الأغراض الإجتماعية في نهج البلاغة

هوية الکتاب

كافة الحقوق محفوظة و مسجلة

الطبعة الثانية

1407 ه- - 1987م

تأليف: السيد محسن الامين

مؤسسة البلاغ - لبنان - بيروت - من - ب 7952

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

المدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

ارتأت لجنة - المهرجان الألفي لكتاب نهج البلاغة - إصدار ونشر كل بحث و دراسة تخصّ - نهج البلاغة - بمواضيعه المختلفة ، وأبوابه المتنوّعة ، وعلومه المتشعّبة التي لا نهاية لا نهاية لها ، وكان من بين المواضيع بحث صاحب أعيان الشيعة المؤرّخ المجاهد، والمتتبّع المثابر السيّد محسن الأمين العاملي ( رضي الله تعالى عنه ) - و هو القضايا الاجتماعية في نهج البلاغة - فعزمت اللجنة نشره ضمن سلسلة نشراته مع اعطاء ترجمة عن مؤلفه العظيم و تبيان آثاره، وجهاده الفكري، وقد اختارتني لهذا الموضوع لظنّها الحسن بن مع تزاحم أعمالي الفكرية ، وتراكم مشاغلي الأدبية التي سلبت مني الوقت كلّه .. بيد أنّ

ص: 5

طلب مؤسسة نهج البلاغة ، لا يردّ مهما كانت المشاغل و المشاكل ...

انّ حياة السيّد الأمين تفتقر الى وضع مجلدّات دراسات مسهبة ، و وقت طويل لأن حياته محفوفة بالمخاطر و المناحي و الميادين المترامية النابضة بألوان من الحياة المتدفّقة بنواحي شتّى ، وجوانب رحبة عريضة ، فمن الصعب أن يتحمّل كاتبُ عبءَ الحديث عنه و التوفر عليه ، ولو كان من هؤلاء الرجال المحدودة حياتهم وأعمالهم لهان الأمر .

نسبه و مولده

السيّد محسن بن السيّد عبد الكريم بن السيّد علي بن السيّد محمّد الأمين بن أبي الحسن موسى بن حيدر بن أحمد الحسيني.

ولد عام 1283 ه- في قرية ( شقراء ) من أعمال مرجعيون ، بجبل عامل و نشأ و ترعرع فيها و أكمل دراسة المقدمات و درج في بيت العلم و الأدب و الزعامة الدينية فكانت طبيعة الإرث و البيئة و البيت و الأسرة تحفّزه و تدفعه

ص: 6

الى ما يصبو إليه الناشيء الموهوب إذ أنّى ولى وجه استقى النشاط و التوفر العلمي من العلماء و الأدباء ، و لذلك جعلت الأسرة منه صورة للفضيلة فلم يكد يخطو الخطوة الأولى في حياته العلمية حتى دلت على كفايته .

لقد استوفى حظّه العلمي من الثقافة في بلده ، وأصبح لزاماً عليه أن يخطو خطوات واسعة و أشواطاً بعيدة ، ويغذي ملكاته القوية ، و سليقته المطبوعة على حسن الأداء فينتقل الى جامعة العلم ، و عاصمة الأدب الكبرى : النجف الأشرف - فهاجر إليها سنة 1308 ه- ومكث فيها أعواماً و بدأ يلتمع نجمه في الأوساط العلمية ، ويتسع إشراقه كلما توسّع هو في دراسته ، و تقدم في مراحله حتى ارتاضت له الحياة العلمية على يد فحول من أساتذة الفقه و عباقرة الأصول و أساطين الدين و فطاحل الأدب أمثال : المحقق الخراساني، و شيخ الشريعة الإصفهاني ، والشيخ محمد طه نجف ، والحاج آغا رضا الهمداني ، و غيرهم من أعلام الدين وأئمة العلم

ص: 7

العودة الى الشام

و لمّا استوفى حظّه ، و بلغ المرتبة السامية و المرتبة الرفيعة من الفقاهة ، غادر النجف الأشرف عام 1319 ه- و عاد الى الشام داعياً الى الحق و الصراط المستقيم ، ومبشّراً بالصدق و العلم . و أعانه الله و أمدّه بحوله ، و جال في ميادين المثابرة ، وصال عباب الجهاد ، بقوة و عزم و إرادة حية.

عاد إلى دمشق و بعودته ابتدأت فيها حياة جديدة ، ومناعة يانعة و فتوة مثمرة شأنها الشدّة و الدعوة الى الدين و الأخلاق ، و تهذيب النفوس و السير الى الحق ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و التواضع للعلماء، و أخيراً دفع الأمة الى مهيع الحق و الإسلام الصحيح، المتمثل في منهاج ومكتب العترة الطاهرة خلفاء الرسول عليهم السلام .

لقد كانت لمحاضراته البليغة ، و خطبه الصريحة الواضحة ، و إرشاداته البارعة ، و توجيهاته الصالحة ،

ص: 8

كبير الأثر في تحقيق رسالته المنشورة ، ودعوته الصادقة.

و أنشأ في دمشق المدرسة المحسنية للذكور ، ثمّ المدرسة اليوسفية للإناث، بمساعدة أهل البرّ و الإحسان ، و تأسيس مكتبة كبيرة حافلة و زاخرة بالمطبوعات و المخطوطات القيمة ، و النفائس النادرة ، و على أثر أعماله و جهاده علقت به النفوس ، و اجتمع عليه الرأي فقاد للخير و ابتغى المصلحة ، وتكاملت له الزعامة العلمية و الدينية و رحل الى الحجاز و إيران و مصر للبحث و التحقيق و التتبع ، و انتخب عضواً في مجمع العربية بدمشق .

حياته العلمية

و مع المشاكل الاجتماعية المتراكمه ، من حوله ، و الصعاب و الأحداث المريرة الملتفة في جوانبه ، و المخاطر المزدحمة في طريقه ، لم تُثْنِه من السير و المواصلة ، و لم تصرفه عن النظر في حياته العلمية ، و ما استطاعت أن تزحزحه عن عمله الفنّي ، فهو في الوقت الذي يوفي حقّ تلك المشكلات الشاغلة ، يوفي بشهامة حقّ علمه فيبلغ

ص: 9

من المكتبة نصيبه الذي تحتاجه حياته العلمية مع العلم أن السيد الأمين ... كان منذ ترك النجف الأشرف على اتصال وثيق مستمرّ بالبحث و المطالعة و المناظرة و التتبع .

و ليس أدلّ على هذا من إنتاجه الفكري الغزير، ونشاطه العلمي الثري النبيل ، و أن تصانيفه و بحوثه إن دلّت على شيء فانّما تدلّ على أنّه كمن لا ينصرف إليها و لا من يشتغل بغيرها، فتآليفه على كثرتها لا تخلو من الأصالة ، و التعمق ، و الاستيعاب ، و الدّقة ، و المتانة ، و الرصانة ، و الأناقة ، و الرفعة في الفكر و اللفظ و الأسلوب .

إنّ مؤلفات السيّد الأمين ( تغمّده الله برحمته ) كثيرة من حيث الكميّة و انّه دليل على ملكة خصبة أصيلة و مناعة علمية لا يؤخّرها أشدّ العوائق و الشدائد عن الإتقان .

مؤلّفاته المنضودة

أعيان الشيعة (الموسوعة الكريمة )

ص: 10

المجالس السّنية 1 -2

الدرّ الثمين في معرفة أصول الدين

أساس الشريعة في الفقه الإستدلالي

جزيلة المعاني في أصول الدين

شرح تبصرة المتعلمين .

إقناع اللائم على إقامة المآتم

الدرر المنقاة

لواعج الأشجان

مفتاح الجنّات 1 - 3

الرحيق المختوم في المنثور و المنظوم

معادن الجواهر في علوم الأوائل والأواخر 1 - 4

كشف الارتياب

الدروس الدينية

الدرّ النضيد فى رثاء السبط الشّهيد

أصدق الأخبار في قصة الأخذ بالثار

تحفة الأحباب في آداب الطعام و الشراب

البحر الزاخر في شرح أحاديث الأئمة الأطهار

الحصون المنيعة

ص: 11

جناح الناهض

الدرّة البهية

الروض الأريض

سفينة الخائض

ضياء العقول

أرجوزة في الإرث

أرجوزة في الرضاع

أرجوزة في علامات المجاز

صفوة الصفوة في النحو

المنيف في علم التصريف

كشف الغامض

دعبل الخزاعي

أبو فراس الحمداني

مناسك الحج

رسالة في الرد على صاحب المنار

نقض الوشيعة

دیوان شعر

حاشية على كتابي المعالم والقوانين في الأصول

ص: 12

تتميم عنوان المعارف للصاحب بن عباد .

و قد طبعت الكتب هذه عدّة مرّات و ترجم بعضها الى اللغة الفارسية و الهندية. إلى عشرات من الكتب التي استنسخها بخطّه أو اختصرها أو أمر و أنفق على استنساخها ومنها كتاب - نسمة السحر في ذكر من تشيّع و شعر - للسيد يوسف بن يحيى الحسيني اليماني الصنعاني المتوفى 1121 ه- و الذي هو الآن قيد التحقيق و البحث و سيقدّم للطبع قريباً بحول الله توفيقه

توفّي ( طيب الله رمسه ) ... في بيروت اليوم الخامس من رجب عام 1371 ه- و نقل جثمانه الطاهر في حشد مهيب ، و حفل كريم الى دمشق و دفن عند مدخل الصحن الشريف من الجانب الأيمن لمرقد السيّدة العقيلة زينب بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) و كتب عنه دراسات خاصة بالإضافة الى كثير من الذين ترجموا له في معاجمهم و بحوثهم .

ص: 13

هذا البحث

أما البحث هذا - القضايا الاجتماعية في نهج البلاغة - فهو مستلّ من كتاب - المجالس السنّية - المجلد الثاني ، بعد التصحيح و التدقيق و الإشارة الى الخطب و الكلمات التي استشهد بها المؤلّف في بحثه، وكانت مراجعتنا فيها الى - نهج البلاغة - 1 - 4 طبعة دار المعرفة لبنان

محمد هادي الأميني

ص: 14

المقدمة

الأغراض الاجتماعية في نهج البلاغة

إن شخصية أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) من أقوى الشخصيات التي عرفها التاريخ ، و لست بسبيل أن أفضل ما فيها من نبل و قوة و خصائص تستهوي الأفئدة ،

و إنما سبيلي أن أبحث جانباً من جوانب هذه الشخصية الرائعة المستفيضة . وهو جانب النظرة الاجتماعية فيها ، تلك النظّرة التي أودعها نهج البلاغة و التي بلغت من العمق و البيان درجة أغرى سُمُوُّها بعض أشياع الأمويين وفريقاً من الباحثين ، إلى نفيها عنه و الذهاب الى أنّها هدية الخلود صاغها للجدّ حفيدُه الشريف الرضي، الشاعر الموهوب .

ص: 15

غير أن هذه الآراء كثيرة مبعثرة و كثيراً ما يتكرر الرأس الواحد أكثر من مرّة ، و ليس « نهج البلاغة » بمُقَسَّم تقسيماً يفصل كل مجموعة متشابهة من الآراء عمّا عداها ، و هذا هو موطن الصعوبة و لكنه أيضاً مهمة الباحث، و على هذا فسنقسّم الآراء الى :

1 - علاقة الإنسان بربه

2 - علاقة الإنسان بنفسه

3 - علاقة الإنسان بغيره

4 - ثمّ سياسة الدولة وهو باب متشعب كما سنرى

و قد يعترض معترض بأن القسمين الأولين الباحثين في علاقة الإنسان بربّه وعلاقته بنفسه يجب أن يستبعدا من بحث مقصور على الأغراض الاجتماعية أي على ما يقوم بين الناس من معاملات ليس منها ، معاملات الفرد للخالق و لا لنفسه التي بين جنبيه و لكن هذا الاعتراض غير وجيه ، الا بالنسبة للآراء الميتافيزيقية البحتة التي بحث فيها الإمام بحثاً مطولاً عن منشأ الكون و علاقة الاجرام بعضها ببعض و كيفية خلق الملائكة و البشر ،

ص: 16

تلك الآراء التي وجدناها خارجة عن موضوعنا فاستبعدناها .

أمّا علاقة الإنسان بربّه ، فالمقصود بها هنا ، الوصايا التي وجهها الإمام الى مجتمعه ليعمل بها فيما يختصّ بالخالق الجليل و بذلك تكون أعمالاً بشرية ، ان لم تكن اجتماعية بالمعنى العلمي الحرفي ، فهي اجتماعية لأنها مطلوب القيام بها من الجماعة و لأنّها مظهر اجتماعي و مؤثر قوي في السلوك الاجتماعي البحت أي في سلوك الأفراد إزاء بعضهم بعضاً. أما فيما يختص بعلاقة الإنسان مع نفسه فالمسألة أوضح ، لأنا بتدريب أنفسنا على منهج خاص نخلقها خلقا جديدا و هذا الخلق مؤثر أبعد التأثير في نوع تعاملنا مع الآخرين ، و لأن العدى موجودة في الخير و في الشر ، فكوننا على هذه الحال أو تلك إغراء لمن هم دوننا و لمن هم بمعرض التأثر بمثالنا ، و على أن يحتذوا ذلك المثال ، و لأنّا نحن مكوّنو المجتمع و كما نكون يكون .

هذا إلّا أن هذين القسمين شيء قليل بالنسبة

ص: 17

للقسمين الآخرين

أمّا عن علاقة الفرد بربّه فقد ضمّ نهج البلاغة بين دفّتيه صفحات نادرة في تمجيد الله و تحليل صفاته ، و كثر فيه النصح بإلقاء النفس إلى الله كما جاء في وصية الإمام لابنه و بشكره على نعمائه و عدم الاغترار بما يُوَفَّق إليه من النجاح « وإذا أنت هديتَ لقصدك ، فكن أخشع ما تكون لربّك» (1) . و أوصى ابن أبي بكر بقوله : «... ولا تُسخطِ اللّه برضا أحد من خلقه فان في الله خَلَفاً من غيره ، وليس من الله خَلَف في غيره» (2) و بمثل هذا كان يفتتح خطاباته الى ولاته وقضاته ؟ و لنستمع إلى قوله حين بعث بعض عمّاله على الصدقة : آمره بتقوى الله في سرائر أمره و خفيات عمله حيث لا شاهد غيره ولا دليل دونه و آمره أن لا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسر » ، وليس غريباً أن يوصي بما أوصى به القرآن من الرجوع إليه وإلى

ص: 18


1- نهج البلاغة ج 2 / 47
2- نهج البلاغة ج 2 / 30

الحديث عند التباس الأمور فيقول : «وأرددْ إلى الله و رسوله ما يُضْلِعُك من الخطوب و يشتبه عليك من الأمور »(1) . وليس غريباً أيضاً أن يعتبر الشكوى من نوائب الزمان شكوى من الله فيقول : « من أصبح يشكو مصيبة نزلت به فقد أصبح يشكو ربّه »

و قد ظهرت عقيدته الراسخة في الله و دعوته الى نصرة دينه في قوله : « لا تجعلن أكثر شغلك بأهلك و ولدك و أولياء الله فان الله لا يضيع أولياءه و إن يكونوا أعداءً لله فما همّك و شغلك بأعداء اللّه» (2)

على أن نغمته الزاهدة لا تفتأ تتكرر فهو يقول لنا هنا: «من رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته» (3) و يقول لنا هناك «ان الرزق رزقان ، رزق تسعى إليه ورزق يسعى إليك» (4) و هذا قول حكيم لأنّه لا يدعو

ص: 19


1- نهج البلاغة ج 2 / 96
2- نهج البلاغة ج 2 / 228
3- نهج البلاغة ج 2 / 227
4- نهج البلاغة ج 2/ 56 و 236

إلى الكسل و انتظار الرزق من الله ، بل يقول ان السعي يزيد الرزق و لكن يجب على المرء ألا يُشْغَل بجميع جوارحه بالسعي وراء الدنيا فيغفل عن العمل الصالح.

سبق إيراد قوله ( عليه السلام ) : «من أصبح يشكو مصيبة نزلت به فقد أصبح يشكو ربّه».(1)

والآن نضمّ إلى ذلك قوله : «ولا يحمد حامد إلا ربَّه ، ولا يَلم لائم إلا نفسه» (2). أنّ النص الأول يدعونا إلى عدم شكوى الزمان ، لأن الزمان يجري كما قضى الله و قدر ، فثورتنا عليه ليست إلا ثورة على قضاء الله و قدره ، أما النصّ الثاني فانه يدعونا إلى أن نعتقد أن الخير من الله ، و ان الشرّ من أنفسنا أي ان الله أعطانا عقلاً نميّز به بين الطريقين كما قال تعالى (إنا هديناه النجدين) (3) فان سلكنا طريق الشرّ فلا نَلُم إلا أنفسنا. و ان سلكنا طريق الخير فلا نحمد إلا الله لأنّه هو الذي

ص: 20


1- نهج البلاغة ج 2 / 195
2- نهج البلاغة ج 56/1
3- سورة البلد / 9

أرشدنا .

أ - و أمّا عن علاقة الفرد مع نفسه فقد قال ( عليه السلام ) في وصيّته إلى ابن أبي بكر : « ... فأنت محقوق أن تخالف على نفسك» (1) أي أن تخالف هواك وتُحَكّم عقلك ، ثم قال في موضع آخر : « من كان له من نفسه واعظاً ، كان عليه من الله حافظاً »(2) وأوضح ذلك الرأي بموضوع ثالث بقوله : « من لم يُعِن نفسه يكون له منها واعظ و زاجر ، لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ»(3)

لقد عرف الإمام علي أن بالنفس نوازع شرّ و نوازع خير فدعا الى التشديد عليها حين تأمر بالسوء و استعان عليها بالله في قوله : « و الله المستعان على نفسي و أنفسكم»(4) ثم اعتمد على الضمير اليقظ وأهاب بنا

ص: 21


1- نهج البلاغة ج 2/ 29
2- نهج البلاغة ج 2 / 161
3- نهج البلاغة ج 1 / 174
4- نهج البلاغة ج 2 / 271

أن نقوّيه فانّه عاصمنا ومنه المزدجر . و قد زاد من عنايته بالتدريب النفسي أنه اعتقد أن الطباع كسبية فقال : « إن لم تكن حليماً فَتَحَلَّم . فانّه قَلَّ من تشبه بقوم الا أوشك أن يكون منهم »(1) . وانّه اعتقد ان الإنسان مفطور على الخير و ان الخير في عودته لفطرته فقال : «الله بعث في الناس رسله و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته»(2) فمهمّة الأنبياء عنده أعادتنا إلى الفطرة التي فطرنا الله عليها .

ب - و نلاحظ أنّه أكثَر من النهي عن (الأمل) لا الأمل الذي نعرفه والذي حثّ الله عليه بل أوجبه في ذكر أقواله (تعالى ) : «لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)(3) و أنّما الأمل بمعنى الاعتماد على طول الأجل، وارتكاب المحرّمات ، و ارجاء الفرائض اعتماداً على ذلك و هذا رأي نشاركه كلّنا فيه فان كل ما بالعالم يمرّ

ص: 22


1- نهج البلاغة ج 2/ 291
2- نهج البلاغة ج 1 / 26
3- سورة يوسف / 87

في سرعة وثّابة و ما أنصف و لا أصاب من يبذر في صحته أو ماله اعتماداً على وفرة صحّته أو ماله و لا من يؤجّل العمل انتظاراً للغد . فان الغد يمرّ و نمر معه ، و اذن فما أحرانا أن نعمل بنصيحة الامام القائلة « وبادروا آجالكم بأعمالكم» (1) و ان نتدبر قوله : « ان أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل» (2)

ج - لم أكد أبدأ بالكتابة عن علاقة الانسان بربّه حتى شعرت بنحولة الفاصل بين هذا القسم و القسمين الآخرين، وها أنذا الآن أشعر بهذه النجولة أيضاً : فها هي حكم و وصايا تدخل في سلوك المرء مع نفسه، و تدخل في سلوكه مع غيره كقوله « قُرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان والفرصة تمرّ مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير»(3) (19) ومثل قوله : « الصبر صبران : صبر

ص: 23


1- نهج البلاغة خطبة 190
2- نهج البلاغة / خطبة 28
3- نهج البلاغة / قصار الحكم - 21

على ما تكره وصبر على ما تحبّ»(1) وقوله البليغ: «أفضل الزهد إخفاء الزهد» (2) ونهيه : « و إياك و الإعجاب بنفسك و الثقة بما يعجبك منها و حبّ الاطراء فان ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون إحسان المحسنين»(3) فان دعوته الى الشجاعة و الجرأة و انتهاز فرص الخير و تحمّل الداء و عدم الاستنامة إليه ، والصبر بنوعيه ، و إخفاء الزهد أي الزهد في سبيل التظاهر والزهد بالقلب مع مواصلة العمل و الجهاد ، و نهيه عن الإعجاب بالنفس و حبّ الثناء ، كل هذه العهود يتناولها المرء بينه و بين نفسه و بينه و بين غيره . أما أمره : « ولا تتمنّ الموت إلا بشرط وثيق» (4) أي لا تعرض نفسك للهلاك إلا أن تقضي غاية سامية و ضرورة لازبة ، فانه أدخل في نطاق المعاملة النفسية .

ص: 24


1- نهج البلاغة / قصار الحكم - 55
2- نهج البلاغة / قصار الحكم 28
3- نهج البلاغة / من كتابه (ع) لمالك الأشتر رقم 53
4- هج البلاغة / كتاب رقم 69

التعايش السلمي

إذا كان عليّ ( عليه السلام ) قد وضع لنا هذه القاعدة النبيلة في قياس الفضيلة و الخير، و هي ألا نعمل في السرّ ما نخجل من عمله في العلن حيث قال : و احذر كل عمل يُعمل به في السرّ ويُستحى منه في العلانية »(1) فانه قد حبانا أيضاً بمقياس نبيل لأعمالنا تجاه الآخرين في قوله الخالد : «يا بنيّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك و بين غيرك فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، و اكره له ما تكره لها، و لا تظلم كما لا تحب أن تُظلم»(2) ولو اتبع البشر هاتين النصيحتين لامتنع الظلم و الشرّ جميعاً ، غير أنّه يمكن أن نلاحظ ملاحظة متواضعة

ص: 25


1- نهج البلاغة : كتاب رقم 69
2- نهج البلاغة : كتاب رقم 31

على النصيحة الأولى : تلك ان نظرة المجتمع قد تتغير نحو بعض الفضائل أو الرذائل ، فاذا كان ما يُستحى من عمله يعمل على رؤوس الأشهاد فهل الفضائل خالدة ، أم هي يجري عليها ناموس التطور ، وهل يطيع نصيحة الإمام أم لا يطيعها رجل يحتسي الخمر على قارعة الطريق غير حجل لكثرة من يحتسونها ؟ أما أنا فأميل الى القول بأن الفضائل خالدة ، و ان الكذب لن يكون فضيلة لأن الناس يكذبون بل الفضيلة فضيلة و الرذيلة رذيلة و لن يزال راكبها يشعر في نفسه بالتضاؤل و بنوع من الحياء لا حين يلقى أمثاله و لكن حين يلقى الأخيار .

و ما لي أذهب بعيداً ؟ ان الإمام يفسّر لنا ذلك في موضع آخر حيث يقول في بيان شاف : « ان المؤمن يستحلّ العامَ ما استحل عاماً أول و يحرم العام ما حرم عاماً أول و ان ما احدث الناس لا يُحل لكم شيئاً مما حرم الله عليكم ، ولكن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرّم الله (1)

ص: 26


1- نهج البلاغة / الخطبة 176

ب - وإذا ذكرنا تطوّل الفضائل وخلودها فلنستعرض رأي الإمام القائل : « إقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا على الله ظالمين» (1). أن من الناس من لا يريد أن يُسلّم بأن الانظلام فضيلة :

و من لم يذد عن حوضه بسلاحه *** يُهَدّم ومن لم يظلم الناس يُظْلَم

و ربّما مال أيضاً الى أن يقول مع هيغل(2) : «انّ ظَفرَ شعب هو البرهان القوي على حقوقه» غير أنى عبارة الإمام انما يراد بها مبالغة فى التنفير من الظلم.

ج - ولقد دعا الإمام الى التعاون دعوة صريحة في عبارة نبيلة حيث قال يودع جنوداً ذاهبين للقتال : «و أي امرىء منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء و رأى أحداً من اخوانه فَشِلاً ، فَليذب عن أخيه بفضل نجدته التي فُضّل بها عليه كما يذبّ عن نفسه فلو شاء الله

ص: 27


1- نهج البلاغة : الخطبة 151
2- هيغل فيلسوف ألماني مات سنة 1831م

لجعله مثله» (1). و ما أوصى به الامام جنود جيشه يصحّ أن يستوصي به جنود الحياة . ان الغني لو ذبّ عن الفقير بفضل ماله الذي فُضّل به عليه و العالم لو ذبّ عن الجاهل بفضل علمه و الحكيم لو أرشد السفيه بفضل حكمته ، لو كان هذا سبيل الناس في الحياة ، لانتصر جيشهم على آلام الحياة القابلة للانهزام . ان الإمام لا يزال يلحّ في دعوته الى التعاون ، و انه ليسوقها هنا في منطق واضح وحجّة لازمة : « أيها الناس لا يستغني الرجل و ان كان ذا مال عن عشيرته و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم» (2). « ألا لا يعد لن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالذي لا يزيده إن أمسكه و لا ينقصه إن أهلكه ، و من يقبض يده عن عشيرته فانما تقبض منه عنهم يد واحدة. و تُقبض منهم عنه أيدٍ كثيرة» (3) . إن الإنسان مدني بالطبع أو هو كما وصفه

ص: 28


1- نهج البلاغة ج 1 / 254
2- نهج البلاغة ج 1 / 69
3- نهج البلاغة ج 1 / 69

فيلسوف اليونان (حيوان اجتماعى) وهذا دعا الإمام دعوته .

د - وقد تكرّرت دعوة الإمام هذه في صورة أخرى في حثّه على الصدقة بقوله البليغ : « و إذا وجدتَ من أهل الفاقة من يحمل زادك الى يوم القيامة فيوافيك به غداً حين تحتاج إليه فاغتنمه وحمله إياه»(1) . و بوصيته : « إن اللسان الصالح - أي الذكرى الطيبة - يجعله الله للمرء في الناس خيراً له المال يورثه من لا يحمده». و في تذكيره بفريضة الزكاة في قوله : «إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني و الله تعالى سائلهم عن ذلك»(2) . وقد بلغ من تقريره للتعاون و لأثر الزكاة و الاحسان في إسعاد أفراد المجتمع جميعاً انه استنّ تشريعاً طريفاً بقوله : «ان الرجل اذا كان له الدَّين الظنون يجب عليه أن يزكيه لِما

ص: 29


1- نهج البلاغة ج 2 / 48
2- نهج البلاغة ج 1 / 251

مضى إذا قبضه» (1) أي أنّ من كان له دين و لم يكن واثقاً أن مدينه سيردّه إليه سالماً ، ثم ردّه إليه بعد عامين مثلا ، وجب عليه أي على صاحب المال الدائن أن يدفع للفقراء زكاة هذا المال للسنتين الماضيتين. و لست أعرض لحكم الشريعة الإسلامية في هذا ولكنّي ألاحظ أن رأي الامام وجيه إذا اعتبرنا أن المال صار بالنسبة للدائن مفقوداً بوجوده عند من لا يثق به. فاذا عاد إليه فكأنما عثر على كنز غير منتظر . و اذاً فليس كثيراً أن يدفع منه شيئاً للفقراء ان لم يكن زكاة عنه فشكراً لله عليه . « ومن كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه» (2) كما قال الامام ، و كما قال شكسبير : «ان التشاريف العظيمة احمال عظيمة»

ه- - لقد زهد الإمام بهذه الدنيا وأهاب بها أن تغرّ غيره . بل لقد زمجر منها في صرخته : «و الله لو كنتِ شخصاً مرئياً و قالباً حسياً لأقمتُ عليك حدود الله في عباد .

ص: 30


1- نهج البلاغة ج 4 / 59
2- نهج البلاغة ج 2 / 233

غررتهم بالأماني وأمم ألقيتهم في المهاوي» (1) هكذا كانت نظرته الصادقة الى الحياة فلا عجب أن يمتلىء قلبه بالعطف على الناس و أن يدعو الى إنقاذ الضعفاء و عدم خزن المال بكلمته الرهيبة : «يا ابن آدم ما كسبتَ فوق قُوْتِك فأنت فيه خازن لغيرك» (2)

ان الشعور السائد على نهج البلاغة كلّه هو شعور التنديد بالتهالك على الدنيا «و حفظ ما في يديكَ أحبّ إلیّ من طلب ما في يد غيرك . فَخَفّضْ في الطلب و أجمل في المكتسب فانه رُبِّ طلب قد خرّ الى حَرَب . فليس كل طالب بمرزوق و لا كل مُجْمِل بمحروم» (3) . هذه وصاياه و لكنه لا يدعو الى الزهد الذي ينافي الدين و الحياة ، فهو يعمل و يحارب ، و لكن على أرض الشرف ولغاية نبيلة

ص: 31


1- نهج البلاغة ج 2 / 76
2- نهج البلاغة ج 2 / 188
3- نهج البلاغة ج 54/2

و - ان ما مرّ بنا من دعوته الى التعاون و الاحسان و وفاء الزكاة ليس إلا بعض دعوته إلى «الحبّ العام».

فانّ قلبه النبيل قد غمر بهذه العاطفة الشريفة و ثبتها إيمانه القوي المنقطع النظير وليس غريباً ممن صادق النبیّ و الأصدقاء قليل ، وشاطره آلامه وجهاده ، فشعر بحلاوة الصداقة. و من عانى الحسد و الحقد اللذين دفعا معاوية و غيره لمناوأته. و من خبر تأثير التخاذل و التباغض حين خرج الخوارج و تخاذل قومه ، ليس غريباً على من هذا شأنه أن يهيب بنا « و لا تحاسدوا فان الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب و لا تباغضوا فانّها الحالقة» (1) و أن يقول : «صحة الجسد من قلة الحسد»(2) ذلك القول الذي تؤيّده ملاحظاتنا اصفرار الوجه و نحوله فيمن عرفوا بالحقد . و أن يُقسم لنا : « والذي وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلباً سروراً الا و خلق الله من ذلك السرور لطفاً فاذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في

ص: 32


1- نهج البلاغة ج 1 / 164
2- نهج البلاغة ج 2 / 201

انحداره حتى يطردها عنها كما تطرد غريبة الابل (1) و ان يوصينا خيرا بجيراننا قائلاً :

« الله الله في جيرانكم فانّها وصية نبيكم ، ما زال يوصي بهم حتّى ظنّنا أنه سيورّثهم »(2)

ز - قلت : أنه قد عرف الصداقة في نفسه و خبرها فلنستمع إلى وصاياه بصددها : لقد بالغ في طلب الحرص على الصديق الوفي حتى قال : « ولا يكن على مقاطعتك أقدر منك على صلته» (3) و أوصى بالبحث عن الرفيق قبل الطريق. و حمد الذين «يتواصلون بالولاية و يتلاقون بالمحبة» ، و دعا الى عدم الكلفة بين الأصدقاء بقوله «احبب حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، و أبغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» (4) . و لقد نتساءل كيف يشك الإنسان

ص: 33


1- نهج البلاغة ج 2 / 201
2- نهج البلاغة ج 2/ 79
3- نهج البلاغة ج 2 / 56
4- نهج البلاغة ج 2 / 290

في صديق و في خبره فيحطاط في صداقته و كيف تستقيم صداقة مع تحوط و لكنا لا يصعب علينا أن نعرف ما حمل الامام على قول ذلك فقد عانى من تقلب الاصحاب و انشقاق الاخوان ما عانى . و لعل هذا العناء هو ما دفعه - و لنقل ذلك و نحن بمعرض آرائه في الصداقة - إلى أن يقول : «الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله و الغدر بأهل الغدر وفاء عند الله» (1) ان هذه الكلمة القوية ما كانت لتصدر من ذلك القلب الوادع المسالم لولا أنْ أصابته شظايا الغدر فثار .

ح - دعا الإمام الى القصد في الحبّ و البغض و هذه الدعوة تذكرنا بدعوات له أخر تحثّ كلّها إلى الاعتدال و عدم الاندفاع و ليس أبلغ من قوله في الحدة أنها «ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم ، فان لم يندم فجنونه مستحكم» (2) وقوله : «اليمين والشمال مضلة ،

ص: 34


1- نهج البلاغة ج 2/ 201
2- نهج البلاغة ج 2 / 200

والطريق الوسطى هي الجادة» (1). و قد أنذر بأنه سيهلك فيه صنفان : « محب مفرط يذهب به الحب الى غير الحق و مبغض مفرط يذهب به البغض الى غير الحق» (2) و هذه الكلمات هي ، بجانب دعوتها الى القصد، دعوة الى الخصومة الشريفة و نزع الهوى الشخصي عند مناقشة أعمال الحكّام و السوّاس .

ط - ما كان نهج البلاغة و قد ضمّ بين دفّتيه هذه الآراء الاجتماعية الكثيرة ليغفل (المرأة ) و شأنها في المجتمع. و لقد عبّر الإمام عن رأيه فيها بوضوح ، فاذا به رأي قاس لا يقلّ قسوة و عنفاً عن رأي ( شوبنهور ) فيها و ذلك الرأي يتلخص في قوله : « المرأة شرّ كلّها و شرُّ ما فيها أنّه لا بدّ منها» (3) و هكذا ذهب في موضوع آخر الى ان « خيار خصال النساء شرار خصال

ص: 35


1- نهج البلاغة ج 1 / 56
2- نهج البلاغة ج 1 / 261
3- نهج البلاغة ج 2 / 197

الرجال» (1). و هذا القول قد يحمل على أن ما يستحب في النساء لا يستحب في الرجال و لكن هذا الاحتمال لا يؤثر في الموضوع فرأي الإمام في المرأة واضح. و قد نعتها في موضوع ثالث بأنها «عقرب حلوة اللبسة» (2) . ثمّ دعا الناس الى أن يتّقوا شرار النساء و يكونوا من خيارهنّ على حذر و لا يطيعوهنٌ في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر ، و بمثل هذا نهى في موضع آخر عن التمكين لهنّ والسماح لهنّ بالتشفّع و الرجاء في أمور الناس . و الذي نلاحظه أنّه ( عليه السلام ) قد سلّم أن بين النساء خياراً بدليل قوله : «وكونوا من خيارهنّ على حذر»(3) فهو يتّهم الطبيعة النسوية على العموم و يخشى أن تتغلب على خيار النساء فيصبحن شريرات.

ي - لم يكن رأي الإمام في النساء صادراً عن تعصّب جنسي ، فان المعركة لم تكن قد نشبت بعد بين النساء

ص: 36


1- نهج البلاغة ج 2/ 196
2- نهج البلاغة ج 2/ 156
3- نهج البلاغة ج 1 / 140

و الرجال ، و ما كان الإمام ليتعصّب و هو الذي ذمّ العصبيّة في الخطبة ( القاصعة ) ورد أصلها الى تعصّب إبليس للنار ضدّ الطين : «أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله و طعن عليه في خلقته فقال » : « أنا ناري و أنت طيني»(1) و أما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النعم فقالوا : (نحن أكثر أموالاً و أولاداً و ما نحن بمعذبين ) (2) فان كان لا بدّ من العصبية دعوة هينة فالعصبية سببٌ لمصائب كثيرة كان منها حروب كثيرة أثارها التعصّب للجنس أو الدين أو اللون أو المذهب أو الوطن . و لعل مما يبين كراهته ( عليه السلام ) للتعصب ، و هو حقيق أن يكره التعصّب لما ذاق من التعصب قوله : « ليس بلد بأحق من بلد ، خير البلاد ما

حملك»(3)

ك - وقد نهى (عليه السلام) عن الغش في المكاييل،

ص: 37


1- نهج البلاغة ج 1 / 409
2- سورة سبأ / 35
3- نهج البلاغة ج 2 / 54 و 249

3

و عن احتكار التجارة و قبحٌ الغيبة بتحليل بديع قائلاً : «و انّما ينبغي لأهل العصمة و المصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب و المعصبة و يكون الشكر هو الغالب عليهم و الحاجز لهم عنهم ، فكيب بالعائب الذي عاب أخاه و عيّره ببلواه ... و أيم الله لئن لم يكن عصاه ( عصى الله ) في الكبير و عصاه في الصغير لجُرأته على عيب الناس أكبر ... فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته مما ابتلي به غيره» (1)

وكذلك دعا إلى الاتحاد قائلاً : « و إياكم و التفرقة فان الشاذّ من الناس للشيطان كما ان الشاذّ من الغنم للذئب»(2) و نهى عن البدعة في قوله : « وما أُحدثتْ بدعةٌ الا تُرك بها السنة فاتقوا البدع و الزموا المهيع ، و حذّر من تعلم النجوم الا ما يهتدى به في برّ أو بحر فانها تدعو الى الكهانة ، و المنجم كالكاهن و الكاهن

ص: 38


1- نهج البلاغة ج 1 / 277
2- نهج البلاغة ج 1 / 261

كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار» (1)

ل - أن من تحصيل الحاصل أن نقول ان الإمام دعا الى اتباع الحق ، و انّما الذي نريد هو أن نرى فهمه للحق كيف كان ، و أن نرى نسبة هذا الفهم إلى نظريات اخرى في الحق .

يقول «اهرنج» (2) و غيره من متشرّعي الألمان الذين تأثّروا بمبدأ فناء الفرد في الدولة : « ان الحقّ هو ما جعلته الدولة حقّاً » . و يقول الواقعيون ان الحق ليس إلا من وضع الإنسان و لم يخرج تكييفه من إرادته و هواه » . ويقول اهرنج أيضاً : ( إن أساس الحق ليس فكرة منطقية و انما هو القوة » ويقول هيجل : « ان ظفر شعبٍ هو البرهان القوي على حقوقه ».

هذا هو رأي فريق من العلماء في الحق و مقياسه و هو رأي خطر و قد اتهمه الفرنسيون بأنه سبب الحرب

ص: 39


1- نهج البلاغة ج 1 / 139
2- مستشرق ألماني عاش في القرن التاسع عشر الميلادي

العالمية، و اتهموا الألمان لأنّهم أنصاره و مروّجوه . و هو رأي يعارضه فريق كبير من العلماء و الناس ، وقد كان (قوبيه) لسان هذه المعارضة في قوله : « الحق فكرة تتوجه نحو المستقبل و أساسها الضمير الانساني و الشعور بالمساواة و الحرية للجميع » .

ورأى (باسكال ) : ان القوة يجب ألا تستعمل إلا لخدمة الحق : « علينا أن نحمل العدالة و القوة معاً و انما نقصد الا ما كان حقا ، و لا نستعمل القوة الا لتوطيد «الحق».

هذان هما الرأيان المتعارضان فإلى أيّهما ينتمي رأي الإمام عليّ ؟ لسنا محتاجين إلى أقل تفكير للقول أن رأيه هو الثاني ، قال الامام على : «حق و باطل و لكل أهل، فلئن أمِرَ الباطلُ لَقديماً فعل ، ولئن قلّ الحقُّ ، فربما و لعل ، ولقلّ ما ادبر شيء فأقبل»(1). و هذا النص واضح و صريح في أنّ الإمام لا يرى كثرة الباطل تجعله حقاً ، بل ينتظر ان تزول دولته، قائلاً ان الشيء قد يدبر

ص: 40


1- نهج البلاغة : الخطبة / 16

فيقبل ، أي انه مؤمن بخلود الحق ، و هو القائل في غير نهج البلاغة «دولة الظلم ساعة و دولة العدل الى قيام الساعة » و قد تروى «دولة الباطل و دولة الحق » لأنهم لم يفرقوا كثيراً بين العدل و الحق .

أمّا نظرية الحق و الدولة فهي منافية لرأي الإمام بالطبع ما دام يعتبر الحق خالداً ، و هو لا يفتأ ينهى الولاة عن ظلم الرعية و يدعو إلى المساواة و الشورى و التمسّك بكتاب الله و سنّة رسوله . أي أنّه لا يرى للحاكم حقّ اختراع الحقوق و لا يرى الحق كما راه الواقعيون من وضع الانسان . و لا يرى انتصار شعب برهاناً على حقوقه بل يقول : «ان الله لم يقصم جبّاري دهر قط الا قط الّا بعد تمهيل ورخاء. و لم يَجْبُر عَظْمَ أحد من الأمم إلا بعد أَزْلٍ وبلاء»(1)

دو

و إذا كان اتفق مع القائلين بأن الحق أزلي و بأنه تراعى فيه مصلحة الفرد و مصلحة الجماعة . فانه اتفق

ص: 41


1- نهج البلاغة : الخطبة / 88

مع رأي باسكال القائل باستعمال القوة لتوطيد الحق فالامام يقول : « و اني لراض بحجة الله عليهم و علمه فيهم فان أبوا أعطيتهم حدّ السيف و كفى به شافياً من الباطل و ناصراً للحقّ (1). و خاطبه قوم في عقاب قاتلى عثمان، فقال ان الحكمة تقضي بالتريّث حتى يستتبٌ الأمر « وإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكيّ »(2) أي القتل و الحرب يستعملها حين تفشل وسائل السلم، و حين يرفض خصومه الاحتكام الى الله ، و هذا دستور هيئة الأمم حيال الدول التي تأبى التحكيم.

يقول فريق من الناس : ان الحق قد يتعدد ، فأنا أظنّ الأمر و أنت تظن نقيضَه ، و لكنّي مُحِقِّ و أنت مثلي محقّ . و يقول آخرون ان الحق واحد لا يتعدد ، و قد أخذ الإمام بهذا الرأي الأخير فقال : «ما اختلفت دعوتان الا كانت إحداهما ضلالة» (3)

ص: 42


1- نهج البلاغة : الخطبة / 22
2-
3- نهج البلاغة : الخطبة 168

الحكم . السياسة . القضاء

ان للإمام آراء قيّمة محكمة في طبيعة الحكم و سياسته و مهمة الحاكم و كيفية انتقاء القضاة و تقسيم العمل و مهمة العلماء الى غير ذلك ، و قد جمعت رسالته الى الأشتر النخعي كثيراً من هذه الأمور، و لكنها ليست الوعاء الوحيد الذي ننشد فيه تلك الحكم فنقصر بحثنا عليها .

أ - قال : « لا بدّ للناس من أمير بَرّ أو فاجر يعمل في امرته المؤمنون ، ويستمتع فيها الكافر ويُبَلِّغ اللهُ فيها الأجل و يُجمع به الفيء و يُقاتل به العدو و تضمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بَرّ و يستراح من فاجر» (1) وهذا كما نرى رأي يعاكسه الفوضويون اليوم و قد عاكسه الخوارج بالأمس ، و لكن ما

ص: 43


1- نهج البلاغة ج 1 / 100

كان لعلي الحكيم الذي اعتنق دين النظام صبياً أن يدعو بدعوتهم. لقد عرف ان النظام هو كفيل النجاح ، و تألم و شكا قومه لأنّ : «المعروف عندهم ما عرفوا و المنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات الى أنفسهم و تعويلهم في المهمات على آرائهم كأن كل امرىء منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات و أسباب محكمات ».

و إذا كان قد مقت الخروج عمّا يمكن أن نسميه (الشرعية) فانه كذلك قد مقت أيضاً الاختلاف بين الفقهاء و المفسرين في الفتيا قائلاً : « تَرِدُ على أحدهم القضية في حُكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً و إلههم واحد و نبيّهم واحد و كتابهم واحد » .

وليس يصعب علينا أن نلمح أن الذي استفزّه الى هذا الانتقاد هو رغبته في النظام وفي توحيد القضاء .

ص: 44

ج - وإذا كان قد دعا الى ( الشرعية ) و عدم تشعّب الآراء و استقلال كل برأيه ، فليس معنى هذا أنّه دعا إلى الاستبداد و الحكم المطلق ، بل على العكس لا نزال نسمعه يلحّ بالدعوة الى الشورى فيقول لنا : « من استبدّ برأيه هلك و من شاور الرجال شاركها في عقولها» (1) و يكرر ذلك في أماكن أخرى و بألفاظ كثيرة .

و قال في كتاب لأحد ولاته : « و ان ظنّتِ الرعيةُ بك حيفاً فاصْحَرْ لهم بعذرك و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فانّ في ذلك رياضة منك لنفسك و رفقاً برعيتك و إعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق» (2) و هذه الكلمات كبيرة حكيمة ، فيها نوع من المسؤولية الوزارية كما نعرفها و نسمّيها و فيها أيضاً بيان لحكمتها فهي تزيل شكوك الرعية ثم هي رياضة للنفس على تقبّل النقد و عدم الأزورار منه ، وعلى التدقيق في الأعمال علماً بأن هناك من سيحاسب عنها

ص: 45


1- نهج البلاغة ج 2 / 184
2- نهج البلاغة ج 2 / 109

ص: 45

الديمقراطية

ان النزعة الديمقراطية في نهج البلاغة أبينٌ من أن نحتاج إلى بيان :

فها هو يأمر الوالي بأن يجلس لذوي الحاجات دون جند أو حرس لكيلا يتعتعوا في توضيح مسائلهم .

بل قد فضّل العامة على الخاصة وانْ سَخِط الخاصة فقال : « انّ سُخْطَ العامة يُجحف برضى الخاصة ، و انّ سُخط الخاصة يُفتقر مع رضا العامة ، و ليس أحدٌ أثقلَ على الوالي من الرعية مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء ، و أكره للانصاف و أسأل بالإلحاف و أقل شكراً على الإعطاء ، و أبطأ عذراً عند المنع ، و أضعف صبراً عند مُلِمّات الدهر ، من أهل الخاصة . و انما عماد الدين و جُماع المسلمين و العدة للأعداء : العامة من الأمة فليكن

ص: 46

صَفْوُكَ لهم و ميلك معهم» (1) و هذا كلام صريح في تفضيلهم و الاعتماد عليهم. و أنا شخصياً أميل الى الظنّ بأن هذا الكلام كان له تأثير في سلوك بعض زعمائنا الذين عُرفوا بميلهم الى الإمام عليّ ( عليه السلام) و التشبّه بكلامه في أكثر من موضع . و لن أطيل في تفصيل هذه الديمقراطية، و لنردّد في سرور قول الامام الجامع : «ان أعظم الخيانة خيانة الأمة و أفظع الغشّ غشّ الأئمّة» (2) و قوله الذي يذكّرنا بالقول السائر : صوت الشعب من صوت الله « انّما يُستدلّ على الصالحين بما يُجري الله لهم على ألسن عبادة»(3)

ه- - وإذا كان الإمام قد أخذ بالديمقراطية كما وضح فمن الطبيعي أن نراه نصيرَ الحرية يهيب بابنه «و لا تكن عبد غيرك و قد خلقك الله حرّاً » (4) و أن نراه رافع لواء

ص: 48


1- نهج البلاغة كتاب رقم 53
2- نهج البلاغة كتاب رقم 26
3- نهج البلاغة كتاب رقم 53
4- نهج البلاغة كتاب رقم 31

المساواة لا يزال يذكرها و يوصي بها و يقول لمن يوليه «وأس - وساوِ - بينهم في اللحظة و النظرة حتى لا يطمع - العظماء في حيفك لهم و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم» (1) ويقول في موضع آخر : : «ان المال لو كان ماله لساوى بين الناس فكيف و المال مال الأمة»(2)

و - و لكن للجمهور سيّئاته كما أن له حسناته فلنسمع كلمة الإمام في الغوغاء . قال : « الناس ثلاثة فعالم رباني ، و متعلّم على سبيل نجاة ، و همج رُعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجأوا إلى ركن وثيق» (3) و وصف الغوغاء في موضع آخر من أنهم « إذا اجتمعوا غَلَبوا و اذا تفرّقوا لم يُعرفوا»(4) و قبلُ وَصَفهم بأنهم إذا اجتمعوا ضرّوا وإذا تفرّقوا نفعوا لأنّ كل صانع ينصرف الى عمله فيحصل

ص: 49


1- نهج البلاغة ج 1 / 28
2- نهج البلاغة ج 1 / 260
3- نهج البلاغة ج 2 / 178
4- نهج البلاغة ج 2 / 189

النفع . وقد وضع الإمام اصبعه على آفة و طبيعة من آفات و طبائع الجماهير هي سرعة التقلّب ، تلك الخاصة الجماهيرية التي وضحها شكسبير أبلغ إيضاح في (يوليوس قيصر ) و كذلك أصاب في أن اجتماعها غلبة و تفرقها ضياع و في ان اجتماعها قد يكون في بعض الأحان مجلبة للضرر، كما أن تفرقها مجلبة للنفع لانصراف كل عامل الى عمله ، و هذه النظرة الى الجماهير قد تبدو متعارضة بعض التعارض مع ما سبق من رأيه فيهم و لكن بيان نقص الغوغاء لا يستلزم استبعاد رأيهم .

ز - عرض ( عليه السلام) الصفات الواجب توفرها في الامام فقال : «من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأدیبه بلسانه» (1) و ذمّ العلماء الذين لا يعملون بعلمهم في أكثر من موضع . وحدد العلاقة بين الراعي و الرعية فقال : « أيّها الناس إن لكم عليَّ حقاً ولي عليكم حق ، فأما حقكم علىَّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم

ص: 50


1- نهج البلاغة ج 2 / 158

و تعليمكم كيلا تجهلوا و تأديبكم كيما تعلموا . و أما حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة و النصيحة في المشهد و المغيب و الاجابة حين أدعوكم و الطاعة حين آمركم» (1) و لنلاحظ هنا أنه يجعل من حقه على الشعب أن ينصحه الشعب و هذا مبالغة في السعي وراء الكمال. و كم هو نبيل قوله لقومه رداً على من أثنى عليه : «فلا تكلّموني بما تكلمون به الجبابرة ، و لا تتحفّظوا منى بما يتحفّظ به عند أهل البادرة و لا تخالطوني بالمصانعة و لا تظنوا استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس اعظام لنفسي . فانه من استثقل الحق ان يقال له و العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تَكُفّوا عن مقالة مقالة بحق أو مشورة بعدل فاني لست بنفسي فوق أن أخطىء (2)

و ذمّ خلة الغدر فقال : « و الله ما معاوية بأدهى منّي و لكنّه يغدر و يفجر و لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، و لكن كل غُدَرةٍ فجرة و كل فجرة كفرة و لكل

ص: 51


1- نهج البلاغة ج 1 / 93
2- نهج البلاغة ج 2 / 462

غادر لواء يعرف به يوم القيامة» (1) المؤمنين اذن على خلاف مع ( أمير ) مكيافلي .

و أدلى على ( عليه السلام) بآراء قيّمة فيما يجب في الولاة فقال : أنّهم ملزمون بأن يعيشوا عيشة جمهور الشعب لكيلا «يتبيّن بالفقير فقره»(2) أي لكيلا يسخط الفقير لفقره و ليتعزّى بحال أمير . «أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟» (3)

ونصح عليّ ( عليه السلام ) الولاية بقوله مؤكداً لأحدهم : « ولا يطولنّ احتجابك عن رعيّتك»(4)

و تلك نصيحة حق فإن كثرة ظهور الحاكم بين الرعية استئلاف لقلوبها و اشعار بها ان الحاكم مهتمّ بمصالحها ،

ص: 52


1- نهج البلاغة ج 1 / 440
2- نهج البلاغة ج 1 / 449
3- نهج البلاغة ج 2 / 74
4- نهج البلاغة ج 2 / 107

ثم هو منير للحاكم سبيل حكمه و معطيه الصورة الواضحة لحال شعبه فيعمل على نورها.

و قال : « انه ليس شيء أدعى الى حسن ظنِّ راعٍ برعيّته من إحسانه إليهم»(1) أي ان الراعي حين يحسن لرعيّته يطمئنّ قلبه و يأمن خيانتهم .

و أمر باحترام التقاليد الشعبية فكان حكيماً بعيد النظر «و لا تنقضْ سُنّةً صالحة عمل بها صدور هذه الأمة و اجتمعت بها الإلفة و صلحت عليها الرعية»(2)

و وجّه عليّ ( عليه السلام ) نصيحة غالية كل الغلوّ صادقة كلّ الصدق في قوله : «إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قلبك وزيراً و من شاركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فانهم أعوان الأئمة و إخوان الظلمة و أنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم و نفاذهم و ليس عليه مثل آصارهم و أوزارهم . ثم ليكن عندك

ص: 53


1- نهج البلاغة ج 2 / 91
2- نهج البلاغة ج 2/ 92

آثرهم أقولهم بِمُرّ الحقِّ لك»(1) و نظرية عليّ ( عليه السلام) صحيحة تماماً فان من أثم فيما مضى لا يؤمن إثمه فيهما حضر ، و من اتصل بالظلمة بالأمس لا يؤمن اتصاله بهم اليوم و إعانتهم على كيدهم بما لَه من سلطة الوزارة . وكان حكيماً في قوله : « فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة و داولهم بين القسوة والرأفة».(2)

و أمر الوالي أن لا يرغب عن رعيته تفضّلاً بالامارة عليهم فانهم الاخوان في الدين و الأعوان على استخراج الحقوق ثم قال له : «و إنا موفّوك حقّك فوقّهم حقوقهم و إلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة و بؤساً لِمَن خَصْمُه عند الله الفقراءُ والمساكين»(3) . و دعاه إلى أن يساوي نفسه بهم فيما الناس فيه سواء ،

ص: 54


1- نهج البلاغة ج 2 / 90
2- نهج البلاغة ج 2 / 19
3- نهج البلاغة ج 2 / 27

و هذا القيد يظهر بعد نظره و فهمه لحقيقة المساواة الممكنة .

و دعا إلى تشجيع المحسن و عقاب المسيء قائلاً:«ولا يكون المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء»(1)

و لفت نظر جباة الضرائب الى الرفق بالأهلين و عدم بيع شيء ضروري - و هذا ما فعلته القوانين الحديثة إذ منعت الحجز على الملابس و مرتبات الموظفين . و بالغ في الرفق الحكيم فقال : «فان شكوا ثقلاً أو علّة و انقطاع شرب أو بالّة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففتَ عنهم بما ترجو أن يَصْلُح به أمرهم ، ولا يَثْقُلَنّ عليك شيءٌ خَفّفتَ به المؤونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك و تزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم» (2) وهذا بعد نظرٍ حكيم و سياسة مالية محكمة تزيد وضوحاً في قوله : « و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب

ص: 55


1- نهج البلاغة ج 91/2
2- نهج البلاغة ج 2 / 100

الخراج لأنّ ذلك لا يدرك الا بالعمارة و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد»(1) . و إذا تذكرنا ما جرّ التعسّف في جبى الضرائب في فرنسا و ولایات تركيا و غيرها عرفنا قيمة هذه النصيحة التی يؤيّدها المنطق و يسندها التاريخ .

ح - وقد أدّى بُعْدُ نظر الإمام به إلى أن يدعو الى تقسيم العمل ذلك المبدأ الذي لم نعرفه الا حديثاً فقد قال ناصحاً : « و اجعل لكل إنسان من خَدَمك عملاً تأخذه به فانه أحرى ألا يتواكلوا في خدمتك» (2) و قال من عهده الى الأشتر النخعي أيضاً : « و اعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض و لا غنى ببعضها إلا من بعض. فمنها جنود الله و منها كتاب العامة و الخاصة و منها قضاة العدل و منها عمال الإنصاف و الرفق و منها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمّة و مسلمة الناس و منها التجار و أهل الصناعات و منها طبقة السفلى من ذوي

ص: 56


1- نهج البلاغة ج 2/ 99
2- نهج البلاغة ج 59/2

الحاجة والمسكنة و كلا قد سمّى الله سهمه»(1) ثم فصل

بعد ذلك وظيفة كل فرقة.

و تمشّياً مع قاعدته في تقسيم العمل و اختصاص كل بما يحسنه ردّ على من قال له: أنّك تأمرنا بالسير الى القتال فلم لا تسير معنا ؟ انه لا يجوز أن يترك مهماته من قضاء و إدارة وجباية ضرائب ، و كذلك نصح عمر بألّا يخرج للقاء الفرس «بنفسه لأنّ الأمير كالنظام من الخرز يجمعه» (2) و لأنّه أن خرج انتقض عليه العرب من أطارفها .

ط - ان هذا الإمام المجرب ما كان ليغفل الدعوة الى الاتعاظ بالتجارب في الحكم فها هو إذا يقول «ان الامور اذا اشتبهت اعتُبر آخرها أولها»(3) و يقول في مكان آخر : « استدلّ على ما لم يكن بما كان » ثم يقول أيضاً :

ص: 57


1- نهج البلاغة ج 2 / 92
2- نهج البلاغة ج 1 / 283
3- نهج البلاغة ج 2 / 158

«العقل حفظ التجارب» (1) و لست أحمّل هذا القول الأخير أكثر مما يحتمل اذا قلت انه هو الرأي الفلسفي المعارض للرأي القائل بأن العقل يتفاوت عند الأشخاص بطبيعته . و الذاهب على العكس الى أن العقل ليس الا عمل التجارب و التهذيب . و الدافع الحجة الرأي الأول القائلة بأنّا لو ربّينا أشخاصاً ذوي أعمار واحدة تربية واحدة في بيئة واحدة لنشأوا رغم ذلك مختلفي العقليات ، بأنهم أنما يختلفون لسبق تأثرهم بمزاج وراثي مختلف .

ي - و تكلّم الإمام في عهده الى الأشتر عن القضاة كلاماً قال عنه الاستاذ العشماوي أستاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة ان كلاماً غيره في أي دستور من دساتير العالم لم يفصّل مهمّة القضاة و طرق اختيارهم مثل ما فعل . قال الامام «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يُحصر

ص: 58


1- نهج البلاغة / كلمات قصار.

في الفيء الى الحق إذا عرفه و لا تشرف نفسه على طمع و لا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه ، أوقفهم في الشبهات و أخذهم بالحجج و أقلهم تبرماً بمراجعة الخصم و اصبرهم على تكشّف الأمور و أصر مهم عند اتضاح الحكم ، من لا يزدهيه إطراء و لا يستميله اغراء وأولئك قليل . ثم أكثر تعاهد قضائه و أفسح له في البذل ما يزيل علته و تقل معه حاجته الى الناس ، واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك»(1) و هذا دستور حكيم بل هو أحكم ما نعرفه و حسبه انه انتبه الى وجوب اجزال العطاء المالي للقضاة ليستغنوا بذلك عن الارتشاء و انه شدّد في اعطائهم منزلة قريبة من الوالي ليقطع بذلك الطريق على الوشاة و ليعمل القضاء في جوّ هادىء.

و في غير هذه الرسالة ذمٌ من يتصدّى للحكم و ليس أهلاً له قائلاً «جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فان نزلت به احدى المبهمات هيّأ لها

ص: 59


1- نهج البلاغة ج 2 / 97

حشواً من رأيه ثم قطع به ، جاهل خبّاط جهالات عاشٍ ركَّابُ عَشَوات تصرخ من جور قضائه الدماء ونعجّ منه المواريث الى الله»(1) و في موضع آخر يقول : «لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم لألقيتُ حبلها على غاربها.»(2) و معنى هذا ان على الخواص مهمة هي عدم الصبر على الظلم بل مجاهدته و لو لم يقع عليهم .

ك - و تكلم في سياسة الجند و أمر جيشه ألا ینتبع عند الفوز فاراً و لا يهين امرأة و ان سبّته فإن النساء ضعيفات . و هذا دليل الخصومة الشريفة و نبل الخلق . و قال في عهده إلى الأشتر «وليكن آثرَ رؤوس جندك عندك من واساهم فى معونته و أفضلَ عليهم من جِدّتِه بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همّهم هماً واحداً في جهاد العدو فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم

ص: 60


1- نهج البلاغة ج 1 / 59
2- نهج البلاغة ج 1/ 41

عليك ، وان أفضل قرة عين الولاة استقامةُ العدل فى البلاد و ظهور مودّة الرعية. و انه لا تظهر مودّتهم الا بسلامة صدورهم و لا تصحّ نصيحتهم الا بحيطتهم على ولاة أمورهم و قلّة استثقال دُوَلهم و ترك استبطاء انقطاع مدّتهم فافسح في آمالهم و واصل في حسن الثناء عليهم و تعديد ما أبلي ذوو البلاء منهم ، فان كثرة الذكر لحسن أفعالهم ، تهزّ الشجاع و تُحَرّض الناكل ان شاء الله ثم اعرف لكل امرىء منهم ما أبلي ولا تُضيفن بلاء امرىء الى غيره . ولا تقصرنّ به دون غاية بلائه، و لا يدعونك شرفُ امرىء الى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيراً ولا ضَعَةُ امرىء الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما »(1)

و الآن و قد سرنا في نهج البلاغة شوطاً يغرينا بالاستزادة فلنقف، و إذا كان أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) قد نهى قومه عن أن يمدحوه فلا يخافن اليوم و اغترارا هو بعيد عن حياة الغرور ، إن نحن انحنينا أمام

ص: 61


1- نهج البلاغة ج 2 / 95

عبقريته . لقد حبانا نهج البلاغة فأحسن بما حبانا، فلنطبق عليه قوله : ( قيمة كل امريء ما يحسنه»(1)

ص: 62


1- نهج البلاغة ج 2/ 159

الفهرست

المدخل ... 5

نسبه و مولده ... 6

العودة الى الشام ... 8

حياته العلمية ... 9

مؤلّفاته المفقودة ... 10

هذا البحث ... 14

المقدمة ... 15

التعايش السلمي ...25

الحكم ... السياسة ... القضاء ... 43

الديمقراطية ... 47

ص: 63

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.