ان الإنحراف في عصر أبي بكر لم يكن كبيرا إلى الحد الذى يستفز الإمام. و يؤرقه . إنما الانحراف الأكبر برز فى عصر عثمان. وهنا تغير موقف الإمام .
ص: 57
وتعايش الإمام مع عصر الخليفة الأول والثانى يبرهن به البعض على شريعه هذين العصرين حيث أن الإمام اعترف بشرعيتهما ولم يصطدم بهما . . وفات هؤلاء ان هناك فرق بين التعايش والرضا . . وفات هؤلاء ان الإمام تعايش مع واقع الخلفاء تعايش العالم المتميز . تعايش العالم المدرك لحقائق الأمور حيث أنه قد نبأ من قبل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بتصورات الأحداث من بعده. والبون شاسع بين من يفاجأ بظهور انحراف من جهة لم يكن بتوقع الإنحراف منها . و بين من يعلم بحدوث هذا الانحراف مسبقاً . . و من بين الروايات التي تؤكد علم الإمام بهذه الحوادث. . قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : ياعلي . قاتلت على التنزيل وانت تقاتل على التأويل . . (1) أى أن الرسول قاتل المشركين الذين كفروا بما أنزل عليه و رفضوا الأعتراف بنبوته أما على فسوف يقاتل المنتسبين لهذا الدين من المنافقين و المارقين الذين يؤولون النصوص و يستندوا إلى هذا التأويل في تبرير الأنحراف و الفساد و نسبته إلى الدين . .
و قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : يأتي على الناس زمان يكون فيه حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون بقول خير البرية ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. لا يجاوز إيمانهم حناجرهم تحقر صلاتك خلف صلاتهم إذا وجدتموهم فاقتلوهم . . (2) و قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : هلاك امتي على يدى غلمة من قريش . قال ابو هريرة الراوى ان شئت أن أسميهم بنى فلان و بنى فلان. .(3)
ص: 58
و قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (1) وقول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لعمار تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار (2) وحديث السر الذى كشفته عائشة وحفصة فى سورة التحريم ذلك السر الذى كان يتعلق بموقف كلا من أبی بكر و عمر بعد وفاة الرسول . . (3)
إن مثل تلك الروايات إنما تشير إلى ان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قد أجلى الأمور أمام الأمة و حدد لها معالم الانحراف عن خط الإسلام . و هي تشير أيضاً إلى ان هناك الكثير من الصحابة الذين كانت لديهم دراية بأخبار الحوادث التي سوف تقع بعد وفاة الرسول مثل حذيفة . .(4)
و من المعروف أن الإمام على لم يشهر سيفاً بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلا على أهل القبلة وقد شهر هذا السيف فى وجه عائشة و الزبير و طلحة و معاوية و ابن العاص و الخوارج. و هذا كله يشير إلى أن لديه علم خاص يبيح له فعل ذلك . . کما أنه من المعروف أن جميع العقائد والاتجاهات التي خالفت خط الإمام على وفى مقدمتها عقيدة أهل السنة قد قامت على التأويل . . (5) . إن الإمام قد تعايش مع واقع رافض له غير راض عنه لا مستسلماً له. وهو فوق ذلك له وضعه المتميز فيه والذى يتلائم مع مكانته و قدره و وزنه. و قد اتخذه كل من الخليفة الأول والثانى مستشاراً شرعياً و سياسياً له . .
يقول الإمام : اما و الله لقد تقمصها فلان - أبوبكر - و إنه ليعلم أن محلى منها
ص: 59
محل القطب من الرحا ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلى الطير . فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً وطفقت أرتئى بين أن أصول بيد جزاء أو أصبر طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت ان الصبر على هاتا أحجي . فصبرت وفى العين قذى وفى الحلق شجا . أرى تراثى نهبا حتى مضى الأول لسبيله فأدلى إلى فلان بعده - عمر - فياعجبا. بينا هو يستقيلها فى حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته. لشد ما تشطرا ضرعيها فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة أن أشنق لها خرم وان أسلس لها تقحم . فمنى الناس - لعمر الله - بخبط وشماس وتلون واعتراض فصبرت على طول المدة و شدة المحنة. حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنى أحدهم. فيالله و للشورى متى أعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر لكنى اسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا فضغى رجل منهم لضغنه . ومال الآخر لصهره مع هن و هن. . (1)
يبدو لنا من خلال رصد الروايات التي تدور حول أحداث السقيفة أن هناك الكثير من التساؤلات و علامات الأستفهام التي تدور في الأذهان بمجرد قراءة هذه الروايات . . و سوف نعرض هنا لبعض الملاحظات حول هذه الروايات و نبدأ مناقشتنا لها على أساسها .
الملاحظة الأولى : ان الأنصار أرادوا الاستئثار بأمر الخلافة و هم طائفة لا يمثلون جميع المسلمين . . و السؤال الذى يطرح نفسه هنا هو : على أي أساس استند الأنصار في موقفهم هذا . .؟
ان الأنصار لم يتحصنوا فى موقفهم هذا بدليل شرعى محدد. فقط هم حاولوا ان يستثمروا مكانتهم و دورهم فى إيواء الرسول ونصرته . . ولكن هل يعد هذا سبباً كافياً لمطالبتهم بالخلافة . . ؟
ص: 60
ليس هناك من إجابة على هذا السؤال سوى ان الدافع القبلي قد تسلط على القوم حتى أدى فى النهاية إلى انقسامهم وإضعاف شوكتهم بتحالف الأوس مع جناح أبوبكر وعمر مخافة أن تسيطر الخزرج على الأمر ويصبحون تحت إمرتها . وهذا عمل قبلى فى المقام الأول قدمت فيه الحسابات القبلية على الحسابات الشرعية . أو بمعنى أكثر وضوحاً قدمت فيه مصلحة القبلية على مصلحة الدعوة . . وعلى الرغم من تبعات هذا الموقف من قبل الأوس وآثاره على وحدة المسلمين واستقرار المجتمع الإسلامي إلا أن الجناح القرشى بزعامة أبى بكر استقبله بالترحاب و استثمره لصالحه . .
الملاحظة الثانية ان عمر كان المحرك الفعلى للأحداث و بدا أبو بكر وكأنه تابع له . . و السؤال الذى يطرح نفسه هنا : لماذا تصدى عمر للأمر و تخطى كبار المهاجرين و آل البيت . .؟
هناك جواب جاهز عند البعض و هو أن عمر فعل ذلك من أجل الحفاظ على الدعوة و تأمين مستقبلها و ينتفى عنه أي عرض آخر لعظيم مكانته عند الرسول بحكم النصوص الواردة فيه إلا ان الروايات تدحض هذا التصور وتشكك فيه . .
يروى البخاري : ان عمر طاف في المدينة بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) و هو يصبح مقسماً : والله ما مات رسول الله . والله ما كان يقع فى نفسى إلا ذاك . و ليبعثنه الله فليقطعن أيدى رجال و أرجلهم. و جاء أبوبكر فقال : أيها الحالف على رسلك . فلما تكلم أبوبكر جلس عمر . . (1) أن هذه الرواية تشير إلى ان عمر لم يكن يعتقد في وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) و انه حسب روايات أخرى - ذهب ليكلم ربه و يعود كما حدث لموسى. و نحن لن نناقش هنا مدى صحة هذا الاعتقاد و كيف طرأ على ذهن واحد مثل عمر و هو من هو . إلا أن ما نريد توضيحه أن هذا الموقف من قبله يكشف لنا أن فكرة تبنيه موضوع الخلافة كانت فكرة طارئة عليه لم تكن تشغله بعد وفاة الرسول و إنما كان يشغله
ص: 61
موت الرسول و بعثه و عودته حتى جاء أبوبكر فبصره بالأمر وتلى عليه قوله تعالى: (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَداً مِنْ رِجالِکُمْ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ إنْقَلَبْتُمْ عَلٰي أَعْقابِكُمْ) (1) .
فقال عمر كأني اسمع كأني اسمع هذه الآية لأول مره. ثم انه سكن و هدأ و أتاه خبر السقيفة فهرع إلى هناك مصطحباً أبابكر و أبا عبيدة بن الجراح . .
و السؤال الذى يطرح نفسه هنا هل كان عمر غير مستوعب لنصوص القرآن التي تتنزل على الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يدعى أن الرسول سوف يعود بعد وفاته ويتوعد من يقول بوفاته؟ و إذا كان عمر بهذا المستوى من الفهم أفلا يشير هذا إلى أنه لم يفهم النصوص القرآنية الأخرى الواردة بشأن آل البيت و الإمام على و مستقبل الدعوة . . ؟ و إذا كان عمر قد تصدى لأمر الخلافة من باب المصلحة وكان متحمساً للأمر ويصول ويجول هنا وهناك من أجل أخذ البيعة لأبي بكر . فلماذا لم يكن صاحب المصلحة أبوبكر بنفس المستوى من الحماس و من المفروض أن يكون حماسه يفوق حماس عمر. و قد أشارت الروايات إلى أنه كان مشغولاً وقت وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بشيء آخر لم توضحه الروايات . . وكان عمر يلح على طلبه بينما هو يتمنع حتى أعلمه بخبر السقيفة فانطلق معه . . والسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو : أى شيء كان يشغل ابوبكر غير تجهيز الرسول . . ؟ . وأى ما تكون الإجابة فإن الأمر المقطوع به أنه كان مشغولاً بأمر غير الخلافة حتى جاء عمر فأحيا الفكرة فى نفسه . .
ومن هنا يتضح لنا ان فكرة الخلافة كانت طارئة أيضاً على ابي بكر كما كانت طارئة على عمر و هى لا تخرج عن كونها رد فعل لموقف الأنصار و مبادرتهم السريعة المفاجئة لقريش . .
ص: 62
لكن الأمر يوحى وكأن هناك طرف ثالث هو أحق بهذا الأمر ويتسابق كل من الأنصار والمهاجرين لكى يفوت عليه الفرصة. وليس هناك من تفسير لموقف عمر و تحالفه مع أبي بكر الطاعن في السن. ضد القطاعات الأخرى . سوى أن شخصية أبي بكر كانت تتيح له ذلك . .
نتيح له أن يتسلقها لكي يحقق مآربه . . وتتيح له التحصن بها فى مواجهة الآخرين . . و عمر لم يكن يجرؤ على ترشيح نفسه للخلافة بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأن الظروف غير ملائمة لكنه ناولها لأبي بكر ثم تناولها منه . . و لو كان عمر بهذه المكانة التى تضعه فيها الأحاديث لكان من الأولى له أن يتصدى لأمر الخلافة و هو القوى الشديد بدلاً من رجل ضعيف كهل كأبي بكر . . و لو کان عمر بهذه المكانة ماناطحته الانصار و تطاولت عليه عندما خطب فيهم. و احتدمعه الحباب قائلاً : لا تسمعوا مقالة هذا . و عندما قال له عمر : يقتلك الله . رد عليه : بل إياك يقتل . . وما أمسك قيس بن سعد بلحيته و هدده . .
إن القوم بين أن يكونوا قد طغت عليهم القبلية فنسوا أخلاق الاسلام و تجاوزوها . أو يكونوا أصحاب مقادير متساوية و وزن واحد و لا يملك كل منها ما يرحج به كفته على الآخر من نصوص الشرع. و الراجح الأمرين معاً . . و إذا كان عمر قد أحتج على الأنصار بقوله : و لكن العرب لا تمتنع أن تولى أمورها من كانت النبوة فيهم. فإن هذا القول يوجب عليه التنحي مع صاحبه و إفساح الطريق أمام أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم ) فإنهم أرقى بيوت قريش، فلا هو و لا صاحبه يمثلان بيتاً راقياً فى قريش. و هذا هو ما استفز أبو سفيان و دفعه لتحريض الإمام بقوله : ما بال هذا الأمر فى أذل قبيله من قريش و أقلها . . وتأمل تعليق ابن حجر على قول عمر لسعد بن عبادة : اقتلوه. قتله الله . .
ص: 63
يقول ابن حجر : نعم لم يرد الأمر بقتله حقيقة. وأما قوله قتله الله فهو دعاء عليه وعلى الأول هو إخبار عن إهماله والأعراض عنه. وفى حديث مالك فقلت - عمر - وأنا فغضب : قتل الله سعداً فإنه صاحب شر و فتنة . . (1)
ان ابن حجر بتعليقه هذا يسير على نهج التبرير والتأويل الذي يعتمده أهل السنة فى مواجهة الحوادث والنصوص التي توقعهم في حرج شرعي . . و يتمادى ابن حجر في تأويل كلام عمر وتبرير مواقفه هو و صاحبه قائلاً: وتركوا لأجل أقامتها (الخلافة) أعظم المهمات وهو التشاغل بدفن الرسول حتى فرغوا منها . و المدة المذكورة - أى مدة تركهم الرسول والأنشغال بالخلافة - زمن يسير فى بعض يوم يغتفر مثله لإجتماع الكلمة . . (2) و يروى البخارى رواية تبريرية أخرى لمواقف عمر و ممارساته في السقيفة. تقول الرواية : لقد خوف عمر الناس و أن فيهم لنفاقاً فردهم الله بذلك . . (3) وقد جاءت هذه الرواية على لسان عائشة ابنة ابي بكر و معنى هذا الكلام ان أسلوب العنف والإرهاب الذي مارسه عمر على الرافضين بيعة ابى بكر كان عملاً حسناً حاز رضا الله و معونته .
و عائشة بهذا تكون قد حكمت على كل الرافضين لخلافة أبي بكر من بنى هاشم والأنصار وغيرهم بالنفاق. ألا يعنى مثل هذا الكلام مساساً بعدالة جميع الصحابة التي يعتقدها أهل السنة ويفسرون على ضوئها الأحداث التي وقعت بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم ) بداية من السقيفة وحتى صفين . ؟(4)
ص: 64
الملاحظة الثالثة: لماذا جاءت قبيلة أسلم إلى المدينة و من الذي استدعاها . و لماذا أيقن عمر بالنصر فور رؤيتها . . ؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات يدفعنا إلى إلقاء الضوء على الجانب الأكثر أهمية فى أحداث السقيفة. جانب التحول من الجدال والنقاش إلى فرض الرأى بالقوة المسلحة . . لقد كان دخول قبيلة أسلم إلى المدينة أشبه بالإنقلاب العسكرى وهو دخول مرتب له من قبل بلا شك من قبل فريق عمر . .
و يبدو أن الصراع بين فريق عمر و فريق الأنصار قد دخل طوراً حرجاً بحيث اهتزت كفة عمر و فريقه ورجحت كفة الأنصار أو من الممكن أن يكون الأنصار قد مالوا للإمام على وحسموا الخلاف بينهم. و عمر وفريقه ليس بذاك الوزن الفاعل في المدينة. فضلاً عن كونه من الوافدين عليها مع المهاجرين هو لا يمثل كل المهاجرين و لا جميع قريش . فهناك قطاع من المهاجرين مع الإمام. و هناك قطاع من قريش ينتظر النتيجة أو هو لا يعلم ما يجرى هناك.
و لعل هذا الوضع يفسر لنا قول عمر حين رأى قوات قبيلة أسلم تدخل المدينة الآن أيقنت بالنصر. و هذا بشير بصورة غير مباشرة ان عمر و فريقه هو الذي استدعى تلك القوات. ألا يدل مثل هذا التصرف ان جانب عمر قد فقد ميزانه الشرعي و الأخلاقي. كما يشير من جانب آخر إلى ان النصوص التي واجه فريق عمر فريق الأنصار بها هي نصوص من اختراع تلك المرحلة. ولو كانت هذه النصوص صحيحة ومعترف بها ما نازعهم أحد و لكانت قد حسمت الصراع في مهده . . و يبدو ان اللغط و الجدال حول أحقية أبي بكر بالخلافة قد امتد إلى فترات لاحقة مما استدعى الأمر إلى ضرورة اختراع أحاديث على لسان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) تحدد الخلافة لأبي بكر في صراحة و وضوح و ترفع من مكانته . لينتج عنها صنع هالة
ص: 65
مقدسة حول ابى بكر تمنع المساس به أو الخوض في شخصه و تقطع الطريق أما أية محاولات لإعادة قراءة مرحلة السقيفة . . (1)
ونفس هذا الأمر قد تم تطبيقه مع الخليفة الثانى حيث اخترعت له الكثير من المناقب التي رفعته حتى فوق الرسول نفسه أو ساوته به . . (2)
و قاموا بنفس الأمر مع الخليفة الثالث غير ان ممارساته ومواقفه المخالفة للكتاب والسنة والمضرة بمصالح المسلمين قد فضحته و عرته . . (3)
أما الإمام على فقد فعلوا معه العكس من ذلك و بدلا من أن يضفوا عليه المناقب كما فعلوا مع السابقين . قاموا بالطعن في المناقب الواردة فيه والعمل على التقليل من شأنه بمساواته بمعاوية واعتبار الخارجين على حكمه بمثابة المجتهدين المأجورين . . (4)
الملاحظة الرابعة: أين الإمام علي . .؟
إن المتتبع لأحداث السقيفة يكتشف غياب كثير من الرموز البارزة من الصحابة و على رأسهم الإمام على فأين كان هؤلاء و لماذا انشغلوا عن هذا الحدث الضخم و هو اختيار خليفتهم؟ . . أين أبوذر . و أين المقداد و أين الزبير . وأين جابر بن
ص: 66
عبد الله . و أين أبي بن كعب وبلال بن رباح و حذيفة بن اليمان و خزيمة ذى الشهادتين و عمار بن ياسر و أبو ايوب الأنصارى و أبو سعيد الجذرى والبراء بن مالك وخباب بن الأرت ورفاعه بن مالك و أبي الطفيل عامر بن وائلة و غيرهم . .
لقد كان اختفاء كل هؤلاء من سقيفة بني ساعدة عامل قلق لفريق عمر . حیث أن هذه الشخصيات الغائبة لها وزنها و فاعليتها و من الممكن أن تشكل تحدياً لهذا الفريق مستقبلاً . .
تروى الروايات أن الإمام و معه عصبة من الصحابة كان مشغولاً بتجهيز الرسول للدفن بينما كان القوم يتصارعون على الخلافة في السقيفة . . (1) و السؤال الذى يطرح نفسه هنا : هل من أخلاق المسلمين أن يتركوا رسولهم في مثل هذا الحال و يتصارعوا على الحكم . .؟ . أين ما تعلموه من الرسول اذن . . ؟ لقد ترك الرسول فى حياته فى مواقف كثيرة من قبل هولاء الناس. ترك في أحد . و ترك في مسجده و هو يخطب فيهم ونزل فيهم قوله تعالى (وَ تَرَكوكَ قائِماً) و ترك و هو يلفظ أنفاسه و طلب منهم إحضار قلم و قرطاس ليكتب لهم كتاباً لا يضلوا بعده أبداً . و ترك بعد وفاته . . (2) .
ومثل هذا السلوك إن دل على شيء فإنما يدل على مدى استحكام أمر الدنيا و طغيانها على كثير من هؤلاء. .
و لعل هذا هو ما يشير إليه قوله تعالى (مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدُنيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الآخِرَة)
ص: 67
الملاحظة الخامسة : بيعه ابى بكر كانت فلتة . . لماذا . .؟
الحمد لله ان هذه المقالة جاءت على لسان عمر مدبر أحداث السقيفة و قاطف بمرتها و لو كانت قد جاءت على لسان سواه لكان للقوم فيها كلام آخر . .
لقد قال عمر ما نصه : ألا أن بيعة أبا بكر كانت فلتة وقى الله الأمة شرها . فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه . فأيما رجل بايع من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة أن يقتلا . . .(1)
أليس هذا اعتراف صريح من عمر بأن ما حدث في السقيفة كان أمراً بعيداً عن الشورى بل كان بعيداً عن روح الإسلام بحيث يوجب على فاعله القتل تقديراً لخطورته و جسامته و آثاره الوخيمة على الأمة . .
ان قول عمر هذا يؤكد ان حروب الردة ومانعى الزكاة التي خاضتها فوات ابوبكر بقيادة خالد بن الوليد لم تكن في حقيقتها سوى حركة تمرد على حكم ابي بكر : وقد تكون هناك حالة ردة من البعض إلا ان الظاهر ان هذا الصدام العسكرى كانت له اسبابه القبلية ولعل قمع خالد و تجاوزته في مواجهة هذه الانتفاضة ما یدعم هذا التصور . .(2)
وكان مناسبة هذا الكلام كما يروى البخارى ان عمر بلغه كلام إناس يقولون لو مات مات عمر لتولاها فلان . فقام عمر خطيباً و قال هذا الکلام . . (3) فهل كان المقصود من كلام عمر هذا هو ردع اتجاه برز فى المدينة ينادى بالشورى ويطعن في أحداث السقيفة و طريقة اختيار الخليفة الأول . .؟
لا يعنينا هنا بقدر كبير الإجابة على هذا السؤال و ان كانت إجابته واضحة. و إنما
ص: 68
يعنينا هو اعتراف عمر بأنه بيعة أبا بكر كانت فلتة وكان من الممكن أن تكون لها آثاراً خطيرة على الأمة لولا لطف الله . فإن كلام عمر هذا لايعنى إلا شيئاً واحداً هو أن بيعته هو أيضاً كانت فلتة . . فلماذا قال عمر عن بيعة ابى بكر أنها كانت فلتة ونسى أنه استخلف بوصية منه . . ؟
و يروى البخارى ان عمر قال : كنت أرجو ان يعيش رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يدبرنا . فإن يك قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به بما هدى الله محمدا. وان أبا بكر صاحب رسول الله ثانى اثنين. فإنه أولى الناس بأموركم فقوموا فبايعوه. و قال عمر لأبي بكر إصعد المنبر . فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة . .(1)
و رواية البخارى المذكورة تعطينا إشارات جديدة حول موقف عمر و كونه المحرك الأول لعملية اختيار ابي بكر . و هى تكشف لنا من وجه آخر أن ابابكر قد أقحم في الأمر و لم تكن له رغبة فيه و هذا واضح من إلحاح عمر عليه بالصعود إلى المنبر ليبايعه الناس . وهذه إشارة إلى كونه غير منصوص عليه بشيء و أن الأمر لا يخرج عن كونه محاولة استثمار لظرف طارىء . . و هذا أبوبكر يقول : هذا عمر و ابو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا . . فإذا كان أبو بكر قد تنازل عن ترشيح نفسه و قدم عمر و ابو عبيده ألا يدل هذا على أن الأمر لايخرج عن كونه مواقف فردية ارتجلت في حينها لمواجهة الأنصار . .؟ و إذا ما تأملنا قول عمر : و أنا و الله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر .
ص: 69
إنا خشينا إن فارقنا القوم - الأنصار - ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة. فإما أن نبايعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون الفشل . .
و تأمل قوله و هو فى الطريق إلى السقيفة و معه ابوبكر و ابو عبيدة محدثاً نفسه : كنت أزور في نفسى كلاماً في الطريق فلما وصلنا السقيفة أردت أن اتكلم . فقال ابوبكر . مه ياعم . . و ذكر ما كنت أقدره فى نفسى كأنه يخبر عن غيب . .
من هذه الروايات نلخص إلى أن الأمر كان من ترتيب القوم بزعامة عمر و لم يكن له وجهه الشرعى و يتضح هذا الأمر من قول عمر حين وفاته : لو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته و سالم هو عتيق حذيفة. و هو بهذا يخالف نص الإمامة في قريش و يناقض نفسه حين احتج على الأنصار بقوله : و لكن العرب لا تمتنع أن تولی امورها من كانت النبوة فيهم.
ص: 70
عمر بن الخطاب
وبدأ معاوية يطل برأسه..
ص: 71
ص: 72
ان الشورى لا تثمر إلا شورى و الاستبداد لا يثمر إلا استبدادا . ولأن ما جرى فى السقيفة لم يكن له صلة بالشورى كان من الطبيعي أن تكون
ثمرته مناقضة للشورى . . وهكذا جاء عمر . فلتة من فلتة . مهد لصاحبه ثم تلقفها منه بوصية من شيخ يحتضر دون حساب لرأى الأمة . .
تقول وصية أبى بكر : هذا ما عهد به ابو بکر بن ابی قحافة. آخر عهده في الدنيا نازحاً و أول عهده داخلاً بالآخرة. إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم فذلك ظنی به . ورجائي فيه . وان بدَل وغير فالخير أردت . ولا أعلم الغيب . (وَسَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبون) . . (1)
لقد كان على ابى بكر أن يقوم برد الجميل الذى أسداه إليه عمر بتوصيله للحكم فقام هو بدوره ليوصله إلى الحكم و سن لأول مرة في تاريخ الإسلام نظام توريث الحكم . ذلك النظام الذى استند عليه فقهاء التبرير فيما بعد في تبرير استيلاء بن أمية وبنى العباس على السلطة في بلاد المسلمين. كما كانت هذه السنة هی الدفعة الأولى للخط الأموى الذى بدأت ملامحه تبرز في عهد عمر . . و لما كان موقف ابوبكر هذا لا سند له من شرع أو شورى فقد أثار المسلمين في المدينة و تصدى له الكثير من الصحابة بين منكرين له و رافضين . .
و أول الرافضين كان الأنصار . . وثانيهم آل البيت بزعامة الإمام على . . وثالثهم طلحة و من شايعه الذى هرول نحو ابى بكر منكراً قائلاً : ماذا تقول لربك و قد وليت علينا فظاً غليظاً تفرق منه النفوس و تنفض منه القلوب . . (2)
و من هنا يتبين لنا ان عمر لم يكن مرغوباً فيه و ان هذا الرفض لشخصه كانت له مبرراته الناتجة من سلوك عمر و مواقفه الاستفزازية طوال فترة حكم ابوبكر. .
ص: 73
وإذا كان ما بنى على باطل فهو باطل. فإن خلافة عمر باطلة لكونها بنيت على خلافة باطلة . و الأولى و الثانية لم تقم بمشورة المسلمين . . و كما فرضت خلافة أبي بكر على المسلمين بقوة السيف فرضت أيضاً خلافة عمر على المسلمين بقوة السيف و بدأ عمر في قمع المناهضين له و إجبارهم على بيعته و هو يكرر نفس الدور الذى كان يقوم به مع أبى بكر . .
تعايش الإمام على مع عمر كما تعايش مع ابي بكر من قبل. تعايش المغلوب على أمره الإيجابي في مواجهة الواقع والأحداث . المستعد على الدوام لتقديم المشورة ونصرة المظلوم والبذل والعطاء من أجل صالح الإسلام والمسلمين . . وإذا كانت هناك ضغوط على الإمام فى عصر ابى بكر فإن الضغوط عليه في عصر عمر أشد لأن عمر كما بينا سابقاً هو رأس الأمر كله . وكان هو الرجل الثاني فى السلطة أيام ابى بكر ان لم يكن هو الحاكم الحقيقى ولم يكن ابوبكر سوى ظل له . فإذا ماتسلم عمر السلطة وهو ما كان يخطط له فلابد وان تكون له سياسة أكثر شدة فى مواجهة آل البيت والإمام على بحكم كونه يمثل جماعة ضغط فاعلة لها وزنها الشرعي والجماهيرى وهى جديرة بالحكم. فضلاً عن اعتقاده بأحقيتها بإمامة المسلمين . . وأمر آخر يبرر موقف عمر المتشدد والعدائى من آل البيت هو قناعته بضآلة قدراته العلمية والقيادية أمام قدرات الإمام على . . يقول عمر عن نفسه بعد أن كثرت أخطائه في الفتيا وقراراته التي تصطدم بأحكام الإسلام : كل الناس أفقه من عمر . . (1) و يقول مقراً بضآلته العلمية أمام الإمام على : ما من معضله ليس لها ابو الحسن . . (2)
ص: 74
ويقول أيضاً مبرزاً حجم الموقف الإيجابي الذي التزم به الإمام تجاهه حفاظاً على مصالح المسلمين : لولا على . لهلك عمر . .(1)
وكتب الحديث والتاريخ مليئة بالمواقف والممارسات والأحكام التي أصدرها عمر و تبين اصطدامها مع النصوص و مخالفتها لأحكام الإسلام مما يدل على ضآلة علمه و قلة فقهه و حاجته الماسة لمن يدعمه فقهياً . (2)
فهو قد حرم متعة الحج ومتعة النساء . . (3)
و جعل الثلاث طلقات في مكان واحد طلقة بائنة بينونة كبرى لا تحل بعدها الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره . . (4)
و شرع لصلاة التراويح جماعة و لا جماعة في نفل . . (5)
و جعل التكبير فى صلاة الجنائز أربعاً بعد ان كان خمساً . . (6)
و افتى فى المواريث فتاوى تناقض بعضها بعضا . . (7)
وتجسس على الناس بمجرد الظن مخالفاً القرآن . . (8)
ص: 75
و أوقف إقامة الحد على المغيرة بن شعبة . . (1)
ورفض ان يورث أحداً من الاعاجم . . (2)
و رجم الحبلى و المضطرة و اقام الحد بغير وجه حق . . (3)
وأسهم في زرع الطبقية بين المسلمين و شاطر العمال أموالهم . . (4) و غير ذلك من التجاوزات و المخالفات التي لا يتسع المجال لذكرها هنا و التي تؤكد عدم جدارة عمر لأمر الخلافة و أنه أقحم نفسه فيها . .
و لقد كان للإمام على دوراً بارزاً في التصدى لانحرافات عمر وتجاوزاته للنصوص و أحكامه الجائرة على الرعية و سياسة البطش و الإرهاب التي ألقت الرعب في قلوب الناس حتى أن إمرأة حاملاً أسقطت جنينها خوفاً منه حين بعث في طلبها وقد جمع كبار الصحابة ليشيروا عليه في حكم هذا الأمر . . (5) وعندما منع زواج المتعة هدد الصحابة من المؤمنين بوجوبه و القائلين به و على رأسهم ابن عباس الذى لم يجهر برأيه فى هذا الزواج إلا بعد وفاته . . (6) ان التهديد والتخويف علامة بارزة في سياسة عمر وشخصيته من أيام
ص: 76
الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عندما كان يرفع شعار (دعنى أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله) وعندما هدد القائلين بوفاة الرسول . وعندما هدد الأنصار والرافضين لبيعة ابي بكر في السقيفة . . وإذا كان عمر يمارس الإرهاب فى حدود الأحكام الفقهية وفى حدود الرعية أفلا يمارسها ضد آل البيت الذين يشكلون خطراً على نفوذه وسلطانه . . ومما يشير إلى موقف عمر العدائي تجاه آل البيت إلتزامه بسياسة الحصار الإقتصادي التي وضعها مع ابي بكر تجاه فاطمة وعلى وابنائهما . .
يروى ان عثمان و الزبير وعبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص وانس بن مالك دخلوا على عمر . ثم جاء العباس وعلى يختصمان . فقال عمر لهم : أنشدكم بالله الذى بإذنه تقوم السماء و الأرض تعلمون ان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : لا نورث ما تركنا صدقة . قالوا : نعم. قال عمر : فلما توفى رسول الله قال أبوبكر : أنا ولى رسول الله . فجئت انت وهذا إلى ابى بكر تطلب انت ميراثك من ابن أخيك . ويطلب هذا ميراث إمرأته من ابيها . فقال ابوبكر ان رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة والله يعلم إنه صادق بار راشد تابع للحق . . (1) وفي رواية أخرى : جاء العباس وعلى إلى عمر يختصمان . فقال العباس: أقضى بينى وبين هذا . فقال الناس: افصل بينهما . افصل بينهما . قال : لن أفصل بينهما قد علما ان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : لا نورث ما تركنا صدقة . .
(2) و الواضح من هاتين الروايتين ان الهدف منهما تشويه صورة الإمام على والعباس وآل البيت بصورة عامة. فكل من على والعباس اختصما بسبب المال وتطور الصدام بينهما حتى وصل إلى عمر وشاع أمره بين الناس. وفي هذا طعن
ص: 77
فى الإمام وإظهار بمظهر الحريص على الدنيا المتهافت على مطامعها حتى أنه تخاصم مع عم الرسول بسببها :
إلا أن يعنينا هنا هو كشف موقف عمر العدائى تجاه آل البيت وبحضور عدد من خصومهم مثل انس وسعد وعثمان والزبير وعبد الرحمن و الذين من الصعب ان نحمل تواجدهم فى هذا الوقت من قبيل الصدفة.
و حتى لا يتبادر إلى ذهن المسلم ما يشير إلى وجود موقف عدائي من قبل عمر للإمام على حرص انصار الخط الأموى على تبديد أى شك حول وجود أى خلاف بين الطرفين . .
تأمل رواية مسلم عن ابن عباس يقول : وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وانا فيهم. قال فلم يرعنى إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائى فالتفت إليه فإذا هو على فترحم على عمر وقال : ما خلفت أحداً أحب إلى ان ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله ان كنت لأظن ان يجعلك الله مع صاحبيك و ذاك انى كنت أكثر أسمع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول جئت انا وابوبكر وعمر ودخلت انا و ابوبكر و عمر . وخرجت أنا و ابوبكر وعمر فإن كنت لأرجوا و لأظن ان يجعلك الله معهما . .(1)
ويروى البخارى على لسان الإمام جواباً على سؤال ولده محمد بن الحنفية قال : قلت لأبي : أى الناس خير بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : ابوبكر . قلت ثم من؟ قال: ثم عمر . وخشيت ان يقول عثمان قلت ثم انت . قال : ما انا إلا رجل من المسلمين .
ويلاحظ من هاتين الروايتين انهما لا تهدفان فقط إلى إثبات رضا الإمام عن عمر ومودته له واعترافه بأفضليته عليه . وانما تهدفان أيضاً إلى إثبات نفس الموقف على اتباع الإمام على وشيعته من الصحابة و حتى من آل البيت . ان هؤلاء الأشياع والأتباع يوالون عمر و يحبونه مما ينفى تبعاً وجود أى خلاف أو عداء بين عمر و على . .
ص: 78
إن الراصد لسيرة عمر يكتشف عدم وجود أية مواقف عدائية تجاه بني أمية و على رأسهم أبو سفيان ومعاوية ولده . بل من الممكن للراصد ان يجد العكس من ذلك . فقد قام عمر بوقف نصيب المؤلفة قلوبهم الذى كان يعطى من الزكاة على عهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعهد أبي بكر وأصبح بالتالى معاوية وأبوه كبقية المسلمين بعد ان كانا من المؤلفة قلوبهم . . (1) و لم يقف الأمر عند حد تحرير معاوية و ابوه من إطار المؤلفة قلوبهم ورفعه إلى درجة المسلمين. بل تمادى عمر فى موقفه المبارك لبنى أمية و قام بتولية معاوية على الشام مكان أخيه يزيد . . (2)
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا : لماذا فعل عمر ذلك . .؟ ألم يجد بين المسلمين من هو أجدر منه بهذه المهمة . . ؟ و هل نسى عمر تاریخ بني امية و تاريخ أبو سفيان فى مواجهة الدعوة و محاربة الرسول . . ؟ و ما هى المقومات التي كان يملكها معاوية حتى يسلمه الشام . .؟
هل كان من المهاجرين . .؟ هل كان من المجاهدين . .؟ هل كان من المقربين للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) . .؟ هل كان من أهل العلم . . ؟ بالطبع لم يكن من هؤلاء و الثابت أنه كان من الطلقاء . . (3)
ص: 79
فكيف بطليق ابن طليق أن يلى أمر المسلمين في حضرة كبار الصحابة و وجود آل البيت . ؟ وكيف بعمر على شدته فى الحق وتقواه أن يقدم على مثل هذا الأمر . .؟
يبدو لنا من خلال رصد علاقة عمر بمعاوية أن هناك شيئاً غامضا يبلور علاقته به و هذا الشيء غير واضح في كتب التاريخ. . ربما يكون عمر قد أحس بضعفه فى مواجهة خصومه فأراد أن يتحصن ببني أمية . . و ربما أراد أن يضع حجر عثرة في طريق حركة آل البيت من بعده . . و ربما يكون فى الأمر شيئاً آخر. إلا أن ما يعنينا قوله هو أن تولية معاوية على الشام لا يمكن اعتباره مجرد خطأ . .
لقد أخذ الخط الأموى دفعته الأولى من عمر بتمكين معاوية على أرض الشام و بدأ يعد العدة لتحطيم العوائق التي تقف في طريقه وعلى رأسها دولة الخلافة . . و لابد لنا من استقصاء الروايات التي تتعلق بموقف عمر من معاوية حتى يتبين لنا الأمر بصورة أكثر وضوحاً . .
يروى ابن حجر : كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال هذا كسرى العرب . .(1) أما مناسبة هذا الكلام فيرويها ابن عبد البر : قال عمر إذ دخل الشام ورأى معاوية : هذا كسرى العرب . وكان قد تلقاه معاوية في موكب عظيم. فلما دنا منه قال له انت صاحب الموكب العظيم. قال نعم يا أمير المؤمنين. قال ما يبلغنى عنك من وقوف ذوى الحاجات ببابك . .؟ قال مع ما يبلغك من ذلك . قال : ولم تفعل هذا . .؟
قال نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير فيجب ان نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به . فإن أمرتنى فعلت و ان نهيتني انتهيت فقال عمر لمعاوية : ما أسألك عن شيء إلا تركتنى فى مثل رواجب الضرس ان كان ما قلت حقاً إنه لرأى أريب و ان
ص: 80
كان باطلاً انه لخدعة أديب. قال فمرنى يا أمير المؤمينن . قال لا أمرك ولا أنهاك . . (1)
والمتأمل فى هذه الرواية يكتشف مدى تواطؤ عمر مع معاوية وتغاضيه عن انحرافاته الخطيرة . فكيف نوفق بين موقف عمر هذا وبين موقفه من الصحابة الآخرين الذين ولا هم على الأمصار وكان يوجعهم بدرته ويصادر أموالهم ويعزلهم عن وظائفهم . .؟
وإذا ما تأملنا حجة معاوية بإرهاب العدو بعز السلطان فإننا نكتشف أنها حجة واهية و هى تضع عمر بين أمرين : إما أنه ساذج استغفله معاوية . . و إما أنه متواطىء معه . . وقول عمر لمعاوية لا آمرك ولا أنهاك إنما يرجح الامر الثاني. .
ولقد كان العرب يخرجون للغزو حفاة عراة رجالاً وركباناً يواجهون الروم والفرس وينتصرون عليهم بدون أبهة الملك وعز السلطان . .
وإذا كان عز السلطان يرهب العدو كما يدعى معاوية فمن الأولى أن يظهره عمر و هو الخليفة لا أن يظهره معاوية وهو الوالي من قبل عمر . .
و يروي أن معاوية صحب عمر في رحلة الحج وكان في كامل هيئته فقال عمر بخ بخ إذ نحن خير الناس ان جمع لنا خير الدنيا والآخرة. حتى إذا جاء ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها فوجد عمر منها ريحاً كأنه ريح طيب . فهاجمه عمر : فقال معاوية : إنما لبستها لأدخل بها على عشيرتي يا عم والله لقد بلغنى أذاك ههنا و بالشام . .(2)
و من الواضح من خلال هذه الرواية أن علاقة عمر بمعاوية تفوق كونها علاقة
ص: 81
بين خليفة و واحد من عماله . فإن اللغة التي يخاطب بها معاوية عمر إنما تشير إلى أن معاوية يشكل نداً لعمر . .
و يروى ان معاوية دخل على عمر وعليه حلة خضراء فنظر إليه الصحابه. فلما رأى ذلك عمر قام ومعه الدرة فجعل ضرباً بمعاوية ومعاوية يقول الله الله يا أمير المؤمنين فيم فيم. فلم يكلمه حتى رجع فجلس في مجلسه . فقالوا له لم ضربت الفتى وما في قومك مثله؟
فقال ما رأيت إلا خيراً و ما بلغنى إلا خير ولكنى رأيته وأشار بيده يعنى إلى فوق فأردت أن أضع منه . . (1)
فتأمل قول عمر ما رأيت إلا خيراً وما بلغنى إلا خير. أى أن سيرة معاوية ومواقفه محل رضا عمر التام والشيء الوحيد الذي استفز عمر في شخصية معاوية هو غروره فقام بضربه ليحط منه ويقضى على غروره . . فهل قضى عمر على غرور معاوية وحال بينه وبين تطلعاته . .؟
و تلفت انتباهنا ملاحظة هامة من خلال هذه الرواية و هى قول جلساء عمر : لم ضربت الفتى وما في قومك مثله . . ؟ فمن الواضح أن أصحاب هذا القول هم من أنصار الخط الأموى. إذ كيف يجعلون معاوية لا يساويه أحد من الصحابة . وكيف يقبل عمر منهم هذا القول؟
اننا بعد عرض هذه الروايات لا نكون مبالغين إذا ما قلنا أن معاوية إنما هو من صناعة عمر . استظل به واحتمى بحمايته.
وان عمر كان يدرك تماماً مدى خطورة معاوية و أطماعه ولعله قد بلغه تحذير الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من بني أمية . . (2)
ص: 82
و ان إدراك عمر الخطورة معاوية ليتجلى لنا بوضوح من خلال تصريحه لمجموعة الشورى حين طعن حيث قال : إياكم والفرقة بعدى فإن فعلتم فاعلموا ان معاوية بالشام فإذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها منكم . . (1)
إذن معاوية يتأهب للاستيلاء على الحكم. . و عمر يدرك ذلك و يحذر الصحابة منه قبل وفاته و كان يضرب عرض الحائط بتحذيرات الصحابة من معاوية أثناء حياته . .
تأمل قول عمر : دعونا من ذم فتى من قريش . من يضحك في الغضب. و لا ينال ما عنده من الرضا . ولا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه . . (2) وما كان عمر يقول مثل هذا الكلام لولا أن هناك اتجاه من بين الصحابة يذم معاوية و يحذر عمر منه. فهل أدرك عمر خطورة معاوية متأخراً . .؟
ان الروايات التي بين أيدينا لا تقودنا إلى هذا الاستنتاج بالطبع . .
حين طعن عمر جعل الشورى فى ستة يختار من بينهم من يخلفه وهؤلاء الستة هم طلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص وعثمان ثم الأمام على . .
وبالتأمل فى سيرة الخمسة غير الامام على نجدهم لا يمكن بحال ان يتفقوا على الامام بل هم من خصومه وهم فى الاساس من أركان الخط القبلي الذي أوصل عمر للحكم . . فلماذا اختار عمر هؤلاء الستة وهو يعلم يقيناً أنهم لن يجمعوا على الامام على ولن يرضى على بأحد منهم . . ؟(3).
ولقد سارت عملية الشورى بطريقة هزلية لتستقر فى النهاية بالخلافة في أحضان الخط الاموي وكأنه أمر مدبر ومرسوم . .
ص: 83
فحين تشاور القوم مال الزبير لعلى ومال سعد لعثمان ومال طلحة لعبد الرحمن ثم انسحب عبدالرحمن ورفض ترشيح نفسه ومال لعثمان لتصبح النتيجة ثلاثة إلى واحد .
ثلاثة مع عثمان و واحد مع على فعبد الرحمن عندما مال لعثمان مال طلحة معه . (1).
وفى رواية أخرى انتهت النتيجة اثنين فى مواجهة اثنين أى تعادلت الاصوات وهنا عرض عبدالرحمن على الامام على ان يبايع على كتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين فأبى إلزامه بسنة الشيخين. فطلب من عثمان ذلك فوافق فأعلن بيعته (2)
والطريف في الأمر ان عثمان حين استخلف واستتب له الأمر خرج على الكتاب والسنة وسنة الشيخين وكفر به القوم حتى الذين رشحوه واختاروه. . و السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل عمل عمر هذا يطابق الشورى و روح الإسلام . .؟
والجواب بالطبع لا . فقد كان اختيار عمر لمجموعة الشورى يقوم على اساس قبلى بحت ولم يكن وضع الامام على فى هذه المجموعة سوى محاولة للتغطية على الهدف الحقيقى من وراء اختيار هذه المجموعة التي أشار البعض على عمر أن يضع ولده عبدالله فيها . (3)
لقد سن عمر للخط الاموي بهذا العمل سنة أتاحت له فرصة البروز والحصول على الشرعية من خلال عثمان . . واستثمار هذه السنة فيما بعد في ضرب فكرة الشورى فى الإسلام ودعم نظام الوراثة . . و جعل الشورى في ستة أفراد متناقضين متنافرين فضلاً عن كونه أمر مغرضٍ
ص: 84
هو يصطدم بالقرآن الذى يقول: وأمرهم شورى بينهم . .، أى بين المؤمنين جميعاً وليس بين فئة محددة. . ويصطدم بسنة الرسول الذى طبق النص القرآني وعمل به بین الصحابة وفتح الباب لحرية الرأى الذى أغلقه أبوبكر وعمر ليفتح الباب على مصراعيه لدكتاتورية الخط الأموى . . و إذا كان عمر وهو ينازع في حيرة من أمره يستخلف أو لا يستخلف مردداً ان لم استخلفت فلم يستخلف الذى هو خير منى - أى الرسول- و ان استخلف فقد استخلف أبوبكر . (1)
وقد انتهز فرصة حيرة عمر هذه رجل لم تكشف لنا الروايات من يكون. وقال له : استخلف عبدالله بن عمر . . فقال عمر : قاتلك الله . والله ما أردت الله بهذا . استخلف من لم يحسن أن يطلق امرأته . . . (2)
إلا أن عمر مال إلى الاستخلاف في حدود مجموعة لن تحيد عن الخط القبلى الذى وضع أساسه مع أبى بكر وهى فى النهاية سوف تستقر على واحد من أنصار هذا الخط ولن تتجه بحال إلى الحيده عنه والاتجاه نحو على . .
و على الرغم من موقف عمر من ولده عبدالله و كونه صاحب شخصية ضعيفة تجعل منه عديم القدرة على اتخاذ القرار . على الرغم من ذلك جعله في أهل المشاورة جبراً لخاطره .
و قال عمر : إذا اجتمع ثلاثة على رأى و ثلاثة على رأى فحكموا عبدالله بن عمر فإن لم ترضوا بحكمه فقدموا من معه عبدالرحمن بن عوف وان ولى عثمان فرجل فيه لين و ان و لى على فستختلف عليه الناس و ان ولى سعدا و الا فليستعن به الوالی (3) .
ص: 85
و هكذا يبدو لنا بوضوح ان الامور تتجه إلى غير صالح الامام على فعبدالله بن عمر لا وزن له و عبدالرحمن حليف عثمان . .
يقول الامام على حول هذه الحادثة : لقد قرن بي عثمان . . و قال كونوا مع الأكثر . ثم قال كونوا مع عبدالرحمن بن عوف. و سعد لا يخالف ابن عمه عبدالرحمن . و عبدالرحمن صهر لعثمان . . و هم لا يختلفون . فإما أن يوليها عبدالرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبدالرحمن (1) .
و يبدو أن الامام قد أقحم فى أمر الشورى متضرراً مع علمه الكامل بخبايا هذه اللعبة وكونها سوف تستقر على خط عمر الذي استحى على ما يبدو من تطبيق سنة صاحبه الذى استخلفه دون مشورة المسلمين فأراد أن يوسع دائرة الاستخلاف قليلا في حدود من يريد أن يستخلفه لتستقر في النهاية على واحد بعينه هو من يريده .
ان عمر كان يعلم مسبقاً أن الأمر سوف يستقر في النهاية على اثنين . على و عثمان و لأن على لايمثل مصالح القوم بل سوف يضربها فإن الامر سوف يستقر لعثمان. و كأن عمر يريد أن يستخلف عثمان و اخترع أمر الشورى ليموه على غايته (2).
يقول عمر: ان تولاها الاجلح لسار بهم على الطريق. فقال له ولده : فلم لا توله . قال : لا أريد ان أحملها حياً وميتا (3) .
و لعل هذا القول يؤكد صحة الاستنتاج الذى توصلنا إليه فالاجلح هنا المقصود به الامام على .
ص: 86
عثمان
ووضع حجر الاساس للخط الأموى
ص: 87
ص: 88
لم يكن عثمان كسابقيه يحتاط لأمره ويحسب لخصومه ويدارى قبيلته . وانما وبمجرد ان أمسك زمام الحكم فى يده جهر بقبيلته وأظهر ميله لقومه معلنا إمويته فأسخط عليه الناس واستفز الجميع حتى أنصاره ومؤيديه من خارج بني أميه . .
لقد تجاوز عثمان حدود الخط القبلى الذي رسمه من قبله أبي بكر وعمر وحصر هذا الخط فى دائرة بني أميه . وهو قد خالف الكتاب والسنة .
و ضرب عرض الحائط بنصح الآخرين و لم يعبأ بأحد. فهل كان مركز عثمان من القوة بحيث جعله يتمادى فى موقفه هذا . .؟ . أم أنه وجد الخط القبلى قد ترسخ و تمكن على ساحة الواقع ولم تعد هناك حاجة للتمويه أو المواربة . .؟ .
ان الضربات التي وجهت لخط آل البيت بقيادة الامام على بداية من عهد ابي بكر وحتى عهد عمر أضعفت من شوكة هذا الخط و قدراته. فقد كانت كل الضغوط مركزة عليه وكل العوائق تقف في طريقه لكونه يمثل الاتجاه الفاعل والوحيد الذى يقف فى مواجهة الخط القبلى . فمن ثم فإن صدام الخط القبلى به أمر حتمى ومصيرى .
فالخط القبلى لن يعيش إلا على حساب خط آل البيت . .
و خط آل البيت ليس أمامه إلا التعايش مع الخط القبلي و الاعتراف به أو قبول الفناء التدريجى كجماعة لها وجودها و لها انصارها و ليس كاتجاه له عقيدته و فكره المتميز .
و لقد عمل أبوبكر وعمر على تشتيت الصحابة الموالين للامام في الامصار حتى لا يشكلوا بتواجدهم حوله قوة ضغط على الخط القبلى.
و عندما جاء عثمان وجد الظروف و الاوضاع مهيأة لإعلان نتيجة الخط القبلي و وضع أساس الخط الاموى. فالخط القبلى من شأنه أن يضعف مع مرور الزمن و لابد له من أن يتركز فى النهاية في دائرة أقوى عائلة من عائلات هذا الخط .
ص: 89
ولا توجد عائلة على مستوى قريش لديها القدرة على الحفاظ على الخط القبلى و مواجهة خط آل البيت كالعائلة الأموية فهى المرشح الوحيد لهذا الدور وقد حملت رايته في مواجهة بنى هاشم من قبل الإسلام بزمان (1).
وقف عثمان من الصحابة موقفين متناقضين :
موقف مؤيد ومناصر . .
وموقف معاد مجاهر . .
أما الذين أيدهم و ناصرهم فهم الذين أيدوه و بايعوه و مهدوا له طريق الوصول للحكم و على رأسهم سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف و هؤلاء قد أغدق عثمان عليهم العطاء وكافئهم أحسن مكافأة ليجمعوا ثروات طائلة بعد ان فتح الباب أمامهم على مصراعيه للثراء بلا حدود. (2)
ويبدو أن هؤلاء قد رضوا أن يكونوا من الرأسماليين على ان يكونوا من السياسيين . أى أنهم اختاروا الثراء على الحكم الذي تركوه لبنى أميه . أما الذين عاداهم فهم الذين صدعوا بالحق في وجهه وتحالفوا مع على ضده و على رأسهم ابوذر الغفاري وعمار بن ياسر وعبدالله بن مسعود. وموقفه من أبي ذر إنما يعد من أشد المواقف حدة وعداءاً نظراً لشدة موقف أبى ذر من الخط الاموى بشكل عام ومن عثمان ومعاوية بشكل خاص . . ومن الخطأ
ص: 90
تصور ان موقف أبوذر من عثمان و معاوية كان بسبب الترف وكنز الاموال و هضم حقوق الفقراء و المحتاجين. فلم يكن هذا السبب إلا ظاهر الموقف. أما باطنه فيكمن في بطلان الخط الاموى وعدم شرعيته .
ان الصدام بين أبي ذر وعثمان لم يكن وليد عصره وانما كانت له جذوره من عصر ابي بكر وعمر حين بدأت عملية الانحراف عن خط الرسول صلى الله عليه وسلم فإن أباذر الذي كان يصدع بالحق في مواجهة مشركي مكة ويلاقى ما يلاقي. لم يكن ليتوقف عن الصدع بالحق في عهد أبي بكر وعهد عمر وقد روى فيه الرسول ما روى.(1) ومن هنا يتبين لنا ان الصدام بين ابي ذر وعثمان كان صداماً عقائديا. بين عقيدة ملتزمة و عقيدة مخالفة . .
بین صحابي موال لآل البيت ورمز بني أمية . . بين خط آل البيت وخط بني أمية . . و على هذا الاساس كان حكم عثمان على ابي ذر قاسياً فهو حكم على قدر الموقف الذي اتخذه ابوذر . ألا و هو الحكم بالنفي. .
و ربما يكون عثمان هو أول من طبق سنة نفى القادة والمصلحين في تاريخ الحكام الطغاة الذين هيمنوا على بلاد المسلمين.
و موقف عثمان من عمار هو نفس موقفه من أبي ذر . فكلا من ابي ذر وعمار من اتباع الامام وموقفهما من الخط الاموى واحد وثابت. فمن ثم فقد تصدى عثمان لعمار كما تصدى لابي ذر وقرر نفيه ليحل محل ابوذر الذي كان قد توفى لولا تدخل الامام الذي نهر عثمان قائلاً: اتق الله. فإنك سيرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك . ثم انت الآن تريد ان تنفى نظيره (2) .
وكانت النتيجة ان هدد عثمان الامام على بالنفى قائلاً له : أنت أحق بالنفي منه . و كان رد الامام : افعل ان شئت ذلك (3) .
ص: 91
ثم ان عثمان تراجع عن قراره بعد ضغوط لكن عمار لم يغير موقفه من عثمان وتصدى له ثانية حين وهب بعض نسائه من مال المسلمين ما تتزين به. فأوعز عثمان إلى شرطته فأخذوه و ضربوه حتى غشى عليه (1). ويروى أنه حين بويع عثمان خطب عمار في مسجد الرسول الله فقال : يا معشر قريش أما إذا صرفتم هذا الامر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة وههنا مرة. فما أنا بآمن من أن ينزعه الله منكم فيضعه فى غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه فى غير أهله (2) .
و قام المقداد فقال: ما رأيت مثل ما أوذى به أهل هذا البيت بعد نبيهم.
فتصدى له عبدالرحمن بن عوف قائلاً : وما انت وذاك يا مقداد بن عمرو . ؟ . فقال المقداد: اني والله لأحبهم لحب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إياهم وان الحق معهم وفيهم . يا عبدالرحمن . أعجب من قريش - وإنما تطولهم على الناس بفضل أهل هذا البيت - قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله بعده من أيديهم . وأيم الله يا عبد الرحمن لو أجد على قريش أنصاراً لقاتلتهم كقتالى إياهم مع النبي يوم بدر (3)
و لقد تصدى عبدالله بن مسعود لعثمان وحرض عليه المسلمين وكان على الكوفه يعظ الناس و يعلمهم كتاب الله فعزله عثمان و أرسل مكانه الوليد بن عقبه فاصطدم به ابن مسعود و أسمعه كلاماً شديداً في حق عثمان. ثم رجل الى المدينة تاركاً الكوفة في وداع أهلها (4) .
و في المدينة وقع صدام بينه و بين عثمان الذي أمر زبانيته فضربوه حتى دق ضلعه ثم أمر بقطع رزقه. مما دفع بالامام على إلى التصدى له وحمل ابن مسعود إلى بيته ليكون تحت رعايته (5) .
ص: 92
ولم يكتفى عثمان بهذا بل أصدر قراراً بمنع ابن مسعود من الخروج من المدينة فبقى فيها حتى مرض مرضه الذى توفى فيه (1) .
كان تعايش الامام على مع ابي بكر وعمر تعايش المحافظ والمدافع. فقد كانت الضغوط الموجهة إليه تتركز على دوره كممثل شرعى للأمة و كقائد لتبار آل البيت الذى يضم الكثير من كبار الصحابة . وقد تنازل الامام عن هذا الدور حفاظاً على وحدة الامة. لكنه لم يتنازل عن المبدأ الذي ورثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
اى ان الامام تنازل عن السلطة ولم يتنازل عن الفكرة . تنازل عن الحكم ولم يتنازل عن الدعوة . فهو قد أفسح الطريق للخط القبلى ليحكم لكنه لم يفسح له الطريق ليعبث بالإسلام.
و يبدو ان الخليفتين أبوبكر و عمر لم يكونا من المتحرشين بهذا الجانب. جانب الإسلام فقد احترم كل منهما قدرات الامام العلمية و أقرا بتفوقه عليهما . و هذا لا يعنى أن صورة الإسلام كانت سوية ومستقيمة بشكل كامل في عهد الخليفتين و إنما كان هناك انحراف . لكنه لم يكن كبيراً بالقدر الذى يستفز الامام و يدفعه إلى الصدام به. و ما كان يقلق الامام هو ماسوف يترتب على هذا الانحراف في المستقبل . و عندما جاء عثمان برز الانحراف بصورة تجاوزت الحدود التي وقف عندها الشيخان وتعدى حدود الحكم ليصل إلى الإسلام. وهنا تغير موقف الامام و شيعته وانتقل بهم من المقاومة السلبية إلى المقاومة الايجابية. وتصدى لعثمان وبني امية الذين رفعوا رايتهم لأول مرة بعد سقوطهم على أيدى الرسول حين فتح مكة .
لقد كان ظهور بني أمية في عهد عثمان بداية لتحول الامة إلى طريق الجاهلية وبداية لظهور إسلام آخر مناقض لإسلام آل البيت ومعادٍ له و معلنا هذا العداء.
ص: 93
لم يكن الأمر إذا مجرد تغلغل عائلة في الحكم وإنما كان في حقيقته محاولة لإظهار إسلام جديد بدیل عن اسلام خلفاء السائد الذی کان فاقد الاساس لکنه لیس منحرفاً بالقدر الذی یتیح لهم تحقیق مآربهم و العودة الی جاهلیتهم . .
لقد انتهز بني أمية فرصة وصول عثمان للحكم وأحاطوا به موحدین صفوفهم للثأر والانقضاض على بنى هاشم ممثلين في آل البيت تحت زعامة الامام على . وفى مواجهة وضع كهذا لابد على الامام على أن يعلن المواجهة والتصدى لا أن يلتزم بالمهادنة والتعايش السلبي كما كان حالة مع ابي بكر وعمر . ومما تقدم تتضح لنا طبيعة العلاقة بين الامام وعثمان وطبيعة الموقف الذي تبناه فى مواجهة سياساته وممارساته . فقد كان موقفه من ابى بكر وعمر موقف الموجه الشرعى أمام تجاوزاتهم للنصوص أما موقفه من عثمان فهو موقف شرعی سیاسی تجاوز الحدود النظرية إلى الحدود العملية .
يقول الامام في عثمان : . . إلى ان قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله و معتلفه . وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع . إلى ان انتكث فتله و أجهز عليه عمله وكبت به بطنته (1) .
والامام هنا يهاجم عثمان ويتهمه بالغرور والتكبر والتواطئ مع بني أمية وتبديد مال المسلمين على قومه الذين فتحت أمامهم الابواب على مصراعيها ليحثو من هذا المال مشبهاً إياهم بالإبل التي ترعى في النبات وقت الربيع وتأكله بشراهة وملء الفم.
و ليس بعد هذا التشبيه الدقيق من تشبيه يصور حال عثمان مع بني أمية . و حالهم مع أموال المسلمين.
و لم يكن هذا حال سابقيه . فقد كان على الرغم من موقفهما من النصوص و من آل البيت يلتزمان بسياسة التقشف على أنفسهما و يحرصان على صيانة المال العام ولم تكن لهما ميول للتحصن والاحتماء بقومهما كما فعل عثمان .
ص: 94
ولم يرد على لسان الامام أى نقد لهما فيما يتعلق بهذا الجانب وانما كان صدامة معهما فى حدود النصوص وتطبيقها . أما إذا تعلق الامر بأمور المسلمين فإن الامام لا يسالم.
يقول الامام حين آل الامر لعثمان : لقد علمتم انى أحق الناس بها من غيرى و والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا على خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجه (1) .
وفى هذا القول دلالة على موقف الامام الثابت من الخلفاء. ذلك الموقف المبنى على التضحية بشخصه من أجل صالح الإسلام والمسلمين. فإذا ماحدث مساس بمصالح المسلمين أو مساس بالإسلام فإن الامام لا يقف ساكناً و هو ما نراه بوضوح من خلال مواقفه من عثمان .
و حين اصدر عثمان قراره بنفى أبي ذر نادى فى الناس أن لا يكلم أحدا أبا ذر و لا يشيعه ضرب الامام بقرار عثمان هذا عرض الحائط وخرج يشيعه إلى الربذة و معه عقيل أخوه و الحسن والحسين و عمار بن ياسر .
يقول الامام في وداع ابى ذر : يا أباذر انك غضبت لله فارج من غضبت له. ان القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك . فاترك في أيديهم ماخافوك عليه . و اهرب منهم بما خفتهم عليه . فما أحوجهم إلى ما منعتهم . وما أغناك عما منعوك ؟ .
و ستعلم من الرابح غداً و الأكثر حسداً . و لو ان السموات و الارض كانتا على عبد رتقاً ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً .
لا يؤنسنك إلا الحق. و لا يوحشنك إلا الباطل . فلو قبلت دنياهم لأحبوك . و لو قرضت منها لأمنوك (2).
لقد تراكمت التجاوزات و المفاسد و الانحرافات في عهد عثمان حتى حاصرته و دفعت بالمسلمين الى الثورة عليه .
ص: 95
وتحاول كتب التاريخ و المؤر خون الدفاع عن عثمان و تبرئته من هذه المفاسد و إلقاء المسؤولية على قوم آخرين (1) .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : ما دور الامام على فى الصدام الذي وقع بين المسلمين وعثمان . . ؟ .
هل تحالف الامام مع الثوار ضد عثمان . أم صد عن الثورة . . ؟ .
إن المؤرخين يحاولون جاهدين تبييض وجه عثمان باظهار الامام على بمظهر المؤيد له والمتعاطف معه . حتى انه تصدى للثوار الذين يحاصرون بيت عثمان ووضع الحسن والحسين على بابه شاهرين سيوفهما في وجه الثوار وقد وبخهم توبيخاً شديداً على تهاونهما فى الدفاع عنه بعد مصرعه.(2) إلا أن المتتبع لأحداث تلك الفترة يكتشف ان الامام قد بذل جهداً كبيراً في نصح عثمان ومحاولة تحريره من سيطرة بن أميه . لكن جهوده هذه قد ضاعت هباءاً منثوراً أمام إصرار عثمان و موقفه المتصلب و المتعصب لقومه (3)
و امام موقف عثمان هذا اضطر الامام إلى التنحى جانباً مفسحاً الطريق أمام الثوار الذين يدافعون عن حقوق المسلمين لينالوا من عثمان . . و إذا كان معظم الذين شاركوا فى الثورة والذين تزعموها هم من اتباع الامام و من تلامذته. فبهذا يتأكد لنا ان الامام هو المحرك الأول لهذه الثورة التي كانت ترفع لواء الإسلام الحق في مواجهة بني أمية . أو بصورة أخرى ترفع لواء آل البيت فى مواجهة الخط القبلي الذي كشف عن وجهه القبيح على يد عثمان . ان الصراع لم يكن صراع بين ظالم و مظلوم كما يحلو للبعض تصويره بذلك و إنما كان صراعا بين الحق والباطل.
الحق المتثمل فى الثوار . . و الباطل المتمثل في عثمان و بني أمية.
ص: 96
والامام ليس مخيراً في الانحياز لأى من الطرفين. و إنما هو مقيد بالحق ويدور معه حيث دار . والحق واضح وضوح الشمس والباطل كذلك.
ولعل موقف الامام هذا هو الذى استثمره معاوية فيما بعد في تزكية نار الصراع بينه وبين الامام من اجل تحقيق مآربه فى التسلط على المسلمين. و قد كان بإمكانه نصرة عثمان وانقاذه لكنه رأى ان التضحية به انفع له فى صراعه مع الامام (1) .
قال أبو سفيان حين تولى عثمان مخاطباً بني أمية : يابني أمية . تلقفوها تلقف الكرة فو الذى يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم و لتصيرن إلى صبيانكم وراثة (2). ويحاول الكثير من المؤرخين انكار نسبة هذا الكلام لابى سفيان و انکار عثمان له . إلا ان سياسة عثمان ومواقفه تكشفان صحة هذا القول وصدق نبوءة أبو سفيان .
يقول المودودي : غير ان عثمان حين خلفه - أى عمر - أخذ يحيد عن هذه السياسة رويداً رويداً فطفق يعهد إلى أقاربه بالمناصب الكبرى و يخصهم بامتيازات أخرى اعترض الناس عليها عامة . . ولم يكن رد فعل هذه الامور سيئاً على العامة وحدهم بل على أكابر الصحابة أيضاً. مثال ذلك حينما أخذ الوليد بن عقبه مرسوم حكومة الكوفة وجاء الى سعد بن أبي وقاص قال له سعد : والله ما أدرى أكست بعدنا ام حمقنا بعدك . فأجابه . لا تجزعن ابا اسحق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال سعد : أراكم و الله ستجعلونها ملكا (3)
ان افراد العائلة الاموية الذين تغلغلوا في الحكم بمعونة عثمان و دعمه لم تكن تتوافر بهم المؤهلات الشرعية و السياسية فضلا عن ان مكانتهم الشرعية كانت حرجه فقد ذمهم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم في أحاديث صريحة وحذر منهم لكن عثمان ضرب
ص: 97
بتحذيرات الرسول عرض الحائط وكشف عن وجهه الاموى المعادى لخط آل البيت (1) . يقول المودودي : ان افراد العائلة الذين ارتقوا في عهد عثمان كانوا جميعا من الطلقاء. والمراد بالطلقاء تلك البيوت المكية التي ظلت لآخر وقت معادية للنبي صلی الله علیه و آله و سلم وللدعوة الاسلامية فعفا الرسول صلی الله علیه و آله و سلم عنهم بعد فتح مكة ودخلوا في الإسلام. و معاوية والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم كانوا من تلك البيوتات التي أعطيت الامان وعفا الرسول عنهم . اما عبدالله بن ابی سرح فقد ارتد بعد اسلامه وكان واحدا من الذين أمر الرسول في فتح مكة بقتلهم حتى ولو وجدوا تحت أستار الكعبة (2).و لقد وسع عثمان من نفوذ معاوية على الشام وضم إليه حمص وقنسرين وفلسطين والاردن حتى بسط نفوذه على كل الشام وأصبح من أقوى الولاة و أغناهم مما أتاح له الفرصة على منازعة الامام علناً . فالشام كانت على هوى بنى أمية فلم تكن موطناً للعرب والصحابة كما هو حال العراق. فمن ثم لم يجد معاوية وبني أمية من بعده من ينازعهم فيها وهم استطاعوا التعايش مع اهلها وأهلها تعايشوا معهم ولم يجدوا اختلافا كبيراً بين حياتهم قبل الإسلام وحياتهم بعده بعد أن فتح لهم معاوية الدنيا على مصراعها . ومثل هؤلاء يكونون سيفاً واحداً على كل من يحاول المساس بدنياهم ولأجل هذا وقفوا صفاً واحداً من خلف معاوية فى مواجهة الامام. لقد اختار أهل الشام إسلام بني أمية و رفضوا إسلام ال البيت فإسلام بني أمية سوف يحفظ لهم دنياهم و مصالحهم. و إسلام آل البيت سوف يحرمهم من هذه الدنيا وسوف يضرب هذه المصالح اختار أهل الشام معاوية لكونه يمثل استمراراً لخط هرقل و الروم والدنيا . .
ورفضوا الامام لكونه استمراراً لخط النبوة والإسلام والآخرة.
يقول عثمان : لو أن بيدى مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم (3).
ص: 98
و على الرغم من هذا الحب من قبل عثمان لعشيرته . و ما حققه لبنى قومه من انجازات و نفوذ و ثراء على حساب المسلمين. رغم هذا كله كان قومه هم الذين سعوا الى القضاء عليه و التآمر على قتله فهم قوم سوء استعان بهم عثمان فكان ضحيتهم .
و لقد كانت سياسة عثمان و ممارساته المعوجه و تحالفه مع قومه و نبذه لكبار الصحابة و فساد ولاته على الامصار كل ذلك قد أفقده تعاطف المسلمين و أهل المدينة على الخصوص الذين لم يتحرك أحد منهم لنصرته و الدفاع عنه حين حوصر و تركوه ليلقى مصيره و يجنى ما كسبت يداه و إذا كان قومه الذين والاهم وارتبطت مصالحهم به لم يتحركوا لنصرته فكيف يتحرك الغرباء للدفاع عنه.
يبرر ابن كثير الموقف السلبی للصحابه و أهل المدينة تجاه عثمان بقوله : ان كثيراً منهم بل أكثره بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله .
ثانيا: ان الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة و لكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم و يغمدوا أسلحتهم ففعلوا فتمكن أولئك مما أرادوا . . و مع هذا ماظن أحداً من الناس أن يقتل بالكلية .
الثالث: أن هؤلاء (الخوارج) لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج و لم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة بل لما اقترب مجيئهم انتهزوا فرصتهم و صنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم .
الرابع : ان هؤلاء (الخوارج) كانوا قريباً من ألفى مقاتل من الابطال و ربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة لأن الناس كانوا فى الثغور و فى الاقاليم و في كل جهة .
و مع هذا فإن كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة و لزموا بيوتهم . و من کان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا و معه السيف . . و ربما لو أرادوا صرفهم عن المدينة لما أمكنهم ذلك و أما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه و رضى بقتله فهذا
ص: 99
لا يصح عند أحد من الصحابة أنه رضى بقتل عثمان . بل كلهم كرهه و مقته و سب من فعله . و لكن بعضهم يود لو خلع نفسه من الأمر كعمار بن ياسر و محمد بن أبي بكر و عمرو بن الحمق و غيرهم (1)
و كلام ابن كثير هذا- و هو فقيه أموى النزعة - يحمل الكثير من المتناقضات إذ كيف للصحابة و أهل المدينة و هم يرون هذه الثورة العارمة ضد عثمان و لا يتوقعون مقتله؟ و كيف لهم ان يتركوا الدفاع عنه و هم يرونه ضائع لا محالة في مواجهة ألفى مقاتل . . ؟
و كيف يستقيم هذا التفسير مع قوله أن كثير من قوله أن كثير من الصحابة اعتزلوا الفتنة؟ و على أي أساس نفى ابن كثير وجود موقف من عثمان و رضي بقتله في الوقت الذى تؤكد الروايات أن هناك عدد من الصحابة كان يتزعم هذه الثورة و يحرض المسلمين على عثمان؟
وكيف له أن يؤكد ان عمار او ابن ابى بكر و ابن الحمق تراجعوا عن موقفهم العدائي . . ؟ ثم أين معاوية و جيشه . .؟
و ابن كثير يدافع عن عثمان دفاعاً مستميتاً مبرراً منكراته مضيفاً عليها الشرعية و هو بهذا إنما يدافع عن خطه و فقهه الذى ورثه من القوم و الذي هو نابع من الخط الاموى. فمن ثم ليس مستغربًا منه هذا الموقف و لا من أى من فقهاء الشام مثل الذهبی و النووى و ابن تيمية و ابن عساكر و غيرهم ممن ناصبوا خط آل البيت العداء (2) .
يقول ابن كثير : أنه قيل لعثمان حين أنكر أمر البريد- أى الكتاب الذى زوره مروان و عاد على أساسه الثوار لحصار عثمان بعد أن تركوا حصاره لرضوخه لمطالبهم - : إن لم تكن قد كتبته بل كتب على لسانك و أنت لا تعلم فقد عجزت و مثلك لا يصلح للخلافة. إما لخيانتك و إما لعجزك .
و يعلق ابن كثير على هذا الكلام بقوله : و هذا الذى قالوه باطل على كل تقدير
ص: 100
فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب و هو لم يكتبه في نفس الأمر لايضره ذلك لأنه قد يكون رأى فى ذلك مصلحة للأمة فى أزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الامام. و أما إذا لم يكن قد علم فأى عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد أطلع عليه و زور على لسانه و ليس هو بمعصوم بل الخطأ و الغفلة جائزان عليه. و انما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة ظلمة مفترون (1) .
لقد تمادى ابن كثير فى تبريره لانحرافات عثمان إلى الحد الذی دفعه إلى تغليف هذه الانحرافات بالنصوص النبوية التی تضفى المشروعية عليها . فهو قد اعتبر ان الحاكم من حقه ان يفعل ما يشاء بالأمة تحت شعار المصلحة و على الأمة أن تلتزم بالسمع و الطاعة لأن الرسول أمر بذلك. و معنى ذلك أن عثمان بعد ما وافق الثوار على مطالبهم ثم عاد و انقلب عليهم و أرسل كتابه المذكور الذی يأمر فيه ولاة الامصار التی سوف يصلون إليها بقتلهم - معنى ذلك أن هذا الغدر مبرر في عرف ابن كثير .
ثم تأمل الالفاظ العصبية التی تنم عن عدم معالجته الحدث برؤية حيادية منصفة و التي وصف بها الثوار فهو قد نصب نفسه قاضياً و جلاداً فی آن واحد (2) و نفس هذا النهج في تفسير أحداث التاريخ المتعلقة بالخط القبلى و خط بني أمية التزم به ابن تيمية و الذهبي و النووى و ابن خلدون و ابن حزم و غيرهم (3) و مثلما دافع هؤلاء عن عثمان دافعوا أيضاً عن معاوية و مروان و سائر بنی أمية و زكوهم و أضفوا المشروعية على مواقفهم و ممارساتهم فى الوقت الذی وقفوا فيه من الامام على موقفاً مشبوهاً و معاديًا في أحيان كثيرة (4)
و لقد كان مصرع عثمان هو بداية الصراع العسكرى بين الخط الاموى و خط آل البيت . ذلك الصراع الذى انتهى بسيادة الخط الاموى.
ص: 101
يروى ابن الأثير : و حمل عبدالله بن سعد بن أبی سرح خمس أفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمس مائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان و كان هذا مما أخذ عليه. و هذا أحسن ما قيل فى خمس أفريقيا فإن بعض الناس يقول أعطى عثمان خمس أفريقيا عبدالله بن سعد و بعضهم يقول أعطاه مروان بن الحكم و ظهر بهذا أنه أعطى عبدالله خمس الغزوة الأولى و أعطى مروان خمس الغزوة الثانية التی افتتحت فيها جميع أفريقيا (1) .
و یروی ابن سعد أن عثمان كتب لمروان خمس مصر (2) . و يروى ابن كثير و الطبرى ان نائلة زوجة عثمان قالت له ناصحة انك متى أطعت مروان قتلك و مروان ليس له عند الله قدر و لا هيبة و لا محبة (3) .
إلا ان عثمان ضرب بنصح زوجته عرض الحائط و قام بتعيين مروان (سكرتيراً) له فكان ان استغل ثقة عثمان به فخطط و تآمر على الإسلام و المسلمين (4) . و يدافع أبوبكر بن العربي عن موقف عثمان من معاوية بقوله : و أما معاوية فعمر ولاه و جمع له الشامات و أقره عثمان بل إنما ولاه أبوبكر لأنه ولى أخاه يزيد و استخلفه يزيد فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلافه والياً له فتعلق عثمان بعمر و أقره. فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها و أقدر سردها و لن يأتى مثلها بعدها أبداً (5) .
و يدافع عن موقفه من الوليد بن عقبة بقوله : و أما تولية الوليد بن عقبة فلأن الناس على فساد النيات أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات . و أما قول القائل فی مروان و الوليد فشديد عليهما و حكمهم عليهما بالفسق فسق منهم . مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة و التابعين و فقهاء المسلمين (6) .
ص: 102
نهاية الصراع الفكرى
و بداية الصراع العسكرى
ص: 103
ص: 104
بعد مصرع عثمان هرع الناس نحو الامام على ليولوه أمرهم (انه لا يصلح الناس إلا بأمرة و لابد للناس من إمام و لا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك لا أقدم سابقة و لا أقرب من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم .
و أمام إصرار الجماهير وافق الامام مشترطاً أن تكون بيعته علناً و لا تكون إلا عن رضى المسلمين. و تمت البيعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم (1) .
و لقد كانت بيعة الامام أول حركة انتخاب جماهيرى حق في تاريخ الاسلام فمن ثم فإن دولة الامام قامت على اكتاف الجماهير لتعبر عن مصالح الجماهير رافعة راية الإسلام النبوى .
من هنا فقد اصطدم بها أنصار الخط القبلى و المنتفعين و المنافقين ثم بني أمية و عملوا على هدمها و الحيلولة دون ان تأخذ امتدادها الطبيعی على ساحة الواقع و يتحقق لها الاستقرار و التمكن .
ان جميع القوى التي واجهت الامام كان يتزعمها صحابة كان لهم موقفهم الثابت من الاسلام النبوى و من آل البيت من قبل وفاة الرسول و قد برز هذا الموقف بوضوح بعد وفاته و أخذ فى التطور حتى وصل الى صورته التی واجهها الامام و تصدى لها .
لقد كانت القوى المناوئة للإسلام النبوى تعمل جاهدة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لتقضى على معالم هذا الإسلام و حصار آل البيت و عزل الامام على عن جماهير
ص: 105
المسلمين. وكان وصول على الى الحكم بمثابة ضربة قاصمة لهم و لمخططاتهم. فمن ثم فإن المواجهة العسكرية فرضت نفسها كوسيلة وحيدة لإجهاض دولة الامام. و هكذا دخل الامام على فى مواجهات عسكرية مع هذه القوى بقيادة كبار الصحابة و زوجة النبى صلى الله عليه و آله و سلم ثم بقيادة بني أمية و أخيراً بقيادة الخوارج. و هذه القوى الثلاث إنما تمثل خطوطاً استمرت باقية في واقع الأمة و تفرخت منها الاتجاهات المعادية للإسلام النبوى و خط آل البيت تلك الاتجاهات التي صبت فى النهاية فى دائرة الإسلام الاموى.
و لم تكن مواجهة الامام على لهذه القوى من باب الحفاظ على كيان الدولة و استقرارها فهذا السبب لا يعكس حقيقة الصراع و هو سبب ظاهرى يستنتجه من لا يفقه حقيقة الإسلام النبوى و حقيقة الإسلام الاموى.
إن فقه الإسلام النبوى سوف تقود إلى فقه حقيقة الإسلام الاموى و بالتالي سوف تقود إلى فقه حركة الصراع الذي دار بين الامام و بين هذه القوى و ان فهم حقيقة الإسلام النبوى لن يتم إلا بفهم شخصية الامام على و دوره و مكانته . .
هناك عدة ملامح رئيسية لشخصية الامام على :
الملمح الأول : الربانية فهذه الشخصية قد تربت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وارتوت من معينه و هذا أمر له دلالته و انعكاساته على شخصية الامام فتربية الرسول له ثم مصاهرته إنما يعنى الاصطفاء فكما ان الرسول تم اصطفاؤه فإن علياً أيضاً تم اصطفاؤه .
و هذا الاصطفاء لا يمكن ان يكون عبثاً و انما له أبعاده المستقبلية و هذا ما تشير إليه كثير من النصوص الواردة عن الرسول :
ومن هذه النصوص: أنت منى بمنزلة هارون من موسى (1)
ص: 106
على منى و أنا منه (1) من كنت مولاه فعلی مولاه . (2). لا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق (3). سدوا أبواب المسجد إلا باب على (4)
و مثل هذه النصوص كثير لا يتسع المجال لذكرها هنا و ما ذكرناه فيه الكفاية للاستدلال على مانقول .
و يكفى فى حق على شمولة قوله تعالى : (إنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فهذا النص هو الدليل الساطع و البرهان القاطع على ربانيته (5).
الملمح الثاني: العلم فإن من يتربى على يد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم لابد و أن ينهل من علمه . فمادام الرسول قد أعطاه هذه الخصوصية فلابد أن يسلحه بالعلم حتى يتمكن من القيام بدوره . و قد تفوق الامام على بفقهه على جميع الصحابة ولم يضاهيه في ذلك أحد حتى أن عمر الذي يشهدون له بالفقه والعلم شهد لصالح على و أقر بتفوقه عليه (6) .
هناك الكثير من النصوص النبوية التى تؤكد هذه الحقيقة :
أنا مدينة العلم و على بابها (7) .
ص: 107
أعلمهم بما أنزل الله على .(1) من أراد أن ينظر إلى آدم فى علمه فلينظر إلى على (2). أعلم أمتى بعدى على (3). أقضاكم على (4) .
و هناك شهادات للإمام على على لسان كثير من الصحابة وعلى رأسهم عمر الذي كان يستعين بعلى في كل معضلة وكان يتعوذ بالله من معضلة ليس فيها أبو الحسن (5) .
ويقول الامام على عن نفسه : سلونى عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل . . و الله مانزلت آية إلا و قد علمت فيما نزلت و أين نزلت و على من نزلت . إن ربي وهب لى قلباً عقولاً و لساناً طلقاً (6) . و مثل هذه النصوص إنما تشير إلى أن الامام لديه علم خاص ورثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم و على أساس هذا العلم كان يواجه الواقع و الاحداث. فلم يكن الامام مجرد قائد وجد في ظرف قاس فواجه هذا الظرف بما لديه من خبرة و كفى .
ولم يكن الامام مجرد حاكم واجه تمرد من الرعية فتحرك لمواجهته و حسمه . لم يكن الامام مجرد صحابي كبقية الصحابة كما يحاول أهل السنة أن يصوروه .
ص: 108
لقد كان الامام نموذجاً خاصاً تربى تربية خاصة و منح علماً خاصاً و وضع على کاهله القيام بدور خاص . .
ولعل قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فى الامام: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله (1) . و هو على خاصف النعل كما أشارت الرواية . قول الرسول هذا يؤكد وجود هذا العلم الخاص لدى الامام. فالرسول كان يقاتل المشركين على علم . و الامام يقاتل المسلمين على علم أيضاً. بل الحاجة للعلم في مقاتلة أهل القبلة من المسلمين أشد من الحاجة إليه في مواجهة المشركين .
فكون الامام يواجه عائشة زوجة النبي و يقاتلها لابد و أن يكون لديه علم خاص . وكون الامام يواجه معاوية و ابن العاص و المغيرة و غيرهم و يقاتلهم لابد و ان كون لديه علم خاص . وكون الامام يواجه الخوارج و قد كانوا من أتباعه و يقاتلهم لابد و أن يكون لديه علم خاص . .
إن الإمام على لم يشهر سيفا فى مواجهة المشركين بعد الرسول صلى الله عليه وآله و سلم بل شهر سيفه فى مواجهه أهل القبلة و هذا أمر له دلالاته الهامة و التى تشير إلى اختصاصه بهذا العلم . و لقد بشر الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بخروج عائشة و قتالها لعلى (2) .
و بشر بظهور بني أمية و قتالهم على (3) .
ص: 109
و بشر بظهور الخوارج و قتالهم على (1) .
و مثل هذه النبوءات التي ارتبطت بعلى من دون بقية الصحابة إنما تؤكد أن للامام على خاصية يتفرد بها على الآخرين و هي خاصية العلم .
أما الملمح الثالث فهو القيادة . و هى صفة خاصة جعلت من الامام قائداً نبوياً و ليس مجرد قائد كبقية القادة الذين برزوا على ساحة التاريخ . والقيادة النبوية شئ متفرد و اختص به الامام ليلعب دوراً من بعد الرسول و يسد الفراغ الذي حدث بغيابه.
و بتأمل سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم مع الامام وعلاقته به تتحدد لنا بوضوح هذه الخاصية .
یروی ابن عباس : دفع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الراية إلى على و هو ابن عشرين سنة(2) . و قال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يوم خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه یحب الله و رسوله . و يحبه الله و رسوله : فلما كان الغد دعا عليا فدفعها إليه (3).
وكان الصحابة يرددون لاسيف إلا ذو الفقار و لافتى إلا على. و قد قتل أشهر فرسان العرب يوم الخندق و أصاب المشركين بنكسة معنوية كبيرة . (4)
و شجاعة الامام على ليست بحاجة إلى برهان و سيرته مع الرسول تشهد بذلك .
ص: 110
و قد كان الرسول يوطن فيه من صغره الشجاعة و المواجهة و الخشونة. و كان اختياره له ليبيت في مضجعه ليلة الهجرة صورة من صور التربية النبوية له و التي تعده ليكون قائداً فذا يحمل راية الإسلام النبوى من بعده . و تروى كتب التاريخ. ان عليا كان صاحب لواء الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم بدر و في كل المشاهد (1).
و شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى في حجة الوداع أمام أكبر حشد من الصحابة و المسلمين فى تاريخ الدعوة إنما تؤكد هذه الخاصية و هذا الدور الذي وكل إليه. و هى تؤكد من جانب آخر شرعية هذا الدور و ارتباط خطوات الامام و مواقفه المستقبلية بحدود الشرع و بالإسلام النبوى . .
يروى ان عليا نشد الناس قائلاً: من سمع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول يوم غديرخم إلا قام . فقام اثنا عشر بدريًا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول لعلى يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين قالوا : بلى قال : اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه . اللهم وال من والاه و عاد من عاداه (2).
و يوم غدير خم أيضاً قال الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أذكركم الله فى أهل بيتي . أذكركم الله فى أهل بيتي . أذكركم الله فى أهل بيتى . (3)
و قال صلی الله علیه و آله و سلم: أما بعد ألا أيها الناس فإنما انا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب و أنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به فحث على كتاب الله و رغب فيه ثم قال و أهل بيتى (4) .
و غديرخم موضع ماء يقع فى واد بين مكة و المدينة توقف فيه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم حين عودته من حجة الوداع و خطب فيه خطبة طويلة جزء منها كان خاصا بالامام على و بأهل البيت و هم على و فاطمة و الحسن و الحسين .
ص: 111
وكون الرسول يوصى بعلى وأهل البيت فى خطبة الوداع فكأنه يؤكد للأمة ضرورة الالتزام بالإسلام النبوى الذى سوف يمثله على من بعده. ويحذرها من الانحراف عن هذا الإسلام بترك موالاة الامام على وأهل البيت .لقد ترك الرسول صلی الله علیه و آله و سلم للأمة الكتاب و ربط هذا الكتاب بآل البيت بزعامة الامام على فمن التزم بالكتاب التزم بآل البيت. و من حاد عن الكتاب حاد عن آل البيت . ان ربط الكتاب بالامام يضفى المشروعية على كل خطوات الامام و مواقفه . فهو قد اختير من قبل الرسول ليكون مفسر هذا الكتاب و المعبر عنه و الناطق بلسانه . و من هنا يتبين لنا أن شخصية الامام ومكانته ودوره لايقاس به أحد. وان محاولة فهم حركة الامام على بمعزل عن هذه الرؤية سوف يموه على حقيقة الصراع الذي دار بينه وبين أنصار الخط القبلى بقيادة ابي بكر وعمر وعثمان والذي تطور إلى الصدام العسكرى مع عائشة وطلحة والزبير ومع الخوارج ثم في النهاية مع بني أمية بقيادة معاوية .
وأن محاولة رفع بني أمية أو التقليل من شأن الامام على أو مساواته بمعاوية كما هي عقيدة أهل السنة ليست فقط سوف تؤدى إلى التمويه على حقيقة الصراع الذي دار بين الامام وخصومه كما هو الهدف الظاهر منها . وانما سوف تؤدى إلى التمويه على حقيقة الإسلام النبوى الذى يمثله الامام نيابة عن الرسول صلى الله عليه وآله و سلم وبالتالي سوف تكون النتيجة هى ارتفاع الاسلام القبلى اسلام بني أمية وعلو مكانته على حساب الإسلام النبوي (1) . وتلك هي النتيجة التى استقرت عليها الأمة بعد وقعة صفين و بعد اختفاء الاسلام النبوى وسيادة الإسلام القبلى على يد بني أمية ذلك الإسلام الذي تعبر عنه عقيدة أهل السنة والذى تحول إلى دين الاغلبية بدعم الحكومات المتعاقبة من عصر بني أمية و حتى اليوم.
ص: 112
ان المتتبع السيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يكتشف أن هناك عدد من الصحابة كان يناصر الامام على ويلتف حوله وكما زكى الرسول الامام على وجعل له خصوصية زكى أيضاً هؤلاء الصحابة وباركهم .
ولكثرة ماورد في على على لسان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أوجب هذا على المؤمنين المخلصين أن يشايعوه و يتبعوه لكون مشايعته واتباعه هو امتداد للالتزام بنهج الرسول . فما دام حب عليّاً من الايمان وبغضه من النفاق ولكون القرآن مع على وعلى مع القرآن أصبح موالاة الإمام على مسألة شرعية وواجب إيماني (1). ومن الصحابة الذين شايعوا الامام على فى حياة الرسول وبعد وفاته : ابوذر الغفارى وعمار بن ياسر وبلال بن ابي رباح والمقداد وحذيفة بن اليمان. وجابر بن عبدالله و خباب بن الأرت وسلمان الفارسي وحجر بن عدى . وحسان بن ثابت . وابو سعيد الخدرى وعبدالله بن عباس والعباس بن عبد المطلب وابو ايوب الانصارى وخزيمة ذى الشهادتين وأبي بن كعب وسهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عباده والبراء بن مالك وعثمان بن الاحنف وخالد بن سعيد بن العاص وهند بن ابى هالة وأبى الطفيل عامر بن وائله وانس بن الحرث بن نبيه وجعدة بن هبيرة المخزومي وابى التيهان ورفاعة بن مالك الانصاري (2).
ومن الواضح أن هذه النماذج من الصحابة ذات مكانة ودور خاص في واقع الدعوة وبمقارنتها بالنماذج الأخرى التي التفت حول معاوية يتضح لنا مدى الهوة السحيقة بينهما .
إن النماذج التي تحالفت مع الامام على وناصرته هي من خلص الصحابة الذين توفى الرسول وهو عنهم راض.
هذه النماذج لم يقتصر دورها في حدود مناصرة الامام على أثناء صراعة مع معاوية . بل ان دور هذه العناصر بدأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد وقفت هذه
ص: 113
العناصر مع الامام فى مواجهة الخط القبلى كما وقفت معه في موجهة عثمان وعائشة والخوارج.
أما النماذج الأخرى التي تحالفت مع معاوية فقد حامت من حولها الشكوك وليس فى تاريخها ما يوجب الثقة فيها . ويقول الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إن الله أمرنى بحسب أربعة وأخبرني أنه يحبهم. قيل يارسول الله سمهم لنا؟ قال : على منهم. يقول ذلك ثلاثاً . و ابوذر والمقداد وسلمان (1) .
وجميع هذه العناصر المذكورة من خواص الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و اصفياؤه ولهم تاريخ مشرف ومكانة فذه . .
فبلال مؤذن الرسول . .
وحذيفة صاحب سره . .
وابي بن كعب من قراء القرآن . .
وعبدالله بن عباس حبر الأمة . .
وعمار بن ياسر ابن الشهيدين . .
وخذيمة ذى الشهادتين . .
وحسان بن ثابت شاعر الرسول .
ولا تجد في صفوف أنصار الخط القبلى أو الخط الاموى من يضاهى هؤلاء .
كان معاوية من الطلقاء الذين أطلقهم الرسول بعد فتح مكة. وظل هو وابوه في عداد المؤلفة قلوبهم حتى عهد عمر الذى قام بإلغاء نصيب المؤلفة قلوبهم وتم بالتالى رفع معاوية إلى مرتبة المسلمين هو وأبوه .
ص: 114
إلا أن النصوص التاريخية والنبوية لا تؤكد دخوله هو وأبوه فى دائرة الإسلام فلم يظهر من كلاهما ما يبدد شبهة الكفر عنهما .
لكن فقهاء القوم بدلاً من أن يبحثوا هذه المسألة قاموا بدعم بني أمية وعلى رأسهم معاوية وإضفاء المشروعية عليهم ولم يحاول أحد منهم التشكيك في الروايات المخترعة من أجل رفع مكانته ودفع المسلمين إلى الثقة فيه . . وإذا أردنا تتبع تاريخ معاوية فلن نكتشف له شيئاً يذكر في المحيط الإسلامي.
فلا هو بصاحب شجاعة ولاهو رجل سيف . .
ولا هو صاحب علم ولاهو صاحب فضل . .
ولا هو احتك بالرسول ولا هو احتك بالصحابة.
فمن أين جاءته تلك المكانة التي وضعوه فيها؟ .
وكيف للقوم إن يساووا مثل هذا بالإمام على . . ؟ إن أهم ملامح شخصية معاوية هي المكر والخديعة والغدر وهى ملامح عباد الدنيا وأهل الفجور ولولا تحالف ابن العاص وأبو هريرة معه ما استقام له الأمر ولاظل له ذكر . .
فابن العاص دعمه بخططه ودهائه .
وأبو هريرة دعمه برواياته التي نسبها إلى الرسول صلی الله علیه و آله و سلم . .
ثم ان الأحداث خدمته في النهاية ويسرت له الطريق نحو التمكن والسيادة على المسلمين ولم يكن له دور أو فضل في ذلك . .
فالذين وقفوا على الحياد خدموه . .
والذين حاربوا الامام على خدموه. .
والذين اغتالوا الامام على خدموه. .
والذين خذلوا الامام الحسن خدموه . .
والتي اغتالت الامام الحسن خدمته .
يروى ابن حجر : كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه إذ عثر . فقالت قم
ص: 115
لا رفعك الله فقال لها اعرابي لم تقولين هذا والله انى لأراه يسود قومه . فقالت: لا رفعه الله ان لم يسد إلا قومه (1) .
و يروى عن ابن عباس قوله : ما رأيت أحداً أحلى للملك من معاوية . . (2) ويروى على لسان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قوله لمعاوية : يا معاوية ان وليت أمراً فاتق الله وأعدل .
يقول معاوية معلقاً : فما زلت أظن أنى مبتلى بعمل سويد فيه مقال . . (3)
لم تكن لمعاوية مكانة ولا قدراً في الاسلام . ولم يكن بصاحب علم أو دين. إنما كان صاحب جاه ونفوذ لذا فإن الذين التفوا من حوله كانوا من أصحاب الدنيا والمغنم ولم يكونوا من أصحاب الدين . .
وكانت وسائل معاوية فى جذب الرجال إليه تتركز . فى المال والاغراء بالمناصب كما تتركز فى الدعاية المضللة التي تهدف إلى التمويه على الباطل الذى يمثله ويرفع رايته . .
المال والمناصب كانت وسيلة جذب من يعرفه وعاصره . .
والدعاية كانت وسيلة جذب من لا يعرفه من التابعين . . وكلا من الطرفين كان يرتبط بمعاوية ارتباطاً مصيرياً إذ أن تركه معاوية يعنى أنه لن يجد مكاناً لدى الطرف الآخر طرف الامام علي . .
ومن أبرز العناصر التى التفت حول معاوية وتحالفت معه : عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبه وابو هريرة وابو موسى الأشعرى ومروان بن الحكم.
ص: 116
ومثل هذه العناصر صاحبة تاريخ مشبوه و ليست بذا ثقل في واقع الدعوة ولم تكن صاحبة مكانة (1) في حياة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بل كانت منبوذة مذمومة . .
من هنا فقد عملت هذه العناصر على القيام بحملة دعاية واسعة الهدف منها إضفاء المشروعية على مواقفهم وممارساتهم ورفع مكانتهم أمام المسلمين : فكان أن قاموا باختراع الروايات ونسبتها للرسول تلك الروايات التى تزكيهم وتضع الحق إلى جانبهم وتموه على الجانب الآخر وتسهم في جذب المسلمين من التابعين إلى صفوفهم. . (2)
من هنا فقد استطاع معاوية بمعونة أبى هريرة وابن العاص أن يشكلوا جبهة دعاية واسعة استطاعوا بواسطتها أن يغرروا بالمسلمين و يعزلوهم من خط آل البيت . .
وكان وقوف عدد من الصحابة على الحياد في الصراع الدائر بين الامام ومعاوية قد شكل وسيلة دعم لمعاوية وضربة للامام علي . إذ دفع بكثير من المسلمين إلى التشكك فى جدوى الصراع وهذا أمر فى صالح معاوية بلا شك . .
وعلى رأس الذين وقفوا على الحياد عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص و محمد بن مسلمة .
وليس من المعقول تصور ان ابن عمر وهؤلاء المحايدين كانوا يجهلون حقيقة الموقف . وان سلمنا (3) لهم بذلك. فكيف نسلم بجهلهم بحقيقة ابى هريرة وابن العاص ومعاوية . . ؟ .
ص: 117
ص: 118
سيف الإيمان يقارع سيف الشيطان . .
ص: 119
ص: 120
لم تكن المواجهة العسكرية التي حدثت بين الامام على وبين عائشة ومعاوية والخوارج يعود سببها إلى الصراع على الحكم كما قد يتصور البعض ممن يقرأون أحداث التاريخ على أسس سياسية بحتة بمعزل عن الدين. فالامام لم يواجه هؤلاء كخارجين على الجماعة فلم تكن هناك جماعة إنما كانت هناك شيع وأحزاب . . كانت سيوف القوم على الامام وقلوبهم مع سواه مما دفع بالامام إلى نقل عاصمته من المدينة إلى الكوفة حيث توجد القاعدة الجماهيرية العريضة المناصرة له . .
لقد كان الصراع بين الامام وبين هذه الجبهات الثلاث صراعاً عقائدياً ولم يكن صراعاً سياسياً . . فهذه الجبهات كانت تواجه الامام بعقيدة ومنهج و راية . .
كانت عائشة ترفع راية الخط القَبلي . .
وكان معاوية يرفع راية بني اُمية . .
وكان الخوارج يرفعون راية التكفير . .
وكان الامام فى مواجهتهم يرفع راية الاسلام النبوي . .
ان عائشة أو معاوية أو الخوارج لم يظهروا من فراغ إنما هم يمثلون خطوطاً تهدف إلى فتنة المسلمين . وان المتأمل في الروايات الواردة حول هؤلاء في كتب السنن بتبين له هذا الأمر بوضوح . .
ولقد بدأت المواجهة بين الامام وبين هؤلاء فور وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وطوال عهد الخلفاء الثلاثة لم تكن تخرج هذه المواجهة عن حدود الصدام الفكري. أما حين برز دور الامام بعد مصرع عثمان خرجت المواجهة عن حدود الصدام الفكرى إلى الصدام العسكرى بعد أن أحست الجبهات الثلاث بخطورة الأمر وتهديده لوجودها ومستقبلها . .
فلم يكن يضر عائشة وجود عثمان على دفة الحكم أو سواه . .
ولم يكن يضر معاوية وجوده أو وجود سواه . .
ص: 121
اما وجود الامام فهو يمثل تهديدا صارخا لأنه يرفع راية إسلام آخر يكشف زيف إسلامهم وفى حالة وجود عثمان أو سواه على دفة الحكم كان معاوية سيخرج رافعاً رايته . فقد كانت المسألة بالنسبة له مسألة وقت كان وصول الامام إلى الحكم قد اختصره. .
و أما مواجهة الأمام للخوارج فهى تعكس خصوصيته بمواجهتهم والتصدى لنمطية الفكر والطرح الذي يطرحونه والذى يمثل تهديداً للاسلام النبوي . ويمثل نمطية ثابتة ومستمرة فى مواجهة هذا الاسلام على مر الزمان. وكما تم القضاء على الخوارج على يد الامام على فلن يتم مواجهتهم والقضاء عليهم بعد الامام إلا بواسطة خط الامام . .
ان الامام على لم يكن يهدف من وراء هذه المواجهة الى القضاء على عائشة او معاوية او الخوارج بقدر ما كان يهدف الى إقامة الحجة وإظهار الحق وتعرية الباطل ورفع راية الإسلام النبوي.
وهذه هي حقيقة دور الامام . .
إظهار الحق وان لم يتحقق تمكينه وسيادته . .
وتعرية الباطل وإن لم يتم القضاء عليه . .
يروى أن أبا بكر استأذن على النبي صلی الله علیه و آله و سلم فسمع صوت عائشة عالياً وهى تقول : والله لقد علمت أن علياً أحب إليك من أبي . . (1) وسئلت عائشة من كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مستخلفاً؟ قالت : أبوبكر . قيل من؟ قالت :عمر . قيل ثم من الله قالت : أبو عبيدة بن الجراح . .(2) إن الرواية الأولى تكشف لنا ان هناك موقفاً معادياً من على تتبناه عائشة . وأن هذا الموقف يعود سببه إلى تفضيل الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لعلى على أبيها . .
ص: 122
والرواية الثانية تكشف لنا أن عائشة لم تكن تعترف بخلافة عثمان ولا بخلافة على و وضعت مكان عثمان ابن الجراح وهو مالم يقل به أحد من الرواة ولم يذكر على لسان أحد من الصحابة . ويخالف عقيدة اهل السنة في الإقرار بخلافة على بعد عثمان .
ومن خلال الروايتين معاً يتبين لنا أن موقف عائشة من الإمام على ليس موقفاً هامشياً أو سطحياً عارضاً كما يحاول مؤرخو القوم وفقها وهم أن يصوروه رابطينه بحادثة الإفك . . (1)
و باستعراض الروايات السابقة الخاصة بعائشة خاصة تلك التي تتعلق بوفاة
الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يتبين لنا عمق هذا الموقف وجذريته . .(2)
و لقد تبلور هذا الموقف في حياة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم حين كانت لعلى مكانته المرموقة والعالية التى فاقت جمیع الصحابة وعلى رأسهم أبيها . . (3) ثم أخذ هذا الموقف امتداده وتطوره بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم في حماية أبيها وقد تحقق لها ما كانت تطمح من مكانة ومقام لأبيها وعزل الامام على عن واقع المسلمين . . وطوال عهد أبيها وعهد عمر لم تكن لتهتز مكانة عائشة وسلطانها ولم تكن
لترتفع مكانة على عن الحدود المرسومة من قبل الخليفتين . . إلا أنه بعد مصرع عمر و وصول عثمان إلى الحكم تغير الوضع إذ برز بنو أمية وناطحوا عائشة وعلى والجميع مما دفع بعائشة إلى التصدى لعثمان ومنابذته . . وعندما ثار المسلمون على عثمان وقتلوه وبايع الناس الامام على الخلافة وجدت
ص: 123
عائشة نفسها بين أمرين، إما أن تذعن لعلى وتدين له بالطاعة وذلك يعنى انتهاء دورها وضياع مكانتها . .
وإما أن تخرج على على وتقاتله من أجل الخلاص منه .
وقد اختارت عائشة الموقف الثانى فكانت وقعة الجمل الشهيرة التي راح ضحيتها اكثر من عشرة آلاف نفس وانتهت بهزيمة عائشة .
يروى البخارى لما بعث على عماراً والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم - اثناء وقعة الجمل - خطب عمار فقال : إني لأعلم أنها - أى عائشة - زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها . . (1) .
ويقول ابن حجر معلقاً على هذه الرواية : وقوله فى الحديث لتتبعوه أو اياها قيل الضمير لعلى لأنه كان الذي يدعو إليه عمار . والذي يظهر أنه لله والمراد باتباع الله اتباع حكمه الشرعى في طاعة الأمام وعدم الخروج عليه. ولعله أشار إلى قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) فإنه أمر حقيقى خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كانت أم سلمة تقول : لا يحركن ظهر بعير حتى ألقى النبي .
والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هى وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الاصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان وكان رأى على الاجتماع وطلب أولياء المقتول للقصاص ممن يثبت عليه القتل . . (2)
و ابن حجر كما هو واضح من كلامه يعترف بأن عائشة خالفت القرآن بخروجها من بيتها بينما التزمت أم سلمة بنص القرآن . إلا أن مالم يعترف به ابن حجر هو أن هذا الخروج قد كلف الأمة الكثير من الرجال والاموال ونتجت عنه مفسدة عظيمة حاول التغطية عليها وسترها بدعوى التأويل كما هو حال فقهاء القوم في مواجهة النصوص والاحداث التي ترتبط بكبار الصحابة وتشكل حرجاً لهم . . (3)
ص: 124
ولم يكن أمام عائشة من مبرر تؤلب عليه الناس ضد الامام وتدفعهم إلى قتاله سوى المطالبة بدم عثمان . وهو نفس الشعار الذى رفعه معاوية فى مواجهة الامام علي . .
وكان انضمام طلحة والزبير إلى عائشة ونقضهما لبيعة الامام قد دعم موقفها وزاد من حميتها للقتال وأسهم في تنظيم صفوفها. وهو نفس ماحدث مع معاوية حين انتمى إلى صفه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة . .
إن تبنى كلا من عائشة ومعاوية قضية عثمان في مواجهة الامام يدل دلالة واضحة على افتقادهما للمبررات الشرعية فى مواجهته .
ومن جهة أخرى هو يدل على ضعف موقفهما ويضفى عليه الانتهازية . يقول الامام على ذاماً أهل البصرة أنصار عائشة : كنتم جند المرأة و اتباع البهيمة رغافأ جبتم و عقر فهربتم . أخلاقكم دقاق. و عهدكم شقاق . ودينكم نفاق . وماؤكم زعاق والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه . . كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها و من تحتها و غرق من في ضمنها . . بلادكم أنتن بلاد الله تربة . أقربها من الماء و أبعدها من السماء و بها تسعة أعشار الشر. المحتبس فيها بذنبه و الخارج بعفو الله . . (1) و يقول الامام في ذم عائشة بعد حرب الجمل: معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان . نواقص الحظوظ . نواقص العقول .. فاتقو اشرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر و لا تطيعوهن فى المعروف حتى لا يطمعن في المنكر . . (2)
أصدر الامام على قراره بعزل معاوية عن الشام بمجرد أن تولى أمر الخلافة . إلا أن معاوية رفض الانصياع لقرار الامام و أعلن العصيان رافعاً قميص عثمان على منبر دمشق داعياً الناس إلى الثأر من قتلته مشيراً بإصبع الاتهام إلى الامام على و شيعته . .
ص: 125
ويحاول المؤرخون توجيه اللوم للامام على وتخطئته لإصداره قرار عزل معاوية فور توليه الحكم وكان الواجب عليه أن يتركه على الشام حتى تنجلى الأمور . . ومثل هذا التصور إنما ينبع من رؤية سطحية لطبيعة الصراع. رؤية تنبني على أساس أن المسألة لا تخرج عن كونها مجرد صراع داخلي بين حاكم و واحد من ولاته . و تنبنى أيضًا على أساس أن معاوية يتحرك وفق دائرة المصلحة . .
ولو كان هؤلاء المؤرخون يفقهون شخصية الامام على و يقدرون دوره و يعطونه مكانته لكان من الممكن أن يفهموا أن موقف الامام من معاوية إنما هو موقف يفرضه المبدأ الإسلامي . .
لوفقه هؤلاء شخصية معاوية وتاريخه ومكانته الوضيعة ماتبنوا هذه الرؤية . .
إن هؤلاء المؤرخين كغيرهم من الفقهاء سقطوا ضحية السياسة وسلموا بما بين يديهم من أطروحات و روايات دون أن يعقلوها و يراجعوها على أساس أن هذا الاطروحات و الروايات إنما وصلتهم من رجال عدول ثقات . . (1)
لقد حكم معاوية الشام سبعة عشر عاماً مكن لنفسه فيها و ارتبط مصيره بها وكانت بالنسبة له بمثابة دولة وليست ولاية . . و لأن الامام كان يفقه حقيقة معاوية والاتجاه الذى يمثله و الدور الذي سوف يلعبه كان لابد من أن يتبنى هذا الموقف تجاهه . .
حقيقة معاوية أنه شيطان هذه الأمة . .
والاتجاه الذي يمثله هو الباطل . .
والدور الذى سوف يلعبه هو ضرب الإسلام النبوي . .
و أمام شخص كهذا لا تصح المساومات و المداهنات و أنصاف الحلول لأنها سوف تكون على حساب الحق و سوف ينتج عنها دعم الباطل.
من هنا كان السيف هو الحل الذي فرض نفسه . فلم يكن أمام معاوية سواه ليواجه به الامام فهو لا يملك أية مقومات أخرى ليواجهه بها . .
ص: 126
لا يملك الشرعية . .
و لا يملك العلم . .
و لا يملك الرصيد التاريخى . .
و عندما بدأ الصدام كان في صف الامام ثمانون بدرياً ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة أما فى صف معاوية فكان عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أما أبو هريرة فلم يكن من المقاتلين وإنما كان يتزعم جهاز الدعاية لمعاوية. .
أعلن الامام فى عسكره : لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم وانتم بحمد الله على حجة و ترككم قتالهم حجة أخرى فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح و لا تكشفوا عورة و لا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا ستراً و لا تدخلوا داراً و لا تأخذوا شيئاً من أموالهم و لا تهيجوا امرأة و أن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم و صلحاءكم . . (1)
وهذا الخلق النبوى الذى التزم به الأمام في المعركة واجهه معاوية بالغدر والخديعة حين رأى الهزيمة به لاحقة خاصة بعد مصرع رجل الامام عمار بن ياسر الذى أخبر الرسول بمصرعه على يد الفئة الباغية . . (2)
ولقد شكل مصرع عمار هزة كبيرة لمعاوية و ابن العاص خاصة بعد أن شاع بين جيش الشام خبر نبوءة الرسول فى عمار . .
يقول أبوبكر الجصاص : قاتل على الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم وكان محقاً في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته واتباعها. وقال النبى صلی الله علیه و آله و سلم لعمار تقتلك الفئة الباغية و هذا خبر مقبول من طريق التواتر حتى أن معاوية لم يقدر على جحده لما قال له عبدالله بن عمر . فقال : إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا . رواه أهل الكوفة
و أهل البصرة و أهل الحجاز و أهل الشام . . (3)
ص: 127
ويروى ابن عبد البر : وتواترت الأثار عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم له أنه قال تقتل عمار الفئة الباغية وهذا من إخباره بالغيب واعلام نبوته صلی الله علیه و آله و سلم وهو من أصح الاحاديث . . (1)
ويروى ابن حجر : وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع على واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم. . (2)
ويروى مسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار تقتلك الباغية . . (3)
و على الرغم من اعتراف الفقهاء بأن الحق كان فى جانب على إلا أن اعترافهم هذا لا يعنى الحكم بأن معاوية كان على باطل عندهم . فهم يعتبرون معاوية مجتهداً مأجوراً على مافعل لكونه قاتل علياً بقصد الخير لا بقصد الشر . . (4)
يقول النووى : هذا الحديث حجة ظاهرة فى ان علياً كان محقاً مصيباً و الطائفة الأخرى بغاة لكنهم مجتهدون فلا اثم عليهم لذلك . . (5)
و مثل هذا النهج التبريرى يتبنّاه القوم على الدوام فى مواجهة النصوص التي تدعم الامام على و خط آل البيت و شيعتهم و تشكك فى الجانب الآخر جانب الخصوم والمخالفين والمنحرفين عن هذا الخط. خاصة عثمان وعائشة ومعاوية . . (6)
ويروى المؤرخون أن علياً بارز في أيام صفين و قتل خلقاً كثيراً. و كان أحد فرسان معاوية قد قتل أربعة من رجال الامام ثم صاح هل من مبارز ؟
فبرز إليه الامام فتجاولا ساعة ثم ضربه على فقتله ثم قتل ثلاثة بعده ثم تلا قوله تعالي : (وَالحُرُمَات قِصاصٌ) . . ثم نادى الامام : ويحك معاوية أبرز إلى و لا تفنى العرب بينى و بينك .
ص: 128
فقال عمرو بن العاص لمعاوية : اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة فقال معاوية : والله لقد علمت ان علياً لم يقهر قط. وإنما أردت قتلى لتصيب الخلافة من بعدى . اذهب إليك. فليس مثلى يخدع . . (1) .
واغار الإمام على جيش معاوية وحمل على عمرو بن العاص و ضربه بالرمح فألقاه على الأرض فبدت سوءته فرجع عنه و لم يقتله . .
فقال له أصحابه : مالك يا أمير المؤمنين رجعته . .؟ فقال الإمام: أتدرون ما هو ؟ قالوا : لا . . قال : هذا عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فذكرني بالرحمن فرجعت عنه (2) . وامام الضربات القاتلة التى كان يوجهها الامام وجنده لقوات معاوية التي أخذت فى التقهقر والانهزام أشار ابن العاص على معاوية بحيلة خبيثة لاتنم عن دين أو تقوى وإنما تنم عن ضلال وكفر وخديعة. وقد تمثلت هذه الحيلة في تمزيق المصحف ورفع أوراقه على أسنة الرماح أمام جنود الإمام والمطالبة بتحكيمه في الصراع الدائر بينهما . .
يقول ابن العاص : فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبل فتكون فرقة بينهم . وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل . . (3) . أن مثل هذا العمل إنما يدل على مدى استخفاف معاوية وابن العاص بكتاب الله فهما لم يفعلا ذلك بهدف تحكيم كتاب الله وإنما بهدف التقاط الانفاس و الوقيعة بين جند الإمام . .
ولقد تصدى الإمام بقوة لهذه الخدعة وأصر على استمرار القتال إلا أن أصحاب الهوى وضعاف العقول من جنده طالبوه بالتحكيم و وقف القتال و قبل الإمام هذا الأمر على كراهية وغضب . وقام معاوية بتنصيب ابن العاص حكماً من جهته بينما أوفد جند على أبو موسى الأشعرى بدلاً من عبدالله بن عباس الذي كان قد اختاره الإمام (4) .
ص: 129
و دار بين ابن العاص وابى موسى الاشعرى الحوار التالي :
قال عمرو : كيف ترى الأصوب في هذا الأمر . .؟
قال الأشعري : أن نخلع هذين الرجلين و نجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا .
قال عمرو : و الرأى ما رأيت . .
ثم خرجا على الناس و هم خليط من طرف على ومن طرف معاوية . .
فقال عمرو : يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق . .
قال الاشعري : انا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها من أمر قد أجمع عليه و هو أن نخلع علياً و معاوية ويولى الناس أمرهم من أحبوا و انى قد خلعت علياً معاوية فاستقبلوا أمركم و ولوا عليكم من رأيتموه أهلاً . .
قال ابن العاص : أن هذا قد قال ما سمعتموه و أنا أخلع صاحبه (يعني علياً) كما خلعه و أثبت صاحبي (معاوية) فإنه ولى ابن عفان والطالب بدمه و أحق الناس بمقامه . .
فصاح الأشعرى فى غضب : ملك لا وفقك الله غدرت و فجرت . . (1)
و قد وجد هذا الفعل المنكر من قبل ابن العاص تبريراً فى فقه القوم إذ يقول ابن كثير : و كان عمرو بن العاص رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدى إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مما الناس فيه من الاختلاف فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة و الاجتهاد يخطى و يصيب (2)
و هذا التبرير الساذج إنما يكشف لنا مدى تفاعل فقهاء القوم مع خط بني أمية و استسلامهم لأطروحتهم والعمل على ترقيعها والدفاع عنها . .
ص: 130
و فى مواجهة هذه الخدعة قال الامام : ألا ان هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما و أحييا ما أمات القرآن واتبع واحد منهما هواه بغير هدى من الله فحكما بغير حجة بينة و لاسنه ماضية واختلفا في حكمها و كلاهما لم يرشدا. . (1)
لم يكن معاوية يتحلى بشئ من خلق الإسلام أو يتأدب بأدبه كما لم ينهل شيئاً من العلم كذلك كان حال من تحالف معه و كان من جنده . . و كانت رايته راية دنيا و هوى و لم يكن للدين فيها أدنى نصيب . .
من هنا فإنه يمكن القول أن معاوية ربما يكون أول من ابتدع قاعدة الغاية تبرر الوسيلة و على أساسها حطم القيم و المبادىء وانتهك الحرمات و أراق الدماء ونقض العهود وغدر بالمسلمين و بدل أحكام الدين. .
ولقد استعان معاوية بشرار الخلق من أجل تصفية المعارضين و القضاء على شيعة الامام على و محو ذكره . .
وعلى رأس الذين استعان بهم معاوية فى تصفية المسلمين الملتزمين بالإسلام النبوى من أنصار الامام بسر بن أرطأه . تلك الشخصية الدموية التي لم ترحم شيخاً و لا امرأه و لا طفلاً و إرتكبت من الفظائع و المنكرات ما تقشعر له الابدان . . تروى كتب التاريخ ان معاوية أرسل بسر بن أبى أرطأة ليستخلص الحجاز و اليمن من الامام علي . و لما دخل المدينة صعد منبرها و قال: أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس (يعنى عثمان) ثم قال يا أهل المدينة عليكم ببيعة معاوية وأرسل إلى بني سلمة فقال ما لكم عندى أمان و لا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبدالله وكان من شيعة الامام ثم قام بهدم دوراً بالمدينة. و انطلق إلى مكة ففر منه أبو موسى الأشعرى فقيل ذلك لبسر . فقال ماكنت لأقتله وقد خلع علياً . و أتى إلى اليمن فقتل عاملها و ابنه ثم قتل إبنان صغيران لعبيد الله بن عباس
ص: 131
الذي كان قد فر من وجهه إلى الكوفة. وقد صاحت في وجه بسر امرأة من بني كنانة قائلة فى غضب : يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين والله ماكانوا يقتلون في الجاهلية و الإسلام . والله يا ابن ابى أرطأة إن سلطاناً لا يقوم إلا بقتل الصبى الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء . . (1)
و لم تقف جرائم بسر عند هذا الحد بل تجاوزه . . إلى ارتكاب جريمة لم يسبقه إليها أحد فى تأريخ الإسلام و هى سبى نساء المسلمين . .
يروى ابن عبد البر : أغار بسر بن أرطأة على همدان. و كانت في يد على - و سبى نساءهم فكن أول مسلمات سبين فى الإسلام . وقتل أحياء من بنى سعد . . (2)
و يروى أن بسر بن أرطأة كان من الابطال الطغاة و بارز علياً يوم صفين فطعنه على فصرعه فانكشف له - أى كشف عورته له - فكف عنه كما عرض له مع عمرو بن العاص . . (3)
ویروی بخصوص بسر و عمرو : إنما كان انصراف على عنهما و عن أمثالها من مصروع أو منهزم لأنه كان لا يرى في قتلا الباغين عليه من المسلمين أن يتبع مدبر و لا يجهز على جريح و لا يقتل أسير و تلك كانت سيرته في حروبه في الإسلام . . (4)
و بسر هذا الذى ارتكب هذه الفظائع من أجل معاوية يعده القوم من الصحابة لأنه ولد فى حياة الرسول و رآه و على هذا يدخل بسر في دائرة العداله حسب قاعدة عدالة الصحابة و بالتالي تتحول جرائمه إلى اجتهادات فعلها متأولاً و يثاب عليها . و جميع من تحالف مع معاوية هو من نموذج ابن ارطأة من الصحابة المختلقين الذين تحص بهم معاوية و جاء أهل السنة فاضفوا عليهم المشروعية . .
ص: 132
ومن هنا فقد روى بسر عدة أحاديث في كتب السنن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سنن ابی داود روی قول الرسول صلى الله عليه وسلم : لا تقطع الأيدى - للسارق - في السفر .
وعند ابن حبان روى عن الرسول قوله اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها. و قال فيه ابن حبان : كان يلى لمعاوية الاعمال و كان إذا دعا ربما استجيب له وله أخبار شهيرة فى الفتن لا ينبغي التشاغل بها . .(1) وكان معاوية أول من ابتدأ بقطع الرؤوس فى الإسلام. وكان قد قطع رأس عمار بن ياسر و رأس عمرو بن الحمق و هو أحد الذين قادوا الثورة ضد عثمان . كذلك فعل مع محمد بن أبي بكر فى مصر حين دخلها عمرو بن العاص و وضعوا جثته فى حمار ميت و أحرقوها .
و قد أصبحت سنة قطع الرؤوس التي سنها معاوية من السنن التي التزم بها الحكام من بعده . . (2). ومن جرائم معاوية أمره بسب الامام على و لعنه على المنابر و مثل هذه الجريمة لا تعد موقفاً شخصياً عدائياً من الامام إنما هي تعبر عن عدائية معاوية للإسلام النبوى الذى يمثله و خوفه من أن تتسرب مفاهيم هذا الإسلام للمسلمين فيكتشفوا زيفه و ضلاله.
ولقد تصدى شيعة الامام لهذه الحملة الاعلامية الشيطانية التي قادها معاوية ضد الامام على بعد مصرعه و مصرع الحسن و سيطرته على الحكم. .
و على رأس الذين تصدوا لحملة معاوية هذه الصحابي الجليل حجر بن عدى و عدد من أنصار الامام فى ولاية زياد بن ابيه بالعراق . فكان أن قبض عليه زياد و عدد من رفاقه وأرسلهم إلى معاوية فى الشام بكتاب يحرضه فيه عليهم متهماً حجراً و أصحابه بالدفاع عن على والبراءة من عدوه وأهل حربه. وقد طلب من حجر وأصحابه البراءة من على و لعنه فأبوا .
ص: 133
و قال حجر : لا أقول ما يسخط الرب. فأمر معاوية بقتله و عدد من أصحابه في مرج عذراء عام 51 ه- . . (1)
ومن جرائم معاوية تآمره على قتل الامام الحسن بالسم و توليه ولده يزيد خليفة له فكان أن شرع للملكية في الإسلام لتذوق الأمة على يد ولده وملوك بني مروان من بعده ألوان العذاب والظلم والاستبداد . .
يقول الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية لولم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة . انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة . واستخلافه بعده أبنه سكيراً خميراً يلبس الحرير و يضرب الطنابير. و ادعاؤه زياداً و قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقتله حجراً وأصحاب حجر فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجر و أصحاب حجر . . (2)
و على يد يزيد بن معاوية وقعت جريمتان بشعتان : الأولى قتل الحسين و أهل بيته في كربلاء. والثانية استحلاله مدينة رسول الله و ذبح أهلها و هتك أعراض نساءها . . تروى كتب التاريخ أن أهل المدينة عصوا يزيد و شقوا عصا الطاعة بعد مصرع الحسين فكان أن سير إليهم جيشاً استباح المدينة ثلاثة أيام و قتل آلاف الأنفس من الاشراف و غيرهم و هتك أعراض النساء حتى قيل أنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زواج . . (3)
و على الرغم من هاتين الجريمتين بالإضافة إلى منكرات يزيد الأخرى فإن فقهاء
ص: 134
القوم قد انقسموا على أنفسهم تجاهه. فمنهم من أجاز لعنه و هم قلة . بينما توقف اكثرهم فيه بحجة أن ذلك سوف يفتح الباب للعن والده أو غيره من الصحابة . . (1)
يقول الحسن البصرى عن أهل الشام : قبحهم الله و برحهم أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون أهله ثلاثاً قد أباحوها لانباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر ذوات الدين لا ينتهون عن انتهاك حرمة ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام فهدموا الكعبة و أوقدوا النيران بين حجارها و أستارها عليهم لعنة الله و سوء الدار . . (2)
و يلاحظ أن الحسن البصرى يلعن أهل الشام بالعموم دون تحديد و هو بهذا يسير على نهج القوم من عدم جواز لعن المعين . كما ان هذا الموقف كان في العصر العباسي.
أما ابن تيمية فقد دافع من يزيد و نفى عنه كل الشبهات بقوله : كان من شبان المسلمين و لا كان كافراً و لا زنديقاً و تولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين و رضا من بعضهم. و كان فيه شجاعة و كرم ولم يكن مظهراً للفواحش كما يحكى عنه خصومه و هو لم يأمر بقتل الحسين ولا أظهر الفرح بقتله . . لكن أمر بمنع الحسين و بدفعه عن الأمر و لو كان بقتاله . . (3)
ص: 135
إن مثل هذه الجرائم من معاوية و ولده إنما تؤكد أن الصراع بينهما و بين آل البيت هو صراع مصيرى بين عقيدتين متناقضتين و متباعدتين ليس بينهما لقاء بأى صورة من الصور . مثل هذه الجرائم لا يمكن أن تنسب إلى أناس ينتمون إلى الإسلام . . و الذين يصفون هذا الصراع بأنه صراع فى دائرة الإسلام و يضفون على معاوية صفة المجتهد و يحاولون تبرئة ولده إنما يرتكبون جريمة كبرى فى حق الإسلام والمسلمين من أخطر نتائجها تلميع الإسلام الزائف الذي فرضه معاوية على الأمة . .
عاد الامام إلى الكوفة بعد التحكيم وأخذ يعد العدة لقتال معاوية إلا أن الخوارج الذين خرجوا عليه بعد التحكيم أصبحوا يعيقون مسيرته و يهددون شيعته بعد أن فشلت الجهود السلمية فى إعادتهم إلى الصف واقناعهم بالتنازل عن أفكارهم . .
و لما كثرت اعتداءاتهم على المسلمين دخل الامام معهم في مواجهة عسكرية فاصلة انتهت لصالح الامام و قتل فيها عدد كبير منهم فيما سمى بواقعة النهروان . . (1)
و الامام على في قتاله هؤلاء الخوارج إنما كان على علم و بصيرة بهم و بأحوالهم وجرائمهم كما قاتل عائشة ومعاوية من قبل على علم وبصيرة . .
لقد تنبأ الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالخوارج كما تنبأ بدور الامام علي في مواجهتهم .. یروي مسلم أن الامام على بعث من اليمن بذهب إلى الرسول في المدينة فقسمه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بين أربعة . فغضبت قريش . . فقال الرسول : انما فعلت ذلك لأتألفهم . فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين نائي الجبين محلوق الرأس فقال اتق الله يا محمد . فقال الرسول فمن يطع الله إن عصيته أيا مننى على أهل الارض ولا تأمننوني . . ثم أدبر الرجل . . فقال الرسول إن من ضئضى هذا
ص: 136
قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الاسلام و يدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد . .(1)
و يقول الامام على سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الاسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الذين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة . . (2)ويقول : أيها الناس اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج قوم من أمتى يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ . ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشئ ولا صيامكم إلى صيامهم بشئ. يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لاتجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم صلی الله علیه و آله و سلم لا تكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدى عليه شعيرات بيض فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام و تتركون هؤلاء يخلفونكم فى ذراريكم و أموالكم والله أنى لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فانهم قد سفكوا الدم الحرام و أغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله . . (3)
و يروى أن الخوارج لما خرجوا على الامام قالوا : لاحكم إلا لله . فقال الامام: كلمة حق أريد بها باطل . أن رسول الله وصف : ناساً أني لأعرف صفتهم في هؤلاء . . (4)
إن مثل هذه الروايات إنما تكشف لنا مدى خطورة خط الخوارج على الإسلام و المسلمين و هي خطورة لا تقل عن خطورة الخط الأموي . و ارتباط الامام بمواجهة
ص: 137
هذين الخطين يعنى ان هذين الخطين إنما يمثلان توجهاً واحداً ويحققان نتيجة واحدة .
ارتباط الامام بمواجهة هذين الخطين يعنى استمرارهما في مواجهة الاسلام النبوى على مر الزمان . فالامام على هو ممثل الإسلام النبوى و رمز الحق على مر الزمان . .
والخط الاموى و خط الخوارج يمثلان الإسلام الزائف و يرمزان للباطل على مر الزمان . . و منهج الخوارج سوف يظل باقياً و ان كان قد ضرب عسكرياً و تقوقع فكرياً - في مواجهة الإسلام النبوى خط آل البيت . و لن يتمكن المسلمون من تجنبه و اعتزاله إلا بفقه حركة الامام على و خط آل البيت. فمن حاد عن هذا الخط وقع فريسة للخوارج. و من استبصر هذا الخط أمكن له أن يحصن نفسه في مواجهته . .
و لقد كان الامام على يواجه كل هذه الاحداث و هو مستبصر بها عالم بنتائجها و دلالاتها حتى أنه كان يعلم طريقة موته كما أخبره بها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم . . (1) من هنا فإن نتائج صراع الامام مع هذه الجبهات الثلاث يمكن أن يمنحنا المعالم التي ترشدنا إلى فقه حقيقة الإسلام . و فقه حقيقة الرجال الذين موهوا على هذا الإسلام و زيفوا نصوصه و مفاهيمه بما اخترعوه من روايات و اجتهادات أضلت الناس عن سبيل الله . .
إن ارتباط الامام بمواجهة عائشة و معاوية و الخوارج ليس محض صدفة إنما هو عمل تشريعي للأمة تهتدى به على الدوام . . اختيار الامام لهذا الدور اختيار إلهى فلم يكن من بين الصحابة من هو مؤهل للقيام به . و قد دفعت الأمة ثمناً باهظاً لتقاعسها عن نصرة الامام و الالتزام بخطه . .
دفعته فرقة و شتاتاً .
ص: 138
و دفعته دماً و رجالاً . .
و دفعته فقهاً و علماً . .
بعد أن قضى الامام على على شوكة الخوارج تجهز لقتال أهل الشام إلا أن أهل العراق افترقوا و تنازعوا أمرهم بينهم مما أدى إلى تعطيل الحملة العسكرية المتجهة لقتال معاوية . .
و لقد عانى الامام من أهل العراق كثيراً فقد تسببوا بتقاعسهم و تخاذلهم في عرقلة مسيرته و إضعاف شوكته أمام معاوية و أمام الخوارج . .
يقول الامام فى أهل العراق : أما بعد يا أهل العراق فإنما انتم كالمرأة الحامل. حملت فلما أتمت أملصت قيمها و طال تأيمها و ورثها أبعدها . أما والله ما أتيتكم اختياراً و لكن جئت إليكم سوقاً .
ولقد بلغنى انكم تقولون : على يكذب . قاتلكم الله فعلى من الكذب؟ أعلي؟ فأنا أول من أمن به . أم على نبيه؟ فأنا أول من صدقه . كلا والله . ولكنها لهجة غبتم عنها و لم تكونوا من أهلها . ويل أمه كيلاً بغير ثمن . لو كان له وعاء. (وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) . . (1)
و مثلما خذل أهل العراق الامام على خذلوا أيضاً الامام الحسن من بعده و دفعوه دفعاً إلى معاوية ثم نقموا عليه واستباحوه . . (2)
يروى ابن حجر نقلاً عن الطبري: جعل على على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عباده و كانوا أربعين ألفاً بايعوه على الموت. فقتل على فبايعوا الحسن بن على بالخلافة . و كان لا يحب القتال و لكن كان يريد ان يشترط على معاوية لنفسه فعرف أن قيس بن سعد لا يطاوعه على الصلح فنزعه و أمر عبدالله بن عباس فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن . . (3)
ص: 139
و یروى ابن حجر : سلم الحسن لمعاوية الأمر وبايعه على إقامة كتاب الله و سنة نبيه . و دخل معاوية الكوفة و بايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس و انقطاع الحرب .
وبايع معاوية كل من كان معتزلاً للقتال كابن عمر و سعد بن ابي وقاص ومحمد مسلمة. و أجاز معاوية الحسن بثلاث مائة الف ثوب و ثلاثين عبدا و مائة جمل . . و انصرف إلى المدينة و ولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة و البصرة عبدالله بن عامر و رجع إلى دمشق . . (1)
ویروى البخارى قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم للحسن : إن ابني هذا لسيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين . .(2)
ويحاول المؤرخون أن يؤكدوا على أن معاوية هو الذى رغب في الصلح مع الحسن و سعى إليه و أنه عرض عليه المال و رغبه فيه و حثه على رفع السيف و ذكره ما وعده به جده صلی الله علیه و آله و سلم من سيادته فى الاصلاح به فقبل الحسن العرض و صالح معاوية . . (3)
ويؤكد الكثير من المؤرخين أن الحسن اشترط على معاوية أن يجعل له الأمر من بعده و قبل معاوية هذا الشرط . . (4)
ومن الواضح أن هذه الروايات تفوح منها رائحة السياسة و الهدف منها هو التمويه على حركة الامام الحسن و طمس معالمها و تشويه اهدافها . .
ص: 140
و يبدو من رواية الطبرى أن الامام الحسن لم يكن يرغب في السير على نهج الامام على و مواصلة القتال ضد معاوية و هو بمجرد أن بويع بالخلافة قرر الاستلام لمعاوية و تصفية المعارضين لنهج الصلح معه . و كيف لإمام يقود أربعين الف مقاتل بايعوا على الموت أن يميل إلى السلم بهذه البساطة ؟ كيف له أن يضحي بمبادئه و عقيدته و جنده في مقابل أن يشترط لنفسه ؟ إن مثل هذه الرواية تعد طعناً في الإمام على و نهجه كما تعد طعناً فى الإمام الحسن . فكأنها تشير إلى أن الامام فشل في القيام بدوره و خلف من بعده شخصاً ضعيفاً لم يتعلم منه شيئاً و هواه مع الدنيا و نفسه و ليس مع الآخرة و الإسلام . .
و تأتى رواية ابن حجر لتؤكد رواية الطبرى و تسير على منوالها في تشويه الامام الحسن و التمويه على حقيقة الصراع الذي دار بينه و بين معاوية. فهي تشير إلى أن الامام الحسن بايع معاوية و أدخله الكوفة و قبض منه ثمن ذلك ثلاث مائة الف و الف ثوب و ثلاثين عبدا و مائة جمل و فى هذا تشويه ما بعده تشويه للإمام الحسن و تعتيم ما بعده تعتيم على حقيقة الصراع . .
أما رواية البخارى فهى رواية واهية لا يستقيم معناها و طبيعة الحدث و قد غاب عن مخترعيها الحقائق التالية :
ص: 141
- أن الروايات الأخرى تشير إلى أن الامام الحسن تنازل لمعاوية لا اصطلح معه
- أن المصلح إنما يكون عادة من خارج دائرة الصراع لا أن يكون أحد طرفي الصراع . .
- أن الرواية لا تفيد الجزم بوقوع الاصلاح . .
- أن قوله بين فئتين من المسلمين يعنى أن دعواهما واحدة بينما فئة الامام الحسن و فئة معاوية ليست دعواهما واحده . .
- أن الامام الحسن مات مقتولاً بالسم بينما جعل معاوية ولده يزيد خليفة له و في هذا إشارة إلى أن الصراع لم ينته بين الحسن و معاوية حتى مقتله . . أن تولية معاوية ولده يزيد هو غدر بالأمة بأكملها لا بالإمام الحسن وحده و هو برهان ساطع على عدم وجود صلح من الاصل. إذ لو كان هناك صلحاً ما كان هناك غدراً من قبل معاوية .
فالغدر لا يكون إلا إذا كان معاوية مغبوناً بهذا الصلح إن كان واقعاً . .
و ما حدث بين الحسن و معاوية إنما هو أمر أشبه بأمر التحكيم لم يرضخ له الامام الحسن كما لم يرضخ الامام على لنتيجته مما اضطر معاوية إلى التآمر و الغدر للخلاص من الحسن . .
و تركيز الفقهاء و المؤرخون على رواية صلح الحسن هذه إنما يهدف إلى تبرير سلوك معاوية بنص منسوب للرسول صلی الله علیه و آله و سلم لا يتطرق إليه الشك من قبل المسلمين . و هم بهذا قد وقعوا في الفخ الذي نصبه مخترعو الرواية . .
يقول ابن حجر : و فيه - أى فى حديث الصلح - فضيلة الاصلاح بين الناس و لاسيما في حقن دماء المسلمين. و دلالة على رأفة معاوية بالرعية و شفقته على المسلمين و قوة نظره في تدبير الملك و نظره فى العواقب . و فيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الافضل لأن الحسن و معاوية ولى كل منهما الخلافة و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد في الحياة و هما بدريان . وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى فى ذلك صلاحاً للمسلمين و النزول عن الوظائف الدينية و الدنیوية بالمال
ص: 142
و جواز أخذ المال على ذلك. و استدل به على تصويب رأى من قعد عن القتال مع معاوية و علي . .(1)
لقد بنى الفقهاء أحكاماً على رواية الصلح هذه كما هو واضح من كلام ابن حجر الذى بالغ فى الاستنباط إلى درجة جواز النزول عن الوظائف الدينية مقابل المال . و هذا الأمر أن دل على شيء فإنما يدل على أن فقه القوم ينظر إلى الوظائف الدينية نظرة استخفاف. وهذه النظرة هى التى بررت سلوك الفقهاء مع الحكام و تعايشهم معاً . .
فمادام الحسن قد تقاضا مالاً على الصلح مع معاوية . .
و مادام الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قد حكم أن الطائفتين من المسلمين . .
و مادام سعد أو سعيد كلاهما أفضل من الحسن . .
فإذا ذلك كله يبرر التنازل عن العقائد و المبادئ من أجل المال . .
ويبرر القعود عن نصرة الحق مادامت الطائفتين من المسلمين. .
ويبرر أن يحكم المسلمين المفضول مع وجود الافضل . .
و على أساس هذه التبريرات قامت عقائد وتأسست مفاهيم في فقه القوم انعكست على فكرة الدولة والحكم وعلاقة الحاكم بالرعية . وعلاقة الفقيه بالحاكم . .
كانت وقعة كربلاء آخر صورة من صور الصدام المسلح بين الإسلام النبوى والإسلام الاموى استتر بعدها الإسلام النبوى بينما أخذ الإسلام الاموى امتداده و انتشاره و سيادته . .
منذ ذلك الحين حلت لغة البيان و القلم مكان لغة السيف في خط المواجهة بين الإسلام النبوى و الإسلام الاموي. .
ص: 143
حمل أئمة ال البيت وشيعتهم لواء البيان والقلم لتبصير الأمة بحقيقة الإسلام النبوى و دعوتها للالتزام به . .
وتبنى حكام بني أمية خطة الدفاع عن الإسلام الاموى و تشويه الإسلام النبوي . .
لقد سطر الامام الحسين بدمائه نهج الثورة و المواجهة للإسلام الاموى وكل صور الإسلام الزائفة التى نبعت منه . و وضع الخطوط العريضة للأمة لتبنى على أساسها التصدى و مواجهة الصور الزائفة للإسلام . .
إن ثورة الامام الحسين هزت واقع الأمة و شهادته زلزلتها . و وجهت ضربة قوية إلى معاوية و نهجه أيقظت الأمة من ثباتها و بعثت فيها روح التحدى و المواجهة . .
إن هذه الثورة هي نتاج طبيعى لمرحلة الامام الحسن ورد مباشر على غدر بنی أمية و مؤامراتهم و هى تؤكد للأمة أن الصراع لازال مستمر و لن ينتهى بين الإسلام النبوى و الإسلام الاموى و تبطل من جهة أخرى كل محاولات التشكيك و التعتيم التي أحاطت بحركة الامام الحسن . .
و كما حاول الفقهاء والمؤرخون تشويه هوية الصراع بين الامام على و معاوية و بين الامام الحسن و معاوية حاولوا أيضاً تشويه الصراع الذي دار بين الامام الحسين و بين يزيد بن معاوية و التعتيم عليه و طمس معالمه و تبييض وجه يزيد أو وجه الإسلام الاموى الذي يمثلونه.
يروى ابن عبد البر : لما مات معاوية و أفضت الخلافة إلى يزيد و ذلك في سنة ستين وردت بيعته على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ البيعة على أهلها أرسل إلى الحسين بن على و إلى عبد الله بن الزبير ليلاً . فأتى بهما فقال : بايعا. فقالا : مثلنا لا يبايع سراً. و لكننا نبايع على رؤس الناس إذا أصبحنا فرجعا إلى بيوتهما و خرجا من ليلتهما إلى مكة .
و أقام الحسين بمكة شعبان و رمضان و شوالاً و ذا القعدة و خرج يريد الكوفة فكان
ص: 144
سبب هلاكه يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين بموضع من أرض الكوفة يدعى كربلاء قرب الطف . . (1)
و يتضح من خلال هذه الرواية مايلي:
- أن الامام الحسين كذب على الوليد بن عتبة و خشى أن يواجهه بالحقيقة . .
- أن الامام الحسين فر من المدينة ليلاً خوفاً من بطش الوليد . .
- أن ثورة الحسين كانت حركة عشوائية كان نتيجتها هلاكه . .
و يروى ابن حجر عن ابن عمر أنه قال عندما رأى الحسين مقبلاً : هذا أحب اهل الارض إلى أهل السماء اليوم وكانت إقامة الحسين بالمدينة إلى أن خرج مع أبيه إلى الكوفة فشهد معه الجمل ثم صفين ثم قتال الخوارج وبقى معه إلى أن قتل ثم مع أخيه إلى أن سلم الأمر إلى معاوية فتحول مع أخيه إلى المدينة واستمر بها إلى أن مات معاوية فخرج إلى مكة ثم أتته كتب أهل العراق بأنهم بايعوه بعد موت معاوية فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب فأخذ بيعتهم وأرسل إليه فتوجه وكان من قصة قتله ما كان . . (2)
و هذه الرواية إنما تعضد سابقتها إلا أنها تحاول إثبات أن الامام الحسين أسهم في تسليم الأمر إلى معاوية مع الامام الحسن. وهذا الموقف من شأنه أن يثير الشكوك حول حركته. فما دام قد شارك في تسليم الأمر إلى معاوية وتقاضى الاموال مقابل ذلك فإن حركته ضد يزيد من الممكن أن تشوبها أغراض دنيوية .
ويروى أن الحسين لما بلغه خبر مقتل مسلم بن عقيل هم بالرجوع . فقال البعض : والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل فساروا . وكان عبيدالله بن زياد قد جهز الجيش لملاقاته فوافوه بكربلاء منزلها ومعه خمسة واربعون نفساً من الفرسان ونحو مائة راجل فلقيه الحسين واميرهم عمر بن سعد بن ابي وقاص وكان عبيد الله ولاه بعهده عليها إذا رجع من حرب الحسين. فلما التقيا قال له الحسين : اختر منى إحدى ثلاث : إما أن الحق بثغر من الثغور . وإما أن ارجع إلى المدينة.
ص: 145
وإما أن اضع يدى فى يد يزيد بن معاوية . فقبل بذلك عمر منه وكتب إلى عبيد الله فكتب إليه لا أقبل منه حتى يضع يده في يدي . فامتنع الحسين فقاتلوه فقتل معه اصحابه وفيهم سبعة عشر شاباً من أهل بيته ثم كان آخر ذلك أن قتل وأتى برأسه إلى عبيد الله بن زياد فأرسله ومن بقى من أهل بيته إلى يزيد ومنهم على بن الحسين وكان مريضاً ومنهم عمته زينب فلما قدموا على يزيد أدخلهم على عياله ثم جهزهم إلى المدينة . . (1)
وهذه الرواية تعد من أسوأ الروايات التى رويت حول الصراع بين الامام الحسين ويزيد فهى تضع الامام الحسين فى موضع غاية في المهانة بينما تبيض وجه يزيد . . وأول ما تحاول إثباته هذه الرواية هو أن الامام الحسين أصيب بالإحباط فور علمه بنبأ مقتل مسلم بن عقيل وقرر العودة وفى هذا إشارة إلى أن خروجه لم يكن بهدف الثورة كما لم يكن يقوم على أساس خطة منظمة . .
و ما تحاول الرواية إثباته ثانياً هو أن اصحاب الحسين قد خالفوه وأصروا على مواصلة المسير طلباً للثأر . أى أن موقفهم هذا كان مجرد رد فعل لمقتل مسلم ولم يكن نابعاً من إيمانهم بالإسلام النبوى الذى يقاتلون تحت لواءه وبالامام الحسين قائدهم . .
ولقد وجهت هذه الرواية طعنة شديدة للامام الحسين ولأبيه وأخيه وخط آل البيت والإسلام النبوى الذى يمثله حين طرحت على لسانه هذا الطرح الانهزامي الخانع الذى يعكس شخصية منهارة قدمت التنازلات فور حدوث المواجهة ومن قبل وقوع الصدام. وبدا وكأن الامام الحسين لم يكن يحسب حدوث مواجهة ولم يكن يتوقع أي صدام مع بني أمية . .
فحين يطلب منحه الفرصة للذهاب للقتال في ثغر من الثغور فكأنه بهذا يطلب تجنيده في جيوش بني أمية ليقاتل تحت رايتهم. وما دام هو يحمل هذا التصور الذى لا يعكس أية صورة من صور العداء لبني أمية فلماذا خرج من الأساس. .؟
ص: 146
وحين يطلب الرجوع إلى المدينة كأنه بهذا يضحى بكل القيم والمبادىء التي آمن بها وتبعة الناس على أساسها من أجل النجاة بنفسه. .
وحين يطلب أن يضع يده في يد يزيد فكأنه بهذا يضحى بالاسلام النبوي وجهاد أبيه وأخيه وينفى وجود أية بوادر عداء وصراع بين الحق الذي يمثله والباطل الذى يمثله يزيد وبني أمية . .
وكيف للامام الحسين يطلب وضع يده في يد يزيد ويقدم مثل هذه التنازلات ثم في النهاية يرفض أن يضع يده في يد عبيد الله بن زياد ويقاتل على ذلك . .؟
أن الذى يقدم مثل هذه التنازلات لا تعجزه مثل هذه الخطوه ولا تشكل له حرجاً. وهو قد قدم هذه التنازلات حتى يتقى شر القتال فكيف يوقع نفسه فيه بهذا السبب . .؟
أن مثل هذه الروايات وغيرها إنما هى من صنع السياسة واخترعت خصيصاً لخدمة الخط الاموى ونصرته وضرب خط آل البيت وتشويهه . .
تروى كتب التأريخ أن عبيد الله بن زياد صعد منبر المسجد الجامع في الكوفة وخطب فى الناس بعد مجزرة كربلاء قائلاً: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن على وشيعته . . (1)
ويحاول مؤرخو وفقهاء البلاط الأموى أن يدافعوا عن يزيد وتبرأته من تهمه الحسين سفک دم الحسین مستغفلين عقل الأمة بروايات واهية لا يستريح لها عقل ولا تطمئن لها نفس . .
يروى أن يزيد حين رأى رؤوس الحسين ورفاقه بكى وقال : كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية أما والله لو أنى صاحبه لعفوت عنه . . (2)
ص: 147
ورغم ذلك لم تثبت لنا الروايات التي جاءت عن طريق مؤرخى البلاط أن یزید أنزل أية صورة من صور العقاب بابن سمية (ابن زياد) بل لم يعاتبه على هذا الفعل من الاصل . .
وهذا الأمر ان دل على شيء فإنما يدل على تواطئ يزيد وموافقته بل وتحريضه على قتل الحسين وأهل بيته . وهذا هو السلوك الذى يتلائم معه ومع شخصيته. وهذا هو الموقف الذى يتبناه حكام بني أمية فى مواجهة آل البيت . .
و لقد قالها عبد الملك بن مروان حين ارتقى منبر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة عام 57ه- : أني لن اداوى امراض هذه الأمة بغير السيف . والله لا يأمرني أحد بعد مقامى هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه . . (1)
ص: 148
- القرآن . .
- آل البيت . .
ص: 149
ص: 150
أوضح الرسول صلی الله علیه و آله و سلم مرتكزات الإسلام النبوى فى كثير من وصاياه وتوجيهاته للأمة غير أن سيادة الاسلام القبلى بعد وفاته ثم الاسلام الاموى بعد ذلك قد أديا الى التعتم على هذه المرتكزات وتضليل المسلمين عنها كوسيلة لضرب الاسلام النبوى ومحوه من واقعهم . . فهذه الروايات التي جاءت على لسان الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في الامام على إنما تؤكد للأمة ان الامام على هو مرتكز الاسلام من بعده . . وهذه الروايات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في شيعة على من صحابته إنما تؤكد أن هؤلاء الصحابة هم ركيزة الامام و ركيزة هذا الاسلام وأنصاره . .
كذلك الروايات الواردة في القرآن الذي ورثه الرسول للأمة إنما تؤكد أن هذا القرآن هو الركيزة الاساسية لهذا الاسلام . .
و لقد عمد أنصار الخط الأموى الى تشويه القرآن والامام على وآل البيت و شيعتهم من الصحابة والتابعين واختراع بدائل تحل محلهم . .
فبدلاً من القرآن الذى ورثه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم اعتمدوا مصحف عثمان . . و بدلاً من الامام وآل البيت اعتمدوا عائشة ومعاوية وابن عمر وأبو هريرة وابن العاص وغيرهم.
و فى مواجهة الروايات الواردة فى الامام وآل البيت وشيعتهم اخترعوا روايات مناقضة لها تبارك خطهم وتضفى المناقب عليهم . .
إن الاسلام النبوى يرتكز على ركيزتين أساسيتين هما :
- القرآن . .
- آل البيت . .
لقد أوصى الرسول صلی الله علیه و آله و سلم الامة بالقرآن و حثّ عليه في روايات ومواضع كثيرة كانت آخرها حجة الوداع حيث أوصى الامة بضرورة التمسك بالكتاب و العترة آل البيت . .
ص: 151
یروى البخاري عن طلحة قال سألت عبدالله بن أبي أوفى أوصى النبي صلی الله علیه و آله و سلم؟ فقال : لا . فقال : كيف كتب على الناس الوصية . أمروا بها ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله . . (1)
ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : خيركم من تعلم القرآن و علمه . . (2)
ويروى : إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه . . (3)
ویروی : تعاهدوا القرآن . فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها . . (4)
ويروى : اقرءوا القرآن ما أئتلفت عليه قلوبكم . . (5)
ويروى مسلم عن الرسول قوله فى خطبة الوداع : . . كتاب الله فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه . . (6)
ومثل هذه الروايات إنما تشير الى أن القرآن كان موجوداً على عهد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وكان الصحابة يتناولونه من الرسول. وقد برز من بينهم من هو ماهر فيه ملتزم به يحفظه عن ظهر قلب. وعلى رأس هؤلاء كان الامام على وابن مسعود وابی ابن كعب ومعاذ بن جبل . . روى البخاري عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم : خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وابي بن كعب . .(7)
ص: 152
ويبدو أن أنصار الخط الأموى لم تعجبهم هذه الرواية على الرغم من عدم وجود على فيها لكون الأربعة من أنصار الامام ومن المناهضين لهم فاختراعوا رواية أخرى تناقضها فيها ثلاثة آخرين . .
يروى البخاري عن أنس قال : مات الرسول ولم يجمع القرآن غير أربعة : ابوالدرداء و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و ابو زيد . (1).
ويروى عن ابن مسعود قوله : والله الذى لا إله غيره ما انزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت و لا انزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت . (2) .
إلا أن أبابكر حين قام بجمع القرآن لم يستعن إلا بزيد بن ثابت وحده . وعثمان حين ألزم الأمة بمصحف واحد اختار مصحف حفصة الذي كان قد جمعه ابوبكر ولم يختر مصحف الامام على او ابن مسعود أو ابي بن كعب او ابن عباس ولم يستعن بأى من هؤلاء لا في عهد ابي بكر ولا في عهد عثمان حتی أنه كان هناك مصحف لدى عائشة أيضاً لم يستعن به . (3).
ان هذا القرآن الذى تركه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وتلقاه منه الامام على وابن مسعود وابن عباس وابي وغيرهم هو ركيزة الاسلام النبوى التي حض عليها و وصى بها. وان ماورثه الامام عن النبي من تفسيرات حوله و ورثها عنه شيعته هي الدافع الفعلى الذي دفع انصار الاسلام القبلى ومن بعدهم انصار الاسلام الاموى الى ضرب هذا القرآن واستبداله بقرآن آخر لا يحوى هذه التفسيرات و ليس مرتباً على الترتيب النبوى . (4)
ص: 153
وقوله تعالى للرسول صلی الله علیه و آله و سلم : (إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَٰاهُ فَاٝتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (1) يحوى الدليل القاطع على أن القرآن كان مجموعاً في عهد الرسول وان الرسول تلقى بيانه من جبريل والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : أين بيان القرآن. ولماذا لم يظهر في عملية الجمع . .؟
ان الإجابة على هذا السؤال تكشف لنا حقيقة المؤامرة التي نسجت خيوطها بعد وفاة الرسول فالقرآن النبوى ببيانه لا يتماشى مع الحظ القبلى والأموى من بعده. فمن ثم كانت الحاجة الى تجريد القرآن من هذا البيان حتى يمكن أن يتماشى مع الاتجاه السائد . .
أوصى الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بآل البيت في روايات كثيرة وفى حجة الوداع حين قال:
أذكركم الله في أهل بيتى . أذكركم الله فى أهل بيتى . اذكركم الله في أهل بيتي . (2) .
وقال : انى تارك فيكم ثقلين كتاب الله وأهل بيتى . (3).
ویروى مسلم أنه لما نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءَكُمْ) دعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلى . (4) .
ویروی : خرج النبي صلی الله علیه و آله و سلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن على فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء على فأدخله . ثم قال إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطيهراً . (5).
ص: 154
إن ربط الرسول صلی الله علیه و آله و سلم القرآن بأهل البيت يعني تلازمهما . كما يعنى أن فهم القرآن والالتزام به لن يتم إلا عن طريقهم. وفى هذا إشارة الى أن الرسول ورثهم بيان القرآن وتفسيره الذى أخذه عن جبريل .
من هنا كانت الحرب الضروس من قبل الامويين على آل البيت بداية بالامام على ونهاية بالامام الحسين تلك الحرب التي انتهت بقتل الأئمة الثلاثة وتصفية أنصارهم وشيعتهم . .
ثم اكمل العباسيون الحرب من بعدهم فقتلوا بقية أئمة آل البيت و بطشوا ونكلوا بأتباعهم . (1) .
هذه الحرب كانت فى حقيقتها بين إسلامين متناقضين بقاء أي منهما لابد وأن يكنون على حساب الآخر. فمن ثم لا مجال للقاء بينهما. و مادامت السلطة والسيادة قد تملكها أعداء آل البيت فلابد لهم أن يبطشوا بهم لكونهم ممثلو الاسلام النبوى والناطقون بلسانه ذلك الاسلام الذى يشكل الخطر الأكبر على الاسلام الذى يرفعون رايته والذى يرتبط به وجودهم ومستقبلهم . .
و لقد ارتبطت الجماهير المسلمة على الدوام بآل البيت على الرغم من إرهاب الحكام وتعتيمهم عليهم وذلك لمكانة آل البيت فى قلوب المسلمين تلك المكانة المستمدة من النصوص الشرعية التي وردت فيهم والتي لم يستطع الحكام بإعلامهم وبطشهم أن يطمسوها .(2) .
ص: 155
و استمرار وجود خط آل البيت على مر الزمان على الرغم من كيد ومؤامرات وبطش الحكام إنما يدل على أن هذا الخط هو التعبير الحق عن الاسلام . كما أن استمرار ارتباط الجماهير المسلمة به هو البرهان الساطع على ذلك. فلو كان هذا الخط مجرد طرح عادى لكان قد قدر له أن يندثر كما اندثرت مذاهب وفرق وأصبحت في ذمة التاريخ. لكن بقاء هذا الخط هو تأكيد على أن الاسلام النبوى باق حتى تقوم الساعة ليكون حجة على المارقين والمخالفين . .
و آل البيت هم الأئمة الاثنى عشر الذين بشر بهم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم في أحاديثه المنتشرة في كتب القوم و التى اضطروا فى مواجهتها إلى تأويلها وصرفها عن آل البيت خدمة للحكام . .
يروى مسلم عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قوله : ان هذا الامر -الدين - لا ينقضى حتى يمض فيهم اثنا عشر خليفة . (1).
و يروى أيضاً : لايزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً . (2) .
و يروى : لايزال الاسلام عزيزاً الى اثنى عشر خليفة . (3) .
يروى : لايزال هذا الدين عزيزاً منيعاً الى اثنى عشر خليفة . (4) .
وجميع هذه الروايات تنتهى بقول الراوى : ثم تكلم بشئ - أى الرسول - لم افهمه . أو تكلم بكلمة خفيت على . . . ثم يفسر الرواى هذا الكلام على لسان الرسول بقوله : كلهم من قريش (5) .
ص: 156
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل ما قاله الرسول خفية كلهم من قريش حقاً ؟
وما هو مبرر إخفاء الرسول لهذه الكلمة . . ؟
وهل يجوز للرسول أن يخفى حكماً عن المسلمين . . ؟
اننا امام هذه الروايات بين أمرين :
اما أن يكون الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قد قال شيئاً أخفاه الراوى وأبدله بكلمة كلهم من قريش . . واما أن يكون قد قال كلهم من قريش وفي هذه الحالة ليس هناك مبرر لاخفائها لكونها لا تصطدم بالخط السائد . .
ولو كان الرسول قد قال : كلهم من آل البيت لكان من الممكن أن يكون مبرر الاخفاء مقبولاً لكون الامام على هو رأس آل البيت وامامهم والقوم يسعون الى عزلهم عن المسلمين. لكن إن يكون المقصود بالاخفاء قريش فهو الأمر الغير مقبول عقلاً . .
لقد أخضع هذا النص للسياسة كما اخضعت نصوص كثيرة على شاكلته وما يؤكد ذلک هو اضافة فقهاء القوم من شروح لهذا النص تهدف الى تطويعه للخط الاموى . . ويجمع فقهاء القوم على أن المقصود بالأئمة الاثنى عشر الذين أشار إليهم الرسول صلی الله علیه و آله و سلم هم ابوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم على ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك بن مروان ثم اولادة الاربعة : الوليد و سلیمان و يزيد و هشام ثم عمر بن العزيز . (1).
و يبرر الفقهاء هذا لتفسير بأن الأمة اجتمعت على هؤلاء واختلفت فيما سواهم والمراد بالاجتماع انقيادهم لبيعتهم فمن بعدهم انتشرت الفتن وتغيرت الأحوال . (2) .
ص: 157
إلا أن الفقهاء فاتهم أن الامام على لم تجتمع عليه الأمة و من ثم يجب حذفه من الاثنى عشر كما حذف سواه بحجة عدم الاجتماع عليه . (1) .
ان القوم يتخبطون في مواجهة هذا النص تخبطاً لا حدود له وهم عاجزون عجزاً واضحاً عن تحديد الأئمة الإثنى عشر الذين قصدهم الرسول و ربط عزة الاسلام بهم. (2) .
یروی ابن حجر عن أحد الفقهاء قوله : لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث-أى رواية الاثنى عشر - بشئ معين . (3) .
و هذا التخبط بين الفقهاء فى تحديد شخصية الأئمة الاثني عشر إنما يعود الى حصر مصدر التلقى في محيط الاسلام الاموى . وبالطبع لن يجدوا بين نصوص هذا الاسلام ومفاهيمه مايهديهم إلى حقيقة مراد الرسول ومعرفة الأئمة الاثنى عشر الذين قصدهم وأشار إليهم . .
لو أطلع هؤلاء الفقهاء على خط آل البيت و تعرفوا على الاسلام النبوى و كسروا حواجز السياسة لأمكن لهم تحديد هوية الأئمة الاثنى عشر . .
إن ربط مستقبل الاسلام بالحكام لا يمكن أن يكون مقصد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فهؤلاء الحكام لا تنبأ سيرتهم بتقوى أو ورع اودين يمكن ان يربط مستقبل الاسلام بهم . وان ربط الفقهاء قضية الاثنى عشر بالحكام إنما يبرهن على خضوعهم للسياسة وتطويعهم النصوص لأهدافها . .
والاسلام النبوى يحدد لنا الأئمة الاثنى عشر في الشخصيات التالية :
ص: 158
- الامام علي بن ابي طالب . .
- الامام الحسن بن على . .
- الامام الحسين بن على . .
- الامام على بن الحسين . .
- الامام محمد بن على . .
- الامام جعفر بن محمد . .
- الامام موسى بن جعفر . .
- الامام علي بن موسى . .
- الامام محمد بن على . .
- الامام على بن محمد . .
- الامام الحسن بن على . .
- الامام المهدى المنتظر ابن الحسن . (1) .
و بتتبع سيرة هؤلاء الأئمة يتبين لنا أنهم ممثلى الاسلام النبوى والناطقين بلسانه على مر الزمان وأن سيرتهم هى سيرة الانبياء والصالحين وخلقهم هو خلق القرآن. إلا أن حكام الزمان تتبعوهم فقتلوهم ومحو سيرتهم وأسدلوا الستار عليهم وشاركهم الفقهاء هذه المؤامرة التي راح ضحيتها أجيال المسلمين الذين شبوا لا يعرفون شيئاً عن هؤلاء الأئمة الذين حجبت عنهم الاضواء وشوهت سيرتهم في كتب القوم وتم ضرب الروايات التى رووها عن الرسول ومحوها من كتب الاحاديث وتضخيم شخصيات معينة من الصحابة والتابعين بهدف التغطية عليهم (2) .
ص: 159
ص: 160
- مصحف عثمان . .
- الصحابة . .
- الروايات . .
ص: 161
ص: 162
كانت صفين هى المنعطف التأريخى الذى ابثق منه الاسلام الاموى وساد واقع المسلمين. وكان ضرب خط الاسلام النبوى الذى رفع لواءه الامام على و تقوقعه هو بداية غياب التصور الاسلامى الصحيح من هذا الواقع . .
و منذ ذلك الحين بدأ معاوية وبني أمية من بعده عملية تأسيس جديدة للإسلام معتمدين فيها على الخط القبلى ورموزه البارزة وعلى الرموز الأخرى التي تحالفت معهم . .
وأصبح هذا الاسلام هو الاسلام الشرعي الذي حاز على رضا الحكام على مر الزمان من بنى العباس وغيرهم فقد وجدوا فيه الحصانة والشرعية التي تؤهلهم لمواجهة الاسلام النبوى والخارجين عليهم .
أصبح الاسلام الاموى مباحاً وخط الامام على محظوراً ومجرماً يبطش باتباعه
و ينكل بهم . . وأصبح الاسلام النبوى إسلام باطل يقود إلى النار . .
و أصبح الاسلام الاموى حق يقود الى الجنة . .
و لقد عاش الاسلام الاموى فى كنف الحكومات ورعايتها وحمايتها فتحققت له السيادة و البقاء . .
و ضرب الاسلام النبوى واغتيل أئمته فاضطر الى الاختفاء .
و السؤال الذي يطرح نفسه هنا : ماهی ركائز الاسلام الاموى . . ؟
و الاجابة هى أن هذا الاسلام قد قام على ثلاثة ركائز أساسية :
أحدث عثمان فتنة كبيرة بإحراقه المصاحف والزامه الأمة بمصحف محدد بهدف خدمة الخط السائد وضرب خط ال البيت والتعتيم على الاسلام النبوى . (1)
ص: 163
ولقد مهد عثمان بعمله هذا لبروز الاسلام الاموى ودعم أطروحته إذ أن المصاحف الأخرى كانت بين يدى صحابة من شيعة على الملتزمين بالاسلام النبوى . .
كان هناك مصحف ابن مسعود . .
و مصحف ابي بن كعب . .
و مصحف ابن عباس . .
ثم مصحف الامام على . .
و هؤلاء الاربعة تلقوا القرآن من الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مباشرة فمن ثم هم قاوموا عثمان و رفضوا قراره هذا مما اضطره إلى البطش بالرافضين . .
و وجه الخلاف بين مصحف عثمان وبين مصحف الامام على ومصاحف الصحابة ينحصر في أمرين :
- أنه مرتب ترتيباً خاصاً . .
- أنه مجرد من الحواشى و التفسيرات التى كانت بالمصاحف الأخرى . .
و بالنسبة لأمر الترتيب فقد اعتمد فيه عثمان على عدد من الصحابة الذين ليس لهم سابقة في كتابة القرآن او حفظه . (1) .
و من وجهة أخرى هو اعتمد مصحف حفصة من دون بقية المصاحف التي كانت موجودة . ومصحف حفصة هو المصحف الذى جمعه ابوبكر وعمر : فكأنه بهذا لايريد للمسلمين أن يخرجوا عن حدود القرآن الذى جمعه ابوبكر ولا يريد أن يلتزم المسلمون بمصحف الامام على او ابن مسعود أو ابي أو ابن عباس لأن هؤلاء من شيعة على ومصاحفهم لا تخدم الخط القبلى وخط بن امية الذى يقوم بالتمهيد له . (2) .
ص: 164
ان عثمان بالزامة الامة بمصحف حفصه إنما يريد أن يلزمها بالخط القبلى وأن يقضي على أية بادرة تنحرف بالامة عن هذا الخط . .
و مادامت المصاحف كانت موجودة بين الصحابة فلم يكن هناك من دافع قوى يدفع بعثمان إلى فعله هذا سوى ضرب الاسلام النبوى ومحاصرة الامام على الذي بدأ نجمه فى البروز نتيجة لكثرة المظالم والانحرافات في عهده . .
و إذا كانت مسألة القراءات هي الدافع لعمل عثمان هذا كما يصور المؤرخون وفقهاء القوم فقد كان ممن الممكن لعثمان أن يلزم الأمة بقراءة واحدة دون أن يحرق المصاحف . (1)
لو كانت المسألة مسألة قراءات ما تصدى له الصحابة ولا اصطدم به إبن مسعود . . ومن المعروف تأريخياً أن مصحف الامام على كان مرتباً ترتيباً زمنياً ولاشك أن مثل هذا الترتيب من شأنه أن يسهم فى فهم مدلولات النص القرآنى . (2) .
و عندما تكون هناك آيات مدنية في سورة مكية وآيات مكية في سورة مدنية فإن هذا سوف يخلخل مضمون السورة.
و الهدف من الترتيب العثماني هو التمويه على نصوص القرآن الخاصة بآل البيت والتي ترمى الى معان محددة لاتخدم الخط السائد بوضعها في وسط آيات تموه على معناها الحقيقى وتذهب بها مذهباً آخر . .
و من أمثلة ذلك وضع قوله تعالى في سورة الاحزاب: (إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
ص: 165
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً) فى وسط آيات خاصة بنساء النبي حتى يتوطن في ذهن المسلم أن نساء النبي صلی الله علیه و آله و سلم من أهل البيت وبالتالي يضيع المفهوم الحقيقى لأهل البيت والخاص بالامام على وفاطمة وذريتهما ويتشتت بين نساء النبي وذرية على . (1).
و بالنسبة للأمر الثانى فإن تجريد المصحف من المعانى و التفسيرات التي تلقاها الصحابة عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يعني حرمان المسلمين من الوسيلة الشرعية لفهم القرآن التي تحسم الخلاف الذى من الممكن أن يقع حول تفسيره . وقد وقع هذا الخلاف . .
و يعنى من جهة أخرى الحيلولة دون فهم القرآن على نهج النبي صلی الله علیه و آله و سلم ودفع المسلمين الى تلقى هذا الفهم من جهة محددة هي الجهة التي سوف يفرضها الحكم. .
و من أمثلة ذلك ماكان في مصحف ابن عباس فقد كان يقرأ قوله تعالى في سورة النساء : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِه مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) كان يقرأها : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ به مِنْهُنَّ - إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى- فَآتوهُنَّ أجُورَهُنَّ . (2).
و لاشك أن مصحف كهذا سوف يخدم خط بني أمية ويسهم في دعم نموذج الاسلام الذي فرضوه على الأمة . فهو مصحف قابل للتأويل ويمكن استثمار نصوصه بهذا الشكل لصالحهم . .
و لقد كانت العناصر التي تحالفت مع معاوية والتي امكن استقطابها من قبله بمثابة صمام أمن للخط الاموى وركيزة أساسية في بناءه . .
ص: 166
ومن أبرز العناصر التي تحالفت مع معاوية وبني أمية من بعده ودعمت الاسلام الاموى فى مواجهة الاسلام النبوى : عمرو بن العاص وعائشة والمغيرة بن شعبة وابو هريرة وابن عمر وسمرة بن جندب وانس بن مالك وزيد بن أرقم والأشعث بن قيس وجرير بن عبدالله . وجميع هؤلاء من الصحابة الذين احتكوا برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم واستثمر هم معاوية . .
والمتابع لسيرة هؤلاء فى كتب الرجال وكتب التأريخ يتبين له ان التزامهم بنهج الرسول كان ضعيفاً ومشبوهاً وقد وردت على لسان الرسول أحاديث كثيرة بذمهم وكذلك على لسان الامام على ولا ترى فى كتب السنن أية فضائل لهؤلاء من الممكن أن ترفع مكانتهم وتخرجهم من دائرة الشك(1) .
ويروى ان علياً كان يقنت فى صلاة الفجر وفى صلاة المغرب ويلعن معاوية وعمراً والمغيرة والوليد بن عقبة وأبا الأعور والضحاك بن قيس وبسر بن أرطأة و حبیب بن مسلمة وابا موسى الاشعرى ومروان بن الحكم وكان هؤلاء يقنتون عليه ويلعنونه . (2) .
و يقول الامام على فى ابن العاص : انه ليقول فيكذب ويعد فيخلف. ويسأل فيحلف ويسأل فيبخل ويخون العهد و يقطع الال - الرحم - انه لم يبايع معاوية حتى شرط ان يؤتيه أنية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة - ولاية مصر . (3) .
و قال فى مروان بن الحكم حين أسره يوم الجمل : . . لاحاجة لي في بيعته إنها كف يهودية . لو بايعنى بكفه لغدر بسبته. أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه ابو الأكبش الاربعة وستلقى الأمة منه ومن ولده يوما احمر : الوليد . سليمان . يزيد . هشام . (4) .
ص: 167
ولم يكن وقوف هؤلاء الصحابة مع معاوية ومناصرتهم للخط الاموى يقف عند حد القتال معه ونصرته بالسيف والبيان . بل تجاوز هذا الحد إلى اختراع الروايات المنسوبة للرسول صلی الله علیه و آله و سلم والتي تدعم معاوية وتشكك فى الامام على وتضفى المشروعية على الاسلام الأموى.
وهذه الروايات انما تنقسم إلى قسمين :
الأول: روايات خاصة بضرب الاسلام النبوى والتشكيك في الامام على . .
الثاني: روايات خاصة بالمسلمين واخضاعهم للاسلام الاموى . .
و منذ ذلك الحين انقسمت الروايت الواردة في كتب الاحاديث إلى قسمين :
* قسم من رواية انصار معاوية والاسلام الاموى . .
* و قسم من رواية انصار الامام على والاسلام النبوى . .
و لقد دعمت السياسية رواة القسم الاول و سلطت الاضواء على أحاديثهم المنسوبة للرسول والكتب التي تحويها فى الوقت الذى قامت بالتعتيم على رواة القسم الثانى والتشكيك فى رواياتهم والكتب التي تحويها . .
و من هنا قدم البخارى على غيره من الكتب لكونه يحوى روايات أنصار الاسلام الاموى ولا يحوى شيئاً من الروايات التي تدعم الاسلام النبوى . .
والروايات الخاصة بضرب الاسلام النبوى اكثر من أن تحصى وهى روايات تقود إلى التشكيك في الامام على ويبدو ان القوم لم يكتفوا بهذا فاخترعوا روايات خاصة بالإمام لتهز مكانته وقدره في نفوس المسلمين . .
و من هذه الروايات القول المنسوب لرسول صلى الله عليه و آله و سلم : الناس تبع لقريش. ولا يزال هذا الأمر - الحكم - فى قريش ما بقى منهم اثنان . (1) .
ص: 168
والقول الآخر : تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدى ابدا : كتاب الله وسنتي (1) .
وحديث شهادة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لابي بكر و عمر و عثمان بدخول الجنة . (2).
وحديث : عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ . (3) .
وحديث اثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان أى ابوبكر وعمر وعثمان . (4) .
وحديث خصومه على وعم النبى العباس بسبب المال و سب بعضهما البعض. (5) .
وحديث خطبة الامام على ابنة ابى جهل على فاطمة الزهراء وغضب الرسول لذلك . (6) .
وحديث افضل الرجال ابوبكر ثم عمر . ثم عثمان . (7) .
ومثل هذه الروايات انما تهدف الى دعم الاسلام القبلى ورموزه التي تشكل من جانب آخر دعماً للاسلام الاموى الذى ارتكز عليه ونبع منه. وهي من جهة أخرى تشكل طعناً في الاسلام النبوى الذى رفع رايته الامام وتشكل أيضا طعناً شخصياً له بتشويه صورته وتقديم الآخرين عليه . .
ص: 169
أما الروايات الخاصة بالمسلمين والتي تهدف الى اخضاعهم لخط بني أمية فهى اكثر من أن تحصى :
یروى ان الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قال : من يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصانی .(1).
و یروى : السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك . (2) .
و يروى : على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره . (3). ويروى : اسمعوا واطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعلكيم ما حملتم . (4) . يروى : تسمع وتطيع للأمير وأن جلد ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع . (5) .
ويروى على لسان معاوية أنه سمع الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يقول : لاتزال طائفة من أمتی قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون على الناس . (6) .
ويروي: من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية . (7).
ويروي : من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ميتته جاهلية . (8) .
ص: 170
ويروي: من أراد ان يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان . . (1) .
ويروي: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه . . (2) .
وهناك روايات توجب عدم قتال الحكام و الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة . . (3) .
و من الواضح أن هذه الروايات من اختراع السياسة وليس من المعقول أن يحض الرسول على دعم المنكر والظلم وطاعة الحكام الفجرة الذين يسلبون الناس أموالهم ويعذبونهم. وهل جاء الاسلام ليقر الظلم والفساد. .؟
و اذا كان الحاكم يسلب الأموال ويجلد الظهور فهو بهذا يكون طاغية أو قاطع طريق وهل مهمة الحكام إلا حفظ الأمن والحقوق والعدل بين الناس ودفع المظالم عنهم . .؟
ان مثل هذه الروايات إنما تعكس الوجه الحقيقي للاسلام الأموي الذي ساد الأمة حتى يومنا هذا . فهو إسلام استسلامي مداهن للحكام يبرر الظلم والفساد. .
وهو إسلام ينصر الحكام على الشعوب وينصر الأغنياء على الفقراء . .
وهو إسلام يضخم الفروع على حساب الأصول. .
وهو إسلام يزرع بذور الشقاق والانقسام في الأمة. .
وهو إسلام يهين الرسول وآل البيت . . (4) .
ص: 171
هذه هي صورة الاسلام الأموي وأهم معالمه وهي على ما يبدو تتناقض تماماً مع صورة الاسلام النبوي الذي رفع رايته الامام علي الذي يرتبط بالجماهير و يتصدى للحكام وينصر الفقراء والمحرومين ويوحد صفوف الأمة ويركز على الجوهر والاصول ويكرم الرسول ويضعه في مكانته الشرعية كما يضع آل البيت في مكانتهم .
ص: 172
- الدولة الإسلامية ..
- الفكر الإسلامي ..
- التيارات الاسلامية ..
ص: 173
ص: 174
أربعة خطوط برزت بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)
خط آل البيت بقيادة الإمام على و هو يمثل الإسلام النبوي . .
و خط ابوبكر وعمر وهو يمثل الإسلام القبلي . .
وخط عثمان ومعاوية وهو يمثل الإسلام الاموي ..
وخط الخوارج وهو يمثل الاسلام القشرى . .
وقد انتهى الإسلام القبلى بمصرع عمر و بقيت في الساحة الخطوط الثلاثة الأخرى . .
بقى خط آل البيت فى أبناء الإمام على من بعده ثم فى شيعتهم من بعدهم . .
وبقى الإسلام الأموى في كنف الحكومات حتى يومنا هذا . .
وبقى الإسلام القشرى منبوذاً و محاصراً حتى تبنته الحركة الوهابية و قامت بنشره الدولة السعودية بين صفوف المسلمين والتيارات الإسلامية المختلفة في كل مكان . .
ولقد تغلغل الإسلام الأموى فى الفكر الإسلامي على مر الزمان حتى صبغه بصبغته ثم جاء الإسلام القشرى ليلقى بظلاله على هذا الفكر مع الحقبة النفطية المعاصرة بينما قدر للإسلام النبوى أن يظل محصوراً في فئة قليلة مستضعفة هي فئة الشيعة . ويظل بعيداً عن الأضواء محارباً من الحكومات حتى قيض الله له دولاً رفعت رايته وقوت شوكته في عدة بقاع ولفترة من الزمن.
و من أشهر هذه الدول الدولة الفاطمية فى مصر . والدولة الصفوية في إيران .
إلا أن البروز المعاصر للإسلامى النبوى على يد الثورة الإسلامية في إيران يعد أكثر الصور فاعلية و تأثيراً في التأريخ الإسلامى إذ بعثت الروح في هذا الإسلام بعد أن طمرته السياسة قروناً طويلة . .
من هنا فنحن اليوم نعاصر ثلاث صور للإسلام :
الأول : الإسلام الحكومى الذى تفرخ من الإسلام الأموى . .
ص: 175
الثاني: الإسلام السعودى الذى تفرخ من إسلام الخوارج. .
الثالث: الإسلام الشيعى الذى يعبر عن الإسلام النبوي . .
و سوف نعرض فى هذا الباب انعكاسات هذه الصور الثلاث على القضايا التالية :
- الدولة الإسلامية . .
- الفكر الإسلامي . .
- التيارات الإسلامية . .
أقام الأمويون نظاماً ملكياً هو الأول من نوعه في الإسلام وسارت الحكومات التي جاءت من بعدهم على هذا النهج . وساير الفكر الإسلامي هذا الوضع وبني نظرية الدولة الإسلامية على أساسه. .
ولقد كانت أهم ملامح نظام الحكم الإسلامى على مر التاريخ تنحصر فیما يلي :
* الاستبداد . .
* البذخ . .
* الملكية . .
* افتقاد حرية الرأى و احترام الانسان . .
ولم يحدث في تاريخ الفكر الإسلامى أن اصطدم الفقهاء بهذه القواعد بل عايشوها وتفاعلوا معها تماماً كما يتعايش فقهاء اليوم مع الحكومات المعاصرة. فقد كان الحاكم هو الذى يعين القضاة و يتدخل في الأحكام وهو الذي يعين الخليفة من بعده وهو صاحب الرأى الأوحد فى البلاد ويعيش حياة مترفة على حساب المسلمين الكادحين المطحونين . . وما يأسف له المرء أن هذه الصورة المنحرفة للحكم الإسلامي باركها الفقهاء
ص: 176
ودعموها ونسجوا من حولها الروايات والفتاوى التى تبرر هذه الصورة وتدفع بالمسلمين إلى التعاطف معها . . (1)
فهم قد دافعوا عن انحرافات عثمان و برروها . .
ودافعوا عن بني أمية وبنى العباسي . .
ثم عن الأيوبيين و المماليك و العثمانيين . .
ثم ها هم يبكون اليوم على دولة الخلافة العثمانية ويحلمون بعودة حكم الخلفاء. ناسين أو متناسين الجرائم و الانتهاكات و الدماء التي أراقها الخلفاء طوال فترات التاريخ الإسلامى من أجل تثبيت عروشهم . .
ان هؤلاء الفقهاء لا تعنيهم ممارسات الحكام و مواقفهم لكونها لا تمس الدين ولا تصطدم بهم فما دامت لا تمس الدين و لا تصطدم بهم فهي إذن في صالح المسلمين . .
و كيف للحكام أن يمسوا الدين وهو ركيزتهم الأساسية و وسيلة تأمين وجودهم و مستقبلهم؟
وكيف لهم أن يصطدموا بالفقهاء وهم حلفائهم و آداتهم في تطويع المسلمين و تحذيرهم . . ؟
ص: 177
ومثل هذا الموقف إنما هو نابع من التصور الأحادى الذى يجعلهم يتصورون كل ما يخرج عن دائرتهم ودائرة إسلامهم هو الباطل والضلال المبين. فمن ثم يحق للحاكم أن يقتل وان ينهب وان ينتهك الحرمات ما دام كل ذلك يجرى في دائرة المخالفين.
وان أهم انعكاسات الخط الأموى على فكرة الدولة وشكلها ومقوماتها إنما يتمثل في اعتماد الفقهاء لثلاثة صور لقيام الحكم فى الإسلام هي مستنبطه من واقع حكم الخلفاء الثلاثة ابوبكر وعمر وعثمان . .
الصورة الأولى : الشورى من خلال أهل الحل والعقد وهي مستنبطة من السقيفة ومن فعل ابى بكر وفعل عمر حين أوصى بالستة . .
الصورة الثانية : الوصية وهي مشتقة من فعل ابى بكر حين أوصى لعمر وقد مهدت هذه الفكرة لقيام الملكية فيما بعد ..
الصورة الثالثة : ولاية العهد وهى مستنبطة من سلوك معاوية وحكام بني أمية وبني العباس وقد أضفت هذه الصورة المشروعية على نظم الحكم الملكية التي قامت في بلاد المسلمين طوال فترات التاريخ.
يقول القاضي أبو يعلى عن كيفية اختيار الحاكم : وهي فرض على الكفاية مخاطب بها طائفتان من الناس إحداهما : أهل الاجتهاد حتى يختاروا . والثانية : من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب أحدهم الإمامة . أما اهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاثة شروط أحدها :
العدالة . والثاني: العلم الذى يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة. والثالث أن يكون من أهل الرأى والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح . . وأما أهل الإمامة فيعتبر فيهم أربع شروط. أحدها : أن يكون قرشياً من الصميم وقد روى أحمد : لا يكون من غير قريش خليفة.
الثاني : أن يكون على صفة من يصلح أن يكون قاضياً: من الحرية و البلوغ و العقل و العلم و العدالة .
ص: 178
الثالث: أن يكون قيماً بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك والذب عن الأمة.
الرابع : أن يكون من أفضلهم في العلم والدين. وقد روى عن احمد الفاظ تقتضى إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل . فقال : ومن غلبهم بالسيف - أى المسلمين وحاكمهم - حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه إماماً عليه براً كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين . وروى عنه : فإن كان أميراً يعرف بشرب المسكر والغلول - أى سرقة الغنائم - يغزو معه وإنما ذاك له في نفسه . . (1)
و يقول ابن تيمية عن أهل السنة والجماعة : يرون إقام الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجّاراً. .(2)
و يقول البيجوري : ونصب إمام عادل واجب على الأمة عند عدم النص من الله أو رسوله على معين وعدم الاستخلاف من الإمام السابق بخلافه. ولا يتحقق إلا بشروط خمسة : الإسلام والبلوغ والعقل والحرية وعدم الفسق. ثم ان هذه الشروط إنما هى فى الابتداء وحالة الاختيار و أما فى الدوام فلا يشترط . ولو تغلب عليها - الإمامة - شخص قهراً انعقدت له وان لم يكن أهلاً . . (3)
و من الواضع أن هذه الرؤى التى يجمع عليها فقهاء القوم إنما هي مشتقة من الواقع القبلى والواقع الأموي. وقد بنيت على أساس سلوك الخلفاء الثلاثة وسلوك معاوية ومن بعده من الخلفاء الذين اغتصبوا الحكم بالقوة وفرضوا أنفسهم على الأمة وان لم تتوافر فيهم الشروط المطلوبة فى الحاكم حتى ولو كانوا صبياناً أو عبيداً . .
ولقد دفعت الأمة الثمن غالياً ولا زالت تدفع بسبب هذا الطرح السياسي الذي
ص: 179
لا صلة له بالدين وإنما هو من نتاج واقع باركه فقهاء يسيرون في ركاب الحكام واضفوا عليه المشروعية بروايات واجتهادات ألزمت بها الأمة بتوجيه الحكام . .
يقول مالك للمنصور العباسي : لو لم تكن أهلاً لما ولاك الله تعالى . . (1)
و مثل هذا القول إنما يعكس فقه المتغلب الذى تبناه القوم في مواجهة حالات اغتصاب الحكم من قبل من هو على شاكلة المنصور. .
و يقول ابو يوسف: إن أمير المؤمنين - هارون - سألني أن أضع له كتاباً جامعاً يعمل به في جباية الأموال والعشور والصدقات والجوالى - الجماعات الجائلة غير المستقرة فى مكان محدد - وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به . .(2)
و قد حدد ابو يوسف واجبات الحاكم فيما يلي :
- إقامة حدود الله . .
- رد الحقوق لأصحابها . .
- إحياء سنة الحكام الصالحين . .
- منع الظلم والمساواة بين الناس في تطبيق أحكام الشرع . .
- أمر الناس بما أمر الله ونهيهم عما نهى عنه . .
- لا يؤخذ من الرعية إلا بالحق و لا ينفق إلا بالحق . .(3)
أما واجبات المسلمين تجاه الحاكم فقد حددها بما يلي :
- ألا يعصوه أو يقاتلوه . .
- ألا يسبوه أو يغشوه . .
ص: 180
- أن يصبروا عليه ويخلصوا النصح له . .
- أن ينهوه عن المنكر و يعاونوه على الخير . . (1)
ان الشروط التي اشترطها الفقهاء فى الحكام لم تتوافر فى حاكم ممن ولى أمر المسلمين منذ وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وحتى اليوم. كما أن الواجبات التي من المفروض أن يؤدوها تجاه الأمة لم يلتزموا بشيء منها وضربوا بها عرض الحائط ولم يعترض الفقهاء على هذا الوضع بل عايشوه وطالبوا الأمة بالصبر عليه . . (2)
ان الفقهاء قد حددوا شكل الدولة الإسلامية ومقوماتها وصفات الحاكم من خلال سلوك ومواقف الخلفاء الثلاثة وبني أمية وبنى العباس متجنبين الإمام على ومواقفه ونموذج دولته لكون طرحه ونموذجه يتناقض مع الطرح والنموذج السائد الذي يسيرون في ركابه . .
لقد كانت تجربة الإمام على فى الحكم هي التجربة التي تعكس صورة الدولة الإسلامية الحقة والتي قام الخط الأموى بالتعتيم عليها و تشويهها حتى لا تكتشف حقيقة الحكم الأموى وتناقضه مع الإسلام . .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هى ملامح دولة الإمام علي . .؟
إن الإمام على كان زاهداً في الحكم كما كان زاهداً في الدنيا. وما كان يهدف إلیه هو أن تستقیم الأمة على نهج الإسلام النبوى وتسترشد بعلمه الذي ورثه عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)
من هنا فحين طالبه الناس بالبيعة بعد مصرع عثمان قال : دعوني والتمسوا غيري . . واعلموا أنى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب . . وانا لكم وزير خير لكم منى أميراً . .(3)
ص: 181
ولقد حدد الإمام على نهجه في الحكم فور تسلمه السلطة بقوله : لم تكن بيعتكم إياى فلته . وليس أمرى وأمركم واحد. إني أريدكم الله وانتم تريدونني لأنفسكم . ايها الناس أعينوني على أنفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه . ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها . .(1)
ان الإمام يوضح من خلال كلمته عدة حقائق وإشارات هامة حول صورة الحكم. فهو يوجه نقده لطريقة وصول ابى بكر للحكم مشيراً أن بيعته إنما تمت بإرادة المسلمين وحريتهم دون ضغوط كما حدث في أمر السقيفة. ثم هو يعلنها صراحة أنه سوف يضرب أصحاب المصالح والأهواء والقبليين الذين استثمروا الأوضاع السابقة لصالحهم وحققوا المكاسب على حساب المسلمين وبواسطة أنظمة الحكم السابقة .
ولقد أوضح الإمام الرؤية للمسلمين كحاكم بقوله : لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حق وصلة رحم وعائدة كرم . فاسمعوا قولى وعوا منطقى عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السيوف وتخان فيه العهود حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة . . (2)
والإمام بتوضيح هذه الرؤية للرعية إنما يضرب مثلاً رائعاً في الأمانة والمصارحة لهم فى مواجهة الأحداث القادمة التي تهدد وحدة الأمة . .
والإمام يرفض اغتصاب السلطة والاستسلام للامر الواقع بقوله : أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبى قوتل . ولعمرى لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار . . . (3)
ص: 182
ويؤكد الإمام من خلال قوله هذا أيضاً رفضه لبيعة الحكام في معزل عن الجماهير كما وقع مع الخلفاء الثلاثة من قبله وكما وقع للمسلمين من بعده . .
لقد رفع الإمام شعار العدل في وجه الظالمين و مغتصبى حقوق المسلمين وفي وجه أقارب عثمان وقام بمصادره ممتلكاته وقطائعه التي ملكها بأموال المسلمين والتي وزعها على أقاربه وأعوانه . .
يقول الإمام عن عثمان وقطائعه : والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن فى العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق . . (1)
وفى عهد الإمام على لمالك الأشتر حين وجهه إلى مصر ملامح نظرية الحكم الاسلامي على نهج النبوة وأسس دستور يحقق العدل والاستقرار والأمن والتقدم للأمة . .
يقول الامام لمالك بعد أن أمره بطاعة الله وتقواه : . . وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكون عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم . . أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده . وليكن أحب الأمور إليك أوسطها فى الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة وان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك - أبغضهم - أطلبهم لمعائب الناس. وان شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم فى الآثام فلا يكونن لك بطانة . والصق بأهل الورع والصدق ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء. وأعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع رعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم . ، ولا تنقضن سنة صالحة عمل بها صدر هذه الأمة واجتمعت به الالفة وصلحت عليه الرعية . واكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك . وأعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض . ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك. ثم أكثر تعاهد قضائه
ص: 183
وأفسح له فى البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس. ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة . ثم اسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم . وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله. ثم استوص بالتجار وذوى الصناعات وأوص بهم خيراً . ثم الله . الله فى الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني - المرضى وأصحاب العاهات - وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم. وتعهد أهل اليتيم وذوى الرقة فى السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه. واجعل لذوى الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً . . فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور . والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن فى ذلك صابراً محتسباً. وان ظنت الرعية بك حيفاً - ظلماً - فأصحر - أظهر - لهم بعذرك وأعدل عنك ظنونهم باصحارك. ولا ترفضن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا . وان عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة . وإياك والدماء وسفكها بغير حلها. وإياك والأعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء. وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها . . (1)
ولا شك أن هذه الاسس التي حواها عهد الإمام للأشتر لا وجود لها في واقع الدول التي سادت من بعد صفين. ولا وجود لها في سلوك الحكام ومواقفهم أولئك الحكام الذين باركهم الفقهاء وطالبوا المسلمين بالصلاة والحج والجهاد من خلفهم . .(2)
و لقد أبرز لنا الإمام من خلال سلوكه ومواقفه ملمحاً هاماً وخاصية فريدة يجب
ص: 184
أن تتوافر فى الحاكم المسلم ألا وهي خاصية الحوار مع الخصوم حتى ولو شهروا سيوفهم في وجه الدولة.
والإمام بانتهاجه هذا السلوك والتزامه بهذا الموقف إنما يبرز روح التسامح ويفسح المجال أمام الرأى الآخر ليقدم حججه وبراهينه التي تدعم موقفه ورؤيته . ويمنح الفرصة للمنشقين كى يعودوا إلى صفوف الجماهير بقناعة و رضا . .
برز هذا الموقف في حواره مع أصحاب الجمل . .
وبرز فى حواره مع أنصار معاوية في صفين . .
وبرز فى حواره مع الخوارج المنشقين عليه . .
يقول الإمام لابن عباس حين أرسله إلى الزبير قبل وقعة الجمل: لا تلقين طلحة فإنك ان تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه يركب الصعب ويقول : هو الذلول ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكة فقل له : يقول لك ابن خالك : عرفتني بالحجاز وانكرتنى بالعراق . فما عدا مما بدا . . (1)
ويقول الإمام فى أهل صفين وقد نهى أصحابه عن سبهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوى عن الغي والعدوان من لهج به . . (2)
وفى كتاب للإمام إلى معاوية يقول فيه : ولعمرى يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ولتعلمن أنى كنت في عزلة عنه إلا ان تتجنى فتجن ما بدا لك والسلام . . (3)
وفي كتاب له أيضاً إلى معاوية يقول الإمام : و كيف أنت صانع إذا تكشفت
ص: 185
عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذتها دعتك فأجبتها وقادتك فاتبعتها وأمرتك فأطعتها . . (1)
وفي كتاب آخر يقول له : أما بعد فإنا كنا نحن وانتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة ففرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم . واليوم أنا استقمنا وفتنتم وما أسلم مسلمكم إلا كرهاً وبعد ان كان أنف الإسلام كله لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) حزباً. .(2)
و يقول الإمام فى الخوارج حين رفعوا شعار لا حكم إلا لله : كلمة حق يراد بها الباطل . نعم لا حكم إلا لله . لكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلا لله . .(3)
ويقول مخاطباً الخوارج لما حكموا على الإمام بالخطأ في التحكيم وشرطوا للعودة إلى طاعته ان يعترف بأنه كان قد كفر ثم آمن : أصابكم حصب - ريح شديدة - ولا بقى منكم آبر. أبعد إيماني بالله وجهادى مع رسول الله أشهد على نفسى بالكفر. لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . . (4)
وكان الإمام على قد أرسل ابن عباس ليحاور الخوارج بعد أن انشقوا عليه .
وأقام ابن عباس عليهم الحجة وعاد معه منهم ثلاثة آلاف . . (5)
ولقد اضطر الإمام لمقاتلة الخوارج فيما بعد إلا انه لم يقاتلهم بسبب الأفكار التي تبنوها أو بسبب خروجهم عليه وإنما قاتلهم بسبب عدوانهم على المسلمين واستباحتهم دماءهم وأموالهم وهم بهذا الفعل قد استووا مع المحاربين الذين يسعون في الأرض فساداً ويجب على الإمام استئصالهم .
ان تبنى الإمام على لنهج الشورى والعدل والمساواة والحوار قد جذب إلى نهجه
ص: 186
الموالى والجنسيات الأخرى غير العربية وعلى رأسهم الفرس الذين وجدوا في طرحه ما ينشدون من العدل والمساواة والحرية وهو ما كانوا يفتقدونه في الطرح الأموى الذى كان يقوم على أساس القبلية والعنصرية . .
و لعل هذا يفسر سر ارتباط الفرس بالإمام على وآل البيت من بعده إذ وجدوا فى خطهم الخلاص من الظلم والتفرقة العنصرية التى كانوا يعيشونها في ظل بنى أمية . .
و مما سبق يتبين لنا مدى الفروق الشاسعة والهوة السحيقة بين دولة الإمام على و دولة بني أمية التي يمكن تحديدها فيما يلي:
* ان دولة الإمام على هى دولة متغيرة حسب متطلبات الواقع ومصالح الجماهير بينما دولة الأمويون ثابتة المعالم والأطر .
* ان دولة الإمام على دولة جماهير بينما دولة معاوية وقومه دولة حكام . .
* ان دولة الإمام هى دولة العدل والمساواة والشورى بينما هذه الأسس الثلاث لا وجود لها في واقع الدول الأخرى . .
* ان دولة الإمام على هي دولة الحوار بينما الدول الأخرى عدوة له و تغلق الأبواب أمامه . .
لقد ارتبطت فكرة الدولة في الطرح السنى بالأستبداد والفصل بين سلطة الفقهاء وسلطة الحكام وعدم التداخل فى شئون الحاكم و الاستسلام المطلق له وهذه هي أخطر انعكاسات الإسلام الأموى مما أدى إلى ضياع الشورى والعدل والمساواة من واقع المسلمين . .
بينما ارتبطت فكرة الدولة في طرح آل البيت بالشورى وعدم الفصل بين السلطتين لضرورة أن يكون الحاكم فقيهاً كما ارتبطت بالعدل والمساواه والجماهير ووضعت الحاكم تحت رقابتها . .
و يحاول الطرح السنى أن يلزم الأمة بفكرة ثابتة وشكل ثابت للدولة الإسلامية وهو الشكل الذي تمخض عن الواقع القبلى الأموى والذي يقوم على سلطة
ص: 187
الحكام وسلطة الفقهاء ونتيجته الدائمة هى سقوط الفقهاء في شباك السياسة وخضوعهم للحاكم . .
ويبدو ان هناك تخبط واضح لدى الطرف السنى فى تحديد معالم الدولة وشكلها وهذا التخبط إنما هو ناتج من اختلاف ممارسات الحكام ومواقفهم واختلاف شكل الدولة من حكم لآخر .
فدولة ابى بكر غير دولة عمر .
ودولة عمر غير دولة ابى بكر .
ودولة عثمان غير دولة عمر .
ودولة معاوية تختلف عن دولة الثلاثة . . (1)
أما دولة الإمام على فهى نموذج آخر غير هذه النماذج والقوم لم يعتدوا به من الأصل ولعل لهم عذرهم فى هذا فهم لم يعايشوه وإنما عايشوا حكم بني أمية وبنى العباس .
ان الدولة الإسلامية في منظور آل البيت ليس لها شكل محدد ومعالم وأطر ثابتة وهى متحررة تماماً من النزعة الألهية. ومثل هذه الأمور إنما هي متروكة للأجتهاد. ولعل طرح فكرة ولاية الفقيه من قبل الإمام الخميني وتطبيقها في إيران اليوم يشير إلى ذلك . . (2)
انعكس الخط الأموى على الفكر الإسلامي بعد مرحلة صفين كما انعكس خط
ص: 188
آل البيت . غير أن خط آل البيت لم يقدر له البروز إلا فى بعض فترات العصر العباسي وكانت أول صور البروز الفاعلة على يد الإمام جعفر الصادق في عهد الخليفة المنصور. بينما كان الخط الأموى هو السائد وقنواته هي القنوات المشروعة . .
من هنا حرم الفكر الإسلامى من الاستفادة بخط آل البيت الذي عزل عنه تحت ضغط السياسة ليصبح الخط الأموى هو المصدر الوحيد له .
ولذا فقد اعتمد الفكر الإسلامى على مرتكزات الإسلام الأموى وانبنت على أساسها مفاهيمه وتصوراته وأطروحته بشكل عام . .
لقد انعكست على هذا الفكر قضية الروايات المختلقة . .
وانعكست عليه نظرية الرأى الواحد . .
وانعكست عليه فكرة الحكم الألهي . .
وأخطر هذه الانعكاسات إنما تنحصر فى هذا الكم من الروايات المختلقة التي بني الإسلام الأموى على أساسها وتأثر هذا الفكر بها. فعلى أساس هذه الروايات أضفيت المشروعية على حكام بني أمية والحكام من بعدهم حتى يومنا هذا . . وعلى أساس هذه الروايات أضفيت المشروعية والقداسة على العناصر التي تم انتخابها من بين الصحابة لتكون مصدراً للتلقى والتوجيه . .
وعلى أساس هذه الروايات استنبطت الأحكام الفقهية التي سارت الأمة على أساسها حتى اليوم والتي نتجت عنها الكثير من المشكلات التي عانى منها المجتمع المسلم ولا زال يعانى وكانت الرواية ولا تزال سلاحاً يشهر في وجه المخالفين وأصحاب الرأى من أجل إرهابهم و إلزامهم بالسير وفق الخط السائد . . (1)
ص: 189
إن أزمة الفكر الإسلامى على مر الزمان إنما تكمن فى هذه الروايات التي قام على أساسها وطوق بها وحالت بينه وبين المرونة والتجديد ومواكبة المتغيرات . .
مثل هذه الروايات هى التى ولدت التصور الأوحدى لهذا الفكر ذلك التصور الذي يقوم على أساس الهيمنة الفكرية والاستعلاء العقائدى على الآخرين . فكون هذا الفكر قد نشأ فى مناخ استبدادى خال من التيارات المنافسة قد ولد هذا الوضع لديه حالة من الاستعلاء والمثالية نابعة من تصور انحصار الحق في دائرته ذلك التصور الذي تفرخت منه فكرة الفرقة الناجية أو أهل الحق الذين يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة . . . (1)
و لم يحدث طوال فترات التأريخ أن دخل أهل السنة أو ممثلو الفكر الإسلامي النابع من الخط الأموى فى حوار مع التيارات الأخرى. فالحكومات لم تكن لتفسح الطريق لذلك . .
من هنا يمكن القول ان الفكر السنى لم يختبر حتى يتبين مدى صلاحيته ومواءمته للواقع ولذا فقد تأصلت فيه روح الاستبداد والتعصب وهذه هي أهم ملامحه التي انعكست عليه من الخط الأموي . .
و على ضوء هذه الروايات أيضاً نشأت فكرة الحكم الالهى وتشبع بها هذا الفكر بحيث أصبحت إحدى مقوماته البارزة. فقد سقط هذا الفكر ضحية الروايات التي تقدس الحكام وتوجب طاعتهم وتلزم الأمة باتباعهم والصلاة والحج والجهاد من خلفهم وان كانوا فجاراً ومجرمين حتى تحولت هذه الفكرة إلى أصل من أصول الاعتقاد في الفكر السني (2)
ص: 190
ولقد نتجت أطروحات هذا الفكر بمعزل عن المشاركة فى الحكم فمن ثم فقد تأصلت فيه فكرة الفصل بين الدين والدولة وأصبحت من ملامحه . فقد قبض الحكام على السلطة السياسية بينما تركوا الدين لطبقة الفقهاء الذين يدينون لهم بالطاعة والولاء والذين بنوا اجتهاداتهم وتفسيراتهم للنصوص على أساس هذا الوضع . .
من هنا و أمام ممارسات الحكام وانحرافاتهم ظهرت اتجاهات تقول بكفر مرتكب الكبيرة والمصر على المعصية وتقول بوجوب الخروج على الحاكم الفاسق والظالم. وقد تصدى الفقهاء لهذه التيارات وقالوا بعدم كفر مرتكب الكبيرة والمصر على المعصية وعدم جواز الخروج على الحاكم بأى صورة ولأي سبب وتحولت هذه الأقوال بعد ذلك إلى عقائد ومفاهيم ثابتة فى الفكر الإسلامي وما هي في الحقيقة إلا فتاوى اخترعت للدفاع عن الحكام وتبرير سلوكياتهم المنحرفة . . . (1) واعتبر الفقهاء كل من يخرج عن هذه العقائد والمفاهيم ويخالفها من أهل البدع والزندقة الذين يجب مقاومتهم والقضاء عليهم فمن ثم أعطوا الضوء الأخضر للحاكم كى يقضى عليهم ويستأصلهم . . (2)
و لقد أضفى فقهاء القوم المشروعية والقداسة على القرون الثلاثة الأولى التي نشأ وقنن فيها الفكر الإسلامي اعتماداً على رواية تقول : خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . . (3)
و على هذا فإن كل الجرائم والانتهاكات والبطش والتنكيل والانحرافات التي وقعت طوال القرون الثلاثة الأولى أضيفت عليها المشروعية وأمكن تبريرها على ضوء هذه الرواية وبالتالي تم اعتبار عصر الخلفاء وبنو أمية وبنو العباس العصر الذهبى المبارك . .
ص: 191
وإذا كان الفكر الإسلامى السنى قد نشأ في كنف الحكومات وتحت رعايتها فإن الفكر الإسلامي الشيعى نشأ فى ظل ارهاب الحكومات وبطشها . .
الفكر السنى نشأ في العلن آمناً . .
والفكر الشيعى نشأ في السر خائفاً . .
من هنا فإن الفكر السني قام على أساس الإستسلام للوقع و التعايش معه . بينما الفكر الشيعي قام على أساس رفض الواقع ومقاومته . .
وقد نتج عن هذا الوضع أن تبنى الفكر السنى طاعة الحكام وتقديسهم . . و تبنى الفكر الشيعى رفض الحكام و لعنهم. .
وتبنى الفكر السنى الروايات التي جمعت طوال القرون الثلاثة الأولى و أقام على أساسها أطروحته .
ورفض الفكر الشيعى هذه الروايات لكونها صادرة عن جهات مشبوهة لا يثق بها . .
وتبنى الفكر السنى فكرة توثيق الراوى على أساس أخلاقى ينحصر في مفهومي الصدق و الأمانة دون حساب لسلوكيات الراوى و مواقفه السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية . .
و تبنى الفكر الشيعى فكرة توثيق الراوى على أساس متكامل مع وضع سلوكياته و مواقفه في الحساب. .
و على هذا الاساس قبل في الفكر السنى رواة الحديث من الخوارج والنواصب و المشكوك في صحبتهم للرسول و أهل الأهواء و البدع. . (1) بينما اعتبر الفكر الشيعى موالاة الحكام و معاداة آل البيت و مناصرة الفرق من المواقف التي توجب رفض رواية الراوى والقدح فيه . .
ص: 192
وتبنى الفكر السنى الكثير من الروايات المناقضة للقرآن و العقل على أساس أن رواتها عدول . .
واعتبر الفكر الشيعى مطابقة الرواية للقرآن والعقل شرط صحتها . .
وينحصر مصدر التلقى فى الفكر السنى فى الصحابة والتابعين وتابعيهم . .
بينما ينحصر مصدر التلقى فى الفكر الشيعي في آل البيت . .
و نتيجة لارتباط الفكر السنى بالسياسة و خضوعه للأطروحة الأموية أغلق باب الاجتهاد في دائرته منذ قرون طويلة .
بينما ظل باب الاجتهاد مفتوحاً في ظل الفكر الشيعي الى يومنا هذا . . وأصبحت المؤسسة الدينية السنية رهينة الحكومات يرتبط مصيرها ومستقبلها بها . .
بينما تحررت المؤسسة الدينية الشيعية من سلطة الحكومات و أصبح مصيرها وقرارها بيدها . .
والفكر السنى اعتمد على عائشة وابن عمر وابي هريرة ومعاوية وابن العاص والمغيرة بن شعبة بالإضافة إلى الخلفاء الثلاثة ومن تحالفوا معهم مثل سعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير وابن عوف بينما رفض الفكر الشيعى هؤلاء الرجال والتلقى منهم واعتمد على الإمام على وذريته الأئمة الأثنى عشر بالإضافة إلى الصحابة الذين تحالفوا مع آل البيت وساروا على خط الإمام على مثل أبوذر وعمار وسلمان وبلال وحذيفة والمقداد وغيرهم . . (1) وعلى مستوى التابعين وتابعيهم اعتمد الفكر السنى على كل من سار وفق الخط الأموى و العباسى ممن عايشوا رموزه من الصحابة و من لم يعايشوهم . . بينما رفض الفكر الشيعي اعتماد كل من خالف أهل البيت و تابع حكومات بنى أمية و بنى العباس من التابعين و تابعيهم . .
ونتيجة لالتزام الفكر السنى بالخط الأموى تبنى الكثير من الادعاءات والقضايا
ص: 193
الوهمية التي تهدف إلى تشويه خط الإمام على و إثارة الشبهات من حول شيعته . .
وعلى رأس هذه الإدعاءات والقضايا الوهمية :
* تمجيد معاوية و البيت الأموي . .
* اعتماد ابو هريرة (1) كراوى أساسى لأحاديث الرسول . .
* تبنى فكرة السبأية و ابن سبأ و إلصاقها بالشيعة . .
* ربط نشأة الشيعة و التشيع بالفرس. .
* تضخيم الرجال من الصحابة و رفع مكانتهم . .
* التقليل من شأن الإمام على ومكانه . .
* التقليل من شأن شيعته من الصحابة . .
* إعلاء كتابى البخارى و مسلم و تقديسهما . .
* تبنى فكرة عدالة الصحابة و تقديسهم . .
* تبنى فكرة الترتيب الرباعى للخلفاء : ابوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. .
* تبنى فكرة الإجماع و اعتمادها كمصدر من مصادر التشريع . .
* التقليل من شأن آل البيت و أهميتهم . .
أما تمجيد معاوية و البيت الأموى فأمر لا يقوم على أساس شرعى ولم تصح فيه رواية بشهادة فقهاء القوم والمحدثين و على رأسهم إسحاق بن راهويه استاذ البخاري الذي قال : لم تصح في معاوية منقبة. وابن حجر في شرحه للبخاري . .(2)
ص: 194
و مسألة أبو هريرة من أوهام القوم و نتاجات السياسة إذ لا يعقل ان شخصاً مثل هذا أسلم يوم خيبر و لا وزن له و لا تعرف هويته يروى هذا الكم الهائل من الروايات عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) . . (1)
و قضية ابن سبأ قضية وهمية من اختراع بني أمية . فابن سبأ مشكوك في صحة وجوده تاريخياً والطبرى هو الوحيد من بين المؤرخين الذى ذكره و روى عن أخباره والذين تناولوا ابن سبأ من المؤرخين مثل الذهبي وابن كثير وابن خلدون إنما أخذوا منه . وراوى أخبار ابن سبأ هو سيف بن عمر وهو راوى متهم بالكذب عند فقهاء القوم . . (2)
أما قضية فارسية التشيع فالهدف منها التشكيك في هوية التشيع ونشأته بربطه بالفرس المجوس. وقد نسي مخترعو هذه القضية أن الفرس الذين يتهمونهم بالتستر بدعوة التشيع لضرب الإسلام هم الذين نقلوا لهم الإسلام إلى بلاد الهند و اسيا و هم الذين دونوا العلوم الإسلامية وجمعوا الأحاديث النبوية التي يتعبد بها القوم حتى يومنا هذا . . (3)
و ان اختراع قضية التضخيم لبعض الصحابة كان الهدف منها التغطية على الإمام على والتمويه عليه والتقليل من شأنه وشأن اتباعه من الصحابة. كذلك كان الهدف منها التغطية على آل البيت والتقليل من شأنهم واهمالهم. فما دام أفضل الأمة ابى بكر ثم عمر ثم عثمان فمعنى هذا أن الإمام على وآل البيت ليسوا بهذا القدر والمكانة التي يصورها شيعتهم. وما دام هناك من هو أفضل منهم فسوف تتجه نحوه الأمة وتعتبره مصدر التلقى والقدوة . .
و ما دامت الأمة قد اتجهت نحو ابي بكر وعمر وعثمان فسوف تتجه تلقائياً نحو
ص: 195
بني أمية وخطهم الذى يعد امتداد لخط الخلفاء الثلاثة وهذا هو الهدف من وراء عملية التضخيم . . (1) .
ولقد وجهت السياسة الفقهاء نحو اعتبار البخارى أصح الكتب بعد كتاب الله يليه مسلم ثم ان بقية كتب السنن الأخرى محل اخذو ورد وقبول ورفض. وحسب قواعد علم الحديث وشهادة فقهاء القوم ينطبق على البخارى ومسلم حال الكتب الأخرى. وسر التركيز على هذين الكتابين يكمن فى كونهما يحويان الكثير من الروايات التي تقلل من شأن الإمام على وتحط من قدره ولا تروى شيئاً لآل البيت .
أما فكرة عدالة الصحابة فهى قمة الوهم إذ تهدف هذه الفكرة إلى إضفاء القداسة والتقوى والمثالية الفائقة على جميع الصحابة وبالتالي يدخل معاوية وشيعته في دائرة العدالة بصفتهم من الصحابة . وقد انبنى على مفهوم العدالة مفهوم التوقف فى الصحابي وعدم الخوض فيه أو سبه أو التقليل من شأنه. وعلى أساس هذه الفكر يمكن تمرير الإسلام الأموى لكون مؤسسيه من الصحابة (2) . ومسألة العدالة هذه تضفى صفة الملائكية على مجتمع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو ما لا يستقيم مع النصوص القرآنية وحتى النبوية التي تكشف وجود منافقين حول الرسول. كما لا يستقيم مع العقل أيضاً . .
وقد اعتمد فقهاء القوم على فكرة العدالة وبنوا على أساسها علم الحديث والرواية وقبلوا تجريج سلسة رواة الحديث عدا الصحابي باعتبار أن من ثبتت صحبته ثبتت عدالته . .(3)
ص: 196
وتأتى فكرة الترتيب الرباعى لتكشف لنا مدى تدخل السياسة وانعاكسها على الفكر السنى فهذا الترتيب لا يوجد له سند شرعى من كتاب أو سنة صحيحة والهدف منه إلزام الأمة بخط الخلفاء الذى يرتكز عليه الخط الأموي . . (1)
أما الإجماع فهو السند الأساسى الذى يرتكز عليه الفكر السني لسد النقص في الأدلة والنصوص التي تدعم مفاهيمهم وعقائدهم. فإن فكرة تضخيم الصحابة ومعاوية خاصة وفكرة العدالة وفكرة السبأية واعتبار البخارى ومسلم أصح الكتب وفكرة الترتيب الرباعى كل هذه الأفكار سندها الوحيد هو الإجماع. بالإضافة إلى أن جمیع الروايات التي تقلل من شأن الإمام على وآل البيت والصحابة الذين تشيعوا لهم هى محل إجماع القوم. .(2)
والفكر الشيعي لا يعتمد شيئاً من هذه الأوهام لكونه يعتبر العقل أحد مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة وهو ان ركز على الإمام على وآل البيت ورفع من مكانتهم وشأنهم فهو لا يبتدع هذا الموقف إلا على أساس نصوص الكتاب والسنة الصحيحة لا على أساس الروايات المختلقة والإجماع الكاذب كما هو حال الفكر السني.
ان الفكر الشيعي إنما يقوم على أساس النص. بينما الفكر السنى يقوم على أساس أقوال الرجال وهذا الفرق الجوهرى بين الفكرين إنما يعكس مدى ارتباط الفكر الشيعى بالإسلام النبوى ومدى ارتباط الفكر السنى بالسياسة و الحكام . .
تبنت التيارات الإسلامية الأطروحة السنية كما هى ودخلت بها في صراع مع
ص: 197
الواقع فكانت النتيجة أن أخفقت في تحقيق أهدافها وإقامة الدولة الإسلامية المنشودة . .
تبنت التيارات الإسلامية أطروحة حكومية دون أن تدرى ودخلت بها في صراع مع الحكومات فكانت النتيجة أن تخلخل بناءها الفكرى وتصدت لها المؤسسة الدينية الرسمية لتواجهها بنفس الأطروحة وتعرقل مسيرتها . .
لقد سقطت التيارات الإسلامية ضحية الإسلام الأموى بعد أن غاب عنها الإسلام النبوى وضلت عن سبيله.
والإسلام الأموى لم يعطها سوى الجمود والفرقة الشتات. .
الإسلام الأموى جعلها لقمة سائغة للحكومات وأفقدها ثقة الجماهير وعزلها عن الواقع . . ثم تلقفت التيارات الإسلامية إسلام الخوارج من السعودية في الحقبة النفطية المعاصرة فكانت النتيجة أن ازدادت تخلفاً عن الواقع .
و تبدو لنا أزمة التيارات الإسلامية المعاصرة فى النظرية التي تتبناها في مواجهة الواقع وصورة الدولة التي تنشد إقامتها . .
و من خلال النظرية وصورة الدولة تبرز لنا انعكاسات الإسلام الأموى وإسلام الخوارج على هذه التيارات التي تشبعت بهذين الإسلامين والتصقت بهما .
فقد تبنت هذه التيارات عقائد ومفاهيم السلف مجملة كما تبنت نتاجات الفقهاء . .
وتبنت الروايات الواردة عن طريقهم . .
وتبنت تقديس الصحابة والسلف وعدم الخوض فيهم . .
وتبنت شكل الدولة الإسلامية السلفية . .
وتبنت فكرة الصلاة وراء كل بر وفاجر . .
وتبنت فكرة الفرقة الناجية والاستعلاء على المخالفين. .
ص: 198
و تبنت خط الخلفاء الثلاثة وخط الملوك من بعده . .
وتبنت فكرة مساواة معاوية بالإمام علي. .
وتبنت منهج التبرير والتأويل . .
وتبنت اجتهادات فقهاء السلف و مواقفهم . .
وتبنت فكرة الرفض لكل ما هو مخالف . .
ولقد كان نتيجة تبنيها هذه الأفكار أن أصبحت هناك فجوة كبيرة بين نظريتها وبين الواقع حالت بينها و بين التفاعل معه وكسبه إلى صفها . .
كان تبنى التيارات الإسلامية الفكر السنى قد أدى إلى إخفاقها أمام الواقع و افتقادها القدرة على مواجهته . .
فالفكر الذى يساند الحكام ويبرر جرائمهم كيف يمكن أن تبنى عليه نظرية مواجهة معهم . . ؟
والفكر الذى يستعلى على الواقع والجماهير كيف يمكن أن يحقق الاستقرار والتقدم للدعوة . . ؟
والفكر الذى يعيش على عقل الماضى كيف يمكن أن يواجه الحاضر . .؟
والفكر الذى يتبنى شكل الحكم القبلى والاموى والعباسي كيف يمكن أن يتجاوب معه الواقع . .؟
والفكر الذى يقوم على روايات مختلفة ومناقضة للقرآن و العقل كيف يمكن أن يتحقق له الثبات و الصمود في وجه الاحداث والمتغيرات . .؟
ولقد ازداد الموقف تعقيداً حين تبنت التيارات الإسلامية الأطروحة الوهابية الحنبلية التى تعد امتداداً لإسلام الخوارج بعد سقوطها في قبضة الأخطبوط السعودي. .
و ازدادت حدة الأزمة الفكرية والحركية التي تعيشها هذه التيارات فى مواجهة
ص: 199
الواقع وليس هناك من سبيل لخروجها من هذه الأزمة إلا بالتحرر من الخط الأموى و خط الخوارج . .
وكما انعكست صورة الاسلام الأموى على التيارات الإسلامية و بدا أثره واضحاً على تصورها ونظريتها . انعكس أيضاً إسلام الخوارج و بدت ملامحه تبرز على مواقفها ونظريتها وممارساتها ذلك الإنعكاس الذى يمكن تحديده فيما يلي :
* القشرية والسطحية في فهم النصوص. .
* تركيز العداء على الجماهير . .
* تكفير المخالفين . .
* تعطيل العقل . .
* انعدام الوعى بطبيعة الصراع وبالواقع . .
* الغلظة فى الدعوة وتبنى العنف في تطبيق الأحكام . .
أما القشرية والسطحية فقد كانت أهم ملامح شخصية الخوارج وهى تبدو اليوم أبرز ملامح التيارات الإسلامية وتظهر لنا من خلال تركيزهم على مسألة اللحية وتقصير الثوب وتغطية وجه المرأة ومحاربة التدخين والاهتمام بالممارسات التعبدية كالصلاة والصوم وحفظ القرآن دون الاهتمام بجوهر الإسلام . . (1) ويبدو من خلال ممارسات التيارات الإسلامية ومواقفها انها تتجه بغضبها نحو الجماهير متهمة إياها بالكفر والفسوق والتسيب ومن مظاهر هذه الممارسات الاعتداء على الشيعة والمتصوفة والنوادى والمسيحيين واحتفالات الزواج وحرق الأضرحة والاعتداء على زوارها وكذلك كان تاريخ حركة الخوارج من قبل كان يتركز في العدوان على المسلمين الآمنين وليس على الحكام وكذلك أيضاً كان تاريخ الوهابيون فى جزيرة العرب . . . (2)
ص: 200
وتكفير المخالفين واستباحتهم سمة بارزة من سمات التيارات الإسلامية اليوم وقد كانت إحدى سمات الخوارج من قبل وهى من سمات الوهابيين اليوم. .(1)
كذلك تعطيل العقل يعد من الملامح الأساسية للتيارات الإسلامية حيث ان هذه التيارات تعيش بعقل الماضى ولا تعمل العقل فى الحاضر أو فى النصوص المختلقة التي تتبناها وتنادى بتطبيقها او حتى فى الاحداث والمتغيرات التي تجرى من حولها فهى تريد أن تطبق النص كما هو دون حساب للنتائج أو المتغيرات ودون وعى بحقيقة النص ومدلوله . وكذلك كانت عقلية الخوارج . .
والتيارات الإسلامية لا تعطى اهتماماً بالسياسة أو الثقافة أو فقه الواقع وكل ما يعنيها هو تطبيق الكتاب والسنة دون ان يكون لديها الوعى بطبيعة العوائق التي تقف في طريق هذا التطبيق وطبيعة القوى المعادية التي تتربص بها و بالإسلام. وهذه التيارات تتبنى تصوراً وهمياً مفاده أن تمسكها بالكتاب والسنة سوف ينجيها من كل شر ويحقق لها النصر على الباطل دون أن تملك أية أسباب أخرى. فالوعى عند هذه التيارات ينحصر فى دائرة النصوص ويتركز حولها. ويتضح لنا هذا الأمر خلال محاولة هذه التيارات لتطبيق النصوص على الواقع كما هي وصدامها مع الواقع بسبب نص وهمى أو نص لا ترمى دلالاته للمعنى المقصود. وهذه إحدى ملامح شخصية الخوارج الأساسية حين رفعوا في وجه الإمام على قوله تعالى (إِنَّ الحُكْمَ إلَّا لله) وحكموا بكفر الإمام على أساسه لكونه حكم الرجال في قضية التحكيم. ومثل هذا الفهم السطحى للنصوص ينطبق على التيارات الإسلامية . .
و لقد كانت الغلظة والعنف ركيزة أساسية في دعوة الخوارج وعلى أساسها أراقوا دماء المسلمين واستباحوا أموالهم وهي سمة بارزة من سمات التيارات الإسلامية اليوم أفقدتها ثقة الجماهير بها وعزلتها عن الواقع . .
و نظرة فاحصة على التيارات الإسلامية الشيعية سوف يتبين مدى الفارق الشاسع بينها وبين التيارات الإسلامية السنية :
ص: 201
على مستوى الفكر والتصور . .
وعلى مستوى الحركة والمواجهة . .
وعلى مستوى العلاقة بالواقع و الجماهير . .
ان نجاح الثورة الاسلامية في إيران يعود لتوافر مقومات الوعي والحركة والمواجهة وفقه الواقع والارتباط بالجماهير. وهذه المقومات إنما هي نتاج خط الإمام على وتبنى نهجه ، ولو كانت هذه الثورة تتبنى نهجاً آخر ما كتب لها النجاح. .(1)
ان إيجابية التيارات الإسلامية السنية وفاعليتها لن يتحققا إلا بالإلتزام بالإسلام النبوى ونهج الإمام على ودون ذلك لن تملك الرؤية الواعية للواقع وطبيعة الصراع وسوف تظل تتخبط في ساحة المواجهة بأطروحة هي من اختراع السياسة وتهدف إلى تخدير المسلمين وعزلهم عن الواقع .
ص: 202
إن إعادة قراءة التاريخ مقدمة ضرورية لتصحيح الفكر الاسلامي المعاصر الذي ورث تراكمات السياسة وصبغها بصبغة الاسلام حتى تحولت بمرور الزمن إلى مفاهيم وقواعد يتعبد بها المسلمون ويقيسون الحق والباطل على أساسها .
لقد أصبح أبوبكر وعمر وعائشة وأبو هريرة وابن عمر رموز الاسلام الكبرى التي يستمد منها صورة الاسلام ونهجه . بينما ضرب الامام على وعمار وأبوذر وحذيفة وابن مسعود وغيرهم ممن ساروا على نهج الامام .
إن الفكر الاسلامي المعاصر لن يقوم إعوجاجه ويتحرر من أغلال الماضى إلا بطرح الرؤية الأحادية للتاريخ والتي فرضتها عليه السياسة . .
و على المسلمين أن يتحرروا من أغلال الحقبة النفطية المعاصرة والتي فرضت عليهم الرؤية الوهابية الحنبلية وصورتها لهم على أنها المعبر الحقيقى عن الاسلام .
عليهم أن يتحرروا من عبادة الرجال .
وعليهم أن يتحرروا من وهم قداسة الماضي .
عليهم أن يجعلوا النصوص فوق الرجال . وأن يتخذوها مقياساً ونبراساً لهم على طريق تصحيح الفكر الإسلامى وقراءة أحداث التاريخ وأخيراً عليهم أن يدركوا حقيقة هامة وهى أن هذا التاريخ الذي بين أيدينا هو تاريخ المسلمين وليس تاريخ الاسلام .
و الفرق كبير وشاسع بين تاريخ الاسلام وتاريخ المسلمين .
تاريخ الإسلام هو كتاب الله .
و تاريخ المسلمين مادون ذلك مما يخضع للبحث والأخذ والرد . . وعلى ضوء كتاب الله يجب أن يدرس تاريخ المسلمين .
ص: 203
* البخاري. .
* مسلم. .
* كتب السنن:
* البداية والنهاية : ابن كثير
* تاريخ الطبری : ابن جرير الطبري . .
* مروج الذهب: المسعودى. .
* الطبقات : ابن سعد. .
* فتح الباري شرح البخاري : ابن حجر العسقلاني . .
* العقيدة الواسطية : ابن تيمية . .
* الاصابة في تميز الصحابة : ابن حجر العسقلاني. .
* العواصم من القواصم : ابوبكر بن العربي. .
* الخلافة والملك : ابوالاعلى المودودي. .
* فتاوی ابن تيمية : ابن تيمية. .
* نهج البلاغة : الامام على . .
* الكامل فى التاريخ : ابن الأثير . .
* شرح مسلم : النووى. .
* الاحكام السلطانية : أبي يعلى. .
* الخراج : ابو يوسف. .
ص: 204
- الشيعة في مصر : من الامام على حتى الامام الخميني. .
- عقائد السنة و عقائد الشيعة : التقارب و التباعد . .
- مصر وایران : صراع الأمن والسياسة. .
- الحركة الاسلامية في مصر: الواقع والتحديات. .
- فقهاء النفط: راية الاسلام ام راية آل سعود. .
- الخدعة : حقيقة الاسلام بين النص و السياسة . .
- حركة آل البيت. .
- فساد عقائد أهل السنة . .
- مذكرات معتقل سیاسی : ثلاث سنوات تحت التعذيب.
وتحت الطبع :
- زواج المتعة حلال . .
- فقه الهزيمة : دراسة في أصول الفكر السلفى . .
- أحاديث نبوية اخترعتها السياسة. .
- السلفيون والشيعة. .
- العقل المسلم بين أغلال السلف و أوهام الخلف. .
- الازهر والحكام. .
- مصارع الحكام فى تاريخ الاسلام . .
- جريمة الرأى في التاريخ الاسلامي. .
ص: 205
الصفحة
* تقديم ... 5
* المحطة الأولى : وفاة الرسول ... 7
- خطبة الوداع ... 10
- مناقشة الروايات ... 15
- جيش أسامة ... 19
- بين المرض والوفاة ... 25
- دور عائشة ... 30
* المحطة الثانية : السقيفة ... 47
- كلمة التاريخ ... 49
- موقف الإمام علي ... 53
- مناقشة الروايات ... 60
* المحطة الثالثة : عمر ... 71
- عمر والإمام علي ... 74
- عمر ومعاوية ... 79
- عمر والاستخلاف ... 83
*المحطة الرابعة : عثمان ... 87
- عثمان والصحابة ... 90
- عثمان وعلي ... 93
ص: 206
- عثمان وبني أمية ... 97
* المحطة الخامسة : على ... 103
- شخصية الإمام علي ... 106
- رجال الإمام ... 113
- شخصية معاوية ... 114
- رجال معاوية ... 116
* المواجهة ... 119
- الجمل ... 122
- صفين ... 125
- جرائم معاوية ... 131
- الخوارج ... 136
- معاوية و الحسن ... 139
- كربلاء ... 143
* ركائز الإسلام النبوي ... 151
- القرآن ... 154
- آل البيت ... 161
* ركائز الإسلام الأموي ... 163
- مصحف عثمان ... 166
- الصحابة ... 168
ص: 207
الروايات ... 173
* إنعكاسات الاسلام الاموى : 176
- الدولة الإسلامية ... 188
- الفكر الإسلامي ... 197
- التيارات الإسلامية ... 203
- خاتمة ... 204
- أهم مصادر البحث ... 205
- صدر للمؤلف ... 206
ص: 208