أضواء على الصحيحين

هویۀ الکتاب

بطاقة تعريف: نجمي، محمدصادق

عنوان العقد: سیری در صحیحین: سیر و بررسی در دو کتاب مهم و مدرک اهل سنت. عربي.

الجامع الصحیح

عنوان واسم المؤلف: أضواء على الصحيحين/ تالیف محمدصادق النجمي؛ ترجمه یحیی کمالي البحراني

تفاصيل المنشور: قم: مؤسّسة المعارف الاسلامية، 1419ق.= 1377.

مواصفات المظهر: 464ص.

فروست : مؤسّسة المعارف الاسلامية ؛ 89

شابک : 964-6289-39-8

ملحوظة : العربية

ملحوظة : چاپ دوم: 1426ق. = 1384.

ملحوظة : کتابنامه: ص. 439 -449. ؛ أيضا مع الترجمة

موضوع : بخاری، محمدبن اسماعیل، 194 - 256ق. . الجامع الصحیح -- نقد و تفسیر

موضوع : مسلم بن حجاج، 206 - 261ق. . الجامع الصحیح -- نقد و تفسیر

موضوع : حدیث -- تاریخ

المعرف المضاف: کمالی بحرانی، یحیی ، مترجم

المعرف المضاف: بخاری، محمدبن اسماعیل، 194 - 256ق.. الجامع الصحیح

المعرف المضاف: مسلم بن حجاج، 206 - 261ق. . الجامع الصحیح

المعرف المضاف: بنیاد معارف اسلامی

ترتيب الكونجرس: BP119/ب 3ج 2084 1377

تصنيف ديوي: 297/211

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 77-18943

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: سجل كامل

تأليف

حجة الاسلام والمسلمين

الشيخ محمد صادق النجمي

ترجمة

الشيخ يحيى كمالي البحراني

مؤسّسة المعارف الاسلامية

ص: 1

اشاره

نجمي ، محمد صادق

أضواء على الصحيحين / تأليف محمد صادق النجمي ، ترجمة ، يحيى كمالي البحراني . قم

موسسة المعارف الإسلامية ، 1419 ق = 1377

464 ص ( بنياد معارف إسلامي : 89)

فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

ISBN: 964 - 6289-39 - 8 (1ج)

عنوان أصلي : سيري در صحيحين ؛ سیر و بررسي در دو کتاب مهم ومدرك أهل سنت.

( چاپ دوم ؛ 2006 م . = 1384 )

1. بخاري ، محمد بن اسماعيل ، 194 - 256ق . الجامع الصحيح - نقد و تفسير.2مسلم

بن حجاج ، 206 - 261 ق . الجامع الصحيح - نقد و تفسير . 3. حديث - تاريخ -ألف. بخاري ، محمد بن مسلم ، 194 - 256ق . الجامع الصحيح . شرح .ب . مسلم بن حجاج 206 - 261 ق . الجامع الصحيح . شرح ج. كمالي بحراني ، يحيى ، مترجم . د . بنیاد معارف اسلامي . ه- . عنوان . و . عنوان : الجامع الصحيح . شرح

2088 ج 3 ب / 119 BP 211 / 297

کتابخانه ملی ایران 18943 - 77م

هوية الكتاب

إسم الكتاب :... أضواء على الصحيحين

تأليف :... محمد صادق نجمي

ترجمة :...يحيى كمالي البحراني

الناشر :...مؤسّسة المعارف الإسلامية

الطبعة:...الثانية 1426ه- ق

المطبعة :عترت

العدد :2000 نسخة

شابك : 964 -6289 -39 -8

: ISBN

كافة الحقوق محفوظة ومسجلة

لمؤسسة الإسلامية المعارف

ص . ب 768 - 37185 تلفون 7732009 فاکس 7743701- قم - إيران

www.maaref islami.com

Email:info@maaref islami.COM

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

كلمة الناشر

لقد مُنيت السنّة النبوية الشريفة منذ بدء تاريخ الاسلام بالمنع والتحريف والوضع والدسّ ، بل كان الوضع مما مُنيت به في عهد الرسالة ، ولقد ورد عن الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله وسلم لقد كثرت القالة علي...» .

ومما زاد الوضع أزمة منع تدوين الحديث زهاء قرن أو أكثر . ومن هنا فقد حاول جمع كثير من المؤلّفين تنقيح الحديث من الموضوعات والمدسوسات ، وممن ادعى ذلك البخاري ومسلم ، وقد سمّي كتاباهما بالصحيحين ، وحظي الكتابان بالقبول من عامة علماء أهل السنّة وعامتهم حتى عدا تلو القرآن العظيم ، ولم يجترىء أحد عل-ى رمي حديث مما ورد فيهما بالضعف ، ولكن حدثت أخيراً محاولات لتحطيم هذه الاسطورة فكتب في ذلك المؤلفات ونشرت المقالات في الصحف والمناشير لإثبات ان ماكل ما في البخاري ومسلم صحيح .

ومما كتب في هذا المضمار كتاب أضواء على الصحيحين الذي ألف أصله باللغة الفارسية العلّامة البحاثة الفذ الشيخ محمد صادق النجمي حفظه الله ، وقد بحث فيه عن موارد التناقض وما لا يمكن قبوله من أحاديثهما لمخالفته الكتاب أو السنة القطعية أو العقل القطعي . وهو كتاب جليل في موضوعه ، وترجمه صاحب الفضيلة الشيخ يحيى كمالي البحراني .

ومؤسسة المعارف الاسلامية إذ تنشر هذا السفر الجليل تشكر المؤلف والمترجم وتتمنّى لهما دوام التوفيق والعز والتأييد .

كما تشكر المؤسسة الاخوة الذين ساهموا في انجاز هذا الكتاب وتخص بالذكر الأفاضل : محمود البدري وفارس حسون كريم لما بذلاه من جهد في إصدار الكتاب.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، والصلاة على رسوله والأئمة الميامين من آله .

ص: 5

ص: 6

المقُدّمَةُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلاته وسلامه على خاتم رسله وعلى آله الطاهرين .

وبعد :

فإنّ كلّ متتبع يعلم ضرورة أن من ألطاف الله جل شأنه على البشريّة أن أرسل إليهم الأنبياء والمرسلين هداة للناس ، وخص هذه الأمة المرحومة بأشرف أنبيائه وخاتم سفرائه سيّدنا محمد صلی الله علیه وآله وسلم ، إذ أرسله ، إذ أرسله برسالة خالد وبكتاب مجيد فيه تبيان كلّ شيء ، فمن تمسّك به هدى و من ضل عنه غوى وهوى .

ولمّا كان هذا الكتاب المعجزة النبوية الخالدة يحتوي على الكليات والعمومات والاطلاقات والمحكمات والمتشابهات ما لا يفهمه ولا يدرك مغزاه إلا النبي صلی الله علیه وآله وسلم ومن غرّه النبي بالعلم غرّاً وعنده علم الكتاب ، فقام النبي صلی الله علیه وآله وسلم بتفسيره وبيانه و عموماته وتقييد محكماته عملاً وقولاً .

فكان عمل النبي وقوله وتقريره - السنة النبوية -ركيزة ودعامة ثانية اعتمد عليها المسلمون في فهم دينهم ،ومعرفة الاسلام الذي أتى به النبي صلی الله علیه وآله وسلم.

عندما افترقت الأمة علناً بعد النبي بعد النبي صلی الله علیه وآله وسلم كما كانوا فئات مختلفة في حياته رأى زعماء كلّ فرقة أهمّيّة الحديث النبوي ودوره في استمرارية الدين وديمومته ومكانته الاجتماعية والثقافية والتوعوية ، فمنهم من أحظر التحديث عن النبي رواية وكتابة حتى آل الأمر إلى ضرب رواة الحديث وإقصائهم ومنعوا تدوينه ، ومنهم من أكّد على ضرورة روايته وكتابته ، واعتبر ان أقوال النبي صلی الله علیه وآله وسلم القرآن ، وانه قال : إنما أوتيت القرآن ومثله

ص: 7

معه ، وأقواله بل أعماله وتقريراته كلّها مبتنية على أساس الوحي الإلهي «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ

الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »(1).

وبعد فتور زمني طويل يزيد على قرنٍ واحدٍ أحسّ بعض أتباع المانعين من التدوين والرواية بضرورة حفظ سنة النبي صلی الله علیه وآله وسلم القولية والعملية ، فأمروا شيعتهم بذلك فظهرت من بعد هذا الأمر الخليفي مدوّنات ومصنفات صغيرة وكبيرةملأت الدنيا ودورها ، فيها مرويات وأحاديث عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأصحابه رواها الناس على فئاتهم .

ولما كانت الغايات في رواية أحاديث النبي صلی الله علیه وآله وسلم مختلفة سطع نجم هوى الخليفة وكسب عطاياه في صدارة الغايات بعد أن أفلت الغايات الأخرى وخاصة الخالصة لوجه الله عزّ وجلّ ، فظهر المكذِّبون والمزوّرون والمدلّسون والوضاعون ولبسوا لباس راوية الحديث والمحدّث والمفسّر وغيرهم ، ودوّنت كلمات في الكتب والمجاميع والسنن ممّا أتعبت فيما بعد علماء الرجال والتراجم وأئمة الحديث .

ومن المدوّنات التي فاق صيتها واسمها الآفاق، ونالت من المديح والاطراء الكثير : الجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري 194 - 256ه- ، والجامع الصحيح لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري 206 - 261ه- .

وقد اعتبر علماء أهل السنة هذين الكتابين أصح الكتب وأتقنها وأضبطها بعد القرآن ، واعتمدوا عليهما تمام الاعتماد ، واهتموا بهما غاية الاهتمام ، حتى غالوا في إطرائهم عليهما وصححوا جميع ما ورد فيهما . والبعض أنزل صحيح البخاري منزلة العصمة ، كالقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا يجوز نقده متناً وسنداً .

فأما المتن قالوا : أنّه خرج من شفتي النبي .

وأمّا سنده فقالوا : من أخرج له البخاري فقد جاز القنطرة .

ولكن بعض الحفّاظ لما أمعنوا النظر ودققوا البصر في الصحيحين رأوا ما هو مبائن

ص: 8


1- سورة النجم : 3 و 4

لهذه الاطراءات والمدائح ، فكتبوا كتباً مستقلّة أو ضمناً في النقد والردّ على صحيح البخاري ومسلم ، كالدار قطني (1) وابن حجر (2) وغيرهما .

وما أحوجنا نحن المسلمون في هذا العصر إلى الخروج عن الانطباع على حالة التعبدية والصنميّة ، والانفتاح الصحيح على القيم والموازين الدينية الأصيلة التي تسوقنا إلى معرفة السنّة النبوية الصحيحة الصافية عن الترهات ، والمهذبة من الشطحات ، و تنقيحها حتى لا تتسنى الفرص لأعداء الدين الألداء بالنيل من الاسلام والرسول ورسالته.

وهذا الكتاب على إجماله واختصاره قد تكفّل مؤلّفه العلّامة الشيخ محمد صادق النجمي بيان نقاط الضعف والسقم في الصحيحين بأسلوب علمي مبسط ، وقد حاولنا في تعريبه رعاية هذا الأسلوب المبسط ليقرأه العالم وغيره . وأرجو من العلي القدير أن يكون هذا الكتاب نافذة تطلّ على تنقيح السنة النبوية الشريفة من أدران الوضاعين والكذابين .

ولا يسعني هنا إلّا أن أمد يد الشكر والامتنان إلى أخي وصديقي الأستاذ الفاضل السيّد محمد جواد المُهري الّذي شوّقني بأمره بترجمة الكتاب الذي بين يديك -عزيزي القارىء - وله الفضل والمنّة ، وأقدم كذلك فائق تقديري للاخوة المسؤولين في مؤسسة المعارف الاسلامية حيث كانوا هم المشوّقين لي في هذا العمل المتواضع .

وأخيراً إليك يا زهرة المصطفى ، ويا بضعة النبي المجتبى ، يا سيدتي يا فاطمة ، يا ايتها العزيزة ، قد مسنا وأهلنا الضر وجئناك ببضاعة مزجاة فأوفي لنا الكيل من الولاية ، وتصدقي علينا بالشفاعة ، إنّ الله يجزي المتصدقين ، واجعلي يا مولاتي سقاية ودك ومحبتك في رحل قلبي وفؤادي ، ثم خذيني إليك عبداً قناً.

وإليكم يا قادتي وأئمتي وشفعائي ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ، بولاية أبيكم أمير المؤمنين وسيّد الأوصياء ، وصيّ رسول الله حقاً ، وخليفته

ص: 9


1- الإلزامات والتتبع
2- فتح الباري

نصاً ، ووارثه وحياً ، علي بن أبي طالب وولاية أبنائه الأحد عشر الائمة الهداة المعصومين علیه السلام .

وإليك يا سليل الأطهار ، ووارث الأبرار ، وصي الأوصياء ، وصفي الأصفياء ، قامع أهل الضلالة والعتاة المردة ، ومنجي البشرية من براثن النفاق والكفرة ، بقية الله الأعظم الحجة ابن الحسن روحي وأرواح العالمين له الفداء .

اهدي إليكم جميعاً هذا العمل المتواضع فتقبلوه منّي بأحسن القبول .

وأهدي أيضاً إلى جدّيّ المرحومين المغفورين الحاج زاير علي كمالي والحاج غلام عباس درويش اللذين زرعا حب الولاء لعلي الله في قلوب أحفادهما فأسكنهما الله فسيح جنانه في زمرة أوليائه وبجوار النبي وآله.

ومن الله سبحانه وتعالى استمد العون واسأله أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يمن عليّ وعلى والديّ بالمغفرة والرحمة وشفاعة محمد وآله الطاهرين في يوم الدين.

وآخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين

يحيى كمالي البحراني

مولد الزهراء عليهاالسلام

20 جمادى الثانية 1419ه-

قم المقدّسة

ص: 10

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تأمل في مجرى الحديث

«وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(1).

«وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (2) .

«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى » (3).

توفي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وقد ترك في أمته وأصحابه ثقلين كبيرين (4)، وهما : القرآن والعترة ، وأمرهم بالتمسك بهما ولا يتركوهما أبداً .

فقد كان الرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قبل وفاته هو المتكفّل لبيان الحقائق القرآنية، ونشر التعاليم الاسلامية بين أُمّته من العقائد والأحكام على نحو الحديث، وقال صلی الله علیه وآله وسلم عن أهمية رواية الحديث ونقله : «نظر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها ، فكم من حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (5).

ص: 11


1- آل عمران:144
2- الحشر : 7
3- النجم : 3
4- مسند أحمد 3: 14 و 17 و 26 ، وج 5 : 182 ، سنن الترمذي 5 : 621 كتاب المناقب باب (32) باب مناقب أهل البيت الا ا ح 3786 و 3788.
5- سنن الترمذي 5: 33 كتاب العلم باب (7) باب ما جاء في الحثّ على تبليغ السماع ح 2657 و 2658 ، بحار الانوار :2 148 كتاب العلم باب (19) باب فضل كتابة الحديث و روایسته ح 23 و باب «21 باب آداب الرواية ح 20 و 24 ، وج 21 : 138 کتاب تاریخ نبينا صلی الله علیه وآله وسلم الله باب « 26» ، باب فتح مكة ح 33 ، وج 27 : 67 كتاب الإمامة باب «3» باب ما أمر به النبي صلی الله علیه وآله وسلم 3-6

وهنا يجدر بنا أن ننظر الى المجتمع الديني كيف واجه القرآن وعترة رسول الله

بعد وفاة النبي صلی الله علیه وآله وسلم ؟ وماذا كان دور المجتمع في قبال أحاديث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ؟

تراهم إنّهم قد عزلوا أهل البيت علیه السلام عن المجتمع ، وفرضوا عليهم الإقامة الجبرية في الدار ، وعاملوهم معاملة بحيث لا يمكن أن يحدّها قلم وبيان (1) ، وعندما فلحوا ونجحوا في مؤامراتهم من إقصاء حماة الدين الواقعيين عن المجتمع استطاعوا بعدها أن يفرّقوا بين القرآن والأحاديث التي هي بمثابة تفسير للمفاهيم القرآنية ومن ثمّ فسّروا القرآن وأوّلوه حسب ما اقتضته أهواؤهم وسياساتهم.

ولمّا كانت أقوال رسول الله وسيرته التي تسمّى بالسنة ، سداً منيعاً أمام سياسة الخلفاء، وسلاحاً قوياً بأيدي مخالفي الخلفاء، فلهذا فلم يكن للخلفاء وأعوانهم سبيل سوی تجرید مخالفيهم من هذا السلاح.

فأوّل عمل بدأ به الخليفة أبو بكر حاول أن يحتكر هذا السلاح في حيازته ، فجمع خمسمائة حديث من أحاديث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ودونها ولكن بعد برهة من الزمان علم أنّ هذا العمل لم يكن في صالحه لأنّ حصر هذا الأمر من المستحيلات، ولذلك صمّم أن يحرق الأحاديث التي جمعها (2).

ولا شكّ أنّ من المستحيلات في ذاك العصر أن يتمكن الخليفة أبو بكر من أن يمنع

ص: 12


1- ولقد أجاد سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري في توصيفهما لأوضاع ذلك العصر ، قال سلمان : أصبتم ذا السن منكم وأخطأتم أهل بيت نبيكم لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان ولأكلتموها رغداً ، شرح النهج 2 : 49 وقال أبو ذر : فلو قدمتم من قدّمه الله وأخرتم من أخّره الله وجعلتم الإمامة في آل بيت نبيّكم لأنزل الله عليكم نعمه، والآن ... حيث عملتم هذا فذوقوا وباله «وَسَيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » تاريخ اليعقوبي 1 : 120 عند ذكره ما نقم على أبي ذر
2- تذكرة الحفاظ 5:1

المسلمين من رواية الحديث وتدوينه ، ويلزمهم رواية الأحاديث التي جمعها ودونها هو بنفسه فقط، ولهذا السبب اتخذ سياسة حظر نشر الأحاديث مطلقاً لكي يخ-لي سواعد المسلمين من حملهم لهذا السلاح القوي - الحديث - فأعلن للمسلمين قائلاً فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله (1).

لأنّ القرآن على عكس أحاديث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، يمكن تأويل آياته وتفسيرها حسب ما تقتضيه المصالح والأهواء (2).

عندما أدركت المنية أبابكر أدلى بالخلافة إلى عمر (3) ، ولا يخفى إن أكثر المسلمين لما ابتعدوا عن التعايش مع أقوال النبي صلی الله علیه وآله وسلم ، فقدوا وعيهم الديني ، فانقادوا طائعين لأوامر الخليفة .

وخطا عمر في خلافته نفس السياسة التي ساسها أبو بكر فمنع نقل الحديث بكلّ جهد ، وأعلن متظاهراً بإعطاء الناس حرّيتهم وشاورهم في رواية حديث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وتدوينه فأشاروا عليه بضرورة هذا الأمر ، فاحتال بعد شهر واحد قضاه في التفكير في هذه المهمة، فظهر أنّه قد حصل على النتيجة المطلوبة ، بزعمه ، فجاء إلى الناس وأعلن قائلاً: إني كنتُ أردت أن أكتب السنن وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً(4). وتراه أنه عندما كان يبعث أحداً لمهمة ما ،يأمره بأن لا يحدث الناس بأحاديث

ص: 13


1- تذكرة الحفاظ 1 : 7
2- حيث إنّ للقرآن بطون ومعان متعدّدة، ولذلك يمكن لكلّ أحد أن يفسّر الآيات حسب رأيه الذي يراه صواباً . وقال امير المؤمنين علي علیه السلام لابن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج على أحقية أمير المؤمنينعلیه السلام ويتم عليهم الحجة لئلا يكون لهم حجة على الله : لا تخاصمهم بالقرآن فانَّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن حاججهم بالسنة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً . وصية 77 من نهج البلاغة . المعرّب
3- قال علی علیه السلام : حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ، نهج البلاغة : 3
4- الطبقات الكبرى :3 286 ، جامع بيان العلم وفضله 1 : 64- 65

رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حتى لا يصدّهم بذلك عن القرآن ، وإذا علم بأنّ أحداً منهم لم يتجاوب معه فی هذا الأمر، يأمره بالشخوص إلى المدينة ويفرض عليه الرقابة الشديدة (1) . هذا بالإضافة إلى أنه أباد حرقاً بالنار جميع الأحاديث التي دونها هو والناس.

وعندما توفّي عمر والوضع ما زال على ما كان عليه من التحريم - نقلاً وتدويناً -،وتولّى الخلافة بعده عثمان بن عفان وذلك ضمن خطة مدروسة (2).

وفي عهد الخليفة عثمان اشتد الوطيس على الحديث، فلو كان الخليفة عمر يؤذي رواة حديث النبي صلی الله علیه وآله وسلم ويصيرهم تحت الرقابة الشديدة ، ويحرق ما كتبوه من الأحاديث، ولكن عثمان اتخذ أسلوباً آخر للمنع من رواية أحاديث الرسول وتدوين سيرة النبي صلی الله علیه وآله وسلم ، فإنّه كان يعذب الرواة، ويقصيهم عن المدينة، كما حصل ذلك لأبي ذر الغفاري، حيث إنّه أقصي من المدينة إلى الشام ، ثم الى المدينة ثانياً ، وثمّ إلى صحراء ربذة، فمات هذا الصحابي الجليل في تلك البقعة الحارقة غريباً وهكذا عاش وحيداً. وكذلك ضرب عثمان عمّار بن ياسر صحابي رسول الله حتى وقع على الأرض مغشياً عليه (3) .

وهكذا عاش أصحاب رسول الله والتابعين المخلصين خمسة وعشرين سنة تحت وطأة ضغوطات الخلفاء حتّى ثارت ثائرتهم ونهضوا جميعهم وأطاحوا بعثمان وقتلوه، ذلك أجبروا الإمام على علیه السلام القيام بالأمر واصروا عليه بقبول الخلافة. فلما نهض الإمام على الا بالأمر كان المسلمون قد أنسوا سيرة الخلفاء وذابوا فيها مدّة ربع وبعد قرن.

ويصف الإمام علي علیه السلام الظروف التي عاشها فيقول : (4) .

ص: 14


1- راجع كتابنا من تاريخ الحديث ، تجد ما فيه الكفاية
2- قال عليّ: : فصيّرها في حوزة خشناء ، نهج البلاغة : الخطبة الشقشقية ، وراجع كتاب عبد الله بن سبأ 1 : 142 - 151 تجد فيه الكفاية
3- انساب الاشراف 5: 49
4- راجع كتابنا أحاديث أمّ المؤمنين باب على عهد الصهرين : 115

«قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنّته، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم علیه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم (1)، ورددت فدك إلى ورثة فاطمةعلیها السلام ، ورددت صاع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم كما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قضي بها، ونزعت نساءاً تحت رجال بغير حق فرددتهنّ إلى أزواجهن واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام وسبيت ذراري بني تغلب، ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا، وأعطيت كما كان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء (2) وألقيت المساحة (3) ، وسويت بين المناكح (4) ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عزّ وجلّ

ص: 15


1- اخرج ابن سعد في طبقاته :3 204 ترجمة عمر ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء : 53 ، وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة 12: 75 في أحوال ،عمر ، والدميري في حياة الحيوان : مادة الديك وقالوا : أن عمر أخر مقام ابراهيم الا عما كان عليه في عهد النبي صلی الله علیه وآله وسلم لان المقام في عهد ابراهيم و اسماعيل كان ملصقاً بالبيت فاخره العرب في الجاهلية فلما بعث النبی صلی الله علیه وآله وسلم الصقه مرة اخرى ، وهكذا كان في عهد أبي بكر ولما ولّي عمر أخره ووضعه حيث أخره العرب وهو باق الى هذا اليوم . المعرّب
2- ابتدع عمر بن الخطاب النظام الطبقي في تقسيم الأموال، حيث دون الدواوين وسجل أسماء المسلمين فيها فأعطى بعضهم خمسة آلاف درهم سنوياً ، وأعطى آخرين أربعة آلاف وفئة ثالثة ثلاثة آلاف وخمسمائة لفئة رابعة، ومائتين درهم لآخرين ، وهكذا أوجد الفئة الأرستقراطية والرأسمالية
3- جعل عمر بن الخطاب خراج العراق حسب قوانين الإمبراطورية الفارسية، وخراج مصر حسب قوانين الإمبراطورية الرومية
4- منع عمر نكاح غير العرب بالعربيات

وفرضه (1)، ورددت مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم إلى ما كان عليه(2)، وسددت ما فتح في-ه من الأبواب وفتحت ما سدّ منه ، وحرّمت المسح على الخفين(3)، وحددت عل-ى النبيذ (4)، وأمرت بإحلال المتعتين (5) ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات (6) ، وألزمت الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (7)، وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في مسجده ممن كان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله مم-ن كان رسول اللهصلی الله علیه وآله وسلم ، أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة (8) ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس وسائر

ص: 16


1- أسقط الخلفاء بعد وفاة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم سلهم ذوي القربى من الخمس
2- قال ابن أبي الحديد : ان عمر أوّل ... وهو الذي هدم مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وزاد فيه وأدخل دار العباس فيما زاد شرح النهج 12 : 75
3- الخفّ : حذاء يصنع من جلد الحيوان، وأهل السنة باتباعهم لأسلافهم يغسلون أرجلهم حين الوضوء إن كان حافياً وإن كان الخفّ في أرجلهم فيجوزون المسح عليه
4- النبيذ : مسكر ، ويؤخذ في الأغلب من التمر
5- حرّم الخليفة عمر المتعتين : متعة الحج ، ومتعة النساء. فأمّا متعة الحج فكان الحجّاج يؤدّونها بعد أدائهم العمرة والحلّ من الاحرام، ومن ثمّ يحرمون ثانية للحج ، وقد فرض الإسلام هذا النوع من النسك ، ولكن الخليفة أمر بأن لا يحلوا الإحرام بعد العمرة حتّى ينهوا مناسكهم . وأما متعة النساء فهي النكاح المنقطع ، وقد أباح الإسلام هذا النكاح ، وهو من المسلمات الإسلامية بنص من القرآن والأحاديث المروية عند أهل السنّة . وسوف يأتي تفصيل هذه المسألة في ضمن الكتاب ص : 396 - 418
6- تكبيرات صلاة الميت عند أهل السنة أربع تكبيرات استناداً إلى رواية أبي هريرة، بداية المجتهد 240:1
7- بعض الفرق من أهل السنّة أسقطت البسملة من الحمد والسورة في الصلاة والظاهر أنهم في هذه المسألة اتبعوا معاوية وأهل الشام . راجع تفسير الكشاف 1:1 تفسير سورة الحمد
8- أباح أهل السنة التطليقات الثلاث في مجلس واحد من دون حضور شاهد عادل عند الطلاق . راجع بداية المجتهد 2 : 66

الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلی الله علیه وآله وسلم (1)، إذاً لتفرقوا عني ، والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معى : يا أهل الإسلام غيّرت سنّة عمر ، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري، ما لقي-ت من هذه الأمّة من الفرقة وطاعة أئمة الضلال والدعاة إلى النار» (2) .

فقد وصف الإمام برامجه العملية بأنه يسير بسيرة النبىصلی الله علیه وآله وسلم ولا يعمل بما أتاه الخلفاء، خاصة بالنسبة إلى مسألة رواية الحديث، وعمل جاهداً ومتواصلاً لمحوما ابتدعه الخلفاء (3).

ولمّا رأت قريش نهج الإمام علي علیه السلام في العمل بأنه مضاد لمصالحها الدنيوية أعلنوا مخالفتهم له ، وأشعلوا ضده حرب الجمل وصفّين اللتين راحت ضحيتهما دماء كثيرة حتى وقع هو أيضا شهيداً وهو في المحراب يصلّي، وكان ذلك بعد أربع سنوات وأشهر من خلافته علیه السلام .

وبعد ذلك استولى معاوية - الذي عرف بعدائه لله ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم -بشتى أنواع الحيل والخداع على اريكة الحكم ، وتراه يكشف في حواره مع المغيرة بن شعبة ويبيّن عن سياسته الأصلية فقال له المغيرة : إنّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين ! فلو أظهرت عدلا

ص: 17


1- أمر الخليفة عمر أن يطلقوا سراح جميع الأسرى العرب، وأما أسرى الفرس فمنعهم حتى من دخول المدينة، ومن بدعه ومخالفته لحكم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم أن منع الإرث لمن يولد من غير العربية أو ولد في بلد غير عربي . راجع الموطأ لمالك بن أنس 2 : 520 باب «13» ميراث أهل الملل ح 14
2- روضة الكافى 8: 61 - 63- لقد قرأت ايها القارىء - خطبة الامام على علیه السلام وشاهدت فيها كيف كان الإمام علي علیه السلام يتأسف على ما أحدثوه وابتدعوه ، فتأمل فيها جيداً
3- وكان من أعماله علیه السلام الا أن نحى القصاصين الذين فتح لهم عمر وعثمان المجال لأن يقصوا خزعبلاتهم على الناس في أيام الجمعة وفي مساجد المسلمين، وكذا أباح للناس أن يحدثوا عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بعد أن منعهم الخلفاء من ذلك ، وهكذا سعى الخلفاء من ذلك ، وهكذا سعى جاهداً في دفن البدع التي أوجدها الخلفاء. راجع كتابنا من تاريخ الحديث ترى فيه الخير الكافي

وبسطت خيراً فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه . فقال لي : هيهات هيهات! ملك أخوتيم فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك ، فهلك ذكره إلّا أن يقول قائل : أبوبكر . ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل : عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل و عمل به ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره - وذكر ما فعل به - وأنّ أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرّات أشهد أنّ محمّداً رسول الله فأي عمل يبقى مع هذا؟ لا أم لك والله إلا دفناً دفناً» (1) .

وهكذا جمع معاوية جميع قواه لإبادة شخصية النبي وآله صلی الله علیه وآله وسلم ومحو سيرته ، فأسّس جهازاً اعلامياً لوضع الحديث، واستعمل لهذا الهدف بعض الصحابة نحو : أبا هريرة الذي روى أكثر من خمسة آلاف وثلاثمائة حديث ملفق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، و عبد الله بن عمر الراوي لما يزيد على ألفي رواية ، وهكذا أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر وأنس بن مالك اللذين حدّث كل منهما بأكثر من ألفي وثلاثمائة حديث مفتر عل-ى رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم(2).

فقد كان هؤلاء وأعوانهم يتسابقون فيما بينهم في وضع الحديث طمعا في رضا الحكام ، فوضعوا أحاديث - لا يعلم عددها إلّا الله - ونسبوها الى الرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حتى أن

ص: 18


1- مروج الذهب 4 : 41 حوادث سنة 212 نقلناه باختصار . أقول : ورواه ابن أبي الحديد في شرح النهج وفيه : «إنّ ابن أبي كبشة» بدلاً عن «أخا هاشم ، حيث كان المشركون ينسبون النبي الله الله الى أبي كبشة، وهو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان ، فلما خالفهم النبي الله في عبادة الأوثان أيضاً شبّهوه به ، وقيل : إنّه كان جد النبي الله الله من قبل امه فارادوا أنه نزع في الشبه اليه . وقال ابن ابي الحديد المعتزلي بعد نقله قصة معاوية وحواره مع المغيرة : وقد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية ، ولم يقتصروا على تفسيقه ، وقالوا عنه انه كان ملحداً لا يعتقد النبوة، ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدلّ على ذلك راجع النهاية لابن الأثير 4 : 144 وشرح نهج البلاغة 5: 129 . المعرّب
2- راجع كتابنا أحاديث أم المؤمنين عائشة : 289

مُسِخَ كلّ ما يتعلّق بالإسلام الحقيقي، ولبس الدين لبس الفرو مقلوباً، ومن ثم احتل الإسلام المزيف والممسوخ الملبّي لهوى الخلفاء سدّة الحكم بدلاً عن الإسلام المحمدي

الحقيقي.

ولم يقبل الخلفاء بعد ذلك ديناً سوى هذا الإسلام المقلوب والمزيف الذي بني صرحه في عهد معاوية وعرف فيما بعد وإلى عصرنا هذا بالإسلام الحقيقي، بحيث لو أنّ أحداً أراد اليوم أنْ يقوم بتبيين الإسلام الحقيقي الذي جاء به النبي صلی الله علیه وآله وسلم لم يستقبلوه ، وذلك لأنّهم اعتادوا الدين الخليفي الذي ابتدعه معاوية ، وفهموا الدين من خلال كتب تتضمّن أحاديث دست على الرسول. فالتوحيد الإسلامي عندهم مثلاً هو ما عرفوه من خلال هذا

الحديث الذي وضعه ابو هريرة :

«أنّ أناساً قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تمارون في القمر

ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله .

قال : فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا .

قال : فإنّكم ترونه ، كذلك يحشر الناس يوم القيامة، فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبع، فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه»(1) .

وكما تلاحظ -أيها القارىء -أنّ في هذا الحديث ما يقوّض أساس التوحيد والمعاد الصحيح النابع من منظار الإسلام الحقيقي، وتراهم يروون أحاديث أخرى

ص: 19


1- صحيح البخاري :1 : 204 كتاب الصلاة باب فضل السجود ، وج 8: 146 كتاب الرقاق باب الصراط جسر جهنم، وج 9 : 156 كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء ، صحيح مسلم :1 : 163 کتاب الايمان باب (81) باب معرفة طريقة الرؤية ح 299

يخدشون بها شخصية النبي الكريم ويشوهونها ، كما رووا عنه أنه قال (1): «اللهم إنّي اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه فأيّما مؤمن سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفّارة له».

وفي رواية أخرى: آذيته .... فاجعلها كفّارة وقربة تقربه بها اليك ، وفي أخرى :

سببته أو شتمته أن يكون ذلك له زكاة وأجراً .

ورووا أيضاً أنّه صلی الله علیه وآله وسلم قال لأناس يلقحون النخل : لو لم تفعلوا كان خيراً ، فتركوه فنفضت أو فنقصت وخرج شيصاً ، فذكروا ذلك له فقال : إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإنّي إنّما ظننت ظنّاً فلا تؤاخذوني ، أو قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم

(2) .

ورووا أيضاً : قرأ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم بمكة النجم، فلما بلغ هذا الموضع: «أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزِّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرى» (3) القى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأنّ شفاعتهنّ لترتجى . قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا. ثم جاءه جبرئيل بعد ذلك . قال : أعرض عليّ ما جئتك به ، فلما بلغ تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى . قال له جبرئيل : لم آتك بهذا ، هذا من الشيطان، فأنزل الله : «وَما

ص: 20


1- أخرجه مسلم في صحيحه 2007:4 کتاب البر والصلة والآداب باب «25» باب من لع-نه النبى صلی الله علیه وآله وسلم أو سبه جعله الله له زكاة أو طهوراً . وروى مسلم في هذا الباب عدة احاديث عن عائشة ، وأبي هريرة وسائر الأصحاب وقال بعد ذلك : إنّ دعاء النبي صلی الله علیه وآله وسلم على معاوية بن أبي سفيان : «لا أشبع الله بطنه» فعلى هذا فإنّ جميع لعائن رسول لعائن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم على بني أمية وغيرهم تكون زكاة وطهوراً وبركة لهم
2- أخرجه مسلم في صحيحه 4: 1835 کتاب الفضائل باب (38) باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلی الله علیه وآله وسلم من معايش الناس على سبيل الرأي ح 139. وقد روي هذا الحديث أيضاً في العديد من كتب أحاديثهم عن عائشة وأنس وغيرهما من الأصحاب، واستدلّ أهل السنّة بذلك على جواز مخالفة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم في الأمور الدنيوية ، وبناءاً على هذا لا بد أن نعلم ما هي الأمور الدنيوية - عند هؤلاء القوم - التي تجوز مخالفته صلی الله علیه وآله وسلم فيها ، فهل مسألة الإمامة والخلافة منها ؟
3- النجم : 19 - 20

أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ » (1) (2).

وردت هذه الأحاديث في كتب التفاسير المعروفة والمعتبرة عند أهل السنّة ،مثل:الطبري وابن كثير والسيوطي وسيد قطب، حيث رووا أحاديث موضوعة ومدسوسة على النبي صلی الله علیه وآله وسلم بشكل مكثف حتى غابت الصورة الواقعية لرسول اللهصلی الله علیه وآله وسلم وراء الحجب المكذوبة والمزوّرة (3).

وعلى العكس من هذا تراهم قد زيّنوا صور أمراء قريش وقادتهم وخلفائهم فوضعوا لهم فضائل مزيّفة، واتهموا مخالفي هؤلاء بتهم مفتراة فوصفوا رجالاً مثل : أبي ذر ومالك الأشتر وعمّار بن ياسر وغيرهم بأنهم أناس لا علم لهم بالدين وأنّهم مخدعون(4) .

ولم يكتفوا بهذه فحسب، بل مدّوا يد الزور والزيف الى التوحيد وصفات الباري كيفية الحشر والقيامة ، الثواب والعقاب الجنة والنار تاريخ الانبياء، بدء الخلق، الأحكام والعقائد الاسلامية، فاختلقوا لكلّ منها أحاديث مختلفة ومقتبسة من عقائد أهل الكتاب الخرافية وما صنعته ثقافتهم الجاهلية وعقولهم البالية وما هي من الدين بشيء.

وقد كثرت هذه الأحاديث المزوّرة وتوسعت دائرة تناقلها حتى غطت الحقائق الدينية ومسختها وكانت نتيجتها أن ابتدع إسلام آخر صار المذهب القانوني لحكّام بني امية وبني العباس حتى نهاية الخلافة العثمانية .

وفي مقابل هؤلاء المزوّرين والمختلقين للأحاديث على مر التاريخ الاسلامي

ص: 21


1- الحج : 52
2- أخرجه السيوطى في الدر المنثور 4: 366 - 368 ذيل الآية 52 من سورة الحج حيث أنه أخرجه عن أربع عشر طريقاً عن الصحابة
3- لا ريب أنه عندما تشيع مثل هذه الأحاديث في المجتمعات الإسلامية ينسد باب النقد والمؤاخذة، ولا يمكن لأحد أن ينتقد الخلفاء وحكام بني امية وبني العباس وغيرهم لأنهم كما يستفاد من هذه الأخبار أعلى رتبة وأجلّ منزلة من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم !!
4- راجع كتاب عبدالله بن سبأ ، فصل منشأ القصة : 45

صمد رجال مخلصون، جاهدوا لنشر السنّة الحقيقية التي تبين أقوال النبي صلی الله علیه وآله وسلم وسيرة الرسول مع المسلمين حتى أن ضحوا بأنفسهم في هذا السبيل .

ومن زعماء هذه الفئة الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري فإنّه كان جالساً ذات يوم عند الجمرة الوسطى في منى فاجتمع حوله أناس مسلمون كثيرون يسألونه عن دينهم، وإذا بأحد مرتزقة بني أمية يشهد المنظر فتخلّل الناس حتى وقف على أبي ذر فقال : ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا ؟ فقال أبو ذر : أأنت رقيب علي - ثم أشار الى حلقه - وقال : والله لو وضعتم الصمصامة على هذه على أن أترك كلمة سمعتها من رسول اللهصلی الله علیه وآله وسلم لأنفذتها قبل أن يكون ذلك(1) .

ومن هذه الفئة أيضاً رشيد الهجري، فانّه لمّا تولّى ابن زياد الكوفة قطع يده ورجله ، فلمّا حمل إلى أهله عاده الناس وهم باكون، فقال لهم : أيها الناس ، انتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون الى يوم القيامة ، فأخبر ابن زياد فأمر بقلع لسانه (2).

وعلى هذا النهج خطا ميثم التمار ، فإنّه لمّا تولّى ابن زياد الكوفة ألقى القبض عليه فصلبه وقطع يده ورجله ، فكان ينادي بأعلى صوته وهو مصلوب : أيها الناس من أراد أن الحديث المكنون عن عليّ بن أبي طالب ؟ قال : فاجتمع الناس وأقبل يحدثهم

يسمع بالعجائب ، فأخبر ابن زياد بذلك، فأمر بقطع لسانه ، وتشحط ميثم الله ساعة في دمه ثمّ مات (3).

وهكذا آل الأمر في ذلك العصر الى أنّ الخليفة أصبح ذا هيمنة كبيرة بحيث كان بإمكانه أن يحرّم ما أحله الله ورسوله ، ويحلّل ما حرّمه الله ورسوله، ويبتدع قوانيناً

ص: 22


1- سنن الدارمي 1 : 146) باب (46) باب البلاغ عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وتعليم السنن ح 4 ، طبقات ابن سعد ج 2 : 354. هذه الرواية ومثيلاتها هي ممّا تطاولت إليها الأيادي الأئمة بالتقطيع والإسقاط .
2- اختيار معرفة الرجال رجال الكشي» للشيخ الطوسي 1: 290 ، 131 ترجمة رشيد الهجري ، بحار الأنوار 42: 122 کتاب تاريخ أمير المؤمنين الباب (122) باب أحوال رشيد الهجري ح 1 ، وج 75 433 كتاب العشرة باب (87) باب التقية والمداراة ح 95.
3- اختيار معرفة الرجال 1 : 298 ح 139 ترجمة ميثم التمار

موازية للقوانين الإلهية، من حيث التطبيق.

وليعلم أنّ هذا الوضع لم يدم أكثر من عهد عثمان حيث قامت الثورة الشعبية ونهض المسلمون ومحوا الكثير من هذه البدع إلى أن آلت الخلافة إلى معاوية ، فقام بتقويم ما محاه المسلمون وذلك بتكوين الأجهزة الإعلامية التي كان قوامها وضاع الاحاديث (1).

ولكن شهادة الإمام الحسين حطمت هذه الخطط وهدمت ما بنوه حتى فقد نظام الخلافة مكانته التي كان يمتاز بها الخلفاء، فالبدع والتعاليم المزوّرة التي أوجدت الإنفصال بين الإسلام المتداول عندهم والإسلام الحقيقي قد توقفت، ولم يتمكن الخلفاء بعد شهادة الإمام الحسين أن يختلقوا بدعاً جديدة كما كان في السابق(2).

وأثمرت شهادة الامام الحسين الا أثراً اخراً وهو أنّ السجن والتعذيب والفتك بمبلغي الإسلام الواقعي ورواة الأحاديث قد تضاءلت لأنّ الحكام آنذاك لم يتمكنوا من التنكيل والزجر كما كان دأب أسلافهم السابقين ، وهكذا استطاع الرواة بعد جهاد طويل أنْ ينشروا بين المسلمين أحاديث صحيحة وموثقة غير تلك الأحاديث الموضوعة التي

اختلقها أعوان الخلفاء.

وفي مطلع القرن الثاني من الهجرة انتهت فترة الحظر عن رواية الحديث التي دامت مائة عام، وذلك عندما تولّى عمر بن عبدالعزيز، فأمر أتباع الإسلام الخليفي أن يدوّنوا أحاديث رسول الله . فدوّنت عشرات الكتب في سيرة الرسول والصحابة ومن بين آلاف

ص: 23


1- نحو : أُمّ المؤمنين عائشة ، أبي هريرة ، أنس بن مالك ، عبدالله بن عمر ، عبدالله بن عم-رو بن العاص ، مغيرة بن شعبة ، عمرو بن العاص ، سمرة بن جندب ، واقرأ الشرح الكافي في هذا الموضوع في كتاب أحاديث أم المؤمنين وكتاب من تاريخ الحديث للعلامة السيد مرتضى العسكري، كتاب أبو هريرة للعلّامة شرف الدين ، وكتاب أبو هريرة شيخ المضيرة وكتاب أضواء على السنّة المحمدية للعلامة أبو رية
2- منها ما أمر به عبدالملك بن مروان الناس أن يحجوا الى بيت المقدّس بدلاً عن الكعبة ويطوفوا حوله . ولكن هذه البدعة ما دامت أن دفنت . تاريخ اليعقوبي 261:2

الأحاديث المروية والمدوّنة في هذه الكتب رويت أيضاً أحاديث صحيحة ولكنّها قليلة جداً رواها المخلصون عن رسول اللهصلی الله علیه وآله وسلم ، وحتى هذه الأحاديث اليسيرة الصحيحة

و كانت تزعج أولئك العلماء التابعين للخلفاء، ولكي يخرجوا أنفسهم من هذه الورطة ويحيلوا عن نشرها اتخذوا قرارين من جهتين :

أولاً : من جهة علم الرجال والدراية فإنّهم جرحوا كل شيعي ومحب لعلي علیه السلام بالضعف.

ثانياً : من جهة علم الرواية والحديث فدوّنوا كتباً وأسقطوا منها هذا النوع من الأحاديث وكذا الأحاديث التي تمس بشخصية الحكام والخلفاء بعد الرسول.

فسمّوا هذه الكتب المدوّنة على هذا الشكل والاسلوب بالصحيح، حتى بلغ عددها ستة ، وكان حظ صحيح البخاري من حيث الاعتبار والوثوق أكثر من سائر الصحاح ، لأنّ البخاري كان أكثر اعتقاداً وتمسكاً بالأصلين المذكورين، ولذا تراه يروي عن الخوارج ، مثل : عمران بن حطان ويدع رواية الإمام جعفر بن محمد الصادق لا ، وكذلك تراه يقتطع وينقص الأحاديث التي تمس بكرامة الخلفاء، وعلى هذا الأساس نرى أتباع إسلام الخلفاء يعتقدون بأن صحيح البخاري أصح كتاب بعد القرآن .

ومن بين كتب التاريخ والسير فهم يعتبرون تاريخ الطبري هو أثبت وأصح ما كتب في التاريخ ، لأنّ الطبري انتهج في أسلوبه ما انتهجه البخاري من حيث التزامه بالأصلين المذكورين، فهو يترقب بأن لا يروي حديثا فيه ما يخدش هوية هذه الفئة من الصحابة الموثوقين عندهم، ويروي كلّ حديث مزوّر ليبرّر المواقف الظالمة لبعض الصحابة والخلفاء.

ومن هذا المنطلق ترى الطبري يروي مئات الأحاديث التي دستها أيادي الزنادقة بحيث إنه اثبت القضايا والحوادث الواقعة في عهد النبي صلی الله علیه وآله وسلم والخلفاء الاوائل مقلوبة ومعكوسة. ولمّا كان الطبري ملتزماً ومقيداً للحفاظ على مصالح الخلفاء والصحابة الموثوقين عندهم حاز من العظمة والاحترام حتى سموه إمام المؤرّخين، وإنّ الذين جاؤا

ص: 24

من بعده كابن أثير وابن كثير وابن خلدون اقتبسوا ما كتبوه في كتبهم من كتاب الطبري(1) .

واتخذ شيعة إسلام الخلفاء منذ القرن الرابع من الهجرة اقتداءاً بعلمائهم - هذه الكتب الحديثية الستة مصدراً ومرجعاً ونشروها ، ومن كتب التاريخ اعتمدوا فقط على تاريخ الطبري ومن سلك دربه، وكانت نتيجة هذا الاعتماد على هذه الكتب أن نسيت مئات الكتب التي دونت في الحديث والتفسير والتاريخ غير التي ذكرناها(2) ، ومن هذا المنطلق أيضاً تلاحظ أنهم أغلقوا على أنفسهم وعلى الآخرين باب البحث والتحقيق في معرفة الإسلام الحقيقي الذي جاء به النبي صلی الله علیه وآله وسلم اله إلى البشرية كافة.

وأمّا الأجيال التي تلت القرن الرابع الهجري وإلى عصرنا هذا سوى شيعة أهل البيت علیه السلام - فقد اكتفوا بالتقليد الأعمى لأولئك حتى أن اعتبر الدين الذي اختلقته الأيادي الأجيرة والوضاعة للحديث هو الإسلام الواقعي، الحق أن هذه الاحاديث المختلقة حول العقائد والأحكام وغيرها هي السدّ المنيع لمعرفة الاسلام المحمدي وهداية الضالين والمنحرفين.

ولهذا ينبغي لعلماء الدين أن يبادروا في البحث والتحقيق عن الإسلام الواقعي الذي تمسّك به أتباع مذهب أهل البيت علیه السلام ، وقد حاورت الكثير من العلماء في العراق ومصر وسوريا ولبنان وإيران فى بيان هذه الحقيقة ، وأرجو من الذين هم حفظة الدين أي الحوزات العلميّة أن يلتفتوا إلى هذا الأمر بالجد والمثابرة .

وفي هذا المجال فاوّل ما أسعدني هو هذا الكتاب الذي كتبه العلّامة الفاضل الشيخ محمد صادق النجمي - أحد علماء الحوزة العلمية في قم المقدسة - . ولأسباب عديدة

أرى من اللازم أنْ أقدّر جهد مؤلفه الكريم من حيث :

1 - إن المؤلّف في دراسته هذه قد أدى الدور اللازم في البحث والتحقيق في كتب

ص: 25


1- عبدالله بن سبأ للعلّامة العسكري 1: 24
2- مثل: أنساب الأشراف للبلاذري، وكتاب أخبار الزمان والأوسط للمسعودي

الحديث.

2- اختار المؤلّف لدراسته من بين كتب الحديث كتابي صحيح البخاري وصحب مسلم، اللذان هما أصح الكتب وأوثقها عند الإخوة أهل السنّة .

3 - ان المؤلّف قد راعى في بحثه ودراسته آداب البحث العلمي رعاية تامة وهذا ما وجدته أثناء تتبعي في مضامين الكتاب.

4 - إنّه كتب كتابه بالفارسية وبعبارات رشيقة سلسة يفهمها عامة الناس.

5 - إنّ المؤلّف وإن كان يقطن قم المقدسة وهو أحد فضلاء حوزتها، وكان بعيداً عن معاشرة أهل السنّة ومحادثتهم لكنّه تصدّى في دراسته لهذا الموضوع على الوجه السليم والاسلوب الصحيح ورجاءنا من أهل العلم والفهم أن يقرأوا الكتاب بدقة حتى تتجلّى لهم الحقائق أكثر فأكثر.

أرجو من الله القدير أن يحفظ قوام الحوزة العلمية في قم المقدسة حتى ظهور صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه الشريف وأنْ يوفّق جميع العلماء والمحققين فى شتى أبواب العلوم الإسلامية .

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مرتضى العسكري

مساء الخميس 1392/2/11 ه . ق

ص: 26

تمهيد

لما رأيت مدى مقام صحيح البخاري وأهميته عند أهل السنة جذبني الشوق والولع في أن أراجع هذا الكتاب مراجعة دقيقة ومعمقة، ولشدة ما كنت أشعر به من العلاقةوالشوق في هذا الموضوع أتممت مراجعة الصحيح في فترة قصيرة،(وكان ذلك عام 1388ه)، فاخترت من بين أحاديثه خمسين حديثاً في أربعة وثلاثين مسألة مختلفة ومشوّقة، واستنسختها على شكل مذكرات .

ومن ثمّ أصبح هذا العمل البسيط نافذة على برمجة مطالعاتي المستقبلية ووضع اللبنة الأولى في تأليف هذا الكتاب ، وهكذا أثمرت بالنتيجة هذا الكتاب.

ومن خلال هذه المراجعة الأولية وقعت حادثة غريبة وممتعة غيّرت مسار أُطروحتي الفكرية من أسفل إلى فوق وصيّرت هذه المذكرات التي لم تتجاوز عدة وريقات دراسة متكاملة حتى صارت أضعافاً مضاعفة .

ففي شهر رجب من تلك السنة أي 1388 ه- حلّت العطلة الصيفية فرحلت الى موطني آذربيجان الايرانية ، فهناك حالفني حظ كبير وموهبة كبيرة ونلت فخراً عظيماً ونعمة موفورة، اذ تشرفت بلقاء العلّامة المجاهد والمجتهد الأعظم الحجّة المرحوم الشيخ الأميني صاحب كتاب الغدير - تغمده الله برحمته - حيث كان يعاني من الألم في رجله - فقدم الى تلك البلاد ليغتنم جوّها ومياهها ، فخدمته ما يقارب عشرين يوماً وذلك لأنه سكن داري.

وإن كان عشرون يوماً بالنسبة إلى عمر الإنسان شيئاً قليلاً إلّا أنّ هذه الايام

ص: 27

بالنسبة لي هي من أسعد أيام عمري وأهمها وأثمنها ، بحيث لا يمكن مقايستها بسنوات العمر.

وفي تلك الأيام الخالدة والتي لا أنساها أبداً لازمت مجلس ذلك البحر الزاخ--ر ومثال العلم والورع فلم أفارقه، وكم من مرة انفردت بمجالسته وحدي لساعات عديدة ولم يكن في المجلس سوانا، وكنا نتحدّث معاً حول مواضيع مختلفة فاقتطفت من بستان علمه وفضائله أزهاراً ، وشربت من نبع فقهه وخلقه أنهاراً .

آه .... ما أحلى تلك الأيام المباركة ؟ وما أسعد تلك الساعات الفياضة ؟

ومن خلال مجالستي معه ، قدمت له تلك المذكرات التي كتبتها قبل أشهر ، فكانت

هذه الوريقات قد أدخلت نوعاً من الفرح والسرور في قلب ذلك العلم الذي يعد بحقِّ بطل هذه الميادين العقائدية، والمنصور دائما في الحوارات والمناظرات .

وأعتقد أن هذه الوسيلة - أي البحث العلمى - هي أفضل الوسائل التي يمكن للمضيف أن يستضيف بها ضيفه الكريم ويجلب رضاه ويسكن فؤاده وخاصة إن كان مثل العلامة الأميني رحمه الله علیه .

وبعد أن قدمت له أطر وحتى أخذ يحتني ويشوفني أكثر بعباراته الجذابةوكلماته السحرية فى مواصلة هذا السبيل، ويسهل لى الطريق الذى كنت أعتقده عسيراً وصعباً، وبين لي بأن مواصلة هذا الأمر فريضة واجبة لا يمكن تجاوزها أبداً .

ولما عاد العلّامة الى طهران زرته مرة أو مرتين لعيادته، ومع أنه كان يعاني من ألم رجله معاناة شديدة لكنّه لم ينس الموضوع الذي بحثناه معاً ، فأخذ ثانية يشوّقني أكثر ويرغبني أزيد في استدامة المنهج الذي اخترته ، فرحمة الله عليه وجزاه الله عن الإسلام

خيراً.

ولكن بعد فترة وعلى أثر بعض الأعمال والمشاكل التي واجهتني توقفت عن العمل ، ثم عدت كرّة ثانية الى تلك الأوراق وتذكرت نصائح المرحوم العلّامة الأميني

ص: 28

فواصلت تحقيقاتي وبحثي في صحيح البخاري بشكل أعمق حتى أضفت على ما كتبت في السابق مسائل أخرى.

ومن خلال مراجعتي لصحيح البخاري قرأت سائر الصحاح والسنن قراءة متقنة، واستنتجت فيما بعد بأنّ صحيح مسلم هو الآخر مثل صحيح البخاري من حيث الأهمية والشأنية ومواز له في شتى جوانبه الرجالية والروائية. بل أنّ بعض علماء أهل السنّة يقدّم صحيح مسلم ويرجحه على صحيح البخاري، وان احد علمائهم (1) جمع أحاديث الصحيحين في كتاب واحد وأسماه الجمع بين الصحيحين»، وآخر (2) جمع رجال الصحيحين في كتاب مستقل وعنونه الجمع بين رجال الصحيحين».

ولهذا التقارن والتقارب بين الصحيحين بدأت بالتركيز والتدقيق أكثر من قبل على صحيح مسلم أيضاً ، فتجمّعت عندي وريقات مترامية ومتشتتة لم تظهر بعد على نحو كتاب، وتأييداً لرأى لعلّنى أبديته كنت أستدل عليه بما ورد في المصادر الأخرى غير الصحيحين، وبناءاً على هذا تراكمت عندي مذكرات وقصاصات أكثر وهكذا تمّت المرحلة الثانية من تأليف كتابي الذي كان للمرحوم العلّامة الأميني حظاً كبيراً في

تدوينه .

فما زلت أواصل مطالعاتي في الصحيحين جاهداً، وأغتنم مهما أمكن كل كتاب أحتمل أنه سيكون مفيداً في تحقيقي حتى استوهبت فخراً آخراً وانفتحت أمامي نافذة أخرى نحو السعادة، وتشوّقت أكثر لمواصلة البحث والتحقيق، وتلك الموهبة هي

ص: 29


1- هو رضي الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد الصاغاني 577 - 650 ه، وقد رتب كتابه الجمع بين الصحيحين الصحيحين على أبواب وفصول النحو، فرتبه على اثني عشر باباً يندرج تحت كلّ باب منها عدة فصول من فصول النحو وترتيبه وقد جمع فيه 2267 حديثاً ممّا اتفق عليه البخاري ومسلم . المعرّب
2- هو أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي المعروف بابن القيسراني الشيباني 448 - 507 ه، وقد جمع فيه رجال الصحيحين، ورتبه على الترتيب الهجائي للحروف، وذكر فيه ما تفرد به كل من البخاري ومسلم من الرجال المعرب

زيارتي للعالم الجليل العلّامة السيد مرتضى العسكري فتشرفت بلقائه في طهران.

العلّامة العسكري هو من العلماء العظام والأتقياء ومن مفاخر الشيعة ونجم لامع فی سماء البحث والتحقيق في عالم التشيّع ، وهو غني عن التعريف خاصة عند أهل العلم والمحققين ، ولا يخفى على أحد ما يمتاز به هذا العالم النحرير، من الهمة العالية والابتكارات البديعة ، وأنّه قد انتهج سبيلاً غاب عن علمائنا السلف أن يغتنموه، وجهد كثيراً في تبيين حقائق التاريخ الإسلامي، ونشاطه مؤثر في هذا المجال (1).

ومنذ تشرفي بزيارة سيادته تعرّفت على أسمى الفضائل الخلقية والمعنوية التي كان يتصف بها العلّامة العسكري، هذا وعلاوة على ما استفدت من نبعه العلمي الوافر وتطلعه الزائد، فقد تأثرت بهذه الشخصية العلمية والتقية كثيراً بحيث تغيرت برامج-ي

الفكرية والتحقيقية.

ولمّا اطّلع العلّامة العسكري - بدوره كالعلّامة الأميني - على تأملاتي ومطالعاتي ونظر في مذكراتي نظرة فاحص ، أخذ في تشويقي وتشجيعي ، فأبدى من الفرح والسرور والمدح والثناء على عملي بحيث لم أكن أتوقعه، ولم أر ذلك في شأني وشأن كتابي ، ثم أمرني بالإسراع في طبعه ونشره.

ومع أنّ العلّامة العسكري كان كثير العمل في المجالات العلمية والبحوث التحقيقية ، لكنّه تفضّل عليّ وراجع الكتاب وصححه وقدّم لي إرشادات قيّمة وقدّم لكتابي مقدّمة غنية ومفيدة فشكر الله سعيه ، ومتع الله المسلمين بطول بقائه.

وهذا في الواقع يمثل المرحلة الثالثة وهو الدافع لتكميل دراستي وإتمام بحثي .

ص: 30


1- ألف في هذا الميدان كتباً كثيرة ، مثل : عبد الله بن سبأ ، مائة وخمسون صحابي مختلق وأحاديث عائشة أم المؤمنين ، فانّه قد كشف الستار عن الصورة الحقيقية لعبد الله سبأ والأصحاب المختلقين ودور أحاديث عائشة ، وأبرز الحقائق الدينية والتاريخية التي ظلت كامنة خلف الأستار منذ عهد الإسلام الأول، وبيّن في كتبه الصراط القويم والتحقيق والبحث السليم للأجيال الآتية.

والجدير بالذكر : أنّ ما زاد رغبتي وحنّني أكثر على مواصلة هذا العمل بغض النظر

عن تراكم المشاكل وعدم وجود الوسائل، هو عاملين أساسيين :

الأوّل : الشعور بالمسؤولية القصوى والكبيرة وفهم الحقيقة ، والواقع إنّنا اليوم مكلّفون فى حفظ العقائد والتعاليم الدينية والثبات أمام النشاط الوسيع الذي تقوم به المذاهب المختلفة، وكذا إنّ هذا العمل هو تبليغ وخدمة للدين، بل هو واجب على كلّ واحد منا حسب ما أعطي من الاستعداد أن يشمّر عن ساعديه ويسعى في إصلاح الجيل وتقديمه نحو الأمام، وذلك عن طريق التأليف والكتابة التوعوية.

الثاني : ومن جهة أخرى أنّ الحسّ الذاتي والرغبة في الحصول على المواضيع المستجدّة التي كنتُ أستقطبها خلال مطالعاتي زاد في رغبتي في التحقيق أكثر ، بحيث إنّي قرأتُ في مدة قصيرة مئات الكتب، وللحصول على كتاب واحد ممّا يتعلّق بتأليفي لعلّني سافرت من مدينة إلى أخرى وتعرفت حينها على مكتبات عامة ودور نشر كثيرةً.

«وَمَا تَوْفِيقي إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيبُ »

قم - محمد صادق النجمي

ربيع الأول 1392ه. ق

ص: 31

ص: 32

الفصل الأول : سير الحديث أهميته ، وتدوينه

اشارة

ص: 33

ص: 34

حول الحديث

ما هو الحديث

الحديث لغة هو الشيء الجديد، ويطلق على مطلق القول والكلام (1) ، وفي اصطلاح المحدثين عبارة عن أقوال المعصوم وأفعاله وتقديره . والمعصوم عند أهل السنّة هو النبي الأكرم الله الله ، وعند الشيعة هم النبيّ والائمّة من أهل بيته علیه السلام.

قال ابن حجر : لما كان يطلق على القرآن الكريم في صدر الاسلام بالقديم، أطلق

لفظ الحديث في مقابل ذلك على كل ما نسب إلى النبي صلی الله علیه وآله وسلم ، وهذا التعبير جار إلى عصرنا (2).

نص الحديث

هو قول المعصوم وتقريره .

السند

يطلق على سلسلة رواة الحديث الذين بلغنا الحديث عن طريقهم.

السنة

هي في اللغة عبارة عن السيرة والطريقة المتبعة عند الناس، وفي الاصطلاح سنة

ص: 35


1- لولا قومك حديثو عهد بالاسلام حديث نبوي .«إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذا الْحَدِيثِ أَسَفاً» ، الكهف : 6
2- هدى الساري مقدّمة فتح الباري

الرسول صلی الله علیه وآله وسلم هي مجموعة الأحكام والتعاليم العملية من العبادات وغيرها التي وردت بسند قطعي وصحيح(1).

وللملازمة الموجودة بين السنّة والحديث أطلق لفظ السنة على الحديث كذلك ، واستعملت فيما بعد غالباً في هذا المورد.

أهمّية الحديث في الكتاب

الكتاب والسنة هما الدعامتان الأساسيتان لأحكام الدين والتعاليم الإسلامية (2) ، ولكن حاجة المسلمين إلى السنّة بدت أكثر من حاجتهم الى القرآن، لأن آيات الأحكام الواردة في القرآن معدودة ومحدودة ، وقيل : إنّها خمسمائة آية حسب المشهور، بحيث لا يمكن الاقتصار عليها ، والاكتفاء بها دون السنّة والحديث، وذلك لأن :

أولاً : هذه الآيات تحتوي على الإجمال والإطلاق، والسنّة هي الكفيلة بتفسيرها وبيانها.

ثانياً : إنّ هذا المقدار المحدود من الآيات لم يكن يفي ببيان جميع الأحكام والقوانين الدينيّة، وعلى هذا اجمع علماء الفريقين، بأنّ الحديث الصحيح الذي ثبت صدوره عن المعصوم اللي بنحو القطع حجّة على المسلمين ، فهو كالقرآن من حيث حجيته ولزوم اتباعه والأخذ به .

وقد أشار القرآن الكريم ضمن آيات عديدة الى هذه الحقيقة ونبه المسلمين على أهمية السنّة والحديث . فقال تعالى: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»

(3).

ص: 36


1- نهاية ابن الأثير ، مادّة حدث. بتصرّف
2- اعتبرت الشيعة أن أحاديث الأئمة من آل الرسول صلی الله علیه وآله وسلم ، والإجماع ، ودليل العقل ، من أدلّة ، استنباط الأحكام الشرعية
3- الحشر: 7

وقرن طاعة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم بطاعة الله عزّ وجلّ وفرضها على المسلمين(1)

، واعتبر طاعته واتباعهصلی الله علیه وآله وسلم طاعة الله واتباعه (2) ، فنهاهم عن مخالفة أوامر الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وأحكامه (3) ، واعتبر الانقياد والالتزام بأوامر الرسول صلی الله علیه وآله وسلم علامة الإيمان، ومعصيته ، ومخالفته دليل الضلالة والشقاء(4) .

هذه نبذة من آيات الذكر الحكيم التي أوجبت على المسلمين طاعة النبي صلی الله علیه وآله وسلم والانقياد له وتأكد هذا الوجوب في القرآن بأساليب مختلفة وعبارات شتى، وأكدت أيضاً أنّ الاستنان والالتزام بالرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لا يتم إلا عن طريق العمل بأوامره والأخذ بأقواله .

أهمية الحديث في السنة

وردت روايات جمة وأحاديث متواترة عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته الإسلام تؤكد أهمية الحديث من جهات مختلفة تارة من حيث السنة نفسها. وتارة أخرى من جهة ضرورة حفظها وتدوينها وتبليغها الى الآخرين (5) .

قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم في خطبة حجة الوداع: «معاشر الناس ، كل حلال وما يكون فيه سبب سعادتكم قد دللتكم عليه ، أو حرام وما يكون فيه سبب شقاوتكم قد نهيتكم

ص: 37


1- قوله تعالى: «أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ»المائدة : 92
2- قوله تعالى : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى ...» النساء : 80
3- قوله تعالى: « فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواتَسْلِيماً..». النساء : 65
4- قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً الاحزاب : 36
5- أصول الكافي 1 : 51 كتاب فضل العلم باب (17) باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة ، وسائل الشيعة 18 : 52 کتاب القضاء باب (8) من أبواب صفات القاضي ، مجمع الزوائد :1 : 173 كتاب العلم باب سماع الحديث وتبليغه ، سنن ابن ماجة 1: 84 المقدمة باب (18) باب من بلغ علماً ح 230 - 236 ، جامع بيان العلم وفضله 1 : 38 باب دعاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم المستمع العلم وحافظه ومبلّغه

عنه ، فإنّي لم أرجع عن ذلك ولم أبدل»(1).

وفي مواقف عديدة حبّ النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) حفاظ الحديث على حفظه ودعا لهم، فقال( صلی الله علیه وآله وسلم) : (انظر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها (2).

ودعا لمن يروي الحديث عنه ، فقال( صلی الله علیه وآله وسلم ): «نظر الله عبداً سمع مقالتي فبلغها»(3).

وكم تكرّر في أقواله (صلی الله علیه وآله وسلم) وخاصة في أواخر خطاباته، قوله :

«فليبلغ الشاهد الغائب».

هذه الكلمات توضّح أهمية الحديث والسنة ، وتوحي بأن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم )قد بي-ن جميع الأحكام الدينية وجزئياتها من الحلال والحرام، وفرض تبليغ ذلك على جميع المسلمين ، وخص بذلك المخاطبين والمشافهين منهم . ووصف مبلغي أحاديثه ورواتها بانّهم خلفاؤه (4).

الفرق بين الكتاب والسنة

لا فرق بين القرآن والسنة من جهة صدورهما من منبع الوحي، وأنهما نوران انبثقا من نور واحد ، الا أنه يمكن حصر الفرق بينهما في الوجوه التالية :

الأول: إنّ القرآن نزل معجزة يتحدّى بخلاف السنة إذ أنّها فاقدة لصفتي الإعجاز

والتحدّي .

الثاني : إنّ ألفاظ القرآن الكريم كمعانيه نزلت من لدن الحكيم العليم، بينما السنّة

ص: 38


1- الاحتجاج للطبرسي 1 : 65 باب احتجاج النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) يوم الغدير على الخلق كلهم...
2- سنن ابن ماجة 1: 84 المقدمة باب (18) باب من بلغ علماً ح 230 - 236 ، وج 2 : 1015 كتاب المناسك باب « 76) باب الخطبة يوم النحرح 3056 ، سنن الترمذي 5: 33 کتاب العلم باب (7) باب ما جاء في الحثّ على تبليغ السماع ح 2656 - 2658
3- سنن ابن ماجة 1: 84 المقدمة باب (18) باب من بلغ علماً ح 230 - 236 ، وج 2 : 1015 كتاب المناسك باب « 76) باب الخطبة يوم النحرح 3056 ، سنن الترمذي 5: 33 کتاب العلم باب (7) باب ما جاء في الحثّ على تبليغ السماع ح 2656 - 2658
4- من لا يحضره الفقيه 4 : 240 باب النوادرح5919 ، صحيح البخاري 1 37 كتاب العلم باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، جامع بيان العلم وفضله 1: 38 باب دعاء الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم )المستمع العلم

بعكس ذلك إذ أنّ ألفاظها من الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ) ولكنها تحمل معاني الوحي الإلهي .

الثالث : لاريب في أن نزول القرآن من عند الله عزّوجلّ قطعي، وأما صدور كلّ الأحاديث التي وردت في السنة عن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم ) فظنّي ويصطلح عليه ظنّي الصدور .

الرابع : إنّ القرآن غالباً ما يذكر الأحكام الكلية والتعاليم العامة بينما جزئياتها وفروعها ذكرتها السنّة ، وبتعبير آخر : ان الأحكام الواردة في القرآن هي كليات وجعل بيانها وشرحها من مهام الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ) وذلك بإلهام من الوحي ، قال تعالى: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ »(1).

ومن ناحية أخرى إن القرآن فرض على المسلمين أن لا يفرّقوا بين ما نزل في القرآن وبين ما جاء به الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم )(2) ، وذلك لأن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ) كما أخبر عنه القرآن :« لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»(3).

فعلى هذا فالسنّة مبيّنة لمجملات ،القرآن، ومقيّدة لإطلاقاته، ومخصصة لعموماته .

ملخص القول

إنّ الأحاديث والسنة تبيّن ما لم يفصله القرآن، فمثلاً: جاء في القرآن وجوب إقامة الصلاة، ولكنّه لم يفصل أركانها وعدد ركعاتها، بينما نلاحظ النبي(صلی الله علیه وآله وسلم ) فصل جزئيات أحكام الصلاة بإقامته لها وتعليمها للناس (4).

وهكذا مسألة الحجّ، فقد ورد تشريعه في القرآن الكريم مؤكداً ، وأما مناسكه وأحكامه الفرعية والجزئية فإنّها لم تذكر فيه عدا القليل، بينما بيّن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ) تلك

ص: 39


1- النحل:44
2- قوله تعالى : «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» الحشر : 7
3- النجم : 3 - 4
4- قال (صلی الله علیه وآله وسلم ) : «صلوا كما رأيتموني أُصلّي» - صحيح البخاري 1: 162 كتاب الصلاة باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة

المناسك للناس عند أدائه لها ، فقال : خذوا عني مناسككم(1) .

وهكذا بالنسبة إلى الفرائض والإرث ، فإن بعض أحكامها وأصولها مبينة في القرآن، وأمّا الجزئيات والفروع - نحو حرمان القاتل من الإرث - فقد وردت في السنة (2).

وكذلك أحكام الزكاة والجهاد وآلاف مثلها من الأحكام التي لم نجد إليها سبيلاً سوى عن طريق السنّة .

ص: 40


1- السنن الكبرى للبيهقي 5 : 125 باب الايضاع في وادي محسر ، وفي صحيح مسلم :2 943 کتاب الحج باب (51) باب استحباب رمي الجمرة..... 310 ورد : لتأخذوا مناسككم
2- سنن الترمذي 370:4 كتاب الفرائض باب «17» ما جاء في إبطال ميراث القاتل ح 2109

تدوين السنّة عند أهل السنة والشيعة

التدوين عند الشيعة

طبقاً لما ورد في الأحاديث المروية في صحاح أهل السنة أنه لم يرد نهي عن كتابة الحديث في عهد الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم ) وأنها كانت أمراً متداولاً بين المسلمين ، وإنّ المسلمين كانوا ينظرون إلى تدوين الحديث على أنه حاجة ماسّة وضرورية ، بل أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) قد أحد مسألة الكتابة بوجه خاص، وحثّ على ذلك بعبارات مختلفة ، وكان أصحاب النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) كلّاً حسب ما أوتي من الفهم والاستعداد يدوّن ما كان يسمعه من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ، ومن أولئك الذين دوّنوا الحديث على عهد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم ) أبو بكر (1).

ومنهم عبدالله بن عمرو بن العاص الذي قال: «كنتُ أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم )، أريد حفظه ، فنهتني قريش . وقالوا : تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم )ورسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) بشر يتكلّم في الرضا والغضب ! . قال : فأمسكت . فذكرت ذلك لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) .

فقال (صلی الله علیه وآله وسلم ) : أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق .... وأشار بيده إلى فيه»(2).

ولكن بعد وفاة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم )وقع الاختلاف بين الأصحاب ، فمنهم من كان يصدّ عن

ص: 41


1- تذكرة الحفاظ للدهبي 5:1
2- سنن أبي داود 3 : 318 كتاب العلم باب (3) باب في كتابة العلم ح 3646 ، مستدرك الصحيحين 1 : 104 و 106

التدوين، واعتبر ذلك أمراً غير شرعي، وأصرّ على رأيه هذا إصراراً كثيراً ، مثل : أبو بكر، عمر بن الخطاب، ابن مسعود ، أبو سعيد الخدري وغيرهم، وفي مقابلهم فئة كانت تلح وتحثّ على تدوين الحديث وتحبّب ذلك ، وكانوا يكتبون الحديث ويدوّنونه كما كان على عهد رسول الله له ، مثل : أمير المؤمنين على(علیه السلام) وشيعته وبالأخص ابنه السبط الأكبر الإمام المجتبى(علیه السلام).

وهذا الاختلاف في موضوع تدوين الحديث سبب انقسام المسلمين إلى فئتين متميزتين : مؤيدي التدوين (الإمام علي(علیه السلام) وشيعته) ، والصادين عن التدوين (أبوبكر وأتباعه) .

التدوين في عهد الامام علي(علیه السلام)

روى البخاري في صحيحه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال : «لم يكن عندنا كتاب نقرأه إلا هذه الصحيفة - ثم أخرج صحيفة فيها أحكام الجراحات - الديات - وأسنان الإبل - المشروطة في صحة الزكاة - وأنّ المدينة حرم ما بين عير إلى ثور».

وكذا أخرج عن الإمام علي(علیه السلام) أنه خطب على المنبر ، فأخرج من قراب سيفه صحيفة فنشرها ، ثم قرأ فيها بعض الأحكام (1) .

ونقل البخاري ومسلم في صحيحيهما أحاديث كثيرة بمتون مختلفة وأسانيد متواترة حول صحيفة أمير المؤمنين(علیه السلام) ، وذكرا بعض الأحكام التي استخرجت من هذه

ص: 42


1- صحيح البخاري 1 : 38 کتاب العلم باب كتابة العلم ، ج 3: 25 کتاب الحج باب حرم المدينة ، ج 4 : 122 باب ذمة المسلمين وص 124 باب من عاهد ثم غدر وص 183 باب فكاك الأ. سیر ، ج 8: 192 کتاب الفرائض باب إثم من تبرأ من سواليه ، ج 9 : 119 کتاب الاعتصام بالكتاب وال سنة باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم وص 13 كتاب الديات باب العاقلة وص 16 باب لا يقتل المسلم بالكافر ، صحیح مسلم 2 : 1147 كتاب العتق باب (4) باب تحريم تولي العتيق غير مواليه ح 30، ج 3: 1567 كتاب الاضاحي باب «8» باب تحريم الذبح لغير الله ح 45 ، سنن النسائي :8 : 19 كتاب القسامة باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس ، وص 23 باب سقوط القود من المسلم للكافر

الصحيفة أو الصحائف الأخرى(علیه السلام)(1) .

وأمّا الأحكام التي يمكن استخراجها من هذه الصحائف طبقاً لما نقله البخاري ومسلم في صحيحيهما وإن لم تكن كثيرة(2) ولكن التمعن في نصوص الأحاديث يسوقنا إلى معرفة حقيقتين مهمتين : الأولى تعدّد هذه الصحائف وكثرتها، والأخرى جامعيتها وشموليتها ، كما أشير إلى تلك الشمولية في بعض الأحاديث بأنّ هذه الصحائف تتضمّن جزئيات الأحكام وفروعها مثل أحكام الديات والقصاص وأسنان الإبل، وحتى حدود المدينة والجبال التي حولها ، وبالالتفات إلى هذه النقاط تظهر لك جامعية تلك الصحائف.

ولكن قال ابن حجر : وبالجمع بين هذه الأحاديث يتبيّن إن الصحيفة كانت واحدة ، وكان جميع ذلك مكتوباً فيها ، فنقل كلّ واحد من الرواة عنه ما حفظه(3).

الإمام الباقر (علیه السلام)والصحيفة العلوية

نقل النجاشي عن محمد بن عذافر الصير في أنه قال : كنتُ مع الحكم بن عتيبة (4) ۔ عيينة - عند أبي جعفر (علیه السلام) فجعل يسأله ، وكان أبو جعفر(علیه السلام) له مكرماً (5)، فاختلفا في شيء. فقال أبو جعفر (علیه السلام): قم يا بني ، فاخرج كتاب علي (علیه السلام)، فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً وفتحه وجعل ينظر ، حتى أخرج المسألة . فقال أبو جعفر(علیه السلام) : هذا خط علي (علیه السلام)، وإملاء رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم ) ، وأقبل على الحكم وقال : يا أبا محمّد ، اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل(علیه السلام) (6).

ص: 43


1- المصادر نفسها
2- كلّ ما توصلنا إليه من الأحكام الواردة في أحاديث هذا الباب بعد حذف مكرّراتها ثلاثة عشر حكماً . المؤلّف
3- فتح الباري 1 : 166
4- وهو من علماء أهل السنّة
5- جاءت في بعض النسخ مكرهاً ايضاً
6- رجال النجاشي 2 : 260 ترجمة احمد بن عذافر رقم 967

ظهر مما نقلناه عن الصحيحين والنجاشي أنّ الصحائف التي كانت عند أمير المؤمنين (علیه السلام) والتي ورثها الإمام الباقر (علیه السلام) من جده (علیه السلام) ، كانت تحتوي على الشرائع والسنن الالهية، ولا توجد صحيفة قبلها في تاريخ تدوين الحديث، وكان الأئمة من أهل البيت(علیه السلام)يفتخرون بوجودها ، ويعتبرونها ثروة غنيّة ،وقد ذكرها علماء الشيعة وغيرهم كتبهم المعتبرة، وهذه الصحيفة أو الصحائف هي أساس الصرح العلمي الشاهق عند الشيعة ، وعلى هذا النهج سار شيعة على(علیه السلام) في كتابة السنّة على نحو أنه لم يحصل بين تاريخ صدور الحديث وكتابته أي فتور وانقطاع ، وقد اشتهر في كلّ عص-ر العشرات من العلماء وعرفوا باسم «كتاب الحديث والمحدثين».

إحصاء مؤلّفي الحديث وطبقاتهم

ذكر النجاشي في كتابه كتابه (1) أسماء ما يقارب ألف ومائتين راو من أصحاب الأئمة(علیه السلام) ورجال الشيعة وترجم لهم وأشار إلى ما ألفوه من الكتب في موضوع واحد أو مواضيع متعدّدة، وقال في مقدمة كتابه :أنا أذكر المتقدمين في التصنيف سلفنا من الصالح (2) وقسم علماء الرجال المؤلفين والمصنفين المعروفين إلى عهد الإمام الصادق (علیه السلام)إلى ثلاث طبقات(3). ومع هذا فإنّه لم يُعرَف عددهم دقيقاً، لأنه من المستبعد أن يكون في أصحاب الأئمة(علیه السلام)من تشرف بمجلسهم وتتلمذ على يد أحدهم ولم يصنّف كتاباً .

التدوين في عهد الامام الصادق (علیه السلام)

وفي عهد الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) حيث سنحت له تلك الفرصة الثمينة بأن يحدث ويدوّن الحديث إلى أوسع نطاقه، حتى بلغ عدد الذين تتلمذوا عنده وأخذوا

ص: 44


1- وهو من رجال الشيعة وعلمائهم ، توفي عام 450 ه.
2- راجع مقدمة رجال النجاشي
3- راجع : رجال النجاشي ، فهرست الشيخ الطوسي، اعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين ، الذريعة لآقا بزرگ الطهراني

منه العلوم المختلفة كالفقه والكلام والطبيعيات، أربعة آلاف شيخ (1).

يقول الحسن بن على الوشّاء : إنّه لقى في مسجد الكوفة في عصر واحد تسعمائة عالم كل يقول : حدّثني جعفر بن محمّد (2) ، هذا هذا مع بعد المسافة التي تفصل بين الكوفة والمدينة - مركز تعليم وتدريس الإمام الصادق (علیه السلام) - .

وعلى أثر تشويق الإمام الصادق (علیه السلام) الدائم وحسنه الدائب وتأكيده على نقل الحديث وكتابته وصيانته (3) صُنّفت كتب كثيرة بحيث لا يمكن إحصاؤها وإحصاء مؤلّفيها ، ولكن جمعت من بين تلك الكتب أربعمائة كتاب لأربعمائة مؤلف أو أقل من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام)في الفقه والعقائد فقط ، واشتهرت فيما بعد بالأصول الأربعمائة . ولما كانت هذه الأصول متشتتة وبعضها فُقدت بادر بعض أصحاب الإمام الرضا (علیه السلام)(4) إلى لم الموجود وضبطه فى كتاب مستقلّ كلّ حسب طريقته الخاصة وسماه بالجامع واختص به ، وهذه الجوامع هي غير الكتب التي ألفها أصحاب الأئمة (علیه السلام) إلى

ص: 45


1- الارشاد للشيخ المفيد : 289
2- حسن بن علي بن زياد الوشّاء ، بجلي كوفي ،ومن أصحاب الرضاء ، وكان من وجوه الطائفة ، قال أحمد بن محمد بن عیسی : خرجت الى الكوفة في طلب الحديث ، فلقيت بها الحسن بن عليّ الوشّاء، فسألته أن يخرج لي كتاب العلاء بن علي الفلا وأبان بن عثمان الأحمر ، فأخرجهما إليّ . فقلت له : أحبّ أن تجيزهما ، فقال لي : رحمك الله وما عجلتك ؟ اذهب فاكتبها واسمع من بعد فقلت: آمن الحدثان . فقال : لو علمت ان هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه ، فإنّي أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلّ يقول : حدثني جعفر بن محمّد . رجال النجاشي : 39 رقم 80
3- ورد في الحديث : 1 - اعرفوا منازل الناس منا على قدر روايتهم عنا . 2 - القلب يتكل على الكتابة . 3 - اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتى تكتبوا . 4 - احفظوا كتبكم فإنّكم سوف تحتاجون اليها . راجع مصادرها في : الكافي :1: كتاب العلم ب (16) باب النوادر ح 13 وب (17) باب رواية الكتب والحديث ح 8 و 9 و 10 ، بحار الأنوار 2 : 150 - 152 باب «19» باب فضل كتابة الحديث وروايته ، وسائل الشيعة +18 : 54 - 56 كتاب القضاء باب (18) باب وجوب العمل بأحاديث النبيّ والأئمة المنقولة ح 7 و 15 - 17
4- مثل : أحمد بن محمد بن أبي نصر ، جعفر بن بشير ، حسن بن علي بن فضال ، وغيرهم

زمن الغيبة، والتي تتضمّن مواضيع عديدة وعناوين مختلفة.

الكتب الأربعة

كانت هذه الجوامع منذ عصر الامام الرضا(علیه السلام) مرجعاً ومصدراً للشيعة في المسائل الدينية والفقهية حتى جاء ثقة الاسلام الكليني-329 ه- فصنّف كتابه (الكافي) وجمع فيه الأخبار بأسلوب بديع ومبوّب ، ثم جاء دور الشيخ ابن بابويه القمي«الصدوق» - 381 ه- فألف كتابه ( من لا يحضره الفقيه)، وبعده قام شيخ الطائفة الشيخ الطوسي - 460 ه- فدوّن كتابيه (التهذيب والاستبصار) فجمع هؤلاء في كتبهم الأحاديث المستخرجة من الأصول الأربعمائة وسائر كتب السلف من أصحاب الأئمة(علیه السلام) ، واشتهرت هذه الكتب بعد ذلك بالكتب الأربعة(1) .

هذا وقد ألّف علماء الشيعة بعد ذلك كتباً كثيرة ذات أهمية قصوى في شتى المواضيع التاريخية والتفسيرية والحديثية وغيرها فامتلأت مكتبات البلاد الإسلامية العامة منها إلّا أنّ الكتب الأربعة أحرزت من العناية والأهمية الدرجة الأعلى حتى صارت مرجعاً لفقهاء الإمامية في استنباطهم للأحكام الشرعية، واعتنوا بها أكثر من سائر الكتب.

وبعد ذلك قام علماء الإمامية وجهابذة علم الحديث يشدون العزم على تأليف كتب الحديث واستخراجها من الكتب الأربعة والأصول المعتبرة، وصنفوا الموسوعات الضخمة في الحديث.

هذا مجمل تاريخ تدوين السنّة عند الشيعة منذ صدر الاسلام حتى عصرنا .

التدوين عند أهل السنة

وأما تدوين الحديث عند أهل السنة - وكما أشرنا إليه آنفاً - فإنّ بعض الأصحاب

ومنهم أبو بكر ، خالفوا تدوين الحديث بعد وفاة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، بل منعوا التحديث عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)

ص: 46


1- جامع احاديث الشيعة المقدّمة 1 ز -ي

أيضاً ، ومن هنا فلم يستطع أحد من أصحاب الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) أن يروي أو يكتب ما سمعه من النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ، بل ألقوا ما كتبوا من الأحاديث في الماء أو أحرقوها بالنار، وتبريراً لما فعلوه تجاه الحديث وتثبيتاً لهذه الخطيئة الغير علمية اختلقوا أحاديث ونسبوها إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) . نحو : «لا تكتبوا عنّي ومَن كتب عنّي غير القرآن فليمحه (1)»(2) .

المنع في عهد أبي بكر

إنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم (صلی الله علیه وآله وسلم) فقال : إنّكم تحدّثون عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (3).

وقالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله ا (صلی الله علیه وآله وسلم) وكانت خمسمائة حديث فبات ليلة يتقلّب كثيراً . قالت : فغمّني فقلت : أتتقلّب لشكوى أو لشيء بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بنيّة ! هلمّي بالأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها. فقلت: لم أحرقتها ؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذلك.

(4).

ص: 47


1- صحیح مسلم 4 : 2298 كتاب الزهد والرقاق باب « 16» باب التثبت في الحديث ح 72
2- والدليل على كون هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة والمختلقة هو عدم تمسك أبي بكر وعمر به، وسوف تقرأ في الفصول الآتية بأنّ أبا بكر وعمر قد تذرعا بمعاذير واهي-ة واستدلا على منعهما نقل أحاديث النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وتدوينها بأدلة تافهة وحجج ركيكة ، ولو كان هذا الحديث ممّا قد ورد عن رسول الله حقا لتمسكا به فى توجيه غايتهما ، وأضف على هذا، ولو سلمنا صحة الحديث لكان الإمام مالك بن أنس (الموطأ) والإمام أحمد بن حنبل (المسند) ومؤلفو الصحاح والسنن والمسانيد هم أوّل من خالفوا أمر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وأسرعوا بعمل نهى عنه النبي (صلی الله علیه وآله وسلم). ولذا ترى أنّ علماء أهل السنة استنكر وا صدور هذا الحديث عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) أو أنهم ادعوا صدوره واختصاصه بمجالات خاصة
3- تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 3
4- المصدر : 5

ولا يخفى ما نتج عن هذا العمل الصادر من أبي بكر الذي منع نقل الحديث تارة، وأقدم على إحراقه وإبادته تارة أخرى على المسلمين والحفاظ والرواة من الآثار السيئة والنتائج السلبية، ففي السنوات الثلاث من خلافة أبي بكر انكبّ المسلمون عل-ى تلاوة القرآن واكتفوا بها دون مراجعة التفسير والبيان، وتركوا نقل الحديث وكتابته ، وبهذا تحقق ما أراده أبو بكر من حصر اهتمام المسلمين على الآيات القرآنية فقط.

المنع في عهد عمر

ففي السنوات العشر من عهد الخليفة عمر بن الخطاب - الذي عرف بالخشونة والتصلب - اشتدّ الوطيس على الحديث ، فلم يكتف عمر بمنع نقل الحديث وتدوينه فحسب، بل إنه استعمل في تحقيق هدفه اسلوب القهر والقوة(1).

قال الصحابي المعروف قرظة بن كعب (2) : لمّا سيّرنا عمر بن الخطاب إلى العراق مشى معنا عمر إلى حرارة ، ثمّ قال : أتدرون لم شيعتكم ؟ قلنا : تكرمة لنا . قال : ومع ذلك - لحاجة - إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدوي النحل فلا تصدّوهم بالأحاديث عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فتشغلوهم، جردوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) وأنا -شريككم، فلما قدم قرظة بن كعب الكوفة قالوا : حدثنا ، فقال : نهانا عمر(3).

واخرج الذهبي في تذكرة الحفاظ عن أبي سلمة أنّه قال لأبي هريرة : أكنت تحدّث في عهد الخليفة عمر هكذا ؟ قال : لو كنت أحدث في عهد عمر مثل ما أحدثكم لضربني

ص: 48


1- دامت خلافته عشر سنوات وستة أشهر وأربعة أيام
2- هو من صحابة الرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) المعروفين واشترك في غزوات عديدة منها أحد، وقال ابن حجر في الإصابة 5: 329 ترجمة قرظة بن كعب رقم 7113: إنّ أوّل من ني-ح عليه بالكوفة قرظة بن كعب
3- مستدرك الصحيحين 1: 102 ، سنن ابن ماجة 1: 12 باب «3» باب الت-وقي في الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ح 28 ، الطبقات الكبرى 6 : 7 طبقات الكوفيين، جامع بيان العلم 2 : 167 ، سنن الدارمي 1 : ص 85 باب من هاب الفتيا مخافة السقط ، تذكرة الحفاظ للذهبي

بمخفقته (1).

وكان عمر بن الخطاب مستبداً يفرض الضغوط الكثيرة على أصحاب الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) الذين كانوا يروون الحديث عنه (صلی الله علیه وآله وسلم). روي أنّ أبا موسى الأشعري نقل لعمر حديثاً في باب الاستئذان من صاحب الدار . فقال له عمر : إن لم تقم عليه بيّنة لأوجعتك .

وظلّ هذا التشدّد من قبل الخليفة مخيّماً على الرواة حتى اعترض عليه جمع من الصحابة كما ورد في ذيل الرواية الآنفة انّ أبا منذر قال لعمر : فلا تكن يا بن الخطاب

عذاباً على أصحاب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)(2).

ومن استبداده و تشدّده آنه حبس ثلاثة من الصحابة : ابن مسعود ، أبا الدرداء، أبا مسعود الأنصاري، وفرض عليهم الإقامة الجبرية في المدينة، وظلوا تحت المراقبة الشديدة حتى قتل، وما كان ذنبهم إلا أنهم رووا أحاديث سمعوها من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) (3)وأخرج الحاكم في مستدركه إن الخليفة عمر حبس ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأباذر في المدينة ليصدّهم عن رواية الحديث (4) .

ونتيجة لهذا الاستبداد العمري في المنع من نقل الحديث والنهي عنه يقول الصحابي سائب بن یزید- 80 ه- - : صحبت سعد بن مالك (5) من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدّث عن رسول الله حديثاً واحداً (6) .

وقال الشعبي جالست ابن عمر سنة كاملة فما سمعته يحدّث عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)

ص: 49


1- تذكرة الحفّاظ 1 : 7
2- صحيح البخاري 8: 67 كتاب الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثاً، وسوف يأتي تفصيل القصة في مبحث الخلافة فصل جهل الحكّام بالأحكام
3- تذكرة الحفّاظ 1 : 7 ، ومجمع الزوائد 1 : 149
4- مستدرك الصحيحين 1 : 110 كتاب العلم
5- كان من نجباء الأنصار وعلمائهم وقد حفظ عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) سننا كثيرة وروي سنناً كثيرة وروي عنه علماً جماً ، الاستيعاب 2 : 602 رقم الترجمة 954
6- سنن ابن ماجة 1 : 12 باب (3) باب التوقي في الحديث عن رسول الله ح 29

حديثاً(1).

المنع عن التدوين في عهد عمر

نقل ابن سعد : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار فى ذلك أصحاب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له . فقال : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها فتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا البس كتاب الله بشيء أبداً (2).

الحديث في عهد عثمان

كانت خلافة عثمان بن عفان التي استمرت اثنتي عشرة سنة عشرة سنة من أسوأ الأزمنة وأتعسها في تاريخ الاسلام، وذلك لما وصلت فيها الاهواء كحب الدنيا وقهر الآخرين والظلم - إلى أعلى مراتبه حيث إنّه أعطى حقوق الضعفاء والمساكين وسلّم بيت مال المسلمين لشرذمة ليست لهم أيّ فضيلة وصلة بالدين، سوى إنهم كانوا من قرابة الخليفة وعشيرته وملازمي بلاطه فاكتنزوا الملايين وعاشوا مرفهين، وبنوا القصور المشيدة وفي جوارهم من المسلمين من كان يتضور جوعاً . وأما المتقون الصالحون من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فقد أزيحوا عن تصدّى المناصب المهمة والقضاء وإدارة الحكومة، وحلّ مقامهم آخرون مستهترون - مثل الوليد بن عقبة أخو عثمان من أمه ومروان بن الحكم - ولأن المتقون لم يتماشوا ولم يداهنوا السياسة المتخذة والحاكمة انذاك، ودأبوا على قراءة القرآن وترتيله ورواية أحاديث النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وتبليغها الى الناس ، وهذا ممّا لا يرتضيه النظام الحاكم والسيرة العثمانية وسياسة حكمه لأنّ هذه الأمور هي على نقيض سياسة الخلافة الحاكمة، ولذلك تعرّضوا للهتك، فمنهم من نفي الى البوادي، وأقصي عن

ص: 50


1- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 106، سنن ابن ماجة 1: 11 المقدّمة باب «3» باب التوقي في الحديث عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) 26 ، صحيح البخاري 9: 112 کتاب التمني باب خبر ح المرأة الواحدة. وفيه : قاعدت ابن عمر قريباً من سنتين أو سنة ونصف
2- الطبقات الكبرى لابن سعد :3: 286 ، وأبو طالب مؤمن قريش للخنيزي : 2 - 3

المجتمع، ومنهم من سجن وتعرّض للتعذيب الجسدي والروحي والجلد وغيره، وهذا علاوة على منع الخلافة العثمانية من نقل أحاديث الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ومخالفتهم للقرآن المجيد.

فنفي الصحابي الجليل والزاهد في الدنيا أبي ذر الغفاري إلى الشام، ومنها إلى صحراء الربذة، وضرب الصحابي عبد الله بن مسعود والاعتداء عليه في وسط المسجد حتى انجرّ إلى كسر ،أضلعه وضرب عمّار بن ياسر إلى درجة الإغماء وإصابته بالفتق وكذا الاعتداء ونفي وإهانة العشرات من الصحابة والمسلمين الأوائل كلّها كانت نتائج سياسة عثمان (1) وديدنه إلى أن آل الأمر به أنْ يرقى المنبر ويعلن للناس منعه إياهم رواية كل حديث لم يسمع به . فقال : لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لم أسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر (2). وهكذا اشتدّ الوطيس على نقل الحديث وروايته حتى وصل ذروته.

الحديث في عهد معاوية

كانت دواعي وضع الحديث في عهد معاوية وحكومته التي دامت أربعين عاماً أشدّ من عهد الخلفاء قبله وخاصة في السنوات الخمسة والعشرين الأخيرة من حكمه (3).

وكلّما مرّ الزمان كانت رغبة المسلمين تجاه أمير المؤمنين(علیه السلام) ومعرفة مقامه وأهمّية شأنه تزداد شيئاً فشيئاً ، وكانوا مولعين بسماع الأحاديث الصحيحة وروايتها، وهذا ما لا شكّ فيه كان يضرّ بكيان معاوية وموقعه في المجتمع أكثر مما يتصوّر.

ولذلك بادر معاوية إلى أن يتدارك المشكلة ويشيّد الحكم الأموي ويقوّيه ، فعمد إلى اختلاق وجعل الأحاديث التي تنفع بحاله وتقوم سياسته وتوضع بديلة عن الأحاديث الصحيحة ، وتنشر في المجتمع ، وتروى للناس.

ص: 51


1- راجع تفصيل القصة وشرحها في الغدير :8 292 - 295 ، وج 9 : 3 - 69
2- مسند أحمد بن حنبل 1 363 ، الطبقات الكبرى :2 336 ذكر من كان يفتى بالمدينة ويقتدى به ... السنّة قبل التدوين : 97 ، قبول الاخبار : 29
3- منذ موت الخليفة عثمان في سنة 35 حتى موته سنة 60 ه- .

ومن هنا اكتسحت المجتمع مفترياته ، وقُرِئَت على الناس مختلقاته ، وحقق معاوية بمكره ودهائه المعروف ما أراده على كلا الصعيدين وذلك عبر جهتين : فهو من جهة أعلن على المنبر عن منع كلّ حديث لم يسمع به في عهد عمر عهد عمر (1) ، ومن جهة أخرى عبأ الوضاعين وأكرم كلّ من يروي حديثاً في فضائل عثمان وأصحاب النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) المناوئون لعليا (علیه السلام)وأكرمهم بالعطاياالجزيلة والهدايا الثمينة وحتّهم على جعل الحديث ونقل الأكاذيب .

فكتب أبو الحسن المدائني (2) في كتابه الأحداث وثيقة تاريخية مهمة تحتوي على بيان حقائق حول كيفية منع الحديث وجعل الأحاديث المفترية على رسول (صلی الله علیه وآله وسلم) في عهد معاوية، وننقل للقارىء مقتطفات من كلام المدائني ، لما فيه الكفاية عن نقل سائر الشواهد الأخرى، وتجنّباً عن الإطناب والإطالة.

المرسوم الأوّل : قال المدائني : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام المجاعة : أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب -يعني الإمام علي - وأهل

صلى الله بيته - أي أهل بيت النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) -.

فقام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاءاً حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي

(علیه السلام)، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة وضمّ إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيّام علي (علیه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ،ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق بها

ص: 52


1- صحيح مسلم :2 : 718 کتاب الزكاة باب (33) باب النهي عن المسألة ح 98 ، وج 3: 1210 کتاب المساقاة باب « 15 باب الصرف وبيع الذهب ح 80. 80
2- العلامة أبو الحسن المدائني هو أحد المتضلّعين وجهابذة علم التاريخ ، له مؤلفات عديدة ؛ نحو خطب النبي ، والأحداث، وخطب أمير المؤمنين ، وكتاب من قتل من الفاطميين ، وكتاب الفاطميات نقل عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أقوالاً وآراء كثيرة ، وتوفي عام 225 ه- وكان عمره 90 سنة

معروف منهم .

ويضيف المدائني : وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيز وا لأحد من شيعة على وأهل بيته(علیه السلام)شهادة ، وأن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته.

ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً .

المرسوم الثاني : أضاف المدائني : كتب معاوية إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر ، وفشا في كلّ مصر ، وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة، والخلفاء الأولين أبي بكر وعمر)، ولا تتركوا خبراً ويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجة أبي تراب (الإمام علي علیه السلام)وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضائله .

فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة ولا حقيقة لها ، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشاروا بذكر ذلك عل-ى المنابر ، وألقى إلى معلمي الكتاتيب، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن وحتى علّموا بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله .

المرسوم الثالث والرابع: ثم كتب معاوية نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته(علیه السلام)فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه .

ص: 53

وشفّع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم نكلوا به واهدموا داره ، فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما الكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي(علیه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره ، ويخ-اف من خادمه و مملوكه ، ولا يحدّثه حتى حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها (1).

الحديث في عهد خلفاء بني أمية

وبعد أن نقل أبو الحسن المدائني مصير الحديث في عهد معاوية حسب ما نقلنا عنه بالتفصيل تطرّق إلى ما آل إليه الأمر عندما ولّى عبد الملك بن مروان الخلافة لمدة

إحدى وعشرين سنة فاشتدّ البلاء والتنكيل بالشيعة على نحو لم يكن له شبيه في عهد معاوية. ثم ذكر المدائني نموذجاً من جرائم والي الخليفة الأموي في الكوفة الحجاج بن يوسف الثقفى بحق الشيعة وقال :

إن إنساناً وقف للحجاج فصاح به : أيها الأمير ، إنّ أهلي عقوني فسموني عليّاً ، واني فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج.

فتضاحك له الحجّاج وقال : للطف ما توسلت به فقد وليتك كذا (2).

الخطوة الأولى في تدوين الحديث

كان وضع الحديث بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) هو كما أوردناه، ففي عهد خلفاء بني أمية

ص: 54


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44 - 46
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 46:11

الذين التهوا بالمنكرات والفواحش وانغمسوا في البذخ والشهوات [صار مآل الحديث، والأصح صارت الأمور المعنوية مقبورة] في صندوق النسيان بحيث لم يبق من الدين إلااسمه، ومن القرآن إلا رسمه، وأمّا العلماء والحفّاظ في عهد بني أمية فقد تماشوا مع التأثيرات الاجتماعية، وجعلوا سيرة أسلافهم والخلفاء الراشدين معياراً وملاكاً لفعلهم

، وعملهم، فأخرجوا من عقولهم كلّ ما يمت الى الحديث تدوينا وكتابة ورسموا عليه خطّ البطلان، حتّى آلت الخلافة والحكومة إلى عمر بن عبدالعزيز عام 99 - 101ه. .

قام عمر بن عبدالعزيز في مدّة خلافته القصيرة ببعض الإنجازات الإيجابية والمفيدة ، منها : إنّه ألغى المنع والحظر عن رواية الحديث وكتابته الذي كان عليه سلفه من

الخلفاء ، وأمر بتدوينه .

روى البخاري : ان عمر بن عبدالعزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم الذي تقلّد القضاء أنْ أنظر ما كان من سنّة أو حديث فإنّى خفت اندراس العلم وذهاب الحديث (1).

تدوين الحديث في عهد عمر بن عبدالعزيز

يعتقد بعض علماء أهل السنّة الذين نقلوا رسالة عمر بن عبدالعزيز المذكورة أنّ تاريخ الرسالة هو تاريخ تدوين الحديث حيث بدأ التدوين منذ تاريخ أمرعم-ربن عبدالعزيز أي من السنة الأخيرة من القرن الأوّل أو السنة الأولى من القرن الثانى(2) ولكن العلّامة السيد حسن الصدر - 1354 ه- يردّ هذه النظرية مستنداً الى الشواهد و المصادر التاريخية فقال : أوّل من صنف في الحديث الإمام مالك لما كتب الموطأ بأمر من الخليفة العباسي المنصور 136 - 185 ، ثم يذكر العلّامة الصدر الأدلة التي تؤيد رأيه: 1 - إن خلافة عمر بن عبد العزيز لم تتجاوز السنتين وخمسه أشهر .

2 - لم يؤرّخ زمان صدور أمر عمر بن عبدالعزيز هل كان في بداية عهده بالخلافة

ص: 55


1- صحيح البخاري 1: 36 كتاب العلم باب كيف يقبض العلم
2- فتح الباري لابن حجر 1 : 157 ،إرشاد الساري للعسقلاني 7:1، تدريب الراوي للسيوطى .1 :90

أم نهايته ؟

3 - لم ينقل لنا التاريخ بأنّ أبا بكر بن حزم قد امتثل أمر الخليفة، إذ لا يوجد ما يدلّ على الامتثال من أثر او كتاب لابن حزم، وما ذكره الحفّاظ والمؤرّخون تأييداً لهذه النظرية فهو مبنى على الحدس والاحتمال .

4 - فلو كان صدور الأمر في عهد ابن حزم ثابتاً وكان تاريخ التدوين للحديث قطعياً لم وقع الاختلاف ؟ ولماذا صرّح بعض المحدثين والمؤرخين بتاريخ التدوين في أواخر القرن الثاني الهجري كالحافظ الخبير الذهبي : إن تدوين الحديث وكتابته بدأ بع-د انقراض وسقوط الدولة الأموية وانتقالها إلى بنى العبّاس ؟ .

وكذلك لا يوجد أحد من المؤرّخين والحفّاظ المتقدمين من يؤيد رأي السيوطي وابن حجر (1) .

ونقول تأييداً لما قاله العلّامة الصدر: إن ابن حجر نفسه يبدي في مؤلّفاته الأخرى أقوالا غير مامر ، فيقول حيناً : إنّ أوّل من صنّف الربيع بن صبيح (2).وتارة أخرى يقول : أوّل من دون الحديث ابن شهاب الزهري في أواخر القرن الأول امتثالاً لأمر عمر بن عبد العزيز (3)، وقال قولاً آخر : أوّل من الف الحديث ابن حزم (4).

ويقول محمد فريد وجدي : أوّل من صنّف الحديث هو الإمام مالك لما كتب الموطاً ، وقيل : إنه ابن جريج - 150 ه- (5).

وادعى الشلبي : أنّ اوّل كتاب صنّف في الإسلام هو كتاب ابن جريج . ثمّ يضيف :

ص: 56


1- تأسيس الشيعة : 278 - 279 بتصرف
2- هدى الساري مقدّمة فتح الباري : 4
3- فتح الباري 1 : 218
4- فتح الباري 1 : 157
5- دائرة معارف القرن العشرين 3 361 مادة حدث

وقيل : الموطأ لمالك ؛ وقيل : أوّل من صنف وبوب ربيع بن صبيح (1).

وذكر الحافظ الذهبي في حوادث عام 143 ه- في هذا العصر شرع علماء الإسلام في مكة والمدينة بتدوين والمدينة بتدوين الحديث(2).

قال الدكتور أحمد أمين فى ضمن البحث عن أمر عمر بن عبدالعزيز : كلّ ما نعلمه أنه لم تصل إلينا هذه المجموعة ، ولم يشر إليها فيما نعلم جامعوا الحديث بعد، ومن أجل هذا شك بعض الباحثين من المستشرقين في هذا الخبر ، إذ لو جمع شيء من هذا القبيل لكان أهم المراجع لجامعي الحديث، ولكن لا داعي إلى هذا الشك، فالخبريروي لنا أنّ عمر أمر ، ولم يرو لنا أنّ الجمع تم ، فلعل موت عمر تم سريعاً وعدل أبو بكر عن أن ينفذ ما أمر به(3).

وتلاحظ أيّها المطالع أنّ العلماء قد اختلفوا في تاريخ تدوين الحديث، وكذا في أوّل مؤلّف من أهل السنّة اختلافاً شديداً، وأما ثبوت التدوين في عهد عمر بن عبدالعزيز فإنّه خال من الدليل سوى ما قاله البخاري بهذا الصدد من أنّ عمر بن عبدالعزيز قد أمر بجمع الأحاديث وتدوينها . ولكن هل هذا الأمر قد امتثل أم لا ؟ فالتاريخ بل القرائن والشواهد تثبت عكس ذلك .

وعلى كل حال فإنّ الحديث قد تمّ تدوينه بعد قرن ونصف قرن من الزمان وعندئذ خرج من حيّز النسيان والانزواء إلى حيّز المدارسة والكتابة . ولمّا كان المسلمون ينظرون الى التدوين بكونه عملا مخالفاً للسنة ومحرّماً ، لذلك فإنّهم استصعبوه واستثقلوه في بادىء الأمر حتى أجبرهم الخلفاء على ذلك .

يقول معمر عن الزهري : كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء.

(4) .

ص: 57


1- كشف الظنون 1 : 637 باب علم الحديث
2- دراسات فى الكافي والبخاري :21
3- ضحى الاسلام 2 106_107
4- الطبقات الكبرى :2 389 ذكر من كان يفتي بالمدينة بعد أصحاب النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ، جامع بيانالعلم 1 : 67

تاريخ ظهور الصحاح الستة

في غرّة النصف الثاني من القرن الثاني الهجري أدرك المحدّثون أخطاء السلف

وشطحاتهم بالنسبة لمنعهم الحديث وكتابته ، فبدؤا بتدوين الحديث وتأليفه . بدأ علم الحديث يتحرّك نحو التقدّم بعد أن قضى تلك الفترة الطويلة التي عاشها في الجمود والسكون ، ولعلّ كان ذلك ردّ فعل ناشيء عن الانفعال الذي برز إثر منع الحديث،ففي خلال قرن واحد - أي من سنة 150 - 250 ه- ظهرت على الساحة كتب كثيرة كلّها تحمل اسم الصحاح والمسانيد والمستخرجات وغيرها (1) .

وكان هدف مؤلّفي هذه الكتب في هذه الفترة الزمنية منصباً على جمع الحديث فقط ، ولم تبوّب وتقسم الاحاديث بعد إلى الصحيح والحسن والضعيف، وكان الحديث من دون فرق بين الصحيح وغيره يشكل المحتوى الأصلى للكتب والمسانيد حتى جاء عصر البخاري - 256 ه- وسائر الصحاح.

قال ابن حجر : فلما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها وانتشق رياها واستجلى

محيّاها وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين والكثير منها يشمله التضعيف، فلا يقال لغته سمين فحرّك همّته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين (2).

ثم جاء بعده تلميذه مسلم بن حجاج القشيري النيسابوري عام 261 ه فألف الجامع الصحيح ، ومن بعده محمد بن يزيد بن ماجة القزويني - 273 ه- فصنّف سننه ، ثمّ كتب أبو داود سليمان بن داود السجستاني سننه - 275 ه- وبعده محمد بن عيسى بن

ص: 58


1- ذكر الشلبي في كشف الظنون أكثر من أربعين مسنداً وقال : إنّ أهم هذه المسانيد وأشهرها مسند أحمد بن حنبل الذي يحتوي على أكثر من ثلاثين ألف حديث
2- هدى الساري مقدّمة فتح الباري : 5

سورة الترمذي - 279 ه- دوّن جامعه المعروف سنن الترمذي، وبعده أحمد بن شعيب النسائي - 303 ه- دوّن سننه ويقال له المجتبى .

وهذه الكتب الستة تشكل الركن الأصلي لجوامع أهل السنّة، فهم يرجعون إليها و يعتمدون عليها في العقائد والفروع والتفسير والتاريخ واشتهرت فيما بعد بالصحاح السنّة، ويطلق تارة على صحيح البخاري وصحيح مسلم ،الصحيحين، وعلى الكتب الأربعة الأخرى بالسنن (1).

وبعد هذه الكتب صنّفت المئات من الجوامع، وسمّيت بالمسند والمستدرك والمستخرج ، إلّا أنّه لم ينل أي واحد منها مرتبة وشأناً عند أهل السنة كما كان شأن الصحاح الستة .

الفرق بين الصحاح والمسانيد

الصحيح اصطلاحاً هو الحديث الذي اتصل سنده عبر رجال عدول ومتدينين إلى

الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) أو أحد الأئمة السلام (2).

والكتب الستة سمّيت بالصحاح لأن أحاديثها وما تحتويها مثل الراوي والسند والمتن حائزة لشروط الصحة وإن اختلف أصحابها في شروط صحة الحديث، قد يكون حديث صحيحاً عند أحدهم، وعند الآخر غير مكتمل شروط الصحة، وادّعى أرباب الصحاح أنّ كلّ ما ورد في صحاحهم متوفّر الشرائط وصحيح، وأما المسانيد والكتب الأخرى لم ترتق الى هذه الدرجة من الصحة ولم يصحح مؤلّفوها كلّ ما أخرجوه في كتبهم إذكانت عادتهم في ذلك جمع الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة ، وحتى الإمام أحمد بن حنبل الذي جمع أربعين ألف حديث في مسنده لم يلتزم بصحتها جميعاً (3).

ص: 59


1- وتارة يعدون الموطأ للإمام مالك من ضمن السنن
2- هذا التعريف والحدّ جمع بين رأي علماء العامة والشيعة معاً
3- التقريب للنووي : 1 - 2 . تدريب الراوي 1 : 88 - 99

هدفنا في البحث

هذا الذي ذكرناه كان خلاصة من تاريخ نقل الحديث وتدوينه عند أهل السنة منذ وفاة خاتم النبيين الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الى زمن خلافة عمر بن العزيز 99 - 101 ه. نقلناه من المصادر المهمة والمراجع المعتبرة ، وقد تحصلت من هذا التحليل المجمل مسألتان :

1 - إنّ تدوين الحديث عند أهل السنّة بدأ بعد قرن واحد من تاريخ صدور الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ولم يكن بين هاتين الفترتين - الصدور والتدوين - أي كتاب يعتمد عليه فى التدوين وكان أكثر اعتماد المؤلّفين والكتاب على ذاكرتهم وما تناقلته الألسن.

2 - ازدياد دواعي جعل الحديث : في الفترة التي تمّ فيها منع الحديث وتدوينه حيث ازدادت دواعي الجعل والوضع، وكثر الوضاعون على لسان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم).

وبملاحظة هاتين الحقيقتين المذكورتين نتعجب و نندهش من صبّ أهل السنة جلّ اهتمامهم على هذه الصحاح الستة وخاصة الصحيحين البخاري ومسلم» اللذين تشكل الروايات - من هذا النمط - المختلقة أكثر محتوياتهما، وقد اعتبروهما أصح الكتب وأتقنها بعد القرآن ، بل حكموا في قطعية صدور كلّ ما ورد فيهما تماماً كالقرآن . وصحة صدور ما احتوتهما من الأحاديث المشتملة على تلك الحقائق المذكورة ، وربّما أوّلوا محكمات القرآن طبقاً لما جاء في الأحاديث الواردة في كتبهم (1).

وهكذا أصبح الكتابان : صحيح البخاري وصحيح مسلم ، مدار العقائد عند أهل السنة .

وهذه الأمور هي التي دعتنا الى البحث والتنقيب في الصحيحين وكشف حقيقتهما و ماهيتهما ، كي تتجلى الحقائق التي استترت خلف الأستار السميكة من التقاليد

ص: 60


1- ستطلع - أبها القارىء الكريم - فيما يأتي أنفاً على أهمية هذه الكتب عند أهل السنة وكيف أن أحمد بن حنبل يأول آيات القرآن إلى ما جاء في أحاديثهم

والعصبيات والظلمات والأوهام التي ظلت مسدولة لفترة تزيد على ألف سنة .

«وَمَا أُريدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوفيقي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أَنبِبُ»(1).

و تتمحور دراستنا فيهما حول هذه المواضيع التسع التالية :

1 - ترجمة البخاري ومسلم .

2 - الصحيحان من منظار أهل السنّة .

3 - الصحيحان من منظار العلم والتحقيق.

4 - سند الصحيحين .

5 - نصوص الصحيحين .

6 - التوحيد في الصحيحين .

7 - النبوّة في الصحيحين .

8 - الخلافة في الصحيحين .

9 - بحوث متفرّقة في الصحيحين.

ص: 61


1- هود .88

ص: 62

الفصل الثانى :ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيشابوري

اشارة

ص: 63

ص: 64

لمحة عن حياة البخاري

من هو البخاري

هو أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مغيرة بن بردزبه الجعفي الملقب

بالبخاري.

مولده

ولد ببخارى في شوال عام مائة وتسعين وأربع ، 194ه- وقال ابن خلكان والخطيب البغدادي : كان جده الثالث بردزبه مجوسياً ومات عليها (1) .

نشأته العلمية

فقد البخاري أباه في سن مبكر وتولّت أمه تربيته، وبدأ بطلب العل-م وهو في العاشرة من عمره ، ولما بلغ العشرين من عمره بدأ رحلاته العلمية بعيداً عن موطنه.

رحلاته العلمية

اشارة

كان البخاري مولعاً بالعلم وخاصة في مجال علم الحديث، وكان بعيد الهمة في جمع الحديث وتدوينه فهاجر من وطنه - لاكتساب العلم - إلى مدن عديدة، وكان يتوقف في كلّ منها فترة يختلف فيها على علمائها لأخذ الحديث عنهم .

قال محمد فريد وجدي : كان البخاري بعيد الهمة في تحرّي صحيح الأحاديث، جاب من أجلها الأمصار وكابد الأخطار ، فرحل إلى خراسان والجبال ومدن العراق والحجاز والشام ومصر وهو في كل هذه الأقطار يلاقي الحفاظ ويجالس المحدثين

ص: 65


1- وفيات الاعيان :3 : 330 تاریخ بغداد 2: 6

فيسمع منهم ويأخذ عنهم(1).

نقل ابن حجر عن البخاري أنّه قال: دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين وإلى البصرة اربع مرات ، وأقمت في الحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الى الكوفة

وبغداد مع المحدّثين(2) .

مؤلّفاته

اختلف أصحاب التراجم في عدد مؤلّفات البخاري، فالمشهور أنه كتب سبعة عشر كتاباً في الحديث والرجال والتاريخ وغيرها، وقد اهتم أهل السنّة بكتب البخاري جميعها اهتماماً كبيراً وخاصة الجامع الصحيح، ولا يوجد في أي ملة كتاب له من الشأن مثل ما للجامع الصحيح عند أهل السنّة (3) .

فتاوى البخاري العجيبة

نقلت عن البخاري فتاوي عجيبة وإليك شطراً منها :

1 - يجوز للمرأة أن تخدم الرجل الأجنبي حتى ولو كانت شابة ، وحديثة عهد بالزواج. 2 - لا يجب على المرأة أن تستر نفسها من العبد حتى لو كان ملكاً لغيرها .

- يطهر محل المني بإزالة عين النجاسة كما يطهر بالغسل.

4 - لا يجب غسل الجنابة ما لم يخرج المني ، بل يستحم(4) .

5 - يجوز ترك الصلاة في الأوقات الحرجة مثل الجهاد وثم تقضى .

6 - يجوز تدهين البدن بدهن الميتة .

ص: 66


1- دائرة معارف القرن العشرين 2 : 56 مادّة بخر
2- هدى الساري : 479
3- نوافيك بالقرائن والشواهد على هذا في مبحث أهمية الصحيحين فيما بعد إن شاء الله .
4- صحيح البخاري 1 : 80 کتاب الغسل باب غسل ما يصيب من فرج المرأة.

7 - يجوز استعمال المشط المصنوع من عظم الميتة .

8 - لا إشكال في اللعب بأسلحة الحرب مثل السيف والسهام وإنشاد الشعر في المساجد (1).

9 - ومن فتاويه النكرة العجيبة ترتب حكم الرضاع بلبن الحيوانات، فمثلاً إذا رضع طفلان من لبن العنز أو البقر للمدة المقررة، تترتب عليهما أحكام الرضاع وتثبت به الأخوة (2) .

قال شيخ الشريعة الاصفهاني بعد أن نقل فتوى البخاري من كتاب الكفاية في شرح الهداية - فقه المذهب الحنفي : (هذه الفتاوى إن دلّت على شيء فإنّها تدلّ على جهل البخاري وسذاجته، لأن نشر الحرمة فى الرضاع فرع الأبوة والأمومة ولا يعقل أن يكون حيوان أباً لإنسان أو أماً له (3).

وفاته ومدفنه

توفّي البخاري عام مائتين وخمسين وست - 256 ه - عن عمر يناهز اثنين وستين سنة في قرية - خرتنك - من قرى سمرقند ، ودفن بها.

ص: 67


1- مقدمة صحيح البخاري بقلم أبو كمال عبدالغني عبد الخالق طبعة مكة عام 1376ه.
2- يستفاد من عناوين الأبواب التي ذكرها البخاري في صحيحه ، أنّ هذه العناوين هي فيالواقع فتاوى البخاري ، وأنّ الاحاديث التي يوردها البخاري في تلك الأبواب تعتبر أدلة البخاري على آرائه كما قال الشيخ محي الدين : ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط ، بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لابواب أرادها ، ولهذا المعنى أخلى كثيراً من الأبواب عن اسناد الحديث واقتصر على قوله فيه فلان عن النبي عل الله أو نحو ذلك ، وقد يذكر المتن بغير اسناد وقد يورده معلّقاً ، وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاج للمسألة التي ترجم لها وأشار إلى الحديث لكونه معلوماً ، وقد يكون ممّا تقدّم وربّما تقدّم قريباً ، ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة ، وفي بعضها ما فيه حديث واحد ، وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله وبعضها لا شيء فيه البتة . هدى الساري : 6 . المعرّب
3- القول الصراح ، مخطوط

لمحة عن حياة مسلم

من هو مسلم

هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري .

مولده ووفاته

لم يتطرّق أصحاب التراجم إلى جزئيات حياة مسلم ولم يذكروا إلا الشيء القليل منها ، تماماً على عكس ما ذكروا من الإطناب فى البخاري ورحلاته ومجالساته مع الحفاظ ، حتى أنّهم لم يثبتوا تاريخ مولد مسلم ووفاته وعمره ثبتاً دقيقاً .

قال ابن خلکان توفّی مسلم عشيّة الأحد لخمس ، وقيل : لست بقين من شهر رجب

سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور وعمره خمس وخمسون سنة، هكذا وجدته في بعض الكتب. ولم أر أحداً من الحفاظ يضبط مولده ولا تقدير عمره، ثم كشفت من كتاب علماء الأمصار أنّ ولادته كانت في سنة ست ومائتين ، ووفاته في سنة اثنين وستين ومائتين(1).

ورجحه محمد فريد وجدي من دون أن يشير الى المصدر(2).

وقال الذهبي : يقال إنّ ولادته كانت عام 204 من الهجرة (3) .

رحلاته العلمية

شد مسلم الرحال الى العراق والحجاز والشام ومصر ، وسافر عدة مرات الى بغداد في طلب الحديث ، وكان آخر رحلاته إليها عام 257 من الهجرة، وهو في هذه الرحلات .

ص: 68


1- وفيات الأعيان 5 : 195 ترجمة مسلم رقم 717
2- دائرة معارف القرن العشرين 5 : 293 مادة سلم
3- تذكرة الحفّاظ 2 : 588 ترجمة رقم 613

يأخذ الحديث من كبار الحفّاظ، مثل : أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه - أستاذ البخاري وشيخه - ولكن أكثر حضوره وتتلمذه كان على البخاري، وكان شديد الالتزام باستاذه وشيخه البخاري فاتبعه اتباع الفصيل لامه وخاصة لما تم تبعيد البخاري عن نيشابور وتفرّق علمائها عنه، وهذا دليل واضح على ما كان يملكه مسلم من الولع

والشغف الزائد فى كسب العلم والحديث .

مؤلّفاته

ذكر الحافظ الذهبي عن الحاكم أنه قال : كتب مسلم عشرين كتاباً في شتّى العلوم ذكر أسماءها (1) . ولكن الجامع الصحيح أو صحيح مسلم حاز من الأهمية والعناية أقصاها وأكثر من سائر مؤلّفاته وكتبه ، واهتم أهل السنة والجماعة على مر العصور والدهور بصحيح مسلم غاية الاهتمام.

سبب وفاته

ذكروا إنّ مسلم سئل عن حديث في مجلس بنيسابور، فلم يحر جواباً. وقال بعدم علمه بهذا الحديث، وعندما رجع إلى بيته قام بالفحص عن ذلك الحديث، وحصل في الأثناء أن جاءه أحد ملازميه بإناء كبير من التمر . فلم يزل مسلم يبحث عن الحديث طوال ليلته ولكي يزيل النوم عن عينيه تناول من التمر المهداة إليه حتى طلع عليه الفجر وما أنْ أتمّ أكل التمر كله حتى عثر على الحديث، فبسبب أكله التمر كثيراً تمرّض وبعده توفّي عن عمر يناهز الخامسة والخمسين سنة ودفن بالقرب من مدينة نيسابور(2).

وعلى فرض صحة هذه القصة فإنّها تدلّ على شدّة علاقة مسلم وولعه الشديد بطلب العلم والحديث .

ص: 69


1- تذكرة الحفّاظ :2 : 589 ترجمة رقم 613
2- دائرة المعارف 5 : 293 مادّة سلم

ص: 70

الفصل الثالث :الصحيحان وموقعهما العلمى عند أهل السنّة

اشارة

ص: 71

ص: 72

موقع الصحيحين عند أهل السنة

الصحاح الستة

انتخب علماء أهل السنّة من بين جميع ما كتب في الحديث ومسانيده ستة كتب منها فقط ، فجعلوها في الدرجة الأولى من الاعتبار والصحة وسموها بالصحاح أي المطابقة للواقع ، وقد شكلت هذه الكتب الصحاح الستة البنية الأولى والأساس الأصلي في أحكامهم وعقائدهم والتفسير والتاريخ.

وكما ذكرنا مسبقاً أنّ وجه تسمية هذه الكتب الستة بالصحاح وفرقها مع سائر كتب الحديث والمسانيد هو أنّ جميع ما ورد فيها من الأحاديث والروايات سواءً من وجهة نظر مؤلّفيها أو من وجهة نظر علماء أهل السنّة فهي صحيحة ومطابقة للواقع.

وإنّهم يعتقدون بأنّ كلّ ما جاء في هذه الصحاح الستة ونسب الى الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) فإنّه قد خرج من بين شفتي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) أو أمضاه وقرّره عملياً . وأما سائر كتب الحديث

رسول فإنّها فاقدة لهذه الخصوصية ، إذ يحتمل أن تكون فيها أحاديث وقعت سهواً أو عمداً و نسبت الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).

ومن هذا المنطلق قال فضل بن روزبهان : لو أن أحداً حلف يميناً بأنّ كلّ ما ورد في الصحاح الستة من الأحاديث فهو صحيح وهو قول رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لكان يم-ينه صحيحاً ، ولا عليه الحنث (1).

وقال في موضع آخر : فقد وقع إجماع الأئمة على صحتها - الصحاح الستة (2).

ومن هنا قال بعضهم في ما يخص بعض الصحاح - سنن الترمذي:من كان في

ص: 73


1- إحقاق الحق . ذيل حديث على صاحب الحوض واللواء
2- إحقاق الحق 2: 235

بيته هذا الكتاب كان في بيته نبي يتكلّم(1).

وقالوا في سنن أبي داود: كتاب الله أصل الإيمان، وسنن أبي داود عهد الإسلام (2).

وأمّا الصحيحان - البخاري ومسلم -فقد وقعا موضع اهتمام أهل السنّة أكثر من الصحاح الأربعة الأخرى ، وحازا قصب السبق ونالا الدرجة الاولى من الاعتبار، ومن ثمّ تلاهما سائر الصحاح الأربعة .

خصائص صحيح البخاري

إحصاء أبوابه وأحاديثه : يحتوي صحيح البخاري على تسع مجلّدات، وأكثر من مائة كتاب، وأبوابه تزيد على ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسين باباً، وأحاديثه تبلغ سبعة آلاف ومائتين وخمس وسبعين حديث مع عد المكرّرات منها ، وأما إذا أسقطنا المكرّرات تبلغ أحاديثه أربعة آلاف حديث (3).

الشروح والتعليقات على صحيح البخاري : بلغت الشروح التي كتبت على صحيح البخاري إلى الآن سواء الكامل منها أو الناقص تسعة وخمسين شرحاً ، والمطبوعة منها أحد عشر ، وأما التعليقات على البخاري فقد بلغت ثمان وعشرين تعليقة، وكتب خمسة عشر عالماً خلاصة للصحيح كلّ حسب مذاقه، في حين كتب ستة عشر عالماً مقدّمة له (4).

خصائص صحيح مسلم

يحتوي صحيح مسلم على ثمان مجلدات وخمسين كتاباً ، ويشمل ألف ومائتين وخمسة أبواب، وعدد أحاديثه مع إسقاط المكرّرات يبلغ أربعة آلاف حديث، ومع

ص: 74


1- تذكرة الحفاظ للذهبي 2 : 634 ترجمة رقم 658 ، وقد سطرت هذه العبارة على سنن الترمذي المطبوعة عام 1356ه- القاهرة
2- تذكرة الحفّاظ 2 : 593 ترجمة رقم 615
3- تدريب الراوي في شرح التقريب للنووي 102:1
4- مقدمة صحيح البخاري المطبوع عام 1376 ه- بمكة المكرمة

المكرّرات يبلغ سبعة آلاف ومائتين وخمسة وسبعين حديثاً (1).

وصنف الكثير من العلماء كتباً في شرح الصحيح والتعليق عليه ، إلا أن أهمها هو شرح الفاضل النووي ...

المغالاة في الصحيحين

قال علماء العامة في الصحيحين وفي تصحيحهم وتوثيقهم لجميع أحاديثهما وتعديل مؤلّفيهما من المدائح والإطراء كثيراً ، وأطنبوا في ذلك حتى بلغ بهم مبلغ الغلو والإفراط فيهما ، وكان نصيب البخاري من هذه المدائح والإطراءات أكثر من مسلم .

فتارة تراهم يبعثون سلام وتحيّة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) إلى البخاري، وتارة أخرى يقصون الرؤى والأحلام في شأن صحيحه وينسبون إليه وإلى مسلم وصحيحيهما شتّى الكرامات الفاضلة حتى أن بلغ الأ أن بلغ الأمر بهم أن قالوا : إنّ رسول الله أيّد صحة كتابيهما وأمضاهما .

ولكن الواقع ان هذه المنسوبات والكرامات المدائح والإطراءات والمغالاة بحقهمالاتتوافق مع متن الصحيحين واسلوب مؤلّفيهما فيهما ، كما سيتضح لك هذا الأمر خلال هذا البحث بالتفصيل.

فقبل ان نقوم بالتحقيق في الكتابين نورد بعض هذه الأقوال والمدائح التي قيلت بشأنهما كنماذج وأمثلة :

قال الجلبي : أمّا الكتب المصنفة في علم الحديث فأكثر من أن تحصى، إلا أنّ السلف والخلف قد أطبقوا على أنّ أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى صحيح البخاري ، ثمّ صحيح مسلم (2) .

قال محمد بن يوسف الشافعي : أوّل من صنف في الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ، ومسلم مع أنه أخذ عن

ص: 75


1- ذكر النووي في كتابه التقريب عدد الأحاديث الغير مكرّرة فقط
2- كشف الظنون 1 : 641 باب علم الحديث .

البخاري واستفاد منه، فإنّه يشارك البخاري في كثير من شيوخه، وكتاباهما أصح الكتب

بعد كتاب الله العزيز (1) .

قال الذهبي : وأمّا جامع البخاري الصحيح فأجلّ كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله عزوجل(2).

وكذلك قال الجلبي عن صحيح مسلم : جامع مسلم الصحيح من حيث الصحة هو ثاني كتاب وهو أحد الكتابين اللذين ليس أصح منهما شيء بعد كتاب الله(3).

قال أبو علي النيشابوري : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم (4) .

يقول الفاضل النووي في تقريبه : إنّ أصح الكتب بعد القرآن الصحيحان البخاري و مسلم، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد، وإن رجح البعض تقديم صحيح مسلم عليه ، ولكنّ الصواب والمختار هو الذي ذكرناه(5).

وقال في مقدمة شرحه على صحيح مسلم : اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعدالقرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأُمّة بالقبول(6).

قال القسطلاني : قد اتفقت الأمة على تلقي الصحيحين بالقبول، واختلفت في أيهما أرجح ، فصرّح البعض بتقديم صحيح البخاري، وصرّح آخرون بتقديم صحيح

ص: 76


1- هدى الساري : 8
2- إرشاد الساري 1: 29
3- کشف الظنون 1 : 641 باب علم الحديث
4- وفيات الاعيان 4 : 208 ، تذكرة الحفاظ :2: 589 ، كشف الظنون 1 : 642
5- التقريب للنووي : 3. هذا الكتاب هو من أفضل وأقدم ما كتب في علم أصول الحديث ، وقام جلال الدين السيوطي بشرحه وأسماه تدريب الراوي ويعتبران معاً من المراجع المهمة في علم الحديث
6- شرح صحیح مسلم 1 : 14

مسلم(1).

يقول ابن حجر المكي : الصحيحان هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به (2).

قال إمام الحرمين : لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنّ ما في كتابي البخاري ومسلم

مما حكما بصحته - هي مطابقة مع الواقع - وهي ممّا حكاه رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) كان حلفه صحيحاً ولا كفّارة عليه ، لأنّ الأمّة أجمعت على صحة أحاديثهما (3) .

مغالاة أكثر

لم يقنع علماء أهل السنة في تعريفهم وتمجيدهم للصحيحين وتصحيح وتوثيق كلّ ما ورد فيهما من الروايات فحسب، بل أنّهم زادوا الطين بلة حينما سلكوا سبيل الغلو والإفراط في هذا المجال، حتى ادّعى أحدهم أنه رأى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في منامه وقال (صلی الله علیه وآله وسلم) : إن صحيح البخاري هو كتابي .

وينقل عن الشيخ محمد بن عبدالرحمن شارح مختصر الخليل انه قال : كنت مع شيخي الشيخ عبد المعطي التنوسي ( التونسي) في زيارة لمرقد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) إذ شاهدت شیخی خلافاً لما اعتاده يمشي خطوة الى الإمام ثمّ يتوقف هنيئة، ويكرر ذلك حتى وصل إلى قبر الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) ، ووقف أمام القبر وتكلّم بكلام لم أفهم ما قاله .

وعندما رجعنا سألته عن قضية المشي والمكث والمحادثة الغير معتادة قال :كنت أستأذن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالدخول والزيارة حتى أذن ، فلما دنوت منه قلت یا رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وهل كلّ ما ورد في صحيح البخاري صحيح ؟ قال : نعم . قلت : أحدّث عنك كلّ ما ورد فيه من الأحاديث ؟ قال : نعم، حدّث عنّي .

ص: 77


1- إرشاد الساري 1 : 20
2- الصواعق المحرقة : 9 ، وجاء في تطهير الجنان المطبوع بهامش الصواعق : 20 ذكر البخاري فقط
3- شرح النووي على صحيح مسلم 1: 19

ونُقلت هذه القصة في كتب أخرى على نحو آخر : أنّ الشيخ التنوسي لما زار قبر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) سأل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : هل ما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم من الحديث صحيح ويجوز لى أنْ أحدث ذلك عنك ؟

قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : نعم ، انهما جميعاً صحيحان وحدّث عني ما ورد فيهم (1).

نقل عن أبي زيد المروزي أنه قال : كنت نائماً بين الركن والمقام فرأيت النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) في المنام، فقال لي: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ؟ فقلت : يا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وما كتابك ؟ قال : جامع محمد بن إسماعيل البخاري (2) .

قال محمد فريد وجدي : وغلا بعضهم فرأى أن يستأجر رجالاً يقرأون الأحاديث النبوية في كتاب الإمام البخاري استجلاباً للبركات السماوية - تماماً كالقرآن (3).

قال القاسمي في قواعد التحديث: صحيح البخاري عدل القرآن، إذ لو قرىء هذا الكتاب بدار في زمن شاع فيه الوباء والطاعون لكان أهله في مأمن من المرض، ولو اختتم أحد هذا الكتاب لنال ما نواه، ومن قرأه في واقعة أو مصيبة لم يخرج حتى ينجو منها ، ولو حمله أحد معه في سفر البحر لنجا هو والمركب من الغرق(4).

ما قيل من الرؤى والكرامات

يقال : إنّ البخاري ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته إبراهيم الخليل لا في المنام، فبشّرها بصحة ابنها ، فقال لها : يا هذه قد ردّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له، فأصبح وقد رد الله عليه بصره (5).

ص: 78


1- الدر الثمين في مبشّرات النبي الأمين: الحديث الثالث والثلاثون . استقصاء الأفح-ام 2 : 868
2- هدى الساري : 490 ، إرشاد الساري 1 : 29
3- دائرة معارف القرن العشرين 3 482
4- قواعد التحديث : 250
5- هدى الساري : 478 ، إرشاد الساري 1: 31 تاریخ بغداد 2 : 10 .

الفربري والنبي (صلی الله علیه وآله وسلم)

قال محمد بن يوسف الفربري : رأيت النبي الله(صلی الله علیه وآله وسلم)في النوم فقال لي : أين تريد ؟ قلت : أريد محمّد بن إسماعيل البخاري ، قال : اقرأه مني السلام(1) .

قال البخاري : ما وضعت في كتاب الصحيح حديثاً إلّا اغتسلت قبل ذلك وصلّيت ركعتين(2).

نقل الفربري ان البخاري قال : ما أدخلت في الصحيح حديثاً حتى استخرت الله ،وصليت ركعتين ، وتيقنت صحته (3) .

قال البخاري : صنّفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ستة عشر سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى (4).

حكى الفاضل النووي ان مسلم قال : صنّفت هذا المسند - الصحيحمن ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ، لو أنّ أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند(5).

الشعراء يطرون

وتبعاً لأولئك العلماء فقد نظم الشعراء في البخاري وصحيحه أشعاراً كثيرة وقصائد متعدّدة ، من ذلك ما أنشده ابن عامر الجرجاني حيث قال :

صحيح البخاري لو أنصفوه * لما خطّ إلا بماء الذهب

هو الفرق بين الهدى والعمى * هو السرّ دون العنا والعطب

ص: 79


1- تهذيب الأسماء واللغات :1 : 68 ، تاریخ بغداد 2 : 10
2- هدى الساري : 490 ، إرشاد الساري 1 : 29
3- هدى الساري : 490 ، إرشاد الساري 1 : 29
4- هدى الساري : 490 ، إرشاد الساري 1 : 29 کشف الظنون 544:1 مادة الجامع الصحيح
5- شرح صحيح مسلم للنووي 1 : 15

أسانيد مثل نجوم السماء * أمام متون كمثل الشهب

به قام میزان دین النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)* ودان له العجم بعد العرب (1)

وأنشد الإمام أبو الفتوح العجلي مادحاً صحيح مسلم :

صحيح القشيري ذا رتبة * تفوق الثريا إذا ما اعتلت

فألفاظه مثل نور الرياض* سقيها السواري إذا ما سرت

وأمّا المعانى فكالشمس تحت*السحاب الخريفي عنه انجلت

فلله دولة هذا الإمام* والله همّتة إن علت

عليه من الله رضوانه*فقد تمّ مسعاته وانتهت (2)

دفاع مرير

أفرط أهل السنّة في ثنائهم على الصحيحين حتى بلغ بهم الأمر حد التعسف والغلو ، وحفظاً لمقامهما وشأنهما فقد حظروا على الباحثين والمحققين أن يقوموا بالبحث والتنقيب فيهما ، واعتبر وهما كالوحى المنزل والقرآن الكريم من حيث العصمة عن الخطأ، ومنزّها من أن تنالهما الآراء والأفكار وإبداء الرأي فيهما، وأن البحث والتحقيق فيهما ، يكاد يكون توهيناً لهما وهذا بمثابة التوهين للقرآن ولا توبة ولا غفران لمن يقوم بذلك.

ففي عام 1386 ه- نشرت جمعية الإصلاح الإجتماعي في الكويت كراساً في

الدفاع عن صحيح البخاري والرد على المخالفين بعنوان «كلّ ما في البخاري صحيح». وكان هذا الكرّاس ردّاً واستنكاراً على المقال الذي كتبه عبد الوارث كبير تحت عنوان «ليس كلّ ما في صحيح البخاري صحيحاً» الذي نشرته مجلة الوعي الإسلامي

الكويتية .

ص: 80


1- ارشاد الساری 301
2- وردت هذه الأبيات في آخر صحيح مسلم طبعة بيروت

وبما إننا لم نحصل على هذا المقال المنشور في المجلة، لذلك لا يمكننا أن نبدى رأينا فيه أو نحكم له أو عليه . وأما الكرّاس المنشور ردّاً على المقال فهو بأيدينا ، وهو يحتوي على ردود واستنكارات خطابيّة أو الأصح إن الكرّاس كتب بأسلوب مملوء من الهراءوالعربدة واللاموضوعية.

فقد جاء في أوّله رسالة مفتوحة إلى أمير الكويت كتبها اثنان وثلاثون أستاذاً من جامعات سوريا استنكروا فيها على كاتب المقال وطلبوا من الأمير كسر مثل هذه الأقلام !! والوقوف أمام نشر مثل هذه المقالات في المجلات.

وبعد هذه الرسالة سطّرت ثمان مقالات لثمانية من الأساتذة والعلماء من شتّى البلاد العربية دفاعاً عن صحيح البخاري ومسلم ، ثم ذكروا قائمة بأسماء عشرة من أساتيذ وعلماء الجامعات ممّن تصدّوا للجواب والردّ على صاحب المقال والاستنكار عليه والدفاع عن البخاري.

أيها القارىء البصير ، لعلك ترى إننا قد أطنبنا وأسهبنا الكلام في هذا الفصل من كتابنا ، ولكنّ الحق إنّ الأقوال في هذا المجال أكثر مما أوردناه، وما الذي ذكرناه الا نموذجاً ضئيلاً منها ، وذلك مما دعت الضرورة والحاجة إليه ليرتفع بذلك الستار المسدول عن واقع الصحيحين ومقامهما وأهميتهما عند أهل السنّة سواء في الماضي أو الحاضر ، بل ترى أهميتهما اليوم قد ازدادت وتصاعدت أكثر حتى أصبح المنتقد للصحيحين والباحث فيهما ولو بالاسلوب العلمى ، أو إنّ الذي أراد أن يناقش صحة الأحاديث الواردة فيهما يواجه ردّاً صارماً ، وتأتيه الضربة الحديدية القاضية .

وما استنكارهم هذا ودفاعهم في تقديس الصحيحين إلا سداً لأبواب التحقيق على المحققين الباحثين في الصحيحين كيلا يتجرأ أحد على أن يكشف الحقائق .

عندما تتجلى الحقيقة

لو دقق الباحث في كلّ ما قاله ناثر و المدح والإطراء على الصحيحين، ولو استمع المرء إلى ما نقله علماء العامة من الكرامات والأحلام حول البخاري ومسلم وكتابيهما،

ص: 81

ولو أمعن القارىء في ما كتبه علماء العامة بشأنهما ، وبشأن كتابيهما لتجلّت له شخصية البخاري ومسلم وعلو مرتبتهما بحيث إن لم يعدّهما معصومين لا يشكّ أبداً في تقواهما وعدالتهما وورعهما ووثاقتهما ، وكذا لا يرتاب أبداً فى صحة كتابيهما، وكذلك تتجسّد لديه حقيقة مقولة بعض العلماء في الصحيحين من أنّه ما تحت أديم الأرض كتاب أصح منهما ، وإنّ الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) قد نسب كتاب البخاري الى نفسه واعتبره كتابه، وهكذا تتجسّد له هذه الأمور جليّة بحيث لا يمكن نقضها وتغييرها والخدشة فيها .

ولكن بمجرّد دراسة مختصرة وتفحص إجمالي فيهما تتجلى الحقائق التي تكمن خلف أستار الوهم والخيال، وينكشف للباحث أنّ - في مقابل تلك الفضائل والكرامات المنقولة في شأن البخاري ومسلم والغلوّ الذي طالما حوصر بين الخيال والوهم - هناك علماء من أهل السنّة أنفسهم قد نظروا الى الصحيحين نظرة المحقق البحاثة فوضعوا ما احتواه الصحيحان على طاولة التشريح ووازنوهما بالمعيار الواقعي وخرجوا بعد ذلك بالنتيجة التالية : إن بعض أحاديث الصحيحين من جهة الاسناد وبعضها الآخر من جهة النص والمتن مرفوضة ومخالفة للأصول العلمية والدينية .

وهناك اخرون أيضاً من علمائهم أزاحوا حجب العصبيّة عن بصائرهم ونظروا إلى شخصية البخاري ومسلم بمنظار الواقعية وأصبحت نظرتهم تماماً على عكس الفئة الأولى المغالين الذين رووا أنّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بالغ سلامه إلى البخاري.

وهذا ما تكشفه هذه الصفحات التالية لذوي العقول والأبصار من بيان الحقيقة عن ماهية الصحيحين ومؤلّفيهما، وتوضح الصورة الواقعية لهما ولمؤلّفيهما.

وليعلم القارىء الكريم بأننا نحن الشيعة لم نكن سبّاقين الى فتح باب الانتقاد على الصحيحين ومؤلّفيهما وتفنيد رواياتهما ، بل أنّ علماء العامة أنفسهم لهم السبق وأنّهم

تعرّضوا لنقدهما وبيّنوا الحقيقة بصراحة ، وفتحوا باب نقد الصحيحين على مصراعيه .

ومن هؤلاء الناقدين جمع من العلماء والمحدثين والحفاظ وشرّاح الصحيحين الذين تعتمد العامة أقوالهم وتعترف بعلوّ مقامهم العلمي عندما أبدوا نظرياتهم العلمية

ص: 82

والتحقيقية .

و نستطرد هنا طرفاً من آراء ونظريات أولئك العلماء والحفاظ :

رأي الذهلي في الصحيحين

قال ابن خلكان: محمد بن يحيى المعروف بالذهلي من أكابر العلماء والحفاظ وأشهرهم، وهو أستاذ وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه (1).

قال أحمد بن حنبل لابنه وأصحابه : اذهبوا الى ابي عبد الله - الذهلي - واكتبوا عنه (2).

وقال الخطيب البغدادي: كان يرى الذهلي وأكثر المتكلمين في كلام الله انه قديم، وقد قالوا بكفر وارتداد مخالفيهم الذين يرون بأنّ كلام الله حديث.

وقالوا ومن زعم أنّ القرآن مخلوق فقد كفر ، وخرج عن الإيمان، وبانت عنه امرأته ، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وجعل ماله فيئاً بين المسلمين، ولم يدفن في قبور المسلمين، ومن وقف وقال : لا أقول مخلوق أو غير مخلوق فقد ضاهي الكفر ، ومن زعم أن لفظ القرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلّم.

وأضاف الخطيب قائلاً :

ص: 83


1- وفيات الاعيان لابن خلكان 4: 282 ترجمة الذهلي . قال الكلاباذي الإصبهاني في كتابه الجمع بين رجال الصحيحين في ترجمة الذهلي روى عنه البخاري في الصوم والطب والجنائز والعتق وغير موضع في ما يقرب من ثلاثين موضعاً ولم يقل : حدثنا محمد بن يحيى الذهلي - مصرحاً - بل يقول : حدثنا محمد ، ولا يزيد عليه ، ويقول محمد بن عبدالله - ينسبه إلى جده - وقال : حدثنا محمد بن خالد ، ينسبه إلى جد أبيه ، والسبب في ذلك إنّ البخاري لما دخل نيسابور شغب عليه محمد بن يحيى الدهلي في مسألة خلق اللفظ وكان قد سمع منه فلم يترك الرواية عنه ولم يصرّح باسمه. راجع الجمع بين رجال الصحيحين 2 : 465 ترجمة رقم 1787
2- تاریخ بغداد 3: 416

وكان البخاري خلافاً لأكثر متكلّمى عصره يقول بأنّ لفظ القرآن مخلوق ، ولمّا ورد مدينة نيسابور أفتى الذهلي - الذي تقلد منصب الإفتاء والإمامة بنيسابور - قائلا: ومن ذهب بعد مجلسنا هذا الى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه فإنّه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه (1) .

وكان البخاري في نظر الذهلي وأكثر علماء نيسابور في ذلك العصر مطروداً ومضلاً منحرفاً في العقيدة، ووصل الانزجار والنفور منه إلى حد لم يمكنه البقاء في نيسابور فرحل عنها ، وقال بعض : إنّهم أبعدوه عن نيسابور ، وتفرّق عنه كل تلامذته وأصحابه عدا مسلم وأحمد بن مسلمة . وفرّوا منه كفرارهم من النار كيلا يمسّهم لهيب الانزجار العام وغضب الناس كما أصاب البخاري .

ذكر أصحاب التراجم هذه القصة على أنها من أسوأ المصائب والآلام التي حلت بالبخاري.

ويمكن أن نستنتج من هذه الواقعة التاريخية ، أنّ صحيح البخاري وكذلك صحيح صاحبه الأوحد مسلم بن حجاج النيسابوري قد وقعا معرض النقد والإبرام والذم مالا يوصف من قبل العلماء والحفّاظ مثل الذهلي. وإنّ هذين الكتابين اللذين عرفا واشتهرا اليوم باسم الصحيحين ويعدّان مرجعاً للتعاليم الدينية عند أهل السنّة ، قد كان مؤلّفاهما

ص: 84


1- ذهب احمد بن حنبل إلى تكفير من يقول بخلق القرآن فقال : والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ، ومن زعم ان القرآن كلام الله ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو اخبث من الأوّل ، ومن زعم ان تلفّظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوق والقرآن كلام الله فهو جهمي ، ومن لم يكفر هؤلاء القوم والقائلين بخلق القرآن وكلام الله فهو مثلهم -كافر- . وقال ايضاً : من قال : القرآن مخلوق ، فهو عندنا كافر، ولا يصلّى خلفه ... ولو تمعنت - أيها القارىء - في هذه الفتاوى الصريحة الواضحة التي مرّت عليك آنفاً وعرفت السبب في مواجهة البخارى للمحن والمشاكل . فيمكنك عندئذ ان تشكّل القضية المنطقية من الصغرى والكبرى ومن ثم تحصل على النتيجة فتأمل فيها جيداً. راجع كتاب السنة لاحم-د بن حنبل : 3 - 53 ... المعرّب

آنذاك محلّ انزجار واتهام المسلمين إياهما بالكفر والزندقة.

قال الخطيب البغدادي قال محمد بن يحيى : كتب إلينا من بغداد أنّ محمد بن إسماعيل يقول : بأنّ لفظ القرآن ليس قديم، وقد استتبناه في هذه ولم ينته فلا يحق لأحد أن يحضر مجلسه بعد مجلسنا هذا (1) .

مسلم يُرفض

لم يذهب الذهلي بفساد عقيدة البخاري فحسب، بل كان يرى انحراف صاحبه مسلم بن حجاج - صاحب الصحيح - عن العقيدة السليمة، ولذا طرده عن مجلسه وحرّم على الناس حضور مجلسه(2).

قال ابن خلكان : كان مسلم على أثر اعتقاده هذا مرفوضاً ومنفوراً في الحجاز والعراق (3).

يظهر من هاتين القصّتين أنّ البخاري ومسلم كانا محلّ رفض وطرد من قبل أهل نيسابور وعلماء بغداد وأهلها لاعتقادهما في القرآن بأنه مخلوق ، وكان هذا سبباً الطردهما من نيسابور.

موقف أبي زرعة من الصحيحين

يُعد أبو زرعة من حفّاظ الحديث وعلم من أعلام علم الرجال والعلوم الأخرى، قال الفاضل النووي فيه : أنتهى الحفظ - حفظ الحديث - إلى أربعة من أهل خراسان : أبو زرعة و ... (4).

ص: 85


1- تاریخ بغداد :2 : 31 ، ارشاد الساري 1 : 38 ، هدى الساري مقدّمة فتح الباري: 491، استقصاء الأفحام : 978
2- دائرة معارف القرن العشرين 5 : 292 مادّة سلم ، تذكرة الحفّاظ :2 : 589 ترجمة مسلم بن الحجاج رقم 613
3- وفيات الأعيان 2 : 281
4- تهذيب الأسماء واللغات 1 : 68.

كان أبو زرعة بمكانته العلمية هذه ينتقد مسلم ونظائره واعتبرهم متظاهرين بالحديث ومتاجرين به، وكان يقول بأن بعض أحاديث صحيح مسلم ليس بصحيح .

وقال الخطيب عن سعيد بن عمرو قال : شهدت أبا زرعة الرازي ذكر كتاب الصحيح الذي الفه مسلم بن الحجاج ثمّ المصوغ على مثاله - صحيح البخاري، فقال لي أبو زرعة : هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتشوفون به ، ألفوا كتاباً لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رئاسة قبل وقتها . وأتاه ذات يوم - وأنا شاهد رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر ، فقال أبو زرعة : ما أبعد هذا من الصحيح يدخل في كتابه أسباط بن نصر، ثمّ رأى في كتابه قطن بن نصير فقال لي : وهذا أطمّ من الأوّل (1) .

وذكر الذهبي قصة أبي زرعة ولكنّه أتى بكلمة يتسوقون - يتاجرون - بدلاً عن

كلمة يتشوّفون - يتظاهرون (2).

موقف النووي من الصحيحين

الفاضل النووي شارح الصحيحين البخاري ومسلم ، له صيت في علم الرجال وألف كتباً متعدّدة في علم الحديث والرجال، وتعدّ كتبه مرجعاً ، تراه يشك ويتردّد في صحة بعض أحاديث الصحيحين، وأحياناً يبدي رأيه بالصراحة ببطلان بعضها .

فقد قال في مقدمة شرحه على صحيح مسلم : و شرحه على صحيح مسلم : وأما قول مسلم - وادعاؤه في صحيحه بأن ليس كلّ شيء صحيح عندي وضعته فيه فحسب، بل جمعت في كتابي الصحيح كلّ ما اتفق الجمهور على صحته - فمشكل فقد وضع فيه أحاديث كثيرة مختلف فى صحتها لكونها من حديث من ذكرناه ومن لم نذكره ممّن اختلفوا في صحة حديثه (3).

ص: 86


1- تاریخ بغداد 4: 273
2- میزان الاعتدال 1 : 126 ، ترجمة أحمد بن عيسى المصري التستري رقم 507
3- مقدّمة شرح صحيح مسلم للنووي : 16

وفي ذيل شرحه لحديث أبي سلمة في باب بدء الوحي ، بأنّ أوّل سورة نزلت على

رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) هي سورة المدثر« يا أيها الْمُدَّثر »قال النووي : إنّه ضعيف ، بل باطل ، والصواب أنّ أوّل ما أنزل على الإطلاق «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ » (1).

موقف ابن حجر من الصحيحين

قال ابن حجر : وعدة ما اجتمع الناس - على قدحه من الأحاديث - ممّا في كتاب البخاري وإنْ شاركه مسلم في بعضه مائة وعشرة حديثاً من-ها ما وافق-ه مسلم عل-ى تخريجه وهو اثنان وثلاثون حديثاً (2) .

وقال في مقدّمة فتح الباري: فقد تناول جماعة من المحدثين وعلماء الرجال أكثر من ثلاثمائة من رجال البخاري فضعفوهم، وأشار - بعد سرد أسمائهم - إلى حكاية الطعن

والتنقيب عن سبب ضعفهم (3).

رأي القاضي الباقلاني

أنكر القاضي أبو بكر الباقلاني صحة حديث صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )على جنازة عبدالله بن أبي، واعتراض عمر عليه الله - الحديث الذي رواه الصحيحان -.

وقال إمام الحرمين : لا يصححه - أي الحديث المذكور - أهل الحديث.

وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح.

وقال الداودي : هذا الحديث غير محفوظ (4) .

رأي ابن همام

قال كمال الدين بن همام في شرح الهداية : وقول من قال : أصح الأحاديث ما في

ص: 87


1- شرح صحیح مسلم للنووى 2 : 207
2- هدى الساري مقدمة فتح الباري: 345
3- هدى الساري مقدمة فتح الباري: 382
4- فتح الباري :: 272 تفسیر سوره براءة

الصحيحين ثم ما انفرد به البخاري ثمّ ما انفرد به مسلم، ثمّ ما اشتمل على شرط

أحدهما ... تحكم وباطل لا يجوز التقليد فيه (1).

هذا الذي ذكرناه هو مُجمل ما قاله شرّاح الصحيحين والسلف من العلماء حول الصحيحين ومؤلّفيهما، ولو أردنا أن نستقصي كلّ ما قيل من النقد والقدح فيهما لاحتجنا

في ذلك إلى كتاب مستقل وكبير .

ونلفت أنظار القراء إلى رأيين من علماء مصر علماء مصر المعاصرين :

رأي الشيخ محمد عبده

يعدّ السيد محمد رشيد رضا المصري من أبرز تلاميذ الشيخ محمد عبده ، فقد جمع السيد رشيد رضا نظريات وآراء أستاذه في كتابه تفسير المنار ، فإنّه بعد أن ذكر قول ابن حجر الذي قال : عدّة ما اجتمع لنا من ذلك - الانتقادات والمؤاخذات - ممّا في كتاب البخاري وإنْ شاركه مسلم في بعضه مائة وعشرة أحاديث فيها ما وافقه مسلم على تخريجه اثنان وثلاثون حديثاً ومنها ما انفرد بتخريجه وهو ثمانية وسبعون حديثاً .

وقد ضعف الحفّاظ من رجال البخاري نحو ثمانين ومن رجال مسلم مائة وستين.

ثمّ يقول ابن حجر عدّة ما أخرجته من نحو مائتين وعشرة أحاديث انفرد البخاري بأكثر من سبعين حديثاً ، وذكر مسلم ما تبقى في صحيحه(2).

فقال السيد محمد رشید رضا بعد أن عرض الأحاديث المنتقدة على البخاري : وإذا قرأت ما قاله الحافظ ابن حجر - فيها رأيتها كلّها في فن الصناعة، ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه فتح الباري رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها - أكثر ممّا صرّح به الحافظ نفسه - مع محاولة - من الحافظ - الجمع بين

ص: 88


1- أضواء على السنة المحمدية : 312
2- هدى الساري مقدّمة فتح الباري: 345

المختلفات وحلّ المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض(1).

وقال الشيخ محمد عبده بعد أن ساق أقوال العلماء والحفّاظ في مسألة الصلاة على جنازة ابن أبي : الحق انّ هذا الحديث معارض للآيتين، فالذين يعنون بأصول الدين ودلائله القطعية أكثر من الروايات والدلائل الظنّيّة لم يجدوا ما يجيبون به عن هذا التعارض إلا الحكم بعدم صحة الحديث (2) .

رأي أحمد أمين

قال أحمد أمين الأديب المصري بشأن الصحيحين وقد ضعف الحفاظ من رجال البخاري نحو ثمانين.

وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل - لأنّ بعض من ضعف من الرواة لاشك أنه كذاب، فلا يمكن الاعتماد على قوله ، والبعض الآخر منهم مجهول الحال، ومن هذا فيشكل الأخذ عنه ... ومن هؤلاء الأشخاص الذين روى عنهم البخاري وهم غير معلومي الحال عكرمة مولى ابن عباس . وقد ملأ الدنيا حديثاً وتفسيراً، فقد رماه بعضهم بالكذب،

وبأنه يرى رأي الخوارج، وبأنه كان يقبل جوائز الأمراء، ورووا عن كذبه شيئاً كثيراً . ويضيف الأديب أحمد أمين على ذلك شواهد تاريخية أخرى لإثبات كون عكرمة كذاباً ، ثم يقول : فالبخاري ترجح عنده صدقه فهو يروي له في صحيحه كثيراً .... ومسلم ترجّح عنده كذبه . فلم يرو له إلا حديثاً واحداً في الحج ولم يعتمد فيه عليه وحده وإنما ذكره تقوية لحديث آخر(3).

رأي مسلمة في صحيح البخاري

وأما ما قاله مسلمة في البخاري وكتابه الصحيح : فإنه يعتبر تأليف البخاري

ص: 89


1- أضواء على السنّة المحمدية : 302
2- تفسير المنار 10 : 580
3- ضحى الإسلام :2 : 117

90

الصحيح عملاً خلافاً وسيّئاً وحسب المصطلح انّ البخاري قد ارتكب سرقة علمية ، وهذا ممّا يحطّ من شخصيته العلمية والخلقية، ويسقط قيمته والاعتبار بكتابه ويضعهما في

موضع بين القبول والرد.

يقول مسلمة :

آلف علي بن المديني - شيخ البخاري -كتاب العلل وكان ضنيناً به ومهتماً به كلّ

الاهتمام لكي لا تناله الأيدي، فغاب يوماً في بعض ضياعه - خارج المدينة - فجاء

- البخاري - منتهزاً الفرصة - إلى بعض بنيه وراغبه بالمال على أن يرى الكتاب - العلل - يوماً واحداً . فأعطاه له، فدفعه البخاري إلى النسّاخ ، فكتبوه له ، وردّه إليه ، فلما حضر علي بن المديني وجلس في مجلسه تكلّم بشيء، فأجابه البخاري بنص كلامه مراراً ففهم القضية - استنساخ الكتاب - واغتمّ لذلك فلم يزل مغموماً حت-ى مات بع-د يس-ير . واستغنى البخاري بذلك الكتاب عن البحث والتنقيب في الأحاديث، وخرج إلى خراسان، ووضع كتابه الصحيح ، فعظم بذلك شأنه وعلا ذكره (1).

رأينا في الصحيحين

هذا الذي ذكرناه كان ملخص ما أبداه بعض علماء أهل السنة حول الصحيحين ونقدهم إياهما من حيث السند حيناً وحيناً من حيث المتن ، وآخر من جهتهما معاً .

وأما ما نراه ونذهب إليه حول الصحيحين ومحتوياتهما فهو مطابق لرأي هذه الفئة

الأخيرة من علماء أهل السنّة، وإنّا وإيّاهم متفقون فى العقيدة بالنسبة إلى هذا الموضوع ولكن نرى أنّ في محتويات الصحيحين وكذا ضمن الاحاديث الصحيحة التي تقلاها في شتى الأبواب إنّ الأحاديث الغير صحيحة والضعيفة يبلغ عددها فوق ما عده ابن حجر كما نقل عنه الحفاظ حيث قال : إنّها لا تتجاوز المائة وعشرة أحاديث ضعيفة من جهة

المتن .

ص: 90


1- تهذيب التهذيب 9 54

ونرى أيضاً أنّ في اسناد الصحيحين ورجالهما أشخاصاً ضعافاً وغير موثقين أكثر مما نقل ابن حجر عن الحفاظ وعلماء فنّ الرجال من أنّ ضعفاء رواتهما يبلغ الثلاثمائة

شخص.

ويؤيد رأينا في ضعف أحاديث الصحيحين متناً وسنداً الأدلة التالية :

1 - ضعف بعض رجال الصحيحين ، وإنهم غير موثقين في علم الرجال.

2 - العصبية الشديدة التي تحلّى بها مؤلّفا الكتابين .

3 - الفترة الزمنية الطويلة الممتدة بين زمن صدور الحديث و تاریخ تدوینه، مع النظر إلى دواعي وأسباب الجعل والوضع .

4 - تقطيع بعض الأحاديث عند البخاري تمشياً لذوقه ورأيه .

ه - النقل بالمعنى ، كما يلاحظ في صحيح البخاري.

6 - تتميم وتكميل صحيح البخاري بوسيلة الآخرين.

-7- ملاحظة كثرة الأحاديث المخالفة للأدلّة العقلية والدينية فيهما .

هذه ملاحظاتنا على الصحيحين وهي تؤيد ضعفهما وتوضح وهن أحاديثهما ، ولا يمكن لأيّ محقق وبحاثة الاغماض عن هذه الموارد وسنشرحها بالتفصيل إن شاء الله في الصفحات الآتية.

ص: 91

ص: 92

الفصل الرابع :أدلة ضعف الصحيحين وسقمهما

اشارة

ص: 93

ص: 94

الدليل الأوّل ضعف السند

أوّل المؤاخذات على ضعف أحاديث الصحيحين والسبب في عدم الوثوق بهما هو ضعف اسناد ورواة بعض أحاديثهما .

ولمّا كان البحث في السند ذو علاقة وثيقة بموضوع كتابنا ، ويعد من البحوث المهمة والرئيسية في علمي الرواية والدراية ، وأنّه أفضل وأهم ملاك ومعيار في بيان صحة الحديث وعدمه، لزم علينا أن نستوفي البحث فيه بتفصيل أكثر وتبيين أوفر ، مع المراعاة لحجم الكتاب، ورعاية الإيجاز، وأن نخصص صفحات قليلة من الكتاب للبحث في هذا الموضوع .

علم الرجال ودراية الحديث

من الضروري قبل توثيق أي خبر أو الحكم بصحته وترتيب الأثر عليه، الالتفات الى شخصية الراوي والناقل وتقييمه من حيث تحلّيه بصفات الراوي مثل عدم كونه كذابا ومحرّفاً ومدلّساً ، ومدى التزامه الديني وتعهده العقائدي ومرتبته الإيمانية والتقوائية، لأن الراوي إذا كان مؤمناً ومتعهداً يكون مصوناً من الولوج في التدليس والتحريف وارتكاب الكذب.

وهذا الأمر من البديهيات التي تتقبلها الفطرة الانسانية والغريزة البشرية، وهذا ما دلّت عليه القرائن والشواهد حيث إنّ البشرية بأجمعها في كل العصور والدهور تتلقى الخبرمن أيّ شخص كان تشهد على صحته القرائن والشواهد، وهذا الأمر جار عندهم في كل الأمور خاصة في الأخبار التي تمت إلى القضايا السياسية والتي تتعلّق بشؤون الأنظمة حيث التحريف والتزوير فيها أكثر من سائر الأمور.

وأما لو أنّ أحداً سلك في هذه المجالات مسلك السدّج من الأشخاص، ونظر الى

ص: 95

كلّ قائل ومقولة بعين الرضا وتقبلها من دون دليل و سند معتد به لا شك ان مصيره لا يؤول إلا الى التحيّر والاضطراب والاعتماد على الأخبار الواهية التى لا أصل ولا أساس لها سوى الوهم والخيال والركون إلى بيت العنكبوت الواهن .

وقد حدّر القرآن الكريم المسلمين من الاعتماد على قول قائل أو خبر ناقل لا يتحلّى بصفة الإيمان والعدالة. وحدّرهم أيضاً عواقب هذه الوثاقة الساذجة الخطيرة، وأمرهم بالفحص والتبين في أخبارهم. فقال عزّوجلّ : «يا أيها الّذينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأَ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » (1)

وهذا الأمر بالتثبت والتبين - في الاخبار - والذي يرتكز على الفطرة الإنسانية والتعاليم الاسلامية كان سبباً في تأسيس علمي الرجال والدراية وتاريخ نشأته-ما مواز لتاريخ نشأة علم الحديث . حيث إنّ الاوّل - علم الرجال - يتكفّل الفحص عن أحوال رواة الحديث ودراستها والثاني - علم دراية الحديث - يتصدّى لدراسة الشروط التي يجب تحققها في الرواة وشرائط متن الحديث.

وبرز في هذين العلمين محققون وعلماء بارعون من الشيعة والسنّة وتخصصوا فيها وألّفوا كتباً قيمة.

وقد ذكر علماء دراية الحديث شروطاً خاصة يجب توفرها في الرواة ، ممّا يكشف عن أهمية الموضوع الذي نتطرق إليه - صفة الايمان في راوي الحديث - ولذلك تراهم يعدّون المتهم بالنسيان وضعف الذاكرة من المردودين والضعفاء ولم يقبلوا حديثه وروايته وإن توفّرت فيه صفتا العدالة والوثاقة.

الإيمان شرط قبول الحديث

كما ذكرنا آنفاً أن أحد الشروط الرئيسية في قبول الحديث والاعتماد عليه هو توفّر شرط الإيمان في راويه . والاطمئنان من عدم كذبه وانحرافه .

ص: 96


1- الحجرات 7

بينما نجد - وبالاستناد إلى الأدلّة القطعية -أنّ بعض رواة أحاديث الصحيحين لم يكونوا مستقيمي الإيمان ، وقد ثبت بالبراهين التاريخية والشواهد القويمة التي لا ريب فيها انحرافهم وعدم وثاقتهم.

وإن بعض رواتهما كانوا مشهورين بالعداء لعلي(علیه السلام)وهذا الأمر هو من أبرز صفاتهم، وأضف إلى ذلك إنّهم كانوا من وضاعي الحديث الذين كذبوا عل-ى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).

تناقض هذه الصفات مع الايمان

ومن الواضح إنه لو كانت واحدة من هذه الصفات المذكورة موجودة في شخص ما لأسقطته من الاعتماد عليه، ولم تكن لخبره أيّة قيمة واعتبار ، لأنّ هذه الصفات لن تجتمع أبداً مع الإيمان الصحيح في قلب المؤمن. وحسب ما نراه إن عدم اجتماع وضع الحديث والكذب مع الايمان من أوضح الواضحات ، وكذا عدم الوثوق بقول من يتصف بهذه الصفات أمر فطري وحسّيّ. لذلك لا نرى أنفسنا ملزمين باراءة دليل على هذا، ونكتفي أولاً بذكر بعض الأحاديث التي تشير الى التناقض الموجود بين الإيمان وعداوة الإمام علي(علیه السلام) ، وثم نتطرق الى دراسة بعض رواة الصحيحين :

1 - قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): آية الإيمان حبّ الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار (1).

2 - وقال (صلی الله علیه وآله وسلم). : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر (2).

3 - وقال أمير المؤمنين(علیه السلام) : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة إنّه لعه-د الن-بي الأمي(صلی الله علیه وآله وسلم). إلى : أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق(3) .

ص: 97


1- صحيح البخاري 1 : 11 كتاب الإيمان باب علامة الإيمان حبّ الانصار
2- صحیح مسلم 1: 81 كتاب الإيمان باب 28 باب بيان قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم): سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ح 64 ، سنن النسائي :7: 121 - 122 باب قتال المسلم وفيه 12 حديث
3- صحیح مسلم 1 : 86 كتاب الإيمان باب (35) باب الدليل على حبّ الانصار وعلي(علیه السلام) من الإيمان وعلاماته ح78.

تقييم إيمان بعض رواة الصحيحين

لو أمعنّا النظر فى مضامين هذه الأحاديث التى نقلناها ع- عن الصحيحين، وانتبهنا الى المسائل التي ذكرناها حول الإيمان والاعتقاد وأهمية الصدق والوثاقة في الراوي لتمكّن المطالع الحرّ أنْ يقيم رواة أحاديث الصحيحين وخاصة أولئك الذين سوف نتطرّق إلى ذكرهم، ومن ثمّ يحكم بصحة بعض ما رواه البخاري ومسلم من الاحاديث أو عدم

صحته .

وقد عرفنا ولاحظنا آنفاً أنّ محبّة الأنصار والإمام على (علیه السلام)تعد معياراً وميزاناً للإيمان، وعداوتهم وبغضهم علامة النفاق، وكذا عرفنا من مضامين تلك الأحاديث أنّ محاربة المسلم ومقاتلته كفر وإلحاد وخروج عن دائرة الإيمان وقد قال بعض المحققين الرجاليين : إن بعض رواة الصحيحين لم يكن في عداد الذين ثبت الإيمان في قلوبهم وكذا قال المؤرّخون أنّ بين رواة أحاديثهما كذابين وممن لا يوثق به.

وكذلك نرى أنّ عدد من اشتهر بعداوة الإمام علي (علیه السلام) من بين رواة صحيح

البخاري ومسلم ليس بقليل.

وحتى أنّ ابن حجر الذي عرف بالتساهل والاغماض عن كشف الحقيقة عما هو موجود في بعض أسناد أحاديث البخاري ومتونها ، لم يسعه أحياناً إلا أن يزيل العصبية والتعنّت عن نفسه ويكشف عن بعض الحقائق، فلذا تراه عندما يأتي بذكر أسماء الرواة الذين ضعفهم وجرحهم السلف من العلماء يقول : بأنّهم كانوا من النواصب وأعداء الإمام على(علیه السلام) (1).

وبهذا الصدد قال شيخ المعتزلة ابو جعفر الأسكافي : ان معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (علیه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاً فى مثله فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة

ص: 98


1- هدى الساري مقدمة فتح الباري: 460

وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير(1) .

ويلاحظ القارىء المنصف أنّ هؤلاء الذين عدّهم الأسكافي أعضاء في مؤسسة معاوية لوضع الحديث كانوا ممن روى عنهم البخاري ومسلم أحاديث كثيرة .

وقد أشرنا فيما مرّ الى أقوال بعض العلماء ، مثل : ابن حجر، أبي زرعة، النووي، وأحمد أمين، وغيرهم ممن قدح في رجال الصحيحين وانتقدهما (2) ، ولا نرى لزاماً أنْ نكرّر ما سبق ذكره أو نشير الى بقية الأقوال الدالّة على ضعف بعض رجال الصحيحين ونستدلّ بها على ذلك .

للاستشهاد على ما ذكرناه نشير الى ترجمة بعضهم معتمدين فقط على الناحية الإيمانية، لعلّ يكون هذا باباً ومعياراً لمعرفة آخرين غيرهم من الرواة.

1 - ابو هريرة : أخرج الصحيحان عنه أحاديث كثيرة وهائلة، وقد ضبط الجهابذة من الحفاظ أحاديثه فكانت خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين (5374) مسنداً، وله في البخاري فقط أربعمائة وستة وأربعين (446) حديثاً (3).

وأبو هريرة هو ممن اشتهر بكثرة رواية الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) بل حاز الرتبة الأولى في ذلك، وتظهر لك كثافة ما رواه إذا قيس بالأحاديث التي رويت عن الخلفاء الراشدين في الكتب ومسانيد أهل السنة، والتي بلغ مجموعها ألفاً واربعمائة وأحد عشرة (1411) حديثاً وهذه النسبة هي أقل من سبعة وعشرين في المائة (27) من مجموع الأحاديث التي رويت عن أبي هريرة .

فهو ينحدر من أصل يماني ، هاجر الى المدينة بعد فتح خيبر - السنة السابعة من الهجرة - فأظهر إسلامه بها وقد صرّح هو بنفسه أنّ مصاحبته للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) لم تتجاوز ثلاث

ص: 99


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 63
2- راجع ص 9185
3- هدى الساري : 477

سنوات(1).

كان أبو هريرة من أعوان معاوية وأصحابه ومن أعضاء مؤسسته لوضع الحديث، وهو من جملة أولئك الذين رووا المطاعن في الإمام علي (علیه السلام) وأهل بيته علیه السلام)، وحكوا الفضائل والمناقب لمعاوية والخلفاء الثلاثة (2) .

وكان أبو هريرة من الذين اتهموا في زمانه بالكذب وإكثار الحديث، ولكن-ه كان يتدارك التهم ويبرى نفسه منها في كل فرصة تسنح له(3).

كيس أبي هريرة حينما كان يعلم أبو هريرة بأنّ كذبه قد كُشِف وفشا كان يتدارك الموقف ضمن اعترافه بالكذب ويسدّ باب النقد والاعتراض امام الآخرين، ويخرج نفسه

من ورطة الاتهامات والاستنكارات.

أخرج البخاري في صحيحه حديثاً عن أبي هريرة، جاء في آخره ما ينفت النظر، وذلك لما سئل أبو هريرة : هل سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)؟ قال : لا ، هذا من كيس أبي هريرة .

وأصل الحديث هو أن أبا هريرة نقل خبراً عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فتعجب السامعون واندهشوا ممّا جاء في آخر حديثه، فسألوه : هل سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يا ابا هريرة ؟ فتحيّر أبو هريرة، وكشف ما كان يبطنه من الحقيقة التي كان يستند اليها دائماً ، ولذلك قال في جوابهم : لا ، هذا من كيس أبى هرير(4).

وقد كتب في تاريخ حياة أبي هريرة وترجمته وتعريف شخصيته الدينية

ص: 100


1- صحيح البخاري 4 : 238 باب علامة النبوة في الإسلام ، الإصابة في معرفة الصحابة 7: 355 باب الكنى ترجمة أبي هريرة رقم 10680، الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 327 ترجمة أبي هريرة
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 43:4
3- صحيح البخاري 3 : 68 كتاب البيوع باب ما جاء في قول الله تعالى : (فإذا قُضِيَتِ الصلاة ، مسند أحمد بن حنبل 2 : 228 باب مسانيد أبى هريرة.
4- صحيح البخاري :7 81 كتاب النفقات باب وجوب النفقة على الأهل والعيال

والاجتماعية وعضويته في مؤسسة معاوية لوضع الحديث كتب متعدّدة وقيمة (1).

2 - أبو موسى الاشعري : هو أحد رجال الصحيحين وقد ذكر له حفاظ أهل السنة وأصحاب التراجم - حسب ما تقتضيه عادتهم - الكثير من المناقب والفضائل (2).

ونقل البخاري عنه في صحيحه سبعة وخمسين (57) حديثاً (3).

وكان أبو موسى الأشعري من ألد مبغضي الإمام علي (علیه السلام)وأكثرهم عداءً ، وهو رأس الفئة التي أشعلت نيران الفتن التي قصمت شوكة الإسلام، وكان أمير المؤمنين على الا الله يلعنه في صلاته (4).

وقال ابن قتيبة : انّ أمير المؤمنين على(علیه السلام) لما نزل قريباً من الكوفة، بعث عمّار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر إلى أبي موسى الاشعري، وكان أبو موسى عاملاً لعثمان على الكوفة ، فبعثهما على إليه وإلى أهل الكوفة يستفزهم، فلمّا قدما عليه قام عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر فدعوا الناس الى النصرة لعلى (علیه السلام)، فلما أمسوا دخل رجال من أهل الكوفة على أبي موسى، فقالوا ما ترى أنخرج مع هذين الرجلين الى صاحبهما ؟ فقال أبو موسى : أمّا سبيل الآخرة ففي أن تلزموا بيوتكم، وأمّا سبيل الدنيا فالخروج مع من أتاكم، فأطاعوه ، فتباطأ الناس على علي (علیه السلام) .

فقد كان لكلام أبي موسى الاشعري صاحب المنزلة والمقام في الكوفة من الأثرالسيّء ما تبّط عزيمة شيوخ القبائل الكوفية وشخصياتها عن نصرة الامام عليّ (علیه السلام).

وذكر ابن قتيبة بعد هذا الكلام الحديث الذي دار بين أبي موسى من جهة وبين

ص: 101


1- نحو : أبو هريرة شيخ المضيرة للمرحوم الشيخ أبورية الفقيد المصري، وأبو هريرة تأليف العلّامة السيد شرف الدين العاملي
2- تذكرة الحفاظ 1: 23 - 24 ، صحیح مسلم :4: 1943 كتاب الفضائل فضائل الصحابة باب (38) من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين وباب (39) باب من فضائل الأشعريين
3- هدى الساري : 476
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 79

عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر من جهة أخرى، ثم ذكر خطبة أبي موسى الأشعري على منبر الكوفة التي عرف بها نفاقه وتزلزله في معرفة الحق، وتمييزه الحق من الباطل وفساد عقيدته وانحرافه عن الإمام علي ا . وكلامه هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على خمول أبي موسى الفكري بحيث لا يمكنه التمييز بين الحق والباطل، وأنه من جملة اولئك الذين قال الله في وصفهم : «جَحَدُوا بِها وَأستَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً »(1).

فكانت خطبته في مخالفة الإمام علي (علیه السلام)وتثبيطه الناس عن القتال الى جانب علي (علیه السلام)الا بمثابة زرع بذور النفاق بين شيوخ القبائل ورؤساء الكوفة وشخصياتها والتي أينعت ثمارها في ما بعد في حرب صفين وغيرها .

وكان أبو موسى معتقداً بأولوية عبد الله بن عمر وأفضليته للخلافة ولم يكن يُعدِل به أحداً ، وأنه هو الذي خلع الإمام علي (علیه السلام) عن الخلافة يوم التحكيم (2).

3 - عمرو بن العاص بن وائل : هو أحد رجال الصحيحين ، وعداؤه للإمام علي(علیه السلام)ليس بخفي على أحد ممن له أدنى معرفة بالتاريخ وقضاياه.

وممّا يشهد على هذا العداء الدفين، صفحات حياة عمرو بن العاص المليئة بالخزي والعار، ومشاركته في المؤسسة الأموية مع الشرذمة التي نصبها معاوية لجعل الحديث، واشتراكه في واقعة صفين الى جانب معاوية ، هذه الحروب والوقائع الدامية التي تلت صفّين كلّها كانت من خططه - التي رسمها -واحتياله المعروف، مثل قضية التحكيم ورفع المصاحف على الرماح في صفّين التي آلت فيما بعد ذلك إلى الجريمة العظمى التي كسرت شوكة الدين وهزت أركانه وثلمت في الإسلام ثلمة ما سدّها شيء يعني استشهاد أميرالمؤمنين علي(علیه السلام) .

وإنّه سلك في عدائه لأمير المؤمنين نفس المسلك الذي سلكه أبيه بالتبنّي حال

ص: 102


1- النمل : 14
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 : 119 - 120

عاص بن وائل ذلك العدو اللدود للنبي محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) ، والذي أنزل الله تعالى فيه سورة الكوثر رداً بشنآنه للنبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وعيّره القرآن بالأبترية ، وعمر و كذلك كان خصماً لدوداً لعلى(علیه السلام) بحيث لم يتهاون في عداوته عن اتخاذ أي وسيلة في سبيل ذلك.

ولمّا كان نقل مطاعنه وكتابة مثالبه التي نقلها المؤرخون وأصحاب التراجم وعلماء الرجال بحاجة إلى كتاب مستقل(1) ، وهو ممّا يؤدّي إلى الإطالة والخروج عن نطاق هذا الكتاب ، اكتفينا بذكر كلام للإمام على (علیه السلام)بشأن عمر و حتى يتجلى لنا كذبه وافتراءه وبهتانه على أمير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام). وهذا الكلام العلوي يبدو وكأنّه لافتة تكشف لنا شخصية ابن العاص الدينية ودرجة اعتقاده ويبين مدى أهمية أحاديثه التى أخرجها له الصحيحان وسماها بالصحيح.

قال أمير المؤمنين الإمام على (علیه السلام): عجباً لابن النابغة - أم عمر و كانت كانت معروفة في الجاهلية أنها ذات راية حمراء - يزعم لأهل الشام أنّ في دعابة وأنّي امرؤ تلعابة أُعافس وأُمارس ، لقد قال باطلاً ونطق آثماً ، أما وشر القول الكذب، وإنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف ، ويسأل فيبخل ، ويسأل فيلحف، ويخون العهد، ويقطع الإلّ، فإذا كان عند الحرب، فأي زاجر وآمر هو ! ما لم تأخذ السيوف مآخذها ، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سُبْتَه ، أما والله إنّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنّه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، إنّه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه آتية، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (2) .

هذا بيان الحق عن عقيدة عمرو بن العاص وأخلاقه، وهو من أولئك الذين كان

الإمام علي(علیه السلام) يلعنهم كلّ صباح ومساء (3).

ص: 103


1- لقد ألف المؤلّف فيما سبق كتاباً في تاريخ حياة عمرو بن العاص ونرجو من الله القدير أن يوفقه لطبعه
2- نهج البلاغه خطبه رقم84،وأمالی الشیخ الطوسی :83
3- تاريخ الطبري 5 : 40 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5: 79، الاستيعاب 4: 1600 ترجمة أبي الأعور السلمي رقم 2849 ، وج 3: 906 ترجمة عبدالله بن الزبير رقم 1535.أقول : قال ابن أبي الحديد - بعد نقله لكلام أمير المؤمنين الاله المذكور في ذم عمرو بن العاص -: وكان عمرو أحد من يؤذي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بمكة ويشتمه ويضع في طريقه الحجارة ، لأنه كان(صلی الله علیه وآله وسلم) يخرج من منزله ليلاً فيطوف بالكعبة وكان عمرو يجعل له الحجارة في مسلكه ليعثر بها ، وهو أحد القوم الذين خرجوا إلى زينب ابنة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لما خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة فروعوها وقرعوا هو دجها بكعوب الرماح حتى أجهضت جنيناً ميتاً من أبي العاص بن الربيع بعلها ، فلما بلغ ذلك رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) نال منه وشق عليه مشقة شديدة ولعنهم ، روى ذلك الواقدي . وروى الواقدي أيضاً وغيره من أهل الحديث ان عمرو بن العاص هجا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)هجاءً كثيراً كان يعلمه صبيان مكة فينشدونه ويصيحون برسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)إذا مر بهم رافعين أصواتهم بذلك الهجاء ، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وهو يصلي بالحجر : اللهم ان عمرو بن العاص هجاني ولست بشاعر ، فالعنه بعدد ما هجاني . وذكر بعد ذلك عن الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات عن الحسن المجتبى انه قال لابن العاص : وأما أنت يا ابن العاص فإنّ أمرك مشترك وضعتك أمّك مجهولاً من عهر وسفاح فتحاكم فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها ألأمهم حسباً وأخبثهم منصباً ثمّ قام أبوك فقال : أنا شاني محمد الأبتر ، فأنزل الله فيه ما أنزل -«إنّ شانئك هو الأبتر» - وقاتلت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في جميع المشاهد وهجوته و آذيته بمكة وكدته كيدك كله وكنت من أشد الناس له تكذيباً وعداوة ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة ، فلما أخطأك ما رجوت ، ورجعك الله خائباً ، وأكذبك واشياً جعلت حدك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي حسداً لما ارتكب من حليلته ففضحك الله وفضح صاحبك فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والاسلام . ثمّ انّك تعلم وكلّ هؤلاء الرهط يعلمون انك هجوت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) بسبعين بيتاً من الشعر فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : اللهم أنى لا أقول الشعر ولا ينبغى لي ، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة فعليك إذاً من الله ما لا يحصى من اللعن .(شرح نهج البلاغة 6 : 291). أقول : لا بد ان لعن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) إياه تعد زكاة له وطهوراً وأجراً وتقرباً إلى الله كما زعم مسلم وأخرج أحاديث مدلّسة على النبي انّه قال : أنّما أنا بشر ... وروى ابن أبي الحديد أيضاً أن عائشة كانت تلعن عمرو بن العاص لما كان يدعى انه قتل ذا الثدية وقالت : سمعت رسول الله يقول : يقتله خير أُمّتي من بعدي . (شرح نهج البلاغة 2 :268)والذي قتل ذا الثدية هو أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فعلى هذا فعلي (علیه السلام)خير الأمّة جميعاً بعد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) باقرار عائشة

ص: 104

4 - عبد الله بن الزبير بن العوّام : هو الآخر من رواة الحديث عند أهل السنّة ، وهو من رجال الصحيحين، ونقل عنه البخاري في صحيحه عشرة أحاديث، وكان من الخوارج والنواصب الألداء الذين نصبوا العداء والبغض للإمام علي (علیه السلام)، وقد تصدّى للإمامة في الصلاة في يوم الجمل رغم حضور أبيه الزبير وطلحة (1).

وتنص بعض النصوص على أنّ عبد الله هو الذي حرّض أباه الزبير على أن يعادي عليّاً (علیه السلام) . قال الإمام علي (علیه السلام) : ما زال الزبير منا أهل البيت حتى شب ابنه عبدالله(2).

وقد نص بعضها الآخر على أنه (علیه السلام) حينما التقى بالزبير قبل واقعة الجمل قال له : قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء - عبدالله - ففرّق بيننا وبينك (3) .

وفي يوم الجمل لما انتهى جيش عائشة إلى ماء الحوأب ومعهم عائشة نبحتها كلاب الحوأب . فقالت لمحمد بن طلحة : أي ماء هذا ؟ قال : هذا ماء الحوأب . فقالت : ما أراني إلّا راجعة . قال : ولِمَ ؟ قالت : سمعت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يقول لنسائه : كأني بإحداكن قد نبحتها كلاب الحوأب ، وإيّاكِ أن تكوني أنتِ يا حميراء - عائشة -

فقال لها محمد بن طلحة : تقدّمي رحمك الله ودعي هذا القول - أي لا تكوني مفرّقة الجمع - وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفتيه أوّل الليل وأتاها ببينة زور من الأعراب - خمسين رجلاً - فشهدوا بذلك . فزعموا أنها أوّل شهادة زور شهد بها في الاسلام (4) .

ص: 105


1- شرح نهج البلاغة 2 : 168
2- الاستيعاب :3: 906 ترجمة عبدالله بن الزبير رقم 1535 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد :2 167
3- تاريخ الطبري 4 : 509 ، الإمامة والسياسة 1 : 55 ، شرح نهج البلاغة 4 : 61 ، الاستيعاب 3: 906 ترجمة عبد الله بن الزبير رقم 1535
4- تاريخ الطبري 3: 458 ، الإمامة والسياسة 1 : 60 ، شرح نهج البلاغة 4 : 61 - 62

روى الواقدي وابن الكلبي وغيرهما من رواة السير والمؤرّخين ، أنّه قد أدى عداء

ابن الزبير لعلي (علیه السلام) إلى حد أنه ما كان يترك فرصة إلا واغتنمها حتى ينال من الإمام علي (علیه السلام)ويشفي غيظه ، وأنه مكث أيّام خلافته أربعين جمعة لم يصل فيها على الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) حتى أن اعترض عليه بعض الناس وانتقدوه لتركه الصلاة على محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) .

فقال ابن الزبير في جوابهم : إنّي لا يمنعني من ذكر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) إلا إنه كان له عشيرة لاأريد أن يرفعوا رؤوسهم لذكر النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وإني لا أريد أن تشمخ رج--ال من عشيرته (صلی الله علیه وآله وسلم) بانافها

(1).

5 - عمران بن حطان: أحد قادة الخوارج وزعمائهم وأحد فقهائهم وخطبائهم، وهو من رواة الحديث عند السنّة ، ومن رجال الصحيحين، وروى عنه البخاري في صحيحه.

وقد بلغ بغضه وعداوته العلي (علیه السلام) أن يمتدح ابن ملجم في قصيدة له و يثني عل-يه فيها ، ويعتبر قتله للإمام على(علیه السلام)وسيلة تقربه إلى الرضوان ودخول الجنّة .

ويزعم أنّ الجناية العظمى التي ارتكبها ابن ملجم عندما قتل الإمام علي (علیه السلام) تفوق عند الله تعالى أعمال التقلين الجنّ والإنس ،وكفّة ميزان ابن ملجم ترجح الأعمال الحسنة لكافة الناس.

وقال في قصيدته :

يا ضربة من تقي ما أراد بها* إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّى لأذكره حسيناً فأحسبه*أوفى البرية عند الرحمن ميزانا (2)

ص: 106


1- المصادر نفسها
2- نقلها ابن حجر في هدى الساري مقدمة فتح الباري: 432 ، الإصابة 5: 232 ترجمة عمران بن حطان رقم 6891 ، شرح نهج البلاغة 5: 93 ، وج 13 : 24 ، ابن أثير في الكامل في التاريخ :: 396 ابن عبدالبرّ في الاستيعاب 3: 1128 ترجمة علي بن أبي طالب (علیه السلام) رقم 1855

هذه كانت خلاصة الوجهة الدينية الحقيقية لبعض رجال الصحيحين الذين أخرج عنهم و وأشباههم البخاري ومسلم في صحيحيهما أحاديث مختلفة، وأرجو من القارىء المنصف أن يعيد مطالعة ما أوردناه من ترجمة من ذكرناهم من رجال الصحيحين، ومن ثمّ يحكم ويبدي رأيه بالنسبة إلى صحة كلّ الأحاديث المروية في الصحيحين .

أيّها القارىء الكريم بعد دراستك الصفحات السابقة من هذا الكتاب ارفع عن نفسك الملل وحجب العصبية والتعصبات وتحريف الحقائق، حتى تتجلّى لك عياناً حقيقة ادّعاء بعض علماء أهل السنّة، أمثال : أبو الحسن المقدسي الذي يقول : الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح - البخاري ومسلم - هذا جاز القنطرة - يعني لا يلتفت الى ما قيل فيه- (1).

الدليل الثاني: البخاري ومسلم والطائفية الافراطية

6 و 7 - البخاري ومسلم : وممّا يدلّ على عدم الوثوق بالصحيحين وعدم اعتبار صحة جميع ما ورد فيهما ، هو التطرّف الطائفي المفرط والتعصب الشديد لدى مؤلّفيهما وتعنتهما تجاه الحق ، وكان هذا التطرّف قد اعترى البخاري أشد وأكثر من مسلم.

فكما إنّ الحبّ المفرط والبغض الإفراطي يعرقل مسيرة الإنسان في كشف الحقائق، ويعمي العين عن مشاهدة الحقيقة ويصم الآذان عن سماعها، ومثلما قيل: حبّك للشيء يعمي ويصم فكذلك العصبية والتطرّف الطائفي تمنعان الإنسان عن درك الحقيقة وإظهار الحق وتسوقانه إلى التعتيم على الحق وتغطيته وتزويره للواقع، وتزييفه الباطل بلباس الحق ، وهذه العصبية هي أصل الحب والبغض وجذورهما وهي التي أوجدتهما وتعد من أسبابهما الرئيسية ، وقد ابتلي البخاري ومسلم بهذه الخصيصة والرذيلة ابتلاءا شديداً .

وأمّا الشواهد على ذلك :

ص: 107


1- ارشاد الساري 1 : 21 ، هدى الساري : 381 .

الصحيحان وفضائل الامام علي (علیه السلام):

إنّك ترى في البخاري ومسلم وصحيحيهما هذه العصبية المفرطة عندما تقرأ كتابيهما وتلاحظ أنهما لمّا يواجهان فضيلة مشهورة ومنقبة مهمّة من مناقب أمير المؤمنين علي (علیه السلام)وفيها دلالة صريحة على أفضليته لأمر الخلافة، وتقدّمه على الآخرين فإنّهما يبادران الى تعتيمها . وهذه المناقب والفضائل قد ورد ذكرها في سائر الصحاح الستة والمدارك المعتبرة لدى أهل السنة ، وهي من يقينيات الحوادث التاريخية ومسلّماتها، وهي ممّا أجمع عليه علماء السنّة والشيعة ، مثل : حديث الغدير ،آية التطهير ، حديث الطائر المشوي ، حديث سد الأبواب ، وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها (1) وقد روى كلّ واحدة من هذه الفضائل والمناقب عشرات الصحابة وأثبتها علماء أهل السنة في كتبهم المعتبرة (2) إلّا أنّ البخاري الذي لم يرض أن ينقل هذه المناقب المسلّمة واليقينية ويخصص لها باباً خاصاً في صحيحه فحسب ، بل أفرد بابا خاصاً في فضائل معاوية، وحيث إنّه لم يعثر على منقبة لمعاوية رويت على لسان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حقاً، يروي حديثين عن حبر الأمة ابن عبّاس جاء في أولاهما أنه مدح معاوية لصحبته لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وجاء في ثانيهما مدحاً لمعاوية بكونه فقيهاً وعالماً (3).

والعجب كلّ العجب ممن يريد أن يصنّف كتاباً جامعاً يلم فيه بما ورد من أحاديث رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )، ويكتب تفسيراً للقرآن ، ويؤلف كتاباً في التاريخ، ولا يدع مدحاً وثناءاً من صحابي بحق صحابي آخر (معاوية) إلا وأورده فيها ، وذلك أداءً للأمانة ، كيف تسمح

ص: 108


1- اخرج مسلم حديث الغدير وآية التطهير بتحريف لا سيما عند ذكره لواقعة الغدير فإنه اكتفى بتخريج حديث مدلّس ومحرّف ويدل على فعله البشع في تحريف ما هو الحقيقة ، وتعتيمه على الواقع انتخابه وتخريجه للقصة على عكس الكيفية المسلمة الواردة في مئات الاحاديث التي رويت بشأن الغدير ، وسوف نعالج هذه القصة في الفصل الثامن من هذا الكتاب في باب فضائل الامام العلي(علیه السلام) ان شاء الله
2- راجع الموسوعات : غاية المرام في الدِّ الخصام للبحراني، عبقات الأنوار للتستري، والغدير للأميني
3- البخاري 5 : 35 كتاب الفضائل ، اصحاب النبي الله ، ذكر معاوية

له نفسه بالإغماض عن واقعة ذات أهمية تاريخية كحديث الغدير أو حديث «أنا مدينة

العلم وعلي بابها» ؟!

ولا يخفى انه ليس لهذا التغاضي والتجاهل من قبل البخاري سبب إلا التعتيم على مناقب أمير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) ، و إخفاء الحقائق الواقعية .

ولا يخفى أيضاً أن هدف البخاري ومسلم -كاتبي الصحيحين الذين أرادا بطريقتهما هذه في التدوين - إخفاء المسائل التاريخية المهمة حتى لا يعرف من يأتي بعدهما شيئاً عن تلك الحقائق ، ولم يدر من هو الأولى من الصحابة بالتصدّي للخلافة، وهل أنّ الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نص بالخلافة من بعده لأحد أم لا ؟

والجدير بالذكر أنهما قد نجحا في غايتهما هذه إلى حد ما، وكسبا النتيجة المتوخاة، وخاصة عندما نقرأ ما أورده ابن تيمية في رده لحديث الغدير....

وأما قوله : من كنت مولاه فعلى مولاه فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء وتنازع الناس في صحته (1).

افتراء مسلم على الشيعة

ومن ثمار شجرة العصبية الخبيثة المرّة ، ومن آثارها المخزية، ما أورده مسلم في مقدمة صحيحه من البهتان والافتراء على الشيعة ، فهو عندما يتطرّق الى الأحاديث الموضوعة والمخالفة للواقع . يقول بكل صلافة : إن من الأحاديث الموضوعة ما ترويه الشيعة الرافضة عن الإمام علي (علیه السلام): ان عليّاً فى السحاب.

وأقول : إنّ أحاديث الشيعة قد دوّنت منذ عهد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعقائدهم قد ملأت كتبهم الكلامية بنحو وافٍ وكافٍ ، وإنّ المكتبات المعمورة بكتبهم، فهل ترى في كتاب واحد مثلاً حديثاً واحداً يدلّ على ما بهته مسلم على الشيعة ؟ ألم تكن عقيدة الشيعة ومحدّثيهم ومؤرّخيهم بأنّ الإمام علي (علیه السلام)قد قتل في محراب مسجد الكوفة بسيف أشقى

ص: 109


1- منهاج السنة 7: 319

الناس عبدالرحمن بن ملجم المرادي ودفن في الغريّ ؟

ولا غرو أن يحتوي صحيح البخاري وصحيح مسلم عل-ى مث-ل هذه الأحاديث الموضوعة التي لا أصل لها - كالحديث المذكور ، وهذه هي المسائل التي تسمّى عند أهل السنّة بالصحيحة، والتي طفحت في المجتمع الإسلامي واتخذها أهل السنة ذريعة للتهجم والمؤاخذة على الآخرين.

ولكن ما هي القصة المذكورة ، ومن أين نشأت ؟

ورد في المصادر التاريخية أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )كانت عنده عمامة تسمى السحاب، فوهبها يوم غدير خم لعلي (علیه السلام)الكرامة له، فكان ربما طلع عليه علي (علیه السلام)بتلك العمامة فیقول ( صلى الله عليه وآله وسلم )وهو فرح : أتاكم عليّ (علیه السلام)في السحاب. وسعد شيعة على بتلك المفخرة وكانوا يرددون قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : جاء عليه في السحاب(1).

إلّا أنّ مسلم أعرض عن ذكر أصل الحديث وأبى عن سرد القصة الحقيقية، واكتفى

بذكر حديث موضوع على النحو الذي ذكرناه ونسبه إلى الشيعة !!

بين البخاري والامام الصادق(علیه السلام)

بينا سابقاً في مبحث رجال الصحيحين إنّهما نقلا أحاديث عن بعض الرواة الذين هم من الخوارج والنواصب ، وخاصة الذين ثبتت عداوتهم ومنابذتهم لأهل البيت (علیه السلام) بنحو القطع ، واختص البخاري في النقل عن عمران بن حطان ، وهو من زعماء الخوارج ومن فقهائهم ومتكلميهم وخطبائهم، ونرى أنّ ايمان البخاري وتقواه : قد أجازا له أن يروي عن هؤلاء المعلومي الحال ولم يسمحا له من أن ينقل ولو حديثاً واحداً عن الامام

الصادق (علیه السلام).

ويتجلّى لك هذا الامر أكثر وضوحاً، ويرتفع الحجاب عن العصبية الطائفية التي كانت عند البخاري عندما تتمعن في الحقائق التاريخية والإجتماعية، وتدرس شخصية

ص: 110


1- سيرة الحلبي .3 : 341 وتفصيل القصة تجده في موسوعة الغدير 1: 292، فراجعه

كلّ من الإمام الصادق(علیه السلام) والبخاري اذ :

1 - أنّ عهد البخاري كان يقارب عهد الامام الصادق (علیه السلام) وإنه قد توفي بعد الإمام بقرن ،واحد ، لأنّ الإمام الصادق (علیه السلام) توفي سنة 148 ه- وتوفي البخاري سنة 256ه..

2 - كانت المدينة المنورة مركزاً لتدريس الإمام الصادق (علیه السلام)وقد استوطنها البخاري مدة ست سنوات يأخذ من علمائها الحديث، وقد تكرّرت رحلاته الى مركز التشيع يومذاك - بغداد والكوفة - بحيث نسي عددها لكثرتها (1) ، وكانت الحجاز والعراق في ذاك العصر غاصتان بأصحاب الإمام الصادق الا بحيث يصعب إحصاءهم، وكان صيت الإمام الصادق وشهرته قد فاقت أرجاء العالم الاسلامي يومذاك حتى أنّ علماء أهل السنة في ذاك العهد قد سمعوا بها ، ولم يكن بوسع أحد يدعى الفقاهة والرواية أن يقول انه لم يسمع عن مقام الإمام (علیه السلام) العلمي.

1 - إنّ البخاري خرّج أحاديث عمن أخذوا العلم عن الإمام الصادق مثل عبدالوهاب الثقفي، حاتم بن اسماعيل مالك بن أنس ، ووهب بن منبه، وهؤلاء هم من مشايخ البخاري في الحديث (2) ،ولكنّ البخاري أبى أن يروي تلك الأحاديث التي رواها هؤلاء المشايخ عن الإمام الصادق (علیه السلام)!!

تبرير ابن تيمية

وأما بالنسبة الى عدم رواية البخاري الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام)وقد كان معاصراً له (علیه السلام)، فقد برّر ابن تيمية ذلك قائلاً : وقد استراب البخاري في بعض حديثه - الامام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام)- لما بلغه عن يحيى بن سعيد القطان فيه كلام (3) .

ذكر ابن تيمية هذا التبرير فى لفافة واكتفى فيه بكلام من يحيى بن سعيد .

ص: 111


1- راجع ص 66
2- الجمع بين رجال الصحيحين راجع الترجمات رقم 264 و 757 و 1138 و 1275
3- منهاج السنة 7 : 534

أقول : فلو كان الإمام الصادق (علیه السلام) رجلاً مجهولاً في فضله وتقواه وعلمه، أو أنّ البخاري الذي كان عليماً بالرجال وتراجمهم ! فرداً غير مطلع وجاهل لكان لتبرير ابن تيمية وجه ، وكنا نعذر البخاري في عمله هذا ولم نعتبره انساناً متعصباً ومتطرفاً تجاه أهل البيت (علیه السلام) . ولكن الحقائق والواقع ينفيان كلّ هذه الاحتمالات والتبريرات ويثبتان تعصب البخاري وتطرّفه الطائفي الشديد تجاه الامام الصادق(علیه السلام) .

والحال أنّ شخصيّة الإمام الصادق (علیه السلام) لم تكن دانية وضعيفة في مرتبتها حتى تضمحل وتتهاوى بمجرّد قول أحد أو جرح آخر إيّاه، وتسقط قيمتها العلمية والمعنوية بأدنى كتمان .

ومن جهة أخرى إنّ البخاري كان ذا مهارة تامة ، واطلاع كاف، ومتخصصاً في فن الرجال !ووضع كتابه «التاريخ المعرفة الرجال والرواة - كما قال هو : قل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة ، الا اني كرهت تطويل الكتاب - التاريخ -(1).

وبناءً على ما ذكرنا فهل يمكن أن يكون هناك سبباً آخر غير عناد البخاري وعداوته للإمام الصادق (علیه السلام)؟ حيث إنه لم ينقل عنه حتى حديثا واحداً. وهل يمكن تفسير إعراضه عن أهل البيت سوى منابذته وخصومته لهم (علیه السلام) ؟

عداء عريق وظاهر

يتحتم على أن ألفت نظر القارىء المنصف الى حقيقة أخرى غير التي ذكرناها سابقا لينكشف تعصب البخاري ومسلم ونصبهما العداوة لآل بيت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) اكثر ويعلم أيضاً أن تبرير ابن تيمية عن تصرّف البخاري وموقفه تجاه أهل البيت (علیه السلام) لم يكن في محله .

يتضح لمن يراجع هذين الكتابين ويتمعن فيهما بدقة أن مؤلّفي الصحيحين اللذين

ص: 112


1- تاریخ بغداد :2 7 ، ضحى الإسلام 2 : 112

خرّجا الحديث عن أكثر من ألفين وأربعمائة (2400) راو (1) ، وان كثيراً من هؤلاء الرواة كانوا نواصب وخصماء أهل البيت(علیه السلام) (2)، أو انهم مجهولون، فعلى هذا إنّ البخاري ومسلم لم ترض انفسهما في أن يخرجا حتى حديثاً واحداً عن عترة النبي وآله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولو نقلا عنهم حديثاً لا يأتيان إلا بأكاذيب وأحاديث موضوعة عليهم مما تمس العترة(علیه السلام)بالسوء، ولكي تكون هذه الأكاذيب أكثر تأثيراً وتقبلاً عند أتباعهما ينسبانها إلى آل الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولذلك نرى البخاري ومسلم يرويان عن ستة وعشرين رجلاً يسمون بالحسن، وثلاثة وعشرين راو باسم موسى وتسعة وثلاثين محدثاً معروفين باسم عليّ، ولم يكن بينهم ذكر عن اسم الإمام الحسن المجتبى ريحانة رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )، أو إشارة إلى اسم موسى بن جعفر حفيد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو اسماً لحفيد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )علي بن موسى الرضا (علیه السلام)الذي كان علمه وفضله موضع إجلال وتكريم المحبّ والمبغض له(3).

نعم ، إنّ مسلم والبخاري لم يخرجا حتى حديثاً واحداً عن أحد من أهل البيت(علیه السلام)، مثل : الإمام الحسن المجتبى، والإمام موسى بن جعفر ، والإمام علي بن وسى الرضا، والإمام محمد الجواد، والإمام الهادي، وخاصّة الامام الحسن العسكري (علیه السلام)الذي كان معاصراً للبخاري(4) وكذلك لم يرويا حديثاً واحداً عن أحد من أبنائهم، مثل: زيد بن علي بن الحسين الشهيد والحسن بن الحسن المثنى، والعشرات من أبناء أئمة أهل البيت(علیه السلام) الذين كانوا رواة الحديث وأصحاب مصنفات في الحديث (5) .

ص: 113


1- اشترك البخاري ومسلم في التخريج عن كثير من هؤلاء وانفردا في عدد يسير منها
2- كمامر عليك في دراسة عمران بن حطان ، وراجع ص 106
3- لقد صنّف العلّامة الشيخ العطاردي كتاباً سمّاه مسند الامام الرضا » جمع فيه الروايات التي رواها الإمام علي بن موسى الرضا ، وقد طبع مكرراً في مجلدين ، وله أيضاً كتاب باسم مسند الامام الكاظم الهلال يقع في ثلاث مجلدات طبع في ايران سنة 1409
4- كانت شهادة الإمام الهمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري في سنة 260 ه- أي أربع سنوات بعد وفاة البخاري - 256ه- .
5- جمع ما روي عن الشهيد زيد بن علي زين العابدين الله في كتاب مستقل باسم «مسند زيد »وطبع عدة مرات.

ولكن الفريدة الوحيدة التي صدرت عن البخاري ومسلم في نقلهما الحديث عن

أهل البيت (علیه السلام) هي انّهما نقلا رواية مختلقة ومزيّفة نسباها إلى الإمام زين العابدين (علیه السلام) على أنه قال : إنّ أمير المؤمنين علي وفاطمة (علیها السلام) لم يكونا يستيقظان للصلاة، وكان النبي يوقظهما ! فقال عليّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) شيئاً فأجابه النبي بآية «وكانَ الإِنسانُ أَكْثَرَ شيءٍ جَدَلاً»(1) تقريعاً لعليّ . وكذا نسبا اليه حديثا مزوّراً يذكر فيه قصة شرب حمزة للخمر وتعاطيه إياه (2).

ويبدو أنّ البخاري ومسلم لم يجدا أحاديث نُقلت عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )غير هذين الحديثين لكي يخرجاهما في صحيحيهما ، وكأنما لم ينقل عنهم أيّ مسألة علمية وشرعية ، إلا ما نقله البخاري ومسلم من أنّ أخا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) الإمام علي وبضعته وفلذة كبده فاطمة الزهراء (علیها السلام)لم يستيقظا لصلاة الفجر ، وأن هارون هذه الأمة، وأبا شبّر وشبير ، وباب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) كان أكثر شيء جدلاً ، وأنّ سيد الشهداء وأسد الله وأسد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )الذي كبّر الرسول على جنازته سبعين تكبيرة كان يأكل الميتة ويعاقر الخمر ويسامر الراقصات !!!

الدليل الثالث: الفترة الزمنية بين صدور الحديث وتدوينه

وإليك الدليل الثالث على سقم أحاديث الصحيحين ووهنها، فقد ذكرنا في المقدّمة خلاصة تاريخ وكيفية تدوين الحديث وجهاته، فتارة من حيث حظر النقل والتدوين، وأخرى من حيث أسباب وضع الحديث وجعله منذ زمن وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى خلافة عمر بن عبدالعزيز . وهنا نطرح سؤالاً على الصحيحين والقائلين بصحة جميع ما ورد فيهما ، وهو :

ص: 114


1- الكهف : 54
2- صحيح البخاري 6: 110 كتاب التفسير باب تفسير سورة الكهف. وسوف نوافيك بالبحث حول هاتين الروايتين اللتين دلسوهما على أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) في المجلد الثالث من كتابنا هذا

في الفترة التي ناهزت المائة عام حيث كانت كتابة الحديث ممنوعة ، ونقله محظور، ومن جانب آخر كانت دواعي وضع الحديث عند الوضاعين متوفّرة، وقد استخدمت كلّ الأسباب والوسائل عند أصحاب القدرة ودعاة الوضع في سب-يل جع-ل الحديث ، فيا ترى في مثل هذه الأوضاع ما يمكن أن يجري للحديث ؟ والى م سيؤول امر الحديث ؟ وما التغييرات والتحريفات التي سوف تحدث في نصوص الأحاديث ومتونها ؟ وما أكثر الحقائق التي دفنت ولم يبق لها أثر في السنة النبوية التي تعد أهم مصدر في الإسلام وحلّت مكانها الأحاديث المزوّرة والقضايا المحرّفة ؟

ففي هذه الفترة الطويلة التي أخذ فيها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء والأجداد، مسائل كثيرة وعنونوها باسم الحديث، ومن ثمّ شكلت الاساس والجذر الاعتقادي و أصول الأحكام الدينية وفروعها عندهم دون أن يتعرّفوا على مصدرها وصحتها وسقمها.

هذا هو السؤال الذي يواجهه الصحيحان وأولئك الذين ينادون بصحة كلّ ما ورد فيهما ، وما زال هذا السؤال باقياً بدون جواب مقبول وقانع.

وقد عالج بعض كتاب أهل السنّة مسألة الفترة الزمنية فطرح مسألة الذاكرة بدلاً عن الكتابة والتأليف(1).

ولكن هذا الجواب مردود :

أوّلاً: إنّه لاريب أنّ الذاكرة مهما كانت قوية لا يمكن الاعتماد عليها للحلول محلّ

الكتابة والتقييد .

ثانيا : لو كانت الوسائط والاسناد بين النقل والكتابة قصيرة وقليلة لكان للركون إلى الحافظة في الجواب على السؤال وجه ،مقبول، ولكنّ ما نستنتجه ونراه بعد التحقيق في الصحيحين أنّ الاحاديث خرّجت بوسائط متعدّدة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا التعدّد

ص: 115


1- مقدّمة صحيح البخاري المطبوع في مكة عام 1376 بقلم أبو كمال عبد الغني عبدالخالق

في الوسائط ما يقتضيه وجود الفترة الزمنية الطويلة التي فصلت بين صدور الحديث وكتابته . ومن الطبيعي أنّه لا مفرّ من وقوع النقل بالمعنى في تخريج الأحاديث،وحدوث الزيادة والنقصان في الأخبار، هذا إن كانت نوايا المحدثين والحفاظ سليمة ، وأما لو تكرّرت الوسائط فى نقل الخبر وكلّ منهم روى الخبر بالمعنى - خاصة إذا كانت الاهداف غير سليمة - فحينئذ فعلى الخبر الصحيح السلام.

الدليل الرابع: تقطيع الحديث

وهذا دليل آخر وهو رابع الأدلّة على عدم الوثوق والطمأنينة بما ورد من الحديث في صحيح البخاري .

وهذا العمل أو بالأحرى هذه الخيانة - تقطيع الحديث - التي صدرت من البخاري ناجمة عن روح التعصب والتطرّف الذي كان يكنه تجاه أمير المؤمنين عل-ي بن أبي طالب الله (علیه السلام)، ولذلك تراه يسقط ويقطع أي حديث فيه منقبة من مناقب على

(علیه السلام) أو يكشف عن منقصة وجهالة لأحد من الخلفاء، فيحذف صدر الحديث أو ذيله، أو يعمد إلى قطعه من وسطه حتى تخفى تلك المنقبة أو المنقصة .

وهذا العمل يعتبره علماء الحديث تدليساً وخيانة في أمانة نقل الرواية . وإنّ البخاري كمحدّث أو مفسّر أو مؤرّخ لم يلتزم في نقله الحديث بمسؤوليته - في بي-ان الحقائق كاملة كما هي - بل عمد إلى حذف ما يخالف هواه مما في الحديث وضبط ما تستسيغه نفسه وذوقه، وهذا التدليس والتقطيع يعد من أعظم الخيانات التي يقترفها المحدّث ،لأنّه تعتيم للحقائق وتزوير للواقع وتضليل للافكار والاذهان، وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلنا على حقيقة هامة وهي ان شطراً كبيراً وعدداً ضخماً من الأحاديث والروايات الصحيحة كانت بحيازة البخاري، وحيث إنّها لا تتلاءم وهواه فلم يدوّنها في صحيحه ومن ثمّ اندرست شيئاً فشيئاً، ومن البين أن من يقوم بالتدليس في كل ما يريد تدوينه فإنّ مصير سائر الأحاديث المخالفة لهواه يكون التشويه أو النسيان .

ونورد لك - أيها القارىء الكريم - أمثلة ونماذج من تدليسات البخاري

ص: 116

وتقطيعاته :

1 - حكم الجنابة : سأل رجل عمر بن الخطاب : إنّي أجنبت ولم أجد ماءاً فما العمل ؟ قال عمر : لا تصلّ. فكان في المجلس عمّار بن ياسر فقام معترضاً على عمر في

فتواه وذكّره بحكم التيمم الذي سمعاه معاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ).

ولا يخفى ان فتوى الخليفة بترك الصلاة حين الجنابة مخالفة صريحة لنص القرآن وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا ممّا يدلّ على جهل الخليفة بحكم التيمم، وعدم احاطته بالأحكام الشرعية، وغفلته عمّا هو عام الابتلاء، ولكنّ البخاري قام بتقطيع الحديث فحذف منه إجابة الخليفة : لا تصلّ، وذلك حفظاً لكرامة الخليفة من ان تنال .

ولكى تتجلّى الحقيقة للقارىء أكثر نورد نص الحديث أولاً عن البخاري ثمّ نردفه

بما رواه كلّ من مسلم والنسائي وابن ماجة :

أخرج البخاري حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، حدثنا الحكم، عن ذرّ، عن سعيد

بن عبدالرحمن بن ابزى، عن أبيه قال: جاء رجل الى عمر بن الخطاب فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء. فقال عمّار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصلّ، وأما أنا فتمعكت فصليت ، فذكرتُ للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بكفيه الأرض ، ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفّيه(1).

وأما ما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة : عن شعبة قال : حدثني الحكم ، عن ذرّ ، عن سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى، عن أبيه : أن رجلاً أتى عمر ، فقال : إنّى أجنبت فلم أجد ماءاً ، فقال : لا تصل ! فقال عمّار أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت فى سريّة فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأما أنت فلم تصل ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك

ص: 117


1- صحيح البخاري ج 1 : 92 كتاب التيمم باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟

وكفيك . فقال عمر : اتق الله يا عمّار ، قال : إن شئت لم أحدّث به (1) .

فكما ترى أيّها القارىء العزيز أنّ هذين الحديثين من حيث السند والمتن سواء ولا فرق بينهما إلا في جملة « لا تصلّ» حيث أسقطها البخاري وأثبتها مسلم .

2 - رجم المجنونة :ورد في صحيح البخاري وشروحه والمصنفات المعتمدة عند أهل السنّة حديث بنصوص مختلفة . وخلاصته : إنّ إمرأة مجنونة زنت فأتي بها الى عمر فحكم عليها بالرجم فعلم أمير المؤمنين على الله بالقصة والحكم فمنع من اجرائه، ولمّا استفسر عمر من عليّ عن سبب نقضه وإبرامه الحكم . قال : أما علمت أنّ القَلَمَ مرفوع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ؟(2).

ولتوضيح القصة أكثر نذكر النص المقطع الذي أخرجه البخاري وبعده نأتي بم-اأخرجه أبو داود:

روى البخاري : قال على لعمر : أما علمت أنَّ القلم رُفع عن المجنونِ حتى يفيق.

وعن الصبي حتى يدرك ، وعن النائم حتى يستيقظ ؟ (3) .

وروى أبو داود عن ابن عباس قال : أتى عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً فأمر بها عمر أن ترجم، فمرّ بها علي بن أبي طالب فقال : ما شأن هذه ؟ قالوا : مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم . قال : فقال : ارجعوا بها ، ثم أتاه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أما علمت أنّ القلم قد رفع عن ثلاثة : عن المجنون حتى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يعقل ؟ قال : بلى . قال : فما بال هذه ترجم؟ قال : لا شيء،

ص: 118


1- صحیح مسلم 1: 280 كتاب الطهارة باب 28 باب التيمم ح 368 ، سنن النسائي 1: (28) 165 كتاب الطهارة باب التيمم في الحضر، سنن ابن ماجة 1: 188 كتاب الطهارة وسننها باب«91» باب ما جاء في التيمم ضربة واحدة ح569
2- إرشاد الساري 9:10، سنن أبي داود 4: 140 كتاب الحدود باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً ح 4402
3- صحيح البخاري :7 58 كتاب الطلاق باب الطلاق فى الإغلاق والكرّة والسكران والمجنون ، وج :8: 204 كتاب المحاربين باب لا يرجم المجنون والمجنونة

قال : فَأَرْسِلْها ، قال : فَأَرْسَلَها ، قال : فجعل يكبّر(1).

وذكر أحمد بن حنبل هذا الحديث في مسنده(2)، وكذا نقله ابن عبد البر في إستيعابه ، وزاد في آخره هذه الجملة : «فكان عمر يقول : لولا على لهلك عمر »(3).

والجدير بالذكر أنّ البخاري أخرج هذا الحديث في موضعين من صحيحه ، ولكنّه حفظاً على مقام الخليفة وستراً على جهل الخليفة وعدم فهمه وإزهاقاً للحق وتحريفاً للحقيقة التي تقول بأنّ عليا (علیه السلام)الحكم بما يخالف رأي عمر وبعض الصحابة، ولما كان حكمه (علیه السلام)مطابقاً للواقع وما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ترى البخاري يكتفي بذكر ذيل الحديث فيذكر الحديث في كلا الموردين ناقصاً ويسقط منه السند والصدر .

3 - حدّ الخمر : حسبما ورد في صحيح مسلم وسائر الصحاح كان حد شرب الخمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) تعزيراً ، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) جلد الشارب أربعين ضربة(4) وتبعه في ذلك أبو بكر في مدة خلافته فجلد شارب الخمر أربعين سوطاً. وأمّا عمر لما تقلّد الخلافة بعد أبي بكر ، ترك الحكم النبوي ولجأ في حد شارب الخمر الى رأي الآخرين، وأفتى برأي عبدالرحمن بن عوف فجلد ثمانين جلدة.

وهذه المسألة هي من اوضح القضايا بحيث لا تحتاج الى تبيين وتفسير، وخاصة لمن قلّد نفسه الخلافة، واستحلّ محلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) فكيف يخفى عليه حكم مسألةقد عمل به مدة طويلة فيلجأ الى رأي الآخرين ويترك العمل بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وما تقيّد به من سبقه بالخلافة؟!

ص: 119


1- سنن أبي داود 4 :140 كتاب الحدود باب في المجنون يسرق او يصيب حداً ح 4399
2- مسند الإمام أحمد بن حنبل 1 : 154
3- الاستيعاب 3 : 1102 ترجمة الامام علي بن ابي طالب رقم 1855. أقول : هذه المقولة وغيرها من الاعترافات التي أدلى بها عمر بن الخطاب لبيان جهله بالأحكام الاسلامية قد وردت في كثير من الكتب والمصنّفات . المعرّب
4- ذكر في هذه المسألة فتوى أهل السنّة المستنبطة من مصادرهم الموثوقة ولم يشر في-ها الى رأي المذهب الشيعي

ونسأل الخليفة الذي تقلّد زعامة المسلمين وجلس مجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) هل أنّ مثل هذه المسألة - من حيث البساطة - بحاجة الى مشورة الآخرين ؟ وهل الخليفة كان جاهلاً بذلك بالحكم، أو أن الصفق بالأسواق والعمل بالتجارة ألهاه عن معرفة الحكم وتعلّمه ؟ أو أنه أراد أن يحكم بما يخالف حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ويبدي رأيه الخاص في تلك المسألة كما أبدى رأيه الخاص في قضايا أخرى ؟

وعلى كل حال لمّا كان هذا الحديث على خلاف مذاق البخاري ومذهبه بادر - ورعاية لمقام الخليفة - الى تقطيعه بنقل أوّله الذي بيّن فيه حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بالتعزير ومتابعة أبي بكر الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )في ذلك ، وأسقط ذيله الذي فيه استشارة عمر لبعض الأصحاب.

وإليك نص الحديث وندع الحكم والمقايسة للقارىء.

أخرج البخاري عن أنس بن مالك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ضرب في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبوبكر اربعين (1) .

عن أنس قال : جلد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين(2).

وفي صحيح مسلم : عن ابن مالك : أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين . قال : وفعله أبو بكر، فلمّا كان عمر استشار الناس فقال عبدالرحمن بن عوف : أخفّ الحدود ثمانين ، فأمر به عمر(3).

4 - معنى الآب : أخرج البخاري عن ثابت عن أنس قال : كنا عند عمر فقال : نهينا

عن التكلّف (4).

ص: 120


1- صحیح البخاري :8: 196 كتاب الحدود باب ما جاء في ضرب شارب الخمر
2- صحيح البخاري :: 196 كتاب الحدود باب الضرب بالجريد والتعال
3- صحیح مسلم :3: 1330 کتاب الحدود باب 8» باب حد الخمر ح 1706
4- صحيح البخاري :9 118 کتاب الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه

هذا الحديث الذي نقله البخاري بهذه الكيفية أوضح دليل وشاهد عل-ى التدليس والتقطيع ، وذلك لأنّ كلّ من كان لديه أقلّ معرفة بالحديث ونصوصه يعلم بمجرد

رؤيته لهذا الحديث عدم تمامية الحديث وعدم استقامته ، وأنه يحتوي على جملات وكلمات أخرى قد أسقطت ، ويعلم كذلك أنّ أيد قد تدخلت فيه لإصلاحه وترقيعه .

ولم يخف ذلك على كثير من الحفّاظ والعلماء الآخرين الذين نقلوا الحديث بكامله وبتمام ألفاظه، وأزاحوا قناع الخيانة والتدليس الذي وضعه البخاري عليه ، فهذا ابن حجر بعد أن ذكر نص الحديث من رواية أخرى في شرحه لصحيح البخاري قال :

إنّ رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ﴾ (1)ما الآب ؟ فقال عمر :

نهينا عن التعمّق والتكلّف .

إنّ هذا الحديث ورد بسندين عن ثابت ثمّ قال : ورد هذا الحديث بطرق أخرى عن

ثابت وهو أولى ممّا ورد لثابت عن أنس لأن يكمّل به الحديث الذي أخرجه البخاري

(2).

فليعرف القارىء المنصف : أنّنا قد علمنا من قول ابن حجر المذكور ومن مقارنة للحديثين المنقولين في صحيح البخاري وشرحه فتح الباري: ان هذا الحديث كسائر الأحاديث التي لم تتماش مع هوى البخاري ومذهبه ، وحيث انه لم يتمكن من أن يوأم بين الحديث وبين تقديسه الخليفة عمر بن الخطاب رأى أنّ الحلّ الوحيد في ذلك هو أن يحذف صدر الحديث ويسقط منه الفقرات المهمة والحسّاسة التي تمس شأن الخليفة حتى يكون قد خدم - بفعله هذا مذهبه وأدّى ما عليه تجاه مسلكه وعقيدته وذلك لأنّ القارئ لو قرأ هذا الحديث قبل التدليس وإسقاط أوله وآخره يتبادر هذا السؤال الى مخيلته وهو : لو كان التعرّف واستنباط معنى كلمة من كلمات القرآن يعتبر تعمّقاً وتكلّفا

فعلى هذا لا يجوز الاستفسار عن أية مسألة دينية أخرى ولا يحق التفكّر فيها .

ص: 121


1- عبس : 31
2- فتح الباري 13 : 230

إذن فما معنى كل ما ورد من الفضائل بحق العلم والتعلم ؟ علماً بأنّ هذه الشخصية العلمية الفذة - أي الخليفة - الذي لم يتعقل حتى معنى واحد من معاني القرآن - في حي-ن أن تفسيرها ومعناها ورد في آخر الآية كيف يصح له ان يتقلّد زمام الخلافة ؟

وكيف يجوز لمن يكون جوابه لسؤال بسيط أن يقول: «نهينا» يتزعم قيادة الأمة

الإسلامية ويتربع على عرش الخلافة ؟

ولا ريب أن مثل هذه الأسئلة هي التي فرضت على البخاري وألجأته إلى أن يقتطع الحديث ويدلّسه عند إخراجه له .

وهذا الحديث - على اختلاف نصه ومتنه - أخرجه المفسرون المشهورون كالسيوطي ، ابن كثير، الزمخشري الخازن البغوي ، والحاكم النيسابوري في مستدركه ضمن تفسير سورة عَبَسَ ، وكذا رواه شرّاح الصحيح كابن حجر(1) والعيني (2)والقسطلاني (3) ، ومن اللغويين : ابن أثير في نهايته (4).

وسوف نتطرّق إلى البحث حول هذه الأحاديث الأربعة بتفصيل وإسهاب في فصل

الخلافة إن شاء الله .

5 - قصة عثمان وأسامة بن زيد : ومن فلتات البخاري إنه قام بالتعتيم والتغطية على بعض الأحاديث عن طريق تغيير الإسم العلم باسم الإشارة أو التعبير بالكناية وإتيان بكلمة «فلان» بدلاً عن الاسم الظاهر.

ونذكر هنا موردين منها حتى يتبيّن دهاء البخاري في التعتيم وتغطية الحقائق :

الاوّل : ما أخرجه مسلم عن أسامة وأنّه انتقد عثمان وشجب أعماله وتصرفاته،

ص: 122


1- فتح الباري 13: 230
2- عمدة القاري 25 : 35 ح 64
3- ارشاد الساري 10 : 311
4- النهاية 1: 13 أنظر باب الهمزة مع الباء مادّة أبب

فجاء في هذا الحديث اسم عثمان صريحاً .

عن شقيق ، عن أسامة بن زيد قال : قيل له : ألا تدخل على عثمان فتكلّمه ؟ فقال : أترون أنى لا أكلمه إلا أسمعكم ؟ والله لقد كلّمته فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أوّل من فتحه، ولا أقول لأحد يكون على أميراً ، إنه خير الناس بعد ما سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار ، فتندلق أقتاب بطنه ، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى ، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ! مالكَ ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه (1) .

تلاحظ أيها المطالع أنّ هذه الرواية صريحة وواضحة في أن أسامة بن زيد قد انتقد عثمان ، وأسامة هو تلك الشخصية المعروفة الذي أعطاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) راية الإسلام عن-د وفاته وقلّده أمارة عسكر المسلمين وأمره على كبار الصحابة ، ولعن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )كل مَنْ تخلّف عن جيش أسامة . فترى أنّ أسامة استدلّ في انتقاده لعثمان بحديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وشبهه بحمار الرحى الدوّار ومن الذين تتدلّق أقتاب بطنه وأحشاءه في النار، وهو في الآخرة يلاقى عذاباً أليماً .

أخرج مسلم هذا الحديث من طريقين وسندين وقد ذكر في كليهما اسم عثمان ، وكذا البخاري أخرجه في موضعين ، ولكن بزيادة في ألفاظه ، وحيث إنّ دأب البخاري هو التدليس والتزييف ، فإنّه قام بحذف اسم عثمان من الحديث الذي كان محلاً لنقد حديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم ) واعتراض أسامة إيَّاه ، وإنه حرّف الحديث في كلا الموردين فمرّة جاء باسم الإشارة ومرّة أخرى اكتفى بكلمة (فلان) بدلاً من التصريح باسم عثمان كما جاء في نقل مسلم وأخرج الحديثين على النحو التالي ففي احدهما : قيل لأسامة : ألا تكلّم هذا ...؟

ص: 123


1- صحیح مسلم 4 : 2290 كتاب الزهد والرقائق باب (7) باب عقوبة من يأمر بالمعروف ح 2989.

وفي الآخر : قيل لأسامة : لو أتيت فلاناً فكلمته.. (1).

6 - قصة عمر وسمرة بن جندب : أخرج مسلم في صحيحه وأحمد بن حنبل في مسنده قصة بيع سمرة بن جندب والي عمر على البصرة الخمر وقد جاء اسمه فيهم صريحاً مرتين فاقرأ :

عمرو بن دينار قال : أخبرني طاووس إنه سمع ابن عبّاس يقول : بلغ عمر أنّ سمرة

باع خمراً ، فقال : قاتل الله سمرة ، ألم يعلم أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : قاتل الله اليهود، حُرّمت عليهم الشحوم فجمّلوها وباعوها ؟(2)

واما البخاري الذي أخرج هذا الحديث في صحيحه كذلك فإنه حرفه وعبر ع--ن سمرة بلفظة «فلان» فاقرأ ما أخرجه فقال : بلغ عمر أنّ فلاناً باع خمراً ، فقال : قاتل الله فلاناً ، ألم يعلم ....؟ الحديث(3).

وصرّح بذلك أكثر شارحي صحيح البخاري وكذا النووي في شرح صحيح مسلم عند شرحهم لهذا الحديث واشاروا إلى خيانة البخاري وتحريفه للحديث ولم تخف عليهم هذه المبادرة البخارية .

الدليل الخامس: البخاري والنقل بالمعنى

وممّا يسلب الاطمئنان والاعتماد على صحيح البخاري وعدم الوثوق به أنّ قسماً

من أحاديثه قد رويت بالمعنى ، ولم ينقلها مؤلّف الصحيح بنفس اللفظ حسب ما سمعها

من ناقليها .

ص: 124


1- صحیح البخاري4: 147 كتاب بدء الخلق باب صفة النار وإنها مخلوقة ، وج 9: 69 كتاب الفتن باب الفتنة التي تموج كموج البحر
2- صحیح مسلم 3 : 1207 کتاب المساقاة باب (13) باب تحريم بيع الخمر والميتة ح 72. مسند أحمد بن حنبل 1 : 25 باب مسانید عمر بن الخطاب
3- صحيح البخاري :3 107 كتاب البيوع باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع

ونقل الخطيب البغدادي عن البخاري نفسه يقول : ربّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، وربّ حديث سمعته بالشام وكتبتُه بمصر، قيل له : يا أبا عبدالله بكماله قال : فسکت (1).

قال ابن حجر : وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تاماً باسناد واحد بلفظين كما في حديث سحر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )(2) ۔

فلو تتبعنا وفحصنا في الأحاديث التي رواها البخاري في صحيحه لوجدنا أنّ البخاري اتبع اسلوب النقل بالمعنى في كثير منها ، وما ذكره ابن حجر فإنه من باب التمثيل

لا الحصر.

وعليه فهل يمكن لقارىء أنْ يعتمد على كتاب وضعه مؤلّفه في مدة ستة عشر سنة ، كما اعترف البخاري أنه خرّج وضبط فيه تلك الأحاديث التي سمعها في بلد، وبعد مدة من الزمن كتبها وهو في بلد آخر ؟

ولا ريب أن هذه الفترة الزمنية التي فصلت بين سماع الحديث وبين تدوينه سوف تُنسيه الفاظ الحديث، ويأتى مكانها بألفاظ أخرى غيرها ، أي يكون النقل فيه نقلاً بالمعنى، وبهذا يفقد الحديث شأنه واعتباره، وأضف الى ذلك احتمال أن تمحى الكثير من دقائق ألفاظ الحديث الاوّل عندما يُروى بالمعنى .

ولهذا السبب جعلنا موضوع النقل بالمعنى الذي اتبعه البخاري في تخريجه للأحاديث في صحيحه دليلاً على ضعف أحاديثه .

الدليل السادس: الآخرون يتممون الصحيح

وممّا يدلّ على ضعف أحاديث البخاري ووهنها هو أن الآخرين قاموا بإتمام

ص: 125


1- تاریخ بغداد 2: 11
2- فتح الباري 10: 186

الصحيح وتكميله.

قال القسطلاني : وقد وقع في بعض نسخ الكتاب ضمّ باب لم يُذكر فيه حديث إلى حديث لم يُذكر فيه باب، ويقع في كثير من أبوابه أحاديث كثيرة وفي بعضها حديث

واحد وفي بعضها لاشيء فيه البتة.

فأشكل بعضهم، لكن أزال الإشكال الحافظ أبو ذر الهروي بما رواه عن أبي اسحاق المستملي مما ذكره أبو الوليد الباجي قال :

استنسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند الفربري فرأيت أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة فيها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً ، وأحاديث لم يُترجم لها فأضفنا بعض ذلك الى بعض (1) .

وهنا يتبادر سؤال وهو : إنّ الكتاب الذي تمّ تنظيمه وتكميله وتبويبه بواسطة الآخرين ، وبالرغم من هذا التكميل فما زال التشويش وعدم النسق والترتيب ملاحظاً في أبوابه وأحاديثه، فيا ترى أيّها القارئ الكريم كيف كان وضع هذا الكتاب قبل أن يتمّ ترتيبه وتكميله ؟ ومن هو الذي قام بعملية التتميم والترتيب ؟ وهل إن المكمّل والناظم للصحيح استعمل في عملية الترتيب ذوقه ورأيه الخاص به، كما كان البخاري يستعمل ذلك في تدوين الحديث ، فحذف أحاديثاً كثيرة من صحيحه عملاً برأيه، أو أنه أسقط أو زاد في أحاديث أخرى ، وغير ذلك ؟

هذه هي المسائل التي لا تزال خفيّة ومجهولة لدينا. ولكن القدر المتيقن والبيّن أنّ أي كتاب له ظروف مماثلة للصحيح الذي قام الآخرون بتصحيحه وتكميله وإن كان خالياً من المؤاخذات والإشكالات فهو ساقط عن الاعتبار والاهمية ومسلوب الصحة ولايمكن الوثوق والاعتماد على ما يحتويه ، لأنّه يستلزم الشكّ والترديد في قرارة

ص: 126


1- إرشاد الساري 1 : 23 ، هدى الساري مقدمة فتح الباري : 6

أنفسنا بالنسبة اليه .

الاستنتاج

نستنتج من المواضيع التي طالعناها معاً ووافيناها لقارئنا العزيز ما ملخصه :

إنّنا قد علمنا حال هذين الكتابين اللذين اشتهرا بالصحيحين وتبينت لنا شخصية رواتهما ورجالهما، واتضح بعد ارتفاع الستار عما كان عليه مؤلفيهما من العصبية العمياء، وفهمنا كيف قام البخاري بتقطيع وتسقيط للأحاديث ونقله بالمعنى، وقد أثبتنا ذلك بالادلة والشواهد المسلّمة، وعرفنا أيضاً مدى اعتبار الصحيحين من حيث الاسناد وشخصية مؤلفيهما.

وفي هذا الحال كيف يتصوّر أن يسمى كتابان بالصحيح وكيفيتهما كما رأيت وقرأت ؟ وكيف يتصوّر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أيد أحاديث هذا الكتاب أجمع من أوله إلى آخره من

دون استثناء بين أحاديثه ؟

وكيف يُعقل بأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم ) أيد كتاباً مشحوناً بالعصبيات الإفراطية والأعمال المغرضة وصحح كتاباً مليئاً بأنواع التقطيع والإسقاط والتزييف وفيه الرواية بالمعنى ؟

وهل يُعقل أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) جعل هذا الكتاب بمثابة كتابه وشجّع الناس على قراءته؟

وأمّا الجواب على هذه الاسئلة فهو منوط بعاتق القارىء البحاث والحرّ - الذي يحمل بين جنبيه الفكر السليم - ليجيب عليها .

هذه براهين جلية وشواهد واضحة على الاضطرابات التي تركزت في بعض أحاديث الصحيحين وأثبتت ضعفها وسقمها.

ص: 127

ص: 128

الفصل الخامس: التوحيد في الصحيحين

اشارة

ص: 129

ص: 130

عرّف البخاري ومسلم الله عزّ وجلّ بأنّه :

يمكن رؤيته !

ويحتاج إلى المكان والجهة !

ويتنقل ويتحوّل من مكان لآخر !

ويضحك !

ويجالس العباد جنباً إلى جنب !

ومن ثم فهو يتكوّن من أعضاء وجوارح !!

تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً .

وهذا الإله الذي عرّفه هذان الشيخان - البخاري ومسلم - بأنه :

ذو وجه !

وعين !

وید !

واصبع !

ورجل !

وساق !

و....!

ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم

ص: 131

التوحيد في الصحيحين

وهذا في الواقع يمكن اعتباره دليلاً سابعاً على ضعف الصحيحين ووهنهما تزلزل نصوص أحاديثهما وذلك لما يشاهد فيهما أحاديث لا تتماشى والأصول الدينيةوالعقائدية ، ومخالفة للقواعد العقلية، وتوجد فيهما مواضيع يشهد التاريخ الصحيح على خلافها.

وسوف نتطرّق إلى البحث في هذا الموضوع خلال دراستنا للفصول التالية :

1 - التوحيد .

2 - النبوة .

3 - بحوث متفرّقة.

ونشرع بالبحث في هذا الفصل حول التوحيد في الصحيحين .

مسألة التوحيد هي أصل مشترك بين جميع الأديان السماوية، واهتم الإسلام بهذه المسألة اهتماماً بالغاً وأعارها الأهمية الخاصة أكثر من سائر الأديان ، ولكن يلاحظ في الصحيحين أنّ هذه المسألة قد امتزجت من عدة جهات بتحريفات وتزييفات لا تغتفر وبتعبير أوضح إننا نشاهد في الصحيحين مسائل لا أصل لها في الدين ، ولا تمت إلى حقيقة التوحيد بشيء.

وسوف نأتي بتحليل كلّ واحدة منها بدراسة وافية ونكشف الأستار عن الموهومات التي يحتويها الصحيحان بقدر ما يقتضيه كتابنا هذا ...

1- رؤية الله

اشارة

المسألة الأولى في الصحيحين : - من مسائل التوحيد المهمة بل أهت-ها - كما

ص: 132

جاءت في نصوص أحاديث الصحيحين - هي مسألة التجسيم ، وأنّ الله تعالى جسم كالأجسام المادية الأخرى التي نحس بها في العالم والكون، وإنه تعالى يمكن رؤيته

ومشاهدته.

وهاك نماذجاً من الأحاديث فتأمل فيها جيداً :

1 - عن جرير قال : «كنا جلوساً عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) فنظر إلى القمر ليلة البدر . فقال : إِنّكم سَتَرُونَ رَبِّكم كما تَرَونَ هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا

على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ (1)(2).

أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما في أبواب متعددة وبأسانيد مختلفة.

توضيح العيني : قال العيني شارح صحيح البخاري في شرحه على هذا الحديث بعد أن نقل كلاماً للكرماني - وهو أيضاً من شرّاح صحيح البخاري : فإن استطعتم والتعقيب بكلمة الفاء يدلّ على أنّ الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين الصبح والعصر، وذلك فالقيام فيها أشقّ على النفس (3).

2 - عن أبي هريرة : ان أناساً قالوا: يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال :

هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا ، يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) .

قال : فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا.

قال : فإنّكم ترونه ، كذلك يحشر الناس يوم القيامة فيقول : مَنْ كان يعبد شيئاً

ص: 133


1- ق : 39
2- صحيح البخاري 1 : 145 كتاب الصلاة باب فضل صلاة العصر، وص 150 باب فضل صلاة الفجر ، وج 6: 173 كتاب القرآن باب تفسير سورة ق ، وج 9 : 156 كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء. صحيح مسلم 1: 439 كتاب الصلاة باب «37 باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما ح 633
3- عمدة القارىء 25: 123ح62

فليتبع ، فمنهم مَنْ يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر ، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتانا ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم، فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ): فأكون أول من يجيز من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ : اللّهمّ سلّم اللّهمّ سلّم ، وبه كلاليب مثل شوك السعدان غير أنها لا يعلم عظمها إلا الله ، فتخطف الناس بأعمالهم ، منهم الموبق بعمله ، ومنهم المخردل، ينجو ، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار ، يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله ، أمر الملائكة أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة السجود ، وحرّم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود ، فيخرجونهم ، قد امتحشوا فيصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل مقبل وجهه على النار ، فيقول : يا ربّ ، قد قشبني ريحها ، وأحرقني زكاؤها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول الله : لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره ؟ فيقول : لا وعزّتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار، ثمّ يقول بعد ذلك : يا ربّ، قرّبني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ وَيْلك يا ابن آدم ما أغدرك ؟ فلا يزال يدعو فيقول : لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره . فيقول : لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقربه إلى باب الجنّة ، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثمّ يقول : يا رب أدخلني الجنة فيقول الله : أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ وَيْلك يا ابن آدم ما أغدرك ؟ فيقول : يا ربّ، لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله ، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ، فإذا دخل فيها قيل : تمنّ من كذا ، فيتمنّى ، ثمّ يقال : تمنّ من كذا، فيتمنّى ، حتى تنقطع به الأماني فيقول الله : هذا

ص: 134

لك ومثله منه (1)

3- عن أبي سعيد الخدري : أنّ أناساً في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم .

قال : هل تضارّون في رؤية الشمس بالظهيرة ضوء ليس فيها سحاب ؟ قالوا : لا.

قال : وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ضوء ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا .

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارّون في رؤية أحدهما ، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن، لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله ، من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار ، حتى إذا لم يبق إلا من يعبد الله من بر وفاجر وغبرات أهل الكتاب.

فيدعى اليهود فيقال لهم : من كنتم تعبدون ؟ قالوا نعبد عزير ابن الله ، فيقال لهم :

كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولداً ، فماذا تبغون ؟ فقالوا: عطشنا يا ربّنا فاسقنا فيشار ألا تروون، فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في

النار.

ثم يدعى النصارى فيقال لهم : من كنتم تعبدون ؟ قالوا كنّا نعبد المسيح ابن الله . فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم : ماذا تبغون ؟ فكذلك مثل الأول.

حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم ربّ العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، فيقال : ماذا تنظرون ؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا : فارقنا الناس في الدنيا على أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم ، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد،

ص: 135


1- صحيح البخاري :1 : 204 كتاب الصلاة باب فضل السجود ، و 9 : 156 كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء ، و 8: 146 كتاب ما جاء في الرقائق باب الصراط جسر جهنم. صحيح مسلم :1: 163 كتاب الایمان باب (81) باب معرفة طريق الرؤية ح 299

فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : لا نشرك بالله شيئاً - مرتين أو ثلاثاً - حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول : هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها ؟ فيقولون: الساق فيكشف عن ساق (1).

4 - عن جرير بن عبد الله : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنكم سترون ربّكم عياناً(2).

قال القسطلاني : عياناً - بكسر العين - من قولك : عاينت الشيء عياناً ، إذا رأيته بعينك (3) .

5 - عن صهيب ، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إذا دخل أهل الجنة الجنّة ، قال : يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتجنّبنا من النار ؟! قال : فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم عزّ وجلّ (4) .

6 - عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس، عن أبيه ، عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن(5)

هذه ست روايات حول مسألة رؤية الله عزّ وجلّ نقلناها من الصحيحين، وقد ورد

ص: 136


1- صحيح البخاري 6: 56 كتاب القرآن باب تفسير سورة النساء، وج 9: 158 كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء) . صحیح مسلم 1: 167 كتاب الإيمان باب (81) باب معرفة طريق الرؤية 302
2- صحيح البخاري 9 : 156 كتاب التوحيد باب «وجوه يومئذ ناظرة»
3- إرشاد الساري 10 : 399
4- صحیح مسلم 1: 163 كتاب الإيمان باب (80) باب إثبات رؤية المؤمنين ربِّهم في الآخرة ح 297
5- صحيح البخاري 9: 162 كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء ، صحيح مسلم 1: 163 كتاب الإيمان باب ( 80 ) باب اثبات رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة 296

مثلها أو بتفاوت يسير في سائر الصحاح (1) ، ونلفت أنظار القراء إلى حديثين آخرين مما رويا في السنن ولم ينقلهما البخاري ومسلم في صحيحيهما .

7 - عن ابن عمر يقول : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرم ة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة ، ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاظِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » (2) (3) .

وسوف نبحث آنفاً حول هذه الآية التي تمسكوا بها لإثبات مدعاهم.

8 - عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم ،نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ! قال : وذلك قول الله« سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبِّ رَحِيمٍ» (4) قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم (5).

المستفاد من الأحاديث

يستفاد من هذه الأحاديث المذكورة:

أولاً : إنّ رؤية الله تعالى في يوم القيامة متحققة بهذه العين الظاهرة والمجرّدة وذلك على نحو نوع من اتصال شعاع من عين الإنسان بذاته تعالى ، ثم إن جسمه تعالى يعكس ذلك الشعاع على عين الإنسان ثانية إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر...».

ثانياً : ليست الرؤية منحصرة بخاصة العباد ، بل المنافقون كذلك سوف يرون ربّهم

ص: 137


1- سنن ابن ماجة 1: 66 المقدمة باب (130) باب فيما أنكرت الجهمية ح 186 ، سنن الترمذي 592:4 كتاب صفة الجنّة باب « 16» رؤية الربّ تبارك وتعالى ح2551 و 2552
2- القيامة : 22
3- سنن الترمذي 4 : 593 كتاب صفة الجنّة باب (16) باب رؤية الربّ ح 2553
4- يس : 58
5- سنن ابن ماجة 1: 65 المقدمة باب (13) باب فيما أنكرت الجهمية ح 184

«وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله».

ثالثاً : إنّ الله تعالى صورة وجسماً يتأثر بالتأثيرات العرضية كالحركة والتحوّل وغيرها.

رابعاً : إن الله تعالى مكاناً خاصاً ويظهر عياناً أمام أعين العباد .

خامساً : إن الله تعالى صوراً مختلفة وأشكالاً متعدّدة، يعرف العباد بعضها وينكرون بعضها الآخر، فاذا جاءهم في الصورة التي يعرفونه به-ا اتبعوه، «فيأتيهم الله في غي-ر الصورة التي يعرفون، فيقول : أنا ربكم ... فيقولون : نعوذ بالله منك ... فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ».

سادساً : إن الله تعالى ساقاً وهو بمثابة علامة فارقة وخاصة يعرفون بها ربّهم ومادام الله لم يكشف عن ساقه لم تحصل لهم تلك المعرفة » فيقول: هل بينكم وبينه علامة

فتعرفونه بها ؟ فيقولون : الساق ... فيكشف الساق...».

سابعاً : وآخر ما يستفاد من هذه الأحاديث هو أنّ الله يتعجب ويضحك وينخدع بغدر الإنسان المذنب إياه .

هذا ملخص الأحاديث التي وردت في الصحيحين - البخاري ومسلم - حول مسألة الرؤية ويستفاد منها مسائل كثيرة غير مسألة الرؤية قد أشرنا الى بعضها .

ونظراً لأهمية مسألة الرؤية اجمع اهل السنة ومحدّثيهم على إمكان وقوعها، ومن جهة أخرى فإنّ الشيعة وأئمتهم (علیه السلام) نفوا رؤية الله نفياً قاطعاً وردّوه ردّاً صارماً ولم يقل أحد منهم بوقوعها أصلاً.

لذلك كان لزاماً أن ندرس هنا أقوال علماء الفريقين أهل السنة والشيعة حول موضوع رؤية الله .

رأي أهل السنة في مسألة رؤية الله

يعتقد أكثر علماء أهل السنّة ومحدّثيهم وأئمتهم الأربعة في الرؤية - رؤية الله

ص: 138

عزّ وجلّ - بأنّها ممكنة ، وقد نوّهت إلى ذلك أحاديثهم ، و هذه المسألة عندهم تعتبر من أصول عقائدهم، بحيث حكموا على من أنكر رؤية الله وخالف هذه العقيدة بالخروج عن الدين واعتبروه كافراً ،و مشركاً ، فالإمام أحمد بن حنبل - أحد أئمّة المذاهب الأربعة - كفّر منكري الرؤية، وحكم على المنكرين لهذه العقيدة بأنّهم خارجون عن الاسلام (1) .

وقال مالك والشافعي - إمامان من أئمة المذاهب الأربعة - بإمكان رؤية الله في

الآخرة.

قال :الأشهب : قلنا للإمام مالك : يا أبا عبدالله ، هل الآية الكريمة : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناظِرَةٌ إِلَى رَبِّها نَاظِرَةٌ»(2) بأن الناس سوف يرون الله بهاتين العينين ؟ قال : نعم بهاتين العينين .

قلنا : إنّ أناساً يقولون : إن الآية تعني انتظار ثواب الله وعقابه ، قال : إنهم يفترون، بل الناس ينظرون إلى الله (3) .

وحكى المزني عن إبراهيم بن محمد بن هرم عن الشافعي أنه قال في قوله تعالى : «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ » (4) لما حجبهم في السخط كان دليلاً على أنّهم

يرونه في الرضا الآخرة- .

وقال الربيع : كُنت ذات يوم عند الشافعى وجاء كتاب من الصعيد يسألونه عن قوله عزّ وجلّ : «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» فكتب : لما حجب قوماً بالسخط دلّ على أنّ قوماً يرونه بالرضا.

قلت له : أو تدين بهذا يا سيدي ؟ فقال : والله لو لم يوقن محمد بن إدريس إنه يرى

ص: 139


1- تفسير المنار 9 135
2- القيامة : 23
3- تزيين الممالك في مناقب مالك للسيوطي نقل عنه محمد ابو زهرة في كتاب مالك .88
4- المطففين : 15

ربِّه في المعاد لما عبده في الدنيا (1) .

قال الاسفراييني - 429 ه- - أجمع الأئمّة من أصحاب الرأي والحديث من أتباع مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل - أئمة المذاهب الأربعة - والثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي على أنّ الله تعالى يكون مرئيّاً بالعين بدون تشبيه ولا تعطيل.

وقال : وأجمعوا بجواز رؤيته تعالى للمؤمنين خاصة في الآخرة .

وأضاف : إنّا قد استقصينا البحث في مسائل رؤية الله في كتاب مستقل (2).

قال أحمد محمد شاكر في شرحه على مسند أحمد بن حنبل :

والأحاديث في رؤية المؤمنين ربّهم عزّ وجلّ ثابتة ثبوت التواتر ، من أنكرها فإنّما أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، وإنّما ينكر ذلك الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من

الخوارج والإمامية (3).

وقال النووي: اعلم أنّ مذهب أئمة أهل السنّة بأجمعهم هو أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلاً ، وأجمعوا أيضاً على وقوعها فى الآخرة، وأنّ المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين، وزعمت طائفة من أهل البدع - المعتزلة والخوارج وبعض المُرجئة - انّ الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلاً، وهذا الذي قالوه خطأ صريح ، وجهل قبيح، ثم قال : وكذا رؤيته تعالى في الدنيا فإنّها ممكنة(4).

وبعد الاستدلال على إمكان الرؤية قال :

وإنّ الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) رأى ربّه بعيني رأسه ليلة الإسراء. ثمّ ينقل ما قالته عائشة : انّ رسول الله لم ير الله في المعراج . وقال الديار بكري : ومن

ص: 140


1- طبقات الشافعية :2 : 81 ، الإمام الشافعى لعبد الغنى الدقر : 249
2- الفرق بين الفرق : 313 - 335 بتصرّف
3- شرح مسند أحمد بن حنبل 14 : 137 ح 7703
4- شرح صحیح مسلم :3 15

الخصائص التي اختص بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) رؤيته للباري مرتين (1).

وقال العيني في شرح حديث الرؤية :

إنّ مفاد هذا الحديث هو إنكار على من استحال رؤية الله تعالى، وفيه ردّ على أهل البدع - من المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة - في قولهم : إنّ الله لا يراه أحد من خلقه ، وأنّ رؤيته مستحيلة عقلاً، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلّة الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين.

وأما رؤية الله في الدنيا فممكنة ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم على إنّها لا تقع في الدنيا ، وحُكي عن أبي الحسن الأشعري وقوعها في الدنيا (2).

قال القسطلاني : إنّ رؤيتنا الله تعالى لا شكّ فيه(3).

حكى ابن حجر عن ابن بطال قال : ذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة (4).

قال الشيخ محمد عبده : إن في الأحاديث الصحيحة من التصريح في إثبات الرؤية ما لا يمكن المراء فيه(5).

أسئلة حول الرؤية مع أجوبتها

وفي هذا المجال نورد الأسئلة الخمسة حول رؤية الله التي طرحت على (6) ابن

ص: 141


1- تاریخ الخميس 1: 213
2- عمدة القاري 18 : 172
3- ارشاد الساري 10 : 399
4- فتح الباري 13 : 359
5- تفسير المنار 9 144
6- ابن حجر الهيثمي من أشهر علماء أهل السنّة، توفّي سنة 973 ه- ، وله مؤلّفات عديدة ، منها : الصواعق المحرقة في الرد على الشيعة والفتاوى الحديثية وهو كتاب على نحو السؤال والجواب . وقد انتقينا هذه الأسئلة وأجوبتها من هذا الكتاب مما يناسب بحثنا راجع الفتاوى الحديثية : 108 و 153 - 154

حجر الهيثمي وإجابته عليها :

1 - إذا اعتقد شخص أنه رأى ربّه في الدنيا ، وأنّ الرؤية وقعت منه في الدنيا بالعين في اليقظة ، فهل يجوز ذلك، كما قال جماعة ان المختار جواز رؤيته في الدنيا في اليقظة بالعين ؟

الجواب : الكلام هنا في مقامين : الأوّل في إمكانها عقلاً، والذي عليه أهل السنّة أنّها ممكنة في الدنيا .

الثاني : في وقوعها عند أهل السنّة، لكنّها لم تقع في هذه الدنيا لغير نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم ) وذلك ليلة المعراج .

2 - هل مؤمني الأمم السابقة يرون الله يوم القيامة كهذه الأمة ، أم لا ؟

الجواب : فيهم احتمالان لابن جمرة المالكي، وقال : الأظهر مساواتهم لهذه الأمة في الرؤية، ويمكن القول بأنّ الخلائق من الملائكة والجن والنساء يرونه ، لأنّ لفظ الخلائق عامة .

3 - لم وقعت رؤية الله في الآخرة لا في الدنيا ؟

الجواب : سبب ذلك كما أفاده الإمام مالك ضعف قوى أهل الدنيا عن ذلك بخلافهم

في الآخرة فإنّهم خُلقوا للبقاء، وخُصّ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم ) بالرؤية ليلة الإسراء بع-ين باصرة عل-ى الأصح كرامة له .

4 - هل النساء كالرجال يرين ربّهن ؟

الجواب : قيل لايرين لعدم دليل خاص فيهنّ ، وقيل : يرين لدخولهن في العموم، وقيل : يرين في الأعياد خاصة، ولا يرين مع الرجال في أعياد الجمع، ورجح لحديث فيه، واستثنى جلال الدين السيوطي سائر الصديقات - وهن اللاتي ذكرت أسماؤهن في

ص: 142

القرآن - فقال : إنّهنّ يرين الله مع الرجال كرامة لهنّ.

5 - هل النساء يرين الله في الموقف قبل دخول الجنّة كالرجال- ؟

الجواب : نعم ، بل قال جمع من أهل السنّة : إنها تحصل للمنافقين، وجمع أنّها تحصل للكافرين ثم يحجبون عنه، وأما الرؤية في الجنّة فأجمع أهل السنّة أنّها حاصلة للأنبياء والرسل والصدّيقين من كلّ أُمّة، ورجال المؤمنين من البشر من هذه الأمة ، واختلف فى نساء هذه الأمة فقيل : لا يَرَيْنَ لأنّهنّ مقصورات في الخيام ؛ وقيل : يرين لعموم النصوص.

منشأ هذه العقيدة الفاسدة

يظهر مما نقلناه من أقوال علماء أهل السنّة في الصفحات السابقة وممّا سنذكره في الصفحات القادمة أنّ مستند علماء أهل السنّة فى إثبات الرؤية هو الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم في كتابيهما وأخرجها أرباب الكتب المعتبرة عند اهل السنة، وبالتالي إنّ هذه الأحاديث هي التي صدّتهم ومنعتهم عن التدبّر والتفكر في آيات القرآن المجيد، وتأثروا بها كثيراً حتى دفعتهم الى أن يأوّلوا معاني بعض الآيات حسب ما تقتضيه هذه

الأحاديث.

قال ابن حجر جمع الدار قطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين، وأكثرها جياد، وأسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال : عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية صحاح (1).

قال الشيخ محمد عبده : أما رؤية الربّ تعالى فربّما قيل : إنّ آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات، كقوله تعالى: «لَن تَرأنى» (2) وقوله تعالى :« لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» (3)

ص: 143


1- فتح الباري 13 : 371
2- الأعراف : 143
3- الأنعام : 103

فيهما أصرح دلالة على النفي من دلالة قوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاظِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا ناظِرَة» على الإثبات. فإنّ استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وكلام العرب، كقوله : «مَا يَنْظُرُونَ إِلَّاصَيْحَةً وَاحِدَةً» (1) «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ»(2)

«هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ في ظُللٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ »(3) ، وثبت إنّه استعمل بهذا المعنى (4).

فالشيخ محمد عَبْدُه - حسب ما جاء في الفقرة المذكورة من كلامه - إنّه يُرجح الآيات النافية للرؤية، ويميل إليها واستند في القول بضعف آيات الرؤية إلى آيات أخرى وأقوال المفسرين ، ولكنّه عندما تعترضه أحاديث الرؤية لا يسعه الإغماض عنها، بل يأوّل الآيات إلى المعاني التي وردت في الأحاديث، ويقول بالحرف الواحد : إن في الأحاديث الصحيحة من التصريح في إثبات الرؤية ما لا يمكن المراء فيه(5).

وعلى هذا ، فقد علمنا أنّ منشأ الاعتقاد بالرؤية والتجسيم والتشبيه التي نأتي بذكرها هو الأحاديث المروية في كتب أهل السنة وخاصة صحاحهم الستة، التي يعتبرونها صحيحة وموثقة ولا تقبل الخدش والردّ والنقد.

وهذه الأحاديث المرويّة عندهم هي التي دفعتهم الى الاعتقاد في التوحيد بما لا يوافق القرآن الكريم .

وملخص القول إذا وضع المعمار حَجَرَ الأساس مائلاً ومعوجاً فإنّ الاعوجاج والانحراف يظلّ باقياً مادام البناء باقياً.

رؤية الله في المنام

لقد اطلع القارىء المنصف على ما ذكرناه من عقيدة أرباب الصحيحين وأتباعهما

ص: 144


1- يس : 49
2- الأعراف :53
3- البقرة : 158
4- تفسير المنار 9 : 134
5- تفسير المنار 9 144

فی مسألة رؤية الله عزّ وجلّ، ومن الجدير بهذه المناسبة أن نذكر أيضاً عقيدة علماءأهل السنّة بما تختص بمسألة أخرى تتناسب مع هذه المسألة وهي رؤية الله في المنام - في عالم الرؤيا- .

وإنّهم ذكروا لإثبات هذه العقيدة أحاديث كثيرة تحكي بأن الرسول الله قد أعطي هذه الموهبة ، وأنه الله رأى الله تعالى في عالم الرؤيا .

وتأييداً لهذه الفكرة وتثبيتها أوسعوا نطاق المسألة بحيث استدعت تحجيم مقام النبوة، وتجاوزوه وتعدّوه زاعمين بأنّ بعض العلماء رأوا الله في عالم الرؤيا والت-قوا به وجالسوه وأسمعوه شجون أنفسهم وهمومهم.

ومن ثمّ قاموا بتفسير وتعبير هذه الرؤى بتعابير شيّقة وعذبة نقلوها عن أشهر مفسّري الاحلام وقد أرشد دعاة هذه العقيدة مشتاقي رؤية الله في المنام، وعلّموهم صلاة ذات ركعتين وبكيفية خاصة يصلّيها المشتاق حتى ينال تلك الموهبة.

حتى أنّ المؤرّخ المشهور السهيلي صاحب كتاب «روض الأنف المتوفّى عام 581 من الهجرة تصدّى لهذه المسألة ووضع كتابه «مسألة رؤية الله في الم-نام والنبي

(صلى الله عليه وآله وسلم )»(1)بحث فيه موضوع الرؤية في عالم الرؤيا بحثاً موسعاً وأجاب في-ه عل-ى التساؤلات التي ربّما تطرح حول الموضوع.

وسوف نطلع القارىء على بيان هذه المسألة اطلاعاً وافياً ، وندع الحكم له .

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) يرى في المنام:

أخرج الترمذي في سننه روايات عديدة تحكي بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) رأى الله عزّ وجلّ في عالم الرؤيا بأحسن صورة، فجالسه وتحدث معه، وإليك النص :

عن معاذ بن جبل قال : احتبس عنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس ، فخرج سريعاً فثوب بالصلاة فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )

ص: 145


1- سيرة ابن هشام بقلم طه عبدالرؤوف، طبعة 1391

وتجوّز في صلاته ، فلمّا سلّم دعا بصوته، فقال لنا : على مصافكم كما أنتم ، ثم انفتل إلينا، ثمّ قال : أمّا إنّي سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إنّي قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت ، فإذا أنا بربّي تبارك وتعالى في أحسن صورة ، فقال : يا محمد ، قلت : لبيك ربّ ، قال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري قالها ثلاثاً - قال : فرأيته وضع كفّه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بي-ن تدبي»(1).

البخاري يصحح هذا الحديث:

قال الترمذي بعد إخراجه لهذا الحديث : سألت عن صحته محمد بن إسماعيل البخاري، فقال : هذا حديث حسن صحيح(2).

علماء السنة یرون الله في المنام:

يقول الحافظ ابن العربي المالكي - 543 ه- عند شرحه هذا الحديث وتوثيقه : وقد كان الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني شيخ العلماء والزهّاد رأى الباري في المنام، فقال له : ربِّ أسألك التوبة ثلاثين سنة أو أربعين سنة ولم تستجب لي بعد ! فقال له : يا أبا إسحاق، إنّك سألت في عظيم، إنّما سألت حبّنا (3) .

ونقل الشعراني(4) وابن الجوزي(5)والشبلنجي (6) عن أحمد بن حنبل أنه قال: رأيت ربّ العزّة في المنام فقلت: يا ربّ ما أفضل ما يتقرّب به المتقربون إليك ؟ فقال : یکلامى يا أحمد ، فقلت : بفهم أو بغير فهم ؟ قال : بفهم وبغير فهم .

ص: 146


1- سنن الترمذي 5: 343 كتاب تفسير القرآن باب 39 باب تفسير سورة ص ح 3235
2- المصدر : 344
3- عارضة الأحوذي 12: 117
4- طبقات الشعراني 44:1
5- مناقب احمد بن حنبل : 434
6- نور الأبصار : 248

وقال الآلوسي صاحب تفسير روح المعاني - 1270 ه: فأنا والله تعالى الحمد ق--د رأيت ربي مناماً ثلاث مرّات، وكانت المرّة الثالثة في السنة 1246 بعد الهجرة، رأيته جلّ شأنه وله من النور ما له ، متوجهاً جهة المشرق فكلّمني بكلمات أنسيتها حتى

استيقظت (1).

تعبير الرؤيا

بعد أن روى الترمذي الحديث المذكور في رؤية الله في المنام ذكر تعبيراً وتفسيراً لهذه الرؤيا نقله عن ابن سيرين - أشهر مفسّري الأحلام - أنه قال : من رأى ربه في المنام دخل الجنة(2).

صلاة لرؤية الله في المنام

روى علماء أهل السنّة وحفاظهم عن ابن عبّاس أنه قال : من صلّى يوم الجمعة ما بين الظهر والعصر ركعتين يقرأ في أوّل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة واحدة، وخمس وعشرين مرة قل أعوذ برب الفلق، وفي الركعة الثانية يقرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الناس خمس وعشرين مرّة ، فإذا سلّم قال : لا حول ولا قوة إلا بالله خمسين مرّة ، فلا يخرج من الدنيا حتى يرى ربّه عزّ وجلّ في المنام ويرى مكانه في الجنّة أو يرى له .

روى هذا الحديث جلال الدين السيوطي في اللئالي المصنوعة(3)، وابن الجوزي في : كتابه «الموضوعات»(4)وقال : هذا حديث موضوع ، وفي اسناده مجاهيل لا يعرفون، وقد ذكر صلوات الأسبوع أبو طالب المكي، وتبعه أبو حامد الغزالي، وكل ذلك لا أصل

ص: 147


1- روح المعاني 9 52
2- سنن الدارمي 2 : 126 كتاب الرؤيا باب (12) باب في رؤية الرب تعالى في النوم ح 2150.
3- اللئالى المصنوعة 52:2
4- الموضوعات 2 : 119

له .

والعجب أنّ ابن الجوزي في نقده لهذا الحديث لا يتعرّض إلى متنه الذي أشير فيه إلى مسألة رؤية الله تعالى وأحسبه أنّ متن الحديث عنده من اليقينيات، وأما السند فهو مخدوش عنده ويقول: حديث موضوع ، وفيه مجاهيل لا يعرفون .

رأي الشيعة في رؤية الله

يعتقد أئمة الشيعة - أي أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) - بأن رؤية الله سواء في الدنيا أو الآخرة وبالعين المجرّدة تعد من الامور المستحيلة ، وتبعهم في ذلك الشيعة المتعلمون بعلوم أهل بيت النبي بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالوا باستحالتها وأنّ الله أجلّ وأكبر من أن يكون كالأجسام المادية مثل الشمس والقمر التي تدرك بالانعكاسات الضوئية.

هذه هي خلاصة عقيدة أهل البيت (علیه السلام) حول الرؤية، ويلزم التمسك بقولهم ولا تقبل معذرة في الآخرة سوى الأخذ عنهم . لأنهم هم المُطهَّرون من الأرجاس والأدناس والمُنزَّهون عن الخطأ والانحراف، كما اشار إلى ذلك القرآن في قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً »(1) وقرنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بالكتاب، وجعلهم أحد الثقلين اللذين اودعهما في أمته فقال: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

واما البراهين العقلية والآيات القرآنية فهما تؤيّدان ما ذهب اليه الشيعة من استحالة رؤية الله، والأحاديث المروية عن الائمة (علیه السلام) بدورها تفسّر تلك الأدلة العقلية والقرآنيةوتقرّب المسألة الى الاذهان البشرية.

البراهين العقلية والفلسفية على نفي رؤية الله

1 - قالت الفلاسفة : تتحقق رؤية الشيء بالعين وانعكاس الضوء إذا كان الشيء المرئي والمشاهد - بفتح عين الفعل في جهة معيّنة وأن تكون بين الرائي والمرئي مسافة

ص: 148


1- الأحزاب : 33

معينة تفصل بينهما بحيث لو زادت أو نقصت تلك المسافة لخرجت الرؤية عن حيّز الإمكان، والشرط الآخر هو أن يكون المرئي في مقابل الرائي ومحاذاته وبالالتفات الى هذه الشروط والنقاط فرؤية الله تكون محالة ، وذلك لأنه لا يتحقق اي واحد من هذه الشروط بالنسبة الى الله ، لأنّه تعالى لم يكن له جهة معينة ، أو مكان معيّن ليستقر فيه، ولم يتصوّر أن تكون بينه تعالى وبين البشر أية محاذاة وفاصلة ومسافة ، لأنّ هذه المسافة والفاصلة تستلزم أن يكون الله عز وجل جسماً ماديا ومتحيّزاً ومتعلّقاً بالمكان، وهذان الأمران من المستحيلات بالنسبة الى ذاته عزّ وجلّ.

2 - رؤية الله عزّوجلّ بواسطة العين الباصرة لا تخلو من جهتين : إمّا أن تحيط الرؤية بجميع ذاته تعالى فإنّ هذه الإحاطة تستلزم تحديد وجود الله وحصره في مكان معيّن وخلق سائر النقاط منه، لأنّ عين الإنسان محدودة القدرة ولا تستطيع الإحاطة بجميع الجهات.

وإما أن تكون رؤيتنا إيّاه تعالى تتعلّق بجزء من ذاته، وإنّها تدرك قسماً من ذاته

تعالى ، فهذه تستلزم القول بالتجزئة والتركيب فى ذاته، وكل ذلك محال بالنسبة الى الله لأنّه تعالى شأنه ليس محدوداً بحد ولا متحيّزاً فى مكان ، وليس له اجزاء ومركبات حتى يكون في مكان دون مكان .

وأضف إلى ذلك أنّ المرئي - المفعول - لابد أن يكون ذا لون حتى يكون قابلاً للرؤية، وتعليق اللونية على ذاته تعالى مستحيل كذلك(1).

الدلائل القرآنية

في القرآن الكريم آيات متعدّدة تنفي رؤية الله وتستحيلها ، منها :

1 - في سورة الأنعام : «لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارِ وَهُوَ الْلَطِيفُ

ص: 149


1- راجع شرح التجريد للعلّامة الحلّي، والقوشجي وسائر المؤلّفات الفلسفية والكلامية الإسلامية

الخَبيرُ » (1)

قال الطبرسي : الإدراك متى قرن بالبصر لم يفهم منه إلا الرؤية . وعليه اذا قال أحد :

أدركته ببصري وما رأيته متضاد ، لأن الإدراك لا يكون بالعين(2).

2 - في سورة البقرة : « وَاذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فَأقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِيْكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التوَّابُ الرَّحِيمُ وَإذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنْظُرُونَ»(3).

هاتان الآيتان المتعاقبتان والمتتاليتان فيهما الدلالة التامة على استحالة رؤية الله عزّوجلّ ، لأنّ الآية الأولى صريحة في عذاب الذين عبدوا العجل فألزمهم الله بالتوبة وقيدها بقتل النفس - الانتحار - كفّارة لذنبهم ، والآية الثانية صريحة كذلك في معاقبة الذين أرادوا رؤية الله تعالى وأنّ عقابهم هو نزول الصاعقة والبلاء السماوي عليهم .

وترشدنا الآيتان معاً بكل وضوح وبيان الى حقيقة وهي : أنّ طلب رؤية الله يعتبر من الذنوب الكبيرة ويوجب نزول العذاب السماوي كما أنّ عبادة العجل كفر وارتداد وموجبة للعذاب.

والجدير بالذكر أنّ في كل الآيات التي أشير فيها الى سؤال بني إسرائيل رؤية الله وطلبهم المستحيلات جاء ذكر العذاب والعقاب عقيب السؤال بتعابير بلاغية وجمل مختلفة، وما ذلك إلا لكون هذا السؤال ذنباً كبيراً وجريمة عظيمة .

قال تعالى: «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» (4).

ص: 150


1- الأنعام : 102
2- مجمع البيان 4:344
3- البقرة : 54 - 55
4- النساء : 153

وقال تعالى :«وَقَالَ الذينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أَنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَد اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً » (1).

وعلى هذا الأساس فلو كانت رؤية الله ممكنة - كما يعتقد أهل السنة القائلون بإمكانها ويدعون بأن رؤيته تعالى والنظر اليه فى القيامة هي من أعظم ما ينعم أعظم ما ينعم الله عل-ى عباده في الجنّة، وأكبر ما يعطونه من الفضل واللطف الإلهي في القيامة - لما كان السؤال بتحققها وإيقاعها استكباراً وعنواً وتمرداً عن أمرالله .

وفي القرآن آيات عديدة أخرى تنفي الرؤية نفياً قاطعاً، ولكن اكتفينا بذكر هاتين الآيتين كشاهدین و نموذجين.

الأدلة الحديثية

1 - من كلام له وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربّك يا أمي-ر المؤمنين ؟ فقال : أَفَأَعْبُدُ ما لا أَرى ؟ قال : وكيف تراه ؟ قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان...(2).

2 - سُئِلَ الصادق : هل يُرى الله في المعاد ؟ قال : سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيراً ، انّ الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية ، والله خالق الألوان والكيفية(3).

3 - عن أبي عبدالله ، قال : جاء حبر الى أمير المؤمنين لا فقال : يا أمي-ر المؤمنين ، هل رأيت ربّك حين عبدته ؟ فقال : ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره . قال : وكيف رأيته ؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (4) .

ص: 151


1- الفرقان: 21
2- بحار الأنوار 4 : 27 كتاب التوحيد باب (5) باب نفي الرؤية وتأويل الآيات فيها ح 2
3- بحار الأنوار 4 : 31 ح 5
4- بحار الأنوار 4: 32 - 8 وص 53 ح 30 ، أصول الكافي 98:1 كتاب التوحيد باب (9) باب إبطال الرؤية ح 6

4 - عن الأشعث بن حاتم قال: قال ذو الرئاستين : قلت لأبي الحسن الرضا (علیه السلام ) جُعِلْت فداك، أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية . فقال (علیه السلام): يا أبا العباس من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على الله ، قال الله : «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ الْلَطِيفُ الْخَبِيرُ» (1)(2).

وهناك العشرات من الاحاديث الواردة عن الأئمة (علیه السلام) تنفي رؤية الله عزّوجلّ، وقد ذكرنا طرفاً منها كشواهد ، ونماذج .

2-مكان الله

اشارة

النقطة التالية الدالّة على ضعف مسألة التوحيد التي ذكرها البخاري ومسلم في

صحيحيهما هي أنّ الله بحاجة الى مكان ، وأثبتا له تعالى أماكن متعدّدة.

وتوضيحاً للمسألة نقول : إننا ذكرنا في مبحث الرؤية أن رؤية الله تستلزم القول بتعيين مكان خاص لله عزّوجلّ يشغله ، وأن أحد لوازم هذه الرؤية كما هو شأن كل موجود - أنْ يَشْغل حيّزاً من المكان واحاديث الصحيحين تدلّنا على كون الله متحيزاً في مكان معين، وقد أفرد كل واحد من مؤلّفي الصحاح أبواباً مستقلة في صحاحهم، حتى أنّ علماء أهل السنّة كتبوا في بيان هذه المسألة وتوضيحها كتباً كثيرة.

وروي في الصحيحين أنّ العبد اذا كان في الصلاة فإنّ مكانه تعالى الى جهة القبلة وأمام العبد، وجاء فى السنن أنّ مكانه تعالى هو فوق العرش وقبل أن يخلق الله العرش كان مكانه تعالى في قطعة من السحاب.

وإليك أحاديث تحدّد مكان الله عزّوجلّ:

1 - عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله له رأى بصاقاً في جدار القبلة ، فحكه بيده

ثم أقبل على الناس . فقال : إذا كان أحدكم يصلّي فلا يبصق قِبَلَ وجهه فإنّ الله قِبَلَ وجهه

ص: 152


1- الأنعام : 103
2- بحار الأنوار 4 : 53 ح 31

إذا صلى(1).

2 - عبدالله قال : بينا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلّى إذ رأى في قبلة المسجد نخامة ، فحكها بيده ، ثم قال : إنّ أحدكم إذا كان في الصلاة فإنّ الله حيال وجهه ، فلا يَتَخمَّنَ حيال وجهه في الصلاة (2).

3 - عن أبي هريرة : انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس . فقال : ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخّع امامه، أيحبّ أحدكم أن يستقبل فيتنخّع في وجهه ؟! فإذا تنخّع أحدكم فليتنزّع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا.

ووصف القاسم، فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض(3) .

واخرج مسلم هذا الحديث بطريقين عن أبي هريرة .

الله في السماء

روى ثلاثة من اصحاب الصحاح الستة وآخرون من مؤلفي المسانيد والسنن ع--ن معاوية بن حكم السلمي أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) عن أمته فقال:

فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : فقلت : يا رسول الله أفترى اعتقها - الجارية - ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم ) : ائتني بها ، فأتيته بها . قال لها : اين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول

ص: 153


1- صحيح البخاري 1 : 112 کتاب الصلاة باب حلّ البزاق باليد عن المسجد، صحيح مسلم :1 388 كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب (13) باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها ح 50
2- صحيح البخاري 1: 191 کتاب الصلاة باب هل يلتفت لأمر ينزل ، وج 8: 33 كتاب الأدب باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله
3- صحیح مسلم مسلم 1: 389 كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب (13) باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها ح 53 ، سنن ابن ماجة 1 326 كتاب الصلاة باب « 61» المصلّي يتنخّم ح 1022

الله . قال (صلى الله عليه وآله وسلم ) : اعتقها فإنها مؤمنة (1).

الله على العرش

1 - عن ابن عباس بن عبدالمطلب قال : كنتُ في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فمرت به سحابة فنظر اليها فقال : ما تسمّون هذه ؟ قالوا : السحاب . قال : والمزن ؟! قالوا : والمزن . قال : والعنان ؟ قالوا : والعنان.

قال أبو داود : لم أتقن العنان جيداً ، قال (صلى الله عليه وآله وسلم ) : هل تدرون ما بين السماء والأرض؟ قالوا : لا ندري .

قال : بعد ما بينهما أمّا واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك ، حتى عدد سبع سموات، ثم فوق السبعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين الى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء الى سماء، ثمّ على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء الى سماء ، ثم الله تبارك وتعالى

فوق ذلك !!(2).

2 - عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه، عن جده ، قال : أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) أعرابي ، فقال : يا رسول الله جهدت الأنفُس وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا، فإنّا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : ويحك أتدري ما تقول ؟ وسبّح رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فما زال يسبّح، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك أتدري ما الله !! إنّ عرشه على سماواته هكذا،

ص: 154


1- صحیح مسلم 1 : 232 کتاب المساجد ومواضع الصلاة باب «» باب تحريم الكلام في الصلاة ذيل ح 33. سنن أبى داود 1 : 382 کتاب الصلاة باب تشميت العاطس في ذيل ح 930 ، سنن النسائي 3 : 18 كتاب السهو باب الكلام في الصلاة، موطأ مالك 776:2 كتاب العتق والولاء باب (6) باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة ح 8، مسند أحمد بن حنبل 2 : 291 مسند د أبي هريرة ، وج 5 : 447 - 449 حديث معاوية بن حكم السلمي
2- سنن أبي داود 4 231 كتاب السنة باب في الجهمية ح 4723 ، سنن ابن ماجة 1: 69 المقدمة باب (13) باب فيما أنكرت الجهمية ح193

وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنّه ليئاً به أطيط الرحل بالراكب .

قال ابن بشار في حديثه : إنّ الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته، وساق الحديث (1).

أقول : روى أبو داود في سننه هذا الحديث بأسانيد مختلفة وصححه.

3 - عن ابن مسعود قال : بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كلّ سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسى خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم (2).

الله في السحاب

1 - عن ابن زرین قال: قلت: يا رسول الله (3) ، أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه ؟ أين قال (صلى الله عليه وآله وسلم ) : كان في غماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ومن ثُمَّ خلق عرشه على الماء(4) .

المستفاد من الاحاديث

1 - إنّ الله متحيّز وله مكان، وقبل أن يخلق الخلق كان في ظلّة من الغمام .

1 - إنّ الله تعالى لمّا خلق الخلق استقر على عرشه وفوقه، وكان العرش يئط من ثقله تعالى كما يئطّ المركب من ثقل راكبه .

3 - إنّ الله تعالى أماكن متعدّدة يستقر فيها أنّى شاء فمرّة تجده على السحاب، وأخرى يعتلي العرش، وثالثة ينزل من العرش، وتارة يستقر في جهة قبلة المصلّي وأخرى يتوسط بينهما - المصلّي والقبلة ..

ص: 155


1- المصدرين.
2- كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب : 212
3- (صلى الله عليه وآله وسلم )
4- سنن ابن ماجة 1 : 64 المقدمة باب (13) باب فيما أنكرت الجهمية ح 182 ، سنن الترمذي 5: 269 كتاب تفسير القرآن باب (12) تفسير سورة هود ح 3109

4 - علاوة على ما حكته لنا هذه الأحاديث من التجسيم والتشبيه فإنّها تذكر مسائل حول السماوات والعرش والكرسي، واستقرار العرش فوق الأوعال التي تفصل بين أظلاف كل منها وركبتها مسافة خمسمائة عام ... وكلّ هذه الأشياء تستقر كل ذلك على الماء.

وهذه الأمور ليست خفيّة على المطالع اللبيب المحقق . وعليه أن يحكم على مثل هذه الأحاديث .

رأي أهل السنّة في مكان الله

إنّ نظرة سريعة وخاطفة لكتب الكلام وغيرها تُعطي الإنسان بصيرة أكثر على ما يعتقده علماء أهل السنّة وأئمّة مذاهبهم الأربعة - الحنبلية ، الحنفية ، المالكية والشافعية - فی مسألة مكان الله تعالى هو ما أخذوه من الأحاديث المرويّة عندهم في الصحاح بأنّهم يعتقدون أنّ الله استوى على العرش، وهذا الرأي هو ما يعتنقه علماؤهم المعاصرون ايضاً تبعاً لأسلافهم.

فهذا الإمام أحمد بن حنبل أحد المعتقدين بهذا الرأي يقول بأنّ الله قد استوى فوق العرش ، وتراه عندما يواجه الآية الكريمة «وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ » (1) التى تثبت عدم اختصاص المكانية الله عزّ وجلّ وإنّها من الدلائل السماعية التي تدل بوضوح عل-ى إحاطته الكاملة بجميع الأمكنة وعدم خلوّ مكان منه تعالى - فقام بتأويلها بعلم الله وقال: انّ المراد هو إنّ الله يعلم جميع الأعمال ولا يخفى عليه شيء وليس المراد المعية (2).

وهذا أيضاً الإمام أبو حنيفة هو الآخر يرى بأنّ الله مستقرّ عل-ى العرش . ويروي الذهبي في كتابه «العلو للعلي الغفّار» (3) عن نوح الجامع أنّه قال : كنت عند أبي حنيفة أوّل

ص: 156


1- الحديد : 4
2- تفسير المنار :9 131
3- شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي - 748 ه- أحد علماء اهل السنة المعروفين ، وله كتب عديدة في شتى العلوم منها هذا الكتاب الذي ألفه لإثبات هذه العقيدة بأنّ الله قد استوى على العرش، طبع هذا الكتاب سنة 1388 ه- بالقاهرة ونشرته المكتبة السلفية بالمدينة المنورة

ما ظهر، إذ جاءته إمرأة من ترمذ كانت تجالس جهماً ، فدخلت الكوفة ، فأظنّني اقل ما رأيت عليها عشرة آلاف نفس فقيل لها : إنّ هاهنا رجلاً قد نظر في المعقول ، يقال له أبو حنيفة فأتيه، فأتته فقالت : أنت الذي تعلّم الناس المسائل وقد تركت دينك ؟ أين إلهك الذي تعبده ؟ فسكت عنها ، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا وقد وضع كتاباً : إنّ الله عزّوجلّ في السماء دون الأرض ، فقال له رجل: أرأيت قول الله عزّ وجلّ وهو معكم قال : هو كما تكتب الى الرجل : إني معك وأنت غائب عنه .

قال : ثم قال البيهقي : لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله فيما نفى عن الله عزّوجلّ من الكون في الارض، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع بأن الله تعالى في السماء(1).

وثالث أئمة أهل السنة الإمام مالك بن أنس كان يرى هذا الرأي أيضاً . روى عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه الإمام أحمد بن حنبل قال : قال مالك بن أنس : الله في السماء، وعلمه في كل مكان ولا يخلو منه شيء (2).

ورابعهم الإمام الشافعي كان على هذا المعتقد ايضاً ، روى شيخ الاسلام أبو الحسن الهكاري والحافظ أبو محمد المقدسي باسنادهم الى أبي ثور وأبي شعيب ، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ناصر الحديث رحمه الله تعالى قال : القول في السنّة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما إقرار بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، وأنّ الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وينزل الى السماء الدنيا كيف شاء .... وذكر سائر الاعتقاد .

وممّا جاء في وصية الإمام الشافعي إنّه يشهد أن لا إله إلا الله ، فذكر الوصية بطولها

ص: 157


1- ص 101
2- العلو للعلي الغفّار : 103

وفيها : القرآن غير مخلوق، وأنّ الله يرى في الآخرة عياناً ، ويسمعون كلامه، وأنه تعالى فوق العرش(1).

روى ابن حجر عن ابن تيمية أنه قال : إنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، ، علي على خلقه (2).

وعن الأوزاعي قال : كنّا والتابعون متوافرون نقول : إنّ الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنّة من صفاته .

و روى ايضاً عن أبي عمر الطلمنكي انه قال : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ »(3) ونحو ذلك من القرآن أنه علمه، وأنّ الله تعالى فوق السموات بذاته مستوٍ على عرشه كيف شاء، وقال : وقال أهل السنّة في قوله:«الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ أَستَوى» (4)إنّ الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا عل-ى المجاز(5).

الحافظ شمس الدين الذهبي يرى القول بالمكان الله سبحانه وتعالى أيضاً ووضع كتاباً في تحرير عقيدته وإثباتها وعنونه «العلو للعليّ الغفّار». يقول : إن المسلمون من أهل السنّة وأتباع الحديث مجمعون على أنّ الله عزّ وجلّ بذاته فوق العرش وأنّ أوّل من أنكر ذلك الجعد بن درهم(6).

وقال محمد أشرف شارح سنن أبي داود في شرحه لقوله: ثُمّ الله فوق ذلك : وهذا الحديث يدلّ على أنّ الله فوق العرش وهذا هو الحق، وعليه تدلّ الآيات القرآنية

ص: 158


1- المصدر : 120
2- مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية العقيدة الواسطية : 401
3- الحديد : 4
4- طة : 5
5- العلو للعلى الغفّار : 179
6- شرح كتاب التوحيد : 211

والأحاديث النبوية ، وهو مذهب السلف الصالحين من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم رضوان الله عليهم أجمعين قالوا : إنّ الله تعالى استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معلوم والكيف مجهول والجهمية قد أنكروا العرش وأن يكون الله ،فوقه وقالوا : إنّه في كلّ مكان ولهم مقالات قبيحة باطلة، وإن شئت الوقوف على دلائل مذهب السلف والاطلاع على ردّ مقالات الجهمية الباطلة فعليك أن تطالع الأسماء والصفات للبيهقي وأفعال العباد للبخاري وكتاب العلو للعلي الغفار للذهبي والقصيدة النونية والجيوش الإسلامية لابن القيم(1).

أقول : وفضلاً عمّن ذكرناهم فإنّ عالم أهل الشام الأوزاعي وابن جريج مفتي الحجاز وشيخ الحرم، وعالم خراسان مقاتل بن حيّان والإمام البخاري صاحب الصحيح كانوا ممن يعتقدون بأنّ الله عزّوجلّ مكان خاص(2)، وقال محمد عبدة : إن ابن قدامة ألف في هذا المجال كتاباً (3) .

من أين نشأت هذه العقيدة

ذكرنا في مبحث رؤية الله إنّ منشأ هذا الرأي هو مما جاء في الأحاديث التي رواها حفاظ أهل السنة في كتبهم نقلاً عن أبي هريرة وأقرانه ، وهذه المسألة - مكان الله - هي كتلك نابعة عن أحاديث أخرجها البخاري ومسلم وأرباب الصحاح والسنن في مؤلفاتهم.

وقد أقرّ بعض علمائهم القائلين بالمكانية بهذه الحقيقة. وذكرنا آنفاً قول ابن حجر فإنّه بعد ما ذكر كلام الأوزاعي وعقيدته في هذه المسألة قال : فإن اتباع السنّة مجمعون على ثبوت مكان خاص بالله تعالى ، ثم اضاف قائلاً : إنّ هذه العقيدة هي مما ورد في الأحاديث ونؤمن بجميع ذلك.

والعلّامة الشيخ عبدالرحمن من متكلّمى أهل السنّة عند ما يتطرّق لأقوال العلماء

ص: 159


1- عون المعبود في شرح سنن أبي داود 10:13
2- العلو للعلى الغفّار : 102
3- تفسیر المنار 9: 180

في المكان يستدرك ذلك بحديث ويقول : هذا ما احتواه هذا الحديث والأحاديث المتواترة المرويّة فى الصحيحين وغيرهما (1) .

3-هل الله يضحك؟ ربُّ الصحيحين يضحك!!

اشارة

والمسألة الثالثة التي تبيّن ضعف التوحيد من وجهة نظر الصحيحين «البخاري و مسلم» أنهما أخرجا أحاديث تقص لنا ضحك الله تعالى.

وهاك ايها القارىء الكريم بعض ما روي في هذا الصدد:

1 - روى البخاري ومسلم في كتابيهما حديثاً طويلاً حول الرؤية وقد ذكرنا آنفاً - في مبحث الرؤية - ضمن الحديث الثاني المنقول ، وقد ورد في آخر الحديث إشارات إلى موضوع الضحك .

فيقول الله : أو ليس قد زعمتَ أنْ لا تسألني غيره ؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ؟ فيقول : يا ربّ، لا تجعلنى أشقى خلقك ... فلا يزال يدعو حتى يضحك الله !! فإذا ضحك منه أذن بالدخول فيها !!(2) .

2 - وكذا روى أبو هريرة حديثاً طويلاً عن ضيافة أحد الأصحاب، وجاء في نهاية الحديث : فلما أصبح غدا إلى رسول الله الله فقال له: ضحك الله الليلة أو عج-ب من فعالكما ..(3).

اخرج مسلم عن أبي هريرة حديث بثلاثة أسانيد ونصين مختلفين فقال فيهما : إنّ رسول الله عل الله قال : يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، فكلاهما يدخل الجنّة . فقالوا: كيف يا رسول الله ؟ قال الله : يقاتل هذا في سبيل الله عزّ وجلّ فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله (4)

ص: 160


1- التوحيد : 213 طبعة القاهرة سنة 1347ه.
2- راجع ص 135 هامش 1.
3- صحيح البخاري 5: 43 كتاب المناقب مناقب الأنصار باب ويؤثرون على أنفسهم
4- صحیح مسلم 3: 1504 كتاب الإمارة باب « 35 باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ح 128

4 - عن ابن مسعود : أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال : آخر من يدخل الجنّة رجل ، فهو يمشي مرّة ويكبو مرّة، وتسفعه النار مرّة ، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال : تبارك الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: أي ربّ أدنني من هذه الشجرة فلاستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عزّوجلّ : يا ابن آدم لَعلّي إن أعطيتكها سألتني غيرها ؟ فيقول : لا ، يا ربّ! ويعاهده أن لا يسأله غيرها ، وربه يعذره ، لأنه يرى ما لا صبر له عليه . فيدنيه منها ، فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها.

ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب ! أدنني من هذه، لأشرب من مائها، وأستظل بظلها لا أسألك غيرها .

فيقول : يا ابن آدم !! ألم تعاهدنى أنْ لا تسألنى غيرها ؟! فيقول : لَعَلّى إِنْ أدنيتك منها تسألنى غيرها ؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها ، وربه يعذره ، لأنّه يَرَى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها .

ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي ربّ ! أدننى من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها ، لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم أل- تعاهدنى أنْ لا تسألنى غيرها ؟ قال : بلى يا ربّ، هذه لا أسألك غيرها، وربّه يعذره لأنه يَرَى ما لا صبر له عليها ، فإذا أدناه منها ، فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول : أي ربّ أدخلنيها ، فيقول : يا ابن آدم، ما يصرينى منك ؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ؟ قال : يا ربّ أتستهزىء منّي وأنت ربّ العالمين ؟

فضحك ابن مسعود ، فقال : ألا تسألوني ممَّ أضحك ؟ فقالوا : مم تضحك ؟ قال : هكذا ضحك رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، فقالوا : مِمَّ تضحك يا رسول الله ؟ قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : من ضحك ربّ العالمين حين قال: أتستهزئ منّي وأنت ربّ العالمين ؟ فيقول : إني لا أستهزئ منك ،

ص: 161

ولكنّي على ما أشاء قدير (1).

تبارك الربّ الضحوك

عن أبي زرين قال : قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : ضَحِكَ ربنا من قنوت عباده وقرب غيره . قال : قلت: يا رسول الله أيضحك الربّ ؟ قال(صلی الله علیه وآله وسلم): نعم .

قلت : لن نعدم من ربّ يضحك خيرا(2).

المستفاد من هذه الأحاديث

هذه الأحاديث مسائل تدلّ على أن جميعها موضوعة ومختلقة، نشير إلى بعض منها :

1 - عُروض الضحك والتعجب الله تعالى تماماً كما يعرض ذلك على بني آدم ...

2 - إنّه تعالى إذا أراد في الآخرة أنْ يمنح عبداً من عباده شيئاً يأخذ عليه الميثاق والعهد بأنْ لا يسأله غيره، ولكن تَرَى أنّ الله عزّوجلّ ينخدع بخداع العبد اياه إذ أنّه يوعده كذباً ويقرّ الميثاق على عدم السؤال ثانية، وعندما لبى الله تعالى له طلبه وضمن له الحاجة الأولى يخلف الوعد، وينكث العهد، ويسأل مرة أخرى، ويخدع ربه في هذه المرّة كذلك ، وهكذا مرّة بعد أخرى يكرّر هذا العمل .

أقول : أَلم يكن هناك أحد يسأل هؤلاء القائلين بصحة هذه الأحاديث إنّ الله الذي أثنى على نفسه بالرحمانية والرحيمية ، ومدح ذاته أحسن الثناء لماذا يأخذ على عبده تلك المواثيق الغليظة عندما يريد أن يهبه شيئاً ؟ ولماذا يمنعه السؤال ؟ فما معنى هذا العهد، وما يعني نقضه من قبل العبد ؟

3 - إنّ العبد المؤمن والموحد الذي من شأنه أن يغفر له الله وينجيه من النار ، تراه

ص: 162


1- صحیح مسلم 1 : 174 كتاب الايمان باب «83» باب آخر أهل النار خروجاً ح 310
2- سنن ابن ماجه64:1المقدمه باب «13»باب فیما أنکرت الجهمیه ح281

قد امتلأت نفسه بالعجب والغرور ، ويجرؤ في أن ينسب صفة الاستهزاء والسخرية - التي هي من صفات الجاهلين - إلى الله ! ويقول الله : أتستهزىء منّي وأنت ربّ العالمين ؟!

أعاذنا الله من هذه الموضوعات والخزعبلات وأقوال الزور من المزوّرين والقائلين بها ، ونستغفره من كلّ ذلك .

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطع اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظيماً»(1).

4-الله وتنقلاته

اشارة

المسألة الرابعة في بيان ضعف التوحيد في الصحيحين هي ما أخرجه البخاري و مسلم في كتابيهما من الأحاديث بأسانيد ومستون مختلفة حول مسألة نزول الله إلى السماء الدنيا ، وهذه الأحاديث جميعها تنتهي إلى راءٍ واحد وهو أبو هريرة الدوسي .

نذكر بعضها كأمثلة على الموضوع:

1 - عن أبي هريرة : أن رسول الله الله قال : ينزل ربنا تبارك وتعالى في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ ومن يسألني فأعطيه ؟ ومن يستغفرني فأغفر له ؟(2).

أخرجه البخاري في موردين باختلاف و تفاوت، ففي الأول ينزل ربنا، وفي الآخر يتنزّل ربّنا . وأما مسلم فقد أخرجه بلفظ ينزل ربنا .

ص: 163


1- الأحزاب: 71
2- صحيح البخاري 2 : 66 كتاب التهجد باب الدعاء والصلاة في آخر الليل ، وج 8: 88 كتاب الدعوات باب الدعاء نصف الليل، وج 9 : 175 كتاب التوحید باب قول الله تعالى يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ، سنن ابن ماجة 1 435 كتاب الصلاة باب «182» باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل ح 1366 - 1367 ، صحيح مسلم 1: 521 کتاب صلاة المسافرين وقصرها باب (24) باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه ح 168 - 169

2 - أخرج مسلم في صحيحه ستة أحاديث حول نزول الله تعالى ، ونذكر واح--د منها كمثال :

أبو هريرة يقول : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ينزل الله تعالى في السماء الدنيا لشطر الليل أو لثلث الليل الآخر فيقول : مَنْ يدعوني فأستجيب له ، أو يسألني فأعطيه ؟ ثم يقول : مَنْ يقرض غير عديم ولا ظلوم ؟

حدثنا هارون بن سعيد بهذا الاسناد ...وزاد : ثم يبسط يديه تبارك وتعالى يقول : من يقرض غير عدوم ولا ظلوم؟(1).

3 - قالت عائشة : إنّ رسول الله الا الله قال : ما من يوم أكثر من أن يعتق فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثمّ يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء؟(2).

المستفاد من هذه الأحاديث

1 - تجسیم الله تعالى.

2 - حاجة الله إلى المكان.

3 - حاجة الله إلى الجهة ، كما ذهب متكلّمو العامة مثل : ابن قتيبة وابن عبدالبرّ الى القول حول الله بالجهتية ، وقد اعتمدوا في إثبات نظريتهم وعقيدتهم هذه على الأحاديث المرويّة عندهم في الصحاح (3) .

4 - تحديد الله تعالى بحدود بحيث يحتاج إلى تغيير مكانه، وأن يتنقل من مح-لّ إلى محل آخر .

ص: 164


1- صحیح مسلم 1 : 522 كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب « 24 باب الترغيب فی الدعاء والذكر فى الليل والإجابة فيه ح 171
2- صحیح مسلم 2 : 982 کتاب الحج باب «79»باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة .ح436
3- عمدة القاري 7: 199

تحقیق موجز

لايخفى أن حديث نزول الله ورد بنصوص ومتون مختلفة ومتفاوتة ، ولكنّ القاسم المشترك بين جميعها هو اشتراكها فى راو واحد وهو أبو هريرة ، وتَرَى جميعها مضطربة نصاً ومتناً، ففي بعضها ورد نزول الله في الثلث الآخر من الليل، وفي بعضها عند ذهاب ثلث من الليل، وفي البعض الآخر عند ذهاب ثلثي الليل. وورد في بعضها عند ذهاب شيء من الليل وكذا تلاحظ اضطرابات في ذيل الحديث من حيث العبارة.

وعلى هذا فلا يمكن أن نوحد هذه الأحاديث الستة، بل حتى أن الجمع بين حديثين منها يبدو غير ممكن.

وكما أشرنا اليه سابقاً أنّ هذه الأحاديث جميعها مرويّة عن أبي هريرة، وتعتبر في الواقع حديثاً واحداً تبين موضوع واحد ولكن لما كان الكذاب نساء ولا حافظة له ، تَرَى الاختلاف والتضارب واضح في أخباره، وعلى كل حال فإنّ هذا الحديث ينافي ويباين مسلّمات العقل والقرآن حول التوحيد .

5-الله جنباً إلى جنب عبده

أخرج الشيخان في صحيحيهما ، وابن ماجة في سننه ، بأنّ الله يقف كتفاً إلى كتف عبده ومحاذيا إليه .

عن صفوان بن محرز قال : بينا ابن عمر يطوف ، إذ عرض رجل فقال: يا أبا عبدالرحمن، أو قال : يا ابن عمر ، أسمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في النجوى ؟ فقال : سمعت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول : يدنى المؤمن من ربِّه . وقال : يا هشام يدنو المؤمن حتى يضع الله عليه كَنَفَهُ فيقرّره بذنوبه، تعرف ذنب كذا ؟ يقول : أعرف ، يقول : ربّ أعرف - مرتين - فيقول : سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم (1).

ص: 165


1- صحيح البخاري :3 168كتاب المظالم والغصب باب قول الله تعالى :«ألا لعنة الله على الظالمين» ، وج 6: 93 كتاب تفسير القرآن تفسير سورة هود، وج 8: 24 كتاب الأدب باب ، ستر المؤمن على نفسه ، صحیح مسلم 4 : 2112 كتاب التوبة باب (5) باب قبول التوبة ح 29 ، سنن ابن ماجة 1: 65 المقدمة باب «13» باب فيما أنكرت الجهمية ح 183

6-جوارح الله وأعضاؤه

اشارة

الدليل الخامس على ضعف مجموعة من أحاديث الصحيحين وسقمها هو ما أخرج الشيخان البخاري ومسلم من الروايات المختلفة التي تمت بصلة إلى بيان مسائل التوحيد وما تتعلّق بذات الله عزّ وجلّ ..

والجدير بالذكر إن دراسة هذه المجموعة الكبيرة من الروايات وتحقيقها لتبصر الإنسان وتعطيه وعياً على معرفة الحقيقة هي في غاية الأهمية، وهذه الحقيقة هي أنّ معرفة التوحيد الصحيح والسليم من التوهمات لا تتحقق ولا تحصل عن طريق هذه الأحاديث المروية في الصحيحين، وذلك لأنهما صوّرا الله تعالى شأنه على أنه جسم مادي كسائر الموجودات المادية وأنه عزّ وجلّ يمتلك أعضاء وجوارح كجوارح الانسان الكامل ، مثل : الوجه واليد والإصبع وغيرها.

وقد أشرنا فيما مرّ آنفاً في مبحث الرؤية إلى بعض هذه الروايات، وتتميماً لذلك نتطرّق هنا أيضاً إلى بعضها الآخر ونخصص الدراسة فى كل عضو بانفراد.

1-وجه الله

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما روايات عديدة تصوّر لنا أن الله تعالى وجهاً وصورة مثل وجه الإنسان وصورته :

1 - عن أبي هريرة : عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قال :خلق الله آدم على صورته ؛ طوله ست-ون ذراعاً ، فلمّا خلقه قال : اذهب فسلّم على أولئك النفر الجلوس من الملائكة ، فاستمع ما يحبّونك ، فإنّها تحيتك وتحيّة ذرّيّتك .

فقال : السلام عليكم، فقالوا السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه ورحمة الله، فكلّ مَنْ يدخل الجنّة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن (1).

ص: 166


1- صحيح البخاري 8: 62 كتاب الاستئذان باب بدء السلام ، صحیح مسلم 4: 2183 کتاب الجنّة وصفة نعيمها باب«11» باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير 28

2 - عن أبي هريرة : عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنّب الوجه، فإنّ الله خلق آدم على صورته!!(1).

3 - أخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : خلق آدم على صورة الرحمن (2).

4- أخرج البخاري في كتابه الأدب المفرد عن أبي هريرة أنه قال : لا تقولن: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإنّ الله عزّوجلّ خلق آدم على صورته (3) .

الاستنتاج

نستكشف من هذه الروايات ما يلي :

أولاً : تجسيم الله ، وإثبات الوجه والصورة له تعالى وتقدس.

ثانياً : التشابه بين صورة الإنسان وصورة الله وإكراماً واحتراماً لصورة الله ووجهه الذي يشبه وجه الإنسان فلا يجوز لطم وجه الإنسان .

تحقیق

قال العلّامة الفقيد السيد عبد الحسين شرف الدين: إنّ مضمون هذه الأحاديث إنّما هو عين الفقرة السابعة والعشرين من الإصحاح الأوّل من إصحاحات التكوين من كتاب اليهود - العهد القديم - وإليك نصها بعين لفظه : قال : فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم(4).

أقول : يتضح لمن يقرأ التوراة ويطالعها، أنّ هذا المضمون كون صورة آدم شبيهة

ص: 167


1- صحیح مسلم :4 : 2017 كتاب البر والصلة والادب باب « 32 »باب النهی عن ضرب الوجه ح 115
2- إرشاد السارى 10 : 491
3- الأدب المفرد للبخاري : 73 باب (91) باب لا تقل : قبّح الله وجهك ح 173
4- أبو هريرة : 55

لصورة الله وإثبات الوجهية الله تعالى - ورد مكرّراً في التوراة كما ينص عليه في القسم الأول من الإصحاح الخامس من سفر التكوين ... عندما خلق الله آدم خلقه على صورة

الله .

وفسّر بولس هذه الجملات الواردة في التوراة وشرحها بأن هذا التشابه بين الإنسان والربّ هو في القدسية والعدالة والسيرة، وأما الصورة فالمراد منها الصورة الواقعيّة للانسان لا الصورة الظاهرية(1).

أقول : لو كان المقصود من التشابه الوارد في التوراة هو هذا المعنى الذي قاله بولس كان وجيهاً تقريباً ، وارتفعت عندئذ شبهة التجسيم والتشبيه ، ولكن وللأسف إنّ أولئك الذين أخذوا ذلك من التوراة وأدرجوه في الصحيحين، أخذتهم العصبية العمياء، فسدوا جميع أبواب التأويل والتفسير وصاروا أرأف من الأم وأحر من الجمرة، ورووا هذه الحكاية الوهمية بكيفية بحيث يصعب ويستحيل تأويلها على معنى آخر، كما تشاهده في الحديث الثاني: «إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنّب الوجه، فإنّ الله خلق آدم على صورته » إذ أنه يدفع أدنى احتمال لأيّ تأويل، ولا يبقى لك مجال في أن تعبّر بالوجه بمعنى السيرة لا الصورة الظاهرية والعضو الخاص في البدن. كما أشار إليه بولس.

كم كان عرض آدم (علیه السلام)

قال العيني في شرحه على صحيح البخاري : جاء في الحديث إن طول آدم كان ستون ذراعاً ، ولم يبيّن عرضه هنا، وورد أنّ عرضه كان سبعة أذرع(2) .

أقول: تدلّنا عبارة العيني فضلاً عن التشابه بين الإنسان وربّه الذي ورد ذكره فى تلكم الأحاديث أنّ طول آدم كان ستين ذراعاً وعرضه سبعة أذرع . وهذا دليل واضح على كون هذه الأحاديث موضوعة ومختلقة، وذلك لأن :

ص: 168


1- قاموس الكتاب المقدس مادة آدم
2- عمدة القاري 22 229

أولاً : إذا كان طول الانسان ستين ذراعاً يلزم أن يكون طول الجمجمة أكثر من ذراعين ، ولكنّ جماجم الإنسان البدائي في القرون الأولى التي تم كشفها والعثور عليها في علم الحفريات لم تكن بينها وبين جمجمة الإنسان في العصر الحالي اختلاف كثير و تفاوت كبير ، وحتى أنه لم يعثروا إلى هذا التاريخ على أيّة جمجمة تكون على حجم ذراعين ، ولم يحصلوا على أي أثر يدلّ على وجود إنسان ذي الستين ذراع.

ثانياً : إذا كان طول الإنسان ستين ذراعاً ولكي تتناسب أعضاؤه يجب أن يكون عرضه سبعة عشر ذراعاً وسُبْع الذراع 1/7 17، لا سبعة أذرع. لأن العرض إذا كان سبعة أذرع يجب أن يكون طوله أربعة وعشرين ذراعاً ونصف الذراع، لأن عرض الإنسان الطبيعي مع استواء خلقته بمقدار سُبعي طوله.

وما أدري من أبن عرف أبو هريرة : إن عرض آدم كان سبعة أذرع ؟!

وبناءاً على هذا، فإذا اخذنا الحسابات الأبوهريرية بنظر الاعتبار 60* 7 اذرع يمكننا أن نتصوّر أنه قد حصل فى أحد الحديثين ، أو في تعيين مقدار طول الإنسان وعرضه خطأ وسهو، أو نتصوّر أن آدم(علیه السلام) كان قبيح الهيكل وكريه المنظر أو أنه لم يكن مخلوقاً مستوي الخلقة. وهذا الاحتمال الأخير نقيض للنص القرآني المنزل في قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحَسْنِ تَقْويمِ»(1).

2-هل الله عين؟

الله ليس بأعور :

1 - عن نافع : قال عبد الله : ذكر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً بين ظهري الناس المسيح الدجال فقال : إنّ الله ليس بأعور ، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية (2).

ص: 169


1- التين : 4
2- صحيح البخاري 4 : 202 كتاب بدء الخلق باب واذكر في الكتاب مريم ، وج 5: 223 باب حجّة الوداع ، وج :9 75 کتاب الفتن باب ذكر الدجال صحيح مسلم 4 : 2247 باب «20»باب ذكر الدجّال وصفته وما معه ح 100

2 - عن عبد الله قال : ذكر الدجال عند النبي الله فقال : لا يخفى عليكم أنّ الله ليس

بأعور - وأشار بيده إلى يمينه - وقال : إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه

عنبة طافية (1).

ويلاحظ فيهما:

يتضح من خلال نظرة مجملة وفاحصة لهذين الحديثين وأمثالهما، أنّ الصحيحين قد أثبتا الله عزّوجلّ عيناً ، وقد وصفا الدجال بأنّه أعور العين، وأن الله ليس بأعور ، ويحصل ذلك بعد المقارنة بين ثبوت البصر والعمى لهما ، وإثبات أحدهما للأول - الله - والآخر للثاني - الدجال ..

وبعبارة أخرى تلاحظ في هذه الأحاديث - بعد المقارنة والمقايسة بين الله والدجال - ثبوت الأعورية للدجال وعدمها الله تعالى وثبوت شيء لشيء متفرّع لثبوت المثبت له العين - للشيء - الله تعالى .

ناهيك عن كل هذا، فلابد أن نهلهل ونرحّب بالبخاري ومسلم اللذين قاما بهذه المقايسة والمقارنة التافهة والسخيفة بين الله تعالى وبين أكثر الموجودات شرّاً - الدجال .

3-هل لله يدين؟

1 - عن أبي هريرة، عن النبي عل الله قال : إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء

الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنّه لم ينقص ما في يمينه ، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض والقبض يرفع ويقبض (2).

2-عن أبي هريرة قال : يمين الله ملأى لا يغيضها شيء ، سحاء الليل والنهار،

ص: 170


1- صحيح البخاري 9 148 كتاب التوحيد باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله
2- صحيح البخاري 6 : 92 كتاب التفسير تفسير سورة هود، وج :9 : 152 کتاب التوحيد باب «وكان عرشه على الماء »

وبيده الأخرى الميزان ، يرفع ويخفض ، قال : أرأيت ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنّه لم ينقص ممّا في يديه شيئاً (1) .

3 - سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على المنبر يقول : يأخذ الجبّارُ سمواته وأرضه بيده وقبض بيده فجعل يقبضها ويبسطها - ثمّ يقول : أنا الجبار أين الجبارون ؟ أين المتكبّرون ؟ ويتميل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن يمينه وعن يساره ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرّك من أسفل شيء منه حتى إني أقول : أساقط هو برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) ؟

4-هل الله إصبع؟

1- عن عبد الله قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا محمد ، إنا نجد أنّ الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع ، فيقول : أنا المَلِك فضحك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه»(3).(4).

أقول : انّ إثبات الإصبع الله عز وجل كإثبات سائر الجوارح الله تعالى قد ورد الكلام حوله في كثير من أخبار الصحيحين والسنن الأخرى.

2 - واقرأ حديثاً آخر أخرجه الترمذي وابن ماجة في سننيهما.

عن الكلابي قال : سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ما من قلب إلّا بين إصبعين من

ص: 171


1- سنن ابن ماجة 1: 71 المقدمة باب «13» باب فيما أنكرت الجهمية ح 197
2- المصدرح 198.
3- الزمر : 67
4- صحيح البخاري :6 157 كتاب التفسير باب تفسير سورة الزمر ، وج 9 : 164 كتاب التوحيد باب ما جاء في قول الله إن رحمة الله قريب من المحسنين ، وص 181 باب كلام الربّ ، صحیح مسلم 4 2045 كتاب القدر باب« 3 »باب تصریف الله تعالى القلوب كيف شاء ح 17

أصابع الرحمن ، إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه (1).

الاستنتاج

يستفاد من هذه الأحاديث المرويّة حول ثبوت اليد والإصبع الله :

أوّلاً : أنّ الله تعالى يد وإصبع كسائر الموجودات، تماماً كما للإنسان .

ثانياً : إنّ الله تعالى محدود بحدود له أطراف وجهات، یدان یمنی ،ویسری ،كسائر المخلوقات والممكنات .

هل الله ظهر

عن أبى هريرة : عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو (2)الرحمن ، فقال لها : مه ! قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال : ألا ترضين أنْ أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى ، يا رب . قال : فذاك(3).

6-هل لله ساق

1 - ذكرنا في الفصول السابقة حديثا مضمونه أنّ الله تعالى يكشف عن ساقه للمؤمنين يوم القيامة ، وأنّ هذا الكشف من الآيات والعلائم التي بها يعرف المؤمنون ربِّهم ،ولذلك فإنّنا ندع تكرار ذلك الحديث جانبا ونلفت أنظار القرّاء الاعزاء الى حديث آخر غيره يشير إلى نفس الموضوع(4).

2 - قال أبو سعيد : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يكشف ربّنا عن ساقه فيسجد له

ص: 172


1- سنن الترمذي 4 : 390 كتاب القدر باب (7) باب ما جاء في ان قلب المؤمن بين اصبعي الرحمن ح 2140 ، سنن ابن ماجة :1 : 72 المقدمة باب (13) باب فيما أنكرت الجهميةح199.
2- الحقو : قال في النهاية 1 : 279 : والأصل في الحقو معقد الازار،وقال الزمخشري في الفائق 1 : 298 : الحقو : الازار الذى يشدّ على الحقو وهو الخصر . المعرّب
3- صحيح البخاري 6 : 167 تفسير الذين كفروا «سورة محمّد»
4- راجع ص : 135 الحديث الثالث

كلّ مؤمن ومؤمنة ، ويبقى مَنْ كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعةً، فيذهب ليسجد فيعود

ظهره طبقاً واحداً (1) .

تأمل في حديث الساق

يتضح من هذين الحديثين انّ إحدى علامات معرفة الله في يوم القيامة هو الساق، ومادام الله تعالى لم يكشف عن ساقه يظلّ المؤمنون في حالة شك وتحيّر وترديد بالنسبة إلى وجوده تعالى ، ويظهر لك الأمر جليّاً لو تأملت في نص الحديثين . تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً .

ولما كان إثبات كشف الساق ذا إرتباط بالآية الكريمة «وَيَوْمَ يَكْشِفُ عَنْ ساق» (2)أخرجه البخاري بهذه المناسبة تفسيراً وبياناً لهذه الآية ، كان لازماً علينا أن نشير إلى معنى الآية وأقوال المفسرين فيها ولو إجمالاً .

قال الطبرسي في تفسير الآية «يَوْمَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ » : أي فليأتوا بهم، في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال والشدائد ، وقيل : معناه يوم يبدو عن الأمر الشديد الفظيع ، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير .

قال عكرمة : سئل ابن عباس عن قوله تعالى : يوم يكشف عن ساق فقال : إذا خفي عليكم شيء في القرآن فابتغوه في الشعر فإنّه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق هو يوم كرب وشدّة .

وقال القتيبي : وأصل هذا إنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، يشمّر عن ساقه فاستعير الكشف عن الساق في موضع عن الساق في موضع الشدّة، وقد رُوِي هذا المعنى عن الامامين الباقر و الصادق(علیه السلام) (3).

ص: 173


1- صحيح البخاري ج 6: 198 تفسير سورة ن والقلم
2- القلم : 42
3- مجمع البیان 10 : 339

رأي صاحب المنار

ذكر الشيخ محمد عبده في تفسيره - للآية بعد أن ذكر ذلك المعنى الكنائي الذي نقل عن مجمع البيان والمفسّرين القدماء ، ونقل هو رأي البيضاوي بالتفصيل فقال : وذهب بعضهم إلى أنّ لفظ الساق ورد بمعنى الذات - ذات الله - والنفس واستشهدوا له بقول امير المؤمنين علي كرم الله وجهه في حرب الشراة : لابدّ من قتالهم ولو تلفت ساقي ،

قالوا : أي نفسي .

وعليه فيصح أن يكون كشف الساق في الآية والحديث عبارة عن كشف الحجاب (1).

أيّها المطالع المنصف، هذا هو واقع العصبية ومعنى الذود الباطل عن أحاديث صحيح البخاري وتصحيح المطالب الموهومة والخرافية فيها وتأويلها، والتغاضي عن بيان الحقائق الذي ابتلي به الشيخ محمد عبده إذ انحرف عن الجادّة الصائبة حتى بعد نقله لاقوال المفسرين والعلماء.

7-هل لله رجل؟

عن انس : عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) قال : يلقى في النار، وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع الله قدمه فتقول قِط قط.

عن أبي هريرة : وأكثر ما يوقفه أبو سفيان : يقال لجهنم : هل امتلئت ؟ وتقول : هل

من مزيد ؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قَدَمَه عليها فتقول : قط قطّ(2).

أخرج البخاري في صحيحه هذا الموضوع في عدة احاديث بأسانيد متعدّدة

ص: 174


1- تفسير المنار 9 144
2- صحيح البخاري 6: 173 كتاب التفسير باب تفسير سورة ق ، وج 9: 143 كتاب التوحيد باب الحلف بعزة الله ، وص: 164 كتاب التوحيد باب إنّ رحمة الله قريب من المحسنين ، صحیح مسلم :8 2186 کتاب الجنّة وصفة نعيمها باب (13) باب النار يدخلها الجبّارون ح 35

ومتون مختلفة ، وكذا أخرجه مسلم في صحيحه ضمن خمس أحاديث وورد في بعضها كلمة «الرجل»، وفي بعضها الآخر كلمة «القَدَم».

ولا يخفى أنّ فى هذه الروايات - التى نقلناها إليك عن الصحيحين البخاري ومسلم اللذين يعتبران اهم المصادر عند أهل السنّة بعد القرآن دلالة تامة وواضحة على كونها من الأحاديث المزوّرة والموضوعة في مباحث التوحيد لأنها تحكي عن توصيف ربِّ متحيّز في مكان خاص فتارة يكون مستقرّ على العرش، وتارة أخرى تجده في السحاب، وتارة ثالثة تراه في جهة القبلة أمام المصلّي، وأحياناً ينزل الى السماء الدنيا وذلك في بعض الليالي الخاصة، وإنّه يُرى كما تُرى الأجسام المادية، ويضحك ، وله أعضاء وجوارح كما للإنسان أعضاء وجوارح.

فحينئذ فهل يُعقل أنْ يُتَّخَذ مثل هذا الموجود ربّا وإلهاً ؟!!

فكما أنّ الدلائل النقلية تنفي التسليم والانقياد لمثل هذا الموجود فكذلك البراهين العقلية والفلسفية تأبى قبول هذا الربّ المحتاج والمحدود والذي له آثار وعلامات المخلوقين - لا الخالق والصانع - ولا يقبل العقل أن يتعبّد لمثل هذا الموجود كَرَبِّ وإلهِ

وخالق.

ولعلّ يوجد بعض من لم تكن له معرفة بعقائد أهل السنّة وآراء علمائهم ومحدّثيهم في مسألة التوحيد فينتقدنا ويورد إشكاله علينا قائلا : إنّ جميع الأقوال والآيات والأحاديث تحتمل التوجيه والتأويل، إذن فما الداعي أن تكون هذه الأحاديث التي رويتموها عن كتب أهل السنّة ممّا تقبل التأويل والتوجيه؟ ولماذا لا تلتزمون بهذه الطريقة ولم تأولوا هذه الأحاديث الى معان يتقبلها العقل ؟

وأما الإجابة عن هذه الأسئلة نقول : إنّ في هذه الأحاديث أسباباً وعللاً عديدة تمنعنا من أنْ نأوّلها ونبرّرها وفي الحين ذاته أنّ هذه الاسباب قد غلقت جميع الطرق والمحاولات لتبرير وتوجيه تلكم الأحاديث. ولأن :

أوّلاً : إنّ عملية التأويل والتوجيه تتم لو حصل المعارض والمخالف بينما لا نرى

ص: 175

ولم نعثر على حديث واحد يخالف مفهوم أحاديث الرؤية والتجسيم المروية في الصحيحين وسائر الكتب المعتبرة عند أهل السنّة ، وحيث لم تحصل رواية تنفي التجسيم والرؤية فبماذا نأوّل الأحاديث ؟(1).

ثانياً : إنّ متون تلك الأحاديث صريحة وواضحة عن أهداف ونوايا كانت مرادة لجاعلي الاحاديث وإنّ الفاظها و سیاق عباراتها قد وضعت على نحو لا تدع للتأويل والتبرير مجالاً وسبيلاً إلا الأخذ بظواهر الأحاديث، فياترى كيف يمكن تأويل الأحاديث الحاكية - بأنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر - التي هي صريحة في الرؤية والمشاهدة؟ وبماذا يمكن توجيه الوجه في أحاديثهم التي تقول إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنّب الوجه فإنّ الله خلق آدم على صورته ؟ وبماذا ناول الأحاديث التي تثبت المكانية والجهتية الله عزّوجل وإنّه تعالى فوق العرش والعرش على سماواته، أو إنّه تعالى كان في غماء قبل أن يخلق الخلق ، وهكذا سائر الأحاديث الأخرى التي مرّ عليك بعضها ؟

هل يمكنك أن تتصوّر معنى ومفهوماً آخر غير التجسيم والتشبيه وتحديد المكان لهذه الأحاديث التي تلوناها عليك والأحاديث الأخرى التي أخرجوها في كتبهم في مباحث التوحيد ؟ إذن كيف يسنح لنا ان نقوم بعملية التأويل والتوجيه؟

ثالثاً : إنّ ما احتوته هذه الأحاديث لم يكن بحثاً جديداً وحديثاً حتى نأوّلها ونقوم بتوجيه وتبرير ذلك على غير ظاهرها ليتناسب مع العقل، بل أنّها أمور ظهرت الى الساحة

ص: 176


1- نعم ، عثرنا على أحاديث وأقوال تخالف تلك الأحاديث ولكن ما أسرعهم أن أوّلوا هذه الأحاديث المعارضة أو أنّهم ضعفوها بحيث تطابق مفهوم أحاديث الرؤية والتجسيم والتشبية التي عليها المعتمد عند العامة ، ولذلك ترى في أكثر كتب أهل السنة خاصة الكتب الحديثية والكلامية والتفسيرية عناوين تختص بالبحث فى الرؤية وغيرها ، وأن عقيدة الأغلبية الساحقة من علمائهم هي إثبات الرؤية والتجسيم وغيرها من الأمور المتعلقة بالتوحيد حتى كتبوا كتباً كثيرة ومؤلفات عديدة في تقويم هذه العقيدة ، بحيث أفتى علماء السنة وأئمتهم بكفر كلّ من لم يعتقد بالتجسيم والتشبيه ، وقد ملئت كتبهم بهذه الفتاوى وتحريم تأويل ظواهر الحديث وإخراجه عن المعنى الظاهري منه . فعلى هذا فهل يبقى محلّ وموضع للتأويل والتوجيه ؟ فتأمل جيداً. المعرب

منذ اللحظة الأولى من وفاة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وانسداد الأبواب العلمية والدينية، ومن بعد ذلك ثبتت واستقرّت في الصحاح الستة في عهد البخاري حتى النسائي - عام 256 - 279 ه- .

ونلاحظ أنّ هذه المسائل هي نفس المسائل التي كانت تطرح على أئمة أهل بيت رسول الله - منذ عهد الإمام الباقر (علیه السلام)حتى عهد الإمام الرضا(علیه السلام) - وقد تصدّى الأئمّة للإجابة عليها، ونفوها نفياً قاطعاً حتى أنهم (علیه السلام) أنكروا صدورها عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) وأعلنوا صريحاً بأنها مزيفة ومختلفة - لأنّهم أصحاب البيت وهم أعلم بما في البيت- .

فعلى هذا فلو كان للتأويل والتبرير مجال وسبيل لتذرّع به السائلون الذين سألوا الائمّة

(علیه السلام)واستفسر وا منهم عن صحة تلك الأحاديث .

رابعاً : إنّ أحد الأسباب التي تدفعنا عن تأويل هذه الأحاديث وتمنعنا من توجيهها هو الأقوال والآراء التي اعتقد بها أغلبية علماء العامة الذين أفتوا بمنع تأويل هذه الأحاديث وضرورة التمسّك بظواهرها، حتى أن وصل بهم الأمر إلى تكفير المتأوّلين وحكموا عليهم بالكفر والزندقة والارتداد.

وهاك أيّها القارىء طرَفاً من تلك الأقوال والفتاوي :

عقيدة علماء السنة في هذه الأحاديث

1 - مسلم بن حجاج النيسابوري : عقد في صحيحه باباً خاصاً للبحث في إثبات الرؤية وباباً آخر في كيفية الطريق إلى الرؤية. وأخرج في هذين الفصلين الأحاديث التي تحكي مسألة الرؤية وتصرّح بمسألة الجهتية وتشير صريحاً الى تجسيم الله تعالى (1).

ومن الواضح أن تخريجه لهذه الأحاديث في هذين الفصلين من صحيحه يدلّ على القول بها والحكم بصحتها وإلزام المسلمين على الاعتقاد بظواهرها ونهيهم عن تأويل وتفسير عباراتها على غير ظاهرها .

ص: 177


1- صحیح مسلم :1: 163 - 172 كتاب الإيمان باب« 80 - 81»

و 3 - ابن ماجة وأبي داود وهما من أرباب الصحاح الستة ومن العلماء المعتمد عليهم عند العامة - عقد ابن ماجة في سننه باباً خاصاً يتعلّق فيما أنكرت الجهمية ، وكذا أفرد أبو داود باباً فى الجهمية (1) وأخرجا أحاديثاً تمت إلى مبحث الرؤية والتجسيم والتشبيه وإثبات المكانية الله عزّوجلّ كإثبات الضحك الله وإنه تعالى يقف إلى جنب عبده كتفاً بكتفه ، وتجلّيه وتستره عن أعين العباد و ...و. .

ويعتقد هؤلاء أنّ الجهمية (2)طائفة كالشيعة ينكرون رؤية الله ، وينفون القول بالمكانية الله تعالى، ولا يرون بأن الله عزّوجلّ شأنه أعضاء وجوارح وجسماً كسائر الموجودات، وإنّهم لا يعتقدون بظواهر هذه الأحاديث.

وعنوان الباب في سننيهما وتخريجهما للأحاديث في هذا الباب يدلّ على أن ابن ماجة وأبي داود يعتقدان في التوحيد حسبما ورد في تلك الأحاديث وظواهرها، وحكما على مخالفيهما الذين لا يعتقدون بعقيدتهما بالكفر مثل الجهمية ، وأن الذين يأوّلون ظاهر الأحاديث زنادقة ومرتدون وخارجون عن الدين.

4 - ابن تيمية : قال : وأمّا أحاديث النزول الى السماء الدنيا كلّ ليلة فهى الأحاديث

ص: 178


1- سنن ابن ماجة 1: 70 المقدمة باب (13) باب فيما أنكرت الجهمية ، سنن أبي داود 4: 231 كتاب السنّة باب في الجهمية ، وباب في الرؤية، وباب في الرد على الجهمية
2- الجهمية احدى الحركات الفكرية التي ظهرت على الساحة الاسلامية في القرنين الثاني والثالث وهم اتباع جهم بن صفوان الترمذي السمرقندي (المتوفى سنة 128 ه) ويرمون الى ارجاع الامة الى الجاهلية وتعربها بعد الهجرة ومن عقائدها القول بالجبر والاضطرار، وأنّ الجنّة والنار تبيدان وتفنيان وان الايمان هو معرفة الله والكفر الجهل به، وان العلم الالهى حادث وينفون الصفات مثل الحياة والقدرة والعلم والإرادة وغيرها عن الله ويقولون انها صفات المخلوقين ولا يجوز أن يصف الانسان الله تعالى بهذه الصفات . ومرتكز عقيدتهم على اصلين 1 - القول بالجبر.2- تعطيل الصفات عن الله . فاين هذه الاباطيل عن عقائد الشيعة الامامية التي جاءت في كتبهم . والامة الاسلامية على اختلاف فرقها تعتقد بكفر هذه الفئة . ومن عقيدة الجهمية أيضاً ان القرآن مخلوق . وقد عرفت فيمامر (ص 84) عقيده ائمة اهل السنة وخاصة أحمد بن حنبل في من يعتقد بخلق القرآن وتكفيره لهذه الفئة فراجع . المعرّب

المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث، وكذلك حديث دنوه عشيّة عرفة رواه مسلم في صحيحه، وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في اسنادهثمّ إنّ جمهور أهل السنّة يقولون : إنّه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحمّاد بن زيد وغيرهما ، ونقلوه عن أحمد ابن حنبل (1).

5 - محمد أشرف شارح سنن أبي داود قال في ذيل«وإنّه لينط به اطيط الرحلب الراكب»

: إنّ العرش ليعجز عن حمله وعظمته حتى يئطّ به، إذ كان معلوماً انّ أطيط الرحل بالراكب إنّما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله، ثم يذكر كلاماً للخطابي وينكره وينتقده ويقول : كلام الإمام الخطابي فيه تأويل بعيد خلاف للظاهر لا حاجة إليه ، وإنّما الصحيح المعتمد في أحاديث الصفات إمرارها على ظاهرها من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل كما عليه السلف الصالحون....(2).

6 - البغوي في شرح السنة : كلّ ما جاء في الكتاب والسنة من هذا القبيل في صفاته تعالى كالنفس والوجه والعين والإصبع واليد والرجل والإتيان والمجيء والنزول الى السماء والاستواء على العرش والضحك والفرح فهذه ونظائرها صفات الله تعالى ورد بها السمع فيجب الإيمان بها وإبقاءها على ظاهرها معرضاً فيها عن التأويل مجتنباً عن التشبيه (3).

هذا وقد تطرّقنا آنفاً الى آراء بعض العلماء حول التجسيم كالنووي والعيني والقسطلاني وأحمد محمد شاكر وعبده والإسفراييني وأحمد بن حنبل وابن تيمية وأبي عمر والذهبي والشيخ عبدالرحمان(4) وذكرنا عقيدتهم ورأيهم ورأي آخرين غيرهم بما يناسب ضرورة الالتزام بظواهر هذه الأحاديث وعدم جواز تأويلها وتوجيهها ، وهذا

ص: 179


1- منهاج السنّة 1 : 262
2- عون المعبود في شرح سنن أبي داود 13 : 15
3- سنن ابن ماجة 1: 71 في الهامش على حديث 198
4- راجع ص 138 - 144

الذي لاحظته أيّها القارئ الكريم هو غيض من فيض ، ولو أردنا أن نورد جميع أقوال علمائهم لاحتجنا إلى موسوعة كبيرة من الكتب .

تبصرة للبصير

عرفنا ممّا نقلناه من الأحاديث التوحيدية في الصحاح الستة أنّ مضمون هذه الروايات يحكي لنا إمكان رؤية الله وإثبات المكان ،له وأنه تعالى ذو أعضاء وجوارح مختلفة تماماً كالموجود الطبيعي والمادي، وأنّ علماء السنة يعتقدون في صفات الله حسب ما تقتضيه رواياتهم ويوصون أتباعهم بالاعتقاد بهذه الصفات والأفكار.

ولابد من الإذعان بأنّ منشأ هذا الانحراف في العقيدة والضلالة عن الصراط المستقيم هو ما روته لهم هذه الأحاديث - التي يراها علماء السنّة صحيحة ومعتمدة - حول مسألة التوحيد التي هي الدعامة الأولى في العقيدة الدينية .

وقد اعترف بهذا الموضوع علماء السنّة أنفسهم، واستنادهم الى هذه الأحاديث في بيان عقيدتهم مجمع عليه، ونحن في غنى عن تكرار البحث وعن ذكر الدلائل والشواهد الأخرى لأننا قد فصلنا البحث مسبقاً وفي هذا الفصل كذلك ، ولكن ندعو القارى، ثانية الى مراجعتها مرّة أخرى بدقة وتعمّق أكثر ليقف على الارتباط الوثيق بين هذه الأحاديث وعقائد علماء أهل السنة.

ومن خلال التأمل فيما مرّ من البحوث تتضح لنا المسألة التالية أكثر وأوفر : ما هو مدى التأثير السلبي الذي أوجدته هذه الأحاديث وهذه الكتب عبر القرون المتمادية على العقائد الاسلامية ؟

أجل أنّ هذه الأحاديث والتمسك بصحتها خلقت بين المسلمين قضايا خرافية ومضحكة وأنتجت الضلالات والانحرافات في عقائد طائفة كبيرة منهم .

ومن هنا : حُكي عن مقاتل بن سليمان، وداود الجورابي ونعيم بن حماد أنّهم قالوا : إنّه تعالى في صورة الإنسان، وإنّه لحم ودم، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل

ص: 180

ولسان ورأس وعينين واستثنوا عنه الفرج، ولكنّ معاذ العنبري قال : له - تعالى - فرج رَجُل، واستدلّ على قوله هذا بانّ الله تعالى آلة الذكران بالآية الكريمة «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كالأنثى» (1).

وادعى بعض متكلّمى أهل السنّة ، بأنّ له لحم وجلد وعظم كالإنسان .

وقالوا : إنه سبحانه ينزل ليلة عرفة من السماء الى الأرض على جمل احمر في هودج من ذهب .

وروى قوم منهم : أنّه تعالى نظر في المرآة فرأى صورة نفسه فخلق آدم عليها .ورووا أنه يضحك حتى تبدو نواجذه ...

ورووا : أنّه أمرد جعد قطط ، في رجليه نعلان من ذهب ، وأنه في روضة خضراء على كرسى تحمله الملائكة .

ورووا: أنّه يضع رِجْلاً على رِجْل ويستلقي فإنّها جلسة الربّ.

ورووا : أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه ، وأنّه اشتكى عينه فعادته الملائكة، وأنه يتصوّر بصورة آدم ويحاسب الناس في القيامة .

ورووا :أنه ينزل الى السماء الدنيا في نصف شعبان ، وأنه جالس على العرش قد فضل منه أربع أصابع من كل جانب ، وأنه يأتي الناس يوم القيامة فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك ؛ فيقول لهم : أفتعرفونه إن رأيتموه ؟ فيقولون : بيننا وبينه علامة، فيكشف لهم عن ساقه، وقد تحوّل في الصورة التي يعرفونها، فيخرون له سجداً.

ورووا أنّ النار تزفر وتتغيظ تغيظاً شديداً ، فلا تسكن حتى يضع قدمه فيها فتقول:

قَطّ قَطّ ، أى حسبي حسبم(2).

ص: 181


1- آل عمران : 36
2- شرح نهج البلاغة 3 224 - 227

هذه الأفكار والآراء تعتبر من أصول عقائد متكلمي أهل السنة في التوحيد ، وقد

أجمعوا على بعضها مثل لقاء الله ورؤيته ، ومجيء الله يوم القيامة عند الناس.

ثم قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه على نهج البلاغة عقيب كلامه : وإن في التوراة نحو ذلك العقائد، ومن ثُمّ اشار المعتزلي الى ما ذكرناه آنفا أن منشأ هذه العقائد المذكورة الباطلة هو الأحاديث المستخرجة في صحاحهم.

وعند ما يذكر ابن أبي الحديد كلمة امير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام): «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه ..» يقول شارحاً : هذه صفة حال أهل الضلال والفسق والرياء من هذه الأمة، لأنّهم أهل ضلالة كمن يسكن المساجد الآن ممّن يعتقد التجسيم والتشبيه والصورة والنزول والصعود والأعضاء والجوارح ومن يقول بالقدر يضيف فعل الكفر والجهل والقبيح الى الله تعالى فكل هؤلاء أهل فتنة - يردّون من خرج منها اليها ويسوقون من لم يدخل فيها ايضاً (1).

أقول : نستفيد من صراحة مقولة ابن أبي الحديد إنّ هذه الاعتقادات الباطلة كانت

مشاعة في عصره، وكان أكثر ائمة المساجد آنذاك يعتقدون بهذه الخرافات.

«واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودُ» (2).

ص: 182


1- شرح نهج البلاغة 19: 299
2- هود: 90

نظرة في أحاديث الشيعة

سؤال لابد منه

يُحتمل أن يكون بين قرائنا الكرام من يقرأ فصل التوحيد في الصحيحين ثُمّ يستشكل علينا ويتساءل :

إنّ ما أوردتموه من الأحاديث والروايات المستخرجة من صحاح أهل السنة وأمّهات المصادر حول مسألة التوحيد قد كشف الصورة الحقيقية لهذه الكتب وعقيدة علمائهم بالنسبة إلى محتويات هذه الأحاديث، خاصة إذا اعتقد أحد أنّه عن طريقها يمكن أن يصل إلى التوحيد ومعرفة الله تعالى التى هى أهم المسائل العقائدية لم يحصد سوى نتائج واهية ومسائل لا أصل ثابت لها . وكذلك يشاهد في بعض كتب الحديث عند الشيعة ومضامين الروايات التي ترتبط بمسألة التوحيد ما يشعر بالتجسيم والرؤية، ولعلّ بعض المسائل المذكورة حول التوحيد في الصحيحين وكتب أهل السنّة مطروحة كذلك في بعض كتب الشيعة واحاديثهم، وعلى هذا فإنّ الإشكال والإيراد كما هو وارد على مصادر أهل السنّة يرد على مصادر الشيعة أيضاً .

للجواب على السؤال المذكور لابد من الإشارة الى عدة موارد :

1-إختلاف الرؤى والنظريات حول كتب الحديث

هناك فرق كبير واختلاف شاسع بين نظرة علماء الشيعة وأهل السنّة الى كتب الحديث ومحتوياتها ، إن أغلب علماء أهل السنّة يعتقدون بأنّ كلّ ما ورد في صحيح البخاري فهو صحيح، وإنّهم يقولون : لو أنّ احداً حلف يميناً بأنّ كلّ ما في الصحيحين صحيح ومطابق للواقع وهو قول رسول الله لكان يمينه صحيحاً ولا عليه الحنث .

وأمّا علماء الشيعة فإنّهم على عكس ذلك تماماً لا يعتقدون في كتبهم الحديثية

ص: 183

مثل عقيدة أهل السنّة ، فإنّهم يرون أنّ أحاديث الكتب الأربعة تقبل البحث والنقد متناً وسنداً ، وأن بعض الأحاديث - وهو محدود عندهم - صحيح ومقبول، وباقي الروايات فهو إمّا موثق أو حسن أو ضعيف .

هذه هي نظرة الشيعة الى أحاديثهم ومحتويات كتبهم ومصادرهم(1).

فعلى هذا فإنّ تخريج حديث ما في كتاب للشيعة ليس دليلاً على صحته، وليس معياراً وملاكاً للقبول عندهم، بحيث إذا كان ذاك الحديث غير صحيح يرد نفس الإشكال على علماء الشيعة ومحدّثيهم وكتبهم كما ورد على أهل السنّة وعلمائهم وكتبهم .

2-احاديث التوحيد في كتب الشيعة

زد على ما سبق في المورد الأوّل لابد من التوجه الى هذا المورد أيضاً : إنّ في جميع الأحاديث المروية في كتب أهل السنّة حول التوحيد نوع من الإيهام أو التصريح بإثبات التجسيم ، ولم يكن هناك حتى حديث واحد ينفي التجسيم ويخالف تلك الأحاديث مفهوماً ومضموناً ، وكما قلنا: إنّ التوحيد في هذه الكتب لم يكن سوى التجسيم والتشبيه.

وأمّا كتب الشيعة فإذا لوحظ فيها حديث من هذا القبيل فإنّ هناك المئات من الأحاديث المعتبرة والموثوقة في الكتب الأصلية تفنّد مسألة التجسيم بشدّة.

وعناوين الأبواب والفصول في كتب الحديث عند الشيعة (2) مثل إبطال الرؤية، النهي عن الجسم والصورة نفي الحركة والانتقال نفي التشبيه .... وغيرها اكبر شاهد وأقوى دليل على ما ذهبنا اليه ، وهذا هو وجه الاختلاف والتمايز الموجود بين مصادر الفريقين والأحاديث المستخرجة فيها ، وبهذا الجواب يمكن دفع كثير من الأسئلة الأخرى التي سوف تختلج في خلد أحدٍ.

ص: 184


1- راجع مرآة العقول للمجلسي ، معجم رجال الحديث للخوئي، الذريعة لآقا بزرگ الطهراني كلمة الكافي
2- راجع : أصول الكافي للكليني، التوحيد للصدوق وبحارالأنوار للمجلسي

3-رأي علماء الشيعة في أحاديث التوحيد

إنّ الأحاديث التي تنفي الرؤية وتفنّد التجسيم والتشبيه التي استخرجت في كتب الشيعة صريحة وبيّنة ومعتبرة سنداً ، بحيث إنّ علماء الشيعة ومتكلّميهم اعتمدوا مضامينها وجعلوها أساساً وأصلاً كبيراً من مباحثهم في علم الكلام، وكلّ حديث ورواية تناقض هذه الأحاديث الصحيحة والصريحة في نفي التجسيم فإنّها مردودة ومرفوضة علمياً . ومن هنا فلا يبقى طريق وسبيل للإشكال عليهم .

4-الروايات الموضوعة

إنّ البحث والتنقيب في أسانيد أكثر هذه الأحاديث التي سوف تكون مستمسكاً للمستشكلين تومي الى ضعف هذه الروايات سنداً ،وإن رواتها ليس-وا بموثوقين عن-د

علماء الرجال والتراجم ولا يعتمد أحد على أقوالهم لأنّهم كذابون ووضاعون للحديث .

وإنّ الاحاديث التي رويت في كتب الشيعة والتي تؤيّد فكرة ،التجسيم، فهي موضوعة ، وضعها الكذابون والوضاعون كمقاتل بن سليمان وغيره من القائلين بالتجسيم ، وذلك لكي يصححوا عقيدتهم المنحرفة ، واختلقوا لها أسانيد ايضاً ونسبوها إلى أحد الائمة المعصومين من آل بيت رسول الله السلام.

وبناءعلى هذا التوضيح يتحتم على كلّ من يريد التعرف على عقيدة الشيعة في التوحيد أنْ يأخذ ذلك عن أحد الطريقين:

1 - مراجعة الأحاديث الصحيحة والمقبولة عند الشيعة كما يُرجع الى أحاديث العامة وصحاحهم الستة فى هذا الموضوع.

2 - مراجعة أقوال وآراء علماء الشيعة ومتكلميهم المشهورين كما نستخرج نظرية أهل السنّة في هذا الموضوع من أقوال وآراء علمائهم المشهورين .

أحاديث التوحيد عند الشيعة

واليك نماذجاً من احاديث الشيعة :

ص: 185

تطرّقنا في بحث نفي الرؤية الى بعض أحاديث الشيعة في التوحيد، وهذه روايات أخرى اعتمد عليها الشيعة في إثبات عقيدتهم في التوحيد، وهي تشكل الدعامة الأساسية لعقيدتهم في مسألة التوحيد ، ولكي تكون - اولاً - جواباً أوفى للسؤال المذكور و - ثانياً : نقارن بينها وبين ما ورد في ثنايا احاديث أهل السنة، ويعلم القراء الاعزاء بعد ذلك أهمية هاتين الرؤيتين - السنّية والشيعية - نقارن بينهما وبين ما ورد في ثناياهما ثم يحكموا بالوعي التوحيدي ويأخذوا بالصحيح منهما .

1 - ...عن أبي بصير : عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال : إنّ الله تبارك وتعالى لا يُوصَف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالقُ الزمان والمكان والحركة والسكون ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً (1).

2-... عن داود الرقي قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ :

«وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (2)فقال : ما يقولون ؟ قلت : يقولون : إن العرش كان على الماء والربّ فوقه.

فقال : كذبوا ، من زعم هذا فقد صيّر الله محمولاً ، ووصفه بصفة المخلوق ، ولزمه أنّ الشيء الذي يحمله أقوى منه ..(3)

3 - عن يعقوب السراج قال : قلت لأبي عبد الله(علیه السلام) : إن بعض أصحابنا يزعم أن الله صورة مثل الإنسان، وقال آخر : إنّه في صورة امرئ جعد قطط.

فخر أبو عبد الله ساجداً ثم رفع رأسه ، فقال : سبحان الله الذي ليس كمثله

ص: 186


1- بحار الأنوار :3 330 كتاب التوحيد باب « 14» باب نفى الزمان والمكان والحركة .. عن الله عزّ وجلّ ح33 توحيد الصدوق : 183) باب«28» باب نفي المكان والزمان ... عن اللهعزّ وجلّ ح 20
2- هود : 7
3- توحيد الصدوق : 319 باب « 49 باب معنى قوله عزّوجلّ وكان عرشه على الماء ح 1 ، أصول الكافي 1: 132 كتاب التوحيد باب «20» باب العرش والكرسي ح 7 ، بحار الأنوار :57 95 کتاب السماء والعالم ح 80.

شيء، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به علم، لم يلد لأنّ الولد يشبه أباه، ولم يولد فيشبه من كان قبله ، ولم يكن له من خلقه كفواً أحد، تعالى عن صفة من سواه علوّاً كبيراً (1).

4 - عن يونس بن ظبيان قال دخلتُ على الصادق جعفر بن محمد(علیه السلام) فقلت : يا ابن رسول الله ، إنِّي دخلتُ على مالك (2) وأصحابه ، فسمعتُ بعضهم يقول : إن الله وجهاً كالوجوه، وبعضهم يقول : له يدان، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: «خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أسْتَكْبَرْتَ»(3)وبعضهم يقول : هو كالشاب من أبناء ثلاثين سنة، فما عندك في هذا يا ابن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)؟

قال : وكان متكئاً فاستوى جالساً وقال(علیه السلام) : اللهم عفوك عفوك ، ثم قال(علیه السلام) : يا يونس من زعم أنّ الله وجهاً كالوجوه فقد أشرك ، ومن زعم أن الله جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر بالله فلا تقبلوا شهادته، ولا تأكلوا ،ذبيحته ، تعالى الله عما يصفه المشبهون بصفة المخلوقين، فوجه الله أنبياءه وأولياءه ، وقوله : «خلقت بيدي أسْتَكْبَرْتَ» اليد القدرة كقوله : « وأيّدَكُمْ بِنَصْرِهِ » (4) .

فمن زعم أنّ الله في شيء، أو على شيء، أو يحول من شيء الى شيء، أو يخلو

ص: 187


1- توحيد الصدوق : 103 باب «6» باب أنّه عزّوجل ليس بجسم ولا صورة ح 19 ، بحار الأنوار :3 304 كتاب التوحيد باب «13» باب نفي الجسم والصورة ... ح 42
2- مالك بن أنس احد أئمة المذاهب الأربعة السنية ولد عام 93 ، وتوفي عام 179ه، ودفن في مقبرة البقيع . وقد قيل : إنه ولد بعد موت أبيه بثلاث أو أربع سنوات وان أمه قد حملت به ثلاث سنوات أو أكثر بقليل ، وهذا ما استدعى أن يقول بعض العلماء من أهل السنة بأن مدة الحمل يمكن أن تكون ثلاث سنوات أو اكثر ويفتي على خلاف النصّ القرآني الذي يعتبر مدة الحمل والرضاع معاً ثلاثين شهراً أي سنتين ونصف السنة . ولهذا الإمام آراء ونظريات فقهية غريبة بحيث انتقدها علماء عصره والإمام الشافعي المعرّب.
3- ص : 75
4- الانفال : 26

منه شی شيء، أو يشغل به شيء ء، فقد وصفه بصفة المخلوقين، والله خالق كل شيء، لا يقاس بالقياس ولا يشبّه بالناس لا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان قريب في بعده، بعيد فی قُربه ، ذلك الله ربّنا ، لا إله غيره، فمن أراد الله وأحبّه بهذه الصفة، فهو من الموحدين، ومن أحبّه بغير هذه الصفة، فالله منه بريء ونحن منه براء(1).

5-...عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم (علیه السلام): قال : ذكر عنده قوم يزعمون أنّ الله تبارك وتعالى ينزل الى السماء الدنيا.

فقال (علیه السلام): إن الله لا ينزل ولا يحتاج الى أن ينزل إنّما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد ، ولم يحتج الى شيء ، بل يحتاج اليه ، وهو ذو الطول لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

أما قول الواصفين : إنّه ينزل تبارك وتعالى، فإنّما يقول ذلك من ينسبه الى نقص، أو زيادة، وكلّ متحرك محتاج الى من يحرّكه، أو يتحرّك به ، فمن ظن بالله الظنون هلك ، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدّ تحدّونه بنقص أو زيادة أو تحريك أوتحرّك، زوال أو استنزال ، أو نهوض أو قعود، فإنّ الله جلّ وعزّ عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين، وتوهّم المتوهّمين (2)، «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَزاكَ حينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ »(3).

ص: 188


1- بحار الأنوار 36: 403 كتاب تاريخ أمير المؤمنين الله باب «46» باب ما ورد من النصوص..... ح 15
2- بحار الأنوار :3 : 311 كتاب التوحيد باب (14) باب نفى الزمان والمكان ...ح 5
3- الشعراء : 217 - 219

الفصل السادس: النبوة في الصحيحين

اشارة

ص: 189

ص: 190

الأنبياء في القرآن

الاستعداد للرسالة

النبوّة والرّسالة مرتبة لا يمكن تقييمها وقياسها بالمقاييس المادية والبشرية وهذا المقام الشامخ بحاجة الى مقدّمات عقلية وأخلاقية ونفسية، بحيث لو لم يتحلّى الإنسان بهذه الكمالات لا يمكنه أن ينال هذا المقام الرباني، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في عدة آيات .

وقد وصفت هذه الآيات أنبياء الله(علیهم السلام)بأنهم في أرقى درجة من الكمال،وذكرت لهم - على وجه العموم - صفات وخصائص ، وخص لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)- على وجه الخصوص - ميزات وصفات خاصة .

ولكي نستلهم مزيداً من التعرّف على مقام النبوة والرّسالة من وجهة نظر القرآن نذكرطرفاً من هذه الآيات :

1 - قال تعالى :« اللهُ يَصْطَفِي مِن المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِن النَّاسِ» (1).

تؤكد هذه الآية بأنّ أنبياء الله (علیه السلام) هم الصفوة والنخبة من البشر وقد انتجبهم الله تعالى للنبوّة وحمّلهم رسالته السماوية.

2 - قال تعالى :« اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ»(2).

هذه الآية تقرير وتوضيح لاصطفاء الأنبياء، وتؤكد بأنهم كانوا ممهدين

ص: 191


1- الحج : 75
2- الأنعام : 124

ومستعدين من جهات عديدة مثل العظمة والقوّة الرّوحية والصفاء النفسي والشجاعة وجميع الفضائل الأخلاقية والتعاليم الإلهية ومهيئين للاصطفاء والاجتباء لتلقي الرسالة الالهية وهداية الناس وارشادهم الى سبيل السعادة والكمالات الإنسانية ويخرجوهم من الظلمات الى النور .... وكلام قوم صالح (علیه السلام) شاهد على هذه الحقيقة المذكورة.

3 - قال تعالى: «يا صالحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوا قَبْلَ هذا »(1).

يحكي الله عنهم بأنّهم قالوا: يا صالح إنّ قوم ثمود كانوا يرون فيك الكمال وعلّقوا

عليك الآمال بأن تقودهم نحو المدنية والتقدّم وتفيدهم وتسعدهم بخدماتك الاجتماعية.

وتدلّ هذه الآية على أنّ الانبياء(علیهم السلام) كانوا - قبل بعثتهم - أفراداً متفوّقين على أممهم وأقوامهم والمجتمع الذي كانوا فيه ، بامتيازات خلقية، بحيث إن المجتمع لم يكن ينظر اليهم بكونهم أشخاصاً عاديين كسائر الأفراد، وأن استعدادهم وسيرتهم الأخلاقية والعبادية هي التي كانت سبباً لكي يتوقع منهم المجتمع أكثر من غيرهم، وقد أبدى قوم صالح توقعهم بقولهم :«قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوا ».

وأنّ هذه الكمالات والاستعدادات قبل بعثتهم بالنبوة هى التي جعلت اولئك الذين لم تشوبهم العصبية والعناد أن يستجيبوا لهم فى بداية أمر دعوتهم ويلتزموا بأوامرهم.

عصمة الانبياء

أكّدت الكثير من الآيات بأنّ الأنبياء (علیهم السلام) كانوا معصومين من الذنوب والخطأ

ومنزهين من الضلال والانحراف.

وإليك بعض الآيات التي تدلّ على عصمة الأنبياء(علیهم السلام) :

1 - قال تعالى :« أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه»(2).

ص: 192


1- هود : 62
2- الأنعام: 90

جاءت هذه الآية بعد أن ذكر الله عزّ وجلّ ثمانية عشر نبياً وسماهم بأسمائهم(1) وبعد أن قال : « وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجتَبَيْنَاهُمْ» (2) قال تعالى: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهَدَاهُم اقْتَدِه »(3) حيث أمر الله عزّ وجلّ بوجوب الاهتداء والاتباع بهدى الانبياء وذلك لأنّ هذه الهداية الواجبة الاتباع ليست من نوع الهداية العامة ، بل هي مختصة بالأنبياء والرسل(علیهم السلام) .

ويعلم بالضرورة والبداهة أنّ اختصاص الأنبياء بهذه الصفة لم يبق للذنوب والانحراف سبيلاً إليهم ، وبعبارة أخرى : إنّ الهداية المذكورة مصداق بارز لآية أخرى هي قوله تعالى : « وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلَّ »(4) وعندما نجمع بين مفهومي هاتين الآيتين معاً نحصل على أنّ الله تعالى هدى أنبياءه ورسله(علیهم السلام) على نحو ينفي عنهم أي سبيل للانحراف والضلالة والذنوب إليهم . وبهذا أوجب الله تعالى على الآخرين متابعتهم والانقياد اليهم والاهتداء بسيرتهم وهديهم.

وهنا لابد أن نطرح سؤالاً : ما هي حقيقة الضلالة والانحراف وماهيتهما اللتين

نفاهما القرآن عن الأنبياء (علیهم السلام) ؟

بين القرآن حقيقة الضلالة في قوله تعالى: «أَلَمْ اَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كثيراً»(5) وفي خلال النهي الصريح في الآية عن عبادة الشيطان واتباعه ترى أن الآية قد اعتبرت أنّ جميع المعاصي والضلالات التي تحصل بواسطة إبليس هو انحراف وضلال ، ولو أخذنا هذه الآيات

ص: 193


1- وهم : إبراهيم - إسحاق - يعقوب - نوح - داود - سليمان - أيوب - يوسف - موسی - هارون - زکریا - يحيى - عيسى - إلياس - إسماعيل - اليسع - يونس - لوط . الأنعام 83 - 86 المعرب
2- الأنعام : 87
3- الأنعام : 90
4- الزمر : 37
5- يس : 62

الثلاث بعين الاعتبار لاستنتجنا بأنّ الأنبياء والرسل (علیهم السلام) منزهون من كل ذنب ومعصية المعبّر عنها في القرآن ضلالة .

خلاصة القول

1 - وصف القرآن الأنبياء (علیهم السلام) بأنهم يمتازون بهداية خاصة.

2 - إنّه ليس للضلالة والانحراف سبيل الى اولئك الذين نالوا هذه الهداية .

3 - إنّ القرآن عبّر عن الذنب والانحراف العام عن سبيل الله تعالى بأنّهما ضلالة.

وأمّا الاستنتاج

فعندما نتمسك بهذه الأصول الثلاثة المذكورة ، نستطيع أن نجزم بأنّ القرآن الكريم تزه الأنبياء (علیهم السلام)عن ارتكاب الذنوب وزكاهم من الأخطاء.

2- قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ الله »(1).

المنشود في هذه الآية أن الغاية من إرسال الرسل هي إطاعتهم والانقياد لهم . ونستظهر من مضمون هذه الاية أنّ ارادة الله ومشيئته تعلّقت بهذا الأمر، وهو: إنّ الأنبياء يجب أن يكونوا مطاعين من الجهة القولية والعملية، لان قولهم وفعلهم وسيلة لإرشاد وهداية الناس.

فعلى هذا فإطاعة الرسل(علیهم السلام) والاستنان بقولهم وفعلهم واجب . وذلك لان : لو افترضنا أنه بدرت منهم معصية لابد وأن تكون هذه المعصية مرادة عند الله ومحبوبة اليه ، لأنه تعالى هو الذي أمر الناس وفرض عليهم طاعة الأنبياء واتباعهم.

ومن جهة أخرى نشاهد انّ المعصية منهيّة ، وممنوعة ، وقد نهى الله عزّوجلّ عن ارتكابها .

وبتعبير آخر : إنّ القول بعدم عصمة الأنبياء (علیهم السلام) مستلزمة للتناقض بأنْ يأمر الله بشيء وينهى عنه، أي يكون الشيء الواحد ذا جهتين مبغوضاً ومحبوباً لله تعالى في آن

ص: 194


1- النساء : 63

واحد ، وهذا الأمر باطل ومرفوض.

3-قال تعالى :« فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادُكَ مِنْهُم الْمُخْلَصِينَ »(1).

هذه الآية تحكي قول الشيطان الذي حلف يميناً بأنه سيغوي العباد كلّهم إلا المخلصين منهم ، فلو كان الأنبياء لا ممن تصدر منهم الذنوب حتى ولو كانت من الصغائر، فإنّهم سوف يكونون في زمرة الغاوين والضالين، وليس من عباد الله المخلصين، وقد قرأنا خلال الآيات التي ذكرناها آنفاً ، إن الأنبياء هم الناجون والمخلصون كما قال تعالى : «إنا أخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدّارِ» (2).

وتلاحظ ايضاً في ثنايا الآية المذكورة أنّ الشيطان اعترف وأقرّ بالعجز عن إضلال المخلصين من العباد وإغوائهم، وقد شهد الله تعالى لأنبيائه بأنهم من المخلصين، وضمن لهم منزلة الإخلاص، وايّدها لهم .

وهنا نستنتج : أنّ وساوس الشيطان وإضلاله لا سبيل لها الى الأنبياء (علیهم السلام)، ولاتمسهم ببنت شفة .

وبناء على هذا فإنّا نقطع بان القول بصدور الذنوب من الرسل (علیهم السلام)وارتكابهم المعاصي قول باطل وسقيم وتحكّم .

هب إنّنا نشاهد في بعض الآيات استشعار وقوع الذنب من بعض الانبياء وارتكابهم المعصية، فإنّ ظاهر هذه الآيات يتعارض مع تلك الآيات الصريحة التي تنفي ارتكاب الأنبياء(علیهم السلام) للذنب ، بحيث لا يمكن الجمع بين هاتين الفئتين من الآيات، وعلى هذا يقتصر الحلّ الوحيد بأن نأوّل هذه الآيات الى المعاني التي حددتها الآيات الصريحة من الفئة الأخرى والأحاديث الواردة في هذا الموضوع.

وقد تصدّى العلماء للموضوع فألفوا كتباً في عصمة الأنبياء وقد جمعوا بين كلا

الطائفتين من الايات ومن ثمّ تأويل الآيات النافية الى معان تتناسب مع هذه الآيات

والروايات الصريحة في اثبات العصمة .

ص: 195


1- ص : 83 و 64
2- ص : 83 و 64

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن والسنة

مؤهلاته في نظر القرآن

يظهر من آيات القرآن الكريم أن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) - قبل أن يبعث نبياً ورسولاً - كان متفوّقاً على الآخرين وممتازاً عليهم من الجهات الإيمانية والأخلاقية والعقائدية، وكان ذا استعداد خاص وكفاءة مميّزة، وإن آباءه وأجداده كانوا من الأنبياء والموحدين المؤمنين، الذين لا يشوبهم الشرك والوثنية، ولم يسجدوا لغير الله قط. ويدلّ على ذلك الآيات التالية :

1 - قال تعالى :« الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلَّبَكَ فِي الْسّاجِدِينَ » (1).

عن ابن عباس في قوله تعالى: «وتقلبك في الساجدين »قال : من نب-ي الى نب-ي

ومن نبي الى نبي حتى أخرجك نبيا(2).

يستفاد من هذه الآية وتفسيرها بأن نطفة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت منذ عهد آدم (علیه السلام) حتى أبيه عبد الله(علیه السلام)تنتقل من صلب الأنبياء والمطهرين الى أصلاب مثلهم من الأنبياء والساجدين، وهذا دليل على أنّ استعداد النبي لتلقي الوحي لم يختص به منذ طفولته بل كان قبلها ومن عهد آدم (علیه السلام).

2 - ومن الآيات التي تدلّ على هذه الحقيقة ايضاً ، وتكشف عن أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)كان محظوظا بهذا الاستعداد قبل بعثته، هي الآية التي نزلت في اواسط البعثة في مكّة وذلك عندما انتقد زعماء ورؤساء قريش الرسول وقالوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتِى مِثْلَ ما

ص: 196


1- الشعراء : 217 - 218
2- الطبقات الكبرى لابن سعد 1 : 25 ، تفسير ابن كثير 3: 365

أوتي رُسُلُ الله»(1).

فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في جوابهم : «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ »(2).

تشير الآية الى الحكمة والفلسفة التي من أجلها اصطفى الله عزّ وجلّ الأنبياء (علیهم السلام)عامة ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، خاصة ، وتحكى بأنّ منصب تلقى الوحى والرسالة ليس من نوع المناصب التي تنال للجميع من دون مقدمة ، ومن دون مؤهلات، وإنّه منصب لا يُعطى إلا لمن توفّرت فيه مقدّمات الكمال وشروطه ، ويكون مؤهلاً لذلك ، وإنّ الله أعلم بهم ، وبمن توفّرت فيهم الكفاءات .

قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (3).

أجمع جلّ المفسرين على أنها نزلت في الأيام الاولى من البعثة النبوية (4) تكشف عن الحالة النفسية والروحية التي امتاز بها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتبين أخلاق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وكفاءته واستعداده الروحي عموماً ، وتوضح أنّ هذا الخلق العظيم نتيجة تلك المواهب والكفاءات التي كان يتحلى بها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قبل ان يبعث نبياً، ويصطفيه الله لتبليع رسالته إذا أخذنا تاريخ نزول الآية بعين الاعتبار.

ولا ريب أنه لا بيان وتعبير أوسع نطاقاً وأجمع معنى من هذه الآية ، ولا مدح وثناء أعلى وأشمل مما جاء في مفهوم هذه الآية ، لأنّ الخُلق يشمل الأعمال الفاضلة والعادات الحسنة، وكاشف لجميع صفات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)النفسانية الشخصية والاجتماعية والإنسانية والعائلية والدينية، بحيث أثنى الله عليه بتلك الصفة المثالية - الخلق - ووصفها بالعظمة وأكد ذلك الله عزّ وجلّ بقوله : ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ .

ص: 197


1- الأنعام : 124
2- الأنعام : 124
3- القلم : 4
4- الإتقان 1 : 17 ، تاریخ الخميس 1 : 10 وقال فيه : ثاني سورة نزلت بمكة ن والقلم ، وهذا الرأي اختاره الطباطبائي ايضاً في الميزان 13: 233 - 234 وأخرجه عن البيهقي عن ابن عباس و مجاهد

ومما يؤيد صحة هذا المعنى قول الإمام الصادق (علیه السلام): «إنّ الله عزّ وجلّ ادب نبيه فأحسن أدبه ، فلما أكمل له الأدب قال :« إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ »(1).

4- قال تعالى : «إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيراً »(2).

نزلت هذه الآية بحق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(علیهم السلام)... وتدلّ على طهارتهم من الشرك والكفر ، ومن كلّ رذيلة وتنص على طهارتهم وبراءتهم من الذنوب، صغيرها وكبيرها ، لأنها أرجاس ورذائل وهم منزّهون عنها ، كما نصت الآية على ذلك.

اخرج الطبري في تفسيره عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال : نزلت هذه الآية في خمسة: في وفي عليّ وحسن وحسين وفاطمة (علیهم السلام)(3).

وكذا اخرجه محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى(4) وجلال الدين السيوطي في تفسير الدر المنثور(5) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقال الراغب الإصفهاني في معنى أراده فمتى قيل : أراد الله كذا فمعناه حَكَمَ فيه إنّه

كذا وليس كذا نحو« إنْ إرَادَ اللهُ بِكُمْ سُوءاً أوْ أراد بِكُمْ رَحْمَةً» (6)(7).

وقال ايضاً الرجسُ : الشيء القذر ، والرجسُ يكون على أربعة أوجه : إما من حيث الطبع ، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع ، وإما من كل ذلك كالميتة والميسر والشرك (8).

ص: 198


1- تفسير نور الثقلين 5 : 389 - 390 ح 14
2- الأحزاب : 33
3- جامع البيان في تفسير القرآن 22 : 5
4- ذخائر العقبي : 24
5- تفسير الدر المنثور 5 : 198
6- الأحزاب : 17
7- مفردات ألفاظ القرآن : 207 مادة رود
8- مفردات ألفاظ القرآن : 188 مادّة رجس

ونستلهم من هذه الآية أن النبى وعترته(علیهم السلام)مطهرون ومنزهون عن كل الرذائل والصفات الذميمة. لأنّها من الصفات التي تكون رجساً ، ومبغوضة عند الله ، واتصاف اولئك الذين هم مطهرون بإذن الله وإرادته بمثل هذه الصفات محال . ويستفاد ايضاً من الآية أنّ العترة النبوية منزّهون عن ارتكاب الحرام حتى ولو كان سهواً وخطأ، لأنّ المحرّمات كما تراه الشيعة والمعتزلة - تتبعها المفاسد التي هي السبب في النهي عنها . وأنّ السهو وإن كان رافعاً لشرط القدرة والإرادة عن التكليف إلا إنه غير رافع للقبح والأثر الوضعي التابع للمحرّم والرجس والقذارة الذاتية.

5 - قال تعالى :«أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلّى»(1).

ترى في الآية مدحاً وثناءً لرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وتقريعاً وذماً لذاك الطاغي المغرور(2)الذي ظلّ مراقباً لكي يمنع الرسول الله عن العبادة والصلاة.

نشير في هذه الآية إلى نقطتين :

1 - أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قبل البعثة والرسالة موحداً وكان يعبد الله عزّوجلّ وذلك ما دلّت عليه هذه الآيات من سورة العلق وهى اوّل سورة نزلت على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) (3)كما

ص: 199


1- العلق : 10
2- وردت في الروايات الصحيحة التي رويت عن النبي وأهل بيته(علیهم السلام) وأخرجها الحفاظ والمفسرون والمؤرخون في مؤلفاتهم أنّ هذا الطاغي المغرور الذي قرعه الله تعالى وذمه في كتابه الكريم هو أبو جهل، حيث كان يراقب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عند دخوله وخروجه المسجد حتى إذا قام النبيّ للصلاة قال ابو جهل لجلسائه من قريش : هل يعفّر محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)وجهه بين اظهركم ؟ قالوا : نعم . قال : فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته . فقيل له :ها هو ذلك يصلّي فانطلق ليطأ على رقبته، فمافجأهم إلا وهو ينكص عل-ى عقبيه ويتقي بيديه . فقالوا : مالك يا ابا الحكم ؟ قال : ان بيني وبينه خندقا من نار وهؤلاً وأجنحة. وقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : والذي نفسي بيده لو دنا منّى لاختطفته الملائكة عضواً عضواً، فأنزل الله سبحانه أرأيتَ الَّذي ينهي ... المعرّب
3- راجع الأحاديث المستخرجة والتي أجمع عليها المفسرون من الفريقين استندوا عليها في إثبات نظريتهم مثل تفسير نور الثقلين، البرهان في تفسير القرآن، التبيان ، مجمع البيان الدر المنثور ، الميزان الخازن ، ومحاسن التأويل ، وغيره .وقد فصل العلّامة الطباطبائي في تفسيره الميزان البحث وايد هذه النظرية

تدلّ عليها الأحاديث المتواترة والمتضافرة عن الائمة(علیهم السلام)وأقوال أكثرالمفسرين

2 - إن عبادته(صلى الله عليه وآله وسلم)كانت على خلاف عبادة الناس في الجزيرة العربية آنذاك، ومخالفة لطريقتهم والطقوس المتخذة في العبادة عندهم ، وهذا أحد الأسباب التي سببت مخالفة الناس ومنعهم إيّاه الله عن إقامة الصلاة .

يمكن استنباط هاتين النقطتين من الروايات التي تفصل كيفية عبادة النبى (صلى الله عليه وآله وسلم)قبل البعثة، حيث تروى لنا أنه كان(صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي أحياناً في الخفاء وتارة أخ--رى في الم-لاً والعلن.

ونكتفي هنا بذكر حديث واحد مما روي بهذه المناسبة :

نقل صاحب السرائر من جامع البزنطي عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله(علیه السلام) يقولان : حج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عشرين حجة مستسراً، منها عشر حجج او قال : تسع - الوهم من الراوي - قبل النبوة، وقد كان صلى قبل ذلك وهو ابن أربع سنين، وهو مع ابي طالب في أرض بصرى (1).

مؤهّلات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في الاحاديث

وردت أحاديث كثيرة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته (علیهم السلام)في المصادر المعتمدة لدى الفريقين - تؤيد مقولتنا الآنفة ، وتثبت كفاءة النبي الا الله وتأهله، وتروي لنا كيفية صلاته وعبادته قبل أن يبعث نبياً ، وإليك بعض هذه الاحاديث :

1 - أخرج ابن سعد باسناده عن ابن عباس قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح (2) .

ص: 200


1- بحار الأنوار 15: 361 كتاب تاريخ نبينا باب « 4»باب منشأه ورضاعه وما ظهر من إعجازه عند ذلك ... ح 17
2- الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 61 ذكر امهات النبي

2 - قال أمير المؤمنين علي(علیه السلام) في خطبته القاصعة وهي من أفصح خطب نهج البلاغة وأبلغها وأطولها ، يذكر فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ولقد قرن الله به من لدنْ أنْ كان فطيماً أعظم ملكٍ من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره ، ولقد كنتُ معه أتَّبعه اتِّباع الفصيل أثر امه يرفع لي في كل يوم من أخلاقة عَلَماً، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحِرَاءَ فأراهُ ، ولا يراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وخديجة وأنا ثالثهما (1).

3 - روي أنّ بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر(علیهم السلام)سأله : عن قول الله عزّوجل: «إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً » (2).

فقال(علیهم السلام): يُوَكَّل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويودّون إليه تبليغهم الرسالة ، ووكل بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع، يرشده إلى الخيرات، و مكارم الاخلاق، ويصدّه عن الشر ومساوىء الأخلاق، وهو الذي كان يناديه : السلام عليك يا محمّد يا رسول الله ، وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظنّ أنّ ذلك من الحجر والأرض، فيتأمل فلا يرى شيئاً (3).

4 - وفي رواية أخرجها ابن ماجة في سننه (4)وأحمد بن حنبل في مسنده(5).والطبري في تاريخه (6) باسنادهم عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال :

أنا عبدالله ، وأخو رسوله ، وأنا الصديق الاكبر ، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر ، صلّيتُ قبل الناس بسبع سنين .

ص: 201


1- نهج البلاغة خطبة رقم 192، د. صبحي الصالح
2- الجن : 27
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 207
4- سنن ابن ماجة 1: 44 المقدمة باب «11» باب فضائل اصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فضل علي ابن أبي طالب (علیه السلام) ح 120
5- مسند احمد 1: 99
6- تاريخ الطبري 2 : 310

وأخرج النسائي قوله(علیه السلام) : عبدتُ الله قبل أن يعبده احد من هذه الأمة تسع سنين(1).

وقال ابن أبي الحديد وإن كان قد ورد في كلامه إنه صلّى سبع سنين قبل الناس كلّهم، فإنّما يعني ما بين الثمان والخمس عشرة . ولم يكن حينئذ ،دعوة ، ولا رسالة ، ولا ادعاء نبوة، وإنما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يتعبد على ملة ابراهيم(علیه السلام) ودين الحنيفية، ويتحنّث، ويجانب الناس، ويعتزل ويطلب الخلوة، وينقطع في جبل جزاء، وكان علي(علیه السلام)معه كالتابع والتلميذ(2).

أقول : إنّ تفسير ابن أبي الحديد وبيانه كلام امير المؤمنين(علیه السلام) صحيح بشكل عام، ولكن ادّعائه بأنّ النبى(صلى الله عليه وآله وسلم)كان قبل بعثته يتعبّد على دين إبراهيم (علیه السلام) مردود من وجهة نظر علماء الشيعة الذين يعتقدون أنّ الرسول

(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتعبد على دين الإسلام الذي جاء به فيما بعد، إلا إنّه لم يُؤمَر بتبليغ تلك الأحكام الى الناس حتى بلغ الأربعين من عمره.

أخلاق النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

كلّ ما تقدّم ، كان البحث في مؤهلات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكفاءته لتلقي الوحي والرسالة، منذ أن كان طفلا، ونبحث هنا في المؤهلات الأكثر ارضية لذلك، والتي هيأت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لكسب الفضائل والصفات والمراتب العالية من الخُلُق الإنسانية .

ونذكر نبذاً من أخلاق النبي العظيمة على نحو الإجمال حتى تتجلّى لك عظمة

رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وشخصيته أكثر ، وتكون ايها القارىء - مستعداً للمباحث التي نوافيك بها فيما يأتي:

آيات عديدة في القرآن تبيّن الحالة الأخلاقية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكيفية معاشرته وتعامله مع الاخرين ننتخب لك من تلك الآيات ثلاث :

ص: 202


1- خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : 3 ح 6، أسد الغابة 4: 17 ترجم-ة عل-ي بن ابي طالب
2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 13 : 248

1 - قال تعالى : « لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ

بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ »(1).

هذه الآية توضح مدى علاقة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعطفه وحنانه على المسلمين، وتؤكد أيضاً أنّ هذه العلاقة وهذا العطف كان يثقل على قلبه ثقلا كبيراً لما كان المسلمون يعانون من المصاعب.

2 - قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ »(2).

تحكي هذه الآية عن أخلاق النبي الحميدة، وطبعه الحسن، ولين عريكته ، ومداراته الرفيعة ، التي هي صورة مصغرة لرحمة ربّ العالمين، وكلمة (لو) التي وردت في الجملة الثانية من الآية «ولو كنت فظاً »تبيّن أنّ الخشونة والشدة بعيدة عنه ، لأنّ كلمة لو تستعمل غالباً في الامور التي يستحيل وقوعها وتنفي ما بعدها .

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِي إِلَّا أَنْ يُؤذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرِينَ إننه ولكن إذا دُعِيتُمْ فَادخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَأَنتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثِ إِنّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَجِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَجِي مِنَ الْحَقِّ» (3).

وهذه أيضاً كاشفة عن خصلة أخرى من خصال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبين خصلة الحياء عند النبي، حيث كان يستحي من أصحابه، وأن بعض أصحابه كان يدخل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون إذنه ، وكان يُحبّ مجالسته قبل الطعام وبعده، ، والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يحتمل ذلك ويصبر على هذه المشقة من عامة أصحابه معه، فكان يتأذى منها ولم يخبرهم بذلك، حتى لا يجرح عواطفهم.

وهذا الصبر الذي هو أنبل وأعلى صفة أخلاقية ، لا تجده إلا في الأنبياء

ص: 203


1- التوبة : 128
2- آل عمران : 159
3- الأحزاب : 53

والرسل(علیهم السلام) .

الوحي والاجتهاد : كيفية الوحي

يستفاد من العديد من آيات الذكر الحكيم أنّ بين الله عزّوجلّ وبين رسله - الذين اكر مهم بوحيه وخطابه - اتصال (1) ، وهذا الاتصال يتمّ عن طرق وأساليب ثلاث، وقد أشار القرآن الى هذه الطرق في سورة الشورى في قوله تعالى :

«وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يَكُلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيِاً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوجي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكيمٌ» (2).

1 - القسم الاوّل : الإلهام ويظهر من خلال آراء المفسّرين حول هذه الآية، أنّ المراد بالوحي هنا - بقرينة التقسيم والمقابلة بين الأقسام - هو الإلهام والتكلّم الخفي، سواء كان في اليقظة أو الرؤيا، من دون أن يتوسط واسطة بينه وبين النبي المرسل، او أنه تعالى يخلق صوتاً من وراء حجاب، بحيث إنّ النبي يعرف أنّ هذا الصوت الهام ووحي من الله عزّوجلّ، فيأتمر بما أوحي إليه ، كما في قصة النبي إبراهيم الخليل (علیه السلام)وذبح-ه إسماعيل (علیه السلام)، حيث أنزل الله عزّ وجل عليه الوحي بصورة إلهام في رؤياه .

2 - القسم الثاني : التكلم من وراء حجاب :

والمراد منه الإيحاء والمحادثة عن طريق خلق الصوت، وإيجاده من دون أنْ يَرَى النبيُّ الله عزّوجلّ، وهو كالقسم الاول ، لأنّ الوحي هنا يتمّ من دون أن يتوسط واسطة بينه تعالى وبين نبيه، ولكن حسب ما اعتاد عليه ذهن البشر وفكره، يتوهم أن مشاهدة طرفي المحادثة والمكالمة بعضهما البعض حين المحادثة هي من مستلزمات المحادثة والمكالمة ، بأنْ يرى كلّ من المخاطب والمتكلّم الآخر، وهذا التقييد في الآية من وراء

ص: 204


1- تحدثت آيات عديدة عن كيفية الوحي المنزل على الأنبياء الملا فراجعها في سورة البقرة : 97 ، النحل : 2 و 102 ، الشعراء : 193 - 194 ، فاطر: 1 ، النجم : 1 - 10، والتكوير : 19 - 21
2- الشورى: 51

حجاب دفع للتوهّم المذكور، ويدلّ على أنّ مشاهدة الله عزّوجلّ ورؤيته حين المحادثة أمر مستحيل . وكان أكثر ما نزل على موسى (علیه السلام)هو هذا القسم من الوحي.

3 - القسم الثالث : إرسال الرسل :

وإنّ الله عزّ وجل إذا أراد أن يوحي الى نبي من أنبيائه يرسل اليه الملائكة ليوحون

اليه ثمّ إنّ الوحي الى الانبياء يتم احياناً عن جميع الطرق الثلاثة، وتارة عن بعضها . ويمكن تقسيم الوحي باعتبار آخر إلى أنّ الوحي المنزل من الله عزّ وجلّ الى نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تارة يكون اللفظ والمعنى كلاهما من عند الله عزّ وجلّ، ويسمى هذا النوع بالوحي القرآني، وأخرى يكون المعنى موحى من عند الله عزّوجلّ، ولكن اللفظ من عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بأن يكون الوحي ينزل على النبي حاوياً المعنى فق-ط والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصيغه بألفاظه ، ثم يبلغه الى الناس، وهذا القسم من الوحي يسمى وحياً غير قرآني.

وأنّ السنة والأحاديث النبوية هي من هذا القسم من الوحي.

الوحي الغير قرآني

يظهر للمتدبر في آيات القرآن أن الوحي الذي ينزل عل-ى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تارة يكون وحياً قرآنياً ، وأخرى يكون وحياً غير قرآني، بحيث إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمر بتبليغ أمر تلقاه في رؤياه أو يقظته من لدن العليم الحكيم. ربما أنزل الله عزّوجل الوحي القرآني ليعطي الوحي الغير القرآني زخماً من التأكيد والتأييد.

واليك نماذج على ما ذكرناه إليك :

1 - قال تعالى في سورة الانفال : «كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بألحق.... وَإِذْ يَعِدُكُمْ

الله إحْدى الطَّائِفَتَيْنِ إِنّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أنّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ......» .

تحتوي الآية (1)على بعض الأمور المتعلقة بغزوة بدر، وأجمع المفسرون على أنها

ص: 205


1- الانفال : 5 و 7

نزلت بعد بدر، وتؤكد مؤيدة وجود الوحي الغير قرآني الذي سبق الحرب والقتال(1).

2 - قال تعالى : «لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الْرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنين »(2).

أمر الله تعالى نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) في السنة السادسة من الهجرة - أن يخرج هو وأصحابه إلى مكة للحج، وكان هذا الأمر الإلهي نزل على الرسول بنحو الإلهام والرؤيا الصادقة ، فائتمر الرسول وشدّ الرحال الى مكة ، ولكن واجه ممانعة قريش اياه، ومن ثم انعقدت معاهدة صلح الحديبية وكانت هذه سبباً لاعتراض بعض الأصحاب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فانزل الله تعالى هذه الآية تأييداً لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقريعاً لهم .

3- قال تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعُ » (3).

وهذه أيضاً من الآيات التي تؤيد الوحي الغير قرآني.

سياق الآية والأحاديث المروية في سبب نزول هذه الآية وتفسيرها تؤكد بأنّ صلاة الجمعة كانت تقام قبل نزول هذه الآية، ونزلت هذه الآية تعظيماً وتأكيداً لأهمية صلاة الجمعة، وتهديداً لبعض المسلمين الذين كانوا يتهاونون في الأحكام الاسلامية وذلك لفرط لهفهم على التجارة وجمع المال لكي يرتدعوا عن التجارة والمعاملة، ويتجهوا نحو الصلاة وذكر الله عزّوجل.

والمتيقن أنّه لم تنزل آية تدلّ على وجوب صلاة الجمعة سوى هذه الآية، وكان الأمر بالوجوب قبل نزول هذه الآية على صورة الوحي الغير قرآني .

هذه نماذج من الوحي القراني وغير القرآني ويمكن أن نجد العشرات من الأحكام

ص: 206


1- لمزيد الاطلاع راجع التفاسير التالية : الطبري، البغوي ، مجمع البيان ، ابن كثير ، الخازن ، وغيرهم
2- الفتح : 27
3- الجمعة : 9

والتعاليم الدينية التي لم يشر إليها الوحي القرآني، بل صدر حكمها عن طريق الوحي

الغير قرآني.

هل كان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يجتهد

تعتقد الشيعة بأنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكن ليجتهد في الأحكام والتعاليم الدينية، وأنّما كان يعمل وفقا للوحى ، واذا لم ينزل الوحى فإنّه يبقى منتظراً حتى ينزل. وثمّة آيات وروايات تكشف لنا هذه الحقيقة، فإليك طرفاً منها :

1 - قال تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »(1).

تدلّ هذه الآية على أنّ كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مستند الى الوحي الإلهي، وتنفي عنه القول الاجتهادي والنابع من تلقاء نفسه .

2 - قال تعالى:«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا انْتِ بِقُرآنِ غَيْرَ هذا أوْ بَدِّلَهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَبَدِّلَهُ مِنْ تِلقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى الي» (2).

قال الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية : فهذا يدلّ على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما حكم إلا بالوحي ، وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد (3).

3- قال تعالى: «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكُ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ» (4) .

وقال الفخر الرازي في تفسيره : إنّ هذا النص يدلّ على أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء في الأحكام، وأنه ما كان يجتهد، بل جميع أحكامه صادرة عن

ص: 207


1- النجم : 3 - 4
2- یونس : 15
3- التفسير الكبير للفخر الرازي 17 : 56
4- الأنعام : 50

الوحي، ويتأكد هذا بقوله : «لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »(1).

4- قال تعالى: «إِنَّا اَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أرَاكَ الله»(2).

قال الفخر الرازي : اعلم أنه ثبت بما قدمنا أن قوله : «لتحكم بين الناس بما أراك »معناه بما أعلمك الله ، ويسمى ذلك العلم بالرؤية ، لأنّ العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية في القوة والظهور...

وكان عمر يقول : لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى، فإنّ الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه . وأما الواحد منا فرأيه يكون ظناً ولا يكون علماً.

ثمّ يقول الفخر الرازي: إذا عرفت هذا فنقول : قال المحققون : هذه الآية تدلّ على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يحكم إلا بالوحي والنص.

وإذا عرفت هذا فنقول : تفرّع عليه مسألتان إحداهما أنه لما ثبت أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يحكم إلا بالنص، ثبت أن الاجتهاد ما كان جائزاً له....(3).

وهذا ما أقرّ به البخاري في صحيحه وأفرد له باباً خاصاً وعنونه : ما كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل ممّا لم ينزل عليه الوحي فيقول : لا ادري، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس لقوله تعالى :« بما اراك الله » (4).

ص: 208


1- التفسيرالكبير للفخر الرازي 12 : 231
2- النساء : 106
3- التفسير الكبير للفخر الرازي 11 :33
4- صحيح البخاري :9 : 124 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة باب ما كان النبی(صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل

النبوّة في العهدين والصحيحين

النبوة في العهدين

اشارة

كلّ ما قرأته - ايها القارىء الكريم - في الفصول السابقة هو ملخص الآيات والأحاديث الصحيحة الواردة عن الائمه(علیه السلام)حول الأنبياء عامة ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، ومن خلالها يمكن أن نتعرّف على الصورة الواقعية للأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم) الأخلاقية والايمانية سواء قبل بعثتهم أو بعدها ، ونفهم أيضاً شخصيّتهم ، منزلتهم ، قداستهم، طهارتهم، نزاهتهم ، وعصمتهم من الذنوب والأرجاس.

ولكنّ المحرّفين للتوراة والإنجيل شوّهوا الصورة الواقعية للأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) وحرّفوها، وذلك لأسباب ونوايا خاصة، والتطرق الى تفصيل وشرح تلك الأسباب خارج عن نطاق بحثنا وإجمالاً لذلك نقول :

إنّ العهدين - التوراة والإنجيل - المحرّفين فضلا عن أنهما نَفَيا العصمة عن الأنبياء(علیه السلام)، وسلبا عنهم الطهارة والقداسة والنزاهة تراهم أنهم نزلوا مقام الانبياء وصغروا مرتبتهم ، ونسبوا إليهم(علیه السلام) الأكاذيب وأنواع الإفك ، حتى غيّروا بذلك الصورة الواقعية والنزيهة لهم فأنزلوهم الى أدنى منزلة في المجتمع، وساووهم بالأفراد العاديين، وزادوا على ذلك حتى جعلوهم في صف أهل الهوى واللعب، الذين لا رادع أخلاقي ومعنوي يردعهم عن إتيان الشهوات، واتباع الاهواء.

وإليك أمثلة من المرويات في التوراة والإنجيل - المحرّفين -

1-قصة لوط(علیه السلام)وابنتيه في التوراة

وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه، لأنه خاف أن يسكن في صوغر ، فسكن في المغارة هو وابنتاه وقالت البكر للصغيرة : أبونا قد شاخ وليس في

ص: 209

الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلّ الأرض هلمّ نسقى أبانا خمراً، ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلاً، فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع ابيها ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة : إنّي قد اضطجعت البارحة مع أبي نسقيه خمراً الليلة ايضاً فادخلي اضطجعي معه ، فنحيي من أبينا نسلاً ، فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة ايضاً ، وقامت الصغيرة واضطجعت معه ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها ، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما ، فولدت البكر ابناً ودعت اسمه موآب وهو أبو الموابيين الى اليوم. والصغيرة ايضاً ولدت ابناً ودعت اسمه بنى عمن وهو أبو عمون الى اليوم(1).

2-قصة داود(علیه السلام)وإمرأة أوريا في التوراة

إنّ داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم ، وكانت جميلة المنظر جداً، فأرسل ،داود وسأل عن المرأة فقال واحد هذه امرأة أوريا الحثي ، فأرسل داود رسلاً فاخذها ، فدخلت اليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمئها ثم رجعت الى بيتها وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى فأرسل داود الى يوآب يقول : أرسل الي اوريا الحثي، فأرسل يو آب اوريا الى ،داود، فأتى اوريا اليه سأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب، ونجاح الحرب وقال داود :لاوريا انزل الى بيتك واغسل رجليك. فقال اوريا لداود: إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون عل-ى وجه الصحراء، وأنا آتي الى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي، وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الامر . فقال داود لاوريا : أقم هنا اليوم أيضاً وغداً أطلقك ، فاقام اوريا، وفي الصباح كتب مكتوباً إلى يوآب وأرسله بيد اوريا، وكتب في المكتوب يقول : اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت .

فمات اوريا الحثي ، فلما سمعت امرأة اوريا أنه قدمات اوريا رجلها ندبت بعلها،

ص: 210


1- توراة سفر تكوين إصحاح 19 بند 30-38

ولما مضت المناحة أرسل ،داود ، وضمها الى بيته وصارت له إمرأة وولدت له ابناً وأمّا الامر الذي فعله فقبح في عيني الربّ .(1).

وجاء في الإنجيل المحرّف : وُلد سليمان بن داود من المرأة التي كانت لاوريا (2).

3-قصة المسيح(علیه السلام) وصنعه الخمر

دُعي يسوع (عيسى) إلى عرس ولما فَرَغَت الخمر ، فصنع لهم المسيح ستة أجران من الخمر (3).

وفي إنجيل لوقا لم يشرب عيسى الخمر فحسب، بل إنّه كان محب للعشارين والخطاة (4).

هذه نماذج مما نسبه العهدان القديم والجديد المحرّفان - إلى الأنبياء لا فصوّرا نبيا يسكر وتضطجع معه ابنتاه وتلدا منه ابنين اثنين ونبياً آخر يزني بإمرأة أحد قواده في الجيش، ولمّا حبلت منه خاف ذاك النبي - داود - الفضيحة، فأمر بقتل ذاك القائد العسكري، وبعد أنْ قُتِل تزوّج إمرأته الأرملة وولدت له في ذاك الحمل نبياً آخر وهو النبي سليمان .

وتارة صوّرا صنع الخمر بأنه أعظم معجزة لنبي ، وأنه كان من العشارين والمدمنين على الخمر .

النبوّة في الصحيحين

وترى هذا النوع من التحريف والتشويه لشخصية الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ورد في

ص: 211


1- توراة سفر صموئيل الثاني : 11 - 12
2- إنجيل متى : الصحاح : 1
3- إنجيل يوحنا : باب 2
4- إنجيل لوقا باب 7 و انجيل متى : باب 11

العهدين القديم - التوراة - والجديد - الإنجيل - المحترفين ورد أيض-اً في الصحيحين البخاري ومسلم الذين نحن بصدد التحقيق فيهما ، فهما عندما يأتيان على ذكر الأنبياء (علیه السلام) يُسطران الأساطير والقصص التي كان يرويها قصاصو اليهود وغيرهم، وينسبونها الى الأنبياء(علیه السلام) ، ودسوها بعد ذلك أوساط المسلمين بعنوان الأحاديث الصحيحة .

والأطم من ذلك إنّ الصحيحين لم يشوّها الصورة الحقيقية للانبياء(علیه السلام)عامة وحرّفوها فحسب، حتى ظهرت صورتهم مضحكة ومستهترة ، بل إنّهما بدلا الصورة الواقعية والحقيقية للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من كونها شخصية روحية ذات السمات الأخلاقية والربانية الى شخصية منافية للواقع ومباينة لما ورد في آيات الذكر الحكيم.

متى نشأ الافتراء على النبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

اشارة

عندما نراجع الأحاديث المروية في الصحيحين حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تنكشف لنا حقيقة ما ، وتلك الحقيقة هي : إنّ الافتراء وبثّ الإشاعات حول شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأت في حياته ، وذلك عندما نشر بعض الأشخاص - حبّاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بغضاً له أو لأسباب أخرى - أكاذيب اختلقوها وشايعات صنعوها حول شخصيته (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ضاق الرسول بها ذرعاً ، واعلن هو للناس على المنبر عن وجود هؤلاء الوضاعين الكذابين بين الناس، وحذرهم بعاقبة عملهم الفاسد والمفسد قائلاً : لا تكذبوا عليّ ، من كذب عليّ فليلج النار(1).

وإنّ سليم بن قيس الهلالي سأل أمير المؤمنين عليا (علیه السلام)عن الأحاديث التي في ايدي الناس، فأجابه الإمام علي (علیه السلام)بخطبة بليغة قسم فيها الاحاديث ورواتها إلى عدة اقسام فقال : إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً،

ص: 212


1- صحيح البخاري 1: 38 كتاب العلم باب إثم من كذب عل-ى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تحف العقول136

ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً ، ولقد كذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده ...(1).

ولكن بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ازدادت أسباب جعل الحديث والكذب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكلّما ابتعد الناس عن عهد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر فأكثر ، زادت الدواعي والأسباب واشتد الكذب والشائعات المنسوبةالى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى شملت - هذه الأحاديث المفترية - تاريخ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة، وبدء نزول الوحي، والحياة العائلية والداخلية، وكيفية معاشرته مع المسلمين، بل شوّهوا جميع الشؤون والأمور التي تمّت إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، حسب ما تم-لي عليهم اهواؤهم ومقاصدهم الخبيثة ، ولذلك ترى كل واحد منهم اذا قصد الحصول على ما يرتئيه ، او الوصول الى هدفه يضع حديثا وينسبه الى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وكان هذا دأبهم المقصود حتى عهد معاوية حيث اشتدت الدواعي أكثر .

فأمر بتأسيس هيئة التحديث - مؤسسة وضعها معاوية لجعل الحديث - لغايات وأهداف عديدة، وكان يستخدم معاوية هذه المؤسسة وأعضاءها في سبيل تحقيق مآربه على احسن وجه مثل التعتيم على أعماله وأفعاله الغير شرعية، وتحجيم شخصية النبی(صلى الله عليه وآله وسلم)بواسطة الأحاديث التي اختلقتها هذه المؤسسة حت-ى يوازيه-ا بشخصيته وشخصية ابنه . وما كان هدفه في ذلك التحجيم والتعتيم على شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الا أن يعدّ العدّة ويمهد الأرضية لخلافة الفاسق الفاجر ابنه يزيد.

ومن جهة أخرى كان هدفه من تأسيس الهيئة التزويرية اتهام مخالفيه ، ليردعهم ويشفي غليله ويصب حقده وحقارته عليهم، ويملأ بذلك نواقص ومعايب شخصيته وعشيرته ، ويبرّر ما جنته يداه في عهد خلافته(2).

وبعد هلاك معاوية رأى الخلفاء الذين تزعموا المسلمين أن الأحاديث التي اختلقتها مؤسسة معاوية مفيدة في تثبيت نظامهم، وتقوية أركان سلطانهم ، وتحكيم

ص: 213


1- شرح نهج البلاغة 11 : 38 خطبة 203
2- يمكنك أيها القارىء أن تستلهم المزيد في هذا الموضوع عند مراجعة فصل الحديث في عهد معاوية

خلافتهم ، فلذلك سعوا في حفظ هذه الأحاديث وتنظيمها وتعديلها واجتهدوا في تقويتها.

ومن بعد ذلك كانت هذه الأحاديث تنتقل من فم هذا الى أُذُن غيره، حتى استقرت وقرّت في الكتب والمؤلفات، وفي مقدمتها صحيح البخاري وصحيح مسلم، ومن هذين الصحيحين انتقلت الى كتب الحديث والتاريخ والتفسير ، بل وردت في بعض كتب الشيعة ايضا وضبطها بعض مؤلفي الشيعة في كتبهم الحديثية والتاريخية والتفسيرية، من دون تحقيق وتحليل وتأمل، ولإثبات ما قلناه ننقل خمس نماذج من الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما ونسباها الى الأنبياء (علیهم السلام)، ومن ثم نقوم بتحقيقها ونقدها، ثمّ نتطرّق بعون الله تعالى الى نقد و تحليل الأحاديث التي رواها الشيخان في كتابيهما ممّا تمت إلى شخصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بصلة

1-كذبة ابراهيم الخليل الله وحرمانه من الشفاعة

عن أبي هريرة : ان النبي قال : لم يكذب ابراهيم النبي( علیه السلام) قط إلا ثلاث كَذَبَات ثنتين في ذات الله ، قوله :« إنّي سَقيمٌ» (1) ، وقوله : «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا »(2) وواحدة في شأن سارة، فإنّه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها : إنّ هذا الجبّار إنْ يعلم أنّكِ امرأتي يغلبني عليكِ، فإن سألك فأخبريه أنّكِ أُختي ، فإِنَّكِ أُختي في الإسلام، فإنّي لا أعلم في الأرض مسلماً غيركِ وغيري ، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار ، فأتاه فقال : لقد قدمت أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فارسل إليها بها ، فقام إبراهيم (علیهم السلام)الى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت قبضة شديدة ، فقال لها : ادعى الله أن يطلق يديّ ولا أضرّكِ. ففعلت. فعاد فقبضت أشدّ من القبضة الأولى . فقال لها : مثل ذلك ففعلت فعاد. فقبضت أشد من القبضتين الأوليين . فقال : ادعي الله أنْ يطلق يدي فلكِ الله أنْ لا اضركِ، ففعلت . وأطلقت

ص: 214


1- الصافات: 89
2- الأنبياء : 63

يده ودعا الذي جاء بها فقال له : إنّك إنّما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر ، قال : فأقبلت تمشي ، فلما رآها إبراهيم (علیه السلام)انصرف فقال لها : مَهْيَمْ ؟ قالت : خيراً ، كفّ الله يد الفاجر ، وأخدم خادماً .

قال أبو هريرة : تلك أمكم يا بنى ماء السماء (1).

وقد ورد أيضا في الصحيحين في بيان مسألة شفاعة النبي ضمن رواية مطوّلة مروية عن أبي هريرة بألفاظ مختلفة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)تحكي بأن أهل الحشر يأتون الأنبياء واحداً تلو الآخر، ليشفعوا لهم، وكلّ نبي يذكر فعلة من فعاله التي أغضَبَ بها ربّ العالمين، ويعتذر للناس من طلب الشفاعة، ويوكلونهم الى النبي الذي أتى بعده ، حتى ينتهي بهم الأمر الى خاتم الانبياء الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فيشفع لهم .

وقد ذكر في هذا الحديث : أنّ الناس يأتون النبي إبراهيم (علیهم السلام): فيقولون له : أنت نبي الله وخليله في الأرض اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي نفسي.(2).

هذان حديثان مما رواه الصحيحان حول كذبة إبراهيم الخليل (علیه السلام)، وحرمانه من الشفاعة بسبب تلك الأكاذيب.

ولو أمعنا النظر ودققنا البصيرة فيهما لعرفنا أوّلاً: أنّ هذين الحديثين يتنافيان مع ما ورد عن الخليل إبراهيم (علیه السلام) في القرآن والأحاديث المروية عن أهل بيت النبي

(علیهم السلام).

وثانياً : أنّ هذا الموضوع من الإسرائيليات الواردة في التوراة، فأشبعوها بالآيات

ص: 215


1- صحيح البخاري 4: 171 کتاب بدءالخلق باب قول الله : «واتخذ الله ابراهيم خليلاً» صحیح مسلم :4: 1840 كتاب الفضائل باب «41» باب من فضائل ابراهيم الخليل(علیه السلام)ح 4 15
2- صحيح البخاري 6 : 105 كتاب التفسير تفسير سورة بني إسرائيل، صحیح مسلم 1: 184 كتاب الإيمان باب ( 84» باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ح 327

القرآنية ، وبعد ، وبعد ذلك دست في أذهان بعض المسلمين. وذلك لأن قول إبراهيم : «بل فعله كبيرهم هذا» و«إنّي سقيم »جاء في مقام الاحتجاج والمنازعة، والاستنكار على الوثنيين، وأنها طريقة وأسلوب بديع ابتدعه إبراهيم في حواره معهم ، حتى يأخذ الإقرار منهم على بطلان عقيدتهم، وانحرافهم عن الحق، وهي شبيهة لقوله الآخر لما رأى طلوع الشمس والقمر والكواكب فقال : هذا ربّي ، وعندما رآها تغرب قال : إنّى لا أحبّ الآفلين ولم يصح عبادة الربّ الأفول. هذا ويتضح لك هذا جلياً عند التأمل والمطالعة في صدر الآية وذيلها .

واضف على هذا، وضوح بطلان الحديث الثاني الذي يروي بأن النبي إبراهيم(علیه السلام)اعترف : بأنّ هذه المواضيع الثلاثة ذنوباً حرمته من الشفاعة، ولو سلمنا بأنّ النبي إبراهيم(علیه السلام) قال تلك الجملات الثلاثة عند الضرورة ، فإنّها لا منافاة بينها الشفاعة ، لأنّ واجبه آنذاك في تلك الموارد كان ذاك ، بل إنّ هذه المواقف الثلاثة تعتبر من المحن والمصائب والاختبارات التي امتحن الله بها نبيه إبراهيم(علیه السلام) واجهها في سبيل الله وإحياء أوامره . وإنّ مثل هذه المحن ليست مانعة من الشفاعة فحسب بل تزيد في درجة شفاعة الأنبياء والصالحين.

ويلزم أن نسعف ما ذكرناه ببيان مطلب آخر ، هو أنه لو كانت جملتا «إنّى سقيم» و« بل فعله كبيرهم »صدر تا كذباً من إبراهيم الخليل فحسب بل تزيد في درجة شفاعة ، لابد أن تعد أكاذيب إبراهيم ستاً وليس ثلاث لأنّ إبراهيم كما نص القرآن على ذلك فإنّه كلّما رأى الشمس أو القمر او كوكباً كان يقول :«هذا ربي» (1).

ص: 216


1- راجع الآيات المنزلة في هذا الموضوع لتزداد علماً وفهماً : الأنعام 75 - 79 «وَكَذلكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِن الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِعاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمّا اَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنّى بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنّى وَجَهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ »

العلاقة بين هذا الحديث والتوراة

وأمّا ارتباط هذين الحديثين بالتوراة فواضح جلي ، لأنّ قصّة النبي إبراهيم(علیه السلام)

حسبما جاءت في التوراة بالتفصيل - لمّا تَصِلُ إلى الحديث عن سارة والحاكم الجبّارتروي لنا أشياء تخالف النصوص الاسلامية الصحيحة تماماً ، مثلما وردت في رواية أبي هريرة .

فاقرأ ما جاء في النص التوراتي لتزداد يقيناً :

وحدث لما قرب- إبرام -أن يدخل مصر ، أنّه قال لساراي امرأته : إنّي قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون إنهم يقولون: هذه امرأته فيقتلوني

ويستبقونك .

قولي : إنك أختي ليكون لي خيراً بسببك ، وتحيا نفسي من أجلك، فحدث لما دخل إبرام الى مصر، أنّ المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جداً ، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون ، فاخِذَتِ المرأة الى بيت فرعون فصنع إلى إبرام خيراً بسببها (1).

سقوط اعتبارية هذا الحديث

يتضح لك أيها القارىء الكريم عدم اعتبار الحديث المذكور أكثر ، إذا أمعنت النظر فی

النقطة التالية من الحديث :

إنّ ابراهيم (علیه السلام)أمر زوجته سارة بأن تقول : بأنّها أختُ إبراهيم، حتى يتزوجها الملك الجبار ، ويأمنُ إبراهيم (علیه السلام)الا من أذاه ، ويتقرب الى الحاكم زلفى وينال منه ثروة كبيرة ، وفى الواقع إنّ إبراهيم أراد أن يصل الى منفعة خيالية، وذلك عن طريق تمهيد أسباب لتمليك الآخرين - زوجته سارة الى الغير - (حاشا النبي من هذا).

وأما في الحديث المروي عن أبي هريرة وإن لم يكن الموضوع واضحاً كما ورد في التوراة ولكن لاحظ أوّلاً: بأنّ القول عن الزوجة بأنّها أخت لم يكن له سبب وعلة

ص: 217


1- التوراة : سفر التكوين الإصحاح 12 بند 11 - 16

سوى ما ذكرناه . ثانياً : فإن حديث أبي هريرة صورة مجملة لما ورد في التوراة.

وهنا ندع الحكم والقضاء للقارىء اللبيب والباحث عن الحقيقة، حتى يبدي رأيه في التطابق بين حديث أبي هريرة والنص التوراتي .

و نختم بحثنا هذا بنكتة دقيقة ذكرها الفخر الرازي بهذا الصدد:

قال في تفسيره : اعلم أنّ بعض الحشوية روى عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنه قال : ما كذب ابراهيم (علیه السلام) إلا ثلاث كذبات فقلت : الأولى أنْ لا نقبل مثل هذه الأخبار. فقال على طريق الاستنكار : فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة. فقلت له : يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم (علیه السلام)، وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ، ولا شكّ أنّ صون إبراهيم عن التكذيب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب(1).

2-طواف سليمان بتسع وتسعون امرأة في ليلة

عن عبدالرحمان بن هرمز قال : سمعت أبا هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : قال سليمان بن داود لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين ، كل منهنّ تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له الملك - صاحبه : قل : إن شاء الله ، فلم يقل : إن شاء الله ، فلم يحمل منهن إلا إمرأة واحدة جاءت بشق رجل .

والذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون .

وفي هذه الرواية الصحيحة !! التي أخرجها البخاري ومسلم في الصحيحين عدة إيرادات :

أولاً :اضطراب نص الحديث : لأنّ عدّة النساء اللاتي أراد سليمان(علیه السلام)أن يطوف عليهنّ في ليلة واحدة ذكر تارة إنّهنّ مائة امرأة (2) وأخرى روي

ص: 218


1- التفسير الكبير للفخر الرازي .:18 : 119
2- صحيح البخاري 4 : 27 كتاب الجهاد باب من طلب الولد للجهاد، وج 7 50 کتاب النكاح باب قول الرجل لأطوفنّ الليل على نسائه

أنهنّ تسع وتسعون (1)، ورُوي ثالثة أنّهنّ تسعون(2)، وفي بعض الأحاديث أنّهنّ سبعون (3)وفي بعضها ستون (4) ، وكل هذه الأعداد مروية في صحيحي البخاري ومسلم، وهذا الاضطراب في العدد دليل واضح على كون الحديث من المجعولات والموضوعات، ويدلّ أيضاً على أن راوي القصّة أراد أنْ يبدي رأيه في عدد النساء ، حتى أن بعض شارحي الصحيحين لم يسعه الكتمان حتى أشار في شرحه إلى هذا الاضطراب(5).

ثانياً : فإنّ الإنسان مهما كان قوياً ، فإنّه يعجز عن القيام بمثل هذا العمل الذي يشبه المعجزة والخوارق، بينما هذا الموضوع والقصّة لا تمت الى المعجزة والإعجاز بشيء إطلاقاً.

ثالثاً : من الناحية الزمنية فإنّ الليلة الواحدة في الغالب لقليلة للطواف على مائة إمرأة .

رابعاً : إنه لا يجوز على سليمان النبي(علیه السلام) وهو من عباد الله المخلصين، أن يترك التعليق بقوله إن شاء الله ، حتى ولو سلمنا إنّه عرض عليه النسيان !! ولكن ما الذي يمنعه عن يقول : إن شاء الله وهو نبي هادي الخلق الى الحق !! لا سيما بعد أن ذكره ونبهه الملك بذلك .

ص: 219


1- صحيح البخاري 4 : 27 كتاب الجهاد باب من طلب الولد الجهاد
2- صحيح البخاري :8 162 كتاب الأيمان والنذور باب كيف كانت يمين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وص 172 باب الاستثناء في الأيمان ، صحیح مسلم:3:1276 كتاب الأيمان باب «ه» باب الاستثناء ح 25
3- صحیح مسلم :3: 1275 کتاب الأيمان باب «5» باب الاستثناء ح 23 و 24
4- صحيح البخاري 9 : 169 كتاب التوحيد باب في المشيئة والإرادة ، صحيح مسلم : 1275 كتاب الأيمان باب (5) باب الاستثناء ح 22
5- شرح صحیح مسلم للنووي :11 120

وإنّما يترك قول إن شاء الله الذين نسوا الله وجهلوا أن الأمور بيد الله تعالى .

3-عزرائيل يفقد عينه

عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت الى موسى (علیه السلام)فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه . فقال : أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عينه. وقال : ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكلّ ما غطّت يده بكل شعرة سنة . قال : أي ربّ ثُمّ ماذا ؟ قال : ثمّ الموت . قال : فالآن . فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر قال : قال رسول الله له : فلو كنتُ ثَمَّ لأريتكم قبره الى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر(1).

أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم، إلّا أنّ في لفظيهما تفاوت يسير حيث ورد فى رواية مسلم : فلما جاءه صكه ففقأ عينه .

روى الثعالبي في كتابه « ثمار القلوب في المضاف والمنسوب» القصة في باب لطمة موسی ثم قال : هذا الحديث في أساطير الأوّلين ، ويضرب مثلا بين الناس، وقد اشتهر بعد ذلك بین العوام بأنّ عزرائيل أعور . وفيه قيل :

يا ملك الموت لقيت مكرهاً *لطمة موسى تركتك أعوراً

واختتم الثعالبي مقولته قائلاً وأنا بريء من عهدة هذه الحكاية (2).

أقول : فكما اعتبر الثعالبي هذه القصة أنها من أساطير الأولين فكذلك نحن نقول بأنها من الأساطير التى ينقلها العجائز للأطفال، وسوف نوافيك بالأدلّة على كون هذا الحديث أسطورة يتناقلها العوام فقط، وذلك لما تشاهد فيه من المسائل المخالفة للناموس الإلهي وشأن الأنبياء والملائكة :

ص: 220


1- صحيح البخاري 2 : 113 كتاب الجنائز باب من أحبّ الدفن في الأرض المقدّسة ، وج 4 : أ 192 کتاب بدء الخلق باب وفاة موسى ، صحیح مسلم 4 : 1842 کتاب الفضائل باب « 42» باب من فضائل موسى(علیه السلام) ح 157
2- ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب : 53 رقم 63

أولاً : كيف يليق بعبد اصطفاه الله للنبوّة ويصيّر كليم الله أن يبطش بطش الجبارين والمتكبّرين، ويفقأ عيون الآخرين، من دون سبب ، وخاصة إذا كان ذاك مأموراً من قبله

تعالى، ليوحي الى الكليم أمراً من أوامر الله قائلا له : أجب ربّك ؟

ثانياً : إنّ الله عزّ وجلّ كافاً النبي موسى (علیه السلام)خيراً ، لأنه ارتكب هذا الفعل المذموم ،ولم يعاقبه على فعله، ولم يعتب عليه، بل شرّفه بشرافة أكبر، وبشره بالعيش آلاف السنين.

فياعجباً بطشة واحدة، وآلاف الجوائز !!

ثالثاً : كيف يتصوّر أن تنسب هذه القصة الى موسى الذي اصطفاه الله بالنبوة، وائتمنه على وحيه وانتجبه لمناجاته، وجعله نبياً من أنبياء أولي العزم، وقال تعالى مادحاً إيّاه: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسى بْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً »(1).

وقال تعالى :« وَأذكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيَّاً وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيَّاً » (2).

وقال تعالى: « وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجيهاً »(3).

فهل يتصوّر أنّ من نال هذه المرتبة الرفيعة والمنزلة الربانية ، يفرّ من الموت فراراً يترك لقاء الله والوصول الى مرتبة أعلى العليين وذلك ببطشة واحدة ؟

رابعاً : فهل يعقل أنّ الأنبياء وخاصة أولي العزم منهم(علیه السلام) يهينون الملك الذي يأتيهم بالوحي من عند الله تعالى ؟ بينما نحن نتبرأ من الكفار والمشركين والجبابرة كفرعون ونمرود وأبي جهل، ونعتبرهم أعداء الله عزّوجلّ ، لأنّهم رفضوا أوامر الله وعاندوا

ص: 221


1- الأحزاب : 71
2- مریم : 51 - 52
3- الأحزاب : 69

الأنبياء والرسل (علیه السلام)، وأهانوهم واستكبروا عن ذلك.

فلو صححنا هذا الحديث بمضمونه الوارد في صحيحي البخاري ومسلم فلم يبق

هناك فرق بين موسى(علیه السلام) وفرعون ، لأنّ الحديث المذكور ، يروي لنا أن الاسلوب الذي اتخذه فرعون تجاه الرسول موسى (علیه السلام)والإهانة التي أهانها إيّاه، هو نفس الاسلوب الذي اتبعه موسى(علیه السلام) اتجاه عزرائيل ملك الموت ورفض دعوة ربه .

خامساً : أضف الى كل ذلك، ما هي حقيقة الملائكة ؟ هل هي جسمانية ومادية ؟ ولها عينان كما هي عند الإنسان بحيث تعمى بمجرد بطشة واحدة ؟

إن الجواب عن هذه الأسئلة ليس صعباً ومشكلاً خاصة للوضاعين وجال الأحاديث الذين يروون أحاديث يخرجونها من أكياسهم حينما يواجهون الانتقادات،فيقرون بأنفسهم من المآزق.

ولذا نرى أبا هريرة - جاعل الحديث - عندما واجه الانتقاد أجاب على ذلك وقال : إن ملك الموت كان يأتى الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه .... جاء الى الناس خفية بعد موت موسى(1).

بناءً على هذه الإشكالات الموجودة في الحديث لم أدر واني لحائر هل أن بطش موسى وضربه مَلَكاً مقرباً إلى الله - عزرائيل - وهو في لحظة تبليغ أمر الله، ويفقأ عينه ويعميها تعتبر فضيلة وكرامة لموسى حتى يخرجه مسلم ضمن فضائل موسى ؟!

4-سباق موسى والحجر

أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء استحياءاً منه ، فآذاه من آذاه من بن-ي

ص: 222


1- مسند الإمام احمد بن حنبل 2 : 533 ، مستدرك الصحيحين 2: 578 ، تاريخ الطبري 1: 434 تاريخ موسى (علیه السلام)...تلخيص المستدرك للذهبي ذيل المستدرك 2 : 578

إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستر إلا من عيب ،بجلده ، امّا برص واما أدرة واما آفة وإنّ الله أراد أن يبرئه ممّا قالوا لموسى فخلا يوماً وحده فوضع ثيابه على الحجر، ثمّ اغتسل ، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها ، وإنّ الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى الى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً ، أحسن مما خلق الله وأبرأه ممّا يقولون ، وقام الحجر فأخذ بثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إنّ بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فذلك قوله : «يا أيها الذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذوا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَاللهِ وَجيهاً »(1)(2)

قبل أن نقوم بالبحث والتحقيق حول هذا الحديث ندعو القرّاء الكرام الى أن يلقوا نظرة فى ما قاله اثنين من شارحى الصحيحين بهذا الصدد:

قال بدر الدين العيني في شرحه على صحيح البخاري : وفيه - أي في الحديث :

1 - جواز المشى عرياناً للضرورة ، وكذا جواز النظر الى العورة عند الضرورة.

2 - وفيه معجزة ظاهرة لموسى، ولا سيّما تأثير ضربه بالعصا على الحجر مع علمه

بأنه ماسار بثوبه إلا بأمر من الله تعالى (3).

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم : إنّ في-ه - الحديث - معجزتين ظاهرتين لموسى : إحداهما مشى الحجر بثوبه الى ملأ من بني إسرائيل . والثانية حصول

ص: 223


1- الأحزاب : 69
2- صحيح البخاري 1: 87 كتاب الغسل باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة ، وج 4 : 190 کتاب بدء الخلق باب حديث الخضر مع موسى ، صحیح مسلم 1: 267 كتاب الحيض باب (18) باب جواز الاغتسال عريانا في الخلوة ح75 ، وج 4 : 1842 كتاب الفضائل باب (42) باب فضائل موسى ح 165 - 156
3- عمدة القاري 15 : 302

الندب في الحجر (1).

أقول : إنّ في هذا الحديث - وهو عندهم صحيح ومعتبر - انتقادات واستفسارات عدة تطرح نفسها :

1 - هل أن تشهير كليم الله(علیه السلام)بإبداء سوأته على مرأى من قومه يبقي موسى عل-ى مقامه ،ويحفظ شخصيته التى كان عليها قبل الواقعة أم لا ؟ ولا سيما إذا رآه القوم بتلك الحالة المضحكة ، وهو يعدو خلف ح- حجر لا يسمع ولا يدرك شيئاً ويناديه : ثوبي حج-ر

ثوبي حجر .

2 - لوسلّمنا صحة الحديث ! فلابد أن نقول بأن حركة الحجر من مكانه كانت إجبارية وبأمر من الله ، ففي هذه الحالة فما يعني غضب موسى (علیه السلام)؟ وأي أثر لعقوبة الحجر وعتابه ؟

2 - إن فرار الحجر بثياب موسى(علیه السلام)لايبيح لموسى ان يبدي عورته ويهتك نفسه، بل كان في إمكانه عقلاً وشرعاً أن يستتر في مكان ما ويستر عورته عن أعين الناس.

وما ادعاه العيني والنووي من كون عمل موسى(علیه السلام) هذا معجزة، فعلى فرض صحةدعواهما فلابد أن يعلما أنّ المعجزة لا تأتى إلا إذا كان المقام مقام التحدّي والتعجيز ، وما نسب إلى موسى(علیه السلام) بهذا الشأن لم يكن في مقام التحدّي والتعجيز .

وأما براءته من الادرة ،وغيره فليست من الأمور التي يباح في سبيلها هتكه وتشهيره ، ولا هى من المهمات التي تصدر بسببها الآيات والمعجزات ، ولو فرض ابتلاؤه بهذا المرض، فأي بأس عليه ؟ ألم يصاب النبي شعيب(علیه السلام) في بصره ،وأيوب (علیه السلام)بجسمه، وانبياء الله قد مرضوا وماتوا بذلك . فهل هتكوا أنفسهم ؟هذا على فرض ابتلائه بالإدرة، فإنّ هذا الداء كان مستوراً على أكثر الناس ولم يكونوا يعلمون بذلك .

ص: 224


1- شرح النووي على صحيح مسلم :15 :7 12

وأما واقعة ايذاء بني إسرائيل موسى(علیه السلام) - التي أشير إليها في الآية وفسرها أبو هريرة برأيه ، وطبّقها ضمن قصته الخرافية التي أفرزتها ذهنيته - هو اتهام موسى بقتل هارون، كما أخرجه العيني (1) ورواه عن أمير المؤمنين(علیه السلام) وابن عباس . ونقل بعض الله المفسّرين إنّها قضيّة المومسة التي أغراها قارون بقذف موسى بنفسها ، وقيل : آذوه من حيث نسبوه الى السحر والكذب والجنون (2).

وهذا التفسير الذي رووه عن أبي هريرة لا يخرج إلا من كيس أبي هريرة، بل إنه من مميزاته الخاصة به .

5-انتقام موسى (علیه السلام)من النمل

قال أبو هريرة : قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أنْ قرصتك نملة أحرقت امة من الأمم تسبّح الله !

أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (3).

وحسب ما ورد في مضمون حديث آخر أخرجه الترمذي(4)وصححه القسطلاني (5)وابن حجر(6) أنّ هذا النبي القاسي الذي أحرق الوفاً من النمل ذات أرواح بسبب قرصة نملة واحدة هو النبي موسى(علیه السلام) .

ويظهر من الحديث الذي رواه أبو هريرة ولم نعلم من أي قصاص أخذ، أن النبي موسى (علیه السلام) انتقم من مجموعة كبيرة من النمل بسبب ذنب ارتكبته نملة واحدة !! بينما نرى

ص: 225


1- عمدة القارىء 15 : 302
2- راجع كتب التفاسير
3- صحيح البخاري :4 75 كتاب الجهاد والسير باب بلا عنوان ، صحیح مسلم 4: 1759 كتاب السلام باب «39» باب النهي عن قتل النمل ح148
4- سنن الترمذي كما اشار اليه القسطلاني
5- ارشاد الساري للقسطلاني 6: 114
6- فتح الباري لابن حجر :7 168

أنّ أمير المؤمنين الإمام علي الله يقول :والله لَوْ أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها ، على أنْ أعصى الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته (1).

هذه الحكاية التي نسبت إلى نبي من أنبياء أولي العزم علامة على أنها مذمومة وغير مندوحة عند الله عزّوجلّ فإنها لم تتماش مع الاحساسات البشرية خاصة رأفة الأنبياء وعطفهم ولكن أبا هريرة صوّر موسى الا في روايته هذه بالقساوة والخشونة، حتى أنزله مرتبة أدنى من منزلة الشاعر - الفردوسي(2) القائل :

لا توذى النملة الجالبة حبّة* لها نفس ونفس الشيء محبوبة

لفتة نظر

هذه خمس قصص عن الأنبياء السابقين لا ذكرها البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وقد رأيت تعليقتنا على كلّ واحدة منها ، وذكرنا أيضاً نقاط الوهن والضعف في كلّ منها .

والجدير بالذكر أنّ هذه القصص الخمس لم يكن لها إلا راو واحد وهو أبو هريرة وكلّ هذه الافتراءات على الأنبياء الا لم تسفر إلا من كيس شيخ المضيرة وتاجر

ص: 226


1- شرح نهج البلاغة 11: 245 خطبة 219 ونهج البلاغة خطبة 224 صبحي الصالح
2- هو الحكيم أبو القاسم الحسن بن محمد الطوسي الشاعر المعروف ، له يد في تمام فنون الكلام من التسيب والغزل والحكمة والاعذار والمدح والهجاء والرثاء... وغيرهما من أغراض الشعر ، ولد سنة 323، وتوفي بطوس سنة 411 ه، وهو أكبر شعراء ايران وأشهرهم ، وعلاوة على تضلّعه في الأدب الفارسي كان ذا إطلاع على الأخبار والأحاديث الإسلامية وعارفاً بالعلوم البرهانية في الفلسفة والرياضيات وله ديوان شعري معروف يسمى بالشاهنامه وقد أجمع علماء الشرق والغرب على رأي واحد تجاه كتابه هو اعتباره أدباً عالياً وشعراً في أسمى طبقه. واسلوبه في نظم الشاهنامة مقتبس من اسلوب القرآن الكريم ، وكذلك الكنايات المقبولة التي في أشعار العرب يأتي بها بنفسها أو بترجمتها وقد تكون أحسن من الأصل احياناً ، ومن هنا يعلم أنّ الفردوسي كانت عنده مادة غزيرة من أشعار العرب . المعرّب

الأحاديث أبي هريرة الدوسي .

وقد ذكر تنا هذه الأحاديث مقالة العلّامة المحقق فقيد مصر المرحوم محمود أبو رية اذ يقول : ما كاد أبو هريرة يرجع الى المدينة معزولاً عن ولايته بالبحرين، حتى تلقفه الحبر الأكبر كعب الاحبار اليهودي(1) ، وأخذ يلقنه من إسرائيلياته، ويدس له من خرافاته، وكان المسلمون يرجعون اليه فيما يجهلون، وبخاصة بعد أن قال لقيس بن خرشة هذه الأكذوبة وما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزلت على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه .

ومن أجل ذلك هرع أبو هريرة إليه، ليأخذ منه ويتتلمذ عليه ، ولم يتوقف سيل روايتهما ، ولا سيما بعد أن خلا الجو لهما بموت عمر واختفاء درته، ولا يزال هذا السيل

ص: 227


1- هو كعب بن ماتع الحميري ، ويكنى أبا إسحاق ، وهو من أحبار اليهود ومعروف بكعب الأحبار ، أسلم في عهد أبي بكر ؛ وقيل : في عهد عمر . وذاع صيته أكثر وأوفر في عهد عثمان لما استصفاه معاوية بن أبي سفيان وجعله من مستشاريه لكثرة علمه وهو واحد من أعضاء مؤسسة معاوية لجعل الحديث . أظهر كعب إسلامه ليخدع المسلمين، بما بنّه هو وزميله وهب بن منبه وعبد الله بن سلام اليهوديين من الإسرائيليات والأخبار اليهودية في الإسلام، فهؤلاء توسلوا بالمكر والدهاء ابتغاء ما يبتغون فزرعوا في نفوس المسلمين الأحاديث المزوّرة والأخبار المزيفة . وكان الخليفة عمر بن الخطاب معجبا به وبما يرويه من الأخبار مما جاء في كتبه التي كانت في حيازته ، وكان كعب يجالس الخليفة كثيراً ولعلّ وصل به الأمر أن يخلو بالخليفة، والخليفة يستمع إلى أحاديثه حتى ترخّص الناس في استماع ما عنده غنّه وسمينه . وكان أكثر أحاديث كعب في تفسير آيات القرآن حتى امتلأت كتب التفسير من منقولاته ، وحيث كان كعب وزميليه وهب وعبد الله بن سلام من خواص بلاط الخلفاء عمر وعثمان ومعاوية بعدهم لم يجرء أحد أن يحسّ بشخصيتهم إلا وواجهته كتل من الضرب والشتم والتهم وقد كان الكثير من رواة الجمهور يأخذون منهم ويروون عنهم أحاديث ، ومن هؤلاء أبو هريرة الدوسي . هذه كانت مقتطفات عن كعب الأحبار اليهودي، وراجع التفاصيل في أضواء على السنة المحمدية للشيخ أبو رية ، وضحى الإسلام لأحمد أمين، وأبو هريرة شيخ المضيرة لأبي رية،وكتب التراجم والرجال،المعرّب

يتدفّق بالأحاديث الخرافية والمشكلة.

وقد سمعت مرّة من أحد أحرار الفكر المحققين، أن أبا هريرة وكعباً هما اللذان أفسدا الإسلام، بما بنا فيه من الخرافات والأوهام.

ومن عجيب أمر هؤلاء الذين يطلق عليهم جمهور المسلمين أنّه على رغم ما قيل فيهما ، وما ثبت من أكاذيبهما ثبوتاً بيناً، لا يزالون يثقون بهما، ويأخذون بما يرويانه ، وفيهما ما لا يقبله عقل صريح ، ولا نقل صحيح، ثمّ يجعلون الأوّل من خيار التابعين، ويجعلون الآخر راوية الإسلام من بين جميع المسلمين(1) .

ص: 228


1- أبو هريرة شيخ المضيرة لأبي ريّة : 9

الفصل السابع: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين

اشارة

ص: 229

ص: 230

النبي قبل البعثة

1-إيمان أبويه

تعرّفنا في الفصول السابقة على الصورة التي رسمها أرباب الصحيحين للأنبياء (علیه السلام)، ونتعرّف هنا على الصورة التي رسماها للنبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذلك قسمنا بحثنا حول حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى قسمين : النبى قبل البعثة والنبى بعد البعثة .

فاما الصورة المرسومة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قبل البعثة والأكاذيب التي نسبوها إليه ندرجها واحداً بعد الاخر في فصول مستقلة.

ونستفتح البحث في هذا الفصل بما أخرجه مسلم في صحيحه بأنّ أبوا النبيّ فارقا الدنيا وهما مشركان . وهاك النص :

1 - رُوي عن أنس : أن رجلاً قال : يا رسول الله أين أبي ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : في النار ، فلما

قفی دعاه ، فقال : إنّ أبي وأباك في النار (1) .

2 - رُوي عن أبي هريرة قال : زار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفرلها ، فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروا القبور فإنّها تذكر الموت (2).

ص: 231


1- صحیح مسلم 1 : 191 کتاب الایمان باب «88 باب بيان من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابةالمقربين ح 347 ، سنن ابن ماجة 501:1 كتاب الجنائز باب « 48» باب ما جاء في زيارة قبور المشركين ح 1573 ، سنن أبي داود 4 : 230 كتاب السنة باب في ذراري المشركين ح 4718
2- سنن ابن ماجة 1 : 501 كتاب الجنائز باب « 48» باب ما جاء في زيارة قبور المشركين ح 1572 ، صحیح مسلم 2 : 671 کتاب الجنائز باب«36» باب استئذان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ربه عزوجل في زيارة قبراً أمّه ح 108 ، سنن أبي داود :3 218 کتاب الجنائز باب في زيارة القبور ح 3234

لا يخفى ان مختلقي هذه الأحاديث أرادوا إثبات كفر أبوي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فدلسوا حديثاً ونسبوه الى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) على أنه قال : إنّ أبي كذلك في النار، وحيث كان الدعاء وطلب الغفران للمشركين غير جائز ، فلذلك نهي الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)أن يدعو لأمه ويستغفر لها ،لأنها توفيت على الشرك!!

أقول : الدلائل التي ذكرناها آنفا وهكذا الروايات الصحيحة والمصادر التاريخية اليقينية تثبت كون هذان الحديثان من المفتريات والموضوعات، لأن الأخبار الصحيحة تبين بأنّ الكثير من العرب في الجاهلية، كانوا موحدين ومؤمنين بالله الواحد، وأشهرهم في هذا الإيمان بنو هاشم - عبد المطلب وأبو طالب وعبدالله والد النبي ، حيث كانوا يعبدون الله عزّوجلّ، ويجتنبون عبادة الأصنام، وينكرون ما كان أكثر العرب يعتقدون به(1)، وهؤلاء المؤمنون كانوا يعبدون الله عز وجل تارة على مرأى من كفار قريش ، وتارة اخرى في مغارات الجبال.

والدليل على إيمان أجداد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وآبائه نذكر حديثين كنموذج لا الحصر :

1 - عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت امير المؤمنين لا يقول : والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قطّ ، قيل : فما كانوا يعبدون ؟ قال

(علیه السلام)كانوا يعبدون - يصلون الى - البيت علىی دین ابراهیم (علیه السلام) متمسکین به(2).

2 - قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا عليّ إنّ عبد المطلب كان لايستقسم بالازلام ، ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذبح على النصب ، ويقول : أنا على دين أبي إبراهيم (علیه السلام)(3).

ص: 232


1- سيرة ابن هشام 1 : 252 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 120 ، المحبر لمحمد بن حبیب البغدادي : 171
2- كمال الدين للصدوق : 174 باب (12) باب في خبر عبد المطلب وأبي طالب ح 32 ، بحار الأنوار للمجلسي 15 : 144 کتاب تاريخ نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم) باب (1) باب بدء خلقه وما جرى له .... ح 76
3- بحار الأنوار 127:15کتاب تاريخ نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم) باب «1» باب بدء خلقه باب «1» باب بدء خلقه ... ح 67 ، الخصال : 312 باب الخمسة باب سن عبد المطلب في الجاهلية خمس سنن ح 90 ، من لا يحضره الفقيه 4 : 365 كتاب النوادر ح 5762

ونقل أحمد بن حنبل في مسنده (1) ، وكذا ابن سعد في طبقاته (2) : إنّ أبا ذر كان في الجاهلية موحداً ومؤمناً بالله.

أمّا الذين اختلقوا هذين الحديثين لم تكن غايتهم إلا محو الخزي والعار الذي أحدق بهم وبقبيلتهم - الذين حاربوا الإسلام، حفظاً للوثنية والشرك وتثبيتا لهما . وقاوموا القرآن والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وماتوا وهم مشركين كافرين . أو أنهم أظهروا إسلامهم مكرهين، وطمعاً في المال والدنيا وهم في الواقع كفّار ومشركين .

نعم إنّ مختلقي هذه الأحاديث أرادوا بوضعهم حديث كف-ر أبوي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشبهونهما بآبائهم ، وأن يزيلوا العار المطبق على أجدادهم وضماداً لحقارتهم .

ولكن المؤسف أنّ أكثر المسلمين يعتبرون هذه الروايات الموضوعة صحيحة ، وعليها بنوا أُسس عقائدهم.

2-الرسول يأكل الحرام

يمكنك أيها القارىء العزيز بعد أن عرفت الكلام حول الموضوع السابق - عدم إيمان والدي النبي - أن تتعرف الآن على اعتبار حديث آخر، وُضِعَ نكاية بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، يحكي لنا هذا الحديث أنّ النبي كان وثنياً قبل أن يبعث نبيا ، فعلى هذا يمكنك بعد قراءتك للحديث أن تحكم بصحته أو سقمه وضعفه .

أخرج البخاري باسناده عن سالم أنه سمع عبدالله بن عمر يح-دث عن رسول الله

(صلى الله عليه وآله وسلم) انه لقى زيد بن عمرو بن نفيل ، بأسفل بلدح ، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي، فقدم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها، ثم قال : إنّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم (3) ولا أكلُ إلّا ممّا ذكر اسم الله عليه(4).

ص: 233


1- مسند الإمام أحمد :5 174
2- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 219
3- كان العرب في الجاهلية ينصبون تماثيل وصخوراً وصوراً يعبدونها ،وهذه هي الأصنام والأوثان واحياناً كانوا ينصبون صخوراً حول الكعبة وهي ليست على اشكال وهيئات معينة وكانوا يسمونها بالنصب أو الانصاب حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور بدم القربان
4- صحيح البخاري :7: 118 كتاب الذبائح والصيد باب ما ذبح على النصب والأزلام

وروى في موضع آخر من صحيحه حديثا آخر بنفس المضمون إلّا أنّ فيه بعض الزيادات (1).

ويستفاد من الحديث المذكور:

أولاً : أن زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف وأعلم في معرفة التوحيد من رسول الله

(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة ؟

ثانياً : أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لا يمتاز عن سائر العرب الجاهليين ، لأنه كان يملك صنماً ونصباً، وكان يأكل اللحم الذي ذبح على النصب، وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقد كان موحداً ومؤمنا ، وكان يرفض الأصنام وعبادتها، كما ورد في الحديث إنّه قال : فإنّي لا أكل مما تذبحون على أنصابكم.

والأطمّ من الحديث الأوّل ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده باسناده عن نوفل بن هشام بن سعيد بن زيد ، عن أبيه ، عن جده فانه قال : ومرّ بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) - يعني زيد بن عمرو بن نفيل - ومعه أبو سفيان بن الحرث ، يأكلان من سفرة لهما، فدعواه الى الغداء .فقال : يا ابن أخي، إنّي لا آكل ما ذبح على النصب ، قال : فما رؤي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من يومه ذاك يأكل ممّا ذبح على النصب حتى بعث (2) .

وقد ذكر المؤرّخون هذه القصّة نقلاً عن هذين الكتابين - المعتبرين والصحيحين !! كابن عبد البر (3) ينقل عن ابن حنبل، وينقل أبو الفرج الأصفهاني(4) -عن البخاري.

ص: 234


1- صحيح البخاري 5 50 كتاب فضائل أصحاب النبي باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل
2- مسند أحمد بن حنبل 1 : 189
3- الاستيعاب لابن عبد البر 2: 615 ترجمة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفیل رقم 982
4- الأغاني لابي الفرج الاصفهاني 3: 126 خبر زيد بن عمرو ونسبه

من هو زيد بن عمرو بن نفيل

من هو زيد الذي نال هذه المرتبة من القدسية والتكريم ؟وكما روى البخاري في مبحث التوحيد أنّ زيد نال مرتبة من التوحيد لم ينلها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة!!

واما زيد هذا هو ابن عم الخليفة عمر بن الخطاب وأبو زوجته (1)، وقد أطراه الكثير من المؤرّخين وأصحاب التراجم ، فقالوا : إنّه في الجاهلية كان موحداً ، وكان يعبد الله وهو على دين ابراهيم الحنيف، وعمّا يعتقده عرب الجاهلية، ويصلي ويسجد لله تعالى وذكره في السجود دليل على ايمانه وحنيفيته (2).

أقول : قد ذكرنا في أوّل الكتاب ما استنتجناه من الآيات والروايات حول الأنبياء عامة ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)خاصة ، وبينا أيضاً في الفصل السابق سيرة آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأثبتنا بالدلائل النقلية الثابتة قطعية أنّ عبد المطلب وأبو طالب كانا موحدين، وكانا يجتنبان أكل ما ذبح على الأنصاب وإنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)علاوة على مسألة النبوة واستعداده لتلقي الوحي، كما تطرقنا اليه سابقاً فإنّه عاش ونشأ في هذا البيت، وتربّى في أحضان ورعاية هؤلاء الأفراد.

فعلى هذا فهل يعقل أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ترك سيرة آبائه وعقائدهم والتعاليم والآداب العائلية - وقد كانوا يجدون ويسعون في حفظ تلك الشعائر - ويرفض (صلى الله عليه وآله وسلم)كل ذلك ،ويتمسك بسيرة الوثنيين ؟

فهل يتصوّر أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لم ينل ما ناله زيد بن عمرو بن نفيل وأمثاله من الوصول الى مدارج التوحيد الرفيعة ، وعبادة الله والامتناع عن أكل ما ذبح على النصب ، وينهى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)عن أكل ذلك ، ويرشده الى ترك هذا العمل وتراه أحياناً يدعو النبى الى هذا

ص: 235


1- هو أبو عاتكة بنت زيد بن نفيل زوجة عمر بن الخطاب . راجع : أسد الغابة 4 : 78، الفقرات الأخيرة 78 من ترجمة عمر بن الخطاب
2- راجع ترجمة زيد بن عمرو بن نفيل فى أسد الغابة 2 : 236 - 238

العمل - الاجتناب عن أكل ما لم يسمّ عليه اسم الله - لأنّ المحبوب عند الله عز وجل، والنبي بدوره يستجيب له فيمتنع من الأكل حتى أن بعثه الله نبيّاً.

وأعتقد أنّ هذين الحديثين وضعا لتبيين فضائل أحد أبناء عمومة الخليفة عمربن الخطاب ، كما اختلقوا مئات الأحاديث والروايات في بيان الفضائل للخلفاء وقبائلهم، وما أرى دافعاً وداعياً لاختلاق مثل هذه الروايات غير التعصب القبلي المفرط، وممّا يؤيّد رأينا إنّه لم يرو هذا الحديث أحد سوى عبدالله بن عمر، ونوفل ابن هشام بن سعد وهذا الآخر هو حفيد زيد بن عمرو بن نفيل .

ولكن رواة الحديثين وواضعاهما لم يدركا أنّ مضامين قولهما مباينة لما جاء في القرآن والروايات الصحيحة والصريحة ، وكذا لم يعلما أنهما قد أهانا بحديثيهما النبي الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأساء إلى منزلة النبوة إساءة لم يمحها شيء.

ولا يتوهم أحد إننا ننكر كون زيد بن تقيل من الموحدين في العهد الجاهلي، لأنه كما ورد في الأحاديث المروية عند الشيعة أيضاً إنّه كان يسعى لمعرفة التوحيد، ويتبرأ من الوثنية (1) ، ولكننا نقول : ان ما ورد في الحديثين من المقايسة بينه وبين الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكن إلّا مبالغة وتقديساً لزيد ، وأنّ لواضعي الحديثين نوايا ومقاصد لايمكنهما الوصول اليها إلا عن طريق جعل أحاديث مثل ما ذكر، ودسها في المصادر وكتب الحديث عند أهل السنة ، والعجب أن المسلمين قبلوها قبول المسلّمات حتى اعتبرتها العامة أحاديث صحيحة وقطعية .

3-قصة شق الصدر

اشارة

عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدّث : ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبرئيل ففرج صدري، ثمّ غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من

ص: 236


1- کمال الدین : 198 باب «20» باب خبر زید بن عمرو بن نفيل وفى الباب خمس أحاديث ، بحار الأنوار 15 204 - 206 تاریخ نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم) باب «2» باب البشائر بمولده ونبوّته ح 20 - 23

ذهب ممتلىء حكمة وإيماناً فافرغه في صدري، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى

السماء الدنيا(1).

أخرجه البخاري متكرّراً في مواضع عديدة(2) وبألفاظ مختلفة ومتناقضة، وكذا أخرجه مسلم في صحيحه بتفاوت.

وأيضاً ... عن أنس بن مالك : أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أتاه جبرئيل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشقّ عن قلبه ، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حطّ الشيطان منك ، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثمّ لأمه، ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره. فقالوا : إنّ محمداً قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون ، قال أنس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره(3).

وهذا الحديث هو من الأحاديث الغريبة وقد أخرجه البخاري ومسلم في كتابيهما، وتبعهما أكثر المؤرّخين، إذ ذكروه في كتبهم (4) . والمفسرون اعتمدوا عل-ى أحاديث الصحيحين اعتماداً كبيراً ، فذكروا هذه الاسطورة في تفاسيرهم (5)عند ما جاءوا على تفسير قوله تعالى : « أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ » (6).

ولكن هذا الحديث جدير بالنقاش والنقد من عدة جهات حتى تتجلى الحقيقة،

ص: 237


1- صحيح البخاري 1: 97 کتاب الصلاة باب كيف فرضت الصلوات
2- صحيح البخاري 4 : 165 كتاب بدء الخلق باب ذكر إدريس وص 133 باب ذكر الملائكة وج 5 : 67 باب حديث الإسراء ، وج 9 : 182 کتاب التوحيد باب قوله تعالى : «وكلم الله موسی تکلیما »، صحیح مسلم 1 : 148 كتاب الإيمان باب«74»باب الإسراء برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السموات وفرض الصلوات ح263
3- صحیح مسلم 1 : 147 كتاب الإيمان باب«74» باب الإسراء برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ح 261
4- راجع التواريخ ، مثل : الطبري، تاريخ الخميس، الطبقات الكبرى، مروج الذهب، سيرة ابن هشام... وغيرهم
5- راجع التفاسير نحو الدر المنثور للسيوطي ، الخازن ، ابن كثير ، الآلوسي ... وغيرهم
6- الانشراح : 1.

وينكشف ما أسدل عليه من الستار .

1-الجهة الزمنية

هذا الحديث روي متواتراً ، ولكن اضطرب فيه تعيين عمر النبي الله ، والزمان الذي

، وقعت فيه القصّة اضطراباً كبيراً ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، فبعض الأحاديث تروي أنّ قصة شق الصدر حدثت في زمان طفولية النبي علا الله ، عندما كان يلعب مع الغلمان(1) ، وجاء في بعضها أنّ هذه العملية الجراحية أجريت للنبي الله بعد أن بعثه الله نبيا رسولاً، وفور ذلك عَرَجَ به جبرئيل إلى السماء الدنيا (2).

وعلى كل حال فإنّ الاختلاف الحاصل في الأحاديث المروية حول هذه القصة خلال مدة تتراوح أربعين عاماً .

2-الجهة المكانية

وترى أيضاً التناقض والاختلاف الكبير في هذه الأحاديث التي تعين محل وقوع القصة، فبعض الأحاديث تروي أنّ الحدث وقع في المسجد الحرام (الحطيم أو حجرإسماعيل)(3) ، وروايات أخرى تقول إنّ الواقعة حدثت في الصحراء (4)، ومجموعة ثالثة تقول بأن النبي النبى كان في بيته فانشق عليه سقف الدار(5) ، وصرّحت بعض الأحاديث أنّه جيء بطست من ماء زمزم فاستخرج قلب الرسول وغسل في ذلك الطست (6). وتقول روايات أخرى : إنّ الرسول عله اخذ إلى بئر زمزم(7).

عندما نشاهد الاختلاف والتناقض الفاحش بين هذه الأحاديث، يا ترى أيّ مجموعة منها صحيحة ومعتبرة لكي نأخذ بها ونعتمد عليها وندع الباقي جانبا ؟ أو أنّ

ص: 238


1- راجع ص 237 هامش 3
2- راجع ص 237 هامش 1
3- راجع ص 237 هامش 2
4- راجع ص 237 هامش 2
5- راجع ص 237 هامش 1
6- راجع ص 237 هامش 1
7- راجع ص 237 هامش2

جميعها صحيحة ومقبولة ؟

3-التناقض بين الموضوع والعصمة

إن قصة شق الصدر بناءاً على رواية أنس بن مالك إذا قورنت وقيست بموضوع عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). تبدو ضعيفة وغير مقبولة ، و خاصة تنزيهه (صلى الله عليه وآله وسلم)عن الارجاس الشيطانية، وذلك لأنّ ليس لابليس حظ في النفوذ إلى قلب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يُشَق صدره (صلى الله عليه وآله وسلم) ويُستَخرج ما كان فيه من حظ الشيطان .

4-الشرّ ليس غدّة مترشحة

أضف إلى ما مرّ ذكره من الموارد الثلاثة السابقة، أنّ الشرّ في ذات الإنسان ليس شبيهاً بالغدد المترشّحة في الجسم، بحيث لو استئصلت الغدة انقطعت الترشّحات ، وهكذا الخير والبر لم يكونا من نوع الأمور المادية والظاهرة كالمواد المأكولة التي يتغذى جسم الانسان بها بواسطة الإبرة ، وهكذا العلم والحكمة ليست من نوع الاجسام المادية المحسوسة التي يمكن انتقالها من إناء إلى إناء آخر (1)

معنى انشراح الصدر

وأما شرح الصدر المذكور في قوله تعالى :« آلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» (2) لا تمت إلى شق الصدر بأية صلة ، وإنما معناه انبساط قلب النبي وانشراحه، حتى يتمكن الرسول بواسطة هذا الانشراح أنْ يتحمّل الشدائد، ويصبر على المصاعب والأهوال التي سوف يلاقيها عند تبليغ رسالته، ويستعدّ لها .

وهذا المعنى هو نفس الانشراح الذي كان يرجوه النبي موسى (علیه السلام) من الله ، عندما

ص: 239


1- ذكر هذا الإشكال الفخر الرازي في تفسيره عند تفسير سورة الانشراح نقلاً عن القاضي عبدالجبار ج 32 : 2 ثمّ أجاب عليه ، وكذا أجاب عن الاشكال النيسابوري والآلوسي في روح المعاني، فراجع
2- الانشراح : . 1.

كان يناجي ربِّه ، ويسأله« رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْلي أَمْرِي»(1).

شق الصدر من منظار الحديث والتاريخ

إذا دققنا في هذه الإشكالات المذكورة، والأسئلة المطروحة، يتضح لنا بأنّ الاعتماد على ما أفادته هذه الأحاديث غير سديد ولا يمكن أن نعتبر قصة شق الصدر قصة حقيقية وواقعية .

وأشرنا سابقاً بأنّ هذه القصة الوهمية والخرافية ، قد ذكرت في كثير من كتب العامة

و مصادرهم ، وتلقوها بكونها من المسلمات الضرورية.

ولعلّ تواتر روايتها ونقلها كان سبباً في نقلها أن يتأمل بعض علماء الشيعة ومحققيهم فيها ، مع اعترافهم بأن القصة لم تصلهم بأسانيد موثوقة ومعتبرة.

قال العلّامة المجلسى رحمة الله عليه :

اعلم أنّ شق بطنه(صلى الله عليه وآله وسلم) في صغره ورد في روايات كثيرة مستفيضة عند العامة ،كما عرفت ، واما رواياتنا وإن لم يُرد فيها بأسانيد معتبرة ، لم يرد نفيه أيضاً ، ولا يأباه العقل أيضاً ، فنحن في نفيه وإثباته من المتوقفين كما أعرض عنه أكثر علمائنا المتقدمين(2). وإن كان يغلب على الظن وقوعه والله تعالى يعلم وحججه(3).

كلمة صريحة

لو لاحظنا الأدلة الأربعة التي ذكرناها ، وهكذا لو تمعنا في إعراض علمائنا المتقدمين من الولوج في هذه المسألة ، لم يبق محل للتوقف او موضع للقول باحتمال

ص: 240


1- طة : 25
2- لعل عدم تعرّض المتقدمين إلى البحث لا نفياً ولا إثباتاً ناجم عن شذوذ الخبر وغرابته ولذلك أعرضوا عن ذكره، وثانياً لعل عدم وروده في المتون الشيعية والأحاديث المروية عن ائمة أهل البيت (علیه السلام) المعرب
3- بحار الأنوار 16: 140

وقوع هذه القصة، ولو كان لهذه القصة حقيقة كسائر القضايا لذكرها ائمة أهل البيت

(علیهم السلام) ، الذين هم أدرى بما في البيت، بينما تراهم الله لم يدعوا صغيرةً ولا كبيرةً مما تمت بحياة الرسول وتاريخه إلّا ،وذكروها، فكيف بهذه القصة التي تُعدّ من قضايا التاريخ الإسلامي ؟ ولو فرضنا أنهم تطرّقوا إليها فَلِمَ لم نر لها أثراً في أحاديثهم الصحيحة التي وصلتنا؟

وزد على كلّ ما ذكرناه ما اقرّ به العلّامة المجلسي من أنّ القصة لم تصلنا بسند موثوق ومعتبر.

وإنّ أحد المحققين المعاصرين ذكر هذه الأحاديث في تفسيره على سبيل التمثيل، وصحح الروايات المنقولة في الموضوع ، وفسّرها على كونها قضيّة خارجة عن حيّز الماديّات.

ولكن هذا التأويل مخالف لظاهر هذه الأحاديث وهو غير قابل للتوفيق بينها، لأن :

أولاً : ورد في الأحاديث إنّ الغلمان الذين كانوا يلعبون مع الرسول (علیه السلام)أخبروا حليمة السعدية بخبر قتل النبي(علیه السلام)، ولما عادوا إلى المحل رأوا الرسول الله(علیه السلام)منتقع اللون مضطرب الحال.

ثانياً : إنّ أنس بن مالك راوي الحديث يقول : إني رأيت أثر ذلك الشق في صدره،

ورأى أيضاً أثر المخيط الذي أجرته الملائكة في صدره، وذلك بعد مضي عدة سنوات .

ويلاحظ إنّ هاتين المسألتين تنافيان موضوع التمثل ، ولا يقبل الجمع بينهما .

وعلى هذا يمكن القول صراحة بأنّ هذه القصّة هي شبيهة لقصّة موسى(علیه السلام) وسباقه مع الحجر ، وكذلك شبيهة لقصة عزرائيل عندما فقد عينه ، وهذه القصص كلّها لا أصل ولا حقيقة لها.

ص: 241

النبيّ بعد البعثة

1-شكه وترديده في نبوّته قصّة بدء الوحي

حدث ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة ام المؤمنين أنها قالت : أوّل ما بدأ

به رسول الله على الله من الوحي، الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثمّ حُبِّب اليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه وهو التعبد ليالي عديدة، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد بمثلها، حت-ى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطّني الثالثة ثم أرسلني ، فقال : «اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَ، وَرَبُّكَ الأكرم »(1)...

فرجع بها رسول الله الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فحدّث خديجة بذلك وأخبرها الخبر وقال : لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق .

فانطلقت به خديجة، حتى انت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى ابن عمّ خديجة،و كان امرءاً تنصر في الجاهلية،وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي .

فقالت له خديجة : يابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا

ص: 242


1- العلق : 1-3

ترى ؟ فأخبره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بما رأى.

فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أو مُخْرِجي هم ؟

قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً .

ثم لم ينشب ورقة أن تُوفّي وفتر الوحي (1).

فى هذا الحديث الذي أخرجه الصحيحان فإنّ جملة «وإني خفت على نفسي» مبهمة ومجملة ، ومتعلق الخوف فيها محذوف.

وأما ابن سعد أخرج هذه القصة في حديثين بشكل واضح وصريح، وذكر متعلق الخوف فيه أيضاً وقال : وإنّي خشيت أن أكون كاهناً وإني أخشى أن يكون في جنن(2).

ونقلها الطبري كذلك في تاريخه عن عبدالله بن زبير قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ولم يكن من خلق الله أبغض إلي من شاعر أو مجنون كنت لا أطيق أن أنظر إليهما . قلت : إنّ الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون لا تحدّث بها عنّي قريش أبداً لأعمدن إلى حالق من الجبل ، فلأطر حنّ نفسي منه ، فلأقتلها و لأستريحنّ ، قال : فخرجت أريد ذلك ، حتى إذا كنتُ في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ويظهر من تصريح ابن سعد والطبري وما ورد في صدر الحديث الذي أخرجه

ص: 243


1- صحيح البخاري 1 : 3 باب كيف كان بدء الوحي ، وج 4 : 141 كتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين ، وج 6: 214 كتاب التفسير باب تفسير (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ، وج 9 : 37 كتاب التعبير باب التعبير وأول ما بدى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، صحیح مسلم 1 : 139 کتاب الإيمان باب (73) باب بدء صلى الوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ح 252
2- الطبقات الكبرى -1 : 194 - 150ذکر نزول الوحى على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
3- تاريخ الطبري 2 : 301

البخاري وذيله تأييد للمعنى المراد من إنّه خشى على نفسه من التكهن والشعر والجنون.

معايب القصة

وإن كان المؤرّخون قد نقلوا هذه الاسطورة ولكن أكثر العتب والمؤاخذة ترد على البخاري ومسلم - اللذان أخرجا هذا الحديث في صحيحيهما معتقدين بصحته - .

ويستفاد من هذا الحديث :

أولاً : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان شاكاً ومتردداً في نبوّته حتى بعد نزول الوحي والقرآن عليه ، وهبوط جبرئيل إليه ، وكان يخيّل اليه أن الجن قد حلّ فيه.

وهؤلاء المخرجون للحديث أرادوا بذلك تثبيت ما كان عرب الجاهلية يعتقدونه بعد نزول الوحي من أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كاهن أو شاعر ، مع أنه كان يكره الكهان والشعراء والجنون - وحاول الانتحار بأن يطرح نفسه من جبل شاهق ليريح نفسه، ولكن خديجة وابن عمها ورقة بن نوفل ساعداه حتى أذهبا عنه ما كان فيه من الخوف والروع، وذكروه بأن هذه المسألة لا علاقة لها بالأجنّة بل هي وحي و نبوّة.

فعلى هذا ، كيف يعقل أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لا يعلم أنه نبي ورسول حتى بعد نزول الوح الوحي عليه ، في حين أن الكهنة والرهبان كانوا على علم برسالته منذ أمد بعيد.

وهل يعقل أنْ يبعث الله نبياً وليس للرسول خبر عن هذه الرسالة الملقاة على عاتقه؟حتى أنه لا يستطيع أن يميّز بين الوحي الالهي والوساوس الشيطانية ؟ بينما نقرأ في القرآن بأن النبي عيسى(علیه السلام)أعلن بكل صراحة عن نبوّته، وهو ما زال في المهد:«آثاني

الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيَّاً »(1) . ونقرأ أيضاً عن النبي موسى(علیه السلام)أنه علم بنبوته في بداية نزول الوحى عليه واعد نفسه للدعوة الالهية وقال : «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْلي أَمْرِي»(2).

ص: 244


1- مریم: 30
2- طة : 25 - 26

واما بالنسبة إلى النبي الله(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي خشي على نفسه، ولم يدر شيئا عما حدث له ، حتى اخبرته زوجته خديجة وورقة بن نوفل فاطمئنّ بقولهما ، فزال عنه ما تداخله من الرعب والخوف ، فما كانت نوعية الرسالة والنبوة التي أعطيت اليه وبعث بها ؟

وبناء على هذا ولا يخفى فإنّ هذه المرأة - خديجة -وهذا النصراني - ورقة -كانا أنسب وأليق من رسول الله في التصدّي لأمر النبوة والرسالة، وحسب ما تتضمنه الرواية من المعنى أن خديجة وورقة كانا أقدم إيماناً واعتناقاً للإسلام من رسول الله.

2 - أنّ جواب الرسول لجبرئيل الأمين لما قال له : «اقرأ» فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما أنا بقارىء». يفهم منه أن النبي لم يعلم ولم يفهم مقصود جبرئيل . لأن جبرئيل كان يقصد من قوله : «اقرأ» أيّ رتل وكرّر ما أتلوه عليك، ولكن النبي فهم عكس هذا القول وإنّ مقصود جبرئيل هو أن يقرأ ما كان مكتوباً على اللوح، وعلم الرسول ما قصده الملك في المرة الثالثة لما كرّر جبرئيل قوله وأنهى ما كان فيه النبي من المعضل والترديد .

ولكن يتبادر سؤال : هل أنّ جبرئيل كان ضعيف البيان والاداء ، بحيث لا يستطيع أنْ يؤدّي الرسالة حق الأداء ؟ أم أنّ الرسول كان قاصر الفهم ولم يعلم المقصود؟ (1).

3 - ورد في الحديث إنّ الملك المنزل بالوحي أخذ النبي ثلاث مرات يهزّه بشدة حتى أحسّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بالوجع ، وهذه الأخذة والهزة كما أشار اليها القسطلاني لم يفعل بأحد من الانبياء لا ولم ينقل عن أحدهم إنّه جرى له عند ابتداء الوحي الي-ه مثله (2).

ص: 245


1- هذا الإشكال والسؤال المتبادر إلى الذهن هو مما يستخرج ويستفاد من مضمون الأحاديث المروية عند أهل السنة بما يمت إلى موضوع بدء الوحي على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأما الشيعة فتعتقد بان المراد من الأمر بالقراءة عند نزول جبرئيل على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في غار حراء هو بداية النبوة والبعثة وهذا الأمر ه- انطلاقة نزول الوحى عليه وليس القراءة اللفظية كما يقال
2- ارشاد الساري 1: 63

إذن فما تعني هذه الأخذة الشديدة بالنسبة إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)خاصة من بين الأنبياء ؟ وهل العقل يعتبر هذا الرعب والخوف الذي أوجده جبرئيل(علیه السلام)عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في مقابل عمل لم يطقه النبى عملاً صحيحاً ؟ وهل إن جبرئيل لا بفعله هذا أراد أن يظهر عضلاته للنبي ؟

وهل كان النبى(صلى الله عليه وآله وسلم)فاقداً لتلك القوة التي كانت عند موسى لمّا لطم عزرائيل فأعماه وفقأ عينه(1) كما قرأته آنفاً ؟.

هذا ما نقله الصحيحان في موضوع بدء الوحي ، وهو ك«شق الصدر»وقد أثبته المفسّرون والمؤرّخون والمحدّثون في كتبهم في تفسير سورة العلق(2) من دون أن يبدوا أي نقد نقد و تحليل ، حتى تسرّب ذلك إلى بعض كتب الشيعة (3).

والوحيد من بين المفسّرين الذين ردّوا هذا الحديث وانتقدوه نقداً علمياً هو العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان(4).

2-سهو النبي في الصلاة

ثَمّة أحاديث متواترة أخرجها الشيخان في صحيحيهما تفيد بأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يسهو في صلاته فينقص ركعاتها أو يزيد عليها ، وإنّه كان أحياناً يصلي ركعتين بدل أربع، ولم يلتفت إلى سهوه ، حتى ذكره المأمومون بذلك فتدارك ما أنقصه أو ما أضافه .

ولسنا الآن بصدد إثبات مسألة عصمة الأنبياء وهل أنهم يتعرضون للسهو أم لا ؟

ولسنا كذلك بصدد تمحيص هذه الأحاديث التي رويت في موضوع سهو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وإثبات ضعفها وركاكتها ، لأنّ هذا الأمر بحاجة إلى إفراد بحث مستقل وكتاب

ص: 246


1- راجع ص . 22.
2- راجع تفاسير العامة ، مثل : تفسير ابن كثير ، الدر المنثور ، الطبري ، الخازن ،محاسن التأويل ، روح المعاني،والمراغي وغيرهم في تفسير سورة العلق
3- مثل : تفسير منهج الصادقين للكاشاني
4- الميزان فى تفسير القرآن 20 : تفسير سورة العلق

مستقلّ.

بل انّ ما نقصده هنا هو : أن نعرّف القارىء ركاكة بعض هذه الروايات وضعفها، ونبين له بعد ذلك إنّه كيف تسرّبت في شتى أبواب الصحيحين الأحاديث الموضوعة والمدسوسة التي تمسّ الشريعة والدين بسوء، حتى شملت حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الشخصية وعباداته .

واليوم ... وقد مرّت على دس تلك الأحاديث قرون من الزمن وكثيراً من أتباع القرآن والمسلمون ينظرون إليها نظرة قبول و اعتبار بكونها أحاديث صحيحة، واعتقدوا بمضامينها اعتقاداً راسخاً وانقادوا إليها عمليّاً .

واليك من تلك الأحاديث الموضوعة ما رواه أبو هريرة حول موضوع سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فی الصلاة قال : صلّى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشاء - قال ابن سيرين سمّاها أبو هريرة ولكن نسيت أنا - قال : فصلى بنا ركعتين، ثمّ سلّم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبّك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفّه اليسرى ، وخرجت السرعان من أبواب المسجد . فقالوا: قصرت الصلاة؟وفي القوم أبوبكر وعمر ، فهابا أن يكلّماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال : يا رسول الله أنسيت أم قَصُرَتِ الصلاة؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم)الله : لم أنس ولم تُقْصَر فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا: نعم. فتقدّم فصلّى ما ترك تمّ سلّم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر .

أخرج البخاري هذا الحديث في مواضع متعدّدة من صحيحه (1) ورواه مسلم أيضاً

ص: 247


1- صحيح البخاري 1: 129 کتاب الصلاة باب تشبيك الأصابع في المسجد ، وج 2 : 85 باب إذا سلّم في ركعتين أو في ثلاث وص 86 باب من لم يتشهد في سجدتي السهو وباب من ، يكبر في سجدتي السهو ، وج 8 20 كتاب الأدب باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير ، وج 9 : 108 كتاب الأحكام باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصيام ...

في صحيحه (1)وضبطها أصحاب الصحاح في كتبهم .

وفي الحديث مسائل قابلة للنقاش من عدة جهات :

1 - يستفاد من هذا الحديث أن أبا هريرة كان حاضراً في الصلاة التي سه-ا فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذكره ذو اليدين !! ولو لم يكن حاضراً لما صوّر القصة بهذه الكيفية وفصل فيها حركات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وحالاته، كما قال : فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكاً عليها كأنّه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبّك بين أصابعه ، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى...

وممّا يجدر بالذكر، أن ذا اليدين المذكور في الحديث هو ذو الشمالين(2) الذي استشهد في غزوة بدر (3) وذلك قبل أن يسلم أبو هريرة بخمس سنوات(4). وبناء على هذا كيف يدعي أبو هريرة رؤية ذي اليدين مع الفارق الزمني الطويل بين استشهاد ذي اليدين

ص: 248


1- صحیح مسلم 1: 403 كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب «19»باب السهو في الصلاة والسجود له ح 97
2- أخرج مالك في الموطأ 1: 93 - 94 كتاب الصلاة باب «15» باب ما يفعل من سلّم من ركعتين ساهياً ح 58 - 60 ، وكذا أخرج النسائي في سننه 3: 20 کتاب الصلاة باب ما يفعل من سلّم من ركعتين ناسياً وتكلّم ، وكذا أخرجه الدارمي في سننه 1: 419 - 420 كتاب الصلاة باب 175 باب سجدة السهو من الزيادة ح 1496 - 1497 ، وجميعهم رووا باسنادهم عن أبي هريرة ، ولكن يلاحظ في هذه الأحاديث أن المذكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)تارة ذواليدين وتارة ذو الشمالين . وعلّق مالك والسيوطى على الحديث قائلين : قال ابن عبد البر : لم يتابع الزهري على قوله إنّ المتكلّم ذوالشمالين لأنه قتل يوم بدر وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطراباً أوجب على أهل العلم بالنقل تركه روايته خاصة وقد غلط فيه مسلم ولا أعلم أحداً من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عوّل على حديث الزهري في قصة ذي اليدين وكلّهم تركوه لاضطرابه ، وإنّه لم يقم له إسناداً ومتنا ... المعرّب
3- راجع الطبقات الكبرى 3 167 ترجمة ذي اليدين أو ذي الشمالين، والإصابة 2: 233 ترجمة الخرباق السلمي رقم 2243 ، الاستيعاب :2 458 ترجمة خرباق السلمي رقم .686
4- أسلم أبو هريرة بعد غزوة خيبر أي بعد السنة السابعة من الهجرة . راجع ص 99

وإعلان أبي هريرة إسلامه فهذا أمر مريب.

2 - مؤدى الحديث يبيّن أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين قد محوا صورة صلاتهم، بحيث إن النبي قام عن مصلاه وتحرّك واتكأ على خشبة في المسجد ، والمسلمون بعضهم خرج من المسجد، بظنهم أنهم قد أتموا الصلاة، ولما التفت النبي إلى سهوه رجع إلى مصلاه وتدارك ما فاته من الصلاة، ثم سجد سجدتي السهو .

والمتيقن أنّ كلّ ما يغيّر صورة صلاة الانسان فهو من المبطلات، وهذا العمل الصادر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)- تحرّكه عن مصلاه وعوده اليه مرة أخرى وإتمام صلاته - مناقض ومخالف للحكم الذي شرّعه هو بنفسه .

قال ابن رشد : قد انعقد الإجماع على أنّ المصلّي اذا انصرف إلى غير القبلة أنه ق--د

خرج من الصلاة (1).

3 - إنّ هذا السهو الفاحش ونسيان نصف أركان الصلاة إنما يصدر من اولئك الساهين في صلاتهم اللاهين عن مناجاة ربّهم، ويستحيل أن تصدر هذه الغفلة والسهو الذي هو مناف ومضاد لحالتي الخشوع والخضوع الله عزّ وجلّ عباد الله المخلصين والأنبياء اللام ولا سيما سيّدهم وخاتمهم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولا يقع ذلك إلا لمن كان مصداقاً لقول الشاعر:

اصلي فما أدري إذا ما ذكرتها* اثنتين صليت الضحى أم ثمانياً

4 - جاء في الحديث المذكور أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لما سها وذكره ذواليدين أنكر ذلك وقال : لم أنس ولم تقصر ، وهذا يدل دلالة قطعية على أنه لا سبيل للسهو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولو سلمنا وقوع ذلك من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وافترضنا كذلك عدم العصمة في الأنبياء(علیه السلام): في السهويات، فإنّ عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم)عن المكابرة والتسرّع وتكذيب الآخرين من الضروريات ، والمسلّمات عند المسلمين .

ص: 249


1- بداية المجتهد 1 : 183

فعلى هذا ؛ فكيف يمكن أن يقول الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم أنس ولم تقصر ، ولكن عندما شهد بعض الأصحاب - ذي اليدين - تراجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)عن قوله الأول، وعلم فيما بعد أن ذلك كان خلافاً للواقع ؟

قال السيوطي في شرحه على سنن النسائي وهو ينقل هذه الإشكالات عن القرطبي : قال القرطبي : هذا - قبول السهو -مشكل بما ثبت من حاله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وحياته كلها -فإنّه يستحيل عليه الخلف -وصدور خلاف الواقع عنه - والاعتذار عنه (1).

3 - النبي يصلّي جنباً

بعد أن قمنا بالتمحيص والتحقيق في الحديث السابق - سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- الذي أخرجه الصحيحان عن أبي هريرة ، وعرفت أيها المطالع الكريم أنه من الموضوعات والأحاديث المختلقة، يمكنك الآن أن تتطلّع وتتعرّف على موضوعيةحديث آخر يرويه الشيخان عن أبي هريرة ايضاً .

يقول أبو هريرة : أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياماً فخرج إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب . فقال لنا : مكانكم . ثم رجعف اغتسل ثم خرج الينا ورأسه يقطر فكبّر فصلّينا معه(2) .

وجدير بنا أن نذكر عقيب هذا الحديث - الذي رواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -كلمة أبي هريرة التي قالها عن نفسه واعترف في جعل الحديث .

أخرج البخاري في صحيحه حديثا حول النفقات يرويه أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولما كان في الحديث المناكير التي تعجب منها سامعوها، فقالوا: يا أبا هريرة

ص: 250


1- شرح سنن النسائي للسيوطي 3: 22
2- صحيح البخاري 1: 77 کتاب الغسل باب إذا ذكر في المسجد أنّه جُنُب وص 164 كتاب بدء الأذان باب أنه هل يخرج من المسجد لعلة . وباب إذا قال الإمام مكانكم حتى رجع ، صحیح مسلم 1 422 كتاب الصلاة باب 29 باب متى يقوم الناس للصلاة ح 157 - 158 ، سنن أبي داود 1: 60 كتاب الطهارة باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس ح233 - 235

سمعت هذا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟قال : لا . هذا من كيس أبي هريرة (1).

وبناءاً على هذا الإقرار والاعتراف من أبي هريرة وأنه كان يخرج من كيسه أباطيل وأراجيف وينقلها إلى الناس على أنها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)ه، وسيرته ، فما ندري ! ولعلّ هذين الحديثين هما أيضاً من نبع كيس أبي هريرة والقرائن التي ذكرناها هناك - في حديث سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)تؤيد ما أبديناه هنا.

وأما هذا الخبر ، فلو كان صحيحاً لرواه غير واحد من الصحابة والرواة بالتواتر، بينما لم يسمع هذا إلا من أبي هريرة وأبي بكر (2).

والعجب العجاب أنّ علماء أهل السنّة قد بهرتهم هذه الأحاديث الموضوعة والمجعولةإلى حد أن بنوا عقائدهم وأحكام دينهم على أساس هذا النوع من المختلقات والموضوعات الهزيلة واعتبروها جميعاً أحاديثاً صحيحة لا تقبل الخدش والشكّ فيها .

وعلى هذا الأصل قال العيني في شرحه على الحديث المذكور :

ومما يستفاد من هذا الحديث جواز النسيان على الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)في أمر العبادة للتشريع(3) .

ص: 251


1- صحيح البخاري :7 81 كتاب النفقات باب وجوب النفقة على الاهل والعيال... وقد مرّ علينا آنفاً فيص100
2- أخرج هذا الحديث المزور أرباب الصحاح ، وقد قرأت مصادره من الصحيحين ، واما سائر الصحاح : سنن ابن ماجة :1 : 385 كتاب إقامة الصلاة باب (137) باب ما جاء في البناء في الصلاة ح 1220 ، سنن النسائي :2 : 81 كتاب الإمامة باب الإمام يذكر بعد قيامه في مصلاه أنّه على غير طهارة، وكذا رواه أحمد بن حنبل في مسنده :2: 237 و 283 و 339 و 448 و 518. وجميع هؤلاء أخرجوا الحديث عن راءٍ واحد ألا وهو أبو هريرة الدوسي ، وأخرج أبو داود حديثاً آخر غير ما رواه أبو هريرة عن أبي بكر ، راجع سنن أبي داود 1: 60-61 كتاب الطهارة باب في الجنب يصلّي بالقوم وهو ناس ح 233 - 235
3- عمدة القاري 5 : 156

4-الرسول يلعن ويؤذي المؤمنين

عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : اللهم إنّما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، واني قد اتخذتُ عندك عهداً لم تخلفنيه، فأيما عبد آذيته أو سببته أو جلدته ، فاجعلها كفارة وقربة تقربها إليك(1).

وفي حديث آخر قال : اللهم إنّما أنا بشر فأيّما رجل من المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجراً (2) .

وقال ايضاً : اللهمّ إنّما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمنى بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهوراً وزكاة وقربة تقرّ به بها منه يوم القيامة (3).

مؤدى هذه الروايات المستخرجة في أبواب مختلفة من صحيح البخاري وخص لها مسلم في صحيحه باباً خاصاً وعنونه : باب من لعنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وليس هو اهلاً. أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو كسائر البشر ، تعتريه حالات فيغضب ويؤدّي المسلمين من دون سبب ويسبّهم ويلعنهم .

توجيه الأحاديث

إن القرآن الكريم وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه على خلق عظيم ولكن البخاري ومسلم اخرجا في كتابيهما احاديث منافية تماماً للقرآن ونقلا احاديث حول اخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)على عكس ما يصفه القرآن.

وننقل من تلكم الأحاديث ثلاثاً منها كمثال :

ص: 252


1- صحيح البخاري 8: 96 كتاب الدعوات باب قول النبي : من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة ، صحیح مسلم 4: 2008 كتاب البر والصلة والآداب باب« 25»باب من لعنه النبي عل الله أو سبه أو دعا عليه وليس هو اهلاً لذلك كان له زكاة واجراً ورحمة ح 90 و 91
2- صحيح البخاري 8: 96 كتاب الدعوات باب قول النبي : من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة ، صحیح مسلم 4: 2008 كتاب البر والصلة والآداب باب« 25»باب من لعنه النبي عل الله أو سبه أو دعا عليه وليس هو اهلاً لذلك كان له زكاة واجراً ورحمة ح 90 و 91
3- صحیح مسلم 2009:4 کتاب البر والصلة والآداب باب (25) باب من لعنه النبي سبه أو دعا عليه وليس هو أهلاً لذلك كان له زكاة وأجراً ورحمة... ح 95

1 - خصص البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باباً عنونه : لم يكن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فاحشاً ولا متفحّشاً، جمع فيه الأحاديث التي تصف أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)الفاضلة . وإليك حديث واحد منها :

قال ابن أبي مليكة عن عائشة : أنّ يهوداً أتوا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فقالوا : السام عليكم فقالت عائشة : عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم .

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): مهلاً يا عائشة ، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في (1).

2 - أخرج مسلم في صحيحه أحاديث متعدّدة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه نهى عن أنْ يكون المسلم لعاناً وفحاشا ونهاهم حتى من لعن الدواب والحيوانات (2).

3 - وروى مسلم أيضاً حديثاً فيه : قيل : يا رسول الله ادع على المشركين، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لم أبعث لعانا وإنّما بعثت رحمة (3).

نعم ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس كبعض أفراد البشر الذي تعتريه حالة الغضب، من دون سبب ومن غير حق، ويسبّ ويلعن المسلمين، فكيف يتمكن من كان فحاشا يؤذى الآخرين ظلما وعدواناً ، ويضربهم بالسياط وبالدرّة جوراً ، أنْ يهدي المجتمع البشري إلى الخير والصلاح والصدق والعدل ؟

فكيف يكون النبي فحاشاً ولعاناً وهو يمنع عائشة من أن تجيب اليهود الذين هم

ألد خصماء الإسلام، ووجودهم أكبر مانع لتقدّم الدين الحنيف، والذين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 253


1- صحیح البخاري 8: 106 كتاب الدعوات باب قول النبي عل الله يستجاب لنا في اليهود ولايستجاب لهم فينا . وص 15 كتاب الأدب باب لم يكن النبي فاحشاً ولامتفحشاً .
2- صحیح مسلم 2004:4 كتاب البر والصلة والآداب باب «24» باب النهي عن لعن الدواب وغيرها ح 80-87
3- نفس المصدر ح 87

وأصحابه : السام عليكم، فأجابتهم عائشة بمثل ما قالوا ونهاها الرسول الله وأمرها بالرفق والمداراة معهم ويقول : إنّي لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة .

هذا نموذج من أخلاق النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي نهى الناس أن يلعنوا حتى الدواب فهل يُعقل أنْ يكون هو يؤذي مؤمناً ويسبّه أو يلعنه من غير حق ؟

أسباب وضع هذه الأحاديث

ثبت في التاريخ إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان في بعض الأحايين يلعن بعض الفئات المعينة ،ويلعن بعض الناس، وما كان ذلك إلا بأمر من الله عزّوجلّ، وتارة كان ينفي بعض الأفراد إلى المناطق النائية.

هؤلاء الملعونون على لسانه كان عداءهم للدين والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)أشد من اليهود، وكان خطرهم على المسلمين أكثر من المشركين ولمّا كان لعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)اياهم يعتبر وصمة عار كبير على جباههم، بحيث كان يزلزل مقامهم الاجتماعي، ولذلك حاولوا اسطة أناس مثل أبى هريرة وغيره ، او عزوا اليهم أن يختلقوا أحاديثاً مثل هذا الحديث لكي يمحوا ذلك العار عن جباههم، وبعد أن أدّى أبو هريرة وظيفته، قام أتباع أولئك الملعونين بنشر تلك الأحاديث وضبطها والاستفادة منها لخدمة عقيدتهم وقادتهم.

واليك يا قارئي المنصف بعض هذه التزويرات والتحويرات :

1 - أخرج مسلم حديثا لابن عباس قال: كنتُ العب مع الصبيان فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وتواريت خلف باب . قال : فجاء فحطأني حطاة وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : اذهب وادع لي معاوية ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل . فقال لعل الله : لا اشبع الله بطنه (1).

اعلم أيّها القارىء الكريم أنّ تخريج مسلم النيسابوري لهذا الحديث بعد أن ذكر أكثر من عشرة أحاديث بينها وبين صريح القرآن والسنة الصحيحة منافاة ومباينة واضحة

ص: 254


1- صحیح مسلم 4: 201 كتاب البر والصلة والآداب باب (25) باب من لعنه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وليس هو اهلاً لذلك ح 96

وما تخريجه لهذه الاحاديث الا ان تكون مقدّمة لتحريف المفهوم الحقيقي للحديث المشهور لدى جميع المسلمين - والذي هو بمثابة وصمة عار على جبين معاوية ، فعلى

هذا فإنّ لعن النبي عل الله إياه هو وسيلة تقربه إلى الله وكفارة لجرائمه وأجراً لجناياته .

2 - أورد ابن حجر - في كتابه تطهير الجنان الذي ألفه في فضائل معاوية عن-د تأويله للحديث لا اشبع الله بطنه» إجابات عديدة ثمّ قال : إنّ هذا الدعاء جرى على لسانه عليا الله من غير قصد، وقد أشار مسلم في صحيحه إلى أنّ معاوية لم يكن مستحقاً لهذا الدعاء ، وذلك لأنّه أدخل هذا الحديث في باب من سبه النبي له أودعا عليه وليس هو أهلاً لذلك كان زكاة وأجراً ورحمة (1).

3- قال الحافظ الذهبي في تذكرته في ترجمة النسائي صاحب السنن : قيل له : ألاتخرّج فضائل معاوية ؟ فقال : أي شيء أخرج حديث «اللهم لا تشبع بطنه» ؟ فسكت السائل .

قال الذهبي : هذا الحديث أورده النسائي ذمّاً لمعاوية . أقول : لعلّ هذه منقبة لمعاوية لقول النبي عل الله : اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زك--اة ورحمة (2).

4 - أخرج ابن حجر روايات عديدة بأسانيد وطرق مختلفة نقلها من كتب ومصادر أهل السنة حول لعن النبى الحكم بن العاص وابنه مروان ثمّ يقول : لعنته(صلى الله عليه وآله وسلم) الحكم وابنه - مروان - لا تضرهما لانه (صلى الله عليه وآله وسلم)تدارك ذلك بقوله مما بينه في الحديث الآخر : إنّه بشر يغضب كما يغضب البشر ، وأنه سأل ربّه أنّ من سبّه أو لعنه أو دعا عليه أن يكون ذلك رحمة وزكاة وكفّارة وطهارة له(3).

أقول : ترى فى مقولة ابن حجر - الذي عُرف بتأثره بالعصبية، والذي أثر رجلين

ص: 255


1- تطهير الجنان بذيل الصواعق المحرقة : 29
2- تذكرة الحفّاظ 699:2 ترجمة النسائي رقم الترجمة 719
3- تطهير الجنان بذيل الصواعق المحرقة : 65

حقيرين وذليلين مثل مروان وأبيه الحكم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وانتصر لهما ودافع عنهما - نوعاً من التحجيم والتصغير لمرتبة النبوة ، وتصوير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بأنه كسائر البشر العاديين.

وتشاهد أن بين هذا الكلام الذي تقوله ابن حجر وبين النصوص القرآنية التي تقول: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى»(1) تفاوت كبير وتعارض واضح .

نعم ، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر ولكن يمتاز عليهم بما يوحى اليه ، قال تعالى: «قُلْ إِنّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إليّ » (2).

إذن فاذا أوحى الله عزّ وجلّ إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلعن أحداً فإنّه يلعن بأمر من الله عزّ وجلّ.

وعليه ؛ فمن يُلعَن على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يغنيه دفاع أحدٍ عنه شيئاً، وانتصار الآخرين له .

5-نهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تلقيح النخيل

روى مسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه ، ثلاث أحاديث تتضمّن : أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)مر بقوم يلقحون النخيل فقال : لو لم تفعلوا لصلح . قال ثابت بن أنس : فخرج شيصاً ، فمر (صلى الله عليه وآله وسلم)بهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما لنخلكم ؟ قالوا : قلت كذا وكذا . قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنتم أعلم بامور دنياكم(3).

وفي حديث آخر قال : إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر (4).

وفي ثالث قال : أنتم أعلم بأمور دنياكم (5) .

ص: 256


1- النجم : 4
2- الكهف : 110 ، فصلت : 6
3- صحیح مسلم 4 : 1836 كتاب الفضائل باب 38 باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) من معايش الدنيا على سبيل الرأي ح 139 - 141 ، سنن ابن ماجة 2: 825 كتاب الرهون باب «15»باب تلقيح النخل ح 2470 - 2471
4- صحیح مسلم 4 : 1836 كتاب الفضائل باب 38 باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) من معايش الدنيا على سبيل الرأي ح 139- 141 ، سنن ابن ماجة 2: 825 كتاب الرهون باب«15» باب تلقيح النخل ح 2470 - 2471
5- صحیح مسلم 4 : 1836 كتاب الفضائل باب 38 باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم)من معايش الدنيا على سبيل الرأي ح 139 - 141 ، سنن ابن ماجة 2: 825 كتاب الرهون باب «15» باب تلقيح النخل ح 2470 - 2471

دلائل اختلاق القصة

إنّ كون هذا الحديث من السخافات الموضوعة هو من أوضح الواضحات ، بحيث يغنينا عن البحث والتكلّف في جهات الحديث، لأنّ إحدى الروايات تقول : إنّ القصة وقعت في المدينة، فيا ترى أنّ نبياً عاش في الجزيرة العربية خمسين عاماً وعاشر أهلها، ويراهم يلقحون النخيل في كل عام، هل يعقل بمجرد أن هاجر إلى يثرب نسي هذا الامر -التلقيح- ؟ ولم يعلم مدى تأثير التلقيح على النخلة ورشدها حتى منع أهل يثرب عن هذا العمل، ولما رأى أنّ المسألة صارت معكوسة ندم على قوله ، ثمّ أعلن للناس أنتم أعلم بأمور دنياكم ؟

لا يخفى أنّ الغاية من جعل هذا الحديث هي فتح باب المخالفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بحيث لو أراد الخلفاء وأصحاب السلطة يوماً أن يحكموا على خلاف تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وينقضوا أوامره، فهم يملكون دليلاً، ويستدلّون على مخالفتهم بأنّ النبي قد ارتكب خطأ في مسألة تلقيح النخيل وبعدها قال : أنتم أعلم بأمور دنياكم.

ومما يجدر ذكره أنّ هؤلاء عالجوا هذه المسألة بتلبيسها الوجهة العلمية والفنية واسموها بالاجتهاد، وادعوا بأنّ الرسول إذا أمر بحكم ولم يكن هذا الحكم في القرآن ولا علاقة له بالوحي فإنّه يكون من اجتهاداته (صلى الله عليه وآله وسلم). ومخالفة المجتهدين بعضهم بعضاً في المسائل العلمية أمر عادي ولا يرد عليه إشكال.

وإليك آراء علماء العامة في هذا الموضوع:

هل كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)يتعبد بالاجتهاد

قال الآمدي : اختلفوا في أنّ النبي هل كان متعبداً بالاجتهاد فيما لا نص قرآني فيه ؟

فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف : إنه كان متعبداً، وجوز ذلك الامام الشافعي في رسالته، وبه قال أصحابه والقاضي عبدالجبار وأبو الحسين البصري: نعم ،

ص: 257

كان النبي يتعبد باجتهاده فيما لا نص صريح من القرآن فيه .

يقول الآمدي : المختار عندنا جواز ذلك عقلاً ووقوعه سماعاً (1) .

ثمّ يضيف : إنّ القائلين بجواز الاجتهاد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)اختلفوا فيما هل يمكن أن يخطأ النبيّ في اجتهاده ام لا؟

فذهب بعض أصحابنا إلى منع وقوع الخطأ في اجتهاداته، وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جواز ذلك (2).

وقال الدكتور موسى توانا(3) في كتابه الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر :

بدء الاجتهاد في الإسلام منذ عهد رسول الله ، فقد كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يجتهد في يجتهد في الأمور التي لا تتعلّق بالرسالة . ثمّ يذكر قصة التلقيح دليلاً على ما ذهب إليه .

قال الشيخ محمد عبده : وقد كان الاذن المعاتب عليه اجتهاد منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما لا نص فيه من الوحي، وهو جائز وواقع من الأنبياء ، وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه ، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به .... ويؤيّده حديث طلحة في تأبير النخل إذ رآهم يلقحونها(4) .

وقال المحقق المتكلّم الفاضل القوشجي عند ذكره مسألة تحريم عمر للمتعة ومخالفته لحكم رسول الله فيها :

وأجيب عن ذلك : بأنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحاً فيه - أي عمر -فإنّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع(5).

ص: 258


1- الإحكام في أصول الأحكام 4: 398 المسألة الاولى
2- المصدر السابق ص 440 المسألة الحادية عشر
3- وهو من علماء العامة ومن علماء العامة ومن الأساتذة الأفغان وكتابه المذكور هو رسالته الجامعية طبع من قبل جامعة الازهر بمصر
4- تفسير المنار 465:10 - 466
5- شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : 384 فصل الإمامة

وقال قاضي القضاة في المغني: إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يأمر بما يتعلّق بمصالح الدنيا من الحروب ونحوها عن اجتهاده، وليس بواجب أن يكون ذلك عن وحي، كما يجب في الأحكام الشرعية، وإنّ اجتهاده يجوز أن يُخالف بعد وفاته، وإن لم يجز في حياته لان

اجتهاده في الحياة اولى من اجتهاد غيره .

ثم ذكر : أنّ العلة في احتباس عمر عن الجيش حاجة أبي بكر إليه، وقيامه بما لا يقوم به غيره . وأنّ ذلك أحوط للدين من نفوذه (1).

أقول : ذكرنا في فصل هل الرسول كان يجتهد (2)؟ وأثبتنا عدم تعبد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بالاجتهاد واستدللنا على ذلك بالآيات المتظافرة، ونقلنا آراء بعض علماء أهل السنّة من المحدثين والمفسّرين الذين ذهبوا إلى ما قلناه الذين ذهبوا إلى ما قلناه بعدم التعبد بالاجتهاد، وأنّ هناك نوعاً آخر من الوحي غير الوحي القرآني فكلامه كله وحي إلهي.

فعلى هذا فلو حكم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بحكم لم يرد نصه في القرآن الكريم لم يكن دليلاً على عدم وجود الوحي في الحكم ، بل حكمه وحي من النوع الثاني القرآني.

وعلى هذا فكما أنّ أساس قصة تأبير النخل فاقدة الصحة فكذلك عقيدة أولئك العلماء من أهل السنّة الذين نسبوا إلى رسول الله التعبد بالاجتهاد وجواز الخطأ في اجتهاده تكون باطلة ومردودة، وإنّ التمسك بقصة تأبير النخل ذريعة ودليلاً لعقيدتهم ليست لها قيمة علمية ، كما أنّ عدم وجود حكم واضح في القرآن ليس دليل على عدم وجود الوحي والحكم الالهي في المسألة.

وأما ما ذكره الفاضل القوشجي عن مقولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في تحريمه للمتعتين واعتبر مخالفته للرسول مخالفة في مسألة اجتهادية فهو مردود ومرفوض أيضاً ، ولم يقبله أيّ محقق لبيب، لأنّ هذا القول هو قياس مع الفارق ولا يوجد

ص: 259


1- شرح نهج البلاغة 17 : 176
2- راجع ص: 207

من يقيس الرسول ويقارنه بأحد أفراد هذه الامة ، وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو نفس الحكم الثابت في اللوح المحفوظ :« إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» (1)أليس الاجتهاد هو رد الفروع على الاصول والاستفادة من الأدلة الظنية عن طريق استنباط الحكم الواقعي ؟ فهل يبقى للمقايسة بين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره محل ؟ فأين الثرى واين الثريا ؟

وأما ما ادعوه من جواز الاختلاف في الاجتهاد فهذا صحيح إذا اختلف مجتهدان ووقع اجتهاد أحدهما في مقابل اجتهاد الآخر وأمّا أنْ يجتهد أحد في مقابل نص الرسول والوحي والقانون الالهي فهذا ليس باجتهاد وسمّيه بما تشاء.

6-النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يعاقب من دون ذنب

هذا الحديث هو الآخر من الأحاديث الموضوعة والمختلقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مروي في كتب العامة كالصحيحين وغيرهما بأسانيد ونصوص مختلفة، ، ويحكي لنا هذا الحديث قصة نسبت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودلست عليه بأنه عاقب - في اللحظات الاخيرة من عمره - أناساً أبرياء عقاباً ملؤه السخرية والهزل.

والقصّة اشتهرت بحديث اللدود، وخلاصتها :

أنه اشتد المرض بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)في أواخر حياته حتى أغمي عليه وغشي، فتشاورن زوجاته وأصحابه أن يصنعوا له دواءً - وهو عجينة مُرّة تعطى لمن أصيب بداء ذات الجنب - فأعطوه وهو مغمى عليه ، فلما أفاق وشعر بمرارة الدواء، حلف يميناً بأن يصبّ الدواء في فم كلّ من هو حاضر في المجلس عدا عمّه العباس.

فأعطوا الحاضرون حتى جاء دور زوجاته، فكانت ميمونة ذاك اليوم صائمة فأصرّت على كونها صائمة ، ولكنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)لم يلتفت إلى قولها وأكدإعطاءها الدواء عملاً ووفاءاً باليمين.

وهذه القصة أخرجها الشيخان في الصحيحين مختصرة ومجملة عن عائشة أنها

ص: 260


1- النجم : 4 - 5

قالت :

لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا : أن لا تلدوني، فقلنا : كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال : ألَمْ أنهكم أن تلدوني ؟ قلنا : كراهية المريض للدواء، فقال : لا يبقى أح--د في البيت إلا لد وأنا أنظر الا العبّاس فإنّه لم يشهدكم(1).

تحقيق حول الحديث

لما كانت دراسة جميع الأحاديث التى رويت بشأن حديث اللدود عل-ى ما احتوت من التفصيل والتطويل سواءاً من حيث النص أو السند، خارج عمّا نحن عليه في هذا الكتاب من الإجمال وعدم الإطناب . لذا اقتصرنا على تبيين نصوص هذه الأحاديث والألفاظ الغريبة التي تتضمنها مع الإشارة إلى المصادر :

اولاً :اوّل ما يتبادر إلى الذهن ويثبت اختلاقية هذه الأحاديث وكذبها هو التضاد والتناقض بين ألفاظها، ونشير هنا فقط إلى ثلاثة موارد من هذه التناقضات :

1 - متى أحس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بالله ؟ فأكثر الأحاديث صريحة بأنه لما أفاق من غشوته على أثر مرارة الدواء عرف بأنه قد لد... أفاق فعرف أنه قد لد ووجد أثر اللدود (2).

ولكن حسب مضمون الحديث الذي ذكرناه في بداية هذا الفصل والمروي في الصحيحين عن عائشة بأنّ الرسول عرف بأنه يلد قبل أن يعطى الدواء ولذلك أشار بيده أن يمتنعوا من ذلك . «فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني .... فلما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدونی؟»

2 - موقف العبّاس في القصة :حسب ما يتضمّنه الحديث الذي رواه الترمذي

ص: 261


1- صحيح البخاري 6: 17 باب كتاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كسرى وقي-صر باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته ، ج 7: 164 كتاب الطب باب اللدود ، ج 9: 10 کتاب الديات باب اذا اصاب قوم من رجل هل يعاقب منهم كلهم ، صحيح مسلم 4 : 1733 كتاب السلام باب «27 باب كراهة التداوي باللدود ح 85
2- مسند الإمام أحمد بن حنبل :6 : 118

وغيره من علماء العامة بأنّ العبّاس عم النبي كان ممن صبّ الدواء بفم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لده العباس وأصحابه(1).

ويروي ابن أبي الحديد عن عائشة أنها قالت: أغم-ي عل-ى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)والدار مملوءة من النساء، وعندنا عمّه العبّاس بن عبد المطلب فأجمعوا على أن يلدّوه فقال العباس : لا ألدّه ، فلدّوه (2).

ولكن مضمون رواية الصحيحين يفيد بأنّ العبّاس لم يكن حاضراً وبعد أن لدّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)دخل المجلس «الا العبّاس فإنّه لم يشهدكم».

3 - من الذي شملته العقوبة حسب ما نقله الإمام أحمد بأنّ بعض الصحابة كانوا في المجلس فلُدّوا حتى جاء دور زوجات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (3).

ولكن هذا الإمام أحمد نفسه يروي حديثا آخر بأنه لم يكن في المجلس ذاك اليوم سوى زوجات النبي ولم يلد غيرهن .

عن العباس أنه دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وعنده زوجاته فاستترن منه إلا ميمونة:، فقال : لا يبقى في البيت أحد شهد الله الاند(4).

فهل يمكن تصور الانسجام بين هذا الحكم ومنزلة النبوة ؟

أضف إلى ما في نصوص الأحاديث من التناقضات الثلاث التي ذكرناها ، هذا السؤال الذي يطرح على أصل القصة ؛ وأنّه هل أن صدور مثل هذا الأمر والحكم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتناسب مع منزلة الرسالة والنبوّة وشخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فظاهر مضامين الأحاديث وصريح منطوق بعضها يدلّ على أن هذا الأمر المؤكد واليمين على لدكلّ

ص: 262


1- سنن الترمذي :4 342 كتاب الطبّ باب 12 باب ما جاء في الحجامة ح 2053 ، الفائق : للزمخشري 3: 313
2- شرح نهج البلاغة 13: 31 31
3- مسند الإمام أحمد بن حنبل 6 : 118
4- مسند الإمام أحمد بن حنبل 1 209

الحاضرين في المجلس والدار هو رد وجزاء للعمل بمثله. لقسم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عقوبة لهم بما صنعوا (1)ويرد على هذا :

أوّلاً :كما أشرنا إليه آنفاً ودلّت عليه مضامين بعض الأحاديث ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرف موضوع اللد بعد أن أفاق ، فعلى هذا فلم يكن نهي قبل ارتكابهم هذا العمل حتى تتحقق المخالفة ويجزون عقاباً على ارتكابه .

ثانياً : وعلى فرض قبول الحديث بأنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)كان عالماً بأنه يُلد فأشار إليهم ناهياً اياهم بأنْ يمتنعوا من ذلك ، فعملهم ليس بذنب حتى يعاقبون عليه، ويحق له أن يعاقبهم على مخالفتهم له، لأنّ هذه المخالفة مبتنية على اعتقادهم بكراهية المريض للدواء وهذه الكراهية للدواء هو دأب كلّ مريض .

وثالثاً : لو سلّمنا أنّ الحاضرين في البيت أجمعوا جميعهم على الله، ولكن المباشر في إعطاء الدواء للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هو واحد لا الجميع لماذا عاقب النبي الجميع بفعل واحد أو اثنين منهم ؟ والقرآن صريح في قوله :«ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (2)، وهذا النوع من الحكم يشبه الحكم بقصاص أناس رضوا بالقتل، فهل من عاقل تسمح له نفسه أن يعاقب من عمل بواجبه الشرعي والإنساني تجاهه، فأحسن إليه وأنقذه من الموت ؟ فالجواب حتماً ،لا، فكيف بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين الذي وصفه ابن حجر : بأنه ما اقتص ولا انتقم من أحد حتى من عدوّه إذا تعدى على حقوقه الخاصة (3).

لقد بينا في الفصلين السابقين أن الغاية من اختلاق ووضع مثل هذه الأحاديث التي مرّ ذكرها هي تزكية أولئك الذين لعنوا على لسان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كمن تخلف عن جيش أسامة ، وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : لا أشبع الله بطنه، فجعلوا لعن النبي اياهم فخراً وتزكية ورفعة المقامهم ورتبهم وصيّروا ذلك اللعن أعلى رتبة من الدعاء والثناء.

ص: 263


1- شرح نهج البلاغة 13: 32
2- الانعام: 164
3- فتح الباري 8 120

واختلقوا قصة تلقيح النخل التي أصدر فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)حكماً خطاً ثم تدارك خطأه بالندم والتأسّف ، ليثبتوا أصل الاجتهاد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وجواز عدم إصابته في اجتهاده ويصححوا شطحات الآخرين بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومخالفتهم للسنة وأصولها على أنّها مخالفة مجتهد لغيره، ولا بأس بهذه المخالفة.

وأما حديث اللدود فإنّه وضع توهيناً وتطاولاً على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بحيث أصبح بع-د ذلك ذريعة ووسيلة بأيدي أعداء الإسلام للنيل من الدين، وبناءاً على هذا فإنّ الدواعي في جعل الحديث كثيرة اهمها اثنان :

الأوّل: خلق فضائل لبني العبّاس : كانت سياسة بني العباس واهتمامهم منكبّ على تمهيد وسائل الخلافة سواء قبل وصولهم للخلافة أو بعدها ، وهذا الأمر يستدعى أنْ يختلقوا فضائل ومفاخر لذويهم بدواً من عباس عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى آخر هم ، حتى ولو كان هذا الوضع يستوجب تحجيم شخصية النبي والنبوة، كما نراه واضحاً في قصة اللدود. فسعوا لاثبات فضيلة وكرامة للعباس جدهم، حيث إنّنا نقرأ في جميع أحاديث اللدود مع تظافر التناقضات فيما بينها أنها قد اتحدت في مسألة واحدة و وهي إنّ ظاهر الأحاديث المروية في هذا الباب تدلّ على أنّ كلّ من كان في البيت من الصحابة وزوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى ميمونة التي كانت صائمة وأهل البيت وسبطا الرسول(علیه السلام) قد شملتهم العقوبة ، لأنّ امير المؤمنين والزهراء والسبطان(علیه السلام)على فرض صحة الحديث كانوا في الدار عند أبيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنهم قد لدوا كرهاً وبأمر من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)والوحيد الذي لم يلد وكان حاضراً واستثنى من عقوبة الرسول هو العباس بن عبد المطلب.

الثاني : تأييد نظرية عمر الغاية الثانية التي استهدفوها وضاع هذا الحديث المختلق هي إثبات وتأكيد صحة مقولة الخليفة عمر التي قالها في اللحظات الأخيرة من حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسبها إليه انه يهجر) ونسبها إليه انه يهجر»(1) ، وأرادوا باختلاقهم ذلك تصحيح كلمة عمر بأنّ

ص: 264


1- سنوافيك البحث في هذا الموضوع في فصل الوصية التي لم تكتب

النبي كان يصدر أوامر في أواخر حياته هذياً ومن دون تعقل ، لأنّه تارة يقول : لدوا

الحاضرين في البيت بتلك العجينة المرّة وأنا أنظر إليهم، وتارة أخرى يقول : ائتوني بكتف ودواة لأكتب لكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي .

النقيب وحديث اللدود

ومن العلماء الذين نفوا صحة حديث اللدود ، وحكم عليه بكونه مختلقاً وموضوعاً هو أبو جعفر النقيب أستاذ ابن أبي الحديد يروي ابن أبي الحديد كلام أستاذه مع انه كان مؤيداً للحديث ومخالفاً لرأي أستاذه فيقول : سألت النقيب أبا جعفر عن حديث اللدود ، فقلت : ألدّ عليّ بن أبي طالب ذلك اليوم .

فقال : معاذ الله لو كان لدّ لذكرت عائشة ذلك فيما تذكره وتنعاه عليه . قال : وقد كانت فاطمة حاضرة في الدار وابناها معها أفتراها لُدّتْ ولد الحسن والحسين ؟ كلا، وهذا أمر لم يكن . وإنّما هو حديث ولّده من ولده تقرباً إلى بعض الناس (1).

وأمّا النتيجة : فهذا الذي قرأته هو أُسطورة حديث اللدود، وتلك هي التناقضات والاختلافات في أحاديث اللدود والأسئلة التي ترد على مضامينها، وقرأنا أيضاً الغاية من اختلاقهم هذه الأسطورة الخرافية، حتى أن واحداً من محققي العامة صمد في مقابل جميع محدّثيهم ومؤرّخيهم وأعلن اختلاقية وزيف هذه القصة .

ولمّا كانت هذه الأسطورة الخرافية برأي علماء الشيعة وفقهائهم موضوعة ومختلقة ،وهي مباينة لعقيدتهم في النبوّة ، لم يروها أحد من محدثيهم ومؤرّخيهم ، بل إنّهم لم يتصدوا للردّ والجواب عن ذلك، ومرّوا عليها مروراً غير معتنين بها وتركوها نسياً منسيّاً خلافاً لعلماء العامة الذين بذلوا جهوداً كثيفة في إثباتها (2) .

ص: 265


1- شرح نهج البلاغةلابن أبي الحديد 13: 32
2- رأيت في الآونة الأخيرة أن أحد مؤلّفي العامة كتب كتاباً وسطّر فيه بعض الخزعبلات منها هذه الأسطورة ونمقها بعبارات وكلمات أدبية ، وثم حكم على علماء الشيعة الذين لم يروون هذه الرواية الأسطورية بأنّهم ليسوا مطلعين ومضطلعين في المسائل التاريخية ، وللأسف ان هذا الحكم والتحكّم قد أثر فى بعض السذح والغافلين فاتخذوا الموقف السلبي تجاه علماء الشيعة !!

7-النبي ونسيانه بعض آيات القرآن

عن هشام، عن أبيه ، عن عائشة قالت: سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)رجلاً يقرأ في المسجد فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : رحمه الله أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها في سورة كذا وكذا.

روى هذا الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما (1).

وفي حديث آخر أخرجه الصحيحان ذكرت كلمة أنسيتها بدلاً عن أسقطتها أي أذكرني تلك الآيات التي أنسيتها (2).

وهذا من الاكاذيب الواضحة والصريحة التى لا تتناسب والعقل والقرآن والسنة لان النبي - حاشاه - الذي ينسى ما يوحى إليه من الآيات ولم يستطع أن يحفظ معجزة دينه الخالدة ، لا شك أنه لا يمكن الاعتماد عليه والوثوق به في مجال تبليغ الدعوة ، بل لم يكن صالحاً لتلقي الوحي والرسالة.

ومن هنا يمكننا أن ندرك مدى خطورة هذا الحديث للطعن على أصل النبوّة ، ولمّاكانت هذه المسألة من المواضيع الهامة نفى القرآن صريحاً صدور أي غفلة ونسيان من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله :« سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» (3) فالآية تنفي صحةالحديث وتنكره، وتثبت أنّ الرسول حفّاظ للقرآن وغير نساء له .

وأضف إلى هذا أن تخريج مسلم لهذا الحديث في باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت وتخريجه حديثاً قريباً لمضمون عنوان الباب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : بئسما

ص: 266


1- صحيح البخاري :3: 225 كتاب الشهادات باب شهادة الأعمى ونكاحه ، وج 6: 238 كتاب فضائل القرآن باب نسيان القرآن، وج 8: 91 كتاب الدعوات باب قول الله وصل عليهم
2- صحیح البخاري 6: 239 کتاب فضائل القرآن باب نسيان القرآن، صحیح مسلم 1: 543 كتاب فضائل القرآن باب «33» باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت ح 225 .
3- الأعلى : 6

للرجل أن يقول نسيت سورة كيت وكيت أو نسيت آية كيت وكيت (1).

وبناء على هذا فكيف يعقل أن يذم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أحداً على شيء وهو متصف به ؟ أو يكره عملاً للآخرين ويذمه لهم وهو مبتلى به ؟

8-النبي يبول واقفاً : نبز تهمة

1 - روى البخاري ومسلم عن حذيفة قال : أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)سباطة قوم خلف حائط قبال قائماً(2) .

2 - ورويا أيضاً عن أبي وائل قال : كان أبو موسى الأشعري يشدّد في البول ويقول : إنّ بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه فقال حذيفة : لوددت أنّ صاحبكم لا يشدّد هذا التشديد، فلقد رأيتني أنا ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)تتماشى ، فأتى سباطة، خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذتُ منه فأشار إليّ فجئت فقمت عقبه حتى فرغ(3).

مؤدى هاتين الروايتين اللتين رواهما البخاري ومسلم : أن رسول الله - حاشاه - هو مثل الأشخاص السدّج الذين أنسوا السنن الجاهلية، ولما يتعرفوا على التعاليم والآداب الإسلامية، وإنّه كمثل هؤلاء يقف على السباطة خلف الجدران ويبول وهو واقف «قام رسول الله كما يقوم أحدكم فبال قائماً».

اعتراف بقبح هذه التهمة

إننا في هذا البحث الموجز نغض النظر عن التحقيق والبحث العلمي حول هذه الفرية التي ألصقوها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

ص: 267


1- صحیح مسلم 1 : 544 كتاب فضائل القرآن باب (33) باب الأمر بتعهد القرآن ... ح 228.
2- مفاد ما ورد في صحيح البخاري 1 : 66 كتاب الوضوء باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط وباب البول قائماً وقاعداً وباب البول عند سباطة قوم ، وج 3: 177 كتاب المظالم باب الوقوف والبول عند سباطة قوم ، صحیح مسلم 1 : 228 - 230 كتاب الطهارة باب (22) باب المسح على الخفين ح 73 - 80
3- مفاد ما ورد في صحيح البخاري 1 : 66 كتاب الوضوء باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط وباب البول قائماً وقاعداً وباب البول عند سباطة قوم ، وج 3: 177 كتاب المظالم باب الوقوف والبول عند سباطة قوم ، صحیح مسلم 1 : 228 - 230 كتاب الطهارة باب «22» باب المسح على الخفين ح 73 - 80

ولا اريد أن أقول : انّ النظافة مسألة فطرية وغريزية مودعة حتى في الحيوانات بحيث تشعر بها بشعورها الذاتي، وأنها تسعى عند البول أنْ لا تتلوّث به.

ولا أريد أن أقول : انّ النظافة من البول مسألة بديهيّة يعرفها حتى أبو موسى الأشعري وكان يشدّد فيها .

ولا أريد أنْ أقول : انّ مسألة البول عند بني إسرائيل - كما حدثنا أبو موسى كانت مهمة للغاية بحيث إنّهم كانوا يقرضون ثيابهم إذا أصابها بول.

إنا نغض النظر عن كل هذه المسائل لأنّ قبح المسألة بديهي، حتى أنّ علماء العامة وشرّاح الصحيحين أذعنوا لذلك، واعترفوا بكون هذه المسألة ونسبتها إلى النبي هي إهانة واستخفاف بشأن النبوة، ولذا عمدوا إلى توجيه وتأويل الأحاديث المذكورة، وذكروا لها معاذير واهية التمسوا عذراً هو أقبح من الذنب.

أعذار أقبح من الفعل

قال شرّاح صحيحي مسلم والبخاري في تبريرهم لهذين الحديثين :

1 - ان العرب كانت تستشفى لوجع الصلب بالبول قائماً ، فلعل كان به (صلى الله عليه وآله وسلم)وجع الظهر فتأسى بآداب الجاهلية قبال قائماً.

2 - أنه بال قائماً لعلة بمأبضه - أي باطن الركبة - بحيث تمنعه من الجلوس.

3 - أنه لم يجد مكاناً للقعود فاضطر إلى القيام.

4 - البول قائماً يحصن الإنسان من خروج الحدث من مخرج الغائط ،ولكن هذه الحصانة غير مأمونة عند الجلوس، ولذا قال عمر : البول قائماً أحصن للدبر(1)، ولعلّ النبي بال قائماً عملاً بهذا الاحتمال .

5 - أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)كان يبول قائماً أحياناً لكي يبقى حكمه الجواز .

ص: 268


1- شرح صحیح مسلم 3: 166

ذكر هذه التبريرات الركيكة شارحو صحيحي البخاري ومسلم كابن حجر في فتح الباری(1)، والقسطلاني في ارشاد الساري (2)، والنووي(3)في شرح صحيح مسلم نقلاً عن الخطابي والبيهقي وغيرهما من أهل السنّة .

واضاف السيوطي إلى هذه الوجوه وجوهاً أخرى(4).

لِمَ هذه التوجيهات

هذه تبريرات مؤيدي البخاري ومسلم وتأويلهم لهاتين الروايتين ، وقد عرفت أيّهاالقارىء الكريم هزال هذه التبريرات وخفتها إنّها أعذار أقبح من الذنب، وإنّها لأشأم من نفس التهمة التي ألصقوها بالنبي الله.

وأعتقد أنّ قبول هذه الأحاديث ثمّ تبريرها وتأويلها بتأويلات فارغة المعنى وسخيفة لم تكن إلا لعلّتين وسببين :

1 - الجهل بمقام النبوّة .

2 - الاعتقاد الأعمى بصحة كلّ حديث أورده البخاري ومسلم في صحيحيهما وكما يروي السيوطى : إنّ البول قياماً صار عادة اعتاد عليها المسلمون من العامة في مدينة هرات وإحياءً لهذه السنّة المبتدعة، وعدم مخالفتهم لما جاء في صحيح البخاري ومسلم، تراهم أنهم يستنّون بهذه السنة فكانوا يبولون عن قيام حتى ولو مرة واحدة في كل عام (5).

ونقل لي أحد العلماء المعاصرين : إنّ بعض المسلمين من أهل السنة في العراق اليوم، يبولون قياماً تأسيا بهذه الأحاديث الموضوعة.

ص: 269


1- فتح الباري 1 : 261 - 262
2- إرشاد الساري 293:1
3- شرح صحيح مسلم للنووي 3: 165 - 166
4- شرح سنن النسائي 1 : 19 - 26
5- شرح سنن النسائي 1 : 19 - 26

دحض هذه الأباطيل

فلو كان لهؤلاء أدنى معرفة بالنبوة والرسالة ، ولو أنهم فرغوا عقولهم من السذاجة والتعصب المفرط ، وحسن ظنّهم الشديد وتعلقهم بالصحيحين، وتأمّلوا قليلاً فيهما لعرفوا أنّ هذا الموضوع الذي لفقوه على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ليس فقط لا يتلاءم ومقام النبوة فحسب، بل انه يشين بأي فرد من الأفراد ممّن له معرفة سطحية بالمعارف الدينية أو يكون محترماً عند نفسه .

وإننا نرفض جميع هذه الروايات الملفّقة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ولا نقول بصحتها أبداً - كما يعتقد بأنّ الحديث الصحيح هو كلّ ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما - بل نأخذ بالأحاديث الصحيحة التي تروي لنا : كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر فأتى النبي حاجته فأبعد في المذهب(1)، وانه كان يرتاد لبوله مكاناً كما يرتاد منزلاً(2).

واننا نقبل الأحاديث التي تقول : مرّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)على قبرين فقال: إنهما ليُعذَّبان وما يُعذِّبان في كبير . ثم قال : بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله(3).

دواعي وضع هذه الأحاديث

يبدو أنّ هناك بين اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ترسخت فيه عادات الجاهلية مثل البول قياماً فهو لا يستطيع ترك هذه العادة السافلة، وحتى لا يكون مشجوباً عند الناس، ولا

ص: 270


1- سنن الترمذي 1: 31 كتاب الطهارة باب «16»باب ما جاء أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان إذا أراد الحاجة أبعد في المذهب ح 20 ، سنن النسائي 1: 18 كتاب الطهارة باب الإبعاد عند إرادة الحاجة
2- سنن الترمذى نفس المصدر
3- صحيح البخاري :2 124 كتاب الجنائز باب عذاب القبر من الغيبة والبول ، صحيح مسلم 1: 240 كتاب الطهارة باب «34»باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه ح111 ، سنن ابي داود 1 6 كتاب الطهارة باب الاستبراء من البول ح 20 ، سنن النسائي 1: 28 كتاب الطهارة باب التنزه عن البول

يحطّ شأنه وشخصيته في الأنظار، فلذا تراه يختلق مثل هذه السخافات، ويتهم فيها رسول الله بالبول قائماً لكي تمكنه ممارسة هذا العمل القبيح ويقلّل من قبح عادته

المخزية .

وتتجلّى لك حقيقة قولنا إذا راجعت وتمعنت في الروايات المروية في كتب العامةالمعتبرة.

أخرج ابن ماجة في سننه : وكان من شأن العرب البول قائماً(1).

وخرّج مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال : رأيت عبدالله بن عمر يبول قائماً (2).

وحول تبوّل الخليفة عمر قائماً ورد حديثان:

1 - عن ابن عمر ، عن عمر قال : رآني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وأنا أبول قائماً . فقال : يا عمر لا تبل قائماً ، فما بلت قائماً بعده (3).

2 - وعن ابن عمر قال عمر : ما بلت قائماً مذ أسلمت(4).

ونجد ان الراوى الوحيد الذي حدث وروى حديثاً في البول قائماً هو عمر بن الخطاب الذي روى حديثا وبيّن فيه الحكمة والفلسفة للبول في حال القيام فقال : البول قائماً أحفظ للدبر (5).

وعلى أي حال فإنّ كلام عبدالله بن دينار في ابن عمر وكذا نفي موضوع التبوّل في حالة القيام عن الخليفة عمر بن الخطاب ونسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فلسفة فلسفة عمر في هذا

ص: 271


1- سنن ابن ماجة 1: 112 ، كتاب الطهارة باب« 14» باب في البول قاعداً ذيل ح 309
2- موطأ مالك 1 : 65 كتاب الطهارة باب «31» باب ما جاء في البول قائماً وغيره ح 112
3- سنن الترمذي 1: 17 كتاب الطهارة باب 8» باب ما جاء في النهي عن البول قائماً ح 12وسنن ابن ماجة 1 : 112 كتاب الطهارة باب (14) باب في البول قاعداً ح 308
4- سنن الترمذي 1 : 18 كتاب الطهارة باب (8) باب ما جاء في النهي عن البول قائماً ح
5- فتح الباري 1 : 262 ، إرشاد الساري 1 : 277 و شرح صحیح مسلم :3:165

الموضوع ، كلّ ذلك يدلنا على أنّ بين هذه الموارد المذكورة علاقة وثيقة.

والجدير بالذكر أنّ هذه المسألة قد طرحت بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي حياة عائشة ، وقد دار النقاش حوله فبعض نفى نسبتها إلى الرسول ، والآخر أثبته، وأمّا عائشة فقد التزمت بالدفاع عن الرسول وقامت تفنّد وتستنكر هذه الأحاديث وتقول : من حدثكم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان يبول قائما فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعداً(1). وقال الترمذي بعد تخريجه لهذا الحديث : حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح (2).

ومن الذين صادق على صحة رواية عائشة وأكدها ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري (3).

9-قصة سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

ومن مفتريات الصحيحين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)رواية لم يروها احد سوى عائشة بنت أبي بكر وصارت بعد ذلك ذريعة وحربة بأيدي أعداء الاسلام(4)للنيل من الاسلام ورسوله ؛ هي قصة سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وخلاصة القصّة هي : أنّ الساحر اليهودي لبيد بن الأعصم من بني زريق سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى كان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يتخيل أنه يعمل عملا ما ، بينما هو لا يعمله، وتارة يتصوّر أنه قد أتى إحدى زوجاته في حين لم يكن هكذا ، وإليك النص :

عن عائشة قالت : سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى انه يخيل إليه انه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله ودعاه ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أشعرت يا عائشة إنّ الله قد

ص: 272


1- سنن الترمذي :1 : 17 كتاب الطهارة باب«8» باب ما جاء في النهي عن البول قائماً ح 12 ، سنن ابن ماجة 1 : 112 كتاب الطهارة باب «14» باب في البول قاعداً ح 307، سنن النسائي 1 : 26 كتاب الطهارة باب البول فى البيت جالساً
2- سنن الترمذي 1 : 17 كتاب الطهارة ذيل حديث 12
3- فتح الباري 1 : 261
4- للمؤلف كتاب آخر باسم الإسلام ... يردّ فيه على شبهات أعداء الدين

أفتاني فيما استفتيته فيه.

قلت : وما ذاك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قال : جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، ثمّ قال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟

قال : مطبوب . قال : وما طبّه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق.

قال : في ماذا ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر .

قال : فاين هو ؟ قال : في بئر ذي أروان .

قال : فذهب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أُناس من أصحابه إلى البئر، فنظر اليها وعليها نخل، ثمّ رجع إلى عائشة ، فقال : والله لكأن ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين .

قلت : يا رسول الله أفأخرجته ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أنْ أثور على الناس منه شراً، وأمر بها فدفنت(1).

رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة،وأخرج البخاري حديثا آخر في الموضوع نفسه عن عائشة أنها قالت : سحر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)حت-ى كان يرى يأتي النساء ولا يأتيهنّ.

قال سفيان : وهذا أشدّ ما يكون من السحر إذا كان (2) .

أقول : تُرجع الجواب والتحقيق في هذه القصة التي وردت في كثير من الكتب التاريخية والتفسيرية ، وحتى أنّها دست احياناً في بعض كتب الشيعة ، إلى محله وأوانه.

ص: 273


1- صحيح البخاري 4: 148 كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده ، وج 7: 177 کتاب الطب باب هل يستخرج السحر وص 176 و 178 باب السحر ، وج 8: 22 كتاب الأدب باب قول الله تعالى : إنّ الله يأمر بالعدل ..... وص 103 كتاب الدعوات باب تكرير الدعاء. صحیح مسلم 1719:7 کتاب السلام باب «17» باب السحرح 43.
2- صحيح البخاري :7 177 کتاب الطب باب هل يستخرج السحر

المناسب، وأما هنا فنكتفي بما ذكره أحد المحققين المعاصرين في هذا الشأن فقال : والأحاديث المروية حول هذا الموضوع كلّها تنص على أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أثر به السحر إلى حد أصبح يخيل إليه أنه قد صنع الشيء وما صنعه، ولازم ذلك أنْ يكون قد فقد رشده، ومن الجائز عليه في تلك الحالة أنْ يتخيل أنه قد صلّى ولم يصل، وأن يتخيل شيئاً يتنافى مع نبوّته بل مع إنسانيته فيفعله، وبالرغم من أني قد أخذت على نفسي أن لا أهاجم أحداً في هذا الكتاب، ولكنى أرانى مضطراً في هذا المورد وأرى لزاماً على أن أقول:

إنّ الذين رووا هذا الحديث ودوّنوه هم المسحورون لأنهم لا يفكرون بما يكتبون،ويروون ولا يتثبتون ، وكيف يصح على نبي لا ينطق عن الهوى كما وصفه ربه -أن يكون فرية للمشعوذين؟ فيفقد شعوره ويغيب عن رشده ومع ذلك يصفه القرآن بأنه لا ينطق إلا بما يوحى إليه، ويفرض على الناس أجمعين أن يقتدوا بأقواله وأفعاله. والمسحور قد يقول غير الحق ويفعل ما لا يجوز فعله على سائر الناس، وقد يخرج عن شعوره وادراكه (1) .

مفتريات على النبوّة

تقدمت - في الصفحات الأولى من الكتاب الاشارة إلى الأيادي الخفية والقاتمة التي شوهت صورة الأنبياء الحقيقية في التوراة والإنجيل وحرفوها حسب أهوائهم وشهواتهم، وتبريراً لأعمالهم وأفكارهم الجائرة والفاسدة فإنّهم صوّروا الأنبياء بانهم زناة وجناة، خمّارين وشهوانيين.

فاتهموا نبيّاً بأنه تعدّى على إمرأة محصنة وذات بعل ، فحملت منه سفاحاً ، ولكي

يدفن ما اقترفه من ذنب ويحفظ حيثيته .... خطط جريمة قتل زوجها...(2)

ص: 274


1- دراسات في الكافي وصحيح البخاري : 247
2- راجع ص 210 هامش 1

وافتروا على نبي آخر بأنه سكر وزني بابنتيه وحملتا منه سفاحاً ووضعتا ابنتين (1).

وكذبوا على نبي آخر بأنه صنّاع للخمر واعتبروا هذه معجزة له (2).

وممّا يجدر الإيماء اليه أنّ رسول الاسلام لم يخرج عن دائرة التهم والافتراءات، حتى نسبوا اليه أكاذيب صنعتها أيدي الجائرين المتسلّطين ، فلفقوا عليه المفتريات وعتموا عنه الحقائق والفضائل .

وحيث كان الله قد ضمن صيانة القرآن من التحريف والتغيير فبتت تلك الاتهامات بين المسلمين على هيئة الحديث لا آي القرآن فتقبلها أكثر المسلمين - العامة - بقبول حسن واعتمدوا عليها واعتبروها جميعها صحيحة.

ونسرد اليك أيها القارىء هذه المفتريات على نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال أربعة مجموعات، وبعد ذلك نختم بحثنا بتفنيدها ونوضح لك دواعى وضعها :

1-الغناء في بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

روى البخاري ومسلم أحاديثاً تتضمّن أنّ الجواري كن يطربن ويعزفن في بي-ت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وهو جالس يستمع اليهنّ، فدخل أبو بكر فتأذى من هذا المشهد فزجرهنّ. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعهن يا أبا بكر فإنّ اليوم يوم عيد وسرور .

وكذلك يرويان بأنّ عائشة كانت تلعب بالدمية ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاضر في البيت، وكانت بعض صديقاتها يأتينها ويلعبن معها ، فما أن يدخل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)في بعض بعض الأحيان داره حتى يقمن ويتسترن حياءً منه ، ولكنّ الرسول يدعوهنّ ويرغبهنّ بمواصلة اللعب وأحيانا كان يرسل واحدة تلو أُخرى للعب مع عائشة.

وهاك - أيّها العزيز - النصوص المشيرة التي أخرجها مؤلّفا الصحيحين :

ص: 275


1- راجع ص 210 هامش 1
2- راجع ص 211 هامش 3 و 4

1 - عن عائشة : انّ أبا بكر دخل عليها والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عندها يوم فطر أو أضحى وعندها قينتان تغنّيان بما تقاذفت الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر:مزمار الشيطان - مرتين - ؟ فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : دعهما يا أبا بكر ، إنّ لكلّ قوم عيداً ، وإن عيدنا هذا اليوم (1).

بيان: وردت في الحديث كلمة القينة أي الأمة غنّت أولم تغن كما صرح بذلك ابن الأثير (2). وكذا وردت لفظة تقاذقت الأنصار أي كنّ يقرأن تلك الأشعار التي كان الأنصار قبل الهجرة يتقاذفونها ويسبّون بها بعضهم بعضاً .

2 - وايضاً رويت هذه الرواية بلفظ آخر عن عائشة أنها قالت :

دخل عليّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنّيان بما تقاولتِ الأنصار يوم بعاث . قالت : وليستا بمغنّيتين . فقال أبوبكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وذلك في يوم عيد . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا (3).

3- وقالت أيضاً : إنّ أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام من-ى ، تدفّفان وتضربان ، والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)متغش بثوبه ، فانتهرهما أبوبكر ، فكشف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عن وجهه فقال : دعهما يا أبا بكر فإنّها أيام عيد ، وتلك الأيام أيام منى(4).

ورواها عنها عروة بلفظ آخر فقال :

ص: 276


1- صحيح البخاري 5 : 86 كتاب الفضائل فضائل أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باب مق-دم الن-بي وأصحابه المدينة ، مسند احمد بن حنبل 6: 99
2- النهاية 4 : 135 مادة قين
3- صحيح البخاري :2 : 21 كتاب العيدين باب سنّة العيدين لأهل الإسلام، صحيح مسلم 2: 607 كتاب صلاة العيدين باب ( 4) باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد ح 16
4- صحيح البخاري 4: 225 كتاب المناقب باب قصة الحبش وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يا بن-ي أرفده ، وج2 : 29 كتاب العيدين باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين ، صحیح مسلم 2: 608 کتاب صلاة العيدين باب «4 » باب الرخصة في اللعب ... ح17

4 - عن عائشة قالت : دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني ، وقال : مزمارة الشيطان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وقال : دعهما ، فلمّا غفل ، غمزتهما فخرجتا(1).

5 - وقالت ايضاً : كنتُ ألعب بالبنات عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل يتقمعن منه ، فَيُسَرِّبُهُنَّ الى فيلعبن معي(2).

وروى البخاري هذا الحديث في موضعين من كتابه الأدب المفرد(3).

نكتة توضيحية : روى البغوي حديثا آخر في كتابه المصابيح (4) : عن عائشة أنّها قالت : رجع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : من غزوة تبوك أوحنين ومعها بنات لعب.

ولا يخفى ان كلتا الغزوتين تبوك وحنين وقعتا بعد فتح مكة وفي الأيام الأخيرة من حياة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ولو سلمنا صحة الحديث لكان عمر عائشة آنذاك خمسة عشر سنة إلى عشرين .

2-النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يدعو عائشة لمشاهدة الرقص

أخرج الصحيحان أنّ بعض مهاجري الحبشة كانوا يلعبون في فناء مسجد الرسول، فدعا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) زوجته عائشة لتشهد الأحباش ، وتارة كانت عائشة هي التي تسأل

ص: 277


1- صحيح البخاري :2 20 کتاب العيدين باب الحراب والدرق يوم العيد، وج 4 : 47 كتاب الجهاد باب الدرق ، صحيح مسلم :2: 609 كتاب صلاة العيدين باب « 4 » باب الرخصة في اللعب ... ح 19
2- صحيح البخاري :8 37 كتاب الأدب باب الانبساط الى الناس ، صحيح مسلم 4: 1890 كتاب فضائل الصحابة باب«13» باب في فضل عائشة ح 81 ، مصابيح السنة 2 : 443 كتاب النكاح باب «10» باب عشرة النساء...ح 2420
3- الأدب المفردللبخاري : 13 باب (172) باب مسح رأس الصبي ح 370 وص 427 باب « 627» باب لعب الصبيان بالجوز ح 1304
4- مصابيح السنة للبغوي 2 : 452 كتاب النكاح باب (10) باب عشرة النساء ، ح 2442

رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ليسمح لها بذلك . والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)تارة يجعل رداءه حائلاً بينها وبين من كان فى المسجد من الرجال، وتارة أخرى كان يقف هو أمامها وكانت عائشة ترتقى كتف الرسول وتنظر مشهد الأحباش الذين كانوا يرقصون.

ولكنّ الخليفة عمر بن الخطاب لم يكن يرض بلعب الأحباش ، ورقصهم حتى ورد أنّه رآهم فأهوى إلى الحصى في فناء المسجد ليرميهم بها ويصدّهم عن لعبهم، فمنعه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وقال لهم : أمناً بني أرفدة ، فشجعهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ورغبهم إلى ما كانوا يفعلون.

واليك بعض النصوص التي رويت في الصحيحين:

1 - إنّ عائشة قالت : لقد رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يوماً على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد ، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف .

فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو(1) .

2 - وقالت عائشة : رأيتُ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة : وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): دعهم : أمن-اً بن-ي أرفدة يعني من الأمن ، وأنا جارية، فاقدروا الجارية العربة الحديثة السن» (2).

والجملة الأخيرة من الرواية «وأنا جارية فاقدروا الجارية العربة الحديثة السن»

أوردها مسلم(3).

ص: 278


1- صحيح البخاري 1 : 123 کتاب الصلاة باب اصحاب الحراب في المسجد، وج 7: 48 كتاب النكاح باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة، صحيح مسلم 2 : 609 كتاب صلاة العيدين باب «4» باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه .... ح 18
2- صحيح البخاري 2 : 29 كتاب العيدين باب إذا فاته العيدين يصلي ركعتين ، وج 4 : 225 كتاب المناقب باب قصة الحبش ، صحيح مسلم :2 : 608 كتاب صلاة العيدين باب « 4» باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد ح 17
3- انظر صحیح مسلم في الهامش السابق

وفي حديث آخر اخرجه البخاري وردت جملة : فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ تسمع اللهو (1).

3- وعن عروة عن عائشة قالت : وكان يوم عيد يلعب السودان بالدَّرَق والحراب، فإما سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وإما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : تشتهين تنظرين ؟ فقلت : نعم ، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة، حتى مللت ، قال : حسبك ؟ قلت : نعم ، فقال : فاذهبي(2).

4 - وعنها ايضاً قالت : جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي

(صلى الله عليه وآله وسلم)، فوضعت رأسي على منكبه ، فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم (3).

بیان وتوضيح : قال النووي في شرحه على صحيح مسلم : يزفنون : من الزفن يعني الرقص(4).

وقال ابن من يأبى في كتابه فتح المنعم دونكم أي الزموا لعبكم، وأرفدة هم أجداد الحبش(5).

قال القسطلاني : إن ذلك - رقص الأحباش وضربهم الدق - بعد قدوم وفد الحبشة

وإن قدومهم كان سنة سبع ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة(6) .

أقول : في مقولة عائشة التي قالت: «فأقامني وراءه وخدّي على خده لكي أنظ-ر

ص: 279


1- راجع ص 278 هامش 2
2- صحيح البخاري :2 : 20 کتاب العيدين باب الحراب والدرق يوم العيد، وج 4 : 47 كتاب الجهاد باب الدرق، صحیح مسلم :2: 609 کتاب صلاة العيدين باب « 4 » باب الرخصة في اللعب... ح 19
3- صحیح مسلم :2 : 609 كتاب صلاة العيدين باب «4 » باب الرخصة في اللعب ... ح20
4- شرح صحيح مسلم للنووي 6 186
5- زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم لابن من يأبى 1 : 197 ح 447
6- إرشاد الساری 8 118

لعب الأحباش سؤال وهو : هل كانت عائشة أطول من النبى حتى وضعت خدّها على خده ، أم أنها وضعت شيئاً تحت قدميها، أم كانت تصعد منكب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى تضع الخدّ على الخد ؟

ولما كانت عائشة قد سكتت من بيان ذلك ونحن كذلك لم نكن حاضري الواقعةولذلك فإننا نعتذر عن الجواب الصريح .

5 - وكذلك قالت عائشة : لِلعابين، وددتُ أنّي أراهم . قالت : فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وقمتُ على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقه، وهم يلعبون في المسجد (1).

6 - وعن ابي هريرة قال : بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله بحرابهم ، إذ دخل

عمر بن الخطاب. فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها . فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): دعهم يا عمر(2).

3-اشتراك النبي الله في الحفلات النسائية

يظهر من أحاديث أخرى وردت في الصحيحين متظافرة بأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يشترك في الأعراس والحفلات النسائية، ويستمع إلى أغاني الفتيات اللاتي كن يمتعن المستمعين الحاضرين بصوتهن العذب .

وتارة كان يشترك في الأعراس التي تقوم العروس بخدمة الرجال واستقبالهم وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يحظى بخدمة العروس له .

وإليك النصوص في ذلك :

1 - خالد بن ذكوان قال : قالت الربيع بنت معوذ بن عفراء، جاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فدخل حين بُني عليّ ، فجلس على فراشي كمجلسك منّي ، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدفّ

ص: 280


1- صحیح مسلم :2 : 610 كتاب صلاة العيدين باب« 4 »باب الرخصة في اللعب...21
2- صحيح البخاري 4 : 46 كتاب الجهاد والسير باب اللهو بالحراب، صحیح مسلم 2 : 610 (2) كتاب صلاة العيدين باب « 4 » باب الرخصة في اللعب ... ح 22

ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر . إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين...(1).

أخرجه البخاري في موضعين من صحيحه ونقله المؤرّخون وأصحاب التراجم عن البخاري في ترجمة الربيع بنت معوذ بن عفراء (2).

تبريرات سخيفة

ولما شوهد الحديث محفوف بالتفاهة والركاكة وتباينه لمقام النبوة والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مالا يقبله العقل بدأ القوم في تبرير هذه الحكايات التافهة ، وذلك لأنه لا يعقل أن يشترك مؤمن ملتزم أو عالم ديني حتى لو كان في أدنى درجة من العلم والدين في الأعراس ، ويجالس النساء اللاتي تزين بوسائل التجميل من الملابس وغيرها - الماكياج -، وهنّ يعزفن ويرقصن أمامه وهو يراهن ويستمع إلى ما يغنّين ويبدي رأيه في ما عزفن .

نعم ، إنّ الانسان العادي الذي لم يملك تلك المعنوية العالية والغيرة الدينية الشديدة يمتنع من هذا المشهد فكيف بنبيّ ورسول ؟

ولذا ترى ابن حجر يخيط أعذاراً هي أقبح من الذنب نقلها عن الكرماني. تبريراً وتوجيهاً لهذا الحديث فقال : قال الكرماني للحديث احتمالات ووجوه عديدة منها أنّ هذه القصة محمولة على أنّ ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة او الأمن من الفتنة، انتهى .

واضاف ابن حجر : والأخير هو المعتمد والذي وضح لنا بالأدلة القوية أنّ من خصائص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها(3).

ص: 281


1- صحيح البخاري :5 : 105 كتاب الفضائل باب في ذيل باب شهود الملائكة بدراً ، وج7: 20 کتاب النکاح باب ضرب الدفّ في النكاح والوليمة
2- الطبقات الكبرى 8: 447 قسم ذكر نساء بني مالك بن النجار ترجمة الربيع بنت معوذ، الاستيعاب 4: 1837 ترجمة الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصارية رقم 3336
3- فتح الباري 9:166

أقول : أمّا الاحتمال الاوّل الذي أورده ابن حجر - أي اشتراك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في تلك الحفلات من وراء حجاب - ففي غاية البطلان ، وأنّ منطوق الحديث «فجلس على فراشي کمجلسك هذا يكشف زيف هذا» الاحتمال .

وأمّا الاحتمال الثاني : أنّ القصة وقعت قبل نزول آية الحجاب، ويدلّ كلام ابن حجر هذا على أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن متورّعاً من الأعمال المشينة والقبائح التي كانت متداولة في أيام الجاهلية .

وهذه السخافة مردودة بالادلة والشواهد التاريخية وغيرها مما ذكرناها في ما سبق ، وسنورد عليك شواهداً أخرى فيما يأتي بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى في أيام طفولته وقب-ل البعثة كان يتبرأ من أعمال وعادات العرب في الجاهلية فكيف بعد أن بعث نبياً بعث نبياً وفي أواخر حياته ؟

وأضف إلى هذا فإنّه لم نستكشف من كلام الربيع أنّ القصة وقعت قبل نزول آية

الحجاب أو بعده .

وأمّا الاحتمال الأخير الذي احتمله وقواه ابن حجر «بأنه من خصائص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)جواز الخلوة بالمرأة الاجنبية والنظر اليها فهو مرفوض وغير مقبول خاصة على راى الشيعة الذين أنكروا ذلك عليهم، وفندوا هذه الأفكار. وهذه الفكرة من الناحية الاجتماعية أصبحت ذريعة وحربة بيد أعداء الدين للإغارة على الإسلام وشخصية

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال سهل بن سعد : دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في في عرسه ، وكانت امرأته يومئذ خادمهم وهى العروس، قال سهل تدرون ما سقت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، انقعت له تمرات من الليل فلمّا أكل سقته إياه(1).

ص: 282


1- صحيح البخاري :7 32 كتاب النكاح باب حق إجابة الوليمة والدعوة ، وص 33 باب النقيع والشراب الذي لا يسكر في العرس ، وص 138 كتاب الأشربة باب الانتباز في الأوعية والتور، وص 139 باب نقيع التمر ما لم يسكر ، صحيح مسلم :3 1590 کتاب الأشربة باب 9 باب إباحة النبيذ الذي لم يشتدّ ولم يعد مسكراً ح 86.

وأخرج البخاري أيضاً عن أبي حازم، عن سهل قال : لما عرس أبو اسيد الساعدي دعا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأصحابه، فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلا إمرأته أُمّ اسيد، بلت تمرات في تَوْرٍ من حجارة من الليل فلما فرغ النبي من الطعام أمانته له فسقته تتحفه بذلك(1).

4-شغف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغناء

ومجموعة رابعة من تلك الأحاديث الموضوعة، تحدثنا بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)كان مولعاً بالغناء واستعمال آلات الغناء في حفلات العرس إلى حد الشغف، وإذا اشترك في حفلة ولم يكن فيها من الغناء شيء، فكان يتدخل في الموضوع ويؤكد عليهم الغناء والتغنّي في الاعراس .

ويظهر من الروايات أنه كان يرحّب بالجواري والنساء المغنّيات اللاتى كن مقبلات من عرس، ويقوم لهنّ واقفاً ويقول : قسماً بالله أنتن من احبّ الناس إلي .

ولنقرأ معاً هذه النصوص :

عن عائشة قالت : أنّها زفّت إمرأة إلى رجل من الأنصار . فقال نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم)یا عائشة ما كان معكم لهو، فإنّ الأنصار يعجبهم اللهو(2) أخرجه البخاري.

وأما ابن ماجة أخرج حديثاً آخر باسناده عن ابن عباس قال : أنكحت عائشةُ ذاتَ قرابة لها من الأنصار . فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال : أهديتم الفتاة ؟ قالوا : نعم . قال : أرسلتم معها من يغنّى ؟ قالت : لا . فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول : اتيناكم اتيناكم فحيّانا وحياكم(3).

وعن أنس بن مالك قال : ابصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءاً وصبياناً مقبلين من عرس فقام

ص: 283


1- صحيح البخاري :7 33 كتاب النكاح باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس
2- صحيح البخاري :7 38 كتاب النكاح باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها
3- سنن ابن ماجة 1 612 كتاب النکاح باب «21» باب الغناء والدفّ ح1900

ممتناً فقال : اللهم أنتم من احبّ الناس الي (1).

وأخرج ابن ماجة حديثا قريباً إلى الحديث المذكور رواه عن أنس بن مالك أنّه قال : أن النب (صلى الله عليه وآله وسلم) مر ببعض المدينة فإذا هو بجوار يضربن بدفهن ويتغنّين ويقلن :

نحن جوارٍ من بني النجار* يا حبّذا محمّد من جار

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الله يعلم أني لأحبّكن (2).

تقييم الأحاديث المذكورة

نظرة في ما سلف :

لقد ذكرنا في الفصول الأربعة المذكورة بعض التهم القبيحة والأكاذيب التي افتروها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشوهوا بها شخصية الرسول الطاهرة ولطّخوا بها كرامته وقدسيته ، إنّ هذه الأحاديث المزوّرة رويت جميعها في الصحيحين وسائر المراجع المعتبرة والمعتمدة عند أهل السنة والجماعة ، وصححوها على أنّها اصول إسلامية قطعية لا تقبل النقد والخدش ، حتى انتشرت وشاعت بين أتباعهم فتقبلوها بالرضا، وعلى أساسها اصدروا فتاويهم.

وقد رتبناها على أربعة مجموعات وتعرّضنا لذكر أحاديث كلّ مجموعة منها في فصل مستقل .

- الغناء في بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

2 - الرسول يدعو زوجه عائشة إلى حفلة الرقص .

3 - اشتراك الرسول فى الحفلات النسائية .

ص: 284


1- صحيح البخاري 5 : 40 كتاب فضائل أصحاب النبي باب قول النبي للأنصار أنتم احب 327 ، صحيح الناس الي ، وج 7: 32 كتاب النكاح باب ذهاب النساء والصبيان الى العر مسلم 4 : 1948 كتاب فضائل الصحابة باب (43) باب من فضائل الأنصار ح 174
2- سنن ابن ماجة 1 612 كتاب النكاح باب (21) باب الغناء والدف ح 1899

4 - شغف الرسول بالطرب والغناء.

وفي هذا الفصل نتعرّض حسب الترتيب المسبق إلى تقييم هذه المواضيع .

فضيحة رواتها

البدء نسأل رواة هذه المختلقات :

مَنْ هو هذا النبي الذي تغنّي الفتيات والنساء في داره وبمرأى منه، ويطربن بأشعاروقصائد هجائية مما كانت تهجو كل طائفة خصمها ، وتنسب كل واحدة منها إلى الأخرى الأباطيل والأراجيف، والنبي يدعوهن إلى المزيد من التغنّى وإذا أراد أحد مثل أبي بكر ان يمنعهن يقول له : دعهن يا أبا بكر وشأنهن ؟

ومَنْ هو هذا النبي الذي يرى أناساً يرقصون في فناء مسجده، وعوضاً عن منعهم وردعهم يحتّهم على الإكثار وإذا أراد عمر بن الخطاب أن يصدّهم عن فعلهم قال له :

دعهم يا عمر وشأنهم ؟

ومَنْ هو هذا الرسول الذي يدعو زوجته الشابة إلى مشاهدة الرقاصين الأجانب فتنظر اليهم إلى أن تشبع عينيها من مشاهدتهم ؟

ومَنْ هو هذا الرسول الذي يتصدّر الحفلات النسائيّة ويجلس بينهن ويستمع غنائهن وربما أبدي رأيه في أغنيتهن ؟

وأيّ مبعوث هذا الذي يشترك في حفلة زواج، والعروس بنفسها تقوم بخدمة الرجال ؟

وأيّ رسول هذا الذي يتناسى وظائفه الرسالية ويفكر في الأعراس التي تقام هل أنهم دعوا مغنّية أم لا ؟ وإذا لم يدعوا أحداً يحثهم على ذلك، ومن ثم هو الذي يقوم بتعيين نوع الأغنية : أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم ؟

ومن هو هذا النبي الذي يقف ممثلاً أمام نساء راجعات من العرس ويخاطب الفتيات اللاتي يعزفن ويغنّين ويقول لهنّ : والله إنّي لا حبّكنّ وانكن لاحب الناس الي ؟

ص: 285

وأي وأي ...؟

هذه القصص وأمثالها - التي حيكت حول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأخرجوها عل-ى شك-ل حديث صحيح، وتناقلوها عبر قرون متمادية - فإنّها مصداق واضح لقول الشاعر :

إذا كان ربّ البيت بالدق مولعا *فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

ولكن الحق والحق أقول : وما آفة الأخبار إلا رواتها .

البراهين القطعية تفنّد صحة الأحاديث

فلو رجعت - أيّها المُطالِع البصير - إلى المواضيع التي أسلفنا ذكرها في أوّل بحثنا حول الأنبياء عامة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، وبرهنّا بالآيات والأحاديث الصحيحة على إثبات زيف هذه الأحاديث وجعليّتها، ولرأيت أنّ سيرة الرسول قبل بعثته التي تطرقنا إليها بالإجمال هي الأخرى تدلّ على بطلان صحة هذه الأحاديث الموضوعة، واستنكرت هذه الأباطيل التي نسبت اليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكي يتجلّى اختلاقية هذه الأحاديث التي دلّست ونسبت إلى النبي ونسبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أكثر وضوحاً ، نذكر لك بعض الأحاديث الأخرى التي تشير إلى سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، واهمية المساجد في الاسلام، ونتطرّق أيضاً إلى سرد بعض الروايات المروية في حرمة الغناء، وحرمة النظر إلى الاجانب والأجنبيات في مصادر العامة المعتمدة عليها والمعتبرة عندهم في هذه المسألة .

حول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

رُوي في المصادر التاريخية المعتبرة عن محمد بن الحنفية عن أبيه الإمام علي(علیه السلام) قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول : ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله تعالى بينى وبين ما أريد من ذلك ، ثمّ ما هممت بسوءٍ حتى أكرمنى الله برسالته .

قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة : لو أبصرت لي غنمي حتى

ص: 286

أدخل مكة ، فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفاً بالدفّ والمزامير . فقلت : ما هذا؟ قالوا: هذا فلان تزوج ابنة فلان . فجلست أنظر اليهم، فضرب الله على أُذُني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت

إلى صاحبي فقال : ما فعلت ؟ فقلت : ما صنعت شيئاً ، ثم أخبرته الخبر .

ثمّ قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ، فقال : افعل . فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة، فجلست أنظر فضرب الله على أذُني ، فما أيقظني الامس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر . ثمّ ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمنى الله برسالته (1).

أقول : إنّ هذا النبي الذي حَضِي في صغره بألطاف وعنايات ربانية، ومنع بالفعل عن الاشتراك في مجالس اللهو، ولم يخطر على باله ولو للحظة واحدة أن يشارك أهل الجاهلية في عملهم ، فكيف به بعد أن نال رتبة النبوّة وبعث رسولاً وهو يشرف على الشيب أن يغيّر سيرته فيشترك في حفلات النساء وتخدمه العروس الشابة، ويدعو زوجته لمشاهدة الأجانب؟ أليست هذه الأعمال من تراث الجاهلية وعاداتها ؟ أليست هذه الأعمال قد منعت شرعاً، وجاء تحريمها في الإسلام وعلى لسان النبي الكريم لله ؟

الغناء في القرآن

ثمّه آيات عديدة ومتظافرة تدلّ دلالة واضحة على حرمة الغناء والموسيقى، وقد اشار إلى ذلك المفسّرون، نذكر منها ثلاث آيات على سبيل التمثيل لا الحصر :

1 - قوله تعالى : « وَمِن النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ

عِلْمٍ وَيَتَّخِذُها هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُبِينٌ» (2).

ص: 287


1- مستدرك الصحيحين 4: 245 كتاب التوبة والإنابة ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 207 تاريخ الطبري 2 279 ، الكامل في التاريخ لابن أثير 2: 38، البداية والنهاية :2 287 ، السيرة الحلبية 1 : 122
2- لقمان : 6

سئل ابن مسعود عن قوله تعالى :« لهو الحديث» ، فقال : الغناء والله الذي لا إله إلا هو - يردّدها ثلاثاً ..

وورد ايضاً تفسير لهو الحديث بالغناء عن ابن عباس، ابن عمر ، عكرمة ، سعيد بن جبير، مجاهد، مکحول، میمون بن مهران قتادة النخعي، عطاء والحسن البصري (1).

2 - قوله تعالى: «وَاسْتَفْزِزْ مَن اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ »(2).

قال ابن عباس و مجاهد : المراد من صوت الشيطان هو الغناء وآلاته (3).

3 - قوله تعالى: « أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ»(4)

عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال عقيب الآية : أنّ المراد من سامدون هو الغناء والتغنّي.

وذلك لان سمد في لغة بني حِمْيَر هو الغناء، يقولون : سمد لنا اي غنّى لنا (5).

الغناء في السنه

وأمّا الروايات الدالة على حرمة الغناء فهي متواترة ومتظافرة أيضا نكتفي بذكر بعضها على سبيل المثال :

ص: 288


1- تفسير الطبري 21: 39 - 41 ، تفسير القرطبي 14: 51 - 53 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير3 450 - 451 ، تفسير الدر المنثور 5: 159 - 160 ، إرشاد الساري 9 :171
2- الاسراء : 66
3- تفسير الطبري 15 : 81 ، تفسير القرطبي 10 : 288 ، تفسیر ابن كثير 3 49 ،تفسیرالآلوسى.15.111
4- النجم : 60
5- تفسير الطبري :28 48 ، تفسير القرطبي :17 : 122 ، تفسير ابن كثير 4: 260 ، تفسير الدرّ المنثور 6 : 132

1 -عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً : مَن استمع إلى صوت غناء ،لم يُؤذَن له أنْ يستمع الروحانيين. فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : قراء أهل الجنة(1).

2 - عن علي(علیه السلام) مرفوعاً : تمسخ طائفة من أمتي قردة، وطائفة خنازير، ويخسف بطائفة، ويرسل على طائفة الريح العقيم، بأنّهم شربوا الخمر ولبسوا الحرير واتخذوا القيان وضربوا بالدفوف(2).

3 - عن أنس مرفوعاً : بعثني الله رحمة وهدى للعالمين وبعثني بِمَحقِ المعازف والمزامير وأمر الجاهلية(3).

4 - روى ابن ماجة في سننه عن مجاهد : كنت مع ابن عمر فسمع صوت طبل فأدخل إصبعيه في اذنيه . ثم تنحى . حتى فعل ذلك ثلاث مرّات. ثم قال : هكذا فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(4) . وقريب منه رواه أبي داود في سننه(5).

هذه كانت خلاصة ما ورد في ذمّ الغناء وحرمته من الآيات والروايات .

ولكن سؤال يطرح :

انّ مثل هذا الرسول الذي نزلت عليه هذه الآيات، وجاء بسنة تحرّم الغناء، وهو القائل : من يستمع الغناء يحرم من صوت قرّاء الجنّة ، وإن استماع الغناء والتغنّي لمسخ الفضائل الإنسانية ، وتراه يسدّ اذنيه بإصبعيه بمجرد أن يطرق أذنه صوت الغناء، ويتنحى عن ذاك المكان بسرعة ، فهل يعقل لمثل هذا الرسول أن يسمح للفتيات بالغناء، وضرب الدفّ في داره، بحيث لو أراد أحد أن يصدهن عن ذلك يمنعه ويقول : دعهنّ وشأنهن ؟

ص: 289


1- تفسير القرطبي 14 : 54
2- تفسير الدر المنثور 2 324
3- المصدر : ص 323
4- سنن ابن ماجة 1: 613 كتاب النکاح باب «21» باب الغناء والدفّ ح 1901
5- سنن أبي داود 4 : 281 كتاب الأدب باب كراهية الغناء والزمرح 4924

حول المساجد

للمساجد في الاسلام شأن كبير ومقام رفيع وأهمية قصوى، وأيّة بقعة في الأرض أطلق عليها اسم المسجد يحرم على المسلمين تنجيسه ، والمكث فيه جنباً، والقيام بأيّ عمل ينافي حرمة المسجدية .

ولقد شرع رسول الله الله أحكاماً في المساجد ممّا تدلّ على رفعة شأنها وأهميتها :

1 - قال له : جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراركم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم(1) .

والمراد من ذلك تمكين هؤلاء من المسجد، وأمّا جلب الأطفال إلى المساجد لتعويدهم على العبادة ومراقبتهم فليس فيه منع ، بل إنه مستحسن وإنه من اصول التعليم والإرشاد.

2 - وفي مراعاة حرمة المساجد قال عل الله : من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد ،

فليقل : لا أدّاها الله إليك ، فإنّ المساجد لم تبن لذلك(2)

2 - وقال له: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلّي ركعتين(3).

ص: 290


1- سنن ابن ماجة 1: 247 كتاب المساجد والجماعات باب «5»باب ما يكره في المساجد ح750
2- سنن أبي داود 1 : 128 کتاب الصلاة باب في كراهية إنشاد الضالة في المسجد ح 473 ، السنن الكبرى للبيهقي 2 : 447 كتاب الصلاة باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد...
3- صحيح البخاري 1: 121 کتاب الصلاة باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين ، وج 2 : : 70 کتاب الصلاة باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى ، صحیح مسلم 1: 495 کتاب صلاة المسافرين وقصرها باب«11» باب استحباب تحيّة المسجد بركعتين ... ح 69 - 70 ، سنن الترمذي :2: 129 کتاب الصلاة باب 233 باب إذا دخل احدكم المسجد فليركع ركعتين ح316

مسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

هذه الأحاديث التي ذكرناها ومئات غيرها ،كلها تبين مكانة المسجد بشكل عام فی شتى بلاد العالم ، وأمّا مكانة مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه يمتاز على غيره بكثرة الفضيلة والقداسة وأنّ بعض المذاهب الإسلامية يعتبرون أن مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ثاني مساجد المسلمين بعد المسجد الحرام من حيث المكانة والفضيلة، وهناك مذاهب أخرى تعتقد بأنّ مكانة المسجد النبوي أجلّ وأرفع شأنا حتى من المسجد الحرام(1).

ولهذه القداسة والفضيلة نقرأ في تاريخ حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن الرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يقضي أوقات مناجاته مع الله ونفحات الدعاء في مسجده الذي هو أشرف بقاع الأرض والذي كان ينزل فيه جبرئيل على النبي بالوحي الإلهي ، حتى أنه كان له ورد خاص ودعاء خاص حين دخول المسجد وعند الخروج منه.

روى الترمذي باسناده عن فاطمة بنت الحسين (2) عن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قالت : كان رسول الله الا الله إذا دخل المسجد صلّى على محمد وآله وسلّم وقال : ربِّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلّى على محمد وآله وسلّم وقال ربِّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك(3).

وأخرج البخاري أنّ النبي إذا قدم من سفر دخل المسجد وصلى ركعتين ثم يدخل داره (4)

وإذا عرفت أيها القارىء الكريم أحكام المساجد ومكانتها وخاصة مسجد

ص: 291


1- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 284 - 291 کتاب الصلاة باب ما يكره فعله في المساجد وما لا يكره
2- هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمية، وزوجها هو ابن عمها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي
3- سنن الترمذي 2 : 127 كتاب الصلاة باب «234» ما يقول عند دخول المسجد ح 314.
4- صحيح البخارى 4 : 94 كتاب الجهاد والسير باب الصلاة إذا قدم من سفر

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال مطالعتك للأحاديث التي مرّت عليك ، فهل يعقل أن سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)يسمح للأحباش أن يشتغلوا بالرقص واللعب في فناء مسجده ؟ فيا ترى أنّ النبي الذي خصّ دعاءً مأثوراً - احتراماً لكيان المسجد - لدخوله والخروج منه ، هل يسمحلأحد أن يعلن في المسجد بفقد ضالة له ؟

هذا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي أمر الناس بإقامة ركعتي صلاة التحية في المسجد إجلالاً للمسجد وحفظاً لقداسته ومكانته ، ومنع الأطفال والمجانين والأشرار الذين يخلّون بنظم المسجد ولا يراعون آداب المسجد من دخولهم المساجد، و ... و ...

فهل من عاقل يعقل ويقبل بأن حفلة رقص وأعمال الشعبذة أقيمت في هذا المسجد الذي هو انبل بقاع الارض شرفاً وأعلاها كرامة والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقف متفرجاً عليهم بل ويحثّ الرقاصين على فعلهم ويشجعهم بقوله : «دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا أراد أحد مثل الخليفة أبى بكر أو عمر أن يصدّهم عن الرقص واللعب ويحثو في وجوههم حصب المسجد ينهاه النبي . ويقول له : دعهم يا ... وشأنهم ؟

النظر إلى الأجنبي والأجنبية

نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية ونظر المرأة إلى الرجل الأجنبي من المسائل التي حرمها الدين الإسلامي، وهذه من الأمور الفطرية التي لا يحتاج إثباتها إلى آية أو حديث، ومع هذا الوضوح البين نورد لك - أيها القارئ - حديثين استخرجناهما من كتب العامّة ومصادرهم المعتبرة :

1 - أخرج السيوطي في تفسيره عن سنن أبي داود(1)والترمذي(2) والنسائي (3)

ص: 292


1- سنن أبي داود 4: 63 كتاب اللباس باب في قوله تعالى :«وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن» ح 4112
2- سنن الترمذي 5 : 94 كتاب الادب باب 29 باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال ح 2778
3- السنن الكبرى للنسائي 5: 393 كتاب عشرة النساء باب «108» نظر النساء الأعمى ح 1/9241

والبيهقي(1) بسندهم عن أم سلمة قالت: كنتُ وميمونة عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)إذا أقبل ابن أمّ مكتوم فدخل عليه ، فقال رسول الله لعل الله : احتجبا عنه . فقالت أمّ سلمة : قلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال الله : أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ؟!!(2).

2 - أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال : إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أفرأيت الحمو - زوجة الأخ ... ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : الحمو الموت (3)، لعل الحماة تكون سبباً في الانزلاق إلى المعاصي والذنوب .

فأنت - أيّها المُطالِع العزيز - بإمكانك بعد التمعن في أهمية هذا الموضوع، ومعرفة حرمة النظر إلى الأجنبى او الأجنبية، أن تقيم هذه الأحاديث المزوّرة على النبى(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنه كان يجتمع مع النساء في حفلات العرس، والعروس بنفسها تقوم بخدمته وخدمة الرجال ، أو أنه كان يشجّع زوجته الشابة - عائشة بنت أبي بكر - ويدعوها للتفرّج عل-ى الرقاصين .

فهل هذه القضايا الملفّقة على النبى تبدو صحيحة ؟ بينما تراه هو الذي امر زوجيه العجوزتان أُمّ سلمة وميمونة أن تحتجبا حتى عن رجل ضرير وأعمى حتى لا تقع عينيهما عليه وإن كان هو لا يراهما . ؟؟!!

هذا النبي الذي ينهى المسلمين أن يدخلوا على النساء الأجنبيات حتى ولو كن حماة لهم، ويمنعهم من أن يتوسطونهنّ ، كيف يسوغ لنفسه أن يتوسط النساء في حفلاتهنّ ؟ أو يبيح للعروس وهي في ليلة زفافها أن تخدمه وتخدم أصحابه الكرام؟!!

ص: 293


1- السنن الكبرى للبيهقي :7 91 كتاب النكاح باب مساواة المرأة الرجل في حكم الحجاب والنظر إلى الأجانب
2- تفسير الدرّ المنثور للسيوطى 42:5
3- صحيح البخاري 7: 48 كتاب النكاح باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم .... صحيح مسلم 4: 1711 کتاب السلام باب «8» باب تحريم الخلوة بالاجنبية والدخول عليها

عائشة تلعب بالبنات عند الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)

جاءت أحاديث عديدة في كتب أهل السنّة تؤكد النهي القاطع عن التماثيل وصناعتها ، وهذه الأحاديث داحضة للحديث المشهور عندهم بأنّ عائشة كانت تلعب بالبنات بمرأى من النبي من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكي تقف على حقيقة التزييف في أحاديث عائشة نورد بعضها :

1 - أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما بسندهما عن ابن عباس ، عن أبي طلحة قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير (1).

2 - وانفرد البخاري بالتخريج بسنده عن الأعمش، عن مسلم قال : كنا مع مسروق

في دار يسار بن نمير فرأى في صفته تماثيل فقال : سمعت عبد الله قال : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول : إنّ اشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصوّرون.

(2).

3 -وأخرجا معا باسنادهما عن عائشة أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بالباب فلم يدخل ، فقلت : أتوب مما أذنبت .

قال(صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذه النمرقة ؟ قلت : لتجلس عليها وتوسّدها . قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : احيوا ما خلقتم ، وإنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصورة(3).

ص: 294


1- صحيح البخاري :7 : 214 كتاب اللباس باب التصاوير ، صحيح مسلم 3: 1665 کتاب اللباس والزينة باب«26»باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب وصورة ح 84.
2- صحيح البخاري 7 : 215 كتاب اللباس باب عذاب المصوّرين يوم القيامة، صحيح مسلم 3: 1670 كتاب اللباس والزينة باب «26» باب تحريم تصوير صورة الحيوان وان الملائكة لا تدخل ... ح 98 - 90
3- صحيح البخاري 83:3 كتاب البيوع باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، وج 7: 216 كتاب اللباس باب من كره القعود على الصورة وباب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة صحیح مسلم 3 : 1669 كتاب اللباس والزينة باب«26» باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ح 96

وأخيراً أيّها القارىء النبيه ، ماذا تقول فى نبى قال : إنّ ملائكة الرحمة لا تدخل بيتاً فيه التماثيل والصور ، وقال : إن المصوّرون الذين يصنعون التماثيل هم أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، وأنّ هذا النبي الذي رأى صوراً على نمارق في بيته فأبى أن يدخله فهل يصح لهذا النبيّ أنْ يجيز لزوجه أن تمتلك بناتاً وتلعب بهنّ، ويجلس هو شاهداً عل-ى حضور بنات الجيران في بيته، وهنّ يلعبن مع زوجته بهذه المجسمات والتماثيل ؟

أسباب جعل هذه الأحاديث

اشارة

وهكذا فرغنا من سرد مجموعة كبيرة من آيات القرآن الكريم والروايات التي و تفتد تدحض الأحاديث المدسوسة في كتب اهل السنة والتي تكيل الاكاذيب والافتراءات التي لفّقت على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

والآن نقف معاً على معرفة الدواعي والأسباب لجعل هذه الأحاديث والأكاذيب حتى ينكشف الغلّ والغش اكثر وضوحاً، ويتعرّف القارىء على أحاديث أهل السنّة المترامية فى كتبهم، حسب ما تسمح لنا ظروف كتابنا . ونذكر من بين جميع العلل والأسباب والدواعى ثلاثة منها فقط:

1-تبرير الفساد الخُلُقي في البلاط الخليفي

عندما يدرس الواحد منا التاريخ دراسة متقنة ودقيقة، يعرف أن الحكومات التي تسلّطت على رقاب المسلمين وخاصة منذ خلافة عثمان كانت تعيش فساداً أخلاقياً وانهياراً دينياً كبيراً ، وأنّ الزمرة التي تشكل منهم بلاط الحكم وتقلدوا أكثر المناصب وإمارة الولايات هم في الغالب من المنتسبين لعثمان الخليفة، الذين لم يتورعوا من الولوج في أي عمل فاسد ومخالف لأصول الدين والأخلاق . وما كانوا يمتنعون من ذلك حتى طغت عليهم الملاهي بشكل ملحوظ من معاقرة الخمور وتعاطيها وسهرات الطرب والغناء بحيث شاع الالتهاء بالطرب والغناء فى أكثر البلاد الإسلامية خاصة مكة والمدينة اللتان تعتبران أهم مدن الاسلام، ومنهما انتقلت الى سائر المدن الأخرى.

ولمّا كانت الطغمة الحاكمة وبلاط الخلافة تحكم باسم الدين والشريعة، وترى

ص: 295

نفسها ممثلاً ونائباً عن المتقلّد خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحيث كانت تتظاهر بتلك الأمور خلف الستار ملتهون بالعيش المرفّه ويستمتعون بالبذخ ومجالس الأنس والطرب وحفلات معاقرة الخمور والتشدق بها، فلذلك رأت أن تتذرّع بخلق أخبار مفتراة وأحاديث مختلقة وينسبونها الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحجيماً لمقامه وتصغيراً لشأنه حتى تبرّر أعمالها وجرائمها التي كانت تمارسها.

وهكذا خدشوا شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وطعنوا فيها وأنزلوها إلى أدنى مرتبة لكي تسنح لهم الأمور ، ويتقبلهم المسلمون من دون خلاف.

فعلى هذا فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يشترك في الحفلات النسائية ويسمع الغناء، بل ويشجّع الجواري على ذلك، أو أنه يدعو زوجته الشابة لمشاهدة حفلات رقص الرجال أو يحضر هو وأصحابه الأعراس وتقوم العروس بنفسها بخدمته واستقباله و .... فما المانع من أنْ يشترك خلفاؤه وممثلوا الخليفة فى مجالس الأنس والطرب الليلية وينصتوا الى أصوات المغنيات ؟

وهذه الأمور التي نسبوها الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)تفتح باب الفساد الخلقي والتكييف بالأهواء لهؤلاء الهواة على مصراعيه، وذلك مع حرصهم على التصدّي للزعامة وزمام المسلمين.

فهذه المفتريات على النبي تسدّ افواه الرجال الذين يشجبون هذه المناكير ويحتجون على فاعلها لان بزعمهم الرسول كان كذلك - حاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم) . . .

صور من مناكير بلاط الخليفة

بالرغم من المحاولات التي قام بها المحدّثون والمؤرخون لإخفاء مساوىء أصحاب رسول الله ومخازيهم، ويستروا معايب الخلفاء والأمراء، ويعتموا على نقاط ضعفهم ، فإنّ بعض الهفوات والنقاط التي تحكي هذه المخازي قد تسرّبت منهم ووصلت الينا.

ص: 296

ونستعرض لك - أيها القارىء النبيه - نماذجاً وصوراً ممّا نقلته كتب الحديث والتاريخ والتي تعطيك لمحة واضحة وصورة كاشفة عن الأوضاع السائدة في عهد ذي النورين عثمان ومعاوية .

1 -ظهر في عهد عثمان ومعاوية عشرات المغنّين والمطربين، كابن سيحان ، ، طويس، ابن عائشة ذي الإصبع، وسائب خاثر و ... و ... ويمكنك ان تعبّر عنهم بمغنّيي ومطربي البلاط الخليفي ، إذ أنهم كانوا مخصوصين بالبلاط أو بذات الخليفة (1).

2 - قال أبو الفرج الاصفهاني في ترجمة ابن سيحان المطرب المعروف :

وهو أحد المعاقرين للشراب والمحدودين فيه وكان مع بني أُمية كواحد منهم ، إلا أنّ اختصاصه بآل أبي سفيان وآل عثمان خاصة كان أكثر الوليد بن عثمان ابن الخليفة ومؤانسته إيّاه أكثر من سائرهم لأنهما كانا يتنادمان على الشراب.

وقال : كان الوليد بن عثمان يشرب مع الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وابن سيحان،

وكان يخمر ، فأصابه من ذلك شيء شديد حتى خيف عليه، وشق النساء عليه الجيوب ،

فدعي له ابن سيحان، فلما رآه قال : اخرجن عني وعن أخي ، فخرجن فقال له : الصبوح

يا أبا عبدالله - أي حان وقت شراب الصبح .. فجلس مفيقا. فذلك حيث يقول ابن

سیحان:

بأبي الوليد وأم نفسي كلّما * بدت النجوم ودر قرن الشارق (2)

3 - روى أبو الفرج أيضاً قصة مجالسة معاوية مع ابنه يزيد وسائب خائر المغنّي المعروف بالمدينة ثُمّ أوصى ابنه يزيد أن يكثر بره وصلته لسائب خاثر ، ولا تفوته ،مجالسته، وهكذا روى بأن أشرف معاوية على منزل يزيد ابنه فسمع صوتاً أعجبه ، واستخفّه السماع فاستمع قائماً حتى ملّ ، ثُم دعا بكرسي فجلس عليه واشتهى الزيادة

ص: 297


1- راجع ترجمتهم في موسوعة الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني الأجزاء 1 و 2 و 3.
2- الأغاني 2 : 243 و 244

فاستمع بقيّة ليلته حتى ملّ ، فلمّا أصبح غدا عليه يزيد فقال له :يا بني من كان جليسك

البارحة ؟

قال : سائب خاثر . قال : فاختر له يا بنى من برك وصلتك فما رأيت بمجالسته بأساً (1).

4 - ويروي كذلك عن ابن الكلبي يقول : قدم معاوية المدينة في بعض ما كان يقدم، فأمر حاجبه بالإذن للناس. فخرج الآذن ثم رجع فقال : ما بالباب أحد . فقال معاوية : وأين الناس ؟ قال : عند أبي جعفر، فدعا ببغلته فركبها أبي جعفر ، فدعا ببغلته فركبها ثم توجه اليهم ، فلمّا جلس فغنی سائب خاثر فسمع منه معاوية وطرب ، وأصغى له حتى سكت وهو مستحسن لذلك (2).

5- أخرج الامام أحمد بن حنبل في مسنده عن عبدالله بن بريدة قال: دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ، ثُمّ أتينا بالطعام فأكلنا، ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ثم قال : ما شربته منذ حرّمه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

6 - روى المسعودي في تاريخه : وغلب على أصحاب يزيد بن معاوية وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب(4) .

7 - روى أحمد بن حنبل : أن الوليد بن عقبة - والي عثمان على الكوفة وأخوه من أمّه - كان معاقراً ومدمناً للشراب ، ومولعاً بالزنا ومشهوراً بذلك، فشرب الخمر ليلة ودخل المسجد ليؤم الناس لصلاة الصبح ، فصلّى بهم أربعاً ثُمّ التفت الى المأمومين فقال : هلا أزيدكم ؟ حتى إنه كان فى الصلاة - الكذائية - فأنشد أبياتاً عشقية قال :

علّق القلب الربابا *بعد ما شابت وشابا

ص: 298


1- الأغانى 8 :324
2- الأغانى 8 :324
3- مسند أحمد بن حنبل 5 : 347
4- مروج الذهب 3 : 77

ومن ثُمّ تقيّاً في محرابه، فوصل خبره هذا الى أخيه الخليفة عثمان في مركز الخلافة

الإسلامية، فأمر أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب أن يجري عليه الحدّ بمحضر من أخيه الخليفة عثمان .

فلمّا تولّى سعيد بن العاص إمارة الكوفة من بعده أبى سعيد أن يصعد المنبر إلا أن يغسل ويطهر ، لأنه قد صعده الوليد الفاسق والنجس (1).

نعم ، فما دام ابن الخليفة - الوليد بن عثمان - يروم السهرات معاقراً الشراب والطرب ، أو أخ الخليفة - الوليد بن عقبة - وواليه على الكوفة يؤم الناس في صلاة الصبح وهو سكران وأنّ الخليفة ذاته - معاوية - في مركز الدولة الإسلامية ومهبط الوحي وعن-د المسجد النبوي يحضر مجالس السمر والطرب ، ويصغي الى صوت المغنّي ويطرب به، و يشرب الشراب على مائدته ويدعو ضيفه الى أخذ نخب من الخمر ومادام هذا هو دأب الخلفاء وبلاطهم وذويهم، حيث يأتون بالمنكرات على مرأى من الناس فلا سبيل الى توجيه وتبرير هذه المخازي - وتلطيف الرأي العام لقبول هذه المساوىء - إلا لبس الفرو مقلوباً واتهام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)والافتراء عليه بمثل ما هم يعملون حتى يتلقى الناس فعلهم بالمشروعية ، وإليك - أيها القاريء - بعض المفتريات على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لكي يبرّروا معاقرتهم للخمر :

إهداء الشراب الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

عند ما كنت أقوم بدراسة المفتريات التي حيكت ضد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تأمل-ت في السياسة التي اتخذها الخلفاء ، ومن ناحية أخرى كنت افكر في السبب لتفشي الخمر ومعاقرته وشربه بين الزمرة الحاكمة آنذاك، فبدرت إلي فكرة لابد أنهم أباحوا كل ذلك بعد أن اختلقوا على رسول الله له في هذا المجال كما هو دأبهم - في جع-ل الحديث - حديثاً ينسبون اليه شرب الخمر !!

ص: 299


1- مسند أحمد بن حنبل 1 144 أنساب الأشراف للبلاذري 5: 33 مروج : ، الذهب للمسعودي 2: 344 - 346 ، الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني 5: 126.

ولذلك قمنا بالفحص والتنقيب في كتبهم الحديثية حتى تمكنا من العثور على حديث في هذا المجال يرويه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، ، وعرفنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لم ينج من هذه الفرية والتهمة أيضاً، ولكن وضاعي الحديث والدساسين لما وجدوا أنّ أكذوبتهم بان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قد عاقر الخمر في أواخر حياته لم تتفق مع الآيات المحكمة الصريحة التي نزلت بشأن تحريم الخمر ، لذلك تراهم نسبوا الفرية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)الى عهد ما قبل التحريم .

ورووا عن نافع بن كيسان أنه قال : إنّ أباه كيسان اخبره انه كان يتجر في الخمر في زمن النبى الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإنّه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق يريد بها التجارة، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : يا رسول الله جئتك بشراب جيّد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :يا كيسان إنّها حرمت بعدك

(1) .

هذا ما رووه في مجال معاقرة النبي الله الله الخمر وافتروا عليه ذلك باسلوب رزين ودقيق !! تبريراً لما كانوا يتسامرون ويتعاطون الخمر. وربّما نوافيك في الفصول القادمة أيضاً ببعض الأخبار المدسوسة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

2-تضخيم دور عائشة

أما السبب الآخر في الافتراء وجعل الأكاذيب ونسبتها الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)هو تضخيم دور عائشة ونفوذها وتقويته، وذلك لأنه وقعت في أيامها حوادث وقضايا كبيرة ، مثل قتل الخليفة عثمان ذي النورين في عقر داره ونشوب حرب کبری فرضتها على خليفة آخر راح ضحيتها آلاف المسلمين ، ولا يكون لها شبيه في تاريخ الإسلام (2)، وكان المحرّك الأوّل من وراء هذه الحوادث هو عائشة بنت أبي بكر وزوجة

ص: 300


1- مسند أحمد بن حنبل 4 :335
2- ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد أنّ عدد قتلى واقعة الجمل 25000 مسلم . وزاد اليعقوبي على 300000 ،مسلم ، بينما نلاحظ أن عدد قتلى المسلمين في جميع حروبهم إلى قبل اندلاع هذه الواقعة لم يصل الى عدد قتلى هذه الواقعة، ولمزيد الإطلاع على نتائج هذه الواقعة راجع كتاب عائشة على عهد علي

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) !! .

أفترى إنّ قيادة واقعة الجمل وسائر الحوادث، والإفتاء بقتل الخليفة(1)وانقياد الناس لهذه القيادة والتزامهم بأوامرها ، وفتح جبهة أخرى ضد إمام عصرها أي الخليفة الحق أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، فهل كل هذه الأمور تستدعي أن تضخّم شخصية عائشة وموقعها عند الناس ،الى حد بحيث إذا أمرت بشيء كان لأمرها التأثير الكبير في نفوس المسلمين ، ويتلقوا أمرها فريضة دينية ، والدفاع عن عائشة وحمايتها جهاد في سبيل الله ؟ وهكذا ترفّعوا في تضخيم شخصية عائشة وعظموا شأنها بحيث اختفت مخالفتها لصريح القرآن وأمره(2)، ومعاندتها لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(3)خلف أستار هذا التضخيم ، حتى أن برّؤوها وعملها عن النقد والمؤاخذة...

وأفضل ذريعة تمسكوا بها في هذا المجال هو أن يصوّروا لعائشة صورة مضخّمة، ويرسموا شخصيتها مكبرة بحيث قالوا : إنّ النبي الله كان ينقاد لها ، وكان يتحمّل الصعاب والمتاعب في سبيل رغباتها ، وكان يقف لتضع عائشة رأسها على كتفه لتتفرج على رقص الأحباش ، وأنه لم يكشف عن تعبه حتى تمل هي وتنزل !!

وإن دلّ هذا على شيء فإنّه يدلّ على أنهم يريدون بذلك إبراز العلاقة الشديدة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة الى عائشة ، وكان يسعى أن يلبي رغباتها ولم يبرز اي نوع من الضجر والملل ، حتى وإن بلغت ثمانية عشر عاماً فإنها كانت تلعب بالبنات ، ولكي يطيب لبها ويرضيها فكان يدعو الجواري ويشجّعهنّ على اللعب مع عائشة.

ص: 301


1- الفتوى التاريخية التي أصدرتها أُمّ المؤمنين عائشة اذ اعلنت على الملأ بأن عثمان قد كفر و خرج عن الدين، وارتد بعد إسلامه ، فلابد من قتله واعدامه ، وهذه الفتوى هو قولها : اقتلوا نعثلاً فقد كفر . وسيأتيك فيما بعد مصدر هذه الفتوى ، فراجع
2- قال تعالى مخاطباً نساء النبيّ : «وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبْرَجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى» الأحزاب : 33
3- راجع كتب الحديث والتاريخ والعقائد فيما ورد الكلام حول حرب الجمل وخروج عائشة محاربة خليفة رسول الله علي بن أبي طالب(علیه السلام).

وبناءاً على هذه الأمور فلا يحق لأي أحدٍ أن ينتقدها ويشجب اعمالها خاصة بالنسبة الى فتواها في قتل الخليفة : اقتلوا نعثلاً فقد كفر(1)، إذ أنها حكمت على عثمان بالارتداد والتهوّر ، فلذلك يجب إعدامه، وما كان أحد يتردّد فيما قالته عائشة ورأته، أو يبدي معارضته لرأيها .

وبعد فترة من الزمن - وبعد أن تم العمل بفتوى عائشة بقتل عثمان - تغيّرت الأمور على عكس هواها فنهضت ثائرة لدم عثمان - الذي أفتت بكفره بالأمس - وأعلنت حرباً ضد أمير المؤمنين، واستنفرت الناس بفتواها الثانية التاريخية : ألا إنّ عثمان قتل مظلوماً «فَاطْلِبُوا قَتَلَتَهُ فَإِذَا ظَفَرْتُمْ بِهِمْ فَأقْتُلُوهُمْ »(2).

وبعد هذا التضخيم لشخصية عائشة هل يجوز لأحد أن يتخلّف عن فتواها ولا يقاتل الإمام على الها ؟

فهل يحق لأحد ان يشجب حكمها ويستنكر عليها بأنّكِ بالأمس حكمتِ بارتداد عثمان وفرضت قَتْله واليوم تطالبين بثأره ؟ .... و .... ؟

هذا العامل الذي ذكرناه ضمن دواعي جعل الأحاديث ونسبتها الى رسول الله الا الله ليس أمراً يمكن دركه وفهمه من خلال التأمل في الاحاديث المذكورة فحسب، بل ثمّةأحاديث أخرى تدلّ على ذلك - تضخيم دور عائشة - بوضوح وعيان، ولكي يتضح ذلك اكثر نذكر حديثين على سبيل المثال ممّا أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما والترمذي في سننه :

1 - أخرج الصحيحان باسنادهما عن عائشة زوج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنها قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله له ورجلاي في قبلته - مزاحمة لسجدته - فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي ، فإذا قام بسطتهما(3).

ص: 302


1- تاريخ الطبري :4 477 ، الفتوح لابن أعثم الكوفي : 2: 225 ، تاریخ ابن أثير :3 87 شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 2: 77 ، النهاية لابن أثير 4 : 156
2- الإمامة والسياسة ،1 : 8 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 499.
3- صحيح البخاري 1 : 107 کتاب الصلاة باب الصلاة على الفراش وص 136 باب التطوّع فی خلف المرأة وص 138 باب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد ، وج 2 : 81 کتاب الصلاة باب ما يجوز من العمل في الصلاة، صحيح مسلم :2 : 367 كتاب الصلاة باب « 51» باب الاعتراض بين يدي المصلّي ح 272 ، وسنن النسائي 2 : 67 كتاب الصلاة باب الرخصة في الصلاة خلف النائم

وأخرج ابن سعد في طبقاته الكبرى عن عائشة قالت : فضلت على نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعشر ، قيل : وما هنّ يا اُمّ المؤمنين ؟ فعدّدت فضائلها ثم قالت : وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّى وأنا معترضة بين يديه ولم يكن يفعل ذلك باحد من نسائه غيرى(1).

نستفيد من هاتين الروايتين :

أولاً : إنّ استلقاء عائشة وتمدّدها أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في حال الصلاة وغمزه إيَّاها لم يكن على سبيل الصدفة والاتفاق، بل يظهر من قول عائشة بكونه فضيلة لها دون سائر نسائه، وإنّ هذا العمل كانت تؤدّيه دائماً وباستمرار، ولو كان مرّة واحدة لم تكن فضيلة تفتخر بها أم المؤمنين على ضرّاتها .

ثانياً : إنّ هذا الفعل يدلّ على إساءتها الأدب تجاه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)و عدم إكرامه-ا وإجلالها للصلاة والعبادة . ومن ناحية أخرى ترى أنّ هذا العمل هو تنزّل وتحجيم لمقام النبوّة والرسالة .لأنّ المؤمن والملتزم يأنف أنْ يمزح ويتفكه وهو في الصلاة التي هي معراج المؤمن ومقام الابتهال الى الله ، ويغمز زوجته وهو في حال السجود، فكيف بخاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

والجدير بالذكر إنّ هذه الفرية مع انحطاط مفهومها وركاكتها، فيها إساءة أدب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين تعتبر إحدى الفضائل التي فضلت عائشة عل-ى سائر نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وعلاقة النبى الشديدة بعائشة !

2 - أخرج الترمذي باسناده عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان ، فقام رسول الله الله فإذا حبشية تزفن والصبيان حولها . فقال : يا عائشة تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 303


1- الطبقات الكبرى لابن سعد 8: 64 ترجمة عائشة

فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب الى رأسه، فقال لى : أما شبعت أما شبعت ؟ قالت :فجعلت أقول : لا ، لأنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر . قالت : فانفض الناس عنها قالت: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأنظر الى شياطين الجن والإنس قد فرّوا من عمر قالت : فرجعت (1).

وقد عرفت أيّها القارىء أنّ هذه الرواية المزيّفة والمختلقة تشير الى نقطتين :

الاولى : اختبار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فى أنّ كم لعائشة من منزلةواحترام عنده، وقد صرّحت الرواية : كلّما كان يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أما شبعت من مشاهدة الحبشية ورقصهنّ؟ تقول : لأمتحنه وأعرف منزلتي عنده .

الثانية : اختلاق فضيلة للخليفة عمر بن الخطاب الذي فرّ منه الناس وتفرّقوا لما رأوه قادماً ، حتى أنّ النبي يشيد بهذه الفضيلة تكريماً لعمر يقول : إني لأنظر الى شياطين الجن والإنس قد فرّوا من عمر .

3-اختلاق الفضائل للخلفاء

العامل الثالث لوضع هذه الافتراءات السخيفة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وخلق هذه الخزعبلات ، هو خلق فضائل للخلفاء وإظهارهم بأنّهم الأفضل.

ولتوضيح هذا نقول : لقد مرّ عليك فى الجزء الأوّل من كتابنا(2)أن معاوية بن أبي سفيان لما تسلّط على الحكم ودامت خلافته عشرون عاماً ولم يكن هناك منازع له في الحكم، أسس لجنة وكلّفها وضع الأحاديث لصالح الخلفاء، وأمر ولاته وعماله في أقصى البلاد الى أقصاها أن يقرؤوها على الناس في خطب صلاة الجمعة وينشروها بينهم .

ولم يدع معاوية في هذا المجال ذريعة إلا استفاد منها، واستفرغ كلّ ما كان في وسعه من فكر وقوى في تحقيق هذه الأمنية، حتى أن مرتزقته وعملاءه لم يهنوا لحظة من مساعدته في ذلك، فاختلقوا فضائل للخلفاء حتى ولو كانت هذه الفضائل المزيفة تؤدّي

إلى الإهانة بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وتحجيم منزلته .

ص: 304


1- سنن الترمذي :5 580 كتاب المناقب باب«18» باب مناقب عمر بن الخطاب ح 3691
2- راجع ص : 51

والهدف من وضعهم هذه الاحاديث المزوّرة ان تكون بديلة عن الاحاديث النبوية الصحيحة التي تروي فضائل أمير المؤمنين الإمام علي(علیه السلام) (1).

وطبقاً لهذه الخطة تراهم يصوّرون الخليفة أبا بكر ذا قدسية وطهارة ،وأنه ذو معنويةعالية ، وأنه من المطهرين والصالحين، وأنه لما دخل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والفتيات يعزفن ويطربن أظهر انزجاره وانزعاجه للغناء، ويخاطب ابنته بحدّة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)حاضر: «أمزمارة الشيطان في بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ومع أن النبي نهاه عن ذلك وقال : دعهنّ يا أبا بكر وشأنهنّ ، إلا أنه أظهر ورعه وتقواه في الموضوع، حتى قامت عائشة تشير على الفتيات أن يخرجن من البيت(2).

واختلقوا للخليفة عمر بن الخطاب فضيلة بأنه لما دخل المسجد النبوي رأى الحبشة يلعبون ويرقصون ، فاز درأ من ذلك ، فهوى الى الأرض وأخذ حصباء ليحصبهم بها فصده النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وقال له : دعهم يا عمر(3) !

فعلى هذا أليس يحق لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أن يقول بشأن هؤلاء الذين بلغوا من الورع والقدسية والإيمان والمتانة أعلى مراتبها !! : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين(4)؟

اليس يحق لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أن يقول بشأن الخليفة عمر بن الخطاب كلاماً يعزّز مقامه ويقدّر منزلته ويعطّم شخصيته حتى يقدّمه على رتبة النبوة والرسالة ؟ !! : ان الشيطان ليخاف منك يا عمر (5)!!

ص: 305


1- وفي هذا المجال لنا بحث طويل ومفصل في كتاب البديل نرجو من الله الموفق أن يوفقنا لإتمامه وطبعه . المعرّب
2- راجع المصادر ص : 276 - 277
3- راجع مصادرها ص : 280 هامش 2
4- سنن ابن ماجة 1 : 15 المقدمة باب « 6 » باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ح 42 و 43 ، سنن ابي داود 6 : 201 كتاب السنة باب لزوم السنة ح 4670، مستدرك الصحيحين 1 : 96 كتاب العلم باب عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي ، سنن الدارمي 1 : 57 المقدمة باب«16» باب اتباع السنة ح95 ، مسند أحمد بن حنبل 4 : 126
5- سنن الترمذي 5 : 580 كتاب الفضائل باب (18) باب مناقب عمر ح 3690

ويمكنك من خلال دراسة هذه الأخبار والأحاديث المنسوبة الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أن تقف على فضائل مختلقة بحق الخلفاء اكثر من ذلك ...

وإننا نشاهد أحاديث مختلفة وأكثر توهيناً وازدراء من ذلك وضعتها أيدي العصبية المفرطة للحط من مقام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) و تشويه شخصيته وفى هذا المجال نضيف على ما ذكر واحدة منها :

أخرج الترمذي والإمام أحمد بن حنبل باسنادهما عن بريدة قال : خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بعض مغازيه ، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إنى كنت نذرت إنْ ردّك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدفّ وأتغنّى . فقال لها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : إِنْ كنتِ نذرتِ فاضربي، وإلا فلا.

فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليّ وهي تضرب ث- دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر فألقت الدفّ تحت استها، ثمّ قعدت عليه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر، إنّي كنت جالساً وهي تضرب فدخل أبوبكر وهي تضرب ثم دخل عليّ وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدفّ (1)

فترى أنّ وضاعى هذه الأحاديث أرادوا تضخيم رتبة عمر بن الخطاب من الناحية التقوائية والمعنوية لتصبح أكبر من رتبة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)!!

وتراهم أنهم يوحون بوضعهم هذه الأحاديث أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وكذا زوجه وأصحابه لم يتورعوا عن الأعمال السيّئة، وكان(صلى الله عليه وآله وسلم)راضياً بافعال شيطانية وأن الشياطين يلعبون بين يديه وهو ينظر إليهم ، ولكن ما أن دخل عمر حتى اختل نظم المجلس وفرّت الشياطين من عمر فراراً .

ص: 306


1- سنن الترمذي 5 : 580 کتاب المناقب، باب 18» ، باب المناقب مناقب عمر ح 3690 ، مسند أحمد بن حنبل 5: 353

موافقات عمر

اشارة

بينا فيما سبق إنّ إحدى دواعي تلفيق الافتراءات على الرسول الكريم (1)هي خَلْق فضائل للخلفاء، والتعتيم على مثالبهم ومساوئهم، وتطرّقنا ايضاً الى بعض الأكاذيب التي كانت تتناقلها الألسن ويرويها البسطاء والتي تشكل نوعية الثقافة والتفكير في المجتمعات الملوّثة بالمغامرات المسائية، والليالي الحمراء التي كان يحيبها الفساق وأهل الفساد، وفي هذا الفصل يتعرّف القارىء المحقق والباحث عل-ى فضائل موضوعة أخرى أرقى درجة وأرفع رتبة علمياً ، والمشتهرة في علوم الحديث والتاريخ ب-

«موافقات عمر».

و ملخص القول في الموافقات العمرية : هو إنّ الخليفة عمر كان يقترح مسائل عديدة على الله تعالى ورسوله ، ومن ثَمّ ينزل جبرئيل بآية تؤيّد ما اقترحه الخليفة عمر، وإننا قد سمينا هذه الفضائل بالفضائل العلمية» لأن الوضاعين أرادوا بوضعهم هذا النوع من الفضائل أن يرفعوا رتبة الخليفة ، ويقربوها الى النبوّة ويشركونه مع النبي في مسألة الوحي

، ولما كان نزول الوحي القرآني من مختصات النبي ولا يشركه في ذلك أحد فتوسلوا الى اختلاق طريقة أخرى غير النبوة ليشركوا عمر في مسألة الوحي مع النب-ي فقالوا :

إنّ الخليفة عمر إذا أحبّ أنْ يُشرع حكماً في مسألة ما، فما يبرح حتى ينزل الوحي على النبي الله(صلى الله عليه وآله وسلم) موافقاً ومطابقاً للرأي الذي احب عمر تشريعه .

وقالوا : إنّ الخليفة كان عالماً بالأحكام مسبقاً فيبدي رأيه، وبعدها يُنزل الله آية تؤيد فكرة عمر، وتصحح رأيه، وأحياناً ينزل الله طبقا لما قاله عمر بتمام الفاظه وكلماته.

فعلى هذا فإن حرم الخليفة من تلقى الوحي القرآني مباشرة، لكنّه لم يحرم مو

ص: 307


1- (صلى الله عليه وآله وسلم)

وحي من نوع آخر غير الوحي القرآني.

وإليك أيها القارىء نماذج من تلك الموافقات العمرية نذكرها على سبيل المثال :

1 - صلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على منافق مات، فنهاه الخليفة على منافق مات، فنهاه الخليفة عن ذلك، فلم يتعبّد النبيّ بقوله فانزل الله تعالى: « وَلا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَداً» (1) تأييداً لقول عمر وتقريعاً لفعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

2 - كانت مضاجعة الزوجة في ليالي شهر رمضان محرّمة كنهاره، فاضطجع الخليفة مع زوجه في إحدى الليالي من شهر رمضان، وبعد أن استيقط من نومه أنزل الله تعالى :«أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ» (3) موافقة لرأي عمر وجوازاً للجماع ليلاً في شهر رمضان(4).

3- دخل أحد غلمان الخليفة عمر عليه منزله بدون أن يستأذن منه ، فساء عمر هذا الفعل من غلامه ، فجعل يدعو ربه أن يمنع ويحرّم دخول الغلمان بدون إذن مولاهم عليهم، فأنزل الله تعالى في ذلك آية الاستيذان (5). (6)

4 -كان رسول الله يدعو الله كثيراً ليغفر الله لبعض المنافقين، فقال له عمر : يا رسول الله سواء عليهم، أي إنّ استغفارك وعدم استغفارك لهم سواء، فأنزل الله تعالى :« سَوَاءٌعَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَوْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» (7)تأييداً وتصديقاً لقول عمر ، ونزل

ص: 308


1- التوبة : 84
2- قال السيوطي : أخرج الحديث البخاري ، مسلم ، والبيهقي في الدلائل ، الطبراني ، ابن ماجة ، البزاز ابن جرير ، أبو يعلى وغيرهم . راجع الدر المنثور 3: 266 ذيل الآية
3- البقرة : 187
4- أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 197 ، عن الإمام أحمد وابن جرير وابن المنذر
5- النور : 58
6- فتح الباري 1: 401
7- المنافقون : 6

الوحي بنفس الألفاظ التي قالها عمر (1).

وحسب ما تتضمّنه روايات أهل السنّة أنّ الله عزّوجلّ أنزل آيات عديدة مؤيدة لرأي الخليفة عمر ، أو مطابقة للمعنى الذي قصده عمر ، أو أنزلها بنفس الألفاظ التي تفوّه بها عمر. وقد وردت هذه الموافقات العمرية فى موارد عديدة من كتب الحديث والتاريخ والتفسير(2) وما ذكرناه في بحثنا هو نماذج فقط، وإلا فالموافقات العمرية المروية في كتب الجمهور هي أكثر بكثير مما أوردناه لك هنا.

قال ابن حجر العسقلاني :

وهذا دال على كثرة موافقته وأكثر ما وقفنا منها بالتعيين على خمسة عشر موافقة ولكن ذلك بحسب المنقول(3).

وقد جمع ابن حجر المكي سبعة عشر مورداً من موافقات عمر(4).

وقال السيوطي : وقد أوصلها بعضهم الى أكثر من عشرين(5).

وقال العسقلاني ايضاً:

وصحح الترمذي من حديث ابن عمر أنّه قال : ما نزل بالناس أمر قطّ فقالوا فيه وقال فيه ،عمر، إلّا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر ، وهذا دالّ على كثرة موافقته . وذكر قبله بأسطر والمعنى وافقني ربّي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت لكن لرعاية الأدب

ص: 309


1- أخرج السيوطي في الدر المنثور 3 : 264عن الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم والنحاس وغيرهم
2- نحو مسند أحمد بن حنبل 1 : 24 و 36 و 53 و 456 ، وج 2 : 148 ، وج 6: 223 و 271 ، مسند الطيالسي : 9 ح41 ، تاريخ الخلفاء : 122 ، تفسیر الدرالمنثور 3 : 170 ، وج 5: 213 و 214 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 423 ، سيرة ابن هشام 4 : 196
3- فتح الباري 1 : 401
4- الصواعق المحرقة : 99 - 101
5- تاريخ الخلفاء : 122

أسند الموافقة الى نفسه(1).

أقول : لا فرق في مقام الاستخفاف وتحجيم نبوّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومرتبة الوحي والنبوة بين تلفيق الأكاذيب والافتراءات التى نقلناها مسبقاً وبين هذه الأكاذيب المسمّاة بموافقات عمر .

ولا يخفى أن رواية حضور النبي في حفلات النساء و نزول آية الحج-اب تل-بي-ة لرغبة عمر، أو ترغيب النبي الفتيات للغناء و نزول آية الاستيذان تأييداً لرأي عمر و و إنّ النبي أجاز لزوجته أن تنظر الى رقص الأجانب وإن آية «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى »(2)نزلت تلبية لما رجاه عمر ... كل هذه منافية ومناقضة لمرتبة النبوة ولا تتناسب مع الرسالة.

ولمّا كان التحقيق في جميع الموافقات العمرية ودراستها دراسة معمّقة يحتاج الى كتاب مستقل وكبير وخارج عمّا نحن عليه من الإيجاز ، اكتفينا بدراسة وتحقيق حديثين فقط ممّا أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب الموافقات العمرية .

الآيات الثلاثة

حدثنا هشيم ، عن حميد ، عن أنس قال : قال عمر : وافقت ربّي في ثلاث فقلت : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلّى فنزلت« وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى »، وآية الحجاب، قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنّه يكلمهنّ البرّ والفاجر فنزلت آية الحجاب (3) واجتمع نساء النبي عليه في الغيرة عليه فقلت لهنّ : «عَسَى رَبِّهِ إِنْ يُطَلِّقُكُنْ أنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً منكن » (4) فنزلت هذه الآية(5).

ص: 310


1- فتح الباري 1 : 401
2- البقرة : 125
3- الاحزاب : 53
4- التحريم : 5
5- صحیح البخاري 1 : 111 کتاب الصلاة باب ما جاء في القبلة ، في القبلة ، وج 6: 24 كتاب التفسيرأبواب تفسير سورة البقرة باب واتخذوا من مقام إبراهيم مصلی ، صحیح مسلم :4: 1865 كتاب الفضائل باب «2» باب فضائل عمر ح 24

نقل البخاري هذا الحديث في صحيحه في موردين بتفاوت يسير بينهما ، في كتاب الصلاة وكتاب التفسير . وكذا رواه مسلم في صحيحه باختلاف يسير .

ترى في هذا الحديث إنّ الله أنزل ثلاث آيات في قرآنه تلبية لرجاء الخليفة عمر ورغبته:

1 - آية الحجاب .

-2- آية «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَام إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ».

3 - آية «عَسَى رَبِّهِ إِنْ يُطَلِّقُكُن ».

وأما بالنسبة الى هذا الحديث فسوف نقوم بدراسة ما يرتبط بآية الحجاب فقط ، وندع الحكم حول صحة القسمين الآخرين وسقمهما الى القارىء الباحث، وذلك لأنه عندما يتضح ضعف شطر من حديث فإنّ سائر الموارد تتبعه في الضعف والسقم...

تقييم الموافقة في آية الحجاب

اشارة

إن الحديث المذكور وإنْ لم يتطرق الى ذكر نص الآية المنزلة الموافقة لرأي عمر في مسألة الحجاب، إلّا أنّ بعض الأحاديث الأخرى المروية بهذا الشأن والمنقولة ضمن فضائل عمر قد ذكرت نص آية الحجاب ، أي فَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَأسألُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ

حِجابِ (1)(2).

ولكن الشواهد والأدلة التي نذكرها تفنّد هذا الزعم بأن تكون آية الحجاب نزلت تأييداً لقول عمر ، وتثبت كون هذا الحديث موضوعاً ومن اختلاقات الوضاعين وضعوه شييداً وتضخيماً لمقام الخليفة عمر وتفضيلاً له.

ص: 311


1- الأحزاب : 53
2- مسند أحمد بن حنبل 1 : 456 ، شرح نهج البلاغة 12: 57 ، الرياض النضرة 2: 291
1-التضارب في الأحاديث

إحدى الأدلة التي تثبت سقم القضية وضعفها هو التضارب والتناقض الموجود بين الأحاديث التي رويت بشأن نزول آية الحجاب.

ففي حديث عن عائشة قالت : كنتُ أكل مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حيساً قبل أن تنزل آية الحجاب، ومرّ عمر ، فدعاه فأكل فاصابت يده إصبعي . فقال : حس لو اطاع فيكن ما رأتكنّ عين ، فنزلت آيه الحجاب (1).

قال الطبري: حس بكسر السين والتشديد كلمة يقولها الانسان إذا اصابه ما مضه وأحرقه كالجمرة والضربة ونحوهما (2).

وفي حديث آخر أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة بن الزبير معللاً سبب نزول آية الحجاب، وفيه أن عائشة زوج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قالت : كان عم-ر بن الخطاب يقول الرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): احجب نساءك . قالت : فلم يفعل ، وكان أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرجن ليلاً الى ليل قبل المناصع ، خرجت سودة بنت زمعة وكانت إمرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس . فقال : عرفتك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب قالت : فانزل الله آية الحجاب (3).

يظهر من هذين الحديثين أنّ الخليفة عمر كان على علم واطلاع مسبق بنزول آية

الحجاب ولكن دعا الله عزّوجلّ تعجيل وتسريع نزوله، ولذا كان يسعى في سبيل ذلك . ولكن هنا سؤال يبقى مختلجاً في الذهن : في أي مكان نزلت آية الحجاب تلبية

الرغبة عمر ؟

ص: 312


1- شرح نهج البلاغة 12 : 58 ، الرياض النضرة 2 : 291
2- الرياض النضرة 2 : 291
3- صحيح البخاري 8: 66 كتاب الاستئذان باب آية الحجاب ، وج 1 : 49 كتاب الطهارة باب خروج النساء الى البراز ، صحيح مسلم 4 : 1709 کتاب السلام باب «7» باب اباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان ح18

فالأحاديث في هذا الشأن متضاربة أيضاً ، فبعضها يشير إلى أن الآية نزلت بعد أن كرّر عمر قوله لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إن رجالاً يدخلون عليك بيتك ، فكيف لا تأمر زوجاتك بالاستتار عنهم ؟

وأخرى تقول : إنّها نزلت عندما لبى عمر دعوة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)للأكل، وأصابت يده إصبع عائشة . فقال عمر : حسّ ! لو أطاع فيكن ما رأتكن عين ؟

وأحاديث أخرى تروي : أنها نزلت عندما أرادت سودة بنت زمعة زوجة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)الخروج لقضاء الحاجة، ورآها عمر ، وحيث كان حريصاً عل-ى نزول آية الحجاب ناداها : عرفتك يا سودة.

فهذه التناقضات في قصة واحدة - نزول آية الحجاب موافقة لرأي عمر - مصداق بارز و دليل بين على صحة المثل المعروف الذي يقول : الكذاب كثير النسيان ولا حافظة

للكذاب .

2-أحاديث أُخرى تفنّد صحة هذا الحديث

أخرجت فى كتب أهل السنة ومصادرهم أحاديث أخرى رويت بشأن نزول آية الحجاب تنكر وتفنّد نسبة نزول الحجاب تأييداً لقول عمر وتثبت كون الحديث العمري مزوّراً وموضوعاً.

ونكتفي هنا بذكر حديث واحد اتفق عليه البخاري ومسلم ونقلا ذلك عن أنس :

عن أبي مجلز ، عن أنس قال : لما تزوّج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) زينب ابن-ة جح-ش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدّثون فإذا هو كأنه يتهيّأ للقيام ، فلم يقوموا . فلما رأوه يقوم قام من قام من القوم ، وقعد بقية القوم ، وانّ النبي جاء ليدخل فاذا القوم ،جلوس ، ثم إنّهم قاموا، فانطلقوا فأخبرت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه وانزل الله تعالى : «يا أيها الذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا ... وإذا سألتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَ

ص: 313

مِنْ وَرَاءِ حِجَاب» (1)(2)

وأخرجه كذلك السيوطى عن الإمام أحمد والنسائي وابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقى (3).

وفي حديث آخر رواه البخاري عن أنس قال: إنّه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة ، فخدمت رسول الله عشراً حياته، وكنتُ أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه، وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بزينب ابنة جحش ...

ثم ساق الحديث حسبما ذكرناه آنفا وقال : أنزلت آية الحجاب في ليلة ابتناء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(4)بزينب.

والجدير بالذكر إن في الحديث المستخرج عن أنس بن مالك نقطة مهمة تجب الإشارة اليها وهي : أنّ انس كان يدأب في الاستنكار وانتقاد من كان يعلّق نزول آية الحجاب بحسب رغبة عمر ، و يا ترى فلو كان هدف أنس وغايته غير تفنيد ودحض هذا القول ، أتراه يؤكّد في كلامه المتاخم للشدّة والقوة في اللحن والتأكيد الزائد في بيان سبب نزول الآية ويقول : إنّي أعلم الناس بشأن نزول آية الحجاب وذلك لأنني خدمت رسول الله عشر سنوات وحتى أنّ أبي بن كعب المعروف بتضلّعه في التفسير، والمشهور أنه أعلم المفسرين كان يسألني عن شأن نزول الآية.

ولمّا نقارن بين هذه الأحاديث نرى أن انس بن مالك يقول : نزلت آية الحجاب

ص: 314


1- الأحزاب 53:
2- صحيح البخاري 6: 148 كتاب التفسير تفسير سورة الأحزاب ، وج 8: 66 كتاب الاستئذان باب آية الحجاب ، صحيح مسلم 2 : 1050 كتاب النكاح باب «15» باب زواج زینب بنت جحش ونزول الحجاب ح 93
3- الدر المنثور 5 : 213
4- صحيح البخاري :8 65 كتاب الاستئذان باب آية الحجاب

على رسول الله في ليلة ابتنائه وزفافه بزينب بنت حجش ولا علاقة له - اصلاً - باقتراح الخليفة عمر على الرسول أن يحجب نساءه، وكذلك لا علاقة له بالقصة التي تقول عندما كان الخليفة يأكل مع النبي الا الله فأصابت يده إصبع عائشة ، أو عندما رأى سودة وهي خارجة لحاجة في إحدى الليالي.

3-سياق الآية

وما يشهد على صحة قول أنس بشأن نزول آية الحجاب - في ليلة ابتناء النبي بزينب وعدم ارتباطها برغبة عمر - هو سياق الآية ، حيث إنّ الشطر الأخير من الآية الذي يشير الى مسألة الحجاب يتناسب مع الشطر الأول منها، ومجموع الآية يدلّ على أنها نزلت في ليلة زواج النبي ، وقد ذكرت الآية ما يتعلّق بشأن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وزوجاته، وتعرّضت لبيان أحكام تتعلّق بالمؤمنين وتعاملهم مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأزواجه حي-ث قال تعالى: «يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرِينَ إناهُ وَلَكِنْ إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعَمْتُمْ فَأَنتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَديث إِنَّ ذَلِكُمْ يُؤذي النَّبِي فَيَسْتَجِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَجِي مِن الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَأسألُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» (1).

فالملاحظ في الآية تناسب صدرها مع ذيلها حيث تذكر مسائل أخلاقية نحو الحضور في مجلس النبي وغيرها . فعلى كل حال فإنّ المفهوم الكلّي للآية ومجموع ما في الآيةيؤيّد قول أنس بن مالك ورأيه .

الصلاة على المنافقين

اشارة

رويت في الصحيحين موافقة أخرى من موافقات عمر وهي قصة تحريم الصلاة على المنافقين، وذلك عند ما لبّي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)دعوة ابن عبد الله بن أبي للصلاة عل-ى جنازة أبيه - عبد الله بن أبي رأس المنافقين في المدينة - فمنع عمر بن الخطاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن

ص: 315


1- الأحزاب : 53

ذلك ، ولكن النبي أبى ولم يعتن بقوله واتجه للصلاة، فأنزل الله آية تؤيد رأي عمر وتمنع الرسول من الصلاة على المنافقين . قال تعالى: « وَلا تُصَلِّ عَلَى اَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ اَبَداً »(1).

وهاك نص الحديث :

عن ابن عمر قال : إنّ عبد الله بن أبي لما توفّي جاء ابنه الى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : يا رسول الله أعطني قميصك أكفّنه فيه ، وصلّ عليه واستغفر له . فأعطاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قميصه ، وقال : اذا فرغت فآذنا ، فلما فرغ آذنه. فجاء ليصلّي عليه فجذبه ،عمر ، فقال : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): أنا بين خَيْرتين . قال : استغفر لهم أولا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ، فصلّى عليه ، فنزلت« وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً »(2).

وروى عمر نفسه حديثا بهذا الشأن فيه اختلاف يسير عمّا نقله ابنه .

عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما مات عبدالله بن أبي بن سلول، دعي له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثَبْتُ إِليه فقلت : يا رسول

عليه

الله أتصلي على ابن أبي، وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا - اعدّد عليه قوله - ؟ فتبس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال : أخر عنّي يا عمر فلمّا أكثرت عليه ، قال : إني خيرتُ فاخترت ، لو أعلم أني زدت على السبعين فغفر له لزدت عليها ، قال : فصلّى عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)،ثم انصرف ، فلم يمكث إلّا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة «وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مات اَبَداً - الى - وَهُمْ فَاسِقُونَ».

ص: 316


1- التوبة : 84
2- صحيح البخاري 2 : 96 كتاب الجنائز باب الكفن في القميص الذي يكفّ أولا يكفّ ، وج 6 : 85 كتاب التفسير باب تفسير براءة ، وج 7: 185 كتاب اللباس باب لبس القميص ، صحيح مسلم 4 : 1865 كتاب فضائل الصحابة باب«2» باب من فضائل عمر ح 25 وص 2141 كتاب صفات 25 المنافقين وأحكامهم ح 3

قال : فعجبت بعد ، من جرأتي على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يومئذ . والله ورسوله أعلم(1) .

يستفاد من هذين الحديثين :

1 - إن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)صلى على جنازة عبد الله بن أبي ، فقال له عمر بن الخطاب : يا رسول الله إنّك مُنِعْتَ من الصلاة على المنافقين .

2 - كان جواب النبي لقول عمر هو : إنّ الله قد خيّرني في الاستغفار للمنافقين وإني

قد اخترت الجانب الإيجابي منهما .

ولكن عندما نتمعن في الأدلّة التي سوف نذكرها ينكشف لنا زيف هذا الحديث وكونه من الموضوعات والمدلّسات.

1-منافاته للعقل

وذلك لأنّ قبوله يستلزم أن يكون هناك من هو اعلم من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بالأحكام والتعاليم السماوية ، وأدرى منه في معرفة فلسفة الأحكام الإلهية وأسرارها وأعرف بالمصالح والمفاسد المترتبة على التعاليم الإسلامية . لأننا نشاهد في الحديث إنّ الله عز وجل قد أنزل آية تؤيد فكرة فرد ما غير النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتفنّد عمل رسول الله وتنهاه و تمنعه .

فعلى هذا، ألم يكن من الافضل أن ينزل الوحي على هذا الرجل بدلاً من رسول(صلى الله عليه وآله وسلم)؟

2-نزول الآيات كان قبل موت ابن أُبي

إن سياق الآيات والشواهد النقلية صريحة في أنّ هذه الآية ولا تصل على احد منهم إنما نزلت في السنة الثامنة من الهجرة والنبي في سفره الى تبوك ولما يرجع الى المدينة، وقد وقع موت عبد الله بن أبى بالمدينة سنة تسع من الهجرة ، كل ذلك ثابت

ص: 317


1- صحيح البخاري :2 : 121 کتاب الجنائز باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار ..

ومسلم من طريق النقل، فعلى هذا فليس للآية أي ارتباط وعلاقة بموت ابن أبي واقتراح

الخليفة عمر في ذلك .

3-نص الحديث يدلّ على كونه موضوعاً

1 - ورد فيه أنه لما أراد النبي أن يصلي على جنازة عبد الله بن أُبي قال له عم-ر : أتصلى عليه وقد قال كذا وكذا ؟ أليس قد نهاك الله أن تصلّى على المنافقين ؟ ويدلّ مضمون الحديث على أنّ النهي عن الصلاة على المنافقين الذي ورد في ولا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ نزل بعد هذه القصة التي دارت بين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وعمر . و وعمر . والسؤال الذى يطرح هنا هو :

من أين عرف عمر أن النبي الله قد نهي عن الصلاة على المنافقين حتى يذكره بها ؟

ومن أين أتى عمر بهذا النهي ؟

فقد أجاب علماء أهل السنّة على هذا السؤال إجابات مختلفة ومتعدّدة، فهذا القرطبي يقول : لعلّ ذلك وقع في خاطر عمر ، فيكون من قبيل الالهام(1).

2 - أنّ النبي أجاب عمر : إن الله قد خيّرني في ذلك بين الاستغفار وعدم الاستغفار لهم فقال :« اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ »...فمن الواضح إنّ هذه الآية لا تدلّ على التخيير في الاستغفار ، بل أنّ الغاية في الآية هي إنّ الاستغفار لا يجدي للمنافقين شيئاً، لو أنّ الله لن يغفر لهم أبداً ، وأنّ الآية تشير إلى حالة اليأس التام عند المنافقين وأن ليس للاستغفار أي أثر في حقهم.

وإنّ عدد السبعين ليس فيه أية دلالة على تعيين التعددية ، بل هو بيان للتأكيد والكثرة ، والمراد منه عدم جدوى كثرة الاستغفار للمنافقين وتعدّده. فكيف يتصوّر أن يحمل رسول الله الآية على التخيير ويقول : إن الله قد خيّرني ؟

وكذا العبارات الأخيرة في الآية «إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ

ص: 318


1- فتح الباري 8 268

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (1) تشير الى أنه ليس في الآية اي دلالة على التخيير، وهذه العبارات نزلت لبيان فلسفة الحكم، حيث إن المنافقين كانوا كافرين وفاسقين وإنّ الله لا يهدي الفاسقين الكافرين الى الفلاح، فعلى هذا إنّ التعليل والبيان يناسب عدم تأثير الاستغفار بحق المنافقين، ولا مناسبة بينها وبين التخيير.

آراء علماء العامة في الحديث

عندما واجه علماء أهل السنّة هذه الاشكالات الواردة حول الحديث الذي رواه الصحيحان تنبه بعضهم فأبدى عدم قبوله وردّه .

قال القاضي أبو بكر الباقلاني منكراً لصحة الحديث : لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أنّ الرسول قاله ، أي فهم منه التخيير(2).

وقال إمام الحرمين في البرهان لا يصححه - الحديث المذكور - أهل الحديث (3).

وقال الغزالي : الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح (4).

وقال الداودي : هذا الحديث غير محفوظ(5).

هذه هي الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما - اللذين يعتبران أهم مصدر ومرجع عند أهل السنّة بعد القرآن - حول الأنبياء(علیهم السلام)عامة ، وحول نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة . ومن خلال مراجعة هذه المسائل يمكن للباحث المحقق أن يعرف حقيقة إيمان تابعي الصحيحين وعقيدتهم في الانبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)و بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومسألة النبوة .

ص: 319


1- التوبة : 80
2- فتح الباري 8: 272
3- فتح الباري 8: 272
4- فتح الباري 8: 272
5- فتح الباري 8: 272

ص: 320

الفصل الثامن:الخلافة في الصحيحين

اشارة

ص: 321

ص: 322

قال امیرالمؤمنين الامام علي(علیه السلام):

زرعوا الفجور، وسقوه الغرور، وحصدوا الثبور ، لا

يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الأمة أحد، ولا يسوّى

بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ،

وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي،

ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ،

الان اذ رجع الحق الى أهله ونقل الى منتقله (1) .

منهج البحث وهدفه

يبدو جلياً من عنوان الفصل أنّ المواضيع التي سنطرحها ونبحثها في هذه الصفحات وما بعدها، هي الأحاديث والروايات التي أخرجها الشيخان البخاري ومسلم فی أبواب عديدة من صحيحيهما حول مسألة الخلافة.

والهدف الوحيد في هذا الفصل هو نقل الاحاديث فقط ،وليس دراسة أصل مسألة الخلافة.

وبعبارة أخرى : إنّ كتابنا هذا ليس من نوع الكتب الكلامية، ولسنا بصدد دراسة مسألة الخلافة والاستدلال فيها على إثبات صحة عقيدة فئة معيّنة أو ردّ ونقد عقيدة مذهب آخر ، بل غايتنا الوحيدة هي تخريج الأحاديث المروية في الخلافة ونقلها ، خاصة الاحاديث التي رويت في أهم مصادر أهل السنة والجماعة وأوثقها وأصحها عندهم، يعني صحيحي البخاري ومسلم.

وبناء على هذا، فإنّا لا نرى أنفسنا ملزمين باستعراض كل الجزئيات والحقائق التاريخية ولو كانت تتعلّق بهذه الاحاديث ، وكذا لم نكن ملزمين بالرد والنقد والدراسة العميقة في جوانب هذا الموضوع لان هذا النوع من البحث خارج عن نطاق ما نحن فيه ،

ص: 323


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1 : 138

وانه يحتاج الى كتاب مستقل ، وقد كُتِبَ في هذا الموضوع كتب كثيرة . وأما لو ذكرنا بعض المقتطفات في بعض الموارد فإنّها لم تكن إلا لبيان وتوضيح مضامين ومفاهيم الأحاديث وبلورتها .

أسئلة حول الخلافة

تعتبر مسألة الخلافة من اهم المسائل الدينية التي وقع فيها الاختلاف بين المسلمين، ولم يكن هذا الاختلاف وليد عصور متأخرة نحو قرن أو قرنين بل أنه نشأ منذ أن التحق الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بالرفيق الأعلى وغربت شمس النبوّة ..

قال الشهرستاني : وأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان...(1).

فنحن الآن لسنا بصدد معرفة كيفية نشوء هذا الاختلاف وتاريخه ...... ولكننا وكمقدمة للأحاديث التي سنخرجها هنا نطرح تساؤلات ثلاثة :

1 - لقد بيّن الله عزّوجلّ ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين الأحكام التي تخص جميع القضايا، الجزئية منها والكليّة، نحو القصاص والتعزيرات، وحكام حرمة حقوق الآخرين وأموالهم، وأحكاماً في النظر الى الأجنبية ولو نظرة واحدة، وأحكام الغيبة ولو بكلمة و ... بحيث إنّ هذه الأحكام على كثرتها والتي تتجاوز العد والحصر تنقسم الى

الواجب والحرام ، والمندوب والمكروه.

فعلى هذا فهل يعقل أنّ الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتعرّضا لتبيين مسائل الامامة والخلافة التي تعتبر من أهم المواضيع الإسلامية ؟

فلو أنّ الله والرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قد جعلا حلّ هذه المسألة المهمة بعهدة المسلمين أنفسهم، فلماذا لم يفعلا ذلك بالنسبة الى المسائل الجزئية والفرعية وبينا أحكامها ؟

فلو كان الإغماض والإهمال في بيان أبسط المسائل الجزئية مثل الحلق والتقصير

ص: 324


1- الملل والنحل : 30

في الحج ، أو آداب التخلّي والاستنجاء ، أو آداب النكاح وغيرها .... غير جائز حسب ما تقتضيه قاعدة اللطف فهل يجوز لهما الإغماض والسكوت في مسألة مهمة كهذه ؟

فاذا كان الجواب : لا. فهل عينا أحداً لتصدّي هذه المرتبة والمنصب ؟وما هي مواصفاته؟

2 - يطلعنا التاريخ وسيرة النبي الله وكذا يستفاد من آيات الذكر الحكيم والأحاديث، إنّ المسلمين في الصدر الأوّل من تاريخ الاسلام كانوا يسألون النسبي لعل الله عن كل شيء من أحكام دينهم، ويرجعون إليه في تفسير الآيات وبيانها، ويلجأون اليه في كل صغيرة وكبيرة، فيستفتون فيها منه حتى في العلل والأمراض كانوا يطلبون دواء دائهم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

فعندئذ يتبادر الى الذهن سؤال : هل يتصوّر أن أحداً من المسلمين وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لم يخطر على باله في تلك المدة التي عاش الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بينهم - ثلاثة وعشرين سنة - أن يسأل النبي عن مسألة الخلافة ومن يكون الإمام والخليفة من بعده(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ هذا مع أنهم على علم بأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بشر ولا بد إنه سوف يرحل عنهم الى جوار ربه ، وقد سمعوا منه يرتل عليهم «إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ »(2) و «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا

ص: 325


1- أخرج الترمذي ومسلم حديثاً بما يناسب التطبيب وطلب الناس دواء مرضهم من رسول الله قال ابو سعيد : جاء رجل الى النبي الله الله فقال : إن أخي استطلق بطنه. فقال : أسقه عسلاً. فسقاه ثم جاء ، فقال : يا رسول الله قد سقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اسقه عسلاً، فسقاه، ثم جاءه فقال : يا رسول الله قد ستيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً . قال : فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً، فسقاه عسلاً فبراً . سنن الترمذي 4 : 356 كتاب الطب باب «31» باب ما جاء في التداوي بالعسل ح 2082 صحیح البخاري :7 159 كتاب الطب باب الدواء بالعسل، صحیح مسلم 4: 1736 كتاب السلام باب «31» باب التداوي بسقي العسل ح 91
2- الزمر : 30 .

رَسُولُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ »(1).

وإنّهم كانوا يعلمون أن مسألة الخلافة والإمامة ترتبط بمصيرهم وحياتهم الدنيوية والاخروية ، وهي تماماً كمسألة النبوة، لها آثارها في جميع الأمور، فهل يعقل أن أحداً لم يسأل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك ؟

3 - قال الله تعالى بشأن كتابة الوصية وضرورتها: «كَتَبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَيْن وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» (2).

وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ما حق امرىء ،مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين، إلاووصيّته مكتوبة عنده (3).

ويقول عبد الله بن عمر : ما مرّت على ليلة منذ سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال ذلك إلا وعندي وصيتي (4).

إذن، فكيف يسوغ للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أن يكون هو أول من يحيد عن أمر الله الذي أنزل عليه مؤكّداً لزومه ووجوبه ، ويترك العمل بما أوجبه هو على المسلمين بالنسبة الى موضوع كتابة الوصية، بينما تراه أنّه أحوج الناس الى كتابة الوصية ؟

وهل هناك أحد من المسلمين تكون تركته وأرامله وأيتامه أكثر مما تركه وخلّفه

ص: 326


1- آل عمران : 144
2- البقرة : 180
3- صحيح البخاري 4 2 كتاب الوصايا ، صحیح مسلم :3: 1249 کتاب الوصية ح 1 ، مسند : 1249 أحمد بن حنبل 2 : 2 و 4 و 57 و 80 ، سنن أبي داود :3: 112 كتاب الوصايا باب ما جاء في ما يؤمر به من الوصية ح 2862 ، سنن الدارمي :2 495 کتاب الوصايا باب «1» باب من استحبّ الوصية ح 3175 ، سنن النسائي 6: 239 كتاب الوصايا باب الكراهية في تأخير الوصية ، سنن الترمذي 4 375 كتاب الوصايا باب«3» باب ما جاء في الحث على الوصية ح 2118 ،سنن ابن ماجة 2 : 901 كتاب الوصايا باب «2» باب الحثّ على الوصية ح 2699
4- صحیح مسلم : 1250 كتاب الوصية ح 4

رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من التركة والأيتام والأرامل ؟

فهل يمكن للعقل والضمير البشري أن يتصوّر أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)خلف ما تركه وراءه من التركة - التعاليم الدينية والأصول الإسلامية - من دون تولية عليها ، وأنه ودّع أيتامه وأرامله - جميع الناس - من دون أن ينصب لهم قيماً ووليّاً ؟ ومن المستحيلات أنّ هذه المسألة لم تخطر بباله قطّ .

وفضلا عن حكم العقل والوجدان فإنّ الشواهد التاريخية صريحة بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدع أمراً - حتى وإن كان جزئياً - إلا وعيّن فيه من ينوب عنه، ويقوم مقامه إذا عارضه أمر ما ، كما ثبت ذلك من خلال تعيينه قادة العسكر . وثبت في التاريخ أيضاً أنه (صلى الله عليه وآله وسلم)قد أوصى الى أمير المؤمنين الإمام علي

(علیه السلام)أن يباشر تغسيله وتكفينه وقضاء ديونه، الشخصية، بينما هذه من الأمور الجزئية والبسيطة التي لم تفته . فكيف تغيب عنه الوصية في أمر الخلافة والإمامة التي هي من أهم المسائل والقضايا المصيرية ؟

والجواب على هذا التساؤل من وجهة نظر الشيعة فهو في غاية اليسر والسهولة . ولا حاجة عندهم على الاستدلال عليها والاحتجاج فيها الى أدنى تكلّف وتعب.

لأنّ الشيعة يعتقدون بأنّ موضوع الخلافة لم يغب حتى للحظة واحدة عن ذهن الناس إلا وقد سألوا عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم يكن الوصي مبهماً لديهم لما كان الله عزّوجلّ ورسوله يبينا بين آن وآخر، منذ أن بعث الله محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم)بالنبوة، وأمره بان يعلن الرسالة على ملاء، حمّله مسؤولية تبليغ الخلافة ونصب الخليفة ، ولم يدع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغ هذا الامر مجالاً للإبهام والإيهام عند الناس، فبينه بأبلغ وجه ، فما مرّ عليه موقف إلّا وتطرّق الى الخلافة وأخبر الناس عمن يتولى هذا المنصب من بعده.

يروي ابن الأثير : لما نزل قوله تعالى: « وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »(1) في أول البعثة

دعا أقرباءه من بني عبد المطلب وأعمامه إلى مأدبة أقامها لهم، وما أن فرغوا منها ، ورام

ص: 327


1- الشعراء : 214

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يتكلّم حتى ابتدره أبو لهب وغالط في الكلام، فتفرق القوم ولم يكلّمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي اليوم الثاني صنع ما صنع بالأمس ولكن أسرع النبي الله في الكلام وأوضح لهم مسألة الوحى والبعثة وقال : وقد أمرنى الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فايكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصبي وخليفتي فيكم ؟ فأحجم القوم، وأعادها النبي ثلاثا، وفي كل مرة كان عليه يقوم ويقول : أنا يا نبي الله ، ثم قال(صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذا اخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ويقولون : إنا لم نقبله نبيّاً فيجعل لنا وصيّاً (1).

وفي آخر سنين حياته وعندما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)عائداً من آخر سفر للحج الى المدينة، وصل الى تلك البقعة الحارّة المسماة بغدير خم أمر الحجاج أن يمكثوا فيها ، فعاد المتقدمون اليه والتحق المتأخّرون به ، فقام واقفاً آخذاً بيد على ليعلن للجمع : «من كنت مولاه فهذا على مولاه ».

وهكذا عند ما كان مستلقياً على فراش الموت، ويتنفّس الأنفاس الأخيرة من حياته وقد تصبب عرق الموت من جبينه، تراه في هذه اللحظات أيضاً لم ينس قضية الخلافة ومستقبل دينه والشريعة التي جاء بها، ومصير أمته التي قاسي الأمرين في سبيل هدايتها، فكلّ هذه الأمور قد تجسدت أمامه ولذلك أمر الحاضرين قائلاً: ائتوني بِكَتَفٍ وَدَواةٍ أَكْتُبُ لَكُمْ مَا لَمْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَداً.

وشوهد أحياناً وهو على المنبر يقول : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا ابداً .

وأحيانا تسمع منه وهو يعلن عن خلفائه ويعدّدهم قائلاً : الخلفاء بعدي اثنا عشر .

وأحياناً أخرى يذكر الناس بالآيات التي نزلت بشأن أوصيائه ويخاطب عليّاً

ص: 328


1- الكامل في التاريخ لابن أثير 2 : 62 - 63 . تاريخ الطبري 2 : 319 - 321

يقول : يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

وترى أحيانا أخرى ينوه بالبدع والتحريفات التي ستظهر من بع-ده ويبرز أسفه وتأثره من هذه الوقائع التي ستحدث بعد وفاته بدءً بالتحريف في اصل الخلافة الذي هو أساس كلّ البدع والتحريفات وجذور الضلالات.

ولكن الحكومات التي تعاقبت الواحدة تلو الأخرى في غضون الاربعة عشر قرنا، سعت واجتهدت بكل قواها في طمس الحقائق، وإظهارها بصورة غير التي كانت عليها ، ولكن يمكن معرفة هذه الحقائق التي تعتقد بها الشيعة من خلال بعض زوايا الأحاديث المروية في صحيحي البخاري ومسلم اللذين يعتبران أهم مصدرين من مصادر العامة ولهذا السبب قد جعلناهما مرتكز بحثنا ودراستنا .

وهاك أيها القارىء الكريم باقة من الأحاديث التي انفلتت من مؤلّفي الصحيحين في بيان فضائل أهل البيت علاقتطفناها من الصحيحين ومن ثمّ نعقب بذكر الصفات التي لا بد وأن تتوفّر في من يخلف النبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما ورد في هذين الكتابين .

ص: 329

فضائل اهل البيت (علیهم السلام)في الصحيحين

1-آية التطهير

قالت عائشة : خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)غداة وعليه مِرْطُ كساء - مُرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء عليّ فأدخله .

ثم قال:«إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهيراً » (1)(2).

وقد ورد هذا الحديث متواتراً في مصادر أهل السنة والمجاميع الحديثية والتفسيرية فضلاً عن صحيح مسلم ، ونزول هذه الآية في شأن رسول الله الله وعترته أهل بيته لا . ليس محل نقاش وترديد ، وقد أشرنا فيما سبق في فصل الرسول في القرآن والسنّة الى بعض المصادر والمجاميع السنيّة وقلنا : أنّ هذه الآية الكريمة صريحة عصمة أهل البيت الا من جميع الذنوب وأنّهم مطهّرون من الرجس والمعاصي، صغيرها وكبيرها.

وذكرنا كذلك بأنّ الآية الكريمة تدل دلالة تامة على نفى ارتكابهم المعصية حتى حالة السهو ومن غير القصد، لأن السهو والخطأ وان كان يرفع الحكم التكليفي والعقاب عن مرتكبه إلا أنه لا يرفع قبح الرجس والحرام ولا يدفع الأثر الوضعي المترتب علیه (3).

ص: 330


1- الأحزاب : 33
2- صحیح مسلم 4 : 1883 کتاب الفضائل باب 9 باب فضائل اهل بيت النبي هلا ح 61 . تكلام
3- راجع ص: 199

2-آية المباهلة

أخرج مسلم باسناده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟

فقال: أما ما ذكرتُ ثلاثاً قالهن له رسول الله الله فلن أسبّه ، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ الي من حمر النعم.

سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه . فقال له عل-ي : يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوّة بعدي .

وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله .

قال : فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي عليا . فأتي به آرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه .

ولما نزلت هذه الآية «فَقُلْ تَعَالُوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ».. دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)علياً وفاطمة وحسنا وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلى (1).

3-حديث يوم الغدير

اشارة

حدثني يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم الى زيد ابن أرقم ، فلمّا جلسنا إليه ، قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

قال : يا ابن أخي والله لقد كبرت سنّي، وقدم عهدي، ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعي

ص: 331


1- صحیح مسلم 4: 1871 کتاب فضائل الصحابة باب «ع» باب فضائل علي بن أبي طالب ح32

من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا ، فلا تكلّفونيه ، ثم قال : قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً فينا خطيبا بماءٍ يدعى خمّاً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ث قال : أمّا بعد، ألا أيها الناس فإنّما أنا بشر يُوشَك أنْ يأتي رسول ربّي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحتّ على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي .

فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساءه من أهل بيته ؟

قال : نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصدقة بعده قال : ومَن هم ؟ قال : هم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.

قال : كلّ هؤلاء حُرم الصدقة ؟ قال : نعم(1).

اقول : أخرج مسلم هذا الحديث في صحيحه بأسانيد متعدّدة، ولكنّه أسقط الشق الاخير منه، الذي يختص بقصة الغدير المختصة بأمير المؤمنين الإمام على(علیه السلام) ، بينما زيد الله بن أرقم هو من جملة المئات من رواة حديث الغدير يقول : ثم قام فأخذ بيد على فقال : يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : من كنتُ مولاه فعلي مولاه ، اللهم عاد من عاداه ووال من والاه (2).

ولا يخفى أنّ زيد بن أرقم عندما حدّث بهذا الحديث، فقد حرّف المفهوم الصحيح والواقعى لأهل البيت عليها وأدخل فيهم آل عقيل وآل جعفر وآل عباس، بينما الحديثان اللذان نقلناهما ذيل آية التطهير وآية المباهلة نرى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قد عرف أهل البيت (علیهم السلام)بحيث لم يجعل مجالاً لزيد بن أرقم وأشباهه ان يبدوا رأيهم الخاص وحسب

ص: 332


1- صحیح مسلم :4 : 1873 کتاب فضائل الصحابة باب«4» باب فضائل عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ح 36
2- مستدرك الصحيحين 3: 533 كتاب معرفة الصحابة ذكر زيد بن الأرقم الانصاري ، مسند الإمام احمد بن حنبل 4: 372 نقلاهما عن زيد بن أرقم

أهوائهم.

العصبية العمياء

إن موضوع غديرخم وحديث الثقلين من الأمور والقضايا التي ورد ذكرها بالتفصيل في كتب أهل السنّة ومصادرهم ، وفي المئات من كتب محدثيهم ومؤرّخيهم ومفسّريهم وباسانيد متعددة ، ولكن البخاري ومسلم وكما أشرنا سابقاً في الجزء الاول من هذا الكتاب ثقل عليهما تخريج أُمهات فضائل الإمام علي (علیه السلام)وأشهرها مثل هذا الحديث وذلك لتعصبهما المفرط، وهذا المقدار الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث الغدير محرّفاً وناقصاً إنّما هو جزء ضئيل من واقعة الغدير التاريخية.

وبهذه المناسبة نورد ما ذكره أبو حامد الغزالي : أجمع جمهور العلماء على أنّ قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه، وكذا قول عمر لعلي : بخ بخ لك يا امير المؤمنين اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، فهذا يعني تسليم ورضا وتحكيم، ثم بعد هذا غلب الهوى لحبّ الرئاسة وحمل عمود الخلافة وعقود النبوّةوخفقان الهوى في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام الخيول وفتح الأمصار وسقاهم كأس الهوى، فعادوا الى الخلاف الاوّل فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً (1).

4-اهل البيت(علیهم السلام)قرناء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

دلّت روايات متواترة من كتب أهل السنة والجماعة ، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أمر المسلمين بأن يصلّوا على أهل بيته وعترته (علیهم السلام) ويجعلونهم قرناء له ، إذا أرادوا أن يصلوا عليه الله ويسلّموا عليه ، وإذا قصدوا تكريم النبي وتعظيمه يجب عليهم أن يقرنوا أهل بيته(علیهم السلام)معه عبد الله ولم يفرّقوا بينه وبين عترته.

وإليك ما أخرجه الصحيحان بهذه المناسبة :

1- حدثنا الحكم قال: سمعت عبدالرحمان بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن

ص: 333


1- سرّ العالمين :21

عجرَة ، فقال : ألا اهدي لک هدية ؟إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)خرج علينا فقلنا: يا رسول الله لقد علمناكيف نسلّم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟

فقال : قولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حمید مجید(1).

2 - أخرج البخاري في صحيحه حديثا آخر قريباً من هذا المعنى عن أبي سعید الخدري

(2).

3 -وأخرج مسلم أيضا باسناده عن أبي مسعود الانصاري قال : أتانا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ونحن في مجلس سعد بن عبادة. فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله عزّ وجلّ أنْ نصلي عليك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فكيف نصلي عليك ؟

قال : فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى تمنينا أنه لم يسأله .

ثم قال رسول الله له : قولوا : اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم.(3).

اقول : ثَمّة العشرات من الأحاديث - رويت في صحاح أهل السنة ومسانيدهم وتفاسيرهم وأكملهنّ جمعاً تفسير الدر المنثور - تعلّم المسلمين كيفية الصلاة عل-ى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والتسليم عليه، وتأمرهم أن يجعلوا أهل بيته (علیهم السلام)قرناء له في الصلاة (4) .

ص: 334


1- صحیح البخاري :8: 95 كتاب الدعوات باب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وج 6: 151 كتاب التفسير باب تفسير سورة الأحزاب ، وج 4: 172 کتاب بدء الخلق باب يزقون النسلان في المشي ، صحيح مسلم 1 : 305 کتاب الصلاة باب «17» باب الصلاة على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ح 66
2- صحيح البخاري 6 : 151 كتاب التفسير باب تفسير سورة الأحزاب
3- صحیح مسلم 1: 305 کتاب الصلاة باب«17» باب الصلاة على النبي الله ح66
4- الدر المنثور للسيوطي 5 : 215

ولكن ما أن توفّى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى راحوا يسترون ويعتمون على نقل مناقب آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك حسب ما كانت تقتضيه سياستهم آنذاك، ولذلك بادروا الى ترك الصلاة على العترة (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعمدوا شيئاً فشيئاً الى الاكتفاء باسم الرسول (علیه السلام)والصلاة البتراء والناقصة، واليوم كذلك نرى سيرة السلف تتبع ، ومع أن هذه الأحاديث نصب أعينهم، وملئت كتبهم منها ، تراهم يخالفون أمر الرسول ويتبعون آباءهم وأسلافهم عوضاً عن اتباع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)« وَإِذَا قِيلَ لَهُم اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنا اَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذَابِ الْسَعيرِ » (1).

5-الائمة الاثنا عشر(علیه السلام)

وردت في كتب أهل السنة أحاديث حول الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام)والإمام

المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وأوصافه ، نقلا عن النبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولما كانت الأحاديث في هذا الموضوع متواترة ومستفيضة، عمد بعض علمائهم الى تعيين باباً خاصاً لذكره، والبعض الآخر الف بهذه المناسبة كتاباً مستقلا.

ونورد إليك طرفاً من هذه الأحاديث التي أخرجها الشيخان في صحيحيهما :

1 -عن عبدالملك : سمعت جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول :

يكون بعدي اثنا عشر أميراً . فقال كلمة لم أسمعها فقال أميراً . فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي : إنّه قال : كلّهم من قريش(2).

أخرجه مسلم أيضاً في جامعه بثمانية أسانيد مختلفة(3)وورد في أحدها :

وعن جابر بن سمرة قال : انطلقت الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ومعى أبى فسمعته يقول : لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً الى إثني عشر خليفة . فقال كلمة صمنيها الناس فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلّهم من قريش (4).

ص: 335


1- لقمان : 21
2- صحيح البخاري :9 : 101 كتاب الاحكام باب الاستخلاف
3- صحیح مسلم :3: 1451 كتاب الامارة باب «1» باب الناس تبع لقريش.
4- صحیح مسلم :3: 1453 كتاب الأمارة باب (1) باب الناس تبع لقريش والخلافة في قریش ح 9

اقول : ورد هذا الحديث متواتراً في كتب أهل السنّة وصحاحهم، وهذا إن دلّ على شىء فإنّما يدلّ على أنه إحدى الدلائل على أحقية الشيعة الاثني عشرية وصحة معتقداتهم، ودليل على بطلان المذاهب الأخرى، لأنَّ مضمون هذا الحديث لا ينطبق البتة على ما يعتقده، لأنّهم يعتقدون بأربعة خلفاء (الخلفاء الراشدون)، أو بخمسة خلفاء إذا أضفنا الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام) الى الأربعة، فعلى هذا يكون عددهم أقل من اثن-ي عشر . أو أنّهم يعتقدون بخلافة خلفاء بني أمية وبنى العبّاس ، فيكون حينئذ العدد أكثر من اثني عشر ، هذا مع أنّ أكثر خلفاء بني أمية وبني العبّاس كانوا فسّاق وفجرة، وأفنوا حياتهم في معاقرة الخمر وإراقة الدماء والمعاصي، فكيف يمكن أن نجعل من كان هذا ديدنه خليفة النبي ؟ وكذلك نرى أن هذا الحديث لا يتطابق مع ما تعتقده باقي الفرق من الشيعة مثل الإسماعيلية والزيدية والفطحية لأنّ ائمتهم أقل عدداً من اثني عشر . فعلى هذا إنّ الحديث يوافق فقط ما تعتقده الشيعة الاثنى عشرية التي توالى اثنى عشر نقيباً أولهم الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام)وآخرهم المهدي(عجل الله تعالی فرجه الشریف).

3 - جابر بن عبدالله وأبو سعيد قالا : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعدّه(1).

4 - عن أبي سعيد قال : قال رسول الله الله : من خلفائكم خليفة يحثو المال حثياً ولا يعدّه عدّاً (2) .

قال النووي بعد بيان معاني ألفاظ هذا الحديث : وهذا الحثو الذي يفعله هذا الخليفة يكون لكثرة الاموال والغنائم والفتوحات مع سخاء نفسه(3).

ص: 336


1- صحيح مسلم 4 : 2235 كتاب الفتن وأشراط الساعة باب (18) باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى ان يكون مكان الميت من البلاء ح 69
2- المصدر ح 68
3- شرح صحیح مسلم :18 : 40

ثم قال : إنّ اسمه المهدي كما رواه الترمذي وأبي داود وروى الترمذي عن الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه إسمى(1).

وقال الترمذي : وهذا حديث حسن وصحيح .

وزاد أبو داود في آخر هذا الحديث إنه (صلى الله عليه وآله وسلم)قال : يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً(2).

5 - وأخرج البخاري باسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : كيف أنتم إذا : نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم (3).

وقال ابن حجر في شرحه على هذا الحديث : قال الشافعي في مناقبه : تواترت الأخبار بأنّ المهدي من هذه الأمة وأن عيسى يصلى خلفه (4).

وقال العيني بعد كلام طويل وبحث مفصل حول الحديث : وفي صلاة عيسى (علیه السلام)خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال إنّ الأرض لا تخلو من قائم الله بحجة (5).

ص: 337


1- سنن الترمذي 4: 438 كتاب الفتن باب « 52» ما جاء في المهدي ح 2230 ، سنن أبي داود 4 : 106 كتاب المهدي ح 4282
2- راجع الهامش 1
3- صحيح البخاري 4 : 205 کتاب بدء الخلق باب نزول عیسی بن مریم.
4- فتح الباري 6 385
5- عمدة القاري 16 : 40 والجدير بالذكر ان كثيراً من العلماء والمحدثين عكفوا على جمع الأحاديث المروية حول الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف ، وأجمعها معجم احاديث الامام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)في خمس مجلدات تحقيق وتأليف موسسة المعارف الاسلامية فقد جمع في هذا المعجم القيم الاحاديث المروية حول الإمام المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف)بلغ عددها حوالي 30000 حديث من 420 مصدر من مصادر أهل السنّة . المعرّب

وقال النووي في ترجمته في تهذيب الأسماء : إذا نزل عيسى كان مقرراً للشريعة المحمدية، لا رسولاً إلى هذه الأمة ويصلّي وراء إمام هذه الأمة تكرمة من الله لها من أجل نبيها (1).

وهذه الأحاديث التي تلوناها عليك تكشف الستار عن الحقيقة الساطعة في العقيدة السليمة التي يعتقد بها الشيعة، ظلّت بمثابة أكبر وأعظم مأساة واجهها شرّاح الصحيحين من السلف وبعض الكتاب من أهل السنّة في هذا العصر، وحيث سمعوا تأنيب وجدانهم وصرخات الضمير من باطنهم عمدوا إلى التبرير وتأويل هذه الأحاديث حتى يجيبوا تأنيب ضميرهم، وما هذه التبريرات والتأويلات إلا تفاهة وركاكة وذلك لما فيها من التناقضات والمبائنات والتضارب.

ولكن أحد الكتاب بعد إذعانه بتفاهة هذه التبريرات سلك درباً ثالثا فقال : وهناك أخبار من هذا القبيل كثيرة ، أعرضنا عنها لعدم فائدتها (2).

اقول : ومن الواضح إنّ هذا الحديث وأمثاله لما كان على خلاف عقيدة هؤلاء وهو

على عكس ما يرونه أعرضوا عنه لأنهم لم يفهموا ولم يدركوا المفهوم الصحيح للحديث.

ص: 338


1- الإصابة في تمييز الصحابة 4 : 638 ترجمة عيسى المسيح بن مريم رقم 6164
2- أضواء على السنّة المحمدية للشيخ محمود أبورية : 192.

فضائل امیرالمؤمنین(علیه السلام) في الصحيحين

اشارة

الى هنا استعرضنا الأحاديث التي رواها الصحيحان في بيان فضائل اهل بيت النبي(علیهم السلام)والأئمة الاثني عشر(علیهم السلام)، والآن نذكر ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من الحديث حول كلّ امام بصورة مستقلة .

ونبدأ بذكر فضائل أمير المؤمنين الإمام علي، ثم فضائل سيدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وبعدها فضائل سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين معاً ، ثم فضائل كلّ منهما منفرداً.

1-عدوّ عليّ عدو الله

عن أبي ذر(رحمه الله) قال : نزلت :« هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ»(1) في ستة من قريش : على وحمزة وعبيدة بن الحارث - جبهة الإيمان والتوحيد - وشيبة بن ربيعة وعتبة والوليد بن عتبة - جبهة الشرك والكفر- (2).

وعن قيس بن عباد، عن علي الله قال : فينا نزلت هذه الاية : «هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ» (3).

2-حبّ عليّ إيمان وبغضه نفاق

عن عدي بن ثابت ، عن زر قال : قال علي الله : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنّه لعهد النبي الأمي لا الله الي أن لا يُحبَّني إلا مُؤْمِن وَلا يُبْغِضَني إلَّا مُنَافِق(4).

ص: 339


1- الحج : 19
2- صحيح البخاري 5 : 95 باب قصة غزوة بدر باب قتل أبي جهل، وج 6: 123 كتاب التفسير باب تفسير سورة الحج.
3- صحيح البخاري 5: 95 باب قصة غزوة بدر باب قتل أبي جهل ، ج 6: 123 كتاب التفسير باب تفسير سورة الحج
4- صحيح مسلم1:86 كتاب الإيمان باب«33»باب الدليل على أنّ حبّ الأنصار وعلي من الايمان و علاماته وبغضهم من علامات النفاق ح 131

انفرد به مسلم في صحيحه .

3-صلاة علي(علیه السلام) الصلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

أخرج الشيخان البخاري ومسلم بسندهما عن مطرف ، قال : صليت أنا وعمران بن حصين خلف عليّ بن أبي طالب فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبّر ، فلما انصرفنا من الصلاة قال : أخذ عمران بيدي ثمّ قال : لقد صلّى بنا هذا صلى الله صلاة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، أقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

4-أبو تراب الكنية المهداة

عن أبي حازم أنّ رجلاً جاء الى سهل بن سعد فقال : هذا فلان «أمير المدينة» يدعو عليّاً عند المنبر . قال : فيقول : ماذا قال ؟ يقول : له : أبو تراب فضحك . قال : والله ما سمّاه إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وما كان له اسم أحب إليه منه (2).

أقول : يفهم من متن هذا الحديث أنّ تلقيب امير المؤمنين (علیه السلام)بأبي تراب كان مفخرة له ، وكان الإمام علي(علیه السلام) يحب هذا اللقب أكثر من سائر ألقابه وأسمائه، وحيث كانت هذه المفخرة باهرة كوضوح الشمس ولذا فلم يستطع أعداء علي

(علیه السلام) ومناوئيه أن ينكروها فلذلك حرّفوها وزوّروا حقيقتها، واختلقوا أحاديث تشعر بأنّ تلقيب الإمام على(علیه السلام) بهذه الكنية كان مذمّة له .

وسوف نوفي التحقيق حول هذا الحديث وكذا الأحاديث الموضوعة في ذم الإمام

ص: 340


1- صحيح البخاري البخاري 1: 199 كتاب الصلاة باب إتمام التكبير في الركوع ، وباب إتمام التكبير في السجود ، صحيح مسلم 1: 295 کتاب الصلاة باب «10 باب إثبات التكبير في كلّ خفض ورفع في الصلاة ح 33
2- صحيح البخاري 1 : 120 کتاب الصلاة باب نوم الرجال في المسجد ، وج 5: 23 كتاب فضائل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باب مناقب علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، وج 8: 55 كتاب الأدب باب التكنّي بأبي تراب ، وص 77 كتاب الاستئذان باب القائلة في المسجد، صحيح مسلم 4: 1874 كتاب فضائل الصحابة باب«4» باب من فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام) ح 38.

علي(علیه السلام) في الجزء الثالث من كتابنا هذا إن شاء الله .

5-علي علیه السلام أقضى الناس

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: إنّ عمر بن الخطاب كان يقول : أقضانا على(علیه السلام) (1).

أقول : هذه الكلمة التي أقرّ بها الخليفة الثاني واعترف بها ، اقتبسها من كلمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)التي طالما كان يكررها في مواقف عديدة، فمرّة قال(صلى الله عليه وآله وسلم): أقضاهم علي(2)...أي أقضى الاصحاب - وأخرى قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : أقضاها على(3) الأمة جمعاء.

ولا يخفى أنّ مسألة القضاء وإن كانت تستلزم التقوى والورع، فإنّها تحتاج ضرورةً الى العلم الكافي والمعرفة التامة بالمسائل، بحيث لو لم تحصل تلك العلوم لاستحال القضاء الصحيح .

وبناءاً على هذا إنّ معرفة الإمام علي التامة بعلم القضاء، الذي أمضاه الرسول وهو في الواقع إشارة الى أنّ الإمام علي (علیه السلام) المعرفة التامة بجميع العلوم، وكأن كلمة الرسول «أقضاهم عليّ» حلّت محلّ علي أعلمهم وأتقاهم و ...و...» .

6-الحب المتبادل بين الله ورسوله وعلي

عن سهل بن سعد قال : قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يوم خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يُفتح على يديه يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، فبات الناس ليلتهم، أيهم يُعطى، فغدوا كلّهم يرجوه . فقال : این عليّ ؟ فقيل : يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه .

فقال : اقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم الى الإسلام وأخبرهم

ص: 341


1- صحيح البخاري 6: 23 كتاب التفسير باب قوله تعالى : «ما ننسخ من آية أو ننسها»
2- مسند أحمد 5 :113
3- الاستيعاب 1 : 16 المقدمة

بما يجب عليهم ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم (1).

أخرجه الشيخان البخاري ومسلم.

وروى مسلم الحديث بلفظ آخر عن ابي هريرة : أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه .

قال عمر بن الخطاب : ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذ، فتساورتُ (2) لها رجاء أن أدعى لها .

قال : فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب الله ، فأعطاه إياها . وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : «إمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك». قال : فسار شيئاً ثم وقف، ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : قاتلهم حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله(3).

7-علي هارون الأُمّة

عن مصعب بن سعد، عن أبيه : أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج الى تبوك واستخلف علياً .

فقال(علیه السلام) : أتخلّفني في الصبيان والنساء ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي(4).

ص: 342


1- صحيح البخاري 4 73 كتاب الجهاد والسير باب فضل من أسلم على يديه رجل وص 64 باب ما قيل في لواء النبي الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وج 5 : 22 كتاب فضائل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باب مناقب عليّ ابن أبي طالب (علیه السلام) و ص 171 باب غزوة خيبر ، صحیح مسلم :3: 1441 كتاب الجهاد والسير باب «45»باب غزوة ذي قرد وغيرها ذيل ح 132 ، وج 4 : 1872 كتاب فضائل الصحابة باب «4»باب من فضائل عليّ بن أبي طالب الح 33 - 34 - 35
2- قول عمر فتساورت لها معناه : تطاولت لها أي حرصت عليها ، أي أظهرت وجهي و تصديت لذلك ليتذكرني
3- صحیح مسلم 4 : 1870 كتاب فضائل الصحابة باب « 4» باب من فض-ائل عل-ي بن أبي طالب (علیه السلام)ح33
4- صحيح البخاري 5 : 24 كتاب فضائل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)باب من فض-ائل عل-ي بن أبي صحیح مسلم :4 : 1870 کتاب فضائل الصحابة باب «4 » باب فضائل علي بن أبي طالب(علیه السلام)ح 31

أقول : هذا الحديث أجمع على صحته أهل السنّة والشيعة ، وحتى أنّ ألد أعداء علي(علیه السلام) - أي معاوية بن أبي سفيان - لم يستطع أن ينكره(1).

وفيه أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)شبّه ومثل خلافة على(علیه السلام) وولايته بهارون ، واستثنى منه فقط مسألة النبوة .

وهذا التشبيه والتمثيل من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هو تثبيت لجميع ما تحلّى به هارون من المقام والمنزلة ، لأمير المؤمنين علي الا .

وأمّا المنازل التي كانت لهارون وهي كما يلي :

1 - الوزارة : أن موسى (علیه السلام) كما حكى عنه القرآن، دعا الله أن يهب هارون منزلة الوزارة قال تعالى: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُهُ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أمري » (2).

2 - الأخوّة : كان هارون أخاً لموسى (علیه السلام)«هارون أخي» وعلي كان مثل هارون أخاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

3 - الخلافة : عندما أراد موسى أن يذهب لميقات ربّه جعل هارون خليفة لنفسه قال تعالى : « وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» (3) وكان هارون نائباً وخليفة لموسى (علیه السلام) ، وقد فرض موسى طاعته على بني إسرائيل، وأوصاه أن يبلغ دعوته ويوطّد رسالته ....

وبناء على مضمون هذا الحديث فإنّ أمير المؤمنين علي (علیه السلام) هو خليفة الرسول

والقائم مقامه ونائبه .

ص: 343


1- راجع ص: 331
2- طة : 30
3- الاعراف : 142

4 - الوصاية : كما أشرنا اليه أن هارون كان خليفة موسى ووصيه في حياته وعند غيابه ، ولو كان هارون حيّاً بعد وفاة موسى(علیه السلام) لكان أولى بالتصدي لمقام النيابة والخلافة والوصاية ، ولكنّ هارون توفّي قبل موسى (علیه السلام) .

وبهذا الدليل تثبت أحقية أمير المؤمنين علي (علیه السلام) المقام وصاية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

5 - النيابة والمؤازرة : أشرنا فيما سبق أن أحد مناصب هارون هي مؤازرته

و اشتراكه مع موسى في أمره. وقد نص القرآن على طلب موسى هذه المنزلة لهارون من الله حيث قال تعالى:« اشْدُدْ بِهِ أزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي»(1) وكان جوابه تعالى لموسى:«قَالَ قَدْ أُوتيتَ سُؤلَكَ يا مُوسى»(2).

فعلي(علیه السلام) بحكم هذا النص الصريح كهارون خليفة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وزيره وشريكه فی أمره على سبيل الخلافة عنه لا على سبيل النبوّة.

ويستفاد من الحديث أيضاً : أنّ أمير المؤمنين على (علیه السلام)كان أولى الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)حياً وميتاً ، وأفضلهم وأقربهم إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وله (علیه السلام) على الأمة من فرض الطاعة في حياة النبي وبعد وفاته، كما كان لهارون على أمة موسى في حياته، وإنه(علیه السلام) أفضل الناس جميعاً والناصر والحامي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته في غيبته وبعد وفاته.

لفتة نظر

يلزم أن نذكر للقرّاء الكرام أنّ بعض علماء أهل السنّة توهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقل لعلي : انت مني بمنزلة هارون من موسى...» إلا مرّة واحدة، وذلك عند خروجه في غزوة تبوك ، ولذلك قام بالتأويل والتوجيه بأنّ الخلافة هنا منحصرة بمورد خاص. بينما نلاحظ في طيّات الكتب وثنايا المجاميع، وثبت بالأدلة القطعية أنّ

الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كرّر هذه الكلمة ست مرّات ولم تنحصر بغزوة تبوك(3) .

ص: 344


1- طة : 31-32
2- طة : 36
3- راجع في ذلك المراجعات للعلامة شرف الدين وكفاية الطالب للكنجي

فضائل فاطمة الزهراء (علیها السلام)

1-فاطمة سيدة النساء

عن عائشة قالت : أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : مرحبا بابنتي ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ، ثم أسر إليها حديثا فبكت . فقلت لها : لم تبكين ؟ ثمّ أسرّ إليها حديثا فضحكت فقلت : ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن . فسألتها عمّا قال ؟ فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حت-ى قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فسألتها . فقالت : أسرّ إليّ أنّ جبرئيل كان يعارضني القرآن كل سنة مرّة ، وإنّه عارضني العام مرّتين ، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنكِ أوّل أهل بيتي لحاقاً بي، فبكيت . فقال : أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة او نساء المؤمنين ؟فضحكت لذلك(1).

2-فاطمة أوّل مَنْ تلتحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت : دعا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة ابنته في ش--واه الذي قبض فيه ، فسارّها ، فبكت ، ثم دعاها ،فسارّها ، فضحكت . قالت : فسألتها عن ذلك ؟ فقالت : سارّني النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفّي فيه، فبكيت، ثمّ سارني فأخبرني أني أوّل أهل بيته أتبعه ، فضحكت (2)

3-فاطمة بضعة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)

أخرج البخاري عن مسور بن مخرمة ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فاطمة بضعة مني

ص: 345


1- صحيح البخاري 4 : 248 كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة، وج 8: 79 کتاب الاستئذان باب من ناجي بين يدي الناس، صحیح مسلم 4 : 1905كتاب فضائل الصحابة باب « 15» باب من فضائل فاطمة بنت النبي عليه واله ح 99
2- صحيح البخاري 4: 248 كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة ، وج 5 : 26 كتاب فضائل أصحاب النبي علا الله بباب مناقب قرابة الرسول ، صحيح مسلم 4: 1904 كتاب فضائل صلى الله الصحابة باب «15» باب فضائل فاطمة بنت النبي علي الله ح97

فَمَنْ أغضبها أغضبني(1).

وأخرج أيضاً عنه ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال : فانّما هي بضعة منّي يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها (2).

وكذلك أخرجه مسلم في صحيحه باختلاف يسير(3).

4-تسبيح فاطمة(علیها السلام)

أخرج الشيخان البخاري ومسلم في جامعيهما عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام): أن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبى(صلى الله عليه وآله وسلم) سبي، فانطلقت، فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها ، فلما جاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرته عائشة بمجيءأخبرته عائشة بمجيء فاطمة ، فجاءالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) الينا وقد أخذنا ،مضاجعنا فذهبنا نقوم ، فقال : على مكانكما فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال : ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني ، إذا أخذتما مضاجعكما تكبّرا أربعاً وثلاثين ، وتسبّحاه ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكم من خادم(4).

5-حنان فاطمة على أبيها

أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له ،جلوس ، وقد نحرت جزور بالأمس . فقال ابو جهل : ايكم يقوم الى سَلَا جَزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كَتِفَي محمّد اذا سجد ؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه .

ص: 346


1- صحيح البخاري 5 : 26 كتاب فضائل أصحاب النبي باب مناقب قرابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
2- صحيح البخاري 7 : 47 كتاب النكاح باب ذب الرجل من ابنته..
3- صحیح مسلم 4 : 1903 کتاب فضائل الصحابة باب «15» باب فضائل فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ح 94
4- صحیح البخاري 4 : 102 كتاب الخمس باب الدليل على أنّ الخمس لنوائب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وج 5 : 24 كتاب فضائل أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باب مناقب علي بن أبي طالب ، وج 7: 84 كتاب النفقات باب عمل المرأة، صحيح مسلم 4 : 2091 - 2092 کتاب الدعاء باب 4: (19) باب التسبيح أوّل النهار وعند النوم ح 80 - 81.

فلما سجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وضعه بين كتفيه ، قال : فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر ، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ساجد ، ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه ،ثمّ أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم...(1).

وكذلك أخرج مسلم باسناده عن أبي حازم، عن أبيه أنه سمع سهل بن سعد يُسأَلُ عن جُرْح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يوم أحد.

فقال : جُرح وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكسرت رباعيته ، وهُشِمَت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تغسل الدم وكان علي بن ابي طالب (علیه السلام)يسكب عليها بالمجنِّ ، فلما رأت فاطمة (علیها السلام)أن الماء لا يزيد الدم الاكثرة، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً ، ثم ألصقته بالجُرْح فاستمسك الدم (2) .

6 - فاطمة (علیها السلام)تبكي لفقد ابيها (صلى الله عليه وآله وسلم)

أخرج البخاري في صحيحه باسناده عن أنس قال : لما ثقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)جعل يتغشاه ، فقالت فاطمة(علیها السلام): واكرب أباه . فقال لها : ليس على أبيك كرب بعد اليوم . فلمّا مات قالت: يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، يا أبتاه مَنْ جنّة الفردوس مأواه يا أبتاه الى جبرئيل ننعاه ، فلما دفن قالت فاطمة (علیها السلام): يا أنس - أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التراب ؟(3).

ص: 347


1- صحيح البخاري 1 : 69 كتاب الوضوء باب اذا القى على ظهر المصلّي قذراً، صحيح مسلم 3: 1418 كتاب الجهاد والسير باب «39»باب ما لقى النبي علي الله من اذى المشركين ح 107.
2- صحيح البخاري 1: 70 کتاب الوضوء باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه ، وج 4 : 48 كتاب فضل الجهاد والسير باب لبس البيضة ، صحيح مسلم 3: 1416 كتاب الجهاد والسير باب «37» باب غزوة أُحد ح 101. وة أُحدح 1
3- صحيح البخاري 6: 18 باب مرض النبي ووفاته

فضائل الحسن والحسين (علیهم السلام)

1-الحسنان وحرمة الصدقة عليهما

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال :كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤتى بالتمر عن-د ص--رام النخل، فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره، حتى يصير عنده كوماً من تمر ، فجعل الحسن والحسين (علیهم السلام)يلعبان بذلك التمر ، فأخذ أحدهما تمرة فجعله في فيه، فنظر اليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخرجها من فيه . فقال : أما علمت أنّ آل محمد لالا لا يأكلون الصدقة(1).

وكذلك أخرج عنه : إن الحسن بن علي(علیه السلام)أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في ما فيه ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كخ كخ ليطرحها ، ثمّ قال : أما شعرت إنا لا نأكل الصدقة(2) .

2-الحسنان أشبه الناس بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - أخرج البخاري عن أنس بن مالك : لم يكن أحد أشبه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحسن بن علي (علیه السلام)(3).

2 - وكذا أخرج عن ابن جحيفة قال : رأيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وكان الحسن يشبهه(4).

3 - وروى أيضا عن عقبة بن حارث قال : رأيت أبا بكر (رحمه الله)وحمل الحسن وهو يقول : يأبي شبيه بالنبي ليس شبيه بعلي(علیه السلام)، وعلي يضحك(5).

4 - وأيضا أخرج عن أنس بن مالك : أتي عبيدالله بن زياد برأس الحسين (علیه السلام)فجعل في طست فجعل ينكت ، وقال في حسنه شيئاً فقال أنس : كان أشبههم برسول

ص: 348


1- صحيح البخاري 2 : 156 كتاب الزكاة باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل
2- صحيح البخاري2:كتاب الزكاة باب ما يذكر في الصدقةللنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وج 4 : 90 كتاب الجهاد والسير باب من تكلّم بالفارسية والرطانة
3- صحيح البخاري 5: 33 كتاب فضائل أصحاب النبي باب مناقب الحسن والحسين
4- صحيح البخاري 4 : 227 باب صفة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
5- صحيح البخاري 4 : 227 كتاب بدء الخلق صفة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وج 5: 33 كتاب فضائل أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)باب مناقب الحسن والحسين

الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وكان مخضوباً بالوسمة (1).

3-حنان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عليهما

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن بن علي (علیه السلام)وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً ، فقال الأقرع : إنّ لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحداً ، فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال : مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ(2).

أقول :وكذا أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وذكر الحسين بن علي(علیه السلام) بدل البدل الحسن بن علي(علیه السلام)(3).

4-الحسنان ريحانتا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن أبي نعم قال : كنتُ شاهداً لابن عمر وسأله رجل عن دم البعوض.

فقال : ممن أنت ؟ فقال : من أهل العراق.

قال : انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسمعت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول : هما ريحانتاي من الدنيا(4).

5-دعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لهما

أخرج البخاري عن ابن عباس قال : كان النبي الله يعود الحسن والحسين(علیهم السلام)

ويقول : إنّ اباكما - ابراهيم الخليل - كان يعوّذ بها إسماعيل وإسحاق : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لأمَّةٍ(5) .

6-اللهم احببه واحبب من يحبه

وأخرج أيضاً عن أبي هريرة قال : خرج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في طائفة النهار لا يكلمني ولا

ص: 349


1- صحيح البخاري 5: 32 كتاب فضائل أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باب مناقب الحسن والحسين
2- صحيح البخاري 8: 9 كتاب الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته
3- مسند الإمام أحمد 2 : 269
4- صحيح البخاري 8: 8 كتاب الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته
5- صحيح البخاري 4 : 179 كتاب بدء الخلق باب يزفون النسلان في المشي

أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة (علیها السلام)، فقال : اثْمَّ لَكَعُ ، ثَمَّ لَكَعُ ، فحسبته شيئا ، فظننت أنها تلبسه سخاباً او تغسله، فجاء يشتد حتى عانقه وقبله . وقال : اللهم احببه وأحب من يحبّه(1).

وفي رواية مسلم : إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)والحسن (علیه السلام) تعانقا ثم قال الرسول : اللهم إني احبُّهُ فَأَحبَّهُ وَاَحْبِبْ مَنْ يُحبه (2).

قال ابن اثير : لكع اي الصغير (3).

هذه باقة اقتطفناها للقارىء النبيه من القرآن والسنة النبوية في فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)وأهل بيته (علیهم السلام)مما خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

ولو تأملت وتدبّرت قليلاً في هذه الصفحات القليلة لعرفت أن موضوع الخلافة وكذلك تعيين الخلفاء الذين هم الأفضل لكي يتقلدوا الخلافة والولاية بع-د النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأفضليتهم لم تكن من المواضيع التي يمكن تغافلها والإعراض عنها وتجاهلها.

وما تلوناه عليك ما هو إلا قطرة من بحار مناقبهم ومآثرهم التي استخرجناها من هذين الكتابين وإلا فمناقبهم وفضائلهم المروية في سائر كتب علماء العامة ومسانيدهم وصحاحهم هي أكثر من أن تعدّ وتحصى.

وفي الصفحات المقبلة ستتعرّف ايضاً على ما يتعلّق بالخلفاء الثلاث مما رواه الشيخان في صحيحيهما، ولكن قبل الولوج في هذا الموضوع أرى ضرورياً أن نلفت نظر القرّاء الكرام الى خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب التي استعرض فيها مسألة الخلافة والإمامة والمواصفات التي يجب أن يتحلى بها خليفة رسول الله الحقيقي .

ص: 350


1- صحيح البخاري3 :87 كتاب البيوع باب ما ذكر في الأسواق ، وج 7: 204 كتاب اللباس باب السخاب للصبيان
2- صحیح مسلم :4 1882 كتاب فضائل الصحابة باب «13» باب فضائل الحسن والحسين (علیهم السلام)ح 57
3- النهاية لابن أثير 4 : 268 مادة لكع

الإمامة في رأي الإمام علي(علیه السلام)

شروط الإمامة

قال أمير المؤمنين الإمام علي(علیه السلام) في ضمن خطبة له يذكر فيها شروط الإمامة وصفات الإمام :

اللهمّ إنّي أوّلُ مَنْ أناب، وسمع وأجاب ، لم يسبقني إلا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بالصلاة، وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدّماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل ، فتكون له فى أموالهم نهمته ، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع ، ولا المعطّل للسنة فيهلك الامة (1).

فقد بين الإمام علي(علیه السلام) في خطبته هذه سنة شروط رئيسية لمن أراد أن ينصب نفسه إماماً للناس، ويتولّى أمور المسلمين، ويأمر بالحرب أو الصلح ، ويبيّن أحكام الدين وقوانينه لهم.

والشروط التي يجب أن يتصف بها الإمام هي :

1 - أن لا يكون الإمام شحيحاً وبخيلا لكيلا يطمع في أموال الناس.

2 - أن يكون عالماً بالأحكام والقوانين الدينية.

3 - أن يتحلى بالمرونة ويتخلّى عن الخشونة.

4 - أن لا يكون ظالماً وجباراً، حتى لا يضيّع حقوق الاخرين.

ه أن لا يكون مرتشياً .

ص: 351


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8: 263

6 - أن لا يكون معطّلا لأحكام الدين ولابد أن يكون مجرياً للأحكام وحافظاً لها.

هذه الشروط الستة هي في الحقيقة صفوة الصفات التي يجب على الوالي والإمام في البلاد الإسلامية أن يتحلّى بها، ولكن من المؤسف جداً - حسب ما ورد في الصحيحين البخاري ومسلم اللذين هما أُمّ المصادر وأهمها لدى أهل السنّة - أنّ الحكّام الذين تربعوا على سدة الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكونوا كذلك ، ولم يتحلوا بالأخلاق الفاضلة والدراية التامة بأحكام الشريعة وكيفية إجرائها .

وهذه الحقيقة سوف تتجلّى لك أكثر حين تقرأ ما سنذكره لك في الفصول القادمة من الأحاديث التي أفرزناها من صحيحي البخاري ومسلم فقط اللذين جعلناهما معتمدين الدراسة عندنا ، وإلا فلولا خوف الإطالة والإطناب والخروج عن دائرة البحث المقرّر ، فإنّ سائر كتب الحديث والتفسير والتاريخ وغيرها المعتبرة عند أهل السنّة لغنيّة بهذه المواضيع

الإمامة وحسن الخلق

ذكرنا في الفصل السابق إنّ أحد شروط الإمامة والقيادة هو تحلّى الإمام بالمرونةوحسن الخلق، لأن الخشونة وسوء الخلق لا يتوافق والإمامة بينما نجد في الأحاديث المروية في المصادر المعتبرة لدى العامة، وخاصة صحيح البخاري أنّ بعض الخلفاء كانوافارغين من هذا الشرط ولم يتحلّوا بحسن الخلق ولين العريكة .

وهذان نموذجان من تلك الأحاديت :

1 - أخرج البخاري باسناده عن ابن أبي مليكة قال : كاد الخيران أن يهلكا - أبو بكر وعمر - ، لما قدم على النبي وفد بني تميم ، أشار أحدهما بالأقرع بن حابس الحنظليّ

في بني مجاشع ، وأشار الآخر بغيره.

فقال أبو بكر لعمر : إنّما أردت خلافي . فقال عمر : ما أردتُ خلافك فارتفعت

ص: 352

أصواتهما عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )فنزلت «يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالَكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ»(1)(2).

قال ابن حجر وفد بني تميم كان قدومهم سنة تسع (3).

أخرجه أيضاً الإمام أحمد بن حنبل في مسنده(4).

يتبادر للمتأمل في مضمون هذا الحديث، وتاريخ قدوم وفد بني تميم الى المدينة سؤال وهو : كيف يتصوّر أن يتقلد إمامة المسلمين ، ويتسنّم عرش الخلافة، بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )علي الله من صاحب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) عشرين سنة ولم يراع آداب ،مجالسته ، فيرفعان صوتهما عنده ، ويتشاجران ويتجادلان عند الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )حتى أنزل الله في تقريعهما وذم فعلهما آية في كتابه ؟

2 - وأخرج البخاري كذلك باسناده عن سعد بن أبي وقاص قال : استأذن عمر على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعنده نساء من قريش يكلّمنه ويستكثرنه عالية أصواتهنّ ، فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) يضحك . فقال عمر :أضحك الله سنّك يا رسول الله .قال : عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب ، قال عمر : فأنت يا رسول الله كنتَ أحقِّ أَنْ يَهبنَ ، ثمّ قال : أي عدوّات أنفسهن، أتهبني ولا تهبن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )؟ قلن : نعم ، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )(5)

ص: 353


1- الحجرات : 2
2- صحيح البخاري 9: 120 کتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بأفعال النبي الا الله ، و ج 5 : 212 باب وفد بني تميم
3- فتح الباري 8: 68 عام الوفود
4- مسند الإمام أحمد 4 : 60
5- صحيح البخاري 4 : 153 كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده ، وج 5 : 13 کتاب فضائل أصحاب النبي باب مناقب عمر بن الخطاب ، وج 8: 28 كتاب الأدب باب التبسم والضحك

أقول : لقد امتلأت الكتب والمصادر المعتبرة وفاضت بذكر الطبيعة الخشنة ، والغلظة الخلقية التي كان الخليفة عمر بن الخطاب يتصف بها حتى قيل : إذا غضب الخليفة عمر لم يسكن حتى يعض على أنامله ويجرحها .

يقول الزبير بن بكار بعد أن روى هذه الأمور : إنّ جارية أتت عمر بن الخطاب - أيام خلافته - تشتكي من أحد ابني الخليفة ، فما رام الخليفة إلا أنْ أخذ يده فعضَّها .

وزاد ابن بكار ولشدّة هذه الصفة والغلظة التى كانت فى الخليفة أضمر عبدالله بن عباس مخالفته للخليفة في مسألة العول، ولما مات أظهر ذلك ، فقيل له : هلا قلت هذا في أيام عمر ؟ قال ابن عباس : هبته وكان أميراً مهيباً (1).

الإمامة والعلم بالاحكام

الصفة الثانية من الصفات التي تلزم توفّرها في الإمام هي الإحاطة التامة بالأحكام، والإلمام الكامل بالتعاليم الدينية ، فالذي لم يعرف جزئيات الأحكام الدينية، ولم يعلم أطراف المسائل ، لابد أنه يرجع إلى الآخرين ويأخذ منهم حين تداهمه الحوادث والقضايا وهذا الفرد لا يليق له أن يتقلد الإمامة والقيادة، لأنه قد يفتي بأحكام مضادّة ومتناقضة مع الواقع ، ويسوق الناس إلى التيه والضلالة أو التحيّر والترديد.

ولو تفحصنا التاريخ وكتب الحديث بمنظار التحقيق والبحث، لوجدنا أن الخلفاءومتقلّدي الخلافة الإسلامية ، لم تكن لديهم المعرفة الكاملة بأحكام الدين كلّيّاتها وجزئياتها، وكانوا يلتمسون حل المسائل والأحكام من سائر المسلمين وصحابة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )، وما أكثر ما أفتوا بفتاءٍ متضادة ومناقضة ومخالفة للواقع وأصدروا أحكاماً غريبة حتى قال عنهم امير المؤمنين على(علیه السلام) :

ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك

ص: 354


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 363

القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً ، وإلههم واحد ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد، أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله ديناً ناقصاً، فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم انزل الله تعالى ديناً تاماً فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول : «ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ»(1) و « فيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ »(2) ؟(3)؟

ولكي نقوم بإثبات هذه المسألة - وأنّهم كيف أفتوا الناس بفتاو مناقضة بعضها ،بعضاً، ومباينة للواقع ولماذا انتقد امير المؤمنين (علیه السلام) سيرتهم في الإفتاء واستنكرها عليهم - نشير إلى أحد عشر فتوى مخالفة للنص القرآني الصريح من الموارد المذكورة في الصحيحين، وأما ما في كتب الحديث والتاريخ وغيرها فهي كثيرة ومتضافرة :

1 - التيمم : نصت الآيات القرآنية (4)والأحاديث على أنّ الإنسان إذا أجنب، ولم يجد ماءاً ، أو أنّ الغسل بالماء فيه ضرر عليه يجب عليه أداء الفرائض بالتيمم حتى يرتفع العذر ...

يُروى أنه طُرِحَت مسألة الجنابة وفقد الماء في مجلس الخليفة عمر بن الخطاب، ولكنه جهل الحكم المنصوص في القرآن والسنّة ، فأفتى بترك الصلاة وتعطيلها. فاعترض الصحابي عمّار بن ياسر على حكم الخليفة ، وذكّره بالحكم التيمم وأداء الصلاة، لكنّ

الخليفة عمر بن الخطاب لم يقنع بجواب عمار ، وهدّده ، فقال عمّار : إن شاء الخليفة لم أحدّث بهذا بعد .

ص: 355


1- الأنعام 38.
2- النحل : 289
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 288 ، نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح خطبة 18
4- النساء : 43 والمائدة : 6

واليك نص حديثين وردا بهذه المناسبة :

1 - عن سعيد بن عبدالرحمن، عن أبيه : أن رجلاً أتى عمر فقال : إنّي أجنبتُ، فلم

أجد ماء ؟ فقال : لا تصل .

فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية، فأجنبنا، فلم نجد ماء

فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكتُ في التراب وصليت فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ): إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثمّ تنفخ ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفّيك . فقال عمر : اتق الله . يا عمار . فقال : إن شئت لم أُحدِّث به (1).

هذه الرواية أخرجها البخاري ومسلم عن سعيد بن عبدالرحمن.

ولكنّ البخاري خان الأمانة وأسقط جواب الخليفة عمر لا تصلّ» من الحديث

وأشرنا في الجزء الاول أنّ هذا هو دأب البخاري في تقطيع الحديث وتعصبه(2).

2 - عن شقيق بن سلمة قال : كنت عند عبدالله بن مسعود وأبي موسى الأشعري. فقال له أبو موسى : يا أبا عبدالرحمن إذا أجنب المكلّف فلم يجد ماء ، كيف يصنع ؟ قال عبدالله : لا يصلّي حتى يجد الماء . فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمّار، حين قال له النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )كان يكفيك ... ؟ قال : ألم تر عمر لم يقنع بذلك ؟ فقال أبو موسى : دعنا من قول عمّار فما تصنع بهذه الآية - وتلا عليه آية المائدة (3)؟ قال : فما درى عبدالله ما يقول .... (4) .

أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم ، ولكن بعض علماء أهل السنة بادر إلى

ص: 356


1- صحيح البخاري 1: 92 باب التيمّم باب المتيمم هل ينفخ فيهما، صحیح مسلم 1: 280 كتاب الحيض باب«28» باب التيمّم ح 112
2- راجع ص 117
3- المائدة : 6
4- صحيح البخاري 1 : 95 كتاب التيمم باب اذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت .... صحيح مسلم 1 : 280 کتاب الحيض باب «28» باب التيمم ح 110

تعديل هذه الرواية والدفاع عن المرتبة العلمية للخليفة، فبرّر قول عمر : «لا تصل» بأنه نوع من الاجتهادات الخاصة لعمر ، وبرّر آخرون بأن فتوى عمر كانت على حساب السهو والنسيان .

قال ابن حجر : لا تصل حتى تجد الماء مقصور على رأي ،عمر ، وهذا مذهب مشهور عن عمر . ويستفاد من هذا الحديث وقوع اجتهاد الصحابة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )(1).

وأما ابن رشد الفيلسوف والفقيه المعروف في كتابه الاستدلالي بداية المجتهد بعد أن برّر حكم عمر بالسهو والنسيان - ، فيحسم القضيّة بقوله :

لكن الجمهور رأوا أنّ ذلك - وجوب التيمم والصلاة على المجنب - يثبت من حديث عمار وعمران بن حصين ، أخرجهما البخاري، وإن نسيان عمر ليس مؤثراً في وجوب العمل بحديث عمار (2).

2 - حد شرب الخمر : عن قتادة يحدث عن أنس بن مالك : أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين ، نحو أربعين قال : وفعله أبو بكر، فلمّا كان عمر استشار الناس . فقال عبد الرحمن : أخفّ الحدود ثمانين . فأمر به عمر (3).

رواه مسلم في صحيحه بهذا المضمون بعدة أسانيد، والبخاري ايضاً أخرجه في موردين ولكنّه أسقط آخر الحديث : فاستشار الناس(4).

وطبقاً للاسلوب المتخذ في هذا الكتاب نقلنا الرواية عن البخاري وإلا فالحق : إنّ حد شرب الخمر في عهد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم ) كان ثمانين جلدة وليس أربعين ولما كان المسلمون الأوائل ملتزمين بالعمل بأحكام الدين، ومنشغلين بالحروب والفتوحات

ص: 357


1- فتح الباري 1 352
2- بداية المجتهد 1 : 66
3- صحیح مسلم :3 1330 کتاب الحدود باب 8» باب حد الخمر ح 35 - 37
4- صحيح البخاري 8: 196 كتاب الحدود باب ما جاء في ضرب شارب الخمر وباب الضرب بالجريد والنعال

فقليلاً ما أجري حدّ الخمر في ذاك الزمان، ولذلك ترى إنّ النسيان بالحكم قداعترض

الخليفة عمر .

ولكن في عهد الخليفة عمر حيث انفصل الناس عن المعنويات، وغمروا بالماديات وظلّ شرب الخمر يشيع شيئا فشيئا ، فأصبح الحكم فيه من الموارد الكثيرة الابتلاء.

وقد ذكرنا آنفاً أنّ أمير المؤمنين الإمام علي الله هو الذي أشار عل-ى عمر بحدّ الشارب خمراً ثمانين جلدة وليس عبدالرحمن بن عوف.

فابن رشد الأندلسي يذكر الاختلاف الحاصل عند فقهاء أهل السنة في حدّ شارب الخمر وبعده يذكر الرأي المشهور على أنه هو ثمانين جلدة ثمّ يقول :

فعمدة الجمهور تشاور عمر والصحابة لما كثر في زمانه شرب الخمر، وأشار على الله عليه بأن يجعل الحد ثمانين قياداً على حد الفرية(1) .

وعلى أي حال، فالمستفاد من مجموع ما ذكرناه هو - سواء كان الذي أشار عليه بذلك الإمام علي أو عبدالرحمن بن عوف - أنّ الخليفة عمر بن الخطاب عرف الحكم في حد شارب الخمر بعد المشورة والاستشارة مع الآخرين.

3 - دية الجنين : عن المسور بن مخرمة قال : استشار عمر بن الخطاب الناس في إملاص المرأة. فقال المغيرة بن شعبة : شهدت النبي الله قضى فيه بغرة عبد أو أمة . قال : فقال عمر : ائتني بمن يشهد معك . قال : فشهد له محمد بن مسلمة (2).

أقول : هذا الحكم كما يشهد به الصحيحان -أصح كتب أهل السنة -هو من الأحكام التي أفتى بها الخليفة عمر بن الخطاب باستناد الاستشارة، وفي الحديث إنّ

ص: 358


1- بداية المجتهد 2 482
2- صحيح البخاري 9 : 14 كتاب الديات باب جنين المرأة، صحیح مسلم 3: 1311 کتاب الديات باب «11» باب دية الجنين ح 39

الخليفة قد أخذ برأي المغيرة بن شعبة الجاني الزاني وشهادة رجل آخر .

4 - الاستئذان : أبا سعيد الخدري يقول : كنتُ جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً . قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه فسلّمت ثلاثا فلم يردّ على فرجعت . فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إنِّي أتيتك فسلمت على بابك ثلاثاً فلم يردوا عليّ، فرجعت وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع .

فقال عمر : أقم عليه البينة وإلّا أوجعتك.

فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم . قال أبو سعيد قلت أنا أصغر القوم .

قال : فاذهب به(1).

أخرج مسلم هذه المسألة في صحيحه فمن تسعة أحاديث بأسانيد ومتون مختلفة، ورد عقيب واحدة منها تبرير الخليفة عمر لجهله بهذا الحكم البسيط قال :

خفي علي هذا من أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الهاني عنه الصفق بالأسواق (2).

وجاء في حديث آخر إن أبي بن كعب هو الذي شهد لأبي موسى ، وقال بعدها

مستنكراً عمل الخليفة : فلا تكن يا بن الخطاب عذاباً على أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) (3) أقول : إن مسألة الاستئذان التى أخرجها الشيخان في صحيحيهما ، والتي كانت تعتبر مشكلة ومعضلة واجهت الخليفة عمر ، حتى استدعت أن يُشهد عليها الآخرون ويغلظ عليهم ، هى من المسائل الأخلاقية والإنسانية الفطرية وكلّ من كان ملتزماً بمثل هذه الأخلاقيات يدرك حكمها بالفطرة والوجدان .

ص: 359


1- صحيح البخاري 8 67 كتاب الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثاً ، صحيح مسلم :3 1694 كتاب الآداب باب (7) باب الاستئذان ح 33
2- صحیح مسلم :3: 1696 كتاب الآداب باب (7) باب الاستئذان ح36
3- المصدر ح 37

وهذا الحكم فضلا عن أنّ الرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )قاله وبينه للمسلمين ، فقد ورد في القرآ أيضاً ،على نحو أمر إرشادي قال تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لاتَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ »(1) .

وأما قول أبى بن كعب : لا يقوم معه إلّا أصغر القوم فيه تعريض وتقريع للخليفة، ومعناه أن حديث الاستئذان مشهور ومعروف يعرفه الكبار والصغار، وهو غير خفي على أحد من من المسلمين ولكنّ الصفق بالأسواق كما اعترف بذلك الخليفة بنفسه ألهاه عن معرفة أبسط الأحكام، ومن هذا الحديث يمكننا أن نعرف مرتبة الخليفة العلمية وحلّه للمعضلات.

5 - الكلالة : عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة :أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة ، فذكر نبي الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) وذكر أبا بكر . ثمّ قال : إِنِّي لا أدَعُ بعدي شيئا أهمَّ عندي من الكلالة، وما راجعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن باصبعه في صدري ، وقال : يا عمر الا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ؟ وإنّي إن أعش أقض فيها بقضية ، يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن (2).

آية الصيف التي أشير اليها في هذا الحديث هي آخر آية من سورة النساء، وتبين إرث الكلالة . قال تعالى : «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ أمرُءُ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُما الْمُلْتَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَة رِجَالاً وَنِسَاءاً فَلِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (3) .

ص: 360


1- النور : 27 - 28
2- صحیح مسلم :3: 1236 کتاب الفرائض باب «2» باب ميراث الكلالة ح 9
3- النساء : 176

ولما كانت هذه الآية قد نزلت في الصيف سمّيت بآية الصيف.

قال العلّامة الأميني (رحمه الله)عقيب هذا الحديث : ما أعضلت الكلالة على الخليفة وما أبهمها وأبهم حكمها ؟ وهي شريعة مطردة سمحة سهلة ، حتى يعلن على منبره «إنّي لا أدَعُ بعدي شيئا أَهَمَّ عندي من «الكلالة»، وهل هو حين أكثر السؤال عنها، أجاب عنه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )أم لا ؟ فإذا أجاب عنه الرسول، فلماذا لم يحفظه الخليفة ؟ أو قصر فهمه ع--ن معرفته ؟ وإذا لم يجبه الرسول وأبقى المسألة مبهمة عليه وحاشاه أن يؤخّر البيان عن وقت الحاجة ؟ وزد فكيف تخفى على أحد معنى الكلالة وهي بين يديه وفيها قوله تعالى :« يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أنْ تضلّوا» ؟ فكيف يتصوّر أن الله بين حكم المسألة، والخليفة يقول:لم تبين ؟ وكيف يرى النبي آيةالصيف كافية في البيان لمن جهل الكلالة وتبقى هذه المسألة معضلة بدون حلّ للخليفة (1) .

أقول : بعد : : بعد بيان كلّ هذه المسائل فماذا هو مراد الخليفة عمر من قوله : وإن أعش أقض فيها بقضيّة، يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لم يقرأ القرآن ؟ فهل هناك قضاء ورأي فوق القرآن ؟ أفليس هذا يعني أنّ الخليفة يريد أن يجتهد في مقابل النص القرآني ؟

6 -رجم المجنونة :عن ابن عباس قال : أتى عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً ، فأمر بها أنْ ،ترجم فمرّ بها علي(علیه السلام) فقال : ما شأن هذه ؟ فقالوا: مجنونة بني فلان زنت فأمر بها عمر - أن ترجم . فقال : ارجعوا بها . ثمّ أتاه . فقال : يا امير المؤمنين، أما علمت أنّ رسول الله قال : رُفِعَ القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المعتوه حتى يبرأ ؟ قال : بلى قال : وإنّ هذه معتوهة بني فلان لعلّ الذي أتاها أتاها وهي في بلائها ، فخلى سبيلها ، وجعل عمر يكبّر (2).

أخرج البخاري هذه الرواية في موضعين من صحيحه، وحفظاً لرتبة عمر العلمية !!!

ص: 361


1- الغدير للعلّامة الأمينى 6: 130 بتلخيص واختصار
2- صحيح البخاري 7 59 كتاب الطلاق باب الطلاق في الاغلاق والكره ، وج 8: 205 كتاب المحاربين باب لا يرجم المجنون والمجنونة

أسقط من الحديث مقدمته ومؤخّرته وأبقى هذا الوسط منه ، قال عليّ لعمر : أما علمت أنّ القلم رُفِعَ عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك ، وعن النائم حتى يستيقظ .

وقد رويت هذه القصة بكاملها في مختلف كتب الحديث والتراجم (1).

وقال ابن عبدالبرّ بعد أن أخرج هذه الحكاية : إنّ عمر قال : لولا علي لهلك عمر(2).

7 - القراءة في صلاة العيد : عن عبيد الله بن عبدالله : ان عمر بن الخطاب سأل أبا

واقد الليثي : ما كان يقرأ به رسول الله الله في الأضحى والفطر ؟ فقال : كان يقرأ فيهما «ق والقُرْآن المجيد ، و اقتربت الساعة وانشق القمر »(3).

أخرجه كلّ من مسلم في صحيحه ، ومالك في الموطأ ، والترمذي وأبو داود في

سننهما ، وأما ابن ماجة أخرجه في سننه بنحو آخر :

عن عبيدالله قال : خرج عمر يوم عيد، فأرسل إلى أبي واقد الليثي : بأي شيء كان النبي عل الله يقرأ في مثل هذا اليوم ؟ فقال : بقاف واقتربت (4).

قال العلامة الأميني (رحمه الله)تعقيباً على هذه الرواية : فهلم معي نسائل الخليفة عن أنه لماذا عزب عنه العلم بما كان يقرأه رسول الله الا الله في صلاة العيدين ؟ أو كان ناسياً له فأراد أنْ يستثبت كما اعتذر به السيوطي في تنوير الحالك الحالك ج 1 ص 147 ؟ أو أنّه ألهاه عنه الصفق في الأسواق ؟ كما اعتذر به هو في غير هذا المورد .... ويبعد النسيان إن حكماً مطّرداً كهذا يكرّر فى كلّ عام مرّتين على رؤوس الأشهاد ومزدحم الجماهير لا ينسى عادة (5).

ص: 362


1- سنن أبي داود 4: 140 كتاب الحدود باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً ح 4399.
2- الاستيعاب 3: 1103 ترجمة علي بن أبي طالب رقم 1855
3- صحیح مسلم 2: 607 كتاب صلاة العيدين باب 3 باب ما يقرأ به في صلاة العيدين ح 14
4- سنن ابن ماجة 408:1 كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها باب ( 157) باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين ح1282
5- الغدير :6 320

أقول : فالقضية نفسها وبما هي هي، تومي إلى أنّ الخليفة كان في حالة اضطراب هائل لجهله بالسورة التي تقرأ في صلاة العيد وهو في تلك الحالة قاصداً للذهاب إلى صلاة العيد، إذ يرسل نفراً إلى دار أبي واقد الليثي يسأله عن كيفية المسألة وما يقرأ في

صلاة العيد .

8 - حلي الكعبة : أخرج البخاري حديثاً في صحيحه في موردين وباختلاف يسير

في ألفاظهما :

عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال : جلس إليّ عمر في مجلسك هذا.

فقال : هممت أنْ لا أدَعَ فيها صفراء ولا بيضاء ، إلا قسمتها بين المسلمين . قلت :

ما أنتَ بفاعل . قال : لم ؟ قلت : لم يفعله صاحباك . قال : هما المرآن يقتدى بهما (1).

ولكن يبدو للمحقق المدقق أنّ هذه القضية لم تحدث للخليفة مرة واحدة في عهده وخلافته فقط بل وقعت له مرّات وقصد الكعبة كرّات، وفي كل مرة كان يواجه مخالفة كبار الصحابة إيّاه ، ومن ثُمّ يرتدع ويتراجع عن قصده، فمرة يخالفه شيبة ويتراجع وأخرى يشاور أمير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) فينكر عليه ذلك ، ويردعه بالأدلة والبراهين القاطعة ، وإليك نص كلام أمير المؤمنين(علیه السلام) .

روي أنه ذكر أنه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حُليّ الكعبة وكثرته فقال قوم: لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين ، كان أعظم للأجر وما تصنع الكعبة بالحُليّ ؟ فهم عمر بذلك ، فسأل عنه أمير المؤمنين(علیه السلام) فقال : إن هذا القرآن انزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )والأموال أربعة أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفيء فقسمه عل-ى مستحقيه والخمس فوضعه الله حيث وضعه والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان

ص: 363


1- صحيح البخاري :9 114 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة باب الاقتداء بسنن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، وج 3 : 183 كتاب الحج باب كسوة الكعبة

حليّ الكعبة فيها يومئذ ، فتركه الله على حاله، ولم يتركه نسياناً ولم يخف عنه مكاناً ، فأقره حيث أقرّه الله ورسوله ، فقال له عمر : لولاك لافتضحنا ، وترك الحُلى بحاله .

قال ابن أبى الحديد بعد أن نقل الخطبة : هذا استدلال صحيح ويمكن أن يورد على

وجهين :

أحدهما : أن يقال : أصل الأشياء الحظر والتحريم ، كما هو مذهب كثير من أصحابنا، فلا يجوز التصرّف في شيء من الأموال والمنافع إلا بإذن شرعي ، ولم يوجد إذن شرعي في حُليّ الكعبة، فبقينا فيه على حكم الأصل .

والوجه الثاني : أنْ يقال : حُليّ الكعبة مال مختص بالكعبة، وهو جار مجرى ستور الكعبة ، فكما لا يجوز التصرّف في ستور الكعبة وبابها إلا بنص ، فكذلك حلى الكعبة. والجامع بينهما الاختصاص الجاعل كلّ واحد من ذلك كالجزء من الكعبة، فعلى هذا الوجه ينبغي أن يكون الاستدلال (1).

أقول :ونقل الزمخشري هذه الخطبة في كتابه ربيع الابرار في الباب الخامس والسبعون (2)

9- معنى أبا : أخرج البخاري في صحيحه : أنّ رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله: «فَاكِهَةً وَأَبَا» (3) ما الأب ؟ قال : نهينا عن التعمّق والتكلّف (4) .

فقد أشرنا فيما سلف ، أنّ البخاري قد أسقط الشق الاوّل من الحديث واكتفى بالشق الأخير منه من قوله : نهينا عن .... ولكن ما أخفاه البخاري أظهره غيره في كتب الحديث والتفسير ، وكذا شروح صحيح البخاري فذكروا القصّة بالتفصيل حتى أن بعض

ص: 364


1- شرح نهج البلاغة 19: 158 - 159
2- ربيع الابرار 4 : 26 باب اللباس والحُليّ من القلائد والأسورة ...
3- عبس : 31
4- صحيح البخاري 9 : 118 كتاب الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلّف ما لا يعنيه

شرّاح صحيح البخاري أذعنوا واعترفوا بما قام به البخاري من التقطيع والإسقاط (1).

10-فتوى عثمان في الجنابة وفقا لما نصت عليه الآيات القرآنية والأحاديث المتظافرة المتواترة في الصحاح الستة بأنّ الجنابة تتحقق بأحد الطريقين :

1 - خروج المني .

2 - النقاء الختانين ، سواء خرج المني أم لا وهذا هو المقصود في حد الزنا والنكاح.

قال الإمام الشافعي : فأوجب الله عزّ وجلّ الغسل من الجنابة، فكان معروفاً في لسان العرب أنّ الجنابة الجماع ، وإن لم يكن مع الجماع ماء دافق ، وكذلك ذلك في حدّ الزنا وإيجاب المهر وغيره، وكلّ من خوطب بأنّ فلانا أجنب من فلانة عقل أنه أصابها وإن لم يكن مقترفاً ، ودلّت السنّة على أنّ الجنابة أن يفضي الرجل من المرأة حتى يغيب فرجه في فرجها إلى أن يواري حشفته، أو أن يرمي الماء الدافق وإن لم يكن جماعاً(2).

وورد في الصحيحين البخاري ومسلم وسائر مصادر أهل السنّة أحاديث متظافرة على وجوب الغسل بمجرد التقاء الختانين وأفرد مسلم لهذه المسألة باباً وعنونه نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين(3).

وترى الخليفة عثمان لمّا سئل عن الرجل يجامع زوجته ولا يمني ؟ يقول : لا يجب الغسل ويكفي الوضوء وغسل الفرج.

ص: 365


1- راجع فتح الباري 13 : 229 ، إرشاد الساري 10 : 311، عمدة القاري 25: 35، وراجع أيضاً التفاسير وكتب الحديث واللغة ، نحو : النهاية لابن أثير 1: 13 مادة أب ، الدر المنثور 6: 317، الكشاف 4 : 705 ، ابن كثير 4: 504 ، الخازن 4 354 البغوي 449:4، مستدرك ، الحاكم 2 : 514 كتاب التفسير باب تفسير سورة عبس وتولّى . وغيرهم في تفسير سورة عبس
2- الأم 1: 36
3- صحیح مسلم :1 : 271 كتاب الحيض باب «22» باب نسخ الماء ...

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما باسنادهما عن أبي سلمة أن عطاء بن يسار أخبره إنّ زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان فقال : أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن قال عثمان :يتوضّاً كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره قال عثمان: سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب (علیه السلام) والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبي بن كعب، فأمروه بذلك (1) .

هذا هو فتوى الخليفة عثمان في الجنابة.

وقول الخليفة أنّه سمع هذا الحكم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )، والإمام علي (علیه السلام) وطلحة والزبير وأبي بن كعب أيدوا ما سمعه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )، إما أن تكون هذه فرية لا أصل لها وموضوعة على لسان الخليفة حفظاً لسمعة الخليفة . كما نرى أمثاله ونظائره بكثير . وإمّا أن تكون - الرواية على فرض صحتها - مما ترتبط بالسنوات الاولى من البعثة النبوية حيث قال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): الماء من الماء (2).

وهذا إنْ سلّم قبول الرواية، فإنّ ابن عباس ينكر ذلك ويقول بأن المسألة الماء من الماء تتعلّق بالاحتلام وعلى كل حال فإنّ هذه المسألة من المسائل التي كثر الابتلاء بها ولا تمت بالجماع والمقاربة(3) . وورد فيها أحاديث كثيرة نحو عن عمرو ابنه وعائشة . قالوا : إذا جاوز الختان وجب الغسل، فكيف تخفى على الخليفة ويفتى بخلافها ويقول :لا يجب الغسل ما لم يمن.

ولعل الخليفة حفظ هذا الحكم منذ أوّل ما سمعه عندما أسلم، حتى أيّام خلافته وفي هذه المدة الطويلة لم يكن يعلم أنها نسخت فأفتى وفقا للحكم المنسوخ الذي كان

ص: 366


1- صحيح البخاري 1 : 80 كتاب الغسل باب غسل ما يصيب من فرج المرأة، وص 56 كتاب الوضوء باب من لم ير الوضوء الا من المزجين، صحیح مسلم 1 : 270 كتاب الحيض باب «21» باب إنّما الماء من الماء ح 86
2- صحیح مسلم 1 269 کتاب الحيض باب «21» باب إنّما الماء من الماء ح 80.
3- فتح الباري 1 : 316

في ذهنه.

11 - المصاحف الشريفة: روى البخاري باسناده عن أنس بن مالك قال : إنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة. فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ! ادرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف، ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليكِ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان .

فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنّما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق (1).

قال أحد العلماء المعاصرين : أمّا أنّ عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )، وإنه

الله منع عن القراءات الأخرى، أما هذا العمل من عثمان فلم ينتقده أحد من المسلمين وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضاً، وقد منع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )عن الاختلاف في القرآن ولكنّ الأمر الذي انتقد عليه هو احراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين حتى سموه بحرّاق المصاحف(2).

أقول : إنّ للقرآن في الاسلام الحرمة الفائقة والمكانة العظيمة، وورد في تكريمه

ص: 367


1- صحيح البخاري 6 : 225 كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن ترى القصة كاملة
2- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي : 227

واحترامه أحكام كثيرة كحرمة مسه من دون طهور ، وحرمة قراءة العزائم للجنب والحائض في رأي الشيعة وأما أهل السنة فإنّهم يقولون بحرمة قراءة أي سورة من القرآن لهما، وحرمة تنجيسه .

وملخص القول : قد تظافرت الأحاديث بحرمة كلّ عمل يكون موجباً لتوهين القرآن عرفاً .

قال الترمذي في سننه بعد أن أخرج حديث« لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من

القرآن»: المنقول عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )ما نصه ، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )والتابعين ومن بعدهم مثل سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي وأحمد وإسحاق :قالوا: لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا إلا طرف الآية والحرف ونحو ذلك ، ورخصوا للجنب والحائض في التسبيح والتهليل (1).

نعم، إنّ هذه التأكيدات والأوامر والنواهي لم تصدر إلا لبيان حرمة القرآن ورعاية شأنه وأهميته فكيف جاز للخليفة عثمان أن يأمر بإحراق هذه المصاحف ؟ وبأي دليل ومستند شرعي استساغ لنفسه أن يشعل النار في كثير من الآيات القرآنية ، سواء التي كانت في المدينة أو سائر البلاد الأخرى ؟ وكيف يمكن الجمع والتطبيع بين هذه الفتوى والحكم الخليفي وبين عظمة القرآن والأحكام التي جاءت فيها ؟

فلو كان الخليفة عثمان بن عفان قد قصد بإحراق المصاحف الشريفة ليتقى الاختلاف المحتمل، فإنّ هناك طرقا أخرى غير الإحراق يمكنه أن يدفع الاختلاف بها،ولاتوجب الإهانة بكرامة القرآن والإساءة إلى قدسيته، فمثلاً كان بإمكانه أن يضع المصاحف في بئر او بحر ويحفظ قداسته .

والإجابة على هذه الأسئلة نحيلها إلى القارىء النبيه ليجيب عليها .

ص: 368


1- سنن الترمذي 1 : 236 كتاب الطهارة باب «98» باب من أبواب الطهارة ح 131

بين الخلفاء والشريعة

اشارة

لا ريب انّ أهم شروط الإمامة والتي تعتبر المفهوم الواقعي والحكمة العالية في الخلافة في الإسلام هو : أنْ يكون الإمام والخليفة حافظاً للدين، وصائناً للشريعة، ومنفذاً لقوانين القرآن وتشريعاته.

هذا ما أوضحه أمير المؤمنين (علیه السلام) في ضمن بيانه لشروط الإمامة فقال : ولا المعطل للسنّة فيهلك الأمّة .

ولكن التاريخ يروي لنا عكس هذا تماماً ، ويستفاد مما احتوته أحاديث الصحيحين ، أنّ بعض أحكام الشريعة ، وقوانين الدين قد تعرّضت للتزوير وتطاولت إليها أيدي التشويه والتحريف في عهد الخلفاء، وإنّهم كانوا يغيّرون التعاليم والأحكام الدينيةحسب ما تقتضيه مصالحهم ونزعاتهم الشخصية، وكلّ واحد منهم كان يفسّر الشريعة والسنّة وفقاً لرأيه وكيفما شاءت أهواؤهم .

لمّا أرادوا أن يبرّروا هذا العمل - ويصبغوا هذه التحريفات والتغييرات بالصبغة الدينية والطابع الشرعي، ويظهروا باطلهم ومخالفاتهم للنصوص في كسوة الحق - سموه الاجتهاد، وخلف ستار الاجتهاد وباسمه دسوا تحريفاتهم ومخالفاتهم في أوساط المجتمعات الإسلامية، بينما الاجتهاد في الواقع أمر ، ومخالفة التعاليم القرآنية الصريحة والسنة النبوية أمر آخر.

وبهذه المناسبة يقول امير المؤمنين الإمام علي(علیه السلام).

قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )، متعمدين بخلافه، ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته، ولو حملت الناس على تركها ، وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )، لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي، أو مع قليل

ص: 369

من شيعتي الذين عرفوا فضلي، وفرض إمامتي من كتاب الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم )(1).

وقال ايضاً : لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيرت أشياء .

وعلّق ابن أبى الحديد في شرحه على هذه الكلمة : لسنا نشك أنه كان يذهب في الأحكام الشرعية والقضايا إلى أشياء يخالف فيها أقوال الصحابة، نحو قطعه السارق من رؤوس الأصابع، وبيعه أمهات الأولاد وغير ذلك، وإنما كان يمنعه من تغيير أحكام من تقدمه اشتغاله بحرب البغاة والخوارج(2).

أقول : إنّ عدد الأحكام التي غيّرت وحرّفت واحصاء المخالفات التي وقعت في قبال أوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )وأحكامه سواءً في حياته أو بعد وفاته من قبل الصحابة، فهي كثيرة

العدد مستخرجة ومرويّة في كتب الحديث والتفسير بكثرة .

إلا إننا نذكر هنا بعض تلك الأعمال - وقد نقلها الشيخان في صحيحيهما - التي

خالف فيها الأصحاب أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )وسننه ، وحرّفوها :

1-القتل والفتك

اشارة

تحريف الاحكام:

من الأحكام الضرورية في الشريعة الإسلامية حرمة الانسان المسلم الذي يقرّ

الله بالشهادتين - شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) - فإهراق دمه واستباحة ماله حرام ، ولا يحق لأحد التعرّض لهما إلا من الناحية الحقوقية الفردية.

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمَنْ قال : لا إله إلا الله ، فقد عصم منّي ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله(3).

ص: 370


1- کتاب سليم بن قيس الهلالي : 162 ، روضة الكافي: 59 ح 21، بحار الأنوار 34: 168 کتاب تاريخ أمير المؤمنين(علیه السلام) باب (32) باب علة عدم تغيير أمير المؤمنين(علیه السلام) بعض البدع في زمانه ، إحقاق الحق 1 : 61
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19: 161
3- صحيح البخاري 9: 19 کتاب استتابة المرتدين والمعاندين باب قت-ل من أبي قبول الفرائض... صحیح مسلم 1 : 51 کتاب الایمان باب 8 باب الأمر بقتال الناس حتی يقولوا لا إله إلا الله ...ح32

فبعد وفاة الرسول أبي بعض المسلمين المعتقدين بوجوب أحكام الدين و ضروريّاته كالزكاة أن يدفع الزكاة إلى أبي بكر، والحق لأنهم ما كانوا يعترفون بخلافة أبي بكر على أنها خلافة شرعية، ولذلك حاربهم أبو بكر فقتل رجالهم وسبى نساءهم واطفالهم (1).

ولمّا رأوا فضاعة ما فعلوه عمدوا إلى إلباسه لباس الشرعية ليحصنوا بذلك شرف الخليفة من النقد والاستنكار ، ويبرّؤونه من وصمة العار، ولذلك سمّوا مانعي دفع الزكاة إلى الخليفة بالمرتدين ، وبذلك اشتهروا ، وصيّروا في قائمة الكفّار مثل مسيلمة (2)وطليحة (3)اللذان حاربا الإسلام في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) .

ص: 371


1- ثمَّة في التاريخ الإسلامي قضايا وحوادث مؤلمة مثل إحراق قبيلة بني سليم الذي أشعل خالد بن الوليد فيها الفار في غرّة حكومة الخليفة أبي بكر الصديق .راجع الرياض النضرة للمحبّ الطبري 1 : 147
2- مسيلمة الكذاب :هو مسليمة بن ثمامة من بني حنيفة، إدعى النبوة وكان من المعمرين ،نشأ باليمامة ،ولمّا ظهر الإسلام في الحجاز وافتتح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة ودانت له العرب ، جاءه وفد من بني حنيفة وكان معهم مسيلمة إلّا إنّه تخلّف مسيلمة إلا إنّه تخلف مع الرحال خارج مكة فجاء الوفد إلى النبي وأسلموا وأخبروا النبيّ بمكان مسيلمة ، ولما رجعوا إلى ديارهم كتب مسيلمة إلى النبي : من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله ، سلام عليك ، أمّا بعد ... فأجابه النبي بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب وكان مسيلمة يضع اسجاعاً ليضاهي بها القرآن، وتوفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )قبل القضاء عل-ى فتنته ، وفي عهد أبي بكر أرسل أبو بكر جيشاً بقيادة خالد بن الوليد فقضى عليه ، وكان ذلك سنة 12 من الهجرة . راجع الاعلام ترجمة مسيلمة الجزء السابع . المعرب
3- طليحة الكذاب : هو طليحة بن خويلد الأسدي ، قدم هو وقبيلته سنة تسع من الهجرة المدينة فأسلموا ، ولما رجعوا ارتدّ طليحة وادّعى النبوة فوجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إليه ضرار بن الأزور فضر به ضرار بالسيف يريد قتله ، فنبا السيف فشاع بين الناس إن السلاح لا يؤثر فيه ، ومات النبي عل الله فكثر أتباع طليحة من قبائل أسد وغطفان وطي، وكان يقول: إن جبرئيل يأتيه، وتلا على الناس أسجاعاً أمرهم فيها بترك السجود في الصلاة، فهاجم المدينة في عهد أبي بكر وقاتله خالد ومات في عهد عمر . الاعلام. ترجمة طليحة الاسدي الجزء الثالث . المعرّب.

بينما الروايات والتاريخ يدفعان هذا الاتهام والوصمة بالارتداد عن هذه الفئة وينفيانه عنها وتبرّى اولئك من هذه الفرية .

ومن الأحاديث التي تكشف عن واقعية هذه القضية وحقيقتها هو ما أخرجه البخاري ومسلم في كتابيهما ، حيث كشفا عن جوانب جزئية من هذه القصة نتطرق إلى نقل خلاصة القضية من الناحية التاريخية.

أخرج الشيخان عن أبي شهاب، أخبرني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة أن أبا هريرة قال : لمّا تُوفّي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر : يا أبا بكر ! كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ): « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا اله إلا الله ، فمن قال : لا اله إلا الله عصم منّي ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»؟

قال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حق المال والله

لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )لقاتلتهم على منعها . قال عمر : والله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق (1).

أقول : إنّ الجملة الاولى من هذه الحكاية - وكفر من كفر من العرب كما يظهر من

- ظاهرها ليست إلا كذبا وتدليساً ، وما هي إلا ذريعة التمسوها لتوجيه القتل والغارات والتنكيل بالمسلمين ، التى وقعت بأمر من الخليفة أبي بكر ، وما يشهد على زيف دعواهم ما جاء في الفقرات الأخيرة من القصة البخارية .

1 - ورد في جواب أبي بكر لعمر : «إنّي أقاتل من فرّق بين الصلاة والزكاة» وهذه

العبارة إنما تدلّ بوضوح على إيمانهم وإقامتهم الصلاة وليس فيها ما يمتّ إلى كفرهم.

ص: 372


1- صحيح البخاري :9 19 کتاب استتابة المرتدين والمعاندين باب قتل من أبى قبول : الفرائض ، صحيح مسلم :1: 51 كتاب الأيمان باب 8» باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : لا اله الا الله ...

2 - فلو فرضنا إنّهم مرتدون فإن اعتراض عمر على الخليفة حينئذ يكون باطلاً، حيث إنّه استنكر عمل الخليفة وانتقده ، واستدل في استنكاره بحديث يبين فيه تعاليم الإسلام في بيان مصونية مال المسلمين ودمائهم .

قال ابن رشد : وقد بقى من أحكامه حكم مشهور ، وهو ماذا حكم من منع الزكاة ومن لم يجحد وجوبها ؟

فذهب أبو بكر(رحمه الله)إلى أنّ حكمه حكم المرتد ، وبذلك حكم في مانع الزكاة من العرب، وذلك أنّه قاتلهم وسبى ذريتهم، وخالفه في ذلك عمر، وأطلق من كان استُرِقٌ منهم . وبقول عمر قال الجمهور(1).

وكانت حروب الردّة - كما يصطلحون عليها - منحصرة في جبهتين في جبهة حضرموت ضد قبائل كندة ومأرب وكان أمير العسكر الخليفي عكرمة بن أبي جهل . وفي جبهة أطراف المدينة ضد قبائل عبس وذبيان وبني كنانة وغيرها بقيادة خالد بن الوليد.

وهؤلاء الرجال الذين قتلوا بسيف المسلمين بقيادة عكرمة وخالد لم يرتدوا ولم يكونوا منكري وجوب الزكاة ، بل هم مسلمون وكانوا يقولون :

أطعنا رسول الله مادام وسطنا* فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر(2).

بعضهم كانوا يقولون لممثل الخليفة : إنّك تدعو إلى طاعة رجل لم يُعهد إلينا ولا

إليكم فيه عهد (3).

وتارة كانوا يقولون(4) لهم : أنظروا في شأن عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )فما كان من أمرهم، وهم الأولى بتسنّم خلافة الرسول فاقصيتموهم .... والله تعالى يقول: « وأُولُوا الأرْخامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله »(5).

قال ابن كثير : وجعلت وفود العرب - بعد خلافة أبي بكر - تقدم المدينة ، يقرّون

ص: 373


1- بداية المجتهد 1 : 256
2- للمزيد من الاطلاع على قضيّة ما سمّي بالردّة راجع : معجم البلدان للحموي ، أنساب الأشراف للبلاذري، والفتوح لابن أعثم الكوفي
3- للمزيد من الاطلاع على قضيّة ما سمّي بالردّة راجع : معجم البلدان للحموي ، أنساب الأشراف للبلاذري، والفتوح لابن أعثم الكوفي
4- للمزيد من الاطلاع على قضيّة ما سمّي بالردّة راجع : معجم البلدان للحموي ، أنساب الأشراف للبلاذري، والفتوح لابن أعثم الكوفي
5- الأنفال : 75

بالصلاة ويمتنعون عن أداء الزكاة، ومنهم من امتنع عن دفعها إلى الصدّيق أبي بكر (1). وقال العقاد : امّا القبائل وراء ذلك، فكان لكلّ منها نصيب من التقلقل يناسب نصيبها من القرب والبعد والمودة والجفاء، فأقربهم إلى مهد الإسلام كانوا يخلصون للنبى(صلى الله عليه وآله وسلم )ويخرجون على من ولى الحكم بعده :

أطعنا رسول الله مذ كان بيننا *فيا لعباد الله ما لأبي بكر

واناس منهم آمنوا بالزكاة ولم يؤمنوا بمن يؤدونها اليه (2)

وقال الاستاذ محمد حسنين هيكل : جمع أبو بكر كبار الصحابة يستشيرهم في قتال الذين منعوا الزكاة ، وكان رأي عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه ألا يقاتلوا قوماً يؤمنون بالله ورسوله ، وأن يستعينوا بهم على عدوّهم ، ولعلّ أصحاب هذا الرأي كانوا أكثر الحاضرين، في حين كان الذين أشاروا بالقتال هم القلّة.

وأغلب الظن إنّ المجادلة بين القوم في هذا الأمر البالغ الخطر طالت ، واحتدمت ايما احتدام، فقد اضطر أبو بكر أن يتدخل بنفسه فيها ، يؤيّد القلّة ولقد اشتد في تأييد رأيه في ذلك المقام يدلّ على ذلك قوله : والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )لقاتلتهم على منعه(3).

أقول : وقصّة التشاور بين أبي بكر وبلاطه نقلها السيوطي (4)والبلاذري وابن الأعثم الكوفي(5)، وقال الاعثم :

وإنّ جملة «والله لو منعوني عقالاً قالها أبوبكر في جواب عمر عندما رآه يعارض

ص: 374


1- البداية والنهاية 6 : 304 حوادث سنة إحدى عشرة فصل في تنفيذ جيش أسامة
2- عبقرية الصدّيق : 124
3- الصدّيق أبوبكر : 96
4- تاريخ الخلفاء : 74
5- الفتوح 1 : 6 - 22

فكرة قتال المسلمين.

وعلى أي حال يتضح ممّا ذكرناه ونقلناه عن ابن كثير وسائر المؤرّخين، ومن كلام أبي بكر أنّ السبب والباعث الرئيسي وراء قتاله لهؤلاء القوم لم يكن ارتدادهم وتراجعهم عن الإسلام، أو إنكارهم لإحدى الضروريات الدينية - أي الزكاة ، بل الباعث في قتالهم هو أنّهم امتنعوا عن أداء الزكاة لأبي بكر كما كانوا يؤدونها لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ).

مالك بن نويرة عامل النبي على الصدقات

الحروب التي شنّت على القبائل المختلفة، وقتل فيها رجالها وسبيت النساء والأطفال، لم يكن سببها في الواقع هو ارتدادهم عن الدين وخروجهم عن الإسلام كما اتهموا بها ، وإنّما السبب الواقعي هو امتناعهم عن أداء الزكاة للخليفة أبي بكر .

ولمّا كان استعراض كلّ الجزئيات المكنونة في تلك الحروب - الردّة - وشرحه-ا ممّا يستدعي ويستوجب الإطالة والإطناب، فلذلك اكتفينا بذكر قصة قتل مالك بن نويرة ورجال قبيلته خاصة (1).

قال ابن حجر في ترجمة مالك بن نويرة : وكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) استعمله على صدقات قومه - قبيلة بني تميم(2) .

وقال ابن الأعثم الكوفي : ثمّ ضرب خالد عسكراً بأرض بني تميم، وبثّ السرايا في البلاد يمنة ويسرة ، قال : فوقعت سريّة من تلك السرايا على مالك بن نويرة فإذا هو فيحائط له ومعه امرأته وجماعة من بني عمه.

قال : فلم يرع مالك إلا والخيل قد أحدقت به، فأخذوه أسيراً وأخذوا امرأته معه،

وكانت مسحة من جمال، وأخذوا كلّ من كان معه من بني عمه ، فأتوا بهم إلى خالد بن الوليد حتى اوقفوا بين يديه .

ص: 375


1- راجع : عبدالله بن سبأ للعلامة العسكري لتزداد اطلاعاً عن حروب الردّة
2- الإصابة 5 : 560 ترجمة مالك بن نويرة رقم 7712

قال : فأمر خالد بضرب أعناق بني عمه بدياً .

فقال القوم : إنا مسلمون، فعلى ماذا تأمر بقتلنا ؟ قال خالد :والله لأقتلنّكم، فقال له شیخ منهم : أليس قد نهاكم أبو بكر عن أن تقتلوا من صلّى للقبلة ؟ قال خالد بلى قد أمرنا بذلك، ولكنكم لم تصلوا ساعة قطّ .

قال : فوثب أبو قتادة إلى خالد بن الوليد فقال : أشهد أنك لا سبيل لك عليهم ، قال خالد : وكيف ذلك ؟ قال : لأنّي كنتُ في السرية التي قد وافتهم، فلما نظروا إلينا قالوا من أين أنتم ؟ قلنا : نحن مسلمون . قالوا : ونحن مسلمون . ثمّ أذنا وصلّينا فصلوا معنا . فقال خالد: صدقت يا أبا قتادة إن كانوا قد صلّوا معكم فقد منعوا الزكاة التي تجب عليهم ولابد من قتلهم . قال : فرفع شيخ منهم صوته وتكلّم، فلم يلتفت خالد إليه وإلى مقالته فقدّمهم فضرب أعناقهم عن آخرهم.

قال : وكان أبو قتادة قد عاهد الله إنه لا يشهد مع خالد بن الوليد مشهداً أبداً بع-د

ذلك اليوم .

قال : ثمّ قدّم خالد مالك بن نويرة ليضرب عنقه، فقال مالك : أتقتلني وأنا مسلم صلّى إلى القبلة ؟! فقال خالد : لو كنت مسلماً لما منعت الزكاة ولا أمرت ،قومك والله ما

نلت ما في مثابتك - منامك - حتى أقتلك .

قال : فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته فنظر إليها ثمّ قال : يا خالد بهذه قتلتني . فقال خالد بل الله قتلك برجوعك عن دين الإسلام ، وجفلك لإبل الصدقة ، وأمرك لقومك بحبس ما يجب عليهم من زكاة أموالهم . قال : ثمّ قدّمه خالد فضرب عنقه صبراً. فيقال : إن خالد بن الوليد تزوّج بإمرأة مالك ، ودخل بها ، وعلى ذلك أجمع أهل العلم(1).

قال اليعقوبي المؤرّخ : وكان متمّم بن نويرة - أخو مالك - شاعراً فرثى أخاه بمراتٍ كثيرة ولحق بالمدينة إلى أبي بكر ، فصلى خلف أبي بكر صلاة الصبح ، فلما فرغ أبو بكر

ص: 376


1- الفتوح 1 : 7

من صلاته، قام متمّم فاتكأ على قوسه . ثمّ قال :

نِعْمَ القتيل اذا الرياح تناوحت* خلف البيوت قتلت يابن الازور

أدعوته بالله ثم غدرته *لو هو و دعاك بذمه لم يغدر

فقال :أبوبكر : ما دعوته ولا غدرت به(1) .

وقال اليعقوبي أيضاً : وكان أوّل ما عمل به عمر - لمّا ولّي الخلافة - أن ردّ سبايا أهل الردّة إلى عشائرهم(2).

وقال ابن الأعثم : فهم أبو بكر بقتل المقاتلة وقسمة النساء والذرية، فمنعه عمر عن ذلك فأمر بهم أبو بكر فحبسوا ، ولمّا صار الأمر إلى عمر قال لهم : انطلقوا فأنتم أحرار لوجه الله فلا فدية عليكم (3).

نعم ، هكذا كان المسلمون يقتلون وتُضرب أعناقهم وتسبى نساؤهم وذرياتهم، بأمر من الخليفة، وما ذنبهم إلا أنّهم امتنعوا عن أداء الزكاة إلى الخليفة، وكانوا يسحبون والأغلال في أعناقهم إلى مركز الحكومة الاسلامية .

ولكن لما مات أبو بكر وحلّ محلّه خليفته عمر بن الخطاب استنكر ما كان يراه أبو

بكر صحيحاً ، وأوّل عمل قام به أنْ أطلق سراح الأسرى والسبايا وأرجعهم إلى قبائلهم كما قرأنا معاً خلاصة ما نقله الشيخان في صحيحيهما في الأسطر السابقة .

وأخرج مسلم في صحيحه باسناده عن أبي هريرة قال :

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )لما أعطى الراية يوم خيبر لعليّ بن أبي طالب (علیه السلام)قال له : امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ، قال : فسار علي (علیه السلام)شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ : يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس ؟

ص: 377


1- تاريخ اليعقوبي 2 : 132
2- المصدر : 139
3- الفتوح 1 : 18

قال : قاتلهم حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله(1).

هذه هي سيرة الرسول وسنّته وانقياد الإمام على(علیه السلام)لأوامره، وهذه هي سنة الإسلام ونهجه الصحيح.

وتلك كانت طريقة الخلفاء ومنهجم في إجراء الأحكام الدينية والسنة النبوية.

2-قصّة فدك وإرث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )

اشارة

المورد الثانى من مخالفة الخلفاء الرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وأحكام الشريعة ، والتي وقعت في عهد الخليفة أبي بكر هو مسألة غصبه فدك وإرث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )من فاطمة الزهراء ، وإنّه أذى بضعة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )وأغضبها .

ولمّا كانت هذه الواقعة وبعض جوانبها قد وردت مجملة ومختصرة في الصحيحين

في موردين فقط ، نقلاها عن فقط ، نقلاها عن عائشة بنت أبي بكر ، رأينا لزاماً أن ننقل النص منهما ومن ثمّ ندرس هذه القضية دراسة محققة على نحو الاختصار .

1 - عروة بن الزبير : إنّ عائشة أم المؤمنين (علیه السلام)أخبرته أن فاطمة(علیها السلام) ابنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )أن يقسم لها ميراثها ممّا ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه .

فقال لها أبو بكر : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )قال : لا نورث ما تركنا صدقة .فغضبت فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )ستة أشهر .

قالت : وكانت فاطمة (علیها السلام)تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) من خيبر

ص: 378


1- صحیح مسلم 4:1871 کتاب فضائل الصحابة باب«4» فضائل علي بن أبي طالب (علیه السلام)ح 33

وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك (1).

2 - عن عروة، عن عائشة : أن فاطمة (علیها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أرسلت إلى أبي بكر ،تسأله میراثها من رسول الله الا الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقى من خمس خيبر . فقال أبو بكر : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : لا نورث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولأ عملن فيها بما عمل به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ).

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا ، فوجدت فاطمة (علیها السلام) على أبي بكر ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها عليّ ليلاً، ولم يُؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها، وكان لعلي(علیه السلام) من الناس وجه حياة فاطمة(علیها السلام) ، فلمّا توفّيت استنكر على وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبى بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد(2) .

أقول : هذان الحديثان أخرجهما الشيخان باسنادهما عن عائشة، ولما كان الحديث طويلا انتقينا الفقرات الأولى منها حيث إنّها بيت القصيد .

وعلى الرغم من أن كلام عائشة قد أعطت القضية نوعاً من الجدل والمصالحة، وصبغتها بصبغة الصلح والمسالمة، إلّا أنّها تحتوي على نقاط هامة، وتكشف عن حقائق كانت مستورة نشير إليها باختصار :

1 - يظهر بعد البحث والتحقيق أن ميراث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وتركته المتنازع عليها ، والتي صودرت من قبل الخليفة ، لم تنحصر بفدك كما هو المشهور ، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )كان يملك

ص: 379


1- صحيح البخاري 4: 96 كتاب الجهاد والسير باب فرض الخمس صحيح مسلم : 1381 كتاب الجهاد والسير باب «16» باب قول النبي : لا نورث ح 54
2- صحيح البخاري 5 : 177 کتاب فضائل أصحاب النبي باب غزوة خيبر ، صحيح مسلم : 1381 کتاب الجهاد والسير باب «16» باب قول النبيّ : لا نورث ما تركنا صدقة ح 54

أموالاً وقرى خارج المدينة غير فدك كما أثبته المحققون والعلماء(1).

وهذا ما نستفيده من كلام عائشة حيث قالت: بأن فاطمة طالبت أبا بكر بعد وفاة النبى بموارد متعدّدة مثل فدك والخمس من غنائم خيبر والصفايا والصدقات خارج المدينة .

ولعلّ اشتهار فدك من بين كلّ تلك الموارد ، لأهميتها الخاصة وموقعها . كما يقول أبو داود في سننه : إنّ أرباح فدك السنوية في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز كانت تبلغ أربعين ألف دينار وقد ردّها الخليفة لبنى الحسن (2). 2 - أنّ أبا بكر عندما امتنع من أن يُرجع ميراث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أهل بيته(علیهم السلام) عمد إلى تزوير وجعل حديث ونسبه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )بأنه قال : لا نورث .

3 - إنّ فاطمة الزهراء(علیها السلام) أنكرت هذا الحديث المزيف وانتقدته، وهجرت أبابكر ولم تكلّمه ، حتى توفّيت فغسلها وكفنها ودفنها وصلّى عليها زوجها عليّ بن أبي طالب لا ليلاً، ولم يخبر الخليفة بوفاتها والصلاة عليها.

4 - كانت فاطمة(علیها السلام) في المدة التي عاشتها بعد أبيها الرسول ستة اشهر(3)أقوى حام و مدافع لأمير المؤمنين(علیه السلام) في مقابل مخالفيه ، ولذا نقرأ أنّه مابايع أميرالمؤمنين

(علیه السلام) أبا بكر ما دامت فاطمة(علیها السلام) حيّة ، وعندما توفيت فاطمة

(علیها السلام) وتغير اسلوب الخليفة وأصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) في معاملتهم لأمير المؤمنين الإمام علي ، أرسل إلى أبي بكر وبايعه ،كما قالت عائشة: استنكر وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته.

ص: 380


1- سنن أبي داود : 141 كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في صفايا رسول الله
2- سنن أبي داود 3: 143 كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في صفايا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )ح2972
3- هذه المدة هي حسب ما ترويه روايات العامة، وأما كتب التاريخ والسير عند الشيعة وكذا رواياتهم تؤكد بأنّها سلام الله عليها عاشت بعد أبيها 70 يوماً أو ثلاث أشهر ، فعلى الأول إن قلنا بأن شهادتها كانت في الثالث عشر من جمادى الأولى وعلى الثلاث أشهر إن قلنا بأن شهادتها كانت في الثالث من جمادى الأخرى
ابداع مادة قانونية

أما ما يرتبط من هذه الموارد الأربع المذكورة ببحثنا هو الموردين الأوليين - أي مصادرة ميراث النبي وغصبه، والآخر وضع حديث مزيف بحيث صار قانوناً لمن يأتي بعده - ولمّا كان موضوع مصادرة الإرث وغصب فدك من مسلّمات الحوادث التاريخية المتفق عليها عند السنّة والشيعة ، لذلك لم نر لزوماً للبحث فيها ، فعلى هذا فإن البحث منحصر في المورد الثاني.

كان الخليفة أبوبكر في تلك اللحظات الحسّاسة بحاجة ماسة إلى ذريعة قوية ووسيلة شرعية، حتى تمكنه من الوصول إلى ما نواه من مصادرة ميراث النبي وإخراج ما كان عليه يدي الزهراء ابنة الرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )من ملكيتها ، ويجعلها جزءاً من الأنفال العامة المتعلقة ببيت المال ، وهو في نفس الوقت كان يفكّر أن لا يواجه هزيمة في منازعته مع الجانب الآخر يعني فاطمة الزهراء (علیها السلام) ويكون هو المنتصر عند الرأي العام، فما كانت ذريعة أقوى وأدحض لمطالبة الجانب الآخر من أن يضع ويختلق حديثاً وينسبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )اذ يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة .

هذا الحديث في معارضته ومناقضته للنصوص القرآنية صريح وواضح، وزد على هذه المخالفة ما فيه من معاكسته لكثير من الحقائق الأخرى التي سنذكرها :

فلو كان الحديث المنسوب إلى النبي صحيحاً فلِمَ لم يرويه أحد من أهل بيته(علیهم السلام)وأصحابه سوى أبي بكر ، وحتى ابنته وصهره (علیها السلام) وكذا أزواجه لم يسمعوا بمثل هذا الخبر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )؟

ألم تكن وظيفة الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )وفقا للآية «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(1) أن يخبر به ابنته صاحبة الحق وصهره الإمام علي الا الذي كان ملازماً له دائماً لكي لا تطالب بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم )بالإرث وكذا يمنع من حدوث الاختلاف بين أهل بيته الا وأصحابه ؟

ص: 381


1- الشعراء : 214

هل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )كان يجهل أنه سيحدث بعد وفاته اختلاف ونزاع حول مسألة الإرث ؟

ولو كان هذا الحديث صحيحاً لماذا لاثت فاطمة الزهراء (علیها السلام) - وهى من أصحاب الكساء ومعصومة من الذنوب والخطأ (1) ، خمارها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في أمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حتى دخلت على أبي بكر ، وهو في حشر من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونه-ا ملاثة، فحنّت ثمّ أنت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثمّ أمهلت هنيهة ،حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام وبدأت خطبتها التاريخية واحتجاجها الخالد.

وبعد الحمد والثناء ذكرتهم بمتاعب أبيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، وقضية خلافة بعلها، مستدلّة بالبراهين الجلية، والدلائل الواضحة ، ثم توجهت إلى أبي بكر ، وقالت : يا ابن أبي قحافة ، أفى كتاب الله أنْ ترث أباك ولا أرث أبى...؟ وبعد ذلك توجهت إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )وقالت :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

أبدت لنا رجال نجوى صدورهم * لمّا قضيت وحالت دونك الكتب

تجهمتنا رجال واستخف بنا* إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب(2).

فلو كان ما نسبه أبو بكر إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )صحيحاً لماذا غضبت عليه فاطمة الزهراء (علیها السلام) التي قال عنها الرسول : من اغضبها فقد أغضبني (3)ولم تكلّم أبا بكر حتى عليها

ص: 382


1- راجع ص 330 . مل
2- انظر الخطبة بكاملها واحتجاجها على أبي بكر في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 211 ، بلاغات النساء : 12 ، والشافي للسيد المرتضى 4: 70
3- راجع ص 346

توقيت الا ؟(1)

فلو كان ادعاء أبي بكر صحيحاً لما وقف أمير المؤمنين والحسن والحسين(علیهم السلام) الذين نزلت فيهم آية التطهير والمباهلة إلى جانب الزهراء(علیها السلام) في احتجاجها مع أبي بكر ؟

وهل يعقل أن يأخذ الإمام على وفاطمة والحسن والحسين(علیهم السلام)الصدقات - وهي محرمة عليهم -وهي مختصة بفقراء المسلمين، ويصيّرونها ملكاً لهم ؟هذه الأمور تدلّ بوضوح بأنّ أمير المؤمنين وفاطمة وابناءهما(علیهم السلام)كانوا ينكرون على أبي بكر في جعله لهذه الرواية ، وقالوا بأنّه قانون موضوع مختلق لا أساس له ولا اعتبار .

أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )

قلنا : إنّه ليس في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )من سمع هذا الحديث من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )إلا أبا بكر، وهذه المسألة من المسائل التي ما وسع علماء العامة ومحققيهم إلا أن يصرحوا وينوهوا على أنها من منفردات أبي بكر ، وعلى سبيل المثال نذكر ثلاثا منهم :

1 - قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة : إنّه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده، ذكر ذلك أعظم المحدثين، حتى أنّ الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابى الواحد (2).

وقال ايضاً في موضع آخر تأييداً لقول السيد المرتضى : صدق المرتضى رحمه الله

فيما قال، فلم يرو الخبر - نفي الإرث - إلا أبو بكر وحده(3).

2 - قال السيوطي : واختلف الأصحاب في ميراثه - النبي - فما وجدوا عند أحد من ذلك علما . فقال أبو بكر : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )يقول : إنا معشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة(4).

ص: 383


1- راجع ص 380
2- شرح نهج البلاغة 16 227
3- شرح نهج البلاغة 16: 245
4- تاريخ الخلفاء : 73

3 - قال ابن حجر : اختلف الأصحاب في ميراث النبي فما وجدوا عند أحد من

ذلك علماً . فقال أبو بكر : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )يقول : إنا معاشر الأنبياء لا نورث (1) .

زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )

ذكرنا سابقا إنّ أسطورة نفي الإرث من الأنبياء، والتي ولدت بعد وفاة النبي عل-ى أنها حديث نبوي لم يسمعه أي أحد من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )ولاعترته (علیهم السلام) وحتى زوجاته لم يسمعن من النبي مثل هذا الحديث.

ولو كان هذا الحديث صدر من النبي حقيقة لأخبر هنّ بذلك، لأنّ لهنّ نصيب وسهم معين في ميراثه (صلى الله عليه وآله وسلم )، وهن اولات حق في تركة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )، وهذا البخاري يروي في صحيحه عن عائشة تقول بأن زوجات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) طالبن أبا بكر إرثهن وسهمهن من تركةالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )الثمن ، وأرسلن اليه عثمان لكي يطالبه بالثمن من الإرث.

وهذه القصة فيها دلالة واضحة على أنّ أزواج النبي قد أنكرن على أبي بكر وكذَّبنه ، وأثبتن بعملهنّ هذا أنّ هذا القانون - منع إرث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )- هو من القواني-ن الموضوعة ولم يكن له وجود شرعي في الخارج وضعه أبو بكر ونسبه للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم ).

أخرج البخاري حديثاً عن عائشة تشير إلى حكاية هذه المطالبة :

عن عروة بن الزبير قال : سمعتُ عائشة زوج النبي تقول : أرسل أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهنّ ممّا أفاء الله على رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم )، فكنتُ أنا أردهن فقلت لهنّ : ألا تنقين الله ، ألم تعلمن أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )كان يقول : لا نورث ما تركنا صدقة ، يريد بذلك نفسه، إنّما يأكل آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم )في هذا المال(2) .

وقد أشرنا فيما سبق بأنّ هذا الحديث لم ينقله أحد غير أبي بكر ولم ينسبه

ص: 384


1- الصواعق المحرقة : 35
2- صحيح البخاري 5 : 115 کتاب المغازي باب حديث بني النضير ، صحیح مسلم 3: 1379 كتاب الجهاد والسير باب «16) باب قول النبي : لا نورث ح 51

المحدّثون إلى عائشة ، وان عائشة نفسها في احتجاجها على سائر ضراته-ا وأزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ). تروي الحديث عن أبيها أبي بكر أيضاً .

والجدير بالذكر أنّ الخلفاء كانوا يعطون كلّ واحدة من أزواج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )ما يجبر حرمانها من إرث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )وأما عائشة فقد كان لها نصيب الأسد، وهي أكثر هنّ حظاً من تلك العطايا(1).

والحق ما قاله ابن الفارقي أستاذ المدرسة الغربية ببغداد كما يحدث ابن أبي الحديد عنه فقال :

سألتُ عليّ بن الفارقي مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له : أكانت فاطمة (علیها السلام) صادقة ؟ قال : نعم .

قلت : فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة ؟

فتبسم ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته ، قال : لوأعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها ،لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ، ولم يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء، لأنّه يكون قد سجل على نفسه إنّها صادقة فيما تدّعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة وشهود.

وهذا كلام صحيح وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل(2).

3-صلح الحديبية

قال أبو وائل :كنا بصفّين - حيث أعلن وقف الحرب بين جند الإمام علي(علیه السلام) وجيش معاوية ، فقام بعض جند الإمام مخالفاً - فقام سهل بن حنيف - وسط جند الإمام - فقال : أيها الناس اتهموا أنفسكم - ولا تدعوا أنكم تعلمون كلّ شيء- فإنا كنا مع رسول(صلى الله عليه وآله وسلم )يوم الحديبية ، ولو نرى قتالاً لقاتلنا. فجاء عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله

ص: 385


1- شرح نهج البلاغة 16: 220 - 223
2- شرح نهج البلاغة16 : 284

ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم ): بلى . فقال عمر : أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم ) : بلى . قال عمر : فعلى ما نعطى الدنية في ديننا ، أنرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم ):يابن الخطاب إنِّي رسول الله ولن يضيعني: الله أبداً .

فرجع عمر متغيّظا فلم يصبر متغيظا فلم يصبر - أي إنّه لم يقنع بكلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )حتى جاء أبا بكر . فقال : يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ قال : يابن الخطاب إنّه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً ، فنزلت سورة الفتح... (1).

وقد ورد في ذيل إحدى الروايات الفقرة التالية :

فنزلت سورة الفتح فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )على عمر إلى آخرها، فقال عمر : يا رسول الله أو فتح هو ؟ قال : نعم(2).

أقول : يتضح من هذا الموضوع وما يليه - موضوع الوصية - الذي سنبحثه في الفصل الآتي - مدى جرأة الخليفة عمر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )و تجاسره عليه (صلى الله عليه وآله وسلم )، ومن هذين الموضوعين يمكننا أن نعلم مدى درجة إيمان عمر واعتقاده بالنبوة، واعتماده على أقوال وكلام الرسول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى(3)، ومخالفته لأوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) واعتراضه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ).

4-الوصيّة التي لم تكتب

اشارة

عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : لمّا حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )، وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ): هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلّون

ص: 386


1- صحيح البخاري 4: 125 كتاب الخمس باب في ذيل اثم من عاهد ثم عذر ، وج 6: 170 كتاب التفسير تفسير سورة الفتح ، صحيح مسلم 5 : 1411 كتاب الجهاد باب (34) باب صلح الحديبية ح 94
2- صحيح البخاري 4 : 126 كتاب الخمس باب في ذيل اثم من عاهد ثمّ عذر، صحيح مسلم :3 1412 كتاب الجهاد والسير باب«34» باب صلح الحديبية ح 94
3- النجم : 4

بعده . فقال عمر : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) قد غلب عليه الوَجَعَ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت، فاختصموا، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر .

فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ): قوموا .

قال عبيدالله : فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية ما حال بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وبين أنْ يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(1).

وعن ابن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال

يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى، حتى خضب دمعه الحصباء فقال : اشتدّ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )وجعه يوم الخميس فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فتنازعوا، وما ينبغي عند نبي تنازع وقالوا ما شأنه أهجر ؟ استفهموه فذهبوا يردون عليه.

قال(صلى الله عليه وآله وسلم): دعوني فالذي أنا فيه خير أوصيكم بثلاث :أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، قال : وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها (2).

أقول : أخرج مسلم الحديث الثاني بطريقين وسندين إلى ابن عباس ؛ الأوّل عن سعيد بن جبير، والآخر عن عبيد الله بن عتبة، وذكره البخاري في صحيحه في سبعة موارد وبأسانيد مختلفة(3).

فأما الحديث فقد مدّت إليه يد المحرّفين بالتحريف والتغيير فحرّفت بعض متنه

ص: 387


1- صحیح مسلم :3 1259 كتاب الوصية باب (5) باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه ح 22 ، فيه ح 22 ، صحيح البخاري 7 : 156 كتاب الطب باب قول المريض: قوموا عني
2- صحیح مسلم :3 1257 كتاب الوصية باب « 5 » باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه ح 20
3- راجع الموارد السبعة المذكورة في الهوامش الآتية

وألفاظه، إلّا إنّه لم يخل من احتوائه على نكات مهمة، رأينا لزاماً أن نشير إليها وإلى

التحريفات فيه :

1 - النكتة الاولى التي تجب الإشارة إليها والتمحيص فيها هي : إنه قد ذكر اس--م الخليفة عمر صريحاً في ثلاثة موارد من الأحاديث السبعة بأنه هو الذي خالف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدّه عن كتابة الوصية . فقال عمر : ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قد غلب عليه الوجع(1).

وفي الأربعة الأخرى لم يذكر اسم المتكلّم الخليفة عمر بالصراحة بل جاء في مورد واحد منها : فقال بعضهم : ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قد غلبه الوجع (2)، وجاء في الثلاثة الباقية : فقالوا : هجر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ولكن مضامين جميع هذه الأحاديث السبعة تصرّح بأنّ المبتكر والمبدع للمخالفة هو عمر بن الخطاب الذي أوجد الشبهة - هجران النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)و أما العبارات الأخرى فقال بعضهم او فقالوا: هجر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن تشكك في الحقيقة وتشوهها وتحرّف المسألة عن واقعيتها .

وإنّ الاختلاف والنزاع الذي حدث للحاضرين عند الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن إلا رداً أو إثباتا لقول الخليفة - هجر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله - الذي مال اليه فئة من الحاضرين، وخالفه آخرون كما جاء في النص:

فقال عمر : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كتاباً

ص: 388


1- الموارد الثلاثة هي كالتالي : صحيح البخاري 1: 39کتاب العلم باب كتابة العلم ، وج 7 : 156 كتاب الطب باب قول المريض: قوموا عني ،وج 9 : 137کتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة باب كراهية الخلاف
2- راجع صحيح البخاري 6: 11 كتاب المغازي باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ووفاته
3- راجع صحيح البخاري :4 كتاب الجهاد باب هل يستشفع إلى أهل الذمة وص 120 كتاب الخمس باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، وج 6 : 12 كتاب المغازي باب مرض النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته

لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر.

نقل ابن أبي الحديد رواية مفصلة من حوار جرى بين ابن عباس والخليفة عمر. وقد اعترف الخليفة فيه بحقيقة هامة :

فقال : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )في مرضه أراد أن يصرح باسمه - الإمام علي (علیه السلام) - فمنعت من ذلك .

وذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر -صاحب كتاب تاريخ بغداد - في تاريخه مسنداً (1).

2 - ان جملتي «هجر رسول الله» و «غلب عليه الوجع» وإن كانتا متغايرتين لفظاً إلّا أنّ مفهومهما واحد وهو نسبة الهجر والهذيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ).

إلّا أنّ رواة الحديث وحفّاظ أهل السنّة لمّا شاهدوا بأنّ هذا البهتان العمري وهذه النسبة - التي نسبها خليفتهم عمر إلى رسول الله تخالف صريح الآيات القرآنية التي تصف النبيوخاصة آية «ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى» (2) سوف تعرّضهم للنقد وتوقعهم في المؤاخذات والانتقادات، قاموا - وكدأبهم الدائم - بتحريف وتغيير الحديث بأشكال مختلفة .

ففي الأحاديث التي لم يرد فيها اسم الخليفة عمر صراحة ، ونسبوا في-ها القول

المذكور إلى بعض الحاضرين عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )، ذكرت جملة هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )صريحة.

وأمّا الأحاديث التي ورد فيها اسم عمر أو جاء فيها كلمة بعض والتي هي إشارة لامحالة إلى أنّ البعض هو عمر ، فترى محدّثو العامة أتوا بجملة «غلب عليه الوجع» بدلاً

عن كلمة هجر ، ولا ريب أنّ تلك الجملة تعبير كنائى عن هذه الكلمة ومفهومهما واحد لا

ص: 389


1- شرح نهج البلاغة 12 : 21 و 78
2- النجم: 3

غير (صلى الله عليه وآله وسلم )(1).

وقد أشرنا فيما سلف إلى أنّ المبدع للمقولة ، والمخترع الأوّل للشبهة، والمبادر في إلقائها هو الخليفة عمر ذاته ،ولا أحد غيره،وإذا تلفّظ ونطق الآخرون بها وقالوا «هجر» لم يأتوا بها من تلقاء أنفسهم بل إنّهم تعلموا ذلك من الخليفة .

3 - النكتة الثالثة الهامة هى ما يرتبط بالشق الأخير من الحديث إذ أنّ بعض الرواة والحفّاظ أسقطوا ذلك ، وقطعوا ذيله ، ولكن آخرين غيرهم ذكروا الرواية بكاملها، وفيها إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) في تلك اللحظة الحساسة، وبعدما امتنع من كتابة الوصية أوصى بثلاث وصايا، فنقل الراوي اثنتين منها ، ونسي الثالثة . فقال : وأوصى عند موته بثلاث .. ونسيت الثالثة .

وهنا يتبادر سؤال : ما هى الوصية الثالثة التي نسجت العنكبوت ... أوتار نسيانها عليه ؟

والحق إن نسيان الوصية الثالثة من وصايا النبي كانت فيه مصلحة ومنفعة لأن تُنسى ولا شكّ أنّ هذه الوصية الثالثة المنسية هي نفس الموضوع المهم والمصيري الذي اهتمّ النبي به وأمر بإحضار الكتف والدواة ليكتبه والذي يكون سداً منيعاً أمام ضلالة

المسلمين وغيهم .

والمهمّ أنّ الوصية التي أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )أن يوصي بها كانت من الأهمية والخطورة بحيث استدعت أن يقوم أحد الحاضرين في مجلس النبي بالمعارضة والمخالفة ويلفّق على النبى بهتان الهجر والهذيان.

وهذه الوصية التى بها تُسدّ أبواب الضلالة والانحراف ما زالت باقية في ذهن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )حتى استدعت أن يكتبها بعد أن أكدها وكرّرها شفاهاً، وذكرها صراحة ، ولا شكّ في أنّ الراوي كان يعلمها ويدري تلك الوصية إلا أنّ مصلحة النظام ومنافعها هي التي

ص: 390


1- راجع متن الأحاديث التي أشرنا إليها في هوامش ص 387 - 389

ألزمته أنْ يكتم وصية النبي الا الله ويدفنها تحت أكمام النسيان والتناسي كما قال:

«ونسيت الثالثة».

والجدير بالعجب والدهشة أن ابن عباس وسعيد بن جبير - الراوي الأول والثاني - لوصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )الثالثة قد نقلاها ، ولكن ما أن تصل سلسلة سن-د الرواية إلى سليمان الأحول حتى طغى عليه عفريت النسيان فغابت تلك الوصية عن باله .. وصرّح البخاري بأن سفيان بن عيينة - الراوي الرابع من سلسلة سند الحديث المبتور قال بأن جملة ونسيت الثالثة» هي كلمة سليمان الأحول وليست كلمة سعيد بن جبير أو عبد الله بن عبّاس، وهكذا اعترف قائلا : قال سفيان : هذا من قول سليمان (1).

فتعساً وسحقاً لهذه السياسة التي تحول بين المرء وبين الحقائق المصيرية، وتقوم

بتحريف الحقائق وتزويرها وتودع الكثير من الحلول الضرورية في قفص النسيان

والتناسي.

سؤال وجواب

استشكل بعض العلماء من أهل السنّة قائلاً :

فلو كانت كتابة الوصية ذات أهمية قصوى، فلماذا أعرض النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )عن ذلك على أثر مخالفة شرذمة قليلة ؟

فلو كانت الوصية بهذه المكانة من الأهمية لماذا استسلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )لمخالفة الفئة المعارضة ، وهو يرى إنّ هذا الأمر هو نجاة للأمة ومصلحة لها ؟

واما الجواب : فنكتفى بما قاله المرحوم العلامة السيد شرف الدين الموسوي بهذا

الصدد إذ يقول :

وإنّما عدل عن ذلك لأنّ كلمتهم تلك «هجر رسول الله » التي فاجأوه بها اضطرته

إلى العدول، إذ لم يبق بعدها أثر لكتابة الكتاب سوى الفتنة والاختلاف من بعده، في أنّه

ص: 391


1- صحيح البخاري 4 : 121 كتاب الخمس باب إخراج اليهود من جزيرة العرب.

هل هجر فيما كتبه - والعياذ بالله - أو لم يهجر ؟ كما اختلفوا في ذلك وأكثروا اللغو واللغط نصب عينه ، فلم يتسن له يومئذ أكثر من قوله لهم : «قوموا» كما سمعت ، ولو أصرّ فكتب الكتاب للجوا في قولهم: «هجر»، ولأوغل أشياعهم في إثبات هج-ره - والعياذ بالله - فسطّروا به أساطيرهم، وملأوا طواميرهم ، رداً على ذلك الكتاب وعلى من يحتج به .

لهذا اقتضت حكمته البالغة أن يضرب(صلى الله عليه وآله وسلم )عن ذلك الكتاب صفحاً لئلا يفتح هؤلاء المعارضون وأوليائهم باباً إلى الطعن في النبوة - نعوذ بالله ونستجير به ، وقد رأى(صلى الله عليه وآله وسلم )أن علياً وأولياءه خاضعون لمضمون ذلك الكتاب سواء عليهم ، أكتب أم لم يكتب ؟ وغيرهم لا يعمل به ولا يعتبره لو كتب، فالحكمة والحال هذه توجب تركه إذ لا أثر له بعد تلك المعارضة سوى الفتنة . كما لا يخفى والسلام(1).

وخلاصة المقال : إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )أحس بأن المعارضين الذين بهتوه بالهجر والهذيان وهو ما زال حياً ، فلا ريب أنهم يصرّون ويلحون في إثبات ذلك عليه حتى يشككوا أشياعهم في أصل النبوّة ويشطبوا على اعتبارها فكان ما فوجيء به كافياً ، فلو كان يصرّ لكانت النتيجة أطم.

ولذلك اقتضت حكمته أن يعرض عن الكتابة ويسدّ بالنتيجة باب الطعن على النبوة ذاتها.

5-حج التمتع

اشارة

ومن الأحكام الدينية والتعاليم الإسلامية التي تم تحريفها وتغييرها في عهد عمر بن

الخطّاب وبدّلت عمّا كانت عليه في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )مسألة حج التمتع . وإنّ هذا التحريف العملي كحكم رسول الله جوبه في عهد عثمان بن عفّان بالمخالفة الشديدة من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) حتى أرجع إلى حكمه الأوّل الذي كان في عهد رسول الله الا الله وحسب ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )والغيت بدعة عمر بن الخطاب بعد أن عملوا بها

ص: 392


1- المراجعات: المراجعة رقم 86

برهة من الزمن.

وأما أهل السنّة وعلماؤهم فقد اطبقوا على الإفتاء في العمل بحج التمتع الذي كان

جائزاً في عهد النبي وتركوا الاقتداء والالتزام ببدعة الخليفة الذي حرّم حج التمتع(1).

وقبل الخوض في المسألة أرى من الضروري أن نستلهم مجرى هذا الحكم وكيفيته ومتعلقاته من كتب الحديث والصحيحين .

تعريفه

هو أن يحرم المتمتع بالعمرة إلى الحجّ في أحد اشهر الحج - شوّال ، ذي القعدة وذي الحجة - ويلبي بها من الميقات ثمّ يأتي مكة، ويطوف بالبيت سبعاً، ثم يسعى بي-ن الصفا والمروة سبعاً ، ثمّ يقصر ويحلّ من إحرامهليحلّ له جميع ما حرم عليه بالإحرام - حتى ينشىء في تلك السنة نفسها إحراماً للحج من مكة ، ويخرج لعرفات ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام، ومنها إلى منى، ثمّ يأتي بباقي المناسك من رمي الجماروالهدي والحلق أو التقصير والطواف وغيرها مما هو مفصل في الكتب الفقهية .

وسبب تسميته بحج التمتع هو أن فيه متعة والتذاذ بإباحة المحظورات التي حرمت بالإحرام في المدة التي تخلّلت بين الإحرامين - إحرام العمرة وإحرام الحج - يعني أنّ المتمتع له أن يتمتّع ويلتذ بما حرّم عليه بسبب إحرام التمتّع وما حرم عليه بسبب إحرام الحج .

وهذا فرض لمن يسكن خارج مكة مسافة ثمانية وأربعين ميلاً أي ثمانية وسبعين

كيلومتراً، ووجوبه ثابت بالأدلة القرآنية الصريحة والسنة النبوية . قال تعالى :

«فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ

ص: 393


1- راجع بداية المجتهد لابن رشد القرطبي 1 : 341 - 343 ، والفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري 1 : 688 - 696

الْحَرَام وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1).

وأمّا الأحاديث فى ذلك فمتواترة ومتظافرة، ونذكر هنا بعضها :

الرسول يتحدّى السنن الجاهلية

كانت العمرة في أشهر الحج في الجاهلية قبل الإسلام تعتبر من أكبر الذنوب وأفجر

الفجور، وقد شرعها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )، وأمر بإتيانها في هذه الأشهر الثلاثة - شوّال ذي القعدة وذي الحجة - وهو بتشريعه هذا الأمر تحدّى قريش الجاهلية في تبليغ دعوته.

ولمّا كان هذا الأمر على خلاف سنّة الجاهلية وعادتهم ، فلذلك كان تشريعه(صلى الله عليه وآله وسلم)له في بداية الدعوة أمراً صعباً و عسيراً على بعض المسلمين أن يقبلوه ويؤمنوا به ، ولذلك تعاظم عليهم وخالفوا أمر رسول الله له و تشريعه لمتعة الحج.

وفي هذا المورد أخرج البخاري ومسلم باسنادهما عن ابن عباس قال :

كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرَّم صَفَراً، ويقولون : إذا برأ الدبر وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلّت العمرة لمن اعتمر .

قَدِمَ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )وأصحابه صبيحة رابعة - من ذي الحجة -مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم. فقالوا: يا رسول الله أيّ الحلّ ؟ قال : «حل كلُّه» (2).

وأخرج ابن ماجة في سننه بإسناده عن جابر بن عبدالله قال :

أهللنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )بالحج خالصاً ، لا نخلطه بعمرة، فقدمنا مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة ، فلمّا طفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة ، أمرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )أن نجعلها عمرة، وأنْ نَحِلَّ إلى النساء ، فقلنا : ما بيننا - ليس بيننا - وبي-ن عرفة إلا خمس .

ص: 394


1- البقرة : 196
2- صحیح صحيح البخاري :5 : 175 کتاب الحج باب التمتع والإقران بالحج ، صحيح مسلم 2: 909 كتاب الحج باب«31» باب جواز العمرة في أشهر الحج ح 198 ، سنن النسائي 5: 180 كتاب الحج باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي

فتخرج إليها ومذاكيرنا تقطر منيّاً . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ): إنِّي لأبركم وأصدقكم ولولا الهدي لأحللت .

فقال سراقة بن مالك : أمتعتنا هذه لعامنا هذا أم لأبدٍ ؟

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم ):« لا ... لأبد الآباد»(1).

ورواه أيضا البخاري(2)ومسلم (3) بتفاوت يسير عما أخرجه ابن ماجة .

وروى مسلم في صحيحه باسناده عن جابر بن عبدالله قال :

أهللنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) بالحج ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نَحِل ، ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا ، وضاقت به صدورنا ، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )، فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيءٌ من قبل الناس ؟ فقال :

«أيّها الناس ، أحلّوا فلولا الهدي الذي معي فعلت كما فعلتم .

قال : فأحللنا حتى وطئنا النساء، وفعلنا ما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية ، وجعلنا مكة بظهر ، أهللنا بالحج (4).

فأما هؤلاء الذين هم حديثو عهد بالاسلام، والذين ما زالت السنن الجاهلية مترسخة في عقولهم وقلوبهم، وكانوا يعتقدون بأن الحاج إذا أحرم في أشهر الحرم لا يحق له أنْ يأتي بمحظورات الإحرام، وخاصة إتيان النساء، إلا أنْ يتمّ المناسك ويحلّ من إحرام الحج ، تراهم قد أظهروا استنكارهم لأمر الرسول بأن قالوا : أننطلق ومذاكيرنا تقطر منيّاً ؟

ولمّا كان هذا البعض الذين كبر عليهم أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وتشريع حج التمتع ، وضاقت به صدورهم ، فلم يسعهم قبول ذلك وظلوا متردّدين حتى أغضبوا بفعلهم رسول

ص: 395


1- سنن ابن ماجة 2 : 992 كتاب المناسك باب«41» باب فسخ الحج ح 2980
2- صحيح البخاري : 2 : 195 كتاب الحج باب تقضي الحائض المناسك كلها ..... و ج 3 : 4 كتاب الحج باب عمرة التنعيم
3- صحیح مسلم 2 : 883 کتاب الحج باب 17 باب بیان وجوه الإحرام وإنه ... 141 ، ورواه النسائي في سننه 5 : 178: وفيه زيادات و تفاوت
4- صحیح مسلم مسلم :2 884 كتاب الحج باب «17» باب بیان وجوه الإحرام وإنه ....ح 142

الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وآذوه .

تقول عائشة :

قدم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )الأربع مضين من ذي الحجة أو خمس ، فدخل علي وهو غضبان . فقلت : من أغضبك يا رسول الله ! أدخله الله النار ؟

قال(صلى الله عليه وآله وسلم ): أو ما شعرت أنّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون (1).

تحريم حج التمتع

أشرنا فى ما سبق أنّ هذا التشريع الذي ثبت وجوبه بالنص من الكتاب والسنة ، قد

عمل به المسلمون في عهد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )وعهد الخليفة أبي بكر الصديق الذي دام سنتان - كما كان في عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )، ولكن لما استخلف الخليفة عمر بن الخطاب منع من حج التمتّع ، ونهى عنه ، وشدّد في تحريمه، وأغلظ عليه وهدّد مخالفيه - القائلين بوجوب التمتع - بأشدّ المجازاة.

ونقل أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والتاريخ والتراجم روايات متواترة في كتبهم هذا المنع والتحريم ، ونكتفي بذكر طرفاً منها مما أخرجه الصحيحان .

قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله(2) - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحجّ ، ولم ينه عنه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )حتی مات، قال رجل برأيه ما شاء(3).

عن أبي نظرة قال : كنتُ عند جابر بن عبدالله، فأتاه آت . فقال : ابن عباس وابن

الزبير اختلفا في المتعتين - متعة الحجّ ومتعة النساء . فقال جابر : فعلناهما . مع رسول

ص: 396


1- صحیح مسلم :2: 879 کتاب الحج باب «17» باب بیان وجوه الإحرام ... ح130
2- البقرة : 196
3- صحیح مسلم :2: 900 کتاب الحج باب « 23 »باب جواز التمتع ح 172 ، صحيح البخاري 2 : 176 كتاب الحج باب التمتع ، وج 5 : 204 كتاب المغازي باب بع-ث أبي موسى إلى اليمن

الله(صلى الله عليه وآله وسلم )ثم نهانا عنهما عمر ، فلم نعد لهما(1).

وعن مطرف قال : بعث الي عمران بن حصين في مرضه الذي توفّي فيه فقال : إنّي كنتُ محدّثتك بأحاديث لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشتُ فاكتم عنِّي ، وإِنْ مِتٌ فحدّث بها إن شئت ، إنّه قد سُلِّم عليَّ ، واعلم أن نبي الله(صلى الله عليه وآله وسلم )قد جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم ).

قال رجل فيها برأيه ما شاء(2).

أقول : حسبك لما في هذا الحديث من تحريم الخليفة عمر لمتعة الحج ونهيه إياها ،

فإنّ فيه أيضاً حقيقتين مهمتين لابد من الإشارة إليهما :

1 - إن عمران بن حصين أخبر مطرف أحاديث ومسائل كثيرة ممّا كان مكرهاً على إخفائها في هذه المدّة ، وامتنع من إعلانها حتى دنت السويعات الأخيرة من حياته ، ولكن لم يذكر في الحديث من تلك المسائل الكثيرة سوى مسألة التمتع في الحج وباقي المسائل ظلّت منسية .

2 - إنّ وصية عمران إلى مطرف فيها تأكيد وتصريح على أنّ الأشخاص قد سلبت عنهم حرّياتهم ، وكانوا ممنوعين عن كشف الحقائق وبيانها ورواية المطالب الحقة. وفي قبال هذا فإنّهم كانوا مُلزَمين ومُكرَهين على أن يكرّروا ما تهواه الهيئة الحاكمة، ولا يبدون عكس ذلك أبداً، ويكتموا الحقائق حفظاً لمصالح الخلفاء، ولذلك تسمع عمران بن حصين يقول : إن عشت فاكتم عنِّي ، وإن مت فحدّث بها إن شئت ، إنّه قد سلّم عليّ.

وذكر المؤرخون والمحدّثون والمفسرون في كتبهم أن عمر بن الخطاب خطب الناس ذات يوم، فقال وهو على المنبر بكل صراحة :

متعتان كانتا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وأنا أنهى عنهما واعاقب عليهما، متعة الحجّ

ص: 397


1- صحیح مسلم :2 1023 کتاب النکاح باب«3»باب نكاح المتعة ... ح 17
2- صحیح مسلم :2 899 کتاب الحج باب 23 باب جواز التمتع ح 168

ومتعة النساء.

ولكنّ الإمام أحمد بن حنبل كما هو دأبه في الاسقاط والتقطيع!! عندما ذكر مقولة عمر أسقط منها جملة «وأنا أنهى عنهما» (1).

علل تحريم عمر متعة الحج

قد يتبادر سؤال إلى ذهن القارىء العزيز عن السبب والداعي إلى تحريم متعة الحج والنهي عنه خاصة بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) وما هي الغاية من هذا الفعل والهدف من المنع ؟

والإجابة على هذا السؤال تكمن في مضامين الأحاديث التي أخرجها الصحيحان وغيرهما من الكتب المعتبرة عند أهل السنّة والجماعة .

لأنّ البحث والتحقيق في هذه المصادر المعتبرة والموثوقة تكشف لنا بأن الغاية من هذه المخالفة لأمر القرآن والسنّة النبوية، وتحريم ما كان حلالاً مثل حج التمتع لم تكن إلا بسبب تلك الكلمة التى تفوه بها بعض المسلمين عندما استكبروا حين نزوله فأغضبوا بها رسول الله وآذوه، وعلّلوا تحريمهم فيما بعد بأن قالوا أننطلق ومذاكيرنا تقطر منيّا . وشبّعوا مخالفتهم العلل السخيفة الناجمة من سوابقهم الذهنية والمعهودة من العهد الجاهلي.

نعم ، هذه الأهداف والتوجيهات هي التي كانت سبباً في تحريمهم لحج التمتع بعد وفاة الرسول، والتي جعلتهم يعارضون نص القرآن ويخالفون أمر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )الصريح الذي أراد بتشريعه هذا الحكم محو احدى العادات والسنن الجاهلية.

وهذا التعليل الباطل ورد بالتفصيل في صحيح مسلم وأكثر مصادر أهل السنّة .

منها : عن ابراهيم بن أبي موسى، عن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة . فقال له

ص: 398


1- احکام القرآن 2 : 152، تفسير القرطبي :2: 392 ، کنز العمال 16: 519 ح 45715 و ص 521 ح 45722 ، شرح تجريد الإعتقاد للقوشجي : المقصد الخامس في الامامة 386

رجل : رويدك ببعض فتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين - عمر بن الخطاب - فی النسك بعد ، حتى لقيه بعد فسأله، فقال عمر : قد علمت أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ): قد علمت أن النبي الله قد فعله وأصحابه، ولكن كرهتُ أنْ يظلوا معرّسين بهنّ في الأراك ، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم(1)

قال أحد المحشّين على صحيح مسلم في بيان وتوضيح كلمة عمر تقطر رؤوسهم : وهذا التعبير أحسن من قول بعضهم : تقطر مذاكيرنا المني»، فبين سيدنا عمر العلة التي لأجلها كره التمتع ، وكان رأيه كما قال الزرقاني: عدم الترفه للحاج بكل طريق فكره قرب عهدهم بالنساء لئلا يستمر البلل إلى ذلك الحين - يوم عرفة(2).

وقال الإمام السَنَدي في بيان كلام عمر« تقطر رؤوسهم»: يريد أنّ الأفضل للحاج أنْ يتفرّق شعره ويتغيّر حاله، والتمتع في حق غالب الناس صار مؤدياً إلى خلافه فنهيتهم

لذلك (3).

أقول : وعلى كلّ حال فالهدف هو الذي اشرنا اليه ، فالهدف واحد والتعابير في ذلك متعدّدة كما قيل : تعدّدت الأسباب والموت واحد.

وأمّا الجواب القاطع لكلّ هذه التبريرات والمخالفات هو ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )لهم : أنا أتقاكم وأصدقكم وأبركم(4).

وقال تعالى : « وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ

الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً »(5).

ص: 399


1- صحيح مسلم 2 : 896 كتاب الحج باب «22» باب في نسخ التحلل ح157، سنن النسائي 5: 153 كتاب مناسك الحج باب التمتع ، سنن ابن ماجة :2: 992 کتاب مناسك باب«40»باب التمتع بالعمرة إلى الحج ح 2979 ، مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 49 - 50
2- صحیح مسلم 4: 46 حاشية الصحيح طبعة دار المعرفة للطباعة ، لبنان
3- حاشية سنن النسائي 5: 153 كتاب الحج باب التمتع
4- راجع ص 395هامش 1
5- الأحزاب : 36
عثمان وحج التمتع

أشرنا سابقاً أنّ أمير المؤمنين الإمام على(علیه السلام) رأى المؤمنين على عهد عثمان ومعاوية يسعون جادين في إقامة هذه السنة النبوية وإحيائها ، كما كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )، كانوا يجهدون في إماتة بدعة ، عمر ، حتى أدرك علماء أهل السنّة وفقهاؤهم بطلان بدعة عمر وأفتوا بجواز متعة الحج والعمل بهذه السنة النبوية وتطبيقها من جديد بعد تلك الفترة من التحريم والمنع رغم فتوى عمر .

وإليك بعض الأحاديث التي تومىء إلى هذه المثابرة والمعارضة لتحريم عمرکما نقلتها مصادر أهل السنة والجماعة وخاصة الصحيحان.

أخرج البخاري ومسلم باسنادهما عن مروان بن الحكم :

شهدت عثمان و عليّاً (علیهم السلام) ، وعثمان ينهي عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي الا أهل بهما لبيك بعمرة وحجّة . قال : ما كنتُ لأدَعُ سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )لقول احد (1).

وكذلك أخرج هذا الاختلاف بين عثمان والإمام علي(علیه السلام) باسنادهما عن سعيد بن مسیب قال:

اجتمع عليّ وعثمان بعشفان ، فكان عثمان ينهي عن المتعة أو العمرة. فقال علی(علیه السلام) : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )تنهى عنه ؟ فقال عثمان دعنا منك. فقال (علیه السلام) : إني لا أستطيع أن أدعك ، فلما أن رأى عليّ ذلك أهل بهما جميعاً (2) .

ورواه مسلم بسنده عن عبد الله بن شقيق وفيه : فقال عثمان لعلى كلمة خشنة و تعسّف(3).

ص: 400


1- صحيح البخاري :2 : 175 كتاب الحج باب التمتّع والإقران والإفراد بالحجّ
2- صحيح البخاري 2 : 176 كتاب الحج باب التمتع والإقران ..... صحیح مسلم 2: 897 كتاب الحج باب«23» باب جواز التمتع ح 159
3- صحیح مسلم 2 : 896 كتاب الحج باب 23 باب جواز التمتع ح 158

وفي سنن النسائي : عن سعيد بن مسيب انه قال بعد شرح الاختلاف بين الإمام على (علیه السلام)وعثمان . قال (علیه السلام): إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا، فلبّى عل-ى وأصحابه بالعمرة(1).

وقال الإمام السندي في شرحه على هذه الكلمة : إذا رأيتموه ... أي ارتحلوا معه ملبين بالعمرة ، ليعلم انكم قدّمتم السنّة على قوله وأنّه لا طاعة له في مقابلة السنّة(2).

لفتة نظر

لابد من الإشارة هنا إلى نكتة ذات أهمية ، وهي إنّ الكثير من الحقائق التي أشير إليها في كتب الحديث والتاريخ قد اندرست حقيقتها الواقعية ونالتها أيدي التحريف والأغراض السياسية آنذاك بأن أسدلوا عليها حجباً من التعتيم والتزوير .

وهذا الاختلاف الواقع بين أمير المؤمنين(علیه السلام)والخليفة عثمان في مسألة حج التمتع التي ورد ذكرها في الصحيحين هي من تلك الحقائق التي لم تذكر إلا بنحو الإجمال والإشارة ، ولا شكّ أنّ الاختلاف بينهما لم يكن بهذه البساطة.

ويتضح مدى الاختلاف بينهما من رواية أبي عمر ابن عبد البر باسناده عن عبدالله بن الزبير ان الاختلاف بينهما كان شديداً إلى درجة آلت أن يُقتل أمير المؤمنين الإمام

على(علیه السلام)في سبيل ذلك ويهرق دمه .

قال ابن الزبير : أنا والله لمع عثمان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام وفيهم حبيب بن مسلمة الفهري. إذ قال عثمان : وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج، أن أتموا الحج وخلصوه فى أشهر الحجّ ، فلو أخّرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل، فإنّ الله قد وسّع في الخير . فقال له علي : أعمدت إلى سنة رسول الله الله ورخصة رخص للعباد بها في كتابه، تضيّق عليهم فيها ، وتنهى عنها ، وكانت لذي الحاجة

ص: 401


1- سنن النسائي : 152 كتاب الحج باب التمتع
2- المصدر السابق

ولنائي الدار ...

ثم أهل بالعمرة وحجة معاً ، فأقبل عثمان على الناس فقال: وهل نهيت عنها ؟ إنّي

لم أنه عنها، إنما كان رأياً أشرت به فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه .

قال : فما أنسى قول رجل من أهل الشام مع حبيب بن مسلمة : انظر إلى هذا كيف يخالف أمير المؤمنين ؟ والله لو أمرني لضربتُ عنقه . قال : فرفع حبيب يده فضرب بها في صدره وقال : اسكت، فض الله فاك، فإن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )أعلم بما يختلفون فيه (1).

معاوية وحج التمتع

قرأنا فيما سلف الاختلاف الواقع بين ابن عبّاس وابن الزبير في مسألة المتعتين، ودفاع جابر بن عبدالله عن قول ابن عباس، والدفاع الذي ذكر آنفاً لم ينحصر في مسألة المتعتين فحسب بل هناك قضايا عديدة دافع فيها جابر عن ابن عباس، ورغم الارهاب والمنع عن نقل الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )فإن جابراً لم يكن يخشى الإرهاب في عهد الخلفاء، فإنه كان يحدث علناً ويكشف الحقيقة التي كادت أن تدفن على أثر البدع (2).

ومن خلال التحقيق في الأحاديث يتضح لنا ان الاختلاف والنزاع في مسألة حجّ التمتع شمل عهد معاوية ،أيضاً ، وذلك لما كان معاوية مصمّماً على إحياء سب-رة عمر

وعثمان في المسألة ولكن بعض المسلمين خالفوه ولم يرضخوا لقوله .

أخرج النسائي في سننه باسناده عن ابن شهاب، عن محمّد أنّه حدثه أنّه سمع سعد بن أبی وقاص والضحاك بن قيس، عام حج معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحجّ . فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى . فقال سعد : بئسما قلت يا ابن أخي . قال الضحاك : فإنّ عمر بن الخطاب نهى عن ذلك . قال سعد : قد

ص: 402


1- جامع بيان العلم وفضله 2 30 ، مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 92
2- راجع المصادر الحديثية خاصة صحيح مسلم :2: 885 كتاب الحج باب «18» باب في المتعة بالحج والعمرة ح 145

صنعها رسول الله الله وصنعنا معه(1).

وروى مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده باسنادهما عن غنيم قال سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة . قال : فعلناها ، وهذا كافر بالعرش يعني معاوية (2) .

ونستفيد من هذين الحديثين إن الاختلاف في حج التمتع لم يزل موجوداً في عهد معاوية، وإلا لما كان لتقييد الاختلاف بين اثنين بزمان معين أو تحديده بعهد كفر معاوية قبل اظهاره الإسلام له معنى.

6-المتعة أو الزواج المنقطع

اشارة

ومن الأحكام التي غيّرها وبدلها الخليفة عمر بن الخطاب كما صرح بهذا الأمر الصحيحان في مضامين أحاديثهما هو نكاح المتعة أو الزواج المؤقت الذي ما زال ممنوعاً إلى هذا العصر حسب ما أفتى بمنعه الخليفة عمر ، وتارة أخذها البعض وسيلة للتشنيع على الشيعة، وذريعة للنيل منهم، وعزوا بسببها الافتراءات والاكاذيب إلى الشيعة وعقائدهم

ومن هنا رأينا أنّه من الضروري واللازم أن نقوم بالتحقيق والبحث فيها من خلال

فصول خمسة :

1-تعريفها

المتعة أو الزواج المؤقت الذي هو موضع اختلاف الشيعة والسنة عبارة عن : أن يتزوّج الرجل إمرأة حيث لا يكون له أي مانع شرعي من نكاحها كالزواج الدائم بمهر وصداق معلوم إلى مدّة معلومة ، وبمجرد انقضاء المدة وانتهائها تبين المرأة من الرجل من

ص: 403


1- سنن النسائي 5 : 152 كتاب الحج باب التمتع
2- صحیح مسلم :2 898 کتاب الحج باب 23 باب جواز التمتع ح 164، مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 181

غير إجراء صيغة الطلاق . ويجوز للرجل أن يفارقها قبل انقضاء المدّة بان يهبها المدّة

الباقية.

والمتعة تشترك مع الزواج الدائم في كثير من الاحكام وتفترق عنه في بعض الأحكام.

الأحكام المشتركة : أمّا الأحكام المشتركة بين هذين النوعين من أنواع النكاح - الدائم والمؤقت - فهي كالتالي:

1 - وجوب الإيجاب والقبول .

2 - وجوب المهر والصداق.

3 - تجب على المرأة في الزواج المؤقت أنْ تعتد عدة الطلاق إن بني علیها ، ولم تكن يائسة تماماً كالزواج الدائم ، إلا إن عدتها قراءان أو خمسة وأربعين يوماً .

4 - عدة الوفاة فيهما أربعة أشهر وعشرة أيام.

5 - عدة المرأة الحامل فيهما الذي توفّي زوجها فهي أبعد الأجلين.

6 -لا فرق بين الأولاد في مسألة التوارث وغيرها سواء ولدوا بالزواج الدائم أو المنقطع.

7- أحكام المصاهرة فيهما مشتركة كحرمة الأم أو الأخت حرمة أبدية .

8- حكم الجماع فيهما مشترك من حيث حرمة وطيها في حيضها أو في نهار شهر رمضان.

الأحكام المختصة بكل منها : وأما وجوه الاختلاف والافتراق بين النكاح الدائم والمنقطع تتلخص في عدة موارد.

1 - يجب تعيين المدّة في المنقطع دون الدائم .

2 2 - لا يتوارث الزوجان في المنقطع إلا إذا كان ذلك من شروط ضمن العقد.

ص: 404

3- يجب تعيين الصداق والمهر في المنقطع دون الدائم .

4 - ليس للمرأة في الزواج المنقطع أن تطالب بالنفقة إلّا اذا كانت المطالبة شرطاًضمن العقد.

5 - لا يجوز للرجل أن ينكح أكثر من اربع زوجات في آن واحد في الزواج الدائم على العكس من الزواج المؤقت فليس فيه هذه المحدودية (1) .

2-مشروعية المتعة في الاسلام

إنّ أصل تشريع المتعة في الإسلام ثابت بالكتاب والسنة القطعية ومتفق عليه عند

المسلمين شيعة وسنّة .

أمّا دليل الإجماع: فلأن المسلمين على اختلاف مذاهبم وعقائهم متفقون على أنّ المتعة أو الزواج المؤقت قد شرعه الله ورسوله، ولاشك في تشريعة من جانب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )ولا يشكّ أحد من العلماء المسلمين بكونه من الضروريات الدينية .

قال الفخر الرازي : واتفقوا - علماء المسلمين - على أنها كانت مسباحة في ابتداء الإسلام واختلفوا في أنّها هل نُسِخت أم لا ؟ فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنّها منسوخة ، وقال السواد منهم : إنّها بقيت مباحة كما كانت(2).

واما دليل الكتاب : قال تعالى:«فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ »(3).

قطع مفسّر و الشيعة جميعاً بأن الآية نزلت بشأن بيان حكم النكاح المنقطع، وعلى هذا أكثر مفسّري أهل السنّة، والمراد من قوله تعالى : «فآتوهن أجورهن» اي اعطوهنّ صدقاتهن في المتعة.

وهكذا قرأ بعض القراء الاوائل مثل : أبي بن كعب ابن عباس ، سعيد بن جبیر

ص: 405


1- راجع فروع المسألة واحكامها الجزئية في الكتب الفقهية عند الشيعة
2- تفسير الفخر الرازي 10 : 49 عند تفسير الآية 24 من سورة النساء
3- النساء : 24

والسدي: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ» حيث إنهم جعلوا كلمة إلى أجل أي تعيين المدة في الزواج المنقطع جزءاً من الآية.

ونقل هذه القراءة الطبري(1)في تفسيره والزمخشر: تفسيره والزمخشري(2)عن ابن عباس، ونقلها الفخر الرازي عن أبي بن كعب(3).

وكذا روى الطبري عن مجاهد - وهو من المفسّرين في القرن الأوّل الاسلامي -

قوله : بأنّ هذه الآية نزلت بشأن المتعة (4) .

وممّا يؤيّد شأن نزولها فى المتعة سياق الآيات نفسها من هذه السورة حيث إنّه قرينة واضحة وشاهد بيّن على ذلك ، لأنّ صدر السورة (النساء) تبيّن حكم الزواج الدائم .

قال تعالى: «فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ .... وَآتوا النِّسَاءَ صَدَقَاتِهِنَّ نِحْلَة » (5) .

فلو فرضنا أنّ الآية - آية الاستمتاع - هي كذلك تتعلّق بالزواج الدائم فإنّها تستلزم

كون تكرار الحكم الواحد في سورة واحدة بنفسها من دون غاية، وهذا مما ينافي بلاغة القرآن المجيد. وأمّا لو فرضنا أنّ الآية تتعلّق بالمتعة - كما هي - فإنّها تبين حكماً ثانياً ومستقلاً، وحينئذ لا يستدعي التكرار، ولا يرد على القرآن أي نقد.

وبعبارة أخرى يلاحظ من خلال التدبّر في سورة النساء أن السورة قد بينت وذكرت النساء اللاتي يُحرم نكاحهن ، وتبيّن كذلك الطرق التي بها تحلّ النساء للرجال وهي أربع :

1 - الزواج الدائم بالحرّة .

ص: 406


1- تفسير الطبري 5: 108
2- تفسير الكشاف 1 : 498
3- التفسير الكبير 10 : 51
4- تفسير الطبري 5: 9
5- النساء : 3

2 - ملك اليمين .

3 - الزواج بالإماء .

4 - الزواج المؤقت.

فأما حكم الزواج الدائم والزواج بملك يمين فقد ورد ذكره في الآية الثالثة من سورة النساء حيث قال تعالى: «فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ... أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ

وحكم الزواج بالإماء فهو مذكور في الآية الخامسة والعشرين في قوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ » .

وفي آية : «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» . التي هي محلّ بحثنا بين الله

عزّ وجلّ حكم النوع الرابع من الزواج وهو الزواج المؤقت أو المتعة .

وأمّا السنّة : فقد دلّت على مشروعية المتعة من خلال تظافر الأحاديث المتواترة التي أوردها الشيعة والسنة.

وقد أخرج البخاري ومسلم في بيان مشروعية المتعة روايات عديدة باسنادهما عن سلمة بن أكوع، جابر بن عبدالله عبدالله بن مسعود، ابن عباس ، سبرة بن معبد، أبو ذر الغفاري، عمران بن حصين، وأكوع بن عبدالله الأسلمي.

ولمّا كان نقل جميع الأحاديث المروية في هذا الموضوع يستدعي الإطالة والإطناب وبحاجة إلى كتاب مستقل اكتفينا بذكر بعض مما روي في الصحيحين :

1 - أخرج مسلم في صحيحه باسناده عن سلمة بن أكوع وجابر بن عبدالله الأنصاري قالا : خرج علينا منادي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )فقال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أذن لكم أنْ

ص: 407

تستمعتوا - يعني متعة النساء (1).

وأخرجه مسلم بلفظ آخر : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )أتانا فاذن لنا في المتعة(2).

وأخرجه البخاري بلفظ ثالث : كنّا في جيش فأتانا رسول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا (3).

2 - روى مسلم أيضاً عن جابر بن عبدالله قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر

والدقيق الأيّام، على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وأبي بكر . حتى نهى عنه عمر ، . في شأن عمرو

ابن حريث(4).

أقول : ذكر ابن حجر قصة عمرو بن حريث بنحو الإجمال والإختصار فقال :دخل عمرو بن حريث الكوفة وتمتع بامرأة فحملت المرأة منه ، فجاءت به وهي حامل منه إلى الخليفة عمر ، فسأل عمر عمرو عن القصّة فاعترف عمرو، ومن بعدها نهى الخليفة عن المتعة(5).

3- وأخرجا باسنادهما عن عبد الله بن مسعود فقال : كنا نغزو مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) ليس لنا نساء . فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك . ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله : «يا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدين »(6)(7).

ص: 408


1- صحیح مسلم :2 : 1022 کتاب النکاح باب«3»باب نكاح المتعة ح 13
2- المصدر ح 14
3- صحيح البخاري 7 : 16 كتاب النكاح باب نهي رسول الله عن نكاح المتعة آخراً
4- صحیح مسلم :2 : 1023 کتاب النکاح باب «3» باب نكاح المتعة ..16
5- فتح الباري 9 : 141
6- المائده : 87
7- صحيح البخاري 6: 66 كتاب التفسير تفسير سورة المائدة باب (يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وج 7 : 5 كتاب النكاح باب ما يكره من التبتل والخصاء ، صحيح مسلم 2 : 1022 کتاب النکاح باب «3» باب نكاح المتعة ... ح 11

أقول : أخرجه مسلم بثلاثة أسانيد عن ابن مسعود ، ولا يخفى فإن قراءة ابن مسعود لهذه الآية اعتراض وانتقاد على من حرّم هذا النوع من الزواج - المتعة .. وكأنه أراد أن يقول : انّ هذا الزواج من الطيّبات، وإنّه قد شرع في الدين كسائر التشريعات والقوانين الشرعية، وأنّ حكمه باقٍ إلى أبد الآباد وتحريمه يعتبر اعتداء وتجاوز على

الحدود الالهية.

وقال النووي في شرحه لرواية ابن مسعود : فيه إشارة إلى أنّه كان يعتقد إباحتها كقول ابن عباس ، وإنّه لم يبلغه نسخها (1).

4 - روى مسلم عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبدالله ، فأتاه آت، فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله الله . ثم

نهانا عنهما عمر . فلم نعد لهما (2).

3-عمر يحرّم المتعة

علم مما ذكرناه في الصفحات السابقة أنّ مشروعية المتعة كانت ثابتة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) ثبوتا قطعياً ودلّت عليه الآية القرآنية والسنّة النبوية ودليل الاجماع .

وكذا علم من مضامين ثلاثة أحاديث من الأحاديث الخمسة التي ذكرناها انّ المتعة كان يعمل بها على عهد الرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، وإنها كانت مباحة في عهد الخليفة أبي بكر، وفترة من عهد الخليفة عمر ومن عمر ومن ثُمّ نهى عنها عمر .

وهاك أيّها القارىء الكريم تصريحات بعض المؤرّخين والمحدثين في هذا الموضوع:

أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده باسناده عن أبي نضرة قال: قلت لجابر بن عبد الله : إن ابن الزبير (رحمه الله ) ينهى عن المتعة ، وابن عباس يأمر بها قال : فقال لي : على يدي

ص: 409


1- شرح صحیح مسلم :9 182
2- صحیح مسلم :2 : 1023 کتاب النکاح باب «3» باب نكاح المتعة .... 17

جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )تمتعنا مع رسول الله الله ومع أبي بكر ، فلما ولّى عمر خطب الناس فقال :

إنّ القرآن هو القرآن، وإن رسول الله هو الرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )،وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ): أحدهما متعة الحج، والأخرى متعة النساء(1).

أقول : ذكرنا آنفا في فصل متعة الحج إنّ الإمام أحمد بن حنبل قد أسقط المقولة

الاخيرة من كلام الخليفة حيث قال : «وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما »(2).

قال السيوطي : عمر بن الخطاب أول من حرم المتعة (3).

وقال ابن رشد الأندلسي: واشتهر عن ابن عباس تحليلها وتبع ابن عباس على القول بها أصحابه من أهل مكة وأهل اليمن ، ورووا أنّ ابن عباس كان يحتج لذلك بقوله

تعالى:« فما استمتعتم به .... »وفي حرف عنه« إلى أجل مسمى ».

ورُوي عنه أنّه قال : ما كانت المتعة إلا رحمة من الله عزّوجلّ رحم بها أمةمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم )، ولولا نهى عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقى.

ورواه عنه ابن جريج وعمرو بن دينار وعن عطاء قال : سمعت جابر بن عبدالله يقول : تمتعنا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وأبي بكر ونصفاً من خلافة عمر، ثم نهى عنها عمر الناس(4).

أقول : إنّ ابن جريج الذي قال بجواز المتعة والذي نقل عنه الفقيه الفيلسوف ابن رشد هو أفقه علماء مكة في عهده توفّي عام 150 من الهجرة .

قال عبدالله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : من أوّل من صنف الكتب ؟ قال : ابن

جريج (5).

ص: 410


1- مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 52
2- راجع ص 398 هامش 1
3- تاريخ الخلفاء : 137 فصل في أوليات عمر
4- بداية المجتهد 2 63
5- تهذيب التهذيب لابن حجر 6: 403 و 406 ترجمة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي رقم 855

وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي : استمتع ابن جريج بسبعين امرأة(1).

وقال الرجالي المعروف الذهبي : - ابن جريج - هو أحد الأعلام الثقات وكان فقيه أهل مكة ، وهو في نفسه مجمع على ثقته مع كونه قد تزوّج نحواً من سبعين امرأة نكاح المتعة ، وكان يرى الرخصة في ذلك (2) .

قال الفاضل القوشجي : إنّ عمر صعد المنبر وقال : أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، أنا أنهى عنهنّ وأحر مهنّ وأعاقب عليهن وهي : متعة النساء ومتعة الحج وحيّ على خير العمل (3).

وقال محمد بن المنصور : كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فن-ودي بتحليل المتعة . فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء : بكرا غداً إليه ، فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا ، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل . قال : فدخلنا عليه وهو يستاك ، ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وعلى عهد أبي بكر الله وأنا أنهى عنهما ، ومن أنت يا جُعَل حتى تنهى عمّا فعله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وأبو بكر ؟ فأوما أبو العيناء إلى محمد بن منصور وقال : رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول ، نكلّمه نحن ؟ فامسكنا . فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا وكلّمه يحيى وأخبره بقيام الناس ... فانصرف المأمون عن رأيه(4) .

4-دعوى النسخ في المتعة

لقد تذرّع علماء أهل السنة في تبرير مواقف الخلفاء، وتثبيت مقامهم وتنزيههم من النقد والمؤاخذة بسبب التحريفات والتغييرات التي أوجدها الخلفاء في الأحكام إلى

ص: 411


1- تهذيب التهذيب لابن حجر 6: 403 و 406 ترجمة عبدالملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي رقم 855
2- میزان الاعتدال 2 : 659 ترجمة عبدالملك بن عبد العزيز بن جريج رقم 5227
3- شرح التجريد للقوشجي المقصد الخامس : الامامة : 386 ، شرح نهج البلاغة 1 : 182
4- وفيات الأعيان 6: 149 ترجمة يحيى بن أكثم رقم 793

أحد هذين الطريقين : 1 - جعل الحديث . 2 - ادعاء الاجتهاد.

وانهم يحاولون أن يثبتوا حكم الخليفة اولاً : بأنْ يُوضعوا أحاديث وينسبوها إلى

الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )ويعبرون عنها بأنها صادرة عنه(صلى الله عليه وآله وسلم ) . وثانياً : إذا لم تسنح لهم الفرصة في الوضع والجعل فانهم يعمدون إلى القول باجتهاد الخليفة وينسبون الحكم المخالف لحكم الرسول الا الله بأنه مما اجتهد فيه الخليفة . وثالثاً : فإنّهم يستفيدون من كلا الناحيتين كما هو فی المتعة فانها ذوجنبتين أي أنّهم يقومون بوضع الحديث وادعاء الاجتهاد.

وقد ثبت في كتب الحديث والتاريخ أنّ المتعة كانت مباحة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )وعهد أبي بكر وفترة من خلافة عمر بن الخطّاب وكان المسلمون يأتمرون فيها بأمر من الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم ).

والذي نهى عنها هو عمر بن الخطاب وهدّد من يخالف رأيه بأشد العقوبات . وقد ذكرنا فيما سبق بعض الأحاديث وأقوال المؤرّخين فيما يختص بالموضوع . ومع ذلك نرى أن بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )الذين كانوا رواة وعلماء ومفسّرين أعلنوا مخالفتهم الصريحة لأمر عمر وفتواه وأثبتوا حكم جواز المتعة قولاً وعملاً.

ولكن عالج بعض العلماء من أهل السنّة حكم الخليفة وتثبيت فتواه بالتوجيه التالي أولاً بأنّ آية المتعة وحكم جوازها هي من الآيات والأحكام المنسوخة ورووا في هذا الادعاء أحاديث موضوعة، وتارة أخرى يدّعون بأنّ منع المتعة هو من اجتهادات الخليفة عمر

(1).

ولمّا كان موضوع النسخ في آية المتعة والحكم بجواز الزواج المنقطع بحاجة إلى تفصيل وتبيين أكثر وكتاب مستقل في الموضوع فإنّنا نرجو من القراء الكرام مطالعة الكتب الأخرى التي كتبت في هذا الموضوع(2).

ص: 412


1- كما ذهب الفاضل القوشجي إلى القول بأن المنع مسألة اجتهادية وإن القول بالنسخ في هذه المسألة مرفوض
2- راجع : الغدير للعلامة الأميني الجزء السادس ، تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي الجزء الرابع، المتعة لتوفيق الفكيكي ، البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي: 333 - 351

إنّ الذين قالوا بأنّ حكم المتعة منسوخ ونسبوا هذا النسخ المزعوم إلى عهد الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )أقوالهم متشتتة ومتضاربة، بحيث لا يمكن الجمع بينها، وهذا الاضطراب بنفسه دليل آخر على كون ادعاء النسخ تحكّم وافتراء.

وذلك لأنّ بعضهم ادعى بأنّ الناسخ آية، وادعى آخرون بأن الناسخ هو السنة والأحاديث الصحيحة واما أقوال المدعين في كل من الناسخ سواء كان آية او حديث

مضطربة.

فمثلا إنّ القائلين بأنّ المتعة نُسِخت بآية من القرآن يلاحظ أنهم قد اختلفوا في تعيين الآية الناسخة إلى خمسة أقوال :

القول الأوّل : بأنّها نُسِخت بقوله تعالى :«وَالَّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أزْوَاجِهِمْ» (1).

والقول الثاني : فإنّ الآية الناسخة هي آيات العدّة (2).

الثالث : إنّ الآية الناسخة هى آية الإرث(3) .

القول الرابع: آية التحريم(4).

والقول الآخر : هي الآية التي ذكرت فيها تعدّد الزوجات (5).

بينما لانرى بين مفهوم الآيات المذكورة وآية المتعة أيّ تضارب ولا تناقض حتى

تنسخها وكذا نشاهد أنّ بعض هذه الآيات (6) مكّية وآية المتعة مدنية فكيف يتصوّر أن

ص: 413


1- المؤمنون : 7
2- البقرة : 228
3- النساء : 12
4- النساء : 23
5- النساء : 3
6- مثل الآية 7 من سورة المؤمنون

يُنْسخ ما نزل مؤخراً بما نزل مقدّماً ؟

وأمّا الذين قالوا ان آية المتعة نسخت بالسنّة والحديث لهم خمسة عشر قولاً كذلك، لأن بعض هذه الأحاديث يقول : نسخت آية المتعة في غزوة خيبر ، وبعضها يقول : في فتح مكة . وقيل : في غزوة تبوك. وقال آخرون : نسخت في حجة الوداع . وادع--ى آخرون أنها نسخت في غزوة حنين (الأوطاس) (1).

ولكن القول الحق انّ الروايات التي وردت في صحيح البخاري وصحيح مسلم، تقول : بأنّ آية المتعة لم تنسخ أبداً لا بآية ولا بحديث، بل إنّ المسلمين كانوا يعملون بها

على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )وأبي بكر ونصفاً من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر(2)

وأمّا الروايات التي قيل انها ناسخة للمتعة علاوة عل-ى ما في-ها من التناقضات والاضطراب فيما بينها ، وإنّها تخالف الكثير من الروايات الصحيحة التي تقول بعدم النسخ فإنّها أخبار آحاد وثبت في محله بأنّ القرآن لا يُنسخ بالخبر الواحد.

5-الافتراءات الشائعة

اشرنا سابقاً أنّ حكم المتعة ثابت كتاباً وسنة، وبالرغم من أن حدود المتعة وشروطها قد ذكرت بالتفصيل وببيان واضح في الكتب الفقهية الشيعية ، مع هذا نرى أنّ بعض علماء أهل السنّة ومؤلّفيها تشبّثوا بكل حشيش ، كالغريق، وما وسعهم إلّا أنْ يكتبوا ما توهموه من الأباطيل ، ورشحتها خزعبلاتهم الفكرية حول المتعة او لما نجم من جمودهم الفكري وتعصبهم المفرط، فاتهموا الشيعة بأراجيف موهومة ونسبوا اليهم الافتراءات والأكاذيب.

ونذكر للقراء أربعة من تلك الأقوال:

ص: 414


1- يمكن الاطلاع على هذه التناقضات والتضارب الموجود في المسألة عن طريق التأمل في الأحاديث المروية في هذه المسألة ، وقد جمعها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 9: 145-0148
2- راجع صحيح البخاري وصحيح مسلم كتاب النكاح في نكاح المتعة

1 - كلمة الشيخ محمد عبده : قال في مكافحته للمتعة : فان المتمتع بالنكاح المؤقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة، بل يكون قصده الأوّل المسافحة، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقل في دمن الزنا، فإنّه لا يكون فيه شيء م- من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل، فتكون كما قيل :

كرة حذفت بصوالجة * فتلقفها رجل رجل(1)

أقول : يظهر من توهم صاحب المنار إن بين الزواج المؤقت «المتعة» والعفة والزواج الشرعي منافاة وتباين حيث ادّعى أنّ الزوجة المؤقتة بالتمتع» ليست زوجة شرعية ولذا عبر عن الزواج المؤقت بالسفاح والزنا.

وقد أوضحنا فيما سبق أنّ المتعة شبيهة بالزواج الدائم من حيث الشروط والعدة.

وأما تشبيه صاحب المنار المرأة في المتعة بالمرأة التي تؤجر ، بالكرة التي يتلقفها الرجال واحد بعد آخر فيه : أولاً : لو كان هذا الادعاء صحيحاً فإنّ الإيراد يرد أوّلاً وبالذات على أصل تشريعه في عهد الرسول لأنه لا يمكن تصوّر هذا التشبيه والتقبيح بأنّه منحصر بزمان دون زمان، ولا يشكّ أحد أنّ المسلمين الأوائل كانوا يتمتعون على عهد الرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، ثم نستثني القبح عن هذا الزمان من بقية الأزمنة، لأنّ الشيء القبيح بظل قبيحاً إلى الأبد ولا يزول القبح عنه .

وثانياً : لو فرضنا صحة هذا التوهم والإشكال فإنّه يرد أيضاً على الزوجة الدائمة فإنّه لا يحق لها أن تتزوج رجلاً آخر بعدما حصل لها الطلاق من الزوج الأول، وهكذا لما تطلق من الزوج الثاني لا يجوز لها الزواج بالثالث ،لأنّها حينئذ تكون لعبة وكرةحسب تعبير الشيخ محمد عبده - بأيدي الرجال والأزواج، وعلى هذا فلا يكون فرق بين الزواج الدائم والمؤقت من هذه الناحية .

وما يثير العجب أن صاحب المنار بعد أنْ أطال الكلام في هذا الموضوع يختتم

ص: 415


1- المنار 5: 13 - 17

كلامه قائلاً : أخشى أن أكون خرجت بهذا البحث عن منهاجي فيه وهو الإعراض عن مسائل الخلاف التي لا علاقة لها بفهم القرآن والاهتداء به ، وعن الترجيح بين المذاهب الذي هو مثار تفرّق المسلمين وتعاديهم، على أنني أبرأ إلى الله من التعصب والتحيز إلى غير ما يظهر لي أنّه الحق والله عليم بذات الصدور (1).

ومع هذا الكلام تراه ينحاز ويتعصب حتى ينجرّ إلى أن يسخر ويستهزىء بأصل أصيل ثابت حكمه في القرآن والسنة وإجماع المسلمين.

2 -كلمة موسى جار الله : أرى أن المتعة من بقايا الأنكحة في الجاهلية كانت أمراً

تاريخياً لا حكماً شرعياً بقيت في صدر الاسلام بقاء العوائد التي لا تستأصل إلا بزمن فالعرب قبل الإسلام كان لها أنكحة دامت حتى صارت عادة أبطلها الإسلام يمكن ان البعض كان يرتكب - المتعة - في صدر الإسلام جرياً على العادة مستحلّا أو جاهلاً، ويمكن أنّ الشارع أقرّها لبعض في بعض الأحوال من باب ما نزل فيها ما قد سلف ، وقد نزل في أشدّ المحرّمات ونسخت و حرمت تحريم أبد ولم يكن نسخها نسخ حكم شرعي بل نسخ أمر جاهلي، ولم يكن في الإسلام نكاح متعة، ليس بيد أحد دليل لإباحتها في زمن من صدر الإسلام ولم تقع من صحابي في الإسلام ولو وقعت فلا يتمكن أحد أن يثبت أنها كانت بإذن من الشارع بل دوام عمل كان في الجاهلية وعادة معروفة ..(2)

أقول : فلو أمعنت النظر أيها القارىء الكريم في الصفحات السابقة وكرّرت مطالعتك فيها يظهر لك جواب ادعاء موسى جار الله وعلمت أنّ حكم المتعة ثبت في القرآن والسنّة ثبوتاً قطعياً وقد اتفقت أقوال المحدثين والمفسّرين بأن المسلمين في صدر

الاسلام قد عملوا بالمتعة .

وما قول جار الله النابع عن العصبية إلا تحكّم وتخرّص واستهزاء وتفكه لما ورد في الكتب الحديثية والتفسيرية والتاريخية ...

ص: 416


1- المنار 5 : 17
2- الوشيعة : تلخيص من ص 121 - 132

«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً

قَليلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ »(1)

3 - فرية الآلوسي : لفّق محمود شكري الآلوسي البغدادي بهتاناً وإفكاً واضحاً فاضحاً على الشيعة فقال : إنّ عند الشيعة متعة أخرى يسمونها المتعة الدورية، ويروون في فضلها ما يروون ، وهي أن يتمتع جماعة بامرأة واحدة فتقول لهم من الصبح إلى الضحى في متعة هذا ، ومن الضحى إلى الظهر في متعة هذا، ومن الظهر إلى العصر في متعة هذا، ومن العصر إلى المغرب في متعة هذا، ومن المغرب إلى العشاء في متعة هذا، ومن العشاء إلى منتصف الليل في متعة هذا، ومن منتصف الليل إلى الصبح في متعة هذا...(2).

لقد أسلفنا البحث حول موضوع المتعة وبيان حقيقتها وماهيتها في بداية هذاالفصل وأن لنا أن نقول ان ما نسبه الآلوسي إلى الشيعة ما هو إلا بهتان واضح وافتراء فاضح.

أليس من سائل يسأل هذا الآلوسي : أيّ شيعي هذا الذي يقول بهذا الرأي وهذا النوع من المتعة ؟

وأيّ رواية عثر عليها الآلوسي تروي لنا هذا النوع من المتعة ؟

ومن هو الراوي الذي ذكر فضائل لهذه المتعة الآلوسيّة ؟

وفي أي كتاب نقلت هذه الروايات التي افرزتها خيالات وتوهمات الآلوسي ؟

وما هي الكتب الحديثية والتفسيرية الشيعية التي رويت فيها هذه التخرصات الآلوسية؟

واي عالم او جاهل شيعي يفتي بصحة هذا النوع من المتعة الآلوسية ؟

ص: 417


1- البقرة : 79
2- الفصول المهمة : 65

«كَبُرَتْ كَلمةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» (1).

4 - عصبية الشيخ محمود شلتوت : هو الرئيس السابق لجامعة الأزهر بمصر وأحد العلماء المتفتحين علميّاً والواعين والمعروف عنه أنه لا تأخذه العصبية. فتراه لما يأتي

على ذكر المتعة يتعصب ويبرز شنشنته فيقول :

زواج المتعة - ومنه الزواج إلى أجل - هو أن يتفق رجل مع إمراة خالية من الأزواج

على أن تقيم معه مدّة ما معيّنة أو غير معيّنة في مقابلة مال معلوم.

واضاف قائلاً : ان القرآن قد ربط بعنوان الزوجية أحكاماً كثيرة كالتوارث وثبوت النسب والنفقة والطلاق والعدّة وليس شيء من هذه الأحكام بثابت فيما يعرف بزواج المتعة

(2).

لقد ذكرنا آنفاً أنّ أحد شروط المتعة هو تعيين المدة وهكذا العدّة بأقسامها والتناسب والتوارث فإنّها من شروط المتعة وأما ادعاء أن الزواج المؤقت نوع من المتعه فإنه ناشيء عن ..... وليس بصحيح ولا معنى له .

«أَفَرَأَيْتَ مَن اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَواه وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ

عَلَى بَصَرِه غَشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» (3).

7-صلاة التراويح
اشارة

وهي صلاة نافلة تقام في ليالي شهر رمضان بنحو الجماعة .

وهذه الصلاة ما سنّها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )، ولا كانت على عهده، وحتى أنها لم تكن عل-ى عهد أبي بكر، وفترة من عهد عمر بن الخطاب، ولا شرع في الإسلام إقامة النوافل جماعة إلا صلاة الاستسقاء، واقامة الصلاة جماعة إنّما هي في الصلوات الواجبة فقط.

ص: 418


1- الكهف : 5
2- الفتاوی 1 : 273
3- الجاثية : 23

وفي العام أربع عشر من الهجرة ابتدع الخليفة هذه الصلاة، وألزم المسلمين أن يقيموا النوافل في ليالي شهر رمضان جماعة ، وكتب بذلك إلى البلدان والولاة ونصب في المدينة إمامين يصلّيان بالناس وهما : أبي بن كعب إماماً للرجال، وتميم الداري إماماً

للنساء.

وحسبك أيها القارىء الكريم ما روي بهذا الصدد في الصحيحين وبعض المصادر المعتبرة الأخرى.

1 - روى البخاري باسناده عن عبدالرحمن بن عبدالقاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد فإذا الناس اوزاع متفرّقون ، يصلّي الرجل لنفسه ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط . فقال عمر : إنّي أرى لو اجتمع هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم . قال عمر : نعم البدعة هذه...(1).

2 - وأخرج هو ومسلم معاً باسنادهما عن ابن شهاب، عن حميد بن عبدالرحمان، عن أبي هريرة أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، قال : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه .

قال ابن شهاب : فتوفّي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )والأمر على ذلك - عدم الجماعة في النوافل ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما (2).

قال ابن سعد : وهو - أي عمر - أوّل من سنّ قيام شهر رمضان، وجمع الناس على ذلك وكتب إلى البلدان، وذلك في شهر رمضان سنة اربع عشرة وجعل للناس بالمدينة

ص: 419


1- صحيح البخاري 3 : 58 كتاب الصوم باب فضل من قام رمضان
2- صحيح البخاري 58:3 كتاب الصوم باب فضل من قام رمضان ، صحیح مسلم1: 523 كتاب الصلاة باب 25 باب الترغيب في قيام رمضان ،ح174

قارئين قارئاً يصلي بالرجال، وقارنا يصلي بالنساء(1).

ذكر اليعقوبي في حوادث سنة أربع عشرة وفي هذه السنة سن عمر قيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان ، وأمر أبي بن كعب وتميم الداري أن يصلّيا بالناس.

فقيل له فى ذلك : إن رسول الله لعل الله لم يفعله ، وإنّ أبا بكر لم يفعله . فقال : إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة...(2).

وقال السيوطي: وفي سنة أربع عشرة جمع عمر الناس على صلاة التراويح(3).

سيرة امير المؤمنين علي (علیه السلام)

يستفاد من مضامين الشواهد التاريخية ومتون الأحاديث أنّ أمير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) الجاهد في أيام خلافته أن يعيد هذه الصلاة على ما كانت عليه في عه-د رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )ويطبق أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )خاصة فيما يتعلّق بهذه العبادة، ولكن ثمة بعض الأسباب والعوامل - منها : جهل بعض المسلمين - شلّت عزيمة الإمام(علیه السلام) وحالت دون تطبيق نواياه .

وقد أشار الإمام علي(علیه السلام) إلى هذا الأمر في إحدى خطبه فقال :

ولو أمرت الناس أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، لنادى بعض الناس من أهل العسكر ممّن يقاتل معي : يا أهل الاسلام وقالوا: غيّرت سنة عمر ، نهينا أن نصلّي في شهر رمضان تطوّعاً ، حتى خفتُ أنْ يثوروا في ناحية عسكري، بؤسي لما لقيت من هذه الأمة بعد نبيها من الفرقة، وطاعة أئمّة الضلال والدعاة إلى النار(4) .

نقل ابن أبي الحديد عن كتاب الشافي : وقد رُوي أن أمير المؤمنين(علیه السلام) لما اجتمعوا

ص: 420


1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 281 ، وفي إرشاد الساري 3: 425 رواه بلفظ آخر
2- تاريخ اليعقوبي 2 : 140
3- تاريخ الخلفاء : 131
4- كتاب سليم بن قيس الهلالي : 163

إليه بالكوفة ، فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلّى بهم نافلة شهر رمضان، زجرهم وعرفهم أن ذلك خلاف السنّة النبوية فتركوه، واجتمعوا لأنفسهم ، وقدّموا بعضهم فبعث إليهم ابنه الحسن(علیه السلام) فدخل عليهم المسجد، ومعه الدرّة ، فلما رأوه تبادروا الأبواب، وصاحوا واعمراه (1).

استجواب العيني

وقال العيني في شرحه على البخاري في بيان قول عمر : ونعم البدعة .

وإنما دعاها عمر بدعة لأن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يسنّها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر ، ثمّ إنّ البدعة إن كانت ممّا يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة (2) .

ونسائل العيني: إنّك قد اعترفت وألزمت نفسك بأنّ هذه الصلاة بدعة، ولكن من

اين لك أن تحكم بأنها بدعة حسنة ؟

فإن قلت : إنّ هذه البدعة الحسنة !! أفضل من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )فهو كفر وضلال . وإنْ قلت : إنّ سنّة الرسول الله أفضل فعليك أن تتبع السنّة النبوية الراجحة وتترك البدعة المرجوحة والباطلة .

فما قولك يا عيني ، ومن كان على شاكلتك ؟

8-التطليقات الثلاث
اشارة

ما هي التطليقات الثلاث ؟

إنّ الطلاق الثالث الذي يحرم المطلقة على مطلقها، هو : أن يطلق المرء إمرأته مرتان وفي كلّ مرّة يرجعها أو يتزوجها بعد انقضاء العدّة ، وفي المرة الثالثة لو طلقها لا تحلّ له حتى يتزوجها محلّل ثمّ يطلقها أو يموت عنها فبعد ذلك يمكن أن يتزوجها الزوج

الأوّل.

ص: 421


1- شرح نهج البلاغة 12 : 283
2- عمدة القارى 11 : 126

وقد جاء هذا الحكم في القرآن صريحاً وبيّناً وقال تعالى: « الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْريح بإحسان ... إلى أن قال ... فإن طَلقَها فَلا تَحِلَّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه » (1).

الجملة الإسمية «الطلاق مرتان» صريحة بأنّ الطلاق لابد وأن يكون متعدّداً ولو

طلق الرجل زوجته مرّة واحدة ، وقيده بعدد الثلاثة، كأن يقول لها : طلّقتكِ ثلاثا، فإنّ هذا الطلاق يعدّ مرّة واحدة ولم تتطلّق الزوجة لنص القرآن في ذلك، وللرجل أن يرجع إليها، ولم يستوجب حرمة الرجوع، أو الزواج بها مرة أخرى.

قال الزمخشري في بيان الطلاق مرتان :

التطليق الشرعي الذي لا تحلّ المرأة لزوجها - هو تطليقة بعد تطليقة عل-ى التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية - أي أن يقول :طلقتك طلاقين ، ولكنّ التكرير كقوله : «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَين » (2) أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين(3).

فالمسألة من الناحية القرآنية، وسنّة الرسول واضحة ،وسيرته(صلى الله عليه وآله وسلم) مؤيدة لهذه المسألة بحيث لا إبهام فيها .

وأمّا تحريم الخليفة عمر بن الخطاب المرأة المطلقة بهذه الكيفية على زوجها إعراض عن التعدّد والتكرار في الطلاق، واكتفى بتقييد الطلاق بعدد ثلاثة لفظاً ، بأنْ يقول الرجل مرّة واحدة لزوجته : انتِ طالق ثلاثاً . فإنّ الخليفة عمر يرى أنّ هذه المرأة قد طلقت وحرمت على الرجل حرمة أبدية ، ولا يحق له الرجوع إليها والزواج بها ثانية إلا

أن تنكح زوجا غيره.

وإليك أيها القارىء الكريم بعض الأحاديث ممّا روي في صحيح مسلم :

ص: 422


1- البقرة : 299 - 230
2- الملك : 4
3- تفسير الكشاف 1 : 273 ذيل آية 229 من البقرة

1 - قال ابن عباس : كان الطلاق على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم (1).

وعن طاووس قال : إنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن

الطلاق الثلاث على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر واحدة ؟

فقال: قد كان ذلك، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (2).

هذا ما استخرجه مسلم في صحيحه حول مسألة التطليقات الثلاثة، وهي ثابتة في كتب التاريخ والحديث والمصادر المعتبرة ثبوت المسلّمات بأنّ الطلاق المقيّد بالعدد كان طلاقاً واحداً ، حتى عهد الخليفة عمر حيث أفتى الناس، بأن الطلاق المقيد بالعدد ثلاثة لفظاً ، هو ثلاث تطليقات، وبعده يوجب التحريم وحرمة رجوع الزوج إليها .

وعلى خطى عمر بن الخطاب أفتى أكثر علماء أهل السنة وأئمتهم الأربعة عبر التاريخ بحرمة المتعة . ولم يتعدوا فتوى الخليفة عمر ، واليوم كذلك تبعاً للسلف أفتى علماؤهم بذلك الحكم، ولا يخفى على أحد أنّ هذه الفتوى - المباينة للنص الصريح ممّا جاء به القرآن - قد عورض من قبل الآخرين، المخالفين لهذا الرأي، حيث إنّهم أنكروا ذلك تارة بالصراحة ، وتارة بالكناية والإيماء، حتى آل الأمر إلى إلغاء فتوى عمر من جانب المحاكم الشرعية فى مصر وفقيهها الأعظم.

وحسبك - يا قارئي الكريم - الفتاوى المصرحة وآراء علماء أهل السنة المخالفة الرأي عمر نوردها اليك بالإجمال.

ص: 423


1- صحیح مسلم :2 : 1099 کتاب الطلاق باب «2» باب طلاق الثلاث ح 15
2- المصدر نفسه ح 17
مجرى التطليقات الثلاث

قال ابن رشد الأندلسي : المسألة الأولى : جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ - ثلاث - حكمه حكم التطليقة الثالثة لا تحل الرجوع بعد ذلك(1).

وقال الجزيري في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة : فإذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن قال لها : أنتِ طالق ثلاثاً لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأى الجمهور (2).

وتلاحظ في هاتين المقولتين أنَّ ابن رشد وكذا الجزيري كشفا عن مخالفتهما لهذه

النظرية - رأي عمر - في الطلاق، وأبديا أنّ هذا الرأي العمري هو خلاف الواقع وهو من الأحكام المبتدعة - المختلقة ..

فأما ابن رشد يردّ هذه النظرية باسلوب كنائي جميل وذلك في ثنايا بيانه لمسألةأخرى غير مسألة الطلاق . قال : إنّ من ألزم الطلاق الثلاث في واحدة ، فقد رفع الحكمة

الموجودة في هذه السنّة المشروعة(3).

وأما الجزيري مؤلّف الفقه على المذاهب الأربعة بعد أن ذكر أدلة الطرفين المخالف

والموافق في مسألة الطلاق، اعتبر هذه المسألة من المسائل الاجتهادية وصيّر مخالفة ابن عبّاس لعمر مخالفة مجتهد لآخر وبعد ذلك قال :

وممّا لا شكّ فيه أنّ ابن عبّاس من المجتهدين الذين عليهم المعوّل في الدين ،

فتقليده جائز ولا يجب تقليد عمر فيما رآه ، لأنه مجتهد ، وموافقة الأكثرين له لا تحتم تقليده - عمر (4).

وقال الشيخ محمد عبدة بعد بحث طويل حول آية الطلاق : إنّ إنشاء الطلاق ثلاثاً

ص: 424


1- بداية المجتهد 2 : 66 كتاب الطلاق
2- الفقه على المذاهب الاربعة 4 : 341
3- بداية المجتهد 2 : 68 كتاب الطلاق ذيل مسألة 3.
4- الفقه على المذاهب الاربعة 4 : 341

بالقول ليس في قدرة الرجل إيقاعه مرّة واحدة، ذلك إنّ الأمور العملية لا تتكرّر بتكرّر القول المعبّر عنها بل ولا القولية أيضاً ، فمن فسخ العقد مرّة وعبّر عنها بقوله ثلاثة فهو كاذب .

ثم يضيف عبده على خبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً .... فقام (صلى الله عليه وآله وسلم ) غضبان . ثم قال : أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟

وأضاف الشيخ محمد عبده :

وليس المراد من اطالة الكلام في هذه المسألة - مجادلة المقلدين ، أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فيها ، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ، لأن العمل عندهم، على أقوال كتبهم ، دون كتاب الله تعالى وسنة رسوله(1).

وفي عام 1929 من الميلاد - أي قبل 69 عام - ألغت المحاكم الشرعية بمصر حكم عمر، من دستورها وبعدها بفترة وجيزة أفتى شيخ الأزهر ورئيسها والمرجع الأعلى لأهل السنّة الشيخ محمود شلتوت فقال : والذي نراه في المسألة - من جهة الوقوع وعدمه ونفتي به هو الرأي الذي اختاره قانون المحاكم الشرعية الصادر سنة 1929 وهو أنّ الطلاق المقترن بعدد كأن يقول الرجل لامرأته : أنت طالق بالثلاث - لا يقع إلا طلقة واحدة رجعيّة بيّة(2) .

أما تأثير هذه الفتاوي والآراء - النافية لفتوى عمر وصمودها أمام رأي الخليفة - على المذاهب الاربعة السنّية وأتباعهم ، لاشك فانها بحاجة إلى زمن أطول حتى تتحرّر من الأغلال والقيود التقليدية العمياء والتعصب الجاهلي.

9- البكاء على الموتى

حزن الإنسان عند موت أحبته وبكائه عليهم، مسألة نفسية ومن مستلزمات

ص: 425


1- تفسير المنار2 :387-381
2- الفتاوى : 305

العاطفة البشرية، وهما من مقتضيات الرحمة والشفقة الإنسانية.

وقد أباح الدين الإسلامي البكاء على الأموات والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )نفسه كان يب-كي على الأموات وخاصة الذين استشهدوا في سبيل الله .

وورد في الكتب والمصادر الدينية إنّ البكاء على الأموات كان سيرة متبعة عند المسلمين ، وحيث إنّه لم يتماش مع قريحة الخليفة عمر بن الخطاب، ولم يوافق رأيه نهى عنه نهياً شديداً ، وكان يضرب فيه بالحصا والعصا الذين يبكون على أمواتهم مهما كان الميت عظيماً ومكرّماً .

ونورد لك - أيها القارىء -الأحاديث الدالة على أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )كان يبكي على الأموات وينعاهم، وبعدها نذكر موقف الخليفة عمر بن الخطاب تجاه مسألة البكاء على الموتى ، ممّا ورد في المصادر التاريخية وخاصة الصحيحين :

روى البخاري باسناده عن أنس بن مالك : ان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )نعى جعفراً وزيداً قبل أن يجيء خبرهم وعيناه تذرفان (1).

وروى أيضا عنه قال : ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )تذرفان . فقال له عبدالرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله؟فقال : ابن عوف إنّها رحمة ثمّ أتبعها بأخرى فقال : إنّ العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون(2) .

وأخرج مسلم في صحيحه : زار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )قبر أمه فبكى وأبكى من حوله (3).

وفي صحيح البخاري روايات متواترة حول بكاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )وبضعته فاطمة

ص: 426


1- صحيح البخاري :2 : 104 كتاب الجنائز باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن
2- صحیح البخاري 2 : 105 كتاب الجنائز باب قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنا بك لمحزونون
3- صحیح مسلم :3: 671 كتاب الجنائز باب «36» باب استئذان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ربه في زيارة قبر امه ح 108

الزهراء لا اكتفينا بذكر ثلاثة منها (1).

وأما ما ورد في الصحيحين عن نهي الخليفة عمر بن الخطاب. فنذكر بعضه :

أخرج البخاري باسناده عن عبدالله بن عمر في حديث حول مرض سعد بن عبادة وعيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إياه وبكائه على سعد . وثمّ يذكر مخالفة أبيه عمر بن الخطاب لأمر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم ).

فقال : اشتكى سعد بن عبادة شكوى له ، فأتاه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )يعوده مع عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله. فقال : قد قضى ؟ قالوا : لا يا رسول الله، فبكى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )، فلما رأى القوم بكاء النب-ي(صلى الله عليه وآله وسلم ) بكوا. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم ): ألا تسمعون إنّ الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه أو يرحم . وإنّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه .

وكان عمره يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثو بالتراب(2).

وأخرج مسلم هذا الحديث ولكن أسقط القسم الأخير منه (3).

وكذا أخرج البخاري في صحيحه : وقد أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت(4). وروى أحمد في مسنده عن ابن عباس في ضمن ذكره موت عثمان بن مظعون، لمّا

ماتت رقية ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )فقال(صلى الله عليه وآله وسلم ): الحقى بسلفنا الخير عثمان بن مظعون .

قال : وبكت النساء. فجعل عمر يضربهنّ بسوطه ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمر : دعهن يبكين ، وإيّاكن ونعيق الشيطان.

ص: 427


1- راجع صحيح البخاري 2 : 100 کتاب الجنائز باب قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ): يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه
2- صحيح البخاري106:2 كتاب الجنائز باب البكاء عند المريض
3- صحیح مسلم 2 : 636 كتاب الجنائز باب «6» باب البكاء على الميت ح 12
4- صحيح البخاري 160:3 باب اخراج أهل المعاصي والخصوم

ثمّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ): مهما يكون من القلب والعين فمن الله والرحمة ، ومهما كان من اليد واللسان فمن الشيطان.

وقعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي ، فجعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها (1).

أقول : ونقل ابن سعد هذه القصة بتفاوت يسير في ألفاظها وزاد في آخرها لما قام عمر بضرب النساء وزجرهنّ، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )بيده وقال : مهلاً يا عمر(2).

وكذلك روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة في حديث طويل مرّ عل-ى رسول الله الهه جنازة ، ومعها بواك ، فنهرهنّ عمر . فقال له رسول الله لعل الله : دعهن، فإنّ النفس مصابة والعين دامعة والعهد حديث(3).

قال ابن أبي الحديد : وأوّل من ضرب عمر بالدرّة أُم فروة بنت أبي قحافة - أخت أبي بكر - مات أبو بكر فناح النساء عليه ، وفيهن أخته أم فروة ، فنها هنّ عمر مراراً، وهنّ

يعاودنَ فأخرج أُمّ فروة من بينهنّ وعلاها بالدرّة ، فهر بن وتفرّقن(4) .

10-صلاة المسافر
اشارة

إنّ الصلاة الرباعية - الظهر والعصر والعشاء - تقصر في السفر إلى ركعتين ، ولا فرق نوعية السفر سواءاً كان للتجارة أو الزيارة أو الغزو أو غيره، وقد ثبتت مشروعية هذا

الحكم بالكتاب (5) والسنّة النبوية (6) .

ص: 428


1- مسند أحمد بن حنبل 1 : 335
2- الطبقات الكبرى :3 399 ترجمة عثمان بن مظعون
3- مسند أحمد بن حنبل 2 : 333
4- شرح نهج البلاغة 1: 181
5- سورة النساء : 101
6- راجع صحیح مسلم 1 : 478 - 484 کتاب صلاة المسافرين وقصرها باب «1» باب صلاة المسافرين ،وقصرها صحيح البخاري 2 53 کتاب الصلاة باب ما جاء في التقصير ، سنن ابن ماجة 1 : 338 كتاب الصلاة باب «73» باب تقصیر الصلاة ، سنن أبي داود 2 :3 أبواب صلاة السفر ، سنن النسائي :3: 116 كتاب تقصير الصلاة في السفر

وكان هذا الحكم يعمل به في عهد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )وعهدي أبي بكر وخليفته عمر ومدة من عهد عثمان، وفي النصف الثاني من خلافة عثمان أتم الصلاة وهو في منى مسافراً، وتبعه المسلمون في ذلك، وخالفه آخرون واعترضوا عليه مستنكرين في الإتمام في السفر.

وروى الطبري عن ابن عباس أنه قال : إنّ أوّل ما استنكر على عثمان هو إتمامه الصلاة في منى، وهو مسافر إليها، وأخذ عليه في ذلك ، حتى كان هذا العمل منطلق ثورة المسلمين عليه(1).

وقد ذكر المحدّثون والمؤرّخون والمفسرون في كتبهم تغيير وتحريف عثمان لحكم صلاة المسافر .

وكفاك - يا قارئي - من كلّ ما ورد في هذا الموضوع ثلاث أحاديث أخرجها الشيخان في صحيحيهما :

عن عبد الله بن عمر قال: صليت مع النبي بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر ومع عثمان

صدراً من خلافته ثمّ أتمها(2).

وعن عبدالرحمان بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبدالله بن مسعود فاسترجع -« إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون»(3) - ثم قال : صليت مع

ص: 429


1- تاريخ الطبري 4 : 267 حوادث عام تسع وعشرين
2- صحیح البخارى : 2 53 باب ما جاء في التقصير باب الصلاة بمنى ، صحیح مسلم 1: 482 كتاب صلاة المسافرين باب «2» باب قصر الصلاة في منى ح 16
3- إنّ الاسترجاع عادة ما يقال ويكرّر إذا حلّت بالإنسان مصيبة أو رزية عظيمة كما يدلّ على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة آية 156 . وان استرجاع ابن مسعود يكشف عن عظيم التحريف والتغيير الذي حدث في عهد عثمان من تغيير حكم صلاة المسافر كما لاحظت فی المتن ، وإنّ هذه المخالفة والتحريف لأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )ونص القرآن لهو من الرزايا والمصائب العظيمة التي حلّت بالإسلام والقرآن المعرب

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عم-ر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حطّي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان (1).

وأخرج البخاري حديثاً آخر فيه بأنّ عبد الله بن مسعود لما قال :صليت مع رسول(صلى الله عليه وآله وسلم )لله وأبي بكر وعمر ركعتين في منى ، قال : ثم تفرّقت بكم الطرق فياليت حظ-ي من أربع ركعتان متقبلتان(2).

وقال الطبري في تاريخه في حوادث عام تسع وعشرين : وحج بالناس في هذه السنة ،عثمان ، فضرب بمنى فسطاطاً ، فكان أوّل فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة بها وبعرفة .

فذكر الواقدي عن ابن عباس يقول : إنّ أوّل ما تكلّم الناس في عثمان ظاهراً، أنه صلى بالناس بمنى في ولايته ركعتين، حتى إذا كانت السنة السادسة أتمها فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتكلّم في ذلك من يريد ان يكثر عليه . حت-ى جاء على (علیه السلام) فيمن جاءه ، فقال

(علیه السلام) : والله ما حدث أمر ، ولا قدم عهد ، ولقد عهدت نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلي ركعتين، ثمّ أبا بكر ثم عمر وأنتَ يا عثمان - صدراً من ولايتك ، فما أدري ما ترجع اليه !؟ فقال عثمان : رأي رأيته(3).

مقارنة واستنتاج

هذه الموارد العشرة التي ذكرناها نقلاً عن البخاري ومسلم من الموارد التي خولف فيها النصوص الصريحة في القرآن والسنة النبوية التي اجتهد فيها الخلفاء مقابل النص، وهذه الحقائق الكامنة وراء الدفاع المرير عن الأحكام المذكورة المبتنية عليها جذور الخلافة.

ص: 430


1- صحيح البخاري 2 : 53 أبواب التقصير باب الصلاة بمنى ، صحیح مسلم 483:1 کتاب صلاة المسافرين باب «2» باب قصر الصلاة بمنى ح 19
2- صحيح البخاري 2 : 194 كتاب الحج باب الصلاة بمنى
3- تاريخ الطبري 4: 267 حوادث سنة تسع وعشرين

وهذه الحقائق هي التي دفعت ابن أبي الحديد إلى القيام بالمقارنة والمقايسة بين سيرة امير المؤمنين الإمام علي(علیه السلام)وسائر الخلفاء فقال :

وأما الرأي والتدبير : فكان(علیه السلام)من أسد الناس رأياً، وأصحهم تدبيراً، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أنْ يتوجّه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار ، وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عل-يه ما حدث.

وإنّما قال أعداؤه : لا رأي له لأنه كان متقيّداً بالشريعة لا يرى خلافها، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه، وقد قال(علیه السلام): لولا الدين والتقى لكنتُ أدهى العرب وغيرهمن الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه، سواء أكان مطابقاً للشرع أم لم یکن.

ولا ريب أنّ من يعمل بما يؤدّي إليه اجتهاده، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ومن كان بخلاف ذلك، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب (1) .

ص: 431


1- شرح نهج البلاغة 1: 28
تنبؤات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )

تنبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )بحوادث ووقائع كثيرة سوف تحدث بعد وفاته، وأخب-ر به-ا المسلمين.

ومن تلك التنبؤات : خلافة بني أمية ودولتهم الجائرة(1)، نشأة الخوارج وقتل أمير المؤمنين(علیه السلام) إياهم (2) شهادة عمّار بن ياسر بسيوف الفئة الباغية(3)، والإخبار عن حدوث التحريف والبدع في مختلف أحكام الدين وكلّ هذه التنبؤات مروية في الصحيحين.

واستدامة بما يناسب البحوث السابقة نذكر في هذا الفصل موضوعي التحريف والارتداد اللذين اشير إليهما في الصحيحين ونذكر في كل موضوع منهما طرفاً من الأحاديث:

الارتداد

1 - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )قال : وإن أناساً من

أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال(4)، فأقول : أصحابي ، أصحابي .

ص: 432


1- صحيح البخاري 4 : 242 كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة في الإسلام، وج 9 : كتاب الفتن باب قول النبي هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء
2- صحيح البخاري 4 : 243 كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة في الإسلام، صحيح مسلم 2: 748 كتاب الزكاة باب (48) باب التحريض على قتل الخوارج ح 156
3- صحيح البخاري 1 : 121 کتاب الصلاة باب التعاون في بناء المسجد، صحيح مسلم 4: 2235 كتاب الفتن باب «18» باب لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل ح 70-73.
4- نقرأ في الآيات 41 - 50 من سورة الواقعة أنّ الله عزّ وجلّ ذكر اصحاب الشمال الذين هم من العصاة والمذنبين ومن أهل النار بعد أن استعرض حالات السابقين المقربين واصحاب اليمين الذين حقّهم بالنعم والهبات العظيمة ، فذكر بعد هاتين الفئتين أصحاب الشمال وأشار إلى العقوبات التي يواجهونها ، وألوان العذاب التي تحاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الحواس والقدرة ... ونقرأ معاً الآيات ونتدبّر فيها ونقيسها بما ورد في الحديث النبوي ودخ--ور بعض اصحاب الرسول علي الله في دائرة أصحاب الشمال. «وأصْحَابِ الشِمَالِ ما أَصْحَابُ الشِمَالِ فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ وَظِلٌّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّون عَلى الحِنْثِ العظيم وَكَانُوا يَقُولُونَ أئِذَا مثنا وَكُنا تُراباً وَعِظَاماً أَعِنَّا لمَبْعُوثُونَ أو أباؤنا الأولون ..... »المعرب

فيقول : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم . فأقول كما قال العبد الصالح (1): «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الْرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادَكَ وَإِنْ تَغْفِرْلَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحكيم» (2).

أخرجه البخاري (3)وأمّا في صحيح مسلم (4) فقد جاءت جملة «إنّك لا تدري ما احدثوا بعدك بدلاً عن جملة : «إنّهم لم يزالوا (مرتدّين»...

وفي حديث آخر أخرجه الشيخان البخاري ومسلم(5) وردت كلمة «أصيحابي» بالتصغير بدلاً عن كلمة «أصحابي» وهذا إنّما يدلّ على ترحم وتحنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )إياهم أو تحقيرهم وإهانتهم .

2 - ابن أبي مليكة قال : عن أسماء بنت أبي بكر قالت : قال رسول (صلى الله عليه وآله وسلم ): إنِّي

ص: 433


1- المراد بالعبد الصالح هو عيسى بن مريم(علیها السلام)
2- المائدة : 117 - 118
3- صحيح البخاري 4: 169 كتاب بدء الخلق باب و« اتخذ الله إبراهيم خليلاً» ، وص 204 باب «واذكر في الكتاب مريم »، وج 6 : 69 كتاب التفسير تفسير سورة المائدة وص 122 تفسير سورة الانبياء ، وج 8 : 136 كتاب الرقاق باب كيف الحشر
4- صحیح مسلم 4 2194 كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها باب (14) باب فناء الدنيا وبيان الحشر ح 58
5- صحيح البخاري :8 149 كتاب الدعوات باب في الحوض ، صحیح مسلم 4: 1800 كتاب الفضائل باب« 9 »باب إثبات حوض نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم )ح 40

على الحوض حتى أنظر من يرد عليَّ منكم ، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول : يا ربّ منّى ومن أُمنّي .

فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم .

فكان ابن أبي مليكة يقول : اللهم إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن في ديننا (1) .

3 - عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )قال : بينا أنا نائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم ، خرج رجل من بيني وبينهم . فقال : هلم. فقلت : أين ؟

قال : إلى النار والله . قلت : وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري.

ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم . فقال : هلم . قلت : أين ؟

قال : إلى النار والله . قلت : وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم(2).

4 - أخرج البخاري باسناده عن ابن المسيب أنّه كان يحدّث عن أصحاب النبي أن النبي الله قال : يرد على الحوض رجال من أصحابي فيحلّون عنه ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (3).

التحريف والبدعة في الدين

1 - أبو حازم، عن سهل بن سعد قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ): إني فرطكم على الحوض من

ص: 434


1- صحيح البخاري 8: 151 كتاب الدعوات باب في الحوض ، وج 9 : 58 كتاب الفتن ، ماجاء في قول الله تعالى : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ » ، صحيح مسلم 4 : 1794 کتاب الفضائل باب « 9 باب اثبات حوض نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم ) ح 27
2- صحيح البخاري :8 150 كتاب الدعوات باب في الحوض
3- صحيح البخاري :8 150 كتاب الدعوات باب في الحوض

مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يح-ال بيني وبينهم .

قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عيّاش فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ قلت : نعم . قال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها . فأقول : إنّهم منّي فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول : سحقا سحقاً لمن غير بعدي(1) .

أخرج الحديث البخاري ومسلم في جامعيهما ، ولكن مسلم أورد جملة «لمن بدل بعدي» بدلاً عن «لمن غيّر بعدي».

قال القسطلاني في شرحه على الحديث : أي غيّر دينه ، لانه لا يقول في العصاة يغيّر الكفر سحقاً سحقاً ، بل يشفع لهم ، وكلّ من ارتد عن دينه أو أحدث فيه فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه (2).

2 - روى مسلم باسناده عن أبى هريرة : انّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ) أتى المقبرة. فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا .

قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟

قال: أنتم أصحابي، واخواني الذين لم يأتوا بعد.

فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أُمّتك يا رسول الله ؟

فقال : أرأيت لو أن رجلا له خيل غرّ محجّلة ، بين ظهري خيل دُهم نهم ألايعرف خیله ؟

قالوا : بلى يا رسول الله .

ص: 435


1- المصدر ص 149 ، وج 9 : 58 کتاب الفتن باب ما جاء في قول الله تعالى: « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً »، صحيح مسلم 4 : 1793 کتاب الفضائل باب « 9 »باب إثبات حوض نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم ) ح26
2- إرشاد السارى 3409

قال : فإنّهم يأتون غرّاً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض إلا ليذادن رجال عن حوضى، كما يذاد البعير الضال، أناديهم : ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك . فأقول : سحقاً سحقاً (1).

3 - وكذلك أخرج مسلم باسناده عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة : عن أم سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )أنها قالت: كنتُ أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )، فسمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )يقول : ايها الناس إني لكم فرط على الحوض فإياي لا يأتين أحدكم فيذبٌ عنّي كما يذبّ البعير الضال. فأقول: فيم هذا؟ إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول : سحقاً(2).

اعتراف بالحقيقة

هذا الذي أوردناه من الأحاديث في موضوعي الارتداد والتحريف هو قليل من كثير من الأحاديث المروية في الصحيحين عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم ).

ويدل نص الأحاديث وكذا الكلمات الواردة فيها نحو «أصحابي» و«أُصيحابي» و «منّي» دلالة تامة وصريحة على أنّ هؤلاء الأفراد الذين يؤخذون ذات الشمال - هم من الذين صاحبوا النبى (صلى الله عليه وآله وسلم )ولا زموه بل كانوا في عداد خواص أصحابه .

وكان بعض أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )لم يسعهم أحياناً وخاصة في اللحظات الحساسة والحرجة إلا أن يعترفوا بهذه الحقيقة المذكورة ويزيلوا الستار المسدول والحاجب على تجلّي ما يكنوه في صدورهم، ونختم بحثنا هنا بذكر موردين من الاعترافات التي نقلها البخاري في صحيحه :

1 - أخرج البخاري باسناده عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب رضى الله عنهما . فقلت : طوبى لك ، صحبت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )وبايعته تحت الشجرة .

ص: 436


1- صحیح مسلم 1 : 218 كتاب الطهارة باب «12» باب استحباب إطالة الغرّة والتحجيل في الوضوء ح 39
2- صحیح مسلم 4: 1795 كتاب الفضائل باب «9» باب إثبات حوض نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم )ح29

فقال : يا ابن أخي إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده (1).

2 - أخرج البخاري أيضاً باسناده عن المسور بن مخرمة قال : لما طعن عمر جعل ب- يألم . فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه : يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك ، لقد صحبت رسول الله الله فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثمّ صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثمّ فارقته وهو عنك راض ، ثمّ صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون .

قال : أما ما ذكرت من صحبة رسول الله الا الله ورضاه ، فإنّما ذاك من مِن الله تعالى من به عليّ ..... وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذاك مَنْ من الله جل ذكره مَنْ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديتُ به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه (2).

والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمّد وأهل بيته الذين بهم تمّت الكلمة وعظمت النعمة ، اللهم احشرنا في زمرة المتمسكين بهم واللائذين بفنائهم آمين ربّ العالمين.

عصر الثلاثاء الرابع من جمادى الأولى 1396 من الهجرة النبوية.

وبدأت الترجمة في الخامس عشر من شعبان 1418 من الهجرة وانتهت في يوم الأحد عشرين جمادى الآخرة 1419 هجرية .

ص: 437


1- صحيح البخاري 5: 159 كتاب المغازي باب غزوة الحديبية . البراء بن عازب من صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )الأجلاء اشترك في احد و 13 أو 14غزوة أُخرى واشترك في بدر، ولكن رده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة لصغر سنه ، وتوفّي سنة 73ه- . راجع أسد الغابة 1: 171 ترجمة البراء رقم تهذيب التهذيب 1 : 388 ترجمة البراء بن عازب رقم 699
2- صحيح البخاري 5 : 16 كتاب فضائل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) باب مناقب عمر بن الخطاب

ص: 438

فهارس

1-فهرس مصادر التحقيق

1 - القرآن الكريم .

( أ )

1 - أبو طالب مؤمن قريش : عبدالله الخنيزي - دار التعارف للمطبوعات - بيروت. لبنان .

2 - أبو هريرة : عبدالحسين شرف الدين الموسوي العاملي - دار التعارف للمطبوعات - بيروت ، لبنان .

3 - أحاديث أمّ المؤمنين عائشة : السيد مرتضى العسكري ، المجمع العلمي الاسلامي.

4 - احقاق الحق وملحقاته : الشهيد السيد نور الله الحسيني المرعشي التستري (ت 1019ه- ) مع تعليقات آية الله المرعشي النجفي ، مكتبة المرعشي ، قم ، ايران .

5 - الاحكام في اصول الأحكام : سيف الدين علي بن محمد المشهور بالآمدي الشافعي (ت 631ه- ) ، مطبعة دار الكتب العلمية بيروت ، لبنان 1985 .

6 - اختيار معرفة الرجال رجال الكشي ) : أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( ت 460 ه- ) ، مطبعة جامعة مشهد ، إيران.

7 - الأدب المفرد : محمد بن اسماعيل البخاري ( ت 256 ه- ) ، منشورات عالم الكتب ، بيروت، لبنان .

8 - الإرشاد : الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (ت 413ه- ) ، مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لاحياء التراث ، ایران .

9 - إرشاد الساري شرح صحيح البخاري : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني ،(ت 923 ه- ) ، دار احیاء التراث الاسلامي ، بيروت ، لبنان .

ص: 439

10 - استقصاء الافحام : السيد مير حامد حسين اللكهنوي صاحب عبقات الانوار ( ت 1306ه- ) ، مخطوط .

11 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب : أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبد البر (ت 463 ه- ) ، مكتبة نهضة مصر.

12 - أسد الغابة : عزالدين أبي الحسن الشيباني المعروف بابن الأثير (ت 630ه)، المكتبة الاسلامية .

13 - الاصابة في معرفة الصحابة : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852ه) ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان .

14 - أضواء على السنّة المحمدية : محمود أبو رية ، دار المعارف أبورية بمصر .

15 - الاعلام : خير الدين الزركلي ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان .

16 - أعيان الشيعة : السيد محسن الأمين العاملي (ت 1371 ه- ) ، دار التعارف ،

بيروت ، لبنان .

17 - الأغاني : أبو الفرج الأصفهاني علي بن الحسين (ت 356 ه- ) ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان .

18 - اكمال الدين : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ( ت 381 ه- ) ، مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ، ايران. 19 - أمالي الطوسي : أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 ه- ) ، دار الثقافة

للنشر.

20 - الامام الشافعي : محمد أبو زهرة - مصر - .

21 - الامام مالك : محمد ابو زهرة - مصر -

22 - الامامة والسياسة : أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276 ه- ) ، مؤسسة الحلبي ، القاهرة، مصر .

23 - الانجيل .

24 - أنساب الاشراف : أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت) 279 ه- ) ، دار -

ص: 440

الفكر ، بيروت، لبنان.

25 - بحار الأنوار : محمد باقر المجلسي (ت 1111ه- ) ، مؤسسة الوفاء ، بيروت ، لبنان .

26 - بداية المجتهد : أبو الوليد محمد بن أحمد المشهور بابن رشد القرطبي الاندلسي (ت 595 ه- ) ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان.

27 - البداية والنهاية : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير (ت) (774ه- ) ، دار الفكر بيروت ، لبنان .

28 - بلاغات النساء : أحمد بن أبي طاهر (ت) 280 ه- ) ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ، العراق .

29- البيان في تفسير القرآن : السيد أبو القاسم الخوئي ، المطبعة العلمية ، قم ، ايران .

30 - تاريخ بغداد : أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463 ه- )، دار الكتب العلمية ، بيروت ،لبنان .

31 - تاريخ الخلفاء : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911ه) ، القاهرة، مصر .

32 - تاريخ الخميس : حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري (ت 966 ه- ) ، مؤسسة شعبان للنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان .

33 - تاريخ الطبري : لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه- ) ، دار سویدان، بیروت، لبنان .

34 - تاريخ اليعقوبي: احمد بن أبي يعقوب بن جعفر المعروف باليعقوبي(ت 292 ه- )، دار صادر، بيروت ،لبنان.

35 - تأسيس الشيعة : السيد حسن الصدر ، منشورات الأعلمي ، طهران ، ایران .

36 - تحف العقول: أبو محمد الحسن بن علي بن شعبة الحراني من أعلام القرن

ص: 441

الرابع الهجري ، مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ، ايران .

37 - تدريب الراوي : جلال الدين السيوطي (ت 911 ه- ) ، الرياض ، السعودية .

38 - تذكرة الحفاظ : شمس الدين محمد الذهبي ( ت 748ه- ) ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ايران .

39 - تزيين الممالك في مناقب الامام مالك : جلال الدين السيوطي (ت 911ھ) ، دار الفكر ، بيروت، لبنان .

40 - تطهير الجنان المطبوع مع الصواعق المحرقة : أحمد بن حجر الهيثمي (ت 974 : ه- ) ، القاهرة، مصر.

41 - تفسير ابن كثير : عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن كثير (ت:774ه- ) ، دار المعرفة ، بيروت، لبنان .

42 - تفسير القرطبي : شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي :(ت 671ه- ) ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان .

43 - تفسير المنار : محمد رشید ،رضا ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان .

44 - تفسير نور الثقلين : عبد علي بن جمعة الحويزي ، المطبعة العلمية ، قم ، ايران .

45 - التقريب والتيسير : محيي الدين النووي الشافعي (ت 676ه- ) .

46 - تلخيص المستدرك : شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد الذهبي (ت 848 ه- ) ، دار الفكر ، بيروت، لبنان .

47 - تهذيب الأسماء واللغات : أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت 676ه) ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان .

48 - تهذيب يب التهذيب : شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 ه- ) ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان .

49 - التوحيد : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381ه) ، مكتبة الصدوق ، طهران ، ایران .

50 - التوحيد : محمد بن عبدالوهاب.

ص: 442

51 - التوراة .

» ث »

52 - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب : أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي(ت 429 ه) ، القاهرة، مصر

« ج- »

53 - جامع أحاديث الشيعة : الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي، المطبعة العلمية ، قم ، ايران .

54 - جامع بيان العلم وفضله : ابو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي (ت 493 ه- )، دار الكتب العلمية،بيروت، لبنان .

55 - جامع البيان في تفسير القرآن : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه- ) ، دار المعرفة ، بيروت، لبنان .

«خ»

56 - خصائص أمير المؤمنين : النسائي ، بيروت ، لبنان.

57 - الخصال : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الصدوق) (ت 381ه) ، جماعة المدرّسين ، قم ، ايران .

«د»

58 - دائرة معارف القرن العشرين: محمد فريد وجدي ، دار المعرفة ، بيروت .لبنان.

59 - دراسات في الكافي والبخاري : هاشم معروف الحسني ، بيروت ، ایران .

60 - الدر المنثور : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 ه- ) ، قم ، ایران .

«ذ»

61 - ذخائر العقبى : محب الدين الطبري ( ت 694 ه- ) ، طهران ، ایران .

«ر»

62 - ربيع الأبرار : جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 528 ه- ) ، بغداد ،

ص: 443

العراق .

63 - رجال النجاشي : أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس النجاشي (ت 450 ه، )مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ، ايران.

64 - روح المعاني : أبو الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي (ت 1270 ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت ، لبنان .

65 - الرياض النضرة : أبو جعفر أحمد الشهير بالمحبّ الطبري (ت 694 ه- ) ، دار الكتب العلمية ، بيروت، لبنان .

« ز »

66 - زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم : محمد حبيب الله بن سيدي أحمد (ت 1363ه- ) ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان .

« س »

67 - سنن ابن ماجة : أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني (ت 275 ه) ، دار الفكر بيروت، لبنان .

68 - سنن الدارمي : أبو محمد عبدالله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255 ه- ) دار الفكر ، بيروت، لبنان .

69 - السنن الكبرى : أبو بكر أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت 303ه- ) ، دار المعرفة ، بيروت، لبنان

70 - السنّة قبل التدوين : الدكتور محمد عجاج الخطيب ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان .

71 - السيرة النبوية : عبد الملك بن هشام الحميري ( ت 213 ه) ، دار احیاء التراث العربي ، بيروت ، لبنان.

«ش »

72 - الشافي في الإمامة : علي بن الحسين الموسوي (الشريف المرتضى) (ت 436 ه- ) ، مؤسسة الصادق ، قم ، ایران.

ص: 444

73 - شرح التجريد : علاء الدين علي بن محمد القوشجي (ت (879ه- ) ، قم ، ايران . 74

- شرح سنن النسائي : جلال الدين السيوطي (ت 911 ه- ) ، المطبوع بهامش سنن النسائى ، دار الفكر ، بيروت، لبنان .

75 - شرح مسند أحمد : أحمد محمد شاكر ، دار المعارف : مصر.

6 7 -شرح نهج البلاغة : عزالدين أبو حامد بن هبة الله الحسين بن أبي الحديد (ت 655 ه- ) ، القاهرة ،مصر.

77 - الشيعة بين الحقائق والأوهام (نقض الوشيعة) موسى جار الله : السيد محسن الأمين ، بيروت ، لبنان .

« ص »

78 - صحيح البخاري : إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري (ت 256ه) ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت، لبنان .

79 - صحیح مسلم : أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه- ) ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان .

80 - صحیح مسلم بشرح النووي : أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت 676 ه- ) ، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان .

81 - الصدّيق أبو بكر محمد رضا ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان .

82 - الصواعق المحرقة : أحمد بن حجر الهيثمي (ت 974 ه- ) ، القاهرة ، مصر .

«ض »

83 - ضحى الاسلام : أحمد أمين ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان .

« ط »

84 - طبقات الشافعية : تاج الدين السبكي (ت 771 ه) ، مصر.

85 - الطبقات الصغرى : أبو المواهب الشعراني (ت 973 ه- ) ، القاهرة، مصر.

«ع »

86 - عبد الله بن سبأ : السيد مرتضى العسكرى ، دار الزهراء (علیها السلام)، بيروت ، لبنان .

ص: 445

87 - عبقرية الصديق : عباس محمود العقاد ، بيروت، لبنان .

88 - العقد الفريد: أبو عمر بن عبد ربّه الأندلسي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ،لبنان.

89 - العلو للعلي الغفار : شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (ت 748 ه- ) ، المكتبة السلفية ، المدينة المنورة ، السعودية .

90 - عمدة القارىء : القاضي بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني (ت 855 ه- ) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان .

91 - كون المعبود شرح أبي داود :شرف الحق محمدأشرف أبو عبد الرحمن الصديقي العظيم آبادي ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان .

«غ »

92 - الغدير : عبد الحسين أحمد الأميني النجفي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان .

« ف »

93 - الفائق : جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 583 ه- ) ، دار المعرفة بيروت، لبنان .

94 - الفتاوى الحديثية : أحمد بن حجر الهيثمي (ت 974 ه- ) ، مصر.

95 - فتاوي شيخ الازهر الشيخ محمود شلتوت.

96 - فتح الباري في شرح صحيح البخاري أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني ( ت (852ه- ) ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان .

97 - الفرق بين الفرق : عبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت 429 ه- ) ، منشورات دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، لبنان .

98- الفصول المهمة : علي بن محمد بن احمد المالكي الشهير بابن الصباغ (ت) 855ه) ، مكتبة دار الكتب ، النجف ، العراق .

99 - الفقه على المذاهب الأربعة : عبد الرحمن الجزيري ، دار احياء التراث العربي ، بيروت، لبنان .

ص: 446

100 - فهرست الشيخ الطوسي : أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460ه) ، منشورات الشريف الرضي ، قم ، ايران .

« ك »

101 - الكافي : أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (ت 329 ه- ) ، دار الكتب الاسلامية ، طهران ، ایران .

102 - الكامل في التاريخ : عز الدين أبي الحسن الشيباني المعروف بابن الأثير (ت 606 ه- ) ، دار صادر، بیروت، لبنان .

103 - کتاب سليم بن قيس : أبو صادق سليم بن قيس الهلالي الكوفي (ت 76ه) ، قم ، ایران .

104 - الكشاف في تفسير القرآن : جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 528ه )، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ايران .

105 - كشف الظنون : مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي (ت 1067ه- ) ، دار الفكر ، بيروت، لبنان .

« ل »

106 - اللئالىء المصنوعة : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 ه- ) ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان .

« م »

107 - مجمع البيان: أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 552 ه- ) ، مؤسسة الأعلمى ، بيروت، لبنان .

108 - مجمع الزوائد : نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807ه) ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان .

109 - مجموعة الرسائل الكبرى : أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني الدمشقي ( ت 728 ه- ) ، دار احياء التراث العربي ، بيروت، لبنان .

110 - المحبر : أبو جعفر محمد بن حبیب، منشورات دار الآفاق الجديدة ، بيروت ،

ص: 447

111 - مروج الذهب : أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 346 ه- ) ، دار الاندلس ، بیروت، لبنان

112 - المستدرك على الصحيحين: الحاكم النيسابوري ، أبو عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405 ه- ) ، دار الفكر ، بيروت، لبنان .

13 - مسند أحمد أحمد بن حنبل (ت) 241ه) ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان .

114 - مسند الطيالسي : سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري (ت 204ه) ، دار المعرفة ، بيروت، لبنان .

115 - مصابيح السنّة : الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي (ت 516 ه) ، دار المعرفة ، بيروت، لبنان.

116 - مفردات ألفاظ القرآن الكريم : أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت 502 ه- ) ، ايران .

117 - الملل والنحل : محمد بن عبد الكريم بن أحمد المعروف ب (الشهرستاني) (ت 548 ه- ) ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، مصر .

118 - من لا يحضره الفقيه : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (ت381 ه- ) ، قم ، ایران.

119 - مناقب أحمد بن حنبل : أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597) مصر .

120 - الموضوعات : أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 ه- ) ، دار الفكر بيروت ، لبنان .

121 - الموطأ : مالك بن أنس (ت (179ه- ) ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان .

122 - الميزان في تفسير القرآن : السيد محمد حسين الطباطبائي ، بيروت ، لبنان .

« ن »

123 - النهاية : ابن الأثير المبارك بن محمد الجزري (ت 606 ه- ) ، مصر.

124 - نهج البلاغة : الدكتور صبحي الصالح ، قم ، ايران .

ص: 448

125 - نور الأبصار : مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي ، منشورات الشريف الرضي قم ، ایران .

«ه»

126 - هدى الساري مقدمة فتح الباري : ابن حجر العسقلاني حجر العسقلاني الشافعي (ت 852ه).

«و»

127 - وسائل الشيعة : محمد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104 ه- ) ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت، لبنان .

128 - الوشيعة في نقض عقائد الشيعة : موسى جار الله التركستاني .

129 - وفيات الأعيان : أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان (ت 681ه- ) ، دار صادر، بیروت، لبنان.

وهناك مصادر أخرى ورد ذكرها في ثنايا الكتاب.

ص: 449

ص: 450

2 - فهرس الموضوعات

الموضوع الصفحه

كلمة الناشر...5

مقدمة المترجم ...7

تأمل في مجرى الحديث...11

تمهید...27

الفصل الأوّل

سير الحديث ، أهميته وتدوينه

حول الحديث...35

ما هو الحديث ؟...35

نص الحديث...35

السند...35

السنة...35

أهمية الحديث في الكتاب...36

أهمية الحديث في السنة...37

الفرق بين الكتاب والسنّة...38

ملخص القول...39

تدوین السنّة عند أهل السنّة والشيعة...41

التدوين عند الشيعة...41

ص: 451

التدوين في عهد الامام علي(علیه السلام)...42

الإمام الباقر(علیه السلام)والصحيفة العلوية ...43

إحصاء مؤلّفي الحديث وطبقاتهم...44

التدوين في عهد الامام الصادق(علیه السلام)...44

الكتب الأربعة...46

التدوين عند أهل السنّة...46

المنع في عهد أبي بكر...47

المنع في عهد عمر...48

المنع عن التدوين في عهد عمر...50

الحديث في عهد عثمان...50

الحديث في عهد معاوية...51

الحديث في عهد خلفاء بني أمية...54

الخطوة الأولى في تدوين الحديث...54

تدوين الحديث فى عهد عمر بن عبدالعزيز...55

تاريخ ظهور الصحاح الستة ...58

الفرق بين الصحاح والمسانيد...59

هدفنا في البحث...60

الفصل الثاني

ترجمة البخاري ومسلم

لمحة عن حياة البخاري...65

من هو البخاري ؟ ...65

مولده ...65

نشأته العلمية...65

رحلاته العلمية...65

ص: 452

مؤلّفاته ...66

فتاوى البخاري العجيبة...66

وفاته ومدفنه...67

لمحةعن حياة مسلم ...68

من هو مسلم ؟...68

مولده ووفاته...68

رحلاته العلمية...68

مؤلّفاته ...69

سبب وفاته...69

الفصل الثالث

الصحيحان وموقعهما العلمي عند أهل السنّة

موقع الصحيحين عند أهل السنة ...73

الصحاح الستة ...73

خصائص صحيح البخاري...74

خصائص صحیح مسلم...74

المغالاة في الصحيحين ...75

مغالاة أكثر ...77

ما قيل من الرؤى والكرامات...78

الفربري والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم )...79

الشعراء يطرون...79

دفاع مرير...80

عندما تتجلى الحقيقة...81

رأي الذهلي في الصحيحين...83

مسلم يُرفَض...85

ص: 453

موقف أبي زرعة من الصحيحين ...85

موقف النووي من الصحيحين ...86

موقف ابن حجر من الصحيحين ...87

رأي القاضي الباقلاني...87

رأى ابن همام...87

رأي الشيخ محمد عبده ...88

رأي أحمد أمين...89

رأي مسلمة في صحيح البخاري...89

رأينا في الصحيحين...90

الفصل الرابع

أدلّة ضعف الصحيحين وسقمهما

الدليل الأوّل ضعف السند...95

علم الرجال ودراية الحديث...96

الإيمان شرط قبول الحديث...96

تناقض هذه الصفات مع الايمان...97

تقييم إيمان بعض رواة الصحيحين...98

الدليل الثاني البخاري ومسلم والطائفية الافراطية...107

الصحيحان وفضائل الامام على(علیه السلام)...108

افتراء مسلم على الشيعة ...109

بين البخاري والامام الصادق(علیه السلام)...110

تبرير ابن تيمية ...111

عداء عريق وظاهر !! ...112

الدليل الثالث الفترة الزمنية بين صدور الحديث وتدوينه...114

الدليل الرابع تقطيع الحديث ...116

ص: 454

الدليل الخامس البخاري والنقل بالمعنى...124

الدليل السادس الآخرون يتمّمون الصحيح ...125

الاستنتاج ...127

الفصل الخامس

التوحيد في الصحيحين

1 - رؤية الله...132

المستفاد من الأحاديث ...137

رأى أهل السنة في مسألة رؤية الله...138

أسئلة حول الرؤية مع اجوبتها...141

منشأ هذه العقيدة الفاسدة...143

رؤية الله في المنام ...146

الرسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم ) یری الله في المنام ...145

البخاري يصحح هذا الحديث ...146

علماء السنّة يرون الله في المنام...146

تعبير الرؤيا ...147

صلاة لرؤية الله في المنام...147

رأي الشيعة في رؤية الله...148

البراهين العقلية والفلسفية على نفي رؤية الله ...148

الدلائل القرآنية...149

الأدلة الحديثية...151

2 - مكان الله ؟...152

الله في السماء ...153

الله على العرش...154

الله في السحاب ...155

ص: 455

المستفاد من الاحاديث...155

رأي أهل السنّة في مكان الله...156

من أين نشأت هذه العقيدة ؟...159

3 - هل الله يضحك ؟ ربُّ الصحيحين يضحك !! ...160

تبارك الربّ الضحوك...162

المستفاد من هذه الأحاديث...162

4 - الله وتنقلاته...163

المستفاد من هذه الأحاديث...164

تحقيق موجز...165

5 - الله جنبا إلى جنب عبده...165

6 - جوارح الله وأعضاؤه...166

1 - وجه الله ...166

الاستنتاج ...167

تحقیق...167

كم كان عرض آدم (علیه السلام)؟...168

2 - هل الله عين ؟...169

3 - هل الله يدين ؟...169

4 - هل الله إصبع ؟...171

الاستنتاج...172

5 - هل الله ظهر ؟...172

6- هل الله ساق ؟...172

تأمل في حديث الساق...173

رأي صاحب المنار...174

7 - هل الله رجل ؟...174

ص: 456

عقيدة علماء السنة في هذه الأحاديث ...177

تبصرة للبصير...180

نظرة في أحاديث الشيعة...183

سؤال لا بد منه...183

1 - إختلاف الرؤى والنظريات حول كتب الحديث...183

2 - احاديث التوحيد في كتب الشيعة ...184

3 - رأي علماء الشيعة في أحاديث التوحيد...185

4 - الروايات الموضوعة...185

أحاديث التوحيد عند الشيعة ...185

الفصل السادس

النبوّة في الصحيحين

الأنبياء في القرآن ...191

الاستعداد للرسالة ...191

عصمة الانساء...192

خلاصة القول ...194

وأمّا الاستنتاج ...194

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )فى القرآن والسنة...196

مؤهلاته في نظر القرآن...200196

مؤهلات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )في الاحاديث...200

أخلاق النبي ...202

الوحي والاجتهاد كيفية الوحي...204

الوحي الغير قرآني ...205

هل كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )يجتهد ؟...207

النبوّة في العهدين والصحيحين...209

ص: 457

458

النبوّة في العهدين...209

1 - قصة لوط(علیه السلام)وابنتيه في التوراة ...209

2 - قصة داود (علیه السلام)وامرأة أوريا في التوراة...210

3 - قصّة المسيح (علیه السلام)وصنعه الخمر...211

النبوة في الصحيحين...211

متى نشأ الافتراء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )...212

1 - كذبة ابراهيم الخليل (علیه السلام)وحرمانه من الشفاعة ...214

العلاقة بين هذا الحديث والتوراة ...217

سقوط اعتبارية هذا الحديث...217

2 - طواف سليمان بتسع وتسعون امرأة في ليلة ...218

3 - عزرائيل يفقد عينه ...220

4 - سباق موسى والحجر...222

5 - انتقام موسى(علیه السلام)من النمل...225

لفتة نظر...226

الفصل السابع

رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم )في الصحيحين

النبي قبل البعثة...231

1 - إيمان أبويه...231

2 - الرسول يأكل الحرام...233

من هو زيد بن عمرو بن نفيل؟...235

3 - قصة شق الصدر...236

1 - الجهة الزمنية...238

2 - الجهة المكانية...238

3- التناقض بين الموضوع والعصمة...239

ص: 458

4 - الشرّ ليس غدّة مترشحة...239

معنى انشراح الصدر...239

شق الصدر من منظار الحديث والتاريخ...240

كلمة صريحة ...240

النبي بعد البعثة...242

1 - شکه و ترديده في نبوّته قصة بدء الوحی...242

معايب القصّة...244

2 - سهو النبي في الصلاة...246

3 - النبي يصلّي جنباً...250

4 - الرسول يلعن ويؤدِّي المؤمنين ...252

توجيه الأحاديث ...252

أسباب وضع هذه الأحاديث ...254

5 - نهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )عن تلقيح النخيل...256

دلائل اختلاق القصّة...257

هل كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )يتعبد بالاجتهاد ؟...257

6 - النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )يعاقب من دون ذنب...260

تحقيق حول الحديث...261

النقيب وحديث اللدود ...265

7-النبي ونسيانه بعض آيات القرآن...266

8 - النبى يبول واقفا : نبز تهمة ...267

اعتراف بقبح هذه التهمة...267

أعذار أقبح من الفعل...268

لم هذه التوجيهات ؟...269

دحض هذه الاباطيل ...270

ص: 459

دواعي وضع هذه الأحاديث ...270

9 - قصة سحر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )...272

مفتريات على النبوة !!...274

1 - الغناء في بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )...275

2 - النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )يدعو عائشة لمشاهدة الرقص...277

3 - اشتراك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )في الحفلات النسائية...280

تبريرات سخيفة...281

4 - شغف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )بالغناء ...283

تقييم الأحاديث المذكورة ...284

فضيحة رواتها...285

البراهين القطعية تفنّد صحة الأحاديث ...286

حول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )...286

الغناء في القرآن...287

الغناء في السنة ...288

حول المساجد...290

مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )...291

النظر إلى الأجنبي والأجنبية...292

عائشة تلعب بالبنات عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )...294

أسباب جعل هذه الأحاديث...295

1 - تبرير الفساد الخُلُقي في البلاط الخليفي...295

صور من مناكير بلاط الخليفة...296

إهداء الشراب الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )...299

2 - تضخیم دور عائشة...300

3-اختلاق الفضائل للخلفاء...304

ص: 460

موافقات عمر...307

الآيات الثلاثة...310

تقييم الموافقة في آية الحجاب...311

1 - التضارب في الأحاديث...312

3 - سياق الآية...315

الصلاة على المنافقين...315

1 - منافاته للعقل...317

2 - نزول الآيات كان قبل موت ابن أُبي...317

1 - نص الحديث يدلّ على كونه موضوعاً...318

آراء علماء العامة في الحديث...319

الفصل الثامن

الخلافة في الصحيحين

منهج البحث وهدفه...323

أسئلة حول الخلافة...324

فضائل اهل البيت (صلى الله عليه وآله وسلم ) في الصحيحين...330

1 - آية التطهير...330

2- آية المباهلة...331

3- حديث يوم الغدير...331

العصبية العمياء...333

4 - اهل البيت(علیه السلام)قرناء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم )...333

5- الائمة الاثنا عشر(علیه السلام) ...335

فضائل امیرالمؤمنين(علیه السلام) في الصحيحين...339

1 - عدوّ على عدو الله...339

2 - حبّ عليّ إيمان وبغضه نفاق...339

ص: 461

3 - صلاة علي(علیه السلام)صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )...340

4 - أبو تراب الكنية المهداة...340

5 - على (علیه السلام)أقضى الناس...341

6 - الحبّ المتبادل بين الله ورسوله وعلى...341

7 - علي هارون الأمة...342

لفتة نظر...344

فضائل فاطمة الزهراء(علیها السلام) ...345

1 - فاطمة سيّدة النساء...345

2 - فاطمة أوّل مَنْ تلتحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم )...345

3 - فاطمة بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )...345

4 - تسبيح فاطمة (علیها السلام)...346

5 - حنان فاطمة على أبيها...346

6 - فاطمة (علیها السلام)تبكي لفقد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم )...347

فضائل الحسن والحسين(علیهم السلام)...348

1 - الحسنان وحرمة الصدقة عليهما ...348

2 - الحسنان أشبه الناس بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم )...348

3 - حنان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )عليهما...349

4 - الحسنان ريحانتا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )...349

5 - دعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )لهما...349

6 - اللهم احببه واحبب من يحبّه ...349

الإمامة في رأي الإمام علي (علیه السلام)...351

شروط الإمامة...351

الإمامة وحسن الخلق. ..352

الإمامة والعلم بالاحكام...354

ص: 462

بين الخلفاء والشريعة...369

1 - القتل والفتك...370

مالك بن نويرة عامل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )على الصدقات...375

2 - قصّة فدك وإرث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )...378

ابداع مادة قانونية...381

أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم )...383

زوجات النبي ...384

3 - صلح الحديبية ...385

4 - الوصيّة التي لم تكتب ...386

سؤال وجواب ...391

5 - حج التمتع ...392

تعريفه...393

الرسول يتحدى السنن الجاهلية...394

تحريم حج التمتع...396

علل تحريم عمر متعة الحج...398

عثمان وحج التمتع...400

لفتة نظر...401

معاوية وحج التمتع...402

6- المتعة أو الزواج المنقطع...403

1 - تعريفها...403

2 - مشروعية المتعة في الاسلام...405

3 - عمر يحرّم المتعة...409

4 - دعوى النسخ في المتعة...411

5 -الافتراءات الشائعة...414

ص: 463

7 - صلاة التراويح...418

سيرة امير المؤمنين علي(علیه السلام)...420

استجواب العيني...421

8 - التطليقات الثلاث ...421

مجرى التطليقات الثلاث...424

9 - البكاء على الموتى...425

10 - صلاة المسافر...428

مقارنة واستنتاج...430

تنبوات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )...432

الارتداد... 432

التحريف والبدعة في الدين...434

اعتراف بالحقيقة...436

ص: 464

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.