الاشتقاق حول حدیث ابي الاسود الدولي المروي عن علي علیه السلام

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: البهبهاني،السیدعلی، 1264 -1353.

عنوان واسم المؤلف: الاشتقاق حول حدیث ابي الاسود الدولي المروي عن علي علیه السلام/ تالیف علي البهبهاني؛ تحقیق محمدحسین احمدي الشاهرودي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم آیة ا.. البهبهاني، 1423ق.= 1381.

مواصفات المظهر: [191]ص.

شابک : 964-93458-1-7

لسان : العربية.

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع : علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- احادیث

موضوع : احادیث خاص (ابی السودالدولی) -- نقدو تفسیر

موضوع : زبان عربی -- نحو

شناسه افزوده : احمدی شاهرودی، محمدحسین

رده بندی کنگره : BP145 /الف2 ب9 1381

رده بندی دیویی : 297/218

شماره کتابشناسی ملی : 3034629

اسم الکتاب: ...................................................... الاشتقاق

المؤلّف: ................. آیة الله العظمی العلّامة السیّد علي البهبهاني

الناشر: ........................................ دار العلم آیة الله البهبهاني

تاریخ الطبعة الاُولی: .......................................... 1423 ق

المطبعة: ................................................................. قلم

عدد المطبوع: .............................................. 2000 نسخة

شابک: ......................................... 7 - 1 - 93458 - 964

التوزیع: مؤسسة انتشارات دار العلم آیة الله البهبهاني

إیران - قم - خیابان دورشهر - کوچۀ 25 - پ 20

قم / هاتف: 7722729 - 0251 / فاکس 7730485

أهواز / هاتف: 2225621 - 0611 / فاکس 2211218

ص: 1

اشاره

الاشتقاق

حول حدیث أبي الأسود الدُّؤلي

المروي عن عليّ (علیه السلام)

تألیف

العلّامة المحقّق والنحریر المدقّق

آیة الله العظمی

الحاجّ السیّد علي البهبهاني (قدس سره)

1303 - 1395 ه-.ق

تحقیق

محمّد حسین أحمدي الشاهرودي

ص: 2

الاشتقاق

أو کشف الأستار عن وجه الأسرار

المودعة في الروایة الشریفة

المسندة إلی باب مدینة العلم المنقولة عن أبي الأسود الدُّؤَلي

تألیف

العلّامة المحقّق والنحریر المدقّق آیة الله العظمی

الحاجّ السیّد علیي البهبهاني (قدس سره)

1303 - 1395 ه-.ق

تحقیق محمّد أحمدي الشاهرودي

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 5

ص: 6

مقدمّة

الحمد لله ربّ العالمین، وصلّی الله علی أشرف رسله محمّدٍ وآله الطیّبین الطاهرین، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعین.

أمّا بعد، فیقول العبد الراجي عفو ربّه الغني، علي بن محمّد بن علي الموسوي البهبهاني - حشرهم الله مع آبائهم الأئمّة الطاهرین، سلام الله علیهم أجمعین -:

إنّ العلم لمّا کان مودوعاً في بیوت الأنبیاء (علیهم السلام) ، اُمر الناس بالطلب والاقتباس منها.

عن مولانا أمیر المؤمنین (علیه السلام) : «والعلم مخزونٌ عند أهله وقد اُمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه».(1)

وفي الکافي: «أنّه سُئل مولانا الباقر (علیه السلام) عن (طعامه) في قوله تعالی: ﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ فقال (علیه السلام) : علمه الذي یأخذ عمّن یأخذ».(2)

ص: 7


1- . الکافي 1: 30، باب فرض العلم، الحدیث 4.
2- . الکافي 1: 49، باب النوادر، الحدیث 8. والآیة من سورة عبس: 24.

فعلی ناظری طعامهم الاقتباس من أنوار کلماتهم، فمن لم ینظر إلی طعامه ولم یمیّز حِلّه عن حرامه، فقد ارتکب الشبهات ووقع فی الهلکات.

وحیث إنّ مولانا أمیر المؤمنین - علیه و علی أبنائه الطاهرین سلام الله الملک الأمین - قد شرع شریعةً واضحة، وأنبط عیناً صافیة، وغرس شجرةً طیّبة، في اُصول العربیّة التي هي أساس فقه الشریعة، فعلینا الورود والصدور من شریعته، والاستقاء من مشربه ومنهله، والاجتناء من ثمار شجرته.

ص: 8

روایة أبي الأسود الدُّؤَلي

اشارة

عن أبي الأسود الدُِّؤَلي:(1) «قال: دخلت علی علیّ بن أبي طالب (علیه السلام) فرأیته مطرقاً متفکّراً، فقلت: فیم تفکّر یا أمیر المؤمنین؟ قال: إنّي قد سمعت ببلدکم هذا لحناً فأردت أن أصنع کتاباً في اُصول العربیّة، فقلت: إن صنعت هذا أحییتنا وبقیت فینا هذه اللغة، ثمّ أتیته بعد ثلاث، فألقی إليّ صحیفةً فیها: بسم الله الرحمن الرحیم، الکلام کلّه ثلاثة أشیاء: اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ جاء لمعنی، والاسم: ما أنبأ عن المسمّی، والفعل: ما أنبأ عن حرکة المسمّی، والحرف: ما أوجد معنیً في غیره» علی ما في العوالم(2) ونفائس الفنون.(3) وفي بعض النسخ: «والحرف

ص: 9


1- . أبو الأسود الدِّیلي: بکسر المهملة وسکون التحتانیّة، ویقال: الدُّؤَلي، بالضمّ بعدها همزة مفتوحة، البصري، اسمه ظالم بن عمرو بن سفیان، ویقال: عمرو بن عثمان أو عثمان بن عمرو، وهو أوّل من تکلّم في النحو، توفّي سنة تسع وستّین. انظر تقریب التهذیب لابن حجر: 391، الرقم 52.
2- . عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآیات والأخبار والأقوال للمحدّث الکبیر المتتبّع الخبیر الشیخ عبدالله البحراني الإصفهاني.
3- . نفائس الفنون في عرایس العیون للمولی المتبحّر شمس الملّة والدین محمّد بن محمود الآملي.

ما أنبأ عن معنیً لیس باسم ولا فعل». ثمّ قال لي: «تتبّعه وزد فیه ما وقع لک، واعلم یا أبا الأسود، أنّ الأشیاء ثلاثة: ظاهرٌ ومضمرٌ وشيءٌ لیس بظاهرٍ ولا مضمر، وإنّما تتفاضل العلماء في معرفة ما لیس بظاهر ولا مضمر»(1) انتهی ما أردناه.

والروایة مشتهرةٌ بین أهل العربیّة اشتهار الشمس في رابعة النهار، فیغنیني عن تحقیق إسنادها، مع أنّ سطوع نورها ووقود نارها واشتمالها علی نفائس أسرارٍ قد خفي جلّها علی الجلّ بل علی الکلّ - کما سیظهر لک إن شاء الله تعالی - ینادي بعدم صدورها إلا من عینٍ صافیة، فینبغي تصحیح إسنادها بمتنها لا متنها بإسنادها.

وکیف کان، فلنصرف الکلام إلی ما تضمّنته الروایة: من تفکّره (علیه السلام) في صنع الکتاب المذکور مع عدم حاجته (علیه السلام) إلی إعمال الفکر والنظر، فهو إمّا توقیرٌ للعلم أو تنبیهٌ علی غموض المطلب ودقّته وأنّه ممّا ینبغي التفکّر فیه. کما أنّ تقسیمه (علیه السلام) الأشیاء إلی ثلاثة تنبیهٌ علی أنّ المورد من قبیل الثالث، وأنّ هنا مطالبٌ مترتّبةٌ متفاضلةٌ دقّةً وخفاءً تتفاضل العلماء في معرفتها.

وقد وفّقني الله تبارک وتعالی بمنّه وکرمه مذ کنت متشرّفاً بالعتبة العلیّة العلویّة - علی مشرّفها آلاف ثناءً وتحیّة - للمراجعة فیها مرّةً بعد مرّة وکرّةً بعد کرّة، حتّی شرح الله صدري ویسّر لي أمري وقذف في قلبي من علمه ما استنار به

ص: 10


1- . کنز العمّال: 10: 283، الحدیث 29456.

عقلي، فاقتبست منها لمعات أنوارٍ تغشی الأبصار، ومعادن أسرارٍ تحتجب تحت الأستار، والحمد لله علی توفیقه وهدایته.

وإذا آنس الناظر من جانب الطور ما آنسناه حقّ له التصدیق بما بیّنّاه، وثبت عنده تحقیق ما أثبتناه، وعرف من الکلام صاحبه ومن القول قائله. رحم الله من سمع فاستمع، ومن استمع فأنصت، ومن أنصت فأنصف.

فأقول - بعون الله تعالی ومشیّته -: ینبغي توضیح الحدود المذکورة في مقامات ثلاث:

الأوّل: في تفسیر مفرداتها.

والثاني: في بیان المراد من مرکّباتها، وأنّها مساویةٌ للمحدود وأوفی وأتمّ من جمیع تعاریف أهل العربیّة.

والثالث: في بیان الاُمور المستفادة منها.

ص: 11

ص: 12

المقام الأوّل: في تفسیر مفردات الروایة

فاعلم أنّ کلمة «ما» ترد اسمیّةً وحرفیّة، والاسمیّة موضوعةٌ للشيء، فتعمّ العاقل وغیره وضعاً، وتختصّ بالثاني انصرافاً لأجل مقابلتها بکلمة «من» المختصّة بالأوّل.

وتستعمل علی وجوهٍ متعدّدة، موصولة وموصوفة واستفهامیّة وشرطیّة، لا أنّها مشترکة بینها - کما توهّم - لأنّ مفهومه الاسمي أمرٌ واحد کما هو ظاهر، وما عداه من الوجوه المعتورة علیه معانٍ حرفیّة وجهاتٌ للاستعمال - کما سیظهر لک إن شاء الله تعالی - ولا یعقل اختلاف وضع الکلمة باختلاف وجوه استعمالها.

وأمّا «أنبأ» فیشتمل علی مادّةٍ وهیئة، والمادّة تقرب من «نبّه» لفظاً ومعنی، وتعمّ الکشف التصدیقي والعرفانژ والذکري، علی ما یشهد به الاطّراد في موارد استعمالاتها. وأمّا الهیئة فتفید إیصال المبدأ إلی المحلّ بشهادة الاطّراد أیضاً، سواء کان المحلّ محلّه الأصلي، ک-«أقام» مقابل «ارتحل»، فتفید التأکید في الإسناد، أم لا، فتفید التعدیة، ک-«أقام» مقابل «أقعد».

وأمّا «عن» فمفادها المجاوزة أبداً، کما سیظهر لک في محلّه إن شاء الله تعالی.

ص: 13

وأمّا «المسمّی» فیشتمل علی حرفٍ واسم:

أمّا الحرف، وهي «لام التعریف» فهي للإشارة إلی المدخول، فإن کان معهوداً تنصرف إلیه وتکون للعهد، وإلا فللجنس، وما اشتهر: من أنّ اللام الداخلة علی الصفات اسم موصول، في غیر محلّه، کما حقّقناه في محلّه، وسنشیر إلیه في المقام الثالث إن شاء الله تعالی.

وأمّا الاسم، وهو «مسمّی» فیشمل علی مادّةٍ وهیئة، أمّا الهیئة فمفادها الاتّصاف بها وقوعاً، وأمّا المادّة وهي التسمیة، فهي علقةٌ بین اللفظ ومفهومه توجب حضوره في الذهن عند ذکر اللفظ ناشئةٌ عن المناسبة الذاتیّة تارةً وعن الوضع مرّةً وعن وضعین اُخری إذا کان أحد الموضوعین قیداً للآخر بحیث صارا عنواناً لأمرٍ واحد، کالأسماء المشتقّة، فإنّ کلاً من مادّتها وهیئتها مستقلٌّ بوضع إلا أنّ مدلول الهیئة فیها قیدٌ للحدث بحیث صار المجموع إمّا عنواناً للحدث، کالمصدر المعروف المشتمل علی الحدث والنسبة الناقصة، أو عنواناً للذات کأسماء الصفات.

وأمّا «حرکة المسمّی» فهي الحدث الحادث منه تحقّقاً أو اتّصافاً قیاماً أو وقوعاً، وهي إنّما تنطبق علی الحدث إذا لوحظ مسنداً بالإسناد الحدوثي، ضرورة إنّ الحدث إذا لو حظ مع قطع النظر عن نسبة الحدوث أو معها علی سبیل التقیید أو مع الإسناد الاتّحادي أو الإضافي یکون کسائر المفاهیم مورداً للتسمیة، وأمّا إذا لوحظ مسنداً بالإسناد الحدوثي یخرج عن کونه مسمّی، ویصیر المجموع المتحصّل منه ومن الإسناد حرکةً للمسمّی وفعلاً له، ولا فرق في ذلک بین کون المبدأ فعلاً کالضرب، وصفةً کالعلم، وعدماً محضاً کالعدم؛ فإنّ عنوان الحرکة والفعلیّة إنّما هو باعتبار الحدوث والظهور المشترک فیه جمیع الموادّ حتّی

ص: 14

السکون المقابل للحرکة، ف-«سکن» فعلٌ منبئٌ عن حرکة المسمّی.

وأمّا «معنی» فهو اسم مکانٍ من «العنایة» أو مخفّف «معني» اسم مفعول منها، وعلی کلّ تقدیرٍ لا ینطبق إلا علی النسب والروابط التي لا تستقلّ بنفسها؛ ضرورة أنّ القصد والعنایة لا یتعلّق إلّا بالنسب، والحدث إنّما یتعلّق به القصد ویصدق علیه المعنی إذا لوحظ معه النسبة التي هي معنیً حرفي، وإلّا فالحدث العاري عن النسبة لا یکون معنیً ولا اسمه اسم معنی.

ص: 15

ص: 16

المقام الثاني: في تفسیر مرکّبات الروایة

وأمّا المقام الثاني، وهو شرح مرکّبات الحدود وبیان أنّها أوفی من سائر الحدود، فیتوقّف علی بیان المراد من مفرداتها، فنقول:

لفظة «ما » في المقام موصولةٌ کما هو ظاهر، وإنّما اُتي به دون قولنا: «منبئٌ عن المسمّی» مع أنّه أخضر؛ لأنّ المقام مقام التحدید، والمناسب له إنّما هو التعبیر الأوّل لا الثاني، فإنّه إنّما یناسب الحکم.

والغرض من «الإنباء» في المقام هو الکشف الذکري لا التصدیقي ولا العرفاني، لأنّ الثاني لا یترتّب علی الاسم أبداً وإنّما یترتّب علیه الالتفات إلی المسمّی مجهولاً کان أو معروفاً، والأوّل وإن ترتّب علیه في حال ارتکیب الخبري بالنسبة إلی حال المسمّی بعد إحراز مقدّماتٍ عدیدة: من صدوره من المتکلّم العارف بالوضع في مقام الإفادة والاستفادة وکونه معصوماً مطلقاً أو صادقاً مع کون المخبر به ضروریّاً، إلّا أنّه لا یصحّ إرادته منه في المقام لوجوه ثلاثة:

الأوّل: لزوم عدم جمع الحدّین لأفراد المحدود حینئذٍ، أمّا حدّ الاسم فلعدم صدقه علی الأسماء المفردة بل المرکّبة بالترکیب الإنشائي أیضاً، وأمّا حدّ الفعل فلعدم صدقه علی فعل الأمر وسائر الأفعال الأنشائیّة: لأنّها إنّما تنبئ علی

ص: 17

وجه التصدیق عن إرادة المتکلّم أو کراهته، لا عن حرکة المسمّی وهو الحدث المنتسب إلی فاعله.

والثاني: أنّه یلزم أن یکون الفعل نوعاً من الاسم مندرجاً تحته لا قسیماً مقابلاً له؛ لأنّ مدار الاسمیّة حینئذٍ علی الإنباء عن حال المسمّی، وحرکة المسمّی أیضاً حالٌ من أحوال المسمّی فتندرج تحته.

والثالث: أنّ] مع دوران الأمر بین إرادة الکشف التصدیقي المترتّب علی النوعین أحیاناً والکشف الذکري الملازم لحقیقتهما لا یجوز العدول عن الثاني إلی الأوّل.

وبما بیّنّاه تبیّن أنّ «الإنباء» أوفی بالمقام من «الدلالة» و«الهدایة» و«الإرشاد» و«الإخبار» و«الإعلام» و«التنبیه» و«الإیقاظ» وهکذا من المفاهیم المختصّة بالکشف التصدیقي، بل ومن «الإحضار» وما یساوقه أیضاً؛ لأنّه یعمّ الحضور الخارجی والذهني الابتدائي والذکري، والمترتّب علی النوعین إنّما هو الأخیر، فلا یفي بما في المقام کوفاء «الإنباء» به.

هذا کلّه بحسب المادّة.

وأمّا بحسب الهیئة فهي أوفی أیضاً.

تحریر الکلام فیه: أنّ الصیغ الطارئة علی مادّة «النبأ» المناسبة للمقام في الجملة أربعة:

إحداها: صیغة الماضي من باب «الإفعال» الناظرة إلی تحقّق المبدأ من الذات علی وجه الإیصال إلی المحلّ، سواء اتّصف المحلّ به أم لا.

وثانیها: صیغة الماضي من باب «التفعیل» الناظرة إلی تحقّق المبدأ من الذات علی وجهٍ یتّصف المحلّ به، ولذا یفترق التعلیم عن الإعلام، والتدویر عن

ص: 18

الإدارة، ویختصّ التعلیم بما إذا کان اهتمام الشخص في صیرورة المحلّ واجداً للعلم ومتّصفاً به، والتدویر بما إذا جعل الشخص المحلّ کرویّاً منشأً للدور ومتّصفاً به، ولعلّه لأجل هذه النکتة عدل النبيّ (صلی الله علیه و آله) عن قول عائشة حیث قالت: ﴿ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا﴾ إلی قوله (صلی الله علیه و آله) : ﴿نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾،(1) فنبّه (صلی الله علیه و آله) علی أنّه عالمٌ بالنبأ ومتّصفٌ به من قِبَل العلیم الخبیر الذي لا یخفی علیه شيءٌ، لا أنّه محلٌّ لوصول النبأ فقط.

ثالثها ورابعها: صیغة المضارع من باب «الإفعال» و «التفعیل» الناظرة إلی اتّصاف الذات بالمبدأ علی وجه الأیصال إلی المحلّ في الأوّل، وعلی وجهٍ یتّصف المحلّ به في الثاني، فهو بمقتضی نظره إلی الاتّصاف ناظرٌ إلی الذات أوّلاً وإلی الحدث ثانیاً علی خلاف الماضي الناظر إلی تحقّق الحدث من الذات، ولذا قُدّمت الحروف الدالّة علی صفات الفاعل من الغیبة والخطاب والتکلّم فيالمضارع واُخّرت في الماضي.

إذا اتّضح لک ذلک، اتّضح لک أنّ التعبر بصیغة الماضي أوفی من التعبیر بصیغة المضارع، لأنّ المحقِّق للاسمیّة والفعلیّة تحقّق الإنباء من اللفظ، ولا یعتبر فیه أمرٌ زائد.

کا اتّضح لک أنّ التعبیر بصیغة الماضي من باب الإفعال أوفی من التعبیر بها من باب التفعیل؛ لأنّ اللفظ إنّما یوجب أیصال النبأ إلی المحلّ، ولا نظر له إلی اتّصاف المحلّ به، وإنّما النظر إلی اتّصاف المحل به حیثما ثبت فإنّما هو للمتکلّم، فالمنبِّئ بصیغة التفعیل هو المتکلّم لا اللفظ.

ص: 19


1- . سورة التحریم: 3.

والغرض من «المسمّی» في حدّ الاسم نفس الوصف والعنوان، لا الموصوف والمعنون.

توضیح الکلام فیه: أنّ الوصف المأخوذ موضوعاً في القضیّة اللفظیّة غالباً علی أحد وجوهٍ ثلاثة:

الأوّل: أن یکون مفهومه موضوعاً في القضیّة النفس الأمریّة وعنواناً یدور مداره الحکم، کما یکون لفظه موضوعاً في القضیّة اللفظیّة، وهذا إنّما یکون إذا کان المبدأ علّةً للحکم یدور مداره حدوثاً وبقاءً، مثل قول: «أکرم العالم وقلّده» و «صلّ خلف العادل واقبل شهادته» و «الفقیر یستحقّ الزکاة» ونحو ذلک، فإنّ وجود المبدأ في هذه الموارد علّةٌ للحکم، ویکون الحکم تابعاً له عارضاً علی الوصف المأخوذ منه ابتداءً وعلی الموصوف ثانیاً، بمعنی أنّ عارض العارض عارضٌ، لا أنّ له عروضین عروضاً أوّلیّاً وعروضاً ثانویّاً؛ ضرورة استحالة أن یکون للعرض الواحد عروضان.

والثاني: أن یکون مفهومه معرِّفاً للموضوع من دون أن یکون له مدخلیّةٌ في الحکم، مثل قولک: «أکرم الجالس وقلّده» أو «صلّ خلفه واقبل شهادته» ونحو ذلک، فإنّ الجلوس لا مدخلیّة له في الإکرام والتقلید والائتمام وقبول الشهادة، فالموضوع في القضیّة النفس الأمریّة هو الموصوف ابتداءً، وإنّما جعل الوصف مووضعاً في القضیّة اللفظیّة معرِّفاً له.

والثالث: أن یکون مفهومه منبِّهاً لعموم الحکم، نحو قول: یجب الصلاة علی المریض مثلاً، فإنّ أخذ الوصف في مثل هذه القضیّة لیس لأجل کونه عنواناً یدور مداره الحکم، ولا لأجل تعریف الموضوع، بل لأجل التنبیه علی عموم الحکم للصحیح والمریض، فإنّه یُتوهّم أن یکون المرض رافعاً لتنجّز وجوب

ص: 20

الصلاة کما یکون رافعاً لتنجّز وجوب الصوم، فجعل موضوعاً في القضیّة اللفظیّة واُثبت الحکم معه إزالةً لهذا الوهم وتنبیهاً علی عموم الحکم، ففي هذه الصورة أیضاً یکون الموضوع هو الموصوف ابتداءً.

إذا اتّضح لک ذلک، اتّضح لک أنّ الوصف المأخوذ في حدّ الاسم یکون من القسم الأوّل؛ ضرورة أنّ التسمیة علّةٌ للإنباء حدوثاً وبقاءً، وهو تابعٌ لها دائرٌ مدارها قیاماً ووقوعاً، فاللفظ منبِئٌ لکونه اسماً، والمفهوم منبّئٌ عنه لکونه مسمّی.

فإن قلت: الإنباء مسبَّبٌ عن الوضع، وهو أمرٌ حادثٌ غیر قارّ، فلا یتعلّق الإنباء ابتداءً إلّا بذات المسمّی والموضوع له، ولیس وصف المسمّی أمراً موجوداً باقیاً حتّی یعرض علیه الإنباء أوّلاً وعلی الموصوف به ثانیاً.

قلت: الإنباء معلولًٌ عن التسمیة، وهي العلقة القائمة الباقیة الناشئة من المناسبة الذاتیّة تارةً ومن الوضع اُخری، ولذا لو فرض زوال العلقة لم یتحقّق الإنباء، فوصف المسمّی موجودٌ قائمٌ بالمفهوم المناسب له ذاتاً أو وضعاً.

فإن قلت: الوصف عنوانٌ عرضيٌّ قائمٌ بالموصوف لا استقلال له في حدّ نفسه، فلا یعقل أن یصیر معروضاً للإنباء ومتعلّقاً له، لاستحالة قیام العرض بالعرض، فما اشتهر: من أنّ الوصف في أمثال الموارد واسطةٌ في العروض، لیس معناه أنّ العرض عارضٌ علی الوصف أوّلاً وعلی الموصوف ثانیاً بواسطته، بل المقصود من الوساطة أنّ العرض لا یعرض علی ذات الموصوف إلّا بعد اتّصافه بالوصف.

قلت: لا استحالة في قیام العرض بالعرض وعروضه علیه، فإنّ اللفظ - مع أنّه عرضٌ - یقوم به التسمیة والإنباء، والموصوف بوصف المسمّی قد یکون عرضاً وقد یکون جوهراً، ولاخطّ إمّا مستقیمٌ أو منحنٍ، والاستقامة والانحناء

ص: 21

عرضان عارضان علی الخطّ الذي هو عرض، وبالجملة أمثلة عروض العرض علی العرض کثیرةٌ جدّاً، بل لا یخلو منه موجود.

فإن قلت: إن اُرید بعروض العرض علی الوصف أوّلاً وعلی الموصوف ثانیاً وتبعاً أنّ الوصف قبل عروضه علی الموصوف یصیرمعروضاً للعرض فهو بدیهيّ البطلان؛ إذ لا وجود له قبل اتّصاف الموصوف به، فکیف یصیر موضوعاً للعرض ومحلّاً له. وإن اُرید أنّه یعرض علی الوصف بعد اتّصاف الموصوف به، ففیه: أنّه حینئذٍ متّحدٌ مع الموصوف في الخارج ولیس أمراً وراءه حتّی یعرض علیه العرض أوّلاً وعلی الموصوف ثانیاً.

قلت: أوّلاً: إنّ عروض العرض علی الوصف قبل وجوده في الخارج لا مانع له إذا کان العرض من قبیل عرض الماهیّة، کأحکام العناوین الکلیّة، فإنّها قبل وجودها موضوعةٌ للأحکام، ألا تری أنّ «العالم» بعنوانه الکلّي موضوعٌ لاستحقاق الإکرام، و«الفقیر» کذلک یستحقّ الزکاة. والسرّ فیه: أنّ عروض العرض لیس عبارةً عن الکون الأصیل حتّی یحتاج إلی وجود موضوعه في الخارج، وإنّما هو عبارةٌ عن الوجود الربطي، فلا یحتاج إلی وجود موضوعه في الخارج؛ ضرورة أنّ اتّحاد مفهومٍ مع مفهومٍ لا یتوقّف علی وجود المتّحد معه.

وثانیاً: إنّه لیس مرجع عروض العرض علی الوصف أوّلاً وعلی الموصوف ثانیاً إلی تعدّد العروض، حتّی یتوقّف علی تعدّد الموضوع وتمیّز أحدهما عن الآخر في الخارج، بل مرجعه إلی أنّ عروض العرض علی الوصف المتّحد مع موصوفه یستتبع عروض العرض علی الموصوف من حیث إنّ محمول المحمول محمولٌ، فلا یکون في البین إلّا عروضٌ واحد.

فإن قلت: مقتضی ما ذکرت أن یکون المنبِئ والمستعمَل عنوان الاسم

ص: 22

القائم باللفظ لا نفس اللفظ، مع أنّه من المعلوم بالضرورة أنّ الإنباء والاستعمال إنّما یعرضان علی نفس اللفظ.

قلت: الإنباء والاستعمال بالنسبة إلی اللفظ من عوارض الوجود والعنوان، لا وجود له في الخارذج إلّا بالمعنون، بل لا وجود له في الخارج سواه، فروضهما علی العنوان حینئذٍ یکون إلّا بالعروض علی المعنون، ولا یتطرّق التفکیک بوجه، وأمّا بالنسبة إلی المنبَئ عنه والمستعمل فیه فهما من عوارض المهیّة ونفس المفهوم لا الوجود، فیتطرّق فیه التفکیک ویظهر أثره، ولذا تری أنّه قد یکون المنظور بالإنباء والاستعمال نفس العنوان مع قطع النظ عن معنونٍ خاصّ، فلا ینبئ اللفظ حینئذٍ إلّا عن العنوان الجامع.

وقد خفي ذلک علی أهل الصناعة فسمّوه ب-«عموم المجاز» وزعموا أنّ اللفظ لم یستعمل حینئذٍ في محلّه الأصلي، مع أنّ اللفظ لا یستعمل أبداً إلّا فیه، وإنّما تختلف الموارد في النظر الأصلي والتبعي، لا في الاستعمال والمستعمل فیه.

والحاصل: إنّ الاستعمال لمّا کان من عوارض الوجود بالنسبة إلی المستعمَل، فلا بدّ من تعلّقه بالعنوان المنطبق علی معنونٍ خاصّ، فلا یکون المستعمَل إلّا لفظاً مخصوصاً قائماً به التسمیة، وأمّا بالنسبة إلی المستعمل فیه فحیث إنّه من عوارض الماهیّة یجوز تعلّقه بعنوان المسمّی مع قطع النظر عن معنونٍ مخصوص، کما یجوز تعلّقه به باعتبار معنونٍ خاصّ.

فإن قلت: إنّا نجد من أنفسنا کثیراً ما ننتقل من الاسم إلی ما وضع له وذات المسمّی من دون التفاتٍ إلی عنوان المسمّی، فلو کان واسطةً في عروض الإنباء علی ذات المسمّی استحال الإنباء عنه مع عدم الإنباء عن العنوان.

قلت: مقتضی معلولیّة الإنباء عن التسمیة دوران الإنباء مدار عنوان

ص: 23

المسمّی وعدم التخلّف عنه فیستحیل خلافه، ولکن لمّا کان عنوان المسمّی منظوراً غالباً توطئةً وقنطرةً إلی ذات المسمّی وما انطبق علیه، اندکّ النظر إلی العنوان في جنب النظر إلی المعنون حینئذٍ، فیتوهّم أنّه ینتقل من الاسم إلی ذات المسمّی ابتداءً، مع أنّ الانتقال إلیه إنّما هو من جهة کونه مندرجاً تحت المسمّی.

ویتّضح ذلک فیما إذا کان اللفظ مشترکاً ولم تقم قرینةٌ معینةٌ علی تعیین أحد معانیه، فإنّه لا ینتقل منه إلّا إلی العنوان المنطبق علی کلّ واحدٍ من المعاني علی سبیل البدل.

والحاصل: أنّ العنوان منظورٌ أبداً إمّا أصالةً کما في قلیلٍ من الاستعمالات، أو توطئةً وقنطرةً إلی المعنون کما هو الغالب في الاستعمالات.

ونظیر ذلک الإنباء التصدیقي والدلالة، فإنّ اللفظ الصادر عن المتکلّم العارف بالوضع في مقام الإفادة والاستفادة إنّما یدلّ علی ضمیر المتکلّم ابتداءً لانبعاثه منه انبعاث المعلول عن علّته، وعلی الواقع ثانیاً فیما إذا کان الترکیب خبریّاً مع عصمة المتکلّم مطلقاً، أو صدقه إذا کان المخبَر به ضروریّاً، ویکون ضمیر المتکلّم غالباً قنطرةً وتوطئةً إلی الواقع، فیتوهّم أنّ المدلول الأوّلي هو الواقع.هذا کلّه في المسمّی المأخوذ في حدّ الاسم.

وأمّا المأخوذ المستقلّ القابل لوقوع التسمیة علیه؛ ضرورة أنّ مدلول الفعل - وهي الحرکة - إنّما یتعلّق بذات المسمّی لا بعنوانه، ولأجل ذلک عدل عن الإضمار إلی الإظهار مع أنّ المقام مقام الإضمار.

وبما بیّناه یتبیّن لک أیضاً وجه اختیارهما معرَّفین لا منکَّرین ولا مختلفین،

ص: 24

أمّا تعریف الأوّل فلأنّ العنوان من حیث هو واحدٌ ولا تعدّد فیه، وإنّما التعدّد في المعنون به، وأمّا تعریف الثاني فلأنّ الغرض منه ذات المسمّی القابل لوقوع التسمیة علیه من دون نظر إلی خصوصیّة الأفراد، مع أنّه لو نُکّر لتوهّم أنّ الاختلاف بینهما إنّما هو في النظر إلی الأفراد وعدمه.

وإذ قد اتّضح لک ما بیّناه، فاعلم أنّ المسمّی لا ینطبق علی المعنی الحرفي ومدلول الفعل والجملة.

أمّا المعنی الحرفي فلأنّ العلاقة الثابتة بینه وبین الحرف إنّما هي الآلیّة لا التسمیة.

وأمّا مدلول الفعل فلأنّه مرکّبٌ من الحدث الذي هو مفهومٌ مستقل والإسناد الحدوثي الذ هو معنی حرفي، ولم یجعل أحد طرفیه قیداً للآخر حتّی تصیر النسبة ناقصة والطرفان بمنزلة طرفٍ واحد - کمفهوم المصدر والمشتقّات - في انطباق وصف المسمّی علیه، فلا ینطبق علیه إلّا مفهوم الحرکة.

فإن قلت: لو کان الترکیب من المفهوم الاسمي والمعنی الحرفي کذلک مانعاً من صدق المسمّی لزم أن لا یکون المسند بالإسناد الاتّحادي کقائم في «زید قائم» وبالإسناد الإضافي کالدار في «زید في الدار» اسماً، ولا مفهومهما مسمّی، والتالي باطلٌ بالضرورة.

قلت: الإسناد الحدوثي إنّما یجيء من قِبَل الهیئة الاشتقاقیّة التي هي صورة الکلمة ومقوِّمةٌ لها، فإنّ المادّة الساذجة بمنزلة الجنس والصورة بمنزلة الفصل، فکما أنّ الجنس لا تقوّم له إلّا بالفصل فکذلک لا تقوّ» للمادّة إلّا بالصورة، وکما أنّ الفصول المتعدّدة موجبةٌ لتنوّع الأنواع المختلفة فکذلک تصوّر المادّة بصورٍ مختلفة موجبٌ لتحصّل کلماتٍ مختلفة حسب اختلاف الصور، فإنّ «ضرب»

ص: 25

و «یضرب» و «اضرب» و «ضارب» و «مضروب» کلماتٌ مختلفة، وکلٌّ منها کلمةٌ مستقلّةٌ في قبال الاُخری مع اشتراکها في المادّة الساذجة، وکما أنّ منزلة الصورة المحدِثة لمعنیً حرفي من المادي المنبئة عن مفهومٍ اسمي بمنزلة الفصل من الجنس الموجب لتحصّل نوعٍ خاصٍّ من الکلمة، فکذلک معناها بمنزلة الفصل من مفهومها، فالترکّب منهما موجبٌ لحدوث نوعٍ مخصوص، وهي حرکة المسمّی، بخلاف الإسناد الاتّحادي والإضافي فإنّهما إنّما أتیا من قبل الهیئة الترکیبیّة وحرف الجرّ، وهما من عوارض الکلمة بعد تمامیّتها، ولذا لا یؤثّر اختلافهما في اختلاف الکلمة وتعدّدها، فکما أنّه لا تختلف الکلمة باختلافهما، فکذلک اعتوار معانیهما لا یؤثّر في مفهومها ولا یوجب خروجه عن صدق وصف المسمّی علیه.

وأمّا مدلول الجملة فلعدم صدق وصف المسمّی بصیغة الإفراد علیه لاشتماله علی مسمّیین. ویمکن أن یقال بخروج مدلول الفعل عنه بهذا الاعتبار أیضاً لرجوعه إلی مدلول الجملة، فإنّه بإفراده منبئٌ عن مسمّیین: الحدث المسند إلی الذات بالإسناد الحدوثي، فهو کالجملة مفاداً وإن کان مفرداً لفظاً.

فإن قلت: المسمّی اسم جنس، والجنس صادق علی القلیل والکثیر، کالماء والتمر ونحوهما.

قلت: إنّما یصحّ ذلک إذا کان الکثیر کالقلیل فرداً له، فإنّ الماء الکثیر کالقلیل فردٌ واحدٌ وإن اشتمل علی قطراتٍ متکثّرةٍ بحیث لو انفصلت صارت کلّ قطرة منها فرداً مستقلاً، بخلاف المقام فإنّ المسمّیین فصاعداً لا ینطبق علیهما المسمّی لعدم صیرورتهما فرداً واحداً.

فإن قلت: مقتضی کونه جنساً جواز صدقه علی الأفراد المتعدّدة أیضاً.

قلت: صدقه علیها إنّما یکون علی وجه البدلیّة لا الشمول.

ص: 26

فإن قلت: لو لم یکن صدقه علی الأفراد علی وجه الشمول لزم عدم جواز تثنیته وجمعه بمعناه الحقیقي.

قلت: الجنس في حدّ ذاته یقبل الصدق علی أفرادٍ متعدّدةٍ علی وجه الشمول، لکنّه بصیغة الإفراد ینصرف إلی الواحد فلا ینطبق علی المثنّی والمجموع إلّا بالصارف، کأداتي التثنیة والجمع ونحوهما.وبهذا البیان تبیّن لک أنّه لا ینطبق علی المرکّب الإضالفي والتوصیفي أیضاً، لاشتمال کلٍّ منهما علی مسمّیین.

والغرض من أیجاد معنیً في غیره إیجاد خصوصیّة من خصوصیّات الاستعمال ونحوٍ من أنحائه في لفظ غیره، اسماً کان أو فعلاً.

توضیح الحال فیه: أنّ المعنی - کما عرفت - لا ینطبق إلّا علی النسب والروابط، وهي علی أقسام ثلاثة: لفظیّة وذهنیّة خارجیّة، والصالح لأن یوجد باللفظ إنّما هي النسبة اللفظیّة التي هي وجهٌٍ من وجوه استعمال اللفظ وتابعةٌ له في الوجود، وأمّا النسبة الخارجیّة والذهنیّة فهما ثابتتان في الخارج والذهن مع قطع النظر عن اللفظ.

فالموجَد باللفظ إنّما هي المعانی المعتورة علی الألفاظ: من الفاعلیّة والمفعولیّة والإضافة والإلصاق والاستعلاء والاختصاص والظرفیّة وهکذا، لا المعاني المعتورة علی المفاهیم والمسمّیات.

وکما أنّ اللفظ منظورٌ توطئةً للإنباء عن مفهومه وإحضاره في الذهن فکذلک النسبة اللفظیّة التي هي صفةٌ من صفاته منظورةٌ توطئةً وقنطرةً للإنباء عن النسبة الذهنیّة، والنسبة الذهنیّ قد تنظر أصالةً، کما في مقام الإفتاء والأقرار والشهادة وإظهار الحیاة ونحو ذلک، وقد تنظر توطئةً وقنطرةً للإنباء عن النسبة الخارجیّة،

ص: 27

کما هو الغالب.

ولأجل أنّ معاني الحروف أبداً منظورةٌ وقنطرةً، وتترتّب علیها الإنباء عن النسب الذهنیّة والخارجیّة، ویکون المقصود أصالةً وذاتاً إمّا الخارجیّة أو الذهنیّة، اشتبه الأمر علی الأکثر ولم یهتدوا إلی حقیقة الأمر وزعموا أنّ الحروف - کالأسماء - منبئةٌ عن مفاهیم ومسمّیات.

ویوضح لک ما بیّناه غایة الإیضاح: أنّه کما لا تتمّ القضیّة الذهنیّة والخارجیّة إلّا بالنسبة الذهنیّة والخارجیّة فکذلک القضیّة اللفظیّة لا تتمّ بالنسبة اللفظیّة، فلا بدّ لها من آلةٍ وأداةٍ توجدها.

وحیث إنّ النسبة اللفظیّة کالذهنیّة والخارجیّة علی أنحاءٍ مختلفة وأقسامٍ متشتّتة فلا بدّ لها من آلاتٍ متعدّدة وأدواتٍ مختلفة تتکفّل کلٌّ منها لکلٍّ من أنحائها وأنواعها، ولذا تری أنّ الحروف الجارّة تتکفّل کلٌّ منها لنوعٍ من النسب: من الظرفیّة والاختصاص والاستعلاء، وهکذا.

ولو لا الحروف وما بمنزلتها: من الهیئة الترکیبیّة والاشتقاقیّة، لم تصلح أمر القضیّة اللفظیّة، وکانت الألفاظ کالأسماء المعدودة عاریةً عن الدلالة والإفادة.

ألا تری أنّک لو أتیت بدل کلمة «في» و «علی» و «الباء» الظرفیّة والاستعلاء والإلصاق، وقلت: «زید ظرفیّة الدار» و «زید استعلاء السطح» و «مررت إلصاق زید»ف لم یکن مفیداً ووافیاً بالمرام، بل غلطاً، فلو کانت الحروف کالأسماء مبنئةً عن مفاهیم جزئیّة أو کلّیة لزم استوائهما في الإفادة وعدمها.

فاتّضح غایة الاتّضاح: أنّ الحروف متمِّمةٌ لاستعمال الأسماء والأفعال، وأنّها تعیّن خصوصیّاته وأنحائه، فمعانیها إنّما هي محدَثةٌ في اللفظ ولا إنباء فیها

ص: 28

ابتداءً، وما یری من الإنباء فیها فإنّما هو تبعيٌّ بتبعیّة معانیها، ولا منافاة بین کون الإنباء فیها تبعیّاً وکونه مقصوداً بالإصالة، کا لا یخفی.

فالصحیح من الروایتین إنّما هو ما في العوالم ونفائس الفنون، وما في الروایة الاُخری یمکن أن یکون نقلاً بالمعنی بملاحظة الإنباء التبعي.

وإذ قد اتّضح لک ما بیّناه، فقد اتّضح لک أنّ الحدود منطبقةٌ علی المحدودات جمعاً ومنعاً، وأنّ استقلال المفهوم الذي ذکره أهل الصناعة من لوازم تعلّق التسمیة به، فإنّ ما تعلّقت التسمیي به یصلح لأن یحکم علیه وبه ویعتور علیه سائر المعاني الحرفیّة، سواء کان عیناً أم عرضاً، وجودیّاً أم عدمیّاً، ولیس الغرض من المفهوم المستقلِ إلّا ما یصلح لذلک.

کما اتّضح لک أنّ الفعل مرکّبٌ من الحدث الذي هو مفهومٌ مستقلٌّ اسمي والإسناد الحدوثي الذي هو معنیً حرفي، ولیس في مرحلة التحلیل والتفصیل أمراً وراءهما، وإنّما تقابله لهما باعتبار تحصّل العنوان الوحداني الحاصل من اجتماع الأمرین، وهي حرکةالمسمّی.

واعلم أنّ ما ذکره مهبط الوحي ومعدن التنزیل (سلام الله علی) - مع أنّها أخصر الحدود - أقربها إلی حقائق المحدودات وأوفاها وأتمّها، وسائر ما ذکره أهل الصناعة بین قاصرٍ وفاسد.

وأحسن ما ذکروه ما نقله شارح الصمدیّة عن بعضهم مقتبساً من الحدیث الشریف في وجه حصر الکلمة في الثلاثة: من أنّها تابعةٌ للمعاني، وهي ثلاثة: ذات، وحدث عن ذات، وواسطة بینهما، فکذا الکلمات، فإنّه وإن کان أتمّ من سائر ما ذکروه إلّا أنّه بسبب تغییر التعبیر عن المسمّی بالذات وعن حرکة المسمّی بحدثٍ عن ذات وعن معنیً في غیره بواسطةٍ بینهما، صار قاصراً.

ص: 29

فإنّ الذات تخصّ العین والمفهوم الاسمي أعمّ منه ومن العرض والوجود والعدم، فیکون المسمّی وافیاً به دون الذات، مع أنّه فات منه التنبیه علی کثیرٍ من الأسرار المستفادة من التعبیر ب-«المسمّی»، کما سیظهر لک في المقام الثالث إن شاء الله تعالی.

وأمّا حدث عن ذات، فناظرٌ إلی مرحلة التحلیل والتفصیل الذي لا تکون الکلمة بهذا اللحاظ مقابلاً لهما، فإنّ الفعلیّة إنّما تکون بلحاظ العنوان الوحداني البسیط المتحصّل من اجتماع الحدث والإسناد الحدوثي، وهي حرکة المسمّی.

وأمّا واسطة بینهما، فهي مدلول المعنی الحرفي؛ لما عرفت: من أنّ المعنی الحرفي إنّما هو المعنی الحادث به في لفظٍ آخر من أنحاء استعماله وکیفیّات ترکیبه، فهو الواسطة بین اللفظین لا المفهومین.

وأقبح ما قیل ما اشتهر بینهم: من تحدید الاسم ب-«ما دلّ علی معنیً في نفسه غیر مقترن بأحد الأزمنه الثلاثة» والفعل ب-«ما دلّ علی معنیً في نفسه مقترنٍ بأحدها» والحرف ب-«ما دلّ علی معنی في غیره»؛ لفساده من وجوه عدیدة:

الأوّل: جعل الدلالة جامعةً بین الأقسام مع عدم ثبوتها في الحرف؛ لما عرفت: من أنّه إنّما یوجد معنیً من المعاني المعتورة علی اللفظ ویتمّ استعماله، لا أنّه یدلّ علی شيءٍ ویکشف عنه، ومن هنا سمّي عند أهل النظر ب-«الأداة». ولا یتوهّم أنّ تسمیته بها باعتبار أنّه آلة إحضار المعنی في الذهن وأداة إخطاره، لا باعتبار أنّه آلة نفس المعنی؛ لأنّ الآلیّة للإحضار جاریةٌ في الاسم والفعل، فلو کانت التسمیة بها باعتباره لزم أن تکون الأنواع الثلاثة آلات وأدوات.

والثاني: أنّها لا تثبت في الأسماء إلّا بعد الترکیب الإسنادي أو ما بمنزلته،

ص: 30

فإنّها هي کون الشيء بحیث یلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر، والعلم في الموردین بقرینة التعدیة ب-«الباء» العلم التصدیقي لا التصوّري، مع أنّ التصوّر الذي هو قسمٌ من العلم إنّما هو العرفان، ولا یعقل حصوله من اللفظ بالنسبة إلی معناه، والتصوّر بمعنی مجرّد الخطور والحضور في الذهن التفاتٌ مجامعٌ للعلم والجهل، ولا یکون علماً.

وتوهّم أنّ العلم في مصطلح أهل النظر منقولٌ إلی الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل علماً کان أم جهلاً، والمأخوذ في حدّ الدلالة إنّما هو بحسب مصطلحهم، وَهَمٌ واضح؛ لأنّ بحثهم إنّما هو في المعرِّف والحجّة، والنقل إنّما یصحّ إذا کان بحثهم فیما هو أعمّ من المفهوم اللغوي، وأمّا إذا اختصّ بحثهم به فالنقل إلی الأعمّ نقضٌ للغرض، فالمراد من التصوّر في کلامهم إنّما هو التصوّر بکنهه أو بوجهٍ یمتاز عمّا عداه، لا مجرّد الخطور في الذهن.

ویشهد لما بیّنّاه أیضاً تقسیمهم التصوّر إلی النظري والضروري وتمثیلهم للتصوّر النظري بتصوّر الملک والجنّ؛ ضرورة أنّ النظري إنّما هو معرفة حقیقتهما لا خطورهما في الذهن، مع أنّ الحدّ لا یختصّ به أهل النظر.

وإذا ظهر لک أنّ المراد من العلم في الحدّ هو التصدیق، فقد ظهر لک أنّها لا تتحقّق في المفردات؛ ضرورة أنّ التصدیق بشيءٍ لا یوجب التصدیق بشيءٍ آخر إلّا بعد ملازمتهما في الوجود، إمّا بکون أحدهما علّةً للآخر أو باشتراکهما في العلّة، ومن المعلوم عدم تحقّق العلیّة بین اللفظ والمعنی بمجرّد الوضع ولا الاشتراک فیها، وإنّما العلیّة بین إرادة المتکلّم الباعثة علی صدور الکلام منه في مقام الإفادة والاستفادة وبینه، فیستدلّ به علیها استدلال المعلول علی علّته، ولذا ذهب المحقّقون إلی أنّ الدلالة في الألفاظ تابعةٌ للإرادة.

ص: 31

وقد غفل التفتازاني عن حقیقة الأمر واغترّ بإطلاق التصوّر علی الخطور وأنّه قسمٌ من العلم، فزعم قضاء الضرورة بخلاف ماذهبوا إلیه متعجّباً ممّا صدر منهم.

والثالث: جعل المعنی جامعاً مع أنّ المسمّی قد یکون عیناً لا معنی، ولذا قُسّ الاسم باعتبارهما إلی قسمین: اسم المعنی واسم العین.

والرابع: جعل کون المعنی في نفسه - الغرض منه استقلاله بالمفهومیّة - جامعاً بین الاسم والفعل، فإنّه بختصّ به الأوّل لما عرفت: من أنّ مفهوم الفعل مرکّبٌ من الحدث الذي هو مفهومٌ مستقلٌّ اسمي والإسناد الذي هو معنیً حرفي، فهو برزخٌ بین الأمرین وواسطةٌ بین العالمین.

وما اعتذر به عنه: من أنّ الغرض من المدلول علیه أعمّ من المطابقي والتضمّني فیتمّ الحدّ، في غیر محلّه من وجوه: الأوّل: أنّ المناسب في مقام التعریف ذکر الأجزاء العقلیّة المحمولة علی المحدود، وهي الجنس والفصل، لا الجزء الخارجي الذي لا یحمل علیه، والمعنی المستقلّ من الأجزاء الخارجیة الغیر المحمولة علی المعنی الفعلي. والثاني: أنّ المعنی ینصرف إلی المطابقي، فحمله علی غیر الظاهر ینافي مع وقوعه في الحدّ الذي یجب فیه استعمال الألفاظ الظاهرة الدلالة. والثالث: أنّه یلزم حینئذٍ صدق حدّ الحرف علیه أیضاً، لأنّه دالٌّ علی معنیً في غیره باعتبار الإسناد الذي هو معناه التضمّني.

وقد یتوهّم: أنّ الإسناد إلی الفاعل معنیً حرفي إن قلنا بوضع الهیئة للنسبة إلی فاعلٍ معیّن، لاحتیاجها حینئذٍ إلی ذکر الفعال في فهمها من الهیئة، وأمّا إن قلنا بوضعها للنسبة إلی فاعلٍ ما فهي معنیً مستقلٌّ بالمفهومیّة، لانفهام الفاعل منها إجمالاً وعدم الحاجة إلی لفظٍ آخر في فهم النسبة من الهیئة، فالمعنی المطابقي

ص: 32

حینئذٍ في الفعل کائنٌ في نفسه ومستقلٌّ بالمفهومیة.

وهو فاسدٌ جدّاً؛ لأنّ الهیئة متمِّمةٌ لاستعمال المادّة، فلا یعقل استقلالها بالمفهومیّة، ولا یرجع معنی الاستقلال إلی ما توهّمه: من عدم الحاجة إلی لفظٍ آخر في فهم المعنی، کما ستعرف إن شاء الله تعالی.

وأعجب منه ما توهّمه عصام الدین: من عدم کون النسبة إلی الفاعل جزءاً لمدلول الفعل، حتّی یکون معنیً حرفیّاً أو اسمیّاً.

قال في حاشیته علی شرح الجامي: اعلم أنّ القول بأنّ الفعل موضوعٌ للحدث والنسبة والزمان - کما أجمعوا علیه - لیس إلّا لأنّ الفعل لا یکون بدون الفاعل، فألجأهم تصحیح سرّ ذلک إلی أن جعلوا النسبة داخلةً في مفهوم الفعل. لئلّا یکون له بدٌّ من الفاعل. ولا اضطرار لمن شرح الله صدره ورزقه نصره، فنقول لک: ممّآ ألهمني ربّي أنّ الفعل موضوعٌ لحدثٍ مقیّدٍ بالزمان، والنسبة إنّ»ا جاءت من الهیئة الترکیبیّة کما في الجمل الاسمیة، إذ لا یخفی علی منصفٍ أنّه لا یناسب جعل هیئة «زید قائم» للنسبة، وجعل هیئة «ضرب زید» لغواً، ومن أمارات أنّ النسبة لیست مدلولةً للفعل أنّه یفهم الحدث والنسبة تفصیلاً، وقد اتّفقوا علی أنّ دلالة المفرد لا تکون تفصیلیّة، ولهذا لم یصحّ ترکّب القضیّة الشرطیّة من مفردین، وإنّ»ا التزم مع الفعل ذکر الفاعل لأنّ الفعل یؤدّي معنی الحدث علی وجهٍ یکون مستعدّاً لأن ینسب إلی شيءٍ، لئلّا یکون إحضاره علی هذا الوجه لغواً، انتهی.

فإنّ انفهام الإسناد من الهیئة الاشتقاقیّة الفعلیّة وعدم توقّفه علی ترکیبه مع الاسم من البدیهیّات الأوّلیّة، مع أنّ الهیئة الترکیبیّة إنّما تفید الاتّحاد لا الحدوث، وإلّا لزم صحّة قولنا: «زید ضربٌ» و «ضربٌ زید» کما یصحّ قولنا: «زید ضَرَبَ وضَرَبَ زید» مع أنّ قوام الفعل - کما عرفت - إنّما هو بالهیئة الاشتقاقیّة الدالّة علی

ص: 33

الإسناد الحدوثي، فلو فرض عدم دلالتها علیه وعدم استفادته إلّا من الهیئة الترکیبیّة لزم صیرورة الفعل اسماً وجواز وقوعه مسنداً إلیه.

وما ذکره: من وضع الفعل للحدث مستعدّاً للنسبة لا یرجع إلی محصّل.

وأمّا ما ذکره: من لزوم کون هیئة «ضرب زید» لغواً، وهو غیر مناسب، وَهَمٌ بارد؛ لأنّ الهیئة الترکیبیّي إنّما تفید التفسیر أو التأکید، ولا تکون لغواً.

وأمّا ما جعله من أمارات ما توهّمه فهو من أمارات اشتقاق الفعل واستقلال کلٍّ من مادّته وهیئته في الووضع والدلالة - کما نبّهوا علیه وبیّناه في محلّه - والقضیّة الشرطیّة کما یصحّ ترکیبها من الجملتین یصحّ ترکیبها من الفعلین وهما مفردان.

وبالجملة: سخافة ما توهّمه لا تخفی علی من له أدنی مسکة. والعجب کلّ العجب ابتهاجه بوهمه السخیف وعدّه من الملهمات.والخامس: أنّ أخذ قید «في نفسه» کنایةً عن استقلال المعنی، في غیر محلّه؛ لأنّ الضمیر المجرور إن کان راجعاً إلیه واُرید من «کونه في نفسه» الکون الخارجي، أي تقوّمه بنفسه في الخارج ینحصر في العین والجوهر، فلا ینطبق علی العرض والحدث لعدم تقوّمه بنفسه.

وإن اُرید منه الکون الذهني، أي تصوّره في الذهن قصداً وبالذات لا باعتبار أمرٍ خارج عنه - کما صرّحوا به - ففیه: أنّ متعلّق القصد والعنایة ذاتاً إنّما هي النسب والروابط، وأطرافها لا تکون طرفاً للصد ومتعلّقاً له إلّا بتبعها، ولذا اختصّ المعنی الذي هو محلّ القصد في کلام مهبط الوحي (علیه السلام) بالحرف الذي لا یکون مفاده إلّا أنحاء النسب، ولا منافاة بین کونها مقصودةً بالأصالة في مرحلة الإفادة والاستفادة وکونها متقوّمةً بوجود أطرافها تابعةً لها في الوجود خارجاً وذهناً، فالأطراف تابعةٌٍ للنسب في مرحلي آلقصد وإن کانت أصلاً لها في مرحلة

ص: 34

الوجود.

فاتّضح أنّ کون المعنی في نفسه بهذا المعنی من لوازم المعنی الحرفي الذي لا یستقلّ بالمفهومیّة.

ثمّ إنّآ لو أغمضنا وسلّمنا أنّ المعاني الاسمیّة تدرک قصداً وبالذات لقلنا بأنّها کما تدرک کذلک تدرک تبعاً وتوطئةً للغیر، کالکنایات، فإنّ معانیها الحقیقیة ملحوظةٌ توطئةً لملزوماتها أو لوازمها، وکسور القضیة نحو «کلّ رجل» فإنّ مفهومه ملحوظٌ أبداً توطئةً لملاحظة أفراد المضاف إلیه وآلةً لتعرّفها وملاحظتها.

علی أنّ القصد الذاتي إن کان قیداً فیما وضع له لزم خطوره عند ذکر اللفظ، مع أنّه من الواضح عدمالخطور من اللفظ إلّا نفس المعنی، وإن لم یکن قیداً فیما وضع له وإنّما جعل شرطاً في استعماله کذلک من قِبَل الواضع - علی ما یفهم من کلام بعضهم - فأوضح فساداً، ضرورة عدم تأثیر الاشتراط مع إطلاق الموضوع له.

وإن کان الضمیر المجرور راجعاً إلی الموصول واُرید من «کون المعنی في نفس ما دلّ» عدم الحاجة في استفادته منه إلی ضمّ ضمیمةٍ باعتبار عموم الوضع والموضوع له، ومن «کونه في غیر ما دلّ» احتیاجه إلیه في استفادته منه باعتبار وضعه لکلّ فردٍ من أفراد الکلّي المتصوّرة إجمالاً بتصوّر الکلّي من حیث إنّها حالاتٌ لمتعلّقاتها وآلاتٌ لتعرّف أحوالها، فلا یستفاد منه معناه الجزئي الخاصّ إلّا بذکر متعلّقه.

ففیه: أوّلاً: أنّ الحروف لا تکون موضوعةً بإزاء شيءٍ حتّی یکون الموضوع له فیها عامّاً أو خاصّاً، وإنّما هي آلاتٌ وأدواتٌ، والموضوع له بالوضع الآلي لا یتصوّر فیه الجزئیّة، ضرورة أنّ الجزئي لا یکون إلا موجوداً، فلا یقبل

ص: 35

الإیجاد بالآلة، وإنّما الذي یقبل الإیجاد هو الکلّي، والتشخّص إنّما یعرض علیه بحدوثه بالآلة.

وثانیاً: أنّ عموم الموضوع له لا یلازم لحاظه قصداً وبالذات، کما لا یلازم خصوصه لحاظه آلةً وتوطئةً لغیره، بل یمکن لحاظ کلٍّ من المعنیین علی کلٍّ من الوجهین، فما في شرح الجامي: من رجوع کلا المعنیین إلی أمرٍ واحد، في غر محلّه.

وثالثاً: دنّ الابتداء الخاصّ الذي هو حالةٌ بین السیر والبصیرة مثلاً لا یمکن لحاظه آلةً وتوطئةً لتعرّف حالهما - کما توهّموه - لأنّ حالة السیر والبصیرة إنّما هو الابتداء لا غیر، فجعله آلةً لها یرجع إلی جعله آلةً لنفسه.

والذي أوقعهم فیما وقعوا فیه أنّه لمّا تحقّق عندهم من الروایي الشریفة أنّ المعنی الحرفي معنیً في غیره، ولم یحقّقوه ولم یتفطّنوا بأنّه موجِدٌ في لفظٍ آخر، اضطربت کلماتهم في تفسیره، ففسّروه تارةً: بأنّه ثابتٌ في غیر لفظه باعتبار حاجته إلی ضمّ ضمیمةٍ في استفادته منه، واُخری: بأنّه ثابتٌ في مفهومٍ آخر باعبترا أنّه ملحوظٌ توطئةً له، وتعدّوا من الحرف إلی الاسم والفعل، فزادوا بمقتضی المقابلة بینها قید «في نفسه» في حدّهما، وفسّروه بما فسّروه، ولم یشعروا بأنّ مقتضی المقابلة عدم کونه في غیره، لا کونه في نفسه، وکم من فرقٍ بینهما؟

فاتّضح لک بما بیّناه أنّ مرجع استقلال المعنی بالمفهومیّة الموجب لجواز الحکم علیه وبه إلی کونه طرفاً للتمسیة سواء کان ملحوظاً قصداً وذاتاً أو توطئةً لغیره، ووجه عدم حاجته إلی ضمّ ضمیمةٍ عدم کونه وجهاً من وجوه استعمال لفظٍ آخر، کما أنّ مرجع عدم استقلاله بالمفهومیّة الموجب لعدم جواز الحکم علیه وبه

ص: 36

إلی کونه من سنخ الحکم الثابت بین المحکوم علیه وبه المتقوّم بهماتقوّم الصورة بالمادّة، فلا یعقل وقوعه طرفاً للحکم، ووجه حاجته إلی ضمّ ضمیمةٍ کونه وجهاً من وجه استعمالها، لا عدم استفادته من لفظه «إلّا» بتوسّط معناها.

ولم أرَ من أهل الفنّ من تنبّه لما نبّه علیه مهبط الوحي ومعدن التنزیل - سلام الله علیه - في حقیقة المعنی الحرفي، سوی نجم الأئمّة الرضي (قدس سره) حیث قال في طیّ کلامه: فالحرف موجدٌ لمعناه في لفظ غیره، إمّا مقدّماً علیه کما في «بصري» أو مؤخّراً عنه کما في «الرجل».

وقال أیضاً: فالحرف وحده لا معنی له أصلاً، إذ هو کالعلم المنصوب بجنب شيءٍ لیدلّ علی أنّ في ذلک الشيء فائدةٌ ما.

ومع ذلک لم یحط به تمام الأحاطة، کما لا یخفی علی من لاحظ أطراف کلماته.

والسادس: جعل الاقتران بأحد الأزمنة مائزاً للفعل وعدمه مائزاً للاسم، مع أنّ الفعل لم یقترن به وضعاً حتّی التزاماً، بل لو فرض اقترانه به تضمّناً لا یصلح أن یکون مائزاً.

تحریر الکلام فیه یتوقّف علی نقل شطرٍ من کلماتهم، وبیان ما فیها، فأقول بعون الله تعالی ومشیّته:

قال في شرح الجامي: اعلم أنّ الفعل مشتملٌ علی ثلاثة معان، أحدها: الحدث الذي هو معنی المصدر، وثانیها: الزمان، وثالثها: النسبة إلی فاعل مّا، ولا شکّ أنّ النسبة إلی فاعلٍ ما معنی حرفي.

وفي حاشیته لعصام الدین: هذا هو المشهور فیما بین القوم، والتحقیق أنّه مشتمل علی أربعة معان، رابعها: تقیید الحدث أو النسبة بالزمان، وهو أیضاً معنی

ص: 37

حرفي غیر مستقل.

وفي حاشیته للسیّد الجزائري (قدس سره) : اعلم أنّ المتأخّرین قد أطبقوا علی أنّ الفعل یدلّ علی الحدث والزمان ونسبة الحدث إلی فاعل مّا، وهو معنیً حرفي یحتاج إلی طرفین، إلی أن قال: وکلام المتقدّمین في عدّ الزمان من أجزاء معنی الفعل مضطرب: فمنهم من وافق المتأخّرین، ومنهم من ذهب إلی أنّ دلالته علیه بطریق الالتزام، ولهم دلائل حرّرناها في کتابنا الموسوم ب-«مفتاح اللبیب» ونذکر هنا بعضها:

أوّلها: أنّ الزمان رفٌ لعتلّق الفعل بالفاعل، ومعلومٌ أنّ الظرف لا یکون جزءاً من المظروف.

ثانیها: أنّهم متّفقون علی أنّ اقتران مثل اسم الفاعل واسم المفعول بالزمان کاقتران الفعل به، غیر أنّ زمان الفعل معیّن، ویقولون: إنّ الزمان لیس جزءاً لمعنی اسم الفاعل فکذلک في الفعل.

ثالثها: أنّه لو کان الزمان جزءاً للفعل لم یمکن تحقّق الفعل بدونه، وقد تحقّق في جمیع الإنشاءات.

رابعها: لو کان الزمان الماضي جزءاً للماضي، وکذا في المستقبل، لما أمکن اختلافه بعارض، وقد یختلف کما في قول: «إن قمت» و «لم تضرب» فلا یکون جزءاً، لأنّ ما بالذات لا یختلف بالعارض.

ونحن حیث اخترنا مذهب المتأخّرین لا بدّ لنا من الجواب عن هذه الدلائل:

فالجواب عن الأوّل: أنّه مغالطةٌ من باب اشتباه الفعل اللغوي بالفعل الاصطلاحي، فإنّ الزمان ظرفٌ لتعلّق الفعل اللغوي أعني الحدث بالفاعل، وهو

ص: 38

لیس بجزئه لیلزم المحذور، بل جزء الفعل الاصطلاحي.

وعن الثاني: بالفرق بین الاقترانین، فإنّ اقتران الفعل به باعتبار أنّه جزء معناه واقتران اسم الفاعل به باعتبار تحقّقه، لأنّ کلّ فعل من «ضَرَبَ» وغیره، فلا بدّ له من زمانٍ، ولم یفهم من لفظ «ضارب» إلّا ذاتٌ متّصفة بالضرب من غیر اعتبار زمانٍ مطلقٍ أو مقیّد، ولذا عرّفوا اسم الفاعل ب-«ما اشتقّ من فعلٍ لمن قام به بمعنی الحدوث» من غیر زیادة زمانٍ مطلق.

وعن الثالث - بعد تسلیم عدم دلالتها علی زمان الحال - بجواز أن یجرّد الشيء عن جزئه، فیصیر مدلوله الجزئ الآخر، کما جرّدوا الوضع عن المعنی.

وعن الرابع: أنّ الزمان الماضي مثلاً جزءٌ للفعل الماضي صورةً ومعنیً، و «قمت» في المثال وإن کان ماضیاً صورةً إلّا أنّه مستقبلٌ حقیقةً لمکان «إن»، الشرطیة، وعلیه فقس المضارع، انتهی.وإذا وقفت علی کلماتهم فاعلم أنّ هناک أمرین: أحدهما: کون الزمان جزءاً لمعنی الفعل، والثاني: کونه مقوّماً وممیّزاً له عن الاسم، والمقوّم لابدّ أن یکون جزءاً، والجزء أعمّ منه، ولکنّهما متلازمان في المقام، لأنّ القائلین بکونه جزءاً له قائلون بکونه مقوّماً له، لأنّهم جعلوه جزءاً لمفهوم الفعل وممیّزاً له عن الاسم، فمرجع النزاع في کونه جزءاً إلی کونه فصلاً، فمن أثبت الجزئیّة أثبت الفصلیّة، ومن نفاها نفاها.

فمعنی قول النافي أنّه لو کان الزمان جزءاً للفعل لم یمکن تحقّقه بدونه، وقد تحقّق في جمیع الإنشاءات أنّ الزمان لو کان جزءاً لکان فصلاً، ولو کان فصلاً لم یمکن تحقّق الفعل بدونه، لعدم تحقّق النوع إلّا بفصله، وقد تحقّق في جمیع الإنشاءات ضرورة بقائها علی الفعلیّة وعدم صیرورتها أسماءً حینئذٍ، فتحقّقه

ص: 39

بدونه ینبئ عن عدم کونه فصلاً وجزءاً.

فالاعتراض علیه بجواز تجرّد الشيء عن جزء مدلوله غیر متوجّهٍ إلیه؛ لأنّه لم یدّع عدم جواز استعمال اللفظ في جزء مدلوله، وإنّما ادّعي عدم تحقّق النوع بدون فصله المقوّم له، وجواز استعمال اللفظ في جزء مدلوله في الجملة لا یخفی علی ذي مسکة، فإنّ استعماله في غیر معناه الحقیقي - جزءاً أم لا - تابعٌ للعلاقة المصحّحة له، وهي المشابهة في أظهر الخواصّ مطلقةً أو مقیّدةً، علی ما اخترناه من انحصارها في الاستعارة - کما سیظهر لک تفصیله في المقام الثالث إن شاء الله تعالی - فإن وجدت صحّ وإلّا فلا.

ثمّ إنّه لا مشابهة بین مدلول الفعل وجزئه في المقام، فلا یصحّ استعماله فیه وتجریده عن الجزء الآخر، وتمثیله بتجرید الوضع عن المعنی باطلٌ أیضاً؛ لما بیّناه في شرح أساس النحو: من أنّ توهّم دخول المعنی في مفهم الوضع من أقبح الأغلاط، مع أنّ الزمان علی فرض کونه جزءاً لمدلول الفعل فإنّما هو مدلولٌ لهیئته، وهي من لواحق الحروف لا یتطرّق فیها التجوّز.

وبما بیّناه ظهر معنی الدلیل الرابع، وهو: أنّ الزمان الماضي لو کان فصلاً مقوّماً للماضي والمستقبل للمضارع لما أمکن اختلافه بعارض، ضروررة أنّ العارض علی الشيء خارجٌ عنه لاحقٌ له، فلا یعقل أن تتغیّر حقیقة النوع بالعارض الخارج عنه، وهذا معنی قوله: «لأنّ ما بالذات لا یختلف بالعارض» مع أنّ العارض علی حقیقةٍ لو أوجب تبدّلها لزم عدم عروضه علیها، وهو خلفٌ للفرض.

ولقد أغرب في الجواب حیث قال: بأنّ الزمان الماضي جزءٌ للماضي صورةً ومعنی، و«قمت» في المثال وإن کان ماضیاً صورةً إلّآ أنّه مستقبلٌ حقیقةً

ص: 40

لمکان «إن» الشرطیّة؛ فإنّه اعترافٌ بورود الإشکال واختلاف الذاتي بالعارض؛ لأنّ «قمت» قبل دخول «إن» علیه ماضٍ صورةً ومعنیً، فانقلابه إلی المستقبل حقیقةً بعد دخول کلمة الشرط اعترافٌ بالإشکال.

ویقرب منه في الغرابة ما أجاب به عن الدلیل الثاني من الفرق بین الاقترانین؛ فإنّ الوجه في الجواب منع الاتّفاق أو حجّیته، ویمکن إرجاعه إلی الأوّل بقرینة ذیله.

وأمّا الجواب عن الدلیل الأوّل بأنّه مغالطة، فیمکن منعها؛ إذ مدّعاه أنّ الزمان ظرفٌ لتعلّق الحرکة بالمسمّی التي هي مدلول الفعل الاصطلاحي، ولا دلیل یدلّ علی خلافه، بل التحقیق أنّه کذلک لأنّ الظرف إنّما یکون ظرفاً للحدث بعد صیرورته حرکةً للفاعل بإسناده إلیه، هذا.

ویدلّ أیضاً علی فساد ما توهّمه المتأخّرون وجوهٌ اُخر:

الأوّل: أنّه لو کان الزمان مدلولاً للفعل لکان مدلولاً لهیئته، ضرورة عدم دلالة المادّة إلّا علی الحدث الصرف، والزمان معنیً مستقلٌّ اسمي کما هو ظاهر، والهیئة من لواحق الحروف ولا تبیّن إلّا نحو استعمال المادّة، فلا یعقل دلالتها علیه.

الثاني: أنّه لو کان الزمان مدلولاً لهیئته لزم دلالتها علی أمرین متباینین - بالنسبة إلی فاعلٍ ما والمزان - في إطلاقٍ واحد، و هو غیر معقول.

الثالث: أنّ النسبة إلی فاعلٍ ما معنیً حرفي، والزمان مفهومٌ مستقلٌّ اسمي، ودلالي الهئیة علیهما مستلزمٌ لصیرورتها اسماً وحرفاً في حالٍ واحد.

الرابع: أنّه لو کان الزمان مدلولاً للفعل لزم أن یکون معنی «ضرب» حدث الضرب من الفاعل زمان، من دون التباط، لانحصار مدلول الفعل علی المشهور

ص: 41

في ثلاثة: الحدث والنسبة إلی فاعلٍ ما والزمان، وهو مضحک. وإن قیل بدلالة الهیئة علی معنیً رابع،وهو تقیّد الحدث أو النسبة بالزمان - کما ذکره بعضهم - لزم دلالة الهیئة في إطلاقٍ واحد علی ثلاثة معانٍ متباینة: النسبة إلی فاعلٍ ما والزمان والنسبة إلیه.

الخامس: أنّ النسبة إلی الزمان ناقصةٌ تقییدیّةٌ تابعةٌ لإسناد الحدث إلی الزمان، فلا عیقل أن یخرج بها المادّة عن الاسمیّة، کما لم یخرج «مضرب» ونحوه بدلالة هیئته علی النسبة الناقصة إلی الزمان أو المکان عن الاسمیّة.

السادس: أنّ المقترن بأحد الأزمنة الثلاثة إنّما یغایر غیر المقترن به في کونه کلّاً والآخر جزءاً، فلا یعقل أن یکون أحدهما نوعاً في عرض الآخر، لاستحالة صثرورة النوع کلاً أو جزءاً للنوع المقابل له.

السابع: أنّ هیئة الفعل لو دلّت علی الزمان لأفادته أبداً، ولم یجز تجریدها عنه؛ لأنّ الحروف وما بمنزلتها من الهیئة الاشتقاقیّة أو الترکیبیّة إنّما هي آلاتٌ وأدواتٌ توجد معاني في الغیر، فلا استعمال لها في المعاني کاستعمال الأسماء في »عانیها، فلا یتطرّق التجوّز فیها، واللازم باطلٌ، بتجرّأه عنه في کثیرٍ من الموارد، مثل: «مضی الزمان» و «خلق الله الزمان» ونحوهما، لاستحالة وقوع الحدث المسند إلی الزمان في الزمان، کما هو ظاهر.

الثامن: أنّه لو جوّزنا التجوّز فیها وقلنا: بأنّها مستعملةٌ في المعنی کاستعمال الأسماء، لم یجز استعمالها في المجرّد عنه بناءً علی وضعها له، فعدم العلاقة المصحّحة للاستعمال، ومجرّأ الکلّ والجزء لا یکون علاقةً مصحّحة.

وقد اتّضح بما بیّناه فساد کون الزمان مدلولاً للفعل وإن لم یکن فصلاً له.

وقد تنبّه بعضهم لبعض الإشکالات، وهو: أنّ «کاد» وأخواتها أفعالٌ مع

ص: 42

عدم اقترانها بالزمان، و «صه» و «مه» و «هیهات» وأخواتها أسماء أفعالٍ مع اقترانها به.

فأجاب: بأنّ المراد الاقتران بحسب الوضع الأوّل، ف-«کاد» وأخواتها داخلةٌ في حدّ الفعل لاقتران معناه بأحد الأزمنة بحسب الوضع الأوّل، وأسماء الأفعال خارجةٌ عنه لأنّ جمیعها إمّا منقولةٌ عن المصادر الأصلیّة - سواء کان النقل فیه صریحاً نحو «روید» فإنّه قد یستعمل مصدراً أیضاً، أو غیر صریحٍ نحو «هیهات» فإنّه وإن لم یتسعمل مصدراً إلّا أنّه علی وزن «قوقاة» مصدر «قوقا» - أو عن المصادر التي کانت في الأصل أصواتاً نحو «صه» أو عن الظرف أو الجارّ والمجرور نحو «أمامک زیداً» و «علیک زیداً» فلیس لشيءٍ منها الدلالة علی أحد الأزمنة الثلاثة بحسب الوضع الأوّل، انتهی.

وهو في غایة الغرابة؛ ضرورة أنّ الاسمیّة والفعلیّة والحرفیّة تابعةٌ للمعاني، فاللفظ الدالّ علی المفهوم الاسمي اسمٌ، سواء کانت الدلالة بالوضع الأوّلي أو لزم أن یکون «شمّر» علماً لفرس و «ضَرَبَ» موضوعاً للضرب فعلاً، مع أنّه لا دلیل علی اقتران «کاد» وأخواتها بأحد الأزمنة بحسب الوضع الأوّل، وعدم اقتران «هیهات» به کذلک.

وأغرب من الجمیع تقسیمه النقل إلی الصریح وغیر الصریح، وجعل «هیهات» منقولاً من المصدر لکونه علی وزن «قوقاة» وهو مصدر «قوقا».

ثمّ إنّ القول بفعلیّة الکلمة أو اسمیّتها باعتبار وضعین غلطٌ عجیب؛ فإنّ النوع الواحد المرکّب من الجنس والفصل لا یحصل إلّا بعد حصول الترکّب بینهما، وهو لا یحصل إلّا بوضعٍ واحد، کما هو ظاهر.

ص: 43

وقد تنبّه الفاضل عصام الدین للوجه الأخیر في الجملة، حیث قال: ولا یخفی أنّ اسمیّة أسماء الأفعال اعتبرت باعتبار وضعه الحالي للمعنی وعدم اقترانه باعتبار الوضع الأصلي، وذلک بعیدٌ عن الاعتبار؛ إذ اللائق أن یکون مدار الاسمیّة علی وضعٍ واحد، ولا یکون وضع لغواً ومعتبراً لاعتبار شيء، وفي أسماء الأفعال مثل «دونک» وضعه الأوّل - وهو الوضع الظرفي - لغوٌ في اعتبار اسمیّتها وإلّا لم یکن کلمةً، ومعتبرٌ فیها لأنّ عدم الاقتران إنّما یتحقّق به، ووضعه الثاني معتبرٌ لأنّه باعتباره یکون کلمةً، ولغوٌ لأنّه باعتباره لا یکون غیر مقترن، انتهی.

أقول: اللائق الحکم باستحالته لا ببعده عن الاعتبار، ولیت شعري أيّ داعٍ دعاهم إلی الالتزام بدوران الفعل مدار الاقتران بالزمان، حتّی یحتاجوا إلی نسج هذه المزخرفات التي لا ینبغي التفوّه بها من جاهلٍ فضلاً عن فاضل، مع تصریح مهبط الوحي(علیه السلام) بخلافه، وأنّه بمرئی ومشهدٍ منهم أنّ آثار الفعل من عدم قبول الإسناد إلیه وسائر آثار الاسم، إنّما تدور مدار الإسناد الحدوثي وجوداً وعدماً.

فاتّضح غایة الاتضاح أنّ الحدّ المنطبق علی حقیقة الفعل تمام الانطباق إنّما هو ما بیّنه الإمام (علیه السلام) ، ویقرب منه ما اقتبسه بعضهم من الحدیث الشریف، فقال: إنّ مفهوم الفعل هو حدث عن ذات.

ص: 44

المقام الثالث: في بیان الاُمور المستفادة من الروایة

اشارة

وإذا اتّضح لک الأمر في المقامین حان أوان الشروع في المقام الثالث، فاعلم أنّ في المقام الثالث مقامات ثلاثة:

المبحث الأوّل: في بیان الاُمور المستفادة من حدّ الاسم

فأقول - بعون الله تعالی ومشیّته -: إنّه یستفاد منه اُمورٌ شریفة ومطالب نفیسة:

أحدها: أنّ استقلال المعنی بالمفهومیّة الراجع إلی وقوعه طرفاً للتسمیة ومتعلّقاً لها فصلٌ مقوّمٌ لحقیقة الاسم، لأنّ مقتضی تحدیده ب-«ما أنبأ عن المسمّی» تحقّق حقیقته بتحقّق الإنباء عن المسمّی وعدم توقّفه علی أمرٍ آخر، فما اشتهر بینهم: من جعل المفهوم المستقلّ جامعاً بین الاسم والفعل وعدم الاقتران بأحد الأزمنة مائزاً وفصلاً مقوّماً له - حتّی إذا اقترن به استشکلوه واعتذروا عنه بجعله غیر مقترن به بحسب الوضع الأوّل - في غایة البشاعة، مع أنّ العدم لا یصلح أن

ص: 45

یکون مقوّماً ولو کان مضافاً، وما قیل: من أنّ العدم المضاف له حظٌّ من الوجود، في غایة السخافة.

ثانیها: أنّ الأصل في الأسماء الأسماء الجامدة، والمشتقّات لا تکون أصلیةً في الاسمیّة، بل هي برازخ بین الأسماء الجامدة التي هي أسماءٌ خالصةٌ صریحةٌ والأفعال.

توضیح الحال فیه: أنّ التسمیة قائميٌ بالاسم الجامد تحقیقاً، إذ لیس له إلّا وضعٌ واحد؛ فإنّ مادّته موضوعةٌ لمفهومٍ مستقل، وهیئته إنّما تکون وقایةً لحفظ مادّته، فمفهومه أمرٌ واحدٌ ولا تنحلّ إلی أمرین - مفهوم مستقل وغیر مستقل - فانطباق وصف المسمّی علیه تحقیقيٌّ أوّلي، کما أنّ انطباق عنوان الاسم علی اللفظ المنبِئ عنه کذلک.

وأمّا المشتقّ فمادّته تدلّ علی الحدث الصرف الذي هو مفهومٌ مستقل ویکون طرفاً للتسمیة تحقیقاً، وأمّا هیئته فتدلّ علی النسبة الناقصي التي هي معنیً حرفي ولا تکون طرفاً للتسمیة، وأمّا هیئته فتدلّ علی النسبة الناقصة التي هي معنیً حرفي ولا تکون طرفاً للتمسیة، وإنّما ینطبق علی المجموع عنوان المسمّی باعتبار أنّ] یتولّد منهما عنوانٌ بسیطٌ منطبقٌ علی الذات، فانطباقه علیهما تبعيٌّ ثانوي، کما أنّ انطباق عنوان الاسم علی نفس المشتقّ کذلک.

وهکذا الأمر في المصدر المعروف المشتمل علی مادّةٍ منبئةٍ عن الحدث وهیئةٍ محدثةٍ للنسبة الناقصة المتولّد منهما عنوانٌ بسیط منطبقٌ علی فعل الفاعل وعمله، فمفهومه مسمّی تبعاً وثانیاً، کما أنّ لفظه اسم کذلک.

ثالثها: وبما بیّناه ظهر أمرٌ ثالث وهو أنّ المصدر المعروف کالصفات من المشتقّات، ولا یکون مبدءً لسائر المشتقّات، بل لا یکون في عرض سائر المشتقّات في مرحلة الاشتقاق المعنوي، ویکون متأخّراً عن الفعل الماضي في

ص: 46

هذه المرحلة ومشتقّاً عنه؛ لأنّ الحدث والنسبة أمران متباینان ذاتاً، أحدهما مفهومٌ اسمي والآخر معنی حرفي، فلا ینطبق علیهما عنوان المسمّی في حدّ ذاتهما، وإنّما اجتماعهما بحلاظهما الذاتي الأوّلي یوجب انتزاع عنوان «حرکة المسمّی» و «حدث عن ذات» الذي هو مفهوم الفعل، وانتزاع عنوانٍ وحدانيٍّ منطبقٍ علی العمل موجبٍ لتعلّق التسمیة به إنّما یکون باللحاظ التقییدي العرضي التبعي المتأخّر عن اللحاظ الذاتي الأصلي، فاللفظ المنبِئ عن اللحاظ الثاني مشتقٌّ بالاشتقاق المعنوي عن اللفظ المنبِئ عن اللحاظ الأوّلي.

وإن شئت زیادة توضیح، فاعلم أنّ الأصل في النسبة أن تکون تامّةً لا ناقضة؛ لأنّهما في حدّ ذاتهما واحدة، وإنّما اختلافهما بلحاظ المتکلّم. والمنشأ لانتزاع التمام ملاحظة المتکلّم النسبة أصالةً في حدّ نفسها متعلّقاً غرضه بإفادتها من دون أن تعجل قیداًلأحد طرفیها، کما أنّ المنشأ لانتزاع النقص ملاحظته إیّاها قیداً لأحد طرفیها متعلّقاً غرضه بإفادة نسبةٍ اُخری، ومن المعلوم أنّ اللحاظ التقییدي لحاظٌ ثانويٌّ مترتّبٌ علی اللحاظ الأصلي الأوّلي، والمتکلّم إنّما یتعلّق غرضه بإفادة النسبة أصالةً عند جهل املخاطب بها في اعتقاده، کما أنّه إنّما یلاحظها قیداً لأحد طرفیها متعلّقاً غرضه بإفادة نسبةٍ اُخری عند علم المخاطب بها في اعتقاده، فباللحاظ الأوّل یخبر عن النسبة ویلقي قضیّةً خبریّةً إلی المخاطب، فیقول: «زید قائم» مثلاً، وباللحاظ الثاني یجعل النسبة توصیفیّةً تقییدیّةً مقدّمةً لإفادة نسبةٍ اُخری، فیقول: «زید القائم جائني» ولذا اشتهر بین أهل المعاني أنّ الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف.

فاتّضح غایي الاتّضاح: أنّ المصدر المعروف المشتمل علی النسبة الناقصة التقییدیّة مشتقّةٌ من فعل الماضي المنبئ عن الحدث المسند بالإسناد التام، ولذا

ص: 47

تری أنّ المتکلّم إذا اعتقد جهل المخاطب بثدور الضرب عن زید یخبر عنه ویأتي بهیئة الفعل ویقول: «ضرب زید» وإذا اعتقد علم المخاطب به یأتي بهیئة المصدر مضافاً إلی فاعله ویجعله مقدّمةً لإفادة نسبةٍ اُخری ویقول: «ضرب زید تأدیبٌ، أو ظلمٌ أو خفیف» وهکذا.

فما أفاده الکوفیّون: من اشتقاق المصدر عن الفعل، في غایة المتانة.

وأمّا ما اشتهر بین البصریّین: من اشتقاق المشتقّات کلّاً عن المصدر، فیمکن أن یکون المراد منه المادّة الساذجة المنبئة عن الحدث الصرف الساریة في جمیع المشتقّات لفظاً ومعنیً، لا المادّة المتهیّئة الدالّة علی الحدث والنسبة، ومن الاشتقاق الاشتقاق اللفظي، فیرتفع النزاع حینئذٍ من البین، ویصیر النزاع لفظیّاً.

رابعها: أنّ استعمال الاسم في المسمّی به حقیقةٌ ولا یکون مجازاً.

تحریره: أنّک قد عرفت في المقام الثاني أنّ الوصف المأخوذ في حدّ الاسم إنّما یکون عنواناً وواسطةً في عروض الإنباء علی ذات المسمّی، فالاإنباء أبداً إنّما هو عن وصف المسمّی، وذات المسمّی إنّما ینبئ عنه بتبعه من حیث إنّه مندرجٌٍ تحته، غایة الأمر أنّه قد ینظر توطئةً لإرائة ذات المسمّی بعینه - کما هو الغالب في الاستعمالات - وقد ینظر بعمومه من دون أن یکون النظر إلی معنونٍ بعینه، فالمستعمل فیه واحدٌ في جمیع المقامات، والاختلاف إنّما هو في المنظور بالنظر الأصیل لا في المستعمل فیه، ومن المعلوم أنّ الاختلاف في النظر مع اتّحاد المستعمل فیه لا یوجب التجوّز.

فإن قلت: الاستعمال - کما عرّفه القوم - عبارةً عن ذکر اللفظ وإرادة المعنی، وإنّا نجد من أنفسنا أنّا قد نرید من اللفظ معنیً بعینه من دون أن یخطر ببالنا اندارجه تحت عموم المسمّی فضلاً عن إرادته منه، فکیف تحکم بأنّه

ص: 48

لا یستعمل أبداً إلّا في مفهوم المسمّی؟

قلت: قد سبق منّا أنّ المنظور بالنظر التبعي التوطّئي یندکّ في جنب المنظور بالنظر الأصیل حتّی یخفی علی الناظر، ألا تری أنّ الناظر إلی وجهه في المرآة یزعم أنّه یری عکس وجهه ابتداءً في المرآة، مع أنّه ابتداءً إنّما یراها، وبتوسّطها یری عکس وجهه، وهکذا الناظر إلی الأجسام في النور یری أنّه یبصر الأجسام ابتداءً، مع أنّ] ابتداءً لا یری إلّا النور، وبتوسّطه یبصر الأجسام، وهکذا الأمر في المقام لما عرفت من أنّ الإنباء معلولٌ عن التمسیة، فیستحیل تخلّفه عنها، مع أنّ الانتقال إلی المعنی إنّما هو بعد تذکّر الوضع ولاتسمیة، ضرورة أنّ الغافل عنها لا ینتقل منه إلی معنیً أبداً، فکیف تدّعي أنّ المتکلّم یستعمله في نفس المعنی مع قطع النظر عن کونه طرفاً لتسمیة اللفظ مندرجاً تحت وصف المسمّی به؟

خامسها: أنّ أکثر الکلمات التي سمّوها أسماء الأفعال لیست بأسماء، لعدم انطباق الحدّ علیها؛ لأنّا إن قلنا بوضعها لألفاظ الأفعال - کما نسب إلی أکثر البصریّین - لزم أن تکون کلفظ الفعل منبئةً عن اللفظ فقط وصالحةً للإسناد إلیها، وأن لا یکون بینها و بینه فرقٌ إلّا في أنّ مفادها ألفاظٌ مخصوصة من «اسکت» و «اکفف» و «بعد» ونحوها، وأنّ مفاده مطلق الکلمة المنبئة عن حرکة المسمّی، مع أنّه لا یستفاد من الکلمات المزبورة إلّا معاني الأفعال، کما هو ظاهر.

وتوهّم أنّ هناک دلالتین وإرادتین: دلالة الکلمات علی ألفاظ الأفعال ودلالة الألفاظ بالمدلول علیها علی معانیها، في غیر محلّه؛لأنّ تعدّد الدلالة والإرادة في المقام فرع تعدّد الاستعمال، ضرورة أنّ إرادة معاني الأفعال من ألفاظها لا یکون إلّا باستعمالها فیها، ومن المعلوم أنّ اللفظ المدلول علیه لا یتصوّر فیه الاستعمال لأنّه فرع ذکره وإیجاده في الخارج.

ص: 49

وإن قیل بوضعها لمعاني الأفعال لزم کونها أفعالاً لا أسماء؛ لأنّ الفعلیّة والاسمیّة إنّما تعرضان علی الکلمات باعتبار معانیها، ومجرّد کونها علی غیر صیغ الأفعال لا یوجب عدّها أسماءً.

والتحقیق: أنّ ما کان منقولاً عندهم من المصدر ک-«روید» أو عن الظرف ک-«دونک» و «مکانک» و «أمامک» أو عن الجار والمجرور ک-«علیک» و «إلیک» باقٍ علی معناه الأصلي.

أمّا ما کان مصدراً فإنّما استعمل في »ورد البعث علیه، وکثر استعماله کذلک حتّی استفید الأمر من الاستعمال عند الإطلاق، فتوهّم أنّه نقل عن معناه الأصلی، ولم ینقطّنوا أنّ المعنی الفعلي مرکّبٌ من المعنی المستقلّ الاسمي ولامعنی الحرفي الذي لا یستفاد إلّا من الهیئة الاشتقاقیّة أو الترکیبیّة أو خصوصیّة الاستعمال، والوضع الطاري لوحدته لا یعقل وفاؤه بالمعنیین معاً.

وأمّا ما کان ظرفاً أو جارّاً ومجروراً فإنّما استفید منه معنی فعلٍ یناسبه، وکثر استعماله کذلک حتّی ضمن معناه فعمل عمله، فتُوهّم أنّه منقولٌ عن معناه الأصلي، مع أنّ] مستحیلٌ لما عرفت: من عدم وفاء الوضع الواحد بالمعنی الفعلي المرکّب من المعنی الاسمي والحرفي.

وأمّا ما کان مترجلاً عندهم، فما کان علی وزن فَعال کباب «نزال» فیمکن أن یقال: إنّه فعل أمرٍ حقیقةً، وإنّ هیئة «فعال» تقوم مقام هیئة «افعل» في الثلاثي المجرّد، ویشهد بذلک أنّه قیاسيٌ لا سماعي. ویمکن أن یقال: إنّه اسمٌ استعمل في مورد الابعث علیه ک-«روید».

وما لم یکن کذلک فعلی نحوین:

فمنها ما کان صوتاً یحدث عند التضجّر والتوجّع والإعجاب والاستبعاد

ص: 50

ک-«اُفّ» و «اُوّه» و «واهاً» و «هیهات».

ویمکن أن یکون «صه» و «مه» من هذا الباب أیضاً، فإنّهما صوتان یحدثان طبعاً عند طلب السکوت والانکفاف.

ومنها ما کان اسماً استعمل في مورد الإخبار عن وقوعه ک-«شتّان»، فإنّه مأخوذٌ من «الشتات» الذي هو بمعنی التفرّق والانتشار، فبمعوني الاستعمال یفید مفاد «افترق».

سادسها: أنّ التي سمّوها أسماء أصواتٍ لا تکون أسماءً، لفقد التسمیة والإنباء فیها عن المسمّی، فلا ینطبق الحدّ علیها.

توضحی الحال: أنّ الأصوات التي ادّعي صیرورتها أسماءً علی نحوین:

منهاما یراد منها نفسها ک-«طق» و «قب» فلا یکون بینها وبین شيءٍ آخر تسمیة حتّی تصیر أسماءً له منبئةً عنه.

ومنها ما یخاطب به ما لا یعقل من الحیوان في مقام دعائه ک-«حاحا» للضأن و «عاعا» للمعز، أو زجره ک-«عدس» للبغل، فالغرض من الصوت حینئذٍ الدعاء أو الزجر، لا أنّه وضع له وسمّي به، کما هو ظاهر.

سابعها: فساد ما اشتهر: من أنّ «ضرب» في قولک: «ضَرَبَ فعل ماضٍ» و «من» في قولک: «من حرفٌ» وأمثالهما، أسماءٌ، ومسمّاها «ضرب» الفعلي و«من» الحرفي؛ لعدم التسمیة فیهما والإنباء عن المسمّی المتقوّم بهما الاسم علی ما یقتضیه الحدّ.

تحریر الکلام فیه: أنّ الموضوع في القضیّتین نفس اللفظ لا أمرٌ آخر، فإنّ الفعلیّة والحرفیّة أمران یعرضان علی نفس اللفظ الموضوع للمعنی الفعلي والحرفي کما هو ظاهر، ف-«ضرب» و «من» في القضیّتین مع بقائهما علی الفعلیّة

ص: 51

والحرفیّة صحّ الحکم علیهما والإخبار عنهما من جهة أنّ المقصود منهما نفس اللفظ لا معناهما، والإسناد اللفظي لا یختصّ به الاسم، بل یجري في المهمل والمستعمل - اسماً کان أو فعلاً أو حرفاً - فیصحّ قول: «دیز مهملٌ» کما یصحّ قول: «زیدٌ اسمٌ» والذي یختصّ به الاسم هو الإسناد المعنوي، فإنّ المعنی الذي یصلح أن یحکم علیه إنّما هو المعنی الاسمي المستقلّ، وقد تنبّه ابن مالک لما بیّناه وصرّح به.

والعجب من ابن هشام أنّه مع عثوره علی تصریح ابن مالک لم یهتد إلی ما حقّقه، وقال: لو کان «ضرب» في قول: «ضرب فعل ماضٍ» فعلاً لدلّ علی الحدث والزمان ولکان له فاعلٌ، مع أنّه لا فاعل له حینئذ ولا یدلّ علی الحدث والزمان.فإنّ الفعل إنّما یدلّ علی الحدث والزمان ولا بدّ له من فاعل إذا کان مستعملاً في معناه، وأمّا إذا اُرید به نفس اللفظ فلا، والفعلیّة تدور مدار الوضع للمعنی الفعلي لا استعماله فیه، کما هو واضح. ولو توهّم دوران الفعلیّة مدار الاستعمال في المعنی الفعلي لزم عدم صحّة القضیّتین، لأنّ الإخبار فیهما لا یکون باعتبار اللفظ عنده بل باعتبار معناه، ومسمّی «ضَرَبَ» عنده حینئذٍ «ضَرَبَ» المستعمل في معناه الفعلي، فیلزم الإخبار عن «ضَرَبَ» المستعمل في معناه الفعلي، مع أنّه باطل قطعاً، علی أنّ] یلزم حینوذٍ الدلالة علی الحدث والزمان والحاجة إلی الفاعل، فهل هو إلّا کرٌّ علی ما فرّ منه؟!

ثامنها: فساد ما یتوهّم: من صیرورة اللفظ اسماً لنوعه، کقول: «زیدٌ اسمٌ» أو لفردٍ آخر، کقولک: «زیدٌ في 0ضرب زید) فاعلٌ» لأنّه فرع تحقّق التسمیة، وهي غیر متصوّرةٍ في المقام، لأنّ الفرد عبارةٌ عن النوع الموجود،

ص: 52

فتسمیته لنوعه أو فردٍ آخر یرجع إلی تسمیة النوع الموجود لنفسه مع قطع النظر عن وجوده أو بملاحظة وجودٍ آخر، فیلزم اتّحاد طرفي التمسیة، وهو مستحیل، مع أنّ التسمیة إنّما تکون مقدّمةً للاستعمال، واستعمال الفرد غیر متصوّرٍ؛ لأنّه عبارةٌ عن ذکر اللفظ لإرائة معناه أبداً، فالمستعمل أبداً إنّما هو النوع، ضرورة أنّ الفرد - وهو الموجود من اللفظ في الخارج - لا یقبل الإیجاد ثانیاً.

فتحقّق بما بیّناه: أنّه لا تسمیة في المقام، ولا استعمال، بل ولا دلالة؛ لأنّها - کالتمسیة - فرع مغایرة الطرفین، وإنّما الموضوع في أمثال هذه القضایا نفس اللفظ مع قطع النظر عن خصوصیّته المشخّصة أو مع ملاحظة ترکیبه مع أمرٍ آخر.

ثمّ إنّ بعض من غفل عن حقیقة الأمر وسلّم الاستعمال والدلالة في المقام تحیّر في أمر الاستعمال هل هو حقیقيٌّ أو مجازي؟ وفي الدلالة هل هي وضعیّةٌ أو طبعیّةٌ أو عقلیّة؟ وحیث رأی عدم اتصاف الاستعمال بالصفتین وعدماستناد الدلالة إلی الوضع والطبع والعقل التزم بکون الدلالة قسماً رابعاً، وهي الدلالة بمعونة القرینة کما في المجاز، مع الالتزام بعدم کون الاستعمال حقیقیّاً ولا مجازیّاً، ولم یتفطّن بأنّ انحصار الدلالة في الثلاثة کانحصار الاستعمال في القسمین ضروريٌّ، وأنّ دلالة المجاز وضعیّةٌ غایة الأمر أنّها وضعیّةٌ تنزیلیّة - کما سیظهر لک إن شاء الله تعالی - وأنّ انتفاء الأقسام کاشفٌ عن انتفاء الاستعمال والدلالة.

تاسعها: فساد جعل لواحق الأفعال أسماءً وضمائر متّصلةً بارزةً؛ لعدم إنبهائها عن المسمّی، فإنّها - کحروف المضارعة - من أجزاء هیئة الفعل التي تختلف باختلافها، فهي إنّما تبیّن کیفیّة الإسناد: من کونه علی وجه الخطاب أو التکلّم أو الغیبة، أو کیفیة المسند إلیه: من کونه مذکّراً أم مؤنّثاً، مفرداً أم مثنّیً أم

ص: 53

مجموعاً، ولو کانت ضمائر متّصلةً بارزةً - کما توهّموه - لکانت هیئة الفعل عاریةً عن کیفیّة الإسناد، ولکان «ضربتُ» ک-«ضرب أنا» في إسناد الفعل الغائب إلی ضمیر المتکلّم، وهو بدیهيّ البطلان، وسیأتي لک مزید توضیحٍ لما بیّناه في المقام الثاني إن شاء الله تعالی.

عاشرها وحادي عشرها: أنّ الحقیقة والمجاز إنّما یکونان في أمرٍ عقلي لا في اللفظ.

کشف الحال: أنّک بعدما عرفت أنّ الإنباء معلولٌ عن التسمیة، والمسمّی عنوانُ یدور مداره الإنباء حدوثاً وبقاءً، وأنّ الموصوف بوصف المسمّی إنّما ینبئ عنه بتبعه، ظهر لک أنّ اللفظ إنّما یستعمل في العنوان أبداً، ولا یعقل استعماله في آلمعنون به ولا في غیره، وإلّا لتخلّف المعلول عن علّته.

فمرجع استعمال اللفظ فیما وضع له وفي غیره لعلاقةٍ بینهما موجبةٍ لصحّة الاستعمال إلی تطبیق العنوان علی معروضه التحقیقي والتنزیلي، فإنّ الموضوع له معروض العنوان تحقیقاً، وغیر ما وضع له لاتّحاده معه و تنزّله منزلته صار معروضاً له تنزیلاً، فاللفظ لا یتجاوز عن محلّه وهو العنوان أبداً، وإنّما التجاوز عن محلّه الأصلي وعدمه إنّما هو في حمل المسمّی وتطبیقه، فإن اُرید محلّه التحقیقي ثبت العنوان في محلّه الأصلي، وإن اُرید محلّه التنزیلي تجاوز عن محلّه الأصلي.

فاتّضح بما بیّناه فساد ما اشتهر بین أهل الصناعة: من أنّ الحقیقة والمجاز صفتان للّفظ یتّصف بهما باعتبار استعماله فیما وضع له وفي غیره.

کما اتّضح فساد ما ذهب إلیه السکاکي: من أنّ التجوّز في الاستعارة إنّما هو في أمرٍ باعتبار تنزّل غیر ما وضع له منزلته وادّعاه أنّه عینه ومن جنسه؛

ص: 54

لوجهین:

الأوّل: تفصیله بین الحقیقة والمجاز بجعل الحقیقة صفة للّفظ دونه، مع أنّهما طرفان لأمرٍ واحد، والتفکیک بینهما لا وجه له.

والثاني: تفصیله بین الاستعارة وما سمّي «مرسلاً»؛ لتقوّم التجوّز مطلقاً بالتنزیل واستحالته بدونه، والمجازات التي توهّم أنّها مرسلةٌ راجعةٌ إلی الاستعارة المقیّدة، کما سیظهر لک تفصیله إن شاء الله تعالی، فالتفصیل بینهما لا وجه له، مع أنّا لو سلّمنا استعمال اللفظ فیما وضع له فتنزیل غره منزلته لا یوجب التحقیق کما توهّم، وإنّما یوجب صحّة التجوّز عن محلّله التحقیقي، کما أفاده القوم.

نعم، لا مانع من أن یقال: إنّ اللفظ مستعملٌ حینئذٍ فیما وضع له، ووقع التجوّز في تطبیقه علی غیره لتنزّله منزلته، لا أنّ الأمر منحصرٌ فیه ولا یکون للتجوّز في اللفظ مجال.

وکیف کان، فقد ظهر بما بیّناه فساد جمیع ما صدر عن الجمیع في المقام.

ثاني عشرها: أنّه إذا لم یعلم مراد المتکلّم ودار الأمر بین أن یکون مراده الموصوف بالمسمّی تحقیقاً أو تنزیلاً، فالأصل أن یکون المراد منه محلّه التحقیقي؛ ضرورة أنّ العنوان ینصرف إلی محلّه التحقیقي ذاتاً، ولا ینصرف عنه إلّا بصارفٍ، فلا حاجة في إرادته منه إلی مؤونةٍ زائدة، فعند الشک یحمل علی ما هو وجهته الأصلیّة التي لا یحتاج إرادته إلی أمرٍ زائد علی وجود المقتضي مستجمعاً للشرائط، ولا یعتنی باحتمال المانع المشکوک، وهي القرینة الصارفة التي تصرفه عن محلّه التحقیقي إلی محلّه التنزیلي.

ثالث عشرها: أنّ أصالة الحقیقة لیست من الاُصول اللفظیّة، لما عرفت: من

ص: 55

أنّ الحقیقة لسیت صفةً للّفظ، وإنّما هي صفةٌ لعنوان المسمّی باعتبار حمله علی محلّه التحقیقي، فتوهّم أنّها من القواعد المقرّرة من قبل الواضع في غیر محلّه، مع أنّه من الواضح أنّ أصالة الحقیقة جاریةٌ وإن قلنا بالمناسبة الذاتیّة ولم نقل بالوضع للألفاظ.

رابع عشرها: أنّه لا حاجة في صحّة التجوّز إلی ترخیص الواضع استعمال اللفظ في المعاني المجازیّة آحاداً أو نوعاً؛ لما ظهر لک: من أنّ التجوّز لا یرجع إلی اللفظ حتّی یرجع إلی الواضع فیؤثّر فیه ترخیصه أو منعه، مع أنّ] لو سلّم رجوعه إلی اللفظ فلا وجه لتأثیر رخصته فیه، لأنّ صحّة استعمال اللفظ في المعنی فرع المناسبة بینهما ذاتاً أو وضعاً ابتداءً أو تبعاً، فمع ثبوت العلاقة التامّة بینه وبین المعنی الحقیقي الموجبة للمناسبة التبعیّة الذاتیّة أو الوضعیّة یصحّ الاستعمال وإن منع عنه الواضع، ومع عدمها لا یصحّ الاستعمال وإن رخّص فیه.

خامس عشرها: أنّ تعیین أنواع العلائق الموجبة لصحّة التجوّز وتشخیصها لا یکون من وظائف الواضع؛ لما عرفت: من رجوعه إلی حمل المسمّی وتطبیقه علی محلّه التزیّلي، وعدم رجوعه إلی تصرّفٍ في اللفظ حتّی یکون راجعاً إلیه، مع أنّه لو فرض رجوعه إلی اللفظ لا یکون تعیین العلاقة من شؤونه ووظائفه، لأنّ صحّة التجوّز متفرّعةٌ علی العلاقة التامّة بینه وبین المعنی الحقیقي المستتبعة للمناسبة بینه وبین اللفظ، فإن ثبتت صحّ الاستعمال وإن لم یعیّنها الواضع ولم یقرّرها له، وإلّا فلا ولو عیّنها الواضع وقرّرها له.

سادس عشرها: فساد تقسیم التجوّز إلی التجوّز في الکلمة والتجوّز في الإسناد والتجوّز في الحذف؛ لما عرفت: من رجوع التجوّز في الکلمة إلی التجوّز في حمل المسمّی علی محلّه التنزیلي الراجع إلی التجوّز في الإسناد، غایة الأمر

ص: 56

أنّه إسنادٌ ضمني، بل یرجع إلیه التجوّز في الحذف أیضاً، لأنّ الإسناد الواقع في الکلام إنّما هو إلی المذکور من جهة تنزّله منزلة المحذوف، فالتجوّز واقعٌ في الإسناد حینئذٍ لا في الحذف.

سابع عشرها وثامن عشرها وتاسع عشرها: استحالة استعمال اللفظ المشترک في أکثر من معنیً واحد، واستعاله في المعنی الحقیقي والمجازي معاً، وفي المجازیّین فصاعداً في استعمالٍ واحد.

توضیح الحال فیه: أنّک قد عرفت أنّ مرجع استعمال الاسم في ما وضع له وغیره إلی استعماله في عنوان المسمّی وتطبیقه علی محلّه التحقیقي تارةً وعلی محلّه التنزیلي اُخری، فالاسم مستعملٌ في العنوان دائماً، ولا یستعمل في المعنون أبداً، وإنّما ینطبق علیه المستعمل فیه، ومن المعلوم أنّ انطباق عنوان المسمّی علی المعاني المتعدّدة انطباقٌ بدليٌّ لا شمولي، ضرورة أنّ المسمّی إنّما ینطبق علی کلّ واحدٍ من المعاني بانطباقاتٍ متعدّدة، ولا ینطبق علی أکثر من واحدٍ في انطباقٍ واحد، وإنّما ینطبق علی مسمّیان أومسمّیات.

فلا یعقل في استعمالٍ واحد وإطلاقٍ فارد أن یراد منه أکثر من معنی واحد علی أن یکون کلٌّ منهما مراداً مستقلّاً ومتعلّقاً للحکم ومحلّاً للنفي والإثبات، وإلّا لزم انطباق العنوان علی المعاني انطباقاً شمولیّاً لا بدلیّاً، بل رجوع الانطباق الواحد إلی انطباقین فصاعداً، لأنّ المفروض استعماله في کلّ واحدٍ من المعاني علی أن یکون کلٌّ منها مراداً مستقلاً، کما إذا کرّر استعماله، وأفراد العام الشموالي لا تستقل کلّ واحدٍ منها بالإرادة، وإنّما المراد منه مفهومٌ واحدٌ سارٍ في جمیع أفراده، وکیف کان فهو خلفٌ للفرض.

وببیان آخر: حقیقة الاسم متقوّمةٌ بالإنباء عن المسمّی بصیغة الإفراد

ص: 57

المنطبق علی کلّ واحدٍ من المعاني انطباقاً بدلیّاً - کما مرّ ذلک ذکره في المقام الثاني - ولذا لا تکون الجملة المرکّبة من لفظین منبئین عن مسمّیین اسماً، فلو جاز استعمال اللفظ في أکثر من معنیً واحد لزم حینوذٍ إمّا إنباؤه عن مسمّیین منطبقین علی معنیین فصاعداً أو إنباؤه عن المسمّی الواحد الذي طبّق علی أکثر من معنیً واحد في إطلاقٍ واحد علی وجه الشمول أو علی وجهٍ آخر، والأوّل مستلزمٌ لخروج الاسم عن ذاته وحقیقته المتقوّم بها وصیرورة الاسم الواحد اسمین فصاعداً، والثانی لخف الفرض من حیث رجوع الانطباق البدلي إلی الشمولي أو الانطباق الواحد إلی المتعدّد، بل الخروج عن الحقیقة أیضاً، وبطلان کلا اللازمین في غایة الوضوح والظهور.

ولعلّه إلی ما بیّناه یرجع حجّة المانع مطلقاً: بأنّه لو جاز استعماله فیهما معاً لکان ذلک بطریق الحقیقة، إذ المفروش أنّه موضوعٌ لکلّ واحدٍ من المعنیین وأنّ الاستعمال في کلّ واحدٍ منهما بطریق الحقیقة، وإذ کان بطریق الحقیقة یلزم کونه مریداً لأحدهما خاصّةً غیر مریدٍ له خاصّة، وهو محال.

بیان الملازمة: أنّ له حینئذٍ ثلاثة معانٍ: هذا وحده وهذا وحده وهما معاً، وقد فرض استعماله في جمیع معانیه، فیکون مریداً لهذا وحده ولهذا وحه ولهما معاً، وکونه مریداً لهما معناه أن لا یرید هذا وحده وهذا وحده، فیلزم من إرادته لهما علی سبیل البدلیّة الاکتفاء بکلّ واحدٍ منهما وکونهما مرادین علی الانفراد، ومن إرادة المجموع معاً عدم الاکتفاء بأحدهما وکونهما مرادین علی الاجتماع، وهو ما ذکرنا من اللازم.

وجه الرجوع: أن یقال: ذنّ مراده أنّ المفروض استعماله في کلّ واحدٍ من

ص: 58

المعنیین علی أن یکون کلّ واحدٍ منهما مراداً مستقلّاً، لا في المعنی الجامع بین المعنیین، فیکون الاستعمال في کلّ واحدٍ منهما علی وجه الحقیقة، ومقتضی ذلک أن یکون مریداً لکلٍّ منهما بانفراده لعدم انطباق العنوان علی کلٍّ منهما إلّا علی وجه البدلیّة، ومقتضی الجمع بینهما في استعمالٍ واحد انطباق العنوان علیهما علی وجه الشمول وکونهما معاً مرادین، وهو خلفٌ للفرض ومضادّةٌ صریحة.

فاتّضح لک بما بیّناه: أنّ حجّة المانع لا تبتني علی أخذ الوحدة جزءاً للموضوع له، حتّی تدفع تارةً بمنع کونها جزءاً له، واُخری بأنّه مناقشة لفظیّةٌ برجوعه إلی منع کون الاستعمال في المعنیین حینئذٍ علی وجه الحقیقة، لا إلی منع الاستعمال فیهما مطلقاً ولو علی وجه المجاز.

وقد تبیّن لک مّما حقّقناه - من أنّ انطباق عنوان المسمّی علی المعاني المتعدّأة حقیقیّةً کانت أم مجازیةً انطباقٌ بدلیٌّ لا شمولي - استحالة استعمال اللفظ في أکثر من معنیً واحد مطلقاً مثبتاً کان أم منفیاً، مفرداً کان أم مثنّیً أم مجموعاً، سواء کان المعنیان حقیقیّین أم مجازیّین أم مختلفین، وعدم اختلاف الحکم باختلاف الصور.

نعم، یزید في الصورة الأخیرة وجهٌ آخر لاستحالته، ولذا أفردها المتقدّمون بالبحث، وهو: أنّ المعنی المجازي محلٌّ تنزیليٌّ للّفظ، فلا یکون في عرض المعنی الحقیقي الذي هو محلٌّ تحقیقيٌّ له، ولذا یحتاج إرادته من اللفظ إلی قرینةٍ صارفةٍ تصرفه عن المعنی الحقیقي الذي هو محلٌّ تحقیقيٌّ له، فلا یجوز اجتماعه معه في استعمالٍ واحد، وإلّا وقع في عرضه، وهو خلفٌ للفرض.

والحاصل: أنّهما کیفیّتان متعاقبتان لا یعقل اجتماعهما في محلٍّ واحد، هکذا ینبغي تحقیق المقام.

وأمّا ما أفاده بعض الأفاضل: من أنّهما صفتات متضادّتان للاستعمال

ص: 59

لا یجوز اجتماعهما علی محلٍّ واحد، فیمکن دفعه بأنّهما أمران اعتباریّان یجوز اجتماعهما علی محلٍّ واحد باعتبار تعدّد منشأ الانتزاع، فإنّ المستعمل فیه متعدّدٌ وإن کان الاستعمال واحداً.

فإن قلت: ما ذکرت من وجه الاستحالة إنّما یتمّ في الاسم؛ لأنّ عنوان المسمّی إنّما یکون واسطةً في عروض الإنباء في الاسم، لا في الفعل والحرف.

قلت: الاستعمال لا یجري إلّا قي الاسم؛ فإنّ الحرف إنّما یوجد معنیً من المعاني المعتورة علی اللفظ - کما عرفت - فهو مبیّنٌ لأنحاء الاستعمالات، لا أنّه یستعمل في شيءٍ، ولو قیل بعموم النزاع فالأمر فیه أظهر لأنّ استحالة حدوث معنیین متباینین بآلةٍ واحدةٍ في إعمالٍ واحد من أوائل البدیهیّات، وأمّا الفعل فلا استعمال له باعتبار مجموع جزئیه المادّي والهیئي، لأنّ الإفادة راجعةٌ إلی کلٍّ من مادّته وهیئته، وأمّا باعتبار کلٍّ من جزئیه فالاستعمال ثابتٌ لمادّته، وهي منبئةٌ عن المسمّی، ویجري فیها ما بیّناه في الاسم، وأمّا الهیئة فحکمها حکم الحروف ولا استعمال لها.

وإذ وقفت علی ما حقّقناه، فاعلم أنّ أکثر القوم لعدم اهتدائهم إلی ما نبّأ به النبأ العظیم اضطربت کلماتهم في المقام: فمنهم من جوّزه مطرقاً، ومنهم من منعه في آلمفرد وجوّزه في التثنیة والجمع، ومنهم من أثبته في النفي ونفاه في الإثبات، ثمّ المجوّزون اختلفوا: فمنهم من حکم بکونه حقیقةً مطلقاً، ومنهم من حکم بکونه مجازاً مطلقاً، وفصّل ثالثٌ فحکم بکونه مجازاً في المفرد وحقیقةً في التثنیة والجمع.

ولا بأس بذکر کلماتهم وتوضیح ما فیها تشییداً لما بیّناه، فأقول - بعون الله تعالی ومشیّته -:

ص: 60

احتج مجوّزوه مطلقاً علی وجه الحقیقة: أنّ ما وضع له اللفظ هو المعنی لا بشرط أن یکون وحده ولا بشرط کونه مع غیره - علی ما هو شأن المهیّة لا بشرط شيء - وهو متحقّقٌ في حال الانفراد عن الآخر والاجتماع معه، فیجوز استعماله في المعنیین فصاعداً، ویکون حقیقةً في کلٍّ منهما.

وفیه: أنّ تعلّق الوضع بکلّ واحدٍ من المعاني لا بشرط لا یوجب جواز الاستعمال في أکثر من معنیً واحد علی أن یکون کلٌّ منها مراداً مستقلّاً ومناطاً للحکم ومحلاً للنفي والإثبات؛ لأنّ مقتضی تعلّق الوضع بکلّ واحدٍ منها - لا بالمعنیین معاً فصاعداً - انتزاع عنوانٍ منه منطبقٍ علی کلّ واحدٍ منها انططباقاً بدلیّاً لا شمولیّاً، وقد عرفت أنّ مقتضی معلولیّة صحّة الاستعمال عن العلقة الحاصلة بالوضع کون العنوان المنتزع منه واسطةً في عروض الاستعمال علیه وصیرورته مستعملاً فیه، فلا یعقل أن یراد من اللفظ أکثر من معنیً واحد في استعمالٍ واحد، مع أنّ الواسطة في -علّق الاستعمال هو العنوان الذي لا ینطبق إلّآ علی واحدٍ من المعاني، ولا ینطبق علی المعنیین معاً فصاعداً.

فإن قلت: مقتضی ما ذکرت عدم جواز الاستعمال حقیقةً لا مجازاً؛ لأنّ صحّة الاستعمال علی وجه الحقیقة معلولةٌ عن الوضع، وأمّا صحّ-ه مجازاً فإنّما تکون معلولةً عن العلاقة التامّة بینه وبین المعنی الحقیقي علی ما هو التحقیق: من عدم توقّفه علی نقل الآحاد ولا علی الوضع النوعي الحاصل من رخصة الواضع.

قلت: صحّة الاستعمال مطلقاً تابعةٌ للعلقة الثابتة بین اللفظ والمعنی ذاتاً أو وضعاً ابتداءً أو تبعاً، والمعنی المجازِي إنّما یصحّ استعمال اللفظ فیه لتنزّله منزلة المعنی الحقیقي في صیرورته مسمّیً للّفظ ومعروضاً له تبعاً، فالعلاقة بین المعنیین إنّما تعتبر من جهة أنّها توجب اتّحاد المعنی المجازي مع المعنی الحقیقي وتنزّله

ص: 61

منزلته، ولا یمکن أن یقال: یجوز تنزیل المعنیین منزلة المعنی الواحد فیجوز استعمال اللفظ فیهما حینئذٍ؛ لأنّ التنزیل المذکور إنّما یجوّز استعمال اللفظ في مجموع المعنیین من حیث المجموع بأن یکون الاستعمال واحداً والمستعمل فیه کذلک، لا استعماله في کلٍّ منهما علی أن یکون کلٌّ منهما مراداً مستقلّاً ومستعملاً فیه کذلک، کما هو المفروض.

واحتجّ مجوّزوه مجازاً: بأنّ اللفظ موضوعٌ لکلّ واحدٍ من المعاني بقید الوحدة، فإذا استعمل في الجمیع فلا بدّ من إلغاء هذا القید رفعاً للتناقض، فیکون من استعمال اللفظ الموضوع للکلّ في الجزء مجازاً، وهو غیر مشروط بشيءٍ ممّا اشتراط في عکسه.

وفیه: أنّ الموضوع له لا یکون المعنی بقید الوحدة کما هو ظاهر، وإنّما الوحدة المتسافدة من اللفظ إنّما هي وحدة العنوان المنتزع من تعلّق الوضع بکلّ واحدٍ من المعاني المنطبق علیه انطباقاً بدلیّاً، فیستحیل تجرید اللفظ عنها، لرجوع التجرید عنها إلیالتجرید عن منشأ انتزاعه، وهو تعلّق الوضع بکلّ واحدٍ من المعاني، ضرورة أنّ الأمر المنتزع عین منشأ انتزاعه، ومن المعلوم استحالة التجرید عن منشأ الانتزاع، وهو تعلّق الوضع بکلّ واحد منها، فکذا التجرید عن المنتزع منه، مع أنّه لو سلّم اعتبار الوحدة في الموضوع له لم یکن التجرید عنها من باب تجرید الکلّ عن الجزء، بل من باب تجرید المقیّد عن القید، مع أنّ الکلّ والجزء - کسائر العلائق المرسلة - لا یکون مصحّحاً للاستعمال، کما سیظهر لک إن شاء الله تعالی.

واحتجّ من أجازه في المفرد مجازاً بمثل ما مرّ، وفي التثنیة والجمع حقیقة: بأنّهما في قوّة تکریر المفرد بالعطف، والظاهر اعتبار الاتّفاق في اللفظ دون

ص: 62

المعنی في المفردات، ألا تری أنّه یقال: «زیدان» و «زیدون» وما أشبه هذا، مع کون المعنی في الآحاد مختلفاً، وتأویل بعضهم له بالمسمّی تعسّفٌ بعید، وحینئذٍ فکما أنّه یجوز إرادة المعاني المتعدّدة من الألفاظ المفردة المتّحدة المتعاطفة علی أن یکون کلّ واحدٍ منهما مستعملاً في معنیً بطریق الحقیقة فکذا ما هو في قوّته.

وفیه: أنّ أداة التثنیة والجمع إنّما تبیّن وجه استعمال مدخولها من حیث وجوده في ضمن فردین أو أفراد، فهي کالحروف متمّمةٌ لاستعمال مدخولها، لا أنّ لها استعمالٌ حتّی یتوهّم أنّ المستعمل فیه فیها مفهومٌ مستقلٌّ في عرض مفهوم مدخولها، فلو فرض جواز استعمال المفرد في أکثر من معنیً واحد فالحري أن یقال بعدم جوازه فیهما لعدم تطرّق الاستعمال فیها.

وتوهّم کفایة الاتّفاق في اللفظ دون المعنی فیهما، یرجع إلی أنّ مفاد الأداة لفظٌ مماثل للفظ مدخولها، وهو في غایة البشاعة والسخافة؛ إذ لو کان کذلک لزم عدم استفادة معنیً منها، مخالفاً لمعنی المدخول أم لا، لعدم تطرّق الاستعمال في اللفظ المدلول علیه، فإنّه من خواصّ اللفظ المذکور کما عرفت. ولا شهادة فیما استشهد به؛ لأنّ إنباء الاسم عن المسمّی ممّا یتقوّم به حقیقة الاسم - علماً کان أم لا - فلا ینفکّ عنه أبداً، فلا تأویل في إرادة المسمّی عنه حتّی یتوهّم أنّه تعسّفٌ بعید، غایة الأمر أنّ المسمّی ملحوظٌ في المقام علی وجه العموم، وفي سائر الموارد توطئةً لإرائة معنونٍ خاصٍّ غالباً، هذا.

وأمّا ما احتجّ به علی الجواز مجازاً في آلمفرد فقد مرّ الجواب عنه.

وبما بیّناه ظهر حجّة من أجازه في التثنیة والجمع دون المفرد، والجواب عنها.

واحتجّ من خصّ الجواز بالنفي: بأنّ النفي یفید العموم، فیتعدّد، بخلاف

ص: 63

الإثبات.

وفیه: أنّ النفي والإثبات طرفان للإسناد، فهما متأخّران عن الموضوع والمحمول بمرتبتین، فلا یعقل تأثیره في استعمال الموضوع أو المحمول، فمع عدم جوا زاستعمال المشترک في أکثر من معنیً واحد في حدّ نفسه، فکیف یجوّزه النفي الوارد علی الإسناد؟

وأعجب منه الاستدلال بإفادته العموم وتفریع إفادة التعدّد علیه؛ فإنّ العموم عبارةٌ عن سریان الشيء في أفراده، فلا ربط له بتعدّأ المستعمل فیه في استعمالٍ واحد من دون رجوعهما إلی أمرٍ واحد.

تنبیها:

الأوّل: أنّ استعمال اللفظ في أکثر من معنیً واحد علی أن یکون کلٌّ منهما مراداً مستقلاً ومناطاً للحکم ومحلّاً للنفي والإثبات محالٌ مع قطع النظر عمّا بیّناه؛ لعدم تصوّر تعدّد المستعمل فیه مع وحدة الاستعمال.

توضیح الحال فیه: أنّ الاستعمال نوعٌ من إیجاد اللفظ المستعمل في الخارج، فإنّ إیجاده في الخارج إمّا بلحاظ نفسه، کقولک: زیدٌ اسمٌ، وإمّآ بلحاظ أنّه آلةٌ لإرائة معناه، کقولک: زیدٌ قائمٌ، فالاستقلال والاستعمال طرفان لإیجاد اللفظ ونوعان منه، والقصد الذاتي والآلي بمنزلة الفصلین لهما، فتعیّنه في أحد الوجهین إنّما هو بأحد اللحاظین، ولا یمکن اجتماعهما في إیجادٍ واحد؛ لاستحالة اجتماع الفصلین في محلٍّ واحد، وکما أنّ إیجاد اللفظ مبهمٌ في حدّ نفسه ویتعیّن في أحد الوجهین بأحد اللحاظین، فکذلک الاستعمال مبهمٌ في حدّ نفسه ویتعیّن بتعلّقه بأحد المعاني، فالتعلّقات المتعدّدة بتدّد المستعمل فیه بمنزلة

ص: 64

الفصول المتعدّدة لا یمکن اجتماعها في استعمالٍ واحد، وهکذا بالنسبة إلی وجوهه وأنحائه - من الفاعلیّة والمفعولیّة والإضافة وهکذا - مبهمٌ ولا یتعیّن في أحدها إلّا بإرادة المتکلّم، ولا یجوز اجتماع وجهین منها في استعمالٍ واحد.ولا فرق فیما ذکرناه بین کون المعاني حقیقیّةً أو مجازیّةً أو مختلفة. نعم، یزید في صورة الاختلاف ما ذکرناه: من استحالته من وجه آخر أیضاً، وهو: اجتماع المتعاقبین في الوجود في محلٍّ واحد.

الثاني: أنّ الکنایات لیست ممّآ استعمل في اللفظ فیها في معانیها الحقیقیّة والکنائیّة معاً، کنا توهّمه بعضهم، وجعله دلیلاً علی جواز استعمال اللفظ في ما وضع له وغیره؛ فإنّ الکنایات إنّما تستعمل في ما وضع له لینتقل المخاطب إلی لازمه أو ملزومه، فالمستعمل فیه فیها إنّما المعنی الحقیقي، غایة الأمر أنّه جعل توطئةً لإرادة اللازم أو الملزوم، فلیس بین الکنایات وسائر الحقائق فرقٌ في الاستعمال، وإنّما الفرق بینهما في القصد، فإنّ المقصود بالأصالة في الکنایات إنّما هي المعاني الکنائیّة اللازمة للمعاني الحقیقیّة أو الملزومة لها، لا المعاني الحقیقیّة المستعمل فیها، بخلاف الحقائق فإنّ معانیها الحقیقیّة مقصودةٌٍ بالأصالة غالباً.

ولذا یعتب رصدق الکنایات وکذبها بالنسبة إلی معانیها الکنائیّة لا الحقیقیّة، فقولک: «زیدٌ کثیر الرماد» صدقٌ مع تحقّق معناه الکنائي وإن لم یکن في بیته رمادٌ فضلاً عن کثرته، وکذبٌ مع عدم تحقّق معناه الکنائي وإن تحقّق معناه الحقیقي، فإنّ الصدق والکذب تابعان للنظر الأصیل، سواء کان المنظور به هو المستعمل فیه أو المدلول الأوّلي أم لا.

ألا تری أنّ صدق الکلام وکذبه تابعان لمطابقته للواقع ومخالفته له إذا کان

ص: 65

المنظور بالنظر الأصیل هو الواقع والخارج کا هو الغالب، مع أنّ] مدلولٌ ثانويٌّ للکلام کما عرفت، ولمطابقته لاعتقاد المتکلّم وعدم مطابقته له إذا کان المنظور کذلک هو الاعتقاد، کمقام الإفتاء والإقرار والشهادة وإظهار الحیاة ونحوها، مع أنّ المستعمل فیه هي المفاهیم الواقعیّة لا الذهنیّة.

وبما بیّناه ظهر لک أنّ الاختلاف في دوران الصدق والکذب مدار المطابقة والمخالفة للواقع أو اعتقاد المتلکّم أو أحدهما أو کلیهما لا وجه له، وإنّما المدار هو النظر الأصیل، سواء کان المنظور به هو الواقع أو اعتقاد المتکلّم.

الثالث: ربّما یتوهّم أنّ ما ورد في کثیرٍ من الأخبار: «من أنّ للقرآن سبعة أبطن أو سبعین بطناً»(1) یدلّ علی جواز استعمال اللفظ في أکثر من معنیً واحد وإرادة معاني متعدّدة منها حقیقیّة أو مجازیّة أو مختلفة، ولکنّه غفل عن أنّ البطون إنّما تکون بطوناً للظاهر إذا کانت مندرجة تحته ولو علی وجه الالتزام أو الإشارة.

الرابع: أنّ أکثر القائلین بعدم جواز استعمال اللفظ في أکثر من معنیً واحد لم یهتدوا إلی ما حقّقناه: من استحالته وعدم إمکانه، دو وجهه ودلیله.

فإنّ منهم: من زعم أنّه جائز ذاتاً ولا مانع منه سوی أنّ استعمال اللفظ في المعنی حقیقیّاً أم مجازیّاً موقوفٍ علی ثبوت الرخصة من الواضع، والرخصة إنّما ثبتت في استعماله في المعنی الواحد، فلا یجوز التعدّي عنه، وهو کما تری.

ومنهم: من تنبّه لاستحالته وعدم إمکانه، ولکنّه أخطأ في ریقه ودلیله، فقال ما محصّله: إنّ استعمال اللفظ في المعنی عبارةٌ عن جعله مرآتاً لمعناه ووجهاً له بحیث یکون فانیاً في المعنی فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في

ص: 66


1- . راجع بحارالأنوار 92: 78 - 106، الباب 8 من أبواب کتاب القرآن.

المعنون، فهو في هذا الحال لا یقبل أن یجعل مرآتاً لمعنیً آخر ووجهاً له کذلک.

وفیه: أنّ الوجه في الاستحالة ما حقّقناه: من أنّ الخصوصیّات المتمّمة للاستعمال المعیّنة له بمنزلة الفصول المنوّعة، فلا یقبل التخصّص بخصوصیّتین والتعیّن بأمرین منها في استعمال واحد، ولذا لا یتفاوت بین أن یکون نسبة اللفظ إلیه نسبة التوطئة والمرآتیّة، کنسبته إلی المستعمل فیه، أم لا، کنسبته إلی وجوه استعماله وأنحائه: من الفاعلیّة والمفعولیّة والإضافة وهکذا.

والحاصل: أنّ الموجب للاستحالة وعدم الجواز الذاتي إنّما هو أول الاستعمال الواحد إلی المتعدّد الموجب لخلف الفرض، ومن المعلوم أنّه لا یتفاوت في ذلک بین أن یکون اللفظ ملحوظاً بنفسه أو لغیره، وإلّا فمجرّد کون اللفظ توطئةً ومرآتاً لمعناه لا یوجب عدم قبوله للحاظٍ آخر، إذ لو کان الموجب لعدم تطرّق لحاظٍ آخر فیه هو اللحاظ الآلي المرآتي لکان صالحاً للحاظٍ آخر إذا کان ملحوظاً بنفسه، کقول: «زیدٌ اسمٌ» مع أنّک قد عرفت أنّ اجتماع اللحاظین في إطلاقٍ واحد مستحیلٌ مطلقاً.

العشرون: أنّ ما اشتهر بین أهل العربیّة: من تأویل العَلَم بالمسمّی به علی سبیل عموم المجاز وصیرورته نکرةً إذا اُضیف أو ثنّيأو جمع، کقوله: علا زیدُنا یوم النقاء رأس زیدکم، وکزیدان، وزیدون، في غیر محلّه؛ لأنّ التجوّز فرع استعماله في غیر محلّه الأصلي.

وقد تبیّن لک بما بیّناه أنّ استعمال الاسم إنّما هو في عنوان المسمّی، ولا یستعمل في ذات المسمّی أبداً، غایة آلأمر أنّ استعماله في عنوان المسمّی علی وجهین: فقد یستعمل فیه آلةً وتوطئةً لإراءة معنونٍ مخصوصٍ بعینه - کما هو الغالب فیتوهّم أنّه استعمل فة ذات المسمّی حینئذٍ، وقد یستعمل فیه أصالةً مع

ص: 67

قطع النظر عن معنونٍ مخصوصٍ بعینه، فیتوهّم أنّه اختلف المستعمل فیه في الصورتین.

وإذا تبینّن لک عدم تطرّق التجوّز في اللفظ بإرادة عنوان المسمّی علی وجه العموم، تبیّن لک عدم تطرّق التنکیر فیه؛ لأنّ عروض التنکیر فیه فرع زوال عَلَمیّته، وهو فرع استعماله في غیر ما اقتضاه الوضع العَلَمي، وقد عرفت أنّ مقتضی کون التسمیة واسطةً في صحّة الاستعمال وتحقّق الإنباء صیرورة عنوان المسمّی مستعملاً فیه ومنبَأً عنه ابتداءً، سواء کان متعلّق التسمیة فرداً خاصّاً بعینه أم أمراً عامّاً؛ لأنّ وساطتها علی وجه الثبوت بحیث یدور مدارها الإنباء وصحّة الاستعمال حدوثاً وبقاءً، فلا مجال لتوهّم التنکیر فیه، ولا دلیل علی توقّف صحّة الإضافة في الإضافة المعنویّة علی کون المضاف نکرة، کنا أوضحنا الکلام فیه في أساس النحو وشرحه.

وبما بیّناه تبیّن لک الجاب عمّآ استشکله بعضهم: من أنّ أهل العربیّة یشترطون في جمع المذکّر السالم أن یکون مفرده علماً لمذکّرٍ عاقلٍ أو وصفاً کذلک، مع أنّ أکثرهم قائلون بوجوب الاتّفاق في اللفظ والمعنی في التثنیة والجمع، فیلتزمون بتأویل العلم حینئذٍ إلی المسمّی به وصیرورته نکرةً عامّةً ذات أفرادٍ حینئذ، وهو تناقضٌ منهم؛ لأنّ مقتضی اشتراط العَلَمیّة فیه أن لا یجمع کذلک إلّا حال عَلَمیّته، فالتزامهم بزوال علمیّته وصیرورته نکرةً عامةً حینئذٍ تناقضٌ منهم.

فإنّک قد عرفت بما بیّناه أنّه باقٍ علی عَلَمیّته حینئذٍ ولم یتطرّق فیه التنکیر.

فإن قلت: العلم الشخصي ما وضع لشيءٍ بعینه، وهو بهذا الاعتبار لا یقبل التعدّد حتّی یثنّی أو یجمع، فتثنیته وجمعه حینئذٍ لا یکون إلّا بعد جعله قابلاً

ص: 68

للتعدّد، فینافي حینئذٍ مع اعتبار عَلَمیّته.

قلت: العلم فیه جهتان وجنبتان: خصوص وعموم، الأوّل باعتبار الموضوع له فإنّه فردٌ بعینه، والثاني باعتبار العنوان المتولّد من طروّ الوضع علیه، وهو عنوان المسمّی المنطبق علیه.

وقد ظهر لک أنّ المستعمل فیه والمنبَئ عنه ابتداءً إنّما هو العنوان المتوّلد العام ابتداءً، فلا مانع حینئذٍ من تثنیته وجمعه مع بقائه علی عَلَمیّته.

الحادي والعشرون: أنّ ما عزي إلی السکّاکي: من أنّ إطلاق المشترک علی أحد المعنیین من غیر تعیینٍ حقیقةٌُ، لأنّ مدلول «القرء» مثلاً أن لا یتجاوز الطهر والحیض غیر مجموعٍ بینهمآ، یعني أنّ مدلوله واحدٌ من المعنیین غیر معیّن، فهذا مفهومه ما دام منتسباً إلی الوضعین لأنّه المتبادر إلی الفهم من دلالئل الحقیقة، في غایة المتانة وکمال الجودة؛ لرجوعه إلی أنّ المنبَئ عنه من الاسم إنّما هو عنوان المسمّی المنطبق علی أحد المعنیین علی سبیل البدل، فلا یلزم من إرادته من الاسم من دون أن یجعل توطئةً لمعنیً معیّن ومعنونٍ خاصّ تجوّزٌ وتأویل، لا إلی ما توهّمه التفتازاني: من أنّه قال باستتباع وضع اللفظ لکلّ واحدٍ من المعنیین وضعه لأحدهما لا بعینه ضمناً؛ فإنّ صریح کلامه أنّ مقتضی الوضعین کون مدلول اللفظ واحداً من المعنیین غیر معیّن، لا وضعاً ثالثاً لواحدٍ منهما لا بعینه، کما زعمه.

ولمّا یم یتعقّل ما حقّقناه، وقرع سمعه أنّ الحقیقة هي الکلمة المستعملة فیما وضعت له، ولم یتفطّن أنّ الاستعمال لا یتعلّق به إلّا بواسطةٍ في العروض، وهو عنوان المسمّی، صرف کلامه عمّا هو صریحٌ فیه إلی ما لا یتفوّه به جاهلٌ فضلاً عن فاضل.

ص: 69

الثاني والعشرون، والثالث والعشرون، والرابع والعشرون: عدم تطرّق الوضع ولاحقیقة والمجاز في المرکّبات.

تحریره: أنّ المستفاد من الحدّ اختصاص التمسیة بالاسم وعدم جریانها فیما عده؛ لأنّ مقتضی التحدید مساواة الحدّ للمحدود،فکلّ لفظ قام به التسمیة اسمٌ، کما أنّ کلّ مفهومٍ تعلّقت التسمیة به مفهومٌ مستقلٌّ اسمي، فلو جرت التسمیة بین المرکّبات ومفاهیمها لزم إمّا عدم اختصاصها بالاسم أو صیرورتها أسماءً ومفاهیمها مفاهیم اسمیّة، وبطلان کلا اللازمین أوضح من أن یبیّن.

وعدم تطرّق التسمیة فیها یستلزم عدم تطرّق الوضع فیها؛ ضرورة أنّ تطرّق الوضع فیها - بمعنی صیرورتها بجملتها موضوعةً بوضعٍ واحد - یستلزم تطرّق التسمیة فیها، فعدم تطرّقها فیها ملازم لعدم تطرّقه فیها. مع أنّ لا مجال لوضع المرکّب للمفهوم الترکیبي بعد وضع کلّ مفردٍ من مفرداتها لمعانیها الإفرادیّة؛ لأنّ المفهوم الترکیبيِ لیس أمراً وراء المعانيِ المفردة. علی أنّ النسبة معنیً حرفي وطرفیها اسمیان، فلا یعقل أن یتکفّلها وضعٌ واحدٌ مرآتي أو آلي.

وإذا تبیّن لک عدم تطرّق الوضع فیها، ظهر لک عدم تطرّق الحقیقةي والمجاز فیها؛ لأنّهما من توابع الوضع ولواحقه.

فما ذهب إلیه العضدي: من اختصاص التجوّز بالمفردات وعدم جریانه في المرکبّات لعدم تطرّق الوضع فیها، في نهایة المتانة.

والعجب من صاحب الفصول أنّه بعد أن أنکر الوضع للمرکّبات أجری الحقیقة والمجاز فیها، قال: وکما یجوز بقاعدة الوضع والطبع أن یستعمل اللفظ المفرد في غیر معناه الأصلي إذا کان بینه وبین معناه الأصلي علاقة، کذلک یجچوز بالقاعدة المذکورة أن یستعمل اللفظ المرکّب في غیر معناه الأصلي إذا کان بینهما

ص: 70

علاقة وإن لم یکن بین المفردات علاقة، فالمرکّب المستعمل في غیر معناه الأصلي مجازٌ بالنسبة إلی وضع مفرداته، فظهر أنّه یکفي في مجازیّة المرکّب استعماله في غیر ما وضع له مفرداته، کما إنّه یکفي في کونه حقیقةً فیه استعمال مفرداته فیما وضعت بإزائه، انتهی.

فإنّ الاستعمال إنّما هو من طوارئ اللفظ الموضوع، فمع القول بعدم تطرّق الوضع في المرکّب لا مجال للقول بثبوت الاستعمال له، فالتفکیک بینهما بإثبات الاستعمال له دون الوضع غیر معقول. مع أنّ ترکیب المفردین إنّما هو کیفیّة استعمالهما في معناهما، فلا یعقل طروّ الاستعمال علی المرکّب، وإلّا لزم طروّه علی نفسه المستلزم لتقدّمه علی نفسه وتأخّره عنه.

فاتّضح غایة الاتضاح أنّه کما لا سبیل للوضع في المرکّب لا سبیل للاستعمال فیه، فلا مجال للحقیقة والمجاز فیه؛ لأنّهما فرع الوضع والاستعمال المفقودین في المقام، فإنّ الحقیقة هي الکلمة المستعملة فیما وضعت له والمجاز هي الکلمة المستعملة في غیر ما وضعت له لعلاقةٍ بینهما.

ولا یتوهّم أنّ جریان التجوّز في المرکّب ممّا لا یقبل الإنکار لوقوعه في بعض المرکّبات بلاضرورة، فإنّ قولک: «أراک تقدّم رجلاً وتؤخّر اُخری»، إنّما یقال للمتردّد المتحیّر، فلا یکون علی سبیل الحقیقة ولا علی سبیل التجوّز في مفرداته، إذ لا علاقة بین معاني مفرداته مفردةً ومعنی التردّد، وإنّما تکون بینه وبین معناه الترکیبي.

لأنّا نقول: إنّما هو من باب الکنایة في المرکّب، فإنّها کما تجري في المفردات تجري في المرکّبات؛ إذ کما یجوز أن یکون نظر المتکلّم إلی المعنی الإفرادي أصالةً وتوطئةً بالنسبة إلی لازمه أو ملزومه، کذلک یجوز أن یکون النظر

ص: 71

إلی المعنی الترکیبي أصالةً وتوطئةً بالنسبة إلی لازمه أو ملزومه.

ثمّ اعلم: أنّ التحقیق أنّ دلالة الهیئة الترکیبیّة علی النسبة لا تکون وضعیّةً، بل ذاتیّةً طبعیّةً مدرکةً بالطبع، أي بالضرورة والبداهة، فإنّه بمجرّد سماع الهیئة الترکیبیّة ینتقل الشخص إلی الإسناد أو التوصیف أو الإضافة وهکذا من خصوصیّات النسب، ولا ینتظر أمراً آخر، ولو کان دلالتها علیها وضعیّةً لتوقّف استفادتها منها علی العلم بالوضع، کما هو الحال في الألفاظ الموضوعة بالنسبة إلی معانیها.

الخامس والعشرون: انحصار العلاقة المصحّحة للتجوّز في الاستعارة والشباهة التامّة وعدم تأثیر سائر ما ذکوره من العلائق في جوازه وصحّته؛ لما عرفت: من رجوع التجوّز في الکلمة إلی تطبیق عنوان المسمّی علی غیر محلّه الأصلي، ومن المعلوم أنّ الموجب لصحّة انطباق عنوان المسمّی علیه إنّما هي المشابهة التامّة الموجبة لتنزّله منزلة محلّه الأصلي واتّحاده معه؛ ضرورة أنّ صدق العنوان وحمله علی موضوعٍ لا یصحّ إلّا مع وجود الاتّحاد بین الطرفین إمّا تحقیقاً أو تنزیلاً، فتنحصر العلاقة المصحّحة للتجوّز في العلاقة الموجبة للاتّحاد والتنزّل منزلة الأصل، وهي منحصرةٌ في الاستعارة؛ بداهة أنّ سائر العلائق - کالکلیّة والجزئیّةوالسببیّة والمسببیّة والحلول ونحوها - لا توجب الاتّحاد بین الطرفین بحیث یصحّ حمل أحدهما علی الآخر، أتری أنّه یصحّ حمل «رقبة» علی «زید» فیقال: «زید رقبة» أو حمله علیها فیقال: «الرقبة زید» أو حمله علی «القریة» أو حملها علیه، فیقال: «زید قریة» أو «القریة زید» وهکذا؟! کلا ثمّ کلا، بل الأمر في الاستعمال أقوی وأظهر من الحمل.

توضیح الحال: أنّ الاتّحاد له مراتب ودرجات:

ص: 72

والمرتبة الاُولی: هي المعبّر عنها بکاف التشبیه، فإنّ قولک: «زید کالأسد» لا یصحّ إلّا بعد شباهته بالأسد في أظهر خواصّه الموجبة لاتّحاده معه.

والمرتبة الثانیة التي هي أقوی من المرتبة الاُولی: هي المعبّر عنها بالحمل، فإنّ الاتّحاد المستفاد من الحمل في قولک: «زید أسد» أقوی من الاتّحاد المستفاد من حرف التشبیه، فإنّ الحمل ناظرٌ إلی الاتّحاد أوّلاً، بخلاف حرف التشبیه، فإنّه ناظرٌ أوّلاً إلی التشبیه المنبئ عن المغایرة المستلزم للاتّحاد في وجه.

والمتربة الثالثة التي هي أعلی من المرتبة الثانیة: هي المستفادة من الاستعمال، فإنّ قولک: «رأیت أسداً یرمی» ناظرٌ إلی العینیّة، ولا نظر فیه إلی التعدّأ والاختلاف بوجه، بخلاف القضیّة الحملیّة فإنّها ناظرةٌ إلی التعدّد والاختلاف أیضاً، من حیث إنّ أحدهما موضوعٌ والآخر محمولٌ.

وما عدا الاستعارة من العلائق التي ذکروا أنّها توجب التجوّز مرسلاً لا توجب صحّة التشبیه الذي أوّل مراتب الاتّحاد وأضعفها فضلاً عن الاستعمال الذي هو أعلی من الحمل الإی هو أقوی منه.

ویدلّ علی ما بیّناه أیضاً: أنّه لو کانت العلائق المذکورة مصحّحةً للاستعمال لاطّردت ودارت الصحّة مدارها، مع أنّ عدم اطّرادها من البدیهیّات الأوّلیّة، حتّی أنّهم جعلوا عدم الاطّراد - کعدم التبادر وصحّة السلب - من خواصّ المجاز وعلائمه.

والاعتذار عنه تارةً: بأنّ العلائق المذکورة لا تکون عللاً تامّةً لجواز التجوّز، وإنّما هي مقتضیاتٌ له، فلا ینافي اقترانها بما یمنع من تأثیرها فیه ولو لم نعلم المانع بعینه.

ومرّة: بأنّ نوع العلاقة لا یکون مقتضیاً علی الأطلاق، وإنّما المقتضي منه

ص: 73

صنفٌ من أصنافه ولو لم نعلم الصنف بعینه.

واُخری: باشتراط تأثیرها في صحّة الاستعمال باستحسان الطباع إیّاه وعدم استهجانه عندها، غیر موجّه.

أمّا الأوّل، فلأنّ العلاقة بین المعنیین إن استتبعت المناسبة بینه وبین اللفظ بحیث یصحّ استعماله فیه في حدّ نفسه فهي کالوضع لا تقبل المنع وإلّا فلا تکون مقتضیةً لها، ومجرّد کونها مقتضیةً لها لا یوجب قبول المنع، کما أنّ افتراقها عن الوضع في کونها مناسبةً استتباعیّةً دونه لا یوجب الافتراق في قبول المنع وعدمه. مع أنّا لو سلّ»نا تطرّق المنع فیها فمع عدم إحراز المانع بعینه یوجب إحالة صحّة الاستعمال إلی أمرٍ مجهول وسقوط العلائق عن الأثر.

وأمّا الثاني، فلاستلزامه دوران التجوّز مدار أمرٍ مجهول أیضاً، لأنّ المجوّز للتجوّز إنّما هو الصنف المجهول لا النوع المعلوم، فیجب الاقصتار حینوذٍ علی الآحاد المنقولة عن العرب التي ثبت التجوّز فیها، ولا یجوز التعدّي عنها؛ لعدم العلم بما یجوّز التجوّز، فیلزم حینئذٍ أن یکون تعیین الأنواع لغواً، والقول بکفایة نوع العلاقة في التجوّز مناقضةً ورجوعاً إلی القول باعتبار نقل الآحاد. مع أنّ دعوی استناد جواز التجوّز إلی صنفٍ من الأنواع وإن لم یعلم بعینه أو نفس الأنواع وأنّ امتناعه في بعض الموارد بل في أکثرها لأجل وجود مانعٍ لا نعلمه بعینه، دعویً بلا بیّنة ورجمٌ بالغیب. ومجرّد صحّة الاستعمال في الموارد التي وجدت فیها الاُمور التي توهّموها علائق لا یکشف عن استنادها إلیها مع عدم الاطّراد وعدم دوران الصحّة مدارها.

وأمّا الثالث، فلأنّ مرجع کون الاستعمال مستحسناً عند الطباع إلی صحّته وجوازه، فإنّ الاستعمال الصحیح مستحسنٌ، کما أنّ الغلط مستهجن،

ص: 74

فالاستحسان والاستهجان إمّا عین الصحّة وعدمها أو متأخّران و مسبَّبان عنهما، والعلاقة إنّما تعتبر لتحصیلها، فلو کانت مشروطةً بالاستحسان الذي هو عین الصحّة أو متأخّر عنها لزم الدور المحال؛ فإنّها من جهة أنّها مسبَّبةٌ عن العلاقة في مرتبة المعلول، ومن حیث إنّها شرطٌ في تأثیر العلاقة في مرتبة العلّۀ، فیلزم تقدّمها علی نفسها وتأخّرها عنها.فإن قلت: مرجع الاشتراط باستحسان الطباع الاستعمال إلی أنّ المجوّز للتجوّز إنّما هو الصنف من النوع المتمیّز من الصنف الآخر باستحسان الطباع استعماله، فیرجع إلی الوجه الثاني مع تبیّنه بالقید المزبور الموجب لعدم إحالة الأمر إلی مجهول.

قلت: لا یندفع الدور بما ذکرت، لأنّ الغرض من تشخیص الصنف المجوّز من خلافه إنّما هو استکشاف الاستعمال الصحیح من الغلط، فإذا توقّف تمیّزه علی استحسان الطباع استعماله الراجع إلی جوازه وصحّته یعود الدور المذکور.

فاتّضح غایة الاتّضاح أنّ ما ذکروه من العلائق المرسلة لا أصل لها، والقوم لمّا شاهدوا مواضع من کلمات أهل اللسان أنّ الاستعمال فیها لا یکون علی سبیل الحقیقة، وعلموا أنّ التجوّز في الاستعمال لا یکون إلّا بعلاقةٍ مصحّحة له، ولم یهتدوا إلی وجه الاستعارة فیها، زعموا أنّ المصحّح للاستعمال في کلماتهم مناسبةٌ اُخری سوی المشابهة التامّة، فعمدوا إلی هذه المواضع، واخترعوا لها ما وجدوه من المناسبات بحسب أنظارهم حتّی أنهوها إلی خمسة وعشرین.

وبعض المتأخّرین لمّا رأی صحّة الاستعمال في موارد لا ینطبق علیها العلائق المعدودة، قال: العلاقة هي المناسبة التي یقبلها الطبع، سواء وجدت في ضمن العلائق التي ذکروها أم لا، وغفل عن أنّ إجماله، وهو: دوران صحّة

ص: 75

الاستعمال مدار المناسبة التي یقبلها الطبع، معلومٌ لکلّ أحد، وإنّما الشأن في تعیینها وإعطاء الضابطة لها.

وإذا وقفت علی أنّ الداعي علی اختراعهم العلائق سوی الاستعارة خفاؤها علیهم في موارد الاستعمالات التي اخترعوا العلائق لتصحیحها، فلا بدّ لنا من کشف الستر عن وجه الاستعمال في هذه المواضع، وتفصیل حال العلائق المخترعة مزیداً للبصیرة.

فأقول بعون الله تعالی ومشیّته: إنّ من العلائق التي اخترعوها علاقة الجزء والکلّ، ووجه اختراعها أنّهم لمّا شاهدوا صحّة «عتق رقبة» و «فکّ رقبة» و «ملک رقبة» و «عین القوم» و «لسان القوم» وهکذا في کلماتهم، ولم یظفروا علی وجه مناسبةٍ فیها سوی الجزء والکلّ، حکموا بأنّ العلاقة المصحّحة للاستعمال هي الجزء والکلّ.

ولمّا رأوا عدم صحّته في کلّ جزءٍ قیّدوه بالجزء المعظم الذي ینتفي بانتفائه الکلّ، بزعم اطّراده حینئذٍ، فقالوا: إنّ الرقبة جزءٌ للبدن بهذه المثابة، والعین بالنسبة إلی الربیئة واللسان بالنسبة إلی الترجمان کذلک، ولکنّهم أطلقوا في عکسه وهو استعمال الکلّ في الجزء بزعمهم، لِما رأوا من صحّة ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي ءاذَانِهِمْ﴾(1) مع أنّ الجزء المستعمل فیه وهي الأنملة لا تنتفي بانتفائها الأصابع.

وفیه: أوّلاً: أنّ النسبة بین الجزء والکلّ نسبةٌ وحدانیّةٌ قائمةٌ بطرفیها یتساوی نسبتها إلیهما، ولیست کعلاقة المشابهة في کون أحدهما أصلاً والآخر

ص: 76


1- . سورة البقرة: الآیة 19.

تابعاً، فلو لم یکن مجرّد نسبة الجزئیّة والکلّیة نسبةً معتدّاً بها لزم التقیید المزبور بالنسبة إلی الطرفین، وإلّا لصحّ الاکتفاء بها من دون تقییدٍ بالنسبة إلی الطرفین، فالتفصیل بینهما لا وجه له.

وثانیاً: أنّه کما یصحّ إسناد الملک إلی رقبة المملوک یصحّ إسناده إلی یمین المالک، قال عزّ من قائل: ﴿إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾(1) مع أنّ الیمین لیس جزءاً ینتفي بانتفائه الشخص أو عنوان المالک، کما هو ظاهر.

وثالثاً: العین واللسان لیسا جزءین لوصف الربیئة والترجمان، وإنّما یتوقّف الاتّصاف بالوصفین علیهما. ومجرّد التوقّف لیس محصّحاً للاستعمال، وإلّا لصحّ إطلاق الید علی الکاتب والحائک والصائغ، والرجل علی الماشي.

ورابعاً: إن اُرید من الکلّ الذي ینتفي بانتفاء الرقبة البدن، ففیه: أوّلاً: أنّه یمکن وجود البدن بلا رقبة. وثانیاً: أنّه مع اشتماله علیها لا ینتفي بانتفائها عرفاً، بل مع الرأس والرجلین والیدین أیضاً، فإنّ قوام البدن عرفاً إنّما هو ببقاء الصدر، والرقبة والرأس والرجلان والیدان تعدّ أطرافاً وتوابع له، ولذا یجب جمیع أحکام المیّت: من التغسیل والتکفین والصلاة علیه ودفنه، إذا بقي الصدر وحده، وأمّا سائر الأعضاء فتسقط الصلاة علیها إذا وجدت منفصلةً عن الصدر.

وإن اُرید منه مجموع البدن والرمح، ففیه أوّلاً: أنّه لا ترکیب بین الروح والبدن کترکیب الکلّ من الأجزاء حتّی یکون للمجموعهیئةٌ وحدانیّة، ویکون کلاً بالنسبة إلیهما وهما جزءان له، وإنّما منزلة الروح من البدن منزلة الراکب من المرکب، فهو راکب البدن ومتعلّقٌ به تعلّق التدبیر والتصرّف، فلا تکون أعضاء

ص: 77


1- . سورة المؤمنون: الآیة 6.

البدن أجزاءً للمجموع، أتری أنّ أعضاء المرکب أجزاءٌ للراکب والمرکب معاً؟!

کلا، ثمّ کلا. وثانیاً: أنّ انتفاء الرقبة لا یوجب زوال الترکیب ومفارقة الروح عن البدن مطلقاً، لجواز وجوده بلا رقبة. وثالثاً: أنّ زوال الترکیب ومفارقة الروح عن البدن في الرقبة إنّما هو باعتبار قطعها، وهو لا یختصّ بها بل یجري في فري الأوداج وقطع الرأس وشقّ البطن وقطع بعض العروق وإخراج الدم کلّه وکبده وهکذا، فلو کان جواز التجوّز فیها لأجل ما ذکره لجاز في الأجزاء المذکورة، مع أنّ عدم جریانه فیها من أبده البدیهیّات.

وخامساً: أنّه لو صحّ استعمال الرقبة في الشخص بعلاقة الجزء والکلّ لما اختّص بما إذا اُسند إلیه الملک وتوابعه: من التحریر والفکّ والعتق، ولصحّ قولک: علمت رقبة، وضربت رقبة، ونکحت رقبة، وجاورت رقبة، ورآني رقبة، وأدّبني رقبة، وأحبّني رقبة، وأبغضني رقبة، وهکذا ممّا لا تحصی من الأمثلة، مع أنّ عدم جوازها من أوضح الواضحات.

وسادساً: أنّه لو صحّ ما ذکوره لصحّ إسناد الملک وتوابعه إلی الجید والعنق، کما صحّ إسناده إلی الرقبة لتساویهما معها في ما ذکر وإن لم تکن مترادفة - علی ما اخترناه من عدم وقوع الترادف في الکلمات - مع أنّ عدم صحّة قولک: «عتق عنق وجید» و «ملک عنق وجید» في غایة الوضوح.

وسابعاً: أنّه لو صحّ ما ذکروه لم یجز قولک: «اعتق رقبتي أو رقابنا من النار» و «فلان یملک رقابهم» للزوم إضافة الشيء إلی نفسه بناءً علی استعمال الرقبة في الکلّ، وهو الشخص.

وثامناً: أنّه لو کانت العین مستعملةً في الربیئة واللسان في الترجمان من جهة أنّهما من الأجزاء الرکنیّة لهما لما اختصّ جوازه بصورة الإضافة، ولصحّ

ص: 78

قولک: «زید عین ولسان» کما یصحّ قولک: «زید ربیئة وترجمان».

وتاسعاً: أنّ قولک: «عین القوم» و «لسان القوم» و «ید القوم» و «اُذُن القوم» وهکذا من قبیل «سیف الله وسیف رسوله» و «أسد الله وأسد رسوله» و «ریحانة رسول الله ومهجة قلبه» وصحّة الاستعمال في الجمیع من وادٍ واحد، ولا تکون منوطةً بعلاقة الجزء والکلّ التي لا تجري في الجمیع.

هذا حال استعمال الجزء في الکلّ.

وأمّا العکس وهو استعمال الکلّ في الجزء ففساده أوضح، أتری أنّه یصحّ قولک: غار زیدٌ أي عینه، ووسع أو ضاق عمروٌ أی فمه، وکبر أو صغر بکرٌ أي أنفه، وابیضّ ولیدٌ أی أسنانه، وخرجت المرأة إذا نهد ثدیها، وهکذا؟ وبالجملة: لا یخفی علی من له أدنی مسکة - بعد الوقوف علی ما بیّناه والتأمّل في الأطراف - عدم استناد صحّة الاستعمال في الموارد المذکورة إلی ما توهّموه: من علاقة الجزء والکلّ والکلّ والجزء، ولو لم یتصدّوا لتحصیل العلاقة واعترفوا بالجهل لکان أحری وأولی وما أضاعوا أوقاتهم ولا أوقات الناظرین في کلماتهم.

إذا وقفت علی ما بیّناه، فاعلم: أنّ الرقبة مستعملةٌ في معناها الحقیقي، وهو العضو المخصوص، وإنّما شُبّه الملک الذي هو حبلٌ معنوي بالحبل الحسّي الذي أحد طرفیه بید المولی والآخر مشدودٌ برقبة العبد، ولذا نسب في طرف المولی إلی یمینه، فقیل: «ملک الیمین» وفي طرف العبد إلی الرقبة فقیل: «ملک الرقبة» فأساس التشبیه إنّما هو في الملک لا في الیمین والرقبة، ویستتبع هذا التشبیه تنزّل الرقبة منزلة المملوک في المملوکیّة وتنزّل الیمین منزلة المالک في المالکیّة، فالتجوّز إنّما هو في إسناد الملک إلی غیر محلّه الأصلي لا في الکلمة؛ ولذا لا یتجاوز هذا التجوّز عن الملک وتوابعه: من العتق والتحریر والفک، فإنّ لازم

ص: 79

تشبیه حبل الملک بالحبل الحسّي المشدود برقبة العبد تعلّق العتق الذي هو حَلّ شدّ هذا الحبل بها أیضاً. وتوصیف الرقبة بالإیمان في قولک: «اعتق رقبة مؤمنة» مع أنّه من صفات الشخص لا الرقبة ولیس من توابع الملک باعتبار تنزّلها منزلة المملوک في هذا الکترکیب الذي اُسند إلیها العتق.

والنکتة في هذا التشبیه التنبیه علی ضعف ملک العبد وتنزّله عن مرتبة ملک سائر الأعیان، فإنّ ملک العبد وإن کان من قبیلملک العین لا المنفعة أو الانتفاع - ولذا یجوز بیعه و شراؤه وسائر التقلّبات الراجعة إلی العین - إلّا أنّه لیس في عرض ملک الجماد والنبات وسائر الحیوانات، فإنّ الملک فیها تامٌّ لا نقص فیه، إذ لا استقلال لها بوجهٍ، ولذا یسري الملک فیها إلی تمام جهاتها حتّی الجلد واللحم والشحم والعظم، بخلاف ملک العبد فإنّه إنّما هو في جهة الاستخدام فقط، فهو برزخٌ بین ملک العین وملک المنفعة؛ ومن هنا یجوز معاملة المولی معه ومکاتبته وتزویجه أمته وتزویجها لنفسه وجعل مهرها عتقها إلی غیر ذلک من الفروع المسلّمة، ولو لا أنّ العبد له استقلالٌ في الجملة وأنّ ملکه کملک المنفعة من وجهٍ لم یکن لنفوذ هذه المعاملات وجه.

فإن قلت: مقتضی ما ذکرت: من أنّ أساس التشبیه إنّما هو في الملک المستتبع لتنزّل طرفي الحبل الحسّي منزلة طرفي الحبل المعنوي، جواز إسناد الملک وتوابعه إلی الجید والعنق أیضاً.

قلت: محلّ الحبل الحسّي إنّما هو الرقبة لا الجید والعنق.

توضیحه: أنّ الألفاظ الثلاثة وإن اشترکت في الانطباق علی عضوٍ واحد إلّا أنّها لا تکون مترادفةً بل متقاربة یشتمل کلٌّ منها علی خصوصیّة تناسب حکماً مخصوصاً، فالمأخوذ في مفهوم «الرقبة» الصلوح للشدّ والأخذ والضبط فیناسب

ص: 80

استعمالها في مورد الملک وتوابعه وتعلّق الحقوق والبراءة منها، کما أنّ المأخوذ في «العنق» الصلوح للمدّ والطول فیناسب استعماله في موردهما وما یتبعهما، وأمّا «الجید» فهو مأخوذٌ من الجیّد المقابل للرديء فیناسب استعماله في مورد الزینة، وقوله عزّ من قائل: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ﴾(1) تعریض.

ویرشدک إلی ما بیّناه افتراق الکلمات المشتقّة من «الرقبة» عن الکلمات المشتقّة من «العنق» في الصدق والانطباق، فإنّ «المترقّب» و «المرتقب» و «الرقیب» و «المراقب» لا تنطبق إلّا علی المنتظر الحافظ المواظب للشيء المأخوذ في کلٍّ منها خصوصیّة الأخذ والضبط، بخلاف «المعانقة» و «الاعتناق» فإنّهما إنّهما ینطبقان علی وضع ید کلٍّ منهما علی عنق الآخر الموجب لمدّه.

وأمّا إطلاق العین واللسان والاُذُن علی الربیئة والترجمان ومن کثر تصدیقه لکلام غیره وأمثالها فإنّما هو من باب الاستعارة.

توضیحه: أنّ الشخص إذا شابه شیئاً آخر في أظهر خواصّه صحّ إطلاقه علیه واستعارة اسمه له، فإن کانت الشباهة مطلقةً غیر مقیّدة بمقام مخصوص وشخصٍ خاصّ صحّ إطلاقه علیه مطلقاً من دون إضاضةٍ وقید، سواء کان من أعضائه أم لا، فیقال لمن شابه الأسد في أظهر خواصّه لا في مقامٍ مخصوص: «إنّه أسد» کما یقال لمن کثر نظره في الاُمور واطّلاعه علیها أو نطقه وکلامه کذلک: «إنّه عین أو لسان» وإن کانت شباهته مقیّدةً بمقامٍ مخصوص أو شخصٍ خاص صحّ إطلاقه علیه مقیّداً، فیقال لمن شابه الأسد في أظهر خواصّه بالنسبة إلی شخصٍ خاص: «إنّه أسدٌ علیه» ومن هذا الباب قول الشاعر: «أسدٌ علیَّ وفي

ص: 81


1- . سورة المسد: 5.

الحروب نعامة» کما یقال لمن شابه العین واللسان في أظهر خواصّهما بالنسبة إلی جماعةٍ مخصوصة: «إنّه عین القوم ولسانهم» فلا یرتبط الاستعمال المذکور بما توهّ»وه من علاقة الجزء والکلّ.

ویمکن أن یقال: إنّه لا تجوّز في الموارد المذکورة أصلاً، وإنّ التنزیل إنّما یستفاد من الإضافة.

کشف الحال فیه: أنّ التنزیل في الموارد المذکورة یرجع إلی تنزیل نسبةٍ بین شیئین منزلة نسبةٍ بین شیئین آخرین، فإنّ مرجع قولک: «زید عین القوم» إلی أنّ نصبة زید من القوم کنسبة العین من الشخص، فالتنزیل إنّما هو في النسبة لا في طرفها، فلا تجوّز في الکلمة.

والأصل في التعبیر عن هذا التنزیل أن یذکر الأطراف الأربعة ویصرّح بتنزیل النسبة الثابتة بین طرفین منها منزلة النسبة الثابتة بین طرفین آخرین، کقوله (صلی الله علیه و آله) : «عليٌّ منّي بمنزلة هارون من موسی».(1)

وقد یختصر بذکر أطرافٍ ثلاثة، بحذف أحد طرفي الأصل وتبدیل لفظ المنزلة بإضافة لاطرف الآخر من الأصل إلی أحد طرفيالفرع، کقولک: «عليٌّ (علیه السلام) هارون محمّد (صلی الله علیه و آله) ».

وقد یقتصر علی ذکر الطرفین بإضافة أحد طرفي الدصل إلی أحد طرفي الفرع وحذف الطرفین الآخرین، کقولک: «یا هارون محمّد (صلی الله علیه و آله) ».

فمفاد القضایا الثلاثة أمرٌ واحد، ولا فرق بینها إلّا في التفصیل والاختصار، فکما لا تجوز في الأصل وهي القضیّة الاُولی، فکذلک في القضیّتین الاُخریین

ص: 82


1- . کنز العمّال 11: 603، الحدیث 32915.

اللتین اختصرتا منها.

وبما بیّناه - من معنی الإضافة التنزیلیّة - اندفع ما قد یتوهّم: من أنّه لا بدّ من الالتزام بالتجوّز في الکلمة في الموارد التي لم یثبت المضاف بمعناه الحقیقي للمضاف إلیه ک-«عین الله الناظره» و «لسانه الناطق» و «اُذُنه الواعیة» و «یده الباسطة» و «ماء الوجه» و «عضد الدولة» و «رکن الملک» وأمثالها، لما تبیّن لک: من أنّ التنزیل في الإضافة عبارةٌٍ عن تنزیل نسبةٍ بین شیئین منزلة نسبةٍ بین شیئین آخرین، فلا ینافي مع عدم ثبوت المضاف بمعناه الحقیقي للمضاف إلیه، فمعنی الترکیب في الموارد المذکورة أنّه (علیه السلام) من الله تبارک و تعالی بمنزلة الأعضاء المذکورة من الإنسان، وأنّ العزّ من الوجه بمنزلة الماء من النبات، وأنّ الرجل من الدولة بمنزلة العضد من الشخص، ومن الملک بمنزلة الرکن من البیت، وهکذا.

فإن قلت: مقتضی ما ذکرت عدم التجوّز في الکلمة في التراکیب المذکورة، لا عدمه فیها رأساً حتّی في الإضافة والنسبة؛ ضرورة أنّ مفاد الإضافة هو تعلّق المضاف بالمضاف إلیه واختصاصه به، ولا تعلّق للمضاف بمعناه الحقیقي بالمضاف إلیه في التراکیب المذکورة بالضرورة، فلا بدّ من ارتکاب تجوّزٍ وتنزیلٍ إمّا في المضاف أو الإضافة، ولا یمکن نفیه رأساً.

قلت: تنزیل المضاف من المضاف إلیه منزلة نسبةٍ بین شیئین آخرین نحوٌ من التعلّق والملابسة، ویکفي في الإضافة أدناها، غایة الأمر أنّها ظاهرةٌ في التعلّق التحقیقي، لا تنصرف عنه إلی التنزیلي إلّا بالقرینة، لا أنّه خارجٌ عن حقیقتها، فتأمّل.

فقد اتّضح لک بما بیّناه غایة الاتّضاح: أنّه لا تجوز في التراکیب المذکورة

ص: 83

وأمثالها، أو أنّ التجوّز فیها علی وجه الاستعارة المقیّدة المتقوّمة بالإضافة، لا علی وجه الإرسال بعلاقة الجزء والکلّ أو بعلاقةٍ اُخری.

وممّا بیّناه لک ینکشف فساد ما اشتهر: من تقسیم الماء إلی مطلقٍ ومضاف؛ إذ لا یجوز إرادة الأعمّ من لفظ الماء مطلقاً - ولو مجازاً - حتّی یقبل الانقسام إلیهما؛ لما عرفت: من تقوّم صحّة الإطلاق في المضاف منه بالإضافة. وتوهّم أنّ الإضافة قرینةٌ للتجوّز لا مقوّمةٌ له وَهَمٌ فاحش؛ وإلّا لصحّ الإطلاق بقرینةٍ اُخری حالیّة أو مقالیّة، مع أنّ عدم صحّته في غایة الوضوح.

أتری من نفسک صحّة إطلاق الماء علی العزّة من دون إضافته إلی الوجه؟ وهل یتوهّم عاقلٌ صحّة قولک: «وبماء فرعون إنّا لنحن الغالبون» مکان قوله عزّ من قالئ: ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ...﴾(1) ولو أقمت ألف قرینة؟ کلا ثمّ کلا، وهکذا الأمر في ماء الرّمان وماء العنب وسائر المیاه المضافة. نعم، یصحّ الإطلاق مطلقاً مجازاً إذا شابه الماء المطلق في الرّقة وعدم الطعم، وهو أمرٌ خارجٌ عن المقام.

ثمّ اعلم أنّ المیاه المضافة إن کانت معتصرةً من جسمٍ، کماء الرمّان وماء العنب وماء الحصرم وهکذا، فإطلاق الماء علهیا مضافاً من قبیل التراکیب المذکورة. وإن کانت ممتزجةً بجسمٍ آخر، کماء اللحم وماء الورد وماء العسل وماء الوحل، فإطلاق الماء المضاف علیها إنّهما هو باعتبار حصول الترکّب التحقیقي من الأمرین وعدم اضمحلال أحدهما في جنب الآخر، لا باعتبار تنزیل النسبة الثابتة بینهما منزلة النسبة بین شیئین آخرین، فاستعمال لفظ الماء فیه حینئذٍ علی وجه الحقیقة ولکن مضافاً لا مطلقاً، فهو من قبیل «حلوٌ حامض» فکما أنّ

ص: 84


1- . سورة الشعراء: 44.

إطلاقهما علی المزّ - وهو الطعم المرکّب منهما - علی وجه الحقیقة ومع ذلک لا یجوز جعله قسماً من الحلو وإطلاقه علیه مفرداً، فکذلک في المقام، فتفطّن.

وأمّا أمثلة العکس، نحو قوله تعالی: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي ءاذَانِهِمْ﴾(1) وأمثال ذلک، فلا تجوّز فیها بوجه، إذ یکفي في صحّةالإسناد مجرّد التعلّق والارتباط، ولا یلزم فیه الاستیعاب، وإّا لزم أن یکون «ضربت زیداً» و «رأیته» و «صلّیت في المسجد» و «دخلت الدار» وهکذا من الأمثلة مجازاً، لأنّ الضرب والرؤیة لا یقعان علی زید من قرنه إلی قدمه، والصلاة والدخول إنّما یتعلّقان ببعض المسجد والدار، والالتزام بالتجوّز فیها مخالفٌ للضرورة.

نعم، قد ینصرف إلی الاستیعاب في بعض الموارد لخصوصیّةٍ فیها، کقولک: «أکلت الرغیف» و «غسلت ثوبي أو بدني»، کما أنّه قد ینصرف إلی عدمه، کجعل الأصابع في الآذان؛ إذ لا یمکن إدخالها بتمامها في الآذان، فإدخالها فیها إنّما یکون بإدخال أنملتها فیها، وقد یکون محتملاً للأمرین من دون ظهورٍ في أحدهما، کقولک: «قرأت القرآن» و «طالعت الکتاب» وهکذا.

والحاصل: أنّ الإسناد في حدّ نفسه أعمّ من الاستیعاب وعدمه، والانصراف إلی الاستیعاب في بعض الموارد کالانصراف إلی عدمه في موارد اُخر إنّما هو لخصوصیّةٍ في الموارد موجبةٍ للانصراف إلیه، لا لأنّه حقیقةٌ فیه بحیث یکون مجازاً في خلافه.

ومنها: علاقة العموم و الخصوص، فزعموها مصحّحة لاستعمال الخاصّ في العام، ومثّلوا له بقول الشاعر: «ومرسناً مسرَّجاً» قالوا: إنّ المرسن عبارةٌ عن

ص: 85


1- . سورة البقرة: 19.

أنف الناقة، استعمل في مطلق الأنف، فاُطلق علی أنف المحبوبة. ولاستعمال العامّ في الخاصّ، ومثّلوا له بمثل «جاءني رجل» إذا اُرید منه الفرد الخاصّ من حیث الخصوصیّة.

وفیه: أنّها لو تمّت لاطّردت وصحّ أن تقول: «رکبت إنساناً» مریداً به فرساً أو حماراً، بأن تستعمله في مطلق الحیوان وتطلقه علی أحدهما، و «جاءني زید» مریداً به عمرواً أو بکراً، بأن تستعمله في مطلق الرجل وتطلقه علی أحدهما، و «زوّجت رجلاً» بأن تستعمله في مطلق الإنسان وتطلقه علی امرأة، و «علمت جسماً مریداً به رجلاً»، و «غرست جوهراً» مریداً به شجراً، و «أکرمني حیوان» مریداً به رجلاً، و «زوّجت حیواناً أو جوهراً» مریداً به امرأة، وهکذا من الأمثلة المضحکة التي لا تخفي فسادها علی من له أدنی مسکة.

وأمّا «المرسن» فلا تجوّز في إطلاقه علی أنف المحبوبة ، لأنّه في الأصل اسم مکانٍ من «الرسن» فغلّب علیه الاسمّية، فصار اسماً لمطلق الأنف، وإطلاقه علی أنف الناقة من باب إطلاق الکلّي علی الفرد. هذا إذا قلنا بصیرورته اسماً، وإن قلنا ببقائه علی معناه الأصلي فهو صادقٌ علی أنفها أیضاً باعتبار کونه محلّاً للحلي المشبّه بالرسن فعلاً أو اقتضاءً، فلا یرتبط بما توهّموه من استعمال الخاصّ في العام.

وقد یتوهّم أنّه من هذا الباب استعمال الاسم في المسمّی به، المسمّی ب-«عموم المجاز» عندهم.

وهو باطلٌ أیضاً، لما اتّضح لک غایة الاتضاح: من أنّ الاسم مستعملٌ في عنوان المسمّی دائماً، ولا تجوّز فیه بوجه، ولو لا أنّه حقیقةٌ لم یکن للحقیقة أصلٌ أصلاً.

ص: 86

وأمّا استعمال الکلّي في الفرد فلم یقع أبداً لا من حیث الخصوصیّة ولا من حیث إنّه فردٌ من الأفراد، وإنّما الواقع هو إطلاق الکلّی علی الفرد واستفادة الخصوصیّة إنّما هي من المورد، فإنّ اللفظ من حیث الاستعمال إنّما یکون ناظراً إلی المفهوم الکلّي، ولا نظر له من هذه الحیثیّة إلی الفرد أبداً، وإنّما یطلق المفهوم علی فردٍ لا بعینه تارةً وعلی الفرد المعیّن بمعونة المورد اُخری، کما قد یراد منه المفهوم من حیث هو مع قطع النظر عن الأفراد، کقولک: «الرجل خیرٌ من المرأة».

فاختلاف الصور إنّما هو في الإطلاق الراجع إلی المفهوم، ،لا یختلف استعمال اللفظ باعتباره، ولو اختلف باعتباره لکان في صورة إطلاقه علی الفرد من حیث إنّه فردٌ من أفراد الکلّي مجازاً أیضاً، مع أنّه حقیقةٌ بالضرورة عندهم، فالتفصیل بینه وبین إطلاقه علی الفرد الخاصّ بقید الخصوصیّة - کما اشتهر بینهم - غلطٌ لا وجه له.

فإن قلت: فعلی هذا یلزم أن تکون الأمثلة المضحکة صحیحةً، إذ کما یصحّ إطلاق النوع والصنف علی الفرد، یصحّ إطلاق الجنس القریب والبعید علیه أیضاً، فما المانع من صحّتها؟

قلت: لا مانع من الإطلاق في حدّ نفسه، وإنّما المانع من الصحّة إسناد الحکم المذکور في القضیّة؛ فإنّ الحکم إنّما یصحّ إسناده إلی الکلّي إذا صحّ الغمض والصفح عن خصوصیّة الفرد وجعله من شؤون المفهوم الکلّي، کقولک: «جاءني رجل» مکان «جاءنيزید»، فإنّه کما یجوز أن تقول: «جاءنژ زید» نظراً إلی الفرد بعینه، یجوز «جاءني رجل» صفحاً عن خصوصیّة الفرد في مرحلة الاستعمال، ولا ینافي ذلک تعیین الفرد بمعونة المورد. بخلاف الأمثلة المذکورة، فإنّه لا یجوز جعل التزویج من شؤون الحیوان وصفح النظر عن کون المزوّجِ امرأةً

ص: 87

فضلاً عن کونها إنساناً، وهکذا الأمر في سائر الأمثلة المضحکة.

هذا إذا قلنا باستعمال اللفظ في المفهوم الکلّي وإطلاقه علی الفرد، وأمّا إذا قلنا باستعماله في الخاصّ - ما توهّموه - یلزم أن تکون الأمثلة کلّها صحیحةً، لعدم إسناد الحکم حینئذٍ إلی الکلّي حتّی یکون مستهجناً، فتبصّر.

ومنها: علاقة ما کان أو ما یکون الشيء علیه، وعبّر عنهما غیر واحد ب-«علاقة المشارفة والأول» ومثّلوا لهما بقوله تعالی: ﴿وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾(1) وبقوله تعالی: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً﴾(2) وبقوله (صلی الله علیه و آله) : «من قتل قتیلاً فله سلبه»(3) وقوله: «من صوّر صورةً فهو کذا» وقولک: «مات میّت» و «کتبت کتاباً» وأمثال ذلک.

وفیه: أنّها لو صحّت لاطّردت، وبطلان اللازم بیّنٌ؛ أتری أنّه یصحّ قولک: تجب الصلاة علی النطفة أو العلقة أو المضغة أو الجنین أو الرضیع أو الصغیر بعلاقة ما کان؟ أو لمن شرب العصیر أو باعه أو اشتراه: إنّه شرب الخمر أو باعها أو اشتراها بعلاقة الأول؟

والموارد التي زعموا صحّة الاستعمال فیها بالعلاقة المذکورة لیست من هذا الباب.

أمّآ قوله تعالی: ﴿وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾(4) فلا تجوّز فیه بوجهٍ، لأنّ

ص: 88


1- . سورة النساء: 2.
2- . سورة یوسف: 36.
3- . صحیح البخاري 4: 57.
4- . سورة النساء: 2.

الآیة في مقام بیان وجوب أیتاء مال الیتیم وعدم جواز أکله، وأمّا أنّه حال الیتم أو بعد انقطاعه وکماله بالبلوغ فلا نظر لها إلیه، وإنّما یستفاد ذلک من دلیل خارج.

وهکذا لا تجوّز في الأمثله المذکورة، فإنّ المبادئ إذا تحقّقت في الخارج فإن کانت متعدّیةً ینتزع منها عنوانا الفاعل والمفعول لطرفي المبدأ، وإن کانت لازمةً ینتزع منها عنوان الفاعل فقط، والعناوین المنتزعة متأخّرةٌ عن وجود المبدأ طبعاً مقارنةٌ له زماناً لاتّحاد الأمر المنتزع مع منشأ انتزاعه، فصحّت نسبة المبدأ حینئذٍ إلی عنوان الطرف المنتزع من المبدأ، إذ یکفي في صدق النسبة التقارن الزماني، ولا یلزم فیه تقدّم عنوان الطرف علیها وإن کان منصرف الإطلاق تقدّمه علیها، فیقال: «من کتب کتاباً فله کذا» و «من قتل قتیلاً فله سلبه» و «من صوّر صورةً فهو کذا» و «مات میّت» و «قام قائم» و «قعد قاعد» و هکذا، فلا تجوّز فیها أصلاً، لا في الطرف ولا في النسبة.

وأمّا قوله تعالی: ﴿أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً﴾(1) فالتجوّز فیه إنّما هو في الإسناد لا في الکلمة، بیان ذلک: أنّ کلّ فعلٍ تعلّق بشيءٍ لتحصیل شيءٍ آخر مترتّبٍ علیه وتمحّض فیه، یوجب تنزیل تعلّقه الثانوي بالشيء المترتّب علیه منزلة وقوعه علیه والتعلّق به الموجب لصحّة التعبیر عن متعلّق الفعل به، فإنّ المترتّب علیه کذلک وإن لم یکن متعلّقاً ابتدائیّاً للفعل في مرحلهة الخارج إلّا أنّه ولولاه لم یصدر الفعل عن الفاعل، فنزّل تعلّقه الابتدائي في مرحلة النظر منزلة التعلّق الابتدائي في الخارج، فصحّ التعبیر عن المتعلّق بالمترتّب علیه وإسناد

ص: 89


1- . سورة یوسف: 36.

الفعل إلیه أوّلاً.

فاتّضح بما بیّناه غایة الاتّضاح: وجه إسناد العصر إلی الخمر في الآیة الکریمة، وأنّ التجوّز فیها إنّما هو في الإسناد لا في الکلمة، فإنّ الخمر مستعملةٌ في معناها الحقیقي لا في العصیر؛ ولذا لا یتجاوز هذا التجوّز عن العصر إلی سائر الأفعال التي لا تکون مقدّمةً للخمر، فلا یقال لمن شرب العصیر أو باعه أو اشتراه: «إنّه شرب الخمر أو باعها أو اشتراها» ولو صحّ التجوّز بالخمر عن العصیر لصحّ الاستعمال في الموارد المزبورة.

ولا فرق فیما بیّناه بین کون المترتّب المنظور متولّداً من الفعل المذکور منتزعاً منه متّحداً معه اتّحاد الأمر المنتزع مع منشأ انتزاعه، کجعل العنب خمراً بالنسبة إلی عصره، وکونه مترتّباً علیه من دون أن یکون منتزعاً منه، کجعله کذلک بالنسبة إلی غرس شجرة، فإنّهما متباینان ولکلٍّ منهما وجودٌ مغایرٌ لوجود الآخر في الخارج، ومع ذلک صحّ نسبة الغرس إلی الخمر إذا کان المقصودمنه تحصیل الخمر من ثمر المغروس، ففي الخبر: «إنّ الله لعن غارسها وعاصرها... الخ».(1)

وقد تبیّن لک ممّا بیّناه: أنّه کما لا یطّرد الاستعمال مع الأول والمشارفة کذلک قد یصحّ مع عدم تحقّق الأول فضلاً عن المشارفة، فإنّ المغروس - وهو الشجر - لا یؤول إلی صیرورته خمراً، وإنّما الذي یؤول إلیها هو الثمر الذي یؤخذ منه.

ومنها: علاقة السببیّة والمسبّبیّة، فزعموا أنّها تصحّح التجوّز في کلٍّ من طرفیها، ومثّلوا لاستعمال لفظ السبب في المسّب بإطلاق الید علی القوّة والنعمة،

ص: 90


1- . وسائل الشیعة 17: 301، الباب 34 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحدیث 4.

وبقولک: «رعینا الغیث» و «فلان أخذ دم أبیه أو أکله» وللعکس بإطلاق الطهارة علی الوضوء والغسل والتیمّم، والعقد علی الإیجاب والقبول، ومثّل له أهل البیان بمثل «أمطرت السماء نباتاً».

وفیه: أنّها لو تمّ- لاطّردت وصحّ استعمال النجّار في السریر، والسریر في النجّار، وجاز قولک: «اشتریت النجّار» و «نمت علیه» و «جاء السریر ومات»، بل استعمال الخالق في المخلوق وعکسه، لأنّ الخالق أقوی مراتب الفاعل، والفاعل أقوی مراتب السبب، فإذا کان الضعیف مؤثّراً فالأقوی أولی بذلک وبطلان اللازم في کمال الوضوح.

نعم، یطّرد الحمل والإطلاق من الطرفین إذا کان التسبیب علی وجه الانتزاع والتولید الموجب لاتّحادهما في الوجود، فیقال: الضرب تأیبٌ أو ظلمٌ أو قصاص، والإلقاء في النار إحراقٌ، والقتل هو قطع الرأس أو شقّ البطن مثلاً، والتذکیة هي فري الأوداج الأربعة، فیحمل کلٌّ منهما علی الآخر من جهة الاتّحاد والعینیّة في الوجود، فلا تجوّز فیه بوجهٍِ إذ لم یستعمل أحدهما في مفهوم الآخر.

وبما بیّناه انکشف لک أنّه لا تجوّز في إطلاق الطهارة علی الأفعال الثلاثة، حتّی یکون العلاقة المجوّزة له السببیّة والمسبّبیّة أو أمرٌ آخر، إذ لا وجود للطهارة في الخارج سوی الأفعال الثلاثة إن أخذناها بمعناها المصدري المشتمل علی النسبة الناقصة المعبّر عنه في الفارسیّة ب-« پاکیزه شده» لانتزاعها عن وجود الأفعال الثلاثة الدائرة مدارها حدوثاً وبقاءً، وإن أخذناها بمعناها الاسمي العاري عن النسبة المعبّر عنه في الفارسیّة ب-«پاکیزگی» الذي هو موضوعٌ للآثار والأحکام المبحوث عنه في الفقه، المعبّر عنه في لسان أهل العصمة ب-«النور»، الباقي بعد انقضاء الأفعال الذي لا ینتقض إلّا بالحدث، فهي متّحدةٌ معها في

ص: 91

مرحلة الحدوث، لانتزاعها عن حدوث الأفعال، کانتزاع الفسق عن حدوث المعصیة الکبیرة، فإنّ الاُمور المنتزعة متّحدةٌ مع منشأ انتزاعها في الخارج، سواء انتزعت من وجود المنشأ أو حدوثه، غایة الأمر أنّ الاتّحاد في الصورة الاُولی أتمّ وأظهر.

وبما بیّناه انکشف لک الحال أیضاً في إطلاق العقد والبیع علی الإیجاب والقبول، إذ له اعتباران أیضاً:

فإن اُخذ بمعنی اسم المصدر - وهو نفس الحدث مع قطع النظر عن النسبة - فمدلوله هي العلقة الحاصلة من ارتباط حبل المعقود علیه بحبل المعقود به المتولّدة من الإیجاب والقبول، فإطلاقه علیهما حینئذٍ باعتبار الاتّحاد في مرحلة الحدوث. والمبحوث عنه في الفقه والموضوع للآثار والأحکام لزوماً وجوازاً وهکذا والقابل للبقاء والانحلال بالإقالة وأسباب الفسخ إنّما هو هذا المعنی.

وإن اُخذ بمعنی المصدر - وهو الحدث المشتمل علی النسبة الناقصة - فمدلوله إیجاد العلقة المزبورة المنطبق علی الإیجاب والقبول، فإطلاقه علیهما حینئذٍ باعتبار انتزاعه من وجودهما الموجب لدورانه مدارهما حدوثاً وبقاءً، ویعبّر عن هذا المعنی في الفارسیّة ب-«گره بستن» وعن المعنی الأوّل ب-«گره».

فاتّضح بما بیّناه أنّ العقد والبیع لم یستعملا في الإیجاب والقبول حتّی یکونا حقیقتین أو مجازین فیهما، فتوهّم أنّهما مشترکان في المعنیین - کتوهّم أنّهما مجازان في أحدهما - في غیر محلّه.

وأمّا مثال أهل البیان «أمطرت السماء نباتاً» فهو نظیر «أراني أعصر خمراً» من باب المجاز في الإسناد، لأنّ ذلک إنّما یقال حیث یکون المطر ممحَّضاً للإنبات، کما إذا نزل في فصله ومحلّه، لا في کلّ مطرٍ ولو في غیر أوانه.

ص: 92

وأمّا إرادة القوّة والنعمة من الید فهي من باب الکنایة وذکر الملزوم وإرادة اللازم، فلیس من باب المجاز في شيءٍ حتّی یتوهّم أنّ العلاقة فیها هي السببیّة، فإنّ القوّة من لوازم الید، کما أنّ الإنعام من لوازمها أیضاً، فقد یکنّی بها عن الاُِولی، کما قد یکنّی بها عنالثانیة.

وأمّا «رعینا الغیب» فالظاهر أنّه حقیقةٍ، لأنّ الغیث کالصعب صفةٌ لا اسم، فهو ما یتّصف بالغوث والإغاثة علی وجه الحمل، فینطبق علی المطر باعتبار إغاثته للناس بإنبات النبات، وعلی النبات باعتبار أنّه السبب لبقاء حیاتهم بالتغذّي منه، فلا یکون إطلاقه علی النبات مجازاً. ولو سلّم اختصاصه بالمطر فنقول: إنّه استعارةٌ باعتبار شباهة النبات به في أظهر خواصّه وهي الإغاثة للناس.

ولک أن تقول بأنّه مجازٌ في الإسناد، بأن یقال: ترکیب هذا الکلام إنّما هو ممّن تتبّع مواضع القطر والمطر، فأسند الرعي إلی الغیث للتنبیه علی عمومه لمواضع القطر وعدم اختصاصه بمکان دون مکان، وأنّ الجامع للمرعی إنّما هو الغیث، فهو حینوذٍ نظیر «اسئل القریة والعیر» علی ما سنبیّنه لک من وجه الاستعمال فیهما، إن شاء الله تعالی.

وأمّا قولک: «فلان أخذ دم أبیه أو أکله» فلا تجوّز فیه أصلاً، لأنّ الدیة بدلٌ عن الدم، والبدل متّحدٌ مع المبدل، فالأخذ به أخذٌ للمبدل في نظر العرف، فهو نظیر قولک: «فلان أخذ ماله» إذا أخذ مثله أو قیمته ممّن أتلفه، وبهذه الملاحظة یملکه الآخذ بملک الأصل لا بتملّکٍ جدید، مع أنّ الموضوع مشخِّصٌ للعرض، ولا یعقل انتقال العرض من موضوع إلی موضوع.

وهذا الاتّحاد جهةٌ عرفیّةٌ حقیقیّةٌ لیست من سنخ التجوّز والتأویل، وله

ص: 93

نظائر في العرف والشرع، فإنّ الخلافة بالاستحقاق قائمةٌ بمستحقّها ولا یعقل انتقالها منه إلی غاصبها، ومع ذلک یری العرف قیامها بالغصب بملاحظة اتّحادها مع السلطنة القائمة به في الآثار، ولذا یتحقّق الغصب فیها، إذ لو لاه لم یکن للغصب فیها مجال، فالسلطنة القائمة بالغاصب عین الخلافة القائمة بسمتحقّها من وجهٍ وغیرها من وجه، فبملاحظة الجهة الاُولی یصدق الغصب تحقیقاً ویجب علیه تفویضها إلی مستحقّها، وبملاحظة الجهة الثانیة صحّ أن یقال: إنّها خلافةٌ باطلة ویحرم علی الرعیّة التمکین لمن قام بها، وهکذا الأمر في سائر الحقوق المغصوبة الشرعیّة أو العرفیّة.

وأشبه نظیرٍ باتّحاد البدل مع مبدله اتّحاد الخلیفة مع المستخلف الموجب لکون إطاعته إطاعةً للمستخلف، ومخالفته مخالفةً له تقحیقاً.

والحاصل أنّ اتّحاد البدل مع المبدل جهةٌ عرفیّةٌ واقعیّةٌ یوجب أن یکون الأخذ بالبدل واستیفائه عین الأخذ بالمبدل واستیفائه تحقیقاً، فنسبة الأخذ إلی المبدل باعتبار أخذ البدل لا یرجع إلی التجوّز في الکلمة أو النسبة.

ولا ینافي ما بیّناه استناد التجوّز إلی الاتّحاد بین المعنیین أیضاً، لأنّ الاتّحاد بین الأمرین علی أنحاء مختلفة: فمنها: ما یوجب التوسّع في التعبیر عن الفرع بالأصل، ولا یوجب أن یکون الحکم المسند إلیه مسنداً إلی الأصل، وهو الاتّحاد التشبیهي التنزیلي. ومنها: ما یوجب الاتّحاد في خصوص الأخذ والاستیفاء، کاتّحاد البدل مع المبدل التالف. ومنها: ما یوجب الاتّحاد في البیعة والإطاعة والعصیان، کاتّحاد الخلیفة مع المستخلف. ومنها: ما یوجب الاتّحاد علی وجهٍ آخر، کاتّحاد الحقّ المغصوب القائم بالغاصب مع الحقّ القائم بمستحقّه.

ص: 94

وبالجملة: لمّآ کان المقوّم والعمدة في مرحلة الضمان واشتغال الذمّة إنّما هي المالیّة، فمع تعذّر ردّ العین بعینها لأجل التلف وما بمنزلته تبقی العمدة وتلغی الخصوصیّة الشخصیّة، فیقوم مقامها المثل أو القیمه لوفائه بما هو العمدة، ویصیر استیفاؤه استیفاءً للتالف وموجباً لبراءة ذمّة المتلف في نظر العرف تحقیقاً لا تجوّزاً لصفحهم النظر عن الخصوصیّة الشخصیّة حینئذٍ، ومع ذلک لا یصدق علیه اسم المبدل ولو مجازاً. ألا تری أنّه لا یصحّ إطلاق الفرس علی النقد المأخوذ عوضاً عنه؟ لأنّ الموجب لصحّة استعمال اللفظ في غیر معناه الحقیقي إنّما هي الشباهة التامّة في أظهر خواصّه، لا مجرّد المطابقة في القیمة والمالیّة، فتبصّر.

ومنها: علاقة الشرط والمشروط، فجوّزوا استعمال لفظ الشرط في المشروط، کما في قوله تعالی: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾(1) حیث فسّر الإیمان فیها بالصلاة، وهي مشروطةٌ به، فاُطلق لفظ الشرط علی المشروط مجازاً.

وفیه: أوّلاً: أنّها لو تمّت لصحّ الاستعمال من طرفیها، لأنّها علاقةٌ وحدانیّةٌ لا تقبل التفکیک، مع أنّهم لم یذکروا العکس.وثانیاً: أنّها لو صحّ- لاطّردت، وبطلان اللازم من أوائل البدیهیّات، أتری أنّه یصحّ أن تقول: «غسلت أو اغتسلت أو سترت عورتي» أي صلّیت، أو «استطعت» أي حججت، أو «تملّکت النصاب» أي زکّیت، وهکذا؟ کلّا ثمّ کلّا.

والتفسیر المذکور علی تقدیر صحّته لا یبتني علی ما توهّموه، بل الوجه فیه

ص: 95


1- . سورة البقرة: 143.

أنّ الصلاة عین الإیمان - کما نطقت به الأخبار،(1)ویقتضیه تعریف الإیمان ب-«الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان والعمل بالأرکان» - وقد اشتهر أنّ کمال الإیمان بالأعمال، فالعبادة لله والإقبال إلیه بإتیان وظائف الإیمان عین الإیمان به، کما أنّ الإدبار والتمرّد عنه بارتکاب المحرّمات وترک الواجبات عین الکفر به، وإن کان لکلٍّ من الإیمان والکفر مراتب ودرجات، والأصل في مراتب الإیمان هو الاعتقاد بالقلب، کما أنّ الأصل في مراتب الکفر هو الإنکار.

ومنها: علاقة الاقتران، وتنحلّ إلی علائق سبعة: لأنّ اقتران الشیئین إمّا بکون أحدهما حالّاً والآخر محلّاً، وإمّا بکون أحدهما ظرفاً والآخر مظروفاً، وإمّا بکون أحدهما حاملاً والآخر محمولاً، وإمّا بعروضهما في محلٍّ واحد، وإمّا بتجاورهما في الحیّز أو الخیال أو الذکر.

وهذه العلائق السبعة کلّها باطلة، وزعموها مصحّحةً للتجوّز.

أمّا الاُولی - وهي علاقة الحالّ والمحلّ - فقالوا: إنّها تصحّح التجوّز من الطرفین، ومثّلوا لاستعمال لفظ المحلّ في الحالّ بقوله تعالی: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾(2) وللعکس بقوله تعالی: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾(3) أي في الجنّة، لحلول الرحمة فیها.

وفیه: أوّلاً: أنّها لو تمّت لاطّردت، وبطلانه من أوضح الواضحات؛ ضرورة أنّه لا یصحّ قولک: «جاءني الدار أو الحمّام أو السوق أو المسجد» أي

ص: 96


1- . اُنظر وسائل الشیعة، الباب 11 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها.
2- . سورة یوسف: 82.
3- . سورة آل عمران: 107.

أهلها ولو شخصاً واحدً منهم، و«رأیت القریة أو ضربتها أو رکبتها أو أکلتها أو شربتها أو زوّجتها أو اشتریتها» وأنت ترید شخصاً أو حماراً أو مأکولاً أو مشروباً أو امرأةً أو خبزاً من القریة، وقولک: «صلّیت في زید ولجست فیه» أي في داره، و«اشتریته أو بعته» أي داره، وهکذا من الأمثلة المضحکة القبیحة.

وثانیاً: أنّه لو استعملت القریة في الأهل في المثال المذکور لم یجز إضافتها إلیه، مع أنّ صحّة الإضافة فیها وفي أمثالها مسلّمة لا شبهة فیها؛ ألا تری أنّه یصحّ قولک: «سل قریة ربیعة أو دار بني فلان» مثلاً.

وثالثاً: أنّ إسناد السؤال إلی القریة والعیر المعطوف علیها في الآیة الکریمة من بابٍ واحد، ولا یجري فیه العلاقة المزبورة، فلا تستند صحّة الاستعمال إلی ما توهّموه، وکأنّهم غفلوا عنه، وإلّا کان مقتضی أفهامهم أن یخترعوا له علاقةً اُخری، وهي علاقة الراکب والمرکوب.

والتحقیق: أنّه لا تجوّز في الکلمة أصلاً في مثل «اسئل القریة» ونحوها، وأنّ التجوّز فیه إنّما هو في الإسناد، فإنّه إذا اُرید إسناد السؤال أو حکمٍ آخر إلی أهل القریة أو القافلة من دون اختصاصٍ بشخصٍ خاصٍّ منهم یجوز التوسّع فیه بإثباته لنفس القریة والقافلة للتنبیه علی عموم الإسناد لکلّ من کان من أهله، وأنّ المائز للمسؤول عن غیره إنّما هو العنوان الجامع، وهو احتواء القریة أو القافلة علیهم، وأنّه لیس في أهل القریة أو القافلة من ینفرد بالعلم بالمسؤول عنه لشیوعه بینهم. ویحسّن هذا التوسّع إشعار القریة والعیر بالأهل، لأنّ القریة من «القري» وهي الضیافة، فالبلد لکونه مجمعاً للناس ومحلّاً للقري سمّي بالقریة.

کما أنّ الدوابّ - من الخیل والبغال والحمیر والآبال - باعتبار تردّدها ذهاباً إلی المقصد وإیاباً عنه المستلزم لمصاحبة ذوي العقول معها تسمّی «عیراً» لأنّها

ص: 97

من «عار» «یعیر» إذا تردّد في الذهاب والإیاب، کما أنّها باعتبار الرجوع عن السفر تسمّی «قافلة» لأنّها من «قفلت عن السفر» أي رجعت عنه.

فإن قلت: علی ما ذکرت یلزم أن یصحّ «أکرم القریة» أو «جئني بها» إذا اُرید إکرام واحدٍ من أهلها لا بعینه من دون اختصاصٍ بواحدٍ معیّن أو مجيء واحدٍ منهم کذلک، مع أنّه من الواضح المعلوم فساده.قلت: إنّما یصحّ إسناد حکم إلی القریة إذا صحّ إسناده إلی أهلها، وإسناده إلیه إنّما یصحّ إذا کان الحکلم عامّاً له، فإن اکتفي في صحّة الإسناد بالعموم البدلي باعتبار خصوصیّة المورد، کما في الأمر بالسؤال من أهل القریة - حیث إنّ الغرض منه کشف الواقع المتحقّق بالسؤال عن بعض أهل القریة - اکتفي في إسناده إلی القریة أیضاً بالعموم البدلي المتحقّق بواحدٍ لا بعینه، وإلّا لا یصحّ إسناده إلیها إلّا مع الاستیعاب والعموم الشمولي، کما في المثالین المزبورین، فإنّ إسناد الإکرام والمجيء إلی أهل القریة لا ثصحّ إلّا مع إرادة الاستیعاب، ألا تری أنّه لا یصحّ قولک: «أکرم أهل القریة» أو «جئني بهم» باعتبار واحدٍ منهم لا بعینه، فکما لا یصحّ إسنادهما إلی أهل القریة إلّا عند إرادة الاستیعاب والعموم الشمولي، فکذلک لا یصحّ إسنادهما إلی القریة إلّا مع إرادة الاستیعاب.

وهکذا الأمر في غالب الأحکام، کإسناد الظلم والإهلاک وأمثالهما إلی القریة، فإنّه لا یصحّ إلّا مع الاستیعاب والعموم الشمولي.

وأمّا مثال العکس فهو حقیقةٌ لا مجاز فیه حتّی في الإسناد، إذ الکون في کلّ شيءٍ بحسبه، فقوله تعالی: ﴿فِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾(1) نظیر قولک: «هو في الثروة

ص: 98


1- . سورة آل عمران: 107.

والنعمة» و «ذاک في الفقر والتعب» وأمثال ذلک، فإنّه لا یراد منها محلّ الثروة والنعمة والفقر والتعب، کما هو ظاهر.

وأمّا الثانیة - وهي علاقة الظرف والمظروف - فقد مثّلوا لاستعمال الظرف في المظروف بمثل «شربت الکوز والکأس» و «اُریق القریة» و «جری النهر والمیزاب» و «سال الوادي» ونظائر ذلک، ولم یمثّلوا للعکس.

وفیه: أوّلاً: أنّها لو تمّت لاطّردت، وعدم الاطّراد

أوضح من أن یبیّن؛ ضرورة عدم صحّة قولک: اشتریت الکوز أي مائه، أو الشبکة أي الحوت، وشرب القفس أي الطیر الذي فیه.

وثانیاً: أنّها لو صحّ- لصحّت من الطرفین، ولعلّهم لا یلتزمون به.

وثالثاً: أنّه لو کانت الظروف في الأمثلة المزبورة مستعملةً في المظروف لما جاز إضافتها إلیه، مع أنّه یصحّ قولک: «شربت کوز الماء» و «اُریق قربة الماء» و «جری نهر الماء» بالضرورة.

ورابعاً: أنّ توصیف النهر بالجاري في قولک: «شقّ نهراً جاریاً» یدلّ علی بطلان ما توهّموه، وأنّه مستعملٌ في معناه الحقیقي، وإلّا لم یصحّ إسناد الشقّ إلیه.

فالتحقیق أنّ «شربت الکوز والکأس» ونحوهما حقیقةٌ ولا تجوّز فیه أصلاً، و «جری النهر والمیزاب» و «سال الوادي» وأمثالها مجازٌ في الإسناد لا في الکلمة.

توضیح الحال: أنّ الظرف إن تمحّض في الظرفیّة لحدثٍ خاص ذاتاً أو جعلاً صحّ التوسّع في إسناده إلیه باعتبار تمحّضه له، ولذا صحّ أن یقال: «جری النهر والمیزاب» و «سال الوادي» من جهة تمحّضها ذاتاً لأن تکون مجریً للماء ومسیلاً للسیل، وأن یقال: «صام نهاره» و «قام لیله» أو «نهاره صائم» و «لیله

ص: 99

قائم» من جهة تمحّضهما في الصوم والقیام عرضاً، فالأمثلة کلّها من بابٍ واحد، فکما أنّ التجوّز في المثالین الأخیرین إنّما هو في الإسناد بالضرورة، فکذلک في الأمثلة المتقدّمة. ووجه لزوم الإضافة فیهما أنّ التمحّض فیهما للصوم والقیام إنّما هو بالنسبة إلی نهار شخصٍ خاص ولیله لا في مطلق النهار واللیل، فالتجوّز في أمثال هذه الموارد یدور مدار التمحّض لا الظرفیّة، وواقعٌ في الإسناد لا في الکلمة.

وبما بیّناه ظهر الحال في «اُریق القربة» فإنّها لمّا تمحّضت في کونها وعاءً للماء صحّ إسناد الإراقة التي هي من توابع ظرفیّتها له إلیها. وأمّا قولک: «شربت الکوز والکأس» ونحوهما فکنایةٌ عن مقادیرها من باب ذکر الملزوم وإرادة اللازم، وهذه کنایةٌ شائعةٌ في العرف فلا تجوّز فیها أصلاً لا في الکلمة ولا في النسبة.

وأمّا الثالثة - وهي علاقة الحامل والمحمول - فزعموها مصحّحةً للتجوّز من الطرفین، ومثّلثوا لاستعمال الحامل في المحمول ب-«الروایة» إذا اُرید منها المزادة، بزعم أنّها حقیقةٌ في البعیر الحامل للماء، وللعکس باستعمال «الحفض» بفتحتین الذي هو متاعالبیت في البعیر الحامل له.

وفیه: أنّها لو تمّت لاطّردت وصحّ أن یقال: «اشرتیت حماراً» أي حطباً محمولاً علیه، و «نهق الحطب» أي الحمار الحامل له، وفساده من أوضح الواضحات.

وأمّا «الروایة» فلا تکون اسماً للبعیر الحامل للماء حتّی تکون في المزادة مجازاً، وإنّما هي اسم فاعلٍ من «الري» فتصدق علی کلٍِّ من المزادة والبعیر الحامل لها باعتبار أنّه منشأ للري، فلا وجه لتوهّم کونه حقیقةً في أحدهما مجازاً

ص: 100

في الآخر، بل المنشأیّة للري في المزادة أقرب، کما لا یخفی.

وهکذا الأمر في «الحفظ» فإنّه ک-«حسن» صفةٌ، ولا یکون اسماً لمتاع البیت، ولذا لا یطلق علیه مطلقاً، بل إذا هیّئ للحمل، ففي القاموس: «والحفض - محرّکةً - متاع البیت إذا هیّئ للحمل» فهو بمعناه الوصفي ینطبق علی المتاع المعدّ للحمل والبعیر الذي یحمله.

وأمّا الرابعة - وهي علاقة العرضو في محلّ واحد - فأشنع من الکلّ، إذ ما من شيءٍ إلّا وهو معروضٌ لأعراضٍ مختلفةٍ متشتّتة، فلو کان مجرّد الاتِّحاد في الموضوع علاقةً مصحّحةً لجاز استعمال بعضها في بعضٍ مطلقاً، وفساده ممّا لا یخفی علی من له أدنی مسکة.

وأمّا تمثیلهم لها بإطلاق الحیاة علی العلم فأقبح، إذ لو استند صحّة إطلاق الحیاة علی العلم باتّحادهما في المعروض لجاز إطلاق العلم علی الحیاة، بل إطلاقها علی الجهل أیضاً، لاشتراکها معه في الموضوع، ضرورة أنّ الموضوع للعلم والجهل أمرٌ واحد، وبطلان اللازم أوضح من أن یبیّن.

فالصواب أنّ إطلاق الحیاة علی العلم کإطلاق الممات علی الجهل لیس مجازاً، إذ لکلّ شيءٍ حیاةٌ وموتٌ حتّی الأرض التي هي من الجمادات لها حیاةٌ وموت، فالأرواح لها حیاة وموت أیضاً، وحیاتها بالعلم کما أنّ مماتها بالجهل، ولو تنزّلنا وسلّمنا أنّه مجازٌ فهو استعارةٌ، لأنّ منزلة العلم من الأرواح منزلة الروح من البدن في الآثار.

وأمّا الخامسة - وهي المجاورة في الحیّز - فأشنع وأقبح، إذ لو کان هذا کافیاً في جواز التجوّز لاطّرد، وبطلانه غنيٌّ عن البیان.

وتمثیلهم له بإطلاق السلطان علی الوزیر لا یدلّ علی ما زعموه، فإنّ

ص: 101

السلطان بالمعنی الوصفي ینطبق علی الأمیر والوزیر حقیقةً وإن کان منصرف الإطلاق هو الأوّل، ثمّ إنّ الستناد عمل الوزیر إلی السلطان إنّما هو من جهة أنّه یدٌ للسطان في تنفیذ اُموره، فعمله مستندٌ إلی الأمیر تحقیقاً، فلم یطلق لفظ السلطان في أمثال هذه الموارد إلّا علی الأمیر. ولو قیل باختصاصه بالأمیر وضعاً فإطلاقه علی الوزیر حیثما اُطلق استعارةٌ، لشباهته به في نفوذ اُموره.

والحاصل: أنّ توهّم إیجاب مجرّد المجاورة في الحیّز لجواز التجوّز بدیهيّ البطلان.

وأمّا السادسة - وهي المجاورة في الخیال - فأشنع ودبشع من الکلّ، لأنّها لو تمّت لجاز التجوّز بها في کلّ متقابلین ولم یختصّ بالمتضادّین - کما زعموا - مع أنّ استعمال أحد الضدّین في الآخر غیر مطّرد، أتری أنّه یجوز استعمال السواد في البیاض أو الحمرة في الصفرة وبالعکس وهکذا؟ لا أظنّ تخیّله لمن له أدنی مسکة فضلاً عن التفوّه به.

وأمّا المثال الذي زعموه من هذا الباب، وهو قوله تعالی ﴿ وَجَزآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾(1) وقوله تعالی: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾(2) فأجنبيٌّ عمّا زعموه، فإنّ السیّئة والاعتداء في کلٍّ من المقامین علی سبیل الحقیقة، لأنّ السیّئة ما یسوئه الإنسان ویکرهه، سواء کان عن ظلم أم بحقّ، والاعتداء عبارةٌ عن التجاوز عن المیزان والقاعدة الأوّلیّة، سواء وقع ابتداءً أم قصاصاً وجزاءً. ولا ینافي ما بیّناه انصراف اللفظین إلی ما وقع عن ظلم، مع أنّ

ص: 102


1- . سورة الشوری: 40.
2- . سورة البقرة: 194.

التعبیر بالسیّئة والاعتداء في الجزاء للتنبیه بل التصریح بمطابقة الجزاء للمجزی عنه، فلو استعملا في غیر ما استعمل فیه الشرط بطلت المطابقة المقصودة.

وأمّا السابعة - وهي المجاورة في الذکر - فکاُختیها، بل أعجب وأغرب؛ إذ العلاقة علّةٌ لصحّة الاستعمال، فلا یعقل حصولها من قبله، لأنّ المجاورة في الذکر إنّما تحدث بعد الاستعمال. وإصلاح ذلک: بأنّ المراد جواز الإتیان باللفظ اللاحق مماثلاً للسابق قصداً للمجاورة فالعلاقة في الحقیقة هي سبق الذکر، من غرائب الکلمات؛ لأنّ مجرّد سبق الذکر لا یوجب جواز التجوّز باللفظ السابق في کلّ ما أراده المتکلّم.

وأمّا تمثیلهم لذلک بقول الشاعر:

قالوا اقترح شیئاً نجد لک طبخه *** قلت اطبخوا لي جبّةً وقمیصا

فلیس علی ما ینبغي، فإنّه من باب المجاز في الإسناد لا في الکلمة، فإنّه نسب المتکلّم الطبخ الذي التزموه له إلی الجبّة والقمیص للتنبیه علی أنّ مطلوبه الجبّة والقمیص لا المطبوخ، وأنّ احتیاجه إلیهما أشدّ من احتیاجه إلیه، فالطبخ مستعملٌ في معناه الحقیقي، ولکنّه لم یتعلّق غرضه به أصالةً، وإنّما ذکره لیسنده إلی الجبّة ولاقمیص لینتقل المخاطب إلی مرامه ومطلوبه.

وإنّما حسن هذا الإسناد في هذا المقام من جهة أنّ المخاطب زعم أنّ مطلوبه مطبوخٌ مخصوصٌ والتزم بإنجاحه، فأسند المتلکّم هذا الفعل الذي زعمه المخاطب مطلوباً له إلی المخیط تنبیهاً علی أنّ مطلوبه الخیاطة لا الطبخ.

فاتّضح لک غایة الاتّضاح: فساد ما ذکروه من العلائق سوی الاستعارة، وأنّ الموارد التي استخرجوا منها العلائق المذکروة بین ما کان حقیقةً ولم یکن فیه تجوّزٌ أصلاً، وما کان مجازاً في الإسناد لا في الکلمة، وما کان استعارةً لا مجازاً

ص: 103

مرسلاً.

ولا ینافي ذلک مع ما سبق منّا: من رجوع الاستعراة إلی التجوّز في النسبة وتطبیق عنوان المسمّی علی محلّه التنزیلي؛ لأنّ مقابلتها للتجوّز في الإسناد إنّما هي باعتبار رجوعها إلی الإسناد الضمني، بخلاف التجوّز في الإسناد الذي بیّناه في طيّ ذکر العلائق، فإنّه واقعٌ في الإسناد الصریح الثابت في الکلام.

وبالتأمّل فیما بیّناه ینکشف لک وجه صحّة الاستعمال في سائر الأمثلة التي زعموا أنّها من باب المجاز المرسل ولم نذکرها صریحاً.

السادس والعشرون: فساد سبک مجازٍ من مجاز؛ لما عرفت: من رجوع التجوّز في الکلمة إلی تطبیق عنوان المسمّی علی محلّه التنزیلي، فالمعنی الذي فرض انسباکه من المعنی المجازِي إن کان متّحداً مع المعنی الحقیقي بحیث یوجب انطباق عنوان المسمّی علیه تنزیلاً فهو معنیً مجازیٌّ ابتدائي، وإن لم یتّحد معه لا ینطبق العنوان علیه تنزیلاً حتّی یصیر معنیً مجازیّاً للّفظ.

السابع والعشرون: أنّ عنوان الاسم یختصّ بمهفومه الأصلي اللغوي بالنوع المقابل للفعل والحرف، لا أنّه سمّي به اصطلاحاً؛ إذ بعدما ظهر لک أنّ عنوان المسمّی یختصّ بالمفهوم الاسمي ولا یجري في سائر المفاهمی، ظهر لک أنّ عنوان الاسم یختصّ من بین الأنواع به، ولا یجري في قسمیه؛ ضرورة أنّ عنوان الاسم ینتزع من قیام التسمیة بلفظ، کما أنّ عنوان المسمّی ینتزع من وقوعها علی مفهوم، فهما طرفان للتسمیة، فمع تحقّقها بین اللفظ والمعنی ینتزع العنوان للطرفین، وإلّا فلا، فیستحیل انفکاک أحدهما عن الآخر.

وبما بیّناه ظهر لک أنّ ما یفهم من کلام أهل الأدب: من أنّ تسمیة هذا النوع بالاسم اصطلاحٌ منهم إمّا باعتبار أخذه من «السموّ» وهو العلو لاستعلائه علی

ص: 104

أخویه حیث یترکّب منه وحده الکلام دون أخویه، أو باعتبار أخذه من «الوسم» وهو العلامة لأنّه علامةٌ علی مسمّاه، في غیر محلّه.

تنبیه: الحدّ المذکور - مع کونه کاشفاً عن تمام حقیقة الاسم وافیاً بتمام کنهه بحیث اتّضح منه کثیرٌ من الأسرار المخفیّة علی کثیرٍ من أهل العربیّة والاُصول - مستفادٌ من تعبیر الاسم، فإنّه لا یدلّ علی أزید من أنّ له مسمّی، وهو مستفادٌ من التعبیر المذکور، فظاهر الحدّ تفسیرٌ للّفظ وشرحٌ للاسم قاصرٌ عن بیان الحقیقة، وباطنه تحدیدٌ لتمام حقیقته وکنهه، بحیث لا یتصوّر أعلی منه تحدیداً وأجلی منه توضیحاً، وهذا یکشف عن صدوره عن ینبوع العلم ومعدنه، سلام الله علیه وعلی الطاهرین من ذرّیته.

وأکثر أهل العربیّة لمّا لم یهتدوا إلی باطنه وزعموا أنّه قاصرٌ عن کشف الحقیقة عدلوا عنه و عرّفوه ب-«ما دلّ علی معنی في نفسهغیر مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة» بزعم أنّه تعریفٌ تامٌّ کاشفٌ عن حقیقته، مع أنّک قد عرفت أنّه قاصرٌ بل فاسدٌ من وجوهٍ عدیدة.

ص: 105

المبحث الثاني: في بیان الاُمور المستفادة من حدّ الفعل

المقام الثاني من الماقم الثالث:(1) في بیان الاُمور المستفادة من حدّ الفعل.

ولمّا بقي الکلام في بعض خصوصیّات الحدّ لم نوضحها حقّ الإیضاح في المقامین السابقین، فالحريّ أن نوضح الکلام أوّلاً في أطرافه.

فأقول بعون الله تعالی ومشیّته: إنّ کلّ مفهومٍ إذا لوحظ في حدّ نفسه قابلٌ لتعلّق التسمیة به، سواء کان جوهراً أم عرضاً، وجودیّاً أم عدمیّاً، فعلاً أم صفةً، وبانضمام الإسناد الحدوثي الذي هو معنی حرفي إلی المفهوم الملحوظ في حدّ نفسه یخرج المجموع عن کونه مفهوماً اسمیّاً قابلاً لتعلّق التسمیة به، وعن کونه معنی حرفیّاً؛ ضرورة أنّ المجتمع منهما خارجٌ عن کلٍّ منهما، فیکون برزخاً بینهما ومفهوماً ثالثاً ممتزجاً منهما.

ولا ینافي ما بینّاه صدق عنوان المسمّی علی مفاهیم الأسماء المشتقّة المرکبّة من الحدث والنسبة، لأنّ النسبة فیها ناقصةٌ تقییدیّةٌُ موجبة لانتزاع عنوانٍ وحدانيٍّ بسیطٍ منطبقٍ علی الذاتف فهي مضمحلّة في جنب المفهوم الاسمي، ولذا یقبل الإسناد إلیه الذي هو من خواصّ الاسم.

فإن قتل: لو أوجب انضمام الإسناد الحدوثي إلی المفهوم الاسمي حدوث مفهومٍ ثالثٍ برزخيٍّ بینهما لزم ذلک في المسند بالإسناد الاتّحادي والإضافي

ص: 106


1- . تقدّم المقام الأوّل من المقام الثالث في الصفحة 45.

أیضاً، مع أنّه من الواضح عدم حدوث مفهومٍ برزخيٍّ بواسطتهما.

قلت: الملازعة ممنوعةٌ، لأنّ الإسناد الاتّحادي والإضافي إنّما یحصلان من قبل الهیئة الترکیبیّة والحروف الجارّة التي هي طوارئ الاسم بعد تمامیّته، فلا یمتزج الإسناد الحاصل من قبلهما مع مفهوم المسند حتّی یحدث به مفهومٌ برزخيٌّ، کما لا یمتزجان مع لفظ المسند، بخلاف الإسناد الحدوثي، فإنّه إنّما یحصل من الهئیة الاشتقاقیّة الممتزجة »ع المادّة الساذجة الموجبة لتشکیلها بشکلٍ مخصوص وحدوث کلمةٍ مستقلّة، فکما أنّها متمّمةٌ ومقوّمةٌ لها في مرحلي اللفظ، فکذلک مفهومها متمّمٌ لمفهوم المادّة وممتزجٌ معه، فیحدث به مفهومٌ ثالثٌ برزخيٌّ لا یصدق علیه المسمّی ولا معنی في غیره، بل إنّما یصدق علیه حرکة المسمّی وحدثٌ عن ذات.

ثمّ اعلم أنّ المراد بالحدوث المدلول للهیئة الاشتقاقیّة هو الکون الربطي، لا الوجود الأصیل، کما نبّهت علیه بالتعبیر عنه بالإسناد الحدوثي، فلا ینتقض بمثل «وجد» و «حصل» و «حدث» و «عدم» و «فقد» وأمثال ذلک ممّا یکون المبدأ فیها هو الوجود أم العدم الذي لا یقبل الحدوث بمعنی الوجود الأصیل، لاستحالة عروض الشيء علی نفسه ونقیضه.

وبهذا البیان ظهر أنّ الحدوث یعمّ النفي والإثبات، فلا ینتقض الحدّ بالأفعال المنفیّة.

توضیح الحال: أنّ الإسناد الحدوثي الحاصل من قبل الهئیة الاشتقاقیّة ثابتٌ في الفعل مطلقاً، مثبتاً کان أو منفیّاً، والإثبات والنفي إنّما یرجعان إلی إثبات الحدث للذات ونفیه عنهف لا إلی إثبات الإسناد وسلبه، فهما طرفان للإسناد ونحوان منه، فالإسناد الثابت بین طرفیه إمّا سلبيٌّ أو إیجابي، لا أنّه منتفٍ في

ص: 107

صورة النفي، کما توهّم بعضهم وزعم أنّ القضایا السلبیّة قضایا مجازاً والحکم فیها منتفٍ. نعم، ینتفي الإسناد في الأسماء المعدودة العاریة عن النسبة، حیث إنّ المتکلّم حنیئذٍ لا یکون في مقام الترکیب والإسناد مطلقاً، لا إیجاباً ولا سلباً.

فإن قلت: مقتضی ما ذکرت وضع الهیئة للإسناد الجامع بین النفي والإثبات، فکیف یستفاد منها الإثبات عند عدم أداة النفي؟

قلت: الإثبات منصرف إطلاق الإسناأ، فینصرف إلیه عند الإطلاق وعدم اقتران إداة النفي به.والسرّ فیه أنّ اقتران أحد اللفظین بالآخر ظاهرٌ في اقتران أحد معنییهما بالآخر، فلا ینصرف عنه إلی الافتراق وسلب أحدهما عن الآخر إلّا بصارفٍ یصرفه عنه، وهو أداة النفي.

بتحقّق ممّا حقّقناه أنّ امتیاز الفعل عن قسیمیه إنّما هو بالاشتغال علی الإسناد الحدوثي ب-«حرکة المسمّی» وفي لسان من اقتبس عنهم ب-«حدث عن ذات» لا بالاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة، کما اشتهر بین المتأخّرین من أهل الفنّ.

وإذا تحقّق أنّ فعلیّة الفعل إنّما هي بالاشتمال علی المعنی البرزخي المنحلّ إلی الحدث والإسناد الحدوثي تحقّق لک أنّ تعدّد أنواعه وامتیاز بعضها عن بعض إنّما هو باعتبار اختلاف فصول هذا المعنی البرزخي، ومن المعلوم أنّ اختلاف فصوله لا یکون إلّا باعتبار اختلاف أنحاء الإسناد الحاصل من قبل الصیغ المختلفة الطارئة علی مادّته ومبدئه؛ لأنّ جمیع الأنواع مشترکةٌ في المادّة، وهي منها بمنزلة الجنس من أنواعه، ولا تختلف باختلافها.

إذا تحقّق لک ذلک، فاعلم أنّ النسبة بین الحدث والذات في الخارج

ص: 108

لا تکون إلّا حدوثه منها، وهو أمرٌ وحدانيٌّ له أنحاءٌ وأطوارٌ، وإنّما تنطوّر بأطوارٍ مختلفةٍ مترتّبةٍ باختلاف نظر المتکلّم وقصده، فالطور الأوّل من أطوارها هو الإسناد التحقّقي المنتزع من نظر المتکلّم أصالةً إلی حدوث الحدث من الذات من دون نظرٍ زائد، لأنّ النظر إلیه کذلک هو النظر الأوّلي الذاتي المتعلّق به بوجهته الأوّلیة، وفي هذا النظر یتقدّم الحدث علی الذات؛ ضرورة أنّ المنظور وهو الحدوث یتعلّق بالحدث ابتداءً وبالذات ثانیاً، والموضوع للإسناد علی هذا الوجه هو صیغة الماضي بشهادة الوجدان والاطّراد.

فالفعل الماضي - مع أنّه في عرض سائر المشتقّات في مرحلة الاشتقاق اللفظي، إذ جمیعها مأخوذٌ من المادّة الساذجة الساریة في الصور المختلفة والهیئات المتفاوتة، ولا معنی لتقدّم بعضها علی بعض في هذه المرحلة - أوّل المشتقّات في مرحلة الاشتقاق المعنوي، لأنّ مفاده أوّل الأطوار.

ومن ورائه طوران مختلفان:

أحدهما: الإسناد الاتّصافي المنتزع من نظر المتکلّم أصالةً إلی اتّصاف الذات بالحدث، فإنّه متفرّعٌ علی النظر الأوّل طبعاً، ضرورة أنّ اتّصاف الذات بالحدث فرع حدوثه منها کذلک، وفي هذا النظر یتقدّم الذات علی الحدث، فإنّ الاتّصاف یتعلّق بالذات ابتداءً وبالحدث ثانیاً.

والآخر: النسبة التحقّقیّة الناقصة التقییدیّة المنتزعة من نظر المتکلّم تبعاً إلی الحدوث وجعله قیداً للحدث.

والموضوع للإسناد الاتّصافي صیغة المضارع بشهادة الوجدان والاطّراد، والموضوع للنسبة التحقّقیّة الناقصة التقییدیّة صیغة المصدر الأوّل ک-«الکَتب» فإنّها ناظرةٌ إلی مجرّد تحقّق الحدث من الذات علی وجه التقیید، ولذا سمّي

ص: 109

مصدراً أوّلاً.

فالمضارع والمصدر الأوّل مشتقّان من الفعل الماضي بالاشتقاق المعنوي، کما أنّ الصادر عن المصدر الحقیقي - وهي المادّة الساذجة في مرحلة الاشتقاق المعنوي - إنّما هو الفعل الماضي، فإنّ المادّة الساذجة حیث لا تدلّ إلّا علی الحدث الصرف ولا تعدّد في مدلولها لا تکون لها في عالم المعنی إلّا طورٌ واحد، بخلاف الفعل الماضي فإنّه لمّا اشتمل علی الإسناد الذي له طرفان - الحدث والذات - تعدّد مدلوله وترتّب علیه طوران، واشتقّ منه أمران: فبالنظر إلی تعلّق الإسناد بالذات - وهو جنبة الاتّصاف - اشتقّ منه المضارع، وبالنظر إلی تعلّقه بالحدث - وهو جنبة التحقّق - اشتقّ منه المصدر الأوّل.

ومن وراء الإسناد الاتّصافي طوران آخران:

أحدهما: جعل الاتّصاف بالحدث قیداً للذات بحیث یصیر الحدث صفةً للذات وعنواناً منطبقاً علیها.

والآخر: جعل الاتّصاف قیداً للحدث بحیث یصیر عنواناً منطبقاً علیه.

والموضوع للأوّل صیغة اسم الفاعل واسم المفعول، والموضوع للثاني صیغة المثدر الثاني ک-«الکتاب» فإنّها ناظرةٌ إلی الاتّصاف بالکتب الذي هو فوق التحقّق، ولذا تلزم هذه الهیئة اللزوم - علی ما قیل - ومن هنا سمّي الموزون بهذا الوزن مصدراً ثانیاً.

وهنا إسنادٌ آخر من وراء الإسناد الاتّصافي، وهو: الإسناد الاتّصافي الاستقراري المترتّب علیه طوران آخران:أحدهما: جعل الاتّصاف بالحدث علی وجه الاستقرار ذاتاً أو عرضاً قیداً للذات، بحیث یصیر عنواناً منطبقاً علی الذات.

ص: 110

والآخر: جعل الاتّصاف الاستقراري قیداً للحدث بحیث یصیر عنواناً منطبقاً علیه.

والموضوع للطور الأوّل صیغة «فَعول» کطهور وصبور وشکور وهکذا، فإنّ مفادها اتّصاف الذات بالمبدأ علی وجه الاستقرار فیها ذاتاً أو عرضاً بحیث تکون کالمرکز له، والموضوع للطور الثاني صیغة المصدر الثالث، وهي صیغة «فِعالة» فإنّ مفادها الاستقرار في الاتّصاف بالحدث ذاتاً، کالسیادة والنبالة والنجابة ولاصباحة وهکذا، أو عرضاً بواسطة جعله صنعةً له أو حرفةً، کالکتابة والصیاغة والطبابة والتجارة وهکذا، ولکنّه لم یوضع للإسناد المذکور هیئةٌ اشتقاقیةٌ، ولذا انحصر الفعل في نوعین: الماضي والمضارع.

وأمّا فعل الأمر فلیس له إسنادٌ وراء الإسناد الاتّصافي الثابت في المضارع، فهو قسمٌ من المضارع ولیس نوعاً ثالثاً، واختصاصه بإفادة البعث علی الاتّصاف لا یوجب جعله نوعاً ثالثاً؛ لأنّ المضارع لا یختصّ بالإخبار عن الاتّصاف وضعاً حتّی یقابله الأمر، فإنّ صیغته موضوعةٌ للإسناد الاتّصافي، سواء کان في مقام الإخبار أم الإنشاء، ولذا یصحّ دخول أدوات الإنشاء علیه، ولو کان موضوعاً للإخبار لم یصحّ وقوعه موقع الإنشاء، کما أنّ الموضوع للإنشاء، وهو صیغة الأمر، لا یصحّ وقوعه موقع الإخبار، وظهوره في الإخبار عند عدم أداة الإنشاء وفقد القرینة الدالّة علیه إنّما هو من قبل الإطلاق لا الوضع، والوجه فیه: أنّ الإخبار عبارةٌ عن جعل الکالم في وزان الواقع وتطبیقه علیه للکشف عنه، فلا حاجة إلی مؤونةٍ زائدة، فینصرف إلیه بإطلاقه، بخلاف الإنشاء فإنّه عبارةٌ عن جعل الکلام لا في وزان الواقع بل في مقام إیجاده أو البعث علیه أو الاستفاهم عنه أو تمنّیه ترجّیه وهکذا، فیحتاج کلٌّ من خصوصیّاته إلی أرادةٍ أو ما بمنزلتها.

ص: 111

فتبیّن ممّا بیّناه اُمور:

الأوّل: أنّ ما اختاره الکوفیّون: من انحصار الفعل في نوعین الماضي والمضارع واندارج الأمر تحت المضارع، أقرب إلی الصواب ممّا اختاره البصریون واشتهر بین المتأخّرین: من تثلیث أنواعه وعدّ الأمر قسماً برأسه؛ لأنّ کلام الکوفیّین مبنيٌّ علی ما بیّناه من النظر إلی معنی الفعل وانحصار إسناده في التحقّقي والاتّصافي، وکلام البصریّین مبنيٌّ علی ملاحظة اللفظ من تثلیث هیئاته ومغایرة هیئة الأمر وصیغته لهیئة المضارع وصیغته، ومن المعلوم أنّ التنوّع إلی الأنواع لا یکون بملاحظة اللفظ فقط.

والثاني: اشتقاق المصدر المتداول في کلامهم المشتمل علی النسبة الناقصة التقییدیّة بالاشتقاق المعنوي من الفعل، فالأوّل منه من الفعل الماضي، والثاني منه من المضارع، والثالث منه من المعنی الفعلي الاستقراري الذي لم یوضع له فعل.

والثالث: اشتقاق الفعل المضارع بالاشتقاق المعنوي من الماضي.

والرابع: أنّ الخالص في الفعلیّة والأصل فیها هو الفعل الماضي، وأنّ آلمضارع مائلٌ إلی الاسم وبرزخٌ بینه وبین الفعل الماضي.

توضیح الحال: أنّک قد عرفت ممّا بیّناه أنّ المعنی الفعلي المعبّر عنه في لسان مهبط الوحي (علیه السلام) ب-«حرکة المسمّی» وفي لسان من اقتبس عنه ب-«حدث عن ذات» إنّما یتحصّل من اختلاط المفهومین: الحدث الذي هو مفهومٌ اسمي، والإسناد الحدوثي الذي هو معنی حرفي، والذات خارجةٌ عن مفهومه وإنّما یدلّ علیها الفعل التزاماً واستتباعاً من قبل الإسناد الإط هو جزء مفهومه، ومقتضی ذلک أن یکون النظر إلی الحدث أصلیّاً وإلی الذات تبعیّاً، کما هو الحال في الماضي المنبئ عن حدوث الحدث عن ذات. وأمّا العکس - وهو النظر إلی الذات

ص: 112

أوّلاً وإلی الحدث ثانیاً - کما هو الحال في المضارع الدالّ علی الاتّصاف الناظر إلی الذات أوّلاً وإلی الحدث ثانیاً، فعلی خلاف مقتضی الفعلیّة؛ لأنّ النظر الأوّلي إلی الذات من شؤون الاسم، فهو برزخٌ بینه وبین الفعل الخاصلص ومائلٌ عنه إلی الاسم، ولذا سمّي مضارعاً؛ لأنّ المضارعة بمعنی المیل والدنوّ، فمن حیث إنّه یمیل إلی الاسم ویدنو منه سمّي مضارعاً، والمیل والدنو أمرٌ فوق المشابهة التي ذکرها المتأخّرون من أهل الصناعة وزعموا أنّ تسمیته به لأجل مشابهته بالاسم، مع أنّ إتیان المضارعة بمعنی المشابهة غیر معلوم، وما توهّم کونه من هذا الباب فإنّما اُطلق علیه المضارعة باعتبار وجود معنی الدنو فیه.إذا اتّضح لک ما حقّقناه، فاعلم أنّه یستفاد من الحدّ الشریف مطالب نفیسة وفوائد شریفة:

أحدها: أنّ امتیاز الفعل عن الاسم إنّما هو بالاشتمال علی المعنی البرزخي بین المفهوم الاسمي والمعنی الحرفي، لا بالاقتران بأحد الإزمنة - کما اشتهر بین المتأخّرین من أهل الفنّ - بل قد عرفت أنّه لا یعقل دلالته علی الزمان وضعاً ولو التزاماً، فضلاً عن تقوّمه به وکونه مائزاً له عن قسیمیه.

ثانیها: أنّ اختلاف أنواع الفعل لیس باعتبار اختلاف الزمان، إذ بعدما نبّأت أنّ الفعلیّة إنّما تدور مدار المعنی البرزخي لا الاقتران بأحد الأزمنة، ظهر لک أنّ اختلاف أنواعه إنّما یکون باعتبار اختلاف خصوصیّات هذا المعنی البرزخي، فما اشتهر بین أهل الصناعة: من امتیاز الفعل الماضي عن المضارع باعتبار اقتران الأوّل بالزمان الماضي وضعاً واقتران الثاني بالحال أو الاستقبال کذلک، في غیر

ص: 113

محلّه.

ویدلّ علی فساد ما توهّموه مضافاً إلی ما عرفت وجوه اُخر:

الأوّل: أنّه لو کان کذلک لزم ارتفاع المیز بینهما إذا تجرّدا عن الزمان وصحّة استعمال إحدی الصیغتین موضع الاُخری ووفاء کلٍّ منهما بما تفي به هي، وبطلان اللازم بمکان من الوضوح، أتری أنّ تجرّد الفعل عن الزمان لوقوعه موقع الإنشاء - علی ما هو التحقیق من تجرّده عنه حینئذٍ - یوجب عدم التفاوت بین الصیغتین وکون أحدهما بمعنی الآخر في جمیع الخصوصیّات ولا فرق بینهما أبداً؟ کلّا ثمّ کلّا، فإنّ «رحمک الله» ناظرٌ إلی تحقّق الرحمة من الله، سواء وقع موقع الإخبار أم الإنشاء، کما أنّ «یرحمک الله» ناظرٌ إلی اتّصافه تعالی بالرحمة، سواء وقع موقع الإخبار أم الإنشاء، فالصیغتان متفاوتتان دائماً ولا تتّحدان أبداً.

والثاني: أنّه لو کان کذلک لزم انقلاب أحد النوعین إلی الآخر بانقلاب الزمان المقترن به في مثل «إن ضربت» و «لم تضرب» ونحوهما، وفساده من أوائل البدیهیّات التي لا تخفی علی من له أدنی مسکة.

وتوهّم أنّ النوعیّة تدور مدار الاقتران الوضعي لا الاستعمالي أوضح فساداً؛ ضرورة أنّ تقسیم الفعل إلی نوعیه الماضي والمضارع إنّما هو باعتبار معناه لا لفظه، فإذا تجرّد عن معناه الأصلي في مرحلة الاستعمال لا یعقل بقاء النوع الأصلي المستند إلیه، وإلّا لزم تقوّم النوع بالفصل الزائل.

والثالث: أنّه لو کان کذلک لکان صیغة المضارع أحقّ بالعقود والإیقاعات من صیغة الماضي، مع أنّ أهل اللسان مطبقون علی استعمال صیغة الماضي فیها، وأکثر الفقهاء حکموا بتیعّنها لها، وعلّلوه بأنّها أصرح من صیغة المضارع وغیرها من الصیغ.

ص: 114

بیان الملازمة: أنّه لو انحصر المیزبین الماضي والمضارع في اقتران الأوّل بالزمان الماضي والثاني بالحال أو الاستقبال - کما یظهر من کلمات المتأخّرین من أهل الصناعة - لکان المضارع أقرب من الماضي إلی الإنشاء، لوقوع المعنی الإنشائي في زمان الحال، فیناسبه صیغة المضارع الدالّة علی زمان الحال أو الاستقاب لبزعمهم دون صیغة الماضي الدالّة علی الزمان الماضي بزعمهم فأنسبیّة صیغة الماضی من المضارع وأصرحیّتها للعقد والإیقاع إنّما تتمّ علی ما حقّقناه: من دلالة صیغة الماضي علی تحقّق الحدث من الذات ودلالة صیغة المضارع علی الاتّصاف به، فأنّ الشخص في مقام العقد والإیقاع إنّما یکون نظره إلی وقوع العلقة في الخارج، لا إلی اتّصافه به، کما هو ظاهر.

والرابع: أنّه لو کان کذلک لکان الماضي أحقّ بدخول «لم» علیه من المضارع.

وجه الملازمة: أنّه لو لم یختلف الماضي والمضارع في کیفیّة الإسناد وانحصر الفرق بینهما في اختلاف الزمان المأخوذ فیهما لم یکن وجهٌ لاختصاص کلمة «لم» بالمضارع حینئذٍ؛ لأنّ مفادها حینئذٍ لا یکون أزید من نفي الإسناد الحدوثي في الزمان الماضي، فیصیر الماضي حینئذٍ أحقّ بها من المضارع، فاختصاصه بها یکشف عن افتراقه عن الماضي في کیفیّة الإسناد التي باعتبارها تختصّ کلمة «لم» به دون الماضي، وهي لا تکون إلّا الاتّصاف، فکلمة «لم» لنفي الاتّصاف إزلاًغ ولذا یختصّ بها المضارع، ویکون مفادها النفي في الزمان الماضي.

فإن قلت: اختصاص المضارع بها لا یدلّ علی ما ذکرت لجواز أن یکون ذلک باعتبار أنّ مفادها قلب الزمان المستقبل ماضیاًمع النفي، فلا یصلح لها الفعل

ص: 115

الماضي، لعدم تصوّر القلب إلی الزمان الماضی فیه.

قلت: القلب إنّما هو من المعاني الثانویّة لا الأوّلیّة، بل لا یکون من المعاني وإنّما هو من اللوازم المترتّبة علی إفادة الحرف معنیً مخالفاً لمدخوله في معناه الحقیقي أو الإطلاقي، فیقلبه إلی المعنی المجازي أو خلاف منصرف إطلاقه، فلا وجه لما یتوهّم من أنّه من المعاني، اغتراراً بظاهر تعبیر أهل الصناعة: من أنّها لقب المضارع ماضیاً.

والحاصل أنّ صیغة المضارع بشهادة الاطّراد في موارد استعمالاتها تدور مدار الاتّصاف بالحدث، ولا تنفکّ عنه أبداً اقترنت بالزمان أم لا، کما أنّ صیغة الماضي تدور مدار تحقّق الحدث من الذات اقترنت بالزمان أم لا؛ ولذا تری أنّ الموارد تختلف عند أهل اللسان:

فمنها: ما لا یصلح فیها إلّا التعبیر بالمضارع، کقولک: «من» لمن یعقل، و «ما» لما لا یعقل، وکقوله تعالی: ﴿آيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(1) أو ﴿يَعْلَمُونَ﴾(2) وکقوله (صلی الله علیه و آله) : «رجل أفتی وهو لا یعلم»(3) وهکذا من الموارد المضاهیة لها.

ومنها: ما لا یصلح فیها إلّا التعبیر بالماضي، کالعقود والإیقاعات.

ومنها: ما یصلح للتعبیرین، کقولک: «رحمک الله» و «یرحمک الله» في مقام الدعاء.

مع اشتراک الجمیع في عدم الاقتران بالزمان واختلاف الموارد في اختصاص بعضها بتعبیرٍ دون آخر، وصلوح بعضها للتعبیرین لیس إلّا باعتبار

ص: 116


1- . سورة النحل: 12.
2- . سورة الأنعام: 97.
3- . بحار الأنوار 47: 50، الحدیث 79.

اختلاف نظر المتکلّم فیها، فإنّ النظر في الأمثله الاُوَل وما ضاهاها لیس إلّا إلی الاتّصاف بالحدث، والتعبیر بالمضارع فیها یساوق التعبیر باسم الفاعل، والنظر إلی مجرّد التحقّق لا یلائمها کما لا یخفی؛ ولذا لا یصحّ التعبیر بصیغة الماضي فیها. وأمّا العقود والإیقاعات فالنظر فیها مقصورٌ علی وجود العلقة في الخارج، ولا نظر فیها إلی المنشئ إلّا علی وجه الآلیّة المحضة، ولذا لا یناسبها التعبیر بصیغة المضارع الناظرة إلی الذات ابتداءً وإلی وجود العلقة منها ثانیاً، وأمّا الثالث - وهو مقام الدعاء - فصالحٌ للنظرین، ولذا یچوز فیه التعبیران.

وممّا یبیِّن ما بیّناه تقدّم الحروف الدالّة علی صفات الفاعل - من غیبته وتکلّمه وخطابه - علی مادّة الفعل المضارع المسمّاة بحروف المضارعة وتأخّرها عنها في الماضي، وکفایة النسبة الاقتضائیّة في صدق المضارع وعدم صدق الماضي إلّا بالفعلیّة، فإنّک تقول: «هذه الشجرة تثمر» و «هذه الدواء ینفع أو یضرّ» و «السمّ یقتل» وإن لم یتحقّق منها المبادئ، ولا یصحّ لک أن تقول: «هذه الشجرة أثمرت» و «هذا الدواء نفع أو ضرّ» و «قتل السم» إلّا بعد تحقّق المبادئ المذکورة منها.

توضیح الحال: أنّ اتّصاف الذات بالحدث کما یتحقّق بالتلبّس الفعلي یتحقّق بالتلبّس الاقتضائي بحیث إذا جامعت الشرط وفقد المانع والمزاحم تحقّق منها فعلاً، بخلاف تحقّق الحدث من الذات فإنّه لا یصدق إلّا بعد الحدوث فعلاً.

فإن قلت: لو لم یقترن الفعل بأحد الأزمنة وضعاً حتّی التزاماً - کما قرّرت - لزم عدم دلالته علیه وعدم اختلاف الفعلین في الزمان المدلول علیه، مع أنّ دلالته علیه واختلاف المدلول علیه فیهما ظاهرةٌ جدّاً، ضرورة دلالة الفعل الماضي علی الزمان الماضي ودلالة المضارع علی زمان الحال أو الاستقبال.

ص: 117

قلت: عدم اقترانه به وضعاً لا یوجب انتفاء الدلالة رأساً لعدم انحصارها في الوضعیّة، فإنّها کما تستند إلی الوضع فقد تستند إلی الإطلاق أو الانصراف لخصوصیّةٍ من الخصوصیّات الموجبة له، ودلالة الفعل علی الزمان حیثما ثبتت فإنّما هي من باب الانصراف.

فأقول موضحاً للمقال مزیداً علی ما عرفت: إنّ دلالته علهی لو استندت إلی الوضع وتقوّم المعنی الفعلي به لاطّردت في موارد استعمالاته، مع أنّ فعل الإنشاء - سواء کان وضعاً کفعل الأمر، أو استعمالاً کفعل الماضي والمضارع المستعملین في مقام الدعاء أو العقود أو الإیقاعات - لا یدلّ علی الزمان أصلاً، وهکذا الأمر في الأفعال الواقعة قیداً لنسبةٍ اُخری، ک-«کان زید أکل أو یأکل»وقوله تعالی: ﴿وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ﴾(1) فإنّها حینئذٍ مجرّدةٌ عن الزمن، ولذا لا یتفاوت مدلوله من حیث الزمان حینئذٍ باختلاف التعبیر عنه صیغة الماضي أو المضارع.

لا یقال: الفعل حینئذٍ یدلّ علی زمان الحال، غایة الأمر أنّ الحال حینئذٍ هي حال النسبة لا النطق.

لأنّا نقول: حال النسبة لیست زماناً من الأزمنة الثلاثة حتّی تستفاد من الفعل، لأنّها عبارةٌ عن مقارنة القید للمقیّد، وهي إنّما تستفاد من جعله قیداً للنسبة، لا من نفس الفعل کما هو ظاهر.

وإن کان خبریّاً فإن صادف الإخبار وقوع المخبر به في الخارج ینصرف إلی زمان الحال، سواء کان ماضیاً أم مضارعاً، ولا یتفاوتان حینئذٍ في المدلول

ص: 118


1- . سورة یوسف: 16.

علیه؛ ألا تری أنّ قولک: «جاء زید أو یجيء» مقارناً لمجیئه، ینصرف إلیه ولا یستفاد منه مجيء آخر ماضیاً أو مستقبلاً وإلّا فإن کانت المادّة من الموادّ الغیر القارّة ینصرف الفعل الماضي بمقتضی الإخبار عن تحقّق الحدث وعدم مقارنته لإخباره إلی سبق حدوثه علی زمان الإخبار، سواء کان سبقاً زمانیّاً ک-«ضرب زید» أم لا، نحو «مضی الزمان» و «خلق الله الزمان» وینصرف المضارع حینئذٍ بمقتضی المقابلة إلی اللحوق والاستقبال.

فتبیّن بما بیّناه غایة التبیّن: أنّ المستفاد من الفعلین حیث یستفاد إنّما هو السبق والمقارنة واللحوق، سواء کان الحدث واقعاً في الزمان أم لا، وهي إنّما تستند إلی الانصراف لا الوضع، فما اشتهر بین المتأخّرین من أهل العربیّة وأرسلوه إرسال المسلّمات: من دلالة الفعل علی أحد الأزمنة بالدلالة التضمّنیة، فاسد من وجهین: الأوّل: استنادها إلی الانصراف لا الوضع حتّی تکون علی وجه التضمّن أو الالتزام. والثاني: أنّ المدلول علیه إنّما هو السبق أو المقارنة أو اللحوق، لا أحد الأزمنة الثلاثة.

ثالثها: أنّ المدلول المطابقي للفعل المنطبق علیه حرکة المسمّی یکون فعلاً، ضرورة أنّ الحرکة فعلٌ للمتحرّک، فالتعبیر عن المنبئ عنه ب-«الفعل» المنبئ عن حقیقته - کما عبّر به أمین الوحي (علیه السلام) - أوفی من تعبیر أهل النظر عنه ب-«الکلمة» الجامعة بین الأنواع الثلاثة العاریة عن إفادة خصوصیّةٍ من خصوصیّات الفعل.

وقد تبیّن بما بیّناه أنّ ما اشتهر بنی أهل الصناعة: من أنّ تسمیته بالفعل تسمیةٌ للشيء باسم مدلوله التضمّني - وهو الحدث - في غیر محلّه، مع أنّ الحدث المأخوذ منه الفعل قد یکون فعلاً کالضرب، وقد یکون صفةً کالعلم، وقد یکون

ص: 119

عدماً مطلقاً أو مضافاً کالعدم والفقد والسکون ونحوها، فلا ینطبق علیه الفعل دائماً، وإنّما المنطبق علیه هو المدلول المطابقي المرکّب من الحدث والإسناد الحدوثی المنطبق علیه عنوان حرکة المسمّی.

ومن الغریب ما ذکره بعضهم في وجه تسمیته بالکلمة عند أهل النظر: بأنّها من الکَلم، وهو الجرح، کأنّها لمّا دلّت علی الزمان، وهو متجدّدٌ ومتصرّمٌ، تکلّم الخاطر بتغیّر معناها.

رابعها: أنّ الفعل مبنيٌّ للفاعل أبداً، ولا یکون لنا فعلٌ مبنيٌّ للمفعول، کما توهّمه أکثر أهل الصناعة.

توضیح الحال: أنّه کما ینطبق عنوان الفعل علی المعنی الفعلي المرکّب من الحدث والإسناد الحدوثي باعتبار انطباق عنوان حرکة المسمّی علیه في اللحاظ الجمعي البسیط، کذلک ینطبق علی طرفه وهو المسمّی المتحرّک والفاعل، ولا یمکن التفکیک بین العنوانین بأن ینطبق أحدهما دون الآخر، غایة الأمر أنّ الحرکة علی نحوین: قیامیّة ووقوعیّة، فکما أنّ «زید» في «ضرب زید» طرفٌ للضرب المسند بالإسناد الحدوثي الصدوري، وینطبق علیه عنوان الفعال والمتحرّک کما ینطبق علی المفهوم الفعلي عنوان الحرکة، فکذلک «عمرو» في «ضرب عمرو» طرفٌ للضرب المسند بالإسناد الحدوثي الوقوعي، وینطبق علیه عنوان الفاعل والمتحرّک کما ینطبق علی المفهوم الفعلي عنوان الحرکة.

فما ذهب إلیه العلّامة الزمخشري والشیخ عبد القاهر: من أنّ المرفوع في الفعل المجهول فاعلٌ، في غایة الجودة ونهایة المتانة، ولیس مجرّد تغییر اصطلاح.

ص: 120

ولا ینفاي ما بیّناه کون «عمرو» في ترکیبٍ آخر، وهو قولک: «ضرب زید عمرواً» مفعولاً، ألا تری أنّ الکوز في قولک:«انکسر الکوز» فاعلٌ باتفاقهم، مع أنّه مفعولٌ في قولک: «کسرت الکوز».

فما ذهب إلیه الأکثر: من التعبیر عن المرفوع في الفعل المجهول ب-«مفعول ما لم یسمّ فاعله» فاسدٌ.

وأفسد منه التعبیر عنه ب-«النائب عن الفاعل» لأنّ الفعل المجهول لا یطلب إلّا الطرف للإسناد الوقوعي، فهو أصیلٌ في هذا الترکیب، لا نائبٌ عن أمرٍ آخر.

خامسها: أنّ استتار الفاعل في الفعل واجبٌ في جمیع صیغه وأنواعه، لأنّ مرجع استتاره إلی استفادة طرف الحرکة - وهو المسمّی - من الفعل، وهي من مقوّماته ومحقّقاته، ونبّه علیه مهبط الوحي (علیه السلام) بإضافة الحرکة إلیه في الحدّ وتتمیم الحدّ به.

کشف الحال: أنّ المعنی الفعلي - کما عرفت - مرکّبٌ من الحدث المدلول علیه بمادّته ومبدئه والإسناد الحدوثي المدلول علیه بصیغته وهیئته، فیستتبع الدلالة علی المسند إلیه ویستلزمه من قبل دلالته علی الإسناد، ضرورة أنّ الإسناد متقوّمٌ بطرفیه، فإن کان متحقّقاً من قبل الهیئة الترکیبیّة المتقوّمة بطرفیها فلا استتار لأحدهما في الآخر لعدم تحقّق الإسناد حینئذٍ إلّا بعد ذکر الطرفین، وإن کان متحقّقاً من قبل الهیئة الاشتقاقیّة المتقوّمة بالمادّة فقط یستتر الطرف الآخر وهو المسند إلیه في المسند حینئذٍ لفهمه منه تبعاً واستلزاماً، والتعبیر عن کیفیّة استفادته من الفعل باستتاره فیه تنبیهٌ منهم علی انفهامه منه تبعاً واستلزاماً.

فاستبان بما بیّناه غایة الاستبانة: أنّ الفعل لا ینفکّ عن الدلالة علی الفاعل

ص: 121

المعبّر عن کیفیّة دلالته علیه باستتاره فیه، فالمذکرو بعد الفعل مفسِّرٌ أو مؤکِّدٌ للفاعل المستتر، لا إبرازٍ وإظهارٌ له.

فما اشتهر بین أهل الصناعة: من التفصیل بین صیغ الأفعال والحکم بوجوب الاستتار في ستّة مواضع أو سبعة أو ثمانیة، وبجواز الاستتار وعدمه في صیغتین: المفرد الغائب والمفردة الغائبة، وعدم کون الفاعل إلّآ بارزاً في سائر الصیغ، باطلٌ جدّاً.

ثمّ إنّ لواحق الأفعال التي زعموها ضمائر بارزة متّصلة وفواعل للفعل حروفٌ مبیِّةٌ لکیفیّة الإسناد إلی المسمّی ومتمِّمةٌ لصیغ الأفعال المصوغة للمتکلّم أو المخاطب أو المخاطبة وهکذا، ولو کانت أسماءً لما اختلفت صیغ الأفعال بها ولکانت مفسِّرةً للفعال المستفاد من الفعل مبهماً، مع أنّه من الواضح أنّ المستفاد من هذه الصیغ ابتداءً إنّما هو الفعال المعیّن.

وقد تبیّن بما بیّناه - أیضاً - فساد ما ذهب إلیه أکثر أهل الصناعة: من تحمّل الخبر المشتقّ ضمیر المبتدأ واستتاره فیه، لأنّ الإسناد فیه إنّما یأتي من قبل الهئیة الترکیبیّة المتقوّمة بطرفیها، فلا یستتر أحد الطرفین في الآخر، مع أنّ استتار الضمیر فیه إن کان من ناحیي الإسناد الخبري لزم استتاره في الخبر الجامد أیضاً - کما نسب إلی الکوفیّین - وإن کان من ناحیة النسبة الناقصة التي تتکفّلها صیغة المشتقّ لزم استتاره فیه ولو لم یکن خبراً، فالتفصیل کما ذهب إلیه أکثرهم في غایة السخافة.

سادسها: أنّ المستتر في الفعل إنّما هو المسمّی، مبهماً کان أو معیّناً، لما عرفت: من أنّ مرجع استتار الفاعل في الفعل إلی استفادته منه تبعاً واستلزاماً،

ص: 122

ومن المعلوم أنّ المستفاد منه إنّما هو المسمّی لا الاسم، فإنّ الفعل إنّما ینبئ عن حرکة المسمّی لا حرکة الاسم، فالتعبیر عنه بالضمیر الذي هو من مقولة اللفظ والکلمة استعارةٌ، کما صرّح به بعض أهل الصناعة، ونبّهوا علیه بجعله قسیماً للّفظ في حدّ الکلمة وجعله منویّاً معه.

سابعها: عدم حاجة المستتر الغائب إلی مرجع، لما تبیّن لک: من أنّه من مقولة المعنی، والتعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ لا تحقیق، فلا حاجة له إلی مرجع، وإنّما المحتاج إلیه هو الضمیر التحقیقي.

فما قیل: من أنّ الضمیر المستتر في الفعل راجعٌ إمّا لمذکورٍ نحو «زید قام» و «هند قامت» أو لما دلّ علیه الفعل نحو «ولا یشرب الخمر حین یشربها وهو مؤمن» أي ولا یشرب الشارب، أو لما دلّ علیه الحال المشاهدة نحو ﴿ كَلآَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾(1) أي بلغت الروح، في غیر محلّه.

والتحقیق أن یقال: إنّ المستتر في الفعل الغائب لمّا کان ذاتاً مبهمةً، فإن لم یتعلّق الغرض بتعیینه اکتفی بالفعل - کما في الحدیث- وإلّا فإن دلّ علی التعیین الحالُ المشاهدة أو قرینةٌ اُخری اکتفی بها، وإلّا وجب تفسیره باسم متقدّمٍ أو متأخّر، نحو «زید قام» و «قام زید».

ثامنها: استحالة ذکر الفاعل وحذفه، لما عرفت: من أنّ الفاعل مستترٌ في الفعل أبداً ولیس من مقولة اللفظ حتّی یقبل الذکر أو الحدف.

ص: 123


1- . سورة القیامة: 26.

فما ذکره بعضهم: من عدم جواز فاعله إلّا في صورةٍ واحدة، وهي فاعل فعل الجماعة المؤکَّدة بالنون، فإنّ الضمیر فیه یحذف وتبقی ضمّةٌ دالّةٌ علیه ولیس مستتراً، فاسدٌ من وجهین:

الأوّل: جعل «واو الجمع» ضمیراً، مع أنّک قد عرفت أنّ لو احق الفعل حروفٌ مبیِّنةٌ لکیفیّة الإسناد.

والثاني: حکمه ببروز الفاعل وعدم استتاره، فالمحذوف في المقام إنّما هو علامة کون الفاعل جمعاً مع بقاء الضمّة الدالّة علیه.

تاسعها: أنّ الفعل بنفسه مع قطع النظر عن ترکیبه مع لفظٍ آخر مفیدٌ وکلامٌ تام، لما عرفت: من أنّ مرجع مدلول الفعل - وهو حرکة المسمّی - إلی الحدث المسند بالإسناد الحدوثي إلی ذات مّا، فهو بنفسه یفید مفاد المرکّب التام، غایة الأمر أنّ الإنباء عن المسند إلیه - وهو طرف الحرکة - إنّما هو علی وجه الاستتباع والالتزام، لا علی وجه المطابقة والتضمّن.

فما توهّمه أکثر أهل الصناعة: من الملازمة بین الإفادة والترکیب التام وأنّ الفعل إنّما یفید باعتبار ترکّبه مع فاعله مستتراً ک-«اضرب» أو بارزاً ک-«قمت» أو ظاهراً ک-«قام زید» في غیر محلّه؛ لأنّ الإفادة إنّما تدور مدار الإسناد التامّ المتحقّق من الهیئة الترکیبیّة مرّةً نحو «زید قائم» ومن الهیئة الاشتقاقیة تارةً کما في الأفعال، فلا وجه لحصره في الاُولی.

مع أنّ الذي تکلّفوه لإرجاع القسم الثاني إلی الأوّل في غایة السخافة والرادءة: لما تبیّن لک: من أنّ الفاعل مستترٌ في الفعل أبداً، والظاهر إنّما یفسّر المستتر أو یؤکّده، فلیس الظاهر طرفاً للترکیب التام حتّی یتحقّق الإفادة به

ص: 124

وبالطرف الآخر، والبارز لیس اسماً حتّی یصلح لوقوعه طرفاً للترکیب، وإنّما هو حرفٌ یبیّن کیفیّة الإسناد ومتمّمٌ لصیغة الفعل، مع أنّه لو صلح لذلک فهو مفسّر للمستتر کالظاهر، لا طرفٌ للترکیب التام. وأمّا المستتر فلیس لفظاً حتّی یترکّب الکلام منه ومن الفعل، لما ظهر لک: من أنّه معنی مستفادٌ من الفعل التزاماً، والتعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ، فهو حاصلٌ من قبل إفادة الفعل وإنبائه، ومن المعلوم أنّ ذلک إنّما یکون بعد صدوره من المتکلّم في مقام الإفادة والاستفادة واستعماله في معناه، فلو عاد ووقع في عرض الفعل ورکّب معه لغرض الإفادة والإنباء لزم تقدّمه علی نفسه، والحاصل أنّ وجود المستتر بمقتضی کونه معنی مستفاداً من الفعل متأخّرٌ عن إفادته وتابعٌ لها، فلو تقدّم علی هذه المرحلة ورکّب معه لتحصیل الإفادة لزم الدور المحال الموجل لتقدّمه علی نفسه بمرتبتین.

وبما بیّناه تبیّن لک: أنّ النسبة بین الکلمة والکلام من النسب الأربع هي العموم والخصوص من وجه؛ لاجتماعهما في الفعل، وافتراق الأوّل عن الثاني في الکلمات المفردة الغیر المفیدة، وافتراق الثاني عن الأوّل في المرکّبات التامّة المفیدة.

عاشرها: فساد جعل «ضرب» في قولک: «زید ضرب» جملةً صغری والمجموع جملةً کبری، لما تبیّن لک أنّ المستتر في الفعل إنّما هو المسمّی المستفاد من الفعل تبعاً والتزاماً، لا ترکیب له مع الفعل حتّی یصیر المرکّب جملةً صغری لوقوعه خبراً عن الاسم المتقدّم، والمجموع کبری، مع أنّ وقوعه خبراً عن الاسم المتقدّم باطلٌ لا أصل له؛ لعدم تطرّق الإسناد فیه، والخبر لا بدّ أن یکون مسنداً.

ص: 125

توضیح الحال: أنّ الإسناد ینحصر في أقسام ثلاثة: اتّحاديٌّ متحقّقٌ من قبل الهیئة الترکیبیّة نحو «زید قائم» وحدوثيٌّ متحقّقٌ من قبل الهیئة الاشتقاقیّة الفعلیّة نحو «قام زید» وإضافيٌّ متحقّقٌ من قبل حرف الجرّ أو ما بمنزلته نحو «زید في الدار» و «ضربي یوم الجمعة».

ولا یتطرّق فیه شيءٌ من الأقسام الثلاثة، إذ لا یتّحد الفعل مع الاسم ولا یصحّ حمله علیه بالضرورة، وإلّا لصحّ قولک: «جاء قام» مکان «جاء زید» کما یصحّ قولک: «جاء القائم» مکان «جاء زید» ولا إضافة له إلی الاسم المتقدّم بتوسّط حرف الجرّ أو ما بمنزلته، کما هو واضح.وأمّا انتفاء الحدوثي فأوضح: ضرورة أنّ المعنی الفعلي المشتمل علی الحدث والإسناد الحدوثي لا یقبل الحدوث من شيء، مع أنّ الإسناد الحدوثي إنّما یتحقّق من قبل الهیئة الاشتقاقیّة لا الترکیبیّة، فالاسم المتقدّم کالمتأخّر إنّما یفسّر المستتر، ولا یختلف الترکیب باختلاف تقدیم الاسم وتأخیره - کما اختاره الکوفیّون - وقد فصّلنا الکلام فیه في أساس النحو وشرحه.

حادي عشرها: أنّ المستتر في فعل الغائب لإبهامه وعدم تعیّنه في حکم النکرة، والتعبیر عنه ب-«ضمیر الغیبة» استعارةٌ لا یوجب جعله معرفةً أو في حکمها، فإنّ تعریف ضمیر الغیبة إنّما هو من جهة تضمّن المعنی الحرفي، وهي الإشارة العهدیّة، وصیغة الغائب لا تتکفّل الإشارة العهدیّة، وإنّما تبیّن الإسناد فقط.

ثاني عشرها: أنّه یجوز تفسی النکرة وتبیینها بالمعرفة، لما اتّضح لک: من

ص: 126

أنّ المستتر في فعل الغائب في حکم النکرة، ومع ذلک یجوز تفسیره و تبیینه بالمعرفة.

فما اشتهر بین أهل الصناعة: من وجوب موافقة عطف البیان مع متبوعه في التعریف والتنکیر، في غیر محلّه.

ثالث عشرها: فساد جعل نحو «أکرمني وأکرمت زیداً» و «نعم رجلاً زیدٌ» من باب عود الضمیر علی متأخّر لفظاً ورتبة، لما تبیّن لک: من أنّ المستتر لیس ضمیراً، والتعبیر عنه بالضمیر استعارةٌ، فلا یحتاج إلی مرجعٍ حتّی یکون متقدّماً أو متأخّراً. وما یتوهّم أنّه مرجعٌ للمستتر فإنّما هو مفسّرٌ ومبیِّن له، ففي المثال الثاني اکتفي في تفسیره بالتمییز عنه، وفي الأوّل بالاسم الواقع في ترکیبٍ آخر مع دلالة المقام علیه.

رابع عشرها: أنّ المفسّر للفاعل المستتر في الفعل لا بدّ أن یکون اسماً محضاً أو ما بمنزلته، من غیر فرقٍ بین أن یکون مفسِّراً لفاعل الفعل المعلوم أو المجهول؛ لأنّ المستتر في الفعل أبداً - کما نطق به الحدّ - إنّما هو المفهوم المستقلّ الاسمي الذي عبّر عنه بالمسمّی معرّفاً، فالمفسّر والمبیّن له لا بدّ من أن یکون کذلک.

فما اشتره بین أهل الصناعة: من التفصیل بین فاعل الفعل المعلوم وفاعل الفعل المجهول المعبّر عنه ب-«النائب عن الفاعل» و «مفعول ما لم یسمّ فاعله» وتجویز وقوع المجرور نائباً عن الفاعل مع عدم جواز وقوعه فاعلاً للفعل المعلوم، في غیر محلّه؛ لأنّ الفاعل في الصورتین لا بدّ أن یکون اسماً محضاً.

ص: 127

توضیح الحال: أنّ فاعل الفعل مطلقاً مسندٌ إلیه للحدث بالإسناد الحدوثي قیاماً أو وقوعاً، والإسناد إلیه من خواصّ المعنی الاسمي الصریح، فکما أنّ المجرور لا یصحّ وقوعه فاعلاً للفعل المعلوم بواسطة المعنی الحرفي الحادث فیه بحرف الجرّ، فکذلک لا یصحّ وقوعه فاعلاً للفعل المجهول.

فالصواب ما اختاره ابن درستویه والسهیلي ومن تبعهما: من عدم وقوع المجرور نائباً عن الفاعل، وأنّ ما یتوهّم منه نحو: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾(1) فالنائب ضمیر المصدر، یعني: أنّ الفعل مسندٌ إلی نفس المصدر، واکتفي عن تفسیره بفهمه من الفعل.

فإن قلت: مرجع إسناد الفعل إلی المصدر إلی ذسناد الحدث إلی نفسه، وهو غیر معقول؛ ضرورة استحالة وقوع الشيء علی نفسه.

قلت: إسناد الحدث إلی نفسه غیر معقول تحقیقاً، ولکن کنایةً عن تحقّق وقوعه وتنبیهاً علی اهتمام المتکلّم ببینانه جائزٌ لا مانع له.

فإن قلت: الجملة تقع نائبة عن الفاعل في باب القول بالضرورة، بل یجب أن یکون کذلک، والجملة لا تکون مفهوماً مستقلّاً اسمیّاً لاشتمالها علی الإسناد الذي هو معنیً حرفي.

قلت: الجملة إنّما تقع نائبةً عن الفاعل في باب القول باعتبار لفظها؛ ضرورة أنّ المقول إنّما هو اللفظ لا المعنی، والجملة إذا اُرید منها لفظها فهي مفهومٌ مستقلٌّ اسمي وتکون بمنزلة الاسم؛ ولذا یجوز وقوعها حینئذٍ مبتدأً، کقولک: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله کنزٌ من کنوز الجنّة».

ص: 128


1- . سورة الأعراف: 149.

خامس عشرها: أنّ کلّ فعلٍ لا بدّ له من فاعل، ولا یجوز خلوّه عنه.

توضیح الحال: أنّه کما ینطبق الحرکة والفعل علی المفهوم المرکّب من الحدث والإسناد الحدوثي، فکذلک ینطبق المتحرّک والفاعل علی المسمّی الذي اُسند إلیه الحدث المذکور ووقع طرفاً له، ولا یعقل أن ینطبق أحد العنوانین علی أحدهما ولا ینطبق العنوان الآخر علی الآخر.

فما اشتهر بین أهل الصناعة: من أنّ الأفعال الناقصة وأفعال المقاربة لا فاعل له وأنّ المرفوع بها اسمٌ لها کما أنّ المنصوب بها خبرٌ بها وأنّ تسمیة المرفوع بها فاعلاً والمنصوب بها مفعولاً إنّما هو علی وجه لاتجوّز، في غیر محلّه؛ إذ لا یعقل ثبوت فعلٍ لا فاعل له، فالمرفوع بها فاعلٌ تحقیقاً، وتسمیته بأنّه اسمٌ لها فاسدةٌ، والمنصوب بالأفعال الناقصة حالٌ لازمة، ولا ینافي لزومه مع کونه حالاً، وأمّا المنصوب بأفعال المقاربة فیحتمل وجوهاً متعدّدة، وقد فصّلنا الکالم فیهما في أساس النحو وشرحه.

سادس عشرها: أنّ الذي سمّوه «مفعولاً به» مفعولٌ حقیقةً من دون صلةٍ وقید.

توضیحه: أنّک قد عرفت أنّ المفهوم المرکّب من الحدث والإسناد الحدوثي یکون فعلاً حقیقةً باعتبار صیرورته حرکةً لمسمّی، والتعبیر عمّا أنبأ عنه ب-«الفعل» إنّما هو باعتبار مدلوله المطابقي لا التضمّني، وهو الحدث، فالمفهوم المرکّب لمّا صار فعلاً حقیقةً من جهة انطباق عنوان الحرکة صار المتحرّک بها فاعلاً، أی مُنشئاً للحرکة، وما وقع علیه الحرکة مفعولاً تحقیقاً.

ص: 129

فما اشتهر بینهم: من أنّ المفعول تحقیقاً - بلا صلة وقید - هو المصدر الذي سمّوه «مفعولاً مطلقاً» وأنّ ما وقع علیه الفعل مفعولٌ به، غفلةٌ واضحة.

والذي أوقعهم في هذا الوهم أخذهم الفعل بمفهومه اللغوي مطلقاً، وهو الإیجاد، فرأوا أنّ المفعول بمعنی الموجَد لا ینطبق إلّا علی الحدث، إذ لا مغایرة بین الفعل والمفعول حینئذٍ في الخارج، ولذا یطلق المصدر في أمثال هذه المادّة حقیقةً علی المفعول، کإطلاق الخلق علی المخلوق، والصنع علی المصنوع، واللفظ علی الملفوظ، والنطق علی المنطوق، فحکموا بعدم صحّة إطلاق المفعول - بلا صلة - إلّا علی المصدر، وأنّ ما وقع علیه الفعل مفعولٌ به، ولم یتنبّهوا أنّ إرادة المفهوم اللغوي بإطلاقه لا یناسب المقام، وإنّما المناسب إرادة المفعول المأخوذ من الفعل المراد به حرکة المسمّی.

فاتّضح بما بیّناه أنّ المفعول حقیقةً إنّما هو ما وقع علیه الفعل، وسائر المنصوبات التي سمّوها مفاعیل سوی المفعول المطلق یحتاج إلی صلةٍ، وأمّا المفعول المطلق فالصواب تسمیته ب-«المصدر».

بل التحقیق انحصار المفعول في ما وقع علیه الفعل، وسائر المنصوبات خارجةٌ عن سلسلة المفاعیل رأساً، أمّا الذي سمّوه «مفعولاً مطلقاً» و «مفعولاً لأجله» فمندرج في التمییز عن النسبة ورافعٌ للإبهام الناشئ عن النسبة في المسند، وأمّا الذي سمّوه «مفعولاً فیه» فمنصوبٌ علی الظرفیّة، سواء کان عمدةً في الکلام أم فضلة، وأمّا الذي سمّوه «مفعولاً معه» فهو معطوفٌ منصب لأجل إفادة المصاحبة، وقد استوفینا الکلام فیها في محلّه.

سابع عشرها: عدم تطرّق الحقیقة والمجاز في الفعل، لأنّهما فرع

ص: 130

الاستعمال في ما وضع له وغیره، ومدلول الفعل وهي حرکة المسمّی - کما عرفت - ینحلّ إلی الحدث الذي هو مفهومٌ اسمي مدلولٌ علیه بمادّته والإسناد الحدوثي الذي هو معنیً حرفي متحقّقٌ بهیئته، فالموضوع إنّما هو کلٌّ من مادّته وهیئته لا مجموعهما، کما أنّ الموضوع له کلٌّ من المعنیین لا مجموعهما، مع أنّ الهیئة لا وضع لها کوضع المادّة، لأنّها وضعت آلةً لإحداث الإسناد لا بإزائه، فلیس للمجموع استعمال، وإنّما المستعمل هو المادّة فقط، والهیئة متکفّلةٌ لکیفیّة استعمالها، فلا یجریان في الفعل حقیقةً، وإنّما یجریان في مادّته ویوصف بهما الفعل باعتبارها.

ثامن عشرها: عدم اتّصافه بالکلّیة والجزئیّة؛ لعدم اتّصاف معناه بهما، لما تبیّن لک مراراً: من اشتمال المفهوم الفعلي علی المفهوم الاسمي والمعنی الحرفي وکونه برزخاً بینهما، ومن المعلوم أنّ المعنی الحرفي - لعدم استقلاله - لا یتّصف بهما، فالمرکب منه ومن غیره أیضاً لا یصلح للاتّصاف بهما إلّا إذا اضمحلّ جنبة المعنی الحرفي في جنبة المفهوم الاسمي، بحیث لا یجري علیه إلّا حکم المستقلّ، کما في مفاهیم الأسماء المشتقّة، وأمّا المفهوم الفعلي فلعدم اضمحلال المعنی الحرفي فیه بحیث یعود إلی الاستقلال -کمفهوم الصفات - فلا یتّصف بهما.

تاسع عشرها: فساد ما توهّم من خلوّ الأفعال الناقصة عن الحدث؛ لما تبیّن لک: من تقوّم المفهوم الفعلي بالمعنی البرزخي المشتمل علی الحدث والإسناد الحدوثی المعبَّر عنه في لسان مهبط الوحي (علیه السلام) - ب-«حرکة المسمّی»

ص: 131

وفي لسان من اقتبس عنه ب-«حدث عن ذات» فکما لا یتعقّل وجود فعلٍ من دون إسنادٍ حدوثي، فکذلک لا یتعقّل وجوده من دون حدث، بل الأمر فیه أوضح؛ لعدم تصوّر وجود الإسناد الحدوثي من دون حدثٍ في حدّ نفسه مع قطع النظر عن وجود فعلٍ في البین، فالفعل الناقص کالفعل التامّ في الإنباء عن الحدث، غایة الأمر أنّ الحدث في الفعل الناقص - کالکون حیث لا یتعلّق إلّا بالإسناد الثابت بین اسمه وخبره بزعمهم - لا یفید إلّا التأکید في الإسناد، فاشتبه الأمر علی من لا بصیرة له فزعم أنّه لا یفید حدثاً أصلاً.

العشرون: انحصار عنوان الفاعل في المستتر في الفعل وما یفسّره أو یؤکّده، وعدم تحقّقه في أحد طرفي الجمل الاسمیّة ولو کان الطرف الآخر اسماً متّصلاً بالفعل، کالصفات.

توضیح الحال: أنّ عنواني «الفعل» و «الفاعل» متلازمان تابعان للإسناد الحدوثي، فالمرکّب من الحدث والإسناد الحدوثي یتلبّس بلباس الفعل لصیرورته حرکةً للمسند إلیه، کما أنّ المسند إلیه یتلبّس بلباس الفاعل لصیرورته متحرّکاً وطرفاً لها.

والإسناد الحدوثي یختصّ بالفعل، وأمّا الجمل الاسمیّة فالإسناد فیها اتّحادي، ک-«زید قائم» و «أقائم زید؟» ومن المعلوم أنّ أحد المتّحدین لا یکون فاعلاً للآخر ما لا یکون لاطرف الآخر فعلاً له، فالمسند إلیه في الصورتین یکون مبتدأ والمسند به خبراً، ولا یختلف الترکیب باختلاف تقدیم المسند إلیه وتأخیره.

ویدلّ علی ما بیّناه أیضاً: أنّ الصفات والأسماء المشتقّة - کالأسماء

ص: 132

الجامدة - لا تطلب في حدّ نفسها طرفاً آخر فاعلاً أو مفعولاً، وإنّما تطلب المسند إلیه إذا وقع طرفاً للترکیب الإسنادي، کما أنّ الاسم الجامد یطلبه حینئذٍ.

بیانه: أنّ الهیئة الاشتقاقیّة في الصفات إنّما تدلّ علی نسبةٍ ناقصةٍ تقییدیّةٍ موجبةٍ لصیرورة الحدث عنواناً منطبقاً علی الذات، فالصفة لا نظر لها في حدّ نفسها إلی طرفٍ آخر کالاسم الجامد، وإنّما الموجب للاحتیاج إلی طرفٍ آخر هو الترکیب الطارئ علیها، فیشترک معها في هذه الجهة الاسم الجامد، فلا وجه لعدّ المسند إلیه حینئذٍ معمولاً وفاعلاً لها؛ لأنّ المسند إلیه في هذا الترکیب کالمسند إلیه للاسم الجامد بعینه.

وقد أشبعنا الکلام في بیان وجه ما ذهب إلیه أهل الصناعة: من جعل الصفات طالبةً لفاعل ورافعةً له، وفساده في أساس النحو وشرحه.

تنبیهات:

وینبغي التنبیه علی اُمور:

الأوّل: أنّ المسند إلیه للحدث إنّما هو ذاتٌ ما في جمیع صیغ الأفعال، وتعیّنه في فعل المخاطب والمتکلّم إنّما یجئ من قبل الإسناأغ لأنّ صیغتهما إنّما تتکفّل إسناد الحدث إلی ذاتٍ ما علی وجه الخطاب أو التکلّم، فیتعیّن الفاعل من قبل الإسناد، لا أنّه اُسند الحدث إلی فاعلٍ معیّن، کما قد یتوهّم.

والثاني: أنّه قد یستشکل في دلالة الفعل علی الفاعل الذي هو مفهومٌ مستقلٌّ اسمي: بأنّ دلالة الفعل علیه إنّما هو بصیغته وهیئته لا بمادّته ومبدئه؛ ولذا تختلف باختلاف صیغته، فإنّ «ضَرَبَ» معلوماً ینظر إلی من صدر منه الضرب، کما أنّ «ضُرِبَ» مجهولاً ناظرٌ إلی من وقع علیه، فلو کانت الدلالة علیه من قبل

ص: 133

مادتّه لما اختلف النظر فیهما، والصیغة من لواحق الحروف التي لا تفید إلّا معنیً آلیّاً، فکیف یمکن دلالتها علیه؟

أقول: قد ظهر حلّه من مطاوي کلماتنا، وملخّصه: أنّ الصیغة إنّما تدلّ علی الإسناد قیاماً أو وقوعاً، فتستتبع الدلالة علی من قام به المبدأ أو وقع علیه، والمستحیل إنّما هو نظر الصیغة إلی المفهوم المستقل أصالةً وابتداءً، لا تبعاً وثانیاً، فربّ شيءٍ یصحّ تبعاً ولا یصحّ استقلالاً.

والثالث: أنّه یستفاد من الفعل عند الإطلاق وعدم التقیید اُمور سبعة، لا یستند شيءٌ منها إلی وضع اللفظ: ثلاثة منها راجعة إلی الإسناد، وهو: الإثبات والتمامیّة والإخبار، وثلاثة منها راجعة إلی المسند إلیه - أي الفاعل - وهو: غیبته وإفراده وتذکیره، وواحدٌ منها من توابع الإسناد وهو الزمان.

أمّا الأخیر فقد ظهر لک مشروحاً أنّه خارج عن مدلول الفعل، وأنّه إنّما یستند إلی الانصراف حیث یستفاد منه.

بقي الکلام في أنّ الزمان ظرف للإسناد أو للحدث، الظاهر من کلام کثیرٍ من أهل العربیّة أنّه ظرف للحدث، والصواب أنّه ظرف للإسناد؛ لأنّ الزمان - کالمکان - إنّما هو ظرف حدوث الحدث وإسناده إلی الفاعل، لا ظرف نفسه، فإنّ الحدث في حدّ نفسه لا یتعلّق بزمان ولا مکان.

ویظهر لک ما بیّناه - غایة الظهور - بالنظر إلی مثل قولک: «علمت بهذا المطلب أمس في دار زید» و «بعت یوم السبت في السوق» وهکذا من الأفعال التي یکون الحدث فیها قارّاً لا ینقضي بانقضاء حدوثه، فإنّ عدم تعلّق الظرف فیها بالحدث في غایة الوضوح والظهور، وإلّا لزم عدم تجاوز العلم والبیع عن الزمان والمکان المعیّن، وفساد اللازم بمکانٍ من الوضوح والظهور.

ص: 134

وأمّآ الإثبات فیدلّ علی عدم وضع الصیغة له قبول الفعل أداة النفي؛ إذ لو کانت موضوعة له لزم التناقض أو التجوّز في مثل قولک: «ما ضرب زید» واللازم بکلا شقّیه باطل، أمّا الأوّل فواضح غنيٌّ عن البیان، وأمّا الثاني فلأنّه فرع العلاقة المصحِّحة، ولا علاقة مصحِّحة بین الإیجاب والسلب، وإلّا لصحّ استعمال کلمة «کان» في النفي و «لیس» في الإیجاب، مع أنّ التجوّز غیر متطرّق فیها رأساً، لأنّها - کما عرفت - من لواحق الحروف و مبیِّنة لاستعمال المادّة، فلا استعمال لها حتّی یتطرَّق التجوّز فیها.

فإن قلت: الملازمة ممنوعة؛ لأنّ الصیغة مستعملة في الإثبات أبداً، وأداة النفي إنّما تفید سلب الإثبات، فلا یتنافیان حتّی یستلزم التناقض أو التجوّز بانسلاخ الصیغة عن معناها الأصلي.

قلت: الإثبات والسلب کیفیّتان متقابلتان متضادّتان متعاقبتان علی الإسناد، فهو إمّا إیجابٌِّ أو سلبي، ومرجع الإیجاب إلی إثبات المحمول للموضوع، کما أنّ مرجع النفي إلی نفیه عن الموضوع، فکلٌّ منهما واقعٌ في عرض الآخر، لا أنّ النفي طارٍ علی الإثبات؛ ضرورة أنّه لو کان قابلاً لطروّ النفي علیه لکان قابلً لطروّ الإثبات علیه أیضاً، فإنّ أحد الضدّین إنّما یرد علی ما یکون قابلاً لطروّ الآخر علیه، لأنّ المتقابلین إنّما یتقابلان بعد اجتماعهما في محلٍّ واحد.

ویبیّن ما بیّناه أیضاً: أنّهما کیفیّتان للإسناد الذي هو جهةٌ لاستعمال المادّة، فلا یعقل طروّ أحدهما علی الآخر؛ وإلّا لزم صیرورة الإسناد مستعملاً فیه ومورداً للإسناد السلبي، لاستحالة عروض الکیفیّة بنفسها علی محلٍّ مع قطع النظر عن المتکیّف بها، فیلزم عروض الإسناد علی نفسه. نعم، إذا کان الإثبات ملحوظاً بلحاظً استقلالي یصحّ توارد الإسناد الإیجابي والسلبي علیه، ک-«کان زید

ص: 135

قائماً» و «ما کان زید قائماً».

وأیضاً لو لم یکن الإسناد علی نوعین إیجابیّاً وسلبیّاً وانحصر في الأوّل وکان النفي وارداً علیه، لزم انتفاء الإسناد ي القضیّة السلبیّة، وأن تکون القضایا السلبیّة - کالأسماء المعدودة - عاریةً عن الإسناد غیر دالّةٍ علی سلب المحمول عن الموضوع، وهو بدیهيّ البطلان.

وأمّا وجه استفادته من الصیغة عند الإطلاق مع عدم وضعها له: ظهور الإسناد في حدّ نفسه في الإثبات، ومنشؤه انصراف اقتران أحد الدالّین بالآخر أو ما في حکمه إلی اقتران أحد المدلولین بالآخر، وعدم انصرافه عنه إلی افتراق أحدهما عن الآخر إلّا بصارف: من أداة النفي أو ما بمنزلته.

وأمّا التمامیّة، فیدلّ علی خروجها عن وضع صیغة الفعل: توارد النقص والتمام علی الإسناد المستفاد منها؛ إذ لو کانت موضوعة للإسناد التام بقید أنّه تام، لم یقبل النقص، کما أنّ الصیغة المصوغة علی النقص - کصیغ المصدر والصفات - لا تقبل التمام.

تحریره: أنّه لو کان صوغ الفعل علی التمام وضعاً لکان استعماله في مورد النقص غلطاً؛ لعدم العلاقة المحصّحة بین الناقص والتام أوّلاً، وعدم تطرّق التجوّز فیها ثانیاً لما عرفت، ولو صحّ التجوّز فیها باستعمال التام في الناقص لصحّ العکس؛ لاستواء نسبةالنقص والتمام إلی الطرفین، وفساد العکس لا یخفی علی من له أدنی مسکة.

فاتضح غایة الاتّضاح عدم استناد التام إلی الوضع، فاستفادته من الصیغة لا تکون إلّا من قبل الإطلاق.

توضیح الحال فیه: أنّ النسبة في حدّ ذاتها لا تتّصف بالنقص والتمام، وأنّ

ص: 136

اتصافها بهما إنّما یکون باعتبار قصد المتکلّم ولحاظه إیّاها أصالةً وتبعاً.

فإن لوحظت أصالةً وتعلّق الغرض بتفهیمها کذلک تصیر ناقصة، کقولک: «ضرب زید».

وإن لوحظت تبعاً وجعلت قیداً لنسبةٍ اُخری - کما إذا وقع الفعل صلةً أو صفةً أو شرطاً - تصیر ناقصة.

ومن المعلوم أنّ اللحاظ الأصلي الذاتي المنتزع عنه التمام لیس أمراً زائداً علی لحاظ نفس النبسة في حدّ نفسها، فلا حاجة له إلی مؤونةٍ زائدة، وإنّما المحتاج إلیها هو اللحاظ التبعي التقییدي، فتنصرف عند الإطلاق إلی صفتها الأصلیّة، ولا تنصرف عنها إلی خلافها إلّا بصارفٍ یصرفها عنها من أسباب التقیید، فلا حاجة إلی اعتبارها في وضع الصیغة.

وأمّا الإخبار فیدلّ علی عدم وضع الصیغة له: قبول الفعل الخبري دخول أدوات الإنشاء علیه: من الاستفهام والأمر والتمنّي والترجّي وهکذا، وصلوحه للاستعمال في مورد الإنشاء، کالدعاء والعقد والإیقاع وهکذا؛ إذ لو کانت موضوعة له لزم التناقض أو التجوّز في مورد استعماله للإنشاء، وبطلان الأوّل في غایة الوضوح، وأمّا بطلان الثاني فلانتفاء العلاقة المصحّحة بین الإخبار والإنشاء أوّلاً، وإلّا لصحّ استعمال فعل الإنشاء - وهو فعل الأمر - في مورد الإخبار أیضاً، وفساده ممّا لا یخفی علی ذي مسکة، وعدم تطرّق التجوّز في الصیغة رأساً - لما عرفت - ثانیاً، وعدم کون الإخبار مستعملاً فیه للّفظ ثالثاً، وإنّما هو من وجوه استعمال اللفظ في مفهومه، فهو متأخّر عنه متوقّف علیه، فلا یعقل أن یصیر محلّاً للاستعمال ومتقدّماً علیه.

توضیحه: أنّ الإخبار کالإنشاء عنوان متولّد من إیجاد الکلام في الخارج

ص: 137

متّحدٌ معه ومنطبقٌ علیه، فهو حادث بالکلام، ولا وجود له في الخارج سواه؛ ضرورة أنّ الإخبار إنّما ینتزع ویتولّد من الکلام إذا جعله المتکلّم في وزان الواقع حاکیاً عنه، کما أنّ الإنشاء إنّما ینتزع منه إذا جعله لا في وزان الواقع ومقام الحکایة والکشف عنه، بل في مقام الإیجاد أو الطلب أو الاستفهام وهکذا من وجوه الإنشاء، فهما عنوانان حادثان بالکلام، منطبقان علیه ومتّحدان معه - کالخطاب والتکلّم - ولا یتصوّر لهما وجود قبل وجود الکلام، فکیف یستعمل فیهما اللفظ؟ وهل هذا إلّا دور محال؟

والحاصل: أنّ المعاني الحرفیّة - مع أنّها کلّها معانٍ حادثة في اللفظ ووجوهٌ لاستعماله ولا یتصوّر أن یستعمل اللفظ فیها - علی قسمین:

منها - وهو الأکثر -: نسب حادثة في اللفظ، ویکون توطئةً لنسب ذهنیّة أو خارجیّة ثابتة بین المفاهیم، فیتوهّم الغافل أنّ الحروف وما بمنزلتها مستعملة في هذه النسب الثابتة بین المفاهیم ذهنیّة أو خارجیّة، ویکون لهذا التوهّم في الجملة مجال.

ومنها - وهو الأقلّ -: ما لا یکون توطئةً لنسبة معنویّة ثابتة بین المفاهیم ذهنیّةً أو خارجیّة، لعدم وجود لهذا القسم من المعاني إلّا وجوده الحادث باللفظ، کالإشارة والنداء والخطاب والتکلّم، والإخبار والإنشاء من هذا القبیل، ومن المعلوم أنّه لا مجال لتوهّم الاستعمال في هذا القسم أصلاً، ویکون الاستحالة فیه أوضح منها في القسم الأوّل.

وأمّآ وجه استفادته من الفعل عند الإطلاق فهو انصراف الإسناد بنفسه إلی الموازنة والمطابقة للنسبة الذهنیّة أو الخارجیّة.

توضیح الحال: أنّ الإسناد لمّا کان وجهاً من وجوه استعمال اللفظ الذي

ص: 138

هو مرآة لمفهومه، یقتضي بطبعه أن یکون مرآةً لما هو شأنٌ من شؤون المفهوم، وهي النسبة الذهنیّة أو الخارجیّة، فلا ینصرف عنه إلی خلافه إلّا بصارف یصرفه عنه: من أدوات الإنشاء أو ما بمنزلتها.

فإن قلت: مقتضی تبعیّة الإسناد للّفظ کون مرآتیّته للنسبة الذهنیّة أو الخارجیّة علی وجه التصوّر، علی طبق مرآتیّة اللفظ، وهي ثابتة في صورتي الإخبار والإنشاء، وإنّما الذي یختصّ به الخب رهو أنّ الغرض منه موازنة النسبة الخارجیّة أو الذهنیّة مع النسبة اللفظیّة والتصدیق بمطابقتها معها وکشفها منها.قلت: لمّا کان الخب رلا یشتمل علی أمرٍ زائد علی تعلّق الغرض بما هو وجهته الأوّلیة، من مرآتیّته للنسبة الذهنیّة أو الخارجیّة، لا یحتاج إلی مؤونةٍ زائدةٍ، فینصرف الإسناد بإطلاقه إلیه، ویحتاج إرادته وجهٍ من وجوه الإنشاء - من الطلب والاستفهام والتمنّي والترجّي وهکذا - إلی أداةٍ من أدواته أو ما بمنزلتها، وتشترک مع صیغة الفعل في استفادة الاُمور الثلاثة منها عند الإطلاق وعدم تقیید الهیئة الترکیبیّة، فإنّها تنصرف إلی الإثبات والتمامیّة والإخبار. والسرّ فیه أنّ الانصراف إلیها إنّما هو من قبل الإسناد، ولا مدخلیّة فیه للصیغة والهیئة الاشتقاقیّة.

وأمّا الغیبة، فیدلّ علی عدم دخولها في وضع الصیغة: جواز إسناد فعل الغائب إلی ضمیر المخاطب والمتکلّم، کقولک: «إنّما ضرب أنا أو أنت» وقولک: «أنا أو أنت» في جواب: من ضرب زیداً؟ إذ لو کانت موضوعة للإسناد إلی الفعال الغائب بقید أنّه غائب لزم التناقض أو التجوّز في الأمثلة المزبورة، واستحالة الأوّل ظاهرة، وأمّا الثاني فقد ظهر لک استحالته وعدم تطرّقه في الصیغة ممّا بیّناه، مع أنّ غیبة الفاعل - کما ستعرف - لا تکون أمراً زائداً علی عدم

ص: 139

ملاحظة الخطاب والتکلّم، فلیست أمراً وجودیّاً زائداً علی إسناد الفعل إلی الفاعل حتّی یعقل دخولها في الوضع.

وأمّا وجه استفادتها من الصیغة عند الإطلاق فیتوقّف علی بیان المراد من غیبة الفاعل.

فأقول: قد یراد منها غیابه عن مجلس التکلّم في مقابل الحضور فیه، وقد یراد منها ما یقابل الخطاب والتکلّم، بمعنی عدم نسبة الکلام إلیه علی وجه الخطاب أو التکلّم، والأوّل لیس مقصوداً في المقام؛ ضرورة صحّة قولک مخاطباً لعمرو: «ضرب زید» بلا تأوّلٍ مع حضوره في المجلس، فالمراد منه الثاني، کما یشهد به مقابلة الغائب لصیغتي المخاطب والمتکلّم. وهو علی نحوین أیضاً؛ فإنّ الغیبة المقابلة للخطاب والتکلّم قد یراد منها الإشارة العهدیّة التي تتضمّنها ضمیر الغیبة، وهي بهذا المعنی - کالخطاب والتکلّم - من المعاني الحرفیّة المعتورة علی المفاهیم الاسمیّة، وقد یراد منها عدم الخطاب والتکلّم فقط، فلا تکون حینئذٍ معنیً حرفیّاً معتوراً علی المفهوم الاسمي، والغیبة المستفادة من صیغة الغائب من هذا القبیل؛ ضرورة أنّها إنّما تتکفّل الإسناد إلی فاعلٍ ما، فلا تکون الغیبة حینئذٍ إلّا أمراً عدمیّاً، والتعبیر عن الغائب المستتر ب-«ضمیر الغائب» استعارة، فلا یدلّ علی تضمّنه المعنی الحرفي کالضمیر.

وإذا اتّضح لک أنّ غیبة الفاعل أمرٌ عدميٌّ لا وجودي، ظهر لک أنّ الفعل عند الإطلاق ینصرف إلیها، ولا یحتاج استفادتها منه إلی مؤونةٍ، وأنّها لا تنافي مع تفسیر الفاعل بضمیر المخاطب أو المتکلّم، کما في المثالین المتقدّمین.

وقد ظهر بما بیّناه اُمور اُخر.

ص: 140

الأوّل: فساد جعل غیبة الضمیر في مقابل الحضور، کما أفاده ابن مالک، حیث قال في منظومته:

فما لذي غیبةٍ أو حضور *** ک-«أنت» و «هو» سمّ بالضمیر

والثاني: فساد ما یظهر من کلام بعضهم: من أنّ غیبة الضمیر - کغبة الفاعل - أمرٌ عدمي؛ لما عرفت من الفرق بینهما.

والثالث: اشتقاق فعل المخاطب والمتکلّم من فعل الغائب معنی؛ لما ظهر لک: من أنّ صیغته إنّما تتکفّل الإسناد إلی فاعلٍ ما من دون تقیّدٍ بغیبته، وأنّ مرجع الغیبة المستفادة منها إلی عدم ملاحظة الخاطب والتکلّم فیه، فمفادها ثابتة في سائر الصیغ، فلا تشتمل علی خصوصیّةٍ زائدة، بها تقابل صیغتي المخاطب والمتکلّم، وإنّما تعدّ مقابلة لهما باعتبار عدم تکفّلها لما تتکفّلاه من الخطاب والتکلّم، فالصیغتان مأخوذتان من صیغة الغائب معنی، لاحتوائهما علی ما احتوت علیه مع أمرٍ زائد، فصحّ القول باشتقاق فعلیهما من فعله.

وأمّا إفراد الفاعل، فیدلّ علی خروجه عن وضع الصیغة: جواز إسناد فعل المفرد إلی التثنیة والجمع؛ إذ لو کانت موضوعة للإسناد إلی المفرد لزم التناقض أو التجوّز في مثل قولک: «قام الزیدان أو الزیدون».

والأوّل مستحیل.

والثاني باطل؛ أمّا أوّلاً: فلعدم العلاقة المصحّحة؛ وإلّا لجاز استعمال المثنّی في المفرد أیضاً، لاستواء نسبة العلاقة المتوهّمة إلی الطرفین.وأمّا ثانیاً: فلما عرفت من عدم تطرّق التجوّز في الصیغة التي هي متکفّلة لجهة استعمال المادّة، ولا استعمال لها أصلاً، مع أنّ الالتزام بالتجوّز في مثل «قام الزیدان أو الزیدون» ینافي ما التزموا به: من وجوب تجرید الفعل حینئذٍ عن

ص: 141

علامتي التثیة والجمع، لاستلزامه صحّة المجاز دون الحقیقة.

فإن قلت: الوجه في وجوب التجرید وجواز المجاز دون الحقیقة، لزوم تعدّأ الفاعل لفعلٍ واحد في صورة عدم التجرید والإتیان بضمیري التثنیة والجمع، وهو باطل، فوجب التجرید.

قلت: إنّ «الألف» و «الواو» کسائر لواحق الفعل علائم لا ضمائر، فلا یستلزم الإتیان بهما تعدّد الفاعل، مع أنّ الظاهر حینئذٍ یصیر مفسّراً للبارز علی تقدیر جعله ضمیراً، لا فاعلاً مستقلّاً، فلا یلزم التعدّد أیضاً. ولو کان التعدّد علی وجه التفسر ممنوعاً لزم عدم جواز الإتیان بالاظهر أصلاً؛ لاستتار الفاعل في الفعل أبداً.

وإذا اتّضح لک أنّ صیغة المفرد موضوعة للإسناد إلی فاعلٍ ما من دون تقیّد بوحدته وإفراده، ظهر لک أنّ استفادة إفراد الفاعل من الفعل حینئذ؛ من جهة أنّه الأصل عند دوران الأمر بینه وبین تعدّده مع عدم دلیل في اللفظ أو الخارج علی تعدّده.

وبما بیّناه ظهر لک أیضاً وجه اشتقاق فعل التثنیة والجمع عن المفرد معنیً بل لفظاً؛ لاحتوائهما علی ما احتوی علیه المفرد لفظاً ومعنی.

وأمّا تذکیر الفاعل، فیدلّ علی خروجه عن وضع الصیغة: جواز إسناد فعل المذکّر إلی المؤنّث الحقیقي مع الفصل، والمجازي مطلقاً؛ إذ لو کانت موضوعة للإسناد إلی المذکّر لزم التناقض أو التجوّز في مثل قولک: «أتاني امرأة» و «طلع الشمس» واللازم باطل؛ أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلانتفاء العلاقة المصحّحة أوّلاً - وإلّا لجاز إسناد فعل المؤنّث إلی المذکّر، وصحّ قولک: «جاءت زید» لاستواء نسبة العلاقة المتوهّمة إلی الطرفین - ولعدم تطرّق التجوّز في الصیغة ثانیاً

ص: 142

علی ما عرفت، فصیغة المجرّد عن «التاء» موضوعة للإسناد إلی ذاتٍ ما، سواء کان مذکّراً أم مؤنّثاً، وإنّما یستفاد تذکیر الفاعل من إطلاق الفعل وتجرّده عن علامة التأنیث، فتسمیتها بصیغة المذکّر وجعلها مقابلة لصیغة المؤنّث إنّما هي باعتبار اختصاصها به إطلاقاً لا وضعاً.

توضیح الحال: أنّ الصیغة المجرّدة عن «التاء» وإن لم تختصّ بالمذکّر، وتعمّ بوضعها الأصلي للمذکّر والمؤنّث، إلّا أنّه لمّا جعل للمؤنّث علامة ولم تجعل للتذکیر علامة، ینصرف المجرّد عنها إلی المذکّر، ولا ینصرف عنه إلی المؤنّث إلّا بقرینة أو العلامة؛ ولأجل ذلک جعل أهل الصناعة المذکّر أصلاً والمؤنّث فرعاً، فإنّ التذکیر والتأنیث مع أنّهما أمران وجودیّان متضادّان، ویکون کلّ واحدٍ منهما في عرض الآخر، ولم یکن أحدهما في حدّ نفسه مطابقاً للأصل والآخر فرعاً له، تقابلا في مرحلة الأثر تقابل التناقض، وصار التذکیر من التأنیث بمنزلة العدم موافقاً للأصل؛ من حیث عدم حاجته إلی علامة وحاجة المؤنّث إلیها.

وقد تبیّن بما بیّناه سرّ اشتقاق فعل المؤنّث من فعل المذکّر معنیً، بل لفظاً أیضاً، في ما عدا المضارع؛ لاحتواء صیغة المؤنّث علی ما احتوت علیه صیغة المذکّر مع أمرٍ زائد.

الأمر الرابع ممّا ینبغي التنبیه علیه: تحقیق حقیقة الخبر والإنشاء، وبیان الفرق بینهما.

فأقول بعون الله تعالی ومشیّته: إنّ النسبة اللفظیّة في الکلام إن جعلت في وزان النسبة الواقعیّة أو الذهنیّة مطابقةً لإحداهما ناظرةً إلیها کاشفةً عنها فهي خبریّة، والکلام خبر، وإن لم تجعل في مقام التطبیق علی إحداهما، بل في مقام إیجاد النسبة الموافقة لها في الخارج أو طلبها أو الاستفاهم عنها أو تمنّیها أو

ص: 143

ترجّیها - وهکذا من الوجوه - فهي إنشائیّة، والکلام إنشاء.

وإلی ما بیّناه ینظر ما ذکره القوم: من أنّ الکلام إن کان لنسبته خارجٌ تطابقه أو لا تطابقه فخبر، وإلِّا فإنشاء؛ فإنّ الاتّصاف بالمطابقة وعدمها فرع جعل النسبة في وزان الخارج وفي مقام التطبیق علیه، کما أنّ عدم الاتّصاف بهما فرع جعلها لا في مقام الوزان مع الخارج والتطبیق علیه، فنبّهوا بذکر تطرّق المتقابلین في الخبر علی وجود الجامع الذي هما طرفاه، وهو نظر النسبة إلی الخارج وجعلها في وزانه، کما نبّهوا بعدم تطرّقهما في الإنشاء علی عدم وجود الجامع المذکور فیه وجعل النسبة فیه لا في مقام الوزان والتطبیق علی الخارج.وقد خفي معنی التعریف علی الأکثر، فزعموا أنّ الاتّصاف بالمطالبقة وعدمها فرع وجود خارجٍ للنسبة سابقٍ علیها، وعدم الاتّصاف بهما فرع عدم خارجٍ سابقٍ علیها، فحکموا بأنّ الإنشاء لا خارج له، وإنّما یحدث به مفهومه في الخارج، کالعقود والإیقاعات، حیث لا یکون لهما قبل الإنشاء وجودٌ في الخارج، وإنّما توجدان وتحدثان به في الخارج، فجعلوا مدار الإنشاء علی إیجاد مفهومه به.

ولذا اُشکل علیهم الأمر في الإنشاءات المکرّرة التي لا یحدث بما عدا الأوّل منها شيء، فالتزم بعضهم بعدم کونه إنشاءً، وآخر بأنّ مدار الإنشاء علی قصد إیجاد المعنی في نفس الأمر، وفسّر الوجود النفس الأمري بما یکون منشأ انتزاعه في الخارج، وزعم أنّه یخرج عن مجرّد الفرض بوجود منشأ انتزاعه فیه وإن لم یوجد هو بنفسه فیه لفقد شرطٍ أو لوجود مانعٍ مثلاً.

وما توهّموه في غایة السخافة والرداءة من وجهین:

الأوّل: تخصیص ما لنسبته خارجٌ بالخبر دون الإنشاء؛ لأنّ المراد

ص: 144

بالخارج لا یکون خصوص النسبة الإیجابیّة، وإلّا لم یکن للقضیّة السلبیّة خارج، ولا خصوص النسبة السلبیّة، وإلّا لم یکن للقضیّة الإیجابیّة خارج، ولا النسبة المطابقة للنسبة اللفظیّة إیجاباً أو سلباً، وإلّا لم یکن للکلام الخبري الکاذب خارج، بل المراد من الخارج هي النسبة النفس الأمریّة إیجابیّةً أو سلبیّةً مطابقةً للنسبة اللفظیّة أو مخالفة، ومن المعلوم أنّ الخارج بهذا المعنی لا یختصّ به الخبر وأنّه ثابت للنسبة الخبریّة والإنشائیّة، ولا یعقل عدم سبق النسبة الإنشائیّة بخارج بهذا لامعنی، وإلّا لزم ارتفاع النقیضین، کما أنّه لا یعقل إیجاد خارجٍ بهذا المعنی بالنسبة الإنشائیّة، وإلّا لزم تحصیل الحاصل، فنسبة الکلام - خبراً کان أو إنشاءً - لها خارج لا محالة، وإنّما اختلافهما في وزان النسبة معه الموجب للاتّصاف بالمطابقة وعدمها، وعدمه الموجب لعدم الاتّصاف بهما.

والثاني: جعل مدار الإنشاء المقابل للخبر علی أنّ نسبته موجدة لنسبةٍ خارجیّة، لأنّ مداره علی کون نسبته لا في وزان الخارج، سواء کانت في مقام إیجاد نسبة بها کالعقود والإیقاعات، أم في مقام طلب إیجادها أو الاستفهام عنها أو تمنّیها أو ترجّیها وهکذا.

وتوهّم: أنّ المدار علی الإیجاد مطلقاً وأنّ الإنشاء موجدٌ مطلقاً، غایة الأمر أنّ الموجد به یختلف باختلاف الماقامات، فقد یکون الموجد به المسند کما في العقود والإیقاعات، وقد یکون الطلب أو التمنّي أو الترجّي أو الاستفهام وهکذا من المفاهیم الإنشائیّة کا في سائر الإنشاءات، وَهَمٌ واضح؛ لأنّ الطلب والتمنّي والترجّي والاستفهام وهکذا، جهاتٌ للاستعمال وکیفیّاتٌ للإسناد، فهي حادثة بالأدوات طارئةٌ علی الإسناد، لا حادثة منه. ولو أغمضنا عن ذلک، وقلنا: بأنّ المفهوم الحادث أعمّ من أن یکون حادثاً بالإسناد أو طارئاً علیه وکان من

ص: 145

وجوه استعمال الکلام، لزم أن یکون الخبر إنشاءً، لأنّ الإخبار - کالطلب والاستفهام والتمنّي وهکذا - حادثٌ طارٍ علی الإسناد.

والحاصل: أنّ المناط في الإنشاء إن کان حدوث مفهوم من قبله ولو کان من وجوه استعماله لزم أن یکون الخبر إنشاءً؛ لحدوث الإخبار الذي هو وجهٌ من وجوه استعمال الکلام من قبله، وإن کان المناط حدوث مفهومٍ بالإسناد لزم انحصار الإنشاء في العقود والإیقاعات، وأن لا یکون الأمر والسؤال والالتماس والاستفهام والتمنّي والترجّي وهکذا من أصناف الإنشاء إنشاءً؛ لعدم حدوث مفهومٍ بالإسناد فیها، إلّآ في خصوص العقود والإیقاعات.

فاتّضح بما بیّناه غایة الاتّضاح: أنّ ما اشتهر بینهم، من أنّه لا خارج لنسبة الإنشاء وأنّها موجدة أبداً، في غایة الشناعة، وأنّ مدار الإنشاء إنّما هو علی جعل نسبته لا في مقام الموازنة مع الخارج والتطبیق علیه.

فاندفع ما یتوهّم: من انتقاض الحدّ بتأکید الإنشاء، وأمّا الالتزام بعدم کونه إنشاءً ففي غایي الغرابة؛ إذ لا ثالث للکلام، والالتزام بکونه خبراً أقبح.

وأمّا ما أجاب به بعضهم: من أنّ مدار الإنشاء علی قصد إیجاد المعنی في نفس الأمر لا في الخارج وأنّ وجوده في نفس الأمر متحقّق باعتبار تحقّق منشأ انتزاعه في الخارج، فأقبح وأشنع.

أمّا أوّلاً: فلأنّ قصد المنشئ إذا تعلّق بالإیجاد - کما في العقود والإیقاعات - إنّما یتعلّق بالوجود الخارجي الذي هو منشأ للآثارلا الوجود الذي توهّمه.

وأمّا ثانیاً: فلأنّ الوجود الذي فرضه للمعنی بین الفرض والخارج وسمّاه بوجوده في نفس الأمر إن کان عبارة عن وجود منشأ انتزاعه فقط، ففیه:

ص: 146

أوّلاً: أنّه التزامٌ بالإشکال؛ لأنّ الإشکال إنّما هو في وجود منشأ الانتزاع في الخارج، وهو الإنشاء مع عدم وجود المنشئ به.

وثانیاً: أنّ وجود منشأ الانتزاع لیس مستنداً إلی الإنشاء وموجوداً به؛ لأنّه عینه.

وثالثاً: أنّ وجود منشأ الالنتزاع في الخارج، فلا یکون بین الفرض والخارج.

وإن کان عبارةً عن وجود المنشئ بنفسه، لکنّه في موطن آخر غیر الخارج، ففیه: أنّ وجود الشيء لا في الخارج ولا في الذهن غیر متصوّر وفرضٌ محض.

فإن قلت: لو لم یخرج المفهوم الإنشائي بالإنشاء لا بالمنشئ، فلا یدلّ تأثیرها بعد الإنشاء علی تفاوتٍ في المنشئ وخروجه عن مرحلة الفرض، مع أنّ مجرّد التفاوت لا یدلّ علی الخروج عن الفرض، وإنّما یدلّ علی الاختلاف فیه، ألا تری أنّه لو کان بینک و بین المسجد مسافة مائة خطوة، تتفاوت المسافة بکلّ خطوة تتخطّاها، ولا یتغیّر دخول المسجد عن مرحلة الفرض إلی مرحلة الفعلیّة إلّا بعد مائة خطوة.

والعجب أنّ بعض الأفاضل من المعاصرین مع تنبّهه لما بیّناه - من عدم اختصاص الخبر بالخارج - اختلط علیه الأمر في الإنشاء، فقال: فالنسبة في الکلام إن کانت بحیث یکون قوام ذاتها النظر إلی الخارج فهي نسبة خبریّة، وإن کانت بحیث یکون قوام ذاتها بإحداث شيءٍ والتسبّب له، فهي نسبة إنشائیّة،

ص: 147

وزعم: أنّ المحدَث قد یکون نفس الحدث کما في «بعت» عند إنشاء البیع، أو البعث علیه کما في «اضرب» أو طلب الفهم والعلم به کما في «هل ضربت؟» أو أمثال ذلک، وهذه النسب الإحداثیّة الإنشائیّة قد یترتّب علیها حدوث تلک المنشآت في الخارج، وذلک عند صلوح المحلّ للحدوث، وقد لا یترتّب علیها لعدم صلوح المحلّ له، کما في الإنشاءات التأکیدیّة، انتهی.

فإنّک قد عرفت أنّ قوام الإنشاء المقابل للخبر، بجعل نسبته لا في مقام الموازنة مع الخارج والتطبیق علیه، سواء کان في مقام إیجاد نسبة بها ترتّب علیه حدوثها به أوّلاً، أم في مقام البعث علیها أو الاستفهام عنها وهکذا، ولا یختصّ بالمقام الأوّل.

وتوهّم: أنّ البعث والاستفهام وهکذا تحدث بالنسبة الإنشائیّة، في غیر محلّه؛ لما ظهر لک: من أنّها - کالأخبار - معانٍ حرفیّة معتورة علی الإسناد، ولا یعقل حدوثها منه، فلو کان قوام الإنشاء بجعل نسبته في مقام الإیجاد والإحداث لاختصّ بالعقود والإیقاعات، ولزم أن یکون سائر الإنشاءات قسماً ثالثاً، لا خبراً لعدم نظر نسبتها إلی کشف الخارج والتطبیق علیه، ولا إنشاءً لعدم وقوعها في مقام إحداث شيءٍ بها.

ثمّ اعلم أنّ الکلام الذي نبته في وزان الخارج خبرٌ، وإن ترتّب علی الإخبا رمفاهیم إنشائیة: من المدح أو الذم والاستکانة والتذلّل أو التحزّن والتفجّع وهکذا، ولا یقدح في کونه خبراً ترتّب المفاهیم الإنشائیّة علیه.

کما لا یقدح في کون الکلام الذي لیست نسبته في وزان الخارج إنشاءً ترتّب الإخبار عن الإرادة والکراهة علیه؛ فإنّ الأمر کاشفٌ عن إرادة الآمر المأمور به، کما أنّ النهي کاشفٌ عن کراهة الناهي المنهیّ عنه، وهکذا الأمر في

ص: 148

سائر الإنشاءات، فإنّها کاشفة إمّا عن الإرادة أوعن الکراهة، ولا یختلف ذلک باختلاف کون الإخبار مقصوداً بالأصالة وتوطئةً للاُمور المذکورة، کما أنّه کذلک في الإنشاءات؛ فإنّ المقصود بالأصالة من الأمر والنهي الإنشائیّین هو الإعلام بالصفة النفسیّة المنبعثان عنها، وهي إرادة المأمور به وکراهة المنهيّ عنه، ومع ذلک لم یخرج الأمر والنهي عن الإنشاء إلی الخبر.

ولا ینافي ما بیّناه ما حکي عن المرزوقي في قوله:

قومي هم قتلوا اُمیم أخي *** فإذا رمیت یصیبني سهمي

أنّه تحزّنٌ وتفجّع، ولیس بإخبار؛ لأنّ غرضه أنّ المقصود بالأصالة من قوله التحزّن والتفجّع لا الإخبار، لا أنّه لیس بخبر حقیقة؛ولذا عبّر بالإخبار دون الخبر.

فما اشتهر بین أهل الصناعة: من أنّ «نعم» و «بئس» وما في معناهما أفعالٌ وضعت لإنشاء المدح أو الذم غلطٌ، فإنّها إنّما تستعمل في وزان الخارج، فهي أخبارٌ حقیقةً، غایة الأمر أنّه یترتّب علی الإخبار عن مفاهیمها المدح أو الذم.

الأمر الخامس: في بیان معنی صیغة الأمر، فإنّ فعل الأمر وإن کان قسماً من المضارع - کما عرفت - إلّا أنّه لمّا اختصّت صیغته بخصوصیّةٍ زائدةٍ علی اتّصاف الذات بالمبدأ الذي هو مفاد مطلق المضارع، وجب البحث عنه مستقلّاً، والتنبیه علی هذه الخصوصیّة الزائدة المعبَّر عنها ب-«الأمر» المستفادة من الصیغة مرّة ومن اللام اُخری.

فأقول بعون الله تعالی ومشیّته: إنّ مفاد الصیغة بشهادة الاطّراد في موارد استعمالاتها، إنّما هو البعث علی اتّصاف الذات بالمبدأ، ویتلبّس بألبسة مختلفة،

ص: 149

ویتولّد منه عناوین متعدّدة باختلاف الأغراض والدواعي الباعثة علیه:

فقد یکون الغرض من البعث انبعاث المبعوث علی الاتّصاف بالمبدأ، إمّا لکونه صلاحاً له من دون أن یکون في نفس الباعث طلبٌ وإرادة، فیتولّد منه الإرشاد، کقول الطبیب للمریض: «اشرب الدواء» وإمّا لکونه مطلوباً للباعث فیتولّد منه الطلب، فإن کان دانیاً یتلبّس بلباس السؤال، وإن کان عالیاً وفي مقام إعمال الولایة یتلبّس بلباس الأمر، وإلّا فهو التماس واستدعاء. والطلب في الصور الثلاثة: إمّا علی سبیل الحتم أو لا، فیتولّد منه الإیجاب والندب باعتبارهما في الصورة الثانیة.

وقد یکون الغرض من البعث الترخیص والإذن، فإن کان الباعث مالکاً وکان البعث علی البیع ونحوه من التقلّبات التي لا تنفذ إلّا باستنادها إلیه، کقولک: «بع واشتر بمالي إن شئت» فهو توکیل، وإلّا فهو إباحة إن تعلّق بالتصرّف المتلف للعین، کقولک: «کل من طعامِي» وإلّا فهو إعارة. وإن کان الباعث والیاً وفي مقام إعمال الولایة فهو إباحة تکلیفیّة.

وقد یکون الغرض منه رفع المنع المحقّق أو المتوهّم، فیتولّد منه الإباحة بالمعنی الأعمّ.

وقد یکون الغرض منه الحجّیة، کقولک: «اعمل بالخبر الواحد» فإنّ المقصود من البعث علی العمل به أنّه کافٍ للعمل وقائم مقام الدلیل العلمي.

وقد یکون الغرض منه عدم الحجّیة، کقوله تعالی: ﴿إن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾(1) فإنّ البعث علی التبیّن تنبیه علی عدم کفایته للعمل.

ص: 150


1- . سورة الحجرات: 6.

وقد یکون الغرض منه الشرطیّة، کقوله تعالی: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ ... الآیة.(1)

وقد یکون الغرض منه الطهارة، کقولک: «صلّ فیما شکّ في تنجّسه».

وقد یکون الغرض منه النجاسة، کقولک: «اجتنب عمّا علمت بتنجّسه وشککت في زواله».

وقد یکون الغرض منه التعجیز، کقوله تعالی: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِه﴾.(2)

وقد یکون الغرض منه التهدید، کقوله تعالی: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.﴾(3)

وقد یکون الغرض منه الاختبار والامتحان، إلی غیر ذلک من الأغراض التي لا تحصی.

والحاصل: أنّ مفاد الصیغة في جمیع المقامات أمرٌ واحد، وإنّما یتلبّس بألبسة مختلفة باختلاف خصوصیّات المقام، ولا تنتهي إلی حدٍّ مضبوط.

فإحصاء معاني الصیغة إلی خمسة عشر والاختلاف في أنّها في أیّها حقیقة وفي أیّها مجاز، فاسد من وجوه:

الأوّل: أنّ ما أحصوها إنّما هي أغراض ومقاصد لا معاني للصیغة.

والثاني: أنّها لا تنتهي إلی خمسة عشر.

ص: 151


1- . سورة المائدة: 6.
2- . سورة البقرة: 23.
3- . سورة فصّلت: 40.

والثالث: أنّ الصیغة جهة لاستعمال المادّة، فلا استعمال لها حتّ یتطرّق فیها الحقیقة والمجاز.

والرابع: أنّ ما توهّموه من المعاني أغراض متنافرة متباینة، ولا علاقة مصحّحة بینها حتّی یصحّ التجوّز فیها علی فرض تطرّقه فیها.

فاتّضح بما بیّناه غایة الاتّضاح: أنّ ما اشتهر بنی المتأخّرین من الاُصولیین، من البحث عن صیغة الأمر: هل هي حقیقة في الوجوب، أو الندب، أو مشترکة بینهما لفظاً أو معنیً، أو حقیقة في الإذن الجامع بینهما وبین الإباحة، أو مشترکة بینها؟ في غیر محلّه من وجوه. مع أنّ الأحکام التکلیفیّة صفات نفسیّة سابقة علی الإنشاء، والإنشاء معلول عنها؛ ولذا یترتّب آثار التکلیف - من استحقاق الثواب والعقاب - علی العلم بما في نفس المولی، فلا یعقل استعمال صیغة الأمر التي هي صیغة إنشاءٍ فیها، علی فرض تطرّق الاستعمال في مطلق الصیغة.

نعم، یمکن البحث عن اختصاص الصیغة بأحد هذه الاُمور وضعاً بالملازمة، بأن یقال: إنّها هل هي موضوعة للطلب الإنشائي الجامع الملازم للطلب النفسي الجامع بین الوجوب والندب، أو الإلزامي منه الملازم للوجوب، أو للضعیف منه الملازم للندب، وهکذا، کما عبّر به المتقدّمون منهم؛ فإنّهم عنونوا البحث في الصیغة بقولهم: وهل للأمر صیغة تخصّه بحیث متی ترد لغیره کانت مجازاً؟ مع أنّ المتقدّمین لم یبحثوا عن الصیغة إلّا من حیث اختصاصها بالأمر وعدمه، وکان عدم اختصاصها بالوجوب أو الندب وضعاً عندهم من الواضحات. وموضوع بحثهم في اقتضاء الوجوب أو الندب أو التوقّف والاشتراک هو الأمر لا الصیغة، لا من جهة وضعه، بل من جهة اقتضاء الإطلاق أو أصالة الاحتیاط أو

ص: 152

أصالة العدم، کما یظهر من استدلالاتهم في هذا الباب.

والحاصل: أنّ للمتقدّمین من الاُصولیّین في باب الأمر المقابل للنهي بحثین: أحدهما: في أنّه هل له صیغةٌ تخصّه وضعاً؟ فقیل: نعم، وقیل: لا، ولعلّ الأکثر قائلون بالعدم. والثاني: في أنّه هل یقتضي مطلق الأمر الوجوب أو الندب بانصراف الإطلاق أو شهرة الاستعمال أو أصالة الاحتیاط أو أصالة العدم وهکذا، أو لا بدّ من الوقف بینهما؟ فاختلط الأمر علی المتأخّرین، فعمّموا البحث في الصیغة، وزعموا أنّهم اختلفوا في اختصاصها بالوجوب أو الندب أیضاً، کما اختلفوا في اختصاصها بالأمر الجامع بینهما، وساقوا الأدلّة التي ذکروها في بحث اقتضاء مطلق الأمر الوجوب أو الندب إلیه، ولم یتفطّنوا بعدم انطباقها علی ما راموه.

ثمّ إنّه کما اختلط علیهم الأمر في البحث عن الصیغة، اختلط علیهم الأمر في البحث عن الأمر، فزعموا أنّهم اختلفوا في أنّ الأمر موضوع للوجوب أو الندب أو الطلب الجامع بینهما، مع أنّ عدم اختصاص الأمر بأحدهما وضعاً في غایة الوضوح؛ ولذا لم یأخذ أحد منهم قید الوجوب أو الندب في تعریف الأمر، مع اختلافهم فیه من جهة أخذ العلوّ والاستعلاء فیه، مع أنّ المبحوث عنه في باب الأمر هو الأمر المقابل للنهي الذي هو من مقولة المعاني، لا مادّة الأمر کما توهّموه.

وما بیّناه ظاهر لمن راجع إلی کلماتهم حقّ المراجع. وقد فصّلنا الکلام فیه بنقل کلماتهم والتنبیه علی مواضع الاستشهاد منها فیما حرّرناه في مبحث الأمر.

وأمّا ما ذکره بعض الأفاضل من المعاصرین: من أنّ لقدماء الاُصولیّین المؤسّسین لفنّ الاُصول في الأمر المقابل للسؤال مباحث أربعة:

ص: 153

أحدها: تفسیر لفظ الأمر بحسب اللغة وتعداد معانیه، من الفعل والشأن والغرض والحادثة والمفهوم المقابل للسؤال والالتماس، وبیان أنّه في أیّها حقیقة وفي أیّها مجاز.

ثانیها: في -حدید هذا المفهوم المقابل للسؤال، وفصّل إلی أن قال:

ثالثها: أنّ هذا المفهوم حیث ما تحقّق - کصیغة «افعل» الصادرة من السیّد إلی عبده - هل یفید الوجوب أم لا؟ ومرجعه إلی أنّ مفهوم الأمر المقابل للسؤال هل یعتبر فیه الوجوب أم لا، وفصّل إلی أن قال:

نعم، لهم مبحث رابع، في أنّ الأمر هل له صیغة تخصّه؟ فاحتمل بعض هناک أنّ الصیغة علی تقدیر کونها حقیقة في الوجوب واعتباره أیضاً في مفهوم الأمر تصیر حینئذٍ صیغة تخصّصه، وکذا لو کانت حقیقة في الندب ولم یعتبر في مفهومه أزید منه. ولکنّالصواب عند المحقّقین عدم صیغةٍ تخصّ للأمر، بل هو من الواضحات عند الجمیع؛ ولذا لم یتعرّض الأکثر لهذا المبحث، وإنّما ذکره بعض الأشاعرة.

وکیف کان، فالنزاع في أنّ هذه الصیغة موضوعة للوجوب أو الندب، لم یقع إلّا بین من اختلط الأمر علیه من المتأخّرین، ولا حقیقة له إلّا الخلط والاشتباه المحض.

ففیه خلط واشتباه أیضاً من وجوه عدیدة:

الأوّل: أنّ موضوع البحث إنّما هو الأمر المقابل للنهي لا السؤال؛ فإنّ الأمر المبحوث عنه في کلماتهم إنّما هو بمعنی طلب الفعل الصادر من العالي علی سبیل الاستعلاء، في مقابل النهي الذي هو بمعنی طلب الترک کذلک. وأمّا الأمر المقابل للسؤال فهو الطلب الصادر من العالي، کما أنّ السّؤال هو الطلب من الداني، سواء

ص: 154

تعلّقا بالفعل أو الترک.

والثاني: أنّ اعتبار الوجوب أو الندب في مفهوم الأمر ممّا لم یتوهّمه أحدٌ إلّا من اختلط علیه الأمر من المتأخّرین، وإنّما نزاع القدماء في اقتضاء مطلقه الوجوب أو الندب أو التوقّف بالإطلاق أو شهرة الاستعمال أو أصالة الاحتیاط أو البراءة وهکذا، کما لا یخفی علی من لاحظ کلماتهم.

والثالث: أنّ نزاعهم في أنّه هل للأمر صیغة تخصّه لا یختصّ بالأشاعرة، ولا یرجع إلی أخذ الوجوب في مفهومها وعدمه، وإنّما یرجع إلی اختصاصها بالطلب الجامع وعدمه، وما ذکره: من عدم تعرّض الأکثر له، إن اُرید به القدماء فهو خطأ، وإن اُرید به المتأخّرون فهو حقّ، ولکنّ الوجه فیه تغییر الترجمة، والترجمة عنه بصیغة «افعل» بزعم قصور ترجمة المتقدّمین لوجود صیغة تخصّه بالضرورة، مثل «أوجبت» و «حتمت» و «ندبت» وهکذا، غفلةً عن أنّ الصیغة تخصّ الهیئة ولا تشمل «أوجبت» و «ندبت» وأمثالها ممّا یخصّ الأمر بمادّته.

وکیف کان، فالنزاع في اختصاص الصیغة بالوجوب أو الندب وضعاً ممّا لم یکن له عین وأثر في کلماتهم، وإنّما اختلفوا في اختصاصها وضعاً بالأمر وعدمه. والسرّ في اختلافهم فیه دون الاختصاص بالوجوب أو الندب وجود التبادر بالنسبة إلی الأمر دون الوجوب أو الندب.

توضحی الحال: أنّ البعث لمّا کان توطئةً ذاتاً للانبعاث، ینصرف إلیه في حدّ نفسه ویتولّد منه طلب الفعل لو طخّي وطبعه، فتوهّم بعضهم أنّ الانصراف المزبور تبادرٌ حاقّي من طرف الصیغة، فحکم باختصاصها به وضعاً، وتنبّه الآخرون بخلافه وأنّه تبادر إطلاقي، فحکموا بعدم اختصاصها به وضعاً. وأمّا الوجوب أو الندب فلا یتبادر منه، کما هو ظاهر.

ص: 155

وإذ قد اتّضح لک ممّا بیّناه أنّ مفاد الصیغة وضعاً إنّما هو البعث علی الاتّصاف بالمبدأ المنبعث من أغراض شتّی ولا اختصاص لها بالأمر ولا الوجوب ولا الندب، ظهر لک أنّ عدم دلالتها وضعاً علی ما هو من شؤون الدمر من المرّة أو التکرار والفور أو التراخي، أوضح وأبین، بل لم یتوهّم أحدٌ من المتقدّمین دلالتها علی أحد هذه الاُمور وضعاً، وإنّما اختلفوا في اقتضاء مطلق الأمر المرّة أو التکرار والفور أو التراخي بالإطلاق أو بالأصل ونحو ذلک، واختلط الأمر علی المتأخّرین فساقوا جمیع مباحث الأمر في الصیغة.

ثمّ اعلم أنّا قد بیّنا أنّ فعل الأمر لیس قسماً ثالثاً، وإنّما هو قسم من المضارع، ولعلّک تقول: ما الدلیل علی أنّه قسم من المضارع لا الماضي، وأنّ مفاده البعث علی الاتّصاف لا التحقّق؟

فأقول: یدلّ علی ما بیّناه اُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ البعث إنّما یتعلّق بالشخص ابتداءً لا الحدث - کما هو ظاهر - فلا یجوز أن یتعلّق بالتحقّق الناظر إلی الحدث أوّلاً وإلی الشخص ثانیاً.

والثاني: اختصاص «لام» الأمر القائم مقام صیغته بالمضارع؛ إذ لو جاز تعلّق البعث بالتحقّق لم تختصّ بالمضارع.

والثالث: اختصاص «لاء» النهي بالمضارع، فإنّ الأمر والنهي ضدّان، والضدّان - بل مطلق المتقابلین - إنّما یردان علی محلٍّواحد وإلّا لم یتقابلا، فاختصاص أحدهما بالمضارع یدلّ علی اختصاص الآخر به أیضاً.

ص: 156

المبحث الثالث: في بیان الاُمور المستفادة من حدّ الحرف

المبحث الثالث من المقام الثالث:(1) في بیان الاُمور المستفادة من حدّ الحرف.

ولمّا خفیت حقیقته علی أکثر أهل الصناعة، ینبغي لنا أن نتعرّض أوّلاً لجملةٍ من الحروف وبیان معانیها؛ أیضاحاً للحقیقة ومزیداً للبصیرة، فأقول:

منها: حروف الجرّ، قال ابن الحاجب: حروف الجرّ ما وضع للإفضاء بفعل أو معناه إلی ما یلیه.

وفي شرح الرضي: الإفضاء: الوصول، والباء بعده للتعدیة، أي لإیصال فعل - إلی أن قال - ویسمّیها بعضهم حروف الإضافة لهذا المعنی، أي تضیف الأفعال إلی الأسماء، أي توصلها إلیها، قال بعضهم: ومن هذا سمّیت حروف الجرّ؛ لأنّها تجرّ معناه إلیها، انتهی.

فإنّ کلامهما صریح في أنّها موضوعة لإیجاد الربط وإحداثه علی حسب وضع الآلات للآثار المقصودة منها، لا کوضع الأسماء بإزاء مفاهیمها، الموجب لخطورها بالبال عند النطق بأسمائها.

فحروف الجرّ کلّها مشترکة في أنّها توجب الربط بین الفعل أو معناه إلی

ص: 157


1- . تقدّم المبحث الأوّل منه في الصفحة 45، والثاني في الصفحة 106.

مدخولها، ولکنّها تختلف باختلاف أنحائه، فمنها: ما یوجب مطلق الربط، ومنها: ما یوجب ربطاً خاصّاً، کالظرفیّة والاستعلاء والاختصاص وهکذا.

فما یوجب مطلق الربط ولا یختصّ بنحوٍ خاصّ، هي حرف «الباء» فإنّها لمجرّد الربط وإلصاق الفعل أو معناه إلی مدخولها، وسائر الخصوصیّات - من التعدیة والتفدیة والسببیّة والظرفیّة والمصاحبة والاستعانة والمقابلة والبدلیّة والمجاوزة والاستعلاء والتأکید وهکذا - إنّما تستفاد من خصوصیّات الموراد؛ ولذا یتّسع فیها ما لا یتّسع في غیرها من الحروف، فیصحّ الإتیان بها مع تحقّق ربطٍ ما من دون أن یکون مقصوراً علی ربط خاص، وتقوم مقام سائر الحروف حیث اُلغیت الخصوصیّة واُرید مطلق الارتباط، ولا تقوم سائر الحروف مقامها.

فالإلصاق لیس أحد معاني «الباء» بل هو معنی لا یفارقه، کما نبّه علیه بعضهم؛ لأنّ الغرض منه الإیصال والربط بأيّ نحوٍ کان، لا الإلصاق الحسّي؛ ولذا اقتصر علیه سیبویه ولم یذکر ل-«الباء» معنی سواه، بل صرّح بحصره فیه، حیث قال: وإنّما هي للإلصاق والاختلاط.

ومن هنا ظهر سرّ کونها أصلاً بالنسبة إلی سائر الحروف الجارّة - کما صرّح به أیضاً - ضرورة أنّ الدال علی مطلق الربط أصلٌ بالنسبة إلی ما دلّ علی ربطٍ خاصّ.

وقد تبیّن بما بیّناه اُمور:

الأوّل: أنّ خصوصیّات الموارد لا تنحصر فیما ذکروه، فحصرها في أربعة عشر لا وجه له، فضلاً عن جعلها معاني ل-«الباء».

والثاني: أنّ ذکرها في قبال الإلصاق باطل؛ لما تبیّن لک: من أنّ المراد منه مطلق الربط والإیصال، فسائر الخصوصیّات لاتي توهّموا أنّها معاني ل-«الباء»

ص: 158

إنّما هي أنحاءٌ للإلصاق مستفادةٌ من الموارد.

والثالث: أنّ الخصوصیّات لا تکون متقابلة، فربما تجتمع في موردٍ أزید من خصوصیّةٍ واحدة، فاختلافهم في مثل «باء» البسملة، أهي للمصاحبة أو الاستعانة؟ لا وجه له؛ لأنّه إن اُرید به أنّ «الباء» تفید نفسه المصاحبة أو الاستعانة، فالوجهان باطلان؛ لأنّ «الباء» لا تفید إلّا الإلصاق والإیصال. وإن اُرید به أنّه بمعونة المورد والمقام تفید الاُولی أو الثانیة، ففیه: أنّه لا مانع من استفادتهما معاً من المورد.

والرابع: أنّ تقسیم الإلصاق إلی الحقیقي والمجازي، والتمثیل للأوّل بقوله: «به داء» وللثاني بقوله: «مررت بزید» بزعم أنّ المرورلم یلتصق بزید بل بمکانٍ یقرب منه زید، من أقبح الأغلاط.

لأنّ الغرض من الإلصاق مجرّد الإیصال والربط، ومن المعلوم أنّ ارتباط کلّ شيء بحسبه، فلصوق الداء بالشخص وارتباطه به لا یتحقّق إلّا بظهوره في جسده، کما أنّ لصوق المرور بالشخص ووصوله به إنّما یتحقّق بالمرور بحذائه، فالإیصال ثابت في الموردین تحقیقاً، ولیس الغرض من الإلصاق اللصوق الحسّي حتّی یتوهّم أنّه علی قسمین، مع أنّ اللصوق الحسّي مفهوم مستقلّ اسمي لا یعقل أن یکون معنی ل-«الباء» وغیرها من الحروف.

وأعجب منه ما نقل عن الأخفش، من أنّ المعنی: «مررت علی زید» بدلیل تعدیة المرو ب-«علی» في قوله تعالی: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَ-مُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ﴾.(1)

فإنّ إیصال المرور إلی الشخص یختلف باختلاف الموارد، فقد یکون علی

ص: 159


1- . سورة الصافّات: 137.

وجه الاستعلاء، وقد لا یکون کذلک، فتعدیته ب-«علی» في الآیة الکریمة لا تدلّ علی حصر الربط في الاستعلاء، حتّی یجعل «الباء» في المثال بمعنی الاستعلاء، مع أنّه لو کان کذلک فهو مستفاد من المورد، ولا یوجب إخراج «الباء» عن معناها الأصلي، وهو الإلصاق المجامع مع الاستعلاء وغیره من الخصوصیّات.

والخامس: أنّ الاختلاف في إفادة «الباء» التبعیض وإثباته عن بعض، وتمثیله بقوله تعالی: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾(1) ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾(2) وقول الشاعر: «شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت» وإنکاره عن بعض، في غیر محلّه.

لأنّه إن اُرید منه أنّ «الباء» تفید التبعیض مع قطع النظر عن خصوصیّة المورد والمقام، فالبطلان متّجه، إلّا أنّه لا یختصّ به، بل هو کسائر الخصوصیّات التي ذکورها معاني ل-«الباء».

وإن اُرید منه أنّها لا تفیده حتّی مبعونة المورد والمقام، فالإنکار لا وجه له؛ لأنّ الفعل المتعدّي بنفسه إذا اقتضی استیعاب الفعل للمفعول، کقولک: «غسلت وجهي أو بدني ومسحت رأسي وهکذا» فإدخال «الباء» حینئذٍ علی المفعول یصرف الکلام عن الاستیعاب، ویفید أنّ مجرّد الإیصال کافٍ في الصدق.

وروایة زرارة عن الصادق (علیه السلام) ناظرة إلی هذا المعنی؛ فإنّه (علیه السلام) قال: «لمکان الباء»(3) یعني: أنّ المسح ببعض الرأس علم من ثبوت «الباء» مع عدم الحاجة إلیه لتعدیة الفعل بنفسه، فأوضح عنه (علیه السلام) بتغییر الاُسلوب بین الغسل

ص: 160


1- . سورة المائدة: 6.
2- . سورة الدهر: 6.
3- . وسائل الشیعة 1: 291، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحدیث الأوّل.

والمسح بترک «الباء» في المغسول وإثباته في الممسوح، مع أنّ الفعلین سیّان في التعدیة بنفسه وعدم الحاجة إلی ذکر «الباء» فأعلَمَ (علیه السلام) بأنّ ترک «الباء» في المسغول یدلّ علی إرادة استیعاب الغسل، کما هو مقتضی ظاهر الترکیب في مثل المقام، وأنّ تغییر السیاق في الممسوح بإثبات «الباء» فیه مع عدم الحاجة إلیها یدلّ علی عدم مماثلته مع المغسول، والاکتفاء فیه بمجرّد إیصال المسح إلی الممسوح الموجب للاکتفاء بمسح بعض الرأس.

وأمّا ما یوجب ربطاً خاصّاً، فهي سائر الحروف، وکلٌّ منها لا یوجب إلّا سنخاً واحداً من الربط؛ لأنّها علامات لکیفیّة استعمال الاسم، وآلاتٌ محدثةٌ للمعاني المعتورة علیه، ولا یتصوّر الاشتراک والتجوّز في الآلة والعلامة.

وما توهّم: من مجيء حرفٍ بمعنی حرف، کمجيء «في» بمعنی «علی» في قوله تعالی: ﴿وَلاُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾(1) وبمعنی المصاحبة في قوله تعالی: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾(2) وبمعنی «الباء» کقول الشاعر: «یصیرون في یعن الأباهر والکلی» وبمعنی «إلی» في قوله تعالی: ﴿فَرَدّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾(3) ومجيء «عن» بمعنی «علی» نحو ﴿فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَفْسِهِ﴾(4) و «علی»بمعنی «عن» نحو قوله: «إذا رضیت عليَّ بنو قشیر» وبمعنی المصاحبة، نحو قوله تعالی: ﴿وَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾(5) والظرفیّة،

ص: 161


1- . سورة طه: 71.
2- . سورة القصص: 79.
3- . سروة إبراهیم: 9.
4- . سورة محمّد: 38.
5- . سورة البقرة: 177.

کقوله تعالی: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾(1) إلی غیر ذلک من الموارد التي زعموا فیها مجيء حرفٍ بمعی حرفٍ آخر.

وَهَمٌ واضح؛ إذ قد یجتمع في موردٍ واحد خصوصیّات مختلفة ومعانٍ متفاوتة باعتبارات متعدّدة، فیصحّ التعبیر عن کلٍّ منها بالحرف التي هي علامة لها، فلا یدلّ اختلاف التعابیر حینئذٍ علی مجيء بعضها بمعنی آخر، بل علی اختلاف المعاني المعتورة والخصوصیّات الطارئة علیه.

فقد ورد في قولک: «رمیت السهم عن القوس» التعبیر ب-«الباء» و «علی»، حتّی نقل عن ابن مال: أنّ «عن» فیه بمعنی «الباء» وهو سهو فاحش؛ لأنّ القوس کما یکون فیه معنی الاستعانة بالنسبة إلی رمي السهم، کذلک فیه معنی التجاوز والاستعلاء أیضاً، ولذا صحّ التعبیر فیه بالحروف الثلاثة. مع أنّ مرجع توهّم مجيء کلمة «عن» بمعنی «الباء» في إلغاء خصوصیّة التجاوز وقصر النظر علی الإلصاق، وهو غلط آخر. علی أنّه لو صحّ مجيء «عن» بمعنی «الباء» لصحّ قولک: «کتبت عن القلم» مع أنّ عدم صحّته من الواضحات.

وبما بیّناه یتبیّن لک الحال في الأمثلة المذکورة، فإنّ جذوغ النخل کما یکون مستعلی علیه للمصلوب یکون ظرفاً له ولو تنزیلاً. والزینة کما تکون مصاحبة للشخص تکون ظرفاً له ولو توسّعاً. والبصیرة کما تتعدّی ب-«الباء» تتعدّط ب-«في» أیضاً؛ فإنّ البصیر بالشيء بصیر فیه. والأفواه کما تنهي إلیها ردّ الإیدي یصحّ جعلها ظرفاً لردّها توسّعاً. والبخل باعتبار تضمّنه معنی المنع یصحّ تعدیته إلی النفس ب-«عن»، أي: فإنّما یمنع عن نفسه ما ینبغي أن یوصله إلیها. وحبّ المال کما یکون مصاحباً للشخص یکون محلّاً للاستعلاء أیضاً. والدخول

ص: 162


1- . سورة القصص: 15.

کما یصحّ تعدیته إلی زمان الغفلة ب-«في» یصحّ تعدیته إلیه ب-«علی» أیضاً، وأمّا تعدیة الرضا ب-«علی» فلأنّه في معنی عدم السخط.

وبالجملة: توهّم مجيء حرفٍ بمعنی حرفٍ آخر ناشٍ عن عدم التأمّل في الأطراف؛ إذ لو صحّ ما ذکوره لزم أن یطّرد ذلک ویصحّ قولک: «في زید دین أو صلاة أو حجّ» أي علیه، و «هو في عمرو» أي معه، و «مررت في زید» أي به، و «کتبت في القلم» أي به، و «سرت من البصرة في الکوفة» أي إلیها، و «أرسلت في زید» أي إلیه، و «رکبت عن الفرس» أي علیه، و «ملت علیه» أي عنه، و «جاء زید علی عمرو» أي معه، و «الماء علی الکوز» و «المال علی الصندوق» أي فیهما، وهکذا من الأمثلة المضحکة، وبطلان اللوازم في غایة الوضوح.

إذا اتّضح لک ما بیّناه فلا بأس أن نشیر إلی بعض غفلاتهم وزلّاتهم في هذا الباب من وجهٍ آخر.

فأقول: اتّفقت کلمة أهل الصناعة علی وضع «من» لابتداء الغایة و «إلی» لانتهائها، وإنّما اختلفوا في سائر المعاني التي ذکر لهما: أهي راجعة إلیهما أم لا؟

وهو باطل؛ إذ قد یطلقان فیما لا یتصوّر فیه الابتداء والانتهاء، کقولک في مقام تحدید ملک زید مثلاً: «إنّه من هنا إلی ها هنا» لأنّ المتصوّر فیه إنّما هو التحدید، لا المبدأ الذي یبتدئ منه الشيء والمنتهی الذي ینتهي إلیه. وقد یطلقان فیما یتصوّر فیه الابتداء والانتهاء مع أنّ المقصود منها مجرّد التحدید أیضاً، کقولک: «اکنس البیت ورشِّحه بالماء من هذا المکان إلی هنا» فإنّ الغرض فیهما مجرّد التحدید. وقد یطلقان بالعکس، فیکون مدخول «من» منتهی في العرف والعادة ومدخول «إلی» مبدءً کذلک، کقول الطبیل للمریض: «اغسل من أصابع

ص: 163

رجلیک إلی رکبتیک بالماء البارد أو الحار» مثلاً، فإنّ مقتضی العرف والعادة فیه الشروع في الغسل من الرکبة إلی الأصابع، ویکون الشروع من الأصابع إلی الرکبة نکساً في العرف والعادة.

فالتحقیق أنّ مفاد «من» عدم السبق من مدخولها وضعاً، ومفاد «إلی» عدم التجاوز عن مدخولها کذلک، فینصرفان إلی الابتداء والانتهاء فیما یتصوّران فیه، مع عدم قضاء العرف والعادة بأنّ المراد منهما مجرّد التحدید أو العکس؛ ضرورة أنّ عدم السبق یمیلطبعاً إلی الابتداء، کما أنّ عدم التجاوز یمیل کذلک إلی الانتهاء، ولذا یستفاد من قولک: «سرت من البصیرة إلی الکوفة» أنّ البصرة مبدءٌ للسیر والکوفة منتهی إلیها.

وقد تبیّن لک بما بیّناه أنّ کلمة «إلی» في آیة «الوضوء» ناظرة إلی مجرّد التحدید، بل إلی کون المرفق مبدءً للغسل بمقتضی العرف والعادة في ناظره وأشباهه.

فاندفع ما یتوهّم: من أنّ الآیة ظاهرة فیما ذهب إلیه العامة، من کون المرفق منتهی للغسل.

فلا حاجة إلی ما ذکره بعضهم من أنّ «إلی» بمعنی «مع»، أو أنّه للانتهاء والتحدید للمغسول لا للغسل، کما نقل عن علم الهدی (قدس سره) .

مع أنّ الانتهاء لا یتصوّر في المغسول، فالحکم بأنّه للانتهاء والتحدید للمغسول متهافتان.

وإن اُرید من الانتهاء مجرّد التحدید لا الانتهاء الحقیقي، فلا حاجة إلی ارتکاب خلاف ظاهرٍ آخر، من صرفه إلی المغسول، بل یکفي في الجواب حینئذٍ أن یقال: إنّه لمجرّد التحدید.

ص: 164

مع أنّه إن اُرید أنّه تحدید لذات المغسول مع قطع النظر عن کونه مغسولاً فهو باطل؛ لأنّ الید محدودة إلی المنکب. وإن اُرید أنّه تحدید له بوصف أنّه مغسول فهو راجع إلی الغسل، فإثباته للمغسول ونفیه عن الغسل ممّا لا معنی له حینئذٍ.

علی أنّ جعله تحدیداً للمغسول لا الغسل مع تعلّق «إلی» بالفعل - وهو «اغسلوا» - ممّا لا یجتمعان، وجعله متعلّقاً بمحذوفٍ حالاً أو صفةً ل-«أیدیکم» في غایة البعد.

فإن قلت: کیف تجتري علی خرق اتّفاق أهل اللسان وإسناد الخطأ إلی جمیعهم، مع أنّهم أعرف بلسانهم من غیرهم.

قلت: أهل اللسان هم العارفون بموارد استعمالات الألفاظ، وإخبارهم بها حجّة؛ لأنّ إخبارهم بها إخبارٌ بالأمر الضروري الذي لا یتطرّق فیه الاشتباه، وأمّا تعیین ما وضع له اللفظ فأهل اللسان وغیرهم سیّان؛ لأنّهم لم یشاهدوا مجلس الوضع ولا نقل إلیهم خبر متواتر أو آخاد من الوضع، وإنّما اشتنبطوه بنظرهم واجتهادهم من قبل العلائم المقرّرة، فإخبارهم به إنّما هو إخبارٌ عن استنباطهم، ومن المعلوم أنّ الإخبار عن النظر والاستنباط لا یکون حجّةً؛ لتطرّق الاشتباه فیه، فلا بأس حینئذٍ بمخالفتهم في تشخیص ما وضع له مع قیام الدلیل علی فساد ما استنبطوه.

وإذا تبیّن لک ما بیّناه، فاعلم أن «من» و «إلی» إنّما یتکفّلان خصوصیّة استعمال مدخولهما علی الوجه المذکور، وسائر المعاني المذکورة لهما خصوصیّاتٌ مستفادةٌ من الموارد لا تنافي المعنیین، فإنّ التعلیل إنّما یستفاد من التعبیر ب-«من» إذا اُسند الفعل بکلمة «من» إلی ما یناسب کونه علّةً له،

ص: 165

ک-«الخطیئة» بالنسبة إلی «الإغراق» و «إدخال النار» في قوله تعالی: ﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَاُدْخِلُوا نَاراً﴾(1) ومن المعلوم أنّ العلّیة مستفادةٌ حینئذٍ من المورد، کما أنّه لو عبّر في مثل المورد بدل «من» ب-«الباء» التي هي لمجرّد الإلصاق لاستفید منه العلّیة أیضاً، فمبدئیّة «الخطیئة» ل-«الغرق» و «إدخال النار» وعدم سبقهما علیها ثابتة في المورد مع خصوصیّة زائدة، وهو التلعیل، لا أنّه لمجرّد التلعیل من دون أن یکون المعنی الأصلي محفوظاً، کما زعموه.

وکذا التبعیض یستفاد من قولک: «أخذت من الدراهم» ونحوه من خصوصیّة المورد.

والوجه فیه: أنّ ترکیب الفعل مع المفعول في مثله لمّا کان ظاهراً في الاستیعاب والعموم، فالإتیان ب-«من» الدالّة علی عدم السبق عن مدخولها یوجب الصرف عن الاستیعاب وصدق النسبة مع عدمه، فالتبعیض مجامع مع معناه الأصلي.

وهکذا الأمر في التبیین المستفاد من قوله تعالی: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاَوْثَانِ﴾(2) و ﴿مَا نَنَسَخْ مِنْ ءَايَةٍ﴾(3) وأمثالهما، فإنّ ذکر الخاصّ بعد العامّ مع قطع النظر عن التعبیر ب-«من» ظاهر في تخصیص العام وتبیینه بالخاص، فالتعبیر حینئذٍ ب-«من» الدالّة علی عدم سبق العام عن مدخولها وحصره فیه یؤکّد التخصیص والتبیین، فلا منافاة بین استفادة التبیین منها ومعناها الأصلي.وبالتأمّل فیما بیّناه یظهر لک حال سائر الموارد المستفاد منها خصوصیّات

ص: 166


1- . سورة نوح: 25.
2- . سورة الحجّ: 30.
3- . سورة البقرة: 106.

اُخر.

ثمّ اعلم: أنّ ما یفهم من کلمات أکثر أهل الصناعة، من تخصیص إیصال الحروف الجارّة بالفعل أو معناه إلی ما یلیه، في غیر محلّه؛ فإنّها کما توصل الفعل أو معناه إلی ما یلیه توصل الاسم الجامد إلی ما یلیه أیضاً، کقولک: «زید في الدار» و «المال لزید» و «به داء» و «زید علی السطح» وهکذا، والالتزام بتقدیر فعل أو معناه في هذه الموارد عامّاً أو خاصّاً التزام بلا دلیل.

وتوهّم أنّ المعنی لا یتمّ بدونه؛ لأنّ الظرف یکون ظرفاً لأمرٍ من اُمور زید: من قیامه أو سکونه أو حصوله أو غیر ذلک. فلا بدّ من تقدیره لیتمّ البیان.

وَهَمٌ واضح؛ لأنّ الحلول في الظرف لا یختصّ بالعرض؛ إذ کما یجوز أن یکون الحالّ في الشيء عرضاً، یجوز أن یکون جوهراً.

مع أنّ ما ذکره لو تمّ لاختصّ بالظرف ولم یجرِ في سائر المجرورات بالحرف، بل بعض الإضافات تختصّ بالعین، کملک العین والرقبة، فقولک: «لزید» في المثال المذکور لا یجوز أن یتعلّق إلّا بنفس المال.

علی أنّ المقدّر العام في نحو «زید في الدار» إن اُرید به الکون التام فهو خلف للفرض أوّلاً: لأنّه فعل خاص حینئذٍ، ومستلزم ثانیاً لأن یکون إخباراً عن تقیّد وجوده الأصیل ب-«الدار»، فیلزم أن لا یکون موجوداً في غیره، وإن اُرید به الکون الناقص، ففیه: أنّه عین الربط الحرفي الثابت بعده، ولا یکون أمراً زائداً علیه حتّی یصلح لصیرورته متعلّقاً له.

هذا، وأمّا ما توهّمه بعضهم: من أنّ الالتزام به إنّما هو لرعایة أمرٍ لفظي، وهو أنّ المجرور بالحرف منصوبٌ محلّاً، فلا بدّ من تقدیر ناصب، وهو الفعل أو معناه.

ص: 167

ففیه: أوّلاً: أنّ انتصاب المجرور محلّاً ممنوع، والاستدلال علیه بانتصابه بعد نزع الخافض عنه علیل؛ لأنّ الأسماء المدّعی کونها کذلک منصوبة علی المفعولیّة تحقیقاً أو توسّعاً، ولو انتصابه کذلک فالحاجة إلی التقدیر ممنوعة أیضاً؛ بعدم الحاجة في العمل إلی ما عدا المعاني المعتورة علی الاسم المقتضیة للإعراب، والمعنی المقتضي له إنّما هو الربط الحادث بحرف الجرّ.

وقد فصّلنا الکلام في بطلان ما توهّموه - من لزوم کون المتعلّق فعلاً أو معناه، والالتزام بالتقدیر فیما إذا کان المتعلّق اسماً جامداً محضاً - في شرح الأساس.

ثمّ إنّ ظاهر کلمات أکثرهم بل صریحها أنّ الفعل وما في معناه إنّما یکون متعلّقاً للحروف الجارّة باعتبار معناه الحدثي الذي هو مفهوم مستقلٌّ اسمي.

والتحقیق: أنّ متعلّق الحروف والمضاف بالإضافات الحادثة بها، من الظرفیّة والإلصاق والاستعلاء والاختصاص وهکذا، إذا کان المتعلّق فعلاً أو معناه إنّما هو حدوث الحدث الذي هو معنی حرفي مستفاد من الهیئة، فإنّ الحدث مع قطع النظر عن حدوثه في الخارج وإسناده إلی الفاعل لا ارتباط له بالزمان والمکان والآلة والعلّة، ولا مبدأ له ولا منتهی وهکذا من أنحاء الإضافات.

ومنها: الأحرف المشبّهة بالفعل، فإنّها آلات وأدوات لکیفیّة الإسناد الثابت بین اسمها وخبرها، فبعضها یجعله علی وجه التحقیق فیفید التأکید، وبعضها علی وجه الترجّي، والآخر علی وجه التمنّي أو التشبیه أو الاستدراک، فمفاد الجمیع معانٍ معتورة علی الإسناد الذي هو وجهٌ من وجوهن استعمال طرفیه.

توضیح الحال: أنّک قد عرفت أنّ الجملة الخبریّة ناظرة إلی کشف الخارج

ص: 168

وإثباته للمخاطب، ومن المعلوم أنّ کشف الشيء للغیر فرع انکشافه لدیه، فللجملة الخبریّة دلالتان: إحداهما: الدلالة علی الخارج، والثانیة: الدلالة علی ثبوته عند المخبر وانکشافه لدیه.

بل قد ظهر لک ممّا تقدّم أنّ المدلول الأوّلي إنّما هو اعتقاد المتکلّم بمضمونه؛ لانبعاث الإخبار منه انبعاث المعلول عن علّته، والدلالة علی الخارج إنّما تحصل بتوسّطه بعد إحراز عصمة المتکلّم مطلقاً، أو صدقه مع کون المخبر به ضروریّاً لا یتطرّق فیه الاشتباه، وتسمیة المدلول الثانوي ب-«فائدة الخبر» والمدلول الأوّلي ب-«لازم الخبر» إنّما هي باعتبار أنّ القضیّة الخبریّة اللفظیّة من حیث هي ناظرة إلی کشف الخارج وإثباته للمخاطب، والنظر إلی اعتقاد المتکلّم إنّما جاء من قبل تصدّیه لکشف الخارج وإخبارهبه، فنظر اللفظ ابتداءً وأوّلاً إلی الخارج وإن کان المدلول الأوّلي والثابت به ابتداءً هو اعتقاد المتکلّم، فمع تردّد المخاطب في مضمون الخبر أو إنکاره إیّاه وزعمه أنّ المتکلّم أخبر به ظنّاً لا علماً، یأتي المتکلّم ب-«إنّ» و «أنّ» تأکیداً لما یدلّ علیه کلامه: من الاعتقاد بمضمونه، رفعاً لشکّ المخاطب وإزالةً لإنکاره. فأدوات التحقیق إنّما تؤکّد الإسناد بالنظر إلی اعتقاد المتکلّم لا الخارج، فینقلب نظر الکلام حینئذٍ ابتداءً إلی اعتقاد المتکلّم.

فهذه الأدوات مؤکّدةٌ من حیث إنّها توجب کیفیّة ثابتة في الإسناد إطلاقاً، وناسخةٌ من حیث قلب القضیّة عن نظرها الأوّلي إلی الخارج إلی النظر الأوّلي إلی اعتقاد المتکلّم.

ومع إرادة التشبیه یأتي بأداتها وهو «کأنّ» لصرف الإسناد عن ظاهره المقتضي للتحقیق.

ص: 169

ومع إرادة التمنّي أو الترجّي یأتی بأداتیهما وهما «لیت» و «لعلّ» صرفاً للإسناد عن الإخبار المنصرف إلیه هو بإطلاقه إلی الإنشاء وکونه في مقام التمنّي أو الترجّي.

ومع إرادة الاستدراک یأتي بأداته وهو «لکنّ» رفعاً لما توهّم من خلافه.

والحاصل: أنّ الأحرف المذکورة آلاتٌ وضعت لجعل الإسناد علی کیفیّات مختلفة، ولا تکون حاکیة عن مفاهیم کلّیة أو جزئیّة.

ومنها: حروف الاستفهام، فإنّها موضوعة لجعل الإسناد علی وجه الاستخبار وصرفه عن الإخبار، فهي آلات تجعل استعمال الجملة في مورد الاستخبار، ولا تکون منبئةً عن مفهوم، کإنباء الاسم عن مسمّاه.

ولااستخبار وبعث الغیر علی الإخبار بما یلیها ینبعث من أغراض متعدّدة: فقد یکون الغرض منه طلب فهم المستخبر به فیکون استفهاماً، وقد یکون الغرض منه تقریر المخاطب علیه، وقد یکون الغرض منه الإبطال والإنکار وعدم قبول العقل للإخبار به وتصدیقه إیّاه، وقد یکون الغرض منه توبیخ المخاطب علی فعله وأنّ النفس الکریمة تأبی عن الإخبار بفعله فضلاً عن مباشرته، وقد یکون الغرض منه الأمر، وقد یکون الغرض منه التهکّم، إلی غیر ذلک من الأغراض والدواعي.

فلیست الأدوات موضوعة لخصوص الاستفهام ولا الغرض من الاستخبار منحصراً فیه، ولکن لمّا کان الاستخبار منصرفاً طبعاً إلی طلب الفهم بحیث لا ینصرف عنه إلّا بصارف سمّیت «رحوف استفهام».

فتوهّم أنّها حقائق في الاستفهام مجازات في غیره، فاسد من وجوه:

الأوّل: أنّ أدوات الاستفهام لا تکون موضوعةً بإزاء شيءٍ، ولا تستعمل

ص: 170

في شيءٍ حتّی یتطرّق فیها الحقیقة والمجاز، وإنّما هي آلات تتکفّل وجه استعمال ما یلیها، فمعانیها إنّما هي أنحاء استعمال المدخول علیها.

والثاني: أنّ المعاني المتوهّمة أغراضٌ ومقاصدٌ مترتّبة علی المعنی، ولا تکون معاني للفّظ.

والثالث: أنّه لا علاقة مصحّحة بین الاستفهام وغیره من المعاني المذکورةي، حتّی یصحّ التجوّز فیها علی فرض تطرّقه فیها.

ومنها: «لام» التعریف، فإنّها آلة للإشارة إلی المدخول المترتّب علیها التعریف إن کان نکرة، ولا تکون موضوعة بإزائها - کوضع الاسم بإزاء مسمّاه - حتِّ تحکي وتنبئ عنها، فإن کان هناک عهدٌ ذکراً أو حضوراً أو ذهناً تنصرف الإشارة إلی المعهود، وإلّا فإلی نفس الجنس من حیث هو أو من حیث وجوده في ضمن أفراده، فلیس ل-«اللام» معاني عدیدة، کما توهّم.

ثمّ إنّ «اللام» الداخلة علی مشتقٍّ أو جامد حرف تعریف، وتوهّم أنّها اسم موصول إذا دخلت علی صفة صریحة بدلیل عود الضمیر علیها في قوله: «قد أفلح المتّقي ربّه»، في غیر محلّه؛ لأنّ المراد بالضمیر العائد إمّآ الضمیر المجرور البارز وإمّآ الضمیر المرفوع المستتر في الوصف المرفوع به علی الفاعلیة عندهم، والأوّل عائد علی نفس الوصف، والثاني لا مرجع له؛ لأنّ المراد منه الذات المستفادة من النسبة تبعاً، والتعبیر عنه بالضمیر استعارة، مع أنّ الاستتار یختصّ بالفعل - کما عرفت - فلا یستتر في الوصف شيءٌ حتِّ یحتاج إلی مرجع.

ومنها: حرف التنکیر، فإنّ التنوین لا یحکي عن معنی، وإنّما یجعل

ص: 171

مدخوله - وهو اسم الجنس - منکّراً بجعل استعماله في مفهومه من حیث وجوده في ضمن فردٍ ما، فهو آلة للتنکیر، کما أنّ «اللام» آلة للتعریف.

توضیح الحال: أنّ اسم الجنس موضوعٌ للجنس لا بشرط، عارٍ عن الطواري والمعاني المعتورة علیه، من التنکیر والتعریف وانظر إلی الفرد وعدمه، وصالحٌ للاستعمال علی وجوه متعدّدة، فقد یستعمل في الجنس من حیث هو فیحلّي ب-«لام التعریف» للإشارة إلی الجنس فیصیر معرّفاً، وقد یستعمل فیه من حیث وجوده في ضمن فردین فیثنّی بأداة التثنیة، وقد یستعمل فیه من حیث وجوده في ضمن فردین فصاعداً فیجمع بأداة الجمع أو بهیئته، ویکون في الصور الثلاث نکرة متمحّضاً في التنکیر في الصورة الاُولی؛ لعدم مجامعة التنوین مع اللام، قابلاً للتعریف في الصورتین الأخیرتین؛ لجواز مجامعتهما مع اللام، والحاصل أنّ مفاد التنوین وأداتي التثنیة والجمع إنّما هي معانٍ معتورة علی مدخولها وأنحاءٌ لاستعماله، ولا تکون معاني مستقلّة - کمفاهیم الأسماء - حتّی تکون الحروف المتکفّلة لها کاشفةٌ عنها.

وقد تبیّن لک بما بیّناه اُمور:

الأوّل: أنّ مفهوم المفرد ما لم یکن کلّیاً قابلاً لأن یوجد في أکثر من فرد واحد لا یعقل أن یثنّی أو یجمع، والعلم إنّما یثنّی أو یجمع باعتبار تأوّله ب-«المسمّی» بل قد عرفت أنّه لا تأویل في إرادة المسمّی منه، وما یتوهّم: من الاکتفاء باتّحاد اللفظ فیهما، في غایة السخافة، بل غیر معقول عند من تعقّل المعنی الحرفي.

والثاني: صحّة ما اشتهر بینهم، من الفرق بین الجمع واسم الجمع بأنّ الأوّل یدلّ علی الآحاد بالمطابقة والثاني بالتضمّن؛ إذ بعد ما عرفت أنّ الجمعیّة

ص: 172

المستفادة من صیغة الجمع وأداته إنّما هي وجهٌ من وجوه استعمال المدخول، ظهر لک اتّحاد المستعمل فیه في المفرد والجمع، وأنّ اختلافهما إنّما هو في وجه الاستعمال، من حیث إنّ الاستعمال في الأوّل مطلق وفي الثاني مقیّدٌ بوجود المدخول في أکثر من فردٍ واحد، فکما أنّ المفرد یدلّ علی الآحاد والأفراد بالمطابقة فکذلک الجمع، بخلاف اسم الجمع فإنّه موضوع للجمع بالوضع الاسمي، فمدلوله المطابقي إنّما هو المعنی الجمعي، فلا یدلّ علی الأفراد إلّا بالتضمّن.

والثالث: أنّ الصواب أنّ أقلّ مدلول الجمع اثنان، وإنّما ینصرف إلی ما فوقهما لأجل مقابلته مع المثنّی المنطبق علی الفردین.

وما ذهب إلیه الأکثر: من أنّ أقلّ مدلوله الثلاثة فصاعداً، في غیر محلّه؛ إذ لو کان کذلک لم یطلق علی الفردین لا حقیقةً ولا مجازاً، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلعدم تطرّق التجوّز في الأداة أوّلاً، وعدم العلاقة المصحّحة علی فرض تطرّقه فیها ثانیاً، وإلّا لصحّ إطلاق المثنّی علی الثلاثة فصاعداً، مع أنّ بطلانه ضروري.

والرابع: کون عموم الجمع المحلّی أفرادیّاً لا عموم جماعات؛ لما ظهر لک: من أنّ معنی الجمعیّة في الجمع من طوارئ الاستعمال ولا یکون مورداً للاستعمال، وأنّ المستعمل فیه إنّما هو مفهوم الجنس الصادق علی الأفراد، فالعموم المستفاد من «اللام» إنّما یتعلّق به لا بالجمع.

فإن قلت: ما ذکرت من أنّ اسم الجنس عارٍ عن التعریف والتنکیر وأنّهما من المعاني المعتورة علیه، یقتضي عدم کونه معرفةً ولا نکرة، مع أنّ اسم الجنس نکرةٌ عند أهل الصناعة، ولا یجوز ارتفاعهما عن اسم؛ لعدم الثالث عندهم.

قلت: التنکیر قد ینتزع من النظر إلی فردٍ ما، فیقابل التعریف حینئذٍ تقابل

ص: 173

التضادّ؛ لأنّهما حینئذٍ أمران وجودیّان، فیرتفعان عن اسم الجنس المجرّد عن اللام والتنوین.

وقد ینتزع من عدم التعریف فیقابله حینئذٍ تقابل التناقض، فلا یجوز ارتفاعهما عن اسم حینئذٍ؛ لاستحالة ارتفاع المتناقضین عن محلّه، فلا محالة یکون الاسم حنیئذٍ إمّا نکرة أو معرفة ولا یتصوّر له ثالث، وحصر أهل الصناعة الاسم فیهما إنّما هو بهذه الملاحظة، فلا ینافي ما بیّناه.

ومنها: حروف النداء، فإنّها آلاتٌ لجعل مدخولها في محلّ النداء، فالنداء یحدث بتلک الحروف، لا أنّه معنی یحضره المتکلّم في ذهن السامع باستعمال الحرف فیه.

وهکذا الأمر في حروف التنبیه وحروف الندبة، فإنّ التنبیه والندبة إنّما یحدثان بالحروف المتکفّلة لهما، ولا تکون الحروف موجبة لخوطرهما بالبال وحضورهما في الذهن کحضورهما وخطورهما فیه من ذکر لفظ «التنبیه» و «الندبة» بل الأمر فیهما وفيالنداء وأمثالها أبین؛ لاختصاصها بنحوٍ آخر من الإیجاد أوضح من الإیجاد الذي في الحروف الجارّة والمشبّهة بالفعل ونحوهما.

توضیح الحال: أنّ الحروف الجارّة والمشبّهة بالفعل إنّما تحدث إضافات بین الألفاظ ومعانٍ بین المفاهیم ومعانٍ معتورة علیها في الخارج. مثلاً «الباء» إنّما توجد اللصوق بین لفظ «مررت» ولفظ «زید» وأمّا الإلصاق الثابت بین مفهومیهما فلا یحدث بها، بل إنّما تنبئ عنه الإلصاق الحادث بین اللفظین ب-«الباء»، وأمّا النداء والتنبیه والندبة والاستفهام والإشارة والغیبة والخطاب

ص: 174

والتکلّم ونحوها من المعاني الحرفیّة، فإنّما تحدث بالأداة أو ما بمنزلتها في اللفظ والخارج معاً، لا بمعنی أنّه یحدث بها أمران: أمر في اللفظ وأمر في الخارج، بل بمعنی أنّ الحادث بها أمرٌ واحدٌ متعلّقٌ باللفظ والخارج معاً؛ ضرورة أنّ النداء الحادث بکلمة «یا» نداءٌ واحدٌ یتعلّق بلفظ «زید» فیجعله منادی وبمفهومه فیصیر منادی أیضاً، لا أنّ هناک نداءین، نداءً ثابتاً في الخارج متعلّقاً بزید محکیّاً بالنداء الحادث في لفظ «زید» بالحرف، وهکذا الأمر في نظائره.

إذا اتّضح لک ما بیّناه، فاعلم أنّه یستفاد من الحدّ الشریف مطالب نفیسة وفوائد شریفة:

الأوّل والثاني: عدم تطرّق الوضع والاستعمال المصطلحین عندهم في الحروف.

أمّا الوضع - وهو تخصیص شيءٍ بشيءٍ بحیث متی اُطلق أو اُحسّ الشيء الأوّل فهم منه الشيء الثاني - فلاختصاصه بالوضع المرآتي الذي یکون الموضوع بهذا الوضع بإزاء الموضوع له، الموجب لخطور الثاني بالبال عند إطلاق الأوّل أو إحساسه، وهذا النحو من الوضع یختصّ به الاسم من بین الألفاظ، وأمّا الحروف الموجدة لمعنیً في لفظ غیرها فهي کسائر الآلات والأدوات لا تکون موضوعةً بإزاء شيءٍ، حتّی إذا اُطلقت فهم وحضر منها ما بإزائها ببال السامع، بل لأحل شيءٍ بحیث متی اُ,لمت حدث منها ما وضعت لأجله، کحدوث النحت من القدّوم والنشر من المنشار عند أعمالهما.

وأمّا الاستعمال، فلأنّه عندهم عبارة عن ذکر اللفظ وإرادة المعنی منه، ومن المعلوم أنّه فرع الوضع المرآتي، ولا یجري في الآلات والأدوات الموضوعة

ص: 175

لأجل شيءٍ لا بإزائه.

وإذا ثبت لک ما بیّناه من عدم تطرّقهما في الحروف، فقد ظهر لک أمران:

الأوّل:(1) عدم تطرّق الأقسام الثلاثة التي قسّموا الوضع إلیها - وهي: خصوص الوضع والموضوع له، وعمومهما، وعموم الوضع وخصوص الموضوع له - فیها؛ ضرورة أنّ وجود کلّ قسمٍ من الأقسام، فلا مجال لاختلافهم في وضعها أهو من قبیل القسم الثاني أو القسم الثالث؟ واختیار المتأخّرین أنّه من قبیل الثالث فراراً عن لزوم المجاز بلا حقیقة، والنسبة إلی المتقدّمین اختیار القسم الثاني وأنّه یلزمهم الالتزام بالمجاز بلا حقیقة، لعدم استعمالها إلّا في المعاني الجزئیّة.

مع أنّا لو تنزّلنا عمّا بیّناه، وسلّمنا تطرّق بعض الأقسام في الوضع الآلي، فالمتطرّق فیه إنّما هو القسم الثاني؛ لأنّ الآلة إنّما توضع لأجل معنی عام قابل لأن یوجد بها، والتشخّص إنّما یطرأ علیه من طرف إعمال الآلة وإیجاده بها، ولا یعقل أن توضع الآلة لأجل تحصیل معنی جزئي متشخّص؛ ضرورة أنّ التشخّص یساوق الوجود، وقد اشتهر اشتهار الضروریّات: أنّ الشيء ما لم یتشخّص لم یوجد، کما أنّه ما لم یوجد لم یتشخّص، فالمتشخّص لا یکون إلّا موجوداً، ومن المعلوم استحالة إیجاد الموجود وتحصیل الحاصل.

والثالث: عدم تطرّق الحقیقة والمجاز في الحروف؛ لأنّهما فرع الاستعمال المتفرّع علی الوضع المرآتي، فإنّ الحقیقة هي الکلمة المستعملة فیما وضعت له،

ص: 176


1- . لم یتعرّض المؤلّف للأمر الثاني.

والمجاز هي الکلمة المستعملة في غیر ما وضعت له لعلاقة، وقد تبیّ« لک عدم تطرّقهما فیها وأنّها آلاتٌ موجدة لخصوصیّات الاستعمال وأنحائه، فهي متمّم أمر الاستعمال للاسم.

وإلی ما بیّناه ینظر ما اشتهر بینهم: من أنّه لا مجاز في الحروف إلّا بتیع مدخولها، فإنّ المقصود منه أنّ الحروف لا تحدث إلّا الخصوصیّة التي تتکفّلها، من الظرفیّة والاستعلاء والتعلیل وهکذا من أنحاء النسب والإضافات، والتنزیل والتجوّز إنّما هو في المدخول بجعل ما یشبه الظرف أو العلّة أو المستعلی علیه مقامه، ف-«اللام» في قوله تعالی: ﴿فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاًوَحَزَناً﴾،(1) إنّما جيء به لإفادة التعلیل، والتنزیل إنّما هو في المترتّب علی الالتقاط، حیث نزّل منزلة العلّة الغائیّة الباعثة علیه، فاستعمل في مورد التعلیل وجيء ب-«اللام» علامةً علیه.

والرابع: أنّ المعنی الحرفي لا یعقل أن یصیر قیداً للموضوع له بالوضع الاسمي؛ لما عرفت من أنّه وجهٌ من وجوه استعمال الاسم ونحوٌ من أنحائه، فهو في طول الاسم الذي هو في طول مفهومه وما وضع له، فلا یعقل وقوعه قیداً للموضوع له المستلزم لتقدّمه علی نفسه بمرتبتین.

إذا تبیّن لک ذلک، فاعلم أنّ ما اشتهر بین الأواخر: من القول بعموم الوضع وخصوص الموضوع له في المبهمات المتضمّنة للمعاني الحرفیّة - وهي الضمائر والموصولات وأسماء الإشارة - غیر معقول.

ص: 177


1- . سورة القصص: 8.

توضیح الحال: أنّهم زعموا أنّ ألفاظ المبهمات إنّما تستعمل في أفرادٍ معیّنة، ولا تستعمل في مفاهیم کلّیة أبداً، فاختلفت کلمتهم فیما وضعت له الألفاظ المذکورة:

فنسبوا إلی المتقدّمین: أنّها موضوعة بإزاء مفاهیم کلّیة لتستعمل في أفرادها المعیّنة، فالموضوع له هو مفهوم عام، والغرض من وضعها له استعماله في أفراده المعیّنة، فالوضع والمضووع له حینئذٍ عامّان والمستعمل فیه خاصّ.

وقد اُورد علیهم: بأنّه لو کان کذلک لجاز استعمالها في معانیها الحقیقیّة، وهي المفاهیم الکلّیة، مع أنّ عدم جواز استعمالها فیها بدیهيٌّ، ومجرّد کون الغرض من وضعها لها استعمالها في أفرادها المعیّنة لا یوجب التقیید في الموضوع له ولا المنع من استعمالها فیه. وبأنّه یلزم حینئذٍ أن تکون المبهمات مجازات لا حقائق لها، وهو مستبعدٌ جدّاً إن لم یکن باطلاً.

وقد أحرث العضدي قسماً ثالثاً للوضع في المبهمات، وهو الوضع العام والموضوع له الخاصّ، ففرّ به عن المحذورین وعن لزوم الأوضاع الغیر المتناهیة المتعدّدة بتعدّد الاستعمالات علی فرض القول بالوضع الخاص والموضوع له الخاصّ فیها، واستحسنه الشریف، وشاع بین من تأخّر عنهما.

والتحقیق: أنّ المستعمل فیه في الموارد المذکورة عامٌّ، والتعیّن إنّما یأتي من ناحیة استعمال المبهمات في المفاهیم العامّة المبهمة، ولا منافاة بین عموم المستعمل فیه وتعیّنه من قبل الاستعمال؛ لأنّ مرجع عموم المستعمل فیه إلی إبهامه وعدم تعیّنه في حدّ نفسه، لا إلی وصفٍ زائدٍ مضادٍّ للتعیّن حتّی ینافیه التعیّن الطارئ علیه من طرف خصوصیّة الاستعمال، وعدم جواز إرادة المفهوم العام بوصف أنّه عامٌّ منها إنّما هو لتضمّنها المعاني الحرفیّة المقتضیة للتعیّن والخروج

ص: 178

عن الإبهام، من الغیبة والخاطب والتکلّم والإشارة الحسّیة والعهدیّة.

فحال المبهمات في هذه الجهة حال اسم الجنس المحلّط ب-«لام العهد» فکما أنّ المستعمل فیه في قولک: «جاء القاضي» مشیراً به إلی قاضٍ معهودٍ عامٌّ، ولا ینافیه تعیّنه بلام العهد، فکذلک في المقام.

وإذا تبیّن لک ما بیّناه، فقد تبیّن لک أنّ ما ذهب إلیه المتأخّرون: من عموم الوضع وخصوص الموضوع له في المبهمات، غیر متصوّر؛ لما عرفت: من أنّ الخصوصیّة إنّما تجيء من ناحیة الاستعمال المتأخّر عن الوضع، فلو اُخذت في آلموضوع له لزم تقدّمها علی نفسها بمرتبتین.

وقد ظهر لک دیضاً أنّ ما ذکره بعض المتأخّرین، من احتمال الوجهین فی المقام: عموم الوضع وخصوص الموضوع له کما ذهب إلیه العضدي ومن تبعه، وعمومهما - کما ذهب إلیه المتقدّمون - وطروّ الخصوصیّة من قبل الاستعمال، في غیر محلّه؛ لأنّ أخذ المعنی الحرفي في الموضوع له غیر معقول، فلا مجل لاحتماله.

ثمّ إنّ المصرَّح به في کلمات کثیرٍ منهم: أنّ عموم الوضع مع کون الموضوع له خاصّاً إنّما هو باعتبار تصوّر المفهوم العام، الموجب لتصوّر أفراده إجمالاً.

وهو غلطٌ فاحش؛ فإنّ الوضع إنّما یعمّ باعتبار تعلّقه بکلّ فردٍ من أفراد المفهوم العام وعدم اختصاصه بفردٍ معیّنٍ منها، لا باعتبارتصوّر الأمر العام الذي هو مقدّمةٌ للوضع.

وممّا بیّناه: من أنّ عموم الوضع إنّما هو باعتبار عدم قصره علی فردٍ معیّن لا باعتبار تصوّر المفهوم العام، یظهر أنّ عموم الوضع مع کون الموضوع له خاصّاً یتصوّر في غیر هذا المورد؛ فإنّ الأعلام المشترکة یعمّ الوضع فیها باعتبار عدم

ص: 179

اختصاصه بشخصٍ واحد، مع أنّ الموضوع له خاص.

والخامس: أنّه لیس للعموم صیغة تخصّه بحیث متی ترد لغیره کانت مجازاً.

توضیح الحال: أنّ العموم القابل للتخصیص معنی حرفي مستفاد من خصوصّة المورد أو الهیئة الترکیبیّة، لا من مادّه الکلمة المبنئة عن مفهومٍ اسمي.

ویدلّ علی ما بیّناه استفادة التخصیص من أدوات الاستثناء؛ إذ لو کان العموم والخصوص مفهومین اسمیّین مستقلّین لم یعقل استفادة التخصیص منها، فاستفادته منها تنبئ عن أنّ العموم والخصوص المقابل له معنیان حرفیّان معتوران علی اللفظ؛ ضرورة أنّ المتقابلین لا بدّ من تواردهما علی محلٍّ واحد وإلّا لم یتقابلا، فلا یجوز أن یکون أحدهما معنیً حرفیّاً معتوراً علی اللفظ والآخر مفهوماً اسمیّاً سابقاً علی اللفظ غیر صالح للاعتوار علیه.

فالعموم والخصوص صفتان متقابلتان وکیفیّتان متعاقبتان للحکم الذي هو معنی حرفي، ولا یکونان صفتین في الموضوع؛ بداهة أنّ العموم الذي هو صفة للموضوع لا یقبل التخصیص، والکلام إنّما هو في العموم القابل للتخصیص.

وإذا تبیّن لک ذلک، فاعلم أنّه لیس للعموم أداةٌ تتکفّل به کما هو واضح، ولا صیغة تخصّه وضعاً، وإنّما یستفاد من خصوصیّة المورد: إمّا باعتبار خصوصیّة المحمول، أو خصوصیّة الحکم، أو من قبل إطلاق الهیئة الترکیبیّة.

توضیح الحال فیه: إنّ الموضوع إذا کان مبهماً قابلاً للعموم، سواء کان منکّراً أم معرّفاً ب-«لام الجنس» فإمّا أن یحکم علیه بما هو من أعراض ماهیّته أو بما هو من أعراض وجوده، وعرض الماهیّة: إمّا ینافیه الوجود في الخارج أو لا.

ص: 180

فإن کان المحمول من قبیل عرض الماهیّة الذي لا ینافیه الوجود في الخارج - کالزوجیّة للأربعة، حیث إنّها باعتبار نفسها زوج، وجدت في الخارج أم لا - یعمّ الحکم جمیع أفراد الموضوع؛ لأنّ المفروض أنّ الموضوع هي الماهیّة الساریة في جمیع الأفراد، فلا یعقل ثبوته في فردٍ دون فرد، ولا یتفاوت في ذلک بین کون الحکم ذاتیّاً للموضوع ومجعولاً له؛ ضرورة أنّ آلمجعول للماهیّة - کالذاتي لها - یسري بسریانها، ولا یعقل اقتصاره علی بعض الأفراد، إلّا مع فرض تضیّق دائرة الموضوع، وهو خارج عمّا نحن فیه.

وإن کان المحمول من قبیل عرض الماهیّة ونافاه الوجود في الخارج کالکلّیة والنوعیّة والجنسیّة العارضة علی مفهوم الإنسان والحیوان، أو من قبیل عرض الوجود کالمجيء والذهاب والقیام والقعود وهکذا، لا یعمّ الحکم جمیع الأفراد وإن کان الموضوع في القضیّة اللفظیّة هو اسم الجنس الساري في أفراده، أمّا عدم العموم في الصورة الاُولی فواضح، وأمّا في الصورة الثانیة؛ فلصدق القضیّة حینئذٍ مع ثبوت الحکم لبغض الأفراد، والنسبة إلی الجنس تصدق عند ثبوت الحکم ولو لفرد؛ لأنّه عین الجنس الموجود في الخارج، فقولک: «رأیت الرجل أو رجلاً» منوّناً بتنوین التمکّن، صادق إذا رأیت من جنس الجرال ولو فرداً واحدً.

نعم، إذا کان الموضوع جمعاً محلّی ب-«اللام» ولا عهد، یکون الإسناد ظاهراً في الاستیعاب والاستغراق.

والوجه فیه: أنّ لام التعریف المشار بها إلی الطبیعة الموجودة في فردین فصاعداً حیث لا عهد، توجب انصراف الإشارة إلی جمیع الأفراد؛ لعدم ترجیح بعضها علی بعض، فیعمّ الحکم بالتبع.

ص: 181

هذا کلّه إذا کان الحکم إیجابیّاً.

وأمّا إذا کان سلبیّاً، فالموضوع إن کان اسم جنس معرّفاً ب-«لام الجنس» أو منکّراً، فالحکم یعمّ جمیع الأفراد؛ لأنّ نفي المحمول عن الجنس لا یصدق إلّا مع انتفائه عن کلّ فردٍ منه.

وإلیه یرجع ما اشتهر بینهم: من أنّ النکرة في سیاق النفي تنفید العموم؛ ضرورة أنّه لا تختلف النکرة وضعاً أو استعمالاً باختلاف وقوعها في سیاق النفي والإثبات، فاستفادة العموم منها في الصورة الاُولی دون الثانیة إنّما هي من قبل اقتضاء الحکم السلبي ذلک.وإن کان جمعاً محلّی ب-«اللام»، فإن کان مقدّماً علی حرف السلب یعمّ الحکم لجمیع الأفراد کما في صورة الإیجاب، وإلّا یفید سلب العموم.

ثمّ إنّ العموم المستفاد من إطلاق الهیئة الترکیبیّة إذا کان الموضوع جمعاً محلّی ب-«اللام» یختلف باختلاف الموارد:

فقد یستفاد منه العموم الشمولي الأفرادي کما هو منصرف إطلاقه.

وقد یستفاد منه العموم الأفرادي لا علی وجه الشمول بمعونة المورد، کقوله تعالی: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ...﴾(1) الخ، وقولک: «تزوّج الأبکار ولا تتزوّج الثیّبات» فإنّ المقصود بیان مصارف الصدقات وأنّهم الفقراء وسائر الأصناف من دون امتیازٍ بین أفرادها، فلا نظر فیه إلی اعتبار التعدّد في الأصناف وعدمه، وکما أنّ المقصود في المثالین أنّ المطلوب تزویج البکر المتحقّق في ضمن واحدٍ فصاعداً والمنهي عنه تزویج الثیّب کذلک، لا تزویج کلّ بکر وترک

ص: 182


1- . سورة التوبة: 60.

تزویج کلّ ثیّب بحیث لا یقدح فیه تزویج بعض الثیّبات، ولیس فی هذا انسلاخ للجمع عن المعنی الجمعي إلی المعنی الجنسي - کما توهّم - لأنّ وجود الطبیعة في فردین فصاعداً، کما قد یراد منه عدم الاکتفاء بما دونه، فقد یراد منه بیان عدم الامتیاز بین الأفراد وأنّها مساویة في المطلوب.

وقد یستفاد منه العموم الشمولي الجمعي، کقولک: «هذا الحجر یرفعه الرجال ولا یرفعه رجل أو رجلان» فإنّ المراد أنّه یرفعه کلّ جماعة من الرجال ولا یرفعه ما دون الجماعة.

وقد یستفاد منه العموم الجمعي المجموعي کقولک: «هذه الدار لا تسع الرجال» فإنّ المقصود عدم سعة الدار لمجموع الرجال، لا عدم سعتها لکلّ فردٍ من أفرادها أو لکلّ جماعةٍ من جماعاتها.

وقد اتّضح لک ممّآ بیّناه اُمور:

الأوّل: أنّ استفادة العموم من قوله تعالی: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(1) وقوله (صلی الله علیه و آله) : «إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شيءٌ»(2) ونظائره، إنّما هي باعتبار خصوصیّة المحمول؛ لأنّ الأحکام الشرعیّة تکلیفیّةً أو وضعیّة إنّما هي من عوارض الماهیّة لا الوجود، فتعمّ جمیع الأفراد.

وما یتوهّم: من امتناع إرادة الماهیّة والحقیقة؛ إذ الأحکام الشرعیّة إنّما تجري علی الکلّیات باعتبار وجودها، لا وجه له:

لأنّه إن اُرید به أنّ الأحکام الشرعیّة لا تعرض إلّا علی الأفراد في الواقع

ص: 183


1- . سورة البقرة: 275.
2- . وسائل الشیعة 1: 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحدیث 1 و 2.

وإن کان الموضوع في القضیّة اللفظیّة هي المفاهیم الکلّیة والعناوین العامّة، ففیه: أنّه باطلٌ جدّاً؛ ضرورة استحالة تعلّق الأحکام التکلیفیّة بالأفراد الخارجیّة المستلزم لتحصیل الحاصل، وأمّا الأحکام الوضعیّة - کصحّة البیع وبطلان الربا وأمثالهما - فعروضها علی المفاهمی قبل وجودها في الخارج في غایة الوضوح، وإلّا لزم أن لا یتّصف البیع قبل وجوده في الخارج بکونه صحیحاً حلالاً، والربا کذلک بکونه باطلاً حراماً، وأن لا یکون المکلّف في إیجاد الربا معاقباً؛ لعدم إیجاده أمراً محرّماً باطلاً، وإنّما أوجد فعلاً ترتّب علیه التحریم والبطلان بعد الوجود.

وإن اُرید منه أنّ الأحکام الشرعیّة تعرض علی الکلّیات في الواقع لکن باعتبار وجودها في الخارج، فإن اُرید منه أنّ الغرض من تعلّق الأحکام بالمفاهیم الکلّیة هو الإیجاد في الخارج، ففیه: أنّه یتمّ في خصوص الأوامر، وأمّا النواهي فالغرض منها الترک کما هو واضح، وأمّا الأحکم الوضعیّة فالأغراض منها مختلفة، مع أنّ -علّق الغرض بالإیجاد لا یوجب صیرورة موضوع الحکم الفرد لا الکلّي. وإن اُرید غیر ذلک، فلا بدّ من توضیحه حتّی نتکلّم فیه.

وکیف کان، فقد اتّضح لک أنّه لا حاجة في استفادة العموم من أمثال هذه الموارد إلی التشبّث بذیل مقدّمات الحکمة وأنّه مستفاد من خصوصیّة المحمول.

کما اتّضح لک أنّ العموم المستفاد من سیاق النفي إنّما هو من قبل خصوصیّة الحکم، وتوهّم استناده إلی الوضع في الصورة الثانیة في غایة الغرابة، وأمّا في الصورة الاُولی فلم یتوهّم أحدٌ استناده إلی الوضع.وأمّا العموم المستفاد من قولک: «أکرم العلماء» و «جاءني کلّ القوم أو جمیعهم» ونحو ذلک - ممّا یکون الموضوع فیه ناظراً إلی استغراق الأفراد

ص: 184

واستیعابه - فقد یتوهّم استناده إلی الموضوع وضعاً، وقد ظهر لک بما بیّناه فساده، وأنّه مستند إلی إطلاق الهیئة الترکیبیّة المقتضیة لعموم الحکم للأفراد تبعاً لعموم الموضوع واستغراقه جمیع مصادیقه.

کشف الحال: أنّ هناک عمومین: عموماً في الحکم قابلاً للتخصیص وعموماً في الموضوع غیر قابل له، والمبحوث عنه في الاُصول إنّما هو الأوّل، والعموم في الحکم إنّما یستند إلی الهیئة الترکیبیّة لا الموضوع، واستناده إلی الهیئة کان أمراً واضحاً عند متقدّمي الاُصولیّین، وإنّما اختلفت کلمتهم في أنّ استناده إلیها بالوضع أو الإطلاق، فعنونوا البحث في الهیئة والصیغة لا في اللفظ والمادّة، لاختار بعضهم: أنّه لیس للعموم صیغة تخصّه وضعاً کما هو التحقیق، وزعم بعض: أنّ له صیغة تخصّه وضعاً. والعجب أنّ المتأخّرین مع محافظتهم علی عنوان المتقدّمین واقتفائهم إیّاهم في التعبیر عن موضوع البحث بالصیغة، اختلط علیهم الأمر، ولم یمیّزوا بین الصیغة واللفظ، فزعموا أنّ النزاع في عموم الموضوع، فاختاروا أنّ له صیغةً تخصّه وضعاً، ومثّلوا له بلفظ «العموم» و «کلّ» و «جمیع» و «قاطبة» وهکذا من الألفاظ الدالّة علی الاستغراق والعموم.

والثاني: أنّ التخصیص لا یوجب التجوّز في اللفظ؛ لما اتّضح لک: من رجوعه إلی التخصیص في الحکم لا الموضوع.

فتوهّم التجوّز في اللفظ العام في مثل قولک: «أکرم العلماء إلّا زیداً» لاستعماله في غیر المفهوم العام الذي هو ما وضع له اللفظ المذکور، في غایة السخافة؛ لأنّ «زیداً» إنّما استثني من «العلماء» باعتبار کونهم محکوم علیهم بالإکرام، فهو خارج عن الحکم لا عن ذات الموضوع، فاللفظ مستعمل في مفهومه الأصلي ولم یتصرّف فیه بوجهٍ، فلا مجال لتوهّم التجوّز فیه.

ص: 185

فإن قلت: نعم، الاستثناء تخصیصٌ للحکم ابتداءً، إلّا أنّ عموم الحکم وتخصیصه لمّا کان تابعاً لعموم الموضوع وتخصیصه، لا یعقل التخصیص في عموم الحکم مع بقاء الموضوع علی عمومه، فما لم یضیّق دائرة المتبوع بجعله مستعملاً في ما عدا المستثنی لم یتطرّق التخصیص في التابع.

قلت: الحکم في أمثال هذه الموارد یکتسي العموم تبعاً لعموم موضوعه، ولا یکون تابعاً له في التخصیص.

کشف الحال فیه: أنّ عموم الموضوع مقتضٍ لعموم الحکم واستیعابه جمیع الأفراد، لا علّةٌ تامّةٌ له، فلا منافاة لطروّ التخصیص علی عموم الحکم بأدوات الاستثناء وما بمنزلتها مع بقاء الموضوع علی عمومه، بل ینافي الاستثناء مع التخصیص في الموضوع؛ لأنّه فرع دخول المستثنی في المستثنی منه، فلو استعمل المستثنی منه في ما عدا المستثنی لزم عدم صحّة الاستنثاء إلّا علی وجه الانقطاع، بل أن لا یصحّ الاستثناء مطلقاً ولو علی وجه الانقطاع؛ لأنّ الاستثناء المنقطع إنّما هو لرفع التوهّم، ومع استعمال العام في المعنی المجازي لا مجال لتوهّم إرادة المعنی الحقیقي.

وتوهّم أنّ أداة الاستثناء حینئذٍ قرینة علی التجوّز في المستثنی منه، غلطٌ واضح؛ لأنّه إن اُرید منه أنّها مع إعمالها في الاستثناء قرینة، فقد ظهر لک أنّ الاستثناء ینافي التجوّز المذکور فکیف یکون قرینة علیه؟ وإن اُرید منه أنّها لا تکون في مقام إعمال الاستثناء وإنّما ذکرت علامة وقرینة للتجوّز، فهو أقبح وأشنع.

الثالث: اندفاع التناقض المتوهّم في الکلام الاستثنائي بالنسبي إلی المستثنی، حیث حکم علیه بحکمین متناقضین؛ لما اتّضح لک: من أنّ مرجع

ص: 186

الاستثناء إلی التخصیص في الحکم وتضییق دائرة عمومه، لا إلی حکمٍ آخر منافٍ للحکم الأوّل، فلیس هناک إلّا حکمٌ واحدٌ مشتمل علی التخصیص.

توضیح الحال: أنّ للمتکلّم ما دام متشاغلاً بکلامه أن یلحق به ما شاء من اللواحق، فلا یستقرّ کلامه في العموم أو الإطلاق أو سائر الخصوصیّات المنصرف إلیها کلامه بمجرّد شروعه في الکلام، وإنّما یستقرّ فیما افتتح به کلامه بفراغه عن التکلّم وعدم إلحاق اللواحق المنافیة له، فإن ألحَقَ به ما یوجب تقییداً أو تخصیصاً فلا ینافي ما حکم به أوّلاً؛ لأنّ حکمه في الأوّل مراعی متزلزل لا یستقرّ في وجهٍ إلّا بآخر کلامه.

وقد اضطربت کلماتهم في تقریر رفع التناقض:فمنهم: من زعم أنّ المستثنی إنّما استثني من المستثنی منه قبل الإسناد والحکم ثمّ اُسند الحکم إلی البافي، فلیس في الکلام إلّا إسناد واحد، فلا تناقض، نسب ذلک إلی العلّامة إعلی الله مقامه وأکثر المتأخّرین.

ومنهم: من زعم أنّ لفظ المستثنی منه استعمل فیما عدا المستثنی مجازاً، وأداة الاستثناء قرینة المجاز، نسب ذلک إلی السکّاکي والأکثرین.

ومنهم: من زعم أنّ قول القائل: «له عليًّ عشرة إلّا ثلاثة» اسم لسبعة کلفظ «سبعة» نسب ذلک إلی القاضي أبي بکر.

والکلّ باطل، أمّا الأوّل فلأنّ المفورض دخول المستثنی في ذات الموضوع وهو المستثنی منه، فلا یتصوّر إخراجه عنه قبل الإسناد والحکم؛ لأنّ مرجع إخراجه عنه قبل الحکم والإسناد إلی إخراجه عن ذات الموضوع، وهو خلفٌ للفرض.

مثلاً «زید» في قولک: «أکرم العلماء إلّا زیداً» من العلماء فإذا اُخرج

ص: 187

منهم قبل إسناد الإکرام إلیهم لزم أن لا یکون داخلاً في عنوان «العلماء» وهو خلفٌ للفرض.

مع أنّ الاستنثاء إن اعتبر تقدّمه علی استعمال لفظ المستثنی منه في مفهومه، ففیه: أنّ الاستثناء من اللفظ الغیر المستعمل في مفهومه غیر متصوّرٍ في حدّ نفسه، وإن اعتبر تأخّره عنه، ففیه: أنّه لا یجتمع مع اعتبار تقدّمه علی الإسناد؛ لأنّ استعمال اللفظ في مفهومه لا یکون إلّا علی وجهٍ من وجوهه: من کونه علی وجه الفاعلیّة أو المفعولیّة أو الإضافة وهکذا من أنحاء الاستعمالات، فالاستعمال متقوّم بالإسناد وما یقوم مقامه من الأنحاء، فلا مجال لاعتبار تقدّم الاستثناء المتفرّع علی الاستعمال علیه.

وأمّا الثاني: فلما ظهر لک: من أنّه منافٍ للاستثناء المتفرّع علی شمول المستثنی منه للمستثنی، مع أنّه یلزم الاستثناء المستغرق في قولک: «اشتریت الجاریة إلّا نصفها» لو أردت بالجاریة نصف کلّها، أو التسلسل لو اُرید ما بقي ما النصف بعد الإخراج، وهو الربع، وإذا کان المراد بالنصف الربع فیکون المراد بالربع المستثنی منه الثمن، وهلمّ جرّاً.

وما یقال: من أنّ المراد بالجاریة مع انضمام الاستثناء إلیه - وهو القرینة - نصفها، لا المراد بالجاریة وحدها، وبعد ملاحظة الانضمام فلا یبقی استثناءٌ آخر لیلزم المحذور، والضمیر راجع إلی الجاریة علی سبیل الاستخدام، واضح الفساد؛ ضرورة أنّ الاستعمال إنّما هو للمفردات لا للمرکّب، فلا مجال للقول: بأنّ المجموع مستعملٌ في النصف لا الجاریة وحدها.

مع أنّ أداة الاستثناء حینئذٍ إن استعملت في الاستثناء لزم الاستثناء بها من المستثنی منه قبل استعماله في مفهومه، وهو بدیهيّ البطلان، وإن لم تستعمل فیه

ص: 188

وذکرت قرینةً للتجوّز فهو أبده بطلاناً.

وأمّا الثالث، فهو أقبح وأشنع؛ ضرورة أنّ المرکّب لیس اسماً للباقي.

فالتحقیق ما حقّقناه، وإن شئت زیادة التوضیح فاستمع لما یتلی علیک.

واعلم أنّ الهیئة الترکیبیّة الموجبة للإسناد لا تفید ذاتاً أو وضعاً إلّا نفس الإسناد العاري عن الخصوصیّات، وأمّا کیفیّاته: من العموم أو الخصوص أو الإهمال وهکذا من الخصوصیّات، فإنّما تستفاد من الإطلاق أو من الموارد:

فإن کان المتعلّق فرداً خاصّاً ولا یتطرّق في الحکم التوزیع علی الأجزاء، کقولک: «جاءني زید» و «عقدت هنداً» لا یحتمل إلّا الخصوص.

وإن کان المتعلّق کلّاً ذا أجزاء وتطرّق في الحکم التوزیع علی الأجزاء، فقد یستفاد من الإطلاق الاستیعاب للأجزاء بحیث لا ینصرف عنه إلّا بصارف، کقولک: «اشتریت الجاریة» و «بعت الفرس والدار» و «أکلت الرغیف» وهکذا من الأمثلة المضاهیة لها. وقد لا یستفاد منه إلّا التعلّق في الجملة، بل عدم الاستیعاب، لجریان العادة في مثله بالعدم، کقولک: «ضربت زیداً، أو رأیته» وهکذا. وقد یحتمل الأمرین ولا ینصرف الترکیب إلی أحدهما بخصوصه، کقولک: «قرأت القرآن» و «طالعت الکتاب» وأمثالها.

وإن کان المتعلّق کلّیاً واللفظ ناظر إلی استغراق الأفراد، کالجمع المحلّی ب-«اللام» حیث لا عهد، ینصرف الإسناد المتعلّق به إلی العموم تبعاً لعموم موضوعه، إمّا علی وجه الشمول، کقولک: «جاءني العلماء، وأضفتهم» وهکذا من الأمثلة، أو علی وجه البدلیّة، کقولک: «جالس العلماء» و «اسئل الفقهاء» و «صاحب العقلاء» و «تزوّج الأبکار» و «لا تتزوّج الثیّبات» وأمثال ذلک.وقد یستفاد من خصوصیّة المورد إمّا العموم الشموالي الجمعي أو العموم

ص: 189

الجمعي المجموعي، کما مرّ.

وإذ قد اتّضح لک ما بیّناه، فقد اتّضح لک أنّ العموم العاري عن الخصوصیّات والکیفیّات إنّما یستفاد من إطلاق الهیئة الترکیبیّة في موارد خاصّة، فلیس له صیغة تخصّه وضعاً فضلاً عن کیفیّاته: من الشمول الأفرادي أو الجمعي أو العموم البدلي أو الجمعي المجموعي، وإنّما تستفاد إحدی الکیفیّات بمعونة الموارد.

وقد اتّضح لک بما بیّناه أنّ الإطلاق کالعموم، لیس له صیغة تخصّه وضعاً، وإنّما یستفاد من إطلاق الهیئة الترکیبیّة، ولعلّه لذا سمّي «إطلاقاً».

بل التحقیق أنّ العموم والإطلاق حقیقة واحدة، کما أنّ التخصیص والتقیید کذلک، وإنّما یختلفان شدّةً وضعفاً، فإنّ العموم مرتبة قویّةٌ من الإطلاق، کما أنّ الإطلاق مرتبة ضعیفة من العموم.

ووجه قوّة العموم بالنسبة إلی الإطلاقک أنّ لفظ العام الذي بتبعه یعمّ الحکم للأفراد ناظر إلی الأفراد - کالجمع المحلّي ب-«اللام» - بخلاف المطلق الذي یطلق الحکم بتعبه - کلفظ «رقبة» مثلاً - فإنّه لا یکون ناظراً إلی الأفراد، وإنّما یحکم بالإطلاق من جهة عدم القید.

والحاصل: أنّ العام ناظرٌ إلی سریان الحکم للأفراد، والمطلق لا یکون ناظراً إلی السریان، وإنّما یحکم بالجریان من جهة سریان الماهیّة في أفرادها وعدم وجود قیدٍ في الکلام یمنع عن سریان الحکم تبعاً لسریانها.

[تمّ الکتاب ولله الحمد]

ص: 190

المحتویات

مقدّمة

روایة أبي الأسود الدُّؤَلي

المقام الأوّل: في تفسیر مفردات الروایة

المقام الثاني: في تفسیر مرکّبات الروایة

المقام الثالث: في بیان الاُمور المستفادة من الروایة، وفیه مباحث:

المبحث الأوّل: في بیان الاُمور المستفادة من حدّ الاسم

المبحث الثاني: في بیان الاُمور المستفادة من حدّ الفعل

المبحث الثالث: في بیان الاُمور المستفادة من حدّ الحرف

المحتویات

ص: 191

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.