هناك إله كيف غير أشر ملحد رأية؟

هوية الكتاب

هناك إله

كيف غيَّر أشر مُلحد رأيه؟

المؤلّف

أنتوني فلو

ترجمة

د. صلاح الفضلي

مراجعة وتعليق

الدكتور الشيخ مرتضى فرج

الطبعة الأولى: 1438ه

ص: 1

اشارة

هناك إله كيف غيّر أشهر مُلْحد رأيه؟ تأليف

أنتوني فلو

ترجمة

د. صلاح الفضلي

مراجعة وتعليق

الدكتور الشيخ مرتضى فرج

الطبعة الأولى: 1438ه

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 2

مقدمة المترجم

بسم الله الرحمن الرحيم

أهميَّةُ هذا الكتاب تأتي بالدرجة الأولى من جهةٍ مُؤلِّفِهِ. فكما يُشيرُ عنوان الكتاب الفرعي (كيف غَيَّرَ أشهر مُلْحد رأيه؟)، فإنَّ المؤلّف (أنتوني فلو) كان واحداً من أكبر الملاحدة في العصر الحالي. وبالتالي فإنَّ تجربة (فلو) التي استمرت أكثر من خمسين سنة في الإلحاد، وكتابته العديد من الكتب التي تُؤيّد الموقف الإلحادي، وخوضه العديد من المناظرات التي تُدافع عن الإلحاد، ثم تحوله بعد كل هذه السنين إلى الإيمان بالله، لا بدَّ أَنَّه يُضيفُ مصداقيةً كبيرةً لما سيقولُه في هذا الكتاب.

وُلِدَ الفيلسوفُ البريطاني (أنتوني ريتشارد فلو) في فبراير من عام (1923م)، وهو ينتمى إلى تيار الفلسفة التحليلية(1)، واشتهر بكتاباته فلسفة الأديان. وقد قام بتأليف أكثر من (30) كتاباً، أغلبها يحاول دحضَ فكرة الدِّين، واشتهر عنه مقولتُهُ: (إنَّ على المرء أنْ يظلَّ مُلْحداً

ص: 3


1- وهي فلسفة راجت في الغرب في القرن العشرين، خصوصاً في إنجلترا، وهي تهتم بإرجاع الفلسفة إلى اللغة وتحليل التراكيب اللغوية لاستكشاف عالم الواقع، بوصفها حاكية عنه. من أبرز رموز هذه الفلسفة برتراند رسل .(1970م). ثم ظهرت من هذه الفلسفة مدارس متعدّدة، منها: الوضعية المنطقية، التي كان من أبرز أعلامها رودلف کارناب (1970م). هذه المدرسة - التي اندثرت تقريباً - كانت لا تؤمن بما وراء الطبيعة (كالإله مثلاً)، وترى أنَّ أيّ جملة تتحدث عن موضوع ينتمي إلى ما وراء الطبيعة، إنَّما هي جملة لا معنى لها أصلاً، لأنها لا تشير إلى واقع. (المراجع).

حتَّى يجدَ الدَّليلَ التَّجريبي على وجودِ الإله).

غير أنَّه في أواخر حياتِهِ غيّر قناعاته، وفي عام (2004م)، خلال مناظرة فلسفية، أعلن عن تحوُّلِهِ إلى الإيمان بالإله وتخليه عن الإلحاد. وقام بتأليف كتاب نسَخ فيه كلَّ كُتُبهِ السَّابقة، وهو الكتاب الذي بين يدينا .

على إثر إعلانه عن تحوله إلى الإيمان بالإله، تعرَّضَ (فلو) لحملة تشهير ضخمة من المواقع الإلحادية في العالم، وذلك لأنَّه ولخمسين عاماً كان يُعتَبرُ من أهم مُنظري الإلحاد في العالم، وقد شكل خبَرُ تحوُّلِهِ إلى الفكر الإيماني صدمة قويَّةً في وسط الفكر الإلحادي في العالم. تُوفّي الفيلسوف أنتوني فلو عام (2010م) ، عن عمر ناهز السَّابعةَ والثَّمانين.

وها أنا أعرضُ لكم هذا الكتاب بنسختِه المترجمة، على أمل أنْ يكون هذا الجهد مفيداً لشبابنا الحائر، الذي تتعرض معتقداته الدينية الأساسية للتَّزلزل، بسبب ضعف مناعتِه الفكرية، وبنيته العقائدية، الأمر الذي ينتهى بأبسط هجوم فكري إلى خلخلة في تفكيره، وهو ما يقود في العديد من الحالات إلى الوقوع في مستنقع الضّياع الفكري القاتل، نتيجةً لسيل الشُّبهات التي تغزو عقله من اتجاهات عدة، دون أنْ يكون لديه مصدات تمنع عنه غائلة هذه الشُّبهات.

أجد لزاماً عليَّ أن أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور الفاضل والصديق الصدوق الشيخ مرتضى فرج على مراجعته الدقيقة لترجمة الكتاب، وحرصه على ألّا تفوته شاردة ولا واردة.

ص: 4

هناك إله

كيف غير أشهر ملحد رأيه؟

مقدمة المؤلف:

منذُ أن أعلنتُ عن (تحوُّلي) إلى الألوهية، طلب مني في مناسبات كثيرة جداً بيانُ أسباب تغيير وجهة نظري. أشرتُ في عدة مقالات متتابعة وكذلك في مقدّمةِ طبعة عام (2005م) من كتابي (الإله والفلسفة God and Philosophy) إلى الأعمال الحديثة المتعلقة بالنقاش حول (الإله)، لكنَّني لم أُبيّن وجهة نظري في ذلك. أما الآن فقد انتهيت إلى القناعة بأن أعرِضَ ما يمكن تسميته وصيّتي وشهادتي الأخيرة. باختصار، وكما يدل عنوان الكتاب، أنا أعتقدُ الآن بأنَّ هناك إلهاً .

عنوان الكتاب الفرعي (كيف غَيَّرَ أشهر مُلْحِد رأيَهُ؟)(1) لم يكن من اختياري. لكنني مع ذلك سعيد بتوظيفه باعتباره من العناوين الجذابة. لقد قام أبي اللاهوتي (2)في إحدى المرات، بتحرير مجموعة من مقالاته ومقالات بعض تلامذته السابقين، وضمنها كتاباً جدليّاً وعنْوَنَ هذا الكتاب بعنوان متناقض، لكنَّه مناسب وهو (كاثوليكية البروستانتية) (3). وسيراً على النمط نفسِهِ في طريقة العرض، قمتُ بنشرِ

ص: 5


1- (How the World's Most Notorious Atheist Changed His Mind)
2- المقصود ب_(اللاهوت): علم الكلام المسيحي (المراجع).
3- (The Catholicity of Protestantism)

أبحاث بعناوين مشابهة مثل: (القيام بأعمال خيِّرة ليس خيراً)، و (هل رهان باسكال Pascal's Wager هو وحده الرَّهانُ الآمن؟)(1).

في البداية لا بد أن أكون واضحاً. عندما انتشرت أخبار تحولي في وسائل الإعلام وعلى شبكة الإنترنت، سارَعَ بعضُ المعلقين إلى الادّعاءِ بأنَّ تقدُّمي في العمر أَثَرَ في (تحوُّلي). لقد قيل: إنَّ الخوف هيمَنَ على عقلي بقوة، وقد انتهى هؤلاء المنتقدون إلى أن توقعات الدخول إلى عالم ما بعد الموت حفَّزَت لديّ (تحول فراش الموت Deathled conversion)(2). من الواضح أنَّ هؤلاء الأشخاص لم يكونوا مطلعين على كتاباتي عن اللاوجود بعد الموت، وهم ليسوا مطلعين كذلك على آرائي الحالية حول هذا الموضوع.

على مدى أكثر من خمسين سنة لم أُنكِر وجود إله فحسب، بل أنكرتُ أيضاً وجودَ حياة بعد الموت. ومحاضراتي التي نُشرت في كتابِ (منطقُ الفناء) تُمثِّلُ ذروة هذا المنهج من التفكير. فهذا مجال من المجالات التي لم أغيّر وجهة نظري فيها. وقد كان ذلك واضحاً في هذا الكتاب من خلال مساهمة رايت (N. T. Wrights) في الملحق الثاني. أودُّ أنْ أَضَعَ حدَّاً لجميع هذه الشائعات التي وضعتني في رهان باسكال(3).

ص: 6


1- رهان باسكال: حُجَّةٌ مبنية على نظرية الاحتمالات ونظرية القرار، وتُستخدمُ للاحتجاج بضرورة اتَّخاذ قرار بشأن الإيمان بالله، على الرغم من عدم إمكانية إثبات وجوده أو عدم وجوده عقلياً بليز باسكال هو من صاغَ الحُجَّة.
2- تعبير إنجليزي عن ظاهرة اعتناق معتقدات إيمانية لدى بعض الناس قبل موتهم بقليل.
3- يقصد (فلو) أنه بات بكل تأكيد يؤمن بالله، لكن لم يحسم أمره بعد بشأن الإيمان بحياة بعد الموت (القيامة والجزاء الأخروي)، لذا لا يمكن وضعه ضمن المتأثرين برهان باسكال القائم على الإيمان بجزاء أُخروي. (المراجع).

أيضاً لا بدَّ أنْ أُشير إلى أنَّ هذه ليست هي المرة الأولى التي (أُغيِّر فيها وجهةَ نظري) في موضوع رئيسي. قد يندهش القُرَّاء الملمونَ بدفاعي المستميت عن الأسواقِ الحُرَّة إذا ما علموا أني كنتُ ماركسياً (لمزيد من التفصيل، أنظر الفصل الثاني من هذا الكتاب). وقبل عقدينِ من الزمن، تراجعت عن قناعاتي السابقة بأنَّ اختيارات الإنسان محكوم--ةٌ بنحو شامل بواسطة أسباب مادية .(1)

بما أنَّ هذا الكتاب يتكلَّمُ عن سبب تغيير وجهة نظري بخصوص وجود الإله، فإِنَّ السُّؤال الواضح سوف يكون : بماذا كنتُ أعتقد قبل (التَّغيير)؟ ولماذا؟ الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب تستهدفُ الإجابة عن هذا السؤال، والفصول السَّبعةُ الأخيرة تصفُ اكتشافي للمُقدَّس (الإله). وعند تهيئة الفصول السَّبعة الأخيرة، لا بدَّ أنْ أعترف بأنّي استفدت كثيراً من النقاش مع البروفيسور ريتشارد سوينبيرن (Richard Swinburne)(2) والبروفيسور برایان لیفتو (Lefto Brian) أُستاذ كرسي نولوث (3)السابق والحالي في جامعة أكسفورد.

هناك مُلحقانِ مُضافانِ للكتاب:

ص: 7


1- يقصد المؤلّف أنَّه تراجع عن القول بأنَّ الإنسان مجبَرٌ ومحكوم بالأسباب المادية، وصار يميل للإيمان بإرادة الإنسان الحرّة. (المراجع).
2- فيلسوف إنجليزي، يُعتبر من أشهر فلاسفة الدين المسيحي الأحياء، ولد سنة (1934م) ، وله مؤلّفات عديدة. له بصمة واضحة في الدفاع عن الإيمان بالله في العالم الغربي. (المراجع).
3- (Chair Nolloth) كرسي خاص في جامعة أكسفورد يتعلَّق بالدراسات المسيحية، تأسس سنة (1920 م)، تعاقب عليه أربعة أساتذة الأخيرين منهما هما سوينبيرن الذي تقاعد في (2002م) ، ثمَّ ليفتو. (المراجع).

المُلحق الأوّل هو تحليل لما يُطلق عليه اسم (الإلحاد الجديد ل__ ريتشارد دوكینز Richard Dawkins و آخرين)(1) ، كتبه روي أبرهام فارجيز (Roy Abraham Varghese) .

أمَّا الملحق الثاني فهو نقاشٌ مفتوح - بالغ الأهمية للمؤمنين بالدِّين - حول ما إذا كان هناك أيُّ نحو من أنحاء الوحي الإلهي في التاريخ البشري، مع تركيز خاص على الادعاء المتعلّق بمسيح الناصرة (Jesus of Nazareth).

وللمهتمين بالاطلاع على المزيد في هذا الموضوع، فإنَّ الباحث المتخصِّص في العهد الجديد رايت (N. T. Wright)، وهو أسقف دَرَام (Durham) الحالي، تفضّل بتزويدنا بتقييم لبنية الحقيقة التاريخية التي يقوم عليها الإيمان المسيحي بالسيد المسيح (2).

و في الحقيقة يجب أن أقول: إِنَّ الأُسْقُفَ (رايت) قدَّمَ حسب اطِّلاعي أفضل عرض للقبولِ بالاعتقادِ المسيحي في هذا الشأن(3).

لعلَّ من من المناسبِ أنْ أذكُرَ شيئاً عن (شُهرتي) كملحد، وهو ما يُشيرُ إليه العنوان الفرعي للكتاب. لقد كانت أولى أعمالي المعارضة للألوهية في عام (1950 م)، عبر الورقة البحثية (اللاهوت والتكذيب Theology and Falsification).

وقد أُعيد طبع هذه الورقة البحثية في كتاب (مقالات جديدةٌ في اللاهوتِ الفلسفي New Essays in Philosophical Theology / 1955م)، وهي مقتطفاتٌ

ص: 8


1- .(new atheism of Richard Dawkins and others)
2- أي تقييم للمعلومات والمعطيات التاريخية التي تؤكّد على أنَّ المسيح حقيقة، وليست شخصية مختلقة. (المراجع).
3- سأصرح بتقييمي لهذا العرض وأُعلّق عليه عندما أصل إليه، فانتظر. (المراجع).

قمتُ بتحريرها بالاشتراك مع السدير ماكلانتير (Alasadair McCIntyre).

لقد كان كتابُ (مقالات جديدة في اللاهوتِ الفلسفي) محاولة لقياس التأثير على الموضوعات الإلهية التي سُمِّيت فيما بعد (ثورة في الفلسفة in phiosophy revolution) .

الإسهامُ الثَّاني المهم كان كتاب (الإله والفلسفة God and Philosophy)، وقد نُشِرَ لأَوَّلِ مرَّة عام (1966م)، وأُعيد نشره في الأعوام (1975، 1984، 2005م). وفي مقدّمة طبعة عام (2005م) ، كَتَبَ بول کیرتز (Paul Kurtz) وهو أحد أكبر الملاحدة في عصرنا الحالي وهو أيضاً مؤلف كتاب (البيان الإنساني الثاني Humanist Manifesto II) : (إِنَّ دارَ النَّشْرِيسُرُّها أَنْ تُقدَّمَ ما أصبحَ يُعرَفُ بفلسفة الدين التقليدية).

وتبَعَ نَشر كتاب (الإله والفلسفة) نَشْرُ كتاب (فرضيَّةُ الإلحاد The Presumption of Atheism) عام ( 1976 م) ، والذي طُبعَ بعنوان: (الإله، الحرّية، والخُلُود God, Freedom and Immortality). وكان ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية في عام (1984م).

أما بقيَّةُ المؤلفات المتعلقة بالموضوع فهي:

(فلسفة هيوم في الاعتقادِ والمنطق واللغة (hume's Philosophy of Belief and logic and language) ، و (مدخلٌ إلى الفلسفة الغربية: أفكار وحُجَج من أفلاطون إلى سارتر والتطور الداروني An Introduction to Western Philosophy)، و (منطقُ الفناء Logic of Mortality) .

في الحقيقة، إنَّه لمن المفاراقات أنَّ أوَّلَ حُجَّةٍ منشورة في تأييد الإلحاد قُدِّمت لأوَّلِ مَرَّةٍ في ندوة بالنادي السُّقراطي، رأسها أعظم مدافع عن المسيحية في القَرْن

ص: 9

الأخير، سي. إس. لويس (C.S.Lewis)(1) والمفارقة الثانية هي حقيقة أنَّ والدي كان أحد قادة التبشير في إنكلترا. ويُضافُ إلى ذلك، أنَّني في بداية حياتي المهنية لم يكن لدي اهتمام خاص بأنْ أُصبحَ فيلسوفاً محترفاً.

بما أنَّ جميع الأشياء الحسنة - إذا لم تكن جميع الأشياء دون استثناء - لا بد أن تصل إلى نهاية، فإنَّني سوف أُنهي كلمات المقدمة هنا. سأتركُ للقُرَّاءِ أَنْ يُقرّروا ما يفعلون تجاه الأسباب التي أدت إلى تغيير وجهة نظري حول السُّؤال عن الإله.

ص: 10


1- سي. إس. لويس (1898 - 1963م)، هو أحد أبرز أعلام الإيمان بالله أديب إيرلندي المولد، بريطاني النشأة، أحد أشهر عمالقة الفكر في القرن العشرين. عمل مدرّساً للأدب الإنكليزي في جامعة أكسفورد، ثم جامعة كامبردج، وكتب أكثر من ثلاثين كتاباً، أهمها (المسيحية المجردة)، (المحبَّات الأربع)، (رسائل خُربُر)، وقد تُرجِمَت مؤخَّراً إلى اللغة العربية، ونشرتها دار أو فير للطباعة والنشر، عمان، الأردن. (المراجع).

القسم الأول

اشارة

إنكاري للمقدَّس

MY DENIAL OF

THE DIVINE

ص: 11

ص: 12

الفصل الأول

اشارة

صناعةُ مُلحِد

THE CREATION

OF AN ATHEIST

ص: 13

ص: 14

صناعةُ مُلحد

لم أكُن مُلْحداً على الدوام. فقد بدأتُ حياتي كمؤمن. نشأتُ في بيت مسيحي، ودرست في مدرسة مسيحية خاصة. في الحقيقة، أنا ابن

لمُبشِّرِ مسيحي.

والدي كان خريجاً من كلية ميرتون في أكسفورد، وكان هو المسؤول الديني في الكنيسة المنهجية (Methodist)(1) التابعة للكنيسة البروتسانتية، وليس في كنيسة إنجلترا الكاثوليكية. ورغمَ أنَّ قلبَهُ ظَلَّ تبشيرياً (Evangelism) على الدوام، فإنَّ ذكرياتي الأولى عنه أنَّه كان مرشداً في دراسات العهد الجديد في كلية اللاهوت المنهجية في كامبردج . وبعد ذلك أصبح رئيساً للكلية، ثم في النهاية تقاعد وتُوفّي في كامبردج. بالإضافة إلى مسؤوليّاتِهِ التبشيرية والتدريسية، اضطلع والدي بمهمة مُمثّل للمدرسة المنهجية في منظّماتٍ كَنَسيَّة متعددة. كما أنه رأسَ لفترة واحدةٍ مدَّتُها سنة كلا من المؤتمر المنهجي والمجلس الكنسي الفيدرالي الحرّ.

يصعُبُ عليَّ تذكَّر أو تشخيص أية إشارات في صباي تدلُّ على قناعاتي الإلحادية اللاحقة في شبابي درستُ في مدرسة كنغز وود في مدينة باث (Bath) ، والمدرسة تُعرَفُ اختصاراً ب_(K.S) ولحُسنِ الحظّ

ص: 15


1- إحدى الكنائس البروتستانتية التي تستمد توجيهاتها من جون ويسلي.

كانت - ولا تزال - مدرسة عمومية. لقد تم إنشاؤها من قبل مؤسس الكنيسة المنهجية جون ويسلي (John Wesley)، من أجل تدريس أبناء المبشرين التابعين له.

التحقتُ بمدرسة كنغز وود بالتزام ديني فاتر، ولم أجد أي مغزى للعبادة، وكنتُ بعيداً عن الاستمتاع والمشاركة في غناء التّرانيم لم يحدث أبداً أن قرأتُ شيئاً في الأدبِ الدِّيني بالشوقِ نفسه الذي كنتُ أقرأ به كتب السياسة والتاريخ والعلوم وبقية الموضوعات. كان الذهابُ إلى الكنيسة وترديدُ الصَّلواتِ وبقيَّة الطَّقوس الدينية بالنّسبة لي بمثابة مسؤولية ثقيلة، ولم أشعُر على الإطلاق برغبة ولو قليلة بالاقتراب من الإله.

من ذاكرتي القديمة، لا أستطيعُ أنْ أُجيب لماذا كنتُ غير مهتمّ عموماً بالطقوس الدينية وبقيّة الأمور التي شكلت حياة والدي. لا أتذكَّرُ أَنَّني كُنْتُ أشعر باهتمام أو حماسة لهذه الاحتفالات. ولم يكن عقلي مأسوراً ولا (قلبي مولعاً) (حسب تعبير ويشلي الشهير) بالدراسة المسيحية أو بالعبادة. لا أدري إذا ما كان عدم حماستي للدِّينِ في أيام شبابي سبباً أم نتيجةً؟ أو كليهما معاً؟ ولكن أستطيع القول: إنَّ أيَّ قَدْرٍ من الإيمان كان موجوداً لديّ عندما دخلت مدرسة كنغز وود، كان قد تلاشى مع تخرجي منها.

***

ص: 16

نظرية في المآل

(A THEORY OF DEVOLUTION)

لقد قيل لي : إنَّ مجموعة بارنا (Barna Group) - وهي منظمة مسيحية لقياس انطباعات الرأي العام - توصَّلت من خلال استبياناتها إلى نتيجة مفادها أنَّ ما تؤمن به في سن الثالثة عشرة من عُمُرِكَ هو ما ستظل تؤمن به حتّى موتك. بغضّ النَّظَر عن صحة هذه النتيجة من عدَمِها ، فإِنَّني أُدرِكُ أنَّ الاعتقادات التي شكلتها عندما كنتُ في الثالثة عشرة من عُمري بقيت معي في أغلب سنوات حياتي.

فقط لا أتذكَّر بنحو دقيق متى وكيف بدأ التغيير. ولكن بالتأكيد - كما هو الحال مع أي إنسان يُفكِّر - فإنَّ عوامل عدة لعبت دوراً في تكوين قناعاتي. ليس أقلها ما أسماه إمانويل كانت (Immanuel Kant): (الرّغبة الجامحة للعقل بعدَمِ الاستسلام للتَّبشير)، وهو ما أعتقد أنَّني أشترك فيه مع والدي. أنا وهو نشترك في ميلنا الطبيعي لاتباع طريق (الحكمة) كما وصفها الفيلسوف كانت: (إنّها الحكمة التي لها خاصية اختيار المسألة التي يكونُ حلُّها مفيداً للجنس البشري من بين عدد لا حضر له من المسائل التي تُعرَض أمامنا).

معتقداتُ والدي المسيحية أقنعته بأنَّه لا يوجد شيء (أهمّ للجنس البشري) من توضيح ونَشْرِ وتطبيق الحقائق الموجودة في العهدِ

ص: 17

الجديد. رحلتي الفكرية قادتني إلى اتجاهات عدة، ولكن كل منها كان ينطوي على الرّغبة العقلية الشَّديدة، وهو ما أشترك فيه مع والدي.

أتذكَّرُ أيضاً أنَّني استفدت كثيراً من تذكير والدي لي في أكثر من مناسبة بأنَّ علماء الكتاب المقدس عندما يريدون استيعاب مفه-وم م--ا م--ن العهد القديم، فإنَّهم لم يكونوا يبحثون عن الجواب بسهولة من خلالِ التفكير فيه بمفردِهِم. وإنَّما عِوَضاً عن ذلك، كانوا يجمعونَ ويُحلّلُونَ، من خلال الاستعانة بأكبرِ قَدْرٍ من السياقات التي يمكن أن يجدوها، وجميع الأمثلة المتاحة التي وظفت فيها الكلمة العبرية ذات الصلة. هذا الأسلوب البحثي شكل من عدة أوجه الأساس لدراستي الفكرية المتقدمة - والذي لا زلتُ محافظاً عليه - في تجميع وتحليل جميع المعلومات ذات الصلة بموضوع مُعطى. إنَّه من الأُمور التي تدعو للدهشة أنَّ مالِكَ البيت الذي نشأت فيه غرَسَ فِيَّ على الأرجح الحماسة للبحث الناقد، والذي سيقودني في نهاية المطاف إلى رفض إيمان والدي.

ص: 18

وجه الشيطان

(THE FACE OF EVIL)

لقد قلتُ في بعض كتاباتي الإلحادية المتأخّرة، أنَّني وصلتُ إلى نتيجة بشأنِ عدم وجود إله بصورة متعجّلةٍ جداً، وبشكل سطحيّ جداً، والذي تبيَّنَ لي فيما بعد أنَّها كانت أسباباً خاطئة. لقد كرَّرتُ استخدام هذه النتيجة السَّلبية بشكل متكرّرٍ ومفصل ، ولكن بعد سبع سنوات من ذلك، لم أجد أي أساس كافٍ لتسويغ هذا الموقف الأصولي. أحد الأسباب المبكرة لتحولي إلى الإلحاد ك-ان موضوع وجود الشرور في العالم.

لقد كان أبي يصطحبني أنا وأمي في رحلة صيفية كل سنة. رغمَ أنَّ القيام بهذه الرحلات لم يكن ممكناً اعتماداً على راتب والدي لوحده كمشرف ديني، إلَّا أنَّ القيام بهذه الرحلات صارَ ممكناً، لأنَّ والدي كان يقوم بمساعدة طلبة الثانوية في مراجعة دُرُوسِهِم في بدايةِ فَضل الصيف، وكان يتقاضى أجراً مقابل ذلك. لقد كان السَّفَرُ بالنِّسبة لنا ممكناً وبنحو رخيص نظراً إلى أنَّ والدي كان يتكلم الألمانية بطلاقة بعد أنْ دَرَسَ اللاهوت لمدَّة سنتين في جامعة ماربورغ (Marburg) الألمانية قبل الحرب العالمية الأولى. ولذلك كان بمقدورِهِ أنْ يأخُذنا في أثناء العطلات في رحلةٍ إلى ألمانيا، ومرة أو مرتين سافرنا إلى فرنسا دون الحاجة إلى دفع مال إلى مكتب سياحي. كما أن والدي كان قد تم تعيينُهُ

ص: 19

كممثّلٍ للكنيسة المنهجية في عدة مؤتمرات لاهوتية دولية. وقد اصطحبني - وأنا ولده الوحيد - مع والدتي كضيوف غير مشاركين في هذه المؤتمرات.

لقد تأثَّرتُ كثيراً برحلات السفر الخارجية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. ولا زلتُ أتذكر بوضوح اللافتات والعلامات المعلقة خارج القُرى الصَّغيرة مكتوباً عليها (لا يُسمح بدخول اليهود). وأتذكَّرُ أيضاً أنَّه كانت تُعلَّق لافتات خارج مَدْخل المكتبات العامة تقول: (لا تَسْمَح لوائح المؤسسات بإعارة الكتب لليهود). وشاهدتُ أيضاً عرضاً عسكرياً لعشرة آلاف من أصحاب القُمْصان البنّية في أحد ليالي بافاريا الصيفية مكنتني رحلاتي العائلية أيضاً من رؤية مجموعات من جماعة وافن (Waffen) بلباسهم الأسود وقبعاتهم المرسوم عليها صورة جُمجمة وعظمين متقاطعين.

مثل هذه التجارب رسمت مُخيَّلتي في مرحلة الشباب وشكَّلَت لي - كما هو الحال مع الكثيرين - تحدياً حول وجود إله مُحِبِّ يمتلك القوَّةَ الكاملة. ولا أستطيع أن أقيس درجة تأثير ذلك على تفكيري. هذه الخبرات إذا لم يكن سواها أيقظت في داخلي الوعي بالثنائي الشيطاني وهما معاداة السَّامية (anti-Semitism) (1)والشمولية (Totalitarianism).(2)

ص: 20


1- (معاداة السامية) مصطلح يُطلق على معاداة اليهود كمجموعة عرقية ودينية وإثنية. تم استعمال المصطلح لأوّل مرة من قِبل الباحث الألماني فيلهم مار، ل-وصف موجة العداء لليهود في أُوروبا الوسطى في أواسط القرن التاسع عشر.
2- الشمولية هي طريقة حكم ونظام سياسي يمسك فيه حزب واحد بكامل السلطة، ولا يسمح بأية معارضة، فارضاً جمع المواطنين وتكتيلهم في كتلة واحدة. وبعبارة أخرى: الشمولية أو نظام المجتمع المغلق هو مصطلح يشير إلى نظام سياسي تكون فيه الدولة تحت سلطة فرد أو فئة أو فصيل واحد، دون أن تعرف الدولة حدوداً لسلطاتها، حيث تسعى بكل جد لتنظيم جميع مظاهر الحياة العامة والخاصَّة ما أمكنها ذلك.

***

ص: 21

مكانٌ مفعمٌ بالحيوية

(AN ENORMOUSLY LIVELY PLACE)

أنْ تتربَّى خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين في بيت مثل بيتنا - ينتمي للطَّائفة المنهجية - يعني أنك تعيش في كامبردج دون أن تنتمي إليها. بداية، اللاهوت لم يكن مقبولاً على أنَّه (مَلِكُ العُلُوم)، كما هو الحال في باقي المؤسسات. كما لم تكن هناك كلّية للتأهيل الديني في أجواء الجامعة. وكنتيجة لذلك، لم أكن معروفاً بانتمائي لكامبردج ، على الرغم من أن والدي كان يشعر وكأنه في بيته هناك وعلى كل حال، فإنَّه منذ عام (1936م)، عندما بدأت بالترقي في المدرسة، فإنَّني نادراً ما كنتُ أُقيم في كامبردج خلال فترة الدِّراسة(1).

ومع ذلك، فإنَّ مدرسة كنغز وود كانت في أيامي مكاناً يعج بالحياة، وكان يرأسها رجل يستحقُ أنْ يُقَيَّمَ باعتباره واحداً من أفضل مديري المدارس. قبلَ قُدومي إليها بسنة، حصلت المدرسة على جوائز في أكسفورد وكامبردج في مؤتمرات المدارس أكثر من أية مدرسة أُخرى.

ولم يكن نشاطنا المدرسي يقتصر على قاعات الدراسة والمختبرات فقط.

ص: 22


1- يقصد (فلو) من هذه الفقرة أنه تأثر بوالده، بحيث إنَّ أجواء كامبردج كانت تنعكس على البيت. فمن يعيش ويتربى في بيت كالذي تربى فيه، فكأنه كان في كامبردج المفعمة بالحيوية. (المراجع).

عندما تكون في مثل هذه البيئة المثيرة، فإنَّه ليس مدعاة للدهشة لأحد أنني بدأتُ في التشكيك بالإيمانِ الصَّارم لوالدي، وهو الإيمان الذي لم أشعر بأي ارتباط عاطفيّ قوي تجاهَهُ. عندما كنتُ في الصَّف السادس العلوي (يُماثِلُ الصَّفَّ الثاني عشر في النظام الأمريكي)، كنتُ أُناقش مع زملائي في الصَّف بشكل متكرّر فكرة الإله ذي القُدْرة المطلقة والخير المطلق، وعدم توافق هذه الفكرة مع وجودِ الشُّرور ونواقص العالم. عندما كنتُ في مدرسةِ (K.S)، لم تكن مراسم يوم الأحد المنتظمة تتضمَّنُ أَيَّةَ إشارة إلى مصير الإنسان في الجنَّةِ أو النَّار. عندما كان ساكيت (A.B Sackett) - مديراً للمدرسة، وكان في الوقت ذاتِهِ أُسْقُفاً، وهو أمرٌ غير معتاد في وقتِهِ - كانت كلمتُهُ دائماً ما تتعلق بعجائب وروعة الطّبيعة وعندما حلّ عيد ميلادي الخامس عشر كنتُ قد بدأتُ برفض فكرة أنَّ الكون قد خلقَهُ إِلهُ كامل القدرةِ والرَّحمة.

قد يسأل أحدُهُم عمَّا إذا كنتُ قد فكّرتُ باستشارة المرشد الديني حول شُكُوكي المتعلقة بوجود الإله. لم أفعل ذلك قط. ومن أجل الحفاظ على استقرار العائلة، وبشكل خاص علاقتي مع والدي حاولت قدر المستطاع أنْ أُخفي عن الجميع في البيت تحولي نحو اللادين. وحسب ما أعتقد، فإنَّني نجحت في ذلك لسنوات عديدة.

ولكن بحلول يناير من عام (1946م)، وحينما كنتُ في الثالثة والعشرين من عمري، انتشر الخبر - ووصل إلى والدي - بأنَّني مُلْحِدٌ، وأنَّني كذلك لا أؤمن بالحياة بعد الموت، وأنه لم يكن من المرجَّح أبداً عودتي عن قناعاتي. لقد كان تحولي كاملاً وصارماً، بحيث إنَّ النقاش في البيت حول هذا الموضوع كان سيبدو نقاشاً عقيماً. ومع ذلك،

ص: 23

وبعد خمسين سنة من ذلك الوقت، يمكنني القول بأن والدي كان سيشعُرُ بالسَّعادةِ الغامرة بقناعاتي الحالية المتعلقة بوجود الإله. على الأقل سوف يعتبرُ أنَّ ذلك يُمثل مساعدةً عظيمةً للكنيسة المسيحية.

ص: 24

أكسفورد مختلفة

(A DIFFERENT OXFORD)

من مدرسةِ كنغزوود، انتقلتُ للدِّراسة في جامعة أكسفورد وصلتُ إلى أكسفورد في يناير من عام (1942م) ، كانت الحَرْبُ العالمية الثانية قد اشتعلت. وفي أيَّامي الأولى كطالب، وكنتُ حينها في الثامنة عشرة من عمري، قمتُ بإجراء الفحص الطبي، وتم بعد ذلك إلحاقي بشكل رسمي في سلاح الجو الملكي. في أيام الحربِ تلك، كان مطلوباً من جميع الشباب اللائقين بدنياً أن يقوموا بالخدمة يوماً واحداً في الأسبوع في أحد مراكز الخدمة. وبالنسبة لي، كان مركز الخدمة هو سِربُ الطَّائرات التابع لجامعة أكسفورد.

الخِدمةُ العسكريةُ، التي كانت لمدة سنة بنظام العمل الجزئي ثمَّ بنظام العمل الکُلِّي، لم تكن ذات طابع قتالي. وكانت الخدمة تتضمَّنُ تعلّم بعض من اللغة اليابانية في قسم الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن. ومن ثم القيام بترجمة الإشارات اللاسلكية التي يتمُّ رصدها وفكُ شفرتها، وكان ذلك يتمُّ في منطقة بلتشي بارك. بعد استسلام الجيش الياباني، عملت في ترجمة الإشارات اللاسلكية التي كانت تصدرُ من قبل الجيش الفرنسي الذي كان قد أُنشئ حديثاً للسَّيطرةِ على المنطقة المحتلة، وهي ما عُرِفَت بعد ذلك بألمانيا الشَّرقية.

ص: 25

عندما عُدْتُ إلى نظامِ الدِّراسة الكامل في جامعة أكسفورد في يناير من عام (1946م) ، كان عَليَّ أنْ أتقدَّمَ للاختبار النهائي في صيف عام (1947م)، وجدتُ أنَّ أكسفورد التي عُدْتُ إليها أصبحت أكسفورد مختلفة. يبدو أنّها أصبحت مؤسسةً أكثر إثارة مما كانت عليه عندما تركتُها قبل ثلاث سنوات تقريباً. كان هناك العديد من الوظائف المدنية، وكذلك كان هناك وظائف عسكرية، لكنها كانت وظائف أكثر أماناً مما كانت عليه في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. حضرت بعض المحاضرات في كُلّية الآداب الإنسانية، وقد كان يُلقي بعض المحاضرات محاربون قدامى من الذين كانوا فاعلين في مساعدة المقاومة اليونانية في جزيرة كريت وعلى الأراضي اليونانية، وكان الهدف من ذلك جعل المحاضرات أكثر تشويقاً وتحفيزاً لطلبة البكالوريوس.

تقدَّمْتُ للاختبار النهائي في الفَصْلِ الصَّيفي من عام (1947م). وقد كان مُدهشاً ومُفرِحاً في ذات الوقت أنني حصلت على المرتبة الأولى. وبعد أن حصلت على هذه المرتبة، عُدْتُ إلى مُعلمي الخاص جون مابوت (John Mabbott) في كلية القديس جونز، وقُلْتُ له : إنَّني تخلَّيتُ عن هدفي السَّابقِ في العمل على الحصول على شهادة بكالوريوس ثانية في المدرسة التي شُيدت حديثاً في الفلسفة وعلم النفس. فأنا الآن

أُريدُ أنْ أُكمل دراستي العُلْيا في الفلسفة.

***

ص: 26

الأصبوحات الفلسفية

(WAXING PHILOSOPHIC)

قامَ مابوت بمساعدتي في الالتحاق بالدّراساتِ العُلْيا في الفلسفة تحت إشراف جلبرت رايل (Gilbert Ryle)(1)، الذي كان وقتها أُستاذ مادة

الميتافيزيقا في جامعة أكسفورد. كان رايل أحد أساتذة كرسي الفلسفة الثلاثة خلال الفصل الثاني من العام الدراسي (1947 - 1948م).

بعد ذلك بسنوات، علمتُ عن طريق كتاب مابوت (ذكريات أكسفورد Oxford Memories) أنه ورايل كانا صديقين منذ أن التقيا لأوَّلِ مرة في أكسفورد. لو كنتُ في كليةٍ أُخرى وسُئِلْتُ من قِبَل أُستاذي الخاص عن الأفضل من بين الأساتذة الثلاثة، لفضَّلْتُ بالتأكيد هنري برايس (Henry Price)، وذلك بسبب اهتماماتنا المشتركة في عِلْمِ النَّفس، وهو التخصص الذي كان يُسمَّى بالبحثِ النَّفسي في ذلك الوقت.

ص: 27


1- فيلسوف بريطاني ( 1900 - 1976م) ، كتب كتاباً ( 1949م) بعنوان (تصوّر الذهن أو مفهوم العقل The Concept of Mind)، وصار هذا الكتاب محوراً أساسياً للنقاش في مجال فلسفة الذهن مَثَّلَ هذا الكتاب هجوماً شرساً على ثنائية ديكارت (النفس والجسد)، وتأييداً للمدرسة السلوكية (رغم أن رايل لم يكن سلوكياً بالمعنى السيكولوجي. لذا يُسمّى البعض موقف رايل ب_(السلوكية الفلسفية))، انطلاقاً من فلسفة اللغة والأفكار التي طرحها فتجنشتين (Wittgenstein)، والتي ادعى فيها أنَّ منشأ المشاكل الفلسفية هو الأخطاء اللغوية، وأنَّنا إذا استخدمنا اللغة بنحو واضح، اختفت مشاكل الفلسفة تلقائياً. (المراجع).

ولذلك فإنَّ كتابي الأوّل كان بعنوان (مقاربة جديدة إلى البحث النفسي A New Approach to Psychical Research) ، وقد أصبحنا أنا وبرايس بعد ذلك متحدثين في المؤتمرات التي تُعنى بالبحثِ النَّفسي. ولكن أنا متأكد أنَّني لم أكن لأحصل على جائزة الجامعة في الفلسفة في تلك السنة لو كنتُ تحت إشراف برايس ، لأنَّنا كُنَّا سنقضي الوقت في النقاش حول موضوعات الاهتمام المشترك بيننا.

بعد أن قضيت العام الدراسي (1948م) في الدّراساتِ العُلْيا في الفلسفة تحت إشراف رايل حصلت على جائزة التميز، وكانت عبارةً عن منحة جون لوك للدراسة في تخصص الفلسفة الذهنية. وبعد ذلك تم تعييني بوظيفة محاضر في المجال التدريسي.

خلال السنة التي قُمْتُ فيها بالتّدريس في أكسفورد، قُمْتُ بتدريس كتابات الفيلسوف لودفيج فتجنشتين (Ludwig Wittgenstein)(1)، وهو صاحب الاتجاه الفلسفي الذي أثَّرَ فيَّ عند الدراسة في أكسفورد. هذه الكتابات نُشرت بعد ذلك بعنوان (الكتاب الأزرق والكتاب البُنِّي Blue Book, Brown Book)، محاضرات في الرياضيات (Lectures on Mathematics)، وقد كانت مرفقة برسائل من فتجنشتين تُشير إلى نوعيَّةِ القُرَّاء الموجّهة لهم ، وكذلك نوعيَّة القُرَّاء الذين لا ينبغي أن يقرأوها. وقُمْتُ أنا وأحد زملائي بنَشْرِ نُسَخ من محاضراتِ فتجنشتين

ص: 28


1- من أكبر فلاسفة القرن العشرين، وُلِدَ في فيينا بالنمسا (1889 – 1951م)، ودرس في جامعة كمبردج بإنجلترا، وعمل بالتدريس هناك. وقد حظي بالتقدير بفضل كتابيه (رسالة منطقية فلسفية)، و(تحقيقات فلسفية). عمل في المقام الأوّل في أُسس المنطق والرياضيات، وفلسفة الذهن، وفلسفة اللغة. اعتقد أنَّ معظم المشاكل الفلسفية تقع بسبب اعتقاد الفلاسفة أنَّ معظم الكلمات أسماء . كان لأفكاره أثرها الكبير على كلّ من الوضعية المنطقية وفلسفة التحليل . أحدثت كتاباته ثورة في فلسفة ما بعد الحربين.

في أكسفورد، وجعلناها في متناول جميع من يرغبون بقراءَتِها.

كُنَّا نسأل كلَّ شخصٍّ نعرفُ اهتمامه بالفلسفة في أكسفورد عما إذا كانت لديه مخطوطات لمحاضراتِ فتجنشتين، وإذا كان الجواب (نعم) كُنَّا نسأله عن المحاضرة المتوفرة لديه، ولأنَّ مكائن التصوير لم تكن قد ظهرت في ذلك الوقت، قمنا بتوظيف طباع للقيام بمهمة طباعة عدد نُسَخ كافية لتلبية حاجة من يطلبها.

تعرَّف رايل على فتجنشتين عندما زار الفيلسوف النمساوي (فتجنشتين) جامعة كامبردج. وبعدها كونَ رايل علاقة صداقة مع فتجنشتين، وأقنعه بأن يقوما برحلة على الأقدام إلى منطقة (مقاطعة البُحيرة Lake District) الإنجليزية في عام (1930 أو 1931م). لم يَنْشُر رايل أي وصف لهذه الرحلة، وما الذي تعلَّمَهُ أثناءَ صُحبَتِهِ لفتجنشتين (منه وعنه). لكن بعد هذه الرحلة، أصبحَ رايل يتصرف كوسيط بين

فتجنشتين و (العالم الخارجي)(1) .

و كم كانت هذه الوساطة ضروريةً في بعض الأحيان. وهذا ما يكشِفُ عنه التّسجيل الذي يُوفَّقُ لمحادثة بين فتجنشتين – الذي كان هودياً - وأخواتِهِ بعد أن احتل جنود هتلر النَّمسا.

في هذه المحادثة، يُطَمْئِن فتجنشتين أخواته بالقول: (إنّه بسبب علاقاته مع الشخصيات الرئيسية والعوائل الكبيرة في النظامِ السَّابق

ص: 29


1- يقصد (فلو) أنَّ رايل انكشفت له أثناء هذه الرحلة جوانب كثيرة من شخصية فتجنشتين وأفكاره، لكنَّه لم يفصح عما انكشف له أثناء الرحلة، وإنّما اكتفى بأن بدأ يتصرف وكأنَّه الناطق الرسمي باسم فتجنشتين والمعبّر عن فكره والمفسر لنظرياته أمام الناس. (المراجع).

وعلاقته بالناس، فإنَّهم جميعاً لن يتعرَّضوا لأي أذى). ولاحقاً عندما أصبحتُ أُستاذاً للفلسفة، كنتُ أكرَهُ أنْ أكشِفَ لطلبتي أن فتجنشتين - والذي كنتُ أعتبره والكثير من زملائي فيلسوفاً عبقرياً - كان شديد الغُرُور في الأُمورِ العِلْمية.

لقد كنتُ شاهداً شخصياً على سُلُوكِ فتجنشتين مرَّةً واحدةً على الأقل. وحدَثَ ذلك عندما كنتُ في مرحلة البكالوريوس، وكان فتجنشتين يقوم بزيارة إلى جمعية جويت (Jowett Society). كان موضوع المحاضرة المُعْلَن هو : (أنا أُفكِّر إذاً أنا موجود)، والعنوان مأخوذ بالتأكيد من عبارة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الشهيرة. كانت القاعة مكتظة بالحضور، والجمهورُ يُصغي لكُلِّ كلمة يقولُها الضَّيفُ العظيم، ولكن الشيء الوحيد الذي أتذكَّرُه الآن أنَّ المحاضرة لم يكن لها أي علاقة بالعنوان المعلَن لها. لذلك عندما انتهى فتجنشتين من محاضرته، نهض البروفيسور ريتشارد (H. Richard) من مكانه، وكان بادياً عليه السخط، وسألَ فتجنشتين: (يا فتجنشتين - وكان من الجليّ أنّ دكتوراه كامبردج لم يكن معترفاً بها في أكسفورد - مع ذلك أنا أُفكر إذاً أنا موجود) . وضَعَ فتجنشتين إصبع سبابته على جبهته، واكتفى بالقول: (إنَّ عبارةً أنا أُفكر إذاً أنا موجود، جملة غريبة جداً). كنتُ ولا أزال أعتقدُ أَنَّ الرَّدَّ الأنسَبَ على فتجنشتين، كان ينبغي أن يُستوحى من أحد مشاهد المسلسل الكرتوني (الرّجالُ والنِّساء والكلاب)، الذي يقول فيه أحدُهُم (ربَّما ليس لديكِ جاذبية يا ليلي، لكن أنتِ لُغْز).

ص: 30

التصادم مع لويس

(LOCKING HORNS WITH LEWIS)

خلال الفترة التي كنتُ فيها طالباً في الدّراساتِ العُلْيا تحتَ إشراف جلبرت رايل، أصبحتُ أُدرك أنَّ من عادتِهِ أنْ يرُدَّ بشكل مباشر وجهاً لوجه على أي اعتراض يُوجَهُ لأي من أفكاره الفلسفية. ورغمَ أنَّ رايل لم يُحدِّثني بذلك ولا أي شخص آخر حسب عِلْمي، فإنَّ حدسي يقول: إنَّ رايل كان يتّبع المقولة التي أوردها أفلاطون في كتابه (الجمهورية) - وهي مقولةٌ تُنْسَبُ إلى سقراط - ، وفيها يقول: (يجب أن نتّبع الحُجَّةَ أينما قادتنا)(1). هذا المبدأ - ضمن أُمور أخرى - يتطلب أنْ يتم نقاش أي اعتراض بصورة مباشرة وجهاً لوجه. وقد حاولت أن أُطبق هذا المبدأ طوال حياتي الجدلية.

هذا المبدأُ شَكَّل عنصر تحفيز للنادي الشقراطي، وهو عبارة عن مجموعة كانت فاعلة في المشهد الفكري في أكسفورد أيام الحرب. لقد كان النادي الشقراطي مسرحاً لمناظرات حيوية بين الملحدين والمسيحيين، وقد كنتُ أُشارِكُ بانتظام في هذه الجلسات. وكان رئيس النادي في الفترة من (1942 إلى 1954م) الكاتب المسيحي سي. إس

ص: 31


1- ونظيرها ما هو رائج بين طلبة العلوم الدينية في الحوزات: (نحنُ أتباعُ الدليل، أينما مال نميل). (المراجع).

لويس (C.S Lewis ) . كان النادي يعقد اجتماعه في مساء كل يوم اثنين في قاعة السرداب في كُلّية القديس هيلدا. أشار لويس في مقدمة العدد الأوّل من (مجلَّةِ سُقراط) إلى عبارة سقراط : (يجب أن نتبع الحُجَّةَ أينما قادتنا). وقد لاحظ لويس في هذه المقدمة أنَّ هذه الحلبة المخصصة للصراع بين الإلحادِ والمسيحية كانت أمراً بديعاً.

تصادَمَ العديد من كبار الملحدين في أكسفود مع لويس وأتباعه المسيحيين. ولعلّ أفضل مناظرة حدثت بين الطرفين كانت في فبراير من (1948م)، وكانت بين لويس (Lewis) واليزابيث أنسكوب (Elizabeth Anscombe)(1)، وهي التي جعلت لويس يعيد كتابة الفصل الثالث من كتابه (المعجزات Miracles). لا زلتُ أتذكَّر عودتي مع مجموعة من الأصدقاء، بعد انتهاء المناظرة العظيمة، حيثُ نسيرُ مباشرةً خلْفَ اليزابيث وأصدقائها . لقد كانت مبتهجةً، وكذلك كان حال أصدقائها. على الفور، خرج لويس أمام هذا الحزب وحيداً، وكان يمشي بأقصى ما يُمكِنه، ليلجأ إلى غرفتِهِ في كُلّية ما عدن (Magdden College)، التي كانت تقعُ بالقُرْبِ من المكانِ الذي كُنَّا نقطع فيه الشَّارع.

رغم أنَّ البعضَ اعتبر أنَّ نتيجة المناظرة أثرت بشكل دائم على معنويات لويس، لكن أنسكومب (Anscombe) ذاتها كانت تختلف معهم في ذلك. لقد كتبَتْ لاحقاً: (كان اجتماعُ النادي السُّقراطي الذي قرأتُ فيه ورقتي البحثية بالنسبة للعديد من أصدقاء لويس فظيعاً وصادماً،وهو ما أدى إلى إحباطه بشكل كبير، ولكن لا الدكتور هارفرد (Havard) ولا البروفيسور جاك بينت (Jack Bennett) يتذكَّر أنَّ مثل هذا الشُّعور

ص: 32


1- فيليسوفة إنجليزية (1919 - 2001 م) ، تُعتبر من أبرز تلامذة فتجنشتين، ومن أعلام الفلسفة التحليلية. (المراجع).

كان بادياً على لويس... أنا أميل إلى التحليل المناقض لهذا الاعتقاد من قِبَل أصدقائه... باعتباره مثالاً جيداً على ظاهرة تُسمَّى (الإسقاط) (1).(2)

لقد كان لويس أكثر المدافعين عن الدين المسيحي تأثيراً في الحقبة الأخيرة من القَرْنِ العِشْرين. عندما سألتني مؤخَّراً هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عما إذا كنتُ قد دحضتُ دفاع لويس عن الدِّينِ بشكل كامل، أجبْتُ: (لا . أنا فقط لم أكن أعتقد أنَّ هناك أسباباً كافية للاعتقادِ بذلك. ولكن بالتأكيد عندما عُدْتُ للتَّفكير في الأمور اللاهوتية، بدا لي أنَّ حالة الوحي المسيحي قوية جداً إذا كنت تعتقد بال-وحي من الأساس).

***

ص: 33


1- الإسقاط هي حيلة دفاعية ينسب فيها الفرد عيوبه ورغباته المحرَّمة والعدوانية أو الجنسية للناس ، حتَّى يُبرئ نفسَهُ ويُبعد الشبهات عنها. (المراجع).
2- G. E. M. Anscombe, The Collected Papers of G. E. M. Anscombe, vol. Y, Metaphysics and the philosophy of Mind (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1941), x.

تطورات إيجابية جداً

(HIGHLY POSITIVE DEVELOPMENTS)

خلال الفصل الأخير لي في جامعة أكسفورد ، نَشَرَ آیر (AJ Ayer) (1)کتابَهُ (اللُّغة، الصدق والمنطق Language, Truth and Logic)، وهو ما أقنع عدداً من أعضاء النادي السُّقراطي أنَّه لا بدَّ من تفنيد هرطقة آير في الوضعية المنطقية، والتي تقول : إنّ كل القضايا الدينية ليس لها معنى إدراكي، وإنّه-ا يجب أن تُدْحَ. بدا لي أنَّ الورقة الأولى والوحيدة التي قرأتُها أمامَ النادي الشقراطي، وكانت بعنوان (اللاهوت والتكذيب Theology and Falsification)، قدمت ما اعتبرته تفنيداً كافياً. واعتقدتُ حينها أنَّني حقَّقْتُ نَصْراً كاملاً، وإنَّه لا مجال لأية مناظرة إضافية.

التقيتُ أيضاً في أكسفورد بأنس دونسن (Annis Donnison)، التي ستصبح فيما بعد زوجةً لي. لقد تعرفنا على بعضنا البعض عن طريق أُخت زوجتي، التي

ص: 34


1- آلفرد آیر (Alfred Jules Ayer) فیلسوف بريطاني (1910 - 1989م)، من أبرز أعلام الوضعية المنطقية . تمحورت أفكاره حول نقد الميتافيزيقا بمختلف فروعها، كاللاهوت والجمال والأخلاق، حيث رأى أنَّ الميتافيزيقا لا يمكن التأكد من حقانيتها بالتجربة. كما أنكر بديهية الأحكام المتعلقة بالماضي، وذهب إلى أنها ليست كبداهة الحاضر، لأننا لا نتمكن من الرجوع إلى الوراء للتيقن من صحة ما وقع في الماضي. والنتيجة أننا لا يمكننا أن نثبت ذلك بطريقة علمية. تأثر به تلميذه د. زكي نجيب محمود، الذي كان مناصراً للوضعية المنطقية، فكتب (المنطق الوضعي) ، و (خرافة الميتافيزيقا)، ثم تراجعا في آخر حياتهما عن أهم أفكارهما في الوضعية المنطقية. (المراجع).

دعتنا إلى اجتماع النادي العمالي في أكسفورد. وبعد أنْ تعَرَّفْتُ على أنس (Annis)، لم أعُد أعيرُ انتباهاً لأي شخص في هذا الاجتماع سواها. وبعد هذا اللقاء، اتفقنا أنا وأنس على أن نلتقي مرَّةً أُخرى. وكان ذلكَ اللقاء الوحيد الذي واعدتُ فيه فتاةً على الإطلاق. كان وضعنا الاجتماعي مختلفاً عندما التقينا لأوَّلِ مرَّة، حيثُ كنتُ أقوم حينها بالتدريس في كنيسة مسيحية مخصصة للرّجالِ فقط. بينما كانت أنس (Annis) في سنتها الأولى كطالبة في كُلّية سومرفيل (Somerville College) في أكسفورد، وهي الكُلّية التي كانت تقوم في ذلك الوقت بفضل كل طالب يُقدم على الزِّواج.

لقد كانت والدة زوجتي قلقةً من قيام طالب دراسات عليا مثلي بمواعدة ابنتها التي تصغُرُني كثيراً. ولذلك سألت ابنها - الذي سيصبحُ فيما بعد أخو زوجتي - والذي أكَدَ لها أنَّ إبعادي عن أنِس سوف يكسير قَلْبَها. كنتُ أفترضُ على الدَّوامِ أنَّ أخا زوجتي يريد لأُختِ-هِ الصَّغيرة أنْ تُترك وشأنها لتُدبّرَ أُمور حياتِها؛ لأنَّه كان يعرف أنها فتاة عاقلة، وأنه-ا محل ثقة، ولن تتَّخِذ أي قرارٍ طائش.

في ذلك الوقت، رغمَ أنّي كنتُ قد ابتعدتُ منذ فترة طويلة عن إيمان والدي، مع ذلك طبَّقْتُ ما كنتُ تعلمته من آبائي المنهجيين؛ ف-ل--م أحاول قط أنْ أخدَعَ أنس قبل الزواج، معتقداً أنَّ مثل هذا السلوك هو دائماً عمل غير أخلاقي. كذلك، كوني ابناً لأك--اديمي، لم أُحاول إقناع أنس بالزَّواجِ منّي قبل أن تتخرَّجَ وتحصل على الدرجة العلمية.

بقيتُ في العملِ كمُدرِّس غير مُتفرّغ في الكنيسة المسيحية في عام (1950 م)، وفي نفس الوقت كنتُ قد بدأتُ في العمل كمُحاضِر في فلسفة الأخلاق بجامعة أبردين الاسكتلندية في أكتوبر من العامِ نفسه.

ص: 35

ص: 36

ما بعد أكسفورد

(BEYOND OXFORD)

خلال سنوات إقامتي في أبردين، شاركت بع-دة ح--وارات إذاعية، كما شاركت في ثلاثة أو أربعة نقاشات إذاعية كانت تُنظّم من قِبَلِ البرنامج الثالث في إذاعة (BBC) المؤسَّس آنذاك حديثاً، وقد شاركتُ كموضوع في تجارب نفسيَّة متعددة. من الأمور التي جذبتنا إلى أبردين، هو أننا أصبحنا أصدقاء لجميع الذين قابلناهم تقريباً، وما جذبنا أيضاً لأبردين؛ تنوع وقوة الحركة التعليمية فيها؛ ولكون أبردين مدينة في اسكتلندا وليست في إنجلترا، والتي كانت جديدة بالنسبة لنا؛ لحقيقة أنها وفّرت لنا إمكانات عديدة للتنزه، ومنها السير على الشواطئ وفي منطقة کیرنجورم (Cairngroms). ولا أذكُرُ أنّي تخليتُ أبداً عن المشاركة بأي من رحلات نادي كيرنجورم الشَّهرية المنتظمة لتلك التلال.

في صيف عام (1954م) ، غادرتُ أبردين في طريقي إلى أمريكا الشمالية، لأصبحَ بروفيسور الفلسفة بكلية جامعة ستافوردشير الشمالية (University College of North Staffordshire)، والتي حصلت فيما بعد على رُخصة لتُصبحَ جامعة كييل (University of Keele). وخلال السبعة عشرة عاماً التي قضيتها هناك، ظلت كييل أقرب إلى أجواء المملكة المتّحدة منها إلى كُلّيات الآداب في الولايات المتحدة. سرعان ما كرَّسْتُ

ص: 37

جهدي للعمل هناك، ولم أغادر جامعة كييل إلَّا بعدما بدأت تفقد ببطءٍ تميزها.

قضيتُ العام الأكاديمي ( 1970 – 1971م) كأستاذ زائر في الولايات المتّحدة، ولكنَّني استقلتُ في نهاية عام (1971م) من ما سيُصبح فيما بعد جامعة كييل (أخذ مكاني في كييل ريتشارد سوينبيرن). في يناير من عام (1972م) ، انتقلت إلى جامعة كالغاري (Calgary) في ألبرتا بكندا. كان هدفي الأوّل أنْ أستقر هناك. ولكن، في مايو (1973م)، بعد ثلاثة فُصُولِ فقط في كالغاري، انتقلت إلى جامعة ريدنغ (University of Reading)، حيثُ بقيت فيها حتَّى نهاية عام (1982م).

وقبل أنْ أتقدَّمَ بطلب التقاعد المبكر وأحصل عليه من جامعة ريدنغ، وقَعْتُ على عقدِ للتَّدريس فَضْلاً واحداً كل سنة في جامعة يورك في مدينة تورنتو الكندية، واستمر ذلك لآخر ستة أعوام من حياتي الأكاديمية. في منتصف هذه المدَّة، استقلتُ من جامعة يورك لكي يتسنى لي قبول دعوة مركز الفلسفة الاجتماعية والسياسية في جامعة باولنغ غرين (Bowling Green) بولاية أوهايو الأمريكية، وذلك للعمل كباحث متميّز. وقد تمَّ تمديدُ الدَّعوة لثلاث سنواتٍ أُخرى. بعد ذلك، تقاعدتُ بشكل كامل، وما زلتُ أُقيم في ريدنغ.

هذه الخطوط العريضة لمسيرتي العلمية لا تُظهر لماذا أصبحتُ فيلسوفاً. وإذا أخذنا بالاعتبار اهتمامي الفلسفي منذُ كنتُ في مدرسة كنغز وود، كان يبدو أني سأصبح فيلسوفاً محترفاً قبل وقت طويل من ذهابي إلى أكسفورد. حتَّى خلال الفصلين اللذين قضيتهما في أكسفورد قبل أن ألتحق بسلاح الطيران الملكي، كنتُ قد وصلتُ إلى أقرب مدى

ص: 38

من الفَلْسفةِ خلال اجتماع النادي الشقراطي واهتمامي الرئيسي خارج إطار دراساتي كان سياسياً. هذا الأمر استمر إلى ما بعد يناير (1946م)، حيث صارت الموضوعات التي أدرُسُها تشمل الفلسفة.

وأوَّلُ مَرَّةٍ شعرْتُ فيها أنَّ مجال عملي يمكن أن يكونَ في الفلسفة،كان قبل أنْ أتقدَّمَ للاختبار النهائي في ديسمبر من عام (1947م).

في الفَضْلين القادمين من هذا الكتاب، أُحاوِلُ أنْ أُفضّل الأساس الذي استندتُ عليه لسنواتٍ طويلةٍ في معارضة فكرة وجود إله. سأبدأ أوَّلاً بالغوص في نِصْفِ قَرْنٍ من الحُجَحِ الإلحادية، التي كونتها وطوَّرْتُها، ثمَّ بعد ذلك استخدمتها. في الفصل الثالث، سوف أتتبَّعُ التحولات العديدة التي حدثت في مسيرتي الفلسفية، وبالتحديد تلك التي يمكن تبينها من خلال المناظرات المتكرّرة التي شاركت فيها في موضوع الإلحاد.

عبر كلِّ ذلك، آمل أنْ يَتَّضِح - كما ذكرْتُ في السَّابِقِ – أنَّ اهتمامي الطَّويل بالدين لم يأتِ سوى من باب الحيطة والأخلاق، أو ببساطة من باب الفضول. أقولُ : (من باب الحيطة)؛ لأنَّه إن كان هناك إله أو آلهة لهم علاقة بأحوال البشر، فإنَّ من الطَّيشِ أَنْ لا نُحاوِلَ أنْ نقِفَ في الجانب الذي يقفُ فيه هؤلاء الآلهة(1).

ص: 39


1- المقصود هنا ما نُعبّر عنه في أدبياتنا ب_(دفع الضرر المحتمل) (ضرورة عملية)؛ فالإنسان جُبِلَ على تفادي الضَّرَر المحتمل ولو كان احتمالُ الضَّرَرِ ضعيفاً. فبقدر أهمية وخطورة المحتمل، يحرص على تفادي وقوعه. وقد روي عن الإمام جعفر الصادق لا في حواره مع عبد الكريم بن أبي العوجاء (الملحد): «إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء (المؤمنون بالله)، وهو على ما يقولون (أي الأمر كذلك، الإله موجود) فقد سلموا وعطبتُم. وإن يكن الأمر على ما تقولون ( لا وجود للإله)، وليس كما تقولون (أي الأمر ليس كذلك، فالإله موجود)، فقد استويتُم وهم». أُصول الكافي للكليني :1 75 باب حدوث العالم وإثبات المحدث ح 2). (المراجع).

وأقولُ : إِنَّ اهتمامي (من باب الأخلاق)؛ لأنَّني شعرْتُ بالسَّعادةِ أَنْ أَجِدَ ما قاله ماثيو أرنولد (Matthew Arnold)(1): (إِنَّ الخالد (الإله)، وليس نحنُ، من له صلاحية تحديد الخير ) (2)صحيحاً.

ص: 40


1- ماثيو أرنولد (1822 - 1888م) شاعر وناقد وكاتب ومصلح تربوي إنجليزي، وقد كان تركيزه في أعماله ينصب على وضع الإنسان الغربي المعاصر الذي يواجه الحياة من غير دين.
2- يبدو أنَّ أرنولد يقصد أنَّ الأخلاق ترتكز على مفهوم الخير، فالعقل وإن استطاع أن يستقل بمعرفة خيرية القيم الأخلاقية (كالعدل والصدق)، إلَّا أنَّ مصاديق الخير لا يمكن للإنسان أن يُحدّدها في كثير من الأحيان، بل الله وحده هو القادر على تشخيصها. فسواء كان معيار تقييم الفعل الخيّر هو الدوافع (النيات) أو العواقب (النتائج)، فالإنسان في الحالتين غير قادر على التشخيص الجازم. فلا الإنسان بقادر على معرفة دوافعه ودوافع الآخرين بنحو مؤكد ودقيق، ولا هو بقادر على معرفة عواقب فعله وأفعال الآخرين بنحو مؤكّد ودقيق. أما عدم قدرته على معرفة دوافع الآخرين بنحو مؤكّد، فواضح، لأنَّه لا يُدرك إِلَّا سلوكهم الظاهري، وقد يخطئ في تفسيره في أحيان كثيرة . وأما عدم قدرته على معرفة دوافعه بنحو مؤكّد، فلأنّه يُدرك دوافعه الظاهرية، ولا يُدرك دوافعه الباطنية التي تنطلق من اللاشعور، والله هو وحده يعلم السِّرَ وأخفى. أمَّا عدم قدرته على معرفة عواقب أفعال الآخرين، فلأنَّ هذا الأمر يتطلب رصد ك-لّ الآثار الإيجابية والسلبية لكل فعل من أفعالهم، حتّى يتحقق التقييم، وهذا فوق طاقة الإنسان. وأمَّا عدم قدرته على معرفة عواقب فعله، فأيضاً لعدم قدرته على رص-د ك-لّ الآثار الإيجابية والسلبية لكل فعل من أفعاله. فضلاً عن أن عواقب الأفعال تستمر لما بعد موتهم وموته. فالخلاصة أنَّ من يُحدّد الخير لا بد أن يكون (خالداً) و (بكلِّ شيء عليم)، حتّى يحيط بكلِّ الأفعال، دوافعها وعواقبها، ويُحدد ما كان خيراً منها وما لم يكن كذلك. لذا يقول تعالى: «... وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (البقرة : 216)... هكذا أفهم عبارة أرنولد. (المراجع).

وأقولُ : إِنَّ اهتمامي كان (من باب الفضول)؛ لأنَّ أي شخص صاحب عقلية عِلْميَّة يجب أن يبحثَ قدر استطاعته لكي يتعرف على هذه الموضوعات .(1)

ولعلّي بعد كل هذه السنوات أكثر شخص مندهش من تحولي من إنكار وجود إله إلى اكتشافه.

ص: 41


1- المقصود هنا الفضول الطبيعي عند الإنسان (ضرورة طبيعية)؛ وخاصة عندما يتعلق الأمر بوجود وحياته ومصيره. فمثلاً إذا فقد الإنسان وعيه لفترة من الزمن، وفجأة فتح عينية في مكان لم يألفه، فالأرجح أنَّ أوَّل سؤال يطرحه على نفسه وعلى من حوله: لماذا أنا هنا؟ من جاء بي إلى هنا؟ ما الأحداث التي وقعت وأدت لمجيئي إلى هنا؟ وإذا جاء بعض الناس لأخذه لمكان آخر، سوف يسألهم على الفور: إلى أين أنت-م ذاهبون بي؟ إلى أين تسوقونني؟ ومهما حاول من حوله التنصل والتهرب من إجابته، فسوف يظلُّ هو يلح عليهم ويتساءل بإصرار حتّى يصل إلى إجابات شافية. هذا الفضول المعرفي، وأسئلة كبرى من هذا القبيل، هي التي دفعت الإنسان إلى التفلسف والتدين. (المراجع).

ص: 42

الفصل الثاني

إلى حيث يقود الدليل؟

WHERE THE

EVIDENCE LEADS

ص: 43

ص: 44

عندما سرَحَت ألس (Alice) بخيالها وهي تنظُرُ في المرآة في رواية لویس کارول (Lewis Carroll) الشهيرة ، التقت بالملكة التي ادعت بأنَّ عمرها (101) سنة وخمسة أشهر ويوماً واحداً.

(قالت ألس: لا أستطيع تصديق ذلك.

قالت الملكة بصوت خافت ألا تستطيعين؟ حاولي مرةً أُخرى، خُذي نفساً عميقاً وأغمضي عينيكِ.

ضحكت ألس وقالت: لا فائدة من ذلك، لأنَّ الشَّخصَ لا يمكن أنْ يُصدِّق بأشياء مستحيلة.

قالت الملكة: أعتقدُ أَنَّكِ لم تتدرّبي على ذلك بالقَدْرِ الكافي. عندما كنْتُ في عُمرُكِ كنْتُ أقوم بذلك نصف ساعة يومياً. لماذا؟ كنتُ في بعض الأحيان أعتقد بالكثير من الأشياء المستحيلة بنحو يتجاوز المستحيلات السِّت قبلَ أنْ أتناول طعام الإفطار).

أحسَبُ أنَّ عليَّ أنْ أتعاطف مع ألس، وخاصة عندما أتذكر كيف تغيّر مسار حياتي ودراستي حتَّى بعد أن درست الفلسفة تحت إشراف جلبرت رايل. أنا واثق أنَّ ما حصل لم يكن مرجحاً، إن لم يكن مستحيلاً.

بالكاد كان يُمكنني تخيل، أنَّني عندما قمت بتأليف كتابي (اللاهوت والتكذيب)، أنَّني سوف أنشر خلال نصف القرن القادم خمسة وثلاثين كتاباً في موضوعات فلسفية شتّى. ورغم شهرتي في

ص: 45

الكتابة في موضوع وجود الإله، فإنَّ ذلك لم يكن على الإطلاق مجال اهتمامي الوحيد علي مر السنين، كتبتُ في موضوعات تتراوح ما بين فلسفة اللغة إلى المنطق من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية إلى فلسفة العلوم؛ ومن عِلم ما وراء النفس (parapsychology) والتربية إلى النقاش حول الجبر والاختيار وموضوع الحياة بعد الموت.

لكن على الرغم من أنني أصبحتُ مُلْحداً في الخامسة عشرة من عمري، وقيامي بتطوير اهتماماتي غير الفلسفية عندما كنتُ في مدرسة كنغزوود، فإن عملية إنضاج وترسيخ آرائي الفلسفية استغرقت سنوات. في ذلك الوقت توصَّلْتُ إلى مبادئ إرشادية لم تُهيمن على حياتي وطريقة كتابتي واستدلالي فحسب، بل في الحقيقة قادتني في النهاية إلى التحوُّلِ الجذري من الإلحاد إلى الإيمان.

ص: 46

الاكتشافات المبكّرة ... والمواقف المحرجة

(EARLY EXPLORATIONS... AND EMBARRASSMENTS)

بعضُ آرائي الفلسفية تشكلت حتَّى قَبْلَ أنْ أدخُلَ إلى مدرسة كنغزوود. لقد كنتُ معتنقاً الشُّيوعية في فترة تسجيلي في المدرسة، وقد بقيتُ كاشتراكي يساري نشيطاً حتّى بداية الخمسينيات من القَرْنِ الماضي، عندما استقلتُ من حزبِ العُمَّال (Labour Party)، وهو الحزب الذي يُمثل تاريخياً الحركة اليسارية في بريطانيا.

ما منعني من الاشتراك الواقعي في الحزب الشيوعي - كما كان الحال مع بعض زملائي - هو سلوك الحزب الشيوعي البريطاني بعد المعاهدة الألمانية - السوفياتية عام (1939م)، (حيث كنت مراهقاً آنذاك). هذا الحِزْبُ الذُّليل والغادر بدأ بإدانة الحرب ضد ألمانيا الاشتراكية القومية (النازيين) باعتبارها حرباً (إمبريالية)، وكنتيجة لذلك، لم يكن يعتقد بأنَّ البريطانيين معنيون. استمرت هذه الإدانات حتَّى عام (1940م)، في الوقت الذي كانت البلاد تتعرض لخطر الغزو. لكن ما سُمِّيَ بالحرْبِ الإمبريالية أصبحَ فجأةً (حزباً تقدُّميَّة، حرْبَ الشَّعب) (حسب وجهة النَّظَر الشُّيوعية)، وذلك عندما غزت ألمانيا الاتحاد السوفييتي. وفي السنوات التي تلت ذلك، أصبحتُ أُشكك بصورة متزايدة بالنظرية والممارسة الشّيوعية، التي تقوم على فكرة أنَّ

ص: 47

التاريخ محكومٌ بقوانين شبيهة بقوانين العلوم الفيزيائية. وفي هذه الفترة - وكما هو حال أقراني في مدرسة كنغزوود - تعرَّفت على الكتابات التفسيرية للكاتب سي. إي. إم. جوود (Joad)(1). في ذلك الوقت كان جوود معروفاً في الوسط البريطاني العام بنقاشاته المبثوثة في الموضوعاتِ الفلسفية ونمط كتاباتِهِ المميَّز (قام بتأليف أكثر من 75 كتاباً). من خلال قراءة أكثر كُتُب جوود مبيعاً، اكتشفتُ أنَّ بعضها مع الأسف فاقد للمصداقية فيما يتعلق ببحث ما وراء عِلْم النَّفْس، وهو ما يُعرَف في الوقت الحالي بالباراسيكولوجي.

أنا أفترضُ أنَّ كثيراً منَّا عندما يتقدَّمُ في العمر ينظُرُ إلى الوراء، إلى فترة الشباب، بمزيج من الحنين والإحراج. أنا متأكّد أنَّ هذه الانفعالات شائعة جداً. ومع ذلك، ليس جميعنا لديهم سوء الحظ في توثيق ونَشْرِ بعض هذه الأمور المخرجة كما هو الحال معي.

إِنَّ اهتمامي بما وراء عِلْم النَّفْس (الباراسيكولوجي) قادَني في عام (1953م) إلى نَشْرِ أوَّل كتاب لي كُتِبَ بطريقة سيئة لا تُطاق. في عام (1951 م) ، قمْتُ بكتابة وتوزيع اثنين من الحوارات التي تُهاجم سوءَ الفهم المنتشر عن ظاهرة الخوارق المزعومة لما وراء عِلْم النَّفْس نَشْرُ هذه الحوارات دفَعَ أحد الناشرين ليطلب مني تأليف كتاب في هذا الموضوع، والذي - بدافعٍ من الغطرسة الشبابية - أسميته (النَّهج الجديد في البحوثِ النفسية A New Approach to Psychical Research).

تناول الكتاب الحقائق المفترضة والمسائل الفلسفية المتعلِّقة

ص: 48


1- فيلسوف إنجليزي (1891 - 1953م)، عمل على نشر الفلسفة في المجتمع البريطاني في فترة الحرب العالمية الثانية.

بالباراسيكولوجي. ومما يشفَعُ لي في ارتكاب بعض الأخطاء في أُسلوب الكتابة في هذا الكتابِ أَنَّ النَّاشِرَ َأرادَ أنْ يكونَ أُسلوب الكتابة على شكل مقالاتٍ مُيسّرة. ومع ذلك، كانت هناك أخطاء جوهرية. فعلى المستوى التَّجريبي، اعتقدتُ بصحة عمل إس. جي، سول (Soal)، الباحث والرياضي في جامعة لندن. وعلى المستوى الفلسفي، لم أكن قد استوعبتُ حينها بشكل كامل أهميَّة الباراسيكولوجي في الحُجَّةِ التي قدَّمها الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم في القسم (x) من كتابه الأول (التحقيق Inquiry)(1). لاحقاً بعد عقود، قُمْتُ بتجميع كتاب من مجموعة قراءات، أعتبر أنّها أفضل ما كُتِبَ قبل ذلك الوقت في هذا الموضوع، وأسميتُ الكتابَ (قراءات في المشكلاتِ الفَلْسفية للباراسيكولوجي)(2). وفي مقدمة الكتاب، لخَصْتُ ما تعلمتُ خلال سنوات من حُلُولٍ لتلك المسائل.

ص: 49


1- أصدر الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم (1711 - 1776م) سنة (1758م) كتابه تحقيق في الفهم الإنساني / ترجمه د. موسى وهبة دار الفارابي/ 2008م، بيروت)، بعنوان: (مبحث في الفاهمة البشرية)، وفي سنة (1751م) أصدر كتابه ( تحقيق في مبادئ الأخلاق). ويقصد (فلو) هنا كتاب هيوم الأول المتعلق بتحليل العقل البشري. والقسم (X) هو بعنوان (في المعجزات)، راجع ترجمة الكتاب ( ص 151). (المراجع).
2- (Parapsychology)

استكشاف اهتمامات جديدة

(EXPLORING NEW INTERESTS)

برَزَ لديَّ اهتمامانِ فلسفيّان عبر القراءات العلمية في مرحلة شبابي:

الاهتمامُ الأوَّلُ يتمثل في افتراض أنَّ علم الأحياء التطوري (evolution biology) قادرٌ على ضمان إحراز تقدم. وهذا الافتراضُ ظهَرَ بقوَّةٍ في شذراتٍ مبكرة ل_(جوليان هكسلي lian Huxley)(1) في كتاب (مقالات عالم أحياء Essays of a Biologist). وهو المقترح الذي عَمَلَ على تطويره بإصرار بقيَّةَ حياتِهِ. في كتاب (الوقت النهر المتجدِّد Time, the Refreshing River)، وكتاب (التَّاريخ إلى جانبنا History Is on Our Side) قامَ جوزيف نيدهام (Joseph Needham)(2) بدَمْج هذا الافتراض مع فلسفة التاريخ الماركسية، وهو المذهب الذي يقومُ عَلى أنَّ قوانينَ الطَّبيعة ناتجة عن تطوراتٍ تاريخية. فالماركسيون يعتقدون أن هناك قوانين عالمية، مثل حتميّة الحروب الطبقيَّة، تحكم تقدم المجتمعات. وكجزء من عمليَّةِ دحض هذا الفكر، قُمْتُ - عندما دعيتُ في منتصف (1960م)

ص: 50


1- عالم أحياء وفيلسوف أسكتلندي (1887 - 1995م).
2- عالم إنجليزي ومُؤرّخ (1900 - 1994م)، مختص في ( عِلْم الصينيات)، عُرِفَ بأبحاثه ووكتاباته حول تاريخ (العِلْم في الصين).

للمُشاركة في سلسلة (أفكار جديدة في الأخلاق) - بتأليف كتاب (الأخلاق التطورية Evolutionary Ethics). (وكان ذلك سبباً في تأليف كتاب (التطوُّر الدَّاروِني) عندما طُلِبَ منّي المشاركة في توثيق سلسلة الحركات والأفكار في بدايةِ الثَّمانينات من القرن الماضي. وفي هذا الكتاب الأخير، أردتُ أنْ أُبيّنَ أنَّ هيبة الدارونية استدعت الحفاظ على أفكار واعتقادات تفتقر لأساس متين، مثل الفكرة القائلة بأن نظرية دارون هي ضمان للتطوُّرِ البشري).

اهتمامي الفلسفي الثاني نَتَجَ عن قراءتي للأدبيات العلمية المشهورة، وهو محاولة رسم استنتاجات باركِلِيَّة (نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي باركلي) (1)في ضوء تطور الفيزياء في القَرْنِ العِشرين. الباركليّة الجديدة تنتمي إلى مدرسة فلسفيّة تُسمَّى المثالية (Idealism) . والمثاليُّون يعتقدون بأنَّ الواقعيّة الفيزيائية هي حقيقةٌ عقليةُ صِرْفة، وأنَّ ما هو موجودٌ إِنَّما هو العقول ومحتوياتها. المصدر الرئيسي لأفكار هذه المدرسة هي أعمال السير جيمس جينز (Sir James Jeans)(2) والسير آرثر أدنغتون (Sir Arthur Eddington) (3). لقد كان كتاب (الفلسفة والفيزيائيون Philosophy and the Physicists) لمؤلِّفَتِه سوزان ستبنغ (Susan Stebbing)(4) هو ما ساعدني في شقّ طريق للخروج من هذه

ص: 51


1- (1685 - 1753م) . ادَّعى باركلي أنَّه لا يوجد شيء اسمه (مادة) على الإطلاق، وما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة في العقل بفعل (الإدراك) وبغياب الإدراك تغيبُ المادة.
2- عالم فلك وفيزياء ورياضيات إنجليزي (1877 - 1946م).
3- عالم فلك وفيزياء ورياضيات إنجليزي (1882 - 1944م).
4- فيلسوفة إنجليزية (1885 - 1943م)، تُعتبر من أعلام الفلسفة التحليلية.

الغابة (المِثاليَّة).

بعد ذلك بسنوات، في كتابي (مدخل إلى الفلسفة الغربية)، حاولتُ أنْ أُبين أنَّ المثاليَّةَ قاتلة للعِلم. وقد استشهدتُ في الكتاب بفقرة من كتاب (العقل، الإدراك الحسي والعِلْم Mind, Perception and Science) لمؤلّفِهِ المُميَّز عالم الأعصاب البريطاني اللورد رسل برايان (Russell Brain)(1)، والذي أوضح أنَّ أطباء الأعصاب عادة ما يكونونَ مثاليين يعتقدون بأنَّ فعل الإحساس بموضوع ما هو ببساطة حدثٌ يقعُ في دِماغِ المُستقبل .

كَما استشهدتُ بادعاء برتراند رسل)(2) بأنَّ (الإحساس لا يُقدِّمُ خبرة مباشرةً بالموضوع الفيزيائي) . قُلْتُ: لو كان ذلك صحيحا، فإنَّه ليس هناك شيء اسمه إحساس. ولا يخفى أنَّ نتيجة هذا التفكير المثالي التقليل من قيمة الاكتشافات العلمية، إذ يعتمدُ العُلَماء - ويجب عليهم ذلك - على الملاحظةِ المباشرة في تبرير اكتشافاتهم، فإسقاط تلك الملاحظات المباشرة عن الاعتبار يعني انتفاء قيمة مشاهداتهم. باختصار، إنَّ هذا الرأي يُزيلُ أُسس جميع الاستدلالات العلمية. وكرَةٌ على هذا الرَّأي، قُلْتُ: إِنَّه لا بدَّ في الإحساس الواعي من تجربة حسية (مثال: صوت وصورة المطرقة أثناء عملية إدخال المشمار)، وإذا كان

ص: 52


1- عالم أعصاب بريطاني (1895 - 1966م)
2- فیلسوف ورياضي إنجليزي شهير (1872 - 1970م) ، كان له أثر كبير على الفلسفة الغربية المعاصرة، يُعتبر من أبرز أعلام الفلسفة التحليلية ومؤسسيها، له كتب كثيرة في مجال فلسفة الرياضيات وفلسفة المنطق وفلسفة اللغة، ونظرية المعرفة وتاريخ الفلسفة، وغيرها من الكتب . (المراجع).

هناك ثمة مُعطى حسي صحيح، فإنَّ ذلك الشيء (المِطرقة والمشمار) يجب أن يكون جُزْءاً من اكتسابي لتلك الخِبرة.

ص: 53

رؤية جديدة في الفلسفة

(NEW INSIGHTS IN PHILOSOPHY)

في الفترة التي قضيتها في أكسفورد (1946 - 1950م) ، ظَهَرَ اتجاه جديدٌ في الفَلْسفة يُسمَّى بعض الأحيان: (ثورة في الفلسفة)، وكان في أوج ازْدِهارِه. عندما كنتُ في أكسفورد (قضيتُ سنتين في درجة البكالوريوس، وسنتين أخريين في درجةِ الدِّراساتِ العُلْيا، وثمانيةَ عَشَرَ شهراً كمُدرّس في الكنيسة المسيحية)، خلال هذه الفترة، تعمقت كثيراً في هذه (الفَلسفةِ الجديدة)، والتي وَصَفَها عدد من خُصُومِها بأنّها (لُغَوية) أو (لغة عاديَّة).

كان أبرز الرموز الفلسفية في أكسفورد في ذلك الوقت جلبرت رايل وجون أوستن .(1)وكما أشرتُ من قبل رايل كان المشرف على دراستي في الدكتوراه، أما أوستن فسنحت لي الفُرْصَةُ للتعرُّف علي-ه بع--د تعييني في الكنيسة المسيحية، حيثُ أصبحتُ من أولئك الذين يحضُرُونَ بشكل منتظم لما يُعرَفُ بنقاشات (صباح السَّبت)، التي كانت تُعقد في مكتب أوستن في أكسفورد، صباحَ كلِّ سَبْت لمناقشة تطور العِلْم .

ص: 54


1- فيلسوف بريطاني (1911 - 1960م) ، تخصَّص في فلسفة اللغة، وعُرف بنظريته في أفعال الكلام، مُركّزاً على الأهمية الفلسفية للعبارات الإنشائية أو الأدائية (في مقابل العبارات الإخبارية و التقريرية، من أشهر كتبه (كيف نصنع الأشياء بالكلمات ؟) (1955م). (المراجع).

هذه الفلسفةُ الأكسفوردية في الأربعينات والخمسينات من القَرْنِ الماضي، قدَّمَتْ مجموعةً رُؤى ذات قيمة كبيرة، ما زِلْتُ أعتقد بصحتها . من بين هذه الرُّؤى، ربَّما أهمها هي الرُّؤية القائلة بأنَّ علينا أنْ نكونَ على وعي دائم بأنَّ كلَّ فلسفة (بقَدْرِ ما هي بحثٌ تصوُّريٌّ) يجب أن تكونَ مهتمَّةً بالاستعمالِ اللُّغوي الصحيح. فنحنُ لا يمكننا الوصول إلى التصوراتِ إِلَّا من خلال دراسة الاستعمال اللُّغوي، ومن ثَمَّ، من خلال استعمال هذه الكلمات يتم توضيح التصورات(1). هذه الرُّؤية ذكرتني بعلماء الكتاب المقدَّس الذين ذكرْتُهُم من قبل. ومثال ذلك أبي، الذي كان يُدرِّسُ بعض تصورات العهد القديم الغريبة، عن طريق تجميع أكبر قدر ممكن من السياقات التي يمكن أن يعثر عليها، ليفحَصَ بعد ذلك كيف استُعْمِلَت تلك الكلمةُ العِبرية في تلك السياقات المختلفة. باعتبارها مؤثّرةً وبقوَّةٍ في تطور توجهي الفلسفي في تلك الأيام، هذه (الفلسفة الجديدة) لم تكن جديدةً ولا ضيّقةً جداً بالضرورة، كما يبدو في بعض الأحيان. (الثورة) استبطنت تركيزاً على النحو التصوري (conceptual grammar) ، أي استعمال التصورات والتّعبير عنها بلغة عاديَّة، وهي الدراسةُ التي يُفترض أن تُساعد على تلاشي العديد من المشاكل في الفلسفة. وإحدى هذه المشاكل تتعلق بما إذا كان بمقدورِنا

ص: 55


1- بعبارة أخرى : معنى الألفاظ لا يتوقف على تعريفها، بل يتجلى معناها من خلال الطريقة التي تُستعمل بها تلك الألفاظ، مع إشارة خاصة إلى التمييزات المتعددة التي يتم الكشف عنها والفروق الدقيقة التي تظهر في الظروف المتباينة لاستعمال الألفاظ. هذه الفكرة مركزية في مدرسة أكسفورد في التحليل اللغوي، حتّى قال أحدهم: (إِنَّ الفكرة القائلة: إنَّ المعنى يتجلى من خلال الاستعمال، لهي واحدة من أعظم مآثر الفلسفة المعاصرة). (المراجع).

الوصول إلى معرفة عن طريق التعرُّف على العالم (الخارجي). تمَّ صياغةُ هذه المشكلة لأوَّلِ مرَّةٍ في القَرْنِ السَّابع عشر من قِبَل ديكارت، وتم قبولها لاحقاً دون تساؤل من قِبل أكثر العظماء الذين جاؤوا بعده، أمثال لوك وباركلي وهيوم وكانت(1).

لكن هذه (الفلسفة الجديدة) رفَضَت هذه المشكلة من الشّاً الشَّكِّ الديكارتي من خلال رفض نقطة بدايتها التي تقول : هو موضوع غير مادّي ذلك الشَّخصُ الذي لديه خبرةٌ خاصَّةٌ فقط .(2)

هذا الاعتقادُ كان غير منسجم مع الافتراض المتضمَّن في خطاباتنا المتكرّرة، الذي يقول بأنَّا نحصل على معرفة من خلال التعرُّف

ص: 56


1- يتحدَّث (فلو) هنا عن مشكلة الإدراك الحسي في نظرية المعرفة. حيث توجد نظريات متعددة تجاهها، من أهمِّها: 1 - الواقعية الساذجة (توماس ريد). 2 - الواقعية التمثيلية جون لوك). 3 - نظرية المعطيات الحسية (باركلي، وهيوم، وكانت). 4 - نظرية اللغة العادية (فتجنشتين). وكأنَّ (فلو) يريد أن يقول: إنَّ نظرية اللغة العادية (التي ناصرها بتأثير مدرسة أكفسورد)، تقف موقفاً ناقداً من نظرية المعطيات الحسّية، وتقف موقفاً وسطاً بين الواقعية الساذجة والواقعية التمثيلية، وخلاصة هذا الموقف أنَّنا نُدرك الأشياء إدراكاً مباشراً، ويصبحُ الإدراك صحيحاً إذا توفرت الشروط الفيزيائية والنفسية والفسيولوجية السوية. (المراجع)
2- بعبارة أخرى : كأنَّ نقطة البداية عند ديكارت - ومن سار على دربه - تفترض إمكانية تحقق عِلم حضوري عند الإنسان (بحيث يُدرك ذاته بذاته ويمر بخبرات حضورية) دون أن يكون له جسم مادّي. (المراجع).

على العالَمِ الفيزيائي وعلى بقيَّةِ البشر (1).

ص: 57


1- ديكارت، ومن جاء بعده، كانوا يرون أننا نعي بحالاتنا النفسية وأحداثنا العقلية بنحو محدد ومتميز إحداها عن الأخرى، ونضع لكلّ منها لفظاً، مثل: (ألم)، (إدراك)، (تذكر)، مثل ما أننا حين نرى أشياء مادية، نُعطي لكلّ منها لفظاً يدلُّ عليها، مثل: (باب)، (شجرة) ... الخ. كما نُقرّر أنَّنا نعي بحالاتنا الباطنية متميزة بطريقة الاستبطان، سواء صاحبها سلوك بدني ظاهر أم لم يصاحبها، وأنَّ تلك الحالات الباطنية تتّسم بالخصوصية المطلقة، أي إنّه لا يعي تلك الحالات إلَّا صاحبها، ولا يشاركه فيها سواه (أي يعيها بعلم حضوري). لكن هذه الفلسفة الجديدة - التي كان لفتجنشتين بصمة قوية فيها - هاجمت هذه الرؤية، وأكدت على أننا لا نعي حالاتنا النفسية وحوادثنا العقلية متميزة إحداهما عن الأُخرى، وأنَّنا لا نعيها باستبطان ومن المشكوك به أن نكون قادرين على عزل حالة باطنية عن سائر الحالات الأُخرى المتداخلة معها دائماً. كما تنكر هذه الفلسفة أننا نصل حتَّى إلى الوعي بتلك الحالات، وإنَّما نُدرك أنَّ لدينا تلك الحالات والعملي-ات ح-ين تبدو في أقوال أو أفعال سلوكية تقبل الملاحظة العامة الخارجية. وفي ذلك يقول فتجنشتين عبارته المشهورة: (العملية الداخلية في حاجة إلى معايير خارجية). ولذلك تنتهي هذه الفلسفة إلى رفض نقطة ديكارتية أُخرى، وهي أن وجود الجسم الإنساني أمر ثانوي عارض للحياة الشعورية، وأنَّ من الممكن تصوّر نفس بلا جسم. لذا ترى هذه الفلسفة أنه ما دمنا لا نعي بحياتنا الشعورية إلا في صورة السلوك، فإنّ الجسم شرط ضروري لوجود تلك الحياة، وليس مجرد عرض حادث. وإذا طبقنا هذا الموقف على الإدراك الحسي كحالة باطنية، فلن يكون شيئاً سوى الرؤية الفعلية لشيء أمامي أو السمع الفعلي للصوت أو اللمس الفعلي للشيء ونحو ذلك، دون الحديث اليائس عن معطيات حسّية وبحث عابث في طبيعتها، فهذه أشياء لا نعيها. والخلاصة أنَّنا نُدرك الأشياء مباشرة دون وسائط افتراضية (مثل المعطيات أو الصور الذهنية). لذا تحدث فتجنشتين عن (استحالة اللغة الخاصة). ثم جاء جلبرت رايل، فكان يُسمّي ثنائية ديكارت (بين العقل والجسم): (الأُسطورة الديكارتية Cartesian myth). وكان يُسمّيها أيضاً: (عقيدة الشبح في الآلة the dogma of the ghost in the machine)، ويقصد بها أنَّ الجسم الإنساني عند ديكارت آلة، تخضع لقوانين الميكانيكا والكيمياء والأحياء وعلم وظائف الأعضاء، وأن بداخل هذا الجسم عنصراً غريباً يسميه ديكارت: (النفس) أو (العقل). لم ينكر رايل أنَّ للإنسان نفساً وعقلاً، لكنَّه رأى أنَّ صياغة ديكارت لمشكلة النفس والجسم تجعلها مستحيلة الحل، في اعتباره النفس شيئاً مثل ما أنَّ الجسم شيء. للجسم حالات و عمليات وحوادث تخضع لقوانين تجريبية، هذا حقِّ، لكن ديكارت نظر إلى النفس أيضاً على أنّها شيء له كيانه المستقل، وأنَّ حالاتها وعملياتها وحوادثها من طبيعة أُخرى. يُعقب رايل على ذلك بقوله : إن تصوّر النفس أو العقل سلوكي أو استعداد سلوكي ( dispositional concept) ، بينما تصوّر الجسم شيء (substantial concept). الحديث عن عقل إنسان ما ليس حديثاً عن شيء، تسكن فيه حالات وعمليات غير فيزيائية، كالإحساسات والذكريات والخيالات والانفعالات والعواطف والرغبات والإرادات ونحو ذلك، إِنَّه حديث عن قدرات هذا الإنسان وميوله واستعداداته. وعلى هذا الأساس، الإدراك عند رايل لحظي لا جهد فيه، وفعل مباشر لا يحتاج لعمليات تسبقه کشروط له. فحين يحدث الإدراك لا معنى للسؤال: كيف حدث؟ وما أسباب حدوثه؟ وهل تدخلت عوامل الإحساس والتذكر والتخيّل ؟ فأنت لا تأخذ دروساً في كيفية الرؤية أو السمع أو الشم، ولا تقوم بتدريب سابق واكتساب مهارات. لذا نحن - في نظره - نُدْرِكُ الأشياء في العالم الطبيعي إدراكاً حسّياً مباشراً. (المراجع).

لكن كما قُلْتُ، لم يكن هذا جديداً بشكل كامل؛ إذ لو كان أفلاطون(1) الذي كتَبَ (محاورة ثياتيتوس)، وأُرسطو (2) الذي كَتَبَ

ص: 58


1- فيلسوف يوناني شهير (348 ق.م)، رياضي، كتب عدداً من الحوارات الفلسفية ويُعتبر مؤسساً لأكاديمية أثينا، وهي أوّل معهد للتعليم العالي في العالم الغربي، معلمه سقراط وتلميذه أرسطو. وضع أفلاطون الأسس الأولى للفلسفة الغربية والعلوم. نبوغ أفلاطون تجسّد في أسلوبه ككاتب واضح في محاوراته السقراطية (نحو ثلاثين محاورة)، التي تتناول موضوعات فلسفية مختلفة المعرفة، المنطق اللغة، الرياضيات الميتافيزيقا الأخلاق، والسياسة. (المراجع).
2- فيلسوف يوناني شهير (322 ق.م)، تلميذ أفلاطون، ومعلم الإسكندر الأكبر، وواحد من عظماء المفكرين، غطّت كتاباته مجالات عدة، منها: الفيزياء، الميتافيزيقا، الشعر، المسرح، الموسيقى، المنطق، البلاغة، اللغويات، السياسة، الأخلاق، وعلم الأحياء وهو أحد مؤسسي الفلسفة الغربية.

(الأخلاق إلى نيقوماخوس)، في ندوة يُديرها رايل وأوستن، لشعرا أنهما في قمَّةِ الرَّاحة وكأنَّهما في بيتهما .(1)

ص: 59


1- لأنَّ نظرية المعرفة ومشاكلها، والاتجاهات المختلفة حولها، كانت معروفة عند فلاسفة اليونان، أمثال أفلاطون وأرسطو. (المراجع).

تطوُّرات في الفلسفة

(PROGRESS IN PHILOSOPHY)

قبل مغادرتي أكسفورد، سَلَّمْتُ للناشرِ مادةً مُجمَّعة للسلسلة الأولى من كتاب (المنطق واللُّغة). وبعد ذلك بفترة قصيرة تبعتها السلسلة الثانية. وقد تم تحرير كلا المجلدين، وقد كتبت مقدمة قصيرة لكليهما؛ الأولى في عام (1951م)، والثانية عام (1953م). بعد وقت قصير من تعييني كمُحاضر في جامعة أبردين، وجدتُ نفسي أتصرف كمتحدث رسمي غير معيّن في أسكتلندا ل_(فَلسفة أكسفورد اللُّغوية). وعندما قام نادي الكشافة الأسكتلندي الفلسفي - وهو تجمع لجميع من يقوم بتدريس الفلسفة في أسكتلندا - بإصدار مجلة جديدة بعنوان (الفَصْليَّة الفلسفية The Philosophical Quarterly)، احتوى عددها الأول على هجوم لاذع على مدرسة أكسفورد. وقد طلب مني مُحرِّرُ المجلة الرَّدَّ على هذا الهجوم. وكان ردّي هو مقالُ: (الفلسفة واللغة)، وهو ما أصبحَ - بعد التعديل - الفَصْلَ التَّمهيدي لكتاب يتكون من مقالاتِ مُجمَّعة تحت عنوان: (مقالات في التَّحليل التصوري Essays in Conceptual Analysis). تعرّضت الحركة لنقد من الجانب الإنجليزي عبر مايكل دومت (Michael Dummett)(1)، الذي وصف الحركة بأنّها (نتاجُ لُغةٍ

ص: 60


1- فيلسوف إنجليزي (1925 - 2011م)، متخصص في الفلسفة التحليلية وفلسفة المنطق، نادى بالتكيف العرفي والمساواة.

عاديَّةٍ)، وادَّعى بأنَّ (عضويَّةَ هذه المدرسة الفكرية تعتمد على الترشيح من قبل البروفيسور فلو)(1).

بالتأكيد كانت أعمالُ بعض الممارسين للفلسفة الجديدة - وإن كان عدَدُهُم قليلاً جداً - تافهة، ومكرّرةً، ولا طائل منها. وقد كان لي ردُّ فعل على هذا التكرار وعدم الجدوى، من خلال ورقة بحثية كتبتُها وقدَّمتُها في إحدى الأندية الثقافية، وكانت بعنوان (الأمور التي تهم Matter That Matters). جادلت فيها بأنَّه كان من الممكن ومن المحبَّذ التركيز على المشاكل التي يمكن أن يجدها المهتمونَ بالفلسفة - حتّى الأشخاص العاديين غير الناضجين فلسفيّاً - مهمَّةً وممتعة، بدلاً من إضاعة الوقت والجهد في أمور وهميَّة.

بدأتُ أقتنع - كما كتبتُ في كتاب (مدخل إلى الفلسفة الغربية) - بأنَّه يمكنُ إحراز تقدم في الفلسفة على الرغم من غياب الإجماع. فالافتقار إلى الإجماع في الفلسفة ليس برهاناً مستقلاً كافياً للقول بأنَّ الموضوع لا يمكن التقدَّمُ فيه. إظهار عدم وجود معرفة فلسفية، بدعوى أَنَّه سيظل هناك من لا يَقْتَنِع، هي مغالطة شائعة صدرت حتّى من فلاسفة معروفين مثل : برتراند رسل. أما أنا فأُسميها (لكن سوف يظلُّ هناك دوماً من لن يقتنع على الإطلاق). هناك اتهام حاصِلُهُ أنَّ من المستحيل في الفلسفة أنْ تُثبت لشخص أنَّك على حق وأنه على باطل. ولكن الجزء المفقود في هذه الحُجَّةِ هو التمييز بين إنتاج دليل وبين إقناع

ص: 61


1- 431(University Michael Dummett, Truth and Other Enigmas (Cambridge, MA: Harvard Press, 1978

الشَّخص. الشَّخصُ قد يقتنع بحُجَّةِ باطلة، وق--د ي-ظ-لُّ غير مقتنع بحُجَّةٍ ينبغي القبول بها .(1)

التقدُّمُ في الفلسفة يختلف عن التقدم في العِلم، ولكن ذلك لا يعني أنَّ التقدُّمَ في الفَلْسفة مستحيل. في الفَلْسَفَةِ أنتَ تُسلَّطُ الضَّوءَ على الطَّبيعة الجوهرية للاستدلال الاستنباطي، أنت تُميّز بين الأسئلة حول الحُجَحِ الصَّحيحة وغير الصحيحة وبين الأسئلة المتعلقة بصدق وكذب مُقدَّماتِها أو نتائجها ؛ أنت تُبيِّنُ الاستعمالَ الصَّارم لمصطلح (المغالطة)؛ أنت تُحدِّدُ وتشرَحُ مثل هذه المغالطات من قبيل (لكن سوف يظل هناك دوماً من لن يقتنع على الإطلاق) إلى الحدِّ الذي تُنجَزُ فيه هذه الأمور، ويتم الوصول إليها عبر أفضل تفكير منطقي، يمكن رؤية التقدم الحاصل حتَّى لو ظلَّ الإجماع والإقناع أمراً غير متحقق وغير كامل.

ص: 62


1- يقصد (فلو) بأنَّنا لا بد أن نُميّز بين كون الدليل منتجاً، واقتناع الشخص بالنتيجة. فليس بمقدورك أن تُحيل عقل غيرك من مقدّمات إلى نتيجة، وإن كانت الإحالة مشروعة منطقياً، وإن كانت المقدّمات صحيحة، إن كان قد قرر سلفاً أن لا يقتنع بذلك. لذا ما يمكن القيام به في حقل الفلسفة لإحراز تقدم فيها، هو تقديم مقدمات صحيحة، وانتقال مشروع منطقياً من المقدّمات إلى النتيجة، أما إجبار عقل الآخرين على الاقتناع، حتَّى يتحقق الإجماع، فهذا ما لا يتحقق عادةً. (المراجع).

إعطاء اهتمام أكثر للإلحاد

(PAYING MORE ATTENTION TO ATHEISM)

كان النادي السُّقراطي - الذي يرأسه في ذلك الوقت سي. إس. لويس - فاعلاً خلال ذروة نشاط (الفلسفة الجديدة). ووجدتُ مبداً سقراط القائل في (اتَّبع الدليل أينما قادَكَ) بشكل متزايد هو المبدأ الموجه في تطوير بعض رُؤاي الفلسفية وتعديلها. وخلال هذه التجمعات في النَّادي السُّقراطي أيضاً بدأ فلاسفة (اللُّغة) - الذين كانوا يتهمونَ بتسفيه الالتزام بالضَّوابط التي كانت معتبرةً في زمان سابق - باستكشافِ ما ميّزَهُ الفيلسوفُ الألماني (كانت) على أنَّه أعظم ثلاثة أسئلة في الفلسفة: الإله، الحرّية والخلود. كانت مساهمتي في هذا المنتدى من خلالِ ورقة بحثية بعنوان: (اللاهوت والتَّكذيب).

كما ذكرتُ سابقاً، الأسس التي بنيت عليها اقتناعي بالإلحاد، عندما كنتُ في الخامسة عشرة، كانت ناقصةً بوضوح. لقد كانت مبنيّ-ةً على ما أسميته لاحقاً: (عنادِ صِغَارِ السِّنِّ):

1 - مشكلةُ الشَّرِّ كانت بالنسبة لي دحضاً حاسماً لوجود إله كامل الخير وكامل القُدْرة.

2 - و(الدِّفاعُ عن حُرِّيةِ الإرداة) لا يعفي الخالق من مسؤولية عدم إتقان الخَلْق .

ص: 63

منذ أيَّام المدرسة، أوليتُ اهتماماً إضافياً للأسباب المؤيدة والمضادَّة في الوصول إلى النتائج الإلحادية. بدايتي تمثلت في عملية البحث في مقالة (اللاهوت والتكذيب).

وقد تمَّ عرْضُ مقالة (اللَّاهوت والتكذيب) لأَوَّلِ مَرَّةٍ في صيف عام ( 1950م) في النَّادي السُّقراطي في أكسفورد. وتم بعد ذلك نشرها في مجلَّةٍ لطلبة البكالوريوس، اسمها (الجامعة). أُعيد طباعة المقالة لأوَّلِ مرَّةٍ في عام (1955م) في كتاب (مقالاتٌ جديدة في الفلسفة اللاهوتية)، وهو عبارةٌ عن مقالاتٍ مُجمَّعَةٌ قُمْتُ بتحريرها مع ألاشدير ماكلنتير (Alasdar MacIntyre) . واحتوى الكتاب على مجموعة من الإسهامات القيّمة في فَلسفةِ الدِّين وفقاً لرؤيةِ (الفَلْسفة الجديدة). وقد وصفت مجلة (مُلْحق التايمز الأدبي Times Literary supplement) هذا الكتاب بأنَّه (إضافةٌ جديدةٌ بشكل جدِّي).

كان هدفي الأساسي من مقالِ (اللَّاهوتُ والتَّكذيب) هو بيانُ طبيعة ادعاءات اللاهوتيين المؤمنين بالإله. تساءلت: تعدد القيود الذي يُحيطُ بالكلام اللاهوتي هل ينتج عنه إماتة الميِّت(1) بألفِ قِيد؟ إذا أتيتَ بادِّعاءٍ، عليكَ أنْ تستبعد (تحذف) بعض الأشياء كي يكون ادّعاؤُكَ مقبولاً. على سبيل المثال، الادعاء بأنَّ الأرضَ كروية يستبعد إمكانية أن تكون مسطحة. ورغم أنها تبدو مسطحة، إِلَّا أَنَّ هذا التّناقُضَ الواضح يمكن تفسيره عن طريق حجم الأرض الهائل، والجهة التي ننظُرُ منها إلى الخ. ولذلك، عندما يضيفُ المرءُ قيداً مناسباً، فالادِّعاءُ قد

ص: 64


1- كناية عن عدم تأثير إضافة القيود في حل المشكلة، إذ الميت لا يمكن إماتته. (المراجع).

يصبحُ متّسِقاً مع الظاهرة التي تبدو متناقضة معه(1)). ولكن إذا استمرت الظَّاهرةُ المتناقضة مع وجودِ هذا القيد، فإنَّ الادعاء يصبحُ مشكوكاً فيه.

إذا كُنَّا ندَّعي بأنَّ الإلهَ يُحِبُّنا، فإنَّ علينا أن نتساءَلَ عن الظواهر التي يستبعدها هذا الادعاء. ومن الواضح أنَّ الألم والمعاناة تُمثّل تحدياً لهذا الادّعاء. الموحّدونَ يقولون لنا : إنَّ إضافة القيود المناسبة يمكن أن تتوافق مع وجودِ الإلهِ وحُبِّهِ للبشر. ولكن حينئذ السؤال الذي يطرَحُ نفسَهُ: لماذا لا نفترضُ بكلمةٍ أنَّ الإلهَ لا يُحِبُّنا الموحدونَ، كما يبدو، لا يسمحونَ بحُسْبانِ أيّ ظاهرة على أنّها ضدّ الادّعاء بأنَّ الإلهَ يُحِبُّنا. ولكن هذا يعني أنَّه لا شيء يُحسَبُ لصالح هذا الادِّعاءِ(2). وعندها يصبحُ الادعاء فارغاً. ولذلك أقول: إنَّ الفرضيّة الرائعة يمكن أن يُقضى عليها بواسطة القيود الكثيرة.

رغمَ أنَّ قصدي من وراء طرح هذه الأسئلة يبدو جلياً، إلَّا أَنَّني كثيراً ما أُواجَهُ بالادعاءات بأنني كنتُ أشرحُ وجهة نظري حول معنى - أو غالباً لا معنى - اللُّغة الدينية بأسرها. وكذلك الحال مع الادعاءاتِ السائدة بأنَّني مُنجذب ومعتمد على مبدأ التحقق (أو على الأقل اتَّخِذُهُ كمُسلَّمة) الذي تبنته جماعة فيينا، التي تُمثّلُ مدرسة الوضعية المنطقية،

ص: 65


1- يريد (فلو) أنْ يُبيّن أنَّ إضافة قيد (كبيرة وهائلة) للكرة الأرضية، يرفع التناقض الظاهري المتوهّم بين النظرية العلمية المثبتة لكروية الأرض وإحساسنا الوجداني بتسطح الأرض. (المراجع)
2- أي إن لم يسمح المؤمنون بالإله بحسبان بعض الظواهر على أنَّها ضد وجود الإله، فلا يمكنهم حسبانها على أنها لصالح وجوده. فإن قبلوا بأنَّ بعضها لصالح الادعاء بأنَّ الإله محب للبشر، فلا بدَّ أنْ يقبلوا بأنَّ بعضها الآخر لصالح الادعاء بأنه غير محبّ للبشر. (المراجع).

وهو المبدأ القائل بأن العبارات التي يمكن التحقق منها باستخدام مناهج العلوم، هي وحدها التي لها معنى.

ولكن في الحقيقة لم أُكَوّن قط أطروحة شاملة عن وجود أو عدم وجود اللغة الدينية ككل. لقد كان هدفي الأساس في بحث (اللَّاهوتُ والتكذيب) وضْعُ بعض( البهارات) على الحوار الدائر بين الوضعية المنطقية والدين المسيحي، وإقامة حوار بين الإيمان بالإله وعدم الإيمان به على أساس مختلف أكثر فائدة. لم أكُن أُقدِّمُ مذهباً متكاملاً حول كل اعتقاد ديني أو كلِّ لُغة دينية. أنا لم أقل بأن الاعتقاد الديني لا معنى له. لقد كنتُ، باختصار، أتحدى الموحدين كي يشرحوا عباراتهم بشكل يمكن فهمه، في ضوء المعطيات المتعارضة.

ص: 66

التعلُّم من الاختلاف

(LEARNING FROM DISAGREEMENT)

واجهت المقالةُ الكثير من الرُّدود، ومن هذه الردود ما ظَهَرَ بعد عقودٍ من نَشْرِ المقالة، وكثير منها ساعدني في تهذيب - وفي بعض الأحيان تصحيح - آرائي. لكن أكثر الردود حِدَّةً في الانتقاد ربَّما كان أوّلها، وجاء من قبل آر. إم. هير (R. Hare)(1)، الذي أصبح لاحقاً أُستاذ الفلسفة الأخلاقية في أكسفورد.

دعا هير إلى عدم تفسير الكلام الديني باعتبارِهِ جُمَلاً، بل باعتبارِهِ تعبيرات عما أسماه ب_(a bilk)(2) ، ويقترب من معنى المقاربة العامة أو التوجه العام. هذا التوجه العام، كما وصفه البروفيسور هير، عبارة عن تفسير لخبرتنا التي لا يمكن التحقق منها أو تكذيبها. وحسْبَ عِلْمي، لم يُطوّر هير هذه الفكرة بشكل مكتوب ، ولكن لا أعتقد أنَّ مقولة هير سوف تُرضي المؤمنينَ بالإلهِ طالما أنَّها تُنكِرُ أيَّ أساس عقلانِّي (rational) للاعتقاد .(3)

ص: 67


1- (1919 - 2002م)، فيلسوف إنجليزي، معني بفلسفة الأخلاق.
2- هذه الكلمة هولندية، وتعني حرفياً (بحث). (المراجع).
3- بعبارة أُخرى: يرى (هير) أنَّ أيَّ كلام يراه المؤمنون بالإله أنَّه يتحدث عن حقائق دينية، ما هو إلا انفعالات ومشاعر وخبرات ذاتية خاصة، لا ترتكز على معطيات موضوعية، حتَّى يقوم على أساسها اعتقاد رشيد وعقلاني. (المراجع).

في النِّقاشِ الأساسي ، قال باسل ميتشل (Basil Mitchell)(1) الذي خلَفَ سي. إس. لويس في رياسةِ النَّادي الشقراطي: (إِنَّ هناك خطاً في عَرْضي لوجهةِ النَّظَر اللاهوتية. فالكلامُ اللاهوتي يجب أن يكون أحكاماً مؤكّدة، ولكي يكون كذلك لا بد من أن يكون هناك ما يُعتبر منافياً ومُكذِّباً لما يدَّعونَ حقَّانيّتَهُ). وأشار ميتشل إلى أنَّ اللاهوتيينَ لا يَنْفَونَ ذلك، فالمشكلة اللاهوتيةُ للشَّرِّ تظهَرُ لأنَّ وجودَ الألم يبدو أنَّه يُحسَب ضدَّ حقيقة أنَّ الإلهَ يُحِبُّ البشر. كان ردُّ اللاهوتيين بالتمسك بمقولة الإرادة الحرة. ولكن ميتشل اعترف بأن المعتقدين بالإله يقعون عادةً في محذور تحويل أحكامهم إلى صيغ فارغةٍ من المعنى.

في كتاب ميتشل (الإيمان والمنطق Faith and Logic)، قدم آي.إم. كرومبي (I.M.Crombie) - وهو فيلسوف معروف بأعماله عن أفلاطون - معالجة أفضل بكثير لهذا الموضوع. يقول كرومبي : (إنَّ اللاهوتيين يعتقدون بغيب يتجاوز التجربة). ولكن كرومبي يدعي أن بمقدوره تتبع بصمات هذا الغيب في التجربة. فضلا عن ذلك، يؤكد المؤمن--ونَ بالإله على أنهم عندما يُعبّرون عن اعتقادِهِم، فإنَّهم مُجْبَرونَ على استعمال لغة محكومة بقوانين فيها مفارقات .(2)

لاحظَ كرومبي أنَّه يُمكِنُكَ فهم العبارات اللاهوتية فقط عندما تكون منصفاً في ثلاث قضايا:

1 - المؤمنون بالإله يعتقدون بأنَّ الإله كائن متعال، وأنَّ العبارات

ص: 68


1- (1917 - 2011م)، فيلسوف إنجليزي، معني بالمسيحية وفلسفة الدين.
2- ed. I. M. Crombie, “The Possibility of Theological Statements," in Faith and Logic, Basil Mitchell (London (Allen Unwin

التي تتحدَّثُ عنه تنطبق عليه، ولا تنطبق على العالم الخارجي.

2 - المؤمنون بالإله يؤمنون بأنَّ الإله متعال، ولذا فهو يتجاوزُ الإدراك (لا يمكن إدراكه).

3 - بما أنَّ الإلهَ سِر (غيبٌ) ، فلكي نعيه لا بد أن نتحدث عنه بطريقة مفهومة. فنحنُ يمكننا فقط أن نتحدَّثَ عن الإله من خلالِ صور. والعبارات اللاهوتية عبارة عن صور بشرية للحقيقة المقدسة التي يمكن التعبير عنها بالأمثال.(1)

جاءت ردودٌ أُخرى على مقالة (اللاهوت والتكذيب)، من ضمنها ردُّ ريبرن هيمبك (Raeburne Heimbeck)، والإنجيلي المقدس أريك مشكال (Eric Mascall) في كتابه (اللاهوت والمعنى Theology and Meaning).

اتَهَمَ هيمُبِك - وهو أُستاذ الفلسفة والدراسات الدينية بجامعة واشنطن الوسطى - المقالة بارتكاب ثلاثة أخطاء مهمة:

الخطأُ الأول: أنها افترضت أنَّ معنى أي جملة هو مضمونها التجريبي بذاتِهِ.

الخطأُ الثاني: أنها تضمنت خطاً، وهو أنَّ ما يُؤخَذ على أنَّه ضدُّ معتقد هو نفسُهُ ما لا يتوافق معه .(2)

ص: 69


1- Crombie, "The Possibility of Theological Statements," 72, 73
2- يقصد (فلو) أنَّ هناك فرقاً بين القول بأن مشكلة الشر (لا تتوافق مع الاعتقاد) بقدرة الله المطلقة وحبه المطلق للبشر من ناحية، والقول بأنَّ مشكلة الشر (ضد الاعتقاد) بوجود إله. فالأَوَّل لا يُنكره المؤمنون بالإله، ويسعون لرفع عدم التوافق، في حين أنهم يُنكرون الثاني تماماً. وبالتالي مقالة (فلو) القديمة لم تُفرّق بين هذين الأمرين. (المراجع).

أمَّا الخطأُ الثالث: فهو أنّها افترضت أنَّ العبارات المتعلقة بالإله المعبّرة عن حُبِّهِ أو وجوده، هي عبارات لا يمكن تكذيبها من حيث المبدأ.

ولكن الخطأُ الرئيسي - حسب وجهة نظره - أنَّ المقالة حددت أُسس الاعتقاد بصحة أو كذب العبارة مع الشروط التي تجعلها صادقةً أو كاذبة .(1)

نبَّه ماشكال (Mascall) - مستعيناً بفكر فتجنشتين - إلى أننا نستطيعُ اكتشاف ما إذا كان للعبارة معنى، فقط من خلالِ قدرة الناسِ على فَهْمِها في الرِّياقِ اللُّغوي وأجواء الجماعةِ التي تُستعمَلُ فيه.(2)

استشهدتُ - بتوسع نوعاً ما - بهذه الردود لأُوضَحَ دور مقالة (اللاهوت والتكذيب) في تحفيز ظهور موجات جديدة من الأفكار، ساعدت في تحريك المياه الراكدة للخطاب اللاهوتي. وقد استمر هذا النقاش حتّى يومنا هذا. وفي الحقيقةِ، صَدَرَ عن مجلة ريتشموند للفلسفة (Richmond Journal of Philosophy) عدد في عام (2005م)، احتوى على مقالٍ يُناقِشُ فائدةً حُجَجي التي قدَّمتُها منذ عام (1950م).

لقد كان لهذه الردود أثر عليَّ، وعلى آرائي الفلسفية. وكيف لا تُؤثر هذه الردود إذا ما كنتُ مُتّسقاً مع نفسي في اتباع الدليل أينما قادني ؟ في الطَّبعةِ البرونزية للمقالة، اعترفتُ بصحة اثنين من الانتقادات الموجَّهة للمقالة. انتقاد باسل ميتشل قادني إلى التفكير في غرابة موقفي من اللاهوتيّين. فقد بيَّنَ ميتشل أنَّ اللاهوتيين لا يُنكرون حقيقة أنَّ

ص: 70


1- Raeburne Heimbeck, Theology and Meaning (London: Allen Unwin, 1999)123 ، 163
2- Eric L. Mascall, The Openness of Being (Philadelphia: Westminster, 1971), 63

مسألة الألم تُسجَّل ضد الحكم بأنَّ الإلهَ يُحِبُّ البشر، وهي بالتحديد التي تُولّد مشكلة الشَّر اللاهوتية. أنا أعتقد أنه كان على صواب في ذلك. كما أدركتُ قوَّةَ نقد همبك، وقُلْتُ بأنَّني كنتُ على خطأ في عدمِ التّمييز بين (اعتباره ضدّ) وبين القول (بأنه لا يتوافق مع) حُجَّتي الأساسية تنصبُّ بشكل مباشر على الأمرِ الثاني لا الأوَّل.

ص: 71

الإله والفلسفة

(GOD AND PHILOSOPHY)

بعد إحدى عشرة سنة من نَشْرِ (مقالات جديدة) ، نَشَرْتُ كتاب (الإله والفلسفة). كانت محاولةً منّي لتقديم واختبارِ التَّوحي- المسيحي. لم أجد أيّ عرض سابق كافياً ومقبولاً لهذه المسألة، بما في ذلك العَرْض الذي كان مقبولاً على نطاق واسع من قبل المعاصرين المعتقدين بالإله. وقد طلبت من بعض الأصدقاء المسيحيين وبعض الزملاء أنْ يقدموا لي اقتراحات في هذا الموضوع. ولكني وجدتُ القليل من الذي يستحق الاهتمام به ضمنَ ما قدم، أو لم أجد مساحات مشتركة بين تلك المقترحات. ولذلك قُمْتُ بتجميع أقوى الحجج من عدة مصادر، ودعوتُ الذين لم يكونوا راضين بذلك إلى تقديم ما لديهم، حتّى نستطيع إنتاج شيءٍ يُرضيهم ويُرضي أمثالهم.

لقد تمَّ نَشْرُ كتاب (الإله والفلسفة) لأول مرة في عام (1966م) . وأُعيدَ نَشْرُ هذا الكتاب في عام (1984م) بعنوان (الإله: دراسة نقدية God: A Critical Enquiry). أما النسخة الأخيرة من الكتاب، مع تمهيد من قِبَلِ الناشرِ ومُقدِّمة غير مقنعة من قِبَلي، فصدرت عام ( 2005م) في كتاب (الإله والفلسفة).

في كتاب (الإله والفلسفة)، عرضْتُ طَرْحاً منهجياً للإلحاد.

ص: 72

وبشكل عام، دعوتُ إلى أن تكون نقطة البداية في السؤال عن مفهومِ الإله، في حدودِ تماسكه وقابليته للتَّطبيق ومشروعيَّتِهِ. عرضتُ في الفصول الأولى من الكتاب لحجج اللاهوت الطبيعي(1)، بالإضافة إلى عرض ادعاءات الوحي المقدَّس. وفي الوقت نفسه، حلَّلْتُ فكرةَ التفسير، وفكرةَ النّظام ، وفكرة الغاية والاعتماد على ديفيد هيوم و آخرين ممن يشاركونَهُ الرأي، قلتُ بأنَّ حجَّةَ التّصميم(2) ، والحُجَّةَ الكونيّة (3)، والحُجَّةَ الأخلاقيَّة التي تُستخدم لتأكيد وجودِ الإله حُجَجٌ غير صحيحة. كما حاولت أن أُبينَ استحالة الاستنتاج بنحو صحيح وجودَ كائن مُتعالٍ مُقدَّس من خبرة دينيةٍ جُزئية.

ولكن الإسهام الأهم في الكتاب، هو الفَضْلُ الذي كان بعنوان (البداية من البداية). لقد نبَّهتُ فيه إلى أنَّ هناك ثلاثة موضوعات بالتحديد يجب الإجابة عنها فيما يخص مفهوم الإله:

1 - كيف يمكن تعريف الإله؟

2 - كيف يمكن تطبيقُ التَّعبيرات الإيجابية والسلبية (غير المادية) على الإله ؟

3 - كيف يمكن تفسير عدم التوافق بين تعريف صفات الإله مع حقائِقَ لا يمكن إنكارها؟ (مثال: كيف يمكن تفسير وجود الأمراض في

ص: 73


1- اللاهوت الطبيعي هو فرع من اللاهوت يعتمد على العقل والتجارب العادية. لذا فهو يختلف عن الوحي الديني الذي يقوم على أساس الكتب المقدَّسة والأنبياء. (المراجع).
2- حُجَّة التَّصميم هي الحجة المعروفة في أدبياتنا الفلسفية بدليل النظم أو دليل النظام. (المراجع).
3- الحُجَّة الكونية تناظر في أدبياتنا الفلسفية دليل الحدوث، ودليل الحركة، ودليل الإمكان. (المراجع).

العالم مع وجودِ إلهٍ قادر؟).

تمَّ الرَّدُّ على السُّؤالين الثاني والثالث من قبل المؤمنين بالإله. فقد تمَّ الرَّدُّ من خلالِ نظرية التمثيل أو التشبيه عند الكلام عن صفاتِ الإله، ومن خلال حرّية الإرادة عند التعاطي مع مشكلة الشَّرِّ. لكن السُّؤالُ الأَوَّلُ هو الذي لم يتم التطرق له بشكل كافٍ على الإطلاق.

التَّعريفُ والتَّحديد هي أُمور مهمة في موضوع يُراد البناء عليه، مهمَّةٌ فتنظيم المعنى وتثبيته لا محيص عنه في الخطاب. لكن لم يكن واضحاً كيف يمكن تعريف جوهرٍ فَرْدِ مثل الإله الفُسيفسائي (mosaic god)(1)كمُفارق ومنفصل عن الكونِ (المخلوق) ؟ بأي معنى، إن كان ثَمَّة معنى، يمكن أن نفهم أنَّ هذا الوجود هو واحد على الدوام، وفي نفس الوقت فاعل في الزمان أو - بشكل مُحيّر أكثر - على نحوِ ما (خارج) الزَّمان؟ ما لم يكن لدينا تصور أصيل، متماسك، قابل للتطبيق (عن الإله)، لا يمكنُ إثارة السُّؤال حول وجود أو عدم وجود هذا الإله على نحو مناسب. وبعبارة أُخرى: لا يمكننا البدء بنقاش الأسباب التي تجعلنا نقول: إنَّ هناك إلهاً على نحو ما هو موجود، قَبْلَ أَنْ نُقرِّرَ كيف يمكن تعريف الإله الذي نتحدث عنه؟ ولا يمكننا أن نفهم بشكل مقبول، كيف يمكنُ أنْ يُعادَ ويتعدد تعريف نفس الفرد بمرور الزمن. ومن ثَمَّ، على سبيل المثال، كيف يمكن لفرْدٍ (مجرَّد عن المادَّةِ والجسد وموجود في كلّ مكان)، أنْ يُعرَفَ ويُعاد تعريفه وأن يكون قابلاً كموضوع لعدة توصيفات؟

ص: 74


1- كناية عن تعدُّد تصورات الأديان للإله الكامل. (المراجع).

يرُدُّ المؤمنون بالإلهِ على هذا النمط من التفكير بعدة طرق. أبرز هؤلاء ريتشارد سوينبيرن (Richard Swinburne) - الذي خلفني في جامعة كييل ثُمَّ لاحقاً صارَ برفيسور في فلسفة الدين المسيحي في أكسفورد - في كتابه (تماسك التَّوحيد The Coherence of Theism).

علل سوينبيرن ذلك بأنَّ القضيَّة (س) الذين رأيناهم في وقت سابق أنَّهم (ص) لا تؤدّي إلى عدم تماسكِ القضية بأنَّ هناك (س) ليس (ص).

ويقول: ليس من حق أحد أن يحتج بأنَّ ما اعتاد على رُؤيَتِهِ - ولنَقُل : إِنَّه (س) - يجب أن يكونَ (ص) ، ولذا فإنَّ (ص) يجب أن تكونَ صفةً ذاتية (وليست عرضية) لأيِّ شيءٍ يُصنَّفُ على أَنَّه (س).(1)

أمَّا فيما يخص الهويّة، فإنَّ سوينبيرن يقول : إِنَّ هويَّةَ الشَّخص جوهرية، ولا يمكن تحليلها من خلال استمرارية الجسد أو الذاكرة أو الشَّخصية .(2)

ص: 75


1- هذه النقطة مرتبطة بمشكلة الاستقراء. ويُستشهد - عادة - لبيان هذه المشكلة بقصّة الكابتن كوك (Captain Cook). فقبل زيارة الكابتن كوك إلى استراليا عام (1770م)، كان يُعتقد في أُوربا أنَّ كلَّ الأوز هو أبيض، لأنَّ كلَّ الأوز الذي تم ملاحظته هناك كان أبيض. لكن ما أن زار كوك منطقة بوتاني باي، حتّى رأى أوزاً أسود يسبح في مائها. في ضوء هذا المثال، القولُ بأنَّ كلَّ الأوز أبيض) لكون كل الأوز الذي رأيته في السابق كان أبيض، لا يؤدي منطقياً إلى عدم تماسك القول بأنَّ (هناك أوز ليس بأبيض). فالقضيَّة (کلّ الأوز أبيض) لا يمكن أن تصدق دائماً، بحيث تكون القضيَّة (هناك أوز ليس بأبيض) غير متسقة معها ، إلَّا إذا كانت صفة البياض ذاتية بالنسبة للأوز، وليس عرضية. والحال أنها ليست كذلك. (المراجع).
2- يقصد سوينبيرن أنَّ (أنا) الإنسان جوهرية، ولا يمكن القول بأنها ما هي إلَّا استمرارية الجسد، أو استمرارية الذاكرة، أو استمرارية الشخصية. فهناك شيء جوهري (ولنقل : نفسٌ مثلاً) يتجاوز مفهوم استمرارية الجسد والذاكرة والشَّخصية. (المراجع).

قَبِلَ جيه. إل. ماكي (J. L. Macckie)- وهو فيلسوف مُلْحِدٌ - بتعريف سوينبيرن للإله، بأنَّه روح وأنَّه حاضر في كل مكان، وأنَّه على كلّ شيءٍ قدير، وبكل شيء عليم. وباختصار، اعتبر ماكي أنه (في الواقع لا مشكلة في ذلك) عندما يتعلَّق الأمرُ بالتَّعريفِ والتَّمييز .(1)

أدرَكَ مؤرّخ الفلسفة فريدْرِك كوبلستون (Frederick Copleston) (2)قوَّةَ المشكلة التي أثرتُها فيما يخص تماسك تصور الإله، ورد بجواب مختلف. يقول فريدْرِك : (لا أعتقد أنَّ من المبرَّرِ الطَّلبُ من العقل البشري أن يكون قادراً على تعريف الإله كما يُعرفُ فراشة واقفةً على صندوق زُجاجي) .(3)وفقاً لكوبلستون : (الإله يصبح حقيقة واقعةً للعقل البشري عند حركة الإنسان نحوَ التَّعالي. في هذه الحركة الإله يظهرُ باعتباره هدفاً غير مرئي لهذه الحركة. وحيث إنَّ المتعالي لا يمكن إدراك كُنه ذاته، وإذا جاز التعبير وفقاً لخلفيّتنا التصورية، فلا بدَّ للشَّكِّ أنْ ينشاً ويظهر. ولكن، خلال حركة التّعالي، الشَّلُّ يعود للتّوازُنِ من خلال التوكيد (affirmation) المتضمَّن بالحركة في ذاتِها . في ضمن سياق هذه الحركة الشخصية للرُّوحِ البشرية، يصبحُ الإله حقيقة واقعةً

ص: 76


1- J. L. Mackie, The Miracle of Theism (Oxford: Clarendon, 1982), 1.
2- بريطاني (1907 - 1994م).
3- يقصد كوبلستون : يكفي أن نطالب العقل بأن يُعرف الإله تعريفاً إجمالياً غامضاً، لأنَّ العقل البشري لا يرى الإله بوضوح ودقة كما يرى الفراشة الواقفة على صندوق زجاجي. (المراجع).

للإنسان).(1)

ما الذي أعتقده اليوم عن الحُجَج المنصوص عليها في كتاب (الإله والفلسفة)؟ في رسالة عام (2004م) إلى مجلة (الفلسفة الآن)، لاحظت أَنَّني الآن أعتبرُ أنَّ الإله والفلسفة بقايا تاريخية (لكن، بطبيعة الحال، لا يمكن للمرء أنْ يكونَ متَّبعاً الدَّليل أينما يُؤدِّي إِنْ لم يُعطِ الآخرين فرصةً إبداء وجهات نظرهم في أمور لم يضعها في الحسبان). وآرائي الحالية في الموضوعات التي تم التطرق لها هناك، تمَّ عرْضُها في القِسْمِ الثاني من هذا الكتاب (اكتشافي للمُقدَّس).

***

ص: 77


1- Frederick C. Copleston, Philosophers and Philosophies (London: Search Press, 1976), 76

فرضية الإلحاد

(THE PRESUMPTION OF ATHEISM)

بعد مرور عقد من الزمن على نَشْرِ كتاب (الإله والفلسفة)، قُمْتُ بكتابة مقالة (فرضيَّة الإلحاد) نُشِرَت في الولايات المتحدة تحت عنوان: (الإله والحرّية والخلودُ) في هذا الكتاب، جادلت بأنَّ النقاش حول وجود الإله يجب أن يبدأ من فرضيّة الإلحاد، وأنَّ عبء الإثبات يجب أنْ يكونَ على المؤمنينَ بالإله. أشرتُ إلى أنَّ هذا النهج الجديد يضَعُ مسألة وجود الإله في منظور جديد بشكل كامل. كما أنه يُساعد في التخلُّصِ من المشاكل التصورية عن الإيمان التي قد لا يتم الاهتمام بها، ويجبر اللاهوتيين على البدء من البداية المطلقة. استخدام المؤمنين بالإله لكلمة (الإله) يجب أن يُقدِّم معنى يجعل من الممكن نظرياً لهذا الكائن الواقعي أنْ يُوصَف . توصَّلْتُ إلى نتيجة مفادها أنَّه مع هذا المنظورِ الجديد يظهرُ مشروع الإيمان بالإله بأكمله متزعزعاً أكثر عمَّا كان عليه من قبل.

فرضيَّةُ الإلحاد يمكن تبريرها عن طريق القول بأن الاعتقاد بوجودِ الإله يفتقر إلى مُبرِّرات وجيهة. حتّى نؤمن بأنَّ هناك إلهاً، لا بدَّ أن تكون لدينا مُبرّرات جيدة للاعتقاد . لكن إن لم تكن لدينا مثل هذه المبرّرات، فإنَّه لا يوجد هناك سبب كافٍ للإيمان بوجودِ الإله، والموقفُ

ص: 78

المعقولُ الوحيد هو أن تكونَ مُلْحِداً سلبياً أو لا أدْريَّاً (agnostic) (1).

ولا بدَّ لي من الإشارة هنا إلى ما لا تتضمَّنْهُ (الفرضيَّة) الفرضيَّةٌ لا تتضمَّنُ حُكماً مُسبقاً على نتيجة يُرادُ إثباتها. وإنَّما هي مبدأ إجرائي لتحديد من سيقع عليه عبء الإثبات، يشبه كثيراً قاعدة (أصل البراءة)، التي يستند عليها القانون العام الإنكليزي.(2)

أجدُ أنَّه - في أي نظام منهجي سليم - على اللاهوتيين أن يبدأوا، كما هو الحال في كل فرضيّة وجودية، بتحديد التصور الخاص الذي سوف يُستَعمَلُ لوَصْفِ الإله، ثُمَّ بعد ذلك يُشيروا كيف للموضوع المطابِق أن يُعرف. فقط بعد تلبية هاتين المهمتين بشكلٍ مُرْضِ، يصبحُ مقبولاً البدء بتقديم الأدلة المقصودة.

هذه الحُجَّةُ حفّزت العديد من الردود. باعتبارِهِ لا أَدْريَّاً، كتَبَ الفيلسوف الإنجليزي أنتوني كيني (Anthony Kenny)(3) قائلاً بأنه قد يكون هناك فرضيّة لتبرير اللا أدريَّة (agnosticism)، لكن ليس لتبرير الإلحاد السلبي أو الإيجابي(4). لقد أكَّد كيني على أنَّ إظهارَ أَنَّكَ تَعرِفُ

ص: 79


1- الملحد السَّلْبي هو الذي (لا يؤمن بالإله)، في حين أنَّ الملحد الإيجابي هو الذي (يؤمن بعدم وجود إله). وهناك فرق بين عدم الإيمان والإيمان بالعدم لذا الملحد السلبي يقترب كثيراً من اللاأدري، وهو الذي إذا سألته : هل الله موجود؟ أجابك: لا أدري. (المراجع).
2- يقصد (فلو) من أصل البراءة أنَّ كلَّ متهم بريء حتى تثبت إدانته. وهو ما يوازي عندنا الحديث المروي: «البيِّنةُ على من ادَّعى». (المراجع).
3- فیلسوف بريطاني، وُلِدَ سنة (1931م)، وما زال على قيد الحياة، مهتم بفلسفة الذهن وبرع في الفلسفة التحليلية، والمزج بين أفكار فتجنشتين وتوما الأكويني.
4- يقصد كيني هناك فرق بين أن تُبرّر الموقف اللا أدري ، وأن يكون موقفك بوصفك لا أدريَّا مبرراً. فعندما تريد أن تصبح لا أدرياً، فهذا يستبطن الادعاء بمعرفة شيء، ول--و كان هذا الشيء هو عدم تماشك تصور الإله. لذا ليس المؤمن بالإله فقط يقع عليه عب الإثبات، بل حتَّى اللَّا أدري يقع علي-ه ع-به تبرير موقفه اللاأدري، هذا فضلاً عن الملحد. (المراجع).

شيئاً ما يتطلب جهداً أكبر من إظهار أنَّكَ لا تعرف (وهذا يَشْملُ حَتَّى الادعاء بأنَّ تصور الإله غير متماسك). لكنَّه قال: إنَّ هذا لا يُخلّص اللَّا أَدْري من الورطة؛ فالمتقدِّمُ للاختبار يمكنه تبرير عدم معرفته بإجابة أحد الأسئلة، لكن هذا لا يمنحه القُدْرة على اجتياز الاختبار (1).

كاي نيلسون (Ka Nielsen)(2)، هو زميل مُلْحِدٌ زاملتُه سابقاً، قَدَّمَ نقداً زعم فيه أنَّ الموقف الأخلاقي المتميّز هو أن تبقى غير ملتزم تماماً حتّى تتوفَّرَ أسباب كافية لذلك. نيلسون ذهب للقول بأنَّ عليَّ أَنْ أُبين أنَّ المعتقدين بالإله والمتشككين لديهم تصور مشتراً عن العقلانية (rationality ) مع المعايير المطلوبة لتقييم مزايا ادّعاء آتهم المختلفة.(3)

ص: 80


1- Anthony Kenny, Faith and Reason (New York: Columbia University Press, 1983), 86
2- فيلسوف وُلِدَ سنة (1926م) ، وما زال على قيد الحياة مهتم بفلسفة الأخلاق، وفلسفة السياسة، وفلسفة الدين.
3- العقلانية (rationality) تصور حيوي وبالغ الأهمية في الفكر الغربي الحديث والمعاصر، وله تعريفات متعدّدة، ومواقف الفلاسفة منه مختلفة. لكن التصور المشهور عن العقلانية أنه الموقف الرشيد الذي يستند إلى مبررات موضوعية. فالاعتقاد أو القرار العقلاني هو الذي يقف على أرضية صلبة ومعطيات كافية، في مقابل الاعتقاد أو القرار غير العقلاني الذي يكون ذاتياً، ولا يقف على أرضية صلبة ومعطيات كافية. لذا يريد نيلسون أن يقول هنا: قبل أن نتخذ موقفاً من الإيمان بالإله، لا بدَّ أنْ نتّفق على تصور شامل للعقلانية، ثمّ على ضوئه نُقيّم المعطيات والمبررات، لنرى أنّها تقف لصالح هذه الفرضية أو تلك. (المراجع).

وأضاف بأنَّ هناك (علامةَ استفهام كبيرة) على (فرضيَّة الإلحاد)(1) إن لم أُنتج تصوراً شاملاً مقبولاً لتصور العقلانية.

أكبر تحدٍّ للحُجَّةِ جَاءَ من أمريكا. حيث قدَّمَ أُستاذ المنطق الجهاتي (Modal Logic) ألفن بلانتينغا ( Alvin Plantinga) (2)فكرةً مفادها أنَّ الإيمان بالإله هو اعتقاد أساسي تماماً. وأكد على أنَّ الاعتقاد بالإله مشابه للاعتقاد بالحقائق الأساسية، مثل الاعتقاد بالعقولِ الأُخرى أو المدركات الحسية ( رؤية شجرة) أو الذاكرة (الاعتقاد بالماضي). في جميع هذه الحالات، أنتَ تثقُ بقُدْراتِكَ الإدراكية، على الرغم من أنَّكَ لا تستطيعُ إثباتَ صِدق الاعتقاد محلّ التّساؤل. وبالمثل، فإنَّ النَّاسَ يعتقدون بقضايا معيَّنة (كوجودِ العالم مثلاً) كأُسُس، ثُمَّ تُشتق اعتقادات أُخرى من هذه الاعتقادات الأساسيَّة. هذه الفرضية تقول: إنَّ المعتقدين بالإلهِ يأخذونَ وجود الإله كقضيةٍ أساسية .(3)

الفيلسوفُ التُّوماوي (نسبةً إلى توما الأكويني) رالف ماكلنيرني (Ralph Minerny)(4) يرى أنَّ من الطَّبيعي للإنسان أن يعتقد بالإله

ص: 81


1- Kai Nielsen, review of The Presumption of Atheism by Antony Flew, Religious Studies Review (July 1977): 147
2- فیلسوف أمريكي تحليلي كبير، وُلِدَ (1932م) ، وما زال على قيد الحياة، وهو أُستاذ فخري للفلسفة في جامعة نوتردام بلانتينغا معروف على نطاق واسع لعمله في فلسفة الدين، نظرية المعرفة، الميتافيزيقيا واللاهوت، وله بصمة واضحة في الدفاع عن الإيمان بوجود الله في العالم الغربي اليوم.
3- لتوضيح هذه النقطة راجع: أفي الله شكٍّ ؟ لمرتضى فرج: 20 - 26/ ط 1/ 2013م دار الانتشار العربي/ بيروت. (المراجع).
4- الفیلسوف امریکي ، (1929 - 2010م)

بسببِ النّظام، والترتيب، والقوانين التي تحكم الأحداث التي تقع في الطّبيعة. ولذلك كثيراً ما يقول : إنَّ فكرة وجود الإله هي فكرة فطرية، وتبدو كمُسلَّمة تقفُ ضدَّ الإلحاد. لذا فإنَّه في حين جادل بلانتِنْغا بأنَّ الموحدينَ لا يتحملون عبء الإثبات ذهب ماكلنيرني أبعد من ذلك بالقولِ أنَّ المُلْحدينَ هم من يتحمل عبءَ الإثبات!

ينبغي أنْ أُشير هنا إلى أنَّه على خلافِ حُجَجي المضادة للاهوت، فإنَّ الاحتجاج لفرضيّة الإلحاد يمكن قبوله بنحو متّسق من قِبَلِ الموحدين. لأنَّنا إذا افترضنا وجود مبررات مناسبة للاعتقاد بالإله، فالموحدون لا يرتكبون أي خطأ فلسفي في مثل هذا الاعتقاد (1)! لأنَّ فرضيَّةَ الإلحاد في أحسَنِ الأحوال نقطة انطلاق منهجية، وليست نتيجةً وجودية.

ص: 82


1- يريد (فلو) أن يقول : إنَّ الموحدين طالما قبلوا الاحتجاج بالأدلة على وجود الإله، فهم يقبلون بالاحتجاج بالأدلة على عدم وجوده، لأنهم لجأوا إلى العقل واحتكموا إليه. ومن الناحية العملية لم يُرتبوا أثراً على القول بأن الإيمان بالله فطري، حتّى يقولوا: نحن ترفض الاحتجاج على وجود الإله أو عدم وجوده، لأنَّ الإيمان به فطري . لذا ففرضية الإلحاد تكون هنا بمثابة مُحفّز للعقل، ونقطة انطلاق للبحث عن وجود الإله أو عدم وجوده. (المراجع).

تغيير وجهة نظري

(CHANGING MY MIND)

كفيلسوف محترف، قُمْتُ بتغيير وجهة نظري أكثر من مرّةٍ في المسائل المختلف عليها. ينبغي أن لا يكونَ ذلك مُستغرباً، بالطبع، إذا أخذنا بالاعتبار اعتقاداتي المتعلقة بإمكانية إحراز تطور في الفلسفة، وبمبدأ اتِّباع الدليل أينما قادني.

عندما كنتُ أقوم بالتدريس في جامعة كييل في عام (1961م)، كتبتُ كتاباً عن بحث هيوم (تحقيق في الفهم الإنساني)(1)، بعنوان فلسفة هيوم في الاعتقاد). حتّى ذلك الحين، كان يتم التعامل مع تحقيق هيوم (عادةً يُقال له : ال- ( تحقيق) الأوَّل لتمييزه عن كتابه اللاحق (تحقيق في مبادئ الأخلاق)) على عكس ما جالَ في ذهن المؤلّف بوصفها مجرد مقتطفات. لكن الآن هذه المقتطفات تُعد أعظم أعمال هيوم.

بخصوص كتابي عن هيوم كَتَبَ جلبرت رايل قائلاً: (أُقَدِّرُ عالياً ما جاءَ في الكتاب. فهو مملوء معرفةً وحيوية). في حين كَتَبَ جون باسمور(John passmore)(2) قائلاً: (أيُّ مناقشة لاحقة لعِلْمانية هيوم

ص: 83


1- مرَّ علينا أنَّ ديفيد هيوم أصدر سنة (1758م) كتابه (تحقيق في الفهم الإنساني) ترجمه د موسى وهبة دار الفارابي / 2008م / بيروت بعنوان (مبحث في الفاهمة البشرية)، وفي سنة (1751م) أصدر كتابه (تحقيق في مبادئ الأخلاق). (المراجع).
2- فيلسوف أسترالي (1914 - 2004م).

عليها أن تبدأ من فلو).

رغمَ هذه الإشادات، إلَّا أنّي كنتُ أرغب دائماً بعمل تعديلات جوهرية في كتابي (فلسفة هيوم في الاعتقاد). مسألة واحدة بالتحديد كانت تحتاج إلى تصحيحات كبيرة. الفصول الثلاثة: (فكرة الاتصال الضروري) و(الحرِّيةُ والضَّرورة) و(المعجزات والمنهجية)، جميعها كان بحاجة إلى إعادة صياغة، في ضوء إدراكي المبني حديثاً بأنَّ هيوم كان مخطئاً تماماً بالقول: إنَّنا ليس لدينا خبرة، ومن ثَمَّ ليس لدينا أفكار أصيلة، وليس في قُدرتِنا جعل بعض الأشياء تحدث ومنع البعض الآخر من الحدوث أي ثَمَّةَ ضرورة فيزيائية واستحالةٌ فيزيائية.

ونتيجةً لخطأ هيوم هذا، تم تضليل أجيالٍ من أتباع هيوم بتقديمِ تحليل في غاية الضَّعف للسَّببية والقانونِ الطَّبيعي، لأنَّه لم يكن هناك أساس إمَّا للقبولِ بوجودِ السبب والنتيجة أو بوجود قوانين الطبيعة. وفي الوقت نفسه، فإنَّ هيوم ذاتَهُ في الفصل (في الحرِّية والضرورة Of Liberty and necessity)(1) الفصل (في المعجزات Of Miracls)(2) كان يَسْعى للكشف عن أفكار تتعلق بأسباب تأتي بنتائج، أق-وى م--ن ت-ل-ك التي كان هيوم مستعداً لاعتبارها مشروعة .(3)

في كتابه ال_(تحقيق) الأوّل، أنكر هيوم السببية، وادعى أنَّ كلَّ ما

ص: 84


1- وهو الفصل (VIII) من كتابه (تحقيق في الفهم الإنساني). (المراجع).
2- وهو الفصل (X) من كتابه (تحقيق في الفهم الإنساني). (المراجع).
3- يقصد (فلو) أنَّ هيوم رغم رفضه للعلاقات السببية في حوادث الطبيعة، إلَّا أنَّ المفارقة أنَّه كان يبحث في هذين الفصلين من كتابه عن أفكار سببية، سَبَقَ وأَنْ رَفَضَ ما هو أبسط منها تتعلق بحوادث الطبيعة. (المراجع).

يتضمَّنهُ العالم الخارجي في الواقع هو مجرد ت--رابط دائم. أي عبارة ع---ن أحداث من هذا النوع ، يتبعها بانتظام أحداث م--ن ذلك النوع. وعندما نلاحظ هذا التّرابُطَ الدَّائم، يتكوّن لدينا عادات قوية تستدعي فيها أفكار من هذا أفكاراً من ذاك. فنحن نرى الماءَ يغلي عندما يتم تسخينه، فنربط بين تسخين الماء وغليانِهِ، فنربط بين الاثنين (تسخين الماء والغليان). ونعتقدُ أنَّ هناك علاقةً واقعيَّةً بين الاثنين، في حين أننا بذلك نُسقِط بنحو خاطئ تداعياتنا النفسية الداخلية. يتخلّص هيوم من تشكيكه في السَّببِ والنتيجة ولا أدريَّتِه بالنسبة للعالم الخارجي في اللحظة التي يترُكُ فيها البحث، بل حتّى قبل أن ينتهي من البحث. في الحقيقة، هيوم يتخلّى عن تشكيكه بالسببية حتّى قبل أن ينتهي من البحث. لذا، ليس هناك على سبيل المثال في فضل (في المعجزات) في كتابه ال_(تحقيق) الأوّل أثر لأطروحتِهِ عن العلاقات السببية وم-ا ك-ان يقولُهُ من أنَّ الضرورات ليست سوى إسقاطات كاذبةٌ على الطّبيعة .(1)

ص: 85


1- يريد (فلو) أن يقول - وهو محقِّ تماماً في ذلك - أنَّ هناك انفصاماً غريباً في الفصول الأولى من كتاب (تحقيق في الفهم الإنساني) التي يتحدث فيها هيوم عن أصل الأفكار وتداعيها والاقتران الضروري مع فصل (في المعجزات). ففي فصل (في المعجزات) استبعد المعجزات - في ضوء الإخبارات والشهادات البشرية عن وقوعها - لأسباب متعددة، منها: عدم وجودِ عددٍ كافٍ من الشُّهود نضمن عدم كذبهم أو وقوعهم فريسة للوهم، ومنها: تعارض الشهادات، ومنها: أنَّ أغلب من ينقل تلك المعجزات هي شعوب جاهلة غير متحضّرة... الخ. وهي أسباب تبدو عقلانية تماماً، لكن بالنسبة لمن يؤمن بوجود علاقة ضرورة بين السبب والنتيجة. أما بالنسبة لمن لا يؤمن بوجود ضرورة بين السبب والنتيجة، الموقف الطبيعي المترقب منه هو أن يتسامح مع المعجزات المنقولة. فما المانع العقلي من انكسار قانون الطبيعة في العلاقات السببية طالما أنها مجرد تداعيات ذهنية لا واقعية لها، وإنَّما نحن من يُسْقِطها على الواقع، كما يدعي هيوم !؟ (المراجع).

ومرَّةً أُخرى، في كتابه (تاريخ إنكلترا)، لم يُقدم هيوم أيَّ إشارة عن شكه في السَّببيَّة أو في العالم الخارجي. وبهذا يذكرنا هيوم ببعض المعاصرين الذين يُنكِرُونَ مُبَرِّرَاتٍ اجتماعية أو فلسفية إمكانية المعرفة الموضوعية. ثمَّ هُمْ بعد ذلك يستثنونَ من هذا التآكل للموضوعية الشاملة، خُطَبَهُم السَّياسيّة العنيفة، وعمَلَهُم البحثي، وفوق كل ذلك، وحِيَهُم الأولي الخاص بعدم وجود معرفة موضوعية .(1)

الموضوع الآخر الذي غيَّرْتُ رأيي فيه هو الإرادة الحرة، وحرية الإنسان. هذا الموضوع مهم ، لأنَّ السُّؤال عما إذا كُنَّا أحراراً أو لا يكمُنُ في قَلْبِ أَعْلَبِ الأدْيانِ الرَّئيسية (2) . وقد أشرتُ من قبلُ إلى تعارض فكرة الشَّر في العالم الذي خلقه إله على كلّ شيءٍ قدير وبكل شيء عليم(3). كان

ص: 86


1- يريد (فلو) هنا أنْ يُظهِرَ الموقف الفلسفي المتناقض لأُولئك الذين يُنكرون المعرفة الموضوعية. فهم من ناحية، يُنكرون إمكانية الظفر بحقائق موضوعية، لكنّهم يضطرون - حتَّى يُقنعوا الآخرين بصحة موقفهم - أن يؤكّدوا أنَّ خُطبَهُم، وبحثهم، وإنكارَهُم للمعرفة الموضوعية، هي حقيقة موضوعية. (المراجع).
2- لأنَّ الأديان عادةً تؤيد الحرّية الإنسانية. فمن دونها تنتفي المسؤولية الأخلاقية والقانونية. إن لم يكن الإنسان حُراً في أفعاله، فكيف يصح للإله أنْ يُدينه عندما يرتكب شراً !؟ (المراجع).
3- بمعنى أنَّ الإله لو كان بكل شيء عليم، لكان عالماً بالشَّرِّ الذي يقع في العالم. والإله لو كان على كلّ شيءٍ قدير، لكان قادراً على منع الشَّر في العالم، لكن لم يفعل. فوجود الشَّرِّ يكشفُ إِمَّا عن عدم علمه به، أو عدم قدرته على منع وقوعه. ومشكلةُ الشَّرِّ تارةً ترتبط بالظواهر والكائنات الطبيعية؛ كالزلازل والبراكين والأمراض والثعابين والحيوانات المفترسة، وتارةً أُخرى ترتبط بأفعال الإنسان كالحروب بسبب البغي والجشع والانتقام، وكالفقر والجهل بسبب الكسل والتواكل ... الخ. ما يتحدث عنه فلو هنا هو الشرور المرتبطة بأفعال الإنسان. أمَّا الشُّرور المرتبطة بالطبيعة، فراجع العدل الإلهي لمرتضى المطهَّري / الفصل الأربعة الأولى. (المراجع).

ردُّ الموحدين على هذا التّعارُضِ المُشاهَد بالقول بأنَّ الإل-ة وه-بَ الإنسانَ الإرادة الحرة، وأنَّ كلَّ أو معظم الشرور الصارخة ترجع بشكل رئيسي أو جزئي إلى سوء استخدام هذه الهدية الخطرة، إلَّا أنَّ المحصلةً النهائية ستكون في إدراكِ أنَّ الخيرات المتحققة من هبة الحرّية أعظم بكثير من سَلْبِها. كنتُ في الواقع أوَّلُ من سمى هذه الحجة (دفاع الإرادة الحرَّة).

وبغضّ النَّظَر عما يمكن تسمية هذه الجدل بين (الإرادة الحرة والجبرية)، أو بالتَّعبيرِ العِلْماني بين (الإرادة الحرة والحتمية)، فإنَّ السُّوَّالَ عما إذا كُنَّا أحراراً في أفعالنا له أهميَّةٌ رئيسيَّة. ردّي على ذلك تمثّلَ بمحاولة سُلُوك طريقين:

أولاً بعرض الموقف الذي أصبح يُعرف ب_(التوافقية compatibilism). فغير التوافقيين يزعمون أنه لا يمكنُ الجَمْعُ بين الإرادة الحرَّةِ والحتمية(1). التوافقيون، من جهة أخرى، لم يكتفوا بالقول بإمكانية الجمع بينهما، أي إنَّ الإرادة الحرَّةَ لشخص ما لا تتعارض مع كونِ مستقبله محتوم حتّى قبل أن يقوم بالعمل، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك بالقول بأنَّ الأفعال الإرادية يمكن أن تكونَ حرَّةً حتّى لو كان وقوعها حتمياً من الناحية الفيزيائية، بمعنى حتّى لو كان وجودها محكوماً

ص: 87


1- فأتباع هذا الاتّجاه يظلون مُصرين على أنَّ التسيير لا يتلاءم مع التخيير ، والجبر لا ينسجم مع التفويض. (المراجع).

بقوانين الطَّبيعة .(1)

ورغم استمراري بالاعتقاد بأنَّ الناس يقومون باختيارات حرة، إلَّا أَنَّني في الأعوامِ اللاحقة بدأتُ ألحظ أنه لا يمكنك الاعتقاد في الوقتِ نفسِهِ وبنحو متّسق بأن الاختيارات الحرة لها أسبابها الفيزيائية. بكلمة أُخرى: الجمْعُ والتَّوفيقُ هنا لا يَصُحُ. قانون الطبيعة ليس عبارةً عن حقيقة عمياء صِرْفة بحيث أن نمطاً خاصاً من الإرادة بمجرد أن يحدث، فإنَّ نمطاً آخرَ من الحُدُوثِ يَتْبَعُهُ أو يتزامن معه .(2)بل هو ادّعاء بأن حدوث حادثة من نمط خاص بنحو فيزيائي يُحتّمُ بالضَّرورة حدوث الشَّيء الآخر، مما يجعل عدم حدوثه أمراً مستحيلاً. ومن الواضح أنَّ الحال ليس كذلك في الإرادة الحرَّة.

أيضاً نحن بحاجة إلى تمييز حاسم بين معنيين من معاني (السَّبَب)، وبحاجةٍ إلى تمييز مواز بين معاني (الحتمية). أسباب الأفعال البشرية تختلف بشكل جوهري عن أسباب الحوادث غير البشرية. فعند توفّرِ السبب الكامل لحدوثِ انفجار ما، فإنَّه يصبحُ من المستحيل على أية قوَّةٍ في هذا العالم منع حدوث الانفجار .(3)ولكن إذا أعطيتك سبباً كافياً

ص: 88


1- فأتباع هذا الاتجاه يفهمون الإرادة الحرة على ضوء الحتمية الفيزيائية، ويرون أن الضرورة مهيمنة على أحداث العالم، وعلى هذا الأساس تصبح الإرادة الحرة مجرَّد وهم من الأوهام. (المراجع).
2- فمثلاً أنت لا تستطيع أن تقول كقانون من قوانين الطبيعة: إنَّ إرادة الانتقام سوف يتبعها بالضرورة نمط معين من الحوادث. فقد يكبتُ صاحب هذه الإرادة رغبته في الانتقام، بل قد يتعامل مع الطرف الآخر بلطف بالغ، لسببٍ أو آخر. (المراجع).
3- بعبارة أخرى: إذا اجتمعت كل شروط تحقق الانفجار (تحققت علته التامة)، فإنَّ منع تحققِهِ يصبحُ مستحيلاً من الناحية الواقعية، إلَّا إذا نجحنا في تعطيل شَرط من شروط تحقق الانفجار (جزء من أجزاء العلة التامة). لكن طالما افترضت أنَّ كل شروط تحقق الانفجار قد اجتمعت ففي هذه الحالة يصبح وقوعه ضرورياً. (المراجع).

لإظهارِ الفرَحِ والابتهاج، فإن هذا لا يعني أنك بالضّرورة ستطلقُ صوت الفرح والابتهاج. ويترتب على هذا أنه ليس كل حركة إنسانية يمكن إرجاعها بشكل كامل إلى أسباب فيزيائية.

يمكنُ التّمييز بين معنيين للفظ (السَّبَب)، من خلال استخدام مصطلح هيوم: الأسبابُ المادية والمعنوية (أو الأخلاقية). فعندما نتحدَّثُ بشكل كامل عن أحداث غير بشرية – الكسوف على سبيل المثال - فإنَّنا نستخدم كلمة (السَّبَب) بالمعنى الذي يتضمَّنُ الضَّرورة الفيزيائية والاستحالة الفيزيائية (أي: ما حدَثَ كان يجب أن يحدث، وعدَمُ حدوثِهِ مستحيل).

ولكن هذا بالتأكيد ليس الحال عندما نتكلم عن الأسباب (الدَّوافع أو البواعث) في حالة الأفعال البشرية. لنستخدم المثال السَّابق ، افترض أنَّني أخبرتُكَ بأخبار مفرحة. فإذا كان رد فعلك هو الابتهاج، فإنَّ من المحتمل جداً أن تصف إخباري لك بهذه الأخبار بأنَّه (سبب) لابتهاجك. ولكنني في الواقع لم أكن سبباً في ابتهاجك (1)؛ فهو لم یکن ضرورياً وكان بالإمكان تجنبه. فقد تُقرِّرُ أَنْ لا تبتهج، لأَنَّنا كنَّا حينَها ، لنقل : في المكتبة(2). وبعبارة أخرى: قد يكون نقلي أخباراً مفرحةً دفعك لإطلاق صوت الابتهاج، لكنني أيضاً لم أمنعك من أن تبكي.

ص: 89


1- فهو مجرَّد مثير خارجي. (المراجع).
2- حيث يتطلب الوجود في المكتبة الهدوء، وعدم إطلاق أصوات البهجة حتّى لا يتأذى الآخرون. (المراجع).

ولنستخدم تعبير الفيلسوف الرياضي جو تُفرِدْ لَيبنتز (Gottfried Leibniz) أسباب هذه اللحظة تُرجِّحُ ، لكن لا تُحتّم.

ولمّا كان هيوم منكراً لمشروعية تصوُّر الضرورة الفيزيائية، لذا لم يكن قادراً على إقامة هذا التمييز بين المعنيين بالطريقة التي أشرنا إليها هنا ومع ذلك، فإنَّ طريقة هيوم في العنونةِ تُؤشّرُ إِلى الفَرْقِ الجوهري بين العُلُومِ الطَّبيعية من جهة(1)، والعلوم الاجتماعية والنفسية من جهةٍ أُخرى .(2)

انطلاقاً من المعنيين المختلفين الأساسيين لكلمة (السَّبب) ، يصبحُ من الواضح - على الأقل عندما نتحدث عن السُّلوكِ البشري - أنَّنا نحتاج إلى تمييز مواز بين معنيين مختلفين ل_(الحتمية): الحتمية الناتجة عن أسباب فيزيائية، والحتمية الناتجة عن أسباب معنوية (أو أخلاقية). من المؤكَّدِ أَنَّه إذا كان هناك سلوك ما يتحقَّقُ بنظام الأسباب الفيزيائية، فإنَّ فاعل السلوك لم يكن حرَّاً في هذا السلوك، ولم يكن بمقدورِهِ أنْ يمنَعهُ من الحدوث .(3)لكن الحتمية الناتجة عن أسباب معنوية (أو أخلاقية) هي شيءٌ آخر. فأنْ تُفسِّرَ سلوك فرد من خلالِ الإشارة إلى دوافعه للفعل كما وَقَعَ، يعني أنَّكَ تفترضُ ضمناً أنه كان بمقدوره أن يتصرف بنحو آخر.(4)

ص: 90


1- المحكومة بقوانين طبيعية لا أثر للإرادة الإنسانية فيها. (المراجع).
2- التي تعتبر الإرادة الإنسانية عنصراً أساسياً ومحورياً فيها. (المراجع).
3- فمثلاً سلوك زهرة دوّار (عباد) الشَّمس، التي تتحرّك مع حركة الشمس، لا يمكن القول: إنّ حركتها إرادية، لأنها تقع ضمن نظام الأسباب الفيزيائية. (المراجع)
4- في ضوء هذا التمييز، يمكن القول: إذا كان وقوع حادثةٍ ما في العالم الفيزيائي (بنحو محتوم) يتطلب اجتماع شروط متعددة معيّنة (علة تامة)، فإنَّ الإرادة الحرة قد تكون شرطاً فريداً من تلك الشُّروط (الجزء الأخير من العلة التامة). فمثلاً إذا كان وقوع حادثة إطلاق نار من مسدس يتطلب اجتماع شروط متعددة، كوجود مسدس، وصلاحيته للعمل، ووجود طلقات بداخله، وسلامتي ،البدنية، فتكون إرادتي الحرة حينئذ بإطلاق النار هو الشرط الأخير، والفريد بطبيعته، الذي يُحقِّق وقوع هذه الحادثة. وإلى هذا المعنى أشارَ أئمَّةُ أهل البيت عليها قبل أكثر من ألف عام بقولهم: «لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين». وقبلُهُم القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى» [الأنفال: 17]، حيث أثبت له الرمي في عين نفيه، ونفاه في عين إثباته. وكذلك قوله تعالى: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» [التكوير: 29]، فللإنسان - بخلافِ بقية الكائنات - مشيئة وإرادة حرة، لكنَّها مُعلَّقة على مشيئة الله وإرادته. ولا تناقُضَ في ذلك، فالمسألة مرتبطة بزاوية النظر، فإن نظرتَ من زاوية الإنسان الفرد الواعي القادر، رأيت تجلّياً للإرادة الإنسانية الحُرَّة، وإن نظرْتَ من زاوية المشهد الكُلِّي، لتسلسل وسير الأحداث المعقد بنحو مذهل، رأيت يد الغيب والحتمية والضرورة المرتبطة بالإرادة الإلهية. (المراجع).

من المؤكَّد أنَّ الفشل في تشخيص هذه التمييزات الأساسية سوف يُضلل الكثير من الناس ويقودهم للاستنتاج بأن تفسير وقوع حدث ما بأسباب فيزيائية أو معنويةٍ يُؤيّد مبدأ الحتمية الكونية الفيزيائية(1). وهذا يعني أنه كان من المستحيل على أي فاعل أنْ يسلك خلافَ السُّلوك الذي صدر منه.

ما نحتاجهُ لتجنُّب مثل هذه الأخطاء (كما فعلتُ في كتاب الحياة الاجتماعية)، و(الحكم الأخلاقي)) هو التحليل المنطقي لثلاثةِ أفكار مترابطة (الفاعل)، (حرية الاختيار)، (القُدرة على اختيار غير ما اخترناه في الواقع). عندما نستطيع التمييز بين التحركات (movings)

ص: 91


1- يقصد بذلك حتمية جميع حوادث الكون الشاملة لأفعال الإنسان الإرادية. (المراجع).

والحركات (motions)، فإنَّه يمكننا أن نُفسّرَ التصور الأساسي: (الفعل action)(1). التحرك (moving) هو حركة يتمُّ القيام بها اختيارياً، وأما الحركة (motion) فهي حركة لا يمكن تجنب القيام بها. فالقدرة على التحرُّكِ هي خاصيَّةٌ للبشَرِ فحسب، أمَّا الكائنات التي لا تمتلك الإدراك والقصد فإنَّ ما تقوم به هو مجرد حركة (motion).

الفاعلون هم المخلوقات القادرة على حرية الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل : الاختيار بين عدَّةِ بدائل للفعل أو عدم الفعل، وهي البدائل التي تتغيَّرُ من وقت لآخر حسب الظروف. والفاعلون - من خلالِ دورهم كفاعلين - ليس بوسعهم تجنب الاختيار بين بديلين، أو غالباً أكثر، من البدائل المتاحة لهم في وقتِ الحدث.

التَّمييز الحاسم بين التحرُّكاتِ المتضمنة في (الفعل)، والحركة التي تُشكِّلُ السُّلوك الضَّروري، يكمُنُ في أنَّ السُّلُوكَ الأخير هو ضروري فيزيائياً. بينما معنى، واتّجاه، وخاصية ال_(فعل) لا يمكن أن يكونَ ضرورياً من الناحية الفيزيائية. ويترتّب على ذلك استحالة القول بمذهبِ الحتمية الفيزيائية الشاملة في الكون، بنحو يشمل حركة جد الإنسان، من خلالِ القول: إِنَّ (التحرُّكات) بالإضافة إلى (الحركات) هي معاً محكومة بأسباب فيزيائية حتمية.

في ضوء تراجُعي عن القولِ بالتوافقيَّةِ الكاملة، فإنَّ الكثير مما كتبتُه عن الإرادة الحرة أو الاختيار، في سياقه العِلْماني أو الديني، يحتاج إلى تعديل وتصحيح. إن أخذنا بالاعتبار أنَّ هذا الأمر يتعلَّقُ بالسُّؤال

ص: 92


1- كلمة (الفعل action) تُستخدم في هذا السياق في الأفعال الصادرة من الإنسان بالتحديد. (المراجع).

الثاني من أسئلة كانت الفلسفية الثلاثة الأساسية: (الإله والحرّية والخلود)، فإنَّ تغيير قناعتي بشكل جوهري في الحرية، يُماثِلُ التغيير الجوهري لوجهة نظري في السُّؤالِ الأَوَّل عن الإله.

ص: 93

ص: 94

الفصل الثالث

إعادةُ النَّظر في الإلحادِ بهدوء

ATHEISM CALMLY CONSIDERED

ص: 95

ص: 96

كان جورج هیزمان روث (George Herman Ruth)(1) أفضل لاعب في الدوري، وكان في بدايته أفضل ضارب، وبعد ذلك أصبحَ لاعب وسط يُسجِّلُ (29) هدفاً في المباراة الواحدة، وفي الوقت نفسِهِ لعب في مركز الضّارب في (17) مباراة، وكان ذلك في عام (1919م). بعد ذلك باع مالك نادي بوسطن رد فوكس، هاري فريزي (Harry Frazeed) - الذي قيل في وقتها إنَّه يحتاجُ للأموال - باغ روث إلى نادي نيويورك مقابل (125,000) دولار. قادَ روث نادي نيويورك للبطولة الأمريكية في سبعة مواسم، وقاده أيضاً أربع مرات البطولة العالم. ولم يستطع نادي رد فوكس أن يحصل بعدها على البطولةِ إِلَّا في عام (2004م)، أي بعد خمس وثمانين سنة.

من المثير أنَّ (2004م) كان العام الذي أعلنتُ فيه في نيويورك أيضاً عن (تحوُّلي) إلى التوحيد بعد أكثر من ستَّةِ عقود من الإلحاد، حيث أعلنتُ أَنَّني غيَّرْتُ ( فريقي) إن صح التعبير. ولكنني بدأتُ أيضاً أنظُرُ إلى الأمور من زاوية أخرى، لأننى كنتُ لا أزالَ أُمارسُ (اللُّعبة) بنفس الحماس والمبادئ كما كُنْتُ في السَّابق.

ص: 97


1- (1895 - 1948م)، يُعتبر أعظم لاعب كرة القاعدة (بيسبول) في تاريخ الولايات المتَّحدة.

واجبٌ تجاهَ الحوار

(A DUTY TO DIALOGUE)

توجَّتُ رحلتي نحو التوحيد بنَشْرِ كتاب (فرضيَّة التوحيد The Presumption of Qtheism). وفي كتاباتي اللاحقة تناولت عدة موضوعات بشكل مختلف تماماً. في الواقع، كتبتُ في مقالةٍ نُشِرَت ضمنَ كتاب صدَرَ في عام 1986م) تحت عنوان (الفلسفة البريطانية اليوم British Philosophy Today) ، أنني أرغب بعمل أشياء أُخرى إن سمح لي الوقتُ بذلك. أود، على سبيل المثال، أن استكشف النزاعات التاريخية الكبيرة حولَ بُنْيَةِ الثالوث (structure of the Trinity)(1)، وحول ما يجري في القُرْبانِ المُقدَّس (Eucharist)(2). مع ذلك، وبحلول أواخر الستينات من القَرْنِ الماضي، أصبحَ واضحاً لي أن الحاجة لجهودي ماسة في مكان آخر. كُنْتُ على قناعة بأنَّ عليَّ في بقيَّةِ حياتي تركيز طاقاتي في المجالاتِ العِلمانية الواسعة لفلسفة العُلُوم الاجتماعية والفلسفة الاجتماعية.

بما أنَّني قُلْتُ الكثير حول فلسفة الدين خلال سنواتٍ طويلة، فإنّي أجدُ نَفْسي مُلزماً من الناحية الفكرية بأنْ أرُدَّ على أي انتقاد قَدْرَ

ص: 98


1- العقيدة المسيحية في الثالوث أي الاعتقاد بالإله الواحد الذي له أقانيم ثلاثة: الأب، الابن الروح القدس.
2- أحد الأسرار السبعة المقدَّسة في الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، وهو تذكير بالعشاء الذي تناوله يسوع بصحبة تلاميذه عشيَّة آلامه.

الإمكان، إمَّا بالاعترافِ بأنَّني كنتُ مخطئاً أو ببيان سبب عدم اتفاقي م--ع منتقديّ. ولذلك ظَلَلْتُ في النقاش مع المدافعين عن التوحيد الذين استمرُّوا هم أيضاً في نقد وتحدي حالة إلحادي، حتّى بعد انتقالي إلى مواضيعَ فَلْسفية أُخرى.

لم يكن هذا التحدي شيئاً جديداً بالنسبة لي. في الواقع، لقد أمضيتُ مسيرتي الفلسفية كلَّها في حوارات حماسية ونقاش عام مع مُفكِّرينَ يختلفون معي في العديد من الموضوعات التي تتراوح ما بين الفلسفة الاجتماعية، مشكلة الجسد/ العقل، مشكلة الإرادة الحرَّة/ الحتمية، فيما يتعلّق بوجودِ الإله. لقد استغرَقَ النّقاشُ في هذه الموضوعاتِ أكثر من نصف قَرْنِ من حياتي الفكرية.

في عام ( 1950م) سعيتُ لتحديد ماذا يُقصد بالقول: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّكَ)؟ وفي عام (1976م) حاولتُ أنْ أُوضَحَ (هل مفهوم الإله مُتماسك ؟)، وفي عام (1986م) كنتُ أحاول أنْ أُحدِّدَ على من يقعُ عبء تقديم الدليل ؟ وفي عام (1998م) كنتُ أُناقِشُ تداعيات الانفجار الكوني الكبير.

خلال كلّ ذلك، لم يُساعد اشتراكي في المناظرات والنقاشات اللاهوتية على تقوية آرائي فحسب، بل أتاح لي فرصة التعرف على العديد من الزملاء والخصوم الذين يستحقون الاحترام رغم اختلافي معهم.

***

ص: 99

الاحتفاظ بأسلحتي

(STICKING TO MY GUNS)

من بين جميع المناظرات التي شاركتُ فيها، كانت هناك مناظرتانِ في عامي (1976) و 1998م) اعتبرهما الأفضل.

الأولى مناظرة عام (1976م) مع توماس وارن (Thomas Warren) في مدينة دينتون بولاية تكساس، حيث كان الحضور ولعدة أيام يتراوح م-ا بين خمسة إلى سبعة الآلاف متابع. أمَّا مناظرةُ عام (1998م) فكانت مع وليام لين كريج (William Lane Craig)(1) في مدينة مديسون في ولاية ويسكنسن، وكان الحضورُ يُقدَّرُ بأربعةِ الآلاف. فقط في هاتين المناظرتين لعبْتُ دور البطل في مناظرة عامة.

تُعقَدُ المناظراتُ في المملكة المتحدةِ عادةً بحضور أكاديمي قليل. لذا، تجربتي الأولى في مواجهة جمهور كبير في سياق مناظرة، كانت في مواجهة البروفيسور الرَّاحل الفيلسوف المسيحي توماس وارن (Thomas B. Warren)(2). وقد عُقدت المناظرة في حرم جامعة شمال تكساس في مدينة دينتون، على مدى

ص: 100


1- فيلسوف أمريكي مسيحي، وُلِدَ في (1949م) ، ويُعتبر من أشهر اللاهوتيين المدافعين عن المسيحية في العالم، عُرف بمناظراته المفعمة بالحماسة. قام بمناظرة أشهر أعلام الإلحاد في العالم، مثل: ريتشارد دوكينز وسام هاريس، وغيرهم كثير. مناظراته مرفوعة على اليوتيوب. (المراجع).
2- فيلسوف أمريكي ولاهوتي مسيحي، (1920 - 2000م).

أربع ليالٍ متتالية، بدايةً من (20) سبمتبر من عام (1976م)، وهو التاريخ الذي تزامن مع المناظرةِ الرِّياسيَّةِ الأُولى بين جيمي كارتر (Jimmy Carter) وجيرالد فورد (Gerald Ford). أمام جمهور متحمّس، قدَّمَ البروفيسور وارن مجموعةً مؤثّرةً من الرسوم واللوحاتِ التَّوضيحية.

والمثير أنَّ جزءاً كبيراً من محاضرتِهِ ذهب للهجوم على نظرية التطور (theory of evolution)، التي كانت بالنسبة لي في ذلك الوقت مهمَّةً غير مألوفة. وعندما سألني البروفيسور وارِن عمَّا إذا كُنْتُ أعتقدُ بأنَّ هناك موجوداً نِصْفُ قِرْد (ape) ونِصْفُ إنسان، كان ردي بأنَّ ذلك يشبهُ السُّؤال عما إذا كان شخص ما أصْلَعاً أم لا. كان رأسُ المُشرف على رسالتي في الدكتوراه جلبرت رايل يشبه البيضة (لم يكن على رأسه أية شعرة)، وليس هناك شكٍّ بأنّ أي شخص لا بدَّ أنْ يقول: إنَّه أَصْلَع. ولكن في زمن تساقط الشعر، ليس من السهل تعريف من هو الأصلع، ومن هو غير الأصلع.(1)

ومع ذلك، وأخذاً لآرائي الحالية بالاعتبار، ربَّما كان عدد قليلٌ من عباراتي الإخبارية (declarative statements)(2)(الجُمَل التي ليست سؤالاً أو أمراً أو استفهاماً) في تلك المناظرة مهماً، في توضيح قوَّة

ص: 101


1- يقصد (فلو) أنَّه في ضوء نظرية التطور ، التي تفترض أنَّ الإنسان تطور من كائن بدائي يشبه القرد (ape)، من الصعب تحديد لحظة انتقاله من فئة إلى فئة أُخرى، لأنَّ التطور تدريجي وبطيء جداً. كما هو الحال عند تساقط الشعر، فعندما يبدأ الشعر بالتساقط من رأس إنسان من الصعب الحكم عليه أنه متى صار أصلعاً. (المراجع).
2- العبارات الإخبارية هي العبارات التي تحتمل الصدق أو الكذب، وتأتي في مقابل العبارات الإنشائية التي تنطوي على سؤالٍ أو أمرٍ أو استفهام...الخ، ولا تحتمل في ذاتِها الصدق أو الكذب، إلَّا إذا تم تحويلها إلى عباراتٍ إخبارية. (المراجع).

اعتقاداتي الإلحادية من قبيل:

(أنا أعرفُ أنَّه ليس هناك إله).

(نظام الاعتقاد المتعلّق بالاله) يتضمَّنُ (التَّناقُضَ) نفسَهُ الموجود في (الأزواج غير المتزوجين أو المربعات الدَّائرية).

(أنا أميل إلى الاعتقاد بأنَّ الكونَ لا بداية له وسيظل دون نهاية. وفي الحقيقة، أعرفُ أنْ لا جدوى من تحدّي أي من هذين الاعتقادين).

( أعتقدُ أنَّ الكائنات الحيّة تطوّرت على مدى فترةٍ طويلةٍ لا يمكنُ حسابها من مواد غير حيَّة).

لقد تأثَرْتُ بالاستقبال الحافل من قِبَلِ المستضيفين، ولكن المناظرة انتهت بتمسكي وتمسك وارِن بأسلحتِنا.

ص: 102

إطلاق نار على زريبة (1)

(SHOOTOUT AT THE O.K. CORRAL)

مناظرتي التّالية كانت بعد عشرة سنوات من تلك المناظرة. وكانت أيضاً في تكساس، وعُقِدَت في دالاس في عام (1985م)، وشَعَرْتُ بأنَّ الوضع يبدو كإطلاق النار المشهور على الزريبة (.O.K.) اشترَكَ معي في المناظرة ثلاثةٌ من مشاهير الملحدين والاس ماتسون (Wallace Matson) وكي نلسن (Kai Nielsen) وبول كيرتز (Paul Kurtz) وقد واجهنا مجتمعين مجموعةً من كبار الفلاسفة اللاهوتيين: ألفن بلانتينغا ( Alvin Plantinga) ووليام ألستون (William P. Alston) وجون مافرودس (George Mavrodes) ورالف ماكلنيرني (Ralph Minery) .

على عكس المعاركِ المشهورة ، لم تشهد هذه المناظرة أية ألعاب ناريَّة لأنَّ كلا الفريقين لم يرغب بجذب الانتباه لخصمه. وكلا الفريقين تمسَّكَ برأيهِ بأنَّ مهمَّةَ تقديم الدليل تقع على عاتق الطرف الآخر. لقد أصرَرْتُ على أنَّ فرضيَّة الإلحاد مشتقَّةٌ من المبدأ القانوني القديم القائل بأنَّ (تقديمَ الدَّليل هي مسؤولية المدعي، وليس مسؤولية المنكر). أمّا

ص: 103


1- قصة تُصوّر تبادل إطلاق النار بين أحد رعاة البقر الخارجين عن القانون وبين رجال الشرطة قرب زريبة خيول في الريف الأمريكي، وتم إنتاج فيلم بنفس اسم هذه القصة.

على الطَّرفِ المُوحِّد، فإنَّ بلانتينغا أصر على أنَّ الاعتقاد بالإلهِ أمرُ أساسي، وهو ما يعني أنَّ الموحدين ليسوا ملزمين بتقديم الحجج على صحة ادعائهم، كما أنّهم ليسوا مُلزمين فيها بتقديمِ حُجَجٍ لتأييد اعتقادات أساسية مثل وجود العالم (1). أما من جانبنا الملحد، فإنَّ نلسون اعتبرَ أَنَّ فَلْسفة الدين مملة، في حين اعتبر ماتسون أنَّ الحُجَجَ التقليدية على وجود الإله معيبة، أما كيرتز فادَّعى أنَّه ليس من الممكن استنتاج وجود مُوحِي مُقدَّس (إله) اعتماداً على الادعاء بوجودِ وحيٌّ مُقدَّس.

بينما كُنْتُ في دالاس، قابلت اثنين من فلاسفة المسيحية الإنجيلية، تيري ميثي (Terry Methe) وه-و يعمل في مركز دراسات أكسفورد، وغاري هيبرماس (Gary Habermas) من كلية لينتشبيرغ (Lynchburg) بولاية فرجينيا، واللذان أصبحا صديقاي منذ ذلك الوقت . في السنواتِ التي تلت ذلك، نُشِرَت لي مناظرتين: مناظرة عن قيامة الم- هيبرماس، ومناظرة عن وجودِ الإله مع ميثي.

ممن جهتي - في مناظرتي مع ميثي - أعدتُ تأكيد مجموعة من مواقفي التي طورتها خلال سنوات عن انسجام تصور الإله وفرضية الإلحاد(2). أما ميثي فقدَّمَ صياغة عميقةً للحُجَّةِ الكونية المبنيَّة على

ص: 104


1- لأنَّ بلانتينغا - كما مر - يرى أنَّ (الاعتقادات الأساسية ) لا حاجة لتقديم الأدلة على صحتِها، مثل الاعتقاد بالعالم الخارجي، وعقول الآخرين، والاعتقاد بوقوع أحداث ماضية اعتماداً على الذاكرة، كذلك هو الحال في الاعتقاد بالله، لأنه من نمط الاعتقادات الأساسية. ويوازي مصطلح الاعتقادات الأساسية) عند بلانتينغا، مصطلح (التصديقات البديهية) في أدبياتنا. (المراجع).
2- يقصد (فلو) الانسجام بين تصور الإله وعدم الإيمان به. فمن الممكن أن يحمل الإنسان تصوراً عن الإله دون أن يؤمن به، لأنّه يرى أن الأدلة على وجوده غير كافية. (المراجع).

المقدمات التالية:

بعضُ الكائناتِ المتغيّرة بنحو محدود، موجودةٌ.

الوجود الحاضِرُ لكُلِّ كائن متغيّر بنحو محدود، ناتجٌ عن آخر.

لا يمكن أن يكون هناك تسلسلٌ (تراجعٌ) لا نهائي لأسباب الكائنات، لأنَّ التَّسلسل اللانهائي للكائنات المتناهية لن يكون (سبباً) لوجودِ أيِّ شيء.

إذاً، يوجد سببٌ أَوَّل للوجودِ الحاضِرِ لهذه الكائنات.

السَّببُ الأَوَّلُ يجب أن يكون لا متناهياً، ضرورياً، خالداً، وواحداً.

السَّببُ الأوَّلُ الذي لا سبب له، متطابق مع إله التقليد اليهودي/ المسيحي .(1)

هذه الحُجَّةُ لا تستند إلى مبدأ العلة الكافية (sufficient reason) (2)

ص: 105


1- هذه الحجة يُقال لها: (دليل الحركة والتغيّر)، وهو دليل موروث من أُرسطو، حيث ذكر بأنَّ المحرك الأوّل يجب أن يكون غير متحرك، وإلا وقع محذور الدور أو التسلسل. فالتسلسل في العِلل مُحال . ثمَّ طرح الفلاسفة المسلمون في مباحث العلة والمعلول أدلة كثيرة على امتناع الدور والتسلسل، أنهاها صدر الدين الشيرازي إلى عشرة براهين (المراجع). للاطلاع على تفاصيل مهمَّة تتعلق بإثبات استحالة وامتناع التسلسل من خلال كلمات الفارابي وابن سينا والسهروردي والفخر الرازي و دبيران الكاتبي وعضد الدين الإيجي وصدر الدين الشيرازي، ومعرفة البراهين التي أقاموها لإثبات قاعدة (التسلسل محال)، راجع القواعد الفلسفية العامة في الفلسفة الإسلامية للدكتور غلام حسين الديناني 1 : 135 - 143 / ط 1 / 2007م دار الهادي بيروت. (المراجع).
2- العلة الكافية قضيَّة أو مجموعة قضايا معروف أنها صادقة، منها يمكن اشتقاق النتيجة منطقياً.

الذي رفضتُه، وإنما تستندُ إلى مبدأ السببية الوجودية. لقد رفضت هذه الحُجَّة على أساس أنَّ الأسبابَ الفاعلة في الكون تكون فاعلة بذاتها دونَ الحاجة إلى سبب فاعل أوّل. مع ذلك، قُلْتُ: إِنَّه (رغم صعوبة الاعتقاد بالوجود المستمر للكون الفيزيائي- وهو ما يحتاج إلى تفسير خارجي - فإنَّ من السهل اقناع العامة بأن الانفجار الكبير يستلزم وجود سببٍ أوَّل). (1)

ص: 106


1- يقصد (فلو) أنّه كان يعتقد أنَّ مهمَّة المؤمنين بالإل-ه م-ع عامة الناس سهلة، لأن-ه م-ن السهل إقناعهم بأن الانفجار الكبير يستلزم وجود سبب أوَّل، في حين أن مهمته كمُلْحد يؤمن آنذاك بالوجودِ المستمر لهذا الكون لا بداية له)، هي مهمة صعبة. لذا سنرى لاحقاً أنَّ فلو غيَّر رأيه وصار يؤمن بالانفجار الكبير، الذي دفعه للتساؤل عن سببه الأوَّل. (المراجع)

الاستمرارُ بسُرعة

(HOLDING FAST)

في الوقت الذي كُنتُ أقومُ فيه بالتَّدريس عام (1980م)، في جامعة بولنغ غرين (Bowling Green) بولاية أوهايو، كانت لي مناظرة طويلة مع ريتشارد سوينبيرن، وهو كما ذكرْتُ سابقاً خلفني في جامعة كييل، وبعد ذلك أصبحَ أُستاذاً في أكسفورد.

سوينبيرن أصبحَ أشهر مُدافع عن التوحيد في الدول الناطقة بالإنكليزية. وقد أشاد أحد زملائي السابقين من التيار الشكي ترنس بينهم (Terence Penelum) بكتاب وينبيرن وهو بعنوان (اتساق التوحيد The Coherence of Theism) بقوله: (أنا لا أعرفُ أيّ دفاع ضدَّ الفَلْسفة الشكّية المعاصرة يمكن مقارنته بهذا الكتاب من حيث النوعية والوضوح في الفِكْر).

أحد التصُّورات التي دافع عنها سوينبيرن بقوة هو تصور روح غير مادية عالمة بكُلِّ شيء، وهو أحد أهم التصورات التي تناولتها في كتاب (الله والفلسفة). وكما هو الحال في مناظرتي مع بلانتينغا، فإنَّ مناظرتي مع سوينبيرن انتهت إلى طريق مسدود، حيث تمسك كلانا بموقفه. لم أجد أيّ مُبرّر لتصور روح غير مادية، بينما لم يجد سوينبيرن مبرراً لأي شخص في رفض تلك الفكرة حواراتي مع سوينبيرن لم تنتَهِ

ص: 107

إلى هذا الحدِّ، كما سيتَضِحُ لاحقاً في هذا الكتاب، بل استمرت إلى اليوم. بالمناسبة، عندما انتشر خبر تحولي إلى التَّوحيد علقَ بلانتينغا على ذلكَ بالقول: (إنَّ هذا يدلُّ على صِدْقِ وأمانةِ البروفيسور فلو. فهو بعد كلّ هذه السنين من معارضة فكرة الخالق، ها هو يُغيّر موقفَهُ استناداً إلى الدليل).

تلَت المناظرة مع سوينبيرن مناظرة أُخرى مع وليام لين كريج (William Lane Craig) في عام (1998م) في ميدسون بولاية ويسكنسون. وقد عُقِدَت المناظرة بمناسبة الذكرى الخمسين لمناظرة الإذاعة البريطانية بي بي سي (BBC) الشهيرة بين برتراند رسل وفريدرك کوبلستون (Frederick Copleston). جادل كريج بأنَّ أصل الكون والنظام المعقد فيه يمكن تفسيره بأفضل نحو بوجود إله. وقد قُمْتُ بالرَّد عليه بأنَّ معرفتنا عن الكون يجب أن تتوقف عند الانفجار الكبير، والذي ينبغي رؤيتُهُ على أنَّه الحقيقة النهائية (Ultimate fact) . أما ما يتعلّق بحُجَّةِ التصميم، فأشرْتُ إلى أنَّه حتَّى أعظم الكائنات المعقدة في الكون - البشر - هي نتاج قوى فيزيائية وميكانيكية.

في هذه المناظرة ، كرَّرْتُ موقفي بأنَّ الإلهَ الذي هو على كلّ شيءٍ قدير، يمكن أن يجعل البشر يطيعونَهُ باختيارهم. وهذا يعني أنَّ الدَّفاع التقليدي عن الإرادةِ الحُرَّة لا يستطيع تجنُّب ما يترتب على ذلك من أنَّ الإلهَ قد حَدَّدَ مصير جميع الأشياء، بما فيها الاختيارات الحُرَّة. كنتُ أرفُضُ على الدوام الاعتقاد بفكرة المصير المسبق، والتي تنص على أنَّ

ص: 108

الإلهَ حتَّمَ الخطيئة على معظم البشر(1) . من خصائص هذه المناظرة، رَفْضُ كريج لأفكار المصير المسبق التقليدية ودفاعه عن الإرادة الحرة الليبرالية. ذهب كريج إلى أنَّ الإله يتدخل مباشرةً في النتائج (المسبّبات)، ولا يتصرَّفُ كعامل ثانوي، ولذلك فقد كان من المستحيل أن يخلُقَ الإله عالماً مُكوَّناً من كائناتِ حُرَّةٍ تفعلُ الأمرَ الصَّائب. واستشهد كريج بنصوص من الكتاب المقدَّس تُؤكَّد رغبة الإلهِ فِي أنْ يظفَرَ جميعُ الناسِ بالنَّجاة (الخلاص)) (مثال: رسالة بطرس الثانية 3 : 9)(2)حديثاً وجدتُ أنَّ جون ويسلي (John Wesley) - الذي أعتبره أحد أعظم أبناء بلدي - قاد حملة ضد فكرة المصير المشبق وتأييداً للبديلِ (الأرمني

ص: 109


1- في ضوء هذا المنطق، لا فرق سواء قمنا بالطاعات أم بالمعاصي، جئن-ا ب-أعمال حسنة أم ،قبيحة لأنَّ كلَّ شيء مقدَّر مسبقاً وهي فكرة رائجة حتَّى في أذهان بعض المسلمين ومفادها: (رُفِعَت الأقلام وجفت الصُّحُف، فكلُّ أعمالنا مكتوبة ومقدرة، وبالتالي إرادتنا الحرّة لن تُغيّر شيئاً من مصيرنا !). هؤلاء لم يستوعبوا الموقف العميق للإسلام تجاه القضاء والقدر. فالقضاء فيما يتعلق بمصير البشر - وفقاً لمدرسة أهل البيت الي - على نحوين: محتوم وغير محتوم إرادة الله في قضائه المحتوم، يتمثّل في أُمّ الكتاب. أما إرادة الله في قضائه غير المحتوم، فتتغيّر تبعاً لتغير إرادة البشر في اختياراتهم الحرة. لذا قال تعالى: «يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتاب» (الرعد: 39). (المراجع).
2- وردَ في هذا الموضع من رسالة بطرس الثانية (من العهد الجديد في الكتاب المقدس) (لا يتباطأ الربُّ عن وعدِهِ كما يحسَبُ قوم التباطؤ ، لكنَّه يتأَنَّى علينا، وهو لا يشاءُ أَنْ يهلِكَ أُناسٌ، بل أنْ يُقبل الجميعُ إلى التوبة). وهذا المعنى يُذكّرنا بدعاء الإمام زين العابدين في (الصَّحيفة السجّادية) ليوم الجمعة والعيد: «رزقُكَ مبسوط لمن عصاكَ، وحلمُكَ معترض لمن ناواك، عادتك الإحسان إلى المسيئين، وسُنّتكَ الإبقاء على المعتدين، حتَّى لقد غرَّتهم أناتُكَ عن الرجوع وصدَّهُم إمهالك عن النُّزوع، وإنَّما تأنَّيت بهم ليفيئوا إلى أمرِكَ». (المراجع).

Arminian alternative)(1)، خصوصاً في ورقته البحثية العظيمة (إعادةُ النَّظَرِ بهدوء في المصير المسبق). أتفهم أيضاً أن يتعاطى الكثير من المفسرين اليوم مع كتابات القديس بولس (St. Paul) في فكرةِ المصير المسبق(2) بوصفها مرجعية لدور أفراد محدّدين في أعمال الكنيسة، وليس إلى خلاصهم أو هلاكِهِم .(3)

ص: 110


1- تعني عودة المسيح.
2- يقصد (فلو) رسالة بولس إلى أهل أفسس (1: 3 - 14) ، رسالته إلى أهل رومية (8: 28 - 33)، رسالته الثانية إلى تيموثاوس (2 : 10) ، رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي: 13...، كل هذه المقاطع من رسائل بولس تؤسس لفكرة المصير المشبق، وأنَّ الله قد حكم في قضائه القديم أنَّ بعض الناس (وهم مُحدَّدون) سيحظون بالخلاص والنعيم الأبدي، وبعضهم الآخر (وهم مُحدَّدون) سينتهي به المطاف إلى الموت الأبدي. (المراجع).
3- بمعنى أنَّ الكثير من المفسرين يُفسرون كلمات بولس في المصير المسبق، بمعنى أنَّ الله قد انتجب في قضائه القديم بعض الأشخاص، واصطفاهم لخدمة الكنيسة، ولا يُفسرون كلامه على أنَّ الله قد قضى بشأنهم أنهم من أهل السعادة والخلاص، أو من أهل الشَّقاء والموت الأبدي. وعلى هذا الأساس، فعلينا - وفقاً لفلو - أن لا نتزمت في فهم ظاهر كلمات بولس ، لأنّها يمكن أن تفهم بطريقة لا تنتهي إلى محذور المصير المسبق بشأن جميع البشر، كما يفعل الكثير من مُفسّري كلمات بولس اليوم. (المراجع).

ظهوري الأول في نيويورك

(MY NEW YORK DEBUT)

المناظرةُ العموميةُ الأخيرة لي كانت في ندوة في جامعة نيويورك، وتمت في مايو من عام (2004م) . المشاركونَ الآخرون كانوا هم العالم الاسرائيلي جيرالد شرویدر (Gerald Schroder)(1)، مؤلف أفضل الكتب مبيعاً في مجال العِلْمِ والدين، وهو بعنوان (علمُ الإله The Science of God)، أيضاً كان من ضمن ضِمْنِ المشاركين الفيلسوفُ الأسكتلندي جون هالدين (John Haldane)(2)، الذي كان مشاركاً في مناظرة التّوحيد والإلحاد حول وجود الإل-ه إلى جانب صديقي جاك سمارت Jack Smart ) .(3)

و كمفاجأةٍ لجميع المهتمين، أعلنتُ في البدايةِ أنَّني الآن بِتُّ أقبل

ص: 111


1- فيزيائي وعالم نووي مهتم بالتوفيق بين العلم والدين.
2- فيلسوف أسكتلندي، ولد سنة (1954م)، وما زال على قيد الحياة.
3- فيلسوف أسترالي (1920 - 2012م)، متخصص في فلسفة الذهن، من أبرز القائلين بنظرية الهوية (Identity Theory)، سُميت كذلك لأنها ترى أنَّ العقل هو الدماغ وتسوي بينهما، وأنَّ الحالات النفسية والعمليات العقلية ليست إلا تغيرات فسيولوجية معينة تحدث في الجهاز العصبي المركزي أو حتَّى في الدماغ فقط، وليس العقل أكثر من ذلك. هذه النظرية حديثة العهد، إذ بدأت في أواخر الخمسينات من هذا القرن، لكن الدعوى قديمة نادى بها فلاسفة قدماء مثل دمو قريطس ومحدّثون مثل هوبز. ولعلَّ الجديد في النظرية المعاصرة أنَّ أصحابها جعلوا أقوالهم متسقة مع التطوّرات العلمية لعلم وظائف الأعضاء، وأفادوا من أخطاء السلوكية وثغرات السيبر نطيقا وتجنبوها. (المراجع)

بوجود إله. ما اعتُبِرَ في وقتِهِ تبادلاً حاداً لوجهات النظر المتعارضة أثناءَ المناظرة، انتهى إلى أنْ يُصبح بحثاً مشتركاً في التطوُّراتِ العِلْمية الحديثة، التي يبدو أنّها تشير إلى ذكاء خارق. في الفيديو الذي عُرِضَ في الندوة، ادَّعى عرّيفُ الندوة أنَّ أعظَمَ اكتشافات العلم الحديث هو الإله.

وعندما سُئِلْتُ في هذه الندوة إن كان بحثي حول أصل الحياة يُشيرُ إلى ذكاء إبداعي، أجبْتُ بالقول:

(نعم، أنا الآن أعتقدُ بذلك... بشكل كامل تقريباً بسببِ اكتشافات الحمض النووي (DNA) ما قدَّمَهُ اكتشاف الحمض النووي - كما اعتقد - هو أنَّه أوضَحَ التَّعقيدَ الشَّديد غير القابل للتصديق للترتيبات اللازمة لخلق (حياة)، وهو الأمر الذي يوجب أن يكون هناك ذكاء خارقٌ يجعلُ هذه العناصر المختلفة تعمل معاً. إنَّه التعقيد الخارقُ لهذه العناصر والدقة الهائلةُ في الطَّرُقِ التي تتفاعل فيما بينها. اجتماع هذينِ الأمرين (التَّعقيد والدِّقَّة) في الوقت المناسب بالصدفة أمر - بكل وضوح - مستحيل. لا بدَّ من أنَّ الأمر يتعلق بتعقيد هائل أنتج ما وصلنا إليه، وهو ما بدا لي أنه نتاج ذكاء).

هذا التّصريح مثل تغيراً كبيراً بالنسبة لي، لكنه مع ذلك كان يتّسِقُ مع المبدأ الذي تبنَّيتُه منذ بداية مسيرتي الفلسفية في اتباعِ الحُجَّة حيثما قادتني.

لقد تأثَرْتُ بشكل خاص بالتفنيد المفصَّل الذي قام به جيري رویدر (Gerry Schroder) لما أسميته (مُبرهنة القرد monkey theorem). هذه الفكرةُ، التي قُدِّمَت بطرق مختلفة، تُدافع عن احتمال حدوث الحياة بالصُّدفة، من خلال استخدام مثال قيام مجموعة من القردة بالعَبَثِ على

ص: 112

لوحة مفاتيح الكمبويتر ، ليُنْتِجَ هذا العبث في النهاية كتابة قصيدة السونيتة (sonnet) لشكسبير .

أشارَ شرويدر في البداية إلى تجربة قام بها المجلس الوطني البريطاني للفنون. حيث تم وضع كمبيوتر في قفص بداخله ستة قرود. وبعد شهر من العبَثِ بالكمبيوتر (بالإضافة لاستخدامه كمر حاض!) أنتجت القرود خمسين صفحة مكتوبة، لكن دون كلمة واحدة تامة. وقد علق شرويدر بالقول: (إنَّ هذه كانت هي النتيجة، بالرغم من أنَّ الكلمة باللغة الإنجليزية يمكن أن تتكوّن من حرف واحد فقط (a) أو (I). فالحرْفُ (A) يمكنُ أنْ يُمثَّلَ كلمةً إذا كان هناك مسافة إما عن يمينه أو يساره. فإذا أخذنا بالاعتبار أنَّ هناك ثلاثينَ حَرْفاً ورقماً على لوحة المفاتيح، فإنَّ احتمال الحصول على كلمةٍ مُكوَّنة من حَرْفٍ واحد هو (30×30×30×) أي (27,000). وعندها يكون احتمال الحصول على كلمةٍ من حَرْفٍ واحد هو أي (1 : 27,000) .

بعد ذلك قام شرويدر بتطبيق قوانين الاحتمال على مثالِ السُّونيتة. وتسائل: (ما هي فُرْصَةُ الحصول على قصيدة السونيتة لشكسبير؟).

وأكمل قائلاً: (كلُّ بيتٍ من أبيات القصيدة مُكوّن من العددِ نفسه من الحروف، والقصيدة مُكوَّنةٌ من (14) بيتاً. وقد اخترْتُ البيتَ الذي يبدأ بجملة: (Shall I compare thee to a summer's day)، وقُمْتُ بحساب عدد الحروف، فكان عددها (488) حَرْفاً. ما هي احتمالية أن تعبت القرود على لوحة المفاتيح وتكتُبُ (488) حرفاً لتظهر لك هذه الجملة بتعاقُب الأحرُفِ نفسها (أي تترتّب ال__(488) حَرْفاً بالترتيب نفسه الذي نجده في البيت)؟ النتيجة هي واحد مقسومٌ على(26)

ص: 113

مضروبةٌ في نفسها (488) مرة. أو بكلمة أخرى هي (188-26)، وهو ما يُعادِل (690-10).

(الآن) عندما أحصى العلماء عددَ الجُسيمات في الكون (الكترونات، برتونات ونيوترونات)، وجدوا أنَّها (1080) ، أي واحد وعلى يمينه (80) صفراً. معنى ذلك أنه ليس هناك جسيمات تكفي لإجراء المحاولات، وسنحتاج إلى المزيد من الجسيماتِ بمقدار (10600).

وإذا حوَّلنا مادَّةَ الكون كلها إلى رقاقات كمبيوتر (computer chips)، تزنُ كلٌّ منها جُزْءاً من المليون من الجرام وافترضنا أنَّ كلَّ رقاقةٍ تستطيعُ أَنْ تُجري المحاولات، بدلاً من القِرَدة، بسرعةِ مليون محاولة في الثانية، نجد أن عدد المحاولات التي تمت منذ نشاة الكون هي (1090) محاولة. أي إِنَّكَ ستحتاجُ مرَّةً أُخرى كوناً أكبر بمقدار (10600)! وهذا يعنى أنك لن تحصل أبداً على السونيتة عن طريق الصدفة. فلا بد أن يكون الكون أكبر بمقدار عشرة أُسَ ستمائة مرّة. ومع ذلك ما زال البعضُ يتوهم أنَّ القِرَدةَ بمقدورها فعل ذلك كلَّ مرَّة) (1).

بعد أن استمعت إلى محاضرة شرويدر (Schroeder) قُلْتُ له : إنَّه توصل بصورةٍ مُرضية وحاسمة إلى أنَّ مُبرهنةَ القِرْد) ما هي إِلَّا كومةٌ من القمامة، وأن اختيار قصيدة السُّونيتة كمثال كان مناسباً، لأنَّ البعض يتوهم أنَّ القِرَدَةَ بإمكانها كتابة رواية كاملة لشكسبير، مثل هاملت أو عطيل، أو حتّى أعمال شكسبير بأسرها. فإذا كانت ( مُبرهنةُ القِرْد) غيرُ قادرة على الصمود في قصيدة واحدة، فمن المؤكد أنَّ من المستحيل

ص: 114


1- Gerald Schroeder, “Has Science Discovered God?" http://science. lenicam.com

القول بأنَّ عملاً رائعاً مثل أصل الحياة (أي نشأة حياة من مادة غير حيَّة) حدَثَ بالصُّدفة.

ص: 115

مبارزة مع دوكينز

(DUELING WITH DAWKINS)

بالإضافة إلى مناظراتي العامة، اشتركْتُ في مناقشاتٍ جدليةٍ كتابيةٍ متعدِّدة. ومن الأمثلة البارزة على هذه المناقشات، السجال الذي حصل مع العالم ريتشارد دوکینز (Richard Dawkins). فرغمَ أَنَّني كُنْتُ من الممتدِحينَ لأعماله الإلحادية، إلَّا أَنَّني كُنْتُ من الناقدين أيضاً لجينه الأناني في مدرستِه الفكرية .(1)

في كتابي (التطوُّر الدَّاروني)، أشرْتُ إلى أنَّ الانتخابَ الطَّبيعي لا يُنْتِجُ بنحو إيجابي أيّ شيء. وأنَّه فقط يتخلّص (يُقْصي)، أو يميل للتخلّص من كل الأشياء غير القادرة على المنافسة. تحقق التنوع في الكونِ ليس بحاجةٍ لتنشيط أيّ مَزِيَّة واقعية تنافسية لتفادي الإقصاء؛ فمن الكافي أنْ لا تكونَ الزِيَّةُ عِباً على حاملها وأنْ لا تُضعِف موقِفَهُ التَّنافُسي. لتقديم شرح مير، افترضوا أنن-ي أملِكُ أجنحةً لا فائدة منها تحت ملابسي، لكن هذه الأجنحة من الضَّعفِ بحيث لا تستطيع رَفْعي عن الأرض. ونظراً لكون الأجنحة ضعيفة، لذا هي لا تُمكنني من الهروب من الحيوانات المفترسة، ولا تُمكِّنني من جمع الطَّعام. لكنها ما دامت لا تجعلني (أكثر) عُرضة للحيوانات المفترسة، لذا من المرجَّح أن أبقى حيَّاً

ص: 116


1- يشير (فلو) إلى كتاب دوكينز (Selfish Gene / 1989م)، وقد تُرجِمَ الكتاب بعنوان: (الجينة الأنانية)، ترجمة تانيا ناجيا / 2009م / دار الساقي/ بيروت. (المراجع).

وأحتفظَ بها وأُورّتُها إلى أحفادي خطأ دارون كان يكمن في المبالغة في تقدير حُجَّتِهِ، حيثُ قال: إنَّ الانتخابَ الطَّبيعي يُنْتِجُ شيئاً ما، والمبالغة تأتي بسببِ توظيفه لتعبير (الانتخاب الطَّبيعي) أو (البقاء للأصْلح) بدلاً من تعبيرِهِ المُفضَّل في نهاية مقالتِهِ (الحماية الطبيعية natural preservation).

لقد ذهبتُ للإشارة إلى أنَّ كتابَ دوكينز (الجين الأناني) كان تدريباً رئيسياً على ممارسة التضليل الشَّعبي. كفيلسوف مُلْحِد، اعتبرْتُ أنَّ هذا النوع من العمَل الشَّعبوي مُدمّرٌ بحد ذاتِهِ إِمَّا (كَقِرْدٍ عارٍ) أو (كحديقة حيوان بشرية) اللَّذين كتبها ديسموند موریس (Desmond Morris). قدم موريس في أعماله، كنتيجة لأبحائِهِ الحيوانية قَدْراً إضافياً من الإنكار المنظم لفكرة أنَّ المكوّنات المميّزة لنا تبدو كظاهرة بيولوجية. لكنَّه تجاهل الاختلافات الواضحة بين الكائنات البشرية وبقية الأنواع.

من ناحيةٍ أُخرى، اجتهد دوكينز في التقليل والانتقاص من ثمرة أكثر من خمسين عاماً من الأبحاث في مجال الجينات، التي توصلَتْ إلى أنَّ قَسْماً كبيراً من الصّفاتِ الظَّاهرة للكائناتِ الحيَّة تتكيَّفُ نتيجةً للتّفاعُل الداخلي فيما بين مجموعة من الجينات، في حين أن معظم الجينات لها تأثيرات متعدّدة على هذه الصفات. بالنسبة لدوكينز، الأمر الأساسي الذي يُنْتِجُ السُّلُوك البشري يعود إلى خصائص الجينات التي يمكن أن تُعزى إلى الأشخاص. وبالتالي، بعد أن أصر على أننا جميعاً مخلوقات غير مختارة نتيجةً لنوع جيناتنا، استنتج أنَّ كلَّ ما نستطيع فعله هو أن نتقاسَمَ صفاتنا غير المحبّبة مع الكائنات أحاديَّة الخليَّة.

الجيناتُ، بالطَّبعِ، لا يمكن أن تكون أنانية ولا غير أنانية أكث-ر مم-ا هو حال بقيَّة الكائنات غير الواعية المنخرطة في المنافسةِ أو الاختيار.

ص: 117

(الانتخابُ الطَّبيعي المتداول، ليس انتخاباً، بل هو بنحو ما حقيقةً منطقية غير مألوفة، تحتَ المستوى البشري، فالصراع من أجل الوجود ليس (تنافُسيَّاً) بالمعنى الحقيقي للكلمة). ولكن ذلك لم يمنع دوكينز من الادِّعاء بأنَّ كتابَهُ (ليس كتاباً في قصص الخيال العلمي؛ إنَّه عِلْمٌ .... نحنُ آلات قادرة على البقاء، روبوتات مبرمجة بشكل أعمى للحفاظ على مُكوّناتٍ أنانيةٍ تُعرَف كجينات)(1) . ورغمَ أنَّ دوكينز أنكر ذلك بعض المرَّات، إلَّا أَنَّه يُحذِّرُ في كتابه من أخذ كلامه بصورة حرفية. وأضاف بشكل مثيرٍ بأنَّ (حُجَّةَ الكتاب أنَّنا، وكل الحيوانات الأخرى، مجرد آلات صُنِعَت بواسطة جيناتنا) .

إنْ كان ثمَّة صحة لهذا الكلام، فلا حاجة للاستمرار في النقاش، كما فعل دوكينز بالتبشير بقوله : (دعونا نتعلم الكرَمَ والإيثار لأنَّنا ولدنا كأنانيِّين. لا بلاغة بمقدورها تحريك روبوتات مبرمجة. لكن في الحقيقة، ليس فيما ذكر شيءٌ من الصحة. فالجينات، كما نشاهد، لا تجعل ولا يمكن أن تجعل أعمالنا حَتْميَّة. ولا هي قادرة على حساب واستيعاب متطلبات التصرف بأنانية أو برحمة مضحية.

اعتزل بيبي روث كرة البيسبول في عمر الأربعين. وأنا الآن لي ضِعْفُ عمرِهِ، في الثمانين من عمري. ورغم أنني غيَّرتُ موقفي المتعلق بوجود إله، إلَّا أنَّني أمل أن يكون دفاعي عن الإلحاد ومناظراتي مع الموحدين والآخرين قد أوضحا اهتمامي الدائم بالأسئلة اللاهوتية واستعدادي لمواصلة البحث عن إجاباتٍ مُتعدّدة. ليقل المُحلِّلون

ص: 118


1- Richard Dawkins, The Selfish Gene (New York: Oxford University Press, 1976), x

والأطبَّاء النَّفْسِيُّون ما يشاؤون، ولكن الحماسة التي في داخلي سوف تظلُّ كما كانت تسعى دوماً إلى الحُجَج السليمة والاستنتاجاتِ الصَّادقة.

آمل أن ألعبَ دوراً وأُؤَدِّي مهمتي بالقَدْرِ نفسه من الشَّغَفِ والمبدئية، التي أنا عليها دوماً، في القسم القادم من الكتاب، حيث سأعرِضُ لموقفي الحالي والأدلة التي قادتني للتمَسُّكِ به.

ص: 119

ص: 120

القسم الثاني

اشارة

اكتشافي للمقدس

ص: 121

ص: 122

الفصل الرابع

حج العقل

PILGRIMAGE OF REASON

ص: 123

ص: 124

لنبدأ بحكاية رمزية. تخيَّل أنَّ هاتفاً محمولاً مرتبطاً بقمر صناعي سَقَط على ساحل جزيرة نائية، تَسْكُنُها قبيلة لم يكن لها أي اتصال مع الحضارة الحديثة. بدأ السُّكَّانُ الأصليُّونَ بالعبث بالأزرار الموجودة على سطح الهاتف، فسمعوا أصواتاً مختلفةً عند الضّغط على تَسَلْسُل معيَّنِ للأرقام (1). افترضوا في البدايةِ أنَّ الهاتف المحمول هو من يُصدر هذه الأصوات بعضُ السُّكَّان الأصليين الأذكياء، ولنقل علماء هذه القبيلة، أعادوا الضَّغْطَ على تَسَلْسُلِ الأرقامِ نفسه، وسمعوا الصَّوتَ نفسَهُ. الاستنتاج بدا واضحاً بالنسبة لهم. فهذا المُركَبُ المكوّن من بلورات ومعادن ومواد كيمائية يُصْدِرُ صوتاً يُشْبِهُ صوت الإنسان، وهذا يعني بوضوح أنَّ هذه الأصوات هي من خصائص الهاتف المحمول.

استَدعى حكيم القبيلةِ عُلماءها لمناقشةِ الأمر. أخبرَهُم أَنَّه قد فكَرَ كثيراً فيما نقلوه إليه من أخبار ، وتوصَّل إلى النتيجة التالية : إنَّ الأصوات التي تَصْدُرُ من الجهاز يجب أن تكون صادرةٌ من بَشَرٍ مثلُهم، يعيشونَ في مكانٍ ما ويتمتعون بالوعي، لكنهم يتكلمون بلغة مختلفة. وبدلاً من افتراض أنَّ الأصوات صادرة من ساعة الهاتف المحمول، طالب الحكيمُ العُلماءَ ببَذْلِ الجهد من أجل استكشاف إمكانية أنهم ومن خلال شبكة اتصالاتٍ غامضة هم الآن على (اتّصالٍ) مع أُناسٍ آخرينَّ. وربَّما

ص: 125


1- يقصد (فلو) أنّهم اتصلوا دون قصد على إنسان معين، بدأ يتحدث معه-م ويطلقُ أصواتاً. (المراجع).

من خلالِ متابعة هذا الأمر بدراسات إضافية، قد يتمكَّنونَ من الوصول إلى فهم أكبر للعالم الذي يتجاوز جزيرتهم. ولكن علماء القبيل-ة ضحكوا أمامَ حكيم القبيلة قائلين: (انظر ، إذا كسرنا هذه الأداة فإنَّ الأصوات ستختفي. وهذا يعني بوضوح أنَّ هذه الأصوات ليست سوى أصوات صادرة من خليط من الليثيوم وشريحة طباعة أرقام وصمامات ثنائية باعثة للضَّوء).

في هذه الحكاية الرمزية، رأينا كيف أنَّ النظريات المُسبقة تُشكِّلُ الطَّريقة التي نرى بها الدليل، بدلاً من أنْ ندَعَ الدَّليلَ يُشكّل نظرياتنا. عندها يمكن تجنُّب القفزة الكوبرنكية (نِسْبةً إلى كوبرنيكوس Nicolas Copernicus)(1) من خلال الآلاف من أفلاكِ التدوير البطلميَّة . (المدافعون عن نظرية بطليموس القائلة بأنَّ الأرضَ هي مركز الكون، يقاومون نموذج كوبرنيكوس الشَّمسي، من خلالِ استخدام تصور أفلاك التدوير، لتفسير طريقة ملاحظة حركة الكواكب التي تتعارض مع نموذَجِهِم).

وهنا، كما يبدو لي تكمن الخطورة، والشَّرُّ المُسْتشري في الإلحادِ الجزمي. تأمل في كلام من قبيل: (علينا أن لا نطلب تفسيراً للكيفية التي وُجِدَ بها العالَم ؛ إِنَّه موجودٌ وكفى)، أو (بما أننا لا نستطيع القبول بمصدرٍ متعال للحياة، فإنَّنا نختار الإيمان بالاستحالة: بأنَّ الحياة انبثقت فجأةً بطريق المصادفة من المادَّة)، أو أنَّ (القوانين الفيزيائية هي (قوانينُ اللاقوانين) التي ظهرت من النّهايةِ الفارغة للنِّقاش). في البداية قد تبدو هذه العبارات كحُجَجِ عقلانية لها سُلطة خاصة. لكن بالطبع، هذا ليس

ص: 126


1- نيكولاس كوبرنيكوس أوّل من صاغ نظرية مركزية الشمس، وكون الأرض جرماً يدور في فلكها، في كتابه (في ثورات الأجواء السماوية).

أكثر من أن تكون إشارة إلى أنَّ هذه العبارات إمَّا عقلانية أو حُجَج.(1)

الآن، كي نُقدِّم حُجَّة عقلانية بأنَّ كذا هو كذا، من الضروري ى أنْ نُقدِّمَ مُبرِّرات تدعَمُ ذلك. لكن لنفترض أنَّنا شَكَكْنا بكلام أحدِهِم لوجودِ ثغرة في كلامِهِ، أو لنكن أكثر تطرُّفاً ونقول: إِنَّا شَكَكْنا بأنَّ كلَّ ما قالُوهُ لا قيمة له أصلاً، فمن طرق فهم ما يقصد هؤلاء، هو محاولةُ البحث عن دليل يُقدِّمونَهُ، إنْ كان ثمَّة دليل، يدْعَم ما يدَّعون.

لأنَّ الكلامَ إنْ كان في الحقيقةِ عقلانياً وحُجَّةً، فلا بد من تقديم مُبرِّرات تقفُ لصالحِهِ تُستقى من العِلْمِ أو الفلسفة. وأيُّ شيءٍ يمكن أن يُحسَب داحضاً لهذا الكلام، أو يمكن أن يُقنِعَ المُتحدِّثَ ليَسْحَبَ كلامَة ويتراجع عنه ويعترف بأنه كان مخطئاً، يجب أنْ يُوضَعَ فِي الحُسْبان. لكن إن لم تكن هناك مُبرّرات أو أدِلَّة مطروحة تدْعَمُ الكلام، فإنَّه ليس هناك ما يَدعونا للقول بأنَّ هذا الكلامَ حُجَّةٌ عقلانية (2).

عندما قال حكيمُ القبيلة للعلماء بأنَّ عليهم أن يسكتشفوا جميع أبعاد الدَّليل، فإنَّه كان يعني أنَّ الفَشَلَ في استكشاف ما يُعتبرُ لأوَّلِ وهلةً معقولاً ومقبولاً يُعيق إمكانية الظفر بفهم أفضل للعالم الذي يتجاوزُ

ص: 127


1- أي هذه العبارات إما أن تكون عقلانية، لكنَّها ليست بحُجَج. أو تكون حُجَجاً، لكن ليست عقلانية. وحتّى تجتمع لها صفة العقلانية وكونها حُجَجاً، فلا بد أن تستوفي شروطاً خاصَّة. (المراجع).
2- يقصد (فلو) أنَّ الحُجَّة حتّى تكون عقلانية لا بد أن تكون مستندة إلى مبررات موضوعية، ومعطيات، تدعم النتيجة التي تدعيها تلك الحُجَّة. ولا بد أن يوضع في ،الحسبان ليست فقط المعطيات الداعمة، بل أيضاً المعطيات الداحضة للحُجَّة. أمَّا إِنْ كانت الحُجَّة تفتقد لمبرِّرات موضوعية، ومعطيات تدعم النتيجة، فلا يمكن اعتبار هذه الحُجَّة عقلانية. (المراجع).

الجزيرة التي تَسْكُنها القبيلة.

الآن، غالباً ما يبدو للناس غير الملحدين كما لو لم يكن لديهم دليل يمكن تصوره يكون مقبولاً عند أصحابِ التفكير العلمي الجزمي الإلحادي حتّى يكون سبباً كافياً للقول: (قد يكون هناك إلهٌ في نهاية المطاف). ولذا فأنا أسألُ زميلي السابق الملحد السُّؤال المركزي الواضح (ماذا تتوقع أن يحدثَ أو ما الذي يجب أن يحدث لكي يكونَ مُبرِّراً بحدِّهِ الأدنى لأخذ وجود عقل خارق في الحسبان؟).(1)

ص: 128


1- بعبارة أخرى : السُّؤال الذي ينبغي أنْ يُوجه للمُلْحِد: م-ا المطلوب حتّى تأخذ فرضية وجود إله على محمل الجد؟ (المراجع).

وضعُ الأوراق على الطاولة

(LAYING THE CARDS ON THE TABLE)

سأترُكُ الحكاية الرَّمزيةَ جانباً، فقد حان الوقت كي أُلقي أوراقي على الطَّاولة، وأعرِضُ أفكاري والمبررات التي تَدْعَمُ ذلك. أنا الآن أُوْمِنُ بأنَّ الكون قد جاء إلى الوجودِ بواسطة ذكاء لا محدود. أنا أُوْمِنُ بأنَّ قوانين الكونِ المعقدة تُبيِّنُ ما أسماه العلماء (عَقْلُ الله). أنا أُوْمِنُ بأنَّ الحياة وإعادةَ الخَلْقِ أساسها مصدرٌ إلهي.

لماذا أُؤمِنُ بذلك، مع الأخذ بالاعتبار أني دافعت عن الإلحادِ لأكثر من نصف قَرْن ؟ الجواب المختصر هو هذا هذه هي صورةُ العالم، كما أراها، التي انبثقت من العِلْمِ الحديث. العِلْمُ سَلَّطَ الضَّوءَ على ثلاثةِ أبعاد للطَّبيعة تُشير إلى الإله:

الأوَّل هو حقيقةُ أَنَّ الطَّبيعة تخضَعُ لقوانين.

الثاني هو بُعْدُ الحياة، في الكائناتِ الذكية المنظمة والمسوقة بغاياتٍ، والتي نتجَت عن المادة.

الثالثُ هو الوجود الفعلي للطَّبيعة.

ولكن ليسَ العِلْمُ فقط هو من قادني إلى ذلك. أنا استفَدْتُ أيضاً من الدِّراسة المستحدثة للحجج الفلسفية التقليدية.

إنْ تَرْكي للإلحادِ لم يكن بسبب أي ظاهرةٍ أو حُجَّةٍ جديدة.

ص: 129

فخلال العقدين الماضيين، كان إطاري الفكري ككُل في حالة تبدل. وهذا كان نتيجة تقييمي المتواصل لأدِلَّة الطَّبيعة. وعندما وصلتُ في النهاية إلى الإيمان بوجود إله، لم يكن ذلك تبدلاً للنموذج الإرشادي (Paradigm Shift)، لأن نموذجي الإرشادي ما زال باقياً على حاله، وه-و كما قال أفلاطون في كتابه (الجمهورية) على لسان سقراط: (يجب أنْ نتَّبِعَ الدليل أينما قادَنا).

قد تسأل كيف أنَّني، كفيلسوف، أتحدَّثُ في موضوعات عالجها العلماء ؟(1) إِنَّ أفضل جواب على هذا السؤال هو بطرح سؤال آخر: هل نحن الآن منخرطون في العِلم أم بالفلسفة؟ عندما تدرس التفاعل الداخلي المتبادل بين جسمين ماديَّيْن ، ولنقل على سبيل المثال، اثنين من الجسيمات دون الذرّية، فأنتَ منخرطٌ بالعِلْم . وعندما تسأل كيف ولماذا توجد هذه الجسيمات - أو (أيّ) جِسْم مادّي - فأنتَ منخرط بالفلسفة. وعندما تستنتج نتائج فلسفية من معطياتٍ عِلْميَّةٍ، فأنتَ تُفكِّرُ كفيلسوف.

ص: 130


1- من الواضح أنَّ (فلو) يتحدَّث عن العلماء في الحقول التجريبية. (المراجع).

التَّفكير كفيلسوف

(THINKING AS A PHILOSOPHER)

إذن دعونا نطبق هذه النظرة هنا. في عام (2004م) قُلْتُ: إِنَّ أصْلَ الحياة لا يمكن تفسيره إذا انطلَقْتَ من المادة فقط. ردَّ المنتقدون بروح المنتصر قائلين بأنَّني لم أقرأ قطُّ مقالاً في مجلةٍ عِلْميَّةٍ ولا تابعتُ التطورات العلمية الحديثة المتعلقة بالتولُّدِ التلقائي (التولد الذاتي للحياةِ من كائنات غير حيَّة. هُم بهذا النقد لم يفهموا الهدف الرئيسي من كلامي. فاهتمامي لم يكن مُنصبَّاً على هذه الحقيقة أو تلك في الكيمياء أو علم الجينات، بل كان اهتمامي مُنصبَّاً على السُّؤالِ الرَّئيسي عن معنى أن يكون شيء ما حيَّاً(1)، وما علاقة ذلك بالحقائق الكيميائية والجينية ككلّ ؟ أنْ تُفكِّرَ على هذا المستوى، فهذا يعني أنَّك تُفكّر كفيلسوف . وحتّى لا أبدو متواضعاً أكثر من اللازم، يجب أن أقول: إنَّ هذا هو عمل الفلاسفة وليس عملُ العُلماء كعلماء. التخصص الدقيق للعلماء لا يُعطيهم أيَّةَ ميزة عند مناقشة هذا السُّؤال، كما أنَّ لاعب البيسبول ليس من شأنِهِ أَنْ يُحدِّدَ أيّ نوع من معاجين الأسنان أفضل.

بالطَّبْع للعلماء وللفلاسفة، ولأي شخص الحُرِّية الكاملة في أن

ص: 131


1- أي متى يكون الشَّيءُ حيَّاً؟ بعبارة أخرى: ما هي معايير التي على أساسها نحكم على كائنٍ ما بأنَّه ما بأنَّه حي أو غيرُ حيٍّ. (المراجع).

يقولَ ما يُريد. وبالتأكيد لن يتَّفِقَ جميعُ العُلماء معي في تفسيري الخاص للحقائق التي يتوصَّلُونَ إليها. لكن اختلافهم معي يجب أن يقوم على قدَميْنِ فَلْسفيّتين. وبعبارة أخرى: إذا انخرَطَ العُلماء في تحليل فلسفي، فلا سُلْطَتهم ولا خبرتهم بوصفهم علماء، ذات صلة. هذا لا بدَّ أن يكون ذلك واضحاً. عندما يعرضون رأيهم في اقتصاد العِلم، مثل تقديم ادعاءات حول عدد الوظائف التي يُوفّرُها العِلْمُ والتكنولوجيا، فإنَّ عليهم أنْ يُقدِّموا تحليلهم في إطارِ التَّحليل الاقتصادي. وكذلك العلماء الذين يتحدثونَ كفلاسفة، عليهم أن يطرحوا رأيهم في الإطارِ الفَلْسفي. وكما قال ألبرت آينشتين (Albert Einstein): (رجُل العلم هو فيلسوفٌ ضعیف) (1).

لحُسنِ الحظ، الأمر ليس كذلك دائماً. فقادة العلم خلال مات السنين الأخيرة، بالإضافة إلى بعض العلماء المعاصرين الأكثر تأثيراً، بنوا رؤيةً فلسفية لكون عقلاني انبشَقَ من عقل إلهي. وكذلك الحال معي فهذه هي رؤيتي الخاصة عن العالم، التي أجِدُها الآن قائمةً على تفسير فلسفيّ للعديد من الظواهر التي واجَهَها العُلماء والناس العاديُّونَ على حدٍّ سواء.

ثلاثةُ أبعادٍ من التحقيقِ العِلْمي كانت على وجه الخصوص مهمةً بالنسبة لي، سأضَعُها في الحُسْبانِ كلَّما تقدَّمْتُ في هذا الكتاب في ضوء الأدلة المتداولة اليوم:

أوَّلُ هذه الأبعاد هو السُّؤالُ الذي حيّر ولا زال يُحيَّرُ الكثير من

ص: 132


1- Albert Einstein, Out of My Later Years (New York: Philosophical Library, 1950), 58

العلماءِ اللَّامعين، وهو من أين جاءت قوانينُ الطَّبيعة؟

والثاني هو السُّؤالُ الواضح للجميع : كيف جاءت الحياة كظواهر عضوية من اللَّاحياة؟

والثالثُ هو السُّؤال الذي يُوجّهه الفلاسفة لعلماء الكون: كي-ف جاءَ الكونُ - بكُلِّ ما يحتويه من أشياء مادية إلى الوجود؟

ص: 133

عودةُ الحكمة

(A RECOVERY OF WISDOM)

بناءً على موقفي الجديد من نقاش الفلسفة التقليدية فيما يتعلق بوجودِ إله، فإنَّ أكثر ما أقنعني في هذا الحقل هو حُجَّةُ الفيلسوف ديفيد كونوي (David Cornway)(1) المؤيدة لوجود إله في كتابه (عودة الحكمة: من هنا إلى البحث عن الحكمة The Recovery of Wisdom: From Here to

Antiquity in Quest of Sophia). كونوي فيلسوف بريطاني مميز في جامعةِ میدلسیکس (Middlesex)، وهو معروف بالخصوص في مجالي الفلسفة التقليدية والحديثة معاً.

الإلهُ الذي دافَعَ كونوي عن وجودِهِ، وأنا كذلك، هو إله أُرسطو، فقد كتب كونوي قائلاً:

(خلاصة القول: إنَّ أُرسطو قد حدد الصفات التالية للكائن الذي يُفسِّرُ وجودَ العالم بمعناه الواسع : الثَّبات (غير متحرِّك)، التجريد (غيرُ مادّي)، القُدرة على كل شيء، العِلْمُ بكُلِّ شيء، الوحدانية، غير قابل للتجزئة (البساطة)، الخير المطلق، ووجوب الوجود. هناك تشابه عجيب بين هذا الصفات وتلك الصفات التي ذُكِرَت للإله في التَّقليدِ

ص: 134


1- فيلسوف إنجليزي، ولد سنة (1947م)، وما زال على قيد الحياة.

اليهودي/ المسيحي (1). وهذا ما يُبرر تماماً قولنا بأنَّ أُرسطو كان في ذهنِهِ الكائن المقدس نفسه كمسبب للعالم، وهو الإله نفسه المعبود في كلا الدِّيانتين(2).

في كتابه، حاول كونوي أنْ يُدافِعَ عما وصفه ب_(التصور التقليدي للفلسفة). وهذا التصور يرى أن تفسير (وجود العالم ينبثق من أنَّ الإله كُيُّ القُدرةِ وكُ-ي العلم لكي توجد ويستمر وجود الكائنات العاقلة)(3). خلَقَ الإله الكونَ من أجل أن يخلُقَ الكائنات العاقلة. يعتقد كونوي، وأنا أُشاركه في ذلك، أنَّه من الممكن معرفة وجود وطبيعة هذا الإله الأُرسطي عن طريق الممارسة (المِران على التأمل الذهني) دون الحاجة إلى استدلال بشري.

لا بدَّ أنْ أُؤكد على أن اكتشافي للأُلُوهيَّة مبنيٌّ على أساس طبيعي صرف، دون الرجوع إلى أيَّةِ ظواهر تتجاوزُ الطَّبيعة (خارقة) . لقد كان اكتشافي للإله عبارةٌ عن ممارسة ما يُسمَّى تقليدياً ب_(اللاهوت الطَّبيعي). وليس له صلة بأي نوعٍ من أنواع الوحي الديني. ولا أدعي أنَّه حصلت لي أيَّة تجربة شخصيَّة مع الإله، أو أية تجربة يمكن اعتبارها إعجازية أو تتجاوز الطَّبيعة. باختصار، اكتشافي للألوهية كان عبارةً عن رحلةِ عَقل وليست رحلة إيمان.

ص: 135


1- وتوافر هذه الصفات في إله المسلمين أوضح. (المراجع).
2- David Conway, The Rediscovery of Wisdom (London: Macmillan, 2000), 74
3- 3 - 2 Conway, The Rediscovery of Wisdom

ص: 136

الفصل الخامس

منْ كَتَبَ قوانين الطَّبيعة؟

WHO WROTE LAWS OF NATURE

ص: 137

ص: 138

لعلَّ أكثر الحجج الداعمة لوجودِ الإله شُهرةً وقبولاً من الناحية الحَدسية تلك التي تُسمَّى ب_(حُجَّةِ التَّصميم Argument from design).(1) وفقاً لهذه الحُجَّة التّصميمُ الواضح في الطَّبيعة يدلُّ على وجودِ مُصمِّمٍ للكون. كثيراً ما أكَدْتُ على أنّها في الواقع حُجَّةٌ من النّظامِ إلى التصميم، لأنَّ هذه الحُجَّةَ مستمدة من النّظامِ المُشاهَد في هذا العالم، ومن خلالِ هذا النّظام نستدِلُّ على التصميم، ومن ثَمَّ على المصمم. على الرغم من أَنَّني كنتُ منتقداً بحدة الاحتجاج بالتصميم، إِلَّا أَنَّني منذ ذلك الوقت بدأتُ أقتنع بأنَّه إذا ما تم صياغة الحُجَّة بطريقة صحيحة فإنّها ستنهضُ كحُجَّةٍ مقنعة لإثباتِ وجودِ إله. التطورات التي حدثت في مجالين بالخصوص جعلتني أنتهي إلى هذه النتيجة. المجال الأول هو السُّؤال عن أصل قوانين الطبيعة والاستبصارات ذات الصلة للعلماء المحدثين. المجالُ الثَّاني هو السُّؤال عن أصل الحياة والتَّكاثر.

ماذا أعني بقوانين الطَّبيعة؟ باختصار، أعني بالقانون: الاطراد والتَّماثل في الطَّبيعة. بعضُ أمثلة الكُتُب الدراسية قد تُوضّح ما أقصد:

(قانونٌ بويل ينصُّ على أنَّ حَجْمَ عيّنة غازية عند درجة حرارة ثابتة، يتناسب عكسياً مع الضّغط الواقع عليها).

(وفقاً لقانون نيوتن الأول للحركة : يظل الجسم في حالته الثابتة (إمَّا السُّكونُ التّام أو التحرك في خط مستقيم بسرعة ثابتة) ما لم تُؤثِّر

ص: 139


1- ويُقال لها في بعض الأحيان (دليل النَّظْم) أو (دليل النظام). (المراجع).

عليه قوَّةٌ خارجيةً تُغيَّرُ من هذه الحالة).

(طبقاً لقانون الحفاظ على الطاقة : في أي نظام معزول، الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم، ولكن يمكن تحويلها من صورة لأُخرى).

النُّقطة المهمةُ ليس أنَّ هناك اطرادات في الطَّبيعة، ولكن المهم أنَّ هذه الاطرادات جميعها دقيقة من الناحية الرياضية، وه-ي ك-وني--ة وشاملة و (مترابطةٌ فيما بينها) . آينشتين تحدَّثَ عن هذه القوانين بوصفها (السَّبَبُ المُجسَّد). السُّؤالُ الذي ينبغي أن نطرَحَهُ هو كيف جاءت هذه القوانين كحِزمة واحدة؟ هذا هو بالتأكيد السُّؤالُ الذي طرحه العلماء من نيوتن إلى آينشتين إلى هيزنبرغ وأجابوا عنه. وجوابهم كان هو عَقلُ الإله.

الآن، هذا النَّوعُ من التفكير لم يقتصر على العلماء القدماء، أمثال إسحاق نيوتن (Newton) وجيمس ماكسويل (James Maxwell)، بل على العكس من ذلك، لقد امتدَّ ليَشْمَلَ العديد من العلماء البارزين في العصر الحديث الذين اعتبروا أنَّ قوانينَ الطَّبيعة تُعبّر عن أفكارٍ لعَقْلِ الإله. ختم ستيفن هوكنج (Stephen Hawking) کتابه (تاريخ موجز للزَّمان A Brief History of Time)(1) - وهو من أكثر الكُتُب مبيعاً - بالفقرة التالية:

(لو اكتشفنا نظريةً كاملة، فإنّه ينبغي بمرور الوقت أن تكون قابلة لأنْ يفهَمَها كلُّ فَرْدِ بالمعنى الواسع، وليس فق-ط مج-رد عل-ماء معدودين. وعندها فإنَّنا كُلُّنا، فلاسفة وعُلماء وحتّى أُناساً عاديين، سنتمكَّن من

ص: 140


1- للكتاب ترجمة عربية، ترجمه د. مصطفى إبراهيم فهمي / دار الثقافة الجديدة/ ط 1/ 1990م/ القاهرة. (المراجع).

المساهمةِ في مناقشةِ السُّؤال عن السَّبَبِ في وجودنا نحن والكون؟ ولو وجَدْنا الإجابة عن ذلك، فسيكون ذلك الانتصار النهائي للعقل البشري، لأنَّنا وقتها سنتعرَّفُ على عَقْل الإله)

وفي الصَّفْحةِ التي تَسْبِقُ الفقرة السابقة تسائل هوكنج (حتّى لو لم يكن هناك إلَّا نظريّة مُوحّدة واحدة ممكنة، فإنّها تظلُّ مجرَّد مجموعةً من القوانين والمعادلات . ما الذي ينفُتُ النيران داخل المعادلات ويجعل لها كَوْناً تُوصِّفُهُ؟).(1)

كان لدى هو كنج المزيد ليقولَهُ في المقابلة التي تلتها (2): (الانطباعُ الطَّاغي هو أنَّ هناك نظاماً. وكلما ازداد اكتشافنا لهذا الكون، ازْدَدْنا قناعة بأنَّ الكون محكوم بقوانين عقلانية. لكن يظلُّ السُّؤال قائماً: لماذا وُجِدَ العالَم؟ وإنْ أحبَيْتَ، فبمقدورك أن تدافع عن الله ليكون هو الجواب عن هذا السُّؤال) .(3)

ص: 141


1- Stephen Hawking, A Brief History of Time (New York: Bantam, 1988), 175, 174
2- Gregory Benford, "Leaping the Abyss: Stephen Hawking on Black Holes, Unified (Y) Field Theory and Marilyn Monroe," Reason 2, (April 202 ): 29.
3- كان هذا هو موقف الفيزيائي هو كنج السابق، لكن بعدما نشر كتابه الأخير (التصميم The Grand Design) الذي حاول فيه تفسير نشأة الكون دون الحاجة لافتراض وجود إله، تغيّر موقفه بنحو واضح ترجم كتابه الجديد أيمن أحمد عياد / دار التنوير / 2013م بيروت. (المراجع).

من الذي كتَبَ كل هذه الكُتُب ؟

(A BRIEF HISTORY OF TIME)

قبلَ زمن طويل من هو كنج استخدَمَ آينشتين اللُّغةَ ذاتها، حيث كتَبَ: (أُريدُ أنْ أعرف كيف خلَقَ الإله العالمَ... أُريدُ أنْ أعرِفَ أفكارَهُ، أما الباقي فمجرد تفاصيل ) .(1)في كتابي (الإله والفلسفة)، كتبتُ بأَنَّنا لا نستفيد كثيراً من هذه الفقرات، لأنَّ آينشتين قال: إنَّه يُؤْمِنُ باله باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza)(2). ولأنَّ كلمة (الإله) و(الطبيعة) مترادفتان عند سبينوزا، لذا يمكن القول بلا تردد بأن آينشتين في نظر اليهود، والمسيحيين، والمسلمين كان مُلْحِداً، بل كان الأب الروحي لجميع المُلحدِين) .(3)

ولكن صدر حديثاً كتابٌ بعنوان (آينشتين والدِّين Einstein and Religion) لماكس جامر (Max Jammer) - وهو أحد أصدقاء آينشتين -

ص: 142


1- Albert Einstein, quoted in Timothy Ferris, Coming of Age in the Milky Way (New York: Morrow, 1988), 177
2- Antony Flew, God and Philosophy (New York: Dell, 1977), 15
3- (فلو) يريد أن يقول : إنَّه في كتابه القديم (الإله والفلسفة)، عندما كان مُلحداً، كان ينظر إلى موقف اليهود والمسحيين والمسلمين تجاه آينشتين، على أنهم يرونه وفقاً مُلْحداً. وفي الفقرات التالية سيُبيّن (فلو) أَنَّه أعاد النظر في ذلك. (المراجع).

يُقدِّم صورةً مختلفة تماماً عن تأثير سبينوزا على قناعات آينشتين الشَّخصية. بيَّنَ جامِر أنَّ آينشتين كان يعرفُ القليلَ عن سبينوزا، وأنَّه لم يقرأ لسبينوزا سوى كتاب الأخلاق (Ethics) ، وقد رفض طلبات متكرّرة للكتابة عن فلسفة سبينوزا. وفي ردّهِ على أحد الطلبات، قال آينشتين: (إنَّه لا يملك معرفةً متخصصةً ليكتب مقالةً عِلْميَّةً عن سبينوزا). رغم أن آينشتين يشترك مع سبينوزا في الإيمان بالحتمية (Determinisim)، إلا أنَّ جامر يرى أنَّه من المُصطنَع وغير المسوَّغ) الافتراض بأنَّ أفكار سبينوزا أثّرَت على فِكْرِ آينشتين(1). لحَظَ جامر أيضاً أنَّ (آينشتين شعَرَ بأَنَّه قريبٌ من سبينوزا ، لأنهما يشتركان في حاجتيهما إلى الانعزال، بالإضافة إلى قدَرِهِما بأن يتم قراءتهما ضمن التراث اليهودي، لكن في النهايةِ يَبْقيا غرباء عن التُّراثِ الدِّيني) .(2)

ورغمَ أنَّ آينشتين أشار إلى إيمان سبينوزا بوحدة الوجود، إلَّا أنّ-ه في الحقيقةِ عبّر عن إنكاره أن يكون مُلْحِداً أو مؤمناً بوحدة الوجود، فقد كتَبَ:

(أنا لَسْتُ مُلْحِداً، ولا يمكن أن أعتبر نفسي مؤمناً بوحدة الوجود. نحن في موقفِ طِفْلِ صغير دخَلَ إلى مكتبة كبيرة مملوءة بكُتُبِ بلغات مختلفة. والطِّفلُ يعرِفُ أنّه يجب أن يكون هناك شخص ما كتب هذه الكتب. ولكنَّه لا يعرف كيف؟ هو لا يفهم اللغة التي كُتِبَت بها هذه الكتب. الطفل يظُنُّ بنحو خافت بأنَّ هذه الكتب مرتبة بطريقةٍ غامضة، لكنَّه لا يعرف ما هي هذه الطريقة. وهذا، كما يبدو لي، هو اتّجاه

ص: 143


1- Max Jammer, Einstein and Religion (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1999), 44
2- Jammer, Einstein and Religion, 45

أذكى شَخْصٍ تجاه الإله. نحن نرى العالم مُنظَّاً بطريقة رائعة، ويتبع قوانين معيَّنة، لكننا نفهم بنحو خافت فقط هذه القوانين . عقولنا المحدودة تدرِكُ القوَّةَ الغامضة التي تُحرّكُ هذه الكويكبات) .(1)

في كتابه (وهمُ الإله The Good Delusion) شاطرَني ريتشارد دوكينز في موقفي القديم بأنَّ آينشتين كان مُلْحِداً. وبفعله ذلك، هو يتجاهل كلام آينشتين المشار إليه أعلاه بأنَّه لم يكن مُلْحِداً ولا مؤمناً بوحدة الوجود. وهذا مُحيّر لأنَّ دوكينز استشهد في إحدى المرات بجامر، لكنه ترَكَ عدداً كبيراً من عباراتِ جامر وآينشتين الحاسمة في هذا الشأن. جامر لاحظ، على سبيل المثال، أنَّ (آينشتين احتج بنحو متواصل ضدَّ اعتبارِهِ مُلْحِداً. وقد أعلَنَ في محادثة مع الأمير هيبرتس أمير لونشتين (Hubertus of Lowenstein) قائلاً: (ما يجعلني أشعرُ بالغضَبِ فعلاً هو أنَّ الناس الذين يقولون بأن الإله لا وجود له يستشهدون بكلامي لتأييد آرائِهِم) . نفى آينشتين اعتناقه الإلحاد لأنَّه لم يجد أنَّ إنكاره للإلهِ الشَّخصي (Personal God) يعني أبداً إنكاراً لوجود إله).(2)

آينشتين، بالتأكيد، لم يُؤمن بالإلهِ الشَّخصي . لكنَّه قال:

(إِنَّه سؤالٌ مختلف عما إذا كان الاعتقاد بالإله الشخصي لا بدَّ أنْ يكونَ محل نقاش فرويد دعم هذا الرأي في آخِرِ مؤلَّفاته. بالنسبة لي ل--ن أنخرط أبداً في مهمَّةٍ كهذه. لأنَّ مثل هذا الاعتقاد يبدو لي أفضل من الافتقار لأيَّةِ نظرة متعالية للحياة، وأنا أتساءل بدهشة عما إذا كان بمقدور أحد أن ينجَحَ في تقديم وسائل عظيمة للبشرية تلبِّي حاجاتهم

ص: 144


1- Jammer, Einstein and Religion, 45-46
2- Jammer, Einstein and Religion, 48

الميتافيزيقية) .(1)

وكمُلخَّص ينتهي جامر إلى أنَّ آينشتين - كما هو حال موسى بن میمون (maimonides)(2)وسبينوزا - يرفض بشكل قاطع أي نوع من التَّجسيم في الفكر الدِّيني .(3)ولكن على خلافِ سبينوزا، الذي رأَى أَنَّ النَّتيجةَ المنطقية لإنكار الإله الشَّخصي يجعل الإله في هوية مشتركة مع الطَّبيعة ، آينشتين أصر على أنَّ اللهَ يكشِفُ عن ذاته (في قوانين الكون كرُوحٍ أعظم من تلك التي للإنسان، وعلى المرء في مواجهة ذلك - بما يملك من قوى هزيلة - أنْ يشْعُرَ بالتَّواضع). آينشتين اتَّفَقَ مع سبينوزا في أنَّ من يعرف الطَّبيعة يعرفُ الإله، لكن ليس لأنَّ الطبيعة هي الإله، بل لأنَّ مواصلة العِلْم في دراسةِ الطَّبيعة تقود إلى الدِّين.(4)

ص: 145


1- Jammer, Einstein and Religion, 1500.. 218 باستشهاده بکلمات آینشتین یرید (فلو) أن يقول: إنَّ آينشتين، وإن لم يؤمن بالإله الشخصي الذي يؤمن به التقليد اليهودي / المسيحي (أي ذات لها صفات)، لكنه لم يرتض الإلحاد، بل كان يرى أنَّ الإيمان بالإله الشخصي الذي يمنح المرء نظرة متعالية للحياة أفضل من الإلحاد. لذا آمن آينشتين بإله مجرَّدٍ غير شخصي، يشبه الإله الذي آمن به سبينوزا. (المراجع).
2- فيلسوف يهودي، ولد في قرطبة/ إسبانيا، وتوفي سنة (1204م) في مصر، تأثر بالمسلمين، وكان له أثر بالغ في تطوير الفهم الديني اليهودي، من أهم مؤلفاته (دلالة الحائرين). (المراجع).
3- بمعنى أنه يرفض أي نحو من أنحاء تشبيه الإله بالبشر أو أي من المخلوقات. وهذا ما يؤكِّد عليه القرآن في قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» (الشورى: 11)، وقوله: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» (الإخلاص : 4) . (المراجع).
4- Jammer, Einstein and Religion,148

عقلُ اينشتين المتفوّق

(EINSTEIN'S "SUPERIOR MIND")

آينشتين اعتقَدَ بوضوح بمَصْدَرٍ مُتعال لعقلانية العالم، والذي يُسمِّيهِ (العقْلُ الفائق) أو (الرُّوحُ الفائقة)، (القوى المنطقية الفائقة) و(القوَّةُ الغامضة التي تُحرِّكُ الكويكبات).

وهذا كان واضحاً في عددٍ من عباراته:

(لم أجد على الإطلاق تعبيراً أفضل من (متديِّن religious) لهذه الثّقة بالطَّبيعة العقلانية للواقع، وقُدرتِها الخاصة على الوصول إلى العقل البشري. في حين أنَّ هذه الثّقة يفتقر إليها العِلْمُ، حيثُ ينحط إلى إجراء لا روح فيه. إن أرادَ الكهنة جعل هذا هو رأس مالهم فهذا شأنهم. فليس هناك علاجٌ لذلك(1). بالتأكيد إنَّها هي القناعة، القريبة من الشُّعور الديني، لعقلانية وذكاء هذا العالم والتي تكمُن خلفَ النَّشاط العِلْمي... هذا الاعتقاد الرَّاسِخ، المرتبط بشعورٍ عميق، بأنَّ هناك عقلاً متفوقاً يكشف عن ذاتِهِ في عالم الخبرة، هو ما يُمثل تصوري عن الإله.

كلُّ الذين أسهموا بنصيب فيما تحقق من خطواتٍ ناجحةٍ في هذا

ص: 146


1- Albert Einstein, Lettres a Maurice Solovine reproduit sfacsimile et traduits en francais (Paris: Gauthier-Vilars 1956) 3 -102 عبارة آينشتين هنا غير واضحة المعنى تماماً، لكن يبدو أنّه يقصد أن رجال الدين قد يسيئوا الاستفادة من الثقة التي تثيرها عقلانية الطبيعة في العقل البشري. (المراجع).

المجال (العِلمي)، قد أحسُّوا في قرارة أنفُسِهم إجلالاً وتكبيراً عميقين تجاه عظمة العقل المتأصل في الوجود، والذي لا يقوى الإنسانُ على سَبْرِ أغواره(1).

تديُّني يتضمن تقديراً خاضعاً للرُّوح المتفوّقة اللانهائية التي تُظهِرُ نفسَها في أدق التفاصيل التي نستطيع إدراكها بعقول واهية وضعيفة. هذه القناعةُ العاطفية العميقة بوجودِ القوَّة المنطقية الفائقة التي تتجلى في الكونِ الذي لا يمكن الإحاطة به، هو الذي شكّل فكرتي عن الإله).(2)

ص: 147


1- (93 Jammer, Einstein and Religion) ألبرت آينشتين أفكار وآراء ترجمة د. رمسيس شحاته : 251 / 1986م / الهيئة المصرية العامة للكتاب.
2- Albert Einstein, The Quotable Einstein, ed. Alice Calaprice (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2005) 195- 6 وهناك عبارات لآينشتين تُوضّح أكثر وجهة نظره، حيث يقول: (إِنَّ أجمل ما نتمتّع به هو الناحية الغامضة من الحياة، إنَّه الإحساس الصافي العميق الذي يفيض من نبع الفنّ والعِلم... إنَّ من تبلَّد شعوره وأصبح لا يحس بالدهشة أو العَجَب، هو ميت حقاً انطفاً نور عينيه... إنَّ الإحساس بالغموض ممتزجاً بالخوفِ خَلَقَ الدِّيانةً أيضاً، فالعِلْمُ بأنَّ هناك حُجباً لا يمكننا تخطّيها، والوقوف على مظاهر الانسجام العميق والجمال البارع الخلاب الذي لا تستوعبها عقولنا، إلَّا في أبسط صورة من صورهما، هذه المعرفة وهذا الشُّعور هما جوهر التقوى والزهد والعبادة الحقيقيان. وبهذا المعنى، وعلى هذا النحو وحده، أعد نفسي واحداً م--ن أع-م-ق المتدينين... يكفيني أنْ أستمتع بهذا الغموض الذي يكتنف أبدية الحياة، وأن أحسّ وأعي البناء الذي يثير العَجَب، لكلِّ ما هو موجود، وأُجاهد قدر طاقتي حتَّى أُلِ-م بقبس مهما كان ضئيلاً من النور أو الفكر الذي يتجلّى في الطَّبيعة جمعاء) . ألبرت آينشتين، أفكار وآراء، ترجمة د. رمسيس شحاته: 220 / 1986م / الهيئة المصرية العامة للكتاب. (المراجع).

قفزات كوانتُميَّة (جبارة) نحو الإله

(QUANTUM LEAPS TOWARD GOD)

آينشتين، وهو مكتشِفُ النظرية النسبية، ليس العالم العظيم الوحيد الذي رأى رَبطاً بين قوانين الطَّبيعة وعقل الإله. رُوّاد فيزياء الكوانتم، وهم عظماء آخرون من المكتشفين في الزمن الحديث، أمثال ماكس بلانك (Max Planck) ، ورنر هیز بیرغ (Werner Heisenberg) ارون شروندجر (Erwin Schrödinger)، وبول ديراك (Dira Paul)(1)، كلُّ هؤلاء صدرت عنهم عبارات متشابهة (بخصوص الربط بين قوانين الطَّبيعة وعقل الإله)، سأورد بعضاً مما قالوه بعد قليل.

ورنر هيزنبيرغ (Werner Heisenberg)، وهو الذي اشتهر بسبب مبدأ عدم اليقين وميكانيكا المصفوفات (Uncertainity Principle and Matrix Mechanics)، قال: (خلال مسيرة حياتي، اضطرِرْتُ بشكل متكرّر إلى التأمل في العلاقة بين هذين الحقلين من الحقولِ الفكرية (الحقل العِلْمي والحقل الديِّني)، لأني لم أكن قادراً على الإطلاق على الشكّ بذلك الواقع الذي يُشيرون إليه).(2)

ص: 148


1- The For the most part, these quotations are taken from Roy Abraham Varghese, Wonder of the World (Fountain Hills, AZ: Tyr, 2003).
2- Werner Heisenberg, Across the Frontiers, trans. Peter Heath (San Francisco: Harper Row, 1974)213

وفي موضع آخر يقول : (لقد سألني وولفجانج (بايولي) (Wolfgang Pauli)(1) على نحو مفاجئ هل تؤمن بالإله الشخصي؟... فقُلْتُ له : هل لي أُعيد صياغة سؤالك ؟ شخصياً أفضّل صياغة السُّؤال على النحو التالي: هل يُمكِنُكَ، أو يُمكنُ لأي شخص آخر، أن يصل إلى النظام المركزي للأشياء والأحداث التي وجودها يبدو خارج إطار الشَّك، كوصولك على نحو مباشر إلى روح (عقل soul) إنسان آخر ؟ (2)أنا أستخدم لفظة (روح soul) بشكل متعمد حتَّى لاَ يُساء فهمي. إذا وضعت سُؤالَكَ على هذا النَّحو، فإِنَّ جوابي سيكونُ .نعم... إذا كانت القوَّةُ المغناطيسية هي التي وجّهت (وأرشدت) هذه البوصلة، فمن سيكون مصدر ذلك سوى النظام المركزي؟ إذا كان مُقرَّراً لنا أن ننقرض، فإنَّ أُموراً فظيعة يمكن أن تحدث للجنس البشري، أكثر من مخيَّمات الغاز أو القنبلة الذرّية) .(3)

رائدٌ آخر من رواد الكوانتم إرون شرودنجر، الذي اكتشف الموجات الميكانيكية، يقول:

(الصُّورةُ العِلْمية للعالم من حولي ناقصة جداً. إنّها تعطيني الكثير

ص: 149


1- (1900 - 1958م) فيزيائي نمساوي، من أبرز روّاد فيزياء الكوانتم، عُرِفَ واشتهر بمبدأ بايولي.
2- يشير أنتوني فلو هنا إلى المشكلة الفلسفية المعروفة ب_(مشكلة العقول الأُخرى)، فكما أنَّنا نُدرِكَ أنَّ للآخرينَ عقولاً على نحو مباشر، دون أن نحس بتلك العقول، وإنما نتعرف على وجودها من خلال رصد مؤشّرات كثيرة، فكذلك الأمر بالنسبة إلى وجود الإله، ندركه على نحو مباشر كما ندرُكُ عقول الآخرين. (المراجع).
3- Werner Heisenberg, Physics and Beyond (San Francisco: Harper Row, 1971), excerpted in Timothy Ferris, ed., The World Treasury of Physics, Astronomy and Mathematics (New York: Little, Brown, 1991), 826

من المعلومات الواقعية، وتضَعُ كلَّ خبراتنا في نظام رائع الاتساق، ولكن الصَّمت الرهيب الذي يلامس قلوبنا، هو ما يهم حقاً. إنَّها لا تستطيعُ أَنْ تقول كلمةً واحدةً عن الإحساس باللون الأحمر والأزرق، عن المرّ والحلو، عن مشاعر البهجة والحُزن. إنّها لا تعرف شيئاً عن الجمال والقُبح، عن الخير والشر، عن الإله والخلود. تتظاهر العلوم بقدرتها على الإجابة عن الأسئلة في هذه الأبعاد، ولكن الإجابات غالباً ما تكونُ سخيفةً جداً بحيث إنّها تجعلنا نميل إلى عدم أخذها على محمل الجدِّ.

العِلْمُ هو أيضاً متحفّظ عندما يكون السؤال عن الوحدة العظيمة، التي ننتمي إلى جُزءٍ منها. والاسم المشهور في زماننا لهذه الوحدة هو (الإله). في العادة، العِلْمُ يوصف بأنَّه إلحادي. بعدما قلناه، هذا لن يكون مفاجئاً. إذا كانت صورة العالم لا تحتوى حتَّى على الجمال والبهجة والحزن، إذا اتفقنا على أن نقتطِعَ منها الشخصية (personality)، فكيف يمكن لهذه الصورة أن تحتوي على أعظم فكرة عندما تعرضُ نفسَها لعقل الإنسان؟).(1)(2)

ماكس بلانك، الذي عَرَضَ لأوَّلِ مرَّة فرضية الكوانتُم ، يعتقدُ

ص: 150


1- Erwin Schrödinger, My View of the World (Cambridge: Cambridge University Press, 1964),93
2- يقصد (شرودنجر) أنَّ الصورة التي تقدمها العلوم الطبيعية عن العالم قاصرة جداً، ولا تكتمل إلَّا بالدِّين، لأنَّها لا تنطوي على الشُّعور الغامض بوجود إله وراء هذا الكون، بل لا تتحدث أب-داً عن عالم الانفعالات الذاتية (البهجة والحزن)، وعالم الأخلاق الخير والشر، وعالم الجمال (الجمال والقبح)... هذه العوالم بأسرها خارج إطار العلم. فإن كان الأمر كذلك، فكيف بمقدور العِلم أن يُجيب عما هو أكبر من ذلك؛ عما إذا كان لهذا العالم خالقاً؟ (المراجع).

بطريقةٍ لا لَبْسَ فيها بأنَّ العِلْمَ يكمل الدِّين، وهو يؤكّد على أنَّه (لن يكون هناك أي تعارض بين العِلْمِ والدِّين، لأنَّ كلَّ واحدٍ منها مُكمّل للآخر). ويقول بأنَّ الدِّينَ والعلوم الطبيعية يُقاتلان في المعركة ذاتها، في -رب متواصلة دون هوادة ضد مذهب الشَّلَّ (skepticism)(1) وضدَّ حر الدوغمائية (dogmatism)(2)وضدَّ الكُفْرِ والخرافات... (وفي النهاية) يقاتلانِ من أجل الإله) .(3)

بول ديراك، الذي أكمل عمل هيزنبيرغ وشر ودنجر بصياغة ثالثة النظرية الكوانتم ، لاحظ أنَّ الإل-ه ه-و رياضي بمرتبة عالية جداً، وهو يستخدمُ الرِّياضيات المتقدّمة في بناء الكون .(4)

وقبلَ أجيال من هؤلاء العلماء، أكد تشارلز دارون (Darwin Charles) على الفكرةِ ذاتِها بقوله:

((العقلُ يقولُ لي): إنَّه من الصعب بدرجة كبيرة، بل من المستحيل، أنْ نُدرِكَ هذا الكون الهائل والرائع، بما في ذلك الإنسان مع

ص: 151


1- الشُّكوكية أو مذهب الشَّكِّ هو اتجاه فلسفي يقول بأنَّ المعرفة الحقيقية في حقل معين هي معرفة غير محققة أو مؤكّدة.
2- الدُّوغمائية أو الجزمية، هى التعصب لفكرة معينة من قبل مجموعة دون قبول النقاش فيها ، أو الإتيان بأي دليل ينقضها لمناقشته، أو كما هي لدى (الإغريق) الجمود الفكري. وهى التشدد في (الاعتقاد) الديني أو (المبدأ) الأيديولوجي، أو موضوع غير مفتوح للنقاش أو (للشَّكِّ). يعود أصل الكلمة إلى اليونانية (Soyua) والتي تعنى (الرأي) أو (المعتقد الأوحد).
3- Max Planck, Where Is Science Going? trans. James Murphy (New York: Norton, 1977), 168
4- Paul A. M. Dirac, "The Evolution of the Physicist's Picture of Nature," Scientific American 208, no. 5 (May 1963 : 53 )

قابليَّتِهِ على النَّظَرِ إلى الماضي البعيد، والذهاب بذهن-ه إلى المستقبل البعيد، ليقول بعد ذلك بأنَّ هذا الكون قد حدَثَ بصُدفة عمياء أو ضرورة. عندما أتأمل في ذلك، أجد نفسي مُضطراً للتطلع إلى السبب الأول الذي يمتلك عقلاً ذكياً يُشابه بدرجة ما الإنسان؛ عندها أستحقُ أن أُوصَفَ بالموحِّد ) .(1)

هذا القطارُ من الأفكار استمرَّ في المسير في كتاباتِ مجموعة من كبار الباحثين العِلْميّين في وقتنا الحاضر. وهؤلاء يتراوحون ما بين عُلماء من أمثال بول ديفيز (Paul Davies) جون برو (John Barrow)، جون بو لكنغهور (John Polking horne)، فریمان دایسون (Freeman Dyson)، فرانسیس کولینز (Francis Collins)، أوين جنجريتش (Owen Gingerich) وروجر بنروز (Roger Penrose) ، إلى فلاسفة العلوم من أمثال ريتشارد سوينبيرن وجون ليسلي (John Leslie).

ديفيز وبارو على وجه الخصوص قاما بتطوير أفكار آينشتين هيزنبيرغ، وغيرهم من العُلماء بخصوص العلاقة بين عقلانية العالم وعقل الإله. كلاهما حصل على جائزة تمبلتون على هذا الاكتشاف. وقد صححت أعماهُم الكثير من التصوراتِ الخاطئة الشائعة، كما سلطت الضّوءَ على الموضوعات التي نُناقشها هنا.

ص: 152


1- (Charles Darwin, The Autobiography of Charles Darwin 1809 - 1882, ed. Nora Barlow (London: Collins 1958

قوانينُ مَنْ؟

(?WHOSE LAWS)

في كلمتِهِ في حفل جائزة تمبلتون، أشار بول ديفيز إلى نقطة، وهي (أنَّ العِلْمَ الطَّبيعي يمكن أن يتقدَّمَ فقط إذا امتلكَ العُلماء نظرةً كونية لاهوتيةً بنحوٍ أساسي). لا أحد يسأل من أين جاءت قوانين الفيزياء، ولكن (حتّى أكثر العُلماء الحاداً يُقِرُّ كفعل إيماني بوجودِ نظام في الطبيعة قائم على القوانين، وهذا النظام في جانب منه على الأقل قابل للإدراكِ من قِبَلِنا). وقد رفض ديفيز اثنتين من نقاط سوء الفهم الشائعة. يقول ديفيز بأنَّ (الفكرة القائلة بأن نظرية كلّ شيء ستظهر أنَّ هذا العالَم هو العالم المتّسقُ منطقياً الوحيد هي (فكرة خاطئة برهانيا)، لأنَّه لا يوجد أيُّ دليل منطقي على أنَّ العالم ضروري من الناحية المنطقية، وفي الحقيقة من الممكن تخيل وجود عالم بديل متسق منطقياً. ثانياً يقولُ: (من الهراء بكُل ما للكلمة من معنى) افتراض أن قوانين الفيزياء هي قوانينا نحن وليست قوانين الطبيعة. سوف لن يُؤمن عُلماء الفيزياء بأن قانون نيوتن للجاذبية هو خَلْقٌ ثقافي. فديفيز يُصِرُّ على أنَّ قوانينَ الطَّبيعة (موجودة واقعياً)، وعمَلُ العُلماء هو اكتشافها وليس اختراعَها).(1)

ص: 153


1- يبدو لي أنَّ القوم وقعوا بين إفراط وتفريط، بين قائل بأن قوانين الطبيعة هي مجرد خَلْق ذهني، خرائط ونماذج عقلية، لا وجود لها في عالم الواقع، وقائل بأن قوانين الطبيعة هي مستخلصةٌ من الواقع، وليس خَلْقاً ذهنياً وخرائط عقلية والصحيح - كما يبدو - أنَّ قوانينَ الطَّبيعة هي اعتبارات ذهنيةٌ منتزعةٌ من مناشئ ،واقعية، فلا هي اعتبارات ذهنيةٌ صرفة، ولا هي حاكية عن الواقع بنحو تفصيلي، بل الذهنُ مُصمَّم على أن ينتزع من عالم الواقع مفاهيم وعلاقات يقيمُ على أساسها معادلات يفهم من خلالها الواقع بنحو مُجمل، ثمَّ تتكامل معرفتُه من الإجمال إلى التفصيل بالتدريج. (المراجع).

يلِفتُ ديفيز الانتباهَ إلى حقيقة أنَّ قوانينَ الطَّبيعة التي تحكُمُ الظَّواهِرَ لم يتم استخلاصها من خلال الملاحظة المباشرة، وإنّما تمّ استخلاصها من التّجارُبِ والحساباتِ الرّياضية. القوانينُ كُتِبَت بشَفْرة الكون بحيث إنَّ على العلماءِ التَّنقيب لفكِّ (رسالة الطّبيعة رسالة الإله - قُلْ ما شِئت - لكن ليست رسالتنا نحن).

السُّؤالُ الملح - كما يقول ديفيز - ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

- من أين جاءت قوانينُ الفيزياء؟

- لماذا لدينا هذه القوانين وليس مجموعة أُخرى من القوانين؟

- كيف لنا أن نمتلك مجموعة قوانين تُحوّل غازات ساكنة إلى حياة ووعي وذكاء؟

هذه القوانين (تبدو بديعة ومحكمة - كما يقولُ بعضُ المعلقين - ومنها نشأت الحياة والوعي). ويخلُصُ إلى أنَّ هذه (الطَّبيعة المبدعة للوجودِ الفيزيائي هي بالنسبة لي أروع بكثير من أن يتم التعاطي معها على أنها مجرد (معطى)، وهي تشير إلى معنى أعمق للوجود). وكلمات من قبيل الغاية) و (التصميم) - كما يقول ديفيز - تلتقط بنحو غير كامل ما عليه الكون. لكن لا بدَّ أنّها تحكي عن شيء ما، ولا أشدُّ في ذلك مطلقاً).(1)

ص: 154


1- Paul Davies, Templeton Prize Address, May 1990, http://aca. mq.edu.au/ PaulDavies prize_address.htm. See also Davies's "Where Do the Laws of Physics Come From?" (2006), http://www. ctnsstars.org/conferences/papers/Wheredothelawsofphysicscomefrom.doc.

في كلمتِهِ في حَفْلِ تمبلتون، لحظ جون بارو بأنَّ التَّعقيد غير المتناهي والبنية الرائعة للكون محكومة بقوانين قليلة متماثلة وواضحة. في الحقيقة، (هناك معادلات رياضية، مصبوبة بحبر على ورق، تُخبرنا كيف يسْلُكُ هذا الكون بأسره). على غرار ديفيز، رفض بارو فكرة أنَّ نظام الكون تمَّ فرضُهُ من عقولنا. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ (الانتخابَ الطَّبيعي لا يتطلَّب فهم الجسيمات الأولية (quarks) والثقوب السوداء التي تعمل من أجل بقائنا على قيد الحياة وتكاثُرِنا).

يُلاحظُ بارو أنَّ هناك في تاريخ العلوم الطبيعية نظريات جديدة تُوسّعُ أو تُعيد صياغة نظريات قديمة. على الرغم من أن نظرية نيوتن للميكانيكا والجاذبية قد تم تجاوزها بنظرية آينشتين وسيعقبها نظرية أُخرى في المستقبل، لكن بعد ألف سنة من الآن سيظلُّ المهندسون يعتمدون على نظريات نيوتن. وبالمثل - كما يقول بارو - فإنَّ التصورات الدينية عن الكون تستخدم التشبيهات والأمثال لمساعدة الأذهان في استيعاب الأمور الحاسمة . ( هي ليست الحقيقة الكاملة، ولكن هذا لا يوقِفُها عن أن تكونَ جُزْءاً من الحقيقة).(1)

ص: 155


1- /John Barrow, Templeton Prize Address, March 15, 2006,http://www.templetonprize.org barrow_statement.html.

صانع القوانين الإلهي

(THE DIVINE LAWMAKER)

قِلَةٌ من الفلاسفة كتبوا أيضاً عن المصدر الإلهي لقوانين الطبيعة. في كتابه (صانعُ القانون الإلهي: محاضرات في الاستقراء، قوانين الطبيعة، وجود الإله)، ادَّعى فيلسوف أكسفورد جون فوستر (John Foster) وجود اطرادات (regularities) في الطبيعة(1)، مهما كان وَصْفُكَ لها، يظلُّ أفضل تفسير لها هو العقل الإلهي إذا كُنْتَ تقبل حقيقة أنَّ هناك قوانين، فلا بدَّ أنْ يكون هناك من يفرض هذا الاطّراد في الكون. من هو الفاعل (أو الفاعلين) الذي قام بذلك؟ يرى فوستر أنَّ الخيار التوحيدي هو الخيار الوحيد الجدي كمصدر لهذا الاطّراد، ولذلك فإنَّ هناك ما يُسوّغ الاستنتاج بنحو عقلاني بأنَّ الإله - إله الوحدانية - هو الذي خلَقَ القوانين من خلالِ فرضِهِ الاطّرادات على الكون كاطّرادات). حتّى لو كُنْتَ تُنكِر وجودَ ،قوانين، فإنَّ (هناك ما يُؤيد تفسير الاطّرادات من خلالِ اللّجوء إلى فِعْل الإله) .(2)

ص: 156


1- المقصود ب_(الاطرادات) هي الحوادث التي تقع بنحو متكرر و منتظم، مثل ش-روق الشمس كل يوم ثمّ غروبها، أو سقوط الأجسام على الأرض كلما رميتها بفعل الجاذبية (المراجع).
2- John Foster, The Divine Lawmaker: Lectures on Induction, Laws of Nature and the Existence of God (Oxford: Clarendon, 2004), 1600

في ردّهِ على نَقْدِ دوكينز الحُجَّتِهِ في التصميم، قدَّمَ سوينبيرن رُؤيةً مشابهة:

(ما هو قانونُ الطَّبيعة؟ (هذه مسألة لم يتعرض لها أياً من نُقادي). أنْ تقول بأنَّ هناك قانوناً طبيعياً بأنَّ كلَّ الأجسام تسلك بنحو معيَّن (على سبيل المثال: تنجذب إلى بعضها البعض وفقاً لمعادلة معيَّنة)، هو بالنسبة لي كأنَّكَ تقول : إنَّ كلَّ جِسْمِ في الطبيعة الضرورية يتصرف بهذه الطَّريقة (على سبيل المثال: أنْ يُجذِبَ كلَّ جِسْمِ بتلك الطَّريقة). ولعله أكثر سهولةً أن تفترضَ أنَّ هذا التناغم نشأ من فعل كيان واحد تسبّب في جعل الأجسام تسلك بهذه الطريقة، بدلاً من افتراض أنَّ كلَّ الأجسام تسلُّكُ بطريقةٍ معيَّنة بحُكْمِ حقيقةٍ عمياء نهائية) .(1)

الحُجَّةُ المركزية لسوينبيرن هو أنَّ الإله الشخصي مع صفاتِهِ التقليدية يُقدِّم لنا أفضل تفسيرٍ لعملٍ قوانين الطَّبيعة.

ریتشارد دوكينز رفض هذه الحجّة على أساس أنَّ الإله هو حل معقد جداً لتفسير الكون وقوانينه. هذا الكلام صدمني باعتباره شيئاً غريباً أن تقول ذلك عن تصور كائن روحي على كل شيء قدير. ما هو المعقَدُ في فكرةِ إله كامل القدرة وكامل المعرفة؟! وهي الفكرة التي لسهولتها تمَّ استيعابها من قِبل أتباع الأديان الثلاثة العظيمة: اليهودية والمسيحية والإسلام؟ وقد عَلَّقَ بلانتينغا مؤخراً على كلام دوكينز، بالإشارة إلى أنَّه وفقاً لتعريف دوكينز الخاص ، الإله بسيطٌ - ليس مُعقَّد (مركَّب) - لأنَّه روح ، وليس جسماً مادياً، وبالتالي ليس له أجزاء.

ص: 157


1- Richard Swinburne, “Design Defended," Think (Spring 2004): 14

بالعودةِ إلى مثال الهاتف الفضائي الذي طرحته في الفصل السابق، نجد أنَّ قوانينَ الطَّبيعة تُمثّل مشكلة للمُلحدين لأنَّ صوت العقلانية يُسْمَعُ من خلالِ آليّات المادَّة (mechanisms of matter). كتب بول ديفيز: (العلومُ الطَّبيعية تقوم على فرضيَّةِ أنَّ الكون عقلاني ومنطقي تماماً على كافة المستويات). ديفيز هو أكثر مُفسّري العِلم الحديث تأثيراً في العَصْرِ الرَّاهن، كتب قائلاً: (يزْعُمُ الملحدون أنَّ قوانينَ الطَّبيعة توجد دون منطق، وأنَّ الكونَ مُنافٍ للعقل. أنا كعالم، أجد صعوبةً في قبولِ ذلك. يجب أن يكون هناك أساس عقلاني غير متغيّر يقوم عليه هذا الكون المنظم والمنطقي).(1)

هؤلاء العلماء الذين يُشيرونَ إلى عَقْل الإله لا يُقدِّمون مجرد سلسلة من الحُجَج أو عمليّة استدلال منطقية، بل بالأحرى هُمْ يُقدِّمونَ رؤيةً للواقع تنبثق من قلب تصورات العِلم الحديث وتفرض نفسها على العقْلِ الرَّشيد. وهي الرُّؤيةُ التي أجِدُها شخصياً أنها مقنعة وغير قابلة للدَّحض.

ص: 158


1- Paul Davies, "What Happened Before the Big Bang?" in God for the 21st Century, ed. Russell Stannard (Philadelphia: Templeton Foundation Press,2000...)

الفصل السادس

هل عَرَفَ الكونُ أَنَّنا قادمون؟

DID THE UNIVERS

?KNOW WE WERE COMING

ص: 159

ص: 160

تخيَّل أَنَّكَ تدخُلُ إلى غُرفتِكَ في الفندق الذي ستسكن فيه في رحلتِكَ المقبلة: ووجَدْتَ أنَّ جهاز التسجيل الموجود بجانب السري يعزف المعزوفة الموسيقية التي تُحِبُّها. ووجَدْتَ أنَّ اللوحة المعلّقة أعلى السَّرير مطابقةً للوحة الموجودة أعلى المدفأة في بيتك. والغرفة ينبعث منها رائحةَ العِطّر الذي تُفضّلُهُ. قُمْتَ بهزّ رأسِكَ مُتعجباً وألقيت حقائبَكَ على الأرض.

بعد ذلك انتبهت فجأةً، فاتَّجهت إلى الثلاجة الصغيرة الموجودة في الغرفة ، وفَتَحْتَ بابها، وحدَّقْتَ في محتوياتها. ووجَدْتَ مشروبَكَ المفضَّل، وقطعة الحلوى والكعكة التي تُحِبُّها، بل وجَدْتَ أيضاً قنينة من نوع الماء الذي تُفضِّله.

بعد ذلك، أدرتَ ظهرَكَ للثلاجة، ونظرت إلى المنضدة الموجودة في الغرفة. ووجَدْتَ عليها الكتاب الجديد لمؤلّفكَ المُفضّل . وعندما ألقيْتَ نظرةً في الحمام، حيث تصطف على الرَّفٌ مواد الاعتناء بالبشرة، وجَدْتَ أنَّ كُلَّا منها من النوع الذي تستخدمه في العادة. وعندما قُمْتَ بتشغيل التلفزيون، وجدت القناة التلفزيونية التي تُفضِّلها.

مع كلِّ شيءٍ تُشاهِدُهُ في الغرفة، تجد نفسك أقل ميلاً إلى التفكير بأنَّ كلَّ ما حدَثَ كان من باب الصدفة، أليس كذلك؟ وقد تتساءل: كيف استطاع مدير الفندق أنْ يعرفُ كلَّ هذه الأمور التفصيلية عنك. وقد تتعجب من هذا الإعدادِ الدَّقيق. حتَّى أَنَّكَ قد تعيدُ النَّظَرَ مجدّداً

ص: 161

وتتساءل: كم سيُكلفك هذا الإعداد كلّه من مبالغ مالية. لكنك بالتأكيد سوف تميل إلى الاعتقادِ بأنَّ شخصاً ما كان يعلم بقُدُومِك.

ص: 162

كونُنا الدقيق

(OUR FINELY TUNED UNIVERSE)

سيناريو هذه العطلة خارقٌ، وهو يوازي حُجَّةَ التوافق الدَّقيق (Fine-tuning Argument). الشهرة المعاصرة لهذه الحجة تُسلَّطُ الضَّوءَ على بُعد جديد لقوانين الطبيعة. كتَبَ عالم الفيزياء ف--ري-من دايسون (Freeman Dyson) قائلاً (كلَّم) قُمْتُ بفحص هذا الكون ودرشت تفاصيل تكوينه، أجد دليلاً إضافياً على أنَّ الكون بمعنى ما كان يعلمُ بأننا قادمون)(1). وبعبارةٍ أخرى: يبدو أن قوانينَ الطَّبيعة صُمِّمت بنحو يُحرِّكُ العالم باتجاه نشأة حياة. هذا هو المبدأُ الأنثروبي، الذي أصبحَ مشهوراً بفَضْل مفكّرين من أمثال مارتن ريز (Martin Rees)، جون بارو (John Barrow) ، وجون ليسلي (John Leslie).

دعنا نأخُذ أبْسَط قوانين الفيزياء كمثال على ذلك. لقد تم حساب أنَّه لو تغيَّرَ حتّى لو واحد فقط من الثوابت الأساسية - على سبيل المثال سرعة الضّوء أو كتلة الإلكترون - بدرجةٍ مختلفةٍ قليلاً، فإنّه لن يكون هناك كوكبٌ قادر على توفير البيئة المناسبة لحياة الإنسان.

ص: 163


1- Freeman J. Dyson, Disturbing the Universe (New York: Harper Row, 1979), Also cited in John Barrow and Frank Tipler, The Anthropic Cosmological Principle (Oxford: Clarendon, 1988), 318.

لقد تمَّ تفسير هذا التوافق الدقيق بطريقين. بعضُ العُلماء قال بأنَّ هذا التوافق الدقيق دال على التصميم الإلهي؛ كثيرون آخرون خمنوا بأنَّ كوننا هو كون من ضمن أكوان أُخرى - (أكوانٌ متعددة) - مع فارق أنَّ كونَنا هُيِّئ لكي يُوفِّر الشروط اللازمة للحياة. عملياً لا يدعي أي عالمٍ معروف اليوم أنَّ التوافق الدَّقيق كان بنحوِ صِرْف نتيجةً لعوامل الصُّدفةً في كونٍ واحد.

في كتابه (العقول اللَّانهائية)، يجادِلُ جون ليسلي - وهو من أعلام مُنظّري المبدأ الأنثروبي - بأنَّ التوافق الدقيق فُسِّر بشكل أفضل بواسطة القول بوجودِ تصميم إلهي. يقول ليسلي: إنَّه متعجب، لا من حُجَجٍ مُحدَّدة لصالح حالات من التوافق الدقيق، بل من حقيقة أنَّ هذه الحُجَجَ موجودةٌ على نحو وافر (= يزيد على القَدْرِ المطلوب لنشأة الحياة). (إن كان ثمة أُمور في الطَّبيعة تحدثُ بطريقةٍ تُثيرُ النُّهول والإعجاب، فإنَّ هذه الأمور سترى بنحو أفضل كأدلة لصالح الاعتقاد بإله)(1). وقدَّم ليسلي أمثلةً على هذه الأمور:

1 - مبدأُ النِّسْبيَّة الخاصّة: يُؤكِّدُ على أنَّ لبعض القوى، مثل القوة الإلكترومغناطيسية، تأثيراً غير متغيّر ، بغضّ النظر عما لو كانت تفعل فعلها عند زاويا قائمة مع اتجاه حركة النظام. وهذا يَسْمَحُ لشفرة الجينات بأن تعمل ، وللكواكب بأن تبقى مترابطة (متماسكةً) عند الدَّوران .(2)

ص: 164


1- John Leslie, Infi nite Minds (Oxford: Clarendon, 2001), 213
2- غالباً يُستخدم تعبير (rat angle) للزوايا القائمة (90 درجة)، حيث يكون اتجاه المجال المغناطيسي متعامد مع المجال الكهربائي، وكلاهما عمودي على اتجاه الحركة بشكل عامّ. والحالة المذكورة حالة خاصة، لا يُشترط فيها تعامدهما مع اتجاه الحركة. (المراجع).

2 - قوانين الكمِّ: تمنَعُ الإلكترونات من الحركة في مسار لولبي للاندماج مع نواة الذرّة ( = لتسقُط في نواة الذرّة).(1)

3 - للإلكترومغناطيسية قوّة واحدة : وهذا يجعل العديد من العمليات الهامة ممكنة؛ فمثلاً يسمح للنُّجومِ بأن تُضيء بمعدل ثابت (أو بشكل منتظم) لمليارات السنين. وهو ما يجعل تكون الكربون في النجوم ممكناً، وهذا بدوره يضمن عدم استبدال اللبتونات (2)بالجسيماتِ الذرية ( quarks)، ويترتب عليه استحالة تشكل الذرات. وهذا ما يُحتّم على البروتونات أن لا تتحلل سريعاً ولا تصطدم مع بعضها البعض بقوة، وهو ما قد يؤدي إلى أن تصبح الكيمياء مستحيلة. كيف يمكن لقوَّةٍ واحدةٍ أنْ تُلبي احتياجات كثيرة ومختلفة، في حين يبدو أننا بحاجة لقوى عديدة لكلّ واحدة من هذه العمليات (3)؟

ص: 165


1- حيث إنَّ شحنة الإلكترون سالبة، والنواة فيها البروتونات موجبة. وهذا دفع العلماء قبل عدة قرون عند صدور نظريات تُفسّر محتويات الذرّة بأنْ يتساءلوا عن سبب عدم حركة الإلكترون في مسارٍ لولبي ليلتصق بالنواة الموجبة بسبب التجاذُب بينهما ! واتَّضح فيما بعد بالتجارب أنَّ الإلكترون يدور في مسارٍ معنيّ حول النواة، وأنَّ القوى المؤثرة عليه (الجذب، الطرد المركزي...) متعادلة، فيبقى في مساره، مما يضمن استقرار الذرة (المراجع).
2- اللبتون هو جسيم أوّلي ومكون أساسي للمادة. أشهر اللبتونات المعروفة هو الإلكترون والذي يحكم عمليات الكيمياء كلّها لأنَّه موجود في أغلفة الذرّات وترتبط به الخصائص الكيميائية كلّها. وتوجد فئتان أساسيتان للبتونات: المشحونة منها (وتعرف أيضا بلبتونات شبيه - الإلكترون)، ومحايدة المشهورة باسم نيترينو).
3- Leslie, Infi nite Minds, 203-5

العبورُ إلى الكون المُتعدد

(ACROSS THE MULTIVERSE)

نظريةُ الأكوان المتعدّدة تقع في النُّقطة المقابلة لفكرةِ الصُّنْع الإلهي (مع ذلك سوف أحاول التدليل على أن وجود الأكوان المتعددة لن يُلغي السؤال عن المصدر الإلهي). عالم الكونيات مارتن ريس (Martin Rees) هو أحد أكبر مؤيدي فكرة الأكوان المتعددة. لاحظَ ريس أنَّ:

(أيّ) كونٍ مُهيَّأ للحياة - وهو ما يمكن أن نُسمّيه (الكون الحيوي Biophilic universe) - يجب أن يتم تعديله على نحو معيَّن. توفر لشروط الأساسية لحياة أي نوع نعرِفُهُ مرهون بأمورٍ - كالنُّجوم الموجودة منذُ القِدم، والذرات المستقرة مثل الكربون والكربون والسليكون التي يمكن أن تجتمع في مركب معقد من الجزئيات... الخ - تتأثر بشكل دقيق بالقوانين الفيزيائية، وحجم ومعدل توسع الكون ومحتوياتِهِ) .(1)

يقولُ ريس: إنَّ ذلك يمكن تفسيره من خلال فرضية وجود (أكوان) كثيرة، مع قوانين وثوابت فيزيائية مختلفة، وكوننا كجُزء ينتمي إلى مجموعة أكوان، حدَثَ نتيجةً لظهور تعقيد (complexity) ووعي

ص: 166


1- Martin J. Rees, “Numerical Coincidences and Tuning in Cosmology," Astrophysics and Space Science 285 (2003 : 376.

(consciousness). وإذا كان هذا هو الحال فإنَّ التوافق الدقيق لن يكونَ مَصْدرَ تعجُّبٍ.

ذكرَ ريس أكثر الاختلافات تأثيراً في فكرة الأكوان المتعدّدة. في فكرة (التمدد الأبدي)، قدَّمَ علماء الكون أندريه لنده (Andrei Linde) وأليكس فيلنكن (Alex Vilenkin)، الفكرة القائلة بأنَّ الأكوان المتعدِّدة نشأت عن انفجارات عظيمة لكل من هذه الأكوان مع اختلاف في البعدِ الزَّماني والمكاني من الكون الذي نعيش فيه. أُطروحة الثقب الأسود لكُلِّ من آلان غوث (Alan Guth) ، ديفيد هاريسون (David Harrison)، ولي سمولين (Lee Solin) ترى أن الأكوان نتجت عن تقوب سوداء (Black Holes) على صورة مجالاتٍ زمكانية غير متواصلة (mutually inaccessible) . وأخيراً، افترضَ كلّ من ليزا راندال (Lisa Randall) ورامان ساندرم (Raman Sundrum) أنَّ هناك أكواناً في أبعاد مكانية مختلفة قد تتفاعل أو لا تتفاعل مع بعضها البعض بفعل الجاذبية. أشار ريس إلى أنَّ فكرة الأكوان المتعدّدة (تخمينيَّةٌ بنحوٍ كبير)، وهي تتطلب وجود نظرية تصِفُ باتِّساق فيزياء الكثافات العالية (ultra high densities)، وتكوين البنى (configuration of structures) وِفْقَ أبعادٍ إضافية، وهكذا دواليك. وقد لاحظ ريس أنَّ واحدةً من هذه الأفكار فقط يمكن أن تكونَ صحيحة. بل في الحقيقة، أضاف: (يمكن ألا يكون أي منها كذلك: فهناك نظريات بديلةٌ تقود إلى أنَّ هناك كوناً واحداً) .(1)

ص: 167


1- Rees, “Numerical Coincidences and Tuning' in Cosmology," 385

نظرية البندقية متعددة الاتّجاهات

(A BLUNDERBUSS THEORY)

رفض كلٌّ من بول ديفيز ( Paul Davies وريتشارد سوينبيرن (Richard Swinburne) فكرة الأكوان المتعدّدة. ديفيز، وهو عالم فيزيائ وعالم الكونيات كتب: (من الصَّحيح أنَّ في الكون اللامتناهي، كلُّ شيءٍ يمكن أن يحدثَ فسوف يحدثُ)(1)، ولكن هذا ليس تفسيراً على الإطلاق. إنْ كُنَّا في مقامِ محاولة فهم لماذا يُعتَبر الكون صديقاً لصالح نشأة وبقاء الحياة، فلن يفيدنا أنْ يُقالَ: إنَّ جميع الأكوان الممكنة هي موجودة. نظرية الأكوان المتعدّدة (مثلُ البندقية المتعددة الجوانب، فهي تُفسِّرُ كل شيء ولا تُفسر شيئاً)، ويعني ديفيز بذلك أنها ادعاء لا معنى له. إذا قُلْنا أنَّ العالم وكلَّ ما فيه جاءَ إلى الوجود قبل خمس دقائق - بما في ذلك ذكريات سنوات عديدة عِشناها وأدلّة على أحداث وقعت منذ آلافِ السِّنين - فإنَّ ادّعاءَنا غير قابل للدَّحض . فهو يُفسِّرُ كلَّ شيءٍ ولا يُفسر شيئاً في وقتٍ واحد .(2)

ص: 168


1- يعني طالما فرضنا أنَّ ثَمَّة كوناً غير متناه، فكلُّ حادثة ممكنة، لا بد أن تأتي لحظة تحدث فيها تلك الحادثة، طالَ الزَّمان أو قصر. (المراجع).
2- يشير (ديفيز) هنا إلى مشكلة الذاكرة المعروفة في الفلسفة، التي لخصها برتراند رسل بقوله: (لا توجد استحالة منطقية في افتراض نشأة العالم منذ خمس دقائق مضت مع وجود رهط هائل من ذكريات لماض لم يقع). (المراجع).

التّفسيرُ العِلْمي الصَّحيح ، كما يقولُ ديفيز، يشبه رصاصةً واحدةً محدّدة الاتجاه. فكرة الأكوان المتعدّدة تستبدل كوناً واقعياً منتظاً عقلانياً كَبِ لا متناه من أكوان وتجعَلُ عملية (التَّفسير) بأسرها لا معنى لها. سوينبيرن كان قوياً في ازدرائِهِ لتفسير الأكوان المتعددة، (إنَّه من الجنونِ افتراض وجود مليارات الأكوان (غير مرتبطة سببياً كمصادرة لتفسير معالم كون واحد، وذلك عندما يفي افتراضُ وجود كائن واحد (الإله) بأداء المهمة) .(1)

ثلاثةُ أُمورٍ يمكن أنْ تُقال فيما يتعلَّق بحُجَّةِ التوافقِ الدَّقيق:

الأوّل: ثَمَّة حقيقة صَلْبة تُؤكِّدُ بأنَّنا نعيش في كون فيه قوانين محددة وثوابت (فيزيائية)، وأنَّ الحياة فيه لم تكن ممكنةً فيما لو كانت بعض هذه القوانين والثوابت مختلفة.

الثاني: حقيقة أن القوانين والثوابت الموجودة تسمح ببقاء الحياة، لا تُجيب عن السُّؤال حول أصل الحياة. هذا سؤال مختلف تماماً، ك--ا سوف أحاول أنْ أُبيّن؛ أنَّ هذه الشروط ضرورية لنشأة الحياة، لكنَّها ليست كافية.

الثالث: حقيقة أنَّ من الممكن منطقياً أن تكون هناك أكوان متعددة مع قوانينها الخاصة بطبيعتها، لا يعني أنَّ هذه الأكوان موجودة فعلاً. فحالياً لا يوجد دليل يدعَمُ فكرة الأكوان المتعددة. وستظل فكرةً تخمينية.

ما هو مهمٌّ جداً هنا هو أنَّ فرضية وجود أكوان متعدّدة لا تُفسِّر

ص: 169


1- mq.edu.au/ Paul Davies, "Universes Galore: Where Will It All End?" http://aca. PaulDavies/publications/chapters/Universesgalore.pdf.

أصلَ وجود قوانين الطبيعة. يعتبرُ مارتن ريس (Martin Rees) أنَّ فكرةَ الأكوان المتعدّدة التي لها قوانينها الخاصة بها تطرح سؤالاً حول القوانين الكُلّية التي تحكم كل الأكوان النظرية الشاملة التي تشبه قائد فرقة العزف الموسيقية. (القوانينُ الكُلّية التي تحكم الأكوان المتعددة ربَّما تسمح بوجودِ تفاوت بين الأكوان، فبعض ما نعتبره (قوانين طبيعية) قد تكونُ - وفقاً لوجهة النظر هذه - قوانين محلية متناغمة مع القوانين الكُلَّية، ولكن القوانين المحلية وفقاً لهذه النظرية ليست ثابتة).(1)

سؤالُنا عن كيفية تحكم القوانين بالأكوان المتعددة يُماثل سؤالنا عن أصل قوانين الطبيعة بشكل عام. كتب بول ديفيز يقول: إنَّ (أنصار نظرية الأكوان المتعدّدة عادةً ما يكونون غامضين حول كيفية اختيار قيم المتغيرات (parameter values) في هذا المجمع الكوني. إذا كان هناك (قانون للقوانين) يُحدِّدُ قِيمَ المتغيّرات، فإنَّ ذلك يعني أنَّنا نحيل كل كون إلى الكون الآخر، وعندها نكون نقلنا المشكلة مرتبةً إلى الأعلى، لماذا؟ أوَّلاً لأننا بحاجةٍ إلى تفسير من أين جاءَت هذه القوانين).(2)

يقولُ البعضُ : (إِنَّ القوانين حدثت عَرَضاً كنتيجة للطَّريقة التي بَرَدَ فيها الكون بعد الانفجار العظيم. لكن كما أشار ديفيز ، فإنَّ هذه الحوادث يمكن اعتبارها ظهوراً ثانوياً لقوانين عميقة تحكُمُ مجمع الأكوان مرَّةً أخرى، حتّى تطور قوانين الطَّبيعة والتغيرات على الثوابتِ تتبع قوانينَ معيَّنة، ونعود مرةً أُخرى إلى السؤال عن كيفية حدوث هذه القوانين العميقة مهما أَرْجَعْنا إلى الوراءِ خصائص نشأة الكون بكيفيةٍ

ص: 170


1- Rees, “Numerical Coincidences and Tuning' in Cosmology," .386
2- ?Davies, "Universes Galore: Where Will It All End

معيَّنة، فإنَّ هذه النَّشأَةَ لا بدَّ أنْ تتَّبِعَ قوانين قبْلِيَّة محدَّدة) .(1)

سواءٌ أكان هناك أكوان متعدّدة أو لا، فإنَّنا لا بدَّ أن نعود إلى السُّؤال: من أين جاءت هذه القوانين؟ والتَّفسير الوحيد المقنع هنا هو العقل الإلهي.

ص: 171


1- Martin Rees, "Exploring Our Universe and Others," in The Frontiers of Space (New York: Scientific American, 2000), 87.

ص: 172

الفصل السابع

كيف حدثت الحياة؟

HOW DID LIFE GO LIVE?

ص: 173

ص: 174

عندما عرَضَت وسائل الإعلام لأوَّلِ مَرَّةٍ خبَرَ التغير في رؤيتي الكونية، تم الاستشهاد بكلامي بأن أبحاث علماء الأحياء في الحمض النووي (DNA) أظهرت عن طريق التعقيد غير القابل للتصديق تقريباً للترتيبات اللازمة لإنتاج حياة ، أنَّ الذَّكَاءَ لا بدَّ أنْ يكونَ وراء هذه العملية. كتبتُ في السَّابِقِ أَنَّه كان هناك مجال لتقديم حُجَّةٍ جديدةٍ في التّصميم لتفسير النشوء الأوَّل للحياةِ من مادةٍ غير حيَّة، خصوصاً إذا كانت المادة الحيَّةُ الأولى قد امتلكت القدرة على إعادة إنتاج نفسها جينياً. وقُلْتُ: إِنَّه لا يوجد تفسير طبيعي شافٍ لظاهرة من هذا القبيل.

هذه التَّصريحاتُ أثارت غضباً من التَّقَادِ الذين ادَّعوا أَنَّني لم أكن على دراية بأحدَثِ الاكتشافات في مجال التولد التلقائي (Abiogenesis)(1) . ريتشارد دوكينز ادعى أنَّني لجأت إلى (إله الفجوات God of the gaps)(2).

ص: 175


1- عملية طبيعية من الحياة الناشئة من مواد غير حية مثل مركب عضوي بسيط .
2- مصطلح يقصد به الملحدون الجدد أنَّ المؤمنين بالإله يلجأون عادة لافتراض وجود الإله كلَّما عجزوا عن تفسير الظواهر الطبيعية. فكلما أعوزهم تفسير ظاهرة من ظواهر الطبيعة، لأنَّ العِلْمَ لم يظفر بعد على تفسير لها، لجأوا لافتراض أنَّ الإله هو وراء هذه الظاهرة. لذا فهذه الحالة - في نظر الملحدين الجدد - تبعث على الكسل العقلي، وتُطفئ شعلة البحث عن تفسير علمي للظواهر الطبيعية. لذا يرى هؤلاء أنَّه كلما تقدّم العِلم ونجح في تقديم تفاسير للظواهر الطبيعية، تقلصت الحاجة لافتراض وجود إله، لأنَّ الفجوات سوف تقلُّ بالتدريج. ونحن نرى أنَّ هذا الوهم خاطئ للغاية. فالإله الذي نؤمن به هو وراء هذه الظواهر الطبيعية، والإيمان به لا يُلغي دور الأسباب والعِلل الفاعلية للظواهر الطبيعية، ولا يُطفئ شعلة البحث العلمي، بل على العكس، فلطالما حقت النصوص الدينية على النظر والتفكر والبحث والسير في الأرض ، باعتبار أنَّ الكون بكل ما يزخر به من ظواهر إنَّما هو تجل لأفعال الله ، فكلما تقدَّم العِلم انكشف جانب من عظمة ودقة فعل الله تعالى. (المراجع).

في مقدِّمتي الجديدة لطبعة عام (2005م) من كتاب (الإله والفلسفة) قُلْتُ: (إِنَّني شخصياً مسرور لأنَّ أصدقائي من علماء الأحياء أكدوا لي أنَّ علماء الأحياء البكتيرية باتوا قادرين حالياً على تقديم نظريات في التطوُّر بخصوص المادة الحيّة الأُولى، وأن العديد من هذه النظريات تتوافق مع جميع الدلائل العِلْمية المؤكَّدة)(1) . لكن يجب أنْ أُضيف إلى ذلك أنَّ الأعمال الحديثة التي رأيتُها، والتي تعكس وجهة نظر علماء الفيزياء في عُمْرِ الكون، تُعطي وقتاً قصيراً لهذه النظريات في مجالِ الأحياء البكيترية لوقوع ما يدَّعون.(2).

هناك اعتبارٌ أكثر أهمية يتمثَلُ في التحدي الفلسفي الذي يواجه دراسات أصل الحياة. فمعظم دراسات أصل الحياة التي يقوم بها العلماء، نادراً ما تأخُذُ في الاعتبار البُعْد الفَلْسفي لمكتشفاتهم.

في المقابل، فإنَّ الفلاسفة لم يقولوا سوى القليل عن الطّبيعة وأصلِ الحياة . السُّؤال الفلسفي الذي لم تتم الإجابة عنه في دراساتِ

ص: 176


1- Freeman J. Dyson, Disturbing the Universe (New York: Harper Row, 1979), 250.. Also cited in John Barrow and Frank Tipler, The Anthropic Cosmological Principle (Oxford: Clarendon, 1988) 318.
2- يقصد ( فلو) أنَّ التطور حتَّى يحصل لهذه المادة، وفقاً لهذه النظريات في علم الأحياء، ابتداءً من مادة صماء، مروراً بمادة حيَّةٍ أُولى بسيطة، ثمَّ مادة حيَّة مُعقدة، وانتهاءً بادةٍ بالغة التعقيد تنطوي على وعي (كما نجد في الإنسان)، تتطلب زمناً أطول بكثير من الزَّمن الذي يُقدِّمُهُ علماء الفيزياء الكونية لعُمْرِ الكون. (المراجع).

أصل الحياة هو هذا: كيف يمكن لكون ذي مادَّةٍ لا عقل لها أنْ تُنْتِجَ كائنات لها غايات حقيقية (Intrinsic ends)، ولها قابليات على التكاثر الذَّاتي، ومُشفّرة كيميائياً coded chemistry)؟

هنا نحن لا نتعاطى مع علم الأحياء (biology)، وإنما نتحدث عن مشكلة من مقولةٍ مختلفةٍ تماماً.

ص: 177

الكائنُ العضوي الهادف (1)

(THE PURPOSE-DRIVEN ORGANISM)

دعونا ننظُرُ أوَّلاً في طبيعة الحياة من وجهة نظر فلسفية. المادَّةُ الحيَّة تمتلك هدفاً موروثاً أو نظاماً مُحدَّدَ الغاية وليس موجوداً على الإطلاق في المادة التي جاءت منها. في واحدة من الأعمال الفلسفية القليلة التي كُتِبَت حول الحياة، قدَّمَ ريتشارد كاميرون (Richard Cameron) تحليلاً مفيداً عن وجهة (directedness) الكائنات الحيَّة.

أيُّ شيء حي، كما يقول كاميرون، هو غائيٌّ (teleological)، بمعنى أنَّه يملكُ نهايات، أهداف، أو غايات (2)كَتَبَ كاميرون: (علماءالأحياء المعاصرون، وفلاسفة علم الأحياء، والعاملون في مجال (الحياة

ص: 178


1- الترجمة الحرفية لهذا العنوان هي ما يلي : (الكائن العضوي الذي يُساق نحو غاية). (المراجع).
2- یرید (فلو) هنا أن يستعين بما يُعرف ب_(الحُجَّة الغائية)، التي يُعبّر عنها في أدبياتنا الفلسفية بدليل (العناية) أو (التدبير) أو (الهداية)، الذي يتحدث عن وجود قوة تكوينية تسوقُ الكائنات الحيّة إلى كمالها بعبارة أخرى : ثَمَّة علاقة خفية بين الشَّيء و مستقبله، أي الغاية التي يتّجه إليها؛ كالعلاقة بين الطَّير وبناء العُشَّ، فثَمَّة قوة تسوق الطَّير إلى بناء العُشَّ، بعد خروجه من البيضة مباشرة، حتّى لو فُصِلَ عن أبويه، وقبل أن يتعلَّمَ منهما شيئاً. وقد يُعبّر عن هذه القوة ب_(الهداية التكوينية). فالفأرة تفرُّ من الهرَّة، ولا تفرُّ من الشَّاة. والنمل والنحل يهتدي بنحو تكويني إلى تشكيل مجتمع وبناء مساكن ، والطفل يهتدي إلى ثدي أمه ويرتضع منه في بدء ولادته... الخ. (المراجع)

الاصطناعية)، لم يأتوا حتَّى الآن ببيان مقنع يُحدد متى يكون الكائنُ حيَّاً، وقد دافعت عن فكرة أن أُرسطو يمكن أن يُساعدنا في ملء هذا الفراغ ... فأُرسطو لم يدع أنَّ الحياة والغائية متلازمان بالصدفة هكذا بسهولة، وإنَّما عَرَّفَ الحياةَ بحُدُودٍ (ألفاظ) غائية، مؤكّداً على أنَّ الغائية هي أمرٌ أساسي لحياة الأشياء الحيَّة) .(1)

أصلُ التكاثرُ الذاتي هو المشكلةُ الرّئيسية الثانية. الفيلسوف المتميِّز جون هالدین (John Haldane) لاحظ أن نظريات أصل الحياة ( لا تُقدِّمُ تفسيراً كافياً، طالما أنها تفترضُ مسبقاً وجودَ التكاثر الذاتي في مرحلةٍ مبكرة، ولم يتبيَّن أنَّ هذا التكاثر يمكن أن يتم من خلال الوسائل الطبيعية من أصل مادِّيِّ).(2)

ديفيد كونواي يُلخِّصُ هذين المأزقينِ الفَلْسَفيَّنِ في ردّهِ على ادّعاءِ دافيد هيوم، بأنَّ نظام الحفاظ على الحياة في الكون لم يُصمَّم من قِبَلِ أَيِّ من أشكالِ الذَّكاء. التحدِّي الأول هو في تقديم تفسير مادِّيِّ شکلٍ من اشکال الذَّکاء. التَّحدِّي الاول هو في تقديم تفسيرٍ مادِّيٍّ(للانبثاقِ الأوَّل للمادَّةِ الحيَّة من مادة غير حيَّة. كون المادة حيَّة يعني أنَّ لها نظاماً غائياً، وهو غيرُ مُتحقِّق فيما هو قبلها). أما التحدّي الثاني فهو تقديم تفسير مادي الانبثاق الحياة من أشكال أوليةٍ مُتقدِّمة، كانت غير قادرة على التكاثر ذاتياً، وإنتاج كائنات حية قادرة على التكاثر. من دون

ص: 179


1- Richard Cameron, "Aristotle on the Animate: Problems and Prospects," Bios: Epistemological and Philosophical Foundation of Life Sciences, Rome, February 23-24, 2006.
2- John Haldane, "Preface to the Second Edition," in Atheism and Theism (Great Debates in Philosophy), J. J. C. Smart and John Haldane (Oxford: Blackwell, 2003), 224

وجود مثل هذه القدرة، ما كان من الممكن لهذه الأنواع المختلفة أن تنبثق من خلال طفرة عشوائية وانتقاء طبيعي. وفقاً لذلك، فإنَّ هذه الآلية لا يمكن الاحتجاج بها في أي تفسير لكيفيةِ (تطوُّر) صور حياة تتوفّر فيها هذه القدرة من أشياء تفتقر لذلك. ويخلص كونواي إلى أنَّ الظَّواهر البيولوجية هذه (تُزوِّدُنا بسبب يدفعنا للشك في إمكانية انبثاق صور للحياة من أساس مادي محض، دون اللجوء إلى التَّصميم).(1)

ص: 180


1- David Conway, The Rediscovery of Wisdom (London: Macmillan, 200), 125, 220

تحدّ تصوُّريٍّ عميق

(A DEEP CONCEPTUAL CHALLENGE)

ثَمَّةَ بُعْدِ فَلسفيّ ثالث لأصل الحياة يتعلق بأصل تشفير (coding) ومعالجة المعلومات، الذي هو أمر أساسي لجميع أشكال الحياة أفضل وصف لذلكَ قُدَّمَ من قِبَلِ عالم الرّياضيات ديفيد بيرلينسكي ( David Berlinski)، الذي يُشير إلى أنَّ هناك قصَّةً درامية غنية تُحيط بفهمنا الحالي للخلية.

الرِّسالة الوراثية في الحمض النووي (DNA) تتكرر في النسخ المتماثلة، ثمَّ يتمُّ نسخها من الحمض النووي (DNA) إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)(1). وبعد هذا تتم ترجمةُ الرّسالة ونقلها من الحمضِ

ص: 181


1- عبارة عن (بوليمر مضي نووي) مؤلف من ارتباط تكافئي لمجموعة من (النيكليوتيدات). الحمض النووي الريبوزي هو واحد من ثلاثة جزيئات ضخمة بيولوجية تُعتبر أساسيَّة لكل أشكال الحياة (مع الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين والبروتينات). ثَمَّة اعتقاد أساسى مُتصل بالبيولوجيا الجزيئية يفيد بأن تدفّق المعلومات الوراثية في الخليَّة يتكون من ال- ( دي إن إيه DNA) الذي يصنع ال__(آر إن إيه RNA) والذي بدوره يصنع (البروتينات). البروتينات هى حصان العمل في الخلية، حيث تلعب دوراً رئيسياً في الخليَّة كإنزيمات، كمكوّنات هيكلية، أو في إشارات الخليّة، على سبيل المثال لا الحصر. يلعب ال__(دي إن إيه) دوراً أساسياً كمخطط في الخليّة، حيث يحمل كل المعلومات الوراثية اللازمة لنمو الخليّة، للحصول على المواد الغذائية والتكاثر. هنا يكمن دور ال__(آر إن إيه) في (الخليَّة) عندما تحتاج إنتاج بروتين معيّن، حيث إنّه يقوم بتفعيل (جين) البروتين (جزء من ال__(دي إن إيه) يُشفّر ويرمز لذلك البروتين)، وإنتاج نسخ متعدّدة منه على شكل (حمض نووي ريبوزي رسول). تلك النسخ تُستخدم لترجمة (الشفرة الجينية من أجل صنع البروتين عن طريق (الرايبوسومات). ويستطيع ال__(آر إن إيه أن يزيد من كمية بروتين معين يمكن صنعه في مرحلة واحدة من جين معيَّن، كما أنَّه يُشكّل نقطة تحكم مهمة من أجل تنظيم وقت وكمية إنتاج بروتين مُحدّد.

النووي الرَّيبوزي (RNA) إلى الأحماض الأمينية، وأخيراً يتم تجميعُ الأحماض الأمينية إلى بروتينات. يتم التنسيق بين البنيتين المختلفتين الأساسيَّتين لإدارة المعلومات والنَّشاط الكيميائي في الخلية عن طريق شفرةٍ وراثية عالمية.

الطَّبيعةُ الرائعة لهذه الظاهرة تصبحُ واضحةً عندما نُسلَّطُ الضَّوءَ على كلمة (شفرة).

يقول بير لينسكي: (الشَّفرة في حدِّ ذاتِها مألوفة بحد كاف، فهي عبارةٌ عن مُخطَّطِ اعتباطيٍّ (arbitrary) أو نظام للربط بين اثنين من الموضوعاتِ المنفصلة. لنأخذ مثالاً مألوفاً، شفره مورس (Morse code)(1) على سبيل المثال تُنسقُ النُّقاط والشَّرْطات مع الأحرُفِ الأبجدية. وعندما نستخدم كلمة (اعتباطي)، فإنَّنا نريد بذلك التفريق بين الشفرة والربط الفيزيائي الصرف بين موضوعين. وعندما نقول: إِنَّ الشَّفرة تتضمَّنُ مُخطَّطاً، فإنَّنا نريد أن نُؤكِّد على مفهوم الشفرة بلُغةٍ

ص: 182


1- شفرة مورس هي (شفرة) حرفية من أجل إرسال المعلومات (التلغرافية)، باستخدام تتابعات قياسية من عناصر طويلة وقصيرة تُعبّر عن الحروف والأرقام والعلامات والحروف الخاصة الموجودة في الرسالة. العناصر الطويلة والقصيرة من الممكن أن يتم تكوينها عن طريق صوت أو علامات أو فتح وغلق المفاتيح وهما مشهوران على أنهما نقاط وعلامات مائلة.

رياضية. وعندما نُشير إلى أنَّ الرُّموز تعكس الارتباط على نحو ما، فإننا نُعيد تصور الشَّفرة إلى استخداماتها البشرية).

ما سبَقَ يقودنا بدوره إلى السُّؤالِ الكبير : (هل يمكنُ أنْ نُفسّر أصل نظام التشفير الكيميائي بطريقة لا تجعلنا بحاجة إلى اللجوء إلى تفسير هذه الشفرات واللُّغات وأنظمة التواصل، على أساس الكلمات الرَّائجة في عالم المادة؟)(1) كارل وويس (Carl Woese)، وهو أحد رواد دراسات أصل الحياة، يُلفت الانتباه إلى الطَّبيعة الفلسفية الغامضة لهذه الظاهرة. فقد كتب في مجلة (RNA) قائلاً: (الحقائق التشفيرية والميكانيكية والتطوُّرية لهذه المشكلة أصبحت مسائل منفصلة. فكرةُ تعبير الجين (gene expression) على غرار فكرة تكرار الجين (gene replication)، التي كانت قائمة على مبدأ فيزيائي، لم تعد صحيحة). ليس فقط لأنَّه لا وجود لمبدأ فيزيائي، بل لأنَّ وجودَ الشَّفرة بذاتِهِ هو لغز. (قواعد التشفير معروفة، لكنّها لا تُوفّر أيَّةَ إشارة لماذا توجدُ الشَّفرة ولماذا توجد آليةُ التَّشفير على النحو التي هي عليه). يعترفُ وويس بأنن-ا لا نعرفُ أيَّ شيءٍ عن جذور هذا النظام. (جذور الترجمة، قبل أن تُصبح آليةً صحيحةً لفك الشفرة، صارت الآن جُزءاً من الماضي، ولا أُريد أنْ أدخل في تخمينات عن عملية صعود نجمها، كما لا أُريدُ أنْ أدخُلَ في تخمينات حول جذور نظام الشَّحن (TRNA) أو الشَّفرة الجينية (Q).(2)

بول ديفيز سلَّطَ الضَّوءَ على المشكلة نفسها. فقد لاحظ أنَّ معظم نظريات النُّشوء الحيوي ركّزت على كيمياء الحياة (chemistry of life)،

ص: 183


1- David Berlinski, “On the Origins of Life," Commentary (February 2006): 25,30 -31
2- Carl Woese, “Translation: In Retrospect and Prospect," RNA (2001) : 106.1056,1064

ولكن (الحياةُ هي أكبر من مجرَّدِ مركب للتفاعلات الكيميائية. فالخلية هي أيضاً مكان لنظام تخزين ومعالجة وتكرار المعلومات. نحن بحاجة لشرح أصل هذه المعلومات، والطريقة التي تتم بها معالجة المعلومات). لذا هو يُؤكِّدُ على حقيقة أنَّ الجين ليس سوى مجموعة من التعليمات التشفيرية، مع وصفة دقيقة لتصنيع البروتينات). الأهم من ذلك، أنَّ هذه التّعليمات الوراثية ليست من نوع المعلومات التي تجدها في الديناميكا الحرارية والميكانيكا الإحصائية؛ وإنَّما هي تُشكل معلومات دلالية (semantic information). بعبارة أخرى لديها معنى مُحدّد هذه التعليمات يمكن أن تكون فعّالةٌ فقط في بيئة جزيئية قادرة على تأويل المعنى بالشفرة الوراثية. عندها يبرُزُ السُّؤالُ الأصلي إلى الواجهة، وهو (مشكلة كيف يمكن للمعلوماتِ ذات المعنى أو الدَّلالة أنْ تنبشِقَ بصورةٍ فورية من مجموعة من الجزيئات غير العاقلة الخاضعة لقوى عمياء فاقدة للهدف، تُمثل تحدّيَّاً تصوريَّاً عميقاً) .(1)

ص: 184


1- Paul Davies, “The Origin of Life II: How Did It Begin?" http://aca. mq.edu.au/ PaulDavies/ publications/papers/OriginsOfLife_II.pdf

الرؤية من خلال زُجاج مُعتم

(THROUGH A GLASS DARKLY)

إنَّه من الصحيح أن لدى علماء الأحياء البكتيرية نظريات تط--ور تُفسّر نشأة المادة الأولى، لكنهم يتعاملون مع مقولة مختلفة من المشكلة. إنّهم يتعاملون مع التَّفاعُل الداخلي للمواد الكيميائية، في حين أنَّ أسئلتنا هي عن الكيفية التي يكون بها شيء ما مَسُوقاً نحو غاية نهائية؟ كيف يمكن للمادَّةِ أنْ تُدار بواسطة آلية رمزية ؟ لكن حتَّى على المستوى الخاص بهم، فإنَّ علماء الأحياء البكتيرية ما زالوا بعيدين جداً عن الظفر بجواب مُحدَّد عن هذه الأسئلة. هذا الموضوع تم تسليط الضوء عليه بواسطة اثنين من أعلام الباحثين في أصل الحياة.

أندي نول (Andy Knoll)، وهو أستاذ علم الأحياء في جامعة هارفارد ومؤلِّف كتاب الحياة على كوكب ناشئ: أول ثلاثة مليار سنة من الحياة Life on a Young Planet: The First Three Billion Years of Life)، يقول:

(إذا حاولنا تلخيص ما نعرفه عن التاريخ العميق للحياة على الأرض، عن أصلها، عن مراحلها المتعددة التي هيّات فُرَصاً لنشأة الأحياء التي نراها حولنا اليوم، فأعتقد أنَّ علينا الاعتراف بأنَّنا ننظُرُ هنا من خلالِ زُجاجٍ مُعتم. نحن لا نعرفُ كيف بدأت الحياة على هذا

ص: 185

الكوكب، ولا نعرف متى بدأت الحياة على وجه الدِّقَّة، ولا نعرف ما هي الظروف التي بدأت فيها).(1)

أنتونيو لازکانو (Antonio Lazcano) ، رئيس الجمعية الدولية لدراسةِ أصل الحياة، كتَبَ في أحد التقارير قائلاً: (هناك خاصية للحياة تبقى مؤكَّدة: الحياة ما كان لها أن تتطوَّرَ من دونِ آلية جينية آلية يمكنُ من خلالها تخزين ونقل معلوماتها الذرية التي يمكن أن تتغيّر بمرورِ الوقت... بنحو دقيق من غير الواضح كيف تطوّرت الآلية الجينية الأُولى). ويُكمل قائلاً: (في الحقيقة لن نكون قادرين على معرفة مسار أصل الحياة بنحو دقيق على الإطلاق) .(2)

أمَّا بالنسبة لأصل التكاثر، فإنَّ جون مادوكس (John Maddox)، وهو المحرّرُ الفخري لمجلة (الطَّبيعة Nature) كتب قائلاً: (السؤال الرِّئيسي هو متى (ثم كيف) تطور التكاثر الجنسي بذاتِهِ؟ على الرغم من مرورِ عقود من التخمين ما زلنا لا نعرِف) .(3)

وأخيراً، يُشير العالم جيرالد شرويدر (Gerald Schroeder) إلى أن وجود الظروف التي كانت لصالح نشأة الحياة ما زالت لا تُفسر كيف نشأَ أَصْلُ الحياة بذاتِهِ. الحياة كانت قادرةً على الاستمرار على الكوكب فقط بسبب توفر الظروف المناسبة على كوكبنا. لكن لا يوجد قانون في الطَّبيعة يأمُرُ المادة بإنتاج كائناتٍ مُوجهة نحو غاية (end-directed)، وقابلة للتكاثر.

ص: 186


1- Andy Knoll, PBS Nova interview, May 3, 2004
2- Antonio Lazcano, "The Origins of Life," Natural History (February 2006)
3- John Maddox, What Remains to Be Discovered (New York: Touchstone, 1998), 252

إذن كيف نُفسّر أصل الحياة؟ الحائز على جائزة نوبل في عِلْمِ الوظائف، جورج والد (George Wald)، شاع أنه قال مجادلاً: (لقد اخترنا أنْ نُصدِّقَ المستحيل : أنَّ الحياة نشأت فجأةً عن طريقِ الصُّدفة). وفي سنوات لاحقة، خَلَصَ جورج والد إلى أنَّ العقل الأزلي، الذي سماه مصفوفة الواقعية الفيزيائية (matrix of physical reality) التي يتكون منها الكون، هو الذي وهب الحياة:

(كيف ذلك وهناك احتمالات أُخرى، إنَّنا في كون يمتلك خصائص مميزة غريبة هي التي وهبت الحياة؟ يجب عليَّ أنْ أعترِفَ أنَّه بدا لي في الآونة الأخيرة أنَّ كلا السُّؤالين من وادٍ واحد هذا على فَرْض أنَّ العقل، وبدلاً من أن يكون قد تطوَّرَ من خلال الحياة، كان موجوداً على الدوام على شكل مصفوفة (matrix) تُمثل مصدر الواقعية الفيزيائية، بحيث أنَّ مُكوّنات الواقعية الفيزيائية هي مكونات عقلية. إنّه العقل الذي احتوى الكون الفيزيائي، وهو الذي وهب الحياة، وفي النهاية من خلاله تطوّرت المخلوقات التي تعرفُ وتصْنَع : العِلْمَ والفنَّ والتكنولوجيا) .(1)

هذه هي أيضاً الخلاصة التي أنتهي إليها. إِنَّ التَّفسير المَرْضِيَّ الوحيد لأصل حياة كهذه، (مُوجَّهة الغاية قابلة للتكاثر) كما نرى على الأرض، هو العقلُ الذَّكَيُّ اللَّامتناهي.

ص: 187


1- George Wald, "Life and Mind in the Universe," in Cosmos, Bios, Theos, ed. Henry Margenau and Roy Abraham Varghese (La Salle, IL: Open Court, 1992), 218.

ص: 188

الفصل الثامن

هل جاء شيءٌ ما من لا شيء؟

DID SOMETHING

?COME FROM NOTHING

ص: 189

ص: 190

في أحدِ المشاهد الأخيرة من فيلم (صوت الموسيقى The Sound of Music)، أخيراً اعترَفَتْ ماريا (الذي لعبت دورها جولي أندرو) وكابتن فون تراب الذي لعب دوره کریستوفر بلومر)، اعترف كلّ منهما بحُبِّهِ للآخر. كلّ منهما كان متفاجئاً بحُبِّ الآخر له، وتساءَ لا معاً كيف حَدَثَ هذا الحبُّ. لكن كان يبدو أنَّهما على ثقة أنَّ الحبّ جاءَ من مكان ما. وأخذا يُغنِّيان:

(ليس هناك شيء يأتي من لا شيء، لا شيء يمكنه ذلك أبداً).(1)

ولكن هل هذا صحيح؟ أم أنَّ من الممكن أن يأتي شيء م-ا م-ن لا شيء؟ وكيف يمكن أنْ يُؤثر هذا السُّؤال على فهمنا للكيفية التي جاءَ بها الكون للوجود؟

هذا هو موضوعُ البحث العلمي الملتزم في مجال الكونيات، وكذلك فيما يخصُّ الحُجَّة الكونية في الفلسفة .(2)في كتاب (فرضية الإلحاد)، عرَّفْتُ الحُجَّةَ الكونية بأنّها تلك التي تبدأُ من الادعاء بأنَّ الكونَ موجود. وأقصد بالكون، كائن أو كائنات تسبَّبَ بوجودها موجود آخر (أو ذاك الذي يمكن أن يكون سبباً لوجودِ بقيَّة الكائنات).

ص: 191


1- Something Good," music and lyrics by Richard Rodgers, 1965
2- مرَّ في تعليق سابق، أن هذه الحجّة تناظر في أدبياتنا الفلسفية دليل الحدوث، ودليل الحركة، ودليل الإمكان. (المراجع).

الكون الّنهائي(1)

(THE ULTIMATE UNIVERSE)

في كتاب (فرضية الإلحاد) والكتابات الإلحادية الأُخرى، جادلتُ بأنَّ علينا أن نأخُذَ الكونَ نفسَهُ وأكثرَ قوانينه الأساسية بذاتها بوصفها أُموراً نهائية. كلُّ نظام تفسير يجب أن يبدأ من نقطة ما، ونقطة البداية هذه لا يمكن تفسيرها من خلال النظام. لذلك، لا محالة، كلُّ الأنظمة التي تكون من هذا القبيل، تشتمل على بعض الأمور النهائية على الأقل، التي لا يمكن تفسيرها في حد ذاتها. هذه النتيجة تأتي من الطَّبيعة الأساسية للتفسيرات المتعلقة بالسُّؤال: لماذا يوجد شيء ما في الواقع على الحالة التي هو عليها ؟

لنفترض، على سبيل المثال، أنَّنا لاحظنا أنَّ الصَّلاءَ الأبيض الجديد الموجود فوق الموقد أصبحَ لونُهُ بُنْياً مُتَّسِخاً. وبعد أن بحثنا، اكتشفنا أنَّ

ص: 192


1- (النهائي) هنا يوازي ما نُعبّر عنه في علم المنطق ب_(الذاتي)، فكما أَنَّ الذَّاتِي لا يُعلَّل، كذلك هو النهائي، فهو الأمر الأساسي والأولي، الذي لا يمكن رده إلى شيء آخر. فمثلاً لو سألتُكَ: لماذا الجدار أبيض ؟ فقد تقول : لأنه مصبوغ بصبغ أبيض. لكن لو سألتُكَ: لماذا البياضُ أبيضُ ؟ فقد تقول: لأنه أبيض ، فصفة البياض بالنسبة لل--ون الأبيض ذاتية، والذَّاتي لا يُعلَّل. وقُلْ الأمر نفسه فيما لو سألتُكَ: لماذا السُّكَّر حلو؟ لماذا الليمون حامض ؟ لماذا الملحُ مالح ؟ لماذا الإنسان ناطق ؟ لماذا الفرسُ صاهل ؟ لماذا الحمار ناهي ... الخ. هذه كلها صفات ذاتية ونهائية، لا يمكن إرجاعها لشيء آخر، أي لا يمكن تفسيرها وتعليلها على ضوء شيء آخر. (المراجع).

هذا ما يحدُثُ دائماً في هذا النوع من المواقد مع هذا النوع من الطلاء. وتقدَّمنا خطوةً ثانيةً في معرفةِ السَّبب، فعلمنا أنَّ هذه الظاهرة لا بدَّ أنْ تُفسَّرَ عن طريق اطرادات أوسع وأعمق لتركيب كيميائي، فحين يتفاعل الكبريت المتصاعد من لهب الموقد مع شيء ما في الطَّلاء، فإنَّه يعمل على تكوين مركّب كيميائي، وأنَّ هذا هو السبب في تغير لون الطلاء. وبعد البحث أكثر، اكتشفنا وجود قذارة في مطبخنا، كواحدة من النتائج التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى المترتبة على نظرية الذرية - الجزيئية (-atomic molecular theory) لبنية المادة. هذا هو الحال في عملية التفسير، لا بدَّ أنْ تفترض بعض الأشياء كحقائِقَ ذاتيّة، وهذا هو حال الأشياء.

في مناظراتي مع المعتقدين بوجودِ إله، شاهَدتُ كيف أنَّهم يصلونَ إلى هذه المرحلة التي لا مفر منها . مهما فكر الموحدونَ، في تفسير شيء ما، من خلال إرجاعه إلى وجودِ وطبيعة الإله، فلا يُمكنهم تفادي أخذ تلك الحقيقة بوصفها نهائية وتتجاوز التفسير(1). ولا يمكنني رؤية كيف يمكن لشيء ما أنْ يُعرَفَ ضِمْنَ كوننا، أو يُحدَس بنحو معقول، بوصفه يُشيرُ إلى واقعية ما متعالية، تقبَعُ خَلْفَ أو فوق أو تتجاوز ذلك الشيء. إذن لماذا لا نأخُذُ الكون ومعظَمَ معالمه الأساسية بوصفها حقيقة نهائية .(2)

ص: 193


1- أي لا يمكن للمؤمنين بالإله إنكار أنَّ هناك أُموراً ذاتية للأشياء، لا يمكن الاستمرار في التراجع في تفسيرها إلى ما لا نهاية، بل لا بد من التوقف عند نقطة معيَّنة، وهي نقطة كون تلك الصفة ذاتية لذلك الشَّيء. (المراجع).
2- بعبارة أُخرى : يريد (فلو) هنا القول بأنّه عندما كان مُلْحداً كان يثير تساؤلاً أمام المؤمنين بالإله، مفاده أنَّ الكونَ إنْ كان يُمثَّلُ منظومة ذاتية، والأشياء فيه تطوي على صفات ذاتية، فلماذا لا نقول: إنَّ الذَّاتِي لا يُعلَّل، وهذا يكفينا مؤونة الإيمان بإله؟ أي دون أن تعلل الكونَ بإله، وهكذا ننتهي من الأمر! وهذا الموقف إن كان مفهوماً من الناحية الفلسفية للوهلة الأولى، فإنَّ التطورات العلمية في مجال الفيزياء الكونية، دفعت-ه لإعادة النظر في هذا الموقف. (المراجع).

الآن، معظَمُ نقاشاتي التي عرضتُ لها فيما سبق كانت مستقلة عن التطورات الحادثة في مجال الكونيات. في الحقيقة، اثن-ي-ن م-ن كتبي الرئيسية المضادة للاهوت كتبتها قبل وقت طويل من ظهور نظرية الانفجار الكوني الكبير، أو قبل عرض حُجّة التوافق الدقيق (fine-tuning argument) المنبثقة من الثوابت الفيزيائية (physical constants). لك بداية الثَّمانينات من القَرْنِ الماضي، بدأت بإعادةِ النَّظَر في كلا الفكرتين(1). وقد اعترفتُ آنذاك بأنَّ على الملحدينَ أنْ يشعُرُوا بالإحباط من الإحصاءاتِ الكونية الحديثة، حيث بدا أنَّ علماء الكونيات يُقدِّمونَ الدَّليلَ العِلْمي على ما كافَحَ القديس توما الأكويني لإثباته مع صعوبة إثباتِهِ فَلْسفياً، أعني أنَّ للكون بداية.

ص: 194


1- الفكرة الأولى: هل للكون بداية ؟ حيث أكدت نظرية الانفجار الك---وني الكبير أنَّ للكون بداية، وهذا يفسح المجال للتّساؤل عن سبب ذاتية منظومة الكون، أو سبب ذاتية بعض الصفات للأشياء، الأمر الذي يُعيدُ الإلة إلى الواجهة من جديد، بوصفه هو السَّبَب الأوَّل. والفكرة الثانية: التوافق الدقيق في الكون هل هو دالّ على وجود إله أم أنَّه يُعبر عن قوانين وصفات ذاتية في الكون والأشياء؟ حيث أكَدَت الثوابت الفيزيائية على وجودِ توافق ونظم دقيق مذهل، لا يكفي فيه القول بأن منظومة الكون ذاتية، وصفات الأشياء فيه ذاتية، بل هذا التوافق والنظم بحد ذاته بحاجة إلى تفسير. (المراجع).

في البداية

(IN THE BEGINNING)

عندما تعرَّفتُ كمُلْحد على نظرية الانفجار الكبير، بدا لي أنه-ا أحدثَتْ فارقاً كبيراً، لأنّها تقول بأنَّ للكون بداية، وأوَّلُ جُملةٍ في سِفْرِ التكوين(1) : (فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، كانت مرتبطةً بحَدَثٍ في الكون.

طالما أنَّ الكونَ يمكن أن لا يكون بلا نهاية فحسب، بل بلا بداية أيضاً، فيبقى من السهل أن ترى وجودَهُ (ومعظمَ معالمهِ الرَّئيسية) كحقائق ذاتية(2). وإذا لم يكن هناك أيُّ سببٍ يدعو للاعتقاد بأنَّ للكونِ بداية، فإنَّه لا حاجة لافتراض وجودِ شيءٍ ما خلَقَ كلَّ شيءٍ كمُصادرة.

ولكن نظريةُ الانفجار الكبير غيّرت كل شيء. فإذا كان للكونِ بداية، فإنَّه يصبح من المشروع تماماً، بل لا مفر من إثارةِ السُّؤال عن الذي أنتج هذه البداية. وهذا ما يُغيّر الوضع بشكل كامل.

ص: 195


1- من الكتاب المقدَّس، في العهد القديم. وسفر التكوين هو السفر الأول منه. (المراجع).
2- يقصد (فلو) أنا لو تصوّرنا أنَّ الكون لا بداية له، ولا نهاية له، فيصبح من السهل تصور أنَّه - بما يتضمن من أحداث وقوانين - يُمثل منظومة ذاتية، ليست بحاجة لمسبب أوَّل. لكن عندما تُثبت الفيزياء الكونية أنَّ للكون بداية، فهنا يتغيَّر الأمر برمته. (المراجع).

وفي نفسِ الوقت توقعتُ أنَّ الملحدين سوف يرون أنَّ فكرة الانفجار الكبير تتطلب تفسيراً فيزيائياً، وهو ما قد لا يكون متاحاً للبشر. ولكن أعترفُ أيضاً بأنَّ المعتقدين بالإله يمكن أن يُرحبوا، بنحو مواز معقول، بفكرة الانفجار الكبير باعتبارها تميل لتأكيد اعتقادِهِم المُسْبق بأنَّ الكونَ في (البدءِ) كان قد خُلِقَ بواسطة الإله.

يبدو أنَّ علماء الكونيات المعاصرين مرتبكون كما هو حال المُلحدين، في إمكانية أن تتضمَّنَ اكتشافاتهم نتائج لاهوتية. وكنتيجة لذلك، ابتكروا طرقاً للهروب تُحافظ على الوضع اللاإيماني القائم. هذه الطُّرُق تضمَّنَت فكرة الأكوان المتعدّدة، أي العدد الهائل من الأكوان الذي نشأ من أحداث مُتقلبة من الفراغ اللانهائي، أو ما يُسمَّی ب_(الكون المكتفي بذاتِهِ) حَسْبَ تعبير ستيفن هوكِنج.

ص: 196

إلى أن تحين البداية

(UNTIL A BEGINNING COMES ALONG)

كما ذكرتُ سابقاً، لم أجد فكرة الأكوان المتعدّدة مفيدة. وقُلْتُ أيضاً أنَّ التعاطي مع فرضية الأكوان المتعدّدة كمصادرة هو بحَقِّ بديل بائس. إذا كان وجود كون واحد يحتاجُ إلى تفسير، فإنَّ وجودَ أكوان يحتاجُ إلى تفسير أكبر بكثير، وعندها يتضاعف حجم المشكلة بمقدارِ عدد الأكوان الكلي. هذا الوضع يبدو مثل طفل صغير لا يُصدّق مُعلّمُهُ ادّعاءَهُ بأنَّ الكلب أكل كُرَّاسة واجبِهِ المدرسي، فيستبدل ذلك بالادعاء بأنَّ مجموعةً من الكلاب أكلت كُرَّاسة واجبه.

ستيفن هوكنج أخذ اتجاهاً آخر في كتابه (تاريخٌ موجزٌ للزمان). فقد كتَبَ هو كنج قائلاً: إن كان للكون بداية، فبإمكاننا أن نفترض أنَّ له خالقاً. ولكن إن كان الكونُ في الواقع مكتفياً بذاته ولا حدود له، فلن يكون له بداية ولا نهاية، فهو موجود وانتهى الأمر. إذن هل بقي مكان للخالق؟) .(1)

في عرضي للكتاب بعدما تم نشره، أشرتُ إلى أنَّ الاقتراح المتضمَّن في نهايةِ السُّؤال لن يساعد إلَّا في اللجوء إلى غير الإلهي. وتناسقاً مع هذه الخاتمة، قُلْتُ : الذين ليسوا من علماء الفيزياء النظرية،

ص: 197


1- Stephen Hawking, A Brief History of Time (New York: Bantam, 1988), 174

سيكونونَ مجبرين على أن يردُّوا مثل بعض الشخصيات في مُسلسل برودواي (مُسلسل فكاهي): (إن لم يكن الانفجار الكبير هو البداية، فإنَّه سيظل كذلك على الأقلّ حتّى تظهر بدايةً أُخرى). بدا على هو كنج على الأقل شيءٌ من التعاطف مع هذا الرَّد، حيث قال: (إنَّ تمدد الكونِ لا يمنع من وجودِ خالق، لكن سوف يزيدُ فقط من الوقت اللازم لإنجاز عملِهِ) .(1)

كتَبَ هو كنج أيضاً قائلاً: (يمكن للمرء أنْ يقول: إِنَّ الزَّمان له بداية عند الانفحار الكبير، بمعنى أنَّ الأزمنة السابقة عليه هي ببساطة مما لا يمكن أنْ يُعرَّف).(2)

استنتجتُ من هذا النقاش أنَّه حتّى لو اتفقنا على أنَّ الكون بدأ مع الانفجار الكبير، فإنَّ الفيزياء يجب أن تظل رغم ذلك لا أدرية بشكل قاطع فمن المستحيل من الناحية الفيزيائية اكتشافُ من الذي سبَّبَ الانفجار الكبير.

من المؤكَّد أنَّ الإيحاء بكون مُتغيّر باستمرار في مقابل كون ثابت حامل إلى الأبد يُحدثُ فارقاً في المناقشة . لكن المغزى من القصَّةِ في نهاية المطاف هو أنَّ المواضيع المطروحة هي مواضيع فلسفية وليست عِلمية. وهذا ما يُعيدُنا إلى الحُجَّةِ الكونية.

ص: 198


1- Antony Flew, "Stephen Hawking and the Mind of God" (1996), http://www.infi dels.org/library/modern/antony_flew/hawking.html
2- Hawking, A Brief History of Time, 9

شيءٌ ما أكبر من أن يُفسّره العلم

(SOMETHING TOO BIG FOR SCIENCE TO EXPLAIN)

الناقدُ الفَلْسفي الأساسي للحُجَّةِ الكونية على وجود الإله كان هو ديفيد هيوم. وعلى الرغم من أنني اتفقت مع حُجَحِ هيوم في كُتُبي السَّابقة، إلَّا أَنَّني بدأتُ في التَّعبير عن شُكوكي حول منهجه. على سبيل المثال، كُنْتُ قد أشرتُ في مقال في كتاب تذكاري للفيلسوف تيرينس بينهم (Terence Penelhum)، أنَّ بعض الفرضيات المسبقة في تفكير هيوم أسفرت عن أخطاء قاتلة. هذه الأخطاء تشمَلُ أُطروحتَهُ في أنَّ ما نُسمّيه (أسباباً) ليس سوى نوع من تداعي المعاني) أو الافتقار لمثل هذا التداعي. قُلْتُ: إِنَّ أصل - أو على الأقل التحقق من صلاحية - تصوّراتنا السببية، والأسس التي يُفترَضُ أَنْ تُبنى عليها معارفنا السببية، تستند إلى وفرة وتكرارِ النَّشاط التجريبي لمخلوقات مكونة من لحم ودم، تعمَلُ في عالم العقل - المستقل (mind-independent world) (كتجربة محاولة سحب ودفع أشياء، والنجاح في سحب أو دفع بعضها وعدم النجاح مع بعضها الآخر، وتجربة التساؤل (ماذا سيحدُث لو؟)، وماذا عن التَّجريب؟ وبالتالي الاكتشاف من خلال التجربة (ماذا يحدثُ عندما ؟)). إنَّنا كفاعلين نتعرفُ ونُطبّقُ ونُصحح فكرةَ السَّبَب والمسبب ونُحدّد ماذا نعني بالضروري والمستحيل . توصَّلْتُ في النّهايةِ إلى أنَّ

ص: 199

محاولةَ هيوم الخيالية لن تُوفّرَ لنا بوصلة لتحديد معنى السَّ و (قوانين الطَّبيعة)).(1)

ولكن في كتاب ديفيد كونواي (إعادة اكتشاف الحكمة)، وطبعة عام (2004م) من كتاب ريتشارد سوينبيرن (وجود الإله)، وجدتُ ردوداً شافيةً على نقدِ هيوم (وكانت) للحُجَّةِ الكونية. تناول كونواي بشكل منهجي كل اعتراضات هيوم. على سبيل المثال: اعتقد هيوم أنه لا يوجد سبب لوجودِ أي سلسلة من الكائنات المادية وراءَ مجموع كل عضو من أعضاء هذه السلسلة. إذا كانت هناك سلسلة لا بدايةً لها لكائنات غير ضرورية الوجود، فإنَّ ذلك يُعَدُّ سبباً كافياً للكون ككُلّ .(2)

رفضَ كونواي هذا الاعتراض على أساس أنَّ (التفسيرات السببية لأجزاء أيّ كُلِّ من هذا القبيل بلغة الأجزاء الأخرى، لا يمكن أن تُضيف شيئاً إلى تفسير سببي للكُلِّ ، إذا كانت المفرداتُ المذكورة

ص: 200


1- Antony Flew, “The Legitimation of Factual Necessity," in Faith, Scepticism and Personal Identity, ed. J. J. MacIntosh and H. A. Meynell (Alberta: University of Calgary Press, 1994) 111-17
2- هيوم استهدفَ التَّشكيك بأصل وجود سلسلة سببية في حوادث الكون، لأنَّ ما يقع في الكون من حوادث إنَّما هو - في نظره - حوادث متعاقبة يلي بعضها بعضاً، دون الحاجة لافتراض روابط سببية فيما بينها، وإنَّما الذهن هو الذي يُسقط مفهوم السببية على الخارج، لما يحدث فيه من تداع للمعاني. ولو افترضنا جدلاً وجود سلسلة، فإنَّ افتراضَ أنْ لا بداية لها (أي أنَّ الكونَ لا بداية له)، هو سبب كافٍ للكون ككُلّ. (فلو) بدورهِ رَفَضَ هنا مفهوم هيوم في السببية، كما انتقد فكرة التسلسل. وقد تناول الفلاسفة المسلمون التسلسل منذ قرون، وأثبتوا بطلانه بعشرة أدلة، كما مر في تعليق سابق. (المراجع).

كأسبابٍ هي مفرداتٌ يحتاجُ وجودها بحد ذاته إلى تفسيرٍ سببي)(1). لذا، على سبيل المثال: افترض أنَّ هناك فيروس كمبيوتر قادراً على تكرار نفسه في أجهزة كمبيوتر متصلة بشبكة. حقيقة أن ملايين الكمبيوترات المرتبطة بالشَّبكة قد أُصيبت بالفيروس، لا يُفسّر بذاتِهِ وجودَ الفيروس الذي يُكرِّرُ نفسَهُ.

وفيما يتعلق بحُجَّة هيوم الشبيهة، كتب سوينبيرن: (السِّلسلة اللَّإنهائية للكُلِّ لن تُقدِّم لنا تفسيراً على الإطلاق (2)، لأنَّه لن يكون هناك أسباب من أعضاء السلسلة تقعُ خارج هذه السلسلة. وفي هذه الحالة، سيكون وجود الكون على مر الزمن اللانهائي حقيقةً ذاتيةً مُتعدِّرةَ التفسير. سيكون هناك تفسير ( بلغة القوانين) للسُّؤال: لماذا يستمر موجود ما بالوجود؟ ولكن ما سيتعذر تفسيره هو استمرار وجوده في الزَّمانِ اللَّامتناهي .(3)وجود الكون المادي المعقد عبر زمن متناه أو لا متناه (أكبر بكثير ) من قدرةِ العِلْمِ على التَّفسير).(4)

ص: 201


1- David Conway, The Rediscovery of Wisdom (London: Macmillan, 2000 ) 111 - 12
2- أي إِنَّ افتراض اللانهائية في السلسلةِ لا يُقدِّم تفسيراً. (المراجع).
3- أي افتراض اللانهائية سيُبقي العِلْم عاجزاً عن تفسير أصل وجود أي موجود ما سيتمكّن العِلْمُ من تفسيره إنَّما هو آلية استمرار الكائنات في الوجود. على هذا الأساس، سواء افترضنا اللانهائية في بداية سلسلة حوادث الكون، أو افترضنا أنَّ للكون بداية، ففي الحالتين، سيظل تفسير أصل وجود الكون ووجود الكائنات فيه يقع خارج نطاق العِلْم، ويتجاوز قدرته على التفسير. (المراجع).
4- Richard Swinburne, The Existence of God (Oxford: Clarendon, 2004) 142

الحاجة إلى عامل إبداعي

(THE NEED FOR A CREATIVE FACTOR)

عندما تتمُّ مواجهةُ نقد هيوم، يصبحُ من الممكن تطبيق الحُجَّةِ الكونية في سياقٍ عِلْم الكونيات المعاصر. يجادل سوينبيرن بأنَّنا يمكنُ أنْ نُفسّر الحالات الراهنة ( state of affairs) فقط على ضوء حالات راهنة أُخرى. القوانينُ بحد ذاتِها ليس بمقدورها تفسير هذه الحالات. كتب سوينبيرن يقول: (نحن بحاجة إلى حالات راهنة، بالإضافة إلى قوانين لتفسير الأشياء)، (إذا لم يكن لدينا ذلك في بداية الكون، لأنه لم تكن هناك حالات قبلَ ذلك، فإنَّه لا يُمكننا تفسير بداية الكون)(1). إذا كان هناك قانون معقول لتفسير بداية الكون، فلا بد أن يقول لنا شيئاً ما، من قبيل: (الفراغ المكاني يقود بالضرورة إلى نشأة الطاقة - المادة). وهنا (الفراغ المكاني) ليس عدماً، وإنَّما (مُفردةٌ قابلة للتعريف)، شيءٌ ما وُجِدَ هناك فعلاً. هذا الاعتماد على القوانين للحصول على كون بدأ من (فراغ مكانيّ) يطرَحُ أيضاً سؤالاً: كيف أنَّ المادَّةَ - الطاقة (matter-energy) نتجت في الزَّمنِ الصِّفْري (t) ، بدلاً من زمن آخر.

فيلسوف العلم جون ليسلي (John Leslie) أظهر أنَّ أيَّاً من

ص: 202


1- Richard Swinburne, “The Limits of Explanation," in Explanation and Its Limits, ed. Dudley Knowles (Cambridge: Cambridge University Press, 1990), 178-79.

التكهُّنات الكونية المألوفة اليوم لا ينفي احتمال وجود خالق. وقد تكهن عدد من علماء الكون بأنَّ الكونَ نشأ من (العدم). في عام (1973م)، وضَعَ إدوارد تريون (Edward Tryon) نظرية مفادها أنَّ الكون كان يتذبذب في فراغ في مكان أكبر. وجادَلَ ليسلي بأنَّ الطاقة الكلية للكونِ كانت صِفْراً، لأنَّ الجاذبية التي تُمسِكُ طاقة الكون ظهرت ككمية سلبية في معادلات الفيزياء. باستخدام منهج آخر ، تكهن كل من جيم هارتل (Jim Hartle) ستيفن هوكنج (Stephen Hawking)، وأليكس فيلكن (Alex Vilenkin) بأنَّ الكونَ الكمِّي - المتذبذب (quantum-fluctuated) جاء إلى الوجودِ (من العدم). (العدمُ) عبارة عن حالات خاصة من الرغوة الزَّمكانية الفوضوية مع ارتفاع خياليٍّ في كثافة الطَّاقة(1). تكهَّنَ آخر (من هوكنج ) بأنَّ : (الزَّمانَ يصبحُ أكثر فأكثر مشابهاً للمكان في اللحظات الأولى من الانفجار الكبير).

ليسلي لا يعتقد أنَّ هذه التكهُّنات ذات صلة بالموضوع، ويقول: (بغضّ النظر عن كيفية وصفك للكون - باعتباره موجوداً منذ الأزل، أو باعتباره قد انتظَمَ من نقطة خارجَ الزَّمانِ والمكان أو غير ذلك في مكان دون زمان، أو أنه بدأ بشكل كمّيّ ضبابي حيث لم تكن هناك نقطة بداية محددة، أو أنه نشأ بطاقةٍ كُلّيّةٍ صِفْرية - فإنَّ الناس الذين يرون أنَّ المشكلة هي في الحدوثِ التام (الشيء ما بدلاً من لا شيء)، سوف

ص: 203


1- من الواضح أنَّ (العدمَ) بالمفهوم الفيزيائي ليس هو (العدم) بالمفهوم الفلسفي. فالعدم بالمفهوم الفلسفي لا يمكن أن يكون رغوة زمكانية، لأنَّ الرغوة الزمكانية شيء موجود، وإن كان فوضوياً لم يتشكل بعد. أما العدم فهو عدم وكفى، ولا يمكن الإخبار عنه بالحَمْلِ الشَّائع الصِّناعي، كما تقرَّرَ في فلسفة المنطق. (المراجع).

يكونون أقلَّ ميلاً إلى الموافقة على أنَّ المشكلة قد حُلَّت) .(1)

إذا كانت لديك معادلة تحسب بدقّة احتمال نشوء شيء من الفراغ فإنَّه سوف يظل عليك أن تسأل : لماذا تنطبق هذه المعادلة؟ في الحقيقة، لاحظَ هو كنج الحاجة لإدخالِ عامل إبداعي لإشعال فتيل المعادلات .(2)

في مقابلةٍ بعد وقت قصير من نَشْرِ كتابه (تاريخٌ موجزٌ للزمان)، أقرَّ هو كنج بأنَّ نموذجه (3)لم ينطوِ على أي تأثير على مسألة وجود الإله. عندما نقول بأنَّ قوانين الفيزياء حدَّدَتْ كيف بدأ الكون، فكأننا نقول فقط : إِنَّ الإلهة لم يختر (أن يسلك الكون بصورةٍ اعتباطية (مزاجية) لا يُمكننا فهمُها. ولا تقول شيئاً عن أنَّ الإله موجود أو غير موجود - فقط تقولُ : إِنَّه ليس اعتباطياً (مزاجياً)).(4)

ص: 204


1- Richard Swinburne, “The Limits of Explanation," in Explanation and Its Limits, ed. Dudley Knowles (Cambridge: Cambridge University Press, 1990), 178-79.
2- بمعنى أنَّ المعادلات والقوانين بوصفها مجردة، لا تكفي بحد ذاتها لنشأة الكون، بل لا بد من عامل إبداعيّ (خالق) يُشعل فتيل الانفجار الكبير، لينطلق الكون في حركته، وتتجلى فيه تطبيقات المعادلات والقوانين. (المراجع).
3- أي النَّموذج الفيزيائي الذي اقترحه في مجال الزَّمان. (المراجع).
4- John Leslie, Infi nite Minds (Oxford: Clarendon, 2001)194 -95

حجَّةٌ استقرائيةٌ جيّدة

(A GOOD C-INDUCTIVE ARGUMENT)

المحاولةُ القديمةُ لتفسير الكون عن طريق الإشارة إلى سلسلة لا متناهية من الأسباب، قد تم إعادة صياغتها بلغة علم الكونيات الحديث. لكن ليسلي وَجَدَ أنَّ هذا غيرُ مُرْضِ. لاحظ ليسلي أنَّ بعض الناس يدَّعونَ بأنَّ وجودَ الكون في أي لحظة معطاة، يمكن تفسيره على أساس حقيقة أنه قد وُجِدَ في لحظة سابقة وهلم جرا إلى ما لا نهاية. لذا، هناك علماء فيزياء يعتقدون بأنَّ الكون قد وُجِدَ عبر زمن لا نهائي، إمَّا من خلال سلسلة لا نهائية من الانفجارات والانسحاقات، أو كجُزءٍ من واقع التمدد الأبدي الذي أوجد انفجارات كونية كبيرة. في حين أنّ آخرين يقولون: إِنَّ الكون قد وُجِدَ من ماضٍ محدود بطريقة حساب معيَّنة، لكن وُجِدَ عبر زمنٍ لا متناه بطريقة حساب أُخرى.

ردّاً على هذه الآراء، أكَدَ ليسلي على أنَّ (وجودَ سلسلة لا متناهية من الأحداث الماضية لا يمكن عده تفسيراً ذاتياً (أي يُفسّر ذاتَهُ بذاتِهِ) حينما يتم تفسير كل حادثة من خلال تلك التي تَسْبِقُها). إذا كانت هناك سلسلةٌ لا متناهية من كُتُب الهندسة تم استنساخها مما سبقها من كُتُب، فنحنُ بذلك نظلّ بحاجة إلى إجابة مقنعة لماذا الكُتُبُ موجودة على النَّحو الذي هي عليه؟ (مثلاً كونها كُتُب هندسة)، أو لماذا الكُتُبُ

ص: 205

موجودةٌ بالأساس؟ فالسِّلسلة بأكملها تحتاج إلى تفسير. وأضاف ليسلي قائلاً: (فكر في آلة زمن تُسافِرُ إلى الماضي حيث لم يوجد أحدٌ صممها أو صنعها. إشكال وجود حلقة زمانية مُفسّرة ذاتياً! حتّى لو كان السفر في الزَّمانِ له معنى، فهذا بالتأكيد لن يكون له معنى).(1)

يُلخّیصُ ريتشارد وينبيرن (Richard Swinburne) عرضه للحُجَّةِ الكونية بالقول: (هناك فرصة جدّية بأنَّ الإلهَ إذا كان موجوداً، فإنَّه سيخلق تعقيد الكون ومحدوديته. إنَّه من غير المرجح أن يكون الكون قد وُجِدَ بلا سبب، لكن في المقابل من المرجح جداً أنَّ الإِلهَ وُجِدَ بلا سبب ولذلك فإنّ حُجَّةً وجود الكون سوف تحيل إلى وجودِ الإله بنوع جديد من أنواع الاستقراء) .(2)في نقاش جرى حديثاً مع سوينبيرن، لاحظتُ أنَّ شرْحَهُ للحُجَّةِ الكونية يبدو صحيحاً بطريقة أساسية. بعض معالم الحجة بحاجة إلى تعديل، لكن الكونُ بأمس الحاجة إلى تفسير. حُجَّةً ريتشارد سوينبيرن الكونية توفر تفسيراً واعِداً، ولعله في النهاية أصحُّ التفسيرات.

ص: 206


1- Leslie, Infi nite Minds, 193 - 94
2- Swinburne, The Existence of God, 152

الفصل التاسع

إيجاد مساحة للإله

FINDING SPACE FOR GOD

ص: 207

ص: 208

إنَّه عملُ شكسبير. في المشهد الأول من مسرحية ماكبِث (Macbeth) ، إحدى أشهر مسرحيات شكسبير، يواجه ماكبث وبانكو (Banque) ، وهما اثنان من الجنرالات في الجيش الملكي، ثلاثاً من الساحرات. الساحرات يتحدثن إليهما ثم يختفين. يقول بانكو: (الأرضُ لها فقاعات، كما للماء فقاعات، وهذه هي من تلك الفقاعات، أين اختفين؟).

يرُدُّ ماكبث: (في الهواء، ما بدا لك أَنَّه جَسَدٌ تبخَّرَ كالهواء في الرِّيح).

إنَّه مسرحٌ ترفيهيٌّ وأدبٌ جميل . ولكن رغمَ أنَّ فكرة الشخص الذي يختفي (كالهواء في الريح) نادراً ما تُشكل مشكلة لمشاهدي المس--رح والأدب، إلَّا أنَّها في السَّابقِ مثلت عقبةً حقيقية للفلاسفة في سعيهم إلى (اتِّباع الدليل أينما قادَهُم).

ص: 209

لا يوجد أحدٌ هناك

(THERE'S NO ONE THERE)

في كتابي (الإله والفلسفة)، وفي منشورات لاحقة له، جادلتُ بأنَّ تصور الإله غير متماسك، لأنه يفترضُ مسبقاً فكرةَ أنَّ الإله روح معنوية حاضرة في كل مكان وزمان. ووجهة نظري كانت مباشرة. (الشَّخصُ) كما نفهمه بالمعنى المعتاد والاستعمال الجاري، هو مخلوق مكون من لحم ودم .(1)وفي هذا المجال، تعبیر (شخصٌ بلا جسد) يبدو بلا معنى كقافية الأبيات المنسوبة إلى هفز ميرنز (Hughes Mearns) :

وأنا أسيرُ فوق الدَّرَج...

قابلتُ شخصاً لم يكن هناك..

ص: 210


1- يتحدَّث (فلو) هنا عن تصور (الإله الشخصي)، فالله وفقاً للأديان السماوية هو ذات لها صفاتٌ معيَّنة، فهو يتحدث عن نفسه ويقول: «إنّي أَنَا الله ...» [القصص: 30] ويَنْسِب لنفسه صفات مطلقة معيَّنة، كالعلم والقدرة والحياة، بل وصفات يبدو للوهلة الأولى أنَّها تتشابه مع صفات البشر، كالغضب والحب والرحمة...، وهذا هو المقصود ب_(الإله الشخصي). والسؤال الذي يُطرَح هنا: هل يمكن تصور وتعريف موجود لا جَسَدَ له؟ لأنَّ الذَّهَنَ قد اعتاد على تصور موجودات محسوسة تتصف بصفات معينة، ولم يعتد على تصور موجود مجرَّد لا جَسَدَ له يتّصف بصفاتٍ كماليةٍ مطلقة. وإذا كان الله مجرَّداً لا جَسَدَ له، وحاضراً في كل مكان وزمان ، إذن كيف تتجلى إرادته وتسري في هذا الكون؟ هذا ما يتحدث عنه (فلو). (المراجع).

ولم يكن هناك اليوم أيضاً..

آه كم أتمنَّى أن يذهب بعيداً..

أنْ تقول بأنَّ هناك (شخصاً بلا جسد) يشبه كثيراً قولك: (هناك شخص ما ليس موجوداً هناك. إذا أردنا أن نتحدث عن (شخص بلا جَسَد)، فسنكون بحاجة إلى تقديم وسائل مناسبة لتعريف كلمة (شخص) بطريقة ما جديدة.

الفلاسفةُ المتأخرون من أمثال بيتر ستر اوشن (Peter Strawson) وبيدي راندل (Bede Rundle) استمروا في تطوير هذا النقد. وفي الآونة الأخيرة، وجدنا نسخةً من هذه الحُجَّةِ في أعمال جون غاسكن (John Gaskin) ، أُستاذ الفلسفة والزَّميل في كلية الثالوث بدبلن. فقد كَتَبَ غاسْكِن : (غيابُ جَسَدٍ ما ليس مُبرِّراً واقعياً للشَّكِّ فيما إذا كان الشَّخصُ موجوداً (لا شخص هناك) ! بل هو أيضاً مُبرِّرُ للشَّكِّ فيما إذا كان مثل هذا الكيان الذي لا جسَدَ له يمكنُ أنْ يكون فاعلاً) .(1)

هذا النَّقدُ رغم صعوبتِهِ، تمَّ الرَّدُّ عليه من قبل الموحدين. وقد شهدَت الثَّمانينات والتسعينات صحوةً للتوحيد في أوساط الفلاسفة التّحليليين. قام العديد من هؤلاء المفكرين بدراساتٍ مُطوّلة عن الصِّفاتِ التَّقليدية التي تُعزى للإله مثل الخلود. وقد تصدى اثنان من هؤلاء المفكرين، وهما توماس تريسي (Thomas Tracy) وبرايان ليفتو ( Brian Leftow) للرَّدِّ بطريقة منهجية دفاعاً عن تماسك فكرة (روح معنوية حاضرة في كل مكان وزمان). ففي حين تناول تريسي السُّؤال

ص: 211


1- John Gaskin, "Gods, Ghosts and Curious Persons," unpublished paper

عن كيفيةِ تعريف فاعل لا جَسَدَ له، حاول ليفتو أن يُبيَّنَ لماذا يجب أن يكون الإله خارج المكان والزمان، وكيف يمكن أن يتصرف الكائن الذي لا جَسَدَ له في الكون.

ص: 212

كمالُ الفاعل

(THE PERFECTION OF AGENCY)

في كتابه (الإله والفعل والتجسُّد) و (الإله الفاعل)، أجابَ تريسي باستفاضة عن سؤالي: كيف يمكن أن يكون هناك شخص بلا جسَد، وكيف يمكن تعريف شخص كهذا. اعتبر تريسي أنَّ الأشخاص (سواءٌ من نمط البشر أو الإله) هم الفاعلونَ الذي يفعلونَ عن قصد (= إرادة تستهدفُ غايةً معيّنة). وهو يرى شخص الإنسان كفاعل ،عضويّ، كجسَدٍ قادرٍ على الفعل القَصْدي. لكن على الرّغم من أنَّ كلَّ الفاعلين المتجسدين (مثل أشخاص البشر يجب أن يكونوا وحدات نفسيَّة (سيكولوجية)، لكن لا يجب أن يكون كلُّ الفاعلين متجسِّدين.

لا توجدُ حُجَّةٌ ضدَّ الثنائية (1)تُبيِّنُ أنَّ الجسد هو شرط ضروريٌّ

ص: 213


1- مصطلح (الثنائية) يُعبّر عن الاتجاه الفلسفي الذي يؤكد على ثنائية الإنسان بوصفه جسداً وروحاً، أو جسماً ونفساً، أو بدناً وعقلاً... عبّر بما شئت. ويقع على رأس القائلين بالثنائية الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت ويقفُ في النقطة المقابلة الماديون المتطرفون، الذين يرفضون الاعتراف بأي جانب معنوي يتجاوز جسد الإنسان ودماغه. هذا الموضوع هو من أهم مواضيع (فلسفة الذهن). و(فلو) هنا يريد أن يقول بأنه لا توجد حُجَّة قاطعة تنفي وجود شيء يتجاوز الجسد، وبالتالي تدحض الثنائية حتى يُقال: إنَّ الشخصَ إِنْ لم يكن جسداً، فلا وجود له كفاعل، حتّى ينطبق هذا القول في النهاية على الإله وننفي وجودَهُ، لأنَّ المعيار بات هو الفعل القصدي، وليس وجود جسد مادي للفاعل. (المراجع).

لكينونة الفاعل، طالما أنَّ شرط كينونة الفاعل هو أن يكون قادراً على الفعلِ القَصْدي. تريسي يرى أنَّ الإله فاعل وكلُّ أفعاله قصدية. عندما تتحدث عن الإله ككائن شخصي، فأنت تتحدث عنه بوصفه فاعلاً عن قصد. قدرة الإله على الفعل متميّزة، والأفعال التي تُعزى إلى الإله لا يمكن من حيث المبدأ أنْ تُنْسَبَ لفاعلين آخرين. على سبيل المثال: الإله عَبْرَ فعلِهِ القصدي، هو الفاعل الذي يمنح الوجودَ لكُل الكائناتِ الأُخرى.

لاحظ تريسي أنَّ الإلة يمكن تعريفهُ عَبْرَ النَّمط الفريد لطريقةِ فعلِهِ. (إذا تصوّرنا الإلة باعتباره الفاعل الكامل، فسوف نرى هذا الإله كفاعل خلاق لذاتِهِ(1)، تتبدى حياته كوحدة كاملة من القصد، وه-و خالق كل شيء وعلى كلّ شيءٍ قدير). أن نقول: إِنَّ الإلهَ يُحِبُّ، فكأَنَّنا نقولُ: إِنَّ حُبَّ الإلهِ يظهَرُ بطريقة تكوينية في أفعاله، وهذه الأفعالُ تُمثل هويته كفاعل. الإله ،فاعل، لكن نمط حياته وقدرته على الفعل تختلفُ بشكل أساسي عنَّا . بما أن نطاق ومحتوى فعل الإله مُميَّز، كذلكَ سيكونُ الحال في خاصيَّةِ حُبِّهِ وأناتِهِ وحكمته) .(2)هذا الفهم للأفعال الإلهية

ص: 214


1- أقول: تعابير من قبيل: (خلاق لذاته) أو (خالق لذاته) أو (مبدع لذاته) أو (موجد لذاته) في وصف الله، هي متهافتة ولا تستقيم. لأنَّ الإله ليس مخلوقاً أو مبتدعاً ولو لذاته. نعم هو خلاق بذاته، خالق بذاته، مبدع بذاته موجود بذاته. لكن التزاماً بالترجمة الحرفية التزمنا بما هو مذكور أعلاه في المتن . (المراجع).
2- Thomas F. Tracy, God, Action and Embodiment (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1984), 147, 153. See also The God Who Acts, ed. Thomas F. Tracy (University Park: Pennsylvania State University Press, 1994).

يمكنُ أنْ يُساعِدَ في إعطاء محتوى لوصفنا للإله بأنَّه يُحِبُّ أو حكيم، ومع ذلك لا بدَّ أن نعترف بأنَّ فهمنا محدود للغاية.

ص: 215

التجهيزات الواقعية للعالم

(THE REAL FURNITURE OF THE WORLD)

برایان ليفتو، وهو حالياً أُستاذٌ بجامعة أكسفورد، يُعالج هذه الأفكار في كتابهِ الزَّمان والخلود Time and Eternity). في نقاشي معه، أشارَ ليفتو بأنَّ فكرة الإله الخارج عن الزَّمان والمكان تتوافق مع نظرية النّسبية الخاصة (special relativity)(1) . يقول ليفتو: (هناك الكثير من الحُجَجِ التي يمكن أن تعرضها لمحاولة بيان أنَّ الإلة خارج الزمان... الشَّيء الذي أنَّ-رَ عليَّ أَنَّكَ إذا أخذْتَ النِّسبية الخاصة بشكل جادٍّ جداً، فستعتقد بأنَّ كلَّ شيءٍ في الزَّمانِ هو في المكان أيضاً. إنّها مجرد أبعاد أربعة متّصلة. ليس ثَمَّة موحد يُفكر أبداً بأن الإله كان موجوداً في المكان هناك بالمعنى الحرفي. إذا لم يكن الإله في المكان، وكل من في الزَّمانِ هو في المكان، إذن فالإله ليس في الزَّمان. السُّؤالُ إذن يُصبحُ هكذا: ما هو

ص: 216


1- نظرية النسبية الخاصة أو نظرية اللاتغيّر (the invariant theory) كما كان يسميها أينشتاين، وهي التسمية الأكثر دقة، هي (نظرية فيزيائية) للقياس في (إطار مرجعي). اقترحها (ألبرت أينشتاين) عام (1905م) كبديل عن نظرية (نيوتن) في (الزمان والمكان لتحل بشكل خاص مشاكل النظرية القديمة فيما يتعلق بالأمواج الكهرومغناطيسية) عامة، والضوء) خاصَّة. وهي تُدعى (خاصة) لأنها تعالج حالة خاصة تتعلق بحركة المراجع (المختبرات) بالنسبة لبعضها البعض بسرعة منتظمة وفي خط مستقيم.

المعنى الذي يمكن تقديمه لكائن يُشبِهُ الشَّخصَ كائن خارجٍ عن الزَّمان؟).

يستمرُّ لفتو بالقول: (حسناً، الكثير من المحمولاتِ الشَّخصية ل-ن تنطبق. الإلهُ لا يمكن أن ينسى . أنتَ تنسى ما وقَعَ لكَ في الماضي. الإله لا يكُفُّ عن فعل شيءٍ ما. أنت تكف عن فعل شيء ما لواقع حَدَثَ لك في الماضي. لكن هناك محمولات شخصية أُخرى لا يبدو أنّها تُحيلُ بشكل أساسي إلى الزَّمان - الأشياء، مثل العِلْم (knowing)، الذي يمكن أن يكون مجرَّدَ حالة من الاستعداد (أي القابلية) دونَ أنْ يُحيل إلى زمان. وسأجادِلُ بأنَّ القصْدَ، يمكن أن يكون أيضاً حالة من الاستعداد بحيث لو كان شيئاً ما قد وقع، لكُنتَ قد فعلت شيئاً ما. لذا أنا أميل إلى الاعتقاد بأنَّ هناك أسباباً للاعتقاد بأنَّ الإله هو خارجُ الزَّمان. وأيضاً بأننا من الممكنِ أنْ نُقدِّمَ معنى لا يسوقنا إلى الغوص في مستنقع الوحل).

السُّؤالُ الثاني الذي تصدى له ليفتو كان هو: كيف يمكن أن نُقدِّمَ معنى الروح حاضرة بكل زمان ومكان، وتقوم بممارسة العمل في المكانِ أو في العالم؟

(إذا كان الإله غير زماني، فإنَّ أيّ شيءٍ يفعله، سوف يفعله دفعةً واحدة(1). ما كان له أن يفعل شيئاً ما أوَّلاً ثم يفعل الشيء الثاني بعد ذلك. وإِنَّما هو فعل واحد قد يكون له تأثير في أزمان مختلفة. قد يريدُ الإله بإرادةٍ واحدةٍ أنْ تُشرِقَ الشَّمسُ اليوم وأنْ تُشرِقَ غداً، وهذا ما

ص: 217


1- يُذكِّرنا هذا بقوله تعالى:«وَما أَمْرُنا إِلَّا وَاحِدَةً كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (القمر: 50). (المراجع).

يُؤثر على اليوم وغداً. مع ذلك، هذا ليس هو السُّؤال الأكثر أهمية.

السُّؤال الأكثر أهمية هو: كيف يمكن أن يكون هناكَ ارتباط سببيٌّ بين كائن لا زماني ولا مكاني وبين مجموع الزمان - المكان(1)؟ قدرَتُكَ على تقديم معنى لذلك يعتمد إلى حد كبير على نظريَّتِكَ في السَّببية(2). إذا كُنْتَ تعتقد أنَّ تصرُّرَ السَّبب يستبطنُ بشكل أساسي إحالة زمانية - كما لو وقع حدث ما، تبعه حدثٌ آخر ، وكانت بينهما علاقات معينة - فإنَّ هذا المعنى للسَّبب سوف يتم استبعاده .(3)لكن هناك تحليلات للسَّببية لا

ص: 218


1- وهي معضلة تناولها فلاسفة الإسلام ببحث عميق تحت عنوان (ربط القديم بالحادث) أنظر أصول الفلسفة والمنهج الواقعي للسيّد الطباطبائي / تعليق الشيخ المطهَّري / المقالة الحادية عشرة والمقالة الرابعة عشرة. (المراجع).
2- وهذا بالضبط ما قدَّمهُ صدر الدين الشيرازي، عندما طرح نظريته في مناطِ احتياج المعلول إلى العلة. حيث بيَّنَ أنَّ المناط هو الفقر الوجودي، فالمعلول هو عين الربط والتعلُّق بالعلَّة، وليس شيئاً يعرض له الرَّبط والتعلَّق بالعلَّة (المراجع).
3- (فلو) يريد أن يؤكِّد على أنَّ المفهوم المتداول للسببية يستبطن مفهوم التعاقب الزمني للحوادث، وهذا المفهوم لن ينفعنا في المقام. فلا بد لمفهوم السببية أن يُجرَّدَ عن الزَّمان حتَّى يُستفاد منه في فهم علاقة الإله بالعالم ، لأنَّ الإله خارج إطار الزمان. بعبارة أخرى طالما بقي مفهومنا للسببية يُحيلنا إلى الزَّمان، فلن نستفيد منه في فهم علاقة الإله بالعالم. وهذا تماماً ما أكَدَ عليه فلاسفتنا، حيث ميّزوا بين السببية بمفهومها التجريبي، والسببية بمفهومها العقلي. وأكّدوا على أنَّ السببية بمفهومها العقلي تُعبّر عن علاقة الإيجاب والضّرورة بين ظاهرتين؛ فأيُّ ظاهرتين إحداهما تؤثر في إيجادِ الأُخرى حتماً، فالظاهرة المؤثرة منها هي السبب، والظاهرة الموجودة نتيجة ذلك التأثير هي المسبب. وأما السببية بمفهومها التجريبي، فهي لا تُعبّر عن الإيجادِ والتأثير والحتمية والضرورة، لأنَّ هذه العناصر لا تدخل في نطاق الخبرة الحسية، فالسببية بمفهومها التجريبي لا تعني سوى نوع معين من التتابع الزَّمني المطَّرِد بين ظاهرتين للتفصيل أنظر الأسس المنطقية للاستقراء لمحمّد باقر الصدر : 72 و 73 / القسم الثاني: الاستقراء والمذهب التجريبي / تحت عنوان: (موقف الاتجاه الأوّل من المشكلة الأولى والثالثة). بل يرتقى (فلو) بعد قليل ليقول بأن مفهوم السببية مجرَّدُ أساساً عن الزمان، لأنَّه أولي بديهي، لا يمكن تحليله وتجريده. وهذا يعني أنّه يقبل السببية بمفهومها العقلي كأساس ، ثمَّ يُفسّر السببية بمفهومها التجريبي على ضوئها. وهذا الموقف يشبه إلى حدّ بعيد موقف فلاسفتنا الذين أكدوا على أن السببية من المعقولات الفلسفية الثانية، التي تُمثَلُ الهيكل العظمي للمعرفة البشرية. (المراجع).

تستبطنُ إحالةً أساسية للزَّمان. أنا شخصياً أميل إلى فكرة أنَّ تصور السبب في الواقع لا تحليل له - أي إنّه مجرَّدُ تصور أولي، والسببية بذاتها هي علاقةٌ أوَّلية . إنّها جزء من أثاث (تجهيزات) العالَم. إذا لم يكن لتصوُّرِ السبب تحليل، فليس ثَمَّةَ شيء يمكن أن تقتلعه عن طريق التحليل (1)بنحو يستبعدَ الرَّبط السَّببي الأولي بين الإلهِ اللَّازماني والزَّمان بأسرِهِ .(2)

ص: 219


1- يقصد (فلو) أنَّ السببية لا تستبطنُ مفهوم الزمان أساساً، لنعمل على تجريدها منه، ثمّ تطبقها على علاقة الإله بالعالم. فالسببية - وفقاً لفلو - تصور أولي لا تحليل له. (المراجع).
2- Brian Leftow, personal conversation with the author, Oriel College, Oxford University, October 2006

إمكانية متماسكة

(A COHERENT POSSIBILITY)

على أقلِّ تقدير، بينت دراسات تريسي وليفتو أنَّ فكرة الروح الحاضرة في كل زمان ومكان ليست غير متماسكة في جوهرها، إذا ما نظرنا إلى هذه الرُّوح على أنّها فاعل خارج الزَّمانِ والمكان، يقوم بأفعالِهِ القصدية بطريقة فريدة في المتّصل الزَّماني - المكاني. والسؤال عما إذا كانت مثل هذه الرُّوح موجودة، كما رأينا، يقعُ في صُلْبِ حُجَج وجود الإله.

أما بالنسبة لصلاحية هذه الحُجَج، فأنا أتفق مع استنتاج كونواي، الذي قال: (إذا كان الاستدلال في الفَصْلِ السَّابق صلْباً، فإنَّه لا توجد حُجَجٌ فَلْسفيةٌ جيّدة تنفي وجودَ الإله لتكون تفسيراً للكون والنظام الذي يظهَرُ عليه. وإن كان الأمر كذلك، فلا يوجد سببٌ جيّد للفلاسفة يحول دون عودتهم مرة أخرى إلى التصور الكلاسيكي لموضوعِهِم، شريطة أن لا تكون هناك طرق أُخرى أفضل للظفر بالحكمة) .(1)

ص: 220


1- David Conway, The Rediscovery of Wisdom (London: Macmillan, 2000), 134

الفصل العاشر

الطريق مفتوحٌ أمام إلهٍ كامل القدرة

OPEN TO OMINIPOTENCE

ص: 221

ص: 222

العِلْمُ كعِلْمٍ لا يمكنُ أنْ يُقدَّمَ حُجَّةً على وجودِ الإله(1). ولكن الأدِلَّةَ الثلاثةَ التي ذكرتُها في هذا الكتاب - قوانين الطبيعة، الحياة مع تنظيمها الغائي، ووجود الكون - يمكن تفسيرها فقط على ضوء ذكاء يُفسر في وقتٍ واحدٍ وجودَهُ بذاتِهِ ووجود العالم. مثل هذا الاكتشاف للمُقدَّس لا يأتي عَبْرَ معادلات وتجارب، بل عَبْرَ فهم البُنَى التي تكشِفُ عنها وفهم الخريطة .

الآن، كلُّ ذلك قد يبدو مجرَّداً وغامضاً. قد تسأل : كيف أتصرفُ كشخص عند اكتشاف الواقعية القصوى لروح حاضرة في كلّ زمانٍ ومكان وقادرة على كل شيء؟ يجب عليَّ أنْ أُعيد تكرار القول بأنَّ رحلةً اكتشافي للمُقدَّس كانت إلى حد بعي-د رح-ل-ة عقل. لقد اتَّبعتُ الحُجَّةَ إلى حيث قادتني. وقد قادتني إلى القبول بوجود إله ذاتي الوجود، لا يتغيّر، غير مادي، على كلِّ شيء قدير، وبكل شيء عليم.

بالتأكيد، لا بدَّ من مواجهة مشكلة الشرور والمعاناة في العالم. ولكن فلسفياً، هذا موضوع منفصل عن التّساؤل عن وجود إله. من وجودِ العالم، نصل إلى أساس وجودِهِ. قد يكونُ للطَّبيعة نواقصُها،

ص: 223


1- لا يخفى على القارئ أنَّ المقصود ب_(العِلم) العِلم الطبيعي، كعلم الفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا... الخ، لأنَّ هذه العلوم ليست معنية بإثبات وجود الله أو إثبات عدم وجوده. نعم قد تُقدّم هذه العلوم معطيات، يُوظَّفُها الباحثون في اتَّجَاهِ الإيمان بالله أو في اتجاه الإلحاد... هذا ما يعنيه (فلو). (المراجع).

ولكن هذا لا علاقة له فيما إذا ما كان لها مصدر مطلق أو لا . ولذلك فوجود الإله لا يعتمد على الظفر بتبريرٍ لوجودِ الشَّر أو عدم الظُّفر بتبريرٍ لوجودِه.

فيما يتعلَّق بتفسير الشُّرور، هناك تفسيرانِ بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بوجودِ الإله. التفسير الأوَّلُ هو في إلهِ أُرسطو الذي لا يتدخل في العالم . أمَّا التَّفسير الثاني فيستند إلى دفاع الإرادة الحرّة، وهي فكرةُ أنَّ الشَّرَّ ممكن ما دامَ الإنسانُ حُرَّ الإرادة. في الإطار الأرسطي، بمجرَّدِ أنْ أتمَّ الإلهُ خَلْقَ الكون، ترَكَ الأمر لقوانين الطبيعة، وإن كان في بعض الأحيان قد يتدخل من بعيد في القضايا المبدئية، مثل إقامة العدل. دفاع الإرادة الحرّة يعتمد على القبولِ المُسبق بإطارِ الوحي الإلهي، وهي فكرةُ أنَّ الإله قد تجلَّى (أظهَرَ ذاتَهُ) .

ص: 224

منفتح لتعلم المزيد

(OPEN TO LEARNING MORE)

إلى أين أنا ذاهبٌ من هنا؟ في المقام الأوّل، أنا منفتح بنحو تام على التعلم أكثر عن الواقعية الإلهية، خصوصاً في ضوء ما نعرفُه عن تاريخ الطّبيعة. وثانياً أنَّ السُّؤال عما إذا كان الإلهُ قد تجلَّى بذاتِهِ (أَظهَرَ ذاتَهُ) في التاريخ البشري، يظل موضوعاً مشروعاً للنقاش. لا نستطيع أن نقصُرَ (نُحدِّدَ) إمكانيات الإله الذي هو على كلّ شيء قدير، إلَّا إذا كان أنتج ما هو غير ممكن منطقياً. عدا ذلك، كلّ شيءٍ مفتوح لإله كُلّي القدرة.

الملحقُ الثاني من هذا الكتاب هو عَرْضُ للنقاش الذي دار حول المسألة الأخيرة مع المتخصص بالكتاب المقدَّس والأسقف الإنجيلي رایت (N. T. Wright)، مع إشارة خاصة إلى الادّعاءِ المسيحي بأنَّ الإله أصبحَ رجُلاً في شخص السيد المسيح. كما قُلْتُ أكثر من مرة، ليس ثَمَّةَ دين آخر يتمتّع بمزيج من شخصية تمتلك جاذبية مثل شخصية المسيح، ومُفكّر من الدَّرجة الأولى مثل القديس بولس إذا كُنْتَ تريد من إله على كلّ شيءٍ قدير أنْ يُقيم ديناً، فإنَّ ما يبدو لي هو أنَّ هذا الدين هو ما يمكنُ المراهنة عليه.(1)

ص: 225


1- وسيأتي التعليق على ذلك، فانتظر. (المراجع).

***

ص: 226

على استعداد للتواصل

(WILLING TO CONNECT)

أُريدُ أنْ أعودَ الآن إلى المثالِ الذي بدأتُ به هذا الجزء من الكتاب. تكلمنا عن الهاتف الذي يعمل بالأقمار الصناعية، الذي تم اكتشافه من قبل قبيلة تعيش في جزيرة، والمحاولات التي جرت لفهم طبيعته. المثال انتهى مع حكيم القبيلة إلى تعرُّضه لسخرية وتجاهل من علماء القبيلة.

ولكن لتتخيَّلَ أنَّ المثال قد انتهى بنحو مختلف العلماء اختاروا تفعيل فرضية الحكيم بأنَّ الهاتف مجرد وسيلة للتواصل مع أُناس آخرين. وبعد مزيد من البحث، أكدوا النتيجةَ القائلة بأنَّ الهاتف مرتبط بشبكة تبتُ أصوات أُناسٍ واقعيين. العلماء الآن يقبلون بفرضية وجودِ کائنات ذكية (هناك في الخارج).

بعضُ علماء القبيلة ذهب إلى أبعد من ذلك. عملوا على فكّ شفرة الأصوات التي تأتي من الهاتف. وتوصلوا إلى نمط النغمات والنَّسَق الذي تتحدث به هذه الأصوات بنحو يُمكِّنهم من فهم ما قيل عالمهم بأسره يتغيَّر. هم يعرفونَ الآن أنّهم ليسوا وحيدين. وفي لحظة معيَّنة أجروا اتّصالاً.

من السَّهل تطبيق التشبيه في هذا المثال. اكتشاف ظواهر كقوانين الطّبيعة - شبكة الاتصال في المثالِ السَّابق - قادَ علماء وفلاسفة وآخرين

ص: 227

إلى القبول بوجودِ عقل ذكيٍّ لا نهائي. البعضُ يدَّعي أنَّه أجرى مكالمة مع هذا العقل . أماّ أنا فليس بعد ولكن من يعرف ما سيحدث لاحقاً؟

في يومٍ ما قد أسمع صوتاً يقول: (هل بمقدورك الآن أن تسْمَعَني؟).

ص: 228

الملاحق

اشارة

ص: 229

ص: 230

في هذا الكتاب، لخَصْتُ الحُجَجَ التي قادتني إلى تغيير وجهة نظري فيما يتعلق بوجودِ الإله. كما أشرتُ سابقاً، دافيد كونواي في كتابه (إعادة اكتشاف الحكمة)، لعب دوراً مهماً في هذا التغيير. كتاب آخر كنتُ قد أوصيتُ به في منتدى آخر، ه-و (العجيب في العالم) ل__(أبراهام فارجیز (Abraham Vargheses).

في مقدٍّمتي الجديدة لكتابي (الإله والفلسفة)، قلتُ: إِنَّ أيَّ أثر يأتي بعد هذا الكتاب، (لا بدَّ أنْ يَضَعَ في حسبانه) كتاب (العجيب في العالم)، الذي قدَّمَ حُجَّةً شاملةً للغاية، حُجَّة استقرائية من النّظامِ الساري في الطبيعة. وعندما تعاون معي فارجيز في تأليف الكتاب الحالي، طلبْتُ منه أنْ يُلْحِقَ بتأملاتي تحليلاً وتقييماً للحجج التي طرحها الجيل الحالي من الملحدين. ورقتُهُ كان عنوانها (الإلحاد الجديد: تقييم نقديٌّ ل__(دوكينز، دینیت، ولبرت هاريس، وستينجر)، وهي تُشكّل المُلْحَقَ الأَوَّل.

المُلْحَقُ الثاني يتعلَّق بالادعاء بأنَّ هناك وحياً ذاتياً للإله في التاريخ البشري تجسَّدَ بيسوع المسيح. هذا الادعاء تمَّ الدفاع عنه بواسطة أحد الأعلام المتخصصين في العهد الجديد، وهو الأُسقف نيكولاس توماس رايت. وبرأيي، أجاب رايت، في الكتابِ الحالي وفي كتابه على السواء، عن انتقاداتي السابقة المتعلقة بالوحي الذاتي المقدَّس، بنحو يُعبّر عن أقوى استعراض للمسيحية اطلعتُ عليه.

ص: 231

لقد ألحقْتُ هذين في كتابي هذا لأنهما معاً أمثلة لاستدلالٍ قادني إلى تغيير وجهة نظري حول وجود الإله. لقد شعرتُ أنَّ من المناسب أن ألحقهما بكتابي بنحو كامل لأنّهما إضافة أصيلة للنقاش بنحو بالغ الدَّلالة، فضلاً عن كونهما يُعطيان للقارئ بعض الإضاءة حول اتجاه رحلتي العقلية الحالية. عندما يُؤخذان بالتزامن مع (القسم الثاني: اكتشافي للمُقدَّس)، فستجد أنّها تُشكّل كلا عضوياً يُقدِّمُ رؤيةً جديدةً في فَلسفة الدِّين.

ص: 232

الملحق الأول

الإلحاد الجديد

THE "NEW ATHEISM"

تقييمٌ نقديٌّ لدوكينز، دينيت، ولبرت، هاريس، وستينجر روي أبراهام فارجيز

Roy Abarahm Varghese

ص: 233

ص: 234

أساسُ (الإلحاد الجديد New Atheism) يقوم على الاعتقاد بعدَمِ وجود إله، لا وجودَ لإله خالد لا متناه مصدر لكل الموجودات. هذا الاعتقاد الأساسُ يحتاجُ إلى تأسيس حتّى تصح بقيَّة الحُجَج. أدعي هنا أنَّ المُلْحدينَ الجُدد) من أمثال ريتشارد دوکینز (Dawkins Richard)، دانیال دینیت (Daniel Dennette) لويس والبرت Lewis Wolpert)، وسام هاريس (Sam Harris)، وفيكتور ستينجر (Victor Stranger)، لم يفشلوا

فقط في تقديم سبب لهذا الاعتقاد، بل إنّهم تجاهلوا الظواهر الواضحة المتعلّقة تحديداً بالسُّؤال عما إذا كان الإله موجوداً .

كما أرى، هناك خمسٌ ظواهر واضحة في خبرتنا المباشرة لا يمكنُ تفسيرها إلَّا بلُغةِ الإيمان بوجود إله. هذه الظَّواهر هي:

الأولى: العقلانية المتضمنة في جميع خبراتنا الحسية عن العالَمِ الفيزيائي.

الثانية: الحياةس ، القدرة على الفعل بنحو مستقل.

الثالثة: الوعيُ، القدرة على أن تكونَ مُدْرِكاً.

الرابعة : الفكر التصوري (conceptual thoughts)، القدرة على التعبير وفهم الرموز كتلكَ الموجودة في اللُّغة.

الخامسة : النَّفْس (الذَّات) البشرية (مركز) الوعي والفكر والفعل.

هناك ثلاثة أشياء يجب أنْ تُقال عن هذه الظواهر وارتباطها

ص: 235

بوجود الإله:

أولاً: نحنُ اعْتَدْنا على سَماعِ حُجَج وأدلة على وجودِ الإله. في رأيي، أنَّ هذه الحُجَجَ مفيدة في توضيح بعض الأفكار الأساسية، ولكن لا يمكن اعتبارها ( براهين) بحيث تُحدّد صلاحيّتها الصُّورية ما إذا كان هناك إله(1). لأنَّ كلَّ واحدة من الظواهر الخمسة التي نستشهد بها هنا، بطريقتها الخاصة، تفترضُ مسبقاً وجودَ عقل أبدي لا نهائي. فالإله هو الشَّرطُ الذي يكمن وراءَهُ كلّ ما هو واضح بذاتِهِ (بديهي) في خبرتنا.

ثانياً: لا بدَّ أنْ يكون واضحاً من النُّقطةِ السَّابقة، أنَّنا لا نتحدَّثُ عن احتمالات و فرضيات، وإنَّما نتحدَّثُ عن مواجهة مع واقعيات أساسية لا يمكن إنكارها دونَ الوقوع في تناقض ذاتي.

بعبارةٍ أُخرى: نحن لا نطبق مبرهنات الاحتمال على مجموعات معيَّنة من المعطيات، ولكنَّنا نُركّز أكثر بكثير على السُّؤال الأساسي حول كيف يمكن تقييم المعطيات من الأساس(2). وبالمثل، فإنَّ الأمر ليس

ص: 236


1- يقصد (فارجيز) هنا أنَّ الأدلة التي يمكن أن تُقدَّم كحُجج على وجود الإله، قد تكون سليمة من الناحية الصورية، لكنَّها قابلة للتفنيد من ناحية المادة والمضمون. والبرهان حتَّى يكون صَلْباً، كما تقرر في عِلم المنطق، لا بدَّ أن يكون سلياً من حيث الصورة وصادقاً من حيث المادة، حتّى تصح النتيجة التي ينتهي إليها. أقول : يمكن مناقشة فار جيز بأنَّ الظواهر الخمس التي يُقدِّمُها يمكن أن تُصاغ على هيئة براهين سليمة من حيث الصورة، وصادقة من حيث المادة، في وقت واحد. (المراجع).
2- أقول : الفشل في صياغة تلك المعطيات على هيئة دليل قائم على مبرهنات نظرية الاحتمال، لا يعني عدم إمكان ذلك. فقد نجح السيد محمد باقر الصدر في القيام بهذه المهمَّة نجاحاً لا نظير له، كما نرى في كتابه (الأُسس المنطقية للاستقراء)، حيث صاغَ دليلَ النَّظم بنحو ينسجم مع منطق الاحتمال وبديهياته. (المراجع).

مجرَّد مسألة استنتاج وجود إله من خلال وجود ظواهر معقدة معيّنة، لأنَّ وجودَ الإله تفترِضُهُ مسبقاً كلُّ الظَّواهر.

ثالثاً: يشتكي الملحدونَ، القدماء والجُدد، من عدم وجود دليل على وجود الإله، وقد ردَّ بعض الموحدين على ذلك بالقول بأنَّ إرادَتَنا الحرة لا يمكن أن تصمد إلَّا إذا كان الدَّليل غيرُ قَسري (noncoercive).(1)

المقاربةُ المتبعة هنا هو أنَّ لدينا كل الأدلة التي نحتاجها على وجودِ الإله) في خبرتنا المباشرة، وأنَّ الرَّفضَ المتعمَّد ل__(رؤيةِ) الواقع هو وحده المسؤول عن الإلحادِ بصيغِهِ المُتعدّدة.

عند النَّظر في خبرتنا المباشرة، دعونا نقوم بخبرة فكرية. فكِّر لدقيقةٍ واحدةٍ أنَّ أمامَكَ طاولة من الرُّخام. هل يمكن أن تتصوّر، لو افترضت مرور مليارات السنين أو زمن لا نهائي، أنَّ هذه الطاولة يمكن أنْ تتحوّل بصورة مفاجئة أو تدريجية إلى مُدركة وواعية لما حولها، وواعيةٍ بهويَّتِها بالطَّريقة التي تعي بها الأمور؟ بكلمةٍ: لا يمكن تعقل حدوث أو إمكانية حدوث ذلك. والشَّيء ذاته ينطبق على جميع الأشياء المادية. بمجرد أنْ تُدرِكَ طبيعة المادة، المكونة من كتلة - طاقة، تُدرِكُ أنَّ طبيعتها تجعل من المستحيل أن تصبحَ (مُدركة)، أو (تُفكِّر)، أو تقول: (أنا). لكن موقفُ الملحدين يتمثل في أنَّه، في نقطة معينة من تاريخ هذا الكون هذا المستحيل وغير المتعقل تحوّل إلى واقع. والمادَّةُ غير المميّزة

ص: 237


1- المقصود هنا أنَّ الدَّليل على وجودِ الإله لو كان علةً تامة (= شرطاً كافياً) للإيمان به، لسلَبَ الدَّليل حرية الإردة في القبول به أو عدم القبول. فالحفاظ على حرية الإرادة، يتطلب افتراض أنَّ الدليل على وجودِ الإله يكون مجرَّد (مُقتض) للإيمان به، لا (علة تامّة) له. (المراجع).

(ونضَعُ ضمن ذلك : الطّاقة)، عند نقطة معينة، انبعثت فيها (الحياة)، وبعد ذلك أصبحت واعيةً، وبعدها أصبحت مُتقنةً، ثمَّ قالت: (أنا) .

لكن إذا عُدنا إلى مثالِ الطَّاولة، نرى بسهولةٍ لم أنَّ هذا مثير للضَّحِك ؟ فالطَّاولة لا تمتلك خصائص الوعي، ولو افترضنا أنا أعطيناها وقتاً لا نهائياً، فلا يُمكِنُها (اكتساب) مثل هذه الخصائص. حتَّى إذا قبلنا ببعض السيناريوهات غير المعقولة عن أصل الحياة، فإنّه لا بدَّ للمرء أنْ يتخلّى عن عقلِهِ حتّى يقبَلَ بسيناريو يقول: إنَّ قطعةً من الرُّخام، تحتَ شروط معينة، يمكن أن تُنتج تصورات. وعلى المستوى دون الذري (subatomic level)، ما ينطبق على الطاولة، ينطبق على بقيَّة الأشياء المادِّية في الكون.

على مدى الثلاثمائة السنة الماضية ، كشَفَت العلوم التجريبية بما لا يُعَدُّ ولا يُحصى المزيد من المعطيات عن العالم الفيزيائي أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يصعُبُ على أجدادنا تخيلةَ. وهذا يشمل الفهم الشَّامل للشَّبكات الوراثية والعصبية التي تكمن وراءَها الحياة والوعي، والفكر، والذَّات . بل أبعد من ذلك، هذه الظواهر الأربعة تعمل مع البنية التحتية الفيزيائية بشكل يُمكننا من الفهم بشكل أفضل أكثر من أي وقت مضى، بينما العِلْمُ ليس بمقدورِهِ أنْ يُخبرنا شيئاً عن أصل أو طبيعة الظواهر في ذاتها .

وعلى الرَّغم من محاولة بعض العلماء كأفراد، تفسير هذه الظواهر على أنَّها تجلُّ (ظهور) (manifestations) للمادة، فإنَّه لا مجال للبرهنة على أنَّ فهمى لهذه الجملة ما هو إلَّا انتقال لإشاراتٍ عصبية محدّدة.

من المؤكَّد أنَّ هناك إشارات عصبية تُرافِقُ أفكاري، وقد بيّنَ عِلْمُ

ص: 238

الأعصاب الحديث أنَّ مناطق معيَّنة في الدَّماغ تدعم أنماطاً مختلفةً من الأنشطة الذهنية. ولكن القول بأن فكرةً معيَّنةً ما هي إلَّا انتقالٌ لمجموعة محدّدة من الإشارات العصبية هو قول تافه، بنفس درجة تفاهة فكرة أنَّ العدل ما هي إلا حبر على ورق. ولذا فإنَّ القول بأنَّ الوعي والفكر هو مجرَّدُ انتقال فيزيائي (physical transactions) هو قولٌ غير متماسك.

ونظراً لضيق المساحة هنا، أُقدّم نظرة عامة مختصرة للغاية للظواهر الخمس الأساسية التي تُمثّلُ أساساً لخبرتنا عن العالم، والتي لا يمكن تفسيرها ضمن إطار (الإلحاد الجديد New Atheism). ويمكن الاطّلاعُ على دراسة أكثر تفصيلاً في كتابي المقبل (الحلقة المفقودة).(1)

ص: 239


1- صدر هذا الكتاب ل__( فار جيز) سنة (2012م)، في مطبعة الجامعة الأمريكية. (المراجع).

العقلانية (1)

(RATIONALITY)

يسأل دوكينز وآخرون: (من خلَقَ الإله؟) الآن، من الواضح أنَّ الموحدينَ والملحدينَ مُتَّفقون على شيءٍ واحد، وهو أنه إذا كان هناك شيء ما موجود، فيجب أن يكون هناك شيءٌ ما سبَقَهُ، وأنه دائم الوجود. كيف جاء هذا الواقع الأبدي؟

الجواب: هو أنه لم يأتِ مطلقاً، لأنَّه موجود على الدوام. اختر أمراً من أمرين : إمَّا الإله أو الكون. لا بدَّ من شيء ما دائم الوجود.

بالدِّقة، عند هذه النقطة تبرز الحاجة للعقلانية خلافاً لاعتراضات الملحدين، فإنَّ هناك فرقاً جوهرياً بين ادعاء الملحدين والموحدين فيما يخصُّ دائمَ الوجود. يقول الملحدون: تفسير الكون هو أَنَّه موجود منذ الأزل، لكننا لا نستطيع تفسير حالة الوجود الأزلي التي

ص: 240


1- قُلتُ فيما مضى: إنَّ العقلانية (rationality) تصور حيوي بالغ الأهمية في الفكر الغربي الحديث والمعاصر، وله تعريفات متعدّدة، ومواقف الفلاسفة منه مختلفة. لكن التصور المشهور عن العقلاني-ة أن-ه الموقف الرشيد الذي يستند إلى مُبرِّرات موضوعية. فالاعتقاد أو القرار العقلاني هو الذي يقفُ على أرضيةٍ صَلْبة ومعطيات كافية، في مقابل الاعتقاد أو القرار غير العقلاني الذي يكون ذاتياً، ولا يقف على أرضية صلبة ومعطيات كافية. وعندما يتحدثون هنا عن عقلانية تحكُمُ الكون، فإنَّما يقصدون نفي العبثية العمياء، ووجود غاية حكيمة ومُبرّرات موضوعية وراء الأفعال الجارية فيه. (المراجع).

جاءت بهذا الكون هذا الكون عصيٌّ على التفسير، ويجب أن يُقبَلَ كما هو . في المقابل، يُصِرُّ الموحدون على أنَّ الإله ليس عصيّاً على التفسير وجوده عصي على فهمنا، لكن ليس عصيّاً على الإله.

إنَّ وجودَ الإله الأبدي لا بدَّ أنْ يكونَ له منطقه الخاص، لأنَّ وجودَ العقلانية في الكون مشروط بأن يكون هذا الوجود قائماً على أسس عقلانية مطلقة ( ultimate rationality)

بعبارة أخرى الحقائق الفردية (singular facts)، من قبيل قدرتنا على معرفة وتفسير الحقيقة، والترابط بين الأعمال (workings) الموجودة في الطَّبيعة ووصفنا المجرَّد لهذه الأعمال (abstract descriptions) وه-و م-ا يُسمِّيهِ عالم الفيزياء يوجين ويغنر (Eugene Wigner التأثير المنطقي للرياضيات (reasonable effectiveness of mathematics) ودور الشَّفرات (أنظمة الرموز التي تعمل في العالم الفيزيائي) في النظام الوراثي والعصبي في المستوياتِ الرَّئيسية للحياة، تتجلى (أو تتمظهر) باعتبارها الرَّكائز الأساسية لطبيعة العقلانية (nature of rationality). ما هو المنطق الداخلي الذي لا نستطيعُ رُؤيَتَهُ، رغمَ أنَّ الأفكار التقليدية تُعطي بعض المؤشرات عن طبيعة الإله؟

على سبيل المثال، السيّدة اليانور ستمب (Eleonore Stump) والسيدة نورمان كرتزمان (Norman Kretzmann)، تُناقشان بالقول: إنَّنا عندما نفهم بشكل كامل خاصّيَّة البساطة المطلقة للإله، فإنَّه يُمكننا تبين لم عدم وجود الإله غير ممكن. ألفن بلانتينغا يشير إلى أنَّ الإلهَ يُفهَمُ على أنَّه واجب الوجودِ في كل العوالم الممكنة.

يمكن للمُلحدين أنْ يَرُدُّوا على هذا الكلام بطريقتين : أنَّ للعالَمِ

ص: 241

منطقاً داخليّ لا نستطيع رؤيتُهُ، أو أننا لا نحتاج أن نعتقد بوجوب وجودِ إله له منطقه الخاص في الوجود.

في النُّقطة الأولى، سوف يردُّ الموحدون بالقول: إنَّه لا وجودَ لشيء من قبيل (الكون) بنحو يتجاوز مجموع ما يتكون منه، ونحنُ نعلَمُ كحقيقة أنَّه لا شيء من أشياء الكون له أي منطق داخلي لوجود لا نهائي.

في النُّقطة الثانية، يشير الموحدونَ إلى أنَّ وجود العقلانية التي نخبُرُها بنحو غير قابل للخطأ - ويترواح ما بين قوانين الطبيعة إلى قدرتنا على التفكير العقلاني - لا يمكن تفسيره إذا لم يكن له أساس مطلق (ltimate ground) ، هذا الوجودُ للعقلانية ليس سوى العقل اللانهائي. (الكونُ عقلانيٌّ)، هذا ما لاحظه عالم الرياضيات المشهور کورت جودل (Kurt Godel)(1). علاقة العقلانية بالكون تتمثل في أنَّ (النظام في الكون يعكس نظام العقل الخارق الذي يحكُمُهُ)(2). واقعيةُ العقلانية في الكون لا يمكن تجنبها من خلال أيّ نحو من أنحاء اللجوء إلى فكرة الانتخاب الطبيعي (Natural selection). فالانتخاب الطبيعي يفترضُ مسبقاً وجودَ كيانات فيزيائية تتفاعل فيما بينها وفقاً لقوانين مُحدَّدة ورموزَ تُنظم عملية الحياة. وأن تتكلَّم عن انتخاب طبيعي، فهذا يعني أن تفترض وجودَ قَدْرٍ من المنطقِ في حوادثِ الكون وأن بمقدورِنا

ص: 242


1- Hao Wang, A Logical Journey: From Gödel to Philosophy (Cambridge, MA: MIT Press, 1996),316
2- Einstein (New Palle Yourgrau, A World Without Time: The Forgotten Legacy of Gödel and York: Basic Books, (2005 104-5

فهم هذا المنطق.

بالعودةِ إلى المثالِ السَّابق لطاولة الرُّخام، نقول: إنَّ العقلانية الواقعية التي تقفُ خلف تفكيرنا والتي تواجهنا في دراستنا لكون دقيق رياضياً، لا يمكن أن تكون نشأت من حجارة. الإله ليس حقيقةً عمياء (ultimate brute fact)، وإنما عقلانية مطلقة في كل جوانب الوجود.

لوي جديدٌ - ولو بنحو غير قابل للتعقُل - للسؤال عن أصل الواقعية الفيزيائية، جاءَ من دانیال دینیت (Daniel Dennett) الذي زَعَم بأنَّ الكونَ (خلَقَ نفسَهُ من العدم، أو على أحسن الأحوال من شيء لا يمكن تمييزه عن العدم أبداً) .(1)تمَّ عرْضُ هذه الفكرة بشكل أكثرَ وضوحاً من جانبِ مُلْحدٍ آخر حديث، هو عالم الفيزياء فيكتور ستينجر (Victor Stenger)، الذي قدم حله لمسألة أصل الكون وقوانين الطبيعة في كتابه (ليس من خلال التصميم أصل الكون، هل أوجَدَ العِلْمُ الإله؟ الكونُ القابل للفهم والإله الفرضيةُ الفاشلة) .(2)

ضمنَ أُمورٍ أخرى، ستينجر يُقدِّم نقداً جديداً لفكرة قوانين الطّبيعة وما يترتّب عليها. في كتابه (الكونُ القابل للإدراك The Comprehensible Cosmos)، يقول ستينجر: إنَّ ما يُقال له: (قوانين) لم ينزل من أعلى، ولا هو عبارة عن قيود ذاتية (built-in restrictions) لسلوك المادة. هي قيودٌ بالمعنى الذي يُمكِنُ لعُلماء الفيزياء أن يصيغوا معادلاتهم الرّياضية حول الملاحظات الحسية. موقف ستينجر مبنيٌّ على تفسيره

ص: 243


1- Daniel Dennett, Breaking the Spell (New York: Viking, 2006), 244
2- Comprehensible Not by Design: The Origin of the Universe, Has The Science Found God? Cosmos, and God: The Failed Hypothesis

لفكرة أساسيةٍ في الفيزياء الحديثة، وهي التناظر (symmetry). فوفقاً لوجهةِ النَّظر الفيزيائية الحديثة، فإنَّ (التّناظر) هو أيُّ نمط من أنماط التحول (transformation) لا يمَسُّ قوانين الفيزياء - التي تنطبق على النظام - بأيِّ تغيُّر.

لقد تم تطبيق الفكرة في البداية في المعادلات التفاضلية (differential equations) للميكانيكا الكلاسيكية والكهرومغناطيسية، بعد ذلكَ تمَّ تطبيقها بطرق جديدة على نظرية النسبية الخاصة ومشاكل ميكانيكا الكم. يُقدِّمُ ستينجر لقُرَّائِهِ لمحة عامةً لهذه الفكرة القويّة، ولكن بعد ذلك ينتهي إلى نتيجتين غير متماسكتين: الأُولى هي أنَّ فكرة التماثل تستبعد (تقصي) فكرة قوانين الطبيعة، والثانية أنَّ اللاشيء يمكنُ أنْ يُنتج شيئاً ما لأنَّه (لا شيء) غير مستقرٍّ .

من المدهش أنَّ كتاباً صدَرَ بعنوان (التَّناظُرُ المخيف Fearful symmetry) مُؤلّفه أنتوني زي (Anthony zee)، وهو معروف في مجال دراسات التناظر، يستخدمُ الحقائق نفسها التي يسوقها ستينجر ليصل إلى نتيجة مختلفة:

(التّناظرات لعبت دوراً مركزياً بشكل متزايد في فهمنا لعالَمِ الفيزياء... علماء الفيزياء الأساسيون يقولونَ: إِنَّ التَّصميم المطلق (ultimate design) يواجه صعوبات مع التّناظُرات. الفيزياء المعاصرة لم تكن ممكنةً بدون التناظرات التي تُرْشِدُنا ...، كلما تقدمت الفيزياء إلى الأمام من خلال خبرتنا اليومية، اقتربت أكثر من المصمّم المطلق (Ultimate Designer) ، لقد تم تدريب عقولنا بعيداً عن مراسيها المألوفة.... أُحِبُّ التفكير في مُصمّم مُطلَق يتم تعريفه من خلالِ

ص: 244

التَّناظُر).(1)

يجادل ستينجر بأنَّ (اللاشيء) متناظر تماماً لأنه لا يوجد موضع مطلق (absolute position) ، أو زمن مطلق، أو سرعة مطلقة، أو تسارع مطلق في الفراغ( acceleration in the vid). ورداً عن سؤال (من أينَ جاءَ التَّناظرُ ؟)، يقول ستينجر: إنَّها التَّماثلات في الفراغ (symmetries of the

void)، لأنَّ قوانين الفيزياء هي مجرَّدُ ما يتوقَعُونَهُ إِذا جاءَت من لا شيء).

مغالطة ستينجر الأساسية مغالطة قديمة، تتمثل في خطأ النَّظَر إلى (اللاشيء) على أنه ( شيءٌ ما). على مدى قرون من البحث في تصور العدم (concept of nothing) ، حَرَصَ المُفكّرون على التأكيد على أنَّ مصْطَلَحَ (العدم) لا يعني (شيئاً ما) . العدمُ المطلق يعني أن لا وجود القوانين، لا ،فراغ لا طاقة، لا بنَى ، لا وجود لكيانات مادية أو عقلية من أي نوع، وكذلك لا وجود لتناظرات. وليس هناك خصائص أو قابليات ( potentialities) . العدمُ المطلق لا يمكن أن يُنتج شيئاً ما إذا ما أُعطِي وقتاً لا نهائياً. وفي الحقيقة، لا وجود لزمانٍ في العدمِ المطلق.

ولكن ماذا عن الفكرةِ الرَّئيسية لكتاب ستينجر (الإله: الفرضية الفاشلة)، التي تذهب إلى أن نشوء الكون من (العدم) لا يُخالف مبادئ الفيزياء، لأنَّ الطَّاقةَ الصَّافية (net energy) للكون هي صفر ؟ هذه الفكرةُ طُرِحَت لأوّل مرّةٍ من قبل الفيزيائي إدوارد تريون (Edward Tryon)، الذي بيَّنَ أنَّ الطَّاقَةَ الصَّافية للكون هي صفر تقريباً، وبالتالي لا يوجد تناقض في القول: إنّها خرجت من العدم لأنّها عدم إذا أضفتَ طاقة

ص: 245


1- Anthony Zee, Fearful Symmetry (New York: Macmillan 1986) 280-81

الجاذبية الأرضية، التي هي سالبة، إلى بقية كتلة الكون الشاملة، وه-ي موجبة، فإنَّ الناتج سوف يكون صفراً تقريباً. وعندها لن توجد حاجة إلى طاقة تصنَعُ الكون، ولذلك لا حاجة لخالق.

بخصوص هذا الادعاءات وأمثالها، أشار الفيلسوف الملحد سمارت (J. J. C. Smart) إلى أنَّ مصادرة وجود كون بطاقة صافية تساوي الصفر، تبقى لا تجيب عن السؤال: لماذا لا بد أن يكون هناك شيءٌ ما بالأساس ؟ لاحظ سمارت أنَّ الفرضية وصياغاتها الحديثة تفترض وجود بنية زمان-مکان ، وحقل كمي (the quantum field)، وقوانين طبيعة. وبالتالي، فهي لا تجيب عن السؤال لماذا توجد الأشياء؟ كما لا تجيب عن سؤالٍ فيما إذا كان هناك سبب غير زماني للكونِ الزَّمكاني (1)؟

الواضح من هذا التحليل أنَّ ستينجر ترَكَ سؤالين أساسيين دونَ إجابة، وهما: لماذا توجد بعض الأشياء وليس عدم مطلق؟ ولماذا الشَّيءُ الموجودُ يتوافق مع التَّناظُرات أو يُكوِّنُ بُنَى (structures) مُعقّدة؟

عرَضَ زي (Zee) حقائقَ التَّناظُر نفسَها التي اعتمد عليها ستينجر للوصول إلى نتيجة مفادها أنَّ عقل المصمّم المطلق هو مصدرُ التّناظر. قوانينُ الطَّبيعة في الحقيقة، تعكسُ التَّناظُر الكامن في الطَّبيعة. إنَّه التّناظُر - وليس قوانينَ الطَّبيعة - هو الذي يُشير إلى عقلانية وذكاء الكون، وهي العقلانية المتجذرة في عقل الإله.

ص: 246


1- J. J. C. Smart and John Haldane, Atheism and Theism (Grat Debatesin Philosophy) (Oxford: Blackwell, 2003)228 ff

الحياة

(LIFE)

الظَّاهرةS التالية التي نريد مناقشتها هي الحياة. وفقاً لرؤية أنتوني فلو بشأنِ المادَّة في هذا الكتاب، لا حاجة لقول المزيد حول أصل الحياة مع ذلك، لا بدَّ من لَفْتِ النَّظر إلى أنَّ النقاش الحالي حول هذا السُّؤال لا يبدو أنّه يتناول القضايا الأساسية. هناك أربعة أبعاد للكائنات الحية. هذه الكائنات هي فاعلة (agents)، وتسعى لغاية (goal seekers)، وهي ذاتية التكاثر، وذات طبيعة سيميائية وجودها يعتمد على التفاعل بين الشَّفرات والكيمياء) . كل وأيُّ كائن حي إمَّا يفعل أو له قدرة على الفعل. وكلّ كائن من هذا القبيل هو المصدر الموحد (unified source) والمَرْكَزُ لكُلِّ أفعالِهِ. بما أن هؤلاء الفاعلين قادرون على البقاء أحياء والفعل بشكل مستقل، فإنَّ أفعالهم موجهة نحو أهداف بنحو ما، وهم يستطيعون إعادة إنتاج ذواتهم؛ وبالتالي فهم كائنات غائية (-goal seeking)، ذاتية التكاثر بنحو تلقائي. علاوةً على ذلك، أشار هوارد باتي، بأنَّكَ تجد في الكائناتِ الحيَّةِ تفاعلاً بين العمليات السيميائية (القواعد، الشَّفرات اللغات، المعلومات، الضّبط) مع الأنظمة الفيزيائية (القوانين، الدينامية، الطاقة، القوى والمادة).(1)

ص: 247


1- Howard H. Pattee, "The Physics 21 - 5: (2001) of Symbols: Bridging the Epistemic Cut," Biosystems 60

من بين الكُتُبِ التي نَدْرُسُها هنا، دوكينز فقط هو الذي تناولَ السُّؤال عن أصل الحياة. يقول ولبرت (Wolpert) ، وهو أحد البارزين في هذا الحقل: (لا نقول بأن كل الأسئلة العلمية المتعلقة بالتطور قد تم حلُّها . على العكس من ذلك، فإنَّ أصل الحياةِ بحد ذاتِهِ، وتطوُّر الخلية الذرية التي نتجت منها كلُّ الكائنات الحيّة، لا زالت غير مفهومة)(1). دينيت في أعمالِهِ السَّابقة، أخذ بعض المواقف المادية أخذَ المُسلّمات.

لسوء الحظ، فإنَّ مقاربة دوكينز لم تكن كافية، حتّى على المستوى الفيزيائي - الكيميائي، بل هي أسوأ. لكنَّه يتساءل(2): (كيف بدأت الحياة؟)، ثمَّ يُجيب: (أصلُ الحياة كان حدثاً كيميائياً أو سلسلة من الأحداث، حيث تم توفير الشروط الضَّرورية للانتخاب الطبيعي... عندما تتوفّر المكوّنات، فإنَّ الانتخابَ الطَّبيعي الداروني يأتي كنتيجة). كيف حدث ذلك؟ ابتكر العلماء سحر الأرقام الكبيرة... الجميل في المبدأ الأنثروبي أنَّه يقول لنا - على عكس حَدْسِنا بأَسْرِهِ : إِنَّ النَّموذج الكيميائي لا يحتاج سوى إلى توقع أنَّ الحياة سوف تنشأ على كوكب مرَّت عليه مليارات المليارات (من السنين) ليُعطينا تفسيراً شاملاً ومُرْضياً للحياةِ الحالية هنا) .(3)

بناءً على هذا النوع من التفكير المنطقي، الذي يمكن وصفُهُ على

ص: 248


1- Lewis Wolpert, Six Impossible Things Before Breakfast (London: Faber and Faber, 2006), 212 - 13
2- Richard Dawkins, The God Delusion (London: Bantam, 2000 )137
3- Dawkins, The God Delusion, 137-38

أنه تمرينٌ جريء للخرافة، كلُّ شيءٍ نرغب بوجودِهِ فلا بد أن يوجد، فقط إذا استَدعينا الأرقام الكبيرة. الحيوانات وحيدةُ القَرْن لا بدَّ أنْ توجد على عكس الحدس بأسْرِهِ. المتطلَّب الوحيد الذي تحتاجه فقط لتوقع) ما يحدث على كوكب ما مرت عليه مليارات المليارات (من السِّنين) هو (النَّموذجُ الكيميائي).

ص: 249

الوعي

(CONSCIOUSNESS)

لحسن الحظ، أنَّ الوَضْعَ ليس سيئاً في دراسات الوعي، على عكس الحال في المجالين السابقين. هناك في الوقت الحالي وعيٌ متزايدٌ بالوعي.

نحنُ واعون، ونحن نعي أنَّنا واعون. لا أحد يمكن أنْ يُنكِرَ ذلك دون أن يقع في تناقض ذاتي، وإن كان البعض يُصِرُّ على ذلك. المشكلة تصبح غير قابلة للحل عندما نُدرِكُ طبيعة الخلايا العصبية. أوَّلاً وقبل كلّ شيء، الخلايا العصبية لا تُظهر تشابهاً مع حياتنا الواعية. وثانياً وهو أكثر أهميةً، أنَّ خصائص الخلايا العصبية الفيزيائية لا تُوفّر بأي حال من الأحوال سبباً للاعتقاد بأن بإمكانها إنتاج أو أنها سوف تُنْتِجُ وعياً. الوعي يرتبط ببعض مناطق الدَّماغ، لكن عندما توجد أنظمة الخلايا العصبية المكونة من نيرونات في جذْعِ الدَّماغ، فإنَّها لا (تُنْتِجُ) وعياً . كحقيقة من الواقع ، وكما أشار العالم الفيزيائي جيرالد شرويدر ( Gerald Schroeder)، لا يوجدُ فَرْقٌ جوهري من الناحية الفيزيائية بين كومة من الرّمل وعقل آينشتين. فقط الإيمان الأعمى الذي لا أساس له في المادَّةِ يقف وراء الادعاء بأنَّ جُزيئات (Bits) المادة تستطيعُ (خَلْقَ) حقيقة جديدة لا تُشبِه المادَّة.

ص: 250

رغمَ أنَّ التيّارَ العام لدراسات الجسد - العقل اليوم يعترفُ بواقعية الوعي وما يستتبعه من غموض، إلَّا أنَّ دانيال دينيت هو أحد القِلَّة من الفلاسفة الذين لا يزالون يتهربون مما هو واضح (1). يقول دينيت بأنَّ السُّؤال عما إذا كان هناك بعض الأشياء هي (واعية واقعاً)، سؤالٌ غير مهم وغير قابل للإجابة، ويُؤكَّد على أنَّه يمكن للمكائن أن تكون واعيةً لأنَّنا مكائن واعية !

المدرسةُ الوظيفة (Functionalism)(2)هي (تفسير) دينيت للوعي،

ص: 251


1- فيلسوف أمريكي معاصر، يُعتبر من أعلام الإلحاد حالياً، وُلِدَ سنة (1942م). من أبرز المؤيدين لنظرية التطور، ومن خلالها يُفسّر وعي الإنسان. في كتابه (الوعي المفسّر) ، يجادل دينيت بأنَّه على الرغم من رفض غالبية الناس للثنائية الديكارتية، مع عناصرها الفيزيائية والذهنية المنفصلة، إلا أنهم لا يزالون يعتقدون أن الوعي عبارة عن منطقة أو عملية في الدماغ تجتمع عندها كل المكونات فيتحقق فيها الوعي؛ وكأن-ه يوجد خطّ نهاية للماضي عنده تصبح الأشياء واعية ويتم عرضها على المسرح أو الشاشة لتكون موضع عناية الجمهور الداخلي للفرد. يصفُ دينيت هذه الطريقة من التشبيه بأنّها جذابة، لكن طريقة باطلة في فهم الوعي في المدرسة الديكارتية المادية. (المراجع).
2- الوظيفية نظرية في فلسفة الذهن تقوم فكرتها الأساسية على أنَّ الحالات الذهنية تتقوم بدورها الوظيفي فحسب، فمع ظهور الكمبيوتر في أواخر الثلاثينات ظهرت أبعاد فلسفية لهذه التطورات التكنولوجية. فثارت تساؤلات من قبيل: ما المقصود بكمبيوتر ذكي؟ ما هو الفرق بين ذكاء الإنسان وذكاء الكمبيوتر؟ آلان تورنج يُعتبر من أعلام هذا المجال، حاول أن يجيب عن هذه الأسئلة سنة (1950م)، فوضع اختباراً لتحديد ذكاء الآلة، فعُرِفَ هذا الاختبار بعد ذلك ب_(The Turing Test)، وكان الاختبار على النحو التالي: نضع جهاز كمبيوتر في غرفة، وإنسان في غرفة أُخرى منفصلة، وثَمة حَكَم يتحدث إليهما عن طريقة رسائل نصية. الحكم لا يعرف في الغرفتين يوجد الكمبيوتر، وفي الأخرى الإنسان، وعليه أن يُحدّد ذلك من خلال تلك الرسائل النصية. لو عَجَزَ الحَكَمُ عن التمييز، فهذا يعني أنَّ الكمبيوتر يحاكي الإنسان (100٪)، وبالتالي فالكمبيوتر ذكي. من الواضح أنَّ آلان تورنج عرَّف ذكاء الآلة على أنَّه القدرة على محاكاة الإنسان. وهنا يظهر سؤال أكثر تعقيداً من الأوّل: الكمبيوتر هل يمكن أن يُفكِّر؟ وما معنى التفكير ؟ وما هو الفرق بين الإنسان والكمبيوتر من ناحية التفكير ؟ (المراجع)

حيثُ يقول: إنَّنا لا ينبغي أن نكون قلقين مما يُقالُ :له ظواهر عقلية ) . بدلاً من ذلك، ينبغي لنا أن نتحقق من الوظائف التي تقوم به-ا ه-ذه الظَّواهر. الألم هو شيءٌ يخلُقُ ردَّ فعل التَّفادي (avoidance reaction)؛ والفكر هو تمرين على حل المشكلة. لا يجب أن يُنظَرَ إلى الوعي باعتبارِهِ حدثاً خاصاً وقع في موضع خاص. كذلك الحال مع كل ما يُسمّى (ظواهر عقلية). أن تكون واعياً يعني أن تقوم بهذه الوظائف. ولأنَّ هذه الوظائف يمكن تكرارها من خلالِ أنظمةٍ غير حيَّة (مثال: كمبيوتر يحل مسائل)، فإنَّه ليس هناك أي غموض بخصوص (الوعي). وبالتالي ليس هناك أي سبب موجب للذهاب إلى ما هو وراء العالم الفيزيائي (المادي).

لكن ما أغفلَتهُ وجهة نظر دينيت هو حقيقة أن كل الأفعال العقلية تقترن بحالات وعي (conscious states)، وهي الحالات التي نكون فيها على إدراك بما نقوم به. لا تستطيع الوظيفية بأي حال من الأحوال تفسير أو أنْ تزْعُم القدرة على تفسير الحالات التي نكون فيها مدركينَ ،وواعين، نعرفُ ما نُفكِّرُ فيه (الكمبيوتر لا (يعرِف) ما يقوم به). حتّى الآن، الوظيفية لا تقول لنا شيئاً عمن هو المذرك، من هو الواعي، ومن هو الذي يُفكّر. يقول دينيت بطريقة تثيرُ العَجَبَ : إِنَّ أَساسَ

ص: 252

فلسفته يقومُ على الشَّخص الثالث المطلق (third-person absolutism)(1) وهو ما يجعله في موقف جازم ب_(أنا لا أؤمن بال__ أنا I do not believe in .(I

ومن المثير للاهتمام، أنَّ بعض أقوى منتقدي دينيت والوظيفية هم في ذاتهم علماء فيزياء من أمثال ديفيد بابينو (David Papineau)، جون سيرل (John Searle) وغيرهم. جون سيرل بالخصوص حاد في نقده لهذه النَّظرية (2)، حيثُ يقول : (إذا كنتَ تميل إلى الوظيفية، فأعتقد أنتَ لسْتَ

ص: 253


1- مصطلح (الشخص الثالث) رائج اليوم في فلسفة الذهن، ويرتبط بمشكلة فلسفية أثارها توماس ناجل (Thomas Nagel)، سنة (1974م)، في مقالة له بعنوان: كيف سيكون حالك لو كنتَ خفّاش (What Is it like to Be a Bat)؟ وهذه الخبرة الذهنية ي الأشهر والأهم التي أثارت مفهوم الوعي والخبرة الذاتية بالكيفية المحسوسة (Qualia). فكرةُ هذه الخبرة قائمة على أَنَّكَ مهما ظفرْتَ بدراسات عن الخفاش وحياته وإحساساته وتكوينه الفسيولوجي والعصبي، فكل هذه هي معلومات من منظور الشَّخص الثالث)، أي معلومات علمية مادية واضحة لأي شخص، وتشمل كل المعلومات المتعلّقة بالحالاتِ العصبية الدماغية للخفاش . هذه المعلومات لن تستطيع الإجابة عن سؤال: كيف لك أن تعيش كخفاش ؟ أي لن تمكنك من تذوق الخبرة الذاتية التي يعيشها الخفّاش نفسه (من منظورِ الشَّخص الأولى)، والتي تشمل الوعي والخبرة الذاتية بالكيفيات المحسوسة. إذن هي معلومات من منظور الشخص الثالث مهما تكاثرت، لن تكفي لوصف أي خبرة ذاتية من منظور الشخص الأول، لأنها ستظل ناقصةً وفاقدةً للتصريح باحاسیس والخبرات الذاتية. لاحظ أنَّ (الشَّخصَ الأَوَّلَ) هو الذي يعيشُ الوعي كخبرة حضورية بسيطة، و(الشَّخص الثاني) هو الذي يعي هذا الوعي كخبرة حضورية مركبة، و(الشخص الثالث) هو الذي يدرسُ الوعي كموضوع خارجي، أي هو شخص خارجي (أو كأنَّه خارجي)، لا يعيشُ بنفسِهِ خبرة الوعى التي يَدْرُسُها. (المراجع).
2- استمرَّ الجدل الواسع حول هذه الأسئلة، إلى أن جاء الفيلسوف الأمريكي جون سيرل (Searle) في سنة (1980م)، وشرح تجربة ذهنية للتمييز بين أنواع الذكاء الاصطناعي وأطلق على هذه التجربة اسم (الغرفة الصينية The Chinese room). يرى سيرل أن البرنامج ليس هو عقل الكمبيوتر ، ولا يعطيه .(وعياً). وتجربته هي كالتالي: لو جئنا بشخص لا يعرف شيئاً عن اللغة الصينية، وجلس في غرفة منعزلة، وأُعطى كتاباً بلُغتِ-هِ الأُمّ يشرح كيفية ترجمة الصينية إلى لغته الأُم وبالعكس ، ثم بعد ذلك وجهنا له أسئلة بالصينية، فهذا الشَّخصُ سوف يستعمل هذا الكتاب حتّى يفهم الأسئلة بلغته الأُمّ، ثمَّ يُترجم إجاباته باللُّغةِ الصينية. السُّؤال: إلى أي درجة سيظهر لمن هو خارج الغرفة أنَّ من بداخل الغرفة هو شخص صيني؟ النقطة الجوهرية هي هذه لو اشتركت فرضية الغرفة الصينية باختبار آلان تورنج فالأرجح أنّها ستنجح ، لأنَّ الحَكَمَ لن يُميّز بين الرَّجُل الصينى والرَّجُل الذي لغته الأُمّ غير صينية. السُّؤال الآن هذا الرَّجُل الذي يستخدم هذا الكتاب هل يفهم مِ اللُّغَة الصينية أم أنه مجرَّدُ محاكِ لها باستخدامه للكتاب؟ يقول سيرل: إنَّ الفرق بين هذين الموقفين هو الفرق بين ذكاء الإنسان الواعي ذي الإدراك، وذكاء الآلة التي تحاكي الإنسان، واختبار آلان تورنج لن يتمكن من التمييز بين هذين النمطين من الذكاء للتفصيل راجع: العقل لجون سيرل، ترجمة د. ميشيل متياس / سلسلة عالم المعرفة (343) / المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب /2007م الكويت. (المراجع).

بحاجةٍ إلى تفنيد، أنتَ بحاجة الى مساعدة) .(1)

على النقيض من دينیت، دافع سام هاریس (Sam Harris) بقوة عن واقعية الوعي المتجاوزة للفيزياء. فقال: (المشكلة ليست حولَ الدَّماغ، عندما يُستكشَفُ كنظام فيزيائي، فإنَّه يُظهِرُهُ على أنه حامل لأمر غريب الأطوار، بعد داخلي (interior dimension) يعيش فيه كل واحد منّا، يخبرُهُ كلُّ واحدٍ منَّا بوصفه (وعياً)) . والنتيجة هي مُروّعة، يقول: (الوعي ظاهرةٌ أكثر بدائية (غير متطوّرة) من الكائناتِ الحيَّة وأدمغتها. ولا يبدو

ص: 254


1- John Searle, The Rediscovery of the Mind (Cambridge, MA: MIT Press, 1992), 9.

أنَّ هناك طريقاً واضحاً لاستبعادِ (لاقصاء) مثل هذه الأطروحة بطريقة تجريبية) .(1).

يُحسَبُ لدوكينز أنه اعترف بأنَّ واقعية كلFA من الوعي واللغة تطرَحُ مشكلةً مُربكة. حيث قال: (أنا لا أستطيع، ولا ستيف بنكر (Steve Pinker)، تفسير الوعي الذاتي الإنساني (human consciousness subjective)، وهو ما يسميه الفلاسفة (كويليا qualia) (= الوعي بالكيفيات المحسوسة(. ففي كتابه (كيف يعمل العقل)، عرَضَ ستيف مشكلة الوعي الذَّاتي، من أين أتى؟ وما هو تفسيره؟ وكان نزيهاً بقَدْرٍ كاف للقول: (عليَّ أن أكونَ نزيهاً وأُصرّح (الكلام هنا ل__ ستيف)، وأنا أُردِّدُ ما قال (الكلام هنا لدوكينز). إنَّنا لا نعرف الجواب. إنَّنا لا نفهم تفسيراً لذلك) (2). أما ولبرت، فقد تجنَّبَ عمداً مسألة الوعي برمتها قائلاً: (لقد تجنَّبتُ بشكل متعمد أي نقاش حول الوعي).(3)

ص: 255


1- Sam Harris, The End of Faith (New York: Norton, 2004)208 - 9
2- Richard Dawkins and Steven Pinker, "Is Science Killing the Soul?" The Guardian-Dillons Debate, Edge (April 8, 1999).
3- Wolpert, Six Impossible Things Before Breakfast, 78

الفكر

(THOUGHT)

ما وراء الوعي (Beyond consciousness)، هناك ظاهرةُ الفكرِ والفهم ورؤية المعنى. كلُّ استخدام للغة يكشف ترتيباً للكون ذكياً غريزياً غامضاً. وكأساس لكل تفكيرنا، عمليات التواصل واستخدام اللُّغة هي قوة خارقة. إنّها قوَّةُ ملاحظة الاختلافات والتشابهات (differences and similarities) والتَّعميم(1) وعملية التّجريد للظَّفر بالكليات (universalizing)(2)، وهو ما يسميه الفلاسفة (تصورات concepts)، (كلِّيات universals) ، وما يُشبِهُ ذلك . هي قوَّةٌ طبيعية للبشر، مميّزة، وفريدة من نوعِها. كيف يُمكِنُكَ، منذ بداية طفولتِكَ، أَنْ تُفكِّرَ دونَ جهد في كلبِكَ قيصر (Caesar) والكلاب عموماً في آن مع (3)؟ أنت تستطيع أن تتصوَّرَ اللَّونَ الأحمر دون أن تتصوَّرَ بالخصوص شيئاً لونه أحمر (اللُّونُ الأحمر بالتأكيد لا يوجد بنحو مستقل، وإنّما فقط في الأشياء

ص: 256


1- أي الوصول إلى أحكام عامة من ملاحظة حالات خاصة، وهو ما يجري في الاستقراء. (المراجع).
2- أي عملية انتزاع المفاهيم الكُلّية من مصاديق جزئية، كانتزاع مفهوم (إنسان) الكُلّي من ملاحظة زيد وعمرو وبكر... الخ. (المراجع).
3- يتحدث هنا عن قدرة الإنسان المحيّرة على إدراك الجزئيات والكليات في وقت واحد، مثل إدراك (هذا الكلب) ، و (الكلب) الكُلّي أو قُلْ : فئة (الكلاب) عموماً. (المراجع).

الحمراء). أنتَ تُجرِّد (abstract) وتميّز (distinguish) وتُوحد (unify) دونَ أنْ يَأخُذَ الأمرُ من تفكيركَ لحظةً واحدة. هذه القوَّةُ التي تُفكِّرُ بالتصورات هي بطبيعتها تتعالى (transcends) عن المادة.

إذا كان هناك من يعترض على ذلك، فالاتّساقُ يقتضي منه التوقف عن الكلام والتفكير. في كل وقت يستخدمُ هؤلاء اللغة، فإنَّهم يُظهِرُونَ الدَّورَ الواسع للمعنى، التصورات، المقاصد، والمنطق في حياتنا. لذا من غير المتعقل الحديث عن قدرة مشابهة لدى المادة (لا عضو في الجسدِ يمارس التفكير)، ولكن المعطيات التي تأتي من الحواس كمواد خام، يتِمُّ بكل تأكيد توظيفها في عملية التفكير بمجرد أنْ تُفكِّرَ في هذا الأمر لدقائق معدودة، سوف تعرفُ على الفور أن الفكرة التي تقولُ بأنَّ التفكير بشيء ما هو مجرَّد عمل فيزيائي، تبدو سخيفةً ولا تستحق التفكير فيها. لنقل أنَّكَ تُخطط للقيام بنزهة مع عائلتِكَ

وأصدقائك. فأنتَ حينها ستفكّرُ في أماكن مناسبة مختلفة لقضاء النزهة فيها، وتُفكَّرُ في الأشخاص الذين تريد أن تدعوهم، والأشياء التي تريد أنْ تُحضِرَها معك، والسيارة التي سوف تستخدمها، وما يُشبه ذلك. فهل من المتماسك افتراضُ أنَّ التفكير بأيّ من هذه الأمور هو عمل فيزيائيٌّ؟

النُّقطةُ المهمة هنا، إذا تكلمنا بنحو دقيق، هي أنَّ دماغَكَ لا يفهم. وإنَّما أنتَ الذي تفهم . فدماغُكَ يُساعِدُكَ على الفهم، لكن ليس لأنَّ أفكارَكَ تحدثُ في الدَّماغ، ولا (لأنَّكَ) سببُ انطلاق الخلايا العصبية. الأحرى هو أنَّ فعلَكَ على أساس أنَّ فهمَكَ بأنَّ التخلُّص من الفَقْرِ شيء جيد، عبارةٌ عن عملية شاملة (holistic) لها جانبان، فهي عمليةٌ

ص: 257

تتجاوزُ الفيزياء في جوهرها (کمعنى)، وهي عملية فيزيائية في التنفيذ (ككلماتٍ وخلايا عصبية). الفعل (act) لا يمكن فصله إلى فيزيائي وما يتجاوز الفيزياء، لأنَّه فعل غير قابل للقسمة لفاعِل هو جوهرياً فيزيائي ومتجاوز للفيزياء في آن معاً. هناك بُنيةٌ (structure) للاثنين معاً، الفيزيائي والمتجاوز للفيزياء، ولكن تزاوجها شامل جداً، بحيث أن لا معنى للسؤال عما إذا كانت أفعالك فيزيائية أو متجاوزة للفيزياء أو مزيج منهما. إنَّها أفعال شخص متجسد و(متروْحِن) بنحوٍ محتوم.

الكثيرُ من التصوراتِ الخاطئة عن طبيعة الفكر تنشأ من التصوُّراتِ الخاطئة حول أجهزة الكمبيوتر. لكن دعونا نفترض أنَّنا نتتعامل مع كمبيوتر خارق مثل كمبيوتر الجين الأزرق (The Blue Gene) ، الذي يقوم بأكثر من مائتي تريليون عملية حسابية في الثانية الواحدة.

خطأُنا الأوّل أن نفترض أنَّ الكمبيوتر الخارق مثلُ النَّحلة أو البكتيريا. في حالةِ النَّحلة أو البكتيريا نحن نتعامل مع فاعل هو مركز الفعل، أي يقومُ بعملية عضوية موحدة ككُلِّ غايةُ أفعال هذا الفاعل كلّها هو الحفاظ على وجوده وتكاثره. أما الجينُ الأزرق فهو عبارة عن قِطَع تقوم مجتمعة أو منفردةً بعمليات (مزروعة implanted) موجهة (directed) من خالق هذا التَّجميع.

ثانياً، الكمبيوتر عبارة عن حزمة من أجزاء لا تعرف ماذا تفعل عندما تقوم بمعالجة ما (performs a transaction). تتم العمليات التي يقوم بها الكمبيوتر الخارق استجابةً لمعطيات وأوامر هي مجرد إشارات إلكترونية صرفة ودوائر كهربائية وموصلات. الإنسان يقوم بالعمليات والمعالجات نفسها، باستخدام آلية خاصة بالدماغ، لكن هي تتمُّ من

ص: 258

خلالِ مركز الوعي الذي يعي ما يقوم به، ويفهم ما تمَّ إنجازه، ويؤدي كل ذلك عن قصد. في المقابل، لا يوجد فهم، ولا إدراكٌ، ولا معنى، ولا قصد، ولا شخص يقوم بذلك عندما يقوم الكمبيوتر بالأفعال نفسها، حتَّى عند قيام الكمبيوتر بعمليات متعدّدة (multiple processors) تُعالج المعطيات بسرعات تفوق البشر. مُخرجات الكمبيوتر (تعني) لنا شيئاً (توقعات الطقس أو حسابك المصرفي)، لكن من زاوية حزمة القطع التي تُسمَّى (كمبيوتر) فإنَّ الأرقام الثنائية (binary digits) الصفر والواحد تؤدّي إلى نشاطاتٍ ميكانيكية. القولُ بأنَّ الكمبيوتر (يفهم) ما يقوم به، هو مشابه للقول بأنَّ خط الكهرباء يمكن أنْ يُفكِّرَ في مسألة الإرادة الحرَّة والحتمية، أو أنَّ المواد الكيميائية في أنبوب الاختبار تُطبق مبدأ عدم التّناقُض ( principle of noncontradiction) في حل المسائل، أو أنَّ مُشغل الأقراص (DVD Player) يستمتع بالموسيقى التي يعزِفُها.

ص: 259

الذَّات

(THE SELF)

من أهم المفارقات التي تورَّطَ بها المُلْحِدُون الجدد، تلك التي هي أوضَح من كل المعطيات ذواتهم. الواقع الفيزيائي / والمتجاوز للفيزياء (supraphysical/physical reality) الذي نعرفه من خلالِ الخبرة هو الخبرة ذاتها، أعني ذواتنا.

بمجرَّد أنْ نُدرك حقيقة أنَّ هناك منظور الشخص الأوَّل (first person)(1)الذي يتكلم بصيغة (أنا) ، (...ي) (الياء في مثل: (يَدي) و(سيارتي))، وصيغ المتكلم الأُخرى، فإنَّنا نُواجِهُ أعظمَ لُغَزِ كَكُل. مستذكرين لديكارت، (أنا موجود)، إذن أنا أُفكِّرُ، وأشعُرُ، وأقصد (أنوي)، وأعني، وأتفاعل . لكن من هو (أنا)؟ وأين هو ؟ وكيف أتى إلى الوجود؟ من الواضح أنَّ ذاتك ليست مجرد شيء فيزيائي، لكنها ليست متجاوزةً للفيزياء كذلك. إنّها ذات مُتجسّدة، وجسد متروحِن؛ ف_(أنتَ) لَسْتَ في خلية معيَّنة في الدَّماغِ أو جزء من أجزاء الجسد. خلايا جسدك تتغير باستمرار، ومع ذلك ف_(أنت) تظل كما أنت. عندما

ص: 260


1- مرَّ في تعليق سابق أنَّ (الشَّخصَ الأوّل) هو الذي يعيشُ الوعي كخبرةٍ حضورية بسيطة، و(الشَّخصَ الثاني) هو الذي يعي هذا الوعي كخبرة حضورية مركبة، و(الشخص الثالث) هو الذي يدرسُ الوعي كموضوع خارجي، أي هو شخص خارجي (أو كأنه خارجي)، لا يعيشُ بنفسِهِ خبرة الوعي التي يَدْرُسُها . (المراجع ) .

تدرسُ خلاياكَ العصبية، فإنَّكَ تجد أنَّ أيَّاً منها لا يملك خاصية أنْ تكون (أنا). بالطبع فإنَّ جسَدَكَ دخيل في تكوين ذاتك، لكن هو (جسَدٌ) لأَنَّه جسَدٌ ل__(الذَّات). أنْ تكونَ إنساناً هو أن تكونَ مُتجسّداً ومتروْحِناً.

في المقطَعِ الشهير من كتابه (رسالة في الطبيعة البشرية)(1)، يعلنُ هيوم أنَّه (عندما أتغلغَلُ بصورة حميمية إلى ما أدعوهُ (ذاتي) دائماً أقع على إدراك خاص ما... ولا يمكن أن أُمسِكَ بنَفْسي في أي وقت بدونِ إدراك حسيٍّ، كما لا يمكن أن أُلاحظ أي شيء سوى الإدراك الحِّسيٍّ). هنا هيوم يُنكِرُ وجودَ الذَات، لأنَّه كما يقول لم يستطع أن يجد (ذاته). ولكن ما هو ذاك الذي يُوحّدُ (unifies) خبراته المتعددة، ما هو ذاك الذي مكَّنَهُ من إدراكِ وجود العالم الخارجي، والذي ظل مستمراً خلال هذه العملية؟ من هو ذاك الذي أثار هذه التساؤلات؟ هيوم يفترضُ أنَّ ( ذاتي myself) هي حالةٌ قابلة للملاحظة (observable state) مثل تفكيره ومشاعره. ولكن الذات ليست شيئاً يمكن ملاحظته. إنّها حقيقة ثابتةٌ للخبرة (experience)، وهي في الحقيقة الأرضية والأساس لكُلِّ الخبرات.

في الواقع، من بين كل الحقائق المتاحة لنا، الذَّاتُ هي الأكثرُ وضوحاً وغير قابلة للإنكار ، وفي الوقت نفسه هي الأكثر خطورةً لجميعِ

ص: 261


1- (A Treatise of Human Nature) ترجمه إلى العربية عبد الكريم ناصيف دار/ الفرقد للطباعة والنشر / الطبعة الأولى/ 2016م/ دمشق/ سوريا. تجد هذه الفقرة تحت عنوان (الهوية الشخصية): 261 - 272 . (المراجع).

تيّارات المدرسة الفيزيائية (physicalism)(1) . في البداية، يجب القول: إنّ إنكار الذات لا يمكنُ ادّعاؤُه دونَ الوقوع في تناقض. جواب السؤال (كيف أعرِفُ أَنَّني موجود؟)، هو الرَّدُّ بسُؤال آخر: (ومن هو السَّائل؟) . الذَّاتُ هي ما نحن عليه، وليس ما لدينا . إنّها ال__(أنا) التي منها ينبثق منظورنا للشَّخص الأوّل (first-person perspective). نحن لا نستطيع تحليل الذات، لأنها ليست حالة عقلية (mental state) يمك--ن ملاحظتها أو وصفُها.

الواقعية التي نُدْرِكُها الأكثر أساسية، إذن، هي الذَّاتُ البشرية، وفهمُ الذَّاتِ يُلقي بأثرِهِ حتماً على بقيَّةِ الأسئلة الأساسية، ويُقدِّم لنا معنى للواقع ككُل. نحنُ نُدرِكُ أنَّ الذَّاتَ لا يمكن وصفها، وبلغةِ الكيمياء أو الفيزياء : العِلْمُ لا يكتشفُ الذَاتَ الذَّاتُ هي التي تكتشف العِلْمَ . نحنُ نُدرِكُ أنَّ الموقف من تاريخ الكون لن يكون متماسكاً إذا لم يكن الموقف (account) من الذَّاتِ متماسكاً .

ص: 262


1- هذه المدرسة ظهرت سنة (1956م) على يد آلین بلاس (Ullin T. Place). ففي مقالة له، شبه العلاقة بين الحالات العقلية والحالات العصبية الدماغية بالعلاقة بين البرق والشحنات الكهربائية. ولم تتطوّر أفكار بلاس لتظهر كنظرية متكاملة إلا في عام (1959م) على يد هربرت فيجل (Herbert Feigl) و سمارت (J.J.C.Smart)، وخصوصاً هذا الأخير الذي قال بكل صراحة: (الإنسان ما هو سوى ترتيب ضخم من الجسيمات المادية، وليس هناك فوق كل هذا أية حالات وعي إضافية). وهذا يعني أنَّ الوعي لا بدَّ أنْ يُفسَّرَ على ضوء الجسيمات المادية، وبالتالي لا يوجد عقلٌ أو روحٌ منفصل عن الدماغ. (المراجع).

الأصل المتجاوزُ للمادة (فوق المادَّة)

(THE ORIGIN OF THE SUPRAPHYSICAL)

كيف حدثَت الحياةُ والوعي؟ وكيف وُجِدَ الفكرُ والذَّات؟ يُبيِّنُ تاريخُ العالم النشأة المفاجئة لهذه الظواهر؛ فالحياة ظهرت مباشرةً بعد أن برَدَ كوكب الأرض، وبرَزَ الوعي بغموض في الانفجار الكمبري (Cambrian explosion)(1)، ونشأت اللُّغة من (الأنواع الرمزية symbolic species)(2) دون أي تطور مسبق. نطاق الظاهرة محل النقاش يبدأُ مع الشَّفْرة (Code) ، نُظم معالجة الرموز ، السَّعي نحو غاية (goal-seeking)، والفاعلين بقصد ل__ (intention-manifesting)، هذه الأمورُ في الطَّرَفِ الأوَّل، في مقابل : الإدراك الذاتي، الفكر التص- التصوُّري (thought conceptual) ، والذَّات البشرية في الطَّرفِ الآخر.

الطَّريق المتماسكُ الوحيد لوصف هذه الظواهر هو القول: إنَّ لها أبعاداً مختلفةً من الوجود، وأنّها ذات طبيعة تتجاوز الفيزياء بطريقة أو بأُخرى. هذه الظواهر دخيلةٌ بنحو كامل مع ما هو فيزيائي ولكن بصورة (جديدة) بشكل جذري. نحن لا نتكلم هنا عن (أشباحٍ في

ص: 263


1- ظهور مفاجيء جيولوجي لمستحدثات أسلاف الحيوانات المألوفة ضمن السجل الأحفوري الارضي
2- إشارة إلى كتاب تيرنس ديكون يجمع وجهات نظر من الأحياء العصبية ونظرية التطور والسميئيات

آلات ghosts in machines)(1) ، بل نتكلَّم عن فاعلين من أنواع مختلفة، بعضُها واعٍ، والبعض الآخرُ واعٍ ويُفكر. وفي كل حالة لا وجود لمذهب حيوي (vitalism) أو ثنائية (dualism) ، وإنما تداخل بنحو كامل (integration that is total)، شمولية (holism) تتضمن ما هو فيزيائي وما هو ذهني.

على الرَّغم من أنَّ المُلْحدينَ الجُدد فشلوا في استيعاب طبيعة مصدر الحياة والوعي والفكر والذات، فإنَّ السُّؤال عن أصل يتجاوز الفيزياء يبدو واضحاً: الأصل المتجاوز للفيزياء (فوق الفيزيائي) لا يمكن أن ينشاً إِلَّا من مصدر غير فيزيائي. الحياة، والوعي، والذَّاتُ، لا يمكن أن تنشأ إلَّا من مصدر حيّ واع ويُفكر. إذا كُنْتَ في مركز الوعي والفكر الذي يُمكِنُهُ أنْ يُحِبَّ ويقصد (ينوي) ويُنفّذ، فإنني لا أفهم كيف يمكن لمراكز هذه الأنشطة أن تأتي من شيء ما غير قادر على مثل هذه الأنشطة.

على الرَّغم من أنَّ العمليات الفيزيائية البسيطة يمكن أن تخلق ظواهر فيزيائية معقدة، فإنَّنا هنا لسنا بصدد الكلام عن العلاقة بين الظواهر البسيطة والمعقدة، وإنّما بصدَدِ البحث عن أصل (المراكز). بكلمة، إنَّ من غير المتعقل أنَّ أيّ مصفوفة مادية (material array) أو حقل يمكن أن يُنتج فاعلين يُفكرون ويفعلون. المادة لا يمكنها إنتاج إدراكات وأحاسيس. حقل القوة (A force field) لا يُفكِّرُ أو يُخطط. إذن على مستوى المنطق والخبرة في الحياة اليومية، نصبحُ على إدراكٍ بنحوٍ

ص: 264


1- مصطلح مشهور في فلسفة الذهن المعاصرة، ابتكره جلبرت رايل للتعبير عن ثنائية العلاقة بين المادي والمعنوي، أو قل بين الجسد/ العقل.

مباشرٍ بأنَّ عالم الموجودات الحيّة، والواعية، والفكرة أساسه مصدرٌ حيٌّ، هو العقل .

ص: 265

ص: 266

الملحق الثاني

الوحي الذَّاتي للإله في التاريخ البشري

حوارٌ مع ن. ت. رايت حول المسيح

أنتوني فلو

أسئلة عن الوحي الإلهي

ص: 267

ص: 268

حتَّى الآن ناقَشتُ المعطيات التي قادتني للقبول بوجودِ عقل إلهي. أُولئك الذين يسمعون هذه الحُجَجَ سيتساءلون حتماً عن رأيي بخصوص ادعاءات الوحي الإلهي. في كل من كتبي ضد اللاهوت - المنطقية، ومناظراتي المتعددة، تناولت هذا الموضوع مع الكثير من الادعاءات بشأنِ الوحي أو التدخّل الإلهي .

إِلَّا أَنَّ موقفي الحالي هو أكثر انفتاحاً تجاه هذه الادعاءات. في الواقع، أنا أعتقد أنَّ الدِّينَ المسيحي هو بوضوح أكثر الأديان استحقاقاً للاحترام والتقدير (1)، بغضّ النظر عما إذا كان موقفه من الوحي الإلهي صادقاً.

ليس ثَمَّةَ دين يمتلك مزيجاً من شخصية لها جاذبية كجاذبية السيد المسيح، ومُفكِّر من الطراز الأوّل مثل القديس بولس ( St Paul) (2)تقريباً كلُّ الحجج المتعلّقة بالمحتوى الديني تمت صياغتها من قبل القديس بولس ، الذي كان يمتلك عقلاً فلسفياً ذكياً، وكان بمقدورِهِ التحدث والكتابة بكل اللغات ذات الصلة. إذا كُنْتَ تريدُ من الإله

ص: 269


1- كلُّ الأديان السماوية جديرة بالاحترام، لكن لا نتفق مع (فلو) في كون الدين المسيحي أكثرها استحقاقاً للاحترام والتقدير. ونتفهم موقفه باعتباره نشأ في بيئة تشيع فيها المسيحية منذ قرون طويلة، ولم تتعرف على الإسلام الأصيل عن قرب وعمق. (المراجع).
2- إِنْ اتَّفقنا مع (فلو) في تعظيمه لشخصية السيد المسيح، فلا نتفق معه في تعظيمه لبولس (المراجع).

الذي هو على كلِّ شيءٍ قدير أنْ يُقيم ديناً، فهذا هو الدين الجدير بالمُراهنة عليه.

في الطَّبعاتِ الأولى من كتاب (الإله والفلسفة)، عالجت الادعاءات المسيحية إلى حد ما. وجادَلْتُ بأنَّ التقدُّمَ الهائل الذي أُحرِزَ في الدراسات النقدية للعهد الجديد وغيرها من المصادر لتاريخ أُصول المسيحية، لا يدَعُ لأولئك الذين يُقدِّمون ادعاءات واسعة وكبيرة (مجالاً للاختباء). ثانياً، أنه لا يمكن معرفة وقوع المعجزات من خلال أدلَّةٍ تاريخية، وهذا يخل بمصداقية الادعاء بأن قيامة المسيح يمكن معرفتها باعتبارها حقيقةً في التاريخ.

في مناظراتي المختلفة عن قيامة المسيح، قدَّمتُ نقاطاً متعدِّدة:

النُّقطة الأولى، هي: أنَّ أحدثَ الوثائق التي تُؤرخ للحدَثَ المدعى، كُتِبَت بعد ثلاثين أو أربعين سنة من وقوعه. لا توجد أدلة معاصرة لوقوع الحدث، وإنَّما مجرَّد وثائق كُتِبَت بعد وقوعِهِ.

النُّقطة الثانية، هي: أننا لا نملك وسيلة للتحقق فيما إذا كان المسيح المبعوث قد ظَهَرَ واقعاً للمجموعات التي ادعت رؤيتُهُ، لأنَّ ما لدينا من وثائقَ يقولُ فقط : إنَّ هذه الأحداث غير الاعتيادية قد وقعت بالفعل.

والنُّقطة الأخيرة، هي: أنَّ الأدلَّةَ على قيامةِ المسيح محدودة جداً. في الحقيقة، وثائقُ العهد الجديد (New Testment) عن قيامة المسيح كانت هي رسائل بولس (Paul)، ولم تكن في الأناجيل (Gospels)، وهذه الرَّسائل تنطوي على تفاصيل حسّية ضئيلة جداً عن قيامة المسيح.

اليوم، أودُّ أن أقول بأن التحدي المتعلّق بقيامة المسيح أكثر تاثيراً

ص: 270

من أيِّ تحد ديني آخر. لا أزال أعتقد بأنّه عندما ينظُرُ علماء التاريخ بطريقة احترافية إلى أدلَّةِ قيامة المسيح، فإنَّهم يحتاجون إلى أكثر بكثير مما هو متوفّر. فهم يحتاجون إلى أدلَّةٍ من أنواع مختلفة.(1)

أعتقدُ أنَّ الادعاء بأنَّ الإله كان قد تجسّد في المسيح هو ادعاء فريد من نوعه من الصعب، كما أعتقد، تشخيص كيف يُمكِنُكَ الحُكْمُ على ذلك سوى بالاعتقادِ أو عدم الاعتقاد لا يُمكنني رؤية أنَّ هناك مبادئ عامَّة تُرشِدُكَ إلى ذلك .(2)

في سياقِ منظوري الجديد، لقد انخرطت في حوارٍ حول المسيح

ص: 271


1- إن قطعنا النظر عما صرح به القرآن بشأن مصير المسيح، واقتصرنا على ما لدى المسيحيين من أدلّة، فهذا الموقف بتقديري صحيح. فالنقاط التي ذكرها حول قيامة يسوع، قويَّة، وأدلَّة إثبات قيامته على ضوء الوثائق التاريخية ضعيفة. لكن إن كانت قضيَّة قيامة يسوع هي القضيَّة المركزية في الدين المسيحي (التي على أساسها شرَّقَ علماء الدين المسيحي وغرَّبوا، وأطلقوا ادعاءات تتعلق بألوهية يسوع، والتثليث، وعقيدة الفداء)، فإنَّ التَّشكيكَ بوقوع هذه الحادثة كفيل بضعضعة الدعائم الأساسية لهذا الدِّين. أمَّا اليهود، فقد شاع بينهم - كما جاء في إنجيل متى 12:28 - 15 - القول بأنَّ تلامذة يسوع قد جاؤوا ليلاً وسرقوا جسدَهُ. لذا يتفق اليهود والمسيحيون على موتِ يسوع، ويُصِرُّ المسيحيون على قيامته، ويُنكِرُ اليهود ذلك. أما نُقاد العهد الجديد فيشككون في إمكانية إثبات ذلك من الناحية التاريخية. في حين أنَّ القرآنَ يُنكِرُ موتَ يسوع قصاصاً أصلاً، ويرى أنهم «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ»(النساء : 157)، لذا فمسأله قيامته بعد موته منتفية، لأنها سالبة بانتفاء موضوع الموت قصاصاً. (المراجع).
2- يقصد (فلو) أنَّ الاعتقاد بتجسد الإله في يسوع هو اعتقاد لاهوتي (كلامي)، يصعُبُ تشييده على أُسس صَلْبة. لذا فإمَّا أن تؤمن بذلك أو لا تؤمن به. (المراجع).

مع العالم المعاصر الشهير في التاريخ المسيحي الأسقف ن. ت. رايت (Bishop N. T. Wright) أُسْقُف دَرَهام ، والباحث في العهد الجديد

بأكسفورد. وفيما يلي ردوده على بعض المواضيع التي طرحتها في كتاباتي.

ص: 272

ردُّ نيكولاس توماس رايت

(N. T. WRIGHT: RESPONSE)

كيف نعرف أنَّ المسيح قد وُجِدَ؟

من الصَّعبِ جداً أن أعرف من أين أبدأ، لأنَّ الأدلة المتراكمة في الواقع لصالح المسيح هائلة، بحيث إنَّني كعالم تاريخ، أقول بأن لدينا أدلة على المسيح أكثر من أي شخص في العالم القديم. من الواضح، أنَّ هناكَ بعض شخصيات العالم القديم لدينا لها تماثيل ونُقوش. من ناحية أُخرى، لدينا أيضاً تماثيل لآلهة والاتٍ في العالم القديم جداً، لذا لن يكون بمقدورك التأكد من وجودِ هذه الشخصيات. لكن في حالة المسيح، كل الأدلة تشير بنحو مؤكَّد إلى وج--ود هذه الشخصية العظيم-ة في العشرينات إلى الثلاثينات من القَرْنِ الأَوَّل(1). والأدلة تتّسِقُ بنحو كبير مع ما نعرفه عن اليهودية في تلك الحقبة (على الرغم من أنَّ الكثير منها كُتِبَ بعد جيل منه بحيث من الصعب على أي باحث تاريخي اليوم أنْ يَشُكٍّ في وجودِ المسيح، وفي الحقيقة، لا أعرفُ أيّ باحث تاريخي

يشُكُّ في ذلك. هناك شخص أو شخصان هناك رجُلٌ اسمه ج . أ.

ص: 273


1- لمعرفة المزيد عن الجدل حول وجود المسيح التاريخي، راجع: قصة الحضارة لول ديورانت 202:11 - 206 (المراجع).

ویلس (G.A Wells)(1) هو الوحيد الذي شكك في ذلك مُؤخَّراً. من وقتٍ لآخر تجد شخصاً مثل ج. م. أليغرو ( J.M. Allegro )(2) ، كتب قبل جيل من الآن كتاباً استناداً إلى مخطوطات البحر الميت(3)، قائلاً بأنَّ المسيحية بأسرها كانت تتعلَّق بعبادة الفطر المقدَّس.

لا يوجد عالمٌ يهوديٌّ، أو مسيحي، أو مُلْحِدٌ، أو لا أدري (agnostic)، أخَذَ هذا الكلام على محمل الجد على الإطلاق. من الواضح

ص: 274


1- جورج ألبرت ويلز، مؤرّخ إنجليزي، وُلِدَ سنة (1926م)، ما زال على قيد الحياة، أنكر الوجود التاريخي للمسيح في كتابه المسيح في المسيحية المبكرة)، الذي نُشر سنة (1971م)، وأكد على أنَّه مجرد شخصية أسطورية، اصطنعها خيال الإنسان. لكن ابتداءً من سنة (1990م) ، غيَّر ويلز موقفه، وصار يُذعِن بأن المسيح شخصية حقيقية وليست أُسطورية، ويبدو أنَّ رايت لم يطلع على هذا التغير في موقف ويلز. (المراجع).
2- جون ماكرو أليغرو (1923 - 1988م) عالم آثار إنجليزي، متخصص بمخطوطات البحر الميت. أثار كتابه (الفطر المقدَّس والصَّلْب) الذي نشره سنة (1970م) جدلاً واسعاً، حيث أنكر وجود المسيح التاريخي، وادعى أنَّ المسيحية نشأت من طائفة سرية ارتبطت بعبادةِ الفِطر المقدَّس، لأنَّ هذا النوع من نبات الفطر كان يهؤدي إلى السيطرة على الفكر والخيال، وينتهي إلى النشوة والهلوسة، لذا رأوا فيه قدرة إلهية مقدسة ناهيك عن كونه يشبه ذكر الرَّجُل الذي يرمز للخصوبة التكاثر، ومن الفطر المقدس تمَّ استقاء فكرة الصَّلْب ، لأنَّ الفِطر يشبه الصَّليب الصَّغير! وهناك مقابلة معه مرفوعة على اليوتيوب، أجراها التلفزيون الهولندي، مدتها (21) دقيقة تقريباً. (المراجع).
3- مخطوطات البحر الميت تضمُّ ما يزيد على (850) قطعة مخطوطة، بعضها مما شمّي لاحقاً (الكتاب المقدَّس) ، وبعضها من كُتُب لم تكن تعرف أو كانت مفقودة. وقد كانت في جرارٍ فخارية كانت مطلية بالنحاس. أوّل من عثر عليها راعيان من بدو التعامرة المتجولين، واكتشف المزيد بين عامي (1947 و 1956م) في (11) كهفاً في وادي ،قمران قرب خربة قمران شمال البحر الميت. وقد أثارت المخطوطات اهتمام الباحثين والمختصين بدراسة نص العهد القديم، لأنّها تعود لما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأوّل منه.

جدّاً جدّاً أنَّ المسيح شخصية موثقة في التاريخ الواقعي. لذا لا بد لهذا السُّؤال أنْ يُنحَّى جانباً.(1)

ص: 275


1- نتفق مع رايت في وجود المسيح ابن مريم عالم التاريخي، ليس لإيماننا بالقرآن فحسب، بل لأنَّ الأدلة والشواهد التاريخية، من مُحبّيه (في العهد الجديد)، وأعدائه (في التلمود)، والمحايدين، كلُّها تؤكّد وجودَهُ. فلسنا من أولئك الذين يُشككون بوجوده التاريخي. (المراجع).

ما هي أسس الادعاء من النُّصوص بأنَّ المسيح هو الإله المتجسّد؟

إيماني بالمسيح كابن الله المتجسِّد لا يستند إلى مقاطع واردة في الإنجيل تدَّعي ذلك . إيماني بذلك أعمق من ذلك بكثير، بل يعود في الحقيقةِ إلى سؤال مهم جداً هو: كيف فهم يهود القَرْن الأول الإله، وفعل الإله في العالم؟ وحتماً، كيهود هم عادوا إلى المزامير(1)، وسفر أشعيا(2)، وسفر التثنية(3)، وسفر التكوين(4)، وهلم جرَّاً. ونستطيعُ أنْ نرى في التراث اليهودي لزمن المسيح ، كيف فسَّرَ هؤلاء هذه النُّصوص. لقد تكلَّموا عن الإله الواحد الذي صَنَعَ الكون، وهو أيضاً إله إسرائيل(5)، وتكلموا عن هذا الإله على أنَّه فاعل في العالم، حاضرٌ

ص: 276


1- المزامير أو مزامير داود هي تسابيح الله، وأناشيد حمد وسجود وتمجيد له، وهي من أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس.
2- سفر أشعيا من أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس.
3- سفر التثنية أو سفر تثنية الاشتراع (بالعبرية: דברים) أحد أسفار الكتاب المقدس لدى الدين اليهودي، ومن أسفار العهد القديم في المسيحية؛ ولا خلاف بين مختلف طوائف الدين اليهودي والمسيحي حول قدسيته.
4- سفر التكوين هو أوّل أسفار التوراة (أسفار موسى الخمسة)، وأول أسفار التناخ وهو جزء من التوراة العبرية، كما أنَّه أوّل أسفار العهد القديم لدى المسيحيين.
5- في التوراة وفي التراث اليهودي يُعتبر اسم (إسرائيل) اسم بديل ليعقوب، وتظهر قصة تسمية يعقوب بإسرائيل في سفر التكوين.

ويفعل أشياء في العالم وفي إسرائيل. وتكلموا عن ذلك بخمسة طُرُق (لا علاقة لذلك بطرق توما الأكويني الخمسة (1)!).

لقد تحدَّثوا عن كلمة الإله الإله قالَ: كُنْ فكان لقد قال الله: ليَكُنْ نورٌ) فكان نورٌ. كلمة الإلهِ حيَّةٌ وفاعلة، وفي سفر أشعيا لدينا صورةٌ قويّةٌ جداً عن كلمةٍ تنزل من الأعلى كالمطر أو الثّلج وتفعل أشياء في العالم.

يتحدَّثون عن حكمة الإله. ونحن نرى ذلك في الأمثالِ بشكل خاص، بل وفي مقاطع متعددة كذلك. الحكمة تصبح تقريباً نوعاً من التعبير عن (الذَّاتِ الثانية) للإله. حكمة الإله فاعلة في العالم، وتقطن في إسرائيل، وتقوم بأشياء تُساعِدُ الناسَ أَنفُسَهم حتَّى يصبحوا حكماء.

يتحدَّثون عن مَجْدِ (جلال) الإله القاطن في الهيكل علينا أن لا ننسى أبداً أنَّ الهيكل بالنسبة ليهود القَرْن الأوّل كان رمزاً للتجسد، وهم يؤمنون بأن خالق الكون قد وعَدَ بالمجيء، وأن يجعَلَ بيتَهُ في هذا المبنى على الطَّريقِ إلى القدس (أُورشليم). إلى أن تذهب واقعاً إلى القدس وتُفكِّر في هذا الأمر، فإنَّكَ واقعاً لن تُدرِكَ ذلك. بل هو أمر غير عادي على الإطلاق.

بعد ذلك، يتحدثونَ بالطَّبع عن ناموسِ (قانون) الإله، الذي هو (كاملٌ يرُدُّ النَّفْسَ) (كما جاءَ في المزمور 19 : 7). الناموس، مثل الحكمة، ليس مجرد قانون مكتوب. إنَّه قوَّةٌ وجودية مسموعة وحاضرةً من خلالِهِ عرَّفَ الإله نفسَهُ (جعل نفسَهُ معروفاً).

ص: 277


1- خمس حجج قدمها القديس توما الإكويني للبرهنة على وجود الإله.

ثم، أخيراً يتحدثون عن رُوح الإله. روح الإله التي تُشرع إلى شَمْشون(1) في سِفْرِ القُضاة؛ روحُ الإلهِ التي تُمكِّنُ الأنبياء ليُصبحوا أنبياء؛ روحُ الإله القاطنة في البشر حتّى يتمكنوا من القيام بأشياء استثنائية لمجد الإله.

هذه الطُّرُقُ الخمسة في الكلام عن فعل الإله في العالم (الكلمة، الحكمة، المجد، الناموس، الرُّوح)، هي طُرُقٌ كان اليهود في القَرْنِ الأَوَّلِ يُعبّرونَ من خلالها كلّها عن إيمانهم بالواحدِ الذي يعرفونه على أنَّه هو الإله الأبديُّ، خالِقُ العالم، الذي كان حاضراً وفاعلاً في العالم، وبشكل خاص في إسرائيل. وتستطيع رؤية ذلك، ليس في العهد القديم فحسب، بل أيضاً في الآثار التي خلَّفَها العهد القديم في يهوديةِ القَرْنَ الأَوَّل، في كتابات الربانيين(2)، وفي مخطوطات البحر الميت، وفي نصوص أُخرى مشابهة.

الآن، عندما نأتي إلى هذه الطُّرُقِ الخمسة في الأناجيل، نكتشف أنَّ يسوع لا يتكلَّم فقط، بل يتصرف (يفعل) أيضاً، كما لو أنَّ هذه الطُّرُقَ الخمسة تصبحُ بنحوِ ما حقيقةً بطريقةٍ جديدةٍ من خلال ما يقوم به. ونرى ذلك بشكل خاص في مثالِ الزَّارع(3) . الزَّارِعُ يزرَعُ الكلمة،

ص: 278


1- شمشون بن منوح الدني بالعبرية: (שמשון) من شخصيات العهد القديم، هو بطل شعبي من إسرائيل القديمة اشتهر بقوته الهائلة، وورد ذكره في سفر القضاة في الاصحاحات (13) إلى (16).
2- الرَبّانيّ في اليهودية، ويُسمّى الحبر. والراب والحاخام، هو زعيم ديني. كلمة حاخام العربية ترجع إلى الكلمة العبرية (רַב) أي (حكيم).
3- أنظر مثال الزارع في إنجيل متى 13 : 1 - 24 ، وإنجيل مرقس 4: 1- 20، وإنجيل لوقا :: 1 - 15 . وإليك هذا النموذج لهذا المثل من إنجيل لوقا: (فَلَمَّا اجْتَمَعَ جَمْعُ كَثِيرٌ أَيْضًا مِنَ الَّذِينَ جَاؤُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ، قَالَ بِمَثَل : خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَانْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الصَّخْرِ، فَلَما نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ رُطُوبَةٌ وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسْطِ الشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَرًا مِئَةَ ضِعْفٍ». قَالَ هذَا وَنَادَى: «مَنْ لَهُ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ !». فَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا المَثَلُ؟». فَقَالَ: «لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ اللهِ، وَأَمَّا لِلْبَاقِينَ فَبِأَمْثَال، حَتَّى إِنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لا يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لا يَفْهَمُونَ. وَهذَا هُوَ المَثَلُ: الزَّرْعُ هُوَ كَلامُ الله، وَالَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلَّا يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا وَالَّذِينَ عَلَى الصَّخْرِ هُمُ الَّذِينَ مَتَى سَمِعُوا يَقْبَلُونَ الْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ، وَهؤُلاَءِ لَيْسَ هُمْ أَصْلُ، فَيُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ، وَفِي وَقْتِ التَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ. وَالَّذِي سَقَط بَيْنَ الشَّوْكِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَخْتَنِقُونَ مِنْ هُمُومِ الْحَيَاةِ وَغِنَاهَا وَلَذَّاتِهَا، وَلاَ يُنْضِجُونَ ثَمَرَا. وَالَّذِي فِي الأَرْضِ الجَيِّدَةِ، هُوَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيْدٍ صَالِحٍ، وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبرِ). (المراجع).

والكلمةُ تقوم بعملها الخاصّ . لكن انتظر لحظة، من الذي يقوم بعملية التعليم؟ إنَّه يسوع بذاتِهِ.

ثمَّ يتحدَّث يسوعُ على هذا النَّحو عن الحكمة بطرق مختلفة: حكمة الإله، حيثُ يقول: (أنا أفعل هذا، أنا أفعل ذلك). ويُمكِنُكَ تعقب أحاديث الحكمة في العهد القديم، ليس فقط في أقوال يسوع الفردية، بل في الطَّريقة التي كان يُمارِسُ فيها ما كان يقوم به. كلامه عن الرَّجُل العاقل الذي بنى بيتَهُ على الصَّخر، والرَّجُل الجاهل الذي بنى بيته على الرمل، هذه مراهنة نموذجية على تعلُّم الحكمة(1). لكن، انتظر

ص: 279


1- أنظر إنجيل متى 7: 24 - 27: (فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالي هذِهِ وَيَعْمَلُ بها، أَشَبِّهُهُ برَجُل عَاقِل ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ المَطَرُ ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُط ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسَا عَلَى الصَّخْر. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالي هذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُل جَاهِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ المَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيا). (المراجع).

لحظة، الرَّجُلُ العاقل هو (كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا). وهكذا فإنَّ الحكمة ويسوع متلازمان معاً بشكل وثيق جداً.

بعد ذلك، بالتحديد الهيكل. حيثُ يتصرّفُ يسوع كما لو كان الهيكل قد تجسّد في شخصه. عندما يقول يسوع: (مغفورةٌ لكَ خطاياك)(1)، فهي صدمة حقيقية، لأنَّ غفران الخطايا يُعلن عادةً عندما تذهَبَ إلى الهيكل وتُقدِّمُ قُرباناً ( أُضْحِية). ولكن يسوع يقول لك: إنَّكَ تستطيع أن تفعل ذلك هنا في الشارع. عندما تكون مع يسوع، فأنت كما لو كُنْتَ في الهيكل، وهو يُحدِّقُ في مَجد الإله.

عندما نأتي إلى الناموس اليهودي، نكتشف شيئاً رائعاً. أحد العلماء اليهود الكبار في يومنا هذا، يعقوب نوسنر (Jacob Neusner)(2) الذي كتب العديد من الكُتُبِ الرَّئيسية في اليهودية، كتَبَ كتاباً عن يسوع. في هذا الكتاب يقول نوسنر : إنَّه عندما يقرأ أن يسوع قال أشياءً مثل: (لقد سِمِعْتُم أنَّه قيل كذا وكذا، وأمَّا أنا فأقولُ لكم هذا وهذا وهذا)، أريد أن أقول ليسوع :هذا من تعتقد نفسك؟ الإله؟ لقد قدَّمَ يسوع ناموساً جديداً، قدَّمَ تفسيراً جذرياً جديداً للناموس، ويدعي بمعنى ما أنَّه تجاوز الطَّريقة التي كان يُفهَمُ أو يُفسَّرُ بها الناموس.

وأخيراً هناكَ الرُّوح، يقولُ يسوع: (وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ

ص: 280


1- وردت في مواطن متعدّدة ، أنظر على سبيل المثال: إنجيل متى 9 : 5 ، إنجيل مرقس 2: 5، إنجيل لوقا 5: 20 . (المراجع).
2- عالم دين يهودي أمريكي، وُلِدَ سنة (1932م)، وتوفّي سنة (2016م). (المراجع).

أَنَا بِرُوح الله أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ الله !).(1)

فما نراه ليس كما لو كان يسوع يدور بين الناس قائلاً: (أنا هو الشَّخصُ الثاني من الثالوث. إما أن تؤمنوا بذلك أو لا). هذه في الواقع ليست هي الطريقة لقراءة الأناجيل. بل الأحرى أن تُقرأ كما قرأها المؤرّخونَ في القَرْنِ الأوّل، بحيث يُمكننا أن نرى يسوع يتصرف بحيث نقول جميعًا : هذه القصَّةُ العظيمةُ ككُلّ حول إله جاءَ ليكون مع الناس، قد حدثت بالفعل.

إنَّه ليس فقط عبر كلمةٍ أو حكمة أو غيرها . إنّه فيَّ، وكشخصٍ. إنَّه الشّيء الذي يجمع كل ذلك معاً (كتبتُ هذا في الفصل قبل الأخير من كتابي (يسوع ونصر الإله Jesus and the victory of God)، هو الكثير من اليهود في زمن يسوع كانوا يعتقدونَ أَنَّ (يَهْوَه Yahweh)، إله إسرائيل سوف يعود في شخص ليعيش في الهيكل. تجد ذلك في سفر حزقیال، سفر أشعيا ، سفر زكريا (2)، والعديد من النصوص اللاحقة.

ولذلك هم يعيشون على أمل أنَّ الإلة سيعود يوماً ما، لأنَّ الإله عندما يعود، فهو بالطبع سيطرد زُمرةَ الرُّومان، وسيُعيد بناء الهيكل بنحو يليقُ به، وليس على طريقة هيردوس (Herod)(3) التي قام بها. هناك

ص: 281


1- إنجيل متى 12 : 28 . (المراجع).
2- من أسفار الكتاب المقدس (العهد القديم).
3- هوردس أو هيرودس ( العبرية :הורדוס) (73 قبل الميلاد - 4 قبل الميلاد) هو ابن الدبلوماسي انتيباتر الإدومي من زوجته النبطية، عُيّن حاكماً على الجليل ثم أصبح ملك اليهودية. وقد بسط نفوذه على المنطقة الممتدة من هضبة الجولان شمالاً إلى البحر الميت جنوباً، وكانت أيام حكمه تمثل ازدهاراً ثقافياً واقتصادياً، وقد كان حليفاً أميناً للإمبراطورية الرومانية، كان مقره في مدينة القدس، أي أورشليم، وقد اشتهر بمشاريع البناء الفاخرة التي بادرها في هذه المدينة، ومنها بناء معبد القدس الكبر المسمّى هيكل سليمان.

سلسلةٌ من التوقُّعات تتعلق بعودة الإله. وبالتالي نجد في الأناجيل هذه الصُّورة الاستثنائية عن يسوع، حيثُ يقوم بالرّحلةِ الأخيرة إلى القدس، (حاكياً قصَصَ الملك الذي عاد).

لقد جادَلْتُ، كما جادَل آخرون، بأن يسوع عندما كان يحكي قصصاً الملك الذي عاد إلى شعبه، أو السيّد الذي عاد إلى خدمه، لم يكن يتحدث على طريقة العودة الثانية في المستقبل. لم يكن التلاميذ مهيئين لذلك. حتّى إنَّهم لم يكونوا يعلمون بأنه ذاهب ليُصلب. يسوع كان يحكي لهم قصَصَ حول أهميَّة رحلته إلى القدس، وهو كان يدعو من له أُذنان للسَّمْعِ فليَسْمَع ليأخذوا هذه الصورة ل__(يَهْوَه Yahweh) في العهدِ القديم إلى صهيون (Zion)(1)، ويضعوها نُصْبَ أعيُنِهم عندما يرونَهُ كنبي شاب يسافر إلى القدس راكباً أتاناً (أُنثى الحمار).

أعتقد أنَّ يسوع قد خاطر بحياتِهِ (أو راهن على حياته) - بنحو حَرْفِيّ - على اعتقادِهِ بأنَّه طُلِبَ ل__( تجسيد) عودة يهوه إلى صهيون. الآن، (تجسد embody) كلمةٌ إنجليزية. المقابل اللاتيني لها هو (incarnation) . لكنَّني أُفضِّلُ كلمة (embody) ، على الأقل في الأماكن التي أتحدث بها، حيث يمكن للناس استيعابها أكثر من اللفظ اللاتيني. لكنَّها تُؤدّي نفسَ المعنى.

أنا أعتقدُ فعلاً أنَّ يسوع اعتقد بأنَّهُ طُلِبَ منه أن يتصرَّف على

ص: 282


1- صهيون (بالعبرية: צִיוֹן) ومعناها الحصن، هو واحد من التلين الذين كانت تقوم عليهما مدينة أورشليم القديمة حيث أسس داود عاصمته الملكية.

أساس هذا الافتراض. وأعتقد أنَّ ذلك كان مخيفاً بشكل كبير ليسوع. أعتقد أنَّه كان يعرفُ بأنَّه قد يكون مخطئاً في الواقع. بعد ذلك كله، بعضُ الناسِ مُمَّن يُصدِّقُ بشيءٍ من هذا القبيل قد ينتهي به المطافُ ليُصبح مثل الرَّجُل الذي يعتقد بأنَّه إبريق من الشَّاي. أعتقد أنَّ يسوع كان يعرفُ أنَّ تلك كانت هي دعوته، وأنه يجب أن يتصرف بتلك الطريقة، ليعيش ويعمل على أساس تجسيد عودة إل-ه إسرائيل إلى شعبه. لهذا السبب أودُّ أن أقول: إنَّ يسوع، بعد موته وقيامه (وهذه قصة مختلفة تماماً. سنأتي إليها قريباً) سُرعان ما تمَّ تشخيصُهُ من قِبَلِ أتباعه على أنَّه المجسّد لإلهِ إسرائيل. واجهوا قيامه، وعادوا بعد ذلك في عقولهم، استرجعوا كلَّ الأشياء التي شاهدوها، وسَمِعُوها، وعرفوها عن يسوع، وبمجرد أن حَدَثَ ذلك، صفعوا وجوهَهُم وقالوا: (هل شخصتُم مع من كُنْتُم كل هذا الوقت؟ لقد كُنَّا مع شخص تجسَّدَ فيه إله إسرائيل). ثم راحوا يحكونَ القصَصَ مراراً عن يسوع بشيء من الرهبة والهلع والإدراك المتأخّر، وتأمَّلُوا فيما كان يحدثُ طوال ما مضى من الوقت.

هذه فكرةٌ استثنائيةٌ جبَّارة. ومع ذلك، فإنَّ هذه الفكرة تُعطي معنى عميقاً ومتجذراً تاريخياً لطريقة رؤية يسوع لنفسه. الآن بالتأكيد يمكن لأي شخص أن يقول لي: حسناً، قد تكون على حق. قد يكون يسوع بالفعل نظَرَ إلى نفسِهِ على هذا النحو. وقد يكون تلاميذه انتهوا إلى التفكير بذلك أيضاً. لكن من الواضح أن المسيحَ كان مخطئاً، إِمَّا لأَنَّنا نعلَمُ قَبْليَّاً بأنَّه إذا كان هناك إلهُ فإنَّه لا يمكن أنْ يكونَ إنساناً، وإمَّا لأَنَّنا نعلَمُ قَبْلِيَّاً بأنّ أيّ شخص يعتقد تجاه نفسِهِ أنَّه واقعاً هكذا يجب أنْ يكونَ مجنوناً أو مختلاً عقلياً أو مخدوعاً).

ص: 283

لهؤلاء أُريد أن أقول: حسناً، علقوا هذه القَبْليَّات للحظةٍ، وحاولوا فقط أن تستحضر وا صورة يهود القَرْن الأوّل وهم يعتقدونَ ويتصرفون على هذا أساس ما ذكرتُ. وبعد ذلك اطرحوا السُّؤال عن قيامة المسيح. وبعدها اطرحوا جميع أسئلتكم الأُخرى عما نعنيه بكلمةِ (إله). لأنَّ المسيحيين الأوائل قالوا على نحوِ مُؤكَّد بأنَّ كلمة (الإله) لا زالت غامضة، وأنّها تصبح واضحةً فقط عندما ننظر إلى يسوع. يقول يوحنا: (لم يرَ أحدٌ الإله في أي وقت، ولكن الابن الوحيد المولود، الذي يعيشُ في حُضْنِ الأب، هو الذي جعله معروفاً). وفقاً للغة اليونانية، فإنَّ المعنى الحرفي لهذا الكلام (هو قَدَّمَ لنا تفسيراً للإله، هو أرانا من هو الإله واقعاً).

إِنَّه جوابٌ طويلٌ لسؤال حيوي، لكن لا أعتقد أنَّ بإمكاني اختصاره أكثر من ذلك. معظم الناس، حسب خبرتنا، لا يُفكرون من خلالِ السُّؤال بالمسيح والإله بهذه الطريقة. ولكن هذه هي الطريقة، كما أعتقد، التي فكَرَ بها المسيح بنفسه والمسيحيون الأوائل، وكذلك أُولئك الذين كتبوا الأناجيل، ومن المناسب أن نجعل عقولنا تدور حول هذه الطَّريقة .(1)

ص: 284


1- لو قطعنا النظر عن المحاذير العقلية للادعاء بأن يسوع هو إله متجسد، يبقى استدلال رايت على ذلك ضعيف للغاية، من جهات عدة. ويكفي أن نعرف أن التعاليم الكرستولوجية (حقيقة المسيح) التي يقول بها المسيحيون لم تتبلور إلا عبر قرونِ طويلة، وكانت ثمرة المؤتمرات والمجامع المسكونية التي عُقدت منذ القرن الرابع الميلادي. أي إنَّ هذه التعاليم لم تظهر في زمن المسيح ولا بعده. ومن يعتقد أن المسيح أو تلامذته قد أشاروا إلى لاهوته وبنوته وتجسد الإله فيه، لا يملكون الأدلة الكافية لإثبات ذلك. بل المتتبع لأناجيل العهد الجديد بشكل دقيق يلاحظ أنّها تنادي بعكس ذلك (باستثناء إنجيل يوحنا الذي كُتِبَ بعد عقدين أو ثلاثة من كتابة الأناجيل الثلاثة : متى، مرقس لوقا)، وتُثبت بأنَّ المسيحَ إنسان مرسل من قِبَلِ الله إلى بني إسرائيل، يُذكرهم بشريعةِ آبائهم. والذي يتتبع التاريخ في القرنين الأولين من ميلاد المسيح، يجد أنَّ الاعتقاد بإله واحدٍ هو أساس الدين المسيحي، وأنَّ المسيح هو نبي مرسل إلى بني إسرائيل. ولك-ن م--ع بداية اعتناق شعوب شتّى من الوثنيين اليونان وغيرهم من الرُّومان والمصريين لهذا الدين، وكانت الوثنية قد تأصلت فيهم ، نشأت فرق و مذاهب مختلفة، تعتقد كلّ منها في حقيقة المسيح وشخصيته رأياً يخالف الأُخرى. وقد أدت هذه الاختلافات، وفي أحيانٍ كثيرة، إلى قتل وتشريد الكثير من آباء الكنيسة، وظهر الحرمان واللعن والتكفير والاتهام بالهرطقة في أوساط المذاهب المسيحية المختلفة، وأحيانا كان سبب هذه الاضطهادات هي المجامع المسكونية نفسها. وفي خضم هذه الفوضى العقائدية، التي ظهرت في أهم عقيدة في الدين المسيحي، استطاعت الكنيسة بسطوتها وقوتها، أنْ تفرض عقيدة لاهوت المسيح وبُنوته ومساواته للأب في الطبيعة والجوهر. لمزيد من المعلومات راجع لا هوت المسيح لعلى الشيخ / مركز الأبحاث العقائدية / مؤسسة الرافد للمطبوعات/ 2009 م / ط 1/ قم إيران. Bart Ehrman, Lost Christianities, Oxford University Press, 2003. Bart Ehrman, JESUS BEFORE THE GOSPELS, Harper One, New York, 2016. (المراجع).

***

ص: 285

ما هي الأدلَّةُ المتوفّرة على قيامة يسوع؟

دعوني أختصر قدر الإمكان. لقد قرأ والدي كتابي المطوَّل (قيامةُ ابن الإله The Resurrection of the Son of God) عندما كان في الثالثة والثمانين من عمره. استغرقت منه قراءة الكتاب المكوَّن من (700) صفحة ثلاثة أيام. لقد رَكَّز على قراءة الكتاب بشكل كامل خلال هذه الأيام، دون أن ينشغل بشيء آخر، وبعدها اتصل بي هاتفياً وقال لي : (لقد انتهيتُ من قراءة الكتاب)، فتعجبتُ من ذلك. فقال: (نعم لقد قرأته، وقد بدأتُ استمتع بقراءتِهِ بعد الصَّفحة رقم 600) . اعتقدتُ أنَّ كلامَهُ لا يخلو من المجاملة الفاترة. لقد اعتاد والدي على العمل في صناعة الأخشاب. قُلتُ لوالدي: (هل تعلم يا أبي أن الصفحات الخمسمائة ه-ي ج-ذرُ النظام (root system). وأنَّ الشَّجرة إن لم يكن له-ا جذر، فإنَّها لن تكون قادرة على الانتصاب ولن تُعطي أيَّةً ثمرة؟). ردَّ والدي قائلاً: (لقد أدركت ذلك، لكنّي أُفضّل دائماً الفروع العليا من الشَّجرة).

لذا أنا بحاجة للعودة إلى الحديثِ عن جذر النظام (root system) قليلاً. من الأمور التي استمتعتُ بها عند تأليف الكتاب، كان هو العودة إلى الأُسس التقليدية والبحث عن معتقدات الحياة بعد الموت، عند اليونانيين والرومانيين والمصريين. وهناك تنوع كبير في المعتقدات بهذا

ص: 286

الشَّأن، ولكن الاعتقاد ب_(القيامة) ليس موجوداً في العالم اليوناني والرُّوماني. في الحقيقة، يقول بليني (Pliny)، وإسخيلوس (Aeschlus)، وهوميروس

(Homer)، وشيشرون (Cicero)، وجميع أنواع الكُتّ الأوائل بأنَّنا (نعرِفُ بالتأكيد أنَّ القيامة لا تحدثُ). الآن، في الوقتِ نفسِهِ، طوَّرَ اليهود اعتقاداً لاهوتياً مُحدّداً عن القيامة : وهو (أنَّ شعب الإله سوف يُبْعَثُ في آخرِ الزَّمان جسدياً إلى الحياة بعد موته). عاملُ الوقتِ مهم للغاية، لأنَّ معظم المسيحيين في العالم الغربي يستخدمون كلمة (قيامة resurrection) بشكل غامض على أنّها تعني (الحياة بعد الموت)، وهو ما لم يحدث أبداً في العالم القديم. لقد كان المُصْطَلَحُ على الدَّوامِ مُحدَّداً جداً، وهو ما أُسميه الحياة (بعد) موت سبقه حياة.

بعبارةٍ أخرى: أنتَ أوَّلاً تموت، أنتَ ميت وغير حي جسدياً، وبعد ذلك (تقوم) (تُبعَث)، بمعنى أَنَّكَ تعيش حياة جسديةً جديدة، وهي حياةٌ جديدة (بعد) موت مسبوق بحياة. ُّ

نستطيعُ تعقب الطَّريقة التي يُتكلم بها عن معتقد (القيامة) في الدِّينِ اليهودي. القيامة هي سلسلة من مرحلتين: بعد موتك مباشرةً (أنتَ) تدْخُلُ في مرحلة انتظار (1)؛ وبعد ذلك تنتقل إلى مرحلة حياة جديدةٍ تماماً تُسمَّى (القيامة). الآن في الكتاب الذي استمتعت بكتابته، رسَمْتُ خريطةً عن المعتقداتِ اليهودية في موضوع الحياة بعد الموت على ضوء خريطة أكبر من المعتقدات القديمة لموضوع الحياة بعد الموت. وهناك ضمن الدين اليهودي نفسه تباينات بهذا الخصوص.

ص: 287


1- وهي عقيدة مشابهة لعقيدة عالم البرزخ عند المسلمين.

الفريسيون (Pharisees)(1) آمنوا بالقيامة، ويبدو أنَّ هذا كان هو اعتقاد الأغلبية في فلسطين اليهودية في زمن يسوع. الصدوقيون (Sadduces)(2) لم يؤمنوا بالحياة بعد الموت على الإطلاق، وبالتأكيد لم يعتقدوا بالقيامة. وقد اعتقد أشخاص مثل فيلون وربما الأسينيون (وهذا محل جدل) بحياة روحية (غير جسدية خالدة واحدة، بحيث أَنَّكَ بعد الموتِ تذهب إلى حيث تذهب وتبقى هناك، بدلاً من أن تمرَّ بخبرة (القيامة) اللاحقة .(3)

هذا هو أكثر ما يثير الاهتمام، لأنه في كل المجتمعات التي خضعت للدراسةِ بهذا الصَّدَد، تجد الناسَ في معتقدات الحياة بعد الموت محافظين جداً. وفي مواجهة الموت يميلُ الناس إلى المعتقدات والممارسات التي يعرفونها، التي أخذوها عن عوائلهم ومن عاداتهم ومن قُراهُم، وهكذا تتمُّ طُفُوسُ الدَّفن . لذا فإنَّه من اللافت للنَّظَرِ حقّاً أنَّ المسيحيين الأوائل المعروفين لدينا، حتّى نهاية القرن الثاني عندما بدأ

ص: 288


1- الفريسيون أحد الأحزاب السياسية الدينية التي برزت خلال القرن الأول داخل المجتمع اليهودي في فلسطين؛ يعود أصل المصطلح إلى اللغة الآرامية ويشير إلى الابتعاد والاعتزال عن الخاطئين؛ كان الفريسيون يتبعون مذهباً دينياً متشدّداً في الحفاظ على شريعة موسى والسنن الشفهية التي استنبطوها. كان الفريسيون على خلاف دائم مع الصدوقيين الذين أنكروا القيامة والملائكة والأرواح.
2- الصدوقيون هم أحد الأحزاب الدينية السياسية التي نشأت ضمن الدين اليهودي وذكرت في العهد الجديد؛ فمن المعروف أنّه خلال القرن الأول قبل الميلاد، انقسم المجتمع الديني اليهودي إلى عدد من الأحزاب والجماعات السياسية داخل المؤسسة الدينية، وقد كان أكبر حزبين هما الصدوقيون والفريسيون.
3- بمعنى عدم وجود حياة برزخية.

الغنوصيون (Gnostics)(1) باستخدام كلمة (القيامة) بمعنى مختلف تماماً، فإِنَّ كلَّ المسيحيّين الأوائل المعروفين لدينا، خلال الأجيال الأربعة أو الخمسة الأولى، اعتقدوا بقيامة بنحو جسدي في المستقبل، رغمَ أنَّ أغلبَهُم جاءَ من عالم وثني، كانت فكرةُ القيامة تعتبر فيه هراءاً مُطلقاً.

هناك أُسطورةٌ حديثةٌ تدور هذه الأيام تقولُ: إِنَّنا نحن فقط من يمتلك عِلْماً معاصراً لفترة ما بعد التنوير (2)، الذي اكتشف أنَّ الأموات لا يُبعثون. هؤلاء الناس السَّابقون إذن، كانوا فقراء في المعرفة وغير مُتنوّرين، لذا اعتقدوا بكل تلك المعجزات المجنونة. لكن هذا باطل هناك نص جميلٌ ل__ سي. إس. لويس (C. S Lewis)متعلق بهذا الموضوع. كان يتكلم عن حمل العذراء بالمسيح، وأنَّ سبب قلق يوسف (Joseph)(3)بشأنِ حَمْل ،مريم، ليس لأنه لم يكن يعلم من أين جاءَ هذا الحمل، بل كان يعلم مصدره. وكذلك الحال مع قيامة المسيح. فالناس في العالم القديم كان يَشعرونَ بالاضطراب عندما يُواجِهُونَ الادعاء المسيحي، لأنَّهم كانوا يعتقدون بنحو كامل بأن من يموت يظل ميّتاً إلى الأبد.

وماذا نجد بعد ذلك - وهذا بالنسبة لي هو ما يثير دهشتي إلى أقصى درجة - هو ما يمكن تعقبه، في المسيحية المبكرة، من تعديلاتٍ

ص: 289


1- الغنوصية (أو العارفية أو العرفانية) هي مدرسة عقائدية أو فلسفية حلولية نشأت حول القرن الأول الميلادي. أخذت الغنوصية طوراً جديداً لدى ظهور المسيحية لإثبات تواؤم المعتقدين. وكانت لا تتعارض مباشرةً مع الديانات التوحيدية كالمسيحية واليهودية ولكنَّها تمَّ مقاومتها وقمعها من قبل الكنيسة منذ فترة مبكرة.
2- عصر التنوير ويُسمّى عصر الأنوار (بالفرنسية : Sicle des Lumieres) مصطلح يشير إلى القرن الثامن عشر في الفلسفة الأوروبية والذي برز فيه مفكّرون وفلاسفة الأنوار.
3- المقصود يوسف النجار، الذي كان - وفقاً للأناجيل - خطيباً للعذراء مريم (المراجع).

مُتعدّدةٍ في الاعتقادِ اليهودي التقليدي بما يتعلّق بالقيامة.

أولاً: أنَّه بدلاً من قيامة ستقعُ الجميع شعب الإله في النهاية، فإنَّ المسيحيين الأوائل قالوا إنَّ القيامة تختص في البداية برجل واحد فقط. الآن، لا يوجد يهودي في القَرْنِ الأَوَّل، في حدودِ معرفتنا باليهود، كان يعتقد بأنَّ القيامة مختصَّةٌ برجل واحدٍ يُبعَثُ قبل كل البشر. ورغمَ أنَّ الفكرة جديدة، إلَّا أنَّ الجميع اعتقد بها.

ثانياً: أنهم اعتقدوا أنَّ القيامة تنطوي على (تحوُّلٍ) للجسَدِ الفيزيائي. هؤلاء اليهود الذين اعتقدوا بالقيامة، يبدو أنهم ذهبوا في اتَّجاهين: فالبعضُ قالَ: إنَّ القيامة ستخلق جسداً جديداً مشابهاً تماماً لما نحن عليه، في حين ذهب آخرون إلى أنَّ هذا الجسد سيكون جسداً نورانياً، يُضيئ مثل النجم المسيحيون الأوائل لم يقولوا بأي م-ن ه-ذي-ن القولين. وإنَّما تكلموا عن نحو جديد من الفيزيائية (physicality) - وهذا واضح جداً من بولس، لكن ليس وحده - عن نمط جديد من التجسد (embodiedness)، فهو بالتأكيد جسَدٌ بمعنى أنَّه جماد وله حَجم، لكن يبدو أنه قد تحوَّلَ لذا لم يعد الآن يُحس بالألم أو المعاناة أو الموت. تلك الصُّورةُ للقيامةِ ليست موجودةً في اليهودية.

ثالثاً: أنهم اعتقدوا أنَّ المسيحَ نفسَهُ قد بُعِثَ من جسد ميت، وهو ما لم يعتقد به يهود الهيكل الثاني (Second Temple)، لأنَّ يهود الهيكل الثاني كانوا يعتقدون أنَّ المسيحَ لن يُقتَلَ أبداً. لذا هذا كان أمراً جديداً.

رابعاً: هم يستخدمون فكرة (القيامة) بطريقةٍ جديدةٍ تماماً. في اليهودية، تمَّ استخدام هذه الفكرة في استعارة (مجاز metaphor) (العودة

ص: 290

من المنفى، كما نجدها في سفر حزقيال (Ezekiel)، الإصحاح (37).(1)ولكن في المسيحية المبكرة - وأعني هنا المسيحية المبكرة جداً، على سبيل المثال، بولس - نجد أنَّ هذه الفكرة تم استخدامها وربطها بالتعمي (baptism)(2)، والقداسة (holiness)، ومفاهيم أُخرى من المسيحية الحيَّة

ص: 291


1- ورد في الإصحاح (37) من هذا السفر: (كَانَتْ عَلَيَّ يَدُ الرَّبِّ، فَأَخْرَجَنِي بِرُوحِ الرَّبِّ وَأَنْزَلَنِي فِي وَسْطِ الْبُقْعَةِ وَهِيَ مَلانَةٌ عِظَامًا، وَأَمَرَنِي عَلَيْهَا مِنْ حَوْلِها وَإِذَا هِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا عَلَى وَجْهِ الْبُقْعَةِ، وَإِذَا هِيَ يَابِسَةٌ جِدًّا. فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ ، أَتَحْيَا هَذِهِ الْعِظَامُ؟»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدُ الرَّبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ. فَقَالَ ِلي: تَنَبَّأَ عَلَى هَذِهِ الْعِظَامِ وَقُلْ لَهَا: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْيَابِسَةُ، اسْمَعِي كَلِمَةَ الرَّبِّ: هكذا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ هِذِهِ الْعِظَامِ هَأَنَذَا أُدْخِلُ فِيكُمْ رُوحًا فَتَحْيَوْنَ. وَأَضَعُ عَلَيْكُمْ عَصَبًا وَأَكْسِيكُمْ لَحْمَا وَأَبْسُطُ عَلَيْكُمْ جِلْدَا وَأَجْعَلُ فِيكُمْ رُوحًا، فَتَحْيَوْنَ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ». فَتَنَبَّأْتُ كما أُمِرتُ. وَبَيْنَا أَنَا أَتنَبَأُ كَانَ صَوْتٌ، وَإِذَا رَعْشُ، فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عَظْمِ إِلَى عَظْمِهِ. ونَظَرْتُ وَإِذَا بِالْعَصَبِ وَاللَّحْم كَسَاهَا، وبُسِطَ الجِلْدُ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقُ، وَلَيْسَ فِيهَا رُوحُ . فَقَالَ لِي: «تَنَبَّأَ لِلرُّوحِ، تَنَبَّأَ يَا ابْنَ آدَمَ، وَقُلْ لِلرُّوحِ: هكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَلُمَّ يَا رُوحُ مِنَ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ وَهُ-بَّ عَلَى هؤُلاَءِ الْقَتْلَى لِيَحْيَوا». فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَنِي، فَدَخَلَ فِيهِم الرُّوحُ ، فَحَبُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظِيمٌ جِدًّا جِدًّا. ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ هَذِهِ العِظَامُ هِيَ كُلُّ بَيتِ إِسْرَائِيلَ. هَا هُمْ يَقُولُونَ: يَبِسَتْ عِظَامُنَا وَهَلَكَ رَجَاؤُنَا. قَدِ انْقَطَعْنَا لِذلِكَ تَنَبَّأْ وَقُلْ هَمْ: هكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هانذا أَفتَحُ قُبُورَكُمْ وأُصْعِدُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي، وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ عِنْدَ فَتْحِي قُبُورَكُمْ وَإِصْعَادِي إِيَّاكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي. وأَجْعَلُ رُوحِي فِيكُمْ فَتَحْيَوْنَ، وَأَجْعَلُكُمْ فِي أَرْضِكُمْ، فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ تَكَلَّمْتُ وَأَفْعَلُ، يَقُولُ الرَّبُّ» (1 - 14) . (المراجع).
2- التعميد أو المعمودية هي طقس مسيحي يُمثل دخول الإنسان الحياة المسيحية. تتمثل المعمودية باغتسال المعمد بالماء بطريقة أو بأخرى. الشخص الذي يجري تعميده يصبح تابعاً ليسوع المسيح وتابعاً للكنيسة المسيحية. والعماد يُمثل موت يسوع المسيح وقيامته في الحياة الجديدة. أيضاً الطفل المعمد يُخلَّص من الخطيئة الأصلية التي هي خطيئة آدم وحوّاء ويدخل الحياة مرة أخرى كإنسان جديد. وبحسب الاعتقاد المسيحي، فإنَّ أوَّل عماد في التاريخ كان عماد المسيح على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن.

التي لم تكن في بال اليهودية واستخداماتها لكلمة (قيامة). ومرَّة أُخرى، تظهر فكرة جديدة تماماً، وتغير مهم في شكلها كما هي من وجهةِ النَّظَر اليهودية.

خامساً: نجدُ أنَّ (القيامة) بالنّسبة للمسيحيين الأوائل تأتي كما لو كانت شيئاً ما تجلّى الإلهُ من خلاله للبشر. والمسيحيون مدعوون للعمل الإله لتحقيق ما انطلق في الفضح (Easter)(1) والتوقع ما سيفعله إلهُ مع العالم الجديد في النهاية (2). وهذه الفكرة جديدة للغاية، لكنَّها تُمثّلُ َتطوُّراً فقط في إطار الدين اليهودي.

سادساً: كما نجد في المسيحية المبكرة، أنَّ (القيامة) قد انتقلت من كونها عقيدةً مهمَّةً من ضمن عقائد عديدة مهمَّة - كما هو الحال في اليهودية - إلى أنْ تُصبح مركز كل شيء اقتطعه-ا م-ن ب-ولس، أو قُل من بطرس، الوحي، أو آباء القَرْن الثاني العِظام، ستجدُ أَنَّكَ دَمَّرْتَ بناءهُم الفكري كلَّه. لا بدَّ أن نصل إلى نتيجة مفادها أنَّ شيئاً ما قد حدَثَ جعل (القيامة) تنتقل من الإطار الخارجي إلى المركز.

سابعاً وأخيراً: في المسيحية المبكرة، لا نجد طيفاً للاعتقاد بما يقع

ص: 292


1- عيد القيامة (باليونانية: Εορτή της Ανάστασης)، ويُعرف بأسماء عديدة أُخرى أشهرها عيد الفصح وأحد القيامة، هو أعظم الأعياد المسيحية وأكبرها ، يستذكر فيه قيامة المسيح من بين الأموات بعد ثلاثة أيام من صلبه وموته كما هو مسطور في العهد الجديد، وفيه ينتهي الصوم الكبير الذي يستمر عادةً أربعين يوماً؛ كما ينتهي أُسبوع الآلام، ويبدأ زمن القيامة المستمرّ في السنة الطقسية أربعين يوماً.
2- هذه الفكرة شبيهة بمفهوم ليلة القدر الذي تُقدَّر فيه أعمال البشر.

بعد الموت. أما في اليهودية، فهناك وجهات نظر متعدّدة، وفي العالم الوثني هناك أيضاً عدد كبير من وجهاتِ النَّظَر بهذا الخصوص، ولكن في بواكير المسيحية لا نجد سوى شيئاً واحداً: القيامة في ذاتها.

من المسلم به كم أنَّ معظم الناس شديد و المحافظة في آرائهم حول الحياة بعد الموت، وهذا بحق مثير للدهشة. ولذا يبدو أنَّ المسيحيين الأوائل كان لديهم سبب منطقي لإعادة التفكير في هذا الاعتقاد الهام والشَّخصي جداً. وعندما ننظر إلى الطَّيف الفكري لبواكير المسيحية، نرى أنَّ المسيحيين الأوائل قد اختلفوا في أُمورٍ كثيرة إلَّا أنَّهم أجمعوا بصورة تثير الدهشة ليس على القيامة كاعتقاد لهم فحسب، بل أجمعوا أيضاً على كيفية حصولها وكيف تحدثُ، وكلُّ ذلك شرحته في كتابي بالتفصيل.

كلُّ هذا يفرِضُ علينا كمُؤرّخين أن نسأل سؤالاً سهلاً جداً: لماذا أجمع المسيحيون الأوائل المعروفين بالنسبة إلينا، منذ أقدم الأزمان إجماعاً مُلفتاً، على القيامة رغم كونها رؤية جديدة؟ هذا السؤال التاريخي مثير للاهتمام بحد ذاته. بالتأكيد، سوف يردُّ المسيحيون الأوائل بأسْرِهِم بالقول: (لقد كان لدينا هذا الاعتقاد بالقيامة بسبب ما نؤمن به تجاه يسوع) . إن كانت الفكرة القائلة بأن يسوع بُعِثَ من جسد ميت قد ظهرت بعد عشرين أو ثلاثين سنة من بداية المسيحية، كما يقول بعضُ الباحثين المشككين، فإنَّكَ سوف تعثر على الكثير من الشواهد التي تبين أنَّه لم يكن هناك مكان لفكرة القيامة في بواكير المسيحية، أو إذا وجدت شواهد على فكرة القيامة، فستجد أنَّ لها شكلاً آخر يختلف عن الفكرة المحدّدة جداً التي تجدها في المسيحية المبكرة. لذلك، فإنَّ إجماع المسيحيين

ص: 293

الأوائل على الاعتقاد بالقيامة على نطاق واسع، يدفعنا إلى القول بأنَّ شيئاً ما مُحدّداً قد (حَدَثَ) قبل ذلك بوقت طويل مما شكّلَ وصَبَغَ التحرُّك المسيحي ككُلِّ.

عند تلك النقطة لا بدَّ من القول: (حسناً وماذا عن قصص الإنجيل؟ ماذا عن الإصحاح الثامن والعشرين من إنجيل متى (Matthew)(1) ، وماذا عن القصَّةِ الواردة في الإصحاح السادس عشر من إنجيل مرقس (Mark)(2) ؟ وماذا عن القصَّةِ الأطول منها الواردة في الإصحاح الرَّابع والعشرين من إنجيل لوقا (Luke)(3)؟ وماذا عن القصَّتين الأطول الواردة في الإصحاح العشرين والواحد والعشرين من إنجيل يوحنّا John)(4)) وبطبيعة الحال، ومثل باقي علماء

ص: 294


1- إنجيل البشير متى (حرفياً (نُسبت إلى الرسول (متى)). هذا الإنجيل هو أحد الأناجيل الأربعة التي هي ضمن العهد الجديد الكتاب الذي يعتمده المسيحيون في حياتهم. الأناجيل الأربعة التي هي ضمن العهد الجديد من الكتاب المقدس، والتي تم طباعتها بصورة تقليدية ابتداء من : متى، ويليه وبحسب الترتيب مرقس ولوقا ومن ثم يوحنّا. إنجيل متى يُسمّى تقليدياً بإنجيل متى البشير أو المبشّر.
2- إنجيل البشير مرقس تقليدياً هو الإنجيل الثاني في تسلسل الأناجيل الأربعة في العهد الجديد من الكتاب المقدَّس للمسيحيين، ويسمى إنجيل مرقس البشير أو المبشر. يشرح ويحكي هذا الإنجيل عن حياة المسيح ابتداءً بيوحنا المعمدان إلى صعود المسيح إلى السماء بعد قيامته من بين الأموات، لكن إنجيل مرقس يُركّز بالخصوص على الأُسبوع الأخير من حياة المسيح.
3- إنجيل البشير لوقا، يسرد إنجيل لوقا حياة السيد المسيح، مماته وقيامته. وإن كاتب هذا الإنجيل وأعمال الرسل هو ليس واحد، لكن بحسب التقليد تُنسب كتابة أعمال الرسل إلى لوقا.
4- إنجيل البشير يوحنّا هو رابع إنجيل من الأناجيل التشريعية في العهد الجديد من الكتاب المقدس للمسيحيين، وتقليدياً يُسمّى بإنجيل يوحنّا البشير أو المبشر. القدّيس يوحنّا هو كاتب هذا الإنجيل في الإيمان المسيحي، وهذا الإنجيل مقدَّمته تشهد بلاهوت يسوع المسيح كلمة الله.

الإنجيل، أعتقد أنَّ هذه الإصحاحات قد كُتِبَت بعد فترة طويلة .(1)وأنا في الواقع لا أعرفُ متى كُتبت الأناجيل. لا أحد يعرِفُ ذلك، بالرّغمِ من أنّ العلماء لا يكُفّونَ عن القولِ لنا بأنهم يعرفون. هذه الإناجيل ربَّما تكون قد كُتِبَت في أوائل الخمسينات من القَرْنِ الأَوَّل، وبعضُهم يقول: إنَّها كُتِبَت قبل ذلك. كما يمكن أن تكون قد كُتِبَت في وقت متأخر من السبعينات أو الثمانينات، وبعضُها ربَّما كُتِبَ حتّى في التسعينات من القَرْن الأول. ولكن فيما يخصُّ حُجَّتي، هذا الأمر لا يعني شيئاً على الإطلاق .(2)

(1) هذه بأسرها هي الإصحاحات الأخيرة في الأناجيل الأربعة، وهي تتحدث عن أحداثِ ما بعد صلب يسوع، وما يتعلق بقيامته. (المراجع).

ص: 295


1- يعني بعد عقدين على أقل تقدير. (المراجع).
2- بل تعني الكثير. الكثير. فإن كانت الفجوة التاريخية بين وقوع حادثة القيامة المزعومة وكتابة الأناجيل لا تقلُّ أبداً عن عقدين من الزمان، وقد تطول إلى ستة عقود أو أكثر. فهذا يعني أنَّ قصص هذه الأناجيل ( ومنها قصة قيامة يسوع) استمر تناقلها الشَّفقهي عشرات السنين، قبل أن تُدوّن في أناجيل لم تأخُذ معلوماتها من شهود عيان، ولا نعرف مدوّينَها بالتحديد (فكُتّابها الأصليون مجهولون، ولم تُنسب لفلان أو فلان إِلَّا في وقت لاحق، ف- آرانيوس - في حدود سنة (180م) - هو أوَّلُ من نَسَبَ ذلك إليهم، أي بعد قرن من كتابتها، بل الأناجيل نفسها لا تدَّعي أنَّ كاتبها هو فلان الذي نُسِبَ إليه كتابتها لاحقاً)، ناهيك عن كونها متعارضة، وغير متسقة داخلياً. بل إنَّ هذه الأناجيل - كما يؤكِّد النقاد المختصون - كُتِبَت في بلدان مختلفة، وبلغة يونانية فصيحة، في حين أن تلامذة يسوع لغتهم آرامية، ومستواهم التعليمي متواضع للغاية.... فمن أين استقى كُتّابها معلوماتهم عن قيامة يسوع !؟ من المستبعد جداً أنّهم استقوها من شهود عيان والأرجح بقوة أنهم استقوها من قصص كانت متداولة شفوياً سنةً بعد أُخرى، في جيل بعد آخر، منقولة من بلد إلى آخر ...، ومن المعلوم قدر التحريف المحتمل بمرور الوقت في مثل هذه الحالة (المراجع).

النُّقطةُ هي هذه : قصَّةُ القيامة في الإنجيل (وبقية المصادر ذات الصّلة، وفي مُقدِّمتِها أعمالُ الرُّسُل)، التي لها خواص محددة ومشتركة بين الأناجيل الأربعة، تُبرهن تاريخياً، رغم أنَّها كُتِبَت في مرحلة متأخرة، على أنّها تعود إلى الماضي بطريقةٍ لم تتعرّض فيها إلى تحريف بدرجة كبيرة، لقد تم تحريرها قليلاً ولكن لم يتم تحريفها بنحو أساسي، عن روايتها المبكّرة الشَّفوية. وهذا أمرٌ ، كما هو واضح، بالغ الأهمية.

الخاصّيَّةُ الأولى: هي صورة يسوع في قصة القيامة. لقد قيل مراراً وتكراراً بأنَّ:

1 - إنجيل مرقس قد كُتب أوَّلاً، وأنَّه من الصعب أن تجد فيه شيئاً عن القيامة .(1)

ص: 296


1- هذه هي العبارات الواردة في إنجيل مرقس المتعلقة بقيامة يسوع، 16: 1 - 23: (وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ اشْتَرَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطًا لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. وَبَاكِرًا جِدًّا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ : «مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟»، فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيمًا جِدًّا. وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابًا جَالِسًا عَنِ الْيَمِينِ لاَبِسًا حُلَّةً بَيْضَاءَ، فَانْدَهَشْنَ . فَقَالَ هُنَّ: «لاَ تَنْدَهِشَنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِي المَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ لَيْسَ هُوَ هاهُنَا هُوَذَا المَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. لَكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلَامِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ : إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ». فَخَرَجْنَ سَرِيعًا وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْخَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئًا لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ. وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِرًا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوْلاً يَرْيَمَ المَجْدَلِيَّةِ الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ). أقول: من هو هذا الشَّاب اللابس حلة بيضاء؟ لا ندري. هل هو صادق أم كاذب؟ لا ندري. وكيف نعرف أنَّ مريم المجدلية لم تكن في حالة هلوسة؟ لا ندري. (المراجع).

2 - إنجيل متى الذي جاء بعد إنجيل مرقس، لم يحتو كذلك على الكثير عن القيامة (1).

3 - مع نهاية القرن، ظهر كل من إنجيل لوقا (2)ويوحنّا .(3)

ص: 297


1- هذه هي العبارات الواردة في إنجيل متى المتعلقة بقيامة يسوع، 28: 1 - 10: (وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَ الْقَبْرَ. وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ ، لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالتَّلْجِ، فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ فَأَجَابَ المَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: «لا تَخَافَا أَنْتُها، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ المَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هَاهُنَا لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ: هَلُمَّا انْظُرَا المَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ. وَاذْهَبَا سَرِيعًا قُولا لِتَلَامِيذِهِ: إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا». فَخَرَجَتَا سَرِيعًا مِنَ الْقَيْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ، رَاكِفَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلَامِيذَهُ. وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرًا تَلَامِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمَا» فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَنَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَنَا لَهُ. فَقَالَ هُمَا يَسُوعُ: «لاَ تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولا لِإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي»). أقول: من أين عرفت مريم المجدلية ومريم الأخرى أنَّ هذا الشاب اللابس حلة بيضاء هو ملاكٌ بالفعل كما يدعي؟ وكيف نعرف أنهما لم تكونا في حالة هلوسة وتوهم؟ لا ندري وهل كانت مريم المجدلية لوحدها - كما مر في إنجيل مرقس - أو كانت معها مريم أُخرى؟ لا ندري. (المراجع).
2- هذه هي العبارات الواردة في إنجيل لوقا، المتعلقة بقيامة يسوع، 1:24 - 11: (ثم في أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، أَوَّلَ الْفَجْرِ، أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلَاتِ الخَنُوطَ الَّذِي أَعْدَدْنَهُ، وَمَعَهُنَّ أُناسٌ. فَوَجَدَنَ الحَجَرَ مُدَحْرَجًا عَن الْقَيْرِ، فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ. وَفِيمَا هُنَّ مُخْتَارَاتٌ فِي ذلِكَ، إِذَا رَجُلَانِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابِ بَرَّاقَةٍ. وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ ، قَالاَ هُنَّ : مَاذَا تَطْلُبْنَ الحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ ؟ لَيْسَ هُوَ هَاهُنَا، لَكِنَّهُ قَامَ أُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الجَلِيلِ قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الْإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُناسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ . فَتَذَكَّرْنَ كَلَامَهُ، وَرَجَعْنَ مِنَ الْقَيْرِ، وَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَميعَ الْبَاقِينَ بِهِذَا كُلِّهِ. وَكَانَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ اللَّ-وَاتِ قُلْنَ هذَا لِلرُّسُلِ. فَتَرَاءَى كَلَامُهُنَّ هُمْ كَاهُ-دَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ). أقول: هنا يبدأ بشكل واضح، التعارض بين الأناجيل ، فلو افترضنا أن المخبر بقيامة المسيح هو من الملائكة، فهل هو رجل أبيض واحد، كما أخبر إنجيل مرقس ومتى، أم رجلان؟ وهل كانت مريم المجدلية لوحدها (كما يظهر من إنجيل مرقس ) أم كانت معها مريم أُخرى أيضاً (كما يظهر من إنجيل متى) أم كانت معهما يونا ونسوة أُخريات؟ يرى علماء الدين المسيحي أنَّ هذا التعارض غير مستقر، ويمكن رفعه من خلال التوفيق بين العبارات بنحو ما . (المراجع).
3- هذه هي العبارات الواردة في إنجيل يوحنّا، المتعلقة بقيامة يسوع، 20: 1 – 2 : (وَفي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ المَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِرًا، وَالظَّلامُ بَاقِ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعًا عَنِ الْقَيْرِ. فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التَّلْمِيذِ الْآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ مَا : أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَيْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!». أقول: لا ذكر هنا (قبل إخبار بطرس والتلميذ الآخر) للملائكة المخبرين عن قيامة يسوع، كما لا ذكر لنساء أخريات غير مريم المجدلية (المراجع).

وعندها، وعندها فقط وجدنا قصص أكل يسوع للسمك المشوي (1)،

ص: 298


1- هذه هي عبارات إنجيل لوقا، التي تتحدث عن السمك المشوي ورؤية التلاميذ ليسوع بعد حادثة الصلب والدفن، الإصحاح 24: 42 و 43: (وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسْطِهِمْ، وَقَالَ هُمْ: «سَلاَمٌ لَكُمْ» فَجَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحًا. فَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ ؟ أَنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ : إِنِّي أَنَا هُوَ حُسُّونِي وَانْظُرُوا فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لي» . وَحِينَ قَالَ هذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. وَبَيْنَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِينَ مِنَ الْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَهُمْ: «أَعِنْدَكُمْ هَاهُنَا طَعَامٌ؟» فَنَاوَلُوهُ جُزْءًا مِنْ سَمَكِ مَشْوِيٌّ، وَشَيْئًا مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ). أقول: قد يقال : إنَّ هذه القصة لم ترد لتبديد توهم أن يسوع هو إله متجسد، كما يرى رايت، بل حتّى يؤكد يسوع لتلامذته أنَّه لم يكن هو المصلوب، وأنه لم يقم بعد موته، ولم يترؤحَن، لأنَّه ما زال حياً من لحم وعظام، وحتّى يؤكد لهم هذه الحقيقة، أكل أمامَهُم شيئاً من السمك والعسل. بالتالي لا يمكن استخدام هذه القصة كشاهد على قيامة يسوع. (المراجع).

وطبخ للفطور عند الشاطئ (1)، ودعوته ل__(توما Thomas) أن يمسّه (2)وأمثال ذلك. ووفقاً لهذه النظرية، فإنَّ المسيحيين في نهايةِ القَرْن الأوَّل كانوا قد بدأوا يعتقدون بأن يسوع لم يكن إنساناً بحق، أي إنه لم يكن في الواقع رجُلاً حقيقياً، ولذا قام لوقا ويوحنا بتأليف هذه القصص في تلك المرحلة للقول: نعم، هو في الواقع كان إنساناً، ويسوع المبعوث كان له شكل جسدي (أو صورةٌ جسديةٌ) في الواقع، وما إلى ذلك.

ص: 299


1- راجع إنجيل يوحنّا، الإصحاح 21: 4 - 14 . أقول: وحال هذه القصَّة حال قصَّة السمك المشوي، لذا لم أذكرها لعدم الإطالة (المراجع).
2- هذه هي عبارات إنجيل يوحنّا، التي تتحدث عن إيمان توما بعد رؤيته ليسوع، الإصحاح 20: 27 - 29: (أَمَّا تُومَا، أَحَدُ الاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: التَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُ التَّلَامِيذُ الآخَرُونَ: «قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ!». فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ المَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ المَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» . وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضًا دَاخِلاَ وَتُو مَا مَعَهُمْ فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُعَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ وَقَالَ: «سَلامٌ لَكُمْ!». ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلَا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنًا». أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُ: «رَبِّي وَإِهِي!»، قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا»). أقول: قد يقال: إنَّ هذه القصة لم ترد لتبديد توهم أن يسوع هو إله متجسد، كما يرى رايت، بل حتى يؤكد يسوع لتوما أنَّه لم يكن هو المصلوب، وأنه لم يقم بعد موته، ولم يتروحن، لعدم وجود أثر الصَّلْب على يديه والطَّعنة في جنبه، وحتّى يؤكد له هذه الحقيقة، دعاه للنظر إلى يديه، ومسَّ يديه و جنبه ، فطوبى لمن آمن بأنَّ الله قد أنج-اه من خصومه اليهود دون أن يروا بالتالي لا يمكن استخدام هذه القصة كشاهد على قيامة يسوع. (المراجع).

المشكلة في هذه النظرية، والتي هي شائعة، أنَّ هذه القصص (حول طَبخ المسيح للفطور عند الشاطئ، كَسْرِ الخبز في عِمْواس ودعوتِهِ ل توما أنْ يَمَسَّهُ... إلى آخره) أنَّ يسوع فيها يأتي ويذهب عبر الأبواب المغلقة، في بعض الأحيان يتم تشخيص ذلك وفي أحيانٍ أُخرى لا يتم تشخيص ذلك، يظهر ويختفي متى ما شاء.

دعوني أضع الأمر هكذا: لو أردتُ أنْ أحْبِكَ قصَّةً، قُلْ، حَدَثَت في سنة (95م)، لأنّي أعرفُ أنَّ بعض قومي كانوا غير واثقين من أنَّ يسوع رجل واقعي (من لحمٍ ودم)، فسوف أضع المواد اللازمة كلَّها لإقناعِهِم بتلك القصَّة. إنَّه نحو من (الغايةِ الشَّخصية).

من وجهة نظر أُخرى، إذا كنتَ يهودياً في القَرْنِ الأَوَّل، وأردْتَ أنْ تحوكَ قصَّةً عن المسيح الذي بعث من جسد ميت، فالمصدرُ الطَّبيعي من الكتابِ المُقدَّس سيكون الإصحاح الثاني عشر من سفر دانيال(1)، الذي يُعدُّ واحداً من أكبر النُّصوص التي تتحدث عن القيامة بالنسبة ليهودية الهيكل الثاني. يقولُ الإصحاح الثاني عشر بأنَّ الصَّالحينَ سوفَ يَلْمَعونَ مثل النُّجوم في مملكة الأب(2). في الحقيقة، إنَّ يسوع استشهد بهذه العبارة في الإصحاح الثالث عشر من إنجيل متى.(3) وما يزيد

ص: 300


1- دانيال هو أحد الأنبياء الأربعة الكبار في التراث اليهودي المسيحي، والشخصية المركزية في سفر دانيال.
2- أنظر سفر دانيال، الإصحاح الثاني عشر، 3: (والفاهِمُونَ يُضِيئُونَ كَضِياءِ الجَلَدِ). (المراجع).
3- أنظر إنجيل متى، الإصحاح الثالث عشر ، 43: (حينئذ يُضيء الأبرار كالشَّمْسِ في ملكوت أبيهم). (المراجع). أقول: لا يبدو لي عدم وجود تطابق بين العبارتين، وإن كان هناك تشابهاً بينهما. (المراجع).

الأمرُ روعة، أنَّ يسوع لم يكن ليظهر كنَجْمِ يلمَعُ في أي من روايات القيامة فيما لو كانوا قد حبكوا هذه القَصَص .(1)

لذا، من خلال وجهتي النَّظَر هاتين، تبدو صورة يسوع في قَصَص القيامة غريبة جداً جداً. فهي صورة ليست كما تتوقعها. وه-ي ص-ورة مخالفة لما هو موجود في القصص اليهودية في ذلك الزمان. وهي متّسقةٌ بنحو لافت مع ما ورَدَ في أناجيل متى ولوقا ويوحنّا (رواية مرقس أقصر بكثير من أنْ تُمكِّننا من معرفة ما إذا يمكن أن يقوله فيما لو استرسَلَ وتحدَّثَ عن ذلك)، ولذلك يبدو أنَّ شيئاً ما غريباً قد حَدَث. يبدو الأمر كما لو كان الإنجيلي (Evangelists) يريد أن يقول لنا: (أنا أعلم أنَّكُم ستجدون صعوبة في التصديق، ولكن هذا ما حَدَثَ في الواقع). شيء ما استثنائي قد حدَثَ، وترَكَ بصْمَتَهُ في القَصَص. الناس لا يمكن أن يختلقوا هذه الأمور من أذهانهم هكذا. أي شخص يكتب قصصاً خيالية عن الفَصْح كان سيجعل يسوع أكثر وضوحاً.

دعوني أقولُ شيئاً هنا. إذا أخذْتَ َقصَصَ القيامة في أناجيل متّى، مرقس ، لوقا، ويوحنّا، من أصلها اليوناني، وقارنتها جَنْباً إلى جنب فستجد أنَّها مختلفةً جداً، حتّى عندما يتحدثون عن قصَّةِ النّساء نفسها اللاتي ذهبْنَ إلى القبر. إنَّهم يستخدمون كلماتٍ مختلفةٍ مرَّةً بعد أُخرى. لذا يبدو كما لو لم ينْسَخ أحدُهُم من الآخر.

ص: 301


1- الأمر المحيّر أنَّ الموارد التي ذكرها رايت من الظاهر تماماً أنها تتحدث عن مصير الأبرار الأُخروي عموماً، ولا تتحدث عن مصير المسيح بالخصوص، فلماذا يتم ليِّ عُنق النصوص لتطبيقها على دعوى قيامة المسيح؟ (المراجع).

الخاصّيَّةُ الثانية: أنَّ هناك تقريباً غياباً شبه كامل لصدى أو تلميح في العهد القديم عن قَصَص القيامة. في قَصَصِ الصَّلْب (crucifixion) ، يبدو واضحاً أن قصة موت يسوع كانت قد قيلت مراراً وتكراراً من قبل المجتمع المسيحي المبكر، وحياكتها منسجمة مع المزمور الثاني والعشرين من المزامير ( Psalm)(1) ، والإصحاح الثالث والخمسين من سِفْرِ أشعيا (Isaiah)(2)، وسفر زکریا (Zecharia)(3)، وبقية تلميحات العهد القديم في قصَّةِ الصَّلْب، حتَّى في قصَّةِ الدَّفْن. ولكن عندما تنتقل إلى الصفحة التي تليها إلى قصَّةِ القيامة، لا تجد ذلك في أناجيل متى، مرقس لوقا، ويوحنّا. ونُذكِّر أنفُسنا بأنَّ بولس كان قد قال في رسالتِهِ إلى كورنثوس الأولى، الإصحاح الخامس عشر، أن المسيح قد قام من ميّتٍ (4)(وفقاً للنُّصوص) أي حسب الكتب، وبولس كان لديه في أوائل الخمسينات من القَرْنِ الأوّل مستودعاً ثرياً من -وص العهد القديم التي من خلالها فسَّرَ القيامة). لقد كان من السهل جداً على متى، الذي عاش يحكي لنا عن تحقق نبوءات النَّص أن يقول: (هذا قد حدَثَ كذا

ص: 302


1- يبدو أنه يقصد الفقرة (16) من هذا المزمور التي تقول: (لأنه قد أحاطَتْ بي كلاب جماعةٌ من الأشرارِ اكتنفتني، ثقبوا يديَّ ورِجْليَّ). (المراجع).
2- يبدو أنه يقصد الفقرة (7) وما يليها من هذا الإصحاح، التي تقول : (ظُلِمَ أمَّا هو فتذلَّلَ ولم يفتح فاهُ. كشاةٍ تُساقُ إلى الذَّبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه). (المراجع).
3- لم يُحدد رايت في أي إصحاح من سفر زكريا ورد ما يشير إلى صلب المسيح، وقد راجعتُ السِّفْرَ سريعاً ولم أجد إشارة إلى ذلك. (المراجع).
4- قال بولس في تلك الرسالة 3 - 4: (المسيح مات من أجل خطايانا حسَبَ الكُتُبِ، وأَنَّه دُفِنَ ، وأَنَّهُ قامَ في اليوم الثالث حَسَبَ الكُتُب). (المراجع).

تحققاً لنبوءَةِ النَّصّ الذي يقول كذا...) . إلَّا أنَّ متى لم يفعل ذلك. وبالمثل، فإنَّ يوحنّا يقول : إنّه عندما ذهب التلاميذُ إلى القَبْر ، لم يكونوا يعرفون النّصّ الذي يقول: إنَّ المسيحَ سيُبْعَثُ من جسد ميّتٍ . ولكن يوحنّا لم يستشهد واقعاً بهذا النَّصَّ أو يقول لنا ما هو هذا النَّصَّ. وفي الطَّريقِ إِلى عِمُواس، تحدَّثَ لوقا عن شَرح يسوع للنصوص، لكن مرَّةً أُخرى لا يقول لنا لوقا أي شيء عن تلك النصوص أو ما قاله يسوعُ عنها .(1)

هذا أمرٌ غريب جداً. فإما أن نقول: إنَّ الكنيسة الأولى هي التي كتبت قصَّةَ القيامة على غرار ما ورَدَ في العهد القديم، وأن متى ويوحنّا ولوقا ومرقس قد استندوا إلى هذه القصص بنحو مستقل، أو أن نقول: إنَّ هذه القصص تعود إلى حَقْبةٍ قديمة جداً في النَّقْلِ الشَّفهي التي سبقت التأمُّل اللاهوتي والتفسيري (theological and exegetical reflection). في تقديري أنَّ القول الثاني هو الأرجح بدرجة كبيرة.

الخاصيَّةُ الثالثةُ الرَّائعةُ هذه القَصَص: هو موقع المرأة فيها (وهذه نقطة معروفة؛ لَسْتُ أوّل من يُنوِّه إليها). في العصور القديمة، العَصْرِ اليهودي والوثني، شهادة المرأة لم يكن من الجدير أنْ تُقبَلَ بمحكمة القانون. وفي زمن ،بولس، قام بالاستشهاد بالرّواية المتداولة عن يسوع في

ص: 303


1- فوفقاً لإنجيل لوقا، الإصحاح 24 : 44 - 46 ، يشير يسوع إلى أنَّ ثَمة نصوص في أسفار الأنبياء القديمة تشير إلى قيامة المسيح، لكن لم يُحدّد بالضبط أين هي تلك النُّصوص. فقد جاء هكذا: (وَقَالَ لَهُمْ: هَذَا هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوس مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالمَزَامِيرِ. «حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ. وَقَالَ لَهُمْ: «هكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ المَسِيحَ يَتَأَلَمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ). (المراجع).

رسالِتِه الأولى إلى كورنثوس، الإصحاح (15)، حيث قال: (فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ المَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْل خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ . وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةٌ وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى الآنَ. وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا، وَبَعْ-دَ ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لي أَنَا). وهنا نرفَعُ أيدينا ونسأل بولس: (المعذرة بولس، أينَ النِّساء؟) . الجواب هو أنَّه في بداية الخمسينات من القَرْنِ الأول، لم تكن التقاليد تسمح لأن توضع النساء بالحسبان، لأنهم كانوا يعلمون أنهم إن فعلوا فسيكونون في ورطة. ونحن نرى هذه الورطة عندما نقرأُ سيلسوس (Celsus) (1)وهو يصب جام غضَبِهِ على القيامةِ بقوله : (هذا الإيمان مبنيٌّ على مجرَّدِ شهادة بعض النساء المجنونات).

لذا من المدهش أنَّنا نجد في أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنّا

ص: 304


1- وفقاً لاوريجانوس، سيلسوس كان المؤلّف لعمل ضدَّ المسيحية بعنوان (الكلمة الحقَّة). وكان هذا العمل قد فُقِدَ، ولكن لدينا نصوص أوريجانوس نفسه في كتاباته. وثبت أنَّ سيلسوس قد ألَّفَ (الكلمة الحقة) في الوقت الذي كانت المسيحية تُضطهَدُ فيه، وفي الوقت الذي كان هناك على ما يبدو أكثر من إمبراطور. وباعتباره فيلسوفاً يونانياً كرَّسَ حياته ضد المسيحية، فقد شنَّ سيلسوس هجوماً على (المسيحية)، وذكر سيلسوس أن والد يسوع كان جندياً رومانياً يدعى (بانتيرا). وأثارت وجهات نظر سيلسوس ردود فعل من (أوريجانوس) الذي اعتبرها قصَّة ملفقة. وهذا الاتّهامُ الجائر والفرية العظيمة نجدها في التلمود أيضاً، فهل أخذه سيلسوس من التلمود؟ أم أنَّ التلمود هو الذي اقتبس هذه الاتهامات من سيلسوس؟ هذا بحاجة إلى مزيد من البحث (المراجع)

ذكراً لمريم المجدلية (Mary Magdalene)(1) ، وبقية المرايم (جمعُ مريم) ونساء غيرهُنَّ. ومن بين كل الناس، مريم المجدلية (ونحن نعلم أنَّ لها مهنة متقلبة جداً في الماضي) تمَّ اختيارها كشاهدة رئيسية، لذا تجدها في المصادر الأربعة. ونحنُ كمُؤرّخين مُلزمون بالتعليق على ذلك بأنَّ هذه القَصص لو كانت قد اختُلِقَت بعد خمس سنوات، ناهيك عن ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، ما كان لمريم المجدلية أن تلعب فيها هذه الدور. من وجهة نظر المدافعين عن المسيحية الذين يريدون إقناع الجمهور المتشكّك بأنَّ يسوع قد بُعِثَ من جسد ميّت، إدخال مريم المجدلية في هذه القَصَص مثل من يُطلق النار على قدميه. لكن بالنسبة لنا كمؤرخين، هذا من قبيل التراب الذهبي (أي نقطة لها قيمة تاريخية كبيرة). لا يمكن للمسيحيين الأوائل أن يختلقوها مطلقاً، مطلقاً). القصص - التي تتحدث عن عشورِ النُّسوة على قبر خال ثم بعد ذلك يلتقون بيسوع المبعوث - يجب التعامل معها على أنَّها صحيحة تاريخياً .(2)

الخاصيَّةُ الرابعة والأخيرة لهذه المواقف: وهنا أتحدث بوصفي مُبشِّراً مارَسَ التَّبشير في كل يوم فضح لمدة خمس وثلاثين سنة.

ص: 305


1- مريم المجدلية من أهم الشخصيات المسيحية المذكورة في العهد الجديد، وتعتبر من أهم النساء من تلاميذ المسيح، والشاهدة على قيامته، وأوَّل الذاهبين لقبره حسب ما ذكره الإنجيل.
2- انصافاً، لا شك أنَّ الاستشهاد بشهادة النساء، ووضعهنَّ كما وصف رايت، مؤشر على توفِّر قَدْرٍ من المصداقية في تلك الروايات. لكن هذه الروايات لا تدلُّ على أمرين: الأول: أنَّهُنَّ لم يكُنَّ في حالة توهم وهلوسة. والثاني: أنَّ يسوع قد قام، بل يبقى من المحتمل أنَّ الجسد قد سُرق. وستعرفُ الموقف الأقرب للمعقولية، فانتظر. (المراجع).

المبشِّرونَ وفقاً للتقاليد الغربية، الذين يُبشِّ-رونَ في الفَصْح عن قيامة يسوع المبعوث من ميِّتٍ، يمليون إلى التبشير عن حياتنا المستقبلية، وعن قيامتنا نحن، وعن ذهابنا إلى السَّماء. ولكن في قصص القيامة في متى، مرقس لوقا، ويوحنّا، لا نجدُ ذِكْراً لحياتنا المستقبلية. على العكس من ذلك، فإنَّ بولس كان في كلّ مرَّةٍ يتحدَّثُ فيها عن القيامة، يُشيرُ فيها إلى حياتنا المستقبلية أيضاً. في العبرية (Hebrews) قيل لنا عن قيامة يسوع وعن قيامتنا المستقبلية؛ في كتاب الوحي، مرَّةً أُخرى، نجد ربطاً بين قيامتنا نحن وقيامة يسوع. جاستن الشَّهيد (Justin Martyr)(1)، أغناطيوس الأنطاكي (Ignatius of Antich)(2)، وإيريناس ( Irenaeus)(3)، يتفقون بالقول بأنَّنا (نحنُ نُفَكِّرُ بقيامةِ يسوع، حتّى ينعكس ذلك علينا).

ولكن متّى، مرقس لوقا، ويوحنّا لا يقولون: (إنَّ يسوع قد بُعِثَ، لذا نحن سنبعَثُ في يومٍ ما). هم يقولون - وهذا مثير لتعجُّب

ص: 306


1- القديس جاستن كان من المبشرين الأوائل، وهو أقدم الشارحين ل__(اللوجس) في القرن الثاني. استشهد مع تلامذته واعتُبِرَ قديساً للكنيسة الكاثيولكية.
2- أغناطيوس الملقب بالنوراني أو الأنطاكي والذي يُدعى أيضاً ثيوفوروس (باليونانية: Θεοφόρος) أي حامل الإله، وهو قديس وأحد آباء الكنيسة، كان على الأرجح أحد تلامذة الرسولين بطرس ويوحنّا. هو ثالث أساقفة أو بطاركة أنطاكية بعد بطرس وإفوديوس الذي توفّي حوالي سنة (68م).
3- القدّيس إيرينيئوس (القرن الثاني الميلادي - نحو عام 202م) هو أسقف مدينة لوغدو نوم في بلاد الغال ، ثم أصبح علماً وجزءاً من الإمبراطورية الرومانية (الآن مدينة ليون ب_(فرنسا)). وكان القدّيس إيرينيئوس أحد أشهر آباء الكنسية الأوائل ومن أهم المدافعين عن العقيدة المسيحية، وكانت كتاباته تقويمية خلال فترة بداية انتشار ونموّ علم اللاهوت المسيحي.

الناس - : (إِنَّ يسوع بُعِثَ، لذا هو واقعاً كان المسيح). مخلوق الإله الجديد قد بداً. ولدينا مهمَّةٌ لا بدَّ أنْ نُؤدِّيها. وماذا بعد؟ نحن نجد أنفُسَنا نميل إلى عبادة يسوع هذا، لأنَّا وجَدْنا أنه قد جسَّدَ إلهَ إسرائيل، خالق الكون.

بعبارةٍ أُخرى هذه القَصَصُ، كما نجدها في الإناجيل، تعود إلى طريقة بدائية في سَرْدِ القصَّة التي لم تُقَل من قبل : (إِنَّ يسوع قد بُعِثَ، لذا فإنَّنا سوف نُبعَث)، وهو ما نجده واضحاً في بولس بدءاً من أواخر الأربعينات. لذا فنحن نستنتج أن هذه القصَصَ تعود إلى ما قبل بولس. إلى الزَّمن الذي نرى فيه الكنيسة المبكرة جداً جداً تُديرُ صَدْمةً هذا الحدث غير المتوقع بشكل كامل للقيامة وتستنتج مدلولاته .(1)

من كلِّ ما سَبَق نصِلُ إلى عدَّةِ استنتاجات حتّى نتمكّن من تفسير صعود نجم المسيحية في بدايتها، وحتّى نستطيع تفسير وجود القيامة في المصادرِ (الأناجيل) الأربعة بالإضافة إلى بعض الفقرات في سفر أعمال الرُّسُل وبولس علينا أن نقول : إنَّ الكنيسة المبكرة جداً كانت بالفعل تعتقد أنَّ يسوع بُعِثَ جسدياً من ميت. وليس لدينا أدلة على أنَّ المسيحيّين الأوائل كانوا قد اعتقدوا بخلاف ذلك. ولكن كيف يُمكننا كمُؤرّخين تفسير ذلك؟

من الواضح أنتَ كمسيحي بمقدورك أن تختصر على نفسِكَ الحُجَّةَ وتحسِمَ الأمر عند أي نقطة. الكثير من المسيحيين فعلوا ذلك،

ص: 307


1- لا يبدو لي في الأمر غرابة، فالربط بين الإيمان بقيامة يسوع، كمدخل أو دليل للإيمان بالقيامة العامة، لم يتمّ إلَّا في وقت متأخر، بعدما تطوَّرَ اللَّاهوت (علم الكلام) المسيحي لاحقاً. (المراجع).

وهو أمرٌ مخجل في الواقع، لأنه تفريط بنقطة حيوية. الناس عادة يقولون: (بالتأكيد، لقد كان هو ابن الإله. وكان باستطاعتِهِ أنْ يفعَلَ أَيَّ شيء. وهذا أمر عقلاني، أليس كذلك؟).

لكنَّني لا أُريد أن أفعل ذلك، وإنّما أُريدُ أنْ أكونَ وفياً للنُّصوص، التي لا تقول ذلك. علينا أن نسأل: كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة الاستثنائية، حقيقة النشأة المبكرة للكنيسة في المقام الأوّل، آخذينَ بالاعتبار شكلها المحدد جداً، وتداولها لقَصَصِ مُحدَّدةٍ جداً؟ لقد اكتشفت كباحث عن تفسير تاريخي، أنَّ هناك شيئين لا بد أنها قد وقعا:

1 - كان هناك قبرٌ خالٍ(1)، وكان معروفاً أن-ه ه-و ال-ق-بر الصحيح، ولا يمكن أن يكون خطاً.

2 - هناك ظهورٌ مُتكرّر (appearances) ليسوع المبعوث(2). من

ص: 308


1- وهذا ما رأيناه واضحاً في الأناجيل الأربعة، حيث نقلنا المقاطع الدالة على خلو القبر من الجسد. (المراجع).
2- والتعدد الوارد في الأناجيل ورسائل بولس لشهود كُثر شاهدوا يسوع بعد حادثة الصَّلْب والدفن، هي كما يلي: 1 - ظهورُهُ لمريم المجدلية (إنجيل مرقس 9:16). 2 - ظهوره لبعض النساء التلميذات (إنجيل متى 28: 9). 3 - ظهوره ليعقوب (رسالة بولس الأولى لكورنثوس 15 :7) 4 - ظهوره لبطرس (رسالة بولس الأولى لكورنثوس 5:15) 5 - ظهوره للتلميذين اللذين كان ذاهبين إلى عمواس (إنجيل لوقا 24: 15 - 31). 6 - ظهورُهُ لسبعة من التلاميذ الذين كانوا يصطادون في بحر الجليل (إنجيل يوحنّا 28 - 1:21 ) 7 - ظهوره للتلاميذ العشرة، وفي هذه المرة لمسوا يسوع وجشوه، وأكل أمامهم، فأثبت لهم أنهم لا يرون رؤيا أو هلوسة، بل يرون حقاً يسوع بلحمه ودمه (إنجيل لوقا 36:24 - 43) 8 - ظهورُهُ للأحد عشر تلميذاً في الجليل (إنجيل متى 28: 16 - 17). 9 - ظهوره للأحد عشر تلميذاً، وتوما معهم، ولم يكن توما موجوداً في المرَّةِ السَّابقة التي ظهر فيها يسوع للتلاميذ، ولذلك شك ولم يؤمن إلا لما ظهر لهم يسوع وتوما معهم (إنجيل يوحنا 20 : 21 - 28). 10 - ظهوره الخمسمائة من المؤمنين (رسالة بولس الأُولى لكورنثوس 15: 6). 11 - ظهوره للأحد عشر تلميذاً فوق جبل الزيتون عند رفعه إلى السماء (أعمال الرسل 1:1 - 12). أقول: هذا التعدُّد إن صح، فسيجعل احتمال رؤيتهم ليسوع في الواقع كبيراً، لكن هذا لا يعني أن يسوع قد قامَ من قبره بل يمكن تقديم تفسير آخر أقرب إلى المعقولية، فانتظر. (المراجع).

المُؤكَّد أنَّ هذين الشَّيئين قد حدثا .

لماذا؟ لأنَّه إنْ كان هناك قبر خالٍ ولم يكن ثَمَّة ظهور متكرر، فإنَّ أيَّ إنسان في العالم القديم كان سيصل إلى نتيجة واضحة (واضحة لهم حتَّى لو لم تكن كذلك بالنسبة لنا) مفادها أنَّ الجسد قد سُرِقَ. لقد كان من المعتاد سرقة القبور، وخاصة إذا كان الموتى من الأغنياء أو المشهورين؛ فقد يكون هناك جواهر ، أو شيء ما يستحق السرقة. لذا كان الناسُ سيقولون ما قالَتْهُ مريم (المجدلية): (أخذوا السيّد من القَبْرِ، ولَسْنا نعلم أين وضعوه !)(1) . وما كانوا ليتكلموا أبداً عن القيامة، إنْ كان كلُّ ما حدثَ هو أنَّهم وجدوا القبر خالياً.

وبالمثل، لا يُمكنك تفسير المعطيات التاريخية التي رأيناها، من خلالِ القول بأنَّ تلامذتَهُ لا بدَّ أنْ كانت لديهم خبرة من نوع ما جعلَتْهُم

ص: 309


1- إنجيل يوحنّا، الإصحاح العشرون، 2.

يلتقون بيسوع. كانوا قد عرفوا بأن يسوع قد قُتِل. لكن هم يعرفونَ جميعاً عن الهلوسة والأشباح والرُّؤى. الأدب القديم - اليهودي والوثني على السواء - مليء بمثل هذه الأمور. هذه الأمور تعود إلى زمن هوميروس (Homer)؛ ونجدها في شعر فيرجيل (Virgil)(1) موجودةٌ في كل مكان. مؤخّراً، بعض الناس حاول، من باب الجدل، أن يقول: إنَّ القيامة لا يمكن أن تكون قد وقعت، شيء من هذا القبيل: (حسناً، عندما يموتُ الذين تُحِبُّهم، ففي بعض الأحيان ستعيش خبرة أنّهم معك في الغرفة، يبتسمون لك، وربَّما حتّى يتحدثون إليك؛ وفجأةً سيختفونَ مرَّةً أُخرى. ولعل هذا ما حدثَ لهؤلاء التلاميذ). وهذا صحيح، إنني قرأتُ بعض الأدبيات حول ذلك. هذه الظاهرة مُوثّقةٌ كجزء من حالة الحُزْن، ويمكنُكَ أنْ تُفسِّرَها كما يحلو لك. ولكن الكنيسةُ التي يُمثلها المسيحيون الأوائل يعرفون عن هذه الظاهرة كما نعرف). هم يعرفون جيداً أنَّ هناك شيئاً من هذا القبيل؛ هلوسة وأشباح أو رؤى وما إلى ذلك.

بعبارة أُخرى: إذا كانت لهؤلاء خبرة، حتّى لو بدت واضحةً، بأنَّهم مع يسوع، لكن القبر لم يكن خالياً، كانوا سيقولون: (يا إلهي لقد كانت خبرةً قويَّةً جداً، لكن يسوع بالتأكيد لم يُبعث من جسد ميت، لأنَّ أجساد الموتى لا تُبعث إلى أنْ تُبعَثَ كلُّ الأجسادِ الميّتة في النهاية)، وعلى أي حال، ها هو جسَدُهُ في القبر).

عند هذه النُّقطة، نحن بحاجة إلى أنْ نُذكِّرَ أنفسنا بالطريقة التي

ص: 310


1- فيرجيل ( 70 ق.م - 19 ق.م) شاعر روماني.

يدفن بها اليهود موتاهم في تلك الأيام. معظم اليهود في فلسطين في ذلك الزَّمان يدفنونَ موتاهم على مرحلتين. في المرحلة الأولى، أنتَ تلف الميت بكفن مع كمية وافرة من الطّيب، ثم تضعه في لحد في قبر صخري، أو حتّى تضعه في سرداب منزل . أنتَ لا تدفن الميت على الطريقة التي يقوم بها الناسُ في العالم الغربي المعاصر، في قبر محفور في الأرض ويملأ، لأَنَّكَ ستعود يوماً ما الجمع العظام بعدما يتحل كل الجد، لتضعها في صندوق وتحتفظ به إما في نعش أو في مكان آخرَ ملائم.

النُّقطة هنا هي أنَّ جَسَدَ يسوع لو كان موجوداً في القبر، لكان من السهل على التلاميذ أن يجدوه. ولكانوا قالوا: (رغم قوة هذه الهلاوس التي انتابتنا، إِلَّا أَنَّ جسدَهُ لم يُبعَث) (الوجود الجسد في القبر). لذا علينا كمُؤرخين أن نقول: إنَّ القبر واقعاً لا بد أنَّه كان خالياً، وهم واقعاً لا بدَّ أنّهم رأوه، أو قُلْ إن شئت التقوا بشخص ما اكتشفوا أنَّه هو يسوع، حتّى وإن بدأ أنه قد تحول بنحو غريب بطريق كان مثيراً بالنسبة إليهم وطريق نجده نحنُ كقراء شديد الغموض.

والآن نأتي إلى الحركة الأخيرة في مباراةِ الشَّطرنج. كيف يُمكِنُنا، كمُؤرخين، أنْ نُفسّر الحقيقتين اللتين ذكرتهما : القبر الخالي والظُّهور المتعدّد ليسوع؟ التَّفسير الأسهل لذلك، هو أنَّ هذه الأمور قد حدثت لأنَّ يسوع بالفعل بُعِثَ من جسَدِ ميّت، وأنَّ التلاميذ قد التقوا واقعاً بيسوع، حتَّى لو كان جسَدُهُ قد تم تجديده وتحويله بنحو كان بمقدوره أن يبقى معه حيَّاً في بُعدين في آن واحد (هذا، في الحقيقة، هو ربما الطَّريقُ الأفضل لفهم ظاهرة أنَّ يسوع الآن يعيش في بُعْدِ إلهي وفينا، أو قُلْ إنْ شئت في السَّماءِ وفي الأرض، في آنٍ واحد).

ص: 311

قيامة المسيح في الحقيقةِ تُزوِّدُنا بتفسير (مُرْضٍ) للقبر الخالي واللقاءات المتعدّدة مع يسوع. بعد اختبار كل الفرضيات الأخرى الممكنة، أعتقدُ أنَّ هذا التفسير ليس ممكناً فحسب، بل (ضروريٌّ) أيضاً .(1)

ص: 312


1- التفسير الأسهل والأكثر معقولية للقير الخالي والظهور المتعدّد ليسوع، ليس هو قيامته، كما يدعي رايت، بل هذا هو التفسير الأضعف والأبعد عن المعقولية، وإن لم يكن مستحيلاً على من يؤمن بقدرة الله المطلقة على إحياء الموتى. فإحياءُ المَيِّتِ أمرٌ غيرُ مألوف أبداً، والإثبات التاريخي لوقوع أمر غير مألوف، بحاجة إلى مؤونة أكبر من الأدلَّةِ والشَّواهد، وفقاً لحساب الاحتمالات. وفي تقديري هناك تفسيران أقرب وأكثر معقوليةً، فيما لو صحت تلك النقولات: التفسير الأوّل: أنَّ كلَّ من ادعى رؤية يسوع حيَّاً بعد حادثة الدفن، كان قد أُصيب بحالة من الهلوسة والتوهم، وهي حالةٌ مألوفة تماماً - وموثقة علمياً - تقعُ للإنسانِ عندما يفقد حبيباً له ويشعُر برغبة جامحة في الالتقاء به. وتفسير خُلُو القبر من الجسد، أنَّه قد سُرِقَ من طرف ما فسرقةُ الأجسادِ كانت عادةً مألوفةً. هذا التفسير ينسجم مع الايمان بأن يسوع قد صُلب فعلاً، وهو ما ذهَب له أغلبُ نُقاد العهد الجديد، ممن تجرَّدَ من الميول الإيمانية المسبقة. التفسير الثاني: أنَّ يسوع لم يُصلب أصلاً، وإنّما صُلِبَ شخص آخر، وتوهّم بعضُ الشُّهود أنَّه هو يسوع، لذا ظَهَرَ لبعض مُحبّيهِ حَتَّى يُثبِتَ لهم أنه ما زال على قيد الحياة، وأنه لم يكن هو الشخص المصلوب. وتفسيرُ خُلُو القبر من الجسد، أنه قد سُرق من طرف ما من مصلحتِهِ أنْ لا ينكشِفَ أنَّ المصلوب المدفون لم يكن هو يسوع. هذا التفسير ينسجم مع ما ذكرَهُ القرآنُ بأنَّهم «ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (النساء: 157). وبعد دراسة التاريخ الروماني، وعلاقة الرومان باليهود في الأرض المقدسة، المحتلة آنذاك من قِبَلِ الرُّومان، وعلاقة يسوع وتلامذته بالرُّومان، والاطلاع الدقيق على الأناجيل، أجِدُ أَنَّ السيناريو الأقرب والأكثر معقولية - باختصار شديد - هو أنّ بيلاطس (الحاكم الرُّوماني لأورشليم) كان قد استبدل يسوع بشخص آخر (بعدما اقتيد إلى قصر الحكومة)، ثم أظهرَهُ بهيئته، وأوهم اليهود بأنّه هو، وقام بصلبِه، بعدما أصيب اليهود بحالة هستيرية من الغَضَبِ على يسوع، حتَّى إنَّهم هدَّدوا بيلاطس بأنّهم سيفضحونه عند القيصر ويُشككون بولائه له إن لم يقم بصَلْبِ يسوع، بعدما اتهموا يسوع بأنَّه يدّعي أنَّه ملِكُ اليهود (وهي تهمة سياسية تنطوي على تحدٍّ خطير لسُلْطةِ القيصر)، ففعل بيلاطس ما فعل كي يحمي نفسه، وسلَّمَ الجسد المصلوب ليوسف الرَّامي (الذي كان من أعضاء مجلس السنهدرين اليهودي، وكان تلميذاً ليسوع في السر)، فقامَ يوسف الرامي بدفنِ جَسَد المصلوب. ثم سرعان ما سحَبَ بيلاطس الجسد المصلوب من القبر (الذي كان محميَّاً من قبل جنودِهِ)، حتَّى لا ينكشف أمره (وأمر يوسف الرامي)، وأطلق سراح يسوع خفية، طالبا منه عدمَ إظهار نفيه لأعدائه. فاستنقذ بيلاطس نفسه من كيد اليهود من ناحية، ولم يستجب لرغباتهم من ناحية ثانية، وأوهمهم بأنَّه قد نفذ تلك الرغبات من ناحية ثالثة، فأطف-اً ب-ذلك لهيب الغضب المشتعل في صُدورهم كالمِرْجَل. أمَّا مُحبّو يسوع، فبين مؤمن بأنَّ الله قد (أنجاه) من اليهود بعدما ظَهَرَ لهم بلحمه ودمه (وكان قد أوصل إليهم خبر أنَّه سيسبقهم إلى الجليل، لأنَّ أُورشليم بانت محلاً شديد الخطورة عليه)، وبين من توهَّمَ أنَّه (قام) من قبره، بعدما ش-اعَ صَلْبُهُ ووُجِدَ القبر خالياً. ولم يكن بمقدور الطائفة الأولى تبديد وهم الطائفة الثانية، لأن حال نجاة يسوع سينكشف لليهود، وسيعود مطلوبا لهم ما دامَ على قيد الحياة، وسيتم وضع بيلاطس ويوسف الرامي في وضع حرج للغاية، لذا اضطروا للتكتُّم قدر الإمكان. هذا التكتم أدى إلى سريان إشاعة قيامة يسوع. ولم يتم (رفع) يسوع إلَّا وكانت هذه الإشاعة قد أخذت مأخذها (بعد أربعين يوماً، أنظر أعمال الرُّسُل 1 3 ، وبدأت تبلُغُ الذَّروة في مداها، ثم صارت لاحقاً سبباً لاشتعال تعاطف الن-اس م-ع مظلومية يسوع، وتنفرهم الشديد من اليهود. أمَّا رؤساء الكهنة والشيوخ اليهود المحرّضون على قتل يسوع، فقد فوجئوا بسرقة الجسد، لكن لم يكن بمقدورهم اتهام بيلاطس (رغم ارتيابهم بتعاطفه مع يسوع)، لأنَّه في الظَّاهر نفَّذ طلبَهُم ، واستجاب لهم بصلْبِهِ، لذا اتهموا تلامذة يسوع بسرقة جسده، لتفسير خلو القبر من الجسد حفظاً لماء وجوههم أمام قواعدهم الشعبية. ثم صاروا على مر التاريخ، يفتخرون بارتكابهم الجريمة لم يُمكنهم الله من ارتكابها. والطريف أنهم صاروا وما زالوا يدفعون ثمناً باهظاً لتلك الجريمة فظَهَرَ بذلك مكر الله باليهود على يد بيلاطس بمعونة يوسف الرَّامي. والآن طالما أنَّ اليهود قد استعانوا بالوثنيين (الرُّومان) للتخلّص من يسوع الإسرائيلي، لذا قررت السَّماء أنَّ الأوان قد حانَ لكَسْرِ القيد، ونَشْرِ الدعوة إلى التوحيد في كلّ أرجاء الع-الم الوثني، وعلى أوسع نطاق. لذا طَلَبَ يسوع من التلاميذ عندما رآهم أن يُبشِّروا الخليقة كلَّها بكلمة التوحيد ورسالته. وسرعان ما صارَ هذا العالم الوثني (الرُّوماني وغيرُه) شجى في حَلْقِ اليهود على مر التاريخ. أمَّا مهمة تبديد إشاعة قيامة يسوع، فلم تكن أولوية قصوى بالنسبة إلى التلاميذ الذين انتشروا في أرجاء العالم للتبشير (فالمهم هو أنَّ الله تعالى قد خلَّصه من كيدِهِم)، لأنَّه لم يطرأ ببالهم أن تتطوَّرَ هذه الإشاعة وتتدحرج ككرة الثلج، خلالَ قَرْن أو قَرْنين، ليتم تشييد لاهوت مسيحي على أساسها تحميه كنيسة، ينتهي إلى التأليه والتثليث . وإِنَّما كانت الأولوية بالنسبة إليهم، بكل عفوية، نشر كلمة التوحيد والتبشير برسالة المسيح. أمَّا من هو المصلوب واقعاً، فهذا ما لا يمكن الجزم به، وفقاً لمعطيات التاريخ، فمن قائل : إنَّه سمعان القيرواني، وقائل بأنه يهوذا الأسخريوطي، والله تعالى أعلم. (المراجع).

ص: 313

ص: 314

أنتوني فلو تأملات ختامية

أنا معجبٌ جداً بمقاربة الأُسقف رايت، فهي جديدة تماماً(1). إنّه يعرضُ الموقف المسيحي كما لو كان شيئاً جديداً يُطرَحُ لأوَّلِ مرَّة. وهذا مهم جداً، خصوصاً في المملكة المتحدة، التي يكادُ الدِّينُ المسيحي أن يختفي منها. من المؤكَّد أنَّ هذا شيءٌ رائعٌ وراديكالي.

هل يمكن أن يكون هناك وحيٌّ مُقدَّس ؟ كما قُلْتُ، لا يمكنك أن تحد من قدرات الإله الذي هو على كل شيء قدير إلَّا إذا كان ذلك مستحيلاً من الناحية المنطقية .(2)كل ما عدا ذلك هو مفتوح أمام إلهٍ على كلِّ شيءٍ قدير.

Notes:

Chapter1: THE CREATION OF AN ATHEIST

1. G. E. M. Anscombe, The Collected Papers of G. E. M. , Anscombe, vol 2. Minneapolis the Philosophy of Mind(Minneapolis: University of Minnesota Press, 1981), x.

ص: 315


1- ظهر لك من التعليقات السابقة أنَّ مقاربة رايت زاخرة بالثغرات، وليست كما يصف (فلو). (المراجع).
2- من الجميل ربط (فلو) الوحي والنبوة العامة بقدرة الإله. وهذا يُذكِّرُنا بقوله تعالى: «وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام: 91). (المراجع)

Chapter : WHERE THE EVIDENCE LEADS 1. Michael Dummett, Truth and Other Enigmas (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1978), 431.

2. I. M. Crombie, “The Possibility of Theological Statements,” in Faith and Logic, ed. Basil Mitchell (London: Allen Unwin), 50.

3. Crombie, “The Possibility of Theological Statements," 73ˇ, 72.

4. Raeburne Heimbeck, Theology and Meaning (London: Allen Unwin, 1969), 1234, 163.

5. Eric L. Mascall, The Openness of Being (Philadelphia: Westminster, 1971), 63.

6. J. L. Mackie, The Miracle of Theism (Oxford: Clarendon,1982), 1.

7. Frederick C. Copleston, Philosophers and Philosophies(London: Search Press, 1976), 76.

8. Anthony Kenny, Faith and Reason (New York: Columbia University Press, 1983), 76.

9. Kai Nielsen, review of The Presumption of Atheism by Antony Flew, Religious Studies Review (July 1977): 149.

Chapter : ATHEISM CALMLY CONSIDERED

1. Gerald Schroeder, "Has Science Discovered God?" http://science. lenicam.com.

2. Richard Dawkins, The Selfi sh Gene (New York: Oxford

ص: 316

University Press, 1976), x.

Chapter 4: A PILGRIMAGE OF REASON

1. Albert Einstein, Out of My Later Out of My Later Years (New York: Philosophical Library, 1950), 58.

2. David Conway, The Rediscovery of Wisdom (London: Macmillan, 200), 74.

3. Conway, The Rediscovery of Wisdom, 2-3.

Chapter : WHO WROTE THE LAWS OF NATURE?

1. Stephen Hawking, A Brief History of Time (New York: Bantam, 1988), 175, 174.

2. Gregory Benford, "Leaping the Abyss: Stephen Hawking on Black Holes, Unified Field Theory and Marilyn Monroe,” Reason 4,02 (April 2002) : 290

3. Albert Einstein, quoted in Timothy Ferris, Coming of Age in the Milky Way (New York: Morrow, 1988A), 177.

4 Antony Flew, God and Philosophy (New York: Dell, 1966), 15.

5. Max Jammer, Einstein and Religion (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1999), 44.

6. Jammer, Einstein and Religion, 45.

ص: 317

7. Jammer, Einstein and Religion, 45-46.

8. Jammer, Einstein and Religion, 48.

9. Jammer, Einstein and Religion,150. 218

10. Jammer, Einstein and Religion, 51.

11. Jammer, Einstein and Religion, 148.

12. Albert Einstein, Lettres a Maurice Solovine reproduits en facsimile et traduits en francais (Paris: Gauthier-Vilars, 1956), 102-3.

13. Albert Einstein, Ideas and Opinions, trans. Sonja Bargmann (New York: Dell, 1973), 49.

14. Einstein, Ideas and Opinions, 255.

15. Jammer, Einstein and Religion, 93.

16. Albert Einstein, The Quotable Einstein, ed. Alice Calaprice (Princeton, NJ: Princeton University Press, 205), 195-6.

17. For the most part, these quotations are taken from Roy Abraham Varghese, The Wonder of the World (Fountain Hills, AZ: Tyr, 2003).

18. Werner Heisenberg, Across the Frontiers, trans. Peter Heath (San Francisco: Harper Row, 1974), 213N.

19. Werner Heisenberg, Physics and Beyond (San Francisco: Harper Row, 1971), excerpted in Timothy Ferris, ed., The World Treasury of Physics, Astronomy and Mathematics (New York: Little, Brown, 1991), 826.

ص: 318

20. Erwin Schrödinger, My View of the World (Cambridge: Cambridge University Press, 1964), 93

21. Max Planck, Where Is Science Going? trans. James Murphy (New York: Norton, 1977), 168.

22. Max Planck, quoted in Charles C. Gillespie, ed., Dictionary of Scientific Biography (New York: Scribner, 1975), 15.

23. Paul A. M. Dirac, "The Evolution of the Physicist's Picture of Nature,” Scientific American YA, no. 5 (May 1963): 53r.

24. Charles Darwin, The Autobiography of Charles Darwin 1809-1882Y, ed. Nora Barlow (London: Collins, 1958), 92-3.

25. Paul Davies, Templeton Prize Address, May 1995,http://aca. mq.edu.au/PaulDavies/prize_address.htm. See also Davies's "Where Do the

Laws of Physics Come From?” (2006), http://www. ctnsstars.org/conferences/

papers/Wheredothelawsofphysicscomefrom.doc.

26. John Barrow, Templeton Prize Address, March 15,2006, http://www.templetonprize.org/barrow_statement.html.

27. John Foster, The Divine Lawmaker: Lectures on Induction, Laws of Nature and the Existence of God (Oxford: Clarendon, 2004), 160.

28. Richard Swinburne, “Design Defended," Think (Spring2004): 14.

29. Paul Davies, "What Happened Before the Big Bang?" in God for the 1st Century, ed. Russell Stannard (Philadelphia: Templeton Foundation Press, 2000),

ص: 319

Chapter 6: DID THE UNIVERSE KNOW WE WERE COMING?

1. Freeman J. Dyson, Disturbing the Universe (New York: Harper Row, 1979), Also cited in John Barrow and Frank Tipler, The Anthropic Cosmological Principle (Oxford: Clarendon, 1988), 318.

2. John Leslie, Infi nite Minds (Oxford: Clarendon, 2001), 213.

3. Leslie, Infi nite Minds, 203.-5.

4. Martin J. Rees, "Numerical Coincidences and 'Tuning' in Cosmology," Astrophysics and Space Science 285 (2003): 376.

5. Rees, "Numerical Coincidences and Tuning' in Cosmology," 385.

6. Paul Davies, "Universes Galore: Where Will It All End?" http://aca.

mq.edu.au/PaulDavies/publications/chapters/Universes galore.pdf.

7. Richard Swinburne, "Design Defended," Think (Spring 2004): 17.

8. Rees, "Numerical Coincidences and Tuning' in Cosmology," 386.

9. Davies, "Universes Galore: Where Will It All End?"

10. Martin Rees, "Exploring Our Universe and Others,” in The Frontiers of Space (New York: Scientific American, 2000), 87.

Chapter 7: HOW DID LIFE GO LIVE?

1. Antony Flew, God and Philosophy (Amherst, NY: Prometheus,

ص: 320

2005), 11.

2. Richard Cameron, "Aristotle on the Animate: Problems and Prospects," Bios: Epistemological and Philosophical Foundation of Life Sciences, Rome, February 23-24, 2006.

3. John Haldane, "Preface to the Second Edition," in Atheism and Theism (Great Debates in Philosophy), J. J. C. Smart and John Haldane (Oxford: Blackwell, 2003), 224.

4. David Conway, The Rediscovery of Wisdom (London: Macmillan, 2000), 125, 220.

5. David Berlinski, "On the Origins of Life," Commentary (February 2006): 25,30-31.

6. Carl Woese, "Translation: In Retrospect and Prospect," RNA (2001): 1061, 1056, 1064.

7. Paul Davies, "The Origin of Life II: How Did It Begin?" http://aca.

mq.edu.au/PaulDavies/publications/papers/OriginsOfLife_II.pdf.

8. Andy Knoll, PBS Nova interview, May 3, 2004.

9. Antonio Lazcano, “The Origins of Life,” Natural History (February 2006).

10. John Maddox, What Remains to Be Discovered (New York: Touchstone, 1998), 252.

11. George Wald, "Life and Mind in the Universe," in Cosmos,

ص: 321

Bios, Theos, ed. Henry Margenau and Roy Abraham Varghese (La Salle, IL: Open Court, 1992), 218.

Chapter A: DID SOMETHING COME FROM NOTHING?

1. "Something Good," music and lyrics by Richard Rodgers, 1965.

2. Stephen Hawking, A Brief History of Time (New York: Bantam, 1988), 174.

3. Antony Flew, "Stephen Hawking and the Mind of God" (1996), http://www.infi dels.org/library/modern/antony-fl ew/hawking.html.

4. Hawking, A Brief History of Time, 9.

5. Antony Flew, "The Legitimation of Factual Necessity," in Faith, Scepticism and Personal Identity, ed. J. J. MacIntosh and H. A. Meynell (Alberta: University of Calgary Press, 1994), 111-17.

6. David Conway, The Rediscovery of Wisdom (London: Macmillan,2000 ), 111-12.

7. Richard Swinburne, The Existence of God (Oxford: Clarendon, 2004), 142.

8. Richard Swinburne, "The Limits of Explanation," in Explanation and Its Limits, ed. Dudley Knowles (Cambridge: Cambridge University Press, 199f0), 178-79.

9. John Leslie, Infi nite Minds (Oxford: Clarendon, 2001), 194-95.

ص: 322

10. Stephen Hawking, Black Holes and Baby Universes (New York: Bantam, 1993), 172.

11. Leslie, Infi nite Minds, 193-94.

12. Swinburne, The Existence of God, 152.

Chapter 9: FINDING SPACE FOR GOD

1. John Gaskin, "Gods, Ghosts and Curious Persons,"unpublished paper.

2. Thomas F. Tracy, God, Action and Embodiment (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1984), 147, 153. See also The God Who Acts, ed.

Thomas F. Tracy (University Park: Pennsylvania State University Press, 1994).

3. Brian Leftow, personal conversation with the author, Oriel College, Oxford University, October 2006.

4. David Conway, The Rediscovery of Wisdom (London: Macmillan, 2000), 134.

***

ص: 323

ص: 324

الفهرست

ص: 325

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.